الاستصناع والمقاولات:
هذا وإن الاستصناع هو ضرب من ضروب ما يعرف في زماننا بالمقاولة، إذ المقاولة هي أن يتعهد أحد المتعاقدين بأن يصنع شيئًا للطرف الثاني، مقابل ثمن معين، فإن تعهد المقاول بتقديم العمل والمادة كان مقاولة في العرف، واستصناعًا في الشرع، وإن تعهد بتقديم العمل، كان مقاولة في العرف، وإجارة في الشرع.
وهكذا تكون المقاولة في القانون الوضعي أعم من الاستصناع في الشرع.
شروط الاستصناع العامة:
لما كان الاستصناع نوعًا من أنواع البيع اشترط فيه الفقهاء ما اشترطوا في عقود المعاوضات من شروط عامة، سواء منها ما يتفق بالانعقاد، أو بالنفاذ أو باللزوم، أو بالصحة. ومن ذلك (1)
1 - التراضي به لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراضٍ" وهو أن يأتيا به اختيارًا، فإن كان أحدهما مكرهًا لم يصح (2)
2 - أهلية المتعاقدين: وهو العقل والبلوغ عند الشافعية والحنابلة، مما يكون به مكلفًا رشيدًا، وهو العقد فقط عند الحنفية والمالكية، لأنهم جوزوا تصرف الصبي الذي يعقل. وكذلك جوز الحنابلة تصرف الصبي المميز، بإذن وليه (3)
3 - أن يجري العقد بين اثنين فأكثر، لأن الواحد لا يصلح أن يكون عاقدًا من الجانبين (4)
4 - أن يكون المبيع مالًا مملوكًا أو مأذونًا في بيعه، والمال هو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة كالكلب إذ منفعته مباحة للضرورة (5) . وقال الكاساني إنه منتفع حقيقة من مباح الانتفاع به شرعًا (6)
5 - أن يكون القبول موافقًا للإيجاب.. بأن يقبل المشتري ما أوجبه البائع.
6 - أن لا يفصل بين القبول والإيجاب فاصل يدل على الإعراض وعدم الرضا. وعند الحنفية يقيد بخيار المجلس، وأيٌّ قام عن المجلس قبل القبول بطل الإيجاب (7)
7 - أن يكون المبيع موجودًا، مقدورًا على تسليمه، لنهي النبي عن بيع ما ليس عند الإنسان خلافًا لمن قال: إن بيع المعدوم جائز إذا لم يكن فيه غرر، واستحال تسليمه، لأن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض الحالات، إذا أجاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه في السلم.
8 - أن يكون المبيع معلوما، برؤية، أو صفة تحصل بها معرفته، وكذلك الثمن يشترط فيه أن يكون معلومًا (8)
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين: 4/5
(2) المقنع لابن قدامة: 2/4
(3) المقنع، لابن قدامة: 2/4، ومواهب الجليل، للحطاب: 4/241، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، للزيلعي: 4/124، ورد المحتار على الدر المختار: 4/5
(4) البدائع، للكاساني: 5/135
(5) المقنع، لابن قدامة: 2/7، والكاساني: 5/143 و 146
(6) البدائع، للكاساني: 5/147، والمغنى، لابن قدامة: 4/3
(7) تبيين الحقائق: 4/4، والكاساني: 5/135 وما بعدها
(8) البدائع للكاساني: 5/156، والمقنع: 2/11 و 16(7/997)
شروط الاستصناع الخاصة:
ينعقد الاستصناع بالإيجاب والقبول من المتعاقدين، وهما المستصنع والصانع، ويقال للمشتري: مستصنع، وللبائع: صانع، وللمعقود عليه: مصنوع.
أما الإيجاب والقبول فهو ما يتلفظ به العاقدان من عبارات تفيد رغبة مشتركة في تحقيق العقد (1)
فما صدر أولًا من أحد المتعاقدين فهو: الإيجاب، سواء كان بائعًا أو مشتريًا، وما صدر ثانيًا، فهو: القبول.
ولا يشترط في الصيغة عبارات معينة، بل كل ما يدل على رضا الجانبين، وقد مثل الفقهاء للصيغ بكلمة: اعمل لي أو أصنع لي، فيقول الصانع: قبلت، أو رضيت، أو كل لفظ يدل على الرضا عرفًا.
وهل يصح الاستصناع بالتعاطي، وهو: الأخذ والعطاء، بدون كلام؟
ظاهر المذهب الحنفي يقر التعاطي في العقود، في الخسيس والنفيس، إذا لم يصرح أحد المتعاقدين بعدم الرضا، وقد أفتوا بصحة التعاطي في الإقالة والإجارة والصرف (2)
والذي يظهر أن الاستصناع لما كان من شروطه بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره (3) ، والتعاطي لا يتحقق به هذا الشرط، فإن الاستصناع لا يصح بالتعاطي.
__________
(1) البدائع: للكساني: 5/3
(2) رد المحتار على الدر المختار: 4/12
(3) البدائع، للكاساني: 5/3(7/998)
وشرائط جوازه ثلاثة:
الأول: بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره ووصفه، لأنه لا يصير معلومًا بدونها (1) وزاد البعض (2) : وبكل ما يصير به معلومًا علمًا لا يؤدي إلى نزاع، مع العلم أن المعقود عليه في الاستصناع شيئان: العين والعمل، وعليهما انبنى هذا العقد. والبيان المقصود من هذا الشرط يكون في كل شيء بحسبه، ومن شأنه أن يزول به كل غموض، ويبعد به شبح النزاع.
والمقصود الأصلي في هذا العقد إنما هو العين، وهو مشهور المذهب الحنفي، وهو ما صرح به في الهداية (3) فقال: والمعقود عليه العين دون العمل. وقال الكمال بن الهمام: وهذا نفي لقول سعيد البردعي، إذ أن المعقود عليه العمل، لأن الاستصناع ينبئ عنه (4)
وقال السرخسي: والأصح أن المعقود عليه: المستصنع فيه، أي العين، وذكر الصنعة، أي العمل (5) ، لبيان الوصف، فإن المعقود عليه إنما هي العين بعد تكييفها بالعمل، حسب المواصفات التي طلبها المستصنع.
الثاني: أن يكون المراد صنعه مما يجري فيه التعامل بين الناس، ومثل له الكاساني بأواني الحديد والرصاص والنحاس والزجاج والخفاف والنعال ولُجم الحديد للدواب ونصول السيوف والسكاكين والقسي، ونحو ذلك.
ثم قال: ولا يجوز في الثياب، لأن القياس يأبى جوازه (6) ، أي أن هذه الأشياء جرى فيها التعامل بإجماع المسلمين، فأجيزت استحسانًا لا قياسًا، تيسيرًا على الناس، والثياب لم يثبت تعامل الناس به استصناعًا، فلا يثبت بالقياس.
والقاعدة فيما جرى فيه التعامل قد عبر عنها الكمال بن الهمام بقوله: فقصرنا جواز الاستصناع على ما فيه تعامل، وما لا تعامل فيه رجعنا فيه إلى القياس كأن يستصنع حائكًا أو خياطًا لينسج له أو يخيط قميصًا بغزل نفسه (7)
ومثل هذا المعنى ورد في الفتاوى الهندية (8)
وقال ابن عابدين: ما فيه تعامل استصناع، لأن اللفظ حقيقة للاستصناع فيحافظ على قضيته بخلاف ما لا تعامل فيه لأنه استصناع فاسد فيحمل على السلم الصحيح (9) وهو مذهب الإمامين.
__________
(1) بدائع الصنائع، للكاساني: 1/3، والموسوعة الفقهية: 3/328
(2) موسوعة جمال عبد الناصر: 7/92
(3) الهداية، للمرغيناني: 6/243
(4) فتح القدير، للكمال بن الهمام: 6/243
(5) المبسوط، للسرخسي:12/39
(6) الكاساني، بدائع الصنائع: 5/3
(7) فتح القدير: 6/242
(8) الفتاوى الهندية، للعلامة نظام: 3/203
(9) حاشية ابن عابدين: 4/212(7/999)
وقال في مجمع الأنهر (1) : والاستصناع بلا أجل يصح استحسانًا فيما تعورف فيه. كخف وطست وغير ذلك من الأواني، وهو بيع، والقياس أن لا يصح لأنه بيع المعدوم، ووجه الاستحسان أن المستصنع فيه المعدوم يجعل موجودًا حكمًا، كطهارة المعذور. فنزل منزلة الإجماع للتعامل به من زمن النبي إلى يومنا هذا.. ولا يصح الاستصناع فيما لم يتعارف كالثوب، بحيث لو أمر حائكًا أن ينسج له ثيابًا بغزل من عنده، بدراهم، لم يجز، إذ لم يجر فيه التعامل، فيبقى على أصل القياس، وهو فساد بيع المعدوم. فإن شرط فيه الأجل فحينئذ يجوز بطريق السلم.
ولهذا لما ذكرت المجلة العثمانية في مادتها 389 شرط التعامل قالت: كل شيء تعومل باستصناعه يصح فيه الاستصناع على الإطلاق، وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة صار سلمًا، وتعتبر فيه حينئذ شروط السلم، وإذا لم يبين فيه المدة كان من قبيل الاستصناع أيضًا.
فكانت هذه المادة يناقض آخرها أولها، إذ جعلت قسمًا مما لم يتعامل باستصناعه مما لم تبين فيه المدة استصناعًا، مع أن تطبيق شرط التعامل يوجب الحكم بالفساد (2)
ولذلك ذكر شارح المجلة علي حيدر: إن ما جاء في آخر المادة 389 غير موافق لما في الكتب الفقهية، لأن الاستصناع إنما يجري في البلاد التي يكون فيها التعامل به، فلا يصح في غيرها، وهو ما اتفقت عليه كتب الفقه الحنفي بموجب شرط هو أن يجري فيه التعامل، فلا يصح في غيرها.
ويظهر أن تعامل الناس يتطور وينتشر من مدينة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، فلا يمكن أن نقف على ما يجري فيه التعامل عند قرن معين أو بلد معين أو بضاعة معينة، ما دامت حاجات الناس متطورة متغيرة، وإذا كان التعامل بالاستصناع في الماضي مقصورًا على بعض الحاجات فإنهم اليوم أصبحوا في أشد الحاجة إلى تعميم الاستصناع في حاجات جديدة، حتى استصناع السيارات والبواخر والأبنية.
__________
(1) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، دمات أفندي: 2/107، وكذلك بدر المنتقى بشرح الملتقى: 2/107
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/360(7/1000)
وإذا كانت هذه الحاجة قد دفعت الفقهاء في الماضي إلى القول بتقديم القياس الخفي على القياس الجلي، وسموا هذا: استحسانا، وما ذهبوا إلى الاستحسان تشهيًا، بل راعوا فيه تيسير وسائل التعامل بين الناس، وقدروا حاجة التجار إلى هذا النوع من التعامل، واستخدموا قواعد أقرها الفقهاء أنفسهم: المشقة تجلب التيسير - إذا ضاق الأمر اتسع - الحاجة تتنزل منزلة الضرورة، عامة أو خاصة - العادة محكمة (1) فإن حاجة الناس إلى ذلك في عصرنا هذا أشد.
وفي نفس هذا الاتجاه يمكن أن نقر أشياء جديدة لم يجر التعامل بها في الماضي، ولكنها أصبحت في هذا الزمان مما يجري فيها التعامل بين الناس، بل عمت بلدانًا كثيرة نتيجة انتشار المصانع في كل مكان، وتزايد حاجات الناس، وسهولة الاتصال بين الشعوب. وسرعة التنقل.. على أن الأشياء التي مثل بها الفقهاء لم تذكر على سبيل الحصر، وإنما ذكرت لشرح ما يجوز فيه الاستصناع مما تعامل فيه الناس، ولذلك كانت الأمثلة تتغير في كتب الفقه من زمان إلى زمان.
ولهذا مثلت مجلة الأحكام العدلية بأشياء جيدة لم تذكر من قبل في كتب الفقه، واعتبرتها من الاستصناع الذي جرى به عمل الناس، فمثلت لذلك بالزورق وبالسفينة والبندقية (2) . كما مثلت موسوعة جمال عبد الناصر (3) .. بقطع الموبيليا والثياب والأحذية.. مع أن القدماء نصوا على أن الثياب لا يجوز فيه الاستصناع، وعللوا ذلك بعدم التعامل.
وهنا يجب أن يقول المجمع الفقهي كلمته في الأشياء المستحدثة التي لم يجر فيها التعامل من قبل، وعم التعامل فيها بين الناس حديثًا، كالآلات والمعدات والسفن والثياب وغيرها:
هل نحكم فيها بفساد العقود، اعتبارًا لأنها لم تكن مما تعامل الناس فيه، ونلتزم فيها ما قاله الفقهاء في الماضي إلى أبد الدهر، بدون التفات إلى تغير الزمان والأعراف والعادات، وأنه لا عبرة بما جرى عليه تعامل المسلمين في القرون الأخيرة.
ولماذا لا نقول إن الشرط في الاستصناع هو تعامل المسلمين في أي زمان من الأزمنة، وقول الرسول: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" لا يتقيد بأي عصر من العصور، وأنه مهما تحقق تعامل الناس مع توفر بقية الشروط كان استصناعًا وما ذكر من الأشياء التي يجوز فيها الاستصناع إنما هو مجرد أمثلة. وهذا الاتجاه هو الذي يحقق ازدهار الصناعات التي انتشرت وعمت كل حاجيات الإنسان، وأصبح الحكم فيها بعدم الجواز لأن الناس لم يتعاملوا فيها من قبل حرجًا لا موجب له، ومنافيًا لما قامت عليه الشريعة من سد حاجيات الإنسان، وتيسير أموره، ما دامت مجموع شروط الاستصناع متوفرة فيها، ولا تتضمن غررًا ولا ضررًا.
__________
(1) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: 1/126، والأشباه والنظائر، للسيوطي: ص97، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر: 1/360
(2) شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر - المادة 388
(3) الموسوعة: 7/93(7/1001)
الثالث: أن لا يكون فيه أجل:
وقد اختلف الحنفية في هذا الشرط: فأبو حنيفة (1) يقول بهذا الشرط لأنه يرى أنه إذا ذكر الأجل في عقد الاستصناع صار سلمًا، والأجل من شرائط السلم، مع العلم أن مراد الحنفية بالأجل عند إطلاقه هو شهر، والشهر يعتبر أقل أجل السلم.
فالذين يشترطون في الاستصناع أن لا يكون فيه أجل إنما يريدون الشهر فما فوق فإذا ذكر أجل دون الشهر فهو استصناع عند أبي حنيفة وصاحبيه، لأنه لا يصح أن يكون سلمًا.
وقد علل مذهب أبي حنيفة بأمرين:
الأمر الأول: أن السلم عقد على مبيع في الذمة مؤجل، فإذا ضرب الأجل في الاستصناع صار بمعنى السلم، ولو كانت الصيغة استصناعًا (2) والسلم بالأجل ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، والاستصناع بالأجل ثابت في عرفهم فلا يحمل عليه (3)
الأمر الثاني: أن التأجيل يختص بالديون، لأنه وضع لتأخير المطالبة، وتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه المطالبة، وليس ذلك إلا في السلم، إذ لا دين في الاستصناع (4)
وقال أبو يوسف ومحمد: عدم ضرب الأجل ليس بشرط، وهو استصناع على كل حال ضرب الأجل فيه أو لم يضرب، لأن اللفظ حقيقة فيه، فيحيط على مقتضاه (5) وذلك لأن العادة جارية بضرب الأجل في الاستصناع. وإنما جاز للتعامل، لأن القصد به تعجيل العمل لا تأخير المطالبة من المستصنع، فلا يخرج عن كونه استصناعًا، بينما القصد من السلم التأجيل فيه لتأخير المطالبة.
هذا ما عبر عنه البابرتي عندما قال: أما المذكور على سبيل الاستعجال بأن قال: على أن يفرغ غدًا أو بعد غد، فلا يصير سلمًا، لأنه ذكره حينئذ للفراغ لا لتأخير المطالبة بالتسليم (6)
وقد ذكر الهندواني قاعدة في التفرقة بين الآجال الاستعجالية والآجال الاستمهالية. فقال: إن ذكر المدة في الاستصناع: إن كان من قبل المستصنع فهو للاستعجال فلا يصير به سلمًا، وإن كان من قبل الصانع فهو سلم، لأنه يذكره على سبيل الاستمهال. وفيما إذا صار سلمًا يعتبر شرائط السلم (7)
__________
(1) بدائع الصنائع، للكاساني: 5/3
(2) تحفة الفقهاء، للسمرقندي: 2/539
(3) مجمع الأنهر، لدمات أفندي: 2/106
(4) المبسوط، للسرخسي: 12/140
(5) مجمع الأنهر، لدمات أفندي: 2/106
(6) العناية، للبابرتي: 6/244
(7) العناية، للبابرتي: 6/244(7/1002)
ويبدو أن هذه التفرقة التي ذكرها الهندواني صحيحة إلى أبعد مدى، لأن ما تعارف عليه الناس في هذا العصر، وفي العصور الماضية أيضًا، أن الذي يطلب تحديد الأجل في الاستصناع إنما هو المستصنع الذي له رغبة في إحضار المصنوع والانتفاع به في أقرب وقت، فهو إذًا من الآجال الاستعجالية أما الصانع فليس من منفعته التعجيل، بل بالعكس، فهو لا يرغب إلا في الإمهال. وبذلك كانت الآجال الاستعجالية من خصائص الاستصناع، فلا تصير بها عقود الاستصناع سلمًا. أما إذا كانت الآجال من الصانع قصد الإمهال. فإن عقود الاستصناع تنقلب بها سلمًا، لأن الأجل في السلم إنما اشترط لإمهال المسلم إليه وهو ما شرع إلا ترفيهًا وتيسيرًا عليه من الاكتساب في المدة.
فمقصد الأجل في الاستصناع والسلم مختلف، فيمكن أن يوجد الأجل في كليهما ويبقى الاختلاف بارزًا بينهما، وهذا ما يرجح، في نظري، مذهب الإمامين في عدم اشتراط الأجل، وصحة الامتناع بذكر الأجل أو عدمه.
وقد لخص شارح المجلة العدلية علي حيدر مسائل الاستصناع في خمس صور ضبطها على الصورة التالية:
الأولى: إذا لم تبين المدة في الأشياء التي جرى التعامل باستصناعها، فالعقد عقد استصناع بالإجماع عند الحنفية.
الثانية: إذا كانت المدة أقل من شهر، أي لم تبلغ المدة التي يصح بها السلم، والأشياء مما جرى التعامل بها على الاستصناع، فهو كذلك عقد استصناع بالإجماع.
الثالثة: إذا كانت المدة المبينة في الأشياء التي تستصنع عادةً شهرًا أو أكثر من شهر، فهو عقد استصناع عند الصاحبين، وعقد سلم عند الإمام.
الرابعة: إذا كانت المدة لأقل من شهر، أي للأجل الذي يصح به السلم، والأشياء مما لم تستصنع عادةً، فهو سلم بالإجماع.
الخامسة: إذا لم تبين المدة في الأشياء التي لم يجر التعامل بها على وجه الاستصناع فهو عقد استصناع فاسد.(7/1003)
الاستصناع في القانون الوضعي
لم يفرد القانون الوضعي مباحث خاصة بعقدي السلم والاستصناع، بل أدخلهما ضمن الأحكام العامة للبيع المطلق، إذ القانون أجاز للبائع أن يشترط تأجيل تسليم المبيع، كما أن بيع المعدوم الذي ينتظر وجوده في المستقبل جائز، لأنه في حكم الموجود ومن ذلك السلم والاستصناع.
أما الشريعة الإسلامية فقد أفردت لهما مباحث خاصة حيث أن السلم وارد بالنص أما الاستصناع فقد ثبت بالاستحسان عند الحنفية، وهو عقد له خصائص تميز بها عن غيره من العقود.
ولكن القانون الوضعي تكلم عن المقاولة بصفة تفصيلية والمقاولة في القانون الوضعي أعم من الاستصناع، لأن المقاولة كما تكون بتقديم المقاول العمل والمادة معًا وهو ما يسمى عند الحنفية بالاستصناع، كذلك تكون بتقديم الصانع العمل فقط، وهو ما يسمى في عرف الفقه بالإجارة عند عامة الفقهاء.
وقد ذكر السنهوري (1) عند حديثه عن المقاولة معايير تميز الفرع الثاني من المقاولة عن عقد العمل (الإجارة) فقال:
وتطبيقًا لهذا المعيار الأخير يكون كل من النجار والنقاش والحداد والسباك ومن إليهم مقاولًا، إذا هو تَعَاقَدَ مع صاحب العمل على صنع شيء معين يقوم بصنعه مستقلًّا عن رب العمل، ولا يخضع لإشرافه فيه، ولا يتلقى منه تعليمات، غير ما هو مذكور في العقد.
أما إذا قام بإشراف رب العمل وتحت إدارته، ويتلقى منه تعليمات يقوم بتنفيذها، فهو عقد عمل لا عقد مقاولة (2)
وذلك لأن تعريف (عقد العمل) في القانون المدني هو الذي يتعهد فيه أحد المتعاقدين أن يعمل في خدمة الآخر وتحت إرادته وإشرافه، مقابل أجر يتعهد به المتعاقد الآخر.
وتتميز المقاولة عن البيع في القانون الوضعي، بأن الأصل في عقد المقاولة هو العمل، والبيع يقع على الملكية، فالمقاولة على العمل فقط، هي الأصل، وهي مقاولة لا شبهة فيها.
أما إذا قدم الصانع المادة مع العمل، فهي اختلاط المقاولة بعقد آخر يقع على المادة، ويكون للصانع دوران: دور البائع الذي قدم المادة، وفي هذه الحالة يكون مسؤولًا عن جودة المادة، ودور المقاول الذي قدم العمل فالمادة إنما جاءت تابعة للعمل وتكون المقاولة ملزمة للصانع يصنع الشيء المطلوب، فتقع على العمل (3)
وهذا الرأي جعل الاستصناع عقد مقاولة على العمل يتماشى مع رأي أبي سعيد البردعي أحد فقهاء المذهب الحنفي، الذي يقول بأن الاستصناع يقع على العمل دون المادة، مع أن الرأي الصحيح عند الحنفية أن الاستصناع بيع لا إجارة (4)
__________
(1) الوسيط، للسنهوري، الكتاب الأول من 7/12
(2) الوسيط، للسنهوري، الكتاب الأول من: 7/12
(3) الوسيط للسنهوري، الكتاب الأول من 7/25
(4) العناية، للبابرتي، شرح الهداية: 6/243(7/1004)
والإجارة المقصودة في هذا الباب المقاولة على خصوص العمل واعتبار الاستصناع عقد مقاولة واقعًا على العمل هو أحد آراء علماء القانون.
أما الرأي الثاني: فيرى أن الاستصناع (عقد المقاولة) هو بيع شيء مستقبل فهم يرون أن القصد من عقد المقاولة ليس هو العمل المكلف به الصانع، وإنما هو الشيء المصنوع، ولا يدخل في الاعتبار أن المقاول إنما تعاقد على العمل (1) وهذا الرأي يتفق مع وجهة نظر فقهاء الحنفية عند تقريرهم الاستصناع.
قال السنهوري: ولو كان المقاول قصد أن يبيع شيئًا مصنوعًا لجاز له أن يقدم لرب العمل شيئًا يكون قد صنعه قبل العقد، وهو إذا فعل وقبل منه رب العمل ذلك فإن ملكية هذا الشيء المصنوع من قبل لا تنتقل بموجب العقد الأصلي، وإنما تنتقل بموجب عقد جديد يكيف على أنه بيع لا لشيء مستقبل بل لشيء حاضر (2)
وقد علل الكاساني كما سبق (3) بنفس التعليل فقال: وأما إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي بها المستصنع، فإنما جاز لا بالعقد الأول بل بعقد آخر، وهو التعاطي بتراضيهما.
الرأي الثالث: يرى أن الاستصناع يكون مقاولة وبيعًا بحسب نسبة قيمة المادة إلى قيمة العمل فإذا كانت قيمة المادة تفوق كثيرًا قيمة العمل كما إذا تعهد شخص بتوريد سيارة بعد أن يقوم فيها ببعض إصلاحات طفيفة، فالعقد بيع.
أما إذا كانت قيمة العمل تفوق كثيرًا قيمة المادة، كالرسام يورد القماش أو الورق الذي يرسم عليه، والألوان التي يرسم بها وهذه الخامات أقل بكثير من قيمة عمل الرسام، فالعقد مقاولة عمل، وبذلك أصبح هذا العقد عقدًا مختلطًا بين البيع والمقاولة.
وأما إذا تقاربت المادة والعمل، فيصبح العقد مزيجًا من بيع ومقاولة عمل، ويقع البيع على المادة وتسري أحكامه فيما يتعلق بها، وتقع المقاولة على العمل وتنطبق أحكامها عليه (4)
ويترتب على أن العقد مزيج من البيع والمقاولة: أن الشيء المصنوع تنتقل ملكيته إلى رب العمل بمجرد تمام صنعه، فإذا استولت عليه الإدارة مثلًا كان مستحقًّا لرب العمل لا للصانع، وإذا هلك الشيء المصنوع قبل التسليم فالهلاك على الصانع، وذلك تطبيقًا لأحكام البيع، ولكن الصانع يضمن العمل الذي أنجزه ضمان المقاول، وتسري هنا أحكام المقاولة لا أحكام البيع (5) ، ويبدو أن أصحاب هذا الرأي ابتعدوا عن معنى الاستصناع المتعارف، لأننا إذا غلبنا جانب البيع على جانب العمل فقد أهملنا كل ما يقتضيه العمل من مستلزمات، والعكس بالعكس وهذا من شأنه أن يحدث بعض الصعوبات في التطبيق عندما نهمل أحد جوانب العقد.
__________
(1) الوسيط، للسنهوري، الكتاب الأول من 7/26
(2) الوسيط، للسنهوري، الكتاب الأول من 7/26
(3) بدائع الصنائع: 5/2
(4) الوسيط، للسنهوري: 7/27
(5) الوسيط، للسنهوري: 7/27(7/1005)
نظرية القانون الوضعي في شروط الاستصناع:
قدمنا سابقًا أن القانون الوضعي جعل الحدث عن الاستصناع وأحكامه وشروطه ضمن الحديث عن المقاولة.
والمقاولة قائمة فيه على ثلاثة أركان شأنها شأن بقية العقود، وهي التراضي والمحل والسبب (1)
أما شروط التراضي فيقسمونها إلى قسمين:
الأول: شروط الانعقاد في التراضي.
والثاني: شروط الصحة في التراضي.
أما شروط الانعقاد فهي:
أولًا: توافق الإيجاب والقبول، بحيث يجب أن يتطابق الإيجاب والقبول على عناصر المقاولة، فيتم التراضي بين رب العمل والمقاول على ماهية العقد، والعمل الذي يؤديه المقاول لرب العمل، والأجر الذي يتقاضاه منه.
الثاني: التصميم والمقايسة ودفتر الشروط:
ومعنى هذا أن يكون عقد المقاولة مصحوبًا بتصميم يجري على مقتضاه العمل، والمقايسة ببيان مفصل عن الأعمال الواجب القيام بها، والأجرة الواجب دفعها، ودفتر الشروط.
والملاحظ أنه ليس من الضروري أن توجد كل هذه الوثائق منفصلة بعضها عن بعض بل الواجب وذكر كل المواصفات للأعمال المطلوبة بصفة واضحة (2)
وكل هذه الشروط يتفق فيها القانون الوضعي مع الشروط التي أثبتها علماء الفقه في الاستصناع، كما تقدم بيانه.
وأما شروط الصحة في التراضي فهي شروط صحة أي عقد آخر (3) وهي توافر الأهلية الواجبة، وسلامة التراضي من عيوب الإرادة، فإذا كان التراضي صادرًا عن ناقص الأهلية رب العمل، أو المقاول أو كليهما، كالقاصر أو المحجور عليه لسفه أو غفلة فليس أهلًا لإبرام عقد المقاولة، وإذا أبرم العقد من أحدهما أو كليهما كانت المقاولة قابلة للإبطال.
كل هذه الشروط تتفق في روحها ومعناها مع شروط الصحة التي اشترطها علماء الفقه الإسلامي في الاستصناع وبقية عقود البيع.
__________
(1) الوسيط، للسنهوري: 7/36
(2) الوسيط، للسنهوري: 7/39
(3) الوسيط، للسنهوري: 7/47 - 48(7/1006)
شروط المحل:
أما شروط المحل في المقاولة، فهي مزدوجة بين المقاول ورب العمل، فالنسبة إلى المقاول هو العمل المتعاقد على تأديته.
وبالنسبة لرب العمل: الأجر الذي تعهد بدفعه للمقاول.
والشروط الواجب توافرها في العمل هي:
1- أن يكون العمل ممكنًا.
2- أن يكون معينًا أو قابلًا للعيين.
3- أن يكون مشروعًا.
أما الأجر فهو المال الذي يلتزم رب العمل بإعطائه للمقاول في مقابل قيام هذا الأخير بالعمل المعهود إليه.
ويشترط في الأجر شروط ثلاثة:
أولًا: أن يكون الأجر موجودًا في عقد المقاولة، وإلا كان العقد من عقود التبرع.
ثانيًا: أن يكون الأجر معينًا أو قابلًا للتعيين حسب ما يتفق عليه المتعاقدان.
وقد يحدد أنه بموجب مقايسة، أو على أساس وحدة القياس (1)
وبقية الشروط والتفاصيل الواردة في القانون الوضعي لا تختلف عن الأركان أو الشروط التي ضبطها الفقه الإسلامي، سوى في طريقة العرض، والاستشهاد بأمثلة من واقعنا المعين، وكيفية تطبيق القواعد عليها، مما جعل القانون الوضعي في خصوص باب الاستصناع أو المقاولة أكثر شمولًا ووضوحًا في ضبط مسائل هذا الباب.
__________
(1) الوسيط، للسنهوري: 7/59 - 63(7/1007)
عقد الاستصناع بين الإلزام وعدمه
الالتزام أثر عام لجميع العقود فما من عقد صحيح إلا وينشئ التزامًا معينًا على أحد عاقديه أو التزامات متقابلة معينة بينهما، وموزعة عليهما، هي من الآثار الخاصة للعقد (1)
وهناك فرق بين اللزوم والالتزام:
فاللزوم أمر يقرره المشروع إذا توفرت شروط معينة في التصرف.
أما الالتزام فهو ما يقرره الشخص باختياره ابتداء. وأثره المباشر شغل ذمته بأمر (2)
وقد قسم الفقهاء العقود إلى نوعين: عقود لازمة، وعقود غير لازمة.
أما العقود اللازمة فأنواع ثلاثة:
الأول: عقود لازمة بحق الطرفين، ولا تقبل الفسخ بطريق الإقالة كالزواج.
الثاني: عقود لازمة بحق الطرفين، وتقبل الفسخ بطريق الإقالة، كالبيع والصلح.
الثالث: العقود اللازمة بحق أحد الطرفين، كالرهن والكفالة.
أما العقود غير اللازمة فهي تسعة عقود قسمت إلى ثلاثة أنواع بحسب كون عدم اللزوم فيها مطلقًا أو مقيدًا، وكونه أصليًّا أو استثنائيًّا (3)
النوع الأول: عقود غير لازمة مطلقًا في حق كلا الطرفين، وهي ثلاثة: الإيداع والإعارة والمضاربة والشركة. (4)
فالإيداع مثلًا عقد يرد على حفظ الشيء لدى غير صاحبه، فلكل من الطرفين، أعني: المودع والوديع المكلف بالحفظ، أن يفسخ عقد الإيداع بمحض إرادته. ذلك لأن المودع مستعين بغيره على الحفظ، فله أن يترك هذه الاستعانة متى شاء. ولأن الوديع متطوع بالمعونة في هذا الحفظ، فله أن يتخلى عن هذه المعونة متى شاء.
النوع الثاني: عقود الأصل فيها عدم اللزوم، ولكنها تلزم في بعض الأحوال، وهي أربعة: الوكالة والتحكيم والوصية والهبة (5)
فالوكالة مثلًا عقد يفوض به الإنسان غيره وينيبه عن نفسه في التصرف. فلكل من الطرفين أن يفسخ عقدها متى شاء، إلا إذا تعلق بها حق شخص ثالث فتصبح لازمة.
ويمتنع فيها العزل والفسخ بلا رضا ذلك الشخص.
__________
(1) المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/436
(2) نظرية الالتزام، للعطار: ص18
(3) المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/448 - 457
(4) المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/448 - 457
(5) المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/448 - 457(7/1008)
النوع الثالث: عقود الأصل فيها اللزوم ولكن في طبيعتها شيئًا من عدم اللزوم في ظروف محدودة. وجملة عقوده اثنان هما الإجارة والمزارعة.
فالإجارة مثلًا الأصل فيها اللزوم في حق المتعاقدين فيجبر الطرفان على تنفيذها غير أن فقهاءنا قرروا فيها جواز العدول والفسخ بالأعذار الطارئة، إذ يكون تنفيذ الإجارة عندئذ إهدارًا ماليًّا أو إصرارًا غير معقول. وعندئذ يلزم، المستأجر تعويض الضرر على الطرف الآخر إذا فوجئ بالفسخ بعد أن كلفه ما كلفه التهيؤ للعمل من مال ووقت أو تعطيل (1)
وقد عد مصطفى الزرقاء عقد الاستصناع عقدًا عاشرًا منفردًا عن بقية العقود المتقدمة غير اللازمة، لأن الاستصناع يعتبر في أصل المذهب الحنفي غير لازم، وأصبح بمقتضى نصوص مجلة الأحكام العثمانية لازمًا حسب المادة 392، في حق الطرفين، منذ انعقاده (2)
ويبدو أنه لا خلاف بين الحنفية في أن عقد الاستصناع غير لازم في مرحلة ما قبل الصنع، وكلام صاحب البدائع (3) صريح في هذا المعنى، حيث قال: إنه عقد غير لازم قبل العمل في الجانبين جميعًا بلا خلاف، حتى كان لكل واحد منهما خيار الامتناع قبل العمل، وقد علل عدم لزوم العقد قبل العمل (4) بأن الاستصناع جاء على خلاف القياس، فلم يشترط فيه اللزوم الذي اشترط في العقود التي جاءت على أصل القياس. وزاد في موسوعة جمال (5) عبد الناصر تعليلًا آخر وهو أن إلزام الصانع بالمضي، فيه ضرر له من ناحية أنه إتلاف لماله في عمل المطلوب، وقد لا يرضى المستصنع، فكان له أن يفسخ ولا يمضي، أما المستصنع فلأنه قد اشترى ما لم يره فكان له الخيار في الفسخ قبل الرؤية.
ونفس هذا التعليل الأخير ذكر في الموسوعة الفقهية (6)
وأما مجلة الأحكام العثمانية فإنها أقر في فصلها 392 (7) لزوم العقد مطلقا، فقالت: وإذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة كان المستصنع مخيرًا.
ويبدو أن ما ذهبت إليه المجلة أصبح هو المتعارف في عقود الاستصناع والمقاولات المدنية، اعتمادًا على رأي أبي يوسف، مع الملاحظ أن المذكور في كتب الفقه أن رأي أبي يوسف خاص بما إذا جاء المصنوع مغايرًا للأوصاف المشروطة. ولم يتعرض إلى لزوم العقد قبل العمل.
وقد علق مصطفى الزرقاء على هذا التعميم (8) بأن المجلة اتخذت رأي أبي يوسف أساسًا، وتوسعت فيه بتعميم اللزوم حسب المصلحة الزمنية، وهذا ما أيدته لجنة الموسوعة الفقهية (9) التي قالت:
__________
(1) المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/448 - 457
(2) المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/456
(3) البدائع، الكاساني: 5/3
(4) البدائع، للكاساني: 5/3
(5) موسوعة عبد الناصر: 7/93 - 94، والموسوعة الفقهية: 3/329
(6) الموسوعة الفقهية: 3/329
(7) مجلة الأحكام العثمانية: 1/361
(8) المدخل الفقهي العام، للزرقاء: 1/457
(9) الموسوعة الفقهية: 3/329(7/1009)
واللجنة ترجح رأي أبي يوسف الذي أخذت به المجلة، وترى لزوم عقد الاستصناع، لما يترتب على استقلال أحد الطرفين بفسخه من المضار، إلا إذا جاء على خلاف الوصف.
وهذا نفس التعليل الذي ذكره شارح المجلة علي حيدر حيث قال (1) : لأنه لو جُعل خيار للمستصنع لَلَحِقَ بالبائع أضرار، لأنه قد لا يرغب في المصنوع أحد غير المستصنع.
وقد جاء في التقرير الهمايوني للمجلة العثمانية (2) التنبيه على ترجيح قول أبي يوسف في الاستصناع، وعند الإمام الأعظم للمستصنع الرجوع بعد عقد الاستصناع. وعند الإمام أبي يوسف رحمة الله عليه أنه إذا وجد المصنوع موافقًا للصفات التي بينت وقت العقد فليس له الرجوع، والحال أنه في هذا الزمن قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها البواخر والمدافع ونحوها بالمقاولة. وبهذا صار الاستصناع من الأمور الجارية العظيمة، فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة، لذلك لزم اختيار قول أبي يوسف رحمه الله في هذا مراعاة لمصلحة الوقت.
ورأيي أن ما اعتمدته المجلة هو الذي يحقق المصلحة المرجوة من تجويز عقد الاستصناع، وأن إبقاء الخيار لهما ربما كان في الماضي يحقق مصلحة الطرفين، عندما كان الاستصناع يتوجه إلى أشياء صغيرة وقليلة الأهمية، وهذا يظهر من أمثلة عقود الاستصناع التي أشارت إليها كتب الفقه في الماضي.
أما وقد أصبحت هذه العقود تجري في أشياء ذات أهمية كبيرة، وتمثل مبالغ مالية طائلة، وتحقق أهدافًا اقتصادية في أعلى مستوى فلا يجوز أن تبقى على الخيار بين الطرفين.
أما إذا فرغ الصانع من عمله، فلذلك حالتان:
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/361
(2) مجلة الأحكام العثمانية: 1/12(7/1010)
الأولى: ما قبل الرؤية: فقد ذكر في الأصل للإمام محمد عدم لزوم العقد بالنسبة للطرفين أيضًا. ذلك لأنه بالنسبة إلى المستصنع يرى أنه شراء لما لم يره، فكان له الفسخ وبالنسبة إلى الصانع، يرى أن العقد لم يقع على هذا المصنوع عينًا، إنما وقع على المبيع في الذمة، وإنما يتعين المصنوع محلًّا للعقد إذا ما رآه المستصنع فرضي به، ألا ترى أن الصانع لو باع المصنوع إلى غير المستصنع جاز بيعه وليس للمستصنع أن يعترض أو ينقض البيع؟.
وهذا الرأي هو الذي اعتمد في التحفة (1) وفتح القدير (2) والبدائع (3) وعلله الكاساني بأن العقد ما وقع على عين المعمول، بل على مثله في الذمة لأنه لو اشترى من مكان آخر وسلم إليه جاز، ونسب هذا القول لأبي حنيفة وصاحبيه.
الثانية: إذا قدم الصانع العمل إلى المستصنع:
فإما أن يقدمه موافقًا لكل المواصفات أو لا: فالأول يسقط معه خيار الصانع ويبقى خيار المستصنع.
أما سقوط خيار الصانع فلأنه بإحضار المصنوع إلى المستصنع على الصفة المشروطة تعين أن يكون بائعًا وليس للبائع خيار رؤية.
وهذا بخلاف حال المستصنع فإن له الخيار لأنه لا يزال مشتريًا لما لم يره وجاء في البدائع: أما إذا أحضر الصانع العين على الصفة المشروطة، فقد سقط خيار الصانع وللمستصنع الخيار، لأن الصانع بائع، فلا خيار له، أما المستصنع فمشتري ما لم يره، فكان له الخيار.. ولأن الصانع بالإحضار أسقط حق نفسه فبقي خيار صاحبه على حاله.
ثم قال الكاساني (4) وهذا ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وصاحبيه.. وروي عن أبي حنيفة أن لكل واحد منهما الخيار، وروي عن أبي يوسف أنه لا خيار لهما جميعًا.
__________
(1) التحفة: 2/629
(2) فتح القدير: 6/243
(3) الكاساني: بدائع الصنائع: 5/3
(4) بدائع الصنائع، للكاساني: 5/4(7/1011)
ووجه رواية أبي يوسف أن الصانع قد أفسد متاعه، وقطع جلده، وجاء بالعمل على الصفة المشروطة، فلو كان للمستصنع الامتناع من أخذه لكان فيه إضرار بالصانع، لأن غيره لا يشتريه بمثله.
ويظهر أن مذهب أبي يوسف هو الذي عليه عمل الناس في هذا الزمان في أكثر بلاد العالم، وهو نفس ما ذهبت إليه المجلة العثمانية، وهو ما جاءت به القوانين الوضعية وسارت عليه عقود المقاولين في كل المعاملات.
وعلى رأي أبي يوسف يمكن أن تستمر هذه العقود وتتطور وينجر من وراء ذلك أن تنشط الصناعات، وتنمو وتزدهر، وأن يقوم إنتاجها على تخطيط مدروس، حسب طلبات ملزمة للجانبين.
أما إثبات الخيار للطرفين على مذهب أبي حنيفة، فمن شأنه أن يؤدي إلى عرقلة النمو الاقتصادي، وقد يصبح حجر عثرة في تطور عجلة الإنتاج، مهما التمس الفقهاء من مبررات لتأييد مذهبه.
وقد علل صاحب بدائع الصنائع (1) رواية أبي حنيفة التي تعطي التخيير للجانبين بأنها: دفع الضرر عن الصانع، وأنه واجب.
وجاء في فتح القدير (2) : أما بعدما رآه المستصنع، فالأصح أنه لا خيار للصانع، بل إذا قبله المستصنع أجبر على دفعه، لأنه بالآخرة بائع.
وبمثل هذا المعنى صرح صاحب العناية (3) فقال: ومن هو كذلك فله الخيار كما تقدم، ولا خيار للصانع، كذا ذكر في المبسوط فيجبر على العمل لأنه بائع باع من لم يره.
ومن هو كذلك لا خيار له وهو الأصح، بناء على جعله بيعًا لا عدة.
والثاني: وهو أن يكون العمل غير موافق للمواصفات التي وقع التعاقد عليها، فالمستصنع غير ملزم بالاستلام، ولا هو ملزم بدفع الثمن، لأن العقد إنما كان تلبية لرغبة المستصنع، ودفعًا لحاجته، لثبوت خيار فوات الوصف قال في شرح مجلة الأحكام: وإذا كان المصنوع غير موافق للأوصاف المطلوبة.
فإن كان النقص الموجود فيه من قبيل العيب فللمستصنع خيار العيب.
وإن كان من قبيل الوصف، فله خيار الوصف، إن شاء قبله وإن شاء رده، ومتى قبله بعد رؤيته فليس له رده (4)
__________
(1) بدائع الصنائع، للكاساني: 5/4
(2) فتح القدير، للكمال بن الهمام: 6/244
(3) العناية، للبابرتي: 6/244
(4) درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/321(7/1012)
خيار الرؤية
شرعية خيار الرؤية:
لقد تقدم أن الصانع إذا قدم المصنوع للمستصنع فله خيار الرؤية على مذهب أبي حنيفة، خلافًا لأبي يوسف الذي لا يثبت له هذا الخيار ما دام متمتعًا بخيار الوصف إذا كان المصنوع غير موافق للأوصاف المطلوبة، وخيار العيب إذا كان النقص من قبيل العيب.
وقول أبي يوسف هذا يشبه كثيرًا قول المالكية بجواز بيع الغائب على الصفة، إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير صفته قبل القبض فإذا جاء على الصفة المذكورة كان البيع لازمًا، إذ أن هذا يعتبر من الغرر اليسير وإن خالف الصفة المتفق عليها فللمشتري خيار الصفة (1)
وقلنا فيما مضى: إن العين في الاستصناع لم تكن معدومة، ولكنها مملوكة للبائع، وتسلم له حسب الأوصاف التي طلبها المستصنع.
والحنفية يجوزون بيع العين الغائبة من غير رؤية ولا وصف، فإذا رآها المشتري كان له الخيار، فإن شاء أنفذ البيع وإن شاء رده.
وكذلك المبيع على الصفة يثبت فيه خيار الرؤية.
وإذا كان للمشتري خيار الرؤية فلا غرر عليه، ولا تؤدي الجهالة إلى النزاع مطلقًا.
واستدلوا بالحديث الذي أخرجه الدارقطني في سننه مسندًا.. عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار، إذا رآه)) ورواه البيهقي والدارقطني في سننيهما بزيادة: ((إن شاء أخذه وإن شاء رده)) (2) مرسلًا.
ويؤيده ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه باع أرضًا بالبصرة من طلحة بن عبيد الله، فقيل لطلحة بن عبيد الله: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار، لأني اشتريت ما لم أره، وقيل لعثمان: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار، لأني بعت ما لم أره فحكما بينهما جبير بن مطعم فقضى بالخيار لطلحة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، أخرجه الطحاوي،وفي رواية البيهقي عن علقمة بن أبي وقاص زاد ولا خيار لعثمان. انتهى (3)
__________
(1) بداية المجتهد، لابن رشد: 2/154، الشرح الكبير، للدردير: 3/35
(2) نصب الراية لأحاديث الهداية، لعبد الله بن يوسف الزيلعي: 4/9
(3) نصب الراية لأحاديث الهداية، لعبد الله بن يوسف الزيلعي: 4/9،10(7/1013)
وجاء في فتح القدير: "من اشترى شيئًا لم يره فله الخيار إذا رآه، إن شاء أخذه بجميع ثمنه، وإن شاء رده سواء رآه على الصفة التي وصفت له أو على خلافها (1)
وقال في الفتاوى الهندية (2) نقلًا عن الجوهرة النيرة: وخيار الرؤية يثبت حكمًا لا بالشروط. ثم قال: وخيار الرؤية لا يمنع ثبوت الملك في البدلين، ولكن يمنع اللزوم. كذا في محيط السرخسي.
ومن باع ما لم يره، كأن ورث عينًا من الأعيان في بلدة أخرى، فباعها قبل أن يراها، فلا خيار له (3) ، لأن المالك يعرف ما يملكه عادةً، فلا ضرورة لثبوت الخيار له.
فإذا باع ما لم يره، وهو أمر نادر، كان مقصرًا في حقه نفسه، فلا يستحق المطالبة بفسخ العقد، أما المتملك إن لم يتمكن من رؤية محل العقد ولم يجد سبيلا إليه، كان من المصلحة منحه الخيار (4)
وخيار الرؤية يثبت في أربعة مواضع: البيع الصحيح والإجارة والقسمة والصلح عن دعوى المال على شيء بعينه، لأن كلًّا منهما معاوضة فليس في ديون النقود عقود لا تنفسخ كالمهر وبدل الصلح (5) والاستصناع نوع من أنواع البيوع.
__________
(1) فتح القدير، للكمال بن الهمام: 5/530
(2) الفتاوى الهندية، للعلامة نظام: 3/58
(3) فتح القدير، للكمال بن الهمام: 5/533
(4) الفقه الإسلامي وأدلته، لوهبة الزحيلي: 4/269
(5) ابن عابدين: 4/63(7/1014)
وقت ثبوت الخيار:
يثبت الخيار للمشتري عند رؤية المعقود عليه لا قبلها، فلو أجاز العقد قبل الرؤية لا يلزم العقد ولا يسقط الخيار، وله أن يرد المعقود عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الخيار للمشتري بعد الرؤية.
أما لو فسخ العقد قبل الرؤية صح الفسخ، لا من أجل الخيار وإنما لأن العقد غير لازم وغير اللازم يجوز فسخه، كالعقد الذي فيه خيار العيب، وعقد الإعارة والإيداع (1) . وقد تقدم أن الاستصناع عقد غير لازم عند أبي حنيفة، فيجوز فسخه، وهو عقد لازم عند أبي يوسف فلا يجوز فسخه. كما لا يثبت فيه خيار الرؤية.
شروط ثبوت الخيار:
الأول: أن يكون المبيع مما يتعين بالتعيين أو مشخصًا عن الأعيان، كالأرض والدار والدابة والسيارة، إذا وصفت بما ينفي عنها الجهالة المفضية إلى النزاع، لأن للناس أغراضًا خاصة في الأعيان فيثبت الخيار لينظر المتملك هل يصلح له أم لا. ويظل له الخيار ولو وافق الوصف عند الحنفية (2)
فإن كان مما لا يتعين بالتعيين لا يثبت فيه الخيار، حتى أنهما لو تبايعا عينًا بعين يثبت الخيار لكل واحد منهما، ولو تبايعا دينًا بدين لا يثبت الخيار لواحد منهما، ولو اشترى عينًا بدين فللمشتري الخيار ولا للبائع (3)
الثاني: عدم الرؤية أي أن تكون العين التي بيعت لم يرها المشتري عند البيع، فإن اشتراه وهو يراه فلا خيار له، لأن الأصل هو لزوم العقد وانبرامه، لأن ركن العقد وجد مطلقًا عن شرط.
وإن كان المشتري لم يره وقت الشراء ولكن قد رآه قبل ذلك، نظر في ذلك:
إن كان المبيع وقت الشراء على الحالة التي كان عليها لم تتغير، فلا خيار له، لأن الخيار ثبت معدولًا به عن الأصل بالنص الوارد في شراء ما لم يره، وهذا قد اشترى شيئًا قد رآه فلا يثبت له الخيار.
وإن كان قد تغير عن حالته، فله الخيار، لأنه إذا تغير عن حالته فقد صار شيئًا آخر، فكان مشتريًا شيئًا لم يره، فله الخيار إذا رآه (4)
__________
(1) البدائع: 5/295 والفقه الإسلامي وأدلته: 4/269
(2) الفقه الإسلامي وأدلته: 4/270
(3) بدائع الصنائع، للكاساني: 5/292
(4) بدائع الصنائع، للكاساني: 5/292 - 293(7/1015)
كيفية الرؤية:
الرؤية قد تكون لجميع المعقود عليه، وقد تكون الرؤية لبعضه والضابط فيه: أنه يكفي رؤية ما يدل على المقصود، ويفيد المعرفة به (1) . وذلك بأي حاسة من الحواس، حسب طبيعة محل العقد، فإن كان من المطعومات يكون العلم به بالذوق، وإن كان من المشمومات كانت معرفته بالشم، وإن كان من المرئيات فيكتفي بوصف الشيء وصفًا كافيًا.
ويجوز عند الحنفية للبصير والأعمى التوكيل بالنظر والرؤية (2)
وقال الكمال بن الهمام: والمراد بالرؤية في الحديث: العلم بالمقصود.. فلا يكتفي بالرؤية في مثل ما إذا كان المبيع ما يعرف بالشم كمسك اشتراه وهو يراه، فإنه إنما يثبت الخيار له عند شمه، فله الفسخ عند شمه بعد رؤيته، وكذا لو رأى شيئًا ثم اشتراه فوجده متغيرًا، لأن تلك الرؤية غير معروفة للمقصود الآن، وكذا اشتراء الأعمى يثبت له الخيار عند الوصف له، فأقيم الوصف مقام الرؤية (3)
وبناء على ذلك لا يكفي رؤية بيت من دار بل له حق الخيار حتى يطلع على الدار كلها ولا يكفي رؤية شاة من قطيع بل له الخيار حتى يرى القطيع كله.
وإذا كان المبيع عدديًّا كالثياب والنعال فلا يكفي رؤية البعض، بل له الخيار إلى أن يرى الكل.
وإذا كان المبيع من المثليات التي تباع كيلًا أو وزنًا أو كان مغيبًا في الأرض كالثوم والبصل فيكتفي برؤية بعض الأجزاء والوحدات ويرونه بعض النماذج.
__________
(1) البدائع: 5/293، والدر المختار: 4/68
(2) البدائع: 5/295
(3) فتح القدير: 5/332(7/1016)
وقت ثبوت خيار الرؤية ومدته:
سبق أن وقت ثبوت الخيار هو وقت الرؤية لا قبلها، حتى لو أجاز قبل الرؤية ورضي به صريحًا، بأن قال: أجزت أو رضيت أو ما يجري هذا المجرى، ثم رآه فله أن يرده (1)
أما مدته فالأصح عند الحنفية أن خيار الرؤية يثبت مطلقًا في جميع العمر إلى أن يوجد ما يسقطه، أي أنه لا يتوقت بوقت، بل متى ثبت فإنه يستمر إلى أن يحدث ما يسقطه، لأنه حق من الحقوق، والحقوق لا تسقط إلا بإسقاطها، أو بانتهاء الأمد المحدد لها، ولأن سببه اختلال الرضا، والحكم يبقى سببه.
مسقطات خيار الرؤية:
ما يسقط به الخيار بعد ثبوته ويلزم البيع في الأصل نوعان:
اختياري وضروري:
الأول: الاختياري نوعان: صريح وما يجري مجرى الصريح (2)
1- الصريح: يكون التصريح بالرضا والاختيار ممن له خيار الرؤية أو ما يقوم مقام التصريح سواء علم البائع أو لم يعلم، لأن الأصل في البيع المطلق اللزوم والامتناع عن اللزوم لخلل في الرضا فإذا أجاز ورضي فقد زال المانع (3)
2- ما يجري مجرى الصريح، وهو الدلالة على الرضا بأن يوجد من المشتري تصرف في المبيع بعد الرؤية دليل الرضا، بلزوم البيع، لأن القبض شبهًا بالعقد، فكان القبض بعد الرؤية كالعقد بعد الرؤية وذلك الرضا (4) .
وهذا كأن يعرض المشتري السلعة للبيع أو يبيع بعضها، فعندئذ يسقط خياره عن الباقي، ويلزم البيع فيه كله.
الثاني: الضروري في خيار الرؤية:
كل ما يسقط به الخيار ويلزم البيع من غير صنعه، نحو موت المشتري وكذا أجازه أحد الشريكين فيما اشترياه دون صاحبه عند أبي حنيفة.
وكذا إذا هلك بعضه أو انتقص، بأن تغيب بآفة سماوية أو بعمل أجنبي أو بفعل البائع، أو ازداد في يد المشتري زيادة منفصلة أو متصلة (5)
__________
(1) البدائع: 5/295
(2) البدائع: 5/295
(3) البدائع: 5/295
(4) البدائع: 5/295
(5) البدائع: 5/296(7/1017)
أثر خيار الرؤية:
يكون العقد الوارد على العين الغائبة أو غير المرئية غير لازم لمن ثبت له الخيار فيخير بين الفسخ والإجازة عند رؤية المعقود عليه، لأن عدم الرؤية يمنع تمام الصفقة، ولأن جهالة وصف المعقود عليه تؤثر في رضا المتملك فيثبت له الخيار، سواءً كان المعقود عيه موافقًا للوصف المتفق عليه أو مخالفًا له، وهذا مذهب الحنفية (1)
ولا أثر لخيار الرؤية في نقل الملكية في البدلين، أي لا أثر لخيار الرؤية على العقد، فتنتقل ملكية المعقود عليه للمتملك، وملكية العوض للممالك، فور تمام العقد بالإيجاب والقبول.
اختلاف المتعاقدين في الرؤية:
ولو اختلفا في التغير وعدمه، فقال البائع: لم يتغير، وقال المشتري: قد تغير، فالقول قول البائع، لأن الأصل عدم التغير، والتغير عار، فكان البائع مستمسكًا بالأصل، والمشتري مدعيًا أمرًا عارضًا فكان القول قول البائع مع يمينه إلا إذا طالت المدة فالقول للمشتري، بخلاف ما إذا اختلفا في الرؤية والمشتري ينكرها فالقول للمشتري مع يمينه (2)
اختلاف المتعاقدين في الاستصناع:
يجري في عقد الاستصناع ما يجري في بقية عقود البيع من أحكام، سواء ما يتعلق بأصل العقد، أو ما يتعلق بالالتزامات التي تحدث بين المستصنع والصانع. ويسري على الاستصناع ما يسري على كل المعاوضات المالية من أحكام إلا ما نص عليه الفقهاء من خصوصيات.
فإن اختلفا في المصنوع، فقال المستصنع: لم تفعل ما أمرتك، وقال الصانع: بل فعلت، قالوا: لا يمين لأحدهما على الآخر، ولو ادعى الصانع على رجل: إنك استصنعت إلي في كذا، وأنكر المدعى عليه لا يحلف (3)
والقول قول المستصنع، لأن الإذن يستفاد من جهة المستصنع (4)
وإن قال المستصنع: بهذا أمرتك، ولكن لا أريده، كان له ذلك، لأن الخيار ثابت له بعدم الرؤية عند أبي حنيفة، وهو ملزم به عند أبي يوسف، لأنه أتى به طبق المواصفات.
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته: 4/272، والبدائع: 5/292
(2) فتح القدير: 5/544، والفتاوى الهندية: 3/56 - 57، والبدائع: 5/293، ومجمع الأنهر: 2/39
(3) الفتاوى الهندية للعلامة نظام: 3/208
(4) المبسوط، للسرخسي: 12/93(7/1018)
خيار الوصف
قدمت الحديث عن خيار الرؤية لما للاستصناع من مساس بهذا الخيار، لأن عدم الرؤية في هذا العقد يعتبر مانعًا يمنع تمام الحكم، إذ الرؤية تمكن المستصنع من قبول المتعاقد عليه أورده عند تقديمه إليه، سواءً كان مطابقًا للأوصاف المطلوبة أو لا، في مشهور المذهب الحنفي، وكما للاستصناع مساس بخيار الرؤية فله مساس قوي أيضًا بخيار الوصف.
وخيار الوصف هو خيار ثان يثبت للمستصنع إذا قدم الصانع المصنوع المتعاقد عليه. وقد فات وصف مرغوب فيه اشترطه المستصنع عند العقد (1) ، وغياب الوصف يمكن المستصنع من الخيار بين أن يقبل المصنوع بكل الثمن المسمى أو أن يفسخ البيع، وهو المسمى بخيار الوصف، وهو غير خيار الرؤية وإنما جاز له فسخ البيع لأن الوصف أو الأوصاف التي اشترطها المستصنع مرغوب فيها، فإذا فاتت أوجبت التخيير، لأن المشتري ما رضي به دونه، فصار كفوات وصف السلامة في خيار العيب.
وأبو يوسف الذي لا يثبت للمستصنع خيار الرؤية، إذا جاء المصنوع مستكملًا للأوصاف، فإنه يثبت خيار الوصف إذا جاء المصنوع فاقدًا للأوصاف التي وقع الاتفاق عليها.
وأما سبب أخذه بجميع الثمن في رأي الحنفية فهو: لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن، لكونها تابعة في العقد ويعده الشافعية والحنابلة داخلًا في خيار العيب وله حكمه.
وشروط خيار الوصف ثلاثة:
أولًا: أن يكون الوصف المشروط مباحًا شرعًا. فإذا كان حرامًا لم يصح.
ثانيًا: أن يكون الوصف مرغوبًا فيه عادةً. فإذا لم يكن مرغوبًا فيه في العرف ألغي الشرط وصح البيع ولا خيار.
ثالثًا: ألا يكون تحديد الوصف المرغوب فيه مؤديًا إلى جهالة مفضية إلى المنازعة، فإن فعل فسد البيع والشرط كأن يشترط في البقرة الحلوب أن تحلب كذا رطلًا يوميًّا، فهذا شرط فاسد لأنه لا يمكن ضبطه.
أحكام خيار الوصف:
1- يورث خيار الوصف فلو مات المشتري الذي له خيار الوصف فظهر المبيع خاليًا من ذلك الوصف، كان للوارث حق الفسخ.
2- إذا تصرف المشتري أو المستصنع الذي له خيار الوصف تصرف المالك، بطل خياره، لأن تصرفه مشعر بالرضا.
3- إذا هلك المبيع في يد المشتري أو تعيب في يده فله الرجوع على البائع بمقدار نقص المبيع بسبب فوات الوصف المرغوب فيه، ويعرف ذلك بتقويم المبيع مع الوصف وبدون الوصف، ويضمن البائع الفرق بينهما (2) ، ويظهر أن المستصنع إذا بنى في أرض المشتري وأخل بأوصاف لا يمكن تداركها يعامل نفس معاملة هلاك المبيع أو تعيبه في يد المشتري، لأنه يتعذر على المستصنع في هذه الحالة أن يفسخ البيع، ما دامت الأرض أرضه، ورد المصنوع مستحيل، كما يمكن اعتبار الإخلال بالوصف عيبًا من التغرير بالوصف. ومذهب أبي حنيفة لا يوجب إرجاع المعيب بل يرجع المشتري بنقصان قيمته إن كانت أنقص مما اشتراه به (3) .
__________
(1) رد المحتار (ابن عابدين) : 4/49، وفتح القدير: 5/528، ومجمع الأنهر: 2/23
(2) الفقه الإسلامي وأدلته: 4/522
(3) مدخل الفقه الإسلامي: 1/383(7/1019)
خيار العيب
البيع المطلق من شرط البراءة من كل عيب يقتضي سلامة المبيع من العيب لأن الأصل هو السلامة وهي وصف مطلوب مرغوب عادةً وعرفًا والمطلوب عادةً كالمشروط نصًّا (1) فإذا لم تتوفر السلامة يتأثر العقد في لزومه وفي أصل حكمه. وصفة حكم البيع لشيء معيب هو أنه يفيد أن الملك غير لازم، لأن سلامة البدلين مطلوبة عادةً في عقد المعاوضة، لأن غرضه الانتفاع بالمبيع ولا يتعامل انتفاعه إلا بقيد السلامة لأنه لم يدفع الثمن إلا ليسلم له جميع المبيع فكانت السلامة مشروطة في العقد دلالة ولذلك كان العاقد بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء رده (2)
مشروعية خيار العيب:
الأصل في مشروعية هذا الخيار أحاديث وردت عن رسول صلى الله عليه وسلم منها:
1- ما رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني والحاكم عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وفيه عيب إلا بينه له)) (3)
2- ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعامًا فأدخل يده فيه، فإذا هو مبلول، فقال: ((من غشنا فليس منا)) (4)
3- ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعًا من تمر)) (5)
4- وروي عن أحمد في مسنده (من اشترى شاة محفلة مصراة فهو بخير النظرين) .
5- وقال الكاساني: الأصل في مشروعية هذا الخيار ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من اشترى شاة محفلة فوجدها مصراة فهو بخير النظرين ثلاثة أيام)) ، وفي رواية: ((فهو بأحد النظرين إلى ثلاثة، إن شاء أمسك وإن شاء رد ورد معها صاعًا من تمر)) . ثم قال: والنظران المذكوران هما نظر الإمساك والرد، وذكر الثلاث في الحديث ليس للتوقيت بل هو على الغالب المعتاد، والصاع من التمر كأنه قيمة اللبن الذي حلبه المشتري (6) ، وجمهور الفقهاء يعتبرون تصرية الإبل والغنم تغريرًا فعليًّا في الوصف يوجب للمغرور خيارًا في إبطال العقد ولو لم يصحبه غبن وهو من باب التغرير في الوصف (7)
__________
(1) مجمع الأنهر: 2/40
(2) مجمع الأنهر: 2/23، 40، الفقه الإسلامي وأدلته: 4/355، وفتح القدير: 6/2، والكاساني: 5/274
(3) نيل الأوطار، للشوكاني: 5/211
(4) جامع الأصول: 1/419، ونيل الأوطار: 5/212
(5) مختصر مسلم رقم الحديث: ص 928
(6) بدائع الصنائع، للكاساني: 5/274، محفلة، تجمع اللبن في ضرعها - مصراة: ترك حلبها حتى يجمع لبنها فيكثر بعد ربط أخلاف حلماتها.
(7) بدائع الصنائع، للكاساني: 5/274(7/1020)
العيوب الموجبة للخيار:
والعيب الموجب للخيار هو كل ما يوجب نقصان الثمن في عادة التجار نقصانًا فاحشًا أو يسيرًا، وما لا يوجب ذلك فلا يعتبر عيبًا (1) ، وذلك كالعمى والعور والحول والشلل والزمانة والحنف والصدف والجرد والجماح. قال الكاساني بعد أن ذكر عدة عيوب: والتعويل في هذا الباب على عرف التجار، سواء كان يوجب نقصان جزء من المبيع أو تغييرًا أو نقصانًا من حيث المعنى دون الصورة (2)
شروط ثبوت الخيار:
1- أن يكون العيب قديمًا، لذلك يشترط ثبوت العيب عند البيع أو بعده وقبل التسليم. حتى لو حدث بعد ذلك لا يثبت الخيار، لأن ثبوته لفوات صفة السلامة المشروطة في العقد.
2- ثبوت العيب عند المشتري بعد قبض المبيع، ولا يكتفي بالثبوت عند البائع لثبوت حق الرد في جميع العيوب.
3- جهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض، فإن كان عالمًا به عند أحدهما فلا خيار له، لأنه يكون راضيًا به دلالة.
4- عدم اشتراط البراءة عن العيب في البيع، ولو شرط الخيار للمشتري، لأنه إذا أبرأه فقد أسقط حقه.
5- أن لا يزول العيب قبل الفسخ.
6- أن لا يكون العيب طفيفًا يمكن إزالته دون مشقة، كالنجاسة في الثوب الذي لا يضره الغسل (3)
__________
(1) مجمع الأنهر: 2/41، وفتح القدير: 6/3، وبدائع الصنائع، للكاساني: 5/274
(2) بدائع الصنائع، 5/278؛ ومجمع الأنهر: 2/45 - 47، والفتاوى الهندية 663 - 74؛ ورد المحتار على الدر المختار: 4/76.
(3) بدائع الصنائع: 5/278(7/1021)
طرق إثبات العيب:
لا يمكن الوصول إلى معرفة أقسام العيوب لأن طريق إثبات العيب يختلف باختلاف العيب.
1- عيب ظاهر مشاهد: كما إذا أحضر الصانع نعلًا أصغر من رجل المستصنع أو شباكًا من خشب أصغر من النافذة.
2- عيب خفي لا يعرفه إلا أهل الذكر: سواء كان في مادة المصنوع أو في أي نوع الصنعة التي قام بها الصانع.
3- عيب لا يعرفه إلا النساء.
4- عيب لا يعرف بالمشاهدة وإنما يحتاج إلى التجربة والاختبار:
أ- فإن كان مشاهدًا فلا حاجة لتكليف القاضي المشتري بإقامة البينة على وجود العيب عنده، لكونه ثابتًا بالمشاهدة والعيان وللمشتري حق خصومة البائع بسبب هذا العيب (1)
ب- أما إذا كان العيب باطنًا: لا يعرفه إلا أهل الذكر كالأمناء والأطباء، فإنه يثبت لممارسة حق الخصومة بشهادة رجلين مسلمين منهم أو رجل عدل، وبعده تجري الخصومة عند القاضي على قاعدة: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
ج- أما إذا كان العيب مما لا يطلع عليه إلا النساء فيرجع القاضي إلى قول النساء، وهن أهل الذكر فيما لا يطلع عليه إلا هن. ولا يشترط العدد منهن بل يكتفي بقبول امرأة واحدة عدل وثنتان أحوط.
د- أما العيب الذي ليس بمشاهد عند الخصومة ولا يعرف إلا بالتجربة فلا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وتجري الخصومة عند الإنكار على قاعدة البينة على من ادعى واليمين على من أنكر (2)
__________
(1) بدائع الصنائع: 5/278، ورد المحتار: 4/92
(2) بدائع الصنائع: 5/279(7/1022)
كيفية الفسخ والرد:
إذا ظهر العيب في المشتري أو المصنوع فالمشتري بالخيار بين أمرين:
1- إمضاء العقد، وفي هذه الحالة يلتزم بأداء العقد كاملًا.
2- فسخه واسترداد الثمن إذا كان قد قدمه، وعليه أن يرد العين المعيبة إن كان قد استلمها (1)
إذا كان المبيع في يد البائع، يفسخ البيع بقول المشتري ما يفيد الرد.
أما إذا كان في يد المشتري فلا ينفسخ إلا بقضاء القاضي أو بالتراضي عند الحنفية، وإذا رد المبيع انفسخ العقد (2) .
مسقطات الخيار:
1- الرضا بالعيب من المشتري.
2- التصرف في المبيع تصرفًا يدل على الرضا بالعيب كبيعه وهبته واستعماله بأي وجه من الوجوه، كلبس الثوب وركوب الدابة، والسكنى في المنزل.
3- هلاك المعقود عليه قبل القبض لفوات المحل سواء كان الهلاك بأفة سماوية، أو باستعمال المشتري، كأكل الطعام، وقطع الثوب فيمنع الرد ويثبت للمشتري حق الرجوع على البائع بنقصان العيب (3)
4- نقصان المبيع يوجب إسقاط خيار العيب، سواء كان النقصان في المبيع قبل القبض أو بعده، وسواء كان بآلة سماوية أو بفعل المشتري. وكل منها له حكم يعرف في كتب الفروع.
5- الزيادة في المبيع سواء كانت الزيادة منفصلة متولدة عن البيع، بعد القبض أو قبله، أو غير متولدة، أو كانت متصلة متولدة أو غير متولدة وكل نوع من هذه الأنواع له حكم يوجد في كتب الفروع (4)
__________
(1) فتح القدير: 6/22 إلى 26
(2) بدائع الصنائع: 6/282، ورد المحتار على الدر المختار:4/86 إلى 94
(3) بدائع الصنائع: 5/282، ورد المحتار على الدر المختار:4/86 إلى 94
(4) بدائع الصنائع: 5/82، إلى 84(7/1023)
إخلال الصانع أو المستصنع بالتزامات العقد
لقد ذكر في أول البحث أن المشهور عند الحنفية أن عقد الاستصناع عقد غير لازم، وأن أي خلل يطرأ يمنع الصانع من تنفيذه ما تعاقد عليه، فلكل واحد من الطرفين الخيار في فسخ العقد.
أما المتأخرون من الحنفية فقد اعتمدوا القول الذي يقول بلزوم العقد فإذا ظهرت موانع خارجية عن إرادة الصانع، كحرق المصنع، أو غرق السفينة، أو قطع علاقات مع بعض الدول الموردة للمادة الخام المطلوب صنعها، فالمستصنع هنا بالخيار إن شاء انتظر الصانع حتى يتمكن من الإنجاز، وإن شاء فسخ العقد.
أما إذا كانت الموانع ناشئة عن إرادة الصانع، كسوء التنظيم والعجز عن إدارة الحضيرة أو التقاعس في احترام المواعيد فإن هذا يسبب تأخيرًا في إنجاز المشروع وضررا ماديًّا يلحق المستصنع.
يقول مصطفى الزرقاء: (وقد ازدادت قيمة الزمن في الحركة الاقتصادية، فأصبح تأخر أحد المتعاقدين أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضرًّا بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما قبل) .
فلو أن متعهدًا بتقديم المواد الصناعية إلى صاحب معمل تأخر عن تسليمها إليه في الموعد الضروري لتعطل المعمل وعماله، وكذا لو تأخر الصانع عن القيام بعمله في وقته لتضرر المستصنع بخسارة وقد تكون فادحة.. ولا يعوض هذا الضرر القضاء على الصانع بتنفيذ التزامه الأصلي، لأن هذا القضاء إنما يضمن أصل الحق لصاحبه وليس فيه جبر لضرر التعطل أو الخسارة، ذلك الضرر الذي يلحقه من جراء تأخر خصمه عن وفاء الالتزام في حينه تهاونًا منه أو امتناعًا.
وأصبح ما ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه. ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح الفقه الأجنبي الشرط الجزائي (1)
وأصبح الشرط الجزائي متعارفًا بين الصناع وفي كل المقاولات وحافزًا قويًّا يدفع الصانع على احترام المواعيد وخير معين على تنظيم سير الحركة الاقتصادية في كل بلد.
__________
(1) المدخل الفهقي العام: 2/714، فقرة 376(7/1024)
مفهوم الشرط الجزائي في القانون المدني:
الشرط الجزائي: هو اتفاق يقصد منه المتعاقدان سلفًا التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم ينفذ المدين التزامه، أو تأخر في تنفيذه. (1)
وقد فسر الزرقاء الشرط الجزائي بأنه اتفاق الناس على أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه (2)
موقف الشريعة الإسلامية من الشرط الجزائي:
لقد جاءت في الشريعة الإسلامية نصوص من الكتاب والسنة في حرية التعاقد، وفي رضائيته المطلقة.
1- أما الكتاب: قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . (3)
وقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (4)
فهذه النصوص وأمثالها تفيد أن الأصل في استحقاق مال الغير، أو استحلال شيء من حقوقه، إنما هو رضا صاحبه. إما على سبيل التجارة والتبادل، أو على سبيل المنحة والتنازل عن طيب نفس واختيار (5) .
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (6)
وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (7)
فهذه النصوص وأمثالها تفيد أن عقد الإنسان وتعهده الذي باشره بإرادته الحرة ملزم له بنتائجه، كي تتولد الثقة والاطمئنان إلى نتائج التعامل الاقتصادية (8)
2- أما السنة: فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلمون على شروطهم" (9) وقال أيضًا: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل (10) . أي كل شرط ليس في حكم الله وشرعه فهو باطل، وذلك بأن يكون الشرط منافيًا لقواعد الشريعة أو مقاصدها.
وثبت أيضًا في السنة العملية أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى في السفر من جابر بن عبد الله بعيرًا وشرط لجابر ظهره إلى المدينة أي أنه اشترط له حق ركوبه بعد البيع حتى يصل عليه إلى المدينة (11) . قال ابن شبرمة: البيع جائز والشرط جائز (12) وما روي في صحيح البخاري بسند عن ابن سيرين أن رجلًا قال لكريه: (أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه. وقال أيوب عن ابن سيرين أن رجلًا باع طعامًا وقال: إن لم آتك يوم الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجئ فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت، فقضى عليه (13)
وهذه كلها نصوص تدل دلالة واضحة على أن ما أطلقنا عليه شرطًا جزائيًّا وهو الذي يجري اشتراطه في العقود هو شرط صحيح يجب الأخذ به ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام به.
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية، المجلد 1، العدد 2: ص62
(2) المدخل الفقهي العام الجزء الثاني: ص714
(3) سورة النساء: الآية 29
(4) سورة النساء: الآية 4
(5) المخل الفقهي العام: 1/467
(6) سورة المائدة: الآية 1
(7) سورة الإسراء: الآية 34
(8) المدخل الفقهي العام: 1/468
(9) رواه أبو داود والحاكم في المستدرك، وأحمد في البيع ورمز السيوطي في الجامع الصغير إلى صحته. وقد حسنه الترمذي وضعفه النسائي، وروي بطرق أخرى: المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك.
(10) حديث صحيح أخرجه البزار في مسنده، والطبراني في الكبير كلاهما عن ابن عباس واعتمده الفقهاء
(11) أخرجه الطبراني في معجمه الوسيط
(12) فتح القدير 6/76
(13) صحيح البخاري مع فتح الباري: 5/262(7/1025)
رأي فقهاء المذاهب في حرية الشروط العقدية
ومن هنا نعلم أن هناك شروطًا تعتبر ميدانًا لإرادة العاقدين أطلق فيها الشرع حرية إرادة المتعاقدين ضمن حدود حقوقهم في أحكام والتزامات تثبت بالعقد مبدئيًّا ويعتبر العقد المسمى قائمًا بين الطرفين على أساسها.
وأن هناك من جهة أخرى شروطًا ممنوعة شرعًا لا سلطان لإرادة العاقدين فيها لأنها تمس أحكامًا أساسية تعتبر من مقاصد الشريعة الإسلامية ونظامها العام.
رأي المذهب الحنبلي:
ويقول الزرقاء: وهذا هو مبنى الاجتهاد الحنبلي بحسب نصوص فقهائه المختلفة وهو أوسع الاجتهادات الفقهية الإسلامية وأرحبها صدرًا بمبدأ سلطان الإرادة ويتفق جوهر نظريته فيه مع النظريات القانونية الحديثة في الفقه الأجنبي. ومثله مذهب شريح القاضي ومذهب عبد الله بن شبرمة الكوفي. وعلى هذا الرأي بعض فقهاء المذهب المالكي (1)
رأي بقية المذاهب الأخرى:
أما الحنفية فإنهم وإن توسعوا في مفهوم الاستصناع وسايروا تطور الصناعات والعمران وأجازوا استصناع السلعة على مذهب أبي يوسف، وعلى مذهبه استقر عمل الأحناف على القول بصحته وأدرجوه في مجلة الأحكام العثمانية وجرى عرف الناس في سائر الأمصار على العمل به وكأنه السبب الذي جعل الناس تؤمن بأن المذهب الحنفي قادر على التطور ويستجيب لمقتضيات الزمن وللمعاملات الحديثة.. إلا أنه في الآن نفسه، وقف المذهب الحنفي أمام عقبة كأداء وهي الشروط الجديدة التي اقتضاها تطور الميدان الصناعي والمقاولات عمومًا فليس للمتعاقدين في هذا المذهب أن يشترطا من الشروط ما يخالف مقتضى العقد، وهي الأحكام الأساسية التي نص عليها الشرع مباشرةً أو استنبطها الاجتهاد حفظًا للتوازن بين العاقدين في الحقوق.
وعلى نفس هذا الاتجاه نظر جمهور الفقهاء المالكية ثم الاجتهاد الشافعي (2)
__________
(1) المدخل الفقهي العام: 2/480
(2) المدخل الفقهي العام: 1/476، فقرة 218(7/1026)
الغرامات فيما زاد على المدة المتفق عليها:
مما يجدر ذكره أن العقود والشروط والمعاملات في البنايات وسائر الصناعات هي من الأمور العادية وليست من العبادات الشرعية التي تفتقر إلى دليل التشريع إذ الأصل في العقود هو رضا المتعاقدين، ونتيجتها هو ما أوجباه على نفسيمها بشرط أن يكون هذا العقد خاليًا من كل ربا أو ما نص الشارع على تحريمه أو بطلانه، ووضع الغرامة فيما زاد على المدة المحدودة في المقاولات وبناء العمارات والفنادق والمؤسسات مما تعارفه المقاولون، وضبط ضبطًا محكمًا في كراس الشروط، وهو جائز من الوجهة الشرعية حسب المذهب الحنبلي ومشهور مذهب شريح.
مشاكل كراسة الشروط وأسبابها:
إن هذه المشاكل إنما تحصل عند التطبيق لأن الساهرين على المقاولات في بعض البلدان حديثة العهد بهذه النظم التي أصبحت عالمية يغفلون عن التحري في إعداد التصاميم التي يجري على مقتضاها إنجاز العمل والتحري في المقايسة ودفتر الشروط وضبط حقوق كل طرف وواجباته وبيان كل جزئية قد يحتاج إليها المتعاقدان دفعًا لكل لبس أو سوء تأويل. مع العلم أن إعداد الملف فن خاص يحتاج إلى كفاءات كثيرًا ما يتساهل المقاولون في إعداده فيكون ذلك سببًا في تشكيات ونزاعات سواء فيما زاد على المدة المحدودة أو عدم تطبيق ما تعهد به المقاول.
والمعروف عند أهل الاختصاص أن إعداد ملف المقاولة هو المرآة الصادقة للمقاول الكفء الذي يستطيع أن يقدم عملًا نظيفًا متقنًا في آجاله، وتطبيق كل المواصفات التي اقتضاها العقد ووضع الأشياء في مواضعها، إلا أن الطمع في الربح الكثير هو الذي دفع كثيرًا من البعيدين عن هذا الميدان إلى ولوج باب المقاولات فكانوا سببًا في إثارة خصومات ومنازعات شككت الناس في قيمة القوانين وصلوحتها.(7/1027)
خاتمة
هذا ما انتهيت إليه في بحثي عن الاستصناع والمقاولات في العصر الحاضر، فقد حاولت فيه أن أتعرض إلى بعض المقارنات بين مذاهب الفقه الإسلامي، وقانون الالتزامات والعقود المعمول به في المحاكم المدنية، حتى أتمكن من إبراز أوجه التقارب والتباين بين هذه الآراء في خصوص عقد الاستصناع وما اتصل به من عقود.
إن هذا العقد تطور كثيرًا في هذا العصر وأخذ أبعادًا كثيرة، وكبيرة حتى صار من أكثر العقود انتشارًا في الحياة التجارية والصناعية، سواء في الميدان الداخلي أو الخارجي. وهذا ما فرض على الدول الإسلامية أن لا تكتفي بما وصلت إلى مجلة الأحكام العثمانية التي واكبت النهضة الصناعية إلى سنة 1296هـ تاريخ صدورها ثم صدور الأمر السلطاني بلزوم العمل بها في كافة الدول الإسلامية.
ومن ذلك التاريخ أصبحت الأحكام المدنية تتطور في كل بلد، إذ تولدت أنواع من الحقوق لم تكن معهودة من قبل، كامتياز المؤلف والمخترع والملكية الأدبية والصناعية والاسم التجاري وتطور العلائق الاقتصادية، كما تطورت الطرق التجارية كتجارة التوصية والتأمين.
والحاجة إلى اعتبار الشروط العقدية التي يمنع منها الاجتهاد الحنفي المعمول به في مجلة الأحكام وازدياد الزمن قيمة في الحركة الاقتصادية حتى أصبح تأخر المستصنع في دفع الثمن أو تأخر الصانع في تسليم ما تعهد بصنعه مضرًّا بالطرف الآخر، فوجب التفكير في مخرج لكل هذه الأمور وغيرهم في نطاق الفقه الإسلامي من مجموع المذاهب الإسلامية.
كل ذلك اجتنابًا لما جرى به العمل حتى الآن، إذ سارت كل دولة إسلامية حسب نظرة خاصة أو إقليمية، فعدلت أو نسخت ما أملت عليها ظروفها ومصالحها التصرف فيه وصاغته في قوانين وضعية ربما خالفت الشريعة الإسلامية.
والذي ندعو إليه هو صياغة هذه القوانين الجديدة صياغة إسلامية عامة لا تلتزم مذهبًا معينًا وتتماشى مع التطور وتلبي حاجات الناس الجديدة في هذا الزمن.
واعتقادنا أن "مجمع الفقه الإسلامي" هو المؤهل اليوم للاضطلاع بهذه المهمة وذلك بتكوين لجنة أو لجان تنجز مثل هذا المقترح بالاعتماد على ما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات الدينية من أحكام وقوانين وفتاوى في كل باب.
عسى ذلك أن يساعد المسلمين في عامة بلدانهم على الخروج من الحرج الذي يقعون فيه يوميًّا في معاملاتهم، ويصير مرجعًا يعتمدونه إذ يدلهم على حكم الله تعالى فيما استجد أو يستجد من الأحداث.
الشيخ مصطفى كمال التارزي(7/1028)
الاستصناع
تعريفه - تكيفه - حكمه - شروطه
أثره في تنشيط الحركة الاقتصادية
إعداد
الدكتور سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي
قسم الشريعة - كلية الشريعة - جامعة أم القرى
مكة المكرمة - المملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1)
وقال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (2)
وقال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (3)
وقال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} (4)
__________
(1) سورة سبأ الآية 10-11
(2) سورة سبأ الآية 13
(3) سورة الأنبياء: الآية 80
(4) سورة هود: الآية 38(7/1029)
مقدمة:
الدين الإسلامي دين كامل شامل لما يقوم به العباد تجاه ربهم من العبادات وما يحتاجون لأنفسهم من العادات والمعاملات قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)
فالنصوص الشرعية، وقواعد الشريعة الإسلامية العامة، وما اشتملت عليه مقاصد الشارع من جلب المصالح، ودرء المفاسد كفيلة بحل مشكلات البشرية كلها والدنيا بأسرها حلًّا بعيدًا عن الحرج والمشقة والعنت، ولذلك رأينا بعد كثرة صور المعاملات نتيجة للتعامل بين الدول الإسلامية، والانفتاح على الدول الغربية والشرقية أن المجامع الفقهية أثرت إثراء واسعًا بكثرة الأبحاث التي تطرحها لإيجاد حلول شرعية، وأحكام فقهية لأنواع التعامل المستجدة، وكذا في بعض الموضوعات القديمة التي اختلفت فيها وجهات نظر الفقهاء، وتباينت آراؤهم وحيث أن موضوع الاستصناع أحد الموضوعات التي طرحت للبحث في الدورة السابعة لمجمع الفقه الإسلامي أحببت الإسهام بجهد المقل والكتابة فيه والله أسال أن يكون في هذا البحث ما يوضح بعض الأمور الغامضة وإيجاد الحلول المناسبة بعد التدارس مع علماء أجلاء، وباحثين فضلاء، وخبراء واقتصاديين يشتركون في إبداء الرأي مجتمعين، وقد قسمت البحث إلى مقدمة وستة مباحث وخاتمة.
المبحث الأول: في تعريف الاستصناع.
المبحث الثاني: في اعتبار الاستصناع عقدًا أو وعدًا.
المبحث الثالث: تكييف عقد الاستصناع على القول بأنه عقد.
المبحث الرابع: المذاهب الفقهية في حكم الاستصناع.
المبحث الخامس: في الشروط الجامعة والفارقة بينه وبين السلم.
المبحث السادس: في أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الاقتصادية.
أما الخاتمة فقد اشتملت على أهم نتائج البحث.
والله أسأل أن يكون في هذا البحث خدمة للإسلام والمسلمين.
__________
(1) سورة المائدة: الآية 3(7/1030)
المبحث الأول
تعريف الاستصناع
الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وحيث أن المعنى اللغوي هو الأصل للمعنى الاصطلاحي فلا بد من تقديمه عليه.
تعريف: الاستصناع في اللغة:
الاستصناع طلب الصنعة قال ابن منظور: (اصطنع فلان خاتمًا إذا سأل الرجل أن يصنع له خاتما.. واستصنع الشيء دعا إلى صنعه) (1)
والصناعة هي حرفة الصانع، وعمله الصنعة والفاعل صانع (2)
وعليه فإن الاستصناع هو طلب عمل من الصانع ليعمل شيئًا لطلب الصنعة.
تعريف الاستصناع اصطلاحا:
جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة يرون أن الاستصناع قسم من أقسام السلم ولذلك يندرج في تعريفه.
أما الحنفية فقد جعلوه عقدًا مستقلًّا له اعتباره الذي يجعله متميزًا عن عقد السلم، وقد عرفوه بعدة تعريفات، منهم من عرفه بالرسم، ومنهم من عرفه بالحد.
قال الكاساني: هو (أن يقول إنسان لصانع من خفاف أو صفار أو غيرهما: اعمل لي خفًّا، أو آنية من أديم، أو نحاس من عندك بثمن كذا، ويبين نوع ما يعمل، وقدره، وصفته، فيقول الصانع: نعم) (3)
__________
(1) لسان العرب "صنع". وانظر: الفيروز أبادي، القاموس المحيط صنع.
(2) الفيومي، المصباح المنير "صنع" والفيروز أبادي، القاموس المحيط "صنع"
(3) بدائع الصنائع: 6/2677، وانظر مجلة الأحكام العدلية مادة "388".(7/1031)
وقد ذكر بعضهم من صور الاستصناع وزاد بعض ما وجد في عصور المتأخرين كصناعة الزجاج والحديد، مما يدل دلالة واضحة على أن ذكر الصور عند المتقدمين على سبيل التمثيل لا الحصر.
وأما تعريفه بالحد فقد ذكروا له عدة تعريفات: منها ما نقله الكاساني عن بعض الفقهاء أنه:
(عقد مقاولة) (1) ، ويرى بعضهم أنه (عقد على مبيع في الذمة) (2) ، ونقل عن آخرين قولهم: (عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل) (3) .
أما مجلة الأحكام العدلية فقد عرف فيها بـ: (عقد مقاولة مع أهل الصنعة على أن يعمل شيئًا) (4) .
ومن أمثلته ما ذكر في المجلة (إذا قال شخص لآخر من أهل الصنائع اصنع لي الشيء الفلاني بكذا قرشًا وقبل الصانع ذلك انعقد البيع استصناعًا) (5)
وعرفه من المعاصرين أستاذنا الدكتور/ أحمد أبو سنة ونقله عنه الدكتور عبد العزيز الخياط حيث قال: (أن يطلب من الصانع عمل شيء مادته من عنده على وجه خاص) (6)
فقد ذكر في التعريف ما يفرق بين الاستصناع والإجارة على الصنع، فالمادة في الاستصناع والعمل من العامل.
أما الإجارة على العمل فالمادة من طالب الصنعة ولعل أوفى تعريف وأقربه إلى حقيقة الاستصناع ما ورد في رسالة عقد الاستصناع حيث عرفه المؤلف بقوله: (عقد على مبيع في الذمة يشترط فيه العمل على وجه مخصوص) (7) ، وعلى هذا التعريف الذي اعتبره عقدًا يخرج الوعد.
والقول بأنه على مبيع يخرج الإجارة إذ هي عقد على منافع مؤقته.
والقول بأنه في الذمة يخرج البيع، إذ البيع مقبوض في المجلس، والاستصناع مطلوب صنعه في الذمة.
والقول بأنه شرط فيه العمل قيد احترز به عن السلم، إذ أن السلم بيع آجل بعاجل، والاستصناع لا يشترط فيه أخذ الثمن عند كثير من الفقهاء كما سيظهر فيما بعد.
والقول بأنه على وجه مخصوص، أي: جامع شرائط الاستصناع (8) التي ستذكر فيما بعد والله أعلم.
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/2677
(2) بدائع الصنائع: 6/2677
(3) بدائع الصنائع: 6/2677
(4) مادة: "124"
(5) مادة " 388"
(6) العرف والعادة 139، نظرية العرف 117
(7) بدران الكاسب: ص59
(8) بدران الكاسب: ص59 - 61(7/1032)
المبحث الثاني
في اعتبار الاستصناع عقدًا أو وعدًا.
من أهم مباحث الاستصناع معرفة صفته هل هو عقد أو مجرد مواعدة؟
وللإجابة على هذا السؤال لابد من تعريف العقد والوعد ويمكن تقسيم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب:
* المطلب الأول: في العقد:
تعريف العقد في اللغة:
يأتي العقد في اللغة بمعنى الشد والربط مادته من باب ضرب يقال عقدت الحبل فانعقد، والعقدة: ما يمسكه ويشده ويوثقه، ومنه قيل عقدت البيع والحبل، والعهد يعقده.
وعقدت اليمين وعقدتها بالتشديد توكيدًا، وعاقدته على كذا وعقدته عليه بمعنى عاهدته (1)
تعريف العقد في الإصلاح:
(اتفاق بين طرفين يلتزم بمقتضاه كل منهما بتنفيذ مااتفقا عليه كعقد البيع والزواج) (2)
وفي القرآن المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (3)
وجاء في التعريفات: (ربط أجزاء التصرفات بالإيجاب والقبول) (4)
وجاء في مجلة الأحكام العدلية (التزام المتعاقدين وتعهدهما أمرًا وهو عبارة عن ارتباط الإيجاب بالقبول) (5)
وقال السنهوري: (ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه يظهر أثره في المعقود عليه) (6)
فهو ليس مجرد الإيجاب والقبول ولا الارتباط وحده بل هو مجموع الثلاثة (7)
__________
(1) الفيومي، المصباح المنير، مادة "عقد"، والقاموس المحيط مادة "عقد"
(2) سعدي أبو جيب: القاموس الفقهي "العقد"
(3) سورة المائدة: الآية 1
(4) الجرجاني "العقد".
(5) مادة "103".
(6) مصادر الحق: 1/40، 73 - 75
(7) سعدي أبو جيب: القاموس الفقهي "العقد"(7/1033)
* المطلب الثاني: في الوعد:
تعريف الوعد في اللغة:
يستعمل الوعد في الخير والشر، ويتعدى بنفسه، وبالباء، فيقال: وعده الخير وبالخير، وشرًّا بالشر، وقد أسقطوا لفظ الخير والشر.
وقالوا في الخير: وعده وعدًا وعدة، وفي الشر وعده وعيدًا فالمصدر فارق وأوعده إيعادًا وقالوا أوعده خيرًا أو شرًّا بالألف أيضًا (1)
تعريف الوعد في الاصطلاح:
عرف الوعد في الاصطلاح بأنه (ما يطلبه الطالب فيعده صاحبه بإنفاذ ما يطلبه منه) (2)
قال السنهوري هو: (ما يفرضه الشخص على نفسه لغيره بالإضافة إلى المستقبل لا على سبيل الالتزام في الحال) (3) ، وقد يقع الوعد على عقد أو عمل كأن يعد شخص آخر ببيعه أرضًا أو ببنائه دارًا. وجمهور الفقهاء على أن الوعد ملزم ديانة لا قضاء (4)
ولكن الحطاب ذكر عن المالكية أربعة أقوال في القضاء بالوعد وذكر أن ابن رشد حكاها في كتاب جامع البيوع والعارية والعدة.
1- فقيل يقضي بها مطلقًا.
2- وقيل لا يقضي بها مطلقًا.
3- وقيل يقضي بها إن كانت على سبب دخل الموعود في السبب أو لم يدخل.
4- وقيل يقضي بها إن كان على سبب ودخل الموعود من أجل الوعد في السبب.
وبالمثال التالي يتضح الفرق بين القولين الأخيرين:
يعد شخص آخر بمبلغ من المال ليعينه على الزواج فهذا الوعد ملزم للواعد تزوج الموعود أو لم يتزوج على القول الثالث، وهو ملزم لواعد بشرط أن يكون الموعود قد تزوج على القول الرابع (5)
__________
(1) الفيومي، المصباح المنير "وعد"، وانظر الفيروز أبادي: القاموس المحيط "وعد"، سعدي أبو جيب: القاموس الفقهي "وعد"
(2) الموسوعة الفقهية: 7/91
(3) مصادر الحق: 1/45
(4) مصادر الحق: 1/45
(5) تحرير الكلام في مسائل الالتزام: ص154 - 155(7/1034)
* المطلب الثالث: الفرق بين العقد والوعد:
هناك فرق كبير بين العقد والوعد عند من يقول بعدم القضاء بالوعد، فمن يقول بأن الاستصناع عقد يرتب عليه الأثر من حيث اللزوم، ومن ثم يرتب على ذلك الضمان وإلى هذا ذهب بعض الحنفية والمالكية في بعض أقوالهم.
وأما من يقول بأن الوعد غير ملزم فلا يرتب عليه من الآثار غير أن على الواعدين الإثم في عدم الوفاء بالوعد.
من المعلوم أن الذين جعلوا الاستصناع عقدًا مستقلًّا هم الحنفية، فجعلوا له أركانًا وشروطًا تميزه عن غيره من العقود، وقد قسمت الكلام في هذا المطلب إلى فرعين.
الفرع الأول: في قول من اعتبر الاستصناع وعدًا:
يرى الحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة وصاحب المنثور أنه مجرد مواعدة وليس بعقد وأنه ينعقد بالمعاطاة إذا جاء به مفروغًا منه بعد ذلك (1) ، جاء في المبسوط: (وكان الحاكم الشهيد يقول: الاستصناع مواعدة وإنما ينعقد العقد بالتعاطي إذا جاء به مفروغًا عنه) (2)
وقد فصل ابن عابدين في لزوم العقد وجوازه حسب المراحل التي يمر بها حيث قال:
(وأما صفته: فهي أنه عقد غير لازم قبل العمل من الجانبين بلا خلاف، حتى كان لكل واحد منهما خيار الامتناع عن العمل كالبيع بالخيار للمتابيعين فإن لكل منهما الفسخ، وأما بعد الفراغ من العمل قبل أن يراه المستصنع فكذلك حتى كان للصانع أن يبيعه ممن شاء، وأما إذا أحضره الصانع على الصفة المشروطة سقط خياره وللمستصنع الخيار هذا جواب ظاهر الرواية، وروي عنه ثبوته لهما وعن الثاني عدمه لهما والصحيح الأول) (3)
وقد أيدوا وجهة نظرهم بما يلي:
1- قالوا: إن الصانع له ألا يعمل وهذا لا يكون في العقود، إذ العقود ملزمة لمن دخل فيها، وذلك بخلاف السلم الذي يجبر فيه المسلم إليه بما التزم به.
2- إن المستصنع له الحق في عدم قبول ما يأتي به الصانع وله الرجوع أيضًا قبل تمام الصناعة أو رؤيتها وهذا يدل على أنه وعد لا عقد (4)
جاء في حاشية رد المحتار: (ولكل منهما الامتناع عن العمل قبل العمل بالاتفاق) (5)
__________
(1) السيواسي، فتح القدير: 5/355، والسرخسي، المبسوط: 12/139، وابن عابدين: 5/24
(2) السرخسي: 12/139
(3) حاشية رد المحتار: 5/224، وانظر الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2679، والسيواسي، فتح القدير: 5/355، والموسوعة الفقهية: 3/326 - 327
(4) السيواسي، فتح القدير: 5/355، وانظر السرخسي، المبسوط: 12/139، والموسوعة الفقهية: 3/327
(5) ابن عابدين: 5/224(7/1035)
الفرع الثاني: قول من اعتبر الاستصناع عقدًا:
يرى الإمام أبو يوسف وبعض المتأخرين أنه عقد. جاء في المبسوط (وعن أبي يوسف قال: إذا جاء به كما وصفه له فلا خيار للمستصنع استحسانًا) (1)
وجاء في فتح القدير: (والصحيح من المذهب جوازه بيعًا) (2)
وقد أيدوا وجهة نظرهم بما يلي:
1- إن في هذا القول دفع الضرر عن الصانع في إفساد أمتعته وآلاته فربما لا يرغب غيره في شرائه على تلك الصفة ولو قيل بثبوت الخيار لثبت الضرر) (3)
2- الصانع يملك الدراهم بقبضها ويضمنها ولو كانت مواعدة لم يملكها (4)
3- إثبات خيار الرؤية فيه والمواعدة لا تلزم فلا حاجة لخيار الرؤية فيها) (5)
4- تجويزه فيما فيه تعامل دون ما ليس فيه تعامل يؤيد أنه عقد إذ لو كان وعدًا لجاز في الجميع. (6)
5- أن محمدًا رحمه الله ذكر فيه القياس والاستحسان وهما لا يجريان في المواعدة (7)
6- وتسميته شراء حيث قال محمد: إذا رآه فهو بالخيار لأنه اشترى ما لم يره (8) فاعتباره شراء دليل على أنه عقد.
7- قالوا أيضًا يجرى فيه التقاضي وإنما يتقاضي في الواجب لا الموعود (9)
الترجيح:
بعد استعراض آراء الطرفين في اعتبار الاستصناع عقدًا أو وعدًا يتضح رجحان قول القائلين بأنه عقد، لقوة الأدلة بجانب ما ذكره الذين ذهبوا إلى أنه وعد وما أيدوا قولهم به من أقوال لا تقاوم أدلة الذين اعتبروه عقدًا حيث أن ما ورد عنهم يعتبر آثارًا مترتبة على أنه وعد وليس هناك أدلة تؤيد قولهم هذا من ناحية، والناحية الأخرى أن القول بأنه وعد يترتب عليه كثير من الأضرار على الصانع والمستصنع فالصانع قد يتلف متاعه وأدواته ولا يجد من يرغبها بتلك الصفات التي طلبها المستصنع، والمستصنع أيضًا قد يتضرر بسبب مضي الوقت وعدم حصوله على حاجته ولا شك أن الشريعة الإسلامية من مبادئها الشرعية وقواعدها العامة مبدأ رفع الضرر ودفعه عن المكلفين مع ثبوت خيار الرؤية إذا ظهر أن المصنوع على خلاف الصفات التي طلبها الصانع.
__________
(1) السرخسي: 12/139، وانظر ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/224
(2) السيواسي: 5/355، وانظر السرخسي، المبسوط: 12/139
(3) السرخسي، المبسوط: 12/139
(4) السيواسي، فتح القدير: 5/355، وانظر بدائع الصنائع: 6/2677
(5) السيواسي، فتح القدير: 5/355، وانظر السرخسي، المبسوط: 12/139
(6) السيواسي، فتح القدير: 5/355، وانظر الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677
(7) السيواسي، فتح القدير: 5/355، وانظر السرخسي، المبسوط: 12/139، والكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677
(8) السيواسي، فتح القدير: 5/355
(9) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677(7/1036)
المبحث الثالث
تكييف الاستصناع على القول بأنه عقد
الذين قالوا بأن الاستصناع عقد اختلفوا في تكييفه إلى عدة أقوال:
1- عقد على مبيع في الذمة (1)
2- عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل (2)
3- إجارة. (3)
4- إجارة ابتداءً بيع انتهاءً لكن قبل التسليم لا عند التسليم (4)
5- يع عمل العين فيه تبع (5)
6- بيع عين لها علاقة بالذمة (6)
هذه جملة الأقوال التي اطلعت عليها عند الحنفية في تكييف عقد الاستصناع وقد أيد كلٌ قولَه ببعض الأدلة العقلية وإليك بيانها مع التعقيب عليها بمناقشة المخالفين وما رد به على المناقشة.
1- الذين قالوا: إن الاستصناع عقد على مبيع في الذمة أيدوا قولهم هذا بأن الصانع لو أحضر عينًا كان عملها قبل العقد ورضي بها المستصنع لجاز، ولو كان شرط العمل من نفس العقد لما جاز، لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي (7)
ونوقش هذا القول بأن هذا يجوز بعقد آخر وهو التعاطي - بالتراضي وليس بالعقد الأول (8)
__________
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677، وابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/224
(2) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677
(3) السرخسي، المبسوط: 12/139
(4) ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/224
(5) السرخسي، المبسوط: 12/139
(6) السرخسي، المبسوط: 12/139، والسنهوري، مصادر الحق: 3/38
(7) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677
(8) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677(7/1037)
2- أما الذين قالوا بأن الاستصناع عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل. فقد أيدوا قولهم بأدلة عقلية منها:
أ- إن الاستصناع هو طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه (1) .
ب- العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا العقد يسمى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل على اختلاف المعاني في الأصل (2)
3- الذين قالوا بأن الاستصناع إجارة أيدوا قولهم بعدة أمور:
أ- المعقود عليه هو العمل والعقد الذي قصد فيه العمل هو الإجارة.
ب- الاستصناع اشتقاق من الصنع وهو العمل فتسمية العقد به دليل على أنه هو المعقود عليه والمادة فيه بمنزلة الآلة للعمل (3)
وقد نوقش هذا القول بأنه لو انعقد الاستصناع إجارة لأجبر الصانع على العمل والمستصنع على إعطاء المسمى (4)
وأجيب على هذا الاعتراض بأنه لا يجبر الصانع لأنه لا يمكنه إلا بإتلاف عين له من قطع أديم أو غيره والإجازة تفسخ بهذا العذر ألا ترى أن الزارع له أن لا يعمل إذا كان البذر من جهته وكذا رب الأرض (5)
هذا الجواب مني على التسليم بأنه لا يجبر على العمل ولكن على القول بإجباره على عمل ما التزمه فلا حاجة إلى ذلك.
__________
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677
(2) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677
(3) السرخسي، المبسوط: 12/139
(4) ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/224
(5) ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/224(7/1038)
ولكن فرق كثير من العلماء بين الإجارة والاستصناع بأمرين:
1- الإجارة على الصنع المادة فيها من طالب الصناعة أما الاستصناع فالعمل والمادة من الصانع.
2- وفرق آخر بين الاستصناع والإجارة على الصنع بأنه في الإجارة المعقود عليه هو العمل أما في الاستصناع فالمعقود عليه هو العين الموصوفة في الذمة لا بيع العمل (1)
3- الذين قالوا: إن المعقود عليه هو العمل والعين فيه تبع قالوا: إن الاستصناع اشتقاق من الصنع وهو العمل فتسمية العقد به دليل على أنه هو المعقود عليه والأديم فيه بمنزلة الآلة للعمل (2)
ورد على قولهم هذا بأن المعقود عليه المستصنع فيه وذكر الصنعة لبيان الوصف ألا ترى أنه لو جاء به مفروغًا عنه لا من صنعته أو من صنعته قبل العقد فأخذه جاز (3)
أما الذين قالوا: إن الاستصناع بيع عين لها علاقة بالذمة، فيرد عليهم عدة اعتراضات.
أولًا: إن تعريف بيع العين لا ينطبق على هذا العقد حيث إن العين كما ورد تعريفها في مجلة الأحكام العدلية: (الشيء المعين المشخص كبيت وحصان وكرسي وصبرة حنطة وصبرة دراهم حاضرتين فكلها أعيان) (4)
وقد نقل سعدي أبو جيب تعريفه عن الحنفية بقوله عند الحنفية: (ما كان قائمًا في ملك الإنسان من نقود وعروض) (5)
وحيث أن المستصنع فيه بيع معدوم كما نص عليه جمهور الحنفية فلا يمكن أن يكون المعدوم عينًا فليس المستصنع موجودًا ولا مشخصًا بل معدومًا والمعدوم يتعلق بالذمة وما تعلق بالذمة فهو دين. جاء في مجلة الأحكام العدلية: (الدين ما يثبت في الذمة كمقدار من الدراهم في ذمة رجل ومقدار منها ليس بحاضر، والمقدار المعين من الدراهم أو من صبرة الحنطة الحاضرتين قبل الإفراز فكلها من قبيل الدين) (6)
__________
(1) الموسوعة الفقهية: 3/326
(2) السرخسي، المبسوط: 12/139
(3) السرخسي، المبسوط: 12/139
(4) مادة "159"، وانظر الباز شرح المجلة، مادة "159"، وعلي حيدر، شرح المجلة، مادة "159"
(5) القاموس الفقهي "عين".
(6) مادة "158"(7/1039)
أما ما يرد بأن الوصف قد يجعل الموصوف عينًا فيناقش بأن الوصف قد يكون لشيءٍ موجود فإذا وصف الموجود صيره عينًا أما في الاستصناع فالمستصنع معدوم ووصف المعدوم لا يصيره عينًا وإلا لصار المسلم فيه بعد الوصف عينًا ولا أعلم من قال بأن الوصف في المسلم فيه يصيره عينًا. وما وجد من فروق بين الاستصناع والسلم في الشروط لا يؤثر في تعلق كل منهما بالذمة حيث أنه من المعلوم أن الوصف يتعلق أحيانًا بعين إن لم تكن العين موجودة كما في الاستصناع وإذا كان الشيء معدومًا فهو دين. ثم لو عدنا إلى تعريف الاستصناع لغة وهو طلب الصنعة وطلب الصنعة يكون لشيء مستقبل لا لشيء موجود.
وأيضًا يعتبر على قولهم بأن المعقود عليه عين فيقال: إن المصنوع غير موجود في ملك البائع وبيع ما لم يملكه البائع إذا كان عينًا غير صحيح لما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبع ما ليس عندك" (1) ، أي ما ليس في ملكك وهذا في بيوع الأعيان.
أما الدين - المتعلق بالذمة - فيجوز بيعه وهذا مقتضى عقد السلم، فإنه بيع شيء غير مملوك وقت العقد.
ثم لو سلمنا أن عقد الاستصناع على عين في بعض صوره لقلنا: إنه موجود على غير الصفة المطلوبة بالاستصناع كأن توجد المادة فقط والمعقود عليه المادة مصنعة.
ثم هذا في صور قليلة بل قد تكاد تكون نادرة في عقود الاستصناع والغالب أن المادة لا تعين وأحيانًا لا تكون موجودة وقت العقد بل توصف وصفًا تامًّا ينفي الجهالة ولا توجد إلا بعد العقد وبهذا الوصف تتعلق بالذمة وما تعلق بالذمة فهو الدين لا العين.
وهذا ما سيتم مناقشته وعرضه في المبحث الآتي عند عرض آراء الفقهاء في الاستصناع واعتبارهم له وما سأذكره من تكييف له وبالله التوفيق.
__________
(1) الترمذي، الجامع الصحيح: 3/534، والألباني، إرواء الغليل: 5/132(7/1040)
المبحث الرابع
المذاهب في حكم الاستصناع
* تقديم:
حاجة الإنسان تتعلق بما في يد غيره فيسدها بالشراء إن كانت أعيانًا موجودة، ولكن ما هو موجود قد لا يسد حاجة الإنسان، فيطلب إحضار ما يحتاجه بصفات معينة وشروط خاصة، وقد يدفع الثمن حالًا ويأخذ المثمن مالًا وذلك السلم كما هو معلوم بشروطه المعتبرة عند الفقهاء ومن أهمها دفع رأس مال السلم في مجلس العقد عن الجمهور أو تأخيره إلى ثلاثة أيام كما هو مشهور عن المالكية (1) وسيأتي تفصيل ذلك في شروط السلم.
وإن وجد الحاجة ولم يجد المال أو لم يدفعه فهو البيع بالدين.
ولكن ما هو موجود في السوق قد لا يسد حاجة الإنسان ولا يشبع رغباته، وقد يخشى على ماله من الاستغلال والضياع فهل يوجد عند الفقهاء حل يتلاءم مع مقاصد الشارع ويسد رغبات المكلفين بدون حرج يلحقهم أو ضرر يتوقعونه؟
هذا ما سيكون بحثه فيما يأتي:
فلا شك أن عقد الاستصناع يعتبر أحد العقود التي ذكرها الفقهاء لسد حاجات الناس ولكنهم اختلفوا في تكييفه وشروطه اختلافًا بينًا فإذا دفع الثمن في مجلس العقد فلا إشكال، إذا كان المعقود عيه سلمًا تحقق شرطه أو استصناعًا بشرط السلم ولا خلاف في الحكم ما دامت المعاني متفقة وإن دفع جزءًا من الثمن وآخر الباقي فما دفع ثمنه صحيح والخلاف فيما لم يدفع ثمنه بين الجواز والفساد.
ولكن ما هو حكم ما لم يدفع عوضه في المجلس مما يستصنع هل هو صحيح أو غير صحيح؟
جواب هذا السؤال سيكون بعرض آراء الفقهاء وأدلة كل على حدة ومناقشتها وبيان ما يرد على الأدلة من اعتراضات وشبه وبيان الرأي الذي يترجح حسب قوة أدلته واتفاقه مع مقاصد الشارع، وقد قسمت هذا المبحث إلى عدة مطالب.
__________
(1) مذهب المالكية لا يسعفه الدليل إذ هو من باب بيع الدين بالدين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وتلقت ذلك الأمة بالقبول كما في حديث: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" وما قالوه من أن المدة القصيرة بعد العقد كمجلس العقد يرده أن ما بعد العقد يخالف وقت العقد بدليل اعتبار ذلك في الربا(7/1041)
* المطلب الأول: المذاهب في الاستصناع:
المذهب الأول: مذهب الجمهور:
ذهب المالكية والشافعية والحنابلة وزفر من الحنفية إلى اعتبار الاستصناع قسمًا من أقسام السلم تشترط فيه شروط السلم وإليك نصوصًا من كل مذهب تؤيد النسبة إليهم.
قال الحطاب: (قال في المدونة: من استصنع طستًا أو قلنسوة أو خفًّا أوغير ذلك مما يعمل في الأسواق بصفة معلومة فإن كان مضمونًا إلى مثل أجل السلم ولم يشترط عمل رجل بعينه ولا شيئًا بعينه يعمله منه جاز إذا قدم رأس المال مكانه أو إلى يوم أو يومين فإن ضرب لرأس المال أجلًا بعيدًا لم يجز وصار دينًا بدين) (1)
وجاء في المهذب: (يجوز السلم في كل ما يجوز بيعه، وتضبط صفاته) (2) ، وعد بعض الأشياء التي يجوز السلم فيها ومنها المصنوعات حيث قال: (كالأثمان والحبوب.. والفخار والحديد والرصاص والبلور والزجاج) (3) وذكر النووي عند تعداد شروط السلم النص الآتي:
(الشرط الأول تسليم رأس المال في مجلس العقد فلو تفرقا قبل قبضه بطل العقد ولو تفرقا قبل قبض بعضه بطل فيما لم يقبض وسقط بقسطه من المسلم فيه) (4)
وجاء في الإنصاف: (فائدة: ذكر القاضي وأصحابه أنه لا يصح استصناع سلعة لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم) (5)
وجاء في الفروع: (وذكر القاضي وأصحابه لا يصح استصناع سلعة لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم) (6)
وجاء في فتح القدير: (الاستصناع طلب الصنعة وهو أن يقول لصانع خف.. اصنع لي خفًّا طوله كذا.. ويعطي الثمن المسمى أو لا يعطي شيئًا فيعقد الآخر معه جاز استحسانًا تبعًا للعين والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر (7)
يتضح من هذه النصوص أن الجمهور يرون جواز الاستصناع بشروط السلم وإن اختلف المالكية وغيرهم في تجويز الثمن إلى ثلاثة أيام وسيزاد الأمر وضوحًا عند بيان شروط السلم.
__________
(1) مواهب الجليل: 4/539 - 540، انظر الدردير، الشرح الصغير: 3/287، والصاوي على الشرح الصغير: 3/287، والدسوقي، حاشية الدسوقي: 3/195
(2) الشيرازي مع المجموع: 13/109
(3) الشيرازي مع المجموع: 13/109
(4) روضة الطالبين: 4/3، وانظر الرافعي، فتح العزيز: 9/208 - 209، والمحلى، شرح المنهاج: 2/245
(5) المرداوي: 4/300
(6) ابن مفلح: 4/24
(7) السيواسي: 5/355، والكاساني، بدائع الصنائع: 6/1678(7/1042)
أدلة الجمهور:
يمكن أن يستدل لهم بالأدلة الآتية:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الكالئ بالكالئ". قال الحاكم عن أبي الوليد حسان: هو بيع النسيئة بالنسيئة. وروى البيهقي عن نافع قال: (وهو بيع الدين بالدين) (1)
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان بقوله: "لا تبع ما ليس عندك" (2)
3- الإجماع، قال الإمام أحمد إجماع الناس على أنه (لا يجوز بيع دين بدين) (3)
وقال السبكي في تكملة المجموع: (وقد أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز نقل ذلك عن ابن المنذر) .
__________
(1) الزيلعي، نصب الراية: 4/39 - 40، وابن حجر، تلخيص الحبير: 3/29 - 30، والشوكاني، نيل الأوطار: 5/176
(2) الترمذي، الجامع الصحيح: 3/534، وابن ماجه، السنن: 2/13، والألباني، إرواء الغليل: 5/132.
(3) ابن حجر، تلخيص الحبير: 3/29، والبيهقي، السنن: 5/290(7/1043)
المذهب الثاني:
ذهب جمهور الحنفية إلى جواز الاستصناع سواء دفع الثمن في مجلس العقد، أو دفع جزء منه أو لم يدفع شيء منه وأخر كله أو بعضه إلى إحضار المستصنع، أو بعد إحضاره دفعة واحدة أو على دفعات، وإليك نصوصًا من كتبهم المعتمدة.
قال الكاساني: (أما جوازه فالقياس أن لا يجوز لأنه باع ما ليس عند الإنسان لا على وجه السلم وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم ويجوز استحسانًا لإجماع الناس على ذلك لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير والقياس يترك بالإجماع) (1)
وقال المرغيناني: (وفي القياس لا يجوز لأنه بيع المعدوم والصحيح أنه يجوز بيعًا لا عدة والمعدوم قد يعتبر موجودًا حكمًا) (2)
وقال في فتح القدير: (الاستصناع طلب الصنعة.. ويعطي الثمن المسمى أو لا يعطي شيئًا فيعقد الآخر معه جاز استحسانًا) (3)
وجاء في العناية: (الاستصناع هو أن يجيء إلى صانع فيقول: اصنع لي شيئًا.. صورته كذا وقدره كذا بكذا درهمًا ويسلم إليه جميع الدراهم أو بعضها أو لا يسلم) (4)
أدلة جمهور الحنفية:
يتفق جمهور الفقهاء الحنفية في جواز الاستصناع في الجملة ولكنهم يختلفون في الشروط فالجمهور يرون أنه يجوز بشرط تسليم الثمن في المجلس والحنفية لا يشترطون ذلك وإن أقاموا أدلة على جوازه حيث أن القياس لا يجيزه عندهم فهو عقد على معدوم وهذه جملة من أدلتهم على جوازه.
1- عن نافع أن عبد الله حدثه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اصطنع (5) خاتمًا من ذهب وجعل فصه في بطن كفه إذا لبسه فاصطنع الناس خواتيم من ذهب فرقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال: "إني كنت اصطنعته وإني لا ألبسه" فنبذه فنبذ الناس) (6)
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/1678
(2) الهداية: 5/355.
(3) السيواسي: 5/354 - 355
(4) البابرتي مع فتح القدير: 5/354
(5) اصنطع أمر أن يصنع له كما تقول: اكتتب أمر أن يكتب له والطاء بدل من تاء الافتعال لأجل الصاد ابن الأثير النهاية في غريب الحديث "صنع"
(6) البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري: 10/325(7/1044)
2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ورق يومًا واحدًا، ثم أن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق فلبسوها) (1)
3- عن أنس رضي الله عنه قال: (اصطنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا، فقال: "إنا قد اصطنعنا خاتمًا ونقشنا فيه نقشًا، فلا ينقش أحد عليه") (2)
4- بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة امرأة قد سماها سهل أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن إذا كلمت الناس فأمرته أن يعملها من طرفاء الغابة ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بها فوضعت فجلس عليه) (3)
وفي رواية أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه؟ فإن لي غلامًا نجارًا قال: "إن شئت" فعملت له المنبر) (4)
5- الإجماع العملي قالوا: إن الناس يتعاملون ذلك من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم بلا نكير، وتعامل الناس من غير نكير أصل من الأصول كبير لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن". (5)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم" (6)
6- الاستحسان واستدلوا للاستحسان بعدة أدلة منها:
أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام (7) . مع أن مقدار عمل الحجام وعدد كرات وضع المحاجم ومصها غير معلوم وغير لازم عند أحد. (8)
ب- دخول الحمام بأجر جائز لتعامل الناس وإن كان مقدار المكث فيه وما يصب من الماء مجهولًا (9)
ج- الشارع قد أعطى المعدوم حكم الموجود في مسائل كثيرة منها طهارة المستحاضة وناسي التسمية في الوضوء والذبيحة.
7- الحاجة تدعو إليه، لأن الإنسان قد يحتاج إلى شيء من جنس مخصوص ونوع مخصوص على قدر مخصوص وصفة مخصوصة ولا يجده مصنوعًا فيحتاج إلى أن يستصنع فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج والشريعة قد تكفلت برفعه (10)
8- فيه معنى عقدين جائزين وهما السلم والإجارة ذلك أن السلم عقد على مبيع في الذمة، واستئجار الصناع يشترط فيه العمل وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزًا (11)
__________
(1) البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري: 10/325
(2) البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري: 10/224، وابن حنبل، المسند: 3/101
(3) الجامع الصحيح: 4/319
(4) الجامع الصحيح: 4/319
(5) ابن حنبل، المسند 1/379 والزركشي، المعتبر: ص234
(6) ابن ماجه، السنن: 2/1303، والزركشي، المعتبر: ص61 - 62
(7) البخاري، الجامع الصحيح: 4/324، والإمام أحمد ابن حنبل، المسند: 3/111
(8) السيواسي، فتح القدير: 5/355، والسرخسي، المبسوط: 12/138
(9) السيواسي، فتح القدير: 5/355، والسرخسي، المبسوط: 12/138
(10) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2678
(11) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2678(7/1045)
مناقشة أدلة الجمهور:
يمكن مناقشة أدلة الجمهور بما يلي:
1- قالوا في حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، إنه ضعيف حيث تفرد به موسى بن عبيدة الربذي وقد قال فيه الإمام أحمد: لا تحل الرواية عنه عندي، ولا أعرف هذا الحديث من غيره.
وقال أيضًا: ليس في هذا حديث يصح.
وقال الشافعي: أهل الحديث يوهنون هذا الحديث. فإن قيل: يؤيده ما أخرجه الطبراني عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع كالئ بكالئ دين بدين) .
قيل: إن في إسناده موسى المذكور لا يصلح شاهدًا (1)
فإن قيل: صححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي (2)
قيل: إن ابن حجر قد ذكر وهم الحاكم في تصحيحه حيث قال: (وصححه الحاكم على شرط مسلم فوهم فإن رواية موسى بن عبيدة الربذي لا موسى بن عقبة) (3)
فإن قيل: إن شعبة يروي عن موسى بن عبيدة قيل: إن الإمام أحمد قال عنه: لو رأى شعبة ما رأينا منه لم يرو عنه (4)
وأما من قال: بأن رواية موسى بن عقبة الثقة أحد رواه السنة فقد أخطأ خطأ فاحشًا حيث نقل الحديث من الضعيف إلى القوي (5)
هذا جملة ما قيل في هذا الحديث من حيث الرواية فهو ضعيف السند في نظر علماء الحديث، والذي أوقع الحاكم في الخطأ فحكم بصحته (6) ما نقله الدارقطني: أن رواية موسى بن عقبة (7) وقد غلط في ذلك حيث هو من رواية موسى بن عبيدة الربذي.
هذا جملة ما قيل في هذا الحديث من ناحية ضعف سنده حيث تفرد به موسى بن عبيدة إلَّا أن الأمة اتفقت على الأخذ بمضمونه والاحتجاج به وإن كان بينهم خلاف ما يتناوله ويصدق عليه (8)
ولا يخفي أن تلقي الأمة لهذا الحديث بالقبول يرفعه إلى رتبة الاحتجاج به في الأحكام ووجوب العمل به قال المواق: (تلقي الأمة هذا الحديث بالقبول يغني عن طلب الإسناد فيه كما قالوا في: "لا وصية لوارث") (9)
وحقيقته بيع شيء في ذمة بشيء في ذمة أخرى غير سابق تقرر أحدهما على الآخر. (10)
__________
(1) الشوكاني، نيل الأوطار 5/177، وانظر ابن حجر، تلخيص الحبير: 3/29
(2) المستدرك: 2/57، وانظر الشوكاني، نيل الأوطار: 5/177
(3) تلخيص الحبير: 3/29
(4) الزيلعي، نصب الراية: 4/40
(5) الألباني، إرواء الغليل: 5/222
(6) المستدرك: 2/57، وانظر نزيه حماد، بيع الكالئ بالكالئ: ص9
(7) السنن: 3/71 - 72
(8) نزيه حماد بيع الكالئ بالكالئ: ص10.
(9) التاج والإكليل: 4/367، وانظر ابن حجر، تلخيص الحبير: 3/106
(10) ابن عرفة، شرح الحدود: ص252، وانظر المواق، التاج والإكليل: 4/367، وانظر نزيه حماد كمال حماد: بيع الكالئ بالكالئ: ص14(7/1046)
2- نوقش حديث: " لا تبع ما ليس عندك" من جهتين:
الأولى: جهة الإسناد حيث قيل: إن ابن حزم نقل قول عبد الحق حيث قال في رواية عبد الله بن عصمة: إنه مجهول.
ولكن رد عليه بأن النسائي احتج به وقد روي من غير وجه عن حكيم بن حزام وصححه الترمذي وابن حبان والألباني (1)
فردوا على من ضعف راويه فيكون صحيح الإسناد.
أما الجهة الثانية: فهي جهة المعنى حيث قالوا: إن معنى ما ليس عندك أي ما ليس في ملكك (2)
وأوضح بيان في مناقشته ما ذكره البغوي بقوله: (هذا في بيوع الأعيان دون بيوع الصفات فلو قبل السلم في شيء موصوف عام الوجود عند المحل المشروط، يجوز وإن لم يكن في ملكه حالة العقد) (3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قول القائل: بيع المعدوم لا يجوز ليس معه نص ولا إجماع إلا في بعض الصور كما أنه في بعض الصور لا يجوز بيع الموجود ولكن من أين له أن العلة كونه معدومًا ثم يقال له قد ثبت بالنص والإجماع.. إجارة الظئر وهو عقد على ما لم يوجد بعد وكذلك الإجارة) (4)
فظهر مما سبق أن المراد ما ليس مملوكًا لك في بيوع الأعيان وليس المراد ما كان معدومًا إذ المعدوم يعطى حكم الموجود في مسائل كثيرة منها ناسي التسمية عند الوضوء والذبح وطهارة المستحاضة ودائم الحدث وقراءة المأموم خلف الإمام.. إلخ والعلة في المنع هي الغرر لا كونه معدومًا أو موجودًا ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر " (5)
أما الإجماع الذي نقله الإمام أحمد فقد يناقش بما ورد عن الإمام نفسه حيث قال: (من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا ما يدريه ولم ينته إليه فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا.. أو لم يبلغني ذلك) (6)
فيرد على هذه المناقشة بما وضحه ابن القيم رحمه الله حيث يبين مراد الإمام أحمد من قوله هذا بأن مراد الإمام بذلك هو الرد على من يدعي الإجماع في المسألة، لأنه لم يجد ولم يعلم مخالفًا فيها ولا يقصد استبعاد وقوع الإجماع (7)
__________
(1) ابن حجر، تلخيص الحبير: 3/5، وإرواء الغليل: 5/132
(2) الشوكاني، نيل الأوطار: 5/175
(3) شرح السنة: 8/140 - 141
(4) نظرية العقد: ص231
(5) مسلم، الجامع الصحيح مع النووي: 5/3
(6) انظر ابن القيم، إعلام الموقعين: 1/30 و 31
(7) انظر ابن القيم، إعلام الموقعين: 1/30 و 31(7/1047)
مناقشة أدلة الحنفية:
1- قد يرد على ما ذكروه من أن النبي صلى الله عليه وسلم استصنع خاتمًا من ذهب أولًا ثم اصطناعه الفضة بعد ذلك واتباع الصحابة له في ذلك احتمالان:
الاحتمال الأول: أنه لما كان من هديه صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الدين بالدين يستحيل أن يطلب استصناع شيء ولا يدفع ثمنه في المجلس فيكون استصناعًا بشرط السلم وإذا كان الاستصناع بشرط السلم جاز عند الجميع.
ولكن قد يرد على هذا الاعتراض بأنه لو دفع الثمن لنقل ذلك ولم نجد أثرًا في ذلك فيبقى الدليل محتملًا فيقال حينئذ: (النهي عن بيع الدين بالدين وما عليه من الإجماع عام ولعل استصناعه صلى الله عليه وسلم واستصناع صحابته وما عليه الإجماع العملي الذي لم ينكر مخصص لذلك) .
الاحتمال الثاني: قد يقال: إن احتمال إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته بالمادة المطلوبة صناعتها من عندهم وارد وعلى ذلك يكون العقد إجارة لا استصناعًا.
ولكن يرد هذا بأنه يبعد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بذلك من عندهم ولا ينقل ذلك حيث نقل ما هو أقل أهمية من هذا.
2- أما استدلالهم باستصناعه صلى الله عليه وسلم المنبر فقد اعترض عليه بما ورد في صحيح البخاري أيضًا (أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه؟ فإن لي غلامًا نجارًا قال: "إن شئت" فعملت له المنبر) (1)
ففي هذه الرواية أنها ابتدأت بالعرض تبرعًا منها وفي حديث سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أرسل إليها يطلب ذلك.
قال ابن حجر: (أجاب ابن بطال باحتمال أن تكون المرأة ابتدأت بالسؤال متبرعة بذلك فلما حصل لها القبول أمكن أن يبطئ الغلام بعمله فأرسل يستنجزها إتمامه لعلمه بطيب نفسها بما بذلته ويمكن إرساله إليها ليعرفها بصفة ما يصنعه الغلام من الأعواد وأن يكون ذلك منبرًا.
ويحتمل أنه لما فوض إليها الأمر بقوله لها: (إن شئت كان ذلك سبب البطء لا أن الغلام كان شرع وأبطأ ولا أنه جهل الصفة وهذا أوجه الأوجه في نظري) (2)
__________
(1) الجامع الصحيح: 1/543 و544، 4/319
(2) ابن حجر، فتح الباري: 1/544(7/1048)
3 ـ أما الاستدلال بالاستحسان فقد يعترض عليه بما ورد عن الشافعي رضي الله عنه: (من استحسن فقد شرع) أي وضع نفسه شرعًا من قبل نفسه (1) وقوله: (أفرأيت إذا قال الحاكم والمفتي في النازلة: ليس فيها نص خبر ولا قياس، وقال: استحسن فلا بد أن يزعم أن جائزًا لغيره أن يستحسن خلافه فيقول كل حاكم في بلد ومفت بما يستحسن، فيقال في الشيء الواحد بضروب من الحكم والفتيا) (2)
ولكن هذا الاعتراض يناقش بما ذكره الخلاف حيث قال: (إن المختلفين في الاستحسان لم يحرروا موضع النزاع واختلافهم هو اختلاف ظاهري لفظي لا حقيقي) (3) وقد أوضح الشابي قاعدة الاستحسان أوفى توضيح بقوله: (هو في مذهب مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرًا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك وكثير ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقًا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر وله في الشرع أمثلة) (4)
وعلى ذلك يكون الاستصناع جائزًا وقد عدل فيه عن مثل ما حكم به في نظائره إلى خلافه لوجه هو أقوى (5)
والحق أنه لا يوجد في الاستحسان ما يصلح محلًا للنزاع إذ ليس النزاع في التسمية لأنه اصطلاح (6)
ولذلك نقل عن الشافعي أنه قال بالاستحسان في عدة مواضع مثل التحليف على المصحف والخط والكتابة (7) وقال: (ولا يفتي بالاستحسان إذا لم يكن الاستحسان واجبًا) (8)
__________
(1) المحلى، شرح جمع الجوامع: 2/353
(2) الشافعي، الأم: 7/273، وانظر الرسالة: 69 و 70
(3) مصادر التشريع الإسلامي: ص81
(4) الموافقات: 4/116 و 117، وانظر ابن قدامة، روضة الناظر: 5/8
(5) انظر التفتازاني، التلويح: 2/81، وانظر ابن قدامة، روضة الناظر: ص 85
(6) التفتازاني، التلويح: 2/8
(7) السبكي، جمع الجوامع: 2/354
(8) الشافعي، الأم: 7/270 و 271(7/1049)
4- استدلالهم بأن الحاجة تدعو إليه قد يرد على هذا بأن الحاجة العامة معتبرة بمنزلة الضرورة في حق أحاد الناس، ومعلوم أن الضرورة مقيدة بعدة قيود منها أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها (1) ومنها، ما جاز لعذر بطل بزواله (2)
وحيث إن البدائل عن عقد الاستصناع بهذه الصفة لم تنعدم فتسليم رأس المال يقوم مقامه ولا حاجة إليه حينئذ لأنه بيع دين بدين وحيث قد وجد البديل فلا حاجة ولكن يناقش هذا الاعتراض بما هو معلوم أن الحاجة إذا وجدت أثبتت الحكم في حق من ليست له حاجة كالسلم واقتناء كلب الصيد والماشية والحاجة إلى الاستصناع قائمة بل قد ترقى عن مستوى الحاجيات إذ أن تسليم رأس المال في مجلس العقد فيه من المخاطر الشيء الكثير الذي قد يجعل المستصنع في جهد ومشقة بحيث يخشى على ماله المدفوع من الإنكار والغش في المصنوع وقد تعددت سبل الاحتيال والتزوير والغش في المصنوع مما يجعل المال في خطر، وقد يسبب لصاحبه حرجًا ومشقة. والاستصناع بدون دفع الثمن يكفيه شر هذه المخاطر.
5- القول بأن الاستصناع في معنى عقدين جائزين وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزًا فقد يعترض عليه بأن جمع عقدين بعوض واحد ولا يصح لأن المبيع يضمن بمجرد البيع والإجارة بخلاف ذلك فاختلاف حكمهما سبب بطلانهما.
ولكن يرد على هذا الاعتراض بأن اختلاف العقدين في بعض الأحكام لا يؤثر على صحة العقد فإن من باع قسطًا له في شيء مع ملك له خاص يصح مع اختلاف حكمهما في وجوب الشفعة في الشخص دون الآخر فكذلك هنا حيث صدر العقد من أهله في محله فصح.
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر: ص93، وانظر ابن نجيم الأشباه والنظائر: ص85
(2) السيوطي، الأشباه والنظائر: ص93، وانظر ابن نجيم الأشباه والنظائر: ص85(7/1050)
الترجيح:
بعد عرض الآراء في الاستصناع يتضح أن الاعتراض عليه ينحصر في حالتين:
أحدهما أنه بيع معدوم، فقد أظهر عرض الأدلة والمناقشة والاعتراضات والرد عليها رجحان من أجازة مع أنه معدوم حال العقد وأن القول بعدم جواز بيع المعدوم ضعيف بل واه. وقد سبق استعراض كل ما ورد في هذا المعنى.
أما الجانب الثاني الذي ظل فيه النقاش والأخذ والرد والاستدلال فلا يزال النزاع قويًّا والأدلة متقاربة، إذ أن تكييف العقد واعتباره من بيوع الدين والاستدلال ومناقشة الادلة أظهر أن أدلة كل من الطرفين قوية وكثير الاعتراضات والمناقشة مردودة بمثلها ولكن الباحث لابد له من النظر في الأدلة مجتمعة على ضوء مقاصد الشارع في المعاملات وما اشتملت عليه الشريعة الإسلامية من رفع للحرج والمشقة فالنصوص الشرعية متضافرة في رفع العنت والحرج قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (1)
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2)
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)) (3)
وهو صلى الله عليه وسلم: "ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه" (4)
ولاشك أن الاستصناع من الأمور الحاجية والملحة لفئات كثيرة من الناس وعناية الشارع بالحاجيات تقارب عنايته بالضروريات وقد ذكر العلماء أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة (5)
فيستثنى موضع الحرج والمشقة ويقال بجواز الاستصناع بدون شرط السلم حيث إن إجراء القياس مطلقًا.. يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده ولو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى ذلك إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه (6) وحيث إن النهي عن بيع الدين بالدين عام فيخصص بالحاجة ويقال بجوازه أخذًا بمبدأ التيسير الذي اشتملت عليه الشريعة في مواردها، وما ورد من أدلة خاصة كاستصناعه صلى الله عليه وسلم واستصناع صحابته من بعده وما بعدهم من القرون قرنًا بعد قرن وجيلًا بعد جيل إلى يومنا هذا.
__________
(1) سورة الحج: الآية 78
(2) سورة البقرة: الآية 185
(3) البخاري، الجامع الصحيح مع الفتح: 10/524
(4) البخاري، الجامع الصحيح: 1/93
(5) المراد بالخصوص طائفة معينة من الناس كأهل بلد أو حرفة معينة من عمال أو زراع أو صناع أو أطباء وأمثالهم من أهل المهن والحرف والصناعات
(6) انظر: الشاطبي، الموافقات: 4/116 و 117(7/1051)
فواقع التعامل قديمًا وحديثًا سواء كان على مستوى الحكومات، أم على مستوى الشركات والمؤسسات، أم على مستوى الأفراد لا يدفع فيه الثمن، وقد يدفع جزء منه حالة العقد، والباقي على أقساط كما في استصناع المباني، وقد يؤخر الثمن حتى تسلم السلعة المطلوب صناعتها.
ومما يؤيد ترجيح هذا الرأي النظر إلى سبل الاحتيال في الحصول على الأموال، وتعدد طرق الغش الذي نشأ عن هبوط القيم والأخلاق نتيجة للاحتكاك مع مجتمعات لا هم لها إلا الحصول على المال بأي وسيلة من الوسائل، وتحت ستار أي عقد من العقود ولا شك أن عدم دفع الثمن عند العقد فيه حماية للمستصنع كما أنه سبب لإتقان الصانع صنعته، وحرصه الشديد على مطابقتها للمواصفات والمقاييس مطابقة تامة بعيدة عن الغش والاحتيال. أما لو دفع الثمن أو جزء كبير منه فقد يكون ذلك سببًا من أسباب الضغط على المستصنع في تسلم المصنوع ولو خالف شروطه، لاسيما إذا لاحظنا ما يترتب على عدم التسلم من رفع الدعوى على الصانع، وأجور المحاماة، وما يسببه ذلك من حرج ومشقة، وكثيرًا ما تتبدل الحكومات التي طلب الصنع منها أو في عهدها فيؤثر ذلك على التجارة فكم صودرت أموال لأفراد كانوا يتعاملون مع آخرين في ظل حكومة معينة فلما تغيرت تلك الحكومة صودرت تلك الممتلكات، بل إن الأمر يصل إلى أبعد من ذلك حيث إن سياسة الحكومات تتغير حسب مصالحها وكم عاصرنا وسمعنا عن أموال تحتجز بعد شحنها في السفن أو الطائرات لأن تلك الدولة المصدرة تغيرت سياستها أو مصالحها مع الدولة الطالبة.
وعليه فإن حاجة التجار وطالبي المصنوعات ومن يحتاجون إلى استصناع المباني والعمارات والمواد الغذائية والملابس والأدوات الحربية.. إلخ ما يحتاجه الناس في استعمالاتهم المشروعة يؤيد القول بجواز الاستصناع سواء دفع رأس المال أو دفع جزء منه أو لم يدفع منه شيء وهذا القول مؤيد إضافة إلى ما سبق ذكره بمقاصد الشارع في المعاملات وما اشتملت عليه الشريعة الإسلامية من قواعد كلية لدفع الضرر وجلب المصالح وإنزال الحاجة العامة أو الخاصة منزلة الضرورة.
وبعد هذا العرض والترجيح أقول إن دفع رأس المال في المجلس أحوط وأسلم خروجًا من الخلاف، وقد يرتفع بطلب المستصنع بعض الضمانات لتوثقة ماله كالرهن، والضامن، والكفيل أو يلجأ إلى الضمانات البنكية المعروفة.. والله أعلم.(7/1052)
المبحث الخامس
الشروط الجامعة والفارقة بين السلم والاستصناع
لكل عقد من العقود شروط تتوقف عليها صحته ونفاذه، والسلم والاستصناع من عقود المعاوضات المالية لهما شروط تميزها عن غيرهما. ونظرة شاملة إلى المذاهب الفقهية في عقد السلم والاستصناع، والاعتبار الذي جعله الفقهاء لكل منهما تبين أن الجمهور جعلوا الاستصناع قسمًا من أقسام السلم، تشترط له شروطه ولذلك كان ذكرهم لأحكام الاستصناع ضمن أحكام السلم، وإن كان بينهم اختلاف في شروط السلم. والذي أرى أنه لابد من ذكر شروط السلم عند الجميع سواء المتفق عليها والمختلف فيها حتى يكون القارئ على صلة قريبة باستذكارها، وبعد ذلك أذكر شروط الاستصناع عند الحنفية، وأبين أوجه الاتفاق بين العقدين، وأوجه الاختلاف. ويمكن تقسيم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: شروط السلم:
تقرر فيما سبق أن الجمهور يرون أن الاستصناع قسم من أقسام السلم يلزم توفر شروطه له.
وقد ذكروا للسلم شروطًا: بعضها محل اتفاق عندهم، وبعضها محل اختلاف بينهم، وإليك بيانها:
1- ألا يجمع البدلين أحد وصفي علة ربا الفضل (1) ، لأن المسلم فيه مؤجل في الذمة، فإذا جمعه مع رأس المال أحد وصفي علة ربا الفضل تحقق ربا النساء. والعقد الذي فيه ربا فاسد باتفاق الفقهاء (2)
2- أن يكون العقد باتًّا عاريًا عن شرط الخيار للعاقدين أو لأحدهما، ذلك لأن الخيار في السلم يجعل بين العاقدين علقة بعد التفرق، والسلم يشترط فيه ألا يبقى بين العاقدين علقة بدليل اشتراط القبض في مجلس العقد (3)
__________
(1) في الموزونات يجوز إسلام الذهب والفضة مع كونهما موزونين لحاجة الناس إلى ذلك وإلا لانسد باب السلم في الموزونات غالبًا
(2) ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/214
(3) الكاساني، بدائع الصنائع: 7/7/3147، نظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/187(7/1053)
3- أن يكون المسلم فيه معلومًا، وذلك بمعرفة جنسه، ونوعه، وصفته، وقدره (1) . فلا بد من معرفة جنس المسلم فيه ونوعه ومقداره بمعيار معلوم عند العامة حتى يمكن تسليمه من غير تنازع، ولا بد من بيان الصفات التي تؤثر في القيمة كالجودة والرداءة، وزاد بعضهم وجوب بيان الصفات التي تختلف بها الرغبات كاللون مثلًا (2) . وهل يشترط بيان بلد المسلم فيه؟ خلاف الظاهر وجوبه.
4- بيان جنس رأس المال، ونوعه، وصفته، وقدره، لأنه لا يؤمن فسخ السلم لسبب من الأسباب المجيزة للفسخ، فواجب معرفة رأس ماله ليرد بدله (3) ، ويجوز أن يكون رأس المال منفعة كأن يسلم إليه دارًا ليسكنها في شيء في الذمة بشرط قبض الدار في المجلس، لأنه الممكن في قبض المنفعة (4)
5- تسليم رأس مال السلم في مجلس العقد قبل الافتراق، لئلا يصير بيع دين بدين - سواء كان هذا القبض حقيقيًّا أو حكميًا - فإن تفرقا قبل قبضه بطل العقد، أو بعد قبض بعضه بطل فيما لم يقبض، وسقط بقسطه من المسلم، وصح فيما قبض (5) . إلا أن المالكية فصلوا في هذا الشرط واختلفوا في مسائل منه، وقد حقق الدسوقي ذلك بقوله: (حاصل ما في المقام أنه إذا أخر رأس المال عن ثلاثة أيام فإن كان التأخير بشرط فسد السلم اتفاقًا كان التأخير كثيرًا جدًّا.. أو لم يكن كثيرًا جدًّا.. وإن كان التأخير بلا شرط فقولان في المدونة لمالك بفساد السلم وعدم فساده.. إن محل الخلاف إذا كانت بلا شرط وإلا فسد العقد اتفاقا) (6)
__________
(1) البهوتي، كشف القناع: 3/297، النووي روضة الطالبين: 4/14، الكاساني بدائع الصنائع: 7/3162، الدردير، الشرح الصغير: 3/276، المرتضى، الأزهار: 171.
(2) الدردير، الشرح الكبير: 3/187
(3) نظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/178، البابرتي شرح العناية: 5/344، الكاساني، بدائع الصنائع: 7/3148، البهوتي، شرح المنتهى: 2/221، ولا يرى الشافعية حاجة لمعرفة رأس المال في السلم، لأنه من شروط البيع في الذمة انظر قليوبي، حاشية مع المنهاج: 2/245.
(4) النووي، المنهاج: 2/246
(5) الكاساني، بدائع الصنائع: 7/315، نظام الدين، الفتاوى الهندية: 3/179، البهوتي، شرح المنتهى: 2/221، النووي، روضة الطالبين: 4/3، المرتضى، الأزهار: 172.
(6) حاشية: 3/176، وانظر المواق، التاج والإكليل: 4/514(7/1054)
6- أن يؤجل المسلم فيه بأجل معلوم فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالأجل في حديث: "من أسلم في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" (1) . والأمر يقتضي الوجوب حيث أمر بذلك مبينًا لشروط السلم، ومانعًا منه بدونها (2) . وعليه يرون أن يكون للأجل تأثير ووقع في الثمن عادةً، ولا يحصل ذلك بالمدة التي لا وقع لها في الثمن وإن اختلفوا في تقدير المدة التي لها وقع في الثمن: فمنهم من يرى أن أقلها شهر، وعليه الفتوى عند الحنفية. ومنهم من يرى أن النصف كاف ويرى الزيدية أن أقل مدة ثلاثة أيام (3) والاعتبار بما له وقع في الثمن، لأنه عقد شرع للرفق فلا يتحقق بما لا رفق فيه. غير أنهم اختلفوا في السلم الحال فمنهم من يرى عدم صحته ومنهم من يرى صحته كالشافعي وابن المنذر (4) .. وقال النووي: (يصح السلم في الحال كالمؤجل فإن صرح بحلول أو تأجيل فذاك وإن أطلق فوجهان وقيل: قولان أصحهما عند الجمهور يصح ويكون حالًّا والثاني لا ينعقد (5) والذي يظهر أن اشتراط الأجل متوجه.
7- أن يوجد المسلم فيه عند حلول أجله غالبًا، ولا يضر انقطاعه قبل حلول الأجل إذا وجد عنده، ولا يشترط وجوده في جميع الأجل سواء كان موجودًا عند العقد أو معدوما. فإن كان لا يوجد وقت حلوله أو لا يوجد إلا نادرًا لم يصح؛ لأنه لا يمكن تسليمه غالبًا عند وجوبه أشبه ببيع الآبق (6)
8- بيان موضع تسليم المسلم فيه شرط إن كان موضع العقد غير صالح للتسليم أو كان لحمله مؤونة قطعًا للنزاع بين العاقدين، ولأنه يكون مجهولًا إذ ليس بعض الأماكن بأولى من بعض للتسليم فوجب تعيينه (7) . أما إذا لم يكن الأمر كذلك فما عليه الفتوى عند الشافعية اشتراطه مطلقًا (8)
9- يرى الحنفية أنه يشترط في عقد السلم أن يكون المسلم فيه مما يتعين بالتعيين حتى لا يجوز السلم في الدراهم والدنانير (9)
10- أن يسلم في ذمة (10) ولم يشترطه أكثر الفقهاء استغناء عنه بذكر الأجل، إذ المؤجل لا يكون إلا في ذمة فلا يصح السلم في عين كشجرة ثابتة ونحوها، لأنه يمكن بيعها في الحال فلا حاجة إلى السلم فيما هو موجود (11)
__________
(1) البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري:4/434
(2) الدردير، الشرح الصغير: 3/273، والشرح الكبير: 3/185، البهوتي كشف القناع: 3/299، شرح المنتهى: 2/218، نظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/180، الفرغاني، شرح العناية: 5/344.
(3) المرتضى، الأزهار: ص172
(4) ابن قدامة، المغنى: 4/321
(5) روضة الطالبين: 4/6
(6) الدردير، الشرح الكبير: 3/190، الشرح الصغير: 3/280، المواق، التاج والإكليل: 4/514، نظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/180، البابرتي، شرح العناية: 5/3404، البهوتي، كشف القناع: 3/303، النووي، روضة الطالبين: 4/11، المرتضى، الأزهار: ص172
(7) البهوتي، كشف القناع: 3/304، وشرح منتهى الإرادات: 2/221، النووي، روضة الطالبين: 4/11
(8) الرافعي، فتح العزيز: 9/208، النووي، روضة الطالبين: 4/11، عميرة، حاشية 2/245.
(9) نظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/180
(10) الدردير، الشرح الكبير: 3/189
(11) البهوتي، شرح المنتهى: 2/221، الدردير، الشرح الكبير: 3/189(7/1055)
* المطلب الثاني: الشروط الخاصة بالاستصناع عند الحنفية:
ذكرت فيما سبق أن الجمهور يرون أن عقد الاستصناع قسم من أقسام السلم، ولذلك يعتبر شروط السلم شروطًا له، وأن الحنفية هم الذين يفرقون بينهما، ويرون لكل حقيقته، وشروطه، وإليك بيان شروط الاستصناع عندهم:
1- العلم بالمصنوع، وذلك ببيان جنسه، ونوعه، وقدره، وصفته، لأنه لا يصير معلومًا بدون ذلك (1) ، وعليه يجب بيان كل ما يؤثر في الثمن والرغبات بيانًا يحول دون النزاع حين التسليم (2)
أن يكون المستصنع مما يجري فيه التعامل بين الناس من أواني الحديد، والنحاس، والرصاص، والزجاج، والخفاف، والسلاح، ونحو ذلك.
ولا يجوز في الثياب، لأن القياس يأبى جوازه، وإنما جاز استحسانًا لتعامل الناس، ولا تعامل لهم في الثياب، فيثبت جوازه فيما لهم فيه تعامل ويبقى ما عداه موكولًا إلى القياس، فإن حصل فيما ليس للناس فيه تعامل كان سلما، واشترطت له شروط السلم من قبض الثمن، وذكر الأجل.. إلخ (3)
ومعلوم أنهم عللوا ذلك بتعامل الناس وما كان كذلك يتغير بتغير التعامل فمعلوم أن الأحكام التي تبنى على العرف تتغير بتغيره كالحرز والنفقة، تتغير حسب العرف، وقد اتضح لك فيما سبق أنهم ذكروا الأشياء التي يصح فيها التعامل على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، فإذا جرى التعامل بشيء آخر لم يكن يتعامل ثبت له الحكم، وكذلك لو تغير العرف وتعامل الناس بما لم يكن فيه تعامل كاستصناع الثياب في عصرنا الحاضر، وغيرها كالطائرات والسيارات، وأدوات الإنارة، والمعامل التحليلية، والمصانع، والسفن، وآلات الكتابة والتصوير إلى آخر ما توصلت إليه العقول البشرية كسفن الفضاء، والأقمار الصناعية يجوز استصناعها إذا أمكن ضبطها على وجه تنتفي المنازعة معه فكما هو معلوم أن الأشياء التي يجيزها الشارع في الجملة ولم يكن فيه ولا في لغة العرب ما يحددها يرجع في تحديدها إلى العرف وتتغير بتغيره والله أعلم.
__________
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2678، وابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/2235، ونظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/207
(2) عبد السميع المصري، التجارة في الإسلام: ص88
(3) السيواسي، فتح القدير: 5/353، ونظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية: 3/207، والسنهوري، مصادر الحق: 3/38، 39(7/1056)
3- ألا يكون مؤجلًا (1) إلى أجل يصح معه السلم، وإن اختلفوا في تحديده كما سبق، فيكون الاستصناع صحيحا إذا خلا عن الأجل، أو كانت مدته دون مدة عقد السلم، وقد خالف أبا حنيفة صاحباه فيما ضرب له أجل، فقال الإمام: هو سلم تشترط له شروطه، وقالا هو استصناع على كل حال.
ووجه قول أبي حنيفة أنه إذا ضرب فيه أجل فقد أتى بمعنى السلم؛ إذ هو عقد على مبيع في الذمة مؤجل، والعبرة لمعاني العقود، لا لصور ألفاظها.
ووجه قولهما أن العادة جارية بضرب الأجل في الاستصناع، وإنما يقصد به تعجيل العمل لا تأخير المطالبة، فلا يخرج به عن كونه استصناعًا، ألا ترى أنه ذكر أقل مدة يمكنه الفراغ من العمل (2)
ومعلوم لدى الخاصة والعامة أن المدة التي تشترط للاستصناع تختلف باختلاف الشيء المطلوب صنعته فلا يمكن تقديره بمدة معينة بل يرجع في ذلك إلى ما تعارف عليه أرباب الصناعات من تقدير وقت لصناعة الشيء المطلوب صنعه، فصناعة السيف ليست كصناعة البندقية، وهما ليسا كالمدفع، والدبابة، والجميع ليس كصناعة الطائرات ولا شك أن الوقت يختلف باختلاف المصنوع فسفن الفضاء، والأقمار الصناعية، والقطارات والسفن الكبيرة، لكل منها وقت يمكن إنجازها فيه، فتحديد المدة بشهر أو نصفه تحديدًا لا يستند إلى دليل عقلي أو نقلي ولا يتلاءم مع الواقع العملي للاستصناع حيث نرى أن بعض الأشياء المطلوب صنعها تسلم بعد عدة سنين (3)
__________
(1) المراد بالأجل عندهم الأجل الذي يشترط للسلم وإن اختلفوا في تحديده فما نقص عن أجل السلم وقصد به التعجيل كان استصناعًا
(2) السيواسي، فتح القدير: 5/356؛ والسرخسي، المبسوط: 12/140؛ وابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/223؛ والكاساني، بدائع الصنائع: 6/2678 و 2679
(3) تقرر أن مدة التأجيل إذا بلغت أقل مدة السلم يصير العقد - عندهم - سلمًا وإذا صار سلمًا اشترطت شروط السلم بدفع الثمن في المجلس وإلا اعتبر بيع دين بدين وحينئذ لا يوجد مخرج إلا ما تقرر من استثناء الاستصناع من القاعدة العامة في بيع الدين بالدين كما تقدم، والله أعلم.(7/1057)
* المطلب الثالث:
أوجه الاتفاق والاختلاف بين العقدين عند الحنفية:
يمكن أن يقسم هذا المطلب إلى فرعين:
الفرع الأول: أوجه الاتفاق بين العقدين:
1- الاستصناع كالسلم قسم من أقسام بيع المعدوم.
2- لابد في العقدين من بيان المسلم فيه والمستصنع بيانًا يمنع النزاع بحيث يوضح ما يؤثر في القيمة، وما تختلف به الرغبات أيضًا.
3- لا يصح في السلم والاستصناع أن يكون الثمن مما يحرم بينه وبين المثمن الربا.
4- يسلم المسلم فيه أو المستصنع في محل العقد إن صلح لذلك وإلا اشترط ذكر مكان الإيفاء، وكذا إن كان لحمله مؤونة، فلا بد من تحديد موضع التسليم منعًا للنزاع.
الفرع الثاني: أوجه الفرق بين السلم والاستصناع عند الحنفية:
1- يرى جمهور الحنفية أن المبيع في السلم دين تحتمله الذمة، أما في الاستصناع فيرى جمهورهم أن المعقود عليه عين المستصنع وله تعلق بالذمة.
2- الثمن في السلم يدفع في مجلس العقد عندهم، أما في الاستصناع فقد يدفع كله، أو بعضه، وقد لا يدفع منه شيء بل يكون دينًا حتى يسلم المصنوع.
3- التأجيل في السلم للاستمهال، وفي الاستصناع للاستعجال.
4- السلم يكون في المثليات فقط والاستصناع في المثلي وغير المثلي (1)
__________
(1) ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 5/226(7/1058)
المبحث السادس
أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الاقتصادية
الناظر إلى العالم كله يرى ما يسمى بالثورة الصناعية الهائلة، ولو نظرنا إلى الدول كلها لرأيناها إما مصنعة منتجة أو مستهلكة أو منتجة لشيء، مستهلكة لآخر، ولذلك يعتبر رجال الاقتصاد التصنيع حجر الزاوية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمر بها الدول كلها.
فما تشتمل عليه الدول من موارد طبيعية قد تنقلها نقلة هائلة لو استغلت الاستغلال الحقيقي، فالذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، والخشب، والزجاج، والمواد البترولية ومشتقاتها هي غالب المواد الأساسية. في التصنيع في حياتنا المعاصرة، فالعمل على اكتشافها واستغلالها بتصنيعها يعود بالنفع العام، ويسد احتياجات الذين يرغبون في سلع ليست موجودة في السوق، أو يكون ما هو موجود لا يسد حاجتهم، ولا يحقق رغباتهم، وللاستصناع فوائد عظيمة لعل من أهمها:
1- القضاء على البطالة المنتشرة في العالم، وخصوصًا الإسلامي وذلك حين يراد استغلال تلك الموارد التي تدخل ضمن عقد الاستصناع، ويحصل التكامل بين الخبرات ورأس المال، ويقضي حينئذ على البطالة بتوجيه الأيدي التي يمكن عملها وهي معطلة إلى الصناعة، وذلك يعتبر من أسمى الأهداف لغالبية الدول التي تحرص على مواطنيها، وتخشى من الآثار السلبية التي تترتب عي انتشار البطالة بين رعاياها مما يؤثر على الدولة من الناحية السياسية والاجتماعية والأمنية.
2- يساهم الاستصناع في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، إذ أن طلب سلع خاصة بصفات معينة يعني أن هناك حاجة لها، يدل على عدم وجود تضخم في المصنوعات، وهذا بدوره يؤدي إلى التوازن بين العرض والطلب مما يؤدي إلى تحقيق استقرار في اقتصاد البلاد.
3- إشباع الحاجات التي تؤدي إلى التوسعة وتجنب المكلفين الحرج والمشقة، إذ قد يحتاج الإنسان إلى شيء لا يجده في الأسواق على الصفة التي يرغبها، فإذا استصنعه رفع الحرج عن نفسه، وهذا بدوره يشجع الصانع على عمل ما طلب منه، لأنه حينئذ يكون على يقين أن ما يصنعه سوف يكون نافقًا.(7/1059)
4- يستطيع الصانع أن يشتري مواد التصنيع التي يحتاج إليها بثمن مؤجل حتى يحين وقت الدفع إليه، وهذا بدوره يؤدي إلى نشاط الحركة التجارية، إذ يعتبر المال الذي سيدفع مصدرًا من مصادر التمويل للصانع والتاجر، وكذلك أصحاب العلاقة معهم من سماسرة ونقلة وخازنين وموزعين.
5- يستطيع المستصنع أن يحصل على السلع بالمواصفات التي يظن أنها تكون سببًا في رواج سلعة، وذلك بإدخال مواصفات تحسينية ترغب المشتري فيما يطلبه مما يحقق له ربحًا أوفر مما لو اشترى بالمواصفات الموجودة والمقاييس المعروفة.
6- يضمن المستصنع تقلبات الأسعار وذلك بدفع السعر المتفق عليه عند العقد.
7- يضمن الصانع عدم ركود السلع عند أو فسادها، فلا يصنع إلا ما يتفق على صناعته، بخلاف ما لو صنع بدون طلب فقد يصيب صناعته الركود والكساد، وقد يفسد ما هو عرضة لذلك.
8- يستطيع المستصنع أن يدفع ما يقبضه من مال عند العقد في سلع أخرى يحتاجها، ويضمن دفع أخرى عند تسليم السلع إلى طالبها، وبهذا يحصل تمويل مشاريع صناعية وتجارية وعقارية جديدة.
9- يؤدي عقد الاستصناع إلى حل الأزمات الإسكانية، إذ يطلب المستصنع مسكنًا معينًا بمواصفات ومقاييس يحددها حسب رغبته، وحاجته، ويدفع من ثمنها أو لا يدفع إلا بعد الاستسلام على أقساط محددة، حسب استطاعته، وبذلك تخف الأزمات الإسكانية أو تنعدم، وهذا يؤدي بدوره إلى الرفاه الاجتماعي، ورواج التجارة ونشاط وحركة الأيدي العاملة.
10- المصانع في الدول النامية تكون في الغالب في مرحلة تكوين ونمو وعدم استقرار عرضة عند تقلبات الأسعار للإفلاس والانهيار، وعقود الاستصناع كفيلة بضمان نفاذ ما تصنعه هذه المصانع لاسيما إذا كانت هناك سياسة ثابتة لهذه الدول لإحلال الإنتاج المحلي مكان المستورد الذي تخرج أثمانه إلى خارج البلاد، فتقل العملات الصعبة التي تحرص الدول على الحصول على أكبر قدر منها.(7/1060)
الخاتمة
الحمد لله في البداية والتمام وأصلي وأسلم على رسوله سيد الأنام بعد:
فقد انتهيت من هذا البحث الذي يمس جانبًا كبيرا من حياة الناس ويشمل جزءًا من معاملاتهم ويحقق كثيرًا من رغباتهم ويسد حاجاتهم وذلك من كمال الشريعة وتمامها ووفائها بما للناس فيه حاجة وبقي أن أذكر أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث والمناقشة وإليك أهمها فيما يلي:
1- إن أقرب تعريف إلى حقيقة الاستصناع هو "عقد على مبيع في الذمة يشترط فيه العمل على وجه مخصوص".
2- إن الاستصناع يعتبر عقدًا من العقود اللازمة لكلا الطرفين وليس وعدًا.
3- إذا جاء الصانع بالمستصنع مخالفًا للشروط كان للمستصنع الخيار.
4- الاستصناع قسم من أقسام السلم جاز بدون شرطه رفعًا للحرج، والمشقة
5- إن المستصنع معدوم وليس بيع عين، بل يتعلق بذمة العاقد وما تعلق بالذمة فهو الدين.
6- عدم وقوف الشريعة مكتوفة الأيدي أمام الأمور المستجدة والنوازل المعاصرة حيث نجد فيها حلًا لكل ما يطرأ وحكمًا لكل ما يستجد {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .
7- اتضح أن الاستصناع جاز للحاجة فيما للناس فيه تعامل عرفًا والأحكام التي بنيت على العرف تتغير بتغيره زمانًا ومكانًا وعليه يجوز التعامل فيما لم يثبت التعامل فيه سابقًا.
8- تحديد مدة للمستصنع قول لا يسنده دليل عقلي، أو نقلي فالمدة تختلف طولًا وقصرًا حسب جنس المصنوع ونوعه وصفاته وقدره.
9- الفروق التي ذكرت بين عقد السلم والاستصناع غير مؤثرة في الحكم.. والله أعلم.
10- الاستصناع من العقود التي لها آثار واضحة في تنشيط الحركة الاقتصادية فمن قضاء على البطالة إلى المساهمة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وحصول الصانع والمستصنع على المال والحاجة في الوقت المحدد بالصفات التي تشبع الحاجة، وتزيل الحرج، والمشقة، فيضمن الصانع عدم ركود السلع عنده، ويضمن المستصنع نفاذها أيضًا حيث أدخل عليها من المواصفات ما يضمن نفاذها.
11- قد يؤدي عقد الاستصناع إلى حل الأزمات الإسكانية أو الحد منها حيث تنتشر العمارات بدون حاجة إلى دفع الثمن في مجلس العقد.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
الدكتور/ سعود بن مسعد بن مساعد الثبيتي(7/1061)
المصادر والمراجع
1- البابرتي، شرح العناية، مع فتح القدير 1315هـ، المطبعة الكبرى الأميرية مصر.
2- الباز، شرح المجلة، الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث العربي.
3- الألباني، إرواء الغليل، الطبعة الأولى 1399هـ، المكتب الإسلامي.
4- البخاري، الجامع الصحيح مع فتح الباري، المطبعة السلفية 1390هـ.
5- بدران كاسب، الاستصناع، رسالة ماجستير، جامعة الإمام.
6- البغوي، شرح السنة، الدار السلفية، بومباي الهند.
7- البهوتي، شرح منتهى الإرادات، دار الفكر.
8- البهوتي، كشف القناع، مكتبة النصر الحديثة.
9- البيهقي، السنن الكبرى، الطبعة الأولى 1344هـ، دائرة المعارف النظامية، الهند.
10- الترمذي، الجامع الصحيح، تحقيق أحمد محمد شاكر، الناشر المكتبة الإسلامية.
11- التفتازاني، التلويح على التوضيح، مطبعة محمد على صبيح 1377هـ.
12- ابن تيمية، نظرية العقد، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية 1368هـ.
13- الجرجاني، التعريفات، الطبعة الأولى 1403هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
14- ابن حجر، تلخيص الحبير، تحقيق شعبان محمد إسماعيل 1399هـ، مكتبة الكليات الأزهرية.
15- ابن حجر، فتح الباري، المطبعة السلفية 1390هـ.
16- الحطاب، تحرير الكلام في مسائل الالتزام، تحقيق عبد السلام الشريف، الطبعة الأولى 1404هـ، دار الغرب الإسلامي.
17- الحطاب، مواهب الجليل، مكتبة النجاح، طرابلس، ليبيا.
18- ابن حنبل، المسند، الطبعة الثانية 1398هـ، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بيروت.
19- خلاف عبد الوهاب، مصادر التشريع الإسلامي، الطبعة الثانية 1390هـ، دار القلم، الكويت.
20- الدارقطني، السنن، تصحيح عبد الله هاشم، دار المحاسن للطباعة، القاهرة.
21- الدردير، الشرح الصغير، دار المعارف، مصر 1974م.
22- الدردير، الشرح الكبير على هامش حاشية الدسوقي.
23- الدسوقي، حاشية الدسوقي، المكتبة التجارية الكبرى.
24- الرافعي، فتح العزيز مع المجموع، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.(7/1062)
25- الزركشي، المعتبر، تحقيق حمدي السلفي، الطبعة الأولى 1404هـ، دار الأرقم، بغداد.
26- الزيلعي، نصب الراية، الطبعة الثانية 1393هـ. المكتبة الإسلامية.
27- السرخسي، المبسوط، الطبعة الثانية، دار المعرفة، بيروت.
28- سعدي أبو جيب، القاموس الفقهي، الطبعة الأولى 1402هـ، دار الفكر دمشق.
29- السيوطي، الأشباه والنظائر، عيسى البابي الحلبي.
30- الشاطبي، الموافقات، دار الفكر 1341هـ.
31- الشافعي، الأم، مطبعة أبناء مولوي، الهند.
32- الشافعي، الرسالة، مع الأم، مطبعة أبناء مولوي، الهند.
33- السنهوري، مصادر الحق، دار إحياء التراث، بيروت.
34- الشوكاني، نيل الأوطار، مصطفى البابي الحلبي.
35- الشيرازي، المهذب مع المجموع، الناشر المكتبة السلفية، المدينة المنورة.
36- الصاوي، حاشية على الشرح الصغير، الناشر دار المعارف بمصر.
37- ابن عابدين، حاشية رد المحتار، الطبعة الثانية، 1386هـ، مصطفى البابي الحلبي.
38- ابن عرفة، شرح الحدود، الطبعة الأولى، المطبعة التونسية 1350هـ.
39- عميرة، حاشية، الطبعة الثالثة 1375هـ، مصطفى البابي الحلبي.
40- الفيروز أبادي، القاموس المحيط، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت.
41- الفيومي، المصباح المنير، مصطفى البابي الحلبي.
42- ابن قدامة، روضة الناظر، المكتبة السلفية 1385هـ.
43- ابن قدامة، المغني، مكتبة الجمهورية العربية.
44- قليوبي، حاشية، الطبعة الثالثة 1375هـ، مصطفى البابي الحلبي.
45- ابن القيم، إعلام الموقعين، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، مطبعة الكيلاني.
46- الكاساني، بدائع الصنائع، الناشر زكريا علي يوسف.
47- ابن ماجه، السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، عيسى البابي الحلبي وشركاه.
48- مجموعة من العلماء، مجلة الأحكام العدلية، الطبعة الخامسة 1388هـ.
49- المحلى، شرح جمع الجوامع، مع حاشية البناني، دار إحياء الكتب العربية.
50- المحلى، شرح المنهاج، الطبعة الثالثة 1375هـ، مصطفى البابي الحلبي، على هامش قليوبي وعميرة.
51- المرتضى، الأزهار، الطبعة الرابعة.
52- المرداوي، تصحيح الفروع طبع بهامش الفروع، الطبعة الأولى 1345هـ، عالم الكتب، بيروت.
53- المرغيناني، الهداية، مع فتح القدير، الطبعة الأولى 1315هـ، المطبعة الأميرية، بولاق، مصر.
54- مسلم، الجامع الصحيح، مع شرح النووي، دار الفكر، بيروت.
55- المصري عبد السميع، التجارة في الإسلام، الطبعة الثانية 1406هـ، الناشر مكتبة وهبة.(7/1063)
56- ابن منظور، لسان العرب، طبعة بولاق.
57- المواق، التاج والإكليل، مع مواهب الجليل، مكتبة النجاح، طرابلس، ليبيا.
58- ناجي محمد سعيد سياسات التصنيع في الاقتصاد الإسلامي، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى.
59- ابن نجيم، الأشباه والنظائر، تحقيق عبد العزيز الوكيل، مؤسسة الحلبي وشركاه 1387هـ.
60- نزيه حماد، بيع الكالئ، الطبعة الأولى، 1406هـ، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي.
61- نظام الدين وجماعة، الفتاوى الهندية "العالمكيرية" الطبعة الرابعة، دار إحياء التراث العربي.
62- النووي، روضة الطالبين، المكتب الإسلامي.
63- النووي، المنهاج، على هامش قليوبي وعميرة، الطبعة الثانية 1375هـ، شركة مصطفى الحلبي.
64- ابن الهمام، فتح القدير، الطبعة الأولى، 1315هـ، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر.
65- وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الموسوعة الفقهية، الكويت، وزارة الأوقاف، الطبعة الأولى 1400هـ.(7/1064)
عقد الاستصناع
وعلاقته بالعقود الجائزة
إعداد
الدكتور محمد رأفت سعيد
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائك ورسلك سيدنا محمد، وبعد.
فإن جهود فقهائنا مازالت متابعة لكل جديد من وجوه التعامل بين الناس، لتكييف هذا التعامل وتوصيفه، ومعرفة موافقته أو مخالفته للأصول الشرعية، وتأسيسه على ما عرف من أدلة الأحكام، ومدى تحقيقه للمقاصد الشرعية. وقد يكون الوجه الجديد جامعًا لوجوه معروفة من قبل، ومنها يكون هذا الوجه، وقد يضاف إلى هذه الوجوه القديمة بعض الأمور التي لم تعرف من قبل. وهنا - تظهر - العقلية الفقهية في دقة التوصيف، التي تتبع بإعطاء الحكم المناسب لكل وصف.
وهذا مجال لاتجاهات فقهية متعددة، تدل على خصوبة الفكر، وهي اتجاهات معتبرة ما دام الحال يتسع لأكثر من وجه، وليس مقيدًا بدلالة قطعية واحدة لنص من النصوص.
ومن وجوه التعامل التي يتحقق فيها هذا القول " عقد الاستصناع "، فإن حاجة الإنسان إلى السلع التي تستصنع من الحاجات المتجددة، وذلك لتطور الحياة البشرية، بل وبصورة سريعة، يكون المستصنع اليوم قديمًا في الغد، وما صنع هذا العام ليس هو ما صنع في العام السابق، فقد يحتاج الأمر إلى إضافات جديدة تحتاجها طبيعة الآلة، أو الجهاز المصنع، وتقضيه ضرورة الاستعمال.
كما أن الصانع في إطار هذا القفز السريع في التطور قد يحتاج إلى مال يدخل في تهيئة هذه المصنوعات، وكذلك في نفقاته الخاصة. وعلى ذلك فإن تحقيق حاجة المستصنع والصانع تجعل بينهما هذا الوجه الذي يمثل عقدًا بينهما يدفع فيه المستصنع مالًا للصانع ليصنع له ما يريد. فكيف يكيف هذا العقد؟(7/1065)
هل هو مواعدة أم بيع؟
وهل يكون بيعًا لما ليس عند البائع؟ فلا يجوز؟
وهل يستثنى من هذا نظرًا لحاجة الناس إليه كما استثني السلم، مع تحقيق ما يشترط في السلم من تحديد الصفة والقدر والأجل؟
وهل تحقق هذه الشروط يجعلنا نسميه سلمًا، ولا حاجة إلى استحداث اسم آخر هو الاستصناع؟
ولكن لوحظ أن هذا الاستصناع يختلف عن السلم في أن عقد الاستصناع يتضمن عمل عامل في الصناعة، فهل هذا العنصر يجعلنا نطلق عليه عقد إجارة؟ أم أن عقد الاستصناع فيه من جوانب هذه العقود ما يكون عقدًا خاصًّا يسمى بعقد الاستصناع، وأن تضمنه لهذه الجوانب من العقود الجائزة يمنحه قوة الحكم بالجواز؟
هذه التساؤلات هي عناصر بحثي عن "عقد الاستصناع وعلاقته بالعقود الجائزة " لتكون خطة البحث على النحو الآتي:
بعد هذه المقدمة أتناول المباحث التالية:
- تعريف الاستصناع.
- حكم عقد الاستصناع.
- هل الاستصناع مواعدة أم بيع؟
- هل هو عقد بيع ما ليس عنده؟
- عقد الاستصناع، وعقد السلم.
- السلم.
- عقد الاستصناع، وعقد الإجارة.
- الإجارة.
- الخاتمة.
- ملخص البحث.
- المراجع.
وأسأل الله التوفيق للوفاء بهذه المباحث دراسة، ومناقشة، واستنتاجًا، فهو حسبي ونعم الوكيل.(7/1066)
تعريف الاستصناع
الاستصناع في كتب اللغة يعني طلب الصنع، والصنع هو العمل، ومن ذلك قوله تعالى {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (1) .
والصناعة: حرفة الصانع وعمله (2) .
ومعنى الكلمة - إذن - أن يطلب إنسان من صانع أن يعمل له عملًا معينًا، فإذا أضفنا إلى ذلك ما يجعل هذا الطلب محققًا لمراد الطرفين - دون منازعة بينهما - قلنا: ينبغي أن يحدد الطالب نوع ما يعمل، وقدره، وصفته، وكل ما يريد أن يكون عليه العمل دون إبهام لشيء، وكذلك تحديد الزمن الذي يتناسب مع العمل وحاجته إلى هذا المصنوع، فإذا اتفق الطرفان على هذه المواصفات في العمل والزمن، واتفقا على تحديد الثمن الذي سيدفعه الطالب، وقال الصانع: نعم. فهذه صورة عقد الاستصناع.
ويستوي هذا الشكل للاستصناع في أن يكون بين فرد وفرد، أو بين فرد ومؤسسة أو مصنع.
أما تعريف الاستصناع لدى الفقهاء فإنه يخضع لموقف كل فقيه منه، فأكثر الحنفية - كما سنرى من تعريفهم له من تعريفهم له - يرونه عقدا مستقلًّا، وأما غيرهم من المالكية والشافعية والحنابلة، فإن كثيرًا منهم يلحقونه بأبواب السلم، سواء كان على سبيل القول بجوازه كما عند المالكية والشافعية، أو بمنعه كما عند الحنابلة. وسنتعرف على ذلك من خلال ذكر تعريفات العلماء.
يذكر الكاساني في البدائع (3) قول بعض الفقهاء: إن الاستصناع هو: (عقد على مبيع في الذمة) ، ويزيد السمرقندي على التعريف السابق فيقول: (عقد على مبيع في الذمة وشرط عمله على الصانع) . (4) .
ويذكر ابن عابدين في تعريف الاستصناع أنه: (بيع عين موصوفة في الذمة لا بيع عمل) (5) .
__________
(1) سورة النمل: الآية 88
(2) انظر لسان العرب مادة "صنع"، ومختار الصحاح: ص371
(3) بدائع الصنائع: 6/2677
(4) بدائع الصنائع: 6/2677
(5) حاشية ابن عابدين: 5/225(7/1067)
وفي المجلة العدلية نجد الجمع بين ذكر البيع والعقد في وصف الاستصناع وتعريفه بأنه: (إذا قال شخص لأحد من أهل الصنائع: اصنع لي الشيء الفلاني بكذا، قرشًا، وقبل الصانع ذلك انعقد البيع استصناعًا) (1) .
كما ذكر الكاساني ما قيل من تعريف الاستصناع لدى بعض الفقهاء بأنه (عقد مقاولة مع أهل الصنعة على أن يعملوا شيئًا) (2) . أي عقد تفاوض بين المستصنع والصانع.
وإذا كان الإمام العيني قد ذكر صورة الاستصناع بقوله: (أن يطلب من الصانع أن يصنع له شيئًا بثمن معلوم) (3) .
وكذلك ابن عابدين: هو (طلب العمل منه في شيء خاص على وجه مخصوص) (4) . فإن طلب العمل مع المادة التي يصنع منها، وبالثمن المعلوم يستدعي مبادلة مال بمال بالتراضي عند الحنفية (5) ، وهو البيع، وعند إطلاقه يكون عقدًا.
وبذلك يتوافق الأمر لدى الفقهاء المذكورين من اعتبار الاستصناع عقد بيع، ويكون التعريف الجامع المانع لدى فقهاء الحنفية أنه (عقد على مبيع في الذمة يشترط فيه العمل على وجه مخصوص) (6) .
ولو اكتفى بما قيل في تعريفه من أنه (عقد على مبيع في الذمة) لدخل في التعريف عقد السلم.
__________
(1) انظر درر الحكام: 1/99
(2) انظر درر الحكام: 1/99
(3) رمز الحقائق: 2/56 و57.
(4) حاشية ابن عابدين على الدر المختار: 5/223.
(5) انظر فتح القدير، لابن الهمام: 5/73.
(6) عقد الاستصناع: ص59(7/1068)
وقيد شرط الصنعة يجعل العقد موافقًا للمعنى اللغوي، ولذلك لما ذكر الإمام السرخسي صورة الاستصناع قال في مبسوطه: (استصنع الرجل خفين أو قلنسوة، أو طستا، أو كوزًا، أو آنية من النحاس) (1) .
وبالمعنى نفسه قال الكاساني في بدائع الصنائع: (لو قال إنسان لصانع من خفاف أو صفار أو غيرهما: اعمل لي خفًّا، أو آنية من أديم، أو نحاس من عندك بثمن كذا ويبين نوع ما يعمل وقدره وصفته.. فيقول الصانع: نعم) . وبمثل هذا قال البابرتي (2) .
فالاستصناع - كما مر بنا لغة - طلب الصنعة، ويلاحظ أن المواد المذكورة، والصناعات المطلوبة تتلاءم مع عصر المعرفين، وإلا فالمعنى يتسع لكل مستحدثات العصور، مادة وصنعة.
وإذا لم يعتبر شرط الصنعة في التعريف، على افتراض أنه لو تعاقد على مبيع في الذمة، وأحضر الصانع عينًا، كان قد صنعها من قبل، ورضي بها المستصنع فإن بعض الفقهاء - كما سيأتي - يرى أن العقد صحيح، ولكن تم بطريق آخر غير الطريق الأول وهو طريق التعاطي.
وهذا ما رجحه الكاساني بقوله: (والصحيح هو القول بأنه عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل) لأن الاستصناع: طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا. فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه.
ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا.. وهذا العقد يسمى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل.. وأما إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي بها المستصنع فإنما جاز لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر وهو التعاطي بتراضيهما (3) .
__________
(1) المبسوط: 12/138
(2) العناية على الهداية: 5/354
(3) انظر بدائع الصنائع: 6/2677(7/1069)
والقول في التعريف بأنه عقد يخرج اعتبار الاستصناع وعدًا - وهذا سنفصل القول فيه بعد قليل.
والقول في التعريف "على مبيع" يخرج اعتبار الاستصناع عقد إجارة، لأنها عقد على منافع وليست على عين، ويخرج كذلك اعتباره عقدًا على العمل، أو الإجارة على العمل فهو ليس بعقد على مبيع.
ولكن ما الذي يباع في عقد الاستصناع، كما ورد في التعريف؟
إنها المواد الخام التي تصنع، أما المادة الخام في الإجارة على العمل فهي من عند المستأجر، وعلى الأجير العمل فقط (1) .
والقول بأنه (في الذمة) يخرج اعتبار الاستصناع بيعًا بإطلاقه، لأن من شروط البيع أن يكون مقبوضًا في المجلس، وهنا المطلوب صنعه في الذمة.
والقول بأنه (شرط فيه العمل) يخرج اعتبار الاستصناع سلمًا، لأن السلم بيع آجل بعاجل (2) .
والاستصناع لا يشترط فيه أخذ الثمن عاجلًا وسنتناول تفصيلًا ما يتعلق بعلاقة الاستصناع بالسلم والفرق بينهما في مبحث قادم.
أما ذكر الوجه المخصوص في التعريف فهو البيان التفصيلي لجنس المعقود عليه وصفته وقدره، وكل ما يريده المستصنع فيه، حتى يكون استصناعًا صحيحًا إذا تحققت فيه هذه الشروط، وإلا كان استصناعًا فاسدًا.
هذا ما يتعلق بتعريف الاستصناع لغة - واصطلاحًا واخترت لتعريفه اصطلاحًا ما ذكره فقهاء الحنفية لاعتبارهم إياه عقدًا مستقبلًا - كما مر بنا.
ولكن لن نغفل أقوال بقية العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة في الاستصناع - قبل أن نذكر - تفصيلًا - علاقة عقد الاستصناع بالعقود الجائزة.
فأما المالكية فإن ابن رشد (3) - وهو من أعيان المالكية - قد تناول السلم في الصناعات بما يدل على أنه من يطلب من صانع صنع شيء له فهو جائز، ولكنه يأخذ حكم السلم، وشروط السلم، فيقول:
__________
(1) انظر عقد الاستصناع: ص:60
(2) انظر فتح القدير، لابن الهمام: 5/323
(3) هو محمد بن أحمد بن رشد، أبو الوليد قاضي الجماعة بقرطبة من أعيان المالكية، وهو جد ابن رشد الفيلسوف، توفي سنة 520هـ، الأعلام: 6/210(7/1070)
(وأما السلم في الصناعات فينقسم في مذهب ابن القاسم على أربعة أقسام:
أحدها: أن لا يشترط المسلم المستعمل عمل من استعمله، ولا يعين ما يعمل منه.
والثاني: أن يشترط عمله، ويعين ما يعمل منه.
والثالث: أن لا يشترط عمله، ويعين ما يعمل منه.
والرابع: أن يشترط عمله، ولا يعين ما يعمل منه.
فأما الوجه الأول: وهو أن لا يشترط عمله، ولا يعين ما يعمل منه، فهو سلم، على حكم السلم، لا يجوز إلا بوصف العمل، وضرب الأجل، وتقديم رأس المال.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يشترط عمله، ويعين ما يعمله منه، فليس بسلم، وإنما هو من باب البيع والإجارة في الشيء المبيع.
فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من العمل، أو تمكن بإعادته للعمل، أو عمل غيره من الشيء المعين منه العمل، فيجوز على أن يشرع في العمل، وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام، أو نحو ذلك.
فإن كان على أن يشرع في العمل، جاز ذلك بشرط تعجيل النقد، وتأخيره، وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة أيام ونحوها، لم يجز تعجيل النقد، بشرط حتى يشرع في العمل.
وأما الوجه الثالث: وهو أن لا يشترط عمله بعينه، ويعين ما يعمل منه، فهو - أيضًا - من باب البيع والإجارة في المبيع، إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام بتعجيل النقد وتأخيره.
وأما الوجه الرابع: وهو أن يشترط عمله ولا يعين ما يعمل منه فلا يجوز على حال، لأنه يجتذبه أصلان متناقضان: (لزوم النقد لكون ما يعمل منه مضمونًا، وامتناعه لاشتراط عمل المستعمل بعينه) (1) .
ويقول الدردير (2) : (ثم شبه في السلم قوله: كاستصناع سيف، أو ركاب من حداد، أو سرج من سروجي، أو ثوب من حياك، أو باب من نجار، على صفة معلومة بثمن معلوم فالتعاقد على صنع شيء يأخذ حكم السلم عندهم) .
وقال الدردير (3) - أيضًا -: (وقول خليل: كاستصناع سيف (4) تشبيه لا تمثيل) .
__________
(1) المقدمات الممهدات: 2/32.
(2) الشرح الصغير، للدردير: 3/287.
(3) الشرح الصغير، للدردير: 3/261
(4) قول خليل: (والشراء من دائم العمل كالخباز. وهو بيع، وإن لم يدم فهو سلم، كاستصناع سيف، أو سرج) . انظر مواهب الجليل: 3/349.(7/1071)
وإذا كان المالكية لم يعدوا (الاستصناع) عقدًا مستقلًّا، فكذلك الشافعية، وأدرجوه كالمالكية في مسائل السلم.
فطلب الصنعة عندهم جائز، ولكن عن طريق السلم بشرط ضبط الصفات.
فيرى الإمام الشافعي (1) - رحمه الله - أن الاستصناع جائز إذا كان المستصنع فيه من مادة واحدة، أو من مادتين لا يؤديان - جهالة قدرهما - إلى المنازعة، بأن أمكن معرفة قدر كل منهما لتمييزهما عن بعضهما.. وإلا فلا يجوز فيهما إذا اختلطا.. ولم يمكن تمييز قدر كل واحد عن الآخر (2) .
ويقول الشافعي: (وهكذا كل ما استصنع) (3)
وعلى ذلك فالاستصناع عند الشافعي: (بيع موصوف في الذمة يشترط فيه الصنعة) .
والسلم عنده كذلك: (بيع موصوف في الذمة) .
قال المحلي: (السلم، ويقال له: السلف، وهو بيع موصوف في الذمة) (4) .
وقال ابن حجر: (السلم هو بيع شيء موصوف في الذمة) (5)
ويذكر الإمام النووي تعريفات للسلم فيقول:
أحدهما: أنه عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطي آجلًا.
وثانيها: هو إسلام عوض حاضر في موصوف في الذمة.
وثالثها: هو إسلاف عاجل في عوض لا يجب تعجيله.
ثم يقول النووي: (إن السلم بيع) (6)
وإذا كان المالكية والشافعية قد عدوا الاستصناع في أبواب السلم، فإن الحنابلة قد جعلوه في باب بيع ما ليس عند الإنسان على غير وجه السلم ولذلك قالوا بالمنع.
ففي كشاف القناع والإنصاف وغيرهما: أن الاستصناع غير جائز، نقلًا عن القاضي وأصحابه، بأنه لا يصح استصناع سلعة، لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم (7) .
وقيل لا يصح استصناع سلعة بأن يبيعه سلعة يصنعها له.. لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم (8)
__________
(1) انظر الأم: 2/116
(2) انظر عقد الاستصناع: ص70
(3) الأم: 2/162.
(4) انظر شرح المنهاج: 1/339
(5) انظر تحفة المحتاج: 5/2
(6) انظر روضة الطالبين: 4/3
(7) الإنصاف، للمرداوي: 4/300
(8) انظر كشف القناع، للبهوتي: 3/154، وانظر الفروع: 2/23(7/1072)
حكم عقد الاستصناع
بعد تعرفنا على أقوال العلماء في تعريف "الاستصناع" نستطيع أن نقول: إن جمهور فقهاء الحنفية قد اتفقت كلمتهم على "الجواز" ولم يخالف في ذلك إلا "زفر" (1) وحكى ابن الهمام قول "زفر" فقال: (والقياس أنه لا يجوز، وهو قول "زفر" (2) .
فهل قول "زفر" بعدم الجواز يقوم على القياس؟
إن كان الأمر كذلك فإن الجمهور لا يرى - كذلك - القياس دليلًا على جواز "الاستصناع".
وإنما يجوزونه بالاستحسان، وكذلك - أيضًا - بالإجماع العملي، والبعض يرى أنه بالسنة - كما سنبين -.
ومن أقوال المجوزين نتعرف على أدلة هذا الحكم بجواز "الاستصناع".
فالإمام محمد بن الحسن يقول: (لو استصنع رجلًا شيئًا.. بغير أجل جاز استحسانًا (3)
والإمام الكاساني يقول: (أما جوازه فالقياس: أن لا يجوز، لأنه باع ما ليس عند الإنسان لا على وجه السلم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم، ويجوز استحسانًا، لإجماع الناس على ذلك (4) .
والإمام الكمال بن الهمام يقول: (جاز استحسانًا) (5)
والإمام السمرقندي يقول: (والقياس أنه لا يجوز، وفي الاستحسان جائز) (6) .
والإمام أبو بكر بن المنذر يقول: (وقال أبو حنيفة: هو جائز.. وللمستصنع الخيار إذا رآه مفروغًا منه) (7) .
وواضح من أقوال هؤلاء الأئمة أن القياس لا يجوز به الاستصناع، لأنه بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم.
__________
(1) هو "زفر" بن هذيل بن قيس العنبري البصري صاحب أبي حنيفة, ولد سنة 110هـ، وتوفي سنة 158هـ.
(2) انظر فتح القدير: 5/355.
(3) انظر عقد الاستصناع: ص95، نقلًا عن مخطوطة جامع الصدر الشهيد في ترتيب الجامع الصغير: 1/63
(4) بدائع الصنائع: 6/2678
(5) شرح فتح القدير: 5/355
(6) تحفة الفقهاء: 2/538
(7) عقد الاستصناع: ص96، نقلًا عن مخطوطة الإشراف، لأبي بكر بن المنذر: ص27 ومابعدها(7/1073)
ويكون الجواز عندهم بالاستحسان، ووجه الاستحسان:
- إجماع الناس على ذلك، لأنهم يتعاملون بذلك في سائر الأعصار. وقد ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (.. فما رأى المسلمون حسنًا فعند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء) (1) .
والقياس يترك بالإجماع، ولهذا ترك القياس في دخول الحمام بالأجر، من غير بيان المدة، ومقدار الماء الذي يستعمل، وفي شراء البقل وغيره من المحقرات.
- ولأن الحاجة تدعو إليه، لأن الإنسان قد يحتاج إلى خف أو نعل، من جنس مخصوص، ونوع مخصوص، وعلى قدر مخصوص، وصفة مخصوصة، قلما يتفق وجوده مصنوعًا، فيحتاج إلى أن يستصنع، فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج (2) .
قال الإمام القسطلاني في تناوله لحديث الخياط: (إن فيه جواز الإجارة على الخياطة ردًّا على من أبطلها بعلة أنها ليست بأعيان مرئية، ولا صفات معلومة.
وفي صنعة الخياطة معنى ليس في سائر ما ذكره البخاري من ذكر القيمة، والصائغ والنجار، لأن هؤلاء الصناع إنما تكون منهم الصنعة المحضة بما يستصنعه صاحب الحديد والخشب والفضة والذهب، وهي أمور من صنعة يوقف على حدها، ولا يخلط بها غيرها.
والخياط إنما يخيط الثوب في الأغلب بخيوط من عنده، فيجتمع إلى الصنعة الآلة، وإحداها معناه النجارة، والأخرى الإجارة، وحصة إحداهما لا تتميز من الأخرى، وكذلك هذا في الخراز والصباغ إذا كان بخيوطه، ويصبغ هذا بصبغه على العادة المعتادة فيما بين الصناع. وجميع ذلك فاسد في القياس. إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم وجدهم على هذه العادة أول زمن الشريعة فلم يغيرها.
إذ لو طولبوا بغيره لشق عليهم فصار بمعزل عن موضع القياس، والعمل به ماض صحيح لما فيه من الإرفاق (3)
وقد خرج الجواب عن القول بأنه معدوم:
- لأنه ألحق بالموجود لمساس الحاجة إليه، كالمسلم فيه، فلم يكن بيع ما ليس عند الإنسان على الإطلاق.
- ولأن فيه معنى عقدين جائزين، وهو السلم والإجارة، لأن السلم عقد على مبيع في الذمة، واستئجار الصناع يشترط فيه العمل، وما اشتمل على معنى عقدين جائزين، كان جائزًا (4) .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده: 1/379
(2) أنظر أحكام المعاملات المالية في المذهب الحنفي: ص557
(3) انظر إرشاد الساري، للقسطلاني: 5/66 و 67
(4) انظر أحكام المعاملات المالية في المذهب الحنفي: ص557، وانظر بدائع الصنائع: 6/2678(7/1074)
هذا ما يتصل بأدلة الجواز من الإجماع العملي، والاستحسان، وأما من رأى أن حكم جواز الاستصناع يعتمد - قبل ذلك - على السنة فيذكرون في ذلك حديثين:
أولهما حديث استصناع الرسول صلى الله عليه وسلم خاتمًا (1) .
وهذا ما جعل شارح المجلة العدلية يقول: الاستصناع (ثبتت مشروعيته بالسنة وإجماع الأمة) ، (أما السنة فقد استصنع النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم) (2) .
ثانيهما: ما روي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم استصنع المنبر، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي حازم قال: (أتى رجال سهل بن سعد يسألونه عن المنبر، فقال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة امرأة قد سماها سهل: أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن إذا كلمت الناس، فأمرته بعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء فأرسلت إلى رسول صلى الله عليه وسلم بها فأمر بها فوضعت فجلس عليه) .
وفي رواية أخرى بصحيح البخاري - أيضًا - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (أن امرأة من الأنصار قالت لرسول لله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه، فإن لي غلامًا نجارًا، قال: "إن شئت" فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر الذي صنع..) (3) .
قال القسطلاني في تعقيبه على الروايتين: (يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغها أنه يريد عمل المنبر، فلما بعث إليها بدأته بقولها: ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه؟ فقال لها: "مري غلامك" فعملت له المنبر) . (4) .
غير أن الاستدلال بحديث المنبر على الاستصناع، واعتباره من أدلة السنة في الجواز لم يكن محل اتفاق من العلماء، فهل تم الاستصناع فيه بالمعنى اللغوي من طلب الصنعة؟ أم هو هدية من صانعه للنبي صلى الله عليه وسلم؟
__________
(1) شرح فتح القدير: 5/355
(2) انظر درر الحكام: 1/358، وانظر الاعتبار: ص231 و 232
(3) انظر فتح الباري: 4/268، وإرشاد الساري: 5/67، 68.
(4) انظر فتح الباري: 4/268، وإرشاد الساري: 5/67، 68.(7/1075)
أما حديث استصناع الرسول صلى الله عليه وسلم للخاتم فيصح الاستدلال به، مع مراعاة أن صاحب الاعتبار، والذي ذكر هذا الحديث، قد أورده في بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار (روي عن نافع عن عبد الله أن رسول صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب، وكان يجعل فصه إلى باطن كفه، إذا لبسه، فصنع الناس، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه، وقال إني كنت ألبس هذا الخاتم، وأجعل فصه من داخل، فرمى به، ثم قال لا والله لا ألبسه أبدًا، فنبذ الناس خواتيمهم) . عقب صاحب الاعتبار على الحديث بقوله: (هذا حديث صحيح ثابت، وله طرق في الصحاح في كتابيهما من عدة طرق) (1) .
وقد وردت الأحاديث الصحيحة في تحريم الذهب على الرجال، ومنه الخاتم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيطرحها في يده) . (فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به؟ فقال: لا والله لا آخذه، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم) . [رواه مسلم] .
وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلًا قدم من نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه خاتم من ذهب، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنك جئتني وفي يدك جمرة من نار" [رواه النسائي] (2)
__________
(1) انظر الاعتبار ص: 231 - 233
(2) انظر المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب: 2/615، حديث 1216 وحديث 1217.(7/1076)
هل الاستصناع مواعدة أم بيع؟
وبعد تعريف "الاستصناع" لغة واصطلاحًا وبيان حكمه نجد هذا التساؤل الذي أثاره اتجاه بعض الفقهاء في اعتبار "الاستصناع" مواعدة، في حين اعتبره الجمهور عقد بيع.
فإذا طلب إنسان من صانع أن يصنع له شيئا، واتفق على وصفه وقدره، وزمنه، وثمنه بين الطرفين فهل يسمى هذا مواعدة، أم عقدًا؟
وبمعنى آخر هل قبول الصانع لما قاله المستصنع يعد وعدًا منه، إن وفى به كان مأجورًا ومثابًا على الوفاء، وإلا كانت فيه خصلة من النفاق، دون أن يترتب على عدم الوفاء أثر قضائي؟
إن ضرورة الاستصناع في حياة الناس، وحاجتهم إليه تجعل وجهة الجمهور. والتي سنفصل القول في أدلتها - إن شاء الله - محل تقدير واعتبار، لأن ترك هذا الوفاء الصانع يتبعه فوات مصلحة المستصنع، وضياع ماله، فهو يطلب شيئًا بمواصفات خاصة ويدفع مالًا، ويوافق الصانع على ذلك وهذه عناصر العقد التي تتبع بالإلزام، ويترتب عليه الضمان، كما يكون معه الشرط الجزائي الي يعين كلا الطرفين على الوفاء، وإلا ضاعت الثقة بين الناس وخاصةً عندما يكثر الطلب على الصناع، وأمام إغراء المال، تقبل الطلبات، وتعطى الوعود، دون صدق فيها، ودون إتقان يفي بالمواصفات. وإذا كان الشرط الجزائي لم يكن معروفًا بهذا الاسم من قبل، فإن معناه كان متبعًا في القرون الفاضلة.
فقد روى البخاري رحمه الله بسنده عن ابن سيرين أن رجلًا قال لكريه: (أدخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا أو كذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه) .
وقال أيوب: عن ابن سيرين أن رجلًا باع طعامًا وقال: (إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجىء فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه) (1)
__________
(1) 1 انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 5/262.(7/1077)
ويقول الأستاذ الزرقاء: (في أواخر العهد العثماني اتسعت في الدولة التجارة الخارجية مع أوروبا، وتطورت أساليب التجارة الداخلية، والصنائع، وتولدت في العصر الحديث أنواع من الحقوق لم تكن معهودة.. واتسعت مجالات عقود الاستصناع في التعامل بطريق الإيصاء على المصنوعات مع المعامل والمصانع الأجنبية.. وقد ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه.. ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح الفقه الأجنبي (الشرط الجزائي) (1) .
ولذلك فإن القول بأن الاستصناع مواعدة ليس محققًا لمهمة الاستصناع في حياة الناس من ناحية، وليس موافقًا لطبيعة الاستصناع من ناحية أخرى.
والذي قال بأنه مواعدة جماعة من الحنفية منهم: الحاكم الشهيد (2) ، والصفار (3) ، ومحمد بن سلمة (4)
إلا أن كلام الحاكم الشهيد، والذي ذكره السرخسي في المبسوط يدل على أنه لم يقل بأنه مواعدة بإطلاق، وإنما يفيد كلامه أنه يبدأ مواعدة وينتهي عقدًا بالتعاطي والفراغ من العمل فيقول السرخسي: (وكان الحاكم الشهيد يقول: الاستصناع مواعدة.. وإنما ينعقد العقد بالتعاطي إذا جاء به مفروغًا منه.. ولهذا ثبت فيه الخيار لكل واحد منهما) (5)
__________
(1) انظر المدخل الفهقي العام، للأستاذ الزرقاء: ص386
(2) وهو أبو الفضل محمد بن محمد بن أحمد المروزي، الوزير العالم الكبير، ولي القضاء في بخارى، قتل شهيدًا سنة 334هـ، طبقات الفقهاء لطاش كبرى زادة: ص57.
(3) وهو أبو القاسم الصفار البلخي، توفي سنة 339هـ، طبقات الفقهاء لطاش كبرى زادة: ص64
(4) وهو أبو عبد الله بن محمد بن سلمة، روى عنه زفر، توفي سنة 268هـ، طبقات الفقهاء لطاش كبرى زادة: ص45.
(5) المبسوط 12/138.(7/1078)
والذي دعا هؤلاء إلى القول بأنه مواعدة ما يلي:
أولًا أن الصانع له أن لا يعمل.. وبذلك كان ارتباطه مع المستصنع هو ارتباط وعد لا عقد.. لأن كل ما لا يلزم الإنسان به مع التزام نفسه يكون وعدًا لاعقدًا، لأن الصانع لا يجبر على العمل بخلاف السلم فإنه مجبر بما التزم به (1)
ثانيًا: أن المستصنع له الحق في عدم تقبل ما يأتي له الصانع من مصنوع، وله أن يرجع عما استصنعه قبل تمامه ورؤيته.. وهذا علامة أنه وعد لا عقد.. لهذا قال أبو اليسر: (إن الخيار ثابت لكل واحد منهما (الصانع والمستصنع) (2)
وبهذين الدليلين يرى أصحاب هذا القول بالمواعدة أن الاستصناع وعد بالبيع لا عقد مبيع.
ولم ينس هؤلاء أن يردوا على الجمهور قولهم بأنه يكون مبيعًا فقالوا: المعدوم لا يصلح أن يكون مبيعًا.
وقالوا كذلك: العقود في المعاملات لا يبطلها موت أحد طرفيها. فكيف ساغ القول بأنه عقد مع بطلانه بموت الصانع؟
فهذه أدلة القائلين بالمواعدة واعتراضاتهم، وقد تناولها القائلون بأنه عقد فردوا عليها، ثم قدموا أدلتهم، على النحو التالي:
أولًا: ما قاله أبو اليسر - بأن إثبات الخيار لكل من الصانع والمستصنع يدل على أنه وعد - غير صحيح، فهو لا يدل على أنه غير بيع، ألا ترى أن في بيع المقايضة لو لم ير كل من العاقدين عين الآخر كان لكل منهما الخيار، فلم يخرجه إلى أن يكون وعدًا.
ثانيًا: القول بأنه وعد لأن الصانع له أن لا يعمل، وللمستصنع الخيار في أن لا يقبل الشيء المصنوع، كل ذلك وارد في غير عقد الاستصناع. فالاستصناع لا يعتبر عقدًا نافذًا ملزمًا إلا ساعة أن يتم الصانع ما طلب منه وفق المواصفات التي اشترطها المستصنع.. ورأى المستصنع ذلك الشيء بعينه ورضي.. عند ذلك يتم الاستصناع فلا خيار لواحد منهما فأما ما ذكر فهو وارد على أمور أخرى غير الاستصناع. (3)
__________
(1) انظر عقد الاستصناع: ص80.
(2) فتح القدير: 5/355.
(3) انظر فتح القدير: 5/355، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/198، وعقد الاستصناع: ص82(7/1079)
ثالثًا: والقول بأن المعدوم لا يصلح أن يكون بيعًا، فإن المعدوم قد يعتبر موجودًا حكمًا كالناسي للتسمية عند الذبح، فإن التسمية جعلت موجودة لعذر النسيان، والطهارة للمستحاضة جعلت موجودة لعذر جواز الصلوات لئلا تتضاعف الواجبات. فكذلك المستصنع فيه المعدوم جعل موجودًا حكمًا للتعامل الجاري بين الناس.
فإذا قيل: إن هذا إنما يصح أن لو كان المعقود عليه هو العين المستصنع، والمعقود عليه هو الصنع في الاستصناع، وليس هو العين.
فإن الجواب قاله صاحب الهداية (1) : (إن المعقود عليه هو العين دون العمل، حتى لو جاء به مفروغًا لا من صنعته، أو من صنعته، قبل العقد، فأخذه جاز) .
رابعًا: والقول بأنه يبطل بموت الصانع، والعقود في المعاملات لا يبطلها موت أحد طرفيها، فإن الجواب عن ذلك: بأن الاستصناع إنما يبطل بموت الصانع لشبهه بالإجارة. فهو لهذا الشبه قلنا بأنه يبطل بموت الصانع، وهذا لا يمنع أن يكون عقدًا (2) . وهذا إذا كان الصانع فردًا، أما إذا كان مصنعًا، أو مؤسسة، فلا وجه لهذا.
خامسًا: من الأدلة على أن الاستصناع عقد أن الصانع يملك الدراهم بقبضها، وما دام يقبضها فهو عقد.. لأن المواعدة على شيء لا يملك الدراهم بقبضها، وبالاستصناع يملكها ملكًا غير لازم عند جمهور فقهاء الحنفية (3)
سادسا: ومن الأدلة - كذلك - أنه قد أجريت في الاستصناع القياس والاستحسان.. ونحن نعرف أن الوعد لا يحتاج إلى إثبات الاستدلال به إلى إجراء القياس والاستحسان.. فقد ثبت العمل بالوعد بالنص (4) والإجماع.
سابعًا: ومن الأدلة - كذلك - أن الاستصناع يثبت فيه خيار الرؤية، والوعد لا يحتاج إلى إثبات الخيار (5)
ثامنًا: ومن الأدلة - كذلك - أن الاستصناع يجري فيه التقاضي.. والتقاضي إنما يثبت في الواجب بالعقود لا بالوعود.. فإذا ما وعد شخص آخر لا يؤدي عدم الوفاء بذلك الذهاب للقضاء، وإقامة الدعوى، وإنما الذي يكون كذلك فيما هو واجب بالعقد بينهما (6)
تاسعًا: أن الصانع في الاستصناع يجبر على عمله، والمواعد على الشيء لا يجبر على ما وعد به إلا من باب الوفاء بالوعد - إن استطاع ذلك - أما الذي تعاقد في الاستصناع فإنه يجبر على صنع ما تعاقد عليه فإن لم يستطع يمكن أن يطلب من صانع آخر أن يتم عمله (7) .
__________
(1) انظر الهداية: 5/355
(2) الفتاوى الغياثية: ص151
(3) انظر حاشية الطحاوي: 3/126، وفتح القدير: 5/355
(4) كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".
(5) انظر بدائع الصنائع: 6/2677، والمبسوط: 12/138
(6) انظر بدائع الصنائع: 6/2677، والمبسوط: 12/138
(7) انظر درر الحكام: 2/198، وانظر عقد الاستصناع: ص83(7/1080)
عاشرًا: أن المستصنع لا يرجع عما طلب، ولا يجوز له أن يرجع، لأنه إن تعاقد لا يحق له أن يرجع عن ذلك، لأن التراجع له ضرر كبير على الصانع بتضييع المادة الخام بناء على أمر من المستصنع، فإن رجع فقد لا يشتريه أحد لعدم موافاته للشروط التي يطلبها هذا الأخير (1)
كما أن المستصنع إذا رأى المطلوب صنعه (المستصنع فيه) فهو بالخيار، لأنه (اشترى ما لم يره) ، فالقول بأنه اشترى ما لم يره دليل على أنه يريد به ذلك المستصنع، واعتباره شراء دليل على أنه عقد. (2)
لذلك، فالتسمية لعملية التعاقد بالشراء شيء واضح على أنه يراد به أنه ليس بوعد، والشراء إذا أطلق يراد به عملية التعاقد بالبيع، وأيضًا، فإن الشراء بيع، لأنه من الأضداد.
ومن جملة ما سبق من أدلة الفريقين يظهر لنا بوضوح أن أدلة القائلين بأن الاستصناع عقد وليس بوعد أقوى، وهي أجدر بالقول والحكم، تحقيقًا لما يراد من الاستصناع في تحقيق منفعة الطرفين، المستصنع، والصانع، مع التزامهما بما اتفقا عليه بينهما، دون تراجع يفسد مصلحة أحدهما، ودون إخلال بالمواصفات، أو تضييع للحقوق.
كما أن توصيف الاستصناع بأن عقد يضمن للناس تقدمًا وتطورًا مستمرًّا في الحركة الصناعية تلبي رغبات الناس المتجددة والنامية.
__________
(1) درر الحكام: 2/198
(2) انظر فتح القدير: 5/355(7/1081)
هل هو عقد بيع ما ليس عنده؟
وإذا توصلنا إلى اعتبار " الاستصناع " عقد بيع، وليس بوعد، بقي أن نناقش علاقة الاستصناع ببيع ما ليس عند المرء. وتعود هذه المسألة إلى أن المال المستصنع ليس موجودًا بصفته المطلوبة وقت التعاقد.
فهل يجري على الاستصناع بهذا المعنى ما ورد في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي، أبتاع له من السوق، ثم أبيعه؟ قال: "لا تبع ما ليس عندك".
وفي لفظ آخر عن حكيم بن حزام قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع ما ليس عندي (1)
والصورة المذكورة في حديث حكيم هي أن يبيع المرء للناس أشياء لا يملكها، ويأخذ الثمن منهم، ثم يذهب إلى السوق ليشتري هذه الأشياء.
ولا يخفى ما في هذه الصورة من المخاطرة والغرر، فقد لا يجد الشيء المراد في السوق ولذلك يقول شمس الدين بن قدامة: (لا يجوز بيع ما لا يملكه ليمضي فيشتريه ويسلمه، رواية واحدة، وهو قول الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفًا (2)
فالنهي عن بيع ما ليس عند الإنسان يرتبط بالغرر والجهالة، وهذا يؤدي إلى المنازعة بين الناس، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيوع التي تحقق فيها هذا الغرر، فروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الغرر) .
والغرر ما انطوى عنه أمره، وخفيت عليه عاقبته.
__________
(1) انظر عارضة الأحوذي بشرح الترمذي: 5/241، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
(2) الشرح الكبير مع المغني: 4/19(7/1082)
ومن هذا الوجه النهي عن بيع نتاج النتاج كأن يقول البائع: بعت ولد ولد هذه الناقة، وكذلك بيع الحمل.
وقال الشوكاني: ومن جملة بيع الغرر: بيع السمك في الماء.
فهل صورة عقد الاستصناع لا غرر فيه، لأنه معلوم وموصوف، ومقدور التسليم بحكم العادة، وما تعارف عليه الناس، وتقديرهم لخبرة الصناع، فأسباب الغرر منتفية، والشيء ولو أنه غير موجود وقت العقد إلا أنه مقدور عليه بما وصف به، وبما عرف من إمكانية إنجاز الصانع له؟
ويعالج ابن القيم رحمه الله هذه المسألة في بيانه لحكم بيع المعدوم عند العقد فيرى أن بيع المعدوم جائز إذا لم يكن فيه غرر، وعزا هذا الرأي إلى عدم ورود دليل من الكتاب، ولا من السنة، ولا من أحد الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بعموم لفظ، ولا العموم معنى، وإنما ورد النهي عن بيع الأشياء التي هي معدومة، كما ورد النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة، وإلى أن الشارع أورد نصًّا بجواز بعض المعدوم كبيع الثمر بعد بدو صلاحه مستحق الإبقاء إلى كمال الصلاح.
والخطر هو للغرر لا للعدم فيقول:
(أما المقدمة الثانية وهي أن بيع المعدوم لا يجوز، فالكلام عليها من وجهين:
أحدهما: منع صحة هذه المقدمة إذ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كلام أحد الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي عن بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع، لا العدم ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودًا أو معدومًا، كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد، وإن كان موجودًا، إذ موجب البيع تسلم المبيع، فإذا كان البائع عاجزًا عن تسليمه فهو غرر ومخاطرة وقمار، فإنه لا يباع إلا بوكس، فإن أمكن المشتري تسلمه كان قد قمر البائع، وإن لم يمكنه ذلك قمره البائع، وهكذا المعدوم الذي هو غرر، نهي عنه للغرر لا للعدم، كما إذا باعه ما تحمل هذه الأَمَة، أو هذه الشجرة، فالمبيع لا يعرف وجوده ولا قدره، ولا صفته.
وهذا من المَيْسِر الذي حرمه الله ورسوله، ونظير هذا في الإجارة أن يكون دابة لا يقدر على تسليمها سواء كانت موجودة أو معدومة، وكذلك في النكاح إذا زوجه أَمَةً لا يملكها، أو ابنة لم تولد له، وكذلك سائر عقود المعاوضات، بخلاف الوصية فإنها تبرع محض، فلا غرر في تعلقها بالموجود والمعدوم، وما يقدر على تسليمه إليه وما لا يقدر.
ثانيهما: أن نقول: بأن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه، والحب بعد اشتداده، ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود، والمعدوم الذي لم يخلق بعد.
والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعه قبل بدو صلاحه، وأباحه بعد بدو الصلاح) (1)
__________
(1) في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع) ، رواه جماعة إلا الترمذي. انظر منتقى الأخبار مع نيل الأوطار: 5/195؛ وانظر أعلام الموقعين: 1/462 و 463.(7/1083)
عقد الاستصناع وعقد السلم
لقد تعرفنا على موقف العلماء من عقد الاستصناع في تعريفهم له، وكيف تناوله المالكية والشافعية والحنابلة بإدخال مسائلة في عقد السلم، أو في البيع بالصفة، أو تشبيهه بالسلم.
فما صلة "الاستصناع" "بالسلم"؟
لقد مر بنا ما ذكره ابن رشد ملخصًا موقف المالكية في ربط الاستصناع بالسلم فذكر من مباحث السلم: السلم بالصناعات (1)
وكذلك ما ذكر في الأم (2) من تقسيم الشافعي للسلم بالصناعات إلى قسمين:
الأول: ما كان من مادة خام واحدة ما عدا المادة المزيتة.
والثاني: ما كان من مادتي خام فأكثر ما عدا المادة المزيتة.
وإذا كان المالكية قد شبهوا الاستصناع بالسلم، والشافعية قد أدخلوه في مباحث السلم، فإن الحنابلة قد ذكروا السلم في الصناعات.
وأما الحنفية فقد رأينا كيف عدوا الاستصناع عقدًا مستقلًّا، وفي تعريفهم له وجدنا ما يميزون به بين العقدين، ففي (اشتراطهم للعمل في الاستصناع تمييز له عن السلم، إذ أن السلم هو بيع آجل بعاجل) (3) . ففي بيع في الذمة.
وقيل: هو أخذ ثمن عاجل بآجل (4) ، والاستصناع لا يشترط فيه أخذ الثمن عاجلًا (5) .
ويميز السرخسي بينهما عندما يذكر أن البيوع أربعة: بيع عين بثمن، وبيع دين في الذمة بثمن، وهو السلم، وبيع عمل، العين فيه تبع، وهو الاستئجار للصناعة ونحوهما، فالمعقود عليه الوصف الذي يحدث في المحل بعمل العامل، والعين هو الصبغ بيع فيه، وبيع عين شرط فيه العمل، وهو الاستصناع، فالمستصنع فيه مبيع عين (6)
فالسرخسي ميز بين هذه البيوع ولكنه في الوقت نفسه ساوى بين السلم والاستصناع في كونه بيعًا، ولكن له اسم مستقل وشروط خاصة به (7)
__________
(1) المقدمات الممهدات: 2/32.
(2) انظر الأم: 2/116.
(3) فتح القدير: 5/323
(4) حاشية سعدي جلبي مع فتح القدير: 5/323
(5) انظر عقد الاستصناع: ص60
(6) انظر المبسوط: 15/84.
(7) انظر عقد الاستصناع: ص128(7/1084)
كما أن المسلم فيه مبيع وهو دين، ورأس المال، وهو الثمن قد يكون عينًا، وقد يكون دينًا، ولكن قبضه شرط قبل افتراق العاقدين بأنفسهما فيصير عينًا.
أما في الاستصناع فلا يشترط فيه القبض عند أكثر الفقهاء، كما أن السلم لا يشترط أن يكون المسلم فيه مصنوعًا، بل في الغالب يكون طعامًا، أو حيوانًا، أو غير ذلك، ولا يشترط فيه الصنع.
أما الاستصناع فيشترط فيه الصنع، والشرط يقع على عمل في المتسقبل لا في الماضي (1) .
وإذا تتبعنا ما ذكر لدى فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة وجدنا الحديث عن الاستصناع بما عرفناه به، وبما عرفه به الحنفية يأخذ مصطلح السلم.
فلو أعطى للصانع الذي يصنع الآجر، أو الجيار ثمن شيء معلوم، وأخذ منه حالًّا، أو إلى أجل قريب أو بعيد لجاز ذلك على أنه سلم (2)
واستصناع السيف، أو السرج، أو الثوب، أو الباب، ونحو ذلك من حداد أو سروجي، أو حائك، أو نجار على صنعة معلومة، وبثمن معلوم جائز. وهو سلم يشترط فيه شروطه المعروفة (3)
وهكذا نجد ما يذكر في عقد الاستصناع قد أخذ مصطلح السلم لدى المالكية.
ويضيف الإمام الشافعي رحمه الله، ومن تبعه من الشافعية في الحديث عن السلم بالصناعات ما يفيد اشتراط الضبط في المبيع، حتى لا يكون فيه غرر.
فيجوز السلم في كل مال يجوز بيعه، وتضبط صفاته (4)
ومثل الشيرازي في المهذب بأشياء تدل على أنها لا تباع إلا بعد صنعها كالفخار، كما جوز التعامل بالورق المصنوع، لأنه معلوم القدر، ومعلوم الصفة، كما يجوز فيما صبغ غزله ثم نسج لأنه بمنزلة صبغ الأصل (5)
ويقول الشيرازي: واختلف أصحابنا في الثوب المعمول من غزلين، فمنهم من قال: لا يجوز، لأنهما جنسان مقصودان، لا يتميز أحدهما عن الآخر فأشبه الغالية.
ومنهم من قال: يجوز، لأنهما جنسان يعرف قدر كل واحد منهما.
__________
(1) انظر بدائع الصنائع: 6/2677، وانظر عقد الاستصناع: ص61.
(2) حاشية المدني على الرهوني: 3/252.
(3) الشرح الصغير، للدردير: 3/287
(4) المهذب، للشيرازي: 1/297
(5) المهذب، للشيرازي: 1/297(7/1085)
ويقول النووي: يجوز السلم في الكاغد عددًا، ويبين نوعه وطوله (1) ، وفي تحقيق الضبط والدقة يذكر النووي ما يكون من جواز السلم فيما يصب منها في القالب لعدم اختلافه.
وما يكون - كذلك - في صنع الثياب بذكر جنس الخيط كأن يكون من إبريسم، أو قطن، أو كتان، والنوع، والبلد الذي ينسج فيه، إن اختلف به الفرض، كما يجوز السلم في القمص والسراويلات إذا ضبطت طولًا وعرضًا، وسعة وضيقًا.
وتمتد الدقة في ذكر ما يضبط المصنوعات لتأخذ حكم الجواز لنجد اتساع ذكر المصنوعات التي وجدت في عصرنا فيذكر الأستاذ المطيعي في تكملته للمجموع، مجموعة من الصناعات الحديثة، وجوز التعامل بها على أساس طلب الصنعة، وأعطاها حكم السلم، كالثلاجة، والغسالة، والمذياع، والمحركات بأنواعها (2)
وما وجه إليه الشافعية من مراعاة الضبط الذي لا يكون معه غرر قد وجد سبيله في الصناعات المعاصرة بذكر مواصفات كل سلعة، وخصائصها، ويبقى مراعاة الأمانة وعدم الوقوع في الغش التجاري.
وأما مسألة اختلاط المواد الخام واعتبار الاختلاط نافيًا للضبط، فإن هذا قد ضبطت مقاديره لتقدم الصناعات ومعرفة طرق القياس بحيث يستطيع الإنسان أن يقدر السلعة المصنوعة بنسبها، دون اضطراب في التقدير.
وما قاله صاحب المهذب بأنه لا يجوز السلم فيما يجمع أجناسًا مقصودة لا تتميز كالغالية بسبب أن الغالية تكون عادةً من عدة مواد خام كالكافور والعنبر المخلوط بماء الورد يصبح - الآن - مضبوطًا بمعرفة نسب المكونات، وما يترتب عليها، وعلى ذلك يتغير الحكم لزوال العلة إلى الجواز.
ونجد عند الحنابلة التأكيد على الضبط في السلم بالصناعات كذلك، فهم يجوزون السلم في كل ما يوزن ويكال مما يضبط بالصفة التي تختلف الأثمان باختلافها (3) ، وكذلك يجوزون بيع المذروع من الثياب والخيوط، والثوب المختلف الغزول كقطن وإبريسم، أو قطن وكتان، "فإنه يجوز بيعها من طلب الصنعة بشرط ضبطها" (4) . وذلك بأن يقول: السدى: "إبريسم" واللحمة: "كتان" (5) ، ونحوه.
وبعد ذكر أقوال العلماء في الاستصناع وإلحاقه بمباحث السلم يحسن أن نذكر شيئًا يسيرًا يوضح معناه ودليل مشروعيته حتى يتضح وجه الربط بين "الاستصناع" و "السلم".
__________
(1) روضة الطالبين: 4/28
(2) تكملة المجموع: 13/130
(3) انظر المغني: 4/356
(4) كشف القناع: 3/377
(5) انظر المغني: 4/366؛ وانظر عقد الاستصناع: ص115(7/1086)
السلم:
قال أهل اللغة: السلف والسلم، وأسلم وسلم، وأسلف وسلف.
وقال الماوردي: إن "السلف" لغة أهل العراق، و "السلم" لغة أهل الحجاز (1)
وقال القرطبي في تفسيره: حد علماؤنا - رحمة الله عليهم - فقالوا: هو بيع معلوم في الذمة، محصور بالصفة، بعين حاضرة، أو ما هو في حكمها، إلى أجل معلوم (2)
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يسلفون الثمار: السنة والسنتين، فقال: ((من أسلف في ثمر، فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) (3)
فالسلم من البيوع الجائزة بالاتفاق، مستثنى من نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع ما ليس عندك، وأرخص في السلم، لأن السلم لما كان بيع معلوم في الذمة، كان بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتابعين؛ فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج، فلو جاز حالًا بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة.
فحكم السلم - إذن - الجواز، ودليل ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب فهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الآية.
قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السلم خاصة.
وقال ابن قدامة بعد ذكر هذه الآية: وروى سعيد بإسناده عن ابن عباس أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أصله الله في كتابه وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية.
وأما السنة، فقد ذكرنا منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "من أسلف…." وهو حديث متفق عليه.
وروى البخاري عن محمد بن أبي المجالد قال: أرسلني أبو بردة وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى، فسألتهما عن السلف، فقالا: نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة، والشعير، والزيت، فقلت: أكان لهم زرع، أم لم يكن لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك.
وأما الإجماع، فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن السلم جائز، ولأن المثمن في البيع أحد عوض العقد، فجاز أن يثبت في الذمة كالثمن، ولأن بالناس حاجة إليه، لأن أرباب الزرع، والثمار، والتجارات، يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكمل، وقد تعوزهم النفقة، فجوز لهم السلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص (4)
__________
(1) انظر السراج الوهاج: 6/92
(2) انظر مواهب الجليل: 3/342
(3) صحيح مسلم بشرح النووي: 11/41
(4) انظر مواهب الجليل: 3/344(7/1087)
عقد الاستصناع وعقد الإجارة
للاستصناع شبه بالإجارة في طلب الصنع، وهو العمل (1) ، جعل بعض العلماء يقولون إن الاستصناع "إجارة محضة" (2)
وربطوا بين الاستصناع وبين فعل الصباغ، فإن فعل الصباغ هو: الصبغ "العمل" في العين بصبغها، وأن ذلك هو نظير الاستصناع، وإن عمل الصباغ إجارة محضة.
ولكن يفترق الاستئجار على الصبغ عن الاستصناع.
فالصبغ، وهو عمل الصباغ إجارة وردت على العمل في عين يملكها المستأجر، أما الاستصناع فالأصل فيه هو العين المستصنع المملوك للصانع فيكون ما حدث بين الصانع والمستصنع هو بيع، ولما لم يكن للبيع وجود من حيث وصفه إلا بالعمل فأشبه العقد - هنا - الإجارة في حكم واحد لا غير، ولذلك افترق عمل الأجير عن الاستصناع.
ولكي يكون التفريق بين "الاستصناع" و "الإجارة" واضحًا سأذكر تعريفًا وبيانًا موجزًا بحقيقة الإجارة وحكمها وآدابها، ثم نذكر ما بينها وبين الاستصناع من فروق.
الإجارة:
والإجارة بيع منافع معلومة بعوض معلوم، وهي معاوضة صحيحة يجري فيها ما يجري في البيوع من الحلال والحرام.
وقال القرافي في الذخيرة: يقال: آجر - بالمد والقصر - وأنكر بعضهم المد، وهو منقول، قال: ولما كان أصل هذه المادة الثواب على الأعمال، وهي منافع، خصصت الإجارة ببيع المنافع على قاعدة العرف في تخصيص كل نوع تحت جنس باسم، ليحص التعارف عند الخطاب.
وقال: وقد غلب وضع الفِعالة - بالكسر - للصنائع نحو: الصناعة، والخياطة، والتجارة ونحو ذلك.
والفَعالة - بالفتح - لأخلاق النفوس نحو: السماحة، والشجاعة والفصاحة، ونحو ذلك.
والفُعالة - بالضم - لما يطرح من المحقرات نحو: الكناسة، والقلامة، والفضالة، والنخالة، ونحو ذلك (3)
وقال في اللباب: حقيقة الإجارة تمليك منفعة غير معلومة، زمنًا معلومًا، بعوض معلوم، وقال: وقد خص تمليك منفعة الآدمي باسم الإجارة، ومنافع الممتلكات باسم الكراء، قال: وحكمها الجواز ابتداء، واللزوم بنفس العقد ما لم يقترن به ما يفسدها.
__________
(1) انظر العناية مع فتح القدير: 5/355، وابن عابدين في حاشيته: 5/224
(2) انظر العناية مع فتح القدير: 5/356
(3) انظر مواهب الجليل: 4/121(7/1088)
قال: وحكمة مشروعيتها التعاون ودفع الحاجات، وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (1)
قال سليمان الجمل في حاشيته على الجلالين: أي ليستعمل بعضهم بعضًا في حوائجهم، فيحصل بينهم تآلف وتضام، وينتظم بذلك نظام العالم، لا لكمال في الموسع عليه، ولا لنقص في المقتر عليه، قال: وعبارة الخطيب: ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا) ، فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم سببًا لمعاش بعض، هذا بماله، وهذا بأعماله، فليتئم قوام العالم، لأن المقادير لو تساوت لتعطلت المعايش (2)
وقال القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (3)
قال: فيه دليل على صحة جواز الإجارة، وهي سنة الأنبياء والأولياء.
وفي السنن الكبرى للبيهقي باب جواز الإجارة، قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (4)
فأجاز الإجارة على الرضاع.
وقال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (5)
قال الشافعي: فذكر الله أن نبيًّا من أنبيائه آجر نفسه حججًا مسماة ملك بها بضع امرأة، فدل ذلك على تجويز الإجارة.
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلًا من بني الدِّيل، هاديًا خريتًا، وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال) ، هذا لفظ البغوي، والحديث في صحيح البخاري باب: استئجار المشركين عند الضرورة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم)) ، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعى على قراريط لأهل مكة " أخرجه البخاري في صحيحه في أول الإجارة.
ودليل الإجارة كالبيع، ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: باب لا تجوز الإجارة حتى تكون معلومة، وتكون الأجرة معلومة استدلالًا بما روينا في كتاب البيوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر، والإجارات صنف من البيوع، والجهالة فيها غرر، ثم ساق سندًا إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يساوم الرجل على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تناجشوا، ولا تبايعوا بإلقاء الحجر، ومن استأجر أجيرًا فليعلمه أجره)) .
__________
(1) سورة الزخرف: الآية 32
(2) انظر مواهب الجليل: 4/121
(3) سورة الكهف: الآية 77
(4) سورة الطلاق: الآية6.
(5) سورة القصص: الآية 26(7/1089)
قال: ورواه حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير، يعني حتى يبين له أجره.
واستشهد ابن قدامة في المغني بهذا الحديث - كذلك - فقال: يشترط في عوض الإجارة كونه معلومًا، لا نعلم في ذلك خوفًا، وذلك لأنه عوض في عقد معاوضة، فوجب أن يكون معلومًا كالثمن في البيع، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره)) .
وفي المقدمات لابن رشد: لا تجوز الإجارة إلا بأجرة مسماة، معلومة، وأجل معروف، أو ما يقوم مقام الأجل من المسافة فيما يحمل، أو توقيت العمل فيما يستعمل، وعمل موصوف، أو عرف في العمل والخدمة، يدخل عليه المتاجرون فيقوم ذلك مقام الصفة، يدل على ذلك قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] .
قال: فسمى الأجرة وضرب الأجل، ولم يصف الخدمة والعمل، لأن العرف والعادة أغنياهما عن ذلك.
قال: وقال صلى الله عليه وسلم: ((من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من استأجر أجيرًا فليؤجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم)) . فأمر بتسمية الأجر، وضرب الأجل، وسكت عن وصف العمل، إذ قد يستغنى عن ذلك بالعرف والعادة اللذين يقومان مقامه.
وأما ما روي في السنن الكبرى عن عوف بن مالك وإعراض أصحابه عن الأكل من أجرته، فذلك لكون الأجرة كانت مجهولة.
فعن عوف بن مالك قال: غزونا وعلينا عمرو بن العاص، وفينا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فأصابتنا مخمصة شديدة، فانطلقت ألتمس المعيشة، فألفيت قومًا يريدون أن ينحروا جزورًا لهم، فقلت: إن شئت كفيتكم نحرها وعملها، وأعطوني منها. ففعلت، فأعطوني منها شيئًا، فصنعته ثم أتيت عمر بن الخطاب فسألني من أين هو؟ فأخبرته، فقال: أسمعك تعجلت أجرك، وأبي أن يأكله، ثم أتيت أبا عبيدة فأخبرته، فقال لي مثلها، وأبى أن يأكله، فلما رأيت ذلك تركتها، قال: ثم أبردوني في فتح لنا فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صاحب الجزور"؟ ولم يرد عليَّ شيئًا، وفي حديث سعيد: لم يزدني على ذلك.(7/1090)
قال البيهقي: "وفي هذا أن الأجرة كانت مجهولة، وفي الذمة معلقة بعين (1)
ولا يفوتنا في هذه الرواية أن ننوه بما كان عليه الصحابة، رضوان الله عليهم من تحري الحلال حتى في المخمصة، وأن المجتهد يجد من أصحابه من يقوم اجتهاده. ويصير إلى ما أجمع عليه أصحابه، فعوف اجتهد وأخْذِه الأجرة على أنها حلال، ورأى أصحابه غير ذلك مع حاجتهم إلى الطعام وأبوا أن يأكلوا، وامتنع هو كذلك معهم، ولما أرسلوه بفتح فتحه الله عليهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكره بما كان منه بقوله: "صاحب الجزور؟ ".
ومن آداب الإجارة ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) . [رواه ابن ماجه في كتاب الرهون] (2)
قال البوصيري في مصباح الزجاجة: (أصله في صحيح البخاري وغيره - ويقصد بهذا رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) (3) - يقول: لكن إسناد ابن ماجه ضعيف، وهب بن سعيد وعبد الرحمن بن زيد ضعيفان، وذكره البغوي في المصابيح في قسم الإحسان (4)
والإجارة في مبحثنا - هذا - تنصرف إلى الإجارة على الصنع، وقد عرفها السرخسي بقوله: إن الاستئجار لصناعة هو: بيع عمل، العين فيه تبع (5)
وفرق بين الاستصناع والاستئجار للصناعة بقوله: (إذا أسلم حديدًا إلى حداد ليصنعه إناء مسمى، بأجر مسمى، فإنه جائز ولا خيار فيه إذا كان مثل ما سمى، لأن ثبوت الخيار للفسخ ليعود إليه رأس ماله فيندفع الضرر به. وذلك لا يتأتى هنا، فإنه بعد اتصال عمله بالحديد لا وجه لفسخ العقد فيه.
فأما في الاستصناع: المعقود عليه العين، وفسخ العقد فيه ممكن، فلهذا أثبت خيار الرؤية فيه، ولأن الحداد - هناك - في مثال الحداد المستأجر للصنع، يلتزم العمل بالعقد في ذمته، ولا يثبت خيار الرؤية فيما يكون محله الذمة كالمسلم فيه) (6)
__________
(1) انظر مواهب الجليل: 4/123
(2) باب (4) إجارة الأجير على طعام بطنه، حديث رقم 3443: 2/817
(3) صحيح البخاري بحاشية السندي: 2/23، باب إثم من منع أجر الأجير من كتاب الإجارة
(4) انظر سبل السلام: 3/172 و 173
(5) المبسوط: 15/84، وانظر عقد الاستصناع: ص132
(6) المبسوط: 15/85(7/1091)
كما فرق الكاساني بين الاستصناع والاستئجار للصنع بقوله: (إن أسلم إلى حداد حديدًا ليعمل له إناءً معلومًا بأجر معلوم، أو جلدًا إلى خفاف ليعمل له خفًّا معلومًا بأجر معلوم، فذلك جائز لا خيار فيه، لأن هذا ليس باستصناع، بل هو استئجار فكان جائزًا، فإن عمل كما أمر استحق الأجر. وإن فسد فله أن يضمنه حديدًا مثله، لأنه لما أفسده فكأنه أخذ حديدًا، واتخذ فيه آنية من غير إذنه، والإناء للصانع، لأن المضمونات تملك بالضمان. فهذه تختلف الإجارة فيها على الصناعة عن الاستصناع اختلافًا بائنًا، ولو شابه الإجارة من جهة كون العقد يبطل بموت أحد العاقدين مثلًا (1)
فالصانع يعد من قبيل الأجير المشترك، وأنه استؤجر للاستفادة والانتفاع بصنعته فهو يقدم عملًا لا عينًا، وأما الاستصناع فإن الصانع يقدم فيه مادة وعملًا بها، ولهذا لو تعاقد على أن تكون العين من صاحب العمل، والعمل من الصانع كان العقد عقد إجارة لا استصناع.
وإن دفع إليه بعض المعمول وأمره أن يزيده من عنده ما بقي لإتمامه فهذا جائز ويكون قرضًا.
ولو أمره أن يزيد إليه شيئًا مجهولًا، فإن العقد لا يصح، إلا إذا كان ما أمره بزيادته - وإن كان مجهولًا - من الأمور المعلومة عند الصناع فإنه يصح، وذلك كأن يدفع للصانع ثوبًا ليصبغه بعصفر، فهذا يجوز مع أن قدر العصفر غير معلوم، وكل ذلك يختلف باختلاف العرف في كل بلد. (2)
ومع وجوه التفريق بين "الإجارة على الصنع" و "الاستصناع" فإن بعض فقهاء الحنفية يرون أن "الاستصناع" إجارة ابتداء، بيع انتهاء.
ففي فتح القدير نقلًا عن الذخيرة: الاستصناع إجارة ابتداء، بيع انتهاء، لكن قبل التسليم، لا عند التسليم (3)
بدليل أنهم قالوا: إذا مات الصانع يبطل، ولا يستوفى المصنوع من تركته، ذكره محمد في كتاب البيوت.
لكن القول ببطلان عقد الاستصناع بموت أحد العاقدين أرجعه الحنفية إلى كون الاستصناع له شبه بالإجارة، فهل الإجارة تبطل بموت أحد العاقدين؟
يجيب عن هذا عبد الوهاب البغدادي في كتابه "الإشراف على مسائل الخلاف" (4) فيقول: لا تنفسخ الإجارة بموت أحد العاقدين إذا لم يتعذر استيفاء المنافع خلافًا لأبي حنيفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالًا أو حقًّا فلورثته".
وهذه الإجارة متروكة للميت فيجب أن تكون لورثته، وهذا ينفي الفسخ، ولأنه عقد معاوضة، فلم ينفسخ بموت أحد العاقدين.
وتأسيسًا على ما سبق فإن "الاستصناع" عقد مستقل مسمى، وهو " عقد الاستصناع " له شبه بالإجارة من جهة كون الصنعة "العمل المطلوب" فيه تكون من الصانع.
__________
(1) انظر بدائع الصنائع: 6/2678، والاستصناع: ص132
(2) انظر الاستصناع: ص131، نقلًا عن بحث الإجارة المقدم للموسوعة الفقهية في الكويت، للأستاذ مصطفى كمال وصفي فقرة 372
(3) انظر فتح القدير: 5/356 و 357
(4) الإشراف على مسائل الخلاف: 2/66، وانظر هامش الاستصناع: ص133(7/1092)
الخاتمة
وبعد المعايشة لمباحث " عقد الاستصناع وعلاقته بالعقود الجائزة " نستطيع أن نوجز أهم نتائج هذا البحث فيما يلي:
أولا: عقد الاستصناع من العقود التي لا غنى للناس عنها كحاجتهم إلى الصناعات وتجددها في كل عصر، وحاجة الصناع إلى الأموال التي تعينهم في ذلك.
ثانيًا: اختلاف العملاء في جوازه ومنعه ليس إهمالًا للاستصناع وانصرافًا عنه، وإنما في اعتباره عقدًا مستقلًّا - كما اعتبره جمهور الحنفية - أم داخلًا في مباحث عقود أخرى جائزة - عند غير الحنفية.
ثالثا: يقوم حكم الجواز لعقد الاستصناع على الإجماع العملي والاستحسان، وتقدير حاجة الناس إليه، كما اعتبر بعض العلماء السنة دليلًا على جوازه، أما القياس فلا.
رابعًا: بعد مناقشة أدلة القائلين بأن الاستصناع وعد، والقائلين بأنه عقد ترجح القول بأنه عقد بيع، وليس بوعد.
خامسًا: إذا كان النهي عن بيع "ما ليس عنده" قائمًا على الغرر والجهالة فإن المعقود عليه في الاستصناع لا غرر فيه، لأنه معلوم وموصوف، ومقدور التسليم بحكم العادة، وتقديرهم لخبرة الصناع، فأسباب الغرر منتفية، ولو أنه غير موجود وقت العقد.
سادسًا: أدخل المالكية والشافعية والحنابلة مسائل الاستصناع في عقد السلم.
سابعًا: للاستصناع شبه بالإجارة في طلب الصنع "وهو العمل" جعل بعض العلماء يقولون: إن "الاستصناع" إجارة محضة، ولكن وجدنا تفريقًا بينهما، كما وجدنا مع التفريق بعض فقهاء الحنفية يقولون: "إن الاستصناع إجارة ابتداء، بيع انتهاء".
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، حمدًا كثيرًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد.(7/1093)
ملخص البحث
نحمدك اللهم، ونستعينك، ونستهديك، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائك ورسلك سيدنا محمد، وبعد.
فيتناول هذا البحث موضوعًا تتجدد حاجة الناس إليه للتطور الكبير الذي تشهده الحياة المعاصرة، وما يصحب هذا التطور من إشباع الحاجات البشرية بأجهزة جديدة ملائمة، وآلات، وأدوات، وغير ذلك من مصنوعات، يتقدم المستصنع إلى الصانع - فردًا كان أم مؤسسة - بصنع شيء تحدد معالمه، وتذكر صفاته، وكل ما يريد المستصنِع في المستصنَع فيه، كما يتفق على الثمن. فهذا الاتفاق هو شكل عقد الاستصناع، الذي عرف البحث به لغة، واصطلاحًا، فهو كما عرفه فقهاء الحنفية "عقد على مبيع في الذمة، يشترط فيه العمل على وجه مخصوص".
فخرج بهذا التعريف اعتبار الاستصناع وعدًا، أو عقد إجارة، أو بيعًا بإطلاقه، أو سلمًا.
وفقهاء الحنفية عدوا "الاستصناع" عقدًا مستقلًّا، أما فقهاء المالكية والشافعية فقد عدوا الاستصناع في أبواب السلم، والفقهاء الحنابلة، جعلوه في باب ما ليس عند الإنسان على غير وجه السلم.
ولذلك فإن حكم الاستصناع لدى الحنفية - الذين اعتدوا به عقدًا مستقلًّا - الجواز. وأدلة هذا الحكم الاستحسان، ووجهه الإجماع العملي، وحاجة الناس إليه، وليس القياس، ويرى بعض الفقهاء أن السنة تعد من أدلة حكم الجواز قبل الاستحسان.(7/1094)
وأما بقية الفقهاء الذين أدخلوا الاستصناع في غيره فهو جائز، لأن هذه العقود جائزة.
وناقش البحث ما قيل عن الاستصناع بأنه مواعدة. وانتهى إلى ترجيح أدلة القائلين بأنه عقد، ومع قوة الأدلة المرجحة فإن القول بالمواعدة ليس محققًا لمهمة الاستصناع في حياة الناس من ناحية، وليس موافقًا لطبيعة الاستصناع من ناحية أخرى.
كما ناقش البحث مسألة اعتبار الاستصناع "بيع ما ليس عند المرء" بسبب أن المال المستصنع ليس موجودًا بصفته المطلوبة وقت التعاقد.
وسبب النهي ما في هذا البيع من المخاطرة والغرر، ولذلك ورد النهي عنه وليس النهي بسبب عدم وجود الشيء، فإذا انتفى الغرر كان الجواز، فالمعقود عليه في الاستصناع لا غرر فيه، لأنه معلوم وموصوف، ومقدور التسليم بحكم العادة، وما تعارف عليه الناس، وتقديرهم لخبرة الصناع.
كما تناول البحث علاقة الاستصناع بعقد السلم، فقد أدخله المالكية والشافعية والحنابلة في عقد السلم، أو في البيع بالصفة، أو تشبيهه بالسلم، وقدم البحث أوجه التشابه والافتراق بين عقد الاستصناع وعقد السلم.
كما عرض البحث علاقة عقد الاستصناع بعقد الإجارة، فالاستصناع له شبه بالإجارة في طلب الصنع، وهو العمل، ولكن يفترق " الاستئجار على الصنع"، والاستصناع، ومع هذا التفريق بينهما، وجدنا بعض فقهاء الحنفية يرون أن "الاستصناع" إجارة ابتداء، بيع انتهاء.
وبعد بيان علاقة عقد "الاستصناع" بالعقود الجائزة، فإن هذه العلاقة تجعل لحكم الجواز في عقد "الاستصناع" قوة.
الدكتور/ محمد رأفت سعيد.(7/1095)
المصادر والمراجع
1- الإجارة. للأستاذ/ مصطفى كمال وصفي، بحث - موسوعة الفقه الإسلامي - الكويت.
2- أحكام المعاملات المالية في المذهب الحنفي، "عرض منهجي" للدكتور محمد زكي عبد البر، طبعة أولى 1407هـ - 1976م. دار الثقافة، الدوحة.
3- إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، لشهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني المتوفى سنة 923هـ. المطبعة الميمنية - القاهرة 1327هـ. مع تحفة الباري لزكريا الأنصاري مع شرح النووي على مسلم.
4- الأشراف على مسائل الخلاف والإجماع. لأبي بكر بن المنذر 310هـ. مخطوطة مصورة عن الأصل في الرباط الأحمدي بالمدينة المنورة تحت رقم 289.
5- الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار، لأبي بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم الهمذاني 584هـ، الطبعة الأولى 1386هـ.
6- الأعلام لخير الدين الزركلي، الطبعة الثالثة. بيروت 1969م.
7- أعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية 751هـ. تحقيق وضبط عبد الرحمن الوكيل. دار الكتاب الحديثة، القاهرة 1389هـ.
8- الأم، للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان الشافعي، توفي 204هـ طبعة بولاق، القاهرة 1329هـ.
9- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل، لعلاء الدين أبي الحسن ابن سليمان المرداوي، طبعة أولى 1375هـ. السنة المحمدية، القاهرة.
10- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني، توفي 587هـ. طبعة الإمام، القاهرة.
11- تحفة الفقهاء، لعلاء الدين السمرقندي 539هـ. طبعة أولى، جامعة دمشق 1377هـ.
12- تحفة المحتاج شرح المنهاج، لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن حجر الهيثمي 974هـ. طبعة مصطفى محمد 1304هـ.
13- حاشية سعدي جلبي 945هـ على العناية والهداية، مطبوع على هامش شرح فتح القدير. طبعة أولى 1316هـ، بولاق، القاهرة.
14- حاشية الطحطاوي على الدر المختار، لأحمد الطحطاوي الحنفي، طبعة بيروت 1395هـ.
15- درر الحكام في شرح غرر الحكام، لمحمد بن فراموز الشهير بمنلاخسرو 885هـ ومعه حاشية الشرنبلالي 1096هـ. طبعة أحمد كامل 1330هـ.(7/1096)
16- رمز الحقائق في شرح كنز الدقائق، للإمام بدر الدين أبو محمد بن أحمد بن موسى العيني 855هـ. طبعة الأميرية، القاهرة 1285هـ.
17- روضة الطالبين، للإمام أبي زكريا يحيي بن شرف النووي الدمشقي 676هـ. طبعة المكتب الإسلامي، دمشق.
18- سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام، للإمام محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني، صححه وعلق عليه وخرج أحاديثه فواز أحمد زمرلي، وإبراهيم محمد الجمل، دار الكتاب العربي، طبعة خامسة 1410هـ/1990م.
19- السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج، للعلامة أبي الطيب صديق بن حسن خان الحسيني القنوجي البخاري، وهو شرح على ملخص صحيح مسلم للحافظ المنذري، حققه وعني بطبعه الشيخ عبد الله الأنصاري طبعة الشؤون الدينية بدولة قطر 1404هـ/1984م.
20- الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، لأبي البركات أحمد بن محمد بن أحمد العدوي الشهير بالدردير 1201هـ طبعة دار المعارف، القاهرة 1973م.
21- شرح فتح القدير، لكمال الدين محمد بن عبد الواحد بن الهمام 861هـ. طبعة أولى 1316هـ، بولاق، القاهرة.
22- الشرح الكبير على متن المقنع، لشمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي 682هـ. طبعة أولى ثانية 1346هـ و 1347هـ، المنار، القاهرة.
23- شرح المنهاج، لجلال الدين محمد بن أحمد المحلى.
24- صحيح البخاري بحاشية السندي، للإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي البخاري 194 - 256هـ، وبالهامش حاشية أبي الحسن نور الدين محمد بن عبد الهادي السندي، ومعها تقريرات من شرحي الإمامين القسطلاني، والأنصاري. طبعة 1372هـ/1953م، مكتبة مصطفى البابي الحلبي.
25- صحيح مسلم بشرح النووي، للإمام مسلم بن الحجاج القشيري، ومعه شرحه للنووي المتوفى 676هـ. طبعة المطبعة المصرية ومكتباتها بالقاهرة 1349هـ.
26- طبقات الفقهاء، لطاش كبرى زاده. طبعة ثانية 1961م، الزهراء الحديثة الموصل.
27- عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي 543هـ، دار العلم، دمشق.(7/1097)
28- عقد الاستصناع، (دراسة مقارنة) رسالة ماجستير لكاسب عبد الكريم البدران من المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض 1397هـ/1977م.
29- العناية، لأكمل الدين محمد بن محمود البابرتي 786هـ، مع شرح فتح القدير، طبعة أولى 1316هـ، بولاق، القاهرة.
30- الفتاوى الغياثية، لداود بن يوسف الخطيب، طبعة أولى، بولاق، القاهرة 1322هـ، وبهامشها فتاوى ابن نجم صاحب البحر الرائق.
31- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للإمام أحمد بن على بن حجر العسقلاني 852هـ. طبعة السفلية.
32- الفروع، لشمس الدين المقدسي أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي 762هـ. طبعة ثانية. دار مصر للطباعة، مراجعة عبد الستار أحمد فراج.
33- كشف القناع على متن الإقناع، لمنصور بن يونس بن إدريس البهوتي 1051هـ. طبعة الحكومة، مكة المكرمة 1394هـ.
34- لسان العرب، لابن منظور، جمال الدين أبو الفضل محمد بن جلال الدين أبو العز مكرم 711هـ.
35- المبسوط لشمس الدين محمد بن أحمد بن سهل السرخسي 438هـ. ط. ثانية، دار المعرفة، بيروت.
36- المجموع شرح المهذب، للإمام أبي زكريا محمد الدين بن شرف النووي 676هـ.
(التكملة الثانية للمجموع) لمحمد بن بخيت المطيعي. طبعة الإمام، القاهرة.
37- مختار الصحاح، لزين الدين محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي المتوفى سنة 666هـ، ترتيب محمود خاطر المتوفى 1367هـ. طبعة مؤسسة الرسالة، دار البصائر 1407هـ/1987م.
38- المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء، طبعة تاسعة 1967م، دمشق.
39- مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد ابن حنبل 241هـ، وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال. طبعة بيروت، المكتب الإسلامي. دار صادر.(7/1098)
40- المغني مع الشرح الكبير، لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة 620هـ. طبعة أولى وثانية 1346هـ. المنار، القاهرة.
41- المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المتوفى 520هـ، تحقيق الدكتور محمد حجي وبعناية الشيخ عبد الله الأنصاري. إدارة إحياء التراث الإسلامي، دولة قطر، طبعة أولى 1408هـ/1988م.
42- منتقى الأخبار، لشيخ الإسلام ابن تيمية مجد الدين عبد السلام بن عبد الله الحراني 621هـ، مع نيل الأوطار.
43- المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب، للمنذري، انتقاه، وقدم له، وعلق حواشيه، ووضع فهارسه الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي. من منشورات مركز بحوث السنة والسيرة.
44- المهذب، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي الشيرازي 476هـ طبعة الحلبي، القاهرة.
45- مواهب الجليل متن أدلة خليل، للشيخ أحمد بن أحمد المختار الجكني الشنقيطي، عني بمراجعته الشيخ عبد الله الأنصاري. مطبوعات إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر 1403هـ/1983م.
46- الهداية مع شرح فتح القدير، لعلي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني 593هـ. طبعة أولى 1316هـ. بولاق القاهرة.(7/1099)
المناقشة
عقد الاستصناع
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بين أيديكم في هذه الجلسة موضوع (عقد الاستصناع) ، والعارض هو الشيخ علي السالوس والمقرر هو الشيخ سعود الثبيتي. تفضل يا شيخ علي:
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
عقد الاستصناع حظي بدراسات كثيرة على الأخص بعد أن أصبح وسيلة هامة من وسائل التمويل في البنوك الإسلامية، وبديلًا شرعيًّا لحالات الإقراض الربوي، وأمامنا هنا أربعة عشر بحثًا، بعضها يحتاج إلى يوم كامل لقراءته، نظرت فيها قدر الاستطاعة، ومما يسر الرجوع إليها أن هناك أشياء متشابهة، فبالنسبة للعقد عند المذاهب الأربعة لا يكاد يكون هناك خلاف، وبالنسبة للآراء التي ينفرد بها بعض الإخوة، هذه يكفي أن نشير إليها، فإذا شاء أحدهم أن يبين رأيه فهو أقدر على بيانه مني، والاستصناع من العقود المسماة عند الحنفية فقط، أما المذاهب الثلاثة فإنهم لا يعدونه عقدًا مستقلًّا كما سيأتي في بيان الحديث عنه وننظر إلى الاستصناع عند المالكية والشافعية والحنابلة، ونترك الحنفية للآخر لأن عندهم تفصيلات كثيرة، في الأبحاث – أكثر الأبحاث – ينتهي إلى ما يأتي، علما بأن المذاهب الثلاثة لم تجعل الاستصناع عقدًا مستقلًّا وإنما جعلوه ضمن السلم.
فالمالكية خصصوا جزءًا من كتاب السلم للسلم في الصناعات، أو السلف في الصناعات. وضربوا أمثلة لما كان يصنع في عصرهم وأجازوه بشروط السلم.
أما الشافعية فقد أجازوا السلم فيما صنع من جنس واحد فقط، كالحديد أو النحاس أو الرصاص أو غيرها، ولم يجيزوه فيما يجمع أجناسا مقصودة لا تتميز، كطست من نحاس وحديد، وكالغالية وهي مركبة من دهن مع مسك وعنبر أو عود وكافور. وجعلوا مثل هذا، لا يجوز إلا يدًا بيد، وإجازتهم ما صب في قالب لا يخرج عن قولهم هنا، فإنهم لم يجيزوه إلا بالشرط السابق، أي أن يكون الأصل المذاب في القالب من جنس واحد، وما نقل من أقوالهم ينص على هذا الشرط، وقد جعل الإمام الشافعي هذا الشرط عاما حيث قال بعد ذكره: (وهكذا كل ما استصنع) . أما ما يجمع أجناسا مقصودة تتميز كالقطن والحرير، فهو موضع خلاف بينهم، والأصح في المذهب الجواز بشرط علم العاقدين بوزن كل من أجزائه.(7/1100)
والحنابلة لا يكادون يختلفون عن الشافعية إلا في القليل من الفروع التطبيقية. ومن هذا نرى أن المذاهب الثلاثة أجمعت على عدم جواز الاستصانع إلا بشروط السلم، غير أن المالكية أجازوا استصناع أي شيء مما يعمل الناس في أسواقهم من آنيتهم أو أمتعتهم التي يستعملون في أسواقهم عند الصناع، على حين لم يجز الشافعية والحنابلة من هذه الأشياء ما جمع أجناسا مقصودة لا تتميز، هذه خلاصة ما جاء عن الاستصناع في كتب المذاهب الثلاثة.
ننتقل بعد هذا إلى الاستصناع عند الحنفية، ونخرج زفر من الحنفية لأنه خالفهم في هذا ولم يوافق على قولهم في الاستصناع، وإنما هو مع الشافعية، ويؤخذ من كلام الحنفية أنهم اختلفوا في تحديد معنى الاستصناع أيعد مواعدة أم بيعا؟ ولكن الصحيح في المذهب أنه بيع، واستدلوا على هذا، ثم اختلفوا كذلك أهو عقد على مبيع في الذمة أم عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل؟ والصحيح في المذهب هو اشتراط العمل، بعد هذا نجد أن الحنفية استدلوا لمشروعية هذا العقد بالسنة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام استصنع خاتما ومنبرًا وبالإجماع الثابت بالتعامل، وبالاستحسان.
وإذا نظرنا في أدلة الحنفية وجدنا أن السنة المطهرة ليس فيها ما يدل على أن هذا تم بالطريقة التي قال بها الحنفية، وكذلك الإجماع لأنه لو كان هناك إجماع فالمخالفون أكثر من الحنفية، والحنفية أنفسهم قالوا بأن الإجماع بالنسبة للاستصناع من الناحية العملية، ولكن هذا الإجماع الفعلي أهو مواعدة (وعد) أم هو بيع أم إجارة؟ فهم يعترفون بأن هناك خلافا في هذه الناحية. وبالطبع لو كان وعدًا فلا خلاف ولو كان إجارة فلا خلاف وإنما الخلاف في أن يكون بيعا.
بعض الإخوة الباحثين أخذ يؤيد رأيهم بالسنة والإجماع. ويعارض الجمهور في هذا، ووجدنا من الإخوة الآخرين من بين أن السنة والإجماع لا يؤيدان ما ذهب إليه الحنفية.(7/1101)
الدليل الرئيسي – فعلًا – للحنفية هو الاستحسان: هذا هو الأساس.
بعد هذا ننتقل إلى شروط جوازه، فنرى أن الحنفية يشترطون لجواز الاستصناع ما يأتي:
أولًا: بيان جنس المستصنع وبيان نوعه وقدره وصفته لأنه لا يصير معلوما بدون هذا البيان، وهذا الشرط لا ينفردون به حيث إنه من شروط السلم.
ثانيا: أن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس.
ثالثا: ألا يكون فيه أجل، وهذا قول الإمام أبي حنيفة وخالفه الصاحبان، ويلاحظ عند ذكر الأجل فيما يجري فيه التعامل، أن رأي الإمام أبي حنيفة لا يختلف عن السلم في الصناعات عند المالكية.
هذه هي الشروط التي اشترطوها لجواز الاستصناع، وهنا نرى الفرق بين الاستصناع والسلم، وكثير من الإخوة تحدث عن الفرق بالتفصيل (توسع) . فالشرط الأول: هو من شروط السلم، والشرط الثاني: أن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس – هذا ليس من شروط السلم، والشرط الثالث: ألا يكون فيه أجل – عكس السلم أساسا وإن أجاز بعضهم السلم بغير أجل كالشافعية، ويضاف هنا فارق أساسي جوهري وهو اشتراط تقديم الثمن في السلم وعدم اشتراط هذا في الاستصناع، وبالطبع عند الماكية التأجيل لفترة معلومة.
تحدث الحنفية بعد هذا عن حكم الاستصناع، وبالرجوع إلى كتبهم (الهداية وشروحها) و (تحفة الفقهاء) و (بدائع الصنائع) وغير هذه الكتب، لأن بعض الإخوة – أو ربما أحد الأخوة فقط – خالف في هذا، من النقول من هذه الكتب يؤخذ ما يأتي:
الاستصناع عقد غير لازم قبل العمل لكل من المتعاقدين، وهذا لا خلاف حوله عند الحنفية، لا يختلفون في هذا أبدًا جميع الحنفية، وهو كذلك غير لازم بعد الفراغ من العمل قبل أن يراه المستصنع، حتى لو انتهى منه ولكن لم يعرضه على المستصنع، (وعقد لازم) فللصانع أن يبيعه لمن شاء والمستصنع ليس مجبرًا.
اختلف الحنفية في الحكم إذا أحضر الصانع العين على الصفة المشروطة، هنا يبدأ الخلاف: فظاهر الرواية عن الإمام والصاحبين معه أن الصانع يسقط خياره ويبقى للمستصنع الخيار، حتى بعد أن يحضره وهو مطابق للمواصفات، الصانع يسقط خياره، وللمستصنع الخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك، هذا ظاهر الرواية عن الإمام والصاحبين وروي عن الإمام: أن لكل واحد منهما الخيار، وروي عن أبي يوسف: أنه لا خيار لهما جميعا، وهذه نقطة هامة جدًّا، فظاهر الرواية أن المستصنع له الخيار حتى بعد المجيء بالمصنوع وعلى المواصفات الموجودة، مثل الإمام والصاحبين، ولكن هناك رواية عن أبي يوسف أنه لا خيار لهما جميعا، وروي عن الإمام أن لكل واحد منهما الخيار، والأول هو الأصح كما قال ابن عابدين، هو ظاهر الرواية، أي أن المستصنع له الخيار، ونلاحظ أن أدلة الحنفية هنا - الذين قالوا بأن له الخيار أو ليس له الخيار - تنبني أساسا على القول بمنع الضرر. استدل بهذا من قال بالخيار ومن قال بالإلزام.(7/1102)
رابعًا: يبطل الاستصناع بوفاة أحد المتعاقدين. وهذا أيضا لا خلاف فيه عند الحنفية.
من هنا نرى الفرق بين الاستصناع الذي قال به الحنفية وبين السلم، فالسلم عقد لازم ولا يدخله الخيار ولا بد من تسليم الثمن، ولكن في الاستصناع يجوز أن يسلم الثمن كله أو بعضه أو لا يسلم، ومع هذا وجدنا مجلة الأحكام العدلية تأتي برأي يخالف ما رأيناه في كتب الحنفية، حيث رأت أن الاستصناع فيه الإلزام من بداية التعاقد، يعني بمجرد الإيجاب والقبول يكون هنا إلزام حيث نصت المادة 392 على ما يأتي:
" إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع عنه، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرًا " يعني التخيير عند عدم توافر المواصفات، ومن الخطأ القول بأن المجلة أخذت برأي أبي يوسف، فقبل العمل وكذلك بعده وقبل أن يراه المستصنع لا خلاف أن العقد غير لازم عند أبي يوسف وغيره، أما المجلة فإنها قالت: إذا قال رجل لواحد من أهل الصنائع: اصنع لي الشيء الفلاني بكذا قرشا وقبل الصانع ذلك انعقد البيع استصناعا بمجرد الإيجاب والقبول.. ولذلك وجدنا الشيخ الجليل فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا يضع تعريفًا يتفق مع ما يراه في هذا العقد لأنه وجد أنه حتى التعريف في المجلة غير كامل فقال في عقد الاستصناع: هو عقد يشترى به في الحال شيء مما يصنع صنعا يلتزم البائع بتقديمه مصنوعا بمواد من عنده بأوصاف معينة وبثمن محدد.
بعد هذا العرض السريع يبقى أن هناك من أيد وهناك من عارض، ولكن بصفة عامة النقل من كتب الحنفية يبين خلاصة ما قلت، ونترك لمن شاء أن يقول رأيه، ولكن قبل أن أترك هذا المكان أحب أن أقول رأيي - من حقي هذا - وهي النتائج والاقتراحات.
أولًا: الاستصناع عند المالكية والشافعية والحنابلة جزء من السلم لا يصح إلَّا بشروطه وهو عند الحنفية عدا زفر عقد مستقل له شروطه وأحكامه الخاصة.
ثانيًا: الشافعية والحنابلة نظروا إلى مادة المصنوع فأجازوا ما كان من جنس واحد واختلفوا فيما يجمع أجناسًا مقصودة تتميز بحيث يعلم العاقدان وزن كل من أجزائه، والراجح الجواز، ولم يجيزوا ما جمع أجناسا مقصودة لا تتميز، والمالكية نظروا إلى تعامل الناس فأجازوه ولم ينظروا إلى مادة المصنوع وإنما إلى المصنوع نفسه سواء كان من جنس واحد أو من أجناس مختلفة، والحنفية - أيضًا - نظروا إلى ما فيه تعامل، فأجازوه استصناعًا غير أنهم أجازوا ما ليس فيه تعامل سلما لا استصناعا، فما ليس فيه تعامل فهو سلم.
ثالثًا: إذا ذكر الأجل في الاستصناع أصبح سلما عند أبي حنيفة، خلافا للصاحبين، وهذا يعني أن رأي الإمام هنا كالسلم في الصناعات عند المالكية.
رابعًا: لعل الأولى النظر إلى تعامل الناس في الصناعات في مختلف العصور والأمصار، وبهذا نرجع ما ذهب إليه الحنفية، المالكية. والعرف بضوابطه الشرعية مصدر يحتج به في الأحكام.
خامسًا: لم نجد ما يجيز رأي الحنفية في جعل الاستصناع بيعًا على غير وجه السلم، وهو معدوم وليس عند البائع، كما أنهم أجمعوا على أنه عقد غير لازم قبل أن يراه المستصنع، وهذا لا يرفع حرجا ولا يحل مشكلة، وعلى الأخص في صناعات العصر التي قد تكون بآلاف الآلاف، ولذلك رأينا مجلة الأحكام العدلية وهي في الفقه الحنفي تجعل الاستصناع عقدًا لازمًا منذ البداية وهذا يخالف إجماع المذهب الحنفي فضلًا عن باقي المذاهب.(7/1103)
ولهذا أقترح ما يأتي:
1– إذا اعتبر عقد الاستصناع بيعًا ألحقناه بالسلم بجميع شروطه، ويصح في الصناعات التي يتعامل بها في أي عصر.
2– ما لم يكن سلما حيث يتعذر تطبيق شروطه، ويقع الناس في حرج ومشقة، يعتبر وعدًا لا بيعًا، وهذا ما قال به بعض الحنفية، حتى لا نقع في محظور شرعي، وفي هذه الحالة: نطبق قرار مجمع الفقه الموقر في دورته الخامسة بشأن الوفاء بالوعد في المرابحة، وبذلك يصبح القرار التالي: إذا جعلنا الاستصناع بدلًا من المرابحة: الوعد وهو الذي يصدر عن المستصنِع أو الصانع على وجه الانفراد يكون ملزمًا للمستصنع ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقا على سبب ودخل الصانع في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة: إما بتنفيذ الوعد وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
3– المواعدة: وهي التي تصدر عن الطرفين تجوز في الاستصناع بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في الاستصناع تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده. انتهى المطلوب نقله من قرار المجمع وهذا نعرضه والرأي لكم.
والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.(7/1104)
الشيخ علي محي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أشكر فضيلة الأستاذ علي السالوس على عرضه الطيب وبارك الله فيه، غير أن ما وصل إليه - الأستاذ الدكتور علي السالوس - من اعتبار الاستصناع سلما، حينئذ لا يحقق المقصود من الاستصناع، لأن المقصود من الاستصناع ألا يدفع الإنسان الثمن، ولا رأس المال، يكون جاهزًا، أما بالنسبة للسلم لا بد من دفع رأس المال أو من دفع الثمن إما في المجلس كما هو رأي الجمهور أو في ثلاثة أيام كما هو رأي المالكية، وحينئذٍ يصبح الاستصناع عديم الجدوى بالنسبة لوقتنا الحاضر، ولاسيما في البنوك والأمور الأخرى، أو اعتباره وعدًا حينئذ أيضًا لا يكون ملزما وحينئذ يترتب عليه مشاكل كبيرة جدًّا كما يقول شراح المجلة حينما ذكروا في لزومية العقد، قال: كان الناس أيام الزمان حينما يستصنعون، يستصنعون - أعزكم الله - زوجًا من حذاء، فليس هناك أي مشكلة. فحينما يكمل يقول: أنا لا أريد أو لا يعجبني، أما الآن فهناك صناعة السفن وغير ذلك، وفي وقتنا الحاضر صناعة السفن وصناعة الطائرات وغير ذلك، فهل بالإمكان أنه يصنع لنا الطائرة أو يصنع لنا سفينة أو يصنع لنا أي شيء ثم نقول: إن هذا لا يعجبني رغم توفر الشروط والالتزمات؟ فحينئذ بهذه الصورة لما يكون الاستصناع وعدًا لا يبقى له أي فائدة ولا أية قيمة، وسوف نعود لهذه المسألة بعد قليل.(7/1105)
ولنا أيضًا بعض الملاحظات على ما ذكره الأستاذ الجليل.
أولًا: حصر آراء غير الحنفية في اعتبار الاستصناع من باب السلم، يؤخذ عليه من أن المالكية - رحمهم الله - جعلوا نوعين من أنواع الاستصناع داخلين في غير السلم، كما في الصفحة الخامسة من بحث الفقير إلى الله حيث يقول: النوع الثاني كذا وكذا فهذا النوع ليس بسلم وإنما هو من باب البيع والإجارة، والنوع الثالث كذلك: فهذا النوع أيضًا من باب البيع والإجارة، فالاستصناع عند المالكية أربعة أنواع: نوع سلم ونوعان داخلان في البيع والإجارة ونوع باطل، كما هو موجود في بحثي.
إذن من هنا حقيقة لا ينبغي لنا أن نقول بأن غير الحنفية أدخلوا الاستصناع في باب السلم فالمالكية اعتبروا الاستصناع في نوعيه من باب البيع والإجارة.
ثانيا: الملاحظة الثانية في قضية استقلالية الاستصناع: المسألة لا تنحصر حتى في قضية البيع والسلم والإجارة، وإنما هناك حوالي سبعة تصورات، وكل تصور قال به فريق من العلماء كما أسلفت في البحث، هل هو بيع فقط؟ هل هو سلم؟ هل هو بيع وإجارة؟ هل هو إجارة ابتداء وبيع انتهاء؟ هل هو إجارة محضة؟ هل هو مواعدة؟ هل هو له شبه بالسلم والبيع؟ لا هذا ولا ذاك. هل هو جعالة؟ حوالي سبعة أو ثمانية تصورات وبكل تصور قال به فريق من العلماء، وقد رجحنا في الأخير أنه عقد مستقل، ليس سلما ولا بيعا ولا غير ذلك بأدلة مذكورة في بحثي، وحينما ناقشنا الأقوال السابقة قلنا إن الذين قالوا إنه بيع اعترف أكثرهم بنوع من التغاير بينه وبين الاستصناع فمثلا قالوا: إن الاستصناع يخالف البيع في في اشتراط العمل في الاستصناع دون البيع، وفي إثبات خيار الرؤية عند بعضهم في الأول، ثم إن الاستصناع لو كان بيعا لما بطل بموت أحد العاقدين عند الحنفية، إذن فهو ليس بيعا، ثم كذلك - ولا أريد أن أطيل على حضراتكم لأنه موجود في الكتاب - الذين جعلوا الاستصناع إجارة يَرِدُ عليهم أو يُرَدُّ عليهم بوجود فرق كبير بينهما، فالاستصناع وارد على العين والعمل، بينما الإجارة واردة على العمل فقط. وكذلك الذين قالوا بأنه مواعدة، وكل هذه المناقشات موجودة عند حضراتكم.(7/1106)
والقول الذي رجحناه: بأنه نوع مستقل لكنه يحتاج إلى إجلاء من التفصيل وتنقيح المناط وذلك لأن كثيرًا من المسائل المختلفة قد حشرت تحت لواء الاستصناع، بحيث نرى أن كل مسألة من باب البيع أو الإجارة أو السلم فيها صنعة أو استصناع لغوي أدخلت في باب الاستصناع المطلوب، ولذلك نرى من الضروري حصر الاستصناع في مفهومه الخاص، بحيث لا يكون فيه خلط أو التباس بغيره، وكذلك ينبغي إبعاد المسائل التي هي مندرجة أساسًا تحت عقد خاص - في الإجارة، في السلم - أن نبعدها عن الاستصناع، ولذلك فإذا صيغ عقد الاستصناع على أساس مواصفات السلم وتوفرت فيه شروطه فإنه حينئذ سلم، لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، ولذلك لو قال وهبتك هذا الثوب بعشرة دنانير أصبح بيعًا وليس هبةً، وهكذا الأمر ههنا فلو طلب شخص من آخر أن يصنع له مصنوعا موصوفا في الذمة ولم يحدد الشخص ولا الشيء المصنوع منه بعينه، فهذا سلم يجب فيه دفع الثمن في المجلس عند الجمهور أو خلال ثلاثة أيام عند المالكية، حتى لو سُمِّي استصناعا فهو من الناحية اللغوية، وحينما يكون سلما يكون ملزما للطرفين ويشترط فيه شروط السلم، وكذلك الأمر حينما يكون المصنوع جاهزًا، فيأتي به الصانع فيبيعه فهذا يكون بيعًا، أو يكون غائبا فيقع عليه العقد وحينئذ يكون بيع الغائب، وكذلك الحكم فيما لو صيغ العقد على أساس الإجارة: بأن يأتي شخص بكمية من الحديد ويستأجر الصانع ليصنع له منه سيفًا أو نحو ذلك فهذا إجارة، ويصبح الصانع أجيرًا مشتركًا ويشترط فيه شروط الإجارة، وقد يكون أجيرا خاصًّا إذا خصصه لنفسه أو لعمله، ويصبح ملزما للطرفين، وكذلك الأمر حينما يصاغ على صورة الجعالة أو نحوها، ولذلك يقول الكاساني - وهذا النص موجود عند حضراتكم - (وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي الخلط وإنما يجب الحكم على هذه المسائل التي ذكرت مع الاستصناع وحشرت معه على ضوء العقود التي تندرج فيها تلك) .
وبعد هذا التحرير والتفصيل نقول: إن الاستصناع الذي هو خاص مستقل، هو إذا طلب المستصنع من الصانع صنع شيء معين موصوف في الذمة خلال فترة محددة قصيرة أو طويلة وسواء كان المستصنع عين المصنوع منه بذاته أو لا وسواء كان المصنوع منه موجودًا أثناء العقد أو لا. هذا هو المقصود بالاستصناع الذي ورد عليه هذا الخلاف.(7/1107)
وبعبارة موجزة إن محل عقد الاستصناع هو العمل؛ والعين من الصانع، فهذا العقد بهذه الصورة ليس بيعا ولا إجارة ولا سلما ولا غير ذلك وإنما هو مستقل له شروطه الخاصة به وخصائصه وآثاره العامة.
هذا ما نراه والأدلة على ذلك موجودة، ونكتفي بهذا القدر بخصوص استقلالية الاستصناع، بعد ذلك ننتقل إلى مسألة أخرى.
فضيلة أستاذنا الجليل يقول: إن المجلة خالفت مذهب الحنفية، وأنا - حقيقة والحمد لله - اطلعت على مخطوط المحيط البرهاني وهو مخطوط يقع في ثمانية مجلدات ضخام، وعندي - والحمد لله - نسخة مصورة منه من مكتبة أوقاف في بغداد. نذكر لحضراتكم نصًّا ينطبق هذا النص من المحيط البرهاني مع ما ذكرته مجلة الأحكام العدلية - في بحثي - لأن المجلة كما لا يخفى على الجميع التزمت المذهب الحنفي، لكنها لم تلتزم الراجح أو الكتب الظاهرة وقد أخذت بروايات غير ظاهر الرواية كذلك أخذت بالمتأخرين كما في بيع الوفاء وكما في تضمين الغاصب وغير ذلك.
تصوير المحيط البرهاني، الصفحة 24، المذهب الحنفي. هذا الذي ذكرناه وأنا ذكرت ما تفضل به أستاذنا الدكتور علي السالوس، قلنا: هذا الذي ذكرناه هو ما بين الكاساني في تصوير المذهب الحنفي حيث ذكر: أن الخلاف في اللزوم وعدمه إنما هو في المرحلة الثالثة عندما يكتمل المصنوع ويعرض على المستصنع. لكن المحيط البرهاني صور المسألة عند الحنفية على أن الخلاف وارد في أصل العقد نفسه من حيث اللزوم والجواز - كما ينطبق عليه كلام المجلة - أو بعبارة أخرى ذكر لنا أن بعض الحنفية يرون لزوم العقد بمجرد الانعقاد، وأنقل لحضراتكم النص يقول: (قلنا الروايات في لزوم الاستصناع وعدم اللزوم مختلفة) . ثم ذكر الروايات إلى أن قال: (ثم رجع أبو يوسف عن هذا وقال: لا خيار لواحد منهما بل يجير الصانع على العمل - ما دام العقد موجودا - ويجبر المستصنع على القبول. ووجه ما روي عن أبي يوسف أنه يجبر كل واحد منهما، أما الصانع فلأنه ضمن العمل فيجبر على العمل، وأما المستصنع فلأنه لو لم يجبر على القبول يتضرر به الصانع، لأنه أصلًا لا يشتريه غيره أو عسى لا يشتريه غيره أصلًا، أو لا يشتري بذلك القدر من الثمن فيجبر على القبول دفعا لضرر عن الصانع) ، ثم ذكر قضية المنبر، وهذا الذي ذكره أبو يوسف وفصله المحيط البرهاني هو المرافق لمقتضى العقود والقواعد العامة إلى إلتزام بقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .(7/1108)
ولذلك أخذت مجلة الأحكام العدلية بهذه الرواية عن أبي يوسف، ونصت في مادتها 392 على أنه " إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرًا ". ويبدو أن المجلة أخذت لزوم العقد من هذا الكتاب (المحيط البرهاني) وهو حجة في المذهب الحنفي وغيره من كتب الحنفية التي صورت الخلاف بهذا الشكل على عكس ما صوره الإمام الكاساني وابن عابدين وجمهرة - مثل ما تفضل الشيخ - من علماء الحنفية، وحقيقة التحرير الذي قام به ابن عابدين والذي وصل إليه، ما وصل إليه الأستاذ الدكتور علي السالوس، من أنه لا يكون لازما، أنا في اعتقادي هذا التحرير الذي قام به ابن عابدين اجتهاد منه في فهم نصوص علماء المذهب الحنفي، وحينئذ يمكن اعتباره طريقة من الطرق، كما هو مصطلح حسب اصطلاح الفقه المذهبي، ولكن لا يمكن اعتباره حسما في المسألة بأنه لا يمكن تصوير هذه المسألة.
هذا حقيقة ما أردت أن أبينه بخصوص ما ذكره أخي الكبير الدكتور علي السالوس لأنه يبدو أنه لم يطلع على هذا الكتاب القيم وهو المحيط البرهاني.
ثم بعد ذلك أنا - في اعتقادي - أرجح جانب اللزوم وهو أنه ليس هناك أي مخالفة أو لا هناك الحرية التعاقدية كما يرجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وأنا في دراسة الدكتوراه توصلت إلى أن جميع المذاهب تقريبا أو الراجح في جميع المذاهب يرجحون بأن الأصل في العقود الإباحة، فإذا لم يكن العقد مخالفا لأي قاعدة أو لأي نص شرعي فيصبح هذا العقد جائزا أو لازما أو ملزما للطرفين، داخلا في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
وليس باللزوم أن يكون هذا العقد موجودا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في عصر الصحابة والتابعين، بينما كان بالتأكيد موجودًا هذا الاستصناع منذ أن وجدت الصناعات، هذا النوع كان موجودا من الناحية العملية، ولذلك ادعى الحنفية الإجماع الفعلي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أريد أن أطيل على حضراتكم فالأدلة على لزومية العقد موجودة، وكذلك إذا نحن وصلنا - لا سمح الله - إلى قضية الجواز معناه ألغينا عقد الاستصناع وأصبح عقد الاستصناع بدون فائدة تذكر، وعلى عكس ذلك تجري البنوك الإسلامية كلها بما فيها البنوك التي يشرف عليها فضيلة أخي الدكتور علي السالوس، فليست حجة طبعا لكنه في الحقيقة عرف سائد وعرف جائز ولنا استدلال في ذلك والأدلة على ذلك موجودة في صفحات هذا البحث، وهذا ما أردت أن أعرضه وأشكركم على حسن الاستماع وكذلك أعتذر فيما إذا كنت قد أطلت.(7/1109)
الشيخ حسن علي الشاذلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
في الحقيقة حينما تعرضت للكتابة عن عقد الاستصناع كان من الضروري أن أرى اتجاه الفقه الإسلامي لسد هذه الثغرة التي تحتاج إلى أن يلبي الناس حاجات بعضهم البعض مما يحتاج إلى تصنيع، ومن ثم عرضت البحث الموجود أمامكم على أساس أن أعرض رأي الحنفية ثم رأي المالكية ثم الشافعية ثم الحنابلة. الذي يجمع بين هذه المذاهب جميعا هو أشياء تصنع ويتم التعاقد عليها إما سلما وإما استصناعا، النقطة التي بدت بين الجميع خلافية، هل نطلق أو نوجد عقدا يسمى عقد الاستصناع له خصائصه؟ هذا ما اتجه إليه الحنفية وقد تكلم الإخوة عن هذه النقطة بإفاضة كما رأينا ولكن لي تعليق محدود حتى لا نطيل الكلام.
إن الموضوع هو التعاقد على شيء غير موجود، وأنه سيوجد بعد أن يصنع، وأن الثمن في عقد الاستصناع يصح أن يكون مقدما، ويصح أن يدفع البعض ويؤخر البعض كما حدده المذهب، فحينئذ موضوعه غير موجود، الثمن قد يتأخر بعضه أو كله، ومن ثم جاء الكلام حول مناقشة الأدلة التي يمكن أن نتخطى بها كونه معدوما وكون بعض الثمن قد يكون متأخرا، الحنفية عللوا لذلك بجانب الأدلة التي ذكروها من استصناع المنبر أو الخاتم أو ما إلى ذلك من الحمام ودخوله وعدم تحديد ما يستهلكه الإنسان فيه، بجانب ذلك قالو: إن التعامل بالاستصناع يرجع إلى الإجماع الفعلي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم من غير نكير، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) وقوله: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ". إلى هنا أخذنا من هذا أن هناك صناعات كانت تتم في هذا الوقت، وأنه اتفق على جوازها من هذا الكلام الذي ذكرناه، ومن ثم تابعت بعض المسائل الموجودة عند المالكية حتى أرى ما يمكن أن يكون دينا بدين، ووجدت صورة عند المالكية أتوا بها: وهي الشراء من شخص دائم العمل - يعني من لهم حرف - ويتقدم إنسان ليشتري منهم بعض ما عندهم على أن يأخذ في كل يوم جزءا ثم بعد ذلك يسدد في نهاية المدة، وهذه الصورة كما وردت بنصها أن الناس كانوا يبتاعون اللحم بسعر معلوم، يأخذ كل يوم شيئا معلوما، ويشرع في الأخذ ويتأخر الثمن إلى العطاء، ثم قال المالكية: إن كل ما يباع في الأسواق يأخذ حكم هذه الصورة، ولا يكون إلا بأمر معلوم، يسمي ما يأخذ كل يوم، وكان العطاء يومئذ مأمونا ولم يروه دينًا بدين، ثم قالوا: وإجارة ذلك مع تسمية الأرطال التي يأخذ منها كل يوم رطلين أو ثلاثة على الشرطين المذكورين، هو المشهور في المذهب، وهو قوله في هذه الرواية - مروي عن الإمام - (أنا أجيز ذلك استحسانا اتباعا لعمل أهل المدينة وإن كان القياس يخالفه) ، إذن كان هناك بعض البياعات التي تتم بهذه الصورة، فيها السلعة قد تكون غير موجودة حتى أنه يجوز التأخير عندهم في هذه الصورة، يتأخر الشروع إلى عشرة أيام ونحوها، يتم على شيء غير موجود وقت التعاقد، قد يكون ذلك، والثمن متأخر، وأجيزت هذه استحسانا اتباعا لعمل أهل المدينة.(7/1110)
قارنت بين الأمرين، بين هذه الصورة التي أجيزت استحسانا ودليلها تعامل أهل المدينة، وبين ما قاله الحنفية هنا: من أن ذلك جرى التعامل عليه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، ثم بينت أن التعامل هذا الذي يعتبر عرفا وإجماعا فعليًّا، يمكن أن يكون أصلًا للقول بعقد الاستصناع، إلى هنا نسطيع أن نقول: إن الحنفية دائما حينما يكون هناك إجماع عملي نجد أنهم يخضعون أو يأخذون بالاستحسان في مثل ذلك - ولذلك جاءوا في الشروط حينما يشترط الإنسان شرطا ويكون هذا الشرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه وفيه منفعة لأحد المتعاقدين - وقد كان القياس هو ألا يصح هذا الشرط، ولكن ما تعامل الناس به أجازوه، فقالوا: إذا اشترى نعلًا على أن يحذوه البائع أو جرابا على أن يخرز له خفًّا أو ينعل خفه أو قلنسوة على أن يبطن له البائع من عنده قالوا: إن ذلك يجوز استحسانا لأن الناس قد تعارفوا هذا النوع من الشرط، وتعاملوا فيه فيجوز استحسانا التعامل به، والتعامل قاض على القياس، لأن التعامل إجماع فعلي والثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، والعرف يترك به القياس.
إذن إلى هنا نستطيع أن نقول إن القول بمشروعية عقد الاستصناع دليله بجانب الأدلة التي ذكروها أن التعامل جرى عليه وقد رأينا ما صرح به المذهب المالكي في الصورة التي ذكرها، وإن كانت لا تتفق مع الاستصناع من كل وجه، ولكن من حيث إنه شيء غير موجود قد يكون غير موجود في الوقت الحالي، وأنه سيوجد وقد يتأخر الشروع أياما مع أن الثمن مؤخر في هذه الصورة إلى العطاء، لكن صورة الاستصناع معنا قد يكون الثمن حالًّا أو قد يكون مجزءًا وقد يكون متأخرًا. هذا من ناحية.
الناحية الثانية: لما نظرنا إلى موضوع العقد، موضوع العقد هو الخلاف الموجود هل هو العمل أو العين التي يرد عليها العقد؟ طبعا العمل غير موجود وكذلك العين غير موجودة، ووجد خلاف في المذهب كما قرره الأخ الدكتور علي، يعني الآن المعقود عليه غير موجود قطعا، والميل إلى جعله متعلقا بالعين أولى من تعلقه بالعمل، لأننا نحن الآن أمام بيع والبيع يحتاج إلى ألا نلجأ إلى العمل لأن العمل سوف يكون إجارة، لكن البيع يكون متعلقا بالعين، فيرد العقد على العين. صحيح أن العين هي المصنعة، فهذا أمر مضاف إليها لكن العين هي التي يرد عليها العقد.(7/1111)
النقطة الأخرى: من حيث لزوم عقد الاستصناع، واضح لنا أن المذهب في كتبه المطبوعة سواء كانت من أول المبسوط إلى الكتب المتأخرة كلها درجت إلى تقسيم الحالات التي يمر بها عقد الاستصناع وهي ثلاثة: على أن الحالة الأولى قبل أن يتم التصنيع لا شك أن العقد غير لازم، وبعد تمام التصنيع، وقبل تقديمه للشخص الذي استصنع هذه السلعة أيضا يكون غير لازم، ثم جاء الخلاف في اللزوم في المرحلة بعد التصنيع، ثم تقديمه إلى الشخص المستصنع، في هذه الحالة يأتي الاختلاف في اللزوم، هل هو لازم؟ أو يلزم الصانع ولا يلزم المستصنع لأن المستصنع يكون بالخيار أو أن كلًا منهما يكون له الخيار؟ هذا ما نقله الأخ الدكتور علي عن المحيط البرهاني ويشكر الحقيقة في متابعته لهذه النقطة - وطبعا المحيط البرهاني مخطوط - وبودنا أن يحقق أيضا من عدة نسخ، يعني لا بد من تحقيق هذا المخطوط على نسخ المحيط البرهاني وهي كثيرة، حتى نتأكد من أن هذا الوارد هو موجود هي المحيط وإن كان لم ينقل إلى هذه الكتب وبخاصة أنها تنقل عن المحيط البرهاني.. وإن السلع التي كانت معروضة أو التي كانت تستصنع في هذا الوقت كانت من الخفة أو من عدم الأثر الكبير بحيث لا تؤثر على المتعاقدين تأثيرا كبيرا، ومن ثم لم تكن بالأهمية بمكان، لكن الآن وقد أصبح أولًا الاستصناع لا يمكن أن يحصر في الدائرة التي ضربت لها الأمثلة إذ أن كل ما تعالم فيه الناس استصناعًا سيجري عليه هذا الأمر فإذا كان الأمر كذلك وقد جرى الاستصناع الآن في كل السلع تقريبًا سواء كانت معمرة أو غير معمرة وسواء كانت استهلاكية أو إنتاجية، أصبح العالم الآن يموج بالتصنيع، فهل يمكن أن نقف عند هذا الحد أم أنه يجوز لنا أن نتخطى هذه المرحلة؟ ثم نظرا لخطورة هذه الصناعات التي تعرض ننتقل من درجة عدم اللزوم إلى اللزوم حتى لا يضار المتعاقد، سواء كان صانعًا أو مستصنعًا، وبخاصة أن المستصنع إذا رجع عن العقد في تصورنا في الوقت الحالي فإنه لن يجد مصنعا يقدم له شيئا، كذلك نفس المصنع أو الصانع إذا نكص عن العقد فإنه لن يجد مشتريًا لأن هذا يؤثر على مسيرته في السوق، ومن ثم الاتجاه إلى القول بلزوم العقد هو اتجاه تمليه الضرورة الفعلية والتعامل الفعلي القائم في مثل هذه الصناعات، حتى لا يقع ضرر كبير في هذه الحالات على الصانع أو على المستصنع.
هذا ما أردت أن أبينه بالنسبة للنقاط التي وجدت أمامنا وهناك في البحث بعض الأمور يمكن الاطلاع عليها في أن البديل من حيث المذاهب الأخرى وهو السلم أيضًا ضبطوه، ووجد كما عرض الدكتور السالوس ولا نطيل فيه فالبحث أمامكم ويمكن الاطلاع عليه وشكرًا.(7/1112)
الدكتور سامي حسن حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم.
في خاتمة هذا التعليق بالنسبة لي الذي أفتقد فيه هذا الجو العلمي بين الإخوة الطيبين في هذا الوسط الفواح الشذى، وهذه الرئاسة الحكيمة، والأمانة العامة الرحبة الصدر، أختتم في أن أبين الجانب التمويلي في عقد الاستصناع، فهذا العقد هو واحد من العقود التي صنعها الاجتهاد صنعًا، الاجتهاد الإسلامي المدفوع لسد احتياجات المجتمعات الإسلامية وضمن قواعد الشرع الحنيف، وإن كان سمي بالاسم عند الحنفية، لكنه من حيث المآل كان موجودًا كما استمعنا عند المذاهب الأخرى، وهذه هي طبيعة الفقه الإسلامي، يغطي الاحتياجات سميت أو لم تسم.
أهمية العقد في حياتنا المعاصرة: ننظر إلى هذا العقد، وهذا ما أرجوه أن ننظر إلى الاختلافات الفقهية على أنها آراء وتراث، نأخذ منها ولا نتقيد بحرفيتها، نأخذ منها بمقدار ما تلبيه من احتياجات المجتمع، خاصة وأننا نصول ونجول في ميدان الاجتهاد الرحب الفسيح.
فالنسبة لعملية الاستصناع أولًا: هي مدخل من عمليات التمويل للمؤسسات والبنوك الإسلامية، وقد كان أول من تحدثت معه في هذا أخي الدكتور عبد السلام العبادي باعتباره مسؤولًا عن مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام، حيث طبقنا عقد الاستصناع على استصناع حجر البناء الذي تبنى به البيوت في الأردن غالبًا، وكان هذا تطبيقًا موفقًا، ومزية عقد الاستصناع عند الأخذ باللزوم به من حيث إنه يمكن أن يكون فيه استصناع واستصناع موازٍ، كما بين الفقه الحنفي بكل صراحة ووضوح في أنه يجوز لمن تقبل عملًا - أي أخذ على عاتقه عملًا – أن يقبله يعطيه لغيره بسعر أقل، فإذا أخذ على النظام القديم ثوبًا ليصنعه بعشرة دراهم يستطيع أن يعطيه لآخر ليصنعه بنفس المواصفات بتسعة دارهم فيربح الفرق، وهذا الفرق له مقابل هو الإدارة والمتابعة والتنظيم، كذلك في حجر البناء يؤخذ لراغب البناء المتر بعشرة دنانير ثم نجد من يبنيه بنفس المواصفات بتسعة فتربح المؤسسة المالية أو البنك الإسلامي الفرق، وإذا جاء الحجر حسب الوصف فالعقد ملزم وإذا لم يأت حسب الوصف تتحمل الجهة التي تولت التمويل المخاطرة.(7/1113)
هذه الصيغة البسيطة التي نراها في تراث الأقدمين – رحمهم الله جميعًا – في حديثهم عن صناعة خف وثوب وقلنسوة نتطور بها في حياتنا اليوم لسد الاحتياجات التمويلية على أعلى المستويات.
عرضت علينا قضية: قضية تمويل حاجة لإحدى الدول الإسلامية بخمسمائة مليون دولار، وكان الموضوع عقد سلم على البترول، وعقد السلم كما تعلمون فيه تقديم رأس المال وقبض الإنتاج أو تسلم الإنتاج مرة واحدة، ولكن كمية البترول ليس هناك إمكان تسليمها دفعة واحدة، وكذلك في نفس الوقت من المصلحة التسلم على دفعات، وكذلك من المصلحة دفع لثمن على دفعات أيضًا، فكان عقد الاستصناع هو الوعاء الذي انتقل به الفكر الإسلامي من خف وقلنسوة وثوب إلى تمويل صفقة بخمسمائة مليون دولار، على استصناع البترول بمواصفات معينة من إنتاج آبار معينة، وتم العقد على هذا الأساس، وكم سرت الدولة بأن يكون الفتح لها من باب إسلامي، ثم جاء على طريقة ما ذكرت من الاستصناع والاستصناع الموازي عقد آخر، حتى لا يتضرر المشتري بذبذبات أسعار البترول التي تتحكم فيها السوق العالمية صعودًا وهبوطًا، فنظم عقد مواعدة على البيع مع جهة تأخذ هذا البترول الخام، وهي مصفاة للبترول تصنعه ليصبح البنزين والسولار ومادة الزفت والمنتجات البترولية الأخرى، وتمت الموازنة بين هذه العقود، فأصبح الكل راضيًا، استفادت الدولة الإسلامية واستفاد الممول الذي يبحث عن الطريق الحلال، وتم الإحياء لعقد قدمه لنا الفقهاء بجهدهم وتراثهم – رحمهم الله جميعًا – وندعوا لهم بالرحمة ونسير على منهجهم في تطبيق الاحتياجات وليس في التقيد بالكلمات. وشكرًا لكم جميعًا.(7/1114)
الشيخ محمد رأفت سعيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سبيلهم إلى يوم الدين. وبعد:
عقد الاستصناع من العقود التي تشتد حاجة الناس إليها، فإن حاجة الإنسان إلى السلع التي تستصنع من الحاجات المتجددة، وذلك لتطور الحياة البشرية، بل وبصورة سريعة يكون المستصنع اليوم قديمًا في الغد، وما صنع هذا العام ليس هو ما صنع في العام السابق، وقد يحتاج الأمر إلى إضافات جديدة تحتاجها طبيعة الآلة أوالجهاز المصنع وتقتضيه ضرورة الاستعمال، كما أن الصانع في إطار هذا القفز السريع في التطور قد يحتاج إلى مال يدخل في تهيئة هذه المصنوعات، وكذلك في نفقاته الخاصة، وعلى ذلك فإن تحقيق حاجة المستصنع والصانع تجعل بينهما هذا الوجه الذي عقد بينهما، يدفع فيه المستصنع مالًا للصانع ليصنع له ما يريد، فكيف يكيف هذا العقد؟ هل هو مواعدة أم بيع؟ وهل يكون بيعًا لما ليس عند البائع فلا يجوز؟ وهل يستثنى من هذا نظرًا لحاجة الناس إليه كما استثني السلم مع تحقيق ما يشترط في السلم من تحديد الصفة والقدر والأجل؟ وهل تحقق هذه الشروط يجعلنا نسميه سلمًا ولا حاجة إلى استحداث اسم آخر كعقد الاستصناع؟ ولكن لوحظ أن هذا الاستصناع يختلف عن السلم في وجوه، منها أن عقد الاستصناع يتضمن عمل عامل في الصناعة، فهل هذا العنصر يجعلنا نطلق عليه عقد إجارة. أم أن عقد الاستصناع فيه من جوانب هذه العقود ما يكون بها عقدًا خاصًّا يسمى بعقد الاستصناع وأن تضمنه لهذه الجوانب من العقود الجائزة يمنحه قوة الحكم بالجواز؟(7/1115)
هذه التساؤلات: كانت العناصر التي تضمنها البحث الذي قدمته في عقد الاستصناع وعلاقة هذا العقد بالعقود الجائزة، فإذا تقدم المستصنع إلى الصانع فردًا كان أم مؤسسة بصنع شيء تحدد معالمه وتذكر صفاته وكل ما يريد المستصنع في المستصنع فيه، كما يتفق على الثمن، فهذا الاتفاق هو شكل عقد الاستصناع، هذا العقد، فقهاء الحنفية عدوه عقدًا مستقلًّا، أما فقهاء المالكية والشافعية فقد عدوا الاستصناع في أبواب السلم، وفقهاء الحنابلة جعلوه في باب بيع ما ليس عند الإنسان على غير وجه السلم، ولذلك فإن حكم الاستصناع لدى الحنفية الذين اعتدوا به عقدًا مستقلًّا الجواز، وأدلة هذا الحكم الاستحسان، ووجهه الإجماع العملي وحاجة الناس إليه وليس القياس، ويرى بعض الفقهاء – كما استمعنا من أساتذتنا الكرام – أن السنة تعد من أدلة حكم الجواز قبل الاستحسان، وإن كان الحديث حديث المنبر وحديث الخاتم – أيضًا فيه ما يحتاج إلى تفصيل ضمنته البحث، وأما بقية الفقهاء الذين أدخلوا الاستصناع في غيره فهو جائز، لأن هذه العقود جائزة، ناقش البحث ما قيل عن الاستصناع بأنه مواعدة، وانتهى إلى ترجيح أدلة القائلين بأنه عقد، ومع قوة الأدلة المرجحة فإن القول بالمواعدة ليس محققًا لمهمة الاستصناع في حياة الناس من ناحية، وليس موافقًا لطبيعة الاستصناع من ناحية أخرى، فكيف تقوم هذه الصناعات الخطيرة على مجرد وعد؟ كما ناقش البحث أيضًا مسألة اعتبار الاستصناع بيع ما ليس عند المرء، بسبب أن المال المستصنع ليس موجودا بصفته المطلوبة وقت التعاقد وورود النهي عن هذا البيع لما فيه من المخاطرة والغرر، وليس النهي بسبب عدم وجود الشيء، فإذا انتفي الغرر كان الجواز، فالمعقود عليه في الاستصناع لا غرر فيه، لأنه معلوم وموصوف ومقدور التسليم بحكم العادة وما تعارف عليه الناس وتقديرهم لخبرة الصناع، كما تناول البحث علاقة الاستصناع بعقد السلم. فقد أدخله المالكية والشافعية في عقد السلم أو في البيع بالصفة أو تشبيهه بالسلم. كما قدمت أوجه التشابه والافتراق بين عقد الاستصناع وعقد السلم، عرض البحث كذلك إلى علاقة عقد الاستصناع بعقد الإجارة، فالاستصناع له شبه بالإجارة في طلب الصنع وهو العمل، ولكن يفترق الاستئجار على الصنع والاستصناع، ومع هذا التفريق بينهما وجدنا بعض فقهاء الحنفية يرون أن الاستصناع إجارة ابتداء بيع انتهاء، وبعد بيان علاقة عقد الاستصناع بالعقود الجائزة فإن هذه العلافة تجعل لحكم الجواز في عقد الاستصناع قوة، ولذلك فإن اختلاف العلماء – وهذا ما أحب أن أؤكده تأكيدًا لما استمعنا إليه من كلام أساتذتنا الكرام في قيمة عقد الاستصناع – في جوازه ومنعه ليس إهمالًا للاستصناع، وليس انصرافًا عنه وإنما في اعتباره عقدًا مستقلًّا – كما اعتبره جمهور الحنفية – أو داخلًا في مباحث عقود أخرى جائزة عند غير الحنفية.
والذي أختم به حديثي في تقدير ما يصدر عن مجمع الفقه في بيان حكم الاستصناع أن يقترن بهذا التوجيه للأمة، فالأمة، كلها الآن مطالبة في حياتها المعاصرة أن تطرق مجالات الاستصناع التي تقتضيها المعاصرة، ليتحقق لها الوجود القوي الذي يؤثر ويتأثر بصورة إيجابية، لا تكون في موقع المستهلك فحسب وإنما تحقق في داخلها التكامل الذي يسر الله سبحانه أسبابه، فعنصر المال يفتح مجالات الاستصناع، والمواد والخام والخبرة مع تنوعها، والضوابط التي يقدمها الفقهاء في مثل هذا المجمع في هذه المجالات، تحقق للأمة جميعًا بين الأصالة والمعاصرة، الاستصناع في المجال الطبي، وفي المواصلات، وفي آلات القوة الملتزمة بالحق والعدل وإفشاء السلام، والخير للعالمين، في الأجهزة والأدوات التي تيسر للأمة سبل حياتها، التصنيع الزراعي، وما يحتاجه الإنسان في مأكله ومشربه، بل وفي وسائل ترفيهه التي تتلاءم مع شخصية الأمة، كل ذلك في حاجة إلى النهوض به ونحن نتدارس حكم عقد الاستصناع. وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وشكرًا.(7/1116)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
ما تفضل به السادة العلماء الذين تقدموني فتح أبوابًا كثيرة، وكانت بحوثًا معمقة بلغت بطون الكتب المطبوعة والمخطوطة فجزاهم الله خيرًا على ما بذلوه وكانت الأمثلة التي ضربوها أمثلة تجعل كل واحد منا يحس بالقضية وبالموضوع، وأنا أبدأ من هنا ثم أذهب فورًا إلى التاريخ.
ما قيمة الاستصناع في عصرنا الحاضر؟ ليس هو الصناعة وما أدخلتها على حياتنا فإن كل واحد منا في معظم حياته ليس في حاجة إلى الاستصناع، بل هو يذهب إلى المصنوعات فإذا بها معروضة في دور العرض موجودة يستطيع أن يشتريها، ولكن المشكلة أعمق من هذا عندما ننظر إلى بعض ظروف الإنسان والأمة، أما بعض ظروف الإنسان فكل واحد منا يريد أن يبني بيتًا لنفسه في حياته، فيتعاقد مع من يبني له هذا البيت، فما هو هذا العقد؟ هو يتفق معه على أن يبني له بيتًا له مواصفات محدودة ويسلمه له بعد مدة، ويتقاضى الثمن على مراحل، فهل هذا العقد عقد صحيح شرعًا أم عقد حرام؟
ثم أنتقل من هذه الحالة الفردية إلى أمر أقوى منه، وهو الأمة والدولة في قيامها على شؤون حياة العامة، ونبدأ مثلًا بأن الدولة تريد أن تجهز الجيش بالطائرات، فهي تتفق مع شركة من شركات الطيران أن تعد لها في كل سنة عشر طائرات من نوع محدد، لا تستطيع الدولة أن تدفع من اليوم الثمن على أنه عقد سلم، ولا تضمن للأمة سلامتها، إذا قلنا إنه عقد بخيار، فإذن القضية تصبح أكثر أهمية وأكثر خطورة، ومن ذلك ما تقوم به الدولة من مبان وغيرها، فإذن المشكلة أصبحت اليوم لها تأثير على الحياة الخاصة والعامة، غير التأثير الموجود من قبل، المشكلة التي واجهت الفقهاء ما هي؟ حتى نعلم لماذا – في ظني – لماذا اختلف الفقهاء؟ المشكلة هي مشكلة المخاطرة عند تعمير ذمتين، عندما يكون الصانع من ناحية قد التزم بشيء والمستصنع قد التزم بشيء، هذا لم يدفع شيئا وهذا لم يدفع شيئا، والشريعة منتظمة لا خلاف فيها، وجعلوا من قواعد التشريع تعمير الذمتين أنه غير جائز، فلما جاءت قضية الاستصناع أدخله من أدخله تحت عقد السلم باعتبار أنه فرغ ذمة وهي ذمة المستصنع بأنه دفع المال، وبقيت ذمة واحدة وهي ذمة الصانع، أما الحنفية فلا بد أن يكون العقد عندهم عقد خيار وذلك لأنه لما لم يدفع صاحب المستصنع المال، ولم يقم الصانع بالعمل. فلا بد أن يكون عقد في كل واحد منهما بالخيار حتى يقع الخروج من هذه المشكلة أي مشكلة تعمير الذمتين. إذن هذا هو - في نظري - قلب المشكلة وكيف اتخذ كل واحد منهما حلا إما لأنه لا بد من تقديم الثمن كاملا وإما أنه على الخيار.(7/1117)
وقد رأينا فقهاء سابقين عدوا هذه بعد أن قعدوا القاعدة، عدوا كل ما خالف القاعدة هو من قبيل المستثنيات، ولكن ابن القيم الجوزية - رحمة الله عليه - وهو البعيد الغور لما تحدث عن المشاكل قال: (ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس) ، وأنتم أعلم بهذا مني، أراد أن يجعل من هذه العقود عقودا مستقلة بذاتها وليست مستثناة من القواعد العامة وبسطها بما هو معلوم، فأعتقد أن العقود التي تجرى اليوم على هذه الصفة لا يمكن فيها أن تقوم الدولة ولا الأفراد بدفع المال معجلا، ولا يمكن أن تقوم على الالتزام، وأنه يتأكد القول بأن هذه العقود كلها هي عقود جائزة وإلا لوقعت الأمة كلها في خطر، ولا يمكن أن نجيز عقدا وأن ننفي عقدا آخر، ولهذا فالذي يترجح عندي أمران: أنه لا يجب تقديم رأس المال كاملا كالسلم، وأن عقد الاستصناع - أو سمه ما شئت - هو عقد ملزم للطرفين. والله أعلم.
عفوا نسيت نقطة: الأمر الذي أريده الانتظام، أن ينتظم فيه الفكر الإسلامي في مباشرة الحياة الجديدة هو أن هذا أيضا هو أصل المشكلة في المستقبليات التي تحدثنا عنها قبل يومين، فإن الذي يأخذ على نفسه أو يلتزم بأن يعطي للدولة كل يوم عشرة أطنان أو مائة طن من الخبز فلا بد من أن يحقق لنفسه المادة الأولية، وهو لذلك لا بد أن يعقد هذا العقد من هذا النوع الذي يلتزم فيه الطرفان دون تقديم رأس المال. وشكرا.(7/1118)
الدكتور عبد السلام دواود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أرجو أن تسمحوا لي بأن أنقل الحديث إلى نقطة متقدمة في الحوار، واضح أن القول بعقد الاستصناع وفق الفهم الذي رجحه عدد من العلماء، والذي تبنته مجلة الأحكام العدلية على أساس لزوم العقد وعلى أساس ما ذهب إليه الحنفية من عدم اشتراط دفع الثمن - ثمن المستصنع - عند العقد، هذا الفهم هو الذي دفعنا للتفكير في قدرات هذا العقد لحل مشكلات التمويل المعاصرة وبخاصة في البنوك الإسلامية، والذي دفعني لهذا - في الواقع والذي حدثت فيه أخي الدكتور سامي - هو النمو الواسع لعقد بيع المرابحة للآمر بالشراء، واضطرار التطبيق لهذا العقد إلى أن يذهب في تطبيقه إلى آفاق - في الواقع - لها محاذيرها الشرعية، ذلك أن الذي رجحه المجمع - كما تذكرون في دورة الكويت - هو ضرورة أن يكون هنالك تسليم للأعيان التي يجري شراؤها وفق عقد المرابحة، هذا الأمر إذا طبق في كثير من أنواع السلع التي تصنع لا يمكن في الواقع أن يحدث تسلم من البنك أو من الجهة الممولة لهذه المواد لأنها لا تسلم إلا في حوزة الآمر بالشراء، ولا يعتبر التسليم عرفا ولا قانونا إلا بأن يجري التسليم في حوزة الآمر بالشراء، فكيف يمكن عند ذلك تصور أن يكون هنالك تسليم أو تسلم من الجهة الممولة؟
في التطبيق: البنوك الإسلامية ما عادت تراعي هذا كثيرا، وأغفلت موضوع التسليم وأصبح هناك تطبيقات تفصيلية ليس هنا مجال الحديث عنها قائمة على التساهل في هذا الأمر. هذا من جانب.(7/1119)
من جانب آخر لاحظنا أنه في عقود بيوع المرابحة، هذه العقود لا تقوم بدفع أو تمويل عمليات أجور البناء، يعني شخص يريد أن يبني بيتا: هذا الشخص إذا أراد أن يبني بيتا عن طريق البنك الإسلامي هو يشتري فقط المواد، أما ما يدفعه من أجور مصانعة وبناء وغير ذلك لا يمكن أن يمول عن طريق بيع المرابحة، وإذا دفع سيكون عبارة عن محض قرض ربوي، هذا في الواقع الذي دفعنا إلى التفكير في قدرات عقد الاستصناع فوجدنا أن العملية يمكن أن تتم من الناحية الشرعية وعلى أساس ترجيح ما ذهب إليه الحنفية، وبالذات رأي أبي يوسف، وما تبنته مجلة الأحكام العدلية، على أساس أن يقوم هناك عقد بين الراغب في المادة المصنوعة أيا كانت ذلك، حجرا أو أثاثا أو مواد بناء إلى غير ذلك، أن يعقد عقدا مع البنك، الإسلامي على أن يتولى البنك أو الجهة التمويلية تقديم هذه المادة المصنوعة وفق ما يتفقان عليه من شروط، وغالبا ما تكون هذه الشروط فيها تأجيل للثمن، ثم بعد ذلك يذهب البنك الإسلامي أو الجهة الممولة الإسلامية إلى صانع مختص في هذا العمل، فيتفقا معه بعقد آخر لا علاقة له بالعقد الأول بتنفيذ هذه الصنعة، والعلاقة الحقوقية والالتزامات المترتبة بين المستصنع في العقد الأول والجهة التمويلية - البنك - والصانع في العقد الثاني والجهة التمويلية - البنك - منفصلتان تماما ولا علاقة بينهما، وبالتالي كل عقد يعامل من حيث ما يتعلق به من خلافات في ظله وضمن شروطه ومواصفاته، وفق هذا الفهم تم استحداث نوعين من العقود: عقد بين المستصنع والجهة الممولة (البنك) ، وعقد آخر بين الصانع وبين الجهة الممولة، وسرنا في هذا التطبيق على أساس هذا الفهم وهو الذي قدمته في ورقة العمل التي بين أيديكم، وأرفقت بها صورا لبعض العقود في هذا المجال لعل في ذلك تنويرا حول ما نقوم به، هذا فيه شيء قريب، وقد لجأ أحد البنوك الإسلامية إلى شيء قريب من ذلك كما هو في قطر، وكما أشار الشيخ السالوس في ورقته، في ظني الاستفادة من هذا العقد في المجال التمويلي - نحن مسلمون في مجال الصناعة أن قدرات هذا العقد فذة ويلبي الحاجات التي تحتاجها الأمة كما شرح أستاذنا السلامي - أما في مجال التمويل فهذا العنصر الجديد الذي دخل في فوائد هذا العقد، والذي يمكن أن يكون في الواقع من أدوات التمويل الرئيسية في البنوك الإسلامية، وشكرا.(7/1120)
الشيخ عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم.
هو في الواقع أن عقد الاستصناع عقد له أهميته خاصة في هذا العصر الذي تطور فيه كل شيء، وأصبحت الصناعة هي عموده الفقري، ويعجبني كلمة لأبي الحسن الماوردي قالها في عصره - ولا أعتقد أن الصناعة في ذلك العصر وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم أو كانت لها أهمية كما لها الآن، أنقل كلمة من سطر ونصف فقط للبيان والتوضيح - قسم المكاسب إلى أربعة أوجه: نماء زراعة، ونتاج حيوان، وربح تجارة، وكسب صناعة والمهم هو تركيزه على قوله كسب الصناعة، قال: (القول في الصناعة وأنها وثيقة الصلة بالأسباب الثلاثة وأنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صناعة فكر، وصناعة عمل، وصناعة مشتركة بين فكر وعمل، وتكلم عن العمل الصناعي بأنه أعلاها رتبة لأنه يحتاج إلى معاطاة في تعلمه ومعاناة في تصوره) .
هذه الكلمة في الواقع تبين لنا أهمية عقد الاستصناع في هذا العصر، لأن الصناعات تطورت، وتنوعت، وأصبحت مهمة، حتى إن مجلة الأحكام العدلية وهي قد مضى عليها تقريبا أكثر من مائة سنة، شعرت بأهمية هذا العقد وبينت فيه - الجماعة الذين وضعوا المجلة - بينوا أهمية هذا العقد ونصوا في المذكرة التي رفعوها إلى الجهات المعنية على أهمية عقد الاستصناع، ولهذا يعتبر الفقه الحنفي في الواقع كما يعبر عنه علماء القانون في العصر الحديث عندما وضعوا أبوابا منفصلة عن عقد الإجارة تعالج عقد الاستصناع تحت عبارة عقد المقاولات، فأبرزوا أهمية عقد المقاولة ومدى استجابتها، لظروف العصر، واهتموا أيضا بتنويع التقنيات الوضعية في مسألة معالجة عقد الاستصناع في ناحيتين: في العقود المدينة تحت اسم عقد المقاولة، واهتموا أيضا في القوانين البحرية بالنص على المقاولة في بناء السفن، وتظهر أهمية هذا إذا قلنا بلزوم العقد، فالحنفية: في الواقع أنا نقلت لهم من كتاب غنية ذوي الأحكام في حاشية درر الأحكام لملاخسرو، قال الشرنبلالي في حاشيته على درر الحكام والمسمى غنية ذوي الأحكام في حاشية درر الحكام تعليقا على قوله: وله - أي للآمر - الخيار أي دون الصانع وهو الأصح،وعن أبي حنيفة: أن الصانع له الخيار، وعن أبي يوسف: لا خيار لواحد منهما، وذكر شراح المجلة عندما نقلوا هذا النص في مادة المجلة على أن هناك اختلافا في روايات المذهب الحنفي، فمنهم من ينقل عن أبي يوسف: أن اللزوم لا يكون إلا في وقت لاحق، ومنهم من يقول: إن العقد يكون لازما من بداية العقد، وهذا الذي أخذت به المجلة في لزوم عقد الاستصناع.
أما بقية المذاهب الأخرى فهي في الواقع لم تهمل عقد الاستصناع، بالعكس إنما عالجته بأسلوب آخر، فالإمام الشافعي نص على أن الطالب يستطيع أن يشتري المادة ويطلب صنعها، عند الحنابلة أيضا في اشتمال عقد البيع على شرط كأن يشتري قماشا ويطلب خياطته، كذلك في المذهب المالكي نصوا في عدة أماكن على ما يحقق عقد الاستصناع، ومنهم اجتماع عقدين كعقد البيع وعقد الجعالة، وضربوا مثلا لذلك بالطبيب - مثلا - لو تقاول مع الطبيب على أن يعالج هذا المريض على أن يكون الدواء منه، فالمذاهب الأخرى لم تهمل جانب عقد الاستصناع بل عالجوه بوسيلة أخرى غير الوسيلة التي عالج بها المذهب الحنفي والذي كان موفقا جدًّا في جعله عقدا مستقلًّا له أحكامه وشرائطه، وشكرا.(7/1121)
الشيخ عبد القادر العماري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أشكر الإخوة العلماء، الذين قدموا بحوثا ضافية مما يدل على علمهم الغزير، وأنا أؤيد ما قاله الشيخ المختار من أننا في عصر يجب أن يكون هناك اجتهاد جديد في العقود التي نحتاج إليها في هذا العصر، وشيخ الإسلام ابن تيمية سبق أن ضاق ذرعا بتعقيدات الفقهاء، وهم - رضوان الله عليهم - اجتهدوا على حسب بيئاتهم وعلى حسب ظروفهم، شيخ الإسلام قال: هذه التعقيدات التي تشترط في البيع لا أصل لها من كتاب ولا سنة ولا أثر عن الصحابة ولا قياس ولا عليها عمل المسلمين قديما ولا حديثا ولا مصلحة فيها ولهذا من عامل الناس بما استثقلوه ونفروا منه فاعلم أنه من المنكر لا من المعروف، مثل اشتراط الصيغ في العقود، وتسمية مقدار الثمن وغير ذلك، واشتراط رؤية المبيع ووجوده، بل إذا وصف به المقصود كفى، وقال تلميذه ابن القيم في عقد الاستصناع: الذين حرموه بعضهم استندوا إلى أنه من بيع المعدوم، يقول ابن القيم: ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بلفظ عام ولا خاص ولا في كلام أحد الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، وإنما في السنة النهي عن بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيها النهي عن بعض الأشياء الموجودة. فليست العلة في المنع العدم ولا الوجود بل الذي ورد في السنة النهي عن بيع الغرر، وهو الذي لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودا أو معدومًا. مما يرتبط بذلك: في الصباح سمعت في بعض الأحاديث أنه لا يجوز دفع الأجرة مقابل الكفالة، وقال الشيخ - حفظه الله - في بحثه: إن الدليل على ذلك أنه عقد التبرعات لا يجوز فيها الأجر، ومثله وقاسه على القرض، ورد على القائلين بأن الناس في حاجة إلى ذلك في هذا العصر، بأن هذا دليل غير صحيح، والواقع أن الدليل يجب أن يورده هو، لا اللذين يقولون بأنه يجوز في هذا العصر الذي تغيرت فيه الظروف وتغيرت فيه الأحوال أن نجعل للكفالة أجرا، نحن نرى الناس - مثلا - يتورطون في حوادث، ولا يجدون من يكفل عنهم إلَّا بأجر، وهذا شيء معروف، فإذا ذهبت إلى أي بلد أنت لا تستطيع أن تلزم الناس أن يتبرعوا، وأن تكون عندهم الشهامة والمروءة كما كانت سابقا، لا بد أن تتغير الأحوال، ولا بد أن نتمشى مع تغير الأحوال، ونتقيد بما في الكتاب والسنة ولا نتقيد بأقوال فقيه، وسمعت أيضا في الصباح البحث عن موضوع (ضع وتعجل) ، وأنا أناشد الإخوة ألَّا يتعجلوا في التحريم، لأن هناك في هذا الموضوع جوانب إنسانية، أحيانا نلمسها نحن في القضاء، فإذا تورط الرجل في ديون كثيرة، إذا كانت حالة فما هناك مشكلة، ولكن هناك ديون، بيت بناه ليسكنه وله أسرة ويأتي من يريد أن يساعد هذا الرجل المتورط الذي ارتكبته الديون، يريد أن يساعده أو جهة تريد أن تساعده بمبلغ، وتتصل بالدائنين تقول لهم: ضعوا من هذا المال ونعجل لكم بعض مالكم في مقابل التنازل، فهذه الأمور يجب أن نبحثها على روية وأن نتقيد بالكتاب والسنة، وأن نجعل هناك حدودا للجوانب الإنسانية والجوانب التي فيها الربا، مثلا لا ندع أن يستغلها المرابون في البنوك الربوية، أهل البنوك الربوية لا يسألون عن تحليل أو تحريم، ولكن نرشد المسلمين الذين هم أهل التقى وليس المسلمون كلهم سواء، لكن هناك من سيتقيد بقراراتكم هذه، نرشدهم ونعرفهم ما يجب عليهم في الأمور الإنسانية، وما يحرم عليهم في الأمور غير الإنسانية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/1122)
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
بكل اختصار يبدو أن عقد الاستصناع هذا يختلف عن العقود الأخرى التي نسب إليها من خلال عدم تمتعه بخصائص هذه العقود، فلا هو سلم خصوصًا عند عدم تعيين الأجل وعند تأخير الثمن، ولا هو إجارة لأنه فيه عمل ومواد، وعلى أي حال هو عقد يختلف عنها، المهم عندي أن نعرف دليل مشروعية هذا العقد، هذا هو المهم عندي وإن كانت أقوال الفقهاء كلهم – رحمة الله عليهم – تفسح الطريق أمام معرفة الدليل لأي موضوع – دليل الحكم -.
أهم ما يذكر من أدلة لهذا العقد هو ما أسماه السادة الحنفية بالإجماع العملي، وما نسميه نحن في اصطلاحاتنا الحوزوية عندنا بسيرة المتشرعة أو عرف المتشرعة، هذا العرف – وليس العرف مصدر الأحكام – إنما يكشف عن السنة من باب التقرير أو الإقرار إذا توفر فيه شرطان:
الشرط الأول: هو أن يمتد إلى عصر الرسول عليه الصلاة والسلام امتدادًا قطعيًّا بحيث نقطع بأنه كان سائدًا في ذلك العصر.
الشرط الثاني: ألا يصدر نهي خاص به أو عام ينفيه.
فمع وجود هذا العرف ومع عدم صدور النهي منه عليه الصلاة والسلام نستفيد التقرير والإقرار لمثل هذا العقد المشروع، هذا العقد أو هذان الشرطان أعتقد أنهما متوفران، فامتداد هذه السيرة أو هذا العرف يكاد يكون واضحًا إلى ذلك العصر بل إلى عصور قبله، والأمر الثاني صدور النهي لم يثبت على الأقل، يعني لم يصدر نهي خاص عنه بالخصوص، وما يتصور من وجود نهي عام هو " لا تبع ما ليس عندك " إذا سددنا كل جوانب الاستدلال بهذا " لا تبع ما ليس عندك " أو النهي عن بيع المعدوم، فيه احتمالات ذكرتها في هذا الصباح، منها أنه نهي عن بيع عين شخصية مملوكة لآخر، أو نهي عن بيع شيء لا يضمن تسليمه وما إلى ذلك. لا نستطيع أن نعتبر هذا نهيًا عامًّا عن هذه السيرة وحينئذ فالسيرة ممتدة ولا نهي عنها وحينئذ نعتبر العقد مشروعًا، بل حتى لو لم تكن هذه السيرة فإن هذا العقد عقد عرفي، وهو مشمول لقاعدة " أوفوا بالعقود " وحينئذ فالذي أعتقده أننا لو سلكنا هذا الطريق – طبعًا الاستحسان مع وجود مثل هذا الدليل لا معنى له – لو سلكنا هذا الطريق فإن العقد يصبح مشروعًا، وبطبيعة الحال فإن المتعارف هو العقد اللازم هو اللزوم في هذه العقود، المتعارف ذلك، وهذا العرف - كما قلت - يمتد إلَّا أن ينكر أحد ذلك وله الحق إذا رأى ذلك، الذي أراه أنه يمتد ويمتد كعقد لازم، فما ذكرته المجلة يبدو هو المنسجم مع هذا الاستدلال، وأشير إلى ما أشار إليه الأخ الأستاذ الدكتور سامي: الاستصناع الموازي بتقبيله للآخرين، هذا أمر أرى فيه إشكالًا بعد أن ورد نهي عن تقبيل الإجارة بإجارة أقل منها، وتقبيل المضاربة بمضاربة أقل منها، وحينئذ لي فيه إشكال.
أما ما ذكره الدكتور سامي من أنه هناك عقود لتوريد البترول، فلا أعتقد أن مسألة البترول – وهو أمر يورد ولا يتم عليه عمل – لا أعتقد أنه مشمول لهذا العقد إلا أن نتوسع في هذا العرف فنقول: العرف الممتد يشمل حتى مجالات عدم التصنيع، تهيئة المواد التجارية من أماكن بعيدة. إذا توسعنا فحينئذ يمكننا أن نقول ونصحح عقد التوريد وعقد مسألة البترول وأمثال ذلك. وشكرًا.(7/1123)
الدكتور رفيق يونس المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحقيقة أن المفروض في بحوث بيع الاستصناع كما فهمت أنا من طرح إدارة المجمع، وكما يفترض أن يفهمهما الإخوة الباحثون، هو أن لا نعيد ما سبق معرفته – يعني – في الكتب الفقهية أو في مظانها من الكتب الفقهية، أو في الكتب المفردة لهذا الموضوع، إنما المقصود هو أن نطرح الأشياء الجديدة، وأنا في الحقيقة عندي اقتراح محدد، أرجو أن أطرحه على مسامعكم، وأن يكون موضع نقاش عطفًا على ما كنت ذكرته في السابق، في مداخلة سابقة.
الموضوع على وجه التحديد: أننا نحن نعلم من خلال الشريعة الإسلامية أن تأجيل أحد البدلين في البيوع جائز بلا خلاف، ولكن السؤال المطروح هنا والذي قد نحتاج إليه فيما يسمى بعقود التوريد التي عمت بها البلوى في عالمنا المعاصر، السؤال هو: هل يجوز تأجيل البدلين معًا في البيع؟ أنا أتساءل هنا: لماذا لا يجوز تأجيل البدلين في البيع إلى أجل واحد مثلًا؟ لا يقال إن في هذا ربا نساء لأن تبادل الثمن والمبيع لا يفصل بينهما أي زمن، وينطبق عليه أنه تم يدًا بيد من حيث التقابض، وإن لم يقع هذا التقابض عقب العقد مباشرة، ثم إن هذا البيع ليس فيه في الواقع ربا نساء ولا ربا فضل، لأنه ذهبٌ بقمحٍ، أو فضة بتمر، وبذلك يمكن أن نتساءل: لماذا لا يجوز تأجيل البدلين إلى أجلين مختلفين أيضًا؟ فإن كان أجل الثمن أبعد كان البيع نسيئة، وإن كان أجل المبيع أبعد كان سلمًا، قد يقال هنا إن في هذه الصورة غررًا من حيث تأجيل البدلين، وقد قال بذلك بعض من كتب في هذا الموضوع منهم أخي وجاري الدكتور نزيه – وهو غائب الآن – في بحثه الذي كان قد نشره له المركز بعنوان " بيع الكالئ بالكالئ " قد يقال إذن إن فيه غررًا من حيث تأجيل البدلين، ولكن هذا في نظري – والله أعلم – غير صحيح وهاكم البيان.(7/1124)
إن البيع إذا تم فيه التقابض في المجلس فلا غرر فيه على الإطلاق، وهو من أبعد البيوع عن الغرر وشبهته، قال الإمام الشافعي في " الأم ": الأعجل أخرجُ من معنى الغرر وإذا تم فيه قبض أحد البدلين فقد حضره الغرر لأن أحدهم – ولنفرضه المشتري، أحد المتعاقدين، هب أنه المشتري هنا – يقبض المبيع، ويؤجل تسديد الثمن إلى أجل معين أو إلى آجال متعددة على نجوم " أقساط " وقد يحدث تغير في الثمن بيع السلعة خلال مدة الدين، فإن زاد الثمن تضايق البائع، وإن نقص الثمن تضايق المشتري، وهذا يحدث أيضًا في بيع السلم، أما لو تعاقدا على تقابض مؤجل فكذلك قد يقع تغير في الأسعار، فيكون له نفس الأثر على كل منهما، أنا أريد أن أبين أن في تأجيل أحد البدلين غررًا، لكن الفارق بين البيع المؤجل – البدل الواحد – البيع الذي يتأجل فيه بدل واحد، والبيع الذي يتأجل فيه البدلان معًا أن أحدهما في البيع الأول – أي أحد المتعاقدين في البيع الأول – يكون قد تمتع بالبدل المعجل، تمتع البائع بالثمن في بيع السلم، وتمتع المشتري بالمبيع في بيعه النسيئة، وهذا التعجيل له أثر على ثمن التعاقد، لكن الغرر على كل حال لا يختلف بين البيع الأول والبيع الثاني ويستويان معًا – أي المتعاقدان – في تحمل المخاطرة كما يتحملها الشركاء في الشركة، فإن بقيت الأسعار ثابتة فلا مشكلة في الواقع، وإن هبطت تأثر المشتري، وإن ارتفعت تأثر البائع لأنه يكون قد باع بثمن رخيص، وعلى هذا فلا فرق في الغرر بين بدل واحد يتأجل أو بدلين يتأجلان – كما يذكر بعض الباحثين – ولا سيما إذا كان للتعجيل والتأجيل أثر في تحديد ثمن البيع، فأين الغرر المتعاظم الذي ادعاه بعض الفقهاء إذا تأجل البدلان؟ لعلهم نظروا إلى بدل وبدلين مع أن النظر يجب أن يكون للمتعاقدين لا للبدلين، والمتعاقدان هما أنفسهما لم يتغيرا في كلا البيعين، وهذا البيع المؤجل الذي يتأجل فيه البدلان قد تدعو الحاجة إليه كما تدعو الحاجة للسلم وكما تدعو الحاجة إلى بيع النسيئة، فقد يرغب أحدهم في التعاقد على سلعة أو خدمة يتسلمها في أجل معين لحاجته إليها في هذا الأجل، ولا يريد المشتري تعجيل الثمن كله للبائع كما في السلم، لأنه قد لا يملك الثمن كله الآن، أو يرغب في أن يبادل البائع قسطًا بقسط أي قسطًا من المبيع بقسط من الثمن، وقد لا يكون البائع محتاجًا إلى المال من المشتري بالذات وهذا كعقد الاستصناع وعقود التوريد والمقاولة أما باقي الأمور فهي معروفة لديكم. وشكرًا.(7/1125)
الأستاذ عبد اللطيف جناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أبدأ مداخلتي أولًا بالشكر ثم أمنية ثم أدخل في صلب المشروع.
أما الشكر فموجه من بنك البحرين الإسلامي والبنوك الإسلامية لرئاسة هذا المجمع ولأمينه العام ولهذا الجمع الطيب من علمائنا الأفاضل على ما يقدمونه من خدمات جليلة للمصارف الإسلامية يتعلق بأعمالهم اليومية، فهذه المواضيع التي تبحث إنما هي من احتياجاتنا يومًا بيوم، وأرى أنه من واجب العرفان أن تقوم هذه المصارف بتقديم الدعم بشتى أنواعه لهذا المجمع حتى يستطيع أن يقوم بدوره بدون معوقات.
أما الأمنية فهي أن هذه الأبحاث القيمة المتعلقة بأعمالنا تترجم لدينا في المصارف إلى عقود، وخشية أن يستنبط أولئك الذين يضعون العقود نواحي معينة من هذه الأبحاث تخرجها عن أصلها، فإنني أتمنى على هذا المجمع أن يضع عقودًا نمطية تستنير بها البنوك الإسلامية فتتم بذلك وحدة العمل، وقد يكون من المناسب أن تعقد ندوة خاصة تناقش فيها هذه البحوث بوجود علماء هذا المجمع وبوجود المصارف الإسلامية، وبذلك تتم وحدة العمل وتعم الفائدة.
أدخل الآن في صلب موضوعنا، موضوع عقد الاستصناع: لم يعد هذا الموضوع متعلقًا اليوم بباب يصنع أو مجموعة أبواب أو مجموعة معدات صغيرة إنما هي تتعلق بالذات بمصانع ضخمة مبالغها تتجاوز الملايين إن لم نقل حتى البلايين، مصانع تكرير، ومولدات كهرباء ضخمة، هذه المصانع وهذه المعدات لا يمكن أن نعرف صلاحيتها إلا بعد أن تنتج، هل إنتاجها موافق لما هو مطلوب أم لا؟ فكيف يجوز لي أن أدفع أو كيف يساغ أن أدفع الثمن كاملًا ثم عندما يفحص الفنيون ناتج هذا المصنع يرون أن هذا الناتج لا يتناسب مع ما طلبت فيذهب مالي هدرًا؟ وهذه المبالغ التي تدفع إن دفعت مقدمًا قد تؤذي ليس بنكًا واحدًا إنما عدة بنوك، فلذا أرى أن يسلط الضوء على نقاط مهمة هي كما يلي:
أولًا: التزام الطرفين دون حق الخيار – لا يكون هناك خيار – إذا التزما بشروط العقد.
ثانيًا: جواز دفع الثمن على دفعات أو تأخير الثمن بعد التسليم والفحص ومعاينة الإنتاج حتى نعرف ما دفعناه في هذا المصنع أنه فعلًا هذا هو المصنع المطلوب.
ثالثًا: جواز قبول الكفالة، يقدم البنك فقط كفالة، أنه إذا المصنع صنع هذه الآلة وهذه المعدات وكان الناتج ما عمله هذا المصنع يوافق الشروط والناتج المنتج من هذا المصنع هو المطلوب حق لصاحب المصنع أن يعود على الكفالة.
هذه هي المواضيع الثلاثة التي أرى أن تسلط عليها الأنظار لأن المسألة لم تعد مبالغ صغيرة، إنما هي مبالغ ضخمة، وشكرًا.(7/1126)
الدكتور عويد بن عياد المطرفي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا رسول الله، وبعد.
هل العقد " عقد الاستصناع " يتناول في هذا المجمع الموقر باعتباره عقدًا نظريًّا يراد البحث عن حكم له، أو أنه عقد قائم تعم به البلوى في هذا الزمان وفي كل زمان ويبحث عن حكم شرعي يضبطه؟
الواقع أن الاستصناع عقد تعامل به الناس قديمًا وحديثًا، كل بحسب حاجته ووقته، لحاجتهم إليه وتوقف مصالحهم عليه، وكانوا ومازالوا يلزم بعضهم بعضًا بما يتم عليه الاتفاق بين المستصنع والصانع تعيينًا للعين المصنوعة جنسًا وصفة وأجلًا بما يندفع به عندهم إثارة النزاع بين الطرفين الصانع والمستصنع. فهو إذن عندهم بهذا عقد لازم لكل من الطرفين على الوجه الذي عقد عليه في مجلس العقد كما هو الحال بين الصانع والمستصنع كما نراه الآن في المصانع ومن يتعامل معها شراء للمصنوعات.
ولو جعل عقد مواعدة واختيار لكل من الطرفين عند مجيء الصانع بالمصنوع لما خاطر الصانع بصنع مواده على الوصف الذي طلبه المستصنع، ولما اطمأن المستصنع أيضا إلى تحقق رغبته في الشيء المصنوع جنسا وصفة وحجما ووزنا بما يراه يحقق له مصلحة هو في أمس الحاجة إليها الآن، فالعين المستصنعة في هذا الزمان لم تعد مجهولة ولا هي صغيرة وخفيفة ولا هي بسيطة بل هي عين موصوفة قد يكون لها مثيل في السوق وقد لا يكون، ولكنها في الحالين عين معينة الذات والصفات والأحجام والأوزان بل والألوان في هذا الزمان، والقول بعدم دخول الأجل في الاستصناع بما يزيد على شهر يفوت على الطرفين مصالح ومنافع ضرورية كل منهما في أمس الحاجة إليها. فالصناعات اليوم لم تعد خفيفة كما كانت قديما لا تحتاج إلى وقت بل تطورت وتعقدت وأصبحت الأشهر لا تعد أجلا كبيرًا في إنجاز شيء منها، وعدم اشتراط الأجل على الصانع قد يفوت على المستصنع مصالح هامة وضرورية له، ويسبب له أضرارًا مادية أو اجتماعية أو وطنية كما لو كانت الأشياء المطلوب استصناعها معدات عسكرية تحتاجها البلد للدفاع بها عن نفسها.
إذن والحال على ما ذكر فإني أرى أن لا بد من اشتراط الأجل على الصانع ولو لأكثر من شهر، ولا بد أيضا من إلزام المستصنع بأخذ ما صنع له أي ما صنعه الصانع له مطابقا للشروط التي تم الاتفاق عليها بينهما حكما وتدينا وقضاء منعا للإضرار بكل من الصانع والمستصنع رعاية لمصالح الطرفين. والله أعلم.(7/1127)
الشيخ أحمد بزيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
في الحقيقة الحاجة لمثل هذا العقد لازمة لإقامة الصناعة المتحركة والثابتة، وفي نظري أنه يجب أن يكون عقدًا مستقلًّا وملزما وهو وسيلة من الوسائل التمويلية المتعلقة في التنمية المستحدثة المهمة والتى يحتاجها الناس والدول على حد سواء، وبالنسبة إلى دفع القيمة، أرى بأن يكون دفع القيمة حسب اتفاق الطرفين يُدفع جزء من القيمة مقدما وباقي القيمة حسب الاتفاق مقسطا ومنجما لمراعاة مصلحة الطرفين المتعاقدين.
وفي الحقيقة هذا العقد أراه أنا أنه خال من الربا وخال من الجهالة والممنوعات الشرعية فلذلك لا أرى مانعا من أن تمارسه المصارف الإسلامية. وعلى هذا الأساس مورس هذا العقد لأن المصانع هي تملك التمكين لصناعة العين التي يريد المستصنع شراءها. تملك الخبرة اللازمة وتملك المواد الأساسية وتملك القدرة على التنفيذ. هذا ما وددت أن أشرحه للسادة العلماء ليروا رأيهم في هذا. وشكرًا.(7/1128)
الشيخ عبد الله المحفوظ بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أريد أن أتحدث عن أربعة من النقاط في صورة موجزة:
النقطة الأولى هي طريقة التعامل مع القضايا المستحدثة: بعض الناس يلح ويقول لا بد أن نحدث اجتهادا جديدًا وأن نخرج عن الاجتهاد القديم، وأنا أدعي أنه لا حاجة إلى ذلك، في الحقيقة أن من يريد أن يتعامل مع قضية محدثة عليه أولًا أن يراجع النصوص، هل يوجد نص في هذه المسألة أو لا يوجد؟ بعد ذلك هل يوجد ظاهر أو لا يوجد ظاهر؟ بعد ذلك هل يوجد ظاهر أو لا يوجد ظاهر؟ بعد ذلك هل يوجد عموم أو لا يوجد عموم؟ بعد ذلك هل توجد دلالة اقتضاء أو دلالة إشارة أو لا توجد؟ بعد ذلك هل يوجد إجماع أو قياس ليستند إليه بشروط القياس " ثم بعد ذلك يلجأ إلى الأدلة المختلف فيها كالمصالح المرسلة وكالاستحسان. هذه هي الطريقة الصحيحة للتعامل مع قضايا الفقه. من سلك طريقا أخرى فإنه لم يتعامل معها طبقا للمعايير التي وضعها العلماء.
وإذا كان الأمر كذلك فأود أن أقول: إن هذه المسألة قد تكون جديدة بالنوع قديمة بالجنس، لأن الأحناف استحسنوا، والمالكية استحسنوا، وكان ينبغي أن يتوقف عند هذا، أن نناقشها من جهة الاستحسان. الاستحسان الذي قال به مالك في هذه المسألة هو من النوع الثاني والثالث من أنواع الاستحسان عند المالكية، النوع الثاني من أنواع الاستحسان عند المالكية هو الاستحسان بالعرف، تخصيص العام بالعرف، العام هنا " لا تبع ما ليس عندك " خصص بالعرف كمسألة الحمام، النوع الثالث من أنواع الاستحسان هو تخصيص العام أيضا أو مخالفة القياس من أجل مصلحة وهذا أيضا يعتبر استحسانا عند المالكية وأشار إليه صاحب مراقي السعود عندما يقول:
والأخذ بالذي له رجحان
من الأدلة هو استحسان
أو هو تصيص بعرف لا يعم
ورعي الاستصلاح بعضهم يؤم(7/1129)
أي أن المالكية يؤمون رعي الاستصلاح بالاستحسان ويرون كذلك تخصيص العام بالعرف. إذن هذا هو موقع الاستحسان كان يجب أن ننظر إليه، معنى ذلك أن المالكية في بيع دائم العمل رأوا أن هذه المسألة مخصصة من العموم من أجل العرف والعمل الذي جرى بذلك وسموه ببيعة أهل المدينة – أهل المدينة كانوا يبيعون هذا البيع – ثم إنهم راعوا المصلحة العامة بمقابل عمومه، وهذا أيضا مما يخصص به العام، هذا مهم جدًّا في التعامل مع النصوص، مع بقاء الأصل وهو منع الدين بالدين. ولهذا لا أوافق من يقول: إن قاعدة " بيع الكالئ بالكالئ " أن نتجاوز هذا وأن نقول يجوز أن يؤجل الثمن والمثمن وأن نجعله مبدأ عاما، هذا لا يمكن أبدًا، المبدأ العام هو المنع، ولكن في قضية معينة ولوجود الحاجة والمصلحة ولوجود العرف يمكن أن نخصص هذه القضية المعينة وهذا مهم جدًّا لأن إلغاء هذه المبادئ لا يمكن، ولكن يمكن التعامل معها من هذه الزاوية.
النقطة الثالثة هي الوعد: بعضهم قال إنه من باب الوعد الملزم. يجب أن ننتهي من مسألة الوعد الملزم، هذه المسألة لا أصل لها، وفي المذهب الذي أرادوا الاعتماد عليه في الوعد الملزم في المعاوضات لا يوحد فيه وعد ملزم في المعاوضات أصلًا، إذا كان ملزما فإنه عقد، العقد هو الملزم في المعاوضات وليس الوعد. يجب أن ينتهي المجلس من هذه القضية التي نشأت بسبب جهلهم في الحقيقة، وبسبب عدم فهمهم للمذهب المالكي في هذه المسألة. الوعد الملزم في المذهب المالكي يتعلق بالتبرعات ولا يتعلق بالمعاوضات، إذن إذا كان ملزمًا فلا داعي لتسميته وعدًا فهو عقد ملزم، وإذا لم يكن ملزما فإنه ليس ملزما ولا داعي أيضًا لذكر وعد.
النقطة الرابعة: إذا افترضنا أن عقد الاستصناع ليس لازمًا فيمكن أن نعتبر المالكية كالحنفية، هو عندهم عقد جائز غير لازم، وهي عقود كثيرة منها عقد الإجارة إذا حددت أجرة لكل يوم أو لكل شهر دون تحديد فترة الإجارة، وهو عقد جائز غير لازم، ومنها بيع الفضولي يبيع شخص ملك غيره فهو عقد جائز غير لازم، ومنها بيع ما لا يملك، فإن مالكا يقول: أكرهه وإذا وقع فإنه يمضيه ابتداء. فهو من هذه الزاوية معروف ومقبول عند المالكية إذا قلنا بعدم اللزوم عند الأحناف.(7/1130)
النقطة الخامسة:
حديث "ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن" هو موقوف على ابن مسعود ولا يفوت أبدًا رفعه كما يقول العلائي فأرجو أن يلاحظ ذلك وألَّا نطلق عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الشكل، نلاحظ هذا فقط لقول: إنه موقوف على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
النقطة السادسة: الأصل في العقود الصحة واللزوم ولهذا فإذا تردد عقد بين الفساد والصحة أو تردد بين اللزوم والجواز، الجواز هنا ليس معناه الجواز الشرعي وإنما معناه أن يكون العقد جائزًا أي أن كلًّا من الطرفين يجوز له ألا يلتزم بالعقد، هذا هو الجواز في هذا المجال بالذات. هنا كلمة الجواز ليست هي الجواز المستوي الطرفين في الشريعة وإنما هو الجواز أن العقد جائز وأن العقد لازم، لمقابل اللزوم هو أن يكون العقد غير لازم يسمونه جائزًا ويسميه العلماء عقدًا جائزًا، وفي مثل هذا قال ابن عرفة في الإجارة: مشاهرة إذا لم تكن مجيبة إنه عقد جائز. وقال ابن رشد: وليس لازما. فالأصل في العقود الصحة واللزوم.
النقطة السابعة: كون العقود صغيرة في القديم – الصغر والكبر هما وصفان طرديان بمعنى أنهما لا يعلل بهما – العقد كان صغيرًا أو كبيرًا المهم فقط أن أركان هذا العقد كانت متوفرة، فإذا كانت متوفرة سواء في بيع الاستصناع عند الأحناف أو في بيع دائم العمل عند المالكية فمعنى ذلك أن العقد كان قديما حتى بالنوع وليس بالجنس معناه أنه كان موجودًا صغيرًا كان أو كبيرًا هذا لا يضر إذا توسع وكبر فإن ذلك لا يضر. إذن هو وصف طردي لا يصلح للتعليل ولا يتوقف عنده.
النقطة الثامنة: لا حاجة إلى الخيار عندما نقول إنه يختار، إن لكل منهما الخيار. يوجد خيار العيب وهو ثابت للمستصنع عنده خيار العيب، وخيار العيب يمكن التأكد منه. المصانع الحديثة يمكن التأكد هل هذه السلعة صنعت طبقا للمعايير والمقاييس التي يطلبها المستصنع أو لم تكن هذه السلعة طبقا للمعايير. أعتقد أن خيار العيب دائما ثابت بإمكانه أن يرد السلعة به وهذا ينفي الغرر والضرر والخطر التي يمكن أن يخاف منه.
في الخلاصة فإن عقد الاستصناع لا مانع من جوازه عند من يقول بالاستحسان كمالك في أوجه الاستحسان التي ذكرتها وهي التعريفات الثلاثة لمالك، وكأبي حنيفة الذي يقول بالاستحسان بلا حدود تقريبا إذا كان الاستحسان هو ترك القياس والأخذ بما هو أليق بالناس والاستحسان هو ترك اختيار الدعة أو البحث عن الدعة، إذن لا مانع بالنسبة لمن يقول بالاستحسان كالمالكية في هذا الموضوع وكالأحناف فإنه عقد صحيح يمكن أن نقول بلزومه كعقد لا كوعد، وشكرًا.(7/1131)
الدكتور سعود بن سعد الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد.
عقد الاستصناع عقد جدير بالبحث والمناقشة والتريث في إصدار حكم فيه، وذلك لأنه وقع فيه خلاف قديمًا وحديثًا، فجمهور الفقهاء – كما تعرفون – يجعلونه جزءًا من أجزاء عقد السلم، أي هو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد.
ومن ناحية اللغة هو طلب الصنعة عند اللغويين، الذين يجعلونه عقدًا مستقلًّا هم الحنفية باستثناء زفر، لنرى تعريفات الحنفية هل يخرجه عن كونه عقدًا على موصوف في الذمة أم أنه يدخله فيه؟ فالحنفية يقولون: إنه عقد على مبيع في الذمة، عند بعضهم كما نقل الكاساني في بدائع الصنائع، ونقل عن بعضهم قوله: عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل، وعرفته مجلة الأحكام العدلية بأنه: عقد مقاولة مع أهل الصنعة على أن يعمل شيئًا، وعرفه من المعاصرين الدكتور الشيخ أحمد فهمي أبو سنة ونقله عنه الدكتور عبد العزيز الخياط بقوله: أن يطلب من الصانع عمل شيء مادته من عنده على وجه خاص.
فإذن هذا تعريف الحنفية: لننظر فيه هل يخرجه عن كونه عقدا على موصوف في الذمة وإلا يدخل فيه؟
ثانيا: من الأمور التي ينبغي التنبيه عليها هو التمييز بين العقود التي لها شبه بالاستصناع وعقد الاستصناع فمن المداخلات التي سمعتها منذ ابتداء الجلسة أنه أحيانا يشتبه مع عقود الإجارة؛ وأحيانا يشتبه مع عقود بيع العين، وأحيانا تكون العين موجودة إلا أنها على غير الصفة التي طلبها المستصنع، والعقد يكون على الصفة "الهيئة" بعد أن تستصنع، ثم أحيانا أخرى، صورة رابعة، وهي عقد على شيء مادته غير موجودة في ملك الصانع حين العقد وإنما يملكها فيما بعد وعلى هذا فعقد الإجارة الذي يأتي المستصنع بالمادة من عنده ويعطيها للصانع لا يدخل في موضوع الاستصناع، كما أن العين إذا كانت مصنوعة قبل العقد وموجودة في ملك البائع ليس من عقد الاستصناع، بل هذا من بيوع الأعيان إما المرئية أو الموصوفة في الذمة، والبيع إذا توفر شرطه بالرؤية أو بالوصف الذي يخرجه عن الجهالة فهو صحيح. يبقى عندنا صورتان اثنتان ينبغي أن نركز البحث عليهما.(7/1132)
الصورة الأولى: أن تكون مادة المستصنع في ملك الصانع حين العقد، مثلا لو استصنع رجل عمارة فإن كانت مواد البناء من الحديد والأسمنت والطوب وغيرها من المواد موجودة في ملك الصانع حين العقد فهذه صورة من صور الاستصناع، ينبغي علينا أن نركز عليها، لكنها ليست الصورة التي تم العقد عليها لأن العقد يتم على الهيئة بعد عملها، على المادة بعد عملها بعمل العامل أو بعمل الصانع.
الصورة الثانية المهمة، وهي أكثر تعاملات الناس عليها الآن، أن مادة المستصنع ليست موجودة في ملك الصانع حين العقد، فيتعاقد معه على بناء عمارة من عشرة أدوار أو اثني عشر دورًا، لم يكن في ملك الصانع أو المقاول حين المقاولة لا أسمنت ولا حديد ولا طوب ولكنه يأتي بها بعد ذلك من السوق بعد أن يصرف إليه جزء من الثمن، وكذلك في استصناع المعدات الكبيرة أو الصغيرة من طائرات أو سفن فضائية أو سفن بحرية أو غيرها من المواد التي تستصنع. في الغالب أن المواد لا تكون في ملك الصانع حين العقد. إذن هي متعلقة بذمته.
على كل حال: الحنفية هم أقرب المذاهب إلى هذا لكن مذهبهم لا يحل مشكلة الاستصناع التي وصفها موجود في السوق الآن وعليه تعامل الناس، لماذا لا يحله؟ لأنهم – الحنفية – قالوا: إن المستصنع أو مادة الاستصناع عقد على عين بعضهم قال: عين، عندما عرفها قال بأنها عقد على موصوف في الذمة أو مبيع في الذمة، لكن عندما كيفها قال هي عين، والعين تختلف عن المتعلق بالذمة، هذا من ناحية.
الناحية الثانية من ناحية الشروط: الحنفية ذكروا أنه إذا دخل الشرط في الاستصناع شرط يبلغ شرط السلم وهو نصف شهر أو شهر على خلاف فيما بينهم، قالوا: إنه يعتبر سلما وتشترط له شروط السلم من دفع رأس المال في مجلس العقد. وعلى هذا لا يحل مذهب الحنفية مشكلة الاستصناع إلا بإدخال تعديلات عليه في تكييفه وأنه ليس بعين ثم في شروطه.
الأمر الثالث الذي جعل مذهب الحنفية لا يحل مشكلة الاستصناع هو أنهم قالوا: إن الاستصناع لا يجوز إلا فيما جرى به العرف، ولذلك قالوا إنه لا يجوز الاستصناع بأي حال من الأحوال في الثياب، ومعلوم الآن أن الثياب تستصنع بقدر كبير والتعامل عليها كثير بين أيدي الناس استصناعا مستقبليًّا.(7/1133)
ويظهر لي – والله أعلم – أن الخلاف الجوهري بين من يجيز الاستصناع ومن لا يجيز الاستصناع في نقطتين اثنتين:
النقطة الأولى: في دفع الثمن في مجلس العقد، فإن دفع الثمن في مجلس العقد جاز هذا فيما يظهر لي من نصوص العلماء أنه يجوز باتفاق إذا توفرت شروط الصحة في العقد من نفي الجهالة، لكن إذا لم يدفع الثمن في مجلس العقد فما تكييفه؟ هذا هو الذي ينبغي أن ينصب عليه النقاش حتى نخرج بفائدة في هذا الموضوع الشائك.
النقطة الثانية: الذي يظهر لي أنه سبب خلاف بين العلماء قيما وحديثا حينما يقولون: لا يجوز استصناع شيء أو يجوز استصناع شيء هو إمكانية انضباط صفات الشيء، فمن المعلوم أن هناك قاعدة فقهية تقول: " كل ما أمكن ضبطه صح السلم فيه وما لا فلا "، والأمثلة التي يذكرونها يقولون لا يصح استصناع – مثلا – القماقم أو السطول أو الحديد تعلل بأنه لا يمكن انضباطها ولذلك تكون الجهالة فيها وإذا كانت الجهالة فيها لا يصح عقد الاستصناع فيها، لكن الوضع الآن تغير تغيرًا تاما بالنسبة لانضباط الأشياء المستصنعة وأصبح الإنسان يصنع مائة طائرة لا تختلف واحدة عن الأخرى (ملم) واحدًا ناهيك عن السطول أو القماقم أو غيرها من الأشياء المستصنعة التي ذكر الفقهاء قديما أنها لا يصح الاستصناع فيها لجهالتها.
فأنا أقترح أن ينصب النقاش في هذا المجلس على هاتين النقطتين. أولا ما دام أن المعقود عليه الذي هو المستصنع متعلق بالذمة، فالثمن هل يلزم دفعه في مجلس العقد أم أنه يجوز أن يكون متعلقا بالذمة أيضا؟ وهذا الموضوع ناقشته في بحثي وبينت جوانب كثيرة واستدللت بأدلة كثيرة منها القديم ومنها التخريجات الحديثة ومنها استصناع النبي صلى الله عليه وسلم للخاتم، فالنبي صلى الله عليه وسلم استصنع الخاتم كما ثبت في صحيح البخاري ومسلم، واستصنع المنبر كما ثبت في صحيح البخاري، فهل في استصناعه صلى الله عليه وسلم ثبت أنه دفع الثمن في مجلس العقد حتى نطبق عليه شروط السلم أم لم يثبت أنه دفع الثمن في مجلس العقد؟ قد يقول قائل آخر أنه قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمادة الذهب من عنده أو بمادة المنبر من عنده من الخشب، لكن هذا يبقى احتمالا لم يثبت بالأدلة الصحيحة أنه أتى بذلك من عنده، فالأدلة محتملة وحاجة الناس الآن تدعو إلى الاستصناع وإلى المحافظة على أموالهم من الشركات الوهمية المعروفة والمزورة التي تنتشر في جميع أنحاء العالم، فلو دفع الثمن في مجلس العقد لسبب ذلك حرجا ومشقة على المستصنع من خوفه على ماله، أو من عمل الصانع للمصنوع على غير المواصفات، ثم بعد ذلك يخضع إلى المرافعات الشرعية والمحاكمات التي تقتضي وقتا طويلا وضياعا وحرجا ومشقة عظيمة، كل هذه الأشياء ذكرتها في بحثي فأرجو أن ينصب النقاش على هاتين النقطتين إن رأيتم، وشكرا.(7/1134)
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أود أن أنوه بذكر قرار للمجمع قد أصدر في الدورة السادسة بشأن التمويل العقاري، وقد سبق وأن درسنا موضوع الاستصناع في خلال مداولتنا في موضوع التمويل العقاري، وقد قرر المجمع أن التمويل العقاري ينبغي أن يكون على طريق الاستصناع، فقد سبق وأن أقر المجمع مشروعية الاستصناع وأن الاستصناع عقد ملزم، فهاتان الناحيتان لا تحتاجان فيما أرى إلى كثير من النقاش لأنه قد اتخذ فيه قرار، أما طرح هذا الموضوع في هذه الدورة، المقصود منه الدخول في بعض التفاصيل التي تتعلق بعقد الاستصناع ومع شكري وتقديري لجميع الباحثين الذين قدموا بحوثا في هذا الموضوع، فإني لم أر فيها إلا التركيز على ثلاث نقاط، هل يجب دفع الثمن حالا أو يجوز تأجيل الثمن؟ وهل يكون الاستصناع ملزما أو لا يكون ملزما؟ مع أن هذه النقاط كلها قد سبق أن بت فيها من قبل المجمع، والذي كان ينبغي أن ندرسه في هذه الدورة هو تفاصيلها العملية، فمثلا أثار الأستاذ عبد اللطيف جناحي سؤالا: وهو أنه هل يجوز للمستصنع أن يرفض قبول الشيء المصنوع إذا لم يف بالمقصود؟ فالذي أراه أن من يقول بإلزام الاستصناع فإنما يقول بنفي خيار الرؤية أما خيار العيب فبابه مفتوح، فإذا جاء الصانع بشئ صنعه وفيه عيب ولا يفي بالمقصود فحينئذ يمكن الاستبدال، وهناك ناحية أخرى وهي أن الاستصناع حينما يستخدم في العمليات المصرفية فقد تقع هناك عدة عقود متتالية على شيء مصنوع واحد، مثلا يأتي زيد فيستصنع من خالد شيئا وخالد ليس صانعا بنفسه، ولكنه يستصنع نفس ذلك الشيء من عمرو، وعمرو من حامد، فالصانع الأخير هو حامد والمستصنع الأول هو زيد، فهل تجوز هذه العقود البسيطة فيما بين أصل المستصنع وأصل الصانع أو لا تجوز؟. هذه نقطة مهمة لم أر أحدًا من الباحثين تعرض لها وبما أن الوقت الآن على وشك النهاية فأرجو من لجنة الصياغة التي تتكون لدراسة هذا الموضوع أن تأخذ هذه النواحي بعين الاعتبار، وشكرا.(7/1135)
الرئيس:
في الواقع بقي عدد غير قليل من أصحاب الفضيلة الذين طلبوا الحديث ولكن الوقت تجاوز ربع ساعة فقد ترون أن نكتفي بما حصل.
بسم الله الرحمن الرحيم.
تكاد تلتقي المداولات على جواز عقد الاستصناع، وهذا وإن تم عرضا في قرار التمويل العقاري الذي سبق إصداره من هذا المجمع، ولكنه يراد أن ينص عليه بقرار مستقل بمواصفاته وتكييفه الفقهي، هل هو من باب السلم أو أنه عقد مستقل بنفسه؟ ومدى إلزاميته، ومدى تقديم الثمن إلى غير ذلك من المسائل التي جرى طرحها وتداولها وهي مقيدة لدى المقرر العام لهذه الجلسة.
ولهذا قد ترون مناسبا أن تتألف اللجنة من المشايخ: الشيخ وهبة، الشيخ محيي الدين القره داغي، الشيخ سعود الثبيتي، الشيخ علي السالوس، الأستاذ الجناحي، الأستاذ رفيق المصري. هل هذا مناسب؟
وبهذا ترفع الجلسة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.(7/1136)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 67/3/7
بشأن
عقد الاستصناع
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "عقد استصناع".
وبعد استماعه للمناقشات التي دارت حوله، ومراعاة لمقاصد الشريعة في مصالح العباد والقواعد الفقهية في العقود والتصرفات، ونظرا لأن عقد الاستصناع له دور كبير في تنشيط الصناعة، وفي فتح مجالات واسعة للتمويل والنهوض بالاقتصاد الإسلامى.
قرر:
1– إن عقد الاستصناع - وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة - ملزم للطرفين إذا توفرت فيه الأركان والشروط.
2– يشترط في عقد الاستصناع ما يلي:
(أ) بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة.
(ب) أن يحدد فيه الأجل.
3– يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة.
4– يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطا جزائيا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.
والله أعلم.(7/1137)
بيع الوفاء وعقد الرهن
إعداد
فضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء
بسم الله الرحمن الرحيم
- العلاقة بين العقدين.. أوجه التطابق فيما بينهما.
- هل يجوز انتفاع الراهن أو المرتهن بالعين المرهونة؟
إن موضوع بيع الوفاء أدرج في جدول أعمال هذه الدورة السابعة للمجمع الفقهي مقسمًا إلى ثلاثة محاور.
وقد اخترت أن أكتب أنا في المحور الثاني منها، والذي يتناول نقطتين:
1- العلاقة بين بيع الوفاء وعقد الرهن.
2- وهل يجوز انتفاع أحد الطرفين بالعين المرهونة؟
وإني أرى أن موضوع بيع الوفاء كله هو محور واحد مترابط يجب أن يكتبه كاتب واحد، ولا يتحمل هذه التجزئة التي تفكك ترابطه. وسيضطر كل كاتب لمحور أن يتعرض لما هو داخل في المحورين الآخرين.
وسأحاول في بحثي هذا - قدر الإمكان - أن لا أمس النواحي التي تدخل في المحاور الأخرى، مما سيتناوله سواي، اجتنابًا للتكرار.
* * *(7/1138)
أولًا
العلاقة بين العقدين
(أ) إن العلاقة بين عقد بيع الوفاء وبين عقد الرهن وثيقة جدًّا إلى درجة أن بيع الوفاء في أول ظهوره وتعامل الناس به في القرن الخامس الهجري في مدينة بلخ كان يسميه بعض الناس رهنًا، وكان فقهاء العصر بعضهم يعتبره رهنًا من كل وجه ويطبق فيه أحكام الرهن كاملة، وبعضهم يعتبره بيعًا فاسدًا بسبب اشتراط شرط مفسد فيه هو أن البائع متى أعاد الثمن إلى المشتري فإن المشتري يلتزم بإعادة المبيع إليه.
والواقع أن هذا الشرط هو عماد الخيمة في بيع الوفاء، فلولا هذا الشرط لكان العقد بيعًا من كل وجه، وبهذا الشرط أصبح يشبه الرهن شبهًا قويًّا إلى درجة أن الناس يسمونه رهنًا، فهذا الشرط هو أساس التمييز بينه وبين البيع المطلق الصحيح، وأساس الشبه بينه وبين الرهن، وأساس استقرار رأي فقهاء الحنفية في نهاية المطاف بعد فترة من الاختلاف على أنه عقد جديد، ليس بيعًا صحيحًا من كل وجه، ولا بيعًا فاسدًا من كل وجه، ولا رهنًا من كل وجه، ولكنه عقد فيه شبه بالبيع المطلق الصحيح، وشبه بالبيع الفاسد، وشبه بالرهن، فقرروا إعطاءه حكمًا مركبًا من بعض أحكام كل واحد من هذه العقود الثلاثة:
- فأعطى من أحكام البيع المطلق الصحيح أن للمشتري حق الانتفاع به واستغلاله دون حاجة إلى إذن البائع بل حكمًا بمقتضى العقد.
- وأعطى من أحكام البيع الفاسد أن لكل من الطرفين أن يفسخه متى شاء ويطلب استرداد ما قد أعطى، ولو قبل الأجل لو كانا اتفقا فيه على أجل للتراد.
- وأعطى من أحكام الرهن أنه لا يجوز للمشتري بيعه لأن شرط رده على البائع متى أعاد له الثمن الذي أخذه منه يقطع إمكان تنفيذه إذا كان للمشتري حق التصرف فيه بإخراجه عن ملكه. (1) .
- وأعطى من الرهن أيضًا جملة أحكام أساسية سيأتي بيانها.
__________
(1) نص فقهاء الحنفية والمادة 397 من المجلة على أنه ليس لأحد من الطرفين في بيع الوفاء بيع المبيع من شخص آخر، ولم أر من تعرض لرهنه. ويبدو لي أنه يمتنع رهنه أيضًا لدى ثالث، لأن الرهن ينشىء حق حبس عين المرهون، فيؤدي أيضًا إلى امتناع الاسترداد ولا سيما إذا أفلس المشتري بعد رهنه إياه. ثم وجدت النص على أن المشتري وفاء لا يجوز له بيع المبيع ولا رهنه في رد المحتار: 4/247، طبعة بولاق.(7/1139)
وهذا الرأي الذي انتهى إليه فقهاء الحنفية (بعد فترة اختلاف في تكييف هذا العقد) هو الذي سمي بالقول الجامع واستقرت عليه الفتوى في المذهب. [ر: كتابي: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد: ج 4، عقد البيع فقرة 151، ورد المحتار: ج 4 في أواخر البيوع] .
وبه أخذت مجلة الأحكام العدلية التي صدرت بالإرادة السلطانية السنية، وأصبحت قانونًا مدنيًّا شرعيًّا عامًّا في الدولة العثمانية، ثم في البلاد العربية التي انفصلت عنها نتيجة للحرب العالمية الأولى إلى أن وضع فيها قوانين مدنية حديثة (في سوريا ولبنان والأردن والعراق) ، [ر: المجلة م 118 وشروحها] .
مما تقدم تبين أن العلاقة بين بيع الوفاء والرهن هي أقوى العلاقات الثلاث التي بين بيع الوفاء وبين البيع الصحيح والبيع الفاسد والرهن. ويليها في القوة علاقته بالبيع الصحيح من حيث إنه قد استعير منه لبيع الوفاء ملكية المشتري لمنافع المبيع وفاء، وهذه أيضًا ناحية أساسية في تركيبة بيع الوفاء، إذ لولاها لما أقدم أحد على شراء شيء بطريق الوفاء. إذ يكون الثمن عندئذ كقرض حسن من المشتري للبائع لقضاء حاجته، والمبيع في هذه الحالة مجرد رهن في مقابل القرض، فما وجه تسميته بيعًا أو شراء بالوفاء؟ بل هو حينئذ قرض مقابل رهن من كل وجه.
فالذي نقل الموضوع في نظرهم من بابي القرض والرهن، إلى باب البيع بشرط التراد إنما هو قصد امتلاك المشتري لمنافع المبيع في الفترة ما بين العقد والاسترداد. وهذه الفترة لا حدود لها فقد تكون أيامًا أو شهورًا أو سنين.
ولم يشترطوا لصحة العقد تحديدها، كما لم يشترطوا لصحة القرض مقابل رهن تحديد مدة للوفاء بالقرض. ولذا جعلوا لكل من الطرفين في بيع الوفاء حق فسخ العقد في أي وقت يشاء، ويسترد حينئذ كل منهما ما يخصه: فيسترد المشتري الثمن الذي دفعه، ويسترد البائع المبيع. وهذا هو الحكم الذي استعير له من أحكام البيع الفاسد.(7/1140)
(ب) التطابق بين بيع الوفاء والرهن من وجوه:
قلنا إن الشبه بين بيع الوفاء والرهن هو أقوى المشابه الثلاثة فيه. فهناك تطابق في معظم الأحكام بينهما، ويتجلى هذا التطابق من الوجوه التالية:
1- عدم ملكية المشتري لعين المبيع. فقد بينا قبلًا أنهم إنما أعطوه من أحكام البيع الصحيح ملكية المنافع لا ملكية العين. فالعين باقية على ملك البائع.
2- عدم جواز تصرف كل من الطرفين البائع والمشتري في عين المبيع بالوفاء تصرف الملاك في أملاكهم من بيع واستهلاك ورهن ونحوه مما يقطع إمكان التراد [ر: المجلة م 397 وشرح الباز] .
3- إذا هلك المبيع بالوفاء عند المشتري قضاء وقدرًا دون تعد منه ولا تقصير كان ضامنًا له ضمان الرهن: فإذا كان الثمن مساويًا لقيمته سقط الثمن كله بهلاك المال المرهون فيه. وإذا كانت قيمة المبيع أكثر سقط الثمن كله بالضمان، ويهلك باقي المبيع على حكم الأمانة فلا يضمنه المشتري. وإذا كان الثمن المدفوع أكثر من قيمة المبيع سقط من الثمن ما يعادل قيمة المبيع، وللمشتري أن يطالب البائع بالقدر الزائد من الثمن. [ر: المجلة م399 - 401] .
4- للمشتري حق احتباس المبيع لاستيفاء الثمن (كحق المرتهن في حبس المرهون) . وهذا الحق هو حق عيني (متعلق بعين المبيع) فللمشتري فيه امتياز (أولوية التقدم على سائر غرماء البائع في الاستيفاء) إذا أفلس البائع أو مات وتركته مستغرقة بالديون. [ر: المجلة م403] .
5- العقار المبيع لا يؤخذ من مشتريه بالشفعة (كما لا يؤخذ المرهون بها) ، لما تقدم أن المشتري بالوفاء لا يملك رقبة المبيع بل منافعه فقط، فالمبيع باق على ملك البائع.
6- إذا احتاج العقار المبيع بالوفاء إلى التعمير والترميم لأجل صيانته فنفقة ذلك على البائع. [ر: جامع الفصولين بحاشية الخير الرملي أوائل الفصل الثامن عشر؛ ورد المحتار ودرر الحكام شرح غرر الأحكام آخر كتاب البيوع] .
وهذه الأحكام المتطابقة مع الرهن أقرها أصحاب القول الجامع الذي استقرت عليه فتوى المتأخرين من فقهاء الحنفية مستمدة من شبهه بالرهن في جملة مشابهه الثلاثة.(7/1141)
ثانيًا
هل لأحد الطرفين أن ينتفع بالعين المرهونة؟
هكذا ورد التعبير بلفظ (العين المرهونة) في جدول الموضوعات التي ستطرح في هذه الدورة في المحور الثاني من المحاور الثلاثة التي قسم إليها موضوع بيع الوفاء.
ويبدو لي أن المقصود بالعين المرهونة هو المبيع في بيع الوفاء وأن التعبير بالعين المرهونة جاء ذهولًا أو تساهلًا ومجاراة لمن يسمون بيع الوفاء رهنًا. وعلى هذا الفهم سأبني كلامي الآتي فأقول:
1- أما بالنسبة إلى البائع فإنه بمجرد إبرام البيع بالوفاء مع المشتري يكون قد تخلى عن منافع المبيع إلى المشتري وانتقلت إلى هذا الثاني ملكية جميع وجوه الانتفاع بالمبيع استعمالًا واستغلالًا دون الاستهلاك الكلي أو الجزئي، لأن المبيع بصدد الإعادة إلى البائع حين إعادة الثمن إلى المشتري، كما سبق بيانه.
وليس للبائع أن يستولي على المبيع وينتفع منه بأية منفعة إلا بإذن المشتري ورضاه.
2- وأما بالنسبة إلى المشتري فإن المنافع تصير في البيع بالوفاء ملكًا له، فله فيها حق الاستعمال والاستغلال ما دام البيع قائمًا غير مفسوخ.
وقد نصوا على أنه: يجوز أن يتفق الطرفان في بيع الوفاء على أن يستأجر البائع من المشتري العقار المبيع وفاء بأجر معلوم. وعندئذ يبقى المبيع في يد البائع بحكم الإجارة، ويؤدي الأجر إلى المشتري، لأن منافع المبيع ملكه فله أن يستعملها أو يستغلها بإجاره للبائع نفسه أو لغيره، وإذا اتفقا على إيجاره للبائع سمي عندئذ: بيع الاستغلال. [ر: المجلة م 119 وشروحها] .(7/1142)
وهنا يجدر التنبيه إلى خطأ وقع فيه بعض شراح المجلة في هذا المقام. فقد نصت المادة 398 من المجلة على أنه:
((إذا شرط في بيع الوفاء أن يكون قدر من منافع المبيع للمشتري صح ذلك)) .
وصياغة هذه المادة بهذه الصورة توهم أنه إذا لم يشرط شيء من منافع المبيع بالوفاء للمشتري فلا شيء له. وهذا ما فهمه شارحها الأستاذ سليم رستم الباز، فقال شارحًا هذه المادة: (وإن لم يشترط ذلك فليس للمشتري أن ينتفع بالمبيع لأنه في يده كالرهن في يد المرتهن لا يملكه ولا يطلق له الانتفاع به إلا بإذن مالكه، وهو ضامن لما أكل من ثمره، واستهلك من شجره. ولا فرق بين بيع الوفاء والرهن في حكم من الأحكام. ولهذا لا يؤخذ المبيع وفاء بالشفعة ... ) .
ثم نقل عن جامع الفصولين والخيرية أنه: (لو آجر المشتري المبيع (بالوفاء) وقبض أجرته واستهلكها بدون إذن البائع لا يضمن) ، ولم ينتبه إلى هذا التناقض بين سابق كلامه ولاحقه. فإذا كان بيع الوفاء والرهن لا فرق بينهما في حكم من الأحكام - كما ذكره سابقًا - فلماذا إذا أكل المشتري شيئًا من ثمرة المبيع بالوفاء يضمن قيمته للبائع، وإذا آجره وأخذ أجرته واستهلكها بدون إذن البائع لا يضمن؟! ولماذا أيضًا يعقد للبيع بالوفاء باب مستقل ولا يكتفى بباب الرهن؟!
وتحقيق القضية أن بيع الوفاء اختلفت فيه آراء الفقهاء في أول الأمر عندما تعورف في بخارى وبلخ في القرن الخامس الهجري كما بيناه سابقًا. فمنهم من اعتبره رهنًا من كل وجه، ومنهم من اعتبره بيعًا فاسدًا بسبب شرط الإعادة المفسد، ومنهم من اعتبره بيعًا صحيحًا وأن شرط الإعادة فيه ملزم لأن المواعيد بصورة التعاليق تكون ملزمة عند الحنفية. [ر: المجلة م84 وشروحها] .(7/1143)
هذا الاختلاف كان في بداية الأمر أول ما تعورف هذا العقد بهذا الشرط. لكن لما عم التعامل به وشاعت طريقته بسرعة في الأقطار لحاجة الناس إليه، استقر رأي المتأخرين من الفقهاء على حكم نهائي فيه بحسب المقصود منه مراعى فيه ثلاثة مقاصد أساسية، هي:
1- تمليك المشتري المنافع دون حاجة إلى إذن البائع بل بحكم العقد.
2- وحق التراد أو الفسخ.
3- وضمان المشتري للمبيع كضمان المرهون.
وسمي هذا بالقول الجامع ورجح بعلامة الفتوى [ر: رد المحتار ج 4 آخر كتاب البيوع: ص247، الطبعة البولاقية ذات القطع الكبير] ، وبه أخذت المجلة في المادة 118. وكل قول يرى في بعض الكتب بخلاف هذا هو مبني على أحد الآراء المختلفة القديمة أول ما تعورف بيع الوفاء قبل القول الجامع الذي استقرت عليه الفتوى.
فبناء على هذا لا يصح بعد ذلك إطلاق القول بأن بيع الوفاء عند الحنفية هو كالرهن من جميع الوجوه، ولا أن يقال أن منافع المبيع وثمرته هي للبائع. ولا يحل شيء منها للمشتري إلا بإذن البائع.
فأما المادة 398 من المجلة التي تقول:
((إذا شرط في بيع الوفاء قدر من منافع المبيع للمشتري صح ذلك)) .
فإن فيها سوء صياغة يوهم أنه إذا لم يشرط شيء من المنافع للمشتري فلا شيء له، (كما فهمه بعض الشراح) . ولكن هذا المعنى ليس هو المراد بل المراد أنه إذا لم يشرط للمشتري بعض المنافع فقط فإنه يستحق كل منافع المبيع. فاشتراط بعضها له إنما هو لقصر حقه في المنافع على بعضها دون كلها، ولكنه سوء الصياغة أدى إلى ذلك التوهم. ومعلوم أن المجلة وضعت باللغة التركية ثم ترجمت إلى العربية. وقد وقع فيها مواطن موهمة في صياغتها وهذا من جملتها. وهذا ما حققه والدي الشيخ أحمد الزرقاء رحمه الله في شرحه للقواعد الفقهية التي صدرت بها المجلة. [ينظر كتابي: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد: ج 4 وعقد البيع - الفقرة 152؛ وشرح والدي على القواعد تحت القاعدة الثانية: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني آخر التنبيه الرابع من شرحها] .(7/1144)
وهذا الفهم للمادة 398 من المجلة هو المتعين فقهًا لكي يتحقق التوفيق وينتفي التناقض بين هذه المادة الموهمة وبين المادة 118 منها التي تصرح بأن منافع المبيع في البيع بالوفاء تكون للمشتري كما في البيع الصحيح، جريًا منها على القول الجامع المفتى به.
ملاحظة:
1- أن هذا الخطأ الذي وقع فيه بعض شراح المجلة نتيجة لسوء الصياغة في المادة 398 من المجلة وقعت فيه أيضًا الموسوعة الفقهية الصادرة في الكويت، في كلامها على بيع الوفاء (تحت مادة/ بيع) في الجزء التاسع منها. ففي البند 7 من بنود بيع الوفاء تحت عنوان (الآثار المترتبة على بيع الوفاء) من العناوين الفرعية تحت كلمة (بيع) سردت تلك الآثار المتعددة لبيع الوفاء مرتبة بالحروف الأبجدية، وفي الحرف (هـ) قالت: (منافع المبيع بيع وفاء هي للبائع كالإجارة وثمرة الأشجار ونحوها ... ) . وعللت ذلك بأن (ملكية العين لم تنتقل للمشتري ... ) وأضافت قولها: (إن المشتري لو أخذ من ثمر الأشجار شيئًا بغير إذن البائع ورضاه ضمنها) وعزت ذلك إلى الفتاوى الهندية ومعين الحكام.
وواضح بعد ما أسلفناه أن هذا مبني على القول بأن بيع الوفاء كالرهن في جميع الأحكام من الأقوال القديمة، وهو غير المفتى به الذي هو القول الجامع.
والغريب هنا في الموسوعة الفقهية إنها قبل ذلك (في البند 4) تحت عنوان (بيع الوفاء) نقلت عن ابن عابدين في رد المحتار أن الفتوى على القول الجامع الذي تقرر فيه أن منافع المبيع وفاء هي حل للمشتري وأنه لا ينبغي أن يعدل عنه في الإفتاء. فكيف بعد هذا تناقض نفسها وتقول في البند 7 أن المنافع للبائع، ويضمن المشتري ما يستوفيه منها بغير إذن البائع ورضاه؟!! [ر: الموسوعة الفقهية: 9/260 - 263] .(7/1145)
2- المعتاد في بيع الوفاء أن الثمن يكون أقل من قيمة المبيع بفارق كبير كما في الرهن حيث يكون المرهون فيه أقل كثيرًا من قيمة المرهون.
وقبل صدور القانون المدني المصري الجديد سنة 1949م كانت عقود بيع العقارات بالوفاء في مصر تتضمن شرطًا أنه إذا لم يرد البائع ثمن العقار المبيع بالوفاء في الموعد المحدد بالعقد ينقلب البيع باتًّا. وكانت المحاكم تطبق هذا الشرط على البائعين إذا تأخروا في رد الثمن على المشتري، فسلبت بذلك عقارات كثيرة نهبًا لأن الثمن في بيع الوفاء أقل كثيرًا من قيمة العقار المبيع، وأورث ذلك مآسي كثيرة ظلم فيها من يبيع عقاره بالوفاء أيما ظلم. وكان معظم المشترين بالوفاء من المرابين.
وقد كان هذا حافزًا لواضعي القانون المدني المصري الجديد أن يضعوا فيه نصًّا صريحًا بأن البيع إذا شرط فيه أن البائع إذا رد الثمن للمشتري فإن على المشتري أن يرد المبيع إلى البائع يكون البيع باطلاً، فألغي بيع الوفاء بهذا النص وأصبح باطلاً لا أثر له. وعللت المذكرة الإيضاحية هذا الإلغاء بتلك المظالم التي كان المرابون يسلبون بها عقارات البائعين بالوفاء.
وجدير بالذكر أن فقهاء الحنفية نصوا على أنه: إذا شرط في بيع الوفاء (الذي حدد فيه أجل لإعادة الثمن واسترداد المبيع) أنه إذا لم يرد البائع الثمن في الموعد المحدد ينقلب البيع باتًّا كان هذا الشرط باطلًا. فقد أبطلوا الشرط دون العقد حماية للبائع. [ر: شرح الباز تحت المادة 396 من المجلة، نقلًا عن فتاوى علي أفندي] .
الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء
* * *(7/1146)
بيع الوفاء
إعداد
الشيخ خليل محيي الدين الميس
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم عليه توكلت وبه أستعين.
إن بيع الوفاء من العقود المستحدثة بعد استقرار المذاهب وهو من النوازل أو الواقعات في عرف الفقهاء، ومن العقود المسماة في عرف رجال القانون الوضعي، لذلك تعددت الأقوال في تعريفه كما اختلفت أقوال الفقهاء في تصنيفه.
ومما لا خلاف عليه أنه عقد مركب من عقدين يتنازعه كل من الرهن والبيع على خلاف في صحته أو فساده..
لذلك يدور الوفاء بينهما ويجمع بين بعض خصائصهما وأحكامهما.
والقاعدة الفقهية تقضي (بأن المعاملات طلق حتى يعلم المنع) لذلك بذل الفقهاء أقصى جهدهم وكما هو شأنهم لبيان حكم هذا العقد وبخاصة فقهاء مذهب الإمام أبي حنيفة تجنبًا للوقوع في الربا، لأن الصيغة بيع والحقيقة رهن.
فالقول بحل الانتفاع بالعين فحينئذ العقد يكون بيعًا، ومن حيث الالتزام أو إلزام المشتري برد العين إلى البائع إذا أعاد البائع الثمن يكون رهنًا.. وهنالك فروق واضحة بين أحكام البيع وأحكام الرهن.
ومن هذا المنطلق فقد عولج الموضوع مطولًا في كتب الفتاوي عند فقهاء الحنفية بالذات أكثر مما عولج في المتون وشروحها والتي وضعت لضبط المذهب.. كما كان القول فيها مستفيضًا لدى المتأخرين ومقتضبًا لدى المتقدمين.
كما عالج الموضوع بشيء من الإسهاب كل من فقهاء المالكية والشافعية.. أما فقهاء الحنابلة فكان كلامهم في هذا الشأن مختصرًا، سنعرض لكل ذلك بالتفصيل، والله المستعان ونسأله سبحانه السداد في القول والعمل.
* * *(7/1147)
المحور الأول
- تعريفه عند الحنفية.
- المصطلح المساوي له في المذاهب الأخرى.
- حكمه.
- الأصل المستند إليه في التحليل أو المنع.
- أثر فوت المبيع - ما يعتبر فوتًا وما لا يعتبر.
- حكم اشتراط البائع الضمان من المشتري للوفاء ببيع الوفاء.
* * *
تعريف بيع الوفاء
تعددت أقوال الفقهاء في تعريف بيع الوفاء ولكنها متقاربة من حيث المعنى.
عرفه الزيلعي بقوله:
(هو أن يقول البائع للمشتري بعت منك هذا العين بدين لك علىَّ على أنِّي متى قضيتُ الدين فهو لي) (1) .
فقد اختار عبارة (قضاء الدين) لاسترداد المبيع..
بينما عرفه قاضيخان وتبعه ابن نجيم بقوله:
(بعت منك هذا بكذا على أنِّي متى دفعت لك الثمن تدفع العين إليَّ) (2) .
وهنا استعملت عبارة (دفعت لك الثمن) وهنالك فرق بين عبارة (قضاء الدين) حيث يشعر بالتزام قائم.
وبين عبارة (دفع الثمن) بالتزام في المستقبل.
ونقل في هامش جامع الفصولين عن صاحب جواهر الفتاوي قوله:
بيع الوفاء أن يقول: بعت منك على أن تبيعه مني متى جئت بالثمن (3) .
__________
(1) الزيلعي، تبيين الحقائق 5/183؛ قاضي خان: 2/164
(2) البزازية، هامش الفتاوي الهندية: 3/209.
(3) ابن قاضي سماوة، جامع الفصولين: 1/234.(7/1148)
وهنا استعملت عبارة (تبيعه مني) .
أما ابن عابدين فقد قال في حاشيته:
أن يبيعه العين بألف على أنه إذا رد عليه الثمن رد عليه العين (1) وواضح أنه استعمل كلمة (رد) .
وجاء في المجلة: بيع الوفاء هو بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع (118) .
وبالجملة هنالك عبارات أربعة: (قضاء الدين) .. (دفع الثمن) .. (البيع) .. (والرد) عليه بالثمن..
وبالتأمل في هذه العبارات نجد أن صورة هذا العقد دائرة على لسان الفقهاء بين البيع والرهن.
وكذلك هو بيع الوفاء عند التأمل في أقوال فقهاء المذاهب لدى تخريجهم أحكام المسائل المندرجة تحت بيع الوفاء.
__________
(1) ابن عابدين، الحاشية: 5/276.(7/1149)
* المصطلح المساوي له في المذاهب الأخرى:
كما تعددت أقوال الفقهاء في تعريفه كذلك تعددت أقوالهم في أسمائه.
فيسميه المالكية: بيع الثنيا (1) .
والشافعية: بيع العهدة (2) .
والحنابلة: بيع الأمانة، ويسمى أيضًا (بيع الطاعة) و (بيع الجائز) (3) .
أما عند فقهاء الحنفية.. فقد تعددت الأقوال في تسميته كما تعددت في تعريفه وتبعًا للأمصار التي جرى عمل فقهاء المذهب فيها ببيع الوفاء.
فهو بيع الوفاء:
وجه تسميته بيع الوفاء: أن فيه عهدًا بالوفاء من المشتري بأن يرد المبيع على البائع حين رد الثمن.
وهو البيع الجائز:
وبعض الفقهاء يسميه: البيع الجائز، ولعله مبني على أنه بيع صحيح لحاجة التخلص من الربا حتى يسوغ للمشتري أكل ريعه (4) .
وهو بيع المعاملة:
وبعضهم يسميه: بيع المعاملة: ووجهه، أن المعاملة ربح الدين، وهذا يشترى لدائن لينتفع به بمقابلة الدين (5) .
وهو بيع الأمانة:
ويسمى بمصر بيع الأمانة، والوجه في اعتباره بيع أمانة: أنه أمانة عند المشتري، بناء على أنه رهن أي كالأمانة.
وهو بيع الإطاعة أو الطاعة:
وبالشام يسمى بيع الإطاعة - أو الطاعة: وجهه: أن الدائن يأمر المدين ببيع داره مثلًا بالدين فيطيعه فصار معناه بيع الانقياد.
__________
(1) ابن رشد، البيان والتحصيل: 7/336.
(2) ابن حجر الهيثمي، الفتاوي: 2/229.
(3) الحطاب: 4/373؛ وبغية المسترشدين: ص132.
(4) قاضيخان: 2/164؛ والفتاوى الغياثية: ص143.
(5) ابن عابدين، الحاشية: 5/276.(7/1150)
* مناسبة ذكره في كتب الفقه:
كذلك الشأن اختلفت آراء العلماء في إلحاق هذا العقد تحت أي من أبواب الفقه يكون من المناسب ذكره.
فإذا تأملنا القيد الوارد على المشتري كان شرطًا داخلًا في نية العقد..
ولو تأملنا رضوخ وتسليم الفريق الآخر لهذا الشرط لاح لنا معنى التلجئة.
وإذا نظرنا إلى ضرورة إعادة العين إلى البائع وتسليم المشتري بذلك ظهر لنا معنى الرهن واضحًا في العقد ...
وهكذا نجد صنيع المصنفين في إيراد هذا المبحث في كتبهم.
1- ذكره الحطاب في باب البيوع المنهي عنها، قال: ومن الشروط المناقضة بيع الثنيا، وهو من البيوع الفاسدة (1) .
2- وذكره صاحب الملتقط في باب الرهن.
3- وذكره البزازي وقاضيخان في مباحث البيع الفاسد (2) .
4- وذكره ابن نجيم وغيره في خيار الشرط (3) .
5- وذكره الزيلعي في كتاب الإكراه، حيث قال: ومن مشايخ بخارى من جعل بيع الوفاء كبيع المكره (4) ... وجه المناسبة فجعلوه فاسدًا باعتبار شرط الفسخ عند القدرة على إيفاء الدين يفيد الملك عند اتصال القبض به. وينقض بيع المشتري كبيع المكره أي وإن تداولته الأيدي إلا أن لا ينقطع به حق استرداد المبيع وإن تداولته الأيدي بخلاف سائر البياعات الفاسدة..
__________
(1) مواهب الجليل: 4/373.
(2) البزازية بهامش الهندية: 4/405؛ وقاضيخان: 2/165.
(3) ابن نجيم، البحر الرائق: 6/8.
(4) الزيلعي: 5/183.(7/1151)
ما ينعقد به البيع وفاء:
لو قال المشتري: اشتريت منك المبيع الفلاني بكذا على أن أرده لك أو أبيعه منك متى أرجعت إليَّ ثمنه، أو أديتني إياه.
فقال البائع: بعته منك على تلك الصورة انعقد البيع بالوفاء.
وإذا حصل الاتفاق بين الطرفين على أن يكون العقد الذي سيجري بينهما عقد بيع ووفاء ثم عقدا البيع ولم يصرحا فيه بأنه كذلك - فإذا تحقق أنه وقع بعد اتفاق سابق فهو بيع وفاء، وإلا فبيع لازم صحيح (1) .
لو باع إنسان داره المملوكة من آخر بغبن فاحش وقال له: متى رددت إليَّ الثمن أفسخ البيع فالبيع أيضًا بيع بالوفاء (2) .
* حكم بيع الوفاء والأصل المستند إليه في التحليل أو المنع:
اختلف الفقهاء في حكم بيع الوفاء اختلافًا كثيرًا حتى فيما بين فقهاء المذهب الواحد وبخاصة فقهاء مذهب الإمام أبي حنيفة المتقدمين منهم والمتأخرين حتى بلغت أقوالهم تسعة نعرض لها بالتفصيل بعد حكاية مذاهب الأئمة الثلاثة الشافعية والمالكية والحنابلة.
وبالجملة: ذهب المالكية والحنابلة والمتقدمون من الحنفية والشافعية إلى: أن بيع الوفاء فاسد.
والوجه فيه: أن اشتراط البائع أخذ المبيع إذا رد الثمن إلى المشتري يخالف مقتضى البيع وحكمه.
وهو: ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدوام وفي هذا الشرط منفعة للبائع، ولم يرد دليل معين يدل على جوازه، فيكون شرطًا فاسدًا يفسد البيع باشتراطه فيه.
__________
(1) البزازية في الرابع من البيوع: 4/405.
(2) علي حيدر، المجلة مادة 396 والمادة 85.(7/1152)
* حكم بيع الوفاء عند فقهاء الحنفية:
استظهر صاحب الفتاوي البزازية تسعة أقوال لفقهاء المذهب في حكم بيع الوفاء.
القول الأول:
قال النسفي في فتاويه: البيع الذي يتعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا وسموه بيع وفاء هو رهن في الحقيقة لا يملكه المشتري، ولا ينتفع به إلا بإذن البائع، ويضمن المشتري ما أكل من ثمره وأتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه لو يفي، ولا يضمن ما زاد كالأمانة، وللبائع استرداده عند قضاء الدين متى شاء.
وجه هذا القول: لأن المتعاقدين - وإن سمياه البيع - لكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين.
إذ البائع يقول: رهنت ملكي، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والناس يسمونه الرهن، والعبرة في التصرفات للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، حتى جعلت الكفالة بشرط براءة الأصيل حواله ... والاستصناع عند ضرب الأجل سلمًا وبذلك أفتى القاضي الإمام السفدي والحسن والإمام أبي شجاع بسمرقند، وكثير من الأئمة (1) .
قال في الخيرية: والذي عليه الأكثرون أنه رهن لا يفترق من الرهن في حكم من الأحكام.
وفيه: قلت للسيد الإمام أبي الحسن الماتريدي: قد فشا هذا البيع بين الناس، وفيه مفسدة عظيمة، وفتواك أنه رهن.
- وأنا أيضًا على ذلك، فالصواب أن نجمع الأئمة ونتفق على هذا ونظهره بين الناس، فقال: المعتبر اليوم فتوانا، وقد ظهر ذلك بين الناس، فمن خالفنا فليبرز نفسه وليقم دليله (2) .
__________
(1) البزازية بهامش الهندية: 4/405؛ والفتاوي الهندية: 3/209؛ والزيلعي، تبيين الحقائق: 5/183؛ وجامع الفصولين: 1/234؛ وقاضيخان: 2/165؛ والغياثية: ص143؛ وخلاصة الفتاوى: 3/49.
(2) جامع الفصولين: 1/234؛ وابن عابدين: 5/276؛ وقاضيخان: 2/165؛ ومعين الحكام: ص143، الباب الأربعون.(7/1153)
حكم بيع الوفاء: في فصول عماد الدين:
فتوى أئمة زماننا أن حكم بيع الوفاء حكم الرهن.
وعليه: تسقط حصة النقصان من مال الوفاء، بأن يقسم مال الوفاء على قيمة الباقي والهالك فيسقط الهالك لا الباقي كما في الرهن.
- وكذا لو أتلف المشتري حصة نقصان نباته أو شجره يضمن قيمته كمرتهن (1) .
قال النسفي: هذا البيع باطل، وهو رهن، وحكمه حكم الرهن، هكذا ذكر وهو الصحيح.
وذكر الإمام محمد بن الفضل البخاري هكذا ...
- وقيل: بيع فاسد، يوجب الملك إذا اتصل به القبض والأول أصح.
وفي جواهر الفتاوي: لا فرق عندنا بين الرهن وبينه في حكم من الأحكام (2) .
القول الثاني:
عن علامة سمرقند صاحب المنظومة نجم الدين النسفي (710هـ) قال: اتفق مشايخ الزمان - وهو ما كان عليه بعض السلف - على صحته بيعًا وإفادته لبعض أحكامه وهي: الانتفاع به دون البعض، وهو البيع لحاجة الناس، وجوز الاستصناع لذلك.
وقال صاحب النهاية: وعليه الفتوى.
وجه هذا القول:
إن العاقدين تلفظا بلفظ البيع بلا ذكر شرط فيه، والعبرة للملفوظ دون المقصود، أو نقول: لا عبرة بمجرد النية بلا لفظ.
ونظيره: من تزوج امرأة على نية أن يطلقها إذا مضى سنة - أي بعدما جامعها - صح العقد ولا يكون متعة (3) .
القول الثالث:
في فتاوى قاضيخان: الصحيح أن العقد الذي جرى إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا، ثم ينظر ((إن ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع)) ، وإن لم يذكرا ذلك في البيع وتلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء، أو تلفظا بالبيع الجائز وعندهما هذا البيع عبارة عن بيع غير لازم فكذلك، وإن ذكرا البيع من غير شرط ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة جاز البيع ويلزم الوفاء بالوعد (4) .
وجه هذا القول:
لأن المواعيد قد تكون لازمة، قال صلى الله عليه وسلم: ((العدة دين)) فيجعل هذا الميعاد لازمًا لحاجة الناس إليه.
__________
(1) جامع الفصولين: 1/238؛ وقاضيخان: 2/165.
(2) جامع الفصولين: 1/234، واللآلي الدرية بهامش الجامع.
(3) جامع الفصولين: 1/235؛ والزيلعي، تبيين الحقائق: 5/184؛ والبزازية بهامش الهندية: 4/406؛ ومعين الحكام: ص144.
(4) قاضيخان بهامش الفتاوي الهندية: 2/165 و 3/209.(7/1154)
وقال جلال الدين في حواشي الهداية: وصورته أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بألف على أني لو دفعت إليك ثمنه تدفع إلي، ثم قال: ويسمى هذا بيع الوفاء. ويمكن أن يكون هذا الآخر على الاختلاف الذي مضى ذكره وتفسيره.
وهذا البيع موجود في مصر وهم يسمونه (بيع الأمانة) (1) .
القول الرابع:
قاله في العدة واختاره الإمام ظهير الدين المرغيناني وغيره من مشايخ بخارى أنه بيع فاسد كبيع المكره، أي للبائع حق نقض المشتري، وجهه لأنه بيع بشرط فاسد. وبه قال الصدر الشهيد حسام الدين والصدر السعيد تاج الإسلام أحمد بن عبد العزيز. وإنما جعلوا بيع الوفاء فاسدًا: باعتبار شرط الفسخ عند القدرة على إيفاء الدين، ويفيد الملك عند اتصال القبض به، وينقض بيع المشتري كبيع المكره (2) .
وجه هذا القول:
لأن الفساد باعتبار عدم الرضا، فكان حكمه حكم بيع المكره (3) .
وقال الإتقاني: والأصح عندي أن بيع الوفاء فاسد، يوجب الملك بعد القبض، كسائر البياعات الفاسدة، لأن بيع الوفاء بشرط لا يقتضيه العقد وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط (4) .
__________
(1) الزيلعي، تبيين الحقائق: 5/184.
(2) البزازية بهامش الهندية: 4/407.
(3) الزيلعي، تبيين الحقائق: 5/183؛ والبزازية بهامش الهندية: 4/407؛ والغياثية: ص143.
(4) الزيلعي، تبيين الحقائق 5/184؛ والغياثية: ص143.(7/1155)
القول الخامس:
ما اختاره أئمة خوارزم، أنه إذا أطلق البيع ولكن وكل المشتري وكيلاً يفسخ البيع إذا أحضر البائع الثمن، أو عهد على أنه إذا أوفاه فسخ البيع - والثمن لا يعادل المبيع وفيه غبن فاحش.
أو وضع المشتري على أصل المال ربحًا بأن وضع على مائة عشرين دينارًا فرهن.
وإن كان بلا وضع ربح بمثل الثمن، أو بغبن يسير فبات بشرط أن يعلم البائع بالغبن الفاحش.
أما إذا ظن أنه ثمن عدل لكنه بالغبن الفاحش في الواقع.
- فإذا ظن المعادلة وباع بالغبن الفاحش فبات لأنا إنما نجعله رهنًا بظاهر حله أنه لا يقصد البات عالمًا بالغبن وليس بمعهود وضع الربح على الثمن في البات.
واختار خاتم المجتهدين مولانا سيف الدين البعض أنه رهن (1) .
القول السادس:
ما اختاره البعض منهم الشيخ الإمام فخر الدين الزاهدي وبعض مشايخ سمرقند إذا كان الوفاء غير مشروط في البيع نجعله صحيحًا في حق المشتري حتى يحل له الانتفاع بالمشترى كما يحل بسائر أملاكه ولا ضمان عليه ونجعله رهنًا في حق البائع، حتى لا يتمكن المشتري من بيعه ولا يورث عنه ولا يملك المشتري تحويل يده وملكه إلى غيره وأجبر على الرد إذا أحضر الدين لأنه كالزرافة مركب من البيع والرهن.
وكثير من الأحكام له حكمان: كالهبة حال المرض، والهبة بشرط العوض.
وجعلناه كذلك لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا، فبلخ اعتادوا الدين والإجارة الطويلة ولا يمكن ذلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاء.
وما ضاق على الناس أمره اتسع حكمه.
وعقب على هذا الرأي بالقول: والفتوى في زماننا على جوازه من هذا الوجه (2) .
__________
(1) البزازية بهامش الهندية: 2/407.
(2) البزازية بهامش الهندية: 2/409؛ وجامع الفصولين: 1/236؛ ومعين الحكام: ص143.(7/1156)
وفي جامع الفصولين: تواضعا الوفاء قبل البيع ثم تبايعا بلا ذكر شرط الوفاء ثم شرطاه يكون بيع وفاء، ولا عبرة للمواضعة السابقة.
وجه هذا القول:
أن الشرط اللاحق يلتحق بأصل العقد عند أبي حنيفة (1) .
وفي فتاوى قاضيخان: إذا تبايعا من غير شرط ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة، جاز البيع ويلزم الوفاء بالميعاد.
وجه هذا القول:
أن المواعيد قد تكون لازمة، قال صلى الله عليه وسلم: ((العدة دين)) ، فيجعل هذا الميعاد لازمًا لحاجة الناس إليه (2) .
وقال جلال الدين في حواشي الهداية: صورته: أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بألف على أني لو دفعت إليك ثمنك تدفع إلي، ثم قال: ويسمى هذا بيع الوفاء.
وهذا البيع موجود في مصر وهم يسمونه (بيع الأمانة) (3) .
وقال في البحر: وينبغي ألا يعدل في الإفتاء عن القول الجامع وفي النهر والعمل في ديارنا على ما رجحه الزيلعي.
وقال في معين الحكام: مسألة:
يجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد عقد البيع أنه إن جاء بالثمن إلى أجل كذا فالبيع لازم له، ويُلزم ذلك المشتري متى جاء بالثمن في خلال الأجل وعند انقضائه أو بعده على القرب منه.
ولا يكون للبائع تفويته في خلال الأجل، فإن فعل ببيع أو هبة أو شبه ذلك نقض إن أراده البائع ورد إليه.
وإن لم يأت بالثمن إلَّا على بعد من انقضاء الأجل فلا سبيل إليه.
وإن لم يضربا في ذلك أجلًا فللبائع أخذه متى جاءه بالثمن في قرب الزمان أو بعده ما لم يفوته المبتاع، فإن فاته فلا سبيل له إليه.
فإن قام عليه حين أراد التفويت فله منعه بالسلطان إذا كان ماله حاضرًا.
فإن باعه بعد منع السلطان له رد البيع وإن باعه قبل أن يمنعه السلطان نفذ بيعه.
__________
(1) ابن عابدين: 4/341، طبعة القاهرة 1257هـ.
(2) قاضيخان بهامش الهندية: 3/209.
(3) الزيلعي، تبيين الحقائق: 5/184، باب البيع الفاسد.(7/1157)
القول السابع:
أجاب علاء الدين بدر أنه لا يصح.
وعلى هذا اختيار صاحب الهداية وأولاده ومشايخ زماننا وعليه الفتوى.
أعني لا يملك المشتري البيع من الغير كما في بيع المكره، لا كالبيع الفاسد بعد القبض.
القول الثامن:
لما وقع التردد في إلحاقه بالفاسد أو الصحيح فإلحاقه بالصحيح أولى تقليلًا للفساد وترجيحًا لقول الإمام.
القول التاسع:
وهو الذي استقر عليه فتوى صاحب الهداية وأولاده ومشايخ العهد.
إن الملك يثبت للمشتري في زياداته، ولا يضمنه بالإتلاف (1) .
وزكاة مال الوفاء على البائع لأنه ملكه بالقبض، وعلى المشتري أيضًا لأنه يعد مالًا موضوعًا له عند البائع أو دينًا له عليه.
- وليس هذا إيجاب زكاة المال على رجلين لأن النقود لا تتعين في العقود والفسوخ، وعليه صاحب الهداية والإمام البزدوي (2) .
هذا وخرج صاحب البزازية على هذا الأصل فروعًا ومسائل عدة يرجع إليها لمزيد من التوضيح.
القول الراجح:
قال علي حيدر في شرح المجلة ما نصه:
والحاصل: أن بيع الوفاء وإن وجد فيه تسعة أقوال فأرجحها القول الذي اتبعته المجلة في قولها: (بيع الوفاء: في حكم البيع الجائز بالنظر إلى انتفاع المشتري) .
وفي حكم البيع الفاسد بالنظر إلى كون كلٍّ من الفريقين مقتدرًا على الفسخ.
وفي حكم الرهن بالنظر إلى أن المشتري لا يقدر على بيعه إلى الغير.
وعلى كلٍّ فوجه الشبه بالرهن أَبْيَنُ وأرجح (3) .
* * *
__________
(1) البزازية بهامش الهندية: 2/410.
(2) جامع الفصولين: 1/239؛ والبزازية: 4/412.
(3) شرح المجلة: 2/431.(7/1158)
مذهب المالكية
اختلف المالكية في حكم بيع الوفاء على قولين:
القول الأول: أنه بيع باطل، ذهب إلى ذلك ابن القاسم كما في المدونة وعليه أكثرهم.
القول الثاني: أنه رهن باطل، ذهب إلى ذلك سحنون وابن الماجشون وبعض المالكية.
لكن ابن رشد في البداية قال: لا يجوز عند مالك.
وهذه عبارته: وأما من قال له البائع: متى جئتك بالثمن رددت علي المبيع، فإنه لا يجوز عند مالك (1) .
وجهه: لأنه يكون مترددًا بين البيع والسلف - إن جاء بالثمن كان سلفًا - وإن لم يجىء كان بيعًا.
جاء في البيان والتحصيل ما نصه:
سئل مالك عمن باع أصل حائطه من رجل أنه متى جاءه بالثمن كان أحق بحائطه وكان إليه رد - فأقام في يد المشتري ست سنين يأكل ثمرته، ويزرع قصيبًا يأكل غلته - ثم أيسر البائع بعد ست سنين فجاءه بالثمن فرده عليه وأخذ حائطه - وقد أكل المشتري ثمرته ست سنين وغلة قصب كان يزرعه.
وطلب المشتري الحائط ما أنفق في الحائط.
وقال مالك: أصل هذا البيع لم يكن جائزًا ولا حسنًا، وأرى للمشتري ما أكل من الثمر واستغل من القصب بالضمان لأنه كان للحائط ضامنًا، وأرى له أيضًا على رب الحائط ما أنفق في بنيان جدار أو حفر بئر رد عليه، وقد بنى فيه وحفر فيه بئرًا.
- وأصل هذا البيع لم يكن جائزًا ولا حسنًا.
__________
(1) ابن رشد، بداية المجتهد: 2/175، الباب الرابع في بيوع الشروط والثنيات.(7/1159)
وقال محمد بن رشد: البيع على هذا الوجه يسمونه (بيع الثنيا) وقد اختلف فيه.
فقيل: إنه بيع فاسد بما شرط على المبتاع من أنه أحق به متى ما جاءه بالثمن، لأنه يصير كأنه بيع وسلف، وهو قول مالك ههنا.
- وفي بيوع الآجال من المدونة: فإن وقع فسخ ما لم يفت بما يفوت به البيع الفاسد وكانت الغلة للمبتاع بالضمان - فإن فاتت صحح بالقيمة. والحائط لا يفوت في البيع الفاسد بالبناء اليسير.
فلذلك قال: أنه يكون على رب الحائط إذا رد إليه ما أنفق.
وقيل فيه: إنه ليس بيعًا وإنما هو سلف جر منفعة.
قال سحنون ذلك في المدونة - وهو قول ابن الماجشون وغيره - لأنه كان المبتاع أسلف البائع الثمن على أن يغتل حائطه حتى يرد إليه سلفه.
- فعلى هذا القول: ترد الغلة للبائع ولا تكون للمبتاع (المشتري) لأنها ثمن السلف فهي عليه حرام (1) .
وجاء في المدونة: قلت: أرأيت لو أن رجلًا اشترى جارية على أن البائع متى جاء بالثمن فهو أحق بالجارية أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا.
قلت: لِمَ؟
قال: لأن هذا يصير كأنه بيع وسلف (2) .
وجاء في الحطاب:
ومن الشروط المناقضة (بيع الثنيا) وهو من البيوع الفاسدة. وقال أبو الحسن: هذا الذي يسمى (بيع الثنيا) واختلف إذا نزل هل يتلاقى بالصحة كالبيع والسلف أم لا؟ على قولين: يعني إذا أسقط الشرط.
قال الرجراجي: واختلف إذا أسقط مشترط الثنيا شرطه، هل يجوز البيع أم لا؟ على قولين:
أحدهما: إن البيع باطل، وهو المشهور.
والثاني: إن البيع جائز إذا أسقط شرطه وهو قول مالك في كتاب محمد.
يريد إذا رضي المشتري، وقال الشيخ أبو محمد وقد فسخا الأول.
وقال أبو الحسن: معنى قوله في المدونة: بيع وسلف.
أنه تارةً يكون بيعًا، وتارةً يكون سلفًا، إلَّا أنه يكون له حكم البيع والسلف في الفوات، بل فيه القيمة ما بلغت إذا فاتت السلعة (3) .
__________
(1) ابن رشد، البيان والتحصيل: 7/235 - 236.
(2) المدونة: 4/22، في البيع والسلف.
(3) الحطاب، مواهب الجليل: 4/373.(7/1160)
* حكم الغلة في بيع الثنيا:
اختلف في الغلة في هذا البيع:
هل هي للمشتري أو للبائع: قال الرجراجي: اختلف في بيع الثنيا هل هو بيع أو رهن على قولين: وفائدة الخلاف في الغلة.
فمن رأى أنه بيع قال: لا يرد الغلة (1) .
وقد قال مالك في العتبية: إن الغلة فيه للمشتري بالضمان فجعله بيعًا وإنه ضامن والغلة له.
- ومن رأى أنه رهن قال: يرد الغلة، وأنه في ضمان البائع في كل بيع ونقض يطرأ عليه من غير سبب المشتري، وما كان من سبب المشتري فهو ضامن له، وحكمه حكم الرهان في سائر أحكامها فيما يغاب عليه، والراجح أنها للمشتري كما نقله ابن رشد في المسألة العاشرة من سماع الشهب من جامع البيوع ومن سماع أصبغ.
وعقب الحطاب على تلك النقول بقوله:
وهذا كله والله أعلم فيما إذا قبض المشتري المبيع واستغله.
- أما ما يقع في عصرنا (القرن العاشر) وهو مما عمت به البلوى من أن الشخص يشتري البيت مثلًا بألف دينار، ثم يؤجره بمائة دينار لبائعه قبل أن يقبضه المشتري وقبل أن يخيله البائع من أمتعته بل يستمر البائع على سكناه إياه، إن كان على سكناه أو على وضع يده عليه وإجازته ويأخذ المشتري منه كل سنة أجرة مسماة يتفقان عليها - فهذا لا يجوز بلا خلاف (2) .
وجه هذا القول:
لعدم انتقال الضمان إليه، والخراج بالضمان، وهنا لم ينتقل الضمان لبقاء المبيع تحت يد بائعه، فلا يحكم له بالغلة.
بل ولو قبض المشتري المبيع ثم أجره للبائع على الوجه المتقدم لم يجز.
وجه هذا القول:
لأن ما خرج من اليد وعاد إليها لغو كما هو مقرر في بيوع الآجال وآل الحال إلى صريح الربا، وهذا واضح لمن تدبره وأنصف والله أعلم.
وبالجملة: فإن ثمرة الخلاف بين قولين - أي في كونه رهنًا - أو بيعًا تظهر في الغلة.
فمن قال: أنه بيع قال: لا يرد الغلة، وتكون للمشتري بالضمان.
ومن قال: أنه رهن قال: يرد الغلة، وأنه في ضمان البائع، وحكمه حكم الرهان في سائر أحكامها.
وهذا الخلاف عندهم فيما إذا لم يظهر بالبينة أو بالإقرار أنهما قصدا الرهن.
أما إذا ظهر ذلك فإنه يكون رهنًا باطلًا بالاتفاق لأنه حينئذ يكون سلفًا بمنفعة (3) .
* * *
__________
(1) الحطاب، مواهب الجليل: 4/272.
(2) الحطاب على خليل: 4/274؛ وكذا في البزازية على الهندية: 4/405، وقال: كما لو استأجر الراهن الرهن.
(3) المدونة في مذهب الإمام مالك، وبداية المجتهد، لابن رشد، ومنح الجليل: 2/569؛ والحطاب: 4/272 - 274؛ وفتاوى عليش: 1/242.(7/1161)
مذهب الحنابلة
ذهب الحنابلة إلى بيع الأمانة (الوفاء) الذي مضمونه اتفاق المتبايعين على أن البائع إذا جاءه المشتري بالثمن، أعاد عليه ملك المبيع.
وللمشتري أن ينتفع بالمبيع بالإجارة أو السكنى أو غيرها - عقد باطل بكل حال.
وجه هذا القول:
لأن مقصود المتبايعين إنما هو الربا بإعطاء الدراهم إلى أجل، ومنفعة الدار مثلاً - هي الربح.
والواجب فيه: رد المبيع إلى البائع، وأن يرد المشتري ما قبضه من الثمن (1) .
* * *
مذهب الشافعية
اختلفت أقوال فقهاء مذهب الإمام الشافعي في حكم بيع الوفاء.
من المتقدمين:
منهم من ذهب إلى القول بفساده إذا كان شرط الوفاء في صلب العقد مقترنًا بالإيجاب والقبول، أو في مجلس العقد، أو في زمانه خيار الشرط (2) .
- أما بعض المتأخرين من فقهاء المذهب قالوا: إن بيع الوفاء جائز مفيد لبعض أحكامه.
وهو: انتفاع المشتري بالمبيع وهو البيع من الآخر.
وجه هذا القول:
أن البيع بهذا الشرط تعارفه الناس وتعاملوا به لحاجتهم إليه فرارًا من الربا، فيكون صحيحًا لا يفسد البيع باشتراطه فيه - وإن كان مخالفًا للقواعد!!! لأن القواعد تترك بالتعامل كما في الاستصناع (3) .
وقال صاحب بغية المسترشدين من متأخري الشافعية:
بيع العهدة صحيح جائز تثبت به الحجة شرعًا وعرفًا على قول القائلين به، وأضاف قائلًا: لم أرَ من صرَّح بكراهته وقد جرى عليه العمل في غالب جهات المسلمين من زمن قديم وحكمت بمقتضاه الحكام، وأقره من يقول به من علماء الإسلام، مع أنه ليس من مذهب الإمام الشافعي، وإنما اختاره ولفقه من مذاهب للضرورة الماسة إليه، ومع ذلك فالاختلاف في صحته من أصله وفي التفريع عليه لا يخفى على من له إلمام بالفقه.
لكن المتقدمين من فقهاء المذهب قالوا بناء للبيع وللأسباب التي ذكرها القائلون بفساده (4) .
* * *
__________
(1) كشف القناع: 3/149 - 150؛ والإقناع في فقه الحنابلة.
(2) ابن حجر الهيتمي، الفتاوى: 2/230.
(3) مغني المحتاج: 2/31؛ ونهاية المحتاج: 3/433.
(4) بغية المسترشدين: ص133.(7/1162)
أثر فوت المبيع
ما يعتبر فوتًا وما لا يعتبر
إذا كانت قيمة المال المباع بالوفاء مساوية للدين وهلك المبيع في يد المشتري أو أتلفه - سقط من الدين بقدر قيمة المبيع الهالك أو المتلف، فإن لم يتلف المبيع بل طرأ عليه عيب أوجب نقصان قيمته - قسمت قيمة الباقي منه على قيمة ما هلك منه - فيسقط الدين الذي يصيب الحصة التي تلفت ويبقى ما يلحق الحصة الباقية منه.
أما إذا كانت قيمة المال المبيع وفاء ناقصة عن الدين وهلك المبيع في يد المشتري سقط من الدين بقدر قيمته واسترد المشتري الباقي وأخذه من البائع وسواء أكان الهلاك بلا تعد ولا تقصير من المشتري، أم كان بتعدِّيه وإتلافه (1) .
وإذا كانت قيمة المبيع وفاء زائدة عن مقدار الدين وهلك المبيع في يد المشتري - سقط من الدين قدر ما يقابل الدين وضمن المشتري الزيادة إن كان هلاكه بالتعدي.
أما إذا كان بلا تعدٍّ فلا يلزم المشتري أداء تلك الزيادة.
أي إذا كانت قيمة المال المبيع وفاء يوم القبض زائدة عن مقدار الدين وهلك المبيع في يد المشتري سقط من قيمته قدر ما يقابل الدين سواء حصل التلف بتعدٍ أو لا، غير أنه إذا تلف بتعدي المشتري فعليه أن يضمن ما زاد عن مقدار الدين.
أما إذا تلف بدون تعدٍّ ولا تقصير فالزيادة في حكم الأمانة - فليس على المشتري أداؤها، لأن الأمانة غير مضمونة - فإذا هلكت أو ضاعت بلا صنع الأمين ولا تقصير منه لا يلزمه الضمان (2) .
* * *
__________
(1) البزازية في الرابع من البيوع: 4/405؛ وجامع الفصولين: ط 239؛ والملتقى - ومجمع الأنهر في الرهن.
(2) شرح المجلة لحيدر - وباز المواد: ص399 - 402.(7/1163)
حكم اشتراط البائع الضمان من المشتري
للوفاء ببيع الوفاء
لمَّا كان بيع الوفاء يتراوح ما بين الرهن والبيع صحيحًا كان أو فاسدًا على خلاف بين العلماء ... كما صحَّح بعضهم أن بيع الوفاء إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا.. ولو ذكر البيع بلا شرط ثم ذكر الشرط على وجه العدة جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد إذ المواعيد تكون لازمة فيجعل لازمًا لحاجة الناس.
- كما ذكروا أن الشرط الفاسد إذا ألحق بالعقد يلتحق عند أبي حنيفة رحمه الله لا عند صاحبيه.
- بعد كل هذا صار التزام المشتري الوفاء ضمان رد المبيع إذا طلب إليه البائع هو التزام ديانة (أدبي) لا يرقى إلى مرتبة الالتزام المادي الملزم قضاء.. أي الوجوب قضاء.
لأن بيع الوفاء لم يتمحض بيعًا باتًّا من كل وجه حتى لو كان بيعًا لم يعد أي علاقة بين البائع والمشتري.. ولكن لمشابهة الرهن من وجه آخر ... فلا يصح طلب الرهن مقابل الوفاء بالرهن.. لأن الرهن حبس مال وإمساكه في مقابل حق ممكن استيفاؤه منه كالأعيان المضمونة بمثلها أو بالقيمة ... كما يشترط أن يكون مقابل الرهن مالًا مضمونًا.. وهذا ليس مضمونًا.. كما لا يصح أخذ الرهن لأجل مال الأمانة، هذا والله أعلم.
* * *(7/1164)
المحور الثاني
بيع الوفاء وعقد الرهن
* وجه التطابق فيما بين العقدين:
سبق وذكر في فتاوى النسفي أنه قال: إن بيع الوفاء هو رهن في الحقيقة وخرج على هذا الأصل الفروع التالية:
1- لا يملكه المشتري ولا ينتفع به إلَّا بإذن مالكه.
2- المشتري وفاء ضامن لما أكل من ثمر المبيع أو أتلف من شجره.
3- يسقط من الدين بهلاك المشتري تحت يده.
4- لا يضمن الزيادة.
5- للبائع استرداد المبيع وفاء إذا قضى دينه.
6- لو بيع كرم بجنب هذا الكرم - الذي بيع بيع وفاء - فالشفعة للبائع لا للمشتري.
الوجه في المسألة: لأن بيع المعاملة وبيع التلجئة حكمهما حكم الرهن، وللرهن حق الشفعة وإن كان في يد المرتهن.
7- فتاوى النسفي: سئل عمن باعه بيع وفاء فتقابضا فاستأجره - البائع - من المشتري هل يلزمه الأجر؟ قال: لا، لأنه رهن، والراهن لو استأجر الرهن من مرتهنه لم يلزمه الأجر.
8- سئل: عمن باعه بيعًا وفاء، فباعه المشتري من آخر بيعًا باتًّا ولو سلم وغاب هل للبائع الأول أن يخاصم المشتري الثاني ليأخذه منه؟ قال: نعم، وإن كان حق الحبس للمرتهن لكن يد المشتري الثاني غير محقة، والبائع الأول مالك وله طلب ملكه ممن أخذ بغير حق.
ثم للمرتهن أن يأخذه منه ويحبسه متى حضر (1) .
__________
(1) جامع الفصولين: 1/235؛ ومعين الحكام: ص143.(7/1165)
9- وسئل أبو الحسن الماتريدي: عمن باع نصف كرمه من آخر وفاء، وخرج البائع في الصيف إلى كرمه بأهله. وأخرج المشتري أهله، وأدركت الغلات، فأخذ البائع نصفها والمشتري نصفها:
هل للبائع إذا تقايلا البيع وأعطاه - البائع للمشتري ما فاء - ثمن ما شراه - أن يطالبه بما حمل من الغلات؟
قال: لو أخذه بغير رضى البائع فللبائع أن يطالبه به أما لو أخذه برضاه فيكون ذلك هبة منه.
ثم قال: لا بد من التفصيل فيه: فإن رب الكرم هو الذي نقله - المشتري - إلى كرمه فيحتمل الأخذ برضاه وبغير رضاه.
فأما لو شرى الكرم كله وقبضه المشتري وأخذ غلاته والأخذ بغير رضا البائع وهو في الحقيقة رهن وليس للمرتهن أن يأكل غلة الرهن - فإذا أكلها ضمنها فأفتينا بالضمان على الاتفاق.
لذلك أقول: غرضهما من التبايع - وفاء - هو أخذ غلة الكرم المبيع والانتفاع به فيكون الأخذ برضى البائع سواء باع كل الكرم أو بعضه - فينبغي أن لا يضمن المشتري وفاء (1) .
10- تسقط حصة النقصان من مال الوفاء بأن يُقيم مال الوفاء على قيمة الباقي والهالك. فيسقط الهالك لا الباقي - كما في الرهن (2) .
11- لو أتلف المشتري حصة نقصان بنائه أو شجره يضمن قيمته كمرتهن.
ليس للبائع ولا للمشتري بيع مبيع الوفاء لشخص آخر لأن البيع بالوفاء في حكم الرهن في كل شأن من شؤونه.
وعليه: فليس لأحد من البائع والمشتري أن يبيع مبيع الوفاء من آخر بدون إذن الآخر حتى لو باعه البائع من آخر بيع وفاء أو بيعًا باتًّا وسلمه إياه فلا يكون صحيحًا - ولذلك للبائع أو ورثته استرداده من المشتري أو من وارثه، ويجبر المشتري أو وارثه على رده ولو لم يؤد البائع ثمنه إليه.
- ولكل واحد من الطرفين بيعه بإذن الآخر. فإذا باع إنسان ماله المباع بيع وفاء من آخر بيعًا باتًّا وأجازه المشتري وفاءً كان الوفاء جائزًا.
- وإذا باعه من آخر أيضًا نفذ منهما البيع الذي يجيزه المشتري وفاء.
وفي جامع الفصولين في بيع الوفاء لو باع ولم يقبض الثمن لا يمكنه من بيعه ثانيًا من غيره إلَّا بإجازة المشتري أو فسخ البيع (3) .
أما لو باع الكل وفاء وقبض ثمنه ثم أدى نصف الثمن إلى المشتري - يتمكن من بيع نصف المبيع بلا إجازة لما مر من أنه ينفسخ البيع في النصف بقبض نصف الثمن (4) .
* * *
__________
(1) معين الحكام: ص 143.
(2) جامع الفصولين: ط 238.
(3) علي حيدر - المجلة ط 365؛ والبزازية في الرابع من البيوع؛ ودر المختار ورد المحتار.
(4) جامع الفصولين: 1/240.(7/1166)
مبحث
هل يجوز انتفاع المرتهن بالعين المرهونة؟
اتفق الفقهاء على أن عين الرهن، ومنافعه ملك للراهن، وأن للمرتهن ليس إلَّا حق استيفاء دينه من ثمن المرهون إذا تعذر على الراهن وفاء الدين للمرتهن عند الأجل، مقدمًا به على سائر الغرماء.
كما اتفقوا على أن المرتهن لا يحل له الانتفاع بشيء من المرهون، إذا لم يأذن له الراهن، ولم يكن المرهون مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة.
واختلفوا في انتفاع المرتهن بالمرهون إذا أذن له الراهن مطلقًا سواء أكان المرهون مركوبًا، أم محلوبًا، أم صالحًا للخدمة أم كان غير ذلك، أو لم يأذن له الراهن، وكان المرهون مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة فالخلاف بين الفقهاء في موضعين:
الموضع الأول: انتفاع المرتهن بالمرهون، إذا أذن له الراهن في الانتفاع.
الموضع الثاني: انتفاع المرتهن بالمرهون، إذا لم يأذن له الراهن في الانتفاع، وكان المرهون مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة.
الموضع الأول
انتفاع المرتهن بالمرهون إذا أذن له الراهن
اختلف الفقهاء في انتفاع المرتهن بالمرهون إذا أذن له الراهن، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: الجواز مطلقًا سواء أكان الدين قرضًا أم غيره، وسواء أكان الانتفاع مشروطًا في العقد أم لا، ذهب إلى ذلك الحنفية (1) .
القول الثاني: عدم الجواز مطلقًا سواء أكان الانتفاع مشروطًا في العقد أم لا، وسواء أكان الدين قرضًا أم غيره، ذهب إلى ذلك الشافعي كما في الأم، وهو قول للحنفية.
القول الثالث: عدم الجواز إذا كان الرهن بدين القرض، والجواز إذا كان بدين غير القرض، كثمن مبيع، وأجرة دار، ذهب إلى ذلك المالكية والحنابلة، وهو المروي في التحفة عن الشافعي، غير أن المالكية والشافعية قيدوا الجواز بأمرين:
الأول: أن يكون شرط الانتفاع في طلب العقد.
الثاني: أن تكون المنفعة معلومة ببيان مدتها.
__________
(1) ابن عابدين: 5/232.(7/1167)
الأدلة
استدل أصحاب القول الأول على جواز انتفاع المرتهن بالمرهون مطلقًا: بأن الراهن مالك لجميع منافع المرهون، فله أن يملكها غيره، فإذا أباحها للمرتهن صح ذلك، وحل للمرتهن الانتفاع بالمرهون، وكأن الراهن وهب المنفعة للمرتهن والهبة مشروعة.
ورد هذا الاستدلال بأن الهبة المشروعة هي ما أقدم عليها المالك بمحض اختياره، طيبة بها نفسه، والظاهر من حال الراهن أنه إنما أقدم على إباحة الانتفاع للمرتهن بالمرهون، تحت تأثير الحاجة، ولم يكن إذنه عن طيب من نفسه، وعلى ذلك فلا يحل مال امرىء إلَّا بطيب من نفسه.
واستدل أصحاب القول الثاني على عدم جواز انتفاع المرتهن بالمرهون مطلقًا:
بما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه)) (1) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن قوله: ((له غنمه وعليه غرمه)) نص صريح في أن منافع الرهن ملك للراهن، ولا يباح منها للمرتهن شيء إلَّا ما يقوم على إباحته دليل صحيح.
وليس هناك دليل صحيح على إباحة الانتفاع، وإذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بملكه - وقد وضعته الحاجة هذا الوضع القاسي - لا ينبغي لمنصف أن يدعي أنه صدر منه عن كمال اختيار وطيب نفس، بل صدر منه تحت سلاح الحاجة القاسية، على أنه في بعض الحالات يكون الانتفاع ربا صريحًا فيما إذا كان الدين قرضًا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل قرض جر نفعًا فهو ربا)) وهو منهي عنه شرعًا، فانتفاع المرتهن بالمرهون منهي عنه شرعًا.
واستدل أصحاب القول الثالث: مالكية، حنابلة، شافعية.
أولاً: على عدم جواز انتفاع المرتهن بالمرهون إذا كان الرهن عن دين قرض:
بما رواه علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل قرض جر نفعًا فهو ربا)) .
__________
(1) له غنمه وعليه غرمه، معناه: للراهن زوائد المرهون ومنافعه، وعليه نقصانه وهلاكه. انظر: المنتقى وشرحه نيل الأوطار: 5/103؛ والأم: 3/147.(7/1168)
ولا شك أن انتفاع المرتهن بالمرهون إذا كان الرهن عن دين قرض، زيادة خالية عن عوض فيكون ربا وهو منهي عنه.
ورد هذا الاستدلال بأن هذا الحديث قد ضعفه علماء الجرح والتعديل من جهة السند فلا يصلح للاحتجاج به.
ودفع هذا الرد بأن هذا الحديث وإن لم يثبت مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت معناه في روايات كثيرة، وجرى عمل الصحابة والسلف الصالح على ذلك، وهذا كاف للعمل به.
وثانيًا: على جواز الانتفاع إذا كان الرهن عن دين غير قرض بمفهوم حديث: ((كل قرض جر نفعًا فهو ربا)) فإن مفهومه أن غير القرض إذا جر نفعًا لا يكون ربا، فلا يكون نفعه منهيًّا عنه.
وقد رد هذا الاستدلال بأن الحديث لا مفهوم له، لأنه خرج مخرج الغالب، حيث كان الواقع والكثير الغالب - وقت ورود الحديث - أنهم كانوا يأخذون الرهن في مقابلة القرض وينتفعون به، فنهي الشارع عنه بخصوصه لا ينفي الحكم عما عداه، ونظير ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] .
ولو سلمنا أنه له مفهومًا، فلا حجة فيه أيضًا، لأنه مفهوم لقب ومفهوم اللقب لا يحتج به على القول الراجح عند جمهور الفقهاء.
واستدل المالكية والشافعية على تقييدهم جواز الانتفاع فيما إذا كان الدين غير قرض بكونه مشروطًا في صلب العقد:
بأنه: إذا كان مشروطًا في صلب العقد كان بيعًا وإجارة وهو جائز. وبكون المدة معينة بأن تعيين المدة يخرج من الجهالة المفسدة للإجارة.
ورد على المالكية، والشافعة: أولًا بأن تقييدهم هذا لا يجنبهم المحظور الذي فروا منه، وهو فساد الإجارة، لأنها في هذه الحالة فاسدة لجهالة الأجرة، وكذلك البيع فاسد لجهالة الثمن، لأن الدين أصبح أجرة وثمنًا على الشيوع.
وثانيًا: بأن هذه الإجارة لا اختيار فيها فالظاهر من أمر المشتري أنه إنما قبل هذا الاشتراط تحت تأثير الحاجة، فهو تصرف لا اختيار فيه، وكل تصرف صدر لا عن اختيار فهو غير صحيح.
القول المختار
هذا والمختار من الأقوال الثلاثة هو القول بعدم جواز انتفاع المرتهن بالمرهون مطلقًا سواء أكان الانتفاع مشروطًا في العقد، أم كان غير مشروط وسواء أكان الرهن بدين قرض أم كان بغير دين قرض، لقوة أدلته وسلامتها مما ورد عليها، ولأنه يتفق وسماحة الدين ويسره ونبل مقصده حيث حث على التعاون وأكده، أما تَحَيُّن الفرص لأكل أموال الناس بالباطل فليس في شرائع الله تعالى ما يبيحه.(7/1169)
الموضع الثاني
انتفاع المرتهن بالمرهون إذا لم يأذن له الراهن بالانتفاع
وكان المرهون مركوبًا أو محلوبًا أو صالحًا للخدمة
اختلف الفقهاء في انتفاع المرتهن بالمرهون إذا كان مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة، ولم يأذن الراهن للمرتهن بالانتفاع بالمرهون، على أربعة أقوال:
القول الأول: لا يحل انتفاع المرتهن بالمرهون المركوب، أو المحلوب، أو الصالح للخدمة، إذا لم يأذن الراهن له بالانتفاع، ركوبًا، أو حلبًا، أو خدمة مطلقًا، سواء أكان الانتفاع بقدر نفقة المرهون أو أزيد منها، وسواء أكان الإنفاق على المرهون لامتناع الراهن عن الإنفاق على المرهون أم كان لغيبته، ذهب إلى ذلك الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأحمد في رواية مرجوحة عنه.
القول الثاني: يحل الانتفاع بالركوب، أو الحلب خاصة بقدر النفقة متحريًّا العدل في ذلك مطلقًا، سواء أكان الإنفاق لامتناع الراهن عن الإنفاق أو لغيبته، أم كان مع عدم امتناعه وقدرته مع حضوره، ذهب إلى ذلك الحنابلة وإسحاق (1) .
القول الثالث: يحل الانتفاع بالمرهون ركوبًا أو حلبًا أو استخدامًا شرط امتناع الراهن من الإنفاق عليه، ويكون الانتفاع بقدر النفقة فقط، ذهب إلى ذلك أبو ثور، والليث، والأوزاعي (2) .
القول الرابع: يحل الانتفاع بالمرهون ركوبًا وحلبًا فقط، إذا امتنع الراهن من الإنفاق عليه، وتكون المنفعة بالغة ما بلغت في مقابلة النفقة، فلا يقيد حل الانتفاع بقدر ما ينفقه على المرهون (3) .
__________
(1) مغني الحنابلة: 4/432؛ وتفسير القرطبي: 3/411.
(2) مغني الحنابلة: 4/433؛ المنتقى وشرحه نيل الأوطار: 5/102.
(3) المحلى لابن حزم: 8/89.(7/1170)
الأدلة
أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول الأول على عدم حل انتفاع المرتهن بالمرهون المركوب، أو المحلوب، أو الصالح للخدمة، إذا لم يأذن الراهن للمرتهن بالانتفاع مطلقًا، بالسنة والقياس:
أما السنة: فما رواه الشافعي والدارقطني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه)) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الغنم للراهن، والغرم عليه، ولا شك أن المنافع من غنمه، فلا يصح للمرتهن أن ينتفع بشيء منها بدون إذن مالكها بلا تفرقة بين مركوب ومحلوب وبين غيره.
ونوقش هذا الدليل من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن هذا الحديث مختلف في وصله، وإرساله، ووقفه، ورفعه، وهو مع هذا الاختلاف لا يقوى على معارضة ما رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) .
ودفع هذا الوجه بأن الوصل والرفع زيادة من الثقة، وهي مقبولة، والاختلاف فيها لا يمنع من صحة الاحتجاج بالحديث.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث في سنده، عبد الله بن الأصم الأنطاكي، وله أحاديث منكرة، ذكرها ابن عدي في كتابه، ومنها هذا الحديث.
ودفع الوجه الثاني بأن هذا الحديث قد ورد من طرق أخرى ليس فيها هذا الراوي، وهذه الطرق حسنها علماء الحديث كما قال صاحب نصب الراية.(7/1171)
الوجه الثالث: أن قوله: ((له غنمه وعليه غرمه)) ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب، نقله عنه الزهري كما قال أبو داود في مراسيله.
ودفع الوجه الثالث بأن معمرًا ذكره عن ابن شهاب مرفوعًا، ومعمر أثبت الناس في ابن شهاب (1) .
وأما القياس: فإن المرهون ملك الراهن وليس للمرتهن فيه إلَّا حق الحبس، ولم يأذن الراهن للمرتهن بالانتفاع به، ولا الإنفاق عليه، فلم يكن له ذلك كغيره من الأموال، فكما أنه لا يجوز للمرتهن ولا لغيره الانتفاع بأموال الرهن غير المرهونة بغير إذنه فكذلك لا يجوز للمرتهن الانتفاع بالمرهون بغير إذن الراهن، بجامع أن المرهون وغير المرهون من أموال الراهن ملك له.
ورد هذا القياس بأنه فاسد الاعتبار لأنه واقع في مقابلة نص، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا)) ، فالقياس فاسد الاعتبار ولا يصلح للحجية.
__________
(1) نصب الراية: 4/220، 221.(7/1172)
أدلة القول الثاني
استدل أصحاب القول الثاني على حل الانتفاع بالركوب والحلب خاصة بقدر النفقة مع تحري العدل في الانتفاع بقدر النفقة مطلقًا - بالسنة والقياس:
أما السنة: فما رواه البخاري وأبو داود والترمذي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل منفعة المرهون في مقابل نفقته، ولم يقيد ذلك بإذن الراهن ولا بامتناعه عن الإنفاق، كما لم يقيد الانتفاع بكونه بمقدار النفقة، ولكن ورد ما يقيد إطلاقه في هذه الناحية، وهو ما رواه حماد بن سلمة في جامعه بلفظ: (إذا ارتهن شاة شرب المرتهن من لبنها بقدر علفها، فإن استفضل من اللبن شيء بعد ثمن العلف فهو ربا) (1) .
ورد هذا الدليل بأربعة أوجه:
الوجه الأول: أن هذا الحديث مجمل حيث لم يبين فيه من المنتفع، أهو الراهن أم المرتهن، وهو مع هذا الإجمال لا يصح به الاستدلال.
ودفع الوجه الأول: بأن هذا الحديث لا إجمال فيه، فإنه جعل الانتفاع عوضًا عن النفقة، وهذا إنما يصح في حق المرتهن، ولا يصح في حق الراهن لأن الراهن إنما ينفق على المرهون وينتفع به بحق الملك لا بطريق المعاوضة وعلى تسليم أنه مجمل في حد ذاته، فقد جاء في بعض رواياته ما يبين هذا الإجمال وهو: ((إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب النفقة)) ، فهذه الرواية صريحة في أن المنفق هو المرتهن، فيكون هو المنتفع.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث كان قبل تحريم الربا، ثم نسخ بقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل قرض جر نفعًا فهو ربا)) (2) .
ودفع الوجه الثاني: بأن النسخ لا يثبت بمجرد ادعائه، بل هو متوقف على القطع بتقدم المنسوخ وتأخر الناسخ، وعدم إمكان الجمع بينهما، والتاريخ مجهول، فلا تصح دعوى النسخ.
الوجه الثالث: أن هذا الحديث معارض لحديث ابن عمر عند البخاري وغيره، ولفظه: (لا تحلب ماشية امرىء بغير إذنه) وهو حاظر وإذا تعارض الحاظر والمبيح قدم الحاظر.
ودفع الوجه الثالث: بأن معارضة حديث ابن عمر لا تضر لأنها بين عام وخاص، فيحمل حديث ابن عمر العام على ما عدا ما دل عليه الخاص وهو حديث: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا ... إلخ)) .
والجمع بين الدليلين أولى من إهدار أحدهما.
__________
(1) مغني الحنابلة: 4/433.
(2) المبسوط للسرخسي: 21/108.(7/1173)
الوجه الرابع: أن هذا الحديث مخالف للقياس من وجهين:
الأول: أنه جوز الانتفاع لغير المالك بغير إذنه وهو ممنوع، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرىء إلَّا بطيب من نفسه)) .
الثاني: أنه جعل الضمان بالنفقة، والأصل في الضمان أن يكون بالمثل أو بالقيمة.
ودفع الوجه الرابع: بأن مخالفة الحديث للقياس غير قادحة في الاستدلال لأن الأئمة أثبتوا كثيرًا من الأحكام بالنصوص، وقالوا: إنها ثابتة على خلاف القياس كالإجارة، والسلم، وغيرهما.
وأما القياس: وهو الدليل الثاني من أدلة القول الثاني فقد قالوا في تقريره: إن نفقة الحيوان واجبة على الراهن، وللمرتهن فيه حق، وقد أمكنه استيفاء حقه من الرهن، والنيابة عن المالك فيما وجب عليه، واستيفاء ذلك من منافع المرهون، وهو جائز قياسًا على المرأة يجوز لها أخذ نفقتها من مال زوجها عند امتناعه - بغير إذنه، والنيابة عنه في الإنفاق على نفسها فالجامع بين المرتهن وبين المرأة هو مطلق الامتناع من كل من الراهن والزوج فيجوز للمرتهن أن ينفق على الحيوان المرهون، ويأخذ مقابلها من منفعته.
كما يجوز للمرأة أن تنفق على نفسها من مال زوجها عند امتناعه من الإنفاق عليها متى أمكنها ذلك.(7/1174)
أدلة القول الثالث
استدل أصحاب القول الثالث على حل انتفاع المرتهن بالمرهون ركوبًا وحلبًا بالسنة، كما استدلوا على انتفاع المرتهن بالمرهون استخدامًا بالقياس.
أما السنة: فأولًا ما رواه الشافعي والدارقطني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه)) .
وثانيًا ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) .
ووجه الدلالة من الحديثين أن الحديث الأول دل على أن جميع منافع المرهون للراهن، والحديث الثاني دل على أن للمرتهن أن ينتفع بالمرهون ركوبًا وحلبًا في نظير إنفاقه عليه فجمعا بين الحديثين يحمل الأول على ما إذا قام الراهن بالإنفاق على المرهون، والثاني على ما إذا امتنع من الإنفاق عليه.
وأما القياس: فالاستخدام كالحلب والركوب، لأنه في معناهما، فكما جاز انتفاع المرتهن بالركوب والحلب، فكذلك يجوز انتفاعه بالاستخدام.(7/1175)
أدلة القول الرابع
استدل أصحاب القول الرابع على حل انتفاع المرتهن بالمرهون ركوبًا وحلبًا فقط إذا امتنع الراهن من الإنفاق على المرهون في نظير الانتفاع بمنفعة المرهون ولو زادت على قدر النفقة بالكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] .
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرىء مسلم إلَّا بطيب من نفسه)) .
فهذه النصوص - من كتاب الله وسنة رسوله - تدل صراحة على أن انتفاع الشخص بمال غيره من غير إذنه حرام، ولا شك أن ملك الشيء المرهون باق لراهنه، فانتفاع المرتهن به لا يحل بدون إذن الراهن، وقد جاء الحديث: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) وهو يفيد جواز انتفاع المرتهن بالمرهون ركوبًا وحلبًا من غير إذن الراهن، ولم يقيد ذلك بقدر النفقة فيقتصر على مورد النص، ويبقى التحريم فيما عداه.
ورد هذا الدليل بأنه قد جاء في بعض الروايات التقييد بقدر النفقة، وهو ما رواه حماد بن سلمة في جامعه، بلفظ: ((إذا ارتهن شاة شرب المرتهن من لبنها بقدر علفها، فإن استفضل من اللبن شيء بعد ثمن العلف فهو ربا)) (1) .
وهذا صريح في أن الانتفاع بما زاد على قدر النفقة يكون حرامًا، فالواجب تقييد حديث الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا ... إلخ، بهذا الحديث.
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني: 5/102.(7/1176)
المختار
والقول المختار من الأقوال الأربعة في انتفاع المرتهن بالمرهون المركوب أو المحلوب، أو الصالح للخدمة، إذا لم يأذن الراهن للمرتهن في الانتفاع به.
هو القول الثالث وهو ما ذهب إليه أبو ثور، والليث، والأوزاعي من حل الانتفاع بقدر النفقة إذا امتنع الراهن عن الإنفاق على المرهون، لقوة أدلته ولموافقته لروح التشريع، ولما فيه من المحافظة على حقوق الراهنين والمرتهنين وعلى الأموال التي أمر الشارع بالمحافظة عليها ونهى عن إضاعتها وأكلها بالباطل.
فإن الناظر في أدلة المذاهب المختلفة، يرى أنه قد سلم منها حديث: ((له غنمه، وعليه غرمه)) ، وحديث: ((الظهر يركب بنفقته)) ، وحديث: ((فإن استفضل من اللبن شيء بعد ثمن العلف فهو ربا)) ، وسبيل العمل بالأحاديث المتعارضة هو الجمع بينها، وأما الأخذ ببعضها وترك البعض الآخر لمجرد ما أثير حوله من أقاويل أو تعصب لرأي معين، فبعيد عن الصواب، والإنصاف يقضي:
أولًا: بحمل حديث: ((له غنمه، وعليه غرمه)) العام، على حديث: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا)) الخاص، فيبقى العام مانعًا من انتفاع المرتهن بدون إذن الراهن فيما عدا المركوب والمحلوب.
ثانيًا: بتقييد حديث: ((الظهر يركب ... )) المطلق، المفيد جواز انتفاع المرتهن بالمرهون، في نظير النفقة، سواء امتنع الراهن من الإنفاق أم لا، وسواء كانت المنفعة مساوية للنفقة أم لا - في موضعين -:
الأول: إذا امتنع الراهن من الإنفاق.
والثاني: إذا كانت المنفعة مساوية للنفقة.(7/1177)
أما الأول: فلأن الأصل أن نفقة المرهون على مالكه، كما أفاده حديث: ((وله غنمه وعليه غرمه)) ، ولا يعدل عن هذا الأصل إلَّا إذا امتنع الراهن من الإنفاق على المرهون.
ولما كان المرتهن صاحب حق في المرهون، وبترك النفقة عليه يفوت هذا الحق جعل الشارع النفقة عليه في مقابل انتفاعه ركوبًا، أو حلبًا، لئلا يتضرر من الإنفاق على ملك غيره بالمجان، وقياس الحنابلة تصرف المرتهن على تصرف المرأة في مال زوجها بالإنفاق على نفسها، يؤيد ذلك، لأن المقيس عليه خاص بحالة امتناع الزوج من الإنفاق، فيجب أن يكون المقيس كذلك مقيدًا بتلك الحالة، وإلَّا كان قياسًا مع الفارق.
وأما الثاني: فلأن حديث: ((فإن استفضل من اللبن شيء بعد ثمن العلف فهو ربا)) صريح في ذلك حيث كان الزائد عن النفقة ربا، وهو محرم شرعًا، وبذلك يظهر بوضوح رجحان ما ذهب إليه أبو ثور، والليث، والأوزاعي، من جواز انتفاع المرتهن بالمرهون ركوبًا وحلبًا واستخدامًا بقدر ما ينفقه عليه لا غير، إذا امتنع الراهن عن الإنفاق على المرهون وفي حكمه إذا غاب، أو تعذر إنفاقه لعدم قدرته على الإنفاق، والله عنده علم الصواب.
والخلاصة أن التحريم متفق عليه في غير مسألة المركوب والمحلوب، أما فيها فقد قيل بالحل. ولكن الجمهور على خلافه ولا شك أن الأرض المرهونة ليست كالحيوان حتى تقاس عليه، فلا يجوز أن يكون القرض على رهنها سببًا في الانتفاع بها اتفاقًا فإن محل الخلاف بين الجمهور وغيرهم إنما هو الحيوان كما علمت.
* * *(7/1178)
المحور الثالث
الصور التي يمكن للاقتصاد أن ينتفع بها من بيع الوفاء
الصور التي يمكن للاقتصاد أن ينتفع بها من بيع الوفاء:
1- أن بيع الوفاء ليس برهن محض، وأن ثمن الوفاء ليس بدين محض في ذمة البائع.
2- لو كان الثمن في بيع الوفاء دينًا لكان المبيع رهنًا ولما كان المبيع بيع الوفاء رهنًا فلا يملك المشتري منافعه.
3- لو كان ثمن الوفاء دينًا لما جاز البيع وفاء قبل الثمن لأنه يصير رهنًا بلا دين، وهو لا يجوز.
4- لو كفل بدين فشرى الطالب به عقار المديون وفاء تبطل الكفالة ثم لا تعود بفسخها بيع الوفاء.
5- لو باعه ولم يقبض الثمن لا يتمكن من بيعه من آخر قبل فسخه، والرهن كذلك.
6- أن زكاة مال الوفاء تجب على البائع ولو كان دينًا محضًا لما وجب عليه، وفي هذا الوجه لا فرق بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام لأنه ملكه بقبضه، وعلى المشتري لأنه يعد مالًا موضوعًا له عند البائع أو دينًا له عليه (1) .
7- البائع والمشتري في البيع بالوفاء مقتدران على الفسخ.
8- كون المبيع في بيع الوفاء غير مشاع شرط.
9- ليس للبائع أو المشتري بيع المبيع وفاء من آخر.
10- يجوز أن يشترط في بيع الوفاء أن تكون منافع المبيع للمشتري.
11- إذا تلف المبيع وفاء في يد المشتري سقط من الدين بمقداره ولو كان ذلك بدون تعد منه.
12- إذا توفي أحد العاقدين للبيع بالوفاء قامت ورثته مقامه.
13- يميز المشتري وفاء عن غيره في أخذ المبيع (2) .
14- أن المشتري يملك زوائد المبيع وفاء ولا يضمنها بإتلافها (3) .
__________
(1) جامع الفصولين: 1/247.
(2) علي حيدر، شرح المجلة: 1/364.
(3) جامع الفصولين: 1/237.(7/1179)
خاتمة البحث
هذا ما أعان الله عليه ووفقنا إليه من جهد المقل في بحث (بيع الوفاء) راجيًا المولى تعالى أن يكون قد حالفنا الصواب فيما وقع الاختيار عليه من أقوال فقهاء الإسلام.. ولما كانت المسألة خلافية فيما بينهم في العديد من المسائل والصور ليتوجه ما شاء من العلماء إلى من شاء من أقوال الفقهاء ما دام ترجح لديه قول إمامه أو من يقلد من الأئمة وفي النتيجة نحن أمام مقولتين.
إحداهما فيها السعة: المعاملات طلق حتى يعلم المنع.. وتقابل القاعدة: التقوى فوق الفتوى، والله من وراء القصد.
الشيخ خليل محيي الدين الميس
* * *(7/1180)
بيع الوفاء عند الإمامية
إعداد
حجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
بيع الوفاء هو البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري المبيع إليه.
ومن أسمائه: بيع الثنيا عند المالكية، وبيع العهدة عند الشافعية، وبيع الأمانة عند الحنابلة، وبيع المعاملة عند بعض الحنفية.. وكذلك سمي بيع الطاعة وبيع الجائز، أما عند الإمامية فيسمى (البيع بشرط الخيار) ، وربما ذكرت له أسماء أخرى (1) .
ما استقر عليه الرأي عند بعض المذاهب:
كان السائد قديمًا فساد هذا البيع عند علماء المذاهب الأربعة باعتبارات ذكرت الموسوعة الفقهية منها ما يلي:
الأول: أن من شروط صحة الشرط أن لا يخالف مقتضى العقد وعقد البيع يقتضي ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدوام.
الثاني: أن في هذا الشرط منفعة للبائع ولم يرد دليل معين يدل على جوازه.
الثالث: أن البيع على هذا الوجه لا يقصد منه حقيقة البيع بشرط الوفاء وإنما يقصد من ورائه الوصول إلى الربا المحرم.
وذهب بعض المتأخرين من الحنفية وكذلك بعض الشافعية إلى جواز ذلك لأن البيع بهذا الشرط قام عليه العرف فرارًا من الربا وهو صحيح وإن كان مخالفًا للقواعد لأن القواعد تترك بالتعامل كما في الاستصناع (2) .
واعتبره أبو شجاع وعلي السعدي والقاضي أبو الحسن الماتريدي من الحنفية: من عقد الرهن ورتبوا عليه كل أحكام الرهن بحجة أن العبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني ولهذا كانت الهبة بشرط العوض بيعًا.
__________
(1) الموسوعة الفقهية: 9/240.
(2) الموسوعة نقلًا عن تبيين الحقائق للزيلعي: 5/182؛ والبحر الرائق: 4/8؛ والفتاوى الهندية: 3/208، 209؛ وابن عابدين: 2/224 - 227؛ ومغني المحتاج: 2/31؛ ونهاية المحتاج: 3/233؛ وبغية المسترشدين: ص133؛ والإقناع: 3/85.(7/1181)
أما ما استقر عليه الرأي - كما نقل - لدى الحنفية فهو أنه عقد جديد - كما يعبر الأستاذ الزرقاء في بحثه المقدم للمجمع ليس بيعًا صحيحًا من كل وجه ولا بيعًا فاسدًا من كل وجه ولا رهنًا من كل وجه بل فيه شبه بها جميعًا ولذا قرروا إعطاءه حكمًا من كل منها:
فأعطي من أحكام البيع المطلق الصحيح أن للمشتري حق الانتفاع به واستغلاله دون حاجة إلى إذن البائع بل بمقتضى العقد.
- وأعطي من أحكام البيع الفاسد أنه عقد جائز للطرفين.
- وأعطي من أحكام الرهن أنه لا يجوز للمشتري بيعه لأنه شرط رده على البائع متى أعاد له الثمن وأحكام أساسية أخرى.
وقد استقر رأي الحنفية على هذا حتى قال صاحب البحر الرائق: وينبغي أن لا يعدل في الإفتاء عن القول الجامع، وفي النهر: والعمل في ديارنا على ما رجحه الزيلعي (1) .
وقفة قصيرة عند الأدلة:
وقبل المضي في البحث لا بد من وقفة قصيرة عند الأدلة التي سيقت للفساد أو الجواز.
أما بالنسبة لأدلة الفساد فقد ذكر منها أن هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد فما هو الموقف هنا؟
من الواضح أن سر المشكلة في هذا العقد هو وجود شرط (الرد عند الرد) في هذا العقد ولذا كان من الطبيعي أن نرجع إلى قاعدة (المؤمنون عند شروطهم) وأحكامها المتفرعة لنحدد الموقف من هذا الشرط.
وهذه القاعدة لا يختلف حولها العلماء بعد أن جاءت النصوص المؤكدة لها وهي في كمال الوقوف والاعتبار.
__________
(1) الموسوعة نقلًا عن ابن عابدين: 2/224 - 227 بولاق.(7/1182)
على أن الشروط ضمن العقود هي من توابعها وحينئذ يشملها دليل وجوب الوفاء - كما هو الظاهر - أما ما قيل من أن العقود هي نفس المعاهدة الواقعة بين الطرفين دون النظر للالتزامات الأخرى فلا يبدو أمرًا مستساغًا عرفًا وإنما ينظر العرف إلى مجموع الالتزامات ويرى شمول دليل الوفاء لها خصوصًا بعد تفسير العقود بالعهود.
وهنا نقول أنهم اشترطوا أن لا يكون الشرط مخالفًا لمقتضى العقد وذلك باعتبار أن شمول دليل الوفاء لمثل هذه الحالة غير ممكن لوجود مقطعين متنافيين تمامًا في هذا المضمون الذي يراد الوفاء به ولا يمكن أن يقصد العقلاء مضمونين متناقضين في آن واحد.
وهذا إنما يقتصر على التنافي بين الشرط ومقتضى ذات العقد.
أما لو كان الشرط منافيًا لإطلاق العقد مثلًا فالعقد حينئذ يبدأ مقيدًا ولا معنى لتصور التنافي فيه مطلقًا فيشمله دليل الوفاء بشكل طبيعي ودون أية عقبة ولتوضيح الأمر نقول:
أن المنافاة لمقتضى العقد يمكن أن تتصور على أنحاء:
(أ) أن يكون هناك تناف بين الشرط ومضمون العقد بالمعنى المصدري وهو مثلًا التمليك في البيع.
فلو قال: بعتك هذه العين بشرط أن لا يتحقق هذا التمليك فهذا يعني وجود تناقض في المضمون وطبيعي أن هذا أمر باطل.
(ب) أن يكون الشرط منافيًا لكل آثار العقد كأن يقول: بعتك هذا شريطة أن لا تتصرف به مطلقًا وهذا يكاد يرجع إلى الوجه السابق.
(ج) أن يكون الشرط منافيًا لأهم الآثار المنظورة في العقد بحيث يكون النظر أولًا إلى هذا الأثر كأن يشترط في عقد الزواج أن لا يتم المس الجنسي طوال حياة الزوجين.
وهنا قد يقال: إن الفهم العرفي يرى المنافاة والتناقض وإن لم يكن ذلك بالنظر الدقيق فحكمه حكم الوجوه السابقة ولكن يمكن القول بصحة هذا الشرط إذا افترضنا أن النظر الحقيقي في العقد منصب على باقي الآثار كجواز النظر في مثالنا والتعاشر تحت سقف واحد اللهم إلا أن يقال بأنه شرط مخالف للكتاب والسنة وهو أمر فيه نظر.(7/1183)
(د) أن يكون التنافي لبعض الآثار العرفية للعقد وهنا نكرر ما قلناه إن التنافي هنا ليس بين ذات العقد والشرط بل هو بين الشرط وإطلاق العقد، ولكن وجود الشرط منذ البداية يرفع الإطلاق (بالمعنى الأعم) فيولد العقد مشروطًا لا مطلقًا ولا يبقى تناف في البين وتشمله أدلة الوفاء - إن لم يكن هناك مانع آخر.
(هـ) أن يكون التنافي بين الشرط وبعض الآثار الشرعية للعقد بمعنى الاسم المصدري كاشتراط الزوجة كون السكنى باختيارها فلا مانع منه إلا أن يكون هناك مانع آخر كأن يكون ذلك من الحقوق غير القابلة للإسقاط كأن يشترط الزوج على الزوجة التنازل عن ليلتها لو قلنا بذلك وأمثال ذلك.
وهنا نعود إلى شرطنا المبتلى به وهو شرط الرد عند الرد لنبحث عن كونه مصداقًا لأي من الوجوه الماضية.
لا ريب في أنه لا ينافي مقتضى ذات العقد لأن التمليك حاصل يقصد البيع حقيقة ولا نستطيع أن ننوب عن المتعاقدين في تفسير ألفاظهما بعد أن كانا قاصدين حقيقة للبيع ومستعدين لترتيب ما يترتب عليه من آثار ولكن في حدود معينة متفق عليها فلا معنى إذن لجعله رهنًا لأنه يقوم مقامه أو اعتباره عملية ربوية لأنه يؤدي مؤداها وإلا لكان علينا أن نسد الباب على كل فار من الربا الحرام إلى كل عقد صحيح يؤدي بالتالي إلى نفس النتائج وهذا منحى خطير فهل نمنعه من المضاربة مثلًا إذا كانت تؤدي إلى نفس النتائج؟
نعم لو اشترط في هذا العقد شروطًا تؤدي في الواقع إلى نفس الالتزام بأي أثر من آثار البيع وتحول العملية إلى قرض معقد كما تفعله بعض البنوك التي تحاول الفرار من الربا فهذا أمر يرفضه العرف ويجعله من مصاديق الربا وللعرف حقه في تشخيص المصاديق للأدلة الشرعية كما مر لنا بحث في اجتماع سابق لمجمع الفقه في هذا الصدد كما أنه لا ينافي كل آثار العقد، وكذلك فهو لا ينافي الأثر المنظور بالتركيز العرفي وهو التمليك وترتيب آثار الملك إجمالًا.
نعم لا يبقى لدينا إلا المنافاة لإطلاق العقد في ترتيب كل آثار التمليك وقد رأينا عدم الضرر في ذلك.
ومن هنا فنحن نرى أن هذا الشرط في نفسه صحيح لا غبار عليه.
- على أن هناك بحثًا مفصلًا في أداء الشرط الفاسد إلى فساد العقد لا مجال لنا هنا لطرحه وإنما نقول إجمالًا أن هذا الشرط لما كان محط النظر للمتعاقدين فلو فسد فإن المرجح هو فساد العقد.
أما بالنسبة للأدلة التي ذكرت للمجيزين ففيها نظر أيضًا.
فقد ذكروا أن هذا العقد رغم مخالفته للقواعد لكنه لما قام عليه العرف والتعامل خرجنا عن مقتضى القاعدة فيه كعقد الاستصناع فهذا أمر فيه نظر كثير.
إذ كيف يسوغ لنا أن نخرج عن القواعد الشرعية المقررة لمجرد حصول التعامل العرفي به؟.
إننا لا نستطيع أن نخرج عن القواعد الشرعية إلا بدليل شرعي فما هو الدليل الشرعي المذكور هنا؟(7/1184)
إنه العرف وقد ذكرنا أن العرف ليس دليلًا شرعيًّا قائمًا برأسه وإلَّا لما احتجنا إلى الشريعة وإنما العرف يمكنه أن يشخص لنا مصاديق الأدلة ومداليل الألفاظ ومرادات المتكلمين كما يمكنه أن يكشف لنا عن إمضاء الشارع المعصوم للقاعدة الأصولية كالاستصحاب أو الحكم الفرعي شريطة أن يمتد إلى عصر المعصوم فيكون عرفًا عامًّا في زمانه ومن خلال عدم نهيه عنه يكتسب مشروعية التقرير طبعًا مع التأكد من كل هذه الأمور أي الامتداد إلى ذلك العصر حتمًا وعدم صدور النهي قطعًا.
كما هو الحال في عقد الاستصناع - كما يدعى - وهذا أمر يختلف عن الحال في عقد نشك في امتداده إلى ذلك العصر بل يقال أنه ظهر أول ما ظهر في القرن الخامس الهجري في مدينة بلخ وهو أمر مرفوض خصوصًا إذا لاحظنا الروايات الآتية عن أهل البيت (ع) وعلى أي حال فإننا لا نستطيع تحكيم العرف هنا والخروج فيه عن القواعد والقوانين الشرعية.
أما بالنسبة لما استقر عليه الرأي والذي عبر عنه الأستاذ الزرقاء بالبيع الجديد المشابه (للبيع الصحيح والفاسد والرهن) . كما عبرت عنه الموسوعة بأنه (مركب من العقود الثلاثة كالزرافة فيها صفة البعير والبقرة والنمر) . فهو أيضًا لم نستطع أن نتبين الوجه في تصحيحه. إذ أننا تارة نحاول التشبيه وأخرى نحاول التماس الدليل الشرعي للحكم الشرعي الذي نريد استنباطه. وهل يكفي مجرد الشبه لنقل حكم من المشبه به إلى المشبه؟
كما أن وجود عنصر فاسد - وهو المفروض لديهم - في هذا العقد يفسد المجموع - كما مر ذلك. ولا نستطيع بعد هذا أن نجيز شمول أدلة الوفاء لمثل هذا العقد والحال هذه.
ولذا رأينا الأستاذ الزرقاء يكتفي بنقل القول دون تأييده بل رأينا أبا شجاع والسعدي والماتريدي يعدلون عن هذا الرأي ويلجأون إلى تصحيحه باعتباره عقد رهن كامل وبالتالي يمنحونه كل أحكام الرهن وهذا أيضًا لم نر له وجهًا بعد أن لم يقصده المتعاقدان مطلقًا ومع هذا فلا مجال لفرض ضرورة الالتزام به كقول جامع وعدم تسويغ الخروج عليه.
ولا ننسى أن نشير إلى من جوزه لحاجة الناس إليه فلا نرى ذلك أيضًا دليلًا مسوغًا اللهم إلا أن يتحول إلى ضرورة وللضرورات أحكامها وليس الأمر كذلك.(7/1185)
إشكال الغرر:
ولو بقينا نحن والقواعد الأولية وقبل الرجوع إلى أي دليل آخر خاص بهذا المورد فإن هناك إشكالًا عامًّا قد يطرح على صور هذا العقد وهو إشكال الغرر وهو ما لم أُلاحظه في كتب المتقدمين وإنما ذكره الإمام الخميني (رحمه الله) في كتاب البيع وناقشه بالتفصيل (1) فمهما صورنا هذا الشرط من قبيل:
(أ) أن يكون الشرط هو الخيار المتقيد برد الثمن.
(ب) أن يؤخذ الرد فسخًا فعليًّا.
(ج) أن يشترط انفساخ العقد حال رد الثمن من قبيل شرط النتيجة ولا مانع من ذلك.
(د) أن يشترط الإقالة أو البيع الجديد أو نقل المبيع إليه (وستأتي الإشارة إلى هذه الصور في بحث الفروع) .
نعم في كل هذه الصور يبدو أن الجهالة حاصلة والغرر قائم فلا يعلم متى يتحقق رد الثمن ليتم رد المثمن.
نعم لو تم تحديد زمان الرد بالتعيين ارتفع الغرر.
أما لو أطلق الأمر واشترط الرد عند الرد خلال هذه المدة الممتدة فهل يتحقق الغرر لأن المعلق عليه مجهول من حيث مدة حصوله؟
والذي يبدو أن الغرر بهذا المقدار لا يضر عرفًا شريطة أن لا تخرج المدة المضروبة عن الحدود المتعارفة بحيث لا يصدق في التصور العرفي حصول غرر رغم كثرة البدائل فما أكثر ما يمنح العرف الفرصة لتحقق الشروط دون أن يتصور أن هناك جهلًا وغررًا في البين وبهذا دفعنا إشكال الغرر في عقد الضمان بعد توفر تحديدات للأقساط والمدد وأمثال ذلك.
ولهذا أيضًا نجد المعارضين له لا يشيرون إلى عنصر الغرر هذا باعتباره مغتفرًا بهذا المقدار.
__________
(1) البيع للإمام الخميني، الجزء الرابع: ص223.(7/1186)
بيع الوفاء عند الإمامية:
والملاحظ أنهم فرغوا عن كونه بيعًا وإنما ركزوا على شرط الخيار ولذلك بحثوه غالبًا في بحث (الخيارات) وفي مبحث خيار الشرط بالتحديد كما ذكره صاحب (الغنية) في أمثلة الشروط الجائزة.
فهو إذن بيع خالص تنتقل فيه العين بكل تبعاتها وحقوقها إلى المشتري والثمن بكل توابعه إلى البائع إلا أن هناك شرطًا للرد عند الرد يلتزم به الطرفان كما سيتوضح فيما يلي:
حكم بيع الوفاء وفق القواعد العامة:
وهو المنهج الذي يتبعه فقهاء الإمامية المتأخرون عندما يبحثون أي مسألة فإنهم يطرحونها أولًا على ضوء القواعد العامة فإذا كانت النتيجة إيجابية اعتبرت النصوص الواردة في هذا المورد الخاص تأكيدًا وتطبيقًا لتلك القواعد أما إذا كانت سلبية اعتبرت النصوص الخاصة استثناء، ولذا يؤخذ من الاستثناء خصوص ما تم القطع بخروجه عن القواعد العامة ويرجع في الباقي إليها، على تفصيلات دقيقة تراجع في مظانها.
وقد ذكرنا أنهم لم يناقشوا في كونه بيعًا تنطبق عليه كل صفات عقد البيع وبالتالي تشمله أدلة الوفاء بالعقود من هذه الجهة.
كما أنهم لم يروا في هذا الشرط أية مخالفة لمقتضى العقد بل هم لم يبحثوا هذه المسألة لوضوحها لديهم وإنما ركزوا على مسائله الفرعية فقط دون المساس بأصل المشروعية.
فهذا العلامة الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر يقول: (وكذا يجوز اشتراط الخيار مدة معينة - لا مجهولة ولا مطلقة - بشرط أن يرد البائع فيها الثمن ويرتجع بالمبيع إن شاء إجماعًا في أصل المسألة ... ونصوصًا عمومًا وخصوصًا) (1) .
فهو يرى أن النصوص العامة وهي أساس من أسس مشروعية هذه القواعد تنسجم مع هذا البيع.
ويقول الشيخ العلامة الأنصاري: (والأصل فيه بعد العمومات المتقدمة في الشرط النصوص المستفيضة) (2) والعبارة تحمل نفس المدلول.
ويقول الإمام الخميني عن هذا البيع: (وهو جائز إجمالًا بالأدلة العامة والخاصة بل عن التذكرة وغيرها الإجماع عليه) (3) .
__________
(1) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 23/34.
(2) كتاب المكاسب: ص229.
(3) البيع: 2/223.(7/1187)
فهو إذن بالإضافة إلى انسجامه مع الأدلة العامة يملك سند الإجماع المنقول كما تنص على صحته نصوص عن أئمة أهل البيت (ع) كما سيأتي الحديث عنها.
إلا أنه راح يذكر صور الاشتراط ويحللها ليجد ما يوافق منها القواعد العامة وما يخالفها وقد مر علينا ذلك قبل قليل ورأيناه يقبل أغلب تلك الصور على تفصيلات إلا أنه يرى أن إشكال الغرر يأتي في أكثرها فيقول:
(ثم إن إشكال الجهالة والغرر يأتي في أكثر الصور فما فيها الغرر بالوجه الذي مر بيانه تبطل على القواعد ولا بد في صحتها من التماس دليل من إجماع أو أخبار خاصة) (1) وهذا ما يستفيده هو بعد تعرضه لتلك الأخبار الخاصة حيث يقول بعد استعراضها:
(وكيف كانت تدل هذه الروايات على صحة الشرط مع الجهالة في المجعول وزمان الخيار أو زمان لزوم الرد أو الفسخ أو الانفساخ) (2) .
الأدلة الخاصة في مورد بيع الوفاء:
وهنا يذكر الإجماع المنقول والروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) وقد ذكرت في الباب السابع والثامن من أبواب الخيار في كتاب وسائل الشيعة للمرحوم الشيخ الحر العاملي وعلى النحو التالي.
1- محمد بن يعقوب عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن علي بن النعمان عن سعيد بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إنا نخالط أناسًا من أهل السواد وغيرهم فنبيعهم ونربح عليهم للعشرة اثني عشر، والعشر ثلاثة عشر ونؤخر ((نوجب)) ذلك فيما بيننا وبين السنة ونحوها ويكتب لنا الرجل على داره أو على أرضه بذلك المال الذي فيه الفضل الذي أخذ منا شراء قد باع وقبض الثمن منه فنعده إن هو جاء بالمال إلى وقت بيننا وبينه أن نرد عليه الشراء فإن جاء الوقت ولم يأتنا بالدراهم فهو لنا فما ترى في الشراء؟ فقال: أرى أنه لك إن لم يفعل وإن جاء بالمال للوقت فرد عليه.
وروى هذا الحديث الشيخ الصدوق بإسناده عن سعيد بن يسار ورواه الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد عن علي بن النعمان وعثمان بن عيسى جميعًا عن سعيد بن يسار.
2- محمد بن يعقوب عن أبي علي الأشعري عن فضالة عن أبان بن عثمان عن أبي الجارود عن أبي جعفر (الباقر) (عليه السلام) (وفي نسخة أخرى عن أبي عبد الله الصادق) قال: إن بعت رجلًا على شرط فإن أتاك بمالك وإلا فالبيع لك.
__________
(1) البيع للإمام الخميني: ص 224.
(2) البيع للإمام الخميني: ص224.(7/1188)
3- محمد بن الحسن (الطوسي) بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان، عن إسحاق بن عمار قال: حدثني من سمع أبا عبد الله (عليه السلام) وسأله رجل وأنا عنده فقال: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه فقال: أبيعك داري هذه وتكون لك أحب إليَّ من أن تكون لغيرك على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن ترد علي فقال: لا بأس بهذا إن جاء بثمنها إلى سنة ردها عليه. قلت: فإنها كانت فيها غلة كثيرة فأخذ الغلة لمن تكون الغلة؟ فقال: الغلة للمشتري، ألا ترى أنه لو احترقت لكانت من ماله.
وروى هذا الحديث الصدوق بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام.
ورواه الشيخ الكليني (رحمه الله) عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين عن صفوان.
4- وروى الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن أحمد بن أبي بشر (وفي نسخة أخرى: بشير) عن معاوية بن ميسرة قال: سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد الله عليه السلام عن رجل باع دارًا له من رجل، وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر فشرط إنك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك فأتاه بماله، قال له: شرطه، قال أبو الجارود: فإن ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين قال: هو ماله. وقال أبو عبد الله (عليه السلام) : أرأيت لو أن الدار احترقت من مال من كانت تكون، الدار دار المشتري (1) .
5- ويضاف إليها رواية جاءت في كتاب دعائم الإسلام عن أبي عبد الله عليه السلام (أنه سئل عن رجل باع داره على شرط أنه إن جاء بثمنها إلى سنة أن يرد عليه قال: لا بأس بهذا وهو على شرطه) (2) .
وتشكل هذه الروايات محور البحث في الفروع التي طرحت في هذه المسألة وهي متشعبة نذكر هنا بعضها ثم نعقب ذلك بخاتمة.
__________
(1) تراجع كل هذه الروايات في كتاب وسائل الشيعة: 4/352 - 354.
(2) مستدرك الوسائل الباب 4- من أبواب الخيار الحديث 1.(7/1189)
الفرع الأول
صور الاشتراك ومدى انسجامها مع القواعد العامة
وقد ذكروا له صورًا كما يلي:
الصورة الأولى:
أن يكون الشرط هو الخيار المقيد برد الثمن بمعنى أنه يجعل منذ البدء مضيقًا وحينئذ فله الخيار (بهذا القيد) طول الوقت المعين.
(وهذا لا إشكال في صحته لعدم التعليق فيه وعدم الجهالة في الجعل والمجعول، والجهل بوقت الأداء خارج عن محط الجعل نظير الجهل بأعمال خيار الشرط إذا جعل ثلاثة أيام) (1) .
الصورة الثانية:
أن يعلق الخيار على رد الثمن في الوقت المعين فلا يثبت إلا بعد تحقق المعلق عليه وحينئذ فلا خيار قبل تحقق الرد وتكون مدة الخيار منفصلة دائمًا عن العقد كما يرى الشيخ الأنصاري في حين يرى الإمام أنه ثابت في كل المدة لأن المعلق عليه ليس قيدًا ولا إشكال فيه سوى التعليق وهو غير مضر لعدم الدليل على بطلانه شرعًا، أما إشكال الغرر فقد تقدم الحديث عنه.
الصورة الثالثة:
أن يؤخذ الرد قيدًا للفسخ بمعنى أن له الخيار طوال المدة المعينة على وجه يقارن الرد أو يتأخر عنه ولا مانع منها.
الصورة الرابعة:
أن يعتبر الرد فسخًا فعليًّا وقد ذكر الشيخ الأنصاري أن صاحب الرياض اعتبر هذه الصورة هي الظاهرة من الأخبار.
__________
(1) البيع: 6/223.(7/1190)
الصورة الخامسة:
أن يشترط انفساخ العقد حال رد الثمن فيكون هذا من قبيل شرط النتيجة وقد اعتبرها الشيخ الأنصاري هي الظاهر من رواية معاوية بن ميسرة المتقدمة وهي الصورة التي يبدو أن صاحب الغنية ركز عليها حيث أنه لم يذكر هذا القسم في الخيار وإنما ذكره في أمثلة الشروط الجائزة في متن العقد قائلًا: (أن يبيع ويشترط على المشتري إن رد الثمن عليه في وقت كذا كان المبيع له) (1) .
هذا وقد أشكل عليها بإشكالين.
الأول: أن شرط النتيجة غير صحيح.
الثاني: أنه يعني اقتضاء الشيء عدم فسخه أو انفساخ العقد بلا سبب. أما الإشكال الأول فيقال في توضيحه أن الاشتراط يعني تمليك الشرط للمشروط له تمامًا كما في شرط الفعل والنتائج لا تقبل الإضافة إلى مالك.
ولكنه غير صحيح فالحقيقة هي أن هناك التزامًا من البائع بالفعل أو بالنتيجة ولا مانع في ذلك.
وأما الثاني فيقال في جوابه أن سبب الانفساخ هو الشرط نفسه وليس العقد.
الصورة السادسة:
أن يشترط البائع على المشتري أن يقيله أو يبيعه من جديد أو ينقل المبيع إليه عند رد الثمن وهو الاستظهار الوارد في كتاب الوسيلة حيث قال: (إذا باع شيئًا على أن يقيله في وقت كذا بمثل الثمن الذي باعه لزمته الإقالة إذا جاءه بمثل الثمن في المدة) .
ولا مانع من هذه الصورة أيضًا.
ما يستفاد من الروايات الآنفة:
أما رواية إسحاق بن عمار فهي تحتمل كل هذه الصور وكذلك رواية سعيد بن يسار في حين أن رواية معاوية بن ميسرة الظاهر من لفظها شرط النتيجة (فالدار دارك) ولكنها كلها تحتمل الوجوه الماضية إما مباشرة أو بالكناية.
__________
(1) مكاسب الشيخ الأنصاري: ص230، عنه.(7/1191)
الفرع الثاني
هل يكفي مجرد الرد في الفسخ؟
قيل: أن ظاهر عبارات العلماء هي أن مجرد رد الثمن ليس قاطعًا للبيع.
ذلك أن الذي يتبع الرد هو الخيار لا انقطاع البيع ولا ينفسخ البيع معه إلا بالفسخ وليس الرد بنفسه فسخًا لأنه لا يدل عليه وإن كان علامة على الإرادة والإرادة غير المراد.
ولكن الشيخ الأعظم الأنصاري يقول: (أما لو فرض الدلالة عرفًا إما بأن يفهم منه كونه تمليكًا للثمن من المشتري ليتملك منه المبيع على وجه المعاطاة وإما بأن يدل الرد بنفسه على الرضا بكون المبيع ملكًا له والثمن ملكًا للمشتري فلا وجه لعدم الكفاية لاعترافهم بتحقق الفسخ فيما هو أخفى من ذلك دلالة وما قيل من أن الرد يدل على إرادة الفسخ والإرادة غير المراد ففيه أن المدعي دلالته على إرادة كون المبيع ملكًا له والثمن ملكًا للمشتري ولا يعتبر في الفسخ الفعلي أزيد من هذا مع أن ظاهر الأخبار كفاية الرد في وجوب رد المبيع بل قد عرفت في رواية معاوية بن ميسرة حصول تملك المبيع برد الثمن فيحمل على تحقق الفسخ الفعلي به) (1) .
وخلاصة كلامه: أنه لا مانع من أن يدل الرد دلالة عرفية على الفسخ وعندئذ يكفي في انقطاع البيع.
وقد استظهر من الروايات الماضية كفاية الرد بل إن رواية معاوية صريحة في ذلك.
في حين أن الإمام الخميني أكد أن الظاهر هو ما يقوله الأصحاب فالرد يتبعه الخيار لا الانقطاع وهو ما نستظهره أيضًا.
نعم لو نص في العقد على أن يكون الرد فسخًا فلا إشكال في ذلك.
__________
(1) المكاسب: ص230.(7/1192)
الفرع الثالث
هل يسقط الخيار بإسقاطه بعد العقد وقبل تحقق الرد؟
يرى الشيخ الأنصاري ذلك وقد ذكرت لتوجيه هذا الرأي وجوه وتعبيرات:
الأول: أن تحقق العقد يعني تحقق سبب الخيار وهو كاف في صحة إسقاط الحق.
الثاني: أن المشروط له مالك للخيار قبل الرد ولو من حيث تملكه للرد الموجب له فله إسقاطه.
الثالث: أن الإسقاط هو على نحو الواجب المشروط (أي المعلق وجوبه على شيء دخيل في أصل ملاكه كالاستطاعة بالنسبة للحج) .
فيكون السقوط (وهو أثر الإسقاط) بعد تحقق الخيار بتحقق الرد.
ويزاد على هذا فيقال أن العلاقة بين الإسقاط والسقوط الاعتباريين ليست كمثلهما في الأمور التكوينية وهنا يرى العقلاء أن هناك وجودًا إنشائيًّا ممتدًّا للإسقاط يستمر حتى يتحقق الرد وبالتالي يتحقق الخيار فيتم بإسقاطه.
الرابع: أن البائع يملك الرد كحق من حقوقه فيصح له أن يسقط حق الرد فيسقط معه الخيار هذا بعض ما يمكن أن يؤيد به نفوذ الإسقاط وأداؤه للسقوط إلا أن الإمام يرد على كل هذه الوجوه.
أما الأول: فيقول فيه أن تحقق السبب وهو العقد لا يخرج الإسقاط عن كونه إسقاطًا لما هو غير حاصل.
وأما الثاني: فيرى فيه أنه صحيح من حيث الإمكان إلا أننا بحاجة لإثبات وجود سلوك عقلاني يقضي ببقاء مثل هذا الإسقاط حتى يتحقق موضوعه فينفذ، وأن يتوفر هذا السلوك في عصر المعصوم عليه السلام فيمضيه ولو بعدم الردع عنه وهو أمر مشكوك التحقق آنذاك.
وأما الثالث: فيقول فيه أنه ليس مالكًا إلا على سبيل التجوز وهو لا يكفي للإسقاط المنجز.
وأما الرابع: فيرى أن كونه من الحقوق دعوى بلا بينة ويكفي بقاء الخيار بعد الإسقاط للشك في تأثيره بل يستظهر أنه ليس من الحقوق.
هذا ما أفاده رحمه الله (1) .
__________
(1) البيع: 2/235 - 237.(7/1193)
الرأي الراجح:
والذي يرجح في النظر هو الإسقاط بالإسقاط والتعبير الثاني رغم كونه مجازيًّا فهو حالة عرفية يلاحظها العرف بأدنى نظر ويراه مالكًا عبر تملكه لسبب الخيار دون مؤونة تذكر فهو دليل محكم.
وكذلك الوجه الثالث باعتبار أن المرتكز في العرف في نظائر هذه المعاملات هو كذلك وقد قبل الإمام نفسه نظير ذلك في تصحيح بيع الفضولي وغيره بل قد قبل جريان الفضولية في الإيقاعات لولا الإجماع على عدمه.
فهذا هو مرتكز العرف في المعاملات وهذا المرتكز نفسه ممضى من الشارع والإلجاء النهي عنه.
وكذلك أيضًا الوجه الرابع فلا ريب في أن من حقوقه أن يشترط الخيار بمقتضى سلطنته فهي حقوق مترتبة على الملكية كما أن من حقوقه نتيجة التعامل أن يكتسب الخيار بالرد وهو بالتالي يملك إسقاط هذا الحق (والله أعلم) .(7/1194)
الفرع الرابع
ما هو الموقف لو كان المردود من غير جنس الثمن
أو فاقدًا للقيد المعتبر كأن يكون معيبًا والمطلوب أن يكون صحيحًا
(ولو لأجل انصراف الإطلاق إلى قيد الصحة) ؟
قيل: بالتفصيل بين المردود من غير جنس الثمن والمردود الذي ظهر معيبًا أو فاقدًا لوصف معتبر فيه فلا يتحقق في الأول ويتحقق في الثاني مع ثبوت حق المطالبة بالاستبدال. وقد قيس هذا على باب البيع إذا وقع على غير الجنس بعنوان الجنس أو على المعيب بعنوان الصحيح حيث يبطل في الأول ويصح في الثاني مع ثبوت خيار تخلف الوصف وكذا لو وقع على الكلي في الذمة وتم أداء الفاقد للوصف المذكور في ذلك الكلي حيث إن للمشتري قبوله وإسقاط الوصف.
وقيل: أنه لم يتحقق الرد في كلتا الحالتين لعدم تحقق المعلق عليه (بل لو رضي الطرف به أيضًا لم يثبت لأن المفروض أن الصحة شرط ولا ينقلب عما هو عليه بتراضيهما) (1) .
أما القياس ففي غير محله لأن قياس المورد على البيع الشخصي فهو مع الفارق إذ البيع وقع على الشخص، وتخلف الوصف لا يوجب تخلف البيع في حين وقع الخيار على رد الشيء الموصوف ومع فقدان الوصف يتخلف الرد فلا يثبت الخيار وأما القياس على الكلي الموصوف فهو أيضًا مع الفارق لأنه لا ينطبق أصلًا على فاقد الوصف.
إلا أن الظاهر أن القول بالتفصيل له وجه وجيه.
فصحيح أن الرد إنما هو للشيء الموصوف ولكنه منصب أولًا وبالذات على الشيء ويعتبر ردًّا حقيقة وإن كان للمشتري حق المطالبة بتحقق الوصف فإن عفى عنه كان ردًّا حقيقة في نظر العرف.
وكذا الأمر في الكلي في الذمة فالانطباق وإن لم يكن قيدًا عقليًّا ولكنه انطباق عرفي خصوصًا بعد العفو عن الوصف المتخلف.
ولذا لا نرى وجهًا عرفيًّا للقول بعدم تحقق الرد حتى بعد رضا المشتري بالعين المعطاة.
__________
(1) البيع: 4/237.(7/1195)
الفرع الخامس
حكم التلف
والتلف قد يتعلق بالمبيع وقد يتعلق بالثمن، وهما أيضًا قد يقعان قبل الرد وأخرى بعد الرد فما هو حكم هذه الحالات؟
أما المبيع فإنه لو تلف قبل الرد أو بعده فهو من المشتري لأنه هو المالك عقديًّا في بيع صحيح ولذا فله نماؤه أيضًا ولكن هل يبقى الخيار؟
هناك من يرى بقاء الخيار للبائع فله أن يسترد المثل أو القيمة حينما يرد الثمن أو بدله.
وهناك من يرى سقوط الخيار باعتبار أن مصب هذا الخيار هو الإلزام بإعادة المبيع عند رد الثمن، والظاهر من هذا هو بقاء المبيع في هذا المورد فإذا تلف المبيع فلا معنى للخيار.
وهذا ما يحتمله الشيخ الأعظم في المكاسب (1) إلا أن الإمام يركز على خصوصية أخرى يختص بها بيع الخيار دون غيره (وهي معهودية رجوع نفس العين برد الثمن أم مثله فإن بيع الخيار بحسب النوع الذي يشذ خلافه إما يقع على المبيع الذي يكون لصاحبه علاقة (عاطفية) به بخصوصه بالثمن الذي هو محل احتياجه ليصرفه فيما يحتاج إليه فيبيع داره التي هي ظل رأسه وضيعته التي هي قرة عينه، وإنما يقدم على بيعها بأقل من قيمتها لأجل العلم والاطمئنان بإمكان أداء الثمن واسترجاعها ولو كان نظره إلى ماليتها لا إلى عينها لما باعها إلا بثمن المثل لتحصيل ماليتها الواقعية ولم يكن وجه لبيعها بالشرط) (2) .
والروايات المذكورة واضحة في هذا المورد كقول البائع في رواية إسحاق: (أبيعك داري هذه وتكون لك أحب إلى من أن تكون لغيرك) .
وعليه فالمراد بالدار هو خصوصها لا ماليتها.
والظاهر أنه رأي قوي لا يمكن العدول عنه ولولا هذه الخصوصية لقلنا هنا كسائر الخيارات برجوع العين بالفسخ ومع التلف يرجع إلى البدل.
هذا وقد ذكر أن التلف لو تم بعد رد الثمن فإنه سيكون مشمولًا لقاعدة (التلف في زمان الخيار ممن لا خيار له) والمشتري هنا لا خيار له فالتلف منه وحينئذ تنفسخ المعاملة ولا معنى حينئذ للخيار.
__________
(1) المكاسب: ص231.
(2) البيع: 4/220.(7/1196)
وهذه القاعدة قيل (1) عنها أنها مسلمة لدى الأصحاب واستدل لها بالأخبار والإجماع المنقول ثم جاء التساؤل عما إذا كان هذا الحكم على مقتضى القواعد الأولية باعتبار أن التلف يقوم مقام الفسخ أم لا باعتبار أن المعاملة تامة وأن النقل والانتقال حاصل بالفعل رغم وجود الخيار (وهو المرجح) فتكون الروايات على خلاف القاعدة ويقتصر فيها على مواردها من خيار الحيوان والشرط ولا يمكن الخروج إلى التعميم إلا بقياس مرفوض. هذا وقد استظهر الشيخ الأعظم الأنصاري شمولها لخيار المجلس أيضًا وعلى أي حال فلا تملك هذه القاعدة العموم المطلوب لأنها غير منصوص عليها مباشرة بل هي مستخرجة من نصوص جاءت في موارد خاصة وليس فيها تعميم.
ثم إنها لو شملت المورد فالكلام الآنف يأتي هنا.
أما لو تلف الثمن الشخصي فإن كان بعد الرد وقبل الفسخ فإن قلنا بشمول القاعدة الماضية للمورد يكون التلف من المشتري باعتباره مصداقًا لمن لا يملك الخيار وإن كان ما زال ملكًا للبائع.
ولكن الإشكال في شمول القاعدة للثمن هنا قوي باعتبار أنها واردة في خصوص المبيع في الخيارات الآنفة فقط بالإضافة إلى إشكال آخر يأتي من ضم قاعدة (الخراج بالضمان) إلى الإجماع على أن النماء ما زال للبائع فالضمان عليه لا على المشتري.
فلو شملته القاعدة فمعنى ذلك تلف الثمن من المشتري وانفساخ العقد وعودة المبيع إلى البائع - وقد شككنا في الشمول - وإلا كان التلف من البائع وتأتي هنا فروض الاستبدال وإمكانه وعدمه وقد رجح الشيخ الأنصاري إمكان إرجاع البدل واسترجاع المبيع.
أما لو كان تلف الثمن قبل الرد فهل هو من البائع؟
قيل: إننا لو قلنا بوجود الخيار قبل الرد وقلنا بشمول القاعدة لهذا المورد فالحكم كذلك (أي أن التلف من المشتري وانفساخ العقد وعودة المبيع إلى البائع) إلا أن الإنصاف يقتضي أن لا نعمم القاعدة حتى إلى هذا المورد رغم قولنا بوجود ما للخيار قبل الرد باعتبار امتلاكه للرد نفسه.
وعليه فيكون التلف من البائع خصوصًا بعد ملاحظة أن النماء له وله أن يدفع البدل (على بحث في ذلك) .
__________
(1) القواعد الفقهية، للمرحوم السيد البجنوردي: 2/109.(7/1197)
الفرع السادس
هل للمشتري أن يتصرف تصرفًا ناقلًا للعين؟
لا ريب في أن للبائع أن يتصرف في الثمن لأن التصرف هو المقصود بالعقد ابتداء ولو تصرف به تصرفًا ناقلًا سقط خياره على النحو المتقدم هذا إذا كان الثمن شخصيًّا طبعًا.
أما المشتري فهل يجوز له ذلك؟
هذه المسألة تدخل تحت بحث مهم طرحه علماء الإمامية في باب أحكام الخيار تحت عنوان (عدم جواز تصرف غير ذي الخيار) وقد استعرض الشيخ الأعظم في مكاسبه (1) أقوالهم بإسهاب وذكر أقوال القائلين بالمنع وتفصيلاتها ثم قال رادًّا عليها: (هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه المنع لكنه لا يخلو عن نظر فإن الثابت من خيار الفسخ بعد ملاحظة جواز التفاسخ في حالة تلف العينين هي سلطنة ذي الخيار على فسخ العقد المتمكن في حالتي وجود العين وفقدها فلا دلالة في مجرد ثبوت الخيار على حكم التلف (التصرف) جوازًا ومنعًا فالمرجع فيه أدلة سلطنة الناس على أموالهم ألا ترى أن حق الشفيع لا يمنع المشتري من نقل العين، ومجرد الفرق بينهما بأن الشفعة سلطنة على نقل جديد فالملك مستقر قبل الأخذ بها غاية الأمر تملك الشفيع نقله إلى نفسه بخلاف الخيار فإنها سلطنة على رفع العقد وإرجاع الملك إلى الحالة السابقة لا يؤثر في الحكم المذكور مع أن الملك في الشفعة الأولى بالتزلزل لإبطالها تصرفات المشتري اتفاقًا وأما حق الرهن فهو من حيث كونه وثيقة يدل على وجوب إبقائه وعدم السلطنة على إتلافه مضافًا إلى النص والإجماع على حرمة التصرف في الرهن مطلقًا ولو لم يكن متلفًا ولا ناقلًا ... والحاصل أن عموم الناس مسلطون على أموالهم لم يعلم تقييده بحق يحدث لذي الخيار يزاحم به سلطنة المالك فالجواز لا يخلو عن قوة في الخيارات الأصلية.
أما بالنسبة للخيارات المجعولة بالشرط فالظاهر من اشتراطها إرادة إبقاء الملك ليسترده عند الفسخ بل الحكمة في أصل الخيار هو إبقاء السلطنة على استرداد العين) (2) .
__________
(1) المكاسب (طبعة تبريز) ، 1375هـ: ص295.
(2) المكاسب، طبعة تبريز: ص296(7/1198)
وهكذا نجده (رحمه الله) يفرق بين الخيارات الأصيلة كخيار العيب مثلًا والخيارات المجعولة بالشرط فيجيز التصرف الناقل هناك ويرفض هنا لمنافاته لمصب التعاقد وهو الاسترداد عند الفسخ.
وهناك تفصيلات كثيرة لا يمكننا التعرض إليها إلا أننا نلاحظ تمامًا أن فقهاء الإمامية فرغوا من التمليك كما قلنا وأن العين في مثل موردنا هي ملك المشتري ولكن البحث كله في مانعية التزلزل الناشىء من وجود الخيار من القيام بمثل هذا التصرف، وليس هذا كالعين المرهونة إذ لا يجوز للمرتهن أن يتصرف بها أي تصرف لأنها ليست إلا كوثيقة على دَينِه.
وما يمكن أن يذكر هناك من المنع هو ما ذكره الشيخ الأعظم من أن مصب العقد على إبقاء العين معدة للاسترجاع بمجرد تحقق الرد وقيام البائع بالفسخ (إن لم نقل بأن الرد نفسه فسخ) وربما كان هذا منافيًا لهذا الغرض إلا أن يكون التصرف مما لا يتنافى مع ذلك كالسكنى والإجارة وخصوصًا فيما هو التعارف من الإجارة لنفس البائع بل ويمكن القول بجواز البيع مع بقاء حق الفسخ للبائع الأول متى شاء وتعود العين إليه على تفصيلات في البين.
فإذا منعنا المشتري من البيع وتخلف فباع فهناك بحث في بطلان هذا البيع وعدمه، يقول الإمام الخميني في هذا الصدد:
(ثم إنه على ما ذكرنا في بيع الخيار فاللازم منه وجوب حفظ المبيع لأنه مقتضى القرار والشرط في المقام، ولو تخلف وباعه فهل يقع باطلًا أو لا؟ وجهان مبنيان على ثبوت الحكم الوضعي في الشروط التي تتعلق بالأفعال وعدمه.
وأما ما قيل من أن وجوب العمل بالشرط يوجب تعجيز المشتري عن بيعه فلا يرجع إلى محصل فإن نفس الوجوب لا يوجب إلا الإلزام بالعمل وصيرورته موجبًا لعدم تأثير البيع (لو تخلف) أول الكلام، بل ما هو مقتضى الشرط وجوب حفظه لا حرمة بيعه فلا وجه للبطلان إلا دعوى كون وجوب الشيء مقتضيًا لحرمة ضده الخاص وكونها إرشادًا إلى البطلان وهي كما ترى باطل في باطل) (1) . وفي مجال الفتوى يقول: (وليس للمشتري قبل انقضاء المدة التصرف الناقل وإتلاف العين إن كان المشروط ارتجاعها ولا يبعد جوازهما إن كان (المشروط) السلطنة على فسخ العقد) (2) .
في حين أفتى الإمام الحكيم وتبعه الإمام الصدر بعدم الجواز مطلقًا (3) .
__________
(1) البيع: 2/222.
(2) تحرير الوسيلة: 2/520.
(3) منهاج الصالحين: 2/22.(7/1199)
الفرع السابع
حكم الاشتراط من قبل المشتري
ذكروا أنه كما يجوز للبائع اشتراط الفسخ برد الثمن كذا يجوز للمشتري اشتراط الفسخ برد المثمن.
ولو أطلق الاشتراط انصرف الأمر إلى العين نفسها ولو صرح برد البدل مع التلف فلا إشكال أما لو صرح برد البدل مع إمكان رد العين فإنه فيه إشكال كونه خلاف مقتضى الفسخ وهو رجوع كل من العوضين إلى صاحبه.
الفرع الثامن
هل ينتقل بالإرث؟
جاء في تحرير الوسيلة: (لو مات البائع ينتقل هذا الخيار كسائر الخيارات إلى ورّاثه فيردون الثمن ويفسخون) (1) .
وجاء في منهاج الصالحين للإمام الحكيم وبهامشه تعليق الإمام الصدر قوله: (إذا مات البائع قبل إعمال الخيار انتقل الخيار إلى ورثته فلهم الفسخ بردهم الثمن إلى المشتري ويشتركون في المبيع على حساب سهامهم ولو امتنع بعضهم عن الفسخ لم يصح للبعض الآخر الفسخ لا في تمام البيع ولا في بعضه ولو مات المشتري كان للبائع الفسخ برد الثمن إلى ورثته) (2) .
وهذا الحكم هو مقتضى القاعدة.
__________
(1) تحرير الوسيلة: 2/522.
(2) منهاج الصالحين: 2/23.(7/1200)
خاتمة
ونريد أن نشير في الخاتمة إلى أمور:
الأمر الأول:
مقارنة بين حكم هذا البيع لدى الإمامية مع حكمه لدى غيرهم.
من خلال ما تقدم يتضح:
أن هذا البيع كان معروفًا لديهم بمقتضى الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وليس عقدًا جديدًا عرف في بلخ في القرن الخامس الهجري كما قيل.
كما أن مثل هذا البيع ليس بيعًا فاسدًا كما كان السائد قديمًا لدى علماء المذاهب الأربعة وليس عقدًا جديدًا كما تصوره أصحاب القول الجامع كما أنه ليس من مصاديق عقد الرهن كما تصوره بعض الحنفية.
وليس عقدًا جائزًا من الطرفين بل هو عقد لازم وللبائع فيه أن يرد الثمن ويستفيد المثمن ويتم انتقال ملكية العين والثمن إلى الطرفين وبالتالي يتبع النماء مالك العين أو الثمن.
الأمر الثاني:
أشار الأستاذ الزرقاء في ورقته المقدمة للمجمع إلى أن المعتاد في بيع الوفاء أن يكون الثمن أقل من قيمة المبيع بفارق كبير كما في الرهن.
وقبل صدور القانون المدني المصري الجديد سنة 1949 كانت عقود بيع العقارات بالوفاء في مصر تتضمن شرطًا أنه إذا لم يرد البائع ثمن العقار المبيع بالوفاء في الموعد المحدد ينقلب البيع باتًّا فتم نهب العقارات الكثيرة وحصل ظلم كبير فراح واضعو القانون الوضعي الجديد ينصون على بطلان بيع الوفاء.
والحقيقة: هي أن فقهاء القانون الوضعي لهم أن يضعوا ما شاءوا وحسابهم واضح.
إلا أن الذي نريد التعقيب عليه هو أن تسمى عملية تحول العقد إلى بيع بات نهبًا بعد أن تمت بكل رضا ورأينا أنها تحمل كل مقومات العقد الصحيح.
وقد حلت مثل هذه البيوع مشاكل كثيرة وفتحت مجالات التخلص من الربا بلا ريب ودون أن تشكل غطاء له.
ولا نريد أن نبرر سوء تصرف البعض من الأغنياء واستغلال حاجة الضعفاء، فإذا رأى الحاكم الشرعي ذلك كان له أن يتدخل في مثل هذه الموارد فيصدر بمقتضى ما يملكه من سلطات أمرًا بوضع تحديدات معينة تمنع من سوء الاستغلال.(7/1201)
الأمر الثالث:
جاء في عناوين البحوث المطروحة هنا عنوان: (هل يجوز انتفاع الراهن أو المرتهن بالعين المرهونة) .
ونحن لا نرى مجالًا لهذا البحث في ذيل بحث بيع الوفاء بعد أن رأينا أن هناك فاصلًا كبيرًا بين العقدين فهنا بيع كامل وانتقال للثمن والمثمن إلى الطرفين وحينئذ فلكل منهما التصرف غير الناقل بما يملكه بل رأينا أن هناك من يجيز التصرف الناقل بعد فرض إمكان الفسخ والعودة إلى البائع الأول أو المالك الأول.
وما نود الإشارة إليه هنا أن المقصود من هذا البيع هو التصرف في الشيء المنتقل بهذا العقد وذلك في طرف الثمن أو المثمن فلا مجال في رأينا لمثل هذا البحث هنا.
وعلى هذا الغرار يعلم أيضًا أن لا محل للبحث في عنوان: (حكم اشتراط البائع الضمان من المشتري للوفاء ببيع الوفاء) .
الأمر الرابع:
الآثار الاقتصادية لبيع الوفاء:
نعتقد - على ضوء ما سبق - أن هذا العقد يمكنه أن يشكل سبيلًا شرعيًّا للتخلص من الربا وآثاره التخريبية فهو يحدث برغبة من كل من طرفي العقد في الانتفاع بما لدى الطرف الآخر. فالبائع بحاجة للتصرف في الثمن لسد حاجة من حاجاته من جهة فيتم العقد ولا يشعر حينئذ بأنه يدفع شيئًا لقاء حصوله على الثمن ثم هو يحتاط كثيرًا في تصرفه لئلا يفقد ما باعه ببيع الوفاء ليمكنه التسديد حين سعيه لرد العين، والمشتري بحاجة للاستفادة من العين المبيعة والانتفاع بمنافعها مع ضمان تام لعودة رأسماله المدفوع في المدة المشترطة بل لعله أيضًا يترقب استقرار البيع عليه عند انقضاء تلك المدة وهذا مما يشكل حافزًا قويًّا للإقدام على التعامل.
وهكذا نجد الدوافع متكافئة والإقدام طبيعيًّا على مثل هذا العقد دونما حاجة للولوج في الربا المحرم وعلى هذا فإن هذا العقد يمكنه أن يشكل أحد العقود التي يمكن للبنك اللاربوي أن يتعامل بها إلى جانب عقود المضاربة والمزارعة والمساقاة والشركة والإجارة بشرط التمليك وغيرها.
وكلما أمكننا أن نوسع من دائرة العقود المشروعة أمام البنك استطعنا أن نعطيه بل ونعطي المتعاملين معه الفرص الأكثر لاختيار البدائل الأفضل.
الشيخ محمد علي التسخيري
* * *(7/1202)
(مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء)
أو
توظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصر
إعداد
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمع الفقه الإسلامي بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
التشريع الإسلامي تشريع مرن، موافق لمصالح العباد، محقق لهم السعادة واليسر ورفع الحرج ودفع الضرر بما اشتمل عليه من أحكام، وما قامت عليه تلك الأحكام من قواعد وأسس ولقد مر على المسلمين ردح من الزمن وهم منغلقون على أنفسهم في دراستهم وفهمهم لفقههم الإسلامي الزاخر الفياض، لا يكادون يبتعدون عن الفهم الحرفي الضيق في الأعم الأغلب بالرغم مما يزخر به هذا الفقه العتيد من نظرات ثاقبة وآراء واجتهادات صائبة، حتى اجتاح العالم الإسلامي هذه الموجة من الحداثة وما تبعها من إعادة النظر فيما لدينا وما لدى غيرنا وما استتبع ذلك من المقارنات والدراسات.
ولئن كان عقد بيع الوفاء من العقود التي ابتكرها الفقه الإسلامي العظيم في حقبة من حقب تاريخه الناصع المشرق. ثم جاء من أبناء جلدتنا من تنكر لهذا الفقه ولهذا التاريخ ولهذه الدراسات الفقهية الدقيقة، فنحن اليوم أولى الناس بكنوزنا أن نفك عنها القيود والكبول وأن نستخرج منها الحلول للمشكلات الاقتصادية الجديدة.
لهذا اخترت هذا البحث وجعلت عنوانه: (مدى انتفاع الاقتصاد من بيع الوفاء) أو (توظيف بيع الوفاء في اقتصاد العصر) وقدمته ورقة عمل لمجمع الفقه الإسلامي بجدة الذي أشرف بأني أحد أعضائه المؤسسين والعاملين، لعلها تنال من الدرس والاهتمام ما يسدد ويصوب ويتمم، وأقمته - أي البحث - على مدخل ومقصد وخاتمة ... والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.(7/1203)
المدخل إلى البحث
التعريف ببيع الوفاء عند الفقهاء إجمالًا
(أ) تعريف بيع الوفاء:
بيع الوفاء هو (أن يبيع شيئًا بكذا أو بدين عليه بشرط أن البائع متى رد الثمن إلى المشتري أو أداه الدين الذي له عليه يرد عليه العين المبيعة وفاء) (1) .
أو هو (أن يبيع المحتاج إلى النقود عقارًا على أنه متى وفَّى الثمن استرد العقار) (2) .
أو هو (البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع) (3) .
أو هو عند الحنفية قولهم: (متى جئتك بالثمن رددت إليَّ المبيع) (4) .
وهو بعد عقد توثيقي (5) في صورة بيع على أساس احتفاظ الطرفين بحق التراد في العوضين، فهو عقد مزيج من بيع ورهن لكن أحكام الرهن فيه هي الغالبة (6) ، تردد بين كونه بيعًا أو رهنًا ثم استقر على هذا الاسم الخاص به، وهو من أقسام العقود غير المسماة شرعًا، ولم يرتب التشريع أحكامًا خاصة بها وإنما استحدثها الناس تبعًا للحاجة، ويفترق عن الرهن في غايته من حيث إن غاية الرهن توثيقية فقط، وغاية بيع الوفاء توثيق الدين وانتفاع المشتري الدائن بالعقار.
(ب) تاريخ استحداثه:
حدث هذا البيع ببخارى أواخر القرن الخامس الهجري، واستقر أخيرًا رأي الفقهاء فيه على أنه يشبه ثلاثة عقود؛ البيع الصحيح، والبيع الفاسد، والرهن، فأعطي من كل واحد من هذه العقود ما يناسب غايته من الأحكام، فهو في حكم البيع الجائز الصحيح بالنظر إلى انتفاع المشتري به، وفي حكم البيع الفاسد بالنظر إلى كون كل من الطرفين مقتدرًا على الفسخ، وفي حكم الرهن بالنظر إلى أن المشتري لا يقدر على بيعه من الغير والدليل على هذا التاريخ الذي ذكرناه لحدوث بيع الوفاء وحدده الأستاذ الزرقاء أن الإمام نجم الدين أبا حفص عمر بن محمد النسفي قال في فتاواه: (البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا وسموه ((بيع الوفاء)) ، وهو في الحقيقة رهن) (7) ، ونجم الدين النسفي ولادته سنة 461هـ ووفاته 537هـ، فبيع الوفاء تجري فيه أحكام عقود عديدة أبرزها أحكام الرهن (8) .
وقد استحدث بيع الوفاء إلى جانب الرهن على أساس أن يستحق المشتري فيه منافع المبيع بمقتضى العقد على خلاف حكم الرهن، وأخيرًا جاء القانون المدني السوري سنة 1949م فمنع بيع الوفاء وعده باطلًا استغناء عنه بالرهن (9) .
__________
(1) مرشد الحيران، مادة 561: ص141.
(2) رد المحتار: 4/257؛ والمجلة في المواد: 396 - 403.
(3) المجلة بشرحها، لباز مادة 118: ص59.
(4) رد المحتار على الدر والفقه الإسلامي وأدلته: 4/243 و 485.
(5) انظر تفصيل ذلك في المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء: 1/544.
(6) انظر تفصيل ذلك في المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء: 1/544.
(7) انظر آخر البيوع من كتاب الدرر.
(8) المدخل الفقهي العام: 1/205؛ حاشية الصفحة، وانظر شرح مجلة الأحكام العدلية، لسليم رستم باز طبعة ثانية سنة 1898م.
(9) انظر المدخل الفقهي: 1/555 وما بعدها؛ والقانون المدني السوري م433.(7/1204)
(ج) مجمل قواعد بيع الوفاء عند الحنفية:
1- اختلف الحنفية في انتفاع المشتري بالمبيع على تيارين اثنين في المذهب؛ فقالوا أولًا: لا يجوز للمشتري وفاء أن ينتفع بالمبيع إلا بإذن البائع ويضمن ما أكله بغير إذنه من ثمرة أو ما أتلفه من شجرة، وهذا قول بعض المتقدمين من علماء المذهب، والذي رجحه المتأخرون وعليه الفتوى تمليك المشتري المنافع دون حاجة إلى إذن البائع بل بحكم العقد (1) .
2- لا يجوز للبائع أو المشتري أن يبيع العين المبيعة وفاء لشخص آخر، فلو باعها البائع لآخر بيعًا باتًّا توقف البيع على إجازة مشتريها وفاء، ولو باعها المشتري فللبائع أو ورثته حق استردادها، ويكون للمشتري إعادة يده عليها حتى يستوفي دينه.
3- إذا قبض المشتري المبيع وفاء بعدما دفع الثمن للبائع وتوافق البائع مع المشتري على أن يرد له المبيع إذا رد له نظير الثمن في وقت كذا، ثم جاء الوقت وامتنع البائع من رد نظير الثمن للمشتري يؤمر البائع ببيع المبيع وقضاء الدين من ثمنه، فإذا امتنع باع الحاكم عليه.
4- إذا هلك المبيع وفاء وكانت قيمته مساوية للدين المطلوب من البائع سقط الدين في مقابلته، وإن كانت قيمته أقل من الدين المطلوب سقط من الدين بقدر قيمته واسترد المشتري الباقي من البائع.
5- إذا هلك المبيع وفاء في يد المشتري وكانت قيمته زائدة عن مقدار الدين سقط من قيمته قدر ما يقابل الدين، وضمن المشتري الزيادة إن كان هلاك المبيع بتعديه، وإن كان بدون تعديه فلا تلزم الزيادة.
6- إذا مات أحد المتبايعين وفاء تقوم ورثته مقامه في أحكام الوفاء.
7- ليس لسائر الغرماء أن يزاحموا المشتري في المبيع وفاء حتى يستوفي دينه من المبيع (2) .
فهو إذن عقد مزيج من بيع ورهن لكن أحكام الرهن فيه هي الغالبة:
1- ففيه من معنى البيع أحكام أهمها: أن المشتري بالوفاء يملك بمقتضى العقد منافع الشيء المبيع وفاءً، فله أن ينتفع به بنفسه، وأن يستغله بإيجاره للبائع ذاته أو لغيره، بخلاف الرهن كما هو معلوم.
2- وفيه من معاني الرهن كثير قد تصل إلى ستة معان تُنظَر في مظانها (3) فالمبيع والثمن في بيع الوفاء لهما حكم المرهون والدين المرهون فيه، لا حكم المبيع والثمن حقيقة (4) .
__________
(1) هو القول الجامع وعليه علامة الفتوى في المذهب؛ انظر رد المحتار: 4/247، طبعة بولاق سنة 1272هـ آخر كتاب البيوع.
(2) انظر مرشد الحيران: ص141 وما بعدها، والمواد من 561 إلى 568.
(3) انظر المدخل الفقهي العام: 1/554 ف 274.
(4) وانظر كذلك كتابنا (نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي وصلتها بالمصالح المرسلة) طبعة دار دمشق في مواطن متعددة.(7/1205)
مدى علاقة بيع الوفاء بالرهن:
احتيج إلى بيع الوفاء ولم يُغنِ الرهن عنه؛ لأن الرهن لا يفيد المرتهن في حق الانتفاع به أو إيجاره في مقابل الدين، وإذا أذن المدين الراهن للمرتهن بالانتفاع فله أن يرجع عن هذا الإذن شرعًا، فاستحدثوا بيع الوفاء ليدخلوا به من أحكام البيع على أحكام الرهن حق الانتفاع للمرتهن بمقتضى العقد، لأن الناس أمسكوا أموالهم عن إقراضها بلا منفعة، فتعورف هذا العقد في صورة شراء وانتفاع، وفي معنى رهن، ليكون فيه للناس مندوحة عن الالتجاء إلى المراباة.
وهذا العقد إنما يجري على العقار؛ واختلف اجتهاد الفقهاء في جريانه على المنقول.
وعلى هذا فبيع الوفاء يجب أن يذكر عقدًا مستقلًّا لا فرعًا من فروع البيع، وأن يذكر في ترتيب العقود المسماة عقب الرهن لأن فهمه يتوقف على فهم أحكام البيع والرهن معًا (1) .
هذا؛
والجدير بالذكر هنا أنه كانت النصوص القانونية المعول عليها لدينا في أحكام بيع الوفاء: هي نصوص قانون الملكية العقارية (2) وقد نص على أن منافع العقار المبيع بالوفاء تكون بمقتضى العقد للبائع لا للمشتري، ويكون المشتري مسؤولًا وضامنًا لكل ما يستفيده من ثمرات المبيع ومنافعه فتطرح قيمتها من أصل الدين إلا إذا اشترط الطرفان خلاف ذلك، وبذلك لم يبق فرق يذكر بين رهن العقار وبيعه وفاء في أحكام هذا القانون حيث يصبح ذكر بيع الوفاء فيه عبثًا وتكرارًا محضًا لأحكام الرهن فيه باسم جديد.
__________
(1) انظر المدخل الفقهي العام: 1/554 وما بعدها، ف 274.
(2) ذي الرقم 3339، المادة 95 منه.(7/1206)
لقد فطن لذلك الأستاذ الجليل مصطفى أحمد الزرقاء في كتابه المدخل، فقال ما نصه: ((متقفيًا أثر والده علامة الحنفية في عصره المرحوم الشيخ أحمد الزرقاء رحمه الله تعالى)) فقال حفظه الله:
(وهذا من جهل واضعي هذا القانون بمبنى الفرق بين الرهن وبيع الوفاء بحسب منشأ هذا العقد، فإن بيع الوفاء إنما استحدث إلى جانب الرهن على أساس أن يستحق المشتري في منافع المبيع بمقتضى العقد على خلاف حكم الرهن كما أوضحناه، ولعل خطأ واضعي هذا القانون من هذه الناحية ناشىء عما يوهمه ظاهر المادة 398 من المجلة إذ تقول: إنه (إذا اشترط في بيع الوفاء أن يكون قدر من منافع المبيع للمشتري صح ذلك) فإن ظاهرها يوهم أن المشتري لا يستحق منافع المبيع وفاء إلا بالشرط.
لكنها يجب أن تفهم بأنه إذا اشترط للمشتري بالوفاء جزء فقط من منافع المبيع يخص حقه في المشروط، أما إذا لم يُشرط في العقد شيء فالمنافع كلها للمشتري بمقتضى العقد وذلك بدلالة المادة 118 من المجلة نفسها، فقد صرحت هذه المادة أن بيع الوفاء إنما يشبه البيع الصحيح ويفترق عن الرهن من جهة أن المشتري وفاء يملك منافع المبيع، وهو الحكم الذي قرره الفقهاء في بيع الوفاء، وهذا ما حققه والدي الشيخ أحمد الزرقاء (1) رحمه الله تعالى في شرحه المخطوط على القواعد الكلية من المجلة) .
ثم يقول الأستاذ الزرقاء: (وأخيرًا جاء القانون المدني سنة 1949م فمنع بيع الوفاء واعتبره باطلًا استغناء عنه بالرهن) (2) .
__________
(1) انظر كتابنا (ابن عابدين أثره في الفقه) : ج3، (رسالة دكتوراة 2) .
(2) المدخل: 1/555 وما بعدها، ف 274 الحاشية.(7/1207)
المقصد من البحث
أستطيع أن أقسم البحث في هذا المجال إلى قسمين في حالتين:
(أ) القسم الأول: في حالة الانتفاع من بيع الوفاء بشكل مباشر بين المتعاقدين بلا وسيط.
(ب) والقسم الثاني: في حالة الانتفاع من بيع الوفاء بشكل غير مباشر وذلك بوجود وسيط هو المصرف اللاربوي، أو الجمعيات السكنية.
فأما حالة الانتفاع من هذا العقد بلا وسيط فيتجلى ذلك في الصور التالية:
1- قيام نوع من التعامل التجاري بين الأفراد على أساس بيع الوفاء ولاسيما في مجال الإسكان، فإن أزمات الإسكان تكاد تصبح معضلة العصر، فلا مانع من توظيف هذا العقد مع تطويره في مجال الإسكان والإعمار، وإيجاد البدائل الصالحة باستخدام هذا العقد وأمثاله عن اللجوء إلى المعاملات الربوية المحرم الممقوت.
2- محاولة إيجاد صيغ عملية لهذا العقد المرن الذي نحن اليوم أحوج ما نكون إليه ولأمثاله (1) ، ولا سيما إذا علمنا ما فيه من مرونة عملية.
فالبائع والمشتري في البيع بالوفاء قادران على الفسخ أو التراد، مع علمنا أيضًا بأن تمليك المشتري المنافع فيه بحكم العقد على المفتى به عند الحنفية دون حاجة إلى إذن البائع، وبأن ضمان المشتري للمبيع كضمان المرهون، وبأن كون المبيع في بيع الوفاء غير مشاع شرط فيه، وبأن ليس للبائع أو المشتري بيع المبيع وفاء من آخر، وبأنه إذا توفي أحد العاقدين للبيع بالوفاء قامت ورثته مقامه، وبأنه يعطى للمشتري حق الأولوية في بيع الوفاء عن غيره في أخذ المبيع، وبأن المشتري يتملك زوائد المبيع وفاء، ولا يضمنها (2) .
__________
(1) وذلك كالأخذ بالرهن الحيازي من القانون الفرنسي الذي استقاه بدوره من الشريعة الإسلامية كما هو معروف مع تعديلات.
(2) انظر رد المحتار: 4/257 وما بعدها؛ وجامع الفصولين: 1/237 وما بعدها؛ وشرح المجلة لحيدر: 1/364 وما بعدها؛ وشرح الأتاسي على المجلة: 2/414 وما بعدها؛ المواد: 396 - 403.(7/1208)
وأما حالة الانتفاع من بيع الوفاء بشكل غير مباشر وذلك بوجود وسيط، فذلك فيما أرى يمكن أن يكون بأحد طريقين:
1- طريق وساطة المصرف شريطة أن يكون مصرفًا لا ربويًا، فيكون بذلك هذا المصرف وسيطًا بين طرفي التعامل بحيث يكون المصرف راهنًا لطرف ومرتهنًا لطرف آخر، ويبايع بالوفاء مع الطرفين كلًّا على حدة، بحيث يربح المصرف ربحًا مشروعًا دون ربط الثمن بنسبة مئوية من الفائدة، وهذا يحتاج إلى بحث جديد وإعادة نظر، وصياغة جديدة لهذا النوع من التعامل على ضوء الشريعة الإسلامية بعيدًا كل البعد عن درك دمار منزلقات الربا في هذا العصر، وشبهات الربا وآفاته.
2- وهنالك طريق وساطة آخر توصلت إليه بعد تفكير طويل أرجو أن أكون قد وفقت فيه إلى الصواب، وذلك عن طريق وساطة الجمعيات السكنية.
فالمعروف أن العالم بعامة، والبلاد الإسلامية بخاصة تمُّر بأزمات إسكان خانقة نتيجة للانفجار السكاني الرهيب، وأن هذا يتطلب بل يقتضي التفكير من الفقهاء في إيجاد حلول مناسبة لهذا العصر، ولا سيما وقد انتشرت وفشت فكرة الجمعيات السكنية، فلا مانع من استخدام هذه الفكرة الاقتصادية وتطهيرها من أوضار الربا، ثم صياغتها على أساس من بيع الوفاء الذي قال به الحنفية وفقهاء آخرون، بحيث تكون الجمعية السكنية وسيطًا بين البائع والمشتري كما كان الوسيط المصرفي اللاربوي كما مر آنفًا.
وفي الختام أنوه بأن بيع الوفاء وجه من وجوه الرهن وله به شبه كبير، وقد أجاز بعض الفقهاء رهن الوثائق وما شاكل ذلك وشابهه.
أقول:
إذا كنا نحن المسلمين نحتاج اليوم إلى مئات من الصيغ والعقود المشروعة، فلماذا يُلغي بعض الفقهاء المعاصرين ورجال القانون هذا النوع من الصياغة الفقهية الدقيقة لعقد من العقود معترف به أجازه الفقهاء لعموم البلوى في عصر كانت الحاجة إليه وإلى أمثاله من العقود أقل من الحاجة إليه اليوم، اللهم هل بلَّغتُ؟ اللهم فاشهد ...(7/1209)
الخاتمة
نحن اليوم بحاجة إلى بيع الوفاء نطوره ونجدد صياغته لتفيد منه في عصرنا هذا المليء بالتحديات لمرونة الفقه الإسلامي وصلاحيته للتطبيق.
وإذا كان القانون المدني في بعض البلاد الإسلامية ألغاه اكتفاء عنه بالرهن واستغناء فلا أرى مبررًا أبدًا لهذا الإلغاء اليوم، ولن يغني عنه عقد آخر، فإنه من باب (إذا ضاق الأمر اتسع، والحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات) ، بل نحن أحوج ما نكون إليه، وأهيب برجال الفقه الإسلامي وبرجال الاقتصاد أن يعملوا متعاونين متضافرين للإفادة من هذا العقد في التيسير على الناس وتخليص المجتمعات الإسلامية من أزمات خانقة وارتباكات اقتصادية مزعجة ولا سيما أن العقود والبياعات والصيغ الاقتصادية الجديدة أصبحت من الكثرة والتوسع ما تحتاج به إلى الإفادة من كل ما لدينا من صيغ وعقود في فقهنا الإسلامي الزاخر العظيم، ولا سيما إذا كان معترفًا بها ولها قواعدها وضوابطها عند الفقهاء المسلمين. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور(7/1210)
مصادر البحث ومراجعه
1- ابن عابدين (السيد محمد أمين) ، رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) ، طبعة بولاق سنة 1272هـ مع التكملة، للسيد علاء الدين عابدين.
مجموع الرسائل، طبعة إستانبول جزءان.
2- قدري باشا (محمد) ، مرشد الحيران إلى أحوال الإنسان، طبعة مصر.
3- الأتاسي (خالد وولده طاهر) ، شرح المجلة، طبعة حمص.
4- باز (سليم رستم اللبناني) ، شرح المجلة، طبعة دار إحياء التراث العربي ببيروت.
5- ملاخسرو (محمد بن فرامرز) ، الدرر شرح الغرر.
6- ابن قاضي سماوة (محمود بن إسرائيل) ، جامع الفصولين وحاشيته.
7- حيدر (علي) ، شرح المجلة.
8- الزرقا (مصطفى أحمد) ، المدخل الفقهي العام، مطبعة الجامعة السورية، طبعة أولى.
9- الزحيلي (د. وهبة) ، الفقه الإسلامي وأدلته، طبعة دار الفكر.
10- السنهوري (د. عبد الرزاق) ، الوسيط شرح القانون المدني المصري.
11- الزرقا (أحمد) ، شرح القواعد الكلية.
12- المرغيناني (الرشداني) الهداية شرح البداية مع حاشيتي الكمال والأكمل.
13- الفرفور (محمد عبد اللطيف) ، [ابن عابدين وأثره في الفقه، ((دراسة مقارنة بالقانون)) ] ، رسالة لنيل درجة الدكتوراة، [نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي وصلتها بالمصالح المرسلة] ، طبعة دار دمشق.
* * *(7/1211)
الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاء
شيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني
(المتوفى 1247هـ)
تقديم وتحقيق
محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة
[تقديم]
بسم الله الرحمن الرحيم
بحمدك اللهم أستوهب العون والتوفيق والرضى، مستهديًا بهديك متدبرًا لكتابك، منصرفًا إلى تقرير أحكامك على الوجه الذي جنح إليه المجتهدون، وسار عليه الفقهاء المقدمون من أهل الملة المصطفاة، الأمة الخيرة التي أخرجْتها للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، معتزة بدينك، متمسكة بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
وأصلي وأسلم على خير خلقك عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه مبلغ الشريعة العظمى ومصدرها الذي نوه بمقامه الرفيع ومنزلته العالية ودرجته السامية بين الأنبياء والمرسلين ربه عَزَّ وَجَلَّ، حيث بعثه للناس كافة بل للعالمين، وجعل طاعته من طاعته في قوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1) .
ولما أمرنا به من التزام منهجه واتباع سبيله في قوله سبحانه: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) .
وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3) .
فجازاه الله عنا أحسن ما جازى به نبيًّا عن أمته وحشرنا جَلَّ جلاله يوم القيامة في حزبه بفضله وتحقيق شفاعته.
__________
(1) سورة النساء: الآية 80.
(2) سورة الحشر: الآية 7.
(3) سورة النساء: الآية 59.(7/1212)
وبعد، فقد جرى الحديث بين الدارسين والباحثين حول بيع الوفاء في جلسة من جلسات الندوة الفقهية الثانية لبيت التمويل بالكويت 1410هـ. وكان الكلام في ذلك عند الحديث عن خيار النقد وتطبيقاته في معاملات المصارف الإسلامية، ورأيت من قبل من كتبوا في هذا الموضوع مختلفة آراؤهم متباينة وجهاتهم (1) وخاصة في الأخذ به وتطبيقه في هذا العصر (2) . كما رأيت طائفة من القوانين المدنية الوضعية قد فصلت القول فيه مقرَّة له ابتداء ثم ألغته كما ذكر ذلك السنهوري في الوسيط (3) ومجلة العقود والالتزامات التونسية (4) فذكرت بكل ذلك عمل أحد أعلام الفقه الحنفي بتونس من رجال القرن الثالث عشر. وحين تقرر بحث هذا الموضوع بمحاوره الثلاثة: - تعريفه، المقارنة بين بيع الوفاء وعقد الرهن، الصور التي يمكن للاقتصاد الإسلامي أن ينتفع بها من بيع الوفاء - في المؤتمر السابع لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، عزمت أن أضع بين أيدي الزملاء وثيقة في هذا الموضوع تتمثل في تقديم وتحقيق الرسالة الوفائية لشيخ الإسلام محمد بيرم الثاني الموسومة بالوفاء ببيع الوفاء. وقد كان كتبها رحمه الله لبيان موضوع بيع الوفاء، وذكر آراء الأئمة فيه، وتفصيل ما يترتب على القول به عند الحنفية من التزام بأحكامه وأخذ بها.
وإني أرجو أن أكون بهذا العمل قد وفقت لعرض صورة متكاملة من آراء الأئمة في هذا النوع من المعاملات الذي اشتهر من القرن الخامس ببخارى وسمرقند، وفشا العمل به لحاجة الناس إليه في كثير من البلاد بأطراف العالم الإسلامي. وهكذا ضبطت أحكامه وصدرت الفتاوى في نوازله عن شيوخ من أعلام الفقه المتقدمين.
ولعل في هذا الجهد المتواضع ما يكون به بعض الإسهام في خدمة الفقه المعاصر فينفع الله به طلاب المعرفة من المشتغلين بالدراسات الإسلامية وعلوم الشريعة الغراء. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
محمد الحبيب ابن الخوج
__________
(1) أصحاب المذاهب الفقهية في القديم والحديث، منهم من اتفق على منعه كالمالكية والحنابلة والظاهرية، ومنهم من أجازه كمتأخري الحنفية والشافعية والإمامية.
(2) مثل محمد يوسف موسى وعلي الخفيف.
(3) السنهوري، الوسيط: 4/142 - 170.
(4) الكتاب الثاني في العقود وشبهها: الباب الثالث، القسم الأول، بيع الثنيا: 127 - 130.(7/1213)
البلاد التونسية
من بداية القرن الثاني عشر
إلى منتصف القرن الثالث عشر
انقرضت الدولة المرادية بتونس بفتك إبراهيم الشريف باي بآخر رجالها ومساعدة الجند له على ذلك 1113. ولم يكن مصير الوالي الجديد، رغم تقلده منصب الباشوية الذي وافاه به وكيله محمد بن سليمان 1115 من الدولة العثمانية، بأحسن حالًا من مصير مراد باي الثالث بن علي بن حموده باشا. فقد أُسِرَ وقُتِلَ، واجتمع الناس من بعده على كاهيته حسين بن علي تركي الذي سبق له أن تقلد في عهد المراديين الولايات الجليلة، وتسنم الخطط الرفيعة مثل خطة خزندار، وكاهية الخلافة، وولاية الأعراض والجريد ونحوها، واختاروه أميرًا عليهم، وتمت له البيعة في ربيع الأول 1117.
وهكذا تكونت الدولة الحسينية "بالإيالة" الولاية التونسية مرتبطة بالدولة العثمانية ومنفصلة عنها، تكتسب قوتها ومنعتها من مجادة الأمير الحاكم وألمعيته، ومن حصافة رجال "المخزن" الدولة وحذقهم، ومن جلالة أهل العلم ومهابتهم، ومن تعالق الرعية بالعرش والتفافها حوله. وهذه المعاني، وإن تحقق وجودها وطمع الخاص والعام في استقرارها واطرادها، كانت تلمع وتخبو وتقوى وتضعف بحسب الظروف التي مرت بها البلاد التونسية والأحوال التي خضعت لها في هذه الأثناء.
فمن ذلك الهجومات العدائية من الخارج من خصوم الأمير حسين بن علي والمناوئين له مثل داي الجزائر، وقد مكنه الله من الظفر، ونصره عليهم في لقاءاته المتكررة بهم ومعاركه معهم (1) .
ومنها الفتن الداخلية التي أشعل أوارها وألهب نارها الداي محمد خوجه الأصغر (2) والدعي سليمان (3) ودعي المراديين محمد بن مصطفى ابن فطيمة (4) ثم ما كان من ثورة الأعراب (5) ومن خروج الباشا علي بن محمد تركي ربيب الأمير حسين وصهره وابن أخيه الذي كان حظيًّا عنده وأثيرًا لديه (6) .
__________
(1) السراج، الحلل السندسية: 3/23 - 33.
(2) السراج، الحلل السندسية: 3/60 - 63.
(3) السراج، الحلل السندسية: 3/232 و 233.
(4) السراج، الحلل السندسية: 3/257 - 271.
(5) السراج، الحلل السندسية: 3/272 - 273.
(6) مخلوف، شجرة النور: 2/163.(7/1214)
ذلك أن هذا الشاب الطموح قد ولَّاه عمه حين بلغ عمره السابعة عشرة أمير أمراء الأمحال 1118، وهذا في العرف لدى البايات تقليد لا يسند إلا لولي العهد. ولما ولد الأمير حسين بن علي من صلبه ابنه محمد الرشيد، وشَبَّ وَبَلَغَ الخامسة عشر من عمره أحله محل ابن عمه، صارفًا علي بن محمد عن ولاية العهد، مسندًا إليه لقب الباشا استرضاء له، لكن علي باشا أنف من تصرف عمه ورغب عن البقاء معه، وهرب وابنه يونس إلى جبل وسلان 1140. وحين أحس بعمه يتابعه لحق بالجزائر مستنجدًا، ثم عاد للقاء خصمه في وقعة شديدة كان فيها انتصاره على عمه الأمير حسين بن علي 1147. وتنقل إثر ذلك هذا الأخير في أطراف البلاد مصحوبًا ببنيه لاجئًا أولًا إلى القيروان، وباسطًا نفوذه بعد ذلك على غالب بلاد الساحل، ودامت الحرب سجالًا بين الباشية أتباع علي باشا والحسينية أنصار حسين بن علي حتى استشهد هذا الأخير في صفر 1153، وَفَرَّ بنوه إلى المغرب، فاستبد بالحكم علي باشا دونهم وامتدت إمارته واحدًا وعشرين عامًا من سنة 1148 تاريخ بيعته إلى حين قتله سنة 1169. وهو في تلك المدة لم يهنأ بالًَا لتفرق كلمة أبنائه وخروج يونس عنه وقيامه عليه ثم فراره إلى قسنطينة، ولقتل ابنه محمد أخاه سليمان 1168.
تلك هي الظروف السياسية التي عاشتها تونس عند تأسيس الدولة الحسينية وقيامها بها. وإنما عرفت الاستقرار والأمن بدخول صقر الدولة الحسينية محمد الرشيد ابن حسين بن علي إليها راجعًا من الجزائر يصحبه أخوه علي بن حسين. ومضت أيامه سعيدة حافلة بالأمجاد إلى أن وافاه المنون 1172.
وبويع أخوه الأمير الباشا علي من بعده وسار سيرة أخيه وأبيه من قبل، لولا أن ثار عليه إسماعيل مستعديًا شيعته وشيعة أبيه يونس أهل جمال ووسلات على الباشا. وبالقضاء على هذه الفتنة وتتبع أصحابها وتفريقهم على القرى وإخلاء جبل وسلات منهم استتب الأمن واستقرت الأوضاع.(7/1215)
وفي المحرم 1191 قدم الأمير علي بن الحسين ابنه حموده للولاية وجاءته الخلعة والتقليد من الدولة العلية، وتمت بيعته عند وفاة والده 1196. فكان من أصلح الأمراء وأكملهم وأحسنهم سيرة وسلوكًا. وقد كانت له حروب مع الجزائريين مثل غيرهم ممن سبقهم من الملوك. وانهزم جيشه عند اللقاء لكنه ما لبث بحسن سياسته وحكمة تدبير رجال دولته أن أعاد الكرة على خصومه وكانت له الدائرة عليهم.
وبقدر ما طالت مدة ولاية الأمير حموده إذ كانت وفاته مفتتح شوال 1229 قصرت ولاية أخيه عثمان من بعده الذي خلع وقتل ليلة عاشوراء 1230.
ثم تقدم للإمارة من بعده ابن عمه محمود باشا ابن محمد الرشيد ودامت ولايته تسع سنين.
وتسلم مقاليد الدولة عند وفاته ابنه حسين باشا ابن محمود الذي نجمت في عهده أحداث منها: إمداده الدولة العليا بالعساكر والميرة لتقويتها على مقاتلة العدو المحارب لها، وعقده الصلح مع حكومة سردينيا بعد وحشة طالت بين البلدين، وفي المحرم 1246 استولت فرنسا على الجزائر ثم على باقي الثغور شيئًا فشيئًا، ونزل في كنف الأمير حسين بن محمود عدد كبير من اللاجئين والمهاجرين الجزائريين، وحملته الظروف على ترتيب الجند النظامي وإحكام أسسه وضبط قواعده وقوانينه (1) .
وما من شك في أن ألوان التعامل التي كانت بين الأمراء والرعية من جهة، والتصرفات والمواقف المتباينة التي سجلها التاريخ لهم هي التي ظهرت بارزة واصطبغت بها حياة البلاد والعباد في هذه الفترة من الزمن.
فإبراهيم الشريف باي، وإن جاء لإنقاذ تونس من مكر "مراد أبو باله" وظلمه، سار أول الأمر سيرة حسنة، ولما اشتد حرصه على ما في أيدي الناس، وتملكه الغرور، وسلك سبيل المستبدين، ظلم الرعية وأعمل السيف، وذبح النساء والأطفال، واستصفى الأموال، وكاد يستأصل العرب جميعهم لشدة بغضه لهم، فالدولة عنده والحكم لديه ليسا رعاية للشعب وتفقدا لأحواله، ونشرًا للأمن والعدل بين الناس، ولكنهما الاستبداد بالأمر والاختصاص بالنفوذ، وتسخير كل ما حوله له ولأفراد أسرته. وطبيعي أن تكون عاقبته الخزي والهوان والموت.
وهكذا التف كل من في البلاد حول الأمير الجديد حسين بن علي الذي اختلفت الحياة في عهده عنها في عهد سلفه. فكانت على حد قول بعضهم خصبًا بعد الجدب، وأمنًا بعد الرعب، وسلمًا بعد الحرب، وبقدر تمكنه من السلطة وتحكمه في أمر الدولة كان إقبال الخاصة والعامة على العمل والجد، فكثرت العمارة وانتشرت الزراعة وتقدمت الصناعة، والتزم الناس في معاملاتهم وتقاضيهم أحكام الشريعة، يرعونها حق رعايتها ويقفون عندها التزامًا وتطبيقًا، وأكبر الشعب التونسي تصرفات حسين بن علي. وبهرته أعماله الجليلة ومناقبه الشريفة، مثل إحيائه مدينة القيروان ومساجدها وزواياها، وبنائه عددًا كبيرًا من المدارس بصفاقس ونفطة والقيروان، وإنشائه بتونس مدرسة النخلة والحسينية الصغرى والجامع الجديد، وفسقية الملاسين.
__________
(1) محمد السنوسي، المسامرات: 1/7 - 48.(7/1216)
ولما صار الأمر إلى ابن أخيه الباشا علي بن محمد امتهن الخاصة وأدرك العامة العنت وهالتهم تصرفات الأمير الجديد ومظالمه في تتبعه لشيعة عمه ومواليه، ولكنه مع ذلك حصن البلاد، وجهز الثغور، وأجرى السقايات العظيمة النفع، وهدم الحانات، وشيد المباني الفاخرة بباردو. وقدر لأهل العلم والأدب منازلهم وراعى مقامتهم، وبنى للطلاب مدارس عديدة كالباشية والسليمانية ومدرسة بئر الحجار، ومدرسة حوانيت عاشور، وشيد تربة لهم بالقشاشين، ومباني كثيرة أحاط بها الجامع الأعظم، ولم يفسد عليه خطته الإصلاحية ويقوض آماله غير تنازع أبنائه على الحكم وتقاتلهم، وثورة ابنه الأكبر يونس عليه الذي برز لمحاربته ورمى بكور مدافعه الحاضرة وأرباضها والدور والمعالم ناشرًا الرعب والخراب والموت.
ولما أحس أهل الحل والعقد بتعاقب الأحداث وتفاقم الأخطار كتبوا إلى ابني أميرهم حسين بن علي مستنجدين بهم لتخليص بلدهم مما لحقه وحل به.
وعاد الأمر بعد ذلك إلى نصابه، وقرت العيون برجوع محمد الرشيد وأخيه علي ابني حسين إلى السلطة والحكم، وسرت العافية والطمأنينة في كل الربوع، وابتهجت الحياة للرعية من جديد، وولت المخاوف والأنكاد تعوضها مواسم بواسم وأيام مشرقة زاهية، وهكذا انتعشت المملكة بحسن سياسة محمد الرشيد، وتجاوب معه أهل البلاد، والتفوا حوله وحول أخيه من بعده ينشدون مفاخرهم، ويترنمون بكريم خصالهم وعظيم مناقبهم، لما وجدوه لديهم من تودد إليهم وعناية بهم وحماية لهم. وقد سجل الشعراء والكتاب كل ذلك في قصائدهم البديعة وتواريخهم الموثقة. فذكروا من مآثر الباشا علي بن الحسين الأثيرة مدرسته الشهيرة، وتربته وتكيتيه المشهورتين للفقراء والمساكين، وبناءه المحكمة الشرعية، وإجراءه المياه العذبة لمدينة تونس، وبناءه لسور القيروان، وإقامته لمكتبة مسجد دار الباشا، وتجديده الجامع الأعظم بالمنستير، وبناءه الجامع الحنفي وكذلك سور الربض الجوفي بها، ومقام الإمام المازري وإقامته مدرسة به، ومقام أبي علي يونس بن السماط، وبدأ يستقل في تصرفاته السياسية عن الدولة العثمانية فأبطل تولية القضاء من طرفها وتولى تنصيب قاض حنفي من الحاضرة، وقاض مالكي، كما صرف اهتمامه للأحوال الاجتماعية فعطل الخمر وهدم الحانات، وأجرى على الفقراء والمحتاجين الصدقات.
وفي عهد الأمير حموده باشا الحسيني ظهرت بجانب الحروب والأزمات بتونس مجاعة كبرى أرسل الأمير بسببها العلامة الشيخ إبراهيم الرياحي إلى سلطان المملكة المغربية بفاس مولاي سليمان يستمد الميرة. وهو أول من جعل ثبوت الأهلة من اختصاص القاضي المالكي، وقد اتخذ الأساطيل لمواجهة العدو في غاية المنعة، ومن مآثره الأبراج الضخمة التي ابتناها، والثكنات الكثيرة التي اتخذها داخل العاصمة وخارجها، والأسواق والقصور.(7/1217)
وتميزت أيام أخيه عثمان خصبًا ورخاء وإن لم تطل.
وسار محمود باشا ابن محمد الرشيد على سنن أبيه وعمه، فدانت له القلوب بالطاعة وأمنت في أيامه السبل لولا أن هدد البلاد طاعون دام عامين، حلت بإثره المجاعة. فأنفق الأمير أموالًا طائلة لمواجهة الوضع، وجلب ما يكفي من الأقوات لسد خلة المنكوبين والمحتاجين. ومن مآثره الرائعة البيت الذي أنشأه بقصر باردو على نمط فريد.
ولما ولي الحكم من بعده ابنه حسين باشا تبع منهج أبيه فكان خليقًا بالأمارة حسن السياسة. أمنت البلاد في عهده كل سوء وكان حذرًا يقظًا. ابتنى لسكناه ثكنة المركاض، وجدد رباط المنستير، وهو إلى ذلك ذو عاطفة دينية وإيمان وخشية. ولما جذع الناس اشتد بهم البلاء بسبب انحباس الغيث أشفق على بلده، وأحزنه حال رعيته فجعل لجوءه إلى الله وتوسله إليه سبحانه بقراءة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، جاعلاً ذلك مفزعًا له، وسبيلاً لكشف الغمة، فجمع العلماء بجامع الزيتونة، وفرق عليهم أسفار صحيح البخاري، وطلب منهم قراءته كاملًا، فأتموا ذلك في مجلس واحد، ومن ذلك الوقت جرت العادة بتونس بهذا العمل، سنة ماضية فيهم عند نزول الشدائد (1) .
وقد يدعو الأمر بعد تصوير الحالة السياسية والاجتماعية للمملكة التونسية في ذلك الظرف إلى ملاحظة أن الحاكمين في البلاد بإثر فتح سليم الأول لها وطرد الأسبان منها على يد سنان باشا 981 كانوا ولاة عثمانيين ومن موالهيم. وهم في الأصل أعاجم من كرسيكة وجزر الكريت ونحوها، عملوا عهدًا طويلًا غزاة في البحر ثم اعتنقوا الإسلام وانضموا للجيوش العثمانية. فاستقروا بالولايات وتقلبوا في المناصب إلى أن كان منهم البايات والباشوات والدايات والأغوات. وارتباطهم بالدولة العلية كان على أساس اعترافها بهم ولاة عنها، تأتيهم من خلفائها وسلاطينها التقليدات والفرمانات، فتعينهم في مناصبهم أو تقرهم بها كما تنظم العلاقات الدولية فيما بين بلد الخلافة والولاية. وبحكم بعد بعض الولايات عن مركزية الدولة، وبسبب ما كان يعرض أحيانًا من ضعف السلاطين وانشغالهم عن أطراف بلاد الخلافة، كان البايات والدايات يتصرفون تصرف الملوك تصرفًا مطلقًا، ويجعلون الأمر وراثة بينهم في أسرهم وأهليهم. وهكذا كان شأن دايات الدولة المرادية، "فلما انقرضوا عن آخرهم دخلت الإيالة التونسية في حكم البيت الحسيني بطلب من أهل تونس وعن طيب نفس منهم وأخذت سلطة الباي في النمو والظهور وسلطة الداي في التراجع والتضاؤل بتغلب الأولى على الثانية" (2) .
__________
(1) محمد مخلوف، الشجرة: 2/158 - 169؛ ومحمد رشاد الإمام، سياسة حموده باشا: ص 58 - 80.
(2) محمد ابن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، الألقاب والنعوت الملكية في البيت الحسيني: ص58.(7/1218)
المجتمع الجديد وعناصره:
كان حكام البلاد وقادتها مزيجًا من الأعاجم والموالي الملتحقين بالجيش العثماني تضرب أصولهم في النصرانية قبل دخولهم الإسلام، ويتسمون بأسماء سلاطين آل عثمان ويتلقبون بألقابهم (1) ، وعلى هذا النحو كان سكان الإيالة التونسية، فقد اختلطت عناصرهم وتلاشت جنسياتهم في مجتمع أصله من البربر، وفد عليه من سواحل الشام ومن روما أعداد كثيرة من الفينيقيين والرومان، والتحق بهم في الفتح الإسلامي عناصر جديدة منها الفارسي والمصري والسوري والطرابلسي، ثم غلب العنصر العربي على العنصر البربري وانضم إليهم مهاجرو صقلية والأعراب من بني هلال ورياح ودريد وأولاد سعيد، وتبعهم الأندلسيون في هجراتهم المتعاقبة فكان من بين هؤلاء أيضًا عرب وبربر وفوط وفندال ولحقت بهؤلاء جميعًا جموع من الطليان. وفي العهد التركي اكتسحت البلاد جموع غفيرة من عساكر الانكشارية امتزجوا بالأُسَر العربية من سكان البلاد وتكون من زيجاتهم ومصاهراتهم الكوالغلية (2) ، كما قدم إلى تونس لحاجة الحكام وبدعوة منهم عساكر زواوة وعلوج أكثرهم من القرج والروم. وهذا ما حمل صاحب "صفحات من تاريخ تونس" على القول: "بأن العنصر التونسي عبارة عن مزيج مركب من عناصر نشيطة مختلفة الأجناس أكثرهم في العدد البربر فالعرب فالأندلس فالترك فالزنوج فالنورمانديون فبقية عناصر الأقليات التي اندمجت في عناصر الأكثريات، وبحكم الضرورة لا بد وأن تلك العناصر تكون متباينة في القوة والإدراك والأخلاق ولكنهم متحدون كلهم في حب بلادهم تونس على السواء" (3) .
ونحن نلاحظ بوجه عام تمايز عناصر ثلاثة في الفترة التي نؤرخها كلها، على تفاوت بينها، لها تأثير في الحياة العلمية والفكرية كما لها ارتباط بالدولة وعلاقة بها. وهذه العناصر هي التونسي والأندلسي والتركي بحسب الظهور والترتيب الزمني.
__________
(1) محمد ابن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، بآيات الدولة المرادية: ص48 - 56.
(2) واحده كولغلي، وهو من يكون أبوه تركيًّا نتيجة هذه الارتباطات.
(3) محمد ابن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، عناصر الشعب التونسي وامتزاجها: ص221 - 227.(7/1219)
فالعنصر التونسي يتألف منه سكان البلاد الأصليون الذين مضت عليهم قرون وقرون بهذه الديار، قبل دخول الأندلسيين، وقبل نزول عساكر سنان باشا بحلق الوادي، وقد اشتبكت بين أفراد هذا العنصر الأَوَاصِر، وَامْتَزَجَتْ فئاتهم، واختلطت أسرهم وأنسابهم وأصبحوا أكثر شعورًا بتلاحمهم وارتباط بعضهم ببعض وتميزهم عن غيرهم.
والعنصر الأندلسي هو الذي لجأ إلى تونس آلاف منه في الهجرة الأولى في القرن السابع أيام قيام الدولة الحفصية وذلك بالخصوص بعد سقوط قرطبة وإشبيلية (1) وبعد ذلك بقرنين كانت الهجرة الثانية في القرن التاسع بعد سقوط غرناطة. والهجرة الثالثة والأخيرة منهم إلى الإيالة التونسية كانت سنة 1016 و1017 عند الجلاء الأخير للمسلمين كافة عن إسبانيا بسبب قيام ديوان التحقيق ومحاكم التفتيش وصدور قرار التنصير الإلزامي بها.
والعنصر التركي هو عبارة عن الجند الغازي العثماني والأتراك الذين وفدوا مع العساكر، ومن انضم إليهم من الأوروباويين المقيمين بالولايات العثمانية والذين كان منهم في الغالب قضاة الجند والشيوخ العلماء والمستشارون وأصحاب الوظائف الإدارية والسياسية الذين اعتمدهم الولاة فالمراديون ثم الحسينيون من بعدهم.
ولو رجعنا إلى كتب الطبقات وما وضعه التونسيون من سير وتواريخ وتراجم (2) ، أو جمعوه من مسائل، ودونوه من آثار ورسائل، لم يقع حتى اليوم استخدامها على الوجه الكامل، لتجلت لنا الحياة الفكرية الثقافية العلمية في أدق خصائصها وأبرز مميزاتها.
__________
(1) محمد الحبيب الخوجة، الحياة الثقافية بأفريقية، صدر الدولة الحفصية، نشرة مؤتمر مجمع اللغة العربية.
(2) يمكن أن نذكر من ذلك: الحلل السندسية للوزير السراج؛ والمشرع الملكي في سلطنة أولاد علي تركي لمحمد الصغير الباجي؛ والشهب المخرقة لأحمد برناز؛ وسمير الأصحاب ونزهة ذوي الألباب لمحمد بن تاج العارفين البكري؛ والتاريخ الباشي لحمودة بن عبد العزيز؛ وبرنامج من ولي الإمامة بالجامع الأعظم لإسماعيل التميمي؛ وبشائر أهل الإيمان وذيله لحسين خوجة؛ والمونس لابن دينار؛ وقرة العين بنشر فضائل الملك حسين لمحمد سعادة؛ ومفاتح النصر في التعريف بعلماء العصر للباجي العياضي؛ والإتحاف لابن أبي الضياف؛ والخلاصة النقية للباجي المسعودي؛ ووسائل التعريف بالولاة من طرق الدولة العثمانية بتونس للشيخ بيرم الثاني؛ والتعريف بالمفتيين الحنفيين له أيضًا؛ ورسالة التراجم المهمة للخطباء والأئمة لمحمد بيرم الرابع؛ وعنوان الأريب لمحمد النيفر؛ وشجرة النور الزكية لمخلوف وغير ذلك.(7/1220)
الحياة الفكرية والعلمية من بداية الدولة الحسينية إلى عهد حسين بن علي الثاني:
لقد كانت بحق بداية الدولة الحسينية موعدًا لإقامة سوق العلم ونفاقها، ونشر المعرفة وإعادة النشاط الثقافي والفكري للبلاد. فالبرغم من انقطاع المدارس القديمة والمساجد وجامع الزيتونة الأعظم في مقدمتها عن الدور العلمي الكبير الذي اضطلعت به إلى أوائل المائة العاشرة (1) ، ورغم ما لحق خزائن العبدلية والجامع الأعظم من عبث بالكتب القيمة التي لم تكن تقل عن ستة وثلاثين ألف مجلد عاث بها الإسبان فسادًا وداسوها بسنابك خيلهم وألقوها خارج المسجد الجامع وأتلفوها، ورغم ارتباك الأحوال ومكابدة أهل تونس وسائر مدن القطر المصائب والأهوال التي حملت أكثر العلماء وذوي القدر على الهجرة إما إلى المشرق وإما إلى المغرب، وما تبع ذلك في أواخر دولة بني مراد من فتن متتالية وأوبئة متعاقبة فإن بقية باقية من أهل العلم بتونس العاصمة وبآفاق البلاد كانت ما تزال تضطلع بدورها عند مبايعة حسين بن علي تركي. ومن أبرز هؤلاء:
الشيخ المقري المحدث والفقيه المتكلم أبو الحسن علي بن سالم بن محمد النوري. 1053 - 1118 بصفاقس. كان تخريجه على مرحلتين الأولى ببلده أخذ عن الشيخ الكراي الصوفي المربي، والثانية بتونس حيث التحق بالمدرسة المنتصرية والشماعية وأخذ عن عدد من الشيوخ مثل عاشور القسطنطيني وسليمان الأندلسي ومحمد القروي وأثنى عليهم. ولما أراد الاستزادة من العلم واستكمال ما يتطلع إليه من المعارف توجه إلى القاهرة. فلقي هنالك المسند أبا إسحاق المأموني الشافعي والشيخ أحمد السنهوري المالكي والمحقق أبا بكر الشنواني وشيخ الشيوخ محمد بن محمد بن ناصر الدرعي وغيرهم كما أخذ عن الخرشي والشبرخيتي، وعمن لقي هناك من علماء المغرب مثل الشيخ الشاوي الجزائري والشيخ الإفراني المغربي فتضلع بالعلوم الشرعية واللسانية. وله في ذلك فهرست تضمنت أسماء الكتب التي قرأها على شيوخه وفنون العلم التي أخذها عنهم. وهي ثبت علمي لذلك العصر. وعند عودته إلى صفاقس أحيا العلوم القرآنية والحديثية، وأخذ عنه ابنه أحمد ومحمد المؤدب الشرفي وأبو الحسن المؤخر وعلي بن خليفة المساكني ومحمد الجمل والحركافي وأحمد العجمي المكني. ومن مصنفاته الشهيرة: غيث النفع في القراءات السبع، وتنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين عما يقع لهم من الخطأ خلال تلاوتهم لكتاب الله المبين، والعقيدة النورية في معتقد السادة الأشعرية، ومعين السائلين من فضل رب العالمين، ومقدمة في الفقه، ومناسك الحج، والمنقذ من الوحلة في معرفة السنين وما فيها من الأوقات والقبلة، ورسالة في الكلام عن مسألتين تتعلقان بالسماع، وإجازة، ووصية، وفتاوى مشهورة.
__________
(1) من المدارس القديمة بالعاصمة التونسية قبل الدولة الحسينية: (الشماعية: 633؛ والتوفيقية: 650؛ والعصفورية: 666؛ والمرجانية: 696؛ والمغربية في المائة السابعة، والعنقية: 733؛ ومدرسة سيدي يحيى: 747؛ والمنتصرية: 841؛ والأندلسية: 1034؛ والبكرية أوائل القرن الحادي عشر؛ والمرادية: 1084؛ ومدرسة القائد مراد: 1193؛ واليوسفية: 1122.) ومحمد ابن الخوجة، معالم التوحيد: ص282 - 283. وأما المساجد والجوامع فهي كثيرة جدًّا وقد تنوعت الثانية منها إلى جوامع خطبة للمالكية وأخرى للحنفية، وأقدم الجوامع بمدينة تونس جامع الزيتونة، وأحدثها في العصر الحسيني من بدايته إلى نهاية إمارة حسين بن محمود: الجامع الجديد المعروف اليوم بجامع الصباغين تأسيس حسين بن علي تركي 1139، وجامع صاحب الطابع، تأسيس الوزير يوسف صاحب الطابع 1229، وقد كان أكثرها محل تدريس للعلم أو مقرًّا لمجالس الوعظ للعامة، والمساجد التي كان يؤم الناس في الصلاة بها عدد غير قليل من العلماء بالسكنى، والتي اشتهرت أحيانًا بنسبتها إليهم، كمسجد ابن حبيش الذي كان في باب سويقة وقد اندثر اليوم، كانت كما صرح بذلك ابن رشيد في رحلته، الجزء الثاني والخامس، إلى جانب دورها الأصلي وهو كونها محل عبادة مقرًّا لمجالس العلم التي يلتقي فيها الطلاب بأشياخهم للسماع منهم، أو للرواية والأخذ عنهم، وهذا أمر شائع بديارنا منذ العهود الإسلامية الأولى لا في خصوص ما يوجد من تلك المساجد والجوامع بالحاضرة بل بعامة ما هو مشهور أو مقصود منها في مدن البلاد التونسية، راجع في ذلك رحلات البلوي والعبدري وابن رشيد. محمد ابن الخوجة، معالم التوحيد.(7/1221)
وإلى جانب هذا الدور الريادي الكبير الذي اضطلع به المرحوم الشيخ على النوري في مجالي التدريس والتأليف، نذكر عمله الجهادي المتمثل في تصديه لهجمات القراصنة النصارى على السواحل التونسية، وذوده عن حمى الوطن بما بذل من أموال وجهز من مراكب ورد من أعداء "فرسان مالطة"، وهو ما جلب له من حاسديه ضروبًا من الإحن والمحن (1) .
وقد سار على أثر هذا العالم الصالح والإمام المجاهد العلامة الفقيه والداعية الورع أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الجمني النفزاوي الذي ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل المقداد بن الأسود. كانت ولادته 1038هـ بجمنة الواقعة بالجنوب التونسي بين دوز وقبلي، وتوفي 1134هـ بجربة. درج في العلم والمعرفة، وذهب في صغره إلى القيروان وأخذ عن الوحيشي، ثم توجه هذا الإمام 1066 إلى مصر. فدخل الأزهر وقرأ على الشيخ عبد الباقي الزرقاني والخرشي والشيخ سلطان والشبراخيتي وأبي الحسن اللقاني. وعندما استكمل العدة واستوفى الرواية عن هؤلاء الأئمة عاد إلى بلده عن طريق زواوة، وأخذ بها عن الشيخ عبد الله الجبالي والشيخ اليوسي، ومنها ذهب إلى زاوية الحمارنة بمارث قرب قابس، ودرس بها. ثم انتقل إلى جزيرة جربة فذاع صيته ونفق علمه بها، وأقبل عليه الطلاب من كل فج. وبنى له الأمير مراد باي بن حمودة المرادي بحومة السوق مدرسة سنة 1115 تصدر بها للتدريس. وممن أخذ عنه ابن أخيه إبراهيم بن محمد وعلي الشاهد وعلي الفرجاني، وبه تفقه الشيخ محمد الغرياني. وكان همه الأول نشر العلوم الدينية ومقاومة الضلالات والبدع، فعنه تلقى أكثر من نصف سكان الجزيرة المذهب المالكي. أقرأ المختصر الخليلي وكتب عليه شرحًا.
ومما ترجم له به الرحالة الجزائري الشيخ حسن الورتلاني قوله: "وفضائل سيدي إبراهيم الجمني من زهده وورعه وتواضعه وتهجده ونصحه للطلبة وتحمله الأذى من خوارج جربة، وصبره وتصبره على إظهار السنة وإخماد البدعة وغير ذلك من أخلاقه السنية كثير لا يعد ولا يحصى. وقد انفعلت سيرته وأثرت همته في أصحابه الآخذين عنه". كان رحمه الله كلما ظهرت مخائل النجابة على أحد من طلابه أجازه وبعث به إلى أقاصي البلاد، حيث لا علم ولا إرشاد، ليكون داعية مربيًا عالمًا موجهًا. فكان بذلك ينور ظلمة الجاهلين ويرفع عن الناس حجاب الغافلين ويهدي العامة والخاصة سبيل المتقين الهداة المهديين (2) .
__________
(1) مخلوف: 1/321، 1255؛ حسن حسني عبد الوهاب، كتاب العمر: 1/1، 179 - 184، 24.
(2) مخلوف، شجرة النور: 1/324، 1266؛ وحسن حسني عبد الوهاب، كتاب العمر: 1، 2/833 - 835، 233.(7/1222)
هذا وإن المساجد وإن خلت زمنًا من الطلاب، والمدارس وإن أقفرت من الشيوخ ورواد المعرفة فإنها قد تهيأت كلها من جديد وانضافت إليها مثيلاتها في تونس العاصمة وبمختلف مدن الإيالة. وعادت الحياة الفكرية شيئًا فشيئًا - كما قدمنا - إلى الظهور على أيدي ثلة من الأئمة الفضلاء والشيوخ العلماء والحكام الوجهاء. فكان الناس بدافع تلقائي سببه الحرمان أو ما ورثوه عن آبائهم من تقدير ومهابة للعلم وأهله، يريدون الاختلاط بأولئك النفر تحقيقًا لمنازلهم واستمرارًا لانتسابهم إلى أهل الشرف والمروءات والفضل. فكان التعظيم لهم من الخاصة والعامة، والتردد عليهم والجلوس إليهم ابتغاء الإفادة منهم والانتفاع بهم، وطلبًا لخيري الدنيا والآخرة عن طريقهم.
وكان من أعلى الناس منزلة بين أهل تونس من ارتبطوا بخدمة جامع الزيتونة، الجامع العتيق، أقدم مسجد بديارهم، كان مركزًا دينيًا للعبادة من بداية القرن الثاني، ومدرسة لتلقين علوم الدين والتبحر في فنون العلوم النقلية والعقلية (1) .
وعلم الأمير حسين بن علي تركي مدى تعلق الناس بهذا الجامع، وبما يبث به من علوم فعني به عناية فائقة وحاول أن يعيده إلى سالف عهده. وهذا ما جعل الوزير السراج يقول عنه في هذا الصدد: "فكم أحيا من مدارس دوارس، وكم أحيا من دروس بعد الاضمحلال والدروس، بحيث إن الجامع الأعظم جامع الزيتونة غاية ما بلغ فيه قبل من عدد المدرسين من الشروق إلى الغروب نحو ثمانية بين مبتدئين ومنتهين فقط. والحمد لله أنه اليوم به نيف وأربعون مدرسًا عدا ما لبعض المدرسين من مجالس مكررة في كل يوم". وهذه الإشارة من صاحب الحلل تصف الدروس النظامية لا غير التي كان الأمير يرعاها ويعين فيها من يختاره من العلماء والمدرسين ويجري عليهم عن طريق الوزير السراج المرتبات والجرايات المستحقة (2) . والحق أن حركة العلم كانت أنشط بهذا الجامع وغيره من دور العلم بتونس في هذا الظرف بدليل إقبال الكثير من العلماء والشيوخ على التدريس والتشرف بالتصدر للإفادة به، يعتبرون ذلك واجبًا دينيًا، ويرفع من مكانتهم ويعلي من أقدارهم أن يعرفوا بهذه النسبة الشريفة ويذكروا فيمن يعد من حفظة هذا الدين القائمين عليه المبلغين لهديه، الناشرين لأنواره. ولذلك تطوعوا بالتدريس وبالوعظ ونشر المعارف الإسلامية وخاصة القرآن والفقه لما ورد من حث على ذلك. قال عقبة بن عامر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا القرآن كتاب الله وتعاهدوه وتغنوا به، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتًا من المخاض في العقل" (3) . وحدث معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بعبد خيرًا فقهه في الدين" (4) .
__________
(1) محمد ابن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس، جامع الزيتونة: ص283 - 308.
(2) السراج، الحلل السندسية: 3/132 - 133
(3) أخرجه الدارمي في سننه: 2/439؛ النسائي في السنن الكبرى.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، ومسلم في كتاب الزكاة، وابن ماجه في باب فضل العلماء، والدارمي في كتاب العلم، باب الاقتداء بالعلماء.(7/1223)
ويشهد لوجود عدد كبير آخر من المدرسين بالجامع الأعظم جامع الزيتونة من غير الشيوخ النظاميين الشيخ محمد سعادة مؤرخ دولة حسين بن علي. فقد جعل عدد المتطوعين للتدريس والإقراء بجامع الزيتونة ثلاثة وثمانين. وقال بأن أميره قسم عليهم أحباسًا إعانة لهم وتشجيعًا. وهذا ما حمله على المقارنة بين الأزهر وما شاهده به وبين الزيتونة في قوله: يفوق هذا الجامع بذلك الجامع الأزهر (1) ، ويتمثل هؤلاء النقباء في أنواع وفئات من العلماء كانوا شموس معارف ودعاة هداة نضع في مقدمتهم شيوخ المالكية الذين تولوا الخطبة بجامع الزيتونة وتداولوا على منبره وأموا الناس به عهدًا طويلًا. وقد ظهر على التعاقب في هذه الفترة ثلة كريمة من بينها:
الشيخ أبو عبد الله محمد حمودة الريكلي الأندلسي التونسي قاضي تونس، المتميز علمًا وديانة وعدالة وصلاحًا. كان قليل الكلام رغم ما عرف به من كثرة المحاورة في العلم مع صحة العبارة وحسن التقرير والتثبت، وكان ثالث شيوخ المدرسة المرادية، تولى مشيختها بعد الفقيه الشيخ أبي عبد الله محمد الغماد، وبعد شيخه العلامة أبي عبد الله محمد زيتونة. وهو لعلو منزلته كان يحضر مجالس الباشا العلمية مع أعيان العلماء. ولم تكن تأخذه في الحق لومة لائم. انتدبه علي باشا، لرفيع منزلته وعلو درجته، إمامًا خطيبًا للجامع الأعظم بعد وفاة أبي الغيث البكري وإلى أن صلح لللإمامة ابنه الشيخ عثمان (2) . وذلك أن إمامة جامع الزيتونة كانت محصورة في أسر شريفة علمية معروفة لا يجرؤ أحد على تغيير قواعدها أو مخالفة نظامها. وللعلم فإن أسرة البكري هذه قد تداول أبناؤها إمامة جامع الزيتونة كابرًا عن كابر مدة 193 عامًا (3) .
وبإثر العلامة الإمام الشيخ محمد حمودة الريكلي المتوفى 1161 رجعت هذه الخطة السنية إلى بيت البكريين. فوليها الشيخ عثمان كما قدمنا فمن تبعه من أفراد أسرته، فالشيخ حسن بن عبد الكبير الشريف، فالشيخ محمد بن عبد الكبير الشريف (4) .
__________
(1) محمد سعادة، قرة العين: ص152.
(2) محمد السنوسي، المسامرات: 1/117، 253؛ ومخلوف، شجرة النور الزكية: 1/345، 1363.
(3) أول من تقلد إمامة وخطبة جامع الزيتونة من البيت البكري الشيخ تاج العارفين البكري الذي كان حيًّا 1037، وقد كان ذلك بعد وفاة أبي يحيى رصاع، وجاء عقبه من ذريته على التوالي الشيخ أبو بكر البكري فالشيخ أبو الغيث بن أبي بكر، وبعد تولي الشيخ علي بن حميدة الرصاع الإمامة والخطبة به، عادت هذه الوظيفة إلى البيت البكري فتقلدها الشيخ علي بن أبي بكر البكري، فالشيخ حمودة البكري فالشيخ أبو الغيث بن علي البكري، محمد السنوسي، المسامرات: 1/106 - 116؛ ومحمد ابن الخوجة، معالم التوحيد: ص64 - 66.
(4) محمد ابن الخوجة، معالم التوحيد: ص66 - 69.(7/1224)
والعلامة الفقيه الشيخ الإمام أبو محمد حسن بن عبد الكبير الشريف 1234. وهو أول من تولى إمام جامع الزيتونة من آل بيت الأشراف الموجودين لهذا الزمان (1) . وقد وصفه مخلوف في طبقاته بقوله: أحد شيوخ الإسلام قدوة الخاص والعام فارس المنبر والمحراب الجامع بين شرفي النسب والاكتساب 1234. أخذ عن أبيه بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الشيوخ الشحمي والغرياني وعبد الله السوسي وقاسم المحجوب وجماعة، وعنه الشيوخ إبراهيم الرياحي والبحري وابن ملوكه والخضار والعذار ومحمد السقاط وحسن الخيري وغيرهم. ومن بين الوظائف التي ارتقى إليها وتقلب فيها التدريس بجامع الزيتونة، والكتابة للأمير أبي محمد حمودة باشا ثم الإمامة والخطابة بجامع الزيتونة، وفي 1230 الفتيا وعنها كانت وفاته. وله من التحقيقات والمصنفات الدالة على مشاركاته العلمية وضلاعته: حاشيته على شرح مياره للامية الزقاق، وحاشيته على شرح ابن هشام على قطر الندى، وكتابته على شواهد المغني، واختصاره لحاشية البناني، وتعاليقه على شرح مياره على العاصمية، وكتابه معين المفتي، وخطبه المنبرية، ومجموعة صالحة من أشعاره تضمنها مجمع الدواوين لمحمد السنوسي (2) .
وممن بلغ المراتب المنيفة العلمية والمنازل الشريفة الاجتماعية في هذا العهد أولئك الشيوخ العلماء الذين كان الأمراء أو ملوك الدولة الحسينية يولونهم قضاة أو مفتيين أو يحلونهم رتبة الرئاسة فيهما كقاضي الجماعة ورئيس المفتيين وشيخ الإسلام ونحوها من الوظائف.
__________
(1) وقد وليه في الإمامة من أفراد هذه الأسرة المشايخ محمد بن عبد الكبير الشريف، محمود بن علي محسن، محمد بن محمد محسن، ومحمد الشريف، أحمد الشريف، محمد حمدة بن أحمد الشريف، محمود حسن، مصطفى محسن، عبد الكبير الشريف، أحمد الشريف. محمد ابن الخوجة، معالم التوحيد: ص67 فما بعدها.
(2) محمد السنوسي، المسامرات: 1/126، 266؛ ومخلوف، الشجرة: 1/367، 1464؛ وحسن حسني عبد الوهاب، كتاب العمر: 1/2، 245، 858 - 860.(7/1225)
وأول قاض حنفي تولى هذا المنصب هو الفقيه الشيخ أحمد الطرودي 1157 (1) . وأول من تولى قضاء المذهب المالكي في نفس الفترة الشيخ محمد سعادة كلاهما في مدة الباشا علي باي الأول (2) ، وكان هذا الاختيار مبنيًّا في الغالب على المقدرة العلمية والشهرة الفائقة بين المدرسين من أهل العلم والفضل، أو على تقدير الناس وتقديمهم لمن هو أكثر نفعًا وإفادة لهم وأعلى منزلة لديهم من حيث الحزم والورع والتقوى. وقد كان للسياسة دخل في التقريب والإقصاء كما لها مواقف مختلفة أملتها تصرفات القضاة والمفتيين. ولعل من أصدق مقالات العلماء في تصوير ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بينهم وبين الساسة هو ما ذكره محمد ابن الخوجة عن جده مجيبًا عن عتاب وجهه له الأمير لتأخره عن زيارته:
قل للأمير نصيحة
لا تركنن إلى فقيه
إن الفقيه إذا أتى
أبوابكم لا خير فيه
(3) .
ومن أبرز العلماء الأحناف الذين أسندت إليهم هذه الوظائف في عهد مؤسس الدولة الحسينية ومن بعده:
1- الفقيه المحدث الإمام الزغواني، وهو الشيخ يوسف بن محمد بن سليمان بن عبد الله برتقيز. كان جده عبد الله من أسرى البحر، ولقبه يدل على أصله ونسبته إلى البرتغال 1092 بزغوان - 1148 بتونس. قرأ ببلده على الشيخ أحمد الهرميلو الأندلسي، وبباجة على الشيخ حميدة المفتي، ثم رحل إلى الأزهر بمصر وذهب إلى الحج ولازم الحرم المكي. وبفضل هذه الرحلة لقي الإمام مسند الحجاز عبد الله بن سالم البصري المكي وروى عنه بإسناده. وقد انتخبه لفضله وعلمه حسين بن علي تركي لتربية أولاده، وتقلب في المناصب الشرعية كالإمامة ورئاسة الفتوى. له في شرح مختصر القدوري كتاب المنن، ونظم متن هداية الصبيان في العبادات، وكتاب تيجان العقيان في تجريد جامع مسانيد النعمان، وشرحه اليواقيت الحسان، وتلخيص التراجم الواردة في الطبقات الكبرى للشعراني، ورياض الفنون في شرح رسالة ابن زيدون الجدية، والمعالم في ألقاب ملوك العالم. ولقربه من حسين بن علي تركي وما ناله من حظوة لديه أمر علي باشا بن محمد بالقبض عليه وولده وبعد سجنهما أمر بقتلهما (4) .
__________
(1) الوزير السراج: 3/117؛ وحسين خوجه، ذيل البشائر: ص252 - 253؛ والعياضي، مفاتح النصر: ص179.
(2) محمد ابن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس: ص186، 187.
(3) محمد ابن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس: ص200.
(4) حسن حسني عبد الوهاب، كتاب العمر: 1، 2/921 - 923، 264.(7/1226)
2- الفقيه المفتي الحاج أبو عبد الله حسين بن إبراهيم بن محمد البارودي. أصله من إقليم مورة ببلاد اليونان. قدم أبوه إلى تونس مع الأجناد المرتزقة بيكي شارية 1112 بتونس - 1186. تفقه في المذهب الحنفي وتصدر للتدريس. امتحنه علي باشا بالسجن والنفي إلى زغوان لما اتهمه به من موالاته لعمه حسين بن علي. وحين عاد الأمر إلى محمد الرشيد وأخيه علي ابني مولاه حسين رجع إلى التدريس وتولى الإفتاء 1177. له مجموعة كبيرة من الرسائل في الفقه الحنفي والتفسير والحديث. من أهمها:
الرد على من قال بإبطال حكم القاضي بعد الإمضاء، رسالة فيمن قال لزوجه: أنت طالق يا زانية، أو أنت طالق إن شاء الله، رسالة في ثبوت أبوة زوج المرضعة، رسالة في نقل الأم الحاضنة محضونها، مسألة دعوى الجواري المشتريات بعيب انقطاع الحيض، حكم الكتابي والصابي والمجوسي، بيان حكم الزائغة إذا تشعب عنها زائغة أخرى وتفاريق صورها، تقويم الشجر المغروس في الأرض المغصوبة، القسطاس السوي في تحرير الصاع النبوي، والغيث المدرار في رهن المصوغ على تقدير الهلاك والانكسار، بيان طريق قبض الديون وشرح قولهم: الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها (1) .
3- الشيخ المحقق المفتي الأكبر محمد بن حسين بن أحمد بن محمد بن حسين بيرم الأول 1130 - 1214 بتونس. عميد الأسرة البيرمية. دخل جده مع الفتح العثماني لتونس 981. نشأ ودرس بها وأخذ عن كبار علمائها، وتفنن في علوم كثيرة شرعية ولسانية. وتصدر للتدريس بعد ذلك حتى فاق نظراءه. وقد تولى الخطابة والإمامة وأسندت له الفتوى نحو نصف قرن ثم أولاه علي باشا الحسيني رئاستها. له: بغية السائل اختصار أنفع الوسائل في تحرير المسائل للطرسوسي في الفقه، الرسالة البيرمية في السياسة الشرعية، تحرير رسالة في موضوعات الحديث، الحمامات المعدنية بالديار التونسية (2) .
4- الفقيه المدرس المفتي الشيخ محمد بن حسين البارودي 1216. أخذ عن والده وعن عدد من الشيوخ في عصره فتضلع من العلوم الشرعية. درس بالشماعية، وتولى رئاسة الفتوى الحنفية خلفًا للشيخ بيرم الأول 1214. وكان صهرًا للأمير حمودة باشا زوَّجه ابنته. ونال بذلك حظوة كبيرة في القصر. وهو من أصحاب التآليف. له رسالة في رؤية الهلال، ورسالة بعنوان فتح الرحمن في مسألة التنازع في الحيطان قرظها الشيخ محمد بيرم الثاني في ترجمة البارودي من كتابه التعريف بالمفتيين، وتقاييد وحواش على بعض ما درسه من كتب، وأختام مجالس الحديث، وديوان خطب منبرية هذب فيه خطب يحيى بن زكرياء الأنصاري (3) .
__________
(1) محمد بيرم الثاني، التعريف بالمفتيين: ص43؛ والسنوسي، مسامرات الظريف: 2/18؛ وحسن حسني عبد الوهاب، كتاب العمر: 1، 2/924 - 927، 265.
(2) ابن أبي الضياف، الإتحاف: 7/30؛ وحسن حسني عبد الوهاب، كتاب العمر: 1، 2/928، 929، 266.
(3) ابن أبي الضياف، الإتحاف: 3/40؛ والسنوسي، مسامرات الظريف: 2/33؛ وبيرم الثاني، التعريف بالمفتيين: ص63 - 66؛ وحسن حسني عبد الوهاب: 1، 2/930، 931، 267.(7/1227)
5- العلامة القاضي والمفتي أبو العباس الشيخ أحمد ابن الخوجة الأول المشهور بحميدة 1241. مؤسس البيت الخوجي. تخرج بالشيخ بيرم الثاني ونجم الدين بن سعيد. وتولى التدريس بمدارس تونس ومساجدها. فأقرأ بالشماعية شرح المحلي على جمع الجوامع في أصول الفقه، كما أسندت إليه الخطابة والإمامة. وهو أول من أحيا الأختام دراية بالجامع المرادي في رمضان. وتدرج في الخطط الشرعية فولي قضاء الجماعة ثم الإفتاء على المذهب الحنفي. ومن تحريراته شرح منظومة المحبي في الفقه (1) .
فإلى هؤلاء العلماء والأئمة وأمثالهم من فقهاء الحنفية بتونس من شيوخ المجلس الشرعي ومن المدرسين يرجع الفضل في نشر المذهب وتدريس كتبه واعتماده في الفتاوى والأحكام كما أن لهم الفضل فيما دبجوه من شروح وتحقيقات وحواش وتعليقات على الكتب والمصنفات المعتبرة التي تولوا تدريسها أو وقفوا بالمراجعة والمطالعة عليها، وما أنشأوه نظمًا ونثرًا من مختصرات أو حرروه من رسائل وفتاوى في القضايا المطروحة عليهم والنوازل الجارية بينهم.
وقد كان إلى جانب هؤلاء الأعلام قضاة ومفتون وأئمة بارزون من المالكية كان لهم من التقدير والإكبار والإجلال والاحترام من الخاص والعام ما قضى بتقديمهم على نظرائهم وإسناد أعلى الخطط الشرعية إليهم. وقد تضمنت الطبقة الرابعة والعشرون والخامسة والعشرون من شجرة النور الزكية في طبقات المالكية طائفة منهم في طليعتهم:
1- الفقيه الأديب اللغوي الإمام أبو عبد الله محمد سعادة قاضي الجماعة ومفتي تونس وعالمها ومؤرخها 1088 بالمنستير - 1171 بتونس. تفقه بجماعة منهم بتونس الشيوخ محمد زيتونة والحجيج والغماري وسعيد الشريف والمحجوز، وأخذ بمصر عن الأئمة محمد الزرقاني وإبراهيم الفيومي والطولوني ومنصور المنوفي. ورحل إلى الأستانة ولقي أشياخها، ثم عاد إلى بلده تونس وتصدر للتدريس. وممن أخذ عنه الشيخ علي الغراب. له: تنوير المسالك حاشية على الأشموني، ومنظومة في المناسك (2) .
2- الفقيه المفتي أبو عبد الله محمد الشحمي. توفي بعد 1990. عالم عصره وفقيه مصره المبرز في العلوم العقلية. أخذ عن الشيخ محمد زيتونة وغيره. وجرت بينه وبين الشيخ لطف الله العجمي شارح أسماء الله الحسنى مناظرة شهد مجلسها الأمير علي باشا الحسيني تكريمًا له واعترافًا بعلمه وفضله (3) .
__________
(1) ابن أبي الضياف، الإتحاف: 7/142 - 143؛ وابن الخوجة، معالم التوحيد: ص278، 341؛ وحسن حسني عبد الوهاب، كتاب العمر: 1، 2/933، 269.
(2) محمد النيفر، عنوان الأريب: 2/65؛ ومخلوف، شجرة النور: 1/346؛ 1370.
(3) مخلوف، شجرة النور: ص349، 1385.(7/1228)
3- الفقيه العلامة كبير المفتيين الشيخ أبو الفضل قاسم المحجوب من مساكن توفي 1190 بها. قرأ ببلده على الشيخ علي بن خليفة. ثم رحل إلى تونس. وأخذ عن محمد زيتونة وأمثاله. وتخرج به أبناؤه محمد وعمر والشيخ صالح الكواش ومحمد بن سعيد الحجري. تولى التدريس أيام علي باشا، وتدرج في الوظائف الشرعية: ولاه علي باشا الحسيني مفتيًا ثم رئيسًا للمفتيين (1) .
4- العلامة الصالح العارف بالله الشيخ أبو العباس أحمد الشريف الثعالبي المعروف بالبرانسي 1127. كان متبحرًا في المعقول والمنقول. درس بالجامع الأعظم وبغيره من مراكز العلم وكان من الشيوخ المعدودين (2) . وتصدر للفتوى وتولى رئاستها.
5- الإمام الفقيه قاضي الجماعة الشيخ عمر بن قاسم المحجوب 1222. أصيل مدينة مساكن، من بيت علم وشرف. أخذ عن والده الشيخ قاسم وعن الشيخ حمودة بن عبد العزيز والشيخ الغرياني، وعنه الشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ إسماعيل التميمي وغيرهما. تصدر للتدريس بالمدارس مثل مدرسة السواري أو مدرسة القائد مراد التي كانت له مشيختها. واتخذه حمودة باشا الحسيني كاتبًا، وكان من خاصة الوزير يوسف صاحب الطابع. له: التأييدات القدسية، وكناش مفيد، ورسالة استفراغ الخلط بين الشك في المانع والشك في الشرط. وله شعر تضمن جملة منه مجمع الدواوين للسنوسي (3) .
6- العلامة أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن حمودة التميمي. 1165 - 1248. الفقيه الأصولي النحوي. أخذ عن كبار شيوخ عصره بالجامع الأعظم أمثال الشيخ صالح الكواش والشيخ عمر المحجوب والشيخ الشحمي، وعنه الشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ البحري والشيخ صالح الغنوشي السوسي وشيخ الإسلام محمد بن أحمد ابن الخوجة وجماعة. تولى التدريس بجامع الزيتونة ثم القضاء في صفر 1221، والفتوى في ربيع الثاني 1231، ثم استقضي من جديد في رجب 1231، وعين رئيسًا لفتوى المالكية 1243. وقد امتحن بالعزل والنفي، فلزم بيته يدرس ويفتي. فعلا كعبه وظهر على الكائدين أمره. له جملة فتاوى ورسائل نذكر منها: رسالة في الحبس، ورسالة في الخلو عند المغاربة والمصريين، وأخرى في حكم طعام أهل الكتاب، ورسالة في ضريبة العشر الموظفة على بعض الحبوب، ورفع التحرية عن يمين التسوية، والمنح الإلهية، وبرنامج المقدمين للإمامة والخطابة بالجامع الأعظم، ورسالة في الأوقاف (4) .
__________
(1) مخلوف، شجرة النور: ص348، 1383.
(2) أحمد بن أبي الضياف، الإتحاف: 7/13، 1
(3) مخلوف، شجرة النور: 1، 366، 1459؛ وابن الخوجة. معالم التوحيد: 55، 275، 304؛ وحسن حسني عبد الوهاب. كتاب العمر: 1/1، 440، 109.
(4) ابن أبي الضياف، الإتحاف: 8، 11 - 14، 197؛ ومخلوف. شجرة النور: 1، 370، 1477؛ وحسن حسني عبد الوهاب. كتاب العمر: 1/2، 861 - 864، 246.(7/1229)
ومن الممكن أن نلحق بهذه الطائفة الموقرة والفئة المقدمة شيخ الجماعة رئيس المفتين بتونس وإمام جامعها الأعظم وخطيبه العلامة المحقق أبا إسحاق إبراهيم بن عبد القادر الرياحي الطرابلسي 1180 بتستور - 1277 بتونس. تلقى مبادىء العلوم بمسقط رأسه ثم انتقل إلى الحاضرة فأخذ عن المشائخ حمزة الجباس وصالح الكواش وحسن الشريف ومحمد المحجوب وأخيه عمر وأحمد بوخريص والطاهر بن مسعود ومحمد الفاسي وإسماعيل التميمي. ثم تنقل في البلاد مغربًا ومشرقًا. وحج مرتين وتلقى الإجازات عن أئمة عصره أمثال الشيخ محمد الطاهر المير السلاوي والشيخ عمر بن عبد الصادق الششتي والشيخ محمد عابد بن أحمد السندي، وأخذ عنه أبناؤه الطيب وعلي، والشيخ بن ملوكه والشيخ محمد النيفر وابناه الطاهر والطيب. أسندت إليه الفتوى 1248 بعد وفاة شيخه إسماعيل التميمي، ثم خطة الإمامة والخطابة بجامع الزيتونة 1255. وقد تقلد من الوظائف السياسية السفارة لحمودة باشا الحسيني 1218 إلى المغرب الأقصى، وأنابه مصطفى باشا للحج عنه، وأرسله المشير أحمد باشا الأول في مهمة للدولة العثمانية. له: ديوان شعر، ونظم للأجرومية، والنرجسة العنبرية في الصلاة على خير البرية، واختصار لقصة المولد، وديوان خطب، ورسالة قطع اللجاج في نازلة أولاد سليمان بن الحاج، وتعقيب على حكم الغبريني فيما وقع بين الشبيبي والبدر المغربي، والقول الحاوي في الجواب عن توقف الشيخ الشاوي في الفرق بين السبب والشرط، ورسالة في الإعذار، وحاشية على شرح القاضي زكرياء على الخزرجية في العروض ورسائل أخرى (1) .
ولم يكن شأن أكثر المدرسين الذين أفاد جماهير الطلاب منهم أدبًا وسلوكًا وعلمًا ودراية وفقهًا وبيانًا بأقل من زملائهم الذين التحقوا بالوظائف الشرعية وتقلبوا بين الخطابة والإمامة والقضاء والفتوى. ويكفي دليلاً على ذلك تلك الطائفة التي تقطعت دون الجلوس إليها الأعناق فكانت قبلة القصاد وبغية الرواد. ومن أبرز هؤلاء العلماء:
__________
(1) محمد السنوسي. المسامرات: 1، 139، 277. مخلوف. شجرة النور: 1، 386 - 389، 1555؛ وحسن حسني عبد الوهاب. كتاب العمر: 1/2، 869 - 874، 249.(7/1230)
1- شيخ الإسلام حافظ المغرب خاتمة العلماء الكبار أبو عبد الله محمد بن أحمد زيتونة. 1081 بالمنستير - 1138 بتونس. حفظ القرآن الكريم في صغره، وكف بصره. قصد أولًا القيروان وأخذ عن شيخها محمد عظوم والشيخ سلطان، ثم قدم مدينة تونس فأخذ عن الشيوخ محمد الغماد والجمل وأحمد الشريف الحفيد والمحجوز والحجيج ومحمد فتاتة وسعيد الشريف وعبد القادر الجبالي ومحمد الغماري. وفي طريقه إلى الحج توقف بالإسكندرية ومصر، وأجاز أبا العباس أحمد الصباغ، كما أخذ عن الشيخ محمد الزرقاني وأبي العباس أحمد المنوفي والشيخ سليمان الشبرخيتي. ولقي بمكة المكرمة مسند الحجاز عبد الله بن سالم البصري، وأخذ بالمدينة عن الشيخ الزلفي. وبعد استقراره بتونس درس بالمرادية التي تولى مشيختها بعد مناظرة شهدها الأمير وفاق فيها الشيخ زيتونة زميله الشيخ محمدًا الخضراوي. ودرس بالزيتونة وبجامع باب البحر الذي كان يتولى إمامته. وقد تخرج به من الفحول محمد سعادة وحمودة الريكلي والسويسي ومحمد عزوز. وكان محل استشارة الأمير حسين بن علي وموضع سره يعامله بأقصى الرعاية ويوليه جميل العناية: يخرج إليه عند قدومه ويأخذ بيده ويجلسه حذوه وينفرد به فلا يجلس معه أحدًا. وهو صاحب مصنفات شهيرة نذكر منها مطالع السعود وفتح الودود على تفسير شيخ الإسلام أبي السعود العمادي، ولمعان السراج في إبداء بعض لطائف المعراج، وحاشية على الوسطى في العقيدة، وشرح السلم في المنطق، وشرح على البيقونية، وشرح على خطبة المطول، وشرح على مختصر السعد، وكتاب على ألفية ابن مالك، وأختام على جملة من أحاديث صحيح مسلم (1) .
2- عالم إفريقية الإمام المتمكن الحجة أبو عبد الله محمد بن الشيخ محمد الخضراوي. 1087 - 1144. حفظ القرآن الكريم على والده، وجوده بالسبع على الشيخ إبراهيم الجمل، وأخذ العلوم عن جلة من الفقهاء والمحدثين منهم الشيخ سعيد الشريف والشيخ محمد الغماد والشيخ قاسم الغماري والشيخ سعيد المحجوز الذي روى عليه الكتب الستة، والشيخ محمد قويسم، والشيخ علي الصوفي والشيخ محمود مِهتار، وعنه جماعة. أولاه الأمير أمانة خزائن العلم، ودرس بالنخلة وبالحسينية الكبرى وبجامع الزيتونة. وقد اشتهر هذا الإمام بشرحه لكتاب التسهيل المنسوب لعلي باشا (2) .
__________
(1) مخلوف. شجرة النور: 1، 324، 1267؛ ومحمد النيفر. عنوان الأريب: 2، 9؛ وحسن حسني عبد الوهاب. كتاب العمر: 1/1، 185 - 188.
(2) الوزير السراج. الحلل السندسية: 3، 141 - 144؛ ومخلوف: 1، 325، 1269.(7/1231)
3- شيخ التربية والحقيقة العالم الصالح أبو عبد الله محمد بن علي الغرياني. أصله من غريان بطرابلس. 1195 بتونس. أخذ بجربة عن الشيخ إبراهيم الجمني ثم عن جملة من أعيان تونس مثل المشايخ محمد زيتونة وحمودة الريكلي ومنصور المنزلي. ثم قصد إلى الحج وأخذ عن أعلام بالمشرق منهم المشايخ محمد الحفناوي ومحمد البليدي ومحمد بن علي بن فضل الطبري وإدريس بن أحمد الصعدي ومفتي مكة المكرمة تاج الدين بن عبد المحسن بن سالم وأحمد العماري ومحمد بن عقيلة والدمنهوري. وله فهرست حافلة، وممن أخذ عنه ابنه أحمد ومحمد بن قاسم المحجوب وعلي البقلوطي الملّولي وأحمد بن محمد المنزلي وعلي البارع وعثمان بالمه ومحمد كمون وأحمد العصفوري. وكانت دروسه بجامع الزيتونة، وبالسليمانية التي بناها علي باشا. أقرأ المختصر والبخاري والشمائل والمواهب اللدنية والتفسير وكبرى السنوسي والأشموني. وكانت مجالسها مشهورة مشهودة، وأختامها رائعة مدونة أنشدت فيها القصائد والأشعار تمجيدًا للشيخ وتسجيلًا للمعارف والعلوم والآداب والأذواق. وقد كانت بينه وبين الشيخ مرتضى الزبيدي مراسلات وأجازه بما تضمنته فهرسته. ومن تآليفه المعروفة: شرحه على مقدمات السنوسي في التوحيد، وحاشيته على الخبيصي على متن التهذيب في المنطق، وفيض الخلاق في الصلاة على راكب البراق، وشروحه على مقدمة مختصر خليل، وتفسير البسملة، وتعليق على شمائل الترمذي، ورسالة في حكم الخنثى المشكل. وقد وضع بعض حفدته رسالة في مناقبه (1) .
وعدد آخر من العلماء الحفظة القراء أمثال أبي إسحاق إبراهيم الحميري وأبي العباس أحمد الوافي من التونسيين ومحمد بن مصطفى قاره طاباق من أبناء جند الترك 1292. وقد نشأ هذا الأخير في طلب العلم وبرع في القراءات والتجويد. ودرس بجامع الزيتونة ثم ولاه حسين بن علي تركي التدريس بالجامع المرادي. وانتفع به عدد كبير من الطلاب. له: تحفة البررة بقراءة الثلاثة المتممين للعشرة، والجواهر النضرة والرياض العطرة في متواتر القراءات العشرة (2) .
__________
(1) مخلوف. شجرة النور: 1، 349، 1387؛ وحسن حسني عبد الوهاب. كتاب العمر: 1/2، 840 - 842، 236.
(2) حسن حسني عبد الوهاب. كتاب العمر: 1/1، 189 - 190، 26.(7/1232)
وبرز في عامة العلوم سادة أئمة مثل:
1- العالم الفقيه الفرضي القدوة أبو عبد الله محمد بن حسن الدرناوي 1199. أخذ عن الشيخ الغرياني وغيره. له تعاليق على شرح الزرقاني على المختصر، وحاشية على الدرة (1) .
2- شيخ الشيوخ العلامة الفقيه صالح الكواش 1137 - 1218. أصله من الكاف، دخل جده تونس واشتغل بها فرانًا. وهو من أحد الناس ذكاءً وثقوب فكر. قرأ بالزيتونة ودرس بها. ومن شيوخه الغرياني وعبد الكبير الشريف والريكلي وقاسم المحجوب ومحمد المنصوري شارح مختصر خليل وعبد الله الغدامسي، وعنه شيوخ جلة منهم إسماعيل التميمي وإبراهيم الرياحي وأحمد زروق الكافي السنوسي وحسن الهدة. خشي بطش علي باشا به لميله إلى ابن عمه حسين بن علي فخرج هاربًا إلى طرابلس، ولقي هناك الشيخ التاودي فأخذ عنه الحديث وأجازه بما ثبتت عنده روايته كالكتب الستة والموطأ والشفاء وجامعي السيوطي: بعضها قراءة، وبعضها إجازة عن عدد من العلماء كالشيخ حمودة الريكلي عن أبي عبد الله الصفار عن الشيخ عبد الباقي الزرقاني عن النور الأجهوري بسنده، والشيخ المنصوري عن الهستوكي عن اليوسي. وامتدت رحلته فدخل الآستانة وظهر أمره بها كما دخل مدينة إزمير. ثم استقدمه محمد الرشيد فعاد إلى بلده. وحصلت له وحشة مع علي باشا الحسيني فنفاه إلى منزل تميم ثم عفا عنه وأسند إليه مشيخة المدرسة المنتصرية 1175. وله: شرح بديع على الصلاة المشيشية، وشرح لقصيدة الأمير محمد الرشيد غير القافية اسمه "التحفة السنية على نظم الفريدة الحسينية"، ورسالة في علم الكلام أجاب فيها عن ثلاثة أسئلة تقدم بها المختالي إلى علماء تونس، وكذلك رسالة أخرى نفيسة في المذاهب العقدية (2) .
وكذا الشيخ علي بن سلامة.
وإلى جانب المفسرين والمحدثين والفقهاء والأصوليين طائفة من اللغويين ومن الكتاب المؤرخين ومن الشعراء المبدعين.
__________
(1) مخلوف. شجرة النور: 1، 350، 1393.
(2) ابن أبي الضياف: 7، 44، 47؛ ومخلوف. شجرة النور: 1، 365، 1454؛ وحسن حسني عبد الوهاب. كتاب العمر: 1/2، 546 - 548، 144.(7/1233)
فمن علماء اللغة والأدب:
الإمام الألمعي أبو عبد الله محمد بن علي بن سعيد الحجري اللغوي النحوي المتفنن، الشاعر. 1199 بتونس. أخذ عن قاسم المحجوب وابنه محمد وعن الشيخ صالح الكواش. له من المصنفات حاشية على الأشموني في شرح الخلاصة، وحاشية على السكتاني في علم الكلام وأخرى على شرح الخبيصي، ورسالة في المنطق، وديوان شعر (1) .
ومثله اللغوي النحوي الشيخ أحمد السدوسي.
ومن الأدباء الحذاق والشعراء الكتاب الشيخ أبو العباس أحمد الأصرم القيرواني الأصل، الذي لزم خدمة الدولة الحسينية منذ نشأتها، وواكب ما جرى في أولها من أحداث، وذهب إلى الجزائر مصاحبًا ابني حسين بن علي ثم عاد مع محمد الرشيد وأخيه علي بعد انتصارهم على عدوهم، وأسندوا إليه رئاسة الكتابة. وهي وظيفة سامية في الدولة، وجعلوها في بنيه من بعده يتداولها خلفهم عن السلف إلى أن خف قطين تأهلهم وجف بها زرع اضطلاعهم (2) .
ومن أصحاب المواهب العالية والقدرة الفائقة في فني الأدب شعره ونثره الشيخ الجليل الفقيه الأصولي المقدم في فنون البلاغة نظرًا وعلمًا وإبداعًا ونظمًا محمد الشافعي بن محمد بن القاضي الباجي. درس بالزيتونة وتخرج بكبار علمائها. ففاق نظراءه وكان مواليًا للأمير حسين بن علي تركي وأبنائه. لم يقبل ما أسند إليه من الوظائف، وانقطع مبجلًا مكرمًا بجبل المنار فتفرغ للعبادة والكتابة. ومما أثر عنه "إبداء النكات شرح قصيدة محمد الرشيد المسمات بمحركات السواكن" وله شعر بديع (3) .
__________
(1) مخلوف. شجرة النور: 1/350، 1392.
(2) محمد النيفر. عنوان الأريب: 2، 30 - 32، وخطة رئيس ديوان الإنشاء وهي خطة باش كاتب في الدولة الحسينية وقد لقب صاحبها بعد ذلك بوزير القلم والاستشارة. وهي دون غيرها من الخطط لم تكن تسند لأحد من المماليك ولكن ينتخب لها رجل من أهل العلم ومن أبناء البيوت التونسية. فقد تولاها في عهد حسين بن علي الحاج بلحسن السهيلي، وفي أيام علي باشا الشيخ عبد اللطيف السهيلي والشيخ عبد الرحمن البقلوطي، وفي دولة محمد الرشيد الشيخ أحمد بن محمد الأصرم، ومن بعده في عهد علي بن حسين أعيد إليها الشيخ عبد الرحمن البقلوطي واستمر عليها قترة من عهد حمودة باشا الحسيني، ثم تعاقب عليها من الوزراء بعده الشيخ الحاج حمودة بن عبد العزيز فالشيخ محمد بن حسين الدرناوي فالشيخ محمد بن محمد الأصرم فالشيخ محمود الأصرم. محمد ابن الخوجة، صفحات من تاريخ تونس: ص121.
(3) محمد النيفر. عنوان الأريب: 2، 27 - 30.(7/1234)
ومن الأدباء المهرة والكتاب الحذاق أبو عبد الله محمد بن حسين الدرناوي الطرابلسي الأصل 1254. تخرج من الزيتونة وكان يملك عنان قلم الإنشاء. فولاه علي باشا الحسيني رئاسة الديوان بعد وفاة الشيخ أبي العباس الأصرم لكفائته ثم أقصي عنه مع احتفاظه بمهابته وتقدير الناس له وتنويههم بسلوكه وسيرته (1) .
1- وأما المؤرخون الكتاب والعلماء الأدباء فأبرزهم الوزير العالم الأديب أبو عبد الله محمد بن محمد السراج الأندلسي الأصل 1149. أخذ العلم عن الشيخ الغماد والحديث عن الشيخ الحجيّج، وجملة من الفنون عن الشيخ سعيد الشريف والشيخ فتاتة. وتصدر للتدريس في أماكن متعددة، منها جامع الزيتونة الأعظم. وكان القيم على مرتبات المدرسين به. وهو رجل عفيف ورع دين. له الحلل السندسية في الأخبار التونسية، أهم تأليف في تاريخ تونس للفترة الواقعة بين الفتح العثماني وقيام علي باشا ضد عمه حسين بن علي. وقد أتلف الباشا علي بن محمد الجزء الرابع من هذا الكتاب لما فيه من ذكر مساويه (2) .
2- وسبق لنا ذكر العلامة محمد سعادة من بين هؤلاء المؤرخين. فهو صاحب المصنف البديع في تاريخ بداية هذه الدولة المعروف بـ"قرة العين في فضائل الأمير حسين وابنه محمد الرشيد". وهذا كما يدل عليه عنوانه كتاب مناقب وأخبار كثيرة جمعها صاحبه لتكون سيرة لمليكه.
3- العلامة الأديب المؤرخ الكاتب الشاعر أبو محمد حمودة بن عبد العزيز 1202. أخذ عن والده وعن عدة من الشيوخ أمثال قاسم المحجوب والماكودي والغرياني والشحمي، وعنه الشيخ محمد بيرم الثاني وعمر ومحمد ابنا المحجوب. تولى رئاسة الكتابة، وسافر لحمل الصرة صحبة أبي الفلاح صالح زيد في عهد حمودة باشا الحسيني بوصفه قاضي الركب. وأرسله الأمير علي بن حسين سفيرًا عنه لدار الخلافة، وللجزائر، وتولى تعليم حمودة بن علي بن حسين. وشعره أبلغ من نثره، وله تحرير في بعض المسائل الكلامية، وشرح لموشح ابن سهل، وحاشية على الوسطى، ورسالة في القبلة. وأعظم كتبه التي اشتهر بها التاريخ الباشي في أيام علي باشا الحسيني (3) .
__________
(1) ابن أبي الضياف. الإتحاف: 7، 29، 36؛ ومحمد النيفر. عنوان الأريب: 2، 62 - 63.
(2) حسين خوجة. ذيل بشائر أهل الإيمان: ص180؛ ومخلوف. شجرة النور: 1، 326، 1272/2، 164.
(3) ابن أبي الضياف. الإتحاف: 7، 1622؛ ومخلوف. شجرة النور: 1، 364، 1450؛ ومحمد ابن الخوجة. معالم التوحيد: ص67؛ ومحمد ابن الخوجة. صفحات من تاريخ تونس: ص263.(7/1235)
4- العلامة المؤرخ والفقيه المتكلم أبو الثناء محمود مقديش الصفاقسي. 1338. أخذ ببلده عن اللومي والفراتي والمصمودي وأبي عصيدة. وقرأ المختصر على أحمد بن عبد الصادق الطرابلسي وعلى إبراهيم الجمني الحفيد، وتخرج بتونس بالشيخ الشحمي وقاسم المحجوب وعبد الله السوسي وأحمد بن ناصر الدرعي، وأخذ بمصر عن أحمد الدمنهوري وعلي الصعيدي. له حاشية على أبي السعود، وشرح على المرشد المعين، وشرح على القلصادي، وشرح على الوسطى، وتاريخ صفاقس وعلمائها (1) .
وإلى هذه الزمرة المتقدمة من العلماء والأدباء ينتسب عدد كبير من الشعراء سجلوا أحداث هذا العصر فكانت أشعارهم له صورة، وقصائدهم لمجتمعاتهم مرآة. في مقدمتهم:
1- أبو الحسن علي الغراب الصفاقسي. 1183. أخذ عن أبي الحسن اللومي وعن الشيخ محمد سعادة. كان فقيهًا عدلًا ذا حظ من علم الحساب والمنطق والبلاغة والتاريخ. وله قصائد رائجة في المشرق والمغرب، مدح العلامة أبا المحاسن يوسف الحفني المصري محشي الأشموني. وكان أثيرًا لدى علي باي. له مقامات كالعبائية والهندية. وله أشعار، وديوانه مطبوع (2) .
2- أبو عبد الله محمد بن أحمد الوزغي. 1190. الأديب اللغوي الكاتب الشاعر. أخذ عن الشيخ محمد سعادة بجامع الزيتونة، وبرز في علمي الكلام واللسان. انتظم في سلك كتاب الدولة. له مقامات جيدة كالمقامة الخمرية التي مدح بها علي باشا حين هدم الحانات الواقعة جوار جامع الزيتونة وبني مكانها مدرسة لسكنى الطلبة، وله أشعار رائعة مثيرة فيه وفي علي بن حسين بن علي من بعده. كتب نسخة من القاموس بخطه البديع تقع في مجلد واحد هي من محفوظات الخزانة العاشورية. وله ديوان مطبوع (3) .
3- الشيخ أبو محمد عبد اللطيف بن محمد الطوير المذحجي القيرواني. 1199. قاضي القيروان ومفتيها. أخذ ببلده عن علماء القيروان ثم دخل تونس فدرس بالجامع الأعظم ودرّس به. وكانت له مشاركة في كثير من العلوم وبخاصة الأدبية. وكان علي باي يستدنيه ويحضره مجلسه لمؤانسته. له رسائل انتصر فيها للشيخ البارودي على مناظره الشيخ لطف الله العجمي، وله ديوان مطبوع (4) .
__________
(1) ابن أبي الضياف. الإتحاف. 8، 24، 219؛ ومخلوف. شجرة النور: 1، 366، 1462؛ ومقدمة نزهة الأنظار: 63 - 25.
(2) محمد النيفر. عنوان الأريب: 2، 32 - 35؛ ومخلوف. شجرة النور: 1/348، 1382.
(3) محمد النيفر. عنوان الأريب: 2، 36 - 39؛ ومخلوف. شجرة النور: 1، 348، 1384؛ ومحمد الحبيب ابن الخوجة. ديوان الورغي.
(4) محمد النيفر. عنوان الأريب: 2، 41 - 43؛ ومخلوف. شجرة النور: 1، 350، 1394.(7/1236)
ففي هذا المحيط المضطرب من السياسات الذي كان يتنازع فيه على الظهور والغلبة والسلطة والحكم الأبناء مع الآباء، وبنو العمومة فيما بينهم مستنجدين في غالب الأحيان بالأجانب أو بالمرتزقة من الجند، ومعرضين ما يقيمونه من أنظمة ويتولونه من سلطان لما كان يهددهم من ثورات عنيفة وردود فعل ساحقة في داخل البلاد. فمن هجومات عسكرية غربية وحملات خارجية تنشر الرعب والدمار، إلى فتن تسبب تعاقبها فيما نكبت به البلاد والعباد من أوبئة ولحقهم من مسغبة وأفقد حياتهم الأمن والاستقرار وعاق المجتمع عن النهوض والتقدم. وفي ظل بعض الأمراء الذين كانوا رغم تلك الظروف والأحوال يعملون جاهدين من أجل التعمير والبناء وتحصين البلاد وتحقيق المنعة فكانت أوقافهم ومبراتهم سبيلًا للتخفيف على الناس ونشر السعة والرخاء بينهم، ومواقفهم الرشيدة وتطلعاتهم الشريفة سببًا في قيام حياة متميزة يتسابق إلى قيادتها المتنافسون من أولي العزم والحزم ورجال العلم والفكر، تكونت أسر علمية من أهل تونس ومن أبناء الجند التركي الوافد على البلاد فلمعت شخصيات فكرية حاولت قدر الطاقة خدمة البلاد ونشر المعرفة ووصل الثقافة المغربية المتوارثة عن الأزمنة الماضية المتقدمة والأدوار السابقة الراقية بما لقنوه من فقه وأقرأوه من كتب وبما تلقوه من أسانيد وإجازات وجمعوه من مصادر وأمهات وقرأوه من دواوين ومؤلفات على أئمة المشرق وشيوخه الذين التقوا بهم في مواسم الحج بالحرمين الشريفين فأقاموا عندهم ونزلوا بديارهم قبل الحج وبعده بمصر والإسكندرية يربطون الصلة العلمية بهم ويتعرفون إليهم ويجيزونهم بما عندهم من أسانيد وأثبات لم تكن تعرف في ديار المشرق.(7/1237)
الشيخ محمد بيرم الثاني
هو القاضي والمفتي شيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بن محمد بن حسين بن أحمد بن محمد بن حسين بيرم. الفقيه الحنفي التونسي. وهو أحد أفراد الأسرة العلمية المجيدة الموجودة إلى اليوم بتونس. وقد أسندت إليها رئاسة المفتيين الأحناف. وتولى هذا المنصب العلمي والشرعي الخطير منها مؤسسها شيخ الإسلام محمد بيرم الأول 1186، ومن بعده مترجمنا الشيخ محمد بيرم الثاني 1215، فابنه الشيخ محمد بيرم الثالث 1247، فالشيخ محمد بيرم الرابع 1259 وثلاثتهم على التعاقب دون انقطاع أو فصل. وآخر من أسندت إليهم مشيخة الإسلام من فقهاء البيت البيرمي الشيخ محمد الطيب بيرم 1357.
قدم جد والد الشيخ محمد بيرم الثاني وهو أحمد بن محمد بن حسين بيرم مع الجند الذي قاده سنان باشا إلى تونس لطرد الإسبان سنة 981، وأمه هي ابنة الشيخ حسن بن إبراهيم بن محمد البارودي من بيت البارودي إحدى بيوتات العلم والفضل بتونس، ويمتد نسبها إلى الكاتب الشاعر المؤرخ الحافظ أبي عبد الله محمد ابن الأبار القضاعي البلنسي.
ولد الشيخ بتونس في 16 ذي القعدة 1162، وتوفي بها في 16 جمادى الأولى 1247.
وبعد أن أتم حفظ القرآن الكريم توجه إلى طلب العلم. فأخذ القراءات والتجويد عن شيوخ جلة منهم: محمد قاره باطاق وإبراهيم الحميري وأحمد الوافي، وأخذ الحديث والفقه عن والده، وأخذ النحو عن الشيخ أحمد السوسي، أما بقية العلوم فتلقاها عن الشيوخ صالح الكواش وأحمد الشريف الثعالبي الشهير بالبرانسي ومحمد الدرناوي وعلي بن سلامة، كما أخذ عن الشيخ محمد الشحمي، وتخرج بالوزير الكاتب الشاعر الناثر الحاج حمودة بن عبد العزيز صاحب التاريخ الباشي.
وقد برع الشيخ محمد بيرم الثاني في الفقه الحنفي على طريقة المحققين من رد الفروع إلى أصولها حتى عد من مجتهدي المذهب وكان بالمغرب بمنزلة ابن عابدين في المشرق. وقد لقبه شيخ الإسلام محمد ابن الخوجة الأكبر بأبي يوسف الثاني.(7/1238)
درس بالمدرسة الباشية وبجامع الزيتونة الأعظم. وأخذ عنه كثير من طلبة العلم ورواد الفكر، وولي القضاء بتونس لستٍّ بقين من شهر ربيع الأول 1192 ثم استعفى منه في الرابع من رجب 1193، وعُيِّن ثانية فيه لأربع بقين من ربيع الثاني 1194، ثم استقال وولي الإشراف على الأشراف أي نقابة الأشراف بعد موت الشيخ عبد الكبير الشريف 1206، وارتقى بعد ذلك إلى رئاسة الفتوى بعد وفاة والده 1215.
وقد كان إلى جانب مقامه العلمي ومنزلته الفقهية أديبًا شاعرًا. له نظم في التوحيد.
وله مصنفات تاريخية وكتب تراجم هي تقييدات مفيدة ومعلومات لا غنى عنها لمن يهتم بتاريخ تونس والترجمة لأعلامها. منها:
عقد الدرر والمرجان في سلاطين آل عثمان. وهو قصيدة جمع فيها أسماء سلاطين آل عثمان من بداية ظهورهم 699 إلى السلطان سليم خان الثالث. وعلى هذه القصيدة ذيول أولها لابنه الشيخ محمد بيرم الثالث وهو من قسمين، والثاني للشيخ محمد بيرم الرابع، وذيل للشيخ محمد بن مصطفى بيرم صاحب صفوة الاعتبار دفين حلوان، وآخر بعنوان ملحق للقصيدة البيرمية نظمه الأديب التونسي الشيخ محمد التطاوني، وأخيرًا إتمام وإكمال من نظم محمد ابن الخوجة (1) .
التعريف بالولاة من طرف الدولة العثمانية بتونس. وهو نظم تضمن ذكر جميع البايات من تاريخ الفتح العثماني 981 إلى محمود باي. ولهذه القصيدة أيضًا ذيل صنعه الجنرال ابن الخوجة (2) .
التعريف بنسب الأسرة البيرمية:
التعريف بالمفتيين الحنفيين بتونس من الفتح العثماني إلى عهد المؤلف.
وللشيخ بيرم الثاني شروح وتعاليق على الرسائل والكتب والمباحث العلمية الفقهية والأصولية المتداولة بين فقهاء الحنفية مثل:
تعقيب على البحث الذي نقله الشرنبلالي في باب سجود التلاوة من شرحه الصغير عن العلامة الكمال بن الهمام.
شرح رسالة لطف الله الأزمرلي، "العجمي" في تحرير كلام الحنفية في باب صلاة الفوائت.
شرح شفاء الغليل في وقف العليل لابن نجيم.
حاشية على شرح قاسم بن قطلوبغا على مختصر المنار لابن حبيب الحلبي لكتاب الأنوار للنسفي.
__________
(1) محمد ابن الخوجة. صفحات من تاريخ تونس. وعقد الدر والمرجان: ص39 - 47.
(2) محمد ابن الخوجة. صفحات من تاريخ تونس. والنعوت والألقاب الملكية في البيت الحسيني: ص59 - 61.(7/1239)
وله رسائل كثيرة تكشف عن عمق نظره الفقهي واجتهاداته، وأكثرها تحريرات فقهية وفتاوى. من أهمها:
بذل المجهود في إبطال افتراض توجيه أصابع القدم للقبلة في السجود.
تحقيق الكلام فيما لإجارة متولي الوقف المنحصر استحقاقه فيه إذا مات أثناء المدة من الأحكام.
تحقيق المقال في حكم ما يعبر عنه في ديارنا بالمغارسة والاستنزال.
تحقيق المناط في عدم إعادة الساباط.
تلخيص الكلام في الحائط المنهدم إذا تنازع شركاؤه في بنائه.
حسن الحط على توهم الاحتجاج عندنا بالخط.
حسنة المنزع فيما يرجع به على المدفوع وما لا يرجع.
حسن النبا في جواز التحفظ من الوبا، وهو كما نبه عليه مخلوف رسالة في نقض ما ذهب إليه الشيخ أبو عبد الله محمد بن سليمان المناعي في رسالته تحفة الموقنين من منع إقامة المحجر الصحي.
رسالة في صحة الرجوع عن الوصية الملتزم فيها عدمه.
رسالة فيما يحدث من الطلاق المردف.
طلوع الصباح في المتحير على أجر الملاح.
قلائد اللآل في نظم حكم رؤية الهلال.
القول الأسد في حكم نصيب الميت من غير الولد.
نيل المنى من مسألة استحقاق المشتري بعد البنا.
نظم في عيوب الأضحية.
الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاء.(7/1240)
وقد رزق هذا الإمام محمدًا بيرم الثاني ولدًا صالحًا أسماه باسمه وباسم أبيه محمدًا. ولد له سنة 1201، ونشأ في بيته البيرمي تحوطه الرعاية والعناية. وتخرج بوالده وبالشيخ حسن الشريف. وكان ماهرًا في علوم البلاغة والمنطق، بارعًا في المعقول والمنقول. تصدر للتدريس بالمدرسة العنقية وبجامع الزيتونة. فَبَزَّ أقرانه. وولي الإفتاء في حياة والده ثم رئاسة المجلس الشرعي عند وفاته 1247. وكان إمامًا خطيبًا بجامع صاحب الطابع ونقيبًا للأشراف. له تحريرات فقهية وتعاليق على حاشية والده على شرح ابن قطلوبغا لمختصر المنار، وشرح الفواكه البدرية في أطراف القضايا الحكمية لابن غرس، وشرح على إيساغوجي في المنطق، وشرح نيل الأماني على مقدمة القسطلاني، ورسالة في كروية الأرض. ولم يعمر محمد بيرم الثالث إذ كانت وفاته 1250 (1) .
ومما أكرم الله به مترجمنا أن شهد ولادة حفيده محمد بيرم الرابع 1220 - 1278، وسعد بالمشاركة الفعلية في تربيته وتلقينه العلم وتخريجه كما أراد فحلًا في حلبة البيان بارعًا في التدريس والتأليف ومفتيًا. وقد أسندت لهذا الإمام الرابع مشيخة الإسلام إثر وفاة والده. وهو من ذوي الوجاهة والكمال، شغوف بالعلم مولع بالكتب بارع في الكتابة. تولى عن الأمير محمد باشا الإجابة عن الرسالة السلطانية الفاسية الموجهة إليه، وهو واضع ترتيب الديوان الشرعي، وله تراجم خطباء الحنفية، والجواهر السنية في شعر المتأخرين، ورسالة في شرح قواعد عهد الأمان، ومحررات فقهية في قضايا مهمة (2) .
وهكذا تداول أعلام هذه الأسرة على نسق عجيب:
تتابعوا كأنابيب القنا ولهم
مفاخر ومزايا تبلغ الشهبا
(3) .
__________
(1) محمد النيفر. عنوان الأريب: 2/87 - 90؛ وحسن حسني عبد الوهاب. كتاب العمر: 1/2، 940 - 941، 271.
(2) محمد النيفر. عنوان الأريب: 2/117 - 121.
(3) محمد النيفر. عنوان الأريب: 2/78 - 83؛ ومحمد البشير النيفر. ترجمة بيرم الثاني؛ ومحمد ابن الخوجة. صفحات من تاريخ تونس: ص39 - 47، 59 - 61؛ وحسن حسني عبد الوهاب: 1/2، 934 - 939، 270.(7/1241)
رسالة الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاء
تقدم لنا في ختام الحديث على الرسائل الفقهية من مؤلفات شيخ الإسلام المحقق العلامة محمد بيرم الثاني، ذكر هذه الرسالة الوفائية (1) التي نقدمها اليوم هدية للدورة السابعة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي بجدة. وهي الرسالة الموسومة بالوفاء بما يتعلق ببيع الوفاء.
وقد يكون حمل المؤلف على تحريرها والكتابة في مسائلها شدة الحاجة إليها في زمانه وبين فقهاء مصره وعصره، وحرص الخاصة منهم على معرفة قضاياها وموضوعاتها التي كانت من القرن الخامس موضع بحث ونظر، وبيان وشرح، وتقرير وفتوى، مع ما يتطلبه ذلك من إعمال لمختلف القواعد، وتخريج للفروع على الأصول، وإيجاد للمخارج الصحيحة المقبولة في المضايق التي تعترض الناس في معاملاتهم.
ومن المعلوم أن الفقهاء انقسموا بوجه عام إزاء بيع الوفاء فريقين كبيرين:
الأول: يقول بفساد هذا النوع من البيوع لمخالفة شرط الوفاء فيه مقتضى البيع وحكمه، كما أن في هذا الشرط منفعة للبائع، ولا دليل على جوازه، ولأن متعاطي هذه المعاملة لا يقصد في واقع الأمر البيع بشرط الوفاء وإنما يريد من وراء ذلك الوصول إلى الربا المحرم.
والثاني: يرى جواز هذا البيع ويقول بأنه مفيد لبعض أحكامه كانتفاع المشتري بالمبيع دون بيعه لآخر، وأن البيع بشرط الوفاء قد تعارفه الناس وتعاملوا به لحاجتهم إليه وتخلصًا به من الربا. وهو وإن خالف القواعد لكن هذه كما هو معلوم تترك بالتعامل كما في الاستصناع.
ونحن نجد بحث مسائل الوفا تفاريق في كتب الحنفية. قال ابن نجيم في البحر: واعلم أن بالقاهرة بيعًا يسمى بيع الأمانة كما ذكره الزيلعي، ويسمى أيضًا الرهن المعاد كما في الملتقط، وسماه الفقهاء بيع الوفاء، ويذكرونه في موضع من ثلاثة: فمنهم من ذكره في البيع الفاسد كالبزازي، ومنهم من ذكره عند خيار النقد كقاضيخان، ومنهم من ذكره في الإكراه كالزيلعي (2) .
__________
(1) صفحات من تاريخ تونس: ص33.
(2) ابن نجيم. البحر: ص6، 7.(7/1242)
وقد ورد الحديث عن هذا البيع مفصلًا ومقتضبًا مرة في آخر باب الصرف كما في درر الحكام شرح غرر الأحكام لحسن الشرنبلالي وفي الدر المختار في شرح تنوير الأبصار للحصكفي، ومرة في باب خيار الشرط من أول كتاب البيوع كما في البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم، وخصه صاحب القنية الإمام الزاهدي بباب قبل باب البيع الفاسد، وأورد مسائله البزازي في الباب الرابع في البيع الفاسد من كتابه الجامع الوجيز، وكذلك صنع ابن عابدين في رد المحتار، وعقد له صاحب الفصول العمادية الفصل التاسع عشر، وأفرده جامع الفصولين بفصل أيضًا هو الفصل الثامن عشر، كما عقد له الزاهدي فصلًا في البيوع من فتاواه.
وقد عاد المؤلف إلى جميع هذه المصادر والمراجع، ووقف على كثير غيرها من أمهات الكتب ناقلًا ومقارنًا، مناقشًا ومحررًا، معترضًا ومجيبًا، محققًا ومرجحًا، مبينًا ومفتيًا، فجاءت رسالته الوفائية رسالة علمية دقيقة على غرار ما كتبه العلماء المتقدمون من مباحث فقهية تعتمد في لغتها ومنهجها الجدل، وتكتسي طبيعة التقرير في عرضها حتى لكأنها أمالي دروس أو صورة مجالس، جمعت أكثر ما قيل في الموضوع على نحو فريد بديع، أعجب به معاصروه ونوه به زملاؤه وطلابه، فاتخذوه في عمله هذا أسوة لهم، واعتمدوا أقواله وأفهامه كما يشهد لذلك قول أحدهم في رسالة له في الوفاء أيضًا، تضمنت تسع مسائل: "صرح بذلك شيخ مشائخنا العلامة الفريد في نقله وفهمه شيخ الإسلام سيدي محمد بيرم الثاني قدس الله قبره وضاعف يوم الجزاء أجره في رسالته الوفائية" (1) .
__________
(1) انظر المسألة الأولى من مسائل بيع الوفاء الجاري بها العمل في تونس للفقيه محمد البارودي.(7/1243)
تحليل الرسالة
اقتصر المؤلف في خطبتها على الإشارة إلى بعض ما اعتمده من أمهات الكتب والمصادر الفقهية في المذهب الحنفي، في بحث موضوع الوفاء والتعريف بالآراء المختلفة بشأنه، وتقديم ما يراه معتبرًا من الأحكام في مختلف الفروع المتصلة بهذا النوع من المعاملات. وتلك المصادر التي وصفها بثبوت الاصطفاء لها بين فقهاء الحنفية أربعة: هي الخانية والعمادية وجامع الفصولين والبزازية.
ثم تولى بيان محتوى الرسالة منبهًا فيه على ما اشتملت عليه المقدمة والفصول العشرة والخاتمة من مسائل ونقول وأحكام وفتاوى: 1 -2.
ففي المقدمة تناول أولًا غرضين:
أحدهما: بيان الاسم المطلق على هذا البيع في اصطلاح أكثر الفقهاء وبمختلف الأمصار. فهو بيع الوفاء، والبيع الجائز. وبيع المعاملة، وبيع الأمانة، والرهن، والبيع البات.
ثانيهما: تحديد المصطلح وبيان مسماه وحقيقته. فهو عقد وضع للتوثيق للدين والانتفاع بالعين.
وبإثر هذا التعريف يشير المؤلف إلى أن هذه المعاملة مستحدثة، لم تكن موجودة في صدر الإسلام لوجود ما يغني عنها من القرض الحسن. ولما تغيرت الطباع، وأحضرت الأنفس الشح أحدث بيع الوفاء "تحيلًا لتحصيل الأرباح بطريق مباح ". وكان أول ظهوره بسمرقند. ومن أجل ذلك كثر الحديث فيه بين فقهائهم واختلفوا بين قابل له وغير قابل. وفي هذا كلام نفيس لأئمتهم من أهل الترجيح مثل النسفي والصدر الشهيد والمرغيناني وأولاده: 2 - 3.
وتأتي فصول الرسالة متوالية بعد ذلك مشتملة على فروع مختلفة تتصل بما يعرض للناس بسبب حاجاتهم أو تصرفهم في معاملاتهم، فتبين أحكام تلك الفروع وتذكر الفتاوى في المسائل المطروحة معتمدة في كل هذا النقول المحررة، ومركزة نتائج البحث على إعمال النظر والمناقشة والترجيح. وجملة هذه الفصول عشرة: 3.(7/1244)
الفصل الأول - في بيان ما يرجع إليه الوفاء من العقود:
وهو من أهم الفصول لبحثه في طبيعة هذا العقد. وقد ذكر الشيخ بيرم أن البزازي في جامعه جعل جملة الآراء في ذلك تسعة. وهي في نظره قابلة للاختصار وردها إلى خمسة أقوال، لأنها عند التحرير لا تعدو أن تكون رهنًا، أو بيعًا جائزًا لازمًا، أو بيعًا جائزًا غير لازم، أو بيعًا فاسدًا، أو عقدًا مركبًا. وقد فصل القول في جملة تلك العقود عقدًا عقدًا مع نسبة الأقوال لأصحابها: 3.
1- فاعتبار بيع الوفاء رهنًا هو ما درج عليه الإمام أبو شجاع وابنه والسغدي والماتريدي والقاضي والأمير. ودليلهم أن العبرة في العقود بمعانيها لا بمبانيها. فهو رهن حكمًا وإن كان بيعًا اسمًا. وقد أوردوا تنظيرًا لذلك: وقالوا الكفالة بشرط براءة الأصل حوالة، والحوالة بشرط عدم براءته كفالة.
ونقل المؤلف ما اعترض به على هذا الرأي من أن الانتفاع بهذا البيع مقصود كما أن الاستيثاق به مقصود، وأجاب بأن الرهن لا تبطله الشروط الفاسدة، منبهًا إلى أن العقد في صورة الحال عنوان له ببيع لا برهن.
وأردف ذلك بنقول من فتاوى صاحب التنوير ومن جواهر الفتاوى تقتضي تصحيح القول بأنه رهن محض، وأن للقاضي الحنفي أن يحكم بكونه رهنًا بعد الدعوى الشرعية: 3 - 4.
2- واعتباره بيعًا جائزًا لازمًا لا يختلف في شيء من أحكامه عن البيع البات هو ما ذهب إليه الإمام النسفي، ونقل اتفاق شيوخه عليه بشرط أن يكون هذا البيع خاليًا عند العقد من ذكر شرط الفسخ. ومعروف أن القاعدة عند فقهائنا تنص على أن العبرة في الشرط المفسد بقرانه للعقد ذكرًا باللسان دون تقدمه ذكرًا عليه، ولا قرانه به مضمرًا في الجنان.
وقد أعقب هذا البيان بنقل عن العمادية، ينظر حكم صحة عقد هذا البيع بصحة نكاح من تزوج امرأة على نية تطليقها إثر الوطء، فنكاحه صحيح نظرًا لصيغة العقد وليس نكاح متعة باعتبار قصده، لأن العبرة في مثل هذا بالملفوظ دون المقصود.
ثم ختم بيان هذا الوجه بذكر فتوى النسفي الضابطة لصورة هذا العقد والمبينة لحكمه: 4 - 5.
3- واعتباره بيعًا جائزًا غير لازم لخلوه عن المفسد أولًا، وللوفاء بالوعد ثانيًا. وصورته أن يعقد البيع بلا شرط ثم يذكر الشرط على وجه المواعدة. صرح بذلك قاضيخان وبنى عليه أنه يحل للمشتري الانتفاع بالمبيع لجوازه بإذن المالك، وأنه يفسخ بطلب أحد المتعاقدين. وقد أتى المؤلف بتحرير لصيغة المواعدة وتعليل لوصفه بالجواز، وبعدم اللزوم.
ثم أورد مناقشة الحاوي لكلام قاضيخان في ما ذهب إليه، والخلاف بين الزاهدي في اعتباره البيع باتًّا إذا كان بثمن المثل أو بغبن يسير، واعتبار قاضيخان له بيعًا غير لازم في هذه الصورة: 5 - 6.(7/1245)
4- واعتبار الوفاء بيعًا فاسدًا في صورة ما إذا عبر المتعاقدان بالبيع، وشرطا فسخه في العقد، أو عبرا بالبيع بشرط الوفاء، أو أطلقا البيع. وهذا القول يعبر عن رأي صاحب العدة ورأي ظهير الدين المرغيناني. وهذا بيع جائز غير لازم عند الإمامين، أعطاه القائلون بفساده أحكام البيع الفاسد كلها، وألحقه الصدران السعيد والشهيد ببيع المكره، وتبعهم في ذلك الزيلعي.
وختم بيانه هذا بنقل كلام العمادي: "بأن الفتوى فيما يترتب على هذا العقد على القول بالفساد مع عدم فواته، وبأن زوائد المبيع على القول بالفساد مضمونة على المشتري ضمان زوائد المغصوب بالاستهلاك لا بالهلاك: 6 - 7".
5- واعتبار بيع الوفاء عقدًا مركبًا من رهن بالنظر للبائع فلا يملك المشتري تحويل يده وملكه إلى غيره ويجبر على الرد إذا حضر الدين، ومن بيع صحيح في حق المشتري حتى يملك هذا النزل والمنافع كالسكنى والزراعة والإيجار. وهو مذهب شيوخ النسفي، ويعرف عند الفقهاء بالقول الجامع. وبه قال برهان الدين المرغيناني، وعليه استقر قول الأئمة والفقهاء في عصره.
وينوه الشيخ بيرم في هذا المقام بعلو درجة صاحب الهداية في العلم مقارنًا له بالقدروي وأضرابه من أئمة الترجيح، اعتمادًا على شهادة ابن كمال باشا له.
ثم يعود المصنف إلى ذكر الأسباب الحاملة على اختيار هذا الوجه لبيع الوفاء معللًا الاختيار بحاجة الناس إلى هذا البيع، وتعاملهم به، ومذكرًا بأن القواعد تترك بالتعامل كما في الاستصناع، وأن ما ضاق على الناس اتسع، وأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة، ولتأييد وجهة النظر هذه ينقل كلام صاحبي النهاية والأشباه.
وفي الرد على من ينكر احتمال التركيب ينظر بيع الوفاء على هذا التأويل بالهبة التي تتقلب بشرط العوض بيعًا، وتصير في حال المرض وصية: 7 - 8.
وبعد إيراد الآراء الخمسة حول طبيعة عقد بيع الوفاء، وقبل الفراغ من هذا الفصل يتعرض شيخ الإسلام لجملة من المسائل المرتبطة بهذا الموضوع. فيقارن أولًا بين حاجة الناس في القرن الخامس إلى هذا النوع من البيوع وحاجتهم إليه الآن. وهو ما قضى باشتغال الفقهاء به، وانكبابهم على درس صوره والفتوى فيه.(7/1246)
وينكر ثانيًا الخلط بين المذاهب بتطبيق الأحكام المخالفة لما جرى عليه المذهب المعتمد في أصل المسألة، ويبين أن العمل بتونس في بيع الوفاء على المفتى به من كلام المتأخرين من الحنفية في عصره.
ويقرر ثالثًا أن القائلين بالتركيب جعلوه من الرهن ومن البيع الصحيح، ومنهم من جعله من أنواع ثلاثة هي الرهن والبيع الصحيح والبيع الفاسد. وينقل في هذا المحل كلام البزازي معقبًا على القول بتركيبه الثلاثي بأنه لا يعتد به ولا يوافق عليه.
وينتهي من ذلك إلى تأكيد أن الوفاء لا يصلح طريقًا للتحيل إلا على القول الثالث الذي يجعله بيعًا جائزًا غير لازم، أو على القول الخامس الذي يعتبره مركبًا من الرهن ومن البيع الجائز الصحيح.
ويصرح بأن تسلمات أهل تونس جارية على هذين القولين في القضاء والفتوى، وبعد المقارنة بينهما يختار الخامس ويرجحه على الثالث.
وفي ختام الفصل يتحدث عن بيع الثنيا أو التطوع بالثنيا المتعارف بين مواطنيه فيعرف به وبصوره الأربعة، ويطبق عليها القواعد المتقدمة مع بيان الأحكام في جميعها: 8 - 11.(7/1247)
الفصل الثاني - فيما يصح عقد الوفاء فيه وما لا يصح:
يبدأ هذا الفصل بذكر الاتفاق على صحة عقد بيع الوفاء في عقار البالغ العاقل. ويذكر إثره الخلاف في صحة عقده في عقار الصبي والمجنون، منبهًا إلى منع العلامة علاء الدين وأئمة سمرقند ذلك لما فيه من تمليك الولي منافع عقار المولى عليه للمشتري بلا عوض، وحاكيًا إجازة صاحب العدة لبيع الوفاء في عقار الصبي والمجنون عند اضطرار المولى عليه إلى ثمنه. هو القول المعتمد والمفتى به في تونس.
وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى الحديث عن حكم بيع الوفاء في المنقول، فيحكي منعه عن العدة، وجوازه عن النوازل، مبينًا في هذا المجال دليل القولين. ومخصصًا منع بيع المنقول وفاء بما لا ينتفع به إلا باستهلاك عينه: 11 - 12.
وفي شكل اعتراض على هذا الحكم يتحدث عن النصبة المعروفة عند الفقهاء بالسكنى فيجيز بيع الوفاء فيها قياسًا بشرط أن لا يدخل فيها على شرط القرار، ولكنه ينبه هنا على أن القرار مدخول عليه فيها عرفًا، فيترتب على ذلك عدم صحة الوفاء فيها، كما لا يصح فيها البيع البات والرهن والهبة والوقف. ويحمل على حكم النصبة عند الأحناف حكم الخلو والمفتاح: 12.(7/1248)
الفصل الثالث - ما يمتنع على المشتري من فعل في مبيعه وما يجوز:
وهذا الفصل من أطول الفصول وأكثرها مسائل. وهو يشتمل على قسمين ظاهرين من العنوان، وعلى مباحث وملحقات فيها تفاصيل وأحكام.
فالقسم الأول ينقل فيه كلام البزازي وهو ما لا يجوز للمشتري وفاء أن يتصرف به في المبيع وذلك نقل ملكه لآخر ببيع بات أو هبة، ونقل اليد ببيع وقائي ثان، وأضاف المؤلف: أو نقل اليد برهن محض أو إعارة.
وبناء على ذلك لا يصح تولية المشتري وفاء شراءه غيره إذا لم يكن بإذن البائع. وتكون يد المتولي على المبيع غير محقة، 9 وللبائع أن ينتزع منه المبيع ولو بغيبة المشتري الأول. وعلق الشيخ على ذلك بأن في نزع المبيع من اليد الغير المحقة إشكالًا قائمًا وهو تعذر المنازعة لأن ذا اليد لا يدعي ملكًا فلا يكون طرفًا في الخصومة.
ونقل عن صاحب الفصول أن حكم وارث كل واحد من البائع والمرتهنين اللذين هما المشتري الأول والمشتري الثاني حكم مورثه وهو ما قضى به الأمير.
وفي آخر هذا القسم تعرض لجملة مسائل منها:
- التساؤل عن ثبوت حق المتولي في مطالبة البائع بالمال الذي قبضه من المشتري الأول باعتبار كونه يتنزل منزلته أو لأنه غريم وغريم الغريم غريم، وبعد الإجابة عن الوصفين وما يترتب عليهما من آثار حكمية متوهمة ينفي أن يكون هناك دين مستحق لأن مال الوفاء لا يصير دينًا في ذمة البائع إلا بعد فسخ الوفاء
- ومنها عدم صحة الكفالة بمال الوفاء منجزة وإنما تكون مضافة إلى وقت الفسخ.
- وأنه لا يصح التفاسخ بين المشتري الثاني والبائع الأول إذ لا عقد بينهما.
- ولو دفع البائع للمشتري الثاني مال وفائه عن المشتري الأول كان متطوعًا، ولا يرجع به على الأول لانتفاء سببي الرجوع اللذين هما الأمر أو الضرورة: 12 - 15.
والقسم الثاني: وهو ما يجوز للمشتري القيام به من التصرفات في المبيع الوفائي، يتضمن ثلاثة مباحث هي الزراعة والإجارة والانتفاع بالثمرة.(7/1249)
المبحث الأول: في زراعة المشتري وفاء الأرض التي عقد الوفاء عليها وفيه مسألتان:
الأولى: تتعلق بفسخ العقد وفي الأرض زرع لمشتري الوفاء.
والثانية: فسخ العقد قبل الزراعة وقد كرب المشتري الأرض.
وفي بحث المسألتين ناقش المؤلف رأي البزازي، ونقل واقعة الفتوى عن العمادي، محررًا موقفه من كلاميهما.
وقد فصل القول في الأولى بأن الزرع يقلع إن كان الفسخ بطلب المشتري، ويبقى الزرع في الأرض بأجر المثل إن كان طلب الفسخ من البائع. وبعد توجيه الحكم وتعليله في هذه المسألة ذكر أن من الفقهاء من يرى الإبقاء بأجر المثل إلى الإدراك مطلقًا، منظرًا صورة طلب المشتري الفسخ هنا بمسألة المزارعة التي أخر فيها الزارع الزراعة إلى آخر السنة، وحكموا فيها بإبقاء الزرع بأجر المثل.
وفي المسألة الثانية وهي إذا تفاسخا بعد كرب المشتري الأرض وقبل الزرع هل يجب على البائع قِبَل المشتري أجر كرابه قياسًا على مسألة المزارعة، أم أن عمل المشتري من غير عقد ولا دلالة حال يعتبر من المنافع وهي لا تقوم ولا تضمن فلا يجب على البائع شيء، أم أنه يجب الإحسان تطييبًا لخاطر المشتري في هذه الصورة 15 - 17.
المبحث الثاني: في إجارة المشتري المبيع وفاء إما إلى غير البائع أو للبائع. ففي الصورة الأولى الأجرة للمشتري لكونه العاقد، وفي حلها له على القول بالتركيب وجه. وهنا يتعرض الشيخ بيرم إلى جملة مسائل منها:
- التفاسخ فيما هو مستأجر قبل نهاية مدة الإجارة تنفسخ به الإجارة أم لا.
- تفصيل القول في ذلك، ونقل كلام صاحب الفصول فيه، وجعل مدار الحكم بانفساخ الإجارة عند طلب المشتري الفسخ للعذر، وعند طلب البائع الفسخ لجهالة المدة.
- أن الفسخ لعقد الوفاء من المشتري الذي لا دين عليه، أو من البائع مع معرفة مدة الإجارة، لا يقضي بدفع البائع مال الوفاء قبل انقضاء مدة الإجارة وتمكنه من قبض المبيع. فإن دفع قبل نهاية المدة وأراد الاسترداد وكان عالمًا بمدة الإجارة لم يكن له الرجوع، ومع الجهل بها يثبت له هذا الحق. وينبه الشيخ بيرم هنا على أن قوله هذا استظهار منه يحمل على التأمل.
- التساؤل عن أجرة المدة المستحقة من وقت فسخ الوفاء إلى آخر وقت الإجارة لمن تكون؟ جعلها من حق المشتري لأنه هو العاقد لهذه الإجارة. ثم أورد اعتراضًا على هذا الحكم، منشؤه كلام صاحب الفصول، الذي يجعل الأجرة قبل الفسخ للمشتري وبعده للبائع. فيبين اختلاف الصورتين في الحكم لأن قوله منصب على المسألة والإجارة لأجنبي، وما نقله المعترض عن صاحب الفصول وارد على الإجارة حال كونها للبائع على فرض صحتها.(7/1250)
وفي الصورة الثانية وهي إجارة المشتري المبيع للبائع يقرر أولًا: أنها لا تصح إلا على وجه واحد من وجوه تأويل عقد الوفاء الخمسة، وذلك على اعتباره بيعًا صحيحًا باتًّا. ثم يبين أسباب عدم جواز الإجارة للبائع على الأوجه الأربعة الباقية مفصلاً ومقررًا وموردًا ما اعترض به على هذا البيان ومجيبًا عنه ثم ينتهي من ذلك كله إلى أنه:
- لا يجوز بيع المبيع وفاء بيع وفاء ولا رهنه ولا إيداعه.
- وأن للبائع أن يحسب ما دفعه للمشتري من أجر كراء ملكه من مال الوفاء.
ثم يتخلص إلى ذكر أن الحيلة في تصحيح الإجارة للبائع أو لصاحب الملك تكون بتوسط أجنبي بين المشتري والبائع في الإجارة، وينظر ذلك بالإجارة المرسومة بسمرقند. ويذكر استحسان فقهاء الحنفية لذلك مشيرًا إلى كلام الهندية.
ويتعرض إثر ذلك إلى دعوى البائع أن الإجارة للأجنبي تلجئة، وأنها غير مسموعة معللًا الحكم، وبأن من لا يلزمه شيء مع الإقرار لا تتوجه إليه يمين مع الإنكار، وأن التلجئة والهزل لا يفيدان العقد سوى وجود لفظي وهو معدوم شرعًا فكذا حسًّا.
التفريق بين بيع الرغبة وبيع التلجئة وحمل صورتي إجارة الرغبة وإجارة التلجئة عليهما، مع بيان ما ينبني عليهما من أحكام.
ويختم المبحث الثاني بنقل كلام البزازي في التحيل على إسقاط الشفعة: 17 - 26.(7/1251)
مبحث الانتفاع بثمرة المبيع وفاء:
وهنا لا يخلو الأمر من كون هذه الثمرة موجودة على رؤوس الشجر عند البيع ومسكوتًا عنها عند التعاقد، أو موجودة مشروطة للمشتري في العقد، أو حدثت بعد العقد.
ففي الحالة الأولى تكون للبائع، وفي الثانية للمشتري. وتكون مضمونة عليه عند الفسخ بجميع قيمتها بالغة ما بلغت. وذلك عند من يعتبر الوفاء بيعًا فاسدًا، وبحصتها من ثمن الوفاء عند من يراه صحيحًا، ونقل كلام الفصول في ذلك وتعليله الفساد، وفي الثالثة إذا حدثت بعد البيع تكون للمشتري مجانًا لأنها نزل مبيعه الوفائي.
وبعد تحقيق ذلك وتفصيله وإقامة الأدلة عليه، وبيان أن العقد في هذه الصور الثلاث وإن كان واحدًا في الظاهر لكنه متعدد مركب في الباطن من عقد على الشجر وهو محل بيع الوفاء، وعقد على الثمر وهو محل بيع الثمر، وهو بيع بات، يتعرض المؤلف لجملة مسائل ترتبط بالموضوع، منها:
- تجاذب الوفاء الرهن والبيع، واعتبار عقده لذلك من باب بيع الصفقة في الصفقة المفسدة أم لا.
- معنى كون الثمرة مضمونة بحصتها من الثمن، وظهور ذلك بالتقويم وضبطه النسبة، وتسقط من ثمن الوفاء لأن ما قابلها بيع بات، ولا تسقط حصة الشجر لأنها موضع الوفاء.
- اعتراضات وأجوبة.
- حكم الزرع القائم في الأرض عند عقد الوفاء حكم الثمر.
- طلب المشتري الفسخ ليأخذ الثمن بعد أخذه الغلة الحادثة.
وأتى بعد ذلك بمسألتين رتب عليها صورًا ثلاثًا من هذه المعاملة مبينًا حكمها ومفصلًا ما دار حولها من نقاش بين الفقهاء:
1- هل يجاب المشتري لطلبه الفسخ بعد أخذه الغلة مطلقًا أم مقيدًا بمضي سنة من وقت العقد، أو بشرطه على البائع عند العقد أنه متى رفع الغلة فسخ العقد وطالبه بالثمن. نقل كلام العمادي وخُواهَر زاده في ذلك وبيانه.
2- لمن تكون الغلة إذا وقع التفاسخ قبل أخذها؟ هل تكون كلها له أو للبائع أو تسقط بينهما؟ وهل في التقسيط فرق بين أن تكون الثمرة موجودة عند الفسخ؟ - وأورد في هذا كلامًا للبزازي نقلًا عن الديناري - أو حادثة بعده؟(7/1252)
1- صورة كون طلب الفسخ من المشتري قبل رفعه الغلة، وأشار هنا إلى كلام الفصول.
2- صورة كون الطلب من البائع بعد رفعه الغلة، وعلى المشتري مساعدة البائع على الفسخ بعد أخذه الغلة ورضا البائع بتعجيل الثمن قبل انتهاء السنة.
3- صورة كون الطلب من البائع قبل رفع المشتري للغلة وتفسير القول فيها نقلًا عن البزازية فيما روته من كلام الديناري باعتبار كون الطلب من البائع واقعًا قبل مضي شهر من وقت العقد أو بعده.
4- إيراد اعتراض بأن هذه التقييدات في الإجابة لطلب الفسخ تتنافى مع إطلاق صاحب الفصول القول في ذلك، والجواب عن هذا بكون ما ههنا في مسألة الغلة، وما ورد في الفصول في مسألة الإجارة.
وعند الحديث عن الغلة وتقسيطها بين البائع والمشتري إذا تفاسخا برضاهما يذكر أن الغلة تقسم على اثني عشر جزءًا مقابل أشهر السنة.
ومبدأ السنة الموزعة عليها الغلة هو وقت عقد الوفاء. وما وازى الأشهر التي كان الوفاء قائمًا فيها بينهما يكون للمشتري، وما وازى فترة ما بعد الفسخ إلى آخر السنة يكون للبائع.
وأن المقسوم على السنة قيمة الغلة لا عينها. ونقل كلام الفصول بخصوص البائع فليرجع إليه. وأن البائع يضمن للمشتري قدر حصته من قيمة الغلة دراهم.
تنظير هذا التفسير بوضوء المستحاضة وقت كل صلاة.
وقد حرر المؤلف الخلاف في جريان التوزيع في الغلة المعدومة وقت الفسخ، وحكى رأي علاء الدين السمرقندي وبرهان الدين المرغيناني ناقلًا فيه كلام البزازي، ومرجحًا قول صاحب الهداية أن العقد يعتبر باقيًا إلى حين أن تصير للغلة قيمة.
وقد أعقب ما ذكره هنا بتفصيلات وأحكام، في هذه الموضوعات. وأورد مسألة ما يقطع من حطب الشجر، ومنه قوائم الخلاف، بأنه لا يدخل في الوفاء بلا ذكر إن كان موجودًا وقت البيع بخلاف ما يحدث بعد البيع فهو للمشتري.
وذكر عدة مسائل أخرى منها:
- مسألة حطب الزيتون، وأن الشجرة الميتة تكون للبائع.
- وأن القص مع كونه للبائع فإن للمشتري حبسه عنه حتى يدفع مال الوفاء، وليس له منع البائع من أصل قطعه.
وأن لمؤجر الدار أن يدخلها لإصلاحها وإن كان بغيبة المستأجر وبلا إذنه، وأن الحرث والسقي والرم لا يجب لا على البائع ولا على المشتري.
وأن السقف ملك صاحب السفل وأن تطيينه لا يجب على ذي العلو ولا على ذي السفل. ونقل آراء وفتاوى مشاهير الفقهاء في ذلك مثل ما ورد في الخيرية وفي الفصول نقلًا عن الذخيرة: 26 - 38.(7/1253)
الفصل الرابع - في انتقاض المبيع في عقد الوفاء عند مشتريه:
ويتضمن الآراء المختلفة بين الفقهاء في حكم ذلك.
فالمرغيناني يقول: ليس للبائع أن يأخذ المبيع ويضمن المشتري من نقصانه شيئًا، ولكنه مخير بين أخذ المبيع ودفع ثمن الوفاء كاملًا من غير رجوع على المشتري بما نقص، وبين أن يترك المبيع للمشتري يتملكه بما دفع من ثمن الوفاء ولا يرد عليه من الثمن شيئًا.
ومشايخ سمرقند والإمام علاء الدين يرون تضمين المشتري ما نقص من قيمته بالغًا ما بلغ.
والرأي المعتمد في هذه المسألة هو ما ذكره العمادي من فتوى أهل عصره فيها، وذلك بحمله في الحكم على الرهن. فإذا انتقص المبيع وفاء في يد المشتري يسقط حصة النقصان من مال الوفاء.
فإن استهلك المشتري بناءه أو أشجاره يضمن قيمته بالغة ما بلغت كالمرتهن ضمان الغصب لا ضمان الرهن، وبيّن الفرق بين الضمانين: 38 - 39.(7/1254)
الفصل الخامس - في بيع البائع وفاء مبيعه الوفائي قبل فسخ الوفاء فيه:
طرح المؤلف في هذا الفصل عدة مسائل:
- بيع البائع مبيعه الوفائي باتًّا أو وفاءً قبل فسخه الوفاء مع المشتري الأول موقوف مطلقًا على إجازة المشتري الأول، مثل توقف بيع الراهن الرهن على إجازة المرتهن ينفذ بإجازته ولا ينفسخ بفسخه.
- اختلاف توقف الأول عن توقف الثاني في الإجازة بأن ما عدا الإجازة في الوفاء يبطل به البيع الموقوف، وفي الرهن ينفذ به.
- الإجازة نوعان قولية وفعلية. نقل عن الهداية.
- تعدد المبيع متفقًا أو مختلفًا كتوحده في التوقف على الإجازة.
- حصول الإجازة من مشتري الوفاء بقبضه ماله من مشتري الوفاء مثل حصولها بقبض المشتري مال الوفاء من البائع وقد باع باتًّا مبيعه الوفائي من آخر. كلام الهداية والعمادية.
لمشتري البات قبل أن يدفع ثمن المبيع للبائع أن يدفع مال الوفاء لمشتري الوفاء بلا إذن البائع ولا يطالبه هذا، ويقام له ما دفعه للمشتري مما عليه من ثمن البات. كلام العمادية.
- إذا دفع مشتري البات ثمن الوفاء للمشتري الأول بغير إذن البائع بعد دفعه للبائع ما عليه من ثمن المبيع باتًّا لا يرجع، ويكون متبرعًا بخلاف معير الرهن.
نقول من كلام الفصول ومن جامع الفصولين ومناقشتها.
- بيع المبيع وفاء لمشتريه الأول باتًّا لا يتوقف على إجازة (إجازته نفسه) ويتضمن فسخ الوفاء.
إيراد مسألتين من الفصول في حصة ما بقي من الثمر: بعد البيع البات تكون للبائع عند عدم ذكر الثمار.
والتي خرجت بعد البيع الجائز، وقت البيع البات، تكون للبائع: 39 - 44.(7/1255)
الفصل السادس - في الشفعة بالمبيع وفاء، وفيه إذا بيع باتًّا قبل الفسخ:
وفيه مسائل:
1- الشفعة بالمبيع وفاء لبائعه دون مشتريه.
نقل من الفصول عن محمد بن الفضل لفتوى بذلك.
بيع المعاملة وبيع التلجئة حكمهما حكم الرهن، وللراهن حق الشفعة إن كان الرهن في يد المرتهن.
صحة الوفاء مع الشيوع وعدم القبض بخلاف الرهن. بيان كلام محمد بن الفضل.
2- الشفعة في المبيع وفاء إذا بيع باتًّا قبل الفسخ. ولهذه الصورة ثلاثة أحوال:
(أ) حالة ثبوت التوقف للبيع عند انتفاء الإجازة من المشتري في الحال مع إمكان حصولها في المستقبل.
(ب) حالة انتفاء التوقف للبيع عند تعذر الإجازة من المشتري بفسخه الوفاء قولًا أو فعلًا.
(ج) حالة انتفائه بحصول الإجازة. الشفعة منفية في الحالتين الأوليين، ثابتة في الحالة الثالثة.
إيراد على كلام الفصول وإجابة عنه مع التعليق على قول العمادي.
الوكيل بالبيع لا يشفع فيما باعه بالوكالة.
تفصيل القول في أحكام الصور الثلاث المتقدمة.
لا تثبت الشفعة في المبيع وفاء إذا بيع باتًّا إلا بعد الإجازة.
المعتبر في طلب الشفعة وقت العلم بالإجازة لا العلم بالبيع: 44 - 48.(7/1256)
الفصل السابع - في ادعاء المشتري وفاء على مشتريه، وادعاء مشتريه له على غيره:
إذا ادعى في هذه الصورة خارج على ذي اليد أن هذا ملكي كان لذي اليد دفعه بقوله: لستُ بخصم فيه لأني لا أملكه، وإنما هو في يدي بحق الوفاء.
وورد سؤال من فرغانة: هل يشترط لسماع هذه الدعوى حضور البائع والمشتري؟ يشترط عند المرغيناني وغيره من السمرقنديين، وذهب القاضي علاء الدين إلى عدم اشتراطه.
سبب اختلاف القول في ذلك: عدم خلوص الوفاء للبيع البات ولا للرهن، والقضية من المخمسة.
من نظر إلى جهة الرهن لم يسمع الدعوى إلا بحضور البائع، ومن نظر إلى صيغة البيع سمعها بدون توقف على حضوره. ترجيح ما ذهبت إليه الجماعة.
المعتبر في بيع الوفاء جهة الملك في حق الانتفاع خاصة وفيما سواه جهة الرهن.
عدم سماع الدعوى على المشتري وفاء في الملك المطلق والوقف أو الحق كما في الوفاء والرهن والإجارة.
الدعوى على المشتري باتًّا فيما في يده مسمومعة قطعًا.
الدعوى على المرتهن غير مسموعة قطعًا.
المخمسة المتضمنة وجه دفع الخصومة. لا إشكال في سماع دعوى المشتري وفاء له على غير المشتري.
المقارنة بين مشتري الوفاء والمستأجر في ملكهما المنفعة فقط.
تسمع الدعوى من المشتري وفاء بغيبة البائع بلا إشكال لأنها من دعوى الحق.
ذو اليد إذا ادعى في العين ملكًا لنفسه سمعت عليه دعوى الملك والحق.
وإذا ادعى في العين حقًّا فقط لنفسه لم تسمع عليه دعوى ملك ولا حق.
إحالة على ثالث فصول الفصول لمعرفة من يصلح خصمًا لغيره ومن لا يصلح، ومن يشترط حضوره لسماع الدعوى ومن لا يشترط حضوره.
لا تسمع دعوى أجنبي الوفاء على ذي اليد المدعي الوفاء لو كان تاريخ الأجنبي أسبق إلا بحضور بائعيهما إذا ثبت ما يدعيه ذو اليد من الوفاء: 48 - 50.(7/1257)
الفصل الثامن - الكفاة بمال الوفاء، والحوالة به، والصلح عنه:
(أ) تصح الكفالة بمال الوفاء عن المشتري للبائع منجزة.
تصح الكفالة بمال الوفاء عن البائع للمشتري مضافة لوقت الفسخ. بيان الصورتين. ثمن المبيع لا يكون دينًا للمشتري على البائع وعقد البيع قائم، ويصير دينًا بعد الفسخ.
لا فرق في جعل الكفالة مضافة لحين الفسخ بين كون الكفيل به أجنبيًّا عن عقده أو مشتريًا فيه.
تفصيل ذلك بنقل ما ورد بالفصول، دفع توهم.
ذكر تكرر الوفاء من البائع مرتين وخوف المشتري الثاني أن يتوى حقه على البائع فطلب كفيلًا به فكفله المشتري الأول وذلك صورتان:
1- بين البائع والكفيل الذي هو المشتري الأول وهو الذي انفسخ بالإجازة وترتب ماله دينًا على البائع لكن الكفالة لم تقع به.
2- بين البائع والمكفول له وهو المشتري الثاني، والوفاء لم ينفسخ ولم يصر ماله دينًا وهو الذي وقعت به الكفالة.
(ب) تنقسم الحوالة إلى ما يكون المحال عليه فيها المشتري، وإلى ما يكون المحال عليه فيها هو البائع. نقل الصورة الأولى عن صاحب الهداية، وصور الشيخ بيرم الثانية التي يكون المحال عليه فيها هو البائع بأن أحال المشتري غريمه عليه. ثم بين الحكم في الصورتين.
(ج) الصلح عن مال الوفاء. نقل عن المرغيناني صورته. وهي إذا ادعى أحدهما البيع الجائز والآخر البيع البات وادعى سبق الجائز فصالح المشتري باتًّا مدعي الجائز على بدل. فلا يخلو أن يكون الصلح عن إنكار أو عن إقرار. ففي الأولى يجوز ويلزم، وإذا كان الثاني لا يلزم بدل الصلح لئلا يكون بمنزلة الرشوة لإجازة البيع عندما يكون عن مال بعينه.
توقف الشيخ بيرم فيما نقله عن العمادي.
تحرير الكلام في هذه الصورة مع بيان الخطأ الوارد في نسخته بالمقابلة بين الصورتين: 50 - 53.(7/1258)
الفصل التاسع - في فسخ عقد الوفاء، ورجوع المشتري على البائع فيما إذا كان دفع خلاف ما سمى بما يكون منهما:
في هذا الفصل جملة مباحث:
1- الفسخ قولي وفعلي. والفعلي حقيقة وحكمًا، يصح الفسخ ويحصل القبض، والقبض بالتخلية. ويشترط في القولي التصريح بالقبول.
إيراد تساؤل عن صورة الفسخ الفعلي الذي يتم بالقبض أو التخلية لمخالفة ذلك لقول العمادي: لو أبى المشتري قبض الثمن هل يجبر وهل يفسخ بدون قبول؟ والجواب عن هذا التوقف.
2- إذا قبض المشتري مال الوفاء كله انفسخ العقد في المبيع كله، وإن قبض بعضه انفسخ بقدره. نقل كلام صاحب الفصول المفيد تجزأ الفسخ.
3- يحمل التجزي في الفسخ على كونه في أحد المقصودين في بيع الوفاء من تصرف المشتري فيه. فلا يبقى له حق التصرف فيه في القدر الذي انفسخ فيه الوفاء من المبيع، ويبقى له المقصود الآخر وهو حق حبسه للتوثق به للدين كالمرهون فإنه يبقى محبوسًا كله إلى تمام قبض الدين.
4- الرجوع يكون بالمسمى في العقد لا بالمقبوض عند تغير المصارفة: ذكر صورة محلية تطبيقية: 53 - 54.(7/1259)
الفصل العاشر - حكم المبيع وفاء بعد الفسخ، ومطالبة المشتري مال الوفاء بغير بلده أو بعد ما غصب المبيع من يده:
الفسخ قولًا وفعلًا وضمنًا بحصول الإجازة للبيع من المشتري.
مسألتان:
1- المشتري الذي انفسخ شراؤه الوفائي قصدًا بالقول أو بالفعل أو ضمنًا بإجازته بيع المبيع، ولم يقبض مال وفائه، هل يحبس المبيع عن البائع في صورة الفسخ القصدي القولي، وعن المشتري في صورة الفسخ الضمني أم لا؟
2- هل يختص مشتري الوفاء بقدر مال وفائه من ثمنه من بين الغرماء إن كان على البائع دين يستغرق تركته.
الحكم في الصور المختلفة المتفرعة عن هذه المسألة.
إن لمشتري الوفاء بعد فسخه حبس المبيع عن البائع حتى يدفع له ثمنه، وليس له حبسه عن المشتري بعد الإجازة. نقل كلام العمادية في ذلك.
إيراد اعتراض على ما تقدم والإجابة عنه.
له أخذ الثمن من المشتري وحبسه عن البائع، الإشارة إلى كلام الطرطوسي والشيخ محمد بيرم الأول في ذلك. الاختصاص بالثمن: أينما ثبت للشخص حق الحبس ثبت له الاختصاص.
للمشتري مطالبة البائع بثمن المبيع وفاء في غير بلده محل العقد.
ليس له طلب مال الوفاء والمبيع في يد غاصبه: 55 - 57.(7/1260)
الخاتمة - تناولت حكم اختلاف المتعاقدين في العقد: أهو بات أو وفاء؟
وفيها بسط الكلام في مسائل وقواعد صدرها بنقل من الفصول يتعلق بالاختلاف في البيع بين المتعاقدين، وقد أجاب عنه بأن القول في ذلك قول مدعي البتات وهو ما ذهب إليه المرغيناني وأئمة بخارى، وإن كان أفتى صاحب الهداية من قبل بأن القول قول مدعي الجائز، ثم أعلن رجوعه إلى قول الجماعة.
تحرير القول في الوجهين وتعليل الرجوع إلى كلام المرغيناني وجماعته تعليلًا فقهيًّا.
مناقشة الرأي وتفصيل القول فيما إذا كان الاختلاف بين المتعاقدين قبل قبض البائع الثمن في البيع البات وفي بيع الوفاء أو بعده.
وجه رجوع صاحب الهداية عما كان يفتى به إلى قول أئمة بخارى.
مناقشة المؤلف هذا الوجه، وترجيح قول مدعي البتات بالنقل عن قاضيخان ومن الخيرية.
تقبل بينة مدعي الوفاء لأنها لإثبات خلاف الظاهر، وتقدم على بينة مدعي الثبات.
الاعتراض على اختيار وترجيح الخانية بأنه رهن في الحقيقة وذكر أن بينة البيع مقدمة على بينة الرهن. والجواب عن ذلك بأن الوفاء وإن كان في الصورة رهنًا غير أن فيه شرطًا زائدًا هو الانتفاع بخلاف الرهن.
تنويه صاحب الخيرية بتحرير القول في هذه المسألة.
تاريخ الفراغ من تأليف هذه الرسالة: 58 - 60.(7/1261)
تحقيق الرسالة
كانت لدي بمكتبتي الخاصة نسخة مصورة من الرسالة الوفائية البيرمية المحفوظة بالكلية الزيتونية تحت عدد 55 وأصلها من الخزانة الرضوانية. وهي بحسب الظاهر مقتطعة من مجموع تضمن نحو أربع عشرة رسالة أكثرها فقهية منها رسالة منسوبة للشيخ بيرم في أحكام الرهن. وجدول محتوى المجموع مثبت بخط مغاير لخط الرسالة على ظهر الورقة المتقدمة على نص الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاء، وبآخر الرسالة في وجه الورقة 32 عنوان نصه: جواب سؤال في الوقف تأليف الشيخ بيرم أدام ... تملكه الشيخ سيدي حسين البارودي.
وتقع هذه النسخة من رسالة الوفاء بمسائل بيع الوفاء في إحدي وثلاثين ورقة غير مرقمة، مقاس: 15.5/9، وعدد سطور الورقة بها: 22. وقع الفراغ من نسخها في حياة المؤلف في 19 شوال 1243 على يد محمد بن سالم البداي. خطها تونسي جميل وبها توقيفات قليلة. وهي نسخة مراجعة بها استدراكات وتكميل كما في ورقة 8 أوعليها طرر منقولة من بعض النسخ الأخرى كما في 16أ، لا يعيبها إلا نقصان بعض أوراق سقطت منها، وطمس حديث لأكثر ما بورقة 20 أ، وبعض أسطر من ورقتي 20 ب، 21 أ، 21 ب.
ولهذه الأسباب ولما تقتضيه صناعة التحقيق من مراجعات وضبط وأمانة في إخراج الرسالة اضطررت للبحث عن نسخ أخرى منها. وقد وجدت في كتاب العمر لحسن حسني عبد الوهاب: 1/2، 939 سردًا بنسخ الرسالة ومظان وجودها بتونس نصه:
تونس دار الكتب الوطنية: رقم 198، 3642، 23/187، 6/12086 (أحمدية: 6/2533، 3/14784) - (أحمدية: 3/2534، 2/18156) ، عبد الوهاب: 2/256، العاشورية: (ف ح) 132.
ولما عدت في شهر المحرم إلى تونس بحثت عن جملة من النسخ تحصل لي منها بالإضافة إلى الرضوانية الأولى التي سبق ذكرها ووصفها ست نسخ أخرى هي على حسب الأهمية في الترتيب: البيرمية والخوجية والرضوانية فالصادقية فالوطنية فالوهابية.(7/1262)
البيرمية (ب) : تفضل بتصويرها لنا من خزانة آل بيته الأخيار السيد الكريم الماجد الأستاذ أحمد بن المنعم شيخ الإسلام محمد الطيب بيرم جازاه الله عنا خير الجزاء. وهي كما هو مرسوم على الصفحة الأولى منها: مما أنعم به سبحانه على عبده الفقير إلى رحمته محمود بن مصطفى بيرم 1294. فهي من تملك الخطيب المدرس الشيخ محمود بن الفقيه الشيخ أبي النخبة مصطفى (1) بن شيخ الإسلام محمد بيرم الأول، ومتبني شيخ الإسلام محمد بيرم الثاني إذ كفله أخوه الأكبر لصغره بعد وفاة أبيه.
وهذه النسخة من مجموع بصدره فهرس يتضمن سردًا بأسماء الرسائل الفقهية البيرمية التي تضمنها، ويقع جملته في 428 صفحة، موضع الرسالة الوفائية منه 364 - 428 أي في أربع وستين صفحة. مقاس هذه النسخة: 16.5/ 8.50. وفي كل صفحة منها واحد وعشرون سطرًا. خطها تونسي جميل في الجملة مقروء بغاية اليسر. لم تتضمن في آخرها سوى تاريخ انتهاء الشيخ بيرم الثاني من تأليف الرسالة، لم يذكر ناسخها ولعله الشيخ محمود نفسه. وهي تتميز بعدد غير قليل من التعاليق البيانية. وبها نقول من خط والد ناسخها الشيخ مصطفى بيرم إذ يقول في الهامش: من خط والدي، ومن خط الوالد. وتعاليق للشيخ بيرم الثالث ابن المؤلف، وطرر كثيرة ينقل فيها عن الخوجيين شيخ الإسلام محمد ابن الخوجة الأكبر وابنه شيخ الإسلام أحمد ابن الخوجة الثاني. وسيأتي الحديث عنها مفصلًا عند المقارنة بين أهم النسخ التي بين أيدينا. وقد اعتمدناها أساسا في دراسة النص وتحقيقه.
الخوجية (ج) : هي من نسخ الوطنية، تحمل رقم 3642، أشرنا إليها أعلاه. تقع في 36 ورقة مقاس 16/9 وتحتوي كل صفحة منها على 21 سطرًا. خطها تونسي عادي. كان الفراغ من نسخها في 27 صفر 1328 على يد كاتبها الشيخ محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن حمودة بن محمد بن علي خوجة الآستاني الشريف. ومن ثم سميناها الخوجية، وهي مراجعة وبها توقيفات بالهوامش تمتاز بتقريرات الشيخ محمد ابن الخوجة الأكبر (2) ، وإحالاته في كثير من المواضيع على المصادر التي يحسن بالقارىء الرجوع إليها، وبتعاليق ابنه الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد ابن الخوجة الثاني (3) .
__________
(1) هو القاضي الحنفي المتضلع بالعلوم النقلية والعقلية، المرموق بعين الإجلال والتعظيم 1286. تأدب وتخرج أولًا بأخيه الأكبر الشيخ بيرم الثاني، وأخذ عن ابن أخيه الشيخ بيرم الثالث وعن أعلام من الفقهاء والعلماء والشيوخ مثل السنوسي الكافي وأحمد زروق وأحمد العوادي وأحمد الأبي الحنفي وحسن الشريف وإبراهيم الرياحي والطاهر بن مسعود وأحمد بوخريص وإسماعيل التميمي. ابن أبي الضياف، الإتحاف: 8/674، 404.
(2) هو شيخ الإسلام محمد بن حميدة ابن الخوجة - 1279. العلامة الفقيه المحقق والمحدث. أخذ العلم عن والده وعن الشيوخ حسن الشريف ومحمد بيرم الثاني ومحمد بيرم الثالث. ولي التدريس والخطابة والقضاء والفتوى ورئاسة الدائرة الحنفية من المجلس الشرعي. وكان كثير الرواية لصحيح البخاري إذ جعله هجيراه حتى كاد يستظهره. له مؤلفات جيدة مثل حاشية على مختصر السعد، وشرحه لحكم أرسطو "العالم بستان"، ومحررات فقهية تقع في ثلاث مجلدات، وعدد كبير من الإجازات العلمية والحديثية، وتعاليق على كتاب الدرر، وفتاوى وأحكام. ابن أبي الضياف، الإتحاف: 8/128، 350؛ حسن حسني عبد الوهاب. كتاب العمر: 1/2، 942، 272؛ محفوظ. تراجم المؤلفين: 2/257، 172.
(3) هو شيخ الإسلام حميدة بن الشيخ محمد بن الشيخ أحمد ابن الخوجة. الفقيه المفكر والأديب الشاعر. 1245 - 1313. أخذ عن والده وعن شيخ الإسلام بيرم الرابع وعن محمد بن عاشور ومحمد بن سلامة ومحمد بن حمدة الشاهد ومحمد الطاهر ابن عاشور الأول ومحمد النيفر. تولى الإمامة والخطابة والتدريس، وتدرج في المناصب الشرعية فكان قاضيًا ومفتيًا وشيخ إسلام. وقد ترك من التصانيف تقارير على حاشية السالكوتي على البيضاوي، وحاشية على الدرر أكمل بها صنيع والده والكردار والحبس على المذهب الحنفي، وأختام وتحقيقات وفتاوى، وكشف اللثام عن محاسن الإسلام ونحوها. ابن أبي الضياف، الإتحاف: 8/135، 359؛ حسن حسني عبد الوهاب، كتاب العمر: 1/2، 946، 274؛ محفوظ، تراجم المؤلفين: 2/244، 169.(7/1263)
الرضوانية (ر) : من المكتبة العبدلية. ورقمها الذي تحمله بها: 7127. وهي نسخة جيدة من الرسالة تقع ضمن مجموع، تشغل منه خمسًا وستين صفحة: 346 - 401، مقاس 16.50/10، وعدد السطور في كل صفحة 19. وهي كسابقاتها تونسية الخط جميلته، ولكنها غفل من اسم الناسخ ومن تاريخ النسخ. والتعاليق التي اشتملت عليها قيمة فيها مسائل مهمة وفتاوى للمشائخ محمد بيرم الثاني ومحمد ابن الخوجة الأكبر وابنه أحمد الثاني والمفتي الشيخ حسن عباس.
ووجه تعريفها بالرضوانية أنها في الأصل من خزانة العالم الفقيه الأديب الشيخ مصطفى بن علي رضوان (1) ، أحيلت ضمن خزانته إلى العبدلية بجامعة الزيتونة لينتفع بها رواد المكتبة ويستفيدوا منها.
__________
(1) هو الفقيه الأديب الرياخي السوسي. من أبناء جنود الترك. 1244 بسوسة - 1322 بتونس. تعلم في الأول ببلده، وحفظ القرآن الكريم. ثم تحول إلى جامع الزيتونة فأخذ عن عدد من الأعلام مثل شيوخ الإسلام محمد ابن الخوجة ومحمد معاوية. كان مولعًا بنسخ الكتب النادرة ويعيش من عمله هذا إلى أن لمع نجمه واستدناه محمد خزندار واتخذه كاتبًا له. وبعد ذلك كلف بمهام سامية في الدولة، لكنه رغب عن ذلك في الأول، واختار الالتحاق بالتدريس في جامع الزيتونة وتناظر مع الشيخ محمود بن مصطفى بيرم وتقدم عليه، ولضلاعته في الأمور المالية عين بعد ذلك منشئًا في قسم العمل من الكومسيون المالي، كما اختير عضوًا في لجنة تنظيم الدروس بجامع الزيتونة، وبمجلس تأسيس المدرسة الصادقية. وشارك الوزير خير الدين في كثير مما أنجزه من أعمال إصلاحية في تونس. ثم عين في وظائف كثيرة فكان عضوًا في لجنة الخط الحديدي، وعضوًا للجنة العليا للسكك الحديدية، وعضوًا في لجنة التحكيم في نازلة هنشير سيدي ثابت وأخيرًا عضوًا لمجلس شورى الملك. ومن مؤلفاته الفقهية رسالة في تقرير نصاب العين من الدراهم والدنانير بحسب صرف الوقت، ورسالة في حكم مسح الجوارب. محمد النيفر، عنوان الأريب: 2/167، 175؛ محفوظ، تراجم المؤلفين: 2/365، 206.(7/1264)
الصادقية (ص) : المحتفظ بها في الوطنية: 9256. عدد أوراقها: 30 مقاس: 14.5/ 9.5، وفي كل ورقة 21 سطرًا. وهي أجود النسخ خطًا، مراجعة وعليها توقيفات بخط مغاير. في الورقة 1 أفهرس الرسالة، وذكر لمحتوى المجموع الذي منه هذه النسخة، وهو يشتمل على مسائل وفائية: كالدلالة على المظان التي يوجد بها بحث الوفاء في كتب الحنفية، نظم في من تجب عليه الزكاة فيه، ومخالفة الوفاء الرهن في الشيوع، ومسألة الوكيل ببيع الوفاء، ومسألة القانون المرتب على المبيع وفاءً. وبعد هذا إشارة إلى جملة من البحوث الأخرى كالرسالة البيرمية في عدم الاحتجاج بالخط، وكشف القناع فيما يثبت به الرضاع للعلامة سعيد بن سعيد السفطي الحنفي، وتحرير في شهادة الوقوف على الخط للشيخ إسماعيل التميمي، وبنفس الخط أضيف إلى آخر الرسالة في السطر الأخير منها 30 ب: تم نسخه في جمادي الأولى 1305، وبالورقة 31 و 32 وجهًا وظهرًا ما أشير إليه قبل من المسائل الوفائية ما عدا النظم، وفي 32 أخاصة ذكر واقعة رفعت إلى مجلس دار الشريعة بتونس من الوزارة تتعلق بما هو مرتب على رقاب الزيتون المبيع وفاءً. وقد عُلق النظرُ فيها وأرجعت إلى الوزارة، وإن كان الكاتب قد أبدى وجه الحكم في القانون المرتب على رقاب الزيتون بآخرها متحريًا في فتواه وجاريًا على نصوص المذهب منهيًا كلامه بقوله: "والضريبة على من ضربت عليه وهو المالك حقيقة، وبيع الوفاء يأخذ جميع أحكام الرهن إلا ما استثني، والخراج على الراهن لا على المرتهن كما هو معلوم".
الوطنية (و) : رقم 187 عدد أوراقها 44 مقاس 20.8/15، في كل صفحة 19 سطرًا. خطها خط جميل غاية في الوضوح. تم نسخها في السابع من رمضان 1330 بيد الشيخ محمد التميمي. وهي من مجموع تحوز منه 234 ب - 278 أ.
الوهابية: من خزانة حسن حسني عبد الوهاب الملحقة بدار الكتب الوطنية. وهي جيدة الخط واضحته. تقع في 28 ورقة من المجموع عدد 1312، 150 ب - 178 ب. وعلى ظهر الورقة الأولى فهرس لمحتوى المجموع يذكر رسائل للشيخ بيرم الثاني تتصدرها بغية السائل باختصار أنفع الوسائل للشيخ محمد بيرم الأول.
وقد كنا في غنى عن استخدام هذه النسخة الوهابية وكذا الرضوانية الأولى في إقامة نص الرسالة الوفائية ومقابلة نسخها. وكان الاعتماد على النسخ الخمس الأخرى وبخاصة على الثلاثة الأولى منها وهي البيرمية والخوجية والرضوانية الثانية.(7/1265)
مقارنة بين النسخ المعتمدة
لتحقيق رسالة الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاء
لا شك أن حديث الناس إثر الفراغ من تأليف الشيخ بيرم الثاني لرسالته الوفائية 1238 وحتى قبل ذلك أثناء الإعداد لها، وتحرير فصولها، وتقريره لمسائلها بين زملائه ورواد مجالسه من أهل العلم، قد كان له عظيم الأثر في إقبال الشيوخ والطلاب على انتساخها واستنساخها.
وقد كانوا معتمدين في تلك الأثناء بدون شك على أصل الشيخ أو على ما أخذ منه من نسخ تعد قريبة منه وأسلم من الخطأ والتحريف مما نقل عنها أو جاء بعدها. ولا يفوتنا أن ننبه هنا على أن بيرمًا الثاني وابنه الثالث وتلميذهما محمد ابن الخوجة الأكبر ونجله أحمد الثاني وكذلك الشيخ مصطفى بن بيرم الأول والشيخ مصطفى رضوان وزميله الشيخ محمود بن مصطفى بيرم كان يلتقي جميعهم على هذه الرسالة لشدة اهتمامهم المتعاقب بموضوعها، ولما توارثوه بينهم من عناية فائقة بها، تأليفًا ودراسة ومراجعة ودراية وتعليقًا. وتأتي النسخ المحررة من طرفهم أو المنقولة عما حرروه مشتملة على فوائد وملاحظات وتنبيهات وتأويلات وتعليقات وإحالات. فذلك هو القاسم المشترك بينها وإن تميزت كل نسخة من النسخ بمميزات مفردة تعتبر خصيصاها الدالة عليها.
وبالمراجعة والمقابلة أمكن لنا أن نلاحظ اختلافًا واتفاقًا بين النسخ:
فمن الأول اختلاف ج عن ب وب عن ر. انظر تعليق: 39، 188.
واختلاف ب عن بقية النسخ. انظر تعليق: 186، 232.
واختلاف ب، ر عن بقية النسخ. انظر تعليق: 85.
واختلاف ج، وعن بقية النسخ. انظر تعليق: 158.
واختلاف ب، ر عن ج. انظر تعليق: 353.
واختلاف ب عن ج، ص، و. انظر تعليق: 182.
واختلاف ج عن ب، ر، ص، و. انظر تعليق: 216.(7/1266)
ومن الثاني أن ج، ر يتحدان في نقص حرف أو سقوطه من الأصل. انظر تعليق: 34 ونسختي ج، وتتحدان في نقص جملة أو سقوطها. انظر التنبيه على ذلك في تعليق 209 تتحدان في نقص فقرة كاملة أو سقوطها من الأصل. انظر تعليق: 154.
وربما كان الاتفاق بين النسخ بالزيادة على الأصل لا بالنقصان كما في:
ب، ر، ص زيادة حرف. انظر تعليق: 278.
ج، ر زيادة جملة أو بعض جملة. انظر تعليق: 328.
وهناك تعاليق مشتركة تدل على أن بعضها منقول عن البعض بلفظه أو عن أصل واحد وذلك كما في:
ب، ج، ر انظر التعاليق: 62، 72، 98، 188، 204، 362.
ب، ج انظر تعليق: 188.
ب، ر انظر تعليق: 127.
ج، ر انظر التعاليق: 111، 133، 152، 195، 380، 385.
وقد يكون من هذا الباب ما نجده في:
من تعاليق تدل على النقل كتلك التي تنتهي ب أهـ أو أهـ منه انظر التعاليق: 109، 161، 242، 290، 301، 303، 309، 315، 341.
ومنه في ب ما ينتهي من التعاليق فيها بلفظ 1 هـ. تقرير. انظر تعليق: 143.
ومنه أيضًا في ب الطرر المعلم في بدايات التعاليق عليها بحرف ط. انظر التعاليق: 6، 7، 217، 219، 223، 239، 245، 248، 305، 306، 335، 376، 390.
ومنه أيضًا ما يجمع فيه بين العلامتين ط. و1 هـ منه. انظر تعاليق: 290، 303، 341.
ولعل أكثر هذه التعاليق تمثل نقولًا عن الخوجية أو عن الأصل الذي نسخت منه، أو عما استمع له أصحابها في بعض المجالس العلمية.
ولكشف أهمية كل نسخة من النسخ بما تحتوي عليه من ملاحظات خاصة بها - لم ترد في غيرها من بقية النسخ التي بين أيدينا - نقدم ملاحظات خاصة بالبيرمية والخوجية والرضوانية الثانية والصادقية.(7/1267)
البيرمية بها:
1- تنبيه على روايات انفردت بالإشارة إليها في قراءة بعض الكلم. انظر التعاليق: 162، 173، 176، 232، 275، 296، 384.
2- ما لا يقل عن خمسة وتسعين تعليقًا بيانيًّا، كانت نتيجة قراءة متأنية للنص من صاحب النسخة، ومحاولة منه لإيضاح جمله ومقاصده كلمة كلمة وجملة جملة كما هو المعتاد في قراءة النصوص من الكتب العلمية بعد الاستماع إلى تقرير الدرس ومحاولة التطبيق على الكتاب للتنبيه على الإشارات الخفية والاستدراك بما فات عند التقرير.
ونحو ذلك مما يتأكد بيانه. وبهذا يصبح العمل المتميز في هذه النسخة بمنزلة شرح صغير للكتاب، أمثلة لذلك:
تعليق ببيان الاسم الذي يعود عليه الضمير في الذهن من قوله: فلا وجه لجعله رهنًا مع رضاه بالانتفاع وذلك بقوله بعد رضاه أي البائع: 31.
وببيان المعترض في نفس الجملة بتعليق 32 الذي يصرح فيه بأنه صاحب جامع الفصولين.
وببيان معنى قوله على وجه المواعدة في التعليق 50 بقوله: أي لا بصيغة الشرط. وبالإخبار عن الصدرين السعيد والشهيد في تعليق 71.
وببيان قول المؤلف: ثم يتفقان على رد المشتري للبائع المبيع عند رده عليه الثمن، بقوله في تعليق 105: إن بثمن المثل لزم البيع. وإن بغبن فاحش لزم الرد، واليسير ملحق بالمثل فيما يظهر.
والتوقفات التي تعرض للقاري المتخصص - في مثل هذه النصوص - غير محصورة ومتنوعة فكيف بما يحصل منها للقاري العادي. ولذلك فقد أحسن بشرحه أقوال المؤلف وبيان مقاصده. نستطيع أن نتبين ذلك بتتبع تعاليقه: 31، 32، 33، 39، 44، 47، 48، 50، 58، 71، 105، 106، 107، 110، 122، 123، 129، 134، 136، 140، 146، 147، 155، 160، 165، 166، 167، 168، 171، 174، 175، 177، 180، 181، 184، 186، 189، 191، 196، 203، 207، 210، 220، 221، 224، 225، 227، 228، 241، 244، 246، 259، 264، 269، 271، 272، 274، 276، 289، 293، 294، 295، 297، 298، 299، 300، 302، 304، 311، 313، 314، 317، 321، 325، 330، 332، 334، 338، 344، 345، 347، 348، 352، 354، 355، 356، 357، 359، 360، 370، 373، 375، 388، 391.
وقد تكون التعاليق من أجل تحديد وجه إعراب الكلمة حتى يتضح المعنى المراد. انظر تعليقه: 61 على قول المؤلف: فإنه يفسخ معه البيع ويكون باتًّا، بقوله: خبر إن في قوله: إن البيع.
وتعليقه: 179 على كلمة يعطى بقوله: خبر قول الفصول.
وتعليقه: 266 على قوله: فلو صرف له الرفع، بقوله: صرف له خبر والرفع مبتدأ.
وتعليقه: 329 على قوله: زاد في السؤال، بقوله: جواب لما سئل.
وتعليقه: 352 على قوله: وهذا ما انفسخ، بقوله: نافية.(7/1268)
أما النقول عن والده فقد أشارت إليها التعاليق: 132، 238، 239، 245، 248.
وعن الشيخ بيرم الثالث فقد كانت مرة بالتصريح بذلك كما في تعليق: 103، 265.
ومرة بوصفه ونسبته بقوله: ابن المصنف، كما في تعليق: 368.
الخوجية: انفردت هذه النسخة أيضًا ببعض الروايات في قليل من الكلم. انظر التعليق 14، 69، 164، 292، 336.
وفيها كلمات وفقر سقطت تدل عليها بقية النسخ. انظر التعاليق: 66، 138، 192، 214.
كما أن فيها زيادات. انظر التعاليق: 74، 288، 342.
وأما التعاليق البيانية الخاصة بهذه النسخة فهي: 35، 36، 113، 120، 139، 140.
وأما التعاليق التنبيهية فهي اثنان: 187، 193.
وفي هذه النسخة نقول بها ملاحظات أو تقريرات أو إحالات انفردت بها منسوبة للشيخ محمد ابن الخوجة الأكبر نجدها في: 9، 125.
الرضوانية الثانية: مثلها مثل سابقتيها: بها اختلاف رواية وقع التنبيه عليها في التعاليق: 5، 78.
وسقط منها بعض جملة أشير إليها في تعليق: 337، وكذا جملة كاملة. انظر تعليق: 351.
وبها زيادة على بقية النسخ نبه إليها التعليق: 328.
والتعاليق التفسيرية فيها هي: 145، 156، 367.
والتعاليق التنبيهية فيها هي: 57، 283.(7/1269)
وقد ورد نقل فتوى زكاة مال الوفاء عن الشيخ بيرم الثاني بها. انظر تعليق: 369.
كما ورد بها نقل فتوى عن الشيخ بيرم الثالث ابن المؤلف. انظر التعليق: 387.
وأخرى عن الشيخ محمد ابن الخوجة وابنه الشيخ أحمد الثاني وعن الشيخ حسن عباس. انظر التعليق: 367.
الصادقية: انفردت هذه النسخة برواية جملة: "فما صورته" بلفظ "بما صورته". انظر التعليق: 56.
وفيها تعليق بياني. انظر: 280.
وفيها تعليق تنبيهي يرتبط بحكم النصبة. انظر: 126.
تلك هي نسخ رسالة الوفاء التي رجعنا إليها لتحقيق النص وضبط تعاليقه الكثيرة المتنوعة، نقلنا بعضها بأمانة من غير تغيير ولو جزئي كما في 220، 221، 227، 228. وقد حرصنا على تحرير بعض المسائل بالرجوع إلى المصادر التي نبه عليها المؤلف فأكملنا بعض التعاليق بضبط الإحالات فيها، وكذلك إلى غيرها مما تيسر الوقوف عليه من كتب الفقه والفتاوى واستعنا بما أمكننا مراجعته من المخطوطات العلمية بمكة المكرمة وتونس المحروسة، ونبهنا على ما وقع نقله منها بتصرف، وأضفنا تعاليق أخرى كثيرة إكمالًا للفائدة. وإنا لنرجو أن يكون هذا العمل كاشفًا عن آراء أهل الملة في قضية من أهم القضايا الشائكة التي عرضت وتعرض للناس في هذا الزمان. كما نسأله عز وجل أن يجعله خالصًا لوجهه سبحانه، وأن يلهمنا رشدنا ويهدينا سبلنا. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(7/1270)
الرسالة
[364] بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاء
قال شيخنا العلامة، وأستاذنا الفهامة، الذي أشرقت شمس تحقيقه في سماء المعاني، وطلعت أنوار تدقيقه من أفق المباني، حامل لواء المذهب النعماني، أبو عبد الله سيدي محمد بيرم الثاني، بلغه الله تعالى الأماني بحول الله وقوته.
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد فهذه رسالة موسومة بالوفاء بما يتعلق ببيع الوفاء، ملخصة من كتب ثبت لها في المذهب الحنفي الاصطفاء كالخانية (1) ، والعمادية (2) ، وجامع الفصولين (3) ، والبزازية (4) وغيرها من كتب الحنفية، مرتبة على مقدمة وعشرة فصول وخاتمة.
أما المقدمة ففي بيان اسمه ومسماه.
وأما الفصول: فأولها فيما يرجع الوفاء إليه من العقود.
وثانيها فيما يصح فيه عقد الوفاء وما لا يصح.
وثالثها فيما يجوز من فعل المشتري وفاء في المبيع (5) وما لا يجوز.
ورابعها في انتقاص المبيع فيه في يد مشتريه.
وخامسها في بيع البائع وفاء مبيعه الوفائي قبل فسخ الوفاء فيه.
وسادسها في الشفعة بالمبيع وفاء، والشفعة فيه إذا بيع باتًّا قبل الفسخ.
وسابعها في ادعاء المشتري وفاء على مشتريه وادعاء مشتريه له على غيره.
[365] وثامنها في الكفالة بمال الوفاء، والحوالة به، والصلح عنه.
وتاسعها في فسخ عقد الوفاء، ورجوع المشتري على البائع فيما إذا كان دفع خلاف ما سمي بماذا يكون منها؟
وعاشرها في حكم (6) المبيع وفاء بعد الفسخ ومطالبة المشتري البائع بمال الوفاء في غير بلد (7) أو بعدما غصب المبيع من يده.
وأما الخاتمة ففي اختلاف المتعاقدين في العقد الواقع بينهما أهو بات أو وفاء؟
__________
(1) هي الفتاوى المشهورة بفتاوى قاضيخان الإمام فخر الدين خان محيي السنة أبي المحاسن الحسن بن القاضي الإمام بدر الدين منصور بن الإمام شمس الدين أبي القاسم بن عبد العزيز الأوزجندي الفرغاني. من أكابر الفقهاء الأحناف: 592/1196. وفتاواه الخانية هي المثبتة في الأجزاء الثلاثة الأولى من كتاب الفتاوى الهندية، وهي مقبولة مشهورة معمول بها متداولة بين أيدي العلماء والفقهاء وقد نشرت بالهند مستقلة في جزءين وبهامشها الفتاوى السراجية. ذكر قاضيخان فيها المسائل التي يغلب وقوعها وتمس الحاجة إليها. وله من المصنفات الأمالي، وشرح الجامع الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني، وشرح الزيادات، وشرح أدب القضاء للخصاف. واللكنوي: ص64؛ القرشي: 2/93 - 94، 485؛ والزركلي: 2/224؛ وكحالة: 3/297؛ سجاد حسين، وتقديم الفتاوى التاتارخانية: 1/37.
(2) هي الفصول العمادية، واسمها الكامل كما جاء في كشف الظنون فصول الأحكام لأصول الأحكام تأليف العماد أبي الفتح زين الدين عبد الرحيم بن أبي بكر عماد الدين بن برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني الرشواني صاحب الهداية. تفقه على أبيه وعلى حسام الدين العلياباذي. وقد رتب المؤلف هذا الكتاب على أربعين فصلًا في المعاملات. وهي مجموع نفيس شامل لأحكام متفرقة ومتضمن لفوائد ملتقطة. فرغ من تأليفه سنة 651هـ. والقرشي: 4/74؛ وحاجي خليفة. الكشف: 1270؛ البغدادي: 1/560؛ التهانوي. مقدمة إعلاء السنن: 3/177.
(3) هذا الكتاب في الفروع أيضًا. وهو كتاب مشهور متداول في أيدي الحكام والمفتين، جمع فيه صاحبه بين فصول العمادي المتقدم وفصول الأسرونشي. ومؤلفه بدر الدين محمود بن إسرائيل بن عبد العزيز الشهير بابن قاضي سماونة الحنفي: 823/1420. وله أيضًا لطائف الإشارات في الفقه وأسرار الدقائق، ومسرة القلوب في التصرف، وشرح المقصود في التصريف وسماه عقود الجواهر. الكشف: ص 566؛ الزركلي: 7/165؛ كحالة: 12، 152.
(4) الفتاوى البزازية واسمها الجامع الوجيز نشرت بهامش الأجزاء الثلاثة الأخيرة من الفتاوى الهندية. لخص فيها زبدة مسائل الفتاوى والواقعات من الكتب المختلفة ورجح ما ساعده الدليل، وهي معتمدة وعليها التعويل وهي لحافظ الدين محمد بن محمد بن شهاب يوسف الكردري البريقيني الخوارزمي الشهير بالبزازي الحنفي: 827. كان من أفراد الدهر في الفروع والأصول. أخذ عن أبيه ومهر، ناظر الأعلام ودارس الفقهاء. اللكنوي: 187؛ الكشف: 242.
(5) نخ. البيع. ر.
(6) ط. هل يحبس إلى حين الخلاص أم لا. ب.
(7) ط. أي البلد الذي وقع العقد فيه. ب.(7/1271)
المقدمة
في بيان اسمه ومسماه
أما الاسم فاختلف عليه باختلاف الأعصار والأمصار. فبسمرقند (1) بيع الوفاء وبه اشتهر في كتبنا.
وربما أطلق عليه فيها البيع الجائز (2) ، وإن كانوا يطلقونه فيها على البات الصحيح. لكن عند الإطلاق ينصرف إلى الأول.
كما يطلقون عليه فيها بيع المعاملة (3) .
وبمصر، على ما ذكره الزيلعي، بيع الأمانة (4) .
وبتونس لدى عامتها، كعامة سمرقند: الرهن. فيقولون في مقام طلبه: ارهن لي. وفي مقام الإخبار عنه: رهنت ملكي فلانًا، ورهنت ملك فلان. ولا يعرفون: ارتهنت. وكذلك في مقام إنشائه، حتى إذا أرادوا الرهن المحض زادوا لفظ توثقة أو ما يقوم مقامه. وعند خاصتها من الموثقين "التسليم". ومن قبل كانوا يعبرون عنه بما يعبرون به عن البيع البات. فلما صار بعض شراة الوفاء يدعي في شرائه البت، ويتمسك في الاحتجاج لدعواه بالرسم، فيلفي بظاهره شاهدًا له، أحدثوا له ذلك الاسم (5) .
حقيقة بيع الوفاء
وأما المسمى فعقد وضع للتوثق للدين والانتفاع بالعين (6) .
واعلم أنه لما كان الغالب على الناس في عصر المجتهدين وما قرب منه
[366] قصد النفع الأخروي حتى كان المقرض منهم يُقرض لوجه الله عز وجل، لم يكن لهذا العقد وجود في دائرة الشهود. فلما انقلبت الأوضاع، وغلب حب الدنيا على الطباع، وصار الإنسان، كما قال صاحب الفصول: لا يقرض غيره شيئًا كثيرًا من ماله من غير أن يطمع بحصول (7) نفع مالي، أحدثوه، تحيلًا لتحصيل الأرباح بطريق مباح. وأظن أن مبدأ ظهوره كان بسمرقند، لأن أكثر الكلام فيه للسمرقنديين.
__________
(1) مدينة مشهورة بما وراء النهر من بلاد خراسان. قصبة الصغد (أزباكستان) . وهي من مدن الإسلام العظيمة فتحها سعيد بن عثمان والي خراسان من قبل معاوية: 55، ثم غزاها قتيبة بن مسلم 77، وبها صنع الكاغد. وإليها ينسب الإمام ركن الدين العميدي. وبها انتشر المذهب الحنفي وتخرج فيه جماعة من العلماء والأئمة الفقهاء. ياقوت. معجم البلدان.
(2) تعليق للشيخ محمد ابن الخوجة الأكبر. يحيل فيه على فصل عزل الوكيل من البحر. قال: "والبيع الجائز هو بيع الوفاء اصطلاحًا". ابن نجيم: 7/190. ج.
(3) الفتاوى الهندية: 3/209.
(4) وبهذا الاسم عرف عند الحنابلة. البهوتي. كشاف القناع: 3/149 - 150. وبه عرف أيضًا بمصر، الزيلعي: 5/184.
(5) وأطلق على بيع الوفاء بيع العهدة عند الشافعية. عبد الرحمن باعلوي. بغية المسترشدين: ص133؛ والرهن المعاد. ابن نجيم، الأشباه: ص100؛ وبيع الثنية عند المالكية. الحطاب. مواهب الجليل: 4/373؛ وبيع الإقالة. التسولي. البهجة في شرح التحفة: 1/61؛ وبيع الطاعة عند الحنابلة؛ الموسوعة الفقهية الكويتية: 9/260. وفي استعمال عامة أهل الشام القعيدة، وعند ابن حجر الهيتمي: بيع الناس، وعند الزيدية بيع الرجاء، وعند الإمامية بيع الخيار. ابن حجر؛ والفتاوى الكبرى: 2/153، 157، 229؛ عبد الستار أبو غدة. الخيار: 2/774.
(6) وعرف بيع الوفاء صاحب معين الحكام بقوله: (هو العقد الذي شرط فيه الإقالة إذا رد البائع الثمن) . الطرابلسي: ص146. وصورته كما ينقله صاحب الكفاية عن المحيط: (يقول البائع للمشتري بعت منك هذه العين بما لك عليّ من الدين على أني متى قضيت فهو لي) . وجاء في العناية: (هو أن يقول بعت منك هذه بكذا على أني إذا دفعت إليك ثمنك تدفع العين إليّ) . البنشانجي: 73 ب.
(7) نخ. في حصول. ج.(7/1272)
والتحيل لذلك، وإن كان مشروعًا التحيل كما فسره الشيخ محمد الطاهر بن عاشور هو إبراز عمل ممنوع شرعًا في صورة عمل جائز، أو إبراز عمل غير معتد به شرعًا في صورة عمل معتد به لقصد التفصي من مؤاخذته. فالتحيل شرعًا هو ما كان المنع فيه شرعيًّا والمانع الشارع. المقاصد: ص110، وجعله آخرون بحثًا عن المخارج من المضايق، ويقابله من القواعد عند الفقهاء القول بسد الذرائع. وللحيل أصل في الشريعة من القرآن والسنة. وهي من جملة التوسعة التي يفتح الله بها على عباده. وهي موجودة عند الفقهاء لا يخلو مذهب منها. وإنما عيب على بعض الحنفية القياس عليها والتوسع فيها ... وهي مرفوضة مردودة متى كانت ضعيفة المدرك، ويترتب على الأخذ بها انحلال الشريعة وإفساد نصوصها. قال الحجوي: (فهي إذا هدمت أصلًا شرعيًّا أو نقضت مصلحة شرعية حيلة ملغاة لا يجوز الترخيص فيها وما ليست كذلك فلا تلغى) . فالحيل ثلاثة أقسام: ملغاة باتفاق كحيلة المنافق في إظهار الإسلام وإخفاء الكفر، وغير ملغاة اتفاقًا كما نطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لحقن دمه، ومتنازع فيها وهي ما لم يتبين فيها بدليل قطعي وجه إلحاقها بالقسم الأول أو الثاني. الحجوي. الفكر السامي: 1/363 - 366؛ وقد جعلها صاحب المقاصد خمسة أنواع: الأول: تحيل يفوت المقصد الشرعي ولا يعوضه بمقصد شرعي آخر، وذلك بأن يتحيل بالعمل لإيجاد مانع من ترتب أمر شرعي. فهو استخدام للفعل لا في حالة جعله سببًا بل في حالة جعله مانعًا. وهذا النوع لا ينبغي الشك في ذمه وبطلانه ووجوب المعاملة بنقيض مقصد صاحبه إن اطلع عليه.(7/1273)
الثاني: تحيل على تعطيل أمر مشروع على وجه ينقل إلى أمر مشروع آخر أي استعمال الشيء باعتبار كونه سببًا، فإن ترتب السبب على سببه أمر مقصود للشارع ... وهذا النوع على الجملة جائز لأنه ما انتقل من حكم إلا إلى حكم، وما فوت مقصدًا إلا وقد حصل مقصدًا آخر بقطع النظر عن تفاوت الأمثلة. الثالث: تحيل على تعطيل أمر مشروع على وجه يسلك به أمرًا مشروعًا هو أخف عليه من المنتقل منه ... وهذا مقام الترخص إذا لحقته مشقة من الحكم المنتقل منه. وهو أقوى من الرخصة المفضية إلى إسقاط الحكم من أصله. الرابع: تحيل في أعمال ليست مشتملة على معان عظيمة مقصودة للشارع، وفي التحيل فيها تحقيق للمماثل مقصد الشارع من تلك الأعمال ... وفي هذا النوع مجال من الاجتهاد. ولذلك كثر الخلاف بين العلماء في صوره وفروعه. الخامس: تحيل لا ينافي مقصد الشارع أو هو يعين على تحصيل مقصده، ولكن فيه إضاعة حق لآخر أو مفسدة أخرى. ابن عاشور. المقاصد: ص112 - 115؛ راجع في الغرض نفسه د. عبد السلام ذهني بك. الحيل المحظور منها والمشروع: محمد الحبيب ابن الخوجة. من المخارج الشرعية المعتمدة في المعاملات المالية.(7/1274)
لكن صلوحية هذا لذلك ليس ببين، ولا هو من الأمر الهين. فلذلك اختلفت فيه أنظار من ظهر في عصرهم من نوادر الدهر، وحاملي لواء المذهب النعماني بما وراء النهر، كالإمام النسفي الكبير (1) ، والصدر الشهيد (2) ذي الصيت الشهير، وصاحب الهداية (3) ، المسلم له إمامة الرواية والدراية، وأولاده الأئمة الأعلام (4) ، ونظرائهم من شيوخ الإسلام من كل طود شامخ، له في باب الترجيح قدم راسخ. ولعمري إن الدهر بمثلهم لعقيم. فقبله منهم قوم ورده آخرون، على ما سنقص عليك، إن شاء الله تعالى، من نقل مذاهبهم فيه.
وأما الفصول
فأولها فيما يرجع الوفاء إليه من العقود
وقد كثر في ذلك القيل والقال حتى أنهى البزازي في جامعه خلافهم في ذلك إلى تسعة أقوال القول الأول أنه رهن. وبه قال أبو شجاع وابنه والسغدي والماتريدي والقاضي الإمام الأمير؛ القول الثاني أنه بيع صحيح. رواه الكشي. وعليه اتفاق مشائخ الزمن بسمرقند؛ القول الثالث أنه بيع جائز وإذا جرى بلفظ البيع فلا يكون رهنًا، وإن عقداه وفاء وشرطا الرد في العقد تفسخ، أو تلفظا بالبيع الجائز فالبيع غير لازم عند الصاحبين وهو فاسد، وإذا ذكرا البيع بلا شرط ثم ذكراه على المواعدة جاز البيع ولزم الوفاء؛ القول الرابع بيع فاسد إذا اشترطا الرد في العقد وكذا بعده عند الإمام؛ القول الخامس إذا أطلق البيع ووكل المشتري وكيلًا بفسخ العقد إذا أحضر البائع الثمن، أو تعهد بالفسخ عند الوفاء، وكان بالثمن غبن فاحش أو وضع المشتري على الأصل ربحًا فرهن، وإن كان بلا وضع ربح أو بغبن يسير فبيع بات. وبهذا أخذ أئمة خوارزم؛ القول السادس أنه مركب من بيع ورهن وهو قول الشيخ الإمام الفخر الزاهد وإذا باع المشتري من غيره صح البيع الثاني عند الأكثر لسابق تسليم البائع الأول المبيع إلى المشتري برضاه؛ القول السابع أن البيع الثاني لا يصح وهو اختيار علاء الدين بدر وقول صاحب الهداية وأولاده ومشائخ عصره وبه الفتوى؛ القول الثامن مختلف بين كونه بيعًا فاسدًا أو بيعًا صحيحًا أو رهنًا وذلك فيمن باع عقاره خائفًا بمائة مثقال ذهبًا ثم باع هذا الذهب من مشتري العقار بمائة مثقال فضة نقدًا لحيلة الربح ثم فسخ الوفاء في العقار يرد الذهب المذكور في العقد لا الفضة المقبوضة؛ القول التاسع في الملك يثبت للمشتري في الزوائد ولا يضمنها بالإتلاف وفي هذا تفصيل واختلاف أحكام لكن المعتد به منها ما ذكرناه وهو قول صاحب الهداية وأولاده ومشائخ العهد.
__________
(1) هو مفتي الثقلين نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد بن أحمد النسفي السمرقندي: 461 - 537. والمفسر الحافظ المحدث الفقيه المتكلم شيخ المرغيناني صاحب الهداية. له مجمع العلوم، والتيسير في تفسير القرآن، وشرح صحيح البخاري، ونظم الجامع الصغير. القرشي: 2/657، 1062؛ واللكنوي: ص149؛ وكحالة: 7/306.
(2) هو الإمام أبو محمد حسام الدين عمر بن عبد العزيز بن عمر مازة: 483 - 536. فقيه أصولي. تفقه على والده، وتفقه به أبو محمد عمر بن محمد العقيلي. له الفتاوى الكبرى والفتاوى الصغرى، وعمدة المفتي والمستفتي، وشرح أدب القاضي للخصاف، وشرح الجامع الصغير للشيباني، والواقعات الحسامية. اللكنوي: 149؛ القرشي: 2/649 - 650؛ الزركلي: 5/51؛ كحالة: 7/291.
(3) هو العلامة المحقق الإمام الفقيه المحدث المفسر: 593. رحل وسمع ولقي المشايخ وجمع لنفسه مشيخة. تفقه على جماعة منهم مفتي الثقلين نجم الدين النسفي، وأخذ عن الصدر الشهيد وعن ضياء الدين محمود بن الحسن البندنجي وعن أبي عمرو وعثمان البيكندي وعن قوام الدين أحمد بن عبد الرشيد البخاري، وتفقه عليه أولاده جلال الدين محمد ونظام الدين عمر، وكذلك عماد الدين بن أبي بكر بن علي المرغيناني وغيرهم من الفحول. وله المنتقى، ونشر المذهب والتجنيس، والمزيد، ومناسك الحج، ومختارات النوازل، وكتاب في الفرائض. ومن أجود ما صنف الهداية جمع فيها وشرح بها مختصر القدوري والجامع الصغير. وأصل الهداية بداية المبتدي ثم شرحه واف بخلاصة أسرار الحاوي، كاف في إحاطة الحادثات، شاف في أجوبة الواقعات. القرشي: 2/627 - 629، 1030؛ اللكنوي: 141 - 144؛ العيني. البناية: 1/6.
(4) هم شيخ الإسلام جلال الدين محمد، ونظام الدين عمر، وعماد الدين. أبو بكر التهانوي. مقدمة إعلاء السنن: 3/177؛ اللكنوي: ص146، 182؛ القرشي: 2/657، 1061؛ 3/277، 1432؛ 4/490.(7/1275)
انظر البزازية: 4/405 - 410. وقد رد البنشانجي هذه الأقوال إلى سبعة: هي الرهن، البيع الصحيح، البيع الجائز، البيع الفاسد، البيع البات في صور والرهن في صور أخرى، المركب من البيع والرهن، المركب من البيع الصحيح والفاسد والرهن. نور العين في إصلاح جامع الفصولين: 73ب - 74ب. ومن العلماء من جعل بيع الوفاء كبيع المكره كالإمام ظهير الدين والصدر الشهيد والصدر السعيد، ومنهم من جعله باطلًا اعتبارًا بالهازل. الزيلعي: 5/183 - 184؛ وقد ذكر مجمل هذه الاعتبارات الحكمية علاء الدين الطرابلسي. معين الحكام: 146 - 147. ويظهر لي أنها لا تتجاوز خمسة، وما زاد عليها راجع بقليل تأمل إليها:
أحدها: أنه رهن (1) ولو عبر عنه بلفظ البيع، لا فرق بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام، حتى لا يكون للمشتري فيه سوى حبس العين فيما له على البائع من دين (2) ، وهو مذهب أبي شجاع (3) وابنه (4)
[367] والسغدي (5) ، وأبي الحسن الماتريدي (6) ، والقاضي الأمير (7) ، استدلالًا منهم بأن العبرة في العقود بمعانيها لا بمبانيها في مقاصد الشريعة الإسلامية للإمام محمد الطاهر ابن عاشور بيان لنوط الأحكام الشرعية بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال. وقد صرح بذلك في قوله: (لا يعوزك أن تعلم أن مقصد الشريعة من أحكامها كلها إثبات أجناس تلك الأحكام لأحوال وأوصاف وأفعال من التصرفات خاصها وعامها، باعتبار ما تشمل عليه تلك الأحوال والأوصاف والأفعال من المعاني المنتجة صلاحًا ونفعًا أو فسادًا وضرًّا قويين أو ضعيفين. فإياك أن تتوهم أن بعض الأحكام منوط بأسماء الأشياء أو بأشكالها الصورية غير المستوفاة المعاني الشرعية فتقع في أخطاء في الفقه) . ابن عاشور: ص105؛ وفي معين الحكام الطرابلسي: العبرة في التصرفات بدل العقود. وهو أعم من التعبير بالعقود، فيشمل الدعاوى كما في أصول الكرخي حيث قال: (الأصل أنه يعتبر في الدعاوى مقصود الخصمين في المنازعة دون الظاهر) .
__________
(1) انظر أحمد الزرقاء؛ وشرح القواعد الفقهية: ص16.
(2) ورد تفصيل هذا القول وبيان أحكامه المجملة في الفصول العمادية. فبيع الوفاء في الحقيقة رهن. فالمبيع في يد المشتري كالرهن في يد المرتهن لا يملكه ولا يطلق له الانتفاع إلا بإذن مالكه. وهو ضامن لما أكل من ثمره واستهلك من شجره، والدين ساقط بهلاكه في يده إذا كان به وفاء الدين، ولا ضمان عليه في الزيادة إذا هلكت من غير صنعه، وللبائع استرداده إذا قضى دينه. ولا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام لأن المتعاقدين وإن سمياه بيعًا لكن غرضهما الرهن والاستيثاق للدين. انظر العمادي. العمادية: 102ب؛ وجامع الفصولين: ص234. وأصل هذا فتاوى النسفي. انظر: البنشانجي: 73 ب؛ الفتاوى الهندية: 3/209؛ والزيلعي: 5/183.
(3) بالأصل ابن شجاع، والصحيح ما أثبته. وهو السيد الإمام أبو شجاع محمد بن أحمد بن حمزة. فقيه حنفي. كان معاصرًا للإمام السُّغدي وللقاضي الماتريدي. وكان المعتبر في زمانهم في الفتاوى أن يجتمع هؤلاء الثلاثة. ومن شواهد ذلك أن السيد الإمام أبا شجاع كان يرى بيع الوفاء رهنًا ويفتي الناس بذلك. وحين قدم القاضي علي السغدي من بخارى إلى سمرقند استفتي في هذه المسألة فكتب أنه رهن وليس ببيع. وبمثل هذا أفتى أبو الحسن الماتريدي. فقال السيد الإمام للقاضي أبي الحسن: قد فشت هذه البياعات بين الناس وفيه مفسدة عظيمة وفتواك أنه رهن وأنا أيضًا على ذلك. والصواب أن نجمع الأئمة والمشائخ ونتفق على هذا ونظهر ذلك بين الناس. فقال: المعتبر اليوم فتوانا وقد ظهر ذلك بين الناس. فمن خالفنا فليبرز نفسه وليقم دليله. اللكنوي: ص155؛ والقرشي: 3/28، 1160؛ والعمادية: 102 ب؛ والجامع: 1/234.
(4) هو السيد الإمام أبو الوضاح محمد بن السيد الإمام أبي شجاع محمد بن أحمد بن حمزة. أحد الأئمة المشهورين في الفروع والأصول. تفقه على والده وروى عنه. وبرع في الفقه ودرس بمدرسة قثم، وذهب إلى الحجاز وبغداد، ثم أقام على التدريس ونشر العلم. ورد ذكره في ترجمة ابنه السيد الإمام الأشرف. اللكنوي: ص49؛ والقرشي: 3/317، 1481.
(5) هو ركن الإسلام أبو الحسن علي بن الحسين بن محمد السغدي. فقيه حنفي 461. ولي القضاء وتصدر للإفتاء. وله النتف في الفتاوى وشرح الجامع الكبير للشيباني، وشرح أدب القاضي للخصاف. اللكنوي: ص21؛ والقرشي: 2/567، 969؛ والزركلي: 5/90؛ وكحالة: 7/79.
(6) هو القاضي الحسن الماتريدي. كان رفيقًا للسيد أبي شجاع محمد بن أحمد حمزة والقاضي علي السغدي. انتهت إليهم رئاسة الحنفية في زمانهم. القرشي: 4/307، 2047؛ واللكنوي: ص65.
(7) هو الفقيه الحجة صاحب عدة الفتاوى. نقل عنه الإسبيجابي قال: وقد رأيت من عدة فتاوى القاضي الإمام الأمير وفي كلها أنه رهن. وثبت رجوعه عن القول بأنه بيع جائز ويوفى بالوعد. العمادية: 102 ب؛ والبزازية: 4/405؛ وذكر الكتاب باسم عدة الفتاوى والمفتين ولم ينسبه وقال في مجلدين ولعله هو. الكشف: 1129.(7/1276)
والمراد بالمقاصد والمعاني ما يشمل المقاصد التي تعينها القرائن اللفظية التي توجد في عقد فتكسبه حكم عقد آخر، وكذا ما يشمل المقاصد العرفية المرادة للناس في اصطلاح تخاطبهم فإنها معتبرة في تعيين جهة العقود. وقد صرح الفقهاء بأنه يحمل كلام كل إنسان على لغته وعرفه، وإن خالفت لغة الشرع وعرفه، ومنه انعقاد بعض العقود بألفاظ غير الألفاظ الموضوعة لها مما يفيد معنى تلك العقود في العرف كانعقاد البيع والشراء بلفظ الأخذ والعطاء. المجلة: مادة 163 و 172، وانعقاد شراء الثمار على الأشجار بلفظ الضمان في عرفنا الحاضر. أحمد الزرقاء: القاعدة الثانية المادة الثالثة، 13.، بدليل جعلهم الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط عدم براءته كفالة (1) . وما ذاك إلا اعتبارًا "لجانب المعنى وإلغاء لخصوص المبنى" المراد بالعقود المذكورة في هذه القاعدة العقود المبنية على الأغراض والمقاصد لا على الألفاظ كالبيع والإجارة والحوالة تعتبر فيها المقاصد والمعاني؛ ولا عبرة للألفاظ. ولهذا جرى حكم الرهن في البيع بالوفاء وإن كان منعقدًا بلفظ البيع لأنه لم يقصد به تمليك المبيع للمشتري بل تأمينه على دينه. ومما يتفرع على هذه القاعدة: ما لو قال: وهبتك هذه الدار بثوبك هذا كان بيعًا بالإجماع إذ العبرة للمعاني لا للألفاظ (در منتقى) ومنه أن الكفالة المشروط فيها براءة ذمة المديون حوالة، والحوالة بشرط عدم براءة ذمته كفالة، والهبة بشرط العوض بيع فتجري فيها الشفعة، والإعارة لمدة معلومة بأجر معلوم إجارة. (أشباه) ، والوصاية حال حياة الموصي وكالة، وتوكيله بعد موته وصاية (بزازية) شرح المجلة: ص19. وقد نبه الشيخ أحمد الزرقاء على جملة من العقود، يجري فيها اعتبار المقاصد والمعاني دون الألفاظ والمباني فذكر بيع الوفاء وما يحصل من صور ذلك بين الكفالة والحوالة، وبين البيع والهبة، وبين الهبة والإجارة، وبين الهبة والإقالة، وبين الهبة والقسمة، وبين المضاربة والقرض والبضاعة (وهي أن يكون المال وربحه لواحد والعمل من الآخر) ، وبين الصلح وغيره من العقود، وبين الوصايا والوكالة، وبين العارية والقرض، وبين الشفعة والبيع، وبين الإقرار والبيع، وكثير غيرها. أحمد الزرقاء؛ شرح القواعد الفقهية: ص18 - 21. ويستثنى من هذه القاعدة مسائل منها: إذا قال أحد لآخر بقصد أن يهبه ماله: بعتك مالي هذا بدون ثمن فلا يبطل لفظ البيع، ولا يحمل على الهبة، ولو كان قصد المتكلم الهبة، لما بين اللفظين من التضاد. فلا يحمل أحدهما على الآخر. وكذا إذا قال أحد لآخر بقصد أن يعيره منزله: أجرتك منزلي هذا بدون كراء فلا يحمل قوله على الإعارة وإن كانت هي المقصودة بكلامه (أشباه) . شرح المجلة: ص19 - 20؛ علي حيدر. درر الحكام: 1/18 - 19، 3؛ أحمد الزرقاء: ص13 - 34. . وقد أوتي في هذا العقد بمعنى الرهن من شرط أخذه عند قضاء الدين والتوثق له بالعين، فيكون رهنًا حكمًا وإن كان بيعًا اسمًا.
__________
(1) وفي كنز الدقائق: وطالب (الدائن) الكفيل أو المديون إلا إذا شرط البراءة فحينئذ تكون حوالة كما أن الحوالة بشرط أن لا يبرأ بها المحيل كفالة. النسفي: وصورة هذه: رجل له على رجل مال فقال الطالب للمديون: أحلني بمالي عليك على فلان على أنك ضامن لذلك، فقبل: فهو جائز. وله أن يأخذ بالمال أيهما شاء لأنه لما اشترط الضمان على المحيل فقد جعل الحوالة كفالة لأن الحوالة بشرط عدم براءة المحيل كفالة. الخانية: 3/180.(7/1277)
واعترض "بأن الانتفاع به مقصود، كما أن الاستيثاق به مقصود. فلا وجه لجعله رهنًا مع رضاه (1) بالانتفاع. فعلى هذا لا يكون رهنًا لا لفظًا ولا غرضًا" (2) . يعني وإذا كان الانتفاع به مقصودًا أيضًا، فلا وجه لترجيح التوثق عليه (3) إن سلم تساويهما. لما فيه من ترجيح أحد المقصودين على الآخر بلا مرجح، فكيف [و] (4) لو ادعي ترجيح قصد الانتفاع عليه بأنه الأسبق ملاحظة (5) مع مساعدة اللفظ (6) له لم يبعد. لا يقال قصد الانتفاع بل شرطه لفظًا لا يمنع اعتباره رهنًا، إذ غاية ما في الباب أن يكون رهنًا مشروطًا فيه شرط فاسد وهو الانتفاع به، فيبطل الشرط ويصح الرهن، إذ (الرهن لا يبطل بالشروط الفاسدة) هو مما لا يبطل بالشروط الفاسدة (7) لأنا نقول: ذلك لو عنون عنه بالرهن، والكلام فيما إذا عنون عنه بالبيع.
وبعد هذا، فقد نقل صاحب التنوير (8) في فتاواه تصحيحه (9) عن جواهر الفتاوى (10) ، وغيرها، وقال: وعليه فللقاضي الحنفي أن يحكم بكونه رهنًا بعد الدعوى الشرعية، يعني لكونه قولًا مصححًا، والممتنع منه حكمه بالضعيف.
__________
(1) أي البائع. ب.
(2) المعترض هنا هو ابن قاضي سماونة صاحب جامع الفصولين. ب. ولفظه ما حصرناه. انظر الجامع: 1/235، والاعتراض منقوض إذ بقصد الاستيثاق يكون رهنًا غرضًا وإن لم يكن رهنًا بالنظر إلى الرضاء بالانتفاع. ولا شك أن الاستيثاق هو المقصود أصالة في عقد هذا البيع بخلاف الانتفاع، إذ الاستيثاق مقتضيه والانتفاع مقتضاه كما لا يخفى على ذوي الألباب. البنشانجي: 74 أ.
(3) أي الانتفاع. ب.
(4) ساقطة من ج، ر.
(5) أي في نظر المشتري. ج.
(6) حيث عبر عنه ببيع. ج.
(7) الشرط الفاسد هو ما لا يكون من مقتضيات العقد ولا يلائمه، وفيه نفع لأحد العاقدين، أو فيه نفع لمبيع هو من أهل الاستحقاق فيبطل الشرط ولا يؤثر على صحة العقد. وما لا يبطل بالشرط الفاسد عقود ومسائل كثيرة نقتصر على ذكر بعضها. وهي القرض والهبة والصدقة والرهن والإيصاء والوصية والشركة والمضاربة والقضاء والكفالة والحوالة إلا في بعض الصور والوكالة والإقالة والحجر وفكه والإذن بالتجارة والصلح عن دم العمد والإبراء عنه والرد بالعيب والرد بخيار الشرط وإسقاطه. شرح المجلة: المادة 83، ص55 - 56.
(8) لعله التنوير في شرح كتاب الخلاطي ص652؛ وتلخيص الجامع الكبير للإمام الشيباني. الكشف: ص472 - 473.
(9) كذا في ج وفتواه في ب، وفتاواه الصحيحة في ر. وتضيف البيرمية بيانًا في الهامش: أي القول بأنه رهن محض. ب.
(10) هي للإمام ركن الدين أبي بكر محمد بن أبي المفاخر عبد الرشيد بن نصر بن محمد بن إبراهيم بن إسحاق الكرماني: 565. إمام جليل كانت له اليد الباسطة في المذهب والخلاف. والباع الممتد في حسن الكلام ونقل الفتاوى عن الأسلاف الأعلام. جمع فيها فتاوى أبي الفضل الكرماني، وفتاوى اليزدي، وفتاوى عطاء بن حمزة السغدي، وفتاوى النجم النسفي، وفتاوى مجد الشريعة الكرماني، وفتاوى أئمة المتأخرين منسوبة إلى أصحابها. وله غرر المغاني في فتاوى أبي الفضل الكرماني، وزهرة الأنوار في الحديث، وحيرة الفقهاء. الكشف: ص615؛ والإيضاح: ص619؛ وكحالة: 10/166؛ واللكنوي: ص176.(7/1278)
ثانيها: أنه بيع جائز لازم فيما إذا عقد بلفظ البيع من غير
[368] ذكر شرط فيه، لا فرق بينه وبين البيع البات الصحيح في حكم ما (1) ، حتى لا يفسخ إلا بالتراضي على جهة الإقالة. وهو الذي نقل غير واحد عن النسفي اتفاق شيوخه في زمانه عليه، على ما كان عليه بعض السلف (2) . وحجتهم أن متعاقديه تلفظا بلفظ البيع من غير ذكر شرط الفسخ فيه، وإن أضمراه بقلوبهما إذ ذاك (3) أو شرطاه نصًّا قبل العقد، بناء على (العبرة في الشرط المفسد بقرانه للعقد باللسان) أن العبرة في الشرط المفسد بقرانه للعقد ذكرًا باللسان دون تقدمه ذكرًا عليه، ولا قرانه به مضمرًا في الجنان (4) .
ولهذا كان تزوج المرأة على نية تطليقها إثر الوطء نكاحًا صحيحًا، نظرًا للفظه لا فاسدًا على أنه نكاح متعة باعتبار قصده (5) .
وبناء على هذا أفتى النسفي: (من عقد بلفظ البيع مضمرًا للرد (6) عند الرد (7) كالمشتري منه (8) ، بأنه يسعه أن يحلف أن البيع كان بتًّا مع ذلك الإضمار) (9) .
__________
(1) أحمد الزرقاء: ص15.
(2) يروي صاحب الفتاوى هذا القول عن أحمد بن موسى الكشي عن علامة سمرقند النسفي صاحب المنظومة: (قال: اتفق مشايخ زماننا على صحة هذا البيع على ما كان عليه بعض السلف) فجعلوه بيعًا جائزًا مفيدًا بعض أحكامه وهو الانتفاع به، دون البعض وهو البيع، لحاجة الناس إليه ولتعاملهم فيه. والقواعد قد تترك بالتعامل. وجواز الاستصناع لذلك. البزازية: 4/406؛ الزيلعي: 5/184؛ وفي فتاوى النسفي، ومجمع النوازل. العمادية: وسط 103 أ.
(3) تعليق. بهامش ر في غير محله، وموضعه كما في الخوجية.
(4) أي عند العقد. ب.
(5) إذ العبرة هنا للملفوظ دون المقصود. العمادية: وسط 103 أ، الجامع: 1/235. وهذا خصوصًا عند تحقق الركن في العقد وهو الإيجاب والقبول وتوفر عامة شروط الصحة المتعلقة بالمتعاقدين وبالمعقود عليه. والأخذ بهذه القاعدة مما يعارض سابقتها أو يختلف عنها وهي: (أن العبرة في العقود بالمقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني) التي قدمنا الحديث عنها. وللعمل بهذا الرأي أصل في المذاهب الفقهية. قال الإمام الشافعي: (أصل ما أذهب إليه أن كل عقد كان صحيحًا في الظاهر لم أبطله بتهمة ولا بعادة بين المتبايعين وأجزته بصحة الظاهر وأكره لهما النية إذا كانت النية لو ظهرت كانت تفسد البيع ... ) الأم: 3/65.
(6) للمبيع. ب.
(7) للثمن. ب.
(8) فإنه أضمر ذلك. ب.
(9) انظر فتوى النسفي لمن جاءه مستفتيًا قائلًا: (بعت حانوتًا من رجل بأربعمائة درهم غطريفية ثم طلب المشتري إقالة البيع ورد الثمن وهو يقول: بعتني بيع الوفاء وأنا أقول بعتك بيعًا باتًّا. فأجاب إن القول قولك. فقال السائل: لو حلفني على ذلك يسعني أن أحلف؟ وكان من نيتي أن آخذ الحانوت منه وأرد الثمن إليه، وكان قصد المشتري ذلك أيضًا أنه يأخذ الثمن ويرد الحانوت بعد زمان كما هو العرف إلا أني لا أقدر اليوم على أن أنقد أربعمائة غطريفية. أجاب إن ما ذكر كان قبل العقد وما كان في القلب عند العقد لا عبرة لذلك، إذ لم يذكر عند العقد إلا الإيجاب والقبول، ويسعك أن تحلف أنك بعته بيعًا باتًّا) . فدل هذا أن العبرة للملفوظ وقد تلفظ بلفظ البيع لا الرهن فاعتباره بيعًا أولى. انظر العمادية: وسط 106 أ؛ الجامع: 1/235 - 236؛ الطرابلسي: 147.(7/1279)
ثالثها: أنه بيع جائز لكنه غير لازم. فيحل للمشتري الانتفاع بالمبيع لجوازه مع إذن مالكه فيه. ويفسخ بطلب أحدهما لعدم لزومه. وهو الذي ذكره قاضيخان أثناء كلام له، بقوله: (وإن ذكرا البيع بلا شرط ثم ذكرا الشرط، (أي الرد المشروط غرضًا) على وجه المواعدة (1) ، جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد [لأن المواعدة قد تكون لازمة فتجعل لازمة] لحاجة الناس (إليه) (2) . زاد الزيلعي (3) : (قال عليه الصلاة والسلام: العدة دين) (4) فيجعل هذا الميعاد لازمًا. ثم نقل عن حواشي جلال الدين (5) على الهداية تصويره بأن يقول (البائع) للمشتري: (بعت منك [هذا] العين بألف، على أني لو دفعت إليك ثمنك تدفع [العين] إليَّ) (6) . ولا يخفى أن هذا هو الذكر على وجه الشرط، لكون كلمة "على" من أدواته عند الفقهاء لا المواعدة. ليت شعري،
[369] إن لم يكن هذا ذكرًا على وجه الشرط فما صورته؟ (7) ، وإنما صورة الذكر على وجهها أن يقول أحدهما للآخر بعد الإيجاب والقبول: أريد منك أني متى رددت عليك ما قبضت منك ترد عليّ ما قبضت مني. فيقول الآخر: نعم، أو يقول البائع (8) ابتداء: إن رددت عليّ الثمن رددت عليك المبيع.
__________
(1) أي لا بصيغة الشرط. ب. ولكن على وجه المواضعة قبل البيع. انظر الطرابلسي: ص147.
(2) النقل بتصرف. انظر الخانية: 2/353؛ العمادية: 90 ب 91 أ.
(3) هو فخر الدين أبو محمد بن علي بن محجن من أهل زيلع بالصومال. 743 فقيه فرضي نحوي. له تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، وشرح الجامع الكبير للشيباني. وشرح المحتار للموصلي. اللكنوي: ص115؛ الزركلي: 4/373؛ كحالة: 6/263.
(4) الحديث لابن مسعود: (لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العدة العدة) . أخرجه الطبراني في الأوسط والقضاعي وغيرهما؛ وعن علي مرفوعًا: (والعدة دين، ويل لمن وعد ثم أخلف، ويل له ويل له) . وفي لفظ: عدة المؤمن دين. السخاوي. المقاصد: ص282، 685.
(5) هو الإمام جلال الدين عمر بن محمد بن عمر الخبازي: ص629 - 691. فقيه أصولي. أخذ عن علاء الدين البخاري، وعنه أبو العباس أحمد بن مسعود القونوي. درس وأفتى وحج. له حواش مشهورة على الهداية، والمغني في أصول الفقه. اللكنوي: ص151؛ القرشي: 2/668، 1072؛ كحالة: 7/315.
(6) الزيلعي: 5/184.
(7) نخ: بما صورته. ص.
(8) بالأصل كذا البائع في جميع النسخ؛ ولعله المشتري. التنبيه من ر.(7/1280)
أما كون هذا العقد جائزًا، فلخلوه عن المفسد، وهو ذكر الاسترداد في قالب الشرط. وأما عدم لزومه فللزوم الوفاء بالوعد.
وظاهر إطلاق قاضيخان، أن لا فرق في ذلك (1) بين كون الثمن ثمن المثل أو فيه غبن يسير أو فاحش.
وفي الخيرية (2) ، نقلًا عن الحاوي للزاهدي (3) : (إن الفتوى في ذلك أن البيع إذا أطلق ولم يذكر فيه الوفاء إلا أن المشتري عهد إلى البائع بعد البيع المطلق، أنه إذا أوفى [بـ] مثل ثمنه، فإنه يفسخ معه البيع [و] يكون باتًّا (4) ، حيث كان الثمن (5) ثمن المثل أو بغبن يسير) (6) . فيكون إطلاق قاضيخان فيه أنه جائز غير لازم خلاف ما عليه الفتوى فيه.
__________
(1) أي في كونه جائزًا غير لازم. ب.
(2) هي الفتاوى الخيرية لنفع البرية لشيخ الإسلام خير الدين بن أحمد بن نور الدين العليمي الفاروقي الرملي: 693. مفسر محدث فقيه ولغوي. له مظهر الحقائق الخفية من البحر الرائق، وحاشية على الأشباه والنظائر، وحاشية على جامع الفصولين، ومسلك الإنصاف في عدم الفرق بين مسألتي السبكي والخصاف في الأشباه والقواعد، ونحو ذلك من الكتب. البغدادي: 1/358. وجمع له ابنه نجم الدين فوائده وهي الحاشية المعروفة باللآلي الذرية في الفوائد الخيرية المطبوعة في الصلب مع جامع الفصولين، وله ديوان شعر. كحالة: 4/132.
(3) هو حاوي مسائل الواقعات والمنية وما تركه في تدوينه مسائل القنية وما زاد فيه من فتاوى لتتميم القنية. وصاحب هذه الفتاوى الجامعة هو أبو الرجاء نجم الدين مختار بن محمود الزاهدي الغزميني. 658. أحد كبار الأئمة. الفقيه الأصولي الفرضي، كان عالمًا بالخلاف والمذهب، ذا باع طويل في الكلام والمناظرة، وله كتاب الفرائض، والجامع في الحيض وغيرها. الكشف: ص628؛ والبغدادي: 2/423؛ اللكنوي: ص123؛ القرشي: 3/460 - 462؛ 1642؛ كحالة: 12/211.
(4) خبر أن في قوله أن البيع. ب.
(5) قوله: حيث كان ... إلخ مفهومه أن لا تكون الفتوى على أنه بات إذا لم يكن كذلك بأن يكون فيه غبن فاحش بل يكون كذلك جائزًا غير لازم، لأن كونه كذلك يرجع أنه ليس ببات، إذ لم تجر العادة بالإقدام على عقده بفاحش الغبن واحتمال جهل البائع بالقيمة أو سفهه أو قصده نفع المشتري خلاف الظاهر فلا يعول عليه ج، ب، ر.
(6) انظر الرملي: 1/226. وبنفس اللفظ تقريبًا صرح الزاهدي في قسمة المنية في تتميم القنية: (إن البيع إذا أطلق ولم يشترط فيه الوفاء إلا أن المشتري وكل بعد العقد وكيلًا بفسخه مع البائع عند أداء مثل الثمن فهو بيع بات لا رهن إذا كان البيع بمثل الثمن أو بغبن يسير) . الزاهدي. صدر باب فيما يتعلق ببيع الوفاء: 1/236.(7/1281)
رابعها: أنه بيع فاسد (1) وهو على ما في الخانية فيما إذا عبرا بالبيع وشرطا فسخه في العقد، أو بالبيع بشرط الوفاء، أو أطلقا البيع. وعندهما أن هذا البيع غير لازم، يعني باعتبار دخولهما على ما كانا شرطاه قبل العقد. والفساد في القسم الأخير على خلاف ما مَرَّ من فتوى النسفي: أن الشرط المفسد لا يؤثر إلا إذا لفظ به وقت العقد [دون ما كان متقدمًا عليه.
(إلحاق الشرط المفسد بالعقد) وأما ما كان متأخرًا عنه فإنه يلتحق به حتى كأنه مقارن له فيفسد (2) . وهل يشترط لصحة الإلحاق كونه في مجلس العقد؟ خلاف. والصحيح عدم اشتراط
[370] ذلك] (3) .
وعلى القول بالفساد صاحب العدة (4) ، واختاره ظهير الدين (5) ، ثم اختلف الذاهبون إليه: فمنهم من أعطاه أحكام الفاسد كلها حتى فوات فسخه بيع (6) مشتريه باتًّا، ومنهم من استثنى هذا منها وألحقه فيه ببيع المكره بجامع عدم الرضى، حتى لا يفوت بالبيع ولو تكرر فيه (7) .ولهذا الإلحاق ذكره الزيلعي في كتاب الإكراه، وعليه الصدران السعيد والشهيد (8) .
ونقل العمادي أن الفتوى في هذا (9) على قول الفريق الثاني (10) ، وأن زوائد المبيع فيه بناء على الفساد مضمونة على المشتري ضمان زوائد المغصوب بالاستهلاك لا الهلاك، حتى لو استهلك ثمن الكرم [وزرع الأرض وعلى قياسه وسكن الدار] (11) غرم (12) .
__________
(1) أحمد الزرقاء: ص 15.
(2) عبارة قاضيخان: إن ذكرا شرط فسخ في البيع فسد البيع، وإن لم يذكرا ذلك في البيع وتلفظا بلفظ البيع شرط الوفاء أو تلفظا بالبيع الجائز، وعندهما هذا البيع عبارة عن عقد غير لازم. الخانية: 2/253؛ ومن فوائد شيخ الإسلام برهان الدين وعن مختصر الخصاف أن الشرط الفاسد إذا ألحق بالعقد يلتحق عند الإمام لا عندهما. الطرابلسي: ص148.
(3) وذكر السرخسي وأبو اليسر أنه يشترط، وفي الإيضاح لا يشترط، وهو الصحيح. من فوائد صاحب المحيط. البزازية: 4/407؛ والطرابلسي: ص 148؛ وما بين العاقفتين ساقط من ج.
(4) هو كتاب العدة في الفتاوى. ذكره البنشانجي في رموز نور العين ولم ينسبه.
(5) هو ظهير الدين أبو المكارم المرغيناني أبو المحاسن الحسن بن علي بن عبد العزيز. توفي حوالي 600. فقيه حنفي ومحدث. تفقه على البرهان عبد العزيز ابن مازة ومحمود الأوزجندي والخطيب مسعود بن الحسن الكشاني، وتفقه به ابن أخته افتخار الدين صاحب الخلاصة. نشر العلم إملاء وتصنيفًا، وكتب في الشروط والسجلات والأقضية. وله فتاوى وفوائد. الكشف: ص1046؛ اللكنوي: ص62؛ كحالة: 3/263. وكذلك اختاره صاحب الغاية فيما نقله شلبي منها. الزيلعي: 5/183. وظهير الدين الولوالجي وهو أبو المكارم إسحاق بن أبي بكر الحنفي: 701. فقيه. له فتاوى. الكشف: ص1230؛ كحالة: 2/231. وقد نَبَّهَ على خطأ هذه المعلومات صاحب الفوائد البهية، وجعل الولوالجي صاحب الفتاوى أبا الفتح ظهير الدين عبد الرشيد بن أبي حنيفة بن عبد الرزاق. 467 - بعد 540. إمام فاضل تفقه ببلخ بأبي بكر القزاز بن علي البلخي. له الفتاوى الولواليجية. اللكنوي: ص94.
(6) بالأصل: بيع، وببيع في ج.
(7) صوره الزيلعي بقوله: (أن يقول البائع للمشتري: بِعْتُ منك هذا العين بدين لك عليّ على أني متى قضيت الدين فهو لي) . ثم قال: (فجعلوه فاسدًا، باعتبار شرط الفسخ عند القدرة على إيفاء الدين يفيد الملك عند اتصال القبض به، وينقض بيع المشتري كبيع المكره لأن الفساد باعتبار عدم الرضاء، فكان حكمه حكم بيع المكره في جميع ما ذكرنا) . الزيلعي: 5/183.
(8) بالهامش تعليق بياني: هما الأخوان ابنا الصدر الأجل برهان الدين أكبر [فقهاء] ما وراء النهر. قال في تعليم المتعلم: كان الصدر الأجل برهان الدين جعل وقت السبق لابنيه المذكورين وقت الضحوة الكبرى بعد جميع الأسباق وكانا يقولان: إن طبيعتنا تكل وتمل في ذلك الوقت. فقال أبوهما: إن الغرباء وأولاد الكبراء يأتونني من أقطار الأرض، ولا بد أن أقدم أسباقهم. فببركة تنشئته فاق ابناه على أكثر فقهاء أهل الأرض في ذلك الزمان في الفقه. 1هـ. ب. وقريب من هذا في مسألة السبق من كتاب تعليم المتعلم طريق التعليم ما ورد في ترجمة صاحب الهداية البرهان المرغيناني. انظر اللكنوي: ص 141 - 144. وقد تقدم التعريف بالصدر الشهيد، وأخوه الصدر السعيد هو تاج الإسلام أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مازة. 536. له الجامع المنسوب إليه، رتب فيه الجامع الصغير على مرتب القاضي أبي الطاهر الدباش. ذكره شلبي في حاشيته على الزيلعي: 5/183؛ وترجم له اللكنوي: ص24؛ القرشي: 1/189، 129؛ الكشف: 1/563.
(9) أي فواته بالبيع وعدمه. ج، ب، ر.
(10) وهم القائلون بعدم فواته به مع القول منهم بفساده. ج، ب، ر.
(11) الزيادة من ج.
(12) انظر إلحاق حكم ضمان الزوائد في البيع الفاسد بحكم ضمان زواد المغصوب. البزازية: 4/408؛ العمادية: 104 أ؛ وفي فوائد بعض المتأخرين. انظر الجامع: 1/237.(7/1282)
خامسها: أنه مركب من رهن وبيع جائز بات، على معنى أنه يعتبر رهنًا بالنسبة للبائع حتى يسترد العين عند قضاء ما عليه من الدين ويضمنها له المشتري بالهلاك أو الانتقاص ضمان الرهن، وبيعًا باتًّا صحيحًا بالنسبة للمشتري في حق نزله ومنافعه حتى يطيب له أكل ثمره والانتفاع به سكنى وزراعة وإيجارًا (1) . وعلى هذا استقر عمل شيوخ النسفي على ما نقله عنه الزيلعي (2) . وقال العمادي: وفتوى جدي شيخ الإسلام برهان الدين وأولاده ومشائخ زمانهم (3) ، على أن الملك يثبت للمشتري شراء جائزًا في زوائد المبيع، ولا يغرم لو استهلكها. وعليه استقر قول أئمة زماننا وأستاذينا رحمهم الله [تعالى] (4) .
ومراده (صاحب الهداية) بجده البرهان الإمام النبيل ذو الباع الطويل علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني صاحب الهداية. وناهيك به جبلًا من جبال العلم معدودًا في طبقة أهل
[371] الترجيح، مقرونًا بالقدوري (5) وأضرابه، كما ذكره العلامة ابن كمال باشا (6) .
وحجة هؤلاء في اعتباره على هذا الوجه احتياج الناس إليه وتعاملهم به، والقواعد تترك بالتعامل (7) . ولهذا الوجه جاز الاستصناع (8) ، مع أن قاعدة امتناع بيع المعدوم تأباه (9) . وما ضاق على الناس أمر إلا اتسع (10) ، ولا بدع في إعطائه حكم عقدين إذ كثير من العقود كذلك. (الهبة بعوض يشترط لها القبض وعدم كونها في مشاع.) فهذه الهبة بشرط العوض، والهبة في حال المرض، أعطي لكل منهما حكم الهبة من اشتراط القبض وعدم كونهما في مشاع قابل للقسمة (11) . وأعطي للأولى حكم البيع عند القبض حتى ثبتت فيها الشفعة (12) ، (الهبة في المرض تخرج مخرج الوصية من الثلث) والثانية حكم الوصية حتى كان خروجها من الثلث (13) .
واعلم أن احتياج الناس للشيء وتعاملهم به أصلان كبيران في المذهب، كما يعلمه من خبره. فلذلك وقع من أهل الترجيح اختيار هذا القول فيه. فقد نقل الزيلعي عن صاحب النهاية (14) أن عليه الفتوى (15) ، وفي قاعدة الحاجة تتنزل منزلة الضرورة (16) من الأشباه (17) : (ومنها الإفتاء بصحة بيع الوفاء حين كثر الدين على أهل بخارى وهكذا بمصر، وسموه بيع الأمانة، والشافعية يسمونه الرهن المعار (18) ، وهكذا سماه به في الملتقط) (19) .
__________
(1) يتفق ما أورده المؤلف هنا مع القول السادس الذي ذكره البزازي حيث قال: (واختار البعض واختاره الشيخ الإمام فخر الدين الزاهد أن الشرط إذا لم يذكر في البيع نجعله صحيحًا في حق المشتري حتى ملك الإنزال، ورهنًا في حق البائع فلم يملك المشتري تحويل يده وملكه إلى غيره، وأجبر على الرد إذا حضر الدين لأنه كالزرافة مركب من البيع والرهن ... ) البزازية: 4/407 - 408.
(2) انظر الزيلعي: 5/183، 184. وعبارة جامع الفصولين: (وقال شيخ الإسلام برهان الدين ومشائخ زمانه إن المشتري يملك زوائد المبيع ولا يضمنها بإتلافها) . الجامع: 1/237.
(3) نخ. دينهم. ر.
(4) انظر العمادية: 104 أ.
(5) هو أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان. 362 - 428. فقيه انتهت إليه رئاسة مذهب أبي حنيفة. له شرح مختصر الكرخي، والتقريب الأول، والتقريب الثاني، والتجريد. ومن أهم مصنفاته المختصر المشتمل على اثنتي عشرة ألف مسألة، وعليه شروح كثيرة معتبرة. الكشف: ص1631؛ كحالة: 2/66.
(6) هو القاضي شمس الدين أحمد بن سليمان بن كمال باشا: 940/1574. قاضي القسطنطينية ومفتيها. له إيضاح الإصلاح في الفقه، وتغيير التنقيح في الأصول، ومجموعة رسائل، وطبقات الفقهاء. الفوائد البهية: ص21؛ الزركلي: 1/133؛ كحالة: 1/238.
(7) انظر أحمد الزرقاء: 36/37، 165 - 169.
(8) هو عقد على مبيع في الذمة مطلوب صنعته على أوضاع وشروط تم الاتفاق عليها في العقد في نظير عن معلوم. الموسوعة الفقهية المصرية: 9/90.
(9) ورد النهي في السنة عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم. والاستصناع لا يجوز قياسًا، وهو جائز استحسانًا لإجماع الناس على ذلك. فهم يفعلون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ". والقياس يترك بالإجماع. الكاساني: 5/2 - 3.
(10) أحمد الزرقاء: القاعدة 17/ المادة 18، 111 - 112؛ القاعدة: 20/21، 131.
(11) نخ: القسمة في ب، ر. وأما قوله اشتراط القبض فيهما فلأن الهبة لا تكون إلا محوزة مقبوضة، وأما شرط عدم كونهما في مشاع فلأن الهبة لا تجوز في مشاع قابل للقسمة، وتجوز فيما هو غير قابل لها، خلافًا للشافعي الذي أجاز هاتين الصورتين. ودليل الحنفية إجماع الصحابة، وكون الشيوع يمنع من القبض أي من التمكن من التصرف في المقبوض. الكاساني: 6/115، 119 - 120. ودليل قول الشافعي أن القبض في هبة المشاع يصح كالقبض في المبيع المشاع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن وقد جاءوا يطلبون ما غنمه منهم: "مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ" المهذب: 1/446.
(12) الهبة بشرط العوض تقع هبة ابتداءً وبيعًا انتهاءً إذا اتصل القبض بالعوضين. واعتبارًا للوصف الأول يشترط التقابض في العوضين، ولا يصح الرجوع في الهبة. وإن لم يوجد فلكل من الطرفين الرجوع، وكذا لو قبض أحدهما فقط. واعتبارًا للوصف الثاني ترد بالعيب وخيار الرؤية وتؤخذ بالشفعة. رد المختار: 4/518. والهبة بشرط العوض إذا ذكرها الواهب بلفظ "على" تكون هبة ابتداءً فإن قال: وهبتك "بكذا" فهي بيع ابتداءً وانتهاءً. شرح المجلة: ص469 - 470.
(13) تصح الهبة للأجنبي في المرض إذا خرج الموهوب من الثلث أجازها الورثة أو لا. فإن أجازها الورثة بكاملها صحت وإن لم يجيزوها تنفذ من الثلث فقط. عن التنوير. شرح المجلة: ص484.
(14) هو الإمام حسام الدين حسين بن حجاج بن علي السغناني. 771. فقيه أصولي متكلم. وله الكافي شرح البزدوي في أصول الفقه، والتمهيد لقواعد التوحيد، والنهاية وهو أول شرح للهداية وأبسطها وأشملها. احتوى على مسائل كثيرة وفروع لطيفة. الكشف: ص2032؛ والقرشي: 2/114 - 116، 507؛ وكحالة: 4/28.
(15) الزيلعي: 5/184.
(16) انظر أحمد الزرقاء: القاعدة 31/ المادة 32، 155.
(17) هو الأشباه والنظائر في القواعد للعلامة زين الدين بن إبراهيم بن محمد بن نجيم 970، فقيه جليل وأصولي. أخذ فيه وفي البحر عن التاتارخانية، وقسمه إلى سبعة فنون وهو آخر تأليفه. وقد اعتنى الفقهاء بهذا الكتاب فوضعوا عليه شروحًا كثيرة واعتمدوه في كثير من مصنفاتهم. عليه تعليقات علي بن غانم، وبجري زادة، وعزمي زادة وغيرهم، وحاشية للتمرتاشي زواهر الجواهر النضائر، ونزهة النواظر لابن عابدين، وشروح: تنوير الأذهان والضمائر لمصطفى بن خير الدين الرملي، وغمز عيون البصائر للحموي، ونزهة النواظر لخير الدين الرملي، كما عليه ترتيبات كثيرة. ولابن نجيم شرح منار الأنوار في الأصول وكتاب البحر الرائق في شرح كنز الدقائق، وحاشية على جامع الفصولين، والتحفة المرضية في الأراضي المصرية، والفتاوى الزينية. واللكنوي: ص134؛ البغدادي: 1/378؛ محمد مطيع حافظ. مقدمة الأشباه: ص5 - 18.
(18) هذه الجملة: "الحاجة تتنزل منزلة الضرورة" وردت ذيل القاعدة الخامسة "الضرر يزال" من كتاب الأشباه: ص100.
(19) هو الملتقط في الفتاوى الحنفية للإمام ناصر الدين أبي القاسم محمد بن يوسف الحسني السمرقندي. 556. رتبه الإمام الزاهد جلال الدين محمد بن حسين بن أحمد الأسروشني بسمرقند. الكشف: ص1813؛ وبعد ذكر هذا المرجع قال ابن نجيم: وقد ذكرنا في شرح الكنز من باب خيار الشرط. وفي القنية والبغية أنه يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح. الأشباه: ص100.(7/1283)
ومما لا ريب فيه أن الناس إذا كانت لهم حاجة إليه في تلك الأعصار على فضلها، فهم إليه في هذا العصر على وضوح اختلاله أحوج. وقد فشا التعامل به في ديارنا فشوًا خارجًا عن الحد وقد قال الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور بجوازه في حديثه عن الرخصة عند وقوع الضرورة العامة المؤقتة. وقال: إن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة. ومثل لذلك بالكراء المؤبد في أرض الوقف الذي جرت به الفتوى بالأندلس في أواخر القرن التاسع، وفتوى ناصر الدين اللقاني بعد ذلك في إحكار الأوقاف، ثم إجازة العقود المسماة بالنصبة والخلو والجلسة والجزاء وما ألحق بها في الإنزال في تونس وفاس، وفتوى علماء بخارى من الحنفية ببيع الوفاء في الكروم لحاجة غارسيها إلى النفقات عليها قبل إثمارها كل سنة، فاحتاجوا إلى اقتراض ما ينفقونه عليها. ابن عاشور. المقاصد: ص125 - 126؛ وجاء في البيوع والمعاملات المعاصرة: نرى [بيع الوفاء] فشا في الريف بخاصة عندنا بمصر وبغير مصر من البلاد الإسلامية ... وما أحرانا أن نقر هذا العرف الذي أقره جمع من أسلافنا الفقهاء، توسعة على الناس وإبعادًا لهم عن الاقتراض بالربا ... ومن الخير إذن مراجعة الأمر وإباحة هذا الضرب من البيع على أن يشتد القانون في رعاية حق البائع والمشتري وبخاصة البائع لأنه المحتاج ... ولنا في آراء الفقهاء دليل ومستند يصح الاستناد إليه في تجويز هذا البيع للحاجة إليه. بتصرف من محمد يوسف موسى: ص138 - 140؛ انظر أحمد الزرقاء: (العادة محكمة واستعمال الناس حجة) . القاعدة: 35، 36/ المادة 36، 37، 165 - 169.، وبرزت به الفتاوى والأحكام ممن أدركناهم من الحنفية، ومنهم والدي رحمه الله تعالى، منذ صدر للإفتاء إلى أن لحق بربه، وذلك خمس وأربعون سنة،
[372] وممن لم ندركه بالبلاغ عنه. فلا يفتي الآن أو يقضي فيه منهم بغير هذا إلا من قصد الإضرار بالناس. وأما منعهم من التعامل به جملة بعد هذا الفشو والحاجة الشديدة إليه فحامل لهم على الهجوم على الربا المجمع على تحريمه جهارًا، لأن المضطر إذا أغلقت في وجهه الأبواب ارتكب المشاق الصعاب.
إذا لم تكن إلا الأسنة مركبًا
فلا يسع المضطر إلا ركوبها(7/1284)
ولهذا، مع ما انضاف إليه من تحيل الناس: وهو أنهم يعقدونه أولًا تقليدًا للمذهب الحنفي لوجود الرخصة في ذلك فيه، وعند فسخ المشتري له وطلبه الثمن من البائع يرفعه للمالكي الذي لا يراه إلا رهنًا، فيحسب عليه من ماله ما كان استغل من ثمره أو أخذ من منافعه وربما استغرق ذلك ماله، بل ربما زاد عليه عند طول المدة، رأى أميرنا (1) هذا، أيده الله تعالى وسدده ووفقه للخير وأرشده، (تحجير الحكم في بيع الوفاء على القضاة المالكية) أن حجر الحكم فيه على القضاة المالكية، وأن ما تأتيهم فيه من قضية وجهوها إلى الحنفية (2) ، حسبما أخبرني بذلك الحجر قاضيا الوقت اللذان أحدهما المالكي المحجور عليه (3) .
هذا وقضية كلام غير واحد في تقرير مذهب التركيب، ومنهم البزازي في جامعه، أنه يعتبر مركبًا من الرهن والبيع الصحيح كما سبق (4) ، وذكر في موضع آخر منه أن يعتبر مركبًا منهما ومن البيع الفاسد أيضًا (5) ، وأنه كالزرافة فيها صفة الثور والبعير والنمر. ويلوح لي أنه لا حاجة لزيادة هذا لأن اعتباره فيه ليس إلا ليفسخ بطلب أحدهما جبرًا على الآخر. وهذا يحصل [373] باعتبار الرهن فيه، الذي هو من العقود المباحة. فأي داع لاعتبار الفاسد فيه وهو من العقود المحرمة (6) .
__________
(1) هو حمودة باشا باي. 1173 - 1229. من أبرز ملوك (بايات) تونس. أنابه والده في الولاية 1191، ثم استقل بها 1196. كانت له آثار ووقائع عمرانية تشهد بشجاعته ورجاحة عقله. ابن أبي الضياف: 3/12 - 116؛ الزركلي: 2/282.
(2) وهذا دفعًا للخلط الواقع من الفقهاء والعامة في تطبيق الأحكام. وهو ما شكا منه الفقيه عبد الله بن بازرعه في رسالته إطلاق العقدة في مسائل العهدة من قوله: (وددت أنهم مشوا على ما يقوله أرباب المذاهب المذكورة في تفاريع ذلك، ليكون التقليد مستمرًّا في أصل المسألة وتفاريعها. وأما أخذ المسألة من مذهب المذكورين وأخذ تفاريعها من مذهب الشافعي رضي الله عنه فما كان ينبغي) عبد الرحمن بكير: ص147 - 148.
(3) القاضي الحنفي العلامة الشيخ أحمد بن الخوجة الأول. مؤسس البيت الخوجي. وهو الجد الأعلى لصاحب النسخة الخوجية محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن حمودة بن محمد بن علي خوجة الآستاني الشريف، والقاضي المالكي العلامة الشيخ أبو الفداء إسماعيل التميمي. نبه على ذلك أحمد ابن الخوجة الثاني كما في حاشية البيرمية والخوجية والرضوانية.
(4) انظر القول السادس، البزازية: 4/407 - 408.
(5) البزازية: 4/409.
(6) اختلف الشيوخ على التحقيق في إلحاق بيع الوفاء بالبيع الصحيح الجائز أو بالبيع الفاسد. فرجح الأول الذي ذهب إليه صاحب الرسالة جماعة وقالوا: إن إلحاقه بالصحيح أولى تقليلًا للفساد وترجيحًا لقول الإمام، وذهبت أخرى إلى أن إلحاقه بالفاسد أولى لأنه فاسد حقيقة لإلحاق الشرط الفاسد به وهو شرط الفسخ عند نقد الثمن. ومعلوم أن بيع الوفاء لم يصح في المنقول، وصح في العقار استحسانًا لا لأنه خال من المفسد. وإذا كان كذلك فإلحاقه بالفاسد أولى. اهـ. البزازية: 4/409.(7/1285)
واعلم أن الوفاء لا يصلح طريقًا للتحيل على حل الربح إلا على القول فيه بالتركيب، أو بأنه بيع جائز غير لازم لتقارب القولين باشتراكهما في حل الانتفاع به وفسخه بطلب أحدهما، وافتراقهما بعد ذلك باعتباره عقدًا واحدًا في حق كل من المتعاقدين، أو عقدين باعتبارين مختلفين، مما لا طائل تحته، ولا يصلح طريقًا له على ما عداهما من سائر الأقوال.
أما صلاحيته لذلك على كل واحد منهما فظاهرة لحصول غرض صاحب العين في التمكن من استردادها، وصاحب المال في الانتفاع بها مدة غيبة ماله عنه (1) .
وأما عدمها على ما سواها فلأن كلا من القول بالرهن والبيع الفاسد وإن حصل غرض الأول لم يحصل غرض الثاني. والقول بالبيع البات بالعكس.
فكان القائلون بالقول الثالث والخامس فيه له قابلين (2) ، وبالثلاثة الباقية رادين. كما أن كلا من ذينك القولين تمكن تمشيته في تسلمات بلدنا. لكنك عرفت رجحان الأخير، ولا تمكن تمشية ما عداهما فيها لفقدان لفظ البيع وشرط الرد نصًّا فيها.
__________
(1) وقد ذكر صاحب بيع العهدة بين مؤيديه ومعارضيه تفصيل فوائد هذا البيع، وهو بيع الوفاء، للطرفين البائع والمشتري بقوله: أولًا هي سد حاجة البائع إلى الثمن بالحصول عليه، وبقاء عهدته بحقه ببقاء حقه في المبيع وحصوله عليه في الوقت الذي يتفق عليه مع المشتري. أو يعيد فيه مثل الثمن الذي عهد به، وثانيًا ضمان حق المشتري من الثمن وضمان غلات ذلك الحق. فالبيع محجوز له ولأمره طالما كان الثمن لدى البائع، وغلاته وزوائده له باستيلائه على العين. بتصرف. عبد الرحمن عبد الله بكير: ص31 - 32.
(2) أي قبلوه على أنه حيلة لحل الانتفاع، الآن الكيفية المذكورة التي الشيخ الثالث. ب.(7/1286)
البيع بالثنيا وحكمه عند المالكية البيع بالثنيا أي بما استثنيته. وهو من البيوع الفاسدة لاشتماله على شرط مناقض للبيع. وهو عام عند ابن رشد في كل بياعات الشرط المنافية، وصورته المحددة كما في بيوع الآجال من المدونة: (ومن ابتاع سلعة على أن البائع متى رد الثمن فالسلعة له لم يجز ذلك لأنه بيع وسلف) . اهـ. وهما نوعان من التعامل مختلفان. قال سحنون: (بل سلف جر منفعة) . وقال أبو الحسن: (اختلف في هذا البيع المسمى بيع الثنيا إذا نزل، هل يتلاقى بالصحة كالبيع والسلف أم لا على قولين) ، يعني إذا أسقط الشرط: أحدهما أن البيع باطل وهو المشهور، والثاني أن البيع جائز إذا أسقط شرطه وهو قول مالك ... الحطاب. مواهب الجليل: 4/373؛ التاودي على التحفة: 1/58؛ وقال الرجراجي في تحديد طبيعة هذا البيع: (اختلف في بيع الثنيا هل هو بيع أو رهن على قولين. وفائدة الخلاف في الغلة. فمن رأى أنه بيع قال: لا يرد الغلة) . وقال مالك في العتيبة: (إن الغلة فيه للمشتري بالضمان فجعله بيعًا وأنه ضامن والغلة له، ومن رأى أنه رهن قال: يرد الغلة وأنه في ضمان البائع في كل بيع ونقص يطرأ عليه من غير سبب المشتري، وما كان من سبب المشتري فهو ضامن له، وحكمه حكم الرهان في سائر أحكامها فيما يغاب عليه) . الحطاب: 4/373. وحكى عن القابسي: أن حكم هذا البيع قبل انقضاء أجل الثنيا حكم البيع الصحيح. فالغلة فيه للبائع لأنه بمنزلة الرهن، وهو بعد انقضاء الأجل بمنزلة البيوع الفاسدة فتكون الغلة فيه للمشتري. ونبه التسولي على ما اشتهر بين الناس مما دعوه بيعًا وإقالة واعتبروه رهنًا فيما تعارفوا عليه وتعاملوا به. فالحكم في الرهنية بالاتفاق رد الغلة وعدم الفوات. وإذا وقع البيع صحيحًا وطاع المشتري بالثنيا بعد ذلك جاز لأن التطوع بالإقالة بعد العقد جائز إلى غير غاية وإلى أي حد مؤجل، وأجازوها أيضًا إلى أجل قريب أو بعيد. ثم إنه في المطلقة متى أتاه بالثمن لزمه رد المبيع إليه، ويجوز للمشتري فيه التفويت بالبيع أو غيره؛ ويفوت به على البائع المقال إلا أن يفيته بالفور ... وأما في المقيدة فلا يجوز له تفويته فإن فوته رد على ما للموثقين. وقيده الباجي بما إذا لم يبعد أجلها كالعشرين سنة فيكون حكمها حكم المبهمة في فواتها على البائع وعدم ردها. وإذا جاءه البائع بالثمن في خلال الأجل أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه بيوم ونحوه لا أكثر لزمه قبوله، ورد البيع على بائعه. ولا كلام له في أنه لا يقبض الثمن إلا بعد الأجل ... التسولي: 2/60 - 63.
ومما تعورف في بلدنا ما يعبرون عنه بالبيع بالثنيا، وصورته أنهم يعقدونه بلفظ البيع خاليًا عن قرانه بشرط الرد فيه. ثم يتفقان على رد المشتري للبائع المبيع عند رده عليه الثمن (1) ، إما مطلقًا أو إلى أجل معين، كسنة على وجه الوعد، ويعبر عنه الموثقون بالتطوع بالثنيا أو الشرط الصريح في وجهي الإطلاق (2) والتأجيل.
فالصور أربع: (الوعد بالرد مطلقًا) فإن وعد بالرد مطلقًا (3) ، فإن كان الثمن ثمن المثل أو فيه
[374] غبن يسير، فهو بيع بات ولا يلزمه الرد عند المجيء بالثمن، إذ هي مسألة الحاوي الزاهدي (4) الذي قال فيها: الفتوى على أن البيع فيها بات.
وإن كان بغبن فاحش فهو بيع جائز ويلزم الوفاء بالوعد، إذ هي مندرجة في إطلاق قاضيخان منطوقًا، ومأخوذة من كلام الحاوي مفهومًا. (الوعد بالرد إلى أجل يفسد البيع) وإن وعد به إلى أجل على معنى: وأن لم يأت به للأجل بت البيع، فالبيع فاسد، لأنه تعليق البيع على عدم الإتيان بالثمن في السنة، والبيع لا يقبل التعليق (5) .
(شرط الرد مطلقًا يفسد البيع) وإن ذكره شرطًا مع الإطلاق (6) فسد أيضًا، لأن البيع، كما لا يصح معلقًا لا يصح إذا شرط فيه شرط فاسد، وهو وإن لم يكن مقارنًا للعقد بل ألحق به فقد مر أنه يلتحق ولو في غير المجلس على الصحيح (7) ، (شرط الرد إلى أجل يفسد البيع) وإن ذكر شرطًا مع التأجيل فكذلك لذلك (8) .
وإذا فرغنا من الفصل الأول الباحث عن نفس العقد، ننقل الكلام إلى بقية الفصول الباحثة عن متعلقاته، مقدمين منها ما يتعلق بمحله، إذ هو من أركانه، فنقول:
__________
(1) إن بثمن المثل لزم البيع، وإن بغبن فاحش لزم الرد، واليسير ملحق بالمثل فيما يظهر. ب.
(2) عن الوقت. ب.
(3) بلا تأقيت. ب.
(4) المتقدمة عن الخيرية. ب.
(5) وهذا على عكس ما يذكرونه في باب خيار الشرط من مسألة البيع على أن المشتري إن لم يأت بالثمن إلى كذا فلا بيع، لأن الإتيان بالثمن في المدة هنا يترتب عليه عدم تمام البيع، وعدم الإتيان به فيها يترتب عليه التمام، وفي مسألة باب الخيار تمام البيع موقوف على الإتيان به في المدة وعدمه بعدمه. هـ. منه. ب.
(6) قسيم قوله فإن وعد ... إلخ. وفي هذا قسمان كالذي قبله. ب.
(7) يلتحق الشرط الفاسد بالعقد ولو في غير المجلس على الصحيح، وقيل: لا يلحق كما في رد المحتار من البيوع فاختلف التصحيح. ج. ر. في الأصل يلتحق عند أبي حنيفة وإن كان الالتحاق بعد الافتراق عن المجلس، وقيل لا وهو قولهم وهو الأصح كما في جامع الأصولين. رد المحتار: 4/120.
(8) تضمنت مجلة العقود والالتزامات التونسية أحكام بيع الثنيا التي كان العمل بها جاريًا بتونس قبل أن تفسخ بقانون رقم (1) لسنة 1958 المؤرخ في 18 يناير 1958، وذلك من الفصل 684 إلى 699 بدخول الغاية.(7/1287)
الفصل الثاني
فيما يصح عقد الوفاء فيه وما لا يصح
اعلم أنه لا خلاف بين القائلين به في صحة عقده في عقار البالغ العاقل، واختلفوا (1) في صحته في عقار الصبي، والمجنون مثله، كما اختلفوا في صحته في المنقول.
أما الأول فمنعه فيه العلاء العلامة (2) وغيره من أئمة سمرقند بعلة أن فيه تمليك الولي منافع عقار المولى عليه للمشتري بلا عوض، إذ مال الوفاء الذي دفعه فانتفع به المولى عليه يرد عليه بتمامه عند الفسخ، فكان فيه تبرع بها، والولي لا يملك ذلك (3) .
وأجازه صاحب العدة عند اضطرار المولى عليه
[375] إلى ثمنه، كاحتياجه للنفقة على نفسه أو ماله بانهدام في عقاره تخشى الزيادة فيه إذا لم يبادر بتلافيه وليس له مال في الحال، ولكن له ما هو مرجو الحصول في المآل (4) . وبالجواز جرى العمل عندنا بشرطه من الضرورة إليه (5) . وينبغي للوصي المبادرة إلى الفسخ ما وجد إليه سبيلًا.
__________
(1) اختلفوا على الخلاف في صحة عقد بيع الوفاء في عقار الصبي والمجنون وأن العمل عندنا هو جوازه بشرطه. ج.
(2) هو شيخ الإسلام أبو القاسم علاء الدين السمرقندي الحنفي الملقب بالعلامة. ذكره البنشانجي في بيان رموزه من نور العين ونسب إليه الفوائد العلائية قائلًا للإمام علامة سمرقند، كما ذكره في العمادية: 106 ب في مسألة الوصي يملك بيع عقار الصبي بيعًا جائزًا وقال: كان شيخ الإسلام علاء الدين العلامة وغيرهم من أئمة سمرقند على أنه لا يملك ذلك. وسماه حاجي خليفة الكشف: 1299.
(3) عبارة البزازي: قيل الوصي يملك بيع عقار الصبي بيعًا جائزًا، وقيل لا يملكه. وعنه في النوازل اختلف أئمة سمرقند في أن الوصي هل يملك بيع عقار الصبي وفاء. فأكثرهم على أنه لا يملك. وفتوى صاحب الهداية على أنه يملك. البزازية: 4/416 - 417؛ والبنشانجي: 75 ب.
(4) لبيع عقار اليتيم والمجنون وفاء لا بد من أحد المسوغات لبيع عقاريهما بتًّا. ب. وقد تعرضت الفتاوى الخيرية لهذه المسوغات فيما نصت عليه من القول بأن المصرح به في كتب علمائنا قاطبة عدم جواز بيع عقار اليتيم لغير ضرورة نفقة، أو خوف ظالم متغلب عليه، أو بيع بضعف قيمته، أو لدين على الميت لا وفاء له إلا منه، أو كان في التركة وصية مرسلة لا نفاذ لها إلا منه، أو غلاته لا تزيد على مؤنته، أو خشي عليه النقصان. الرملي: 672.
(5) الجواز أفتى به برهان الدين صاحب الهداية أيضًا. وعبارة حفيده العمادي في المسألة تحكي القولين. وسئل رحمه الله تعالى: (الوصي هل يملك بيع عقار الصبي بيعًا جائزًا؟ أجاب يملك. قال عمي نظام الدين رحمه الله وكان شيخ الإسلام علاء الدين العلامة وغيره من أئمة سمرقند على أنه لا يملك ذلك) . العمادية: 106 ب؛ والجامع: 1/242.(7/1288)
وأما الثاني وهو المنقول، فاستفيد المنع فيه من جواب صاحب العدة من سأله: (حكم الوفاء في المنقول إذا عقد الوفاء في عقار ومنقول يفسد في المنقول ولا يسري في غيره.) إذا جمع (1) في الوفاء بين العقار الذي يجوز فيه الوفاء والمنقول الذي لا يجوز حتى فسد في الثاني، هل يسري الفساد منه إليه؟ بأنه لا يسري إليه. يعني بل يقتصر فساد المنقول عليه. ونسب البزازي الجواز للنوازل صاحب النوازل هو إمام الهدى أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي. اختلف في سنة وفاته بين 373، 375، 393. ويلقب بالفقيه فلا يختلطن بالحافظ. وهو فقيه مفسر محدث حافظ متصوف. له عدد من المؤلفات منها النوازل في الفروع. جمع فيها جملة من الفتاوى والواقعات من كلام ابن شجاع الثلجي وابن مقاتل الرازي وابن سلمة ونصير بن يحيى وابن سلام وأبي بكر الإسكافي وعلي بن أحمد الفارسي وأبي جعفر محمد بن عبد الله، ومنها عيون المسائل، وتفسير القرآن، وتنبيه الغافلين، وخزانة الفقه، وبستان العارفين في الآداب الشرعية. الذهبي. التذكرة: 3/169؛ الكشف: 1981؛ البغدادي: 2/409؛ القرشي: 3/544، 1743؛ اللكنوي: 221؛ كحالة: 13/96؛ وعبارة البزازي في المسألة: (وإذا جمع في البيع الجائز بين العقار والمنقول الذي لا يجوز فيه البيع الجائز بأن لم يكن تبعًا للعقار حتى فسد في المنقول لا يتعدى إلى العقار بل يجوز فيه. وهذا إشارة إلى أنه لا يجوز الوفاء في المنقول) . ثم قال: (وفي النوازل جواز الوفاء في المنقول أيضًا) . البزازية: 4/416؛ والجامع: 1/242. .
__________
(1) قوله إذا جمع، هذا هو عين السؤال. ج، ب.(7/1289)
وعلل للمنع بأن الوفاء يقتضي سلامة البدلين عند التفاسخ، يعني والمنقول يضمحل قبله، فلا يجد البائع وقت الفسخ ما يسلم له. (فساد عقد الوفاء في المنقول يخص ما لا ينتفع به إلا باستهلاك عينه) وأنت خبير بأن عدم السلامة إذ ذاك لا تعم سائر أنواعه بل تخص ما لا ينتفع به إلا باستهلاك عينه، كالثمرة والخبز واللحم، دون ما ينتفع به مع بقائها، (العبد والدابة لا يطلق فيها القول بجواز ولا منع) كالعبد والدابة. فينبغي أن يخص المنع الأول ولا يعم الثاني (1) ولا يطلق القول فيهما بجواز ولا منع (2) .
فإن قلت: من النوع الثاني (3) (بيع النصبة وفاء وباتًّا ووقفها وهبتها) ما يعبر عنه عامتنا بالنصبة وفقهاؤنا بالسكنى لتصريحهم بأنها نقلي، فينبغي جواز عقد الوفاء عليها (4) . كما يجوز عقد البات عليها إذا لم يكن بشرط القرار.
__________
(1) أي المنقول الذي لا يتطرقه الفساد. ج.
(2) القاعدة التي يدور عليها الجواز وعدمه هي ما ورد في الدرر والغرر من قولهم: (قيل يصح بيع الوفاء في المنقول لعموم الحاجة، وقيل لا يصح لاختصاص التعامل بالعقار. فمن أجاز أخذ بالأول، ومن منع اعتمد الثاني) . البنشانجي: 75 ب. وذكر المتأخرون هذه المسألة وقالوا اختلف في جواز بيع الوفاء في المنقول إذا لم يكن المنقول من توابع العقار. وأنكر بعضهم هذا الترجيح. وقال لم تتعرض المجلة له أيضًا. ومقتضى ما ذكروه من أن تجويز بيع الوفاء بهذه الكيفية المعروفة إنما كان لضرورة الناس وتعارفهم، أنه إذا لم يتعارف الناس إجراءه في المنقول التعارف المعتبر، لا يجوز كما في الواقع في زماننا. أحمد الزرقاء. صدر التنبيه الرابع: 28.
(3) وهو ما ينتفع به مع بقاء عينه. ب.
(4) هذا مسلم. ب.(7/1290)
قلت: ذلك لو لم يدخل فيها على شرط القرار، لكنه مدخول عليه، فصار معروفًا عرفًا، وهو كالمشروط شرطًا (1) .
فإن قلت: يخرج على ما مر عن النسفي من أن لا عبرة بالشرط المفسد إذا لم يذكر عند التعاقد باللسان وإن كان مضمرًا بالجنان في بيوع الخيرية، نقلاً عن الخلاصة، والقبض، والبزازية، والتاتارخانية وغيرها، أنه يجعل البيع الصادر بعد المواضعة من غير ذكر الشرط على ما تواضعا. انظر الرملي: 1/226. وفي الفصل الأربعين من العمادية قبيل الكلام على ما يحكم فيه الحال. انظر الجنس الرابع من المسائل في إفساد العقد بعد صحته وتصحيحه بعد إفساده. نخ اليوسفية: أسفل 269 أ. وانظر نفس الموضوع في الفصل: ص39. الجامع: 2/321، وكذا في فصل أحكام بيع الوفاء، أنه إذا تواضع المتبايعان على شرط الوفاء ثم تبايعا خاليًا عن هذا الشرط، فالعقد جائز. ولا عبرة للمواضعة السابقة نقل ذلك عن فوائد جده. نخ أحمدية: أول 103 ب. وفي الفصل التاسع عشر نقلًا عن نجم الدين أن ما كان قبل العقد، وما كان في القلب عند العقد لا عبرة لذلك إذا لم يذكر عند العقد سوى الإيجاب والقبول. وذكر هناك فروعًا أخرى من هذا الجنس. العمادية. نخ أحمدية: وسط 103 أمحمد ابن الخوجة الأكبر. ج. .
__________
(1) راجع تفصيل هذه القاعدة عند الكلام على "العادة محكمة" المادة 36، وفي المادتين "المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا"، و"المعروف بين التجار كالمشروط بينهم". أحمد الزرقاء: 43، 44، 165 - 168، 183 - 186.(7/1291)
قلت: ذلك في غير المعروف عرفًا، وإنما هو أمر يخص المتعاقدين. [376] أما ما عم به العرف فهو من المذكور في العقد حكمًا (1) . (التصرفات لا تصح في النصبة) فإذا لا يصح على النصبة وحدها عقد بيع وفاءً أو باتًّا (2) ، بل ولا رهن ولا هبة ولا وقف. أما البيع بنوعيه فلما سمعت؛ وأما الرهن والهبة فلعدم القبض، لعدم إفرازها عن العرضة لاتصالها بها مع إمكان انفصالها عنها، (المشاع القابل للقسمة لا يصح فيه رهن ولا هبة) فأشبهت المشاع فيما يقبل القسمة، ولا يصح فيه رهن ولا هبة؛ وأما الوقف فلأنه منقول لم يجر التعارف بوقفه. وإذا لم تجز هذه العقود في النصبة، وهي عين مال قائم، (بيع الخلو والمفتاح) فعدم جوازها فيما يعبر عنه عامتنا بالمفتاح وفقهاؤنا بالخلو، وهو معنى مجرد (3) ، أولى لأن محل هذه العقود المال الذي هو عين يجري فيها التنافس والابتذال، ولا شيء من المعنى بعين فلا يكون مالًا فلا يكون محلًّا لها، فلا تصح فيه بحال.
__________
(1) تعليق بهامش النسخة: اعرف هذا السؤال والجواب فهما قاضيان بعدم جواز بيع الوفاء في النصبة. وانظر ما جرى به عملنا في جواز بيع الوفاء في الكردار والإنزالات. والذي يظهر لي أن الشرط المفسد هو الذي لا يقتضيه العقد فيفضي إلى النزاع، وبيع الإنزال بنوعيه بشرط القرار فيه يقتضيه العقد ولا يفضي إلى النزاع، ومثله النصبة فافهم.
(2) ورد بذيل النسخة البيرمية وكذا بذيل الرضوانية فائدة هي من تمام هذه المسألة نصها: الحمد لله سئلت عن البيع الوفائي غير الصحيح كما في بيع النصبة الشائع بتونس هل يلزم المشتري أجر ما سكن أم لا؟ فأجبت بعدم اللزوم. ولو كان المبيع معدًّا للاستغلال لما صرحوا به في باب الغصب من أن الساكن بتأويل عقد لا يلزمه أجر، ومثلوا بالمرتهن إذا سكن بيت الرهن. ولا شك أن هذا سكن بتأويل عقد فلا يلزمه الأجر. وهذه كثيرة الوقوع في بلدنا جدًّا فلينتبه لحكمها. ب، ر.
(3) لأنه عبارة عن البقاء في المحل بحيث لا يزاد عليه، ومنه ما تعارفه أهل الذمة ويعبرون عنه بالحزقة، ب. ومما يتصل بهذا القول في بدل الخلو الذي كان موضع بحث في مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة. وصدرت الفتوى بجوازه في أكثر الصور إلا في حالة انقضاء مدة الإجارة وعدم تجدد العقد صراحة أو ضمنيًّا عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له فإنه لا يحل لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر. وقد تضمن ذلك القرار المفصل رقم 6 العدد الرابع: 3/2329 - 2330؛ ومجمع الفقه الإسلامي. قرارات وتوصيات: 70.(7/1292)
الفصل الثالث
فيما يجوز من فعل للمشتري وفاء في مبيعه وما لا يجوز
ولنؤخر الأول لطول الكلام عليه.
اعلم أنه لا يصح منه فيه نقل الملك ببيع بات ولا هبة ولو على القول بفساده على ما مر أنه المختار (1) فيه، ولا نقل اليد لا ببيع وفائي مثل بيعه على ما نص عليه في البزازية (2) ، (المبيع وفاء لا يعار ولا يرهن) ولا برهن محض أو إعارة على ما ظهر لنا من قولهم: إنه (الوفاء يعطي له حكم الرهن) معطى له، في غير الانتفاع به سكنى واستغلالًا على القول بالتركيب، حكم الرهن، والمرهون لا يرهن ولا يعار، وحيث علمت من كلام البزازي أنه لا يصح من مشتريه عقد بيع الوفاء فيه (مسألة التولية في الوفاء) يظهر لك أن ما يصنعه بعض شراته من توليتهم (3) شراءهم الوفائي غيرهم لا يصح إذا لم يكن بإذن البائع (4) . وإذا كان غير صحيح تكون يد المتولى
[377] عليه بسبب تلك التولية غير محقة (5) .
(المالك ينتزع المبيع من يد غير محقة ولو بغيبة المشتري) وإذا كانت كذلك كان للمالك نقضها مع غيبة المشتري منه ورد المبيع ليده حتى يحضر الغائب ذو اليد المحقة فيأخذه منه حتى يدفع هو له مال وفائه. وليس لصاحب التولية أن يصده عن ذلك: بأنك بعته وفاء لفلان، فلا حق لك الآن فيه حتى تدفع له ثمن وفائه، لأنه ليس بنائب عنه، لا حقيقة وهو ظاهر، ولا حكمًا تصحيحًا لتوليته، لأن ذلك إنما يكون لو كان للمشتري أن يعقد فيه التولية. وقد عرفت أن ليس له ذلك.
وحكم وإرث كل واحد من هؤلاء الثلاثة (6) حكم مورثه، كما ذكره ذلك كله صاحب الفصول نقلًا عن القاضي الأمير. وهو وإن ذكره في صورة كون المشتري وفاء باعه باتًّا فقد علمت استواء البيعين في عدم الصحة من المشتري وفاء، فتحقق في البيع الوفائي ما تحقق في البات من كون يد المشتري الأخير غير محقة، وهو المناط في نزع المالك ملكه من يده فيثبت في الوفائي ثبوته في البتي (7) . والقاضي الأمير وإن كان من الرائين كون الوفاء رهنًا، وكلامنا على رأي من يراه مركبًا منه ومن البيع، إلا أنك عرفت أن من يرى التركيب فيه يراه في حق البائع رهنًا. ونحن نتكلم بالنسبة إليه حيث قلنا: له نزع متاعه من يد من ليس له يد محقة عليه.
__________
(1) أي عدم صحة النقل المختار فيه وأنه لا يفوت بها. ب.
(2) قال عماد الدين وعلاء الدين ومنهاج الشريعة: (في المشتري وفاءً إذا باع باتًا أو وفاءً أو وهب أن هذا التصرف لا يصح) . البزازية: 4/411؛ وفي نور العين: (والمشتري وفاء إذا باع باتًّا أو وفاءً أو وهب لا يصح) . البنشانجي: 75 أ؛ وفي المادة 397: (ليس للبائع ولا للمشتري بيع مبيع الوفاء من غيره لأن البيع بالوفاء في حكم الرهن في كل شأن من شؤونه) . علي حيدر: 1/365؛ شرح المجلة: 224، 397.
(3) التولية نقل جميع المبيع إلى المولى بما قام عليه بلفظ: وليتك أو نحوه من غير زيادة ربح ولا نقصان. الموسوعة الفقهية الكويتية: 9/49.
(4) أما إذا كان بإذنه فإن قال أرهنه لك فهو ملغى ولا يصح رهنه. وإن قال: لي كان له. وتضمن هذا فسخ الرهن الأول وتوكيله بالثاني هـ. والظاهر حينئذ رجوع الحقوق إليه. ومنها طلب ثمن الوفاء بعد فسخه. ثم هذا الفسخ كما يصح منه يصح من موكله. فقد صرح المقدسي، في إقالة شرحه الكنز المنظوم، بصحة إقالة وكيل البيع وموكله أيضًا. وهذا حقه لأنه وكيل بيع وفائي لكن قيد شارح المجمع صحة إقالة وكيل البيع بما إذا لم يقبض الثمن. كذا بخط الوالد رحمه الله تعالى. ب.
(5) في كتاب الرهن من الخيرية: (سئل في رجل ارتهن كرمًا من رجل بمبلغ وغاب الراهن فجاء أجنبي فقضى الدين وارتهن الكرم وأكل ثمرته مدة سنين، ثم حضر الراهن ومنعه المرتهن الكرم حتى دفع له ما دفع للمرتهن الأول. فما الحكم في ذلك وفيما أكله من ثمره؟ أجاب ليس له منعه، ويضمن له ما أكله من ثمره وشجره، ولا يرجع على أحد بما دفعه لا على الراهن الأول، ولا على الثاني لكونه متطوعًا. والله سبحانه وتعالى أعلم) . الرملي: 2/193. وفعل بيع الوفاء معطى له حكم الرهن. محمد ابن الخوجة الأكبر. ج، ر. وبيان هذا الحكم وارد بعد نقلًا من العمادية.
(6) المالك والمرتهنان. ب.
(7) سئل صاحب الهداية عمن باع كرمه من رجل بيع الوفاء وتقابضا، ثم باعه المشتري من آخر بيعًا باتًّا وسلم وغاب. هل للبائع الأول أن يخاصم هذا المشتري الثاني ويسترد منه كرمه؟ قال: نعم، وإن كان حق الحبس للمرتهن لكن يد هذا المشتري محقة، والبائع الأول مالك له وله أن يسترد ملكه ممن قبض بغير حق، ثم للمرتهن حق أن يأخذه منه وبحبسه متى حضر. قال: وكذلك إذا مات البائع الأول والمشتري الأول والمشتري الآخر فلورثة البائع الأول أن يستخلصوه من أيدي ورثة المشتري الآخر، ولهذه الورثة أن يستردوا ما أعطى البائع مورثهم من الثمن، ولورثة المشتري الأول أن يستردوا الكرم من ورثة البائع الأول ويحبسوه بدين مورثهم إلى أن يقبضوا الدين. وهذه الجملة من فتاوى النسفي. العمادية: 103 أ؛ والجامع: 1/235؛ والبنشانجي: 73 أ.(7/1293)
[وبعد هذا فعندي في نزع المالك هذه اليد إشكال قوي. وذلك أنه لا يكون إلا بالحكم، وهو يستدعي الخصومة لا محالة، وهي منتفية هنا. وذلك لأن ذا اليد لا يدعي في هذا البيع ملكًا لنفسه، وإنما يدعي فيه حقًّا بشرائه له وفاء من الغائب. وأطبقوا على أن من هو كذلك لا تسمع عليه دعوى
[378] حق ولا ملك. وإذا لم تسمع لا يتمكن المالك من إثباتها بالبينة لقيامها على غير خصم، ولئن اعترف له ذو اليد (1) ، وبيعه للغائب وفاء وأريد القضاء باعترافه لم يصح لما فيه من إبطال حق الغائب، لأنه لما قال: شريته وفاء من الغائب، فقد اعترف للغائب باليد، والأصل فيها كونها يد ملك. فقوله: إنها ليست بها وإنما يد الملك لهذا الحاضر، إقرار على الغائب. فكيف يصح؟ فتأمل] (2) .
فإن قلت هل لهذا المشتري [بالتولية] (3) أن يطالب البائع الأول بالمال الذي قبضه من المشتري الأول ليأخذ منه ما دفعه هو لذلك المشتري من ثمن التولية؟ إما من حيث إن للمشتري الأول هاته المطالبة، وهو بالتولية قد قام مقامه وتنزل منزلته، أو من حيث إن الأول (4) غريم للثاني، والثاني غريم له (5) ، وغريم الغريم غريم.
قلت: لا، إذ لا نسلم أن المشتري الأول، لو كان حاضرًا، له تلك المطالبة. لأن العقد قائم لم يفسخ بعد. (لا يصير مال الوفاء دينًا في ذمة البائع إلا بعد فسخ الوفاء) وما لم يفسخ لا يثبت مال الوفاء دينًا للمشتري بذمة البائع. وإنما يصير كذلك بعد الفسخ (6) . (لا تصح الكفالة بمال الوفاء منجزة) ولهذا لا تصح الكفالة به منجزة، وإنما تصح مضافة إلى الوقت المذكور (7) .
__________
(1) بالملك. ب.
(2) الفقرة ساقطة من الخوجية.
(3) كلمة بالتولية ساقطة من ج.
(4) لعله أدرك الراهن الأول ج.
(5) قوله له أي للثالث. ج، وهو المشتري الأخير. ب.
(6) هذا معنى قول العمادي في الصلح: (إن المال لم يجب بعد على البائع وإنما يجب بعد الفسخ) . العمادية: 107 ب، وقوله بعد ذلك: (إن مال الوفاء ليس بثابت في ذمة البائع ما دام بيع الوفاء قائمًا (أي باقيًا) . العمادية: وسط 108 أ؛ الجامع: 1/243.
(7) الكفالة بمال الوفاء تصح مضافًا لا في الحال، إذ المال يجب على البائع بعد الفسخ لا في الحال. كذا في فوائد صدر الإسلام طاهر بن محمود. الجامع: 1/243.(7/1294)
وهذا أصل بينهم مقرر ولديهم مكرر. والفرض أن لا فسخ، فلا دين، فلا مطالبة. ولا يصح وقوع التفاسخ بين الأول والثالث إذ لا عقد بينهما حتى يفسخاه، ولا أن يفسخه الثاني نيابة عن الأول لفرض انتفائها، وبفرض تضمن التولية إنابته على الفسخ فقد علمت بطلان التولية، وببطلانها يبطل ما في ضمنها من توكيل إن كان.
وأما حديث غريم الغريم غريم، فأولًا: حيث كان مال الوفاء ليس بدين قبل الفسخ فلا غريم ولا غريم غريم، وعلى التنزل لأنه دين قبله [379] حتى تحقق الغريم وغريمه، فغريم الغريم عندنا إنما هو غريم لمن باشره بما هو سبب الدين، لا لمن باشر من باشره به (1) . ولهذا لو دفع غريم الغريم لدائن دائنه لم يرجع به على دائنه لأنه وإن قضى عنه دينه فقد قضاه بغير أمره وبغير (2) ضرورة ألجأته إليه. ولا رجوع لقاضي الدين على المقضي عنه إلا بأحد هذين السببين. (دفع المالك مال التولية للثالث بلا إذن الثاني) وبهذا يعلم أنه لو دفع الأول للثالث مال وفائه عن الثاني ليأخذ المبيع من يده لم يرجع به عليه لانتفاء سببي الرجوع. أما انتفاء الأول فواضح، وأما انتفاء الثاني (3) فلما مر من أن له نزعه (4) من يده بلا شيء. وإذا كان كذلك كان مختارًا في الدفع. والمختار متبرع، والمتبرع لا رجوع له.
وأما ما يصح من تصرفات المشتري فيه، فذلك زراعته وإجارته والانتفاع بثمرته. ولنورد لكل منها مبحثًا على حدة فنقول:
__________
(1) ويعني نحن نقول بموجب ذلك لكن كون غريم الغريم غريمًا أنه غريم لمن باشره بالدين فقط، فليس لغيره مباشرته بالطلب. هـ. تقرير. ب.
(2) نخ: بلا.
(3) الأول هو الأمر، والثاني الضرورة. ر.
(4) على ما فيه من الأشكال. ب.(7/1295)
المبحث الأول
(زراعته الأرض) في زراعة المشتري وفاء الأرض التي عقد الوفاء عليها
وتتعلق بها مسألتان كلتاهما فيما بعد التفاسخ في عقده.
(الفسخ في الأرض زرع لمشتري الوفاء) أولاهما فيما إذا تفاسخا بعد الزراعة إلا أن الزرع لم يدرك بعد بل هو بقل. فهل يكلف المشتري قلعه من الأرض ليسلمها لربها، أم لا ويبقى فيها إلى إدراكه بأجر المثل للأرض؟
وثانيتهما فيما إذا تفاسخا قبل الزراعة بعدما كَرَب المشتري الأرض ليزرعها فمنعه البائع من زراعتها بعد الفسخ، فهل له أن يضمنه فيمة كرابه أم لا؟
أما الأولى، فمنهم من فصل بين كون الفسخ بطلب المشتري، فلا يبقى زرعه بل يقلع لأنه مختار
[380] في طلب الفسخ. إذ يمكنه تأخيره إلى وقت الإدراك. فلما لم يؤخره إليه، يكون راضيًا بالقلع. فلا ينظر له بالإبقاء. وهو لم ينظر لنفسه بتأخير طلبه.
وبين كونه بطلب البائع فيبقى له لأنه مضطر في هذا الفسخ إذ لا يمكنه الامتناع منه، فلا يمكن جعله مع عدم الاختيار راضيًا بالفسخ، وليس في هذا الإبقاء كبير ضرر بالبائع لأنه لا يبقى في أرضه مجانًا بل بأجر المثل، فكان فيه (1) نظر للجانبين (2) .
ومنهم من أطلق القول بالإبقاء للإدراك، بأجر المثل في الصورتين (3) ، ولم يجعل لطلبه الفسخ أثرًا في منع إبقاء زرعه، تنظيرًا بمسألة المزارعة التي أخر فيها المزارع الزراعة لآخر السنة حتى مضت مدتها والزرع بقل حيث حكموا بإبقاء زرعه بأجر المثل، ولم يأمروا بقلعه باعتبار جعله راضيًا به حيث أخر الزراعة اختيارًا (4) .
(إذا تفاسخا بعدما كرب المشتري الأرض) وأما الثانية فذكر في الفصول: (أنها واقعة الفتوى. وصورها فيما إذا أدى البائع مال الوفاء من غير طلب المشتري وقال:
وعلي قياس مسألة المزارعة، يعني التي أخر فيها المزارع الزراعة لآخر السنة وأبقى له فيها زرعه بأجر المثل، ينبغي أن يجب (5) . وهكذا أفتيت بأنه يجب) .
__________
(1) أي في إبقائه بأجر المثل. ب.
(2) انظر نقلًا من الذخيرة. الجامع: 1/241؛ وورد ملخصًا من فوائد شيخ الإسلام برهان الدين: (باع أرض وفاء فزرعه المشتري ثم أدى إليه البائع مال الوفاء حتى انفسخ البيع والزرع بقل؟ أجاب بعضهم بأنه لو أدى بطلب المشتري يجبر على تفريغ الأرض لا لو أداه بلا طلبه بل يترك في يده بأجر مثله) . العمادية: آخر 107 ب.
(3) ولو قيل يترك في يده بأجر مثله في الوصفين فله وجه. البنشانجي: أسفل 74 ب. وذكر العمادي القول الأخير المطلق بالإبقاء للإدراك بأجر المثل في الصورتين قائلًا: (ولو قيل بأنه تترك في يده بأجر المثل في كلا الوجهين فلعله وجه. فقد ذكر في الفصل الثامن من الذخيرة) . العمادية: آخر 107 ب.
(4) العمادية: آخر 107 ب.
(5) أي على البائع للمشتري أجر كرابه. ب؛ أورد العمادي مسألة الفتوى بعنوان مشتري الوفاء كرب الأرض لتزرع يبذره فأوفاه المال. العمادية: أول 109 أ؛ الجامع: 1/244؛ الطرابلسي: 148 - 149.(7/1296)
وإنما لم أفهم كون قياس إبقاء الزرع بأجر المثل في تلك المسألة هو إيجاب قيمة الكراب في هذه، وأين وأين! وليس في مسألة المزارعة إلا عقد إجارة حكمية في الأرض لعذر دفع الضرر عن المشتري بقلع زرعه الذي كان أصل وضعه في أرض البائع بحق. وهذا ليس ببدع في الإجارة لأنها كما تفسخ بالعذر تعقد جبرًا به.
وأما مسألة الكراب ففيها تقويم عمل المشتري
[381] الذي عمله لنفسه على البائع من غير عقد ولا دلالة حال (1) . ومنعه من الزراعة بعد الفسخ منع بحق فلا يصلح سببًا للضمان. [وأيضًا فهذا ضمان منفعة والمنافع على أصلها لا تقوم لها حتى لا تضمن بالغصب. أفترى لا يضمنها الغاصب ويضمنها مالك الأرض! ولا يهولنك تصريح البزازي في فتاواه بالضمان، إذ قال: (كرب المشتري وفاء أرض الوفاء للزراعة وأدى البائع مال الوفاء وفسخ البيع، للمشتري أن يطالب من البائع أجرة الكرب إذا كان النقد بلا طلب المشتري) (2) لأن ما ذكرناه وارد عليه وروده على صاحب الفصول] (3) .
فالذي يقتضيه النظر عدم إيجاب قيمة هذا الكراب على البائع للمشتري (4) . نعم ينبغي أن يرضيه (5) فيه بشيء. والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) قوله ولا دلالة حال. كتب الشيخ أحمد ابن الخوجة الثاني رحمه الله ما نصه: (عندي بعض توقف من حيث إن عقدة بيع الوفاء قائمة (أي وقت الكراب) وذلك يتضمن الإذن بوجوه الانتفاع ومنه كرب الأرض الذي هو مقدمة الزراعة) . اهـ. ج، ر.
(2) انظر البزازية: 4/422.
(3) ساقط من ج، و.
(4) اعرف أن الذي يقتضيه النظر عدم إيجاب قيمة كراب مشتري الوفاء على البائع بعد الفسخ. وعلى هذا عملنا. ب.
(5) نص ابن عابدين فيما إذا امتنع رب الأرض من المصير في المساقاة وقد كرب العامل في الأرض وأنه يسترضيه ديانة. أي يرضي صاحب الكراب بشيء. وذكر الشارح بأن يفتي بأن له فيه أجر مثله لغرره على أن الاسترضاء بأجر المثل موافق لما في التبيين. الدر المختار ورد المحتار. كتاب المزارعة: 5/177. ر.(7/1297)
المبحث الثاني
في إجارته
وتتعلق بها مسألتان أيضًا إحداهما مسألة إجارته لغير بائعه، وثانيتهما مسألة إجارته له.
أما الأولى فلا كلام في كون الأجرة له لكونه العاقد، لأنه إذا كانت للغاصب لذلك فكيف لا تكون ههنا له كذلك) (1) ، ولا في حلها له على القول بالتركيب، إذ قد مر أنه يعتبر الوفاء عليه في حق المشتري بيعًا باتًّا، فيكون مؤجرًا لما ملكه بالبيع البات الصحيح. فكيف لا يحل له مع أنه ما اعتبر فيه هذا التكلف إلا ليحل انتفاع المشتري بالمبيع! (2) .
(التفاسخ فيما هو مستأجر قبل تمام مدة الإجارة) وإنما الكلام فيما أجره المشتري لمدة ثم تفاسخ مع البائع عقد الوفاء قبل تمامها. فهل يظهر هذا الفسخ في حق المستأجر حتى تنفسخ [382] إجارته أيضًا تبعًا لانفساخ عقد الوفاء أم لا يظهر في حقه حتى يستمر على إجارته إلى تمام مدته؟.
وملخص ما في العمادية (3) هنا (فسخ عقد الوفاء الذي يتبعه فسخ عقد الإجارة وما لا يتبعه) أن فسخ عقد الوفاء تارة يكون من قبل المشتري بأن يكون هو الطالب له لرغبته في استرجاع الثمن، وأخرى من قبل البائع بأن يكون هو الطالب له رغبة في استرداد المبيع، فإن كان الأول فمدار ظهور الفسخ في حق المستأجر على ثبوت العذر للمشتري في فسخ الوفاء ثبوته في فسخ الإجارة ببيع المؤجر المستأجر من دين عليه لا وفاء له إلا من ثمنه. فإن ثبت ذلك (4) في حق المشتري ظهر في حق المستأجر وانفسخت إجارته بفسخ الوفاء، وإن لم يثبت لم يظهر في حقه ولم تنفسخ إجارته بفسخه، بل اقتصر فسخه عليه في حق خصوص متعاقديه. ولا عبرة هنا لكون الإجارة كانت لمدة متعارفة أو غيرها، فتفسخ مع ثبوت الدين في المتعارفة ولا تفسخ مع انتفائه في غيرها؛ وإن كان الثاني فالأمر بالعكس، أعني أن مدار ظهوره في حقه على عدم تعارف المدة.
__________
(1) قاله العمادي: 105 أ؛ وفي الجامع مثله على قول من جعل بيع الوفاء فاسدًا لو قبضه وآجره من غيره، فله الأجرة لأنه لو غصب وآجره فله الأجرة فهذا أولى: 1/239.
(2) نخ: بالبيع. ج، و.
(3) العمادية: آخر 106 أ.
(4) أي دين على المشتري لا وفاء له إلا من ثمن الوفاء. ب.(7/1298)
فإن كانت لمدة غير متعارفة - قال العمادي: (كالعشر سنين) ، والظاهر أن غير المتعارفة عندنا ما زاد على السنة (1) في العقار (2) وعلى الثلاث في الأراضي - ظهر الفسخ في حقه وانفسخت إجارته، وإن كانت لمتعارفه لم يظهر ولم تنفسخ إجارته بفسخه بل اقتصر الفسخ عليه (3) . ولا عبرة هنا لدين على البائع، لا وفاء له إلا ببيع العين وخلاصه من ثمنها وعدمه، فتفسخ مع عدم التعارف ولا دين على البائع. ولا تفسخ
[383] مع التعارف وذلك الدين عليه. وهذا لأن فسخ الإجارة، بفسخ الوفاء في صورة كون فسخه من قبل المشتري، فسخ لها من أحد عاقديها، إذ هو المؤجر فيها. وفسخ الإجارة من أحد المتعاقدين لا يكون بعدم (4) تعارف المدة، لكونه رضي بعقدها عليها، وإنما يكون بالعذر الذي لا يناسب هنا منه إلا ذلك الدين (5) ، وفسخها (6) بفسخه، في صورة كون فسخه من البائع، فسخ من غيرهما، إذ البائع (7) أجنبي عن عقد الإجارة وعذر الدين كغيره (8) مقصور فسخها به على كونه من أحد المتعاقدين. وإنما فسخت بعدم تعارف المدة دفعًا لفحش الضرر عن البائع (9) لو أبقيت معه. ثم إذا فسخا الوفاء إما بطلب المشتري بلا دين عليه، أو بطلب البائع ومدة الإجارة متعارفة حتى لم تنفسخ، وكان للمستأجر إتمام مدتها، وكان البائع لم يدفع للمشتري ثمن الوفاء بعد، كان له (10) أن يمتنع من دفعه مع انفساخ الوفاء (11) حتى يتمكن من قبض المبيع بانقضاء مدة الإجارة لقول العمادي: (التفصيل فيما إذا دفع الثمن ثم رام الاسترداد إلى تمام المدة) (إن له أن يمتنع من دفع الثمن حتى تنفسخ الإجارة [لأنه ليس بعذر] (12) . وقد علمت أن لا انفساخ ههنا إلا بتمام المدة، وأما إذا دفعه ثم أراد (13) استرداده إلى تمكنه من قبض المبيع فيظهر لي، وإن لم أر من تكلم فيه بشيء، أنه إن كان وقت الفسخ عالمًا بالإجارة وبما بقي من مدتها، وإن لم يعلم بالحكم الشرعي من أنه لا يتمكن من القبض إلا بعد تمامها، لم يكن له ذلك (14) ، لأنه وإن كان له الامتناع من الدفع إلى تمام المدة شرعًا، الذي معناه أنه مخير بين الدفع وعدمه فقد اختار
[384] أحد الجائزين له وهو الدفع، إذا دفع وهو مع ذلك عالم بما بقي من المدة، فلم يبق له عذر في الاسترداد، وجهله بأن له الامتناع شرعًا ليس بعذر لكونه جهلًا بحكم شرعي في دار الأحكام.
__________
(1) لأن هذا أكثر ما تعورف في المدة التي يؤجران إليها. وإيجارهما لغيرها وإن كان واقعًا لكنه نادر بالنسبة إليها. اهـ. منه. ب.
(2) نخ. الرباع. ع.
(3) والفرق بين الصورتين ما أورده العمادي من قوله: (ولو كانت مدة غير متعارفة بأن أجر عشر سنين لا تبقى الإجارة لأنا لو قلنا بأنه لا تنفسخ بتفاحش الضرر بخلاف تعارف المدة لقلة الضرر) . العمادية: وسط 106 أ؛ الجامع: 1/241؛ الطرابلسي: 148.
(4) نخ: بعد في ج.
(5) أي الذي لا وفاء إلا منه. ب.
(6) الإجارة. ب.
(7) عند الوفاء. ب.
(8) من الأعذار. ب.
(9) بعد البائع [و] انظر ب، ر.
(10) للبائع بعد الفسخ أن يمتنع من مال الوفاء ما بقيت مدة الإجارة. ج.
(11) قوله مع انفساخ الوفاء، يعني لأن البائع والمشتري قد فسخاه بتراضيهما. فانفسخ في حقهما وإن لم ينفسخ في حق المستأجر. ب.
(12) انظر العمادية: أسفل 106 أ؛ والجامع: 1/241.
(13) نخ. رام.
(14) أي الاسترداد. ب.(7/1299)
وإن لم يكن عالمًا بذلك حين دفعه ينبغي أن يكون له أن يسترد، لأن من حجته أن يقول: لو علمت ببقائها ما دفعت.
نعم إذا ادعى عليه المشتري العلم بما بقي من المدة حين دفعه ولا بينة له على دعواه، كان له استحلافه. وهذا كله - قلته - استظهارًا مني، فلينظر فيه وفي كل ما أستظهره، ولا يعتمد عليه. فإنه إذا كان صاحب الفصول كثيرًا ما يقول: وأجاب بعض من تصدر للفتوى في زماننا، وإن لم يعتمد جوابهم (1) فكيف يعتمد جواب أمثالنا!
ثم إن جميع ما سبق إنما هو بالنظر لانفساخ الإجارة تبعًا لفسخ الوفاء وعدمه. (أجرة ما بعد الفسخ لمن تكون؟) وأما بالنسبة لأجرة المدة التي من وقت فسخ الوفاء إلى آخر وقت الإجارة لمن تكون؟ فهذه وإن كان ببادي الرأي يتوهم أن تكون للبائع إذ كانت أجرة المدة التي بعد الفسخ، فليس كذلك إذ اتفقت كلمتهم على أنها للمشتري، كأجرة المدة التي قبل الفسخ التي لا تردد في أنها له. فإذًا أجرة المدة كلها تكون للمشتري لأنه هو العاقد لهذه (2) الإجارة، وأجرة عقدها لعاقدها إذا كان غصبًا، فكيف بهذا!
فإن قلت: قول الفصول: (ولو مضى بعض المدة فجاء البائع بالثمن إلى المشتري يجبر المشتري على قبض الثمن والوفاء بما شرط (3) ، ويجب الأجر بحساب ما مضى [من المدة] ) (4) ، يعطي (5) تقسيطها على المدة، كالغلة على ما سيجيء إن شاء الله تعالى فيها، حتى تكون
[385] أجرة ما قبل الفسخ للمشتري وما بعده للبائع، فينافي ما ذكرته من كون أجرة المدة كلها للمشتري.
__________
(1) الشاهد هنا. ب.
(2) نخ. عاقد هذه.
(3) من الرد. ب.
(4) كذا في الفصول. وقدم له بقوله: (وعلى قول من أجازه صح الإجازة من البائع وغير البائع ويكون الأجر له؛ وغلة الكرم على ما شرطا) . العمادية: أعلى 5 ب؛ والجامع: 1/240؛ نور العين: (لو مضى بعض المدة وجاء البائع بثمن المبيع فأجبر المشتري على قبض ثمنه والوفاء بما شرطا، وتجب الأجرة بحصة ما مضى من المدة) . ثم قفى المؤلف على هذه المسألة بقوله: (ولكل منهما نقضه في كل حال إذ العقد غير لازم) . البنشانجي: آخر 75 أ - أول 75 ب.
(5) خبر قول الفصول. ب.(7/1300)
قلت: لا تنافي بينهما لأن ما ذكرته من كونها بتمامها للمشتري فيما إذا كانت الإجارة للأجنبي. وما ذكره من كون المشتري ليس له إلا أجرة ما قبل وقت الفسخ فيما إذا كانت الإجارة للبائع على القول بجوازها، لأنه بعد أن قال: وهذا يعني عدم جواز الإجارة من البائع على قول من قال بالفساد (1) ، وعلى قول من أجازه (2) صح الإجارة من البائع وغيره، وتكون الأجرة له، وغلة الكرم على ما شرطا، ألصق به قوله: (ولو مضى بعض المدة إلى آخره) . فلا يشك أن معناه ولو مضى بعض المدة في صورة الإجارة للبائع المتكلم فيها.
وإنما (3) افترق الصورتان في هذا الحكم لأنه مما لا تشكيك فيه أن لزوم الأجر على المستأجر يدور مع عقد الإجارة، يثبت بقيامه وينتفي بفسخه. وعقدها هنا يدور مع عقد الوفاء كذلك، ضرورة أن المشتري لم تثبت له ولاية عقد الإجارة على المبيع للبائع أو لغيره إلا بسببه، وإلا فما له ولعقدها على ملك غيره؟ غير أن الوفاء في صورة عقد الإجارة مع الأجنبي، وإن انفسخ في حق البائع والمشتري - بفسخهما لولايتهما على أنفسهما - لا ينفسخ في حق المستأجر لعدم ولايتهما عليه، فيبقى قائمًا بالنسبة إليه كأن لم يطرقه فسخ. وبقيامه بالنظر إليه يبقى عقد إجارته على قيامه، وبقيامه تلزمه الأجرة، وإذا لزمته تكون لعاقد الإجارة على ما مر، ولا عاقد لها إلا المشتري، فتكون له لا محالة.
وأما في صورة عقدها مع البائع، فلما انفسخ الوفاء بفسخهما انفسخت الإجارة في ضمنه لكون الحق لا يعدوهما، إذ كما أنهما عاقدا الوفاء هما عاقدا
[386] الإجارة، وإذا افنسخت إجارة البائع لم تبق أجرة حتى يقال لمن تكون؟ وليس معنى قول العمادي: (فيجب الأجر بحسب ما مضى) أن الماضي يكون للمشتري وما بعد الفسخ للبائع، إذ البائع هنا هو المستأجر الساكن، فلا معنى لإيجاب الأجر عليه لنفسه، وإنما معناه أن لا يجب للمشتري أجر المدة كلها نظرًا لأنه عقد الإجارة عليها حتى يأخذ من البائع أجر المدة اللاحقة كما أخذ منه أجر السابقة وإنما له أجر المدة الماضية فحسب.
__________
(1) أي بأنه بيع فاسد. ب.
(2) أي جعل الوفاء بيعًا باتَّا. ب.
(3) وإن افترق في ب، ر؛ إنما في ج، ص، و.(7/1301)
وأما الثانية وهي مسألة إجارته للبائع فلا يخفى أنها تصح على القول بأن الوفاء بيع صحيح بات لخروج المبيع به عن ملك البائع فلا يلزم محذور أنه استأجر ملك نفسه لأنه حينئذ استأجر ملك غيره وهو المشتري لدخوله في ملكه، ولا تصح على كل واحد من الأقوال الأربعة الباقية لعدم خروج المبيع عن ملكه في جميعها:
أما على القول بأنه رهن فواضح.
وأما على القول بأنه بيع فاسد فلتعلق حقه بفسخه، ولهذا لا تثبت فيه شفعة حتى يلزم، فتحقق ما يقطع حق مالكه عنه، لأن ثبوتها منوط بخروج المبيع عن ملك البائع، يثبت بثبوته وينتفي بانتفائه. وأيضًا فقالوا: إن رده على المالك مستحق له شرعًا رفعًا للفساد. والرد المستحق بجهة إذا وقع على غيرها لا يقع إلا عنها، فلا يقع رده عليه بجهة الإجارة حتى يقال بصحتها (1) .
وهكذا يقال فيه على القول بأنه بيع جائز غير لازم للزوم الوفاء بوعد الرد، لأن لزوم الوفاء به يستلزم وجوب رده على مالكه فيكون مستحقًّا له على المشتري، فلا يقع إلا على ذلك الوجه.
وأما على القول بالتركيب
[387] فلأنه سبق أن قائله يعتبره في حق البائع رهنًا، (عدم صحة الإجارة للبائع على القول بالتركيب أيضًا) والكلام هنا في حقه، وهو أنه هل يصح استئجاره حتى تلزمه الأجرة أم لا؟ ومتى اعتبره رهنًا في حقه لزم أن يقول بعدم صحة استئجاره، إذ لا يصح استئجار الراهن الرهن من المرتهن؛ وكونه يعتبره في حق المشتري بيعًا باتًّا وإن اقتضى جواز إيجاره والانتفاع بأجرته فإنما يقتضي جواز إيجاره إيجارًا صحيحًا، وهذا فاسد لوجود المنافي له، وهو كونه مملوكًا لهذا المستأجر. فيكون مستأجرًا ملك نفسه. فلا تكون من مقتضياته (2) كغيره من الإجارات الفاسدة. وجواز إجارته للأجنبي كاف في تحقق جواز إيجاره للمشتري وانتفاعه بأجرته؛ ولو كان القائل بالتركيب يقول بجواز إجارته للبائع لكان قائلًا باعتباره بيعًا في حق البائع أيضًا، وهو لا يقول به (3) .
__________
(1) وهذا ما صرح به العمادي من قوله: (والحكم في البيع الفاسد أن المستحق بجهة لا يقع إلا عن تلك الجهة وإن أوقعه الموقع بجهة أخرى) . العمادية: أول 105 ب؛ الجامع: 1/239.
(2) فلا تكون الإجارة للمالك من مقتضياته أي هذا العقد. ب.
(3) انظر ما ورد في الخيرية بشأن الصور كلها وما نقله صاحبها من البزازية. الرملي: 1/226 - 227.(7/1302)
فإن قلت: هذا معارض بأنه لو كان يقول بعدم جوازها لكان قائلًا باعتباره رهنًا في حق المشتري أيضًا، وهو لا يقول به.
قلت: لا ضير في ذلك، إذ لا كلام في أن الأصل في هذا العقد كونه رهنًا في حق الكل، (اعتبار بيع الوفاء في حق المشتري على خلاف الأصل بيعًا لضرورة تحليل الانتفاع) وما اعتبر في حق المشتري بيعًا على خلاف الأصل إلا لضرورة تحليل منافعه له. والثابت بالضرورة يتقدر بقدر ما تندفع الضرورة به، وهي تندفع بتجويز إجارته من الأجنبي، ولا يتوقف اندفاعها على تعميم الجواز في الإجارة من كل أحد، فلا يثبت هذا التعميم بلا ضرورة إليه، إذ لو ثبت بدونها ما صدق أنه ثبت للضرورة. وهذا كما قالوه في المقتضى: إنه لثبوته للضرورة (1) لا عموم له، مع أنه قد تعارض هنا جهتا الحظر والإباحة، لأنه إن نظر في هذا الاستئجار لجانب المشتري من كونه بيعًا بالنظر إليه اقتضى إباحته، وإن لوحظت فيه جهة البائع وهي كونه رهنًا بالنسبة إليه
[388] اقتضى حظره. والعقد الواحد لا يمكن اتصافه بالضدين (2) ، والمعروف في مثله تقديم جهة الحظر على الإباحة. وهذا ظاهر جدًّا. ولعلهم اكتفوا بظهور المنع فيه عن أن يبينوه كما بينوه (3) على غير هذا القول مما عدا القول بأنه بيع بات. وليس في تقريرهم مذهب التركيب بقولهم يعتبر بيعًا في حق المشتري حتى ينتفع به كسائر أملاكه، وقولهم إنه صحيح في بعض الأحكام كحل الإنزال (4) ومنافع البيع، ولا في قولهم: وعلى قول من أجازه صح الإجارة من البائع وغيره، ما (5) يفيد صحة الاستئجار من البائع على ذلك القول (6) .
__________
(1) بالضرورة. ب، وفي غيرها من النسخ للضرورة كما أثبتناه في الأصل.
(2) تأمل. ج.
(3) قوله: كما بينوه يعني إذ قالوا لا يصح الاستئجار من البائع على القول بأنه رهن، والقول بأنه بيع فاسد. ويصح على القول بأنه بيع بات صحيح، وسكتوا عنه على القول بأنه مركب من البيع والرهن، وأما على القول بأنه بيع جائز غير لازم، فهم وإن سكتوا عنه، عليه أيضًا لكن عدم الجواز عليه يفهم من نصهم عليه على القول بالفساد لاتحاد العلة، وهي كون الرد فيه مستحقًّا فلا يقع إلا على جهة الاستحقاق على ما نبهنا عليه. ج اهـ. منه ب، اهـ. كذا وجد. ر.
(4) الثمرة. ب.
(5) مما في ب، ر؛ ما في ج، ص، و.
(6) أي القول بالتركيب. ب.(7/1303)
أما الأول والثاني فلأن المراد حيث يمكن ذلك، وقد عرفت عدم إمكان انتفاع المستأجر بهذا الاستئجار لعدم صحته بوجود ما ينافيها من كون المستأجر ملك المستأجر.
وأما الثالث فلأن القائل بالتركيب، ليس ممن أجازه، إذ المتبادر من هذا اللفظ من قال بجوازه مطلقًا في حق كل من البائع والمشتري في جميع الأحكام، والقائل بالتركيب لم يقل به كذلك، وإنما قال به مقيدًا بكونه في حق المشتري خاصة، و [مع ذلك] (1) لم يعممه بالنسبة إليه في جميع الأحكام، بل خصه ببعضها. (لا يجوز بيع الوفاء بيع وفاء ولا رهنه ولا إيداعه) ألا ترى أنه لا يجوز له بيعه لا باتًّا ولا وفاء ولا رهنه ولا إيداعه، مع أن ذلك كله مما ينتفع به في سائر أملاكه. فظهر من هذا ظهورًا لا تحوم حوله شائبة احتمال أن لا يصح إيجار المبيع وفاء من بائعه على ما عدا القول بأنه بيع بات من سائر الأقوال. (للبائع أن يحسب ما دفعه للمشتري من أجر كراء ملكه من مال الوفاء) وحينئذ فللبائع أن يحسب ما دفعه للمشتري من الأجر من مال الوفاء بلا إشكال.
واعلم أنه قد يعز على البائع الخروج من داره التي باعها وفاء، والمشتري
[389] لا يرضى إلا بأن يؤجرها لينتفع بأجرتها (2) ، واشتهر أن إيجارها من البائع غير صحيح وأخذ الأجرة منه لا يحل (3) ، (حيلة توسط أجنبي بين المشتري والبائع في الإجارة) فيتحيلان لوجه يجمع بين حل أخذ المشتري لأجرتها وسكنى البائع بداره، وهو أن يؤجرها المشتري الأجنبي ويؤجرها ذلك الأجنبي للبائع في هذه الحيلة جرى على غير الصحيح في مسألتين: إحداهما إجارة العقار قبل قبضه، وقد قيل هو على الحظر الجاري في بيعه قبل قبضه، وقد قيل إنه لا يجوز بلا خلاف وهو الصحيح - وهذا قياسًا كما قاله الأتقاني وهو قول محمد وزفر والشافعي، وأجازه الإمامان أبو حنيفة وأبو يوسف استحسانًا - وذكره الزيلعي في فصل التصرف في المبيع والثمن قبل القبض. انظر الزيلعي. حاشية شلبي: 4/79 - 80؛ والثانية الإجارة من المالك بتوسط ثالث وهو غير جائز أيضًا على الصحيح المفتى به كما في البزازية - ذكر الجواز أبو علي النسفي عن أستاذه. وقال الحلواني: وروي عن محمد أن الإجارة من المالك لا تجوز مطلقًا تخلل الثالث أولًا وبه عامة المشائخ وهو الصحيح وعليه الفتوى. البزازية الهندية: 5/20 - إلا أن يقال ارتكب الضعيف في خصوص هذا المقام للضرورة وشدة الحاجة إلى ذلك. وقد ذكر الشيخ هذا لأن احتياج الناس للشيء وتعاملهم به أصلان كبيران في المذهب. محمد ابن الخوجة الأكبر. ج، ر. .
__________
(1) ساقطة في ج.
(2) انظره. ج؛ تقدم بيان ذلك عند الإشارة إلى ما يطلب من الفوائد في بيع الوفاء والعهدة.
(3) قال في النسفية: (سئل عمن باع داره من آخر بثمن معلوم بيع الوفاء وتقابضا ثم استأجرها من المشتري مع شرائط صحة الإجارة وقبضها ومضت المدة هل يلزمه الأجر؟ قال: لا كذا في التاتارخانية) . الهندية: 3/209.(7/1304)
ثم تارة يدفع البائع الأجرة للأجنبي وهو يدفعها للمشتري، وأخرى يدفعها له البائع مباشرة على معنى دفعه عن الأجنبي. والتحيل على هذا الوجه عندنا سائغ، ومثله في كتبنا شائع، لأنه تحيل على التخلص من الحرام. وفيه (1) قال في حيل الهندية: (مذهب علمائنا فيه أنه حسن) (2) . وكون عقد الإجارة مع الأجنبي لم يقصد لذاته، وإنما جعل وسيلة للتوصل لأخذ الأجرة من البائع لا يضر في شيء، لأن شأن الحيلة أن تجعل لاستحلال وسيلة. وعقد الوفاء نفسه ما كان مقصودًا به سوى التوصل لحلية ربح القرض.
__________
(1) أي التحيل لأجل التخلص. ب.
(2) ويؤيد هذا من كتاب المبسوط قول السرخسي: (إن الحيل في الأحكام المخرجة عن الآثام جائز عند جمهور العلماء) . انظر المخارج في الحيل لمحمد بن الحسن الشيباني: ص87؛ وفي كتاب الحيل عن الشعبي: (لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز، وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من المآثم والحرام ويخرج به إلى الحلال) . الخصاف: ص4. وجاء في كتاب الحيل المحظور منها والمشروع: (إن الحيل في إطلاق الفقهاء عبارة عن المخارج من المضائق بوجه شرعي على اعتبارها نوعًا من الحذق وجودة النظر بما يكون فيه مخلص شرعي لمن ابتلي بحادثة دينية) . د. عبد السلام ذهني: ص107.(7/1305)
(الإجارة المرسومة بسمرقند) وهكذا الإجارة المرسومة بسمرقند (1) ، وهي أن يؤجر المستقرض المقرض على حفظ سكين له ونحوه مشاهرة بالقدر الذي يريد المقرض أن يجعله ربحًا على قرضه. ولها في الفصول فصل حافل (2) . ولو توقف جواز الحيلة على قصدها بذاتها لم تتحقق حيلة أصلًا، (دعوى البائع أن الإجارة للأجنبي تلجئة) وحينئذ فدعوى بعض البائعين على المشتري: أن عقد الإجارة مع الأجنبي تلجئة (3) ، لم يكن الغرض منه إلا التحيل لاستحلال أخذ الأجرة مني وأنا لم أزل ساكنًا بداري دافعًا للأجرة من مالي، غير مسموعة حتى لا تقبل منه فيها بينة ولا تتوجه له بها على المشتري يمين لأنه لو أقر بها لا يلزمه بها شيء. من لا يلزمه شيء مع الإقرار لا تتوجه إليه يمين مع الإنكار ومن لا يلزمه شيء مع الإقرار لا تتوجه عليه اليمين بالإنكار.
ففي البزازية من كتاب الشفعة عند كلامه
[390] على بعض حيلها، فلو أراد (الشفيع) أن يحلفه بالله ما أردت (أي بالحيلة التي صنعت) إبطال شفعتي لم يكن له ذلك، لأنه لو أقر به لا يلزمه (شيء) (4) . على أن الجمع بين دعوى التلجئة في الإجارة للأجنبي ودعوى أن المقصود بها التحيل على استحلال أخذ الأجرة من البائع جمع بين متنافيين لاقتضاء كون القصد به ذلك التحيل أنه جدُّ، إذ لا يحصل المقصود من التحيل به للحل إلا بكونه كذلك. واقتضاء كونه تلجئة أنه هزل إذ التلجئة والهزل واحد لا يفيد كلاهما للعقد سوى الوجود اللفظي، وذلك مما لا عبرة به ولا يحصل المراد من الحل بسببه لأنه حينئذ وإن كان موجودًا حسًّا فهو معدوم شرعًا وهو كالمعدوم حسًّا.
__________
(1) استخرج الإجارة الطويلة الإمام محمد بن الفضل البخاري فقبلها البعض لا البعض. انظر الفتاوى على الهندية: 5/12، 13؛ والتفريعات على الإجارة الطويلة: البزازية: 5/18.
(2) راجع الفصل التاسع عشر في مسائل الإجارة المعهودة بسمرقند بين المقرض والمستقرض. قال في نور العين: ماهية هذه الإجارة مبهمة ظاهرًا، والمستفاد من مجموع ما ذكر في جامع الفصولين هي أن يودع المستقرض للمقرض شيئًا قليل القيمة كسكين ومشط ونحوهما، ويستأجره لحفظه، ويعين بدل الإجارة على قدر الربح الذي عيناه لأصل مال القرض ليكون الربح حلالًا للمقرض ودينًا على المستقرض. البنشانجي: 76 أ.
(3) من الإلجاء وهو الإكراه التام كأن يهدد شخص غيره بإتلاف نفس أو عضو أو ضرب مبرح إذا لم يفعل ما يطلبه منه. وبيع التلجئة: هو أن يظهرا بيعًا لم يريداه باطنًا بل خوفًا من ظالم دفعًا له. وقالوا هو عقد ينشئه لضرورة أمر فيصير كالمدفوع إليه. الموسوعة الفقهية الكويتية: 9/62، 63.
(4) الفتاوى: 6/154. ونظيرها ما ورد في الفتاوى الهندية: (اشترى عشرًا لضيعة بثمن كثير ثم بقيتها بثمن قليل فله شفعة في العشر دون الباقي فلو أراد أن يحلفه بالله ... ) إلخ. البزازية: 5/187.(7/1306)
فالإقرار بأنه قصد به التحيل على الحل إقرار بنفي التلجئة عنه والجمع بينهما من الجهل بمعناها. ولا غرابة في جهل العامة به فإنه مما يخفى على بعض الخواص فكيف بالعوام! ويدل لما ذكرناه، من كون قصد التوصل به للحل ينافي دعوى التلجئة فيه، ما نقله صاحب الخانية عن بعضهم ولم يتعقبه أثناء كلامه على حيلة عقد الإجارة على الأرض التي بها زرع المؤجر أو شجره، (وهي أن يبيعهما أولًّا للمستأجر لها ثم يؤجره الأرض ثانيًا (1) ، فيجوز لأنها بعد هذا البيع وإن كانت مشغولة لكن بما هو ملك المستأجر وهو لا يضر، إنما المضر أن تكون مشغولة بملك الآجر) بعد ذكره قدح من قدح فيها (2) بأن ذلك البيع ليس ببيع رغبة بل هو في معنى التلجئة، وهو لا يزيل المبيع عن ملك البائع، وببقاء الزرع والشجر على ملكه
[391] تكون الأرض مشغولة بملك المؤجر فلا تجوز إجارتها. فلا فائدة لهاته الحيلة إذ لم تكن لجواز استئجار الأرض وسيلة من قوله (3) وهو موضع الاستشهاد به.
قال بعضهم: (ليس هذا ببيع تلجئة بل بيع رغبة لأنهما لما قصدا بهذا البيع تصحيح الإجارة، ولا صحة لها مع بيع التلجئة، فقد قصدا بيع الرغبة) (4) وهكذا ههنا نقول إنهما لما قصدا بالإجارة للأجنبي حلِّية أخذ الأجرة ولا حلية لها مع كونها تلجئة فقد قصدا إجارة الرغبة.
نعم إذا قصدا بالإجارة للأجنبي مجرد إظهارها للناس حتى لا يسمونهما بوصمة سوء المعاملة، وتكون الإجارة له ليست إلا اسمًا، وأنها بعينها للبائع مسمى، كان عقدها مع الأجنبي تلجئة. فإذا ادعى البائع أنها كانت كذلك وفسرها على هذا الوجه كانت دعواه مسموعة فقبلت منه البينة بها وتوجهت له اليمين على المشتري عليها.
قال البزازي في التحيل على إسقاط الشفعة يعقد البيع عقدين: (أولهما على جزء قليل بثمن كثير، والثاني بالعكس (5) . ولو حلفه على أن أولهما لم يكن تلجئة، له ذلك لأنه ادعى عليه معنى (6) لو أقر به لزمه) (7) .
__________
(1) انظر أول فصل في الإجارة الطويلة. الهندية: 2/303؛ والبزازية: 5/15.
(2) أي الحيلة. ب. والقادحون فيها بعض أئمة بخارى. البزازية: 5/15.
(3) قوله من قوله وهو إلخ ... بيان لما في قوله ما نقله صاحب الخانية عن بعضهم. ب، ج، ر.
(4) وفي الخانية: (وبعضهم جوزوا طريق البيع أيضًا وقالوا ليس البيع ... ) انظر الهندية. فتاوى قاضيخان: 2/304.
(5) يشتري عُشرَه بثمن كثير أو سهمًا من مائة سهم والباقي بثمن قليل. البزازية: 6/154.
(6) قوله لأنه ادعى عليه معنى: المعنى الذي ادعاه عليه هو كون البيع الأول تلجئة أولًا بل نفي وجوده وأنه لا بيع إلا الثاني. ب.
(7) البزازية: 6/154.(7/1307)
المبحث الثالث
في الانتفاع بثمرته
اعلم أن ثمرة المبيع وفاء إما أن تكون موجودة على رؤوس الأشجار وقت عقده أو تكون قد حدثت بعده. (الثمرة موجودة مسكوت عنها) وعلى الأول فإما أن يسكت عنها عند التعاقد أو (الثمرة موجودة مشروطة للمشتري) تشترط للمشتري حينئذ. [فهذه ثلاث صور] (1) :
فأما في الأولى فإنها تكون للبائع، لأنها إذا كانت له في تلك الصورة في البات فما ظنك بالجائز.
وأما في الثانية والثالثة فتكون للمشتري غير أنها تكون له في
[392] الثالثة مجانًا بحيث لا يسقط عند فسخ الوفاء من ماله في مقابلتها شيء، لأنها نزل مبيعه الوفائي. وقد تقرر في القول بالتركيب، الذي هو المختار، أن الوفاء يعتبر في حق المشتري باتًّا بالنسبة لملك النزل وحله، فيكون حينئذ مستهلكًا لما حدث نموه فيما ملكه بالبيع البات حكمًا، فأنى يضمنه؟ ولو كان يضمنه لبطلت فائدة الوفاء.
(الاتفاق على أن الثمرة المشروطة للمشتري مضمونة عليه) وأما الثانية فاتفقت كلمتهم على أنها عند الفسخ مضمونة عليه. وإنما اختلفوا في أنها بماذا تضمن بناء على اختلافهم في البيع المنعقد عليها باشتراطها للمشتري بعد اتفاقهم على أنه بيع بات (2) أهو فاسد أم صحيح؟ فمن قال بالأول قال تضمن بجميع قيمتها بالغة ما بلغت على قاعدة المبيع في البيع الفاسد إذا هلك عند المشتري (3) ، ومن قال بالثاني قال: تضمن بحصتها من ثمن الوفاء كما ذكر ذلك صاحب الفصول معللًا الفساد بأنه صفقة في صفقة (4) .
__________
(1) ساقطة من ج، و.
(2) أي بيع الثمرة. ب.
(3) لا خلاف بين الفقهاء في كون المبيع فاسدًا إذا هلك بيد المشتري ثبت ضمانه عليه برد مثله إن كان مثليًّا، وقيمته إن كان قيميًّا بالغة ما بلغت. تفصيل ذلك في الدر المختار: 4/125.
(4) نقل العمادي من طريق عمه شيخ الإسلام نظام الدين عن جده: (أنه كان يجعل البيع في الزرع فاسدًا حين أوجب القيمة ووجه الفساد أنه صفقة في صفقة) . العمادية: أول 106 أ؛ والجامع: 1/241.(7/1308)
وتحقيق ذلك أن هذا العقد وإن اتحد ظاهرًا فقد تعدد باطنًا لأنه عقدان: عقد على الشجر وهو بيع وفاء، وعقد على الثمر وهو بيع بات، وإنما لم يجعل وفاء أيضًا حتى يكون الكل معقودًا عليه عقد واحد وفائي، مع أن هذا هو المتبادر فيه، لأن الثمر لكونه من المنقول الذي لا ينتفع به إلا باستهلاك عينه لا يصح فيه عقد وفاء على ما مر. وإذا انتفى كونه تعين أنه بات. وسبب الاختلاف بعد ذلك في صحته وفساده الاختلاف في أنه من (باب الصفقة في الصفقة التي هي مفسدة) باب الصفقة في الصفقة والمراد منها بيع البيعتين في بيعة. وهي من البيوع المنهي عنها. وفي ذلك ثلاث روايات: الأولى حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة) . الأول أخرجه أحمد: 2/432؛ والثاني رواه الترمذي: 3/533، وكذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة وعن ربح ما لم يضمن) . أخرجه أحمد: 2/174 - 175؛ والرواية الثانية حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا". ذكره الشوكاني وقال في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة. نيل الأوطار: 5/172؛ والرواية الثالثة حديث ابن مسعود: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة) . أخرجه أحمد: 1/398، (ولا تحل الصفقتان في صفقة) . رواه الطبراني في الأوسط، وذكره الزيلعي في نصب الراية: 4/20، (والصفقة في الصفقتين ربا) . أخرجه العقيلي وذكره الزيلعي: 4/20. التي هي من المفسدات أم لا. وسبب هذا الاختلاف ما في الوفاء من معنى الرهن ومعنى [393] البيع وعدم تمحضه لواحد منهما. وذلك أن اشتراط العقد على أحد الشيئين في العقد على الآخر إن كانا من نوعين مختلفين كاشتراط بيع في إجارة أو العكس فهو من باب الصفقة في الصفقة، وإن كانا من نوع واحد وكان أحدهما من توابع الآخر كالثمر للشجر لم يكن من بابها. ولهذا صح اشتراط الثمر في البيع البات للمشتري وكان البيع في الكل صحيحًا.(7/1309)
ولما تجاذب في الوفاء الرهن والبيع جاء الخلاف، إذ من لاحظ فيه جهة الرهن، وهو من غير نوع البيع، رأى أن اشتراط بيع الثمر في بيع الشجر من باب الصفقة في الصفقة لأنه اشتراط للبيع في الرهن [والرهن في البيع، ومن الثاني جاء الفساد لبيع الثمرة] (1) ، ومن نظر فيه لمعنى البيع لم يره من بابها فكان البيع فيه، مع بتاته، صحيحًا. ومعنى كون الثمرة على هذا مضمونة بحصتها من الثمن سقوط تلك الحصة عن البائع من ثمن الوفاء. وذلك إنما يظهر بالتقويم، بأن يقوم الشجر بالثمر وبدونه، وينظر لما بينهما من النسبة، ويقسم الثمن بين الشجر والثمر على تلك النسبة. فحصة الثمر تسقط لأنها ثمن مبيع بات قبضه المشتري واستهلكه عن غير فسخ فيه، فلا وجه لرد ثمنه. وحصة الشجر لا تسقط بل ترد لأنها ثمن وفاء فسخ ورد مثمنه وهو الشجر، فلا بد من رده. وهذا وحده هو ثمن الوفاء في الحقيقة وإن كان يتراءى أن جميع ما دفعه المشتري ثمنه، مثلًا لو كان قيمة الشجر مع الثمر ألفا وبدونه تسعمائة كانت نسبة قيمة الثمر من مجموع القيمتين العُشر وهو مائة، ونسبة قيمة الشجر منه تسعة أعشاره وهو تسعمائة.
[394] فلو كان المدفوع أولًا من المشتري خمسمائة يقسم هذا على عشرة فيكون عشرها وهو خمسون هو حصة الثمر من الخمسمائة فتسقط عن البائع، وتسعة أعشارها وهي أربعمائة وخمسون هي حصة الشجر فيردها البائع للمشتري لأنها هي ثمن الوفاء. وعلى القول بالفساد في بيع الثمرة وأنها مضمونة بجميع قيمتها يسقط عن البائع مائة إذ هي قيمة الثمرة ولا يرد للمشتري سوى أربعمائة.
فإن قلت: غرض المشتري من اشتراط الثمرة لنفسه أن تسلم له مجانًا كما يسلم له الحادث بعد العقد كذلك، والكل نزل المبيع وفاء المعتبر بيعه في حق المشتري باتًّا، ليحل له فيما افترقا حتى ضمن القديم لا الحادث.
قلت: بحدوث الحادث على ملكه الوفائي دون القديم، واعتباره بيعًا باتًّا في حق المشتري، إنما هو في خصوص الحادث لا مطلقًا، وإلا لما توقف كون القديم للمشتري على اشتراطه كما لا يتوقف الحادث عليه.
فإن قلت: لِمَ اعتبر العقد على القديم بيعًا صحيحًا أو فاسدًا حتى كان مضمونًا بأحد الضمانين؟ (هبة الثمر على شجر الوفاء) وهلًّا اعتبر هبة حتى لا يضمن كما هو غرض المتعاقدين؟
__________
(1) ساقط من ج.(7/1310)
قلت: لأن هذا الاعتبار لا يفيد نفي الضمان إذ هو ثابت عليه أيضًا، لأن الهبة حينئذ تكون هبة الثمر بدون الشجر. وهي من نوع الهبة الفاسدة.
فإن قلت: أنَّى يضر اتصال الثمر الموهوب بالشجر وهو للموهوب له لا الواهب؟
قلت: بل هو للواهب لأن العقد الذي انعقد عليه عقد وفاء لا بتات (1) ، وهذا على سبيل التنزل لتسليم وجود الهبة
[395] وإلَّا فلا تحقق لها أصلًا على ما لا يخفى.
(حكم الزرع والثمر واحد) واعلم أن الزرع القائم في الأرض وقت عقد الوفاء عليها يجري مجرى الثمرة الموجودة وقت عقده على الشجر في جميع ما ذكرناه فيها. وإذ قد عرفت أن الثمرة الحادثة بعد عقد الوفاء تسلم للمشتري مجانًا فهاهنا مسألتان لا بد من الكلام عليهما:
(طلب المشتري الفسخ ليأخذ الثمن بعد أخذه الغلة) أولاهما إذا أخذ المشتري الغلة الحادثة أكلًا أو بيعًا ثم طلب فسخ الوفاء واسترداد الثمن، فهل يجاب لذلك مطلقًا متى طلبه أو مقيدًا؟ وعليه فبماذا قيدوه؟
(إذا تفاسخا قبل أخذ الغلة، الغلة تكون لمن) وثانيتهما إذا تفاسخا قبل أخذ المشتري الغلة، فهل تكون كلها له أو للبائع أو تقسط بينهما؟ وعلى التقسيط فهل ثمة (2) فرق بين الثمرة الموجودة وقت الفسخ والحادثة بعده أم لا فرق بينهما؟
(صحة شرح الفسخ قبل السنة) أما الأولى فجوابها أن إجابته مقيدة بأحد أمرين: إما بمضي سنة من وقت العقد، أو بكونه شرط في ابتداء العقد على البائع أنه متى رفع الغلة فسخ العقد وطالبه بالثمن. أما بدون الشرط وعدم مضي السنة فلا يجاب. نص على الأول (3) في الفصول نقلًا عن فتاوى خواهر زادة (4) ، وقال (5) : (إلا إذا أراد (6) أن يأخذ منه (7) نصيب ما مضى ويترك عليه نصيب ما بقي من المدة الآن له ذلك) (8) أي إلا إذا لم يطلب جميع مال الوفاء الآن، وإنما طلب قسط المدة الماضية (9) منه كما إذا مضى ثلثا السنة فطلب ثلثي مال الوفاء وترك طلب الثلث الباقي لمضيها ولم يرد (10) تركه على البائع رأسًا، فله ذلك وليس للبائع أن يقول له لا أعطيك شيئًا من الثمن حتى تمضي السنة. وهذا تقسيط لمال الوفاء على السنة، وهو عزيز في كلامهم، فليتنبه له.
__________
(1) ط. يعني فلم يخرج به الشجر عن ملك صاحبه. هـ. والدي. ب.
(2) ثم في ب، ر، ص، و.
(3) ط. وهو منعه قبل مضي السنة. ب.
(4) للإمام أبي بكر محمد بن الحسين بن محمد البخاري: 483. يعرف ببكر خواهر زادة أي ابن أخت عالم. كان من فقهاء ما وراء النهر. إمام فاضل. له المختصر. التجنيس، المبسوط، الفتاوى. اللكنوي: ص163 - 164؛ القرشي: 2/183؛ 3/141، 1289؛ ومقدمة التاتارخانية: 1/48.
(5) ط. فإنه يجاب قبل مضي السنة. ب.
(6) مشتري. ب.
(7) بائع. ب.
(8) العمادية: وسط 105 ب؛ الجامع: 1/240.
(9) ط. التي انتفع فيها البائع بالثمن. ب.
(10) أي لم يرد خواهر زادة بالترك في كلامه الترك رأسًا كما قد يتوهم. ب.(7/1311)
ونص
[396] على الثاني (1) في البزازية نقلًا عن الديناري (2) ، وهذا كله في كون الطلب من المشتري بعد رفعه الغلة.
وبقيت ثلاث صور: صورة ما إذا كان طلبه (3) منه (4) قبل رفعها، وصورتا كون الطلب من البائع بعد رفع المشتري الغلة (5) وقبله (6) .
فأما الأولى فذكر في الفصول: أنه لا إشكال في أن له ذلك حيث أراد عدم أخذ الغلة وتركها على البائع (7) .
وأما الثانية فواضح أن ليس للمشتري وجه في عدم مساعدته على الفسخ بعد أخذه الغلة ورضا البائع بتعجيل أداء الثمن إليه قبل مضي السنة وتركه حقه في تأخير دفعه لمضيها.
(طلب البائع الفسخ قبل أخذ المشتري الغلة) وأما الثالثة (8) ففيها تفصيل آخر، وهو أن طلبه إما أن يكون قبل مضي شهر من وقت العقد أو بعده، فإن كان الأول كان له الفسخ، قال في البزازية نقلًا عن الديناري (لأن الفسخ قبل مضي الشهر كالفسخ متصلًا بالبيع) (9) ، يعني والفسخ متصلًا به يجوز له لعدم لزوم العقد. ولا عبرة بكون المشتري لم يأخذ شيئًا من الغلة لعدم ضرر عليه في ذلك بعود ماله إليه في الحال من غير أن ينتفع به البائع بحال. فكذا فيما هو بمنزلته وهو ما دون الشهر لأنه قريب على ما ذكره في كتاب الأيمان: فيما إذا حلف ليقضينه دينه إلى قريب، من أن القريب ما دونه (10) ، وإن كان الثاني لم يكن له ذلك كما نقله في البزازية عن المذكور أيضًا، وعلله بقوله: (لأنا نعلم أن قصد المشتري (11) أخذ الأنزال) (12) ، يعني وفي الفسخ قبل أخذه إبطال لمقصوده مع انتفاع المشتري (13) بماله مدة بعيدة إذا كانت شهرًا، وذلك إضرار به. وهذا العقد للنظر ولا نظر له في هذا.
__________
(1) وهو أن للمشتري الاسترداد إذا شرطه عند رفعه الغلة. ب؛ انظر البزازية: 4/414.
(2) هو علاء الدين أبو نصر عبد الكريم بن يوسف بن محمد بن عباس: 517 - 593. فقيه حنفي. له الفتاوى. اللكنوي: ص101؛ القرشي: 2/459، 856؛ البغدادي: 1/609.
(3) مشتري. ب.
(4) بائع. ب.
(5) الأولى من الصورتين وهي الثانية من جملة الصور
(6) الثانية من الصورتين وهي الثالثة من جملة الصور.
(7) ونصه في الفصول: ولو أراد أن يترك الغلة على البائع ويأخذ حقه له ذلك. وهذا لا يشكل. العمادية: وسط 105 ب.
(8) الثانية في ب، الثالثة في بقية النسخ.
(9) البزازية: 4/420.
(10) في الفتاوى: (لا يكلمه قريبًا من سنة فهو على نصفها) . البزازية: 4/347.
(11) الظاهر البائع. ج. ق. نص ما بالبزازية كما ورد في كلام المؤلف.
(12) البزازية: 4/420.
(13) (لعله البائع. كذا وجدت الترجي بخط الوالد. ب.)(7/1312)
فإن قلت:
[397] ينافي هذه التقييدات في طلب أحد المتعاقدين الفسخ إطلاق صاحب الفصول القول (1) بإجابة طالب الفسخ أيًّا كان، أيَّ وقت كان، إذ قال: ولو أراد المشتري نقض البيع واسترداد الثمن كان له ذلك في كل حال لأن العقد غير لازم، ولكل واحد منهما حق النقض والفسخ) (2) .
قلت: لا منافاة بينهما لأن تلك التقييدات في مسألة الغلة كما سمعت، وذلك الإطلاق في مسألة الإجارة لخصوص البائع حسبما يعلم من الوقوف على كلام الفصول.
وأما الثانية (3) فإما أن الغلة للمشتري أو للبائع أو تقسط بينهما، فجوابه أنها تقسط (4) بينهما (مبدأ السنة الموزعة عليها الغلة هو وقت عقد الوفاء) وذلك بأن تقسم على اثني عشر جزءًا عدد شهور السنة معتبرًا بدؤها من وقت عقد الوفاء على ما يشير إليه ما في فتاوى خواهر زادة على ما في الفصول من قوله: (حتى تتم السنة من وقت البيع) (5) ، وينظر لما بين يوم العقد ويوم الفسخ من الشهور كم هو؟ ولما أصاب كل شهر من الغلة المقسومة فيكون ما يوازي تلك المدة للمشتري، ولما بين يوم الفسخ وآخر السنة فيكون ما يوازيه للبائع. وظاهر قولهم تقسم الغلة على اثني عشر جزءًا أن المقسوم هو الغلة نفسها حتى تكون مشتركة شركة ملك بين البائع والمشتري فَتُجَذُّ وتقسم عينها بالفعل أو تباع ويقسم ثمنها. لكن أفصح في الفصول في موضع آخر (المقسم على السنة قيمة الغلة لا عينها) بأن المقسوم قيمتها لا هي حيث قال: (ولو اشترى (6) كرمًا على (7) أن يكون له من الثمرة قدر النصف أو الثلث فأراد نقض البيع قبل إدراك الثمر، إن خرجت (8) الثمرة وكانت (9) لها قيمة توزع قيمة الثمرة على ما مضى من المدة، و [على] ما بقي فبقدر ما مضى يجب على البائع أن يدفع قيمته
[398] (10) للمشتري) (11) ، فصرح بأن المقسوم قيمة الغلة، (البائع يضمن للمشتري قدر حصته من قيمة الغلة دراهم) وأن البائع يضمن للمشتري حصته دراهم، وتبقى الغلة كلها ملكًا للبائع، حصته بالأصالة وحصة المشتري بالضمان، يصنع بها ما شاء. وهذا مفسر فيكون قاضيًا على قولهم: تقسم الغلة، لأنه نص، والمفسر مقدم على النص عند التعارض على ما تقرر في الأصول.
__________
(1) ط. والذي يظهر أن من ارتهن دارًا وسكنها أو أرضًا وزرعها ثم في أثناء السنة طلب البائع الفسخ لا يجاب إليه قبل مضي السنة، وبعد مضي شهر على قياس ما ذكر هنا. اهـ. تقرير بواسطة. كذا بخط الوالد رحمه الله. ب.
(2) انظر العمادية: أعلى 105 ب؛ الجامع: 1/240.
(3) وهي ما إذا تفاسخا قبل أخذ المشتري الغلة، لمن تكون بتمامها أو تقسط. ب.
(4) إنما تقسط الغلة إذا تفاسخا برضاهما، أما إذا طلبه أحدهما وأباه الآخر فهي المسألة التي تقدمت. اهـ. منه. ب.
(5) العمادية: أعلى 105 ب؛ الجامع: 1/240.
(6) أي وفاء. ب.
(7) ط. أي اتفقا هكذا وهذا جائز. اهـ. من خط الوالد. ب.
(8) للمشتري. ب.
(9) وصارت بدل وكانت: العمادية.
(10) ط. وبهذا يظهر أن ليس للمشتري عين الغلة بل قيمتها إلا عند التراضي كما يفصح به عن قريب. كذا بخط الوالد. ب.
(11) بالفصول: إلى المشتري بدل للمشتري. انظر العمادية: أول 105 ب.(7/1313)
وهذا لاحتمال مجاز الحذف فيه أي قيمة الغلة على حد ما قالوه في حديث المستحاضة (1) : إن رواية (تتوضأ لوقت كل صلاة) مفسرة، فتكون قاضية على رواية (تتوضأ لكل صلاة) وهي نص لاحتمال مجاز الحذف فيها أي لوقت كل صلاة.
واعلم أن كون المقسوم هو قيمة الغلة لا عينها مع كون المفسر يعطيه، فالوجه يقتضيه. وذلك لأنه لو كان المقسوم نفس الغلة لتضرر البائع بذلك سواء قلنا تجذ يوم الفسخ فتقسم، أو تؤخر لوقت الطيب.
أما الأول فلأنه لا يمكن ذلك إلا بجذ الكل قبل الطيب فيتضرر البائع في نصيبه.
وأما الثاني فللزوم بقاء نصيب المشتري على شجر البائع وتربيته له إلى وقت الطيب.
ويستفاد من قوله توزع قيمة الثمرة على ما مضى من المدة وما بقي، أن مبدأ المدة الموزع عليها هو وقت العقد، إذ أي مدة هنا سوى مدة الوفاء التي مبدؤها ما ذكر.
وأما أنه هل ثم فرق في التوزيع بين الثمرة الموجودة وقت الفسخ والمعدومة أم لا؟ فهذا قد اختلف فيه شيخا الإسلام علاء الدين السمرقندي (2) وصاحب الهداية.
(الخلاف في جريان التوزيع في الغلة المعدومة وقت الفسخ) ذهب الأول إلى الفرق بين الغلتين فأثبت التوزيع للموجودة ونفاه عن المعدومة فخصها بالبائع ولم يجعل فيها للمشتري شيئًا قائلًا: (إذا لم تظهر الغلة ففي أي شيء يبقى حقه)
[399] (3) .
__________
(1) الأحاديث المشار إليها هنا كثيرة نذكر منها حديث عائشة قالت: (أتت فاطمة بنت أبي حبيش النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني استحضت. فقال دعي الصلاة أيام حيضك ثم اغتسلي، وتوضئي عند كل صلاة وإن قطر على الحصير) . حم: 6/204؛ وعن سليمان التيمي قال: (قلت لأبي قلابة: الحائض تتوضأ عند وقت كل صلاة) . دي. كتاب الوضوء، باب 101 الحائض تتوضأ عند وقت الصلاة: 1/232.
(2) هو أبو منصور وأبو بكر علاء الدين محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي: 540. شيخ جليل فاضل. تفقه بالمكحول والبزدوي. وهو صاحب تحفة الفقهاء التي شرحها زوج ابنته فاطمة العالمة الفقيهة علاء الدين أبو بكر الكاساني فوضع عليها البدائع. القرشي: 3/18، 1151؛ اللكنوي: ص 158.
(3) انظر العمادية: أول 104 ب؛ الجامع: 1/238.(7/1314)
وذهب الثاني وتبعه أولاده إلى التسوية بينهما في التوزيع، وأن للمشتري حصة من الثمرة خرجت أم لم تخرج قائلًا: [وطريقه أن يبقى العقد (في قدره) ] (1) ، يعني بفرض بقاء العقد، وأنه لم يفسخ في قدر الوقت الذي تخرج فيه الغلة وتصير لها قيمة، فعند ذلك يعتبر وجود الفسخ كأنه إنما وقع حينئذ، ويجعل من وقت العقد إليه هو الوقت الذي يأخذ المشتري قسطه من الغلة.
ثم قال: (فلا يتفاوت بين ما إذا ظهرت الغلة وبين ما إذا لم تظهر، لأنا لو فصلنا الجواب يؤدي إلى الضرر بالشراة (2) لأنه لو اشترى في الخريف ويقضي [البائع] الثمن في الربيع يفوت حقه أصلًا. وفيما قلنا دفع الضرر فيصار إليه) (3) . فهذا ما نقله في العمادية.
وزاد في البزازية: (قيل له: بعد أداء كل الدين كيف يبقى العقد؟ قال بقدر ما أبقينا العقد يكون الدين المؤدى دينًا للبائع على المشتري. فإذا رفع النزل يجعل قصاصًا) (4) . ومعناه أن السائل قال له ما ذكرته من فرض العقد قائمًا لم يفسخ إلى وقت أن تصير للغلة قيمة يمكن ادعاؤه فيما إذا لم يؤد البائع الثمن للمشتري، أما بعد أدائه له بتمامه وسقوط الدين الذي كان للمشتري عليه بالمقاصة بالدين الذي وجب للبائع على المشتري بالدفع على ما هو معنى كون الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها فلا.
وأجاب عن هذا بأنا نعتبر الدين الذي وجب للبائع على المشتري قائمًا لم تقع به مقاصة ما دام المشتري لم يأخذ حصته من الغلة. فإذا أخذها تقع المقاصة حينئذ فيسقط الدين إذ ذاك لا قبله. وإذا كان الدين قبل أخذ حصة الغلة قائمًا يكون العقد
[400] مفروض البقاء مع قيام الدين لا مع سقوطه.
__________
(1) انظر العمادية: أول 104 ب؛ الجامع: 1/238.
(2) بالفصول بصيغة الإفراد: بالمشتري. العمادية: 104 ب.
(3) انظر العمادية: 104 ب.
(4) البزازية: 4/410 - 411.(7/1315)
ثم قال البزازي: (قيل: كيف يبقى العقد في الثمار المعدومة؟ قال: يبقى في الأصل لا في النزل) (1) . ومعناه أنه أورد على صاحب الهداية ثانيًا كيف يصح اعتبار العقد باقيًا لم يفسخ في الثمار مع أنها معدومة إذ ذاك؟ وأجاب بأنا لا نسلم أنه يعتبر باقيًا فيها حتى يلزم اعتبار بقائه في معدوم بل نعتبر بقاءه في أصلها الذي هو الشجر وهو موجود. وهذا لأن بقاء العقد إنما يعتبر بعد الفسخ فيما كان فيه قبله، وهو إنما كان في الأصل فيعتبر بقاؤه فيه، وإذا اعتبر باقيًا فيه والنزل نماؤه ونماء المبيع وفاء المتولد بعد العقد للمشتري، فيستحق فيه إلى وقت الفسخ ووقته حينئذ هو وقت الرفع إذ فرض باقيًا إليه.
ثم قال البزازي: (قيل وإن كان المشتري استوفى ثمار سنين سلفت) يعني تعتبر بقاء العقد حتى في هذه الصورة مع أنه يتبادر أن هذا التكلف إنما يعتبر فيما إذا لم يأخذ المشتري غلة أصلًا بأن كان الفسخ في السنة الأولى. (قال نعم) (2) يعتبر ولو فيها، لأن أخذه غلات سنين سلفت لا يمنعه من أخذ ما ينوبه من غلة سنة أدرك جزءًا منها قبل الفسخ.
(رجحان القول بتوزيع الغلة المعدومة وقت الفسخ) وقد ظهر لك رجحان ما ذهب إليه صاحب الهداية على مقابله لتوجيهه وتقدم قائله. فإنه الإمام الذي يقال فيه إذا قالت حذام. ولا يخفى أن هذا تحويم منه على رد صورة الفسخ عند عدم الغلة لصورته عند وجودها ليثبت فيها ما ثبت في الأخرى من التقسيط، لأنه إذا فرض بقاء العقد إلى وقت أن تصير للغلة قيمة، وأن الفسخ إذ ذاك وقع يكون واقعًا
[401] حال وجود الغلة دون عدمها.
فإن قلت: من أين يؤخذ من كلام صاحب الهداية أن العقد يعتبر باقيًا إلى حين أن تصير للغلة قيمة وهو إنما قال إلى وقت الرفع؟
__________
(1) البزازية: 4/411.
(2) البزازية: 4/411.(7/1316)
قلت: من حيث إنه إذا لم يكن أراد الوقت الذي ذكرناه فإما أن يريد وقت بروزها للخارج قبل أن تصير لها قيمة، أو ما بين وقت تقومها ووقت طيبها، أو وقت الطيب نفسه. لا جائز الأول (1) والمقصود تقويمها ليعطي البائع المشتري حصته من قيمتها إذ لا يعقل تقويم ما لا قيمة له؛ ولا الثاني لعدم انضباطه وتساوي أبعاضه، فتخصيص بعض منها يكون بلا مخصص؛ ولا الثالث لأن هذا لم يعتبر في الغلة الموجودة فكيف يعتبر في المعدومة مع أن اعتبار بقاء العقد فيها إنما ارتكب دفعًا للضرر عن المشتري بخروجه من تلك الغلة صفر اليدين في العقد النظري، وذلك يحصل بتقدير بقائه لوقت صيرورة الغلة ذات قيمة، فما الملجأ لمده لما وراء ذلك حتى ينتهي لوقت الطيب مع ما فيه من الضرر بالبائع؟ وكما يجب النظر للمشتري يجب للبائع، وحيث بطلت الأقسام الثلاثة تعين الرابع الذي ذكرناه، إذ لا خامس لها هنا.
ومما يتصل بمسألة الثمر (مسألة ما يقطع من حطب الشجر) مسألة ما يقطع من حطب من الشجر. وقد قال البزازي فيها: (وقوائم الخلاف (2) التي تقطع كل سنة، وكذا كل ما يحصد في كل سنة لا يدخل بلا ذكر إن كان موجودًا وقت البيع) (3) . ولعله جد العمادي (بأنها بمنزلة الثمر) (4) ، يعني في كون المقصود الانتفاع بعينها حيث لا ثمرة لها كما هو المقصود من الانتفاع بالثمر مع كونها تقطع كل سنة مثله وإن كانت حقيقة من الشجر.
ثم قال البزازي: (أما الحادث بعد الشراء [ف] للمشتري،
[402] لكنه إذا اشترى كرمًا وفاء وحدث فيها قوائم الخلاف يجر المشتري [على] أن يصرف منه إلى دعائم الكرم قدر المتعارف. وأما (5) القوائم الموجودة أوان البيع، ودخل في البيع بالذكر (6) ، لا يجبر على الصرف منه لأنه ملكه بحكم أن له قسطًا من الثمن، فلو صرف له (7) الرفع (8) عند (9) الفسخ) (10) .
__________
(1) الحال. ب.
(2) الخلاف ككتاب: شجر الصفصاف.
(3) البزازية: 4/415.
(4) العمادية: وسط 106 أ؛ والجامع: 1/240.
(5) فأما: البزازية.
(6) بأن شرطها المشتري لنفسه. ب.
(7) أي المشتري لو دفع بعضًا من ذلك له أن يرفعه عند فسخ العقد. اهـ. الشيخ الثالث. ب.
(8) صرفه له: خبر، الرفع: مبتدأ. ب.
(9) حين بدل عند: البزازية.
(10) البزازية: 4/415.(7/1317)
وكل ما ذكره (1) من توقف دخول الموجود وقت العقد على اشتراطه للمشتري، وكون الحادث بعد الشراء للمشتري بدونه ظاهر حيث كان بمنزلة الثمر، إذ مر أن الحكم في الثمر ذلك. وأما وجوب أن يصرف من الحادث إلى دعائم الكرم قدر المتعارف مع أن ذلك الحادث ملكه، ولم وجب عليه الصرف من هذا دون القديم المشروط له، وهو ملكه أيضًا، فلأنه لما كان بمنزلة الثمر، والثمر يصح أن يشترط منه البائع شيئًا لنفسه كالنصف والربع كما صرح به غير واحد وأفاده قول الفصول: (وغلة الكرم على ما شرطا) (2) كان ذلك القدر المتعارف مستثنى له (3) عرفًا وهو كالمشروط شرطًا، وحينئذ لم يجبر المشتري على الصرف من ماله بل من مال البائع المستثنى له بحكم العرف. وإنما لم يعتبر هذا الاستثناء في الموجود الذي هو للمشتري بالشرط حتى يلزمه أن يصرف منه القدر المتعارف أيضًا لأن الاستثناء إنما يعمل في نزل الوفاء، وهو الحادث على ملك المشتري الوفائي، والموجود ليس كذلك (4) ، وملك المشتري إياه إنما هو بالبيع البات فيه بمقتضى الشرط بحصته من الثمن فكان بمنزلة الثمر الموجود المشروط حيث مر أن البيع فيه بات بالحصة، وهي معنى قوله: (لأنه ملكه بحكم أن له قسطًا من الثمن) . وإذا كان ملكه بذلك البيع لا يصح فيه استثناء شيء للبائع.
[403] ولذلك إذا صرف منه تطوعًا كان له رفعه وقت الفسخ (5) .
(مسألة حطب الزيتون) ومما هو غير خاف أن لا يمكن إجراء ما يقطع من حطب الزيتون المعبر عنه عندنا بالقص على حكم قوائم الخلاف، وإنما هو للبائع بلا خلاف، وذلك للفرق الواضح بينهما (6) لأن قوائم الخلاف إنما كان حكمها ما مر لتنزيلها منزلة الثمر، وما نزلت منزلته إلا لكون ذلك الشجر ليس له شيء من الثمر فقوائمه هي ثمرته مع كونها تقطع منه كل سنة. والمقطوع من حطب الزيتون يخالفها في ذلك كله لأنه في نفسه يثمر الزيتون ولا يقص (7) كل سنة بل في بعض من السنين تشذيبًا (8) لشجره وتقوية له، فلا يكون ثمرًا بل شجرًا، كما هو الواقع فيه.
__________
(1) البزازي. ب.
(2) العمادية: أعلى 105 ب؛ والجامع: 1/240.
(3) أي للبائع. ب.
(4) لما سبق من أن البيع فيه بات. ب.
(5) انظر الجامع: 1/241.
(6) أي القص والقوائم. ب.
(7) نخ. يقطع.
(8) تهذيبًا. ب.(7/1318)
ومتى كان شجرًا كان البيع فيه وفاء لا باتًّا لأنه من أجزاء الشجر الذي انعقد الوفاء عليه، ومتى كان كذلك لا يملكه المشتري وفاء وإنما يملك نزله، إذ عقد الوفاء لا يوجب للمشتري ملكية عين المبيع، بل زوائده ومنافعه. فتبقى عين المقطوع على ملك البائع كالأجزاء الباقية التي لم تقطع. وليس لقطعه ولا عدم إثماره بعد القطع أثر في نقل الملك فيه من البائع للمشتري، (الشجرة الميتة تكون للبائع) إذ هو بمنزلة موت شجرة من شجر الوفاء، أيتوهم أنها لعدم إثمارها بالموت تصير مملوكة للمشتري! (القص مع كونه للبائع للمشتري حبسه عنه) ولكن مع كون ذلك الحطب المقطوع للبائع، وليس للمشتري منه شيء، له حبسه عن البائع حتى يدفع له مال الوفاء. ولا يلزمه أن يسلمه له قبل ذلك لأنه إذا كان من جملة المبيع وفاء فالمبيع الوفائي يجري في الحبس مجرى المرهون، والمرهون يحبسه المرتهن عن الراهن في دينه. فهذا كذلك. وقد كان تلمح لي فيه أنه يجري
[404] مجرى قوائم الخلاف حتى وصلت في هذا الجمع لهذا المحل ففتح الله سبحانه وتعالى فيه بما سمعت. وهذه أمور تحدث بحسب ما يقذفه في القلوب علام الغيوب.
بقي ههنا شيء: وهو أن هذا المقطوع من الحطب حيث كان، مع كونه ملك البائع، منسحبًا عليه حكم الرهن حتى كان للمشتري حبسه عنه، فهل له منع البائع من أصل قطعه باعتبار كونه مرهونًا موصولًا فلا يصيره له مفصولًا؟ ليس للمشتري منع البائع من القطع ويظهر لي أن ليس له ذلك لأنه تشذيب للشجر وتنقية تثمر له تقوية فيكون من باب إصلاح المالك لملك نفسه كحرثه وسقيه ورم ما استرم منه. وقد صرحوا بأن له إصلاحه، وإن كان في حال كونه بيد غيره بحق. ألا ترى إلى ما نص عليه في التاتارخانية (1) لمؤجر الدار أن يدخلها ليصلحها من (أن لمؤجر الدار أن يدخلها ليصلحها وإن كان بغيبة المستأجر وبلا إذن منه) وليس في ذلك ضرر بالمشتري لأنه يحبسه كما القائم ويباع في دينه كما يباع هذا.
__________
(1) الفتاوى التاتارخانية نسبة إلى الخان الأعظم تاتارخان الذي أشار بجمعها واسمها في الأصل زاد المسافر. وهي من تأليف الإمام الفقيه عالم بن علاء الأنصاري الأندريني الحنفي. تقع في مجلدات تحتوي على مسائل المحيط البرهاني، والذخيرة، والخانية، والظهرية. وهي مرتبة على أبواب الهداية. لخصها وانتخب منها إبراهيم بن محمد الحلبي ما هو غريب أو كثير الوقوع. الكشف: 1/268.(7/1319)
(الحرث والسقي والرم لا يجب على البائع ولا على المشتري) واعلم أن حرث هذا الزيتون وسقيه إن احتاج إليه، ورم ما استرم من المبيع إن كان ربعًا، لا يجب لا على البائع ولا على المشتري. فقد قال صاحب الخيرية في سفل لشخص علوه لآخر احتاج سقف السفل إلى التطيين دفعًا لضرر وكف ماء العلو بعد أن مهد (السقف ملك صاحب السفل) بأن السقف ملك صاحب السفل. وإنما لذي العلو حق القرار عليه ( [في] (1) أن تطيينه لا يجب على واحد منهما، أما ذو العلو فلعدم وجوب إصلاح ملك الغير عليه، وأما ذو السفل فلعدم إجباره على إصلاح ملكه) (2) .
فإن قلت: أليس الغرم بالغنم، وغنم هذا المبيع وهو
[405] نزله للمشتري فيكون غرمه عليه؟
قلت: بلى، ولكنه غرم فيه الثمن (3) . والقاطع للشعب في عدم اللزوم عليه ما نقله في الفصول (عن فوائد شيخ الإسلام طاهر بن محمود (4) محالًا فيها إلى رهن الذخيرة) (5) في الدار المبيعة وفاء إذا احتاجت إلى العمارة فعمرها المشتري بأمر القاضي على أن له الرجوع كان له الرجوع) (6) . فلو كانت العمارة واجبة على المشتري لم يكن لرجوعه بها على البائع، ولا لأمر القاضي بذلك معنى. وبهذا تعلم أن ما يظنه عامتنا في المبيع وفاء إذا كان زيتونًا فلم يحرثه مشتريه أو شجرًا رقيقًا فلم يخدمه بالمسحاة ولم يسق ما يسقى منه، أنه لا يستحق غلته لا أصل له.
__________
(1) الزيادة من ب، ر، ص.
(2) ... فإن شاء طينه ورفع ضرره وكف الماء عنه، وإن شاء تحمل ضرره عنه، إذ صرحوا بأنه لا يجبر المالك على إصلاح ملكه، وإذا تلف الطين المانع لو كف الماء بسبب السكن المأذون فيه شرعًا لا ضمان على الساكن، وإن تعدى بأن أزاله وجب الضمان. الرملي: 2/88 - 89.
(3) اعلم أن قولهم: الغرم بالغنم ليس على إطلاقه في بيع الوفاء. ص.
(4) هو صدر الإسلام كما جاء لقبه في العمادية طاهر بن محمود بن أحمد بن برهان الدين الكبير عبد العزيز بن مازة البخاري. الفقيه الحنفي. 504. أخذ عن أبيه الصدر السعيد وعن عمه الصدر الشهيد. له فتاوى وفوائد. الكشف: 1298؛ الإيضاح: 2/155؛ واللكنوي: 85؛ وكحالة: 5.
(5) النقل بتصرف وهو صحيح المعنى. العمادية: أول 107 ب؛ والجامع: 1/243؛ والبزازية: 4/419.
(6) والمنقول أن الأمير حمودة باشا [بتونس] منع القضاة من قبول دعوى الراهن فيما يتعلق بتغير العين من غير فعل المرتهن. وهو مقتضى هذا القول في أحد وجهي الخيار. ر.(7/1320)
الفصل الرابع
في انتقاص المبيع فيه عند مشتريه
اعلم أن المبيع إذا كان دارًا فانهدم بناؤها أو أرضًا مشجرة فاحترق بعض أشجارها فلهم في ذلك (الأقوال الثلاثة في انتقاص المبيع عند المشتري) ثلاثة أقوال:
أحدها وهو لصاحب الهداية: أن ليس للبائع أخذ المبيع وتضمين المشتري من نقصانه شيئًا، وإنما هو مخير بين أمرين (1) : أحدهما أن يأخذ المبيع ويدفع ثمن الوفاء كاملًا من غير رجوع عليه بشيء مما نقص، والآخر أن يترك المبيع على المشتري يتملكه بما دفع من ثمن الوفاء ولا يرد عليه من ذلك الثمن شيئًا.
ثانيها وهو لشيخ الإسلام علاء الدين (2) وبعض مشائخ سمرقند أن له تضمينه ما نقص من قيمته بالغًا ما بلغ (3) ، ويعرف ذلك بتقويمه سليمًا ومعيبًا، فما نقص من قيمته سليمًا يكون مضمونًا عليه، ثم تارة يساوي ما نقص منه مال الوفاء، وأخرى يقصر عنه ومرة يزيد عليه. فإن ساواه ذهب بمال الوفاء فلا يعطي البائع المشتري منه شيئًا ولا المشتري البائع من النقص شيئًا لأنهما تكافآ فتقاصصا، وإن قصر النقص عن مال الوفاء سقط عن البائع منه مقدار النقص ودفع الباقي للمشتري، وإن زاد عليه سقط عنه مال الوفاء كله بالنقص ويرجع على المشتري بتمام قدر النقصان. لكن قال صاحب الهداية في هذا
[406] القول: إنه لا يكاد يصح لأن هذا للنظر ولا نظر في هذا البتة (4) .
__________
(1) وعبارة صاحب الفصول: سئل مولانا يعني جده رحمه الله تعالى: (إذا انتقض المبيع في يد المشتري شراء جائزًا ما الحكم فيه؟ أجاب حكمه أن البائع بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء ترك) . العمادية: 104 ب؛ والجامع: 1/238.
(2) هو شيخ الإسلام علاء الدين القاضي علي المروزي صاحب أبي زيد عبيد الدبوسي. أخذ الفقه عنه عن أبي جعفر الاستروشني عن أبي محمد بن الفضل السذموني. اللكنوي: 144. وروى عنه ظهير الدين علي بن عبد العزيز بن عبد الرزاق المرغيناني. القرشي: 4/416 - 2091.
(3) نص ما في الفصول: (أن له أن يمسك حصة النقصان من الثمن بالغًا ما بلغ، ويسترد إن زاد قيمة النقصان على الثمن) العمادية: 104 ب؛ والجامع: 1/238.
(4) الفصول: 104 ب؛ والجامع: 1/238.(7/1321)
(المعتمد في مسألة انتقاص المبيع) ثالثها وهو المعتمد ما ذكره صاحب الفصول بقوله: وفتوى أئمة زماننا رحمهم الله، ومن أدركنا من أساتذتنا وغيرهم على غير هذا الاختيار، وإنما اختاروا فيها حكم الرهن. وقالوا بأنه إذا انتقص المبيع وفاء في يد المشتري يسقط حصة النقصان من مال الوفاء، ويقسم مال الوفاء على قيمة الباقي والهالك، فما أصاب الهالك يسقط وما أصاب الباقي يبقى، كما هو الحكم في الرهن. [و] (1) بيانه: لو اشترى (2) دارًا قيمتها ألف درهم بمائة.
فخربت الدار وصارت قيمتها خمسمائة، يسقط من قيمة الوفاء خمسون. هكذا فاعتبر (3) .
"ولو استهلك المشتري بناءه أو أشجاره يضمن قيمته كالمرتهن" (4) ، يعني يضمنها بالغة ما بلغت كما يضمنها المرتهن، كذلك في هاته الصورة. وهو صورة الاستهلاك الفرق بين ضمان الرهن وضمان الغصب لأنه (5) تضمن فيها ضمان العيب لا ضمان الرهن إذ ذاك في صورة الهلاك.
__________
(1) الزيادة من ج.
(2) أي وفاء، بيان من ب.
(3) ط. لا خفاء أن في هاته الصورة تكون كل مائة من قيمة الدار التي هي عشرها مقابلة بعشرة من مائة الوفاء التي هي عشرها أيضًا. فلو رد الدار سليمة حتى رجعت لربها قيمتها كاملة وجب عليه أن يرد جميع المائة التي كانت بمقابلتها. وحيث صارت قيمتها خمسمائة يكون إنما رد على ربها نصف القيمة فلا يرد عليه إلا ما يقابله وهو نصف المائة الباقي، وهو الخمسون. فهو مقابل بنصف القيمة الذي ضاع. فلما لم يرده له المشتري لا يرد له البائع الخمسين التي تقابله. اهـ. منه. ب.
(4) العمادية: 104 ب - 105 أ؛ والجامع: 1/238.
(5) لأنها بدل لأنه: ج.(7/1322)
الفصل الخامس
في بيع البائع وفاء مبيعه الوفائي قبل فسخ الوفاء فيه
اعلم أنه إذا باع باتًّا أو وفاء مبيعه الوفائي قبل أن يفسخ مع مشتريه عقد الوفاء فيه فإن بيعه مطلقًا يكون موقوفًا على إجازة المشتري منه وفاء، كما يتوقف بيع الراهن الرهن على إجازة المرتهن ينفذ بإجازته ولا ينفسخ بفسخه لأن ما له من حق الحبس يتم بدون فسخ، فلا وجه لثبوته بلا ضرورة تدعوه إليه مع ما فيه من الضرر بالبائع والمشتري. ومع اشتراك الوفاء والرهن في توقف البيع فيهما على الإجازة، (الفرق بين توقف بيع المبيع وفاء على إجازة المشتري والمرهون على إجازة المرتهن) فإنهما يختلفان في كيفية التوقف عليها.
فأما في الوفاء فإنه يتوقف عليها عينًا بحيث لا يفيد
[407] في نفاذه سواها حتى (يبطل بيع المبيع وفاء بتعذر الإجازة لانفساخ الوفاء قولًا أو فعلًا) إذا تعذرت بخروج مشتري الوفاء من البين وصيرورته أجنبيًّا بسبب انفساخ وفائه قولًا أو فعلًا بقبض مال الوفاء، بطل لكونه كان موقوفًا على إجازة تعذر حصولها.
وأما في الرهن فلا يتوقف عليها كذلك (1) بل على أنها أحد ما يفيد في نفاذه، إذ كما تفيد هي فيه يفيد فيه فسخ الرهن وسقوط الدين بالقبض أو الإبراء. وبالجملة فما عدا الإجازة في الوفاء يبطل به البيع الموقوف، وفي الرهن ينفذ به. (من المسائل التي يخالف فيها الوفاء الرهن) وهذه إحدى المسائل التي يخالف فيها الوفاء الرهن كما نبهوا عليه.
ولا خفاء أن الإجازة كما تكون بالقول تكون بالفعل كما ذكره العمادي بقوله:
قيل له، أي صاحب الهداية: (فلو باعه من غيره بيعًا باتًّا وجاء بالثمن إلى المشتري [شراء جائزًا] ، وقال: بعت هذا المبيع باتًّا وجئت بدارهمك من ذلك فخذها فأخذها هل يكون إجازة؟
أجاب: نعم تكون إجازة ولا يحتاج إلى التجديد) (2) .
__________
(1) أي عينا. ب.
(2) للشراء. ب. العمادية والزيادة منها: 106 أ - 106 ب؛ وعبارة الجامع: (ولو باعه من غيره باتًّا وقال لمشتريه جائزًا بعته باتًّا وهذا ثمنك خذه فأخذه. فهو إجازة ولا يحتاج للتجديد) . الجامع: 1/241.(7/1323)
(الإجازة الفعلية من مشتري الوفاء لبيع بائعه) فالإجازة حصلت بفعل مشتري الوفاء وهو قبضه ثمن وفائه من خصوص ثمن البات لاستلزامه رضاه به. وحيث حصلت الإجازة نفذ البيع فنفاذه هنا بالقبض من حيث تضمنه الإجازة لا من حيث ذاته. فلا يرد أن هذا ينافي ما سبق من أن البيع في الوفاء لا ينفذ إلا بخصوص الإجازة دون ما سواها كقبض الثمن.
(تعدد المبيع متفقًا أو مختلفًا كتوحده في التوقف على الإجازة) واعلم أنه لا فرق في توقف البيع في الوفاء على خصوص الإجازة بين وحدته وتعدده وكونه باتًّا أو وفاء. فلو باع ما هو في وفاء الغير ثلاث بياعات كلها باتة أو وفائية أو مختلفة توقفت كلها على إجازة ذلك الغير، وأي بيع أجازه منها نفذ متقدمًا
[408] كان أو متوسطًا أو متأخرًا باتًّا أو وفاء، وبطل ما سواه. فلو قضى ثمن بعض ما هو وفاء منها أو مما هو قبلها (1) فإن كان المقضي ثمنه هو الوفاء الأصلي (2) الذي توقفت البيوع (3) على إجازة صاحبه بطلت كلها لما مر من أن ما كانت متوقفة عليه من الإجازة التي لا ينفذ إلا بها قد تعذر حصولها حتى لو باعه بعد قضاء ذلك الثمن بتًّا أو وفاء نفذ في الحال لأنه ليس بيع المبيع وفاء حينئذ حتى يتوقف إذ المقضي ثمنه انفسخ وما عداه قد بطل قبل وقوع هذا البيع فأنى يتوقف على إجازة صاحبه؟ وإن قضى ثمن غير الأول بقي الباقي على ما كان عليه من توقفه على إجازة صاحب الأول إذ البيع الوفائي الذي توقفت عليه لم يزل قائمًا بعد حتى لو باع بيعًا آخر بعد هذا القضاء وفاء أو بتًّا توقف غيره على إجازة صاحب الأول.
فإن قلت: (حصول الإجازة من مشتري الوفاء بقبضه ماله من مشتري البات) فهل تحصل الإجازة من مشتري الوفاء بقبضه ثمن وفائه من مشتريه البات كما حصلت بقبضه إياه من البائع على ما مر؟
قلت: نعم إذا وجد ما يدل على أن المدفوع من ثمن البات كما في قبضه من البائع، إذ لا فرق بين القبضين في ذلك. وسيأتي إن شاء الله تعالى من كلامهم ما يفيد ذلك.
__________
(1) وهو الأول الوفائي الذي توقفت كلها عليه. ب.
(2) نخ. الأول. التنبيه من ب.
(3) أي الثلاثة. ب.(7/1324)
(دفع مشتري البات لمشتري الوفاء مال وفائه بلا إذن البائع فإن) قلت: إذا دفع مشتري البات لمشتري الوفاء مال وفائه، فهل لبائعه (1) أن يطالبه (2) بثمن البات ويقول (3) : لِمَ دفعت مال الوفاء بغير أمري؟
قلت: هذا السؤال أورده صاحب العمادية. وذكر أن جده أجاب فيه بأنه لا يطالبه يعني ويقام له ذلك مما عليه للبائع من ثمن البات (4) .
ثم قال: هذا إذا لم يؤد الثمن إلى البائع،
[409] يعني أن موضوع هذه المسألة ما إذا كان دفع مشتري البات لمشتري الوفاء قبل أن يدفع للبائع ثمن البات، أما إذا كان بعده بأن أدى ثمن البات أولًا للبائع، ثم دفع ثمن الوفاء ثانيًا للمشتري بغير أمر البائع، فهل له أن يرجع به على البائع؟ قال: كان بعض المشايخ يقول: ينبغي أن لا يرجع ويكون متبرعًا بخلاف معير الرهن (5) ، فإن الرهن ثمة ورد على ملكه فيكون مضطرًّا في خلاص ملكه ولا كذلك ههنا (6) .
ورأيت في متفرقات إجارات الذخيرة (7) : (الآجر إذا باع المستأجر من أجنبي، ثم إن المشتري دفع الثمن إلى المستأجر بجهة مال الإجارة ينظر إن كان الآجر حاضرًا كان متطوعًا، وإن لم يكن حاضرًا لا يكون متطوعًا لأن في الوجه الثاني (8) هو مضطر في الأداء لتخليص ملكه، فهو نظير المعير إذا قضى دين المستعير. وفي الوجه الأول (9) ليس بمضطر فيه لأنه يمكنه أن يدفع الثمن إلى الآجر فيقضي الآجر به مال الإجارة، فيسلم ملك المشتري له) (10) .
__________
(1) أي بائع البات. ب.
(2) أي مشتري البات. ب.
(3) أي لصاحبه الذي اشترى مني وفاء. ب.
(4) قوله: ويقام له ذلك مما عليه البائع من ثمن البات. هذا يدل على حصول الإجازة من مشتري الوفاء للبيع البات بقبضه مال وفائه من مشتري البات إذا قبض من ثمنه، إذ لو لم تحصل به الإجازة لما تم البات بل بطل. فأي ثمن عليه للبائع حتى يقام له هذا منه؟ وهذا ما قلت إنه سيأتي إن شاء الله تعالى في كلامهم ما يفيد ذلك. اهـ. منه. ب.
(5) بأن استعار شخص من آخر شيئًا فرهنته بإذنه. ب.
(6) ط. لأن بيع الوفاء لم يرد على البات بل الأمر بالعكس لسبق الأول في الوجود كما هو الفرض. اهـ. ب.
(7) من كلام الفصول. ب.
(8) ط. وهو ما إذا لم يكن الأجر حاضرًا. ب.
(9) ط. وهو ما إذا كان الأجر حاضرًا. ب.
(10) العمادية: 106 ب؛ وعبارة جامع الفصولين: المؤجر بدل الآجر مع تصرف قليل في ترتيب الصور وفي اللفظ الجامع: 1/242.(7/1325)
يعني وعلى قياس التفصيل في مسألة دفع المشتري مال الإجارة بين حضرة المؤجر وغيبته ينبغي أن يفصل في مسألة دفعه مال الوفاء كذلك. ثم نقل (1) عن إجارات العدة إطلاق القول بتبرعه بدفع مال الإجارة فيكون موافقًا لجواب بعض المشايخ في مسألة دفعه مال الوفاء من إطلاق القول بالتبرع فيه (2) . ونقل في جامع الفصولين ما سوى المنقول عن العدة وأقره (3) .
وأقول (4) إن لم يكن فرق بين صورة دفع مشتري البات ثمن الوفاء لمشتريه قبل دفعه ثمن البات للبائع وصورة كونه بعده، فما كان ينبغي
[410] إيرادهما في هذا القالب المشعر باختلاف حكمهما، وإن كان بينهما فرق فيه فما استند إليه من التفصيل في الثانية بين حضور البائع وعدمه قياسًا على مسألة الإجارة المذكورة في الذخيرة (5) لا يفيد إذ ليس فيها إن دفع مال الإجارة للمستأجر كان بعد دفع ثمن البات للبائع.
فإن قلت: يندرج تحت إطلاقه حيث لم يقيد دفعه ثمن الوفاء بشيء.
قلت: إذا لا يكون بينهما فرق في الحكم. فيعود الكلام إلى أنه لِمَ عبَّر بما يوذن باختلافهما؟
فإن قلت: كما أن المعير مالك للمرهون، فالمشتري بتًّا مالك للمبيع الذي في وفاء الغير، فما معنى الفرق بأن الأول مضطر في خلاص ملكه لا الثاني؟
قلت: واضح لأنه فرّعه على قوله لأن الرهن ثمة ورد على ملكه فكان محط الفرق هو أن الرهن حين عقد ورد على ملك المعير لثبوت ملكه فيه قبل عقد الرهن، بخلاف عقد الوفاء، فإنه لم يرد على ملك المشتري باتًّا بل عقد المشتري باتًّا هو الذي ورد على ملك المشتري الوفائي.
__________
(1) لفظه: (إذا باع المستأجر بإذن المستأجر حتى كان للمستأجر أن يستوفي مال الإجارة. فلو أن المشتري أدى مال الإجارة إلى المستأجر بغير أمر الآجر ليسلم له المبيع كان متبرعًا بخلاف معير الرهن) . العمادية: 206. ب.
(2) يعني إذا كان دفعه إياه لمشتري الوفاء بعد ما دفع للبائع إذ هذه الصورة هي التي أجاب فيها بعض المشايخ بأنه متبرع. والمراد بإطلاق القول بتبرعه إطلاقه عن التقييد بغيبة البائع لا عن التقييد بكون الدفع لمشتري الوفاء بعد دفع الثمن للبائع، لأن هذا التقييد لا بد منه لأنه موضوع المسألة. اهـ. منه. ب.
(3) لفظه في جامع الفصولين: "عدة) باعه بإذن المستأجر فأدى المشتري مال الإجارة إلى مستأجره بغير أمر المؤجر ليسلم له البيع يكون متبرعًا بخلاف معير الرهن) . الجامع: 1/242.
(4) هذا من المؤلف. ب.
(5) هي ذخيرة الفتاوى المعروفة بالذخيرة البرهانية للإمام برهان الدين محمود بن الصدر السعيد أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مازة. 610. وهي مشحونة بكثير من الفوائد. اختصرها صاحبها من كتابه المحيط البرهاني. وكلاهما مقبول عند العلماء. اللكنوي: 205 - 207؛ الكشف: 1/823.(7/1326)
وبعد هذا كله فالأظهر القول بتبرع المشتري باتًّا، وأن قياسه على معير الرهن قياس مع الفارق، لأن شراءه (1) إذا كان موقوفًا على الإجازة (2) يكون ملكه للمبيع كذلك. والإجازة هنا إنما حصلت بقبض مشتري الوفاء مال وفائه منه، فبالضرورة يتأخر نفاذ عقده عن دفعه إياه. ويستلزم ذلك تأخر ملكه كذلك. ولئن كان الملك يثبت له مستندًا لوقت شرائه لا مقتصرًا على وقت دفعه فعقد شرائه متأخر عن عقد وفاء الآخر، فلم يصدق أن الوفاء ورد على ملكه لا النافذ ولا الموقوف، فكيف يساوي المعير؟
(بيع المبيع وفاء لمشتريه بيعًا باتًّا (واعلم أن بيع المبيع وفاء الذي يتوقف
[411] على إجازة مشتري الوفاء هو بيعه من غير ذلك المشتري. أما بيعه له فلا يتصور توقفه على إجازة من نفسه بل ينفذ في الآن (3) ، ويتضمن فسخ الوفاء الذي كان أتى الوادي فطمّ على القري (4) .
قال في الفصول: (وسئل جدي رحمه الله عمن باع كرمه بيعًا جائزًا ثم باعه من المشتري بيعًا باتًّا بعد ما مضى بعض السنة وقد خرج الثمر، وأنه باع (5) بدون الغلة (فهل تكون) حصة ما بقي من السنة بعد البيع البات للبائع؟ أجاب تكون للبائع) (6) .
قلت: وضع الكلام في حصة الباقي من السنة بعد البيع لأن حصة الماضي منها تكون للمشتري بلا إشكال. وإنما لم تكن حصة الباقي له أيضًا لأنه لا جائز أن يستحقها بعقد الوفاء لانفساخه بطروء البات عليه، ولا بعقد البات لعدم اشتراط المشتري لها فيه، وأيضًا فهذا فسخ حكمي لعقد الوفاء، فيعتبر بالفسخ الحقيقي وفيه توزع بينهما على هذا الوجه، فكذا فيما هو في حكمه.
ثم قال في الفصول أيضًا: (وسئل رحمه الله، باع كرمًا بيعًا جائزًا فمضى بعض المدة وخرج الثمار ثم باعه من المشتري جائزًا بيعًا باتًّا ولم يذكر الثمار (7) أتكون الثمار للبائع أم للمشتري؟ أجاب رحمه الله: تكون للبائع) (8) .
أقول أطلق في الثمار هنا، فشمل حصة المدة السابقة على الفسخ واللاحقة له، وليس كذلك، لأنك عرفت أن حصة السابقة للمشتري بلا نزاع.
__________
(1) أي البتي. ب.
(2) أي من مشتري الوفاء. ب.
(3) في الفصل الثاني والثلاثين من جامع الفصولين رامزًا للذخيرة ما نصه: (باع الرهن راهنه بلا إذنه مرتهنه، ثم باعه من المرتهن جاز البيع من المرتهن وينتقض البيع الأول) . اهـ. ب. وتمام كلامه في الجامع: (وهكذا لو باع المستأجر من رجل بلا إذن المستأجر ثم باعه من المستأجر جاز البيع من المستأجر وهو نقض للبيع الأول، وكذلك في البيع الجائز المعروف ببيع الوفاء إذا باعه البائع من رجل باتًّا بلا إذن المشتري ثم باعه من المشتري بيعًا باتًّا نفذ البيع الثاني وبطل الأول. وهذا لأن الأول موقوف والثاني بات فيبطله. كذا أفتى صاحب المحيط. وقال غيره من المتأخرين ينفذ البيع الأول. وبه أفتي) والجامع: 2/93.
(4) عظم السيل فغمر كل شيء في طريقه.
(5) أي باتًّا. ب.
(6) بالفصول: ما بقي من الثمر بدل ما بقي من السنة. العمادية: 106 أ.
(7) الثمر بدل الثمار. انظر العمادية.
(8) العمادية: وسط 106 أ.(7/1327)
الفصل السادس
في الشفعة بالمبيع وفاء والشفعة فيه
إذا بيع باتًّا قبل الفسخ (1)
(يشفع بالمبيع وفاء بائعه لا مشتريه) أما الأولى فإنها تكون لبائعه دون مشتريه. وذلك أن الشفعة
[412] بالشيء تستدعي كونه ملكًا للشفيع وقت الشفعة إلى حين ثبوت ملكه في المشفوع فيه، وذلك ثابت للبائع وفاء لعدم خروج المبيع عن ملكه، فهذا البيع منفي عن المشتري إذ من لازم عدم خروج المبيع عن ملك البائع فيه عدم دخوله في ملك مشتريه ونفي الشفعة به لمشتريه ظاهر، وأما ثبوتها للبائع فربما يخفى من حيث إن ما يريد أن يشفع به ليس حين الشفعة في يده، فلذلك اقتصر صاحب الفصول عليه إذ قال نقلًا عن فتاوى الإمام محمد بن الفضل (2) :
(كرم بين رجل وامرأة، باعت المرأة نصيبها من الرجل وشرطت أنها متى جاءت بالثمن رد (3) عليها نصيبها. ثم باع الرجل نصيبه من آخر، هل (يكون) لها الشفعة؟
قال: إن (4) كان البيع بيع معاملة (5) فلها الشفعة سواء كان نصيبها من الكرم في يدها أو في يد الرجل (6) ، لأن بيع المعاملة وبيع التلجئة حكمهما حكم الرهن، والراهن له حق الشفعة وإن كان الرهن في يد المرتهن) (7) .
(صحة الوفاء مع الشيوع وعدم القبض بخلاف الرهن) وقد استفيد من تصويره الوفاء في نصف الكرم [وقوله سواء كان نصيبها في يدها أو في يد الرجل] صحة الوفاء مع الشيوع [وعدم القبض] ، على خلاف الرهن [في الأمرين] فيكون هذا مما خالف فيه الوفاء الرهن. ووجه ذلك ما في الوفاء من معنى البيع وهو يصح [مع المذكورين] (8) .
__________
(1) للوفاء. ب.
(2) هو أبو بكر محمد بن الفضل بن العباس الكماري الحنفي البلخي. 381 بسمرقند. شيخ جليل معتمد في الرواية مقلد في الدراية. فقيه صوفي. له فتاوى. اللكنوي: 184. ق. الكشف: 1219؛ كحالة: 11/128.
(3) إذا جاءت بالثمن يرد بدل متى جاءت بالثمن رد. العمادية.
(4) إذا بدل إن: العمادية.
(5) الذي هو بيع الوفاء. ب.
(6) المشتري بدل الرجل. العمادية.
(7) العمادية: وسط 105 ب.
(8) الزيادات في هذه الفقرة من ج، ر، والزيادة الأخيرة: مع الشيوع بدل من المذكورين في ر.(7/1328)
وقول ابن الفضل بيع المعاملة له حكم الرهن محتمل لأن يكون بناه على القول بأن الوفاء رهن بأن كان ذلك رأيه فيه، ولأن يكون بناه على القول بالتركيب الذي يعطيه حكم الرهن في حق البائع، والشفعة به أمر متعلق به، وأراد بكونه بيع تلجئة إثبات التلجئة فيه من جهة خاصة
[413] وهي إظهار صورة البات فيه لا من جميع الوجوه حتى يكون هزلًا لا جدًّا، لأن التوثق به والانتفاع منه جد لا هزل فيه. ولو أراد أنه بيع تلجئة مطلقًا كبيع الهازل لما أعطاه حكم الرهن إذ بيع الهازل باطل لا يعطى له حكم بيع ولا رهن.
الشفعة في بيع الوفاء إذا بيع باتًّا وأما الثانية وهي الشفعة فيه إذا بيع باتًّا قبل الفسخ، ففيها تفصيل. وذلك أن ههنا ثلاثة أحوال:
إحداهما: حالة ثبوت التوقف للبيع، وهي حالة انتفاء الإجازة من المشتري في الحال لكنها ممكنة الحصول منه في الاستقبال.
ثانيتها: حالة انتفائه بتعذر الإجازة منه لفسخه الوفاء قولًّا أو فعلًا بقبض ثمن وفائه.
ثالثها: انتفاؤه بحصول الإجازة منه.
والشفعة منفية فيه في كل من الحالة الأولى والثانية، ثابتة في الثالثة.
أما انتفاؤها في الأولى فلانتفاء شرطها من خروج المبيع عن ملك البائع، إذ لا خروج إلا مع نفاذ البيع، ولا نفاذ له مع التوقف.
ولهذا لما سئل صاحب الفصول عن (كرم مشترك بين اثنين باع أحدهما نصيبه من صاحبه بيعًا جائزًا ثم أنه باع من أجنبي بيعًا باتًّا حتى توقف على إجازة شريكه المشتري وفاء هل لشريكه [حق] الشفعة؟ [هكذا كانت صورة الاستفتاء] ) .(7/1329)
وأجاب [من جلس للإفتاء من بلدتنا أنه يكون له الشفعة، وأجيب: أنه لا يكون له ذلك] بأن لا شفعة له.
زاد في السؤال (1) : (وأجاز مشتري الجائز الشريك البيع البات) ، وعلل تلك الزيادة بقوله: (لتصير مسألة النفاذ (2) إذ معناه أن السؤال بدون تلك الزيادة واضح الجواب بنفي الشفعة إذ كل أحد يعلم أن لا شفعة في الموقوف) (3) ، ومثله لا ينبغي السؤال عنه، فإن تفسير الواضحات من المشكلات.
وإنما الذي يخفى في هذه الصورة هو الشفعة مع الإجازة إذ المتبادر ثبوتها. فهذا
[414] هو الذي ينبغي أن يسأل عنه.
ويجاب فيه بالمنع بخصوصية كون الإجازة هنا من الشفيع فيكون به تمام البيع، ومن كان به تمامه لا شفعة له لما فيه من نقض ما تم من جهته، كالوكيل بالبيع حيث لا يشفع فيما باعه بالوكالة.
وبالجملة فلا شفعة لهذا الشريك لا في حال انتفاء إجازته ولا في حال ثبوتها.
أما في الأولى فلعدم تمام البيع.
وأما في الثانية فلأنه هو الذي أتمه فلا ينقضه بعد ذلك.
ولما استوى الحالتان في الحكم وأنه نفي الشفعة، وكان في زيادة الإجازة تحسين وضع السؤال لم يبال صاحب الفصول بها. فلا يقال كيف ساغ له أن يزيد في السؤال ما ليس فيه؟
وأما انتفاؤها في الثانية فلأن بتعذر الإجازة يبطل البيع ويصير كأنه من الابتداء لم يقع أصالة، ولا شفعة بدون بيع.
(لا تثبت الشفعة في المبيع وفاء إذا بيع بتًّا إلا بعد الإجازة) وأما ثبوتها في الثالثة فلتحقق شرطها من خروج المبيع عن ملك البائع بنفاذ البيع بالإجازة كما تثبت في البيع بشرط خيار البائع والبيع الفاسد عند تقرر الأول بالإجازة والثاني بما يفوته من المفوتات، (المعتبر في الطلب وقت العلم بالإجازة لا العلم بالبيع) والمعتبر في طلبها من الشفيع وقوعه وقت العلم بالإجازة لا وقت العلم بالبيع، حتى لو وقع حين البيع ولم يعد عند الإجازة اكتفاء بالأول لم تصح.
__________
(1) جواب لما سئل. ب. بالأصل بدل هذا الجواب بعدما ألحقت في الفتوى. العمادية: وسط 105 ب؛ والجامع: 1/240.
(2) لا مسألة التوقف. ب.
(3) الفقرة كلها منقولة بتصرف. انظر العمادية: وسط 105 ب؛ والجامع: 1/240.(7/1330)
وهذا على قياس ما ذكره الزيلعي في البيع بشرط خيار البائع من أن البيع إنما صار سببًا في ثبوت الحكم في ذلك الوقت، ووجوب الشفعة ينبني على انقطاع حق المالك بالبيع (1) وهو ينقطع به عنده. وهو يدل على أن الطلب قبل الإجازة لا يتوقف عليها كالبيع (2) . فإن تمت الإجازة تم الطلب
[415] فتمت الشفعة وإلا فلا، إذ لو صح فيه التوقف لما عدل عما هو الظاهر من اعتبار وقت البيع فيه إلى خلافه من اعتبار وقت الإجازة، وهو (3) وإن ذكر في ذلك خلافًا (4) لكنه جعل اعتبار وقت الإجازة الأصح. ولعله لأن الموقوفية كالصحة والفساد من صفقات العقود، ولا شيء من الطلب بعقد. ومع قصر ثبوت الشفعة في المبيع وفاء على الحالة الثالثة فقولنا فيها: تثبت الشفعة في المبيع وفاء من مجاز الكون (5) إذ هو وقت ثبوت الشفعة فيه ليس بمبيع وفاء بل بتًّا، وحين كونه مبيعًا وفاء لم تثبت فيه شفعة، فلا تثبت الشفعة في المبيع وفاء حال صدق هذا العنوان عليه حقيقة بإطلاق (6) .
__________
(1) وهو أي حق المالك ينقطع به أي البيع عنده أي سقوط الخيار. وهذا عين لفظ الزيلعي. ب. راجع الزيلعي: 4/19.
(2) فإنه يتوقف. ب.
(3) أي الزيلعي. ب.
(4) ط. وإن بعضهم يقول بالطلب وقت البيع. ب.
(5) المجاز الكوني في ج.
(6) قوله: عليه حقيقة بإطلاق. ساقط في ر.(7/1331)
الفصل السابع
في ادعاء المشتري وفاء على مشتريه
وادعاء مشتريه له على غيره
أما الأول بأن يدعي خارج على ذي يد أن هذا ملكي فيدفعه ذو اليد بأني لست بخصم لك فيه لأني لست بمالك له، وإنما هو في يدي بعقد الوفاء فيه. فالذي في هذا الفصل من الفصول أنه وقع الاستفتاء من فرغانه (1) بسمرقند عن هذه المسألة:
(وأنه هل يشترط، يعني لسماع هذه الدعوى حضرة البائع والمشتري؟ ووقع الجواب من صاحب الهداية والكثير من السمرقنديين بأنه يشترط.
وأجاب القاضي علاء الدين بدر بأنه لا يشترط) (2) .
وأقول: سبب هذا الاختلاف عدم خلوص الوفاء للبيع البات ولا للرهن، وذلك أن الدعوى على المشتري باتًّا فيما في يده مسموعة قطعًا، ولا يسمع منه: إني اشتريته من فلان فاصبر إلى أن يحضر، وعلى المرتهن غير مسموعة قطعًا إذا ثبت كونه مرتهنًا منه إما بإقرار المدعي به، أو بإثبات المدعى عليه ذلك بالبينة على ما عرف
[416] في المخمسة (3) ، إذ من وجوه الدفع فيها: ارتهنته من الغائب. ولما تجاذب في الوفاء البيع والرهن جاء الاختلاف. فمن نظر فيه إلى جهة الرهن، وهو نظر الجماعة، لم يسمعها عليه بدون حضرة البائع، ومن لاحظ جانب البيع، وهو ملحظ علاء الدين بدر، سمعها دون توقف عليه، ويظهر لي رجحان ما عليه الجماعة، فإن عدم اشتراط حضرة البائع - الذي ذهب إليه - بدر إن كان مبنيًّا على القول بأن الوفاء بيع بات، فذلك القول وإن كان يقتضيه (4) إلا أنه لمنافاته لمقاصد الناس فيه لا ينبغي البناء عليه، وإن كان لما فيه من معنى البيع على المختار فيه من التركيب، (المعتبر في بيع الوفاء جهة الملك في حق الانتفاع به خاصة وفيما سواه جهة الرهن) فقد تكرر عليك أن جهة البيع إنما اعتبرت فيه ضرورة في حق الانتفاع به خاصة، وأما فيما سواه فالمعتبر فيه جهة الرهن، وهذا مما سواه، مع أنَّا نقطع بأنه لا يدعي ملك العين فيه لنفسه بل ملك المنافع، فأي فرق بينه وبين المستأجر وهو يدعي ما يدعيه من ملك المنفعة فقط حتى لم تسمع الدعوى عليه بغيبة المؤجر؟ وجعل ادعاء الاستيجار من الغائب من وجوه الدفع في المخمسة اتفاقًا، وتسمع على هذا من المشتري بغيبة البائع، ولم يجعل ادعاؤه الشراء الوفائي منه [من] (5) وجوه الدفع فيها.
__________
(1) اسم بلدة. ب. في خراسان بناها أنوشروان. ويطلق الاسم على الإقليم كله الذي يجمع سبع مدائن. الحميري. الروض المعطار: ص440.
(2) أصل المسألة: المشتري شراء جائزًا هل يصلح خصمًا للمدعي قبل القبض بدون حضرة البائع؟ قال صاحب الفصول: (سئل جدي شيخ الإسلام برهان الدين رحمه الله فأجاب بأنه يشترط حضرة البائع. وقال: استفتيت من فرغانة في هذه المسألة فأجاب كثير من مشايخ سمرقند كما أجبت إلا القاضي الإمام علاء الدين بدر فإنه قال: لا يشترط حضرة البائع فحصل فيه اختلاف المشايخ) . العمادية. نخ. اليوسفية: 12 ب - 13 أ؛ الجامع: 1/37.
(3) من وجوه الدفع أن لا يكون صاحب اليد أهلاً للخصومة. وذلك في حالات جمعها النسفي في قوله: (قال ذو اليد: هذا الشيء أودعنيه أو أعارنيه أو آجرنيه أو رهننيه زيد الغائب أو غصبته منه) وزاد الكاساني: (أو سرقته أو أخذته أو انتزعته أو ضل منه فوجدته) . وأقام البينة على ذلك (1) تندفع عنه الخصومة عند عامة العلماء، (2) وقال ابن أبي ليلى: تندفع عنه الخصومة أقام البينة أو لم يقم، (3) وقال ابن شبرمة: لا تندفع عنه الخصومة أقام البينة أو لم يقم. هذا إذا لم يكن الرجل معروفًا بالافتعال والاحتيال، (4) فإن كان تندفع عنه الخصومة عند أبي حنيفة ومحمد أيضًا، (5) وعند أبي يوسف لا تندفع. وهي المسألة المعروفة بالمخمسة لاختلاف العلماء فيها على خمسة أقوال. الكاساني. البدائع: 6/231؛ وفي البحر: إنها لقبت بذلك لأن صورها خمس: وديعة وإجارة وإعارة ورهن وغصب. ابن نجيم: 7/228.
(4) ط. قوله: وإن كان يقتضيه، إنما كان يقتضيه لما تقدم من أن مشتري البات تسمع الدعوى عليه لادعائه الملك لنفسه فيه. اهـ. منه. ب.
(5) الزيادة في ج.(7/1332)
واعلم أنه لا فرق في عدم سماع الدعوى على المشتري وفاء بين كونها دعوى الملك المطلق كما صورنا - ومنها دعوى الوقف لتصريحهم (1) بأنها من قبيل دعوى الملك (2) ، أو المقيد بسبب من أسبابه - وبين كونها دعوى حق كدعوى الوفاء أيضًا أو الرهن أو الإجارة، لأن المعنى المانع
[417] من سماع الدعوى عليه من عدم ادعائه الملك في العين لنفسه يشمل الكل، اللهم إلا إذا ادعى عليه الفعل (3) فحينئذ تُسمع، إذ لا مدفع لهذه الدعوى على ما عرف في المُخَمَّسَةِ.
وأما الثاني وهو ادعاء مشتريه له على غيره فلا إشكال في سماع هذه الدعوى لأنها وإن لم تكن من دعوى الملك فهي من دعوى الحق، ودعواه مسموعة لكن على من يدعي الملك لنفسه في العين خاصة دون من لا يدعي إلا حقًّا فيها. وهذا هو سبب عدم سماع الدعوى على الموقوف عليه. (هذا الحاصل جامع) والحاصل أن ذا اليد متى كان يدعي في العين ملكًا لنفسه سمعت عليه كل من دعوى الملك والحق، ومتى كان لا يدعي فيها إلا حقًّا لم تسمع عليه دعوى ملك ولا حق، حسبما يعلم من فصل من يصلح خصمًا لغيره ومن لا يصلح، ومن يشترط حضرته لسماع الدعوى ومن لا تشترط، وهو ثالث فصول الفصول (4) .
فعلى هذا لا تسمع دعوى الخارج الوفاء على ذي المدعي الوفاء أيضًا ولو ادعيا تلقيهما له (5) من واحد وكان تاريخ الخارج أسبق بدون حضرة بائعهما إذا ثبت ما يدعيه ذو اليد من الوفاء.
__________
(1) وفيه أن صاحب البحر صرح بمخمسة كتاب الدعوى أن دعوى الوقف من قبيل دعوى الملك المطلق. وقد صرح بذلك الرملي أيضًا في كتاب الدعوى من فتاواه فليتأمل. بخط الشيخ محمد ابن الخوجة الأكبر. ج. ر؛ انظر ابن نجيم: 7/230؛ الرملي: 2/61 - 63.
(2) بالنسبة للواقف. ب.
(3) بأن ادعى عليه الغصب. ب.
(4) العمادية: 14 أ - 19 أ.
(5) أي بيع الوفائي. ب.(7/1333)
الفصل الثامن
في الكفالة بمال الوفاء والحوالة به والصلح عنه
(الكفالة بمال الوفاء من المشتري للبائع) اعلم أن الكفالة بمال الوفاء إما عن المشتري للبائع أو العكس. فإن كان الأول فهي صحيحة لأنها وإن كانت تستدعي كون المكفول به دينًا للمكفول له على المكفول عنه فمال الوفاء ههنا كذلك لأنه يترتب دينًا للبائع بذمة المشتري بمجرد العقد، (الكفالة به عن البائع للمشتري) وإن كان الثاني فإنها تصح مضافة لوقت لفسخ لا منجزة لما اشتهر أن مال
[418] الوفاء ليس بدين بذمة البائع للمشتري ما دام عقد الوفاء قائمًا لم يفسخ، وإنما يصير دينًا له عليه بعد الفسخ. وذلك لأن هذا العقد معتبر بالنسبة للمشتري بيعًا باتًّا ليحل له نزله ومنافعه. وذلك يستدعي أن ما دفعه من مال الوفاء للبائع ثمن ما باعه له، وثمن المبيع يستحيل أن يكون دينًا للمشتري على البائع (1) وعقد البيع قائم، كيف وقد ملك ما هو عوضه وهو المبيع! فلو كان دينًا له عليه لكان مملوكًا له فيلزم مع ملكه للمبيع اجتماع العوضين في ملك شخص واحد.
نعم إذا فسخا هذا العقد يصير حينئذ دينًا له عليه كثمن المبيع بيعًا باتًّا حقيقة إذا فسخه عاقداه بالإقالة حيث يصير الآن دينًا للمشتري على البائع، وإن لم يكن دينًا له عليه قبلها. وذكر في الفصول نقلًا عن جده إذا (كان الكفيل عن البائع به للمشتري هو الذي كان مشتريًا وفاء قبله) أن لا فرق في كون الكفالة به لا تصح إلا مضافة لحين (2) الفسخ بين كون الكفيل به أجنبيًّا عن عقده أو مشتريًا فيه، وصور هذا بما إذا تكرر من البائع بيع الوفاء مرتين، وكان عقد الثاني بإجازة المشتري الأول، ثم إن المشتري الثاني خاف أن يتوى حقه على البائع فطلب كفيلًا به فكفله فيه المشتري الأول، فإن هذا الكفيل ليس أجنبيًّا عن عقد الوفاء إذ هو مشتر فيه، ومع ذلك لا تصح كفالته إلا مضافة كالأجنبي (3) . [وإنما نص على هذا خشية توهم صحة الكفالة ههنا منجزة، لا كالأجنبي] (4) بشبهة أن الوفاء قد انفسخ بالإجازة، ومتى انفسخ فقد ترتب ماله دينًا على البائع، وحيث ترتب عليه صح تنجيز الكفالة به، ولكنها شبهة واهية لأن هنا وفاءين مرتبين:
أولهما بين البائع والكفيل
[419] الذي هو المشتري الأول وهو الذي انفسخ بالإجازة وترتب ماله دينًا على البائع لكن الكفالة لم تقع به.
__________
(1) الحال. ب؛ إذ المال يجب على البائع بعد الفسخ لا في الحال. قاله الفضلي في فتاواه. الطرابلسي: 148.
(2) عبارة الفصول: إلا إذا كان الضمان مضافًا إلى ما بعد الفسخ.
(3) سئل عمن باع دارًا بيعًا جائزًا ثم إن البائع باعه من غيره بيعًا جائزًا بإجازة المشتري ثم إن المشتري الثاني قال: إني أخاف أن يتوى حقي على البائع فضمن المشتري الأول لا يصح إلا إذا كان الضمان مضافًا إلى ما بعد الفسخ كما في الأجنبي) . العمادية: 107 أ؛ الجامع: 1/243.
(4) ساقطة من ر.(7/1334)
وثانيهما بين البائع والمكفول له الذي هو المشتري الثاني، وهذا ما (1) انفسخ، ولا صار ماله دينًا، وهو الذي وقعت به الكفالة، فما يغني في صحة الكفالة منجزة ترتب دين لم تقع به الكفالة، والذي وقعت به لم يترتب دينًا بعد.
وأما الحوالة به فتنقسم أيضًا إذا (كان المحال عليه هو المشتري) إلى ما يكون المحال عليه فيها هو المشتري، وإلى ما يكون هو البائع. وقد صورها في الفصول على الوجه الأول فقال: (وسئل رحمه الله، يعني جده صاحب الهداية، عن رجل باع داره بيعًا جائزًا وأحال بالثمن لغيره على المشتري. ثم استحقت (2) الدار وقد أدى (3) بعض الثمن، هل للمحتال (4) أن يطالبه بالباقي؟
أجاب: إن كانت الحوالة مطلقة له ذلك، وإن كانت مقيدة، (يعني بمال الوفاء) ليس له ذلك (5) . وله (6) أن يرجع على بائعه لأنه أدى (عنه دينه) بأمره.
قيل له: وهل له أن يرجع على المحتال [له] بما أدى؟
قال رحمه الله في شركة الجامع في الباب الأول إشارة [إلى أن له ذلك] (7) .
ولم يصورها على الوجه الثاني (8) ونحن نصورها عليه.
__________
(1) نافية. ب.
(2) يعني بشرطه من حضرة البائع والمشتري لا بحضرة الثاني فقط. اهـ. منه. ب. ر. وأول هذا التعليق جاء بلفظ يقسم بدل لفظ يعني. انظر ج.
(3) أي المشتري الذي هو المحال عليه. ب.
(4) أي رب الدين الذي هو المحال به. ب.
(5) لأن الوفاء الفسخ بالاستحقاق. ب.
(6) أي المشتري المؤدي بعض الثمن. ب.
(7) بالأصل إشارة إليه. والإصلاح والإكمال من الفصول. العمادية: أعلى 107 أ.
(8) وهو كون المحال عليه البائع. ب.(7/1335)
فنقول: إذا (كان المحال عليه هو البائع) إذا أحيل بمال الوفاء على البائع بأن أحال المشتري غريمًا له عليه، فإما أن تكون الحوالة مطلقة أو مقيدة، وعلى كليهما فإما منجزة أو مضافة لوقت الفسخ. ففي المطلقة تصح مطلقًا، وفي المقيدة تصح مضافة لا منجزة لأنها إذا قيدت بمال الوفاء مع التنجيز فلا بد من وجود ما قيدت به من دين الوفاء على البائع وقت الحوالة، ولا وجود له إذ ذاك، لما علم في مال الوفاء (1) .
(الصلح على مال الوفاء) وأما الصلح عنه
[420] ففيها أيضًا نقلًا عن جده:
(وسئل رحمه الله عمن إذا ادعى البيع الجائز والآخر البات ادعى على آخر أنه اشترى هذه الدار من فلان بيعًا جائزًا، وصاحب اليد اشتراها باتًّا من ذلك الفلان أيضًا، وادعى سبق البيع (الجائز) ، فصالح المشتري بالبات (معه) على بدل أيجوز؟
قال: إذا كان الصلح عن إنكار ينبغي أن يجوز ويلزم لأنه أمكن تصحيحه لأن صاحب اليد يدفعه لدفع اليمين عن نفسه (2) ، وهو يقبضه على ظن أنه يقضي دين غريمه (3) بغير أمره.
وإن كان الصلح عن إقرار ينبغي أن لا يلزم بدل الصلح لأنه لو كان عن مال بعينه يصير بمنزلة الرشوة لإجازة البيع) .
هكذا وقع في نسختي من الفصول (عن مال بعينه) (4) . والظاهر (بغير عينه) لتظهر مقابلته بقوله:
(وإن كان بشرط أن يكون بدل الصلح من الثمن الذي على البائع يصير [هذا] وعدًا، وأنه غير لازم) (5) .
فإن هذا هو الذي وقع الصلح فيه عن مال بعينه، وهو خصوص الثمن الذي على البائع. وقد أفاد كلامه صحة دعوى المشتري شراء جائزًا بسبب ذلك الشراء على ذي اليد المدعي شراء باتًّا - كما كنا ذكرناه - من جهة أن ذا اليد يدعي بالشراء البات الملك لنفسه في العين، وأنه لولا الصلح في هاته الصورة لقضي بالعين للخارج حيث تلقيا من واحد وكان تاريخ الخارج أسبق، وإن كان شراؤه جائزًا وشراء ذي اليد باتًّا ولا يرجع ذو اليد عليه بقوة شرائه.
__________
(1) من أنه لا يصير دينًا إلا بعد الفسخ. ب.
(2) قوله: لدفع اليمين عن نفسه، هذا مقتض لصحة دعوى المشتري وفاء على المشتري بتًّا إذ لو لم تصح لما توجهت له عليه يمين حتى يدفعه عن نفسه بالصلح. وإلى هذا أشرنا بقولنا بعد. وقد أفاد كلامه صحة دعوى المشتري إلخ. ج. إلخ منه. ب، ر.
(3) كذا بالعمادية، وغيره بدل غريمه في النسخ ب. ج. ر.
(4) عن مال نفسه بدل عن مال بعينه. العمادية: نخ. الأحمدية.
(5) الفقرتان من الفصول عنون لهما العمادي بقوله تنازعا في الجائز والبات وتصالحا: 107 أ. وقد اعتمدنا ما جاء فيهما لتصحيح النص.(7/1336)
الفصل التاسع
في فسخ عقد الوفاء ورجوع المشتري على البائع
فيما إذا كان دفع خلاف ما سمي بماذا يكون منهما؟
[421] أما الفسخ فالمتحصل فيه مما نقله صاحب الفصول عن صاحب الهداية أنه كما يكون بالقول يكون بالفعل، وهو قبض المشتري ثمن الوفاء حقيقة أو حكمًا بالتخلية بينه وبينه، بحيث لو شاء قبضه حسًّا لأمكنه ذلك، لأنه يعد بذلك قابضًا (1)
له حتى ضاع لضاع عليه، لأن ضياعه وقع بعد القبض في هذا الفرض، غير أنه يشترط القبول في الفسخ القولي لا الفعلي لإغناء القبض بنوعيه عنه.
فإن قلت: إذا كان الفسخ يحصل بالقبض، والقبض بالتخلية، وكلاهما يغني عن القبول، فكيف قال: إنه أجاب بلا إذ قيل له فلو أبى المشتري من قبض الثمن هل يجبر؟ وهل ينفسخ بدون القبول؟
قلت: أما عدم انفساخه بدون القبول فلأن فرض المسألة: أن المشتري لما أبى من قبض الثمن رفع البائع دراهمه ولم يتركها بين يديه، وحينئذ يكون القبض قد انتفى بنوعيه. وقد عرفت أنه لا بد ههنا من القبول، ولا قبول مع الإباية فبماذا يقع الفسخ؟ وأما عدم الجبر على القبض فالمراد من القبض فيه القبض الحسي، وإنما لم يجبر عليه لإمكان حصول القبض بالتخلية، وانتفاؤه هنا جاء من قبل البائع حيث رفع دراهمه ولم يتركها.
(إذا قبض المشتري بعض مال الوفاء) ثم إن قبض المشتري مال الوفاء كله انفسخ العقد في المبيع كله، وإن قبض بعضه قال في الفصول: انفسخ بقدره (2) . فأفاد تجزي الفسخ فيه.
__________
(1) البائع بيعًا جائزًا إذا خلًَّى الثمن بين يدي المشتري. العمادية: 106 ب؛ وفي جامع الفصولين: والبيع الجائز ينفسخ بالتخلية بين المشتري وبين ثمنه بلا قبض. الجامع: 1/241.
(2) عبارة الفصول: (فلو قبض بعض الثمن هل ينفسخ في القدر المؤدي؟ أجاب نعم ينفسخ) . العمادية: 106 ب؛ وفي جامع الفصولين: (ولو قبل بعض الثمن ينفسخ بحصته) . الجامع: 1/241.(7/1337)
(على ماذا ينبغي حمل التجزي إن تجزأ الفسخ) وينبغي حمل هذا التجزي على كونه في أحد المقصودين في بيع الوفاء من تصرف المشتري فيه فلا يبقى له تصرف في القدر الذي انفسخ فيه الوفاء من المبيع دون المقصود الآخر وهو
[422] حبسه للتوثق به للدين، فيكون له حبسه كله إلى حصول قبض الدين كله، لأنه إذا كان له حبسه كله بعد حصول الفسخ الحقيقي في كله قبل القبض، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الذي يلي هذا، إذا (انفسخ عقد الوفاء فللمرتهن الذي هو المشتري الحبس) فكيف لا يكون له حبس كله في الفسخ الحكمي الواقع في بعضه؟ على أن المبيع في عقد الوفاء معطى له في حق الحبس حكم المرهون، (المرهون لا يزال محبوسًا كله إلى تمام قبض الدين) والمرهون لا يزال محبوسًا كله إلى تمام قبض الدين. وحينئذ لا يقال إن الفسخ يتجزأ في الوفاء ولا يتجزأ في الرهن فيكون هذا من المسائل التي اختلفا فيها، لأنك عرفت أن ما ثبت تجزي الفسخ في الوفاء فيه هو التصرف في المبيع الذي هو من خواص الوفاء، ولاحظ للرهن فيه. وأما ما اشتركا فيه من الحبس فهما سواء في عدم تجزي الفسخ بالنسبة إليه، فلا يكون هذا من تلك المسائل بهامش الرضوانية ذكر مسألتين. المسألة الأولى: وصي اليتيم اشترى بمال اليتيم دارًا أو نحوها وفاء، ومات الراهن فقام الوصي يبطل الرهن مع ورثة الراهن، وفسخ القاضي الرهن وأراد الوصي قبض المال، فهل تجب يمين القضاء؟ وهل وجوبها على الوصي الذي دفع المال أولًا ويريد قبضه ثانيًا بحكم الإيصاء، أو على اليتيم ويتأخر للبلوغ؟ أفتى شيخ الإسلام بتونس أحمد ابن الخوجة نقلًا عن والده شيخ الإسلام محمد ابن الخوجة استظهارًا منه: أن اليمين على اليتيم وتتأخر للبلوغ، كما لو مات المرتهن عن أيتام ثم مات الراهن وطلب وصي الأيتام فسخ الرهن، فإن المال يوقف إلى بلوغهم ويحلفون بعده يمين القضاء. اهـ. وأفتى الشيخ حسن عباس أن اليمين في المسألة الأولى على الوصي لأنه الذي فعل العقد ويريد القبض الآن فيحلف يمين القضاء على البات. نعم لو مات الوصي بوقف المال إلى بلوغ اليتيم، فإذا بلغ يحلف كما في المسألة الثانية. والله أعلم. المسألة الثانية: إذا مات المرتهن وله ورثة صغار، وعليهم وصي من قبله أو من قبل القاضي، وطلب الوصي فسخ الرهن مع ورثة الراهن، ووقع الفسخ وأراد ورثة الراهن الدفع إلى وصي الورثة المذكورين فهل تجب على الورثة يمين القضاء؟ وهل يحلف الصغار في هذه الحالة؟ الجواب أن اليمين واجبة، وكون ذلك صار دينًا في ذمة الميت، أعني الراهن أصالة، ويصير دينًا في عين التركة، فتجب يمين القضاء كما في غيرها من المسائل التي تجب فيها اليمين المذكورة. وأما تحليف الصغار في حال الصغر فقد اختلف فيه، والذي أفتى به علماء تونس عدم التحليف إلى أمد البلوغ. فبعد البلوغ يحلفون. اهـ. قاله شيخ الإسلام سيدي محمد ابن الخوجة رحمه الله. ر.
وأما بماذا يكون رجوع المشتري على البائع بعد الفسخ فيما إذا اختلف المسمى والمقبوض بأن كان المسمى دراهم والمقبوض دنانير بقدر مصارفتها أو العكس؟ فالذي انفصل عليه البزازي في جامعه، بعد طول مباحثة حكاها في ذلك يرجع إليه فيها من رام الوقوف عليها، إن الرجوع بالمسمى لا بالمقبوض أنه يرجع بالمسمى في العقد لا بما وقع عليه قبض اليد.
فعلى هذا ما يقع في ديارنا من عقده باسم الريال المنصرف لريالنا التونسي إذا كان عند الدفع دفع الريال الإفرنجي المسمى بِالدَوْزُو بحسب ما يصرف به من التونسي في ذلك الوقت، وتغيرت مصارفة الدوزو وقت الفسخ عنها
[423] وقت العقد بزيادة أو نقص، يكون الرجوع بالمسمى من ريالنا التونسي لا بالمقبوض الإفرنجي (1) . وهكذا لو دفع الذهب المعبر عنه بالسلطاني والعقد باسم الريال وتغيرت فيه المصارفة.
__________
(1) كذا الحكم لو لم يتغير، وإنما فرض الكلام عند التغير لأنه أوان المشاحنة. اهـ. ابن المصنف. ب.(7/1338)
الفصل العاشر
في حكم المبيع وفاء بعد الفسخ ومطالبة المشتري مال الوفاء
في غير بلده أو بعد ما غصب المبيع من يده
اعلم أن فسخ الوفاء تارة يكون قصدًا بالقول أو بالفعل على ما مر، وأخرى ضمنًا بأن كان وقع في مبيعه من بائعه بيع بات أو وفاء فأجازه مشتري الوفاء منه أولًا، فإن إجازته لأحد البيعين تتضمن فسخ وفائه. وتتعلق بهذين الفسخين مسألتان:
إحداهما إذا كان هذا المشتري الذي انفسخ شراؤه الوفائي بأحد الأمرين لم يكن قبض مال وفائه المفسوخ بعد، فهل له حبس المبيع عن البائع في صورة الفسخ القصدي القولي معه، وعن المشتري في صورة الفسخ الضمني بإجازته لشرائه أم لا؟
ثانيتهما إذا كان له حبسه عن الأول ومات الأول عن غرماء ولم يترك سوى ذلك المبيع فبيع في خلاص ما على الميت من دين، فهل يختص هذا المشتري بقدر مال وفائه من ثمنه من بين الغرماء؟ أم يكون أسوة لهم فيه؟ وإذا لم يكن له حبسه عن المشتري في الصورة الأخرى لمكان إجازته، فهل له أن يأخذ منه الثمن فيحبسه عن البائع؟ وإذا مات على تلك الصفة يختص بقدر وفائه من ذلك الثمن أم لا؟ بهامش الصفحة والتي تليها مسألة مضافة نصها: الحمد لله. وجدت بخط المؤلف على هامش البزازية ما نصه: الحمد لله. قد كنت كتبت على مسألة الزكاة في مال الوفاء ما نصه: اعلم أن مال الوفاء إما أن يبقى بيد البائع حتى يحول عليه الحول أو لا. فإن كان الأول فأما البائع فتلزمه زكاته اعتبرت الوفاء رهنًا أو بيعًا صحيحًا نافذًا أو فاسدًا، ضرورة دخول المال في ملكه في الصور كلها. أما في الرهن والبيع الصحيح فواضح، وأما في الفاسد فبدخول المبيع فيه في ملك المشتري بالقبض، وهو يستلزم خروج الثمن عن ملك المشتري لئلا يجتمع البدلان في ملك شخص واحد. وإذا خرج الثمن عن ملكه دخل في ملك البائع لزومًا تحقيقًا للمساواة بينهما، ولا أثر لوجوب رده عند الفسخ كما لا أثر لوجوب الرد في الرهن في نفي ملكيته فيرد لأن الواجب رد مثله لا عينه لما عرف من قواعدنا أن الدراهم والدنانير لا تتعين في العقود والفسوخ مع التعيين فكيف مع عدمه. وأما المشتري، فأما على اعتباره رهنًا فكذلك لأنه دين له على البائع فيجري على حكم زكاة الدين. وهنا يتمشى قولهم، وليس فيه إيجاب الزكاة على شخصين في مال واحد لأنه ما تقرر من عدم التعيين يكون الإيجاب في مالين إذ أحدهما عين والآخر دين. وأما على اعتباره بيعًا بنوعيه فلا. أما على القول بالصحة واللزوم فظاهر لا غبار عليه. وأما على القول بالفساد فلأن الثمن في البيع الفاسد ليس بدين للمشتري في ذمة البائع في الحال. فكيف وإنما أعطاه للبائع بدلًا عما وجب له عليه من عوض المبيع الذي دخل في ملكه بالقبض. وإنما هو عرضة أن يصير دينًا في المآل، وذلك عند التفاسخ ولهذا صرحوا بعدم صحة الكفالة بمال الوفاء إلا مضافة لوقت الفسخ، لأن صحة الكفالة مشروطة بكون المكفول به دينًا. وهذا لا يكون كذلك إلا عند الفسخ وكأنهم إنما أطلقوا القول بوجوب زكاة مال الوفاء على المشتري الموهم أنه متمش على كل قول فيه مع أنك عرفت أن تمشيته ليست إلا على أنه رهن لأن المختار في بيع الوفاء هو القول بالتركيب وهو العمل بكل قول فيه ولكن في مواضع مختلفة، وتعيين تنزيل كل قول في موطن يتبع المصلحة فيما يظهر، ولا شك أن اعتبار مصلحة الفقراء في موطن الزكاة يقتضي اعتباره هنا لتجب على المشتري. وأما إذا هلك في يد البائع قبل الحول على الوجه المعروف فأما البائع فعدم الوجوب عليه أظهر من أن ينبه عليه، وأما المشتري فتجب عليه بالوجه الذي مرت الإشارة إليه. حرره كاتبه الفقير محمد بن محمد بيرم كان الله تعالى له. ر.(7/1339)
(إن لمشتري الوفاء بعد فسخه حبس المبيع عن البائع حتى يدفع له ثمنه) أما الأولى فأما عن البائع (1) في الصورة الأولى فله حبسه إلى أن يوفيه بثمن وفائه وإن كان ذلك بعد انفساخ عقده لأن الذي تحصل في الحبس بعد الفسخ من كلام [424] العمادية في فصل التصرفات الفاسدة (2) أنه يثبت للمشتري في البيع الصحيح مطلقًا، وفي البيع الفاسد والرهن صحيحًا كان أو فاسدًا لا مطلقًا، بل إذا لم يبع ولم يرهن بدين كان عليه قبل عقدهما بل بما هو مقابل بهما (3) .
فإن قلت: وأين هذا مما نحن فيه؟ إذ هذا في حبس المبيع والمرهون صحيحين أو فاسدين بعد الفسخ، وكلامنا في حبس المبيع وفاء بعده.
__________
(1) أي أما حبسه عن البائع. ب.
(2) راجع الفصل التاسع والعشرين في التصرفات الفاسدة وأحكامها وما يكون مضمونًا بالقبض والحبس وما لا يكون. العمادية. نخ. اليوسفية: 152 ب؛ وفي الفصل الثلاثين في الجامع: 2/47.
(3) وفي الهداية: ليس للبائع في البيع الفاسد أن يأخذ المبيع حتى يسدد الثمن لأن المبيع مقابل به فيصير محبوسًا كالرهن. العمادية. نخ. اليوسفية: وسط 104 ب؛ نور العين: 73 أ.(7/1340)
قلت: وهل يخرج بيع الوفاء عن كونه بيعًا صحيحًا أو فاسدًا أو رهنًا على ما سمعت من المذاهب فيه. ومال الوفاء ليس بدين سابق على عقده فيما هو الغالب. بل لم يترتب بذمة المشتري إلا بعقده. فللمشتري حبسه بعد الفسخ فيما إذا كان ماله كذلك على سائر الأقوال. (ليس له حبسه عن المشتري بعد الإجازة) وأما (1) عن المشتري الذي أجاز هذا المشتري شراءه فلا، وإلا لم يكن لإجازته معنى، إذ معنى توقف البيع على إجازته هو عدم ترتب مقتضاه الآن عليه من اختصاص مشتريه به لمانع تعلق حق الآخر به قبل شرائه فإذا أجاز زال المانع فعمل المقتضي عمله، فمن أين يكون له حق الحبس بعد ما أسقطه بالإجازة؟
(له أخذ الثمن عن المشتري وحبسه عن البائع) وأما هل له أخذ الثمن من المشتري وحبسه عن البائع؟ فنعم له ذلك ففي اختصار والدنا رحمه الله لأنفع الوسائل (2) المسمى ببغية السائل عند الكلام على مسألة بيع المرهون: وإذا نفذ البيع بإجازة المرتهن ينتقل حقه إلى بدله وهو الصحيح، لأن حقه متعلق بالمالية والبدل له حكم المبدل، فصار كالعبد المأذون إذا بيع برضاء الغرماء ينتقل حقهم إلى البدل، لأنهم رضوا
[425] بالانتقال دون السقوط رأسًا فكذا هذا.
(اختصاصه بثمن المبيع) وأما اختصاصه بثمنه في الصورتين فنعم، إذ المفهوم من كلام الفصول أن الاختصاص يتبع حق الحبس (أينما ثبت للشخص حق الحبس يثبت له الاختصاص) فأينما يثبت له حقه يثبت الاختصاص، وأينما ينتفي ذاك ينتفي هذا.
وقد عرفت أنه يثبت للمشتري حق حبس المبيع في الصورة الأولى، وثمنه في الثانية عن البائع فيهما، فيختص بثمن المبيع من بين غرماء البائع.
__________
(1) أي حبسه. ب.
(2) هو أنفع الوسائل إلى تحرير المسائل في الفروع للقاضي برهان الدين إبراهيم بن علي الطرطوسي. حظي بعناية جمع من الفقهاء. وممن لخصه محمد بن محمد الزهري وأسماه كفاية السائل من أنفع الوسائل. الكشف: 183.(7/1341)
وأما مطالبة المشتري للبائع بثمنه في غير بلده، أو بعد غصب المبيع من يده، فالمسألتان في الحكم متعاكستان، إذ تثبت له المطالبة في الأولى، وتنتفي في الثانية على ما ذكره في الفصول من قوله في الأولى نقلًا عن جده: (وسئل رحمه الله إذا أخذ (1) البائع المشتري في البيع الجائز في بلد آخر (2) وقد طلب الثمن بعد الفسخ، هل له ذلك؟
(للمشتري مطالبة البائع بالثمن في غير بلده) أجاب رحمه الله: له ذلك قياسًا على مسألة الرهن إذا كان له حمل ومؤنة وأخذه في بلد آخر له أن يطالبه بدينه (3) .
وقوله في الثانية واقعة الفتوى: (رجل باع داره بيعًا جائزًا ثم إن رجلًا آخر غصب الدار من يد المشتري شراء جائزًا، (ليس له طلب مال الوفاء والمبيع في يد غاصبه) والمشتري لا يقدر على استرداد الدار من يد الغاصب [هل للمشتري أن يطالب بائعه بمال الوفاء قبل فسخ البيع واسترداد المبيع من يد الغاصب] ، فعلى (4) قياس مسألة (غصب) المرهون ينبغي أن لا يملك المطالبة بمال الوفاء بل أولى لما ذكرنا (أن) ههنا مال الوفاء ليس بثابت في ذمة البائع ما دام البيع قائمًا) (5) .
ويظهر لي أنهما لو تفاسخا الوفاء فنفي مطالبة المشتري البائع بالثمن ما دام المبيع مغصوبًا على حالها لأن قصارى هذا الفسخ أن يصير به مال الوفاء ثابتًا بذمة البائع.
وقد سمعت في الرهن الذي الدين فيه ثابت مع قيام عقده
[426] عدم مطالبة المرتهن الراهن بالدين ما دام المرهون مغصوبًا. وهذا لأن قبض الرهن، على ما صرحوا به، قبض استيفاء، فيصير به المرتهن مستوفيًا دينه حكمًا. وفي الاستيفاء الحقيقي لا يملك المطالبة، فكذلك في الحكمي، وقد بلغك غير مرة أن الوفاء له حكم الرهن في غير انتفاع المشتري بالمبيع، وهذا من ذلك الغير.
__________
(1) أي طلبه. ب.
(2) ط. غير الذي وقع فيه العقد. ب.
(3) العمادية: 106 أ؛ الجامع: 1/242.
(4) ففي بدل فعلى. العمادية.
(5) العمادية: 108 أ؛ الجامع: 1/245.(7/1342)
الخاتمة
في اختلاف المتعاقدين في العقد الذي بينهما
أهو بيع بات أو بيع وفاء
(1)
ذكر صاحب الفصول: (أن جده سئل إذا ادعى بيعًا جائزًا والمشتري بيعًا باتًّا أو ادعى على العكس، فالقول لمن يكون؟
(و) أجاب: لمن يدعي البات. وقال: وكنت أفتي في الابتداء أن القول قول من يدعي بيعًا جائزًا وله وجه حسن، إلا أن أئمة بخارى هكذا أجابوا فوافقتهم) (2) .
أقول: لعل الوجه الحسن الذي أشار إليه في كون القول قول من يدعي البيع الجائز هو أن المدعي البتات يدعي خلاف الظاهر.
(أما إذا كان مشتريًا فلأنه يدعي على البائع زوال ملكه عن المبيع وهو ينكر، والأصل عدم الزوال) (3) .
وإن كان بائعًا فهو يدعي على المشتري لزوم الثمن بذمته والمشتري ينكر، والأصل عدم اللزوم (4) .
فإن قلت: هذا إنما يظهر فيما إذا كان اختلافهما قبل قبض البائع الثمن من المشتري، إذ هنا يجيء كون البائع طالبًا من المشتري الثمن من دعواه (5) لزومه عليه بدعواه بتات البيع، والمشتري ينكر اللزوم بادعائه الوفاء الذي هو غير لازم.
أما إذا كان الاختلاف بعد القبض فالبائع هنا لا يدعي على المشتري شيئًا ليكون المشتري بدعوى الوفاء منكرًا له ليجعل القول قوله لإنكاره، وإنما الأمر في ذلك بالعكس: وهو أن المشتري هو الذي يدعي عليه وجوب رد الثمن الذي قبضه منه لكون البيع غير لازم، والبائع ينكر ذلك لكون البيع لازمًا فلا يلزمه رده.
وكان هذا هو وجه رجوع صاحب الهداية عما كان يفتي به من كون القول قول مدعي الجائز إلى ما أفتى به البخاريون من كون القول قول مدعي البتات لا مجرد موافقته لهم في الجواب.
__________
(1) انظر شهادة البحر فإنه نقل الكلام في هذه المسألة عن الغنية. محمد ابن الخوجة الأكبر ج. ر؛ وفي مجمع النوازل. اختلف المتبايعان فقال المشتري شريته باتًّا، وقال البائع بعقد وفاء. فالقول للبائع (قياسًا) إذ المشتري يدعي زوال عينه عنه وهو ينكر فيصدق. الجامع: 1/246.
(2) بتصرف قليل. العمادية: وسط 108 ب؛ الجامع: 1/246. والذي يتحصل من القنية والملتقط أن الاستحسان في الاختلاف في البينة ترجيح بينة الوفاء، وفي الاختلاف في القول ترجيح قول مدعي البات وهذا ما حرره الرملي. ابن عابدين. رد المحتار: 4/248.
(3) العمادية: وسط 108 ب؛ انظر اللآلي الدرية في الفوائد الخيرية: 1/246؛ رد المحتار: 5/279) .
(4) والذي استقر عليه الرأي عند الفقهاء في هذه المسألة أن البينة تكون على مدعى الوفاء لأنه يدعي خلاف الظاهر والقول لمدعي البات بيمينه استحسانًا إلا إذا قامت قرينة على خلافه كما إذا ادعى المشتري البيع باتًّا وكان في الثمن غبن فاحش فإنه حينئذ لا يقبل قوله بيمينه لأن الظاهر مكذب له إلا أن يدعي تغير السعر. شرح المجلة: 223.
(5) نخ: لدعواه.(7/1343)
قلت: لا يصلح هذا وجهًا للرجوع لثبوت مثله في المرجوع إليه، إذ يقال فيه كون القول قول مدعي البتات إنما يظهر فيما إذا كان الاختلاف بعد قبض البائع الثمن، إذ هنا يجيء كون المشتري طالبًا رد الثمن عليه بدعواه لزومه عليه بادعائه كون البيع وفاء، والبائع ينكر هذا اللزوم بادعاء البتات.
أما إذا كان الاختلاف
[427] بعد القبض فالمشتري هنا لا يدعي على البائع شيئًا يكون البائع بدعواه البتات منكرًا له ليجعل القول قوله لإنكاره، وإنما الأمر في ذلك بالعكس: وهو أن البائع هو الذي يدعي عليه لزوم دفع الثمن بدعوى البتات والمشتري ينكر هذا اللزوم بادعاء أن العقد وفاء. فالأظهر في وجه الرجوع ما وجه به صاحب الخانية (1) كما نقله عنه في الخيرية (2) القول بكون القول لمدعي البتات، وهو أن الأصل في البياعات هو البات، والوفاء خلاف الأصل فيها (3) ، والأصل هو الظاهر، فمدعي البتات هو المدعي للظاهر لتمسكه بالأصل وأبدًا يكون القول قول مدعي الظاهر فيكون القول قول مدعي البتات.
__________
(1) في الدعوى والبيوع. محمد ابن الخوجة. ج. ر. ونص كلامه كما نقله الرملي: إن ادعى أحدهما بيع الوفاء والآخر بيعًا باتًّا كان القول لمن يدعي البات والبينة بينة الوفاء. اهـ.
(2) الخيرية: 2/91.
(3) قال ابن المؤلف عفا الله عنهما: يلوح لي أن محل هذا الكلام ما إذا اتفقا على التعبير بالبيع واختلفا ذلك الاختلاف دون ما إذا ادعى أحدهما بيعًا بتًّا والآخر رهن انتفاع، كما هو الواقع في ديارنا، إذ ليس في هذا اعتراف بالبيع حتى يقال الأصل فيه البت، بل الأصل بقاء الملك حتى يثبت النقل. فمع التعبير بالرهن لا يظهر فرق فيما نحن بصدده بين كونه رهن انتفاع أو رهنًا محضًا فتأمله. اهـ. ر.(7/1344)
نعم إذا أقام مدعي الوفاء بينة وفاء تقبل منه لإثباتها
[428] خلاف الظاهر، وما شرعت البينة إلا لإثباته، وكذلك ترجح بينته على بينة البتات لذلك.
وهكذا (1) أعني كون القول قول مدعي البتات هو الذي اقتصر عليه قاضيخان مع كثرة اختلاف أصحابنا في هذه المسألة، الراجح أن القول لمدعي البتات وأنه الراجح فيها كما ذكر ذلك كله صاحب الخيرية.
ثم قال: (واعترض بأنه رهن في الحقيقة، وبينة البيع مقدمة على بينة الرهن) .
وأجيب بما حاصله: صورته صورة الرهن (2) وفيه شرط (3) زائد بخلاف الرهن (4) . فاغتنم هذا التحرير (5) فقد قل من تعرض له. والله أعلم.
وقد تفاءلنا باختتام الكلام بالأمر لهذا التحرير بالاغتنام، لما فيه من الإشارة له بحسن الانتظام. ختم الله تعالى لنا بأحسن الأحوال ولطف بنا في الحال والمآل، بالنبي صلى الله عليه وسلم وعلى من تعلق به من صحب وآل. وكان الفراغ من تحريره يوم 23 الجمعة الثالث والعشرين من شهر أشرف الربيعين ثالث شهور عام 1228هـ.
انتهى بحمد الله وحسن عونه وتوفيقه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) من كلام الخيرية ب، مع تصرف قليل.
(2) البيع: الخيرية.
(3) ط. هو الانتفاع. ب.
(4) أي المحض. ب.
(5) بالأصل نقل بالمعنى إلا أن تكون مخطوطة الخيرية التي اعتمدها المؤلف كذلك والذي في المطبوع بين أيدينا: فإنه مفرد، وما أوردناه بنصه من الخيرية. الرملي: 2/91.(7/1345)
الأعلام الواردة في المتن
1- ابن أبي شجاع: 197/1.
2- محمد ابن الفضل: 280/1؛ 281/1.
3- ابن كمال باشا: 211/4.
4- أبو شجاع: 197/1.
5- (القاضي) الأمير: 198/1؛ 229/2، 7.
6- أميرنا (حمودة باشا) : 215/15.
7- البخاريون: 303/15.
8- برهان الدين المرغيناني (جد العمادي) : 210/8؛ 211/1؛ 264/4.
9- البزازي: 195/5؛ 216/6؛ 223/5؛ 227/12؛ 235/1؛ 249/16؛ 262/4، 14؛ 264/2، 8؛ 277/3؛ 295/3.
10- حذام: 263/1.
11- الحنفية (المذهب النعماني) : 189/1؛ 193/2؛ 215/1، 11؛ 216/2.
12- الديناري: 256/1، 13.
13- الزيلعي: 190/10؛ 204/7؛ 209/1؛ 210/7؛ 213/3؛ 283/14.
14- السغدي: 197/1.
15- السمرقنديون: 192/5؛ 284/18.
16- الشافعية: 213/6.
17- صاحب التنوير: 201/8.
18- صاحب الخانية: 248/13؛ 304/11.
19- صاحب الخيرية: 267/16؛ 305/6.
20- صاحب العدة: 208/1؛ 222/5؛ 223/2.(7/1346)
21- صاحب العمادية: 274/10.
22- صاحب الفصول: 192/2؛ 229/2؛ 235/5؛ 239/5؛ 251/4؛ 257/12؛ 270/11؛ 280/1؛ 281/24؛ 283/4؛ 292/16؛ 302/4.
23- صاحب الهداية: 194/1؛ 260/12؛ 262/6، 20؛ 263/6؛ 269/9؛ 270/9؛ 272/15؛ 284/17؛ 290/6؛ 292/17؛ 303/14.
24- صاحب النهاية: 213/3.
25- الصدر السعيد: 209/2.
26- الصدر الشهيد: 193/3؛ 194/1؛ 209/2.
27- ظهير الدين: 208/1.
28- العلاء العلامة: 221/11.
29- (شيخ الإسلام) علاء الدين (269/15) .
30- علاء الدين بدر: 284/1؛ 286/3، 5.
31- علاء الدين السمرقندي: 260/11، 12.
32- العمادي: 209/3؛ 210/8؛ 237/1؛ 238/7؛ 241/13؛ 272/14.
33- قاضيخان: 204/3؛ 205/13؛ 206/5؛ 220/8؛ 305/5.
34- القدوري: 211/4.
35- (أبو الحسن) الماتريدي: 197/1؛ 198/1.
36- المالكي (إسماعيل التميمي) : 216/3.
37- المالكية: 215/12؛ 216/1.
38- محمد بيرم الثاني: 287/6.
39- النسفي الكبير: 193/3؛ 202/6؛ 203/6؛ 207/6؛ 210/7؛ 225/2.(7/1347)
أسماء البلدان الواردة في المتن
1- بخارى: 213/6؛ 302/8.
2- تونس بلدنا ديارنا: 190/11؛ 218/6؛ 295/7.
3- سمرقند: 190/6، 11؛ 192/5؛ 222/1؛ 246/10؛ 270/1؛ 284/15.
4- فرغانة: 284/15.
5- مصر: 190/10؛ 213/6.
6- وراء النهر: 193/3.(7/1348)
أسماء الكتب الواردة في المتن
1- الأشباه: 213/5.
2- أنفع الوسائل: 299/6.
3- البزازية (فتاوى) : 188/1؛ 227/8؛ 235/1؛ 247/11؛ 255/11؛ 256/13؛ 257/6؛ 261/11.
4- بغية السائل: 299/7.
5- التاتارخانية: 267/10.
6- الجامع: 195/5؛ 216/6؛ 295/4.
7- جامع الفصولين: 188/1؛ 276/3.
8- جواهر الفتاوى: 201/9.
9- الحاوي للزاهدي: 206/1؛ 220/5، 9.
10- حواشي جلال الدين: 205/1.
11- الخانية: 187/11؛ 207/2؛ 248/14.
12- الخيرية: 206/1؛ 267/16؛ 204/11.
13- الذخيرة: 268/9؛ 276/10.
14- العدة: 208/1؛ 222/5؛ 223/2.
15- فتاوى خواهر زادة: 255/3؛ 258/7.
16- فتاوى الإمام محمد بن الفضل: 280/1.
17- الفصول (العمادية) : 188/1؛ 192/2؛ 229/2؛ 235/5؛ 236/9؛ 239/5، 16؛ 247/2؛ 251/4؛ 255/3؛ 256/6؛ 257/12؛ 258/3، 7، 14؛ 261/10؛ 265/7؛ 268/8؛ 278/5؛ 279/3؛ 284/14؛ 287/16؛ 289/1؛ 290/5؛ 292/1؛ 293/16؛ 298/3؛ 299/13؛ 300/1.
18- فوائد شيخ الإسلام طاهر بن محمود: 268/9.
19- الملتقط: 214/1.
20- النوازل: 223/5.
21- الهداية: 205/2؛ 211/2.
22- الهندية: 246/4.(7/1349)
ثبت المراجع
1- القرآن الكريم.
2- أحمد بن حنبل: المسند. حم، بيروت، 6 أجزاء.
3- أحمد الزرقاء: شرح القواعد الفقهية. طبعة دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1403هـ. جزء واحد.
4- الأشباه: انظر ابن نجيم.
5- إعلاء السنن: انظر التهانوي.
6- الإيضاح: انظر البغدادي (إسماعيل باشا) .
7- البخاري (أبو عبد الله محمد بن إسماعيل) : خ. الجامع الصحيح.
8- البزازي (محمد بن محمد بن شهاب الكردي) : البزازية = الفتاوى البزازية، الجامع الوجيز طبعة على هامش الفتاوى الهندية، بيروت، الأجزاء: 4، 5، 6.
9- البغدادي (إسماعيل باشا بن محمد أمين) : الإيضاح = إيضاح المكنون في الذيل على كشف الفنون على أسامي الكتب والفنون، دار الفكر، جزءان.
10- هدية العارفين، أسماء المؤلفين، آثار المصنفين، دار الفكر، جزءان.
11- البنشانجي (محمد بن) : نور العين في إصلاح جامع الفصولين. مخط. 216، مكة المكرمة. جزء واحد.
12- البهوتي (منصور بن يونس بن إدريس) : كشاف القناع عن متن الإقناع. طبعة مكة، 6 أجزاء.
13- التاتارخانية. انظر ابن العلاء.
14- التاودي (أبو عبد الله محمد) : حلي المعاصم لبنت منكر ابن عاصم، دار الفكر، بهامش البهجة، جزءان.
15- الترمذي (أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة) : السنن. تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، وعبد الرحمن محمد عثمان، القاهرة، 5 أجزاء.
16- التسولي (أبو الحسن علي بن عبد السلام) : البهجة في شرح التحفة، دار الفكر، جزءان.
17- التهانوي (ظفر أحمد العثماني) : إعلاء السنن. تحقيق محمد تقي العثماني، كراتشي، 3+18 جزءًا.
18- الجامع = انظز ابن قاضي سماونة.
19- حاجي خليفة. الكشف = كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. استانبول، 1943م، جزءان.
20- ابن حجر الهيثمي (شهاب الدين أحمد) : الفتاوى الكبرى الفقهية، بيروت، 4 أجزاء.(7/1350)
21- حسن حسني عبد الوهاب: كتاب العمر في المصنفات والمؤلفين التونسيين، مراجعة وإكمال محمد العروسي المطوي وبشير البكوش، بيت الحكمة قرطاج، الجزء الأول، جزءان.
22- حسين خوجة: ذيل بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان. تحقيق د. الطاهر المعموري، الدار العربية للكتاب، تونس، جزء واحد.
23- الحطاب (محمد بن محمد المغربي) : مواهب الجليل لشرح مختصر خليل. طبعة (2) ، 1368هـ، 6 أجزاء.
24- الحجوي (محمد بن الحسن الثعالبي الفاسي) : الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي. طبعة المدينة المنورة، جزءان.
25- الحميري (أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم) : الروض المعطار في خبر الأقطار، القاهرة، جزء واحد.
26- الخانية: انظر قاضيخان.
27- الخصاف (أبو بكر أحمد بن عمرو بن مهير الشيباني) : الحيل. طبعة 1316هـ، جزء واحد.
28- الخيرية: انظر الرملي.
29- الدارمي (أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن) : دي. تحقيق عبد الله هاشم يماني، القاهرة، 1966م، جزءان.
30- الذهبي (شمس الدين محمد) : التذكرة = تذكرة الحفاظ. بيروت، 1955م، جزءان.
31- رد المحتار: انظر ابن عابدين.
32- الرملي (خير الدين) : الفتاوى الخيرية لنفع البرية. بولاق، 1300هـ، جزءان.
33- اللآلىء الدرية في الفوائد الخيرية. حاشية على جامع الفصولين، كراتشي، 1302هـ، مجلدان.
34- الزركلي (خير الدين) الأعلام. بيروت، 1980. 8 أجزاء.
35- الزيلعي (جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف) : نصب الراية لأحاديث الهداية. بيروت، 1393هـ، 4 أجزاء.
36- الزيلعي (فخر الدين عثمان بن علي) : تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق. بولاق، 1314هـ، 6 أجزاء.
37- سجاد حسين: مقدمة التارتارخانية. المجلد الأول.
38- السخاوي (شمس الدين محمد بن عبد الرحمن) : المقاصد = المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، القاهرة، 1956م، جزء واحد.
39- السراج (محمد بن محمد الوزير) : الحلل السندسية في الأخبار التونسية. تقديم وتحقيق د. محمد الحبيب الهيلة. دار الغرب الإسلامي، 1984م، 3 مجلدات.
40- سليم رستم باز: شرح المجلة. دار إحياء التراث العربي، بيروت، جزء واحد.
41- السنهوري (عبد الرزاق أحمد) : الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، بيروت، 10 أجزاء.
42- الشافعي (أبو عبد الله محمد بن إدريس) : الأم. بولاق، 1321هـ، 7 أجزاء.
43- شرح المجلة = انظر سليم رستم باز.
44- شلبي: حاشية على تبيين الحقائق للزيلعي. 6 مجلدات.
45- الشوكاني (محمد بن علي الصنعاني) : نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار عن أحاديث سيد الأخيار، القاهرة، 8 أجزاء.(7/1351)
46- الشيرازي (أبو إسحاق) : المهذب. مصر، جزءان.
47- ابن أبي الضياف: الإتحاف = إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان. تحقيق محمد شمام، الدار التونسية للنشر، 1990م، 8 أجزاء.
48- الطبراني (أبو القاسم سليمان بن أحمد) : المعجم الأوسط. تحقيق محمود بن أحمد الطحان. الرياض، 1405هـ، جزءان.
49- الطرابلسي (علاء الدين علي بن خليل) : معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام. طبعة (2) مصر، 1393هـ، جزء واحد.
50- ابن عابدين (محمد أمين) : رد المحتار على الدر المختار. حاشية على شرح تنوير الأبصار للحصكفي، بيروت، 5 أجزاء.
51- عبد الرحمن عبد الله بكير: بيع العهدة بين مؤيديه ومعارضيه. طبعة (1) ، 1408هـ، جزء واحد.
52- عبد الرحمن بن محمد بن حسين باعلوي. بغية المسترشدين في تلخيص فتاوى بعض الأئمة من العلماء المتأخرين، جزء واحد.
53- د. عبد الستار أبو غدة: الخيار وأثره في العقود. الكويت (2) ، 1395هـ، جزءان.
54- د. عبد السلام ذهني بك: الحيل المحظور منها والمشروع. القاهرة، 1946م، جزء واحد.
55- ابن العلاء (عالم الأنصاري الأندريتي) : الفتاوى التاتارخانية. طبعة كراتشي، صدر منها 5 أجزاء.
56- علي حيدر: درر الحكام. شرح مجلة الأحكام، تعريب المحامي فهمي الحسيني، بيروت وبغداد، 4 أجزاء.
57- العمادي (أبو الفتح عبد الرحيم بن أبي بكر المرغيناني) : الفصول العمادية. فصول الأحكام لأصول الأحكام (1) مخط، 1952م اليوسفية، دار الكتب الوطنية، تونس، جزءان (2) مخط، الأحمدية، 2452. دار الكتب الوطنية، تونس، جزءان.
58- العياضي (محمد بن محمد الباجي) . مفاتح النصر في التعريف بعلماء مصر، النشرة العلمية للكلية الزيتونية بتونس، السنة الرابعة 1976 - 1977، العدد الرابع.
59- العيني (محمد محمود بن أحمد) : البناية في شرح الهداية، بيروت، 10 مجلدات.
60- الفتاوى البزازية = انظر البزازي.(7/1352)
61- الفتاوى الهندية = الفتاوى العالمكيدية. جماعة من الفقهاء، طبعة (3) بيروت، 1400هـ، 6 أجزاء.
62- الفصول = انظر العمادي.
63- قاضيخان (الحسن بن منصور بن محمود الأوزجندي) : فتاوى قاضيخان. طبعة (1) بهامش الفتاوى الهندية الأجزاء الثلاثة، طبعة (2) لاهور، 4 أجزاء، مجلدان.
64- ابن قاضي سماونة (بدر الدين محمود بن إسرائيل) : الجامع = جامع الفصولين. كراتشي، 1302هـ، جزءان.
65- القرشي (محيي الدين عبد القادر بن محمد) : الجواهر المضية في طبقات الحنفية. تحقيق د. عبد الفتاح محمد الحلو، مصر، 5 أجزاء.
66- الكاساني (علاء الدين أبو بكر بن مسعود) : البدائع = بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، القاهرة، 1328هـ، 7 أجزاء.
67- كحالة (عمر رضا) . معجم المؤلفين = تراجم مصنفي الكتب العربية، دمشق، 15 جزءًا.
68- الكشف = انظر حاجي خليفة.
69- كنز الدقائق = انظر النسفي.
70- اللكنوي (محمد بن عبد الحي الأنصاري) : الفوائد البهية في تراجم الحنفية. دلهي بالهند، 1967م، جزء واحد.
71- ابن ماجه (أبو عبد الله محمد بن يزيد) : جه. السنن. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، 1972م جزءان.
72- المجلة = مجلة الأحكام العدلية.
73- مجلة العقود والالتزامات التونسية = طبعة الشركة التونسية لفنون الرسم، 1960م، جزءان.
74- مجمع الفقه الإسلامي = قرارات وتوصيات، 1406هـ - 1409هـ، جدة، 1410هـ.
75- محمد البارودي: مسائل بيع الوفاء. مخط، دار الكتب الوطنية بتونس.
76- محمد البشير النيفر: ترجمة بيرم الثاني. مقال مخطوط.
77- محمد بيرم الثاني: التعريف بالمفتيين الحنفيين بتونس من الفتح العثماني. مخط، دار الكتب الوطنية بتونس: 58، 509، 18676.
78- محمد الحبيب ابن الخوجة: من المخارج الشرعية المعتمدة في المعاملات المالية. أعمال الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي، 7 - 11 رجب 1407هـ/7 - 11 مارس 1987م، طبعة (1) الكويت 1410هـ.
79- الحياة الثقافية بأفريقية صدر الدولة الحفصية. بحث مقدم لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، مجلة المجمع: ص305 - 340. مؤتمر الدورة الحادي والأربعين: 13 - 27 صفر 1395هـ/ 24 فبراير - 10 مارس 1975م.
80- ديوان الورغي. تونس، جزء واحد.(7/1353)
81- محمد بن الحسن الشيباني: المخارج في الحيل. طبعة ليبسك، 1930م، جزء واحد.
82- محمد ابن الخوجة: تاريخ معالم التوحيد في القديم والجديد. تقديم وتحقيق الجيلاني بن الحاج يحيى وحمادي الساحلي، دار الغرب الإسلامي، 1985م، جزء واحد.
83- صفحات من تاريخ تونس، تقديم وتحقيق حمادي الساحلي والجيلاني بن الحاج يحيى، دار الغرب الإسلامي، 1986م، جزء واحد.
84- محمد رشاد الإمام: سياسة حمودة باشا. منشورات الجامعة التونسية، 1980م، جزء واحد.
85- محمد سعادة: قدة العين بنشر فضائل الملك حسين بن علي. مخط، رضوانية 53، الزيتونة، مجلد واحد.
86- محمد السنوسي (أبو عبد الله بن عثمان) : المسامرات = مسامرات الظريف بحسن التعريف، تحقيق محمد الشاذلي النيفر، تونس، 1983م، مجلد واحد.
87- محمد الطاهر ابن عاشور: المقاصد = مقاصد الشريعة الإسلامية، تونس، 1988م، جزء واحد.
88- محمد مطيع حافظ، مقدمة الأشباه.
89- محمد النيفر: عنوان الأريب عما نشأ بالمملكة التونسية من عالم أديب، تونس، 1351هـ، جزءان.
90- د. محمد يوسف موسى، البيوع والمعاملات المالية المعاصرة، مصر، 1373، جزء واحد.
91- محمود مقديش: نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار. تحقيق علي الزواري ومحمد محفوظ، دار الغرب الإسلامي، جزءان.
92- مخلوف (محمد بن محمد) : شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، جزءان.
93- مسلم بن الحجاج (القشيري النيسبوري) : م. الصحيح، 5 أجزاء.
94- المقاصد: انظر محمد الطاهر ابن عاشور.
95- المهذب: انظر الشيرازي.
96- الموسوعة الفقهية الكويتية.
97- ابن نجيم (زين الدين بن إبراهيم) : الأشباه والنظائر. دار الفكر، دمشق، 1403هـ، جزء واحد.
98- البحر = البحر الرائق شرح كنز الدقائق. طبعة العربية بباكستان، 8 أجزاء.
99- النسائي (أحمد بن شعيب) : ن. السنن الكبرى. شرح السيوطي، بيروت، 4 أجزاء.
100- النسفي (أبو البركات عبد الله بن أحمد) : كنز الدقائق.
101- الهندية = الفتاوى الهندية.
102- ياقوت (شهاب الدين بن عبد الله) : معجم البلدان. القاهرة، 1323هـ - 1324هـ، 8 أجزاء.(7/1354)
بيع الوفاء
في الفقه الإسلامي
إعداد
محيي الدين قادي
أستاذ الفقه ومقاصد الشريعة
بجامعة الزيتونة - تونس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحل البيع وحرم الربا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد مورث هديه للعلماء، وعلى آله وصحبه المتقين للشبهات، ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسموات.
أما بعد، فالإنسان - كما قال العلامة ابن خلدون -: مدني بالطبع، ومحتاج إلى من يتبادل معه المنافع، ويتعامل معه، والمجتمعات يخدم أفرادها بعضهم بعضًا وإن لم يشعروا بذلك أحيانًا كما قال حكيم المعرة:
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
ومن أهم المعاملات المادية البيع الذي لم تحرمه شريعة الإسلام، ولم يرد نهي عنه في القرآن الكريم، أو السنة الشريفة، وأعني به البيع الذي أحله الله جل جلاله لعباده في كتابه فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) .
ولفظ البيع عام لأنه اسم مفرد دخلت عليه ((أل)) فجعلته عامًّا، واللفظ العام إذا ورد يحمل على عمومه فيندرج في عموم الآية الكريمة الآنفة الذكر كل بيع إلا ما قام البرهان على تخصيصه، كبيوع كثيرة خصت بأدلة شرعية وما خلاها من ضروب البيع وهو باق على أصل الإباحة.
وهنالك من البيوع ما جرى فيه الخلاف بين الأيمة الأعلام، هل هو حلال أم حرام؟ كبيوع الآجال، مذهب إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس - رحمه الله تعالى - أنها بيوع ظاهرها الصحة، ولكنها ذريعة إلى الربا، ومثل لها ابن رشد في المقدمات بقوله: (مثل أن يبيع الرجل سلعة من رجل بمائة إلى أجل، ثم يبتاعها بخمسين نقدًا فيكونان قد توصلا بما أظهراه من البيع الصحيح إلى اقتراض خمسين دينارًا بمائة دينار إلى أجل وذلك حرام لا يحل ولا يجوز، وأباح الذرائع الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والصحيح ما ذهب إليه مالك - رحمه الله تعالى - ومن قال بقوله لأن ما جر إلى الحرم وتطرق به إليه حرام مثله (2) .
__________
(1) سورة البقرة: الآية 275.
(2) 2/524.(7/1355)
وممن قال بقوله المالكية الحنابلة، قال ابن قدامة في مغنيه في باب الربا والصرف: الحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين وهو أن يظهر عقدًا مباحًا يريد به محرمًا مخادعة وتوسلًا إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته، أو إسقاط واجب، أو دفع حق ونحو ذلك ... فمن ذلك ما لو كان مع رجل عشرة صحاح ومع الآخر خمسة عشر مكسرة، فاقترض كل واحد منهما ما مع صاحبه، ثم تباريا وتوصلا إلى بيع الصحاح بالمكسرة متفاضلًا، أو باعه الصحاح بمثلها من المكسرة، ثم وهبه الخمسة الزائدة ... وهكذا لو أقرضه شيئًا أو باعه سلعة بأكثر من قيمتها توصلًا إلى أخذ عوض عن القرض، فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم، وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: ذلك كله وأشباهه جائز إذا لم يكن مشروطًا في العقد وقال بعض أصحاب الشافعي: يكره أن يدخلا في البيع على ذلك، لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره أن يدخلا عليه (1) .
وقد أقام كل من ابن رشد وابن قدامة الأدلة على عدم جواز ما ذكراه من حيل على الربا ولكن ما ساقاه من أدلة لا يفيد لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة وهذا مجمع عليه، وإنما يجري الخلاف في ذرائع خاصة وهي بيوع الآجال ونحوها فالمطلوب في سنن آداب البحث والمناظرة أن تذكر أدلة خاصة بمحل النزاع، وأن قصد القياس على ما ذكراه من أدلة كقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} . [الأنعام: 108]
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} الآية. [البقرة: 65]
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها)) . وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أدخل فرسًا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار)) ، رواه أبو داود وغيره، وبإجماع الأمة على جواز البيع والسلف متفرقين وتحريمهما مجتمعين لذريعة الربا..
__________
(1) 4/62 - 63.(7/1356)
وهي كلها أدلة تحريم ذرائع مجمع عليها، فيستحسن أن يكون استدلالهما بالقياس خاصة، ويتعين عليهما إبداع الجامع، وإبراز العلة المشتركة لعل الخصم يجد فارقًا فيدفع الاحتجاج بالقياس، وكان مما ينبغي أن يذكرا نصوصًا أخر خاصة بذرائع بيوع الآجال ويقتصرا عليها وهو ما فعله الشهاب القرافي حيث ذكر حديثًا (1) نسبه إلى الموطأ وهو أن أم ولد زيد بن أرقم قالت لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين: إني بعت من زيد بن أرقم عبدًا بثمانمائة درهم إلى العطاء، واشتريته بستمائة نقدًا فقالت عائشة - رضي الله عنها -: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أخبري زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب، قالت: أرأيتني إن أخذته برأس مالي؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275] (2) وقد ساق الحديث نفسه البهوتي في كشاف القناع عن متن الإقناع ولكن رواه عن غندر عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم على عائشة فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلامًا من زيد بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم نقدًا؟ فقالت لها: (بئسما اشتريت، وبئسما شريت، أبلغي زيدًا أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل إلا أن يتوب) [رواه أحمد وسعيد] .
ثم عقب البهوتي على الحديث بعد أن رواه بقوله: (ولا تقول مثل ذلك إلا توقيفًا) وقد عقب القرافي بما قاله البهوتي لكن بصورة أوضح حيث قال: وهذا التغليظ العظيم لا تقوله رضي الله عنها إلا عن توقيف.
__________
(1) راجع القرافي في كتابه الفروق: الفرق الرابع والتسعون والمائة بين قاعدة ما يسد من الذرائع وقاعدة ما لا يسد منها: 3/274 - 275؛ ومغني ابن قدامة: 4/63؛ والمقدمات لابن رشد: 2/525.
(2) العرف عند المالكية أنهم إذا أطلقوا لفظ الموطأ فالمراد رواية يحيى بن يحيى الليثي والحديث الذي ذكره القرافي وهو حديث أم ولد زيد بن أرقم ليس موجودًا في الموطأ، وقد جاء في منتقى الأخبار لابن تيمية الجد رواية الحديث المشار إليه سابقًا عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته: (أنها دخلت على عائشة) الحديث، ثم قال: رواه الدارقطني، وجاء في شرحه نيل الأوطار للشوكاني أن الحديث في إسناده الغالية بنت أيفع وقد روى عن الشافعي أنه لا يصح وقرر كلامه ابن كثير في إرشاده، وساق البهوتي في كشاف القناع عند كلامه على من باع سلعة بنسيئة، وقال: رواه أحمد وسعيد. النيل مع المنتقى: 5/317.(7/1357)
وقد عقب القرافي بما قاله البهوتي لكن بصورة أوضح حيث قال: وهذا التغليظ العظيم لا تقوله رضي الله عنها إلا عن توقيف (1) .
والذرائع الربوية عند مالك رحمه الله كما جاء ضبطها عن ابن رشد الحفيد في البداية: (هي أن يتذرع منها إلى:
1- انظرني أزدك.
2- أو إلى بيع ما لا يجوز متفاضلًا.
3- أو إلى بيع ما لا يجوز نساء.
4- أو إلى بيع وسلف.
5- أو إلى ذهب وعرض بذهب.
6- أو إلى ضع وتعجل.
7- أو بيع الطعام قبل أن يستوفى.
8- أو بيع وصرف، فإن هذه هي أصول الربا) (2) .
هذا وبيع الوفاء موضوع البحث لم يكن له وجود في عهد السلف الصالح ولكن باستشراء الفساد، واختلال المرؤات ظهر في الناس هذا النمط من التعامل وهو عبارة عن أن يقول البائع: بعت منك على أن تبيعه مني متى جئت بالثمن؛ تحيلًا على الوصول إلى الربا.
وأظن أن أول ظهوره كان بمسرقند لأن أكثر الكلام فيه للسمرقنديين من فقهاء المذهب النعماني فيما وراء النهر، وكان ذلك في القرن الخامس تقريبًا إذ من الذين تكلموا عليه السيد الإمام، والإمام أبو الحسن الماتريدي فقد نقل القاضي ابن سماوة في جامع الفصولين أن السيد الإمام قال: (قلت للإمام أبي الحسن الماتريدي قد فشا هذا البيع بين الناس وفيه مفسدة عظيمة ... ) (3) إلخ ما سيأتي - إن شاء الله - والإمام السيد أبو شجاع والقاضي أبو الحسن الماتريدي عاشا في أوائل القرن (4) وصدرت لهم فتاوى في هذا اللون من التعامل الذي فشا في زمانهم، ثم تكلم فيه كل طود شامخ له في باب الترجيح قدم راسخ كالإمام النسفي الكبير والصدر الشهيد وصاحب الهداية وأبنائه شيوخ الإسلام ...
__________
(1) الفروق: الفرق الرابع والتسعون والمائة بين قاعدة ما يسد من الذرائع وما لا يسد منها: 3/274.
(2) 2/241 - 242.
(3) انظر جامع الفصولين: 1/234.
(4) انظر ترجمتهما في الفوائد البهية: ص41 - 65، وقد استنتجت أنهما عاشا في أوائل القرن الخامس من معرفة وفاة معاصرهم الإمام السغدي.(7/1358)
وقد عرفه غربنا الإسلامي منذ قرون فتحدثت عنه كتب الفقه المالكي باسم بيع الثنيا فقد عرض له ابن رشد الجد وابن عرفة وابن عاصم وغيرهم ممن سنعرض لأنظارهم، ثم تعورف بقطرنا بيع الوفاء تحت اسم الرهن كما ذكر شيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الثاني - رحمه الله تعالى - وأكبر الظن أنه عرف منذ دخل الأتراك تونس ومعهم المذهب النعماني وقد انضاف إليه من تحيل الناس ما انضاف، وتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، ودخلت هذه المعاملات القوانين إلى أن جاء الأمر المؤرخ في 28 شوال 1324هـ الموافق لـ 15 ديسمبر 1906م بجمع النصوص المتعلقة بالالتزامات والعقود في مجلة تعرف بمجلة الالتزامات والعقود فجاءت في الباب الثالث في بعض من أنواع البيوع وفي القسم الأول منه تحت عنوان بيع الثنيا من الفصل 684 إلى الفصل 699 وصورته أن يلتزم المشتري بعد إتمام البيع بأن يرد المبيع لبائعه عندما يرد له ثمنه، وبشكل أوضح أنهم يعقدونه بلفظ البيع خاليًا عن اقترانه بشرط الرد فيه، ثم يتفقان على رد المشتري للبائع عند رده الثمن إما مطلقًا أو إلى أجل معين على وجه الوعد ويعبر عنه الموثقون بالتطوع بالثنيا أو الشرط الصريح في وجهي الإطلاق والتأجيل وطفق شعبنا التونسي يتعامل بهذا الضرب من البياعات إلى أن صدر القانون عدد 1 لسنة 1958 المؤرخ في 28 جانفي 1958 في تحجير التعامل ببيع الثنيا وبيع السلم ورهن الانتفاع بالرائد الرسمي المؤرخ في 31 جانفي 1958 كما أبطلته القوانين المدنية في مصر حسب المادة 465 من القانون المدني الجديد، وسورية في المادة 433 من القانون المدني السوري في الفقرتين 246 و 253، وليبيا في المادة 454، وأبقى القانون المغربي ما تعورف في الغرب الإسلامي المالكي حسبما جاء في قانون الالتزامات والعقود المغربي في الباب الثالث، وفي الفرع الأول منه تحت عنوان: بيع الثنيا وصورته كما جاء في المادة 585 بيع الثنيا هو الذي يلتزم المشتري بمقتضاه بعد تمام انعقاده بأن يرجع المبيع للبائع في مقابل رد الثمن، وتوسط القانون المدني العراقي في المادة 1333 فجعل بيع الوفاء رهنًا حيازيًّا.
وبعد هذا التمهيد أسارع إلى الكلام عن المباحث فأقول ومن الله أستمد العون على بلوغ المأمول.(7/1359)
المبحث الأول
بيع الوفاء عند الحنفية
وينحصر الكلام في هذا المبحث في المسائل الآتية:
1- تعريفه:
رسمه العلامة ابن نجيم ببعض خواصه فقال: وصورته أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بدين لك علي، على أني متى قضيت الدين فهو لي. أو يقول البائع: بعتك هذا بكذا على أني متى دفعت لك الثمن تدفع الدين إلي، وصوره التمرتاشي فقال: صورته أن يبيعه العين بألف على أنه إذا رد عليه الثمن رد عليه العين. وصوره خاتمة المحققين في المذهب النعماني العلامة ابن عابدين بقوله: أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بمالك علي من الدين على أني متى قضيته فهو لي.
وبالتدبر في هذه الرسوم نلاحظ أن الخواص التي تضمنتها تشير إلى دوران هذا العقد بين البيع وبين الرهن فرسم ابن نجيم الأول، تضمن: بدين لك علي، وتضمن متى قضيت الدين فهو لي وهما عبارتان مشعرتان بكونه رهنًا، ورسمه الثاني قد دخلا مما يشعر بالرهنية، أما رسم ابن عابدين فكرسم ابن نجيم الأول، ورسم التمرتاشي كرسم ابن نجيم الثاني.
ولعل الاختلاف في رسم بيع الوفاء ناشىء عن الاختلاف في حكمه كما سيأتي أو أنه تكيف بما تعورف به عند الفقهاء، وبما هو حقيقته عند العوام فالبائع وفاء عندما يسأل يقول: رهنت ملكي والمشتري حين يسأل يقول: ارتهنت ملك فلان فوقع الجمع في بعض الرسوم بين البيع وبين الرهن وذلك من باب التكيف مع البيئة في الاجتهاد الفقهي.(7/1360)
2- أسماؤه:
اختلفت أسماء هذا البيع باختلاف الأمصار، فبسمرقند سمي ببيع الوفاء، وهو الاسم المشتهر في كتب الفقه الحنفي، وربما سماه السمرقنديون بالبيع الجائز فيشترك عندهم في الإطلاق مع البيع البات الصحيح، لكن أصبح المتعارف بسمرقند أنهم إذا أطلقوا البيع الجائز انصرف إلى بيع الوفاء، كما سموه ببيع المعاملة وسماه عامتهم بالرهن (1) ، وبمصر ذكر الزيلعي أنهم يسمونه بيع الأمانة (2) .
(وبتونس لدى عامتها، كعامة سمرقند ((الرهن)) فيقولون في مقام طلبه: ارهن لي، وفي مقام الإخبار عنه: رهنت ملكي فلانًا، ورهنت ملك فلان. ولا يعرفون ارتهنت. وكذلك في مقام إنشائه، حتى إذا أرادوا الرهن المحض زادوا بعض توثقه أو ما يقوم مقامه وعند خاصتها من الموثقين: ((التسليم)) ومن قبل كانوا يعبرون عنه بما يعبرون به عن البيع البات. فلما صار بعض شراة الوفاء يدعي في شرائه البت، ويتمسك في الاحتجاج لدعواه بالرسم فيلفي بظاهره شاهدًا له أحدثوا له ذلك الاسم) (3) .
ويسمى بالشام بيع الإطاعة كما ذكر التمرتاشي في الدر المختار، وحشى العلامة ابن عابدين على كلمة الإطاعة قائلًا: كذا في عامة نسخ الدر، وفي بعضها بيع الطاعة وهو المشهور الآن في بلادنا (الشام) ، وأراد أن يبين أن التسميتين لهما أصل في لغة الضاد فجلب نصًّا من المصباح للفيومي يدعم ذلك فقال: وفي الصباح أطاعه أي انقاد له، وطاعه طوعًا من باب قال لغة، وانطاع له انقاد، قالوا: ولا تكون الطاعة إلا عن أمر كما أن الجواب لا يكون إلا عن قول، يقال أمره فأطاع.
كما عرض ابن عابدين لوجوه تسميته بهذه الأسماء في الفقه الحنفي فبين أن أوجه تسميته ببيع الوفاء هو: ما تضمنه من العهد بالوفاء من المشتري برد المبيع على البائع متى رد عليه الثمن، وأن وجه تسميته بالبيع الجائز مبني على أنه بيع صحيح دفعت إليه الحاجة فوقع التخلص به من الربا حتى يسوغ للمشتري أكل ريعه، وأن وجه تسميته ببيع المعاملة أن المعاملة ربح الدين وهذا المبيع يشتريه الدائن لينتفع به في مقابلة دينه، وأن وجه تسميته ببيع الأمانة أنه أمانة عند المشتري بناء على أنه رهن أي كالأمانة وأن وجه تسميته ببيع الطاعة أن الدائن يأمر المدين ببيع داره مثلًا بالدين فيطيعه فصار معناه بيع الانقياد، لأن الطاعة لا تكون إلا عن أمر (4) .
__________
(1) أبو عبد الله محمد بيرم الثاني: الوفاء بمسائل بيع الوفاء: ص2 ظهرًا مخ بمكتبة جامعة الزيتونة.
(2) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 5/184، طبعة أولى، مصر 1315هـ.
(3) أبو عبد الله محمد بيرم الثاني: الوفاء بمسائل الوفاء: ص ظهرًا.
(4) رد المحتار: 4/245، دار إحياء التراث العربي بيروت، لبنان.(7/1361)
3- المصطلح المساوي له في المذاهب الأخرى:
سماه المالكية بيع الثنيا كما سموه في العصور المتأخرة بالبيع والإقالة كما سمي عند العامة بالرهن وقد وردت هذه التسميات في كتب الفقه المالكي بتسميته ببيع الثنيا. وردت في تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام للقاضي ابن عاصم حيث قال:
والبيع بالثنيا لفسخ داع والخرج بالضمان للمبتاع والشرح للثنيا رجوع ملك من باع اليد عند إحضار الثمن
(1) .
وإن كان ابن رشد عمم هذه التسمية في جميع الشروط المنافية للمقصود (2) وأما تسميته بالبيع والإقالة فقد نقل التسولي في فتوى عن المجاصي في نوازله وفي نقل عن شرحي التحفة لميارة والتاودي أن العامة عندنا (أي في المغرب) اليوم لا يعرفون معنى الثنيا وإنما يسمون ذلك البيع والإقالة (3) .
وأما تسميته بالرهن، فقد ذكر التسولي أيضًا أنه في عصره يطلق على الرهن عرفًا ويسمونه بيعًا وإقالة فيبيع الرجل بالإقالة ما يساوي الألف بخمسامائة أو ما يساوي المائة بستين أو بثلاثين ونحو ذلك فلا يختلفون أنها رهن حيث اشترطت الإقالة في العقد إذ لم يسمح البائع بسلعته إلا على ذلك، وتجد البائع إذا سئل عن سلعته أو أرضه يقول: إنها مرهونة.
وسماه الشافعي بالرهن المعاد (4) ، كما سموه بيع العهدة (5) .
وسماه بعض فقهاء الأباضية، ومنهم شيوخ جادو بيع الرهن (6) .
وسماه الحنابلة بيع الأمانة.
مواضع ذكره عند فقهاء الحنفية:
عرض العلامة زين الدين ابن نجيم إلى مواضع ذكر بيع الوفاء عند فقهاء الحنفية فذكر أنها موضع من ثلاثة: فمنهم من ذكره في البيع الفاسد، ومثل لذلك بالبزازي، ومنهم من ذكره عند الكلام على خيار النقد، ومثل له بقاضيخان، وقد سلك ابن نجيم في شرح الكنز نفس المسلك، ومنهم من ذكره في ((الإكراه)) ومثل له بالزيلعي في شرحه على الكنز.
__________
(1) ص75، طبعة المكتبة التجارية الكبرى بمصر بدون تاريخ.
(2) المقدمات: 2/542، طبعة دار صادر بيروت.
(3) البهجة في شرح التحفة: 2/67، طبعة ثانية مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1370هـ.
(4) التمرتاشي، الدر المختار: 4/246، مع حاشية: رد المحتار.
(5) الموسوعة الفقهية الكويتية: 9/261، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت.
(6) أطفيش، شرح كتاب النيل وشفاء العليل: 11/119، مكتبة الإرشاد - جدة - المملكة العربية السعودية.(7/1362)
واختار ابن نجيم ذكره في ((خيار النقد)) معللًا ذلك بأن البيع الوفائي من أفراد خيار النقد (1) لكن أخاه عمر ابن نجيم في شرحه على الكنز الموسوم بالنهر الفائق شرح كنز الدقائق تعقبه فقال: إنما يكون بيع الوفاء من أفراد خيار النقد بناء على القول بأنه بيع فاسد إن زاد على الثلاث، لا على القول بصحته، إذ خيار النقد مقيد بثلاثة أيام، وبيع الوفاء غير مقيد بها وأنى يكون من أفراده (2) .
ويبدو لي أن ذكره في باب الإكراه كما فعل الزيلعي أنسب إذ من مشايخ بخارى - وهم أول من تكلم فيه على ما يظهر - من جعل حكم بيع الوفاء كحكم بيع المكره (3) وعقد له في جامع الفصولين ابن قاضي سماوة فصلًا مستقلًّا وهو الفصل الثامن عشر (4) وآخر ما نختم به هذه المسألة أن الخلاف في حكمه - كما سيأتي - أثر في موضع ذكره، وأن أكثر مواطن ذكره كتب الفتاوى كالبزازية والخانية ونحوهما، والمعلوم أن كتب الفتاوى والواقعات تأتي في الميزان الفقهي الحنفي في الدرجة الثالثة على حسب ما ذكره العلامة ابن عابدين ولا نتصور الكلام عن بيع الوفاء في مسائل الأصول ككتب ظاهر الرواية أو مسائل النوادر كالكيسانيات وإنما مظنة الحديث عنه كتب الواقعات والفتاوى الخانية والبزازية.
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق: 6/8، طبعة أولى بالمطبعة العلمية.
(2) ابن عابدين، منحة الخالق على البحر الرائق: 6/8، مع البحر الرائق.
(3) انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 5/183، طبعة أولى، بولاق مصر 1315هـ.
(4) 1/234 طبعة أولى بالمطبعة الأزهرية(7/1363)
حكم بيع الوفاء عند الحنفية:
بناء على أن بيع الوفاء تحيل على الربا اختلفت في حكمه أنظار فقهاء الأحناف الذين عايشوا فشو هذا التحيل في أعصارهم وأمصارهم، من كل طود شامخ له في باب الترجيح قدم راسخ أنهى البزازي هذا الخلاف إلى تسعة أقوال، ذكر ابن نجيم في البحر منها ثمانية، واقتصر الزيلعي على أربعة منها في شرحه على الكنز وذكر أبو عبد الله محمد بيرم الثاني أنها لا تتجاوز الخمسة وما زاد على الخمسة راجع بقليل التدبر إليها، والأقوال الخمسة هي:
1- أن بيع الوفاء رهن، قال ابن قاضي سماوة في جامع الفصولين: البيع الذي يتعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا، وسموه بيع الوفاء، هو رهن في الحقيقة لا يملكه ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه، وهو ضامن لما أكل من ثمره، وأتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه لو يفي ولا يضمن الزيادة، وللبائع استرداده إذا قضى دينه لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام، لأن المتعاقدين وإن سمياه بيع الوفاء، ولكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين، إذ العاقد يقول لكل أحد بعد هذا العقد: رهنت ملكي فلانًا، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان.
ثم ذكر حجة القائلين بأنه رهن وهي تقوم على أن العبرة في شريعة الإسلام بالمقاصد والمعاني، لا الأشكال والمباني، فإن الحوالة بشرط أن لا يبرأ كفالة، والكفالة بشرط البراءة حوالة، وهبة الحرة نفسها بحضرة الشهود مع تسمية المهر نكاح، والاستصناع الفاسد إذا ضرب فيه الأجل سلم ونظائره كثيرة.
ثم نقل محاورة دارت بين السيد الإمام أبي شجاع وبين الإمام أبي الحسن الماتريدي وهما فقيهان من ثلاثة فقهاء انتهت إليهم في عصرهم رئاسة الحنفية هما والقاضي علي السغدي كما جاء في الفوائد البهية، وقال السيد الإمام (أبو شجاع) : قلت للإمام أبي الحسن الماتريدي قد فشا هذا البيع بين الناس وفيه مفسدة عظيمة، وفتواك أنه رهن وأنا أيضًا على ذلك فالصواب أن نجمع الأيمة ونتفق على هذا ونظهره بين الناس؟ فقال: المعتبر اليوم (أوائل القرن الخامس) فتوانا، وقد ظهر ذلك بين الناس فمن خالفنا فليبرز نفسه، وليقم دليله.(7/1364)
والحاصل من كلام ابن قاضي سماوة أنه رهن حكمًا، وإن كان بيعًا شكلًا (1) .
وأورد أبو عبد الله محمد بيرم الثاني من فقهاء الحنفية بتونس (2) أنه قد رد القول برهنيته بأن الانتفاع به مقصود، والاستيثاق به كذلك، ومن هنا تنتفي الرهنية شكلًا ومعنى، ولا وجه لترجيح جانب الاستيثاق على جانب الانتفاع، إن سلمنا بتساويهما لما في ذلك من ترجيح أحد المقصودين من غير مرجح، فكيف لو ادعينا ترجيح جانب قصد الانتفاع على جانب الاستيثاق لأنه المتبادر إلى الذهن مع مساعدة اللفظ له لم يبعد، لا يقال: قصد الانتفاع بل شرطه لفظًا لا يمنع اعتباره رهنًا، إذ كل ما في الأمر أن يكون رهنًا مشروطًا ومحتويًا على شرط فاسد وهو الانتفاع به، فيبطل الشرط ويصح الرهن إذ الرهن لا يبطل بالشروط الفاسدة.
والجواب أن هذا الاعتراض يصح لو عنون بالرهن وكلامنا منصب على المعنون بالبيع (3) .
2- أن بيع الوفاء بيع جائز:
قال الزيلعي في شرحه على الكنز: ومن مشائخ سمرقند من جعله (أي بيع الوفاء) بيعًا جائزًا مفيدًا بعض أحكامه، منهم الإمام نجم الدين النسفي فقال: اتفق مسايخنا في هذا الزمان فجعلوه بيعًا جائزًا مفيدًا بعض أحكامه وهو الانتفاع به دون البعض وهو البيع لحاجة الناس إليه وتعاملهم به. قال صاحب النهاية: وعليه الفتوى. وسندهم في ذلك: حاجة الناس إليه، وتعاملهم به، والقواعد قد تترك بالتعامل وجواز الاستصناع لذلك (4) وسيأتي مزيد بسط لهذه الحجة عند الكلام على القول الخامس وهو أن بيع الوفاء بيع مركب من الرهن والبيع الجائز البات.
__________
(1) 1/234، بتصرف.
(2) جاء في تاريخ ابن أبي الضياف أن وفاة شيخ الإسلام الرجل الصالح أبي عبد الله محمد ابن شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بن حسين بيرم كانت في السادس عشر من جمادى الأولى من سنة سبع وأربعين بعد المائتين والألف، الأحد 23/10/1831 وتغيرت البلاد لوفاته، ولم يتغيب عن جنازته إلا من عاقه العجز وحضر الباي (أبو عبد الله حسين باشا ابن محمود بن محمد بن حسين بن علي) وبنوه ورجال الدولة وتبركوا بحمل نعشه ودفن بتربة أبيه قرب داره. الإتحاف: 3/180، طبعة أولى تونس 1963.
(3) انظر الرسالة البيرمية: الوفاء بمسائل الوفاء: ص4 ظهرًا السالفة الذكر.
(4) راجع تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 5/183، 184، طبعة أولى، بولاق مصر 1315هـ.(7/1365)
3 - أن بيع الوفاء بيع جائز لازم:
وقد اختار قاضيخان هذا القول وقال: الصحيح أنه إن وقع بلفظ البيع لا يكون رهنًا ثم إن شرطا فسخه، أو تلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء، أو تلفظا بالبيع وعندهما هذا البيع غير لازم فالبيع فاسد، وإن ذكرا البيع بلا شرط ثم شرطاه على وجه المواعدة جاز البيع ولزم الوفاء.
ثم عرض قاضيخان إلى حجة هذا القول فقال: وقد يلزم الوعد لحاجة الناس فرارًا من الربا فبلخ اعتادوا الدين والإجارة وهي لا تصح في الكروم، وبخارى الإجارة الطويلة ولا يكون ذلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاء، وما ضاق على الناس أمر إلا اتسع حكمه.
ويدعم ذلك ما نقل عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى: أن البيع لا يكون تلجئة حتى ينص عليها في العقد وهي والوفاء واحد (1) كما يدعمه أيضًا ما ذكره الزيلعي من أن الوفاء بالمواعيد لازم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((العدة دين)) (2) .
وأما إن شرطا الوفاء نصًّا قبل العقد أو أضمراه بقلوبهم عند العقود فكمن ذكرا البيع بلا شرط، ثم شرطاه على وجه المواعدة بناء على أن العبرة في الشرط المفسد مقارنته لعقد ذكرًا باللسان لا أن يتقدم ذكره عليه أو أن يضمر في الجنان ويوضح ذلك أن تزوج المرأة بنية تطليقها أثر الوطء نكاح صحيح لأن النظر فيه منصب على شكله ولفظه لا على المقصود والمراد منه وإلا لقلنا بأنه نكاح متعة وفاسد لا يجوز. وعلى ضوء وجهة النظر هذه أفتى النسفي مستفتيًا قال له: بعت حانوتًا بأربعمائة ثم طلب المشتري إعادة المبيع ورد الثمن وهو يقول: بعتني وفاء، وأنا أقول بعتك باتًّا؟ فأجاب: إن القول قولك. وقال السائل لو حلفني على ذلك، هل ينبغي أن أحلف وكان نيتي أن آخذ الحانوت منه وأرد الثمن إليه بعد زمان وكان قصد المشتري ذلك أيضًا كما هو المعروف إلا أني لا أقدر اليوم على أن أنقد الثمن؟
فأجاب: إنما ذكر ذلك قبل العقد، وما كان في القلب عند العقد لا عبرة لذلك لو لم يذكر عند العقد سوى الإيجاب والقبول، ولك أن تحلف أنك بعته بيعًا باتًّا (3) .
والملاحظ هنا انبناء الأحكام على اللفظ والشكل دون نظر إلى النية ومقصد الشرع منها، وقاعدة الشريعة - كما قال العلامة ابن القيم - التي لا يجوز هدمها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات، كما هي معتبرة في التقربات والعبادات (4) .
__________
(1) انظر البحر الرائق، لابن نجيم: 6/8، طبعة أولى بالمطبعة العلمية.
(2) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 5/184.
(3) ابن سماوة، جامع الفصولين: 1/135، 136.
(4) إعلام الموقعين: 3/107، 108، تحقيق محيي الدين عبد الحميد طبعة صيدا، بيروت 1407 - 1987.(7/1366)
4 - أن بيع الوفاء بيع فاسد:
واختار القول بفساده ظهير الدين، وإنما يكون فاسدًا إذا اقترن شرط الوفاء بالعقد.
أما إذا التحق شرط الوفاء بالعقد كما إذا عقدا البيع بدون شرط وفاء ثم ذكرا شرط الوفاء، فإن البيع يكون بيع وفاء، إذ الشرط المفسد اللاحق بأصل العقد يلتحق عند أبي حنيفة، ولا يلتحق عند الصاحبين
وهل يشترط لإلحاقه عند أبي حنيفة أن يكون الالتحاق في المجلس أي مجلس البيع أو لا يشترط؟
جرى في ذلك خلاف بين علماء الحنفية في هذه المسألة فذهب السرخسي وأبو اليسر إلى اشتراط المجلس، وذهب صاحب الإيضاح إلى عدم اشتراطه وصححه البزازي في فتاواه.
وجاء في الفتاوى الخيرية ما يلي: صرح علماؤنا بأنهما لو ذكرا البيع بلا شرط ثم ذكرا الشرط على وجه العدة جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد.
وأما إذا ذكرا شرط الوفاء قبل العقد ثم عقدا لم يبطل العقد، ولعل من الأمثلة التي توضح ما ذكره فتوى الخير الرملي - وقد سئل عن رجلين تواضعا على بيع الوفاء قبل عقده، وعقدا البيع خاليًا من الشرط؟ فأجاب: بأنه صرح في الخلاصة والفيض والتتارخانية وغيرها بأنه يكون على ما تواضعا بيد أنهما لو اتفقا على بناء العقد على شرط الوفاء فإن العقد يكون فاسدًا (1) .
ومما ينبغي ذكره هنا أن القائلين بأنه بيع فاسد اختلفوا بالنظر إلى ما يترتب عليه من الآثار والنتائج فمنهم من أعطاه أحكام البيع الفاسد كلها حتى فوات فسخه ببيع مشتريه بيعًا باتًّا. ومنهم من استثنى هذا منها وألحقه فيه ببيع المكره، وبيع المكره لا يمتنع حق الفسخ فيه بوجه من الوجوه، وللمكره أن ينقض كل تصرفات المشتري والعلة الجامعة بين الوفاء وبيع المكره عدم الرضا، ومن هنا قال هؤلاء أن بيع الوفاء لا يفوت بالبيع ولو تكرر فيه، ولهذا الإلحاق ذكره الزيلعي في باب الإكراه فقال: ومن مشائخ بخارى من جعل بيع الوفاء كبيع المكره منهم الإمام ظهير الدين والصدر الشهيد حسام الدين، والصدر السعيد تاج الإسلام، وصورته أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بدين لك عليَّ على أني متى قضيت الدين فهو لي فجعلوه فاسدًا باعتبار شرط الفسخ عند القدرة على إيفاء الدين يفيد الملك عند اتصال القبض به، ونقض بيع المشتري كبيع المكره لأن الفساد باعتبار عدم الرضا فكان حكمه حكم بيع المكره (2) .
__________
(1) راجع رد المحتار، لابن عابدين: 4/120، 121؛ والفتاوى البزازية مع الفتاوي الهندية: 4/407، إذ باعتماد على هذين المصدرين مع البحر الرائق، لابن نجيم تسنى لي تحرير المسألة كما جاء في الصلب فإن كان صوابًا فمن فضل الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله أعلم وأحكم.
(2) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 5/183.(7/1367)
5- القول بأن بيع الوفاء بيع مركب من الرهن والبيع الجائز البات، فهو رهن بالنظر إلى البائع، يسترد المبيع عند قضاء ما عليه من دين، ويجبر المشتري إن امتنع من ذلك كما يضمن المشتري المبيع للبائع بالهلاك والانتقاص ضمان الرهن، وهو بيع جائز بات بالنظر إلى المشتري في حق نزله، ومنافعه حتى يطيب له أكل ثمره، والانتفاع به سكنى وزراعة وإيجارًا.
وعلى هذا القول بتركب بيع الوفاء من الرهن والبيع الجائز البات جرى عمل شيوخ النسفي، قال العمادي: وفتوى جدي شيخ الإسلام برهان الدين وأولاده ومشائخ زمانهم على أن الملك يثبت للمشتري شراء جائزًا في زوائد المبيع ولا يغرم لو استهلكها وعليه استقر قول أيمة زماننا وأساتذتنا رحمهم الله - ومراد العمادي بجده البرهان: علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني صاحب الهداية وهو معدود في طبقة أهل الترجيح كما ذكره العلامة ابن كمال باشا (1) .
وحجة من قال بهذا القول: احتياج الناس إلى التعامل ببيع الوفاء، والقاعدة الفقهية أن القواعد تترك بالتعامل، وعملًا بهذه القاعدة جاز الاستصناع، ولو طبقنا قاعدة امتناع بيع المعدوم لما أبيح، و (ما ضاق على الناس أمر إلا اتسع) .
واحتياج الناس إلى الشيء، وتعاملهم به قاعدتان أساسيتان في المذهب النعماني يعلم ذلك كل من سبر خلجات أغوار هذا المذهب، وعلى ذلك يخرج ما جاء عن فقهاء المذهب الحنفي من أن المسلم إذا وقع في حرج وضيق، واضطر إلى المال، ولم يجد من يتعامل معه إلا بالربا ارتفعت عنه الحرمة، ويبقى تعلقها بالمقرض بالربا، وللضرورة والحاجة أحكام مقررة في الفقه الإسلامي قال في المحبية:
وجاز أن يستقرض المحتاج
بالربح إن كان له احتياج
وذكر العلامة ابن نجيم في البحر الرائق حين عرض لبسط الكلام في القول بتركب بيع الوفاء من البيع الصحيح والرهن أنه جعل ذلك لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا (2) ، وذكر في الأشباه والنظائر في القاعدة الخامسة: ((الضرر يزال)) حين عرض لقاعدة: ((الحاجة تنزل منزلة الضرورة)) ، وهي إحدى القواعد الستة المتعلقة بقاعدة: ((الضرر يزال)) ، فقال: (وفي القنية والبغية: يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح) (3) .
__________
(1) الوفاء بمسائل بيع الوفاء، لأبي عبد الله محمد بيرم الثاني: ص8 ظهرًا. بتصرف.
(2) 6/9.
(3) 1/294، مع شرح السيد الحموي.(7/1368)
هذا ما قاله الزاهدي الغرميني في القنية والبغية في القرن السابع للهجرة وهو صاحب اليد الباسطة في الخلاف والمذهب، ولو أن ابن وهبان صرح بأنه معتزلي العقائد حنفي الفروع وتصانيفه غير معتبرة ما لم يوجد مطابقتها لغيرها (1) .
وقد سبق أن أشرت إلى بيت المحبية وهي من المتون المعتمدة في الفقه الحنفي:
وجاز أن يستقرض المحتاج
بالربح إن كان له احتياج
وهذا يدعم ما ذهب إليه الزاهدي ويكون التعامل ببيع الوفاء أخف وطأة من التعامل بالربا عند الحاجة، قال أبو عبد الله محمد بيرم الثاني: ومما لا ريب فيه أن الناس إذا كانت لهم حاجة إلى التعامل ببيع الوفاء في تلك الأعصار (أي أوائل القرن الخامس تقريبًا) على فضلها فهم إليه في هذا العصر (القرن الثالث عشر) على وضوح اختلافه أحوج وقد فشا به التعامل في ديارنا فشوًا خارجًا عن الحد، وبرزت به الفتاوى والأحكام ممن أدركناهم من فقهاء الحنفية، ومنهم والدي (أبو عبد الله محمد بيرم الأول) رحمه الله تعالى منذ تصدر للإفتاء إلى أن لحق بربه (يوم الأربعاء آخر شوال عام أربعة عشر بعد المائتين والألف) وذلك خمس وأربعون سنة، ممن لم ندركه بالبلاغ عنه، فلا يفتي الآن أو يقضي فيه بغير هذا إلا من قصد الإضرار بالناس وأما منعهم من التعامل به جملة بعد هذا الفشو والحاجة الشديدة إليه فحامل لهم على الهجوم على الربا المجمع على تحريمه جهارًا لأن المضطر إذا أغلقت في وجهه الأبواب ارتكب المشاق الصعاب:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركبًا
فلا يسع المضطر إلا ركوبها
(2)
ويبدو لي من كلام فقهاء الحنفية أن أول ظهور بيع الوفاء كان بسمرقند وهذا يعتبر عرفًا خاصًّا، وجاء في الأشباه والنظائر للعلامة ابن نجيم: هل يعتبر في بناء الأحكام العرف العام، أو مطلق العرف ولو كان خاصًّا؟ المذهب الأول، قال في البزازية معزيًا إلى الإمام البخاري الذي ختم به الفقه: الحكم العام لا يثبت بالعرف الخاص، وقيل: يثبت ... وفي البزازية من البيع الفاسد في الكلام على بيع الوفاء في القول السادس من أنه صحيح قالوا: لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا، فأهل بلخ اعتادوا الدين والإجارة وهي لا تصح في الكرم، وأهل بخارى اعتادوا الإجارة الطويلة ولا تمكن في الأشجار فاضطروا إلى بيعها وفاء وما ضاق على الناس أمر إلا اتسع حكمه.
وختم كلامه في هذه المسألة: (اعتبار العرف الخاص في بناء الأحكام العامة عليه أو عدم اعتباره) فقال: (والحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص، ولكن أفتى كثير من المشايخ باعتباره) (3) . ومن المعلوم أن الفتاوى تأتي في الدرجة الثالثة في ترتيب مسائل الفقه الحنفي كما سلف.
وجاء في رد المحتار للعلامة ابن عابدين: أن مشايخ الحنفية أهل الاختيار اختلفوا في اعتبار العرف الخاص وعدم اعتباره في بناء الأحكام العامة عليه فقال أبو الليث: النسج بالثلث والربع لا يجوز عند علمائنا لكن مشايخ بلخ استحسنوه وأجازوه لتعامل الناس به.
__________
(1) اللكنوي، الفوائد البهية في تراجم الحنفية: 212، 213.
(2) الرسالة البيرمية: ص 8 ظهرًا و 9 وجهًا.
(3) 1/315 - 317، بتصرف طبعة دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان: 1405هـ/ 1985م.(7/1369)
قال: وبه نأخذ، وقال السيد الإمام الشهيد: لا نأخذ باستحسان مشايخ بلخ وإنما نأخذ بقول أصحابنا المتقدمين لأن التعامل في بلد لا يدل على الجواز ما لم يكن على الاستمرار من الصدر الأول فيكون ذلك دليلًا على تقرير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على ذلك فيكون شرعًا منه، فإذا لم يكن كذلك لم يكن فعلهم حجة إلا إذا كان كذلك من الناس كافة في البلدان كلها فيكون إجماعًا والإجماع حجة. ألا ترى أنهم لو تعاملوا على بيع الخمر والربا لا يفتى بالحل (1) .
هذا ما تصورته أن يذكر من الخلاف داخل المذهب الحنفي في حكم بيع الوفاء وقد حاولت أن أذكر الدليل لكل قول من الأقوال الخمسة لكن لا يفوتني هنا أن أذكر أن مجلة الأحكام العدلية ذهبت على القول بأنه بيع مركب، لكن من ثلاثة أشياء: البيع الجائز، والبيع الفاسد، والرهن وهو قول من الأقوال التي لم أذكرها لأنه لا يختلف من حيث الآثار والنتائج عن القول بأنه بيع مركب من بيع جائز ورهن. ونص المجلة ما يلي: (المادة: 118 بيع الوفاء هو بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد إليه المشتري المبيع، وهو في حكم البيع الجائز بالنظر إلى أن المشتري لا يقدر على بيع المبيع من الغير) (2) . والقول الذي ذهبت إليه المجلة هو الذي قال عنه خاتمة المحققين في المذهب النعماني ابن عابدين: القول الجامع لبعض المحققين أنه فاسد في حق بعض الأحكام حتى ملك كل منهما الفسخ، صحيح في حق بعض الأحكام كحل الإنزال ومنافع المبيع، ورهن في حق البعض حتى لم يملك المشتري بيعه من آخر ولا رهنه وسقط الدين بهلاكه فهو مركب من العقود الثلاثة كالزرافة فيها صفة البعير والبقر والنمر) (3) .
هذا ولا بدع في تركب هذا البيع فهناك أنماط من المعاملات مركبة كالهبة بشرط العوض، والهبة في حال المرض أعطي كل منهما حكم الهبة من اشتراط القبض، وعدم كونها في مشاع قابل للقسمة وأعطي للأولى حكم البيع عند القبض حتى تثبت فيها الشفعة والثانية حكم الوصية حتى كان خروجها من الثلث (4) .
وبعد الإلمام بحكم بيع الوفاء عند السادة فقهاء الحنفية، وما ذكرته من الأقوال الستة فعلى أيها يصح أن يكون مخرجًا من الربا؟ وعلى أيها لا يصح؟
والجواب أن بيع الوفاء يكون مخرجًا من الربا على القول بأنه بيع جائز غير لازم أو على القولين بالتركيب لاشتراك القولين في حل الانتفاع به، وفسخه بطلب أحدهما وفائدته على القولين للبائع والمشتري واضحة، فهو صالح للبائع في التمكن من استرداد مبيعه، وصالح لصاحب المال في الانتفاع بالمبيع مدة غيبة ماله عنه.
وأما على القول بأنه رهن فهو إن حصل غرض الراهن لم يحصل غرض المرتهن والقول بأنه بيع فاسد كذلك.
وأما على القول بأنه بيع بات فهو إن حصل غرض المشتري لم يحصل غرض البائع (5) .
__________
(1) 4/249، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان.
(2) مجلة الأحكام العدلية: ص67.
(3) رد المحتار: 4/247.
(4) بيرم الثاني: الوفاء بمسائل بيع الوفاء: ص8 ظهرًا، بتصرف.
(5) بيرم الثاني، الوفاء بمسائل بيع الوفاء: ص10 ظهرًا، بتصرف.(7/1370)
المبحث الثاني
ما يجوز فيه بيع الوفاء وما لا يجوز
القائلون بأن بيع الوفاء بيع جائز قالوا: لا يخلو المبيع من أن يكون عقارًا أو منقولًا.
فإذا كان عقارًا فلا يخلو من كونه لمكلف، أو صبي أو مجنون، فإذا كان لمكلف فالاتفاق على صحة عقده فيه.
وأما إذا كان لصبي فيقول العلامة بيرم الثاني: ذهب العلاء العلامة وغيره من أيمة سمرقند إلى القول بعدم صحته فيه لما فيه من تمليك الولي منافع عقار المولى عليه للمشتري بلا عوض لأن المال المدفوع ثمنًا لبيع الوفاء والذي انتفع به المولي عليه سيرد بتمامه إلى المشتري الوفائي عند استرداد المبيع وفسخ العقدة، فكأن انتفاع المشتري بغلته قبل فسخه تبرع من طرف الولي وهو لا يملك حق التبرع بمال مولاه.
وأجازه صاحب العدة في حالة اضطرار المولى عليه إلى ثمن المبيع وفاء كاحتياجه للنفقة على نفسه أو ماله بانهدام في عقاره تخشى الزيادة فيه إذا لم يسرع إلى ترميمه وهو عديم المال حالًّا وله مال مرجو الحصول مآلًا. وبالقول الثاني جرى العمل عندنا بشرطه من الضرورة إليه، وينبغي للوصي المبادرة إلى الفسخ ما وجد إليه سبيلًا، والمجنون مثل الصبي (1) .
هذا وأشكل على تعبير شيخ الإسلام مرة بالولي وأخرى بالوصي، والفرق بَيِّنٌ بينهما جلي وتعبير البزازية بالوصي ونصها: (اختلفت أيمة سمرقند في أن الوصي هل يملك بيع عقار الصبي وفاء، فأكثرهم على أنه لا يملك، وفتوى صاحب الهداية على أنه يملك) وكذلك ابن قاضي سماوة في جامع الفصولين للوصي بيع العقار بالوفاء وقيل لا. ولم أعثر فيما بين يدي من مصادر الفقه الحنفي على من أعطى هذا الحق لمجرد الولي وهو قل من كثر وغيض من فيض وليس هذا من باب الاعتراض على شيخ الإسلام وهو من هو في غزارة علمه وسعة اطلاعه على دقائق مذهبه فأني يدرك الضالع شأو الضليع، لكنه طرح الإشكال على من له سعة اطلاع تنور الأبصار، وترد المحتار (2) .
__________
(1) بيرم الثاني، الوفاء بمسائل بيع الوفاء: ص 11 و12 ظهرًا، بتصرف.
(2) راجع الفرق بين الولي وبين الوصي في رد المحتار.(7/1371)
وأما المنقول فالظاهر من كلام الفتاوى البزازية أنه لا يصح عقده فيه، ونصها: (وإذا جمع في البيع الجائز بين العقار والمنقول الذي لا يجوز فيه البيع الجائز بأن لم يكن تبعًا للعقار حتى فسد في المنقول لا يتعدى إلى العقار بل يجوز فيه، وهذا إشارة إلى أنه لا يجوز الوفاء في المنقول) .
والنص المنقول عن الفتاوى البزازية يحتوي على نقل من إجارات ((العدة)) ، وعلى تعليق محمد البزازي عليه بقوله: (وهذا إشارة إلى أنه لا يجوز الوفاء بالمنقول) .
وهذه التفرقة مبناها وأساسها استحسان بعض المتأخرين كما ذكر ذلك البزازي ولكنه نقل عقب النص السالف أنه جاء في النوازل جواز الوفاء في المنقول (1) واستظهر ابن عابدين أن الخلاف جار في المنقول على القول بأن بيع الوفاء بيع جائز، أما على القول بأنه رهن فينبغي عدم الخلاف في صحته (2) .
وعلل المنع بأن الوفاء يستلزم سلامة البدلين عند التفاسخ، والمنقول يضمحل قبله فلا يجد البائع وقت الفسخ ما يسلم له.
هذا وقد ذكر أبو عبد الله بيرم الثاني هذه العلة ولم يسلمها من كل الوجوه فقال: وأنت خبير بأن عدم السلامة إذ ذاك لا تعم سائر أنواعه بل تخص ما لا ينتفع به إلا باستهلاك عينه كالثمر والخبز واللحم دون ما ينتفع به من بقائها كالعبد والدابة فينبغي أن يخص المنع النوع الأول ولا يعم الثاني ولا يطلق القول فيها بجواز ولا منع.
وعلى هذا التفصيل يكون من النوع الثاني السيارات والشاحنات والسفن وأثاث البيوت ونحوها فلا يجري فيها المنع بل يجوز فيها الوفاء. ولكن هل يدخل في المنقول من النوع الثاني ما يعبر عنه بالسكنى لدى فقهاء الحنفية؟ الذي يبدو لأول وهلة جواز ذلك لأن فقه الأحناف يصرح بأن ما عبر عنه بالسكنى نقلي إذا كان شرط الوفاء غير مقترن بالعقد كما يجرون العقد البات عليها. لكن بعد التدبر في هذه المسألة يتضح بالعكس وهو عدم جواز جريان عقد الوفاء فيما يعبر عنه بالسكنى ولو مع عدم شرط القران، وذلك لأن السكنى مدخول فيها على شرط القران فصار معروفًا، والقاعدة الفقهية تقول: المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. لكن سبق لنا أن النسفي يقول لمن استفتاه لا عبرة بالشرط المفسد إذا لم يذكر عند إبرام العقد باللسان وإن أضمر في الجنان وزور في النفس فهل لنا أن نجوز جريان الوفاء في السكنى تخريجًا على ما قاله النسفي؟
الجواب أن ما قاله النسفي نفسه مقيد بغير المعروف عرفًا وإنما هو أمر متعلق بالعاقدين وأما المعروف عرفًا فهو مذكور في العقد حكمًا.
الكفالة بمال الوفاء:
يتسنى للمتدبر في كتب الفقه الحنفي التي تناولت بالدراسة أو الإشارة ((بيع الوفاء)) أن يتصور المسألة بصورتين:
1- أن يضمن المشتري مال الوفاء للبائع.
2- أن يضمن البائع مال الوفاء للمشتري.
وحكم الصورة الأولى أن الضمان صحيح، لأن الوفاء يترتب دينًا للبائع بذمة المشتري لمجرد العقد.
وأما حكم الصورة الثانية فالصحة أيضًا بشرط إضافة لزمن الفسخ، لا منجزة.
وعلة ذلك أن مال الوفاء ليس دينًا بذمة البائع للمشتري مدة قيام بيع الوفاء بينهما، وقبل فسخه، وإنما يصبح دينًا للبائع على المشتري بعد الفسخ لأن بيع الوفاء بالنسبة إلى المشتري يعتبر بيعًا باتًّا من أجل أن يباح له نزله ومنافعه، وما دام الأمر كذلك فما دفعه المشتري للبائع يعتبر ثمنًا للمبيع، وثمن المبيع لا يجوز بحال أن يكون دينًا للمشتري على البائع، وعقد البيع قائم بينهما، لأن المشتري ملك عوضًا عما دفع من الثمن وهو المبيع، فلو كان ما دفعه من ثمن مملوكًا له للزم من ذلك ملكه للمثمن والثمن الذي دفعه، وذلك غير جائز.
أما إذا فسخ العقد الوفائي بينهما فإن ما دفعه المشتري من ثمن يصبح دينًا على البائع كثمن المبيع بيعًا باتًّا بعد إقالة فإن المشتري يصبح دائنًا بثمن المبيع والبائع يصبح مدينًا بثمنه (3) .
وأما بقية المسائل المتعلقة بأحكام الضمان في بيع الوفاء فقد وقعت الإشارة إليها فيما سبق.
__________
(1) راجع الفتاوى البزازية: 4/416، 4/409.
(2) رد المحتار: 4/248.
(3) أبو عبد الله محمد بيرم الثاني: الوفاء بمسائل بيع الوفاء تقدم ص53 وجهًا وظهرًا، بتصرف.(7/1372)
ما يعتبر فوتًا للمبيع وما لا يعتبر:
إن هذه المسألة تعود على ما يبدو إلى أصل الخلاف داخل المذهب الحنفي في حكم بيع الوفاء في كثير من تفريعاتها.
فمن قال بأنه رهن قال: (لا يفوت المبيع، ولا يملكه المشتري وفاء ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه وهو ضامن لما أكل من ثمره وأتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه لو يفي ولا يضمن الزيادة، وللبائع استرداده إذا قضى دينه لا فرق بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام) .
ولا يفوت على المشتري وفاء مال الوفاء قبل القبض فمن اشترى حقلًا ولم يحزه وشب فيه حريق هلك على البائع ولا يسقط من الدين شيء.
ومن قال بأنه بيع جائز فلا يفوت أصل المبيع بهذا البيع لأن معناه البيع النافذ الذي فيه أحد الخيارات، قال النسفي: اتفق مشايخنا في هذا الزمان فجعلوه بيعًا جائزًا مفيدًا بعض أحكامه وهو الانتفاع به، دون البعض وهو البيع لحاجة الناس إليه وتعاملهم به.
وعلى القول بأنه بيع جائز لازم كذلك، وكذلك الشأن في القول بأنه بيع مركب من الرهن والبيع الجائز.
وأما على القول بأنه بيع فاسد فقد سبق أن القائلين به اختلفوا بالنظر إلى ما يترتب عليه من الآثار والنتائج فمنهم من أعطاه أحكام البيع الفاسد كلها حتى فوات فسخه ببيع مشتريه بيعًا باتًّا، ومنهم من استثنى هذا منها وألحقه فيه ببيع المكره، وبيع المكره لا يمتنع حق الفسخ فيه بوجه من الوجوه، وللمكره أن ينقض كل تصرفات المشتري والعلة الجامعة بين بيع الوفاء وبين بيع المكره عدم الرضا ومن قال هؤلاء: إن بيع الوفاء لا يفوت بالبيع ولو تكرر فيه، ولهذا الإلحاق ذكره الزيلعي في باب الإكراه قال: (ومن مشايخ بخارى من جعل بيع الوفاء كبيع المكره) إلى آخر ما سلف. بقي أن من قال بأنه بيع بات وهو البيع القطعي فلا إشكال بأن المبيع يفوت بمجرد تمام عقد بيع الوفاء، ولعل ذلك ما يوحي به قول أبي عبد الله محمد بيرم الثاني في بيان متى يصلح بيع الوفاء طريقًا للتحيل على حل الربح ومتى لا يصلح فبين أنه على القول بأنه بيع بات فإنه يحصل غرض المشتري ولا يحصل غرض البائع. والظاهر أنه يعني فواته عليه بالبيع.(7/1373)
ومن هنا نعلم أن ما يعتبر فواتًا ومالًا في أكثر فروعه يعود إلى الخلاف في حكم بيع الوفاء كما يعود إلى تكرر البيع له من طرف بائعه وفاء ويتأتى تصور ذلك بما يلي:
(أ) إذا باعه إلى المشتري الأول وفاء بيعًا باتًّا لأنه بمجرد تمام عقد البات فسخ العقد الوفائي وصح البات.
(ب) إذا باعه لغير المشتري وفاء الأول باتًّا أو وفاء قبل فسخ عقد الوفاء مع المشتري الأول توقف البيع الثاني وفاء أو باتًّا على إجازة المشتري وفاء الأول فإن أجاز انبرم البيع الثاني مطلقًا، وإن لم يجز بقي موقوفًا، ولكن يجب أن يعلم أن له - كما قال البارودي - الإجازة وليس فسخ البيع، لأن حقه في حبس العين المبيعة له وفاء بعدم الإجازة ولا يضطر إلى أجله لفسخ البيع فليس له.
وإجازة المشتري وفاء الأول للمشتري الثاني باتًّا أو وفاء تكون:
1- بالقول: وأمرها جلي كما إذا جاء البائع وفاء إلى المشتري وفاء الأول وقال له بعت مبيعك الوفائي بيعًا وفائيًا أو بيعًا باتًّا فأجزني فقال له: أجزتك، أو لك ذلك، أو رد علي ثمني أو ما شاكل ما ذكر.
2- بالفعل: كما إذا جاء البائع وفاء إلى المشتري وفاء وقال له: بعت مبيعك الوفائي وجئتك بمالك فتسلمه فأخذه، فتسلمه إياه إجازة فعلية يفوت المبيع الوفائي بها عن المشتري وفاء الأول، وكذلك الحكم إن أتاه بماله المشتري الثاني وفاء أو باتًّا وقال له: اشتريت مبيعك الوفائي وجئتك بمالك فخذه، فأخذه منه اعتبر أخذه للمال إجازة فعلية للبيع الثاني مطلقًا باتًّا أو وفاء.(7/1374)
بقي إذا باع البائع وفاء المبيع وفاء إلى مشتر ثان وجاء إلى المشتري الأول وسلمه مال الوفاء فتسلمه ولم يحطه خبرًا بالبيع فما الحكم؟
الحكم بالتسلم لمال الوفاء انفسخ بيع الوفاء بينهما، ولم يبق له حق في الإجازة ويبطل البيع الثاني لتمامه - وعقد الوفاء منبرم - ولم تقم إجازة من المشتري الأول وفاء. ثم إن تعدد البيوعات من البائع وفاء قبل فسخ عقد بيع الوفاء توقف جميعها - كما قال البارودي - على إجازة المشتري وفاء سواء كانت كلها بيوعات باتة أو كلها وفاء أو تنوعت فكان بعضها باتًّا وبعضها وفاء، وله أن يجيز أيها شاء، وما أجازه منها مضى وما لم يجزه لم يمض، ولا فرق فيما أجازه منها بين أن يكون الأول أو الوسط أو الآخر وبين أن يكون باتًّا أو وفاء (1) .
هذا ما تيسر في هذا المبحث بالاعتماد على ما قلت فإن كان صوابًا فمن فضل الله تعالى علي وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان.
وقبل أن أختم المبحث فقد لفت نظري أن الإمام الأكبر محمود شلتوت رحمة الله عليه وهو الذي أفتى في جواز أخذ النصيب من أرباح صندوق التوفير للمسلم يمنع رهن الانتفاع، والحنفية يجوزونه ويقول في هذه الفتوى: (وفي الحق أنه إذا دار الأمر بين الانتفاع بالرهن على هذا الوجه وبين الفائدة للدين التي يسمح بها القانون كانت تلك الفائدة أقل ضررًا وحرمة من هذا الرهن الذي يجب منعه قطعًا لأطماع المستغلين لضرورات الناس، ومحافظة على بيوت المضطرين من الخراب) (2) .
__________
(1) راجع المسألة الثامنة من رسالة البارودي المفتي الحنفي التونسي في مسائل بيع الوفاء، مخطوطة بمكتبة الزيتونة غير مرقمة.
(2) فتاوى الشيخ شلتوت: 346، دار القلم، الطبعة الثانية.(7/1375)
المبحث الثالث
بيع الثنيا عند المالكية
إن بيع الثنيا عند المالكية مجانس لبيع الوفاء عند الحنفية.
وكلامنا في هذا المبحث ينحصر في المسائل الآتية:
1- تعريفه:
لم يحده الإمام ابن عرفة - رحمه الله تعالى - بحد خاص لكن جاء في شرح الرصاع لحدود ابن عرفة عند الكلام على تعريف ((بيع الخيار)) وهو قوله: (بيع وقف بته أولًا على إمضاء يتوقع) فقال: هل يرد على الشيخ في بيع الخيار صورة بيع الثنيا بعد العقد إذا قال للمشتري: إن أتيتني بالثمن فالسلعة رد عليك أيها البائع، وقد نص على جوازها أصبغ فيصدق فيها أنها بيع وقف بته أولًا على إمضاء يتوقع لأن الخيار للبائع في إمضاء ما وقع من المشتري ... إلخ (1) .
وعرفها ابن عاصم في متنه الموسوم بتحفة الحكام في نكت العقود والأحكام بقوله:
والشرح للثنيا رجوع ملك من
باع إليه عند إحضار الثمن
(2)
2- مواضع ذكره:
أصل بيع الثنايا في كتاب بيوع الآجال من المدونة قال فيه: من ابتاع سلعة على أن البائع متى رد الثمن فالسلعة له لم يجز لأنه بيع وسلف (3) .
وذكره العتبي في المستخرجة في جامع البيوع الثاني (4) .
وذكره ابن رشد في المقدمات في ((بيع الشروط)) إلا أنه عمم التسمية في سائر الشروط، واقتفى ابن عاصم أثره في ذكره في بيع الشروط إلا أنه ميزه فقال:
والبيع بالثنيا لفسخ داع
والخرج بالضمان للمبتاع
إلخ الفصل الذي عنونه بقوله: (فصل في بيع الخيار والثنيا) كما ذكره الحطاب في الالتزام المعلق الذي فيه مصلحة للملتزم بكسر الزاي في الوجه الرابع من وجوهه.
__________
(1) كتاب الهداية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الموافية: 266، 267.
(2) ص75، المكتبة التجارية الكبرى بمصر بدون تاريخ.
(3) المدونة: 3/194.
(4) 7/335، 336، مع البيان والتحصيل، طبعة أولى دار الغرب الإسلامي 1404هـ - 1984م.(7/1376)
المسألة الأول - حكم بيع الثنيا:
((الثنيا)) : خيار في الحقيقة إلا أنه شرط فيه النقد، وشرط فيه أنه متى أتاه بالثمن فمبيعه مردود عليه. وهذا المعنى هو الذي خصه الأكثر بالثنيا وإن كان ابن رشد عممه في جميع الشروط المنافية للمقصود.
والبيع بشرط الثنيا في صلب العقد كأن يقول زيد لعمرو: أبيعك أرضي هذه على أني متى جئت بالثمن فهي مردودة علي غير جائز.
وتعليل منعه فيما رواه سحنون عن ابن القاسم أن ذلك غير جائز لأنه بيع وسلف، ونص الأم في بيوع الآجال هو التالي: (قلت) : أرأيت لو أن رجلًا اشترى جارية على أن البائع متى جاء بالثمن فهو أحق بالجارية أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا. (قلت) : لم؟ قال: لأن هذا يصير كأنه بيع وسلف.
وروى أصبغ عن ابن القاسم فيمن باع أرضًا على أنه متى ما جاء بالثمن فهي مردودة عليه أنه بيع فاسد يردان فيه إلى القيمة إن كانت قد فاتت ببناء أو هدم أو غرس قال مالك - رضي الله عنه -: وبيع المشتري إياها يفوتها. قال ابن القاسم: وطول الزمن في ذلك ليس بفوت عندي، وكذلك اختلاف الأسواق.
وقيد أصبغ قول ابن القاسم: بأن لا يطول الزمن مثل عشرة أعوام وشبهها، فإنه لا بد أن تتغير ببعض وجوه البلاد وغيره فأراه فوتًا وإن كانت قائمة ...
وقال سحنون: هو سلف جر منفعة، قال سحنون: فإن وقع البيع على هذه الصفة فهل يكون كالرهن؟ أو كالبيع الفاسد؟
قال:
(أ) إن ضربا لذلك أجلًا فالمنصوص لمالك وأصحابه أنه كالبيع الفاسد، وقال أبو الحسن بن القابسي وأبو القاسم بن الكاتب: يضمن ضمان الرهان ونحوه لابن حبيب وسبب الخلاف هو:
1- الالتفات للبيع ومضمنه أنه لم يأت بالثمن.
2- الالتفات إلى كونها محبوسة في الأجل الثاني.
فمن التفت إلى الأول أجراه مجرى البيع الفاسد، ومن التفت إلى الثاني أجراه مجرى الرهان.
(ب) وإن لم يضربا لذلك أجلًا فحكمه حكم البيع الفاسد.
(ج) نقل كثر من الأشياخ عن أبي الحسن بن القابسي أنه كالرهن من غير تفرقة بين ضرب أجل وعدمه.(7/1377)
ونقل ابن عبد الغفور أن بيع الثنيا إذا وقع في الصفقة مردود أبدًا فات أو لم يفت لأنه حرام وهو باب من أبواب الربا ترد فيه البياعات والصدقات والأحباس فإن وقع إلى أجل كان فيه الكراء لأنه كالرهن وبه كان يفتي ابن وهب. قال يحيى بن يحيى: وإن كان إلى غير أجل كان فيه الكراء أيضًا إذ كأنه قال له: انتفع به حتى أرد عليك مالك وقاله ابن الماجشون والعتبي وفي المجالس (للمكناسي) : إذا لم يقبضه المبتاع وترك عند البائع فهو كالرهن إذا لم يقبض وهو أسوة الغرماء، وإن قبض وأخر فذلك فسخ، وبيع في الحق إن لم يكن معه ما يؤدي منه وهو قول شيوخ الفتيا عندهم.
وذهب كثير من خيار العلماء من أصحاب مالك وغيرهم أن بيع الثنيا إذا وقع إلى أجل فلا كراء فيه.
وقول مالك: أنه لا كراء فيه كان لأجل أو غير أجل لأنه بيع فاسد ((عندهما)) (1)
وقول ابن عاصم: (والخرج بالضمان للمبتاع) ظاهره ضرب لذلك أجل أم لا؟ لا يرد إلى المشتري الغلة التي حدثت عنده، ولا كراء عليه في مقابل الانتفاع بالمبيع لأنه بيع فاسد ينتقل ضمانه بالقبض ومن عليه الضمان فله الغلة. لكن إذا اشترى حائطًا مشجرًا نخيلًا مثلًا وفيه ثمار مأبورة يوم الشراء فإنها ليست بغلة لأن لها حصة من الثمن فيلزم ردها مع المبيع إن كانت قائمة ورد مثلها أو قيمتها إن جهلت أو جذت رطبًا.
ومحل فوز المشتري بالثمرة يحصل بالزهو وهو ظهور الحمرة والصفرة في النخل وإن ظهر ذلك في نخلة واحدة من نخل كثير على المقرر في مذهب إمام دار الهجرة في ظفر المبتاع بالغلة في البيع الفاسد. وإذا طاب فمن باب أولى وأحرى.
وهذا الذي ذهب إليه ابن عاصم هو قول مالك وابن القاسم وعليه أكثر المالكية وهو الذي عليه القضاء في عصره كما ذكر ذلك المتيطي من فقهاء المالكية في عصر ابن عاصم.
__________
(1) راجع الفائق في معرفة الأحكام والوثائق، لابن راشد القفصي: 2/171، وهما من نسخة مصورة على نسخة الصادقية من مكاتب جامع الزيتونة ضمت مخطوطاتها إلى دار الكتب الوطنية. وعرض ابن عاصم في رجزه الموسوم بتحفة الحكام إلى بيع الثنيا وحكمه على القول الذي جرى به العمل في عصره فقال: والبيع بالثنيا لفسخ داع والخرج بالضمان للمبتاع ولا كراء فيه هبه لأجل أولا وذا به جرى العمل والشرح للثنيا رجوع ملك من باع إليه عند إحضار الثمن(7/1378)
ومقابله أنه رهن لأنه سلف بمنفعة فالغلة للبائع لا للمشتري، نقله زروق وهو المشهور وعلله عبد الباقي بأنه ظاهر مما حصل بين البائع والمشتري من الاتفاق على رد المشتري المبيع للبائع كما علل أيضًا بأن الغلة ثمن للسلف وذلك محظور.
وجاء في وثائق ابن مغيث عن القابسي: التفرقة بين حكم ما قبل انقضاء أجل الثنيا، وبين حكم ما بعد أجل الثنيا فالحكم في الصورة الأولى أي ما قبل انقضاء أجل الثنيا حكم البيع الصحيح الغلة فيه للبائع إذ هو كالرهن. وفي الصورة الثانية أي ما بعد انقضاء أجل الثنيا بيع فاسد الغلة فيه للمشتري.
إذا تقرر هذا فحري بنا أن نقيد ما جرى من خلاف في هذه المسألة بعدم جريان عرف في شعب من الشعوب بالرهنية لأن البيع في هذه الحالة يقع بأقل من الثمن المتعارف عليه فيباع العقار الذي ثمنه مائة ألف دينار بخمسين ألف دينار أو سبعين ألف دينار ولا يختلفون في كون العقدة رهنًا ولو سموها بيعًا فأنت إذا سألت البائع عن عقاره قال: إنه مرهون ويطلب زيادة الثمن ويعرضه للبيع وهو بيد المشتري بيع ثنيا وإذا سئل المشتري عن العقار المباع قال: إنه مرهون عندي أو هو عندي بيع ثنيا فبيع الثنيا عندهم مرادف للرهن يطلق كل منهما مكان الآخر وفي الرهن الحكم برد الغلة للراهن وعدم الفوات باتفاق وذلك كما أسلفته في التمهيد لهذا البحث من أن قاعدة الشريعة أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والاعتبارات كما هي معتبرة في التصرفات والعبادات، وكما قال الشهاب القرافي: إن حمل الناس على أعرافهم ومقاصدهم واجب والحكم عليهم بخلاف ذلك من الزيغ والجور ولهذا لما سئل عيسى السجستاني حسبما جاء في نوازله عن بيع الثنيا في هذا الزمان هل يفوت بأنواع التفويت لأنه فاسد وكيف إذا جهل قصد المفوت.(7/1379)
فقال الذي أفتي به في بياعات نواحي سوس وجبال درن أنها رهون لأنهم يعتقدون أنها على ملك بائعها ويطلبون فيها زيادة الأثمان والمبيع بيد مشتريه وإذا كان هكذا فلا يفوت بشيء بل هي على ملك الأول إلا أن يرضى بإمضاء البيع فيها والسلام. اهـ. بلفظه.
وبعد أن أورد التسولي هذه الفتيا عقب عليها بقوله: ولا يخفى أنها في نواحي فاس وجبالها كذلك ولا يشك منصف فيه والله أعلم (1) .
هذا قيد أول قيد به الخلاف، وهناك قيد ثان وهو أن الغلة إنما تكون للمشتري على القول بأنه بيع فاسد إذا قبض ملك المبيع لأن الضمان إنما ينتقل للمشتري في البيع الفاسد بالقبض. قال خليل: (وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض ورد ولا غلة) (2) .
وأما إذا لم يقبضه المشتري كما إذا اشترى منه حائطه بالثنيا وتركه بيده مساقاة أو إجارة أو ما شاكل ذلك لتكون له غلته فلا غلة للمشتري قولًا واحدًا وذلك لعدم انتقال ضمانه إليه وسواء اشتراه المشتري بثمنه المتعارف أو بأقل من ذلك بقليل أو كثير ولو قبضه المشتري ورده البائع بمساقاة ونحوها لم تكن للمشتري الغلة لأن ما خرج من اليد وعاد إليها لغو كما هو مبحوث في بيوع الآجال.
هذا ولا بد من ملاحظة أنه على القول بأنه بيع فاسد إذا وقع أن أمضاه البائع للمشتري قبل فسخه فلا يصح لأنه بناء على فاسد والمبني على الفاسد فاسد ولعل ما ساقه الونشريسي في المعيار من فتوى لأبي الحسن الصغير شارح المدونة ترينا تطبيق ما ذكرت بوضوح حيث قال: وسئل عن إخوة باعوا فدادين لهم بيع ثنيا واشترطوا إن لم يأتوا بالثمن إلى أجل ذكروه فالبيع ماض ثم بعد ذلك مات أحدهم وترك ابنًا وبنتًا فلما مضى الأجل أمضى الأخوان الحيان البيع في المبيع للمشتري وتمموه له من غير أن يفسخ العقد الأول الفاسد ولا عرضوا له، ثم غرس المشتري المذكور فدانًا واحدًا من الفدادين وبقي في يده عشرين سنة وقام الابن والبنت ولدا الميت بعد العقدة الفاسدة الأولى وقبل عقدة الإمضاء الثاني فطلبوا حصتهم فما الحكم؟
__________
(1) البهجة في شرح التحفة: 2/61، الطبعة الثانية شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1370هـ - 1951م.
(2) المختصر مع شرح عبد السميع الأبي: 2/27، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.(7/1380)
فأجاب: لا شك في فساد الأول لأنه مثل غلق الرهن وأما الإمضاء الثاني فلا يصح أيضًا لأن المنصوص في كل موضع أن البيع الفاسد لا يصح إمضاء البيع فيه إلا بعد فسخ العقدة الفاسدة وإذا فسد هذا الآخر بقي على الفساد إلى الآن إلا أنه ما غرس منه يفوت على الأخوين اللذين أمضيا وعلى ورثة الأخ الميت لأنه عقد العقدة الفاسدة وهو حي وإذا فات نظرت فإن كان وجه الصفقة المغروس أو وجه الصفقة الذي لم يغرس، أو تساويا فعلى عاقده ما إذا انفسخ البيع، وفات بعض المبيع، وحكم اللذين أمضيا حكم اللذين لم يمضيا لاشتراك جميعهم في العقد الفاسد الأول حين عقده مورثهم (1) .
المسألة الثانية - التطوع بالثنيا بعد العقد:
وتنحل هذه المسألة إلى نقاط:
(أ) جواز التطوع بالثنيا بعد العقد: ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذا التطوع محدودًا بأجل، أو غير محدود بأجل، ومثال التطوع بالثنيا غير المحدود بأجل كقول المشتري بعد انبرام العقدة وتمامها: متى جئتني بثمن ما اشتريته رددته عليك، أو كقول البائع للمشتري بعد انبرام العقد: متى جئتك بثمن ما اشتريته منك رددت علي مبيعي فوافق على ذلك، ومثل التطوع بالثنيا إلى أجل محدود كقول المشتري للبائع بعد انبرام العقد وتمامه: متى جئتني بالثمن لسنة أو لعشرين سنة مثلًا فمبيعك مردود عليك.
__________
(1) 6/111، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1401هـ - 1981م.(7/1381)
وحكم المطلقة أو غير المحدودة أنه متى جاء بالثمن يجب على المشتري أن يرد المبيع إلى البائع كما يجوز للمشتري أن يفوت في المبيع ببيع أو غيره كالهبة ولا مقال للبائع ما لم يفوته على الفور مما يوحي بأنه ندم على معروفه وأراد قطع ما أوجبه على نفسه من معروف، والمعروف عند إمام دار السنة واجب على من أوجبه على نفسه.
وإذا قام عليه البائع حين أراد التفويت في المبيع لدى القضاء وأحضر الثمن فإن باع المشتري المبيع بعد ذلك فإن صدر عليه حكم بالمنع من البيع قبل التفويت رد بنيته وإن باعه قبل صدور الحكم عليه بذلك نفذ البيع.
وأما حكم المقيدة أو المحدودة بأجل فإنه لا يجوز للمشتري التفويت في المبيع، فإن فوت فيه ببيع أو هبة رد وجوبًا واشترط الباجي في المقيدة بأن لا يبعد أجلها بنحو العشرين سنة، فإن بعد بنحو ذلك اتفقت مع المطلقة في فوات المبيع على البائع وعدم رده وإذا جاءه البائع بالثمن في خلال الأجل أو في نهايته أو بعده بيوم ونحوه وجب على المشتري قبول الثمن ورد المبيع، وإذا زاد على ما ذكر وهو اليومان فات المبيع على البائع ولا يقبل منه الثمن.
وإذا أراد البائع القيام بالغبن وقد جاء بالثمن بعد انقضاء الأجل بيوم ونحوه هل تعتبر السنة من يوم البيع؟ أو من يوم انقضاء الأجل؟ والظاهر الثاني لأنه اليوم الذي اكتمل فيه البيع نهائيًا (1) .
بقي التنبيه على أن التطوع بالثنيا بعد انبرام عقد البيع يكتب عند الموثقين في العصور المتأخرة في عقد البيع على انفراد وواضح الاستقلالية قال ابن مغيث: لأنه أبعد من المظنة وإن وقع ذلك في عقد الابتياع أي قبل تقييد الإشهاد وبعد وصف البيع بانه لا شرط فيه ولا ثنيا ولا خيار جاز ذلك لكن الأفضل كتابته في عقد مستقل وإلى كل ما سبق أشار العلامة القاضي ابن عاصم في تحفة الحكام بقوله:
وجاز إن وقع بعد العقد
طوعًا بحد وبغير حد
وحيثما شرط على الطوع جعل
فالأحسن الكتب بعقد مستقل
__________
(1) البهجة في شرح التحفة: 2/63.(7/1382)
المسألة الثالثة - التنازع في عقد الثنيا:
إذا اختلف المتبايعان بالثنيا في العقد المنبرم بينهما فقال أحدهما: وقعت على الطوع بعد تمام العقد وانبرامه وقال الآخر: بل وقعت شرطًا في أصل العقد ولولا وقوعها شرطًا في أصل العقد ما وقع البيع، وإنما كتبت طوعًا خوفًا من الفساد فالقول قول من؟
نقل ابن عرفة عن ابن فتحون: إذا ادعى أحدهما في الثنيا المنعقدة بالطوع أنها كانت شرطًا في العقد حلف الآخر على نفسه لما عرف بين الناس من العقد في الظاهر بخلاف الباطن، ولا يسقط حلفه إلا ببينة حضرت ابتياعه.
وعقب نقادة المذهب ابن عرفة على قول ابن فتحون: (ولا يسقط حلفه ... ) إلخ أن مجرد ذكره في وثيقة البيع لا يسقط هذه اليمين، وظاهر قول المتيطي أن ذكره في الوثيقة يسقطها والصواب الأول (1) .
كما نقل ذلك قاضي الجماعة بتونس في عهد الدولة الحفصية ابن عبد الرفيع في ((معين الحكام)) ، وعن ابن سلمون: فإن ادعى أحدهما أن ذلك كان شرطًا في نفس البيع والآخر أنه كان طوعًا ففي وثائق ابن العطار: القول قول مدعي الطوع مع يمينه، وقيل لا يمين عليه مع البينة التي قامت له بالطوع، وقال سحنون: إن كان متهمًا بمثل هذا فعليه اليمين وإلا فلا، وفي كتاب الاستغناء قال المشاور: ومن ادعى منهما أن ذلك كان شرطًا في نفس الصفقة حلف وفسخ البيع لما جرى من عرف الناس وبذلك الفتوى عندنا (2) .
وقد درج ابن عاصم على أن القول قول مدعي الطوع بعد تمام العقد تبعًا لغيره فقال:
والقول قول مدع للطوع
لا مدعي الشرط بنفس البيع
ولم يجر عليه عمل والذي جرى عليه العمل أن القول لمدعي الشرطية لضعف الوازع الديني وغلبة الفساد في العقود وقد اعترض ابن ناظم تحفة الحكام على والده قائلًا: إن ابن العطار وقف مع قولهم أن القول لمدعي الصحة دون ما قيد من قولهم: إلا حيث يغلب الفساد يريد: وهذه المسألة مما يغلب فيها الفساد فيجب أن يكون القول فيها لمدعيه كما قال ابن الفخار، ومما يدعمه ما قاله ابن فرحون في تبصرة الحكام إذا اختلف المتبايعان في صحة العقد وفساده فالقول لمدعي الصحة إلا أن يكون جل أهل ذلك البلد أن معاملتهم على المكروه والحرام فالقول قول مدعي ذلك مع يمينه لأن استفاضة ذلك وشهرته في البلد صار كالبينة القاطعة والشهادة التامة وعلى مدعي الحلال البينة وهو قول خليل: (والقول لمدعي الصحة إلا أن يغلب الفساد) .
__________
(1) انظر: المختصر الفقهي، لابن عرفة: 2/155، ط 156؛ ومخ دار الكتب الوطنية مخ بدار الكتب الوطنية، بتونس تحت عدد 1247.
(2) العقد المنظم للحكام: 1/196، بهامش كتاب تبصرة الحكام.(7/1383)
واستظهر التسولي أن الخلاف في هذه المسألة جار ولو نص في عقد البيع أن البيع وقع بلا شرط ولا ثنيا ولا خيار ودعم استظهاره بما جاء في نوازل البرزلي ونقله عنه العلمي (1) حيث قال:
وهو كذلك في البرزلي ونقله عنه العلمي.
ولعله يعني قوله: (وفي أحكام ابن سهل من مسائل ابن زرب: من ابتاع شيئًا وذكر في عقد ابتياعه أنه طاع البائع إن أتاه بالثمن إلى عام أو مدة ذكرها فالبيع عليه رد فانقضت المدة ولم يأت البائع بالثمن فأراد المبتاع تملك ذلك وقطع ما التزمه البائع إن لم يأته بالثمن للمدة، فقال له البائع إنما كان رهنًا، وعقدناه ثنيا تحيلًا لإسقاط الحيازة التي لا يتم الرهن إلا بها أن اليمين على المبتاع أن ابتياعه كان صحيحًا وأنه طاع بالثنيا بعد العقد فإن نكل عن اليمين حلف البائع وأدى إليه الثمن ورجع فيما باعه. قال: ومثل ذلك الذي يبتاع المال الموضف ويعقد فالوضيف تبرأ ويذكر فيه أنه تبرأ إليه بعد انعقاد صفقة التبايع متى ادعى أحدهما أنهما علما بالوضيف قبل البيع ويدعو إلى يمين صاحبه فإن اليمين واجبة في هذا وإن قامت بينة على ما شهدا به على أنفسهما من التبري بعد العقد، قال: وإنما وجبت اليمين في المسألتين للعرف أنهم يتحيلون في الارتهان بالثنيا ومعرفة المبتاع بأنه لا يبتاع ملكًا حتى يعرف ما عليه من الوضيف قيل له: فهل ترى لموثق يطلع على معرفتهما قبل انعقاد البيع أن يعقد لهما عقد التبايع والتبري قال: لا) (2) .
وبعد تقرير ما ذكر فلا معول على ما جاء في المتيطية أن وثيقة بيع الثنيا إذا تضمنت عبارة: ((دون شرط ولا ثنيا ولا خيار)) بالاتفاق على أن القول قول مدعي الطوع وذلك لأن الخلاف موجود فقد ذكر الونشريسي في المعيار أن ابن رشد الجد سئل عما يكتب من الشروط على الطوع والعادة الجارية بين الناس تستلزم الشرطية فأجاب إذا اقتضى العرف الشرطية فالعمل عمل العرف ولا نظر للمكتوب لأن الموثقين يتساهلون فيه وهو خطأ ممن فعله، وأجاب ابن الحاج بأن العمل على ما في الوثيقة، وعلى فتوى ابن رشد في هذه المسألة عول الزقاق في اللامية فقال:
وشرط نكاح إن نزاع بطوعه
جرى مطلقًا فاعمل على الشرط واعدل
__________
(1) البهجة في شرح التحفة: 2/66.
(2) نوازل البرزلي: 2/10 وجهًا، مخ مكتبة جامعة الزيتونة.(7/1384)
ونقل التسولي عن المجاصي في نوازله أنه سئل في هذه المسألة فأجاب: قد تكرر جواب بعد جواب غير ما مرة ولا أدري ما هذا ورأيي فيها تابع لرأي بعض شيوخنا رحمهم الله وأنه متى ثبت رسم الإقالة ولو بصورة التطوع فهو محمول على أنه شرط في نفس العقد، وقول المتيطي: ما لم يقل: ولا ثنيا ولا خيار ... إلخ ذلك عرف وقته إذ لا تعرف عامة زماننا الثنيا بل يسمونه بيعًا وإقالة، والشهود يجرون المساطير من غير تحقيق لمعنى ما يكتبون (1) . قال ميارة في شرحه على تحفة ابن عاصم: (وهذه المسألة مما يغلب فيها الفساد مع يمينه ... ومما يدل على الدخول على الفساد كون البيع يقع بأقل من القيمة بكثير مما يتحققه المتبايعان ولولا الدخول على ذلك واعتقاد البائع أن ذلك بيد المشتري كالرهن ما رضي البائع بذلك الثمن ولا بما يقرب منه) . كما نبه هنا إلى أن الموثقين يكتبون الوثيقة على المسطرة الجارية من غير تعرض لفهم بعض فصولها، هذا في الكاتب فما بالك في العامي الذي يشهد عليه على أن العامة عندنا اليوم لا يعرفون معنى الثنيا وإنما يسمون ذلك البيع والإقالة (2) وقد قال أبو محمد صالح وهو الذي في زمنه يمثل به العدل المبرز: إذا كتب الموثق طاع فقد عصى (3) .
وإذا وجب جمل ما يبرم من عقود بيع الثنيا على الرهن جرى في ذلك على أحكام بيوع الرهان من إباحة بيعه بيد المرتهن بشروطه وعدم إضرار السكوت عنه السنين الطويلة مراعاة لحاضر البشر وشيوع الفساد فيه والله لا يحب الفساد لكن لا بد من التنبيه على أن القول لمدعي الشرط والفساد محله إذا لم يشهد في عقد الطوع بالثنيا بإسقاط دعوى الفساد وإلا فلا التفات لدعواه لأنه قد كذبها وكذلك محله أيضًا إذا لم يبعد ما بين التطوع بها وبين البيع كالأربعة الأشهر ونحوها وإلا فينبغي حملها على التطوع حقيقة إذا كان الثمن يساوي قيمة المبيع أو ما يقرب منها.
وجرى الخلاف بين فقهاء المالكية فيمن باع عقارًا أو غيره وطلب من المشتري الإقالة فأبدى له المشتري خوفه من بيعه لغيره عندما يقيله، فقال له البائع الطالب للإقالة: إن بعته غيرك فهو لك بالثمن الأول أو بالثمن الذي يساويه عند بيعه فأقاله المشتري على هذا الشرط، فباعها المقال فأراد المقيل فسخ هذا البيع والأخذ بشرطه فهل له ذلك؟.
__________
(1) البهجة في شرح التحفة: 2/67.
(2) الإتقان والأحكام في شرح تحفة الحكام، دار الفكر بيروت.
(3) التاودي: حلي المعاصم لبنت فكر ابن عاصم: 2/66، بهامش شرح البهجة.(7/1385)
سئل الإمام المازري عن هذه المسألة فأجاب: اختلف المذهب في المشتري إذا أقال البائع من أرضه، واشترط عليه في الإقالة أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن الأول هل للمشتري شرطه متى وقع. أو لا يكون له شرط، والإقالة فاسدة والبيع فوت لها؟.
ففي العتبية: إثبات الشرط للمقيل عند حدوث البيع في الإقالة لأنها معروف، والمشهور من المذهب فسادها لما في ذلك من التحجير، وهي بيع من البيوع، فإن نزلت فسخت الإقالة، وإن طال ذلك وفاتت الأرض بالبيع مضى البيع وفاتت الإقالة به لأنه صحيح (1) .
وقرر التسولي المسألة على الوجه التالي: إن باع عقب الإقالة أو بالقرب منها فالبائع على شرطه، وإن باع بعد طول أو لوجود داع من الدواعي إلى البيع مضى البيع. وبتقرير المسألة على هذا الوجه احتج خليل في شرحه على جامع الأمهات الموسوم بالتوضيح على أن المرأة إذا وضعت شيئًا من صداقها خوف طلاقها فإن طلقها بالقرب رجعت بما وضعت وإلا فلا كمن باع عقب الإقالة ... إلخ ومثل قول خليل لابن عبد السلام، والمتعارف أنه لا يقع الاحتجاج بالمختلف فيه فكأن خليلًا وابن عبد السلام نزلا القول بالمنع وهو الذي شهره الإمام المازري - منزلة العدم ولو كان مشهورًا ما صح لهما الاحتجاج.
والقول الذي نقله المازري عن العتبية ولم يشهره هو الذي في سماع محمد بن خالد ومثله لسحنون في سماعه عن ابن القاسم أيضًا، وأنه قول مالك في سماع أشهب وابن القاسم أيضًا مستدلًّا على جواز الإقالة المذكورة بمسألة الوضيعة للطلاق، وصحح استدلاله ابن رشد، ومجموع ما ذكرته يدل على رجحانيته ولذلك اقتصر عليه ابن عاصم في تحفة الحكام في مسائل التداعي والأحكام (2) . في باب الإقالة فقال:
ومشتر أقال مهما اشترطا
أخذ المبيع إن بيع تغبطا
بالثمن الأول فهو جائز
والمشتري به المبيع جائز
(3)
كما اقتصر عليه غير واحد من الموثقين ولا يخفى أن الاقتصار من طرف الفقهاء الأثبات من أمارات التشهير.
__________
(1) أحمد الونشريسي: المعيار المعرب: 6/102، 103، طبعة دار الغرب الإسلامي، بيروت 1401هـ - 1981م.
(2) تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام: ص92.
(3) متن العاصمية: مطبعة مصطفى محمد صاحب المكتبة التجارية الكبرى بمصر بدون تاريخ: ص93.(7/1386)
المسألة الرابعة - هل يورث بيع الثنيا:
نقل أبو الحسن الصغير في تقييداته على المدونة عن أبي محمد صالح أن الثنيا الجائزة تورث إذا مات البائع المتطوع له بها.
وأما إذا مات المشتري وهو المتطوع بالثنيا فقد جرى في ذلك الخلاف.
1- فقال أبو إبراهيم الورياغلي: يلزم ذلك ورثته.
2- وقال أبو الفضل راشد: لا يلزم ذلك ورثته، واختار هذا القول أبو الحسن الصغير.
واحتج الورياغلي على ما ذهب إليه بما نقله ابن يونس عن الموازية في الذي يقول لجاريته: إن جئتني بألف درهم فأنت حرة فمات أن العتق يلزم ورثته إن جاءتهم بألف.
ورد أبو الحسن الصغير ما احتج به الورياغلي بأنه لا حجة فيه لأن هذه قطاعة وهي من ناحية الكتابة وهي لازمة، وفي المستخرجة للعتبي أن العتق لا يلزمهم كما دعم ما اختاره بما ذكره ابن الهندي فيمن باع سلعة إلى أجل على أن يبقى الدين إلى أجله وإن فلس المطلوب أو مات، فمات المطلوب ثم مات الطالب بعده، أن ورثة الطالب لا يلزمهم التأخير وهو يدل على أن الثنيا لا تلزم ورثة المشتري وقد صرح عجوز المذهب ابن رشد بأن الثنيا إذا كانت على الطوع فهي من المعروف والمعروف يبطل بالموت والفلس (1) .
وهذا كله في الثنيا الجائزة كما ذكرت ذلك في أول هذا المبحث وأما الفاسدة فيفسخ البيع كما تقدم.
وإلى هذه المسألة أشار محمد بن أحمد ميارة الفاسي في بستان فكر المهج في تذييل المنهج بقوله:
إن مات بائع بثنيا انتقلت
لوارث والعكس قالوا بطلت
إذ بائع فيه كموهوب له
ومشتر كواهب ع أصله
وذاك في الطوع بها أما إذا
كانت بشرط الفساد انبذا
__________
(1) الحطاب: تحرير الكلام في مسائل الالتزام، بتصرف: 245، 246.(7/1387)
المبحث الرابع
بيع العهدة عند الشافعية
وهو ما سماه الحنفية بيع الوفاء وسماه المالكية بيع الثنيا ما حكمه عند الشافعية؟
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية نقلًا عن بغية المسترشدين بتصرف ما نصه: بيع العهدة صحيح جائز وتثبت به الحجة شرعًا وعرفًا على قول القائلين به ولم أر من صرح بكراهته وقد جرى عليه العمل في غالب جهات المسلمين من زمن قديم وحكمت بمقتضاه الحكام، وأقره من يقول به من علماء الإسلام مع أنه ليس من مذهب الشافعي وإنما اختاره ولفقه من مذاهب للضرورة الماسة إليه، ومع ذلك فالاختلاف في صحته من أصله وفي التفريع عليه لا يخفى على من له إلمام بالفقه (1) .
ولعل ذلك يرجع إلى ما أسلفت الكلام عليه في التمهيد من أن الشافعي يرى جواز الذرائع في بيوع الآجال ولا يهتم بالنيات والمقاصد.
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية 9/261، نقلًا عن بغية المسترشدين في تلخيص فتاوى بعض الأيمة من العلماء المتأخرين، لعبد الرحمن باعلوي مفتي الديار الحضرمية. وقد رأيت في فهارس مكتبة الأستاذ إمام سيدي محمد الطاهر ابن عاشور - رحمه الله - رسالة منسوبة إلى الحافظ السيوطي في بيع الوفاء ولم أتمكن من الاطلاع عليها لأني رأيتها متأخرًا.(7/1388)
المبحث الخامس
بيع الأمانة عند الحنابلة
المقرر عند الحنابلة منعه قال منصور بن يونس البهوتي في كتابه كشاف القناع عن متن الإقناع: بيع الأمانة وهو الذي مضمونه اتفاق البائع مع المشتري على أنه متى جاءه بالثمن أعاد إليه ما اشتراه منه.
وهو عقد باطل بكل حال إذ المقصود منه إنما هو الربا بإعطاء دراهم إلى أجل، ومنفعة الدار أو نحوها هي الربح فهو في المعنى قرض بعوض.
والواجب رد المبيع إلى البائع، ورد البائع إلى المشتري ما قبضه منه كما يرد المشتري ما قبضه أجرة للدار وإن كان هو الذي سكن فيها حسب عليه أجرة المثل فتحصل المقاصة بقدر أجرة المثل ويرد الفضل (1) .
وسئل العلامة ابن تيمية عن رجل باع زوجته دارًا بيع أمانة بأربعمائة درهم وقد استوفت الدراهم من الأجرة، فهل يجوز لها أخذ شيء آخر وقد أخذت الأربعمائة فهل يحرم عليها؟.
فأجاب: الحمد لله وحده المقصود بهذا وأمثاله أن يعطيه المال ويستغل العقار عن منفعة المال فما دام المال في ذمة الآخذ فإنه يستغل العقار، وإذا رد عليه المال أخذ العقار، وهذا على هذا الوجه لا يجوز باتفاق المسلمين، وإن قصد ذلك وأظهر صورة بيع لم يجز على أصح قولي العلماء أيضًا، ومن صحح ذلك فلا أرى أن يكون بيعه شرعيًّا فإذا شرط أنه إذا جاء بالثمن أعاد إليه العقار كان هذا بيعًا باطلًا، والشرط المتقدم على العقد كالمقارن له في أصح قولي العلماء.
وحينئذ فما حصل للمرأة من الأجرة بعد أن علمت التحريم تحسبه من رأس المال وما قبضته قبل ذلك فهو على الخلاف المذكور.
وإن اصطلحا على ذلك فهو أحسن، وما قبضته بعقد مختلف تعتقد صحته لم يجب عليها رده في أصح القولين (2) .
__________
(1) 3/149، 150، طبعة عالم الكتب، بيروت 1403 هـ - 1983م.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/395، مكتبة المعارف، الرباط المغرب.(7/1389)
المبحث السادس
بيع الرهن عند الإباضية الوهبية هو بيع الوفاء
ذكر الشيخ أطفيش في شرح كتاب النيل وشفاء العليل تجويز بعض الفقهاء بيع مقام الرهن وهبة مقام الرهن كما ذكر أن شيوخ جادو قالوا بهذا القول وأقاموا البيع والهبة مقام الرهن وإنما أقيما مقام الرهن ليكون للشيء المبيع أو الموهوب أجل كالرهن، وإنما جعلوه بيعًا أو هبة لينتفع به المرتهن، ويحتمل أن المراد بهذا البيع هو البيع المسمى عند غيرنا بيع العهدة وبيع الوفاء، وببيع وإقالة، ولهم عهدة ووفاء وبيع وإقالة فلا بناء على دين فيكون على أجله بل بيع مستقل (1) .
محيي الدين قادي
__________
(1) 11/119، طبعة مكتبة الإرشاد، جدة المملكة العربية السعودية 1405هـ - 1985م.(7/1390)
بيع الوفاء
إعداد
د. عبد الله محمد عبد الله
الكويت - محكمة التمييز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على خير الخلق سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.
توطئة:
ظهر بيع الوفاء بصورته المعهودة إثر الكساد والديون التي تراكمت على التجار في بخارى وفي بعض البلاد الأخرى، فأظهروا التعاقدية تحت ضغط الحاجة وفي العصر الحديث مر بثلاثة أدوار تشريعية:
الدور الأول: كان القانون المدني المصري القديم قبل سنة 1923 تنقسم بعض أحكامه فقسمته باعتبار القرض المقصود منه إلى نوعين:
الأول - ما يكون الغرض منه الرهن الحيازي.
الثاني - ما يكون الغرض منه البيع الوفائي.
وتجري في كل نوع أحكامه.
الدور الثاني: عندما استغله المتعاملون بالربا أسوأ استغلال وأخذوا يتقاضون عن طريقه فوائد فاحشة أدخل المشرع بعض التعديل عليه يقضي بأنه متى اتضح أن بيع الوفاء يخفي رهنًا حيازيًّا عقاريًّا فإنه يكون باطلًا ولا ينتج أي أثر سواء باعتباره بيعًا أو باعتباره رهنًا غاية الأمر أنه يصلح سندًا بدين عادي.
أما الدور الثالث: فهو عهد التقنين المدني الجديد الذي نص على منع بيع الوفاء وتحريم التعامل به فقد نصت المادة 465 على أنه إذا احتفظ البائع عند البيع بحق استرداد المبيع خلال مدة معينة وقع البيع وقالت لجنة القانون المدني في تعليل ذلك (إن هذا النوع من البيع لم يعد يستجيب لحاجة جدية في التعامل إنما هو وسيلة ملتوية من وسائل الضمان قيد أستار الرهن وينتهي الرهن إلى تجريد البائع من ملكه بثمن بخس ... إلخ) . وهذا القول فيه إجحاف بالمشتري الذي ترك ماله في ذمة البائع دون توثيق. ولكن اعتباره رهنًا يحقق مصلحة البائع في الاحتفاظ بملكه للمبيع ومنافعه ويحقق مصلحة المشتري يحفظ ما دفعه ثمنًا للبائع باستيفائه عند الأجل من المبيع.
ولهذا أحسنت المجلة صنعًا عندما أخذت بالقول الذي يجعل بيع الوفاء صحيحًا في بعض الأحكام فاسدًا في بعضها الآخر ورهنًا في حق البعض من الأحكام على نحو ما ذكره الأتاسي عند كلامه على المادة 398 من المجلة، التي نصت على أنه إذا شرط في بيع الوفاء أن يكون قدر من منافع المبيع للمشتري صح ذلك) .
ويترتب على هذا القول أنه يملك كل من البائع والمشتري الحق في فسخ البيع باعتبار العقد فاسدًا وحل الريع ومنافع المبيع باعتباره بيعًا صحيحًا وحفظ المبيع لصاحبه فلا يتسطيع المشتري بيعه من آخر ولا رهنه باعتباره رهنًا (1) .
هذا وسنتناول الكلام على هذا العقد حسب الخطة الواردة إليه وبالله التوفيق وهو حسبي عليه توكلت وإليه أنيب.
__________
(1) شرح الأتاسي: 2/421.(7/1391)
بسم الله الرحمن الرحيم
المحور الأول
تعريفه عند الحنفية
عرفته مجلة الأحكام العدلية في المادة 118 بقولها:
بيع الوفاء هو البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع.
قال منير القاضي في شرحه لهذه المادة:
هو أن يبيع شخص عينًا لشخص آخر بثمن معين أو بالدين الذي عليه له بشرط أنه متى رد البائع الثمن على المشتري أو أدى دينه يرد إليه المبيع. ثم قال: ولبيع الوفاء نوع آخر. وهو البيع بالوجه المذكور على أن يستأجر البائع المبيع من المشتري ويسمى هذا النوع البيع بالاستقلال.
وقد عرفت المجلة في المادة 119 هذا النوع بقولها:
بيع الاستغلال هو بيع المال وفاء على أن يستأجره البائع.
قال الأستاذ المحاسني في شرحه للمجلة: وهو بحكم البيع بالوفاء وأخص منه ويجوز إيجار المبيع للبائع ولغيره وهذا البيع مؤلف من البيع الوفائي والاستئجار (1) .
المصطلح المساوي له في المذاهب الأخرى:
أولًا - المالكية: عبَّروا عنه ببيع الثنيا.
قال في تحفة الحكام: والبيع بالثنيا لفسخ داع والخرج بالضمان للمبتاع
والبيع بالثنيا لفسخ داع
والخرج بالضمان للمبتاع
ولا كراء فيه هبه لأجل
أولا وذا الذي به جرى العمل
قال شارحه أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي:
بأن يقول في صلب العقد أبيعك هذه السلعة على شرط أني إن أتيتك بثمنها وقت كذا، أو مهما أتيتك بثمنها فهي مردودة علي (2) .
ثانيًا - الشافعية: أطلق الشافعية على بيع الوفاء بيع العهدة قال صاحب قلائد الخرائد وفرائد الفوائد: بيع العهدة المعروفة بحضرموت وغيرها: وهي أن يتفق المتبايعان أن البائع متى أراد رجوع المبيع له أتى بمثل الثمن المعقود به وفسخ البيع، أو يفسخ عليه رضي المشتري أو لا، وكذا إن اتفقا أنه إن أراد فك البعض فله ذلك (3) .
كما يسمونه أيضًا الرهن المعاد (4) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية رد المحتار: 5/276، جامع الفصولين: 1/234، قلائد الخرائد: 1/317.
(2) البهجة شرح التحفة: 2/60.
(3) قلائد الخرائد وفرائد الفوائد للفقيه عبد الله محمد باقشير الحضرمي: 880 - 958، 1/317، الموسوعة الفقهية: 9/260.
(4) رد المحتار حاشية در المختار: 5/276.(7/1392)
ثالثًا - ويسميه الحنابلة بيع الأمانة: قال في كشاف القناع: بيع الأمانة هو الذي مضمونه اتفاقهما أي اتفاق البائع والمشتري على أن البائع إذا جاء بالثمن أعاد إليه المشتري ملك ذلك ينتفع به أي بالملك المبيع المشتري بالإجارة والسكنى ونحو ذلك كركوب ما يركبه أو حلبه (1) .
وقال في رد المحتار: سماه الشافعية بالرهن المعاد، ويسمى في مصر بيع الأمانة وبالشام بيع الإطاعة (2) .
حكمه:
اختلف الفقهاء في حكم بيع الوفاء اختلافًا كثيرًا حتى بلغت في المذهب الحنفي تسعة أقوال وخلاصة ما ذكر فيه:
أولًا: إن بيع الوفاء بيع باطل وهو رهن حقيقة يأخذ أحكام الرهن، قال في درر الحكام لملا خسرو: قال الشيخ الإمام نجم الدين النسفي في فتاواه: البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا وسموه بيع الوفاء هو في الحقيقة رهن وهذا المبيع في يد المشتري كالرهن في يد المرتهن لا يملكه ولا يطلق له في الانتفاع إلا بإذن مالكه وهو ضامن لما أكل من ثمره واستهلكه من شجره والدين يسقط بهلاكه إذا كان به وفاء بالدين ولا ضمان عليه بالزيادة إذا هلك عن غير صنعه وللبائع استرداده إذا قضى دينه لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام نقل ابن عابدين في حاشيته عن الخيرية: والذي عليه الأكثر أنه رهن لا يفترق عن الرهن في حكم من الأحكام.
قال السيد الإمام: قلت للإمام الحسن الماتريدي: قد فشا هذا البيع بين الناس، وفيه مفسدة عظيمة. وفتواك أنه رهن وأنا أيضًا على ذلك فالصواب أن نجمع الأئمة ونتفق على هذا ونظهره بين الناس. فقال: المعتبر اليوم فتوانا وقد ظهر بين الناس فمن خالفنا فليبرز نفسه وليقم دليله، واستدلوا عليه بأن المتعاقدين وإن سمياه بيعًا لكن غرضهما الرهن والاستيثاق بالدين، فإن البائع يقول لكل أحد بعد هذا العقد: رهنت ملكي لفلان، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان والعبرة في التصرفات للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني فإن أصحابنا قالوا: الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط أن لا يبرأ كفالة والاستصناع الفاسد إذا ضرب فيه الأجل سلم ونظائره كثيرة.
__________
(1) كشاف القناع: 3/149.
(2) 5/276.(7/1393)
قال وكان الإمام السيد أبو شجاع على هذا وهو قول أبي الحسن الماتريدي (1) : وهذا وجه من أطلق عليه بيع الأمانة لأنه أمانة عند المشتري بناء على أنه رهن أي الأمانة (2) .
القول الثاني: أنه بيع فاسد إن شرطا الفسخ في البيع أو تلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء، أو تلفظا بالبيع الجائز وعندهما هذا البيع عبارة عن بيع غير لازم (3) لأن كلا منهما عقد مستقل شرعًا لكل منهما أحكام مستقلة ويوجب الملك إن اتصل به القبض.
القول الثالث: هو بيع جائز صحيح إن ذكرا البيع من غير شرط ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة ويلزم الوفاء بالوعد لأن المواعيد قد تكون لازمة وتجعل لازمة لحاجة الناس (4) .
قال في درر الحكام نقلًا عن مجموع النوازل: اتفق مشايخنا في هذا الزمان على صحته بيعًا على ما كان عليه بعض السلف لأنهما تلفظا بلفظ البيع من غير ذكر شرط فيه والعبرة للملفوظ نصًّا دون المقصود فإن من تزوج امرأة ومن نيته أن يطلقها بعدما جامعها صح العقد وهذا القول لقاضيخان، قال ابن عابدين: والظاهر أنه مبني على قولهما بأن ذكر الشرط الفاسد بعد العقد لا يفسد العقد (5) .
وقال في اللآلئ الدرية في الفوائد الخيرية على جامع الفصولين: أقول: ذكر في الحاوي الزاهدي ما لفظه: فصل: فيما يتعلق ببيع الوفاء الفتوى على أن البيع إذا أطلق ولم يذكر فيه الوفاء إلا أن المشتري وَكِّلَ بعد العقد وكيلًا يَنْسَخَهُ مع البائع عند أداء مثل الثمن فهو بيع بات لا رهن إذا كان البيع بمثل الثمن أو بغبن يسير وإن كان بغبن فاحش فهو رهن، وشرط بعضهم أن يعلم البائع بالغبن وقت البيع، فأما إذا ظن وقت البيع بعشرين أن قيمته عشرون وهو يساوي أربعين فهو بيع بات لأنه إنما نجعل البيع بنقصان فاحش رهنًا بظاهر حاله إنه لا يقصر البيع البات مع علمه بالغبن الفاحش وإذا لم يعلم فظاهر حاله لا ينفي ذلك.
__________
(1) درر الحكام شرح غرر الأحكام لملا خسرو: 2/207، فتاوى الأنقروي، المجلد 1 ص305، 306، الفتاوى الهندية: 3/209، الدر المختار وحاشية رد المحتار: 5/276، جامع الفصولين: 1/234.
(2) رد المحتار: 5/276.
(3) الفتاوى الأنقروية المجلد الأول ص305، 306، درر الحكام: 2/207، 208.
(4) الفتاوى الأنقروية المجلد الأول ص305، 306.
(5) درر الحكام لملا خسرو 2/207، 208، رد المحتار: 5/217.(7/1394)
القول الرابع: نقله الشرنبلالي في حاشيته المسمى غنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام (1) ، ومن الأقوال التسعة قول جامع لبعض المحققين إنه فاسد في بعض الأحكام حتى ملك كل منهما الفسخ وصحيح في حق بعض الأحكام كحل الإنزال ومنافع المبيع ورهن في حق البعض حتى لم يملك المشتري بيعه من آخر ولا رهنه ولا يملك قطع الشجر ولا هدم البناء وسقط الدين بهلاكه وانقسم الثمن إن دخله نقصان كما في الرهن، قال صاحب البحر بعد نقله عن البزازية: وينبغي أن لا يعدل في الإفتاء عن القول الجامع.
قال ابن عابدين في حاشيته: فهو مركب من العقود الثلاثة كالزرافة فيها صفة البعير والبقر والنمر، قال في البحر: ينبغي أن لا يعده في الإفتاء، عن القول الجامع.
والقولان الثالث والرابع عبر عنهما صاحب الرد المختار. وقيل: إن بلفظ البيع لم يكن رضا. قال ابن عابدين في حاشية رد المختار: هذا محتمل لأحد قولين:
الأول: أنه بيع صحيح مفيد لبعض أحكامه من حل الانتفاع به إلا أنه لا يملك بيعه. قال الزيلعي في الإكراه وعليه الفتوى.
الثاني: القول الجامع لبعض المحققين أنه فاسد في حق بعض الأحكام حتى ملك كل منهما الفسخ صحيح في حق بعض الأحكام ... إلخ.
قال في الدرر: وصح بيع الوفاء في العقار استحسانًا للتعامل، واختلف في المنقول قيل: يصح لعموم الحاجة، وقيل: لا يصح لخصوص التعامل (2) .
نكتفي بهذا القدر من أقوال أئمة الحنفية في هذا البيع، ونوجز القول في موقف المذاهب الأخرى من هذا العقد.
__________
(1) 2/207 هامش رد المحتار: 5/277.
(2) حاشية رد المحتار: 5/277، درر الأحكام شرح غرر الأحكام: 2/208، الموسوعة الفقهية: 9/260.(7/1395)
أولًا - مذهب المالكية:
قالوا في أحد القولين أنه بيع فاسد يفسخ ولو أسقط الشرط على المذهب ما لم يفت فيمضي بالقيمة، قال: ويفهم من قول الناظم (والخرج بالضمان) إن الغلة إنما تكون للمشتري على القول بأنها بيع فاسد إذا قبض ذلك المبيع، لأن الضمان إنما ينتقل للمشتري في الفاسد بالقبض، وأما إذا لم يقبض المشتري ذلك المبيع بل تركه بيد البائع بإيجاره أو اشترى منه البستان ونحوه بالثنيا وتركه بيده بمساقاة ونحوها ليأتيه بغلة، فإنه لا غلة للمشتري قولًا واحدًا لأنه لم ينتقل ضمانه إليه وسواء كان الشراء بالثمن المعتاد أو بأقل بكثير أو قليل بدليل التعليل بل لو قبضه ثم رده إليه عقد إجارة أو مساقاة ونحوها لم تكن له غلة لأن ما خرج من اليد وعاد إليها لغو كما هو مقرر في بيوع الآجال.
ويترتب على القول بأنه بيع فاسد إذا وقع الإمضاء قبل فسخ العقد الفاسد فإنه لا يصح لأنه تتميم للفساد.
قال أبو الحسن: المنصوص في كل موضع أن البيع الفاسد لا يصح إمضاء البيع فيه بعد فسخ العقدة الفاسدة وإذا لم يتعرض لفسخها فسخت الثانية وبقيت الأولى على فسادها (1) .
القول الثاني: إنه رهن قاله الشيخ أحمد زروق وهو المشهور قال عبد الباقي: وهو ظاهر من جهة المعنى وهو توافقه مع المشتري على أن يرد له المبيع (2) .
ونقل عن وثائق ابن مغيث عن القابسي: أن حكمه قبل انقضاء أجل الثنيا حكم البيع الصحيح فالغلة فيه للبائع لأنه بمنزلة الرهن، وهو بعد انقضاء الأجل بمنزلة البيوع الفاسدة، أي: فالغلة فيه للمشتري.
ثم نبه على أنه يجب أن يقيد الخلاف المذكور بما إذا لم يجر العرف بالرهنية كما عندنا اليوم ولذا يقع بأقل من الثمن المعتاد بكثير ويسمونه بيعًا وإقالة، فيبيع الرجل بالإقالة ما يساوي الألف بخمسمائة أو ما يساوي المائة بستين أو بثلاثين ونحو ذلك فلا يختلفون أنها رهن حيث اشترطت الإقالة في العقد إذا لم يسمح البائع بسلعته إلا على ذلك، وتجد البائع إذا سئل عن سلعته أو أرضه يقول: إنها مرهونة ويطلب زيادة الثمن فيها ويعرضها للبيع وهي بيد مشتريها، وإذا سئل المشتري عنها أيضًا قال: إنها مرهونة عندي أو عندي فيها بيع وإقالة وإن البائع لم يكمل البيع فيها ونحو ذلك فالبيع والإقالة عندهم مرادف للرهن يعبر بأحدهما عن الآخر.
مفرق الناس اليوم ومقصودهم في هذا البيع إنما هو الرهنية كما هو مشاهد بالعيان وإذا كان العرف فيها الرهنية فيتفق على رد الغلة وعدم الفوات لأن الأحكام تدور مع الأعراف ومقاصد الناس، ومن أدل دليل الرهنية كونه بأقل من الثمن المعتاد بكثير إلى غير ذلك. وقد قالوا: كما للقرافي وغيره إن حمل الناس على أعرافهم ومقاصدهم واجب والحكم عليهم بخلاف ذلك من الزيغ الجور (3) .
__________
(1) البهجة شرح التحفة: 2/61، 62.
(2) البهجة شرح التحفة: 2/60، 61.
(3) البهجة شرح التحفة: 2/61.(7/1396)
ثانيًا - مذهب الشافعية:
قال صاحب قلائد الخرائد: بيع العهدة المعروفة بحضرموت وغيرها، وهي أن يتفق المتبايعان أن البائع متى أراد رجوع المبيع له أتى بمثل المعقود به وفسخ البيع، أو يفسخ عليه، رضي المشتري أو لا، وكذا إن اتفقا أنه إن أراد فك البعض فله ذلك كما صرح به بعض الفقهاء، وهو فاسد إن وقع الشرط في نفس العقد أو بعده في زمن الخيار.
فإن وقع قبل العقد بالمواطأة، ثم عقدا مضمرين ذلك فهو وعد لا يلزم على مذهب الشافعي رحمه الله، ولكن رأى جماعة من أهل العلم تنفيذه بناء على وجوب الوفاء بالوعد، كما هو مذهب مالك وغيره، وأقاموا ذلك مقام الحقوق اللازمة حتى ينوب الحاكم في الفسخ أو قبوله حيث غاب المشتري أو امتنع فلو شرطا أنه لا يفك إلا بعد سنتين أو أقل أو أكثر: فلم أر من ذكرها، غير أن من المعلوم أن الوعد يكون مطلقًا ومقيدًا بشرط أو بزمن. وعلى ذلك عمل أهل الجهة من غير نكير أعني أنه إذا شرط أنه لا يفك المعهد إلا بعد مدة معينة اعتبر نصبها للزوم الفكاك.
ومثل ذلك لو شرط أن لا يفك إلا بعد أن يستغل المتعهد طريقًا أو موسمًا في الزرع أو أكثر (1) .
وقال صاحب بغية المسترشدين: لم أر من صرح بكراهة بيع العهدة المعروف بين الناس فإن نَصَّ أحد على الكراهة فلا يبعد أن يكون وجهها إما إخلاف الوعد إن عزم عليه لأنه مكروه أو الاستظهار على المشتري لغير ما عللوه به كراهة بيع العهدة.
ثم قال: بيع العهدة المعروف صحيح جائز وتثبت به الحجة شرعًا وعزمًا على قول القائلين به، وقد جرى عليه العمل في غالب جهات المسلمين من زمن قديم وحكمت بمقتضاه الحُكَّام وأقره من يقول به من علماء الإسلام مع أنه ليس من مذهب الشافعي وإنما اختاره من اختاره ولفق من مذاهب للضرورة الماسة إليه ومع ذلك فالاختلاف في صحته من أصله وفي التفريع عليه لا يخفى على من له إلمام باللفق.
ثم قال: وصورته أن يتفق المتبايعان على أن البائع متى أراد رجوع المبيع إليه أتى بمثل الثَّمن المعقود عليه، وله أن يقيد الرجوع بمدة فليس له الفك إلا بعد مضيها ثم بعد المواطأة يعقدان عقدًا صحيحًا بلا شرط إذ لو وقع شرط العهدة المذكور في صلب العقد أو بعده في زمن الخيار أفسده، فليتنبه لذلك فإنه مما يغفل عنه (2) .
قال في نهاية المحتاج: والحاصل من كلامهم: إن كل شرط مناف لمقتضى العقد إنما يبطله إذا وقع في صلبه أو بعده قبل لزومه من خلاف ما لو تقدم عليه ولو في مجلسه (3) .
__________
(1) قلائد الخرائد وفرائد الفوائد: 2/317، 318.
(2) بغية المسترشدين: ص133، الموسوعة الفقهية: 9/261.
(3) نهاية المحتاج: 3/434، 435.(7/1397)
ثالثًا - مذهب الحنابلة:
جاء في كشاف القناع: بيع الأمانة هو الذي مضمونه اتفاقهما أي البائع والمشتري على أن البائع إن جاء بالثمن أعاد المشترى إليه ملكه ذلك ينتفع أي بالملك المبيع المشتري بالإجارة والسكنى ونحو ذلك كركوب ما يركبه أو حلبه وهو أي البيع عقد باطل بكل حادث. ومقصودهما إنما هو الربا بإعطاء دراهم إلى أجل ومنفعة الدار ونحوها هي الريع فهو في المعنى قرض بعوض. والواجب رد المبيع إلى البائع وأن يرد البائع إلى المشتري ما قبضه منه لكن يحسب للبائع في ما قبضه المشتري من المال الذي سموه أجرة وإن كان المشتري هو الذي سكن حسب عليه أجرة المثل فتحصل المقاصة بقدره (1) .
الأصل المستند إليه في التحليل أو المنع:
ذكر الأستاذ المحاسني في شرحه على المجلة: إن بيع الوفاء حدث اعتباره والقول به بين العصر الخامس والسادس في ديار بخارى، وقد جوز للاحتياج في تلك الديار التي تراكمت فيها الديون على أصحاب العقارات بدرجة كادت تذهب بها، وقد تعامل عليه أهل اليمن وسموه بيع الرجاء وكذلك أهل طرابلس الغرب وسمونه بيع الوعدة (2) .
وقال ابن عابدين: جوز لحاجة الناس إليه بشرط سلامة البدلين لصاحبهما كما علل آخرون الجواز بأنه من قبيل المواعدة وأنه يلزم الوفاء بالوعد (3) .
هذه وجهة من قال بالتحليل أما من قال بالمنع قال في البهجة واختلف في علة الفساد فعلله في بيوع الآجال منها بالبيع والسلف أبو الحسن معناه تارة يكون بيعًا وتارة يكون سلفًا أي لأنه خيار بشرط النقد، وجعلا مدته أكثر من مدة الخيار إن حداه بأجل أو لمدة مجهولة إن لم يحداه.
وعلله سحنون وابن الماجشون وغيرهما بأنه سلف جر نفعًا وبه عللت المدونة بنصها المنقول عند قوله (والثنيا) (4) .
ثم قال فهو بيع فاسد يفسخ ولو أسقط الشرط على المذهب ... وعلى الثاني فهو رهن يفسخ أبدًا ولا يفوت بشيء بهدم ولا غيره ويرد المشتري فيه الغلة ولو طال الزمان (5) . وقال في فتاويه الأنقروية: وذكر في فتاوى مشايخ سمرقند أن بيع الوفاء فاسد وأنه بيع بشرط (6) . قال والصحيح أن العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا ثم ينظر إن ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع، وإن لم يذكرا ذلك في البيع وتلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء أو تلفظا بالبيع الجائز وعندهما هذا البيع عبارة عن بيع غير لازم فكذلك (7) ونحوه في الفتاوى الهندية وكذلك علل الشافعية من قال بفساده. قال في بغية المسترشدين: إذ لو وقع شرط العهدة المذكور في صلب العقد أو بعده في زمن الخيار أفسده فليتنبه لذلك (8) .
__________
(1) كشاف القناع: 3/149، 150.
(2) شرح المحاسني على المجلة: ص333.
(3) حاشية رد المحتار: 5/276، الفتاوى الهندية: 3/209، قلائد الخرائد: 1/317.
(4) البهجة شرح التحفة: 2/60، 61.
(5) البهجة شرح التحفة: 2/60، 61.
(6) فتاوى الأنقروية، المجلد الأول ص305.
(7) الفتاوى الهندية: 3/209.
(8) بغية المسترشدين: ص133.(7/1398)
وعلل الحنابلة المنع بقولهم هو عقد باطل بكل حال ومقصودهما: إنما هو الربا بإعطاء دراهم إلى أجل ومنفعة الدار أو نحوها هي الربح فهو في المعنى قرض بعوض (1) .
قال ابن رشد: وأما من قال له البائع: متى جئتك بالثمن رددت عَلَيَّ المبيع فإنه لا يجوز عند مالك لأنه يكون مترددًا بين البيع والسلف. إن جاء بالثمن كان سلفًا، وإن لم يجئ كان بيعًا.
واختلف في المذهب، هل يجوز ذلك في الإقالة أم لا؟ فمن رأى أن الإقالة بيع فسخها عندما يفسخ سائر البيوع، ومن رأى أنها فسخ فرق بينهما وبين البيوع.
واختلف أيضًا فيمن باع شيئًا بشرط أن لا يبيعه حتى ينتصف من الثمن فقيل عن مالك، يجوز ذلك، لأن حكمه حكم الرهن ولا فرق في ذلك بين أن يكون الرهن هو المبيع أو غيره.
وقيل عن ابن القاسم لا يجوز ذلك لأنه شرط يمنع المبتاع التصرف في المبيع المدة البعيدة التي لا يجوز للبائع اشتراط المنفعة فيها فوجب أن يمنح صحة البيع، ولذلك قال ابن المواز: إنه جائز في الأمد القصير (2) .
(أثر فوت المبيع ما يعتبر فوتًا وما لا يعتبر) :
فوات المبيع قد يكون بهلاكه أو بعضه أو بالتصرف فيه:
فإن كان الفوات بسبب الهلاك:
فقد نصت مجلة الأحكام العدلية في المادة 399 على أنه إذا كانت قيمة المال المبيع بالوفاء مساوية للدين وهلك المال في يد المشتري سقط الدين في مقابلته.
قال شارحه علي حيدر: يعني إذا هلك المال في يد المشتري أو أتلفه سقط من الدين بقدر قيمة المال الهالك أو المتلف.
__________
(1) كشاف القناع: 3/149، 150.
(2) بداية المجتهد: 2/160.(7/1399)
فإن لم يتلف المال بل طرأ عليه عيب أوجب نقصان قيمته قسمت قيمة الباقي منه على قيمة ما هلك منه، فيسقط الدين الذي يصيب الحصة التي تلفت ويبقى ما يلحق الحصة الباقية منه.
مثلًا - إذا اشترى إنسان دارًا قيمتها ألف قرش بمئة قرش وفاء وتسلمها فطرأ عليها خراب أنزل قيمتها إلى خمسمائة قرش فيسقط من ذلك الدين خمسون قرشًا.
قال: وقد قيدت القيمة في هذه المادة وفي المادتين الآتيتين بالقيمة يوم القبض، لأن سبب الضمان هو القبض فيجب أن تعتبر القيمة وقت القبض (1) .
وقال الأتاسي في شرحه عند كلامه على المادة 399 هذه المادة وما بعدها إلى آخر الفصل مفرعة على كون المبيع وفاء له حكم الرهن. لكنه ذكر أن بيع الوفاء يخالف الرهن في الأحكام التالية:
1 - القبض شرط جواز الرهن في الأصح حتى لا يصح الارتهان ولا يترتب عليه حكم بمجرد الإيجاب والقبول، كما في الأنقروية وغيرها. بخلاف بيع الوفاء فإنه لا يشترط لجوازه قبض المبيع، حتى صَحَّتْ إجارته قبل قبضه عند البعض.
2 - رهن المشاع غير صحيح ولو من الشريك سواء احتمل القسمة أو لا، بخلاف المبيع وفاء، فإن بيعه صحيح إذا كان مشاعًا مطلقًا كما صرحوا به.
3 - من حيث التأجيل فإن الأجل في الرهن مفسد له، لأن حكمه حبس مستدام، بخلاف الأجل في بيع الوفاء، فإنه صحيح فإن بيع الوفاء بالنسبة لهذه الأحكام ملحق بالبيع الصحيح (2) .
ونصت المادة 400 على ما إذا كانت قيمة المال المبيع ناقصة عن الدين وهلك المبيع في يد المشتري، فإنه يسقط من الدين بقدر قيمته واسترد المشتري الباقي وأخذه من البائع. ونصت المادة 401 على ما إذا كانت قيمة المال من المبيع وفاء زائدة عن مقدار الدين وهلك المبيع في يد المشتري سقط من قيمته قدر ما يقابل الدين وضمن المشتري الزيادة إن كان هلاكه بالتعدي، وأما إن كان بلا تعد فلا يلزم المشتري إذًا تلك الزيادة.
جاء في شرح الأتاسي تعليقًا على المواد سالفة البيان أنه إذا باع وفاء ما قيمته عشرة بعشرة فهلك عند المشتري سقط الدين، ولو قيمته خمسة رجع على البائع بخمسة أخرى. ولو خمسة عشر، فالفضل أمانة لا يضمن إلا بالتعدي. ثم إن قيمته تعتبر يوم القبض لا يوم الهلاك لكن إذا كان هلاكه بالتعدي من المشتري تعتبر قيمته يوم الهلاك لا يوم القبض لوروده على العين المودعة.
أما لو أتلفه أجنبي فيضمن قيمته يوم هلك باستهلاكه وتكون القيمة في يد المشتري إلى أن يأخذ دينه (3) .
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/366.
(2) شرح المجلة لمحمد خالد الأتاسي: 2/425.
(3) شرح الأتاسي: 2/426.(7/1400)
أما فواته عن طريق التصرف فيه:
فقد نصت المادة 397 من مجلة الأحكام العدلية: على أنه ليس للبائع ولا للمشتري بيع مبيع الوفاء لشخص آخر.
قال الأتاسي في شرحه: لكن لو صدر من أحدهما لا ينفذ بل يتوقف على إجازة الآخر لكونه في حكم الرهن، أما البائع فلأن المرهون وإن يكن ملكه لكن تعلق به حق للدائن وهو الحبس الدائم إلى أن يستوفي دينه، والرهن وثيقة في الدين فيتوقف على إجازة المرتهن أو إبرائه من الدين، فإن أجاز صار ثمنًا رهنًا، وإن لم يجز وفسخ لا ينفسخ بفسخه في الأصح بل يبقى موقوفًا، والمشتري بالخيار إن شاء صبر إلى فكاك الرهن أو رفع الأمر إلى القاضي ليفسخ البيع، وأما الدائن فلأنه ليس مالكًا للرقبة فيتوقف على إجازة المديون المالك، فإن باعه المديون فأجازه المشتري الدائن وله حق الشفعة بطلت شفعته بخلاف إجازة المستأجر (1) .
وعند المالكية كما في المقدمات الممهدات لابن رشد الجد المتوفى سنة 520هـ، القسم الرابع وهي بيوع الشروط التي يسميها أهل العلم بيوع الغنيا ... فهذا النوع من البيوع اختلف فيه إذا وقع شيء منها على قولين:
أحدهما: أنه يفسخ ما دام البائع متمسكًا بشرطه وإن ترك الشرط صح البيع وإن فاتت السلعة كان فيها الأكثر من القيمة أو الثمن.
وقيل: إنه يرجع البائع على المشتري إذا فاتت بمقدار ما نقص من الثمن بسبب الشرط على كل حال ولا ينظر في ذلك على هذا القول أن تقوم السلعة بشرط وما كان بين القيمتين من الأجزاء رجع البائع على المبتاع بذلك من الثمن فهذا الباب: على هذا القول وهو المشهور في المذهب إلا في مسألة واحدة وهي شراء الرجل السلعة على أن فيها بالخيار إلى أجل بعيد لا يجوز الخيار إليه فإنه يفسخ فيها البيع على كل حال ولا يمضي ولو رضي مشترط الخيار بترك الشرط لأن رضاه بذلك ليس تركًا منه للشرط وإنما هو مختار للبيع على الخيار الفاسد الذي اشترط.
__________
(1) شرح الأتاسي: 2/420.(7/1401)
القول الثاني: إن حكم هذه البيوع كلها حكم ما فسد من البيوع للإخلال بشروط ضمنها فتفسخ على كل حال كانت قائمة أو فائتة شاء المتبايعان أو أبيا ولا خيار في ذلك لواحد منهما، فإن كانت السلعة قائمة ردت بعينها وإن كانت فائتة ردت قيمتها على البائع بالغةً ما بلغت ورد الثمن على المشتري (1) .
وقال في البهجة: على اعتباره بيعًا فهو بيع فاسد يفسخ ولو أسقط الشرط على المذهب ما لم يفت فيمضي بالقيمة، وفوات الأصول بالهدم والبناء والغرس لا بحوالة الأسواق، وهل يفوت بطول الزمان كالعشرين سنة؟ قولان:
أرجحها على ما قاله في (تحفة الإخوان) فواته بذلك وقال في المهذب الرائق: ولا يفوت الأصول حوالة الأسواق ولا طول الزمان، وبه القضاء، قال ابن زفين: إلا ما كان مثل عشرين عامًا ونحوها.
وعلى اعتباره سلفًا فهو رهن يفسخ أبدًا ولا يفوت بشيء ولا غيره ويرد المشتري فيه الغلة ولو طال الزمان، والناظم درج على الأول لأنه المشهور المعمول به في وقته ولذا قال (والخرج ... البيت) (2) .
الشافعية:
قال صاحب الخرائد: إذا تلف المال المعهد بيد المشتري بلا سبب من جهته ولو من غيره سقط حق العهدة فيه، ولا يلزم المشتري بذلك شيء لأنه إنما وعد بقبوله الفكاك ما لم تغب عينه أو بدلها، وإن كان بسبب منه أو من غيره. فالظاهر تعلق الحق ببدله، فإذا أراد البائع الفك بذل الثمن ورجع إلى بدل المبيع. وإن تلف بعضه أخذ الباقي وبدل المتلف إذ لا أرش هنا، كما هو قضية قواعدهم أما إذا تغيب بنفسه أو بفعل فسيأتي في المسألة 396 (3) .
وإن باع المشتري عهدة ما اشتراه فأبطل جمع البيع الثاني، ومثله: لو وقفه أو أعتقه أو وهبه ونحوه (4) .
قال: وجوزه الأكثر وهو الأصح الذي أفتى به غير واحد، وعليه عمل الناس لتمام ملكه من غير حجر، وليست كل علقة مانعة من التصرف، كحق الشفعة وحق الرد بالعيب ثم اختلفوا، فمنهم من قال: له أن ينقضه وإن كان وقفًا أو عتقًا. وإذا قبض الثمن العائد بالفسخ كان كثمن الشفعي المشفوع إذا فك بعد أن بيع أو وقف.
ويشترى به في الوقف شيء يجعل مكانه. وقال بعضهم في الوقف تعود القيمة للمتعهد ملكًا إن شاء (5) .
__________
(1) المقدمات الممهدات: 2/542.
(2) البهجة شرح التحفة: 2/60، 61.
(3) قلائد الخرائد: 1/321، 322.
(4) قلائد الخرائد: 1/321، 322.
(5) قلائد الخرائد: 1/321، 322.(7/1402)
حكم اشتراط البائع الضمان من المشتري للوفاء بيع الوفاء:
جاء في شرح علي حيدر على المادة 398: إذا لم تشرط المنافع للمشتري واستهلكها بدون إذن فعليه الضمان لأن المشتري لا يملك ما ينتج من المبيع بيع وفاء.
لكن ذهب الأتاسي في تعليقه على المادة سالفة البيان: ونصها 398 (إذا شرط في بيع الوفاء أن يكون قدر من منافع المبيع للمشتري صح ذلك، مثلًا لو تقاول البائع والمشتري وتراضيا على أن الكرم المبيع بيع وفاء تكون غلته مناصفة بين البائع والمشتري صح ولزم الوفاء بذلك على الوجه المشروح) .
قال: ولو لم يشترط ذلك لكان للمشتري جميع منافع المبيع، لأن بيع الوفاء له حكم البيع الجائز بالنظر إلى انتفاع المشتري به، كما صرحت به المادة (118) ولما صرح به في البزازية وجامع الفصولين وذكره في البحر ورد المحتار من أن القول الجامع لبعض المحققين إن بيع الوفاء فاسد في حق بعض الأحكام حتى ملك كل منهما الفسخ، صحيح في حق بعض الأحكام كحل الإنزال (1) ومنافع المبيع، رهن في حق البعض حتى لم يملك المشتري بيعه من آخر ولا رهنه ... إلخ، وقد علمت أن المجلة اختارت هذا القول فاتضح بما ذكرنا أن منافع المبيع ثابتة للمشتري وفاء بدون اشتراط بالنظر لكونه رهنًا في حق بعض الأحكام صح الاشتراط حصته من المنافع للمشتري وباقيها للبائع لأن منافع الرهن لا يملكها المرتهن بدون إذن الراهن.
قال: ثم رأيت في جامع الفصولين ما نصه: واقعة: باعه كرمه وفاء حتى استحق المشتري كل غلته ثم بعد البيع شرط أن يكون للمشتري ربع الغلة أو نحوه يأخذ كل الغلة أو ما شرطاه بعد البيع؟ ينبغي أن يكون له المشروط خصوصًا على قول أبي حنيفة رحمه الله: إن الشرط اللاحق يلتحق بأصل العقد، فكأنه شرط وقت العقد عنده.
قال: وهو صريح فيما قلناه والحمد لله.
وأما ما ذكره في الهندية وغيرها من أن المشتري وفاء لا يملك الانتفاع بالمبيع إلا بإذن مالكه، وهو ضامن لما أكل من ثمره ... إلخ، فهو مفرع على القول بأن بيع الوفاء في حكم الرهن لا يختلف عن الرهن بشيء من الأحكام وهو قول آخر غير ما مشت عليه المجلة من الأقوال التسعة المذكورة في البحر والبزازية (2) .
وقال المحاسني في شرحه وإذا لم يتقاولا على شيء تكون المنافع إلى البائع وإذا استهلكها المشتري يضمنها (3) .
وقال منير القاضي في شرحه للمادة السابعة: لا يجوز للمشتري وفاء أن ينتفع بالمبيع بدون إذن البائع. فإذا انتفع به بدون إذنه فهلك ضمنه بقيمته يوم هلاكه إن كان مثليًّا لاعتباره حينئذ متعديًا (4) .
__________
(1) معناه الربع.
(2) شرح الأتاسي: 1/423، 424 - شرح علي حيدر: 1/366.
(3) شرح المحاسني: 1/334.
(4) شرح منير القاضي: 1/212.(7/1403)
المحور الثاني
بيع الوفاء وعقد الرهن
العلاقة بين العقدين ووجه التطابق بينهما
قد يعقد بيع الوفاء بين بائع ومشتر دون أن يكون عندهما نية القرض والرهن، وفي هذه الحالة يختلف بيع الوفاء عن الرهن مع أن البائع وفاء لا يكون منهما. وله الحق في أن يرد الثمن ليسترد ملكية المبيع، أما الراهن فيكون مدينًا بالمبلغ الذي يرهن له ويجبر على سداده.
كما أن البائع وفاء لا تبقى له ملكية المبيع، غاية الأمر أن له أن يسترد هذه الملكية إذا رد الثمن في الأجل المعين، أما الراهن فيظل مالكًا للعين المرهونة.
ويتفق بيع الوفاء والرهن في الفقه الحنفي في أن كلًّا منهما يفسده الشيوع الأصلي والشيوع الطارىء فيجب أن يكون المبيع في البيع الوفائي غير مشاع فلا يجوز بيع نصف العقار وفاء بخلاف الشافعي، فإنه يجوز رهن المشارع عندهم وكذلك الحنابلة، قال في المغني: وإن رهنه سهمًا مشاعًا مما لا ينقل خلى بينه وبينه سواء حضر الشريك أو لم يحضر وإن كان منقولًا كالجوهرة يرهن نصفها فقبضها تناولها ولا يمكن تناولها إلا برضا الشريك، فإن رضي الشريك تناولها، وإن امتنع الشريك قرض المرتهن والراهن بكونها في يد الشريك جاز وناب عنه في القبض، وإن تنازع الشريك والمرتهن نصب الحاكم عدلًا تكون في يده لهما (1) .
وإن الرهن لا يتم ولا يقوم إلا بالتسليم فللراهن أن يرجع عن الرهن قبل التسليم عملًا بالمادة 706 من مجلة الأحكام العدلية وكذلك البيع بالوفاء، فإنه لا يتم إلا بالتسليم ولا تسمع دعوى المشتري يطلب تسليمه جبرًا من البائع (2) .
كذلك يتفق العقدان أنه إذا مات البائع والمشتري في البيع بالوفاء أو الراهن والمرتهن في الرهن فورثتهم يقومون مقامهم.
وإن البائع والمشتري ببيع الوفاء ليس لهما بيع المبيع أو رهنه من آخر فالراهن والمرتهن ليس لهما بيع المرهون أو رهنه من آخر.
ويصح اشتراط بعض منافع البيع بالوفاء إلى المشتري يصح اشتراط بعض منافع المرهون وإباحتها للمرتهن (المادة 750) من المجلة، وإن المشتري بالبيع بالوفاء والمرتهن أحق من سائر الغرماء في المبيع والمرهون ينظر المادة 729 والمادة (403) .
وإن مصاريف تعمير المبيع بالوفاء والمرهون على البائع والراهن (المادة 224) من المجلة.
__________
(1) شرح المحاسني على المجلة: 1/333. شرح علي حيدر: 2/67، حاشية الشرقاوي على التحرير: 2/123 - المغني: 4/297، 298.
(2) شرح المحاسني على المجلة: 2/65، بيع الوفاء. د. إبراهيم دسوقي الهاوي بحث في مجلة الأزهر ذو القعدة 1393هـ - ديسمبر 1973م.(7/1404)
ويفترقان أيضًا في الوجوه التالية:
1- إذا آجر المشتري المبيع بالوفاء من البائع بعد التسليم فالإيجار صحيح والأجرة لازمة، وإذا أجر المرتهن الرهن إلى الراهن فالإيجار باطل ويبقى الرهن مرهونًا.
2- إذا أجر المشتري المبيع بالاستغلال من البائع بعد التسليم فالإيجار صحيح والأجرة لازمة أما مقاولة الاستغلال في الرهن وإيجاره فغير جائزة (1) .
انتفاع الراهن أو المرتهن بالعين المرهونة، بالنسبة للراهن:
يقول الشيخ أحمد إبراهيم: الراهن مالك للرهن والمرتهن متعلق حقه به فلا يجوز لأحدهما أن يتصرف في الرهن تصرفًا يفوت حق الآخر إلا بإذنه. وتفصيله:
إذا باع الراهن الرهن أو آجره أو وهبه أو أعاره أو رهنه إلى غير ذلك من التصرفات المحتملة للفسخ. فإن نفاذه يقف على رضا المرتهن فإذا أجازه المرتهن أو فض الراهن دينه نفذت هذه التصرفات وخرج المرهون عن عهدة المرتهن، ولكن في صورة البيع يتحول حق المرتهن إلى الثمن بخلاف غيره من التصرفات الأخرى، وذلك لأن البدل في البيع في مقابلة المبيع نفسه فيقوم مقامه عند المرتهن لاستوائهما في المالية، وعن أبي يوسف أن المرتهن إن شرط عند الإجازة أن يكون الثمن رهنًا كان رهنًا وإلا فلا لأنه بإجازته نفذ البيع وملك الراهن الثمن وأنه مال آخر ملكه بسبب جديد فلا يصير رهنًا إلا بالشرط.
وأما بدل الإجارة فهو في مقابلة المنفعة، وحق المرتهن إنما هو في مالية العين لا في المنفعة، فكانت إجارته إسقاطًا لحقه في حبس الرهن.
والتصرفات الأخرى ليس بمقابلها بدل حتى يقوم مقامها. وكذلك المرتهن لا يجوز له بيع الرهن إلا إذا أوكله الراهن ببيعه وليس له إيداءه ولا إجارته بلا إذن الراهن فإن فعل ذلك كان متعديًا فيضمن قيمة الرهن بالغة ما بلغت وعند الشافعي الرهن أمانة بيد المرتهن لا يلزمه ضمانه ولا يسقط تبلغه شيء منه الدين لخبر: الرهن من راهنه أي من ضمانه له غنمه وعليه غرمه (رواه ابن حيان والحاكم وقال: على شرط الشيخين إلا في مسائل) (2) .
ونصت المادة (750) من المجلة على أنه ليس للمرتهن الانتفاع بالرهن دون إذن الراهن. قال الأتاسي: لا باستخدام ولا سكنى ولا بلبس ولا بأخذ ثمرة ولا لبن ولا بإجارة ولا بإعارة، ولو فعل فهلك الرهن في تلك الحالة ضمنه ضمان الغصب (3) .
__________
(1) شرح الأتاسي: 2/93.
(2) المعاملات الشرعية المالية: 187، 188 - حاشية الشرقاوي على التحرير: 2/127.
(3) شرح الأتاسي: 3/193، 194.(7/1405)
وقال ابن جزي: المنفعة في الرهن للراهن، فإذا اشترطها المرتهن جاز إن كان الدين من بيع أو شبهه ولم يجز إن كان سلفًا، لأنه سلف جر منفعة، فإن لم يشترطها المرتهن ثم تطوع له الراهن بها لم يجز لأنها هدية بديلة (1) .
وقال ابن رشد: والجمهور على أنه ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن، وقال قوم: إذا كان الرهن حيوانًا فللمرتهن أن يحلبه ويركبه بقدر ما يعلفه وينفق عليه وهو قول أحمد وإسحاق واحتجوا بما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الرهن محلوب ومركوب) (2) .
وفي المغني: ليس للراهن الانتفاع بالرهن باستخدام ولا سكنى ولا غير ذلك ولا يملك التصرف فيه بإجارة ولا إعارة ولا غيرهما وبغير رضا المرتهن، وبهذا قال الثوري: وأصحاب الرأي، لأنها عين محبوسة فلم يكن للمالك الانتفاع بها كالمبيع المحبوس عند البائع على استيفاء ثمنه.
وقال مالك وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر: للراهن إجارته وإعارته مدة لا يتأخر انقضاؤها عن حلول الدين، وهل له أن يسكن بنفسه؟ على اختلاف بينهم فيه، وليس له إجارة الثوب ولا ما ينقص بالانتفاع وبنوه على أن المنافع للراهن لا تدخل في الرهن ولا يتعلق بها حقه (3) .
ثم قال: فإن المتراهنين إذا لم يتفقا على الانتفاع بها لم يجز الانتفاع بها وكانت منافعها معطلة، فإن كانت دارًا أغلقت، وإن اتفقا على إجارة الرهن أو إعارته جاز ذلك (4) . أما بالنسبة للمرتهن، فقد قال: إن ما لا يحتاج إلى مؤونة كالدار والمتاع ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال، لا نعلم في هذا خلافًا لأن الرهن ملك الراهن فكذلك نماؤه ومنافعه فليس لغير أخذها بغير إذنه، فإن إذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض وكان دين الرهن من قرض لم يجز لأنه يحصل قرضًا يجر منفعة وذلك حرام.
قال أحمد: أكره قرض الدور والربا المحض، يعني: إذا كانت الدار رهنًا في قرض ينتفع به المرتهن، وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في الانتفاع جاز ذلك.
روى ذلك عن الحسن وابن سيرين وبه قال إسحاق.
فأما إن كان الانتفاع بعوض مثل أن استأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير محاباة جاز القرض وغيره لكونه ما انتفع بالقرض بل بالإجارة. وإن حاباه في ذلك فحكمه الانتفاع بغير عوض، ولا يجوز في القرض ويجوز في غيره (5) .
__________
(1) القوانين الشرعية: ص213.
(2) بداية المجتهد: 2/273.
(3) المغني: 4/349.
(4) المغني: 4/349.
(5) المغني: 4/344.(7/1406)
شرط الانتفاع في عقد الرهن:
قال: أما إن اشترط في الرهن أن ينتفع به فالشرط فاسد لأنه ينافي مقتضى الرهن. وعن أحمد أنه يجوز في المبيع.
وقال مالك: لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين، وكرهه في الحيوان والثياب وكرهه في القرض.
أما ما يحتاج إلى مؤنة:
قال في المغني: إن أذن في الإنفاق والانتفاع بقدره جاز لأنه نوع معاوضة، أما عدم الإذن فإن الرهن ينقسم إلى قسمين محلوبًا ومركوبًا وغيرهما.
فأما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريًا للعدل في ذلك.
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وهو قول لأحمد لا يحتسب له بما أنفق وهو متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشيء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يغلق الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه)) ولأنه ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع به ولا الإنفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن (1) ، وأما غير المحلوب والمركوب: كالدار استهدمت فعمرها المرتهن لم يرجع بشيء وليس له الانتفاع بها بقدر نفقته. فإن عمارتها غير واجبة على الراهن فليس لغيره أن ينوب عنه فيما لا يلزمه، فإن فعل كان متبرعًا (2) .
وقال: إنه إذا انتفع المرتهن بالرهن حسب من دينه بقدر ذلك، قال أحمد: يوضع عن الراهن بقدر ذلك، لأن المنافع ملك الراهن فإذا استوفاها فعليه قيمتها في ذمته للراهن فيتقاضى القيمة وقدرها من الدين ويتساقطان (3) .
__________
(1) المغني: 4/345.
(2) المغني: 4/346، 347.
(3) المغني: 4/346، 347.(7/1407)
الصور التي يمكن للاقتصاد أن ينتفع بها من بيع الوفاء:
بيع الوفاء وثيق الصلة بخيار النقد حتى أن بعضهم أدخل بيع الوفاء في خيار النقد وأنه فرد من أفراد مسائله كابن نجيم.
وخيار النقد له صورتان كما أن لبيع الوفاء صورتين:
الأولى: أن يشترط المشتري إذا لم ينقد الثمن إلى مدة معلومة فلا عقد بينهما ومستعمل الخيار في هذه الصورة هو المشتري وإن كانت فائدته ترجع إلى البائع. ووصفوا هذه الصورة أنها بمنزلة اشتراط خيار الشرط للمشتري.
والصورة الأخرى: أن يتعاقد الطرفان وينقد المشتري الثمن ويتفقان على أن البائع إذا رد العوض في مدة معلومة فلا عقد بينهما ومستعمل الخيار هنا البائع وهو وحده المنتفع بالخيار وهذه الصورة ذات شبه تام ببيع الوفاء (1) .
وإن في بيع الوفاء مندوحة عن الربا المحرم حيث يصح اشتراط بعض منافع المبيع بالوفاء إلى المشتري كما يصح اشتراط بعض منافع المرهون وإباحتها للمرتهن.
وإن له أن يؤجر المبيع بالوفاء من البائع بعد التسليم وتكون الأجرة لازمة.
هذا ما يسر الله إليه في هذه العجالة والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على خاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________
(1) الموسوعة الفقهية: 20/181، 183 - المجلد: 9/260، 262.(7/1408)
الخلاصة لبيع الوفاء
أولًا - بيع الوفاء بصورته المعهودة:
ظهر أثر الكساد والديون التي تراكمت على التجار في بخارى وبعض البلاد الأخرى فأظهروا التعاقد به تحت ضغط الحاجة.
وقد أخذت به مجلة الأحكام العدلية التي كانت تطبق على بلاد كثيرة في الدولة العثمانية.
وقد أخذت المجلة المذكورة بالقول الذي يقضي بصحته في بعض الأحكام وفساده في بعض الأحكام واعتباره رهنًا في بعض الأحكام وذلك طبقًا للمادة 398 من المجلة وشروحها.
ثانيًا - بيع الوفاء له صورتان:
الأولى: البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع طبقًا للمادة 118 من المجلة.
الثانية: هي بيع المال وفاء على أن يستأجره البائع طبقًا للمادة 119 من المجلة.
ثالثًا - المصطلح المساوي له في المذاهب الأخرى:
(أ) يقول في صلب العقد: أبيعك هذه السلعة على شرط أني إن أتيتك بثمنها وقت كذا أو مهما أتيتك بثمنها فهي مردودة علي.
(ب) وأطلق الشافعية عليه بيع العهدة.
(ج) ويسميه الحنابلة بيع الأمانة.(7/1409)
رابعًا - حكمه:
اختلف الفقهاء فيه على أقوال وخلاصته:
(أ) أنه بيع باطل وهو رهن ويأخذ أحكام الرهن.
(ب) بيع جائز صحيح من غير شرط ثم يذكر الشرط بعد ذلك على وجه المواعدة ويلزم الوفاء بالوعد.
(ج) بيع فاسد إن شرط الفسخ من البيع لكنه يوجب به الملك إن اتصل به القبض.
(د) إنه يأخذ أحكام البيع الصحيح والفاسد والرهن وقد سبق بيانه.
خامسًا - الأصل المستند إليه في المنع والتحليل:
من منعه قال: إنه سلف جر نفعًا وإنه بيع بشرط ومن أجازه، قال: إنه جوز للحاجة أو إنه من قبيل المواعدة وأنه يلزم الوفاء بالوعد.
أثر فوت المبيع وما يعتبر فوتًا وما لا يعتبر:
قالوا: إنه إذا كانت قيمة المال المبيع بالوفاء مساوية للدين وهلك المال في يد المشتري سقط الدين في مقابلته أما إذا لحقه عيب أنقص قيمته قسمت قيمة الباقي منه على قيمة ما هلك منه فيسقط الدين الذي يصيب الحصة التي تلفت ويبقى ما يلحق الحصة الباقية منه.
أما إذا كانت قيمة المال المبيع ناقصة عن الدين وهلك المبيع في يد المشتري فإنه يسقط من الدين بقدر قيمته واسترد المشتري الباقي.
وأما إذا كانت قيمة المال زائدة عن الدين وهلك المبيع في يد المشتري سقط من قيمته قدر ما يقابل الدين وضمن المشتري الزيادة.
أما لو أتلفه أجنبي يضمن قيمته يوم هلك وتكون القيمة في يد المشتري إلى أن يأخذ دينه.
وقال المالكية: إن فاتت السلعة كان فيها الأكثر من القيمة والثمن.
أما الفوات عن طريق التصرف، فإنه لا ينفذ بل يتوقف على إجازة الآخر.(7/1410)
سادسًا - حكم اشتراط البائع الضمان من المشتري:
إذا نص في العقد على أن يكون قدر من منافع المبيع بيع وفاء للمشتري صح ذلك إذ لو لم يشترط لكان جميع منافع المبيع للمشتري وهذا على القول بأنه حكم المبيع وفاء حكم البيع الجائز.
سابعًا - العلاقة بين بيع الوفاء وعقد الرهن ووجه التطابق بينهما:
قد يعقد بيع الوفاء بين بائع ومشتر دون أن يكون عندهما نية القرض والرهن ومن هذه الحالة يختلف بيع الوفاء عن الرهن وله الحق في أن يرد الثمن ليسترد ملكية المبيع، أما الراهن فيكون مدينًا بالمبلغ الذي يرهن له ويجبر على سداده. وإن البائع وفاء لا تبقى له ملكية المبيع. غاية الأمر أن له أن يسترد هذه الملكية إذا رد الثمن.
ويتفق الرهن وبيع الوفاء عند الحنفية في أنه يفسده الشيوع بخلاف الشافعية والحنابلة، فإنه يجوز رهن المشاع.
ويتفق العقدان في أن كلًّا منهما لا يتم إلا بالتسليم، وأنه ليس لهما بيع المبيع أو رهنه من آخر، كذلك الراهن والمرتهن ليس لهما بيع المرهون أو رهنه من آخر.
كما يصح اشتراط بعض منافع المبيع وفاء للمشتري كاشتراط بعض منافع المرهون وإباحتها للمرتهن.
وإن مصاريف تعمير المبيع وفاء والمرهون على البائع والراهن، هذا وقد اعتبر بعض الفقهاء أن بيع الوفاء وثيق الصلة بخيار النقد وأنه فرد من أفراد مسائله، كابن نجيم.
وأن في بيع الوفاء مندوحة عن الربا المحرم. اهـ.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله(7/1411)
أحكام الرهن
وحكم الإنتفاع بالمرهون
إعداد
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد
عضو مجمع الفقه الإسلامي
(السودان)
بسم الله الرحمن الرحيم
لا خلاف بين الفقهاء في جواز الرهن وقد ثبت هذا الجواز بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (1) .
وروى البخاري في صحيحه عن محمد بن مقاتل عن عبد الله بن المبارك عن زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونًا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) (2) .
وروى البخاري عن قتيبة، عن جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعامًا ورهنه درعه) (3) .
قال القرطبي في تفسيره:
(قال جمهور من العلماء: الرهن في السفر بنص التنزيل وفي الحضر ثابت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا صحيح.
وقد بينا جوازه في الحضر من الآية بالمعنى، إذ قد تترتب الأعذار في الحضر، ولم يرو عن أحد منعه في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود متمسكين بالآية. ولا حجة فيها، لأن هذا الكلام وإن كان خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال وليس كون الرهن في السفر مما يحظر في غيره) (4) .
ثم أورد الأحاديث الصحيحة التي أوردناها أعلاه.
__________
(1) سورة البقرة: الآية 283.
(2) صحيح البخاري (كتاب في الرهن في الحضر) ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع: 3/115 - 116.
(3) صحيح البخاري (كتاب في الرهن في الحضر) ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع: 3/115 - 116
(4) الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي: 3/407.(7/1412)
وأصل الرهن في اللغة هو الثبوت والدوام كقولهم وأرهنت لهم الطعام والشراب أي أدمته لهم وهو طعام راهن وكذلك يطلق على الحبس كما في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (1) .
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (2) .
أي كل محبوس بكسبه بحيث لا ينفك عنهما عند الله تعالى سواء كان خيرًا أو شرًّا. وأما معنى الرهن في الشرع فهو احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم. هكذا حده العلماء (3) . والمراد بقولهم وثيقة أي شيء متوثق به وذلك لأن الدين أصبح بحبس هذه العين محكمًا لا يسع المدين أو تضيع عليه هذه العين كلها أو بعضها بحسب ذلك الدين. وفي الاصطلاح تسمى العين المرهونة رهنًا وصاحبها الذي رهنها يسمى راهنًا وصاحب الدين مرتهنًا.
ومن شروط صحة الرهن أهلية التصرف من الجانبين وتفاصيل هذا الشرط متفق عليها إلا أن الفقهاء اختلفوا في رهن الصبي المميز. فرأى الجمهور أن الصبي المميز يصح أن يكون راهنًا أو مرتهنًا لأنه يعرف معنى المعاملة ويدرك ما يترتب عليها من منافع ومضار ومع هذا فإن عقده متوقف على إقرار الولي وذلك لضمان سلامة تصرفه من الخسارة. وخالف الشافعية وقالوا رهن الصبي لا يصح ولو كان مميزًا ولو أذن وليه.
وفي الشروط عند الحنفية أن لا يكون المرهون مشاعًا سواء أكان عقارًا أو عروض تجارة أو حيوانًا وخالفهم المالكية وقالوا بجواز رهن المشارع. قال القرطبي:
(لما قال تعالى: {مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] قال علماؤنا: فية ما يقتضي بظاهره ومطلقه جواز رهن المشاع. خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه، لا يجوز عندهم أن يرهنه ثلث دار ولا نصفًا من عبد ولا سيف، ثم قالوا: إذا كان لرجلين على رجل مال هما فيه شريكان فرهنهما بذلك أرضًا فهو جائز إذا قبضاها. قال ابن المنذر: وهذا إجازة رهن المشاع، لأن كل واحد منهما مرتهن نصف دار. وقال ابن المنذر: رهن المشاع جائز كما يجوز بيعه) (4) .
ومن الشروط التي اختلف فيها الفقهاء هي أن تكون العين التي يراد رهنها موجودة وقت العقد فقد رأى الحنفية والشافعية والحنابلة عدم صحة الثمرة التي لم توجد لأن المالك لا يقدر على التسليم وقت العقد.
__________
(1) سورة المدثر: الآية 38.
(2) سورة الطور: الآية 21.
(3) تفسير القرطبي: 3/409.
(4) تفسير القرطبي: 3/411.(7/1413)
وخالف في ذلك المالكية حيث قال بعضهم: إذا كان المرهون معروفًا وقت العقد بالكلية فإنه لا يجوز رهنه وذلك كثمر الحديقة قبل بروزه، أما إذا برز ولو كان صغيرًا فإنه يجوز رهنه باتفاق عندهم، وذهب بعضهم إلى جواز رهن المعدوم بالكلية كثمر الحديقة أو ولد الناقة أو نتاج القطيع لسنين قادمة إذا علق الرهن على عقد آخر من عقود البيع أو القرض (1) .
واختلف العلماء في رهن ما في الذمة ومثاله رجلان تعاملا لأحدهما على الآخر دين فرهنه دينه الذي عليه. أجاز المالكية هذا الرهن وخالفهم بعض العلماء. قال القرطبي:
(قال ابن خُوَيزمندار: وكل عرض جاز بيعه جاز رهنه ولهذه العلة جوزنا رهن ما في الذمة لأن بيعه جائز ولأنه مال تقع الوثيقة به فجاز أن يكون رهنًا قياسًا على سلعة موجودة.
وقال من منع ذلك: لأنه لا يتحقق إقباضه والقبض شرط في لزوم الرهن؛ لأنه لا بد أن يستوفي الحق منه عند المحل ويكون الاستيفاء من ماليته لا من عينه ولا يتصور ذلك في الدين) (2) .
وقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] ، يقتضي حقيقة القبض عند الشافعي لأن الله تعالى لم يجعل الحكم إلا برهن موصوف بالقبض فإذا عدمت الصفة يجب أن يعدم الحكم وهذا ظاهر جدًّا. وقالت المالكية: يلزم الرهن بالعقد ويجبر الراهن على دفع الرهن ليجوزه المرتهن لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وهذا عقد، وقوله: {بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] وهذا عهد. وقوله عليه السلام: ((المؤمنون عند شروطهم)) وهذا شرط، فالقبض عندنا في كمال فائدته (3) .
وقوله تعالى: {مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] كذلك يقتضي بينونة المرتهن بالرهن، ولا خلاف في صحة قبض المرتهن ولا في قبض وكيله ولكن اختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه: (فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء: قبض العدل قبض، وقال ابن أبي ليلى وقتادة والحكم وعطاء: ليس بقبض ولا يكون مقبوضًا إلا إذا كان عند المرتهن ورأوا ذلك تعبدًا. وقول الجمهور أصح من جهة المعنى لأنه إذا صار عند العدل صار مقبوضًا لغة وحقيقة لأن العدل نائب عن صاحب الحق وبمنزلة الوكيل وهذا ظاهر) (4) .
__________
(1) ويجب أن لا يختلط هذا باتفاقهم على عدم صحة بيع الثمار قبل أن تبرز ويبدو صلاحها ... وحكمة الشارع في ذلك بالغة إذ من الواضح الجلي أن الشجر قد لا يثمر أو قد تتسلط عليه آفة تعدم ثمره قبل أن يستوي. وللأسف تساهل بعض المسلمين في الاستمساك بهذه القاعدة الشرعية متبعين في ذلك القوانين الوضعية.
(2) تفسير القرطبي: 3/411.
(3) تفسير القرطبي: 3/410.
(4) تفسير القرطبي: 3/410.(7/1414)
وعند المالكية أن الرهن يبطل إذا خرج من يد المرتهن إلى الراهن بوجه من الوجوه لأنه فارق ما جعل له وهو قول أبي حنيفة غير أنه قال: إن رجع بعارية أو وديعة لم يبطل. وقال الشافعي: إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقًا لا يبطل حكم القبض المتقدم.
ولا يجوز غلق الرهن لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يغلق الرهن ولصاحبه غنمه وعليه غرمه)) (1) . وغلق الرهن هو تملك المرتهن الرهن إذا لم يؤد الراهن ما عليه في الوقت المعين وهذا من فعل الجاهلية الذي أبطله الإسلام.
قال القرطبي: (ورهن من أحاط الدين بماله جائز ما لم يفلس ويكون المرتهن أحق بالرهن من الغرماء، قاله مالك وجماعة من الناس.
وروى عن مالك خلاف هذا - وقاله عبد العزيز بن أبي سلمة - أن الغرماء يدخلون معه في ذلك وليس بشيء لأن من لم يحجر عليه فتصرفاته صحيحة في كل أحواله من بيع وشراء، والغرماء عاملوه على أنه يبيع ويشتري ويقضي، لم يختلف قول مالك في هذا الباب، فكذلك الرهن، والله أعلم) (2) .
حكم الانتفاع بالمرهون:
أما حكم الانتفاع بالمرهون فيجب التنبه إليه لعلاقته الظاهرة بالربا ويجب أن يكون محل عناية ونظر دقيقين. وفي الوجوه الظاهرة في هذه المعاملة هي أنه يعطي شخص شخصًا آخر مبلغًا من المال في نظير أن يحبس قطعة من الأرض أو حيوانًا أو عربة أو منزلًا ويكون للمرتهن بمجرد العقد أن يتصرف في الرهن كيف يشاء فإما أن يؤجرها إلى الراهن ويضم قيمة الإيجار إلى المبلغ الأصلي وبذلك يزداد رأس مال الدين باطراد كل سنة، وإما أن يؤجرها إلى غير الراهن ويأخذ قيمة الإيجار لنفسه بدون أن يخصمها من أصل المبلغ وإما أن يزرعها هو ويأخذ الزرع من غير أن يكون للراهن أي نصيب فيه وفي جميع الحالات تبقى الأرض تحت يده على سبيل الرهن.
كل هذه الصور من الانتفاع بالمرهون حرام فقد دل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على تحريم الربا بسائر أنواعه وأقسامه واتفق العلماء من السلف والخلف على أن فيها ربا القرض وقد اشتهر في ذلك قولهم: (كل قرض جر نفعًا فهو ربا) بحيث صار كالضروري بين أهل العلم. واشتراط مثل هذا الانتفاع بالمرهون باطل لأنه ينافي مقتضى القرض إذ هو تمليك مال على أن يرد مثله فقط احتسابًا للأجر من الله تعالى وكذلك ينافي مقتضى الرهن وهو كما عرفناه سابقًا جعل عين متمولة تحت يد الدائن بدينه يستوفي منها عند تضرر الوفاء ... وبذلك يكون الانتفاع حرامًا لأنه زيادة لا حق للدائن فيها والربا في الأصل الزيادة وفي الشرع الزيادة في المال بغير وجه حق.
اتفق الفقهاء على أن ورود شرط للانتفاع بالمرهون في صلب عقد الرهن إن كان من قرض حرام ومبطل للعقد واختلفوا فيما إذا لم يرد الشرط في العقد ولكن اتفق عليه المتعاقدان شفاهة. فرأى كثير من الشافعية أن لا حرمة على هذا التواطؤ بين الراهن والمرتهن ولكن قال محققون منهم: هذا من حيث الظاهر وأما من حيث الباطن فحرام، ((إنما الأعمال بالنيات وإنما ولكل امرىء ما نوى)) . وهو الذي يوافق قول الشافعي: والمرتهن لا ينتفع بشيء في الرهن خلا الإحفاظ للوثيقة.
__________
(1) رواه الدارقطني من حديث سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنهم.
(2) تفسير القرطبي: 3/414.(7/1415)
ورأى كثير من الحنفية أن الانتفاع بالرهن يمكن أن يفارق الفوائد الربوية، فيصبح الانتفاع بالمرهون متى أمكن أن يفارق عقد الربا وذلك بأن يرهن له العين ويأذن له في الانتفاع بها بشرط أن لا يذكر ذلك في عقد الرهن. ومتى أذن له بالانتفاع فإنه لا يصح الرجوع بعد ذلك، وقالوا إن لذلك نظيرًا وهو ما إذا اقترض من شخص قرضًا ثم أهدى له هدية، فإنها إذا لم تكن مشروطة في العقد كانت جائزة وهذا الرأي جدير بالاعتبار فقد تكون فيه سعة لأن الناس يصعب عليهم أن يتركوا أموالهم بدون استثمار خاصة في هذا الزمن الذي غلبت فيه المادة وقد علمنا أيضًا ما فيه من منزلق في حرمة الربا. ونماء الرهن داخل معه إن كان لا يتميز كالسمن أو كان نسلًا كالولادة والنتاج، وفي معناه فسيل النخل وما عدا ذلك من غلة وثمرة ولبن وصوف فلا يدخل فيه إلا أن يشترطه. هذا وقول الحنفية نماء المرهون يتبعه ليس معناه أن المرتهن يستحقه ملكًا كما قد يتوهم بعض الناس، بل المعنى أن النماء يكون مرهونًا كالأصل.
قال الإمام ابن رشد في بداية المجتهد:
(والجمهور على أن ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن ... وقال قوم: إذا كان الرهن حيوانًا فاللمرتهن أن يحلبه ويركبه بقدر ما يعلفه وينفق عليه. وهو قول أحمد وإسحاق بما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) .
وذكر بعض الفقهاء تحذر الجمهور من العمل بهذا الحديث وقالوا إنه يخالف أصولًا مجمعًا عليها وآثارًا ثابتة لا يختلف في صحتها. ولذلك رأى بعضهم أن الحديث كان قبل تحريم الربا وذكروا حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البخاري وغيره.
((لا تحلب ماشية امرىء بغير إذنه ... )) وذهب أكثرهم إلى التأويل وحملوا الحديث على ما إذا امتنع الراهن من الإنفاق على المرهون فيباح حينئذٍ للمرتهن وهو قول الأوزاعي والليث وأبي ثور رحمهم الله تعالى.
واستند هذا الفريق من العلماء على حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه: له غنمه وعليه غرمه)) .(7/1416)
ومعنى له غنمه وعليه غرمه أن له زيادته ونماءه وإذا نقص أو تلف فعليه. والحديث روي من طرق مختلفة - منها صحيح ومنها ضعيف وإنه روي مرفوعًا وموقوفًا ومرسلًا (1) . وتجدر الإشارة هنا إلى أن عددًا من الفقهاء نسب إلى الأئمة جواز الانتفاع بالحيوان المرهون من لبن وركوب ونحو ذلك في نظير أكله كما هو منصوص عليه في الحديث ومن غير ذكر للتفصيل السابق من نسخ وتأويل للحديث.
أما المالكية فإنهم أجازوا الانتفاع بثمرة المرهون ونتاجه بثلاثة شروط:
1- أن يكون الدين بسبب البيع لا بسبب القرض مثال ذلك أن يبيع شخص لآخر دارًا أو أرضًا زراعية أو عروض تجارة أو نحو ذلك بثمن مؤجل فيرهن له في نظير ذلك عينًا لها فائدة فإن لصاحب الدين وهو المرتهن في هذه الحالة أن ينتفع بفائدة هذه العين المرهونة.
2- أن يشترط المرتهن ((صاحب الدين)) أن تكون منفعة العين المرهونة له، فإن تطوع له بها الراهن فإنه لا يصح.
3- أن تكون مدة المنفعة التي يشترطها معينة.
ويتضح هذا الأمر بإعطاء مثال: إذا أقرض شخص شخصًا مبلغًا من المال ورهن له بها منزلًا وانتفع بغلته، كان ذلك فائدة ربوية لأن الفائدة في هذه الحالة تكون في نظير القرض. أما إذا باع له المنزل بثمن مؤجل فهذا الثمن يكون دين بيع لا قرضًا. فإذا رهن منه عربة في نظير ذلك وانتفع بها فإنه يجوز لأن المنفعة ليست مقابلة للقرض، وإنما هي مقابلة لدين البيع، وذكر أن الحنابلة يوافقون المالكية في هذا المنحى فقالوا: إن كان سبب دين الرهن قرضًا فإنه لا يصح الانتفاع بالمرهون، وإلا فإنه يصح.
والخلاصة أن تحريم الانتفاع متفق عليه إجماعًا إذا نص عليه في عقد رهن في مقابلة قرض ورأى الحنفية الجواز إذا اتفقا عليه ولم ينصا في العقد ورأى فريق من الشافعية عدم الجواز في الحالتين وروي عن بعضهم جواز ذلك.
واختلف الفقهاء إذا كان المرهون شيئًا محتاجًا إلى النفقة كالعلف أو التشحيم أو النظافة فرأى كثير منهم الانتفاع به فيما يساوي قيمة النفقة فقط للحديث المذكور.
ورأى بعضهم أن لا ينتفع الدائن إلا إذا أبى صاحب العين الإنفاق عليها وهو ما تأولوا به الحديث.
ورأى المالكية والحنابلة جواز الانتفاع إذا كان الرهن في مقابل دين بيع واشترطها المرتهن لمدة معينة.
وبعد فالمؤمن راهنًا كان أو مرتهنًا ينظر لنفسه ويستفتي قلبه وإن أفتاه المفتون ويدع ما يريبه إلى ما لا يريبه وعلى الذين وسع الله عليهم في الرزق وأعطاهم أن يقرضوا ابتغاء وجه الله وقد أجاز لهم الشارع الكريم أن يستوثقوا بالرهن فلينزهوا أنفسهم وأموالهم عن الانتفاع به ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
__________
(1) قال في منتقى الأخبار: رواه الشافعي والدارقطني وقال: إسناد حسن متصل. وقال شارحه: إنه رواه أيضًا الحاكم وابن حبان في صحيحه.(7/1417)
خلاصة البحث
تناول البحث بيان معنى الرهن والنصوص التي تتعلق به وشروط صحته ثم حكم الانتفاع بالمرهون سواء كان أرضًا أو دارًا للسكن أو حيوانًا أو غير ذلك.
أما كون الرهن جائزًا فذلك مما لا خلاف فيه فقد ثبت ذلك بالسنة الصحيحة والإجماع ومن أهم شروط صحته أهلية الراهن والمرتهن في التصرف كما هو معلوم في جميع العقود. ونخص بالذكر من هذه الشروط البلوغ فلا يصح أن يكون أحدهما صبيًّا غير مميز لأنه في حكم المجنون باتفاق أيضًا أما الصبي المميز فإنه يصح أن يكون راهنًا أو مرتهنًا لأنه يعرف معنى المعاملة ويدرك ما يترتب عليها من مضار ومنافع ومع هذا فإن عقده لا ينفذ إلا إذا أقره الولي.
اتفق الأئمة على هذا ما عدا الشافعية وعندهم لا يصح رهن الصبي ولو كان مميزًا ولو أذن وليه. ومما اختلف فيه العلماء رهن المشاع فمنعه الحنفية وأجازه غيرهم وكذلك وجود العين المرهونة وقت العقد وقد رأى الحنفية والشافعية والحنابلة عدم صحة رهن الثمرة التي لم توجد لأن المالك لا يقدر على التسليم وقت العقد وأجازه المالكية إذا برز الثمر وذهب بعضهم إلى جواز رهن المعدوم.
واختلفوا أيضًا في رهن ما فيه الذمة كالدين فأجازه المالكية وخالفهم آخرون بأن ما في الذمة لا يتحقق إقباضه والقبض شرط في لزوم الرهن. وقال الشافعية أن لا بد من حقيقة القبض وقالت المالكية يلزم الرهن بالعقد ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن.(7/1418)
وقال العلماء ببينونة المرتهن بالرهن واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه فأجازه الجمهور وخالفهم آخرون. وعند المالكية أن الرهن يبطل إذا خرج من يد المرتهن إلى الراهن بوجه من الوجوه ووافقهم الحنفية وخالفهم الشافعية الذين قالوا: إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقًا لا يبطل حكم القبض المتقدم.
وبينا أن الإسلام ألغى عمل الجاهلية في غلق الرهن للحديث الوارد في ذلك وأخيرًا ذكرنا رهن من أحاط الدين بماله وجواز ذلك ما لم يفلس ويكون المرتهن أحق بالرهن من الغرماء على خلاف في ذلك.
أما الانتفاع بالمرهون أرضًا أو حيوانًا أو منزلًا أو غير ذلك فالحكم أنه حرام باتفاق إذا نص عليه في عقد الرهن لأنه قرض جر نفعًا. ورأى أكثر الحنفية وبعض الشافعية أن لا بأس بالانتفاع إذا اتفق عليه الطرفان ولم ينص عليه في العقد وشبهوه بأمر الهدية في الدين.
واختلف العلماء فيما إذا كانت العين المرهونة محتاجة إلى نفقة كعلف أو تشحيم أو نظافة دورية فرأى كثير منهم الانتفاع به فيما يساوي قيمة النفقة فقط لورود النص بذلك. ورأى بعضهم أن لا ينتفع الدائن إلا إذا امتنع صاحب العين من الإنفاق عليها وهو ما تأولوا به النص الوارد في ذلك.
وهناك تعامل آخر بين الناس أساسه عقد إيجار أو عقد بيع، فقد يشتري الرجل أحيانًا عقارًا أو غيره، ويبقى من ثمن المبيع في ذمته مقدار ما، فيرهن المشتري للبائع بما بقي في ذمته من ثمن المبيع أرضًا زراعية مثلًا، ويذكر في صلب العقد أن هذه العين رهن في باقي الثمن، وأن للبائع حق الانتفاع بها مدة معينة.
فانتفاع صاحب الدين في مثل هذه الحادثة حلال عند المالكية والشافعية وكذلك حلال في رواية عند الحنابلة وحرام عند الحنفية.
والله أعلم.
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد(7/1419)
بيع الوفاء وحكمه
إعداد
فضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي كرمنا بقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء: 70] ، وشرفنا بالهداية إلى الحلال والحرام. والصلاة والسلام على محمد الذي كشف النور عن الظلام وعلى آله وأصحابه وفقهاء أمته إلى يوم القيامة.
أما بعد فإن بيع الوفاء عند الحنفية هو أن يقول البائع للمشتري بعت منك هذا العين بما لك علي من الدين على أني متى قضيت الدين فهو لي كما في قواعد الفقه للمفتي عميم الإحسان، وبيَّن علاء الدين الحصكفي في كتابه الدر المختار صورته أن يبيعه العين بألف على أنه إذا رد عليه الثمن رد عليه العين.
وسماه الشافعية بالرهن المعاد ويسمى بمصر بيع الأمانة وبالشام بيع الإطاعة ووجه تسمية بيع الوفاء أن فيه عهدًا بالوفاء من المشتري بأن يرد المبيع على البائع حين رد الثمن. وبعض الفقهاء يسميه بيع الجائز ولعله مبني على أنه بيع صحيح لحاجة التخلص من الربا حتى يسوغ للمشتري أكل ريعه - وبعضهم يسميه بيع المعاملة ووجهه أن المعاملة ربح الدين وهذا يشتريه الدائن لينتفع به بمقابلة دينه [كذا في رد المحتار: 4/341] .
وبيع الوفاء هو الرهن حقيقة في صورة البيع وهو الصحيح كما نقله ابن العابدين في رد المحتار على الدر المختار عن جواهر الفتاوى قال في الخيرية: والذي عليه الأكثر أنه رهن لا يفترق عن الرهن في حكم من الأحكام. قال السيد الإمام: قلت للإمام الماتريدي: قد فشا هذا البيع بين الناس. وفيه مفسدة عظيمة وفتواك أنه رهن وأنا أيضًا على ذلك فالصواب أن يجمع الأئمة ونتفق على هذا ونظهره بين الناس، فقال: المعتبر اليوم فتوانا وقد ظهر ذلك بين الناس فمن خالفنا فليبرز نفسه وليقم دليله. وبه صدر في جامع الفصولين فقال رامزًا لفتوى النسفي: البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا وسموه بيع الوفاء هو رهن في الحقيقة لا يملكه ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه، وهو ضامن لما أكل من ثمره وأتلف من شجره ويسقط الدين بهلاكه لو بقي، ولا يضمن الزيادة وللبائع استرداده إذا قضى دينه. لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام. اهـ، ثم نقل ما مر عن السيد الإمام وفي جامع الفصولين ولو بيع كرم بجنب هذا الكرم فالشفعة للبائع لا للمشتري لأن بيع المعاملة والتلجئة حكمهما حكم الرهن وللراهن حق الشفعة وإن كان في يد المرتهن. اهـ ... [رد المحتار: 3/342] .(7/1420)
إذا ثبت بأن بيع الوفاء والرهن سواء في الأحكام فلتشرع في بيان أحكام بيع الوفاء باسم الرهن والراهن والمرتهن والمرهون وذلك لأن اسم بيع الوفاء اسم جديد لا يرى استعماله في المصطلحات القديمة من عهد الصحابة والتابعين ولا في زمان فقهاء الدور الأول.
اختلف الأئمة في الجواز وعدم جواز الانتفاع بالمرهون للمرتهن أو للراهن، فرأى أبو حنيفة أنه لا يملك الراهن الانتفاع به، وقال الشافعي (رح) للراهن أن ينتفع به ما لم يضر المرتهن وأنكر أبو حنيفة ومالك والشافعي انتفاع المرتهن به خلافًا لأحمد (رح) .
والأصل في الباب في حديث الظهر يركب إذا كان مرهونًا ولبن الدر يشرب إذا كان مرهونًا وعلى الذي يركب ويشرب نفقته.
أخرج أبو داود عن أبي هريرة وابن ماجه عنه مرفوعًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهونًا وعلى الذي يحلب ويركب النفقة)) . قال أبو داود هو عندنا صحيح. نقل صاحب المشكاة هذا الحديث عن صحيح البخاري. وروى الشافعي مرسلًا عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه)) وروى مثله ومثل معناه لا يخالفه عنه عن أبي هريرة متصلًا. والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق وقال بعض أهل العلم: ليس له أن ينتفع من الرهن.
قال ابن حجر في تلخيص الحبير في تخريج أحاديث شرح رافع الكبير في هذا الحديث بأنه أعل بالوقف وأشار ابن أبي حاتم إلى رفعه.
فهذا الحديث بظاهره يدل على جواز الانتفاع بالمرهون، وبه أخذ أحمد وغيره للمرتهن، وحمله الشافعي على الراهن وجواز الانتفاع له، قال السيوطي في مرقات الصعود شرح سنن أبي داود: تأوله الشافعي على الراهن وأحمد على المرتهن، وفي إرشاد الساري احتج به الإمام أحمد حيث قال: يجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن إذا قام بمصلحة ولو لم يأذن له المالك، وأجمع الجمهور على أن المرتهن لا ينتفع من الرهن بشيء.(7/1421)
قال ابن عبد البر: هذا الحديث منسوخ عند جمهور الفقهاء، ويرده أصول مجمع عليها وآثار لا يختلف في صحتها على نسخه حديث ابن عمر لا تحلب ماشية امرىء بغير إذنه، وقال: عن الشافعي ما يشبه أن يكون المراد لم يمنع الراهن من درها وظهرها فهي محلوبة ومركوبة له كما كانت قبل الرهن، وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية عنه: ليس للراهن ذلك لأنه ينافي حكم الرهن وهو الحبس الدائم وفي الجامع الصغير للسيوطي وشرح للعزيري: الرهن أي الظهر المركوب يركب بنفقته ويشرب لبن الدر، قال العلقمي: يجوز للمرتهن ذلك بإذن الراهن وإذا هلك لا ضمان عليه، وقال أحمد وإسحاق وطائفة: يجوز للمرتهن الانتفاع بالمرهون إذا قام بمصلحة وإن لم يأذن له المالك، ومنه أيضًا الظهر أي ظهر الدابة المرهونة مركب بنفقته إذا كان مرهونًا أي يركبه الراهن وينفق عليه عند الشافعي ومالك لأن له الرقبة، وليس للمرتهن إلا التوثق، أو المراد المرتهن له ذلك بإذن الراهن واستدلت طائفة بالحديث على جواز انتفاع المرتهن بالمرهون إذا قام بمصلحة وإن لم يأذن له المالك، وحمله الجمهور على ما تقدم، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة، وهو الراهن وكذا عليه نفقته وإن لم ينتفع به، وبظاهر الحديث عمل أحمد ابن حنبل، قال غيره: لا يجوز الانتفاع به لكن منافعه كاللبن ونحوه يكون للراهن عند الشافعي ويكون رهنًا كالأصل عندنا انتهى.
وأطال أبو جعفر الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار بحث الرهن والانتفاع بالمرهون للمرتهن أو الراهن، وقال: وقد ظهر من هذه العبارات وغيرها من كلمات الثقات أنهم اختلفوا في الحديث المذكور على أقوال، أحدها: حمله على انتفاع الراهن وهو مسلك الشافعية، وثانيها: حمله على المرتهن مطلقًا وإن لم يأذن له الراهن وهو مسلك الحنابلة، وثالثها: حمله على انتفاع المرتهن بإذن الراهن وهو مسلك جمهور علماء الأمة، ورابعها: كونه منسوخًا بتحريم القرض مع جر المنفعة، ولا يخفى على المنصف غير المتعصب أن أولى الأقوال فيه: حمله على انتفاع المرتهن عند إذن الراهن، لكن بشرط أن لا تكون مشروطًا حقيقة أو حكمًا كما سيأتي، أما حمله على جواز انتفاع المرتهن مطلقًا يخالفه الأصول الشرعية والقواعد الممهدة النقلية الثابتة: - لا يجوز الانتفاع بملك الغير بدون إذنه صريحًا أو دلالة فإنه لا شك أن المرهون مملوك للراهن وليس للمرتهن إلا حق حبس التوثيق، فكيف يجوز له التصرف بغير إذن الراهن وإليه أشار ابن عبد البر المالكي في إرشاد السالك - وحمله على انتفاع الراهن يخالف تصريح ما ورد في بعض طرقه من ذكر المرتهن.(7/1422)
وقال صاحب الهداية وشرحها: إن حكم المرتهن عندنا صيرورة الرهن محتبسًا بدين المرتهن حبسًا دائمًا بإثبات يد الاستيفاء منه فحسب، ولهذا لا يجوز عندنا انتفاع الراهن واسترداده لأنه يفوت موجبه وهو الحبس الدائم، ويجوز عنده لعدم كونه منافيًا لموجبه وهو تعينه للبيع، وأما إبداء احتمال أنه منسوخ كما ذكره الطحاوي فيخدشه أن النسج لا يثبت بالاحتمال، أن هذا الحكم كان في زمان إباحة الربا وإباحة القرض الذي جر منفعة وحكم بمنع كل ذلك لا يحكم بنسخه، نعم يصح أن يقال إنه معارض لخبر النهي عن القرض الذي جر منفعة، ومن المعلوم أنه عند التعارض بين الحل والحرمة ترجح الحرمة، والخبر المذكور هو ما ذكره صاحب الهداية وغيره في بحث الكراهية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر نفعًا وهو وإن كان متكلمًا فيه سندًا لكنه مؤيد بآثار الصحابة وعمل الأئمة.
وحقق عبد الحي اللكنوي بأن أصحاب الحنفية بعدما اتفقوا على أنه لا يجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن بدون إذن الراهن، اختلفوا في جوازه بالإذن على أقوال عديدة كما دلت عليه عباراتهم المختلفة، الأول: أنه جائز. الثاني: أنه ليس بجائز. والثالث: أنه جائز قضاء غير ديانة. والرابع: أن الإذن إن كان مشروطًا فهو غير جائز وإلا فهو جائز. والخامس: إن كان الإذن مشروطًا فهو حرام وإن لم يكن مشروطًا فهو مكروه وذكر عبارات مشاهيرهم الدالة على تفرقهم.
ثم قال: وأولى الأقوال المذكورة وأصحها وأوفقها برواية الحديث هو القول الرابع، ما كان مشروطًا يكره وما لم يكن مشروطًا لا يكره، أما كراهة المشروط فلحديث كون القرض الذي جر منفعة ربا، وأما عدم كراهة غير المشروط فلحديث الظهر يركب ولبن الدر يشرب، والمراد بالكراهة التحريمية كما يفيده تعليلهم بأنه ربا وهو المراد من الحرمة في قول من تكلم بحرمة المشروط فإن المكروه التحريمي قريب من الحرام بل كأنه هو ... إلخ.
وملخص ما ذكر في الموسوعة الفقهية: ص260 - 261 - 263:
حكم بيع الوفاء: اختلف الفقهاء في الحكم الشرعي لبيع الوفاء فذهب المالكية والحنابلة والمتقدمون من الحنفية والشافعية إلى أن بيع الوفاء فاسد، لأن اشتراط البائع أخذ المبيع إذا رد الثمن إلى المشتري يخالف مقتضى البيع وحكمه، وهو ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدوام، وفي هذا الشرط منفعة للبائع ولم يرد دليل معين يدل على جوازه فيكون شرطًا فاسدًا يفسد البيع باشتراطه فيه.(7/1423)
ولأن البيع على هذا الوجه لا يقصد منه حقيقة البيع بشرط الوفاء، وإنما يقصد من ورائه الوصول إلى الربا المحرم وهو إعطاء الحال إلى أجل ومنفعة البيع هي الربح، والربا باطل في جميع حالاته.
وذهب بعض المتأخرين من الحنفية والشافعية إلى أن بيع الوفاء جائز مفيد لبعض أحكامه وهو انتفاع المشتري بالمبيع دون بعضها، وهو البيع من آخر. وحجتهم في ذلك أن البيع بهذا الشرط تعارفه الناس وتعاملوا به لحاجتهم إليه فرارًا من الربا فيكون صحيحًا لا يفسد البيع باشتراطه فيه وإن كان مخالفًا للقواعد لأن القواعد تترك بالتعامل كما في الاستصناع.
وذهب أبو شجاع وعلي السغدي والقاضي أبو الحسن الماتريدي من الحنفية إلى أن بيع الوفاء رهن وليس ببيع، فيثبت له جميع أحكام الرهن، فلا يملكه المشتري ولا ينتفع به ولو استأجره لم تلزمه أجرته كالراهن إذا استأجر المرهون من المرتهن ويسقط الدين بهلاكه ولا يضمن ما زاد عليه - وإذا مات الراهن كان المرتهن أحق به من سائر الغرماء، وحجتهم في ذلك أن العبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني، ولهذا كانت الهبة بشرط العوض بيعًا وكانت الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة وأمثال ذلك كثير في الفقه.
وهذا البيع لما شرط فيه أخذ المبيع عند رد الثمن كان رهنًا لأنه هو الذي يؤخذ عند أداء الدين.
قال ابن عابدين: في بيع الوفاء قولان الأول: أنه بيع صحيح مفيد لبعض أحكامه من حل الانتفاع به إلا أنه لا يملك المشتري بيعه، قال الزيلعي في الإكراه وعليه الفتوى. الثاني: القول الجامع لبعض المحققين أنه فاسد في حق بعض الأحكام حتى ملك كل منهما الفسخ - صحيح في حق بعض الأحكام كحل الإنزال ومنافع المبيع ورهن في حق البعض حتى لم يملك المشتري بيعه من آخر ولا رهنه، وسقط الدين بهلاكه فهو مركب من العقود الثلاثة كالزرافة فيها صفة البعير والبقرة والنمر، جوز لحاجة الناس إليه بشرط سلامة البدلين لصاحبهما، قال في البحر: وينبغي أن لا يعدل في الإفتاء عن القول الجامع، وفي النهر: والعمل في ديارنا على ما رجحه الزيلعي.
وقال صاحب بغية المسترشدين من متأخري الشافعية: بيع العهدة صحيح جائز وتثبت به الحجة شرعًا وعرفًا على قول القائلين به، ولم أر من صرح بكراهته، وقد جرى عليه العمل في غالب جهات المسلمين من زمن قديم، وحكمت بمقتضاه الحكام وأقره من يقول به من علماء الإسلام مع أنه ليس من مذهب الشافعي وإنما اختاره من اختاره ولفقه من مذاهب للضرورة الماسة إليه ومع ذلك فالاختلاف في صحته من أصله وفي التفريع عليه لا يخفى على من له إلمام بالفقه.(7/1424)
شرط بيع الوفاء عند من يجيزه:
لتطبيق أحكام بيع الوفاء شرطان عند من يجيزه لا بد من توافرهما وهما:
(أ) أن يُنَصَّ في العقد على أنه متى رد البائع الثمن رد المشتري المبيع.
(ب) سلامة البدلين، فإن تلف المبيع وفاء وكانت قيمته مساوية للدين (أي الثمن) سقط الذي في مقابلته، وإن كانت زائدة على مقدار الدين وهلك المبيع في يد المشتري سقط من قيمته قدر ما يقابل الدين، وهو في هذا كالرهن عند الحنفية.
الآثار المترتبة على بيع الوفاء:
هناك آثار تترتب على بيع الوفاء عند من يجيزه من متأخري الحنفية وغيرهم نجملها فيما يلي:
أولًا - عدم نقله في الملكية:
إن بيع الوفاء لا يسوغ للمشتري التصرف الناقل للملك كالبيع والهبة عند من يجيزه ويترتب على ذلك عدة مسائل:
(أ) عدم نفاذ بيع المبيع وفاء من غير البائع - وذلك لأنه كالرهن والرهن لا يجوز بيعه.
(ب) لا يحق للمشتري في بيع الوفاء الشفعة وتبقى الشفعة للبائع - ففي الفتاوى الهندية نقلًا عن فتاوى أبي الفضل أنه سئل عن كرم بيد رجل وامرأة باعت المرأة نصيبها من الرجل واشترطت أنها متى جاءت بالثمن رد عليها نصيبها - ثم باع الرجل نصيبه هل للمرأة فيه شفعة؟ قال أبو الفضل: إن كان البيع بيع معاملة ففيه الشفعة للمرأة، سواء كان نصيبها من الكرم في يدها أو في يد الرجل.
(ج) الخراج في الأرض المبيعة بيع الوفاء على البائع.
(د) لو هلك المبيع في يد المشتري فلا شيء لواحد منهما على الآخر.
(هـ) منافع المبيع بيع الوفاء للبائع كالإجارة وثمرة الأشجار ونحوها، فلو باع داره من آخر بثمن معلوم بيع وفاء وتقابضا ثم استأجرها من المشتري مع شرائط صحة الإجارة وقبضها ومضت المدة هل يلزمه الأجر؟ قال: لا، فتبين أن الملك لم ينتقل للمشتري إذ لو انتقل أوجبت الأجرة، وكذلك ثمر الشجر للبائع دون المشتري، فإن المشتري لو أخذ من ثمر الأشجار شيئًا فإن أخذه بإذن البائع برئت ذمته وإن أخذه بغير إذنه ورضاه ضمنها.(7/1425)
(و) انتفال المبيع وفاء بالإرث إلى ورثة البائع، فلو باع رجل بستانه من آخر بيع وفاء وتقابضا ثم باعه المشتري من آخر بيعًا باتًّا وسلم وغاب، فللبائع وورثته أن يخاصموا المشتري الثاني ويستردوا منه البستان، وكذا إذا مات البائع والمشتريان ولكل ورثة فلورثة المالك أن يستخلصوا من أيدي ورثة المشتري الثاني، ولورثة المشتري الثاني أن يرجعوا بما أدي من الثمن إلى بائعه في تركته التي في أيدي ورثته، ولورثة المشتري الأول أن يستردوه ويحسبوه بدين مورثهم إلى أن يقضوا الدين.
ثانيًا - حق البائع في استرداد المبيع:
يحق للبائع أن يسترد مبيعه إذا دفع الثمن للمشتري في حالتي التوقيت وعدمه.
ثالثًا - أثر موت أحد المتعاقدين في بيع الوفاء:
سبق قريبًا أنه إذا مات المشتري أو البائع بيع وفاء فإن ورثته يقومون مقامه في أحكام الوفاء نظرًا لجانب الرهن.
رابعًا - اختلاف المتعاقدين في بيع الوفاء:
من أهم الأحكام التي تتعلق باختلاف المتعاقدين في بيع الوفاء ما يلي:
(أ) إذا اختلف المتعاقدان في أصل بيع الوفاء كأن قال أحدهما كان البيع باتًّا أو وفاء فالقول لمدعي الجد والبتات إلا بقرينة الوفاء، وهناك قول آخر عند الحنفية أن القول لمدعي الوفاء استحسانًا.
(ب) إذا أقام كل من المشتري والبائع البينة تقدم بينة الوفاء، لأنها خلاف الظاهر.
(ج) إذا لم يكن لأحدهما بينة فالقول قول مدعي البتات.
قال ابن عابدين: فتحصل أن الاستحسان في الاختلاف في البينة ترجيح بينة الوفاء، وفي الاختلاف في القول ترجيح قول مدعي البتات، ومن القرائن الدالة على الوفاء نقصان الثمن كثيرًا، وهو ما لا يتغابن فيه الناس عادة إلا أن يدعي صاحبه تغير السعر.(7/1426)
المحور الثالث:
الانتفاع للاقتصاد بأوجه بيع الوفاء:
أما مسألة انتفاع الاقتصاد المعاصر من البيع بالوفاء فمعقدة للغاية نظرًا إلى تعقيد المسائل الاقتصادية والمعاملات المالية والتجارية الحديثة والمتداولة على المستوى الدولي، وتتم معظم هذه المعاملات عن طريق البنوك التجارية التي تتعامل بالربا المحرم. ومن أجل التخلص من لعنة الربا في هذه المعاملات التي لا مفر منها للاقتصاد، يتوجب على طائفة من علماء العصر وفقهاء الأمة التفرغ للبحث في أوجه هذه المعاملات بكل تفاصيلها وتعقيداتها لإيجاد بدائل إسلامية لهذه المعاملات، ومن الممكن الاستفادة في هذا المجال بأوجه البيع بالوفاء الشرعية باعتبار البنك وسيطًا بين طرفي المعاملة، فيكون البنك راهنًا لطرف ومرتهنًا لطرف آخر ويبايع بالوفاء مع الطرفين على حدة بحيث يحقق البنك ربحه بدون ربط الثمن بنسبة مئوية من الفائدة.
الشريف محمد عبد القادر(7/1427)
بيع الوفاء
إعداد
فضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني
رئيس الجامعة لدار العلوم كراتشي والمفتي بها
باكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا وشفيعنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
تقديم:
فقد أرسل الله تعالى الإنسان إلى الأرض، وخلق له ما في الأرض جميعًا، وأباح له تملك الأشياء بأسباب شتى شرعها الله تعالى من البيع والشراء والهبة والميراث والوصية وما إليها. وكان البيع والشراء من أهم أسباب التملك وأوسعها نطاقًا، وأكثرها وقوعًا، لا غنى للإنسان عنهما، فالحياة تدور بهما، وبهما تتم. ولذلك أباح الله تعالى البيع وأعلن بذلك في كتابه المبين، فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
للبيع صور شتى، وأقسام متنوعة تسمى بأسماء مختلفة، تختلف أحكامها من الصحة والفساد، والإباحة والحرمة وما إليها في ضوء الشريعة الإسلامية.
ومن أقسام البيع، قسم حادث من البيوع يسمى ((بيع الوفاء)) وهو بيع استحدث بعد القرون الأربعة، لم يرد فيها نص صريح في القرآن والسنة بإباحته أو حرمته. ولذلك اختلفت فيه آراء الفقهاء رحمهم الله، وهو الذي نحن بصدد تحقيقه.
وقبل أن نخوض في بيان حكمه وآراء الفقهاء في ذلك نريد أن نبين أولًا تعريفه بما يوضح صورته، وأساميه المختلفة، ثم بيان حكمه واختلاف الفقهاء في ذلك.
وجدير بالذكر أن سادة الفقهاء الحنفية المتأخرين رحمهم الله أكثروا من ذكره في كتبهم وفتاواهم، بعنوان واضح، وعبارات طويلة، بينما لم نجد عند غير الحنفية ذكر بيع الوفاء بعنوان واضح، إلا أن المالكية رحمهم الله ذكروه باسم ((بيع الثنيا)) كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ولذلك نبدأ بموقف الأحناف في ذلك ثم المالكية ثم الشافعية والحنابلة. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا للسداد، ويرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه. إنه الموفق للحق والسداد.(7/1428)
تعريفه:
جاء في المجلة:
(بيع الوفاء هو بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع) (1) .
قال الشامي:
(لا فرق بين أن يقول البائع على أن ترده علي أو أن تبيعه مني) (2) .
من صور بيع الوفاء:
1- أن يبيعه العين بألف على أنه إذا رد عليه الثمن رد عليه العين (3) .
2- أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بما لك علي من الدين على أني متى قضيت الدين فهو لي (4) .
3- أو يقول: بعت منك هذا العين بكذا على أني إن دفعت إليك الثمن تدفع العين إليَّ (5) .
4- أن يقول: بعت منك على أن تبيعه مني متى جئت بالثمن (6) .
أسماء أخرى لبيع الوفاء ووجوه التسمية:
1- بيع الوفاء. قال الشامي:
(وجه تسميته بيع الوفاء أن فيه عهدًا بالوفاء من المشتري بأن يرد المبيع على البائع حين رد الثمن) (7) .
2- البيع الجائز. قال الشامي:
(ولعله مبني على أنه بيع صحيح لحاجة التخلص من الربا حتى يسوغ المشتري أكل ريعه) (8) .
3- بيع المعاملة. قال الشامي:
(وبعضهم يسمى بيع المعاملة، ووجهه أن المعاملة ربح الدين، وهذا يشتريه الدائن لينتفع به بمقابلة دينه) (9) .
4- بيع الأمانة. قال الشامي:
(ووجهه أنه أمانة عند المشتري بناء على أنه رهن أي كالأمانة) (10) .
5- بيع الإطاعة. وبيع الطاعة. قال ابن عابدين الشامي رحمه الله تعالى:
(وهو المشهور الآن في بلادنا، ووجهه حينئذ أن الدائن يأمر المدين ببيع داره مثلًا بالدين فيطيعه فصار معناه بيع الانقياد) (11) .
__________
(1) المجلة، مادة (118) .
(2) ابن عابدين، رد المحتار: 5/276.
(3) علاء الدين، الدر المختار: 5/276.
(4) العناية على الهداية بهامش فتح القدير: 8/169.
(5) الفتاوى الهندية: 3/209.
(6) جامع الفصولين: 1/334.
(7) رد المحتار: 5/276.
(8) رد المحتار: 5/276.
(9) رد المحتار: 5/276.
(10) رد المحتار: 5/276.
(11) رد المحتار: 5/276.(7/1429)
مظان ذكر بيع الوفاء:
فقهاء الحنفية يذكرون هذا البيع في موضع من ثلاثة، فمنهم من ذكره في البيع الفاسد، كالبزازي، ومنهم من ذكره عند الكلام على خيار النقد من كتاب البيوع كابن نجيم وقاضيخان، ومنهم من ذكره في كتاب الإكراه كالزيلعي والمرغيناني صاحب الهداية وأصحاب شروح الهداية.
الفرق بين عامة البيوع وبيع الوفاء:
يفترق بيع الوفاء عن عامة البيوع من ناحية خاصة، ولذلك سمي باسم خاص، ففي عامة البيوع حينما يتم البيع بين البائع والمشتري، ويقبض المشتري على المبيع والبائع على الثمن، ولم يكن لأحد خيار، يستبد كل واحد منهما بالتصرف في مملوكه كيف شاء. يستبد البائع بالتصرف في الثمن المملوك، والمشتري بالتصرف في المبيع الذي تملكه بالبيع، بخلاف بيع الوفاء، فإن المشتري يلتزم فيه أنه لا يبيع المشتري ولا يخرجه عن ملكه، بل يبقيه في ملكه إلى أن يجيء البائع، ويرد الثمن على المشتري، فيرد المشتري المبيع إلى البائع، ولذا يجتمع في بيع الوفاء ثلاثة محظورات:
1- بيع الوفاء بيع شرط فيه شرط لا يقتضيه العقد، وهو شرط رد المبيع إلى البائع إذا رد الثمن، فيلزم أن يكون بيعًا فاسدًا. ويكون فسخه واجبًا عند الأحناف، وكأن البائع في بيع الوفاء يحجر على المشتري، فيمنعه عن بيع المبيع لآخر مع أنه ملكه بالاشتراء، فكان حجرًا على المالك من أجنبي، ولا عهد لنا به في الشرع.
2- بيع الوفاء بيع شرط فيه إقالة، وكل بيع شرط فيه إقالة يكون فاسدًا (1) فلزم أن يكون بيع الوفاء فاسدًا.
__________
(1) راجع الهداية، باب خيار الشرط، المسألة الأولى دليل الإمام زفر: 3/19، طبع ايج ايم سويد، كراتشي.(7/1430)
3- حينما نتأمل في بيع الوفاء نجد أنه أشبه بالرهن من البيع، فكما أن في الرهن يأخذ الراهن الدين من المرتهن، ويعطيه المرهون، حتى إذا قضى دينه يأخذ المرهون من المرتهن كذلك البائع ههنا يأخذ المبلغ من المشتري ويعطيه المبيع حتى إذا رد عليه الثمن استرد منه المبيع. فكان بيع الوفاء رهنا في الحقيقة. ومن حكم الرهن حرمة الانتفاع بالمرهون للمرتهن عند جميع الفقهاء. وههنا ينتفع المشتري وهو المرتهن حقيقة بالمشتري الذي هو المرهون، فيلزم أن يكون حرامًا. ولكن تعارفه بعض الناس احتيالًا للربا كما ذكره ابن عابدين في رد المحتار وغيرهم من الحنفية في كتبهم.
متى حدث هذا البيع:
لا نجد ذكر بيع الوفاء في كتب المتقدمين من فقهاء الحنفية وأئمتهم في القرون الأربعة الأولى، ولذلك نرى أن هذا البيع حدث بعد القرن الرابع في أوائل القرن الخامس الهجري، فقد أظهر رأيه في هذا البيع الإمام القاضي الحسن الماتريدي والسيد الإمام أبو شجاع والإمام علي السغدي، وهم من فقهاء القرن الخامس.
لماذا حدث هذا البيع:
نقل القاضي ابن سماوة عن بعض الفقهاء:
(البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا وسموه بيع الوفاء، وهو رهن في الحقيقة ... لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام، لأن المتعاقدين وإن سمياه البيع، ولكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين) (1) .
وقال ابن نجيم بعدما ذكر موقف قاضيخان في ذلك:
(جاز البيع ولزم الوفاء، وقد يلزم الوعد لحاجة الناس فرارًا من الربا، فبلخ (أي أهالي بلخ) اعتادوا الدين والإجارة، وهي لا تصح في الكروم، وبخارى (أي أهالي بخارى) الإجارة الطويلة ولا يكون ذلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاء، وما ضاق على الناس أمر إلا اتسع حكمه) (2) .
__________
(1) جامع الفصولين: 1/224.
(2) البحر الرائق: 6/8.(7/1431)
يظهر من كلام الفقهاء ومن العبارتين اللتين ذكرناهما آنفًا، أنه احتيج إلى بيع الوفاء لأمور:
الأول: كان الناس يريدون أن يأخذوا الديون لحاجتهم، ويرهنوا أراضيهم لذلك. وكان المرتهن الدائن يأبى عن مبرة الإقراض المستحب إلا بأن يأخذ عليه منفعة لنفسه، وبما أن الشرع حرم على الدائن أن يأخذ على الدين ربحًا، لأن كل قرض جر منفعة فهو ربا. وبما أن الشرع حرم على المرتهن أن ينتفع بالمرهون، لكونه ربا. احتال الناس إلى بيع الوفاء، لكي ينتفع المرتهن بالمرهون، فإن المرتهن يصير بهذه الحيلة مشتريًا وللمشتري أن ينتفع بمملوكه كيف يشاء، إلا أنه وعد أن يرد على المشتري المبيع إذا رد عليه الثمن.
الثاني: (كما فهمته من عبارة البحر الرائق) أن أهالي بلخ كانوا يأخذون القرض من أحد، وكانوا يجيرون في مقابلته إلى الدائن بستان الكروم على أن العنب للمستأجر، ولكن إجارة الكروم على هذا الشرط لا يجوز عند الفقهاء، فاحتالوا بيع الوفاء مكان الإجارة، لكي يكون هذا العقد تحت ضابط شرعي.
الثالث: أن أهالي بخارى كانوا يأخذون القرض ويدفعون في مقابلته أشجار البستان إجارة، على أن الثمرة للمستأجر، ولكن إجارة الأشجار (1) على هذا الشرط لا يجوز عند الفقهاء، فاحتالوا بيع الوفاء، ليكون هذا العقد تحت أصل كلي مباح.
__________
(1) في الفتاوى الهندية: ولا تجوز إجارة الشجر على أن الثمر للمستأجر، وكذلك لو استأجر بقرة أو شاة، ليكون اللبن أو الولد له، كذا في محيط السرخسي. [الفتاوى الهندية: 4/442، كتاب الإجارة] . وقال ابن عابدين في باب المساقاة تحت قول الماتن: (وإذا انقضت المدة تترك بلا أجر، ويعمل بلا أجر، وفي المزارعة بأجر) (قوله تترك بلا أجرة) أي للعامل القيام عليها إلى انتهاء الثمرة، لكن بلا أجر عليه، لأن الشجر لا يجوز استئجاره (قوله وفي المزارعة بأجر) أي في الترك والعمل، لأن الأرض يجوز استئجارها. [رد المحتار: 6/286] .(7/1432)
حكم بيع الوفاء عند فقهاء الحنفية:
اضطربت آراء فقهاء الحنفية في حكم بيع الوفاء. وذكر ابن نجيم في البحر الرائق، وابن البزاز الكردي في الفتاوى البزازية أن لفقهاء الحنفية في بيع الوفاء ثمانية آراء. [راجع لتفصيل تلك الآراء: البحر الرائق: 6/8 و 9؛ والفتاوى البزازية على هامش الهندية: 4/405؛ وجامع الفصولين: 1/234] . لكن العمدة في بيع الوفاء أربعة أقوال.
الأول: قال بعض الفقهاء أنه رهن في الحقيقة، لا يملكه (أي المشتري) ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه (1) ، وللبائع استرداده إذا قضى دينه، لا فرق بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام، لأن المتعاقدين وإن سمياه البيع، ولكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين، إذا العاقد يقول لكل أحد بعد هذا العقد: رهنت ملكي فلانًا، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والعبرة في التصرفات للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني، فإن الحوالة بشرط أن لا يبرأ كفالة والكفالة بشرط البراءة حوالة. وهذا هو مذهب الإمام الحسن الماتريدي، والسيد أبي شجاع وابنه، والإمام علي السغدي (2) .
الثاني: أنه بيع غير صحيح، واختاره صاحب الهداية وأولاده أعني لا يملك المشتري عندهم بيعه من الغير كما في بيع المكره، لا كالبيع الفاسد بعد القبض (3) .
الثالث: ما اختاره قاضيخان وهو من طبقة المجتهدين في المسائل عند الأحناف، فقال:
(والصحيح أن العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا، ثم ينظر إن ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع وإن لم يذكرا ذلك في البيع وتلفظا بلفظة البيع بشرط الوفاء، أو تلفظا بالبيع الجائز، وعندهما هذا البيع عبارة عن عقد غير لازم فكذلك، وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة، جاز البيع، ويلزمه الوفاء بالوعد لأن المواعدة قد تكون لازمة فتجعل لازمة لحاجة الناس) (4) .
الرابع: القول الجامع لبعض المحققين أنه فاسد في حق بعض الأحكام، حتى ملك كل منهما الفسخ، صحيح في حق بعض الأحكام، كحل الإنزال ومنافع المبيع، ورهن في حق البعض، حتى لم يملك المشتري بيعه من آخر ولا رهنه، وسقط الدين بهلاكه، فهو مركب من العقود الثلاثة، جوز لحاجة الناس إليه، بشرط سلامة البدلين لصاحبهما. قال ابن نجيم:
(وينبغي أن لا يعدل في الإفتاء عن القول الجامع) (5) .
والذي نراه أن القول الثالث والرابع لا يتنافيان، بل يجتمعان في أن القول الثالث يبين كيفية صحة هذا العقد، والقول الرابع يبين الأحكام التي تنبني على صحة هذا العقد.
__________
(1) قلت: هكذا ذكره ابن قاضي سماوة في جامع الفصولين: 1/234؛ وابن عابدين في رد المحتار: 5/276 مطلقًا، ولكن المتأخرين من الحنفية لم يبيحوا انتفاع المرتهن بالمرهون، وإن كان بإذن الراهن، لأن العرف قد جرى بالانتفاع بالرهن، والمعروف كالمشروط. ولذلك ذكر ابن عابدين نفسه في رد المحتار في كتاب الرهن أنه لا يحل للمرتهن ذلك ولو بالإذن، لأنه ربا. [راجع رد المحتار: 6/482، 6/522] .
(2) الفتاوى البزازية: 4/405؛ وجامع الفصولين: 1/234؛ ورد المحتار: 5/276.
(3) راجع الهداية وشروحها من العناية والكفاية وفتح القدير، كتاب الإكراه.
(4) الفتاوى الخانية بهامش الهندية: 2/165.
(5) البحر الرائق: 6/9؛ ورد المحتار: 5/277.(7/1433)
ما هو الراجح من تلك الأقوال:
قد تبين مما حررنا سابقًا أن المقصود من بيع الوفاء كان في الحقيقة رهنًا غيروه إلى بيع حتى ينتفع الدائن بمقبوضه. فلو نظرنا إلى المعنى والمقصود لوجب لنا أن نقول بما قاله أصحاب القول الأول، ونجري عليه أحكام الرهن، أما إذا نظرنا إلى الألفاظ والمباني نجد أن القول الثالث الذي اختاره قاضيخان هو الراجح، وبه أفتى مشائخ الحنفية من المتأخرين.
فالترجيح للقول الثالث كما يظهر مما يلي:
1- ذكر ابن قاضي سماوة في جامع الفصولين: (قال النسفي: اتفق مشايخ زماننا على صحته بيعًا على ما كان عليه بعض السلف، لأنهما تلفظا بلفظ البيع بلا ذكر شرط فيه، والعبرة للملفوظ دون المقصود، فإن من تزوج امرأة على نية أن يطلقها بعد ما جامعها، صح العقد. أقول أن الانتفاع به مقصود كما أن الاستيثاق به مقصود، فلا وجه لجعله رهنًا مع رضاه بالانتفاع، فعلى هذا لا يكون رهنًا لا لفظًا ولا غرضًا) (1) .
2- قال علاء الدين الحصكفي في كتابه الدر المختار في شرح تنوير الأبصار: (وقيل إن بلفظ البيع لم يكن رهنًا، ثم إن ذكر الفسخ فيه أو قبله، أو زعماه غير لازم كان بيعًا فاسدًا، ولو بعده على وجه الميعاد جاز، ولزم الوفاء به، لأن المواعيد قد تكون لازمة لحاجة الناس، وهو الصحيح كما في الكافي والخانية، وأقره "خسرو" هنا والمصنف في باب الإكراه، وابن الملك في باب الإقالة) (2) .
3- وفي مجلة الأحكام العدلية: (الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة أو خاصة، ومن هذا القبيل تجويز بيع الوفاء، فإنه لما كثرت الديون على أهالي بخارى مست الحاجة إلى ذلك، فصار مرعيًّا) (3) .
4- وبه أفتى المشايخ من أهل الفتاوى في شبه القارة الهندية (باكستان والهند) منهم فضيلة الشيخ أشرف علي التهانوي (4) وفضيلة والدي الشيخ المفتي محمد شفيع (5) وغيرهم من العلماء والمفتين.
__________
(1) جامع الفصولين: 1/235.
(2) الدر المختار: 5/277.
(3) مادة: 32.
(4) إمداد الفتاوى: 3/106 - 109.
(5) إمداد المفتين: 2/838.(7/1434)
الأصل المستند إليه في التحليل أو المنع:
ربما يتوهم ظاهرًا من تحليل بيع الوفاء أن هذه حيلة لأخذ ما كان ربا. ولكن حينما نتأمل نجد أن هذا الوهم ليس في محله، فإنه لو أخذ المرتهن من الراهن الشيء المرهون، وانتفع به لكان ربا وحرامًا داخلًا في قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .لأن كل قرض جر منفعة فهو ربا. أما إذا اشترى رجل أو مرتهن ذلك الشيء من رجل أو راهن، وتملكه ببيع وانتفع به فهو بيع داخل في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] .
أما كون هذا من الحيل فليست كل حيلة ممنوعة شرعًا. فقد ذكر أخي العزيز الشيخ المفتي القاضي محمد تقي العثماني في كتابه ((تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم)) تحت حديث ((قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها)) ما نصه:
(والحق كما قال الآلوسي في تفسير روح المعاني: 23/209، تحت قوله تعالى: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] .
إن الحيلة كلما أوجبت إبطال حكمة شرعية لا تقبل، كحيلة سقوط الزكاة وسقوط الاستبراء. وأما إذا توصل بها الرجل إلى ما يجوز فعله، ودفع المكروه، بها عن نفسه وعن غيره فلا بأس بها. وقال السرخسي رحمه الله في كتاب الحيل من المبسوط: 30/210، (فالحاصل أن ما يتخلص به الرجل من الحرام أو يتوصل به إلى الحلال من الحيل فهو حسن، وإنما يكره ذلك أن يحتال في حق الرجل حتى يبطله أو في باطل حتى يموهه، أو في حق حتى يدخل فيه شبهة، فما كان على هذا السبيل فهو مكروه، وما كان على السبيل الذي قلنا أولًا فلا بأس به) واستدل على جواز الحيلة المشروعة بقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] .
فإن ذلك تعليم حيلة، وبقوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] .
فإنه حيلة. وجاء السرخسي رحمه الله تعالى بعدة أحاديث وآثار تدل على جوازها.
قال العبد الضعيف عفا الله عنه: ومن أقوى ما يدل على جواز الحيلة المشروعة ما أخرجه الشيخان والنسائي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاث، قال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا. الحديث.(7/1435)
هذا هو حيلة للتوصيل إلى طريق حلال، فما كان من هذا القبيل فهو جائز قطعًا، وأما حيلة اليهود في تحليل السبت وبيع الشحوم وأكل ثمنها، فكانت من قبيل إبطال الحكمة الشرعية، فإن الشريعة قصدت منعهم عن الصيد يوم السبت وعن أكل الشحوم وبيعها، ففعلوا ما حصل منه ذلك بعينه، وإنما غيروا الطريق أو التعبير، وقدمنا أن مجرد تغيير الاسم لا يؤثر في حل الشيء وحرمته حتى تتغير حقيقته) (1) .
وفي مسألتنا أي مسألة بيع الوفاء تغيرت حقيقة العقد، فإن حقيقة بيع الوفاء كانت رهنًا في الأصل، ثم غيروا الرهن إلى البيع. ولا شبهة في جواز البيع فكان جائزًا كما ذكرنا أولًا. والله سبحانه أعلم.
أحكام بيع الوفاء:
إذا ثبت أن القول الثالث والرابع من أقوال الفقهاء هو مختار الحنفية المتأخرين، نريد أن نذكر جملة من أحكامه، ونوزعها على قسمين:
1- صحة هذا العقد.
2- الأحكام التي تنبني على صحة هذا العقد.
صحة هذا العقد:
يمكن تصوير هذا العقد على أربع صور:
الصورة الأولى: تبايعا بيعًا بدون شرط، وأضمرا في القلب بأن البائع إذا جاء ورد الثمن يرد المشتري إليه المبيع ويأخذ الثمن، فلا نزاع في جوازه.
الصورة الثانية: تبايعا بيعًا، وذكرا شرط الفسخ في صلب البيع، أو ذكرا لفظة بيع الوفاء أو البيع الجائز، أرادا به عقدًا غير لازم يكون بيعًا فاسدًا. لأن هذا البيع شرطت فيه إقالة فاسدة، لجهالة المدة، ولو شرطت الإقالة الصحيحة في البيع يكون فاسدًا، فكان فساد هذا أولى.
الصورة الثالثة: تبايعا بيعًا بدون شرط، ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة، جاز البيع ويلزمهما الوفاء بالعهد.
__________
(1) تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم: 1/565.(7/1436)
التفصيل: يجب هنا (في الصورة الثالثة) أن نبحث عن أمرين لا بد من ذكرهما، وإيراد ما يرد عليهما.
الأول: جواز البيع، يرد عليه أنه كيف جاز هذا البيع عند الحنفية مع أن ذكر الشرط بعد العقد يلتحق بالعقد عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولو بعد مجلس العقد، فيصير بيع الوفاء كأنه شرط في العقد، وإن ذكراه بعد انتهاء المجلس.
والجواب أن هذا مذهب الإمام أبي حنيفة، وقد خالفه صاحباه (الإمام أبو يوسف والإمام محمد بن الحسن) في ذلك، وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة أيضًا. فعندهما لا يلتحق الشرط بعد العقد، وهو الراجح عند الأحناف.
قال الشامي: قيل يلتحق عند أبي حنيفة، وقيل لا، وهو الأصح كما في جامع الفصولين في الفصل رقم 39، لكن في الأصل أنه يلتحق عند أبي حنيفة، وإن كان الإلحاق بعد الافتراق عن المجلس. وتمامه في البحر. قلت: هذه الرواية الأخرى عن أبي حنيفة، وقد علمت تصحيح مقابلها، وهي قولهما (1) .
الثاني: مسألة لزوم الوعد والوفاء بالعهد.
قال الطيبي: (واعلم أن الوعد أمر مأمور الوفاء به في جميع الأديان، حافظ عليه الرسل المتقدمون، قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] ومدح ابنه اسماعيل يعني جد نبينا عليهم السلام بقوله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] يقال: إنه وعد إنسانا في موضع، فلم يرجع إليه فأقام عليه حتى حال عليه الحول) (2) .
فكان إيفاء الوعد أمرًا مأمورًا به في جميع الشرائع، وقد قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} . [الإسراء:34]
- وهذا كله ديانة، ولكن اختلف الفقهاء في أنه هل يجب على الواعد الوفاء بالوعد قضاءً أيضًا، فالمشهور أن الوعد عند فقهاء الحنفية لا يكون ملزمًا في القضاء، ولكن قد صرح كثير من متأخري فقهاء الحنفية أن المواعدة قد تكون لازمة، فتجعل لازمة لحاجة الناس. قال قاضيخان رحمه الله تعالى:
(وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة، جاز البيع، ويلزم الوفاء بالوعد، لأن المواعدة قد تكون لازمة، فتجعل لازمة لحاجة الناس) (3) .
وقال الشامي: (وفي جامع الفصولين أيضًا: لو ذكرا البيع بلا شرط ثم ذكرا الشرط على وجه العقد، جاز البيع، ولزم الوفاء بالوعد، إذ المواعيد قد تكون لازمة فيجعل لازمًا لحاجة الناس) (4) .
__________
(1) شامي، رد المحتار: 5/84.
(2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لملا علي القاري، المكتبة الإمدادية، ملتان (باكستان) .
(3) الفتاوى الخانية بهامش الهندية: 2/165.
(4) رد المحتار: 5/84.(7/1437)
وهناك فرق آخر ذكره فضيلة والدي الشيخ المفتي محمد شفيع في تفسيره المعروف ((بمعارف القرآن)) بين الوعد وبين العهد، أو بلفظ آخر بين الوعد وبين المواعدة، وملخص ما ذكره الشيخ أن هناك وعدًا يعد به إنسان لآخر من تلقاء نفسه، فهذا وعد يجب عليه الوفاء به ديانة (إلا لعذر شرعي) ولكن لا يجبر الواعد على الوفاء به قضاءً.
وهناك عهد، أو عقد، أو مواعدة يتفق عليه رجلان ويتعاهدان به، فهذا عهد وعقد يجب على الواعد الوفاء به ديانة وقضاء، فلو لم يف به الواعد يسمح لآخر أن يذهب إلى المحكمة، ويجبر الآخر على الوفاء بذلك (1) .
الصورة الرابعة: تواضع البائع والمشتري قبل العقد على بيع الوفاء، ثم تبايعا بيعًا خاليًا عن الشرط، جاز البيع، ويلزمهما الوفاء بالوعد.
التفصيل: اختلف فقهاء الحنفية في ذكر الشرط قبل العقد، هل يلغو الشرط؟ أم يكون هذا البيع فاسدًا؟ أم يكون البيع صحيحًا، ويلزم الوفاء بالعهد؟ قال البعض: يلغو الشرط، ولا عبرة بالمواضعة السابقة على العقد. قال ابن عابدين ناقلًا عن جامع الفصولين:
(وكذا لو تواضعا الوفاء قبل البيع ثم عقدا بلا شرط الوفاء، فالعقد جائز، ولا عبرة بالمواضعة السابقة) (2) .
وذكر البعض أن البيع يكون فاسدًا في هذه الصورة، قال العلاء الحصكفي:
(ثم إن ذكر الفسخ فيه أو قبله أو زعماه غير لازم كان بيعًا فاسدًا، ولو بعده على وجه الميعاد جاز، ولزم الوفاء به) (3) .
__________
(1) راجع تفسير معارف القرآن: 5/468.
(2) رد المحتار: 5/276؛ وجامع الفصولين: 2/336.
(3) الدر المختار: 5/277.(7/1438)
ورجح البعض أن في هذه الصورة الرابعة يكون البيع صحيحًا، ويلزمهما الوفاء بالعهد. وإليه مال حكيم الأمة فضيلة الشيخ أشرف علي التهانوي (1) ناقلًا عن ابن عابدين الشامي رحمه الله ما نصه:
(وقد سئل الخير الرملي عن رجلين تواضعا على بيع الوفاء قبل عقده، وعقدا البيع خاليًا عن شرط، فأجاب بأنه صرح في الخلاصة والفيض والتتارخانية وغيرها بأنه يكون على ما تواضعا) (2) .
وناقلًا عن الدر ما نصه: (إنه صحيح لحاجة الناس، فرارًا من الربا، وقالوا: ما ضاق على الناس أمر إلا اتسع حكمه) (3) .
وقال القاضي ابن سماوة في جامع الفصولين:
(شرطا شرطًا فاسدًا قبل العقد، ثم عقدا، لم يبطل العقد، ويبطل لو تفارقا) (4) .
إزاحة الشبهة:
وربما تقع ههنا شبهة ذكرها أخي العزيز الشيخ القاضي محمد تقي العثماني - حفظه الله تعالى - وأجاب عنها بما يثلج الصدور في مقالته القيمة (الطرق المشروعة للتمويل العقاري) وننقل عبارته بلفظها:
(وربما يقع ههنا إشكال، وهو أن المواعدة إذا وقعت قبل العقد، فالظاهر أنه ملحوظة عند العقد لدى الفريقين، ولو لم يتلفظا بها صراحة عند الإيجاب والقبول، وأنهما لا يبنيان العقد المطلق إلا على أساس ذلك الوعد السابق. فلم يبق هناك فرق بين هذا العقد المطلق الذي سبقه مواعدة من الفريقين وبين العقد الذي شرط فيه العقد الآخر صراحة. وينبغي أن يكون الحكم دائرًا على حقيقة المعاملة دون صورته، وأن تكون المواعدة السابقة في حكم الشرط في البيع في عدم الجواز.
__________
(1) إمداد الفتاوى: 3/109.
(2) رد المحتار: 5/84.
(3) الدر المختار: 5/280.
(4) جامع الفصولين: 2/237.(7/1439)
والجواب عن هذا الإشكال على ما ظهر لي - والله سبحانه أعلم - أن الفرق بين المسألتين ليس في الصورة فحسب، بل هناك فرق دقيق في الحقيقة أيضًا، وذلك أن العقد الواحد إن كان مشروطًا بالعقد الآخر، والذي يعبر عنه بالصفقة في الصفقة لا يكون عقدًا باتًّا، وإنما يتوقف على عقد آخر، بحيث لا يتم العقد الأول إلا به، فكان في معنى العقد المعلق أو العقد المضاف إلى زمن مستقبل. فإذا قال البائع للمشتري: بعتك هذه الدار على أن تؤجر الدار الفلانية لي بأجرة كذا فمعناه أن البيع موقوف على الإجارة اللاحقة، ومتى توقف العقد على واقع لاحق خرج من حيز كونه باتًّا، وصار عقدًا معلقًا، والتعليق في عقود المعاوضة لا يجوز. ولو حكمنا بمقتضى هذا العقد وامتنع المشتري من الإجارة، فإن ذلك يستلزم أن يرتفع البيع تلقائيًا، لأنه كان مشروطًا بالإجارة، وعند فوات الشرط يفوت المشروط. فالعقد إن شرط معه عقد آخر، كان ذلك في معنى تعليق العقد الأول على العقد الثاني، وصار كأنه قال: إن أجرتني الدار الفلانية بكذا، فداري بيع عليك بكذا. وهذا مما لا يجيزه أحد، لأن البيع لا يقبل التعليق.
وهذا بخلاف ما لو ذكرا ذلك على سبيل المواعدة في أول الأمر، ثم عقدا البيع مطلقًا عن شرط فإن البيع ينعقد من غير تعليق بيعًا تامًّا، ولا يتوقف تمامه على عقد الإجارة، فلو امتنع المشتري من الإيجار بعد ذلك، فإنه لا يؤثر على هذا البيع البات شيئًا، فيبقى البيع تامًّا على حاله. وغاية الأمر أن يجبر المشتري على الوفاء بوعده على القول بلزوم الوعد، لأنه أدخل البائع في البيع بوعده، فلزم عليه أن يفي بذلك الوعد قضاء عند المالكية، وهذا شيء لا أثر له على البيع البات الذي حصل بدون أي شرط، فإنه يبقى تامًّا ولو لم يف المشتري بوعده.
وبهذا تبين أن البيع إذا اشترط فيه العقد الآخر يبقى مترددًا بين التمام والفسخ، وإن هذا التردد يورث فيه الفساد، بخلاف البيع المطلق الذي سبقه الوعد بالشيء، فإنه يتم في كل حال، وغاية الأمر أن يكون الوعد السابق لازمًا على المشتري على قول من يقول بلزوم الوعد) (1) .
__________
(1) الطرق المشروعة للتمويل العقاري، للقاضي محمد تقي العثماني.(7/1440)
الأحكام التي تنبني على صحة هذا العقد:
منها ما ذكرته مجلة الأحكام العدلية:
(مادة: 118) بيع الوفاء هو بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع، وهو في حكم البيع الجائز بالنظر إلى انتفاع المشتري به، وفي حكم البيع الفاسد بالنظر إلى اقتدار كل من العاقدين على الفسخ، وفي حكم الرهن بالنظر إلى أن المشتري لا يقدر على بيع المبيع من الغير.
(مادة: 396) كما أن البائع وفاء له أن يرد الثمن، ويأخذ المبيع كذلك للمشتري أن يرد المبيع، ويسترد الثمن.
(مادة: 397) ليس للبائع ولا للمشتري بيع مبيع الوفاء لشخص آخر.
(مادة: 398) إذا شرط في بيع الوفاء أن يكون قدر من منافع المبيع للمشتري صح ذلك مثلًا لو تقاول البائع والمشتري وتراضيا على أن الكرم المبيع بيع الوفاء تكون غلته مناصفة بين البائع والمشتري صح ولزم الوفاء بذلك على الوجه المشروح.
قال الشارح خالد الأتاسي: (لما صرح به في البزازية وجامع الفصولين، وذكره في البحر ورد المحتار من أن القول الجامع لبعض المحققين أن بيع الوفاء فاسد في حق بعض الأحكام، حتى ملك كل منهما الفسخ، صحيح في بعض الأحكام، كحل الإنزال، ومنافع المبيع رهن في حق البعض، حتى لا يملك المشتري بيعه من آخر ولا رهنه ... إلخ، وقد علمت أن المجلة اختارت هذا القول، فاتضح بما ذكرنا أن منافع المبيع ثابتة للمشتري وفاء بدون اشتراط، لكن بالنظر لكونه رهنًا في حق بعض الأحكام، صح اشتراط حصته من المنافع للمشتري، وباقيها للبائع، لأن منافع الرهن لا يملكها المرتهن بدون إذن الراهن) (1) .
(مادة: 399) إذا كانت قيمة المال المبيع بالوفاء مساوية للدين، وهلك المال في يد المشتري سقط الدين في مقابلته.
(مادة: 400) إذا كانت قيمة المال المبيع ناقصة عن الدين، وهلك المبيع في يد المشتري سقط من الدين بقدر قيمته، واسترد المشتري الباقي، وأخذه من البائع.
(مادة: 401) إذا كانت قيمة المال المبيع وفاء زائدة عن مقدار الدين، وهلك المبيع في يد المشتري، سقط من قيمته قدر ما يقابل الدين، وضمن المشتري الزيادة إن كان هلاكه بالتعدي. وأما إن كان بلا تعد، فلا يلزم المشتري أداء تلك الزيادة.
(مادة: 402) إذا مات أحد المتبايعين وفاء انتقل حق الفسخ للوارث.
(مادة: 403) ليس لسائر الغرماء التعرض للمبيع وفاء ما لم يستوف المشتري دينه.
__________
(1) شرح المجلة: 2/421.(7/1441)
المصطلح المساوي له في المذاهب الأخرى:
عند المالكية: فقهاء المالكية رحمهم الله يسمون هذا البيع ببيع الثنايا. فقد قال الإمام الحطاب:
(بيع الثنايا، هو أن يقول: أبيعك هذا الملك أو هذه السلعة على أن آتيك بالثمن إلى مدة كذا، أو متى آتيك به، فالبيع مصروف عني) (1) .
ثم قال: (تنبيه: الأكثر على أن بيع الثنايا هو ما تقدم. وقال ابن رشد في المقدمات: إن بيوع الشروط كلها تسمى بيوع الثنايا. وقال ابن عرفة: عمم ابن رشد لفظ بيع الثنايا في بياعات الشروط، وخصصه الأكثر بمعنى قولها في بيوع الآجال من ابتاع سلعة على أن البائع متى رد الثمن فالسلعة له لم يجز) (2) .
وقال أحمد بن يحيى الونشريسي في المعيار المعرب تحت عنوان ((لمن تكون الغلة في بيع الثنيا)) :
(وسئل عن رجل باع أرضًا على أنه متى أتاه بالثمن، رد عليه أرضه، فبقي مدة، هل له غلة أم لا؟ فأجاب: الغلة للذي الأرض في يده على مذهب ابن القاسم في كتاب الآجال الذي هو عنده بيع فاسد، وبه جرت الفتيا. وعلى قول سحنون الذي يراه كالرهن الفاسد له الغلة) (3) .
وفي المدونة الكبرى: (قلت: أرأيت لو أن رجلًا اشترى جارية على أن البائع متى ما جاء بالثمن، فهو أحق بالجارية، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا. قلت: لم؟ قال: لأن هذا يصير كأنه بيع وسلف) (4) .
وقال الخرشي على مختصر سيدي خليل: (وكبيع وشرط يناقض المقصود كأن لا يبيع عمومًا، أو إلا من نفر قليل أو لا يهب أو لا يخرج به من البلد، أو على أن يتخذها أم ولد، أو يعزل عنها أو لا يجيزها البحر، أو على الخيار إلى أمد بعيد، أو على أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، ولا ينافي هذا جواز الإقالة التي وقع فيها شرط المبتاع على البائع أنه إن باعها من غيره كان أحق بها، لأنه يغتفر في الإقالة ما لم يغتفر في غيرها. تأمل) . وقال الشيخ علي العدوي في حاشيته (لعل المراد تأمل وجهه، ونقول: وجهه أنه باب معروف) (5) .
__________
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام: ص233.
(2) تحرير الكلام: ص236.
(3) المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء أفريقية والأندلس والمغرب: 7/116.
(4) المدونة الكبرى: 9/133.
(5) الخرشي على مختصر سيدي خليل: 5/180، دار صادر، بيروت، وبمثله في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/66، دار الفكر.(7/1442)
وقال الحطاب: (وقال الراجَراجي: اختلف في بيع الثنايا، هل هو بيع أو رهن، على قولين، وفائدة الخلاف في ذلك الغلة، فمن رأى أنه بيع، قال: لا يرد الغلة، وقد قال مالك في العُتبية: الغلة للمشتري بالضمان، فجعله بيعًا وأنه ضامن، والغلة له. ومن رأى أنه رهن قال: يرد الغلة، وأنه ضمان البائع في كل عيب ونقص يطرأ عليه من غير سبب المشتري، وما كان من سبب المشتري فهو ضامن له، وحكمه حكم الرهان في سائر أحكامها فيما يعاب عليه. ونقله ابن سلمون، قال ابن عبد العزيز قد قيل: إن بيع الثنايا فاسد مردود أبدًا، فات أو لم يفت، لأنه حرام محرم، وهو باب من أبواب الربا، ترد فيه البياعات والصدقات والأحباس، فإن وقع إلى أجل كان فيه الكراء، لأنه كالرهن، وإن وقع إلى غير أجل فلا كراء فيه، والذي عليه أكثر العلماء، وهو مذهب مالك وابن القاسم أنه لا كراء فيه كان إلى أجل أو إلى غير أجل، لأنه بيع فاسد عندهم، وبذلك العمل) .
قال في المتيطية: (وإن علم أن أصل الشراء كان رهنًا، وإنما عقدا فيه البيع لتسقط الحيازة فيه، وثبت ذلك بإقرارهما عند الشهود حين الصفقة أو بعدها، وقبض المبتاع الملك وغلته ثم عثر على فساده، فإنه يفسخ، ويرد الأصل مع الغلة إلى صاحبه، ويسترجع المبتاع ثمنه) . اهـ. قلت: ومثله بل أحرى منه ما إذا علم أن قصد المتبايعين إنما هو السلف بزيادة وتحيلا ببيع الثنايا على ذلك من غير قصد إلى البيع، وثبت ذلك بإقرارهما كما قال حين الصفقة أو بعدها. وهذا ظاهر، وهذا كله إذا قبض المشتري المبيع واستغله إما بكراء أو بسكنى، وأما ما يقع في عصرنا هذا، وهو مما عمت به البلوى. وذلك أن الشخص يبيع الدار مثلًا بألف دينار، وهي تساوي أربعة آلاف أو خمسة، ويشترط للمشتري أنه متى جاء بالثمن ردها إليه، ثم يؤجرها المشتري لبائعها بمائة دينار في كل سنة قبل أن يقبضها المشتري وقبل أن يخليها البائع من أمتعته، بل يستمر البائع على سكناها إن كانت محل سكناه أو على وضع يده عليها وإجارتها، وأخذ منه المشتري الأجرة المسماة في كل سنة، فهذا لا يجوز بلا خلاف، لأن هذا صريح الربا. ولا عبرة بالعقد الذي عقداه في الظاهر، لأنه إنما حكم بالغلة للمشتري في البيع الفاسد لانتقال الضمان إليه، والخراج بالضمان. وهنا لم ينتقل الضمان، لبقاء المبيع تحت يد بائعه فلا يحكم له بالغلة، بل لو قبض المشتري المبيع، وتسلمه بعد أن أخلاه البائع، ثم أجره المشتري للبائع على الوجه المتقدم، لم يجز، لأن ما خرج من اليد وعاد إليها لغو، كما هو مقرر في بيوع الآجال، وآل الحال إلى صريح الربا وهذا واضح لمن تدبره) (1) .
__________
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام: ص338.(7/1443)
هذه العبارات فقهاء المالكية التي تدل على أن بيع الوفاء عندهم يسمى ببيع الثنايا، واختلفوا فيما إذا دخل الشرط في صلب العقد، هل هو بيع فاسد، أو رهن فاسد؟ وكأنهم اتفقوا على عدم جوازه، إذا كان الشرط مشروطًا في نفس العقد. أما إذا تبايع المتبايعان بيعًا بدون شرط الرد، ثم تواعدا على أن البائع متى جاء بالثمن رد المشتري إليه المبيع، فقد ذكر بعض فقهاء المالكية أن هذا البيع يجوز، ويكون هذا الوعد ملزمًا قضاء وديانة.
قال الحطاب: (إن العقد إذا سلم من الشرط وكان أمرًا طاع به بعده على غير رأي ولا مواطأة فذلك جائز، لأنه معروف أوجبه على نفسه، والمعروف عند مالك واجب لمن أوجبه على نفسه) (1) .
وذكر في المعيار المعرب: (سئل أبو الفضل عن رجل اشترى دارًا أو أرضًا بثمن معلوم، وانتقده البائع، ثم أتى البائع المشتري يستقيله فقال له المشتري: متى أتيتني بالثمن فقد أقلتك أو رددتها عليك، وشبه هذا من الألفاظ، ولايوقت وقتا أو يوقت وقتا بسنة أو بعشر سنين أوأكثر، فيقول: متى أتيتني بالثمن إلى أجل أو بعد أجل كذا على ما تقدم مما يدل على الإيجاب هل ترى ذلك لازما للمشتري بعد حصول شرطه، وهو نضوض الثمن أم لا؟
فأجاب أن ذلك جائز في جميع الأشياء، ما عدا الفروج التي تراد للوطء ما دامت السلعة قائمة بيده، ولم تخرج من يده ببيع أو هبة أو صدقة وشبه ذلك من وجوه الفوت، قال محمد بن رشد: إنما قال يلزم المشتري ذلك إذا جاءه البائع بالثمن، لأن ذلك معروف أوجبه على نفسه، والمعروف عند مالك لازم لموجبه على نفسه) (2) .
__________
(1) تحرير الكلام: ص241.
(2) المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء أفريقية والأندلس والمغرب: 6/396.(7/1444)
وقال الشيخ محمد عليش المالكي: (فالوفاء بالعدة مطلوب بلا خلاف، واختلف في وجوه القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع وفي كتاب العارية، وفي كتاب العدة. ونقلها عنه غير واحد، فقيل يقضي بها مطلقا، وقيل لايقضى بها مطلقا، وقيل يقضي بها إن كانت على سبب، وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء، كقولك أريد أن أتزوج ... فاسلفني كذا ... والرابع يقضي بها إن كانت على سبب، ودخل الموعود بسبب العدة في شيء، وهذا هو المشهور من الأقوال) (1) .
وقال القرافي رحمه الله تعالى: (قال سحنون: الذي يلزم من الوعد اهدم دارك، وأنا أسلفك ما تبني به، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، وأما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق) (2) .
عند فقهاء الشافعية:
لم نجد نصًّا صريحًا عند سادتنا الشافعية إلا ما ذكره ابن حجر الهيتمي المكي في فتاواه، وننقل عبارته بلفظه:
(وسئل رضي الله عنه في ((بيع الناس)) الآن ما حقيقته على كل من المذاهب الأربعة، وهل يلزم ذلك؟ وهل يلزم بالنذر في مذهب السادة الشافعية؟ وهل يجوز للناذر أن ينقل المبيع ببيع أو غيره؟ وهل يلحقه النذر أم لا إذا نقله؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله تعالى الجنة.
__________
(1) فتح العلي المالك، للشيخ محمد عليش: 1/256، مسائل الالتزام.
(2) الفروق، للقرافي: 4/25، الفرق الرابع عشر بعد المائتين.(7/1445)
فأجاب رضي الله عنه، إن أريد ببيع الناس ما اعتيد من أنهم يتفقون على بيع عين بدون ثمن مثلها، وإن البائع إذا جاء بالثمن رد إليه عينه من غير أن يقع بينهم شرط في صلب العقد يفسده فالبيع حينئذٍ صحيح عند الشافعي رضي الله عنه، وإذا جاء البائع بالثمن تخير المشتري بين أن يقيله وأن لا يقيله، لكن يبقى عليه إثم الغش والغرر، فإن البائع إن علم أنه لا يقيله لم يكن يبيعه له بذلك الثمن، ومتى نذر المشتري بعد لزوم البيع أنه متى جاءه البائع بقدر الثمن الذي اشترى به، فسخ عليه البيع، أو أن يقيله متى جاء طالبًا للإقالة لم ينعقد النذر على الأوجه من خلاف طويل وقع من جماعة متأخري اليمن، لأن ما التزمه ليس بقربة مطلقًا، أما الفسخ فواضح، وأما الإقالة فإنها لا تكون سنة إلا في النادم، ومن ثم لو علق النذر بالندم كأن قال: إن ندمت في البيع المذكور، وطلبت مني الإقالة فيه، فلله علي إقالتك فيه، فينعقد النذر حينئذٍ وكذا لو قال: إذا ندمت فيه وطلبت مني الفسخ فيه، فعلي فسخه، فينعقد النذر أيضًا، لأنه التزم به قربة، فلزمه، وبهذا يعلم الجمع بين من أطلق الإفتاء بانعقاد النذر نظرًا إلى أن إقالة النادم سنة، ومن أطلق عدم انعقاده محتجًّا بأن الناذر لا يستقل بالفسخ وإن طلب خصمه، إذ العبرة به، فإطلاق الانعقاد محمول على ما ذكرناه آخرًا، وإطلاق عدمه محمول على ما ذكرناه أولًا، ومتى علق النذر بصفة، ثم باع العين المنذور بها قبل وجود الصفة، صح البيع) (1) .
يتضح من فتوى ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى أن بيع الوفاء صحيح عند الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لو لم يقع شرط في صلب العقد، أما إيفاء الوعد برد المبيع فلازم ديانة، لا قضاء عنده.
__________
(1) الفتاوى الكبرى الفقهية، لابن حجر الهيثمي: 2/153، المكتبة الإسلامية، تركيا.(7/1446)
عند الحنابلة رحمهم الله تعالى:
أما فقهاء الحنابلة رحمهم الله تعالى فلم يلقبوا هذا البيع بلقب خاص، لا بلقب بيع الوفاء كما ذكره الحنفية رحمهم الله، ولا بلقب الثنيا، كما ذكره المالكية رحمهم الله تعالى، بل حينما يذكر الحنابلة بيع الثنيا فالمراد عندهم بيع مع الاستثناء (1) .
ولكن ذكروا هذه المسألة مسألة بيع الوفاء في كتبهم، واختلفوا أن البيع في هذه الصورة صحيح أم فاسد، والاختلاف عندهم مبني على أن البيع بشرط واحد صحيح عندهم، وأن البيع بشرطين فاسد عندهم، فاختلفوا في أن هذه الصورة من البيع (بيع الوفاء) تتضمن شرطًا واحدًا أم شرطين؟ فأولًا نذكر عبارات فقهاء الحنابلة رحمهم الله تعالى، ثم نذكر ما يستنبط منها.
قال ابن قدامة في المغني: (إذا شرط الخيار حيلة على الانتفاع بالقرض ليأخذ غلة المبيع ونفعه في مدة انتفاع المقترض بالثمن، ثم يرد المبيع بالخيار عند رد الثمن، فلا خيار فيه، لأنه من الحيل، ولا يحل لأخذ الثمن الانتفاع به في مدة الخيار، ولا التصرف فيه. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يشتري من الرجل الشيء ويقول: لك الخيار إلى كذا وكذا مثل العقار، قال: هو جائز إذا لم يكن حيلة أراد أن يقرضه فيأخذ منه العقار فيستغله، ويجعل له فيه الخيار ليربح فيما أقرضه بهذه الحيلة، فإن لم يكن أراد هذا فلا بأس. قيل لأبي عبد الله: فإن أراد إرفاقه أراد أن يقرضه ما لا يخاف أن يذهب، فاشترى منه شيئًا، وجعل له الخيار ولم يرد الحيلة. فقال أبو عبد الله: هذا جائز، إلا أنه إذا مات انقطع الخيار لم يكن لورثته. وقول أحمد بالجواز في هذه المسألة محمول على المبيع الذي لا ينتفع به إلا بإتلافه، أو على أن المشتري لا ينتفع بالمبيع في مدة الخيار، لئلا يفضي إلى أن القرض جر منفعة) (2) .
__________
(1) راجع الشرح الكبير: 4/210.
(2) المغني، لموفق الدين ابن قدامة: 3/592؛ والمغني مع الشرح الكبير: 4/116، 117، والروض الندي، لأحمد البعلي: ص312.(7/1447)
وفي الشرح الكبير: (وإن شرط البيع إن هو باع، فالبائع أحق به بالثمن، فروى المروزي عنه أنه قال في معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا شرطان في بيع)) يعني أنه فاسد، لأنه شرط أن يبيعه إياه. وأن يعطيه بالثمن الأول، فهما شرطان في بيع نهي عنهما، ولأنه ينافي مقتضى العقد، لأنه شرط أن لا يبيعه لغيره إذا أعطاه ثمنه، فهو كما لو شرط أن لا يبيعه إلا من فلان، أو أن لا يبيعه أصلًا. وروى عنه إسماعيل بن سعيد البيع جائز، لما روي عن ابن مسعود أنه قال: ابتعت من امرأتي زينب الثقفية وشرطت لها إن بعتها فهي لها بالثمن الذي ابتعتها به. فذكرت ذلك لعمر، فقال: لا تقربها لأنه كان فيها شرط واحد للمرأة، ولم يقل عمر في ذلك البيع فاسد. فحمل الحديث على ظاهره وأخذ به. وقد اتفق عمر وابن مسعود على صحته، والقياس يقتضي فساده. ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في رواية المروزي على فساد الشرط، وفي رواية إسماعيل بن سعيد على جواز البيع، فيكون البيع صحيحًا والشرط فاسدًا، كما لو اشتراها بشرط أن لا يبيعها، وقول أحمد (لا تقربها) قد روي مثله فيمن اشترط في الأمة أن لا يبيعها ولا يهبها، أو شرط عليه ولاءها، ولا يقربها والبيع جائز، واحتج بحديث عمر (لا تقربها) ولأحد فيها مثنوية. قال القاضي: وهذا على الكراهة لا على التحريم، قال ابن عقيل: عندي أنه إنما منع من الوطء لمكان الخلاف في العقد، لكونه يفسد بفساد الشرط في بعض المذاهب) (1) .
وفي شرح منتهى الإرادات: (ويصح تعليق فسخ غير خلع بشرط كقوله: (بعتك على أن تنقدني الثمن إلى كذا) أو (بعتك على أن ترهنينه أي المبيع بثمنه وإلا تفعل ذلك، فلا بيع بيننا، فينعقد البيع بالقبول، وينفسخ إن لم يفعل، أي ينقده الثمن إلى الوقت المعين أو يرهنه المبيع بثمنه لوجود شرطه، ومثله لو باعه بثمن وأقبضه له وشرط إن رده بائع إلى وقت كذا فلا بيع بينهما، ولم يكن حيلة ليربح في قرض) (2) .
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني، لشمس الدين ابن قدامة: 4/212، طبع بيروت.
(2) شرح منتهى الإرادات المسمى دقائق أولي النهى بشرح المنتهى للفقيه منصور بن يونس البهوتي: 2/163، طبع دار الفكر.(7/1448)
وفي كشاف القناع للبهوتي: (وإن شرطه أي الخيار بائع حيلة ليربح فيما أقرضه حرم نصًّا، لأنه يتوصل به إلى قرض يجر نفعًا، ولم يصح البيع لئلا يتخذ ذريعة للربا. فإن أراد أن يقرضه شيئًا وهو يخاف أن يذهب بما أقرضه له فاشترى منه شيئًا بما أراد أن يقرضه له، وجعل له الخيار مدة معلومة، ولم يرد الحيلة على الربح في القرض، فقال الإمام أحمد جائز، فإذا مات فلا خيار لورثته، يعني إذا لم يطالب به قبل موته، وقوله أي الإمام جائز محمول على مبيع لا ينتفع به إلا بإتلافه كنقد وبر ونحوهما، أو محمول على أن المشتري لا ينتفع بالمبيع مدة الخيار، لكونه بيد البائع مدته، فلا يجر قرضه نفعًا، فلا حيلة يتوصل بها إلى محرم، ولا يصح الخيار مجهولًا مثل أن يشترطاه أبدًا أو مدة مجهولة ... كقوله بعتك ولك الخيار متى شئت أو شاء زيد أو قدم ... فيلغو الشرط، ويصح البيع مع فساد الشرط) (1) .
وفي الكافي: (فإن شرط في البيع إن باعه فهو أحق به بالثمن، ففيه روايتان: إحداهما لا يصح، لأنه شرطان في بيع، لأنه شرط أن يبيعه وأن يعطيه إياه بالثمن، لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، لأنه شرط أن لا يبيعه لغيره. والثانية يصح، لأنه يروى عن ابن مسعود أنه اشترى أمة بهذا الشرط، وإن قلنا بفساده فهل يفسد البيع؟ فيه وجهان) (2) .
وفي الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل: (وعنه فيمن باع جارية، وشرط على المشتري إن باعها فهو أحق بها بالثمن، أن البيع جائز، ومعناه - والله أعلم - أنه جائز مع فساد الشرط) (3) .
وقال ابن مفلح في كتاب الفروع: (وقد نقل علي بن سعيد فيمن باع شيئًا، وشرط إن باعه فهو أحق به بالثمن، جواز البيع والشرطين، وأطلق ابن عقيل وغيره في صحة هذا الشرط ولزومه روايتين، قال شيخنا عنه نحو عشرين نصًّا على صحة هذا الشرط، وأنه يحرم الوطء لنقص الملك) (4) .
وملخص ما فهمنا من هذه العبارات أن بيع الوفاء بصورته كان فاسدًا عند الحنابلة في أصل المذهب، لكونه حيلة لجلب الربح في القرض، ولكونه يتضمن شرطين في البيع، ولكن الراجح عندهم جواز البيع مع فساد الشرط، أي يكون البيع جائزًا، ويفسد هذا الشرط، أي شرط رد المبيع.
__________
(1) كشاف القناع، للبهوتي: 3/190، مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، 1394هـ.
(2) الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد ابن حنبل، لموفق الدين ابن قدامة: 2/39، بيروت.
(3) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، لعلاء الدين المرداوي: 4/353، وذكر مثله القاضي أبو يعلي في المسائل الفقهية: 1/353، الرياض.
(4) كتاب الفروع، لشمس الدين المقدسي ابن مفلح: 4/62، طبع عالم الكتب.(7/1449)
الملخص من المذاهب الأربعة:
إذا نظرنا إلى ما ذكره أجلة الفقهاء من المذاهب الأربعة، وجدناهم متفقين على أن بيع الوفاء لو كان خاليًا عن شرط الرد في صلب العقد يكون جائزًا، أما إذا شرط رد المبيع في صلب العقد يكون البيع فاسدًا عند الأحناف والمالكية والشافعية. أما الحنابلة فيرون البيع صحيحًا والشرط فاسدًا، فإذا كان البيع خاليًا عن ذكر شرط الرد فالراجح في المذاهب الأربعة أنه جائز، وذلك لكونه بيعًا خاليًا عن شرط، وهل يجب الرد على أحد المتعاقدين إذا اتفقا على رد المبيع عند رد الثمن، وكان ذلك الاتفاق قبل عقد البيع أو بعده بصورة المواعدة، فنرى الراجح أنه يجب عليهما الرد إذا تواعدا على ذلك، ويكون الوعد ملزمًا ديانة وقضاء. أما وجوب لزوم الوعد ديانة فظاهر بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} . [الإسراء: 34]
وبالنصوص التي تدل على إيفاء الوعد. وأما لزومه قضاء، فالأمر عند الإمام مالك ظاهر، كما تقدم، وفقهاء الحنفية أيضًا اختاروا في هذه المسألة لزوم الوعد قضاء لحاجة الناس. فهو الراجح عند الإمامين الجليلين، ويفهم من مذهب الإمام الشافعي لزوم الوعد ديانة لا قضاء، كما هو الظاهر من فتوى الشيخ ابن حجر الهيثمي. فلا مانع لدينا من أن نفتي بجواز بيع الوفاء إذا كان خاليًا عن الشرط في صلب العقد وجوب رد المبيع على المشتري إذا وعد به البائع بعد انعقاد البيع أو قبله بصفة مستقلة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الشيخ محمد رفيع العثماني(7/1450)
المراجع (بترتيب حروف الهجاء)
1- إمداد الفتاوى، (ست مجلدات) ، لفضيلة الشيخ حكيم الأمة محمد أشرف علي التهانوي رحمه الله تعالى (م: 1362هـ) طبع مكتبة دار العلوم كراتشي، 1395هـ.
2- إمداد المفتين، لفضيلة الشيخ مولانا المفتي محمد شفيع رحمه الله تعالى، المفتي الأكبر في ديار باكستان (م: 1396هـ) طبع دار الإشاعة، كراتشي، باكستان.
3- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للفقيه علاء الدين المرادوي (م: 885هـ) .
4- البحر الرائق شرح كنز الدقائق، للعلامة زين الدين ابن نجيم الحنفي (م: 970هـ) مطبعة دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.
5- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للعلامة علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي (م: 587هـ) طبع ايج ايم سعيد كراتشي، الموافق بطبع محمد أسعد باشا، سنة 1328هـ 1910م.
6- البيان والتحصيل، لابن رشد المالكي (م: 520هـ) طبع دار الغرب الإسلامي، بيروت.
7- تحرير الكلام في مسائل الالتزام، الإمام أبو عبد الله محمد بن محمد الحطاب المالكي (م: 954هـ) طبع دار الغرب الإسلامي، بيروت.
8- تفسير معارف القرآن، للشيخ المفتي محمد شفيع، المفتي الأكبر في ديار باكستان (م: 1396هـ) طبع إدارة المعارف، كراتشي، باكستان.
9- تكملة فتح الملهم بشرح صحيح الإمام مسلم، للشيخ القاضي المفتي محمد تقي العثماني حفظه الله تعالى، طبع مكتبة دار العلوم كراتشي، 1405هـ.
10- جامع الفصولين، للشيخ بدر الدين محمود بن إسماعيل الشهير بابن قاضي سماوة الحنفي (م: 822هـ) طبع إسلامي كتب خانة كراتشي، باكستان.
11- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، للعلامة شمس الدين محمد عرفة الدسوقي المالكي (م: 1230هـ) .
12- الخرشي على مختصر سيدي خليل، أبو عبد الله محمد بن علي الخرشي المالكي (م: 1101هـ) طبع دار صادر، بيروت.(7/1451)
13- الدر المختار شرح تنوير الأبصار، للعلامة محمد علاء الدين الحصكفي الحنفي (م: 1088هـ) طبع شركة مصطفى البابي وأولاده، مصر. 1386هـ 1966م.
14- رد المحتار على الدر المختار، العلامة محمد أمين ابن عابدين الشامي (م: 1252هـ) طبع شركة مصطفى البابي وأولاده، مصر. 1386هـ 1966م.
15- الروض الندي، أحمد بن عبد الله بن أحمد البعلي الحنبلي (م: 1189هـ) طبع مطبعة سلفية، قطر.
16- شرح المجلة، للعلامة محمد خالد الأتاسي مفتي حمص. طبع مطبعة حمص 1349هـ 1930م.
17- شرح منتهى الإرادات المسمى دقائق أولي النهى بشرح المنتهى، للفقيه منصور بن يونس البهوتي الحنبلي (م: 1051هـ) طبع دار الفكر، بيروت.
18- الطرق المشروعة للتمويل العقاري، للشيخ القاضي المفتي محمد تقي العثماني حفظه الله (مخطوط) .
19- العناية شرح الهداية، للشيخ أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي الحنفي (م: 786هـ) طبع المكتبة الرشيدية، كوئتة، باكستان.
20- الفتاوى البزازية، الشيخ محمد بن محمد بن شهاب المعروف بابن البزاز الحنفي (م: 827هـ) طبع المكتبة الإسلامية محمد أزدمير، تركيا.
21- الفتاوى الخانية، للإمام القاضي فخر الدين حسن بن منصور الأوزجندي الفرغاني الحنفي (م: 529هـ) طبع المكتبة الإسلامية محمد أزدمير، تركيا.
22- الفتاوى الكبرى الفقهية، للعلامة ابن حجر الهيثمي الشافعي. طبع المكتبة الإسلامية أزدمير، تركيا.
23- الفتاوى الهندية، لجماعة من علماء الهند الأعلام. طبع المكتبة الإسلامية محمد أزدمير، تركيا، بطبع بولاق 1310هـ.
24- فتح القدير شرح الهداية، للشيخ كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام (م: 681هـ) طبع المكتبة الرشيدية، كوئتة، باكستان.
25- الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد ابن حنبل، لموفق الدين ابن قدامة الحنبلي (م: 620هـ) طبع المكتبة الإسلامي، بيروت.(7/1452)
26- كتاب الفروع، للفقيه شمس الدين أبي عبد الله محمد بن مفلح القدسي (م: 763هـ) طبع عالم الكتب، بيروت.
27- كشاف القناع عن متن الإقناع، للشيخ منصور بن يونس البهوتي الحنبلي (م: 1051هـ) طبع عالم الكتب، بيروت.
28- المدونة الكبرى، للشيخ ابن القاسم العتقي المالكي. طبع مطبعة السعادة، مصر 1323هـ.
29- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للشيخ ملاَّ علي القاري الحنفي (م: 1014هـ) طبع المكتبة الإمدادية، ملتان، باكستان.
30- المسائل الفقهية، للقاضي أبي يعلى الحنبلي (م: 458هـ) .
31- المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء أفريقية والأندلس والمغرب، للشيخ أحمد بن يحيى الونشريسي (م: 914هـ) .
32- المغني، للعلامة موفق الدين ابن قدامة (م: 620هـ) طبع مكتبة الرياض، الرياض.
33- المغني مع الشرح الكبير، للعلامة شمس الدين ابن قدامة (م: 682هـ) طبع دار الكتب العربي، بيروت.
34- الهداية مع حاشية النانوتوي، للشيخ أبي الحسن علي بن أبي بكر الفرغاني المرغيناني (م: 593هـ) طبع ايج ايم سعيد، كراتشي، باكستان.(7/1453)
بيع الثنيا أو بيع الوفاء
إعداد
الأستاذ محمود شمام
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسوله محمد بن عبد الله الأمين وآله وصحبه الميامين وعلى كل من تبعه بإحسان إلى يوم الدين {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه: 25، 26] .
بيع الثنيا، أو عقد بيع الوفاء:
(عقد أحدث تحيلًا لتحصيل الأرباح من طريق مباح) .
طالما دعت الضرورة قديمًا وحديثًا الإنسان إلى الاقتراض رجاء حصول الميسرة لسداد هذا الدين.
وقديمًا كان المعسر المحتاج يجد من يمد إليه يد الإعانة ويقرضه المال قاصدًا من وراء ذلك الثواب الذي وعد الله به عباده المحسنين.
فالمقرض يقصد النفع الأخروي والعمل الخيري والثواب الجزيل وابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى وتحصيل الأجر العميم ليوم عظيم وتقوية الزاد ليوم الميعاد.
وقد كانت عقود القروض تقع في طي الخفاء وتحت ستار الكتمان وفي السر المطلق. فالمقترض يرجو قضاء حاجته والخروج من مأزقه دون فضيحة أو عار. والدافع المقرض صاحب المال يرجو رحمه الله وحسن ثوابه والشكر له على ما أنعم به عليه من بسطة في الرزق ووفرة في المال.
ولذا قيل: (إنه لم يكن لهذا العقد وجود في دائرة الشهود) .
وامتدت الأيدي إلى الإخوان المحتاجين فنال أصحاب الأموال الثواب وقضى الآخرون حاجاتهم وتخلصوا من عنائهم وضيقهم وخرجوا سالمين من معاناتهم حامدين الله على ما أنعم به عليهم.
وشكر الله سعي هؤلاء المقرضين وزادهم بسطة من فضله.
ثم مرت الأيام وتطورت الأمور وأصبح القرض عملًا يلجأ إليه صاحب التجارة والمعمل لإنشاء المصنع وتعمير المتجر وتكوين سبل الربح. كما يلجأ إليه الموظف والعامل لإنشاء المسكن وعمارة عش الزوجية والانصراف إلى العمل دون عسر وعناء بل في راحة ورخاء.(7/1454)
واتجه المسلم إلى دينه وقواعده ومقاصده ومبادئه السامية فوجد أن الله حرم الربا تحريمًا قاطعًا لا يتطرقه شك.
وكان صاحب المال يطمع في نفع مالي وأرباح مادية تنمي مكاسبه، وكان التاجر والصانع والموظف وإن لم يكن أحدهم في ضائقة يسعون إلى توسيع دائرة العمل وبسط ساحات التجارة وإنشاء المسكن والمأوى.
والتفت الناس إلى هذا العقد الذي هو بيع وفيه مواصفات تصلح لإرضاء شهوات ورغبات كل الأطراف فهذا ينمي ماله في يسر وسهولة والآخر يقضي حاجته ويدرك غايته.
فهل يدخل تحت سقف عقود القرض ويشمله ما يشملها من أحكام قد تدفع إلى الحرمة والإثم إذا صاحبها التعامل الربوي المنهي عنه أم لا يدخل في ذلك ويخط لنفسه الطريق الحلال الذي يرضي كل الأطراف خاصة وإن هذه التكتلات المالية تسد الطرق أمام النمو الاقتصادي إذا لم يتعامل معها الناس حسب ما ترسمه لهم من مواصفات وتخطه من مخططات ومناهج قد تنحرف عن مبادىء ومناهج وقيم المتمسكين بدينهم الساعين إلى المحافظة على تطبيقه والسير في حدوده دون انحراف أو تجاوز.
ومن هنا جاء التدارس لموضوع بيع الثنيا أو بيع الوفاء وتحديد موقف الفقهاء منه.
بيع الوفاء في المذهب الحنفي:
نلاحظ أولًا أن هذا العقد لا وجود له قديمًا عند كافة المذاهب ومنهم الحنفية. يقول الزيلعي (1) : (ومن مشائخ سمرقند من جعله بيعًا جائزًا منهم الإمام نجم الدين النسفي الذي يقول اتفق مشائخنا في هذا الزمن فجعلوه بيعًا جائزًا) .
تعريفه:
قال الإمام العلامة الشيخ محمد أمين المعروف بابن عابدين في حاشيته (رد المحتار على الدر المختار) : (صورة بيع الوفاء كما في العناية وفي الكفاية هو أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بما لك عليَّ من الدين على أني متى قضيته فهو لي) .
ويسمى عند علماء الشافعية بالرهن المعاد وعند أهل مصر ببيع الأمانة وعند أهل الشام ببيع الطاعة.
وقد عرفه بعضهم بقوله: (إنه عقد وضع للتوثيق للدين والانتفاع بالعين) .
ويقول عنه شيخ الإسلام الحنفي محمد بيرم الثاني في رسالته له عن بيع الوفاء: (إنه عقد أحدث تحيلًا لتحصيل الأرباح عن طريق مباح) .
__________
(1) كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 3/184.(7/1455)
حكمه:
حصل الاختلاف بين مشائخ الحنفية على أقوال أربعة حول حكمه.
الأول: أنه رهن، وهذا ما نقله صاحب جواهر الفتاوى، وقال هو الصحيح. وقال صاحب الخيرية إن الذي عليه أكثر الفقهاء أنه رهن لا يفترق عنه في حكم من الأحكام.
قال ابن عابدين: وبه صدر صاحب الفصولين فقال: (البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا وسموه بيع الوفاء، هو رهن في الحقيقة لا يملكه المشتري ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه وهو ضامن لما أكل من ثمره وأتلف من شجره. وللبائع استرداده إذا قضى دينه. فلا فرق حينئذ عندنا بينه وبين الرهن في حكم من أحكامه) .
يقول الزيلعي: (من الفقهاء من جعله رهنًا منهم السيد الإمام أبو شجاع والإمام القاضي الحسن الماتريدي قالوا لما اشترط عليه أخذه عند قضاء الدين أتى بمعنى الرهن لأنه هو الذي يؤخذ ويسترد ويرجع عند قضاء الدين. والعبرة في العقود للمعاني دون الألفاظ حتى جعلت الكفالة بشرط براءة الأصل حوالة وبالعكس كفالة والاستصناع عند ضرب الأجل سلمًا. فإذا كان رهنًا لا يملكه ولا ينتفع به. وأي شيء أكل من زوائده يضمن ويسترد عند قضاء الدين ولو استأجره البائع لا تلزمه أجرته كالراهن إذا استأجر المرهون وانتفع به ويسقط الدين بهلاكه فيثبت فيه جميع أحكام الرهن.
القول الثاني: أنه بيع فاسد. وينسب هذا القول إلى مشائخ بخارى كما ذكر الزيلعي، وإنما كان فاسدًا عندهم لاشتماله على شرط الفسخ عند قدرة البائع على الإيفاء بالدين وهو شرط فاسد فيؤثر في عقد البيع بالفساد فلا يفيد الملك للمشتري إلا عند اتصاله بالقبض وينقض بيع المشتري كبيع المكره لأن الفساد باعتبار عدم الرضا فكان حكمه حكم بيع المكره.
القول الثالث: أنه بيع جائز لا شبهة عليه وينسب هذا القول لمشائخ سمرقند منهم الإمام نجم الدين النسفي الذي يقول: (اتفق مشائخنا في هذا الزمان على جعل بيع الوفاء بيعًا جائزًا مفيدًا لبعض أحكامه كحل الانتفاع بالمبيع كما أنه لا يملك المشتري بيعه وإنما كان جائزًا لحاجة الناس إليه والقواعد قد تترك بالتعامل مثل جواز الاستصناع وهي جواز ما ليس عند الإنسان.(7/1456)
وقال صاحب النهاية وعليه الفتوى. ذكر ذلك الإمام الزيلعي في كتاب الإكراه في كتابه تبيين الحقائق.
وقال صاحب النهر: العمل في ديارنا على ما رجحه الإمام الزيلعي أي القول الثالث.
وقد علق أحمد الشلبي في حاشيته على شرح تبيين الحقائق بقوله: والأهم عندي أنه بيع فاسد وحكمه حكم سائر البيوعات الفاسدة لأنه بيع بشرط لا يقتضيه العقل وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط.
لكن شيخ الإسلام الحنفي بيرم الثاني يضيف وجهًا آخر للجواز فيقول: إنه بيع جائز لازم فيما إذا عقد بلفظ البيع من غير ذكر شرط فيه لا فرق بينه وبين البيع البات الصحيح في حكم ما حتى أنه لا يفسخ إلا بالتراضي على وجه الإقالة وهو الذي نقل غير واحد عن النسفي اتفاق شيوخه في زمنه عليه.
وحجتهم أن متعاقديه تلفظا بلفظ البيع من غير شرط الفسخ فيه. وإن أضمراه بقلبيهما إذ ذاك أو اشترطاه نصًّا قبل العقد بناء على أن العبرة في الشرط المفسد بقرانه للعقد ذكرًا باللسان دون تقدمه عليه ذكرًا عليه ولا قرانه به مضمرًا في الجنان.
ولهذا كان تزوج المرأة على نية تطليقها أثر الوطء نكاحًا صحيحًا نظرًا للفظه لا فاسدًا على أنه نكاح متعة باعتبار قصده. وبناء على هذا أفتى النسفي من عقد بلفظ البيع مضمرًا رد المبيع عند رد الثمن بأنه يسعه أن يحلف أن البيع كان بتًّا مع ذلك الإضمار.
القول الرابع: أنه فاسد في بعض أحكامه لأنه يتركب من بيع فاسد وبيع جائز ورهن، وهذا القول يتفرع إلى قولين: أحدهما أنه فاسد في بعض الأحكام مثل ملك كل من المتعاقدين الفسخ. صحيح في بعض الأحكام مثل حل منافع المبيع للمشتري. وثانيهما أنه رهن في حق البعض الآخر مثل عدم ملك المشتري المبيع وأنه يسقط الدين بهلاكه.
فهو إذًا مركب من العقود الثلاثة: بيع جائز وبيع فاسد ورهن. وهذا القول رجحه بعضهم للفتوى.
وقد أطنب شيخ الإسلام بيرم الثاني في شرح هذا القول ويذكر: أنه مركب من رهن وبيع جائز بات. فهو بالنسبة للبائع رهن يسترد العين عند قضاء ما عليه من الدين والمشتري ضامن للهلاك أو الانتقاص ضمان الرهن.
وهو بيع بات صحيح بالنسبة للمشتري في حق نزله ومنافعه حتى يطيب له أكل ثمره والانتفاع به سكنى وزراعة وإيجارًا. وعلى هذا استقر عمل شيوخ النسفي ومنهم صاحب الهداية علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني (1) .
__________
(1) المرغيناني هو علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني نسبة إلى مرغينان في نواحي فرغانة من أكابر فقهاء الحنفية: له رتبة الاجتهاد من مؤلفاته الهداية في شرح البداية، مطبوع في مجلدين، وله مؤلفات أخرى، توفي 593هـ/ 1197م.(7/1457)
الأصل المستند إليه في المذهب الحنفي:
إن هذا العقد وصع توصلًا لإقرار حلية ما تعارف الناس عليه وتعاملوا به وكانوا في حاجة إليه حتى لا يقعوا في محظور الربا، والضرورات قد تبيح المحظورات.
وكان هذا الوضع اعتمادًا على المبدأ العام للاستحسان والمصلحة العامة والمقصد العام للشريعة من أنه لا ضرر ولا ضرار.
ثم إن القواعد الناهية قد تترك بالتعامل المستمر.
وقد ذكر النسفي اتفاق فقهاء عصره عليه.
وذكر شيخ الإسلام بيرم (أن احتياج الناس الشيء وتعاملهم به أصلان كبيران في المذهب وفي قاعدة الحاجة تتنزل منزلة الضرورة من الأشباه، ومنها الإفتاء بصحة بيع الوفاء.
ومما لا ريب فيه أن الناس إذا كانت لهم حاجة إليه في العصور السابقة على فضلها فهم إليه في هذا العصر على وضوح اختلاله أحوج) .
من رسالة محمد بيرم الثاني في بيع الوفاء، مخطوطة (1) .
الحيلة في بيع الوفاء:
قد رأينا أن بعض الفقهاء يعرفون بيع الوفاء بأنه عقد أحدث تحيلًا لتحصيل الأرباح من طريق مباح. وقال عنه آخرون هو بيع تعارفه أهل هذا الزمان احتيالًا للربا.
__________
(1) شيخ الإسلام محمد بيرم الثاني ولد 16 ذي القعدة الحرام 1162هـ الملاقي 28 من شهر أكتوبر 1748م. عالم جليل، فقيه كبير اشتهر بالتعمق العلمي مع الصلاح والتقوى تولى قضاء تونس والإفتاء بها. له من التآليف رسالته في بيع الوفاء، ورسالة في الوصية، وأخرى في تراجم المفتيين بتونس، ورسالة في تراجم سلاطين آل عثمان وبايات تونس. توفي في 16 جمادى الأولى سنة 1247هـ الملاقي 23 أكتوبر 1831م. ورسالته عن بيع الوفاء اعتمدت كتبًا في المذهب الحنفي ثبت لها الاصطفاء كالخانية والعمادية وجامع الفصولين والبزازية وغيرها. رتبها على مقدمة وعشرة فصول عنون فصلها الأول بما يرجح الوفاء إليه من العقود. وأما المقدمة فحوت اسمه ومسماه والتعريف به وبحكمه واختلاف الفقهاء في شأنه. وهذه الرسالة المخطوطة من أجلِّ ما ألف في موضوع بيع الوفاء.(7/1458)
فالحيلة إذًا موجودة في عقد بيع الوفاء تكسوه سماحة الحيلة وتبعده عن شبهة الحرمة وتعبِّد الطرق طرق الفتوى لتسهيل حركية التعامل به.
والحيل التي حفل بها تاريخ الفقه الإسلامي والتي يسميها اليوم علماء القانون الحيل القانونية هي فتاوى يطلقها الفقهاء إزاء حدوث مشاكل ونزول قضايا يصعب حلها وقد توقع أصحابها في ضيق وحرج. فيقع السعي للتخلص منها بالطرق والمسالك الملتوية ويفزع إليها الفقهاء لإيجاد الفتوى فيما يطرح عليهم من أسئلة.
وقد ألف فيها أبو بكر أحمد بن عمر بن مهير الشيباني الخصاف الفقيه الحنفي المتوفى 261هـ/ 875م ببغداد كتابًا مطبوعًا سماه ((الحيل والمخارج)) .
كما خصها شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 بحديث طويل الذيل في كتابه ((إعلام الموقعين)) ج5 من صفحة 340، وهو يقسم الحيل إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول حيل محرمة من كبائر الإثم وأقبح المحرمات وهي من التلاعب بالدين، فهي حرام في نفسها لكونها كذبًا وزورًا وحرام من جهة المقصود بها وهو إبطال حق أو إثبات باطل، وأبرز مثال لها نكاح المحلل ((التياس)) .
والقسم الثاني أن تكون الحيلة مشروعة وما تفضي إليه مشروعًا وتكون بسلوك واتخاذ الأسباب المشروعة توصلًا إلى الكسب الحلال وهذا القسم قد لا يعد من الحيل على حد تعريف الفقهاء.
والقسم الثالث أن يحتال توصلًا للحق أو توصلًا لدفع مظلمة بطريقة مباحة لم توضع في الأصل موصلة إلى ذلك بل وضعت لغيره فتتخذ طريقًا لهذا المقصد الصحيح.
والفرق بين هذا القسم والذي قبله أن الوسيلة في الأول وضعت موصلة إلى نفس الغاية فسالكها يسلك الطريق المعهود وفي الثاني الوسيلة كانت تفضي إلى غيره فيقع التوصل بها إلى من توضع له.
والعبارة الجامعة أن الحيل منها ما هو من نوع يعد هدمًا لمقاصد الشريعة في التحليل والتحريم وهذه محرمة قطعًا، ومنها ما هو من النوع الذي يسهل المقاصد وييسرها للوصول إلى الحقوق الشرعية من غير أن تقف القيود والشروط الفقهية في سبيل ذلك.
فالاحتيال للوصول إلى الحقوق الشرعية أو دفع المظالم والمضار قد يكون مباحًا إذا سلك طرقًا مباحة. ولذا فإن الحيل لا يمكن مطلقًا أن تقع في العبادات وإنما تقع في المعاملات.(7/1459)
نعم قد تقع في الأيمان كما لو حلف شخص أن لا يشتري ثوبًا من فلان التاجر ثم تعلق غرضه بشرائه منه فإنه يوكل غيره على الشراء. فالعقد حينئذ يضاف للوكيل لأن الحالف أراد عدم مباشرة البائع لأمر ما حدث بينهما. فالتعامل معه بواسطة الوكيل لا يتنافي مع القسم إلا إذا كان الحالف ممن لا يشترون عادة بأنفسهم ولا ينزلون إلى الأسواق لقضاء مآربهم بل يعهدون بذلك إلى غيرهم. وقد أفتى محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة الخليفة هارون الرشيد وقال له: أما أنت فلا. ضرورة أن الرشيد كان يقصد عند القسم أنه لا يشتري منه بواسطة غيره وأن لا يكلف أحدًا بالشراء منه كما هي عادته في معاملاته إذ أنه لا يباشر هذه الشراءات بنفسه.
والصاحب القاضي أبو يوسف يرى أن التحايل لإسقاط حق الشفعة جائز بشرط أن يكون قبل الشفعة أي قبل طلبها من الشفيع لأن التحايل هنا يقصد به دفع الضرر ورفع المشقة ولا بأس بذلك لأنه أخذ العقار واشتراه وأصبح مالكًا له فانتزاعه من يده مضرة عليه حاصلة محققة بخلاف الشفيع فمضرته مظنونة وغير محققة وقد يكون الشريك الجديد أفضل من القديم ومن هنا فالصاحب القاضي أبو يوسف لا يرى مانعًا في الالتجاء إلى الكمشة المجهولة المعروفة لأنها سعي لمنع الشفعة قبل الأخذ بها بل هي سعي لدفع مضرة وتحصيل منفعة.
وعلى كلٍّ فهل يجوز وهل يسمح باتخاذ الحيل وحبكها وصنعها وانتشائها وتكييفها توصلًا إلى المقصد المطلوب إذا كان المقصد حلالًا في نفسه؟.
وأين محل عقد بيع الوفاء في كل تلك الأجواء؟ وهل أن الحيلة هي التي صنعته وكونته أم أن جلب المصلحة ودفع المضرة هو الذي مهد الطريق لإنشائه؟
والملاحظ أن كلام الإمام أبي يوسف إنما يتعلق بالحرمة والحلية والمنع والجواز والثواب والعقاب أما إذا اعترف الخصمان عند النزاع بالحيلة وتزويقها امتطاء إلى الهدف فإن القاضي سوف لا يقضي إلا بإبطال مفعولها ورد سعيهما. والقاضي إنما يحكم بالظاهر فإذا انكشفت أمامه الحقيقة اتبعها وطبق أصول الأحكام عليها غير ملتفت إلى صحة الهدف من مرضه.(7/1460)
المذهب المالكي:
يعرف هذا العقد في كتب الفقه المالكي ببيع الثُنْيا بضم الثاء المثلثة وسكون النون كما يعرف ببيع وشرط.
قال ابن عرفة التونسي الفقيه المالكي: عمم ابن رشد لفظ الثنيا في بياعات الشروط المنافية للبيع، وقال في المقدمات بيع الشروط المسماة عند الفقهاء بيع الثنيا كالبيع على أن لا يبيعه ولا يهبه قال: إنه لا يجوز لأنه سلف جر نفعًا. - انتهى شرح الرصاع على حدود ابن عرفة -.
وقال القاضي الفقيه ابن عبد الرفيع التونسي في كتابه معين الحكام (1) : (لا يجوز بيع الثنيا وهي أن يقول له: أبيعك هذا الملك أو هذه السلعة على أني إن أتيتك بالثمن إلى مدة كذا أو متى آتيك بالثمن فالبيع مصروف علي ويفسخ ذلك ما لم يفت بيد المبتاع فتلزمه القيمة يوم قبضه) .
وهو يقول في حديثه عن الرهن 2/811: (ومن ارتهن شجرة واشترط ثمرتها ذلك العام فإن كان الدين من سلف لم يجز وإن كان من بيع والثمرة قد أزهت جاز وإن كان على غير ذلك لم يجز) .
ويتعرض ابن رشد الحفيد في كتابه بداية المجتهد إلى بيع الثنيا فيقول: (في صحيح مسلم عن جابر: قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاوقة والثنيا ورخص في العرايا) (2) .
قال ابن رشد وأما من قال له البائع: متى جئتك بالثمن رددت علي المبيع فإنه لا يجوز عند مالك لأنه يكون مترددًا بين البيع والسلف إن جاء بالثمن كان سلفًا وإن لم يجىء كان بيعًا.
ومن المسموع نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف (3) واتفق الفقهاء على أنه من البيوع الفاسدة، حتى يقول: (إن التحريم جاء من أجل اقتران البيع بالسلف) .
وإذا لحق الفساد البيع من قبل الشرط هل يرتفع الفساد إذا ارتفع الشرط أم لا؟
وذلك بناء على أصل معروف وهو هل أن الفساد حكمي أو معقول؟ فعلى الأول لا يرتفع بارتفاع الشرط وعلى الثاني يرتفع.
__________
(1) 2/420، كتاب معين الحكام، طبع دار الغرب، تحقيق محمد بن عياد.
(2) هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن ابن عيينة.
(3) حديث النهي عن بيع وسلف في الموطأ: 2/657؛ وأبي داود: 2/139؛ والنسائي: 1/226؛ والترمذي: 1/160.(7/1461)
ومالك يراه معقولًا خلافًا للجمهور الذي يتمسك بأن الفساد حكمي.
وهذا غير مهم في بحثنا لأننا ندرس موضوع الحلية والحرمة بصرف النظر عن الرجوع والعدول ونتائج ذلك.
وابن عاصم يتعرض إلى موضوع بيع الثنيا تعريفًا وحكمًا وتقسيمًا فيقول معرفًا:
والشرح للثنيا رجوع من
باع إليه عند إحضار الثمن
ومن هنا نفهم أن بيع الثنيا خلافًا لتعميم ابن رشد هو اشتراط البائع في صلب عقد البيع استرداده للمبيع عند إرجاعه للثمن.
وابن عاصم مثل سائر فقهاء المالكية يرى فساد هذا النوع من البيوعات والنهي عنها متبعًا في ذلك الإمام مالك وابن القاسم وغيرهما من الفقهاء:
والبيع بالثنيا لفسخ داع
والخرج بالضمان للمبتاع
ولا كراء فيه هبه لأجل
أو لا وذا الذي جرى به العمل
لكن إذا وقع البيع باتًّا ثم حصل الاتفاق بين المتعاقدين تطوعا على استرداد المبيع حين إحضار الثمن فهذا جائز يسوغ للمشتري الفوز بالغلة وعلة ذلك أن العقد كان صحيحًا جائزًا ثم حصل التطوع من المشتري على وجه المعروف الذي التزم بالإرجاع وإلى كل هذا يشير ابن عاصم بقوله:
وجاز إن وقع بعد العقد
طوعًا بحد أو بغير حد
وحيثما شرط على الطوع جعل
فالأحسن الكتب بعقد مستقل
والقول قول مدع للطوع
لا مدعي الشرط بنفس البيع
وهذا الاستثناء يرشد إلى تنازل المشتري وأن التزامه برد المبيع عند إرجاع الثمن إليه كان بعد حصول عقد البيع بعقد جديد التقت فيه الإرادتان بعد عملية البيع البات غير المشروط ثم حدث التطوع بالثنيا وأنشىء له كتب خاص به وعند الخلاف فالقول قول من ادعى التطوع بالشرط لا أنه حصل عند البيع مقارنًا له.(7/1462)
وما أشار إليه ابن عاصم وامتطاه كثير من الفقهاء لتحليل هذا الصنف من العقود هو أمر يندر حدوثه ويعز وقوعه فالمتبايعان المتعاقدان كانا يرميان إلى نوع من رهن الانتفاع فيه مواصفات هذا العقد وفيه مواصفات أخرى تجعله كبيع عند انتهاء الأجل وعدم حصول التراجع بين الطرفين فلا يقع الالتجاء للحاكم لبيع المرهون وخلاص الدين.
وحينئذ فلا يمكن القول بانفصالهما واستقلالهما عن بعضهما بإرادتين واتفاقين وعقدين وكتبين. ولا يمكن أن يطمئن البائع صاحب الشيء للتفويت في متاعه بكتب صحيح له جميع مواصفات البيع القائم على أمل أن يقع بعد ذلك كتب أخر يمنحه حق الاسترجاع والتمتع بالثنيا فالمشتري قد يفوت عليه هذا الأمل فتضيع بضاعته وتخسر تجارته وتتحطم آماله.
ولا أحسب أن أحدًا الآن لا يضيق بهذه النظرية المبنية على الاحتيال ونكران الواقع هذا الواقع الذي يقتضي أن الاتفاق حاصل من أول الأمر على بيع الثنيا واستغلال ما فيه من منافع للطرفين بصرف النظر عن حليتها من حرمتها وأن الكتائب والإشهاد إنما تأتي للإثبات لا للإنشاء فلا يهم إطلاقًا جعل كتبين ينفرد أحدهما بالبيع ويخصص الآخر للتطوع بالثنيا.
وعلى كل فإن هذه الصورة حدوث التطوع بالثنيا بعد عقد البيع تبعدنا عن بيع الثنيا الذي يشترط فيه البائع في صلب العقد وفي بند من بنوده استرداد مبيعه حين يرد هو الثمن وهو العقد الذي يرى المالكية فساده وعدم جوازه.
وإذ كان المقصود من بيع الثنيا هو أن يسترد البائع العين بعد استغلاله لما قبضه من ثمن وأن يفوز المشتري بغلة المبيع مدة غيبة ماله عنه فهذا ظاهر في كون العملية إنما هي من باب الربا المحرم شرعًا لقوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
ومن ثمة فالمالكية يحرمون هذا العقد ويكشفون عنه غطاء الحيل التي يكسوه بها بعض المتأخرين لتسويغه وتحليله وهي حيل مكشوفة ظاهرة جلية لا ينكرها حتى أصحابها. يقول الحطاب (1) : (وأما ما يقع في عصرنا هذا وما عمت به البلوى وذلك أن الشخص يبيع الدار بألف دينار - مثلًا - وهي تساوي أربعة آلاف أو خمسة ويشترط على المشتري أنه متى جاء بالثمن ردها إليه ثم يؤاجرها المشتري لبائعها بمائة دينار في كل سنة قبل أن يقبضها المشتري وقبل أن يخليها البائع من أمتعته بل يستمر البائع على سكناها إن كانت له مسكنًا أو على وضع يده عليها أو إجارتها ويأخذ منه المشتري الأجرة المسماة في كل سنة. فهذا لا يجوز بلا خلاف لأنه صريح الربا ولا عبرة بالعقد الذي عقداه في الظاهر لأنه إنما حكم بالغلة للمشتري في البيع الفاسد لانتقال الضمان إليه.
__________
(1) هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المعروف بالحطاب ولد سنة 902هـ/ 1497م، ومات 954هـ/ 1547م. فقيه مالكي له عدة كتب منها كتاب مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، مطبوع في ست مجلدات.(7/1463)
وهنا لم ينتقل الضمان لبقاء المبيع تحت يد بائعه فلا يحكم له بالغلة بل لو قبض المشتري المبيع وتسلمه بعد أن أخلاه البائع ثم آجره المشتري للبائع على الوجه المتقدم لم يجز لأن ما خرج من اليد وعاد إليها لغو كما هو مقرر في بيوع الآجال وآل الحال إلى صريح الربا وهذا واضح لمن تدبره، والله أعلم (1) .
بقية المذاهب:
قد علمنا أن المالكية والحنابلة والمتقدمين من الحنفية والشافعية يرون فساد بيع الوفاء لأنه يرمي إلى الربا المحرم شرعًا.
فالمذاهب حينئذ تتفق في هذه الناحية على فساد هذا البيع وعدم جوازه لأن ما بني على فاسد محرم فهو فاسد محرم ولا يمكن التعامل به ولا الإفتاء بجوازه رغم تعامل بعض الناس به والتجائهم إليه وتحيلهم بامتطائه للتحصيل على القرض ولو كانت له فوائد هي عين الربا الذي حرم لمضار وخسائر ظاهرة وخفية ومحققة ومتوقعة فالمقترض يضع عقاره توثقة في مال يأخذه وليستغل الدائن منافع ذلك العقار استغلالًا يفضي إلى الربا الفاحش أحيانًا ثم إذا عجز المدين عن الخلاص والوفاء بالشرط ضاع عليه عقاره بجرة قلم.
__________
(1) شرح ميارة على التحفة: 2/5، طبع المطبعة العامرة 1316هـ(7/1464)
القوانين الوضعية:
نشير بادىء ذي بدء إلى أن هذه القوانين بصرف النظر عن مآخذها وأسانيدها ومراجعها واعتماداتها الفقهية تنظر إلى هذه الصفقات بعين الحرمة والمنع ومن زاوية التشنيع الصرف.
وقد أردنا أن نضيف إلى هذا البحث الفقهي حسب المنهج السابق كلمة تشرح نظر هؤلاء الفقهاء في القانون خاصة وأن بعض البلاد الإسلامية نسجت على منوال الدولة العثمانية وقننت قوانينها المدنية مقتبسة أحكامها من الشريعة الإسلامية السمحة.
وأحسب أن الاطلاع على ذلك إذا لم يكن فيه إيضاح وشرح لم تكن فيه مضرة ويمكن أن يناله الطرح خاصة وأن الاطلاع على الواقع واجب تفرضه كل الظروف ويُحتِّمه فهم الرأي الآخر لتدبر معانيه وفهم مراميه ودحض ما به من اعوجاج والحكم على الشيء فرع عن تصوره.
ونضع عينات توضح هذه الحرب التي حاربت بها القوانين الوضعية تلك العقود المعبر عنها ببيع الوفاء وبيع الثنيا وبيع العهدة وبيع الأمانة وبيع الطاعة وبيع المعاملة وهي كلها أسماء لمسمى واحد اختلفت حسب اختلاف المذاهب والأماكن وهو عقد أحدث تحيلًا للوصول إلى المرابيح المالية من طريق تكسوه الصفة الشرعية وتبعده عن المعاملات الربوية.
ننقل أولًا ملخص المناقشات حول هذا الموضوع من طرف اللجنة البرلمانية المصرية حسب مجموعة الأعمال التحضيرية.
يقول التقرير: (تناولت اللجنة بيع الوفاء وقد رأت بالإجماع أن هذا النوع من البيع لم يعد يستجيب لحاجة حيوية في التعامل إنما هو وسيلة ملتوية من وسائل الضمان تبدأ ستارًا برهن وينتهي الرهن إلى تجريد البائع من ملكه بثمن بخس) .(7/1465)
والواقع أن من يعمد إلى بيع الوفاء لا يحصل على ثمن يتناسب مع قيمة المبيع بل يحصل عادة على ما يحتاج إليه من مال ولو كان أقل بكثير من هذه القيمة. ويعتمد غالبًا على احتمال وفائه بما قبض قبل انقضاء أجل الاسترداد ولكنه قل أن يحسن التقدير فإذا أخلف المستقبل ظنه وعجز عن تدبير الثمن خلال هذا الأجل ضاع عليه دون أن يحصل على ما يتعادل مع قيمته وتحمل غبنًا ينبغي أن يدرأه القانون عنه. ولذا رؤي أن تحذف النصوص الخاصة ببيع الوفاء وأن يستعاض بنص عام يحرم هذا البيع في أية صورة من الصور. وبهذا لا يكون أمام الدائن والمدين إلا الالتجاء إلى الوسائل التي نظمها القانون) .
لهذا جاءت المادة 465 من القانون المدني المصري الموضوع في أكتوبر 1949 قائلة: (إذا احتفظ البائع عند البيع بحق استرداد المبيع خلال مدة معينة وقع البيع باطلًا) .
أما القانون التونسي المدني الذي استمد أحكامه من الفقه الإسلامي والموضوع حوالي سنة 1317هـ/ 1899م وهو من أقدم القوانين المدنية هذا القانون كان يرخص في هذا الصنف المعروف ببيع الثنيا وقد عرفه بالفصل 684 بقوله: (بيع الثنيا هو أن يلتزم المشتري بعد إتمام البيع بأن يرد المبيع لبائعه عندما يرد له ثمنه) .
ونلاحظ هنا أن التقنين التونسي اقتفى في هذا ما جاء به الفقه المالكي من أنه إذا تم البيع باتًّا صحيحًا ثم اشترطت الثنيا على سبيل التطوع جاز ذلك وهو ما أشار إليه ابن عاصم في التحفة:
"وجاز إن وقع بعد العقد"
ضرورة إن عقد البيع كان صحيحا
لا شائبة منه أو جاء عقد آخر عقبه اتفق فيه الطرفان على استرجاع المبيع إذا رجع الثمن.(7/1466)
ومع ذلك فإن هذه العقود التي تقع تفضي غالبًا إلى حيل وخزعبلات تضيع معها حقوق الضعفاء المساكين وتجر الربح الوفير إلى أرباب المال. ولذا فقد تدارك القانون المدني التونسي هذا الأمر وحجر عقد بيع الثنيا أو بيع الوفاء وذلك حسب قانون مؤرخ في 7 رجب سنة 1377هـ الملاقي 28 جانفي 1958 نشر بالرائد الرسمي عدد 9 لنفس العام.
وكان القانون المدني الفرنسي القديم يمنع التعامل بمثل هذا العقد ثم أجازه حسب الفصل 1659 ونصه: (إمكانية استرجاع المباع هو اتفاق يمكن البائع من استرجاع مبيعه على شرط إرجاع ما يقبضه طبق ما ورد بالفصل 1673) .
وهذا الفصل الأخير حدد شروط ذلك والإجراءات المتبعة.
وقد لاحظ عبد الرزاق السنهوري (1) أن القوانين العربية حرمت هذا الصنف من العقود وجعلته من العقود الباطلة طبق المادة 465 من القانون المدني المصري. وضرب مثلًا لذلك بالتقنين المدني السوري المادة 433 والقانون المدني الليبي المادة 454 والقانون المدني العراقي المادة 454.
لكن هناك في التقنينات العربية التي أبقت عليه مثل القانون اللبناني المادة 473 وما بعدها.
والقانون المغربي المادة 585 وما بعدها في أحكام بيع الثنيا وشروطه.
لكن نلاحظ أن كلًّا منها يجعل بيع الثنيا يقع التطوع به بعد انعقاد البيع الصحيح التام فالمادة 473 لبناني تقول: إن البيع مع اشتراط حق الاسترداد أو البيع الوفائي هو الذي يلتزم فيه المشتري بعد البيع التام أن يعيد المبيع إلى البائع مقابل رد الثمن.
والمادة 585 من القانون المدني المغربي تنص على: (البيع مع الترخيص للبائع في استرداد المبيع أو بيع الثنيا هو الذي يلتزم المشتري بمقتضاه بعد تمام انعقاده بأن يرجع المبيع للبائع في مقابل رد الثمن) .
وهكذا نرى أن القوانين الوضعية في غالبها لا تنظر بعين الرضا إلى هذا الصنف من العقود ولذا فقد حجرتها وأبطلتها.
__________
(1) الوسيط: 4/143 وما بعدها.(7/1467)
المحور الأخير: هل ينتفع الاقتصاد من بيع الوفاء:
للجواب عن هذا التساؤل نقول إن الاقتصاد نوعان نوع حر لا يخضع في معادلاته إلا لقيود قليلة لا مفعول لها سلبيًّا عن اتساع دائرته وأهم شيء فيه هو عدم تحريمه للربا وحتى إذا أقلقه أمره حينًا فإنه يحد من ارتفاعه فيرضى رب المال والمستهلك. وهذا موضوع نتجنب الخوض فيه إذ لا ناقة لنا في ساحته ولا جمل.
والظاهر أن هذا النوع من الاقتصاد في غير حاجة إلى تقنين بيع الوفاء والتعلق بأهدابه وامتطائه وصولًا إلى المرابيح والفوائد.
أما إذا راجعنا اقتصادنا الإسلامي وهو نوع آخر له طرقه وأخلاقياته وأساليبه وقيوده وشروطه وحدوده فإننا سوف نخضع إلى قواعدنا الإسلامية العامة ومقاصد شريعتنا السمحة التي لا تقبل التغيير والتبديل لانبنائها على أسس ثابتة متينة تصلح لكل زمن (والله سبحانه حد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها) .
والقرآن دستورنا وأساس نظام حياتنا الذي نبني عليه كل الأحكام التفصيلية التي جاءت بها قواعده العامة.
ولا بد حينئذ من نبذ كل ما يخالف أحكامه ونصوصه الواضحة بصرف النظر عن المنافع والمرابيح التي تهز الأسواق وتضفي عليها لونًا من الازدهار يعم طائفة ويقضي على غيرها والقرآن حرم الخمر رغم منافعها الاقتصادية وانتفاع جماعة من أرباحها المالية (وحق يضر خير من باطل يسر) . والأمر بعد ذلك موكول إلى الاجتهاد الصحيح الصادر عن رجال العلم والفقه.
فمن قرأ الكتب المعتمدة وتفقه وفهم معاني ذلك وعرف الأحوال التي بنيت عليها مسائلها من الكتاب والسنة وأحكم وجهة النظر ولم يخف عليه ناسخ القرآن من منسوخه ولا سقيم السنة من صحيحها إذا نظر فيها وكان معه من اللسان ما يفهم به معنى الخطاب جاز له أن يفتي دون حيل ولا خزعبلات فيما ينزل ويحدث من القضايا التي لا نص فيها. والله الموفق للصواب.
محمود شمام
عفى عنه(7/1468)
عقد الرهن
وأوجه الشبه بينه وبين عقد الوفاء
إعداد
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين
بسم الله الرحمن الرحيم
سنتناول هذا الموضوع من خلال المحاور التالية:
المبحث الأول: تعريف الرهن وأحكامه.
المبحث الثاني: أحكام الرهن.
المبحث الثالث: شروط الرهن.
المبحث الرابع: هلاك المرهون وتصفية الرهن.
المبحث الخامس: أوجه الشبه بين عقد الوفاء وبين الرهن.
خاتمة مقارنة موجزة بين عقد الرهن في الشريعة الإسلامية وبين القوانين الوضعية.
تقديم
سبقت الشريعة الإسلامية غيرها من الشرائع والكتب السماوية إلى سن أحكام كثيرة في المعاملات التي تتم بين بني الإنسان، وذلك بصفة متقدمة، ومدققة، تراعي مصالح جميع أطراف التعامل على نمط يكفل احترام حقوق الطرفين دون تحيز ولا تمييز. فأحكام الشريعة الإسلامية عامة ومجردة وسهلة التطبيق لكون الناس أمامها سواسية كأسنان المشط، ومن خلال هذا الواقع الذي تتجذر أحكامه عبر الزمن من خلال تطور المعاملات وتجدد حاجات الإنسان، وتنوع مصادرها واختلاف آياتها، برزت الشريعة الإسلامية كل يوم وهي أكثر قابلية لاحتواء كل طموحات القانونيين، وكل المشرفين على تسيير أي نظام يخدم الفرد والجماعة خدمة مخلصة ونزيهة.
وإذا كانت الأمثلة كثيرة ومتنوعة على صدق هذا القول فإن تنظيم مختلف صور عقد الرهن في الشريعة الإسلامية خير شاهد على مدى ارتباط أحكام هذه الشريعة بحياة الناس ومماتهم.
فمن خلال الكتاب والسنة وأصول نظريات الفقه الإسلامي وفرعها تبرز السابقة الحضارية لهذه الشريعة والتي ستبقى بحول الله صالحة لكل زمان ومكان.
وعليه فسنحاول دراسة بعض المبادىء العامة لهذا الموضوع بإيجاز من خلال المباحث المبينة قبل وهي:(7/1469)
المبحث الأول
تعريف الرهن وأصله وأحكامه
التعريف اللغوي:
الرهن ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك والجمع رهان ورهون ((بضمتين)) ورهين ورهنه عنده الشيء حبسه، ورهن كمنع، وأرهنه جعله رهنًا وارتهن منه أخذ منه رهنًا ... إلى آخر المادة من القاموس المحيط لمجد الدين الفيروز أبادي.
ومعناه اصطلاحًا هو احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفي الحق من ثمنها، أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم ومن أحسن التعاريف له حكمًا تعريف السرخسي ونصه: (الرهن عقد وثيقة بمال مشروع للتوثق في جانب الاستيفاء فالاستيفاء هو المختص بالوفاء لمال لأن موجب حقيقة الاستيفاء ملك عين المستوفى وملك اليد فموجب العقد الذي هو وثيقة الاستيفاء) (1) .
وأصله في الكتاب قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] .
قال القرطبي لما ذكر الله الندب إلى الإشهاد والكتب، لمصلحة حفظ الأموال والأديان، عقب على ذلك بذكر الأعذار المانعة من الكتب، وجعل لها الرهن ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار في ذلك الوقت، ويدخل في ذلك كل وقت لم يوجد فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس والليل والخوف على خراب ذمة الغريم.
وعلى هذا فالرهن في السفر ثابت بكتاب الله تعالى، وفي الحضر ثابت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ففي البخاري قال: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد حدثنا الأعمش قال: تذاكرنا عند إبراهيم في الرهن والقبيل يعني السلف فقال إبراهيم: حدثنا الأسود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل ورهنه درعه.
هذا إضافة إلى حالات كثيرة تهم أنواع الرهن تعرضت لها كتب السنة.
__________
(1) المبسوط للسرخسي: 21/63.(7/1470)
أما حكم الرهن فهو ينقسم إلى نوعين الرهن الحيازي، وهذا لا جدال في جوازه والقسم الثاني وتعرفه القوانين الوضعية الرهن الرسمي وفيه خلاف والراجح جوازه، كما سيأتي ومن خلال نصوص الكتاب والسنة أسهب الفقهاء في تحليل مختلف صور الرهن وأركانه وشروطه وأحكامه ولذا يحسن تقسيم هذا المبحث إلى الفقرات التالية:
أولًا: للرهن أركان أولها الراهن، فلكي يكون لعملية الرهن مفعول شرعي يلزم أن يكون الراهن متمتعًا بكامل أهليته، وأن لا يكون محجورًا عليه، واستعمل ابن رشد في بداية المجتهد كلمة من أهل السداد في حق الراهن وهو تعبير عميق الدلالة يجعلنا نحتاط كثيرًا في حالة الراهن حتى أنه إذا كان متمتعًا بأهليته فإن أهل السداد دائمًا حالهم أكثر حيطة من العاديين من الأفراد.
وعند مالك الوصي يقدم الرهن من مال من يلي أمرهم، إذا كان ذلك سيجر إليهم نفعًا ماديًّا، ويرهن عند مالك المكاتب، والصبي المأذون، أما الشافعي، فقد شدد على ضرورة توفر المصلحة الظاهرة في عملية التعاقد التي يمكن أن يقدم عليه الوصي رهنًا من مال من تحت وصايته إذ لا يجوز له ذلك إلا إذا تأكد من النفع الظاهر لفائدة من يتولى الوصاية عليه.
واتفق مالك والشافعي على أن المفلس لا يجوز رهنه، وقال أبو حنيفة يجوز رهنه، وذلك قبل أن يفلس.
أما الشروط المطلوبة في المرتهن فهي نفس الشروط الواجب توافرها في الراهن.
قال خليل بن إسحاق: (الرهن بذل من له البيع ما يباع أو غررًا ولو اشترط في العقد وثيقة بحق) .
أما الركن الثاني وهو الرهن فقالت الشافعية بأنه يصح بثلاثة شروط هي:
الأول: أن يكون عينًا، وعندهم أنه لا يجوز رهن الدين.
الثاني: أن لا يمتنع إثبات يد الراهن عليه كالمصحف، أما مالك فقد أجاز رهن المصحف على أن لا يقرأ فيه المرتهن. وخلافهم مبني على جواز أو عدم جواز بيع المصحف.
الثالث: أن تكون العين قابلة للبيع عند حلول الأجل ويجوز عند مالك أن يرتهن ما لا يحل بيعه في وقت الارتهان كالزرع والثمر الذي لم يبد صلاحه، على أن لا يباع لأداء الدين إلا إذا بدا صلاحه، ولو حل أجل الدين، وللشافعي قولان في رهن الثمر الذي لم يبد صلاحه، ويباع عنده عند حلول الدين على شرط القطع ويجوز عند مالك رهن ما لم يتعين كالدنانير والدراهيم إذا طبع عليها.(7/1471)
وليس من شرط الرهن أن يكون ملكًا للراهن لا عند مالك ولا عند الشافعي، بل يجوز عندهما أن يكون مستعارًا على أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن وعند مالك يمكن رهن المغصوب وينتقل من ضمان الغصب إلى ضمان الرهن فيجعل المغصوب منه الشيء المغصوب رهنًا في يد الغاصب قبل قبضه، وقال الشافعي: لا يجوز بل يبقى على ضمان الغصب إلى أن يقبضه ومنع أبو حنيفة رهن المشاع وأجازه مالك والشافعي، وخلافهم أساسه هل يمكن القبض والتسليم في المشاع أم لا؟
وانطلاقًا من قول المختصر ((نقل من له البيع ما يباع أو غررًا ولو اشترط في العقد وثيقة بحق)) تتسع مجالات محل الرهن لتشمل كل الأشياء الصالحة محل عقده، وحتى ما فيه قليل من الغرر يجوز بناء على هذا النص رهنه عند جمهور المالكية، ويكون الرهن وثيقة عند المرتهن.
ويجوز أن يرهن الأب أو الوصي أو الحاجر على محجوره، فيما يرجع عليه بنفع عن طريق الرهن.
وإذا رهن دارًا هي وقف عليه على أنها ملك له بشرائها ثم تبين أنها وقف عليه فهل يبطل الرهن أم لا؟ وهل ينتقل الرهن إلى منفعتها وكرائها، لإنماء ماله منها في هذا قولان: أحدهما ينقل الرهن إلى المنفعة والآخر أبطل الرهن لوقوعه على شيء ليس ملكًا للراهن، ولا يستطيع تسليمه للمرتهن وصح رهن الشيء المأجور قبل انتهاء مدة الإجارة.
وإذا كان المرتهن تفوق قيمته قيمة الدين الموثوق بالرهن جاز للراهن أن يرهن الزائد عن القيمة بشرط أن يعلم بذلك المرتهن ويقبل به ويصبح حائزًا للرهن الثاني.
وصح رهن المستعار لقول مالك: من استعار سلعة ليرهنها جاز له ذلك.
ويبطل بشرط مناف لطبيعته كأن يشترط عليه عدم القبض أو أن يشترط عليه عدم بيع المرهون عند انتهاء الأجل لاستيفاء الدين.
وإذا كان البيع فاسدًا ودفع فيه المشتري رهنًا ظانًّا أنه يلزمه، فإن الرهن فاسد لأنه تابع لعقد البيع الفاسد.(7/1472)
وإذا دفع القاتل خطأ رهنًا في الدية ظانًّا أنها تلزمه وحده حلف على جهله بلزومها للعاقلة وفسخ الرهن.
وبطل بدفع رهن جديد على دين قديم مضمون برهن، وبقي ساريًا في حدود الدين الجديد.
وبطل بموت الراهن قبل الحوز لأنه لم يخرج من ملكه، ولم يستلمه الدائن المرتهن فالرهن يلزم بالقول ولا يتم إلا بالحوز.
وإذا أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن وسلمه له فإنه يبطل ولا يقبل قول المرتهن.
ويبطل الرهن إذا أعاره المرتهن للراهن أو لغيره بإذنه عارية مطلقة إن لم يقيدها بزمان لأن ذلك يدل على أنه أسقط حقه.
ولابن القاسم أن الراهن إذا طالب بوضع الرهن عند أمين وطالب المرتهن بأن يبقى تحت يده فالمشهور والذي اختاره جمهور المالكية هو وضعه عند أمين خشية ضياعه.
وإذا سلمه الأمين للمرتهن دون قبول الراهن وضاع عنده ضمن الأمين قيمة الرهن للراهن وكذلك إذا سلمه للراهن دون قبول المرتهن ضمن أيضًا وإلى ذلك أشار المختصر بقوله: (وإن سلمه دون إذنهما للمرتهن ضمن قيمته وللراهن ضمنها أو الثمن) مع تحمل من أذن منهما تبعة تصرفه في حال الهلاك الذي نجم عن وضع الرهن في مكان غير المكان المتفق عليه.
ويصبح الرهن على الجعل ويلزم الواعد أداء ما وعد به أو تتبع إجراءات تصفية الرهن، لأداء الدين المعروفة.
ويجوز للمرتهن اشتراط منفعة الرهن لنفسه بشرطين هما:
1- أن تكون المنفعة موقوتة بمدة معينة، للخروج من الجهالة في الإجارة.
2- أن يكون الرهن في عقد بيع لا من عقد قرض لأنه في البيع بيع وإجارة وهو جائز وفي القرض سلف وإجارة وذلك غير جائز.
وتابع الخرشي ابن رشد في أحكام هلاك الرهن. والحالات التي اختلف فيها الحكم بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه.(7/1473)
وإذا التزم الدائن أثناء إجراءات عقد البيع بتقديم رهن أجبر على الوفاء بالتزامه، وإذا هلك الرهن أو استحق قبل القبض أخبر المرتهن وبقي دينه بدون رهن.
وإذا أذن الراهن للأمين في بيع الرهن عند تمام الأجل أصبح الأمين وكيلًا على البيع يجوز له أن يباشر إجراءاته وإليه أشار المختصر بقوله: (وللأمين بيعه بإذن في عقده إن لم يقل: إن لم آت كالمرتهن بعده وإلا مضى فيها) .
ولا يمكن للأمين أن ينيب غيره في استعمال إجراءات تفويت الرهن عند انقضاء الأجل ولا أن يوصي بذلك لأن الراهن والمرتهن لم يرضيا إلا بأمانته لا بأمانة غيره.
وإذا قضى الراهن الدين ثم أتاه المرتهن بالدين ثم قال الراهن: اتركه عندك، فهلك بعد ذلك فلا شيء على المرتهن لأنه أصبح في هذه الحالة أمينًا وإذا سقط الدين في جزء منه بهبة أو إرث أو شراء، فإن الرهن يبقى وثيقة فيما تبقى من الدين ومعنى ذلك أن الرهن لا تتجزأ قيمته ليأخذ الراهن منه جزءًا مقابل ما آلت إليه ملكيته من الدين وإلى ذلك أشار المختصر بقوله: (وإذا قضى بعض الدين أو سقط فجميع الرهن فيما بقي) (1) . فما زاد على قيمة الرهن فالقول قول الراهن.
وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجمهور فقهاء الأمصار القول في قدر الحق قول الراهن وعمدة الجمهور أن الراهن مدعى عليه والمرتهن مدع فوجب أن يكون اليمين على الراهن تطبيقًا لظاهر السنة المشهورة.
أما مالك فيرى أن المرتهن وإن كان مدعيًا فله ههنا شبهة ينقل اليمين إلى غيره وهو كون الرهن شاهدًا له من أصوله أن يحلف أقوى المتداعيين حجة.
أما الركن الثالث فهو الشيء المرتهن، وعند مالك يجوز الرهن في الأشياء المأخوذة من جميع البيوعات، إلا الصرف ورأس المال في السلم المتعلق بالذمة لأن الصرف من شرطه التقابض فلا يجوز رهنه قبل القبض.
وقال بعض أهل الظاهر عكس ذلك تمامًا، فعندهم لا يجوز أخذ الرهن إلا في السلم خاصة، لأن آية الرهن واردة في الدين وهو السلم عندهم فجعلوا هذا شرطًا من شروط صحة الرهن.
إذًا فعند مالك الرهن يجوز في كثير من الحالات كالسلم والقرض وفي الغصب وفي قيم المتلفات وفي أروش الجنايات في الأموال في جراح العمد التي لا قود فيها فليخرج جواز أخذ الرهن في الدية ويجوز عنده في العارية، التي تضمن ولا يجوز فيما لا يضمن ويجوز أخذه في الإجارات ويجوز في الجعل بعد العمل، ويجوز في المهر ولا يجوز في الحدود ولا في القصاص ولا في الكتابة.
__________
(1) لقد لخصت هذه الحالات من شرح المختصر المعروف بالخرشي: 5/335 - 361 دون تتبع ألفاظه؛ ومن بداية المجتهد: 2/272 - 279.(7/1474)
وعند الشافعية المرهون فيه له شرائط ثلاثة:
1- أن يكون دينًا، فإنه لا رهن في عين.
2- أن يكون واجبًا، فلا رهن قبل الوجوب.
3- أن لا يكون لزومه متوقعًا بأن يجب أو لا يجب، كالرهن في الكتابة.
والشافعي هنا قريب من مذهب مالك إذ أهم خلاف بينهما يتجلى في أن الشافعي منع الرهن قبل الوجوب وأجازه مالك.
هذا عن الأركان التي قسم الفقهاء الرهن إليها أما الشروط ففصلوها على الشكل التالي: شروط صحة، وشروط فساد، الأولى شرطان هما:
- شرط متفق عليه بالجملة وهو القبض مع اختلاف في الجهة التي هو بها شرط فعندما قال الله عز من قائل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . فقد تم الاتفاق على قبض الرهن لكنهم اختلفوا في شأن القبض هل هو شرط تمام أو صحة؟
فإذا اعتبرناه شرط صحة لم يتم العقد إلا إذا تم القبض، وإذا اعتبر شرط كمال تم العقد بدونه لكن لا يتم كاملًا إلا إذا تم القبض وفي هذه الحالة الأخيرة يمكن جبر الراهن على تسليم الرهن إذا تراضى عمدًا في ذلك ولا يحول بينه مع ذلك سوى تراضي المرتهن في طلب التسليم حتى تم تفليس الراهن، أو دونه أو تم مرضه مرضًا أعجزه عن إدارة أمواله.
وفي اختلافهم على هاتين الصورتين قال مالك: إنه من شروط التمام اعتبر عند الشافعي، وأبو حنيفة وبعض أهل الظاهر التسليم شرط صحة لا يتم الرهن بدونه.
وفي القبض يرى مالك أن امتداد القبض من شروط استمرار الرهن وأنه متى عاد إلى يد الراهن، بإذن المرتهن بعارية أو وديعة أو غير ذلك، فقد خرج من اللزوم، وقال الشافعي: ليس استدامة القبض من شروط الصحة وفي هذه الحالة مالك عمم الشرط على ظاهره فألزم من قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . وجود القبض واستدامته، والشافعي يقول إذا وجد القبض فقد صح الرهن وانعقد فلا يحل ذلك إعارته ولا غير ذلك من التصرف فيه كالحال في البيع.
وقد عقب ابن رشد على هذه المواقف بقوله: وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقدان يشترط الاستدامة ومن لا يشترطه في الصحة أن لا يشترط الاستدامة.
ثم إنهم اتفقوا على جوازه في السفر لقول الله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، واختلفوا عليه في الحضر فذهب الجمهور إلى جوازه، وخالفهم أهل الظاهر ومجاهد، فقالوا بعدم جوازه في الحضر، لظاهر النص على السفر في الآية الكريمة التي هي أصل الرهن من باب دليل الخطاب.
وقال ابن رشد بالحرف: وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص فهو أن يرهن الرجل رهنًا على أنه إن جاء بحقه عند أجله، وإلا فالرهن له فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ.(7/1475)
المبحث الثاني
أحكام الرهن
هذه الأحكام تهم حالات كثيرة نلخصها فيما يلي:
ما للمرتهن وما عليه:
إن من حق المرتهن أن يمسك المرهون عنده حتى يستوفي حقه، وإذا لم يف الراهن بما عليه لجأ المرتهن إلى القضاء لبيع المرهون وسداد ما بذمته للراهن من ثمنه إن كان يفي به وإلا أخذ ما وصل إليه الرهن، وبقي باقي الدين دينًا عاديًّا، لأن الرهن زالت عينه بالبيع، الذي دعا إليه المرتهن وكره مالك توكيل المرتهن على بيع الرهن وأخذ دينه من ثمنه وأجازه الكل مع أن الكراهة ليست هي المنع.
والرهن يتعلق بجملة المرهون فلكل جزء منه ضامن لعموم الدين إذ لا يتجزأ ذلك بمعنى أن الراهن إذا أدى بعضًا من الدين لا يجيز له ذلك أخذ جزء من المرهون إذا كان قابلًا للتجزئة، بل يبقى الرهن بذمة المرتهن ما بقي جزء من الدين في ذمة الراهن حتى ولو مات، فإن الورثة لا يمكنهم استلام المرهون وضمه إلى التركة قبل سداد الدين المقدم الرهن عنه واختلفوا في نتاج الرهن أثناء مدة الرهن فقال الشافعي إن النماء المنفصل مثل فصيل الدابة وثمر الشجرة لا يدخل شيء منه في الرهن، قال آخرون ومنهم أبو حنيفة والثوري: إن ذلك كله داخل في الرهن.
أما مالك فقد فرق بين المتصل بالرهن فجعله منه وبين المنفصل عنه فجعله خارجًا عن الرهن وعلة التمييز عنده هنا هي ما كان على صورته وخلقته يعد منه كولد الجارية، وأما ما لم يكن على خلقته فإنه لا يدخل في الرهن ولو كان متولدًا عنه كثمر النخل أو غير متولد ككراء الدار وخراج الغلام، فإنه لا يدخل في الرهن ووجه الخلاف في هذا أن أبا حنيفة رأى أن الفروع تابعة للأصول فوجب لها حكم الأصل.(7/1476)
وأما من حكم بعدم التبعية إطلاقًا فاعتماده أحاديث منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الرهن محلوب ومركوب)) ووجه الدليل من ذلك أنه لم يرد بقوله: ((مركوب ومحلوب)) أي يركبه الراهن ويحلبه، لأنه كان يكون غير مقبوض وذلك مناقض لكونه رهنًا فإن الرهن من شروطه القبض قالوا أيضًا: ولا يصح أن يكون معناه أن المرتهن يحلبه ويركبه، فلم يبق إلا أن المعنى في ذلك أن أجرة ظهره لربه ونفقته عليه واستدلوا أيضًا بعموم قوله عليه السلام: ((الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه)) ثم أضافوا أيضًا بأنه نماء راكد على ما تم الاتفاق عليه فوجب أن لا يكون له إلا بشرط زائد.
وعمدة مالك أن الولد حكمه حكم أمه في البيع فهو تابع لها بينما الثمر لا يتبع الشجر إلا إذا نص على ذلك وولد الجارية يتبع عنده بغير شرط والجمهور على أن المرتهن ليس له أن ينتفع بشيء من الرهن.
ولا نستطيع إلا أن نقول بأن حجة الجمهور هنا أقرب إلى الصواب في نظرنا من التبعيض الذي اختاره إمامنا مالك رضي الله عنه. واختلفوا في ضمان الرهن يهلك عند المرتهن فممن ضمانه؟ الشافعي وأحمد وأبو ثور وجمهور أهل الحديث قالوا بأن الرهن أمانة، فالقول قول المرتهن مع يمينه أنه ما فرط فيه وما جنى عليه.
أما أبو حنيفة وجمهور الكوفيين فقالوا: الرهن من المرتهن ومصيبته منه فأبو حنيفة وجماعة قالوا: إن الرهن مضمون بالأقل من قيمته أو قيمة الدين.
وعزت جماعة لعلي بن أبي طالب أنه مضمون بقيمته قَلَّت أو كثرت، وإن بقي للراهن شيء فوق دينه أخذه من المرتهن.
وفرق مالك وجماعة بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه فقال: هو ضامن فيما يغاب عليه ومؤتمن فيما لا يغاب عليه، وأضاف مالك أنه إذا شهد الشهود بهلاك ما يغاب عليه من غير تضييع ولا تفريط فإنه لا يضمن، وقال الأوزاعي: بل يضمن.
أما اختلاف الراهن والمرتهن في قدر الرهن فقال مالك: القول قول المرتهن فيما ذكره من قدر الحق ما لم تكن قيمة الرهن أقل من ذلك (1) .
__________
(1) انظر هذه الأقوال مفصلة في بداية المجتهد: 2/270.(7/1477)
المبحث الثالث
شروط الرهن
يرجع الفقهاء شروط الرهن إلى عدة حالات منها ما يتعلق بعقد الرهن نفسه ومنها ما يرجع إلى الراهن والمرتهن ومنها ما يرجع إلى المرهون كما أن بعضها أيضًا يرجع إلى المرهون به.
1- أما الذي يرجع إلى نفس الرهن فهو أن لا يكون معلقًا بشرط ولا مضافًا إلى وقت.
2-وما يرجع إلى الراهن والمرتهن فيجب أن يكونا عاقلين فلا يقبل من مجنون ولا من الصبي الذي لا يعقل (1) .
ويجوز الرهن في السفر والحضر إذ النبي صلى الله عليه وسلم استقرض بالمدينة طعامًا من يهودي ورهنه درعه.
3- والذي يرجع إلى المرهون فأنواع منها:
(أ) أن يكون محل الرهن قابلًا للبيع فلا يجوز عند الحنفية رهن ما ليس موجودًا وقت إبرام عقد الرهن وفي هذه المسألة أقوال كثيرة تحاشيناها تجنبًا للتطويل الممل ولا يجوز من المجهول ولا ما يمكن تسليمه.
(ب) أن يمكن تسليمه للمرتهن أو من ينوب عنه في ذلك وعند الكاساني من الحنفية أن القبض شرط وليس بركن لذكر القبض مع الرهن في الآية الكريمة.
وللرهن شروط صحة ملخصها:
- أن يكون بإذن الراهن فلا يصح بدون القبض.
- ومنها الحيازة فلا يصح رهن نصف المشاع وبقاء النصف الآخر غير مرهون، وعند الشافعي هذا ليس بشرط وزيادة الرهن مرهونة مثل الأصل، وزيادة الدين بنفس الرهن فغير جائزة عند أبي حنيفة ومحمد وجائزة عند أبي يوسف.
- يجب أن يكون المرهون فارغًا، أي خاليًا مما ليس مرهونًا.
__________
(1) يجوز من الصبي المأذون والعبد. وعنده أن السفر ليس بشرط للرهن.(7/1478)
4 - وفي المرهون أنواع منها:
(أ) أن يكون مضمونًا وذلك من حيث أصل اشتراط الضمان والثاني في صفة المضمون والهدف من ذلك هو صلاحية الاثنين معًا لضمان حق الدائن وفق مسطرة الرهن.
(ب) أن يكون محتمل الاستيفاء من الرهن فإن لم يحتمل لم يصح الرهن لأن الارتهان استيفاء.
أما أحكام الرهن عند الحنفية فهي:
- حبس المرهون على سبيل الدوام إلى وقت الفكاك أو ملك العين في حق الحبس.
- اختصاص المرتهن بيع المرهون أو اختصاصه بثمنه وهذان الحكمان أصليان عند الحنفية (1) .
وجوب تسليم المرهون عند الافتكاك، قال الشافعي في هذا الصدد: الحكم الأصلي للرهن واحد وهو كون المرتهن أحق ببيع المرهون وأحق بثمنه من سائر الغرماء.
وأما حق حبس الرهن فليس بحكم لازم عند الحنفية حتى أن المرهون إن كان شيئًا يمكن الانتفاع به دون هلاك عينه، كان للراهن أن يسترده من المرتهن فينتفع به فإذا فرغ من الانتفاع أرجعه للمرتهن، هذا على رأي الكاساني وإن كان لا يمكن الانتفاع به إلا بهلاك عينه فليس للراهن استرداده.
__________
(1) البدائع: 6/145، وهذان الشرطان سارت عليهما القوانين الوضعية حتى الفرنسية منها.(7/1479)
المبحث الرابع
هلاك المرهون وتصفية الرهن
أما أمور الضمان والكفالة واستحقاق المرهون من يد المرتهن فإن الأحكام تكاد تتشابه فيها عند جميع الفقهاء فلا نطيل بسرد تفاصيلها في بحث كهذا يهتم بذكر المبادىء العامة.
ومن هلاك المرهون إذا هلك المرهون ففيه خلاف قال الشافعي يهلك أمانة واحتج بالحديث الشريف لا يغلق الرهن وكررها عليه الصلاة والسلام ثلاثًا وقال لصاحبه الذي رهنه عليه له غنمه وعليه غرمه ولذا يكون غرمه عليه إذا هلك أمانة ويبقى عليه قضاء الدين أما إذا هلك مضمونًا كان غرمه على المرتهن وضعف الكاساني هذا القول، إذ قال: (وهذا خلاف النص ولأن عقد الرهن شرع بوثيقة بالدين ولو سقط الدين بهلاك المرهون لكان توهينًا لا توثيقًا فيقع تعريض الحق للتلف) (1) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الرهن بما فيه)) وفي رواية: ((الرهان بما فيها)) وفي السنة قضية الرجل الذي رهن فرسًا لآخر فمات الفرس فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام للدائن: ((ذهب حقك)) والراجح أن هلاك العين عند المرتهن تطبق عليه أحكام هلاك الأمانة في يد الأمين.
والبينة عند الاختلاف بينة الراهن لأنها بينة مثبتة تثبت الاستيفاء وبينة المرتهن تثبت نفي الاستيفاء فالمثبتة أولى وكل الزيادات في المرهون لا تكون مضمونة فلو هلك شيء منها لم يسقط في مقابله شيء من الدين ((إلا الأرش خاصة)) بخلاف الزيادة على الرهن فإنها مضمونة مقصودًا لا تبعًا فإذا صحت ألحقت بأصل العقد لأنها وقعت بطريق الأصالة عن طريق التبعية للمرهون، وإن عين شيئين لرهن واحد قسم الدين على قيمتهما عند الحاجة ليعرف قدر ما في كل واحد منهما من الضمان، كما ينقسم الثمن عليهما في باب البيع وأيهما هلك يهلك بالأقل من قيمته.
__________
(1) البدائع: 6/154.(7/1480)
ولا يجيز أبو حنيفة وأبو يوسف الدين بالجعل وعندهما يضمن القيمة ولا يجوز الرهن بمحل آل إلى الراهن عن طريق عقد فاسد، حتى لا يثبت عن طريق ذلك حق بواسطة عقد سيهدم من أساسه.
وفي الرهن ملك الرقبة دائمًا للراهن وللمرتهن حق الحبس.
وإذا اختلفا في مبلغ الدين المقدم عليه الرهن فالقول قول الراهن مع يمينه وعن أبي حنيفة في بعض الروايات يتحالفان ويترادان لأنهما اختلفا في قدر ما وقع عليه العقد وهو المرهون به فاشتبه اختلاف البائع والمشتري في مقدار الثمن.
بهذه الأقوال من كتاب بدائع الصنائع للكاساني في باب الرهن تتوصل إلى ضيق شقة الخلاف بين أصحاب أبي حنيفة وبين المالكية في شأن المبادىء العامة للرهن.
وأما هلاك الرهن فللفقهاء فيه خمسة أقوال:
قالت طائفة: يترادان الفضل وتفسير ذلك أن الرهن إن كانت قيمته وقيمة الدين سواء فقد سقط الدين عن الذي كان عليه ولا ضمان عليه في الرهن فإن كانت قيمة الرهن أكثر سقط الدين بمقداره من الرهن وكلف المرتهن أن يؤدي إلى الراهن مقدار ما كان تزيده قيمة على قيمة الدين وإن كانت قيمة الرهن أقل سقط من الدين بمقداره وأدى الراهن إلى المرتهن فضل ما زاد على قيمة الرهن (1) .
__________
(1) المحلى: 8/96(7/1481)
المبحث الخامس
بيع الوفاء
هذا إجراء أجازه فقهاء الحنفية وغير جائز عند بقية المذاهب، وهو بيع من حيث نقل ملكية العين إلى الشاري بثمن معلوم، غير أن حق الملكية في هذا النوع يعتبر مؤقتًا لاتفاق الطرفين على أن يرجعا إلى الحالة التي كانا عليها قبل إبرام عقد البيع، ومن هنا أفتى فقهاء المذاهب الأخرى بعدم جوازه لأن المبيع من خصائصه نقل حق الملكية إلى من دفع الثمن، ويكون بإمكان الشاري أن ينقل ذلك الحق إلى من أراد، إذ من مسلمات البيع تمكين الشاري من حق التصرف، والتفويت في العين المبيعة دون عائق، وكل شرط ينافي هذا الحق يبطل حق البيع، وقد أشارت المجلة إلى هذا النوع من البيع، وبينت أوجه الشبه بينه وبين الرهن في المادة 118 بقولها:
(بيع الوفاء هو بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع وهو في حكم الجائز بالنظر إلى انتفاع المشتري به وفي حكم البيع الفاسد بالنظر إلى اقتدار كل من المتعاقدين على الفسخ وفي حكم الرهن بالنظر إلى أن المشتري لا يقدر على بيع المبيع من الغير) .
قال سليم رستم باز في شرحه لهاته المادة، بأن بيع الوفاء صحيح في العقار على الإطلاق أما في المنقول فعلى الخلاف ولعله يقصد بكلمة الإطلاق الحكم عند الأحناف، لأن بقية فقهاء المذاهب غير جائز عندهم في العقار وفي غيره.
وقال حيدر أفندي: إن مشائخ الإسلام كانوا يفتون بعدم الجواز، وعندما وردت المسألة في المجلة أجازوه، وأيضًا أن مشائخ الإسلام هنا يعني بها مفهوم المذهب الرسمي عند العثمانيين، لأن غير فقهاء الأحناف لم يسكتوا عن المسألة ولم يقبلوا بها، قبل المجلة ولا بعدها.
وبيع الوفاء يشابه الرهن من عدة وجوه منها:
1- كون المشتري لا يقدر على تفويت العين محل البيع.
2- وهو كالرهن لأن بيع الوفاء لا يتم إلا بالقبض.
3- إذا هلك المحل قبل القبض لم يسقط من الدين المعتبر ثمنًا أي شيء.
4- إن هلك البائع قبل القبض استوى المشتري مع بقية الغرماء.
لذا ومن حيث المبادىء العامة حسب نص المجلة نستطيع القول بأن بيع الوفاء نوع من الرهن، ولكن من حيث وجهة نظر المذاهب الأخرى هو إجراء غير جائز إطلاقًا.
ولقد تأرجح هذا الإجراء بين البيع والرهن لكنه استقر من تاريخ وضع المجلة على أنه بيع (1) .
__________
(1) انظر ما قاله صديقنا العلامة وهبة الزحيلي في الموضوع في كتابه: ج 4، هامش ص48 ثم ذكره في صفحات 242 و 485 و 514.(7/1482)
الخاتمة
يتضح من كل ما سبق أن حق الرهن من الحقوق العينية التبعية. ويشتبه اشتباهًا كبيرًا بين الفقهين الإسلامي والغربي.
فكونه حقًّا عينيًّا يبين أنه لا يتعلق إلا بأعيان الأشياء، وكونه تبعيًّا يعني بأنه لا يقوم وحده، بل لا يترتب إلا إذا سبقه حق أصلي يأتي هو ليعطيه ميزة تخوله الأسبقية عن جميع الديون التي ليست مضمونة برهن، كما يخول التتبع وحق التقدم، ويرى السنهوري أن حق التتبع في الرهن عند فقهاء الإسلام أقوى منه في الفقه الغربي، ذلك أن الراهن لا يستطيع أن يتصرف في العين المرهونة دون إذن المرتهن فإن لم يأذن وتصرف الراهن لا ينفذ، أما في الفقه الغربي، فتصرف الراهن ينفذ ولكن المرتهن يحتج بحق الرهن في مواجهة من تصرف له الراهن، وينفذ البيع بإذن من المرتهن (1) .
ففي الفقه الغربي الرهن الحيازي يقع إما على منقول وإما على عقار.
أما رهن المنقول فهو عقد ضمان يستلم به الدائن عينًا من المدين ضمانًا لدينه، وتفضيلًا له على بقية الدائنين، وهذا الحق يخول الدائن حق حبس العين المرهونة حتى يتم سداد الدين بكامله ويتميز رهن المنقول عن رهن العقار بكونه لا يقع إلا حيازيًا إذ لا مجال للرهن الرسمي في مجال رهن المنقول، وأكثر حالات رهن المنقول في العمليات التجارية، إذ كثيرًا ما يلجأ التجار إلى رهن ما لديهم من بضائع وسندات وأسهم للحصول على ما يلزمهم من اعتمادات وبهذا أصبح الرهن التجاري أكثر انتشارًا في الحياة اليوم وأهم خصائص الرهن الحيازي في القوانين الوضعية هي:
رهن المنقول حق عيني تبعي يولي الدائن حق التتبع وحق الأولية فهو بهذه الحالة يتطلب وجود حق أصلي في ذمة الراهن يقدم المرهون ضمانًا له، كما يصبح للمرتهن حق تتبع المرهون في الأيدي التي انتقل إليها، وأيضًا يولي الأولية. ثم إن هذا الحق بتبعيته للحق الأصلي تترتب عليه جميع الحالات التي تترتب على الحق الأصلي في الانعدام والوجود.
__________
(1) مصادر الحق، لعبد الرزاق السنهوري: 1/35.(7/1483)
ويشترط في المرهون ما يلي:
1- أن يكون الالتزام الأصلي صحيحًا فإذا كان باطلًا أو قابلًا للإبطال كان حق الرهن مثل ذلك.
2- أن يكون الالتزام الأصلي قابلًا للتنفيذ جبرًا، لأن الرهن عند عدم الوفاء بالدين يباشر بيعه ليؤدي الدين من ثمنه.
3- يشترط لإنشاء رهن المنقول أن يكون الالتزام الأصلي التزامًا بأداء مبلغ من النقود، مع أن التشريع السوري أجاز رهن المنقول لضمان وفاء التزام ما لا فرق بين التزام بأداء مبلغ أو الامتناع عن عمل بينما القانون المغربي لا يجوز عنده لضمان التزام بعمل شيء أو عدم عمله، وإنما يجوز عقد لضمان أي التزام يكون محله وفاء مبلغ من النقود.
أما شروط المرهون فهي:
- أن يكون المنقول صالحًا للتداول حتى يتمكن المرتهن من اتباع إجراءات تصفيته وسداد الدين منه عند عدم الأداء.
- أن يكون قابلًا للتسليم لأن الرهن يستلزم تسليم المرهون ولا يجوز من وجهة نظر القوانين التي اشترطت هذا الشرط أن يكون المرهون من الديون.
أما الشروط التي تتعلق بالراهن مالكًا للمرهون وأن يكون أهلًا للتصرف.
وبهذا نرى أن القوانين الوضعية أخذت أحكام الرهن الحيازي من أحكام الشريعة الإسلامية.
أما الرهن العقاري ففيه الرهن الحيازي وأحكامه موحدة تقريبًا، أما الرهن الرسمي فهو حق عيني أيضًا تبعي يولي صاحبه حق تتبع العقار فهو حق عقاري لا يقبل التجزئة وهو لا يتطلب خروج العقار من يد صاحبه.
ولقد اقتبسته جل القوانين العربية من المادة 2154 من القانون الفرنسي وإليه أشارت المادة 175 من ظهير 19 رجب 1333هـ المغربي، والمادة 1054 من القانون المصري.
وهذا النوع من الرهن أصبح متداولًا في العالم بشكل عام، وساعد على إبرام كثير من العمليات والصفقات، وإذا نظرنا إلى أن بعض الفقهاء أجاز رهن الوثائق، وبعض الحالات التي لا تتعارض مع هذا الرهن تمكنا من القول بأنه لا يشكل خروجًا على أحكام الشريعة، وأن على الفقهاء دراسته من جديد لإخراج أحكام بارزة لمختلف صوره من الأقوال التي يتشابه معها. والله الموفق للصواب.
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين(7/1484)
المناقشة
بيع الوفاء
الرئيس:
الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع هذه الجلسة الصباحية هو ((بيع الوفاء)) العارض هو فضيلة الشيخ خليل الميس والمقرر الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي.
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على النبي المصطفى رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
بين يدي البحث هنالك ملاحظة: إن أي مسألة لم يضع لها الأئمة الأعلام عنوانًا حار بها من بعدهم، واختلفوا فيها أيما اختلاف وإنها لحكمة، هذه الحكمة أن الله سبحانه وتعالى قد منَّ على هذه الأمة بعد سلفها الصالح بمجموعة خيرة أطَّرت الفقه الإسلامي تحت عناوين ونهل من هذا المنهل من جرى على منهج أولئك الأئمة الأعلام.
ومن الأدلة على ما نحن بصدده ما يوصف بـ ((بيع الوفاء)) ، ومن العنوان أمر عجب وهل هنالك بيع بدون وفاء؟ إنه عنوان عجيب! وكأنهم أخذوا من آخره لأوله ومن أوله لآخره، ومن هنا أقول أيضًا بين يدي البحث كيف تستجد المسائل؟ وكيف تحصل الواقعات والنوازل؟ نعم، لنتأمل الأرض التي نبت فوقها هذا العنوان، قالوا: إنها بخارى وسمرقند وبلخ، يا ترى لماذا؟ قالوا: شحت النفوس وضنت ولا بد أن يأكل المسلمون أموالهم بينهم بالحق ولا يأكلوها بالباطل. ولما بعُدَ الحق التمسوا طرقًا كي يصلوا إلى الحق ولكنها لم تكن طرقًا معبدة، وهذا واحد منها. إنه ((بيع الوفاء)) الذي يعتبر من العقود المستحدثة بعد استقرار المذاهب، نعم لم يكن له وجود في عهد السلف الصالح، ولكن باستشراء الفساد واختلال المروءات ظهر في الناس هذا النمط من التعامل، قالوا: حدث في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجري إلا ما ذُكِرَ أو ورد عن أبي جعفر الباقر - رضي الله تعالى عنه - في كتب المذهب المعتمدة، وبعبارة أخرى نقول: إن هذه المسألة من النوازل أو الواقعات، ولذلك تعددت الأقوال في تعريفه كما اختلفت أقوال الفقهاء في تصنيفه. ومما لا خلاف عليه أنه عقد مركب من عقدين يتنازعه كل من الرهن والبيع على حد سواء، وعلى خلاف في صحته أو فساده لذلك دار بينهما وكأنه كالتنازع في علم النحو والصرف.(7/1485)
والقاعدة الفقهية تقضي (بأن المعاملات طلق حتى يعلم المنع) لذلك بذل الفقهاء أقصى جهدهم - كما هو شأنهم - لبيان حكم هذا العقد وبخاصة فقهاء مذهب الإمام أبي حنيفة في سمرقند وبخارى وبلخ. فإن شئنا قلنا مدرسة ما وراء النهر لأنهم سلكوا هذا المسلك تجنبًا عن الوقوع في الربا لأن الصيغة بيع والحقيقة رهن.
فالقول بحل الانتفاع بالعين يكون هذا العقد بيعًا، ومن حيث الالتزام أو إلزام المشتري برد العين إلى البائع إذا أعاد البائع الثمن يكون رهنًا، وهنالك فروق واضحة ما بين الرهن وما بين البيع.
ومن هنا من أراد أن يلتمس هذه المسألة يجدها في كتب الفتاوى المطولة، ومن المعروف أن كتب الفتاوى هي في المرتبة الثالثة من كتب فقهاء الحنفية وليست من كتب الأصل.
إذن لنقل أولًا تعريف بيع الوفاء: تعددت أقوال الفقهاء في تعريف بيع الوفاء ولكنها متقاربة من حيث المعنى، عرف الزيلعي بقوله: هو أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بدين لك علىَّ على أنِّي متى قضيتُ الدين فهو لي، فهنا اختار عبارة (قضيت الدين) . ويأتي قاضيخان ويتبعه ابن نجيم معرفين بقولهما: بعت منك هذا العين بكذا على أنِّي متى دفعت لك الثمن تدفع العين إليَّ، استعمل هنا كلمة (تدفع) وهنالك قضاء، ونقل في هامش جامع الفصولين عن صاحب جواهر الفتاوي قوله: بيع الوفاء أن يقول: بعت منك على أن تبيعه مني متى جئت بالثمن وهنا جاءت كلمة (تبيع) ، وأما ابن عابدين فقد قال في الحاشية: هو أن يبيعه العين بألف على أنه إذا رد عليه الثمن رد عليه العين، وواضح أنه استعمل كلمة (رد) . أما في المجلة: فقد عرف الوفاء بأنه بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن - إنها عبارة ابن عابدين - يرد المشتري إليه المبيع. وبالجملة هنالك أربع عبارات: قضاء الدين، ودفع الثمن، والبيع، والرد. وبالتأمل في هذه العبارات نجد أن صورة هذا العقد دائرة في لسان الفقهاء ما بين البيع والرهن، بل هو رهن في صورة بيع فهو عقد أحدث تحيُّلًا لتحصيل الأرباح من طريق مباح.
المصطلح المساوي له في المذاهب الأخرى: كما تعددت أقوال الفقهاء في تعريفه كذلك تعددت أقوالهم في أسمائه. فيسميه المالكية: بيع الثنيا، والشافعية: بيع العهدة، والحنابلة: بيع الأمانة، ويسمى أيضًا: بيع الطاعة وبيع الجائز، وعند فقهاء الحنفية أيضًا له أسماء فهو بيع الوفاء، والوجه في ذلك أن فيه عهدًا بالوفاء من المشتري بأن يرد المبيع على البائع حين رد الثمن، وهو البيع الجائز، وبعض الفقهاء يسميه: البيع الجائز، لعله مبني على أنه بيع صحيح لحاجة التخلص من الربا حتى يسوغ للمشتري أكل ريعه، وهو بيع المعاملة، والوجه فيه أن المعاملة ربح الدين، وهذا يشتري الدائن لينتفع به بمقابلة الدين، وهو بيع الأمانة، ويسمى بمصر بيع الأمانة، والوجه في اعتباره بيع أمانة، أنه أمانة عند المشتري، بناء على أنه رهن أي كالأمانة، وهو بيع الإطاعة كذا في بلاد الشام يسمى بيع الإطاعة أو الطاعة، ووجهه أن الدائن يأمر المدين ببيع داره مثلًا بالدين فيطيعه فصار معناه بيع الانقياد.(7/1486)
مناسبة ذكره في كتب الفقه: من الملفت للانتباه أنه تَوَزَّعَ هذا المبحث في أبواب الفقه حتى ضمن المذهب الواحد، نقول: ذكره الحطاب في باب البيوع المنهي عنها، قال: ومن الشروط المناقضة بيع الثنيا، وهو من البيوع الفاسدة، بينما ذكره ابن رشد في بيع الشروط، وذكره صاحب الملتقط في باب الرهن، وذكره البزازي وقاضيخان في مباحث البيع الفاسد، وذكره ابن نجيم وغيره في خيار الشرط، وذكره الزيلعي في كتاب الإكراه. وهكذا نجد أن هذا البيع احتار العلماء تحت أي فئة ينسبونه من أبواب الفقه.
ما ينعقد به البيع وفاء: قالوا: لو قال المشتري: اشتريت منك المبيع الفلاني بكذا على أن أرده لك أو أبيعه منك متى أرجعت إلي ثمنه، أو أديتني إياه، فقال البائع: بعته منك على تلك الصورة، انعقد البيع بالوفاء، وإذا حصل الاتفاق بين الطرفين على أن يكون العقد الذي سيجري بينهما عقد بيع ووفاء ثم عقدا البيع ولم يصرحا فيه بأنه كذلك.
والفرق بين عامة البيوع وبيع الوفاء متصور في ثلاثة وجوه: في بيع الوفاء ثلاثة محظورات: بيع الوفاء بيع فيه شرط لا يقتضيه العقد وهو شرط رد المبيع إلى البائع إذا رد الثمن فيلزم أن يكون بيعًا فاسدًا. وبيع الوفاء بيع شرط فيه إقالة، وكل بيع شرط فيه إقالة يكون فاسدًا، وبيع الوفاء رهن في الحقيقة ومن حكم الرهن حرمة الانتفاع بالعين المرهونة، وهاهنا ينتفع المشتري وهو المرتهن بالمشترى وهو الرهن.
حكم بيع الوفاء والأصل المستند إليه في التحليل أو المنع: اختلف الفقهاء في حكم بيع الوفاء اختلافًا كثيرًا حتى فيما بين فقهاء المذهب الواحد، وبخاصة فقهاء مذهب الإمام أبي حنيفة المتقدمين منهم والمتأخرين، وبالجملة فالمالكية والحنابلة والمتقدمون من الحنفية والشافعية ذهبوا إلى أن بيع الوفاء فاسد. والوجه فيه: أن اشتراط البائع أخذ المبيع إذا رد الثمن إلى المشتري يخالف مقتضى البيع وحكمه. وهو: ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدوام، وبيع الوفاء إن المشتري قلق، وفي هذا الشرط منفعة للبائع، ولم يرد دليل معين يدل على جوازه، فيكون شرطًا فاسدًا يفسد البيع باشتراطه.(7/1487)
حكم بيع الوفاء عند فقهاء الحنفية: استظهر صاحب الفتاوي البزازية تسعة أقوال لفقهاء المذهب في حكم بيع الوفاء، نقول منها، القول الأول: ما أورده النسفي في فتاويه: البيع الذي يتعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا وسموه بيع وفاء هو رهن في الحقيقة، وتترتب عليه أحكام الرهن، وهي ألا يملكه المشتري، ولا ينتفع به إلا بإذن البائع، ويضمن المشتري ما أكل من ثمرة المبيع أو أتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه لو يفي، ولا يضمن ما زاد كالأمانة، وللبائع استرداده عند قضاء الدين متى شاء، والوجه في هذا القول: أن المتعاقدين وإن سمياه - أي بيع الوفاء - لكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين، إذ البائع يقول: رهنت ملكي، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والناس يسمونه الرهن، والعبرة في التصرفات للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. وقال في الفتاوى الخيرية: والذي عليه الأكثرون أنه رهن لا يفترق من الرهن في حكم من الأحكام، وفيه: قلت للسيد الإمام أبي الحسن الماتريدي: قد فشا هذا البيع بين الناس، وفيه مفسدة عظيمة، وفتواك أنه رهن. قال: وأنا أيضًا على ذلك، فالصواب أن نجمع الأئمة ونتفق على هذا ونظهره بين الناس، فقال: المعتبر اليوم فتوانا، وقد ظهر ذلك بين الناس، فمن خالفنا فليبرز نفسه وليقم دليله وفي فتاوى عماد الدين: فتوى أئمة زماننا أن حكم بيع الوفاء حكم الرهن، ويترتب عليه ما يترتب على الرهن، وقال النسفي: هذا البيع باطل وهو رهن وحكمه حكم الرهن، وقيل: هو بيع فاسد يوجب الملك إذا اتصل به القبض والأول أصح. وفي جواهر الفتاوى: لا فرق عندنا بين الرهن وبينه في حكم من الأحكام.
القول الثاني: عن علامة سمرقند صاحب المنظومة - سمرقند التي كنا ندعو دائمًا أن يعيدها الله إلى ديار الإسلام، وقد عادت بحمد الله تعالى، ونرجو، إن شاء الله، أن تكون الجلسة المقبلة فيما بيننا علماء تلك المنطقة - عن علامة سمرقند صاحب المنظومة نجم الدين النسفي (710هـ) قال: اتفق مشايخ الزمان - وهو ما كان عليه بعض السلف - على صحته بيعًا وإفادته لبعض أحكامه وهي: الانتفاع به دون البعض، وهو البيع لحاجة الناس، وَجُوِّزَ الاستصناع لذلك، وقد بحث البارحة مبحث الاستصناع. وقال صاحب النهاية: وعليه الفتوى.(7/1488)
والقول الثالث: في فتاوى قاضيخان: الصحيح أن العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا، ثم ينظر، إن ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع، وإن لم يذكرا ذلك في البيع وتلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء، أو تلفظا بالبيع الجائز عندهما هذا البيع عبارة عن عقد غير لازم فكذلك، وإن ذكرا البيع من غير شرط ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة جاز البيع ويلزم الوفاء بالميعاد - طبعًا له دليله ولن نذكره اختصارًا.
القول الرابع: قاله في العدة واختاره الإمام ظهير الدين المرغيناني وغيره من مشايخ بخارى: أنه بيع فاسد كبيع المكره، ولذلك يكون للبائع حق نقض المشتري وهبته لأنه بيع بشرط فاسد. ووجه هذا القول: أن الفساد باعتبار عدم الرضا فكان حكمه حكم بيع المكره. وقال الأتقاني: والأصح عندي أن بيع الوفاء بيع فاسد، يوجب الملك بعد القبض، كسائر البياعات الفاسدة.
القول الخامس: ما اختاره أئمة خوارزم: أنه إذا أطلق البيع ولكن وَكَّل المشتري وكيلًا لفسخ البيع إذا أحضر البائع الثمن، أو عَهِدَ على أنه إذا أوفاه فسخ البيع، والثمن لا يعادل المبيع وفيه غبن فاحش.
- على أي حال نأتي للقول السادس وباختصار - القول السادس: ما اختاره البعض منهم الشيخ الإمام فخر الدين الزاهدي وبعض مشايخ سمرقند: إذا كان الوفاء غير مشروط في البيع نجعله صحيحًا في حق المشتري حتى يحل له الانتفاع بالمشترى كما يحل بسائر أملاكه، ولا ضمان عليه، ونجعله رهنًا في حق البائع، حتى لا يتمكن المشتري من بيعه ولا يورث عنه ولا يملك المشتري تحويل يده وملكه إلى غيره وأجبر على الرد إذا أحضر المدين لأنه كالزرافة مركب من البيع والرهن، على ما قال، وكثير من الأحكام له حكمان: كالهبة حال المرض، والهبة بشرط العوض. قال: وجعلناه كذلك لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا، فبلخ اعتادوا الدين والإجارة الطويلة ولا يمكن ذلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاء، وما ضاق على الناس أمره اتسع حكمه. وعقب على هذا الرأي بالقول: والفتوى في زماننا على جوازه من هذا الوجه. وفي جامع الفصولين - نختصر - قال: والقول السابع: أجاب علاء الدين بدر: أنه لا يصح، وعلى هذا اختيار صاحب الهداية وأولاده ومشايخ زماننا، قال: وعليه الفتوى. أعني لا يملك المشتري البيع من الغير كما في بيع المكره، لا كالبيع الفاسد بعد البقض. والقول الثامن والتاسع مذكور باختصار.
والقول الراجح: قال علي حيدر في شرح المجلة ما نصه: والحاصل أن بيع الوفاء وإن وُجِد فيه تسعة أقوال فأرجحها القول الذي اتبعته المجلة في قولها: بيع الوفاء في حكم البيع الجائز بالنظر إلى انتفاع المشتري، وفي حكم البيع الفاسد بالنظر إلى كون كل من الفريقين مقتدرًا على الفسخ، وفي حكم الرهن بالنظر إلى أن المشتري لا يقدر على بيعه إلى الغير. وعلى كل فوجه الشبه بالرهن أبين وأرجح.(7/1489)
مذهب المالكية: اختلف أيضًا فقهاء المالكية في حكم بيع الوفاء على قولين: القول الأول إنه بيع باطل، والقول الثاني إنه رهن باطل. وابن رشد قال في البداية: لا يجوز عند مالك، وعبارته: أما من قال له البائع متى جئتك بالثمن رددت عليَّ المبيع، فإنه لا يجوز عند مالك، لأنه يكون مترددًا بين البيع والسلف، إن جاء بالثمن كان سلفًا، وإن لم يجىء كان بيعًا. وفي البيان والتحصيل، قال: سئل مالك عمن باع أصل حائطه من رجل أنه متى جاءه بالثمن كان أحق بحائطه وكان إليه رده فأقام في يد المشتري ست سنين يأكل ثمرته، ويزرع قصيبًا يأكل غلته، ثم أيسر البائع بعد ست سنين فجاءه بالثمن فرده عليه وأخذ حائطه، وقد أكل المشتري ثمرته ست سنين وغلة قصب كان يزرعه، وقال مالك: أصل هذا البيع لم يكن جائزًا ولا حسنًا، وأرى للمشتري ما أكل من الثمر واستغل من القصب بالضمان لأنه كان للحائط ضامنًا، إلى آخر القول. وجاء في المدونة: قلت: أرأيت لو أن رجلًا اشترى جارية على أن البائع متى جاء بالثمن فهو أحق بالجارية، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا، قلت: لِمَ؟ قال: لأن هذا يصير كأنه بيع وسلف.
حكم الغلة في بيع الثنيا عند المالكية: اختلف في الغلة في هذا البيع، هل هي للمشتري أو للبائع: قال الرجَراجي: اختلف في بيع الثنيا هل هو بيع أو رهن على قولين: وفائدة الخلاف في الغلة، فمن رأى أنه بيع قال: لا يرد الغلة، وقد قال مالك في العتبية: إن الغلة فيه للمشتري بالضمان فجعله بيعًا وإنه ضامن والغلة له، إلى آخر الكلام. وبالجملة: فإن ثمرة الخلاف بين القولين - أي في كونه رهنًا أو بيعًا عند المالكية - تظهر في الغلة، فمن قال: إنه بيع، قال: لا يرد الغلة، وتكون للمشتري بالضمان، ومن قال: إنه رهن، قال: لا يرد الغلة، وإنه في ضمان البائع، وحكمه حكم الرهان في سائر أحكامها.(7/1490)
مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة إلى أن بيع الأمانة (الوفاء) الذي مضمونه اتفاق المتبايعين على أن البائع إذا جاءه المشتري بالثمن، أعاد عليه ملك المبيع، وللمشتري أن ينتفع بالمبيع بالإجارة أو السكنى أو غيرها، وهو عقد باطل بكل حال. ووجه هذا القول: إن مقصود المتبايعين إنما هو الربا بإعطاء الدراهم إلى أجل ومنفعة الدار مثلًا هي الربح. والواجب فيه: رد المبيع إلى البائع، وأن يرد المشتري ما قبضه من الثمن.
وأما مذهب الشافعية: اختلفت أقوال فقهاء مذهب الإمام الشافعي في حكم بيع الوفاء من المتقدمين فمنهم من ذهب إلى القول بفساده إذا كان شرط الوفاء في صلب العقد مقترنًا بالإيجاب والقبول، أو في مجلس العقد، أو في زمان خيار الشرط. أما بعض المتأخرين من فقهاء المذهب قالوا: إن بيع الوفاء جائز ومفيد لبعض أحكامه، وهو: انتفاع المشتري بالمبيع وهو البيع من الآخر. ووجه هذا القول: أن البيع بهذا الشرط تعارفه الناس هكذا وتعاملوا به لحاجتهم إليه فرارًا من الربا، فيكون صحيحًا لا يفسد البيع باشتراطه فيه، وإن كان مخالفًا للقواعد، لأن القواعد تُتْرَك بالتعامل كما في الاستصناع.
أثر فوت المبيع: إذا كانت قيمة المال المباع بالوفاء مساوية للدين وهلك المبيع في يد المشتري أو أتلفه، سقط من الدين بقدر قيمة المبيع الهالك أو المتلف - والحقيقة هذا هو قول فقهاء الحنفية في هلاك الرهن - أما إذا كانت قيمة المال المبيع وفاء ناقصة عن الدين وهلك المبيع في يد سقط من الدين بقدر قيمته واسترد المشتري الباقي وأخذه من البائع، وسواء كان الهلاك بلا تعد ولا تقصير من المشتري، أو كان بتعدِّ يَدٍ وإتلافه، وإذا كانت قيمة المبيع وفاء زائدة عن مقدار الدين وهلك المبيع في يد المشتري، سقط من الدين قدر ما يقابل الدين وضمن المشتري الزيادة إن كان هلاكه بالتعدي، أما إذا كان بلا تَعَدٍّ فلا يلزم المشتري أداء تلك الزيادة.(7/1491)
حكم اشتراط البائع الضمان من المشتري للوفاء ببيع الوفاء: لما كان بيع الوفاء يتراوح ما بين الرهن والبيع صحيحًا كان أو فاسدًا على خلاف بين العلماء كما صحح بعضهم أن بيع الوفاء إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا ولو ذكر البيع بلا شرط ثم ذكر الشرط على وجه العدة جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد إذ المواعيد تكون لازمة فيجعل لازمًا لحاجة الناس، كما ذكروا أن الشرط الفاسد إذا ألحق بالعقد يلتحق عند أبي حنيفة - رحمه الله - لا عند صاحبيه، إلى آخر الكلام.
وجه التطابق فيما بين عقدي الرهن والوفاء: إن بيع الوفاء هو رهن في الحقيقة وخُرِّج على هذا الأصل الفروع التالية:
1- لا يملكه المشتري ولا ينتفع به إلاَّ بإذن مالكه.
2- المشتري وفاء ضامن لما أكل من ثمر المبيع أو أتلف من شجره.
3- يسقط من الدين بهلاك المشتري تحت يده.
4- لا يضمن الزيادة.
5- للبائع استرداد المبيع وفاء إذا قضى دينه.
6- لو بيع كرم بجنب هذا الكرم - الذي بيع وفاء - فالشفعة للبائع لا للمشتري.
والوجه فيه: أن بيع المعاملة وبيع التلجئة حكمهما حكم الرهن، وللرهن حق الشفعة وإن كان في يد المرتهن.
والخلاصة: اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على أن بيع الوفاء إن كان خاليًا عن شرط الرد في صلب العقد يكون جائزًا، وكذلك عند الإمامية، أما إذا شُرِطَ رد المبيع في صلب العقد يكون البيع فاسدًا عند الأحناف والمالكية والشافعية. أما الحنابلة فيرون البيع صحيحًا والشرط فاسدًا، وإذا كان البيع خاليًا عن ذكر شرط الرد فالراجح في المذاهب الأربعة أنه جائز لكونه بيعًا خاليًا عن شرط
هل يجوز انتفاع المرتهن بالعين المرهونة؟ اتفق الفقهاء على أن عين الرهن ومنافعه ملك للراهن، وأن المرتهن ليس له إلَّا حق استيفاء دينه من ثمن المرهون إذا تعذر على الراهن وفاء الدين للمرتهن عند الأجل. كما اتفقوا على أن المرتهن لا يحل له الانتفاع بشيء من الرهون، إذا لم يأذن له الراهن، ولم يكن المرهون مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة، واختلفوا في انتفاع المرتهن بالمرهون إذا أَذِنَ له الراهن مطلقًا سواء أكان المرهون مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة أم كان غير ذلك، أو لم يأذن له الراهن، وكان المرهون مركوبًا، أو محلوبًا، أو صالحًا للخدمة. فالخلاف بين الفقهاء في وضعين: الأول: انتفاع المرتهن بالمرهون، إذا أذن له الراهن. والثاني: إذا لم يأذن له الراهن. والأدلة مطروحة ومعروفة.(7/1492)
والقول المختار: هذا والمختار من الأقوال الثلاثة هو القول بعدم جواز انتفاع المرتهن بالمرهون مطلقًا سواء أكان الانتفاع مشروطًا في العقد، أم كان غير مشروط، وسواء أكان الرهن بدين قرض أم كان بغير دين قرض، لقوة أدلته وسلامتها مما ورد عليها، ولأنه يتفق وسماحة الدين ويسره ونبل مقاصده حيث حَثَّ على التعاون وأكده، أما تَحَيُّن الفرص لأكل أموال الناس بالباطل فليس في شرائع الله تعالى ما يبيحه.
انتفاع المرتهن بالمرهون إذا لم يأذن له الراهن: الحقيقة - يعني - هي أقوال أربعة معروضة لن نأتي على ذكرها لأنه ما من جديد، لكن نعود إلى الخلاصة.
المختار: والقول المختار من الأقوال الأربعة في انتفاع المرتهن بالمرهون المركوب أو المحلوب، أو الصالح للخدمة، إذا لم يأذن الراهن للمرتهن في الانتفاع به، هو ما ذهب إليه أبو ثور والليث والأوزاعي من حل الانتفاع بقدر المنفعة إذا امتنع الراهن عن الإنفاق على المرهون، لقوة أدلته ولموافقته لروح التشريع، ولما فيه من المحافظة على حقوق الراهنين والمرتهنين، وعلى الأموال التي أمر الشارع بالمحافظة عليها ونهى عن إضاعتها وأكلها بالباطل. فإن الناظر في أدلة المذاهب المختلفة يرى أنه قد سلم منها حديث: ((له غنمه، وعليه غرمه)) ، وحديث: ((الظهر يركب بنفقته)) ، وحديث: ((فإن استفضل من اللبن شيء بعد ثمن العلف فهو ربا)) ، وسبيل العمل بالأحاديث المتعارضة هو الجمع بينها، وأما الأخذ وترك البعض الآخر لمجرد ما أثير حوله من أقاويل، أو تعصب لرأي معين، فبعيد عن الصواب.
والخلاصة أن التحريم متفق عليه في غير مسألة المركوب والمحلوب، أما فيهما فقد قيل بالحل. ولكن الجمهور على خلافه ولا شك أن الأرض المرهونة ليست كالحيوان حتى تقاس عليه، فلا يجوز أن يكون القرض على رهنها سببًا في الانتفاع بها اتفاقًا فإن محل الخلاف بين الجمهور وغيرهم إنما هو الحيوان كما علم.
الصور التي يمكن للاقتصاد أن ينتفع بها من بيع الوفاء: في الحقيقة خلصنا من مبحث الرهن إلى أربعة عشر ضابطًا أو قاعدة فقهية:
1- أن بيع الوفاء ليس برهن محض، وأن ثمن الوفاء ليس بدين محض في ذمة البائع.
2- لو كان الثمن في بيع الوفاء دينًا لكان المبيع رهنًا ولما كان المبيع بيع الوفاء ليس برهن فلا يملك المشتري منافعه أو يملكها.
3- لو كان ثمن الوفاء دينًا لما جاز البيع وفاء قبل الثمن لأنه يصير رهنًا بلا دين، وهو لا يجوز.
4- لو كفل بدين فشرى الطالب به عقار المديون وفاء تبطل الكفالة ثم لا تعود بفسخها ببيع الوفاء.
5- لو باعه وفاء ولم يقبض الثمن لا يتمكن من بيعه من آخر قبل فسخه، والرهن كذلك.(7/1493)
6- إن زكاة مال الوفاء تجب على البائع ولو كان دينًا محضًا لما وجب عليه، وفي هذا الوجه لا فرق بينه وبين الرهن لأن العين المرهونة تبقى على ملك المدين الراهن على ما هو معلوم في حكم من الأحكام لأنه ملكه بقبضه على المشتري لأنه يعد مالًا موضوعًا له عند البائع أو دينًا له عليه.
7- البائع والمشتري في البيع بالوفاء مقتدران على الفسخ.
8- كون المبيع في بيع الوفاء غير مشاع شرط.
9- ليس للبائع أو المشتري بيع المبيع وفاء من آخر.
10- يجوز أن يشترط في بيع الوفاء أن تكون منافع المبيع للمشتري.
11- إذا تلف المبيع وفاء في يد المشتري سقط من الدين بمقداره ولو كان ذلك بدون تعد منه.
12- إذا توفي أحد العاقدين للبيع بالوفاء قام ورثته مقامه.
13- يميز المشتري وفاء عن غيره في أخذ المبيع.
14- إن المشتري يملك زوائد المبيع وفاء ولا يضمنها بإتلافها.
وعليه: بيع الوفاء وثيق الصلة بخيار النقد على ما قاله الدكتور عبد الله في بحثه فيأخذ أحكامه ويدخل - أي ما يستفاد من هذا العقد البنك وسيطًا بين طرفي المعاملة فيكون راهنًا ومرتهنًا ويبايع بالوفاء بين الطرفين على ما ذهب إليه السيد الشريف محمد عبد القادر.
وفي الخاتمة: هذا ما أعاننا الله عليه ووفقنا إليه من جهد المقل في بحث ((بيع الوفاء)) ونعرف في النهاية أن المعاملة طلق حتى يعلم المنع ولكن يقابلها التقوى فوق الفتوى، والله من وراء القصد. وَصَلَّى اللَّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله.(7/1494)
الشيخ رجب بيوض التميمي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أريد أن أعلق ولي ملاحظات على ما ذُكر بالأمس من عقد الاستصناع، إن هذا المجمع محط أنظار المسلمين في جميع الأقطار، وعليه يعولون في حل مشاكلهم حسب الشريعة الإسلامية، ولقد أجاد إخواني العلماء الذين عرضوا وصوروا العقد، والموضوع حسب أقوال المذاهب التي ذكرت، لكن هناك أمور كما ذكر بعضها أخي الدكتور عبد السلام العبادي، هذه الأمور تتعلق بالدولة وتتعلق بالجماعات وتتعلق بالأفراد، أما ما يتعلق بالأفراد والجماعات فهي أمور مهمة لأن طالب الاستصناع وطالب العمل يطلب عملًا له تكلفة مالية وله تكلفة فنية، فمثلًا إن أراد أن يبني عمارة أو مدرسة فعليه أن يراجع المقاولين والمهندسين والفنيين وهذا يتطلب تكلفة مالية، لكن هناك أمور تتعلق بالدولة وتتعلق ببناء المستشفيات أو المدارس أو المجمعات السكانية، هذا الأمر هو الذي يجب أن يلاحظ وأن يضع له المجمع الحلول الشرعية، لأن هذا الأمر يدخل تحت أن يقوم الممول بتقديم التمويل على مدة معينة، وبعدها يسلم ما قام به، وفي أغلب الأحيان أو في الأحوال كلها يتبع ذلك فوائد بنكية ربوية، وهذا مناقض لأحكام الشريعة الإسلامية، وهنا يجب أن يعمل المجمع على إيجاد الحلول التي تخرج بها من المشاكل الربوية، والله الموفق حتى تبقى صورة المجمع الفقهي مضيئة مشرقة يتطلع إليها العالم الإسلامي، وهذا المجمع جدير بأن يكون في مكان إسلامي محترم مصان يجب أن تكون أعماله وقراراته موضع الاحترام والأخذ بها. والله الموفق.
هذا ما أردت أن أُنَبِّهَ إليه والله سبحانه وتعالى يهدينا إلى سواء السبيل وهو ولينا، نعم المولى ونعم النصير. والسلام عليكم ورحمة الله.
الدكتور أنس مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله الكريم.
في موضوع ((بيع الوفاء)) أريد أن أبين الموقف الذي يبدو لي أنه مناسب منه اليوم، أي أتكلم أساسا حول المحور الرابع من المحاور المطروحة في الموضوع. حقيقة إن تكاثر الفروع الفقهية المعروضة أخشى معه أن يغيب بينها جذع الشجرة وعمود الخيمة. فالطبيعة الاستثنائية لبيع الوفاء ينبغي ألا نغفل عنها في أي لحظة.(7/1495)
من المسلمات الشرعية أنه في القرض لا يحل أن ينال المقرض بالقرض منفعة وبخاصة منفعة من جنس منفعة ما يمكن إيجاره من عقار أو منقول، هذه من البديهات المسلمة لدى الجميع والحمد لله. الآن بيع الوفاء كما ذكر غير واحد من العلماء الأكابر القدامى والمعاصرين الذين بينوا ووضحوا حقيقته، هذا البيع يؤول إلى أن يضمن للمقرض الذي هو مشترٍ في بيع الوفاء أن يسترد رأس ماله وينتفع من هذه العين المبيعة بيع وفاء ينتفع بها بصورة مباشرة أو بإيجارها من أحد آخر إذن واضح تمامًا أن هذا العقد كما صرح به من كتبوا وفصلوا أحكامه هو يؤدي إلى هذه النتيجة. الآن الذين أجازوه أيضًا صرحوا بأنهم لم يجيزوه إلا تحت ضغط الضرورة الماسة، هكذا بينه عدد من الأوراق المقدمة إلى هذا المجمع الموقر، كما بينه فضيلة الشيخ الميس الذي لخص الموضوع وهنا أيضًا أمامي صفحات من الموسوعة الفقهية الكويتية في بند البيع، تقول: إنه للضرورة الماسة، هذا ما يقوله بعض متأخري الشافعية أيضًا ويؤكدون بذلك ما قاله من سبقهم من الحنفية الذين أجازوه، إذن الذين أجازوا هذا البيع إنما أجازوه تحت ضغط الضرورة الماسة حتى لا يقع الناس في الربا الصريح. الآن إذا احتفظنا بهذه الحقيقة في أذهاننا أمكننا أن نطرح الآن نقطتين: النقطة الأولى أريد أن أنبه لخطورة إباحة بيع الوفاء اليوم، هذا حكم استثنائي قال به من قال به لضرورة وجدت في مجتمعات مسلمة في القرن الخامس ثم قلدهم آخرون في مجتمعات أخرى قد تكون واقعة تحت ضغط الضرورة المشابهة لما واجهه الأولون، الآن لو أخذنا به اليوم تقليدًا من سبقنا دون تروٍّ فيما إذا كنا نحن أيضًا واقعين تحت ظروف الضرورة التي جعلتهم يقولون به، ربما نقع في مخاطر كبيرة أذكر بعضها. إذن أريد أن أذكر بضع نقاط عن خطورة إباحة بيع الوفاء اليوم.
أولًا: من الصعب أن نجد مبررًا شرعيًّا أو منطقيًّا لقصر بيع الوفاء على العقارات، المنطق الذي يدعو إلى القول به في العقارات يجري أيضًا في المنقولات، إذا كنت أنا أملك سيارة وأخي يملك أرضًا أو دارًا فكيف تبيح لأخي أن يبيع داره بيع وفاء ولا تبيح لي أن أبيع سيارتي بيع وفاء؟ وإذا قلنا في السيارة ما الذي يمنع أن أبيع ساعتي بيع وفاء، وسجادة أيضًا في البيت عندي؟ لا نستطيع منطقيًّا ولا فقهيًّا أن نقف عند حد العقارات، هذه النقطة.(7/1496)
النقطة الثانية والأهم: انظروا ماذا يحصل لو قلنا ببيع الوفاء اليوم. خذوا - مثلًا - الشركات، شركات تريد أن تحصل على تمويل، بدل أن تزعج نفسها بالبحث عن بدائل شرعية متاحة - الحمد لله - الآن في كثير من البلاد من خلال مؤسسات مصرفية إسلامية بدل ذلك، كل شركة لديها بعض العقارات ولديها بعض الآلات، أفران الإسمنت، آلات النسيج، أموال استعمالية تقبل الإجارة، يبيعون هذا المبنى الذي تستعمله الشركة أو بعض مستودعاتها بيع وفاء، ويدفعون عنه أجرة شهرية تساوي الفائدة التي يرغب ذلك المصرف في تقاضيها، ثم إذا ردوا المال شطبت الورقة التي كتب بها أن المصرف صار مالكًا لهذا العقار - هذا الملك العابر الذي لا أثر له إلا بشكل عابر - يعود إلى الشركة.
إذن الآن أي مصرف حتى لو كان من أكبر المصارف الربوية في العالم يستطيع في ليلة واحدة أن يتحول إلى مؤسسة مالية إسلامية، كل ما يقوله من يريد أن يقترض مني بالفائدة ليكن عنده مال يقبل الإجارة شرعًا، وكل مال استعمالي يقبلها. يأتيني بهذا المال وأنا أرتب أمر القرض، علينا أن نعمل بمختلف أنحاء العالم للتخلص من بلوى الربا والخروج من حالة الضرورة إليه إلى حالة البدائل الشرعية التي لا شبهة فيها والتي تسلك إلى التمويل الطرق المباحة والتي تنتج لجميع أفراد المجتمع ومؤسساته وبسبل مشروعة.
أنتقل إلى النقطة الرابعة والأخيرة، ما الموقف المناسب من بيع الوفاء اليوم؟ يبدو - والله أعلم - أنه من الضروري أن نتذكر أنه أصلًا من قال به قال به كحكم لضرورات فردية أو ما يحل محلها في الأحكام من حاجات اجتماعية ملحة لا تجد لها وفاء إلا بالوقوع في الربا الصريح، فأخرجوا لهم شيئًا يبعدهم عن صراحة الربا، نحن اليوم لا يحق لنا لا فقهًا ولا منطقًا أن نسحب على أنفسنا ومجتمعاتنا هذا الحكم الاستثنائي قبل أن نبين ونبرهن على أننا نحن أيضًا واقعون في مثل هذه الضروروات، ويمكن أن يعترض معترض ويقول: طيب أنتم بارعون في الرفض والتحريم، ولكن ما هو البديل إذا كنتم تريدون منع بيع الوفاء فما البديل له؟ جوابي ببساطة، إن كل الجهود الفكرية والعملية التي بذلت وتبذل في تطوير وتوفير صيغ التمويل الإسلامية المعاصرة سواء أكانت جهودًا في البحث عن الحلول أو إقامة مؤسسات مالية هي البديل العام لكل صيغة تمويل محرمة ومنها بيع الوفاء، فالبديل أن نلجأ ليصغ التمويل الإسلامية التي لا تجعل الفرد في وضع يضطر فيه إلى الربا فإن أراد تجاوزه ذهب إلى مسألة فيها شبهة شديدة كبيع الوفاء.(7/1497)
وأختم كلامي بهذا، وأرجو من المجمع الموقر تحاشي إصدار أي قرار يجيز بيع الوفاء لما يترتب على ذلك من مخاطر، ولأنه حقيقة لا يصح إصدار قرار عام فيه ومسألته مسألة ضرورات وكل إنسان ربما يعلم الضرورة إذا واجهها، يعلم إذا كان يحل له شرب الخمر خشية أن يغص ويموت أو يصح أن يأكل الميتة لأنه في وضع ليس عنده طعام ويهلك، هو نتركه يرى الضرورة ويعرف أنه محاسب أمام الله على تخطي الحدود إذا طبقها على نفسه دون مبرر، أما أن نعطي بيانًا أو قرارًا عامًّا بأن هذا البيع من حيث المبدأ، هكذا يصح ففي ذلك مجانية للصواب، والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
لاحظت منذ الأمس ظهور اتجاه جديد إلى إنشاء اجتهادات تنفصل عن آراء السابقين واجتهاداتهم، وهذا قد يكون له محاسنه ولكن - أيضًا - قد يكون له محاذيره، والذي أرجوه أن يكون لهذا المجمع الموقر منهج واضح في الاجتهاد حتى لا يقع في التناقض. سادتنا الفقهاء الأعلام لكل منهم منهجه المعروف، على سبيل المثال إذا قلنا ما قاله كثير من الإخوة بالأمس بإباحة الاستصناع كعقد بيع مع غياب كل من العوضين، وقعنا في تناقض مع فتوانا السابقة بمنع البيع إذا غاب العوضان، وبما قلناه في بيع المرابحة، وباستدلالنا بالحديث الشريف: ((لا تبع ما ليس عندك)) وبمنع بيع الكالىء بالكالىء، وبما استقر عليه الأئمة جميعًا بل استقر عليه العمل منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كنا سنخرج على هذا كله فلا بد أن يكون لنا منهج معروف، لماذا سنخرج؟ ما الضرورة إلى هذا الخروج؟ وما منهجنا الجديد الذي سنبني عليه هذه الفتاوى؟ هل هو العرف والعمل؟ العرف والعمل الآن أن الناس يتعاملون بالتأمين وقد منع المجمع التأمين، العرف والعمل الآن التعامل مع البنوك الربوية، وقد منع المجمع هذا. إذن على أي أساس سيقوم مثل هذا الاجتهاد الجديد؟.
ملحظ آخر، وهو أن المخارج التي تظهر في عصرنا قد تكون نتيجتها من حيث الناحية العملية أسوأ من الشيء نفسه الذي نبحث له عن مخرج، وأضرب هنا مثلًا، بيع الوفاء عندما انتشر في مصر ولجأ إليه من أراد ألا يتعامل بالربا كانت النتيجة أن ذهبت عقارات كثيرة وضاعت من أيدي الناس مقابل أموال أخذوها والعقارات أكبر بكثير من هذه الأموال حتى اضطر القانون المصري وهو يبيح الفوائد الربوية، اضطر إلى منع بيع الوفاء نتيجة هذه الأضرار في الواقع العملي.
وأضرب مثلًا آخر: أحد الإخوة سألني قال: أنا بعت سيارتي بأربعين ألفًا وأمهلت المشتري خمسة أشهر، فقلت له: جزاك الله خيرًا، ثم قال لي: ولكن وجدت المشتري يبيع السيارة فاشتريتها منه بثمانية وعشرين ألفًا، فقلت له: أنت أسوأ من البنوك الربوية لأنك أخذت فوائد أكثر من 100 %، إذن هنا أرجو أن ننتبه إلى المحاذير - وشكر الله الأخ الدكتور أنس لما بينه هنا - المحاذير عند الخروج بمخارج نرى أنها شرعية وتمنع الحرام، ننظر إلى الواقع العملي في عصرنا.
نقطة أخيرة: مسألة البنوك الإسلامية والإيداع بفوائد ربوية، عندنا أخوان كريمان مسؤولان عن بنكين إسلاميين فإن كانا يفعلان هذا فليخبرانا حتى نقول بأن هذه البنوك ليست إسلامية، وإن كانوا لا يفعلون هذا، فأرجو ألا نلقي الأمور على عواهنها بغير دليل، فالذي نعرفه أن البنوك الإسلامية لا تلجأ إلى هذا بل ما قامت إلا لتحرير أموال المسلمين من الربا. وأكتفي بهذا القدر، وشكرًا ومعذرة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:(7/1498)
بسم الله الرحمن الرحيم.
أولًا نشكر العارض الكريم على عرضه الطيب، وكان بودنا أن يلخص ما جاء في بقية البحوث ولنا بعض الملاحظات.
أولًا: أن بيع الوفاء ليس له أثر على الاقتصاد في وقتنا الحاضر بل كما قال أخي الدكتور أنس: إنه ضربة قاصمة للظهر للبنوك الإسلامية.
ثانيًا: أن بيع الوفاء توصل إليه بعض الفقهاء في ظل الظروف الاستثنائية، وهو يدخل ضمن الحيل في عصر ما بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، ولذلك فهي من الحيل كما قال علماء الحنفية أو أكثر علماء الحنفية أنفسهم.
ثالثًا: أن بيع الوفاء إضافة إلى أنه حيلة للتخلص من الربا، يتضمن شرطًا ينافي مقتضى البيع وهو البيع بشرط رده، ولذلك لم تعترف به القوانين المدنية الوضعية كما جاء ذلك في كثير من المذكرات الموضحة للقوانين المدنية بأن هذا العقد لا يمكن الاعتداد به أو اعتباره لأن الشرط الموجود فيه يخالف مقتضى العقد إضافة إلى الأضرار الاقتصادية التي حدثت في مصر كما تفضل به الدكتور علي السالوس.
رابعًا: أن بيع الوفاء في الواقع ليس بيعًا، لأن مقتضى البيع التأبيد، وليس رهنًا لأنه لا يجوز بالاتفاق الانتفاع بالعين المرهونة سوى المحلوب والمركوب، كما أنه ليس بيعًا عقدًا مستقلًّا إذ ليس في مقوماته عقد مستقل كما سبق وأن ذكرنا في عقد الاستصناع، وعقد الاستصناع - حقيقة - عقد قال به العلماء في القرون الثلاثة، ولا يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تبع ما ليس عندك)) كما يقول ابن القيم لأن هذا نفي في شيء فيه غرر، أما بيع الاستصناع فهو موجود في الذمة وابن القيم يقول: ما هو موجود في الذمة كالموجود في العين، الموجود في الذمة كالموجود والمحسوس، كما يقول ابن القيم في شرحه لحديث: ((لا تبع ما ليس عندك)) في شرحه لسنن أبي داود.
خامسًا: أن بعض المصطلحات التي ذكرها أخي الكريم العارض لبعض المذاهب الأخرى كالثُنْيا عند المالكية، والعهدة عند الشافعية، والأمانة عند الحنابلة، حسب معلوماتي بهذه المذاهب يحتاج إلى إعادة النظر من أخينا الكريم وينقح المناط، هل هذه المصطلحات فعلًا تساوي بيع الوفاء؟ وأنا في اعتقادي أن هذه المصطلحات لا تساوي تمامًا وهناك فروق جوهرية بين هذه المصطلحات ومصطلح بيع الوفاء.
سادسًا: أن بيع الوفاء إذا لم يتضمن شرط الرد لا يسمى حينئذ بيع الوفاء، وحينئذ يخرج عما نحن فيه، فالقضية قضية أنه إذا كان فيه شرط الرد، أما إذا كان واحد يبيع فعلًا وبعد ذلك طبيعيًّا ودون أن يكون هناك نية مبيتة كما في بيع العينة وغير ذلك فحينئذ لا يسمي بيع الوفاء أبدًا، فبيع الوفاء كمصطلح معروف هو ما كان فيه شرط الرد، أو ما كان معروفًا فيه الرد، لأن المعروف عرفًا - كما يقول - كالمشروط شرطًا، فالقضية إما أن يكون منصوصًا عليه أو معروفًا عرفًا، أما إذا حصل بيع عادي بعد ذلك فهذا شيء آخر.
سابعًا: أنا أضم رأيي إلى رأي الأخوين الكريمين المتداخلين أنه فعلًا لو فتح هذا الباب لفتح معه باب الحيل على مصراعيه. هذا والله سبحانه أعلم، وأشكركم وبارك الله فيكم.(7/1499)
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لقد أعددت بحثًا حول هذا الموضوع لمقارنته بين الرهن وبيع الوفاء، بينت فيه أحكام الرهن التي لا تحتاج إلى تبيين لأنها محل إجماع من الفقهاء ومؤصل بالكتاب والسنة، ولما وضحت الصور والحالات التي يمر منها الرهن، تعرضت لبيع الوفاء، هذا الاجتهاد الذي اجتهد فيه علماء الحنفية في القرن الخامس، وعلى ما أعلم فإن كل العلماء الآخرين وقفوا منه موقف الريبة لأنه ينافي الشرط الأساسي لعقد البيع، فالغاية الأولى من عقد البيع هي نقل العين محل البيع إلى ملكية المشتري ليتمكن فيها من التصرف بأي نوع كان، بينما عقد الوفاء يحد من هذه الحرية ويحد من حق الملكية الذي هو الشرط الأساسي للبيع، وبالتالي إذا اعتبرناه بيعًا فقد يكون فاسدًا حسب نظر الفقهاء الذين لم يقولوا بهذا الشرط، ومن حيث التراضي على البيع فهو يشابه عقد البيع كما قال الإخوة العلماء الذين تحدثوا عنه في بحوثهم التي بين أيدينا، لكن مرور الزمن من القرن الخامس عليه وهو يتحرك في المعاملات - وأعني في الفقه الحنفي - والحاجة الملحة إليه في هذا العصر أو الملحة إلى إبراز أحكامه، تجعل من الواجب أن ينظر إليه ولا أقول من خلال عقد البيع لأنه حتى في القوانين المدنية تقول إن حق البيع يخول الإنسان التصرف والاستغلال والتتبع، ومن حيث كونه يشابه عقد الثنايا أو الثنيا عند المالكية ففيه نظر، ذلك أن بيع الثنايا عند المالكية هو أن يستثني الإنسان سكناه سنة في الدار التي باعها، أو شهرًا في الدابة التي باعها، أو استخدام الأمة في شهور معينة، أما أن يكون يستثني الرجوع عن البيع وإرجاع العين المبيعة إلى شاريها فلا أعلم هذا في الفقه المالكي، وعليه فإننا إذ نحيي هذه السابقة لدراسته ونحيي الشيخ أستاذنا الجليل محمد الحبيب ابن الخوجة الذي أخرج لنا كتابًا مجهولًا تمامًا، وأعني عندنا في المغرب أننا نجهل كل شيء عن عقد البيع إلا فيما كتبته المجلة وفي شروحها وخصوصًا حيدر أفندي الذي قال على أن علماء الإسلام أجمعوا عندما شرعته المجلة على اتباعه، وأظن أنه كان يعني بعلماء الإسلام علماء الحنفية، أرى أن هذا الكتاب فتح مجالًا للنقاش ولكن لا يمكن بحال من الأحوال في نظري أن يسمى هذا الإجراء الذي أطلق عليه عقد البيع بيعًا لمنافاته لشرط البيع وكل ما أردت قوله عنه كتبته في البحث الذي بين أيديكم.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/1500)
الدكتور محمد نبيل غنايم:
بسم الله الرحمن الرحيم.
يبدو بعد العرض الذي استمعنا إليه من فضيلة الأخ الشيخ خليل أن بيع الوفاء يشتمل على عدة مخالفات شرعية فهو - كما تفضل بعض الإخوة الذين سبقوني في الحديث - بيع وشرط، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما هو حيلة للربا، ونحن نعلم أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . [البقرة: 278، 279]
والعبرة بالمقاصد والمعاني وليست بالألفاظ والمباني، فأي تحايل للربا قليلًا كان أو كثيرًا فهو حرام قطعًا، وهو أيضًا مخالف لحقيقة الرهن حيث لا يجوز الانتفاع بالمرهون حسب الرأي الراجح عند الفقهاء، وهو أيضًا ليس تنشيطًا للاقتصاد - كما تفضل الأخ الدكتور أنس - بل قد رأت بعض اللجان البرلمانية عند مناقشة هذا النوع من المعاملات أنه لا يستجيب لأي حاجات حيوية اقتصادية في التعامل إنما هو وسيلة ملتوية من وسائل الضمان تبدأ ستارًا بالرهن وتنتهي إلى تجريد البائع من ملكه بثمن بخس، ومن هنا أرى عدم إقراره إلا إذا كانت هناك ضروروة قصوى عملًا بقاعدة ((الضرورات تبيح المحظورات)) و ((الضرورة تقدر بقدرها)) ، وهنا يجب على المجمع الموقر أن يضع ضوابط وحدودًا لهذه الضرورات ولا يترك الأمر لكل شخص حسب أي تقدير.
وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالملين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:(7/1501)
أحب أن أركز على أمرين اثنين فقط، اختصارًا للوقت وتنفيذًا لتوجيهات المجمع في بحث هذه الأمور.
أولًا: تعريف بيع الوفاء، ثم صورته، وبعد ذلك تكييفه بناء على الأصل الذي يعتمد عليه، فتعريفه هو (بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع) . وهذا التعريف لا ينطبق مع تعريف البيع، لأن المقصود في البيع هو الملك على سبيل التأبيد، وفي هذا مخالفة ومنافاة لمقتضى عقد البيع، فلا يمكن بحال من الأحوال تطبيق عقد البيع على مثل هذا البيع المذكور، أو المسمى ببيع الوفاء، أو ببيع الأمانة عند الحنابلة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ورد عليه ردًّا واضحًا وقويًّا وأبطله بطلانًا نهائيًّا لا شبهة فيه بناء على أن القصد والاعتبار في العقود هو للمعاني وليس للألفاظ والمباني، وهذه القاعدة الشرعية التي لا يجوز هدمها وهي أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبادات كما هي معتبرة في التقربات. والاعتقاد يجعل الشيء - كما هو معلوم - حلالًا وحرامًا، ويجعل الشيء صحيحًا وفاسدًا، ويجعله طاعة ومعصية، ومن لم يراع القصود كما قال شيخ الإسلام ابن القيم في العقود وجرى مع ظواهرها يلزمه أن لا يلعن العاصر للخمر للعنب بقصد تخميره، ويجوز له أن يعطيه أجرة على ذلك إذا ظهر منه قصد العصر للخمر، وأن يقضي له بالأجرة لعدم تأثير القصد في العقد عنده، وعلى هذا فمن بنى من الفقهاء هذا العقد على ظاهر ما جرى بين المتعاقدين بناء على القاعدة الأخرى المقابلة لقاعدة الاعتبار في العقود للمعاني وليست للألفاظ والمباني، حيث أن هناك قاعدة أخرى تقول: ((إن العبرة للألفاظ)) ، فقد طبق قول العلماء في غير محله، ذلك أن الشافعي - رضي الله عنه - عندما قال هذه القاعدة لم يقصد بهذه القاعدة حيث مخالفة القصد للمعنى، وإنما قصد بذلك (حين الاحتمال) فحينما يظهر قصد يخالف كلامه يجب حمل الكلام على الظاهر، إذا لم يظهر قصد يخالف ظاهر الكلام يجب حمل الكلام على الظاهر، والأدلة على هذا كثيرة والشافعي - رضي الله عنه - إنما ذكر هذا القول حينما يكون الكلام محتملًا للظاهر ومحتملًا لقصد آخر، أما إذا ظهر من العقد الذي يجريه المتعاقدان قصد يخالف ظاهر المعنى فكلام الشافعي لا ينطبق على هذه القاعدة عنده، ومعلوم أن النية هي روح العمل ولبه وقوامه - كما قال شيخ الإسلام ابن القيم - أخذًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى)) ، ولو أخذنا بظواهر ما يجري من الأقوال بين المتعاقدين لما حرمنما بيع السلاح لمن يقتل به مسلمًا، ولما حرمنا عصر الخمر لمن يعصره، ولما حرمنا الربا حين يذكر بلفظ البيع، ولما حرمنا الزنا حينما يصير حرية، ولما حرمنا عبادة غير الله حينما يسمى تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى، فنقول بناء على تعريف الحنفية لهذا العقد وأن المقصود منه هو استفادة من أخذ المبيع مدة بقاء الدين في ذمة المدين، أنه لم يكن القصد به في حال من الأحوال تملك المبيع، فقصد البائع هو الاستفادة بالمال المرهون - هذا المال الذي أخذه - ليستمتع به، ومقصود البائع هو الاستفادة بهذا المبيع مدة بقاء الدين في ذمة المدين، وعلى ذلك لا يعتبر بحال من الأحوال بيعًا لأن البيع على التأبيد وليس مؤقتًا بحال من الأحوال، إنما هو له شبه بالرهن، والرهن يبقى الكلام فيه في المحور الثاني، وهو هل يجوز استفادة المرتهن بالرهن، أو لا يجوز استفادة المرتهن بالرهن؟ هذا خلاف مبني على ثلاثة أحايث: ((لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل قرض جر نفعًا فهو ربا)) ، فإذا كان الرهن فيه قرض فلا يجوز بحال من الأحوال الاستفادة بالمرهون، وإذا كان صاحب الرهن ينفق عليه إذا كان يحتاج إلى نفقة ومؤونة فلا يجوز كذلك.(7/1502)
يبقى الأمر في الرهن إذا كان محلوبًا ومركوبًا يحتاج إلى مؤونة ولم ينفق عليه صاحبه هل يجوز أن ينفق عليه؟ نص الحديث كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الرهن محلوب ومركوب بقدر ما ينفق عليه)) . وشكرًا لكم وجزاكم الله خيرًا.
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإني أشكر فضيلة أخي الشيح خليل الميس - حفظه الله تعالى - على عرضه للموضوع واستيفائه لنصوص الفقهاء في مسألة البيع بالوفاء، والذي أريد أن أشير إليه هنا نقطتان مهمتان قبل أن نصل إلى قرار محدد في هذا الموضوع.
النقطة الأولى: هي أنه قد اشتهر على ألسنة الناس أن فقهاء الحنفية أجازوا البيع بالوفاء، وإن هذا التعبير - في نظري - ليس صحيحًا، إن فقهاء الحنفية لم يجيزوا البيع بالوفاء بمعناه الحقيقي، ما هو المعنى الحقيقي للبيع بالوفاء؟ المعنى الحقيقي للبيع بالوفاء هو أن يكون شرط الوفاء وشرط الإقالة مشروطًا في صلب عقد البيع، فإذا كان شرط الإقالة مذكورًا في صلب عقد البيع فلم يذهب إلى جواز هذا البيع أحد من فقهاء الحنفية، لم أطلع على فقيه من الفقهاء ذهب إلى جواز مثل هذا البيع لا من الحنفية ولا من المالكية ولا من الشافعية ولا من الحنابلة، هذا البيع مجمع على فساده، أما بعض المتأخرين من الحنفية الذين أجازوا هذا البيع، في الواقع لم يجيزوا البيع بالوفاء، وإنما أتوا له ببديل، هم حكموا على البيع بالوفاء بأنه رهن وهو في حكم الانتفاع بالمرهون ولا يجوز شرعًا، ولكنهم أتوا ببديل، ما هو البديل؟ أن يعقد البيع من غير اشتراط الوفاء كالبيع العادي دون أن يكون فيه شرط في الإقالة، ثم تقع بعد عقد البيع مواعدة بين البائع والمشتري بأنه كلما جاء المشتري بثمنه فإن البائع سيرد إليه المبيع، هكذا جاءوا له ببديل، ولا شك في أن هذا البديل - أيضًا - ليس إلا حيلة للفرار من الربا.(7/1503)
فالبيع بالوفاء بمعناه الحقيقي لا يجوز، أما هذا البديل، المواعدة على الاسترداد بعد انعقاد العقد، هذا استخدموه كحيلة في بعض المعاملات، والحيلة كما تعرفون لها مكان في الشريعة، يعني الحيلة متى جاءت لإبطال مقاصد الشريعة فإنها لا تجوز وتحرم كحيلة أصحاب السبت، وأما إذا كانت الحيلة للتخلص من بعض المحرمات وللفرار من بعض المحرمات التي يلجأ إليها المجتمع في بعض الأحيان، ففي بعض الجزئيات يجوز أن تتخذ تلك الحيلة كمخرج من المحرمات.
فالذي أراه أنه ينبغي أن نركز على أن البيع بالوفاء بمعناه الحقيقي من حيث أن يشترط في صلب العقد الاسترداد أو الإقالة أن هذا يحرم شرعًا ولا سبيل إلى جوازه. أما المواعدة بعد عقد البيع فإنه بحكم أنه حيلة وليس عقدًا مثاليًّا من العقود الإسلامية فإنه لا ينبغي أن يتخذ كأصل عام أو كمبدأ عام في المعاملات الجارية، كما ذكر الأخ الأستاذ الفاضل الدكتور أنس الزرقا أنه لو فتحنا هذا الباب لأخذت المصارف كلها هذا الطريق وأجروا بينهم المعاملات الربوية على هذا الأساس، لا لأن الحيلة لها مقام، الحيلة لا يمكن أن تتخذ كمبدأ عام وتدار عليه جميع المعاملات والعمليات في المجتمع، نعم لا ينبغي أن نقفل هذا الباب بالكلية فإنه من الممكن أن تكون هناك بعض الحالات وبعض الجزئيات يلجأ فيها الناس إلى مثل هذا البيع، مثل هذه الحيلة، ألا ترون أن المرابحة التي تجري عليها المصارف الإسلامية، لا شك أنها حيلة، والتأخير المنتهي بالتمليك لا شك أنها حيلة، ولكن أخذناها للفرار من الربا، فلو أخذنا بهذا المبدأ ونصرح بأنه لا يستخدم هذا النوع من البيع إلا في مواضع لا يمكن فيها الفرار من الربا إلا بهذا الطريق، فلو أجزنا هذا البيع وهذا الطريق للتعامل بهذا الشكل يمكن أن نجمع فيه بين المصلحتين، المصلحة التي ذكرها الدكتور أنس الزرقا والمصلحة التي أبيح من أجلها هذا الطريق من قبل بعض الفقهاء.
هذا ما أرى، والله سبحانه وتعالى أعلم وعلمه أتم وأحكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(7/1504)
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
سيدي الرئيس، كأنه قدر لي أن أكون المعارض دائمًا لكني الموافق دائمًا - إن شاء الله - ولا نقصد إلا الحق.
الحقيقة لو استعرضنا أدلة الموافقين وأدلة المخالفين لهذا العقد بموضوعية وكلنا - والحمد لله إن شاء الله - موضوعيون، نستطيع أن نصل إلى رؤية أوضح في هذا المجال.
قبل كل شيء تحرير محل النزاع، محور الإشكال في هذا العقد ولنترك كل الذيول التابعة له، محور الإشكال هو أن يشترط بائع البيت على المشتري أن يرد له البيت - مثلًا - بعد سنتين إذا سلمه وأعاد له الثمن.
شرط الرد عند الرد هو محور الإشكال في هذا العقد، المخالفون لهذا العقد محور أو عمدة أدلتهم هو أن هذا الشرط يخالف مقتضى العقد، هذا أولًا، ثم الدليل الثاني لهم أن المقصود بهذه العملية الفرار من الربا أو التحايل على القصد الشرعي، وهناك إشكال آخر أذكر أن الإمام الخميني - رحمه الله - ذكره في هذا العقد وذكر احتماله ورده وهو وجود الغرر باعتبار أن البائع يعطي المشتري أو أن المشتري يعطى يعني في هذا العقد تعطى فرصة لتحقق الرد عند الرد خلال سنة، فيبقى العقد قلقًا متى جاء الثمن يأتي هذا المثمن، هذا المعنى أيضًا ذكر، هذه عمدة أدلة من خالف. الحقيقة - اسمحوا لي - أن أقول: إن إشكال الغرر يكاد لا يأتي إذا تأكدنا تمامًا من كل الشرائط الأخرى، هذا ما يبدو لي وهناك الكثير من الأمثلة المشابهة التي فيها الترديد المتسامح عرفًا، على أن الغرر هنا لا ينصب على مصب العقد، والغرر الذي لا ينصب على مصب العقد لا يضر به، وهذا أيضًا من القواعد التي يجب أن نحررها هنا، فكثيرًا ما نستند إلى الغرر ونحرم به المواضيع والأشياء ولكننا لم ننقح دور الغرر في هذه العقود، الغرر أحيانًا يأتي في مصب العقد، وأحيانًا في الفروع في أوصاف العقد، وأحيانًا في نتائج العقد، هذه أمور يجب أن تنقح حتى نكون على بينة، أعتقد أن الغرر هنا لا يضر، مسألة الفرار من الربا، نعم الفرار من الربا خصوصًا وإذا كنا ننتقل إلى عقد آخر نلتزم بكل لوازمه، هذا البيت الذي بيع ببيع الوفاء إذا تلف فمن مال من يتلف، من مال البائع أم من مال المشتري؟ انتقلت ملكيته إلى المشتري، يتلف من مال المشتري بكامله، الثمن الذي يأخذه البائع هذا الثمن يتصرف به تصرفًا تامًّا، فهناك أمور يلتزم بها البيعان هنا وتختلف تمامًا العملية عن عملية الربا، فلو استطعنا أن نستعيض عن - يعني أن نعوض - عملية الربا بعقود هذه العقود لها كل لوازمها التي تختلف عن الربا، العرف هنا لا يشتبه، والمقياس هنا في تشخيص المصاديق العرف، والعرف لا يقول هذه العملية عملية ربوية، نعم لو وثقنا كل الطريق وعقدنا كل المسير، لكن واضح أن هذه التعقيدات لا ترتب أي لوازم على أي من الطرفين إلا ما يرتبه القرض الربوي مهما طال الطريق فهو ربا، لكن هنا الأمر يختلف، هناك لوازم تأتي بشكل كامل، التلف له أحكامه، النماء له أحكامه. أعتقد أننا إذن علينا أن نحرم ما ذكره شيخنا العثماني - حفظه الله - التأجير المنتهي بالتمليك، والمرابحة للآمر بالشراء، وحتى عقود مطمئنة مضمونة نقبلها جميعًا يتبعها الكثيرون ممن يريدون القرض للفرار من الربا. نقول قصدك هذا فتحمل نتائجه.(7/1505)
يبقى البحث الأساسي في أدلة المانعين، هو قضية الشرط المخالف لمقتضى العقد. ((المؤمنون عند شروطهم)) قاعدة مسلمة لا يختلف فيها المسلمون، ولكن بالنسبة لصحة الشروط نذكر شرائط، من هذه الشرائط ألا يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من هذه الشرائط ألا يخالف الشرط مقتضى العقد، وهنا أشير إلى ما تفضل به الأخ سعود من أن البيع والشرط ليس المراد به هذا وإلا فكل بيع تشترط فيه شرطًا يجب أن ترفضه، ليس المراد به هذا، الأمر المردد هناك. الشرط الذي يرفض هو الذي يخالف مقتضى العقد. هذا له صور، تعالوا لنعرف الشرط المرفوض من الشرط المقبول، هناك شرط يخالف مقتضى العقد بالمعنى المصدري، يقول: أبيعك هذا على ألا تملكه. هذا لا ريب في بطلانه لأنه يخالف مقتضى العقد.
هناك شرط يخالف كل آثار العقد، أقول: أبيعك هذا على ألا ترتب آثار الملكية، تكون مالكًا ولكن لا ترتب آثار الملكية، أيضًا هذا الشرط باطل.
هناك شرط يخالف الأثر الرئيسى المقصود من العقد، كشرط ألا يتم المس الجنسي في الزواج، هذا محل خلاف وإن كان الأرجح ألا يكون منافيًا لمقتضى العقد، لو فرضنا أن إنسانا أراد أن يتزوج زوجة لغرض أن يسكن معها في بيت، أن يتم شيء ما عدا المس الجنسي، هل يستطيع له أن يشترط المس؟ نقول هذا ولا ننظر إلى روايات أخرى قد تمنع، يدخل الشرط الآخر وهو ألا يخالف الكتاب والسنة، إذن أن يخالف أهم الآثار أيضًا فيه تردد والأرجح التوقف طبعًا طبق المواد، ويبقى لدينا شرط آخر أو صورة أخرى من أنواع الشرط، وهو الشرط الذي يخالف إطلاق العقد، العقد المطلق - عقد البيع المطلق - يؤدي للملكية المستمرة المؤبدة لو تركت على حالها بكل معنى، هذا إطلاق العقد، وكل شرط يأتي في البيع يقيد هذا الإطلاق بمقداره. الشرط الذي يقيد إطلاق العقد ما الذي يجيزنا أن نعتبره خلاف مقتضى العقد ويقيد إطلاق العقد؟ هنا في بيع الوفاء يتم البيع تمامًا، ينتقل الثمن بشكل كامل إلى البائع، والمثمن بشكل كامل إلى المشتري، ولهما نماؤهما، ولهما التصرف إلا ما يخالف هذا الشرط الذي اشترط، انتقل بكل ما لديه.(7/1506)
نعم الإطلاق يقتضي التأبيد قيد الإطلاق وأنشىء العقد مقيدًا من أول الأمر بهذا الشكل، ما المانع في هذا الشرط؟ وما هو النص الذي يمنع منه؟ هذا بالنسبة للشرط وأرجو الدقة الأصولية في هذا المعنى - نحن نحتاج إلى الدقة الأصولية في مثل هذا التحليل حتى نستند إليها أيضًا في أماكن أخرى، الأصول تنفعنا في مختلف الأبواب - أعتقد أن هذا الشرط لا يخالف مقتضى العقد ولا أكبر آثاره ولا يخالف كل آثاره، وإنما يخالف إطلاق العقد ولا مانع من أن يكون الشرط مخالفًا لإطلاق العقد، وأعتقد أن كل شرط يخالف إطلاق العقد إلا أن تنفوا أي اشتراط في عقد البيع، إذن انفوا أي أشراط في عقد الإجارة، وعلى كل حال طبقًا للقاعدة التي أشار إليها الأستاذ سعود لا ليس الأمر كذلك. إذن ننفي قاعدة ((المؤمنون عند شروطهم)) لأن الشروط الابتدائية مرفوضة والشروط ضمن العقود تأتي فيها القاعدة التي أشار إليها ((النهي عن البيع والشرط)) . إذن ينتفي مفعول ((المؤمنون عند شروطهم)) . هذه أدلة المانعين.
أما أدلة المجيزين فقد لاحظتها ووجدتها أربعة.
الرئيس:
((المسلمون عند شروطهم)) صحيحة يا شيخ.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
أنا أقول لكم ... أنا قلت لكم من شروطهم الصحيحة.
الرئيس:
لا، أنا قصدي أن كلام الشيخ سعود يعني لا يتناقض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام الشيخ سعود هو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وعليه كافة العلماء على أن العبرة بالمعاني.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
سيادة الرئيس، لو تم كلام الشيخ في تفسيره لهذا المعنى لسقطت هذه القاعدة، لأنها شروط ابتدائية أو ضمن عقود الابتدائية مرفوضة بالإجماع وضمن عقود يرفضها الشيخ سعود، إذن انتفت المسألة.
نعود إلى أدلة المجيزين. الواقع المجيزون استندوا إلى العرف وقالوا: العرف هنا أقر بهذا المعنى. العرف في الواقع - قلت لكم - لا يمكن أن يكون دليلًا إلا إذا امتد إلى عصر الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام، ولم يصدر نهي عنه، يصبح كاشفًا عن تقرير السنة، والعرف كما يقول القائلون به هنا امتد إلى القرن الخامس في بلخ، وأنا أقول لكم - حقيقة - هذه الحقيقة مغلوطة تاريخيًّا، لأن لدينا روايات في كتب ألفت في القرن الثالث عن الإمام الصادق تتحدث بوضوح عن أسئلة دقيقة محددة عن هذا العقد، والإمام الصادق يجيب عنها بالإيجاب، فالمسألة ليست مسألة في القرن الخامس، المسألة مطروحة أمام الإمام الصادق في القرن الثاني والإمام الصادق يعطي رأيه.
الرئيس:
هذا ذكره الشيخ خليل.(7/1507)
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
لا أنا لم أكن هنا أرجو المعذرة. فإذن هنا العرف لا يمكن الاستناد عليه. الضرورة، الضرورة لها حالتها لا أستطيع أن - فعلًا - أتحدث فيها.
الدليل الثالث والرابع هما المهمان. الرابع، قد يلزمني ولا يلزم أحدًا باعتباري أنا اؤمن بروايات أهل البيت وأنها حجة عليّ، روايات أهل البيت واضحة تمامًا في صحة هذا العقد. ولذلك هناك إجماع كامل لعلماء الإمامية في هذا المعنى. الدليل الرابع المهم عندي هو أن هذا عقد عرفي - يعني يطلق عليه اسم العقد - يشمله {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] بشكل كامل ولا مانع منه، وقد رأيتم أن أدلة المانعين كلها لم تثبت عندي، مناقشة هذه الأدلة، بقي لي أن أشير إلى الخوف الكبير الذي تخوف منه أخي الأستاذ أنس الزرقا، لماذا هذا الخوف الكبير وقد نقلت لكم عن مصر نقل خبر أن كثيرًا من المجحفين استفادوا من هذا العقد؟ ولذا فالقانون المدني المصري رفض وليرفضه القانون المدني المصري، ولا قيمة له عندي وعندكم جميعًا وكل القوانين المدنية الأخرى. الحقيقة هذا العقد يجري الآن منذ القرن الخامس، وآثاره الإيجابية كثيرة جدًّا، خلصت الكثيرين من مسائل الربا بشكل واضح جدًّا، ولم أسمع عن حادثة سلبية في إيران رغم شيوع مثل هذا العقد، لم أسمع عن حادثة سلبية أنا وربما لأني لست قاضيًا، ولكن لم نسمع، يعني ليس هناك شيء مطروح كنتيجة سلبية لهذا المعنى، فلا تخوف في هذا المجال.(7/1508)
بقي لي أن أشير إلى نقطة ذكرت هنا، وأرجو أن تكون خاتمة حديثي وتعليقي، وليعذرني السيد الرئيس إن كنت قد أطلت، الحقيقة أنا أعتقد أن هذا العقد يمكنه أن يشكل سبيلًا شرعيًّا للتخلص من الربا وآثاره التخريبية، فهو يحدث برغبة من كل من طرفي العقد في الانتفاع بما لدى الطرف الآخر، فالبائع بحاجة إلى التصرف في الثمن لسد حاجة من حاجاته من جهة، فيتم العقد ولا يشعر حينئذ بأنه يدفع شيئًا لقاء حصوله على الثمن، ثم هو يحتاط كثيرًا في تصرفه لئلا يفقد ما باعه ببيع الوفاء ليمكنه التسديد حين سعيه لرد العين، والمشتري بحاجة للاستفادة من العين المبيعة والانتفاع بمنافعها مع ضمان تام لعودة رأس ماله المدفوع في المدة المشترطة، بل لعله - أيضًا - بتوقف استقرار البيع عليه عند انقضاء تلك المدة، وهذا مما يشكل حافزًا قويًّا للإقدام على التعامل. وهكذا نجد الدوافع متكافئة والإقدام طبيعيًّا على مثل هذا العقد دونما حاجة للولوج في الربا المحرم.
أرجو أن نعيد النظر كرتين قبل أن نسرع بتحريم شيء معمول به في عالمنا الإسلامي منذ القرن الخامس على الأقل. وشكرًا.
الدكتور عبد اللطيف جناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أود أن أعلق على نقطة وهي في الواقع إقرار للحق بحكم صلتي كعضو مجلس إدارة وعضو لجان تنفيذية في تسع مؤسسات إسلامية، بنوك وشركات استثمار وغيرها، وبحكم صلتي بثلاث عشرة مؤسسة إسلامية موجودة في البحرين، وبحكم صلتي بالمؤسسات العربية ومعظم المؤسسات الإسلامية، أود أن أؤكد للجميع بأنه لا يوجد بين هذه البنوك من يتعامل مع البنوك الربوية بالربا، هم يتعاملون مع البنوك الربوية بشروط إسلامية، وهذا انتصار للإسلام. في الواقع مرت علينا أحداث بحيث سجلت علينا أموال ربوية فرفضناها، وعندما أتى مندوب البنك ليناقش البنك الإسلامي بأن تسجيل هذا المبلغ هو بحكم القانون في تلك الدولة قلنا له بصريح العبارة: إن القانون وضعه بشر، وضعه إنسان، أما ما نقوم به نحن فهو من وضع الله سبحانه وتعالى، ولا نستطيع مخالفته بأي شكل من الأشكال، وصدقوني أنهم رجعوا إلى بلدانهم فألغوا مثل ذلك القيد، وهذا انتصار للإسلام. فإذن هذا من قبيل التعليق على ما ذكر.(7/1509)
ثم من أجبر بحكم القانون بأخذ فائدة عزل هذه الأموال، وصرفها في وجوه الخير دون أن يكون له أجر، كما - طبعًا - أقر من قبل الكثير من الفقهاء، فنحمد الله سبحانه وتعالى، أن مسيرة المصارف الإسلامية مسيرة نقية، ولا أظن أنه يوجد في مصرف إسلامي من يربح العميل ويربح المساهم ويشتري بذلك جهنم، ما مصلحته؟ لا توجد لديه مصلحة.
أعود للموضوع الذي نحن بصدده: أنا في الواقع عندما تصل العملية إلى النقود والفروج أكون متحرجًا كثيرًا لأنها مسألة دقيقة وهامة، ولكن أود أن أبسط الموضوع أمامكم حتى تنظروا فيه.
مجتمع اليوم مجتمع معقد، وخربت فيه الذمم، وابتعد فيه الناس عن الإسلام، ولا بد أن نعيدهم إلى دينهم بيسر الإسلام وسماحته، ونخرجهم من ذلك الصراع القائم بين الحلال والحرام فنريحهم ونرتاح نحن معهم، هناك الآن من المسلمين من هو متورط مع بنوك ربوية يدفع لهذه البنوك الفوائد وهو قلق ويريد أن يعود لدينه، وهذا المسلم - أيضًا - له ديون هو الآخر في ذمم محترمة، ولكن سوف يحل موعدها بعد مدة، هي قابلة للتحصيل، بعد هذه الصحوة الإسلامية وجدنا الكثير من عملاء البنوك الربوية يمرون علينا يريدون أن يتخلصوا من تعاملهم مع البنوك الربوية. السؤال: هل نسد الباب أمامهم؟ أم نبحث لهم عن البديل؟.
أنا أذكر حادثة لا أنساها أبدًا، مر عليَّ أحد العملاء وقد منَّ الله عليه بالهداية، ويريد أن يتخلص من التعامل مع البنوك الربوية، وعندما بحثت موضوعه لم أجد له سبيلًا لأن باب القرض الحسن لدي محدود فخرج وهو يبكي، هذه الأحداث التي تمر علينا في المصارف، فإذا كان هناك باب ممكن أن ييسر لهؤلاء ويكون لهذا الباب ضوابط نضع له الضوابط، وتؤخذ الحالة إلى لجنة من الرقابة الشرعية لتنظر في حالة هذا الإنسان الذي يريد أن يتخلص من الحرام، ألا يكون في ذلك تيسير للمسلمين؟ النظر في هذا الموضوع بعد تشابك وتغلغل الربا ووجود هذه المصارف الربوية التي تشجع على الاقتراض، النظر فيه أمر مهم وأن يكون هذا النظر جزءًا من استراتيجية مرحلية نضعها لننحي المصارف الربوية عن مجتمعنا ونعيد المسلمين إلى معاملات إسلامية، والله من وراء القصد. وشكرًا.(7/1510)
الشيخ عبد الله محفوظ بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
سأجمل تدخلي في نقاط - إن شاء الله - مختصرة كالعادة، تعليقًا على ما سمعناه اليوم. هذه النقاط هي:
أولًا: إن هذا العقد يستند إلى الضرورة، وهذه كلمة مجملة في أذهان الناس، إلا أنها معروفة عند الفقهاء. ما هي الضرورة؟ الناس يطلقون كلمة ((الضرورة)) على عواهنها. والضرورة الفقهية التي تبيح المحرم هي الأمر الذي إذا لم يتناوله المضطر أو يأته المضطر هلك أو قارب على الهلاك، هذا هو التعريف الذي ذكره العلماء للضرورة، وهذا البيع أجازه من أجازه بناء على تنزيل الحاجة منزلة الضرورة، لم يقولوا الضرورة وإنما قالوا الحاجة، وهو أمر مختلف فيه. السيوطي ذكر أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، وذكر ذلك ابن نجيم أيضًا. ولكن من الغريب أن السيوطي قبلها بورقة واحدة قال: إن الحاجة لا تبيح حرامًا ولا تسقط واجبًا، عندما تكلم عن الضرورة والحاجة وقسم إلى ضرورة وحاجة ومنفعة وزينة فقال: إن الضرورة فقط هي التي تجيز المحرمات ((تبيح المحرمات)) كيف تبيح الضرورة المحرم عند الفقهاء؟ هي إباحة مؤقتة بمعنى أنها من باب الرخص، والرخصة هي حكم غير إلى سهولة لعذر مع قيام علة الأصل. وأعتقد أن الخلط الذي وقع عند الناس هو خلط بين الضروري عند الأصوليين وبين الضرورة عند الفقهاء، وهذا خلط عجيب، وبين الحاجي عند الأصوليين وبين الحاجة عند الفقهاء، الضروري أو الحاجي عند الأصوليين، عند من يقول بترتيب حكم على الحاجي فإنه يرتب حكمًا وآثارًا حيث لا مؤثر، أي حيث لا يوجد نص شرعي، ولا عموم شرعي، يترتب هنا أثر حيث لا مؤثر، والأثر الذي يرتبه هو أثر باق وليس أثرًا منتقلًا، بينما الضرورة عند الفقهاء ترتب أثرًا مؤقتًا وليس باقيًا، يجب أن نكون دقيقين في تحديد هذه المفاهيم.
مسألة أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة ذكره جملة من علماء القواعد، ولعل أول من ذكر ذلك إمام الحرمين، لعل إمام الحرمين أول من ذكر هذه المسألة، ولكن عند الرجوع إلى نصوص الشافعي نجد أن الشافعي يقول: إن الحاجة لا تبيح محرمًا وإنما الضرورة فقط، لا أدري، هذا الاختلاف هو اختلاف لغوي، يعني في كلمة حاجة. المهم أن هذه القضية هي من باب الحاجة وليست من باب الضرورة وحينئذ فإنه لا يمكن أن نطلق هذه الكلمة فيجب أن نكون دقيقين.(7/1511)
ثانيًا: هي قاعدة الألفاظ والمعاني، هذه القاعدة الأمر فيها واضح جدًّا، هو أن جماعة من العلماء قالوا بالمعاني من هؤلاء مالك وأحمد بصفة واضحة، وجماعة قالوا بالألفاظ والمباني من هؤلاء الشافعي وأبو حنيفة إلى حد ما، وهذا واضح جدًّا، لا يمكن إنكاره، لا يمكن أن ننكر أن الشافعي يبيح العينة، يبيحها هذا لا خلاف فيه، المهم أمره واضح في هذه المسألة، وكثير من العقود، المغني مثلًا: يذكر عن الشافعي أنه لا يبطل عقد البيع إذا باع العنب لمن يعصره خمرًا، إن هذا العقد ليس باطلًا عند الشافعي بل هو عقد صحيح، بينما مالك وأحمد يبطلان العقد. إذن هذه المسألة مسألة واضحة، والرجوع إليها أو محاولة القول إن الشافعي يوافق الإمام أحمد ومالكًا هو مخالف ومناقض تمامًا ومنابذ لأصول الشافعية وهي واضحة في العقود، في النكاح، في البيع، في سائر العقود نجد أن الشافعي يتمسك بالألفاظ وأصل مذهبه هو التمسك بالألفاظ ولا يهتم بالمعاني إلا نادرًا.
ثالثًا: المواعدة ذكر بعضهم أنها عند الأحناف - ذكرها أعتقد الشيخ تقي حفظه الله تعالى - ذكر أن الأحناف يقولون بالمواعدة بعد البيع، إذا كان هذا هو المذهب الحنفي فهو مشهور مذهب مالك، ذكر ذلك البناني على الزرقاني وقال: إنه إذا وعده بألا يبيعها إلا له إذا أتى الثمن - هذا الوعد بالإقالة - فإنه لازم قضاء. بإمكانه إذا جاء ووجده يريد أن يبيعها أن يوقفه حتى ينتهي الأجل وحتى يكون في زمن قريب. إذن هذا في المذهب المالكي أيضًا.
رابعًا: مسألة الشروط، إذا كان الشرط يَكرُّ على الماهية بالبطلان فهو شرط مبطل للعقد، وحتى عند أولئك كالمالكية الذين فصلوا بين الشرط المنافي الذي ينافي العقد وبين الشرط الذي يقتضيه العقد وبين شرط لا ينافي العقد منافاة كاملة فصلوا في الشروط بحسب الأحاديث التي بنى العلماء عليها الشروط. يقول ابن رشد: إن مالكًا اهتدى إلى التفصيل هو الذي فهم هذه الأحاديث ورد كل واحد منها إلى الموقع أو إلى مكانه المناسب له.
الشرط إذا كان يكر على الماهية بالبطلان فإنه يبطل العقد وهذا الشرط هو ثنيا، هو الذي فسر به مالك ثنيا الشرط المقارن الذي في أصل عقده، هو الذي فسر به مالك الثنيا التي وردت في الحديث ((نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا)) ، وهو يكر على الأصل بالبطلان لماذا؟ لأن البيع أصله ملك للذات يتصرف فيها صاحبها بما شاء من بيع وهبة وبصفة عامة بجميع أوجه التفويت، فإذا منعناه من أن يفوت المبيع فإن البيع حينئذ أصبح كالإجارة أو أصبح كالعارية، وهنا انتقل عن حقيقة البيع إلى حقيقة أخرى، وبها لا نعرف أن الشرط هنا كر على الماهية بالبطلان.
خامسًا: بيع الوفاء هذا هو بيع مركب تركيبة ممنوعة من كل وجه فلا تصححه من وجه إلا وجدت أنه باطل من الوجه الآخر، يعني لا يوجد وجه يصح عليه وهذا بعيد عن بيع الاستصناع حقيقة لأن هذا البيع هو متردد بين بيع وسلف ((قرض)) لأن الذي ينتفع بهذه العين كأنه أقرض تلك الدراهم أو الدنانير لينتفع بالعين ثم إذا ردت إليه رد العين، فهو من هذا الوجه بيع وسلف، ثم إنه بين البيع الصحيح والبيع الفاسد كما يقول السيوطي: فهو بيع يمكن أن يبقى عند صاحبه فيكون صحيحًا، ويمكن ألا يبقى فيكون فاسدًا، هو أيضًا متردد بين البيع وبين الرهن، وهو رهن منتفع به على خلاف سنة الرهن، إذن بيع مركب تركيبة عجيبة لا تدع مناصًا ولا تترك منفذًا لتحليله بهذه الأوجه ولأجل ذلك فإنى أقول: إنه بيع مخالف لسنن العقود وإنه بيع باطل، وأرجو أن يقرر المجمع ذلك. وشكرًا. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(7/1512)
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم.
بيع الوفاء هل هو عقد جديد كما يقول بعض الباحثين؟. الواقع إنه ليس عقدًا جديدًا وقد أشار إلى هذه الحقيقة الشيخ التسخيري، وأزيدها وضوحًا بما جاء في البحث الذي قدمه الشيخ خليل من فتوى الإمام مالك في هذه المسألة، الجديد هو التسمية فقط عند الحنفية، التسمية هي الجديدة أما حقيقة البيع فهو موجود منذ عهد مالك، وواضح كما فهمنا من البحوث التي قدمت أن الجمهور على منعه، وأن الحنفية الذين أجازوه اختلفوا فيما بينهم، وبهذه المناسبة أقول: إن ما سمعته من الشيخ العثماني لا يتفق مع ما يقرره فقهاء الحنفية، والعقد عندهم لا بد فيه من الشرط حتى إذا ما اشترط فلا يسمونه عقد بيع وفاء، وعباراتهم واضحة في هذا. ابن عابدين يقول: أن يبيعه العين بألف على أنه إذا رد عليه الثمن رد عليه العين، وهذا شرط واضح وكل تعريفاتهم نحو هذا المعنى، فهذه هي الصورة التي اختلف فيها الحنفية.
الشيخ التسخيري ذهب إلى الجواز بناء على مذهبهم، وحاول الرد على أدلة المانعين، ولكن هناك دليل على المنع هو في رأيي أقوى الأدلة لم يتعرض إليه، وقد ذكره المالكية وهو: أن هذا البيع هو سلف جر منفعة، هذه هي حقيقته، سلف جر منفعة، وقال هذا سحنون في المدونة، لأنه كأن المبتاع أسلف البائع الثمن على أن ينتفع بالمبيع حتى يرد إليه ما أسلفه، فالذي يأخذ بهذه القاعدة ((أن كل سلف جر منفعة فهو ربا)) عليه أن يمنع بيع الوفاء هذا أو بيع الثنيا على الاختلاف في تسمياته.
والشيخ التسخيري - أيضًا - في رده أراد أن يدفع الغرر عن هذا البيع بهذه الصورة، والواقع أن الغرر في هذا واضح، وهو غرر في صيغة العقد، وليس غررًا في المحل، فإنما هو غرر في الصيغة، لأن هذا العقد قد يتحقق وقد لا يتحقق، يعني قد يرد إليه الثمن ويأخذ المبيع وقد لا يفعل، وهذا هو مفهوم الغرر، ما كان مستور العاقبة، وبخاصة إذا كانت المسألة ليس فيها أجل، متى يرد؟ يكون فيه غرر من ناحيتين لأنه ليس معروفًا هل سوف يحصل هذا أو لا يحصل، وإذا حصل متى يحصل؟ وهذا كله غرر، لكن أنا اعتمادي في المنع على أنه سلف جر منفعة. والقول بأنه إنما استعمل فرارًا من الربا، لا هذا ليس دليلًا والواقع أنه لم يستعمل فرارًا من الربا وإنما استعمل حيلة، هو استحلال للربا باسم البيع. فلا يمكن أن نقول: إنه فرار من الربا.(7/1513)
يقول الشيخ التسخيري: إنه عقد عرفي يشمله قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وكأنه يشير إلى قاعدة ((أن الأصل في الشروط والعقود الجواز)) ولكن لا بد من الاستثناء، هذا إذا لم يرد نص بالمنع، وقد رأينا أدلة كثيرة على المنع وإن كانت بعضها قد يكون محلًّا للأخذ والرد ولكن في رأيي أنه كونه سلفًا جر منفعة لا يمكن دفعه.
بعد هذا، أريد أن أتطرق إلى مسألة، وإن كان الدكتور الجناحي قد تحدث عنها كثيرًا وبين الرأي فيها لكنها مسألة خطيرة مادامت قد أثيرت، وأبين لكم فيها وهي مسألة تعامل البنوك الإسلامية مع البنوك الربوية، هذه المسألة طرحت على هيئة الرقابة الشرعية عندما أنشىء بنك فيصل الإسلامي قبل أكثر من عشر سنين، وأول ما طرح عليه كيف نتعامل مع البنوك الخارجية وهي بنوك ربوية ونحن في حاجة للتعامل معها لا نستطيع أن نستغني عن ذلك، وهي تدفع فوائد على الأموال التي توضع عندها وتأخذ فوائد على الأموال التي تدفعها إذا انكشف حساب صاحب الحساب؟ فقلنا لهم: لا سبيل إلى إجازة هذا، لكن يمكنكم أن تتصلوا بهذه البنوك وتتفقوا معها على أن حسابكم الذي يوضع في بنكهم لا تطلبون منهم فائدة عليه وإذا حصل وانكشف هذا الحساب ودفعوا لكم من حسابهم لا يطالبونكم بفائدة، وحصل هذا الاتصال واستجابت البنوك الربوية إلى هذا، وهذا ما يسير عليه العمل، وهذا أيضًا كان مقيدًا بأنه أي بلد فيه بنك إسلامي لا يضع بنك فيصل ماله إلا في هذا البنك الإسلامي. فهو لا يضعه أولًا في البنك الربوي إلا إذا كانت هناك حاجة حقيقية لوضعه فيه وبهذه القيود. وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لا أريد في الواقع أن أدخل فيما أثير من قضايا فقهية وتفصيلات، إنما أريد أن أرجع إلى أصل طرح هذا الموضوع على مجلس المجمع، ليس هدف المجمع في الواقع أن نعود إلى ما تقرر من صيغ فقهية لنقومها ونرجح تلك على تلك، أصل الطرح هو هل يمكن الاستفادة من هذا العقد في مجال المعاملات المصرفية الإسلامية المعاصرة؟. الإخوة الخبراء في هذا المجال أفادونا بالدليل ونحن نتابع ذلك أن هذا في الواقع سيدمر وسيكون ضربة قاضية للعملية من حيث هي فلذلك - يعني - أصبحت القضية واضحة أمامنا، يعني هذا الموضوع ما دام أنه يسيء إلى هذا البناء الكبير الذي تتابعت لبناته لبنة إثر لبنة وجهد كبير ويفسد البناء من أساسه ويفتح مجالات واسعة للتعامل الربوي مع ما ورد من استدلالات قوية في أصل التحريم وتردد كبير حتى عند أئمة الحنفية في إجازته. فلذلك أنا أقترح على مجلس المجمع ما دام أن ما قصدناه لا يتحقق، فنكتفي بهذا النقاش وننتهي إلى هذا الحكم.(7/1514)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
في الواقع مع كلمة الشيخ عبد السلام انتهى الوقت، هل ترون أن نختم الوضع؟ أنا عندي الآن اثنان وعشرون طالبًا للكلمة، فاعذرونا - إن شاء الله تعالى - وإذا كان عندكم شيء فسجلوه في ورقة وأعطونا إياها.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أنا أسأل الشيخ عبد الله بن بيه عندما يقول: الشرط الذي يكر على الماهية بالبطلان، ماذا تقولون في شرط خيار الفسخ؟ ألا يكر على الماهية بالبطلان؟ هذا أولًا. والدليل الذي ذكره شيخنا الكبير الضرير هو عين المدعى، المدعى أنه سلف، والاستدلال ضد المدعى ليس هذا دليلًا. النقاش هو: هل هو سلف أم لا؟ فليس دليلًا. وشكرًا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الواقع من خلال المناقشات التي جرت في الموضوع، تكاد تلتقي كلمة عامة أصحاب الفضيلة المناقشين والخبراء الاقتصاديين على المنع، والخلاف بالجواز هو قلة من كثرة وإن كان لكل وجهة هو موليها، وقد ترون أن يكون تأليف اللجنة من المشايخ: الشيخ الصديق، الشيخ عبد الله بن بيه، الشيخ نبيل غنايم، الشيخ خليل الميس، الشيخ القاسمي، الأستاذ أنس.
مناسب؟ وبهذا ترفع الجلسة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(7/1515)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 68/4/7
بشأن
بيع الوفاء
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: ((بيع الوفاء)) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول بيع الوفاء، وحقيقته: ((بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع)) .
قرر:
1- إن حقيقة هذا البيع ((قرض جر نفعًا)) فهو تحايل على الربا، وبعدم صحته قال جمهور العلماء.
2- يرى المجمع أن هذا العقد غير جائز شرعًا.
والله أعلم.(7/1516)
العلاج الطبي
مبحث التداوي
إذن المريض وعلاج الحالات الميئوس منها
إعداد
الدكتور محمد علي البار
مستشار قسم الطب الإسلامي
بمركز الملك فهد للبحوث الطبية
جامعة الملك عبد العزيز - جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق الداء والدواء، ومصرف الأسباب كيف يشاء: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] .
والصلاة والسلام على نبي الرحمة والهدى والذي حث أمته على التداوي فقال: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) [أخرجه البخاري] . والإنسان بفطرته يبحث عما يزيل آلامه وأسقامه، ومع ذلك فلا بد أن يكون أمر التداوي والمعالجة بإذنه متى كان كامل الأهلية أو إذن وليه متى كان قاصرًا أو فاقدًا لعقله ورشده.
الأمر بالتداوي والحث عليه:
وقد وردت عن المصطفي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث كثيرة في التداوي والحث عليه نذكر منها نبذة صالحة إن شاء الله تعالى:
1- أخرج البخاري في كتاب الطب والنسائي في السنن الكبري وابن ماجه في السنن وأبو نعيم في الطب النبوي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)) . [وأخرجه أيضًا الحاكم في المستدرك] .
2- وأخرج الإمام مسلم (في كتاب الطب) وابن السني في الطب النبوي وأبو نعيم في الطب النبوي عن جابر رضي الله عنه يرفعه قال: (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى) .
3- وأخرج البزار في مسنده والحاكم في المستدرك وابن السني وأبو نعيم كلاهما في الطب النبوي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، علم ذلك من علمه وجهله من جهله إلا السام وهو الموت)) .
4- وأخرج الحاكم وابن ماجه وابن السني وأبو نعيم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما أنزل الله من داء إلا وقد أنزل معه شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله)) .(7/1517)
5- وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم وصححاه والنسائي وابن ماجه وابن السني وأبو نعيم وأحمد عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: ((كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: نعم يا عباد الله، تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد، قالوا: ما هو؟ قال الهرم)) .
6- وفي المسند والسنن عن أبي حزامة قال: (قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال: هي من قدر الله) . [وأخرجه أيضًا الحاكم وصححه] .
7- وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه، وابن السني وأبو نعيم (كلاهما في الطب النبوي) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أصيب رجل من الأنصار يوم أحد، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيبين بالمدينة فقال: عالجاه، فقالا: يا رسول الله إنما كنا نعالج ونحتال في الجاهلية، فلما جاء الإسلام فما هو إلا التوكل، فقال: (عالجاه، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ثم جعل فيه شفاء) فعالجاه فبرأ.
8- وأخرج الحاكم وصححه عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ قال: تعلمن أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء، غير داء واحد، قالوا: وما هو؟ قال: الهرم.
9- وأخرج مالك في الموطأ وأبو نعيم في الطب النبوي عن زيد بن أسلم أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح فحقن الدم فدعا له رجلين من بني أنمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيكما أطب، فقال أحدهما: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فقال: إن الذي أنزل الداء هو الذي أنزل الدواء.(7/1518)
10- وأخرج أحمد في مسنده عن رجل من الأنصار قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً به جرح فقال: ادعو لي طبيب بني فلان، فدعوه فجاء، فقالوا: يا رسول الله ويغني الدواء شيئًا؟ فقال: ((سبحان الله! وهل أنزل الله من داء في الأرض إلا جعل له شفاء؟!)) .
11- وأخرج أبو داود والطبراني عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على سعد بن أبي وقاص وهو يشتكي. قال سعد: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدري حتى وجدت بردها على فؤادي، فقال لي: (أنت رجل مفؤود، أرسل إلى الحارث بن كلده فإنه رجل متطبب، فلتأخذ سبع تمرات من عجوة وشيئًا من قسط هندي، وشيئًا من ورس وشيئًا من زيت فلتدق التمرات بنواهن ثم تجمع ذلك والتَدِد) ، ففعل فبريء. [ذكره عبد الملك بن حبيب بهذا اللفظ في الطب النبوي] .
وكتب الطب النبوي (ابن السني، أبو نعيم، عبد الملك بن حبيب، ابن القيم، الذهبي السيوطي ... إلخ) مليئة بمئات الأحاديث النبوية الشريفة بدرجاتها المختلفة من صحيح وحسن وضعيف التي فيها أمر أو حث على التداوي بصورة عامة أو بصورة خاصة واستخدام الحجامة والكمأة والحبة السوداء والحناء والسنا ... إلخ ومداواة المبطون والطعون ومداواة الحمى والرمد وإطعام المريض وإدخال السرور عليه وزيارته وآداب الزيارة مما يطول ذكره ولا مجال له هاهنا.
وخلاصة القول أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تداوى وأمر بالتداوي. وقد ذكر الذهبي في الطب النبوي أن هشام قال: قلت لعائشة (رضي الله عنها) أعجب من بصرك بالطب؟! قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طعن في السن وفدت الوفود فتنعته، فمن ثم عرفته) [رواه أبو نعيم] . وعنها رضي الله عنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه وكان يقدم عليه أطباء العرب فيصفون له فنعالجه..) .
قال ابن القيم في الطب النبوي: (وفي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا يتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه. ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا، ولا توكله عجزًا.(7/1519)
وفيها رد على من أنكر التداوي وقال: إن كان الشفاء قد قدر فالتداوي لا يفيد وإن لم يكن قدر فكذلك، وأيضًا فإن المرض حصل بقدر الله وقدر الله لا يدفع ولا يرد.
وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أفاضل الصحابة فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا.
(وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما شفى وكفى فقال: هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله. فما خرج شيء عن قدره، بل يرد قدره بقدره. وهذا الرد من قدره، فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما. وهذا كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، وكرد قدر العدو بالجهاد) .
وأطال ابن القيم في مختلف كتبه الرد على من أنكر الأسباب. وفيما سبق غنية.
جواز عدم التداوي:
ورغم ورود الأحاديث العديدة في الحث على التداوي وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وآل بيته رضوان الله عليهم قد تداووا، فإن الأمة مجمعة على جواز ترك التداوي بل إن بعض الأئمة ومنهم الإمام أحمد ابن حنبل ذهب إلى أن ترك التداوي أفضل لمن قوي يقينه.
قال الإمام الذهبي في كتاب ((الطب النبوي)) فصل التداوي أفضل أم تركه؟: (أجمعوا على جوازه (أي التداوي) ، وذهب قوم أن التداوي أفضل لعموم قوله صلى الله عليه وسلم تداووا لأنه كان يديم التطبب في صحته ومرضه) . ثم قال: (فالمنصوص عن أحمد أن تركه (أي التداوي) أفضل، نص عليه في رواية المروزي فقال: العلاج رخصة وتركه درجة. وسئل أحمد عن الرجل يتداوى يُخاف عليه؟ قال: لا، هذا يذهب مذهب التوكل. وكذلك سأله إسحاق في الرجل يمرض: يترك الأدوية أو يشريها؟ فقال: إذا توكل فتركها أحب إلي. والدليل عليه ما رواه ابن عباس (رضي الله عنهما) : (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يشفيني. فقال: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرت ولك الجنة. قالت: يا رسول الله أصبر) . [الحديث أخرجه البخاري ومسلم] .
(وقال صلى الله عليه وسلم: ((سبعون ألفًا يدخلون الجنة لا حساب عليهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)) وفي رواية: ((هم الذين لا يتطببون ولا يسترقون)) ) [أخرجه البخاري] .(7/1520)
ونقل علاء الدين بن البيطار رحمه الله تعالى قال: أجمع المسلمون أن التداوي لا يجب وعن أحمد وجه في الوجوب نقله أحمد بن تيمية، ويحمل حديث ((تداووا)) على الإباحة وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قيل له: ألا ندعو لك طبيبًا؟ قال: قد رآني قالوا: فما قال؟ قال: إني فعال لما أريد. وقيل لأبي الدرداء: ما تشتكي؟ فقال: ذنوبي. قيل: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي قال: أفلا ندعو لك طبيبًا؟ فقال: ((إن الطبيب بطبه ودوائه لا يستطيع دفع مقدوراتي)) .
قال الذهبي معلقًا على ذلك: (التوكل اعتماد القلب على الله، وذلك لا ينافي الأسباب ولا التسبب، بل التسبب ملازم للمتوكل، فإن المعالج الحاذق يعمل ما ينبغي ثم يتوكل على الله في نجاحه وكذلك الفلاح يحرث ويبذر ثم يتوكل على الله في نمائه ونزول الغيث. قال الله تعالى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] وقال عليه الصلاة والسلام: ((اعقلها وتوكل)) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((أغلقوا الأبواب)) . وقد اختفى صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثًا، ثم قد تكون العلة مزمنة ودواؤها موهوم قد ينفع وقد لا ينفع.
(ومن شرب دواء سميًّا أو مجهولاً فقتله فقد أخطأ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من سمَّ نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم)) متفق عليه) .
والخلاصة أن التداوي مندوب إليه لفضل العافية ولعدم التعرض للبلاء إلا في حالات خاصة عند من قوي يقينه وفي حالات الأمراض المزمنة والتى يكون فيها التداوي مظنونًا موهومًا، وفي مرض الموت ... إلخ.(7/1521)
متى يجب التداوي؟
1- يبدو والله أعلم أن هناك بعض الحالات التي يجب فيها التداوي وذلك: مثال الأمراض المعدية التي ينتقل ضررها إلى الآخرين والتداوي منها ممكن متيقن، أو يغلب الظن على حصول البرء والشفاء. ومثال ذلك مرض السل وهو مرض خطير إذا أهمل ولا يقضي على المريض فحسب وإنما ينتقل إلى من حوله أو إلى غيرهم بسبب البصاق الذي فيه ميكروب الدرن. ومثاله أيضًا الجذام الذي يمكن القضاء على ميكروب الجذام المعدي وإيقاف انتشار المرض، ومداواته وبرؤه إن كان لم يستفحل بعد.
وهناك العديد من الأمراض التي تفرض الدول والمجتمعات القيود على المصاب بها وتفرض عليه التداوي ومثالها الدفتريا (الخناق) ، التتانوس (الكزاز) التيفود الكوليرا (الهيضة) ، السل والجذام والأمراض الجنسية وأنواع الحميات مثل الحمى الشوكية والملاريا والتيفوس ... إلخ.
ورغم أن بعض الأمراض المعدية لا علاج لها إلا أن وسائل الوقاية والتطعيم تمنع من انتشارها كما أن فرض الحجر الصحي وتقييد حرية المصاب بها أو حتى أهل البلدة التي وقع فيها الداء مثل الطاعون (منع الدخول إليها ومنع الخروج منها) تؤدي إلى تضييق نطاق انتشار الوباء.
وفي هذه الحالات جميعًا يجب التداوي للأسباب التالية:
(أ) أن عدم التداوي في مثل هذه الحالات التي توفر دواؤها هو نوع من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة وهو أمر منهي عنه قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . [البقرة: 195] .
(ب) إن الضرر سيتعدى إلى الآخرين من الأهل والمحيطين بالمريض كما يمكن أن يتعدى الضرر إلى المجتمع بأسره. وقد ورد النهي الصريح عن الإضرار بالمسلمين في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) .
(ج) إن تمريضه سيشق على أهله أو من يقوم بتمريضه وتلبية حاجاته.
(د) خسارة المجتمع لعضو عامل منتج في المجتمع الإسلامي. وفقدان أيام العمل وإطالة أمد المرض أو انخرام أجله. وفي ذلك كله خسارة على الأمة بصورة عامة وخاصة إذا كان المصاب ممن ينتفع بهم المجتمع.(7/1522)
2- في الحالات غير المعدية والتي لها علاج ودواء ويمكن البرء من هذا المرض والشفاء منه أو يمكن التخفيف من عواقبه وما يؤدي إليه من زمانة وإعاقة، فإن التداوي يصبح واجبًا لما في التداوي من منافع تعود على المرء وعلى المجتمع. ولا تجعله كلًّا على الناس في قضاء حاجاته وبالتالي يشق عليهم ... ويكون في نهاية المطاف عبئًا على المجتمع.
وهذه الحالات لا تصل إلى درجة المجموعة السابقة صاحبة الأمراض المعدية التي ينتقل المرض فيها إلى الآخرين وتعرض المجتمع نفسه لمخاطر هذه الأمراض الوبيلة. حيث لا يقتصر ضررها على المريض وحده وإنما يتعدى ذلك إلى المجتمع بأكلمه.
متى يجوز عدم التداوي؟
1- الحالات المرضية التي لا دواء لها أو أن دواءها فيه مخاطر كثيرة وأن فائدته مظنونة موهومة لا متيقنة ولا يغلب على الظن الشفاء. ومثالها حالات السرطان والأورام الخبيثة بعد انتشارها في الجسم فإن التداوي بالجراحة أو بالأشعة أو بالمواد الكيماوية لا يؤدي في الغالب إلى الشفاء ولا إلى تخفيف المرض ولا منع الإعاقة.. وقد تكون كلفة التداوي على المريض وأهله مما يزيد في معاناتهم وحرجهم، ولا يستفيد من هذه المحاولات إلا المستشفيات وأصحابها.
2- الحالات المرضية التي لا تضر إلا صاحبها.. ولا تؤدي في الغالب إلى إعاقة وزمانة تعطل وظائف الشخص، وبالتالي لا تشق على من حوله.
3- أمراض التداوي فيها مشكوك الفائدة والاحتمالات في الشفاء ضعيفة. وكل هم الطبيب أن يخفف من الأعراض والآلام.. ومع هذا فإن الأدوية ذاتها لها أضرار مع إدمان استعمالها. فالمريض لا شك بالخيار في الصبر على الألم والبعد عن أضرار الدواء أو تعاطي الدواء مع توقع حدوث بعض الأضرار نتيجة الاستمرار في تعاطي الدواء لآماد طويلة، ومثالها الأمراض الرثية (الروماتيزمية المزمنة) .(7/1523)
من الذي يقرر التداوي من عدمه؟
1- في الحالات المرضية التي يتعدى ضررها إلى الآخرين (الأمراض المعدية، الأمراض السارية والأمراض الجنسية) تحدد الدولة متمثلة في وزارة الصحة الأمراض التي يجب التبليغ عنها ويجب مداواتها ومتابعتها، وبعضها يحول إلى مستشفيات خاصة مثل الحميات (المحجر) ، أو المستشفيات العقلية لبعض حالات الجنون التي يتعدى فيها الضرر إلى الآخرين أو أن المصاب قد يضر نفسه ويلقي بها إلى التهلكة دون إدراك أو بسبب حالته النفسية السوداوية الشديدة.
2- في الحالات المرضية التي لا يتعدى ضررها إلى المخالطين والمجتمع ويقتصر ضررها على المريض نفسه، فإن الذي يقرر قبول التداوي من عدمه هو المريض نفسه إذا كان بالغًا عاقلًا راشدًا. ولا يجوز الاعتداء على هذا الحق بأي شكل من الأشكال إلا في حالات فقدان الوعى وحالات الإسعاف (أي الحالات التي تهدد حياة المريض أو أعضائه المهمة) ... أما إذا كان المريض قاصرًا دون بلوغه سن الرشد (وسنناقش هذه النقطة فيما سيأتي) أو أنه كان مختلًّا عقليًّا أو فاقدًا للوعي والإدراك فإن هذا الحق ينتقل إلى وليه.
وقد جاء في نظام مزاولة مهنة الطب البشري وطب الأسنان ولائحته التنفيذية بالمملكة العربية السعودية وزارة الصحة ما يوضح هذه النقطة:
(المادة 21: يجب أن يتم أي عمل طبي لإنسان برضاه أو بموافقة من يمثله إذا لم يعتد بإرادة المريض، واستثناء من ذلك يجب على الطبيب في حالات الحوادث أو الطوارىء التي تستدعي تدخلًا طبيًّا بصفة فورية لإنقاذ حياة المصاب أو إنقاذ عضو من أعضائه وتعذر الحصول على موافقة المريض أو من يمثله في الوقت المناسب، إجراء العمل الطبي دون انتظار الحصول على موافقة المريض أو من يمثله. ولا يجوز بأي حال من الأحوال إنهاء حالة مريض ميئوس من شفائه طبيًّا، ولو كان بناء على طلبه أو طلب ذويه) .
(المادة 21 - 1 - ل: تؤخذ موافقة المريض البالغ العاقل سواء كان رجلًا أو امرأة أو من يمثله إذا كان لا يعتد بإرادته قبل القيام بالعمل الطبي أو الجراحي وذلك تمشيًا مع مضمون خطاب المقام السامي رقم 4/2428/ م وتاريخ 29/7/1404هـ المبني على قرار هيئة كبار العلماء رقم 119 وتاريخ 26/5/1404هـ.
(المادة 21 - 2 - ل: يتعين على الطبيب أن يقدم الشرح الكافي للمريض أو ولي أمره عن طبيعة العمل الطبي أو الجراحي الذي ينوي القيام به) .(7/1524)
ولا تكتفي معظم المراسيم والقوانين الغربية بأن يؤخذ رضا المريض ولكن ينبغي أن يكون المريض على علم بآثار وأضرار العمل الطبي (سواء كان للتشخيص أو التداوي بالعقاقير أو بالتدخل الجراحي وعلى علم بصورة عامة بمدى نجاح هذا العمل الطبي) وأن يشرح له الطبيب ذلك شرحًا كافيًا وهو ما يعرف بالموافقة الواعية والمدركة (Informed Consent) . وإذا ثبت أن الطبيب لم يقم بشرح آثار التدخل الطبي أو الجراحي بصورة كافية، فإن رضا المريض ولو كتابة مع وجود الشهود لا يعتبر كافيًا. ويتحمل الطبيب المسؤولية.
هذا ما هو مقرر في الغرب أما في البلاد النامية فإن ما يحدث في الواقع يحتاج إلى إعادة نظر وإليكم بعض الأمثلة:
1- نشرت جريدة المدينة في عددها 5495 بتاريخ 10/6/1402هـ من مراسلها في الدمام أن مريضًا قد أجريت له عملية في مستشفى الخبر التعليمي دون علم المريض، مع أن العملية لم تكن مستعجلة، وكان المريض في كامل قواه العقلية بالغًا راشدًا.
والغريب حقًّا أن الصحيفة قد أثنت على الطبيب وعلى المستشفى لإجرائهم العملية دون علم المريض حتى لا يثيروا قلقه. فقد أخذ المريض إلى غرفة الأشعة وهناك تم تخديره ثم نقل إلى غرفة العمليات وتم إجراء العملية بنجاح!!
وليس هذا الأمر شديد الندرة بل يحدث في كثير من مستشفيات العالم الثالث.
2- قامت وزارة الصحة بالتنبيه على وجوب أخذ إذن المريض أو ولي أمره إذا كان لا يعتد برضاه، وأن إجراء العمليات الجراحية والتخدير يستوجب أخذ الإذن الكتابي والإشهاد على ذلك (هيئة التمريض غالبًا) .
والواقع المرير الذي نعرفه هو أن تقدم للمريض أو ولي أمره: (إذا كان لا يعتد برضاه) ورقة مذكور فيها: ((أوافق على إجراء عملية وتخدير)) وعلى المريض أن يوقع بإمضائه، دون أن يُكتب حتى اسم العملية أو نوعها ولا نوع التخدير (كامل، نصفي، موضعي) ولا يقوم أحد بشرح أي شيء عن هذه العملية ولا عن مضاعفاتها أو ما قد يحدث فيها.(7/1525)
على المريض فقط أن يوقع دون مناقشة ولا أسئلة، وإذا رفض فإن مصيره الطرد من المستشفي. هذا ما يحدث في كثير من مستشفيات الدولة في كثير من الأقطار.
3- قامت الصين بتعقيم أكثر من مائة مليون شخص في عهد ماوتس تونج بالإكراه كما قامت أنديرا غاندي رئيسة وزراء الهند في بداية السبعينات من القرن العشرين بتعقيم 11 مليون رجل وامرأة قسرًا. وكانت بعض الدول مثل مصر في عهد عبد الناصر تأمر أطباء النساء والولادة في مستشفيات الحكومة أن يضعوا في أرحام النساء المتزوجات في سن الحمل اللولب المانع للحمل متى كان لهذه المرأة عدد من الأطفال دون أن تستأذن في ذلك.
وهذه الإجراءات تمثل انتهاكات بشعة لحرية الإنسان وحقوقه على بدنه وهي تشبه ما قام به الأطباء الألمان في عهد هتلر من إجراءات التعقيم وإجراء التجارب القاسية والخطيرة على المرضى والمسجونين.
لُدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دون إذنه:
وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار أن لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء فلما أفاق قال: ألم أنهكم أن لا تلدوني، لا يبقى منكم أحد إلا لُدَّ، غير العباس فإنه لم يشهدكم) [أخرجه البخاري ومسلم] .
قال الأصمعي: اللدود ما سُقي الإنسان في أحد شقي الفم، أُخذ من لديدي الوادي وهما جانباه وأما الوجور، فهو في وسط الفم. وقال غيره: اللدود هو الذي يصب في أحد جانبي الفم أو يدخل بالإصبع ويحنك به. وقال عبد الملك بن حبيب الأندلسي في كتاب الطب النبوي: (وأما اللدود فبأن يعالج الذي وصفنا فوق هذا من اللدود فيجعل في ملدة ذات أنبوبة ثم يرفع اللسان فيصب تحته) .(7/1526)
وروت أم سلمة رضي الله عنها هذه الحادثة بتفصيل أوسع قالت: (بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضه في بيت ميمونة، وكان كلما خف عليه خرج وصلى بالناس، وكان كلما وجد ثقلًا قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، واشتد شكواه حتى غمر (أي أغمي عليه) من شدة الوجع، فاجتمع عنده نساؤه وعمه العباس (رضي الله عنهم) وأم الفضل بنت الحارث وأسماء بنت عميس فتشاوروا في لده حين أغمي، فلدوه وهو مغمور، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم حفلًا لما أفاق. قال: من فعل هذا بي؟ هذا عمل نساء من هاهنا، وأشار بيده إلى أرض الحبشة وكانت أم سلمة وأسماء هما لدتاه، فقالوا: يا رسول الله خشينا أن تكون بك ذات الجنب، قال: فبم لددتموني؟ قالوا: بالعود الهندي وشيء من ورس وقطرات من زيت. قال: ما كان الله ليعذبني بذلك الداء ثم قال: عزمت عليكم: لا يبقى في البيت أحد إلا لد، إلا عمي العباس) .
قال علاء الدين الكحال ابن طرخان في كتاب الأحكام النبوية في الصناعة الطبية: (قال عبد الرحمن: ولدت ميمونة في ذلك اليوم وكانت صائمة، بقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فجعل بعضهم يلد بعضًا. وكانت أم سلمة تقول: لددت أسماء بنت عميس ولدتني، وكانتا هما اللتان أمرتا بلده، ولدت ميمونة زينب بنت جحش، ولدت زينب ميمونة، ولدت عائشة صفية بنت حيي، ولدت صفية عائشة، رضي الله عنهم أجمعين) .
(قال القاضي عياض في تفسير ذلك: (فيه معاقبة الجاني، والقصاص بمثل ما فعل) . وقال بعض أهل العلم: فيه تعزير المتعدي بنحو فعله إلا أن يكون فعلًا محرمًا. وفيه أن الإشارة المفهمة (حيث أشار النبي أن لا تلدوني) كصريح العبارة في نحو هذه المسألة والله أعلم) .(7/1527)
وهذا كله يوضح أن إذن المريض البالغ العاقل ضروري لإجراء أمر التداوي فإذا صرح المريض أو أشار أنه يرفض نوعًا من أنواع التداوي فله الحق في ذلك ويكون إجباره على التداوى تعديًا. ويعاقب المتعدي تعزيرًا بمثل ما فعل كما ذكر ذلك الكحال ابن طرخان إلا أن يكون ذلك الفعل محرمًا كأن سقي المريض خمرًا وهو مغمور فلا يسقى الفاعل ذلك. بل يعزر ويعاقب عقوبة رادعة. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة عن التداوي بما حرم الله. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) [أخرجه البخاري] . وأخرج أبو داود أنه قال: ((إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بحرام)) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث) [أخرجه أبو داود] . وعن طارق بن سويد الحضرمي قال: (قلت: يا رسول الله إن بأرضنا أعنابًا نعتصرها فنشرب منها؟! قال: لا، فراجعته، قلت: إنا نستشفي للمريض. قال: إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء) . [أخرجه مسلم] . وعن طارق الجعفي أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخمر فنهاه فقال: إنما أصفها للدواء فقال صلى الله عليه وسلم: ((إنه ليس بدواء ولكنه داء)) . [أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي] .
ولا شك أن إجراء عملية أو فحص طبي أو إعطاء المريض دواء دون إذنه يشكل اعتداء على هذا المريض. ولو كان المقصد حسنًا. وما دام المريض قادرًا على اتخاذ القرار فلا يجوز مخالفة أمره أو رغبته ولو كانت بالإشارة المفهومة، كما جاء في الحديث السابق حيث لد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كاره.
مسألة هل يضمن الطبيب؟
هذه المسألة قد بحثها الفقهاء الأجلاء وأصل هذا المبحث ما ورد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)) [أخرجه أبو داود والنسائي في السنن الصغرى وابن ماجه وأبو نعيم في الطب النبوي والدارقطني كلهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده] .
قال أبو داود (كتاب السنن باب من تطبب بغير علم) بعد أن أورد الحديث: (أيما طبيب طبب على قوم لا يعرف له تطبب من قبل فأعنت فهو ضامن) .(7/1528)
قال الكحال بن طرخان في كتابه الأحكام النبوية في الصناعة الطبية بعد أن استعرض المعاني المختلفة لكلمة الطب (واعلم أن هذا الحديث فيه احتياط وتحرز على الناس وحكم سياسي مع ما فيه من الحكم الشرعي، إذ في ذلك خطر شديد. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من تطبب)) ولم يقل من طبَّ، لأن لفظ المتطبب يدل على المتعلم للطب أو المتعاطي له. وتطبب على وزن تفعل ومعناه للتعاطي، أي تعاطي علم الطب، ولم يكن من أهله لأن تفعل قد تأتي بمعنى إدخال المرء نفسه في أمر حتى يضاف إليه أو يصير من أهله كقولك تشجعت وتكرمت. قال الراجز: (وقيس عيلان ومن تقيسا) .
(والطبيب هو العالم بالطب المتمكن الحاذق فيه. ومعناه (أي الحديث) : من تعاطى فعل الطب ولم يتقدم له به اشتغال ومزاولة معالجة، وتدرب مع الفضلاء فيه، فقتل بطب فهو ضامن، لأن غالب من هذه حاله أن يكون قد تهجم على إتلاف الأنفس، وأقدم بالتهور على ما لم يعلمه فيكون قد غرر بالمهج فيلزمه الضمان لذلك. فأما من سبق له اشتغال بصناعة الطب وكثرة تجارب، وأجازه علماء الطب ورؤساؤه فهو جدير بالصواب، وإن أخطأ بعد بذل الاجتهاد الصناعي أو عن قصور الصناعة نفسها فعند ذلك لا يلزمه لومة لائم. قال الخطابي: لا أعلم خلافًا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامنًا، والمتعاطي علمًا أو عملًا لا يعرفه متعد، فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية، وسقط عنه القود، لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض. وجناية المتطبب في قول عامة الفقهاء على عاقلته) .
وقال ابن القيم في الطب النبوي بعد أن نقل العبارة السابقة:
(قلت الأقسام خمسة: (أحدها) : طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها، ولم تجن يده فتولد من فعله المأذون من جهة الشارع، ومن جهة من يطبه، تلف العضو أو النفس، أو ذهاب صفة. فهذا لا ضمان عليه اتفاقًا، فإنها سراية مأذون فيه) .(7/1529)
وهذا القسم مهم جدًّا فقد أوضح ابن القيم رحمه الله كي يكون عمل الطبيب مأذونًا فيه لا بد من:
1- إذن الشارع وهي الجهة الحكومية التي تسمح للطبيب بممارسة مهنته وما تضعه فيه من لوائح وأنظمة حتى لا يدخل في هذه المهنة من ليس أهلًا لها ولم يتم تدريبه وتعلمه الطب في معاهد الطب وعلى أيدي الأطباء الأساتذة.
2- إذن المريض إذا كان عاقلًا بالغًا أو وليه إذا كان قاصرًا أو فاقدًا للوعي أو مجنونًا.
وما أحسن هذا الموقف النبيل الذي يخلي الطبيب من المسؤولية متى حصل على هذين الإذنين ومتى ما كان عمله حسب قواعد الطب المعروفة ولم يتعد فيها ولم تخطىء يده وأعطى الصناعة حقها. وهو أمر لم يصل إليه الغرب إلى اليوم، حيث يعتبر الطبيب مسؤولًا ويضمن رغم أنه أعطى الصناعة حقها وكان مأذونًا له في عمله من جهة الشارع وجهة المريض.. وخاصة في الولايات المتحدة فيكون ذلك إجحافًا في حق الطبيب.
ثم يقول ابن القيم: (وقاعدة الباب أن سراية الجناية مضمونة بالاتفاق، وسراية الواجب مهدرة بالاتفاق، وما بينهما ففيه النزاع) .
أي أن الطبيب إذا لم يكن مأذونًا له من جهة الشارع أو من جهة المريض أو وليه فإنه يكون ضامنًا لأن فعله ذاك جناية. ويستثني من ذلك حالات الإسعاف الطارئة، وحين يكون المريض فاقدًا للوعي أو قاصرًا أو مجنونًا ولا يوجد له ولي ليستأذن.
وإذا كان المريض قد أذن إلا أن المتعاطي للطب جاهل بالطب أو بهذا الفرع من الطب والمريض لا يعلم بحال الطبيب يضمن ما جنت يده لأنه متعد.
قال ابن القيم: (والقسم الثاني: متطبب جاهل باشرت يده من يطبه فتلف بهذا، فهذا إن علم المجنى عليه أنه جاهل لا علم له وأذن له في طبه لم يضمن ولا يخالف هذه الصورة ظاهر الحديث فإن السياق وقوة الكلام يدل على أنه غر العليل وأوهمه أنه طبيب وليس كذلك. [هذا لا يمنع السلطات أن تعاقبه على تعديه وممارسته الطب دون إذن الشارع أو المحتسب أو وزارة الصحة ... إلخ] .
(وإن ظن المريض أنه طبيب وأذن له في طبه لأجل معرفته ضمن الطبيب ما جنت يده، وكذلك إن وصف له دواء يستعمله، والعليل يظن أنه وصفه لمعرفته وحذقه فتلف به، ضمنه. والحديث ظاهر فيه أو صريح) .(7/1530)
وذكر عبد الملك بن حبيب الأندلسي في كتابه الطب النبوي هذه النقطة فقال: (وإذا لم يكن معروفًا بالطب فهو ضامن لذلك في ماله ولا تحمل ذلك العاقلة، ولا قود عليه لأنه لم يتعمد قتله، وإنما أخطأ الذي طلب من مداواته بجهله ذلك. وعليه من السلطان العقوبة) . وهو كلام نفيس دقيق، فلا قود ولا يقتل قصاصًا بالعليل الذي مات، ولكن عليه الدية كاملة في ماله لا في مال العاقلة، وإن كانت الجناية دون النفس كانت العقوبة بقدرها. ولا يعفيه ذلك من تأديب الحاكم لأنه تعدى بممارسته مهنة الطب دون إذن.
قال ابن القيم: (والقسم الثالث: طبيب حاذق أُذن له، وأعطى الصنعة حقها، لكنه أخطأت يده، وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه، مثل أن سبقت يد الخاتن إلى الكمرة. فهذا يضمن لأنها جناية خطأ. ثم إن كان الثلث فما زاد فهو على عاقلته، فإن لم يكن له عاقلة: فهل تكون الدين في ماله؟ أو في بيت المال؟ على قولين، هما روايتان لأحمد وقيل: إن كان الطبيب ذميًا ففي ماله، وإن كان مسلمًا ففيه الروايتان، فإن لم يكن بيت المال، أو تعذر تحميله فهل تسقط الدية؟ أو تجب في مال الجاني؟ فيه وجهان: أشهرهما السقوط) .
وهو كلام دقيق لا يكاد يوجد به نظير لدى الأمم الأخرى. فهذا الطبيب المأذون له من جهة الشارع ومن جهة العليل، أعطى الصنعة حقها، لكنه أخطأت يده (ويقرر ذلك لجنة من الأطباء المختصين في هذا الفرع) فأدى ذلك إلى تلف العضو أو النفس، فإن كانت الدية أقل من الثلث فإنها في مال الطبيب وإن كانت أكثر من الثلث ففي العاقلة. والعاقلة هي قبيلة الشخص (وهو داخل فيها) أو أهل ديوانه في العطاء.. فهل تكون اليوم ممثلة في نقابة الأطباء أو الهيئة الطبية التي ينتمي إليها الطبيب. ذلك أقرب إلى مفهوم العاقلة حيث جعلت العاقلة في الديوان ... ولم يعد اليوم للقبيلة وجود في كثير من المدن والبلاد.
وفي الغرب لا بد للطبيب من دفع التأمين لإحدى شركات التأمين الطبي وهو لا يستطيع أن يمارس المهنة ولا يؤذن له فيها إلا إذا دفع التأمين أولًا.. وتقوم شركة التأمين بدفع التعويض الذي تقرره المحكمة، وتكون الشركة بذلك في مقام العاقلة عندنا سواء كان المبلغ المقرر ثلث الدية أو اقل أو أكثر.
ويبدو أننا نحتاج اليوم في بلاد المسلمين عربًا وعجمًا لشيء مماثل لهذا أو قريب منه حيث اختفى مفهوم العاقلة من معظم البلاد.(7/1531)
وقد ناقش هذه النقطة عبد الملك بن حبيب المتوفى سنة 231هـ قبل ابن القيم بأربعة قرون حيث قال: (فأما إذا أخطأ الطبيب في كيه أو بطه أو شقه، فيكوي حيث لا يُكوى أو يقطع عرقًا حيث لا يُقطع، أو يبط حيث لا يبط، أو يسقي ما لا يؤمن شربه أو يجاوز قدره فيموت (العليل) من ذلك، فهو ضامن، وإن كان طبيبًا معروفًا بالطب وبالبصر به، لأنه جناية يده بخطأ، وذاك على عاقلته إذا جاوز ما أصاب ثلث الدية، ولا عقوبة عليه لأنه يعذر بجهل، ولم يتعمد بيد ولا بقلب حتى زلت يده أو حديدة في سرعتها. وكذلك قال مالك: إذا كان الطبيب معروفًا بالطب فلا ضمان عليه إلا أن يتعدى أو يخطىء فيكون ذلك على العاقلة إن بلغت ثلث الدية، وإن كان أقل من ذلك ففي ماله. وكذلك الخاتن يختن فيموت الصبي من اختتانه، إن كان بصيرًا بعمل، معروفًا به فلا شيء عليه، وإن لم يكن معروفًا فهو ضامن من ذلك في ماله وعليه العقوبة. قال: وإن كان أخطأ أو قطع ما لا يقطع أو مضت يده إلى البيضة (المقصود الخصية) أو ما أشبه ذلك من الخطأ وتعدى الصواب فهو ضامن (سواء) كان بصيرًا بعمله معروفًا به أو غير معروف. وإن كان غير معروف ففي ماله قليلًا كان أو كثيرًا، وإن كان بصيرًا بعمله، معروفًا به، فذلك على عاقلته إن جاوز ثلث الدية. وإنما يفترقان في العقوبة: يعاقب غير المعروف بذلك العمل (لأنه غير مأذون له من جهة الشارع وتصرف العقوبة عن المعروف بعمله، البصير به. وكذلك قال مالك في ذلك كله) .
ثم قال: (وإن كان الطبيب نصرانيًا فسقى المسلم فمات فعلى السلطان أن يكشفه عما سقاه وإن كان طبيبًا معروفًا بالطب والبصر به للمظنة التي تواقعه لعداوة النصارى للمسلمين ومثل ذلك لا شك عن اليهود) .
ثم ذكر ابن القيم القسم الرابع فقال: (القسم الرابع: الطبيب الحاذق الماهر بصناعته اجتهد فوصف للمريض دواء فأخطأ في اجتهاده فقتله فهذا يخرج على روايتين أحدهما أن دية المريض في بيت المال والثانية أنها على عاقلة الطبيب) .
(والقسم الخامس: طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها فقطع سلعة من رجل أو صبي أو مجنون بغير إذنه أو إذن وليه أو ختن صبيًّا بغير إذن وليه فتلف. قال بعض أصحابنا: يضمن لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه. وإن أذن له البالغ أو ولي الصبي والمجنون لم يضمن. ويحتمل أن لا يضمن مطلقًا لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل) .(7/1532)
وهذا القسم هو مدار حديثنا. فإن كان الطبيب قد قام بعمل دون إذن في حالة من حالات الطوارىء لإنقاذ حياة المريض أو إنقاذ عضو من أعضائه فقد نصت اللوائح على أنه لا عقوبة ولا ضمان على الطبيب إن تلف العضو أو هلك العليل إلا إذا أخطأ خطأ بينًا لا تحتمله مهنة الطب، ويقرر ذلك لجنة من الأطباء المختصين في هذا الفرع.
أما إن كان الطبيب قد قام بإجراء طبي في حالات عادية (ليست من حالات الطوارىء) دون إذن المريض العاقل البالغ أو إذن ولي القاصر أو المجنون أو فاقد الوعي فإن الطبيب يقع تحت المساءلة سواء أصيب المريض أم برأ من علته. وتقع عليه عقوبة من جهة الشارع (وزارة الصحة، نقابة الأطباء ... إلخ) لأنه تجاوز الإذن وقام بعمل غير مأذون فيه، ولا مبرر له فيه لإنقاذ حياة أو عضو.
وتقع عليه العقوبة بالإضافة إلى الضمان إذا أصيب العليل في بدنه أو نفسه. وتكون الدية في هذه الحال على الطبيب لأنه متعد سواء كانت الدية أقل من الثلث أو الثلث أو أكثر منه. ولا تحمل العاقلة من ذلك شيئًا إلا أن تطوع.
والمشكلة تثور في تقديري متى تكون عملية الإنقاذ ضرورية حتى تجري دون إذن، فعلى سبيل المثال هناك طائفة من النصارى هم شهود ياهو (Jehova Witnesses) يرفضون تعاطي الدم مهما كان السبب. وقد وافقت المحاكم في الغرب على عدم إنقاذهم بنقل الدم إلا إذا كان المصاب قاصرًا (دون سن 18 سنة) أو فاقدًا للوعي أو مجنونًا، فإن على الطبيب في تلك الحالة أن ينقل للمصاب الدم رغم معارضة ولي أمره.
من هو الذي لا يعتد برضاه؟
1- القاصر: ويختلف تعريف القاصر من بلد إلى آخر وتأخذ معظم البلاد في قوانينها سن 18 عامًا بينما تجعله بعض القوانين 21 عامًا. فعلى سبيل المثال حدد القانون المدني الكويتي (الفقرة الثانية من المادة 96) سن الرشد بواحد وعشرين سنة ميلادية كاملة. ومع هذا فقد أباح القانون الكويتي للشخص العاقل البالغ 18 سنة ميلادية كاملة أن يتبرع بإحدى كليتيه.
وهل يعتد برضا الإنسان البالغ (الاحتلام أو الحيض وظهور العلامات الثانوية للبلوغ مثل شعر العانة والشارب واللحية ... إلخ) ؟ ومن المعلوم أن الفتاة قد تحيض في سن تسع سنوات، قال الإمام الشافعي: (أعجل من سمعت من النساء تحيض نساء تهامة يحضن لتسع) . وهو مذهب الإمام الشافعي، والإمام مالك وأحمد. وعند الأحناف أقل سن للحيض سبع سنوات.
فهل يعتبر رضا من بلغ كافيًا ولو كان سنه دون الخامسة عشر؟
يبدو أن هذه النقطة تحتاج إلى قرار من أصحاب الفضيلة العلماء في مجمعهم الفقهي الموقر حيث تختلف القوانين في هذه النقطة من بلد إلى آخر ولا يبدو أن هناك رأيًا متفقًا عليه بين الفقهاء حولها.(7/1533)
2- المغمى عليه أو فاقد الوعي: سواء كان ذلك فقدانًا مؤقتًا بنوم أو مرض أو دواء أو حادثة أو سكر أو مخدرات أو فقدانًا دائمًا بسبب مرض من الأمراض.
3- المجنون: وسواء كان ذلك الجنون وفقدان العقل والإدراك مؤقتًا أو دائمًا.
وجماع ذلك كله قول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: الصبي حتى يحتلم، والنائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يفيق)) .
متى يقبل أو يرفض إذن ولي أمر القاصر أو المجنون أو فاقد الوعي؟
لا بد من إذن ولي أمر القاصر أو المجنون أو فاقد الوعي في الحالات التي لا تستدعي تدخلًا سريعًا لإنقاذ حياة المريض أو إنقاذ عضو من أعضاء جسده. ولا يعتد بإذن ولي أمر القاصر أو المجنون أو فاقد الوعي في هذه الحالات التي تهدد حياة القاصر. كما أوضحنا في حالة الحاجة الماسة لنقل الدم إلى مصاب في حادثة أو غيرها بينما يرفض ولي أمره إعطاءه الدم. وقد حكمت المحاكم في الغرب أن على الأطباء أن ينقذوا حياة المصاب ولا يعتدوا بإذن ولي أمره، أما حينما يكون المصاب عاقلًا بالغًا غير فاقد لرشده فإن الحصول على إنه قبل أي إجراء يعتبر ضروريًّا ولو كان في ذلك الأمر خطر على حياته ذاتها.
وتحدث في المستشفيات في كثير من البلاد الإسلامية عربًا وعجمًا حوادث يحتاج فيها إلى توضيح هذا الأمر وما هو الموقف الفقهي منها. وسنذكر هاهنا بعض الأمثلة التي ذكرها الدكتور صلاح العتقي في ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الإسلامية (الكويتية 20 شعبان 1407هـ/ 18 إبريل 1987م ص210 - 212) وأمثلة أخرى مما نعرفه.
1- طفل يرقد في قسم الأطفال يعاني من مرض استسقاء الرأس (موه الدماغ) (Hydrocephalus) رفض والده إجراء العملية بعد الولادة وفضل أن يتركه يموت على أن يحصل على طفل مصاب بتخلف عقلي.
2- بنت عمرها ست سنوات عندها فشل كلوي ونصح الأطباء بإجراء الغسيل (Haemodialysis) في مستشفى الدولة مجانًا وأن تتحمل الدولة نقل المريضة من منزلها إلى المستشفى ثلاث مرات في الأسبوع إلا أن الأب رفض ذلك متعللًا بأنه قد سبق أنه فقد ابنًا له بسبب عمليات الغسيل الكلوي.
في هذه الحالة تدخلت وزارة الصحة وأمرت بنقل الطفلة دون إذن والدها إلى المستشفى وقامت بإجراء الغسيل المتكرر للطفلة. فهل تدخل الدولة في هذه الحالة هو الصواب مع العلم بأن الغسيل الكلوي ليس علاجًا شافيًا للفشل الكلوي ولكنه يسمح للمريض بضع سنوات من الحياة المعقولة رغم ما فيها من آلام ومنغصات ومضاعفات للمرض.(7/1534)
3- يحدث تعسر في بعض الولادات ويصاب الطفل قبيل الولادة وهو لا يزال في الرحم بحرج شديد يعرف طبًا باسم ((حرج الجنين)) (Fetal Distress) ويستدعي ذلك سرعة إجراء عملية قيصرية لإنقاذ حياة الطفل. وخاصة إذا سقط الحبل السري ونزل قبل خروج الطفل (Prolapse cord) مما يؤدي إلى انضغاط الحبل السري أثناء الولادة مؤديًا إلى وفاة الطفل أو إصابته إصابة بالغة ويستدعي ذلك إجراء عملية قيصرية مستعجلة.
توجب بعض الأنظمة واللوائح موافقة المرأة وزوجها لإجراء هذه العملية.
فما هو الموقف: عندما يرفض الزوج؟
عندما ترفض المرأة ويقبل زوجها؟
عندما يرفضان جميعًا، المرأة وزوجها، إجراء العملية؟
مع العلم أن العملية تجري لإنقاذ الطفل لا لإنقاذ حياة المرأة التي يمكن أن تلد طفلًا ميتًا أو طفلًا مصابًا إصابات بالغة دون الحاجة لإجراء العملية.
وهناك أسئلة أخرى مماثلة:
4- يرفض بعض الرجال أن يتولى طبيب فحص محارمه أو أن يجري لهم عملية قد تكون مستعجلة ولا تحتمل التأخير، وقد لا يكون في المنطقة طبيبة في هذا النوع من الطب، وفي بعض المناطق قد لا توجد طبيبة على الإطلاق.
هل من حق الزوج أو ولي المرأة أن يرفض أن يجري الطبيب الرجل الفحص أو إجراء العملية! وقد تكون المرأة بالغة راشدة ولا يعتبر شرعًا وليًّا لأمرها في موضوع التداوي.. وعلى فرض أنها ابنته وأنها قاصر أو أنها غير راشدة فاقدة للوعي أو الإدراك أو العقل فهل له أن يمتنع عن مداواتها بحجة أنه لا يريد أن يكشف عورتها لرجل رغم حراجة الموقف الطبي وأهمية سرعة الإجراء الذي لا يحتمل التأخير والبحث عن طبيبة؟!
5- يتبرع ولي الطفل أو مجنون (فاقد الأهلية) بعضو من أعضاء وليه، فعلى سبيل المثال يقوم الأب (ولي الأمر) بالتبرع بكلية أحد أطفاله لطفله الآخر. ومن المعلوم أن أحسن المتبرعين هم الإخوة وخاصة إذا كانوا من التوائم المتماثلة فإن الرفض للعضو الغريب لا يحدث ويتقبل الجسم العضو الجديد وكأنه منه.. وقيس على ذلك تبرع النخاع وغيره. فهل يحق لولي أمر الطفل أن يتبرع بأحد أعضاء جسمه لينقذ حياة أخيه؟.(7/1535)
وقد أفتى مجمع الفقه الإسلامي الموقر في دورته الرابعة القرار رقم (1) د 4/08/88 (المادة الثانية) بجواز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر، إن كان هذا العضو يتجدد تلقائيًا كالدم والجلد ويراعى في ذلك اشتراط كون الباذل كامل الأهلية، وتحقق الشروط الشرعية المعتبرة. ونص القانون الكويتي على أن يكون المتبرع بأعضائه قد أكمل ثمانية عشر سنة ميلادية وعليه فإن ما يحدث من تبرع الوالد نيابة عن ولده القاصر هو أمر مخالف لما عليه الفتوى وما تنص عليه القوانين.
6- تحدث في الغرب بعض المشاكل ومن المحتمل أن تفد علينا فيما يفد علينا، ومن ذلك: أن الفتيات اللاتي يعانين من تخلف عقلي يتعرضن للحمل دون إرادتهن. وقد ثار جدل طويل حول تعقيم مثل هؤلاء الفتيات. كما ثار جدل حول ما يفعله بعض الأطباء من وصف وسائل منع الحمل مثل الحبوب للفتيات القاصرات (أقل من 18 عامًا حسب القانون) دون إذن مسبق من ولي الأمر (وهو والد الفتاة أو والدتها ... إلخ) .
وهذه المشكلة موجودة لدينا بصورة مرعبة حيث أن وسائل منع الحمل وخاصة الحبوب تباع في الصيدليات بدون وصفة طبية، وبالتالي يمكن أن تستخدمها الفتيات القاصرات أو أولئك النسوة اللاتي تضرهن أقراص منع الحمل بسبب مرض من الأمراض مثل البول السكري أو ضغط الدم أو الدوالي ... إلخ.
وتشجع الحكومات في كثير من بلدان العالم الثالث على نشر استخدام وسائل منع الحمل بكافة الطرق ومن ذلك توفير حبوب منع الحمل بأسعار زهيدة تتحملها الدولة وبيعها للجمهور دون الحاجة إلى وصفة طبية! وهو أمر مخالف للطب والعقل.
7- ما هو مدى إذن المريض المسجون؟ إن كثيرًا من السجون وإدراتها تتعدى على النزيل وخاصة النزلاء السياسيين. وقصص التعذيب الرهيبة في داخل تلك السجون مما يشيب له الولدان. ويشترك بعض الأطباء العاملين في السجون في هذه المآسي، بشكل من الأشكال. وقد يشتركون باستخدام بعض الوسائل في انتزاع الاعترافات، أو في إيقاف التعذيب عن حد معين حتى لا يفقد السجين حياته.. ويكون الطبيب في ذلك شاء أم أبى ضمن جهاز التعذيب (لا يشترك هو في التعذيب، بل يحدد متى يوقف التعذيب ومتى يمكن أن يعاد ويتحمله السجين!!) .
يستخدم بعض السجناء في التبرع بالدم قسرًا في كثير من الأحيان أو لقاء تخفيف قيود السجن. كما يستخدم السجناء في بعض البلاد لإجراء بعض التجارب الطبية ويتم تجريب العقاقير قبل نزولها الأسواق فيهم!!(7/1536)
صور أخرى ينبغي فيها أخذ إذن المريض:
إن إذن المريض بالتداوي وتلقي العلاج في مستشفي أو مصحة أو عيادة يفرض تلقائيًّا المحافظة على سر هذا المريض وبالتالي لا يجوز إفشاء ذلك السر إلا في حالات محددة ... ولا بد من إذن المريض في معظم هذه الحالات. وقد جاء في توصية ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية المنعقدة في الكويت 20 شعبان 1407هـ/ 18 إبرايل 1987م ما يلي: يستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه.
(أ) حالات يجب إفشاء السر بناء على قاعدة ارتكاب أهون الضرين، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعين ذلك لدرئه.
وهذه الحالات نوعان:
1- ما فيه درء مفسدة عن المجتمع.
2- ما فيه درء مفسدة عن فرد.
(ب) حالات يجوز فيها إفشاء السر لما فيه من جلب مصلحة للمجتمع أو درء مفسدة عامة وهذه ينبغي الالتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها من حيث حفظ الدين والنفس والعقل والمال.
(ج) يضاف إلى ذلك حالات يكون فيها رضا صاحب السر بإفشائه ويكون في حدود الإذن لأن لصاحبه الحق في إسقاطه.
(د) الاستثناءات بشأن مواطن (مواضع) وجوب الإفشاء أو جوازه ينبغي أن ينص عليها في قانون مزاولة المهن الصحية وغيره من القوانين موضحة ومنصوصًا عليها على سبيل الحصر مع تفصيل كيفية الإفشاء ولمن يكون؟ وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواطن.
ولا بد من ضرب بعض الأمثلة: هناك مجموعة من الأمراض المعدية ومنها بعض الأمراض الجنسية التي تقرر الحكومات وجوب التبليغ عنها. ولا يكتفي في هذه الحالات بمجرد التبليغ بوجود حالة بل لا بد من أخذ تفاصيل كثيرة مثل اسم المريض وعنوانه وعمله ومن اتصل به جنسيًا ... إلخ.. وبالتالي فإن هذا الأمر يبلغ للسلطات المختصة ومع ذلك قد يخرج عن تلك الدائرة.
- الملفات الطبية التي بها المعلومات الخاصة بالمريض يتداولها عدد من الموظفين في المستشفيات وبعضهم لا علاقة له بالطب.(7/1537)
- الطبيب الذي يعمل لصالح شركة أو مؤسسة يقوم بإبلاغ الشركة وأصحاب العمل بأمراض موظفي تلك الشركة ويكتب عنهم التقارير، ويذكر في تلك التقارير أسرارًا أفضى بها المريض إليه أو اكتشفها هو عند إجراء الفحوصات ويبلغها للشركة مما يؤدي في بعض الأحيان إلى الاستغناء عن خدمات الموظف وقطع رزقه.
ومثله الطبيب الذي يضع تقاريره لشركات التأمين.
- يطلع الطبيب على كثير من الأسرار وقد يكون أحد مرضاه خاطبًا لفتاة فيأتي أهلها ويستشيرونه حول أهلية ذلك الشخص من الناحية الصحية للزواج؟ وهل لديه أمراض معدية وبالذات الجنسية؟ وهل يعاني من أمراض قد تنتقل إلى الذرية؟
- قد يطلب الطبيب للقضاء للإدلاء بشهادته حول مريض معين، ويؤدي ذلك إلى إفشاء أسرار مريضه، وقد لا يكون السر ضروريًّا لإجراء أمر العدالة ولكنه لا يستطيع هو أن يقرر ذلك، وإنما الذي يقرره القاضي.
وقد نص نظام مزاولة مهنة الطب البشري وطب الأسنان ولائحته التنفيذية في المملكة العربية السعودية (وزارة الصحة) على وجوب المحافظة على سر المهنة إلا في حالات محددة. وإليك نص المادة 23:
(يجب على الطبيب أن يحافظ على الأسرار التي علم بها عن طريق مهنته ولا يجوز له إفشاؤها إلا في الأحوال التالية:
1- إذا كان الإفشاء مقصودًا به الإبلاغ عن وفاة ناجمة عن حادث جنائي، أو الحيلولة دون ارتكاب جريمة ولا يجوز الإفشاء في هذه الحالة إلا للجهة الرسمية المختصة.
2- إذا كان الإفشاء بقصد التبليغ عن مرض سار أو معد.
3- إذا كان الإفشاء بقصد دفع الطبيب لاتهام موجه إليه من المريض أو ذويه يتعلق بكفايته أو بكيفية ممارسته لمهنته.
4- إذا وافق صاحب السر كتابة على إفشائه أو كان الإفشاء لذوي المريض مفيدًا لعلاجه.
5- إذا صدر له أمر بذلك من جهة قضائية.(7/1538)
إذن المريض في حالات النشر:
لا بد للحصول على إذن كتابي من المريض لنشر صوره. وللأسف نرى أجهزة الإعلام بالاتفاق مع بعض الأطباء تبادر إلى نشر صور المرضى. وذلك في الغالب للدعاية لمستشفى معين أو لطبيب معين أو باعتباره خبرًا جديدًا مثل إجراء عملية جديدة أو إجراء طبي جديد، وقد يكون هذا الإجراء يحدث لأول مرة في تلك المنطقة في العالم مثلًا زرع الكلى أو زرع القلب أو التلقيح الاصطناعي وطفل الأنبوب أو ولادة توائم متلاصقة. وفي هذه الحالات جميعًا يتم للأسف النشر في كثير من الأحيان دون إذن المريض أو وليه. وهو اعتداء على خصوصيات ذلك المريض ولا بد من إذنه أولًا وخاصة أن النشر يصحبه التصوير.
أما النشر في المجلات الطبية والمجالات العلمية فلا يحتاج إلى إذن إذا لم يكن فيه أي إشارة إلى اسم المريض أو صورته أو إذا كانت الصورة لأعضاء داخلية أو أعضاء لا يمكن تمييزها أما إذا كان النشر تصحبه صور لوجه الشخص فلا بد من تغطية عينيه بحيث لا يمكن التعرف عليه إلا في حالات موافقة صاحب الصورة على ذلك كتابة.
وكذلك الأمر بالنسبة لأفلام الفيديو التي تستخدم لتصوير المريض وتطور مرضه.
إذن المريض في حالات إجراء البحوث والتجارب الطبية:
إن الأبحاث الطبية وإجراء التجارب في الحقل الطبي أمر لا مندوحة عنه للتقدم الطبي ولا بد من توفر عدة شروط قبل إجراء هذه الأبحاث والتجارب على البشر ونوجزها فيما يلي:
1- أن يتم بحث هذه الطريقة الجديدة في التداوي سواء كانت بالعقاقير أو الجراحة أو الأشعة في حيوانات التجارب. وأن توضح هذه الأبحاث الفوائد المرجوة من هذا النوع الجديد من التداوي، كما توضح بصورة عامة مدى الأضرار والمخاطر.
2- أن لا يكون في استعمال هذه الطريقة خطر على حياة المتبرع بإجراء التجارب ولا خطر على جسمه.. أما الأخطار البعيدة والمحتملة والتي عادة ما تكون نادرة الحدوث فيمكن قبولها إذ لا يوجد دواء ولا وسيلة من وسائل التداوي بالعقاقير أو الجراحة أو الأشعة أو غيرها إلا ولها بعض الأضرار المحتملة وإن كانت نادرة الوقوع.
3- لا بد من إذن كتابي من الشخص المتبرع بإجراء الأبحاث الطبية عليه. ولا بد أن يعرف كافة الاحتمالات التي يمكن أن يتعرض لها أثناء هذه التجربة. ولا بد من شهود على موافقته.
4- لا بد أن يكون المتبرع بإجراء الفحوصات عليه بالغًا عاقلًا راشدًا، ولا يواجه ضغوطًا خاصة تفرض عليه القبول كأن يكون مسجونًا أو أسيرًا، أو أنه في حالة عوز وفقر فيقبل إجراء التجارب على بدنه في مقابل مالي أو غيره.
5- لا يجوز لأحد أن يجري التجارب على القاصر أو المجنون أو فاقد العقل ولا يقبل في ذلك موافقة وليه.(7/1539)
أنواع الإذن:
يكتفي بالإذن الشفوي لإجراء الفحص السريري والتحاليل المخبرية العادية مثل تحليل الدم والبول والبراز والبصاق والأشعة العادية التي ليس فيها أي تدخل في جسم المريض.
ينبغي الحصول على إذن كتابي من المريض البالغ العاقل أو إذن ولي المريض القاصر أو المجنون أو المغمى عليه لإجراء الأمور التالية:
1- أي عملية جراحية ما عدا خلع الأسنان ومعالجة الفم التي تتم في العيادة ودون الحاجة لدخول المستشفى أو إعطاء المخدر.
2- إعطاء أي مخدر وخاصة إذا كان التخدير عامًّا أو نصفيًّا.
3- إجراء الفحوصات فيها تدخل في جسم المريض (Invasire) مثل المناظير للجهاز الهضمي أو البولي أو التناسلي، ومثل أخذ عينة من الكبد أو الكلى أو الأمعاء أو الرئتين ... إلخ. ومثل القسطرة لشرايين القلب أو غيرها من الأوعية الدموية ومثل إجراء الأشعة التي فيها تدخل في جسم المريض.
4- إجراء أي علاج كيماوي لمعالجة السرطان أو علاج بالأشعة.
5- تصوير المريض بالآلة التصوير أو الفديو وخاصة إذا كان التصوير يشمل الوجه أما تصوير العمليات الجراحية أو غيرها التي لا توضح الوجه الذي يستدل به على الشخص فلا تحتاج إلى إذن.
ينبغي الإشهاد على إذن المريض باثنين من الشهود ولو كانا من ضمن الهيئة الطبية. ينبغي أن يتم شرح الإجراء المراد فعله للمريض شرحًا وافيًا وإذا كان المريض لا يستطيع فهم ذلك ينبغي أن يتم الشرح لولي أمره.
6- إذن المريض في الاستفادة من الأجزاء والأنسجة التي تم إزالتها في أثناء عملية أو بعد ولادة، كالاستفادة من المشيمة أو من السقط الذي نزل ميتًا لاستعماله في زرع الأعضاء أو تحنيطه ووضعه في محلول الفورمالين لدراسته وتعليم طلبة الطب ليتعرفوا على أنواع الأمراض.
ولا حاجة للإذن في الأنسجة والإفرازات التي قد تشكل خطرًا على الصحة العامة والتي يجب التخلص منها فينبغي الالتزام بالإجراءات التي تفرضها الأنظمة الصحية في هذه الحالة.(7/1540)
علاج الحالات الميئوس منها:
ذكرنا في أول المبحث جواز عدم التداوي وما ورد في ذلك من أحاديث نبوية صحيحة حتى أن الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله جعل عدم التداوي أفضل لمن كمل يقينه وورد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه رفض التداوي، وكذلك فعل أبو الدرداء رضي الله عنه. وذكرنا الحالات التي يجوز فيها عدم التداوي ومنها الحالات المرضية التي لا دواء لها معلوم أو أن دواءها فيه مخاطر كثيرة. أو أن فائدة التداوي مظنونة موهومة لا متيقنة ولا راجحة بغالب الظن.
وفي هذه الحالات والحالات الأخرى التي فصلناها هناك يحق للمريض أن يرفض التداوي متى ما كان بالغًا عاقلًا.
ولكن هل يحق لولي أمر ناقص الأهلية مثل الطفل أو المجنون أو المغمى عليه أن يقرر نيابة عن المصاب ترك التداوي؟!
وهل يحق للأطباء في المستشفيات وغيرها أن يقرروا أن هذه الحالة ميئوس منها فعلى سبيل المثال طفل مصاب باستسقاء كبير جدًّا في دماغه (موه الدماغ) ومصاب بأنواع من الشلل ولا أمل في إجراء العملية لأن الدماغ قد ضمر فهل تجري لمثل هذا الطفل العملية؟ هل إذا أصيب مثل هذا الطفل بالتهاب رئوي حاد يبادر إلى علاجه ومعلوم أن الالتهاب الرئوي يمكن مداواته ولكن حالة المريض الخطيرة لا يمكن مداواتها وإذا ترك المريض دون علاج للالتهاب الرئوي فإن المتوقع وفاته بسبب ذلك الالتهاب؟ فهل إذا وافق أولياء أمر هذا الطفل يترك دون علاج؟
وهناك الشيخ الكبير المصاب بأنواع من الشلل وجلطة القلب وهبوط شديد بالقلب وفشل في وظائف الكلى فهل يدخل إلى برنامج الغسيل الكلوي؟ ... وعدد الآلات محدود ويحتاج لها عدد ممن هم في مقتبل العمر الذين يعانون من الفشل الكلوي؟! وهل إذا أصيب مثل هذا الشخص بتوقف مفاجىء لضربات قلبه يتم إسعافه بإجراء الإسعافات المعتادة في مثل هذه الحالات والتي قد تستدعي استخدام أجهزة القلب أو التنفس الاصطناعي أم يترك مثل هذا الشخص ليلاقي حتفه؟!(7/1541)
وهناك المريض الذي أصيب في دماغه إصابات بالغة أدت إلى فقدان الوعي فقدانًا كاملًا وهو يعيش عن طريق التغذية بالأنبوب عبر المعدة والأنابيب ليفرز البول (القسطرة) . وقد يحتاج إلى المنفسة من حين لآخر. أو يحتاج لها باستمرار ولا أمل في استعادته الوعي والإدراك ولا أمل في تحسين حالته ... ويتعرض مثل هذا الشخص لالتهاب رئوي حاد أو لجلطة في القلب وتوقف في نبض القلب فهل يتم إسعافه أو يترك؟
في كثير من المستشفيات في مختلف بلاد العالم لجان أخلاقية مكونة من الأطباء ورجال دين، ورجال بارزون في المجتمع ويوكل لهذه اللجان في كل مستشفى ليقرروا ما يفعلونه في كل حالة على حدة، لأن كل حالة تختلف عن الأخرى في تفاصيلها.
وفي بعض المستشفيات يقرر الأطباء المسؤولون عن المريض ما إذا كانوا سيقومون بإجراءات الإسعاف والمعالجة إذا حدث توقف مفاجىء للقلب مثلًا.
والأسئلة المطروحة هي:
1- هل من حق المريض العاقل البالغ أن يقرر كتابة أنه لا يريد إجراء نوع معين من التداوي فمثلًا بعد أن يعرف المريض حالته يكتب أو يقول أنه لا يريد أي تدخل طبي إذا توقف قلبه عن النبض ... إلخ؟ ويبدو أنه لا إشكال في هذه النقطة كما سبق تقريره.
2- هل من حق ولي أمر المريض القاصر أو الفاقد الوعي أو المجنون أن يقرر ذلك بالنيابة عنه؟.
3- هل من حق الأطباء أو لجنة منهم أو لجنة أخلاقية مكونة من الأطباء وغيرهم أن تقرر أن هذا المريض ميئوس من حالته وبالتالي لن يقوم الأطباء بإجراءات الإسعاف عند توقف قلبه عن النبض مثلًا؟
هذا مع العلم أن إنهاء حياة المريض الميئوس منه بصورة إيجابية أمر ترفضه الشريعة والقوانين ويعتبر من يجهز على المريض قاتلًا يستوجب القصاص.
وقد جاء في المادة 21 من نظام مزاولة مهنة الطب في المملكة العربية السعودية ما يلي: (ولا يجوز بأي حال من الأحوال إنهاء حالة مريض ميئوس من شفائه طبيًا ولو كان بناء على طلبه أو طلب ذويه) .
فهل هناك فرق بين ما يسمى قتل الرحمة الإيجابي (Positive Euthansia) وهو قتل فعلي للمريض الميئوس منه وبين قتل الرحمة السلبي (Passive Euthanasia) وهو ترك المريض بدون دواء لما يعرض له من حالات حتى ينتهي أجله؟!
الدكتور محمد علي البار(7/1542)
حكم التداوي في الإسلام
إعداد
الدكتور علي محمد يوسف المحمدي
المدرس بقسم الفقه والأصول
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد اهتم الإسلام بصحة المسلم اهتمامًا منقطع النظير، وظهر هذا الاهتمام في نواح شتى، فمثلًا: في الصلاة يبدأ بالطهارة التي يغسل فيها كل يوم خمس مرات الأعضاء التي تتعرض للأتربة والعرق، كما جعل من شروط صحتها نظافة الثوب والبدن والمكان فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1) .
وفي الصحيح ((الطهور شطر الإيمان)) (2) . ولما كان الفم ممر العبور إلى البدن أوصى بنظافته فقال: ((السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)) (3) . وأوصى بإزالة ما يساعد على تراكم الأوساخ على الجسم فقال: ((خمس من الفطرة: الاستحداد والختان وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظافر)) (4) . كما دعا إلى تقوية الأبدان بالرياضة والعمل، وحذر من الكسل وأنكر على من حرم على نفسه الاستفادة من الطيبات، سواء كان تدينًا أو شحًّا، فقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (5) .
وفي مقابل ذلك حماه من الشره والإسراف في أنواع الملذات خوفًا من الإضرار بالبدن، فقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (6) .
كما نهى عن إرهاق البدن، ودعا إلى الاعتدال، وقال: ((أنا أعلمكم بالله وأتقاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (7) . واعتنى بالرياضة، ومن صورها الصلاة التي تؤدى أركانها بأوضاع صحيحة تقي الجسم من المعصية الضارة بقوام الإنسان، إضافة إلى كونها عبادة خالصة لله تعالى.
كما اعتنى الإسلام بالصحة النفسية، لأن الإنسان في الإسلام روح وجسد، وأن كليهما يؤثر في الآخر قوة وضعفًا، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه القوة الروحية في قوله لعمار حينما كان يحمل حجرين عند بناء مسجده صلى الله عليه وسلم قال له: ((إن عمارًا مليء إيمانًا من قرنه إلى قدمه)) (8) . وبهذه القوة الروحية كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل (9) الصوم أيامًا عديدة (10) .
__________
(1) سورة البقرة: الآية 222.
(2) رواه مسلم، انظر صحيح مسلم: 1/203، كتاب الطهارة.
(3) رواه البخاري في صحيحه تعليقًا، انظر فتح الباري: 4/158؛ ورواه أحمد: 1/3، 47، 62، 146؛ وابن ماجه: 1/106، ويراجع مجمع الزوائد: 1/220.
(4) رواه البخاري، انظر فتح الباري: 10/334؛ ومسلم: 1/221.
(5) سورة الأعراف: الآية 32.
(6) سورة الأعراف: الآية 31.
(7) رواه البخاري، انظر فتح الباري: 9/104؛ وصحيح مسلم: 2/102.
(8) قال في مجمع الزوائد: 9/295، رواه البزاز ورجاله الصحاح، وتراجع الإصابة: 2/512.
(9) متفق عليه، انظر جامع الأصول: 6/379.
(10) بتصرف، من كتاب شيخنا الدكتور القرضاوي (فتاوى معاصرة 587 - 593.(7/1543)
وقال الحموي:.. وكان يديم التطبب في حالة صحته ومرضه، أما في صحته فباستعمال التدبير الحافظ لها من الرياضة، وقلة المتناول، وأكله الرطب بالقثاء والرطب بالبطيخ، ويقول: يدفع حر هذا برد هذا، وبرد هذا حر هذا، وإكحال عينيه بالإثمد كل ليلة عند النوم، وتأخير صلاة الظهر في زمن الحر القوي، ويقول: أبردوا بها وأما تداويه في حالة مرضه فثابت بما روي من ذلك في الأخبار الصحيحة، منها عن عروة عن عائشة قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه، وكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم فيصفون له فنعالجه) (1) .
ولكن مع هذه العناية بصحة البدن، والتي منها التداوي، لأن التداوي وسيلة من وسائل المحافظة عليه، إلا أن الفقهاء اختلفوا في هذه المسألة وسنعرض لبيان موقف الفقهاء من حكم التداوي مع عرض أدلتهم ومناقشتها قصدنا في ذلك الوصول إلى الحق، والوقوف في صف من يؤيده الدليل، وبما أن مسألة التداوي متشعبة فإني سأبذل قصارى جهدي في عرض جميع جوانبها مع تجنب الاختصار المخل والتطويل الممل.
التعريف بالتداوي:
رأيت أن من المناسب أن أذكر تعريف المصطلحات الطبية لنكون على علم بما يرد منها أثناء البحث.
الطب:
جاء في ((المحكم)) الطب: علاج الجسم والنفس، ورجل طب وطبيب، وقالوا: إن كنت ذا طب بكسر الطاء وطب وطب فطب وطب لعينك، وفي الصحاح وجمع القلة: أطبة، والكثير أطباء، تقول ما كنت طبيبًا ولقد طببت بالكسر، والمتطبب الذي يتعاطى علم الطب وفلان يستطب لوجعه أي يستوصف الدواء لما يصلح لدائه وفي ((المحكم)) : والطب والطبيب: الحاذق من الرجال، الماهر بعلمه (2) .
وقال ابن مفلح الطب بكسر الطاء في اللغة على معان:
أحدهما: السحر والمطبوب المسحور.
والثاني: الإصلاح، يقال: طببته إذا أصلحته، ويقال: له طب بالأمور أي لطف وسياسة.
والثالث: الحذق، كل حاذق طبيب عند العرب، وأصل الطب الحذق بالأشياء والمهارة بها.
الرابع: يقال: الطب لنفس الدواء.
والخامس: العادة، يقال: ليس ذلك بطبي أي عادتي.
__________
(1) التراتيب الإدارية: 1/455.
(2) تخريج الدلالات السماعية: ص678؛ والنهاية في غريب الحديث: 3/110؛ وترتيب القاموس المحيط: 3/50.(7/1544)
والطب بفتح الطاء العالم بالأمور وكذلك الطبيب يقال له: طب (1) .
والحاصل أن الطب بالكسر يقال بالاشتراك للمداوي وللتداوي وللداء أيضًا فهو من الأضداد وهو علم يعرف به أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصح ويزول لتحفظ الصحة حاصلة وتسترد زائلة.
وقال القسطلاني: الطب علاج الجسم والنفس والرفق والسحر، وبالكسر الشهوة والإرادة والشأن والعادة، وبالفتح الماهر الحاذق بعمله كالطبيب، والطبيب الحاذق في كل شيء، وخص بها المعالج في العرف.
والطب نوعان:
طب القلوب ومعالجتها بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى.
وطب الأبدان ومنه ما جاء عن الشارع صلى الله عليه وسلم ومنه ما جاء عن غيره، وأكثره عن التجربة.
وهو قسمان: ما لا يحتاج إلى نظر وفكر كدفع الجوع والعطش وما يحتاج إليهما كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال.
المرض: خروج الجسم عن المجرى الطبيعي، والمرض يكون في البدن، وقد يطلق المرض على مرض القلب، إما للشبهة (في قلوبهم مرض) وإما للشهوة (فيطمع الذي في قلبه مرض) (2) .
اللدود: بفتح اللام الدواء الذي في أحد جانبي فم المريض وهما كديداه. وجمعه ألده، وقد لده به يلده لدًّا ولدودا بضم اللام ولده إياه (3) .
حكم التداوي:
اختلف الفقهاء في حكم التداوي على عدة أقوال:
القول الأول: لا يجوز التداوي وقال به غلاة الصوفية (4) .
وعللوا رأيهم: بأن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء، فالواجب على المؤمن أن يترك التداوي اعتصامًا بالله وتوكلًا عليه وثقة به، وانقطاعًا إليه، فإن الله قد علم أيام المرض وأيام الصحة فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (5) .
__________
(1) الآداب الشرعية: 3/94، 95؛ وزاد المعاد: 2/139؛ ومعالم القربة: ص254.
(2) لامع الدراري: 9/444؛ وفي تعريف المرض والفواكه الدواني: 2/439.
(3) تخريج الدلالات السماعية، للتلمساني: ص679.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي: 14/191؛ وطرح التثريب، للعراقي: 8/184.
(5) سورة الحديد: الآية 22.(7/1545)
فما دام كل شيء بقضاء وقدر فلا حاجة إلى التداوي (1) .
ويمكن أن يستدل لهم بما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من اكتوى أو استرقى فقد برىء من التوكل)) (2) وبحديث المغيرة بن شعبة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لم يتوكل من أرقى واسترقى)) (3) .
كما استدلوا أيضًا بما روى ابن مسعود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) (4) وبحديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أبالي ما أتيت إن شربت ترياقًا تميمة أو قلت الشعر من قبل نفس)) (5) .
وقد أجاب العلماء عن هذه الأحاديث بعدة أجوبة منها أن هذا فيمن فعل معتمدًا عليه لا على الله أو لخطر الاكتواء، أو يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قصد إلى نوع معين من الكي مكروه بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أبيًّا يوم الأحزاب على أكحله لما رمي، أو يقصد به كى الصحيح لئلا يفعل، كما يرد على الصوفية بما سبق، وبقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] فهو دليل على جواز التداوي بشرب الدواء، كما أن الأحاديث التي استدل بها القائلون بالتداوي صريحة في التداوي، وحجة على أصحاب هذا القول (6) .
القول الثاني: يباح التداوي وتركه أفضل، وهو المنصوص عن أحمد (7) ، ونقل عنه أنه قال: أحب لمن اعتقد التوكل وسلك هذا الطريق ترك التداوي من شرب الدواء وغيره، وقد كانت تكون به علل فلا يخبر الطبيب بها إذا سأله.
وفي رواية المروزي: العلاج رخصة وتركه درجة أعلى منه (8) ، وبنحو هذا قال النووي (9) .
وعللوا رأيهم: بأن تركه تفضلًا واختيارًا لما اختار الله ورضي به وتسليمًا له.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 17/194، 10/139.
(2) تحفة الأحوذي: 6/214، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال المباركفوري: (وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك ... ) ، وانظر جامع الأصول: 7/516؛ والسنن الكبرى، للبيهقي: 9/341؛ والمجموع، للنووي: 9/53؛ والآداب الشرعية: 2/359، وقال: وإسناده ثقات.
(3) الآداب الشرعية: 2/359، وقال: إسناده جيد.
(4) جامع الأصول: 7/574، وقال: أخرجه أبو داود رقم الحديث (3883) .
(5) جامع الأصول: 7/516، وقال: أخرجه أبو داود رقم الحديث (3869) .
(6) انظر الجامع لأحكام القرآن: 17/194، 10/139؛ فيض القدير: 6/82؛ وفتح الباري: 10/135، 155.
(7) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: 21/564.
(8) الآداب الشرعية، لابن مفلح: 2/358؛ وكشاف القناع: 2/76.
(9) المجموع: 5/96؛ وانظر النووي على مسلم: 3/90؛ والروضة الندية: 2/329، 330؛ وإرشاد الساري: 8/33.(7/1546)
كما استدلوا بما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب، وهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)) (1) ولحديث ابن عباس عن الجارية التي كانت تصرع، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها، فقال: ((إن أحببت أن تصبري ولك الجنة، وإن أحببت دعوت الله أن يشفيك)) ، فقالت: (بل أصبر، ولكني أنكشف، فادع الله لي أن لا أنكشف، فدعا لها أن لا تنكشف) (2) .
كما استدلوا بأن خَلقا من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون، بل فيهم من اختار المرض، كأبي بن كعب، وأبي ذر، ومع هذا فلم ينكر عليهم ترك التداوي (3) .
ورد بأن ترك هؤلاء يعود - كما قال أبو طالب المكي - إلى الخشية من أن يهجس في نفوسهم أن الشفاء والنفع من فعل الدواء وذلك من الشرك (4) .
القول الثالث: هو القول باستحباب التداوي وأن فعله أفضل من تركه وبه قال الشافعية وجمهور السلف وعامة الخلف، وقطع به ابن الجوزي وابن هبيرة وهو قول الحنفية والمالكية (5)
__________
(1) أخرجاه في الصحيحين، انظر فتح الباري: 11/305؛ واللفظ للبخاري، وصحيح مسلم: 3/88؛ ومجمع الزوائد: 10/406.
(2) الحديث متفق عليه، نيل الأوطار: 8/208.
(3) فتاوى ابن تيمية: 24/269؛ وقوت القلوب: 2/22.
(4) قوت القلوب: 2/22.
(5) الآداب الشرعية: 2/359؛ والنووي على مسلم: 3/90؛ والفتاوى الهندية: 5/354؛ والزرقاني على الموطأ: 4/329؛ والمجموع: 5/96؛ وكشاف القناع: 2/76؛ والتمهيد: 2/227، قال: وفي معناها (الحجامة) إباحة التداوي كله بما يؤلم وبما لا يؤلم إذا كان يرجى نفعه ... وطرح التثريب، للعراقي: 8/182؛ وفتاوى ابن تيمية: 21/564، وقال الخطابي: وقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب وأباح العلاج والتداوي، انظر معالم السنن: 4/229.(7/1547)
واحتج هؤلاء لرأيهم بما وقع في أحاديث كثيرة من ذكره صلى الله عليه وسلم لمنافع الأدوية والأطعمة كالحبة السوداء والقسط والصبر وغير ذلك، وبأنه صلى الله عليه وسلم تداوى، وبإخبار عائشة - رضي الله عنها - بكثرة تداويه، وبما علم من الاستشفاء برقاه (1) ، والأحاديث الدالة على التداوي كثيرة منها:
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء)) (2) .
صحيح مسلم: عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لكل داء دواء، فإذا أصيب دواءُ الداءِ برىء بإذن الله عز وجل)) (3) .
وفي الحديث أن الصحابة قالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ قال: ((تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير الهرم)) (4) .
القول الرابع: هو القول بأن التداوي مباح مطلقًا وبه قال جمهور العلماء ومنهم مالك حيث نقل عنه أنه قال: (لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه) (5) .
واستدلوا بما روي عن أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: ((نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحدًا)) ، فقالوا: يا رسول الله ما هو؟ قال: ((الهرم)) (6) .
وقالوا: إن في هذا الحديث إثبات الطب والعلاج، وأن التداوي مباح غير مكروه قاله الخطابي، وقال العيني: (فيه إباحة التداوي وجواز الطب) (7) .
وقال القرطبي: دليل على جواز التعالج بشرب الدواء وغير ذلك خلافًا لمن كره ذلك من جلة العلماء، ثم أورد عدة أحاديث في الجواز.. ثم ذكر تداوي بعض الصحابة، ثم قال: وعلى إباحة التداوي والاسترقاء جمهور العلماء (8) .
ويمكن حمل النقول المخالفة لهذا على حالة الاختيار، والجواز على حالة الاضطرار فيتفق النقلان (9) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: 3/90.
(2) فتح الباري: 10/134؛ واللفظ للبخاري، والسنن الكبرى للبيهقي: 9/343؛ وص349، باب ما جاء في إباحة التداوي وقال الشافعي: والأخبار ... فيما تداوى به، وأمر بالتداوي به كثيرة.
(3) النووي على مسلم: 14/191؛ واللفظ لمسلم؛ والتاج الجامع للأصول: 3/198؛ وجامع الأصول: 7/513، وعنوان الفصل بجواز التداوي.
(4) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد صحيحة، وقال الترمذي حديث حسن صحيح، المجموع: 5:96؛ وجامع الأصول: 7/513؛ وتحفة الأحوذي: 6/190، كتاب الطب.
(5) تحفة الأحوذي: 9/190، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(6) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 10/199؛ والفواكه الدواني: 2/442؛ وانظر فتح الباري: 10/174 - 178؛ والنووي على مسلم: 14/19؛ ومعالم السنن: 4/216؛ والروضة الندية: 2/329.
(7) تحفة الأحوذي: 6/190؛ وانظر نحو هذا المعنى في فتح الباري: 7/373.
(8) الجامع لأحكام القرآن: 18/197 - 199.
(9) الفواكه الدواني: 2/442؛ ومعالم السنن: 4/219.(7/1548)
القول الخامس: هو القول بالوجوب حيث ذهبت طائفة من أصحاب الشافعي وبعض الحنابلة إلى أنه واجب.
وزاد بعضهم: إن ظن نفعه (1) ، وبنحو هذا قال الحنفية: إن كان السبب المزيل للمرض مقطوعًا به كالماء المزيل لضرر العطش والخبز المزيل لضرر الجوع، فتركه حرام عند خوف الموت (2) .
روى الخلال في كتاب الطب بإسناده عن عروة بن الزبير عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه، فكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم فيصفون له فنعالجه) (3) .
ولحديث أنس - رضي الله عنه: (إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا) (4) .
الخلاصة والترجيح:
وبعد عرض تلك الأدلة يتبين لنا رجحان قول القائلين بوجوب التداوي أو على الأقل باستحبابه لورود الأمر بذلك وأقل مراتب الأمر الاستحباب.
ولا يمكن الأخذ بما ذهب إليه أصحاب القول الأول من القول بعدم جواز التداوي لأنه يخالف ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من عموم الأمر بالتداوي، وترغيبه في ذلك في مواضع كثيرة، وأن الأخذ بالتداوي هو من باب الأخذ بالأسباب وحصول الشفاء بالدواء كدفع الجوع بالأكل وكدفع العطش بالشرب، وأن التداوي لا ينافي التوكل على الله تعالى لأن المسلم حين يتناول الدواء فإنه يعتقد بقلبه أن الشفاء لا يكون إلا بإذن الله تعالى وبتقديره، وإن الأدوية لا تنفع بذاتها بل بما قدره الله تعالى فيها، وإلا فكم من مريض انقلب دواؤه داء؟.
كما أنه يمكن حمل النهي على سبيل الاحتياط والتنزيه أو عما لا يتعين طريقًا إلى الشفاء.
ومما يشهد لعدم تنافي التداوي مع الإيمان بالقدر ما روى أبو خزامة عن أبيه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال: هي من قدر الله) (5) .
فالحديث صريح في إثبات الأسباب والمسببات، ورد على المتعللين بمخالفته للتوكل لأن المؤمن ينطلق من معتقد أن المرض والشفاء بقدر الله تعالى وأن من أسباب الشفاء هو الأخذ بالتداوي.
__________
(1) الآداب الشرعية: 2/361؛ وفتاوى ابن تيمية: 24/269، وفيه وإنما أوجبه طائفة قليلة كما قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد: 21/564.
(2) الفتاوى الهندية: 5/355؛ إحياء علوم الدين: 4/276؛ والشرواني وابن القاسم: 3/182؛ وفتاوى ابن تيمية: 21/564.
(3) تخريج الدلالات السماعية: ص677.
(4) عون المعبود: 10/334؛ وجامع الأصول: 7/513، وقال رواه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم، وتحفة الأحوذي: 6/190، باب ما جاء في الدواء والحث عليه.
(5) تحفة الأحوذي: 6/233، وقال: هذا حديث حسن. نيل الأوطار: 8/208.(7/1549)
وقد يكون مرد القائلين بأولوية ترك التداوي إلى ما عهدوه في عصرهم حيث كان التداوي بالوسائل البدائية والطرق التقليدية التي لم تصل إلى مستوى يثق به الناس، بل أغلبها كانت ظنية، لذا جاء التردد عنهم في الأخذ بها وكذا ما ورد عن بعض السلف في تركه التداوي يعود إلى ظنه أنه وصل إلى مرحلة لا تجدي معها الأدوية (1) ، أو لعلمه أن هذا المرض لم يصل فيه الطب بعد إلى دواء ناجح، أو تحمل أقوالهم على أنها قيلت كرد على من اعتقد الشفاء في الأدوية وعلق قلبه بها، وتناسى الشافي الحقيقي وهو الله فجاءت أقوالهم تذكيرًا لأمثال هؤلاء أو قد يكون هذا التارك للتداوي متألمًا لذنوبه أكثر من تألم بدنه بالمرض.
وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم في كمال التوكل على الله، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب، فقد ظاهر بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وخندق حول المدينة.. وتعاطى أسباب الأكل والشرب وادخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء وهو أحق الخلق أن يحصل له ذلك.
فبين بسنته القولية والفعلية أن الاحتراز لا يدفع التوكل.
ونجد الأمر بالتداوي والمحافظة على الدين واضحًا في قوله صلى الله عليه وسلم تداووا لما فيه من الأخذ بالأسباب واقتداء به صلى الله عليه وسلم ويتأكد الأمر أكثر في حق من يقومون على مصالح العباد.
ولذا قال المباركفوري بعد إيراده الحديث (تداووا) فيه إثبات الطب والعلاج وأن التداوي مباح غير مكروه كما ذهب إليه بعض الناس، ونقل عن العيني قوله: فيه إباحة التداوي وجواز الطب وهو رد (2) على الصوفية: أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء ولا يجوز له مداواته، وهو خلاف ما أباحه الشارع، إذ إنه لم يخلق داء إلا وضع له شفاء أو دواء، وإنزال الدواء أمارة جواز التداوي، وفي حديث زيد بن أرقم قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتداوى من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت (3) .
__________
(1) انظر الفتاوى الكبرى الفقهية، للهيثمي: 4/109.
(2) بتصرف من فتح الباري: 10/135، 136، 155؛ والطب النبوي والعلم الحديث: 3/18؛ ونيل الأوطار: 8/209.
(3) تحفة الأحوذي: 6/190، 352؛ وانظر الفواكه الدواني: 2/440.(7/1550)
ولله در النووي حينما رجح القول بالتداوي وأنه قول جمهور السلف قال: (وحجة العلماء هذه الأحاديث ويعتقدون أن الله تعالى هو الفاعل، وأن التداوي هو أيضًا من قدر الله، وهذا كالأمر بالدعاء، وكالأمر بقتال الكفار، وبالتحصن ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة، مع أن الأجل لا يتغير والمقادير لا تتأخر ولا تتقدم عن أوقاتها ولا بد من وقوع المقدرات) (1) .
ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن علمها بالطب قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم عند آخر عمره فكانت تقدم إليه وفود العرب من كل وجه فينعت لهم الإنعات، فكنت أعالجه) (2) .
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ((كان يديم التطبيب في حال صحته ومرضه، وأمر بالمداواة في عدة أحاديث صحيحة كما أمر أبي بن كعب أن يأتي الطبيب فقطع منه عرقًا ثم كواه عليه)) (3) .
وكان يراعي صفات الأطعمة وطبائعها، ويراعي استعمالها على قاعدة الطب.
وبلغ من اهتمامه بهذا الأمر أن منع صلى الله عليه وسلم من ليس أهلًا لهذا العمل من التطبيب وجعله ضامنًا لما يحدث من ضرر بالمريض (4) . وقد فهم الصحابة أن ضمان النفس مطلوبة ولذا امتنع عمرو بن العاص من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب خوفًا على نفسه منه وتيمم ولما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قرر قوله (5) .
ثم أورد ابن القيم جملة من الأحاديث الصحيحة وقال: في هذه الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والبرد بأضدادها، بل لا يتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس المتوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا، ولا توكله عجزًا (6) .
__________
(1) النووي على مسلم: 14/191.
(2) صفة الصفوة، لابن الجوزي: 2/33؛ وتخريج الدلالات السماعية: ص677.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي: 14/191.
(4) الطب النبوي، لابن القيم: ص40 - 41.
(5) الجامع لأحكام القرآن: 5/156.
(6) الطب النبوي: ص105.(7/1551)
وأرى أن التداوي يدخل في جملة ما أمر به المسلم من الحفاظ على بدنه، حيث أبيحت له الميتة وهي حرام - في سبيل الإبقاء على حياته حتى قال الفقهاء: إن الأكل منها واجب فمن اضطر إلى الميتة ولم يأكل حتى مات دخل النار، وهذا وإن لم ينطبق على جميع الأدوية إذ لا يعلم حصول الشفاء بها، ولكن ما ثبت بالعلم والتجربة لا يجوز للمسلم أن يمتنع عن التداوي به وإلا ارتكب ظلمًا في حق نفسه بمنعها من الشفاء وعرضها فريسة للأمراض.
ولا أوافق رأي الحنفية القائلين بأنه لو امتنع فمات لا يأثم لأنه مظنون (1) . لأن الدواء إذا تيقن طريقًا للعلاج تعين عليه حفظ صحته به، وقد يكون قولهم هذا مبنيًّا على ما كان عليه الطب في عصرهم حيث أن أغلب الأدوية كانت بدائية وكثيرًا منها كان وصفات متوارثة لا تعطي نتيجة فعالة في أغلب الأحيان وعلى هذا فلا أوافق ابن تيمية فيما ذهب إليه من أن (قول الأطباء: أنه لا يبرأ من هذا المرض إلا بهذا الدواء المعين. فهذا قول جاهل، لا يقوله من يعلم الطب أصلًا، فضلًا عمن يعرف الله ورسوله، فإن الشفاء ليس في سبب معين يوجبه في العادة كما للشبع سبب معين يوجبه في العادة، إذ من الناس من يشفيه الله بلا دواء) (2) .
بل أقول: إن كلامه مبني على ما كان عليه الطب في عصره، وفي قائمة الأدوية ما يقطع بكونها دواء لبعض الأمراض نتيجة التجربة والخبرة الطويلة، حتى أصبحت هذه الأدوية في حكم المقطوع بها والذي لا يعتبر تركه من التوكل، بل تركه حرام عند خوف الموت كما ذهب إليه كثير من الحنفية (3) والشافعية (4) ، ولذا أرجح ما ذهب إليه أصحاب القول الرابع وهم بعض الشافعية والحنفية لما ذكرت وأن المسلم في كل أحواله يعتقد أن الله تعالى هو الفاعل وأن التداوي أيضًا من قدر الله تعالى ولن يكون في ملكه إلا ما يريد.
ولذا قال بعضهم: ولا ينقص التداوي توكل العبد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به وأخبر عن حكمة الله تعالى فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه، وجهله من جهله إلا السام يعني الموت)) . وقال صلى الله عليه وسلم: تداووا عباد الله.. وكان يحتجم ويشرب الدواء، وربما كان المتداوي فاضلًا لمعنيين أحدهما: أن ينوي اتباع السنة والأخذ برخصة الله وقبول ما جاءت به الحنيفية السمحة، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم غير واحد من الصحابة بالتداوي والحمية.. وهو أعلى المتوكلين..
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 5/249.
(2) فتاوى ابن تيمية: 24/274.
(3) الفتاوى الهندية: ص335 وفيه أن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى مقطوع، وموهوم ثم قال: (أما المقطوع به فليس تركه من التوكل بل تركه حرام عند خوف الموت) .
(4) الإحياء للغزالي: 4/276.(7/1552)
فإن قيل: إنما تداوى لغيره وليسن ذلك، قلنا: فلا نرغب عن سنته ولا نزهد في بغيته إذا كان فعل ذلك لنا لئلا يكون فعلًا لغوًا، وتكون الرغبة عن سنته إلى توهم حقيقة التوكل طعنًا في الشرع..
والمعنى الثاني الذي يفضل به المتداوي، أنه يحب سرعة البرء للطاعة، لأن العلل قاطعة عن التصرف في العمل ومشغلة للنفس، عن الشغل بالآخرة (1) .
وسأذكر عند الكلام على طرق العلاج المختلفة عشرات الأحاديث التي تحث على التداوي وتدلنا على طرق العلاج المختلفة التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ومن ذلك أنشئت المستشفيات في حواضر العالم الإسلامي وجعلوا فيها مئات الأطباء ووقفوا الأموال الكثيرة على الأبحاث الطبية.
وقال بعضهم: الطب علم نظري وعملي، أباحت الشريعة تعلمه لما فيه من حفظ الصحة ودفع العلل والأمراض عن هذه البنية الشريفة (2) .
وكأني بابن تيمية يقف حكمًا بين أصحاب الأقوال المختلفة حين حقق القول من أن التداوي منه ما هو محرم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو مباح، ومنه ما هو مستحب، ومنه ما هو واجب، وهو ما يعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره (3) .
حكم الاختلاف في الجنس أو العقيدة بين المريض والطبيب:
والحديث عن هذا الموضوع يتناول:
أولًا: عن حكم تطبيب الرجل للمرأة والعكس.
ثانيًا: حكم تطبيب غير المسلم للمسلم والعكس وهذا ما أعني به الاختلاف في العقيدة، وسأبدأ حديثي بالكلام على النوع الأول وهو:
حكم تطبيب المرأة للرجل:
رغم أن الإسلام فتح المجال أمام المرأة للتعليم وسهل لها طرق الوصول إليه بدءًا من ارتياد المساجد للصلاة وسماع القرآن ومجالس العلم، ضمن الحدود الشرعية التي تشترط سلامة الوسيلة والغاية، إلا أن المتقنات لعلم الطب وأصوله كن قلة ولعل سبب ذلك يعود إلى اندراج مهنة الطب في فروض الكفاية لذا اكتفوا بذلك العدد القليل الذي قام بها من النساء كما أن لمكانة المرأة في الإسلام دورًا كبيرًا في انصرافها عن هذه المهنة. وذلك لشرف القرار في المنزل وعدم العمل ودلالة على دلال الزوج وإعزاز المزوج لها.
__________
(1) قوت القلوب: 2/21.
(2) معالم القربة في أحكام الحسبة: ص253.
(3) فتاوى ابن تيمية: 37/471.(7/1553)
فهذا الوضع الاجتماعي لم يكن يسمح لها أن تعرض نفسها إلى الصعوبات الموجودة في طلب العلم، كما أن تعلم المرأة لمثل هذه العلوم المختصة كان يتم عن طريق أحد ذويها أو على يد معلم خاص، وكلا هذين الأمرين لا يتيسران للجمهرة العظمى من النساء (1) ، ومع ذلك فقد برع في صناعة الطب عدد من النساء حفظ لنا التاريخ بعضهن ووجد في عصر النبوة طبيبات مسلمات، فقد كانت عائشة على علم بالطب، كما روى لنا عروة أنه كان يقول لعائشة - رضي الله عنها - يا أمتاه لا أعجب من فقهك، أقول: (زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة أبي بكر ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول:ابنة أبى بكر وكان من أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب، قالت: أي عرية إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم عند آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات، فكنت أعالجه، فمن ثم) (2) .
كما عرفت بالطب رفيدة الأسلمية التي كانت تداوي الجرحى، وهي التي داوت جرح سعد بن معاذ حين أصيب في أكحله (3) ، ومن الطبيبات أيضًا الربيع بنت معوذ الأنصارية الصحابية، كانت تداوي الجرحى، وكذلك أم سنان وغيرهن كثيرات (4) ، واستمر إسهام الطبيبات المسلمات عبر عصور الحضارة الإسلامية (5) إلى اليوم.
وأما فيما يتعلق بالأحكام الفقهية من حيث مداواة المرأة للرجل، فقد ذهبوا في الجملة إلى الجواز في ظل قاعدة ((الضرورات تبيح المحظورات)) مع اشتراط بعض القيود، كالأصل عدم جواز التداوي إلا بين المحارم، لما يترتب عليه من النظر المحرم أو الخلوة المحرمة بالأجنبية والأجنبي، لذا نص بعضهم على ذلك بقوله: (وإن لم يوجد من يطبه سوى امرأة فلها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظره حتى فرجيه ... ) (6) . ويمكن أن يستدل لهؤلاء القائلين بجواز تطبيب المرأة للرجل بحديث الربيع بنت معوذ قالت: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلي) (7) ، وقد بوب عليه البخاري بقوله: باب مداواة النساء الجرحى في الغزو، ثم قال: وفيه جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجل الأجنبي للضرورة (8) .
ويستدل لجواز مداواة المرأة للمحرم بما صح من مداواة فاطمة عليها السلام للنبي صلى الله عليه وسلم حين أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم (9) .
__________
(1) الطب عند العرب والمسلمين، د. محمود الحاج: ص88 - 89 نقلًا عن تاريخ التربية، للدكتور أحمد شلبي.
(2) تخرج الدلالات السماعية، للتلمساني: ص677؛ والتراتيب الإدارية: 1/455.
(3) الأكحل: عرق يبين في ذراع الإنسان، غريب الحديث لابن الجوزي: 2/282؛ وتهذيب التهذيب: 12/418 في ترجمة رفيدة.
(4) الطب عند العرب والمسلمين: ص58.
(5) الطب عند العرب والمسلمين: ص88.
(6) الآداب الشرعية: 2/464.
(7) فتح الباري: 6/80 كتاب الجهاد.
(8) فتح الباري: 6/80 كتاب الجهاد.
(9) فتح الباري: 7/372 كتاب المغازي.(7/1554)
كما يستدل لهم بما روي من حديث عائشة - رضي الله عنها - (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن) (1) ، وقد بوب عليه البخاري بقوله: باب المرأة ترقي الرجل.
وكذلك بما تقدم عن رفيدة الأسلمية وأنها كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كان به ضيعة من المسلمين (2) .
ومن هؤلاء المجيزين من خص ذلك بذوات المحارم، ثم بالمتجالات (3) منهن، معللًا بأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه، بل يقشعر منه الجلد، كما أضافوا أن تكون المداواة عند الضرورة بغير مس ولا مباشرة مستدلًا على ذلك بما اتفق عليه الفقهاء من أن المرأة إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسلها، أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس، بل يغسلها من وراء حائل في قول بعضهم، وفي قول الأكثر منهم (4) .
ومنهم من لم يشترط تلك الشروط، ورد عليهم بأن هناك فرقًا بين حال المداواة وتغسيل الميت، وهو أن الغسل عبادة، والمداواة ضرورة والضرورات تبيح المحظورات قاله ابن المنير (5) .
وذكر التلمساني في باب الرقي ما يدل على اشتغال النساء بمداواة الرجال (6) .
(أ) مداواة المرأة للمرأة:
هناك أحاديث تدل على جواز مداواة المرأة للمرأة فمن ذلك ما رواه أبو داود عن الشفاء بنت عبد الله، قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة رضي الله عنها، فقال: (ألا تعلمين حفصة رقية النملة، كما علمتها الكتابة) (7) .
وفي الصحيحين أن أسماء كانت إذا أتيت بالمرأة قد حمت تدعو لها، أخذت الماء فصبت بينها وبين جيبها، وقالت: (كان رسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نبردها بالماء) (8) .
__________
(1) فتح الباري: 7/372 كتاب المغازي.
(2) فتح الباري: 10/210 كتاب الطب.
(3) يقال امرأة تجالت: أسنت وكبرت، النهاية لابن الأثير: 1/288؛ والمعجم الوسيط: 1/131.
(4) فتح الباري: 6/80.
(5) فتح الباري: 6/80.
(6) تخريج الدلالات السماعية، للتلمساني: ص686.
(7) سنن أبي داود - كتاب الطب - ما جاء في الرقي.
(8) جامع الأصول: 7/528.(7/1555)
(ب) مداواة الرجل للمرأة:
وكذلك أجاز العلماء مداواة الرجل للمرأة وقد بوب عليه البخاري بقوله: باب هل يداوي الرجل المرأة، والمرأة الرجل (1) .
ويستدل لهم بالقياس على ما سبق من حديث الربيع بنت معوذ، وإن النساء كن يداوين الجرحى ... فيؤخذ من هذا الحديث حكم مداواة الرجل المرأة منه بالقياس كما قال البخاري (2) .
وفي صحيح مسلم أن أم سلمة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا طيبة أن يحجمها (3) .
ومن هؤلاء من قال بجواز مداواة الأجانب عند الضرورة، وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد (4) . وقال في الفتح (5) : يجوز كشف العورة للمداواة، وقال ابن مفلح: فإن مرضت امرأة ولم يوجد من يطبها غير رجل جاز له منها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظره حتى الفرجين، وكذا الرجل مع الرجل، وسئل أحمد عن وضع المجبر يده على يد المرأة للعلاج، قال: هذه ضرورة، ولم ير به بأسًا، وسئل عن الكحال يخلو بالمرأة، فقال: أليس هو على ظهر الطريق؟ قيل: نعم، قال: إنما الخلوة تكون في البيوت (6) .
وذكر الشوكاني في أبواب ستر العورة ما يفيد استثناء الطبيب من حرمة النظر (7) .
وكذا الزيدية أجازوا للطبيب النظر إلى موضع المعالجة من بدنها في أي موضع كان بشرط أن لا توجد امرأة تعالجها وأن يخشى عليها التلف أو الضرر، وأن يأمن الوقوع في المحظور (8) ، وقال في البحر الزخار (9) : (وللطبيب نظر ما يحرم نظره في المداواة للضرورة إجماعًا فلا يتعداه، فإن وجد الجنس والمحرم، حرم غيره) وبنحو ذلك قال الحنفية (10) والمالكية (11) ، وأضافت الشافعية (12) ، أن يكون التداوي بحضور محرم أو زوج، وأن لا توجد امرأة تعالج المرأة، وأن لا يكون ذميًّا مع وجود مسلم.
ونخلص مما سبق أن الفقهاء قالوا بجواز نظر الطبيب إلى الأجنبية بقصد العلاج لما سبق من حديث أم سلمة وبشروط معينة، مثل الاقتصار في الكشف على قدر الحاجة، وأن لا توجد طبيبة تعالجها، وأن تتم المعالجة بوجود محرم أو امرأة ثقة، وأن لا يكون الطبيب ذميًّا مع وجود مسلم وأن يكون ثقة مأمونًا (13) .
__________
(1) فتح الباري: 10/136، كتاب الطب، باب هل يداوي الرجل المرأة، والمرأة الرجل.
(2) فتح الباري: 10/136، كتاب الطب، باب هل يداوي الرجل المرأة، والمرأة الرجل.
(3) النووي على مسلم: 14/193.
(4) النووي على مسلم: 14/193، وقليوبي وعميرة: 3/212.
(5) فتح الباري: 10/341.
(6) الآداب الشرعية: 2/464 - 465.
(7) نيل الأوطار: 2/69.
(8) شرح الأزهار: 4/114.
(9) 5/378.
(10) حاشية ابن عابدين: 3/161.
(11) الفواكه الدواني: 1/441.
(12) قليوبي وعميرة: 3/212.
(13) تربية الأولاد في الإسلام، د. عبد الله علوان: 1/524.(7/1556)
ثانيًا - الطبيب غير المسلم:
للعلماء في الاستعانة بالأطباء غير المسلمين رأيان:
الرأي الأول:
ذهب أتباع هذا الرأي إلى القول بجواز أن يستطب أهل الذمة فيما لا يتعلق بالدين. وهو قول الحنفية (1) ، والشافعية (2) والحنابلة (3) في رواية عندهم.
واستدلوا لرأيهم بأن ذلك نوع من الانتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا، وأن هذا جائز، كما يجوز السكنى في ديارهم، ولبس ثيابهم وسلاحهم، وكما تجوز معاملتهم على الأرض، كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود خبير، وكما استأجر النبي صلى الله عليه وسلم هاديًا خريتًا وأتمنه على نفسه وماله، كما أن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمن كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (4) .
ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال، وجاز أن يستطب المسلم الكافر إذا كان ثقة، نص على ذلك أحمد وغيره، إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدينا، وائتمان لهم على ذلك وهو جائز، ولأن كتبهم الطبية لم يكتبوها لمعين من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة بل هي مجرد انتفاع بآثارهم (5) . وقد روي أن الحارث بن كلدة وكان كافرًا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستطبوه (6) .
وقد أيد ابن القيم اتجاه أصحاب الرأي الأول فقال بعد أن ذكر قصة استئجار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط هاديًا وقت الهجرة وهو كافر، دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والكحل والأدوية والكتابة، والحساب والعيوب ونحوها، ولا يلزم من مجرد كونه كافرًا أن لا يوثق به في شيء أصلًا، فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق ولا سيما مثل طريق الهجرة (7) .
واستدل أبو الخطاب من قصة صلح الحديبية وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عينًا له من خزاعة وقبول خبره، أن فيه دليلًا على جواز قول المتطبب فيما يخبر به عن صفة العلة، ووجه العلاج إذا كان غير متهم فيما يصفه، وكان غير مظنون به الريبة (8) .
__________
(1) ابن عابدين: 2/116.
(2) قليوبي وعميرة: 3/212؛ وفتح الباري: 10/197.
(3) الآداب الشرعية: 2/462، 479.
(4) سورة آل عمران: الآية 75.
(5) فتاوى ابن تيمية: 4/114 - 115.
(6) مختصر الفتاوي المصرية، للبعلي: ص560؛ والتراتيب الإدارية: 1/457 - 458.
(7) بدائع الفوائد: 2/208، طبعة دار الكتاب العربي، والآداب الشرعية: 2/463.
(8) الآداب الشرعية: 2/462.(7/1557)
وروى أبو داود في سننه أن امرأة ابن مسعود كانت تختلف إلى طبيب يهودي فيرقيها من ألم في عينها (1) ، ولذا ذهب الحنابلة في وجه إلى القول بجواز أن تستطب المسلمة ذمية إن لم تجد غيرها (2) .
والحنفية أجازوا للمريض أن يستطب بالكافر فيما عدا إبطال العبادة، وسئل الشافعي أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم، إذا رقوا بما يعرف من ذكر الله، وفي الموطأ أن أبا بكر قال لليهودية التي ترقي عائشة: ارقيها بكتاب الله (3) .
الرأي الثاني:
القول بالكراهة وهو مروي عن أحمد فقد روي عنه أنه كره شرب دواء المشرك، وقال المروزي: كان يأمرني أن لا أشتري ما يصف له النصارى ولا يشرب من أدويتهم.
وقد علل هؤلاء لرأيهم بأنه لا يؤمن أن يخلطوا بذلك شيئًا من النجاسات (4) .
وبالتأمل لا نجد فرقًا بين الرأيين إذ يحمل قول القائلين بالكراهة عند عدم الضرورة إلى الاستعانة بهم، وعدم الائتمان، أما عند الحاجة وثقة الناس في طبه فلا وجه للقول بالكراهة، ولذا قال الشيخ تقي الدين: إذا كان اليهودي أو النصراني خبيرًا بالطب، ثقة عند الإنسان، جاز له أن يستطب ثم ساق الأدلة السالفة الذكر من استعانة النبي صلى الله عليه وسلم بالمشركين، كما بين أن استطبابه ليس من باب ولاية اليهود والنصارى المنهي عنهما (5) .
__________
(1) جامع الأصول: 7/574. وانظر الحديث في عون المعبود: 10/367 كتاب الطب.
(2) الآداب الشرعية: 2/462.
(3) ذكرها الحافظ في الشرح، انظر فتح الباري: 10/197.
(4) الآداب الشرعية: 2/463.
(5) الآداب الشرعية: 2/463.(7/1558)
التداوي والتوكل:
يرى البعض أن التداوي ينافي التوكل على الله تعالى فيرد عليه بأت التداوي لا يناقض التوكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم تداوى وأمر به غير واحد من أصحابه. وأخبر عن حكمة الله تعالى فيه فقال: "ما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلا السام" يعني الموت (1) . وقال: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: "تداووا عباد الله" وسئل عن الدواء والرقي هل يرد من قدر الله؟ فقال: "هو من قدر الله" (3) . والتداوي رخصة وسعة وتركه ضيق وعزيمة والله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وقد يؤجر المتداوي في ذلك إن نوى به اتباع السنة والأخذ برخصة الله وطلبًا لسرعة البدء للتفرغ لطاعة ربه سبحانه لأن العلل مشغلة للنفس عن الشغل بالآخرة. لأنه علم من سنته صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه بالتداوي والحمية، وقطع لبعضهم عرقًا وكوى آخر وقال لعلي رضي الله عنه وكان رمد العين: "لا تأكل من هذا- يعني الرطب- وكل من هذا فإنه أوفق لك" (4) . يعني سلقًا قد طبخ بدقيق أو شعير، وقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث من العقرب، وكان يغلف رأسه بالحناء (5) من الصداع، وهو أعلى المتوكلين وليس من شرط التوكل ترك التداوي، بل هو كصب الماء على النار لإطفائها ودفع ضررها عند وقوعها في البيت، وليس من التوكل الخروج عن سنة الوكيل أصلًا.. وما روي في تداويه وأمره بذلك كثير خارج عن الحصر.
ويتبين من ذلك أن الله تعالى أجرى سنته بربط المسببات بالأسباب إظهارًا للحكمة، والأدوية أسباب مسخرة بحكم الله تعالى كسائر الأسباب ... وعلم السلف ذلك حتى الذين تداووا منهم لا ينحصرون.
__________
(1) نيل الأوطار: 8/208؛ ومجمع الزوائد: 5/84، وقال: رواه البزار والطبراني.
(2) رواه البخاري وأحمد وابن ماجه، نيل الأوطار: 8/208.
(3) تحفة الأحوذي: 6/360؛ ومجمع الزوائد: 5/85.
(4) تحفة الأحوذي: 6/187.
(5) تحفة الأحوذي: 6/212.(7/1559)
لكن يشكل على هذا ما ورد من أن جماعة من العلماء تركوا التداوي مما يظن أن التداوي نقصان في الدين، ومن هؤلاء الذين تركوا التداوي جماعة من الصحابة والسلف وغيرهم، فقد روي عن الصديق أنه قيل له: لو دعونا لك طبيبًا؟ فقال: الطبيب قد نظر إليَّ وقال: إني فعال لما أريد، وقيل لأبي الدرداء أندعو لك طبيبًا؟ قال: الطبيب أمرضني، ونحو ذلك عن أبي ذر وابن خيثم.. وكذلك أحمد ابن حنبل كان به علل فلا يخبر الطبيب وكان يقول: أحب لمن اعتقد التوكل وسلك هذا الطريق ترك التداوي من شرب الدواء وغيره (1) .
ووجه الجمع بين ما سبق من فعل النبي صلى الله عليه وسلم من التداوي والأمر به، وبين أفعال هؤلاء يكون بمعرفة الصوارف عن التداوي.
وقد حصر الغزالي أسباب تركهم للتداوي في ستة أسباب نوجزها فيما يلي:
السبب الأول: أن يكون المريض قد علم بنهاية أجله إما بمكاشفة أو برؤيا صادقة وتارة بحدس وظن ويشبه أن يكون ترك الصديق (2) . التداوي من هذا السبب فإنه كان من المكاشفين فإنه قال لعائشة - رضي الله عنها - في أمر الميراث: إنما هن أختاك، وإنما كان لها أخت واحدة، ولكن كانت امرأته حاملًا فولدت أنثى، فعلم أنه كان قد كوشف بأنها حامل بأنثى فلا يبعد أن يكون قد كوشف أيضًا بانتهاء أجله وأن الدواء لا ينفعه وإلا فلا يظن به إنكار التداوي وقد شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تداوى وأمر به.
السبب الثاني: أن يكون المريض مشغولًا بحاله وبخوف عاقبته فينسيه ألم المرض، وعليه يحمل كلام أبي ذر إذ قال: إني عنهما مشغول، وكلام أبي الدرداء.
السبب الثالث: أن تكون العلة مزمنة والدواء الموصوف موهوم النفع جار مجرى الكي والرقية، فيتركها المتوكل لعدم الوثوق بالدواء، وأكثر من ترك التداوي من العباد والزهاد هذا مستندهم.
السبب الرابع: أن يترك التداوي استبقاء للمرض لينال ثوابه بحسن الصبر على البلاء، أو ليجرب نفسه في القدرة على الصبر، وقد ورد في ثواب المرض أحاديث كثيرة.
السبب الخامس: أن يكون العبد قد سبق له ذنوب وهو خائف منها عاجز عن تكفيرها فيرى المرض إذا طال تكفيرًا، فيترك التداوي خوفًا من أن يسرع زوال المرض.
__________
(1) إحياء علوم الدين: 4/279.
(2) عارضة الأحوذي: 8/205 قال: وإذا تحقق العبد الموت كره التداوي، وعليه يحمل فعل الصديق.(7/1560)