الغرض الثالث: (حالات خاصة) :
قد يكون البنك الإسلامي مساهمًا في رأس مال شركة تمارس نشاطًا في مجال خدمي أو في مجال الصناعات الاستراتيجية أو الثقيلة، وبطبيعة هذه الأنشطة فإنها تحقق عائداتها على المدى الطويل، أما في الأجل القصير فإنها تحقق خسارة تشغيلية سنوية. ومن ثم تتلقى الشركة العاملة في هذه المجالات دعمًا حكوميًّا، خاصة في مراحلها الأولى تشجيعًا لها على الاستمرارية في النشاط الذي يمثل ضرورة حيوية للمجتمع، فإن كانت هذه الشركة تتعامل بالفائدة فإن المعالجة المناسبة لتطهير مال البنك المستثمر منها وعوائده تأخذ إحدى صور المعالجة السابق عرضها في ضوء مقارنة مقدار الدعم الحكومي السنوي بمقدار الخسارة التشغيلية التي تظهرها القوائم المالية الدورية. (علمًا بأن هذا الدعم يعتبر ضمن إيرادات الشركة) .
وذلك على النحو التالي:
البيان أثر تعامل الشركة بالفوائد صورة المعالجة المناسبة
1- الدعم الحكومي أكبر من الخسارة التشغيلية لاتأثير كما في حالة الشركة (أ)
الأثر موجب كما في حالة الشركة (ب)
الأثر سالب كما في حالة الشركة (ج)
2- الدعم الحكومي مساوٍ للخسارة التشغيلية لا تأثير -
الأثر موجب كما في حالة الشركة (د)
الأثر سالب كما في حالة الشركة (هـ)
3- الدعم الحكومي أقل من الخسارة التشغيلية لا تأثير كما في حالة الشركة (أ)
الأثر موجب كما في حالة الشركة (د)
الأثر سالب كما في حالة الشركة (هـ)(7/395)
المبَحثُ الثاِلث
البَدَائِل الإسلاَمِيّة
كان ما تقدم تصورًا مطروحًا لمعالجة قضية عزل الفوائد من عائد استثمارات البنوك الإسلامية في أسهم الشركات المتعاملة مع البنوك التقليدية.
وإن كانت البنوك الإسلامية قد أتاحت من الأوعية الادخارية المتعددة المزايا والآجال ما يجذب فوائض السيولة النقدية المتوافرة سواء لدى الأشخاص الطبيعيين أو الأشخاص الاعتباريين كبديل ملائم عن إيداعاتهم ذات الأجل لدى البنوك التقليدية مما يعد حلًّا لمشكلة الفوائد المقبوضة.
وفي ظل سياسة العائد المتغير على الودائع التي زاد انتشارها في الوقت الحاضر فقد أصبحت الفرصة متاحة أمام البنوك الإسلامية للعمل على جذب المزيد من هذه الفوائض على اختلاف أحجامها وآجالها لا سيما لو عددت من أوعيتها الادخارية بالشكل الذي يلبي متطلبات المدخرين أفرادًا كانوا أو مؤسسات.
إلاَّ أن القضية الأساسية التي تظل فارضة نفسها تتبلور في مقدرة البنوك الإسلامية على تقديم أدوات تمويلية بديلة للشركات لتحل محل القروض المصرفية التقليدية ووسائل الاقتراض الأخرى المماثلة.
ومن المعروف أن الشركة تلجأ إلى الاقتراض في حالتين:
(أ) فيما لو تعرضت لقصور مؤقت في السيولة النقدية لديها عن تمويل رأس مالها العامل (تمويل الصفقات / مستلزمات التشغيل) فتلجأ إلى الاقتراض قصير الأجل الذي تتحدد مدته في ضوء فترة دوران رأس المال العامل.(7/396)
وفي هذا المجال قدمت البنوك الإسلامية أساليب التمويل بالمشاركة أو بالمضاربة أو البيع بالمرابحة كبدائل تمويلية جيدة لتحل محل القروض التقليدية قصيرة الأجل.. ويتوقف قبول الشركة راغبة الاقتراض لأي من هذه الأساليب على نتيجة المفاضلة بين عبء خدمتها وتكلفة الفرصة البديلة.
(ب) الحاجة إلى تمويل عمليات التوسع أو التجديد أو إحلال الأصول الثابتة الإنتاجية عن غير طريق زيادة رأس المال المصدر والمكتتب فيه، حيث تلجأ الشركة إلى الاقتراض متوسط أو طويل الأجل عن طريقين.
* الاقتراض من البنوك التقليدية لفترة موقوتة وبجدولة سداد نظير فائدة محددة سلفًا.
* إصدار سندات على نفسها تلتزم بموجبها بسداد فوائدها المعلن عنها لدى طرح السندات إلى حامليها في مواعيده محددة مع التزامها برد قيمة السندات نفسها في تواريخ استحقاقها.
وتكلفة الاقتراض في كلتا الصورتين تكون عبئًا على ناتج نشاط الشركة بغض النظر عن كون هذا الناتج ربحًا أو خسارة، كما أنه كلما زاد حجم الاقتراض أو طالت مدته كان للمقرض أو مجموعة حملة السندات حق التدخل في إدارة الشركة.
وعادة تفضل المؤسسات الاقتراض بأي من هذين الأسلوبين لاعتياد السوق عليهما وباعتبار أن كليهما يمكنها من تحديد الأعباء بشكل مسبق وواضح مما يتيح تقدير اقتصادياتها المنتظرة بدقة.
على أنه هناك من البدائل المتفقة وأحكام الشريعة ما يحل محل الاقتراض متوسط وطويل الأجل على النحو سالف البيان، مع التنويه إلى أنه ما لم يكن للبنك الإسلامي السيطرة على إدارة الشركة فإن قبولها للتمويل بأي من هذه البدائل يتوقف وبالدرجة الأولى على مقدرة أجهزة البنك الترويجية على إقناع إدارة الشركة – عن حق – بجدواه الاقتصادية.(7/397)
1- التمويل بأسلوب المساهمة المتناقصة:
وبمقتضاه يمول البنك الإسلامي – سواء بمفرده أو بصفته ممثلًا لمجموعة بنوك مشاركة – مشروعات التوسع أو الإحلال أو التجديد للأصول الإنتاجية للشركة طبقًا لضوابط محددة نوجز لإطارها العام فيما يلي:
- أن تثبت الدراسة الجدوى الاقتصادية لهذه المشروعات ووجود ضمانات قوية – غير محملة بحقوق – مقابل التمويل المطلوب لتغطية الثغرة التمويلية.
- يجري التمويل على دفعات وفقًا للمراحل الفنية للمشروع وطبقًا للتكلفة الاستثمارية الفعلية لكل مرحلة.
- البنك (أو مجموعة البنوك الممولة) شريك للشركة في مخاطر التشغيل ربحًا كان أو خسارة.
- يحسب عائد التمويل في نهاية كل فترة مالية بالمعادلة.
- صافي ربح – خسارة التشغيل
(قبل عناصر التكلفة التحميلية) × رصيد تمويل المساهمة المتناقصة
ــــــــــــــــــ
مجموع التكاليف الاستثمارية للشركة
- يسترد التمويل على دفعات محددة المقدار والتوقيت ومحملة بنصيب التمويل من ناتج التشغيل وذلك بعد فترة سماح تتفق وطبيعة النشاط وإمكانات الشركة.
- للبنك (مجموعة البنوك الممولة) حق الاشتراك في الإدارة بمقدار نسبة مجموع تمويله الفعلي للشركة (حصة في حقوق الملكية + رصيد التمويل بالمساهمة المتناقصة) إلى مجموع التكاليف الاستثمارية للشركة (مجموع حقوق الملكية + مبلغ التمويل بالمساهمة المتناقصة) .(7/398)
وبالتبعية يتخارج البنك تدريجيًا – تمويلًا وإدارة – من الشركة بقدر ما يسدد له من استحقاقات عن هذا النوع من التمويل، ويكتمل هذا التخارج بإتمام السداد مع استمرار احتفاظ البنك بحقوق مساهمته في رأس المال المصدر والمكتتب فيه.
2- التمويل بإصدار السندات المشاركة في الدخل:
(صكوك التمويل ذات العائد المتغير) :
التي بموجبها يشارك حملتها أصحاب أسهم رأس المال في صافي الربح (ومن باب أولى في الخسارة) طوال آجال سريانها وإلى أن يتم سداد قيمتها أو تتحول إلى أسهم في التاريخ المحدد لأي من الغرضين وذلك طبقًا للاشتراطات الشرعية لعقد المشاركة.
ونظرًا لأن إصدار هذه السندات – كبديل عن الاقتراض التقليدي – رهن بتقدير القائمين على أمور الشركة، فإن هذه الأداة التمويلية تكون أكثر قابلية للتطبيق في الشركات التي يكون للبنك الإسلامي ثقل في إدارتها، كما أنه من العوامل المساعدة في إنجاح هذا الأسلوب:
- قيام البنك بمعاونة الشركة في الترويج لهذه السندات بين جمهور المستثمرين وشراؤه ما لم يتم تغطيته من إصداراتها، ومن ثم فله أن يعيد طرح هذا الجزء غير المغطى أو بعضه – على عملائه وفق ما يتراءى له ولحسابه وعلى مسؤوليته.
- قابلية السندات المصدرة للتداول.
- وجود ثمة تمييز لأصحاب أسهم رأس المال عن حملة السندات من حيث العائد وبصفة خاصة في المراحل الأولى لتطبيق هذه الأسلوب التمويلي.(7/399)
3- صكوك الاستثمار مخصصة الغرض:
وهي صكوك يصدرها البنك ويروج لها بين جمهور راغبي الاستثمار (أفرادًا وهيئات) ، وتصلح كأداة لتجميع المدخرات بالحجم المطلوب لتغطية الثغرة التمويلية لمشروع مفرز بذاته مستهدف إقامته لغرض إعادة البيع، وتثبت الدراسة الفنية والمالية جدواه الاقتصادية وذلك طبقًا للمحددات الآتية:
* مدة محددة لإقامة المشروع وترويجه للبيع مع التيقن بدرجة كافية من القدرة على ترويجه كاملًا.
* تقدير عالي الدقة للتكلفة الاستثمارية الشاملة للمشروع يأخذ في توقعاته متغيرات السوق المحتملة.
* تصدر الصكوك على مراحل وبفئات متعددة تتلاءم والقدرات الادخارية المختلفة لتغطي حصيلة إصداراتها الثغرة التمويلية المتوقعة بكل مرحلة من مراحل تنفيذ المشروع آخذًا في الاعتبار ما يلي:
- البنك بصفته مصدرًا للصكوك يكون ضامنًا للاكتتاب فيها ومديرًا للتمويل.
- إتاحة المعلومات الفنية والمالية عن المشروع لجمهور راغبي الاكتتاب.
- أجل الصك مرتبط بالانتهاء من تنفيذ وتصفية المشروع بالكامل.
* يلتزم البنك بصفته مديرًا للتمويل بتقديم تقارير تقويم دورية إلى المكتتبين عن سير العمل بالمشروع.
* يقبل البنك إعادة شراء الصك الذي يرغب حامله في بيعه وذلك دون الارتباط بسعر محدد للشراء وإنما يتحدد سعر إعادة الشراء طبقًا لمراحل تقدم العمل بالمشروع وحسب آخر تقويم مالي له.
* في الأصل إن العائد على هذه الصكوك لا يتحدد أو يتحقق إلَّا بإتمام بيع المشروع بالكامل، إلَّا أنه من الملائم – خاصة في المشروعات التي تستغرق عدة سنوات، أن تصرف نسبة معينة من قيمة الصك كل فترة دورية يصير تحديدها في ضوء تقارير التقويم المالية الدورية للمشروع وذلك تحت حساب عائد الصك.
* للبنك عائد عمل يتفق عليه مقدمًا نظير إدارته للتمويل ووكالته عن المكتتبين في الصكوك.
* لحملة الصكوك الحق في أولوية تملك وحدات المشروع إن كان بطبيعته قابلًا لذلك.(7/400)
تابع للوَثيقَة رَقم (2)
الاعتبارات التي بُنِيَت عَليهَا
وَرقة بنك البَحرين الإسلَامي
حَول
تحرير محافظ الأوَراق الماليَّة للبُنوك الإسلاميّة
حَول المال المشتبَه في حلِّهِ
إعدَاد
عبد اللطيف عبد الرّحيم جنَاحي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد:
فبنزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] .
تم التبليغ التام الكامل لرسالة السماء إلى البشر، وكانت سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ترجمة تطبيقية لتلك الرسالة، حتى يزول الإبهام ويذهب الغموض وتتضح الرؤية في فهم محتوى الرسالة ومعرفة فحواها.
وجاءت تطبيقات آل البيت والصحابة والتابعين والسلف الصالح – رضوان الله عليهم أجمعين – المتأسين بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، نماذج أكدت سلامة التنفيذ ومرونة التطبيق، كما عززت الإيمان على مرور الزمن بصلاحية الرسالة المحمدية لكل زمان، وباتساع الرقعة الجغرافية للعالم الإسلامي والتي شملت في عصر سلفنا الأوائل من حدود الصين حتى إسبانيا تأكدت صلاحية هذه الرسالة لكل مكان، فالامتداد الزمني للتطبيق، والاتساع الجغرافي يعني تنوع المصالح وتعدد الاحتياجات، ولقد وضع فقهاؤنا الحلول لكل ما اعترضهم من القضايا مما لم يعد لأي مقولة تدعي عدم اتضاح الرؤية أو الغموض في بعض تعاليم الإسلام أي سند يذكر.(7/401)
فأسلافنا مثلًا فهموا الربا الفهم الصحيح فاجتبنوه وسجلوا ذلك الفهم ليقرأ على مدى الأجيال، ومارسوا المعاملات بشتى صورها ودونت تفصيلًا، بل ووضعت الافتراضات والاحتمالات لما قد يقع، ودونت حلولها، فأي رأي يضفي على تعاليم الإسلام الإبهام مرفوض وأي ادعاء بالقصور في التطبيق أو عدم الوضوح فيه مردود عليه من واقع التطبيق، ومثبتات التاريخ.
ومن يقرأ التاريخ يجد أن حضارة العرب (حملة رسالة الإسلام) لم تكن شيئًا مذكورًا قبل نزول هذا الدين مقارنة بحضارات الأمم المجاورة كالفرس والروم ولكن تلك الحضارة العربية البدائية تمكنت من أن تستوعب الحضارات العظيمة القائمة آنذاك وتتفاعل معها تفاعلًا إيجابيًّا فأفادت واستفادت، بل وطورت، منطلقة إلى حضارة أكثر اتساعًا، وأبعد عمقًا، وأشد رسوخًا، وأشمل عطاء، وأكثر إنصافًا وعدالة، حتى بتنا إلى يومنا هذا نراها تسرى في الحضارات القائمة سريان الدم القاني المغذي للجسد.
ويقينًا أن أسلافنا أدركوا أن وقوفهم وقوف المتفرج أمام تلك الحضارات لن يغني ولن يقدم للعالم ما ينفع.
ويقينًا أن تلك الحضارات ما كانت تخلو من المحرم المرفوض إسلاميًّا.
ولكن بالرغم من ذلك تفاعل أسلافنا مع تلك الحضارات حتى أصبحوا هم سادة العالم حضاريًّا فاستغرقوا حضارة الأمم وبنوا حضارة متميزة بصفاء الإسلام وطموحات المسلم.(7/402)
وبانقلاب الوضع وإبعاد الإسلام عن ساحة التطبيق وانتفاء الإرادة السياسية الحازمة المطبقة للشرع الإسلامي، أصبحت الرسالة التي سادت العالم تطبيقًا أميل إلى النظرية المسطرة، وظلت في أمهات كتب السلف الصالح أحداثًا وتاريخًا للمطلعين، إلى أن جاءت صحوة مباركة في عصرنا الحاضر لتعاود التطبيق السليم لتعاليم الإسلام من جديد، ونظرًا لشمول النظرية واتساعها ونظرًا لمحدودية القدرة الاستيعابية التطبيقية للمسلمين انقسمت الجهود المخلصة إلى فئات لتعمل كل فئة على بلورة جانب من جوانب النظرية وخدمتها بتخصيص دقيق دون إغفال أن تعاليم الإسلام تؤخذ جملة.
وكان ميدان الاقتصاد الإسلامي من أهم الميادين في عصرنا التي جوبهت بالعديد من الامتحانات والتساؤلات، واتسمت بالممارسة التطبيقية فبرزت سلبيات ليس لنقص في النظرية إنما لأسباب عدة أهمها:
1- وجود شيء من المسافة المبهمة بين النظرية والتطبيق والتي سببها قصور المطبقين للنظرية.
2- اقتصار المهتمين بالاقتصاد الإسلامي من علماء واقتصاديين على التحدث عن العموميات دون الخوض في التفاصيل.
3- عدم وجود برنامج زمني للوصول إلى الأهداف وتحقق الإرادة القادرة على التطبيق مع تهيئة الأرضية الصالحة المستقبلة بوعي لتلك الأهداف.
4- بروز عناصر إسلامية متطرفة تشد الإنسان المسلم إلى الوراء وتجعل منه الإنسان الرافض لمستجدات الأمور والقارئ لتاريخه المتطور قراءة جامدة تخلو من روح الفهم المعاصر والإبداع المتجدد الذي تميز به ذلك التاريخ، مما أدى إلى أن يعيش المسلم داخل نفسه منكفئًا على ذاته جاهلًا ما للإسلام من دوافع خلاقة تدفع معتنقه إلى التطور والتقدم.(7/403)
مثل تلك الأسباب خلقت صعوبات أمام التطبيق. ونشرت نوعًا من البلبلة الفكرية بين صفوف المسلمين. وأضفت عتمة على الأفكار المطروحة أدت إلى التهيب من الفتوى وإبداء الرأي لدى عدَدٍ ليس بالقليل من ذوي الهمة العلمية والفهم الواعي للإسلام.
وموضوع تحرير عوائد الأسهم من الأموال المشبوهة هي من تلك القضايا التي تَحَرَّجَ عن الخوض فيها العديد من العلماء منفردين لدواعي الورع والتريث. إلا أن وعي القائمين على المؤسسات المالية الإسلامية ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي وإدراكهم لأهمية الموضوع جعلهم يطرحونه للحوار العلمي الدقيق بغرض الوصول إلى رأي جماعي ذلك لأن الحاجة للوصول إلى رأي شرعي قاطع في هذا الموضوع من الأهمية بمكان لأسباب منها:
1- صغر العالم وتقاربه نتيجة الثورة التكنولوجية في وسائل المواصلات والتي جعلت تداخل الاستثمارات أمرًا حتميًّا.
2- حجم التأثير الإعلامي الغربي المتقدم على العالم الإسلامي والتفنن في جذب رؤوس الأموال الإسلامية مما أغرى الكثير من المسلمين من مؤسسات وأفراد على الإقبال على الاستثمارات في الغرب.
وما سبق يدعونا لطرح سؤالين هامين:
1- هل يقف العالم الإسلامي بما لديه من ثراء وإمكانات وقوف المتفرج أمام النشاط الاستثماري الغربي دون أن يأخذ دورًا إيجابيًّا محركًا ومؤثرًا ومصححًا؟
2- إذا كان الهدف الذي نسعى إليه هو أسلمة السوق: أفلا يجب أن نعطي رؤوس الأموال الإسلامية الدور اللازم الممكن من التأثير في السوق لتحقيق الهدف؟
ليس الأمر فيما ذكرنا تمهيدًا لنحل حرامًا، فذاك ما يرفضه إيمان المسلم، ولكن المراد هو إعطاء المال الإسلامي فرصته لكي يؤثر في الأسواق العالمية ومن خلال ذلك التأثير تفرض السلوكيات الاقتصادية الإسلامية.
ولما كانت تلك الأسواق لا تخلو من الحرام في التعامل فهل يمكن وجود المخرج المؤقت مع التحرز والاجتهاد وتبييت النية للمضي بجد لتحقيق الهدف الأسمى وهو تطبيق تعاليم الشرع الحنيف تطبيقًا شاملًا في عالمنا المعاصر؟
إننا على ثغرة من ثغور الإسلام، ولنا من الجهاد في سبيله سبحانه في ميدان الاقتصاد نصيب بإذن الله وسَعْيُنا هو إثبات وجود إسلامي فعال مؤثر في الأسواق المالية العالمية.(7/404)
والجدير في مثل هذه المواقف، أن نقرأ تاريخنا بإيمان السلف وبروح العصر لنصل إلى الموقف الشرعي السليم المحقق للهدف، وقد يكون من المناسب أخذ النقاط التالية في الاعتبار كمدخل للنظر في الموضوع:
أولًا: دخول الأسواق المالية العالمية لإثبات الوجود الإسلامي كقوة فكرية ومادية.
ثانيًا: الاجتهاد في عزل المال المشبوه.
ثالثًا: وضوح الهدف النهائي لمن يلج مثل هذا الميدان لإخضاع الوسائل للغايات والأهداف كحملة رسالة لا كقصاد ربح.
إن وضوح الهدف والسعي لتحقيقه لما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين يبعث في نفس الإنسان المسلم الطمأنينة عند طرح الآراء، والإسلام دين يسر فالله يقول:
* {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
* {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
* {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} [النساء: 28] .
* وفي الصحيحين:
* ((إنما بعثتم ميسرين)) .
* ((يسروا ولا تعسروا)) .
* ((ليعلم اليهود أن في ديننا سعة)) .(7/405)
وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم مبني على اليسر فهو صلوات الله وسلامه عليه حرم سؤر السباع وبالرغم من أن الهرة سبع إلَّا أنه استثناها وعلل ذلك بأنها من الطوافين عليكم والطوافات وذلك تيسيرًا على الأمة. كما أنه صلوات الله وسلامه عليه نهى عن قطع الشجر والحشيش في حرم مكة ولما كانت حاجة الناس إلى الأذخر لسقوف بيوتهم قائمة استثنى صلى الله عليه وسلم الأذخر.
ومن المعروف لدى الفقهاء ((بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح بيع العرايا بالتمر)) رغم أن الأصل فيه عدم الجواز.
للسرخسي في المبسوط عبارة يجدر الاستشهاد بها في هذا المقام وهي قوله: (ما لا يستطاع الامتناع عنه فهو عفو) .
وفي القواعد النورانية الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية
(ص122) : (والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم) .
وأخذًا لما ذكر في الاعتبار جاءت ورقة بنك البحرين الإسلامي تحت عنوان " تحرير محافظ الأوراق المالية للبنوك الإسلامية من المال المشتبه في حله "، لتطرح أسلوب عزل المال الحرام ليكون التصور واضحًا بقدر المستطاع فيسهل اتخاذ القرار.
ونسأل الله الصواب في القول والعمل إنه سميع مجيب.
عبد اللطيف عبد الرّحيم جنَاحي(7/406)
وثيقَة رقم (3 أ)
أسئلة عَلى الأسهم وَالاختيارات وَالمستَقَبليّات
مُقَدّمَة مِنَ البنك الإسلامي للتَنميَة
بسم الله الرحمن الرحيم
أولًا – الأسهم:
1- بعد تعريف الأسهم وبيان أهميتها الاقتصادية، هل يجوز إنشاء الشركات المساهمة أي التي يكون كل رأس مالها أسهمًا مع ملاحظة المسؤولية المحددة لمالكي الأسهم وأن هذا التحديد معلن ومعلوم لجميع من يتعامل معها؟
2- وهل يجوز إنشاء شركات يكون فيها شريك متضامن (أي يتحمل مسؤولية غير محدودة فيما يتعلق بضمان ديون الشركة) وآخرون حملة أسهم أي يضمنون ديون الشركة بمقدار حصصهم في الشركة فقط؟
3- هل تحسب الزكاة على أساس القيمة الاسمية أم القيمة السوقية للسهم أم حصة السهم من قيمة موجودات الشركة الخاضعة للزكاة حسب آخر ميزانية للشركة؟
4- هل يجوز شراء أسهم شركات لا يقيد نظامها الأساسي إدارتها بضرورة التعامل بالمباحث الشرعية فقط؟ وإذا وقعت أسهم مثل هذه الشركات في ملك المسلم بغير الشراء فهل يجوز له الاحتفاظ بها أم ينبغي عليه المبادرة للتخلص منها؟ وهل يحل له ثمنها؟ وهل يجوز بيعها لمسلم آخر؟
وإذا علم أن الشركة تتعامل فعلًا بالمحرمات مثل الربا أو الخمور ولكن تعاملها هذا يشكل جزءًا صغيرًا من نشاطها كأن تكون شركة مواد غذائية تنتج بعض المحرمات ضمن منتجاتها، فهل يجوز شراء أسهمها أو تملكها، وما هي النسبة من مجموع النشاط مثلًا التي تجعل التعامل محرمًا؟(7/407)
وهل يجوز العمل لدى هذه الشركات في وظائف هي من نوع الأعمال التي لا حرمة فيها؟ وهل يجوز العمل لديها في وظائف تضطر العامل لأن يقوم بأعمال تتعلق بالمحرمات كالمحاسب يكتب القيود المحاسبية المتعلقة بالربا أو بالمنتجات المحرمة ولكنه لا يكتب عقودها ولا ينشئها ولا يشهد عليها؟
5- هل السهم لحامله جائز؟
6- هل السهم للأمر جائز؟
7- هل يجوز بيع " حق شراء سهم " وتداوله؟
8- هل يجوز إصدار الأسهم بغير قيمتها الاسمية أي بعلاوة إصدار؟ أو بخصم إصدار؟ وهل يختلف الحكم بين أن يكون الإصدار لشركة جديدة أم لزيادة رأس مال شركة قائمة؟
9- هل يجوز تقسيط سداد قيمة السهم عند شرائه من الشركة المصدرة للسهم نفسها فيكون رأس المال المدفوع أقل من رأس المال المصدر؟
10- هل يجوز الاتفاق مع ملتزم لضمان بيع كافة الإصدار من الأسهم أو جزء من ذلك الإصدار، على أن الملتزم سيشتري كل ما تبقى مما لم يبع للغير؟ وهل يجوز أن يكون أجر الملتزم جزءًا من قيمة السهم أو الفرق بين القيمة الاسمية وسعر أقل منه متفق عليه؟
11- هل يجوز لمالك السهم بيعه بسعر السوق (الذي قدر يزيد أو ينقص عن القيمة الاسمية) وذلك قبل تحول معظم أموال الشركة إلى أعيان (غير النقود والديون) ؟
12- هل يجوز تداول أسهم الشركات التي يكون معظم موجوداتها نقودًا وديونًا كالبنوك الإسلامية مثلًا؟ وإذا كان ذلك جائزًا فبأي صيغة – بيع أم حوالة؟ وبأي ثمن؟ حصة السهم من القيمة الاسمية للموجودات أم سعر السهم في السوق أم القيمة الاسمية للسهم؟
13- هل يجوز بيع أو شراء أو رهن أو إقراض السهم دون إعلام الشركة وقيده في سجلاتها أو مع الإعلام والتسجيل؟
14- هل حصر تداول الأسهم، بيعًا وشراء، بأن يكون بواسطة سماسرة مخصصين ومرخصين لذلك العمل من قبل الدولة جائز شرعًا؟(7/408)
15- هل يجوز بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يملك وعدًا من شخص ثالث، هو السمسار، بإقراضه السهم عند إجراء القبض؟ وإذا ترافق ذلك بأن يحتفظ السمسار بالثمن ويستعمله وديعة ربوية في بنك ويكون ذلك الربا هو ما ينتفع به مقابل إقراض السهم فهل تجوز هذه المعاملة؟
16- هل يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار للمشتري ويوضع السهم رهنًا للدين؟
17- عند تداول الأسهم بالبيع ما هو محل العقد؟
هل يكون الوثيقة ذاتها (كالنقود) أم أن البيع واقع على الجزء من أصول الشركة الذي يمثله السهم؟
18- لا يسمح بالعمل في البورصات إلَّا لمن دفع رسم عضوية والبورصة سوق فهل هذا النوع من الخراج على السوق هو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
19- هل يجوز للشركة المساهمة أن تضمن للمساهمين شراء عدد من الأسهم بالقيمة الاسمية في أي وقت لاحق للإصدار.
20- هل يجوز للشركة اقتراض الأرباح المخصصة للتوزيع على المساهمين منهم وإصدار سندات قرض بها؟ وهل دفعها للفائدة على ذلك القرض شبيه بالربا بين المرء ونفسه أو بين العبد وسيده؟ وحكم هذه الفائدة وهل يجوز لمن يحصل على هذه السندات بيعها لغيره.(7/409)
21- هل يجوز إصدار أسهم ممتازة يكون امتيازها واحدًا أو أكثر مما يلي؟
(أ) أولوية في تحصيل الأرباح بحيث لو قلت الأرباح عن نسبة معينة من رأس المال فتعطى هذه الأسهم تلك النسبة ويوزع الباقي على باقي الأسهم.
(ب) ضمانًا لنسبة (ثابتة أو متغيرة ولكن مرتبطة بمؤشر معروف) معينة من الأرباح بحيث تضمن لها الشركة تلك النسبة فلو لم تتحقق أرباح تكفي لها يعتبر مقدار الأرباح الممثل لتلك النسبة دينًا على الشركة يتراكم حتى يوفى من أرباح مستقبلية للشركة أو يعامل معاملة الديون عند تصفية الشركة.
(ج) حقًّا في التصويت في الجمعية العمومية يزيد عن حق الأسهم العادية كأن يكون للسهم الممتاز صوتان مثلًا.
(د) أولوية بسداد القيمة الاسمية للسهم عند تصفية قبل الأسهم العادية إذا لم تكف موجودات الشركة لسداد القيمة الاسمية لجميع الأسهم.
(هـ) حقًّا بسداد القيمة الاسمية للسهم بعد فترة معينة بحيث تشتري الشركة السهم الممتاز من مالكه.
وهل يجوز شراء هذه الأسهم أو الإبقاء عليها في ملك المسلم لو وقعت فيه بغير الشراء أو بيعها لمسلم؟
22- هل يجوز إصدار (وشراء، واستمرار تملك) أسهم التمتع ابتداء؟ وهل يجوز إصدارها استبدالًا لأسهم دفعت قيمتها الاسمية؟(7/410)
ثانيًا – الاختيارات:
23 – هل يجوز شراء وبيع كل نوع من أنواع الاختيارات أي:
(أ) اختيار الطلب.
(ب) اختيار الدفع
وذلك بأن يكون الاختيار إما لسلع أو لعملات أو لأسهم.
ثالثًا – السلع والمستقبليات:
24- هل يجوز الشراء والبيع على طريقة العقود الآتية:
للسلع..
أو للعملات.
وإذا اشترى شخص سلعًا أو عملات بعقود آنية وباع مثل ما اشتراه بنفس اليوم (وبذلك يكون قد خرج من السوق) فهل يصح ذلك؟
وكذلك العكس بأن يبيع أولًا ثم يشتري فهل يصح أيضًا؟
25- هل يجوز شراء (أو بيع) عقود مستقبلية للسلع أو للعملات أو للأسهم.
26- هل يجوز شراء عقود مستقبلية وبيع مثلها بنفس اليوم بحيث يخرج المتعامل من السوق؟ وهل يجوز أن يبدأ بالبيع ثم يشتري؟
وذلك بالنسبة:
- للسلع المباحة كالبترول والدجاج والنحاس (أي الطعام وغير الطعام) ..
- أو للأسهم..
- أو للعملات..
- أو السلع.
27- هل يجوز شراء أو بيع عقود آنية أو مستقبلية لعملة ما ويكون الثمن بنفس تلك العملة؟
28- هل يجوز التعامل بالمؤشر: شراء أو بيعًا أو شراء أو بيع اختيارات المؤشر؟(7/411)
الوثيَقة رقم (3ب)
التّوصيَات الصَّادرة عَن النَّدوة الفِقهيَّة الاقتصَاديَّة
المنعقدَة بَين
مجمَع الفِقِه الإسلَامي وَالبنك الإسلَامي للتِنميَة
بجدّة فيما بَين
16-17/5/1411هـ المَوافِق 3-4/12/1990م
بسم الله الرحمن الرحيم
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (1) .
تم بعون الله تعالى عقد ندوة فقهية اقتصادية ضمت مجموعة من أهل الفقه ورجال الاقتصاد الإسلامي وخبراء البنوك الإسلامية لدراسة الاستفسارين المقدمين من البنك الإسلامي للتنمية وهما الاستفساران اللذان سبق أن عرضهما البنك على الدورة السادسة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي المنعقدة بجدة فيما بين 17-23 شعبان 1410هـ الموافق 14-20 مارس 1990م وهما:
أولًا: هل يجوز للبنك بوصفه بنكًا لا مضاربًا في صندوق الحصص الاستثمارية الذي أنشأه أن يضمن قبل أرباب المال المستفيدين وكفلائهم بالنسبة للاستثمارات التي يبيعها البنك للصندوق؟
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 8.(7/412)
ثانيًا: هل مساهمة البنك في رؤوس أموال المشروعات الإنتاجية بالدول الأعضاء التي تقوم عليها شركات تتعامل بالفائدة جائزة شرعًا في ظل الظروف والأوضاع الاقتصادية القائمة؟ وهل يجوز للبنك الإسهام في الشركات الموجودة في أسواق المال الدولية والمتعاملة بالفائدة في ظل نفس الأوضاع الاقتصادية القائمة المهينة؟
وكان مجمع الفقه الإسلامي قد كون لجنة لبحث هذين الاستفسارين انتهت بعد النظر والتداول في الموضوع بالتوصية بتكوين لجنة من الفقهاء والاقتصاديين تتولى دراسة هذين الاستفسارين والإجابة عنهما. [ملحق رقم 1 تقرير الافتتاح] .
وبناء على ذلك فقد قام فضيلة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة بالكتابة إلى عدد من أهل العلم ورجال الاختصاص بخطابه رقم: أف أ/أس جي/أس أو/90 بتاريخ 3/11/1410هـ الموافق 27/5/1990م وتلقى على ذلك أحد عشر جوابًا مكتوبًا حسب القائمة المرفقة [ملحق رقم 2] .
ونظرًا لتعدد الآراء المكتوبة وتقديرًا لما تضمنته الإجابات المقدمة من نظر فقهي دقيق، ارتأى فضيلة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي عقد ندوة فقهية اقتصادية تضم المستكتبين في موضوع الاستفسارين والمسؤولين المعنيين في البنك الإسلامي للتنمية حيث عقدت هذه الندوة بمقر البنك في جدة يومي الاثنين والثلاثاء بتاريخ 16/ و 17/5/1411هـ الموافق 3-4/12/1990م وجرى التداول على مدار هذين اليومين في جلسات متتابعة على النحو التالي:
1- استمع المشاركون إلى كلمة افتتاح التي قدمها فضيلة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي عارضًا موضوع الاستفسارين ورؤوس المسائل التي تضمنتها أجوبة المشاركين والفروع المتصلة بها.
2- استمع المشاركون كذلك إلى العرض العملي المكمل للاستفسارين المقدمين حيث تولى سعادة الشيخ صالح عبد الله كامل بصفته أحد المشاركين الرئيسيين في صندوق الحصص الاستثمارية شرح الظروف والأسباب الداعية لطلب الاستفسارات الشرعية المقدمة من البنك الإسلامي للتنمية.
3- كما استمع المشاركون كذلك إلى الرد التوضيحي على الأسئلة الموجهة إلى مدير الإدارة القانونية بالبنك الإسلامي للتنمية حول ما يتعلق بهذا الموضوع.(7/413)
وقد توصل المشاركون إلى تفصيل الجواب حول هذه المسائل على النحو التالي:
(أ) اتفقت الآراء على أن البنك والصندوق لهما حكم شخصيتين اعتباريتين مستقلتين. وذلك بالنظر لاختلاف جهة الإدارة لكل منهما إذ توجد لجنة خاصة بإدارة الصندوق تختلف في تكوينها عن مجلس المديرين التنفيذيين للبنك، كما أن موجودات الصندوق مفرزة حسابيًّا عن موجودات البنك وأن مراجعة ميزانية الصندوق تتم من مراجع حسابات غير المراجع الذي يتولى تدقيق حسابات البنك.
وإن هذا الاعتبار المشار إليه مبني على النظر لواقع الحال رغم أن الصندوق بحد ذاته ليست له شخصية اعتبارية مسجلة قانونًا وهو ما أوجب على البنك القيام بتسجيل ما يملكه الصندوق باسم البنك الإسلامي للتنمية.
أما بالنسبة لعلاقة البنك بالصندوق من الناحية الفقهية فهي عند التأمل علاقة مركبة من الشركة والمضاربة. فالبنك شريك بحصته فيما يسهم به من أموال، وهو عامل مضاربة بالنسبة لما يسلم إليه من أموال، وما يديره منها مما يخص المستثمرين في هذا الصندوق. وعلى البنك أن يحور من لائحة الاكتتاب في الصندوق بما يحقق الانسجام مع مقتضيات هذه الفقرة.
(ب) أما فيما يتعلق بمدى جواز قيام البنك الإسلامي للتنمية [بصفته عامل مضاربة] بالتبايع مع الصندوق لبعض ما يملكه من استثمارات.
فقد رأى المشاركون بعد تفصيل النظر في الآراء الفقهية المعروضة أن مظنة التهمة ليست قائمة بالنسبة للبنك الإسلامي للتنمية إذ حددت لائحة الصندوق ضوابط واضحة التبايع الجاري بهذا الخصوص، كما أن جهة إدارة الصندوق تختلف بتكوينها عن جهة إدارة البنك.
وبذلك يكون الرأي المتفق عليه هو جواز قيام البنك بالتبايع مع الصندوق لبعض الأصول والاستثمارات التي يملكها البنك من الأساس.(7/414)
أما بالنسبة لتفصيل ما يتم تبايعه بين البنك والصندوق فتطبق عليه الأحكام المتعلقة بالبيع بوجه عام فلا يجوز مثلًا بيع عقود المرابحة التي تم الاتفاق عليها بعد أن أصبحت ديونًا إلَّا إذا توافرت فيها ضوابط بيع الدين المقررة فقهًا.
(ج) أما المسألة المتعلقة بضمان البنك الإسلامي للتنمية للاستثمارات المبيعة منه إلى الصندوق فقد اتفقت الآراء على أن البنك يضمن سلامة الأصول المبيعة من أية مطالبة من الغير كما يجوز أن يضمن البنك كذلك الحقوق الإيجارية المترتبة على ما سبق الاتفاق على إيجاره من هذه الأصول المبيعة للصندوق باعتبار أن ذلك الضمان هو ضمان خارج عن عمل المضاربة. أما إذا كان الضمان واقعًا على رأس المال المدفوع للبنك مضاربة أو كان الضمان مرتبًا على الأرباح المنتظرة فإن هذا الضمان في الحالين غير جائز شرعًا.
ثانيًا: موضوع الأسهم وهو ينقسم إلى الشقين التاليين:
(أ) مساهمة البنك الإسلامي للتنمية في رؤوس أموال المشروعات الإنتاجية بالدول الأعضاء التي تقوم عليها شركات تتعامل بالفائدة وهي شركات المساهمة المنتشرة في البلاد الإسلامية.
(ب) شراء البنك الإسلامي للتنمية أسهمًا في الشركات التي يتم تداول أسهمها في أسواق المال إذا كانت من الشركات التي تتعامل بالفائدة.
وقد اتفق الرأي بعد المناقشات المستفيضة في المسألة أن الأصل هو أن لا يساهم البنك الإسلامي للتنمية في أية شركة لا تلتزم باجتناب الربا في معاملاتها وأنه لا يكفي أن يكون غرض الشركة مما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية بل لا بد من اجتناب الوسائل المخالفة للشرع ومن أعظمها التعامل بالربا في الأخذ والعطاء، وعلى إدارة البنك البحث عن أساليب استثمارية تتفق مع الشريعة الإسلامية وتحقق غايات التنمية للبلاد الإسلامية وذلك مثل أنواع عقود السلم بصورة الموسعة وعقود الاستصناع وعقود التوريدات المختلفة.
أما بالنسبة للمساهمة في أسهم الشركات المؤسسة خارج البلاد الإسلامية فإن الرأي بالاتفاق على عدم إجازة ذلك للبنك الإسلامي للتنمية إذا كانت تلك الشركات تتعامل بالفائدة.(7/415)
الوثيقَة رقم 4
البَيَان الخِتامي وَالتّوصيَات
للنّدوة الثانيَة للأِسَواقِ المالِيَّة
المنعقدَة بدَولة البحَرين
في الفتَرة
19-21 جَمَادى الأولى 1412هـ
25-27 نُوفمبر 1991م
بسم الله الرحمن الرحيم
بحمد الله تعالى وتوفيقه عقدت في البحرين الندوة الثانية للأسواق المالية في الفترة من 19-21 جمادى الأولى 1412هـ (25-27 نوفمبر 1991م) بدعوة من بنك البحرين الإسلامي وبالتعاون مع مجمع الفقه الإسلامي بجدة المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، وذلك متابعة للندوة الأولى للأسواق المالية التي سبق للمجمع أن عقدها في الرباط.
وقد ناقشت الندوة الموضوعات التالية:(7/416)
- الأسهم.
- السلع.
- الاختيارات.
- بطاقة الائتمان وتكييفها الشرعي.
وقُدمت في المحاور الأربعة أبحاثٌ فنيةٌ وفقهية تم عرضها ومناقشتها باستفاضة وبروح علمية متعاونة بين فقهاء الشريعة والمختصين في الاقتصاد الإسلامي والمصارف الإسلامية والأسواق المالية العالمية.
وقد حظيت الندوة برعاية كريمة من صاحب السعادة الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة وزير العدل والشؤون الإسلامية بدولة البحرين وشارك في أعمالها جمع من المهتمين بالاقتصاد الإسلامي والمؤسسات المالية الإسلامية من خارج دولة البحرين ومن داخلها، من القائمين على البنوك الإسلامية وأعضاء هيئات الرقابة الشرعية فيها وأساتذة الجامعات ومراكز الاقتصاد الإسلامي، كما شهد حفلي الافتتاح والختام جمع غفير من المعنيين بموضوعات الندوة من العلماء وأساتذة الجامعات في دولة البحرين ومنسوبي البنوك الإسلامية فيها، فضلًا عن مشاركتهم في جلسات العمل.
وقد تم افتتاح الندوة بآيات من الذكر الحكيم أعقبتها كلمة صاحب السعادة وزير العدل والشؤون الإسلامية حيَّا فيها المشاركين وأشاد بما للمصارف والمؤسسات المالية الإسلامية من شركات استثمار وشركات تأمين وشركات تجارية وغيرها من دور فعال في التنمية وخدمة الاقتصاد الإسلامي ومصالح المسلمين ثم ألقى سعادة الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن راشد آل خليفة (رئيس مجلس إدارة بنك البحرين الإسلامي، وكيل وزارة العدل والشؤون الإسلامية بدولة البحرين) كلمة أبرز فيها دور بنك البحرين الإسلامي والمنجزات التي حققها في فترة زمنية قياسية، والتي لم تقتصر على النواحي المالية، بل عملت في الوقت نفسه على ترسيخ الفكر الاقتصادي الإسلامي مع السعي لتعميمه وتوسيع قاعدة الاهتمام به في مجال التنظير والتطبيق.
ثم ألقى فضيلة الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي بجدة كلمة أشار فيها إلى دور الجزيرة العربية في التبكير بتأسيس البنوك الإسلامية وأشاد بدور حكومة البحرين في احتضان وتشجيع المؤسسات المالية الإسلامية، وتعاون الفقهاء والاقتصاديين في تجلية مبادئ الشريعة لوضعها موضع التطبيق.
ثم عُقدت جلسة العمل الأولى وتم فيها إقرار جدول أعمال الندوة وتتابعت بعدئذٍ الجلسات لعرض البحوث ومناقشتها طيلة أيام الندوة وانتهى المشاركون في الندوة إلى التوصيات التالية:(7/417)
التّوصيات
للنّدوة الثانيَة للأسَواق الماليَة
أولًا – الأسهم:
1- الإسهام في الشركات:
(أ) بما أن الأصل في المعاملات الحِل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.
(ب) لا خلاف في حُرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها.
(ج) الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحيانًا بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.
(د) أما من يسهم في الشركات التي تتعامل أحيانًا بالمحرمات مع إرادة تغيير جميع أنشطتها بحيث لا تخالف الشريعة الإسلامية، فإن كان قادرًا على التغيير بمجرد إسهامه فيها فذلك أمر مطلوب منه، لما فيه من زيادة مجالات التزام المسلمين بأحكام الشريعة الإسلامية. وإن كان غير قادر عند الإسهام ولكنه يسعى للتغيير مستقبلًا، بأن يحاول ذلك من خلال اجتماعات الجمعية العمومية ومجلس الإدارة وغيرهما من المجالات فالإسهام في هذه الحالة مختلف في جوازه بين المشاركين في الندوة.
ولابد في الحالتين من التخلص مما يؤول إلى المساهم فيها من كسب التصرفات المحرمة في أنشطة الشركة بصرفه في وجوه الخير.
2- ضمان الإصدار (Under Writing) :
ضمان الإصدار هو الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم، أو جزء من ذلك الإصدار، وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لم يكتتب فيه غيره وهذا لا مانع منه شرعًا إذا كان تعهد الملتزم بالاكتتاب بالقيمة الاسمية بدون مقابل لقاء التعهد. ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه – غير الضمان – مثل إعداد الدراسات أو تسويق الأسهم.
3- تقسيط سداد قيمة السهم عند الاكتتاب:
لا مانع شرعًا من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه وتأجيل سداد بقية الأقساط، لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه، والتواعد على زيادة رأس المال. ولا يترتب على ذلك محذور لأن هذا يشمل جميع الأسهم. وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير، لأنه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاملين مع الشركة.(7/418)
4- السهم لحامله:
بما أن المبيع في (السهم لحامله) هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة فلا مانع شرعًا من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها. ويمكن أن يستفاد من هذا النوع من الأسهم في صكوك المقارضة.
والأولى عدم إصدار أسهم لحاملها، حفاظًا لحقوق المساهمين.
5- محل العقد في بيع السهم:
إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة.
6- الأسهم الممتازة:
لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح وذلك بتقديمها عند التصفية، أو تحديد ربح لأصحابها بصورة ثابتة منسوبة للسهم.
وأما عطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالتصويت ونحوه من الأمور الإجرائية أو الإدارية فلا مانع منه شرعًا.
7- التعامل في الأسهم بطرق ربوية:
(أ) لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار للمشتري لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.
(ب) لا يجوز أيضًا بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعدًا من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم، لأنه من بيع ما لا يملكه البائع. ويتأكد المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض.
8- بيع السهم أو رهنه:
يجوز بيع السهم، أو رهنه مع مراعاة ما يقضي به نظام الشركة، كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقًا أو مشروطًا بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء، وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن إذنًا من الشركاء برهن الحصة المشاعة.(7/419)
9- إصدار أسهم مع رسوم إصدار:
إن إضافة نسبة معينة مثل 5 % تدفع مع قيمة السهم، لتغطية مصاريف الإصدار، حتى لا تتأثر قيمة الأسهم ... لا مانع منه شرعًا ما دامت هذه النسبة مقدرة تقديرًا مناسبًا، ثم يودع ما يتبقى منها في احتياطي الشركة.
10- إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو خصم إصدار:
إصدار أسهم جديدة لزيادة رأس مال الشركة جائز إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم القديمة (حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة) أو بالقيمة السوقية.
11- ضمان الشركة شراء الأسهم:
لا مانع شرعًا من ضمان الشركة شراء الأسهم إذا كان الشراء بالقيمة الحقيقية أو السوقية. لأنه عبارة عن إنقاض لرأس مال الشركة.
12- تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة:
لا مانع شرعًا من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها أو أصولها، لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفى الضرر عمن يتعامل مع الشركة بأكثر من أصولها.
كما لا مانع شرعًا من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام، وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون وشركاء محدودو المسؤولية.
13- حصر تداول الأسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم التعامل في أسواقها:
للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم بأن لا يتم إلا بواسطة سماسرة مخصوصين ومرخصين بذلك العمل، لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة.
وكذلك يجوز اشتراط رسوم لعضوية المتعامل في الأسواق المالية لأن هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة، وذلك لتغطية النفقات أو لجباية ضريبة غير مباشرة.(7/420)
ثانيًا – السلع:
بعد مناقشة الموضوعات المقدمة في الندوة بشأن السلع والإطلاع على ما قرره المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في الموضوع نفسه انتهى المشاركون إلى التوصية بتأييد ما اتخذه المجمع من فتاوى نصها ما يلي:
أولًا: إن غاية السوق المالية (البورصة) هي إيجاد سوق مستمرة ودائمة يتلاقى فيها العرض والطلب والمتعاملون بيعًا وشراء، وهذا أمر جيد ومفيد، ويمنع استغلال المحترفين للغافلين والمسترسلين الذين يحتاجون إلى بيع أو شراء، ولا يعرفون حقيقة الأسعار، ولا يعرفون المحتاج إلى البيع ومن هو محتاج إلى الشراء.
ولكن هذه المصلحة الواضحة يواكبها في الأسواق المذكورة (البورصة) أنواع من الصفقات المحظورة شرعًا، والمقامرة والاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل، ولذلك لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها. بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجري فيها، كل واحدة منها على حدة.
ثانيًا: إن العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع التي يجري فيها القبض فيما يشترط له القبض في مجلس العقد شرعًا هي عقود جائزة، ما لم تكن عقودًا على محرم شرعًا. أما إذا لم يكن المبيع في ملك البائع فيجب أن تتوافر فيه شروط بيع السلم، ثم لا يجوز للمشتري بعد ذلك بيعه قبل قبضه.
ثالثًا: إن العقود العاجلة على أسهم الشركات والمؤسسات حين تكون الأسهم في ملك البائع جائزة شرعًا، ما لم تكن تلك الشركات أو المؤسسات موضوع تعاملها محرم شرعًا كشركات البنوك الربوية وشركات الخمور، فحينئذ يحرم التعاقد في أسهمها بيعًا وشراء.
رابعًا: إن العقود العاجلة والآجلة على سندات القروض بفائدة، بمختلف أنواعها غير جائزة شرعًا، لأنها معاملات تجري بالربا المحرم.(7/421)
خامسًا: إن العقود الآجلة بأنواعها، التي تجري على المكشوف، أي على الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع، بالكيفية التي تجري في السوق المالية (البورصة) غير جائزة شرعًا لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك، اعتمادًا على أنه سيشتريه فيما بعد ويسلمه في الموعد. وهذا منهي عنه شرعًا لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تبع ما ليس عندك)) ، وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)) .
سادسًا: ليست العقود الآجلة في السوق المالية (البورصة) من قبيل بيع السلم الجائز في الشريعة الإسلامية، وذلك للفرق بينهما من وجهين:
(أ) في السوق المالية (البورصة) لا يدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد، وإنما يؤجل دفع الثمن إلى موعد التصفية، بينما أن الثمن في بيع السلم يجب أن يدفع في مجلس العقد.
(ب) في السوق المالية (البورصة) تباع السلعة المتعاقد عليها وهي في ذمة البائع الأول، وقبل أن يحوزها المشتري الأول، عدة بيوعات، وليس الغرض من ذلك إلَّا قبض أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين، مخاطرة منهم على الكسب والربح، كالمقامرة سواء بسواء، بينما لا يجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه.
وبناء على ما تقدم يرى المجمع الفقهي الإسلامي أنه يجب على المسؤولين في البلاد الإسلامية أن لا يتركوا أسواق البورصة في بلادهم حرة تتعامل كيف تشاء في عقود وصفقات، سواء أكانت جائزة أو محرمة، وأن لا يتركوا للمتلاعبين بالأسعار فيها أن يفعلوا ما يشاؤون، بل يوجبون فيها مراعاة الطرق المشروعة في الصفقات التي تعقد فيها، ويمنعون العقود غير الجائزة شرعًا ليحولوا دون التلاعب الذي يجر للكوارث المالية، ويخرب الاقتصاد العام، ويلحق النكبات بالكثيرين، لأن الخير كل الخير في التزام طريق الشرعية الإسلامية في كل شيء. قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] .(7/422)
ثالثًا – الاختيارات:
تبين من استعراض البحوث المقدمة في موضوع الاختيارات أن هذا الموضوع بحاجة إلى المزيد من الدراسات ولا سيما فيما يتعلق بالبدائل الشرعية.
لذا يوصي المشاركون الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي باستكتاب عدد من الاقتصاديين والفقهاء بحوثًا أخرى في هذا الموضوع، مع التركيز على الجوانب الفنية والعملية التي تقوم عليها الاختيارات في الأسواق المالية العالمية وطرح البدائل الشرعية.
رابعاً- بطاقات الائتمان:
تبين من خلال استعراض البحوث المقدمة في موضوع بطاقات الائتمان، والتعقيبات، والمناقشات التي جرت بشأنها: أن القواعد التي تقوم عليها في صورتها المجردة يمكن أن تستند إلى بعض المبادئ الشرعية، بعد تنقيتها من الشوائب التي ليست من جوهرها، وهذا ما قام به عدد من المصارف الإسلامية التي بادرت إلى إصدار بطاقات ائتمانية خاصة بها بعد أن أجرت التعديلات الضرورية التي أدخلتها هيئاتها الشرعية للوصول إلى صيغ مشروعة لعقودها وإجراءاتها.
وعلى الرغم من أن البحوث المقدمة قد عُنيت بجوانب مهمة من الناحية الفنية، والتكييف الشرعي لكن الموضوع لا يزال بحاجة إلى مزيد من الدراسات فيه.
لذا يوصي المشاركون الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي باستكتاب عدد من الاقتصاديين بحوثًا في هذا الموضوع مع مراعاة التركيز على بيان التصور الفني الدقيق سواء في طبيعة العقد المنظم لها، أو الأمور الأخرى المتعلقة به والمترتبة عليه، وكذلك دعوة الأساتذة الفقهاء إلى بيان الحكم الشرعي فيه.
خامسًا – توصيات عامة:
1- يناشد المشاركون في هذه الندوة المسلمين حكامًا وشعوبًا الحرص على التطبيق التام لأحكام الشريعة في شتى مناحي الحياة ومجالات العمل حتى يتحقق لهم ما يصبون إليه من وحدة الأمة الإسلامية وتنمية قدراتها وتكامل طاقاتها لتؤدي دورها بصفتها خير أمة أخرجت للناس.
2- يشيد المشاركون بالدور الفعال الذي قامت به دولة البحرين في مجال احتضان ودعم المؤسسات المالية الإسلامية، وسن القوانين المنظمة لها وتهيئة المناخ المناسب لأداء دورها في خدمة الاقتصاد الإسلامي.(7/423)
كما ينوه المشاركون بدور الدول العربية والإسلامية الأخرى التي اتخذت مبادرات من شأنها دعم المسيرة الاقتصادية الإسلامية المتمثلة في المؤسسات المالية التي سلكت النهج الإسلامي، مما يعتبر مثالًا جديرًا بأن يحتذى به.
3- أشاد المشاركون بدور صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير دولة البحرين، ودور صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر، ودور صاحب السمو الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة ولي العهد الأمين، في الدعم المستمر للمؤسسات المالية الإسلامية وما يخصونها به من رعاية واهتمام أعانها على القيام بالدور المنوط بها، وقد قرر المشاركون رفع برقية شكر وتقدير لسموهم مشفوعة بتمنيات الجميع لهم بالصحة والتوفيق والسداد.
كما قرروا رفع برقية شكر لصاحب السعادة الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة وزير العدل والشؤون الإسلامية على رعايته الكريمة للندوة.
كما تقرر أيضًا التوجه بالشكر الجزيل لسماحة الشيخ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة على جهوده الفنية مقرونًا بالدعاء له بالصحة والسعادة.
4- بمناسبة عقد هذه الندوة التي تزامنت مع مرور عشر سنوات على إنشاء بنك البحرين الإسلامي يتقدم المشاركون بأسمى آيات الشكر والتقدير مهنئين بنك البحرين الإسلامي ممثلًا في رئيس مجلس الإدارة الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن راشد آل خليفة، والعضو المنتدب الأستاذ عبد اللطيف عبد الرحيم جناحي، وجميع أعضاء مجلس الإدارة واللجنة التحضيرية ومنسوبي البنك، على ما بذلوه من جهود موفقة ومباركة في سبيل تحقيق أهداف البنك.
كما يقدرون مواقف شعب البحرين المسلم في دعمه لكل ما يؤدي إلى نجاح المؤسسات المالية الإسلامية القائمة على هذه الأرض الطيبة.
كما يشيد المشاركون بما لاقوه من حفاوة وتكريم منن قبل حكومة وشعب البحرين ومن القائمين على تنظيم هذه الندوة، وكل من ساهم في إنجاحها، داعين الله العلي القدير أن يوفق الجميع ويأخذ بأيديهم لما فيه خير الإسلام وعزة المسلمين. والحمد لله رب العالمين.(7/424)
الوثيقَة رَقم 5
وَرَقة عَمل الحَلقَة الدّرَاسية
التي عُقِدَت في المجمَع
باشتراك مَجُموعة مِنَ الاقتِصَاديين
بسم الله الرحمن الرحيم
الاختِيَارات (OPTIONS)
التعريف:
الاختيار: عقد بعوض على حق مجرد، يخول صاحبه بيع شيء محدد أو شراءه بسعر معين طيلة مدة معلومة أو في تاريخ محدد، إما مباشرة أو من خلال هيئة ضامنة لحقوق الطرفين.
إيضاح التعريف:
الاختيار عقد تتم فيه المبادلة بين حق مجرد لشراء أو بيع كمية محددة في زمن محدد من سلعة موصوفة بدقة بثمن محدد وهذا الحق غير متعلق بعقار أو نحوه من الأشياء المادية، بل هو إرادة ومشيئة، وبين عوض محدد دون اعتبار العوض من ثمن السلعة بل هو ثمن للاختيار. ولا ينظر إلى وجودها بصورة معينة فيكفى أن يمكن الحصول عليها عند التنفيذ.
وثمن الاختيار هذا يتحدد اعتمادًا على كثير من المتغيرات منها:(7/425)
- سعر السلعة المذكور في العقد.
- طول الفترة الزمنية المحددة للعقد.
- التوقعات بالنسبة لتقلبات أسعار السلعة التي سيقع عليها الشراء أو البيع.
- السعر المتوقع للسلعة التي سيقع عليها الشراء أو البيع.
- سعر الفائدة.
والاختيار للشراء يسمى اختيار الطلب أو اختيار الاستدعاء، واختيار البيع يسمى اختيار الدفع. وكل منهما قد يكون ممتد الصلاحية منذ التعاقد إلى نهاية فترة معينة، أي يحق استخدامه في أي وقت خلالها، وقد يكون مؤجلًا لا يحق استخدامه إلَّا في تاريخ محدد.
والغالب في التعامل بالاختيارات أن يكون عن طريق هيئات مخصوصة هي (الأسواق المالية) المنظمة رسميًّا والمرخص فيها بذلك لسماسرة محصورين يجمعون رغبات الشراء والبيع بين أطراف غير معروف بعضها لبعض، ويجرون الارتباط بين المتوافق من الاختيارات، على أنه قد تقع الاختيارات مباشرة بين المتعاملين بها خارج الأسواق المالية التي تؤدي خدمة الضمان لحقوق الأطراف الملتزمة بالتنفيذ في حينه.(7/426)
بعض الأسئلة حول الاختيارات:
يتعلق بالتعريف جملة من القضايا المؤثرة في التكييف الشرعي للاختيارات وحكمها، يمكن الإشارة إليها في صورة أسئلة منها:
1- هل ينضوي عقد الاختيار تحت أحد العقود المسماة المعروفة أو هو نوع جديد؟ وإذا كان نوعًا جديدًا فما حكمه وما تكييفه الشرعي في الجملة؟
2- هل هناك علاقة بين عقد الاختيار وبين البيوعات أو العقود الأخرى، مثل: بيع العربون، أو البيع على الصفة، أو السلم، أو الهبة؟
3- ما التكييف الشرعي للعوض مقابل إعطاء الحق في الاختيار؟
4- هل يصلح الحق المجرد محلًّا للعقد؟
5- إذا جرى عقد الاختيار من خلال هيئة ضامنة، فما التكييف الشرعي لدور هذه الهيئة؟ وما حكم هذا الضمان؟
6- هل يصح بيع (اختيار الاستدعاء) أو هو كبيع شيء موصوف لا يملكه البائع بالرغم من توفره في السوق؟
7- هل يمكن في صورة (اختيار الشراء) أن يعتبر العقد مشروعًا بجعل العوض جزءًا من ثمن السلعة؟
8- إذا لم يكن هذا العقد مقبولًا شرعًا كليًّا أو جزئيًّا، فكيف يمكن تعديله ليكون مقبولًا شرعًا؟(7/427)
التعريف بصورة خاصة من الاختيارات:
يدخل في جنس التعريف الاختيار وإن لم تنطبق جميع قيوده صورتان من الاختيارات لا يصدرهما الأفراد وهما يعطيان مجانًا ولكن يتم فيما بعد بيعهما وشراؤهما بمقابل:
(أ) شهادة حق التملك (WARRANT) :
وهي شهادة تصدرها شركة مساهمة لبعض الأشخاص، لاعتبارات معينة كإقراض الشركة أو تقديم خدمات لها بدون مقابل مادي، تعطيهم الحق في شراء عدد معين من أسهم الشركة بسعر محدد خلال فترة زمنية.
(ب) حق الأولوية في شراء الإصدارات الجديدة من الأسهم (PRE-EMPTIVE RIGHT) : إن هذا الحق حق موثق يعطى من الشركات المساهمة للمساهمين بنسبة مساهماتهم السابقة يخولهم الحق بشراء عدد معين من الإصدار الجديد لأسهم الشركة بسعر معين خلال مدة محددة. والغرض منه حماية حقوق المساهمين القدامى في حالة إصدار أسهم جديدة بقيمة أقل من القيمة المتداولة في السوق. وقد يستعاض عنه أحيانًا بإصدار أسهم مجانية للمساهمين القدامى.
أسئلة حول شهادة حق التملك وحق الأولوية في شراء الإصدارات الجديدة من الأسهم:
1- هل إصدار هذين الاختيارين (الحقين) جائز شرعًا؟
2- هل يجوز نقل هذين الاختيارين (الحقين) إلى غير من أصدر له بعوض؟
3- هل ينطبق على الصورة الثانية (الأولوية في شراء الإصدارات) حكم الشفعة شرعًا؟
بسم الله الرحمن الرحيم
أسوَاق السّلع (المستَقبليّات)
التعريف:
عقود السلع والمستقبليات هي: عقود للشراء أو للبيع من خلال هيئة سوق السلع وضمانها، تقع على كمية محددة موصوفة ولو غير مملوكة، لقاء ثمن معلوم يؤدى عند تسليم المبيع ما لم تقع التصفية، مع اشتراط إيداع الطرفين تأمينًا لدى إدارة السوق، أو خطاب ضمان أو نحوه.(7/428)
إيضاح التعريف:
إن التعامل في السلع لا يتم إلَّا في الأسواق المنظمة من خلال سماسرة مرخصين. والهيئة التي تدير سوق السلع ضامنة لصالح الأطراف المتعاملة في شتى المراحل التي يمر بها التعامل إلى نهايته. وهي تشترط عليهم إيداع تأمين نقدي لديها، وعادة تعطي فوائد عليه، وهو لمقابلة فروق الأسعار، كما يستخدم جزء من المبالغ المستحق دفعها عند الحاجة، وقد يستغني عن التأمين النقدي بخطاب ضمان أو بسندات خزانة ... إلخ.
ويضاف إلى هذا التأمين – أو ينقص منه – يوميًّا ما يؤدي إليه تغيير الأسعار من ربح أو خسارة.
والعقود التي يقوم عليها التعامل بالسلع ليست من نمط العقود المعروفة في الفقه بالتقاء إيجاب وقبول في مجلس بين طرفين، وإنما المراد بالعقود (إرادة الشراء) أو (إرادة البيع) وكل واحدة منهما ملزمة لصاحبها، ومعلنة إلى إدارة السوق التي تجمع المتوافق فيها لينتج عنه إبرام الصفقات. كما ينبغي ألا يفهم أن هناك عقدين على سلعتين من كل طرف عقد بل هما على سلعة واحدة.
ولا تكون السلع مملوكة في الغالب للبائعين، كما أنها ليست معينة بالذات، وإنما هي موصوفة وصفًا تامًّا يقطع النزاع في عملية التسليم.
وهذه العقود مؤجلة بطبيعتها، حتى تلك التي تسمى (عقود آنية) فإن فيها أجلًا قصيرًا هو ما يبقى من أيام الشهر الذي وقعت فيه وينقضي الأجل في الأيام الثلاثة الأخيرة منه. أما طويلة الأجل وهي معروفة (بالمؤجلة) عند المتعاملين بها فهي التي يكون تنفيذها في شهر لاحق لشهر التعاقد. ومعظم العقود تنتهي بالتقابل فينهي عقد شراء مثلًا بعقد بيع مساوٍ له في المقدار، وقد تنتهي بالتسليم.
والاستيراد للسلع الأساسية النمطية يتم معظمه عن طريق هذه الأسواق، وهي تفيد في ضمان توريد المواد في حالة اتجاه القصد إلى التسليم وإن كان غرض المتعاملين الاسترباح من فروق السعر بالتصفية.
بعض الاسئلة حول السلع (المستقبليات) :
يتعلق بالتعريف، في ضوء إيضاحاته، جملة من القضايا المؤثرة في التكييف الشرعي للتعامل في السلع، يمكن إلاشارة إليها في صورة أسئلة، منها:
1- هل هذا النوع من المعاملات يعتبر عقدًا في منظور الفقه؟ وإذا كان عقدًا فهل هو مشروع؟
2- هل يجوز أن يكون محل هذه (العقود) المؤجلة ذهبًا أو فضة أو عملات؟ مع الإشارة إلى أدلة الرأي.
3- ما الأحكام التي يختص بها محل هذه (العقود) إذا كان طعامًا؟(7/429)
4- ما علاقة هذه (العقود) ببيع السلم، أو بيع الموصوف، أو بيع ما ليس مملوكًا، أو بيع الكالئ بالكالئ، أو بيع ما ملك قبل قبضه؟
5- ما حكم دفع ما ينشأ عن فروق الأسعار من ربح أو خسارة، أو استحقاقه، في حالة عدم انتهاء هذه (العقود) بالتسليم؟ وفي حالة انتهائها بالتسليم الفعلي أيضًا؟
6- هل تجوز تصفية (العقود) بإجراء (عقد) مقابل لها؟
7- هل دور إدارة سوق السلع (المستقبليات) هو دور الوكيل عن الطرفين، أو السمسار، أو غيرهما مع ملاحظة أن كل طرف لا يعرف الطرف الآخر؟
8- ما حكم الكفالة التي تلتزم بها إدارة السوق؟
9- ما حكم اشتراط إيداع تأمين من كلا الطرفين، وما علاقة ذلك بالعربون؟
10- ما اثر الباعث على هذه (العقود) فيما لو كان هو الحصول فعلًا على السلع، أو الحصول عليها مع الاحتياط بعقود مقابلة للاحتماء والتحوط من ارتفاع الأسعار، وفيما لو كان مجرد الحصول على عائد فروق الأسعار بالمخاطرة بتعاملات مستمرة وليس في القصد الحصول على السلعة؟
11- ما هي البدائل المشروعة لهذه المعاملات؟
(أ) هل تنظم السوق الإسلامية على أساس السلم (دفع كامل الثمن عند التعاقد) ؟
(ب) هل يمكن اعتبار هذه العقود وعودًا بالبيع غير ملزمة ما لم تنته بالتسليم الفعلي فتصبح عندئذ ملزمة (على أساس أن وجود التسليم معناه أن المتعاقد قد دخل بالتزامات نتيجة لهذا الوعد) ، وتنتهي غير الملزمة بالإلغاء بدون ربح أو خسارة، ويكون التسليم بسعر العقد؟(7/430)
بسم الله الرحمن الرحيم
بطَاقاتُ الائتِمان
التعريف:
مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري – بناء على عقد بينهما – يمكنه من شراء السلع أو الخدمات، ممن يعتمد المستند، دون دفع الثمن حالًا، لتضمنه التزام المصدر بالدفع. ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف على حساب المصدر.
لبطاقات الائتمان صور:
1- منها ما يفرض المصدر فيه رسمًا سنويًّا على من تعطى له.
2- ومنها ما يكون السحب أو الدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف وليس من حساب المصدر.
3- ومنها ما يلزم حاملها دفع ما ترتب عليه للمصدر (من ثمن مشتريات أو خدمات أو مسحوبات نقدية) خلال فترة معينة (شهر في الغالب) .
4- ومنها ما يلزم شهريًّا بسداد جزء على الأقل من المبالغ المترتبة في ذمة حاملها مع دفع الفوائد على المبالغ التي لم تدفع.
5- ومنها ما يكون الشراء بها من محلات المصدر فقط.
هذا وقد يكون لحاملها منافع أخرى مثل:
1- تخفيض الثمن على بعض أنواع المشتريات والخدمات.
2- التعريف بشخص الحامل لها.
3- التأمين على الحياة – مجانًا – عند شراء تذاكر السفر بواسطة البطاقة.
4- المشاركة في السحب على جوائز يرصدها المصدر.
5- ضمان أن لا يخسر حاملها أكثر من مبلغ معين في حال ضياعها أو سرقتها أو استعمالها من شخص آخر بشكل غير نظامي.
إيضاح التعريف:
لا بد لوجود البطاقة من عقدين منفصلين عن بعضهما:
1- عقد بين المصدر وبين حاملها يتضمن سقفًا (حدًّا أقصى) للائتمان وشروط العلاقة.
2- عقد بين المصدر وبين من يعتمدها من مؤسسات وشركات ومصارف، ويتضمن هذا العقد في جميع أنواع البطاقة أن المصدر يحصل على نسبة من الثمن الذي يطالب به التاجر معتمد البطاقة، يتراوح في العادة بين 1 % - 5 %.(7/431)
حينما يمتنع المصدر من دفع الثمن أو أجرة الخدمة لا يعود التاجر أو مقدم الخدمة على حامل البطاقة. وكذلك حينما يمتنع حامل البطاقة – لسبب ما – من الدفع للمصدر فإنه لا يعود على التاجر إلَّا في حالة الخطأ في الصورتين.
في حال السحب من المصرف أو الشراء أو الخدمة بغير عملة البطاقة يسجل سعر الصرف في يوم القيد على المصدر.
ملحق لنوع آخر من البطاقات:
بطاقة الخصم من الثمن: تخول صاحبها الحق بالحصول على خصم من الثمن للسلع أو الخدمات التي يبيعها مصدرها وحده أو بالاشتراك مع باعة آخرين وهي نوعان:
(أ) نوع يصدر بناء على رسم يدفعه حاملها للمصدر.
(ب) نوع يصدر مجانًا ويعطى هدية للحامل.
بعض الأسئلة حول بطاقات الائتمان:
1- ماهو التكييف الشرعي لهذه البطاقات بالنسبة للطرفين المصدر والحامل هل هو من قبيل القرض أو الحوالة أو الضمان؟
2- ماالحكم عندما يكون ثمن السلعة أعلى في حالة استعمال بطاقة الائتمان من الدفع نقدًا؟(7/432)
3- لو تضمن عقد إصدار البطاقة نصًّا ربويًّا، كأن يقول: إذا لم تدفع الحساب المستحق خلال مدة معينة تترتب عليك فوائد. فهل يجوز الدخول في العقد لمن ينوي أن يدفع في الوقت بحيث لاتترتب أية فوائد وبخاصة إذا كانت له مصلحة حقيقية من ذلك كرفع الحرج عنه للتعريف بشخصه والتمكن أو استئجار سيارة من المطارات مما قد يشترط فيه وجود البطاقة؟
4- ماهو حكم عودة المصدر على التاجر حينما يمتنع حامل البطاقة من الدفع للمصدر؟
5- هل يجوز للتاجر أن يشترط أن لا يعود المصدر عليه إذا امتنع حامل البطاقة من الدفع للمصدر؟
6- ماحكم عودة التاجر على حامل البطاقة حينما يمتنع المصدر عن دفع الثمن أو يفلس؟
7- إذا أفلس المصدر فهل يحاصص التاجر مع الغرماء، أم يأخذ كامل حقه؟
8- عندما يطالب المصرف المصدر بسداد ماسحبه حامل البطاقة، فهل يدخل في هذا ربا الفضل أو النسيئة؟
9- في حال السحب بغير عملة البطاقة يسجل سعر الصرف في يوم القيد على المصدر ويطالب به حامل البطاقة، فهل تجوز هذه المصارفة؟
10- ما الحكم في الخصم من الثمن الذي يحصل عليه المصدر من التاجر؟
11- في حال عدم جواز الخصم السابق، هل يؤثر هذا في مشروعية التعاقد بين حامل البطاقة والمصدر؟
12- ما الحكم إذا كان من مزايا البطاقة حصول حاملها على خصم من الثمن عند شرائه سلعًا معينة، أو ارتياده فنادق محددة، أوتعامله مع شركات معينة لتأجير السيارات مثلًا؟(7/433)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
أولًا: الأسواق المالية
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن الموضوعات الرئيسية التي احتلت الجلسات الأولى من جلسات العمل في هذه الدورة تتعلق بالأسواق المالية في الأسهم والاختيارات والسلع وبطاقة الائتمان، وغير خافٍ عليكم مامرت به من المراحل في الندوة التي سبق عقدها في المغرب، ثم في الدورة السادسة لمجمع الفقه الإسلامي، ثم في الندوة التي عقدت في البحرين بين مجمع الفقه الإسلامي وبنك البحرين الإسلامي، ثم هيئات توالت على دراسة الاختيارات وبطاقات الائتمان وبعض قضايا الأسهم والسلع في مقر المجمع بجدة.
ونظرًا لعدم حضور العارض في بحث الأسهم الاستاذ على محي الدين القره داغي فالبحث الذي سيطرح في هذه الجلسة المسائية- بإذن الله تعالى- هو موضوع الاختيارات ويتولى الشيخ محمد المختار السلامي العرض.(7/434)
الشيخ محمد المختار السلامي:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
أعددت بحثًا شبه مختصر عن الاختيارات ثم لخصته في النقاط الأساسية لموضوع الاختيارات، وهذا الموضوع هو موضوع جديد جدًا، إذ أنه لم يبدأ العمل به إلا في الثمانينات. فالاختيار عبارة عن وثيقة مقابل ثمن يدفعه مشتريها تخوله إما أن يختار شراء ماتضمنته تلك الوثيقة محددة تحديدًا دقيقًا نوع المشترى وثمنه، والأجل الذي يستعمل فيه هذا الحق وكل مايتعلق بذلك بمكان التسلم، وهذا في اختيار الشراء، وإما أن يختار بيع ماتضمنته حسب التحديد والضبط السابق. وهذا التعريف معبر عن واقع، فالخيار هو خيار شراء وخيار بيع، وحامل الوثيقة مخير في حدود الأجل في تنفيذ ماجاء في الوثيقة أو عدم المطالبة بالتنفيذ حسب الوضع الذي عليه السوق.
وموضوع وثيقة الخيار- لها مواضيع كثيرة- وتقع وثيقة الاختيار هذه في.
1- الصرف، في شراء عملة في حدود الأجل بقيمة محددة.
2- في الفائدة: ليضمن حدًّا للفائدة يستفيد من ارتفاع أو انخفاض قيمة الفائدة حسب طبيعة العقد.
3- في المعادن الرفيعة كالذهب والفضة.
4- في سندات الخزينة.
5- في المؤشرات.
6- في المواد من معادن وحبوب وغيرها وكذلك في الأسهم وطريقة إنجاز عقد الخيار.
معظم المعاملات في الاختيارات تتم في الأسواق التي يتكفل فيها الوسيط بالجمع بين إرادة بيع وإرادة شراء ويتم ذلك في عقود نمطية، وهذه العقود لاتنتهي عادة بالتسليم وإنما بالمقاصة فيستفيد الرابح ويفوز بالربح، كما تتم هذه العقود لدى بعض البنوك وكما تتم خارج السوق وخارج المصارف بين شخصين.(7/435)
التصوير الفقهي والتصوير العملي لهذه العقود:
هذه العقود هي عقود حادثة ولذلك مارأيت وجهًا ليقارن بالعقود المعروفة في الفقه الإسلامي- لأنها كما قلت – قد نظمت في أواسط الثمانينات، وقد يخيل أن هذه العقود لها شبه ببعض العقود المعروفة ولذلك يكون من المتحتم التمييز بينها. فمن ذلك:
(أ) بيع العربون: بيع العربون على أن المشترى يقدم للبائع مقدارًا ماليًّا إن أخذ السلعة حسم ذلك من أصل الثمن وإن عدل عن الشراء فاز البائع بالعربون، وحتى على القول بأن بيع العربون جائز فالفرق واضح بين بيع العربون والاختيارات، ذلك:
أولًا: إن المال المقدم في بيع العربون هو جزء من الثمن عند إتمام الصفقة بينما هو في بيع الخيار لا صلة له بثمن الصفقة ولا يطرح منها عند إتمام العقد.
ثانيًا: إن العربون مقدم من المشتري للبائع، والخيارات قد يكون الدافع لثمنها البائع وقد يكون المشتري.(7/436)
ثالثًا: إن بيع العربون لاينتقل فيه العربون بالبيع والشراء بينما في بيع الخيار أو الخيارات للمشتري الخيار أو بائعه أن يتصرف فيه بأنواع التصرف ومنها البيع.
رابعًا: إن الدافع للتعامل بالخيارات هو تحصيل الربح لا السلعة. بينما المقصود في بيع العربون هو تحصيل السلعة.
خامسًا: إن مستند ثمن الخيارات توقعات مستندة إلى سعر الفائدة ومرتبطة بالأمد وبتذبذب الأسعار ولا شيء من هذا في بيع العربون.
سادسًا: إن موضوع العقد في الخيارات كما بينا يشمل السلع والفائدة والمؤشرات فهي في كثير من صورها أقرب إلى القمار.
أما النسبة بين بيع الخيارات والبيع على الصفة فبين بيع الخيار والبيع على الصفة بون شاسع، ذلك أنه وإن كان في بيع الخيار توصف السلعة وصفًا دقيقًا ولا تكون حاضرة كما هو في البيع على الصفة، فإن بيع الخيارات لا يرتبط إمضاء العقد أو فسخه حسب الموافقة بين الموصوف والواقع كما هو الحال في البيع على الصفة بل هو مرتبط بالربح الذي يحصل عليه مستعمل حق الاختيارات فإن وجد ربحًا أتم العقد وإلاَّ ألغي الاختيار وخسر قيمته، أما المقارنة بينه وبين السلم فمشتري الاختيارات هو مختار في الأجل بين إتمام الصفقة أو التخلي عنها – وهنا فرق بين الاختيارات في أمريكا والاختيارات في أوروبا، فالاختيارات في أمريكا يبدأ حق المشتري للخيار من تاريخ العقد إلى تاريخ انتهاء أمده بينما هو في أوروبا فالاختيارات ليس لمشتريها الحق إلَّا عند انتهاء الأمد – قلنا مشتري الاختيارات مختار بين إتمام الصفقة أو التخلي عنها وأما في بيع السلم فكل طرف ملزم بإتمام الصفقة، وفي بيع السلم لا بد من تقديم كامل الثمن أما في الاختيارات فلا يقدم شيء من ثمن البيع.
وإذا أردنا المقارنة بين الهبة والاختيارات فلا صلة بين الهبة والاختيارات لأن أحدهما مبني على التبرع والآخر على الرغبة في الربح.(7/437)
التكييف الفقهي:
أقرب شيءٍ للخيارات – في نظري – هو القمار. فكل مشتر لخيار بيع أو شراء يربط حظه بتقلبات الأسواق إما لفائدته أو ضده. وفي بعض أحواله إضافة إلى القمار صرف مؤجل وتعمير ذمتين.
أما الهيئة الضامنة فالضمان في عقود الاختيارات هو شكلي لأن السمسار لا يقوم بالجمع بين الإرادتين إلَّا بعد أن يحقق لنفسه من ضمانات الدرك ما يبلغ به العقد مرحلته النهائية فالضمان صوري لأن الضمان في الأسواق والبنوك ليس عملًا خيريًّا.
تصحيح عقود الاختيارات:
إن الاختيارات في منطلقها وغاياتها غير قابلة للتصحيح الشرعي – في نظري – إذ هي محاولة تخريج تعامل على الوجه الصحيح لا فائدة له إلَّا إذا كان ممكن التطبيق وهذه عقود لا تقبل أي تغيير في أسواقها ولا حاجة للعالم الإسلامي فيها في اقتصاده. والله أعلم.
الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة على رسول الله، وبعد:
لا شك بأن الظروف الاقتصادية العالمية تعتمد على أسس قانونية بعيدة عن مناخ الفقه الإسلامي وعن طبيعته التي تعتمد على منع الغرر والنزاع والخلافات التي تثور فيما بين المتعاقدين وتمنع الربح الذي لا يعتمد على أساس حلال، ويراد لهذه الأنظمة الغربية أن تكون لها الهيمنة في البلاد الإسلامية بهذه العناوين، ولقد حاول الكثيرون من الاقتصاديين أن يجدوا مبررًا أو مسوغًا لهذه الأنظمة الغربية عن فقهنا الإسلامي وعن تطلعات – أيضًا – المسلمين إذا أرادوا التقيد بقواعد شريعتهم والالتزام بالنصوص الشرعية الصريحة في مثل هذه الأمور. ومن أخص هذه التصورات والأوضاع الموجودة في الأسواق الاقتصادية أو الأسواق المالية العالمية هو ما سُمِّي بموضوع (الاختيارات) .(7/438)
لقد أعددت بحثًا حول هذا الموضوع – أيضًا – مختصرًا كما هو الشأن الذي جرى عليه فضيلة الشيخ الجليل محمد المختار السلامي وأؤيده في كثير مما قاله في أن هذه العقود ليست لها صبغة شرعية ولا يقرها فقهنا لا من قريب ولا من بعيد، فهي ليست مما تنطوي تحت عقود بيوع العربان أو العربون الذي أقره فقهاء الحنابلة دون غيرهم من المذاهب الإسلامية، والكلام حول هذا العقد – أيضًا – معروف عند الفقهاء ومع ذلك فنحن لا نجد مسوغًا لعقد هذه المقارنة، فالعقود المعروفة في الفقه الإسلامي تعتمد على وجود إرادتين واتفاق إرادتين بإيجاب وقبول والعقد قائم، وكل ما يمكن أن يثار حول هذه العقود هو تحقيق الضوابط الشرعية والمبادئ التي ينبغي أن تتحقق لتحقيق العدالة والمساواة ومنع الغرر كما قلت. فهذه العقود التي سميت بعقود الاختيارات ليست إطلاقًا من فئة عقود بيع العربون وليست – أيضًا – من فئة عقود السلم لأن عقد السلم – أيضًا – عقد وارد على بيع شيء موصوف في الذمة فهو بيع آجل بعاجل، بيع قائم والشرع – أيضًا – حينما أجاز عقد السلم وعقد الاستصناع استثناء من العقود العامة – كما يقول بعض الفقهاء – هو ثبت على خلاف القياس استحسانًا مراعاة لحاجة الناس إليه حتى لا يكون هناك تصادم بين بيع – المبدأ الممنوع شرعًا – الكالئ بالكالئ، أو بيع الدين بالدين، فاستثنى عقد السلم ومع ذلك فهو جائز شرعًا نحترمه. عقود الاختيارات ليست لها مثل هذه الصفة إطلاقًا فهي مجرد وعود بين متعاملين يريدان – كما أشار فضيلة الأستاذ السلامي – أن يربح الوسطاء بين هؤلاء المتعاملين وينتظرون تقلبات الأسواق بحذق ومهارة ويستفيد واحد منهما على حساب الآخر وليس هناك له أي صفة عقد، فالعقد أنا لا استطيع أن أسمي هذا عقدًا إطلاقًا. إنما أضيف إلى ما ذكره الشيخ السلامي أن هذه كما ذكرت في بحثي عقود الاختيارات هي مجرد مواعدة ووعود بين اثنين، وهذه الوعود حتى الوعد – أيضًا – لا يمكن أن يكتسب صفة الإلزام عند أغلب الفقهاء إلَّا ما هو معروف ومشهور عند فقهاء المالكية: " إذا دخل الإنسان في التزام ما عندئذ يصبح الوعد ملزمًا "، وأيضًا يقول الحنفية: " الوعود بصور التعاليق تكون ملزمة "، يعني أنه وعد إنسانًا وقال له: إن تزوجتها فأنا أقرضك أو أعطيك أو أبيعك أو أشتري منك، هذه التزامات – أيضًا – الحنفية أقروا المبدأ في أن الوعود تكون ملزمة إذا دخل الإنسان في التزام ما. فهم أقرب إلى مذهب المالكية أيضًا. فهذه مجرد وعود وهذه الوعود أيضًا حتى لو جرينا على مبدأ الفقه المالكي لا يمكن أن نقول أنها تتسم أو تستحق أن توصف بصفة الإلزام لأنه لا يلتزم واحد من الطرفين بشيء حتى يلتزم الطرف الآخر بمقابله. فلذلك كما ذكرت، الخلاصة في هذا الموضوع: عقود الاختيارات أو طبيعة هذا العقد لا نجده منضمًّا تحت لواء تنظيم أي عقد من العقود المسماة المعروفة وقد أحصيت هذه العقود المعروفة في الفقه الإسلامي منها: عقود التمليك، عقود المنفعة، عقود العمل، عقود الغرر، عقود التأمينات الشخصية ... إلخ. والعقود في الفقه الإسلامي واحد وعشرون عقدًا لم أجد أي تشابه أو تقارب بين هذه الاختيارات وبين هذه العقود المقررة في الفقه الإسلامي فهي إذن تصرف من نوع خاص يمكن وصفه – كما قلت – مجرد مواعدة لتبادل حقوق مجردة منقطعة الصلة بالأعيان أو بالأشياء المادية وتقتصر على تبادل الرغبات أو الإرادة والمشيئة. يعني إذن هي التعبير الدقيق إذا أردنا إضفاء التكييف الفقهي الدقيق على هذه التي تسمى (عقود الاختيارات) هي عقود باطلة.(7/439)
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
في الواقع أن صورة عقود الاختيارات قد أوضحها فضيلة العلامة الجليل الأستاذ محمد المختار السلامي، وألقى عليه أخونا الدكتور وهبة الزحيلي ضوءًا وأضم صوتي إلى صوتهما وأقول: إنه من الواضح أن هذه العقود – عقود الاختيارات – لا تدخل في أحد من العقود المشروعة المعروفة في الشريعة الإسلامية لا في السلم ولا في الهبة ولا في الوعد الملزم ولا في بيع الحقوق التي أجازها بعض الفقهاء ولكن لا يقتصر الأمر على هذا فحسب بحيث إن هذا العقد لا يدخل في أحد من العقود المشروعة بل ينطبق عليه تعريف القمار تمامًا، فإنه تعليق التمليك على الخطر فإن ما يدفعه الإنسان لشراء هذا الاختيار ما يدفعه في ذلك فإنه على خطر، فيمكن أن يشتري بذلك شيئًا ويمكن ألا يشتري، فإذا لم يشتر فذهب ماله سدى بدون عائد فينطبق عليه تعريف القمار تمامًا. الذي أراه أن عقد الاختيار هذا مشابه لعقد التأمين. فكما أن في عقد التأمين يدفع الإنسان مالًا ليتجنب عن بعض الخسائر أو بعض الأخطار فكذلك يدفع مشتري الخيار مالًا لتجنب الخسائر المحتملة بتقلبات الأسعار، فإنه – مثلًا – يحصل على اختيار شراء الدولارات على توقع أنه إذا حدث هناك تقلب في الأسعار فإنه لا يخسر بذلك، إذن هو التأمين ضد الخسائر المتوقعة بتقلبات الأسعار.(7/440)
فما قرر هذا المجمع في موضوع (التأمين) ينطبق على هذا العقد في الخيارات أيضًا. فالذي أريد أن ألفت الأنظار إليه أنه لا يدخل في أحد من العقود المشروعة وإنما يدخل في عقد التأمين وينطبق عليه تعريف القمار تمامًا. والله سبحانه أعلم..
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم.
كتبت في هذا الموضوع ورقة قصيرة معتمدًا فيها على ما جاء في المذكرة التي أرسلت إلينا وهي تحتوي على تعريف للاختيار وعلى أسئلة محددة طلب منا الإجابة عنها، ولهذا سيكون حديثي ملتزمًا فيه بهذه الخطة.
السؤال الأول: هل ينضوي عقد الاختيار تحت أحد العقود المسماة المعروفة؟ أو هو نوع جديد؟ والجواب على هذا هو كما قال الأخوة هو نوع جديد وحكمه أنه عقد غير صحيح، وتكييفه أنه عقد معاوضة، هو عقد معاوضة كما جاء في تعريف الخبراء ونحن الفقهاء لا نضع تعريفًا لهذا العقد من عندنا. فالتعريف الذي ذكره الخبراء هو: (الاختيار عقد بعوض على حق مجرد يخول صاحبه بيع شيء محدد أو شراءه بسعر معين طيلة مدة معلومة أو في تاريخ محدد إما مباشرة أو من خلال هيئة ضامنة لحقوق الطرفين) . وهذا هو التعريف الذي اعتمدت عليه إجابتي على الأسئلة، فهو عقد معاوضة كما هو واضح من هذا التعريف وواضح أيضًا أن المحل في عقد الاختيار هو الحق في شراء شيء معين أو بيعه بسعر معين في زمن معين. إلى آخر ما جاء في التعريف، هذا الحق ليس مالًا متقومًا ولاحقًّا ماليًّا وإنما هو حق في الشراء أو البيع بسعر محدد، يعطيه أحد الطرفين للآخر نظير مال. من هذا يمكن أن يشبه بخيار الشرط المعروف في الفقه الإسلامي الذي يعطيه أحد الطرفين للآخر ويجعل له الحق في إمضاء البيع أو فسخه لكن هذا الشبه في هذه الجزئية فقط. والاختلاف والفروق بين هذا الاختيار وبين خيار الشرط كثيرة فهو يختلف عنه اختلافًا أساسيًّا لأن خيار الشرط يكون ضمن عقد قائم موجود ويعطي أحد الطرفين للآخر الخيار أما هذا فخيار نشأ من العدم. حتى لو شبهناه بخيار الشرط لا أعلم فقهيًّا، واحدًا جوّز أخذ العوض نظير خيار الشرط، وإذا كان أخذ العوض نظير خيار الشرط لا يجوز فيبقى من باب أولى لا يجوز نظير هذا الخيار الذي لا أصل له.(7/441)
السؤال الثاني: يتعلق بالعلاقة بين عقد الاختيار والعقود الأخرى وكما قال الأساتذة قبلي ليس هناك علاقة بينه وبين العقود التي ذكرت (بيع العربون، البيع على الصفة، السلم، الهبة) لسبب بسيط هو أن المحل في هذه العقود سلعة ويجب أن تكون هذه السلعة مالًا متقومًا أما المحل في عقد الاختيار فهو الحق في الشراء أو البيع وهو ليس بمال. فيه وجه اشتباه حصل عند بعض الكاتبين في تشبيه الاختيار ببيع العربون ووجه الشبه هو أن في العقدين خيارًا بمقابل، في بيع العربون فيه خيار بعوض هو العربون في حال عدم إمضاء البيع – هذا عند من يجوّز بيع العربون، وكما هو معروف أن الجمهور لا يجوزون هذا البيع – هذا الشبه شبه ظاهري وغير مؤثر لأن الفروق بين العقدين كثيرة وقد ذكر أخونا الأستاذ السلامي هذه الفروق ولاداعي لتكرارها والمهم الذي أريد الوصول إليه أنني لا أرى وجهًا لقياس عقد الاختيار على بيع العربون.
هناك سؤال بعد ذلك عن التكييف الشرعي للعوض مقابل إعطاء الحق، هذا في نظري من أكل المال بالباطل لأنه ليس له مقابل صحيح وليس هبة فلا وجه لأخذه.(7/442)
السؤال الذي بعده هو، هل يصلح الحق المجرد محلًّا للعقد؟ اسمحوا لي أن أتكلم في هذه النقطة، هذه المسألة تكلم عنها الفقهاء ومنهم ابن عابدين عن الاعتياض عن الحقوق وكتب تحت عنوان: (لايجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة) قرر هذا في حاشيته ولا يجوز الصلح ولا تضمن بالإتلاف لأن الاعتياض – هذا كلام ابن عابدين – عن مجرد الحق باطل إلَّا إذا فوّت حقًّا مؤكدًا فإنه يلحق بتفويت حقيقة الملك في حق الضمان كحق المرتهن. ومثل ابن عابدين للحقوق المجردة بحق الشفعة، حق القسم للزوجة، حق الخيار في النكاح للمخيرة، حق صاحب الوظيفة في الأوقاف من إمامة وخطابه ... إلخ. وقرر اتفاق الفقهاء على عدم جواز الاعتياض عن حق الشفعة واختلافهم في جواز الاعتياض عن الوظائف لكن الذي يظهر لي أن اعتبار حق الاختيار من قبيل الحقوق المجردة التي يتحدث عنها الفقهاء غير سليم لأن الحق المجرد الذي يتحدث عنه الفقهاء هو حق ثبت لصاحبه بوجه شرعي صحيح كما هو واضح من الأمثلة حق الشفعة ثبت لهذا الشخص بوجه شرعي لكن هذا الحق الذي يسمى حق الاختيار ليس من هذا القبيل مطلقًا لأنه ليس حقًّا ثابتًا لأحد وإنما يريد أحد العاقدين أن ينشئه للآخر، ويبدو لي أن العوض في عقد الاختيار ليس مقابل حق الاختيار وإنما هو مقابل التزام أحد الطرفين للآخر ويقابل هذا الالتزام ثبوت الحق، لكن الحقيقة العوض مدفوع نظير هذا الالتزام وجاء ثبوت الحق تبعًا لهذا. لأن حقيقة اختيار الشراء – مثلًا – هو أن البائع يلتزم للمشتري ببيع شيء موصوف في وقت محدد بثمن محدد يدفعه له عند الاتفاق مقابل هذا الالتزام ويترتب على التزام البائع ثبوت حق للمشتري في الشراء، ولذلك أنا أرى أن قياسهُ حتى في الكلام عنه بالحق المجرد في المرحلة الأولى غير سليم، وهنا قد يأتي سؤال فرعي عن هذا, إذا كان هذا التكييف سليم هل يصلح مجرد الالتزام بالبيع محلًّا للعقد؟ بداهة الجواب لا يصلح، ربما يقال إن هناك وجه شبه – وهذا حقيقي – بين بيع الاختيار الذي ثبت للمشتري بمقتضى التزام البائع لأن هذا كما قيل هو نفسه يباع فبعد أن ثبت له أصبح حقًّا مجردًا. هذا الكلام قد يكون مقبولًا لو أن الاختيار الأول ثبت للمشتري بطريق مشروع لكن إذا كان الاختيار الأول نفسه لم يثبت بطريق مشروع فلا محل للكلام بأن يباع الاختيار الثاني.(7/443)
هناك سؤال عن الهيئة الضامنة وفي الواقع أن هذا السؤال لا مانع للبحث عن جواب عنه إلَّا إذا حكمنا بجواز عرض الاختيار وأنا افترضت أنه جائز وأجبت عنه ولكن لا داعي لذكره لأنه واضح أن الاتجاهات جميعها على أن هذا العقد لا يجوز فلا داعي للافتراض.
هناك جزئية مهمة أريد أن أتحدث عنها وهي خلاصة في حكم الاختيارات وواضح من إجاباتي على كل الأسئلة كما سترون في المذكرة أن عقد الاختيار عقد غير صحيح للأسباب التي وردت في الإجابة لكن أريد هنا أن أركز على صورتين من صور الاختيارات لأنها تتميز، صور الاختيارات كما هو معروف تكون في العملات وفي الأسهم وفي السلع وفي المؤشرات وأريد أن أخص بالحديث اختيارات شراء العملات واختيار شراء الأسهم فبالنسبة لشراء العملات، شراء العملات وبيعها هو المعروف في الفقه الإسلامي بعقد الصرف وعقد الصرف جائز إذا توافرت شروطه ومن شرائط صحة عقد الصرف قبض البدلين في مجلس العقد بنص الحديث الصحيح ولهذا قرر الفقهاء أن خيار الشرط لا يدخل في عقد الصرف لأنه يتنافى مع وجوب قبض البدلين في المجلس، ويفهم من هذا أن شراء العملات وبيعها إذا دخله الخيار لا يجوز ولو كانت العملة مملوكة للبائع ولو كان الخيار بغير عوض، فكيف به إذا كانت العملة غير مملوكة للبائع وكان الخيار بعوض كما هو الشأن في خيار شراء العملات وبيعها المعروف في الأسواق المالية. فهذا واضح بالنسبة لشراء العملات لا مجال للحديث عنه ولا للبحث عن جواز بيع الحقوق المجردة أو غيره، هذا لا يتأتى مطلقًا.(7/444)
الصورة الثانية وهي (اختيار شراء الأسهم) الاشتراك في شركات المساهمة هذا جائز شريطة أن تكون الشركات ملتزمة بعدم مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية وبيع المساهم سهمه لآخر جائز شريطة الالتزام بالقيود الشرعية لبيع الأسهم، والمقصود الأصلي – في نظري – من الاشتراك في شركات المساهمة ومن شراء الأسهم هو اقتناء تلك الأسهم، أما المتاجرة في الأسهم بمعنى اتخاذ الأسهم نفسها سلعة تباع وتشتري ابتغاء الربح فقط من غير قصد إلى اقتناء الأسهم والمشاركة في الشركة كما هو حادث في الأسواق المالية هذه هي الصورة التي نبحثها. الذي يشتري خيارات الأسهم لا غرض له مطلقًا في أسهم الشركة ولا يريد أن يقتني أي سهم ولا يسأل عنها الشيء الذي يهمه هو هذا الفرق الذي سيأخذه. هذا الموضوع – المتاجرة في الأسهم – محل خلاف بين الفقهاء المعاصرين وإلى الآن لم يحسم وأنا أميل فيه إلى المنع ولو كان خاليًا من الاختيارات. أما التعامل في الأسهم عن طريق الخيارات فهذا قطعًا ينبغي أن يمنع.
خيار شراء العملات وخيار شراء الأسهم هذا شبيه بالقمار ولا فرق بينه وبين المضاربة على فروق الأسعار، وأريد أن أضرب مثلًا أو مثلين يوضح هذا المعنى.(7/445)
المثال الأول: اشترى شخص عشرة آلاف من الدولارات من آخر بسعر الدولار تسعون جنيهًا سودانيًّا واشترى الخيار لمدة ستة أشهر بعشرة آلاف من الجنيهات السودانية وقبل أن تنتهي الستة أشهر ارتفع سعر الدولار إلى مائة جنية فمارس المشتري حقه في الخيار، فإنه يكون حقق ربحًا وهو ما يرمي إليه ولكن ربحه هذا هو خسارة على البائع على أن الدولار قد يبقى سعره كما هو إلى انتهاء مدة الخيار فيخسر المشتري عشرة آلاف ويربحها البائع ففي هذه المعاملة يكون كل واحد من المتعاقدين إما غانمًا أو غارمًا، وهذا هو ضابط القمار المحرّم كما أشار إليه القاضي العثماني. ضابط القمار هو أن يكون كل واحد من المتعاقدين إما غانمًا أو غارمًا. وأما البيع الذي أحله الله، فإن كل واحد من المتعاقدين يكون غانمًا لحصوله على العوض المعادل لما حصل عليه الآخر، وهكذا الحال في بيع العملات يدًا بيد، كل واحد منهما يحقق غرضًا مشروعًا.
المثال الثاني: (بالنسبة للأسهم) : إذا باع شخص خيار شراء أسهم لمدة ستة أشهر بسعر أربعين دولار للسهم مقابل أربعة دولارات ثمن الخيار، فإنه يفعل ذلك لأنه قدّر أن ثمن السهم لن يزيد في هذه المدة على الأربعين دولارًا بأكثر من ثمن الخيار، والمشتري بالعكس يقدّر أن ثمن السهم سيزيد في هذه المدة على الأربعين دولارًا والثمن الذي دفعه للخيار أي مجموع الاثنين وإلَّا ما أقدم على الشراء فهو يضارب أي المشتري على ارتفاع السعر والبائع يضارب على انخفاضه، ومن تحققت نبوءته كان هو الرابح وهذا هو برهان المضاربة التي هي بمعنى القمار فما الفرق بين هذا والمضاربة على فروق الأسعار؟ لا أرى فرقًا. ولهذا أرى أن شراء الاختيارات وبيعها في جميع صورها ليست من بيوع المسلمين التي أحلها الله لهم فيجب عليهم الابتعاد عنها. أما البحث عن بديل فإن هذه الخيارات ليست وسيلة لتحقيق مصلحة معتبرة حتى نبحث لها عن بديل. نحن نبحث عن البديل إذا كانت الوسيلة ممنوعة لكنها توصل إلى مصلحة، في هذه الحالة يجب أن يكون في الشراع وسيلة مشروعة توصل إلى هذه المصلحة وهذا غير موجود في مثالنا هذا، ولذلك لم أشغل نفسي بالبحث عن بديل لهذه المعاملة وشكرًا.(7/446)
الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد،
فقد اتجهت في دراسة هذا الموضوع إلى الأسلوب التحليلي بدلًا من النظرة العامة إليه، ومن خلال تأملي ودراستي لهذا العقد وجدت أنه يحتوي على عقدين وليس على عقد واحد، العقد الأول وهو الذي تضمنته الجملة الأولى في تعريف الاختيارات (عقد بعوض على حق مجرد يخول صاحبه بيع شيء محدد) ، إذن البيع بشيء محدد أو شراء شيء محدد هذه عملية تالية وعقد آخر غير العقد الأول. العقد الأول وهو الذي (بعوض على حق مجرد يخول صاحبه) اعتبرت هذا عقد إجارة لأنه لا يمكن لأي أحد أن يدخل السوق المالية إلَّا بعد ترخيص معين، هذا الترخيص المعين عبارة عن أنه يقدم هذا العوض من أجل أن يستمتع بالتسهيلات والمعلومات المالية التي تقدمها هيئة السوق فهو عقد على منفعة معينة هذه المنفعة هي التسهيلات والمعلومات التي تقدمها هيئة السوق، فهذا عقد إجارة وهو منفصل تمامًا عن بيع الاختيار أو بيع الاختيارات، وهذا لم أسمه عربونًا وإنما هو أجرة، هذه الأجرة التي يدفعها هي كالرسوم التي تدفع لعضوية النوادي الثقافية والاجتماعية المعروفة وبدون دفع هذا العوض أو هذه الأجرة لا يمكن أن يدخل إلى هذه السوق. فإذن الجزء الأول اعتبرته عقد إجارة على منفعة معينة هذه المنفعة المعينة هي التسهيلات والمعلومات التي يقدمها السوق للمتعامل في هذه السوق. هذا عقد أول. العقد الثاني وهو عبارة عن جوهر هذا العقد ولبّه الذي عبر عنه تعريف المجمع (يخول صاحبه بيع شيء محدد أو شراءه بسعر معين طيلة مدة معلومة أو في تاريخ محدد إما مباشرة أو من خلال هيئة ضامنة لحقوق الطرفين) ، فإذا وقع الرسوم وأخذ الترخيص عندئذ له الحق أن يزاول هذا النوع من التعامل. فالعقد الأول عقد إجارة والعقد الثاني عقد بيع. عندئذ إذا صح هذا التكييف لهذا النوع من التعامل إذن ننزل أحكام عقد الاختيارات بعقديه الأولى الابتدائي والثاني الذي هو الجوهر ننزل الأول على أحكام الإجارة والثاني على أحكام عقد البيع. ومن خلال هذه الدراسة وصلت إلى النتيجة التالية:(7/447)
أولًا: عقد الاختيار حسب التعريف المقدم من قبل المجمع هو عقد بيع في جوهره، وموضوعه تنزل أحكامه وفق أحكام البيع. الحق المجرد بالصورة المدونة في هذا العقد نظريًّا وتطبيقيًّا ليس مالًا ولا منفعة ولا بما له مال ولا بما له تعلق بواحد منهما فلا يصلح فقهًا أن يكون معقودًا عليه.
العقد الثاني: الذي هو لب هذا العقد، إذ أن أركان البيع وشروط البيع ينزل عليه، والخلل لهذا العقد آت من جانب عدم وجود المالية فيه، ولكن هيئة السوق مستعدة أن تمون وتعطي المتعامل البضاعة الموصوفة، ولذلك المعقود عليه عبارة عن بضاعة موصوفة لو أراد أن يحصل عليها لأمكن، فإذن من أجل أن نصحح هذا العقد ومن أجل أن يكون عقد بيع لا بد أن تتحقق فيه المالية، فلا بد أن يكون المتعامل عاقدًا وعازمًا على شراء تلك البضاعة. هيئة السوق شخصية معنوية اعتبارية ذات ذمة قابلة للإلزام والالتزام فهي إذن تتحمل هذه المسؤولية وهي تكون في مقابل البائع إذا كانت في جانب البيع أو المشتري إذا كانت في جانب الشراء. الضمان الذي تقدمه الهيئة للطرفين هو تأكيد الشخصية المعنوية ولا يتعارض هذا الضمان مع النصوص الشرعية خصوصًا وأن أحكام الضمان مبنية على التسامح.
العوض في اختيار الشراء لا دخل له في ثمن المعقود عليه – الذي هو في البداية عقد على عوض – في الاختيارات وعلى فرض جعله من الثمن فإنه لا يؤثر على صحة العقد لو كان صحيحًا في بقية الأركان لأن الخلل آت من ناحية مالية المعقود عليه، بل يعد من قبيل بيع العربون وهو دفع بعض ثمن في بيع عقداه أو أجرة أو يكون مشتريًا ومستأجرًا إلى آخر ما هو معروف معنى العربون. فعلى مذهب الحنابلة لو افترضنا مع أنه لا يدخل في بيع العربون إنما العوض الذي يدفعه هو أجرة دخوله وتعامله في تلك السوق. يمكن تعديل هذا النوع من البيوع مع الاحتفاظ بخصوصية الاختيار، والواقع انطلقت أنا من تحليلي لهذا العقد لأنه على المذهب الحنبلي ليس ضروريًّا أن يكون أي عقد من العقود المسماة، والأصل في المعاملات الإباحة حتى يوجد ما يفسد ذلك العقد، ولذلك انطلقت من هذا المنطلق وبحثت عن جوانب الخلل بعد التكييف الفقهي لذلك الموضوع فيمكن تعديل هذا النوع من البيوع مع الاحتفاظ بخصوصية الاختيار وهو السعر المعين طيلة مدة معلومة أو في تاريخ محدد بإقامة أركان البيع التي تطرق خلل الاختيارات من قبلها خلوه من موانع الصحة وأسباب البطلان، والخلل في الأركان ظهر في العناصر التالية وأحصيتها هنا:(7/448)
- مالية المعقود عليه الثمن والمثمن على السواء وهي لا تتمثل فيما يسمى بالحق المجرد بحال، وسلامة هذا الجانب وعلى الأصح هذا الركن في تحقيق مالية الثمن والمثمن بما جرى شرحه وتوضيحه.
- الجانب الثاني الذي جاء الخلل فيه لهذا البيع عدم قبض الثمن والمثمن، بمعنى غيابهما جميعًا عند العقد وهذا يحيل العقد إلى بيع الكالئ بالكالئ لأنه لا الثمن مدفوع ولا المثمن مدفوع، إذن كيف نصحح هذا ويكون العقد سليمًا في هذا الجانب؟ فلا بد من تعجيل أحدهما على الأقل ووصف مؤجل وصفًا دقيقًا ينقطع به النزاع.
- جوانب الخلل في عقد البيع والذي هو جوهر هذا العقد. عدم ملكية المعقود عليه للبائع في اختيار الاستدعاء وهو بهذا يفتقد شرطًا من شروط انعقاد البيع عند الحنفية وشرطًا من شروط الصحة عند الشافعية وشرطًا من شروط اللزوم عند المالكية وبالإمكان تصحيح هذا الخلل في ضوء المذهب المالكي بعد أن يظل العقد موقوفًا حتى يتم تملك البائع للسلعة تملكًا شرعيًّا صحيحًا وحينها يصبح العقد صحيحًا ولازمًا.
- بعد ذلك من ناحية إعطاء شهادة حق التملك وحق الأولوية في شراء الإصدارات من حيث هو بالصورة الموضحة بالأوراق المقدمة من قبل المجمع هو بمثابة مكافأة غير مشروطة ممن يملك إصدارها ومنحها، وما دام أنها غير مشروطة في التعامل وبخاصة إذا كانت معاملة قرض بين الأفراد والشركات المانحة لها فإنها صحيحة بلا استثناء، أما لو كانت مشروطة في حالة القرض فعندئذ تدخل تحت القاعدة المشهورة (كل قرض جرّ نفعًا فهو حرام) ، وإعطاء إحدى الشهادتين أو كلتيهما مكافأة للعملاء أو حماية لحقوقهم هو تمليك لهم ما يجوز لهم تملكه، وهذا يخولهم حق نقلها بمقابل أو بدون مقابل إلى من عداهم ما لم يكن هذا التمليك معنيًّا ومشروطًا – لهم خاصة – ذلك أن المسلمين عند شروطهم.(7/449)
والأولوية في شراء الإصدارات الجديدة من الأسهم لا يطلق عليها الشفعة في الفقه الإسلامي ولا تندرج تحت هذا المصطلح بحال، ذلك أن هذه التسمية (الشفعة) لا تطلق أصالة في الفقه الإسلامي إلَّا لعقار وهو الأرض وما اتصل بها من بناء وشجر فلا شفعة في غيره إلَّا تبعًا، فشرط الشفعة أن يكون محلها عقارًا.
فإذا صححت هذه الجوانب التي جرى فيها الخلل لهذا العقد عندئذ أرى أن هذا العقد صحيحًا ومتفقًا مع الشروط والأركان الشرعية الموضحة في عقد البيع وعقد الإجارة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حجة الإسلام محمد على التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه.
فكرة أردت أن أطرحها للبحث فقد تحدث المخالفون بشكل علمي لهذه العقود، اسمحوا لي أن أطرح هذه الفكرة حتى لو فسرت على أنها تأييد لها. التحريم كالتحليل فيه المؤونة علمها.
أولًا: أعتقد أننا لو تأملنا في الأمر وفي الدور الذي تقوم به عقود الاختيارات في إيجاد تنسيق بين العرض والطلب وهي اليوم عقود معتبرة في الأسواق المالية العالمية، أعتقد أن إطلاق لفظ (المقامرة) على مثل هذه العقود أمر يحتاج إلى مؤونة، وأذكر هنا أن بعض السادة أطلقوا على عقود التأمين صفة المقامرة مع أن الفرق بين هذه العقود وعقود التأمين والمقامرة كبيرة جدًا.(7/450)
ثانيًا: أيضًا ينبغي أن نحذف من بحوثنا ما يرتبط بشكل جانبي بهذه العقود كالفائدة التي تعطيها الهيئة الضامنة لمبلغ الضمان المسلم لها وأمثال ذلك، هذه أمور جانبية يجب أن تحذف من محل البحث. ثم أعتقد أنه لا معنى لأن نرجع عقود البيع هذه التي يصرح المتعاملان فيها بكلمة البيع نرجعها إلى المواعدة أو العربون أو التأمين كما تفضل شيخنا القاضي العثماني – حفظه الله - لا هذا بيع.
النقطة الثالثة التي هي محور حديثي هي: أن مركز بحثنا يجب أن ينصب على محل العقد. محل العقد هو موضع الخلل أو موضع الشبهة في هذه العقود ومحل العقد هو الحق المجرد الذي عبرت عنه التعاريف بالحق المجرد أو الحق الذي لا ينتسب إلى عين أو إلى سلعة، هذا الحق المجرد هل يمكن أن نبيعه؟ نحاول تقسيم الحقوق إلى مالية وإلى ما ليس فيها مالية وإلى وإلى ... ، ثم نحاول التركيز على هذا الحق لنجد أن هذا الحق وَاقِعًا هو حق مجرد لا نسبة له إلى سلعة، لا نسبة له إلى عين. ثم ما هو الدليل القاطع على أن هذا الحق لا يجوز التعويض عنه، ما هو الدليل على ذلك؟ حق له مالية عرفية وهو حق شرعي لا كما تفضل به شيخنا الشيخ الضرير أنه ليس حقًا. واقعًا لي الحق، هذا حق مشروع لي أن أبيع ولي أن أشتري، حق مشروع قائم، يقبله الشرع وله مالية عرفية والدليل على ماليته العرفية تعامل الناس به أو تعامل هذه الأسواق الدولية به، حق له مالية يبذل بإزائها مال هل يمكن أن يباع هذا الحق؟ هل يمكن أن يشترى هذا الحق؟ هذا ما يجب أن نركز عليه، هل هذا الحق أقل من حقوق الاختصاص التي يمكن التعويض عنها؟ هل هذا الحق هو أقل من حق الخلو الذي قال كثير من الفقهاء بجوازه؟ هذه نقطة يجب التركيز عليها. وأعود فأقول بالدقة إننا يجب أن نبعد عنصر مسألة المقامرة، صحيح أن هناك من يستغلون هذه العقود لأمور هي تشبه القمار لكنها عقود قائمة في أسواق عرفية عقلانية يراد بها أن يتم تنسيق بين العروض وبين أنواع الطلب المقدم على هذه العروض، حبذا لو ركزنا على هذه النقطة.(7/451)
هذه فكرة أطرحها للبحث ولا أريد أن يتصور منها الموقف الإيجابي، المهم أن نركز على محل البحث بعيدًا عن الصفات أو الإرجاع إلى عقود أخرى وهي مسألة بيع هذا الحق، هل يقبل هذا الحق البيع أم لا؟ وشكرًا.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
اسمحوا لي إن عدت للكلام في هذا الموضوع ذلك لأنه كما تفضل الشيخ الضرير هذا عقد موجود ومعروف في الأسواق، فعندما نتحدث عن الاختيارات لا نتحدث عن مصطلح أوجدناه ولكن نتحدث عن مصطلح موجود، ولفهم هذا المصطلح لا بد من العودة إلى واضعيه، فمن المعلوم أنه أول ما وقعت قضية الاختيارات هي وقعت في أمريكا الشمالية في كندا في سنة 1972م. ومنها انتقلت إلى سوق شيكاغو ثم كان المركز الثالث في روتردام ثم دخلت إنجلترا وفرنسا وغيرها، وأصبح موضوع اختصاص في الدراسات العليا في الجامعات الاقتصادية. وقد حاولت في هذا الوقت القصير بين تكليفي من سماحة الأمين العام بالكتابة فيه وبين الكتابة بالرجوع إلى المصادر الأصلية. فالمصدر الأصلي من المصادر الأصلية الكبرى ما ينفي كثيرًا مما تحدثنا عنه اليوم أو يصحح الوضع. أولًا: هذا العقد ليس عقد تواعد وإنما هو عقد بيع، ويجمع أصحابه على أنه عقد بيع وأنه ليس عقد قمار، ولكن هو عقد بيع لحق وهنا يأتي السؤال الكبير هذا الحق كيف يتولّد؟ يولده البائع. أستطيع الآن لو كنت من الذين يتعاملون في الأسواق المالية أن أقول من يشتري مني عشرة آلاف سهم في شركة سيارات بنز، هذه العشرة آلاف سهم غير موجودة لا أملكها وكما يقول أصحاب المعارضين لهذا قد تكون الأسهم التي تباع في هذه الأسواق هي أضعاف أضعاف الأسهم الحقيقية الموجودة، فأنا أقوم ببيع عشرة آلاف سهم بحق الاختيار في عشرة آلاف سهم من يشتري مني هذا؟ فإذا وجد وهذا يسجل في السوق وفي السوق يسجل كما يسجل البائع يسجل المشتري وتقوم الهيئة القائمة على السوق بالجمع بين الإرادتين دون أن يعرفني أحد ودون أن أعرف أحدًا فالمشتري لا يعرف البائع والبائع لا يعرف المشتري ولكن كلاهما – كما وقع التعبير عنه على أن الغرر في معظم الأحوال هو نوع من الاستثمارات – فعوض أن يشتري عشرة آلاف سهم وهو ما عنده من المال يستطيع أن يشتري مائة ألف لأنه لا يدفع إلَّا حق الاختيار، فإذا به يصبح له – في مكاسبه وفي ربحه – الشيء الوفير. فهل يصح أن أنشئ حقًّا لا وجود له – خيالي ثم أبيعه؟ هنا أجيب أخانا فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري. هو ليس قمارًا كما هو معروف في القمارات يُدخل من أول الأمر على القمار، هو فيه نوع من البيع والشراء لكن القصد منه – كما قلت – هو تارة يكون على القمار تمامًا وتارة لا يكون على القمار، ومثال أن يكون على القمار، فمن جملة أنواع بيع الاختيارات أن يكون فلاح كبير في أمريكا يحصل حصادًا من القطنيات تساوي ملايين الدنانير ويريد أن يضمن من الدخل ما يقوم بمصاريفه ويقوم بحياته، فإذا به يبيع اختيارًا – بيع اختيار شراء – حيث نصف الصابة التي سيحصل عليها حتى يضمن الدخل، فهو ليس عبثًا فقط، هو فيه نوع من القمار تارة وفيه ضمانات من الدخل، وفي تارات أخرى تجد الشخص قد ارتبط في مقاولة أو في استيراد سلع من دولة أخرى يدفع هذه السلع بالدولار وهو يخشى من تذبذب العملات، بهذا التذبذب أن يكون في وقت الشراء عندما يلزم بالبيع تكون إما العملة ارتفعت كثيرًا فإذا هو يصبح خاسرًا، فحتى يؤمن على نفسه من ارتفاع العملة الارتفاع الكبير هو يشتري خيارًا بقيمة محددة ثم إنه في هذه القيم المحددة تارة يشتري على أنه إذا زادت القيمة، لو فرضنا أنه اشترى الدولار بـ3.80 ريال يكون في العقد على أنه إن زاد على ذلك فهو يأخذ نسبة 70 % من الزيادة أو 80 % من الزيادة، فالعقود هي من التعقيد الشيء الكثير وهي كلها لا تقوم على أساس وجود شيء فعلي أو وجود حق حقيقي وإنما هو حق ينشئه الإنسان ثم يبيعه.(7/452)
أردت بهذه الكلمة توضيح الوضع حتى تكون المناقشات تدور حول الواقع في سوق الاختيارات وليس كما نريدها نحن، فهذه السوق ليست من السهولة بمكان. أما ما جاء في كلمة صديقنا فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان، فأعتقد أن هناك أمرين، هناك السوق وكون الإنسان يصبح سمسارًا، فهذا لا دخل له في الاختيارات فالسمسار هو يعمل في الاختيارات وفي غير الاختيارات وهذا مجلس في السوق يدفع ثمنه إيجارًا لمدة محددة حتى يدخل السوق وهو ليس مشتريًا وليس بائعًا، فمشتري الخيارات أو بائع الخيارات هو شخص آخر أجنبي عن السوق يأتي للسمسار الذي انتصب في السوق ليعلن عنده أنه يريد شراء خيار أو يريد بيع خيار. فلا بد من التفرقة بينهما. وشكرًا.
الشيخ أحمد علي طه ريان:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المسلمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
الواقع أن عقد الاختيار أو لعل أن عقد الاختيار ليس له صورة واحدة في كل المجتمعات التي تتعامل به بل له صورة في القاهرة وهناك صورة أخرى في لندن أو في باريس أو في المجتمعات الأخرى التي تتعامل به، لأنه حينما جاءتني هذه الأسئلة ونموذج الأسئلة التي أرسلت إِلَيَّ مِنَ المجمع أتيت بعض المتخصصين في الاقتصاد، فصور عقد الاختيار بأنه عبارة عن شخص أو هيئة أو شركة تدفع مبلغ مقدمًا حتى يكون لها الحق في التعامل داخل السوق المالي، ثم فيما بعد يقوم وكيل أو سمسار بالتعامل لصاحب هذا التعامل، ولذلك كيفته على أنه عقد إجارة كما قاله أخونا الدكتور عبد الوهاب. إذ قلت: عقد الاختيار في مبدئه صورة من صور عقد الإجارة على منفعة بعوض والأجرة التي تدفع مقدمًا لكي تخول للدافع من خلال هذا العقد حق التعامل مع الأسواق المالية بحيث يحق له أن يشتري أو يبيع ما يعرض داخل السوق بواسطة السماسرة الذين يقومون بدور الوكيل أو الفضول. ثم فيما بعد ما يقوم به السمسار سواء كان وكيلًا أو فضوليًّا من بيع أو شراء هو عقد مستقل آخر غير عقد الاختيار، هو عقد بيع أو شراء بطريق النيابة إذ هذا الوسيط سيتولى الإيجاب والقبول عن الطرفين إذ يجمع الرغبات وينسق بينها من داخل السوق يمكن أن يكون وكيلًا لوكالة عامة أو لوكالة خاصة عن طرف أو وكالة عامة عن طرفين.(7/453)
أما بعض الأسئلة التي وردت والاستفسار عنها يكون بالنسبة لعقد الاختيار – كما قلت – صورة من صور عقد الإجارة على منفعة تخول للعاقد التمتع بميزة التعامل مع ما يجري داخل السوق أما من حيث علاقته فهو له علاقة بعقد الإجارة إذ هو صورة منها، أما الصفقة التي يتم التعاقد عليها داخل السوق فهي بيع على الصفة إن كانت البضاعة ستسلم عقب التعاقد وإِلَّا فهي من باب عقد السلم إلَّا أنه في هذه الحالة لا بد من دفع الثمن عند التعاقد أو خلال ثلاثة أيام من بعد العقد كما يرى المالكية. المهم في هذا من الصعب أن نقول لعقد يجري التعامل به بالأسواق أنه حرام ثم نقطع الصلة به لأن هذه الأسواق فرضت نفسها على المجتمعات الدولية والمسلمون في كل مجتمعاتهم لهم تعامل مع هذه الأسواق، فينبغي أن نجيز منها الجائز وَأَمَّا ما لا يجوز فيمكن أن يجري عليه التعديل الذي يجعله ملائمًا للتعامل معنا. والله أعلم.
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
عندي تعقيب وجيز على ما تفضل به فضيلة أخينا الشيخ محمد علي التسخيري – حفظه الله – وأشكره على أنه قد حدد نقطة البحث في هذا الموضوع وأنه قد حاول أن يكيف عقد الاختيار على أساس أنه بيع لحق مجرد وأشار إلى أن هناك أنواعًا من الحقوق التي أجيز بيعها والاعتياض عنها وقد مثل لذلك بحق الاختصاص فأشار إلى أنه إذا كان من الجائز أن يبيع الإنسان حق الاختصاص أو حق الابتكار أو حق التأليف والنشر فلماذا لا يجوز أن يبيع حق البيع والشراء؟ وأريد التعقيب على ما تفضل به بأن الحقوق المجردة كما هو واضح لدى جميع الفقهاء هي محل بحث واختلاف بين الفقهاء منذ القدم، وهناك حقوق لم يقل بجواز بيعها وشرائها أحد وهناك حقوق ذهب إلى جواز بيعها بعض الفقهاء كحق الاختصاص وحق التأليف والنشر، ولكن الحقوق التي ذهب إلى جواز بيعها بعض الفقهاء كلها حقوق ثابتة قبل الدخول في بيعها، حقوق ثابتة لصاحبها قبل أن ينشأ هذا العقد - عقد بيع الحقوق - مثلًا حق الاختصاص ثابت لمن ثبت له حق الاختصاص فبعدما يثبت له حق الاختصاص يريد أن يبيع هذا الحق. حق التأليف ثابت مستقر قبل الدخول في هذا العقد فيجوز له أن يبيع هذا الحق الثابت له أما هنا فليس هناك صاحب حق ليس هناك حق موجود قبل الدخول في هذا البيع وكما تفضل به فضيلة الشيخ المختار السلامي – حفظه الله تعالى – أن هذا الحق لا يتولّد إلَّا بهذا العقد – عقد الاختيارات – لم يكن هناك حق بيع أو حق شراء قبل إنشاء هذا العقد – عقد الاختيارات – فهناك فارق كبير بين بيع الحقوق المجردة التي أجيز بيعها وبين عقد الاختيار الذي نبحث عنه. فقياس عقد الخيار على بيع الحقوق المجردة التي أجيز بيعها قياس مع الفارق ولا يستقيم أن نقيس عقد الاختيارات على تلك الحقوق التي أجيز بيعها. والله سبحانه أعلم.(7/454)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
يبدو لي إذا راجعنا هذا العقد أن كثيرًا من الآيات والأحاديث يمكن أن تنطبق عليه، فالله سبحانه وتعالى يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} .
إذن توجد منفعة ولكن الإثم أكبر من النفع. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} .
وفي الحديث الصحيح: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)) ، ((ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضامين والمداخيل)) .
هذه عقود كانت قائمة، الناس لهم فيها منافع ويتعاملون بها ومع ذلك رأى الشارع الحكيم أن جانب الغرر والخطر والمقامرة غالب فيها فلأجل ذلك نهى عنها وأوقف التعامل فيها. بهذه الاعتبارات العامة التي دائمًا يجب أن تكون نصب أعيننا ونحن نتعامل مع هذه العقود يمكن أن نعتبر أنها عقد مخالف لسنن العقود التي يجيزها الشرع الحكيم. أجمع العلماء على أن الغرر الكثير حرام، حرمة الغرر الكثير هي إجماعية لا خلاف فيها، وأجازوا الغرر اليسير بشروط أن يكون يسيرًا وأن يكون للحاجة وأن لا يكون مقصودًا. واغتفر غرر يسير للحاجة كما يقول خليل، لم يقصد بالحاجة، إذن هذا البيع وهذا العقد هو عقد جديد، سمعت الشيخ محمد المختار السلامي – حفظه الله – يقول: في سنة 1972م، إذن هو عقد جديد حديث في بيئته التي ولد فيها لم يثبت بعد، أعتقد أنه لم يثبت بعد وأن النتائج السلبية لهذا العقد قد تدفع بالمشرع في هذه البلاد في يوم من الأيام أن يدخل عليه بعض التعديلات وأن يوقف هذا العقد، لأجل هذا أنا أرى أن هذا العقد في دينيته وبنيته حاضرتين لا يمكن أن يكون جائزًا ولكني مع ذلك أود لو قدمت البدائل التي أشار إليها الدكتور عبد الوهاب أن تقدم البدائل، أن نبحث البدائل لنرشد السوق الدولية لنقدم ترشيدًا من طرفنا، لا نقول فقط هذه مصالح غير معتبرة شرعًا لا شك في ذلك، ولأجل ذلك هو عقد باطل، ولكن مع ذلك يمكن أن نبحث وأن نحدد حتى نقدم البدائل التي يرضى عنها الشرع والتي يمكن أن تكون مقبولة شرعًا، وهناك بعض الحقوق التي تباع ولكنها حقوق بالتبع. وشكرًا.(7/455)
الدكتور الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم
أريد أن أعلق على نقطتين وردتا في كلام الشيخ التسخيري.
النقطة الأولى: بدأ الشيخ التسخيري حديثه ببيان الهدف من بيع الاختيار وقال إنه هو إيجاد وتنسيق بين العرض والطلب، وفي رأيي أنه ليس هو الهدف من بيع الاختيار، إنما هذا هو الهدف من قيام الأسواق المالية ونحن لم نمنع قيام الأسواق المالية وإنما منعنا بعض ما يجري فيها مما يخالف الشريعة الإسلامية ومن هذه المعاملات التي تخالف الشريعة الإسلامية بيع الاختيار فلا يمكن ولم أستطع أن أفهم أن الهدف من بيع الاختيار هو هذا التنسيق بين العرض والطلب.
النقطة الثانية: هي أنه أراد أن ينفي المقامرة عن بيع الاختيار والواقع أن بيع الاختيار ليس قمارًا لكنه شبيه بالقمار، وإطلاق المقامرة على بيع الاختيار ليس من عندنا نحن الفقهاء وإنما أهله أنفسهم، قرأت في بعض البحوث التي قدمت لنا أن بعض الصحف المتخصصة في أمريكا أطلقت على المجتمع الأمريكي مجتمع صالة القمار؛ لأنه يتعامل بالاختيار وخاصة اختيار المؤشرات الذي لا يقوم على سلعة مطلقًا، لا على أسهم ولا على سلع ولا أي شيء، فكيف لا يكون هذا شبيهًا بالقمار إن لم يكن أخًا للقمار؟
نقطة أخرى أريد أن أعلق بها على كلام الأخوين الأستاذين اللذين قالا إن عقد الاختيار من قبيل الإجارة. الواقع أنني لم أستطع أن أفهم هذا فهمًا كاملًا لأنه إذا كان هذا هو التكييف الذي توصلا إليه هو صورة من صور عقد الإجارة على منفعة بعوض هي الأجرة التي تدفع مقدمًا لكي تخول للدافع من خلال هذا العقد حق التعامل مع الأسواق المالية بحيث يحق له أن يشتري أو يبيع ما يعرض داخل السوق، إذا كان هذا هو المقصود من حق الاختيار أن من يدفع هذا الثمن أو هذا المبلغ يجوز له أن يتعامل في هذه الأسواق إذا كان هذا هو التكييف لا أظن أننا سنختلف في هذا. أناس أقاموا أسواقًا وقالوا من أراد أن يدخل في أسواقنا هذه ويستفيد من الخدمات التي تقدمها عليه أن يدفع لنا مبلغ كذا (أجرة) ، لا أظنه سيكون خلاف في جواز هذه العملية لكن الواقع أن هذا ليس هو، إن بيع الاختيار مرتبط بالتزام من طرف آخر إما أن يكون التزامًا مباشرًا من البائع أو التزامًا عن طريق الهيئة التي تدير هذه العملية فكيف نقول إن هذا أجرة على الدخول في السوق؟ لم أستطع أن أفهم هذا بتاتًا. وشكرًا.
الشيخ محمد مؤمن:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين.
ما ذكر إلى حد الآن من أدلة على البطلان أو الصحة لم يكن كافيًا لهذا الحكم على العقد المطروح، وذلك لقد ذكر أن هذا العقد ليس له مماثل في العقود الفقهية المألوفة، فهو عقد جديد وهذا لوحده لا يسوغ لنا رد هذا العقد الذي نتكلم في صحته أو بطلانه لأن العقود ليست توقيفية كالعبادات وهذا أمر واضح.(7/456)
ذكروا أن هذا العقد المطروح هو شبيه بالقمار ونحن نقول المحرّم هو القمار لا الشبيه بالقمار كما أن المحرّم هو الربا لا البيع الشبيه بالربا في أخذ الربح على أن القمار هو أخذ من دون إعطاء وهنا أخذ المال وإعطاء حق الاختيار كما قرر ذلك للبيع أو الشراء فأي دليل على أن يكون الأخذ في مقابل الإعطاء هو شبيهًا بالقمار فيحرّم؟ وقد ذكروا أن المقصود من العقد هو الربح لا شيئًا آخر وهو العين أو الاختيار مع أن المقصود إذا كان من العقد هو الربح بشرط أن يكون العقد على العين أو الاختيار طريقًا للربح فأي مانع من ذلك؟ وأكثر العقود التي يقصد منها الربح هي العقود على الأعيان أو غيرها كالمنافع وهو ما يسمى بالإيجار. ثم ذكروا أنه عقد فيه مخاطرة، والمخاطرة بنسبة محدودة موجودة في بعض البيوعات والإيجارات فهل يحكم ببطلانها؟ المخاطرة موجود في أي بيع قد يخسر فيه هذا الإنسان وقد يربح فيه وفي أي شراء فهل المخاطرة بنسبة محدودة تمنع من صحة البيع أو صحة الإجارة؟ وإذا قبلنا أن الحق يجوز بيعه بثمن كحق الشفعة أو غيره فلا بد أن ننظر إلى مميزات الحق وفرقه عن غيره لنرى أن هنا حقًّا معينًا يقدمه البائع للمشتري أو لا يوجد ذلك الحق.
فيجب أن ينصب البحث على هذه النقطة إن ثبت هنا وجود حق يقدمه البائع للمشتري إذن فلنقل بجواز بيع هذا الحق بشرط أن يكون من الحقوق التي تنقل، وأما إن ثبت أن هناك حكمًا شرعيًّا لاحقًا، يجوز للإنسان أن يجعل الاختيار لغيره في البيع ويجوز له أن يجعل الاختيار لغيره في الشراء وهو حكم شرعي، إذا كان هذا حكمًا شرعيًّا فلا يجوز نقله ولا يجوز بيعه ولا يجوز إسقاطه أما إذا كان هذا حقًّا فالحق يجوز بيعه كما يجوز إسقاطه في مقابل ثمن، فهل هذا هو حق أو حكم شرعي؟ هذا هو مركز البحث ونقطة الخلاف. فما هي الأمور التي تفرق الحق عن غيره من الأحكام الشرعية؟ ما هو الفرق بين الحق والحكم؟ إذا كان هذا حق وتنطبق عليه مميزات الحق إذن الحق إسقاطه بثمن وبيعه ونقله يجوز وأما إذا كان حكمًا شرعيًّا الحكم الشرعي لا يجوز إسقاطه كما لا يجوز بيعه في مقابل ثمن. والحمد لله.(7/457)
الدكتور عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين.
أنا شخصيًّا متحرج من إبداء الرأي في هذا الموضوع، في هذا العقد ومتحرج أن ينسب إلى المجمع حكم فيه لأنه – كما يبدو لي – حتى الآن صورة العقد غير واضحة من الناحية العملية، ربما تكون فيها بعض الوضوح – في تقديري – وليس كله لدى الأخوة الذين كتبوا البحوث.
المجمع عودنا أن يوجد بيننا أكثر من مختص في هذا الجانب الاقتصادي على الأقل ومن المختصين الممارسين عمليًّا لهذا السوق لأنه كما علمنا من البحوث التي بين أيدينا أن هذا العقد لم يدخل أسواقنا العربية والإسلامية. في الحقيقة لا بد من أن يوجد بيننا من المختصين الاقتصاديين الممارسين كي يجيبوا على استفساراتنا، توجد بعض الاستفسارات وبعض الاستيضاحات حول هذا العقد، لا نجد لو وجهناها من يجيب عنها من المختصين. فأنا في تقديري أن هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد بيان ويحتاج إلى وجود مختصين في هذا الشأن والله أعلم.
الشيخ أحمد الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
سيدي الرئيس، أخواني أعضاء المؤتمر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،(7/458)
أشكر الباحثين على بحوثهم القيمة التي أفادتنا كثيرًا عن هذا الموضوع – موضوع الاختيارات – ويلاحظ أن جمهور الباحثين سدوا الطريق أمام هذه المعاملة المستوردة التي لا أساس لها في الشرع الإسلامي الحنيف، أما من رأى أنه يمكن الإبقاء عليها مع التعديل فقال: إنها مكونة من عقدين أحدهما عقد إجارة أي عقد على تمليك منفعة معينة وفسر هذه المنفعة بأنها عبارة عن التسهيلات التي تقدمها الهيئة المعنية لدخول السوق. أما الجانب الآخر فإنه بيع شيء أو شراؤه بثمن معين. أقول وبالله تعالى التوفيق إن الجانبين – في نظري – لا يقرهما الشرع الإسلامي؛ لأننا لو افترضنا أن الاختيار عبارة عن عقدين أحدهما إجارة والآخر عقد بيع، فإن الإجارة قرر الفقهاء أنها كالبيع لا بد من معرفة الثمن والمثمن معرفة حقيقية والفرق بين الإجارة والبيع أن البيع عقد معاوضة على تمليك ذات وأن الإجارة عقد معاوضة على تمليك منفعة، فالمنفعة إذن لا بد أن تكون محققة ومعلومة، ودخول السوق في حد ذاته لا يعتبر منفعة؛ لأن الخاسر في هذه السوق أكثر من الرابح في الغالب، وإذا خسر ذهب ماله بدون تعويض وهذا هو الغرر بعينه، الغرر الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي أخرجه الإمام مالك ومسلم ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)) . والغرر عرّفه الفقهاء بأنه (ما شك في أحد عوضيه) هذا تعريف ابن عرفة المالكي، وهناك تعريفات أخرى لجميع الأئمة منها ما تكلم عنها الكاساني ومنها ما تكلم عنها الشيرازي ومنها ما تكلم عنه ابن قدامة في المغني وكلها تصب في هذا القالب (إنه ما جهلت عاقبته) ، فالذي يدخل هذه السوق لا يدري أيحظى بالبيع أو الشراء أو لا يحظى بشيء؟ وهذا هو الغرر بعينه وجزى الله الجميع بخير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/459)
الدكتور سامي حسن حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أود أن أتكلم في موضوع الخيار.
أولًا: في تصوير العملية كشاهد عدل، ثم في التعليق على النقاط الشرعية كطالب فقه، ثم تعقيب أخير في الموضوع كله كأُمنية.
بالنسبة لتصوير العملية أتحدث عنها كدارس لها في الكتب وكزائر لها في الأسواق المالية في لندن وفي شيكاغو. هي عبارة عن اتفاق بين الراغب في الشراء أو البيع – لأن الخيار قد يكون في الحالين – مع الوسيط أو السمسار أن يبيع أو أن يشتري أسهمًا – مثلًا – وقد تكون في سلعة أخرى ولكنها في الغالب في خيارات الأسهم أسهمًا يرغب في شرائها أو في بيعها بسعر معين، هو يقدر لنفسه – مثلًا – لو كان سعر أسهم شركة " الفوكس فول Fox Full " تسعين جنيهًا استرلينيًّا فيتوقع أنها ستصعد إلى خمسة وتسعين جنيهًا ولكنه غير متأكد من هذا الصعود فيشتري حق الخيار بجنيهين استرلينين فيدفع جنيهين لأنه يرى أنها إذا صعدت إلى خمسة وتسعين جنيهًا فسيربح ثلاثة جنيهات مقابل الجنيهين فيضحى بهما على أمل توقعاته وحساباته فإذا جاءت الريح كما ينبغي وارتفع سعر السهم فإنه يشتري ما كان قد دفع فيه جنيهين فوق التسعين فوق سعر الأساس يشتريه باثنين وتسعين مستعملًا حق الخيار في الشراء ويسمونها الخيار على الصعود، فيشتري ما يساوي خمسة وتسعين جنيهًا في سعر السوق في ذلك الوقت بدفعه فقط اثنين وتسعين جنيهًا فيكسب بذلك ثلاثة جنيهات تبعًا لتوقعاته وحساباته ويمكن العكس كذلك بأن يدفع على النزول ويسميها خيار الهبوط إذا كان راغبًا في أن يبيع أسهمه بسعر معين. هذا هو واقع قضية الخيار في الأسهم. ومنذ عشر سنوات في هذا الموضوع عندما سئلت في شركتنا الخاصة: أن بيع المال بالمال نقدًا هو من الربا وهو لا يجوز، لأن الراغب قد يكون حاسبًا حسابات أكثر هو لا يبيع برأس المال قد يبيع المائتي جنيه التي دفعها خيارًا لحق الخيار بثلاثمائة وقد يبيعها بمائة لأنه رأى الريح تجري عكس ما تشتهي سفنه في التوقعات والتحسبات. فالقضية إذن أنه يبيع المائتين بأكثر أو أقل وهذا يدخلنا في الربا الذي يباع فيه المال بالمال بالزيادة أو بالنقصان.(7/460)
أما القول بأن العقد يشبه القمار فهو ليس قمارًا بالنسبة للخبير؛ لأنني مثلًا كإنسان عادي لا أعرف الجواهر أو الذهب ولكن خبراء الجوهر بينهم لا يسمى هذا قمارًا لأنهم خبراء، والذين يتعاملون في عقود الخيار ليسوا بأناس عاديين فأسواقنا في البلاد الإسلامية كلها إن وجدت هناك أسواق لا تعرف هذه العقود حتى البلاد المتقدمة في أمريكا كما ذكر الشيخ السلامي بدأت في عام 1972م وإنجلترا لحقتهم بعد ذلك بعشر سنوات وهي شيء جديد بالنسبة لسويسرا وشيء حديث جدًّا بالنسبة لأسواق اليابان، فهؤلاء الخبراء عندما يدخلون السوق يكونون قد حسبوا الميزانية للشركة حسابًا دقيقًا ويعرفون الصفقات المقبلة وماذا سيحدث من بيوع أو تواجهها من مشاكل فيدخلون السوق وهم يعلمون تمامًا ما هي الحسابات التوقعية ليس هجسًا ولا رجمًا بالغيب وإنما عن دراسة علمية مدروسة، فبالنسبة لهم الذين يتعاملون في هذا السوق ليس هناك قمار أو غرر ولكنهم خبراء السوق وأهله الذين يتصرفون به.
نقطة القول (بالإجارة) المعروف أنها عقد على منفعة شيء، وهذا العقد ليس حق دخول السوق لأن يبيع ويشتري وإنما هو يشتري أسهمًا محددة، سلعة معينة ويدفع فيها ثمنًا وهذا الشراء هو جزء أو عربون ساقط، فلذلك ليس له في نظري علاقة بمفهوم الإجارة.
فإذن الخلاصة قسمان:
القسم الأول: هو ربط عملية يدفع في مقابلها ثمنًا إذا أجازه فهي جزء، وإن نكل فهي خسارة فقضيتها كالعربون تعامل هكذا.(7/461)
القسم الثاني: أن يبيع الخيار قبل أن ينشئ العقد ليس له إلَّا نقدًا فيبيع النقد بالنقد فحكمه الربا إلَّا إذا كان مثلًا بمثل ويدًا بيد فإذا تجاوز الأمر وأنشأ العقد فلا يعود له هناك حق للخيار ليستعمل ...
النقطة الثالثة التي قلت عنها من باب الأمنيات، أقول أن الخيارات من باب الترف المالي في الأسواق المالية العالمية هي كالفواكه الزائدة في طعامنا الأساسي، نحن لا نجد الخبز فنبحث ماذا نأكل من الكنافة أو من البقلاوة؟ الأساس أن نعود بمفهوم الأسواق المالية إلى حاجتنا نحن في البلاد الإسلامية، الأسهم بحثت بحثًا جيدًا، نعم، ولكن هناك السندات أو الصكوك التي تملك توجيه سوق رأس المال في البلاد الإسلامية حيث تعودنا أن نعتمد على الحكومة في كل شيء أن تدعم لنا الخبز والزبدة والحليب. أن هذه الصكوك التي تتعامل بها الحكومات في معظم البلاد الإسلامية صكوك تعتمد على الفوائد؛ لأنه ليس هناك قياس إسلامي عام المعرفة لكي تكون الصكوك مبنية على حصص مشاركة في المشروعات التي تديرها الحكومات بنجاح والتي تستطيع أن توجه سوق رأس المال في البلاد الإسلامية. أتمنى أن يركز المجمع وأن يركز الإخوة الباحثون وأن يكلفوا كذلك بالبحث والاستزادة والاستفاضة لإبراز دور الصكوك أو السندات الحكومية المشاركة في صناعة التنمية في المجتمعات الإسلامية والتي ليس لنا عنها غِنًى في بلادنا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/462)
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحقيقة أريد أن أشرح بشيء قليل من الكلمات بعض القضايا التي تتعلق بتعريف هذه المعاملة وكيف تتم وأريد أن أنطلق من كلام فضيلة الشيخ التسخيري أنه ينبغي علينا أن نحرر المسألة فندع المسائل والقضايا الجانبية حولها. فهنالك نقاط كثيرة ذكرت هي في الحقيقة جانبية، أنها تتم عبر وسيط عبر سوق منظم، هذه مسألة جانبية، أصل العقد هو عقد على الحق بالشراء وليس عقدًا على الشراء نفسه. عقد الشراء سينعقد بعد ذلك في وقت لاحق إذا مارس الطرف الذي له حق ذلك الاختيار. هذه النقطة الأولى، إذن هو ليس عقد على البيع ولا هو بإجارة لا علاقة له بالإجارة مطلقًا، ليس فيه منفعة تؤجر وليس فيه أصلًا ثابتًا يؤجر ومنفعة تشترى لذلك الأصل الثابت، فهو عقد على حق بالاختيار إذا مارسه من له الحق، أحد الطرفين ملتزم فهو الذي يقبض الثمن، الطرف الملتزم يقبض الثمن. أنا التزمت بأن أبيع مثلًا مائة سهم لشركة معينة بسعر معين لقاء هذا الالتزام آخذ – مثلًا – دولارين عن كل سهم فآخذ مائتي دولار هذا الثمن هو الثمن لهذا العقد لهذا الحق ثمن للاختيار الذي يتمتع به الطرف الآخر، الطرف الآخر له الحق خلال مدة معينة أو تاريخ معين حسب فروق ثانوية له الحق أن يمارس هذا الاختيار بأن يقول خلال مدة العقد: أريد أن أشتري فأعطني هذه المائة سهم، عند ذلك أعطيها له بالثمن الذي اتفقنا عليه ويسمى سعر الممارسة وليكن مثلًا في عقدنا الأول عقد الاختيار اتفقنا على ثمن مائة دولار لكل سهم فأنا أبيعه عند ذلك هذه الأسهم بمائة دولار للسهم ويكون ثمنها عشرة آلاف دولار، لا علاقة مطلقًا للمبلغ الذي سبق أن أخذته بهذا الثمن فهو ليس جزءًا منه أبدًا. في الحقيقة أرجو أن يكون الأمر واضحًا، هذا أنا في حسابي في ذهني في العملية الذهنية التي أقوم بها، أقول ذلك: إنني أبيع الاختيار بدولارين – مثلًا – عن كل سهم فأبيع هذا الاختيار لمائة سهم بمائتين وأكسب دولارين الآن، مجموع ما أكسبه هو فرق السعر عند الممارسة الذي أتوقعه مع العقد الذي هو عقد الممارسة (سعر الممارسة) ، اتفقت أن أبيعه بمائة دولار للسهم لو كان توقعي أن سعر السهم خلال هذه الأشهر الثلاثة سينخفض فعند ذلك مما أبيع هذا وآخذ هذين الدولارين وهما كسب كامل لي الآن، عند الممارسة لو كان السعر أقل من المائة التي هي سعر الممارسة فسيكون كسبي الدولارين اللذين أخذتهما مضافًا إليه الفرق ما بين سعر السوق في ذلك الوقت وسعر الممارسة المكتوب في عقد الاختيار ولو لم تحصل توقعاتي وحصلت توقعات الطرف المقابل التي هي في الواقع عكس توقعاتي وإلَّا لما اشترى ذلك الاختيار ودفع ثمنه فلو ارتفع السعر بدلًا من أن ينخفض فأنا أخسر الفارق ما بين سعر الممارسة الذي هو مائة وارتفاع السعر ناقصًا ما كنت قد قبضته (الدولارين) ، فلو ارتفع السعر إلى مائة وخمسة دولارات كم تكون خسارتي؟ خسارتي تكون ثلاثة دولارات؛ لأنني سأعطيه بسعر مائة وكنت أخذت دولارين منه فكأنها مائة واثنين دولار (كأنها) وليست هي مائة واثنين عقد البيع عندما يجري - مثلًا - بعد ثلاثة أشهر سيجري فقط بسعر مائة فالاثنان ليسا جزءًا منه وإنما هما جزء من العملية الحسابية التي أقوم بها في ذهني لتحديد كسبي وخسارتي.(7/463)
النقطة الثانية التي أريد أن تكون واضحة أيضًا هي أن هناك عقدين مختلفين تمامًا عقد الاختيار ثم يليه عقد ممارسة ذلك الاختيار. الآن عقد الاختيار، أبيع اختيارًا أو أشتري اختيارًا وإن كنت مشتريا للاختيار أن لي حق الاختيار فأنا الذي أدفع الثمن، هذا العقد يجري الآن وهذا العقد يحدد ما هي السلعة وما هو الشيء الذي يقع عليه الاختيار سعره والأجل الذي يمكن أن يمارس الاختيار من خلاله ونوع السلعة محددة بدقة واضحة متناهية، وقد تكون هذه السلعة شيئًا مباحًا مما ألف أن يتعامل به الناس كالأسهم أو كالسلع – السلع المتعددة – وقد يكون شيئًا وهميًّا مطلقًا وهو المؤشر، المؤشر حقيقته شيء وهمي لأنه رقم حسابي فقط يدل على حركة مجموعة من الأسعار أو الكميات خلال فترة زمنية فهو شيء وهمي فقط محسوبًا حسابيًّا وليس شيئا حقيقيًّا فيكمن أن يقع الاختيار على أي من هذه الأشياء إلَّا أنه سيتم بعد ذلك عقد آخر لو تمت ممارسة ذلك الاختيار، وهذا العقد الآخر منفصل تمامًا عن العقد الأول من حيث إنه عقد، يعني سيكون هناك عقد بيع بطرفيه والسعر المحدد مسبقًا والكمية محددة مسبقًا فينجز ذلك العقد بمجرد ممارسة ذلك الحق. من حيث الواقع كيف ينتهي عقد الاختيار؟ الحقيقة كما سنجد أيضًا نفس الشيء في عقود السلع (عقود المستقبليات كلها) عقد الاختيار هو نوع من عقود المستقبليات وما نشأ إلَّا بعد نشوء المستقبليات تاريخيًّا فنهايته في الواقع يمكن أن ينتهي بأحد شيئين الأغلب والشائع جدًّا أنه ينتهي بأن يشتري عقدًا مقابلًا له فيتساقطا معًا، كان عندي التزام بالبيع فأشتري اختيارًا بالبيع فيسقطان معًا، كان عندي التزام بالشراء أشتري اختيارًا بالشراء فيتساقطان معًا، وهذا هو الأغلب ومعظم العقود تنتهي بهذا وآخذ الفرق بين السعر بمعنى لو ارتفع سعر السهم من المائة إلى المائة وخمسة فخسارتي ثلاثة، سيكون هناك اختيار في السوق يباع بسعر ثلاثة في ذلك الوقت هو حقيقة فارق السعر، اختيار بالشراء، أشتري اختيارًا بالشراء وأغطي نفسي بما كنت بعت من اختيار شراء أصبحت مشتريًا وبائعًا أخرج من السوق لأنني مشتر وبائع لنفس الكمية بخسارة هذه الثلاثة التي دفعتها.(7/464)
الحالة الثانية وهي حالة قليلة الحصول، تحصل في واقع الحال إلَّا أنها قليلة، هو أن ينتهي هذا العقد بالممارسة الفعلية للاختيار بحيث أشترى من السوق مائة سهم , وأسلمها لمن اختار ذلك الاختيار. هذا هو الشكل العام. الاختيار الذي يمارس في الأسواق المنظمة ومعظم الاختيارات تمارس في الأسواق المنظمة وبشكل كبير جدًّا، هناك اختيارات خارج الأسواق قليلة تمارس إلَّا أن الاختيارات داخل الأسواق، يضاف إليها عنصر مهم جدًّا وهو أن إدارة السوق تضمن إنجاز جميع العقود التي يتعاقد عليها في تلك السوق فهذه العقود إذن إدارة السوق تضمن إنجازها وبالتالي تأخذ من الأطراف الذين يدخلون بهذه العقود ضمانات كافية بنظرها تسمى الهوامش، هذه الهوامش تأخذها إدارة السوق، وتضعها عندها فهذا يقتضي إذن نوعًا آخر أو إضافة عنصر آخر هو أن هذه العقود مضمونة التنفيذ ولا مجال فيها أبدًا لأن يتقاعس أو يتلاعب أو يقوم بأي إجراء آخر أي طرف من الأطراف لأن الإدارة تضمنها، أيضًا السوق المنظم اقتضى عنصرًا آخر وهو أنه بسبب أن مكان السوق محصور والمعرفة بشروط التعاقدية تحتاج إلى خبرة كبيرة فاشترطوا ألا تتم هذه العقود في الأسواق المنظمة مباشرة إنما عن طريق السماسرة، فهناك سماسرة رخص لهم وأدو امتحانًا ودفعوا رسم اشتراك سنوي في العادة هؤلاء السماسرة هم الذين يسمح لهم بالتعامل وكل تعامل لأي شخص، وأي شخص سيستطيع أن يدخل السوق، يعني أنا لا أدفع رسمًا لأن أشتري اختيارًا أو سلعة أو سهمًا أو أي شيء في السوق المنظمة كمشتر وكبائع لا أدفع رسمًا لذلك، لي الحق بدخول السوق وبالتالي لا علاقة للإجارة بهذا إنما هذا الحق أمارسه من خلال ذلك السمسار وأدفع له أجرته وهذه الأجرة في العادة تنافسية، منهم من يأخذ القليل ومنهم من يأخذ أكثر وأنا أختار حسب ما أراه من صالحي. والحمد لله رب العالمين.(7/465)
الشيخ أحمد بزيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
في الحقيقة هذه الممارسة تصدر في ظل نظام مصرفي ربوي آيل إلى السقوط – بإذن الله تعالى – وليس بالضرورة أن يكون عرف غير المسلمين عرفًا للمسلمين، وأنا – في الحقيقة – أنصح نفسي وأنصح الأخوة القائمين على إدارة الأموال أن ينجوا بأموالهم من المخاطر التي تحوط بهذا النظام بأن ينصرفوا إلى استثمارات أو على الأقل إلى تبادلات تجارية بين دول الأمة الإسلامية وفي هذا متسع كبير لهم.
الجزئية التي نتكلم عنها في هذه السوق هي تسمى (الخيارات) الحقيقة هناك لا توجد بضاعة البضاعة سراب، وليس هناك ثمنًا فالثمن سراب، إذن العقد كله وهمي مبني على الوهم، وإنما هناك مراهنة – في الحقيقة – مثل ما قال الأستاذ رفيق إذا كان في وقت تنفيذ الخيار ينظر هل هو كاسب أو رابح، فإذا هو كاسب يأخذ المكسب وإذا كان هو خاسر يسلم الفرق، إذن هي نوع من أنواع القمار بدل أن تمارس بالورقة (الكتشينة) تمارس بعقود في البورصات. الصورة لهذا العقد الوهمي هو ما صوره الشيخ الصديق الضرير في بحثه – جزاه الله خيرًا – ودلت الإحصاءات الدولية على أن هذه الممارسات الوهمية تمثل 97 % من مجمل العمليات – مثل ما قال أخونا إنها في الحقيقة أكثرها وهمية – و 3 % فقط هي عقود حقيقية.
فلذلك سادتي العلماء أرى أن هذه السوق المالية مبنية على كثير من المخالفات الشرعية، فأولًا إذا كان التبايع في الأسهم فالأسهم عندنا فيها توصية بأن لا ندخل فيها، وإذا كانت غير الأسهم بل السلع فلا وجود للسلعة، أين السلعة؟ ليس هناك سلعة إنما هناك مراهنات يدفع الخاسر أو يقبض الرابح نتيجة لهذه المراهنة. وشكرًا.(7/466)
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
بسم الله الرحم الرحيم.
لا أريد أن أطيل لأن الموضوع تكلم فيه وربما يكون كافيًا، لكن ينبغي أن نتصفح الواقع فإذا رأينا عقدًا جديدًا لم نحكم بتحريمه من أجل جدّته لأن العقود الشرعية كما قال بعض الإخوان ليست عقودًا مسماة أو شكلية إنما كانت هناك ضوابط أقرها الشرع للتعامل فإذا توفرت قضينا بالإباحة وإذا اختلت قضينا بالتحريم. في هذه العقود نجد بيع العربون ولغويًّا هو معروف العربون والعربان, والعربون بالعين وبالهمز في الألفاظ الثلاثة، قد ذكر الثعلبي في فصيحه منها اثنين العربون والعربان ونظم كلامه مالك بن المرحل بقوله:
والعربون يا فتى والعربان
وذاك ما عجلته من أثمان
نرى أنه توجد حالات من حالات العربون وتوجد حالات من حالات الضمان بجعل وتوجد حالات من حالات الشراء شراء مؤجل أو سلم وقد يكون في هذا السلم سلم بخيار وسلم بخيار يجوز إذا توفرت شروط السلم ولم يزد أجل الخيار على القدر الذي يجوز أن يؤجل إليه أخذ رأس مال السلم لأن السلم بخيار لا يجوز النقد فيه للتردد بين السلفية والثمنية، فلذلك يشترط في السلم بخيار ألا يزيد أجله على الأجل الذي يجوز تأخير رأس مال السلم إليه.(7/467)
ونرى أن من هذه الحالات ما يشبه قولهم وجاز سؤال البعض ليكف عن الزيادة، وأن يقول السائم لمن يستام معه السلعة: كف عن الزيادة ولك درهم، فإذا كف وجب له ذلك الدرهم سواء تم الشراء أو لم يتم. هذه أمور معروفة في المذهب المالكي الذي أتكلم عنه كمدرسة لا كمذهب ولا تعصبًا له وإنما هو المدرسة التي نشأت بين أحضانها فيها نزول عن الحقوق مقابل أعواض ولا يسمونه بيعًا ولكن يسمونه (نزولًا) فهو عندهم من العقود غير المسماة، فإذا توفرت في هذه الصفقات الشروط التي تجيز عقد (السلم) أو (البيع لأجل) أو (بيع الخيار) أو (نزول عن الحقوق مقابل الأعواض) قلنا تجوز وإذا لم تتوفر واشتملت على بعض ما يفسد العقود قلنا هي عقود فاسدة، أما أن نقول: هي عقود فاسدة لأنها لاعهد بها، أو نقول: هي عقود صحيحة لأنها تحقق المصالح والمكاسب هذا لا يمكن أن يكون معيارًا للتحليل أو للتحريم. ننظر إليها نظرة موضوعية نعتمد فيها ما يقوله الخبراء فإذا شخصوا لنا هذه العقود وعرفنا الأحكام التي تنطبق عليها مما هو موجود عندنا في كلام الفقهاء – رحمهم الله تعالى – تكلمنا على بصيرة في التحليل والتحريم. وعندي أمنية – أيضًا – هي أنه كان الناس في الأول يروون كتب الفقه، الآن تركوا الرواية واعتمدوا على الكتب ومن هذه الكتب ما لا توجد منه إلَّا طبعة واحدة قد تكون مطبوعة على مخطوطة واحدة تكون في هذه الطبعة كثير من الأخطاء فيعتمد عليها الباحثون والمفتون وأخص بالحديث لذلك (طبعة الحطاب) فهو كتاب معتمد في الفقه المالكي ولكن الطبعة الموجودة منه تشتمل على كثير من الأخطاء والإسقاط والتحريفات، فأهيب بالمجمع المعظم إلى أن يبحث عن نسخ قلمية عتيقة لهذا الكنز الثمين ويجعله تحت أيدي الباحثين إلى أن تتاح فرصة لطبعة من جديد وتحقيقه حتى لا نعتمد على نسخة فيها السقط والتحريف ونصدر أحكامًا انطلاقًا منها قد تكون بعيدة من رأي المؤلف ومن المذهب الذي ينقل كلام أصحابه. والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.(7/468)
الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحم الرحيم.
الواقع مجرد تعليق على كلام فضيلة الأستاذ السلامي وهو أني اعتبرت المشتري أقول المشتري غير السمسار، هذا واضح جدًّا في بحثي فأنا لا أعلم، عرضت فقرة خاصة بالسمسار ولم أقصد به المشتري، فالمشتري لم يكن في بحثي سمسارًا أبدًا. الأستاذ الصديق الضرير الواقع أعتبر أن كل ما قلته في بحثي أن هذا العقد عقد إجارة والأمر ليس كذلك، إنما قلت اشتمل على إجارة وعلى عقدين، جوهر هذا العقد إنما هو البيع وأنا أسحب كلامي في ضوء شرح الدكتور منذر قحف والدكتور سامي حمود أسحب كلمة أن هذا العقد يتضمن عقد إجارة فهو عقد بيع في لبّه وجوهره وما دفع فهو عربون والعربون هذا جائز أخذه في المذهب الحنبلي، فهو ليس عقد إجارة بالكامل ولم يكن كلامي يتضمن هذه الفحوى وشكرًا.
الأستاذ عبد اللطيف جناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
من الأوراق المقدمة ومن عرض الشيخ المختار السلامي وعرض الأستاذ الدكتور منذر قحف أرى بأنه لا توجد زيادة لمستزيد في عرض الموضوع بأمانة علمية وصادقة ولكن سألقي الضوء على نقاط أخرى لنرى ما يترتب على هذا السوق من أضرار اقتصادية.(7/469)
سوق الاختيار في الحقيقة خلق كسوق منشق من السوق الثانوية والمعول فيه والأساس لتكوينه هو استقطاب المضاربين فمعظم هؤلاء الذين يدخلون السوق لا يرغبون في شراء السلعة بذاتها، هنا محل نظر يجب أن نركز عليه الضوء. فسوق الاختيار يقع الأمر على إرادة، وهذه الإرادة هي ممارسة الحق إما أن تمارس وإما أن لا تمارس. وهو في نظري من المعاملات المضيعة للمال أو المحققة للثروة من معاملات لا صلة لها بالتنمية وتخرج النقود – بالنتيجة – من إحدى الوظائف الرئيسية وهو تحريك عجلة التنمية، من جانب آخر لهذا السوق تأثيره السيء إذ يصرف توجه المال عن المعاملات الحقيقية وبالتالي هذا يؤثر سلبًا على التنمية ويزيد أيضًا بأسلوب غير مباشر من عرض النقد مما يؤدي إلى زيادة التضخم، وليس متيقنًا أن حجم العقود التي تتم تعادل في قيمتها أثمان ما تقع عليه من أسهم البضائع، فحقيقة أن السيطرة على مثل هذا السوق سيطرة غير ممكنة والأمر يفلت من أيادي المسيطرين عليها خاصة إذا نشطت سوق الاختيارات لأنها طبعًا من المضاربات والمضاربات نحن نعرف مضارها وآثارها الاقتصادية. أيضًا هذا النوع من التعامل الوهمي إن صح التعبير يزيد الطلب على النقود الائتمانية وهو ذو صلة بالربا وهو عامل مساعد للتضخم. كون أن الذين يدخلون متمرسون في العملية ويعرفون المشاكل، نعم هم متمرسون في العملية ويعرفون المشاكل ولكن هم أيضًا يخلقون المشاكل ليحققوا غاياتهم في الأخير. وبالنتيجة إن كان هذا التعامل كما قال به بعض الفقهاء لا يجوز شرعًا فأنا أقول أيضًا هو حرام من الناحية الاقتصادية البحتة لما له من آثار سلبية على الاقتصاد. وشكرًا.(7/470)
الشيخ رجب بيوض التميمي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أود أن أشير في هذه النقطة إلى أن هذا العقد وهو عقد الاختيار ليس عقدًا ولا أصل له في الفقه الإسلامي، ولا أصل له في العقود الشرعية، هو عقد مستورد عقد وهمي عقد ليس على مال متقوم وإنما عقد على حق في الشراء في زمن معين في شيء معين فهو أولًا يفضي إلى الجهالة والجهالة تفضي إلى النزاع وكما هو معلوم من القواعد الشرعية أن الجهالة التي تؤدي إلى النزاع هذه عقدها عقد فاسد ولا يجوز أن يعول عليه. فإذن عقد الاختيار ليس عقدًا وهو شيء وهمي وصوري يؤدي إلى النزاع، يؤدي إلى أشياء كثيرة محظورة، يؤدي أولًا إلى الربا ويؤدي إلى النصب والاحتيال، ويؤدي إلى القمار لأنه عقد ليس مالًا متقومًا وإنما حق أي حق، شيء مجهول، أي حق يشتري شيئًا معينًا في زمن معين نظير مال أي مال، لذلك فإنني ألخص كلمتي بأن هذا ليس عقدًا وإنما هو شيء وهمي يؤدي إلى النزاع وفيه جهالة فاحشة ويؤدي إلى الدخول في متاهات تخرج عن الأصول والقواعد الشرعية وهو عقد محرم يجب أن نبتعد عن البحث فيه لأنه لا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة صحيحة أو عقد معتبر ولذلك فإنني أختصر كلمتي بأن كل عقد فيه جهالة يؤدي إلى النزاع عقد فاسد لا يعول عليه وفيه من الأشياء المحظورة الشيء الكثير. والله أعلم بالصواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/471)
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أرجو أن أذكر بعض الملاحظات في هذا النقاش العلمي المفيد. في ظني أن الأمر يحتاج إلى مزيد من البيان، لا أقصد ما تمّ في هذه الجلسة، في الواقع أقصد في مرحلة إعداد البحوث لأن كثيرًا من القضايا قد تم توضيحها في هذا اللقاء فيما يتعلق بطبيعة ما يجري بخصوص هذا العقد. لذلك في ظني أن تأجيل إصدار حكم في هذه القضية أمر يجب أن نتجه إليه، يجب أن نميز في معرض الحديث عن الحكم الشرعي بين قضية التوجهات العامة وما ينصح به وبين تحرير محل النزاع ومن ثم التوجه إلى بيان الحكم فيه من مرحلته الأولية ثم فيما يلحق بهذه الجزئية من أمور تابعة قد تحكم بعدم صحتها وحدها أو بصحة بعضها وعدم صحة شيء آخر منها. واضح ما يجري في الأسواق المالية في العالم حتى في بلاد العرب والمسلمين كثير منه من قبيل المضاربات البحتة مما يفسد حتى العملية التنموية فضلًا عن أنه يؤثر في ثرائها والأصل أن يتوجه اقتصاديونا وباحثونا إلى كثير من الضمانات والقيود والقواعد الضابطة لسلوك المتعاملين مع هذه الأسواق بما يصون هذه الأسواق من أن تنقلب إلى ساحات للمضاربة والمراهنة وعمل نوع من الانطباع بأن هنالك تقدمًا اقتصاديًّا لكن العملية لا تخلو من مضاربات يثري فيها البعض على حساب الآخرين، لكن هذا أمر في الواقع غير عملية التصدي لقضية محددة والقول بأنها بهذه الصورة جائزة أو غير جائزة، أنا مع الإخوة الذين طالبوا بأن نتوجه نحن في مجمعنا ليس للحاق واللهاث وراء صيغ من التعامل استحدثتها الحضارة المعاصرة لسبب أو لآخر إنما يجب أن نتجه لاستحداث صيغ من التعامل المعاصر تلبي حاجاتنا على هدي من شريعتنا ووفق قواعد ديننا الحنيف، وهذا التحدي طرح البدائل الجيدة التي تحق التنمية الحقيقية في مجتمعنا وبالتالي نتميز في الواقع عن الحضارات المعاصرة وما تقدم في هذا المجال. ولذلك أنا مع الأخ الدكتور سامي في اقتراحه بأن نتوجه لصياغة أدوات تمويل وعقود جديدة تضبط أسواقنا المالية، لكن فيما يتعلق بالخيارات أريد أن أبسط المسألة إلى أبعد حدود التبسيط ومن ثم يمكن أن ننظر في صورتها المبسطة هذه، أهي جائزة أو ليست جائزة؟ ثم بعد ذلك يمكن إذا أردنا أن نستمر في هذا البحث أن ننطلق جزئية بعد جزئية لمكونات هذه الصورة في الواقع المعاصر لننتهي بعد ذلك إلى حكم شامل فيما يتعلق بهذه المسألة.(7/472)
واضح أن الذي دفع إلى التفكير في عقود الخيارات هو عملية المضاربات التي تجري في الأسواق المالية، يعني لو كانت الأسعار مستقرة ولا تتفاوت بين يوم وآخر وشهر وآخر لما كان هنالك حاجة لهذا لكن لخشيتي أنا من صعود الأسعار أو من هبوط الأسعار أسارع لنوع من الممارسات من أجل تحقيق الأرباح، فلو كانت طبيعة السوق وهذا أمنيتنا أن يكون هناك سوق إسلامي ليس في وجوده في بلاد المسلمين إنما في قواعده وفي تعامله وفي منطلقاته وفي محركاته وفي كل ما يجري فيه لكن كون أننا أخذنا هذه التجربة عن الحضارة المعاصرة بما فيها فلذلك نحن نعالج معالجة أشبه ما تكون بمعالجات الترقيع لنقول هذا في جزئية جائز أو في جزئية غير جائز. أعود إلى قضية التبسيط لو جاء شخص معين وقال: أنا ألتزم ببيع سلعة أملكها – دعونا حتى من قضية الأسواق المالية – ألتزم ببيع سلعة معينة بسعر معين ومقابل هذا الالتزام – وسلعتي هذه يتفاوت سعرها على ضوء العرض والطلب في المجتمع – ومقابل هذا الالتزام أريد مبلغًا من المال لأنه لو بسطنا المسألة هذه هي الحقيقة بيع التزام بالبيع من حيث الذي سيقبض المال وبالنسبة للآخر هو شراء التزام بالبيع بسعر معين في فترة معينة ومن ثم ندخل بعد ذلك في كل التفاصيل والأمور اللاحقة في هذه الصورة من التعامل. هذه العملية هل يمكن أن تخرج على قاعدة بيع العربون؟ نعم هي ليست تمامًا كالعربون لكنها في النهاية كما شرح الدكتور سامي تؤول بشكل أو بآخر إلى هذه الحالة وإن كانت في العقد اللاحق عندما تتم العملية فعلًا عندما يتم البيع فعلًا ليس هنالك ربط بالمبلغ الذي قبض أولًا لكن العبرة فيما يجري فعلًا وحقيقة وليس من الأسماء والصور التي تمارس بقدر ما هي من حيث مضامينها الحقيقية. هذه القضية هي في ظني إذا بحثناها وانتهينا فيها إلى الإجازة أو التحريم تحسم هذه المسألة وأما ما يلحق بعد ذلك من مسائل كما تفضل الدكتور منذر معظم الخيارات تنتهي بعمليات مقابل، بمعنى آخر هنالك بيع للعربونات يعني هنالك مضاربات تلحق بمضاربات، لكن هذا قد نقوله بالنسبة لجزء في كل في السوق المالي كما يجري لكن مع التنبيه إلى أننا قد حددنا بالضبط الحكم المتعلق بأصل المسألة. وشكرًا.(7/473)
الدكتور طه جابر العلواني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أود أن أنبه إلى بعض الملاحظات التي قد لا تضيف كثيرًا إلى ما تفضل به من سبقوني لكنها قد توضح بعض الجوانب.
الملاحظة الأولى: أن المعاملة التي جرى نقاشها هي معاملة حادثة باتفاق من تكلم فيها من خبراء ومن فقهاء أبرزها اقتصاد حر جعل كل شيء سلعة، الإنسان ذاته، في نظر هذا الاقتصاد هو وحدة إنتاجية واستهلاكية لا ينظر إليه إلَّا من هذه الزاوية، الحق، المنفعة، اللذة، المصلحة، الحرمة والقداسة مرتفعة عن كل شيء، وكل شيء في هذا الاقتصاد عروض للبيع والشراء والتداول والمعاوضة. جسد الإنسان امرأة أو رجلًا معروض للبيع ومعروض للتأجير ومعروض للانتفاع به بكل الوسائل حيث إن هذا الاقتصاد بني على تصور ينفي الحرمة والقداسة وإدخال أي عنصر غيبي في هذه المعاملات، فلا شيء اسمه دين ولا شيء اسمه فقه أو شريعة أو خلق أو قيم في هذا المجال وإنما هي أمور كلها قابلة للتداول والتبادل والبيع والشراء والمعاوضة. هذه واحدة.
الأمر الثاني: أن فقهنا الموروث لم يشتمل على شيء مباشر في هذه العقود الحادثة وفقهاء سلفنا حتمًا لم يواجهوا مثل هذه المعضلات، فهم قد عاشوا في مجتمعات يغلب عليها أنها مجتمعات زراعية ومجتمعات تجارية ذات طبيعة تراحمية تعاونية بسيطة تحددها وتسودها وتضبطها قيم شرعية وأخلاقية.
الأمر الثالث: هذه المعاملات بعضها إذا أخذ بشكله الجزئي وعرض منفصلًا عن الرّحم الذي ينتمي إليه- رحم الاقتصاد الحر- ربما يستطيع الفقيه أن يقول: هذه المعاملة جائزة أو هذه مقبولة بشكلها الجزئي وفي إطارها الجزئي ولكن ما الذي سننتهي إليه بعد الوصول إلى هذه الجزئيات؟ ربما سيقودنا هذا إلى قبول الإطار الفلسفي بعد ذلك الذي سمح بإفراز مثل هذه المعضلات.
الأمر الرابع: الفقيه المعاصر الذي يواجه هذه القضايا هو ينتمي إلى أمة لا يزال هذا الاقتصاد العالمي السائد يصنفها في إطار عالم ثالث أو عالم نامي أي باعتراف أهل هذا الاقتصاد أن هذه البلدان لا تواجه مثل هذه المشكلات وحين تواجهها فإنما تواجهها في شكل جزئي وفي إطار سيادة وسيطرة هذا النظام الاقتصادي العالمي وبمقدار ما يسقط عليها من مشكلات، وبالتالي فالفقيه المعاصر إما أن يقيس وهنا عملية القياس إن لم تكن متعذرة فهي شديدة الصعوبة لأن فقهاءنا لم يواجهوا مثل هذا، وإما أن يذهب إلى الأخذ بفقه الضرورات لمن يصابون بمثل هذه النوازل بشكل جزئي وقد يكون هذا أسلم المنطلقات أو أخف المنطلقات ضررًا بالنسبة لمثل هذه الواقعات.
الذي نود أن نتنبه إليه هو أن نتصور الاقتصاد الذي تنتمي إليه بلداننا شكله، كيفيته، مشكلاته، كيف يمكن للفقيه المعاصر أن يسهم في معالجة قضاياه؟ أما قضايا اقتصاد آخر لا تصادفنا إلَّا بشكل جزئي ومن خلال هذه المنطلقات فإنها سوف تضع أمامنا كمًّا هائلًا من المشكلات قد يضيع علينا فقه أولوياتنا. أقول قولي هذا وشكرًا لكم.(7/474)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلَّي الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من خلال هذه المداولات يتبين أن هناك ثلاثة توجهات.
الأول: وعليه عامة فقهاء هذا المجمع وعدد من الاقتصاديين وهو أن الاختيارات بيعًا وشراء ليس له مقابل صحيح في عقود المعاوضات وغيرها من العقود الشرعية ولذلك فحكمه التحريم.
الثاني: فيه تفصيل بتحليل جزئيات بعض الصور التي طرحت وتعديل لها ... وقد ترون مناسبًا أن يتألف لجنة لإعداد مشروع قرار في هذا الموضوع من خلال المداولات الجارية وهم المشايخ: وهبة الزحيلي، الصديق الضرير، عبد الوهاب أبو سليمان، سامي حسن حمود، عبد اللطيف الجناحي، محمد تقي العثماني. موافقون؟
الأعضاء:
نعم.
الرئيس:
وبهذا ترفع الجلسة وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثَانيًا: السّلع
الرئيس:
الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذه الجلسة سوف يكون موضوعها – بإذن الله تعالى – (السلع) والعارض هو فضيلة القاضي الشيخ محمد تقي العثماني والمقرر هو فضيلة الشيخ صالح المرزوقي.
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن موضوع الدراسة لهذه الجلسة كما عرفتم هو التعامل في السلع وليس المقصود بهذا العنوان بيع السلع بعمومها وإنما المقصود التعامل في السلع بمختلف صيغها الجارية في الأسواق المالية والبورصات العالمية اليوم. وإن السلع التي يتعامل بها في هذه الأسواق بكميات كبيرة تشمل الأطعمة والمنتجات الزراعية والمواد المعدنية من الذهب والفضة وغيرهما في غالب الأحوال والمنتجات الصناعية في بعض الأحيان. وإن التعامل في هذه السلع ينقسم إلى أقسام ثلاثة:(7/475)
الأول: التعامل في السلع الحاضرة وما يسمى باللغة الانجليزية (SPOT TRANSACTION) وهو أن تكون السلع موجودة عند الباعة فيبيعونها إما بثمن الحال أو بثمن مؤجل وإن هذا النوع من البيع لاخفاء في حكمه الشرعي فإنه ينطبق عليه جميع أحكام البيوع المبسوطة في كتب الفقه، وبالتالي فإن هذا النوع من البيع يعز وُجوده في الأسواق المالية والبورصات وإنما يتعامل به في الأسواق العادية غالبًا. فإني لم أتعرض في بحثي لهذا النوع من البيع.
النوع الثاني: من التعامل في السلع هو البيوع المقدمة وهي البيوع التي تسمى باللغة الإنجليزية (FORWARD SALES) وهي البيوع التي يبيع فيها البائع سلعًا يلتزم بتسليمها إلى المشتري في وقت لاحق وإن حكم هذا النوع من البيع أنه إنما يجوز إذا توفرت فيه شرائط السلم أما إذا لم توجد فيه شرائط السلم فإنه لا يجوز أصلًا إما لأنه بيع لما لا يملكه الإنسان أو لأنه بيع معدوم أو لأنه بيع مضاف إلى ثمن مستقبل. وكل ذلك لا يجوز كما هو معروف في الفقه الإسلامي.
النوع الثالث: من التعامل في السلع هو ما يسمى (المستقبليات) وإن هذه الكلمة في الأصل مترجمة من اللغة الإنجليزية والكلمة الإنجليزية المستعملة في هذا الموضوع هي (FUTURES) وهو النوع الذي يهمنا أكثر في دراستنا اليوم لكونه نوعًا جديدًا من التعامل في السلع أصبح من أبرز أنواع المعاملات الجارية في الأسواق المالية العالمية، وتكونت له بورصات مستقلة يتعامل فيها بالملايين في كل يوم. ويبدو من كلمة (المستقبليات) وتعريفها المذكور في كتب الاقتصاد أنه اسم للبيوع المقدمة التي ذكرناها كالنوع الثاني من التعامل في السلع، فإنه يتعامل بها في السلع بشرط تسليمها بتاريخ مستقبل، ولكن هناك فرقًا جوهريًّا بين البيوع المقدمة وبين المستقبليات وهو أن البيوع المقدمة إنما تعقد للحصول على السلع في تاريخ مستقبل، والبائع يقصد تسليم المبيع، والمشتري يريد تسلمه في ذلك التاريخ، ويقع التسليم والتسلم فعلًا عند حلول ذلك التاريخ. أما المستقبليات، فإن السلع إنما تستخدم فيها كأساس للتعامل، ولكنه لا يقصد بها في معظم حالات التسليم والتسلم، بل يقصد بها إما المخاطرة في الأرباح، أو التأمين ضد الخسارة في إحدى البيوع المقدمة المتوازية، فلا يقع فيها تسليم السلع وتسلمها إلَّا في حالات نادرة جدًّا، وبما أن الحكم الشرعي لشيء ما إنما يبتني على تصوره الصحيح فإني أريد أن أشرح كيفية هذا التعامل في المستقبليات بشيء من التفصيل، فليعذرني المستمعون الأكارم إذا كان فيه شيء من الإطالة فإنه لا بد من هذا للوصول إلى الحكم الشرعي لهذا التعامل.(7/476)
إن المستقبليات إنما تعقد في سوق منظمة أنشئت لهذا الغرض، وتسمى " سوق تبادل السلع " (COMMODITY EXCHANGE) التي تجري على أساس العضوية فيها، فمن يحب أن يتعامل في المستقبليات يجب أن يكون عضوًا لهذه السوق. وإن العضوية تتكون من منتجي عدة سلع وتاجريها، ومن مؤسسات السماسرة. ومن أراد أن يتعامل في هذه السوق دون أن يكون عضوًا فيها، فإنما يستطيع ذلك عن طريق السماسرة الأعضاء. ويجب للتعامل في المستقبليات أن يفتح المتعامل حسابًا عند إدارة السوق يتضمن مبلغًا معينًا يبقى عند إدارة السوق كضمان لتصفية التعامل حسب قواعد السوق. ولا يزيد هذا المبلغ عادة على 10 % من قيمة العقد عند التوقيع، و 7 % في اليوم اللاحق، والمقصود بهذا المبلغ تغطية الخسارة المحتملة في حال تخلف أحد الفريقين عن الوفاء بما التزمه. وبعد فتح الحساب يجوز للعضو أن يبيع أو يشتري كمية معينة من السلع لتاريخ مستقبل وإن كميات السلع المتعامل بها مقسمة على وحدات تجارية كل وحدة منها تنبئ عن كمية معروفة من تلك السلعة المخصوصة. فالوحدة المعتبرة في القمح مثلًا، هي خمسة آلاف كيس، فلا يقع التعامل بكمية أدنى من هذه الكمية، وللمتعامل أن يتعامل في وحدة واحدة من القمح، أو في وحدتين، أو في ثلاث وهكذا. وكذلك أنواع السلعة محددة بدقة من حيث جودتها ورداءتها، ويشار إلى هذه الأنواع بأرقام الدرجات، فهناك قمح الدرجة الأولى، وقمح الدرجة الثانية، وقمح الدرجة الثالثة، وهكذا. وإن مواصفات كل من هذه الدرجات معروفة لدى جميع المتعاملين.(7/477)
فمن أراد بيع وحدة من قمح الدرجة الأولى مثلًا في شهر يناير لتسليم شهر أكتوبر، فإنه يعرض على السوق ما ينبئ عن رغبته لبيع وحدة من قمح الدرجة الأولى، لشهر أكتوبر بثمن يتوقع أن يكون رابحًا عند التسليم، فمن رغب في شراء هذه الوحدة بهذه الشروط قبل ذلك العرض، ولا يحتاج أي منهما إلى الالتقاء بالآخر في أسواق البورصة. ولكن إدارة السوق ضامنة لوفاء التزامات الفريقين. فالبائع يقدم عرضه إلى السوق بواسطة الإدارة، والمشتري يقبل هذا العرض عن طريق الإدارة والإدارة تتكفل له بتسليم السلعة من قبل البائع، وبتسليم السلع من قبل المشتري عند حلول تاريخ التسليم.
وليس الأمر حقيقة بهذا البساطة التي تبدو مما ذكرته حتى الآن لأنه لا يقع أبدًا أن ينتظر المشتري تاريخ التسليم ويتسلم السلعة المبيعة عند حلول ذلك التاريخ، وإنما يظل هذا العقد فيما بين شهر يناير وشهر أكتوبر محل بيع وشراء في كل يوم، وربما يقع على العقد الواحد بيع عشرات البياعات يوميًّا، إلى أن يأتي الأجل، فلو باع زيد مثلًا إلى عمرو وحدة من القمح لتسليم شهر أكتوبر، فإن عمرًا يبيعه بعد ذلك إلى خالد وخالد إلى حامد وحامد إلى حسان كل واحد منهم بثمن ربما يختلف عن الثمن الأول. والفارق بين سعري البيع والشراء هو الربح الذي يخاطر فيه المتعاملون في أثناء هذه المدة. وكل من اشترى عقدًا بسعر أقل وباعه بسعر أكثر، فإنه يستحق أن يطالب بفرق السعرين كربح له، دون أن يدفع الثمن كمشترٍ، أو يسلم المبيع كبائع. ففي المثال المذكور لو اشترى عمرو من زيد وحدة من القمح لتسليم شهر أكتوبر بعشرة آلاف دولار مثلًا، وباعه من خالد بأحد عشر ألف دولار، فإنه لا يدفع الثمن إلى زيد، ولا يسلم المبيع إلى خالد، وإنما يستحق ألف دولار كالربح الحاصل على تعامله فإنه هو الفارق بين السعرين ولإنجاز هذه العمليات تكون إدارة السوق غرفة تسمى " غرفة المقاصة " وإن جميع هذه العمليات في غرفة المقاصة، وهي التي تتولى تصفية جميع الالتزامات في آخر النهار كل يوم. فإن عمرًا في المثال المذكور يأخذ ربحه، وهو ألف دولار، ويتسلمه من غرفة المقاصة ويخرج من العملية بتاتًا.(7/478)
وهكذا يستمر التعامل في هذا العقد الواحد إلى أن يأتي شهر التسليم وهو شهر أكتوبر في المثال المذكور وفي هذا الشهر يصدر من قبل إدارة السوق إخطار للمشتري الأخير – المشتري الذي اشترى في آخر هؤلاء – يصدر هناك إشعار لذلك المشتري بحلول تاريخ التسليم، وباستفساره: هل يرغب في تسلم المبيع في التاريخ المتفق عليه؟ أو يريد بيع هذا العقد؟ فإن رغب في تسلم المبيع. فإن البائع يسلم السلعة المبيعة إلى مستودعات معينة. ويسلم وثيقة الإدخال إلى المستودع، ويحصل مقابلها على الثمن. وإن لم يرغب المشتري الأخير في تسلم السلعة، ورغب في بيع العقد مرة أخرى، فإنه يبيعه من البائع الأول – البائع الأول الذي باع هذا العقد في بداية هذه العملية يبيع هذه السلعة إلى نفس ذلك البائع الأول – مرة أخرى وحينئذ فإن المعاملة تصفّي على أساس دفع فوارق السعر كما يقع في العمليات التي تم إنجازها قبل حلول التاريخ – مثلًا – البائع كان قد باع بألف دولار وصار السعر الآن ألف ومائة دولار فإنه يشتري بألف ومائة ويدفع فرق مائة إلى هذا المشتري الأخير.
وأن ما يقع فعلًا في أسواق السلع في معظم المعاملات هو هذا الشق الثاني، ولا يقع التسليم والتسلم إلَّا في أحوال نادرة، لعلها لا تبلغ نسبتها إلَّا إلى الواحد في المائة.
والذين يتعاملون في المستقبليات هم نوعان، لكل واحد منهما غرض مستقل عن غرض الآخر للدخول في سوق المستقبليات.(7/479)
أما النوع الأول، فهم المخاطرون الذين لا يقصدون شراء السلع وبيعها للحصول على المبيع أو على الثمن، وإنما يقصدون الحصول على الأرباح التي تتكون من فروق أسعار البيع والشراء، كما تقدم ذكر ذلك. وإنهم على ثقة من خبرتهم بتقلبات الأسعار، يشترون المستقبليات على أمل أنهم سوف يبيعونها بسعر أكثر، ويتخلص لهم ربح من وراء هذه العملية، بدون أن يخوضوا في تسلم المبيع وتسليمه. فربما تنجح آمالهم في عقد، وتفشل في أخرى.
والنوع الثاني، من المتعاملين بهذه العملية هم الذين يقصدون التأمين ضد الخسارة على بيوع حقيقية عقدوها في الأسواق الحالة. وإن هذه العملية تسمى في اللغة الإنجليزية التحصين ويمكن لنا أن نترجمه إلى العربية بالتأمين ضد الخسارة.
ومن المناسب أن نشرح هذه العملية بمثال إن زيدًا اشترى من السوق الحالة عشرة آلاف كيس من القمح، - من السوق الحالة وليس من سوق المستقبليات – بسعر خمس دولارات لكل كيس مثلًا. وأن البيع حقيقي يقع فيه التسليم ولكن نظرًا إلى ظروف السوق يريد زيد أن يبيع هذه الكمية بعد ثلاثة أشهر مثلًا، ولكنه يخاف أنه إن انخفض سعر القمح بعد ثلاثة أشهر فإنه سوف يخسر خسارة كبيرة. هب أن السعر انخفض بعد ثلاثة أشهر بمقدار نصف دولار لكل كيس، فإنه يخسر خمسة آلاف دولار في هذه العملية الواحدة.
وللتجنب عن هذه الخسارة، يدخل زيد في سوق المستقبليات لأنه دخل في السوق الحالة واشترى كمية من القمح ثم يدخل في سوق المستقبليات ويبيع مثل هذه الكمية لتسليم ثلاثة أشهر بالسعر الموجود في السوق الحالة يوم العقد – يعني بالسعر الذي اشترى عليه – فتكون له عملية شراء في السوق الحالة، وعملية بيع في سوق المستقبليات بكميتين متوازيتين من القمح. وإن الربح في إحداهما يجبر الخسران في الأخرى. فلو انخفض سعر القمح بعد ثلاثة أشهر بمقدار نصف دولار للكيس الواحد مثلًا فإنه سوف يخسر في صفقته الحالة بمقدار خمسة آلاف دولار، ولكنه في الوقت نفسه يربح في سوق المستقبليات بما يقارب هذا المقدار، لأن سعر المستقبليات سوف ينخفض أيضًا بما يقارب نصف دولار للكيس الواحد، فما باعه بسعر أعلى قبل ثلاثة أشهر في سوق المستقبليات يشتريه الآن بسعر أدنى، ويستحق الفرق بين السعرين، وهو خمسة آلاف دولار. وإن هذا الربح الذي حصل له في المستقبليات يجبر ما أصابه من الخسران في الصفقة الحالة. وإن النتيجة الصافية لهذه العملية أنه لم يخسر ولم يربح يعني أنه تجنب الخسارة المتوقعة بهذا الشكل.(7/480)
هذه خلاصة وجيزة لكيفية التعامل في المستقبليات. وإن هذه العقود قد أصبحت اليوم معقدة للغاية، وقد تجاوزت دائرتها من السلع إلى النقود وإلى الخيارات يعني تكون هناك مستقبليات في الخيارات التي بحثناها فتعقد المستقبليات على الخيارات أيضًا. ولكني لخصت من العملية ما يمكن به فهم حقيقتها وتفاصيلها التي لا بد من معرفتها لبيان حكمها الشرعي، وأما حكمها الشرعي، فكل من له إلمام بقواعد الشريعة ومصالحها، لا يشك بعد النظر في تفاصيل هذه العملية أنها عملية محرمة شرعًا ومصادمة لعدة أحكام في الشريعة الغراء.
أما أولًا فلأنه بيع لما لا يملكه الإنسان، إن البيع في المستقبليات يقع على بضاعة وعلى سلعة لا يملكها البائع عند عقد البيع. وكذلك البيوع التي تتم خلال مدة التسليم فإنها بيوع تتم قبل قبض السلعة المبيعة. والمعروف لدى جميع العلماء أن البيع لما لا يملكه الإنسان لا يجوز قد حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصوص صريحة وكذلك البيع قبل القبض لا يجوز عند جمهور من الفقهاء.
وقد حاول بعض الناس تخريج جواز هذه العملية على أساس بيع السلم، ولكن ذلك لا يصح إطلاقًا وذلك لأسباب:
1- إنه يجب في السلم شرعًا أن يعجل الثمن بكامله، وهو الذي يسمى (رأس مال السلم) ، وهذا معروف لدى جميع الفقهاء وقد نقلت بعض النصوص في بحثي في هذا الصدد. ولكن في المستقبليات، فإن تأخير قبض الثمن مشروط في العقد، لا يدفع الثمن عند العقد فلا يصح سلمًا عند أحد من الأئمة الأربعة. وقد يقال: إن حصة من الثمن مدفوعة إلى البائع عند العقد يعني حصة من الثمن وهي التي تكون كالهامش يوضع عند الإدارة، ولكن ذلك لا يجدي نفعًا في تصحيح هذا التعامل، أولًا: فلأن دفع بعض الثمن لا يكفي لصحة السلم، بل يجب دفع الثمن بكامله كما هو معروف في الفقه الإسلامي. وثانيًا: إن ما يوضع لدى إدارة السوق ليس جزءًا من الثمن ولا يدفع إلى البائع وإنما هو مبلغ مودع لدى طرف ثالث ليكون ضمانًا على الوفاء بالتزام المشتري، فليس له علاقة بالثمن الذي يستحقه البائع.(7/481)
2- وبما أن الثمن لا يدفع إلى البائع عند العقد، فالثمن دين على المشتري كما أن البيع دين على البائع، فصار هذا بيع الكالئ بالكالئ، وهو منهي عنه بنص الحديث. وقد يقال: إن إدارة السوق تضمن أداء الثمن, فبفضل هذا الضمان أصبح الثمن كأنه مدفوع إلى البائع. ولكن هذا التوجيه ليس بصحيح – في نظري – لأن ما يشترط لصحة السلم هو أن يقع دفع الثمن فعلًا. لا أن يكون مضمونًا أو موثقًا من قبل إحدى الجهات، لأن ضمان الطرف الثالث لا يخرج الثمن من كونه دينًا، فلا يكون هذا البيع إلَّا بيع دين بدين، وهو لا يجوز.
3- ثم إن من الشرائط التي اتفق عليها جميع الفقهاء لصحة السلم أن تكون السلعة المسلم فيها موصوفة بصفات دقيقة، فلو كانت المواصفات مجهولة أو مترددة مفضية إلى النزاع، فإنه لا يصح السلم عند أحد من الفقهاء. وإن عقود المستقبليات، وإن كانت مشتملة على المواصفات الدقيقة ببيان الدرجات، ولكن الذي يقع فعلا, أن البائع ربما يبين درجات مختلفة في العقد الواحد, ويكون الخيار بيد البائع في تسليم ما شاء من هذه الدرجات وهذا مصرح في الكتب التي تتحدث عن عمليات المستقبليات. ثم هناك وجه رابع لحرمة هذه العمليات وهو:
4- إن المقرر في عقود المستقبليات أن تسليم السلعة إلى المشتري لا يقع عمومًا، بل يكون الخيار بيد المشتري الأخير إن شاء طالب بتسليم السلعة، وإن شاء باعها على البائع مرة أخرى، ويقبل التصفية على أساس دفع الفرق بين سعري البيع والشراء وإن هذا الأمر مشروط في العقد منذ أول الأمر، ولا شك أن مثل هذا الشرط مفسد لعقد السلم، بل بيع المسلم فيه إلى البائع لا يجوز. ولو لم يكن مشروطًا في عقد السلم كما هو معروف في الكتب الفقهية وبيع السلم فيه من بائعه أو من غيره قبل قبضة فاسد.(7/482)
5- ولو فرضنا أن العقد الأول قد انعقد سلمًا بعد استيفاء شروطه، فإنه لا يجوز لرب السلم، وهو المشتري، أن يبيع المسلم فيه إلى غيره قبل أن يقبضه.
فهذه وجوه خمسة، كل واحد منها يمنع من تخريج جواز هذه العقود بجعلها سلمًا. وإذا لم يمكن جعل هذا العقد سلمًا، فإنه بيع يضاف إلى تاريخ مستقبل، وقد أجمع الفقهاء على أن البيع لا يقبل التعليق أو الإضافة إلى تاريخ مستقبل. فلا يصح البيع الأول، فكيف بالبيوع التي تتابعت على أساس هذا البيع الأول؟ وهناك احتمال آخر في التكييف الفقهي لهذه العملية وهو أن هذا العقد ليس بيعًا، وإنما هو وعد لبيع سلعة مخصوصة في تاريخ معين بسعر معين، والموعود له قد استحق شراء تلك السلعة بسعر متفق عليه في الوعد، ثم إنه يبيع هذا الحق إلى رجل ثالث، وثالث إلى رابع إلى أن يأتي يوم التسليم. ولكن هذا التكييف أيضًا لا يصلح أن يكون مبررًا لهذه العملية فيما أرى. وذلك لوجوه:
أولًا، فلأن الواقع لا يوافق هذا التكييف، فإن المتعاملين في سوق المستقبليات لا يدخلون في هذه العقود كوعد محض، وإنما يدخلون فيها لإبرام عقد البيع بنفسه، فلا يصح أن يسمى وعدًا.
ثانيًا، فلأن الوعد المحض ليس ملزمًا في القضاء عند جمهور الفقهاء، ومن جعله ملزمًا في القضاء في بعض العقود، فإنه فعل ذلك لضرورة ملحة، ولا ضرورة ههنا.
ثالثًا، فلأن هذا الحق الذي حصل للموعود له ليس مما يجوز بيعه أو الاعتياض عنه، لأنه ليس حقًّا واجبًا في القضاء وأنه حق مجرد، وبيع الحق المجرد مما ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جوازه إلَّا بشروط، وهي منتفية في هذا العقد.(7/483)
وقد يقال: إذا كانت العقود المستقبليات لا تجوز شرعًا، فهل هناك من بديل لهذه المعاملة يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية؟
وجوابي عن هذا السؤال، أن البديل إنما يبحث فيما إذا كان الغرض المنشود صحيحًا. فيبحث عن البديل للحصول على ذلك الغرض بطريق مشروع.
أما عقود المستقبليات، فلم يظهر لها غرض مشروع يحتاج إلى طريق شرعي لإنجازه. والواقع أن ما يقع في سوق المستقبليات لا يقصد به تجارة حقيقية، وإنما المقصود هو المخاطرة في الأرباح التي هي بالقمار أشبه منها بالبيع.
وقد ذكرنا أن المتعاملين في سوق المستقبليات نوعان:
الأول: هم المخاطرون.
الثاني: هم الذين يريدون تأمين أنفسهم ضد الخسارة على ما اشتروه في السوق الحقيقية، فيدخلون في سعر المستقبليات تجنبًا عن الخسائر المحتملة بتقلبات الأسعار، كما وصفنا من قبل، ولكنهم إنما يلجأون إلى دخول المستقبليات حينما يريدون احتكار السلع إلى مدة ليزيد ربحهم، ولكنهم في الوقت نفسه يخافون من التقلب المعاكس للأسعار، فيريدون أن يعقدوا المستقبليات للوقاية عن الخسائر المحتملة بسبب هذا التقلب المعاكس.
فظهر بهذا أن عقود المستقبليات إنما يحتاج إليها التجار لإمساك المنتجات عندهم لمدة يعتد بها، وذلك إنما يكون في غالب الأحيان لغرض الاحتكار، وهذا غرض غير مشروع. فلما لم يكن للدخول في المستقبليات غرض مشروع يعتد به، فلا حاجة بنا إلى البحث عن البدائل المشروعة للمستقبليات، ولئن قامت هناك حقيقية للدخول في عقد يتأخر فيه تسليم المبيع، فالطريق المشرع له هو السلم، ويمكن أن يعقد بشروطه المعروفة في كتب الفقه الإسلامي والمشروحة في نصوص الحديث. والله سبحانه وتعالى أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين.(7/484)
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم.
هناك عدد من النقاط أرغب أن أبينها تكملة لما ذكره فضيلة الشيخ تقي العثماني- جزاه الله خيرًا -.
أولًا: طبيعة هذه العقود لا تتم إلَّا من خلال سوق منظمة فلا تتم خارج السوق المنظمة، فنحن نتكلم إذن عن سوق منظمة لها إدارة وهذه الإدارة لها دور في إجراء هذه العقود. هذه نقطة أولى.
النقطة الثانية: هذه العقود نوعان وليست ثلاثة،
النوع الأول: ما يسمى باللغة الأجنبية الإنجليزية (SPOT) والتي يمكن أن تترجم بمعنى (العقود الآنية) ، هذه العقود الآنية في حقيقتها ليست آنية لذلك ينبغي أن نرى ما هو تعريف كلمة (SPOT) في طريقة التعامل في الأسواق المنظمة، كلمة (SPOT) معناها حتى نهاية الشهر الحالي بمعنى أنه يمكنك أن تنفذ هذا العقد في أي وقت ما بين يوم الشراء إلى نهاية الشهر الشمسي الذي أنت فيه فإذا جاء آخر يوم من الشهر قبيل آخر يوم من الأيام الثلاثة الأخيرة من الشهر وهي أيام تصفية ينبغي أن تصفي فيها جميع العقود التي تخص ذلك الشهر. عندما نقترب من شهر آخر، العقود التي كانت مستقبلية للشهر التالي تصبح عقود (SPOT) لأنه مجرد أن نبدأ بيوم أول الشهر، مثلًا واحد فبراير العقود التي تخص شهر فبراير أصبحت الآن (SPOT) كانت قبل بدء فبراير مستقبلية والآن أصبحت (SPOT) ، وهذه العقود ينبغي أن تصفى حتى نهاية الشهر والتصفية تتم في العادة في الأيام الثلاثة الأخيرة.(7/485)
النقطة الثالثة: لا يوجد شرط أو إلزام في أي نوع من العقود المستقبلية سواء أسميناها (FUTURES) أو (FORWARD) ، لا يوجد في أي منها شرط بأن يلتزم المتعاقد بالتسليم أو بالتسلم، لا يوجد مثل هذا الشرط، وبالتالي لا يوجد فرق بين الكلمتين والكلمتان مستعملتان من قبل الكتاب بنفس المعنى وكل كاتب يستعمل كلمة تختلف عن الأخرى، وكذلك تختلف بالبلدان فمثلًا في أمريكا يستعملون أكثر كلمة المستقبليات.
النقطة الرابعة: وهي نقطة مهمة وقد يصعب عَلَيَّ شرحها. الحقيقة لا يوجد تتالي أبدًا في هذه العقود، يعني كثير من الإخوان الفقهاء ظنوا في جلسات ماضية وكما قال أيضًا فضيلة الشيخ تقي العثماني الآن أن هناك تتالي فأنت تتداول ذلك العقد. أحمد يشتري خمسة آلاف كيس من القمح ثم يبيع هذه قبل أن يقبضها وقبل أن يدفع الثمن وهي مستقبلية يبيعها إلى حامد، وحامد إلى حسان وآخر إلى كريم لا يحصل هذا مطلقًا لا يوجد تتالي في هذه العقود، هذه العقود كل منها عقد مستقل عن الآخر فكما أنني أستطيع أن أدخل السوق بائعًا أستطيع كذلك أن أدخلها مشتريا وقد يحصل أن يبدأ دخولي للسوق بائعا أو قد يحصل أن يبدأ دخولي للسوق مشتريًا ففي كل مرة أبيع أو أشتري ذلك عقد لا علاقة له بأي عقد ماض وليست تلك السلعة نفسها، وليس ذلك العقد ولا علاقة له مطلقًا، الذي يحصل هو ما يلي:
لو دخلت السوق بائعًا لخمسة آلاف كيلو من القمح أو خمسة آلاف كيس من القمح وأردت أن أصفي علاقتي بالسوق يمكن أن أدخل ذلك السوق بعقد معاكس لذلك العقد، هو عقد آخر لا علاقة له بالماضي ليس تداولًا للماضي، عقد معاكس لذلك العقد، فإذا تساوت الكميتان سقط العقدان لأنني ملزم بأن أعطي وأن أسلم خمسة آلاف كيس وهنا ملزم بأن أتسلم بالعقد الآخر خمسة آلاف كيس وإدارة السوق تسقط هذين العقدين مع بعضهما لتساوي الكمية وأخرج منها بفارق السعر عند ذلك. إذن ليست هي نفس الكمية أو نفس العقد يتكرر التعاقد عليه وإنما هي كمية أخرى.(7/486)
الخيارات بطبيعتها مستقبلية لأن الاختيار لا يمارس إلَّا في المستقبل فهو بطبيعته مستقبلي ولا يوجد تعامل في المستقبليات على الخيار. يعني الاختيار بتعريف عملية مستقبلية. بالنسبة للمواصفات أيضًا، المواصفات محددة بدقة متناهية بحيث لا تكون مجالًا لنزاع أو خلاف إلَّا أن طريقة تحديد المواصفات طريقتان:
الطريقة الأولى: أن نقول مثلًا قطن طول التيلة 4مم، هذه طريقة.
الطريقة الثانية: أن نقول هي قطن طول التيلة إما 4مم أو 5 مم أو 6مم.
فيمكن أن يكون العقد هكذا وإذا كان هكذا، فإنه يبيح أن يكون طويل التيلة أيًّا من هذه أو أن يكون ثابتًا محددًا، فكأننا نقول: المواصفة الدقيقة عقد أو قطن طول التيلة ما بين 4 إلى 6مم فهي محددة بدقة ولم يحصل في تاريخ أسواق المستقبليات (أسواق السلع) أن وقع خلاف على المواصفات بحال من الأحوال أبدًا، وإدارة السوق ضامنة لهذه الأمور بصورة مستمرة.
أيضًا لا يحصل أبدًا – لأن العقود مستقلة عن بعضها – أن أبيع السلعة التي كنت اشتريتها إلى بائعها الأول، هذا لا يحصل أبدًا في السوق، هناك أمر آخر مهم هنا وهو أنني لا أعرف أصلًا من هو بائعها الأول والعقود هنا وهي نقطة مهمة في تعريفها لذلك فالأوراق التي عرفتها اللجنة أرادت أن تشير إلى ذلك، العقود أنا أعبر عن رغبتي بأن أكون مشتريًا أو أن أكون بائعًا إلى إدارة السوق من خلال سمسار فإدارة السوق تأخذ هذه الإرادة – إرادة بيع أو إرادة شراء – فإن وجدت إرادة متقابلة لها نفس السعر لنفس الكمية ولنفس الشهر تعقد إدارة السوق أو تعتذر إدارة السوق أن هنالك بيعًا وشراء ... أنا بائع وآخر مشتر لنفس المواصفات والكمية ونفس الشهر ونفس السعر إذن يتم عقد، العقد الثاني سيتم مثله أيضًا بين أي أشخاص آخرين، لو كان أحد المتعاقدين الأول في عقد آخر أنا أردت أن أخرج من السوق وكنت مشتريًا فأردت أن أبيع بالسوق حتى أخرج، أنا عندي عقد فيه أنا مشتر لخمسة آلاف كيس من القمح – مثلًا – تسليم شهر يوليه فآتي وأدخل السوق لأبيع خمسة آلاف كيس من القمح تسليم شهر يوليه وعندما ينعقد هذا العقد ينعقد مع طرف لا أعرفه أنا أصلًا، إدارة السوق هي التي تعرف ذلك الطرف وإذا انعقد ذلك العقد فأنا خرجت من السوق أصبحت مدينًا ودائنًا، إذن طالما إدارة السوق لا تعتبر أن عقدًا قد تم إلَّا إذا وجدت له إرادتان ووجد له طرفان سيكون عند إدارة السوق بصورة مستمرة طرفان طرف مدين بكمية من السلعة وطرف دائن بها فهذان الطرفان لو أرادا التسليم فهناك السلعة التي تسلم.
نقطة تالية أيضًا، أنا قلت وأؤكد ذلك لا أبيع ذلك الحق لو اعتبرناه وعدًا فليس الوعد الذي أبيعه شيئًا آخر عندما أدخل مرة ثانية في السوق، الحقيقة هنالك غرض حقيقي وغرض أساسي لسوق السلع ومهم جدًّا، المتعاملون فيه ليسوا نوعين أو يمكن أن نسميهما نوعين ولكن ليسا بالتعريف الذي عرّفه فضيلة الشيخ العثماني، نوعان من المتعاملين:(7/487)
النوع الأول: المضاربون فهؤلاء يدخلون بكل أنواع المضاربة سواء مشترون أو بائعون أو مشترون وبائعون معًا بطريقة ما أسمي بـ (التأمين) أو التحصين ضد تقلبات الأسعار، فأدخل مشتريًا وبائعًا معًا، هؤلاء مضاربون أيضًا هنالك أناس حقيقيون يرغبون حقيقة بالتسليم والتسلم يدخلون السوق، كل المعاملات الكبيرة لا تتم إلَّا من خلال هذه الأسواق، فالسوق له دور مهم وكبير لأن المعاملات الحقيقية تجري من خلاله.
ثانيًا: السعر لا يعرف إلَّا من خلال هذه السوق لأن السوق هذه منظمة بشكل تتيح فيها فرصة المعلومات إلى أبعد الحدود فهناك لوحة كبيرة تتغير بالكمبيوتر دائمًا وتظهر عليها – كالشاشات التي نراها في المطارات – الأسعار في كل لحظة وبصورة مستمرة، فالسوق لها فائدة كبيرة وهي كشف السعر بيان السعر من خلال التقاء العرض والطلب فلهذه السوق دور كبير جدًّا ومهم بل إنه دور أساسي في العالم المعاصر وليس دورًا جانبيًّا وبالتالي أنا أعتقد أنه ينبغي أن يكون – لو حكمنا بتحريم هذه العملات – هنالك بديل شرعي لأن فيها مصلحة حقيقية وحقيقية جدًّا.
أكتفى بهذا والحمد لله رب العالمين.(7/488)
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
في الحقيقية لا يسعني إلَّا أن أشكر فضيلة الشيخ تقي العثماني على هذا الإيضاح لهذا الموضوع الذي تبلور أكثر مما تصورناه بالأمس حول بيوع الاختيارات أو عقود الاختيارات، واتضح لي أن هذه المهمة ما يسمى بـ (المستقبليات) – كما أوضح – هناك طعون ثلاثة تؤدي إلى عدم تجويز هذه العقود منها الطعن الأول أنه بيع ما لايملك، والسبب الثاني أنه بيع شيء لا يتم فيه تسليم كامل رأس مال السلم فيما لو اعتبرناه سلمًا في مجلس العقد أو في مدة الثلاثة أيام كما يجيز فقهاء المالكية، وهناك أيضًا إذا كان توسطًا بين رأي الدكتور منذر قحف والشيخ العثماني إذا لم يكن سواء قلنا بتتالي العقود على صفقة واحدة أو مبيع واحد أو لم يكن هناك تتابع لهذه العقود فإن العقد من أصله نحن لا نجيزه شرعًا، فالمشكلة ليست مشكلة تتابع العقود، إنما المشكلة أن هذا العقد لا يمكن أن يتصور إلَّا على أساس عقد السلم، كذلك يمكن أن أضيف شيئًا آخر لا تنحصر المستقبليات في بيوع عقد السلم وإنما أيضًا يجيز أغلبية الفقهاء بيع العين غير المرئية أو بيع الشيء الغائب على أساس أن يكون هناك خيار رؤيا حينما يرى المبيع، فهذا جانب أيضًا يمكن أن نستخدمه في مثل هذه الأمور فيما إذا أريد أن نجد بديلًا لهذه القضايا ضمن ضوابط وقواعد الفقه الإسلامي. كذلك يمكن أن تصحح هذه العقود في تقديري فيما لو ضم كل واحد من المتعاملين شيكًا يدفع فيه كامل رأس مال الثمن على حسابه في بنك من البنوك يعتبر دفع أو تقديم الشيك مع كل صفقة إذا أريد تصحيح الأمور على أسس شرعية أن يدفع الثمن عن طريق هذه الشيكات فحينئذ يمكن أن ننقذ مثل هذه العقود ويكون لها قابلية شرعية ومحتملة.(7/489)
الطعن الثالث في هذه العقود – أيضًا – لمسناه من كلام الدكتور منذر وهو أنه لا يوجد التزام لا بالتسليم ولا بالتسلم، لا تسليم المبيع ولا تسلم المبيع، فإذن العقد في أساسه في الفقه الإسلامي يقوم على هذا الأساس، يعني حق من حقوق العقد ينشىء العقد حقوقًا متبادلة أهمها الالتزام بالتسليم والتسلم فإذا فقد العقد هذا العنصر الأساسي فكيف نعتبر هذا العقد قائمًا؟ نحن فرّغنا العقد في هذه الحالة من جوهره وهو الالتزام بالتسليم والتسلم فهذا في اعتقادي يمكن أن يعد سببًا ثالثًا للقول بعدم تجويز هذه العقود.
الملاحظة الأخيرة: نحن لسنا ضد ما يسمى بتنظيم الإدارة إدارة البيع والشراء- فيما يسمى بالأسواق المالية يمكن نحن أن نعتبر هذه الأسواق – كما أشار الدكتور منذر – أنه لها أهمية في العقود الكبرى في العالم ولها دور مهم، هذا أيضًا يمكن أن نجد له مسوغًا في الفقه الإسلامي أن نعتبر إدارة السوق من قبيل الوكلاء عمّن يقدم نفسه ويقول أنا بائع أو مشتر وإدارة السوق بمثابة السماسرة، والسمسار يمكن أن يكون وكيلًا عن طرف بالبيع ووكيلًا عن طرف آخر بالشراء وحينئذٍ يمكن أن تتم الصفقة بتحقيق هذا التوازي والتقابل بين إرادتين، بين إرادة بائع ومشتر ونحن لا نرفض وجود مثل هذه التنظيمات إنما نرفض افتقادها للأصول والأسس المقررة في شريعتنا وشكرًا.(7/490)
الدكتور على أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة، والسلام على سيدنا رسول الله.
لا شك بأن هناك فرقًا بين الحكم الشرعي على ما هو قائم وإيجاد البديل الشرعي، فقبل النظر في البديل يجب أن ننظر إلى الواقع العملي. ومسألة المستقبليات أنه يدخل كبائع أو كمشتر، أحب أن أضيف أيضًا أنه قد يدخل في الوقت نفسه كبائع أو مشتر يأخذ الحقين معًا، بمعنى أن يعرض رغبة في أن يبيع بخمسة وتسعين أو أن يشتري بمائة إذا كان يرى عدم استقرار السوق فإذا وجد من يرى أن السوق مستقر يمكن أن يدخل في هذا فإذا جاء وقت التصفية وكانت السلعة أقل من خمسة وتسعين باع وإذا كانت أكثر من مائة اشترى وإذا كانت بين الخمسة والتسعين والمائة فإنه خاسر سواء باع أم اشترى ويكسب الآخر. وكما بين الإخوة الأفاضل بأنه لايوجد التزام ولا إلزام بالتسليم أو التسلم, ومسألة أن هناك أناسًا يريدون الشراء والبيع فعلًا كما قال الأخ الدكتور منذر ولا يختلف عما قاله فضيلة الشيخ تقي العثماني, على سبيل المثال ما يسمى بـ (COURNER) بمعنى أن يتعاقد على شراء شيء معين وقبل التصفية يكون اشترى أكثر ما هو مطروح في الأسواق بحيث يعز على البائع أن يجد هذا المبيع فيرتفع الثمن وبذلك يكسب الآخر الذي احتكر هذه السلعة.
إذن في سوق المستقبليات لسنا أمام بائع يريد بيعًا ولا أمام مشتر يريد شراء وإنما نحن أمام مضاربين يضاربون في هذه السوق ثم في النهاية في حالات 99 % لا يتم تسليم ولا تسلم، فهل الحكم الشرعي الذي نريد أن نصدره على 99 % أم على 1 % الواحد في المائة هذه العقود الشرعية موجودة الأخرى، كون أن السوق منظمة، نعم منظمة، وملزمة نعم ملزمة، ولكن ملزمة لمن؟ البائع يدفع كما يدفع المشتري يعني من قدم العربون ليس المشتري هو الذي يدفع وحده البائع أيضًا يدفع جزءًا من الثمن، لم؟ ليكون الإلزام بحيث إذا خسر يحسب والسماسرة يحسبون والمسألة تقيد، هذا ربح مائة ألف وهذا خسر مائة ألف هذا يكتب في حساب هذا وحساب هذا ولا يتم تسليم ولا تسلم إذن إذا نظرنا إلى سوق المستقبليات يجب أن ننظر إلى الواقع العملي، لسنا أمام بائعين ولا مشترين، إنما نحن أمام سوق للقمار كل يضارب بما يرى أن السعر سيرتفع أو سينخفض والأسعار تستقر أم لا تستقر، ولذلك أرى أن المجمع الموقر عندما يصدر قرارًا في هذا ينظر إلى الواقع العملي وأن الإسلام عندما يبيح البيع والشراء إنما لأهداف معينة ليس منها أهداف هذه السوق.
والله عز وجل أعلم، وشكرًا.(7/491)
الدكتور رفيق يونس المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحقيقة أود أن أشير إلى بعض النقاط بسرعة كبيرة.
النقطة الأولى: أن الأصل في هذه المعاملات التي ذكر لنا بالأمس وفي هذا الصباح كما أرى – والله أعلم – الأصل فيها أنها بعبارة فقهية دقيقة مراهنة على الأسعار صعودًا وهبوطًا ولا أقول مضاربة كما هو التعبير الشائع في الكتابات الوضعية، هذا التعبير (Speculation) أو (SPECULATION) بالفرنسية يترجمونه غالبًا في الكتابات بالمضاربة فكي لا يلتبس علينا الأمر الحقيقة التكييف الصحيح أنها مراهنة، مراهنة على الأسعار صعودها وهبوطها. ليس معنى ذلك أن كل الصور نتعجل بالحكم عليها أنها حرام لكن أقول من أراد أن يستخلص بعض الصور من هذا المبدأ العام في الحرمة الأصل العام في حرمة هذا النوع من البيوع عليه أن يثبت أن الصورة المحددة هي ليست من قبيل المراهنة. هذه ناحية.
النقطة الثانية: مع تقديري الكبير والمحاولة الكبيرة في الترجمة للمصطلحات الإنجليزية المستحدثة مثل كلمة (Futures) التي ترجمت عندنا في الأبحاث المقدمة بكلمة (مستقبليات) أنا أريد أن أقترح على السادة العلماء عبارة غير هذه العبارة لعلها تكون أقرب إلى تصوير الحقيقة وأقرب إلى تأصيل المصطلح، العبارة المقترحة هي (الآجال) بدل (المستقبليات) ، (عقود الآجال) ، ولعل السادة فقهاء المالكية يقدرون هذا المصطلح أكثر من سواهم، وعندنا نحن نوعان من البيوع المؤجلة، عندنا بيوع مؤجلة يتأجل فيها أحد البدلين إما بيع بالنسيئة أو بيع سلم أو سلف هذا جائز عندنا شرعًا لا شك في جوازه وعندنا أنواع أخرى ذكرها السادة فقهاء المالكية تحت عنوان (بيوع الآجال) وهذه، الأصل فيها أنها فاسدة. فأنا أقترح أن تدرج هذه الصور من البيوع المستحدثة تحت هذا الباب (باب بيوع الآجال) أو (عقود الآجال) ، أما كلمة المستقبليات فإني أراها أعم والآجال أخص وعندئذٍ نكون أقرب إلى تأصيل المصطلحات المستحدثة على مصطلحاتنا القديمة.(7/492)
النقطة الثالثة: أود – في الحقيقة – أن أثنى على ورقة أستاذنا العثماني الذي حاول جهد الإمكان تبسيط هذا الموضوع برغم تعقيده ولكني مع ذلك لي بعض النقاط لعله يوافقني عليها أو لا يوافقني لا أدري. وردت بعض المصطلحات – أيضًا – نتيجة الترجمة والترجمة نحن مضطرون إليها في مثل هذه الأبحاث لأنها في الغالب المراجع فيها أجنبية إنجليزية على وجه الخصوص أو فرنسية، فاستخدم كلمة (البيوع المقدمة) ترجمة للعبارة الإنجليزية (FORWARD SALES) ، الحقيقة لو عكس لكان أفضل (البيوع المؤخرة) وليست (المقدمة) وهي بيوع مؤجلة وهذه ترجمتها بالفرنسية وأذكر ذلك بالنسبة لإخواننا من أفريقيا الذين يعرفون الفرنسية أكثر من الإنجليزية هذه (VENTES a DECOUVERT) وتترجم عادة بـ (البيوع المكشوفة) ويراد من البيوع المكشوفة أي البيوع المؤجلة التي يتأجل بدلاها، إذن البيوع المقدّمة بدلًا منها نقول (المؤخرة) أو (المؤجلة) ، وليست البيوع الأخرى إلَّا صورة أيضًا من هذه الصور التي أطلق عليها في هذه الورقة وسواها (المستقبليات) . هذا ما أود قوله وشكرًا.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إنه وإن كان هناك تقارب بين ما درسناه وبحثناه بالأمس وبين ما استمعنا إليه اليوم فإنها عقود مختلفة اختلافًا كاملًا في طبيعتها. فعقود ما سمي بـ (المستقبليات) وما تفضل الأستاذ رفيق المصري بـ (الآجال) وهو أقرب إلى الترجمة الفرنسية باعتبار أن الكلمة الفرنسية (CONTRAT a TERME) هو عقد مؤجل، هذا العقد المؤجل أول سؤال هو، ما هو؟ ثم هل هناك من حاجة إلى هذا العقد؟ أما تعريف العقد وكيف يجري فما تفضل به الشيخ تقي الدين العثماني سواء ما عقب به الدكتور منذر قحف حسب دراستي بلغا فيها الوضوح الكامل، لكن السؤال المطروح والذي لا بد من الإجابة عنه هو لم اختلفا فيه؟(7/493)
فإذا كان الأستاذ شيخنا تقي الدين العثماني يرى أن هذا العقد لا حاجة للاقتصاد بأن نقره ولا حاجة لنا إلى بدائل، ورأي الدكتور منذ قحف أنه من التعامل الاقتصادي الذي هو نوع من أنواع النشاط الذي لا بد أن يوجد، أعتقد هذا النقطة التي نبدأ بها أولًا فإذا ما انتهينا فيها استطعنا أن ننتقل إلى البحث عن البدائل أو لا. الوضع الاقتصادي اليوم هو غير الوضع الاقتصادي بالأمس، هو كما يسر ربنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ما يسر، ولم يكن ذلك في مكة وأجاز صلى الله عليه وسلم ورخص في بيع السلم والوضع الاقتصادي في المدينة هو غير الوضع الاقتصادي في مكة والفلاحون من أهل المدينة في حاجة قبل نضج ثمارهم إلى بيعها بيع سلم لا قبل أن توجد الثمار أصلًا حتى يستطيعوا القيام على ضيعاتهم بما يصل بها إلى منتهاها وكانت هذه رخصة عند كثير من الفقهاء أو أصلًا عند بعضهم وسواء أكانت رخصة أو أصلًا فهي يقاس عليها عند التحقيق، لأنها حكم شرعي ثابت فيقاس عليه. هذا الوضع الاقتصادي الذي كان عليه أهل المدينة ورخص صلى الله عليه وسلم بناء على أن الدِّين ما جاء لإحراج الناس وإنما جاء لتحقيق مصالحهم وتحقيق معنى الاستخلاف في الأرض، فإننا نجد اليوم في وضعنا الاقتصادي الأمور الآتية:
تعلن دولة من الدول أنها تريد أن تضمن لجيشها الخبر كل يوم وتطلب من المسلمين الذين يصنعون الخبز أن يشاركوا في هذه المناقصة ولا بد أن يقيد الثمن ونوعية السلعة وعدد الخبز في كل يوم ومكان التسليم لكل ثكنة من ثكنات الجيش في كافة أنحاء البلد، فهذا عقد، هذا عرض، فهل يستطيع أحد أن يشارك فيه؟ إذا قلنا إنه إذا أخذنا بالعقود الموجودة من قبل، فهناك طريقتان:(7/494)
الطريقة الأولى: هو أن يشتري السلعة حاضرًا وأن يخزنها في المخازن وأن يأخذ كل يوم ما يكفيه للوفاء بعقده. وهذا أمر يكاد يكون مستحيلًا.
الطريقة الثانية: أن نقول له: اشتر ذلك سلمًا من اليوم وإذا ما اشتريته سلمًا من اليوم فعليك أن تدفع كامل رأس المال حسب ما هو معروف من الشروط التي حددها الفقهاء.
ولا يستطيع أي فران (خباز) أن يضمن لجيش كامل، كامل سنة، الثمن مقدمًا من أول السنة أو قبل السنة بأشهر فهو ما يتجاوز طاقات الإنسان وفي هذا حرج لا شك فيه.
مثال آخر: اللباس الذي يلبسه الجيش فهو تأخذه شركات لإعداده. إذا فرضنا أنه في يوم من الأيام ستتعامل دولة من الدول مع مصنع السيارات من السيارات الإسلامية لمدة سنة أو سنتين في تزويد الجيش والحكومة بذلك فإذا ما قلنا إن هؤلاء عليهم أن يشتروا كل المواد أو أن يدفعوا رأس المال، فمعنى ذلك أنه لا يستطيع أي مسلم أن يشارك في المناقصة.
فالحاجة إذن هي حاجة أكيدة ليس كما نتصور، الوضع كما هو موجود من قبل وليست هي عقود بين شخص يبيع ثمار ضيعته قبل أن تتحقق وبين شخص آخر في حاجة لشراء هذه الثمار أو هذه المزروعات. القضية قضية اقتصادية كبرى وبلغت حدودًا كبرى في التعامل ولا بد من أن ينظر إليها نظرة واقعية حقيقية تستطيع أن تحل مشاكل العالم الإسلامي ولكن نفرض عليها من التقييدات ما يخرجها من باب المجازفات والمضاربات إلى آخره ويدخلها فقط في الحدود الشرعية التي تيسر على المسلمين تعاملهم حسبما تطور إليه الاقتصاد. ولهذا فإلاسراع إلى التحريم، وأنه كأن الإنسان ألقى على كاهله أو على عقله أو على ضميره ألقى عنه حملًا هو تنصل من المسؤولية ولكنه تنصل لا يغنينا، فلا بد وأن نواجه المشكلة بكامل حقيقتها وأن نعمل على إيجاد صيغة تمكن الاقتصاديين والذين يقومون بالصناعات من القيام بنشاطهم الاقتصادي وبتحريك الاقتصاد الإسلامي تحريكًا حقيقيًّا وخروجًا به من وضعه الذي ما يزال يعيش في كثير من الأحوال على ما كان منذ قرون.
فهذه هي القضية في نظري أردت أن ينظر فيها من هذا المنظار دون أن نقدم شيئًا، مع أنني أؤكد ما ذكره الأستاذ منذر قحف من أنه ليس هناك عقد يباع أبدًا ويعاد بيعه لأنه كل شخص يستطيع أن يدخل السوق فيبيع، ملك أو لم يملك، وكذلك لا صلة بينه وبين الخيار، لأن طبيعة الخيارات وطبيعة المستقبليات أو العقود المؤجلة حسبما تترجم من الفرنسية هي مختلفة تمامًا، فطبيعة الاختيارات هي على الاختيار أي لمشتري الاختيار أو لبائعه له الحق في أن يقوم بحقه وألا يقوم بحقه، هذا معنى الاختيار بينما بالنسبة لأسواق المستقبليات أو للبيوع المؤجلة فمن عقد عقدًا فهو ملزم بإنجازه، ومع اختلاف الطبائع لا يمكن التدخل. هذه مداخلة أولى وشكرًا لكم والله أعلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور سامي حسن حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم.
موضوع السلع قبل أن أتحدث فيه أو حواليه أرجو أن تستغفروا لي معكم الله سبحانه وتعالى ليغفر إن كان هناك ذنب فقد كان من قدمه للفكر الإسلامي تصرفي عام 1978م، قبل أربعة عشر عامًا كنت في زيارة للندن وهي المقر الذي نتطلع إليه في التلقي، لذلك إذا لاحظتم اختلاف الأفكار بيني وبين الأخ – حبيبي – الدكتور منذر، فهي اختلاف مدارس في النظر في السوق المالي هو من المدرسة الأمريكية وأنا من المدرسة الإنجليزية ولكن إن شاء الله نتحرر منهما جميعًا في ظلال المدرسة الإسلامية.(7/495)
في عام 1978م لاحظت في جريدة " الفايننشيال تايمز " المتخصصة في الأموال والاستثمار في بريطانيا منذ مائة سنة أن للسلع سعرًا حاضرًا وسعرًا آجلًا. طن من النحاس بألف جنية استرليني حاضرًا بمعنى (SPOT) وهو آجلًا بألف وخمسة أو تسعمائة وخمسة وتسعون زيادة ونقصانًا، لفتت نظري القضية لأنني كنت درست في ذلك البلد قبل ذلك سبب اختلاف أسعار العملات بين الجنيه الاسترليني والدولار الأمريكي في الحاضر والآجل وتحققت بفضل دراسة هذه السوق من الإعجاز الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنًا يوم لم تكن هذه الأسواق موجودة ولا كان العرب يعرفون بيع الجنية بالدولار أو العملات المختلفة الجنس بالأجل وقال: ((الذهب بالفضة ربا إلَّا هاء وهاء)) فعندما تحققت من السبب وجدت لأن رأس المال يدخل فيه عنصر الفائدة معدلًا بأن هذا العنصر بين الجنية الاسترليني والدولار الأمريكي فرق الفائدة يدخل في السعر إذا دخل الأجل لأن الذي يقبض الدولارات الآن يستثمرها بالفائدة وهو يحسب مقدار ما يعود عليه من الربح فيخصمه من الثمن مسبقًا إذا كان سيسلم الدولارات في المستقبل. هذا المدخل قادني إلى التساؤل التالي أن أسأل أهل الاختصاص هناك: هل تتأثر السلع بذات المؤثر الذي تتأثر به العملات؟ قالوا: لا، لأن السلع تعتمد على الإنتاج فقد يكون إنتاج النحاس في زيمبابوي لأنهم يسيطرون على منتجات النحاس في أفريقيا متوقعة كثيرًا فالعرض كثير فالسعر يقل وقد يكون هناك توقع ندرة فالسعر يرتفع فقلت إذن هذه السلع تختلف عن العملات فما هو المبرر لهذا الفرق؟ قالوا: لأن الشركات هناك في السوق العالمي، وأعرض لكم لمعرفة الجميع حتى نكون على بينة مما نقول فيه وما نعطي به الرأي السوق – قالوا لي – في العالم نوعان: سوق حقيقية واقعية يسمونها (PHISICAL مادية) وسوق ورقية توهمية، بالأمس سمعنا عن سوق الخيارات بأنها بدأت في أمريكا وانتقلت إلى إنجلترا، سوق السلع بالعكس هي بدأت في إنجلترا وانتقلت إلى أمريكا لأن بريطانيا في التجارة العالمية أسبق تنظيمًا وتطويرًا من أمريكا، لكن الأمريكيين وضعوا عليها اللمسة الأمريكية روح المغامرة والتحدي، فما زالت سوق لندن حتى الآن توصف بأنها سوق مادية أي أن المشتري في سوق لندن عشرة أطنان من النحاس أو مائة طن نحاس هو يشتري بضاعة موجودة في المخازن والوصل الذي يأخذه يحق له أن يتسلم وغالبًا ما يكون التسليم حقيقيًّا، تأتي شركة مثل شركة " لاي لند " لديها خط الإنتاج تحتاج من النحاس هذا العام مائة طن فتشتريه لكي تزود نفسها بهذا الإنتاج، ولكن تتسلم في مواعيد مستقبلية. السوق الأمريكية دخلت عليها لمسة المغامرة فأصبحوا يتعاملون بهذه السلع لكن دون أن تكون موجودة ولذلك تسمى " سوق ورقية " أي أنهم يتعاملون بالأوراق ومن هنا جاء – ما تفضل به أخي الدكتور منذر – تتابع العقود، فنرجع إلى السوق في حقيقتها، الفكر الإسلامي مبني على الحقيقة وليس على الوهم، فالإنسان لا يبيع ما لا يملك، إذن منطقة نظرنا بالنسبة للنظر الإسلامي هي السوق التي توجد فيها البضاعة ونشتريها، الشراء في هذه السوق على نوعين: شراء حاضر وهنا أعرض وجهة نظر، وأرجو ألا تكون كأنني أيضًا بصدق – وهو صادق – ما يعلم ونبدو في النهاية متفقين كما حدث بالأمس وقد كتبت له ملاحظة بذلك بالنسبة للسعر الذي قلت إنه جزء من الثمن، وقال: إنه ليس جزءًا من الثمن ولكن لو قلنا: إنه التكلفة في الثمن الإجمالي أو بلغة الفقه المالكي ما قام عليه لتوصلنا إلى خط واحد، لأنني أقول: 100 + 2 = 102 وهكذا.(7/496)
فالسوق الحاضرة التي تشترى فيها البضائع هي سوق فعلية وأستطيع بالدفع الفوري أن أتسلم فورًا، والشراء والبيع والتسليم يتم في خلال أربعة وعشرين ساعة هذه هي مدة التصفية فيما أعلمه وليس كما قال أخي الدكتور منذر أنه تصفى العقود في آخر الشهر ربما يكون ذلك في السوق الأمريكية صحيح وهذا مما لا أعلمه. هذه السوق بهذا المنظار تتفق مع الفكر الإسلامي. يأتي نوع آخر وهو (البيوع المستقبلية) ، وهو أنني أشترى بالهامش تسليم ثلاثة أشهر وأدفع جزءًا من الثمن وهناك عندهم في الاعتبار هم يقولون: ياليت، وعندما شرحت لهم نظام السلم الإسلامي الشراء المستقبلي بالدفع الفوري الكامل الآن في بريطانيا وفي أمريكا في سوق شيكاغو بالذات مع تجار الذرة قالوا: يا ليت أن نجد من يدفع لنا على الطريقة الإسلامية ثمن الذرة التي نبيعها في المستقبل مائة في المائة ولكن لأن رأس المال في النظام الرأسمالي الغربي مبني على الفائدة فرأس المال له ثمن وتكلفة أما في الفكر الإسلامي فرأس المال مهدر فيه الفائدة لأنه في النظر الإسلامي يجب أن يوجه نحو الإنتاج، هذا الذي جعل رأس المال في الفكر الإسلامي وفي نظام السلم أن يقدَّم كاملًا من البداية لأنه ليس له قيمة معتبرة لإنتاجه إلَّا بتمازجه مع هذا الإنتاج قالوا: يا ليت ولكن لأن الثمن – رأس المال عندهم ينتج فائدة فيكتفون بالهامش في الأداء فيشتري في المستقبل كما هو السلم تمامًا ليتسلم في المستقبل ويدفع 10 % من قيمة العقد فإذا جاء موعد التسليم دفع التسعين في المائة ليكمل العقد ويستلم، هنا قد يحدث التسلم وقد لا يحدث التسلم بمعنى أنه قد يبيع العقد وهنا أيضًا وجهة نظر المخالفة بالنسبة للفقه الإسلامي أن المسلم فيه لا يجوز بيعه قبل القبض، فإذا مخالفة أولى في عدم دفع كامل الثمن أولًا ثم بيع المسلم فيه قبل قبضه، وهنا لا نقول: إن هذا ممنوع ولكن نقول يصحح على النهج الإسلامي إن كان لنا قوة أن تكون لنا أسواق سلعية إسلامية بأن تحدد الضوابط يدفع الثمن كاملًا عند الشراء المستقبلي فهو سلم بكل معنى الكلمة ثم إذا أردنا فنون السوق المتقدمة التي تضبط الأسعار نقول إنه ليس ممنوعًا في الفقه الإسلامي أن أعمل سلمًا موازيًا بمعنى أنني سوف اشتري القمح من إنتاج السهول الأردنية مثلًا باعتبار أني أعرف سهول مأدبة في الأردن ماذا تنتج، ثم باعتباري مشتريًا أعرف في حسابي أنني في شهر حزيران سوف أتسلم مائة طن قمح فبالمقابل أستطيع أن أبيع سلمًا بنفس المواصفات، ولكن ليس ذات القمح الذي أشتريه من سهول مدينة مأدبة بنفس المواصفات أبيع سلمًا موازيًا فيتجمع لدي عرض البيع وعرض الشراء وعندما أتسلم هذا أسلم هذا وأكون في ذلك تاجرًا في السلم وهذا غير ممنوع. أما الأسواق الورقية التي تتعامل بالوهم في بضاعة لا يملكها بائعها وفي عقود لا يقصد فيها التسلم والتسليم وإنما المضاربات، فهذه هي نقطة الخطر التي أرى المكامن التي يقول بها الأخوة الأفاضل في أن هذا الممنوع وغير المسموح به. فلذلك نظرتنا إلى السوق ألخصها: لا ننبهر فنأخذ من الغرب بلا تمحيص ولا نزدجر فنرفض بلا تخصيص، والسلام عليكم ورحمة الله.(7/497)
الدكتور الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم.
تبين لنا أن في تكييف هذا الموضوع ثلاثة آراء. التكييف الذي قدمه لنا القاضي العثماني والتكييف الذي قدمه الدكتور منذر، وهذا التكييف الأخير الذي سمعناه من الدكتور سامي. وسأتحدث في هذا الموضوع على اعتبار كل واحد من هذه التكييفات.
على أساس التكييف الذي ذكره الشيخ العثماني، ما أظن أننا سنختلف في المنع، لكن في المنع في صورة واحدة من الصور التي ذكرها وهي ما يكون الغرض من هذه المعاملة المضاربات، وهذه كما أظن أنها محل اتفاق حتى بين الأخوين الدكتور سامي والدكتور منذر، ولذلك سأستبعد هذه الجزئية، يعني إذا كان الغرض من هذه العملية هو المضاربات فإنها لا تجوز مطلقًا ولا بديل لها لأنها لا نص حتى فيها. الصورة التي هي 1 % وأرى ألا نهملها وفي هذا أختلف مع صديقي السالوس نحن نريد أن نصدر أحكامًا لما هو موجود فإذا كان فيه 1 % يمكن أن يكون صحيحًا يجب أن ننظر إليه.
بالنسبة لكلام الشيخ العثماني والأدلة التي ساقها والنتيجة التي توصل إليها في الحالين – في حالة المضاربات وفي حالة بيع الواحد في المائة كما صوره – أتفق معه فيها وهي المنع لكن الأدلة التي ساقها ليست كلها مقبولة عندي وإن كان البعض يكفي للمنع، لكن أرجو أن يسمح لي بالإشارة إلى ثلاثة من الأدلة، في رأيي ينبغي أن تستبعد لأنها فيها خلاف بين الفقهاء، والشيخ العثماني ذكر على أنها مجمع عليها. وفي رأيي أنه إذا قلنا إننا نبحث في معاملات حادثة ووجدنا آراء مختلفة حتى ولو كان الرأي المانع هو رأي الجمهور وهناك رأي يجيزها لا مانع من الأخذ بهذا الرأي المجيز إذا كانت هناك مصلحة، ولهذا أردت أن أظهر هذه المسائل الثلاث التي أشار إليها الشيخ العثماني فنجده يقول:(7/498)
أولًا: أجاز مالك تأخير القبض إلى يوم أو يومين أو أكثر إن لم يكن التأخير مشروطًا – هذا بالنسبة للسلم في صلب العقد – فتأخير قبض الثمن إن كان مشروطًا في العقد فإنه لايجوز عند أحد من الفقهاء. الذي أعلمه أن مذهب الإمام مالك يجيز التأخير بالشرط إلى ثلاثة أيام ويجيز التأخير بغير الشرط ولو كان كثيرًا، فالتأخير بالشرط إلى ثلاثة أيام ما لم يكن أجل السلم أقل من ثلاثة أيام لكن إذا كان أجل السلم أكثر من ثلاثة أيام فالتأخير بالشرط إلى ثلاثة أيام جائز. أكثر من ثلاثة أيام محل خلاف بين الفقهاء، قولان فيه لمالك والمعتمد عندهم المنع. هذه واحدة.
ثانيًا: استدل الشيخ العثماني بالحديث الذي ((نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ)) وهذا حديث ضعيف. الإمام أحمد قال عن هذا الحديث أن راوي الحديث الذي رواه لا تحل الرواية عنه، ويقول في هذا المعنى أيضًا: ليس في هذا حديث صحيح – بيع الكالئ بالكالئ – ولكن إجماع الناس على أن بيع الدين بالدين لا يجوز، والإمام الشافعي أيضًا تكلم في هذا الحديث ولم يأخذ به، فالاعتماد عليه غير مقبول في نظري.
ثالثًا: يقول أيضًا في بحثه في الصفحة الرابعة عشر: وإذا لم يمكن جعل هذا العقد سلمًا فإنه بيع مضاف إلى تاريخ مستقبل وقد أجمع الفقهاء على أن البيع لا يقبل التعليق أو الإضافة إلى تاريخ مستقبل، وهذا أيضًا هو رأي الجمهور وخلاف ابن تيمية وابن القيم في موضوع الإضافة للبيع والتعليق معروف فابن تيمية وابن القيم يعتبرانه من الشروط وعندهما الشروط الأصل فيها الجواز ما لم يرد نص بالمنع، ومع هذا قلت: إنني أتفق مع الشيخ العثماني في النتيجة النهائية وهي المنع بحسب التكييف الذي ذكره.(7/499)
نأتي إلى كلام الدكتور منذر، في الواقع أنه يوجد خلاف أساسي في تكييفه وهناك نقاط كانت موضع تساؤل وتلقيت الإجابة عنها من كلام الدكتور منذر فيما يتعلق بأنه إلزام بين البائع الأول وأن يشتري البضاعة وأنه لا يوجد تتابع، هذا كله سنأخذ به بالنسبة لكلام منذر. الدكتور منذر قسم هذه العملية إلى المضاربين وإلى مشترين حقيقيين. بالنسبة للمضاربين أظن أنه يتفق معنا على المنع. نأتي للمشتري الحقيقي، المشتري الحقيقي إذا لم يقل لنا إن البضاعة موجودة أو غير موجودة لكن الذي فهمت منه أن البائع يبيع سلعة غير مملوكة له، وهنا يأتي المحذور حتى ولو كان البيع حقيقيًّا والمشتري يريد أن يتسلم والبائع فعلًا يريد أن يسلم في الوقت المحدد، هذا يدخل في بيع الإنسان ما لا يملك. وبيع الإنسان ما لا يملك لا يجوز كما بين الشيخ العثماني وهذا ما ينبغي الأخذ به، فإذا أردنا أن نصحح هذه العملية ينبغي أن تكون سلمًا وتطبق عليه شروط السلم. في هذه الجزئية فهمت من كلام الدكتور سامي أن المسألة تتعلق ببيع سلعة موجودة، فإذا كانت تتعلق ببيع سلعة موجودة يراد تأخير تسليمها وهذا غير بيع الإنسان ما لا يملك، السلعة مملوكة للبائع لكنه سيسلمها بعد أربعٍ وعشرين ساعة – أو كما قال الدكتور سامي أو بعد يوم – فإن هذا يدخل تحت تأجيل تسليم المبيع المعين وهذه مسألة أخرى غير بيع السلم. وجمهور الفقهاء أيضًا يمنعون هذا لأنه عندهم مقتضى البيع تسليم المبيع في الحال إذا كان معينًا وكذلك تسليم الثمن إذا كان معينًا، هذا هو رأي الجمهور. أيضًا هنا ابن تيمية وابن القيم يخالفان في هذه ويقولان: إن هذا لم يرد به نص بل قد ورد النص بخلافه، في قصة جابر معروفة باع بعيره واشترط حملانه إلى المدينة. هذه الجزئية إذا كانت بهذه الصورة التي ذكرها الدكتور سامي لا أرى مانعًا من الأخذ بها خصوصًا إذا كان التأجيل إلى مدة معقولة.
أريد أيضًا أن أتطرق إلى نقطة أثارها الشيخ الأستاذ السلامي تتعلق بهذه الجزئية وفي البديل وكأني استشفيت من كلامه أنه يريد في بيع السلم أو بيع الأشياء المؤجل تسليمها أو غير مملوكة التي يجري فيها السلم أن يوجد مخرج لتأجيل الثمن أيضًا، هذه المسألة في رأيي قد تحتاج إلى شيء من النظر وهي تدخل في بيع الدين بالدين، والتي يطلق عليها الفقهاء وفقهاء المالكية خاصة (ابتداء الدين بالدين) . اشتريت منك كذا أردبا ذرة تسلمها لي بعد شهر بكذا ألف جنية أسلمها لك بعد خمسة عشر يومًا مثلًا هذا هو ما يعرف بابتداء الدين بالدين وعند الجمهور يدخل في بيع الدين بالدين المنهي عنه. ولا أعلم في هذا خلافًا حتى ابن تيمية عندما تحدث عن هذا الموضوع واختلف مع جمهور الفقهاء في بيع الدين بالدين استثنى هذه الجزئية وقال: إنها لا تجوز لأنها لا مصلحة فيها. وأصبح البائع في ذمته تسليم المبيع في وقت مؤجل والمشتري سوف يدفع الثمن أيضًا في وقت مؤجل، فحسب رأي ابن تيمية أن هذا لا مصلحة فيه. وهذه المسألة في رأيي تحتاج إلى نظر، وقد كان لي فيها رأي لكنني لا أريد أن أقطع به الآن في مسألة بيع الدين بالدين. وأكتفي بهذا القدر وشكرًا.(7/500)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين اللهم صل وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
يبدو أننا نفتقر على اتفاق على التكييف أولًا حتى نصل بعد ذلك إلى الحكم، لأن الحكم على الشيء هو فرع من تصوره. هذه مسألة ملحة في سائر هذه العقود من عارض لعارض يختلف التكييف ويختلف التشخيص وبالتالي تختلف الأحكام التي يصدرها الباحثون ويقع المستمع الذي لم يقدم دراسة يقع في حيرة، هذه مسألة مهمة جدًّا لو أن العارض عرض جزء التكييف ثم طلبنا من الآخرين هل توافقون على هذا التكييف؟ فاتفقوا على التكييف لكنا أمام تكييف متفق عليه وبالتالي تكون الأحكام صادرة على أمر معروف ومعلوم.
بعد هذه المقدمة أريد أن أعرض جملة من المسائل المتفرقة، هذه المسائل منها ما أثاره تدخل بعض الإخوان. أخيرًا في مسألة (الدين بالدين) ، وقبل ذلك عندما ذكر الشيخ السلامي – أيضًا – مسألة السلم وذكر مسائل محددة وهي مسألة الخبز الذي يباع هذه المسألة معروفة عند المالكية وهي جواز الاشتراء من دائن العمل بمؤجل، هو يدفع خبزة كل يوم وفي نهاية الشهر يدفع له الثمن. هذه مستثناه من السلم عند مالك، فكان من المفروض أن نلاحظ هذه المسألة فهي مستثناه من السلم المؤجل فيجوز أن تأخذ خبزة كل يوم لتعطي الثمن في نهاية الأجل وقالوا في تخريجها لأنه من باب اعتبار دفع الأوائل كدفع الأواخر هذه مسألة مهمة جدًّا ويجب أن نلاحظها ونحن نتكلم عن الدين بالدين. فلا نقول الدين بالدين لا يجوز ولكن إذا قدمنا شيئًا ما، يعتبر أن يكون أساسًا للثمن فإن المالكية يجيزون ذلك. هناك مسألة أخرى وهي مسألة (بيع ما ليس عندك) ، هذه المسألة في الحقيقة يحتاج إلى دراستها، هل هو شرع معلل أو ليس معللًا؟ وهذه هي المرحلة الأولى التي يتوقف عندها القائس لأن القائس يمر بجملة من المراحل المرحلة الأولى هل الأصل الذي أمامه هو شرع غير معلل؟ أو أنه شرع معلل فيجوز حينئذٍ أن يدخل في عملية القياس ليبحث بعد ذلك عن العلة ويبحث عن الأوصاف لينيط به الحكم.(7/501)
إذا كان النهي عن بيع ما ليس عندك معللًا بأنه قد لا يجده أو قد يبيع ذاتًا معينة هي ملك لشخص آخر فأعتقد أن المسألة يمكن أن يبحث فيها خصوصًا أن ابن رشد في المقدمات ذكر أنه مكروه فقط إذا كانت السلعة متوفرة وموجودة في السوق وهذا أمر مهم جدًّا نحن لا نفتي به ولا نذكره وقد بقيت فترة من الزمن لم أذكر هذا الفرع حتى لا يعتمد الناس عليه ويبيعون ما ليس عندهم ولكنه موجود عندما نريد أن نتعامل مع جملة من القضايا المحدثة. المسائل التي نسأل عنها ما هو موقع إدارة السوق؟ وهذا السؤال أثاره تدخل الأخ الدكتور منذر قحف ما هو موقع هذه الإدارة؟ هل هي وكيلة عن طرف؟ أو وكيلة عن الأطراف معًا؟ أو هي نائبة فعلًا بمعنى أنها تتسلم الأشياء المعروضة للبيع فتبيعها لشخص آخر؟ أعتقد أن هذا الأمر مهم جدًّا في إصدار الحكم على هذه القضية لو عرفنا موقع إدارة السوق، ويجب حينئذٍ أن نفرق بين الطعام الذي لا يجوز بيعه قبل قبضه بلا خلاف من العلماء إذا كان الطعام من دين وليس من قرض هنا أيضًا تفصيل عند المالكية على حد ما أعرف، فنفرق بين الطعام وبين غيره من الأمور التي يجوز بيعها قبل قبضها إذا كانت مملوكة للبائع، وحينئذٍ نرجع إلى مسألة القبض هل هو قبض عرفي يمكن أن نعتبر أن الشخص قابض إذا كان الشيء في حوزته وهو قادر على تسليمه؟ وهنا ألاحظ أن هذه المسألة ليست كمسألة الأمس هي أقل منها خطرًا وأقل منها قمارًا إذا صح التعبير، فمسألة الأمس فيها شخص إما أن يكون رابحًا وإما أن يكون خاسرًا أما مسألة اليوم فيبدو أن حقوق كل شخص مضمونة وأن الجدار الذي يقع أمامنا هو جدار نصوص فقط، هذه النصوص تتعلق بالنهي عن بيع ما ليس عندك وبالنهي عن بيع الشيء قبل أن تقبضه والطعام قبل أن تقبضه كما هو متفق عليه، فنحن أمام جملة من النصوص، وأما بيع الكالئ بالكالئ هو حديث وإن لم يصل بمعاييره إلى الحديث فهو صحيح بمعايير الفقهاء واسمحوا لي ربما لا أوافق البعض على هذا، الفقهاء يقولون إن الحديث إذا عمل به إمام فيعتبر وكأنه صحيح ذكرها أكثر من فقيه في هذه المسألة، فالحديث عمل به الفقهاء جميعًا على حد ما أعرف لم يخالف أحد في عمله. هنا التفريق بين مسألة المضاربة ومسألة النية هذه مسألة ربما تتخرج على مذهب مالك وأحمد وهما يهتمان بالنوايا ويهتمان بالمقاصد أما بالنسبة للشافعي الذي يجيز بيع العينة فمسألة النية ليست مهمة. التفريق بين أن ينوي بهذا البيع المضاربة وبين أن ينوي به التسلم الحقيقي لا أدري من أين أتى به الإخوان هل بيع التاجر المدير إلَّا مضاربة من هو المدير؟ هو الذي لا يستقر بيده عين ولا عرض على حد تعريف المالكية له، التاجر المدير هو الذي لا يستقر بيده شيء فهو يشتري ليبيع ويبيع ليشتري.
في رأيي أن المسائل الأساسية التي يجب أن نبحث عنها هي مسألة القبض، هي مسألة بيع ما ليس عندك هل هو شرع معلل؟ هي مسألة قبض الأوائل هل هي كقبض الأواخر عند المالكية؟ هي مسألة البديل، وهنا لا أتفق مع الإخوان عندما يقولون هذا لا يبحث له عن بديل لأنه ليس له غرض شرعي، ما معنى هذا الكلام؟ هذا لا يصح لأنه لا يعتمد على غرض شرعي أما أن نقول لا نبحث له عن بديل لأنه لا غرض له، فنحن نبحث عن بديل له غرض شرعي وشكرًا.(7/502)
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
السيد الرئيس،
الإخوة الأعضاء،
لا بد من التذكير بين يدي ما نسمع بمبادئ إسلامية واضحة منها قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
ومنها قوله سبحانه: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] .
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((كل المسلم على المسلم حرام)) ، هذه العناوين وتحتها ما هو معروف ومشروع أن الفقه الإسلامي كأني به هو مع المشتري أكثر مما هو مع البائع وإن شئنا قلنا هو مع الطرف الضعيف، ولذلك من المسلمات المعروفة مشروعية الخيارات منها على ما هو معروف عند الجميع ومجمع عليه (خيار العيب) لِمَ للمشتري؟ (خيار الرؤيا) لِمَ هو للمشتري؟ ونعلم أن هذين الخيارين ينشآن من مطلق العقد إضافة إلى خيار الشرط وغالبًا خيار الشرط ما يكون للمشتري، لم؟ لأن الأصل أن البائع يعرف المبيع وأن المشتري لا يعرف المبيع، وأن المشتري الذي يملك الثمن وأن محور البيع هو المبيع لا الثمن. ومن هنا إذا تحول الثمن إلى مثمن، وكلنا يعرف عند ذلك الصرف وشروطه. إذن السؤال والذي نراه من هذه العقود المعروضة علينا أن طرفًا قويًّا هو بائع وأن طرفًا ضعيفًا هو المشتري، وأمر آخر لو وسعنا الدائرة أكثر، نحن أمة ظروفنا الحضارية أوصلت بنا أننا نملك الثمن وغالبًا لا نملك السلعة إلَّا إذا استثنينا البترول، إذن نحن ندخل أسواقًا ونحن الأغنياء ثمنًا ينبغي أن نحمي أنفسنا إذا كنا نحن المشترين، وبالتأكيد لسنا البائعين. أقول هذا لأنني أرى في بلدي المنكوب لأسباب كثيرة أن كثيرًا من الناس ربما فقدوا ثرواتهم أمام الشاشات التي دخلت إليهم قبل أن يدخل إليهم معرفة كثير من الآيات القرآنية، فإنني أشفق على بلادنا وعلى أهلنا أن يدخلوا معتركًا لا يعرفون أبعاده، لذلك نعود لننعش ذاكرة الأخوة المجتمعين، كلنا يعتز والحمد لله بدينه ولكن نحن اليوم نملك ثروة من النصوص لا توجد عند غيرنا والحمد لله عندنا كتاب الله، عندنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا ذخيرة كبيرة من آراء الفقهاء وآراء المجتهدين. إذن يا ترى ما نحن أمامه نلاحظ منذ اللحظة الأولى نضع أقدامنا ربما أمام متاهة وكأنه يطلب إلينا أسلمة هذه النصوص وهي عنيدة، أقول وهي عنيدة لأن فلسفة ما سمعناه هو الربح ولو كان غير مشروع بينما في الإسلام طبعًا الربح مشروع. وعظيمٌ قول الله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .(7/503)
إذن نعود لنؤكد أن ما نراه هي حيل لرؤوس أموالنا، أقول: فلنضبط بديننا رؤوس أموالنا ولنحم برؤوس أموالنا معتقداتنا. إذن أمام هذا الأمر ونحن نرى الجهابذة من الإخوة يعرضون الرأي ويختلفون عليه، يختلفون على التصوير ويختلفون في التصويب، وفي النتيجة نعم هذا المجمع، أقول هذا المجمع الذي ضم الخيرة – إن شاء الله – من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفقهائنا، نحن مؤتمنون جميعًا أولًا على الإسلام وثانيًا على الإسلام، وثالثًا على الإسلام. أقول هذا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأستاذ عبد الحميد الغزالي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
سيدي الرئيس،
في الواقع التعليق لا يتعلق بالعقود ذاتها حلًّا وحرمة فهذا أمر متروك لكم، ولكن في ظني أن هناك بعض المصالح الحقيقية، في هذه الأمور يجب تبنيها حتى يمكن الحكم عليها أو إيجاد البديل، فأرجو ألا يفهم من عرض هذه المصالح أنني أريد أن أقول: يجب أن تبقى العقود هذه حلًّا أو حرمة. البيع المستقبل أنواع كثيرة منها أحيانًا ما هو ضروري للحصول على فترة للدراسة، والبائع يريد أن يتأكد من جدية الشاري ودونها لا يمكن أن تتم المبايعات في بعض البلاد ضمن أنظمتها.
في قضايا السلع لا شك، أن البيع المؤجل أو المستقبل له علاقة بضبط التكلفة للمنتج ولها أيضًا قدرة على التأثير على نقل السلع وإنتاجها عن طريق تحديد طبيعة العرض المستقبل وهذه أمور في غاية الأهمية.
الأمر الآخر الذي يجب أن نلحظه هو أن إخواننا أحيانًا تكلموا عن بيع ما لا يملك، طبيعة عرض السلع وإنتاجها في العصر الحاضر وسرعة نقلها تجعل يكاد أن يكون من المستحيل أن تجد سلعة لا يمكن أن تملكها يمكن أن تملكها حتى وإن كنت لا تملكها يمكنك أن تملكها ولا يمكن أن يثور نزاع حقيقي على أنك تقدر أن تملكها إن شئت أن تملكها وهذا وضع جديد. في الماضي السلع محدودة، النقل محدود، القدرة على الإنتاج محدودة الآن تكاد تكون القدرة على الإنتاج وعلى النقل مضاعفات هائلة تجعل قضية أنه يبيع ما لا يملك، قضية يجب إعادة النظر إليها من هذا الباب.
بعض إخواننا تحدث عن قضية – أخونا الدكتور سامي ثم علمت أنه لا يقصد – أن البنوك الإسلامية لا تجعل لرأس المال عائدًا أو ثمنًا وأن هذه المبايعات يدخل فيها الفائدة وبالتالي الثمن، الواقع البنوك الإسلامية تجعل لرأس المال عائدًا وثمنًا ولكن بشكل معدل عن ما هو في الفائدة فهذه ليست قضية حقيقية.(7/504)
فالرجاء ملاحظة طبيعة إنتاج السلعة والقدرة على إنتاجها وتحريكها وسوقها العالمي وضرورة معرفة العرض المستقبل وتأثيره على إنتاج المستقبل وعلى نقل السلع والتجارة وأيضًا على ضبط التكلفة فالمصالح الحقيقية في البيوت المستقبلية، إيجاد الفترة اللازمة للدراسة، جدية البائع والمشتري، ضبط التكلفة، معرفة العرض المستقبل وبالتالي التأثير على نقل السلعة وعلى إنتاجها. كيف تعالجون هذا ضمن العقود؟ هذا أمر متروك لكم، ولكن يجب تبين المصالح الحقيقية خلف هذه الأمور التي كنت أرجو أن الإخوة الاقتصاديين يوضحونها لكم حتى تجدوا حلولًا لهم. وشكرًا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم.
النقطة الأولى التي أريد أن أذكرها لعله لو قرأنا الصفحات القليلة هي صفحتان ونصف – التي تتحدث عن تعريف هذه العقود لأغنانا ذلك عن الكثير من الجهد لأن هذه الصفحات قد هيأها مجموعة من الخبراء بتكليف من فضيلة الشيخ ابن الخوجة الأمين العام للمجمع، وشملت عددًا من الإخوان الاقتصاديين والإخوان المتخصصين في الشريعة فلعلنا لو قرأناها لخففت عنا كثيرًا. هذه مقدمة.
لي عدد صغير وقليل من الملاحظات. مهم وأرجو أن تكون أساسًا للخطوة التي تلي بعد ذلك في فهم هذا الموضوع.(7/505)
أولًا: إن قضية البيوع المستقبلية أو العقود المستقبلية أمر هام ومفيد جدًّا في الاقتصاد المعاصر وهذا لا ينطبق على الاقتصاد البدائي أو على الاقتصاديات في القرون القديمة، هي أمر جديد ومستحدث.
ثانيًا: إن عقد السلم وخيار الرؤيا كلاهما لا يؤديان الغرض لأن عقد السلم يشترط دفع الثمن حالًا وهذا لا يمكن في مثل هذه العقود وليس من المصلحة أيضًا. يعني ليس فقط لا يمكن ليس من المصلحة أن يدفع، وخيار الرؤيا أيضًا لا يؤديها لأن العقد ينعقد وينبغي أن ينعقد باتًّا، هذه هي طبيعة هذه المعاملة.
ثالثًا: إن نية المضاربة أو نية الوصول إلى الاستلام والتسليم الحقيقي هذا أمر في داخل وضمير المتعاقد وليس مكشوفًا على العقود بمعنى أن هناك سوقًا واحدة وليس سوقين يتعاقد فيها الناس كلهم سواء المضاربون أو الذين يريدون أن ينتهوا بالتسليم والتسلم الحقيقي الفعلي وفي هذه السوق يتعاقدون بنفس النماذج من العقود. العقد نفسه يذكر جميع النصوص بما فيها مكان التسليم وشكل التسليم وأشكال العبوات التي يتم فيها التسليم، وهي نفس العقود لكل الناس سواء أكان مضاربًا أو غير ذلك. لا تظهر النية إلَّا عند الوصول إلى موعد التسليم فإذا خرج من العقد بالتصفية بدخوله بعقد موازٍ عند ذلك انكشفت – النية – أنه كان مضاربًا أو أنه يطلب التسليم في ذلك الوقت. إذن لا بد لنا إذا اعتبرنا أن هذه العقود غير مشروعة وأردنا أن نبحث عن بديل يخرج المضاربين من السوق ويبقي فقط الحقيقيين لا بد لنا من أن نلحظ هذا الأمر، كيف نستطيع أن نكشف نيته؟ بعض أنواع المتعاقدين الكشف عن نيته سهل، مثلًا لما تقوم صناديق للاستثمار مثل صندوق الاستثمار في البنك الإسلامي للتنمية – مثلًا – أو في البنوك الإسلامية هذه الصناديق للاستثمار بديهي أنه من عملها أنها لا تقصد التسلم لأنها لا تتاجر بالسكر والقمح وغير ذلك فهي لا تقصد التسلم أو التسليم عندما تدخل بهذه العقود بطبيعة أنها صناديق استثمار واضح أنها تقصد المضاربة فقط وهذا قد ينطبق على البنوك الإسلامية عندما تشتري العملات ولو اشترتها (SPOT) خلال أربع وعشرين ساعة لأنها لا تقصد أن تأخذ هذه العملات التي لا حاجة لها بها ولا تقصد أن تبيعها أيضًا لأنها غير متوفرة لديها ولكن تقصد أن تصفي العقد خلال أربع وعشرين ساعة فهي بهذا مضاربة ولو كان العقد لديها خلال أربع وعشرين ساعة.(7/506)
نقطة أخرى أيضًا ذكرت أن الهامش يأخذه الطرف الآخر وكأنه عربونًا أو جزءًا مدفوعًا من الثمن مسبقًا للطرف الآخر. الأمر ليس كذلك، الأمر أن الهامش يؤخذ من الطرفين معًا من المتعاقدين، الهامش في العادة 10 % قد يزيد أو ينقص حسب إرادة الدولة وهو أداة من أدوات السياسة المالية هذا أمر آخر، أما هذا الهامش لا يعطى للطرف الآخر ويؤخذ من البائع ويؤخذ من المشتري ويوضع في حساب خاص في إدارة الصندوق وليس لدى الأفراد وهذا الحساب في العادة لا يكسب فوائد لا تركب عليه الفوائد في العادة.
نقطة أخيرة قبل أن أطرح اقتراحًا ببديل هي أن في حالة المضاربة، المضاربة أو المراهنة – كما سماها بعض الإخوة – على الأسعار كبيرة وكبيرة جدًّا. أريد أن أعطي مثالًا حتى يتصور لأن المخاوف الموجودة عند بعض الإخوان قد لا ندركها بكاملها دون مثل هذا المثال: لو أن إنسانًا عنده عشرة آلاف دولار يستطيع أن يدخل السوق ويشتري ما قيمته مائة ألف دولار لأنه سيضع هامش 10 % فقط، تغير السعر في اليوم الواحد يمكن أن يتغير بنقطتين أو ثلاثة أو عشرين أحيانًا فلو تغير السعر 10 % في يوم واحد لخسر كل ما يملك أو أنه تضاعف رأس ماله في يوم واحد وقد يحصل هذا في ساعات فقط، فمقدار المضاربة في هذا أو المقامرة أو المغامرة كبير جدًّا وليس مقدارًا ضئيلًا.
انتهيت من هذا العرض. أريد أن أطرح بديلًا لعله يؤدي الغرض.(7/507)
نحن نريد أن نخرج المضاربين من السوق لو قامت سوق إسلامية للسلع في دولة من الدول بعض الدول الآن تفكر في إقامة أسواق مالية وأسواق للسلع واعتبرت هذا العقد ليس عقدًا وإنما هو وعد بإجراء عقد وقلنا إن هذا الوعد كما أعلم مما قاله الإخوان عند المالكية الوعد قد يكون ملزمًا إذا ارتبط العاقد فيه بأمور أخرى، إذا ترتب عليه عقود أخرى ومصالح أخرى له، فعند إنجاز العقد عند استحقاقه هو عقد لثلاثة أشهر وبعد ثلاثة أشهر وعد لثلاثة أشهر بعد ثلاثة أشهر مثلًا في شهر الاستحقاق لو طلب الطرف تنفيذ عقده فهو يعتبر عند ذلك الوعد ملزمًا ويأخذ تلك السلعة بالسعر الذي تعاقدا عليه ولو لم يطلب تنفيذ عقده فيعاد له رأس ماله فقط ويعتبر ما ترتب من أرباح أو خسائر خلال هذه الفترة أمر وهمي لا يعمل به. هو كأننا نلغي ما ترتب من ربح أو خسارة لو دخل السوق مضاربًا فقط، لو دخل السوق وهو ينوي التنفيذ الفعلي وهذه النية لا تنكشف إلَّا عندما يطلب التنفيذ يعني عند الاستحقاق فإن طلب التنفيذ اعتبرنا الوعد ملزمًا وإن لم يطلب التنفيذ اعتبرنا الوعد غير ملزم وبالتالي ملغيًّا ونلغي كل ما ترتب عليه من هوامش لأن الهامش يتغير كل يوم حسب تغير السعر فيحسب ربح وخسارة كل يوم لكل طرف، فعند ذلك نعيد له رأس ماله فقط، وهذه العملية تكون متوازية فلا تؤثر على السوق، يمكن أن تقوم السوق ناجحة وبإلغاء هؤلاء. هذه لها ميزة أن الناس الذين لا يريدون التسليم والتسلم ستتجمد أموالهم، الهوامش التي يدفعونها ستكون مجمدة لأنهم لن يكسبوا بها شيئًا فهذا يردعهم عن دخول هذه السوق لأنها بالنسبة لهم تجميد للمال لا فائدة منه لا ينوون التسليم والتسلم الفعلي أما أولئك الذين ينوون التسليم والتسلم الفعلي فنعتبر الوعد بالنسبة لهم ملزمًا لأنه في الواقع قد ترتب عليه برامج لهم وعقود أخرى لهم. والحمد لله رب العالمين.(7/508)
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الواقع أنني أشكر جميع الإخوة الذين تحدثوا في هذا الموضوع وأثروا هذا النقاش بتدخلاتهم القيمة، وأشكر بصفة خاصة الأستاذ منذر قحف حيث أوضح صورة المستقبليات بصورة قد تختلف عن ما ذكرته في بحثي، والواقع أنني لما استكتبت في هذا الموضوع راجعت كثيرًا من أصحاب الاختصاص وسألتهم عن كيفية هذا التعامل، فكانت بياناتهم ربما تختلف من واحد لآخر فالتمست كتابًا يشرح هذه العملية بصفة مفصلة، فاهتديت إلى كتاب هو مؤلف في هذا الموضوع نفسه وهو كتاب أحلت عليه في بحثي هو كتاب " جيرالد قولد " وقد تحدث عن هذه العمليات في نحو ستمائة صفحة وشرح كل تفاصيلها وما ذكرته في هذا البحث هو مبني على ما ذكره " جيرالد قولد " في ذلك الكتاب، ثم راجعت بعض المراجع الأخرى الإنجليزية، فرأيت أن هناك بعض الفروق في بعض التفاصيل حينما يبينون هذه العملية، فتبين لي من خلال هذه المراجعات والمطالعة أن العمليات المستقبلية قد تختلف من معاملة إلى معاملة، وقد تختلف أنواعها في بورصة المستقبليات وهذا ما يظهر من تدخل الأستاذ الدكتور سامي، ورأيت أن هناك فرقًا بين ما شرحه الدكتور سامي والدكتور منذر، فهذا أيضًا يدل على أن هناك خلافات في بعض التفاصيل في إجراء هذه العملية، فالذي أقترحه هو أننا لما نصوغ القرار في هذا الموضوع إنما نصوغ على مبادئ، يعني إذا وقع البيع لتسليم المبيع لوقت لاحق فما هي المبادئ التي يجب أن نراعيها؟ وما هي المخالفات الشرعية التي يجب أن نتجنب عنها؟ هذا هو الذي نذكره في قرارنا بدون أن نذكر تفاصيل هذه العملية كما تجري فإنكم رأيتم أن هناك أقوالًا مختلفة، فبعضهم يبين طريقة وبعضهم يبينون طريقة أخرى.(7/509)
أما الحديث عن البديل فما ذكرته أن البديل لا حاجة إليه إنما ذكرته في سياق المضاربات والمخاطرات، أما إذا كان هناك حاجة حقيقية – كما شرحه فضيلة الشيخ السلامي وبعض الإخوة الآخرين – إذا كان هناك حاجة حقيقية لشراء وبيع بعض السلع لتسليم في وقت لاحق، فعندنا بدائل كثيرة منها السلم ومنها الاستصناع ومنها المواعدة ومنها بيع الاستجرار، فنحن نستطيع أن نأخذ بهذه البدائل إذا كانت هناك حاجة حقيقية، أما ما يجري في هذا السوق من المخاطرات والمضاربات، فالذي أعتقد أنه لا حاجة لنا إلى التماس البدائل لهذه المضاربات، فإذا كانت حاجة حقيقية نلجأ إلى السلم فإذا لم يكف السلم لجأنا إلى الاستصناع (ما يمكن فيه الاستصناع) وإذا لم يغننا الاستصناع يمكن أن نأخذ بطريق مواعدة، وإذا لم يمكن هذا فعندنا بيع الاستجرار كما ضرب فضيلة الشيخ المختار السلامي مثلًا بشراء خبز كل يوم فإنه يمكن على طريق بيع الاستجرار، وإن بيع الاستجرار قد بحث ودرس في ندوة عقدت في الكويت وقد ذهبت الندوة إلى جواز هذا البيع.
وثانيًا أريد أن أشكر فضيلة شيخنا الصديق الضرير – حفظه الله تعالى – فإنه نبهني على ما كنت لم أطلع عليه قبل تنبيهه، ومنها أنه ذكر أنه ليس هناك إجماع على حرمة إضافة البيع إلى المستقبل بل هناك قول لابن القيم – رحمه الله – ما كنت مطلعًا عليه، فالشكر له. أما ما ذكره في الحديث عن ((بيع الكالئ بالكالئ)) بأنه ضعيف ولو كان إسناده ضعيفًا ولكن مما تقرر لدى الفقهاء والمحدثين أن الحديث الضعيف متى تأيد بتعامل الأمة فإنه ينجبر ضعفه، فعلى هذا الأساس ذكرت هذا الحديث، وكذلك ذكر فضيلة الشيخ الصديق الضرير أن تأخير القبض لرأس مال السلم في السلم عند المالكية يجوز وإن كان مشروطًا في صلب العقد، فما نقلته في بحثي كان مبينًا على ما ذكره ابن قدامة في المغني ونصه موجود في الصفحة التاسعة من بحثي، ولكن فضيلته أعلم بمذهب مالك – رحمه الله – فإن كان هناك عند المالكية جواز لهذا البيع فهو أعلم، ولكن ما توصلت إليه من حرمة بيع المستقبليات كما تجري في البورصات فأظن أنه لم يخالفني فيه وهو موافق لي في هذا. وأكتفي بهذا القدر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/510)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
في هذا التدخل أريد أن يقع تحديد بعض المفاهيم حتى لانختلف عليها، لأنه بنيت أحكام على أصول، فإذا لم يكن الأصل مفهومًا كان البناء كله منهارًا، فمن ذلك مفهوم (بيع ما لا يملك) ، فعلًا أن أبيع ما لا أملك بمعنى أن أبيع شيئًا معينًا لا أملكه، فهذا هو غرر، لأن تحصيل البائع على المبيع هو أمر مشكوك فيه، أما أن أبيع شيئًا في ذمتي موصوفًا وصفًا دقيقًا وهو البيع على الصفة أو أبيع سلمًا، فالسلم جائز وما هو إلَّا بيع شيء لا أملكه، ثانيًا وقع خلط بين بيع الدين بالدين وابتداء الدين بالدين، أما بيع الدين بالدين، فهو كما أشار إليه ابن عاصم:
بما يجوز البيع بيع الدين
مسوغ من عرض أو من عين
وإنما يجوز مع حضور من
أقرّ بالدين وتعجيل الثمن
فبيع الدين بالدين هو: لي دين على شخص فأبيعه لآخر، أما أن أبتدأ دينًا بدين فهو أمر ثان، والقضية التي تعرض لها فضيلة الشيخ الضرير هي قضية (ابتداء الدين بالدين) لا (بيع الدين بالدين) ، ما أردت أن أبينه هو أن ما تفضل به الشيخ عبد الله بن بيه – أكرمه الله – هو قال: يجوز بيع خبزة كل يوم إلى آخر الشهر والثمن في النهاية ليس هذا هو الموضوع، الموضوع هو هذا الفران الذي يريد أن يلتزم ببيع ما تحتاجه الدولة لجيشها كامل السنة فهو بثمن محدد معين من أول يوم، فهل هو ملزم بأن يشتري المواد الأولية من الآن ويخزنها؟ لا يستطيع، وإذا دفع رأس المال كاملًا من الآن لا يستطيع.(7/511)
فنأخذ مثلًا واضحًا محددًا في مصر، مصر وهو البلد الإسلامي الكبير الذي له جيش قوي ووافر العدد، بمعنى هذا أنه ينخذل المسلمون عن هذه الصفقات ويعطونها فقط إلى النصارى، ما أعتقد أن المجمع يصل إلى هذا، وهنا أصل إلى نقطة أخرى وهي قضية أنه لا بد من أن ننظر إلى واقعنا حسبما تطور، ولا يكفي أن ننقل ما قاله الفقهاء في كتب الفقه فذلك دوره دور الدروس إما في الجامعات أو في الثانوية، أما مجمع فمعنى ذلك أن هذا المجمع بتلاقح آراء علمائه يريد أن يصل إلى قضية مستجدة ما كان لمن قبلنا عهد بها، أما أن نقول الشروط الموجودة عند مالك وعند أبي حنيفة وعند الشافعي وعند أحمد ابن حنبل فهي كذا وكذا وكذا وغيرها حرام، فهذا ما لا أستطيع ولا يستطيع أحد أن يقول إن هذا هو دين الله.
قضية تتعرض كثيرًا وهي الثانية بالنسبة للشيخ ابن بيه – وأعرف منه كامل الورع وأعانه الله على ورعه – وهي أن الشافعي يجيز بيع العينة هذا تقوله المذاهب المخالفة ولكن الشافعي في الحقيقة هو يقول أنا لا أتهم، ففرق بين جواز العينة وبين عدم اتهام الشخص، والشافعي – معاذ الله – في ورعه وتقواه وإمامته أن يقول بجواز بيع العينة كما يتصور، أنا لا أتهم المتبايعين، البائع والمشتري عينة أنهما يرغبان في العينة.(7/512)
الأمر الآخر: قضية لا بد أن ننتهي منها وهي قضية الوعد الملزم التي نتحدث عنها كثيرًا والتي تنبني عليها كثير من الأمور، الوعد الملزم هو الوعد تدينًا لا بد من الوفاء به، أما قضاء فلم نجد نصًّا يلزم الشخص بأن يوفي بوعده، فهل يجوز للدولة ولصاحب السلطة وللناظر في الأحوال العامة أن يأتي بشيء لم ينص عليه فيلزم به الناس؟ ما أرى في ذلك مانعًا، وحياتنا في العالم الإسلامي كلها سائرة على هذا، والوعد عند الإلزام به هو مما يقضي على كثير من المنازعات.
الأمر الأخير: الذي أريد أن أتعرض إليه هو تنظيم السوق. هذا تنظيم السوق لا نتحدث عنه إلَّا عندما تصبح عندنا إمكانيات اقتصادية لأن نكون أسواقًا في بلداننا ولكن إمكانياتنا الاقتصادية حسب آخر دراسة رأيتها، هو أنه إذا وزعنا الثروة في العالم الإسلامي على عدد الأفراد – في العالم العربي – لا تبلغ ألفًا وثمانمائة دولار للفرد بينما الدخل بالنسبة لإسرائيل هو خمسة آلاف وخمسمائة دولار بالنسبة للفرد، فهذا وضعنا وضع الفقراء لا توجد لدينا قدرة على تكوين أسواق لكن له يجوز للشخص المسلم وهو يريد أن يدخل في السوق العالمية لشراء أو لبعض التعامل؟ كيف نعطيه منهجًا وطريقًا ليقوم بتعامله ويستطيع أن يحرك اقتصاده واقتصاد العالم – كله – الإسلامي أن يحركه بطرق مشروعه؟
فهذا ما أردت أن أبينه وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/513)
الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم.
نحن الآن أمام معاملات جديدة على الساحة وجديدة من منطلق العالم الذي لا ينظر إلى القيم ولا إلى الأخلاق الإسلامية ولا أيضًا حتى الأعراف في الأخلاق التي كانت تسود فيه، ونعلم جميعًا أنه في القرن السابع عشر عندما أرادت أوروبا أن تتخلص من شكلية العقود اهتدت الكنيسة إلى وضع (نظرية السبب) لتحول بين أطراف المعاملة مع عقد معاملات لا تقرها الأخلاق والآداب العامة، وبعد مستجدات الحياة المعاصرة وبعد ابتعاد أوروبا عن أخلاقها الدينية والعرفية التي كانت لديها اختفت أيضًا (نظرية السبب) ، وأتذكر أن أحد أساتذتنا الأعلام قال لنا في الدرس: منذ 1965م لم تسجل في أوروبا دعوى لإبطال عقد عن طريق مخالفته لما تفرضه نظرية السبب. والآن خرجوا حتى على تلك النظرية – كما قلت – وأصبحنا من حين لآخر نفاجأ بمعاملات تخدم رأس المال تريد تنمية المال فقط ولا تنظر إلى الإنسان ولا إلى توازن معاملة بين أطرافها، نحن كنا السباقين إلى توسيع دائرة المعاملات، لأن الشريعة الإسلامية من المعروف على أن دائرة المباح فيها أوسع من أي شريعة أخرى، لكن هناك ثوابت، ثوابت في الربا والغرر وبيع الإنسان ما لا يملك، والعقود التي استمعنا إليها بالأمس وما أفادنا به الخبراء من تحليلات بينت كلها أن هذه العقود لا يخلو أحدها إما من الصيغ الثلاثة وإما من واحدة منها، إما أن يبيع الإنسان ما لا يملك وهذا ما استمعنا إليه اليوم وإما أن الإنسان يبيع بيعًا يوافق الربا الصريح، وإما أن الإنسان يبيع بيعًا لا يخلو من غرر، أما فيما يرجع للخيارات فالشريعة الإسلامية غنية بها وقد أفادنا الشيخ السلامي الآن بما قاله المتحف في الدين وأفادنا – أيضًا – بعض الأساتذة بخيار الرؤيا وخيار العين وخيار الأجل، فالشريعة ليست فقيرة من هذا ولكن الذي ينبغي – في نظري – وهو الذي ينبغي على مجمعنا أن نعدّه هو أن نبرز مواطن الغرر والربا وبيع الإنسان ما لا يملك ونضع قواعد ثابتة، أي مستجد من هذه المستجدات خلا مما يخالف الشريعة الإسلامية أقررناه وتبنيناه وتعاملنا تحت طائلة أحكامه وأي معاملة فيها ربا أو غرر بعد توضيح المجمع لهم يجب أن نستبعدها. وشكرًا لكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/514)
الدكتور رفيق يونس المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك نقطتان أود أن أشير إليهما بسرعة.
النقطة الأولى: ما يتعلق باصطلاح المخاطرة في الفقه والاقتصاد، لقد ظلمت هذه العبارة كثيرًا في عدد من الأوراق والمداخلات وكأن الأصل في المخاطرة أنها حرام وكأن المخاطرة هي القمار مع أن الأصل كما أعرف في الشريعة أن المخاطرة حلال، أما مخاطرة القمار فهذه مسألة أخرى. هذه نقطة.
النقطة الثانية: بعض العقود أولى بالنظر في هذا المجمع من عقود أخرى، فهناك عقود معقدة حبذا لو يرجى النظر فيها إلى ما بعد عقود أبسط وفيها مجال للمناقشة.
العقود التي أود أن أطرحها للمناقشة على المجمع قد أشار إليها الشيخ السلامي كما أشار إليها الشيخ الصديق الضرير، ولكن في لحظة ما توقفا عن المتابعة وأنا أود أن أقول إن هناك عقودًا يتأجل بدلاها ويراد منها التقابض الفعلي ولا يراد بها أبدًا المراهنة على الأسعار أو على فروقها وهي ما يسمى اليوم في القوانين الوضعية الحديثة (بعقود التوريد) وقد عمت بها البلوى في جميع دول العالم ومنها الدول الإسلامية والعربية وهي لا ينطبق عليها أنها سلم كما لا ينطبق عليها أنها استصناع، ذلك لأن هناك أنواعًا من العقود الحديثة يحتاج فيها المشتري إلى أن يتسلم البضاعة في وقت معين محدد في المستقبل، كما أنه لا يريد أن يدفع المال أن يسلف المال في مجلس العقد كما هو الحال في السلف أو في السلم ولا يريد الطرف الآخر: البائع أن يقبض هذا المال لأنه لا يريد أن يتموّل، فبيع السلم فيه تمويل المشتري للبائع أما عقد التوريد فلا يراد منه التمويل وإنما يراد منه أن يطمئن المشتري إلى تسلم البضاعة في موعد معين ولا يريد أن يتحمل تكلفة تخزينها وما إلى ذلك، والمخاطرات المرتبطة بملكيتها منذ الآن، والبائع أيضًا لا يريد أن يقبض المال سلفًا، فهناك عقود كعقود التوريد في الجيش أو المستوصفات أو المشافي وما إلى ذلك، هي قائمة في الواقع وهذه العقود عقود – كما قلت – لا يراد منها المراهنة على الأسعار وإنما يراد منها التقابض الفعلي وهي عقود أيضًا تجري في خارج البورصات وفي خارج المصافق. فأنا أدعو السادة إذا رأوا ذلك أن ينظروا أولًا في هذه العقود ثم بعد ذلك ننتقل إلى عقود أكثر تعقيدًا. وشكرًا لكم.
الرئيس:
لعله لانتهاء الوقت نكتفي بهذه المناقشات التي حصلت من أصحاب الفضيلة المشايخ والاقتصاديين وفيها – إن شاء الله تعالى – البركة والخير، واللجنة التي خصصت للاختيارات قد ترون أنها هي التي تتولى ما بعدها من الأسواق المالية بما فيه موضوع السلع ويضاف إلى هذه اللجنة الشيخ صالح المرزوقي بصفته مقررًا لها والأستاذ منذر قحف.
وبهذا ترفع الجلسة وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(7/515)
ثَالثًا: بطَاقة الائتِمان
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذه الجلسة المسائية موضوعان، أحدهما: بطاقة الائتمان، والثاني: الأسهم.
الشيخ محمد المختار السلامي:
سيدي الرئيس،
فإنه قد بقى من أمس من الاختيارات موضوعان أو مكملان للموضوع الأصلي هما: حق التملك وحق الأولية في شراء الإصدارات. فإذا تكرمتم بتمكيني من تقديم هذين الملحقين أكون شاكرًا.
الرئيس:
على كل إذا رأيتم يا فضيلة الشيخ الذي لديكم يكون لدى اللجنة أما اليوم فالإخوان استعدوا لهذا الموضوع.
الشيخ محمد المختار السلامي:
أكثر من كذا يا سيدي، هذه القضية طرحت واستكتبنا فيها وهي من تمام الموضوع وليست من أصل الموضوع وهي مبنية على أصل الاختيارات.(7/516)
الرئيس:
الآن توجد اقتراحات فيما يتعلق بـ " السلع " تكملة الموضوع إلى آخره، فنحن نترك إذا بقى عندنا شيء من الوقت في الغد – إن شاء الله تعالى – ليس لدينا مانع، نحن اليوم تهيأ الإخوان لـ " بطاقة الائتمان " وإن شاء الله تعالى نستكمل النقطة التي أشرتم إليها.
لدينا الآن " بطاقات الائتمان " و " الأسهم "، وسيكون الوقت إذا رأيتم أن يكون لبطاقة الائتمان حتى رفع الجلسة لصلاة المغرب – إن شاء الله تعالى – ثم بعد صلاة المغرب نعود على موضوع الأسهم، لا سيما وهذه المواضيع سبق أن عقد لها عدة ندوات في البحرين وفي البنك الإسلامي للتنمية بجدة. وبطاقة الائتمان العارض لها هو الشيخ عبد الستار أبو غدة والمقرر الشيخ محمد القري بن عيد. فهل الشيخ القري موجود؟ الشيخ صالح المرزوقي موجود؟ يكون الشيخ صالح هو المقرر. تفضل يا شيخ عبد الستار.
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(7/517)
اللهم معلم جبريل ومكيائيل وإسرائيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. بطاقات الائتمان لها شأن عملي كبير في عصرنا الحاضر فهي في المجتمعات الغربية تعتبر من الأساسيات كما أنها في بلادنا الإسلامية أصبحت على مستوى الأفراد من متطلبات السفر والترحال ذلك أنها تحقق للإنسان أمانًا على أمواله فتحميه من الفقدان والسرقة وتمكنه من شراء ما يعن له شراؤه في ظروف مفاجئة، كما أنها تيسر لحاملها السداد بأي عملة دون أن تعترضه إجراءات حمل العملات وإدخالها لبعض البلاد التي في أنظمتها النقدية بعض القيود، كما أنها تشكل وسيلة للمحاسبة وضبط المصاريف وتوثيق السداد للمطالبات. بطاقة الائتمان من أهم الخدمات المصرفية التي تعني بها البنوك في العالم وقد تطلعت البنوك الإسلامية إلى أن تقدم هذه الخدمة لعملائها لتغنيهم عن اللجوء إلى البطاقات التي فيها بعض الشوائب. إن في صيغ المعاملات الإسلامية ما يتسع لاستيعاب المستجدات العصرية سواء تم الحكم عليها من خلال صيغة واحدة معروفة أو من خلال صيغ مركبة أو من خلال قواعد العقود العامة التي يمكن بها إدراك طبيعة تلك المعاملات المستحدثة والوصول إلى تكييفها الشرعي والحكم عليها.
ربما يكون من المفيد للربط بهذا الموضوع وبين دورة المجمع الإشارة على أن هذا الموضوع اهتمت به أمانة المجمع فيما اهتمت به من الموضوعات وعقدت له ندوة خاصة في البحرين وقدمت أبحاث فنية وشرعية وكانت التوصية آنئذ بخصوص بطاقات الائتمان، أن القواعد التي تقوم عليها في صورتها المجردة يمكن أن تستند إلى بعض المبادئ الشرعية بعد تنقيتها من الشوائب التي ليست من جوهرها، وهذا ما قام به عدد من المصارف الإسلامية التي بادرت إلى إصدار بطاقات ائتمانية خاصة بها بعد أن أجرت التعديلات الضرورية التي أدخلتها هيئاتها الشرعية للوصول إلى صيغ مشروعة لعقودها وإجراءتها، وختمت تلك التوصية في ندوة البحرين بأن هذا الموضوع بحاجة إلى مزيد من الدراسة وأن من الضروري بيان التصور الفني لطبيعة العقد الذي يظلل بطاقات الائتمان وكان هناك دعوة لبيان الحكم الشرعي.(7/518)
أمانة المجمع – أيضًا – قامت بخطوة أخرى وهي أنها جمعت لجنة من الفنيين والشرعيين وطلبت منهم أن يصوغوا التصور الفني وأن يوضحوا هذا التعريف لبطاقات الائتمان ويضعوا بعض الأسئلة ليسهل على الأعضاء والخبراء كتابة أبحاث في هذا الموضوع. ولعل من المفيد أن نستفتح بهذا المنجز الذي قدمته لجنة مزدوجة لأنه يختصر لنا الطريق.
لقد عرفت هذه اللجنة بطاقات الائتمان بأن بطاقة الائتمان هي:
مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري – بناء على عقد بينهما – يمكنه من شراء السلع أو الخدمات، ممن يعتمد المستند، دون دفع الثمن حالًا، لتضمنه التزام المصدر بالدفع. ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف على حساب المصدر. وهذا التعريف يوجه البصر إلى جوهر بطاقة الائتمان بعيدًا عن الفروق الفردية بين بطاقة وأخرى مما هو معروف للفنيين في هذا المجال. فهناك بطاقات ائتمان تضع رسمًا سنويًّا على من تعطى له وهناك بطاقات تحله من هذا الرسم تشجيعًا لاقتناء هذه البطاقة.
هناك بطاقات ائتمان يكون السحب أو الدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف ويشترط ليحصل على بطاقة الائتمان أن يفتح حسابًا في المصرف وأن يعطي تفويضًا للمصرف بأن يخصم من هذا الحساب كل ما يترتب عليه من تبعات مالية. وهناك بطاقات لا تطلب هذا وإنما يبادر مصدر البطاقة إلى الدفع ثم المطالبة.(7/519)
هناك بطاقات ائتمان تلزم حاملها بدفع ما يترتب عليه لمصدر البطاقة من ثمن المشتريات أو الخدمات أو المسحوبات النقدية خلال فترة معينة (شهر في الغالب) .
وهناك بطاقات ائتمان لا تلزمه بهذا الدفع وتتيح له ما يعتبر من قبيل التسهيلات فيأخذ ما يأخذ فإذا بادر ودفع فقد أسقط ما عليه وإذا تأخر ترتب عليه فوائد طيلة المدة التي زادت عن فترة السماح.
من هذه البطاقات – أيضًا – ما تصدره جهة لخدمة تلك الجهة فقط كبعض المحلات التجارية الكبرى أو الفنادق فلا تستخدم هذه البطاقة إلَّا في هذا الإطار. وهناك بطاقات واسعة المدى تصلح لآلاف بل ملايين المحلات التجارية وأماكن الخدمات. هذه البطاقات لها مزايا كثيرة تحققها لصاحبها كما أن لها في نظر الاقتصاديين بعض المحاذير فمن تلك المزايا:
- تخفيض الثمن على بعض أنواع المشتريات والخدمات تشجيعًا للتعامل بهذه البطاقة وهي أيضًا بمثابة بطاقة تعريف لحاملها ولذلك تحرص الفنادق العالمية على نزلائها أن تأخذ منهم صورة من البطاقة حتى لو أبدوا الاستعداد للدفع لأنه قد يدفع عن يوم أو يومين أما هذا التعريف بالبطاقة فهو ضمان غير محدود.
- كذلك بعض البطاقات تقدم مزايا كالتأمين على الحياة أو على الحوادث عند شراء تذاكر السفر بتلك البطاقة.
- هناك بطاقات تقدم جوائز وهدايا.(7/520)
- أيضًا هناك بطاقات تضمن أن حامل البطاقة إذا أضاعها أو افتقدها وأسرع بالتبليغ فإن مسؤوليته تكون محدودة بمبلغ محدد إذا استخدمها من التقطها بغير حق.
من هذا التعريف نتبين أن هناك عقدين:
- عقد يتم بين مصدر البطاقة وبين حاملها، ومن أهم ما يرد في هذا العقد – بين أمور كثيرة – وضع سقف (أي حد أقصى للائتمان الممنوح لحامل هذه البطاقة) ومن هنا كانت بعض البطاقات تتنوع فبعضها عادي وبعضها ذهبي، إلى آخره.
- العقد الثاني بين مصدر البطاقة وبين من يعتمدها من المؤسسات أو الشركات أو المصارف، وهذا العقد من أهم ما يحتوي عليه العمولة التي يأخذها المصدر من الذين يتعاملون بهذه البطاقة من أصحاب المحلات والخدمات.
هناك ملحظ مهم وهو أن الصلة منقطعة بين حامل البطاقة وبين التاجر، فالتاجر إذا لم يتمكن من تحصيل حقه من مصدر البطاقة لا يستطيع أن يرجع على حامل البطاقة. كذلك مصدر البطاقة إذا لم يتمكن من تحصيل حقه من حامل البطاقة لا يستطيع أن يرجع على التاجر. إذن في هذه البطاقة استقلالية وشخصية وقوة تمكنها من التداول والتعامل بها على نطاق واسع.(7/521)
إذا أردنا أن نأخذ لمحة تاريخية عن هذه البطاقات فإن عهدها يرجع في صورتها المبسطة إلى عام 1914م حيث أصدرت شركة (وستر رينيون) لعملاء الشركة وحدهم بطاقة لتسهيل تعاملهم مع الشركة، ثم في عام 1917م بعض الفنادق والمحلات الكبرى وشركات البترول وسكك الحديد أصدرت بطاقات أيضًا لعملائها للتعامل بهذه البطاقة وخصوصًا شركة (جنرال بتروليوم كربريشن كلفورنيا) عام 1924م لتمكين الجمهور من دفع قيمة البنزين بهذه البطاقة. في عام 1950م اجتمعت بعض الجهات التي اهتمت بأمر البطاقة وكونت ناديًا سمي نادي (الداينرز) وبدأت شخصية البطاقة تنتقل إلى الطابع العالمي، وفي عام 1959م بدأت تصدرها البنوك، وفي عام 1977م وجدت منظمة بين بعض البنوك هي منظمة (فيزا) التي تعتبر من البطاقات المتداولة بكثرة.
هذه البطاقات على أنواع، منها بطاقة عادية جدًّا وهي للخصم من الحساب كتلك البطاقات التي تسمى " بطاقات الصرف الآلي " تعطيها البنوك لعملائها ليأتوا في غير وقت دوام البنوك مثلًا ويسحب من حسابه فإذا لم يكن في حسابه شيء يكون الجواب سلبيًّا، هذه البطاقة ليست محل بحثنا. بعد هذه البطاقة هناك بطاقتان:
إحداهما: تسمى بطاقة الاعتماد الشهري أو الخصم الشهري وهي بطاقة عادية يطالب صاحبها بأن يسدد خلال فترة معينة لا تزيد عن شهر غالبًا.(7/522)
ثانيهما: هناك بطاقة أقوى منها وهي بطاقة ائتمان لأنها عبارة عن تسديد بالأقساط وهي تلك التي تفسح المجال لحاملها بأن يتأخر في السداد نظير تحميله بعض الفوائد، وتسمى هذه البطاقة " بطاقة الائتمان القرضية " لأنها بمثابة تسهيلات وقروض.
الخطوات العملية في استخدام البطاقة لعلها معروفة لأكثركم وهي أن يتقدم حامل البطاقة إلى الجهة التي تستحق عليه الدفع من فندق أو مكتب طيران أو محل تجاري بدلًا من أن يعطي النقد يعطي هذه البطاقة فيؤخذ منها صور ويكتب عليها المبلغ وتعطى نسخة لصاحبها ليحتفظ بمستند لحساباته ثم يرسل التاجر نسخة إلى المنظمة أو الوكيل لهذه البطاقة ليستوفي ما دفعه خلال مدة محددة وبعدئذ الجهة التي ترعى هذه البطاقة تطالب حاملها حسب عنوانه أو حسب رقم حسابه لتستوفي منه المبالغ التي دفعتها عنه إلى التاجر، والتاجر حينما يستوفي لا يستوفي كاملًا وإنما يخصم منه نسبة وسنرى الكلام من الناحية الشرعية عن هذه الأمور.
حينما نريد أن نحكم على أمر يجب أن نتبين العقود التي ترعى هذا الأمر والإجراءات التي يسير بها، ونسلط الضوء أكثر شيء على المال لأن المال يخفي وراءه جهدًا إما أن يكون جهدًا مشروعًا أو جهدًا غير مشروع، ولذلك سنهتم بالحديث عن المدفوعات تحت اسم هذه البطاقة سواء كانت رسومًا أو مستحقات ونحلل كل واحد منهما على حدة.(7/523)
هناك العمولات التي يدفعها حامل البطاقة تنقسم إلى أربعة أقسام، منها ما يدفعه البنك الذي يرعى البطاقة إلى المنظمة وهذا عبارة عن أجور مقابل خدمات محددة من تزويد البنوك الأعضاء بالخبرة الفنية والإدارية والقيام بدور الوسيط في الاتصالات والمراسلات والمقاصة والتفويض. هناك أيضًا ما يدفعه العميل – حامل البطاقة – إلى البنك الذي يرعى البطاقة، فهناك رسم الاشتراك عن العضوية وتجديد هذه العضوية، وهذا عبارة عن أجر على خدمة لأن البنك يعرف بهذا العميل ويفتح له ملفًّا ويعرف الجهات التي تتعامل معه ويبين حدود استخدام البطاقة وغير ذلك من المهام. هناك عمولة على استخدام البطاقة من طرف المحل التجاري الذي يتعامل بها، وهو عبارة عن خصم من قيمة المشتريات، فمثلًا تكون المشتريات مائة فيدفع – مثلًا – للتاجر تسعة وتسعين، فهذا – أيضًا – عبارة عن لقاء خدمة تقدّم لهذا التاجر لأنها تسهل تعامله وتسوق لمحله وتقدم له بعض البيانات والمعلومات.
هناك – أيضًا – عمولة تؤخذ على السحب النقدي سواء كان خارج منطقة البطاقة من عملائها أو كان من عملاء البطاقة خارج البلاد لدى البنك الذي يرعى البطاقة في البلد المحلي. هذه العمولة – أيضًا – عبارة عن أجر على تحصيل الدين أو توصيل الدين. وطبعًا سأزيد الكلام عن هذه الأمور أكثر بعد أن نبين أهم ما في هذه الأمور وهي الخطوات العملية التي يتم بها عمل البطاقة.(7/524)
الأصل في استخدام البطاقة أن هناك توكيلًا وكفالة وهناك قرضًا حسنًا في بعض الأحيان من البنوك التي لا تشترط أن يكون السحب من حساب العميل مباشرة وإنما أن يدفع المصدر ثم يستوفي. حينما يتقدم حامل البطاقة إلى المحل التجاري ويستخدمها بدلًا من الدفع نقدًا الأصل في ذلك أن التاجر حينما يأتي بهذا الإيصال على مصدر البطاقة ليستوفي مستحقاته على حامل البطاقة أن ينتظر وأن يأخذ مصدر البطاقة هذا الإيصال ويطالب العميل بما في ذمته وبعد أن يحصل هذا الدين لصاحب المتجر أو مقدم الخدمة يقدمه إليه ويعطيه إياه، هذا هو الأصل في عمل الوكلاء فالوكيل بأمر لا يلزمه أن يدفع من ماله لأن الوكيل إنما يقدم خدمة بأنه يفوض عن موكله بأن يعبر عن إرادته وينجز التصرف المطلوب منه سواء كان تصرفًا عقديًّا أو عاديًّا، ولكن الجهات التي ترعى هذه البطاقات وجدت أن هذا المسار يسبب بطئًا وتعقيدًا في الأمور ولا يحقق السهولة واليسر في استخدام هذه البطاقة فاتخذت وسيلة بأنها قلبت الموضوع فحينما يتقدم التاجر بالإيصال الذي يثبت مستحقاته على حامل البطاقة يبادر مصدر البطاقة فيسدد هذه المستحقات ثم يذهب ويطالب هذا العميل بما دفعه عنه وهذا نوع من ضبط المعاملات لأن مصدر البطاقة يستطيع أن يتحكم في تصرفاته هو دفعًا ولا يستطيع أن يتحكم في ظروف العميل، والتاجر لا يمكن أن يحقق هذا الأمر – الضبط – من حيث المواعيد والأزمنة إذا طلب منه أن ينتظر ويتربص إلى أن تحصل ديونه على هذا العميل. إذن هنا نحن أمام عملية تحصيل دين لهذا التاجر على هذا الذي يحمل البطاقة ومصدر البطاقة قام بدفع هذا الدين من ماله لاختصار الإجراءات ثم ذهب ليحصل مستحقاته على هذا الذي حمل البطاقة، وهذا الأمر موجود في كثير من مجالات الوكالات والسمسرة، فكثير من الذين يستقبلون البضائع للبيع بالعمولة لصالح أصحابها، مجرد أن يتسلموا هذه البضائع إذا كانت – يعني – سهلة التسويق يقدمون الثمن لأصحاب هذه البضائع ويقطعون صلتهم بهم ثم يبيعونها هم ويأخذون الثمن ممن يشتري منهم، وبعض هؤلاء الوكلاء يزيد في العمولة لأنه عجل بالثمن للموكل فيكون هذا ربًا ضمنيًّا، وهذا طبعًا حرام، لأنه أخذ هذا الفرق الزائد لقاء الدفع وتعجيل السداد.(7/525)
إذن هنا نحن أمام أجل يستفيد منه حامل البطاقة ولكن هذا الأجل ليس من طبيعة العملية وليس من جوهرها ولا من مستلزماتها، وإنما اقتضاه هذا القلب وهذا العكس في عملية تحصيل الدين ثم توصيله إلى صاحبه، ولو تمكنت الجهات المصدرة للبطاقة بأن تسرع في الإجراءات فإنها تستطيع أن تطالب حامل البطاقة في اليوم الثاني أو الثالث بالمستحقات عليه ولا يستطيع أن يتأخر إذا كان ملزمًا بالسداد بمجرد المطالبة أو خلال فترة سماح معروفة.
هذا هو التكييف الشرعي الموجز لبطاقة الائتمان. والآن نوجه البصر إلى البنوك الإسلامية التي رأت أن تقدم هذه الخدمة إلى عملائها. بادر بنكان إسلاميان إلى تبني بطاقة ائتمان أحدهما بيت التمويل الكويتي والآخر شركة الراجحي المصرفية للاستثمار وأخذت العقود التي هي عقود موحدة أو نمطية وقدمت إلى الهيئات الشرعية لدى هذين البنكين فأجرت فيها التعديلات اللازمة التي لا تغير من سلاسة التطبيق وسهولة الاستخدام وأهم ما حذفت من هذه البنود بند فوائد التأخير لأن معظم بطاقات الائتمان ترتب فوائد على تأخير دفع حامل البطاقة لما استحق عليه إذا تجاوز فترة السماح أو المطالبة. فهذه البنوك الإسلامية ألغت هذا البند واستعاضت عنه إما بأن تلزم العميل بأن يكون لديه حساب وأن يكون هذا الحساب مليئًا بمقدار من المال يشكل تأمينًا لمدفوعاته أو أنها تطالبه فورًا وإذا تأخر تتخذ معه بعض الإجراءات وهي طبعًا لا تعطي هذه البطاقة إلَّا لمن تثق بملاءته والتزامه وانضباطه فإذا تخلف فإنها تدخل في القرض الحسن لفترة محدودة ليست من جوهر هذه العملية وإنما هي من توابعها للتخلص من الوقوع في الحرام.(7/526)
هذا ما أردت أن أبينه بإيجاز في هذا الموضوع وأريد أن أختم بذكر الأسئلة التي وضعتها اللجنة التي كلفت بوضع التصور الفني وتهيئة هذا الموضوع للعلماء وأعضاء المجمع وخبرائه لكي يجيبوا أو يتمكنوا من تقديم التكييف الشرعي بصورة متدرجة.
السؤال الأول: ما هو التكييف الشرعي لهذه البطاقة بالنسبة للطرفين المصدر والحامل هل هو من قبيل القرض أو الحوالة أو الضمان؟ كما رأينا أن البطاقة تتضمن مرورًا بهذه التصرفات حسب الحاجة فهي تقوم أساسًا على الحوالة مع جزء من الوكالة وفيها ضمان من مصدر البطاقة لحاملها كما أنها قد تصبح قرضًا ولكنه بالنسبة للبنوك الإسلامية يكون في إطار القرض الحسن.
السؤال الثاني: ما الحكم عندما يكون ثمن السلعة أعلى في حالة استعمال بطاقة الائتمان من الدفع نقدًا؟ هذا أيضًا يعني الدفع ببطاقة الائتمان يكون أعلى من المتاجر والمحلات لأن التاجر يريد أن يغطي نفسه لأنه باعتبار أنه يدفع أجرًا على تحصيل دينه على العميل فإنه لا يعطي الحسم المعتاد لحامل البطاقة وأحيانًا يزيد عليه مع أن هذا الأمر بعض الجهات التي تصدر البطاقات تمنع منه ولكنه قد يقع، وإذا وقع فإنه لا يؤثر لأن هذا بيع وهو تجارة عن تراض ولا علاقة له بوجود البطاقة وإنما هو تصرف مستقل.(7/527)
السؤال الثالث: لو تضمن عقد إصدار البطاقة نصًّا ربويًّا. كأن يقول: إذا لم تدفع الحساب المستحق خلال مدة معينة تترتب عليك فوائد. فهل يجوز الدخول في العقد لمن ينوي أن يدفع في الوقت بحيث لا تترتب عليه أية فوائد وبخاصة إذا كانت له مصلحة حقيقية من ذلك كرفع الحرج عنه للتعريف بشخصه والتمكن أو استئجار سيارة من المطارات مما قد يشترط فيه وجود البطاقة؟
هذا الموضوع تكلمت عنه في بحثي وقلت بأن بعض جهات الإفتاء رأت أنه لا مانع شرعًا من الاستفادة من مثل هذه البطاقات التي فيها شرط فاسد إذا اتخذ الشخص الإجراءات الكافية للتحلل من هذا الشرط حتى لا يطبق عليه وقد وجدت – أنا – مستندًا شرعيًّا في هذا وهو أن الشرط الباطل مهدر الاعتبار ولو كان موثقًا ومكتوبًا فإنه في نظر الشرع لا قيمة له ويدل على هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة حينما أرادت أن تشتري بريرة وتعتقها فأبى أصحابها أو ملاكها أن يبيعوها إليها إلَّا أن يكون الولاء لهم، والحكم الشرعي في هذا أن الولاء لمن أعتق، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ((خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق)) ، وفي رواية: ((اشتريها واعتقيها واشترطي لهم الولاء)) شراح الأحاديث قالوا: معنى هذا الحديث لا تبالي بهذا الشرط لأنه اشتراط مخالف للحق، فليس المراد من هذه الإباحة وإنما المقصود الإهانة وعدم المبالاة بالاشتراط وأن وجوده كعدمه. أما إذا دخل الإنسان ولم يحتط لتطبيق فوائد التأخير عليه فإنه يكون قد تلبس بالفائدة المحرمة.
هناك بعض الأسئلة تتعلق بكفالة مصدر البطاقة وهو أنه: هل يستطيع أن يعود على التاجر إذا امتنع حامل البطاقة؟ قلت بأن نظام البطاقات تمنع من هذا لكن إذا وجد نص فلا مانع من هذا لأنه يكون هناك كفالة، كفالة مع حق الرجوع.(7/528)
وهناك أمور تتصل بالصرف أو المصارفة لأن استخدام هذه البطاقة يتم في بلاد أجنبية عن بلد حامل البطاقة أو الجهة التي تصدر البطاقة فيشتري بعملات مختلفة وهذه العملات تسجل هذه المديونية بعملة موحدة كالدولار – مثلًا – أو بالعملة المحلية، فلا بد من عملية المصارفة وفي العقود والاتفاقيات التي تنظم بين حامل البطاقة وبين الجهة المصدرة هناك بند يتضمن تفويضًا لهذه الجهة بأن تصرف هذه العملات بسعر يومها لكي تقيدها بعملة موحدة تسهيلًا للمطالبة والمحاسبة. هذا وبالله التوفيق.
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أحب أولًا أن أوجه بالشكر والتقدير للبنوك الإسلامية التي أقدمت على هذه الخطوة وأعانت كثيرًا من المسلمين على تجنب الحرام والابتعاد عن بطاقات الائتمان الربوية، مهما كان في هذه التجربة من أخطاء أو مخالفة في الرأي. وأحب أن أركز هنا بعد ذلك على نقاط أساسية أرجو أن يتخذ مجمعكم الموقر حكمًا فيه.(7/529)
أولًا: ما يتصل بسعر الصرف. لاحظت أن بعض البنوك الإسلامية التي أصدرت هذه البطاقة تأخذ نسبة أعلى من سعر الصرف مقداره 1 %. مفروض أن سعر الصرف، عندنا سعر البيع عندنا وسعر الشراء والسعر الوسطي، فأي الأسعار يأخذها البنك الإسلامي؟ وجدت بعض البنوك أنها لا تأخذ بالسعر الوسطي وإنما بأعلى الأسعار ثم تأخذ أيضًا 1 % زيادة، وأعتقد أن الواحد في المائة هذا لا نجد له مبررًا شرعيًّا، على أي أساس يؤخذ هذا؟ البنك الإسلامي يأخذ المال الذي دفعه وبسعر صرف ميسر له فلماذا يأخذ 1 % زيادة؟ الأمر الآخر، عمولة السحب النقدي. ولاحظت أن عمولة السحب النقدي نسبية يعني نسبة كذا في المائة، فإذا كانت هذه العمولة مقابل العمل الذي يقوم به البنك فإن البنك إذا حصل مائة ألف، مجهوده لا يختلف عن تحصيل مائة، لذلك إذا كان هناك عمولة لا بد منها فلا يجوز – والله أعلم – أن تكون نسبة مئوية، والأولى أن لا يكون هناك عمولة على السحب النقدي لأنه كما بين فضيلة الأخ الكريم الأستاذ الدكتور عبد الستار أن هناك وقتًا ولكن ليس مقصودًا وربما يكون هناك وقت، يعني ما دام هناك وقت إذن توجد فترة زمنية يدفع المصرف فيها المبلغ ثم يحصله فهنا قرض، قرض ولو لأيام أو لأسابيع فأي زيادة هنا يمكن أن تختلط بالربا إن لم تكن من الربا. فلو أن المصارف الإسلامية بالنسبة للسحب النقدي بالذات منعت العمولة تنازلت عن هذا لأني أذكر على سبيل المثال البنوك الإسلامية في نشأتها بدأت تبحث أخذ عمولة على الاقتراض وبينت أن القرض في السابق شخص يعطي لشخص آخر إنما الآن البنك بمؤسساته وموظفيه والإنارة والبنيان وغير ذلك، وإزاء هذا الموضوع قالوا: إذن الآن الوضع اختلف فيمكن أخذ عمولة مقابل هذا ثم انتهت البنوك الإسلامية آنذاك في البحث مع هذا الاختلاف إلى أن البنك الإسلامي لا يأخذ شيئًا على الإقراض حتى لا يختلط هذا بالربا أو لا يكون ستارًا للربا. كذلك هنا في السحب النقدي أرجو أن نراجع أنفسنا في هذا.(7/530)
أمر آخر أريد أن نعرفه وهو: ما حكم القبض بالنسبة للبطاقة؟ لأن هذه البطاقة إذا اشترى الإنسان بالبطاقة يعتبر هذا قبضًا حكميًّا أم ليس بقبض؟ المجمع الموقر له فتوى بالنسبة للشيك، الشيك إذا كان له رصيدٌ ومضمون الدفع وإلى آخره فهو كالقبض ولكن لو فرضنا أن البطاقة هذه ليس لها رصيد، حامل البطاقة سوف يدفع فيما بعد، إذن الدفع بالبطاقة لا يعتبر قبضًا وبذلك نراجع بالنسبة لشراء الذهب وشراء الفضة، الأحكام التي فيها قبض في المجلس تراعى في هذه النقطة.
أمر آخر وهو أن بعض البطاقات يشترط فيها التأمين على الحياة مثل البطاقة الذهبية، والتأمين على الحياة المجمع الموقر له حكم في هذا. ولذلك لا بد من البحث عن بديل إذا كان لا بد من التأمين على الحياة البحث عن بديل وليكن التأمين الإسلامي.
ثم النقطة التي ذكرها فضيلة الأخ الأستاذ عبد الستار أبو غدة – جزاه الله خيرًا – مسألة البطاقات التي تتضمن نصًّا ربويًّا وما ذكره الشرط في شراء بريرة، ذلك الشرط شرط باطل والمشتري يستطيع أن يبطله وهو فعلًا أبطله إنما هنا هذا الشرط الباطل في بطاقة الائتمان الربوية لا يملك أحد أن يبطله لأن العقد لازم ولا يستطيع حامل البطاقة أن يمتنع عن الدفع الربوي. إذن العقد في ذاته باطل منذ البداية والشرط ملزم وإن كان باطلًا ولا يملك أحد أن يلغيه. لذلك لا نقول بأن هذا جائز ولكن القاعدة العامة (الضرورات تبيح المحظورات) ولو أنه مضطر للتعامل بمثل هذه البطاقة فنقول له مع التحريم يمكن التعامل بالبطاقة ولكن لا تقع في الربا ويكفي أنك وقعت في عقد ربوي ولكن لم تتعامل بالربا، أما أن نقول بأن هذا جائز لأن الشرط باطل والرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا، أعتقد أن هناك فرقًا بين هذا وذاك.
وأكرر الشكر للأخ الدكتور عبد الستار، والله أعلم. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(7/531)
الدكتور نزيه كمال حماد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أشكر الأخ الفاضل الدكتور عبد الستار على التصوير القيم لحالات بطاقات الائتمان المتعامل بها بصورة عامة في دول العالم المختلفة في البنوك الإسلامية وغيرها.
أما بالنسبة للتكييف الفقهي لبطاقة الائتمان فإني أخالفه مخالفة جوهرية فيه، فقد رأى فضيلته أن بطاقة الائتمان هذه عندما تصدر فهناك توكيل من التاجر أو صاحب الخدمات لمصدر بطاقة الائتمان في أن يحصل المبلغ الذي اشترى به أو التزمه حامل بطاقة الائتمان وهذا الوكيل يبادر بدفع المال من جيبه ثم يعود على المدين بتحصيل المبلغ، وطبق على القضية أو ليطبق على القضية أحكام الوكالة والوكالة بأجر. الواقع لو نظرنا إلى العقد المبرم بين مصدر بطاقة الائتمان والمحلات التجارية أو التي تقدم الخدمات المتعاقدة مع الشركة المصدرة على قبول هذه البطاقة لوجدنا أن هذا العقد صريح في أن الشركة مصدرة بطاقة الائتمان ملتزمة بذاتها بدفع هذا المبلغ الذي اشترى به حامل هذه البطاقة. إذن هناك التزام من مصدر البطاقة نحو المحلات التجارية ونحوها بدفع الدين الذي التزم به المشتري، فإذن الشركة المصدرة لبطاقة الائتمان هي عبارة عن كفيل لهذا الدين (كفيل بالدين) . بالنسبة للعقد المبرم بين حامل بطاقة الائتمان ومصدر بطاقة الائتمان، تلتزم الشركة المصدرة بسداد فوري لكل دين يلتزم به ويقدم هذه البطاقة فتقبل منه للمحلات المتعاقدة مع الشركة المصدرة، هذا الالتزام بالدين الذي يلزم ذمة المشتري من قبل الشركة المصدرة للبطاقة هو عبارة عن كفالة فهي كفيل لحامل هذه البطاقة، من أجل ذلك لا أرى بتاتًا أن تطبق على القضية أحكام عقد الوكالة ووكالة بأجر إنما تطبق عليها أحكام الكفالة، فالشركة المصدرة هي كفيل لكنها لا تأخذ أجرًا على الكفالة من المدين (من المكفول) وإنما تأخذ من طرف ثالث وهو البائع الذي من مصلحته أن يدفع هذه العمولة للشركة مصدرة البطاقة حتى تشجع الزبائن على المبادرة للشراء بها واستعمالها لتيسر حملها وتيسر الشراء بها إذ كثيرًا ما يريد أن يشتري الإنسان ولكنه لا يحمل مالًا فبوجود هذه البطاقة يتشجع على الشراء ويندفع، فهناك وضع نفسي لحامل هذه البطاقة أدركه التجار في الغرب ولذلك هم يعمدون إلى عمل اتفاقيات مع الشركات المصدرة للبطاقات لإعطائهم خصومات فيما إذا أعطوا هذه البطاقة لزبائنهم حتى يشتروا من هذه المحلات. فهناك لون من ألوان الجعالة من المحلات التجارية لهذا الشخص الذي يعطي للشركة المصدرة للبطاقة التي تسوق إليه الزبائن (مقابل سوق الزبائن إليه) .(7/532)
هذا وجه لدور المحلات التجارية القابلة التي تعطي هذه العمولة، ما هذه العمولة؟ يمكن أن تكيف على أنها لون من الجعالة، ويمكن أن تكيف العملية بصورة أخرى نص عليها الحنفية في مدوناتهم، وهي أن الكفيل إذا كفل شخصًا بالمال بمبلغ معين ثم سدده عنه فيجوز له – أي الكفيل – أن يتصالح مع الدائن الملتزم له بالدين من قبل الكفيل بأقل من المبلغ الذي التزم به المكفول والتزم به الكفيل أيضًا وضم ذمته إلى ذمته. فقالوا بجواز صلح الحطيطة بين الكفيل وبين الدائن. فهنا تتصور هذه القضية أن الشركة المصدرة للبطاقة قد تصالحت بعد ثبوت الدين في ذمة المشتري وضم ذمتها إلى ذمة المشتري تتصالح مع الدائن على مبلغ أقل، والحنفية يقولون بهذا في (الفتاوى الهندية) وفي (قاضي خان) سواء كان صلح حطيطة أو عندهم صلح على عين أخرى. فقد يكون هذا وجهًا آخر للتخريج بناء على عقد الكفالة، إما هذا وإما الجعالة.
أما فكرة الوكالة والوكالة بأجر فإنني أستبعدها نظرًا لحقيقة العقد المبرم بين الشركة المصدرة وبين التجار الذين يقبلونها من جهة وبين العقد المبرم من الشركة المصدرة للبطاقة وبين حامل البطاقة.
وشكرًا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ محمد مختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
بطاقة الائتمان هذه التي تفضل فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة بتقديمها والتي كان تصورها واضحًا ومنطقه المنطق المساعد على التوضيح فله مني كامل الشكر والتقدير. وقد تحدث عن الجوانب التي تدعو إلى هذه البطاقة وأنا أريد أن أكمل أولًا ما أراده. فهذه البطاقة في نظري هي تقوم على خمسة أصول وهذه الأصول الخمسة هي في وضعنا أو في وضع العالم الاقتصادي وفي وضع العالم الاجتماعي.(7/533)
أولًا: السفر، فكان السفر وسهولته ويسره والانتقال داعيًا إلى توفير أكثر سهولة ويسر للمسافرين، فكانت هذه البطاقة نوعًا من الأنواع المساعدة على السفر والترحال.
ثانيًا: الوضع الأمني، فالوضع الأمني في العالم اهتز اهتزازًا كبيرًا فكانت لهذه البطاقة ما يساعد على ضمانات أكثر ليكون المسافر والمقيم معًا كلاهما في وضع أمني على أمواله.
ثالثًا: قام الاقتصاد العالمي والنظرة العالمية إلى الاقتصاد على أساس الاستهلاك والتشجيع على الاستهلاك وبمقدار ما يقبل الناس على الاستهلاك بمقدار ما تعمل المصانع أكثر، وبطاقة الائتمان تيسر للإنسان الاستهلاك قبل أن يحصل على المقابل له.
رابعًا: امتلاك السيولة المالية عندما تكون البطاقة بغطاء كامل بالنسبة للعميل العادي شبه مستحيل ولكن له من العزيمة المؤكدة على أن يدفع في نهاية الشهر كل الرصيد المطالب به. فهل أحد من البشر يستطيع أن يضمن لنفسه أن يدفع في نهاية الشهر المال المطالب به؟ بل هو دخل من أول الأمر على احتمالين: احتمال الدفع واحتمال الربا، وكل عقد من هذا النوع فيه احتمال في الحلال هو لا يصح. لو وقعت معاملة على ثمنين بدون تعيين ثمن بالأجل وثمن بالحال فإنه لا يجوز، فما بالك إذا كانت المساواة بين الدفع في نهاية الأجل – أي في نهاية الشهر – والتأخير مع الربا. فهو عقد حرام أصلًا في الدخول فيه.(7/534)
خامسًا: تحدث الدكتور عبد الستار عن الشرط الباطل وعن الشرط الصحيح، القضية ليست قضية شرط باطل وقضية شرط صحيح لا بد أن نخرج بالفقه الإسلامي أولًا لما جاءت به الشريعة وهو التحريم والتحليل. فهل يحل للإنسان أن يقدم على مثل هذه المعاملة أي أنه يمتلك بطاقة ائتمان يكون عند تعامله بها هو قد دخل على أساس أنه ملزم بدفع الربا وأنه سيدفعه إذا تأخر؟ ولا نريد أن نغطي الواقع فما يوجد بنك من البنوك غير الإسلامية جاء لفعل البر والخير، إنما هي بنوك قامت على الربح وقامت على الفائدة فكيف يقال إنه من قبيل القرض الحسن؟ أي قرض حسن؟! هل فتحت هذه البنوك أبوابها لتقرض الناس قرضًا حسنًا؟ لا نغطي الأشياء ولا نسميها بغير اسمها وعلينا أن نسميها باسمها الحقيقي فهي ربا وربا واضح.
فلذلك أعتقد أن البطاقة الثانية باطلة ولايصح ولا يجوز شرعًا التعامل بها ولا يجوز لبنك إسلامي يدعى أنه إسلامي أن يصدرها. النوع الثالث من البطاقة وهي البطاقة التي يصدرها المصدر وهي من الأول على أساس ربوي وهذه واضحة لا شك فيها.
هذا ما أردت من حيث تتبعي شاكرًا لفضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة، وبالنسبة لصديقي وأخي فضيلة الشيخ على السالوس أتوقف معه في أمرين:
أولًا: أنه هل يجوز أن يقع العقد مقدمًا على أن سعر الصرف هو كذا الموجود في السوق مع واحد؟ فلا أرى مانعًا يمنع من أن يكون سعر الصرف هو الموجود في سوق لندن مع واحد أو الموجود في سوق أمريكا مع واحد أو الموجود في سوق روتردام مع واحد أو مع اثنين، فهذا أصل التعامل لا أرى فيه مانعًا شرعيًّا.(7/535)
ثانيًا: ما تفضل به سماحته من أن العمولة النسبية، لا بد من أن نتفق هل هناك تحديد يمنع الزيادة عليه في القيام بخدمات؟ فأنا وأقوم بخدمات أستطيع أن أقول: إن الاتفاق بيني وبين من يعمل معي هو على أساس موحد بمعنى أنني أكتب هذه الكتابة وآخذ بها بثمن مقطوع ويجوز أيضًا أن يكون على نسبة القيمة الموجودة، وكتابة العقود الآن في كافة أنحاء العالم هي على النسبة فكونها على النسبة لا أرى فيه مانعًا شرعيًّا.
هذا ما حصل في نفسي وشكرًا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
في الحقيقة سررت لما قدمه الأخ الدكتور عبد الستار من تصوير بطاقة الائتمان وبراعته في هذا التحليل الذي هو من شأنه في وضوح المعلومات والأحكام الشرعية وضوحًا كاملًا في ذهني، ولكني بعد أن سمعت للسادة الإخوة المتحدثين في تكييف بطاقة الائتمان أؤيد ما ارتآه بعضهم وأخالف ما ارتآه البعض الآخر. فلا شك أن بطاقة الائتمان إذا كانت بغطاء نقدي من حساب العميل فكلنا نتفق على جوازها كما تفضل الشيخ السلامي، وأما إذا كانت من غير غطاء نقدي فتلك هي محل الخلاف، وحينئذ هل نعتبر هذه البطاقة من قبيل الكفالة أو الضمان؟ أم نعتبرها من قبيل القرض الحسن؟ أم نعتبرها من قبيل الوكالة بالأجر، الوكالة بالدفع أو القبض أو ما شاكل ذلك؟(7/536)
الحقيقة تتردد بطاقة الائتمان بين هذه الاحتمالات الثلاثة ولكني لا أوافق على ما ذكره الأخ الفاضل الدكتور نزيه بأن بطاقة الائتمان تعد من قبيل الضمان أو من قبيل الكفالة لأن الفقهاء أجمعوا على أنّ الكفالة هي عقد تبرع وهي لا يجوز أخذ العوض أو العمولة فيها. فهذا محل اتفاق، والناس في عصرنا الحاضر لا يعمل أحد عملًا إلَّا بمقابل، فلا يتصور هذه المثالية الموجودة لدى البنوك الإسلامية أنهم يضمنون للناس ما يدفعونه من أموال دون أن يكون لهم مصلحة في ذلك.
والتكييف الذي ذكره الأخ الدكتور نزيه في أن هذا الوضع يمكن أن يغطي عن طريق أحد عقدين إما الجعالة وإما صلح الحطيطة. هذا الكلام سليم في الأمور العادية التلقائية التي لا يكون فيها تشابك بين عدة عقود، فهذه عدة عقود وعقدان في عقد، وعدة عقود في أمر واحد يصعب على الإنسان أن يتقبل تكييف بطاقة الائتمان من خلال هذه العقود الكثيرة، عقد كفالة يتضمن عقد الجعالة أو صلح حطيطة عدة عقود، قد يكون أيضًا يتضمن ما ذكره الفقهاء من السفاتج، السفتجة أيضًا قالوا بكراهتها التحريمية ومنعها، فلذلك لا أستطيع الاطمئنان لهذا التكييف، هذا في وضع بدائي ووضع تلقائي، الناس يصدرون بعض الوعود والمكافآت في عقود الجعالة، فهذا لا مانع منه لكن لا أن يكون داخلًا تحت ستار عقد آخر وهو عقد الضمان أو عقد الكفالة. كذلك صلح الحطيطة يدخله – أيضًا – تحت ستار عقد الكفالة أيضًا ليس من السهولة قبوله.
أيضًا هذه البطاقة لا يمكنني كما تفضل الأستاذ السلامي أن أتقبل أنها من قبيل القرض الحسن لأنه لا يوجد هذا التصور إلَّا في احتمالات نادرة جدًا لأن المنافع تدفع هذه البنوك إلى أن يكون لهم مصلحة في هذا الأمر ومن المعروف أن كل قرض جرّ نفعًا فهو ربا، فلا بد أن تحقق نفعًا من إصدار هذه البطاقات، فتصور حسن النية أو المثالية في تصرفات هذه البنوك – أيضًا – غير متوفر فلذلك لا أقر كونها أنها من قبيل القرض الحسن.
أيضًا اتفق مع الدكتور السالوس في أن هذه البطاقات لا يصح بحال من الأحوال أن تستخدم في شراء النقود لأن هذه البطاقات من قبيل القبض الحكمي، ولا يمكن قبول القبض الحكمي في قضايا النقود. فإذن أريد أن أحصر تكييف هذه البطاقة في شراء أموال وشراء سلع وبضائع لا يمكنني أن أدخل فيها عنصر النقود لأن هذه مستثناة بعدًا عن الربا، والأموال الربوية لا بد فيها من القبض الفعلي إلَّا أن يكون كما ذكر الشيخ السلامي شيكًا مضمونًا ومسحوبًا على حساب صاحبه فهذا قبض يعني يمكن أن يقبل، ومثل هذه الأمور في البطاقات غير متوفر.(7/537)
إذن بعد رفض كل هذه التكييفات السابقة – قبل أن يتكلم الأخ الدكتور عبد الستار – فإني أتصور أن هذه البطاقة فعلًا إذا أردنا التسامح والتكييف السريع لها فأوافقه في أنها إما من قبيل الحوالة واليوم الحوالات المصرفية كلها تكون مقابل أجر فيمكن أن نعتبرها من هذا القبيل أو أن نعتبرها كما ذكر من قبيل الوكالة بالأجر باستيفاء مبلغ أو بوكالة بالقبض أو وكالة بالدفع وهذا كله سائغ عند الفقهاء، وهذه أيسر الطرق للتوصل إلى تكييف هذه البطاقة من الناحية الشرعية، أما الحملة التي حمل عليها الشيخ السلامي على الأستاذ الشيخ عبد الستار في أن قضية الشرط الباطل، ينبغي أن نكون صريحين منذ البداية الأمر في تصرفاتنا وعقودنا في أن نعلنها إما حلالًا وإما حرامًا، لا شك هذه غيرة دينية طيبة ولكن أيضًا لا نستطيع أن ننكر تأصيل هذا الحكم لدى الفقهاء فالشرط الباطل إذا كان لغوًا ونعتبره كأن لم يكن وكثير من التصرفات في الوقت الحاضر إعطاء مبلغ لشركة لتشغيله مع شرط ضمان رأس المال وإعطاء ما يمكن أن يكون ربحًا حلالًا نتيجة تشغيل رأس هذا المال، نص فقهاء الحنفية على أن مثل هذا الشرط يعد باطلًا ويستخدمه كثير من الناس فكأن لم يكن، ويأخذ واضع هذا المال مع هذه الشركة ربحه، وأما الشرط الذي ذكره أنك تضمن لي رأس المال هذا هو من قبيل الشرط الباطل. فالحملة العنيفة في مثل هذه الأمور مع وجود تأصيل شرعي خصوصًا حديث صحيح يعني ليس من السهل تجاوزه أو الغض من شأنه أو التعصب ضد مبدأ من المبادئ المقررة فقهًا وشرعًا، ونحن بأشد الحاجة إلى أن نكون بقدر الإمكان مع الحلال إذا أمكن وليست البراعة في أن نحرم كل شيء وإنما البراعة في أن نحافظ على جوهر الأحكام الشرعية بقدر الإمكان بمختلف الاجتهادات التي يمكن أن نتوصل إليها من طريق ما ذكره فقهاؤنا ونصت عليه النصوص الشرعية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/538)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم.
إخواني الأساتذة الكرام.
لا شك أن بطاقة الائتمان بوضعها العام المعروف عالميًّا لا يمكن قبولها وتسويغها بالنظر الشرعي في كل أحكامها المعروفة والتي شرحها الإخوان الذين تكلموا في الموضوع. هذا لا أظن أحدًا يخالف فيه ولكن هل يمكن أن تتخذ طريقة لدى المؤسسات المالية الإسلامية أو المصارف الإسلامية أن يتخذوا طريقة لإصدار البطاقة مجتنبين فيها المحاذير الأخرى التي معظمها تتكون من نظام الربا أو لا يمكن هذا؟
الواقع فيما أعتقد أن هذا ممكن وقد درجت عليه بالفعل بعض البنوك الإسلامية، ومن ذلك على سبيل المثال شركة الراجحي المصرفية للاستثمار قررت إصدار فيزا من النوعين الفضية والذهبية وبتوجيه من الهيئة الشرعية التي تشرف على أعمال تلك المؤسسة، ووضعت ضوابط اجتنب فيها كل شبهة فيما يتعلق بأمر الربا ولكن بقيت حالة واحدة هذه تدوركت بطريق آخر وهي أن الفيزا أو بطاقة الائتمان كما هو معلوم لها مركز دولي، يعني هناك مركز دولي عالمي، البطاقات عندما تبرز للتجار هؤلاء يحولون المبلغ الذي يستحقونه بمقتضى رقم البطاقة وما إلى ذلك يحولونه إلى المركز العالمي ولا يرسلونه مباشرة إلى مصدر البطاقة، لا علاقة بين التاجر الذي أبرزت له البطاقة واستعملت عنده وبين مصدر البطاقة لا توجد علاقة مباشرة، وإنما هناك مركز دولي تحول إليه وهو الذي يجري التسوية ويستوفي من جهة ويحول إلى جهة إلى آخره. فهنا المركز الدولي يحتسب فائدة لمصدر البطاقة على المبلغ بشكل تلقائي، ولا يمكن التعديل فيه، يعني لا يستطيع مصدر البطاقة أن يطلب من المركز الدولي إلا يحتسب له فائدة؛ لأن هذا نظام عالمي دولي ويحتسبونه بشكل – كما يقال – أوتوماتيكي. فهذه المشكلة قد تدوركت بأن البنك الإسلامي الذي يريد أن يصدر البطاقة يشترط عليه أن ينشئ صندوقًا خاصًّا لديه لتلك الفوائد التي تحتسب له رغمًا عنه وليس بطلب منه وتأتيه على المبالغ التي استعملت فيها البطاقة، وهذا الصندوق ما يتجمع فيه بوجه إلى جهات الخير الإسلامية شأن سائر الفوائد التي تحتسب لبعض المودعين في البنوك ولا يريدون أن يقعوا في المحرَّم فهي يصرفونها كما هي فتوى المجمع الفقهي في مكة، فإذن من الممكن أن تجتنب قضية الشوائب التي تحيط بالبطاقة بأن تصفي منها ويتعامل بها البنوك الإسلامية وبذلك – كما قال الدكتور الزحيلي – نجتنب أن نضع عراقيل أو سدودًا وحواجز في وجه أمور أصبحت عالمية ويصعب عدم الدخول فيها أو تحرم كثيرًا من المتعاملين الإسلاميين من الدخول فيها وهي ذات فائدة أقصد بالمعنى اللغوي ذات مصلحة وفائدة وتسهيل وتيسير في التعامل، فليس من الضروري أن نسد كل باب لكن من الممكن تنقيته من الشوائب.(7/539)
بالنسبة للتكييف. أولًا: تكلم الأخ الدكتور نزيه بأنه يخالف الدكتور عبد الستار في التكييف وأنه يخالفه في وجود فكرة الوكالة وأنها هي فقط كفالة. أنا أرى أن هذا – يعني - فكرة الكفالة ذكرها الدكتور عبد الستار ولم ينفها ولكن الوكالة – أعتقد - لا يمكن أيضًا نفيها عن بطاقة الائتمان. الواقع أن بطاقة الائتمان تتضمن وكالة وكفالة، فحامل البطاقة الذي يفتح حسابًا في المصرف ويأخذ البطاقة منه، هذا عملية إصدار البطاقة وأخذها من المصرف تتضمن توكيلًا للمصرف مصدر البطاقة بأن يدفع عن مستعملها وحاملها أن يدفع عنه ما يقع عليه من التزامات مالية وأن يحتسب ما دفعه عنه يقتطعه من حسابه، يعني إذن هي فيها توكيل وفيها كفالة وضمان. توكيل من طرف حامل البطاقة وهذا لا شك فيه أبدًا لأنه كيف يستطيع المصرف أن يقتطع من حساب العميل حامل البطاقة مبلغًا من حسابه دون إذن منه؟ فلذلك عملية إصدار البطاقة وأخذها تتضمن توكيلًا للمصرف مصدرها بأن يدفع عنه، والأمر بالدفع معلوم ودفع الوكيل عن المدين بأمره، هذا لا يعتبر تبرعًا كما هو معروف وإنما يجعل حقًّا للوكيل في أن يرجع على الموكل بما دفع عنه من دين، والكفالة أمرها واضح جدًّا، الكفالة من جهة مصدر البطاقة فإنه متكفل بأن يؤدي لمن تبرز له البطاقة ويقبلها سدادًا لدينه يتكفل مصدر البطاقة بها، وهذا لا أظن أنه ليس محل خلاف أنه كفالة إلَّا إذا كان أخونا الدكتور الزحيلي يطعن في أنها كفالة ولا أظن أن هذا يمكن المناقشة فيه فهي كفالة واضحة جدًّا.(7/540)
هناك بعض النواحي ... أخونا الدكتور عبد الستار ذكر أن الفيزا تتضمن بعض شروط فاسدة تتعلق بالمراباة وأن هذا الشرط يمكن أن يعتبر باطلًا وعندئذ تكون الفيزا لا شائبة فيها، فأنا طبيعي لست معه في هذا الرأي وأنا من رأي الدكتور السالوس على أن هذا الشرط لا نستطيع نحن أن نعتبره باطلًا؛ لأن هذا سيقضي به بالقضاء القائم في البلاد ويحصل بمقتضى هذا الشرط ولو كان فاسدًا بالنظر الإسلامي، وبالنظم القانونية معتبر وملزم ويحصل بمقتضاه ما يثبت من دين، ولذلك لا يمكن هذه أن نقيسها على عقد بين اثنين في نطاق وفي ظل سيادة الأحكام الشرعية أن نقول: إن الشرط إذا كان فاسدًا أو باطلًا فهذا لا قيمة له – كما في حادثة بريرة – هذا قياس مع الفارق، ولا شك أن هذا الشرط لما يدخل تحته فهو ملزم بأن ينفذه رغمًا من أنفه شاء أو أبى ولو كان في النظر الشرعي نعتبره باطلًا لو أمكن أن نحكم بالشريعة، ولذلك لا شك أن هذا يشكل محذورًا كبيرًا.
إجمالًا أستطيع أن أقول: إننا بحسب معرفتي أن نظام فيزا لا شك له مزاياه وله فوائده في التسهيل وتيسير المعاملات واجتناب حمل النقود في الأسفار إلى آخره، ولذلك أرى نظير ما قال الأخ الدكتور الزحيلي أننا يجب أن ننظر في الشوائب فنستبعدها وهناك من البنوك من يستطيع أن يتعامل بإصدار البطاقات هذه خالية من تلك الشوائب وما يحصل فيها من شوائب جانبية يمكن – كما ذكرت – أنه يوضع صندوق كما حصل بالفعل لدى بعض البنوك الإسلامية ومنها مؤسسة الراجحي أنه يوضع له صندوق فيما يأتي رغمًا عن إرادته؛ لأنني كما ذكرت المركز الدولي يحتسب له فائدة شاء أو أبى، فهذا لا يقضي أن نمنع طريقة التعامل بإصدار البطاقة بوجه عام وتبقى فقط هذه المزايا فيها لغير المسلمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/541)
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
الواقع أني قرأت البحوث المقدمة في قضية بطاقة الائتمان وما ذكره أخونا الدكتور عبد الستار أبو غدة إني أوافقه فيما كتبه في معظم النتائج التي توصل إليها.
والواقع أن قضية بطاقة الائتمان فيها ثلاث مسائل من الناحية الشرعية ينبغي أن ننظر فيها.
المسألة الأولى: هي تكييف الرسوم التي يدفعها حامل البطاقة إلى الشركة المصدرة، يعني ما هو تكييف هذه الرسوم؟ وقد يقال: إنها فائدة أو ربا من حيث إن هذه المبالغ إنما تدفع مقابل المبالغ التي تدفعها الشركة إلى التجرة، ولكن في نظري أن هذه الرسوم لا ينطبق عليها تعريف الربا ويمكن تخريجها على أساس أنها رسوم العضوية التي تخول حامل البطاقة بعدة تسهيلات، فإن بطاقة الائتمان لا تقدم تسهيل الاقتراض فقط وإنما تخول عدة تسهيلات فهي رسوم العضوية للحصول على هذه التسهيلات، وكذلك لا ترتبط هذه الرسوم بالمبالغ التي تدفعها الشركة نيابة عن صاحب البطاقة فتكون هذه الرسوم معنية سنويًّا وليس هناك أي ارتباط بما دفعته الشركة المصدرة نيابة عن صاحب البطاقة فلا يمكن أن يقال: إنها ربا.(7/542)
المسألة الثانية: هي مسألة غرامات التأخير، ومن الواضح جدًّا أن الشركة المصدرة لا تحمل صاحب البطاقة هذه الغرامات إلَّا في حالة التأخير، وقد تعطي الشركة المصدرة مدة مثل شهر أو شهرين فإن سدد صاحب البطاقة ما يجب عليه في خلال هذه المدة فلا مطالبة عليه إطلاقًا ولا يزاد عليه أي مبلغ وإنما تحمل هذه الغرامة في حالة تأخره عن الأداء في تلك المدة المحدودة. ولا شك أن هذه الغرامة إذا حصلت فعلًا ينطبق عليها تعريف الربا، ولكن الرجل المسلم إذا دخل في مثل هذه المعاملة وحصل على هذه البطاقة ومن نيته وعزمه أنه لا يؤخر في التسديد، وإنما يؤدي في خلال هذه المدة المحددة فلا أرى أن هناك مانعًا شرعيًّا من الدخول في هذه المعاملة. وما ذكره فضيلة شيخنا العلامة محمد المختار السلامي – حفظة الله تعالى – أنه ما دام هذا الشرط في صلب العقد أنه متى تأخر عن السداد فإنه يغرم هذا المبلغ فهذا شرط ربوي في صلب العقد، ومن أجل هذا الشرط لا يحل لمسلم أن يدخل في هذه المعاملة، فإني أختلف معه في هذا فإننا نرى في كثير من المعاملات أن مثل هذه الغرامة يحملها رجل مسلم والمعاملة في أصلها غير ربوية فقد رأيت كثير من البلاد أن شركة الكهرباء – مثلًا – تفرض على المستهلك الكهرباء أنه إذا لم يسدد فواتير الكهرباء في مدة محددة فإنه يحمل غرامة فهل نستطيع أن نقول: أن شراء هذه الكهرباء بسبب هذا شرط حرام؟ لا نستطيع أن نقول أن الدخول في هذه العملية حرام من أجل أن شركة الكهرباء تفرض غرامة في صورة عدم التسديد. فكذلك هنا إذا فرضت الشركة المصدرة على حامل البطاقة أن لم يسدد في خلال تلك المدة المحددة فإنه يفرض عليه غرامة فبمجرد هذا الشرط لا يقال: إنها عملية محرمة لا يجوز الدخول فيها لمسلم، فإذا كان من نيتي وعزمي الصادق أني سوف أؤدي هذا المبلغ في خلال المدة فإنه يحل لي شرعًا أن أدخل هذه العملية فإن العقد في أصله ليس عقدًا ربويًّا وإنما جاءت الغرامة لعارض التأخير في السداد من غير يكون لحامل البطاقة أي خيار. فأظن أن هذا ليس مانعًا شرعيًّا من الدخول في هذه المعاملة ومن الحصول على هذه البطاقة.(7/543)
المسألة الثالثة: هي مسألة خصم الشركة المصدرة نسبة معينة من الثمن الواجب على صاحب البطاقة وإن هذا الخصم يتحمله التاجر الذي باع السلعة إلى صاحب البطاقة وإن هذا الخصم هو الذي اختلف فيه فقهاء عصرنا في تكييفه، فمن قائل يقول: إنه مماثل لخصم الكمبيالة، فإذا قلنا إنه مماثل لخصم الكمبيالة، وخصم الكمبيالة عقد ربوي لا يجوز فنضطر إلى القول بعدم الجواز. وقد خرَّجه بعض الأخوة هنا أنه أجرة على الكفالة ولعلي سمعت الدكتور نزيه كمال حماد أنه يميل إلى هذه الناحية – أو الدكتور وهبة – أنه أجرة على الكفالة، وبما أن الأجرة على الكفالة لا تجوز شرعًا فلعله يريد أن هذا الخصم غير جائز. ولكن الذي أريد أن ألفت الأنظار إليه هو أن الأجرة على الكفالة لا تجوز هي الأجرة المدفوعة إلى المكفول عنه وهنا الأجرة لا تدفع للمكفول عنه إنما يطالب به المكفول له لا المكفول عنه، والأجرة المحرمة شرعًا هي التي يطالب بها المكفول عنه. فلذلك لا تنطبق عليه ما قيل في الأجرة على الكفالة، والذي أميل إليه أنه يمكن له تكييف آخر وهو أنه أجرة السمسرة وإني أميل إلى هذا التكييف لسببين:
الأول: أن الشركة المصدرة تقوم للتجار بخدمة وهي أنها تجلب إليهم الزبائن من خلال إصدار هذه البطاقة، فمن خلال هذه الخدمة تطالب بأجرة وهي الخصم الذي تحصل عليه من قبل التجار.
الثاني: أن سعر هذه الخصم يختلف غالبًا عن سعر الفائدة السائد في السوق، يعني سعر الفائدة الذي هو سعر هذا الخصم ليس مطابقًا لسعر الفائدة السائد في السوق. فيمكن تكييف هذا الخصم على أساس أنه أجرة السمسرة تطالب بها الشركة المصدرة التجار. ومن هذه الناحية أرى أنه إذا حصل رجل على هذه البطاقة ومن نيته وعزمه أنه لا يتجاوز في الأداء عن المدة المحددة من قبل الشركة المصدرة فلا مانع منه شرعًا.
والله – سبحانه وتعالى – أعلم. وشكرًا.(7/544)
الدكتور سامي حسن حمود:
بسم الله الرحم الرحيم.
كما اعتدت في هذه المسائل أن أضع بين يدي إخواني الصورة العملية التطبيقية في المسألة المبحوثة ليكونوا على بصيرة من الرأي الذي ينتهون إليه بالتوفيق – إن شاء الله-.
بطاقة الائتمان التي تتحدث عنها من حيث المصدر هناك نوعان:
- بطاقة يصدرها بنك ويكون للمستفيد منها حساب لدى البنك تخصم القيمة من حسابه وهي التي تصدرها معظم البنوك ذات العلاقة فيما يسمى بـ "الفيزا".
- وهناك بطاقة أخرى لا يكون المصدر بنكًا وليس للمستفيد من هذه البطاقة حساب لدى البنك وإنما هي مؤسسة وإن كان لها بنك وإنما الإدارة إدارة خدمة مستقلة لحملة البطاقات، ومنها وأبرزها في ذلك " الأمريكان إكسبرس " التي ربما بعضكم يحمل بطاقتها.
هذا من حيث المصدر.
أما من حيث العلاقة، هناك علاقتان متمايزتان:(7/545)
- علاقة حامل البطاقة بمصدر البطاقة. أنه يقوم بالدفع عنه فالعلاقة عنا علاقة وكالة يدفع عنه ليعود عليه سواء خصمًا من حسابه أو مطالبة له بالدفع في خلال مدة معينة والمدة الغالبة هي واحد وعشرون يومًا من تاريخ وصول المطالبة فإذا لم يدفع فيكون العقد المتفق عليه تحقق الفائدة الربوية. هذا العقد شامل في كل العقود ولكني أحببت لوجه المناقشة في عام 1980م عندما حصلت على بطاقتي لأول مرة أن أناقش كمبدأ أنني لا ألتزم بالفائدة فكان موقفهم موقف التجاوب بشرك – أضفت شرطًا إلى العقد – أنني أتعهد بأن لا يكون حسابي مكشوفًا أبدًا، وقد حرصت على الوفاء بهذا الشرط ووافقوا على شطب التزامي بالفائدة ومنذ ذلك الوقت أبقي بضع عشرات من الدولارات زيادة في الحساب والحال مستور حتى الآن الإثنى عشر عامًا فقد وافقوا عليه، لكن هنا نعرج على مسألة القول بإهدار الشرط. لو كان العقد تنفيذه أمام محاكم إسلامية شرعية فلا تأخذ بهذا الشرط وهو شرط مهدر فعلًا، ولكن العقود الموجودة إما أن يكون مرجعه تطبيق القانون الإنجليزي أو تطبيق القانون الأمريكي وبذلك يكون هذا الشرط ملزمًا، والقول بإهداره من جانب من وقع على هذا العقد هو نوع من اللغو لأنه لا يملك الإهدار وإنما هو ملزم إنما من شاء أن يجرب مع الشركات الأجنبية المصدرة أن يصر على موقفه بأنه لا يلتزم فسيجد مرونة لديها بأن تقبل عدم التزامه بدفع الفائدة مقابل شرط لا يضر المسلم أنه – أيضًا – لا يقود حسابه إلى أن يكون مدينًا.
- من حيث العلاقة بين مصدر البطاقة والذي يقبلها – الذي هو التاجر – هي العلاقة علاقة ضمان أولًا، بمعنى أن (الأمريكان اكسبرس) أو (الفيزا) تضمن لهذا التاجر أن تدفع له قيمة ما يبيعه تحت هذه البطاقة، وظاهريا أن هذا الضمان مطلق والحقيقة أنه ليس مطلقًا، هناك ألوان، هذه البطاقة الخضراء لغاية مبلغ خمسمائة جنيه أو ألف جنيه. وهناك البطاقة الذهبية لها حدود وهناك سؤال بالتليفون يتم على مدار الأربع وعشرين ساعة هل هذه سارية؟ هل هذه مقبولة؟ هل حاملها يستحق الثقة أم لا؟ ضمن الحدود المسموح بها تتعهد الشركة المصدرة بضمان ما تم شراؤه من خلال بطاقتها. مقابل هذا الضمان تخصم النسبة 7 %، هي قيل إنها حطيطة أو مصالحة، صحيح ولكن ليست لصالح المستفيد إنها لصالح الجهة المصدرة وهنا بيت القصيد إن كانت هذه المصالحة أو هذا الحط أو التنزيل أو الخصم مقبولًا من الناحية الشرعية بأن يستفيد الضامن من هذا فتتساوى في ذلك البطاقات سواء أصدرتها جهات أجنبية أو بنوك إسلامية، وإذا كان هذا الشرط غير مقبول شرعًا فتصبح بطاقات البنوك الإسلامية وبطاقات البنوك الأجنبية في الحرمة سواء.(7/546)
بالنسبة للرسم الذي يدفعه المستفيد من البطاقة هو رسم – كما تفضل الشيخ تقي – رسم مقطوع ليس له علاقة في قيمة الخدمة سواء استعملت هذه البطاقة بمائة ألف جنيه أو بعشرة جنيهات، الرسم السنوي هو مائة وعشرون دولارًا يؤخذ مقدمًا في كل عام وهو مقابل الخدمة فليس له علاقة في المبلغ زاد أو نقص، قل أو كثر.
التصور أن هناك دينًا في العملية. الحقيقة ليس هناك دين؛ لأن هناك اتفاقًا مزدوجًا، يعني هناك نوع من الموازنة بالنسبة لهذه الشركات وهي شركات كبيرة وتعرف ماذا تصنع. هي تشترط للتاجر أنها ستدفع له في خلال ثلاثين يومًا من بيعه وتصفى العملية في نهاية الشهر القادم، فإذا اشتريت أنا في شهر مايو – الآن – ففي نهاية شهر حزيران القادم تصفى العملية فتعطى نفسها مهلة كسور الشهر وثلاثين يومًا إضافيًّا، وعندما تتلقى المطالبة فإنها تعطي المستفيد من البطاقة مهلة واحد وعشرين يومًا فقط للدفع، يعني تعطي لنفسها ثلاثين يوما وتعطي للمستفيد واحدًا وعشرين يومًا، فمن الناحية العملية فتحصل النقود قبل أن تدفع النقود، وإذا حصل العكس فإنها تتحمل الفرق لأن الحجم الذي تتعامل به كبير.
من حيث قول الأخ الفاضل الشيخ تقي أن هذه النسبة 7 % بعيدة عن الفائدة أم لا. نحن إذا حسبناها بالمفهوم الحسابي هو الدفع على ماذا؟ هو يتعهد بأن يدفع له في خلال الشهر يعني معجلًا ثلاثين يومًا مقابل أن ينتظر الواحد والعشرين يومًا التي يأخذها من المستفيد (مستعمل البطاقة) فإذا قلنا: خذ الأقصى هي ثلاثون يومًا، الثلاثون يومًا يأخذ عليه 7 % في الغالب في البطاقات الائتمانية، معنى ذلك أن معدل الفائدة – لو كانت فائدة – هي 84 % في السنة فهي أعلى من أعلى نسبة ربوية في العالم حتى في تركيا الفائدة فيها 60 % لذلك ليس منظورها منظور الفائدة أو مقارنتها بالفائدة وإنما هي رسم خدمة مبنية على أساس الخصم التجاري الذي قد أفاصل به شخصيًّا وأحصل عليه من البائع لكن تلاحظون إذا قلت للبائع سأشتري منك هذا الجهاز، قال: أعطيك خصمًا تجاريًّا 10 % أبرزت له بطاقة الأمريكان إكسبرس يمتنع عن الخصم لأنه سيخسر في القبض من الأمريكان إكسبرس نسبة 7 % فيقول: إذا كان الدفع نقدًا أخصم لك خصمًا تجاريًّا وإذا كان الدفع ببطاقة الائتمان فليس هناك عندي استعداد للخصم.
هذه هي الصورة وشكرًا لكم.(7/547)
الشيخ حمزة:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أحمد الله وأثنى عليه وأصلي وأسلم على نبيه.
أشكر لفضيلة الدكتور عبد الستار هذا البيان الواضح عن مفهوم بطاقة الائتمان، وأشكر له أيضًا محاولة تخريج وتكييف وضع هذه البطاقة. كما أشكر أيضًا لكل الإخوة الذين أسهموا بمداخلاتهم وإيضاحاتهم وتعليقاتهم. ولكني أود في بداية تعقيبي هذا أن أنبه إلى أن أية معاملة جديدة لا بد أن ننظر فيها إلى ما هو مقصود منها عند أصحابها، وألفت النظر هنا إلى ما تفضل به فضيلة الشيخ السلامي من الأصول الخمسة التي بنيت عليها هذه البطاقة، وفي هذا نجد أن أكثر البنوك التي تصدر هذه البطاقات تنظر إلى موضوع الفوائد التي تحصل عليها عند تأخر السداد، فلا بد من أن ننظر إلى هذا وبخاصة عندما نقول بجواز بعض أنواع البطاقات التي تشترط على المستفيد الدفع بالفائدة عندما يتأخر في السداد لأن هذا الأمر ليس تابعًا وإنما هو مقصود أصلي في كثير من الأحيان لدى بعض البنوك.
الأمر الآخر هو محاولة تخريج بطاقة الائتمان على الوكالة بأجر. الحقيقة أنا أؤيد ما ذكره الأخ الدكتور نزيه حماد من منع تخريجها على الوكالة بأجر؛ لأننا نجد أن الشركة المصدرة تتعهد هنا بالالتزام بالدفع ولو قلنا: إن هذه وكالة، للزم من ذلك أن تتأخر الشركة البائعة في تسلم هذا المبلغ حتى يقوم الوكيل وهو المصدر بتسلم هذا المبلغ من المشتري أو من حسابه في البنك ثم بعد ذلك يقوم بدفعه للشركة ولكننا نجد عكس ذلك نجد أن الشركة تأخذ من الشركة المصدرة أو البائع يأخذ من الشركة المصدرة بمجرد دفع هذه البيانات والمستندات.(7/548)
إضافة إلى ما ذكره الدكتور نزيه من أن عقد إصدار هذه البطاقة يتضمن تعهد المصدر بالدفع، والوكيل لا يكون كذلك لأنَّا إذا ضممنا الأجر هذا إلى ما يدفعه هو فكأنه أقرض المستفيد وأخذ على هذا القرض فائدة، يقرضه مائة ثمن السلعة ثم بعد ذلك يأخذ مائة وعشرة، سواء سميناها أجرًا أم سميناها فائدة فالمهم أن هذا القرض يترتب عليه فائدة للمقرض وهذا أمر ممنوع شرعًا فلذلك لا أرى وجهًا لتخريجها على الوكالة بأجر، يمكن أن نخرجها على مسألة الحوالة وهذا ربما كان أقرب من تخريجها على الكفالة أو على الوكالة بأجر لأن في كل واحدة من هذه أمورًا تمنع من صحة التكييف هذا ...
والحقيقة أنني أرجو ألا نتعجل في اتخاذ قرار في هذا الموضوع قبل زيادة البحث والتمحيص فيه ذلك أننا نعتبر أن هذا قبضًا حكميًّا، كما أشار إليه الدكتور، ما يحصل بالبطاقة هو قبض حكمي. ونحن قد اعتبرنا القبض الحكمي في مسائل أخرى منها مسألة التحويلات وشراء الشيكات ونحو ذلك، فما المانع من أن نعتبر الدفع بالبطاقة في الحصول على أموال نقدية دفعًا حكميًّا؟ والدفع الحكمي لماذا لا نعتبره أنه في هذه الحال دفعًا حقيقيًّا وإلَّا لا نسد باب التعامل في أوجه كثيرة؟
هذه إضافات في الحقيقة أردت أن أوضح بها بعض ما يتعلق بتكييف بطاقات الائتمان على الوكالة بأجر وأرى أنه يمكن أن نعتبر ذلك من باب الحوالة في جميع الشؤون وسواء في الحصول على مبالغ نقدية أو في دفع وتسديد ما ترتب من أثمان السلع ونحوها، والتعامل الاقتصادي الآن في العالم يقتضي أن نعيد النظر في مفهوم القبض وإلَّا كما قلت فإننا سنواجه مشكلات كبيرة.
وأختتم كلمتي هذه وأصلي وأسلم على نبينا محمد.(7/549)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه.
أقدِّر كل ما تقدم به إخواني وكان صديقي فضيلة الدكتور وهبة الزحيلي كان تعليقه على كلامي أشد ما وقع على نفسي في هذا الاجتماع ... فما قصدت في يوم من الأيام وفي لحظة من اللحظات أن أسيء إلى علاقة أعتز بها بيني وبين الدكتور عبد الستار أبو غدة، وما شددت عليه أصلًا وما كنت له في جميع الظروف والأوقات إلَّا مقدرًا وهو من خيرة ما أنتجته المدرسة الفقهية الإسلامية المرتبطة بالواقع، ولكن عندما نتناقش فليس ذلك شدة، وعندنا الشرط الباطل نوعان: شرط باطل لمنافاته العقد وشرط باطل لأنه حرام. فأنا أردت أن أضيف إلى أن هذا الشرط هو في نظري الشرط المحتمل، يعني يترتب عليه ربا ولو التزم الشخص – قصد والتزم – قصد وعزم على ذلك فإن هذا لا يخرجه عن دائرة الحرمة. فالمشكل عندي هو علاقة المؤمن بالله، أيجوز له أن يقدم على شرط كهذا أو لا يجوز؟ فقد بنيت وأنا مطمئن اطمئنانًا كاملًا إلى أن الشرط الذي هو ملزم به ولكنه عازم على عدم تنفيذه هو شرط حلال، أبدًا لا ينقلب الحكم. حكم الإقدام على شرط حرام هو حرام، وما قصدت الشدة على أخي وصديقي الدكتور عبد الستار أبو غدة.
مع فضيلة الدكتور القاضي تقي الدين العثماني فصل لنا من أن الأجر إما أن يأخذه المكفول له وإما إن يأخذه المكفول عنه وأنه في أحدهما حرام وفي أحدهما حلال. طبيعة: عقد الكفالة هو ليس من طبيعة عقود المعاوضات ومن عقود التبرع وهو من الأشياء التي تحرم وتمنع أن تكون لغير الله كالجاه والكفالة. فسواء أكان هذا أو ذاك فجعل إخراج العقد من طبيعته إلى طبيعة أخرى لا بد لها من زيادة بحث. وشكرًا.(7/550)
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الواقع لا أريد أن أطيل وأدخل في التفاصيل فقد كفى الإخوة الموضوع بحثًا إنما أريد أن أشير إلى قضية في الواقع بالنسبة لتكييف العقد على أساس أنه كفالة. الواقع كما صورت لنا المسألة لا علاقة بين التاجر وحامل البطاقة بالنسبة للمطالبة ونحن نعلم أن الكفالة ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة. فلذلك ما تفضل به الأخ الدكتور حمزة في نهاية هذا الحوار من أنها أقرب إلى التكييف على أساس أنها حوالة هو الأنسب، وشكرًا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
بهذا تنتهي المداولات حول بطاقة الائتمان ويحال إلى لجنة الأسواق المالية ونرجو أن تأخذ اللجنة باعتبارها ما صدر في الدورة الثالثة تستعرضه حول خطاب الضمان فهناك تنظير جيد لقضية بطاقات الائتمان. ونستأنف الجلسة بعد الصلاة – إن شاء الله تعالى – وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله.(7/551)
رَابعًا: الأسهم
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع هذه الجلسة هو " الأسهم " والعارض هو الشيخ محيي الدين القره داغي والمقرر الأستاذ ناجي عجم. الأستاذ ناجي موجود؟ تفضل يا شيخ محيي الدين.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
اللَّهُمَّ علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه واجعل يومنا هذا خيرًا من أمسنا، وغدنا خيرًا من يومنا، واقبلنا في عبادك المخلصين يا رب العالمين.
سعادة الرئيس،
أيها الأعضاء الكرام،
أحييكم بتحية الإسلام فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
لا شك أن موضوع الأسهم من أهم الموضوعات التي ينبغي الاعتناء بها ولذلك أولى مجمع الفقه الموقر عناية كبيرة من خلال عقد ندوتين إحداهما في المغرب والثانية في البحرين وهذه المرة أيضًا يبدو أن المجمع الموقر – جزى الله القائمين عليه – قد أولوا عناية كبيرة بهذا الموضوع وبالأسواق المالية ومنها قضية الأسهم، ولذلك أعادوا دراسة هذا الموضوع من الجوانب الاقتصادية والفقهية.(7/552)
أهم شيء في قضية الأسهم نشاط الشركات التي تتبعها هذه الأسهم، فبلا شك أن هذه الشركات التي تتعامل بالحرام قد فرغ الفقهاء في حكم هذا النوع حيث حكموا على أن هذا النوع محرم ما دام نشاط الشركة ينص نظامها الأساسي على التحريم ويتعامل بالمحرمات كالخمور والخنازير – أعزكم الله – وغير ذلك من المحرمات فهذه بالتأكيد محرمة لا خلاف فيها ولا شكَّ فيها. وهناك نوع ثان – أيضًا – لا خلاف بين العلماء في – إن شاء الله – حلالها إلَّا بعض ملاحظات أو بعض أشخاص أثاروا حول هذه المسألة عدة ملاحظات، وهي أسهم شركات تقوم على شرع الله – سبحانه وتعالى – لا تتعامل هذه الشركات بالمحرمات وفي نفس الوقت لا ينص نظامها الأساسي على ذلك ولا تتعامل فعلًا بالمحرمات كالبنوك الإسلامية والشركات الإسلامية التي تحافظ على شرع الله – سبحانه وتعالى – فهذا النوع طبعًا – أيضًا – من المفروض أن نفرغ من وصول الحكم إليها وهو أن نقول: بأن التعامل بهذه الأسهم جائز ولكن مع وضع بعض الضوابط خاصة إذا كانت الأسهم قبل التداول أو ما أشبه ذلك، وهناك طبعًا بعض الملاحظات التي أثيرت حول هذه المسألة، من هذه الملاحظات أن بعض الفقهاء أثار وقال: إن بيع الأسهم فيها نوع من الجهالة وبالتأكيد أن المشتري لا يعلم علمًا تفصيليًّا بحقيقة السهم وبالتالي هذه الجهالة تمنع البيع. بالتأكيد هذه ملحوظة غير دقيقة أو جانبها الصواب؛ لأن الجهالة إنما تكون مانعة إذا أفضت إلى النزاع، ومثل هذه الجهالة فيما لو كانت جهالة لا تؤدي إلى النزاع. وكذلك لاحظوا ملحوظ ثانية وهي أن بيع السهم يعني بيع جزء من الأصول وجزء من النقود وحينئذ لا بد من مراعاة قواعد القبض، وهنا أيضًا الجواب عن ذلك أن العبرة بالأصل وأن الأصل في الشركات هي السلع والعروض بينما النقود تأتي تبعًا ولذلك فعلًا الأسهم قبل بدء الشركة بالعمليات حينئذ لا بد من أن تطبق عليها قواعد الصرف من أن تكون يدًا بيد على ضوء الضوابط التي لا تخفى على حضراتكم.(7/553)
ملحوظة أخرى، أن الجزء من السهم يمثل دينًا للشركة ولا يجوز أيضًا بيع الدين. وأيضًا هذه المسألة ربما استدلوا بالحديث الذي ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ)) وطبعًا هذا الحديث أولًا: ضعيف لا يحتج به. وثانيًا: تفسيره أو تفسيراته المتعددة لا يدخل موضوعنا في كثير من المسائل.
حقيقة إذن لا نقف عند هذا النوع – في اعتقادي – كثيرًا وإنما ننتقل إلى الموضوع الأساسي وهو أسهم للشركات قد تتعامل بالمحرمات قد ينص نظامها الأساسي على أن تتعامل بالإيداع لبعض أموالها في البنوك الربوية وعلى أن تقبل كذلك نوعًا من الربا، أو قد لا ينص على ذلك وهنا أيضًا يتفرع من هذه المسألة موضوعان: أسهم شركات في عالمنا الإسلامي وأسهم شركات في عالم غير إسلامي أو في دولة أجنبية، هنا حقيقة هذه المسألة هي المسألة الأساسية التي لا بد أن نوجه لها عناية أكبر ونصل من خلالها إلى قرارات تحقق – إن شاء الله – الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والقواعد العامة في الفقه الإسلامي وفي نفس الوقت تحقق المصلحة المطلوبة لعالمنا الإسلامي.
هنا في هذه المسألة رأيان: يقول بأن أسهم الشركات التي قد تتعامل بالحرام أو قد ينص نظامها الأساسي على أنه في بعض الأحيان يقرض أو يقترض بالربا، هناك رأيان في هذه المسألة: رأي يمنع هذه الشركات منعًا باتًّا ويمنع كذلك المشاركة والمساهمة في مثل هذه الشركات أبدًا وشراء وتداول هذه الأسهم بصورة قطعية – هؤلاء هكذا يرون – وجماعة آخرون من علمائنا الكرام – جزاهم الله خيرًا – ومن أصحاب البحوث أيضًا والتي قرأناها حقيقة قبل أن نصل إلى هنا نجد أن بعضهم أو جماعة منهم يجيزون التعامل وتداول هذه الأسهم ولكن بضوابط شرعية، طبعًا هذا ما نحن الآن بصدده ونحاول أن نلقي على هذا الموضوع بصيصًا من الضوء وبعض المناقشات والأدلة التي وردت في هذه المسألة.(7/554)
وطبعًا هنا قبل أن نبدأ بهذا الموضوع عرضنا مجموعة من المبادئ العامة حتى تكون هذه المبادئ تسهل لنا الحكم على هذا الموضوع بصورة – إن شاء الله – طيبة، من هذه المبادئ أنه بالتأكيد نحن نتطلع إلى أن نحقق ونحصل الشركات التي فعلًا تتعامل بالحرام وأن نحقق لأنفسنا الحلال الطيب وليس الحلال فقط وإنما الحلال الطيب الذي لا شبهة فيه، ولكن هذه المسألة إذا لم تتحقق في الوقت الحاضر فلا بد أن نتطلع إليه في أي وقت باعتبار أن الله – سبحانه وتعالى – أمرنا بتحقيق هذا الهدف.
ثانيًا: إن الشريعة الغراء – أيضًا – في جانب آخر مبناها على دفع الحرج ودفع المشقة وتحقيق اليسر وتحقيق مصالح الأمة وأن القضايا الجزئية والقضايا الفرعية – حقيقة – لا ينبغي أن ننظر إليها من زاوية الفروع أو من زاوية واحدة وإنما لا بد أن ننظر إليها من زوايا مقاصد الشريعة ومصالح الأمة وما يترتب على ذلك، كما فصل في ذلك الإمام الشاطبي وجعل الاجتهاد لا بد أن يكون من منطلق مقاصد الشريعة، فطبعًا من ضمن مقاصد الشريعة مصلحة الأمة والمال هو طبعًا عنصر أساسي في حياة الأمة، والإسلام حقيقة والله ما رأيت وصفًا أدق من وصف القرآن الكريم للمال حينما وصف المال بالقيام: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] .(7/555)
أي لا يقوم المجتمع إلَّا به ولا ينهض ولا يتحرك إلَّا به كما نراه اليوم. إذن من هنا الحفاظ على هذا المال واستثماره مطلب أساسي من مطالب شريعتنا الغراء. كذلك العناية بالعرف كما لا يخفى على حضراتكم. أيضًا ملاحظة أخرى أن المسلمين اليوم لا يعيشون عصرًا يطبق فيه المنهج الإسلامي، والإسلام يراعي هذه الجوانب ولذلك نرى أن الشريعة الإسلامية تلاحظ قضية الحدود في دار الحرب، ما هي إلَّا رعاية للمكان. فإذن نحن اليوم نعيش عصرًا لا يطبق فيه الإسلام بحذافيره وإنما المناهج غير الإسلامية هي السائدة، ومن هنا علينا أن نعطي هذا الجانب أهميته. إذا كان الأمر كذلك فما هي أدلة المبيحين؟ وما هي أدلة المانعين؟ طبعًا باختصار شديد، هؤلاء الذين منعوا التعامل بمثل هذه الأسهم نظروا إلى أن الله – سبحانه وتعالى – بين الحلال الطيب والحرام، وكما قال رسول صلى الله عليه وسلم ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير – فيه روايتان، المشتبهات والمتشابهات – من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) والحديث معروف وحديث ثابت وصحيح، ومن هنا جعلوا هذه القضية من باب الشبهات بينما لما نرجع إلى كتب الحديث نرى أن الشبهات لها عدة تفسيرات يمكن أن يدخل فيها هذا الموضوع ويمكن أن يحتمل، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال – كما يقول علماؤنا – بطل به الاستدلال، وينظرون كذلك إلى أن العبرة بالنتيجة، والنتيجة ما دام فيها حرام فكيف نحن نبيح جزءًا من الحرام؟ وأن الحرام في هذه المسألة أو في قضية الأسهم لابد أن يتجنبها المسلمون وبالتالي لا نوسع عليه دائرة التعالمل بمثل هذه الأسهم وإنما نبتعد عنها ابتعادًا كبيرًا. لا شك أن هذا رأي من ناحية الأحوط وهو أحوط الآراء ولكن هل هذا – حقيقة – يحل لنا هذه المشكلة العويصة التي نحن نعاني منها؟ هل أن المسلمين اليوم فعلًا ابتعدوا عن هذه الشركات التي قد تتعامل بالحرام؟ أو أننا يمكن أن نحاول أن ندفع بهؤلاء المسلمين ليتخذوا قرارًا بتغيير هذه الشركات نحو الشركات التي تقوم على شرع الله كما قام بعض الخيرين حقيقة وفي البحث موجود أن أحد الإخوة الطيبين صاحب المال الشيخ صالح كامل – حفظه الله – ذكر أنه استطاع من خلال تأثيره في بعض الشركات أن يحول أكثر من خمسين شركة غير إسلامية إلى شركات إسلامية، وطبعًا العبرة بالنتيجة والغايات لها أثرها في الوسائل كما يقول ابن القيم رحمه الله. وهنا حقيقة تطرقت إلى هذه المسألة وذكرت آراء الفقهاء بشيء من التفصيل وذكرنا بأن المبيحين يعتمدون على أن الأسهم في واقعها ليست مخالفة للشريعة، وما شابها من بعض الشوائب والشبهات والمحرمات قليل بالنسبة للحلال فإذن العبرة بالأكثرية وهنا أتينا بنصوص للحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وكل هؤلاء أجازوا التعامل مع من غالب ماله حلال وقد يشوب ماله بعض الحرام. وهنا ذكر شيخ الإسلام عز بن عبد السلام وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمهما الله رحمة واسعة – وفصلوا في ذلك وفرقوا بين ما هو حرام لذاته وما هو حرام لكسبه، وكذلك فرقوا بين ما هو محرم عينًا كحيوان مسروق وما هو محرم ولكنه دين كالفلوس وأمور المثليات ونحو ذلك كل ذلك بحثها علماؤنا السابقون وجزاهم الله خيرًا.(7/556)
إضافة إلى رأي آخر بأن قضية التوكيل كأنك حينما ما دام النظام الأساسي لا ينص على الحرام خاصة فحينما أنت أودعت فلوسك واشتريت الأسهم، فإن الوكيل هو الذي لم يقم بهذا الواجب من هنا يكون الإثم على المباشر ولا يكون الإثم على من أودع هذه الأموال في هذه الشركات التي لا ينص نظامها الأساسي خاصة على أن تتعامل بالحرام ولكنها قد تتعامل بالحرام. هذه النصوص كلها تقريبًا تشير إلى ذلك يعني ربما قد يقال إن هذه النصوص وهذا وارد في الحقيقة في المناقشات السابقة، قالوا إن هذه النصوص واردة في عملية التعامل وليست واردة في عملية الأسهم ولكن أيضًا في الحقيقة الأسهم هي جزء من التعامل حينما نبيع ونتداول ونشتري فإن المسألة أيضًا لا تدخل من هذا الباب وإضافة إلى أنه يمكن إخراج هذا الجزء المحرم من خلال معرفة أو الاطلاع على نظام الشركة أو ميزانية الشركة، ومن هنا نستطيع من خلال ميزانية الشركة أن نعرف ما هو الحلال وما هو الحرام ونخرج ما هو الحرام أو الجزء الحرام عن هذه الشركة وبالتالي تكون المسألة واضحة أمامنا.
وطبعًا هناك أيضًا استدللنا أو استدل المبيحون بأنه قاعدة " يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا " ومن هنا فما أوتي من حرام ليس هو الأصل وليس هو الأساس وإنما جاء هذا الجزء المحرم تبعًا. كذلك قاعدة " للأكثر حكم الكل " وهذه القاعدة من القواعد المعتبرة التي اعتبرها الكثيرون. واستطعنا كذلك أن نناقش الرأي الأول المانع من تداول هذا النوع من الأسهم أن وجود نسبة ضئيلة من الحرام في المال الحلال لا يجعله حرامًا وإنما يوجب نبذ المحرم فقط كما سبق تفصيله.(7/557)
بالنسبة للرأي الراجح الذي نرى رجحانه:
أولًا: أن مجلس الإدارة والمدير المسؤول لا يجوز لهم قطعًا مزاولة أي نشاط محرم.
ثانيًا: أما مشاركة المسلمين في هذه الشركات السابقة وشراء أسهمها والتصرف فيها فجائزة ما دام غالب أموالها وتصرفاتها حلالًا وإن كان الأحوط الابتعاد عنها.
ولكن هناك بعض الضوابط لا بد أن يكون الشخص الذي يشتري مثل هذه الأسهم أن يقصد بشراء أسهم هذه الشركات تغييرها نحو الحلال المحض من خلال صوته في الجمعية العمومية وأن يبذل جهده وماله لتوفير المال الحلال وأن صاحب هذه الأسهم عليه أن يراعى نسبة الفائدة التي أخذتها الشركة ثم يتخلص منها للجهات الخيرية العامة. وكذلك لا يجوز للمسلم أن يؤسس شركة تنص في نظامها الأساسي على أنها تتعامل بالربا إقراضًا واقتراضًا، إذن هذه أيضًا بالنسبة للشركات التي يمتلكها غير المسلمين، أيضًا نفس الخلاف موجود وإن كان بعض من أجازوا شراء أسهم قد تتعامل هذه الشركة أو شركاتها بالمحرم هنا لم يبيحوا ذلك لغير الشركات الإسلامية، أما الشركات خارج البلاد الإسلامية فلم يجيزوا ذلك وأنا حقيقة رأيت أن القضية ما دامت ليست قضية المسلمين وقضية غير المسلمين وإنما قضية هل يجوز لنا أن نتصرف وأن نتداول أسهم هذه الشركات أم لا؟ فإذا أبيح لنا بهذه الضوابط التي ذكرناها لا أعتقد أن هناك فروقًا جوهرية بين شركات في بلاد إسلامية وشركات في بلاد غير إسلامية.
أردت أن أعرض هذه الفكرة بصورة موجزة أيها الإخوة الأجلاء وأحب أن أنوه أيضًا كما أن هذه في الحقيقة ليس فتوى مني وإنما هو عرض لوجهة نظر إذا وافق المجمع على ذلك وحضراتكم وافقتم على ذلك فربما حينئذ نأخذ به ولذلك أحب أن أذكر لحضراتكم أن مثل هذه الأمور نوقشت مرة أخرى في البحرين ووصلت الندوة الثانية إلى مجموعة من القرارات الطيبة، إذا سمح السيد الرئيس لقراءتها أقرأها على حضراتهم لمجرد التذكير وإلَّا فالموضوع عندهم.
هل تسمح لي يا سيادة الرئيس؟(7/558)
الرئيس:
هي موزعة على المشايخ.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
جيد، إذن حقيقة هذه ما دام وزعت فهذه هي الصورة التي تضع أمامنا مسؤولية كبيرة، نحن اليوم أمام آلاف بل مئات الآلاف من الشركات الإسلامية فأخاف من أننا إذا أصدرنا أمرًا لعدم تداول مثل هذه الأسهم، حينئذ يصبح المسلمون دون أن يكون لهم أي نوع وحينئذ يتبنى غير المسلمين أو هؤلاء الذين ليس لهم دين قويم أن يشتروا مثل هذه الأسهم وبالتالي تصبح شركات أو الشركات الموجودة في البلاد الإسلامية تصبح بأيدي غير المسلمين وهذا بالتأكيد فيما لو منعنا ذلك بينما لو شجعنا المسلمين على الدخول في مثل هذه الشركات بمثل هذه الضوابط وطلبنا منهم أن يغيروا فالأمل كبير أن تبقى هذه الشركات بأيدي المسلمين المخلصين – إن شاء الله – وبالتالي يكون فيها نفع كبير وفوائد كبيرة وفعلًا نحن في قطر عندنا بعض الشركات بفضل الله سبحانه وتعالى بفضل جهود الدعاة تحولت إلى شركات إسلامية منها جمعية الريّان حيث وصل إليها الشباب المتدينون وحولوها تمامًا من شركة كانت تتعامل بالربا إلى شركة لا تتعامل إلَّا بالحلال بل إنهم دائما يستيشرونني وكذلك يستشيرون أخانا الكريم الأستاذ على السالوس. كذلك شركة المنتزه، أنا مضى عليَّ حوالي ثلاثة أو أربعة أشهر لا يمر أسبوع إلَّا ونحن نلتقي بهم وصل إلى جمعية الإدارة مجموعة من الشباب المتدينين وبدأوا يحولون ويغيرون من مبالغ رهيبة جدًّا في البنوك الربوية ويحولونها إلى البنوك الإسلامية وبدأ العالم هكذا يسير. فهذا هو العرض الذي أعرضه على حضراتكم بصورة موجزة وأشكركم على حسن الاستماع ونستفيد من توجيهاتكم وآرائكم ومناقشاتكم. شكرًا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/559)
الرئيس:
كان بودي يا شيخ محيي الدين في الجزئية الأخيرة فيما إذا كان الربا غير مشروط وإنما يعرف المساهم أن هذه المؤسسة تتعامل بالربا. أنتم ذكرتم وجهة نظركم لكن كان بودي بصفتكم عارضًا للبحث أنكم ذكرتم وجهة نظر المانعين والتي وصلت إليها الندوة التي عقدها مجمع الفقه الإسلامي هنا بجدة والتي إذا كانت ما ذكرتموه مؤيد بالقاعدة (أنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا) فإنه يواجه القاعدة الأخرى (المشروط عرفًا كالمشروط لفظًا) . لكن البحث موجود أمام المشايخ وكان بودي أنك لخصته حتى لا تكون المسألة جزمًا ولكن يثار فيها الخلاف.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
السبب في ذلك هو أنني الآن قادم من المطار إلى المجمع في الحقيقة، ولي تكملة إن شاء الله تعالى.
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لا أدري هل السرعة أم التسرع من الدكتور القره داغي – حفظه الله – عندما قاس قضية الحدود في دار الحرب وقال – طبعًا – بحجة أن ليس كل أحكام الإسلام تنفذ عندنا، هذا قياس مع الفارق لأننا نعرف أن الحدود في دار الحرب انعقدت غير موجبة فلا تنقلب موجبة، هذا شيء معروف. فإذن قياس هذه القضية أن (ليس كل أحكام الإسلام تطبق) ونحن في دار الإسلام وتلك قضية حصلت في دار حرب فقياس مع الفارق. وشكرًا.(7/560)
الشيخ صالح:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد،
فقد استمعنا إلى العرض الذي بينه سعادة الأستاذ القره داغي حول موضوع أسهم الشركات أو الاشتراك في شركات تقترض بفوائد ربوية أو تودع أموالها وتأخذ عليها فوائد ربوية وإن كان أصل موضوع هذه الشركة حلال ولم يتعرض نظامها أو ينص نظامها على التعامل بالفوائد الربوية لكنها تودع في البنوك الربوية وتحصل مقابل هذه الودائع على فوائد أو تقترض عند الحاجة كذا. الواقع أن هذا القول فيما أرى يصادم النصوص الشرعية وقد قرر العلماء أن اعتناء الشرع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات، ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمر فاتقوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) . فالمنهيات تجتنب على الإطلاق أما المأمورات فيأتي الإنسان منها بقدر الاستطاعة ولذا لم يسامح في الإقدام على المنهيات وخصوصًا الكبائر، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] .
والحصول على بعض الفوائد مقابل الإيداع أو الاقتراض عند الحاجة فيه ربا والربا لا نختلف جميعًا أنه حرام ولا يجوز التعذر بأي وسيلة من الوسائل. ثم إن التوجيه الاقتصادي الإسلامي والبنوك الإسلامية هي لانتشال الأمة الإسلامية وإيجاد الحلول لا أن نتأثر بالواقع وأن نستسلم لما هو موجود ولكن يجب علينا أن نصحح أما الاحتجاج بقاعدة (يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا) فهذا غير مسلم لأن القاعدة وردت في شيء نص على حله في حال ونص على حرمته في حال، أما الربا فلم يستثن شيء منه بل هو محرم على الإطلاق. فالذي أو التأكيد عليه أن هذا القول – في نظري – غير سليم وأنه يجب تطهير الشركات الإسلامية والبنوك الإسلامية من أي فوائد ربوية قليلة أو كثيرة ولا يمكن التسامح في شيء منها لأنه كما جاء في الحديث الشريف ((درهم ربا يأكله الرجل المسلم وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية)) . فالربا حرام كله قليله وكثيره لا يمكن أن يتسامح في شيء منه، ولهذا فقاعدة (يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا) لا يمكن تطبيقها وهي قياس مع الفارق، فلهذا أود أن أؤكد ما أقوله.
والحمد لله رب العالمين وصلَّى الله على نبينا محمد.
الدكتور درويش جستنية:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(7/561)
موضوع شراء الأسهم في الشركات التي تتطلب أعمالها بطبيعة الحال أن تقترض من البنوك وليس من الضروري أن تنص أنظمتها على هذا الاقتراض والحقيقة أن العالم الإسلامي يعاني كثيرًا من هذه المشكلة لأن الشركات الكبرى في العالم الإسلامي كلها بيد غير إسلامية في معظم البلاد الإسلامية – شركات كبيرة – وأما في البلاد ... مثل بلادنا والبلاد المحيطة بنا فالشركات بطبيعة الحال معظمها يملكها المسلمون والحمد لله. ولكن – أيضًا – قد تضطر إلى التعامل بالربا، ولقد كتبت في إحدى الندوات – وهي الندوة التي أقامها البنك الإسلامي للتنمية – ورقة في هذا المعنى وكنت أذهب في تلك الورقة إلى أنه مهما كان الأمر فلا نأخذ بالاحتجاج بأننا نصلح هذه الشركات لأنها أكبر وأكثر من أن نصلحها وليس من المفروض فينا أن نحاول بطريقة واحدة وإنما نحاول بعدة طرق. إن فكرة إنشاء البنوك الإسلامية قامت أساسًا من أجل محاربة الربا ووضع قواعد أساسية جديدة في الاقتصاد الإسلامي للبلاد الإسلامية، وما دام أن الموضوع انطلق من هذه القاعدة وهي قاعدة ستكبر إن شاء الله – قاعدة البنوك الإسلامية – فلدينا من الحلول ما يمكن أن نتجاوز به مثل هذه الأزمة، ولدي اقتراح قد يكون عمليًا بالنسبة للشركات القائمة سواء كانت تملكها بنوك إسلامية أو لا تملكها بنوك إسلامية أو ليست متعلقة بالبنوك الإسلامية وهي عن طريق الزيادات في رأس المال. يعني لو افترضنا أن شركة ما رأس مالها مائة فيمكن أن نسمح لها بزيادة رأس المال في حدود الخمسة في المائة. بمعنى أن هذه الخمسة في المائة بدلًا من أن تقترض من البنوك لأنها لا تحتاج إلى أكثر من هذه النسبة فتصدر أسهمًا جديدة تباع للمواطنين وتحصل على هذه المبالغ التي تريدها وعندما تتوفر لها المقدرة المالية تعود فتشتري هذه الأسهم، طبعًا أسهم مطلقة عامة فلا تشتري أسهمًا بعينها وإنما تشتري بقيمة 5 % التي أصدرتها الأسهم وبالتالي تمتص السيولة من السوق وتدفع بالسيولة إلى السوق، فعندما تكون في حاجة إلى أموال تصدره هذه السندات، إذا وجدت أن من مصلحتها الاستمرار في بيع هذه السندات فتصبح الأموال التي لديها جزءًا من رأس مال الشركة وبذلك لا تتضرر وتستطيع أن تجمع الجمعية العمومية وتزيد رأس مال بهذه الكمية التي أصدرت وهذا شيء معروف في كل الشركات أنها تزيد رأس المال كما تريد في أي وقت تريد في حدود المبلغ المسموح به - رأس المال المسموح به – لأن هناك رأس مال مسموح به يكون ألفًا مثلًا ورأس مال مكتتب فيه يكون مائة فالفرق بين المائة والألف هو هذه الكميات التي يمكن أن تزاد على رأس المال. إذا رأت الشركة أن من مصلحتها البقاء على رأس المال المكتتب فيه فتستطيع أن تتخلص من هذه الأسهم وتبيعها، وهذه عملية إجرائية تحتاج فقط إلى موافقة من الجمعية العمومية لأي شركة وهي عملية بسيطة، بذلك نضمن أن الشركات لا تضطر أصلًا من الاقتراض من البنوك أو من غيرها ولكن الذي يجعلها تضطر لهذا هو فقط مدة الإجراء التي تأخذها من أجل إصدارها الجديد فقد تأخذ شهرًا أو شهرين فهذه يمكن أن تجعل بعض الشركات تتردد ولكن إذا أردنا الوصول إلى الحلال فهناك طرق كثيرة نستطيع أن نستعملها بحيث نصل إلى الحلال من أقرب طريق. وأرجو الله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/562)
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
في ظني في هذا الموضوع أنه من غير المناسب أن نطلق العبارة بأن هنالك شركات تتعامل بالحرام وخاصة في مجال الربا، وأنه لا بد من التفصيل في هذه المسألة حتى نميز بين حالتين: حالة الشركات التي تودع أموالها بفائدة ربوية وتتحصل لديها هذه الفوائد كدخل للشركة. هذه العملية كما هو معلوم في هذا المجال تكتنفها تفصيلات كثيرة، يعني هل هذه الشركة لديها مجال للإيداع في بنك إسلامي؟ هل لديها في منطقتها ما يمكنها من إيداع أموالها في بنك إسلامي لتتعامل معه؟ قد تكون مضطرة لإيداع أموالها في هذا البنك، وبالتالي قضية أخذها الفوائد ليس إشكالًا على أن يتحرى المسلم ألَّا يدخل هذه الفوائد إلى حوزته وملكه إنما لا بد كما نص كثير من فقهائنا أن يصرفها في جهة خير أو في مصلحة عامة.
الإشكال في الواقع ليس في هذا النوع من الشركات، القضية واضحة، وفي ظني عملية الحسبة – أيضًا – واضحة، معرفة ماذا دخل من مال عن طريق محرم في أرباح الشركة عملية سهلة للغاية ويمكن الاطلاع عليها في الميزانية ومعرفتها. المشكلة – في الواقع – في الشركات التي تأخذ تسهيلات ربوية وقروض ربوية، ومن المعلوم في هذا المجال أن بعض الشركات تكون تسهيلاتها الربوية أضعاف رأس مالها، ولذلك كيف يمكن أن نطلب من المسلم في هذه الشركات أن يحسب ما جاء عن طريق محرم وما لم يأت من طريق غير محرم؟ هذه عملية – في الواقع – في غاية الصعوبة ولا تظهر أيضًا في حسابات الشركة. لذلك نحن قد نميل إلى الرأي الذي يقول: بأنه إذا كانت العملية محدودة والأغلب هو الحلال لكن هذا الباب لا نستطيع أن نفتحه بسعته لا بد من قيود أخرى عليه. أعرف بعض الشركات هنالك عليها قروض ربوية ثلاثة أضعاف رأس مالها وما زالت تعمل وقد لا توزع أرباحًا، فكيف نقول للمساهم أنه إذا جاء ربح افعل كذا وكذا؟ يعني لا بد من الدخول في هذه القضية من الناحية العملية ومعالجتها بشمول ووضوح.(7/563)
ثم شيء آخر، نحن هنا نريد أن نتحدث عن الحكم الشرعي يجوز البقاء في هذه الشركات أو لا يجوز؟ يعني لا نريد أن نتحدث عن البدائل، واضح أن من أهم البدائل نشر البنوك الإسلامية والتوسع في وسائل الائتمان الإسلامية إلى آخره، لكن ليس هنا الحديث. هذا المسلم الذي يسألنا أيظل في هذه الشركة مساهمًا، أو يساهم في هذا النوع من الشركات أم لا؟ هذا الذي نريد أن نجيبه افعل أو لا تفعل. وشكرًا.
الشيخ علي الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد،
فإنني أشكر الباحثين على البحوث القيمة التي قدموها لأننا ما كان لدينا إلمام بهذه البحوث، لماذا؟ لأنها لا تمت للشرع الإسلامي بأي صلة وهذا ما جعلنا نجهلها تمامًا وعلينا أن نعمل بما قال حذيفة بن اليمان: كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه. فمعرفة هذه المسائل لها أهمية لكي نتجنب ما هو حرام فنبتعد عنه.
يلاحظ أن هذا الموضوع كسابقه لا يبيحهما الشرع الإسلامي لأن عملية البطاقة السابق ذكرها إذا كان مشروطًا أنه إذا لم يسدد المبلغ المطالب به في وقت محدد تضاف إليه فائدة وكلما تأخر التسديد تضاف أخرى وهذا هو ربا الجاهلية بعينه (أما أن تقضي أو تربي) . وعملية الأسهم – أيضًا – تتضمن فوائد ربوية تحددها الشركات في قروضها وغيرها، ولا يمكن أن نقول: إن صاحبها يتمادى فيها وعليه بعد ذلك أن يميز بين ما يحل من هذه العملية وما هو الحرام. هذه المسألة لا تقبل بأي حال فالذي كان يتعاطى هذه المسائل إذا كان يريد أن يتوب عنها له ما قال الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] .(7/564)
ليس علينا أو ليس من حقنا أن نلتمس الوسائل لحلية عمليات وضعت على غير أساس شرعي بل إن الذين وضعوها لا يهمهم حلية المعاملات أو حرمتها. فمعلوم أن العقود منها ما هو واضح الحلية ومنها ما هو واضح الحرمة وفيها ما فيه التباس على الباحثين والعلماء، فعلينا أن الذي وضحت حليته أو حرمته أن نحكم بذلك، والذي التبس علينا هو الذي نؤجل الحكم فيه حتى يتبين الحق ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فعندما هاجر إلى المدينة – صلوات الله وسلامه عليه – وجد التجارة يسيطر عليها اليهود فاتخذ المسلمون سوقًا ونعلم أن هذه السوق تخرج منها الخليفة عثمان بن عفان أصبحت له أموال طائلة وكذلك عبد الرحمن بن عوف، هذه الأموال اكتسبوها من مال حلال ومن بيع، الفرق بين البيع والربا كل منهما فيه ربح إلَّا أن هذا حلال وهذا حرام كما قال الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم.
إخواني الأساتذة الكرام.
موضوع أسهم شركات المساهمة موضوع معقد ويكثر السؤال عنه في كل مجال وهو في الحقيقة يمثل مشكلة أمام كثير من الذين لهم وفر محدود ويريدون ألا يجمدوه بل أن يستثمروه.(7/565)
موضوع الشركات مشكلته ليست فقط بالنسبة للشركات التجارية التي تؤسس شركات مساهمة لمشاريع تجارية، مثلًا هناك شركات تؤسس للتجارة في السلع بيعًا وشراء وتفتح مخازن لها فروع كثيرة، شركات مساهمة لكن هدفها تجاري مثل شركات البنوك، جميع البنوك تقوم على أساس شركات مساهمة. المشكلة أن هناك شركات وهي كثيرة جدًّا موضوع عملها أداء خدمات، يعين هناك لدينا شركات الكهرباء وشركات المياه وشركات النقل إلى آخر ما هنالك حتى الشركات التي تستثمر بعض الثروات الطبيعية في الدولة، فهذه الشركات مهمتها أداء خدمة للمجتمع وهذه الشركات تمثل ضرورة قائمة لا نكران فيها ذلك أن الشركات التجارية يمكن أن يقال إن لم تؤسس لا يتضرر المجتمع ويبقى عمل التجارة ماشيًا بوجودها وبدونها، ولكن شركات الخدمات هذه التي أصبحت اليوم تمثل قطاعًا من الخدمات ضروريًّا جدًّا في المجتمع كالكهرباء مثلًا والنقل والمياه - كما قلنا - تمثل قطاعًا ضروريًّا جدًّا وهذا المشروع الذي هو موضوعها في الحقيقة تكاد تكون تكاليفه عظيمة جدًّا تنوء بالدولة، واليوم معظم الخدمات العامة في بلادنا – بلاد العالم الثالث - كلها تقوم على أساس شركات تطرح موضوعاتها الدولة وتقوم هي بالتزام هذه الخدمات التي ذكرنا أمثلتها وإذا لم تؤسس هذه الشركات لا يمكن أن تحقق تلك الخدمات من الكهرباء والماء والنقل وسواها لا يمكن أن تحقق لعظم تكاليفها. ولكن نحن في عالمنا الثالث هذه المشاريع من الخدمات كلها لا تستطيع أن تقوم بها الدولة وفي الوقت نفسه لا تريد الدول في تلك البلاد التي تسمى بلاد العالم الثالث أو البلاد المتخلفة اقتصاديًّا أو النامية إلى آخره، هذه لا تريد أن تتخلى إلى شركة خاصة إلى شركة تجارية تنشئ المشروع وتطرح أسهمًا فيه إلى آخره لا تريد بل تريد الدول اليوم في هذا العالم الثالث تريد أن تبقى يدها قائمة على المشروع وأن تستفيد منه ومن الهامش التجاري الذي يكون فيه، هذه شركات كثيرة وضرورية جدًّا ولا سبيل إلى الاستغناء عنها وإلَّا بقي البلد متخلفًا في أهم المرافق الحيوية التي انتشرت في العالم، هذه الشركات لا سيطرة لأفراد معينين عليها وإنما هذه ترخص وتعطي امتيازًا وتقوم لأجل أداء هذه الخدمات لكن من أجل الربح – تربح – ولكن ربحها ناشيء من أداء خدمات، هذه الشركات لا يوجد – فيما أعلم – شركة في بلد ما من هذا النوع لا تتعامل أخذًا وعطاء مع البنوك بالفوائد، قد تستغني عن الاقتراض بما لديها من رأس مال من مجموع أسهمها ولكن لا توجد واحدة تمتنع عن التعامل مع المصارف الربوية ولا سيما إيداع أموالها كما أشار إليه الدكتور عبد السلام فإنها تودع أموالها لدى المصارف إذ لا تستطيع أن تحتفظ بسيولتها في صندوقها بل هذا كله يجري إيداعات في حسابات المصارف وهكذا. الاقتراض من الممكن أن يقال: إنها إذا كانت قادرة ماليًّا عندها السيولة الكافية لا تقترض ولكن الإيداع لا يوجد شركة تستغني عنه أبدًا ولا يوجد للشعب سلطة يمنعها من ذلك ولكن هدفها هو هدف – كما قلنا – خدمات وليس تجارة.. هذه الشركات تشكل قطاعًا كبيرًا بالنسبة لذوي الدخل المحدود، هناك الأيتام وهناك الأرامل وهناك أشخاص لديهم شيء من الوفر لا يصلح أن يشتري به عقار ليستثمر ولا يستطيعون هم أن يتاجروا به ويفتحوا مشروعًا تجاريًّا لا يستطيعون أن يستثمروه بأنفسهم فليس أمامهم لقاء وفرهم هذا إلَّا أن يودعوه في البنوك ونقول عندئذ: بوجود البنوك الإسلامية يستطيعون أن يودعوه فيها وتمنع عليهم إيداعه في البنوك الربوية ولكن هؤلاء إذا حرموا من شراء الأسهم – الأسهم تشكل أيضًا موردًا استثماريًّا لهؤلاء ذوي الوفر المحدود وإذا منعوا من تداول هذه الأسهم وشرائها لأجل عوائدها فإن ذلك يسد بابًا كبيرًا جدًّا عليهم ويضيق. فلذلك الرأي فيما أرى أنه يميز بالنسبة لشركات المساهمة بين الأنواع التالية:(7/566)
الشركات التي يكون موضوع نشاطها محرمًا، قد تكون شركة خمور – مثلًا – كما في البلاد الأجنبية هناك شركات لإنتاج الخمور فقط، أو تكون شركة بنوك ربوية إلى آخره، فهذا النوع من الشركات لا شك يجب أن يكون تداول أسهمه شراء وبيعًا واستثمارًا لأجل عوائده أن يكون هذا غير جائز شرعًا بلا شك ولا ريب، ولكن هناك شركات أخرى والتي هدفها تجاري كشركات الفروق التجارية الكبرى التي لها فروع في مختلف بلاد العالم منها شركات الفنادق إلى آخر ما هنالك، فهذه إذا كانت معظم معاملاتها – وقد تقترض بالربا وما إلى ذلك هذه أيضًا يمكن منعها – أي منع تداول أسهمها – على المستثمرين الصغار ويقال لهم: خذوا من شركات أخرى أو من بنوك إسلامية اشتروا أسهمًا، وأما شركات ذات الخدمات العامة التي يقوم مشروعها على خدمات ضرورية للمجتمع هذه ليس هدفها ربويًّا وإنما هي تؤدي خدمة تعجز عنها الدولة بنفسها، وطريقة الأسهم هي التي تجمع الشيء الكثير كما يقول المثل (القليل من الكثير كثير) ، تجتمع رؤوس أموال ضخمة تنشئ هذه المشاريع التي أصبحت ذات تكاليف عظيمة تعجز عنها الدولة فمثل هذه الشركات لا يملك أبناء المجتمع منعها بالمرّة من التعامل مع البنوك ولا سيما الإيداعات فالذي يبدو أن مثل هذه الشركات لا يحجر على الناس أن يتداولوا أسهمها ويمتلكوها سواء لبيع الأسهم وشرائها تجارة أو لأجل أخذ عائد السهم من الربح ولكن ينبغي هنا – نقطة الإشكال – إذا كانت هذه تودع أموالها وتأخذ عليها فوائد وقلنا الإيداع لأنه لا توجد شركة تخلو منه أبدًا فسد الباب يكون مشكلًا وإنما نحن نستطيع على أساس التنقية – تنقية المال – فيمكن أن يقال لمن يقتنون هذه الأسهم لأجل أرباحها كعائد لوفرهم القليل أن يستطيعوا – وهذا ممكن – بطريقة حسابية تقريبية ولا يشترط التدقيق التام بالفلس هذا لا يشترط وإنما الشيء التقريبي مقبول أن يفرزوا ما يقدر من عوائد دخلت على الشركة ومن فوائد ربوية وأن يوجهوه إلى الفقراء أو إلى المشاريع الإسلامية وبذلك نكون لم نسدد طرق إنشاء هذه الشركات وتداول أسهمها على ذوي الحاجة وبالقدر الممكن نقي الطريق من الشوائب. والله سبحانه وتعالى أعلم.
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
في الواقع إن موضوع الأسهم وجزئيته التي طرحت مساء اليوم من أخطر وأهم الموضوعات التي ناقشناها حتى الآن في هذه الدورة ولها أبعاد عميقة ينبغي ألا نسرع في الفتوى حتى نستكمل النظر في جميع هذه الأبعاد.(7/567)
الواقع أن هذا المجمع لو خرج بفتوى منع المستقبليات ومنع الخيارات فإنه لا يكون لهذه الفتوى أثر عملي بليغ في النشاط الاقتصادي في العالم الإسلامي أما إذا خرج المجمع بقرار أن شراء هذه الأسهم ولو كانت أسهم الشركات المساهمة التي معظم نشاطها حلال فإن هذه الفتوى ستؤثر على النشاط الاقتصادي في العالم الإسلامي كله أثرا بالغًا لا ينبغي أن نغض النظر عنه، ومما يجب أن نتنبه له أننا نتكلم الآن في تلك الشركات المساهمة فحسب التي معظم نشاطها حلال وأعمالها الجوهرية حلال شرعًا ولكنها قد تضطر أو قد تختار إيداع أموالها في البنوك الربوية، وقد تقترض بعض الأموال على أساس الفائدة ويقال: بما أنه دخل هذه الشركات الربا فلذلك لا يجوز لرجل عامي أن يشتري سهم مثل هذه الشركة المساهمة ولي في هذه الوجهة وقفة طويلة من الناحية الشرعية والفقهية. الدليل الذي يستدل به في منع شراء الأسهم في مثل هذه الشركات هو أن حامل السهم موكل والشركة المساهمة وكيل لحامل السهم في جميع نشاطاتها فإذا كانت تقترض على أساس الفائدة أو تودع أموالها في البنوك الربوية فإن هذه المعاملة الربوية ستنسب إلى حامل السهم فلا يجوز لحامل السهم أن يدخل في هذه المعاملة الربوية. الواقع أن هذا الدليل ينبني على أن الشركة المساهمة قد اعتبرت شركة عنان كما ذكره فقهاؤنا, والذي ينبغي أن نتنبه له هو أن الشركة المساهمة اليوم لا تدخل في إحدى الأقسام الأربعة من الشركة التي ذكرها الفقهاء في كتبهم، لا هي شركة مفاوضة ولا هي شركة عنان ولا هي شركة وجوه ولا ثنايا لا تدخل في أحد من هذه الأقسام إنما هي قسم جديد، فلا تطبق عليه جميع الأحكام التي ذكرها الفقهاء في كتبهم حول هذه الأقسام الأربعة. هذا قسم مستحدث لا ينبغي أن نطبق عليه جميع الأحكام التي ذكرها الفقهاء في الأقسام الأربعة، صحيح أن الشريك يكون وكيلًا لشريكه ولكن الوكالة لها درجات، هل هي وكالة عامة، أو وكالة في شيء مخصوص؟ فإن اشتريت سهمًا في إحدى شركات المساهمة وصرحت في الجمعية العمومية بأنني لا أقبل معاملة ربوية ولا أرضى بها فكيف يقال أني موكل لتلك الشركة المساهمة ووكلتها للدخول في معاملة ربوية؟ فما دمت صرحت في الجمعية العمومية بأني غير راض على أية معاملة ربوية فإن الشركة المساهمة لو دخلت في معاملة ربوية فإنها لا يجوز أن تنسب إليَّ. فمن هذه الناحية لا نستطيع أن نقول: إن شراء السهم حرام من حيث إنه يكون توكيلًا للشركة في معاملات ربوية.(7/568)
والنقطة الأخرى التي يجب أن ننتبه لها هي أن – كما ذكر فضيلة الدكتور عبد السلام العبادي – حفظه الله أن كمية المال التي تقترضها هذه الشركات المساهمة على أساس الفائدة ربما تتضاعف عن رأس مالها ولكن ينبغي أن نفرق بين حالتين: الاقتراض على أساس الفائدة حرام لا شك فيه ولكن من اقترض أموالًا على أساس الفائدة ثم استربح فيها وشغلها في التجارة وحصل منها على عوائد هل تحرّم تلك العوائد؟ هل تحرّم تلك الأرباح؟ نعم إنه ارتكب حرامًا صريحًا ويعاقب عليه في الآخرة ولكن إذا شغل هذه الأموال بطريق مباح وحصل من طريق ذلك على أرباح فإن تلك الأرباح تكون حلالًا، تكون جائزة استعمالها وإلَّا صارت جميع ما نستعمله في حياتنا اليومية حرام. الشركات المساهمة قد دخلت في حياتنا في المطاعم التي نأكلها، في الملابس التي نلبسها، في المراكب التي نركبها، وفي المساكن التي نسكنها، فلو قلنا: إن من اقترض مالًا على أساس الفائدة ثم شغله في التجارة فتكون الأرباح كلها حرامًا فتصير هذه الأشياء كلها حرامًا. فالقاعدة الفقهية المعروفة أنه من اقترض على أساس الربا فإنه ارتكب حرامًا ولكن بعد الاقتراض ملك ذلك المال وما ربح من ذلك المال فإنه لا يقال فيه إنه حرام، فلذلك لا نستطيع أن نقول: إن معظم أموال الشركة المساهمة حصلت عن طريق حرام، نعم هنالك أموال توجد هذه الشركات المساهمة في البنوك الربوية وتحصل منها على فائدة ويمكن التخلص منها بأن من اشترى هذا السهم يتصدق بنسبة الأرباح التي حصلت الشركة المساهمة عن هذا الطريق الحرام يتصدق بهذه النسبة.(7/569)
بناء على هذا الذي أميل إليه وأراه وأدين الله تعالى عليه هو أن شراء هذه الأسهم يجوز بشروط ثلاثة:
الأول: أن تكون الشركة المساهمة نشاطها الجوهري حلال.
الثاني: يجب على مشتري السهم أن يدفع صوته في الجمعية العمومية ضد المعاملات الربوية.
الثالث: ما حصل من الربح عن طريق هذا السهم فإنه يتصدق بالنسبة التي حصلت عليها الشركة عن معاملات ربوية.
وبهذه الشروط الثلاثة أميل إلى جواز شراء السهم وقد نوقش هذا الموضوع في عدة ندوات والذي أريد أن أقترحه على رئاسة المجمع أنه لو اتخذ قرار في هذا الموضوع في هذه الدورة فإني أرجو أن يكون بعد التصويت على هذا الموضوع لأنه موضوع مهم جدًّا ويؤثر على حياتنا الاقتصادية ونشاطنا الاقتصادي فينبغي أن تطرح الصورة بصورة واضحة ويطرح للتصويت ثم يتخذ القرار. والله سبحانه أعلم.
الشيخ صالح:
بسم الله الرحمن الرحيم.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .(7/570)
وإذا كان الفقهاء – رحمهم الله – في شأن مشاركة الكتابي – اليهودي والنصراني – قال الشافعية: تكره مشاركة اليهودي والنصراني لأنهم يستحلون الربا والربا لا يحل. وقال المالكية – ونحو قولهم قال أحمد -: لا تجوز مشاركته إلَّا أن يلي المسلم التصرف أو ألَّا ينفرد الكتابي بالمال، خشية أن يقع في الربا. فإذا كان الفقهاء قد حذروا ومنعوا من مشاركة غير المسلم للمسلم ولم يأذنوا له بإطلاق التصرف في الإدارة خشية من الوقوع في الربا، فكيف نجيز أن تودع الشركات بفوائد ربوية أو تأخذ تسهيلات ربوية؟ وإذا كان الفقهاء – أيضًا – قالوا في السبب الباعث على العقد: إنه يحرم العقد ويبطل إذا كان السبب الباعث عليه محرمًا كبيع العنب لمن يتخذه خمرًا – لمن يعصره خمرًا – مع أنه قد لا يعصره خمرًا, وكبيع السلاح في أيام الفتنة ولقطاع الطرق. إذا كانوا حرموا العقد وأبطلوه وأصله جائز، فبيع العنب أو التمر جائز ومع هذا منعوه فكيف نجيز صورة واضحة فيها الربا؟ أما مسألة إخراج نصيبه من الحرام وتقديره فهذا قال به الفقهاء لكن هذا يتوب لمن أراد أن يتوب وأن يخلص أمواله من الربا. شخص وقع في أمر محرم أو في ربا واختلط ماله بالحرام يميز قدر هذا من قدر هذا، لكن لا يكون هذا في إنسان يعلم أن الشركة تتعامل بالفوائد الربوية ويشتري أسهمها أو يشارك في أسهمها. هذا الذي قاله الفقهاء هو في إنسان وقع خطأ أو جهلًا بأمر من الأمور فتبين له مستقبلًا أنه حرام كيف يطهر ماله؟ يتخلص بإخراج الحرام ثم إن هذا لا يجيز له أن يعيد الكرّة تلو الكرّة وإنما هي توبة وإخراج لهذا الجزء، أما أن يخرج كل مرة وكل سنة فهذا لم يقل به الفقهاء. أما ما قاله البعض من الإخوة الأفاضل من إمكانية تجويز هذا للحاجة ولأن كثيرًا من الناس لا يستطيعون أن ينموا أموالهم إلَّا بطريق توظيفها في هذه الشركات، لماذا لا تكون شركات سليمة من الربا؟ وهل كل الشركات القائمة حاليًّا تتعامل بالفوائد الربوية؟ ثم إنه ماذا تريد البنوك الربوية أكثر من أن يصدر لها فتوى بجواز مثل هذا؟! إذا وافق أو رأى بعض المشائخ جواز استثمار الأسهم في الشركات التي تودع أموالها بفوائد ربوية أو تقترض بفوائد ربوية ماذا بقي بعد هذا؟ وماذا تريد البنوك الربوية أكثر من هذا؟
هذا ما أحببت أن أضيفه وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(7/571)
الرئيس:
في الواقع أن الشيخ صالح أشار إلى نقطة مهمة وهي التي تقضي أن تنزل نصوص الفقهاء منازلها، وهو أن كلام الفقهاء في مثل هذه فيما إذا وقع إنسان وأراد أن يتوب أو أن يرجع إلى الله، أما أن يستقبل في حياته معاملة يعرف سلفًا أنها تتعامل بما حرّم الله فكلامهم لا ينسحب على مثل هذه الصورة وإنما ينسحب على من وقع، كيف ينتشل مما وقع فيه؟
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة:
بسم الله الرحمن الرحيم.
حضرات أصحاب الفضيلة المشائخ من أعضاء وخبراء لن أتدخل في هذا الموضوع لاعتقادي أنه قد أخذ حظه وأن النقاش قد طال فيه وأن وجهات النظر واضحة وأن لجنة الصياغة – بإذن الله – ستتولى جمع واستحضار كل ما قيل وكل ما قدّم في ندوة البحرين أولًا ثم ما عرض هنا وما استفدناه من الدراسات التي قدمت، فبعد الصياغة كما تفضل الشيخ تقي العثماني – جزاه الله خيرًا – تقع مناقشة هذه الصياغة لإعطائها الشكل المناسب والوجهة التي يراها المجمع ولو أدى الأمر إلى التصويت، هذه ناحية.
الناحية الثانية التي أردت أن أشير إليها ليست متعلقة بهذا الموضوع ولكنها تتعلق بكل الموضوعات واسمحوا لي بهذا التدخل الذي يخرجنا عن ما نحن فيه الآن. هذا الموضوع هو أن الدراسات التي تقدم، أكثرها لا يعود أصحابها إلى قراءتها فتأتي فيها أخطاء مطبعية أو سهو ويأتي فيها عدم التوثيق وتأتي فيها أشياء كثيرة حتى في بعض الأحيان تغيير الآيات وتحريف للكلام عن موضعه وكذلك الأحاديث التي يستشهد بها يؤخذ منها كلمة ولا ينبه على الأصل الذي أخذ منه ذلك الحديث، إلى آخره. فنحن – وأنتم أحرص الناس على هذا – في مجمع والدراسات التي تصدر عنا حتى اليوم نحاول أن تكون في المستوى المجمعي ولذلك فإننا نحرص ونرجو من حضراتكم أن تقدموا لنا أعمالًا قيمة – بإذن الله – نستطيع أن نعدّها للنشر أو أن نقدّمها للنشر في غاية السهولة لأني بالنسبة للعدد الأخير وهو السادس صدقوني قضينا أكثر من سنة كاملة نراجع النصوص ونصححها ونكلمها ونوثقها ثم يأتي العذاب الثاني وهو الأشد وهو عذاب المطبعة، فأرجوكم أن تعودوا ما قدمتموه من دراسات في هذه الدورة وتتعقبوه بالمراجعة حتى تكون النصوص بين أيدينا نهائية، هذا واحد.
الأمر الثاني: كثير من الإخوة خارج البلاد العربية سواء من المسلمين أو من غير المسلمين يطالبون أو يريدون التطلع والتعرف على نشاط المجمع وعلى ما يقدم فيه من بحوث ودراسات، نحن لا نستطيع وليس في إمكاننا ماديًّا أن ننفق على الترجمة للغات الأجنبية بالنسبة لكل ما يقدم إلينا من نصوص فأنا أقترح على حضراتكم شيئًا واحدًا هو أن كل واحد قدّم بحثًا في هذه الدورة لينشر في العدد السابق ينبغي أن يكون مصحوبًا بملخص، ذلك الملخص ينقل إلى اللغة الفرنسية والإنجليزية وبذلك تكون اللغات الثلاث لغات منظمة المؤتمر الإسلامي موجودة وننقله كما يعلم فضيلة الشيخ تقي الدين – جزاه الله خيرًا – وقد أعاننا إعانة كبيرة نقلنا القرارات إلى الأردية وسننقلها إلى الفارسية وإلى غيرها من اللغات بإعانتكم. وشكرًا لكم على هذا الاهتمام.(7/572)
الدكتور على أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
أولًا بالنسبة للشركات بعض الشركات المساهمة لا تدخل في هذه الشركات هي شركة عنان بكل ما فيها، المال للشركاء جميعًا والعمل يقوم به الموظفون ويأخذون أجورهم من أصحاب المال ومجلس الإدارة يأخذ مكافأته من أصحاب المال والضمان على أصحاب المال. إذن هي شركة عنان بجميع جوانبها لا ينقصها شيء إطلاقًا. شركات المساهمة شركات عنان ولكن غاية ما هناك أنهم لا يقومون بالعمل بأنفسهم وإنما يستأجرون من يقوم بهذا العمل فكأنهم هم الذي يقومون بهذا العمل.
الأمر الآخر وهو مسألة أن الحرام يقع على مجلس الإدارة وعلى المدير وعلى الهيئة هذه نعم ولكن ليس عليهم وحدهم لأنهم أجراء، يعملون بأجر لدى المساهمين ولذلك المساهمون هم الذين يقولون لهم افعلوا كذا أو لا تفعلوا كذا، هم الذين يعينونهم وهم الذين يفصلونهم. إذن المساهمون هم الذين يقع عليهم الحرام أصلًا وهؤلاء يقع عليهم تبعًا إذا قلنا الأصل والتبع فالأصل على المساهمين ومجلس الإدارة غير هؤلاء لأن المساهمين يستطيعون أن يعزلوا هؤلاء جميعًا. هذا أمر.
الأمر الآخر، رفع المشقة والحرج وكذا، كل هذه الأمور هذا يبيح لنا أن نتعامل بالربا؟ رفعًا للحرج. هل أهمية الشركات في حياة المسلمين تدفعنا أن يقول المجمع: يجوز التعامل في شركات فيها ربا أي أننا نبيح الربا؟ الأمر لا بد أن ننظر إلى هذا الأشياء وأثرها في العالم الإسلامي.
كذلك مسألة أن نحول شركة ربوية إلى شركة إسلامية هذا أمر آخر، يعني لو أن أحدًا استطاع أن يشتري أسهم شركة واشترى أكثر من خمسين في المائة من أسهم الشركة فحولها إلى شركة إسلامية هذا أمر آخر ولكن الذين يستثمرون أموالهم في شركات تتعامل بالربا هؤلاء شركاء في كل ما يصدر عن هذه الشركة من أعمال سواء أكان بالإيداع أو بالاقتراض بالربا، هم الذين يقومون بهذا والمدير وغير المدير إنما هو ينفذ ما يأمره من عينه وهم هؤلاء المساهمون.
الأمر الآخر، القليل والكثير إنما قليل من الربا حرام لا يستطيع أحد أن يقول القليل من الربا حلال. نتخلص من هذا الربا كما أشار الإخوة، نص قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] .
فلا بد أن نبدأ أولًا بالتوبة أما الاستمرار في أخذ الربا والتخلص من الربا والاستمرار والأخذ والتصرف، هذا يعارض نص كتاب الله تعالى.
الشركات ذات الأهمية البالغة لو قلنا بأن هذه نبيحها في المجتمعات الإسلامية وأن تقوم وفيها التعامل بالربا. إذن كيف يتحول المجتمع المسلم إلى إنشاء شركات إسلامية؟ لو قال هنا من البداية: إن شركات البنوك الربوية ضرورة ولا بد أن نبقيها ولا اقتصاد بغير بنوك ولا بنوك بغير فوائد لو قلنا هذا وسكتنا إذن ما كانت البنوك الإسلامية لتقوم، وكذلك بالنسبة للشركات لو قلنا: يجوز للمسلم أن يتعامل مع هذه الشركات مع وجود الربا وإنما يحسب الربا، ويخرج الربا, إذن لا تقوم شركات إسلامية ولا بد إذن أن نكون في هذا الوعي. المسألة إذا أحللنا هذا معناه أننا سنحل حرامًا بينًا وهو الربا.(7/573)
الحرام لذاته والحرام لغير ذاته. هنا مسألة الاضطرار ليست حرامًا في ذاتها ولكن جاء من طريق حرام، هل هذا يعني أن الاضطرار إذا جاء من طريق حرام وهو في ذاته ليس حرامًا أنه يحل لمسلم أن يأخذه أو أن يتعامل به؟ ما الفرق إذن بين خنزير ودينار جاء من الربا؟ هذا حرام وهذا حرام في نظر الشرع سواء أكان هذا في ذاته أو ليس في ذاته. الدينار من الربا حرام في ذاته وإن كان الدينار نفسه ليس نجسًا إنما في ذاته لأنه جاء من طريق ربوي، هو حرام في ذاته.
الشروط التي وضعها فضيلة الشيخ الأخ الكريم الشيخ تقي، أن يكون نشاطها الجوهري حلالًا، والجزء الحرام ورفع الصوت بأنه لا يوافق على المعاملات الربوية، ولكن هي المعاملات قائمة وعندما دخل عرف أن المعاملات الربوية قائمة وقبل هذا، ونريد أن نصدر فتوى بأن نقول له: أقدم ولا تخف هذا حلال. إذن هنا رفع الصوت وحده لا يكفي لأنه يعلم أن هذا حرام وإذا رفع صوته ولم يستطع أن يغيّر فكيف نقول له هذا حلال وادخل هنا وهذا حلال؟
التصدق بالأموال الربوية كما أشار الأخ، إذن أيها الإخوة أرجو ونحن نبحث هذه الموضوعات ألا يضغط علينا الواقع المعاصر المؤلم الذي لم نضعه نحن وإنما وضعه غيرنا ألَّا يضغط علينا لنصدر فتوى تحل حرامًا بينًا مهما قل لأن درهم ربا كما أشار فضيلة الأخ الكريم درهم ربا واحد أشر من كذا زنية، إذن هنا أرجو أن نراعي هذا. والله عز وجل هو الأعلم بالصواب.(7/574)
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أريد أن أذكر، ذكر أحد الإخوة أن الفقهاء قالوا: مشاركة اليهودي والنصراني لا تجوز، ومما أريد أن أذكره هنا أن فقهاء الحنفية ومنهم السرخسي ذكر في مبسوطه أنه تجوز المشاركة مع اليهودي والنصراني، وذكر أنه يكره تنزيهًا. فما دام هناك قول من أحد الفقهاء وييسر على الناس في مثل هذه المسألة التي دخلت في حياتنا فنستطيع أن نأخذ بهذا القول وموجود في مبسوط السرخسي أنه ذكر أنه يكره تنزيهًا. وشكرًا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
بهذا تنتهي المداولات حول الأسهم وتعلمون أنه في ندوة البحرين وفي الندوة التي عقدها مجمع الفقه هنا اتفقت جميعها على جميع مفردات المسائل في الأسهم ما عدا المسألة الأخيرة التي طرحت للنقاش اليوم وأخذت حظًّا كبيرًا منه فإنه في ندوة البحرين توقفوا فيها حتى مزيدًا من البحث، وأما في الندوة التي عقدت في المجمع هنا فإنهم أبدوا رأيا باتًّا بها ومحضر الندوتين موجودان – إن شاء الله – وستكون بين يدي اللجنة للأسواق المالية ويضاف إليها الشيخ علي السالوس. وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(7/575)
القَرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 65/1/7
بشأن
الأسواق المالية
إن مجلس الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9-14 مايو 1992م.
بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: " الأسواق المالية " الأسهم، الاختيارات، السلع، بطاقة الائتمان.
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولًا – الأسهم:
1- الإسهام في الشركات:
(أ) بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.
(ب) لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها.
(ج) الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحيانًا بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.(7/576)
2- ضمان الإصدار (UNDER WRITING) :
ضمان الإصدار: هو الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم، أو جزء من ذلك الإصدار، وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لم يكتتب فيه غيره وهذا لا مانع منه شرعًا إذا كان تعهد الملتزم بالاكتتاب بالقيمة الاسمية بدون مقابل لقاء التعهد، ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه – غير الضمان – مثل إعداد الدراسات أو تسويق الأسهم.
3- تقسيط سداد قيمة السهم عند الاكتتاب:
لا مانع شرعًا من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه وتأجيل سداد بقية الأقساط، لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه، والتواعد على زيادة رأس المال، ولا يترتب على ذلك محذور لأن هذا يشمل جميع الأسهم، وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير، لأنه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاملين مع الشركة.
4- السهم لحامله:
بما أن المبيع (السهم لحامله) هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة فلا مانع شرعًا من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها.(7/577)
5- محل العقد في بيع السهم:
إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة.
6- الأسهم الممتازة:
لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح أوتقديمها عند التصفية، أو عند توزيع الأرباح.
ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية أو الإدارية.
7- التعامل في الأسهم بطرق ربوية:
(أ) لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وثوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.
(ب) لا يجوز أيضًا بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعدًا من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم، لأنه من بيع ما لا يملكه البائع، ويقوي المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض.(7/578)
8- بيع السهم أو رهنه:
يجوز بيع السهم أو رهنه مع مراعاة ما يقتضي به نظام الشركة، كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقًا أو مشروطًا بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء، وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصة المشاعة.
9- إصدار أسهم مع رسوم إصدار:
إن إضافة نسبة معينة مع قيمة السهم، لتغطية مصاريف الإصدار، لا مانع منها شرعًا ما دامت هذه النسبة مقدرة تقديرًا مناسبًا.
10- إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو حسم (خصم) إصدار:
يجوز إصدار أسهم جديدة لزيادة رأس مال الشركة إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم القديمة (حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة) أو بالقيمة السوقية.
11- ضمان الشركة شراء الأسهم:
يرى المجلس تأجيل إصدار قرار في هذا الموضوع لدورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
12- تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة:
لا مانع شرعًا من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها، لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة.
كما لا مانع شرعًا من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام. وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون وشركاء محدودو المسؤولية.(7/579)
13- حصر تداول الأسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقها:
يجوز للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم بأن لا يتم إلَّا بواسطة سماسرة مخصوصين ومرخصين بذلك العمل لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة.
وكذلك يجوز اشتراط رسوم لعضوية المتعامل في الأسواق المالية لأن هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة.
14- حق الأولوية:
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
15- شهادة حق التملك:
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
ثانيًا – بيع الاختيارات
صورة العقد:
إن المقصود بعقود الاختيارات الاعتياض عن الالتزام ببيع شيء محدد موصوف أو شرائه بسعر محدد خلال فترة زمنية معينة أو في وقت معين إما مباشرة أو من خلال هيئة ضامنة لحقوق الطرفين.(7/580)
حكمه الشرعي:
إن عقود الاختيارات – كما تجري اليوم في الأسواق المالية العالمية – هي عقود مستحدثة لا تنضوي تحت أي عقد من العقود الشرعية المسماة.
وبما أن المعقود عليه ليس مالًا ولا منفعة ولا حقًّا ماليًّا يجوز الاعتياض عنه فإنه عقد غير جائز شرعًا.
وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتداءً فلا يجوز تداولها.
ثالثاً- التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة:
1- السلع:
يتم التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي التالية:
الطريقة الأولى: أن يتضمن العقد حق تسليم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه.
وهذا العقد جائز شرعًا بشروط البيع المعروفة.
الطريقة الثانية: أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هيئة السوق.
وهذا العقد جائز شرعًا بشروط البيع المعروفة.(7/581)
الطريقة الثالثة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطًا يقتضي أن ينتهي فعلًا بالتسليم والتسلم.
وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين. ويمكن أن يعدل ليستوفي شروط السلم المعروفة. فإذا استوفى في شروط السلم جاز.
وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلمًا قبل قبضها.
الطريقة الرابعة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرط أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين بل يمكن تصفيته بعقد معاكس.
وهذا هو النوع الأكثر شيوعًا في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز أصلًا.
2- التعامل بالعملات:
يتم التعامل بالعملات في الأسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربع المذكورة في التعامل بالسلع.
ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة.
أما الطريقتان الأولى والثانية فيجوز فيهما شراء العملات وبيعها بشرط استيفاء شروط الصرف المعروفة.(7/582)
3- التعامل بالمؤشر:
المؤشر هو رقم حسابي يحسب بطريقة إحصائية خاصة يقصد منه معرفة حجم التغير في سوق معينة. وتجري عليه مبايعات في بعض الأسواق العالمية.
ولا يجوز بيع وشراء المؤشر لأنه مقامرة بحتة وهو بيع شيء خيالي لا يمكن وجوده.
4- البديل الشرعي للمعاملات المحرمة في السلع والعملات:
ينبغي تنظيم سوق إسلامية للسلع والعملات على أساس المعاملات الشرعية وبخاصة بيع السلم والصرف والوعد بالبيع في وقت آجل والاستصناع وغيرها.
ويرى المجمع ضرورة القيام بدراسة وافية لشروط هذه البدائل وطرائق تطبيقها في سوق إسلامية منظمة.
رابعًا – بطاقة الائتمان:
تعريفها:
بطاقة الائتمان هي مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري – بناء على عقد بينهما – يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند دون دفع الثمن حالًا لتضمنه التزام المصدر بالدفع. ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف. ولبطاقات الائتمان صور:(7/583)
- منها ما يكون السحب أو الدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف وليس من حساب المصدر فتكون بذلك مغطاة. ومنها ما يكون الدفع من حساب المصدر ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية.
- ومنها ما يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع خلال فترة محددة من تاريخ المطالبة. ومنها ما لا يفرض فوائد.
- وأكثرها يفرض رسمًا سنويًّا على حاملها ومنها ما لا يفرض فيه المصدر رسمًا سنويًّا.
وبعد التداول قرر المجلس تأجيل البت في التكييف الشرعي لهذه البطاقة وحكمها إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
والله أعلم(7/584)
البيع بالتقسيط
المحور الأول: (المداينة ونظرة الإسلام إليها) .
المحور الثاني: (بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة) .
المحور الثالث: (ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار) .
إعداد
الدكتور نزيه كمال حماد
بسم الله الرحمن الرحيم
المحور الأول
(المداينة ونظرة الإسلام إليها)
حكمها التكليفي:
1 – للمداينة في النظر الفقهي صور شتي، أهمها البيع الآجل والسلم والقرض. ولا يختلف الحكم التكليفي للبيع الآجل عن السَّلَم؛ لأن كلًّا منهما عبارة عن بيع جعل فيه أحد العوضين موجلًا، فأما البيع الآجل؛ فقد تأخر فيه الثمن، وأما السلم فالمتأخر فيه المثمن. والأصل في حكمهما الحل والإباحة، لحاجة الناس للتداين بهما في الجملة، ما لم يكن فيهما استغلال من الدائن لحاجة المدين إلى هذه المعاقدة، بحيث ينطوى البدل المؤخر في حق الطرف الغابن المستغل، قياسًا على بيع المضطر بزيادة على بذل المثل استغلالًا لحاجته.
جاء في الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي: قال أبو طالب: قيل لأحمد: إن ربح الرجل في العشرة خمسة، أيكره ذلك؟ قال: إذا كان أجله إلى سنة أو أقل بقدر الربح فلا بأس به. وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله يقول: بيع النسيئة إذا كان مقاربًا فلا بأس به.
ثم علق شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك بقوله: وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل، لأنه يشبه بيع المضطر، وهذا يعم بيع المرابحة والمساومة (1) .
__________
(1) الاختيارات الفقهية: ص 122، 123.(7/585)
2 – أما القرض، فلا خلاف بين العلماء في أن الأصل فيه – أي في حق المقرض – أنه قربة من القرب، لما فيه من إيصال النفع للمقترض وقضاء حاجته وتفريج كربته وإعانته على كسب قربة غالبًا، وأن حكمة من حيث ذاته الندب، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا، كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)) (1) . لكن قد يعرض له الوجوب أو الكراهية أو الحرمة أو الإباحة، بحسب ما يلازمه أو يفضي إليه، لأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد.
وبناء على ذلك نص الفقهاء على أن المقترض إذا كان مضطرًّا إلى المال، كان إقراضه واجبًا، وإن علم المقرض أو غلب على ظنِّه أن المقترض ينفقه في معصية أو مكروه، كان حرامًا أو مكروهًا على حسب الحال. ولو اقترض تاجر لا لحاجة، بل ليزيد في تجارته طمعًا في الربح الذي يحصل له من ذلك، كان إقراضه مباحًا. ومثل ذلك ما لو أقرض غنيًّا لغرض الدافع ومصلحته، كحفظ ماله بإحرازه في ذمة المقترض الموسر، فإنه يكون مباحًا أيضًا، حيث إنه لم يشتمل على تنفيس كربة لمحتاج، ليكون مطلوبًا شرعيًّا (2) .
3 – أمَّا في حق المقترض، فالأصل في حكمه الإباحة، وذلك لمن علم من نفسه الوفاء، بأن كان له مال مرتجى، وعزم على الوفاء منه، وإلَّا لم يجز، وكان آثمًا في التدليس لإخفاء حاله على مقترضه، ما لم يكن مضطرًّا – فإن كان كذلك وجب في حقِّه لدفع الضرر عن نفسه – أو كان المقترض عالمًا بعدم قدرته على الوفاء وأعطاه مع ذلك، فلا يحرم عليه حينئذ الاقتراض، لأن المنع إنما كان لحق المقترض، وقد أسقط حقه مع علمه بحاله (3) . قال ابن حجر الهيتمي في " الإنافة ": فعلم أنه لا يحلُّ لفقير إظهار الغني عند الاقتراض، لأن فيه تغريرًا لمقرض " (4) وقال في " تحفة المحتاج ": " ومن ثم لو علم المقترض أنه إنما يقرضه لنحو صلاحه، وهو باطنًا بخلاف ذلك، حرُم عليه الاقتراض أيضًا، كما هو ظاهر " (5) . بل إنه عدَّ في كتابه "الزواجر" الاستدانة مع نيَّة عدم الوفاء أو مع عدم رجائه، بأن لم يضطر، ولا كان له جهة ظاهرة يفي منها، والدائن جاهل بحاله: من الكبائر (6) . لما روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)) . والطبراني عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من ادَّان دينًا، وهو ينوي أن يُؤدِّيَه فمات، أدَّاهُ اللهُ عنه يوم القيامةِ, ومن استدان دينًا وهو ينوي ألَّا يُؤدِّيَه فمات, قال الله عزَّ وجلَّ له يومَ القيامةِ: ظننتَ أنِّي لا آخذ لعبدي بحقِّهِ؟ فيؤخذُ من حسناته فتجعل في حسنات الآخر، فإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات الآخر، فتجعل عليه)) .
هذا، وقد اختلف الفقهاء فيمن يرغب في النكاح ولا مالَ له: هل يستحب له أن يقترض ويتزوج؟ فقال بعضهم: يستحب له ذلك، لكونه وسيلة لتحقيق مطلوب شرعي، وهو النكاح وقال. وقال غيرهم: لا يستحب له ذلك (7) ، لقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] .
__________
(1) أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد. (انظر صحيح مسلم: 4/2074؛ وعارضة الأحوذي: 6/199؛ وسنن ابن ماجه: 1/82؛ ومسند أحمد: 2/252، 296، 500) .
(2) المغني، لابن قدامة: 6/429؛ وأسنى المطالب: 2/140؛ ونهاية المحتاج: 4/215؛ وروضة الطالبين: 4/32؛ والزرقاني على خليل: 5/226؛ والبهجة شرح التحفة:2/287 ومواهب الجليل: 4/545.
(3) تحقه المحتاج وحواشيه: 5/36؛ وعارضة الأحوذي: 6/47؛ وكشاف القناع: 3/299؛ والمغني: 6/429.
(4) الإنافة في الصدق والضيافة، لابن حجر الهيتمي: ص 155.
(5) تحفة المحتاج: 5/37.
(6) الزواجر عن اقتراف الكبائر: 1/247.
(7) مجموعة فتاوى ابن تيمية: 32/6؛ ومختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية: ص 432.(7/586)
الاقتراض على بيت المال:
4 – لا خلاف بين الفقهاء في أنه يجوز للإمام الاستقراض على بيت المال وقت الأزمات وعند الملمات والنوائب لداعي الحاجة الماسَّة أو المصلحةِ الراجحة. قال إمام الحرمين الجويني: (وما ذكره الأولون من استسلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مسيس الحاجات، واستعجاله الزكوات، فلست أنكر جواز ذلك، ولكني أجوز الاستقراض عند اقتضاء الحال وانقطاع الأموال ومصير إلى منتهى يغلب على الظن فيه استيعاب الحوادث لما يتجدد في الاستقبال " (1) .
غير أن الفقهاء قيدوا ذلك بثلاثة شروط:
(أحدها) أن يكون هناك إيراد مرتجى لبيت المال ليوفى منه القرض. قال الشاطبي: " والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرتجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجى " (2) . وقال الغزالي: " ولسنا ننكر جواز الاستقراض ووجوب الاقتصار عليه (3) إذا دعت المصلحة إليه، ولكن إذا كان الإمام لا يرتجي انصباب مال إلى بيت المال يزيد على مؤن العسكر ونفقات المرتزقة في الاستقبال، فعلى ماذا الاتكال في الاستقراض مع خلو اليد في الحال وانقطاع الأمل في المآل؟! " (4) .
__________
(1) غياث الأمم في التياث الظلم (طبعة قطر) : ص 279.
(2) الاعتصام (طبعة دار الفكر) : 2/122.
(3) أى الاقتصار على الاستقراض دون اللجوء لفرض ضرائب على الناس.
(4) شفاء الغليل، للغزالي: ص241 وما بعدها.(7/587)
(والثاني) أن يكون الاستقراض من أجل الوفاء بالتزام ثابت على بيت المال، وهو ما يصير بتأخيره دينًا لازمًا عليه. وما ليس كذلك لا يستقرض له. قال القاضي أبو يعلى: "لو اجتمع على بيت المال حقَّان ضاق عنهما واتسع لأحدهما، صرف فيما يصير منهما دينًا فيه. ولو ضاق عن كل واحد منهما، كان لوليِّ الأمر إذا خاف الضرر والفساد أن يقترض على بيت المال ما يصرفه في الديون (1) دون الإرفاق (2) ، وكان من حدث بعده من الولاة مأخوذًا بقضائه إذا اتسع له بيت المال " (3) .
(والثالث) أن يعيد الإمام إلى بيت المال كل ما اقتطعه منه لنفسه وعياله وذويه بغير حقٍّ وما وضعوه في حرام، وتبقى الحاجة إلى الاستقراض قائمة. قال التاج السبكي: لما عزم السلطان قطز على المسير من مصر لمحاربة التتار، وقد دهموا البلاد، جمع العساكر، فضاقت يده عن نفقاتهم، فاستفتى الإمام العز بن عبد السلام في أن يقترض من أموال التجار. فقال له العزُّ: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمر ما عندهم من الحلي الحرام اتخاذه، وضربته سكة ونقدًا، وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم ذلك الوقت اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا (4) .
5 – هذا ما يتعلق باستقراض الإمام على بيت المال للمصلحة العامة. أما استقراضه عليه لغير ذلك من مصالح بعض الأفراد الذين تجب مؤنتهم على بيت المال عند عدم وفائه بذلك، فقد نصَّ الحنابلة والشافعية في باب اللقيط على وجب النفقة عليه من بيت المال إذا لم يوجد له مال، فإن تعذر أخذ نفقته من بيت المال – بأن لم يكن في بيت المال شيء أو كان ما هو أهم منه – اقترض الحاكم على بيت المال مقدار نفقته (5) .
__________
(1) لأن استحقاقها غير معتبر بالوجود والتوفر في بيت المال، لأنها من الحقوق اللازمة مع الوجود والعدم فيه. (الأحكام السلطانية، لأبي يعلى: ص252) .
(2) لأن استحقاقها معتبر بالوجود في بيت المال دون العدم، فإن كان مصرفها موجودًا في بيت المال وجب فيه وسقط فرضه عن المسلمين، وإن كان معدومًا سقط وجوبها عن بيت المال. (الأحكام السلطانية، لأبي يعلى: ص253) .
(3) الأحكام السلطانية، لأبي يعلى: ص253؛ وانظر الأحكام السلطانية للماوردي: ص215 (طبعة مصطفى الحلبي) ؛ وتحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، لابن جماعة (طبعة قطر) : ص150، 151.
(4) طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي: 8/215؛ وانظر طبقات المفسرين، للداوودي:1/316.
(5) تحفة المحتاج: 6/348؛ وكشاف القناع: 4/252؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/482.(7/588)
الاقتراض على الوقف:
6- أما الاستقراض على الوقف، فهو جائز أيضًا لداعي المصلحة. قال البهوتي الحنبلي: " والظاهر أن الدين في هذه المسائل يتعلق بذمة المقترض وبهذه الجهات، كتعلق أرش الجناية برقبة العبد الجاني، فلا يلزم المقترض الوفاء من ماله، بل من ريع الوقف وما يحدث لبيت المال. أو يقال: لا يتعلق بذمته رأسًا " (1) . أي بذمة المقترض.
7 – غير أن الفقهاء اختلفوا في شروط الاستدانة على الوقف على+++ ثلاثة أقوال:
(أحدها) للشافعية: وهو أنه يجوز لناظر الوقف الاقتراض على الوقف عند الحاجة إن شرطه له الواقف أو أذن له فيه الحاكم. قالوا: فلو اقترض من غير إذن القاضي ولا شرط من الواقف لم يجز، ولا يرجع على الوقف بما صرفه لتعديه فيه (2) .
(والثاني) للمالكية والحنابلة: وهو أنه يجوز للناظر الاقتراض على الوقف بلا إذن حاكم لمصلحة – كما إذا قامت حاجة لتعميره، ولا يوجد غلة للوقف يمكن الصرف منها على عمارته – لأن الناظر مؤتمن مطلق التصرف، فالإذن والائتمان ثابتان له (3) .
والثالث للحنفية: وهو أنه لا تجوز الاستدانة على الوقف إن لم تكن بأمر الواقف إلَّا إذا احتيج إليها لمصلحة الوقف – كتعمير وشراء بذر وليس للواقف غلة قائمة بيد المتولي، فتجوز عند ذلك بشرطين: الأول: إذن القاضي إن لم يكن بعيدًا عنه، لأن ولايته أعم في مصالح المسلمين، فإن كان بعيدًا عنه فيستدين الناظر بنفسه. والثاني: أن لا تتيسر إجارة العين والصرف من أجرتها (4) .
__________
(1) كشاف القناع: 3/300؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/225. * ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن الحنابلة في الأصل لا يجيزون الاقترض على الجهات العامة، لعدم تمتعها بالذمة حسب نصوصهم، لكنهم أجازوا ذلك بالنسبة للوقف وبيت المال استثناء لداعي المصلحة. ومن أجل ذلك جاءت عبارة مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد في م (737) مومئةً إلى ذلك: " من شأن القرض أن يصادف ذمَّة يثبت فيها، لكن يصح الاقتراض على بيت المال كما يصح الاقتراض على الوقف ".
(2) نهاية المحتاج: 5/397؛ وتحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليه: 6/289.
(3) مواهب الجليل: 6/40؛ وكشاف القناع: 3/300، 4/295؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/225.
(4) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه: 3/419؛ والإسعاف للطرابلسي: ص47.(7/589)
المحور الثاني
(بين صلح الحطيطة وحسم الكمبيالة)
7 – لقد اختلف الفقهاء فيما إذا كان للرجل دين مؤجل على آخر، فأراد أن يضع عن المدين بعضه على أن يعجل له الباقي، فهل يجوز لهما الاتفاق على ذلك؟ وتسمى هذه المسألة عندهم بـ " ضع وتعجل "، وتصنف تحت عنوان " صلح الإسقاط " أو " صلح الإبراء " أو " صلح الحطيطة "، ولهم فيها ثلاثة أقوال:
(أحدها) للشافعية والمالكية، وهو أن ذلك لا يجوز (1) . واستدلوا على ذلك بما روى البيهقي عن المقداد بن الأسود قال: " أسلفت رجلًا مائة دينار، ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت له: عجل تسعين دينارًا، وأحطُّ عشرة دنانير. فقال: نعم. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أكلت ربا يا مقداد، وأطعمته " (2) . وبما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن الرجل يكون له الدين على رجل إلى أجل، فيضع عنه صاحبه، ويعجل له الآخر. فكره ذلك ابن عمر، ونهى عنه. ومثل ذلك روي عن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما (3) .
وعلل الشافعية عدم الصحة " بأنه ترك بعض المقدار ليحصل الحلول في الباقي والصفة بانفرادها لا تقابل بعوض، ولأن صفة الحلول لا يصح إلحاقها بالمؤجل، وإذا لم يحصل ما ترك من القدر لأجله، لم يصح الترك " (4) . ووجه المنع عند المالكية: " أن من عجل ما أجل يعد مسلفًا، فقد أسلف الآن خمسمائة ليقتضي عند الأجل ألفًا من نفسه " (5) .
وبيان ذلك: أنه إذا تعجل البعض وأسقط الباقي، فقد باع الأجل بالقدر الذي أسقطه، وذلك عين الربا، كما لو باع الأجل بالقدر الذي يزيده إذا حل عليه الدين، فقال: زدني في الدين وأزيدك في المدة، فأي فرق بين أن تقول: حط من الأجل، وأحط من الدين، أو تقول: زد في الأجل وأزيد في الدين؟ قالوا: فنقص الأجل في مقابلة نقص العوض، كزيادته في مقابلة زيادته، فكما أن هذا ربا، فكذلك الآخر (6) .
__________
(1) روضة الطالبين: 4/196؛ ونهاية المحتاج: 4/374؛ وأسنى المطالب: 2/216؛ وشرح الخرشي: 6/3؛ والبهجة شرح التحفة: 1/221؛ والزرقاني على خليل: 6/3؛ والتاودي على التحفة: 1/221.
(2) السنن الكبرى، للبيهقي: 6/28 وهو حديث ضعيف كما ذكر العلَّامة ابن القيم في الإغاثة: 2/12.
(3) إغاثة اللهفان، لابن القيم: 2/12.
(4) أسنى المطالب: 2/216.
(5) البهجة للتسولي: 1/221.
(6) إغاثة اللهفان، لابن القيم: 2/12.(7/590)
و (الثاني) للحنابلة على الصحيح في المذهب والحنفية، وهو عدم جواز الصلح عن دين مؤجل ببعضه معجلًا – لأن المحطوط عوض عن التعجيل، فأشبه ما لو أعطاه عشرة حالَّة بعشرين مؤجلة – إلَّا في دين الكتابة, لأن الربا لا يجري بينهما في ذلك. (1) وقد جاء في م (1621) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد "لا يصح الصلح عن دين مؤجل ببعضه حالًّا إلَّا في دين الكتابة" وقد علل الحنفية المنع في غير دين الكتابة: " بأن صاحب الدين المؤجل لا يستحق المعجل، فلا يمكن أن يجعل استيفاءً، فصار عوضًا، وبيع خمسمائة بألف لا يجوز " (2) .
وبيان ذلك: أن المعجل لم يكن مستحقًّا بالعقد حتى يكون استيفاؤه استيفاء لبعض حقه، والتعجيل خير من النسيئة لا محالة، فيكون خمسمائة بمقابلة خمسمائة مثله من الدين، والتعجيل في مقابلة الباقي، وذلك اعتياض عن الأجل، وهو باطل. ألا ترى أن الشرع حرم ربا النسيئة، وليس فيه إلا مقابلة المال بالأجل شبهة، فلأن تكون مقابلة المال بالأجل حقيقة حرامًا أولى " (3) .
قالوا: " أما إذا صالح المولى مكاتبه عن ألف مؤجلة على خمسمائة حالة فإنه يجوز، لأن معنى الإرفاق فيما بينهما أظهر من معنى المعاوضة، فلا يكون هذا من مقابلة الأجل ببعض المال، ولكنه إرفاق من الموالي بحط بعض البدل، وهو مندوب في الشرع، ومساهلة من المكاتب فيما بقي قبل حلول الأجل، ليتوصل به إلى شرف الحرية، وهو أيضًا مندوب إليه في الشرع " (4) .
__________
(1) البحر الرائق: 7/259؛ وتبيين الحقائق: 5/43؛ والبدائع: 6/45؛ والدر المنتقى: 2/315؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/260؛ والمبدع: 4/279؛ وكشاف القناع: 3/380.
(2) تحفة الفقهاء: 3/423.
(3) العناية على الهداية: 7/396؛ وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه:5/42؛ وشرح المجلة للأتاسي: 4/564.
(4) تبيين الحقائق للزيلعي: 5/43.(7/591)
(والثالث) رواية عن الإمام أحمد، حكاها ابن أبي موسى وغيره، وهو جواز ذلك (1) . وهو قول ابن عباس وإبراهيم النخعي، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية (2) .
واحتج هؤلاء بما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير من المدينة، جاءه ناس منهم فقالوا: يا رسول الله، إنك أمرت بإخراجهم، ولهم على الناس ديون لم تحل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ضعوا وتعجلوا)) . قال الحاكم: صحيح الإسناد (3) .
قالوا: وهذا ضد الربا، فإن ذلك يتضمن الزيادة في الأجل والدين، وذلك إضرار محض بالغريم، ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين، وانتفاع صاحبه بما يتعجله، فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر، بخلاف الربا المجمع عليه، فإن ضرره لا حق بالمدين، ونفعه مختص برب الدين، فهذا ضد الربا صورة ومعنى (4) .
وفي " إعلام الموقعين " لابن القيم: " لأن هذا عكس الربا، فإن الربا يضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل، وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل، فانتفع به كل واحد منهما، ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفًا، فإن الربا الزيادة، وهي منتفية ههنا، والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: " إما أن تربي وإما أن تقضي " وبين قوله: " عجل لي وأهب لك مائة " فأين أحدهما من الآخر، فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح " (5) .
__________
(1) المبدع: 3/280؛ وإغاثة اللهفان: 2/11.
(2) الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية: ص 134؛ وإعلام الموقعين: 3/371؛ وأحكام القرآن، للجصاص: 2/186 (طبعة مصر بعناية محمد الصادق قمحاوي) .
(3) وقد علق ابن القيم على تصحيح الحاكم هذا، فقال: قلت هو على شرط السنن، وقد ضعفه البيهقي، ورجال إسناده ثقات، وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي، وهو ثقة فقيه، روى عنه الشافعي واحتج به. (إغاثة اللهفان: 2/13؛ وسنن البيهقي: 6/28) .
(4) إغاثة اللهفان: 2/13.
(5) إعلام الموقعين: 3/371.(7/592)
8 – هذا، وقد اتجه بعض الباحثين إلى القول بمشروعية خصم الكمبيالات (حسم الإسناد) تخريجًا على قول الفقهاء المبيحين لحط بعض الدين المؤجل عن المدين نظير تعجيله وقياسًا على قوله صلى الله عليه وسلم: ((ضعوا وتعجلوا)) . غير أن هذا الاتجاه غير مقبول شرعًا في نظري لأربعة وجوه:
(أحدها) أننا لو أخذنا عملية خصم الكمبيالات على ظاهرها بحسب الشكل الذي أفرغت فيه لوجدناها من قبيل بيع الدين لغير من عليه الدين، حيث يبيع صاحب الكمبيالة (الدائن) دينه المؤجل المسطور فيها لغير المدين بثمن معجل من جنسه، وبيع الدين لغير من عليه الدين جائز شرعًا إذا انتفى فيه الغرر والربا، غير أن الربا ليس بمنتف ههنا، بل هو متحقق، لأن العوضين من النقود، وقد باع الدائن نقدًا آجلًا بنقد عاجل أقل منه، فانطوى بيعه هذا على ربا الفضل وربا النساء (1) .
(والثاني) أننا لو نظرنا إلى عملية خصم الكمبيالات بحسب المقصود والغاية منها، لوجدناها أحد أمرين:
(أ) إما إقراض مبلغ وأخذ المقرض حوالة من المقترض بمبلغ أكثر منه يستوفى بعد مدة معينة. وهو ربا صريح لا مجال للتأويل فيه؛ لأن الحوالة يشترط فيها تساوي الدينين: المحال به والمحال عليه. وهنا تحقق بين مبلغ القرض والمبلغ المستوفى فيما بعد زيادة في مقابل الأجل، وهو من ربا النسيئة (2) .
(ب) أو قرض مضمون بالورقة التجارية المظهرة لأمر المصرف تظهيرًا تامًا، إذ المصرف لم يقصد أن يكون مشتريًا للحق الثابت في الورقة، ولا أن يكون محالًا به، وإنما قصد الإقراض، فقبل انتقال ملكية الورقة المخصومة إليه على سبيل الضمان، فإذا حل وقت استحقاقها ولم يدفع أي من الملتزمين قيمتها، فإن المصرف يعود على الخاصم بالقيمة، دون أن يرغب أو يكلف نفسه بعبء ملاحقة الملتزمين حتى نهاية المطاف، كما هو الحاصل عمليًا (3) .
(والثالث) أن حديث ((ضعوا وتعجلوا)) تضمن مشروعية حط الدائن لمدينه بعض الدين المؤجل نظير تعجيله على أساس أنه نوع من الصلح في الديون بين الدائن والمدين فحسب، ولذلك صنف الفقهاء مسألة ضع وتعجل تحت عنوان " صلح الإسقاط " أو " صلح الإبراء " أو " صلح الحطيطة " باعتبار أن القصد منه إسقاط الدين عن المدين وإبراء ذمته، خلافًا لربا النسيئة الذي يتضمن إنشاء الدين وشغل الذمة، والفرق بينهما كما ذكر ابن القيم (أن مقابلة الأجل بالزيادة في الربا ذريعة إلى أعظم الضرر، وهو أن يصير الدرهم الواحد ألوفًا مؤلفة، فتشتغل الذمة بغير فائدة، وفي الوضع والتعجيل تتخلص ذمة هذا من الدين، وينتفع ذاك بالتعجيل له، والشارع له تطلع إلى براءة الذمم من الديون، وسمَّى الغريم المدين أسيرًا، ففي براءة ذمته تخليص له من الأسر، وهذا ضد شغلها بالزيادة مع الصبر) (4) .
(والرابع) إن حديث الوضع والتعجل تضمن مشروعية الصورة التي ورد فيها على أساس أن تكون العلاقة في هذه العملية ثنائية بين الدائن والمدين، إذ لا يتصور صلح الحطيطة أو صلح الإسقاط في علاقة ثلاثية – كما هو الحال في خصم الكمبيالات – حيث يدخل طرف ثالث ممول يقدم قرضًا بزيادة مقابل الأجل بشكل صريح أو ضمني.
__________
(1) انظر: المصارف معاملاتها وودائعها وفوائدها للأستاذ المحقق مصطفى الزرقا: ص10.
(2) انظر: المصارف معاملاتها وودائعها وفوائدها للأستاذ المحقق مصطفى الزرقا: ص 10.
(3) انظر: تطوير الأعمال المصرفية للدكتور سامي حمود: ص 284.
(4) إغاثة اللهفان: 2/13؛ وانظر إعلام الموقعين: 3/371.(7/593)
المحور الثالث
(ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار)
9 – لا خلاف بين الفقهاء في أن المدين المعسر الذي لا يقدر على وفاء دينه يمهل حتى يوسر، ويترك يطلب الرزق لنفسه وعياله ودائنيه، ولا تحل مطالبته ولا ملازمته ولا مضايقته، لأن المولى سبحانه أوجب إنظاره إلى وقت الميسرة فقال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [الآية 280 من البقرة] . قال القاضي أبو الوليد بن رشد: " لأن المطالبة بالدين إنما تجب مع القدرة على الأداء، فإذا ثبت الإعسار، فلا سبيل إلى المطالبة، ولا إلى الحبس بالدين، لأن الخطاب مرتفع عنه إلى أن يوسر " (1) . وعلى ذلك نص جماهير الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة (2) . وقال القاضي ابن العربي: " إذا لم يكن المديان غنيًّا، فمطله عدل، وينقلب الحال على الغريم، فتكون مطالبته ظلمًا، لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} " (3)
10 – أما بيان ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار، فإنه لا يخفى أن الإعسار في اللغة يعني الانتقال من الميسرة إلى العسرة. يقال: أعسر الرجل؛ إذا صار من ميسرة إلى عسرة. والعسرة في اللغة هي الضيق وقلة ذات اليد. قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: " العين والسين والراء أصل صحيح واحد يدل على صعوبة وشدة. فالعسر نقيض اليسر، والإقلال أيضًا عسرة، لأن الأمر ضيق عليه شديد " (4) .
أما العسرة في الاصطلاح الفقهي فتعني عدم قدرة المرء على أداء ما عليه من مال (5) . وقد ذكر القاضي أبو الوليد بن رشد أن للمدين المعسر حالتين، إما أن يكون معدمًا، وإما ألا يكون، إذ ليس كل معسر معدمًا، وإن كان كل معدم معسرًا.
(أولًا) فإن كان المدين معدمًا، أي قد نفذ ماله كله، فلم يبق عنده ما ينفقه على نفسه وعياله فضلًا عن وفاء دينه، فهذا يجب على الدائن إنظاره لا محالة، لأنه في حالة عجز مطلق عن أداء ما عليه من دين، ولا سبيل إلى تكليفه شرعًا بما لا يطيق. جاء في "المقدمات الممهدات ": " وأما المعسر المعدم، فتأخيره إلى أن يوسر واجب، والحكم بذلك لازم، لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} " (6) .
(ثانيًا) وأما إذا لم يكن المدين المعسر معدمًا، أي إنه يملك بعض المال، ولكنه قليل لا يكاد يكفيه للإنقاق على نفسه وعياله بالمعروف وقضاء دينه إلا بمشقة وضيق وضرر. فقد قال ابن رشد فيه: " وأما المعسر الذي ليس بمعدم – وهو الذي يحرجه تعجيل القضاء ويضر به – فتأخيره إلى أن يوسر ويمكنه القضاء من غير مضرة تلحقه مرغب فيه ومندوب إليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أنظر معسرًا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" (7) . والآثار في ذلك كثيرة، والمطل بالأداء وهو جاهد فيه غير مقصر ولا متوان غير محظور عليه إن شاء الله وكان الشيوخ بقرطبة رحمهم الله يفتون بتأخيره بالاجتهاد على قدر المال وقلته، ولا يوكلون عليه في بيع عروضه وعقاره في الحال، وعلى ذلك تدل الروايات، خلاف ما كان يفتي به سائر فقهاء الأندلس من التوكيل عليه بيع ماله وتعجيل إنصافه " (8) .
__________
(1) المقدمات الممهدات:2/306.
(2) المغني، لابن قدامة: 4/499؛ وكشاف القناع: 3/418؛ والمبسوط: 24/164؛ ونهاية المحتاج: 4/319؛ وشرح السنة، للبغوي: 8/195؛ والنووي على مسلم:10/218؛ والمنتقى، للباجي: 5/66.
(3) عارضة الأحوذي 6/47.
(4) معجم مقاييس اللغة: 4/319؛ وانظر المصباح المنير: 2/487؛ والمطلع، للبعلي: ص552.
(5) المهذب، للشيرازي: 2/164.
(6) المقدمات الممهدات: 2/207.
(7) أخرجه أحمد في مسنده 2/359، وروى مسلم في صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر أو يضع عنه ". [صحيح مسلم بشرح النووي 10/227] .
(8) المقدمات الممهدات:2/307.(7/594)
11 – وهذا التقسيم الاجتهادي وجيه، ويصلح ضابطًا معتبرًا للإعسار الذي يوجب الإنظار والذي لا يوجبه. وقد أشار العلامة محمد الطاهر بن عاشور في" التحرير والتنوير " إلى تعليل هذا النظر الفقهي ومستنده، فذكر أن النظرة في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} .
صيغة طلب، وهي محتملة للوجوب والندب. فإن أريد بالعسرة العدم، أي نفاذ ماله كله، فالطلب للوجوب، والمقصود به إبطال حكم بيع المعسر واسترقاقه في الدين إذا لم يكن له وفاء الذي كان في الجاهلية وعند قدماء المصريين وفي شريعة الرومان. وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء، فالطلب يحتمل الوجوب – وقد قال به بعض الفقهاء – ويحتمل الندب، وهو قول مالك والجمهور. فمن لم يشأ لم ينظره ولو يبيع جميع ماله، لأن هذا حق يمكن استيفاؤه، والإنظار معروف، والمعروف لا يجب. غير أن المتأخرين بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلا يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما به الخلاص (1) .
12 – بعد هذا تجدر الإشارة إلى أن الفقهاء اختلفوا في المدين المعسر إذا كان معدمًا، هل يجبر على إجارة نفسه لوفاء دين الغرماء من أجرته أم لا؟ على قولين:
(أحدهما) للزهري والليث بن سعد، وهو أن الحر المعسر يؤاجر، ويستوفى الدين من أجرته (2) . ووافقهم على ذلك ابن حزم الأندلسي حيث نص على إجباره على التكسب لقضاء دينه، ولو بتأجيره نفسه لغرمائه إذا كان قادرًا على العمل، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [الآية 135 من النساء] حيث إن إلزامه بذلك لإنصاف دائنيه وإعطائهم حقهم دون تأخير من القوامة بالقسط (3) . ثم قال: " فإن قيل: إن قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} يمنع من استئجاره!! قلنا: بل يوجب استئجاره؛ لأن الميسرة لا تكون إلا بأحد وجهين: إما بسعي، وإما بلا سعي. وقد قال تعالى: {وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الآية 10 من الجمعة] ، فنحن نجبره على ابتغاء فضل الله تعالى الذي أمره بابتغائه فنأمره ونلزمه بالتكسب لينصف غرماءه، ويقوم بعياله ونفسه، ولا ندعه يضيع نفسه وعياله والحق اللازم له " (4) .
(والثاني) للمالكية والحنفية وجماهير أهل العلم، وهو أن من كان عليه دينٌ, ولم يكن له مال يؤديه منه، فهو في نظرة الله تعالى إلى أن يوسر، ولا يحبس ولا يؤاجر ولا يستخدم ولا يستعمل، لأن الدين تعلق بذمته، لا بمنافع بدنه، فلا دين يؤاجر فيه، ولأن قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} عام في كل من أعسر بدين، كائنًا ذلك المدين ما كان (5) . فالمولى سبحانه قال: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ولم يقل فليؤاجر بما عليه. ثم إن الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في المعسر ليس في شيء منها إجارته، وإنما فيها تركه، وحديث أبي سعيد الخدري " ليس لكم إلا ذلك " (6) حين لم يجدوا له غير ما أخذوا صريح في الدلالة على المطلوب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور نزيه كمال حماد
__________
(1) التحرير والتنوير: 3/96.
(2) أحكام القرآن، للجصاص: 2/204.
(3) المحلى: 8/172.
(4) المحلى: 8/173.
(5) المقدمات الممهدات: 2/306.
(6) حيث روى أن رجلًا أصيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال صلى الله عليه وسلم: " تصدقوا عليه ". فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال عليه الصلاة والسلام: " خذوا ما وجدتم، ليس لكم إلَّا ذلك ". " أحكام القرآن، للجصاص: 2/202 ".(7/595)
أحكام البيع بالتقسيط
وسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي
إعداد
فضيلة القاضي محمد تقي العثماني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فإن البيع بالتقسيط من البيوع التي قد شاع تداولها في عصرنا الحاضر في جميع البلدان الإسلامية، وهو البيع الذي يلجأ إليه كثير من الناس لشراء حاجاتهم، وتأثيث منازلهم، والتمتع بالآلات الحديثة الغالية التي لا يمكن لهم شراؤها بثمن حال. فمسَّت الحاجة إلى بيان الحكم الشرعي لهذا البيع، وما يتفرع عليه من مسائل مختلفة. وإن هذا البحث الموجز يهدف إلى إنجاز هذه الحاجة، والله سبحانه وتعالى أسأل أن يوفقني فيه للسداد والصواب، ويشرح صدري لما فيه رضاه عَزَّ وَجَلَّ.
حقيقة البيع بالتقسيط:
البيع بالتقسيط بيع بثمن مؤجل يدفع إلى البائع في أقساط متفق عليها، فيدفع البائع البضاعة المبيعة إلى المشتري حالة، ويدفع المشتري الثمن في أقساط مؤجلة، وإن اسم " البيع بالتقسيط " يشمل كل بيع بهذه الصفة سواء كان الثمن المتفق عليه مساويًا لسعر السوق، أو أكثر منه، أو أقل، ولكن المعمول به في الغالب أن الثمن في " البيع بالتقسيط " يكون أكثر من سعر تلك البضاعة في السوق، فلو أراد رجل أن يشتريها نقدًا، أمكن له أن يجدها في السوق بسعر أقل ولكنه حينما يشتريها بثمن مؤجل بالتقسيط، فإن البائع لا يرضى بذلك إلا أن يكون ثمنه أكثر من ثمن النقد، فلا ينعقد البيع بالتقسيط عادة إلا بأكثر من سعر السوق في بيع الحال.(7/596)
زيادة الثمن من أجل التأجيل:
ومن هنا ينشأ السؤال: هل يجوز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من الثمن الحال؟ وقد تكلم الفقهاء في هذه المسألة قديمًا وحديثًا، فذهب بعض العلماء إلى عدم جوازه، لكون الزيادة عوضًا من الأجل، وهو الربا، أو فيه مشابهة للربا، وهذا مذهب مرويٌّ عن زين العابدين عليِّ بن الحسين، والناصر والمنصور بالله، والهادوية، كما نقل عنهم الشوكاني رحمه الله (1)
أما الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء والمحدثون، فقد أجازوا البيع المؤجل بأكثر من سعر النقد، بشرط أن يبت العاقدان بأنه بيع مؤجل بأجل معلوم، وبثمن متفق عيه عند العقد، فأما إذا قال البائع: أبيعك نقدًا بكذا ونسيئةً بكذا، وافتراقا على ذلك، دون أن يتفقا على تحديد واحد من السعرين، فإن مثل هذا البيع لا يجوز، ولكن إذا عين العاقدان أحد الشقين في مجلس العقد، فالبيع جائز.
يقول الإمام الترمذي رحمه الله في جامعه: تحت حديث أبي هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، وقد فسر بعض أهل العلم قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: " أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإن فارقه على أحدهما، فلا بأس، إذا كانت العقدة على أحد منهما " (2) .
وحاصل قول الإمام الترمذي رحمه الله تعالى: أن علة النهي عن هذا البيع إنما هو تردد الثمن بين الحالتين، دون أن تتعين إحداهما عند العقد، وهذا يوجب الجهالة في الثمن، وليس سبب النهي زيادة الثمن من أجل التأجيل، فلو زالت مفسدة الجهالة بتعيين إحدى الحالتين فلا بأس بهذا البيع شرعًا.
وإن ما ذكره الإمام الترمذي رحمه الله، هو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء (3) ، وهو الراجح بالدليل، لأنه ليس في القرآن والسنة ما يمنع جواز مثل هذا البيع، وإن تعريف الربا لا ينطبق على هذه الزيادة في الثمن، لأنه ليس قرضًا، ولا بيعًا للأموال الربوية بمثلها، وإنما هو بيع محض، وللبائع أن يبيع بضاعته بما شاء من ثمن، ولا يجب عليه أن يبيعها بسعر السوق دائما، وللتجار ملاحظ مختلفة في تعيين الأثمان وتقديرها فربما تختلف أثمان البضاعة الواحدة باختلاف الأحوال، ولا يمنع الشرع من أن يبيع المرء سلعته بثمن في حالة، وبثمن آخر في حالة أخرى.
وبالتالي: فإن من يبيع البضاعة بثمانية نقدًا، وبعشرة نسيئة، يجوز له الإجماع أن يبيعها بعشرة نقدًا، ما لم يكن فيه غش أو خداع، فلم لا يجوز له أم يبيعها بالعشرة نسيئة؟
وبما أن هذه المسألة متفق عليها فيما بين المذاهب الأربعة المتداولة، وبين أكثر الفقهاء والمحدثين، فلا نريد الإطالة في بيان دلائلها من الكتاب والسنة، بل نريد أن ننطلق في هذا البحث على أساس جواز هذا البيع، ونذكر بعض التفاصيل والمسائل المتفرعة على هذا الجواز.
__________
(1) نيل الأوطار: 5/172.
(2) جامع الترمذي، كتاب البيوع، باب 18، حديث 1331: 3/533، طبع بيروت.
(3) راجع المغني، لابن قدامة: 4/177؛ والمبسوط، للسرخسي: 13/8؛ والدسوقي على الشرح الكبير: 3/58؛ ومغني المحتاج للشربيني: 2/31.(7/597)
1- الجزم بأحد الثمنين شرط للجواز:
قد تبين فيما سبق أنه لا بأس للبائع أن يذكر الأثمان المختلفة عند المساومة، فيقول: أبيعه نقدًا بثمانية، ونسيئة بعشرة، وهل يجوز أن يذكر أثمانًا مختلفة باختلاف الآجال، مثل أن يقول: أبيعه إلى شهر بعشرة، وإلى شهرين باثني عشر مثلًا؟ لم أَرَ في ذلك تصريحًا من الفقهاء، وقياس قولهم السابق أن يجوز ذلك أيضًا؛ لأنه إذا جاز اختلاف الأثمان على أساس كونها نقدًا أو نسيئة، جاز اختلافها على أساس آجال مختلفة، لأنه لا فارق بين الصورتين.
ولكن اختلاف الأثمان هذا إنما يجيز ذكرها عند المساومة، وأما عقد البيع فلا يصح، إلا إذا اتفق الفريقان على أجل معلوم وثمن معلوم، فلا بُدَّ من الجزم بأحد الشقوق المذكورة في المساومة.
فلو قال البائع مثلًا: إن أديت الثمن بعد شهر، فالبضاعة بعشرة، وإن أديته بعد شهرين، فهو باثني عشر، وإن أديته بعد ثلاثة أشهر، فهو بأربعة عشر، وافترقا على ذلك بدون تعيين أحد هذه الشقوق، زعمًا من المشتري أنه سوف يختار منها ما يلائمه في المستقبل، فإن هذا البيع حرام بالإجماع. ويجب على العاقدين أن يعقداه من جديد بتعيين أحد الشقوق واضحًا.
2 – إنما الجائز زيادة في الثمن، لا تقاضي الفائدة:
ومما يجب التنبيه عليه هنا: أن ما ذكر من جواز هذا البيع إنما هو منصرف إلى زيادة في الثمن نفسه، أما ما يفعله بعض الناس من تحديد ثمن البضاعة على أساس سعر النقد، وذكر القدر الزائد على أساس أنه جزء من فوائد التأخير في الأداء، فإنه ربا صراح، وهذا مثل أن يقول البائع: بعتك هذه البضاعة بثماني ربيات نقدًا، فإن تأخرت في الأداء إلى مدة شهر، فعليك ربيتان علاوة على الثمانية، سواء سماها "فائدة " (Interest) أو لا، فإنه لا شك في كونه معاملة ربوية، لأن ثمن البضاعة إنما تقرر كونه ثمانية، وصارت هذه الثمانية دينًا في ذمة المشتري، فما يتقاضى عليه البائع من الزيادة فإنه ربا لا غير.
والفرق العملي بين الصورتين، أن ما تصور كونه ثمنًا في الصورة الأولى، صار ثمنًا باتًّا بعد جزم الفريقين بأحد الشقوق، ولا يزيد هذا الثمن بعد تمام البيع ولا ينقص باختلاف أحوال المشتري في الأداء فلو كان المشتري اشترى البضاعة بعشرة على أنه سيؤدي الثمن بعد شهر، ولكنه لم يتمكن من الأداء إلا بعد شهرين، فإن الثمن يبقى عشرة كما هو، ولا يزيد بزيادة مدة الأداء الفعلي، وأما في الصورة الثانية، فالثمن ثمانية، وما يزيد عليه فائدة تطالب من أجل التأخير في الأداء، فلا تزال تزيد الفائدة كلما يطول التأخير، فتصير ربيتين في شهر، وأربع ربيات في شهرين، وهكذا، فالصورة الأولى نوع من أنواع البيع الحلال، والصورة الثانية داخلة في الربا المحرم شرعًا.
3- توثيق الدين وأنواعه:
وبما أن الثمن في البيع المؤجل يصير دينًا على المشتري فور تمام العقد، فإنه يجوز للبائع أن يطالبه بتوثيق لهذا الدين، أو بضمان للتسديد عند حلول الأجل.
الرهن:
أما ضمان التسديد، فيمكن بطريق الرهن، أو بكفالة من الطرف الثالث، وفى الصورة الأولى يرهن المشتري شيئًا من ممتلكاته لدى البائع، ويحق للبائع أن يمسكه كضمان للتسديد، بدون أن ينتفع به في صورة من الصور، لأن الانتفاع بالمرهون شعبة من شعب الربا، ولكن يبقى الشىء المرهون بيد البائع لضغط المشتري على الاهتمام بأداء الأقساط في موعدها، وليحق له إذا قصر المشتري في الأداء عند حلول الأجل، أن يبيع الشيء المرهون ويسدد دينه بذلك، ولكن لا يجوز له أن يتجاوز عن الثمن المتفق عليه في العقد، فإن فضل من قيمة الشيء المرهون شيء بعد تسديد الدين رده إلى المشتري الراهن، وكما يجوز رهن الأعيان المملوكة للمشتري كذلك يجوز رهن مستندات الملكية لتلك الأعيان.(7/598)
إمساك البائع المبيع لضمان التسديد:
وقد اطلعت على صورة من المعاملات المعاصرة الجارية بين الناس، وهي أن البائع في البيع المؤجل يمسك المبيع عنده إلى أن يتم التسديد من قبل المشتري، أو إلى أن يتم تسديد بعض الأقساط.
وإن إمساك المبيع بيد البائع في هذه الصورة يمكن أن يتصور بطريقتين:
الأول: أن يكون على أساس حبس المبيع لاستيفاء الثمن.
والثانى: أن يكون بطريق الرهن، والفرق بين الصورتين أن المبيع المحبوس عند البائع مضمون عليه بالثمن، لا بالقيمة، فلو هلك المبيع وهو محبوس عنده، ينفسخ البيع، ولا يكون مضمونًا عليه بقيمته السوقية، أما في الرهن، لو هلك عند البائع بغير تعدٍّ منه، لا ينفسخ البيع، بل يهلك من مال المشتري، ولا يقسط الثمن، وإذا هلك بتعد منه، يضمنه المرتهن بقيمته السوقية، لا بالثمن.
فأما الطريق الأول، وهو حبس البائع المبيع لاستيفاء الثمن، فإنه لا يجوز في البيع بالتقسيط، لأن البيع بالتقسيط بيع مؤجل، وإن حق البائع في حبس المبيع لاستيفاء الثمن إنما يثبت في البيوع الحالة، وليس له ذلك في البيوع المؤجلة، جاء في الفتاوى الهندية:
(قال أصحابنا رحمهم الله تعالى: للبائع حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن إذا كان حالًّا، كذا في المحيط، وإن كان مؤجلًا فليس للبائع أن يحبس المبيع قبل حلول الأجل ولا بعده، كذا في المبسوط) (1) .
وأما الطريق الثاني، وهو أن يمسك البائع المبيع عنده بصفة كونه رهنًا من المشتري بالثمن الواجب في ذمته، فإنه يمكن بطريقين أيضًا:
الأول: أن يرهنه المشتري قبل أن يقبضه من البائع، فهذا لا يجوز أيضًا، لأنه في معنى حبس المبيع عند البائع لاستيفاء الثمن، وذلك لا يجوز في البيوع المؤجلة، كما ذكرنا.
والثاني: أن يقبضه المشتري من البائع أولًا، ثم يرده إليه بصفة كونه رهنًا، فهذا جائز عند أكثر الفقهاء رحمهم الله تعالى، قال الإمام محمد في الجامع الصغير:
(ومن اشترى ثوبًا بدراهم، فقال للبائع: أمسك هذا الثوب حتى أعطيك الثمن، فالثوب رهن) .
ونقله المرغيناني في الهداية، وقال شارحها في الكفاية: (لأن الثوب لمَّا اشتراه وقبضه، كان هو وسائر الأعيان المملوكة سواء في صحة الرهن) (2) .
وذكر الحصكفي هذه المسألة في الدر المختار، وأوضحها بقوله: (ولو كان ذلك الشيء الذي قال له المشتري: أمسكه، هو المبيع الذي اشتراه بعينه، لو بعد قبضه، لأنه حينئذ يصلح أن يكون رهنًا بثمنه، ولو قبله لا يكون رهنًا، لأنه محبوس بالثمن) . وقال ابن عابدين تحته:
(قوله: " لأنه حينئذ يصلح … إلخ "، أي لتعيين ملكه فيه، حتى لو هلك يهلك على المشتري، ولا ينفسخ العقد، قوله: " لأنه محبوس بالثمن "، أى وضمانه يخالف ضمان الرهن، فلا يكون مضمونًا بضمانين مختلفين، لاستحالة اجتماعهما، حتى لو قال: أمسك المبيع حتى أعطيك الثمن قبل القبض، فهلك، انفسخ البيع، زيلعي) (3) .
والذى يظهر أن جواز مثل هذا الرهن ليس فيه خلاف بين الفقهاء المتبوعين إذا لم يكن هذا الرهن مشروطًا في صلب عقد البيع، أما إذا كان مشروطًا في صلب العقد فقد حكى ابن قدامة رحمه الله: (وإذا تبايعا بشرط أن يكون المبيع رهنًا على ثمنه، لم يصح، قال ابن حامد رحمه الله، وهو قول الشافعي، لأن المبيع حين شرط رهنه لم يكن ملكًا له، وسواء شرط أنه يقبضه ثم يرهنه، أو شرط رهنه قبل قبضه … وظاهر الرواية صحة رهنه … فأما إن لم يشترط ذلك في البيع، لكن رهنه عنده بعد البيع، فإن كان بعد لزوم البيع، فالأولى صحته، لأنه يصح رهنه عند غيره، فصح عنده كغيره، ولأنه يصح رهنه على غير ثمنه، فصح رهنه على ثمنه، وإن كان قبل لزوم البيع انبنى على جواز التصرف في المبيع، ففي كل موضع جاز التصرف فيه وجاز رهنه، ومالًا فلا، لأنه نوع تصرف فأشبه بيعه) (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية: 3/15، باب 4، من كتاب البيوع.
(2) الكفاية شرح الهداية بهامش فتح القدير: 9/99.
(3) رد المحتار مع الدرالمختار، كتاب الرهن: 6/497، طبع كراتشي.
(4) المغني، لابن قدامة: 4/427 و 428، كتاب الرهن، دار الكتاب العربي، بيروت 1392هـ.(7/599)
الرهن السائل:
وهناك نوع آخر من الرهن يوجد في قوانين كثير من البلاد الإسلامية، لا يقبض فيه المرتهن على الشيء المرهون، وإنما يبقى بيد الراهن، ولكن يحق للدائن إذا قَصَّرَ المدين في الأداء أن يطالب ببيعه وتسديد دينه من حصيلة بيعه، وهذا النوع من الرهن يسمَّى أحيانًا " الرهن الساذج " (SIMPLE MORTGAGE) وأحيانًا: " الذمة السائلة " (FLOTING CHARGE) وهذا مثل أن يرهن المدين سيارته لدي الدائن، ولكن تبقى السيارة بيد المدين الراهن يستعملها لصالحه كيف يشاء، ولكن لا يجوز له نقل ملكيته إلى شخص ثالث حتى يفتك الرهن السائل بتسديد الدين، ويثبت للدائن المرتهن حق في بيعها إذا قَصَّرَ صاحبها في أداء دينه، وإن هذا الحق يسمى " الذمة السائلة " (FLORTING CHARGE) فهل يجوز شرعًا توثيق الدين بهذا النوع من الرهن؟
وربما يقع الإشكال في جوازه من الناحية الفقهية، أن معظم القفهاء قد اشتراطوا قبض المرتهن لصحة عقد الرهن أو لتمامه على أساس قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] .
وفي " الرهن السائل " لا يقبض المرتهن على الشيء المرهون، فينبغي أن لا يصح هذا الرهن.
والواقع أن الفقهاء، وإن اشترطوا قبض المرتهن للشيء المرهون، ولكنهم في الوقت نفسه أجازوا بعد ذلك للراهن أن يستعير ذلك الشيء منه، وينتفع به لصالحه، ولا يفسد بذلك الرهن، بل يحق للمرتهن أن يسترده متى شاء، ولئن هلك الشيء المرهون عند الراهن، فإنما يهلك على مكه، ويحق للمرتهن أن يبيعه لتسديد دينه عند حلول الأجل، ولا يكون فيه أسوة لسائر الغرماء عند إفلاس الراهن أو موته. وقد جاء في الهداية للمرغيناني:
(وإذا أعار المرتهن الرهن للراهن ليخدمه أو ليعمل له عملًا، فقبضه، خرج من ضمان المرتهن، لمنافاة بين يد العارية ويد الرهن، فإن هلك في يد الراهن هلك بغير شيء، لفوات القبض المضمون، وللمرتهن أن يسترجعه إلى يده، لأن عقد الراهن باق، لا في حكم الضمان في الحال، ألا ترى أنه لو هلك الراهن قبل أن يرده على المرتهن، كان المرتهن أحق به من سائر الغرماء، وهذا لأن يد العارية ليست بلازمة، والضمان ليس من لوازم الرهن على كل حال " (1) .
ولكن هذا إذا تَمَّ عقد الراهن بقبض المرتهن مرة، أعارة المرتهن للراهن، أما إذا لم يقبض المرتهن الرهن أصلًا، فهل يثبت حكم الإعارة في تلك الصورة أيضًا؟ الظاهر من عبارات الفقهاء أنه لا يثبت ذلك في تلك الصورة بناء على اشتراط القبض لصحة الرهن، ولكن ههنا مَلَاحِظٌ أذكرها لتأمل الفقهاء المعاصرين، وهي:
__________
(1) الهداية مع فتح القدير: 9/116؛ وراجع أيضًا: رد المحتار: 6/510 و 511.(7/600)
1 – إن المرتهن في " الرهن السائل " وإن كان لا يقبض الشيء المرهون، ولكنه في عموم الأحوال يقبض على مستندات ملكيته، فيحتمل أن يقال: إن الرهن قد تَمَّ بقبض المستندات، ثم صار الشيء المرهون كالعارية في يد الراهن.
2 – إن علة اشتراط القبض في الرهن، كما ذكر الفقهاء، هو تمكن المرتهن من تسديد دينه ببيع ذلك الشيء عند الحاجة، وإن هذا المقصود حاصل في " الرهن السائل " على أساس شروط الاتفاقية المعترف بها قانونًا، فيحتمل أن يكون القبض الحسي غير لازم في الصورة المذكورة، لحصول المقصود بهذه الشروط المقررة.
3 – المقصود من الرهن هو توثيق الدين، وقد أجازت الشريعة لحصول هذا المقصود أن يحبس الدائن ملك المديون ويمنعه عن التصرف فيه إلى أن يتم تسديد الدين، فإن رضي الدائن بحصول مقصوده بأقل من ذلك، وهو أن يبقي العين المرهون بيد الراهن، ويبقى للمرتهن حق التسديد فقط، فلا يرى في ذلك أي محظور شرعي.
4 – إن " الرهن السائل " فيه مصلحة للجانبين، أما مصلحة الراهن فظاهرة، من حيث إنه لا يحرم من الانتفاع بملكه، وأما مصلحة المرتهن، فمن حيث إنه يحتفظ بحق التسديد دون أن يضمن الشيء المرهون عند الهلاك، غاية الأمر أنه ربما بتضرر به الغرماء الآخرون عند إفلاس الراهن، فإن المرتهن يكون أحق بذلك الشيء ممن سواه من الغُرماء، ولكن ضررهم هذا لم يعتبر شَرْعًا فيما إذا كان الرهن مقبضًا للمرتهن، وفيما إذا قبضه المرتهن، ثم استعاره الراهن منه، كما تقدم، فتبين أن مجرد هذا الضرر لا يفسد الرهن.
5 – إن القبض على الشيء المرهون ربما يكون مُتَعَذِّرًا في التجارة الدولية، التي يكون البائع فيه ببلد، والمشتري ببلد آخر، والشيء المرهون يتطلب مؤونة كبيرة ونفقات باهظة لتحويله من محل إلى آخر، ولا سبيل لتوثيق الدين في مثل هذه الصورة إِلَّا " بالرهن السائل ".
وإن هذه الملاحظات الخمس قد تجعلني أميل إلى جواز " الرهن السائل "، والمسألة مطروحة لدى العلماء للبت فيها، والله سبحانه أعلم.(7/601)
الكفالة من طرف ثالث:
ومن طرق ضمان التسديد أن يكفل طرف ثالث بمبلغ الدين ويلتزم على نفسه تسديد الدين من عنده إذا قَصَّرَ المدين الأصيل، وهذا النوع من الضمان يسمى " كفالة " وللكفالة أحكام مبسوطة في كتب الفقه، لا نقصد ذكرها في هذا البحث. ولكن نريد ههنا أن نلم بجزئية واحدة من أحكام الكفالة، وهي تقاضي الأجرة أو الجعل على الكفالة، فإن البنوك التقليدية في عصرنا لا تضمن لأحد بأداء الدين إلا إذا رضي المكفول به ببذل أجرة معلومة على ذلك، وربما تكون لهذه الأجرة نسبة مرتبطة بمبلغ الدين، مثل الثلاث في المائة، أو الأربع في المائة.
ومن المعروف في الفقه الإسلامي أن الكفالة عقد تبرع كالقرض، فلا يجوز تقاضي الأجرة عليها. ولكن ربما استدل بعض المعاصرين على جواز أخذ الأجرة على الكفالة، بإن الكفالة أصبحت اليوم عنصرًا قويًّا من عناصر التجارة المعاصرة، وقد أُنْشِئَتْ من أجل ذلك مؤسسات مستقلة تقدم خدمات الكفالة وتنفق على هذه الخدمات نفقات باهظة، فلم تعد الكفالة عقد تبرع محض، وإنما أصبحت معاملة مالية يحتاج إليها التجار، وخاصة في التجارات الدولية، وليس من الميسور الحصول على المتبرعين بالكفالة بالعدد المطلوب، فينبغي أن يجوز إعطاء الأجرة عليها.
ولكن هذا الدليل غير صحيح، لأنه لو كان صحيحًا لجاز تقاضي الفائدة على القرض أيضًا، لأن نفس هذا الكلام ينطبق على عقد القرض سواء بسواء، فإن القرض، وإن كان عقد تبرع في الأصل، غير أنه قد أصبح اليوم من الحاجات الأساسية للتجارة، وقد أنشئت لتقديم القروض مؤسسات مستقلة، وهي البنوك، ولا يمكن الحصول على المتبرعين بالقرض بالعدد المطلوب، ومع ذلك لا يقول أحد بجواز تقاضي الفائدة على القروض.
والواقع أن الكفالة والقرض لا يختلفان في كونهما عَقْدَي تبرع، وكما لا يجوز أخذ الفائدة على القرض، كذلك لا يجوز أخذ الأجرة على الكفالة، بل إن أجرة الكفالة أولى بالتحريم من فائدة القرض، وذلك لأن الكفالة التزام محض لأداء الدين عن المكفول له، بحيث إذا وقع الأداء فعلًا، فإنه يصير قرضًا للكفيل على الأصيل، فكأنه التزام بالإقراض، في حين أن الإقراض هو الدفع فعلًا، فإذا كان أخذ الأجرة على الإقراض – وهي الفائدة – ممنوعًا، فإن أخذ الأجرة على الالتزام به أولى بالمنع.(7/602)
ويتضح هذا بمثال: هَبْ أن زيدًا استدان من عمرو مائة دولار، وطالبه عمرو بكفيل. فجاء خالد يقول لزيد: أنا أؤدي عنك دينك الآن، على أن تعطيني بعد ذلك مائة وعشرة، والعشرة أجرة على ما قدمته من خدمة الأداء.
وجاء بكر يقول لزيد: أنا أكفل عنك دينك، على أن تعطيني عشرة دولارات أجرة الكفالة، وتكون المائة قرضًا عليك إذا اضْطُررت إلى الأداء فعلًا.
ويلزم القائلين بجواز أجرة الكفالة أن تكون الأجرة التي يتقاضاها بكر جائزة، والأجرة التي تقضاها خالد حرامًا، مع أن خالدًا قد بذل ماله فعلًا، وإن بكرًا لم يفعل شيئًا إلا الالتزام بالبذل عند الأداء، فلو كانت الأجرة المطلوب من قبل الباذل حرامًا، فالأجرة المطلوبة من قبل الملتزم أولى بالتحريم.
وبعبارة أخرى، فإن الكفيل نفسه، لو اضْطُرَّ إلى أداء الدين من قبل الأصيل، فإنه لا يجوز له أن يطالب الأصيل إِلَّا بما دفع فعلًا، ولا يجوز له الزيادة على ذلك، لكونها ربا محرمًا، فكيف يجوز له أن يطالب الأصيل بشيء فيما إذا لم يدفع شيئًا، وإنما التزم بالدفع فقط؟
وبهذا تبين أنه لا سبيل إلى القول بجواز أجرة الكفالة، فما هو البديل الشرعي الذي يمكن أن تتخذه البنوك الإسلامية، لا سيما في عمليات التجارة الدولية، وفي إصدار خطاب الضمان (Letter of Credit) ؟
والجواب أنه يجوز للبنك أن يتقاضى من العميل شيئين:
الأول: النفقات الفعلية التي تحملها في عملية إصدار خطاب الضمان.
الثاني: الأجر على جميع الأعمال التي يباشرها بصفة الوكيل، أو السمسار، أو الوسيط بين المورِّد والمصدِّر.
ولكن لا يجوز له أن يطالب بالأجرة على نفس الكفالة والضمان.(7/603)
توثيق الدين بالكمبيالة:
وربما يقع توثيق الدين بتوقيع المشتري على وثيقة مكتوبة يعترف بها بكونه مديونًا للبائع بمبلغ مسمى إلى أجل مسمى. ويلتزم بأداء مبلغها في تاريخ معين، وتسمى هذه الوثيقة المكتوبة في العرف المعاصر " كمبيالة " (Bill of Exchange) وإن التاريخ الذي يلزم فيه الأداء يسمى " تاريخ نُضْج الكمبيالة " (Maturity date) .
وإن توثيق الدين بالكمبيالة جائز شرعًا، بل هو مندوب بمقتضى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] .
ولكن المشكلة إنما تحدث من جهة أن الكمبيالة قد أصبحت اليوم آلة قابلة للتداول (Negotiable Instrument) وإن حامل الكمبيالة، وهو الدائن الأصيل ربما يبيعها إلى طرف ثالث بأقل من المبلغ المكتوب عليها، طمعًا في استعجال الحصول على المبلغ قبل حلول الأجل. وإن هذا البيع يسمى " خصم الكمبيالة " (Discounting of the Bill) فكلما أراد حامل الكمبيالة أن يتعجل في قبض مبلغها، ذهب إلى شخص ثالث، وهو البنك في عموم الأحوال، وعرض عليه الكمبيالة، والبنك يقبلها بعد التظهير (1) (Endorsement) من الحامل، ويعطى مبلغ الكمبيالة نقدًا بخصم نسبة مئوية منها.
وإن خصم الكمبيالة بهذا الشكل غير جائز شرعًا، إما لكونه بيع الدين من غير من عليه الدين، أو لأنه من قبيل بيع النقود بالنقود متفاضلة ومؤجلة، وحرمته منصوصة في أحاديث ربا الفضل.
ولكن هذه المعاملة يمكن تصحيحها بتغيير طريقها وذلك أن يوكل صاحب الكمبيالة البنك باستيفاء دينه من المشتري (وهو مصدر الكمبيالة) ويدفع إليه أجرة على ذلك، ثم يستقرض منه مبلغ الكمبيالة، ويأذن له أن يستوفي هذا القرض مِمَّا يقبض من المشتري بعد نضج الكمبيالة، فتكون هناك معاملتان مستقلتان: الأولى معاملة التوكيل باستيفاء الدين بالأجرة المعينة، والثانية: معاملة الاستقراض من البنك، والإذن باستيفاء القرض من الدين المَرْجُو حصوله بَعْد نُضج الكمبيالة، فتصح كلتا المعاملتين على أُسس شرعية، أما الأولى، فلكونها توكيلًا بالأجرة، وذلك جائز، وَأَمَّا الثَّانِية، فَلِكَوْنِهَا اسْتِقْرَاضًا من غير شرط زيادة، وهو جائز أيضًا.
__________
(1) التظهير: هو التوقيع على ظهر الوثيقة، ويعتبر دليلًا على أن صاحبها قد تنازل عن مبلغها لغيره.(7/604)
إسقاط بعض الدين مقابل التعجيل
ومما يتعامل به بعض التجار في الدين المؤجلة أنهم يسقطون حصة من الدين بشرط أن يعجل المدين الباقي، مثل أن يكون لزيد على عمرو ألف، فيقول زيد: عجل لي تسعمائة، وأنا أضع عنك مائة، وإن هذه المعاملة معروفة في الفقه الإسلامي باسم " ضَعْ وتَعَجَّلْ ".
وقد اختلف الفقهاء في حكمها، فذهب عبد الله بن عباس رضي الله عنه من الصحابة وإبراهيم النخعي من التابعين وزفر بن الهذيل من الحنفية، وأبو ثور من الشافعية إلى جوازه، وروي عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت من الصحابة رضي الله عنهم وعن محمد بن سيرين والحسن البصري، وابن المسيب، والحكم بن عتيبة، والشعبي رحمهم الله من التابعين عدم جواز ذلك (1) ، وهو المروي عن الأئمة الأربعة.
وهناك حديثان مرفوعان متعارضان، وفي إِسْنَاد كل واحد منهما ضعف:
أما الحديث الأول، فقد أخرجه البيهقي بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج بني النضير من المدينة جاء ناس منهم، فقالوا: يا رسول الله, إنك أمرت بإخراجهم ولهم على الناس ديون لم تحل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا " (2) .
وهذا الحديث يدل على الجواز، ويعارضه ما أخرجه البيهقي في الباب اللاحق عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: " أسلفت رجلًا مائة دينار، ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: عَجِّلْ لي تسعين دينارًا، وَأَحُطُّ عشرة دنانير، فقال: نعم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أكلت ربا يا مقداد وأطعمته " (3) .
وقد صرَّح البيهقي رحمه الله تعالى، بأن كل واحد من الحديثين ضعيف من جهة الإسناد، فلا تقوم بأي منهما حجة. ورجع جمهور الفقهاء جانب الحرمة، لأن زيادة الدين في مقابلة التأجيل ربًا صراح، فكذلك الحَطُّ من الدين بإزاء التعجيل في معناه.
أما قصة بني النضير، فليس فيها حجة، أما أولًا: فلأن إسنادها ضعيف، وأما ثانيًا، فلأنه لو ثبتت هذه القصة من جهة الإسناد، فيمكن أن يقال: إن قصة إجلاء بني النضير وقعت في السنة الثانية من الهجرة، وذلك قبل نزول حرمة الربا.
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله هذه القصة واستدل بها على أنه لا ربا بين المسلم والحربي، قال رحمه الله تعالى:
(ولما أجلي بين النضير قالوا: إن لنا ديونًا على الناس، فقال: ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا، ومعلوم أن مثل هذه المعاملة لا يجوز بين المسلمين، فإن من كان له على غيره دين إلى أجل، فوضع عنه بعضه بشرط أن يعجل بعضه لم يجز، كره ذلك عمر، وزيد بن ثابت، وابن عمر (رضي الله عنهم) (4) .
__________
(1) راجع آثارهم في موطأ الإمام مالك: 1/606؛ ومصنف عبد الرازق: 8/7471.
(2) السنن الكبري للبيهقي: 6/28، كتاب البيوع، باب من عجل له أدنى من حقه.
(3) السنن الكبرى، للبيهقي: 6/38.
(4) شرح السير الكبير، للسرخسي: 4/1412، فقرة 2738، وذكر هذه المسألة مرة ثانية في: 4/4194، فقرة 2921، بتحقيق صلاح الدين المنجد، طبع باكستان 1415 هـ.(7/605)
وحاصل هذا الجواب أن المسلمين كانوا في حالة الحرب مع بني النضير، فكان يجوز لهم أن يقبضوا على جميع أموالهم في تلك الحالة فلو استوضعوا عنهم بعض الديون، جاز من باب أولى.
والوجه الرابع في الاعتذار عن قصة بني النضير أن اليهود كانوا يداينون الناس على أساس الربا، والذي أمر رسول الله عليه وسلم بوضعه، هو الربا الزائد على رأس المال، ولم يأمرهم بالوضع في رأس المال نفسه، ويؤيده أن الواقدي ذكر هذه القصة في سيره، فقال:
(فأجلاهم –أي بني النضير – رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، وَوَلِيَ إخراجهم محمد بن مسلمة، فقالوا: إن لنا ديونًا على الناس إلى آجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تَعَجَّلُوا وَضَعُوا)) ، فكان لأبي رافع سلام بن أبي الحقيق على أسيد بن حضير عشرون ومائة دينار إلى سنة، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين دينارًا، وأبطل ما فضل (1) .
فهذه الرواية صريحة في أن الموضوع كان هو الربا، لا حصة من رأس المال، ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى القول بتحريم " ضع وتعجل " فقال الإمام مالك رحمه الله بعد رواية آثار زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهم:
(قال مالك: والأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل، فيضع عنه الطالب، ويعجله المطلوب، قال مالك: وذلك عندنا أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل، فيضع عنه الطالب ويعجله المطلوب في حقه، قال: هذا الربا بعينه لا شك فيه) (2) .
وقال الإمام محمد في موطئه بعد رواية أثر زيد بن ثابت رضي الله عنه:
(قال محمد: وبهذا نأخذ، من وجب له دين على إنسان إلى أجل، فسأل أن يضع عنه، ويعجل له ما بقي، لم ينبغ ذلك، لأنه يعجل قليلًا بكثير دينًا، فكأن يبيع قليلًا نقدًا، بكثير دينًا وهو قول عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر. وهو قول أبي حنيفة (3) .
__________
(1) مغازي الواقدي:1/374؛ وذكر الواقدي أن مثل هذه القصة وقعت عند إجلاء بني قينقاع أيضًا، يراجع: 1/179.
(2) الموطأ، للإمام مالك، بيوع، ما جاء في الربا في الدين: 1/606، طبع كراتشي.
(3) الموطأ، للإمام محمد: 1/332، باب الرجل يبيع المتاع أو غيره نسيئة، ثم يقول: أنقدني وأضع عنك.(7/606)
وقال ابن قدامة في المغني:
(إذا كان عليه دين مؤجل فقال لغريمه: ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته، لم يجز. كرهه زيد بن ثابت وابن عمر والمقداد وسعيد بن المسيب وسالم والحسن وحماد والحكم والشافعي ومالك والثوري وهشيم وابن علية وإسحاق وأبو حنيفة، وقال مقداد لرجلين فعلا ذلك: كلاكما قد آذن بحرب من الله ورسوله، وروي عن ابن عباس أنه لم ير به بأسًا، وروي ذلك عن النخغي وأبي ثور، لأنه آخذ ببعض حقه، تارك لبعضه، فجاز، كما لو كان الدين حالًّا، الخرقي: لا بأس أن يعجل المكاتب لسيده ويضع عنه بعض كتابته، ولنا أنه بيع الحلول فيم يجز، كما لو زاده الذي له الدين فقال: أعطيك عشرة دراهم وتعجل لي المائة التي عليك، فأما المكاتب فإن معاملته مع سيده، وهو يبيع بعض ماله ببعض، فدخلت المساهمة فيه، ولأنه سبب العتق، فسومح فيه، بخلاف غيره) (1) .
وبناء على هذه النصوص الفقهية، فالراجح حرمة إسقاط بعض الدين في مقابل إسقاط بعض الأجل.
" ضع وتعجل " في الديون الحالة:
ولكن الذي يبدو أن حكم المنع هذا يختص بالديون المؤجلة. أما في الديون الحالة التي لا يكون الأجل فيها مشروطًا في العقد، وإنما يتأخر المدين في الأداء لسبب أو لآخر، فالظاهر أنه لا بأس بالصلح على إسقاط بعض الدين بشرط أن يؤدي المدين الدين المتبقي معجلًا، وهذا قد صرح به علماء المالكية، جاء في المدونة الكبرى:
(قلت: أريت: لو أن لي على رجل ألف درهم قد حلت، فقلت: اشهدوا: إن أعطاني مائة درهم عند رأس الشهر، فتسعمائة درهم له، وإن لم يعطني فالألف كلها عليه. قال مالك: لا بأس بهذا، وإن أعطاه رأس الهلال فهو كما قال: وتوضع عنه التسعمائة، فإن لم يعطه رأس الهلال، فالمال كله عليه) .
__________
(1) المغني، لابن قدامة، مع الشرح الكبير: 4/174 و175.(7/607)
ثم ذكر مسألة أخرى من هذا النوع، فقال:
(قلت: أرأيت لو أن لي على رجل مائة دينار ومائة درهم حالة فصالحته من ذلك على مائة دينار ودرهم نقدًا، قال: لا بأس بذلك) (1) .
وقال الحطاب رحمه الله تعالى:
(وما ذكره عن عيسى هو في نوازله من كتاب المديان والتفليس ونصه: وسئل عن الرجل يقول لغريمه وقد حل حقه: أم عجلت لي كذا وكذا من حقِّي فبقيته عنك موضع إن عجلته لي نقدًا الساعة، أو إلى أجل يسميه، فعجل له نقدًا، أو إلى الأجل، إلا الدرهم أو النصف أو أكثر من ذلك: هل تكون الوضيعة لازمة؟ فقال: ما أرى الوضيعة تلزمه إذا لم يعجل له جميع ذلك، وأرى الذي له الحق على شرطه. قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها أربعة أقوال: أحدها قوله في هذه الرواية، وهو قول أصبغ في الواضحة. ومثله في آخر كتاب الصلح من المدونة أن الوضيعة لا تلزمه إلا أن يعجل له جميع ما شرط إلى الأجل الذي سمّي، وهو أصح الأقوال) (2) .
فهذا تصريح من علماء المالكية في جواز " ضع وتعجل " في الديون الحالة، ويبدو أن مذهب غيرهم من الفقهاء موافق لهم في ذلك، فإنهم حيث ذكروا حرمة " ضع وتعجل" قيدوا ذلك بالديون المؤجلة، كما هو ظاهر من عبارة الإمام محمد بن حسن في موطئه ومن ترجمة الباب التي عقدها، كذلك قيد ابن قدامة هذه المسألة بالدين المؤجل، (وقد مرت نصوصهما آنفًا) ومن المعلوم أن مفاهيم كتب الفقه فيها حجة، فدل على جواز " ضع وتعجل " في الديون الحالة، وقال الشيخ ولي الدهلوي رحمه الله تعالى بعد ذكر قصة كعب وابن أبي حدود في وضع نصف الدين (3) :
(فقال أهل العلم في التطبيق بينه وبين هذه الآثار أن الآثار في المؤجل، وهذا في الحالِّ، وفي كتاب الرحمة: اتفقوا على من كان له دين على إنسان إلى أجل، فلا يحل له أن يضع عنه بعض الدين قبل الأجل ليعجل له الباقي ... على أنه لا بأس إذا حل الأجل أن يأخذ البعض ويسقط البعض) .
والفرق بين الديون المؤجلة والديون الحالة ظاهر من جهة أن الدين الحال لا يشترط فيه الأجل، ولا يكون التأجيل فيه حقًّا من حقوق المدين، وبما أن الأجل منتف، فلا يمكن أن يقال إن الحصة الموضوعة من الدين عوض عن الأجل، فلا يكون في معنى الربا.
__________
(1) المدونة الكبرى: 11/27، آخر كتاب الصلح.
(2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب: ص231، وراجع أيضًا: فتح العلي المالك: 1/289 و 290.
(3) المسوى مع المصفى: 2/382.(7/608)
ومما يجدر بالذكر هنا: أن عقد القرض الحسن لا يتأجل بالتأجيل عند الحنفية والشافعية والحنابلة، ويتأجل عند المالكية فقط. قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وإن أجل القرض لم يتأجل، وكان حالًّا. وكل دين حل أجله لم يصر مؤجلًا بتأجيله، وبهذا قال الحارث العكلي والأوزاعي وابن المنذر والشافعي. وقال مالك والليث: يتأجل الجميع بالتأجيل. وقال أبو حنيفة في القرض وبدل المتلف كقولنا) (1) .
وقال العيني رحمه الله تعالى: (اختلف العلماء في تأخير الدين إلى أجل، فقال أبو حنيفة وأصحابه: سواء كان القرض إلى أجل أو غير أجل، له أن يأخذ متى أحب، وكذلك العارية وغيرها، لأنه عندهم من باب العدة والهبة غير مقبوضة، وهو قول الحارث العكلي وأصحابه وإبراهيم النخعي. وقال ابن أبي شيبة: وبه نأخذ. وقال مالك وأصحابه إذا أقرضه إلى أجل، ثم أراد أن يأخذ قبل الأجل، لم يكن له ذلك) (2) .
فعلى قول من يقول: إن القرض لا يتأجل بالتأجيل، يجوز " ضع وتعجل " في القروض، لأنها من الديون الحالة التي يجوز فيها " ضع وتعجل ". والأصل فيه حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: (أنه كان له على عبد الله بن حدرد الأسلمي دين، فلقيه فلزمه، فتكلما حتى ارتفعت الأصوات، فمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا كعب: وأشار بيده كأنه يقول: النصف. فأخذ نصف ما عليه وترك نصفًا) (3) .
__________
(1) المغني، لابن قدامة مع الشرح الكبير: 4/354.
(2) عمدة القاري، للعيني: 6/60 و 61، وكتاب الاستقراض، باب إذا أقرضه إلى أجل مسمى. وراجع أيضًا أحكام القرآن، للجصاص: ص483، تحت آية المداينة، وفتح الباري: 5/ 66، والمسوى مع المصفى: 2/382، وتنقيح الفتاوى الحامدية: 1/277 و 278، وشرح المجلة للأتاسي: 1/439.
(3) أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه، وهذا لفظه في الخصومات، باب في الملازمة بحديث 2424.(7/609)
الوضع عند التعجيل من غير شرط:
وكذلك المنع من الوضع بالتعجيل في الديون المؤجلة إنما يكون إذا كان الوضع شرطًا للتعجيل. أما إذا عجل المدين من غير شرط، جاز للدائن أن يضع عنه بعض دينه تبرعًا. وعليه حمل الجصاص رحمه الله الآثار التي تدل على جواز " ضع وتعجل " قال رحمه الله تعالى: (ومن أجاز من السلف إذا قال: عجل لي وأضع عنك، فجائز أن يكون أجازوه إذا لم يجعله شرطًا فيه، وذلك بأن يضع عنه بغير شرط، ويعجل الآخر الباقي بغير شرط) (1) .
" ضع وتعجل " في المرابحة المؤجلة:
ثم إن وضع بعض الدين المؤجل بشرط التعجيل ممنوع في بيوع المساومة، يعني في البيوع المطلقة التي لا يعقدها البائع بطريق المرابحة، فيعقد البيع بدون ذكر قدر الربح الذي يريد أن يرابحه عليه. أما إذا كان البيع بطريق المرابحة، وقد صرح فيه البائع بزيادة في الثمن من أجل الأجل، فقد أفتى المتأخرون من الحنفية بأنه إذا قضى المدين الدين قبل حلول الأجل، أو مات قبله، فإن البائع لا يأخذ من الثمن إلا بمقدار ما مضى من الأيام، ويحط من دينه ما كان بإزاء المدة الباقية. قال الحصكفي في الدر المختار: (قضى المدين الدين المؤجل قبل الحلول أو مات، فحل بموته، فأخذ من تركته لا يأخذ من المرابحة التي جرت بينهما إلا بقدر ما مضى من الأيام، وهو جواب المتأخرين، قنية، وبه أفتى المرحوم أبو السعود أفندي مفتي الروم، وعلله بالرفق للجانبين) .
__________
(1) أحكام القرآن، للجصاص: 1/467، تحت آية الربا.(7/610)
وقال ابن عابدين تحته: (قوله: (لا يأخذ من المرابحة) صورته: اشترى شيئًا بعشرة نقدًا، وباعه بآخر بعشرين إلى أجل هو عشرة أشهر، وإذا قضاه بعد تمام خمسة (أشهر) أو مات بعدها يأخذ خمسة، ويترك خمسة) (1) .
وقد ذكرت هذه المسألة بعينها في تنقيح الفتاوى الحامدية، وفيها من الزيادة ما يلي: (سئل فيما إذا كان لزيد بذمة عمرو مبلغ دين معلوم، فرابحه عليه إلى سنة، ثم بعد ذلك بعشرين يومًا مات عمرو المديون، فحل الدين، ودفعه الورثة لزيد، فهل يؤخذ من المرابحة شيء أو لا؟
الجواب: جواب المتأخرين أنه لا يؤخذ من المرابحة التي جرت مبايعة عليها إلا بقدر ما مضى من الأيام. قيل: (للعلامة نجم الدين: أتفتي به؟ قال: نعم. كذا في الأنقروي والتنوير. وأفتى به علامة الروم مولانا أبو السعود) (2) .
وإن هذه الفتوى من متأخري الحنفية تفرق بين بيوع المساومة وبيوع المرابحة التي يصرح فيها البائع بزيادة الثمن بسبب الأجل، فلا يجوز " ضع وتعجل " في بيوع المساومة كما أسلفنا، ويجوز في بيوع المرابحة. ولعلهم أفتوا بذلك على أساس أن الأجل وإن لم يكن صالحًا للاعتياض عنه على سبيل الاستقلال، ولكن يجوز أن يقع بإزائه شيء من الثمن ضمنًا وتبعًا، كما أنه لا يجوز بيع الحمل في بطن البقرة، ولكن يجوز أن يزاد من أجله في قيمة البقرة، فما لا يجوز بيعه مستقلًّا قد يجوز الاعتياض عنه تبعًا. ولما كان أساس المرابحة على بيان قدر من الربح، جاز أن يكون شيء من الربح بإزاء الأجل. فصار الأجل كأنه وصف في المبيع، فلما انتقص ذلك الوصف بأداء الدين قبل الحلول، أو بسبب حلوله بموت المدين، انتقص الثمن بقدره وإلى هذا المعنى أشار ابن عابدين في تعليل هذه المسألة، فقال: (ووجه بأن الربح في مقابلة الأجل، لأن الأجل وإن لم يكن مالًا، ولا يقابله شيء من الثمن، ولكن اعتبروه مالًا في المرابحة إذا ذكر الأجل بمقابلة زيادة الثمن، فلو أخذ كل الثمن قبل الحلول، كان أخذه بلا عوض) (3) .
وهذا التوجيه، وإن كان فيه شيء من الوزن، ولكنه مخالف للدلائل التي أسلفناها في منع " ضع وتعجل " فإنها وردت في كل دين مؤجل، دون فرق بين المساومة والمرابحة، وإن العمل بهذه الفتوى قد يجعل المرابحة والبيع بالتقسيط أكثر مشابهة بالمعاملات الربوية، التي يتردد فيها القدر الواجب في الذمة ما بين القليل والكثير مرتبطًا بالآجال المختلفة للأداء. فلا أرى من المناسب العمل بهذه الفتوى في البيع بالتقسيط، ولا في المرابحات التي تجريها المصارف الإسلامية. والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) رد المحتار، لابن عابدين: 6/757، آخر الحظر والإباحة، قبيل كتاب الفرائض. وقد ذكرت هذه المسألة في البيوع قبيل فصل في القرض أيضًا، وذكر فيه أنه قد أفتى به الحانوتي ونجم الدين وأبو السعود وغيرهم: 4/160، والمسألة مذكورة في حاشية الطحاوي على الدر: 3/104 و 4/363 أيضًا.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية: 1/293، والمسألة مذكورة في شرح المجلة للأتاسي: 2/455 أيضًا.
(3) رد المحتار: 6/757، قبيل كتاب الفرائض.(7/611)
حلول الدين بالتقصير في أداء بعض الأقساط:
وقد تنص بعض اتفاقيات البيع التقسيط على أن المشتري إذا لم يؤد قسطًا من الثمن في موعده المحدد، فإن بقية الأقساط تصير حالة ويجوز للبائع أن يطالب بها في الحال مجموعة. فهل يجوز هذا الشرط؟
وقد ذكرت هذه المسألة في بعض كتب الحنفية، فجاء في خلاصة الفتاوى: (ولو قال: كلما دخل نجم ولم تؤد، فالمال حال، صح، ويصير المال حالًّا) (1) .
وقد ذكرت هذه المسألة في الفتاوى البزازية محرفة لا يستقيم بها المعنى، ونبه على ذلك الرملي في حاشيته على جامع الفصولين، فقال: (في البزازية: وإبطال الأجل يبطل بالشرط الفاسد بأن قال: كلما حلَّ نجم ولم تؤد، فالمال حال، صح، وصار حالًّا. اهـ. وعبارة الخلاصة: وإبطال الأجل يبطل بالشرط الفاسد. ولو قال: كلما دخل نجم ولم تؤد، فالمال حال، صح، والمال يصير حالًّا. اهـ. فجعلها مسألتين، وهو الصواب. والله أعلم. ذكره الغزي) (2) .
وإن هذه النصوص الفقهية تدل على جواز مثل هذا الشرط. وحينئذ إذا قصر المشتري في أداء بعض الأقساط عند حلول موعدها جاز للبائع أن يطالبه ببقية الأقساط حالة. ولكن مقتضى ما ذكرناه عن بعض المتأخرين من الحنفية في مسألة المرابحة السابقة أن لا يطالبه من ربح المرابحة إلا بقدر ما مضى من الأيام. فمن أخذ بتلك الفتوى، فليأخذ بها في هذه المسألة أيضًا، ومن لم يأخذ بها، كما هو المناسب في رأينا، فإنما يفتي بحلول الثمن بكامله عند التقصير في أداء بعض الأقساط، والله سبحانه أعلم.
__________
(1) خلاصة الفتاوى: 3/54، طبع لاهور، كتاب البيوع.
(2) الفوائد الخيرية على جامع الفصولين: 2/4، طبع الأزهرية، مصر 1300هـ.(7/612)
مسألة التعويض عن ضرر المطل:
وهناك مسألة أخرى تتعلق بالبيع المؤجل، وهي أن المشتري المدين ربما يقصر في أداء دينه عند حلول الأجل، أو في أداء بعض الأقساط في موعدها. فإن كان هذا التقصير من أجل إعساره، فقد بين القرآن الكريم حكمه واضحًا، وهو قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .
يعني: يجب على الدائن في هذه الحال أن يمهله إلى أن يزول إعساره، ويتمكن من أداء دينه، ولا يجوز للدائن أن يضيف إلى دينه شيئًا، فإنه ربًا صراح، لا شبهة فيه.
ولكن التقصير في أداء الدين ربما يكون على وجه المماطلة بدون عذر الإعسار، ولقد نشاهد اليوم أن الناس قد انتقص فيهم الوازع الديني والخلقي، وقد انخفض فيهم مستوى الديانة والأمانة، فلا يحتفل كثير منهم بمسؤوليتهم عن أداء الدين في موعده، فيتضرر الدائن بمماطلته ضررًا بينًا. وإن مشكلة المماطلة يواجهها اليوم كل دائن، ولكن ما تعانيه المصارف الإسلامية من الأضرار بسبب المماطلة أكثر وأبشع. وذلك لأن النظام الربوي يلعب فيه سعر الفائدة دورًا فعالًا في الضغط على المدين بأداء دينه في موعده، لأنه إذا قصر فيه لسبب أو آخر تضاعفت الفائدة عليه بصورة تلقائية. وبما أن الدين لا يمكن الزيادة فيه شرعًا بسبب التقصير أو المماطلة، فإن الدائن ربما يستغل هذا الوضع، ويستمر في مماطلته إلى ما يشاء. ومعلوم أن لعنصر الوقت أهمية بالغة في النظام التجاري اليوم، وخاصة في النظام المصرفي المعاصر، فهل هناك من سبيل لدفع ضرر المماطلة من الدائنين، وخاصة عن المصارف الإسلامية؟
والذي أعتقد أن هذه المسألة لا تحدث مشكلة كبيرة إن كانت جميع المصارف في البلاد تتبع طريقة شرعية موحدة، وذلك لأن مثل هذا المماطل يجوز أن يعاقب بحرمانه عن الانتفاع بالتسهيلات المصرفية في المستقبل، فيحمل اسمه في قائمة سوداء، ولا يتعامل معه أي مصرف في الدولة. وإن مثل هذا التهديد يؤثر في الضغط عليه بالوفاء أكثر مما يؤثر سعر الفائدة. وكذلك يجوز شرعًا أن يعزر هذا المماطل بعقوبات شرعية أخرى، لقوله صلى الله عليه وسلم: " مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلمٌ " (1) .
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الاستقراض، رقم 2400.(7/613)
وقوله صلى الله عليه وسلم: " ليّ الواجد يحل عقوبته وعرضه " (1) .
والليُّ معناها: المطل، والواجد بمعنى الغني.
ولكن الطريقة الأولى (وهي إدراج اسم المماطل في قائمة سوداء) إنما تؤثر إذا كانت المصارف كلها تتبع طريقة واحدة، والطريقة الثانية (وهي التعزير والعقوبة) تحتاج إلى محاكم سريعة تحكم بصفة عاجلة.
وحيث إن كلا الأمرين مفقود في كافة البلاد الإسلامية، فإن هذا الحل الأساسي لمشكلة المماطلة ليس بيد المصارف الإسلامية اليوم.
ومن أجل هذا، قد اقترح بعض العلماء المعاصرين أن يلزم مثل هذا المماطل بأدائه إلى الدائن عوضًا ماليًا عن الضرر الفعلي الذي لحقه بسبب مماطلته. وقدرت بعض المصارف الإسلامية هذا الضرر الفعلي على أساس نسبة الربح التي أدتها تلك المصارف فعلًا خلال مدة المماطلة إلى مودعيها في حساب الاستثمار. فإن لم يكن في حساب الاستثمار في تلك المدة ربح، لم يطالب المدين بأي تعويض، فإن كان هناك ربح فإنه يطالب بنسبة ذلك الربح الفعلي الذي حصل في تلك المدة.
وقد فرق هؤلاء العلماء بين التعويض وبين الفائدة الربوية بالفوارق التالية:
1- إن الفائدة الربوية تلزم المدين في كل حال، سواء كان معسرًا أو موسرًا. أما التعويض فلا يلزمه إلا إذا ثبت كونه موسرًا مماطلًا. ولئن ثبت كونه معسرًا، فلا يلزم بأداء أي تعويض.
2- إن الفائدة الربوية تلزم المدين فور تأخيره في الأداء، حتى لو كان التأخير لمدة يوم واحد. أما التعويض: فلا يلزمه إلا إذا ثبت كونه مماطلًا، والمعمول به في بعض المصارف الإسلامية أن المصرف يرسل إلى المدين أربع إخطارات أسبوعية، بعد حلول الأجل قبل أن يكلفه بأداء التعويض، فلا يلزمه التعويض إلا بعد انتظار شهر من حلول الأجل.
3- إن الفائدة الربوية تلزم المدين في كل حال، وإن التعويض المقترح لا يجب على المدين إلا إذا تحققت في مدة مماطلته أرباح في حساب الاستثمار عند المصرف، فإن لم تتحقق هناك أرباح، فإن المدين لا يطالب بأي تعويض.
4- إن الفائدة الربوية نسبتها معلومة للجانبين منذ أول يوم من الدخول في اتفاقية الدين. أما التعويض، فلا يمكن معرفة نسبته عند الدخول في اتفاقية المرابحة أو الإجارة، وإنما تتعين هذه النسبة على أساس نسبة الأرباح الفعلية التي سوف تتحقق خلال مدة المماطلة.
__________
(1) ذكره البخاري في الاستقراض تعليقًا، وأخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وإسحاق في مسنديهما عن عمرو بن شريد رضي الله عنه، وإسناده حسن كما صرح به الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 5/62.(7/614)
وعلى أساس هذه الفوارق الأربعة يقول هؤلاء العلماء المعاصرون: إن هذا التعويض لا علاقة له بالفوائد الربوية، ويستدلون على جواز مثل هذا التعويض بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) وبقوله صلى الله عليه وسلم: " لَيُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه " قائلين بأن هذا التعويض عقوبة مالية يعاقب بها المماطل.
وإن هذا الرأي المعاصر في جواز التعويض فيه نظر من وجوه مختلفة، بعضها نظرية وبعضها عملية.
أما من الجهة النظرية، فإن مشكلة المماطلة ليست مشكلة جديدة قد حدثت اليوم، وإنما هي مشكلة لم يزل التجار يواجهونها في كل عصر ومصر، وكانت المشكلة موجودة في عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الصحابة رضي الله عنهم وفي العصور اللاحقة، ولكنه لا يوجد في شيء من الأحاديث أو الآثار ما يدل على أن هذه المشكلة قد التمس حلها بفرض التعويض على المماطل، ولم أجد في الفقهاء والمحدثين طوال أربعة عشر قرنًا من حكم أو أفتى بفرض مثل هذا التعويض، بل وجدت ما يخالفه كما سأذكره إن شاء الله تعالى.
أما الاستدلال بحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) فلا شك أن إضرار الغير حرام بهذا النص، وكذلك يدل هذا النص على إزالة الضرر بطريق مشروع، ولكن لا يجب أن يزال كل ضرر بالتعويض المالي، ولا يدل النص صراحة أو إشارة، على أن إزالة ضرر المطل يكون بالتعويض. ولو كان هذا النص يدل على أن ضرر المماطل يزال بفرض المال عليه، لكان ذلك واجبًا، ولوجب على كل قاض أن يقضي بذلك، وعلى مفتٍ أن يفتي به، ولكنه لا يوجد في التاريخ قاض أو مفت حكم أو أفتى بذلك، مع كثرة قضايا المطل في كل عصر ومصر.
ثم إن ضرر الدائن المعترف به شرعًا، هو أنه لم يدفع إليه مبلغ الدين في وقته الموعود، وإزالة هذا الضرر أن يسلم إليه ذلك المبلغ الذي هو حقه، وليس من حقه المشروع ما يزيد على مبلغ الدين، فإنه ربًا. ولما ثبت أن الزائد من الدين ليس من حقه، ففوات هذه الزيادة ليس ضررًا معتبرًا عند الشرع، فلا يزال ضرره إلا بقدر حقه.
__________
(1) الحديث أخرجه مالك والشافعي مرسلًا، وأحمد وعبد الرزاق وابن ماجه والطبراني بطريق فيه جابر الجعفي، وابن أبي شيبة من وجه آخر أقوى منه، والدارقطني من وجه ثالث، وراجع المقاصد الحسنة للسخاوي ص 46، وحسنه النووي، والمناوي في فيض القدير 6/432، لتعدد طرقه.(7/615)
أما القول بأن الدائن لو حصل على مبلغ دينه في وقته الموعود، لربح فيه الأرباح، ففوات هذه الأرباح ينبغي أن يزال من قبل من تسبب بهذا الضرر. فإن هذا القول مبني على اعتبار الربح المتوقع من النقود ربحًا حقيقيًّا، وعلى أن النقود مُدِرَّةٌ للربح في نفسها بحساب كل يوم. وإن هذا المبدأ إنما أقرته النظريات الربوية، ولا عهد به في الفقه الإسلامي. ولو كان هذا المبدأ معتبرًا في الإسلام، لكان الغاصب أو السارق أولى بتطبيقه عليه، ولكن لا يوجد في تاريخ الفقه الإسلامي أحد ذهب إلى فرض التعويض المالي على غاصب النقود أو سارقها، لكونه فوت ربحها على المغصوب منه في مدة الغصب، وقد فرضت الشريعة الإسلامية عقوبة قطع اليد على السارق، ولم تفوض عليه أي تعويض مالي بالإضافة إلى النقود المسروقة. وهذا دليل على أن المبدأ المذكور لا تقره الشريعة الإسلامية.
وإن المدين المماطل لا يتجاوز من أن يكون غاصبًا أو سارقًا، فغاية ما يتصور في حقه أن تجرى عليه أحكام السرقة والغصب، ولم تفرض الشريعة الإسلامية أي تعويض على السارق أو الغاصب، من أجل النقود المغصوبة، ولا شك أن كلا من السارق والغاصب، من أجل النقود المغصوبة، ولا شك أن كلا من السارق والغاصب قد أحدث ضررًا على المالك، لا في حرمانه من أصل ماله فقط، بل في فوات الربح المتوقع منه أيضًا. ولكن الشريعة الإسلامية قد أمرت بإزالة هذا الضرر برد المال المسروق إلى المالك فقط، وبعقوبة الجاني في جسمه أو عرضه، فتبين أن فوات الربح المتوقع ليس ضررًا معوضًا عليه في الشرع.
وقد استدل بعض المعاصرين على جواز هذا التعويض بأن المنافع المغصوبة مضمونة على الغاصب عند كثير من الفقهاء، وفيما يعد للاستغلال عند الحنفية أيضًا، ولكن هذا الاستدلال لا يصح في النقود المغصوبة، فإن منافع المغصوب إنما تضمن (عند من يقول بالضمان) . في الأعيان المغصوبة، لا في النقود، حتى لو اتجر بالنقود المغصوبة وربح فيها، فالربح لا يقضى به للمغصوب منه في أصحِّ القولين عند الشافعية [المذهب للشيرازي 1/370] .
وهذا في الربح الذي تحقق فعلًا، فما بالك في الربح المتوقع فقط؟
ومن أجل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في المدين المماطل: لَيُّ الواجِد يحل عقوبته وعرضه " ولم يقل (يحل ماله) ولا يوجد في الفقهاء المحدثين من فسر العقوبة هنا بعقوبة مالية، على اختلاف بينهم في جواز التعزير بالمال، ولو فسرها أحد بذلك، فإن العقوبة إنما يحكم بها الحاكم لا الدائن نفسه، فكيف تنطبق هذه العقوبة على التعويض الذي يطالب به الدائن نفسه بدون حكم أي حاكم؟ ولو فوض تنفيذ العقوبات الشرعية إلى آحاد الناس بدون حكم الحاكم، لأدى ذلك في فوضوية لا يقبلها شرع ولا عقل.(7/616)
هذا ما أراه بالنسبة لأصل فكرة التعويض من الناحية النظرية. أما من الناحية العملية، فإن الفوارق الأربعة التي ذكرناها بين الفوائد الربوية وبين التعويض، فإنها – بالنظر إلى تطبيقها العملي – فوارق نظرية محضة، لا تخرج إلى حيز التطبيق العملي إلا في أحوال نادرة لا تصلح أن يدار عليها الأحكام.
أما الفرق الأول، وهو أن التعويض لا يطالب به من قصر في الأداء من أجل الإعسار، فإن إعسار المدين ويساره من الأمور التي يتعذر على المصرف التثبت فيها في كل قضية منفردة، فإن كل مدين يدعي أنه مُعسِرٌ، ولا سبيل للمصرف إلى أن يقنعه بكونه موسرًا على خلاف ما يدعيه، إلا برفع القضية إلى المحكمة. ولذا، فالواقع العلمي الذي تسير عليه المصارف الإسلامية التي تقر بمبدأ التعويض، أنها تصرح في اتفاقياتها بأن المدين يعتبر موسرًا إلا في الحالة التي قضي عليه فيها بالإفلاس قانونًا. ومن المعلوم أن الإفلاس القانوني حالة نهائية لا توجد إلا نادرًا. ومن المتيقن أن هناك كثيرًا من الذين لم يحكم عليهم بالإفلاس، ولكنهم معسرون بكل معنى الكلمة.
وحينئذ، كيف يمكن أن يقال: إن المصارف الإسلامية لا تطالب بالتعويض في حالة إعسار المدين؟
ومن المعلوم أيضًا أن من أقرض إنسانًا بفائدة ربوية، فإنه لا يصح له في حالة إفلاس المقترض إلا أن يأخذ بقدر ما وجد عنده، فلم يبق في هذا المجال فرق يعتد به بين تقاضي الفائدة ومطالبة التعويض.
أما الفارق الثاني: وهو محاسبة التعويض بعد شهر من حلول الأجل، فإنه على تقدير كونه معمولًا به في المصارف، فرق صحيح، ولكنه لا يعدو من أن يكون فرقًا لمدة شهر فحسب.
وأما الفارق الثالث والرابع، وهو كون وجوب التعويض متوقفًا على حصول الأرباح في مدة المماطلة، وكون نسبة التعويض غير معلومة من جهة كونها مبنية على نسبة الأرباح، فإن هذا الفرق صحيح نظريًّا، ولكن إذا نظرنا من الناحية العملية، رأينا أن معظم عمليات المصارف الإسلامية تدور حول المرابحة المؤجلة، وإن تحقق الربح ونسبته في هذه العمليات معروفة لدى المصرف ولدى عملائه، فأصبحت نسبة التعويض معروفة لدى الفريقين عملًا.(7/617)
ثم إن معظم المصارف الإسلامية تحاسب أرباحها بعد كل ستة أشهر. فلا تكون الأرباح معلومة بالضبط إلا عند نهاية كل فترة، فلو كانت مدة المماطلة في أثناء هذه الفترة، كيف تعرف الأرباح الحاصلة في هذه الفترة بالضبط؟ وإن أصحاب الودائع الذين يخرجون من المصرف قبل نهاية الفترة، إنما يعطون كدفعة تحت الحساب، وتصير هذه الدفعة تابعة للتصفية الأخيرة عند نهاية الفترة. فهل يكون التعويض المطالب به في أثناء الفترة تابعًا للتصفية النهائية أيضًا؟ الظاهر: لا. فكيف يقال: إن التعويض موافق للأرباح الفعلية الحاصلة في خلال مدة المماطلة؟
وهناك جهة أخرى جديرة بالتأمل في هذا الموضوع وهي أن نسبة الأرباح الحاصلة في حساب الاستثمار تكون أقل دائمًا من نسبة الربح في عقود المرابحة والإجارة، فلو أراد المدين الخيانة، لأمكن له أن يستمر في صرف المبالغ إلى مشروعات تدر ربحًا أكثر مما يحصل في المصرف على حساب الاستثمار، فيدفع قليلًا من التعويض، ويحصل على ربح أكثر منه فيستمر في مماطلته إلى ما شاء من مدة. فيرجع نفس المحذور الذي لجأت المصارف إلى التعويض من أجله.
فاقتراح فرض التعويض على المماطلين اقتراح لا أعتقد أنه يحل مشكلة المماطلة، لا من جهة الشرع، ولا من الناحية العملية. فما هو الحل إذن؟
والحل الحقيقي لهذه المشكلة ما قدمناه في أول كلامنا في هذا الموضوع، ولكن ذلك إنما يفيد إذا أصبحت المصارف كلها تعمل على أسس شرعية. أما في الظروف الحاضرة التي لا توجد فيها المصارف الإسلامية إلا بعدد قليل، بالنسبة إلى المصارف الربوية التقليدية التي هي مبثوثة في أنحاء العالم كله، فيمكن أن تلجأ المصارف الإسلامية إلى حل مؤقت آخر، وهو أن يلتزم المدين عند توقيعه على اتفاقية المرابحة أو الإجارة بأنه إذا قصر في أداء واجبه المالي، فإنه سوف يتبرع بمبلغ معلوم النسبة من الدين إلى بعض الجهات الخيرية، ويسلم ذلك المبلغ إلى المصرف، ليصرفه بالنيابة عنه إلى تلك الجهات. فإن قصر المدين في الأداء لزمه أداء هذه المبالغ إلى المصرف، ولكن هذه المبالغ لا تكون مملوكة للمصرف، ولا تكون جزءًا من دخله أو ربحه، وإنما تكون أمانة عنده للصرف إلى الجهات الخيرية.(7/618)
وإن هذا الاقتراح إنما يفيد للضغط على المدين في أداء الدين في وقته، ومن المرجو أن هذا الضغط يؤثر في سد باب المماطلة أكثر مما يؤثر فيه اقتراح التعويض، لأن مقدار هذا التبرع الملتزم به لا يجب أن يكون بمقدار الأرباح الحاصلة في حساب الاستثمار في مدة المماطلة، بل يمكن أن يكون أكثر من ذلك، ولا بأس بتعيين مقداره على أساس نسبة معينة من مبلغ الدين، بما يجعل المدين يحتفظ بمواعيد الأداء. وفي الوقت نفسه لا يعتبر هذا التبرع ربًا، لأنه لا يدخل في ملك المصرف شيئًا، بل يصرف إلى الجهات الخيرية، ويمكن أن ينشأ لذلك صندوق خاص لا يكون مملوكًا للمصرف، بل يكون وقفًا على بعض المقاصد الخيرية يتولاه أصحاب المصرف، ويكون من مقاصده أن يقدم منه قروض حسنة لأصحاب الحاجة.
وأما المستند الشرعي لهذا الالتزام، فإن الالتزام بالتبرع جائز، عند جميع الفقهاء، وإن مثل هذا التبرع يلزم في القضاء أيضًا عند بعض المالكية. والأصل عند المالكية أن الالتزام إن كان على وجه القربة، فإنه يلزم الملتزم في القضاء باتفاق علمائهم. أما إذا كان الالتزام على وجه اليمين، بمعنى أن يكون معلقًا على أمر يريد الملتزم الامتناع عنه، ففي لزومه في القضاء خلاف. فذهب بعضهم إلى أنه لا يقضي به في الحكم، وخالفهم آخرون، فجعلوه لازمًا في القضاء، وقد تكلم الحطاب رحمه الله على هذه المسألة ببسط في كتابه " تحرير الكلام في مسائل الالتزام " وقال فيه: (أما إذا التزم المدعى عليه للمدعي أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا فله عليه كذا وكذا، فهذا لا يختلف في بطلانه، لأنه صريح الربا، وسواء كان الشيء الملتزم به من جنس الدين أو غيره، وسواء كان الشيء معينًا أو منفعة..(7/619)
وأما إذا التزم أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا، فعليه كذا وكذا لفلان، أو صدقة للمساكين، فهذا هو محل الخلاف المعقود له هذا الباب، فالمشهور أنه لا يقضي به كما تقدم، وقال ابن دينار: يقضي به) (1) .
وقال قبل ذلك: (وحكاية الباجي الاتفاق على عدم اللزوم فيما إذا كان على وجه اليمين غير مسلمة لوجود الخلاف في ذلك كما تقدم، وكما سيأتي) (2) .
وإن الحطاب رحمه الله وإن رجح عدم اللزوم، ولكنه قال في آخر الباب: (إذا قلنا إن الالتزام المعلق على فعل الملتزم الذي على وجه اليمين لا يقضي به على المشهور، فاعلم أن هذا ما لم يحكم بصحة الالتزام المذكور حاكم. وأما إذا حكم حاكم بصحته أو بلزومه، فقد تعين الحكم به، لأن الحاكم إذا حكم بقول لزم العمل به وارتفع الخلاف) (3) .
هذا على قول بعض المالكية. أما على أصل الحنفية، فإن الوعد غير لازم في القضاء، لكن صرح فقهاء الحنفية بأن (بعض المواعيد قد تجعل لازمة لحاجة الناس) . فعلى هذا الأساس أرجو أن يكون هناك مجال للقول بلزوم هذا التبرع المقترح، سدا لباب المماطلة، وصيانة لحقوق الناس عن اعتداء المعتدين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب رحمه الله: ص176.
(2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب رحمه الله: ص169.
(3) تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب رحمه الله: ص185 من طبع دار الغرب الإسلامي، بيروت 1404 هجرية.(7/620)
أثر موت المدين في حلول الدين
والمسألة الأخيرة التي نريد أن نثبتها في هذه العجالة، هي مسألة خراب ذمة المدين بموته، وهل يبقى الدين بعد موته مؤجلًا كما كان، أو يصير حالًّا، فيطالب الدائن الورثة بأدائه من تركة الميت فورًا؟ وقد اختلفت في هذه المسألة أقوال الفقهاء. فذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والمالكية إلى أن الدين المؤجل يحل بموت المدين، وهو رواية عن الإمام أحمد ابن حنبل أيضًا ولكن المختار عند الحنابلة أن الورثة إن وثقوا الدين، فإنه لا يحل بموت المدين، وإنما يبقى مؤجلًا كما كان. قال ابن قدامة رحمه الله: (فأما إن مات وعليه ديون مؤجلة، فهل تحل بالموت؟ فيه روايتان: إحداهما، لا تحل إذا وثق الورثة، وهو قول ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد. وقال طاوس وأبو بكر بن محمد والزهري وسعيد بن إبراهيم: الدين إلى أجله، وحكي ذلك عن الحسن.
والرواية الأخرى: أنه يحل بالموت، وبه قال الشعبي والنخعي وسوار ومالك والثوري والشافعي، وأصحاب الرأي، لأنه لا يخلو: إما أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة، أو يتعلق بالمال. ولا يجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها، ولا ذمة الورثة، لأنهم لم يلتزموها، ولا رضي صاحب الدين بذممهم، وهي مختلفة متباينة. ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله، لأنه ضرر بالميت وصاحب الدين، ولا نفع للورثة فيه. أما الميت، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه)) وأما صاحبه فيتأخر حقه، وقد تتلف العين، فيسقط حقه. وأما الورثة، فإنهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرفون فيها. وإن حصلت لهم منفعة فلا يسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعة لهم) (1) .
ثم ذكر ابن قدامة رحمه الله ترجيحه لمذهب من يقول ببقاء الدين مؤجلًا، إذا وثقه الورثة بكفيل أو رهن، وذكر دلائله.
__________
(1) المغني، لابن قدامة: 4/684؛ كتاب المفلس، وراجع أيضًا الشرح الكبير: 4/502، وراجع لمذهب الحنفية في حلول الدين بموت المدين، خلاصة الفتاوى: 3/95.(7/621)
وأما الحنفية، فإنهم وإن ذهبوا إلى حلول الدين بموت المدين على قول جمهور الفقهاء المتبوعين، ولكن المتأخرين منهم لم يَفُتْهُمْ النظر إلى أن في المرابحة المؤجلة تكون حصة من الثمن مقابلة لأجل، كما أسلفنا، فلو ألزمنا على تركة المشتري أن يؤخذ منها الثمن كاملًا في الحال قبل حلول الأجل، لصارت الحصة المقابلة للمدة الباقية بدون عوض، وفيه ضرر للمشتري الذي لم يرض بهذا القدر من الثمن إلا إذا كان مؤجلًا بأجل متفق عليه. ولذلك أفتوا بأن المشتري لا يؤدي من ثمن المرابحة في هذه الصورة إلا بقدر ما مضى من الأيام. ونعيد هنا ما قدمناه عن الدر المختار، فقال: (قضى المديون الدين المؤجل قبل الحلول أو مات فحل بموته، فأخذ من تركته لا يأخذ من المرابحة التي جرت بينهما إلا بقدر ما مضى من الأيام، وهو جواب المتأخرين قنية، وبه أفتى المرحوم أبو السعود أفندي مفتي الروم، وعلله بالرفق للجانبين) .
وقال ابن عابدين تحته: (صورته: اشترى شيئًا بعشرة نقدًا، وباعه لآخر بعشرين إلى أجل هو عشرة أشهر، فإذا قضاه بعد تمام خمسة أو مات بعدها يأخذ خمسة، ويترك خمسة) (1) .
والحاصل عندي في هذه المسألة أن جمهور الفقهاء المتبوعين، وإن ذهبوا إلى حلول الدين بموت المدين، ولكن في عمليات البيع بالتقسيط والمرابحة المؤجلة التي يكون حصة من الثمن فيها مقابلة للأجل، لو أخذنا بمبدأ حلول الدين بكامله، لتضرر به ورثة المدين. فينبغي فيها الأخذ بأحد القولين: إما بقول المتأخرين من الحنفية بسقوط تلك الحصة من الدين التي تقابل المدة الباقية من الأجل المتفق عليه، فلا يؤخذ من التركة إلا بقدر ما مضى من الأيام. أو يؤخذ بقول الحنابلة من بقاء الدين مؤجلًا كما كان، بشرط أن يوثقه ورثة المدين بوثيقة معتمدة. ولعل الصورة الأخيرة أولى للبعد عن تذبذب الثمن بآجال مختلفة، الذي فيه مشابهة صورية للمعاملات الربوية.
والله سبحانه وتعالى أعلم، له الحمد في الأولى والآخرة،
وصلى الله تعالى على نبيه وعلى آله وصحبه
وتابعيهم ومن والاهم
القاضي محمد تقي العثماني
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار: 6/757.(7/622)
البيع بالتقسيط
المحور الثاني: الحطيطة والحلول
إعداد
الدكتور رفيق يونس المصري
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد:
فإن المقصود بالحطيطة، في هذا البحث، هو خصم الديون المؤجلة الناشئة عن بيوع التقسيط، أو خصم الأوراق التجارية لدى المصارف، وإعطاء القيمة الحالية للخاصم، في مقابل الحصول على القيمة الاسمية في الأجل. والمقصود بالحلول هو حلول الديون (المؤجلة) بالموت أو الإفلاس أو المماطلة.. إلخ.
وهذان المبحثان: الحطيطة والحلول، إنما نعرض لهما في نطاق بيع التقسيط، واستكمالًا لمباحثه، وفي كل منهما تنضيض (= تسييل) للدين، أي تعجيل (تعجيل دفع) . وهذا التعجيل إنما أن يكون بعقد (حالة الخصم المصرفي أو تعجيل الدفع أو المماطلة) أو بحكم (حالة الموت أو الإفلاس) .
والسؤال المطروح ههنا: هل يجوز الوضع (= الحط، الحطيطة) للتعجيل في كل الحالات؟ أم يمتنع، أم يجز في بعضها دون البعض الآخر؟ هذا ما سنتعرض له بشكل أساسي في هذه الورقة.
ولئن عرضنا لبيع التقسيط، في ورقة سابقة، من زاوية الزيادة للتأجيل (الجزء الأول) ، فإننا نعرض له هنا من زاوية الحطيطة للتعجيل (الجزء الثاني) ، والله المستعان.(7/623)
الفصل الأول
البيع بالتقسيط ونظرة الإسلام إلى المداينة
1-1- البيع بالتقسيط هو بيع بالدين:
في البيع بالتقسيط يُسَلّم البائع المبيع معجلًا، ويسلم المشتري الثمن كله أو بعضه مؤجلًا، أي قد تكون هناك دفعة مقدمة، والباقي يدفع في أجل محدد أو آجال محددة. فالثمن المؤجل هو دين للبائع في ذمة المشتري.
1-2 تعريف الدين:
قال ابن الهمام: (الدين اسم لمال واجب في الذمة، يكون بدلًا عن مال أتلفه، أو قرض اقترضه، أو مبيع عقد بيعه، أو منفعة عقد عليها) [فتح القدير: 5/431] .
وقال القرطبي: (حقيقة الدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدًا (= معجلًا) ، والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرًا والدين ما كان غائبًا) [الجامع لأحكام القرآن: 3/377، ومثله في تكملة المجموع، للمطيعي: 13/97] .
1-3- أشكال المداينة:
1- القرض: وهو أخص من الدين [حاشية ابن عابدين: 5/157] ، يدفع فيه المقرض إلى المقترض مبلغًا من المال، يلتزم المقترض برد مثله إليه عند المطالبة أو عند اليسر (قرض حال) ، أو في وقت محدد (قرض مؤجل عند من يرى جواز التأجيل) .
[انظر: فتح الباري: 5/66 و 5/352 و 4/469 و 472؛ ومصنف عبد الرزاق: 8/3؛ ومصنف ابن أبي شيبة: 6/432؛ وشرح السنة للبغوي: 8/176؛ والأحكام لابن حزم: 5/47 و 8/494؛ ومجموع فتاوى ابن تيمية: 20/32؛ وإغاثة اللهفان لابن القيم: 2/47 – 48] .
2- البيع بالأجل أو بالتقسيط: يكون فيه الثمن كله أو بعضه دينًا في ذمة المشتري، مؤجلًا إلى أجل معلوم، أو إلى آجال معلومة.
3- بيع السلم (= بيع السلف) : يكون المبيع فيه دينًا في ذمة البائع، مؤجلًا إلى أجل معلوم، أو إلى آجال معلومة.
4- وهناك أشكال أخرى من الديون، كالمهر المؤجل، والأجرة المؤجلة،.. إلخ.(7/624)
1-4- مشروعية الدين:
الدين مشروع لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] .
ولقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] .
وفي الحديث ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل، ورهنه درعًا له من حديد)) [صحيح البخاري: 3/101 و 186؛ وصحيح مسلم بشرح النووي: 4/123 واللفظ له] .
وفي الحديث أيضًا: (من أسلف ... فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) [صحيح مسلم: 4/124] .
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقترض الإبل وغيرها [صحيح البخاري: 3/153] .
1-5- حرمة الربا:
إذا كان الدين مشروعًا، والقرض منه مستحبًّا، فإن الربا حرام، لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
وفي الحديث: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه)) [صحيح مسلم: 4/110؛ وصحيح البخاري: 3/77] .
فالربا حرام في القرض. أما في البيع فتجوز الزيادة لقاء التأجيل، لكن عند استحقاق الدين، أو بعد ثبوته في الذمة، لا يجوز أي زيادة لقاء التأجيل أو التأخير. أما الحطيطة للتعجيل فحكمها هو موضع اهتمامنا في هذه الورقة، كما سيأتي:(7/625)
1-6- نظرة الإسلام إلى الدين:
1- القرض مستحق لأن فيه إرفاقًا بالمقترض وتنفيسًا عنه، وقد يصبح واجبًا إذا كان طالب القرض مضطرًا والمطلوب منه قادرًا على مواساته وتفريج كربته. وإذا أعسر المقترض وجب إنظاره.
2- البيع الآجل، سواء كان الثمن مؤجلًا (البيع بالنسيئة أو بالتقسيط) أو كان المبيع مؤجلًا (بيع السلم أو السلف) ، جائز، وقد مر الحديث النبوي في جواز كل منهما.
ويجوز في البيع الآجل الزيادة لأجل الأجل، فقد ذكر الفقهاء أن للزمن حصة من الثمن، وهو ما عنينا بإثباته في ورقة سابقة عن بيع التقسيط.
فالبيع الآجل مع الزيادة مباح، فإن تم بدون زيادة، أو بدون طلب ضمان أو رهن من المدين، كان البيع مستحبًّا، كالقرض، لما فيه من إرفاق.
3- لكن يجب أن يعقد الدين لغرض مشروع، فلا يجوز الدين لأجل شراء خمر، أو مخدرات، أو خنزير، أو آنية ذهب أو فضة، أو ذهب أو حرير للرجال، أو لهو حرام، أو لعب قمار، أو إقراض بالربا.
4- كما يجب أن يتوقع المُقدِمُ على الدين قدرته على الوفاء في الأجل المحدد. فإن كان بيع سلم وجب أن يغلب على ظنه قدرته على تسليم المبيع في الميعاد المضروب، وإن كان بيع نسيئة أو تقسيط وجب أن يغلب على ظنه قدرته على تسليم الثمن أو القسط أو الأجل المحدد.
5- فيجب إذن عدم التوسع في الدين إلى الحد الذي يوقع المدين في التخلف عن السداد. فعندئذ يكون الدين ذلًّا في النهار، وهمًّا وغمًّا في الليل، وسنفرد لهذا المبحث التالي.
6- على المدين أن ينوي وفاء الدين عند الاستدانة، وأن يهتم به بعدها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) [صحيح البخاري: 3/152] .
وقال أيضًا: ((خيار الناس أحسنهم قضاء)) [صحيح البخاري: 3/153]
وقال أيضًا: ((مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ)) [صحيح البخاري البخاري: 3/155] .
وقال أيضًا: ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)) . [صحيح مسلم: 4/549] .(7/626)
7- إذا ماطل المدين في سداد ما عليه من دين، وكان موسرًا، طالبه الدائن بالرفق أولًا، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله رجلًا سمحًا إذا ... اقتضى)) [صحيح البخاري: 3/75] .
فإذا لم ينفع الرفق، أغلظ عليه بالقول، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ يتقاضاه، فأغلظ له، فهمَّ به أصحابه، فقال: ((دعوه، فإن لصاحب الحق مقالًا)) [صحيح البخاري، باب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس: 3/155] .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَيُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه. قال سفيان: عرضه، يقول: مطلتني، وعقوبته: الحبس)) [صحيح البخاري: 3/155] .
فإذا كان المدين مجهول الحال، لم يعلم يسره ولا عسره، وشك في أن له مالًا باطنًا مكتومًا، حبسه القاضي حتى يعلم حاله يسرًا أو عسرًا، فإن ظهر عسره أخرجه من الحبس، وإن ظهر يسره أبقاه فيه، لأنه صار معلوم اليسار. فإذا لم يُجْدِ الحبس، وكان له مال ظاهر، باعه القاضي عليه بما يكفي لوفاء دينه [الإفلاس في الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد الغفار إبراهيم صالح: ص63 و 117 و 203؛ والديون المالية في الفقه الإسلامي، للدكتور سليمان العيسى ص477] .
8 – إذا ثبت عجز المدين عن السداد، أي كان معسرًا أو مفلسًا، زادت ديونه على أمواله، فلا مال له يفي به دينه (الحال) ، فلا يجوز الربا عليه، ولا استرقاقه أو بيعه في دينه. كما لا يجوز ملازمته، ولا سجنه، ولا الاعتداء عليه، أو على أحد من أقاربه. وعند الجمهور، لا يجبر على العمل، إذا كان قادرًا عليه، لاكتساب ما يفي بدينه.
9- وقد يعطى المدين المعسر من الزكاة (مصرف الغارمين) لسداد ديونه. فإذا قصرت أموال الزكاة عن هذا، ندب الناس والدائنون إلى التصدق على المدين. قال تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280] .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تصدقوا عليه "، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه (= لدائنيه) : ((خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلَّا ذلك)) [صحيح مسلم: 4/64] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله)) [صحيح مسلم: 5/853] .
وقال لكعب بن مالك: ((ضع الشطر من دينك)) [صحيح مسلم: 4/66] .(7/627)
1-7- الآثار الواردة في التشديد في الدين وتعظيم أمره:
وردت أحاديث وآثار فيمن يموت وعليه دين، لا يدخل الجنة حتى يوفى عنه دينه. فهذا التخويف من أمر الدين انتهاء أدى إلى التخويف منه ابتداء. فإني أخاف من عقد الدين خوفي من عدم وفائه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو أن رجلًا قُتل ثم أحيي، ثم قتل ثم أحيي، ثم قتل وعليه دين، ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه)) [سنن النسائي: 7/315] .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة: ((اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) ، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم! قال: ((إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف)) [صحيح البخاري: 3/154] .
وكان يدعو: ((اللهم ( ... ) اقض عنا الدين)) [صحيح مسلم: 5/564] ، ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن وضلع (= ثقل) الدين، وغلبة الرجال)) [صحيح البخاري: 8/97 و 98] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع عن الصلاة على ميت مات وعليه دين، ما لم يوفَّ عنه، حتى فتح الله على رسوله الفتوح، فقال: ((من ترك دينًا فعليَّ، ومن ترك مالًا فلورثته)) [سنن النسائي: 4/66، وانظر: صحيح البخاري: 3/155] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يغفر للشهيد كل ذنب إلَّا الدين)) [صحيح مسلم 4/549] .
وهذا لا يعني أن الدين ممنوع، بل يعني أن على المسلم ألا يستدين إلا عندما يكون محتاجًا إلى الدين، راغبًا في الوفاء، مهتمًّا به، ناويًا له، متوقعًا قدرته عليه في الأجل. كما يعني أن على الجماعة المسلمة (الأفراد والدولة) مساعدة المدين المعسر على وفاء دينه، قبل وفاته، وبعدها.(7/628)
الفصل الثاني
خصم الأوراق التجارية
2-1- توثيق الدين:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ولْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ولا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ولْيُمْلِلِ الَذِي عَلَيْهِ الحَقُّ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أو ضَعِيفًا أو لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ بِالْعَدْلِ واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى ولا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا ولا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أو كبِيرًا إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألاَّ تَكْتُبُوهَا وأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ ولا يُضَارَّ كَاتِبٌ ولا شَهِيدٌ وإن تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ واتَّقُوا اللَّهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 282 – 283] .
هذه الآية المعروفة بآية المداينة، اشتملت على ثلاثة أنواع من توثيق الدين: التوثيق بالكتابة، التوثيق بالشهادة، التوثيق بالرهن. فهذه الأنواع كلها تفيد في إثبات الدين والاطمئنان إلى تحصيله. يضاف إليها التوثيق بالكفالة، والتوثيق بالحوالة (على مليء) .(7/629)
2-2 – توثيق الدين بالأوراق التجارية:
الأوراق التجارية، عند رجال القانون، صكوك مكتوبة قابلة للتداول تمثل حقًّا نقديًا، وتستحق الدفع بمجرد الاطلاع أو في أجل قصير. وهي أداة وفاء وأداة ائتمان. وتضم: السفتجة (= الكمبيالة) ، والسند الإذني (= السند لأمر) ، والشيك.
تعرف السفتجة بأنها صك يصحبه شخص على آخر، لدفع مبلغ محدد من النقود، في تاريخ محدد.
ويعرف السند الإذني بأنه صك يتعهد به شخص لآخر بدفع مبلغ محدد من النقود، في تاريخ محدد.
ويعرف الشيك بأنه صك يسحبه شخص على آخر (مصرف) لدفع مبلغ محدد من النقود بمجرد الإطلاع.
فالأوراق التجارية من جملة وظائفها أنها ضرب من ضروب توثيق الدين بالكتابة، وضرب من توثيق الدين بالضمان. فجميع الموقعين على الورقة (ساحب الورقة وقابلها ومظهرها وضامنها الاحتياطي) مسؤولون جميعًا، وبالتضامن، أمام حاملها الذي يمكنه مطالبتهم منفردين أو مجتمعين، دون مراعاة أي ترتيب [أنظر: نظام الأوراق التجارية السعودي، على سبيل المثال، أو الكتب القانونية التي عالجت التجارية، أو أفردتها بالبحث، وهي كثيرة] .(7/630)
2-3 – خصائص الأوراق التجارية:
1- قابلة للتداول، بالتظهير إذا كانت إذنيه، وبالتسليم إذا كانت لحاملها (تستخدم أداة لتسوية الديون) .
2- تمثل حقًّا نقديًا، أي تتضمن دفع مبلغ محدد من النقود.
3- يمكن استخدامها أداة لنقل النقود، نقلًا غير حسي، بل بواسطة الذمم، من مكان لآخر، بدون تكلفة ولا خطر، وذلك عندما تكون مستحقَّة الوفاء في مكان آخر، وهذا هو معنى السفتجة في الفقه الإسلامي.
4- تستحق الدفع بمجرد الاطلاع كالشيك، أو في أجل قصير 1 – 6 شهور، كالسفتجة والسند (أداة ائتمان) .
وبهذه الخصيصة تخرج الأوراق المالية، الأسهم والسندات لأنها صكوك طويلة الأجل، تصدر لمدة حياة الشركة، كالأسهم، أو لمدة طويلة 10- 30 سنة، كالسندات المالية.
5- يجري العرف على قبولها أداة وفاء، بخلاف قسائم (= كوبونات) الأسهم، فإنها وإن كانت قابلة للتداول، وتمثل مبلغًا نقديًّا، هو مقدار ربح السهم، وتستحق الدفع بمجرد تقديمها إلى الشركة المصدرة، إلَّا أن العرف لم يعتبرها أداة للوفاء.
6- الموقعون على الورقة التجارية متضامنون، سواء كانوا تجارًا أو غير تجار. ولكن لا يحق لحامل الورقة الرجوع على الضامنين غلا بعد تقديمها للمسحوب عليه لوفائها، وبعد عمل احتجاج (= بروتستو) عدم الوفاء، إذا توقف المسحوب عليه عن الوفاء.
7- قابلة للخصم لدى المصارف ولإعادة الخصم لدى المصرف المركزي أو مصرف آخر، مما يزيد من درجة سيولة الأوراق (تستخدم أداة للحصول على النقد) . فهي دين لطرف على طرف آخر، ولكنه قابل للتنضيض (= للتحويل إلى نقد) بالنسبة للدائن بواسطة طرف ثالث، قبل الاستحقاق.(7/631)
2-4- هل عرف الفقه الإسلامي الأوراق التجارية؟
إذا نظرنا في تعريف كلٍ من الكمبيالة والسند لأمر والشيك وجدنا أن هذه الأدوات ليست غريبة على الفقه الإسلامي، فهي عبارة عن صكوك بدفع مبلغ معين في تاريخ معين.
هذا وإن بعض القوانين الحديثة، كالسوري واللبناني، سمَّت الكمبيالة سفتجة، والسفتجة معروفة في الفقه الإسلامي، بحثها الفقهاء إما في باب الحوالة، وإما في باب القرض، وهي عبارة عن قرض يسدد في بلد آخر [انظر: كتابي ربا القروض، الفصل الثالث، السفتجة: ص25 – 42] .
غير أن وراء كل تعريف من تعاريف الأوراق التجارية نظامًا متكاملًا حددته القوانين الوضعية، مما قد يجعل نظام السفتجة وغيره مختلفًا في تفصيلاته عن نظامها في الإسلام. وهذا ما يستدعي دراسة فقهية مفصلة لوظائف الأوراق التجارية وإضافاتها وأحكامها، على غرار الدراسات الفقهية المتعلقة بأحكام الشركات الحديثة، وقد بدأ فعلًا بعض الباحثين بمثل هذه الدراسات [انظر: أحكام الأوراق النقدية والتجارية، لستر بن ثواب الجعيد؛ والأوراق التجارية في الشريعة الإسلامية، للدكتور محمد أحمد سراج] .(7/632)
2-5- خصم الأوراق التجارية:
الخصم لفظ جرى به العرف التجاري والمصرفي، ويراد به الحطيطة أو الوضيعة، وهو قيام أحد عملاء مصرف بتظهير ورقة تجارية له، لم يحن أجلها، تظهيرًا ناقلًا للملكية (التظهير ثلاثة أنواع: تظهير ناقل للملكية، وتظهير توكيلي بغرض التحصيل، وتظهير تأميني) ليحصل منه على قيمتها الحالية، وهي القيمة الاسمية مطروحًا منها ثلاثة عناصر تسمى "آجيو":
1- الفائدة (عن المدة الواقعة بين تاريخ الخصم وتاريخ الاستحقاق) .
2- الأجرة (أو العمولة، لتغطية النفقات العامة للمصرف) .
3- المصاريف (مصاريف التحصيل) .
2-6- التكييف القانوني للخصم:
هناك ثلاث نظريات:
الأولى: أن الخصم قرض بضمان الورقة التجارية.
الثانية: أن الخصم بيع حق، أو حوالة حق.
الثالثة: أن الخصم عملية ذات طبيعة خاصة (Sui Generis) .
ويهمُّنا في بحثنا هذا أنه أيا ما كان التكييف القانوني للخصم، فإن فيه قرضًا بفائدة تحسب عن المدة الواقعة بين تاريخ الخصم وتاريخ الاستحقاق.
2-7- الخصم فيه ربا نسيئة:
في الخصم يقرض المصرف، في الحال مبلغًا من المال، يساوي القيمة الحالية للورقة التجارية، على أن يسترد في الأجل، مبلغًا أعلى منه، يساوي القيمة الاسمية للورقة، وهذا هو ربا النسيئة المحرم.
2-8- النظر في الخصم من طريق الحوالة:
إذا نظرنا إلى الخصم على أنه حوالة حق، حيث يحيل مظهر الورقة حقه فيها إلى المصرف، في مقابل ما أقرضه المصرف، نجد أن هناك أيضًا معاوضة بين مبلغين من النقود، أحدهما حال بمبلغ معين، والآخر مؤجل بمبلغ أعلى، وهذا ربا نسيئة محرم.(7/633)
2-9 – النظر في الخصم من طريق بيع الدين:
يفرق الفقهاء، في بيع الدين، بين بيع الدين بمن هو عليه، وبيع الدين لغير من هو عليه.
ويمكن النظر إلى خصم الأوراق التجارية على أنه من باب بيع الدين (المؤجل) لثالث أي لغير من هو عليه هذا الدين. غير أن الفقهاء الذين أجازوا هذا البيع (المالكية) اشترطوا شروطًا لصحته، منها أن يباع الدين بغير جنسه، أو بجنسه إذا كان مساويًا له [الخرشي على خليل: 5/77؛ والزرقاني على خليل: 5/83؛ وشرح منح الجليل: 2/564؛ والبهجة شرح التحفة: 2/47] .
وفي الخصم يباع الدين بجنسه مع التفاضل: نقود بنقود أكثر منها، فهو إذن سلف ربوي، أي تجارة بالديون، والمصرف الربوي تاجر ديون.
أما الفقهاء المانعون (الحنفية، والشافعي في أحد القولين، وأحمد في إحدى الروايتين) من بيع الدين لغير من هو عليه. فقد احتجوا بأن الدين المبيع غير مقدور التسليم. فقد يجحده المدين أو يتخلف عن دفعه، فهو إذن من بيع الغرر.
[انظر في الفقه الحنفي: تبيين الحقائق: 4/83؛ والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص358. وفيه الفقه الشافعي: نهاية الحتاج: 4/89؛ والمجموع: 9/275؛ وفتح العزيز بهامش المجموع: 8/438. وفي الفقه الحنبلي: شرح منتهى الإرادات: 2/222؛ والمبدع في شرح المقنع: 4/199؛ وكشاف القناع: 3/307؛ والمغني مع الشرح الكبير 4/342؛ والمحرر في الفقه 1/338. وانظر: التصرف في الدين، للدكتور نزيه حماد: ص46.
لكن ربما يخفف من هذا الغرر الضمانات الموجودة في نظام الأوراق التجارية، وقد أشرنا إليها لدى الكلام عن توثيق الدين (2 – 2) ، وعن خصائص الأوراق التجارية (2 –3) .
وليس يعني هذا أن الخصم يصبح جائزًا، إذ يمنع من جوازه ما ذكرناه لدى بيان رأي الفقهاء المجيزين لبيع الدين.(7/634)
2-10- رأي الموسوعة الفقهية الكويتية في الخصم:
(هذه المعاملة باطلة من وجهة النظر الإسلامي:
* فهي لا تصح حوالة (من المظهر للمصرف الخاصم على المسحوب عليه، ولو كان مدينًا) لفوات شريطة التساوي بين الدين المحال به والدين المحال عليه، لأن الدين المحال به هو المبلغ الذي يدفعه المصرف الخاصم إلى من قام بتظهير الورقة إليه، والدين المحال عليه هو الذي تثبته الورقة، وقد علمنا فرق ما بينهما [انظر أيضًا ص111 من الموسوعة] .
* وكذا لا تصح قرضًا من المصرف الخاصم، وتوكيلًا من المظهر في استيفاء بدل القرض من المسحوب عليه لأنه حينئذ قرض جر نفعًا، لمكان عدم التساوي، كما أسلفنا.
* ولا تصح أيضًا على بيع الدين لغير من هو عليه، عند من يصححه، لأن العوضين هنا من النقود، ولا يجوز بيع النقود بجنسها مع التفاضل، وعند اختلاف الجنس يجب التقابض (1) .
فهذه العملية (الخصم) تضاف إلى عمليات التسليف بالفائدة التي تقوم بها المصارف، ويشملها كلها نظر شرعي واحد " [الموسوعة الفقهية الكويتية: ص242 – 243] .
__________
(1) ففي الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، لا يجوز التفاضل، سواء تمت المبادلة يدًا بيد أو نَساء. وفي الذهب بالفضة يجوز التفاضل، ولكن لا يجوز النساء. وفي الخصم تفاضل ونساء، الأول لا يجوز عند اتحاد الجنس، والثاني لا يجوز عند اختلاف الجنس، ولا يجوز اجتماعهما معًا، لا عند اتحاد الجنس ولا عند اختلافه، لأن اجتماعهما يعني ربا النسيئة المحرم (هذا الهامش للكاتب لا للموسوعة) .(7/635)
الفصل الثالث
ضع وتعجل
(الوضع أو الحطيطة للتعجيل)
3-1- إسقاط الدائن بعض دينه:
إذا كان لأحد الدائنين دين على آخر، نتيجة قرض أو بيع، أو غيره، فأسقطه بعضه أو كله، على سبيل التبرع، عند الاستحقاق أو قبله، بدون شرط ولا اتفاق ولا مراوضة، فهذا جائز لا شيء فيه من ربا أو غيره. بل قد يكون مستحبًّا، ولاسيما إذا كانت حالة المدين تستدعي الإرفاق.
قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280] .
فهذا يناظر ما لو زاد المدين، من تلقاء نفسه، في المبلغ المسدد، عند وفاء الدين. فإذا كان هذا يعد من باب حسن القضاء، فإن ذلك يعد من باب حسن الاقتضاء (والسماحة فيه) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله عبدًا ... سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى)) [فيض القدير: 4/26، ورمز له بعلامة الصحة] .
3-2- الاتفاق على إسقاط بعض الدين في مقابل تعجيله (ضع وتعجل) :
تختلف هذه الحالة عن سابقتها بأنها من باب الاتفاق أو الشرط، في حين أن السابقة من باب التبرع بدون اتفاق ولا شرط. وحكم المعاوضات في الفقه هو غير حكم التبرعات، فالزيادة لقاء التأجيل مشروعة بلا شرط، وممنوعة بالشرط. كذلك النقصان لقاء التعجيل مشروع بلا شرط، ممنوع بالشرط (عند الجمهور) .(7/636)
ولا فرق في الحكم بين ما إذا كان الطالب لهذا النقصان هو المدين أو الدائن، لأن هذا يدخل في الشرط والاتفاق. فالمدين يطلب الإسقاط في مقابل التعجيل، والدائن يطلب التعجيل في مقابل الإسقاط.
ومع ذلك، فإني أرى أن إسقاط بعض الدين في مقابل التعجيل جائز، ولو بالشرط أو الاتفاق، لاسيما إذا كان قد زيد في الدين في مقابل التأجيل، كما في البيوع المؤجلة.
ولست أعني بهذا أن الدين إذا لم يزد فيه للتأجيل لم يسقط منه للتعجيل، فالإسقاط للتعجيل جائز سواء كان زيد فيه للتأجيل أو لا، ذلك بأن عدم الزيادة للتأجيل، كما في البيوع المؤجلة (دون القروض) ، يعتبر تنازلًا من الدائن عن حقه.
عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير، جاءه ناس منهم، فقالوا: يا نبي الله، إنك أمرت بإخراجنا، ولنا على الناس ديون لم تحل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضعوا وتعجلوا)) . [رواه الطبراني في الكبير، والحاكم في المستدرك 2/52، وقال: صحيح الإسناد. وانظر: سنن الدارقطني: 3/246؛ ومجمع الزوائد للهيثمي: 4/130؛ والمطالب العالية لابن حجر: 1/411؛ وإغاثة اللهفان لابن القيم: 3/12] .
والحطيطة (= الوضعية) للتعجيل منعها جمهور العلماء، وأجازها بعضهم كابن عباس، وزيد بن ثابت من الصحابة، ونفر من فقهاء الأمصار، وإبراهيم النخعي، وطاوس، والزهري، وأبو ثور. وعن الإمام أحمد فيها روايتان، اختار رواية الجواز شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. كما أجازها ابن عابدين الفقيه الحنفي، وفيه قول عن الإمام الشافعي.
[انظر: مصنف ابن أبي شيبة: 7/28 – 29؛ وأحكام القرآن للجصاص: 1/467؛ والمبسوط للسرخسي: 13/126؛ وبداية المجتهد: 2/108؛ والاختيارات الفقهية لابن تيمية: ص134؛ وإغاثة اللهفان لابن القيم: 2/11، وإعلام الموقعين له أيضًا: 3/371؛ وحاشية ابن عابدين: 1/278 و 5/160 و 7/757؛ والعقود الدرية له: 12/278] .(7/637)
3-3- تعليل ابن عباس لجواز الحطيطة للتعجيل:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إنما الربا أَخِّرْ لي وأنا أزيدك، وليس عَجِّلْ لي وأنا أضع عنك) [مصنف ابن أبي شيبة: 7/28؛ وكنز العمال: 2/235] .
يريد ابن عباس بالربا هنا: (الربا الحرام) ، ذكرنا ذلك لأنه من أوائل القائلين بأن الربا ربوان: ربا حلال، وربا حرام. نقل مثله أيضًا عن عكرمة والضحاك في تفسير آية الروم 39. [انظر على سبيل المثال: تفسير الطبري: 21/47؛ والقرطبي: 14/36؛ والدر المنثور للسيوطي: 5/156؛ والماوردي: 1/289 و 3/268؛ وفتح القدير للوشكاني: 4/227؛ والآلوسي: 3/50] .
إن " أخِّر لي وأنا أزيدك " لا يجوز في القرض، عند العقد ولا عند الاستحقاق. أما في البيع فلا يجوز عند الاستحقاق (ربا حرام) ، ولكن يجوز عند العقد، حيث يزاد في الثمن لأجل التأجيل، ولا يدخل هذا في الربا الحرام.
أما " عجل لي وأنا أضع عنك " فنختار فيه الرأي القائل بجوازه، في البيع، قبل الاستحقاق، فيوضع للتعجيل ما كان قد زيد للتأجيل.
كذلك في القرض، سواء كان حالًّا، أو مؤجلًا عند من يرى جواز تأجيله، ما الذي يمنع من الوضيعة مع التعجيل، وفيه زيادة إرفاق بالمقترض؟ نعم اقترنت منفعة المقترض (الوضيعة) بمنفعة المقرض (التعجيل، وهذا جائز كما بينا في بحث السفتجة، فالسفتجة اخترنا جوازها ما دام ليس فيها مؤنة (= كلفة) على المقترض، وهذا يعني أنها جائزة من باب أولى إذا كان فيها منفعة للمقترض، ولو جرت معها منفعة للمقرض [انظر: كتابي ربا القروض، فصل السفتجة: ص28 و 29] .(7/638)
3-4 – تعليل ابن القيم لجواز الحطيطة للتعجيل:
ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين 3/371، وإغاثة اللفهان 2/11، أن الحطيطة عكس الربا. وهذا صحيح في اللغة وفي الحكم. فأما في اللغة فواضح أن الحطيطة نقصان والربا زيادة، فالحطيطة إذن هي عكس الربا. وأما في الحكم فقد بينا، لدى كلامنا عن تعليل ابن عباس في المبحث السابق، أن الحطيطة للتعجيل جائزة في كل من البيع والقرض، في حين أن الزيادة للتأجيل جائزة في البيع دون القرض.
وعلى هذا يستقيم كلام ابن القيم، إذا افترضنا وصفًا محذوفًا للربا هو " الحرام "، فتصبح العبارة: الحطيطة عكس الربا "الحرام"، في الحكم. ومع أنني لم أعثر فيما قرأت لابن القيم على قول صريح بأن الربا ربوان، حلال وحرام، إلا أنني افترضه، حملًا لقوله على قول ابن عباس (والقولان متقاربان) ، ولقوله في بعض كتبه: (إذا تساوى النقد والنسيئة، فالنقد خير) [الجواب الكافي: ص38، وانظر: كتابي عن بيع التقسيط: ص68] .
فالحطيطة نقصان للتعجيل، والربا زيادة للتأجيل، فكلاهما تغير مناسب في المبلغ لأجل الزمن. وفي حين أن الأول جائز في كل من البيع والقرض، فإن الآخر جائز في البيع دون القرض. فكأن الأول جائز دائمًا (بافتراض العلاقة ثنائية، لا ثلاثية كما في الحطيطة المصرفية) ، والآخر حرام في حال، حلال في حال. فصار المعنى: الحطيطة جائزة، فهي إذن عكس الربا "الحرام" [قارن كتابي بيع التقسيط: ص47 – 48] .
3-5- الحطيطة للتعجيل بين الخصم المصرفي وخصم تعجيل الدفع:
ظاهر مما تقدم (3-2 و 3–3 و 3-4) أننا فرقنا في الحكم بين الخصم المصرفي وخصم تعجيل الدفع، حيث منعنا الأول وأجزنا الآخر. تعليل ذلك أن خصم تعجيل الدفع علاقة بين متبايعين، لا وسيط بينهما، مثله في ذلك مثل الزيادة للتأجيل في البيوع المؤجلة، اخترنا جوازها مع الجمهور، كما اخترنا جواز الحطيطة مع البعض. أما الخصم المصرفي (أو خصم الأوراق التجارية) فهو علاقة بين متبايعين، دخلها ثالث وسيط (هو المصرف) ، يقرض مبلغًا ليسترد أعلى منه، فهذا ربا نسيئة محرم.(7/639)
الفصل الرابع
حلول الدين بالموت والإفلاس والمماطلة
4-1- مقدمة:
لا يحل أجل الدين عند أحد من الفقهاء:
* بالإغماء (إغماء الدائن أو المدين) ؛
* ولا بالجنون (جنون الدائن أو المدين) ؛
* ولا بموت الدائن؛
* ولا بإفلاس الدائن.
أما موت المدين أو إفلاسه ففيهما خلاف. سنعرض في هذا الفصل لحلول الدين بالموت ثم بالإفلاس، ثم بالمماطلة.
4-2- حلول الدين بالموت:
1- موت الدائن يسقط أجل الدين عند الظاهرية، ولا يسقطه عند الجمهور، لأن ذمة المدين باقية لم تتأثر بوفاة الدائن.
2- موت المدين فيه ثلاثة آراء:
(1) عدم سقوط الأجل، وهو قول الحسن والزهري.
(2) عدم سقوط الأجل، إذا تم توثيقه برهن أو كفيل مليء، وهو قول ابن سيرين، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
(3) سقوط الأجل، وهو قول الجمهور (الحنفية، والشافعية، والظاهرية، والرواية الأخرى عن الحنابلة، وهو مذهب المالكية ما لم يشترط المدين عدم حلول دينه بموته: (المؤمنون عند شروطهم) ، وما لم يقتل الدائن مدينه عمدًا: (من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه) .(7/640)
واستدل الجمهور، لما ذهبوا إليه من سقوط الأجل بموت المدين بحديث: ((نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)) [رواه الترمذي: 3/380 وقال: هذا حديث حسن، والإمام أحمد: 2/508؛ وابن ماجه: 2/813؛ والحاكم: 2/26 وقال: صحيح على شرط الشيخين] .
فبقاء الدين إلى أجله يضر إذن بالميت، لأن ذمته مرتهنة به، كما يضر بالورثة إذ يمنعهم من التصرف بالتركة، ويضر بالدائن لأن حقه قد يضيع بالتأخير واستغراق التركة بالديون الحالة. وبما أن الدائن أحق بمال مدينه في حياته منه، فهو كذلك أحق بمال مدينه بعد وفاته من ورثته.
[انظر في الفقه الحنفي: الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص357؛ وحاشية ابن عابدين: 5/160 و 6/152؛ وفي الفقه المالكي: المدونة: 4/121،؛ ومواهب الجليل: 5/39؛ وحاشية الدسوقي: 3/266؛ وفي الفقه الشافعي: الأم: 3/216؛ والمهذب: 1/431؛ وفتح العزيز بهامش تكملة المجموع: 10/201؛ وقليوبي وعميرة: 2/285؛ وحاشية الشرقاوي: 2/168. وفي الفقه الحنبلي: المغني مع الشرح الكبير: 4/485؛ وكشاف القناع: 3/437؛ والروض المربع: 2/224] .
ومن المراجع الحديثة: الموسوعة الفقهية الكويتية: 5/301 – 309؛ والإفلاس في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد الغفار إبراهيم صالح: ص192 – 202؛ والديون المالية في الفقه الإسلامي للدكتور سليمان العيسى: ص495.(7/641)
حلول الدين بالإفلاس:
" إذا أحاط الدين بمال المدين، وطلب الغرماء (= الدائنون) الحجر عليه، وجب على الحاكم تفليسه، عند المالكية والشافعية والحنابلة، وصاحبي أبي حنيفة، وهو المفتى به عند الحنفية. واشترط المالكية لوجوب ذلك ألا يمكن للغرماء الوصول إلى حقهم إلا به. أما إذا أمكن الوصول إلى حقهم بغير ذلك، كبيع بعض ماله، فإنه لا يصار إلى التفليس. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يفلس، لأنه كامل الأهلية، وفي الحجر عليه إهدار آدميته " [الموسوعة الفقهية الكويتية: 5/301] .
فإذا حكم القاضي بتفليس شخص والحجر عليه، هل يحل الدين المؤجل؟
1- إفلاس الدائن لا يحل ديونه المؤجلة على الغير [المهذب: 1/431؛ وحاشية الدسوقي: 3/267] .
2- إفلاس المدين هل يحل الديون التي عليه؟ فيه قولان:
(1) قول بأنها لا تحل، بل تبقى مؤجلة إلى أجلها، وهو قول الحنفية، والشافعي وهو الأظهر عند أصحابه، ورواية عن أحمد.
واحتج هؤلاء بأن الأجل حق للمفلس، فلا يسقط بتفليسه، وكما أن التفليس لا يوجب حلول الديون التي للمفلس، فكذلك لا يوجب حلول الديون التي على المفلس. وليس الفلس كالموت، فالموت تخرب به الذمة، بخلاف الفلس، ولأن القصد من الأجل هو التخفيف والتنفيس، ليكتسب المدين، في مدة الأجل، ما يقضي به دينه.
(2) قول بأنها تحل، وهو قول المالكية المشهور عندهم، وقول للشافعي هو خلاف الأظهر عند أصحابه، ورواية عن أحمد.
واحتج هؤلاء بأن الدين يتعلق بالمال، والتفليس كالموت يسقط أجل الدين.
انظر المراجع المشار إليها في مبحث " حلول الدين بالموت "(7/642)
4-4- ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار:
الإعسار لغة هو قلة ذات اليد، واصطلاحًا هو العجز عن الإنفاق أو عن سداد الدين. أو هو زيادة ديونه والتزاماته على ثروته ودخله.
ويختلف الإعسار عن الإفلاس في أن الإعسار يكون عن دين أو فقر، في حين أن الإفلاس يكون عن دين فقط، أو دين وفقر معًا. فالدين يلازم الإفلاس، بينما لا يلازم الإعسار ضرورة. والتفليس هو حكم القاضي على المدين بالإفلاس، بمنعه من التصرف في ماله (الحجر عليه) ، وذلك بناء على طلب الدائنين.
وضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار أن لا يكون له مال فائض عن حوائجه الأصلية يفي به دينه. فلا يعد معسرًا من كانت أمواله النقدية قاصرة عن وفاء ديونه، وله أموال أخرى غير نقدية يستطيع بيعها لوفاء دينه.
4-5- حلول الدين بالمماطلة:
هل يجوز للدائن اشتراط حلول بقية الأقساط، إذا لم يسدد المدين قسطًا في أجله؟ أي هل يجوز الاتفاق بين الدائن والمدين على حلول الدين كله عند عدم سداد بعضه؟
1- إذا كان المدين معسرًا: لم يجز.
2- إذا كان مماطلًا: جاز، فليس هناك ما يمنع من جوازه، بل أن المماطلة في سداد أحد الأقساط دالة على المماطلة في سداد الأقساط المتبقية، فالمماطلة طبع وعادة. ولهذا من المفيد للدائن ألا يتعب نفسه مع مثل هذا المدين. وقد يكون في اشتراط حلول الأقساط الأخرى ضغط أدبي على المدين، لكي لا يماطل في سداد أي قسط.
وهذا الشرط جرت به اليوم أعراف المصارف مع المقترضين منها، لكنها ربما لا تفرق بين معسر ومماطل.
والخلاصة أنه لا نرى مانعًا من اشتراط حلول بقية الأقساط، إذا ماطل المدين في سداد قسط. فالمؤمنون على شروطهم، إلا شرطًا أحل حرامًا، أو حرَّم حلالًا، ولا نرى أن هذا الشرط يحل حرامًا، أو يحرم حلالًا، والله أعلم.(7/643)
4-6- الحلول والحطيطة:
إذا حل الدين لأي سبب من الأسباب المذكورة: موت المدين، أو إفلاسه، أو مماطلته، أو غير ذلك، وكان هذا هو المذهب المختار في القانون أو في العقد، فماذا يجب على المدين عند ذلك، هل تجب القيمة الاسمية للدين؟ أم تجب القيمة الحالية؟
1- إذا كان الدين قرضًا مؤجلًا (عند من يجيز تأجيله) ، لم يزد فيه للأجل، فالواجب هو القيمة الاسمية، والإحسان هو القيمة الحالية، أي ليس هناك ما يمنع المقرض من استعجال قرضه، والحط عن المقترض، فهذا مندوب.
2- إذا كان الدين بيعًا مؤجلًا، زيد فيه للأجل، فالواجب فيما نرى هو القيمة الحالية التي نحصل عليها بأن نطرح من القيمة الاسمية (المؤجلة) بنسبة الأجل المتبقي. فإذا زيد عشرون لأربعة أشهر، ثم تم السداد بعد شهرين، طرحنا من القيمة الاسمية ما مقداره عشرة.
في حاشية ابن عابدين: 5/160: (اشترى شيء بعشرة نقدًا، وباعه لآخر بعشرين إلى أجل، هو عشرة أشهر. فإذا قضاه بعد تمام خمسة (أشهر) ، أو مات بعدها، يأخذ خمسة ويترك خمسة) . والكلام هنا عن المرابحة، حيث الثمن النقدي (= الحال) هو عشرة ريالات، والثمن المؤجل لعشرة أشهر هو عشرون ريالًا، وهذا معناها أن الزيادة لأجل عشرة أشهر هي عشرة ريالات. فإذا حل الثمن المؤجل (= الدين) قبل الاستحقاق بخمسة أشهر، وجب أن يحط منه خمسة:
10×5 50
ـــــــــــ = ـــــــــــ = 5
10 10
فنسبة الزيادة للأجل هي ريال لكل شهر:
10
ــ = 1
10
فإذا تم التعجيل خمسة أشهر، كان مقدار الحطيطة هو:
1 × 5 = 5 ريالات.
وفي المثال المذكور في نص ابن عابدين افتراض للتبسيط، مفاده أن الربح كله للأجل، وإلا فلو اشترى شيئًا بعشرة نقدًا جاز له أن يبيعه بأحد عشر نقدًا، وههنا المرابحة حالة لا مؤجلة. وعليه ففي مثال ابن عابدين لو كان الربح للأجل هو تسعة ريالات فقط، لكانت الحطيطية: 4.5 بدلًا من 5.(7/644)
الخاتمة
1- القرض في الإسلام، لمن هو محتاج إليه في غرض مشروع، يعد مشروعًا، بل مستحبًّا، وربما يصير واجبًا، إذا كان طالب القرض مضطرًّا، والمطلوب منه غنيًّا قادرًا على مواساته وتفريج كربته. ويجب أن يكون القرض خاليًا من الربا.
2- البيع المؤجل، نسيئة أو سلمًا، جائز، ولو بالزيادة فيه للأجل، فهذه الزيادة ليست من باب الربا المحرم.
3- بعد ترتب الدين في الذمة، لا تجوز الزيادة على المدين لأجل تأخيره، سواء كان موسرًا أو معسرًا. فالموسر لا يعاقب بالربا، والمعسر يجب إنظاره ومساعدته.
4- عند عقد الدين، يجب أن ينوي المدين الوفاء، وإلا كان آثمًا. كما يجب أن يتوقع قدرته على الوفاء، وألا يتوسع في الديون بما يتجاوز هذه القدرة، ويمكن للدائن أن يتحرى هذه القدرة، وأن يتوثق منها بضمان أو كفالة.
5- خصم الأوراق التجارية في المصارف وغيرها لا يجوز، حتى لو ضمن الورقة صاحبها، (وهذا الضمان من لوازم نظام الأوراق التجارية نفسه) ، لأنه يدخل في ربا النسيئة المحرم شرعًا، بالقرآن والسنة والإجماع، ولأن الضمان وإن كان يمنع الغرر إلا أنه لا يمنع الربا.
6- الحطيطة من الدين لأجل تعجيله، سواء كانت بطلب الدائن أو المدين، جائزة لا تدخل في الربا الحرام، مادامت العلاقة بين المقرض والمقترض، أو بين البائع والمشتري. فإذا دخل بينهما ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذ حكم خصم الأوراق التجارية، وتدخل في الربا الحرام.
7- الحطيطة من الدين، عند اقتضاء الدين في الأجل أو قبله، تبرعًا من الدائن، بدون شرط ولا اتفاق ولا مراوضة، تعد جائزة (من باب أولى) بلا خلاف عند أحد من العلماء.
8- يجوز الاتفاق على حلول الدين، بخراب ذمة المدين خرابًا حسيًّا أو معنويًّا، مثل موته أو إفلاسه أو مماطلته. ويجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل، بمقدار ما يسقط من أجله. ويجب هذا الحط من الدين لتعجيله، إذا كان قد زيد فيه لتأجيله.
9- إعسار المدين يوجب إنظاره، إذا لم يكن له مال نقدي أو غيره، فائض عن حوائجه الأصلية، يفي به دينه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور رفيق يونس المصري(7/645)
المصادر والمراجع
1- أحكام الأوراق النقدية والتجارية، لستر بن ثواب الجعيد، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية الشريعة، جامعة أم القرى، 1405 – 1406هـ (غير منشورة) .
2- أحكام القرآن، للجصاص (370هـ) دار الفكر، بيروت، د. ت.
3- الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم (456هـ) ، بتحقيق أحمد محمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 1، 1400 هـ = 1980م.
4- الاختيارات الفقهية، لابن تيمية (728هـ) ، جمع البعلي الدمشقي (803هـ) ، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، د. ت.
5- الأشباه والنظائر، لابن نجيم (970هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400هـ = 1980م.
6- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (751هـ) ، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1397هـ = 1977م.
7- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم (751هـ) ، بتحقيق محمد حامد الفقي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1357هـ – 1939م.
8- الإفلاس في الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد الغفار إبراهيم صالح، د. ن، القاهرة, 1400هـ = 1980م.
9- الأم، للإمام الشافعي (204هـ) ، طبعة الشعب، القاهرة، د. ت.
10- الأوراق التجارية في الشريعة الإسلامية، للدكتور محمد أحمد سراج، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1988م.(7/646)
11- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد (595هـ) ، دار الفكر، بيروت، د. ت.
12- البهجة شرح التحفة، للتسولي (1258هـ) ،مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، ط 2، 1370هـ = 1951م.
13- بيع التقسيط تحليل فقهي واقتصادي، لكاتب هذا البحث، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، ط 1، 1410هـ = 1990م.
14- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، للزيلعي (743هـ) ، دار المعرفة، بيروت، ط 2، د. ت.
15 – التصرف في الدين، للدكتور نزيه حماد، بحث في مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، السنة 6، العدد 6، لعام 1402هـ – 1403هـ.
16- تفسر الآلوسي (1270هـ) : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.
17- تفسير السيوطي (911هـ) : الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
18- تفسير الشوكاني (1250هـ) : فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، دار الفكر، بيروت، 1401هـ = 1981م.
19- تفسير الطبري (310هـ) : جامع البيان عن تأويل آي القرآن، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، ط3، 1388هـ = 1968م.(7/647)
20- تفسير القرطبي (671هـ) : الجامع لأحكام القرآن، دار القلم، بيروت، 1386هـ = 1966م.
21- تفسير الماوردي (450هـ) : النكت والعيون، بتحقيق خضر محمد خضر، ومراجعة عبد الستار أبو غدة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، ط 1، 1402هـ = 1982م.
22- تكملة المجموع للمطيعي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، د. ت.
23- حاشية ابن عابدين (1252هـ) ، دار المعرفة، بيروت، ط 2، د. ت.
24- حاشية الخرشي (1101هـ) على خليل (776 هـ) دار صادر، بيروت، د. ت.
25- حاشية الدسوقي (1230هـ) على الشرح الكبير، للدردير (1201هـ) ، دار الفكر، بيروت، د. ت.
26- حاشية الشرقاوي (1226هـ) ، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
27- حاشيتا قليوبي (1069هـ) وعميرة (957هـ) على منهاج الطالبين للنووي (676هـ) ، دار الفكر بيروت، د. ت.
28- الديون المالية في الفقه الإسلامي، للدكتور سليمان العيسى، رسالة دكتوراه مقدمة إلى المعهد العالي للقضاء، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1403هـ = 1983م (غير منشورة) .
29- ربا القروض وأدلة تحريمه، للكاتب، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، ط 1، 1410هـ = 1990م.(7/648)
30- الروض المربع شرح زاد المستنقع للبهوتي (1051هـ) ، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، 1390هـ = 1970م.
31- سنن ابن ماجه (275هـ) ، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت.
32- سنن الترمذي (279هـ) : الجامع الصحيح، بتحقيق أحمد محمد شاكر، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، ط 2، 1398هـ = 1978م.
33 – سنن الدارقطني (385 هـ) ، نشر عبد الله هاشم يماني المدني، المدينة المنورة، د. ت.
34- سنن النسائي (303هـ) ، بعناية عبد الفتاح أبو غدة، بيروت، ط 2 مصورة، 1406هـ = 1986م.
35 – شرح الزرقاني (1099هـ) على خليل (776هـ) ، دار الفكر، بيروت، 1398هـ = 1978م.
36 – شرح السنة للبغوي (516هـ) ، بتحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط، المكتبة الإسلامية، بيروت، ط 1، 1390 هـ = 1971م.
37- شرح منتهى الإرادات، للبهوتي (1051هـ) ، دار الفكر، بيروت، د. ت.
38 – شرح منح الجليل على مختصر خليل (776هـ) ، لمحمد عليش (1299هـ) ، د. ن، د. ت.
39- صحيح البخاري (256هـ) ، دار الحديث، القاهرة، د. ت.
40- صحيح مسلم (261هـ) بشرح النووي (676هـ) ، طبعةالشعب، القاهرة، د. ت.
41- العقود الدرية، لابن عابدين (1252هـ) ، دار المعرفة، بيروت، ط 2، د. ت.
42- فتح الباري بشرح صحيح البخاري (256هـ) ، لابن حجر العسقلاني (852هـ) ، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
43- فتح العزيز شرح الوجيز، للرافعي (623هـ) بهامش المجموع للنووي (676هـ) ، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، د. ت.
44 – فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي (1031هـ) ، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
45 – كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم (751هـ) ، دار الندوة الجديدة، بيروت، ط 3، 1400هـ.
46- كشاف القناع عن متن الإقناع، للبهوتي (1051هـ) ، بتحقيق هلال مصيلحي، مكتبة النصر الحديثة، الرياض، د. ت.(7/649)
47- كنز العمال، للهندي (975هـ) ، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 5، 1405هـ = 1985م.
48- المبدع في شرح المقنع، لابن مفلح (884هـ) ، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، 1980م.
49- المبسوط، للسرخسي (490هـ) ، دار المعرفة، بيروت، ط 3، 1398هـ = 1978م.
50- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي (807هـ) ، مكتبة القدسي، القاهرة، د. ت.
51- مجموع فتاوى ابن تيمية (728هـ) ، طبعة السعودية، ط 1، 1398هـ.
52 – المجموع، للنووي (676هـ) ، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، د. ت.
53 – المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد، لمجد الدين أبي البركات (652هـ) ، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1369هـ = 1950م.
54- المدونة الكبرى، للإمام مالك (179هـ) ، دار الفكر، بيروت، 1398هـ = 1978م.
55 – المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم النيسابوري (405هـ) ، دار الفكر، بيروت، 1398هـ = 1978م.
56 – مسند الإمام أحمد (241هـ) ، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1398هـ = 1978م.
57- مصنف ابن أبي شيبة (235هـ) ، بتحقيق عبد الخالق الأفغاني، الدار السلفية، بومابي، ط 2، 1403هـ = 1983م.
58- مصنف عبد الرزاق (211هـ) ، بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403هـ = 1983م.
59- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر العسقلاني (852هـ) ، بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، د. ن، د. ت.
60- المغني مع الشرح الكبير، لابن قدامة (620هـ) ، دار الكتاب العربي، بيروت، 1392هـ = 1972م.
61 – المهذب في فقه الإمام الشافعي، للشيرازي (476هـ) ، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، ط 3، 1396هـ = 1976م.
62 – مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، للحطاب (954هـ) ، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1398هـ = 1978م.
63 – الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف، الكويت، التاريخ مختلف باختلاف الجزء.
64 – نهاية المحتار إلى شرح المنهاج، للرملي (1004هـ) ، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1357هـ – 1938م.(7/650)
توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرى
إعداد
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد
عضو مجمع الفقه الإسلامي بجده
بسم الله الرحمن الرحيم
قال صاحب لسان العرب في شرحه لما تفيده كلمة توثيق: وثق به: ائتمنه، والوثيقة في الأمر: أحكامه، واستوثقت من فلان: أخذت منه الوثيقة.
وعلى العموم يفهم من كلمة توثيق: كل ما تتوثق به المعاملة ويجعلها محكمة بأن تكون صحيحة مشتملة على الوثيقة التي تصونها من التلاعب وتكفل إنجازها على الوجه المشروع المتفق عليه، وشواهد القرآن الكريم تقرر أن التوثيق معناه كذلك، وأنه شرع لذاك.
قال الله تعالي: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} (1) . أي العهد الذي أخذه عليكم وثيقة منكم على الوفاء. والقرآن الكريم يحكي عن يعقوب عليه السلام قوله لبنيه: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} (2) .
ويقول: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (3)
{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (4) .
وهكذا جرى سنن القرآن الكريم على الأمر بالوفاء عند ذكر العهد والميثاق وعلى التنديد بالذين لا يوفون بالعهد والميثاق سواء كان بين الإنسان وربه أو بين الإنسان والإنسان.
__________
(1) سورة المائدة: الآية 7.
(2) سورة يوسف: الآية 66.
(3) سورة الإسراء: الآية 34.
(4) سورة النحل: الآية 91.(7/651)
وتوثيق المعاملات وتنظيم هذا التوثيق قد سبقتنا إليه – على أي وجه من الوجوه – شرائع قديمة، ولكن الإسلام أقرّه وتوسع فيه ولعله أضاف إلي وسائله الأولى وسائل لم تكن من قبل.
وهذه الوسائل – بالنسبة لنا – مستمدّة من القرآن والسنة وإن اختلف ذكر بعضها عن البعض طولًا وقصرًا أو تفصيلًا وإجمالًا وتأكيدًا وغير تأكيد. وهذه آية الدين وما فيها من الأمر بالكتابة والاستشهاد على الدين أو الرهن به، والإشهاد على البيع، وآيات أخرى وأحاديث مستفيضة في كتب السُنة، جاءت كلها بما ورد في آية الدين على ما سيأتي تفصيله:
وقد ذكر القرطبي في تفسيره مما خرجه الترمذي ورواه أبو داود الطيالسي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عزَّ وجلَّ: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) .
أن أول من جحد آدم عليه السلام إن الله أراه ذريته فرأى رجلًا أزهر ساطعًا نوره فقال: يا رب من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال يا رب فما عمره؟ قال: ستون سنة. قال: يا رب زده في عمره، فقال: لا، إلَّا أن تزيده من عمرك قال: ما عمري؟ قال: ألف سنة، قال آدم: فقد وهبت له أربعين سنة، قال: فكتب الله عليه كتابًا وأشهد عليه ملائكته، فلما حضرته الوفاة جاءته الملائكة قال: إنه بقي من عمري أربعون سنة، قالوا: إنك قد وهبتها لابنك داود، قال: ما وهبت لأحد شيئًا، قال: فأخرج الله تعالي الكتاب وشهد عليه ملائكته وفي رواية: وأتم لداود مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة (2) .
وقد كان التوثيق ديدن النبي صلى الله عليه وسلم في كل معاملة ذات خطر، وقد ذكرت كتب السير فيما يدل على عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوثيق: أن الحصين بن نمير، والمغيرة بن شعبة كانا يقومان للنبي صلى الله عليه وسلم بكتابة المداينات والمعاملات.
ومن أمثلة مكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التوثيق ما كتبه لتميم الداري وأصحابه حيث جاء في نسخته:
__________
(1) سورة البقرة: الآية 282.
(2) تفسير القرطبي: 3/382.(7/652)
(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول الله لتميم الداري وأصحابه: إني أعطيتكم عينون، وجيرون، والرطوية، وبيت إبراهيم برمته وجميع ما فيه، عطية بتٍّ، وسلَّمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الآبد فمن أذاهم فيها آذاه الله. يشهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وكتبه) .
ومثال آخر مما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم وثيقة عتقه لمولاه أبي رافع ونصها:
(بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب من محمد رسول الله لفتاه أسلم – وهو أبو رافع – إني أعتقك لله عتقًا مقبولًا، الله أعتقك وله المنُّ عليَّ وعليك، فأنت حر لا سبيل لأحد عليك إلا سبيل الإسلام وعصمة الإيمان، شهد بذلك أبو بكر، وشهد عثمان، وشهد علي، وكتب معاوية بن أبي سفيان) .
وكما وثق صلى الله عليه وسلم بالكتابة وثق بالرهن وذلك عندما اشترى من يهودي طعامًا – عشرين صاعًا – بثمن مؤجل، ثم رهن عند اليهود درعه على ذلك الثمن وتوفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة. فهذا توثيق بالرهن كما كان التوثيق بالكتابة.
وكذلك روى ابن ماجه أنه عليه السلام ضمن غيره في معاملات مالية، وحكى ما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلًا لزم غريمًا له بعشرة دنانير على عهد رسول الله عليه وسلم فقال الغريم: ما عندي شيء أعطيكه، فقال: والله لا أفارقك حتى تفضيني أو تأتيني بحميل ضامن – فجرَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كم ستنتظره؟ قال: شهرًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحمل- أي أضمن) .
وكذلك ما حكاه النعمان بن بشير من قصة أمه مع أبيه إذ رغبت أمه إلى أبيه بشير أن يخص ولدها النعمان بشيء من عقاره، فلما استجاب لرغبتها طلبت إليه توثيقها بإشهاد الرسول على هذا التخصيص، غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل بشيرًا:
هل كل ولدك أعطيت؟ فقال بشير: لا، فامتنع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الشهادة على ذلك لما فيه من الحيف على بقية أولاد بشير. ولم يكن الاستيثاق في ذاته موضع اعتراض من الرسول صلى الله عليه وسلم.
تلك أنواع من التوثيق سقناها، ويبقى التوثيق بالحلف والتوثيق بالبينة وبالإقرار وبالقرائن. وفي التوثيق طمأنينة المتعاملين من الجحود والمماطلة ونزعات الشر أو حادثة النسيان وعندما تكون المعاملة المالية عارية عن الوثيقة تكون محفوفة بالخوف والقلق، وقد تنتهي إلى لقمة سائغة يستلذها الآخذ ويغص بالحسرة عليها المعطي، وهذه هي الحكمة في مشروعية التوثيق والحث عليه.(7/653)
المعاملات التي شرع لها التوثيق:
لم يكن التوثيق في اعتبار الشارع مطلوبًا ولا سائغًا في كل ما يسمى عند الناس معاملة، وإنما هو في المعاملة التي اعترفت بها الشريعة، وسوقتها وسيلة لتبادل الأموال والمنافع، حتى يكون التوثيق مبنيًا على أصل صحيح، ومن القواعد المشهورة: أن المبني على الفاسد فاسد، أو أن الفاسد لا ينبني عليه صحيح.
وعلى ضوء ذلك تكون المعاملات الباطلة بمعزل عن رعايتها بطلب التوثيق فيها، بل الشارع يزجر عنها، ويدعو إلى التنصل منها، فلو أن مسلمًا باع خمرًا أو خنزيرًا لمسلم آخر فقد تعاملا في غير مال محترم وذلك غير مشروع بأصله، ومهما بلغ الثمن حالًّا أو مؤجلًا فلا موضع هنا للتوثيق، لأنها معاملة محظورة لا تكسب حقًّا، وقس على ذلك كل معاملة في محظور.
أما حينما تصح المعاملات باستيفائها للشروط الفقهية، وتكون سبيلًا إلى تملك العين وثمنها في المبيعات وسيرًا إلى استحقاق الأجرة والمنفعة في الإجارات تصبح محلًّا للتوثيق وتنبني عليه آثاره.
وسائل التوثيق:
وبالنظر في الوسائل المؤدية للغاية المنشودة من التوثيق، - نرى بعد الاستيعاب الممكن – أن وسائل التوثيق التي عرض لها القرآن الكريم أو ورد ذكرها في السنة، ودارت على ألسنة الفقهاء، نجد أن بعض هذه الوسائل تؤدي غايتها باعتبارها متينة للحق: كالكتابة والبينة، والإقرار، واليمين والقرائن، ونجد بعضها يؤدي غايته باعتباره تأمينًا للحق الثابت بإحدى تلك الوسائل: كالرهن والضمان والكفالة،ونجد بعضًا ثالثًا يؤدي غايته باعتباره تنفيذًا لاستيفاء الحق: كالحجر، والحبس والملازمة والغرض العام منها جميعها: هو ضبط المعاملات وصيانة الحقوق المالية من الضياع.(7/654)
الوثيق الكتابي:
قال الله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) الآية.
تعتبر هذه الآية الكريمة من أهم النصوص في شأن التوثيق، وقد عرضت للدين وتوثيقه من نواحٍ عده، فذكرت كتابة الدين، وعدالة الكاتب وعدالة المملي، وذكرت الاستشهاد على الدين وعدالة الشهود وما يتصل بذلك من الإشهاد على البيع.
وما يستثنى توثيقه … إلخ ولنعرض جهد العلماء فيما يستفاد من هذه الآية الكريمة.
قال القرطبي في شرح هذه الآية: (ذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها، فرض بهذه الآية، بيعًا كان أو قرضًا، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود، وهو اختيار الطبري، وقال ابن جريج: من أدان فليكتب ومن باع فليشهد. وقال الشعبي: كانوا يرون أن قوله: (فإن أمن …) ناسخ لأمره بالكتب. وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروي عن أبي سعيد الخدري، وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ، ثم خففه الله تعالي بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} . قال الجمهور: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيًّا فما يضره الكتاب، وإن كان غير ذلك فالكتاب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق.
قال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة، قال ابن عطية: وهذا هو القول الصحيح. ولا يترتب نسخ في هذا لأن الله تعالى ندب إلى الكتاب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس) (2) .
ذكر الجصاص أن الأمر بالكتابة لم يرد إلا مقرونًا بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} إلخ. وانتهى إلى نتيجة حتمية في اعتباره وهي أن الأمر بالكتابة والإشهاد ندب غير واجب.
وقد حذا حذو القرطبي والجصاص كثير من المفسرين كابن كثير، والآلوسي وكذلك جمهور الفقهاء من علماء المذاهب وأدلتهم تختلف وتتلخص فيما يأتي:
__________
(1) سورة البقرة: الآية 282.
(2) تفسير القرطبي:3/383.(7/655)
أولًا: ما تقدم نقله عن القرطبي والجصاص وموافقيهما من قوله تعالى {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (1) .
فإن معناه عندهم إن توفرت الطمأنينة بينكم وائتمن بعضكم بعضًا من غير توثيق، فعلى المؤتمن أن يؤدي أمانته التي في عهدته، وإلَّا يتحتم التوثيق الكتابي أو غيره، فإن فرضنا أن الآية نزلت مفرقة كما هو أحد الاحتمالين، فالوجوب المستفاد من أولها منسوخ بآخرها، فلا تفيد حينئذ أكثر. من الندب. ويؤيد هذا الفهم عندهم ما روي عن أبي سعيد الخدري ووافقه عليه آخرون أنه قال: " صار الأمر إلى الأمانة " ثم تلا قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الآية.
وإن فرضنا أن الآية نزلت دفعة واحدة فقد بين آخرها أولها من أول الأمر بأنه للندب (2) .
ثانيًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من أعرابي فرسًا فجحده الأعرابي حتى شهد له خزيمة ابن ثابت، وروي أنه صلى الله عليه وسلم اشترى من رجل سراويل. ولم ينقل أنه أشهد في شيء من ذلك.
ثالثًا: أن الصحابة كانوا يتبايعون في الأسواق، فلم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإشهاد، وأن التعامل بالدين مما يكثر، فلو كان الكتاب والإشهاد واجبًا لكان فيه أولًا حرج، والحرب منفي شرعًا بنص القرآن الكريم، يضاف إلى ذلك ما نقل إلينا من اتفاق كثير من السلف وفقهاء الأمصار أن ما أمرنا به في آية الدين من الكتاب والإشهاد والرهن، من قبيل الإرشاد إلى ما فيه الحظ والصلاح للدين والدنيا (3) .
وذهب آخرون إلى القول بالوجوب ومنهم ابن جرير الطبري في تفسيره، والظاهرية، ومن الفقهاء المعاصرين الشيخ محمد عبده، واستدلوا بأربعة أدلة:
__________
(1) سورة البقرة: الآية 283.
(2) انظر أحكام القرآن، للجصاص: 1/481.
(3) انظر: أحكام القرآن، للجصاص: 1/483؛ والمغني، لابن قدامة: 4/311.(7/656)
الأول: أن الأمر ورد صريحًا بكتابة الدين والإشهاد عليه، والأصل في الأمر الوجوب ما لم يصرفه صارف إلى الندب، وحيث لم يرد صارف له هنا فالوجوب مقطوع به عندهم.
الثاني: أن السنة وردت بذلك، وذكر ابن حزم في المحلى حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهًا وقد قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ، ورجل له على رجل دين لم يشهد عليه) (1) .
ووجه الدلالة في هذا أن الحرمان من قبول الدعاء نقمة، والنقمة لا تكون إلا على معصية.
الثالث: ما روي من الآثار من أن ابن عمر – رضي الله عنهما – كان إذا باع بنقد أشهد، وإذا باع بنسيئة كتب وأشهد (2) .
الرابع: أنكر ابن عباس – رضي الله عنهما – النسخ وأكد أن الآية محكمة وعلى هذا عطاء وجابر والنخعي والشعبي وأبو جرير من كبار المفسرين والأصل عدم النسخ والنسق القرآني يأتلف مع عدم النسخ أكثر مما يأتلف مع وجوده.
والذي نميل إليه أن طهر النفوس وظهور التقوى والورع بين الناس في زمن السلف مال بهم إلى الاجتهاد بعدم التزام التوثيق ولكن الواقع في عهدنا هذا من خراب ذمم الناس وبعدهم عن التقوى – إلَّا من هدى الله – لا يقضي القياس استحسانًا عند أولي العلم بوجوب التوثيق ولكن الواقع في عهدنا هذا من خراب ذمم الناس وبعدهم عن التقوى – إلا من الهدي الله – لا يقتضي القياس استحسانًا عند أولي العلم بوجوب التوثيق خاصة في الديون ويكون ذلك تطبيقًا حقًّا للنظم الإسلامية التي شرعت لمسايرة الحياة في أزمانها وأطوارها ولأولي الأمر الحق كاملًا في إصدار ما يرونه من تشريع ملزم للناس بالكتابة في العقود ذات الخطر والتي تؤثر على حياة الناس أو يكثر فيها النزاع والتجاحد … ويكون في هذا مصلحة واحتياط للدين والدنيا خاصة وأن سهولة أدوات الكتابة من أقلام وورق وآلات حاسبة يرفع الحرج الذي حال بالأوائل إلى القول بعدم وجوب الوثيق … وقد رخص الله لنا بمنه وكرمه في ترك كتابة التجارة الحاضرة.
__________
(1) المحلى، لابن حزم: 8/344.
(2) المحلى، لابن حزم: 8/344.(7/657)
القدر الذي يتعلق به الوثيق:
ذهب فريق منهم ابن قدامة حيث يقول: (ويختص ذلك – أي التوثيق – بما له خطر، فأما الأشياء القليلة الخطر كحوائج البقال والعطار وشبهها فلا يستحبُّ فيها لأن العقود فيها تكثر فيشق الإشهاد عليه، وتقبح إقامة البينة عليها والترافع إلى الحاكم بخلاف الكثير) . ووجاهة هذا الرأي واضحة ظاهرة جدًّا في زماننا هذا من حيث ضيق وقت الناس وعدم تعارفهم وكثرة المشتريات والمبيعات ولأن التجارة مبنية على سرعة الإنجاز والانشغال بالتوثيق في كل شيء قد لا يسمح بإدارتها على الوجه الأكمل والمطلوب ولذلك خفف الله تعالى عن الناس باستثنائه التجارة الحاضرة.
وذهب فريق إلى وجوب الإشهاد في كل شيء. قال ابن جريج: سئل عطاء: أيشهد الرجل على أن بايع بنصف درهم؟ قال: نعم، هو تأويله قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} .
وذهب فريق إلى الندب في القليل والكثير وهو رأي الجمهور الذي بيناه سابقًا والواقع أن للعرف بين الناس حسبما تقتضي عوائدهم وأحوالهم أثرًا كبيرًا في تحديد القدر الذي يتعلق به التوثيق الواجب والمندوب والمباح ومما نراه أن خمسة وعشرة ريالات قد تعتبر دينًا تافهًا عند الناس وبعضهم يراه خطيرا بحسب أحوالهم ونفسياتهم وماديتهم ... وقد احتكمنا إلى العرف من قبل في تقدير المهر والنفقات وقيم المتلفات وبه نهتدي في تقدير ما يجب وما يباح وما يندب إليه في التوثيق وقد أقرت الشريعة العمل بالعرف الصحيح كأصل من أصولها تيسيرا على الناس وإفساحا لهم في مجال الحياة، فرجوعنا إليه وتحكيمه يعتبر عملًا بأصل مشروع.
ومع هذا فإني أرى أن الورع والتقوى وتعظيم قول الله تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} يقتضي كتابة كل دين صغيرًا أو كبيرًا … ولعل تقديم ذكر "صغيرًا " في الآية يؤكد هذا الذي ذهبنا إليه.(7/658)
خاتمة البحث
توثيق الدين والمعاملات المالية الأخرى
تناول البحث المراد بالتوثيق وأصوله في الشريعة الإسلامية والحكمة من تشريعه والوسائل التي يتحقق بها التوثيق، وقدمنا أمثلة من توثيقات النبي صلى الله عليه وسلم من كتابة ورهن وإشهاد، وأنه كان يحرص على التوثيق في كل أمر هام.
والمعاملات التي شرع لها التوثيق هي المعاملات التي اعترفت بها الشريعة الإسلامية وسوقتها وسيلة لتبادل الأموال والمنافع حتى يكون التوثيق مبنيًّا على أصل صحيح، ولم يكن التوثيق في اعتبار الشارع مطلوبًا ولا سائغًا في كل ما يسمَّى عند الناس معاملة، ومن القواعد المشهورة: الفاسد لا ينبني عليه صحيح وأن المبني على الفاسد فاسد.
ومن أهم وسائل التوثيق الكتابة التي وردت في آية الدين، وقد ذهب العلماء مذاهب شتى فيما إذا كانت الكتابة واجبة أم مندوبة أم مباحة … فمنهم من ذهب إلى أنها مندوبة وذكرنا أدلتهم، ومنهم من قال إنها واجبة وذكرنا أدلتهم، ومنهم من قال إنها مباحة … وكذلك تناول الفقهاء القدر الذي يتعلق به التوثيق، فذهب فريق إلى وجوب كتابة الدين الكثير دون القليل، وذهب بعضهم إلى وجوب كتابته صغيرًا أو كبيرًا، كما ذهب فريق ثالث إلى وجوب الإشهاد في كل شيء، وقال آخرون بالندب في القليل والكثير.
والذي نميل إليه أن طهر النفوس وظهور التقوى والورع بين الناس في زمن السلف مال بهم إلى الاجتهاد بعدم التزام التوثيق، ولكن الواقع في عهدنا هذا من خراب ذمم الناس، وبعدهم عن التقوى – إلَّا من هدى الله – يقتضي التزام التوثيق خاصة في الديون صغيرها وكبيرها، وفي ذلك تعظيم وتوقير لقول الله تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} . أما في المعاملات المالية الأخرى فإن للعرف بين الناس حسبما تقتضي عوائدهم وأحوالهم أثرًا كبيرًا في تحديد التوثيق الواجب والمندوب والمباح.
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد(7/659)
البيع بالتقسيط
المحور الثاني
توثيق الدين في الفقه الإسلامي
إعداد
الدكتور نزيه كمال حماد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
لا يخفى أن الالتزام بالدين يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعقود والمعاملات المالية التي يبرمها الأفراد والهيئات ويتفقون عليها، ويترتب على كثير منها، وينشأ عنها … ومن هنا كانت دراسة " توثيق الدين " في الفقه الإسلامي من أهم الأمور المتعلقة بمداينات الناس وعقودهم التي تتضمن ثبوت الدين في ذمة أحد العاقدين أو تُسَبِّبُهُ.. لأن غرض التوثيق ومقصده أن يحفظ لصاحب الدين حقه، وأن يمكنه من بلوغه والحصول عليه، وأن يدفع عنه مفسدة تواهه وضياعه، أو جحوده، وإنكاره، أو العجز عن إثباته واستيفائه..
وسنتناول في هذه الدارسة طرق توثيق الدين الشرعية في أربعة فصول، يسبقها تمهيد في معنى توثيق الدين وحقيقته.
والله المسؤول أن يجعله لوجهه خالصًا، وينفع به مؤلفه وقارئه في الدنيا والآخرة، إنه سميع الدعاء، وأهل الرجاء، منه سبحانه الاستمداد، وعليه وحده التوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.(7/660)
تمهيد
معنى توثيق الدين:
(أ) في اللغة:
1 – التوثيق في اللغة: معناه الإحكام، من وَثَّقْتُ الشيءَ توثيقًا فهو مُوَثَّقٌ: أي أحكمته (1) ، قال ابن فارس: في " معجم مقاييس اللغة ": " الواو والثاء والقاف كلمة تدل على عقد وإحكام " (2) ، ومن هنا سمي العهد ميثاقًا وموثقًا لما فيه الإحكام والثبوت، وقال ابن القطاع: وثقت بالشيء، أي اعتمدت عليه (3) .
والأمر الوثيق: هو الثابت المحكم، ووثقت به أثق ثقة ووثوقًا: ائتمنته (4) والوثيقة في الأمر: إحكامه والأخذ بالثقة. والجمع الوثائق (5) .
(ب) في الاصطلاح الفقهي:
2 – ذكر الإمام إلكيا الهراسي في كتابه " أحكام القرآن " أن معنى الوثيقة في الديون " ما يزداد بها الدين وكادة " (6) .. ثم إننا بعد تتبع استعمال الفقهاء لمصطلح " توثيق الدين " وجدنا أنهم يطلقونه على أمرين:
(أحدهما) تقوية وتأكيد حق الدائن فيما يكون له في ذمة المدين من مال بشيء يعتمد عليه – كالكتابة أو الشهادة – لمنع المدين من الإنكار وتذكيره عند النسيان، وللحيلولة دون ادعائه أقل من الدين أو ادعاء الدائن أكثر منه أو حلوله أو انقضاء الأجل ونحو ذلك، بحيث إذا حصل نزاع أو خلاف بين المتعاملين، فيعتبر هذا التوثيق وسيلة قوية يحتج بها لإثبات الدين المتنازع فيه أمام القضاء (7) .
__________
(1) لسان العرب: 10/371؛ معجم مقاييس اللغة: 6/85؛ وطلبة الطلبة: ص140.
(2) معجم مقاييس اللغة: 6/85.
(3) المطلع للبعلي: ص247.
(4) المصباح المنير: 2/802؛ والمغرب، للمطرزي: ص476.
(5) لسان العرب: 10/371.
(6) أحكام القرآن، لإلكيا الهراسي: 1/421.
(7) انظر وسائل الإثبات، للدكتور محمد الزحيلي: ص31.(7/661)
بين التوثيق والإثبات:
3 – ويلاحظ من مفهوم " توثيق الدين " هذا وجود علاقة بينه وبين " إثبات الدين " وذلك لأن فائدة التوثيق الأساسية هي إثبات الحق المتنازع فيه أمام القضاء، ولأن التوثيق ليس إلا إعدادًا مقدمًا للإثبات، ولأن التوثيق والإثبات كلاهما يهدف إلى غاية واحدة ويرمي إلى مقصد واحد، وهو حماية الحقوق، ومنع التلاعب بها، والقضاء بها لأصحابها، وقطع دابر المنازعة والخصومة بين الناس.. غير أن بينهما فرقين مهمين:
أحدهما: أن التوثيق يعتبر مقدمة للإثبات حيث إنه يوجد عند إنشاء التصرف المقتضي ثبوت الدين في الذمة ولهذا فهو يسبق الإثبات بينما يكون الإثبات لاحقًا به، وقائمًا عليه، ومرتكزًا على أساسه، ومترتبًا على وجوده.
والثاني: أن توثيق الدين بالطرق التي تقوِّيه وتؤكده وتحكمه يمثل بعض وسائل إثبات الدين لا كلها، حيث إن للإثبات، طرقًا أخرى تعتبر حججًا معتبرة يحكم بموجبها في القضاء.
وعلى هذا فيعتبر " توثيق الدين " حادثًا سببًا مولدًا للإثبات المعتمد عليه فحسب، وبينه وبين الإثبات الحاصل به ما بين المؤثر والأثر من العلاقة واختلاف المفهوم.
(والأمر الثاني) تثبيت حق الدائن فيما يكون له في ذمة المدين من مال وإحكامه بحيث يتمكن عند امتناع المدين عن الوفاء – لأي سبب من الأسباب – من استيفاء دينه من شخص ثالث يكفل المدين بماله أو من عين مالية يتعلق بها حق الدائن وتكون رهينة بدينه.
ويلاحظ من مفهوم التوثيق هذا أن تقوية وتأكيد حق الدائن في دينه لا يرجع إلى اعتماده على وسيلة إثبات يحتج بها أمام القضاء للوصول إلى حقه كما هو الشأن في الإطلاق الأول، ولكنه يرجع إلى اعتماده على وثيقة تضمن حق الدائن ويستطيع استيفاءه منها، وهي الكفيل أو الرهن.(7/662)
موقع توثيق الدين بين مقاصد الشريعة:
4 – لقد ثبت بالاستقراء والتتبع للأحكام الشرعية وغاياتها أن المولى عز وجل قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات (1) .
وقد ذكر الإمام الشاطبي في " الموافقات " أن توثيق الدين يعد من قبيل التكملة والتتمة لمصلحة ضرورية أو حاجية، وذلك حسب اعتبار المعاملة المنشئة للدين المراد توثيقه وما تقتضيه.. فإن كانت داخلة تحت الضروريات لتوقف المحافظة على إحدى المصالح الضرورية – وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال – عليها، فإن توثيق الدين في هذه الحالة يعد من قبيل مكملات الضروريات.
أما إذا كانت تلك المعاملة المنشئة للدين معتبرة من قبيل الحاجيات، لكون المقصود بها دفع الحرج والعنت والمشقة عن المكلف وحسب، فإن توثيق الدين في هذه الحالة يعد من مكملات الحاجيات.
هذا، وحيث إن المجتهد قد يتردد في إلحاق بعض المعاملات بالمصالح الضرورية أو الحاجية، على حسب الأحوال والاعتبارات، فإنه تبعًا لذلك قد يتردد في اعتبار توثيق الدين مكملًا لمصلحة ضرورية أو مكملًا لمصلحة حاجية (2) .
طرق توثيق الدين:
5 – يحتاج الدائن في أكثر الظروف والأحوال إلى أن يستوثق لدينه، وذلك خوفًا من ضياعه أو جحوده أو نسيانه أو العجز عن استيفائه، وطرق توثيق الدين عند الفقهاء أربعة: البينة الخطية (الكتابة) ، والبينة الشخصية (الشهادة) ، والكفالة،والرهن (3) ، وسنتناول بالبيان كل واحد منها في فصل مستقل.
__________
(1) الموافقات، للشاطبي 2/37.
(2) الموافقات: 2/12، 13.
(3) أحكام القرآن، لإليكا الهراسي: 1/387.(7/663)
الفصل الأول
البينة الخطية (الكتابة)
وسنتكلم فيه عن مشروعيتها وحجتها وصور توثيق الدين بها، وحكمها.
(أ) مشروعيتها:
6 – قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} (1) .
فقد دلت الآية الكريمة على مشروعية توثيق الدين بالكتابة المبينة له، المُعْرِبَةُ عنه، المعرفة للحكم بما يحكم عند الترافع إليه، وذلك في صك موضح للدين بجميع صفاته (2) ، وحكمة ذلك كما قال العلامة ابن العربي " ليستذكر به عند أجله، لما يتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل، فالنسيان موكل بالإنسان، والشيطان ربما حمل على الإنكار، والعوارض من موت وغيره تطرأ، فيشرع الكتاب والإشهاد " (3) .
(ب) حجيتها:
7 – لقد اختلف الفقهاء في حجية الكتابة في توثيق الديون على قولين:
* فذهب الشافعي ومالك وأحمد في رواية عنه وجماعة من الفقهاء إلى أنه لا يعتمد على الخط المجرد إذا لم يُشْهَدْ عليه، لأن الخطوط تشتبه والتزوير فيها ممكن، وقد تكتب للتجربة أو اللهو.. ومع قيام هذه الاحتمالات والشبهات لا يبقى للخط المجرد حجة ولا يصلح للاعتماد عليه، أما إذا أشهد عليه، فيعتبر وثيقة وحجة، لأن الشهادة ترفع الشك وتزيل الاحتمال (4) .
* وذهب جماهير الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى صحة توثيق الدين بالكتابة، وأنها بينة معتبرة في الإثبات إذا كانت صحيحة النسبة إلى كاتبها (5) .
قال الجصاص في " شرح أدب القاضي ": " الأصل في هذا الباب أن الكتاب يقوم مقام عبارة المكتوب من جهته وخطابه " (6) .
__________
(1) الآية 282 من سورة البقرة.
(2) أحكام القرآن، لابن العربي: 1/248.
(3) أحكام القرآن، لابن العربي: 1/247.
(4) طرح التثريب: 6/191، لأبي علي؛ وصحيح مسلم: 4/338؛ وأدب القاضي، للماوردي: 2/98؛ وأصول السرخسي: 1/358؛ وكشف الأسرار على أصول البزدوي: 3/52؛ والمهذب: 2/305؛ ورد المحتار: 4/352؛ وتكملة رد المحتار: 1/59؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص217؛ ومعين الحكام: ص125؛ والطرق الحكمية: ص204 وما بعدها، مرقاة المفاتيج:3/397؛ والإشراف على مسائل الخلاف:2/280؛ وكشاف القناع 4/373؛ وشرح منتهى الإرادات2/539؛ والطريقة المرضية لجعيط ص186؛ ومجلة الأحكام الشرعية على مذهب الحنابلة للقاري م (2280) .
(5) الطرق الحكمية، لابن القيم: ص205؛ وكشاف القناع: 4/373؛ وشرح منتهى الإرادات 2/539؛ وكشف الأسرار على أصول البزدوي: 3/52، 53؛ ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر: 4/137؛ وتبصرة الحكام، لابن فرحون 1/363؛ ومعين الحكام: ص 125؛ وفتح العلي المالك: 2/311.
(6) شرح أدب القاضي، للجصاص: ص 254.(7/664)
وقال ابن تيمية: " والعمل بالخط مذهب قوي، بل هو قول جمهور السلف " (1) .
وقال ابن فرحون في " تبصرة الحكام ": " وإن قال لفلان عندي أو قلبي كذا وكذا بخط يده قضي عليه به؛ لأنه خرج مخرج الإقرار بالحقوق " (2) .
وجاء في " كشاف القناع " للبهوتي: " قال في الاختيارات " وتنفذ الوصية بالخط المعروف، وكذا الإقرار إذا وجد في دفتره، وهو مذهب الإمام أحمد " (3) .
وقال صديق حسن خان: " قد ثبت العمل بالخط بالأدلة المتكاثرة من الكتاب والسنة والإجماع.. ومن الحاكين لإجماع الصحابة على العمل بالخط الرازي في المحصول: وأما من يعد الصحابة فيدل عليه إجماعهم الفعلي على الاحتجاج بذلك والعمل به في معاملاتهم وفي المصنفات " (4) .
وعلى هذا جرت مجلة الأحكام العدلية، فاعتبرت كتابة الدين حجة في توثيقه وبينة لإثباته، لأن المرء مؤاخذ بإقراره الواقع بالكتابة كما هو مؤاخذ على إقراره الواقع بلسانه سواء حصل الإقرار من الناطق أو الأخرس، وسواء كان بطلب الدائن أو من غير طلبه (5) .. وجاء في م (1606) : منها: " الإقرار بالكتابة كالإقرار باللسان ".
__________
(1) مختصر الفتاوى المصرية: ص601.
(2) تبصرة الحكام: 1/363.
(3) كشاف القناع: 4/373؛ وانظر الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: ص190.
(4) ظفر اللاضي فيما يجب في القضاء على القاضي: ص130، 131.
(5) دور الحكام: 4/137.(7/665)
8 – وهذا الرأى هو الأرجح والأولى بالاعتبار … والدليل على ذلك: (أولًا) ما روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده ومالك في الموطأ وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه قال: ((ما حق امرء مسلم يبيت ليلتين، وله شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه)) (1)
فقد اعتمد عليه الصلاة والسلام الكتابة من غير زيادة عليها، فدل على الاكتفاء بها وحجية الخط المجرد، إذ لو لم يكن كذلك، لما كان لكتابة وصيته فائدة (2) .
(ثانيًا) إجماع أهل الحديث على صحة اعتماد الراوي على الخط المحفوظ عندهم وجواز التحديث به، ولو لم يعتمد على ذلك لضاعت أكثر الأحاديث النبوية وغالب الأحكام الفقهية؛ لأن وسيلة حفظها وتناقلها بين أهل العلم النسخ المكتوبة (3)
(ثالثًا) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث كتبه إلى الملوك وغيرهم، وتقوم بها حجته، ولم يكن يشافه رسوله بمضمون كتابه، بل كان يدفعه معه مختومًا ويأمره بدفعه إلى المكتوب إليه، وهذا معلوم من الدين بالضرورة، ثم إن الخلفاء والقضاة والأمراء والعمال درجوا على اعتماد كتب بعضهم إلى بعض دون أن يشهدوا حاملها على ما فيها أو يقرؤوه عليه، وعلى ذلك عمل الناس من زمن نبيهم إلى يومنا هذا (4) .
(رابعًا) إن الكتابة تدل على المقصود وتنبئ عنه، والخط كاللفظ في تبيين المراد والتعبير عن الإرادة، وقديمًا قالت العرب: " الخط أحد اللسانين، وحسنه إحدى الفصاحتين"، بل إن الكتابة قد تمتاز على اللفظ بالثبات والضبط، ولله در القائل: " الخط رسول الضمير، ودليل الإدارة، والمعبر عما في النفوس، والمخبر عن الخواطر، وله فضيلة بارعة ليست للَّفظ، فهو ينوب عنه في الإفصاح في المشهد، ويفضله في المغيب، إذ الخط يقرأ في الأماكن المتباينة والبلدان المتفرقة، ويُدرس في كل عصر وزمان " (5) .
فمن أجل ذلك اعتبرت الكتابة وثيقة وحجة على صاحبها بما يحتويه مضمونها (6) .
__________
(1) انظر صحيح البخاري: 3/186؛ وصحيح مسلم: 3/1249؛ وبذلك المجهود: 13/114؛ وعارضة الأحوذي: 8/273؛ وسنن النسائي: 6/199؛ وسنن ابن ماجه 2 م 901؛ وسنن الدارقطني: 4/150؛ والموطأ: 2/761؛ ومسند الإمام أحمد: 2/10، 34، 50، 57. .
(2) كشاف القناع: 4/373؛ والطرق الحكمية: ص206؛ وطرح التثريب: 6/191.
(3) الطرق الحكمية: ص205. .
(4) الطرق الحكمية: ص205، 207.
(5) الرسالة العذراء، لإبراهيم بن المدير: ص41، 42 (بتصرف) .
(6) أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، للدكتور محمد الزحيلي: ص194؛ والطرق الحكمية: ص206، 207.(7/666)
(خامسًا) إن حاجة الناس إلى توثيق ديونهم بالكتابة قائمة لرفع الحرج والمشقة منهم، خصوصًا في هذا العصر حيث كثرت المعاملات المالية بين الناس وتشعبت صورها وحالاتها وتجاوزت حدود الدولة الواحدة إلى البلدان المختلفة والقارات المتباعدة، وانتشر التزام الدين فيها … فلو لم يتكن الكتابة معتمدة في توثيق الديون لتعطلت مصالح الناس، وضاع الكثير من حقوقهم وأموالهم لعدم توفر الشهود دائمًا عند كل تعامل بالدين، وحتى لو وجدوا عند المعاملة، فقد يغيبون عند التنازع والخصومة أمام القضاء أو ينسون أو يموتون قبل ذلك (1) . ولا ريب أن رفع الحرب والمشقة عن العباد من المقاصد الحاجية التي جاءت الشريعة لإيجادها وتثبيت أركانها وصونها عن كل ما يؤدي إلى الإخلال بها أو تضييعها.
ثم إن حاجة المتعاملين بالدين إلى اعتماد الكتابة في توثيق الديون تعتبر من قبيل الحاجة الخاصة التي تنزل منزلة الضرورة، حيث جاء في القواعد الفقهية الكلية "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة " (2) .
(سادسًا) إن ما استدل به المانعون من الاعتماد على الكتابة – من أن الخطوط تتشابه، وقد يدخلها التزوير والمحاكاة، وقد تكتب للتجربة أو اللهو، فلذلك لا تفيد الطمأنينة على حقيقة ما تضمنته – غير مسلم؛ إذ يرد عليه أمران:
(أ) أن الاعتماد على الكتابة لا يجري مع قيام تلك الشبهات والاحتمالات أصلًا، يقول ابن القيم: " فإن القصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه. فإذا عرف ذلك وتيقن، كان كالعلم بنسبة اللفظ إليه، فإن الخط دال على اللفظ، واللفظ دال على القصد والإرادة، وغاية ما يقدر اشتباه الخطوط، وذلك كما يقرض من اشتباه الصور والأصوات، وقد جعل الله سبحانه في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره كتميز صورته وصوته " (3) .
__________
(1) أصول المحاكمات الشرعية والمدنية: ص194.
(2) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 88 و 32 من مجلة الأحكام العدلية؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص100.
(3) الطرق الحكمية: ص207.(7/667)
وذكر العلامة على حيدر في " درر الحكام " أن مسألة الاحتجاج بالكتابة في توثيق الدين تدور بين أصلين.
الأصل الأول: أنه لا يعتمد على الخط الذي فيه شائبة تزوير، ولا يتخذ ذلك الخط مدارًا للحكم عند المنازعة، لأنه يمكن تصنيع وتزوير الخط.
والأصل الثاني: أنه يعمل ويحتج بالخط البريء من شائبة التزوير والتصنيع، لأن أكثر معاملات الناس تحصل بلا شهود، فإن لم يعمل بالخط فإن ذلك يستلزم ضياع أموال الناس (1) .
وجاء في م (1736) من " مجلة الأحكام العدلية ": " لا يعمل بالخط والخاتم فقط، أما إذا كان سالمًا من شبهة التزوير والتصنيع، فيكون معمولًا به، أي يكون مدارًا للحكم، ولا يحتاج للإثبات بوجه آخر ".
(ب) إنهم لم يعتبروا الخط المجرد بَيّنة إذا لم يشهد عليه، مع أن التزوير قد يكون في الشهادة كما يكون في الكتابة، وربما كان في الشهادة أكثر وقوعًا.. إذ الكشف عن المحاكاة والتزوير في الخط أيسر وأسهل من الكشف عنه في شهادة الزور، وطرق مضاهاة الخطوط التي عرفها الخبراء وأتقنوها ووسائل كشف تزوير الوثائق التي أصبحت علمًا مستقلًّا وفنًّا متقدمًا يمكنها أن تنفي احتمال التزوير عن الوثائق الصادقة وتفضح الخطوط المزورة.. والمطلوب للقاضي هو ظهور الحق ولو بغلبة الظن، فمتى وجد ذلك بطريق ما وجب عليه الحكم به، وكان حكمه نافذًا مقبولًا يقول ابن القيم: " قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له " (2) .
__________
(1) دور الحكام شرح مجلة الأحكام: 4/137.
(2) الطرق الحكمية: ص14.(7/668)
(ج) صور التوثيق بالكتابة:
لقد ذكر الفقهاء صورًا شتى لتوثيق الدين بالكتابة، وتلك الصور وإن كانت أمثلة على الأصل المعتبر والمبدأ المعتمد، وهو حجية الخط المجرد في توثيق الديون وإثباتها، إلا أنها تعتبر قواعد للتوثيق بالكتابة وضوابط تبين متى يكون الخط وثيقة صحيحة بالدين، ومتى لا يكون كذلك.. وبيانها فيما يلي:
الصور الأولي:
9 – إذا أَمَرَ شخص آخر بأن يكتب إقراره، فيكون ذلك الأمر إقرارًا حكمًا ولا يخفى أن الأمر إنشاء، والإقرار إخبار، وليسا بمتحدين حقيقة، فمن أجل ذلك لم يسم أمره إقرارًا حقيقة، ولكنه لما كان الإقرار حاصلًا في أمره بكتابته سمي الأمر إقرارًا حكمًا (1) .
جاء في " الدر المختار " للحصكفي: " الأمر بكتابة الإقرار، إقرار، حكمًا، فإنه كما يكون باللسان يكون بالبنان، فلو قال للصكاك: اكتب خط إقراري بألف عَلَيَّ، أو اكتب بيع داري أو طلاق امرأتي صَحَّ " (2) .
وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في م (1607) منها: " أمر أحد بأن يكتب إقراره هو إقرار حكمًا، بناءً عليه: لو أَمَرَ أحد كاتبًا بقوله: اكتب لي سندًا يحتوي أني مدين لفلان بكذا دراهم، ووقع عليه بإمضائه أو ختمه يكون من قبيل الإقرار بالكتابة، كالسند الذي كتبه بخط يده ".
الصورة الثانية:
10 – إن قيود التجار – كالصراف والبياع والسمسار – التي تكون في دفاترهم المعتد بها، وتبين ما عليهم من ديون، تعتبر حجة عليهم ولو لم تكن في شكل صك أو سند رسمي، وذلك لأن العادة جرت أن التجار يكتب دينه ومطلوبه في دفتره صيانة له من النسيان، ولا يكتبه للهو واللعب، أما ما يكتب فيها من ديون لهم على الناس، فلا يعتبر وثيقة وحجة، ويحتاج في إثباتها إلى بيِّنة أخرى (3) .
وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في م (1608) منها: " القيود التي هي في دفاتر التجار المعتد بها هي من قبيل الإقرار بالكتابة أيضًا، مثلًا، لو قَيَّدَ أحد التجار في دفتره أنه مدين لفلان بمقدار كذا يكون قد أَقَرَّ بدين مقدار ذلك، ويكون معتبرًا ومرعيًّا كإقراره الشفاهي عند الحاجة ".
__________
(1) قرة عيون الأخيار: 2/97؛ ودرر الحكام: 4/138؛ والفتاوى الهندية: 4/167.
(2) رد المحتار على الدر المختار:4/455.
(3) درر الحكام: 4/138؛ وفتح العلي، المالك: 2/311؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص218؛ ونشر العرب (المطبوعة ضمن رسائل ابن عابدين) : 2/144؛ ومعين الحكام: ص126؛ وقرة عيون الأخبار: 1/60؛ والفتاوى الهندية: 4/167؛ وأصول المحاكمات، للدكتور محمد الزحيلي: ص199.(7/669)
وجاء في " خزانة الأكمل ": " صرَّاف كتب على نفسه بمال معلوم، وخطة معلوم بين التجار وأهل البلد، ثم مات فجاء غريم يطلب المال من الورثة، وعرض خط الميت بحيث عرف الناس خطه، يحكم بذلك في تركته إن ثبت أنه خطه. وقد جرت العادة بين الناس بمثله حجة " (1)
ثم عَلَّقَ ابن عابدين على ذلك فقال: " اعلم أن هذا كله فيما يكتبه على نفسه – كما قيده بعض المتأخرين، وهو ظاهر – بخلاف ما يكتبه لنفسه، فإنه لو ادَّعاه بلسانه صريحًا لا يؤخذ خصمه به، فكيف إذا كتبه!! ولذلك قيده في " الخزانة " بقوله: كَتَبَ على نفسه " (2) .
وجاء في " قرة عيون الأخيار ": " وكذلك ما يكتب الناس فيما بينهم على أنفسهم في دفاترهم المحفوظة عندهم بخطهم المعلوم بين التجار وأهل البلد، فهو حجة عليهم ولو بعد موتهم " (3) .
ويلاحظ في هذه المسألة: أن الفقهاء قيَّدوا ذلك الحكم بأن ترد الكتابة في دفاتر التجار المعتد بها. أما الدفاتر التي لا يعتدون بها، فلا تعتبر قيودها حجة على أصحابها، لاحتمال ورود التزوير فيها. وأن تكون الكتابة بخط التاجر في دفتره المحفوظ عنده، لنفي شبهة التلاعب فيها.
قال ابن عابدين في " رد المحتار " ويجب تقييده أيضًا بما إذا كان دفتره محفوظًا عنده. فلو كانت كتابته فيما عليه في دفتر خصمه، فالظاهرة أنه لا يعمل به، لأن الخط مما يزور، وكذا لو كان له كاتب، والدفتر عند الكاتب، لاحتمال كون الكاتب كتب ذلك عليه بلا علمه، فلا يكون حجة عليه إذا أنكره، أو أظهر ذلك بعد موته وأنكرته الورثة (4) .
وضابط المسألة ما حرَّرَهُ ابن عابدين في رسالته " نشر العرف في بناء بعض الأحكام على " العُرف " حيث قال: " فالحاصل أن المدار على انتفاء الشبهة ظاهر. وعليه؛ فما يوجد في دفاتر التجار في زماننا إذا مات أحدهم، وقد كتب بخطه ما عليه في دفتره – الذي يقرب من اليقين أنه لا يكتب فيه على سبيل التجربة والهزل – يعمل به، والعرف جار بينهم بذلك. فلو لم يعمل به، يلزم ضياع أموال الناس، إذ غالب بياعاتهم بلا شهود، خصوصًا ما يرسلونه إلى شركائهم وأمنائهم في البلاد، لتعذر الإشهاد في مثله، فيكتفون بالمكتوب في كتاب أو دفتر، ويجعلونه فيما بينهم حجة عند تحقق الخط أو الختم " (5) .
__________
(1) رد المحتار: 4/353؛ورسائل ابن عابدين (نشر العرف) : 2/143؛ وقرة عيون الأخيار: 1/59. .
(2) رد المحتار: 4/354.
(3) قرة عيون الأخيار: 2/97.
(4) رد المحتار: 4/354.
(5) رسائل ابن عابدين: 2/144؛ وانظر: قرة عيون الأخيار: 1/60.(7/670)
الصورة الثالثة:
11- السندات والوصولات الرسمية تعتبر حججًا معتمدة في توثيق الدين وإثباته (1) .
جاء في " فتاوى قارئ الهداية ": " إذا كتب على وجه الصكوك؛ يلزمه المال. وهو أن يكتب: يقول فلان الفلاني إن في ذمتي لفلان الفلاني كذا وكذا، فهو إقرار ملزم " (2) .
وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في م (1609) منها: " إذا كتب أحدٌ سندًا أو استكتبه من كاتب، وأعطاه لآخر موقعًا بإمضائه أو مختومًا، فإذا كان مرسومًا– أي حرر موافقًا للرسم والعادة – فيكون إقرارًا بالكتابة، ويكون معتبرًا ومرعيًّا كتقريره الشفاهي. والوصلات المعتاد إعطاؤها هي من هذا القبيل ".
وقال العلامة علي حيدر في شرح هذه المادة: أي إن السند المحرر به اسم الدائن، وشهرته، ومقدار الدين، والتاريخ، والحاوي لإمضاء المدين أو ختمه في ذيله، يعتبر في زماننا موافقًا للرسم والعادة (3) .
ثم ذكر أن لسند الدين أربع صور:
الأولى: أن يكون متن سند الدين بخط المدين، وتوقيعه بخطه أيضًا.
الثانية: أن يكون متن السند بخط غير المدين، وأن يكون التوقيع بخط المدين.
الثالثة: أن يكون متن السند بخط المدين، وأن يكون السند مختومًا بختم المدين بدون توقيعه.
ففي هذه الصور الثلاث يعمل بمضمون السند إذ لا يوجد شائبة تزوير.
الرابعة: أن يكون متن السند بخط غير المدين، وأن يكون محل التوقيع مختومًا بختم المدين فقط.
وفي هذه الصورة لا يحتج بهذا السند، لخلوه بالكلية من خط المدين وكتابته، ووجود شائبة التزوير فيه.. لأن من الممكن تصنيع الختم وتزويره، كما أن من المحتمل استعمال الغير للختم بدون علم صاحبه، لأن صاحب الختم لا يبقي ختمه دائمًا في صحبته، بل يتركه في بيته أو في مقر عمله أو يسلمه لأمينه ومعتمده.. كما أن من المحتمل أن يختم صانع الختم بضع سندات به قبل أن يسلمه لصاحبه.. ومع قيام تلك الاحتمالات بهذا السند يرتفع به الاحتجاج والاستدلال (4) .
__________
(1) رد المحتار: 4/354.
(2) رد المحتار: 4/353
(3) درر الحكام: 4/139.
(4) درر الحكام: 4/140.(7/671)
الصورة الرابعة:
12 – إذا أنكر من كتب أو استكتب سندًا رسميًّا ممضيًّا بإمضائه أو ختومًا بختمه الدين الذي يحتويه ذلك السند، مع اعترافه بخطه وختمه، فلا يعتبر إنكاره، ويلزمه أداء ذلك الدين دون حاجة إلى إثبات بوجه آخر (1) .
جاء في " فتاوى قارئ الهداية ": " سئل إذا كتب شخص ورقة بخطه أن في ذمته لشخص كذا، ثم ادعي عليه، فجحد المبلغ، واعترف بخطه، ولم يشهد عليه؟ أجاب: إذا كتب على رسم الصكوك يلزم المال، وهو أن يكتب: يقول فلان بن فلان الفلاني أن في ذمته لفلان بن فلان الفلاني كذا وكذا، فهو إقرار يلزم به. وإن لم يكتب على هذا الرسم، فالقول قوله مع يمينه " (2) .
وقد أخذت بذلك " مجلة الأحكام العديلة " حيث جاء في م (1610) منها: " إذا أنكر من كتب أو استكتب سندًا مرسومًا على الوجه المحرر أعلاه، وأعطاه لآخر ممضيًّا أو مختومًا الدين الذي يحتويه ذلك السند مع اعترافه بكون السند له، فلا يعتبر إنكاره ويلزمه أداء ذلك الدين ".
أما إذا أنكر خط السند الذي أعطاه مرسومًا أيضًا، وقال: إنه ليس خطي، فينظر: فإن كان خطه مشهورًا ومتعارفًا بين التجار وأهل البلد، وثبت أنه خطه، فلا يعتبر إنكاره، ويعمل بذلك السند بدون حاجة لإثبات مضمونه ومندرجاته بوجه آخر.
جاء في " رد المحتار ": " فإذا كتب وصولًا أو صكًّا بدين عليه وختمه بخاتمه المعروف، فإنه في العادة يكون حجة عليه، بحيث لا يمكنه إنكاره، ولو أنكره يعد بين الناس مكابرًا. فإذا اعترف بكونه خطه وختمه، وكان مصدرًا معنونًا، فينبغي القول بأنه يلزمه، وإن لم يعترف به أو وجد بعد موته فمقتضى ما في " المجتبى " أنه يلزمه أيضًا، عملًا بالعرف " (3) .
أما إذا لم يكن خطه مشهورًا ومتعارفًا فيستكتب، ويعرض خطه على الخبراء، فإذا أفادوا أن الخطين لشخص واحد، فيؤمر ذلك الشخص بأداء الدين المذكور، وإلا فلا (4)
جاء في " معين الحكام ": " ذكر أبو الليث في نوازله: لو ادعى على آخر مالًا، وأخرج بذلك خطًّا بخط يده على إقراره بذلك المال، فأنكر المدعى عليه أنه خطه، فاستكتب فكتب، فكان بين الخطين مشابهة ظاهرة دالة على أنهما خط كاتب واحد، قال أئمة بخارى، إنه حجة يقضي بها " (5) .
__________
(1) رد المحتار: 4/354؛ ودرر الحكام: 4/141.
(2) قرة عيون الأخيار: 1/59؛ ورد المحتار: 4/374.
(3) رد المحتار: 4/354.
(4) درر الحكام: 4/141، 142؛ وقرة عيون الأخيار: 2/97، 98. .
(5) معين الحكام للطرابلسي: ص125.(7/672)
وقال ابن فرحون: " إذا ادعى رجل على رجل بمال فجحده، فأخرج المدعي صحيفة مكتوبًا فيها خط المدعى عليه وإقراره بما ادعى عليه، وزعم المدعي أنها بخط المدعى عليه، فأنكر المدعي عليه ذلك، وليس بينهما بينة، فطلب المدعي أن يجبر المدعى عليه على أن يكتب بحضرة العدول، ويقابل ما كتبه بما أظهره المدعي. فأفتى أبو الحسن اللخمي بأنه يجبر على ذلك، وعلى أن يطول فيما يكتب تطويلًا لا يمكن معه أن يستعمل خطًّا غير خطه. وأفتى عبد الحميد الصائغ بأن ذلك لا يلزمه، إذا لا يلزمه إحضار بينة تشهد عليه، وفرَّق اللخمي بينهما بأن المدعى عليه يقطع بتكذيب البينة التي تشهد عليه فلا يلزمه أن يسعى في أمر يقطع ببطلانه. وأما خطه، فإنه صادر عنه بإقراره، والعدول يقابلون ما يكتبه الآن بما أحضره المدعي، ويشهدون بموافقته له أو مخالفته. وَرَجَّحَ أكثر الشيوخ ما أَفْتَى به اللخمي " (1) .
وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في م (1610) منها: " وأما إذا أنكر كون السند له، فلا يعتبر إنكاره إذا كان خطه وختمه مشهورًا ومتعارفًا ويعمل بذلك السند. أما إذا كان خطه وختمه غير مشهور ومتعارف، يستكتب ويعرض خطه على أهل الخبرة، فإن أخبروا بأنهما كتابة شخص واحد يؤمر ذلك الشخص بإعطاء الدين المذكور ".
ولا يخفى أن سائر هذه الأحوال التي يعتمد فيها على السند ويحكم بموجب ما جاء فيه يشترط فيها سلامة السند من شبهة التزوير، وعلى هذا نَصَّت المجلة في م (1610) بعد ذكر هذه الأحوال وبيانها: " والحاصل: يعمل بالسند إذا كان بريئًا من شائبة التزوير وشبهة التصنيع ". أما إذا كان في السند شبهة تزوير – بأن كان بغير خط المدين، وعليه ختمه دون توقيعه مثلًا – وأنكر المدين أن السند سنده، كما أنكر أصل الدين، فلا يكون السند مدارًا للحكم (2) .
وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في آخر م (1610) منها: " أما إذا لم يكن السند بريئًا من الشبهة، وأنكر المدين كون السند له، وأنكر أصل الدين أيضًا، فيحلَّف بطلب المدعي على كونه ليس مدينًا للمدعي، وعلى أن السند ليس له ".
__________
(1) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام: 1/363.
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 4/142.(7/673)
الصورة الخامسة:
13 – إذا أعطى شخص لآخر سندًا رسميًّا يفيد أنه مدين له بمبلغ من المال، ثم تُوِفِّيَ، فيلزم ورثته بإيفائه من التركة إذا اعترفوا بكون السند للمتوفَّى، ولو أنكروا الدين. أما إذا أنكروا السند، فينظر: إن كان خط المتوفى وختمه مشهورًا ومتعارفًا، وثبت أن الخط خطه والختم ختمه، فيجب عليهم أداء الدين من التركة، ولا عبرة لإنكارهم (1) . وإن كان خلاف ذلك، فلا يُعمل بالسند، لوجود شبهة التزوير فيه.
وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في م (1611) منها:
" إذا أعطى أحد سند دين حال كونه مرسومًا على الوجه المبين أعلاه، ثم توفي، يُلزم ورثته بإيفائه من التركة إذا كانوا معترفين بكون السند للمتوفَّى. وأما إذا كانوا منكرين بأن ذلك السند للمتوفى، فيُعمل بذلك السند إذا كان خط وختم المتوفى مشهورًا ومتعارفًا ".
الصورة السادسة:
14 – إذا وجد الوارث خطًّا لمورثه، يفيد أن عليه دينًا قدره كذا وكذا لفلان، فيجب على الوارث العمل بخط مورثه ودفع الدين إلى من هو مكتوب باسمه من التركة (2) .
جاء في " الإفصاح " لابن هبيرة: إذا وُجِدَ للرجل بعد موته في دفتر حسابه بخطه أن لفلان بن فلان عندي وديعة أو عَلَيَّ كذا وكذا.. فقال أحمد وبعض المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة: يجب دفع ذلك، كما لو أقرَّ به في حياته " (3) .
وقال في " كشاف القناع ": " وإن وجد وارث خطه، أي خط مورثه بدين عليه لمعين، عمل الوارث به وجوبًا، ودفع الدين إلى من هو مكتوب باسمه " (4)
ومثل ذلك ما لو وُجِدَ في تركة متوفى صندوق أو كتاب أو كيس فيه نقود كتب عليه بخط المتوفَّى أنه وديعة لفلان أو هذا لفلان، فيجب على الوارث العمل بخط مورثة، ولا يحتاج إلى إثبات بوجه آخر (5) .
قال البهوتي في " شرح منتهى الإرادات ": " ويعمل وارث وجوبًا بخط مورثه على كيس ونحوه كصندوق أو كتاب: هذا وديعة، أو هذا لفلان نصًّا " (6) .
وبذلك أخذت " مجلة الأحكام العدلية " حيث جاء في م (1612) منها:
" إذا ظهر كيس مملوء بالنقود في تركة متوفٍ، ملصق عليه بطاقة، محرر فيها بخط المتوفى أن هذا الكيس مال فلان، وهو عندي أمانة، يأخذه ذلك الرجل من التركة، ولا يحتاج إلى إثبات بوجه آخر ".
__________
(1) درر الحكام: 4/142، وما بعدها؛ ورد المحتار: 4/354.
(2) شرح منتهى الإرادات: 2/457؛ ورد المحتار: 4/354؛ وانظر م (2281) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الحنابلة، للقاري؛ ومختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية: ص417.
(3) الإفصاح عن معاني الصحاح: 2/27.
(4) كشاف القناع: 4/203. .
(5) رد المحتار: 4/354؛ وكشاف القناع: 4/203؛ والإفصاح، لابن هبيرة: 2/27؛ ومختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية ص608؛ ودرر الحكام: 4/143؛ ومجلة الأحكام الشرعية على مذهب الحنابلة، للقاري م (2281) .
(6) شرح منتهى الإرادات: 2/457.(7/674)
(د) حكم التوثيق بالكتابة:
15 – لقد اختلف الفقهاء في حكم توثيق الدين بالكتابة على قولين:
(أحدهما) لابن جرير الطبري والظاهرية وبعض السلف، وهو أن كتابة الدين واجبة لقوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} إذ الأصل في الأمر إفادة الوجوب. ومما يؤيد دلالة هذا الأمر على الوجوب اهتمام الآية ببيان من له حق الإملاء، وصفة الكاتب، وحثه على الاستجابة إذا طلب منه ذلك، والحث على كتابة القليل والكثير، ثم التعبير عن عدم وجوب الكتابة في المبادلات الناجزة بنفي الجناح {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} حيث إنه يشعر بلوم من ترك الكتابة عند تعامله بالدين (1)
(والثاني) لجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، وهو أن كتابة الدين ليست بواجبة، إذ الأمر في الآية على سبيل الإرشاد لمن يخشى ضياع دينه بالنسيان أو الإنكار، حيث لا يكون المدين موضع ثقة كاملة من دائنة. يدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}
وهو يفيد أن الكتابة غير مطلوبة إذا توافرت الأمانة والثقة بين المتعاملين.
قال الإمام الشافعي: " فلما أَمَرَ إذا لم يجدوا كاتبًا بالرهن، ثم أباح ترك الرهن، وقال، {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} .
فدل على أن الأمر الأول دلالة على الخط، لا فرض فيه، يَعْصِي من تركه " (2) .
ويؤيد هذا أن صاحب الدين يستطيع أن يتنزل عنه ويسقطه عن المدين، فله بالأولى أن يترك توثيقه بالكتابة. وقد دَرَجَ الناس من عهد الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا على عدم كتابة الديون ما دامت الثقة قائمة بين المتداينين، ولم ينقل عن فقهائهم نكير عليهم مع اشتهار ذلك (3) .
__________
(1) المحلى، لابن حزم: 8/80؛ والولاية على المال والتعامل بالدين للأستاذ علي حسب الله: ص103؛ وتفسير الطبري: 3/77، 79؛ وتفسير القرطبي: 3/383. .
(2) أحكام القرآن الشافعي 2/127.
(3) أحكام القرآن، للجصاص: 1/482؛ والمحصول، للرازي:/ ج 1 ق 2/58؛ والأم، للشافعي: 3/89 وما بعدها، الولاية على المال والتعامل بالدين: ص 103؛ والمغني، لابن قدامة: 4/362؛ وتفسير الطبري: 3/77؛ وتفسير النيسابوري: 3/97؛ والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: 3/383.(7/675)
الفصل الثاني
البينة الشخصية (الشهادة)
وسنتكلم عن مشروعيتها وحكمها ونصابها.
(أ) مشروعيتها:
16 – قال الله تعالى في آية الدين: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (1) .
فقد دَلَّتْ الآية على مشروعية توثيق الدين بالشهادة. وأنها وثيقة واحتياط للدائن، لأن استشهاد الشهود أنفى للريب وأبقى للحق وأدعى إلى رفع التنازع والاختلاف، وفي ذلك صلاح الدين والدنيا معًا.
وإنما قيَّد الله سبحانه الاستشهاد بـ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} .
وقصر الشهادة على من يرتضى لها خاصة من أهل العدالة والفطنة، لأنها ولاية عظيمة تقتضي تنفيذ القول على الغير بدون رضاه … ولهذا وجب أن يكون لصاحبها شمائل ينفرد بها، وفضائل يتحلَّى بها، حتى يكون له على غيره مزية توجب له رتبة الاختصاص بقبول قوله على غيره، والحكم بشغل ذمة المطلوب بالدين بشهادته عليه، وتغليب قول الطالب على قول المطلوب بتصديقه له في دعواه (2) .
__________
(1) الآية 282 من البقرة.
(2) أحكام القرآن، لابن العربي: 1/254.(7/676)
(ب) حكمها:
17 – اختلف الفقهاء في حم توثيق الدين بالشهادة علن قولين:
(أحدهما) للظاهرية وبعض السلف، وهو أن الإشهاد على الدين واجب لقوله تعالى في آية الدين: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية (1) .
(والثاني) لجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، وهو أن الإشهاد على الدين ليس بواجب إذا الأمر به إرشاد إلى الأوثق والأحوط، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} .
قال العلامة ابن العربي: معناه أنه أسقط الكتاب والإشهاد والرهن، وعوَّل على أمانة المعامل.. ولو كان الإشهاد واجبًا لما جاز إسقاطه.. وجملة الأمر أن الإشهاد حزم والائتمان وثيقة بالله من المدين ومروءة من المداين (2) .
وقال أبو بكر الرازي الجصاص: " ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جمعيه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئًا من غير واجب. وقد نقلت الأمة خلفًا عن سلف عقود المدينات والأشرية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجبًا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندبًا، وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا " (3) .
وقال إلكيا الهراسي في " أحكام القرآن ": " إن الأمر بالإشهاد ندب لا واجب، والذي يزيده وضوحًا أنه قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} . ومعلوم أن الأمن لا يقع إلا بحسب الظن والتوهم لا على وجه الحقيقة وذلك يدل على أن الشهادة إنما أمر بها لطمأنينة قلبه لا لحق الشرع فإنها لو كانت لحق الشرع لما قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} . فلا ثقة بأمن العباد، إنما الاعتماد على ما يراه الشرع مصلحة، فالشهادة متى شرعت في النكاح لم تسقط بتراضيهما وأمن بعضهم بعضًا، فدل ذلك أن الشهادة شرعت للطمأنينة. ولأن الله تعالى جعل لتوثيق الديون طرقًا؛ منها الكتابة ومنها الرهن ومنها الإشهاد، ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد " (4) .
وقال القاضي ابن العربي: " والظاهر الصحيح أن الإشهاد ليس واجبًا، وإنما الأمر به أمر إرشاد للتوثُّق والمصلحة، وهو في النسيئة محتاج إليه لكون العلاقة بين المتعاقدين باقية، توثقًا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب " (5) .
__________
(1) المحلى: 8/80، وقد روي عن أبي موسى الأشعري، أنه قال: " ثلاثة يدعون فلا يستجيب لهم: رجل كانت لهم امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهًا وقد قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} ورجل له على رجل دين ولم يُشهد عليه "، وقد روي هذا الحديث مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وروي عن الضحاك أنه قال: إن ذهب حقه لم يُؤْجَرْ وإن دعا عليه لم يجب، لأنه ترك حق الله وأمره. وقد أجاب الجصاص عما روي عن أبي موسى بأنه لا دلالة فيه على أنه رآه واجبًا، ألا ترى أنه ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ولا خلاف أنه ليس بواجب على من له امرأة سيئة الخلق أن يطلقها وإنما دل هذا القول منه على أن فاعل ذلك تارك للاحتياط والتوصل إلى ما جعل الله تعالى له فيه المخرج والخلاص. (انظر أحكام القرآن، للجصاص: 1/481، 482) .
(2) أحكام القرآن، لابن العربي: 1/262.
(3) أحكام القرآن، للجصاص: 1/482.
(4) أحكام القرآن، لإلكيا الهراسي:1/365؛ وانظر: الأم، للشافعي: 3/89 وما بعدها.
(5) أحكام القرآن، لابن العربي: 1/258.(7/677)
18 – هذا، وقد نَصَّ جماهير الأصوليين على أن الأمر في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، لا يراد به الوجوب، وإنما هو للإرشاد (1) .
قال الفخر الرازي: " فإنه لا ينقص الثواب بترك الإشهاد في المداينات، ولا يزيد بفعله " (2) . وقال الآمدي: " وهو قريب من الندب لاشتراكهما في طلب تحصيل المصلحة غير أن الندب لمصلحة أُخْرويَّة، والإرشاد لمصلحة دنيوية " (3) .
وقد أورد التاج السبكي في المسألة تفصيلًا حسنًا وأَتَى فيها بتحقيق فريد حيث قال: "والفرق بين الندب والإرشاد: أن المندوب مطلوب لثواب الآخرة، والإرشاد لمنافع الدنيا، ولا يتعلق به ثواب البتة، لأنه فعل متعلق بغرض الفاعل ومصلحة نفسه. وقد يقال: إنه يُثاب عليه لكونه ممتثلًا، ولكن يكون ثوابه أنقص ثواب الندب لأن امتثاله مشوب بحظ نفسه. ويكون الفارق إذًا بين الندب والإرشاد إنما هو مجرد أنَّ أحدهما مطلوب لثواب الآخرة، والآخر لمنافع الدنيا.
والتحقيق: أن الذي فعل ما أمر به إرشادًا؛ إن أتى به لمجرد غرضه فلا ثواب له، وإن أتى به لمجرد الامتثال غير ناظر إلى مصلحته ولا قاصد سوى مجرد الانقياد لأمر ربه فيثاب، إن قصد الأمرين أثيب على أحدهما دون الآخر، ولكن ثوابًا أنقص من ثواب من لم يقصد غير مجرد الامتثال " (4) .
__________
(1) انظر: الفصول في الأصول، للجصاص: 2/78؛ والتلويح على التوضيح: 1/282؛ فواتح الرحموت: 1/372؛ والمحلى على جمع الجوامع وحاشية العطار عليه: 1/469؛ وشرح الكوكب المنير: 3/20؛ ونهاية السول: 2/10؛ والمحصول ج 1 ق 2/58؛ والأحكام للآمدي: 2/207؛ والإبهاج: 2/17؛ والمدخل إلى مذهب أحمد ابن حنبل: ص102.
(2) المحصول: ج 1 ق 2/58.
(3) الأحكام في أصول الأحكام: 2/207.
(4) الإبهاج في شرح المنهاج: 2/17، 18.(7/678)
(ج) نصابها:
19 – لقد بينت آية الدين أن نصاب الشهادة على الدين هو: إما رجلان، أو رجل وامرأتان ممن يرتضى من العدول الثقات، فإذا تحقق ذلك كان وثيقة معتبرة وحجة شرعية في إثبات الدين، وبينة قوية يعتمد عليها القاضي في الحكم به لطالبه.
ولا يخفى أن شهادة الرجلين بينة كاملة، يقع بها الإثبات في جميع الحقوق والديون والجنايات سوى حد الزنا عند سائر الفقهاء. قال الإمام القرافي: (ما علمت عندنا ولا عند غيرنا خلافًا في قبول شهادة شاهدين مسلمين عدلين في الدماء والديون) (1) .
أما شهادة الرجل مع المرأتين، فقد اتفق الفقهاء على أنه يثبت الدين بها أمام القضاء، وأنها وثيقة معتبرة لحفظه بنص الآية (2) ، وإنما شرطت كون الرجل معهن، لئلا يكونه لهن رتبة الاستقلال (3) .
قال إلكيا الهراسي: (اعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن تكون شهادة النساء شهادة ضرورة معدولًا بها عن أصل الشهادة، فإنه قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} ، فاقتضى الظاهر عدم القدرة على الرجلين، إلا أنه جُوِّزَ على خلاف الظاهرة للإجماع " (4) .
وقال القاضي ابن العربي: (قال علماؤنا: قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} من ألفاظ الأبدال، فكان ظاهره يقتضي ألا تجوز شهادة النساء إلا عند عدم شهادة الرجال كحكم سائر أبدال الشريعة مع مبدلاتها، وهذا ليس كما زعمه. ولو أراد ربنا ذلك لقال: (فإن لم يوجد رجلان فرجل) فأما وقد قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} فهذا قول يتناول حالة الوجود والعدم) . (5) .
أى إنه يكون على سبيل التخيير.
وقد أشارت الآية إلى أن الحكمة في جعل المرأتين بمنزلة الرجل الواحد في الشهادة، هي أن المرأة يغلب عليه النسيان والخطاء، وأن حفظها وضبطها – بحسب فطرتها وما جُبِلَت عليه – دون حفظ الرجال وضبطهم، فقال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} . فَدَلت الآية على أن استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو لتنبيه أحدهما الآخرى إذا غفلت وإذكارها إذا نَسِيَتْ (6) .
قال ابن العربي: (فإن قيل: فهلَّا كان امرأة واحدة مع رجل، فيذكرها الرجل الذي معها إذا نسيت، فما الحكمة فيه؟!
فالجواب فيه: أن الله سبحانه شرع ما أراد، وهو أعلم بالحكمة وأوفى بالمصلحة، وليس يلزم أن يعلم الخلق وجوه الحكمة وأنواع المصالح في الأحكام. وقد أشار علماؤنا أنه لوذَكَّرَهَا إذا نسيت لكانت شهادة واحدة، فإذا كانت امراتين وذكرت إحدها الأخرى، كانت امرأتين وذكرت إحداهما الأخرى، كانت شهادتهما شهادة رجل واحد كالرجل يستذكر في نفسه فيتذكر) (7) .
__________
(1) الفروق، للقرافي: 4/86.
(2) المغني، لابن قدامة: 9/151.
(3) أحكام القرآن، لإلكيا الهراسي: 1/387؛ والأم، للشافعي: 7/85.
(4) أحكام القرآن، لإلكيا الهراسي: 1/386.
(5) أحكام القرآن، لابن العربي: 1/252. وانظر: أحكام القرآن، للجصاص: 1/501.
(6) الطرق الحكمية: ص105.
(7) أحكام القرآن لابن العربي: 1/255.(7/679)
الفصل الثالث
الرهن
20– وهو (المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه) (1) .وبهذه الوثيقة يصير المرتهن أحق بالرهن من سائر الغرماء، فإذا كان على الراهن ديون أخرى لا تفي بها أمواله، وبيع الرهن لسداد ما عليه، كان للمرتهن أن يستوفي دينه من ثمنه أولًا، فإذا بقي شيء فهو لسائر الغرماء (2) .
جاء في " كشف الأسرار " للبخاري (لا خلاف أن الرهن عقد وثيقة لجانب الاستيفاء، حتى لا يصح رهن ما لا يصح للاستيفاء كالخمر وأم الولد) (3) . ثم نقل عن " الوسيط " أن حقيقة الرهن توثيق الدين بتعليقه بالعين، ليسلم المرتهن به عن مزاحمة الغرماء عند الإفلاس، ويتم ذلك بالقبض ليحفظ محل حقه ليوم حاجته، ويثبت للمرتهن في الحال استحقاق اليد على المرهون، وفي ثاني الحال استحقاق البيع في قضاء حقه إذا لم يوفه الراهن من مال آخر (4) . ثم قال: (فإن قيل: ما معنى الوثيقة في هذه اليد، ومن أي وجه جعلت وثيقة؟ قلنا معنى الوثيقة في إثبات شيء زائد هو من الجنس الأصل، مع بقاء الأول على ما مكان، فإذا احتبس عنده حقيقة، يصير هذا الاحتباس وسيلة إلى النقد من محل آخر، وهذا هو المتعاهد فيما بين الناس أن ملك الإنسان متى صار محبوسًا عنه بدين يتسارع إلى فكاكه بإيفاء الدين) (5) .
وسنتكلم في هذا الفصل عن مشروعية الرهن وحكمه وما يشترط لصحة التوثيق به.
__________
(1) المغني: 4/361، وانظر رد المحتار: 5/307؛ وشرح منتى الإرادات: 2/288؛ والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: ص 1217؛ وتعريفات الجرجاني: ص60؛ والمصباح المنير: 1/287؛ وم (701) من مجلة الأحكام العدلية وم (975) من مرشد الحيران.
(2) أحكام القرآن للجصاص: 1/523؛ الولاية على المال والتعامل بالدين: ص104.
(3) كشف الأسرار عن أصول البزدوي: 3/398.
(4) كشف الأسرار عن أصول البزدوى: 3/398.
(5) كشف الأسرار: 3/399.(7/680)
(أ) مشروعيته:
21 – لقد ثبتت مشروعية توثيق الدين بالرهن بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى في آية الدين: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1) .
وقد فهم مجاهد من الآية أن الرهن لا يجوز إلا في السفر (2) . وليس بسديد لأن ذكر السفر في الآية خرج مخرج الغالب، حيث إن فقد الكاتب والشاهدين والموثوق بهما يكون فيه غالبًا، ومذهب جماهير العلماء عدم صحة العمل بمفهوم المخالفة فيما يخرج مخرج الغالب من الألفاظ (3) . ولأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه أشترى من يهودي طعام ورهنه درعه وكانا بالمدينة، فثبت جواز الرهن في الحضر بفعله صلى الله عيه وسلم، ولأن الرهن وثيقة بالدين، فإذا جازت في السفر جازت في الحضر كالضمان، من أجل ذلك ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الرهن في السفر والحضر، مع وجود الكاتب وعدمه (4) .
وأما السنة: فما روى البخاري ومسلم وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعامًا إلى أجل ورهنه درعه " (5) .وما روى البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الظهر يركب إذا كان مرهونًا، ولبنُ الدَّرِّ يُشربُ بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) (6) .
__________
(1) الآية 283 من سورة البقرة.
(2) المغني: 4/362؛ والمحلى: 8/78؛ وأحكام القرآن لإليكا الهراسي: 1/314؛ وأحكام القرآن لابن العربي: 1/260.
(3) انظرالبرهان، للزركشي: 3/39؛ والبرهان للجويني: 1/477؛ وحاشية البناني: 1/246؛ وإرشاد الفحول: ص 180؛ ومناهج العقول: 1/315؛ وشرح العضد: 2/174؛ والأحكام الآمدي: 3/100، والمسودة: ص362.
(4) المهذب: 1/312؛ وأحكام القرآن، لإلكيا الهراسي: 1/413؛ وأحكام القرآن للجصاص: 1/523؛ والمغني: 4/362؛ وأحكام القرآن، لابن العربي: 1/260؛ والأم، للشافعي: 3/139؛ وكشاف القناع: 3/107؛ والإشراف على مسائل خلاف: 2/2.
(5) صحيح البخاري: 3/115؛ وصحيح مسلم: 3/1226؛ وسنن ابن ماجه: 2/815.
(6) صحيح البخاري: 3/116؛ وبذل المجهود: 15/207؛ وعارضة الأحوذي: 6/10؛ وسنن ابن ماجه: 2/816؛ وسنن الدارقطني: 3/34.(7/681)
وأما الإجماع:فقد أجمع سائر أهل العلم على جواز توثيق الدين بالرهن (1) .
وأما المعقول: فلأن الرهن وثيقة في جانب الاستيفاء، فيجوز كأن تجوز الوثيقة في جانب الوجوب. وبيان ذلك أن الدين له طرفان: طرف الوجوب، وطرف الاستيفاء، لأنه يجب أولًا في الذمة، ثم يستوفى المال بعد ذلك والوثيقة بطرف الوجوب الذي يختص بالذمة- وهي الكفالة – جائزة، فكانت الوثيقة التي بطرف الاستيفاء الذي يختص بالمال جائزة أيضًا، اعتبارًا بالطرف الأول، لأن الاستيفاء مقصودٌ، والوجوب وسيلة لهذا المقصود، فلما شرعت الوثيقة في حق الوسيلة، فلأن تشرع في حق المقصود أولى.. ولأن الحاجة إلى الوثيقة ماسة من الجانبين، فالدائن يأمن بالرهن على ماله من التوى بالجحود أو الإفلاس، والمستدين قد لا يجد من يدينه بلا رهن، فكان فيه نفع لهما – كما في الكفالة والحوالة – فشرع (2) .
(ب) حكمه:
22 – ذهب جماهير الفقهاء إلى أن توثيق الدين بالرهن غير واجب وأن الأمر به في الآية على سبيل الإرشاد (3) .
قال ابن قدامة: (والرهن غير واجب، لا نعلم فيه مخالفًا، لأنه وثيقة بالدين، فلم يجب، كالضمان والكتابة. وقول الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} إرشاد لنا لا إيجاب علينا، بدليل قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ولأنه أمر به عند إعواز الكتابة، والكتابة غير واجبة، فكذا بدلها) (4) .
__________
(1) المغني: 4/362؛ وفتح العزيز: 10/2، ورد المحتار: 5/307؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/228.
(2) تبيين الحقائق، للزيلعي وحاشية الشلبي عليه: 6/62 وما بعدها.
(3) أحكام القرآن، للجصاص: 1/482؛ وأحكام القرآن، لإلكيا الهراسي: 1/365؛ والبرهان، للزركشي: 3/39؛ والأم: 3/138؛ المحلى: 8/80؛ وكشاف القناع: 3/307.
(4) المغني: 4/362.(7/682)
(ج) ما يشترط لصحة التوثيق به:
23 – لقد دل قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} على اشترط القبض لصحة التوثيق في الرهن، لأن معنى الوثيقة لا يحصل إلا به. قال الإمام الشافعي (فلما كان معقولًا أن الرهن غير مملوك للمرتهن ملك البيع ولا مملوك المنفعة له ملك الإجارة لم يجز أن يكون رهنًا إلَّا بما أجازة الله عزَّ وجلَّ به أن يكون مقبوضًا) (1) . من أجل ذلك ذهب سائر الفقهاء إلى اشتراط قبض المرهون، غير أنهم اختلفوا في نوع هذا الشرط على ثلاثة أقوال:
1 – فذهب الظاهرية (2) . والجصاص من الحنفية إلى أنه يشترط لصحة الرهن قبض العين المرهونة. قال الجصاص: " وقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، يدل على أن الرهن لا يصح إلا مقبوضًا من وجهين:
أحدهما: أنه عطف على ما تقدم من قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، فلما كان استيفاء العدد المذكور والصفة المشروطة للشهود واجبًا، وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط له من الصفة، فلا يصح إلَّا عليها، كما لا تصح شهادة الشهود إلَّا على الأوصاف المذكورة، إذ كان ابتداء الخطاب توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضي للإيجاب.
والوجه الثاني: أن حكم الرهن مأخوذ من الآية، والآية إنما أجازته بهذه الصفة، فغير جائز إجازته على غيرها، إذ ليس ههنا أصل آخر يوجب جواز الرهن غير الآية، ويدل على أنه لا يصح إلَّا مقبوضًا أنه معلوم أنه وثيقة للمرتهن بدينه، ولو صح غير مقبوض لبطل معنى الوثيقة، وكان بمنزلة سائر أموال الراهن التي لا وثيقة للمرتهن فيها. وإنما جعل وثيقة له، ليكون محبوسًا في يده بدينه، فيكون عند الموت والإفلاس أحق به من سائر الغرماء. ومتى لم يكن في يده كان لغوًا لا معنى فيه، وهو وسائر الغرماء فيه سواء، ألا ترى أن المبيع إنما يكون محبوسًا بالثمن ما دام في يد البائع، فإن هو سلَّمَه إلى المشتري سقط حقه، وكان هو وسائر الغرماء سواء فيه) (3) .
__________
(1) الأم: 3/139.
(2) المحلى: 8/88.
(3) أحكام القرآن للجصاص:1/523.(7/683)
2 – وذهب الحنفية (1) والشافعية (2) والحنابلة على الراجح (3) عندهم إلى أنه يشترط القبض في لزم الرهن. وعلى ذلك يكون للراهن قبل القبض أن يرجع عنه أو يسلمه.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} حيث إن المصدر المقرون بحرف الفاء في جواب الشرط يراد به الأمر، والأمر بالشيء الموصوف يقتضي أن يكون ذلك الوصف شرطًا فيه، إذ المشروط بصفة لا يوجد بدون تلك الصفة. ولأن الرهن عقد تبرع، إذ لا يستوجب الراهن بمقابلته على المرتهن شيئًا، ولهذا لا يجبر عليه، فلابد من الإمضاء بعدم الرجوع، والإمضاء يكون بالقبض.
3 – وذهب المالكية إلى أن الرهن يلزم بالعقد، لكنه لا يتم إلا بالقبض، وللمرتهن حق المطالبة بالإقباض ويجبر الراهن عليه أما لزومه بالعقد، فلأن قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} أثبتها رهانًا قبل القبض. وأما إلزام الرهن بالإقباض فلأن قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} (4) . دليل على إلزام الراهن بتسليم المرهون وفاء بالعقد. (5)
وبالنظرفي هذه المذاهب وأدلتها نجد أن كل مذهب منها اعتمد على قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، احتجَّ به على رأية ومقولته، مع أن الآية إنما وصفت الرهن بكونه مقبوضًا وحسب، وذلك يقتضي أن يكون القبض شرطًا فيه، وليس في الآية ما يدل على كونه شرط صحة أو شرط لزوم أو شرط تمام، حتى يترجح بدلالتها أحد هذه المذاهب على غيره.. لذا وجب البحث عن مرجح آخر. وإننا لو نظرنا إلى طبيعة عقد الرهن، لوجدنا أن معنى الإرفاق والمعونة عليه غالب، لأن الراهن لا يستوجب بمقابلته على المرتهن شيئًا. وهذا المعنى قد يرجح كون حكم القبض فيه مماثلًا لحكمه في عقود الإرفاق الأخرى – كالقرض والهبة والصدقة – وهو أنه شرط لزوم فيها على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء.
__________
(1) رد المحتار: 5/308؛ وروضة القضاة للسمناني: 1/418؛ وانظر: م (706) من المجلة العدلية وم (978) من مرشد الحيران، وتبيين الحقائق للزيلعي: 6/63.
(2) مغني المحتاج: 2/128؛ والمهذب: 1/312؛ والتنبيه للشيرازي: ص70؛ والروضة: 4/65؛ وكفاية الأخيار: 1/143؛ وفتح العزيز: 10/62؛ والأم 3/ 139؛ والأشباه والنظائر، للسيوطي: ص280.
(3) المغني: 4/364؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/232؛ والمحرر: 1/335؛ وكشاف القناع:3/317؛ وانظر: م (996) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الحنابلة للقاري.
(4) الآية الأولى من المائدة.
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/231؛ والقوانين الفقهية: ص352؛ والإشراف على مسائل الخلاف: 2/2؛ والمنتقى، للباجي: 5/248، كفاية الطالب الرباني: 2/216؛ وشرح التاودي على التحفة: 1/168؛ وبداية المجتهد: 2/230؛ والتسهيل لابن جزي: 1/97.(7/684)
24 – هذا ما يتعلق باشتراط قبض الرهن ابتداءً، أما حكم استدامة قبضه، فقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال:
1 – فذهب الحنفية (1) والشافعية (2) . إلى أنه لا يشترط استدامة القبض في الرهن فلو استرجعه الراهن بعارية أو وديعة صح؛ لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه، فلم يشترط استدامته كالهبة. وللمرتهن الحق في استرداده متى شاء.
2 – وذهب المالكية إلى أنه يشترط في صحة الرهن استدامة القبض، فإذا قبض المرتهن الرهن، ثم رده إلى الراهن بعارية أووديعة أو كراء، بطل الرهن، لأن المعنى الذي لأجله اشترط قبض المرهون في الابتداء هو أن يحصل وثيقة للمرتهن بقبضه إياه، وهذا المعنى يحتاج إليه في كل حال كان فيها رهنا، فكانت استدامة القبض شرطًا فيه (3) .
3 – وذهب الحنابلة إلى أنه يشترط في لزوم الرهن استدامة قبض المرهون، فإذا أخرجه المرتهن عن يده باختياره إلى الراهن أو غيره زال لزوم الرهن، وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض، سواء أخرجه بإجارة أو إعارة أو إيداع أوغير ذلك. فإذا عاد فرده إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق، ولا يحتاج إلى تجديد عقد، لأن العقد الأول لم يطرأ عليه ما يبطله، أشبه ما لو تراخى القبض عن العقد. وإن أزيلت يد المرتهن عنه بغير حق كالغصب والسرقة وإباق العبد وضياع المتاع ونحوه، فلزوم العقد باق، لأن يده ثابتة عليه حكمًا، فكأنها لم تزل.
واستدلوا على ذلك بأن الرهن يراد للوثيقة، ليتمكن من بيعه واستيفاء دينه فإذا لم يدم في يده، زال ذلك المعنى، فكان بقاء اللزوم مرهونًا بدوام القبض (4) .
__________
(1) ردالمحتار:5/329، وانظر: م (1004) من مرشد الحيران وم (749) من مجلة الأحكام العدلية، درر الحكام: 2/161.
(2) الأم، للشافعي: 3/140؛ والمغني: 4/367.
(3) الإشراف، للقاضي عبد الوهاب: 2/2؛ القوانين الفقهية: ص352؛ وبداية المجتهد: 2/230
(4) شرح منتهى الإرادات: 2/233؛ وكشاف القناع: 3/320؛ والمغني: 4/367؛ والمحرر: 1/335.(7/685)
الدين الذي يصح الارتهان به:
25 –لا خلاف بين الفقهاء في أن عقد الرهن إنما شرع لتوثيق الديون في الذمم، غير أنهم اختلفوا في شروط الدين الذي يصح الارتهان به على أربعة أقوال:
(أحدهما) للحنفية: وهو أنه يشترط أن يكون ذلك الدين ثابتًا في الذمة وقت الرهن (1) . أو موعودًا به، بأن رهن شيئًا ليقرضه ألفًا مثلًا، فالرهن صحيح (2) .
قال الزيلعي: (لأن الموعود جعل كالموجود باعتبار الحاجة، بل جعل موجودًا اقتضاء، لأن الرهن استيفاء، والاستيفاء لا يسبق الوجوب؛ بل يتلوه فلا بد من سبق الوجوب ليكون الاستيفاء مبنيًا عليه. ولأنه مقبوض بجهة الرهن الذي يصح على اعتبار وجوده فيعطى له حكم المقبوض على سوم الشراء) (3) .
(والثاني) للحنابلة: وهوأنه يشترط في الدين المرهون به أن يكون واجبًا في الذمة وقت الرهن – كبدل قرض وثمن مبيع وقيمة متلف – أو مآله إلى الوجوب، كثمن في مدة خيار (4) . ذلك أن الرهن لا يخلو من ثلاثة أحوال:
(أ) أن يقع بعد وجوب الدين في الذمة، ولا خلاف في جوازه. قال ابن قدامة: (لأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به، فجازأخذهما به كالضمان. ولأن الله تعالى قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .
فجعله بدلًا عن الكتابة، فيكون في محلها، ومحلها بعد وجوب الحق، وفي الآية ما يدل على ذلك، وهو قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} فجعله جزاء للمداينة مذكورًا بعدها بفاء التعقيب) (5) .
(ب) أن يقع الرهن مع العقد الموجب للدين، مثل أن يقول: بعتك ثوبي هذا بعشرة إلى شهرعلى أن ترهنني بها دابتك هذه فيقول: قبلت ذلك. وهو صحيح أيضًا. قال ابن قدامة: (لأن الحاجة داعية إلى ثبوته، فإنه لو لم يعقده مع ثبوت الحق ويشترط فيه لم يتمكن من إلزام المشتري عقده، وكانت الخيرة إلى المشتري، والظاهر أنه لا يبذله، فتفوت الوثيقة بالحق) (6) .
__________
(1) سواء أكان واجبًا ظاهرًا وباطنًا، أو ظاهرًا فقط كثمن خل وُجد خمرًا، وثمن ذبيحة وجدت ميتة، وبدل صلح عن إنكار ثم تصادقا على أن لا دين، فإن الدين وجب ظاهرًا حين الرهن، وهو كاف لصحته، فالرهن به مضمون على المختار (شرح المجلة، للأتاسي: 3/143، وانظر: مجمع الأنهر: 2/594؛ وتبيين الحقائق: 6/71؛ وم (977) من مرشد الحيران) . وعلى ذلك يصح الرهن برأس مال السلم وثمن الصرف والمسلم فيه خلافًا لزفر: (تبيين الحقائق: 6/72) .
(2) وعلى ذلك، فلو هلك هذا الرهن كان مضمونًا عليه بما وعد من الدين، حيث إنه يعد مقبوضًا على سوم الرهن (انظر: تفصيل أحكامه في تبيين الحقائق: 6/71؛ ومجمع الأنهر: 2/594؛ وشرح المجلة، للأتاسي:3/144؛ ودرر الحكام، لعلي حيدر: 2/89) .
(3) تبيين الحقائق: 6/71.
(4) أمَّا إذا لم يكن واجبًا أو آيلًا للوجوب في الذمة، فلا يصح الرهن به، وعلى ذلك قال الحنابلة لا يصح أخذ الرهن بالدية على عاقلة قبل مضيِّ حول، ولا بجُعل في جعالة قبل العمل، لعدم وجوب كل من الدينين وعدم تحقق مآلهما إليه، بخلاف الرهن بالدية على العاقلة بعد الحول، وبالجعل بعد العمل، فإنه يصح لاستقرار الدينين في الذمة (انظر: شرح منتهى الإرادات: 2/131، 132؛ وكشاف القناع: 3/311؛ وم (954) (955) (957) (958) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد؛ والمبدع؛ 4/215) .
(5) المغني، لابن قدامة: 4/363؛ وانظر: المبدع: 4/214.
(6) المغني: 4/363؛ وانظر المبدع: 4/214.(7/686)
(ج) أن يرهنه قبل ثبوت الدين في الذمة، كأن يقول: رهنتك ثوبي هذا بعشرة تقرضنيها، وهو غير صحيح على المعتمد في المذهب: (لأنه وثيقة بحق، فلم يجز قبل ثبوته كالشهادة، ولأن الرهن أيضًا تابع للحق، فلا يسبقه، كالثمن لا يتقدم البيع) (1)
(والثالث) للشافعية: وهوأنه يشترط في الدين المرهون به ثلاثة شروط (2) .
(أ) أن يكون ثابتًا في الذمة وقت الرهن، فلو رهن شيئًا بثمن ما سيشتريه أو بما يقرضه، فلا يصح، لأنه وثيقة حق فلا تقدم عليه كالشهادة وعلى ذك فلو ارتهن شيئًا قبل ثبوت الحق وقبضه، كان مأخوذًا على جهة سوم الرهن، فإذا اشترى أو استقرض منه لم يصر رهنًا إلَّا بعقد جديد.
ثم قالوا: غيرأنه يصح مزج الرهن بسبب ثبوت الدين تأخر طرفي الرهن، كما إذا قال بعتك هذا بكذا أو أقرضتك كذا وارتهنت به دابتك هذه، فقال الآخر: ابتعت أو اقترضت ورهنت. وذلك لأن شرط الرهن فيهما جائز، فمزجه أولى: لأن التوثق فيه آكد، لأنه قد لا يفي بالشرط، واغتفر تقدم أحد طرفيه على ثبوت الدين لحاجة التوثق.
__________
(1) المبدع: 4/214؛ وانظر المغني: 4/363 واختار أبو الحطاب جوازه قبل الحق، فمتى قال: رهنتك ثوبي هذا بعشرة تقرضينها غدًا، وسلمه إليه، ثم أقرضه الدراهم لزم الرهن، لأنه وثيقة بحق فجاز عقدها قبل وجوبه كالضمان، أو فجاز انعقادها على شيء يحدث في المستقبل كضمان الدرك (انظر المرجعين السابقين) .
(2) أسنى المطالب: ص150، 151؛ وروضة الطالبين: 4/53، 54؛ ونهاية المحتاج: 4/243 وما بعدها؛ والمهذب: 1/312.(7/687)
قال القاضي في صورة البيع: ويقدر وجوب الثمن، وانعقاد الرهن عقبه، كما لو قال: اعتق عبدك عني على كذا، فأعتقه عنه: فإنه يقدرالملك له، ثم يعتق عليه، لاقتضاء العتق تقدم الملك.
وإنما اشترط تأخر طرفي الرهن عما ذكر بالمعنى المذكور ليتحقق سبب ثبوت الدين من كل من العاقدين، فلو انتفى ذلك لم يصح العقد.
(ب) أن يكون لا زمًا (1) ، فلا يصح بدين كتابة، لأن الرهن للتوثق، والمكاتب متمكن من إسقاط النجم متى شاء، فلا معنى لتوثيقه. ولا يصح أيضًا بدين جعالة قبل الشروع أو بعده إذا كان قبل الفراغ من العمل؛ لأن لعاقديها فسخها، فيسقط به الجعل. أما بعد الفراغ، فيصح للزوم الدين.
غير أنه يصح الرهن بالأجرة قبل الانتفاع في إجارة الأعيان وبالصداق قبل الدخول، وإن كان هذان الدينان غير مستقرين وبالثمن قبل قبض المبيع وبه في مدة الخيار، وإن كان الدين غير مستقر، لأن أصل هذه العقود اللزوم.
(ج) أن يكون معلومًا لهما. فلو جهلاه أو أحدهما، لم يصح، كما في الضمان (2) .
(والرابع) للمالكية، وهو أنه يشترط في الدين المرهون به أن يكون لازمًا؛ كثمن مبيع أو أجرة عين، أو آيلًا إلى اللزوم كالجعل في الجعالة بعد الشروع في العمل ويجوز أن يتقدم الرهن الدين (3) .
__________
(1) قال الأسنوي وغيره: ولا يغني عن الثابت اللازم، لأن الثبوت معناه الوجود في الحال، واللزوم عدمه صفة للدين في نفسه، لا يتوقف صدقه على وجود الدين، كما يقال: دين القرض لازم ودين الكتابة غير لازم. فلو اقتصر على الدين اللازم لو ردَّ عليه ما سيقترضه ونحوه مما لم يثبت. (أسنى المطالب: 2/151) .
(2) ذكره المتولي وغيره، وجزم به في الأنوار، ونص الأم يشهد له. (أسنى المطالب وحاشية الرملي عليه: 2/151) ، ثم قال الشهاب الرملي: ويشترط أيضًا أن يمكن استيفاؤه من عين الرهن، واحترز به عن العمل في الإجارة إذا شرط أن يعمل بنفسه، فإنه كالعين، لا يجوز الرهن به وانظر: نهاية المحتاج وحاشية الشمس الرملي عليه: 4/243 وما بعدها.
(3) الزرقاني على خليل: 5/247؛ ومواهب الجليل:5/16؛ والخرشي: 5/249؛ الكافي لابن عبد البر: ص410.(7/688)
قال ابن الحاجب: شرط المرهون به أن يكون دينًا في الذمة لا زمًا أو صائرًا إلى اللزوم. قال: ويجوز – أي الرهن - على أن يقرضه أو يبيعه أو يعمل له، ويكون بقبضه الأول رهنًا. وعبارة ابن شاس: ليس من شرط الدين أن يكون ثابتًا قبل الرهن. بل لو قال: رهنت عندك عبدي هذا على أن تقرضني غدًا ألف درهم، أو على أن تبيعني هذا الثوب، ثم استقرض أو ابتاع منه، فإن الرهن يلزم، ويجب تسليمه إليه، وإن كان قد أقبضه إياه؛ صار بذلك القبض رهنًا (1) وإن امتنع عن البيع أو الإقراض بطل الرهن. (2)
وفي " بداية المجتهد ": " أصل مذهب مالك في المرهون فيه، أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان الواقعة في جميع البيوعات إلَّا الصرف ورأس المال في في السلم (3) المتعلق بالذمة؛ وذلك لأن الصرف من شرطه التقابض، فلا يجوز فيه عقدة الرهن، وكذلك رأس المال السلم، وإن كان عنده دون الصرف في هذا المعنى.
فعلى مذهب مالك: يجوز أخذ الرهن في المسلم فيه، وفي القرض،وفي الغصب، وفي قيم المتلفات؛ وفي أروش الجنايات في الأموال، وفي جراح العمد الذي لا قَوَدَ فيه كالمأمومة (4) والجائفة (5) . وأما قتل العمد والجراح التي يقاد فيها، فيتخرج في جواز أخذ الرهن في الدية فيها إذا عفا الولي قولان: (أحدهما) أن ذلك يجوز. وذلك على القول بأن الولي مخير في العمد بين الدية والقود.
(والقول الثاني) أن ذلك لا يجوز. وذلك أيضًا مبني على أن ليس للولي إلا القود فقط إذا أبى الجاني من إعطاء الدية.
ويجوز في قتل أخذ الرهن ممن يتعين من العاقلة، وذلك بعد الحول. ويجوز أخذه في الإجارات، ويجوز في الجعل بعد العمل ولا يجوز قبله. ويجوز الرهن في المهر ولا يجوز في الحدود ولا في القصاص ولا في الكتابة، وبالجملة فيما لا تصح فيه الكفالة " (6) .
__________
(1) شرح المواق على مختصر خليل: 5/16.
(2) حاشية العدوي على شرح الخرشي 5/249
(3) ومثل ذلك قال ابن جزي في القوانين الفقهية: ص328 (طبعة الدار العربية للكتاب) .
(4) المأمومة: الشجاع الذي يصل إلى أم الدماغ. (المصباح المنير: 1/31)
(5) الجائفة: الجراحة التي تصل إلى الجوف. (المصباح المنير 1/140) .
(6) بداية المجتهد ونهاية المقتصد (المطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية) 8/29.(7/689)
الفصل الرابع
الكفالة (الضمان)
وسنتكلم في هذا الفصل عن معنى كفالة الدين ومشروعيتها وركنها.
(أ) معني كفالة الدين:
26– لقد اختلف الفقهاء في تعريف كفالة الدين على أربعة أقوال:
(1) فذهب الشافعية (1) والحنابلة (2) إلى أنها "ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المكفول في الالتزام بالدين، فيثبت في ذمتهما جميعًا، ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما ".
فإن قيل: الشيء الواحد لا يشغل محلين، فكيف يصح أن يشغل الدين الواحد ذمتين؟!
فالوجواب: أن إشغاله على سبيل التعلق والاستيثاق، كتعلق دين الرهن به وبذمة الراهن (3) ، وأنه كفرض الكفاية، يتعلق بالكل ويسقط بفعل البعض. وتعلقه هذا لا يعني تعدده، لأنه في الحقيقة واحد.. وما التعدد إلَّا بالنسبة لمن تعلق بهم فقط (4) . وعلى هذا فلا زيادة في الدين، لأن الاستيفاء لا يكون إلا من واحد منهما، كما في غاصب الغاصب، كلاهما ضامن لقيمة المغصوب، وليس للمالك إلَّا قيمة واحدة (5) .
(2) وذهب المالكية إلى أنها " ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المكفول في الالتزام بالدين ". إلَّا أنهم قالوا: ليس للمكفول له أن يطالب الكفيل بالدين إلا إذا تعذرعليه الاسيفاء من الأصيل، لأن الضمان وثيقة، فلا يستوفى الحق منها إلا عند العجز عن استيفائه من المدين كالرهن (6) .
__________
(1) الأم: 3/229؛ والمهذب: 1/348؛ ونهاية المحتاج: 4/443.
(2) المغني: 4/590؛ والشرح الكبير: 5/70؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/245؛ وكشاف القناع: 3/350 وما بعدها.
(3) شرح منتهى الإرادات: 2/246.
(4) نهاية المحتاج: 4/444.
(5) الولاية على المال والتعامل بالدين ص106؛ وتبيين الحقائق، للزيلعي: 4/146.
(6) الخرشي على خليل وحاشية العدوي عليه: 6/21، 28؛ والقوانين الفقهية: ص354؛ والزرقاني على خليل: 6/22، 29 ومنح الجليل: 3/243، 258؛ التزام التبرعات، للشيخ أحمد إبراهيم: ص235.(7/690)
(3) وذهب الحنفية إلى أنها ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في وجوب الأداء لا في وجوب الدين، لأن ثبوت الدين في الذمة اعتبار شرعي لايكون إلا بدليل، ولا دليل على ثبوته في ذمة الكفيل، لأن التوثيق يحصل بالمشاركة في وجوب الأداء من غير حاجة إلى إيجاب الدين في الذمة، كالوكيل بالشراء يطالب بالثمن، والثمن في ذمة الموكل وحده. وعلى هذا عرفوها بأنها " ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة " (1) .
(4) وذهب ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود الظاهري وأبو ثور وأحمد في رواية عنه إلى أن الدين ينتقل بالكفالة إلى ذمة الكفيل- كما في الحوالة – فلا يكون للدائن أن يطالب الأصيل (2) .
27- وعلى أية حال، فسواء كانت كفالة الدين تعني ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المكفول في الالتزام بالدين أو في المطالبة فقط، أو تعني انتقال الدين من ذمة المكفول إلى ذمة الكفيل.. فإنها تقضي باتفاق الفقهاء التزام الكفيل بأداء الدين إلى الدائن إذا تعذر عليه استيفاؤه من الأصيل، وذلك هو معنى التوثيق وفائدته وثمرته.
__________
(1) رد المحتار: 4/249؛ وتبيين الحقائق، للزيلعي:4/146؛ والمغرب: ص412؛ والتعريفات، للجرجاني: ص98؛ التزام التبرعات، لأحمد إبراهيم ص235؛ وانظر: م (839) من مرشد الحريران، وم (612) من مجلة الأحكام العدلية.
(2) الشرح الكبير على المقنع: 5/71؛ والمحلى: 8/111.(7/691)
(ب) مشروعيتها:
28– لقد ثبتت مشروعية الكفالة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (1)
قال ابن عباس: الزعيم هو الكفيل.
ووجه الاستدلال بالآية أن المنادي لم يكن مالكًا، إنما كان نائبًا عن يوسف ورسولًا له، فشرط حمل البعير على يوسف لمن جاء بالصواع، ثم ضمن الحمل عنه لمن ردها. (2) .
وقد اعترض على هذا الاستدلال بأن ما جاء في الآية هو شرع من قبلنا!! والجواب على ذلك: أن شرع من قبلنا إذا أقره الإسلام ولم ينكره، فهو شرع لنا، وهذا حاصل في الكفالة.
وأما السنة: فما روى أبو داود والترمذي وأحمد والدارقطني والطيالسي وابن ماجه والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق وأبو يعلى عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: ((الزعيم غارم)) (3) .
وما روى البخاري والبيهقي عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأبو داود والترمذي والنسائي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة ليصلي عليها فقال: هل ترك شيئًا؟ قالوا: لا. قال: فهل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير. قال: صلُّوا على صاحبكم.
فقال أبو قتادة: صلِّ عليه يارسول الله وعليَّ دينه. فصلى عليه (4) .
وما روى أبو داود وابن ماجه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلًا لزم غريمًا له بعشرة " دنانير، فقال: والله ما أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل. قال: فتحمل بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأتاه بقدر ما وعده، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: من أين أصبت هذا الذهب؟ قال: من معدن، قال: لا حاجة لنا فيها، ليس فيها خير. فقضاها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) .
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز الكفالة في الجملة، وإن اختلفوا في أحكام بعض فروعها (6) .
ولا يخفى أن حكمة مشروعية الكفالة هي كونها صورة من صور التعاون على الخير الذي حث الله تعالى عليه بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (7) .
ووجه التعاون فيها أنها تسهيل لعقود الناس ومدايناتهم التي يحتاجون إليها، ورفع لخوف الدائن على ماله بتوثيقه وحفظه له من التوى والضياع، وإزالة لخوف المدين على نفسه من العجز عن الوفاء. ومن هنا كانت عونًا للدائن والمدين معًا. يقول الزاهر البخاري: " وأما الحسن في الكفالة: فإن فيها إظهار الشفقة ومراعاة الأخوة ببذل الذمة ليضمها إلى الذمة، فيتفسح وجه المطالبة ويسكن قلب المطالب بسبب السعة " (8) .
__________
(1) الآية 72 من سورة يوسف.
(2) أحكام القرآن، لابن العربي: 3/1097؛ والتسهيل، لابن جزي الكلبي: 2/124.
(3) سنن الدارقطني: 3/41؛ والدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/163؛ ومسند الإمام أحمد: 5/267؛ وبذل المجهود: 15/243؛ وعارضة الأحوذي: 6/21؛ وسنن ابن ماجه: 2/804؛ وسنن البيهقي: 6/72.
(4) صحيح البخاري: 3/56؛ وسنن البيهقي: 6/72؛ وسنن ابن ماجه: 2/804؛ وبذل المجهود: 14/307؛ وسنن النسائي:4/65، 66؛ وعارضة الأحوذي: 4/290.
(5) وبذل المجهود: 14/289؛ وسنن ابن ماجه: 2/804؛ وسنن البيهقي: 6/74.
(6) المغني: 4/591.
(7) الآية 2 من سورة المائدة.
(8) محاسب الإسلام، للزاهد البخاري: ص94.(7/692)
(ج) ركنها:
29– لا خلاف بين الفقهاء على أنه يشترط رضا الكفيل لصحة الكفالة (1) . كما أنه لا خلاف بينهم في عدم اشتراط رضا الأصيل (المضمون عنه) لتمامها (2) . قال ابن قدامة: " ولا بد من رضى الضامن. فإن أكره على الضمان لم يصح، ولا يعتبر رضى المضمون عنه، لا نعلم فيه خلافًا، لأنه لو قضى الدين عنه بغير إذنه ورضاه صح، فكذلك إذا ضمن عنه (3) .
30– أما رضا الدائن المكفول له، فقد اختلف الفقهاء في اشتراطه على قولين:
(أحدهما) : للشافعية في الأصح والمالكية والحنابلة وأبي يوسف في قوله الثاني: وهو أنه لا يشترط رضى المكفول له، فتصح الكفالة بإرادة الكفيل والتزامه وحده، لأنها وثيقة لا يعتبر لها قبض، فلم يعتبر لها رضى كالشهادة، ولأنها مجرد التزام وهو يتم بعبارة الملتزم وحده وإرادته المنفردة (4) .
على أن فقهاء الحنفية اختلفوا في حمل وتوجيه رأى أبي يوسف هذا على قولين (5) :
أحدهما: أن الكفالة تنعقد بإيجاب الكفيل فقط، ولكنها تكون موقوفة على إجازة المكفول له، فإن أجازها نفذت، وإن ردها أو مات قبل الإجازة بطلت.
والثاني أنها تنعقد بإيجاب الكفيل فقط، وتنفذ أيضًا، ولا تكون موقوفة على إجازة المكفول له، ولكنها ترتد برده لأن الكفالة التزام، فيستبد به الملتزم ولا ضرر في ذلك على المكفول له لأنه لو ردها ارتدت كالإبراء. وهذا التوجيه هو الأصح كما ذكر العلامة ابن عابدين في " رد المحتار" (6) ، وبه أخذت مجلة الأحكام العدلية، حيث جاء في م (621) منها: " تنعقد الكفالة وتنفذ بإيجاب الكفيل وحده، ولكن إن شاء المكفول له ردها فله ذلك، وتبقى الكفالة ما لم يردها المكفول له. وعلى هذا لو كفل أحد في غياب المكفول له بدين له على أحد، ومات المكفول له قبل أن يصل إليه خبر الكفالة، يطالب الكفيل بكفالته هذه ويؤاخذ بها ".
__________
(1) المغني 4/591؛ الشرح الكبيرعلى المقنع: 5/78.
(2) المحلى: 8/111؛ ومنح الجليل: 3/252؛ والشرح الكبير على المقنع: 5/78؛ وشرح الخرشي: 6/25؛ والزرقاني على خليل: 6/26؛ ونهاية المحتاج: 4/424؛ والمهذب: 1/347؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/247؛ وفتح العزيز: 10/358؛ ودرر الحكام: 1/627.
(3) المغني: 4/591.
(4) شرح منتهى الإرادات:2/248؛ والمغني: 4/591؛ والشرح الكبير على المقنع: 5/78؛ وفتح العزيز 10/359؛ ونهاية المحتاج: 4/424؛ والمهذب: 1/347؛ تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب (مطبوع ضمن فتاوى عليش) : 1/218؛ وردالمحتار: 4/269.
(5) رد المحتار: 4/251؛ ودرر الحكام: 1/628؛ والتزام التبرعات: ص232.
(6) رد المحتار: 4/251.(7/693)
(والثاني) للشافعية في غير الأصح وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف في قوله الأول وهو المفتى به عند أكثرالحنفية: وهو أن ركن الكفالة الذي تنعقد به هو الإيجاب من الكفيل والقبول من المكفول له، لأن في عقد الكفالة معنى التمليك، وهو تمليك المطابقة من المكفول له، فلا يتم بعد الإيجاب إلَّا بقبوله، والموجود بإيجاب الكفيل شطر العقد، فلا بد لتمامه من القبول في المجلس (1) .
31– ويلوح لي أن أرجح القولين وأولاهما بالاعتبار قول جمهورالفقهاء بعدم اشتراط قبول المكفول له ورضاه لتمام الكفالة، وذلك لقوة ما استدلُّوا به، ولحديث سلمة بن الأكوع الآنف الذكر وحديث عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالجنازة لم يسأل عن شيء من عمل الرجل، ويسأل عنه دينه، فإن قيل: عليه دين، كفَّ عن الصلاة عليه. وإن قيل: ليس عليه دين، صلَّى عليه، فأتي بجنازة، فلما قام ليكبر سأل أصحابه: هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: عليه ديناران. فعدل رسول الله صلى عليه وسلم عنه وقال: صلُّوا على صاحبكم. فقال عليٌّ رضي الله عنه: هما عليَّ، برئ منهما، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه، ثم قال لعليٍّ: جزاك الله خيرًا، فكَّ الله رهانك كما فككت رهان أخيك، إنه ليس من ميت يموت وعليه دين إلَّا وهو مرتهن بدينه، فمن فكَّ رهان ميت فكَّ الله رهانه يوم القيامة. فقال بعضهم: هذا لعليٍّ خاصة أم للمسلمين عامة؟! فقال: لا بل للمسلمين عامة. رواه الدارقطني والبيهقي (2) .
فدلَّ هذان الحديثان على أن الكفالة تتم بالتزام الضامن وحده، ولا تتوقف على رضى المضمون له.
(د) الدين الذي تصح الكفالة به:
32– اختلف الفقهاء في شروط الدين الذي تصح الكفالة به على أربعة أقوال:
(أحدها) للمالكية والحنابلة، وهو أنه يشترط في الدين المكفول به أن يكون واجبًا في الذمة أو آيلًا للوجوب فيها، سواء أكان مجهولًا أو معلومًا.
فيصح الضمان بما يثبت على فلان، أو بما يقر به، أو بما يخرج بعد الحساب عليه، أو بما يداينه فلان، ونحو ذلك. ويكون للضامن إبطال الكفالة بما يؤول للوجوب قبل وجوبه، لعدم اشتغال ذمته به (3) .
__________
(1) فتح العزيز: 10/359؛ والمهذب: 1/347؛ ورد المحتار: 4/269؛ وتبيين الحقائق، للزيلعي:4/159، والتزام التبرعات: ص233؛ وانظر: م (840) من مرشد الحيران، نهاية المحتاج: 4/424.
(2) سنن الدارالقطني: 3/47؛ سنن البيهقي: 6/73.
(3) كشاف القناع: 3/354 وما بعدها، شرح منتهى الإرادات:2/248؛ والمبدع: 4/252 وما بعدها، والمغني:4/592؛ وانظر م (1083/1092/1093) . من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد للقاري، الكافي لابن عبد البر: ص398؛ والقوانين الفقهية (طبعة الدار العربية للكتاب) : ص330؛ والزرقاني على خليل: 6/24 وما بعدها؛ والتفريع، لابن الجلاب: 2/285؛ ومواهب الجليل للحطاب: 5/99 وما بعدها، والتاج والإكليل، للمواق: 5/98 – 100؛ والخرشي: 6/24؛ وبداية المجتهد (المطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية) : 8/108؛ وإرشادالسالك، لابن عسكر المالكي: ص133.(7/694)
واستدلُّوا على عدم اعتبار كون الدين معلومًا لصحة الكفالة به بقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (1) ، حيث أجاز المولى سبحانه الكفالة بحمل البعير، وهو غير معلوم، لأنه يختلف باختلاف المحمول عليه، فيحتمل الزيادة والنقصان بحسب قوة وضعف المحمول عليه قالوا: ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة، فصح في المجهول كالإقرار والنذر. ولأنه يصح تعليقه بغرر وخطر – وهو ضمان العهدة – إذا قال: ألق متاعك في البحر وعليَّ ضمانه. أو قال: ادفع ثيابك إلى هذا الرفاء، وعليَّ ضمانها، فيصح في المجهول، كالطلاق والعتاق.
واحتجُّوا لصحة ضمان ما لم يجب إذا آل الوجوب بالآية الآنفة الذكر، حيث دلت على ضمان حمل البعير، مع أنه لم يكن واجب. قالوا: فإن قيل الضمان ضم ذمة إلى ذمة في التزام الدين، فإذا لم يكن على المضمون عنه حق فلا ضم فيه، فلا يكون ضمانًا؟! أجيب: بأنه قد ضم ذمته إلى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه، ويثبت في ذمته ما يثبت فيها، وهذا كافٍ.
(والثاني) للحنفية، وهو أنه يشترط في الدين المكفول به أن يكون صحيحًا ثابتًا في الذمة، سواء أكان معلومًا أو مجهولًا. ومرادهم بالدين الصحيح " ما لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء ".
قالوا: وإنما صحت الكفالة مع جهالة المال، لا بتنائها على التوسع، فإنها تبرع ابتداء، فيتحمل فيها جهالة المال المتعارفة.
وعلى ذلك نصوا على عدم صحة الكفالة عن المكاتب لمولاه ببدل الكتابة، لأنه ليس دينًا صحيحًا، لأن المكاتب يملك إسقاط الدين عن نفسه بالتعجيز.
كما نصُّوا على أن من الدين الضعيف الذي يسقط بدون الأداء أو الإبراء:
دين الزكاة، فلا تصح الكفالة به عندهم، لأنه يسقط بالموت وبهلاك المال (2) .
__________
(1) الآية 72 من سورة يوسف.
(2) رد المحتار: 4/263، وما بعدها؛ وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه: 4/152 وما بعدها؛ وبدائع الصنائع: 6/8؛ وتحفة الفقهاء: 3/400؛ ومجمع الأنهر والدر المنتقى: 2/130؛ وقد جاء في م (852) من مرشد الحيران " تصح الكفالة بالمال، سواء أكان معلومًا أو مجهولًا، وإنما تصح بالدين الصحيح الثابت في الذمة، وهو ما لا يسقط إلَّا بالأداء أو الإبراء ". وجاء في م (853) منه أيضًا: " لا تصح الكفالة بالدين غيرالصحيح إلَّا بدين النفقة المقدرة للزوجة بالتراضي أو بأمر القاضي ". وعلَّلوا هذا الاستثناء بأنه استحسان للحاجة. انظر م (631) من مجلة الأحكام العدلية، وشرح المجلة، للأتاسي: 3/24 وما بعدها.(7/695)
(والثالث) للظاهرية، وهو أنه يشترط في الدين المكفول به أن يكون ثابتًا في الذمة وقت إنشاء عقد الكفالة، وأن يكون معلومًا (1) .
وعلى ذلك، فلا يصح ضمان المجهول، مثل أن يقول له: أنا أضمن عنك ما لفلان عليك. قال ابن حزم: " لقول الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) . ولإخباره صلَّى الله عليه وسلم " أنه لا يحل مال ملسم إلَّا بطيب من نفسه " (3) ، والتراضي وطيب النفس لا يكون إلَّا على معلوم القدر، وهذا أمر يعلم بالحس والمشاهدة " (4) .
وكذلك لا يصح ضمان ما لم يجب بعد، كمن قال لآخر: أنا أضمن عنك ما تستقرضه من فلان. أو قال له: اقترض عن فلان دينارًا، وأنا أضمنه عنك. أو قال له: أقرض فلانًا دينارًا, وأنا أضمنه لك، قال ابن حزم:" لأنه شرط ليس في كتاب الله عزَّ وجلَّ، فهو باطل. ولأن الضمان عقد واجب، ولا يجوز الواجب في غير واجب، وهو التزام ما لم يلزم بعد، وهذا محال، وقول فاسد وكل عقد لم يلزم حين التزامه، فلا يجوز أن يلزم في ثان وفي حين لم يلتزم فيه، فقد لا يقرضه ما قال له، وقد يموت القائل لذلك قبل أن يقرضه ما أمره بإقراضه، فصح بكل هذا أنه لا يلزم ذلك القول " (5) .
__________
(1) المحلى: 8/117.
(2) الآية 29 من سورة النساء.
(3) أخرجه البيهقي والدارقطني، وأبو يعلى من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعًا: (انظر: السنن الكبرى، للبيهقي: 6/100؛ وسنن الدارقطني: 3/26؛ ومسند أبي يعلى: 3/140) .
(4) المحلي، لابن حزم: 8/ 117.
(5) المحلى، لابن حزم: 8/117.(7/696)
(والرابع) للشافعية، وهو أنه يشترط في الدين المضمون ثلاث صفات: أن يكون ثابتًا وقت الضمان، وأن يكون لازمًا (1) . أو آيلًا للِّزوم، وأن يكون معلومًا للضامن جنسًا وقدرًا وصفة.
وعلى ذلك، فلا يصح ضمان دين لم يجب، كدين قرض أو بيع سيقع؛ لأنه وثيقة بحق، فلا يتقدم ثبوت الحق كالشهادة (2) . كما لا يصح ضمان المجهول ولاغير المعين كأحد الدينين؛ لأنه إثبات مال في الذمة لآدمي بعقد، فلم يصح مع الجهل، كالثمن في البيع. ويصح الضمان بالثمن قبل قبض المبيع، ولو في مدة الخيار، لأنه بعدها لازم، وقبلها آيل إلى اللزوم بنفسه عن قرب، فاحتيج فيه إلى التوثيق. كما يصح بالصداق قبل الدخول للزومه وإن لم يكن مستقرًّا (3)
33 – وبالنظر في هذه الأقوال الأربعة يبدو جليًّا أن اختلاف الفقهاء في شروط الدين المكفول به هو نفسه – في الجملة – في شروط الدين المرهون به، وذلك لأن الأصل عند سائر الفقهاء " أن ما جاز أخذ الرهن به جاز ضمانه، وكذا عكسه " (4) . ولا يخفى أن هذه القاعدة أغلبية، ليست مطردة في كل الأحوال (5) . والله سبحانه وتعالى أعلم.
وآخردعونا أن الحمد لله رب العالمين
الدكتور نزيه كمال حماد
__________
(1) ولو غير مستقر، قال الشمس الرملي: والمراد باللازم ما لا يتسلط على فسخه من غير سبب، ولو باعتبار وضعه: وقد علق الشبراملسي على ذلك، فقال: دفع به ما يقال لا حاجة للجمع بين قوله لازمًا وقوله ثابتًا، إذ اللازم لا يكون إلَّا ثابتًا!! وحاصل الجواب: أن اللازم قد يطلق باعتبار ما وضعه ذلك، فثمن المبيع يقال له لازم باعتبار أن وضعه ذلك، ولو قبل قبض المبيع، مع أنه ليس بثابت، فأحدهما لا يغني عن الآخر (نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه: 4/427) .
(2) ويستثنى من ذلك ضمان العهدة، وهو ضمان الدرك، فإنه يجوز وإن لم يكن بحق ثابت لمسيس الحاجة إليه. (نهاية المحتاج: 4/425؛ وأسنى المطالب: 2/238)
(3) انظر: أسنى المطالب: 2/237 –240؛ وروضة الطالبين: 4/244 - 252؛ ونهاية المحتاج: 4/424 وما بعدها؛ والمهذب: 1/347 وما بعدها.
(4) كشاف القناع: 3/356؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/248؛ وبداية المجتهد (المطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية) : 8/30؛ وأسنى المطالب: 2/151؛ وقد جاء في م (1083) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد: " كل ما صح أخذ الرهن به من الحقوق، صحَّ الضمان به ".
(5) انظر: روضة الطالبين:4/55؛ وأسنى المطالب: 2/151؛ ويقول صاحب الدر المنتقى شرح الملتقى: (2/130) : " وتجويز الزيلعي الرهن في كل ما تجوز الكفالة به بجامع التوثيق منقوض بالدرك، لجواز الكفالة به دون الرهن ".(7/697)
المناقشة
البيع بالتقسيط
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أمامنا الآن موضوع " البيع بالتقسيط " والعارض له فضيلة الشيخ القاضي محمد تقي العثماني والمقرر فضيلة الشيخ نزيه كمال حماد.
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
أود قبل أن أدخل في عرض البحوث المقدمة في موضوع البيع بالتقسيط في هذه الدورة، أود أن أشير إلى أن هذا الموضوع " البيع بالتقسيط " قد سبق أن درس في الدورة الماضية السادسة لهذا المجمع، ولكن رأى المجلس بعد المناقشات والمداولات أن هناك جوانب مختلفة لهذا الموضوع تحتاج إلى مزيد من الدراسة، فاتَّخذَ القرار في بعض المسائل وأَرجأَ اتخاذ القرار في بعض المسائل الأخرى، فيكون من المناسب أن أقرأ في بداية عرضي القرار الذي اتخذ في الدورة السادسة لئلا نقع في التكرار ولئلا نقع في مناقشة المسائل التي قد سبق أن قررت في هذا المجمع، والقرار هذا أقرؤه عليكم:(7/698)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع البيع بالتقسيط، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، قرر:
أولًا: تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال، كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقدًا وثمنه بالأقساط لمدد معلومة، ولا يصح البيع إلَّا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل، فإن وقع البيع مع التردد بين النقد والتأجيل بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثمن واحد محدد فهو غير جائز شرعا.
ثانيًا: لا يجوز شرعا في بيع الأجل التنصيص في العقد على فوائد التقسيط مفصولة عن الثمن الحال بحيث ترتبط بالأجل، سواء اتفق العاقدان على نسبة الفائدة أم ربطاها بالفائدة السائدة.
ثالثا: إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط لأن ذلك ربا محرم.
رابعا: يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط ومع ذلك لا يجوز شرعا اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.
خامسًا: يجوز شرعا أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد.
سادسًا: لا حق للبائع في الاحتفاظ بملكية المبيع بعد البيع، ولكن يجوز للبائع أن يشترط رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة.
هذه ستة قرارات قد اتخذت في موضع البيع بالتقسيط، ثم إن هناك توصية في هذا القرار بدراسة بعض المسائل المتصلة ببيع التقسيط للبتِّ فيها إلى ما بعد إعداد دراسات وأبحاث كافية فيها، ومنها:(7/699)
أولًا: خصم البائع كمبيالات الأقساط المؤجلة لدى البنوك.
ثانيًا: تعجيل الدين مقابل إسقاط بعضه وهي مسألة " ضع وتعجل ".
ثالثًا: أثر الموت في حلول الأقساط المؤجلة.
إذن فمهمتنا اليوم في هذه الدورة هي دراسة هذه الموضوعات الثلاثة التي أوصت الدورة السادسة بدراستها دراسة كافية، والموضوعات التي اتخذ القرار فيها لا حاجة لنا إلى البحث فيها في هذه الدورة، وبالرغم من أن البحوث التي قدمت لهذه الدورة قد تناول بعضها بعض هذه المسائل التي سبق أن قررت في الدورة السادسة، فإني في عرضي الآن أقتصر على هذه المسائل الثلاثة وعلى ما أضيف إليها من قبل الأمانة العامة من موضوع توثيق الدين وصوره المختلفة، فموضوع عرضي الآن هو مسائل أربع: الأول خصم الكمبيالة، والثاني تعجيل الدين مقابل إسقاط بعضه يعني مسألة ضع وتعجل، والثالث أثر الموت أو خراب الذمة في حلول الأقساط وفي حلول الدين، والرابع طرق توثيق الدين، والبحوث التي عرضت في هذه المواضيع الأربعة هي بحوث أربعة: بحث سيادة الدكتور رفيق يونس المصري، وبحث للدكتور محمد عطا السيد، وبحث الدكتور نزيه كمال حماد، وبحث لهذا العبد الضعيف.
فأشرع بمسألة توثيق الدين وأنواعه أولًا، وهي الموضوع الرابع من هذه الموضوعات الأربعة التي اتخذت لهذه الدورة، وبما أن الثمن في البيع المؤجل يصير دينًا على المشتري فور تمام العقد، فإنه يجوز للبائع أن يطالبه بتوثيق لهذا الدين، أو بضمان للتسديد عند حلول الأجل، أما ضمان التسديد فيمكن بطريق الرهن أو بكفالة من الطرف الثالث، وفي الصورة الأولى يرهن المشتري شيئا من ممتلكاته لدى البائع، ويحق للبائع أن يمسكه كضمان للتسديد، فهذا شيءٌ معروف في الفقه الإسلامي ولا أريد أن أدخل في تفاصيل الرهن، فإنها معروفة، ولكن هناك مسألة رهن قد استحدثت وهي رهن السائل الذي هو نوع مستحدث من الرهن قد تكلمت فيه في الصفحة العاشرة من بحثي، وهو أنه في قوانين كثير من البلاد الإسلامية لا يقبض فيه المرتهن على الشيء المرهون، وإنما يبقى بيد الراهن، ولكن يحق للدائن إذا قصر المدين في الأداء أن يطالب ببيعه وتسديد دينه من حصيلة بيعه، وهذا النوع من الرهن يسمَّى أحيانا الرهن الساذج وباللغة الإنجليزية (Simple mortgage) ، وأحيانًا الذمة السائلة وباللغة الإنجليزية (Floating charge) ، وهذا مثل أن يرهن المدين سيارته لدى الدائن، ولكن تبقى السيارة بيد المدين الراهن يستعملها لصالحه كيف يشاء، ولكن لا يجوز له نقل ملكيتها إلى شخص ثالث حتى يفتك الرهن السائل بتسديد الدين، ويثبت للدائن الورتهن حق بيعها إذا قصر صاحبها في أداء دينه، وأن هذا الحقَّ يُسمَّى "الذمة السائلة" (Floating Charge) فهل يجوز شرعًا توثيق الدين بهذا النوع من الرهن؟(7/700)
وربما يقع الإشكال في جوازه من الناحية الفقهية، أن معظم الفقهاء قد اشترطوا قبض المرتهن لصحة عقد الرهن أو لتمامه على أساس قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، وفي الرهن السائل لا يقبض المرتهن على الشيء المرهون، فينبغي أن لا يصح هذا الرهن.
والواقع أن الفقهاء، وإن اشترطوا قبض المرتهن للشيء المرهون، ولكنهم في الوقت نفسه أجازوا بعد ذلك للراهن أن يستعير ذلك الشيء منه، وينتفع به لصالحه، ولا يفسد بذلك الراهن، بل يحق للمرتهن أن يسترده متى شاء، ولئن هلك الشيء المرهون عند الراهن، فإنما يهلك على ملكه، ويحق للمرتهن أن يبيعه لتسديد دينه عند حلول الأجل، ولا يكون فيه أسوة لسائر الغرماء عند إفلاس الراهن أو موته، وهذا مصرح به في عدة كتب من الفقه وقد نقلت بعض العبارات من الهداية ومن فتح القدير ورد المحتار.
ولكن هذا إذا تم عقد الرهن بقبض المرتهن مرة، ثم أعاره المرتهن للراهن، أما إذا لم يقبض المرتهن الرهن أصلًا، فهل يثبت حكم الإعارة في تلك الصورة أيضًا؟ الظاهر من عبارات الفقهاء أنه لا يثبت ذلك في تلك الصورة بناء على اشتراط القبض لصحة الرهن، ولكن ههنا ملاحظات أذكرها لتأمل الفقهاء المعاصرين وهي ما يلي:
أولًا: إن المرتهن في الرهن السائل، وإن كان لا يقبض الشيء المرهون، ولكنه في عموم الأحوال يقبض على مستندات ملكيته، فيحتمل أن يقال: إن الرهن قد تم بقبض المستندات، ثم صار الشيء المرهون كالعارية في يد الراهن.(7/701)
وثانيًا: إن علة اشتراط القبض في الرهن، كما ذكره الفقهاء، هو تمكن المرتهن من تسديد دينه ببيع ذلك الشيء عند الحاجة، وإن هذا المقصود حاصل في الرهن السائل على أساس شروط الاتفاقية المعترف بها قانونًا فيحتمل أن يكون القبض الحسي غير لازم في الصورة المذكورة لحصول المقصود في هذه الشروط المقررة.
ثالثًا: المقصود من الرهن هو توثيق الدين وقد أجازت الشريعة لحصول هذا المقصود أن يحبس الدائن ملك المديون ويمنعه من التصرف فيه إلى أن يتم تسديد الدين، فإن رضي الدائن بحصول مقصوده بأقل من ذلك، وهو أن يبقى العين المرهونة بيد الراهن، ويبقى للمرتهن حق التسديد فقط، فلا يرى في ذلك أي محظور شرعي.
رابعًا: إن الرهن السائل فيه مصلحة للجانبين، أما مصلحة الراهن فظاهرة، من حيث إنه لا يحرم من الانتفاع بملكه، وأما مصلحة المرتهن، فمن حيث إنه يحتفظ بحق التسديد دون أن يضمن الشيء المرهون عند الهلاك، غاية الأمر أنه ربما يتضرر به الغرماء الآخرون عند إفلاس الراهن، فإن المرتهن يكون أحق بذلك الشيء ممن سواه من الغرماء، ولكن ضررهم هذا لم يعتبر شرعًا فيما إذا كان الرهن مقبوضًا للمرتهن، وفيما إذا قبضه المرتهن، ثم استعاره الراهن منه، كما تقدم، فتبين أن مجرد هذا الضرر لا يفسد الرهن.
خامسًا: إن القبض على الشيء المرهون ربما يكون متعذرًا في التجارة الدولية، التي يكون البائع فيه ببلد، والمشتري ببلد آخر، والشيء المرهون يتطلب مؤونة كبيرة ونفقات باهظة لتحويله من محل إلى آخر، ولا سبيل لتوثيق الدين في مثل هذه الصورة إلا بالرهن السائل.
وإن هذه الملاحظات الخمس قد تجعلني أميل إلى جواز الرهن السائل، والمسألة مطروحة لدى العلماء للبت فيها، والله سبحانه أعلم،
ثم هناك طريق آخر للتوثيق، وهو الكفالة من طرف ثالث، وهذه المسألة أيضًا لا أحتاج إلى الإطالة فيها لأن موضوع الكفالة واضح ومذكور في كتب الفقه، والبحث لديكم، وما أثيرت فيه من مسائل قد سبق أن قرر فيه المجمع في دورته السابقة، فلا أريد أن أطيل في هذا الموضوع.(7/702)
ثم المسألة الثانية، وهي مسألة توثيق الدين بالكمبيالة ومدى شرعية خصم الكمبيالة، وقد تكلمت فيه وتكلم فيه الباحثون الآخرون، وكلهم متفقون على أن توثيق الدين بالكمبيالة، لا مانع منه شرعًا، ولكن خصم الكمبيالة كما يقع في البنوك فإنه ربا ولا سبيل إلى القول بجوازه، إما لكونه بيع الدين من غير من عليه الدين، وقد تحدَّث عنه أخونا الدكتور نزيه حماد في بحثه بتفصيل: أن بيع الدين من غير من عليه الدين يجوز عند بعض الفقهاء ولا يجوز عند أكثرهم.
فخصم الكمبيالة هو بيع الدين من غير من عليه الدين، إما أن نقول بمنعه من هذه الجهة أو لأنه من قبيل بيع النقود بالنقود متفاضلة مؤجلًا، وحرمته منصوصة في أحاديث ربا الفضل، فالباحثون كلهم الذين قدموا أبحاثًا في هذا الموضوع متفقون على منع خصم الكمبيالة وعلى أنه ربا ممنوع شرعًا.
ولكن هذه المعاملة يمكن تصحيحها بتغيير طريقها، وذلك أن يوكل صاحب الكمبيالة البنك باستيفاء دينه من المشتري (وهو مصدر الكمبيالة) ويدفع إليه أجرة على ذلك (أجرة على استيفاء الدين) ثم يستقرض منه بعقد آخر منفصل مبلغ الكمبيالة، ويأذن له أن يستوفي هذا القرض مما يقبض من المشتري بعد نضج الكمبيالة، فتكون هناك معاملتان مستقلتان كل واحدة منهما منفصلة عن الأخرى، الأولى معاملة باستيفاء الدين بالأجرة المعينة والثانية معاملة الاستقراض من البنك بدون فائدة، والإذن باستيفاء القرض من الدين المرجو حصوله بعد نضج الكمبيالة، فتصح كلتا المعاملتين على أسس شرعية. أما الأولى فلكونها توكيلًا بالأجرة وذلك جائز، وأما الثانية فلكونها استقراضًا غير شرط زيادة، وهو جائز أيضًا.
ثم المسألة الثانية المعروضة في هذه الدورة، هي مسألة إسقاط الدين مقابل التعجيل وهي مسألة " ضع وتعجل " وربما يعبر عنها بالصلح بالحطيطة، وقد تكلم عن هذه المسألة أكثر الباحثين الذين قدموا أبحاثًا في هذا الموضوع. وكما تعرفون أن هذا الموضوع " ضع وتعجل " لم يزل موضع خلاف بين الفقهاء منذ القديم، وقد ذكر الباحثون مواقف مختلفة للفقهاء وذكرت أن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه من الصحابة وإبراهيم النخعي من التباعين وزفر بن الهذيل من الحنفية وأبو ثور من الشافعية، ذهبوا إلى جواز ضع وتعجل. ولكن روي عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت من الصحابة رضي الله عنهم، وعن محمد بن سيرين والحسن البصري وابن المسيب والحكم بن عتيبة والشعبي رحمهم الله من التباعين، عدم جواز ذلك، وهو قول الأئمة الأربعة.(7/703)
فالبحوث التي وصلت إلينا في هذا الموضوع، الدكتور رفيق المصري مال إلى جواز ضع وتعجل واستدل بقصة بني النضير كما سيأتي إن شاء الله، وأما الدكتور نزيه كمال حماد فقد ذكر مذاهب الفقهاء ولم يبت فيه بالأخذ بأحد هذه الأقوال. والأصل أن هناك حديثين مرفوعين متعارضين وفي إسناد كل واحد منهما ضعف.
أما الحديث الأول، فقد أخرجه البيهقي بإسناده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج بني النضير من المدينة جاءه ناس منهم فقالوا: يا رسول الله إنك أمرت بإخراجهم ولهم على الناس ديون لم تحل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ضعوا وتعجلوا)) .
وهذا الحديث يدل على الجواز، ويعارضه ما أخرجه البيهقي في الباب اللاحق عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: أسلفت رجلًا مائة دينار، ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: عجل لي تسعين دينارًا وأحط عشرة دنانير، فقال: نعم، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أكلت ربا يا مقداد وأطعمته؟ ".
وقد صرح الإمام البيهقي رحمه الله تعالى، بأن كل واحد من الحديثين ضعيف من جهة الإسناد، فلا تقوم أي منهما حجة. ورجح جمهور الفقهاء جانب الرحمة، لأن زيادة الدين في مقابلة التأجيل ربا صراح، فكذلك الحط من الدين بإزاء التعجيل في معناه.
أما قصة بني النضير، ليس فيه حجة، أما أولًا فلأن إسنادها ضعيف، وأما ثانيًا فلأنه لو ثبتت هذه القصة من جهة الإسناد، فيمكن أن يقال: إن قصة إجلاء بني النضير وقعت في السنة الثانية من الهجرة، وذلك قبل نزول حرمة الربا.
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله هذه القصة في شرح السير الكبير، واستدل بها على مذهبه المعروف على أنه لا ربا بين المسلم والحربي. قال: ولما أجلي بنو النضير قالوا: إن لنا ديونًا على الناس، فقال: ضعوا وتعجلوا، ومعلوم أن مثل هذه المعاملة لا يجوز بين المسلمين، فإن من كان له على غيره دين إلى أجل، فوضع عنه بعضه بشرط أن يعجل بعضه لم يجز.(7/704)
وحاصل هذا الجواب أن المسلمين كانوا في حالة الحرب مع بني النضير، فكان يجوز لهم أن يقبضوا جميع أموالهم في تلك الحالة فلو استوضعوا بعض الديون، جاز ذلك من باب أولى.
والوجه الرابع في الاعتذار عن قصة بني النضير أن اليهود كانوا يداينون الناس على أساس الربا والذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعه، هو الربا الزائد على رأس المال، ولم يأمرهم بالوضع في رأس المال نفسه، ويؤيده أن الواقدي ذكر هذه القصة في سيره، فقال: فأجلاهم (أي بني النضير) رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، وولى إخراجهم محمد بن مسلمة، فقالوا: إن لنا ديونًا على الناس إلى آجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعجلوا وضعوا ". فكان لأبي رافع سلام بن أبي الحقيق على أسيد بن حضير عشرون ومائة دينار إلى سنة، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين دينارًا، وأبطل ما فضل.
فهذه الرواية تكاد تكون صريحة على أن ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القبض الزائد على رأس المال، ولم يأمر بالوضع من رأس المال نفسه، ولكن كما تعرفون هذه رواية الواقدي، والواقدي روايته غير مقبولة في الأحكام، ولكن ما دمنا نستدل بقصة بني النضير وإسنادها ضعيف، فلو جئنا بما يشرحه بطريق ضعيف، فهذا لا مانع منه، فهذه رواية صريحة بأن الموضوع كان هو الربا لا حصة من رأس المال، ومن هنا ذهب جمهور العلماء بالقول بتحريم ضع وتعجل، وذكرت نصوص الفقهاء في هذا الصدد ولا حاجة إلى قراءتها، فإنه بين أيديكم في البحث.(7/705)
ولكن الذي يبدو أن حكم المنع هذا، يعني حكم ضع وتعجل يختص بالديون المؤجلة، أما الديون الحالة التي لا يكون الأجل فيها مشروطًا في العقد، وإنما بتأخر المدين في الأداء لسبب أو آخر، فالظاهر أنه لا بأس بالصلح على إسقاط بعض الدين بشرط أن يؤدي المديون الدين المتبقي معجلًا، وهذا قد صرح به علماء المالكية، جاء في المدونة الكبرى: قلت أرأيت لو أن لي على رجل ألف درهم قد حلت، فقلت: أشهدوا إن أعطاني مائة درهم عند رأس الشهر، فتسعمائة درهم له، وإن لم يعطني فالألف كلها عليه، قال مالك: لا بأس بهذا، وقد صرح به علماء المالكية الآخرون أيضًا وقد نقلت عباراتهم.
ويبدو أن مذهب غيرهم من الفقهاء موافق لهم في ذلك، فإنهم حيث ذكروا حرمة ضع وتعجل، قيدوا ذلك بالديون المؤجلة، كما هو ظاهر من عبارة الإمام محمد بن حسن في موطأه ومن ترجمة الباب التي عقدها، كذلك قيد ابن قدامة هذه المسألة بالدين المؤجل.
ومما يجدر بالذكر هنا، أن عقد القرض الحسن لا يتأجل عند الحنفية والشافعية والحنابلة، ويتأجل عند المالكية فقط كما هو معروف لدى الفقهاء فعلى قول من يقول: إن القرض لا يتأجل بالتأجيل، يجوز ضع وتعجل في القروض، لأنها من الديون الحالة التي يجوز فيها ضع وتعجل، والأصل فيه حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: أنه كان له على عبد الله بن حدرد الأسلمي رضي الله عنه دين، فلقيه فلزمه، فتكلما حتى ارتفعت الأصوات، فمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا كعب، وأشار بيده كأنه يقول: النصف، فأخذ نصف ما عليه وترك نصفًا.
وكذلك المنع من الوضع بالتعجيل في الديون المؤجلة إنما يكون إذا كان الوضع شرطًا للتعجيل، أما إذا عجل المديون من غير شرط، جاز للدائن أن يضع عنه بعض دينه تبرعًا.
ثم إن هنالك ناحية أخرى في هذه المسألة، تعرض لها فقهاء الحنفية، وهي ضع وتعجل، خصوصًا في عقود المرابحة المؤجلة، ما ذكرناه حتى الآن كان يتعلق بالبيوع المساومة يعني في البيوع المطلقة التي لا يعقدها البائع بطريق المرابحة، فيعقد البيع بدون ذكر قدر الربح الذي يريد أن يرابحه عليه، أما إذا كان البيع بطريقة المرابحة، وقد صرح فيه البائع بزيادة في الثمن من أجل الأجل، فقد أفتى بعض المتأخرين من الحنفية بأنه إذا قضى المديون الدين قبل حلول الأجل، أو مات قبله، فإن البائع لا يأخذ من الثمن إلا بمقدار ما مضى من الأيام، ويحط من دينه ما كان بإزاء المدة الباقية.(7/706)
وهذه المسألة مذكورة في الدر المختار، وقد شرحها ابن عابدين، يقول: اشترى شيئًا بعشرة نقدًا وباعه لآخر بعشرين إلى أجل هو عشر أشهر، فإذا قضاه بعد تمام خمسة أشهر أو مات بعدها، يأخذ خمسة ويترك خمسة. وإن هذه الفتوى من متأخري الحنفية تفرق بين بيوع المساومة وبيوع المرابحة التي يصرح فيها البائع بزيادة الثمن بسبب الأجل، فلا يجوز ضع وتعجل في بيوع المساومة كما أسلفنا، ويجوز في بيوع المرابحة، ولعلهم أفتوا بذلك على أساس أن الأجل وإن لم يكن صالحًا للاعتياض عنه على سبيل الاستقلال، ولكن يجوز أن يقع بإزائه شيء من الثمن ضمنًا وتبعا. فما لا يجوز بيعه مستقلًّا، قد يجوز الاعتياض عنه تبعًا. ولما كان أساس المرابحة المؤجلة على بيان قدر من الربح، جاز أن يكون شيء من الربح بإزاء الأجل، فصار الأجل كأنه وصف في المبيع فلما انتقص ذلك الوصف بأداء الدين قبل الحلول، أو سبب حلوله بموت المديون، انتقص الثمن بقدره. وإلى هذا المعنى أشار ابن عابدين في تعليل هذه المسألة.
وهذا التوجيه، وإن كان فيه شيء من الوزن، ولكنه مخالف للدلائل التي أسلفناها في منع ضع وتعجل، فإنها وردت في كل دين مؤجل، دون فرق بين المساومة والمرابحة، وإن العمل بهذه الفتوى قد يجعل المرابحة والبيع بالتقسيط أكثر مشابهة بالمعاملات الربوية، التي يتردد فيها القدر الواجب في الذمة ما بين القليل والكثير مرتبطًا بالآجال المختلفة للأداء، فلا أرى من المناسب العمل بهذه الفتوى في البيع بالتقسيط، ولا في المرابحات التي تجريها المصارف الإسلامية اليوم.
الآن المسألة الرابعة المطروحة في هذه الدورة، هي مسألة خراب الذمة وأثر موت المديون في حلول الدين، وهذه المسألة مذكورة في الصفحة الثانية والأربعين من بحثي (1) . والمسألة: هل يبقى الدين بعد موت المدين مؤجلًا كما كان، أو يصير حالًّا، فيطالب الدائن الورثة بأدائه من تركة الميت فورًا، أو يطالبه بعد حلول الأجل؟. وقد اختلف في هذه المسألة أقوال الفقهاء، فذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والمالكية إلى أن الدين المؤجل يحل بموت المدين، وهو رواية عن الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله أيضًا، ولكن المختار عند الحنابلة أن الورثة إن وثقوا الدين، فإنه لا يحل بموت المدين، و، إنما يبقى مؤجلًا كما كان، قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: فأما إن مات وعليه ديون مؤجلة، فهل تحل بالموت؟ فيه روايتان: إحداهما لا تحل إذا وثق الورثة، وهو قول ابن سيرين وعبد الله بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد، وقال طاووس وأبو بكر بن محمد الزهري وسعيد بن إبراهيم: الدين إلى أجله، وحكي ذلك عن الحسن، والرواية الأخرى، أنه يحل بالموت، وبه قال الشعبي والنخعي وسوار ومالك والثوري والشافعي، وأصحاب الرأي، لأنه لا يخلو، إما أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة، أو يتعلق بالمال، ثم ذكر ابن قدامة رحمه الله ترجيحه لمذهب من يقول ببقاء الدين مؤجلًا، إذا وثقه الورثة بكفيل أو رهن، وذكر دلائله.
__________
(1) راجع صفحة 63 من هذا الجزء(7/707)
وأما الحنفية، فإنهم وإن ذهبوا إلى حلول الدين بموت المدين على قول جمهور الفقهاء المتبوعين، ولكن المتأخرين منهم لم يفتهم النظر إلى أن في المرابحة المؤجلة تكون حصة من الثمن مقابلة للأجل، كما أسلفنا، فلو ألزمنا على تركة المشتري أن يؤخذ منها الثمن كاملًا في الحال قبل حلول الأجل، لصارت الحصة المقابلة للمدة الباقية بدون عوض، وفيه ضرر للمشتري الذي لم يرض بهذا القدر من الثمن إلَّا إذا كان مؤجلًا بأجل متفق عليه. وذلك أفتوا بأن المشتري لا يؤدي من ثمن المرابحة في هذه الصورة إلَّا بقدر ما مضى من الأيام.
والحاصل عندي في هذه المسألة أن جمهور الفقهاء المتبوعين، وإن ذهبوا إلى حلول الدين بموت المدين، ولكن في عمليات البيع بالتقسيط والمرابحة المؤجلة التي يكون حصة من الثمن فيها مقابلة للأجل، لو أخذنا بمبدأ حلول الدين بكامله، لتضرر به ورثة المدين، فينبغي فيها الأخذ بأحد القولين: إما بقول المتأخرين من الحنفية بسقوط تلك الحصة من الدين التي تقابل المدة الباقية من الأجل المتفق عليه، فلا يؤخذ من التركة إلا بقدر ما مضى من الأيام، أو يؤخذ بقول الحنابلة من بقاء الدين مؤجلًا كما كان، بشرط أن يوثقه ورثة المدين بوثيقة معتمدة، ولعل الصورة الأخيرة أولى للبعد عن تذبذب الثمن بآجال مختلفة، الذي فيه مشابهة صورية للمعاملات الربوية.
وأما الأستاذ الدكتور رفيق المصري فإنه رجح إلى أنه يحل الدين بموت المدين.
فهذه خلاصة ما عرض في هذه الأبحاث التي قدمت في هذه الدورة في موضوع البيع بالتقسيط. وأكتفى بهذا القدر وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(7/708)
الرئيس:
شكرًا للشيح تقي على هذا العرض الوافي، وبقي إضافة بسيطة فيما يتعلق بقوله " ضع وتعجل " وهو أن ما ذكرتموه أنه مذهب الجمهور صحيح، لكن في مذهب الإمام أحمد روايتان، الرواية الأخرى هي الجواز، وبها أخذ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية رحمهما الله تعالى، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة بني النضير صححه الحاكم وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهو على شرط السنن، كما ذكر الشيخان ومداره على مسند ابن خالد، ومسند ابن خالد احتج به الشافعي ووثقه آخرون كذلك، فحديث بني النضير هو أقوى شأنا من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لا شك في أن هذا البيان الضافي الذي أوضحه فضيلة القاضي العثماني محقق للغاية بالقدر الذي نتمكن فيه من إبداء الرأي حول بيع التقسيط، والذي يشتبه كثيرًا في أذهان العامة وعند الناس مع البيوع الربوية ويكادون لا يصدقون أن البيع بالتقسيط جائز علمًا إذا كان بسعر أكثر من السعر الحالي، وتثور مشكلات كثيرة في طريق إقناع هؤلاء بأن هناك فرقًا بين البيع بالتقسيط والبيوع الربوية. وكنت أود أن أسمع إجابة صريحة حول هذه الفروق إن لم تكن موجودة في البحث الذي لم يتعرض له التلخيص. كذلك منذ سنوات صدر بحث مطول لأخينا الدكتور محمد الأشقر في الكويت يحمل حملة شديدة على البيع بالتقسيط ولا يجيزه أيضًا كنت أود أن يتعرض الأستاذ العثماني لمثل هذه الشبهات ويفندها.
يا شيخ وهبة، البحث للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وأذكركم أن هذا الموضوع سبق أن بت فيه في الدورة السادسة لمجمع الفقه من حيث وجود مبدأ التقسيط وجوازه شرعًا، هذا سبق أن بت فيه وحصل التعرض للبحوث التي منعت من التقسيط، ومن تبني هذه الفكرة، وإنها صارت دفعة للبنوك الربوية، لأنه إذا سدت هذه المنافذ صار فيها دفع شديد للبنوك الربوية، فانتهى موضوع البيع بالتقسيط وقرأ القرار على مسامعكم الآن.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:
إذن الملاحظة الأخيرة، أنه بالرغم من سرده لوجهات النظر المختلف فيها حول خصم الكمبيالة والأمور التي تعرض لها، أيضًا كنا نود أن نسمع منه ترجيحًا واضحًا بين وجهات النظر التي ذكرها حيث إننا عشنا في جو كثير من الآراء والاختلافات، فنود أن يعطينا الرأي الحاسم حول هذه الخلافات، وشكرًا.(7/709)
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
تصحيح خصم الكمبيالة بالصورة التي ذكرها الأستاذ العثماني، هي إحدى الصورتين اللتين ذكرتا في الموسوعة وعليهما ملاحظات كثيرة للباحثين، وفيهما نوع كثير من التكلف، ولذلك لا نرجح هذا الاتجاه وهذا الجانب.
الجانب الآخر، إن واقع البنوك الربوية، هل يمكن تكييف هذا الواقع الربوي على قضية التوكيل، وهذا التكلف الكبير الذي ذكره الأستاذ الجليل تقي الدين العثماني. الواقع الذي يسير عليه البنوك الربوية أن البنوك الربوية تأخذ العمولة أولًا ثم بعد ذلك تأخذ النسبة المقدرة على المبلغ كاملة، ثم ترجع الباقي للشخص، فالقضية واضحة جدًّا بأنها قضية فائدة ربوية واضحة لا غبار عليها. أما إذا أردنا التكيف أو التكلف لهذه المسألة، فهذه مسألة ربما تكون شيئًا عمليًّا ونحن نعرض شيئًا نظريًّا ونحن هنا في مجمع الفقه نعالج أو نبحث عن الأمور والحلول الواقعية وليس في قضايا يمكن أن تكون خيالية أكثر من أن تكون واقعية. هذا في نظري بالنسبة لقضية التوكيل.
أيضًا بالنسبة لاستدلال بعض الباحثين بحديث ضعوا وتعجلوا، وتصحيح الحاكم له، معروف للجميع أن الإمام الحاكم رحمه الله معروف بتساهله، ولذلك الإمام الذهبي في تلخيصه لم يقره ولم يوافق على هذا التصحيح، وإنما ترك هذه المسألة، مما يدل على أن فيه شيئًا، وكما قال الأستاذ تقي الدين العثماني، أنَّ الإمام البهيقي حكم على الحديثين بالضعف وما وري عن ابن عباس رضي الله عنهما مروي عنه العكس أيضًا في مصنف عبد الرزاق حيث قال: إنما الربا أخر لي وأنا أزيدك. فإذن أعتقد أن الروايتين متعارضتان لا نستطيع أن نرجح إحداهما على الأخرى. قياس ضع وتعجل على الحطيطة أو إدخال ضع وتعجل على الحطيطة – في نظري وقد أكون مخطئًا – غير دقيق لأن الحطيطة في البيوع، عندما يبيع الإنسان أو يشتري الإنسان شيئًا ثم ينزل من ثمنه، أما هذه القضية فهي في الدين وبيع الدين بالدين معروف كما ذكره الباحثون الأجلاء من أنه لا يجوز إلا من الدائن نفسه أو من المدين نفسه. فالقضية هنا ليست لا من الدائن ولا من المدين وإنما من طرف ثالث وهو البنك الربوي.(7/710)
اعتبار البعض – في التدخل – خصم الكمبيالة بيعًا، يمكن اعتباره بيعًا لكن بيع الدين بالدين وليس بيع سلعة بسلعة، وهذه الورقة ليست في الواقع سلعة وإنما هي نقد كما يقول الاقتصاديون، فالنقد ليس الدراهم والدنانير فقط، وإنما كلُّ ورقة كخصم الكمبيالة والشيكات وكل هذا يدخل ضمن النقود، والغريب أن صاحب هذه الفكرة اشترط شرطين، فقال: أن لا يكون ذلك في النقود وأن لا يكون مكيلًا وموزونًا. إذن هذه الصورة إذا لم تكن في النقود ولم تكن في المكيل والموزون خرجت هذه الصورة عن الصورة التي نبحثها وهي قضية خصم الكمبيالة. الصورة التي أمامنا خصم الكمبيالة هي قضية دين مؤجل وهذه الورقة توثيق لهذا الدين لا أكثر من ذلك، لا سلعة ولا بضاعة لا أي شيء، وإنما مجرد توثيق بهذا المبلغ، فلا يمكن اعتبار هذه الكمبيالة أننا نبيع الورقة، هذه الورقة لو بدونها لا تساوي فلسًا واحدًا وحتى لا يمكن الكتابة عليه لأنه لا فائدة فيها، وإنما الفائدة في أنها تمثل دينًا عشرة آلاف كذا وهذا في الذمة، فالصورة التي تفضل بها أخونا الكريم، صورة بعيدة عن واقع الكمبيالات التي تجري في البنوك إلا إذا كان القبض سلعة أو حيوانًا فهذا شيء آخر، وحينئذ نبيع هذا في الذمة، والمسألة تبقى بيع الدين بالدين ولذلك لا يمكن اعتبار هذه
المسألة، يعني هذان الشرطان يردان أو يرجعان على أصل المسألة وبالتالي يقضيان على المسألة نفسها وتنتهي المسألة من أساسها.
الطريقة الثانية أيضًا، اعتبار أن بيع الكمبيالة أو خصم الكمبيالة أنها قيمة تجارية بنقد آخر، وهذا بيع غير المتجانسين، أليس ذلك يشترط التقابض فيما لو قلنا! أليس ذلك أيضًا وارد في هذه المسألة تنقيص في القيمة! يعني رجل عليه كمبيالة بعشرة آلاف أو مائة ألف ريال والبنك يعطي له حوالي ستين ألف ريال؛ لماذا هذا الفرق ثلاثين ألف ريال لأي شيء؟ أليس ذلك نوع من التحايل للخروج عن القضية! إضافة إلى أن بيع الدين لا يمكن، يخرج عن بيع الدين مهما حاولنا.(7/711)
أيضًا الطريقة الثالثة التي ذكرها الأخ الكريم المتداخل، باعتبارها قرضًا وأننا نأخذ بعد ذلك الفوائد، كيف يجوز أن نأخذ الفوائد أو الزوائد التي تضاف إلى هذا القرض أو تخصم من هذا القرض؟ المسألة الحقيقية أنه مهما حاولنا أن نكيف خصم الكمبيالة لا نجد له وجهًا شرعيًّا أو عقدًا شرعيًّا، ممكن أن نقول إنه عقد جديد لكن هذا العقد الجديد فيه مشكلة، أنه فيه ربا، فيه نقص في مقابل الأجل، وهذا النقص في مقابل الأجل واضح، فإذا نحن خرجنا عن هذا الواقع، حينئذ نحن نبحث عن مسألة أخرى ونأتي بمصطلح آخر غير مصطلح خصم الكمبيالة ونناقشه، أما الكمبيالات التي تجري في وقتنا الحاضر، فالقضية واضحة فيها بأن البنك يخصم مبلغًا معينًا حسب الفوائد الدولية أو الفوائد التي يأخذها هذا البنك.
قضية الإبراء، لماذا يبرء الرجل الدائن صاحب الكمبيالة، الدائن دفع المال وأخذ في مقابل ماله هذه الكمبيالة، لماذا يبرء؟ لو كان لله فعلى العين والرأس، ولذلك فأنا في اعتقادي أن ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وما ذكره ابن قدامة محمول على هذا المحمل من النية الطيبة، فيما لو كان شخص الدائن يتنازل عن بعض دينه لله سبحانه وتعالى أو لأي سبيل من السبل، وهذا ما ذهب إليه المالكية عند حلول الأجل وغير ذلك، أما أن يكون واضحًا أن الرجل محتاج عنده مبلغ خصم كمبيالة بمائة ألف ريال وليس هناك شخص يأخذه بهذا المبلغ والبنك يفرض عليه فرضًا، يقول: خذ ستين ألف ريال، ويقول أنا أبرأت ذمتك، فهل يمكن أن نعتبر هذا وسيلة مشروعة ووسيلة شرعية تقرر في هذا المجمع الموقر؟.
جانب آخر، أن خصم الكمبيالة أساسًا لا يدخل لا في الإبراء ولا في ضع وتعجل، لماذا؟ لأنه ليس بين الدائن والمدين، خصم الكمبيالة بين الدائن وبين شخص ثالث أو طرف ثالث أو شخصية معنوية ثالثة وهي البنك، فلذلك ليس فيها لا إبراء ولا ضع وتعجل فلا يمكن تكييف خصم الكمبيالة لا على الإبراء ولا على نظرة إلى ميسرة ولا قضية وضع وأنه يكون له الأجر، وإنما في مسألة أن رجلًا يأخذ النسبة المحددة على هذا الدين، هذا ما أردت أن أذكره لحضراتكم، وجزاكم الله خيرًا، وشكرًا.
الرئيس:
أحب أن أسأل الشيخ محيي الدين. هل تعرف أحدًا صحح حديث المقداد؟ أنت ذكرت أنه يتعذر الجمع بين حديث المقداد وحديث ابن عباس، فهل تذكر لنا أحدًا صحح حديث المقداد؟
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
في المذهب الصحيح، لا أعرف
الرئيس:
إذن طالما أنك لا تعرف أحدًا صحح حديث المقداد، فالعلماء فيما نعلم في حكم المتفقين على تضعيفه، فمعناه لا تعارض.(7/712)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أقدر لفضيلة الشيخ القاضي تقي الدين العثماني هذا التقديم الجيد الممتاز، والذي كان فيه أمينًا في نقل ما جاء به من أفكار إخواننا الذين كتبوا في هذا الموضوع، وأردت أن أضيف إضافات:
أولًا: ما عبر عنه الرهن بالذمة السائلة، نعود إلى أصل الرهن ولماذا الرهن؟ الرهن هو: توثق الدائن بأن المدين يدفع له عند الأجل ما هو بذمته وهذا التوثق قد كان لا يحصل إلا بالقبض الفعلي وأنه إذا خرج القبض الفعلي استطاع المدين أن يفوت في الرهن دون أن يعلم الدائن، تطور حضاري دخل للعالم كله أثره، هو أنه أصبح الإنسان قبضه للشيء في كثير من الأشياء لا يمكنه من التفويت فيها، فالإنسان يسكن دارًا ولا يستطيع أن يفوت فيها لأن التفويت في البيت إنما يقع بواسطة العقد، السيارة لا يستطيع أن يبيعها لأن السيارة لا تباع إلا بعقد، إلا بوثيقة، فأصبح المهم الذي يوثق هو العقد، ولذلك يقع الرهن على العقد ويقع التسجيل على البطاقة الرمادية للسيارة أنها لا تباع، وهذا ما وضحه مولانا الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه في تفسير التحرير والتنوير، إن الناس اليوم يستعيضون عن القرض بقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} أو أن القبض في وقتنا هو القبض للوثائق الملفتة للملكية، هذا هو تأكيد لأنه الأولى لكل ما هو موثق بوثيقة.
أنا علقت تعليقًا بسيطًا على قصة أبي حدرد لمَّا قال صلى الله عليه وسلم وأشار بأن ضع وتعجل في أن اختياره كحجة خاصة على قضية خاصة فيه مقال، وأعتقد أنه على أصل الصلح لأنه لم يرد في الحديث التفصيلات الكافية حتى نقيس، وهذا لا أعلمه من أي وجه للقياس التي يمكن الاعتماد عليها.
ثالثًا، كفاني الأستاذ القره داغي الكثير مما كنت أريد أن أقول، لكن بقيت أشياء لابد من الزيادة أو الإضافة فيها، لابد من التفرقة بين الشرط وبين الطوع، فما كان شرطًا فمعنى ذلك فيه مباحة من الطرفين وأنه هناك فرض إرادة من طرف على طرف آخر، وما كان طوعًا فإنه يجوز لأن لكل شخص أن يتطوع، وهذا مما يفضي إلى زيادة الالتحام بين المؤمنين بينما الشرط هو دائمًا وأبدًا يمضي بالعكس لأن كل شخص يريد أن يحقق رغبته وينفذ إرادته، فقياس ما كان شيئًا شرطيًّا على ما كان طوعيًّا ما أدري كيف يمكن للقائس أن يقيس الأشياء المتناقضة؟(7/713)
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم
أوافق الأستاذ القاضي تقي العثماني على كل ما جاء في ورقته القيمة، ولكن لي بعض الملاحظات وعدم موافقة واحدة في جزئية وسأبدأ بالموضوعات التي ذكرها وحددها وهي موضوعات أربعة:
أولًا: الرهن السائل، أوافقه في جوازه، وهو معروف عندنا في السودان لكن لا نسميه بهذا الاسم، فالبنوك عندما تبيع سيارة مثلًا أو منزلًا لشخص آخر إلى أجل بالتقسيط، ترهن هذه السيارة أو المنزل، ويسجل على أنه رهن لصالح البنك مع وجود السيارة في يد المشتري ووجود المنزل في يد المشتري أيضًا ينتفع به، وهذا التسجيل يكفي ويعتبر قبضًا وقد أذن البنك الدائن للمدين بالانتفاع بهذا الرهن، فهذا أمر عملي وواقع، لكن لي بعض الملاحظات في الاستدلال، وهو ما جاء عند الكلام عن الرهن كأداة من أدوات التوثيق، فهو كما يقول الأستاذ العثماني: وإن إمساك المبيع في يد البائع يمكن أن يتصور بطريقتين: الأول، أن يكون على أساس حبس المبيع لاستيفاء الثمن، وهذه استبعدها وأنا معه في هذا واضح، والثاني، أن يكون بطريق الرهن، وقال: والفرق بين الصورتين أن المبيع المحبوس عند البائع مضمون عليه بالثمن، وهذا لا خلاف فيه، فلو هلك المبيع وهو محبوس عنده ينفسخ البيع – هذا على حسب أنه يقرر مذهب الحنفية في هذا – ولا يكون مضمونًا عليه في قيمته السوقية، أما في الرهن، وهذا موضع مخالفتي، لو هلك عند البائع من غير تعد منه لا ينفسخ البيع بل يهلك من مال المشتري – وهو يقرر في مذهب الحنفية – هذا مخالف لقواعد مذهب الحنفية في الرهن، الرهن إذا هلك في يد الدائن يهلك بالأقل من قيمته ومن الدين, وهذه قاعدة معروفة، وعلى الرغم من أن الأستاذ العثماني أتى بنقل عن ابن عابدين، وقد يفهم منه هذا الفهم، ولكني أيضًا توقفت فيه، لأنه مخالف للقاعدة المعروفة وهي قاعدة مشهورة، فهو لا يهلك بالثمن عند الحنفية مطلقًا ما دام اعتبرناه رهنًا، وكون المرهون هو المبيع، هذا لا يغير من الأمر شيئًا فهذه نقطة تحتاج إلى تحقيق.(7/714)
الموضوع الثاني: وهو خصم الكمبيالة، أيضًا، أوافقه في القول بالمنع، وهذا واضح، ولي تعليقان على هذا: أولًا، في قوله: وإن خصم الكمبيالة بهذا الشكل غير جائز شرعًا، وهذا لا كلام فيه، الكلام هنا في التعليق، إما لكونه بيع الدين من غير من عليه الدين أو لأنه من قبيل بيع النقود بالنقود متفاضلة ومؤجلة. التعليل الثاني مقبول وهو من قبيل بيع النقود بالنقود متفاضلة، لأنه يبيع المائة بثمانين على أن يقبضها مائة عند حلول الأجل، وهذا يكفي للمنع، أما العبارة الأولى، لكونه بيع الدين من غير من عليه الدين، هذه تحتاج إلى تفصيل. الكمبيالة هي تدخل في بيع الدين من غير من عليه الدين بالنقد، لأن بيع الدين إما أن يكون بالدين، وإما أن يكون بالنقد، وفي الحالين إما أن يكون ممن عليه الدين أو يكون من غير من عليه الدين.
فالصورة التي أمامنا هي من قبيل بيع الدين بالنقد لغير من عليه الدين، لأنه يبيع المائة وهذه المائة دين عليه هو يبيعها بثمانين للبنك وهو غير من عليه الدين، فالموضوع فيه إشكال في الواقع ليس واضحًا في هذه الجزئية، ولعل هذا ما حمل الأستاذ الزرقا على طلب الكلمة، ففي رأيي هذا التعليل الأخير هو الواضح وينطبق على هذه المسألة لأن صاحب الكمبيالة يبيع المائة للبنك بثمانين على أن يقبضها مائة عند حلول الأجل.
النقطة المهمة في هذا هو المخرج الذي قدمه لنا الأستاذ العثماني، وأنا أخالفه فيه كل المخالفة، وهذه حيلة لخصم الكمبيالة، وحتى لو نظرنا فيها فهي لا تجوز، والأستاذ جعلها إجارة وكالة بأجر يعني إجارة وقرض، وقال: إن هذين العقدين كل واحد منهما جائز، فإذا اجتمعا جازا، لا، أولًا اجتماع الأجر والقرض لا يجوز بنص الحديث " لا يصح سلف وبيع " ومثل البيع الإجارة فلا يصح أن يجتمع هذان العقدان.(7/715)
نأتي إلى الموضوع الثالث وهو " ضع وتعجل " أما هذا فأنا مع الأستاذ العثماني في كل ما قاله، وعلى الرغم مما سمعناه من تجويز بعض أئمة الحديث لحديث " ضع وتعجل " فإن رأيي لم يتغير في هذا الموضوع فهو لا يزال محل شك، صححه بعضهم وضعفه بعضهم، وأريد أن أضيف إلى الدليل الذي ذكره الأستاذ العثماني من رواية الإمام مالك حيث قال: قال مالك: والأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا – والمكروه هنا معناه ممنوع – أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل فيضع عنه الطالب ويعجله المطلوب. قال مالك: وذلك عندنا أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل فيضع عنه الطالب ويعجله المطلوب في حقه، قال: هذا الربا بعينه لا شك فيه. هذه الرواية تعجل هذا من قبيل إجماع أهل المدينة. هذا التعبير عند الإمام مالك: الأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا، وإجماع أهل المدينة يلحقه بعضهم بالحديث، بل يجعله أقوى من حديث الآحاد " ألف عن ألف خير من واحد عن واحد "، فهذا يقوي رأي من يقول: وهو نص على أن المعقول أيضًا يؤيد المنع. وقد أعجبني ما قدم به الشيخ العثماني حديثه من أنه لا يرى من المناسب العمل بهذه الفتوى في البيع بالتقسيط ولا في المرابحات التي تجريها البنوك الإسلامية، وهذا ما أفتت به هيئة الرقابة الشرعية في السودان، فلو أبحنا لهم هذا فقد يتخذوه ذريعة للوصول إلى الممنوع. البنوك ممنوعون من أن يتعاقدوا إلى أجل، فإذا حل الأجل ليس لهم بعد ذلك أن يؤخروا ويزيدوا، فإذا علموا أن لهم أن يعجلوا ويحطوا، قد يتفقون مع الزبائن بدل ما يؤجل إلى سنة يؤجل إلى سنتين وسيضاعف الربح إن كان عشرة في المائة إلى سنة سيجعله عشرين في المائة إلى سنتين ويقول له: إذا جئت في أي وقت أحط عنك، فهذا يؤول إلى أنه وصل إلى الزيادة بعد حلول الأجل بطريق آخر، ولذلك أنا أرى مع الأستاذ العثماني ألَّا نفتح هذا الباب خصوصًا في بيع المرابحة، وبيع المرابحة تعرفون ما فيه حتى من غير هذا الباب، فينبغي أن يقفل قفلًا محكمًا.(7/716)
الموضوع الأخير، موضوع أثر موت المدين في الدين، وموضوع خراب الذمة. أنا في رأيي أن هذا الموضوع ليس من قبيل خراب الذمة، هذا الموضوع يتعلق بالميراث، الحقوق التي تورث، والحقوق التي لا تورث، الحقوق الشخصية هذه لاتورث، الحقوق المالية وأوضح مثال لها الذي يذكره الفقهاء، هو هذا: حق المدين في تأجيل الدين، فبعضهم اعتبره حقًّا شخصيًّا يعني اعتبروا هذا فيه الشبهين، هو صحيح فيه الشبهان: حقٌّ شخصي لأن الإنسان لا يقرض بأجل أو لا يبيع بأجل لكل شخص لأنه ينتقي مهما كان، فهذا الشبه الشخصي، والشبه المالي أن البيع بأجل فيه زيادة، فالذين غلبوا جانب الخط الشخصي قالوا يحل بموت المدين، لأن الدائن إنما أجله من أجل هذا المدين ولو كان الورثة هم الذين جاءوا أول مرة لكي يشتروا منه لم يبع لهم بالتأجيل، الحنابلة هم الذين راعوا أنه حق مالي، قالوا: يورث بدون قيد أو شرط. فرأي الحنابلة هو الرأي المقبول عندي لأنه راعى الحالتين: راعى الجانب الشخصي، وراعى الجانب المالي، فقال: إن هذا الحق يورث إذا وثق برهن أو كفيل، وهذا هو ما يطلبه الدائن، الدائن قد يكون وثق في ذمة المدين، والمدين مات، فالآن حل محله أناس آخرون لا يثق في ذمتهم، إذا وثقوه برهن أو كفيل فقد انتفى المحذور فلا يحل وينتظر إلى الأجل لأنه كان مراعى فيه الثمن، إذا لم يوثقوه يحل. وهذا ما أردت قوله وشكرًا.(7/717)
الدكتور سامي حسن حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم.
موضوع التقسيط كان بسيطًا فأصبح مبسوطًا، فالبيع بالتقسيط تعاملنا به من قبل قرار المجمع، وقرار المجمع واضح ونتعامل به في حياتنا اليومية باستمرار، ولكن يبدو لي أن الهوامش التي أثيرت على جانب هذا البيع المعتبر أكثر حاجة إلى التعليق من ذات العقد.
بيع التقسيط في فلسفته الاقتصادية من الناحية العقلية، والعقل عندما يكون مستنيرًا بنور الله يصل إلى عتبات الشرع ويلتقي مع الشرع. التقسيط هو: بيع زاد فيه هامش الربح باعتبار أن الثمن مؤجل بحيث أنه لو كان الثمن نقدًا فباستطاعة التاجر " البائع " بهذا الثمن المقبوض أن يشتري السلعة ويعيد بيعها مرات ومرات، فتأجيل الثمن أدى إلى زيادة هامش الربح، وهذا سعر مقابل سلعة، ولا حاجة لمزيد بعد ذلك، أما ربطه في موضوع خصم الكمبيالات فالأمر يختلف لأن الكمبيالة في تعريفها القانوني: تعهد المدين للدائن بدفع مبلغ معين في تاريخ محدد. فموضوعنا هنا نقد يشترى بقيته سواء قلنا بشراء الدين أو بإقراض مقابله بقيمة أقل فهو نقد بنقد ليس فيه مساواة مماثلة ولا يدًا بيد فخرج عن القبول الشرعي وأصبح من الربا، وهذا أيضًا أمر واضح، ولكن المؤسف أن موضوع بيع الدين فيه مداخل، يقال بيع الدين عنوان، فيقال: إن كل بيع جائز أن يجري عليه البيع {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، ولكن ما هو الدين؟ الدين الذي يباع هو الدين الذي تنطبق عليه شروط البيع إطلاقًا، أما القول بالنقد بأنه يباع ليس لأنه من النقدين ذهبًا وفضة أو لأنه ليس مكيلًا أو موزونًا فإن هذا الرأي موجود في الفقه الحنفي قديمًا وفي فقه الإمامية أيضا بأن شرط تحقق الربا هو في المكيل والموزون والذهب والفضة باعتبارها من الموزونات، ولذلك قيل قديمًا حتَّى عند الحنفية إن المعدودات لا تعتبر من الربا، فلما ظهر النقد وأصبح يُعدُّ عدًّا ولا يوزن وزنًا ظهرت بعض الآراء تقول بأن الدينار أو الريال المعدود بالريالين ليس من الربا ونقض ذلك رأسًا باعتبار أن الأصل هو في موضوع النقود ليست شكلها وإنما معيار الثمنية فيها، وهذا ما أوضحه بشكل جلي مذهب الإمام مالك، وإن كان الرأي الضعيف، ولكن اعتبار الثمنية باصطلاح الناس، فهذا الورق الذي اصطلحوا عليه أن يحل محل الذهب والفضة هو معتبر، وهو كذلك رأي عند الإمام أحمد في مذهب الإمام أحمد.(7/718)
بالنسبة لأهل الفقه الإمامي تمسك بعضهم في صلب المذهب بأنه ليس مكيلًا أو موزونًا ومن ذلك ما ذكره الإمام محمد باقر الصدر رحمه الله تعالى في كتابه " البنك اللاربوي في الإسلام " فقال: لو أنا أعطينا مائة دينار عراقي بمائة وعشرين لأجل لمدة شهرين فإن هذا يعتبر بيعًا لأنه ليس مكيلًا ولا موزونًا. رحمه الله هذا رأيه ولكن هناك لم تخف المسألة على الإمامية أيضًا، فقد ذكر الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه " فقه الإمام جعفر الصادق " ما يرد على هذا الرأي ويقول: إذا لم تكن هذه النقود التي تناولها هي النقود بمعناها الشرعي، فكيف تستحل بها الفروج ونحن ندفعها مهورًا في زواجنا؟ وكيف ندفع عنها الزكاة، وهي أموال؟ فهذه آراء يجب – ونحن الآن في طور التجمع والتلاقي الفكري – أن نحكم منطق الشرع وروحه ولا نعود لآراء انتفى عهد الاختلاف على الأقل فيها.
من هذه الشبهات كذلك، في الباكستان عندما أرادوا تحديث أو أسلمة المعاملات المصرفية أخذوا قياسات غريبة، وأقولها للعلم، مثلًا قالوا في المرابحة: زيادة هامش الربح يسمى زيادة فوقية (MARK AAP) فلماذا لا يكون بعد أن يتم البيع، في بيع التقسيط، ويحرر بثمنه كمبيالة طالما أن أصل العملية بيع فنعمل بها حطيطة أو تنزيلًا (MARK DAOIN) لكن الحطيطة في التنازل في الديون إذا كان الدائن يسامح المدين من حقه أن يبرئه بكل الدين والمسامح كريم، أو بجزء منه ولو كان منظورًا فيه أن هذه المسامحة ما كانت لتكون لولا أن المدين قام بدفع الدين قبل موعد الاستحقاق، طالما العلاقة ثنائية، ولكن عندما تصبح العلاقة ثلاثية هنا يدخل الربا الحرام، عندما يأتي البنك يأخذ الكمبيالة بقيمتها الاسمية المائة ويدفع بها لصاحب الاستحقاق فيها تسعين فهو يشتري المائة بتسعين ثم يعود على المدين بالمائة كاملة ليس فيها إبراء وليس فيها تنازل ولكنها فيها تجارة بالحرام، تجارة بشراء المائة بتسعين وهذا هو الربا المنهي عنه.
هناك نقطة في بيع التقسيط تشتبه على بعض ما سمعته من تعليقات بالخلط، لا أقصد الخلط بمعنى الخلط الفكري، إنما خلط المصطلحات بمعنى البيع بالتقسيط أن أبيع وآخذ الثمن أقساطًا، فالملكية للمبيع انتقلت من البائع إلى المشتري وأصبح مالكًا وبين ما يسمى في الاصطلاح الغربي الشراء الإيجاري (HIRPIR TSHIZ) أنه هو يبرأ وكأنه أخذ السلعة كمستأجر لها فإذا سدد الأقساط المتفق عليها في الموعد فإنه يصبح مالكًا في النتيجة. هذا أمر آخر كالسيارة مثلًا يأخذها إيجارًا ابتداء فإذا استعملها مدة وأعادها ولم يتم دفع الأقساط فيحسب عليه أجرة الاستعمال خلال فترة الاستعمال، هذا عقد جدير بالتمييز والنظر فيه ولا اعتراض عليه في نظري المتواضع من الناحية الشرعية لكن ينظر إليه بمقياس الإيجار الذي فيه مواعدة على التمليك في نهاية مدة العقد، وشكرًا لكم.(7/719)
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
إن عملية خصم الكمبيالة تخضع لقانون، لا بد عند الحكم الشرعي، أن ينظر إلى القانون الذي يسير عليه البنك حتى نستطيع أن نعطي الحكم الشرعي. فخصم الكمبيالة كما بينه العلامة الدكتور السنهوري في الوسيط قرض بفائدة مع رهن الورقة التجارية. إذن الورقة التجارية هذه بمثابة رهن، ولذلك البنك بعد أن تظهر له الكمبيالة إذا حل الموعد ولم يحصل الكمبيالة عاد مرة أخرى على من ظهر له الكمبيالة وطالبه بالمبلغ كاملًا وبما يأتي من فوائد جديدة، بمعنى أن من باع هذه الكمبيالة وأعطى هذه الكمبيالة إذا تأخر في السداد مدة أخرى زادت الفوائد المركبة. إذن هنا لا يمكن إطلاقًا تصحيح خصم الكمبيالة.
ما تفضل به فضيلة الشيخ تقي، هذا يمكن بالنسبة لتحصيل الكمبيالة لو وجدنا بنكًا يحصل الكمبيالة ويأخذ أجرًا مقابل التحصيل ثم يقرض قرضًا حسنًا، وهذا لا يكون إلا إذا حدث في بنوك إسلامية، إنما البنوك الربوية لا تفعل هذا ولا تستطيع أن تفعل هذا لأنها محددة بفوائد قانونية يحميها القانون، وفي كثير من البلاد يلزمها القانون إذن خصم الكمبيالة: قرض ربوي برهن هذه الورقة التجارية ولا يمكن تخريجها أي تخريج آخر.
نرجو بالنسبة لما ننتهي إليه في المجمع ألا نعود بإبطاله مرة أخرى لأن معنى هذا أننا سنعود للمناقشة من جديد، مثال هذا ما انتهينا إليه هنا من أن الأوراق النقدية نقد قائم بذاته، له ما للذهب والفضة من الأحكام، وأنه لا يجوز التفاضل بين هذه النقود مع الجنس الواحد، ولا يجوز عدم التقابض، وأن أي عدم تقابض يعتبر من ربا النسيئة. فإثارة هذا الموضوع والقول بأن الخصم يجوز ما دام ليس ذهبًا ولا فضة وإنما نقود ورقية وأنه يمكن أن نبيع نقدًا بنقد آخر وهذا فيه أجل لأن الكمبيالة مؤجلة والنقد الآخر حال، إذن ليس فيه تقابض لذلك ما أشار إليه بعض الإخوة من أن النقود كذا وكذا … هذا تحدثنا عنه طويلًا في جلسات سابقة، فلسنا في حاجة إلى أن نعود مرة أخرى إلى الحديث عن هذه الموضوع، وإنما نقول هنا: استقر رأي المجمع على كذا، إذن هذا لا ينقض.(7/720)
الآمر الآخر، بالنسبة " لضع وتعجل " أحب أن أضيف للذين بينوا في حديث " ضعوا وتعجلوا " إلى جانب الذهبي أيضًا الحافظ ابن كثير، ثم الاحتجاج ليس بالحديث الضعيف الآخر، وإنما الاحتجاج بأنه هذا له حقه فإذا لم يكن متنازلًا وإما أجبر على هذا حتى يأخذ حقه، فكيف يجوز هذا؟ ثم وجدنا الذين بينوا مثل ابن قدامة يقول: ما الفرق بين أن أقول أخر ولك كذا أو قدم وخذ كذا. إذن معنى هذا أن ربط الزمن في النقود أخذًا وعطاءً اعتبره سادتنا الفقهاء غير جائز كما بين فضيلة الشيخ الأستاذ الصديق الضرير، ما قاله الإمام مالك والخبر الذي قال بأن الإمام الشافعي وافق الراوي الذي ضعفه غيره، الإمام الشافعي لم يأخذ بالخبر، والإمام الشافعي لا يبيح ضع وتعجل، توثيقه لا يعني تصحيح الحديث، وفتح باب ضع وتعجل كما بين الشيخ الصديق الضرير سيفتح بابًا كبيرًا وبالذات في مجال البنوك الإسلامية.
نقطة مهمة، أرجو أن ننظر إلى الواقع العملي وهو حلول الدين بالأجل، فقهاؤنا السابقون عندما تحدثوا عن حلول الدين لم يكن عندهم بيوت تباع لمدة عشرين أو ثلاثين سنة، بيت يساوي مائة ألف يباع بثلاثمائة ألف لأنه على عشرين سنة، لم يكن هذا موجودًا من قبل، وإنما كان تأجيل لفترات قصيرة، البيت الآن عندما مات صاحبه وهو مؤجر وأجرته تكفي بالأقساط المطلوبة وزيادة، لو جئنا الآن وطالبنا بالمبلغ كاملًا لاضطررنا إلى بيع البيت وفعلًا وجدت في بعض العقود بأنه إذا مات المتعاقد فيحل الدين فيباع البيت وإن لم يكف البيت يعود البنك على ورثته فيأخذ من التركة. إذن هنا بيت قائم والمقصود هنا هو ضمان الحق، فضمان الحق برهن قليل أو كثير هذا موجود والعين نفسها موجودة والورثة يسكنون في البيت ويؤجرون جزءًا منه، والإيجار يكفي لدفع الأقساط، فنقول لهم لا، لابد أن نبيع البيت، والبيت لا يكفي فنأخذ من باقي التركة. هذه النقطة أرجو أن ننظر إليها في الواقع العملي، ولا شك أن رأى الحنابلة – ولم يكن في وقتهم ما هو في وقتنا – لعله أرجح الآراء التي نأخذ بها.
وأكتفي بهذا القدر. والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.(7/721)
الشيخ أحمد بزيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،
الواضح من إجراء معاملات خصم الكمبيالات في البنوك بأنها من قبيل القرض بفائدة وأن الكمبيالة عندما يضعها البنك في صندوقه أو في خزينته يعتبرها كرهن بدليل إذا استحقت ولم يدفع المدين يعيد البنك قيد المبلغ على من خصم الكمبيالة لديه وتبقى الفائدة التي خصمها على الدائن كما هي، فهو في الحقيقة قرض بفائدة.
بالنسبة لضع وتعجل، هناك إذا لم يشترط المدين بالوفاء، إذا أوفى كامل القيمة ولم يشترط بأن يضع الدائن عنه من دينه، السؤال هنا هل يجوز للدائن من تلقاء نفسه أن يضع شيئًا من الدين له؟ هذا السؤال أوجهه إلى فضيلة الشيخ تقي الدين العثماني.
وشكرًا.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
أرجو أن يصبر عَلَيَّ السيد الرئيس قليلًا لأني لم أتحدث البارحة تمامًا هناك نقاط أرجو أن أركز عليها أو يلاحظها المجمع في مسيرته، بعضها منهجي وبعضها يتعلق بالموضوع بخصوصه.
الرئيس:
فضيلة الشيخ، مع المعذرة، أي شيء يتعلق بخطوات المجمع المنهجية وما إلى ذلك، قصدي أن الأمانة العامة موجودة على مدار العام فأنا الذي أرجو أن تعرفوا أننا جميعًا إخوة متلاحمون بعضنا مكمل للآخر، وأي إنسان عنده رأي أو وجهة نظر، نحن لا نمانع منها ولكنه يجب عليه أن يقدمها مكتوبة إلى الأمانة العامة للمجمع. والذي أرجوه من أصحاب الفضيلة الذين يطلبون الكلمة أن تكون في صلب الموضوع وألَّا تخرج عنه وأن نختصر عنه وأن نختصر بقدر الإمكان حتى نتمكن من استيعاب جميع الطالبين للكلمة، وأرجو أن يكون هذا الطلب محل قبول.(7/722)
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
أمر السيد الرئيس في أعناقنا، أنا لا أريد أن أتحدث عن منهج الأمانة ولا منهج المجمع، نحن نتحدث عن منهج إسلامي في مسائلنا. نحن بالخصوص، في هذه المسألة وفي المسائل السابقة التي مضت بنينا أحكامًا على قواعد وأصول أرى أنه لم ينقح معناها بعد، ومن الطبيعي أنه في أي نقاش أن تنقح الأصول المشتركة فيها والمعنى. أضرب مثالًا فقط ثم أعبر من قبيل لا تبع ما ليس عندك، هل هذا النهي عن كل ما لا يقع تحت الملكية؟ أو هو نهي عن بيع الأعيان الشخصية المملوكة للآخرين فلا يشمل مثلًا البيع بالصفر، الكلي في الذمة هو البيع في الصفر، أبيعك كليًّا في ذمتي على أن أحقق لك مصداقة بعد ذلك، هل هذا النهي نهي معلل حتى إذا اطمأننا من عدم ترتب المحذور ارتفع النهي وعاد نهيًا تنزيهيًّا كما يقول العلامة ابن رشد وأشار له الشيخ عبد الله بن بيه وكذلك من قبيل مسألة النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، هل نستند إلى هذا النص رغم ضعف سنده؟ هل يجبره عمل الأصحاب؟ هل نفسره بالمنع من بيع الدين بالدين؟ هذه أصول يجب أن توضح لدينا حتى نبني عليها أحكامنا. إذا كان كذلك فما معنى بيع الدين بالدين؟ هل المراد منه هو بيع دين قائم بدين قائم، ولا يشمل بيع دين بشيء حال يبدأ من الآن بدين يبدأ من الآن، أو لا بيع دينين، دين على هذا ودين على هذا؟ هل يمكن مسألة دفع الثمن نقدًا في بيع السلم؟ هل يمكن تأخيره إلى ثلاثة أيام عند الاشتراط وإلى أكثر من هذا إذا لم يشترط؟. ثم إن حصر البيع بالنسيئة والسلم والنقدي أو هناك شق رابع في هذا المعنى؟.
هذه أصول يبدو أنها لم تتوضح لدينا حتى نبني عليها بناءات أخرى. أعتقد أن هناك الكثير من الأمثلة التي يمكننا أن نذكرها. ينبغي إما لكل باحث أو للمجمع أن ينقح المقصود من هذه الأصول لأننا نمثل بها في طول مسيرتنا. يجب أن تتوضح حتى لا نعود للنقاش من جديد في مفهوم هذه الأصول.(7/723)
شيء آخر أقوله بكل إخلاص يا سيدي الرئيس، الحقيقة نحن هنا نريد أن نصل إلى الإفتاء وإلى الدليل الشرعي، ألاحظ فيما نستند، يكفينا أن يكون هناك إمام قال بهذا الرأي يكفينا أن يكون هناك رأي للحنفية أو رأي للإمامية ولا أريد أن أفرق، ليس هذا هو الأمر الصحيح، الصحيح أن نرجع إلى أصولنا ثم نقوي آراءنا بالكتاب والسنة الشريفة ثم نقوي آراءنا برأي هذا العالم ورأي هذا الإمام ورأي هذا الاتجاه الواسع من العلماء، هذا هو الصحيح حتى نستطيع أن نصل، أما أن نقبل رأيًا، وأرجو أن يعفوني الأستاذ السيد الرئيس لكل فقيه أن يقول وصلت إلى هذا الاطمئنان، والاطمئنان حجة ممن قول العالم الفلاني، لكن نحن لانتحدث عن الاطمئنان الشخصي، هناك اطمئنان جماعي نريد من هذا المجمع، هذا الاطمئنان لا يتم إلَّا عبر المنهج الذي يفرض نفسه على الجميع، وهو الرجوع إلى الأصول الأولى، ونتقوى بآراء المذاهب، نتقوى بآراء العلماء ولهم احترامهم وهم جميعًا على رؤوسنا، هذه نقطة.
مسألة قياس ضع وتعجل على الربا، أعتقد أنه قياس مع الفارق. أولًا ليست لدينا قاعدة وأن لا نستطيع أن نقول هناك خبر أو هناك نص يرفض أن يعوض الزمن بأي حال من الأحوال، ليس لدينا نص حتى نستيطع أن نقول كل مصداق لهذا العام يجب أن يرفض، نعم يمكننا أن نقيس حط وتعجل على الربا، لا يشمله مفهوم الربا كما هو الواضح في المسألة العرفية، الربا فيه زيادة ولا يشمل هذا المعنى، الأصل فيه أن يكون مباحًا لأنه حالة طبيعية يتنازل فيها دائن عن شيء لقاء حصوله على شيء آخر. هل هناك مانع من هذا التنازل؟ لا أجد مانعًا، على الأقل الحديثان متعارضان وإن كنتم رجحتم حديث ابن عباس، فإذا كان ليس هناك مانع من تحقق الأصل لدينا، لماذا نغلق هذا الباب؟ إن كانت هناك تطبيقات خاطئة، وما أكثر التطبيقات الخاطئة، هناك الكثيرون ادعوا الألوهية، هناك الكثير ادعوا النبوة، التطبيقات الخاطئة لا تمنعنا من قول الحق ومن الاتجاه إلى القول الحق.(7/724)
مسألة مهمة، مسألة أشرتم لها وهي مسألة الإمام الصادق، وأنتم أردتم أن تشيروا لهذا المعنى بكل وضوح. الحقيقة، يا سيدي الرئيس، في قلب نزف من دم، أنا أرى أن النقص والعيب في الفريقين معًا، يعني أعتقد أن على كل فقهاء الشيعة عندما يستنبطون أن يلاحظوا كل الأحاديث الواردة من غير كتبهم، فإذا ثبت لهم سند طبق معاييرهم في ثبوت السند، ولهم معايير دقيقة يا سيدي الرئيس وقوية وأذكر بأن كتاب " الكافي " الذي ينسبه البعض إلى الشيعة بأنه كل أحاديثه صحيحة رد عليه بعض علمائنا أكثر من ثلثي أحاديثه. إذن علينا، على علماء الشيعة، أن يدرسوه، وعلى علماء السنة أن يدرسوا أحاديث أهل البيت، فإذا ثبت لديهم السند ورأوا أناسًا في الطريق صادقين وحقيقيين، لماذا لا يعملون برأي الإمام الصادق الذي يقول: أنا أنقل عن أبي وأبي عن جدي وجدي عن رسول الله. هذه القطيعة الحديثية يجب أن تنتهي حتى نستطيع أن نصل إلى لغة مشتركة.
شيء آخر ألاحظه – طبعًا هذه أمور سريعة في الموضوع – مسألة اشتراط المقرض على المقترض أن يبقي عنده مبلغًا لمدة معينة أن يقرضه. أقرضك شيئًا على أن تقرضني شيئًا. أراه رغم أنها مخالفة لأستاذي الكبير الشهيد الصادق أراها مشمولة لقاعدة كل قرض جر نفعًا فهو ربا ولذلك لا أستطيع أن أقبل هذا الحل في مسألة البنوك الإسلامية رغم احترامي الكبير لهذا الرجل الكبير.
الشيء الآخر، مسألة الرهن السائل، الحقيقة الرهن السائل يحقق مقصوده كما أشار شيخنا الضرير باعتبار أن وثائقه مرهونة، ليكن البيت عند هذا الصاحب، لتكن السيارة عند هذا الرجل، لكن وثائقه مرهونة أما إذا انتفت هذه الوثائق المرهونة، فالرهن هنا لا يؤدي دورًا ولذلك ربما وقع الإشكال في هذا المعنى، ليس الأمر يتعلق بالاتفاق بين شخص وشخص، إذا كان الاتفاق شخصيًّا فمعناه أن الرهن انتفى، وهو يسلمه هذه السيارة بيده، انتفت مسألة الوثائقية.
بقيت نقطة واحدة، هي مسألة خصم الكمبيالة، صحيح أن الواقع الذي جرى اليوم واقع ربوي، لا أريد أن أبرره مطلقًا وأرفضه مطلقًا، ولكن نحن نريد أن نقول لبنك إسلامي يريد أن يعمل في الساحة: يمكنك أن تقدم الخدمات التالية فتوازي بها البنوك الربوية، وخصم الكمبيالة نوجهه بشكل طبيعي شرعي يمكنه أني يؤدي به هذه الخدمة، لماذا نغلق الباب تمامًا؟ وشكرًا جزيلًا.(7/725)
الرئيس:
ترفع الجلسة لاستراحة عشرين دقيقة ثم نعود إن شاء الله تعالى.
(بعد الاستراحة)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نعود إلى موضوعنا " البيع بالتقسيط " – بعد هذه الاستراحة القصيرة – وأعطي الكلمة للشيخ محمد سالم.
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت أريد أن أزيد إيضاحات قليلة حول بعض الموضوعات التي تعرض لها العارض وبعض من عارضه، منها: إنهم يقولون إن بيع الدين من غير من هو عليه لا يجوز، وإطلاق هذا الموضوع مخالف لما عندنا من أنه يجوز بيع الدين من غير من هو عليه ولكن بشروط: أولًا: أن يكون الدين مما يباع قبل قبضه بخلاف طعام المعاوضة، وأن يكون القصد من البيع ليس إعنات المدين فلا يباع دين على رجل ممن بينه وبينه عداوة أو شحناء. ثانيًا: ألَّا يكون العوضان مما يمنع بينهما الفضل أو النساء فلا يباع دين النقد بالنقد ولا يباع الربوي مطلقًا بالربوي متفاضلًا أو نسيئة. ثالثًا: أن يكون المدين حاضرًا مقرًّا فلا يباع دين على غائب لأننا لا نعرف حال ذمته ولا يباع دين على منكر لأنه بيع ما فيه خصومة ففيه نوع من الغرر. هذه إيضاحات حول شروط بيع الدين من غير من هو عليه.
عندنا قضية ضع وتعجل، هذه عند المالكية من قبيل سلف بزيادة لأن المعجل لما في الذمة مسلف وكذلك المؤخر بما في الذمة مسلف، فإذا كان لرجل على آخر مائة دينار حالة لا بأس أن يضع من هذا، هذا حسن اقتضاء، أما إذا كانت مؤجلة فإذا وضع من هذا إنه قد يكون أسلفه خمسين على أن يقبض بدلها مائة في المستقبل من نفسه ويقابله عندنا ما يسمى بحط الضمان وأزيدك لأن المؤخر بما في ذمتي مسلف، وعندنا قبض الرهن وعدم قبض الرهن إنما يؤثر في حال موت الراهن أو فلسه، ما دام الراهن موجودًا حيًّا عامر الذمة فإن عدم قبض الرهن لا يؤثر على صحة العلاقة بين الدائن والمدين. وعندنا مسألة خراب الذمة بالموت هذه كنت أود أن أتحدث عنها ولكن الإخوان كفوني مؤنة الحديث عنها بما في المذهب الحنبلي من أن الذمة إذا خربت وخلفتها ذمة عامرة برهن ثقة أو بحميل ثقة فإن حق المدين يبقى موفورًا محميًّا. وهذا قد يعوض عمارة ذمة المدين المتوفى بما يكفل حق الدائن. هذه أمور تكميلية فقط. وأما قضية دين كعب بن مالك على عبد الله بن أبي حدرد، هذه ليست من قضية ضع وتعجل لأن الدين كان حالًّا. كعب بن مالك استقضى دينه من ابن أبي حدرد بعد الحلول، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بما يفهم منه أنه يحط النصف ويقضيه ابن أبي حدرد، قال: قم فاقضيه، فهذا ليس من مقولة ضع وتعجل لأن الدين حال، وهو صلح وهو حسن قضاء وهو حسن اقتضاء من ابن أبي حدرد ولا يمكن أن يدرج في مفهوم قضية ضع وتعجل. شكرًا.(7/726)
الدكتور سعود بن مسعد الثبتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
لا يتجاوز كلامي الآن أن يكون تثنية على كلمات سبقت من الإخوة الأجلاء والعلماء الفضلاء، ولذلك وبناء على توجيه المجمع الاختصار قدر الإمكان، أحب أن ألخص الكليمات فيما سأقوله في نقاط محدودة.
أولًا: تعجيل الدين: تعجيل الدين إما أن يكون من المدين إلى الدائن، وهذا يظهر أن فيه أدلة خاصة كما أن فيه القياس على زيادة الثمن لأجل التأخير، أو لزيادة الثمن لأجل المدة الزمنية الزائدة والفرق بين الثمن الحال والثمن المؤجل، فكذلك إذا أراد أن يؤدي شيئًا من الدين الذي ثبت في ذمته جزءًا منه فلا أرى في ذلك بأسًا أخذا بمقتضى القياس في ذلك.
أما ما يتعلق بخصم الكمبيالة، في الحقيقة هذا يعتبر لشخص ثالث، فإما أن يكون خصم الكمبيالة بنفس جنس الدين، وهذا يجتمع فيه ربا الفضل وربا النسيئة، وإما أن يكون – كما اقترح بعض الإخوة – بغير الجنس، وهذا فيه ربا النسيئة، وهذا يسمَّى احتيالًا على الربا المحرم شرعًا.
أما فيما يتعلق بقبض المرهون، ففي الحقيقة أن القول الذي طرح ويتفق مع مذهب المالكية وسمي بالرهن السائل، هذا لا شك في صحته، إن شاء الله، لأنه ينطبق على اصطلاح أو على قاعدة القبض الحكمي. والقبض الحكمي قد اتخذ المجمع في دورات سابقة قرارًا بجوازه حتى في الأشياء الربوية بالنقد. بيع النقد بالنقد إذا حصل القبض الحكمي بالشيك أو بالقيد في الحساب، فقد اتخذ الجمع الموقر قرارًا سابقًا في هذا، ولا يرى في ذلك بأسًا. لكن يبقى قضية ما يتعلق بتسجيل الرهن. ذكر الإخوة أن تسجيل الرهن يعتبر قبضًا حكميًا، وهذا إن شاء الله يتماشى مع القواعد الصحيحة ومع فتوى المجمع السابقة في اعتبار القبض الحكمي في هذا، لكن يوجد من البيوع ومن الأعيان ما ليس له تسجيل في المحاكم الشرعية أو في وثائق رسمية فمثلًا بعض البيوت عندنا في المملكة وفي غيرها تباع وتشترى وليست لها صكوك شرعية ولا وثائق رسمية يمكن أن تسجل عليها، كما أن رهن الأعيان الأخرى كالأدوات أو بعض الأشياء التي لا يجري التعامل فيها بالقيد في وثائق رسمية، هذه تحتاج إلى اتخاذ قرار خاص فيها يتعلق بكيفية قبضها حكميًّا في الرهن.
أما حلول الدين وما يتعلق بخراب الذمة، فيظهر أن الإخوة سبقوني في الكلام عن هذا الموضوع وإن الذمة لا تخرب وإنما ذكر كثير من الفقهاء أنها تتلاشى شيئًا فشيئًا ويتعلق بها الدين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه.
وكما تفضل الدكتور على السالوس، واقع المعاصرة الآن أن الثمن قد يزاد ضعف إلى ضعفين على الثمن حالًّا فلو خربت الذمة أو قلنا بخراب الذمة وأن الدين يحل بهذا لأصبح الذي يطلب من الأشخاص المدينين أو من انتقل إليهم الملك يتجاوز الثمن الفعلي بأضعاف كثيرة، وقد لا يستطيعون أن يسددوا هذا الدين. وجزاكم الله خيرًا. وشكرًا.(7/727)
الدكتور عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا سيادة الرئيس. في الواقع، في البحث الذي تقدم به القاضي تقي العثماني لفت نظري أنه تكلم في مسألة وإن كانت ليست من صلب مسألة البيع بالتقسيط، وإنما هي من توابعها، كمسائل كثيرة ذكرت تبعًا للمسألة الأصلية " بيع التقسيط: وهي مسألة التعويض عن ضرر المطل، واستغرق في البحث من صفحة 31 إلى 42 وعرض حلولًا، من هذه الحلول التي جاءت في أول كلامه وهي معاقبة هذا المماطل، ونقصد بالمماطل هنا المماطل الموسر لا المعسر، هي معاقبته بمنع التسهيلات المصرفية في المستقبل عنه، والعقوبة الأخرى هي التعزير لبعض العقوبات، ثم استبعد هاتين العقوبتين. أما العقوبة الأولى بقوله: إن المصارف لا تتبع أسلوبًا معينًا واحدًا، وأما التعزيرات فقال: إنها تحتاج إلى محاكم سريعة وهي غير موجودة. ثم ناقش فكرة بعض العلماء الذين قالوا بإلزام المماطل بأداء عوض مالي عن الضرر الفعلي، ثم ناقش هذا الرأي ورد عليه واستبعده، ثم انتهى في النهاية إلى اقتراح قال: إنه قد يصلح لأن يكون حلًّا لهذه المعضلة، وهي أن تلزم المصارف عند القرض بإلزامه بأن يلتزم بأداء مبلغ يتبرع به إلى الجهات الخيرية. وأعتقد أن هذا الأخير أبعد عن الواقع لأنه إذا كان مماطلًا في أداء الدين الذي عليه فكيف يلتزم بأداء تبرعات، ثم من يكون له حق المطالبة بأداء هذا التبرع؟ وما صفة البنك في المطالبة بأداء هذا التبرع إذا كان لجهة خيرية أخرى؟. ولهذا أرى أن الاقتراح الذي اقترحه في أول كلامه، وهو كما جاء في الحديث الصحيح " ليُّ الواجد ظلم يحل عقوبته وماله" فهذه العقوبة تشمل فيما تشمل العقوبة المالية، وهو قد استبعد فكرة العقوبة المالية بقوله: بأنه لم يجد أن المماطلين الذين وجدوا منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا عوقبوا ماليًّا ولم يقل أحد من العلماء بعقوبتهم ماليًّا، العقوبة المالية موجودة وأنا قرأت في كتب الفقه حرمان القاتل من الميراث، هذا الحرمان هو عقوبة مالية، وإنما الخلاف هل يجوز للمبلغ المقضي به على هذا المماطل أن يدفع إلى صاحب الدين أم لا؟ هذه مسألة استنبطتها من حرمان القاتل من الميراث ثم صرف نصيبه من الميراث إلى ورثته بأنه يجوز أن يصرف هذا المبلغ إلى صاحب الدين. وشكرًا.(7/728)
الدكتور حسن عبد الله الأمين:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الهدى وخاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد،
لا بد لي أن أثني كل الثناء على العرض الممتاز والسرد الجميل الذي طرح به الأخ الفاضل الأستاذ القاضي تقي العثماني هذا الموضوع الهام. ولي على هذا الأمر حديث في نقطتين: الأولى تتعلق بتخريج الكمبيالة على أساس أنها مركبة من عمليتين مختلفتين كل منهما جائزة كما شرح الأخ، الأولى أنها وكالة بأجر، والثانية أنها قرض حسن للمستفيد من الكمبيالة الذي وكل البنك على التحصيل بالأجر. والواقع أن هذا التكييف الذي يبدو في الظاهر مقبولًا، هو في الواقع لا يمثل حقيقة القضية، إذ أن الأمر الثاني الذي هو قضية القرض الحسن يتوقف على عملية الوكالة بالأجر ويرتبط بها ارتباطًا عضويًّا. فالمعاملتان تمثِّلان معاملة واحدة لا تنفك أحدهما عن الأخرى، صحيح أننا لو نظرنا لكل عملية منفصلة عن الأخرى فهي سليمة لكن هذا الترابط وهذا التداخل وهذا التوظف من إحدى العمليتين على الأخرى لا يجعلهما منفصلتين ولكن يجعلهما عملية واحدة، فهذه العملية الواحدة لا تغير من الأمر، أمر أن هذه المسألة وهي تحصيل الكمبيالة أو خصم الكمبيالة على الأصح عملية قرض بفائدة.
النقطة الثانية: الحقيقة سبقني إلى الحديث عنها الأخ الشيخ التسخيري فيما يتعلق بالحبوة التي ذكرها السيد الصادق في كتابه " البنك اللاربوي " هذه المسألة مسألة أنه يأتي بمقدار الفائدة مبلغًا يوضع لدى البنك فترة من الزمن يستفيد منه فائدة تساوي مقدار هذه الفائدة التي كان يخصمها مباشرة هي عملية واضحة في أنها نفي ويمثل زيادة على القرض الذي أقرضه إياه، فهو قرض جر نفعًا، وهو قرض يمثل زيادة على أصل المبلغ، وهو ربا في نفس الوقت. ومن هذا يتضح أن العملية في المسألتين لا تخرج عن كونها قرضًا بفائدة ربوية محرمة. وشكرًا جزيلًا.(7/729)
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا سمح لي الإخوة الكرام، لي بعض التعليقات البسيطة فيما يتعلق بموضوع الرهن وبالذات ما سمي بالرهن السائل أو الرهن الثابت. حقيقة هذا الموضوع تمت معالجته في القانون المدني الأردني المأخوذ من مبادئ الفقه الإسلامي والتي تبنته عدد من الدول العربية والإسلامية تحت عنوان " الرهن التأميني " وميز بين رهنين: الرهن التأميني والرهن الحيازي. الرهن الحيازي الذي يكون فيه قبض، والرهن التأميني هو الذي يغني عن القبض فيه واعتبر حكميًّا كما عبر بعض الإخوة بوضع إشارة على سجل أمور محددة وهي الآن لا تعدو أن تكون: العقارات والسيارات لأن هذه فيها عند السلطة التنفيذية لها سجلات موجودة محفوظة معرفة فيها الأرض والسيارة بكامل تفصيلاتها. فبدلًا أن تتم عملية التخلية بالنسبة للعقار يسجل على صفحة العقار في دائرة السجل العقاري أن هذه الأرض مرهونة ضمانًا لحق فلان، وتفصيلات الدين وكل ما يتعلق بها موجودة على ظهر السجل لهذا العقار. فلذلك لا مجال في الواقع للوقوف عند هذه القضية ومحاولة معالجتها لأنها قضية واضحة وهي عبارة عن تطوير في عملية القبض. لذلك حتى تعبير الثابت هنا والسائل وقع هذا نموًّا في أدوات التوثيق بعد أن أصبح لهذه الأشياء سجلات خاصة، فبدل أن نقوم بعملية القبض الفعلي أو القبض الحكمي القائم على التخلية، أصبح تسجيلًا أن هذا رهن، خاصة أن السلطة التنفيذية بالتعاون مع السلطة القضائية هي التي تنفذ في النهاية عملية البيع لسداد الدين فيما إذا عجز المدين عن السداد. فلذلك – في ظني – أن هذه القضية يحسن أن لا نقف عندها طويلًا لأنها من الوضوح بمكان.
فيما يتعلق بموضوع خصم الكمبيالة، أنا في رأيي، أنها من هذا القبيل. القضية بتت وقتلت بحثًا والذين يتبنون مثل هذه العمليات هم يقولون أنها قرض، فنحن يمكن أن نبحث في وسيلة المعالجة وليس في إعادة تكييف العملية، وسيلة المعالجة لا يمكن معالجتها ما دام أننا في إطار القرض إلا أن نقول بالقرض الحسن، لكن مقابل قيام البنك بجهد في التحصيل فليستحق أجرة على هذا الجهد، ليس مبلغًا منسوبًا لقيمة الكمبيالة، لأن الجهد الذي يبذل لتحصيل ألف هو نفس الجهد الذي يبذل لتحصيل عشرة آلاف وخمسة وعشرين ألفًا وهكذا. فلذلك البنوك الإسلامية التي لجأت إلى خصم الكمبيالات أخذتها على أسلوب القرض الحسن وتأخذ أجرة تحصيل مبلغًا مقطوعًا كخدمة للزبائن لا تختلف باختلاف المبالغ المرصودة في هذه الكمبيالة.(7/730)
الأمر الثالث فيما يتعلق بضع وتعجل. أرجو أن ننتبه باستمرار لعملية التطور والمدخلات الجديدة التي تدخل على الوقائع والتي تقتضي إعادة النظر فيما صدر من فتاوى على ضوء ما حدث من مستجدات، يعني هل غيرت طبيعة الواقعة أم ما زالت الواقعة هي هي حتى يظل الحكم هو هو؟ في ظني أن موضوع الفقهاء الذين قالوا بضع وتعجل جوازًا الأمر بات الآن في هذه الظروف المعاصرة هناك نقطة يجب أن نلحظها، الذين قالوا بذلك لم يشيروا إلى أن العملية مشروطة مسبقًا، يعني هذه عملية لاحقة عندما يريد أن يسدد يمكن أن تكون هنالك عملية تنزيل جزء من الدين وعلى أساس أن يسدد كامل الدين، فهي اتفاق تم في فترة لاحقة. مشكلتنا الآن بعد استشراء عمليات البيوع بالتقسيط وقيام بيوع المرابحة في البنوك الإسلامية. إذا أصبحت هذه قاعدة مسلمة معروفة أنه إذا سدد مبكرًا خصم له جزء من العملية رسخنا مفهوم الفائدة الربوية، هذا الذي يجب أن ننتبه إليه. لذلك فقهاؤنا المعاصرون إذا أراد البنك دون اشتراط مسبق ودون أن يكون معروفًا عرفًا مستقرًّا، لأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، جاءه أحد المدينين وقال له أنا ظروفي الاقتصادية لا تسمح بأن أدفع كامل المبلغ، خذ هذا المبلغ الآن وأعجل لك في ما في ذمتي من ديون وتنزل لي جزءًا منه وفعل ذلك البنك، لا حرج في هذا ويكون ضمن قاعدة ضع وتعجل، لكن أن يصبح هذا تقليدًا راسخًا وثابتًا في المؤسسة المصرفية الإسلامية بحيث أن أي شخص يقوم بالدفع المبكر تنزل عنه كل النسب التي أضيفت على المدة سابقًا، فنحن قد دخلنا في دائرة الحرام. لذلك يجب أن نأخذ بقاعدة ضع وتعجل ونرجح رأي الفقهاء، لكن على ألا يكون ذلك التزامًا معروفًا مستقرًّا، وتحديدًا مسبقًا يعرفه المدينون باستمرار، لأنه لم يقل أحد من الفقهاء أن ضع هنا لها نسبة، لكن نخشى إذا أطلقنا القول، أن ضع هنا ستصبح لها نسبة، وهي نسبة الزيادة التي تمت على المبلغ ملاحظة للمدة. شكرًا.(7/731)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الذمة عرفها ابن عاصم في بيت وفق فيه فقال:
والشرح للذمة وصف قاما
يقبل الالتزام والإلزاما
فالذمة وهو وصف قدره الشارع حقيقي وهو ليس ذاتًا يقبل الالتزام يلتزم ويلزمه غيره، ولذلك لا يتعلق المعين المحدد ذات هذه القضية بالذمة ولكن يتعلق بها المحددات ولا تتعلق بها الكليات لأن الكليات اعتبارية، وعندما فهمت مما فهمت، فالكلي حسب ما يعرفه أهل صناعته هو ما لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه، ولما أخذت الكلي وقلت إن هذا هو مذهب أفلاطوني لأن أفلاطون هو الذي يرى أن الحقائق هي للكليات الذهنية وليست للجزئيات الواقعة في الخارج، ومذهبه تبين تساقطه وعدم صحته، وما استطاع العالم أن يتقدم إلا بعد أن تخلى عن قضية الكلي واعتنى بالجزئي واعتنى بالواقع الذي هو أساس الفلسفة الإسلامية من أنها فلسفة واقعية، لأن الكليات معروفة وهي الجنس والنوع والخاصة والفصل، وما تقع ذمة في الجنس والنوع والخاصة والفصل وإنما هي تقع في شيء محدد يضبطه الطرفان فيلزم به أحدهما الآخر.
الأمر الثاني، ونحن دائمًا وأبدًا مع الذمة لما كانت الوصف قام: يقبل الالتزام والإلزام وتترتب عليه أحكام شرعية، أي أن لإنسان إذا كانت في ذمته دين فهو ملزم بقضائه، وإذا لم يقضه فإنه قد وقع في حرام إذا كان موسرًا، فوجود الذمة هي يتبعها أحكام شرعية معروفة، فإذا قلنا إنها تتعلق بالميت فأنا لم أستطع أن أفهم كيف تكون الذمة وأن تكون للميت ذمة، وما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم: " نفس المؤمن معلقة بدينه " ومن عدم صلاته صلى الله عليه وسلم على من كان عليه دين، هذه قضايا أخروية وليست هي قضايا دنيوية، ونحن نتحدث ها هنا في مجمعنا هذا عن القضايا وعن الحقوق ونظرة إلى الشرع الإسلامي لهذه الحقوق، أما الحديث المروي على ما فيه من صحة سنده " ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته " لم يرد فيما أعلم " ليُّ الواجد يحل عرضه وماله" فكلمة مال ما علمت وما وجدت، قد يكون موجودًا ولكن لا أعرفها. ثم ما وقع من قياس حرمان القاتل إلزام بالدفع على حرمان القاتل، القياس معروف أنواعه، فهذا لا يصير حتى من قياس الشبه، هو أبعد من قياس الشبه، وهو عودة إلى المناسب المرسل، والمناسب المرسل لابد أن يكون ظاهرًا منضبطًا، وها هنا ليس له ظهور ولا انضباط، ووقع حرمان القاتل، لأن الذي أعلم به الفقهاء: من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه، هذه علة من العلل، فإذا أخذنا أن هذه العلة هي التي تستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: ((القاتل لا يرث)) فهي ثابتة إذن هي العقوبة المالية، فأعتقد أن هذا القياس هو قياس، في نظري، غير مقبول شرعًا، وهو أن يقاس الإلزام بالدفع على حرمان القاتل من الميراث، شكرًا.(7/732)
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الواقع أن النقاط التي أثيرت في هذا النقاش كنت أريد أن أتحدث عن كثير منها ولكن حفاظًا على الوقت أقتصر على نقاط ثلاث.
أولًا، فقد ذكر كثير من الإخوة ومنهم الأستاذ القره داغي والشيخ حسن عبد الله الأمين وغيرهما أني كيَّفت خصم الكمبيالة على أساس معاملتين مستقلتين، ولعله وقع هناك بعض الإساءة في التعبير مني في البحث، والحقيقة أن ما ذكرته من معاملتين مستقلتين ليس تكييفًا لما يقع في البنوك الربوية اليوم، وإني قد صرحت بكل صراحة أن خصم الكمبيالة على ما يجري في البنوك والمصارف الربوية اليوم هو حرام لا سبيل إلى القول بجوازه، ولكني أتيت بتكييف آخر كبديل، يعني إذا أرادت المصارف الإسلامية والبنوك الإسلامية أن تأخذ بديلًا عن هذه المعاملة فيمكن تغيير هذه المعاملة إلى هذا الشكل، فأما ما يقع اليوم فهو حرام لا شبهة فيه وأنه ربا لا شبهة فيه، وقد ذكرت ذلك غير مرة، فمن نسب إليَّ أني أتيت بتكييف جديد لخصم الكمبيالة فهو غير ما قصدته وأردته ولعل ذلك وقع من سوء التعبير، وسأصلح ذلك التعبير إن شاء الله. والمراد ما هو بديل خصم الكمبيالة، فأردت لذلك الآتي: أن تكون عن طريق معاملتين مستقلتين. أما ما ذكره بعض الإخوة أن هاتين المعاملتين ليستا مستقلتين ومنفصلتين عن الآخر وأنهما حيلة لجواز خصم الكمبيالة، أفلا ترون أن المرابحة للآمر بالشراء وأن التأجير المنتهي بالتمليك. جميع هذه العقود ينطبق عليها هذا الاعتراض تمامًا، وهذه حيل شرعية ولكن ما دامت في حدود شرعية وفي حدود الفقه الإسلامي فإنها اعتبرت واتخذت كبديل للمعاملات الربوية، وإن التأجير المنتهي بالتمليك قد أقره المجمع مع أن هناك معاملتين: معاملة تأجير، ومعاملة هبة، ولكنه أقره المجمع وأقره فضيلة الشيخ الصديق الضرير حفظه الله تعالى وجميع الإخوة الذين تكلموا حول هذا البديل.(7/733)
النقطة الثانية تتعلق بمسألة ضع وتعجل، وقد ذكر أن مسألة ضع وتعجل في حديث بني النضير قد صححه الحاكم وأنه قد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى صحيح ولكني تحدثت عن ناحية أخرى وهي أننا لو سلمنا بصحة هذا الحديث ولا شك أن واقعة بني النضير وقعت حينما وقعت في السنة الثانية من الهجرة وأن الربا لم يحرم في ذلك الزمان فكانت تلك الواقعة قبل تحريم الربا.
وهناك ناحية أخرى ذكرتها وهي ولإن سُلِّم بصحة هذا الحديث فإن هناك احتمالًا وهو أن ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن من رأس المال إنما وضع القدر الزائد من رأس المال وقد أيدته بروايات للواقدي.
كما أن هناك ناحية أخرى ذكرتها وقد نبه عليها الدكتور عبد السلام العبادي وهو أننا متى استخدمنا مبدأ ضع وتعجل في البنوك الإسلامية لم يبق هناك أي فارق بين المعاملات الربوية وبين المرابحات والبيوع المؤجلة التي تجريها المصارف الإسلامية، فينبغي أن نبعد هذا الموضوع كل الإبعاد عن المصارف الإسلامية لتضمن صحة المعاملة.
والنقطة الأخيرة أثارها الشيخ عبد الله حفظ الله في مسألة التعويض، وقد ذكرت في مقدمة كلامي أن مسألة التعويض قد فرغ منها في الدورة السابقة فلا مجال للنقاش فيها من جديد فإنها قد أقرت وقد اتخذ فيها القرار، وأما ما جئت به كبديل فهو أنه يمكن أن يلتزم بالتبرع وأن الالتزام بالتبرع عن المماطل – كما اعترض عليه الشيخ عبد الله – كيف يلتزم بالتبرع وهو مماطل؟ فنفس الاعتراض يعود على التعويض ولكن إذا كان هذا الالتزام ملزمًا قضائيًا كما اقترحته وأتيت له بشواهد من مذهب الإمام مالك رحمه الله، فحينئذ يلزم قضاء بهذا التبرع. وأرجو أن تكون في هذه النقاط الثلاثة كفاية عن معظم ما قيل من قبل الإخوان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(7/734)
الرئيس:
نعتذر عن بقية الكلمات نظرًا لتجاوز الوقت.
بسم الله الرحمن الرحيم
في هذا الموضوع " بيع التقسيط " الذي حصل البحث فيه في محاوره الأربعة: مسألة توثيق الدين، ومسألة ضع وتعجل، ومسألة حلول الدين بوفاة المدين، وحسم الكمبيالات. وسمعتم ما دار فيها من مداولات وهي بحمد الله متقاربة والتفاوت في أجزاء يسيرة منها، وقد ترون مناسبًا أن تتألف اللجنة من المشايخ: الشيخ نزيه، والشيخ محيي الدين، والشيخ سعود الثبيتي، والأستاذ رفيق المصري، والأستاذ أنس الزرقاء.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(7/735)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 66/2/7
بشأن
البيع بالتقسيط
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 – 14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجممع بخصوص موضوع: " البيع بالتقسيط ".
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر:
1- البيع بالتقسيط جحائز شرعاً، ولو زاد فيه الثمن المؤجل على المعجل.
2- الأوراق التجارية (الشيكات – السندات لأمر – سندات السحب) من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة.
3- إن حسم (خصم) الأوراق التجارية غير جائز شرعًا، لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم.
4- الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين، (ضع وتعجل) جائزة شرعًا، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق. وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية. فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذٍ حكم حسم الأوراق التجارية.
5- يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه ما لم يكن معسرًا.
6- إذا اعتبر الدين حالًّا لموت المدين أو إفلاسه أو مماطلته، فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي.
7- ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار: ألَّا يكون للمدين مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقداً أو عيناً.
والله أعلم.(7/736)
عقد الاستصناع
ومدى أهميته في
الاستثمارات الإسلامية المعاصرة
إعداد
فضيلة الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا البحث يدور على محورين:
المحور الأول: عقد الاستصناع في ذاته: حقيقته ومشروعيته وضرورته، واختلاف المذاهب والآراء الفقهية فيه، وهل هو مستقل له خصائصه. أو ملحق بأحد العقود المعروفة التقليدية، وتعريفه وتكييفه، وآثاره وما إلى ذلك بصورة إجمالية تؤدي الغاية من بحث يقدم في دورة اجتماع البنوك الإسلامية، دون تغلغل في الأحكام الفرعية، وتفصيل في الآراء والأدلة مما محله الكتب.
المحور الثاني: هو مدى أهمية عقد الاستصناع في الاستثمارات الإسلامية المعاصرة، وماذا يلبي من الاحتياجات الزمنية ويفتح من أبواب للاستثمارات الإسلامية كانت تضيق عنها العقود الأخرى غير عقد الاستصناع الذي تميز بخصائص عما يشابهه من العقود وهي: الإجارة، والسلم، والبيع المطلق (العادي) .
وسنتكلم في ما يلي في هذين المحورين بهذا الترتيب، متقيدين بهذا الإجمال الذي أشرنا إليه بحسب طبيعة المجال الذي يقدم فيه هذا البحث.(7/737)
المحور الأول
عقد الاستصناع في ذاته
إيضاحات تمهيدية:
تطورت حاجة العصر الحاضر في أنواع التعامل والعقود تطورًا كبيرًا، لعوامل كثيرة تميز بها هذا العصر، منها الابتكارات المذهلة في وسائل الاتصال السريع بين أقطار العالم المتنائية، ومنها الابتكارات الصناعية لأنواع من السلع لا يمكن تصورها في الماضي القريب – بله البعيد - وتؤدي للإنسان منفعة لم يكن ليحلم بها، أو تسهل له خدمة ضرورية كانت شاقة عليه عملًا وكلفة ووقتًا، فإذا بها تصبح أيسر ما يكون.
ومن عوامل تطور حاجات العصر أيضًا نمو علم الاقتصاد وتوسع آفاقه وتعمقها، واكتشاف مؤثرات ومؤشرات فيه ذات دلالة كبيرة الأهمية لم تكن معروفة أو مؤصلة من قبل، مما جعل التعامل التجاري مرتبطًا بالزمن موعدًا ومددًا، ارتباطًا وثيقًا ودقيقًا عظيم التأثير.
كان من نتائج هذه الخصائص التي تميز بها عصرنا هذا عما سبقه ظهور عقود جديدة لوفاء حاجات لم تكن بارزة أو ملحة في عصور فقهائنا الأوائل، كعقود المقاولات في المباني والمصانع الكبرى والمشاريع والمنشآت الضخمة، كما أبرزت هذا العصر أهمية لبعض أنواع التعاقد كانت معروفة بصورة بدائية فأخذت صورة متطورة أخرى كالشركات الحديثة.
وكذلك ظهر في هذا العصر المتطور حاجة إلى أنواع من التعامل كانت الحاجة إليها ضئيلة محدودة في النطاق الشخصي، ولكنها اليوم في عصر المشاريع والصناعة والتمويلات الكبرى والائتمانات الضخمة نرى فيها قابلية لأن تلبي مطالب اقتصادية مهمة، وتحل بعض المشكلات في التعامل لمن يحرصون على التزام قواعد الشريعة الإسلامية وفقهها في معاملاتهم، كبيع السلم وشركة المضاربة. ولعل أهم ما ينطبق عليه ذلك في هذا المجال عقد الاستصناع.(7/738)
لمحة عن نشأة عقد الاستصناع والحاجة إليه:
تعارف الناس عقد الاستصناع من القديم قبل الإسلام، وذلك لأن الحاجة إليه مرتبطة بأسباب طبيعية عامة، وإن الحاجة، كما يقال، هي أم الاختراع. وينطبق ذلك على العقود بوجه عام، فإن كل عقد إنما ولد وتعورف طريقًا لتحقيق غاية اشتدت حاجة المجتمع إليها. وقد ولد عقد الاستصناع من الحاجة إليه في حياة اجتماعية آخذة في التحضير كما ولد ونشأ غيره من العقود.
فحاجة الإنسان في حياته البدائية الأولى إلى سلعة ليست عنده، وهي موجودة عند غيره، لما اشتدت فتح لها باب (المقايضة) التي هي أقدم صور مبادلة المال بالمال عينًا، والتي هي أصل البيع والشراء بالتراضي.
ثم لما لم تعد المقايضة كافية لتلبية الحاجة المستمرة في الاتساع، بسبب ضيق النطاق المتاح في المقايضة بين السلع المتعادلة، ابتكرت النقود في صورتها البدائية، فأصبح التبادل المتعادل ممكنًا بين السلعة المطلوبة لراغبها ومقدار من النقود المتعارفة المقبولة معادل لها، فانحلت صعوبة المقايضة بفتح باب لبيع السلع وشرائها بالنقود. وهذا الفتح الجديد قد ولد حاجة جديدة إلى جعل قطع النقود متفاوتة حجمًا وقيمة بحسب حاجة المبادلة وحجمها، فنشأ من ذلك عقد الصرف، لمبادلة القطع الكبرى من النقود بقطع أصغر، وهكذا ...
ثم لما كثرت حاجة الأفراد الذين يحتاج أحدهم إلى ما عند غيره من السلع الاستعمالية الخادمة لكي يستعملها مدة قصيرة فقط، ورؤي أن شراء كل ما يحتاج إليه لمدة قصيرة هو أمر عسير جدًّا غير مستطاع، تولد من هذه الحاجة عقد يستطيع الإنسان فيه أن يدفع جزءًا يسيرًا من قيمة السلعة التي يريد استعمالها لمدة قصيرة يعادل المنفعة المحدودة الموقوتة التي يريدها من السلعة، فتولد وتعورف العقد الذي سمِّيَ فيما بعد بالإجارة التي لولاها لاضطر كل ذي حاجة إلى سلعة عند غيره لمدة موقوتة أن يشتريها بكامل ثمنها ثم يطرحها.
ثم لما اتسع نطاق التعامل في كل مجتمع، وظهرت التجارة لتوفير أنواع السلع لمحتاجيها، وأخذت طريقها في الاتساع، لجأ التجار إلى المداينة والائتمان عندما يكون المشتري ليس لديه حين الشراء كامل الثمن، فيمهله البائع طمعًا في توسيع دائرة زبائنه وأرباحه، ويستوفي منه فيما بعد، وظهر بذلك للمداينة مصلحة للطرفين يدور بها دولاب التجارة وتعظيم مردوداته.
لكن إبليس للإنسان بالمرصاد، فأخذ يلعب بعقول بعض الناس مستغلًّا ما عندهم من غريزة الطمع، فأصبح بعض المدينين لا يؤدي دينه في ميعاده، أو يحاول أكله بشتى الأساليب والوسائل وحرمان صاحبه الذي وثق به من حقه، فكثر فساد الذمم لدى بعض الناس من أمثال ذلك القائل:(7/739)
إني وجدك لا أقضي الغريم وإن
حان القضاء وما رقت له كبدي
إلا عصا أرزن طارت برايتها
تنوء ضربتها بالكف والعضد
[روى هذين البيتين ابن منظور في لسان العرب، مادة (رزن) والأرزن شجر صلب العود تتخذ منه العصي] .
واشتدت الحاجة إلى وسيلة لضمان الوفاء، فتولد عقد الرهن لتوثيق الحقوق، وهلم جرا ...
وهكذا نرى أن العقود التي تعارفها الناس في مجتمعاتهم، وتكونت منها طرق التعامل المتشابكة والائتمانات والضمانات لم تنشأ دفعة واحدة، كما يدون نظام تعاملي اليوم في قانون مكتوب يصدر كاملًا، وإنما تولدت ونشأت على التوالي، وتطورت أحكامها الفرعية بحسب الحاجة.
وينطبق ذلك على عقد الاستصناع موضوع بحثنا هذا، فقد تولد وتعارفه الناس في مجتمعاتهم من القديم لظهور الحاجة الشديدة إليه في النطاق الشخصي، ذلك أن لأفراد الناس في كل مجتمع بعض حاجات تختلف بطبيعتها بين فرد لآخر، فما يصلح منها لواحد لا يصلح لغيره:
فالحذاء الذي يحتذيه الشخص في قدميه مثلًا لا يمكن أن يصلح فيه مقاس واحد حجمًا وشكلًا لأي كان، لا خلاف أقدام الناس رجالًا ونساء، ولا سيما أيضًا بسبب اختلاف الأعمار.
وكذلك الملابس، فالشخص الجسيم أو الطويل لا يصلح له ما يصلح للنحيف أو القصير، والخاتم الذي كانت تختم به الرسائل منقوشًا عليه اسم صاحبه، لا يصلح لغير صاحبه.
أضف إلى ذلك اختلاف الأذواق والرغبات بين الأشخاص: فالحلي التي تصنع من المعادن النفيسة وترصع بالأحجار الكريمة للتزين قد يريد محتاجها شكلًا أو لونًا غير ما يريده سواه ويهواه ذوقه.
لذا ظهرت الحاجة واشتدت من القديم إلى أن يوصي الإنسان على بعض أشيائه الخاصة وفق ما يلائم حاجته وذوقه من الأوصاف، لدى من يصنعها له من محترفي صناعتها، بمادة وعناصر من عند صانعها، وبثمن معين في مدة يتفق عليها، وذلك لصعوبة تجميع تلك العناصر، وبالمقادير التي تحتاج السلعة من قبل راغبها.
هذه هي الصورة الأصلية لعقد الاستصناع، والحاجة التي دعت إلى تعارفه، لأن عقد البيع بصورته العامة التي يتعاقد فيها الناس على البيع والشراء في سلع مهيأة جاهزة لم يكن ليلبي جميع احتياجات الناس المختلفة من وجوه عديدة، لاختلاف الحاجات ذاتها، واختلاف الأذواق والمشارب، والرغبات والمطالب.(7/740)
ومن ثم شاع عقد الاستصناع في جميع المجتمعات البشرية المتحضرة التي تتكون فيها المهن والاحتراف الذي يهدف إلى أداء خدمات وأعمال إلى الغير نحتاج إلى اختصاص كصنع الأحذية، وحياكة الثياب، والنقش على المعادن، والنجارة، وصنع الأواني، وغير ذلك لقاء عوض يتفق عليه، وظل عقد الاستصناع في النطاق الفردي الشخصي.
ظهر في هذا العصر ولا سيما من أول هذا القرن العشرين الميلادي مزيد من الحاجة إلى بعض حالات بيع المعدوم، كشراء مصنوعات يوصى عليها لدى بعض المصانع لا تتوافر فيها جاهزة لضخامة كمياتها، أو لمواصفاتها الخاصة.
مثل هذا التوصيات الشرائية بين الشركات التجارية الكبرى العالمية، والمصانع المشهورة في البلاد الصناعية في العالم، أصبحت حاجة أساسية في الممارسات الاقتصادية، نظرًا للازدياد المستمر في عدد السكان، وازدياد الطلب – تبعًا لذلك – على السلع الصناعية الأصلية والمستجدة التي أوجدتها الاختراعات وفنون الصناعة، وحققت منافع جديدة، ويسرت من الوسائل، ووفرت كثيرًا من الزمن والمتاعب، وذللت من مصاعب الحياة حتى أصبحت لا يستغنى عنها في حياة مدنية حديثة. وقد شمل ذلك الأغذية والأدوية، والتدابير الصحية الخاصة والعامة، الوقائية والعلاجية، وتدبير المنزل والتربية والتعليم والنقل والمواصلات بوسائلها المختلفة، وتعبيد الطرق والاتصالات عن بعد، والملابس للرجال وللنساء والأطفال بمختلف أنواعها لمختلف الفصول، ووسائل الفلاحة والزراعة، ومكافحة الحشرات، والتعبئة (حتى أن هناك معامل خاصة بصناعة بعض أنواع علب التعبئة أو التعليب فقط لا غير) ، إلى أدوات الكتابة والطباعة، والتسلية والرياضة، أضف إلى ذلك وسائل الإنارة والتنظيف والتدفئة والتبريد والتثليج، وسوى ذلك مما لا يستطيع الفكر والنظر إحصاءه، وتعجز الأقلام والأرقام عن حصره.
كل هذه الشبكة الهائلة العظيمة المحيطة بحياة الإنسان اليوم، فردًا وجماعات، أصبحت هدفًا مشتركًا بين الصناعة والتجارة التي تغطي أقطار العالم بطريق الشركات العظمى الصناعية والتجارية. وكثير من إنتاج المصانع يتم بطريق التوصية والاستصناع، فهي قد تنتج مصنوعاتها من تلقاء أنفسها وتعرضها على الأسواق، ولكنها كثيرًا ما تتلقى التوصيات وتعقد الصفقات الكبرى بطريق الاستصناع للشركات التجارية، وكبار التجار المستوردين.(7/741)
تطور الحاجة إلى توسيع نطاق الاستصناع:
إلى جانب هذه الحاجة العامة إلى الاستصناع في مختلف السلع الصغرى الاستهلاكية والاستعمالية قامت حاجة أعظم إلى السلع الكبرى من الآليات والمعدات، كالقطارات والطائرات والبواخر العملاقة من حمولة خمسمائة ألف طن فأكثر من حاملات النفط وسواه، حتى المصانع الآلية ذاتها بجميع أجهزتها يشتريها من يريد إنشاءها بطريق الاستصناع بحسب حاجته ضخامة وطاقة إنتاجية.
وقد ظهرت هذه الأهمية العظمي لعقد الاستصناع في القرن الماضي (التاسع عشر) ، قرن الثورة الصناعية في البلاد المتطورة (في الغرب) وهو أيضا القرن الذي أناخ فيه الاستعمار بكلكله على البلاد المتخلفة صناعيًّا (آسيا وأفريقيا بوجه عام) ، وفي بعض سواهما من القارات الأخرى، واتخذ منها مصادر للمواد الأولية التي تحتاج إليها صناعات المستعمرين، وأسواقًا لمنتوجات مصانع بلادهم.
فقد جاء في تقرير جمعية مجلة الأحكام العدلية الذي رفعت به المجلة بعد الفراغ من تدوينها وتحريرها إلى مقام الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) عالي باشا في الدولة العثمانية سنة 1286هـ إشارة إلى أهمية عقد الاستصناع مبينًا أن الجمعية أخذت بعدم خيار الرؤية للمشتري المستصنع في عقد الاستصناع وهو قول مرجوح في المذهب الحنفي، ولم تأخذ بالقول الراجح، وذلك منها بدافع المصلحة للأهمية الكبرى التي أصبحت لعقد الاستصناع وشموله لأنواع جديدة من المصنوعات المكلفة التي إذا أعطي فيها خيار الرؤية للمشتري المستصنع (ولو جاءت موافقة للمواصفات المطلوبة) تترتب عليه مشكلة وضرر لا يحتمل للصانع. فقالت جمعية المجلة حول هذا الموضوع ما نصه:
" وعند الإمام الأعظم للمستصنع الرجوع بعد عقد الاستصناع، وقال الإمام أبو يوسف رحمه الله: إنه إذا وجد المصنوع موافقًا للصفات التي شرطت وقت العقد فليس له الرجوع. والحال أنه في هذا الزمان قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها المدافع والبواخر ونحوها بالمقاولة. وبذلك صار الاستصناع من الأمور العظيمة التي جرى عليها الناس. فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة. ولما كان الاستصناع مستندًا إلى التعارف، ومقيسًا على السلم المشروع على خلاف القياس بناء على عرف الناس لزم اختيار قول أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذا، مراعاة لمصلحة الوقت، كما حرر في المادة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة من هذه المجلة ".(7/742)
إن تلك الشبكة الهائلة من المصنوعات المشار إليها، والتي في أغلب الأحيان يحتاج إلى التعاقد عليها قبل وجودها، كان الطريق إليها في فقه الشريعة ينحصر في عقد السلم الذي أجيز في بيع المعدوم الذي يمكن وجوده أو إيجاده في المستقبل استثناء من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم لما يحفه من الغرر، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يبيع الإنسان ما ليس عنده ورخص في السلم استثناء.
وهذا الاستثناء للسلم واضح الحكمة وعظيم الأهمية في الميزان الاقتصادي، فإن عنصري الإنتاج اللذين لا بد من اجتماعهما لتحققه، وهما رأس المال والعمل، قد يفترقان في كثير من الأحيان فيتعطلان، حيث يوجد المال في يد عاجزة عن استثماره ومداولته في طريق الإنتاج، وتوجد اليد القادرة على الإنتاج ولكنها محتاجة إلى رأس المال.
فإباحة بيع المعدوم الذي يمكن أن ينتجه المعدم المحتاج إلى رأس المال بقبض ثمنه مسبقًا للتمكن من إنتاجه تتيح اجتماع عنصري الإنتاج المفترقين، هذا إلى جانب فوائد أخرى اقتصادية معروفة لعقد السلم.
لكن هذا المشكل الاقتصادي الذي حله عقد السلم في الماضي لم يعد كافيًا لوفاء الحاجة الاقتصادية العامة في عصرنا الحاضر. ذلك لأن عقد السلم يشترط شرعًا لصحته تعجيل ثمن المبيع المعدوم، لأنه إنما استثنى من القاعدة بغية جمع عنصري الإنتاج المفترقين، كما أوضحنا، وذلك بنص الحديث النبوي الثابت، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ، أي الدين المؤجل في الذمة، بدين مؤجل أيضًا في الذمة. والمبيع في السلم دين مؤجل ملتزم في الذمة، لأنه معدوم سوف يعمل البائع على إيجاده بمعونة الثمن (رأس المال) ، فإذا كان الثمن أيضًا مؤجلًا ملتزمًا في الذمة (غير مقبوض) ، فقد أصبح كالئًا بكالئ، وانتفت الحكمة من إباحة السلم استثناء من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم للحاجة الاقتصادية العامة، وضاعت الفرصة التي أتيحت لتيسير عملية الإنتاج، وانقلب الموضوع إلى مضاربة بالأسعار المستقبلة. فإذا ارتفعت الأسعار أو هبطت استفاد أحد الطرفين، دون أن يخدم عملية الإنتاج التي هي المصلحة الاقتصادية الحيوية الحقيقية للمجتمع، كما يجري اليوم في البورصات العالمية حيث يتعاقد فيها على كميات خيالية من السلع المؤجلة، بأسعار وأثمان مؤجلة، لا يقصد بها إنتاج ولا تسليم، بل مجرد مضاربة بالأسعار، ثم المحاسبة في الموعد على فرق السعر الذي يربحه أحد الطرفين في حالة ارتفاع السعر أو هبوطه، وهي عملية، كما يرى، أشبه بالمقامرة منها بالنشاط الاقتصادي. والإسلام إنما يهدف إلى تحقيق المصالح الصحيحة، فيفتح لها الأبواب التي تنتج نفعًا للمجتمع، ويغلق أبواب المضاربة بالحظوظ التي تغري بالكسل، وتقعد الفرد عن العمل، اعتمادًا على الحظ المحتمل.
فبسبب اشتراط تعجيل رأس المال لصحة عقد السلم يرى أنه في العصر الحاضر الذي اتسعت فيه شبكة السع الصناعية ذلك الاتساع الهائل، واتسع إلى جانبها نظام الائتمان (المداينة) الذي أصبح كالجملة العصبية المنبثة في الجسم، داخلة في كل جزء من أجزائه، ومسيطرة على حركته ونشاطه، في مثل هذا العصر المتطور. لم يعد عقد السلم، الذي لا يصح إلا بتعجيل رأس المال، كافيًا في وفاء حاجة التعامل المتطور. فلا بد أن يقوم إلى جانبه طريق آخر لا يشترط فيه هذا الشرط.
وبالفعل قد وجدنا في أساليب التعامل التي أقرتها الشريعة السمحة الغراء ذلك الطريق الآخر المنشود وهو عقد الاستصناع.(7/743)
تعريف عقد الاستصناع:
اختلف أنظار الفقهاء في الاستصناع وطبيعته: هل هو مجرد وعد من شخص لآخر، أو هو عقد ذو طرفين ينشأ بإيجاب وقبول منهما. ومن يرى أنه عقد هل هو عنده عقد معاوضة ملزم لطرفيه بمجرد الانعقاد الصحيح، أو عقد غير ملزم كالوكالة مثلًا والإيداع والإعارة؟
إن غير الحنفية يذكرون الاستصناع في كلامهم على بيع السلم ولا يذكرون له تعريفًا مستقلًّا يبين له ماهية خاصة، وإنما يذكرونه في عقد السلم فيما إذا بيع شيء موصوف في الذمة مما يصنع، فيعتبرونه سلمًا في المصنوعات، (بينما السلم بوجه عام لا يختص بالمصنوعات) . لذا يشترطون لصحته أن تتوافر فيه شرائط السلم جميعًا، وفي طليعتها تعجيل الثمن. فليس له تعريف خاص عندهم يميزه بماهية عقدية وموضوع مستقلين، ويصرحون بعدم جوازه وصحته إذا لم تتوافر فيه شرائط السلم.
ومعنى ذلك أنه عندهم عقد من العقود الثنائية الطرف ويحتاج إلى إيجاب وقبول صحيحين لانعقاده، فليس مجرد وعد من طرف واحد لآخر لا يلزمه، ويبقى معه مختارًا في التنفيذ وعدمه، ولكنه ليس عقدًا مستقلًّا بل صورة من بيع السلم تخضع لشروطه، ويجري عليها حكمه.
أما الحنفية فيهم الذين اعتبروه عقدًا ونوعًا من البيع خاصًّا متميزًا بأحكامه كما تميز الصرف والسلم وهما من البيوع، وليس سلمًا، وإن يكن له به شبه. وهو أيضًا استثناء من عدم جواز بيع المعدوم للحاجة العامة إليه، بل هم يدعون الإجماع على جوازه. وهذا هو الرأي الراجح عند الحنفية، وإن كان منهم من يرى أنه مجرد وعد من شخص لآخر، مستدلًّا بأدلة ضعيفة لا تنهض حجة لنفي صف العقدية عنه.
وواضح أن من يرونه وعدًا محضًا لا تعريف له عنده يخرج به عن مفهوم الوعد بوجه عام، وهو: أن يعلن شخص لآخر ما سيفعله لأجله أو لمصلحته في المستقبل. وقد يكون الشيء الموعود به عملًا ما أو عقدًا من العقود. فإذا كان الأمر الموعود به عقدًا ما فلا بد لوجوده وانعقاده من أن ينشأ فيما بعد بالتراضي بصورة صحيحة، أي مستوفيًا ركنه وسائر شرائط انعقاده.
أما الذين يرون الاستصناع عقدًا، وهو الراجح في المذهب، لمتانة أدلته، وبه أخذت المجلة كما سنرى. فقد عرفوه بتعاريف عديدة متقاربة. فقال بعضهم: الاستصناع هو: " أن يطلب شخص من صانع أن يصنع له شيئًا بثمن معلوم " (العيني في شرح الكنز) .
وهذا التعريف قاصر لأن الطلب ليس عقدًا، فكأنما هو تفسير لكلمة الاستصناع، وليس تعريفًا لعقده.
وقال ابن عابدين في رد المحتار: " هو أن يطلب أحد من آخر العمل في شيء خاص على وجه مخصوص " وهذا قاصر أيضًا وغير سديد، وتدخل فيه الإجارة فهو غير مانع. وقد عرفته المجلة بأنه: " عقد مقاولة مع صاحب الصنعة على أن يعمل شيئًا ". وهناك من المعاصرين من عرفوه تعريفات أخرى متقاربة لا نراها دقيقة ولا وافية. لذلك نرى أن نعرفه بصورة أوضح وأوفى كما يلي:
" هو عقد يشترى به في الحال شيء مما يصنع صنعًا يلتزم البائع بتقديمه مصنوعًا بمواد من عنده، بأوصاف معينة، وبثمن محدد ".
هذا ويسمَّى المشتري: مستصنعًا، والبائع: صانعًا، والشيء محل العقد: مستصنعًا فيه، والعوض يسمى ثمنًا كما في البيع المطلق.(7/744)
تحليل هذا التعريف:
أفاد هذا التعريف الأمور التالية:
1– أن عقد الاستصناع هو في طبيعته وحقيقته من قبيل البيع، فهو أحد أنواع البيع، وليس من قبيل الإجارة (إجارة الأشخاص) ، ولا مجرد وعد. ونتيجة كونه كذلك أنه يجب لنشوئه بين طرفين أن يتوافر فيه ركن التعاقد، وهو التراضي الذي يظهره الإيجاب والقبول، وكذلك جميع شرائط الانعقاد العامة في العقود.
2– أن المبيع فيه هو العين الموصى عليها، وليس عمل الصانع ذاته. وهذا هو الراجح في المذهب الحنفي، وسنرى نتيجة الفرق بين الاعتبارين في مناسبتها القادمة من هذا البحث.
3– أن المبيع في الاستصناع مفترض فيه اقتراضًا أنه معدوم عند العقد، وأن المقصود صنعه وإيجاده. وهذه تبرز فيه – كما هي في السلم – أنهما قد فتح فيهما باب معقول استثنائي لبيع المعدوم تدعو إليه الحاجة والمصلحة. ولكن ليس شرطًا فيه أن يكون معدومًا فعلًا عند العقد، وسوف يصنع أو يوجد فيما بعد. وسنرى نتيجة ذلك في مناسبته القادمة من هذا البحث وهذا مستفاد من عبارة (يلتزم البائع بتقديمه مصنوعًا) ولم نقل: يلتزم بأن يصنعه.
4– أن الاستصناع إنما يجري في السلع التي تصنع صنعًا (المصنوعات) ولا يجري في الأشياء الطبيعية التي لا تدخلها الصنعة كالثمار والبقول والحبوب ونحوها، بل هذه المنتوجات الطبيعية إذا أريد بيعها قبل وجودها فطريقها بيع السلم لا غير.
5– أنه لا بد في الاستصناع من تحديد الأوصاف للمبيع المطلوب صنعه بما يكفي لصيرورته معلومًا لا جهالة فيه، وكذا تحديد ثمنه. ويكفي للصحة بيان الأوصاف الأساسية في كل شيء بحسبه عرفًا. أما الأوصاف الفرعية التفصيلية فلا يشترط بيانها لصحته لأنها لا حدود لها. ولكن لو ذكر منها شيء في العقد يجب الالتزام به.
6– أن الثمن لا يجب تعجيله في الاستصناع، وإنما تجب معلوميته بتحديده نوعًا وقدرًا. فيمكن أن يكون الثمن في الاستصناع معجلًا كله، أو مؤجلًا كله، أو مقسطًا، وذلك كما في البيع العادي (البيع المطلق) ، وهذا فارق أساسي بين الاستصناع والسلم تظهر به مزية الاستصناع، وقابليته لتلبية حاجة التعامل المتطور في عصرنا هذا.
7– أن المادة أو المواد الأولية التي يصنع منها الشيء المستصنع فيه، وسائر ما يحتاج إليه صنعه من مواد أساسية أو كمالية، سواء منها ما يحتاج إلى اشتراط، أو كان مفهومًا عرفًا، كل ذلك إنما يقدمه الصانع البائع من عنده، ولا يقدم المستصنع المشتري شيئًا منه، لأنه محسوب حسابه في الثمن، وهو إنما يشتري الشيء مصنوعًا كاملًا.
وهذا ما يفرق الاستصناع عن الإجارة من ناحية ثانية إذا استؤجر أحد الأشخاص لعمل ما مما يحتاج إلى مواد، فإن الأجير الخاص لا يقوم بتقديمها من عنده، وإنما يقوم بالعمل فقط.(7/745)
التكييف النهائي للاستصناع:
يتضح مما تقدم أن جمهور فقهاء المذاهب على أن الاستصناع عقد بكل معني الكلمة، وليس مجرد وعد حتى عند غير الحنفية من المذاهب الثلاثة التي لا تجوزه إلَّا على أنه سلم إذا توافرت فيه شروط السلم. ذلك أنه في نظر تلك المذاهب لو كان مجرد وعد لما صح أن يحكم فيه بعدم الصحة، لأن الوعد لا يوصف بالصحة أو عدمها، فهذا الوصف تختص به العقود التي لها انعقاد تترتب عليه أحكام إذا توافرت مقوماتها، ولها بطلان إذا فقد فيها بعض مقوماتها.
فمن يقرر من الفقهاء في أي مذهب كان عدم صحة الاستصناع لأن فيه بيع المعدوم المنهي عنه بغير طريقة السلم المستثناة شرعًا يلزم من حكمه هذا أنه يرى في الاستصناع عقدًا مخالفًا للنظام الشرعي في التعاقد. ولو أنه عنده مجرد وعد لما ساغ أن يقرر فيه عدم الصحة.
وقد أشرنا فيما سبق إلى أن الأدلة التي يستند إليها من يقول أنه وعد وليس بعقد هي أدلة ضعيفة ومردود عليها بقوة، فلا تنهض حجة.
بقي أنه، بعد تقرير كونه عقدًا، وهو ما استقر عليه رأي المتأخرين من فقهاء المذهب الحنفي، واعتمدته مجلة الأحكام العدلية، قد اختلفوا في طبيعته بين العقود: هل هو من قبيل الإجارة، فتطبق فيه شروطها وأحكامها، أو هو من قبيل البيوع؟
وأقوى شبهة يستند إليها من يرون أنه من إجارة الأشخاص أن بعض الأجراء العامين (الأجير المشترك) أصحاب المهن تقتضي طبيعة عمله أن يضع من عنده المادة التي يستلزمها عمله المستأجر عليه كالصباغ، فإنه يدفع إليه الثوب أو الغزل ليصبغه باللون المطلوب بصبغ يضعه من عنده، ولا يقدمه له صاحب الثوب، كما يفعل الصانع في الاستصناع، ولم يخرجه هذا عن أن يكون أجيرًا، وعقد عمله إجارة.
وقد أجاب القائلون بأن الاستصناع من قبيل البيوع لا من الإجارة بما يوضح الفرق جليًّا بين الصانع في الاستصناع، والصباغ ونحوه، من الأجراء العامين. وخلاصته أن المستصنع يأتي إلى الصانع صفر اليدين ليشتري شيئًا يصنعه له كله كاملًا بخامة وعناصر من عنده، ولو أنه وجد عنده ما يوافق مطلوبه لاشتراه جاهزًا. أما الصباغ فيأتيه الثوب من صاحبه ليعمل على إحداث لون فيه أو تغيير لونه، وهذا عمل محض وليس عينًا تباع، وإذا كان عمله هذا يستلزم وضع صبغ من عنده (لأنه هو الذي يحسن اختياره ويعرف مقداره) فهو تبع للعمل الذي هو المحل الأصلي للعقد.
وقد استقر الرأي عند الحنفية أن الاستصناع نوع من البيوع مستقل لا يدخل في أحد الأنواع الأخرى كالصرف والسلم، وليس أيضًا من البيع العادي (المطلق) . فكما أن الصرف والسلم نوعان من البيع وهما عقدان مستقلان، ولهما أحكام خاصة لا تجري في البيع المطلق العادي، فكذلك الاستصناع. وبهذا أخذت مجلة الأحكام العدلية، فعقدت للاستصناع فصلًا خاصًّا به في باب (أنواع البيع) من كتاب البيوع في المواد 388 – 392.(7/746)
حكم عقد الاستصناع، وأثره بين طرفيه:
بعد ما تقدم لا حاجة بنا إلى الكلام عن حكم الاستصناع من حيث الجواز الشرعي وعدمه، أو بتعبير آخر: من حيث المشروعية، فقد وضح مما سبق أن الشك في مشروعيته وجوازه ليس له دليل شرعي خاص ولا سند قوي يدعمه سوى التطبيق لنص عام هو أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم. وهذا (الاستصناع) بيع شيء معدوم بغير طريق السلم واستيفاء شروطه.
لكن الذين قالوا بجوازه نوعًا من البيع خاصًّا بالمصنوعات متميزًا عن البيع العادي (المطلق) ودون تقيد بشروط السلم، وهم جمهور الحنفية لم يتجاهلوا الحديث النبوي المذكور، ولكنهم قالوا: كما جوز بيع السلم بالنص نفسه للحاجة وللمصلحة العامة فيه، (وهذا استحسان من الشارع نفسه، استثناءً من القاعدة التي أرساها وهي منع بيع المعدوم) استثنى كذلك الاستصناع بالإجماع استحسانًا للحاجة والمصلحة نفسهما. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اصطنع خاتمًا نقش عليه اسمه لختم رسائله به، وفسروه بأنه أوصى بصنعه فصنع له.
هذا، وقد أشرنا سابقًا إلى أن الحنفية يدعون الإجماع على جوازه للحاجة. ودعوى الإجماع مستقيضة في كتب المذهب الأساسية: المبسوط للسرخسي، والبدائع للكاساني، والهداية للمرغيناني، وسواها. وقد تبدو هذه الدعوى غريبة، فأي إجماع مع أن مذاهب عديدة منها الشافعي والحنبلي لا تجيزه إلَّا بشرائط السلم كاملة؟
ولكن الإجماع الذي يستند إليه الحنفية صحيح ولا يتنافي مع هذا الخلاف بين المذاهب في جواز الاستصناع، فإن الإجماع الذي يدعيه الحنفية هو الإجماع العملي. فهم يقولون إن العمل بالاستصناع فيما يحتاج إليه متعارف ومستمر من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم دون نكير.
فقد قال الكاساني في (بدائعه) عن الاستصناع:
" ويجوز استحسانًا، لإجماع الناس على ذلك، لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) .. والقياس يترك بالإجماع، ولهذا ترك القياس في دخول الحمام بالأجرة من غير بيان المدة ومقدار الماء الذي يستعمل ... ولأن الحاجة تدعو إليه لأن الإنسان قد يحتاج إلى خف أو نعل من جنس مخصوص ونوع مخصوص على قدر مخصوص وصفة مخصوصة، وقلما يتفق وجوده مصنوعًا، فيحتاج إلى أن يستصنع. فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج ". [بدائع الصنائع للكاساني: 6 أوائل كتاب الاستصناع] .(7/747)
ويلحظ في هذا المقام أن المشاهد في عصرنا أن فقهاء المذاهب الثلاثة التي لا تجيز الاستصناع إلا بطريق السلم يمارسونه عمليًّا في حاجاتهم الخاصة وحاجة أبنائهم من أحذية وملابس وسواها، ولا يجدون منه بدًّا.
وهذا يشبه موقف المخالفين في جواز البيع بالتعاطي، الذي يجيزه الحنفية على تقدير حلول التعاطي بين المتبايعين محل الإيجاب والقبول اللفظيين. فالشافعية كانوا على منعه بحجة عدم انعقاده دون إيجاب وقبول صريحين. ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يضطرون إلى ممارسته عمليًّا في المحقرات. فلم يكونوا يستطيعون أن يتطلبوا الصيغة التعاقدية في شراء حاجاتهم اليومية من البقول والفاكهة واللحم والخبز ونحو ذلك بينهم وبين باعتها. فاضطر المتأخرون من فقهاء المذهب أن يصرحوا بإباحته للحاجة في المحقرات من الأشياء.
والشيء الذي يجب أن لا ينساه الفقيه المفتي أبدًّا، وأن يكون نصب عينيه دائمًا، هو المقاصد العامة للشريعة مما هو مفصل في مواطنه من كتب الأصول والفقه، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه:" إنَّ الدينَ يُسرٌ، ولن يُشَادَّ هذا الدينَ أحدٌ إلَّا غَلَبَهُ ".
هذا عن حكم الاستصناع بمعنى مشروعيته.
أما حكم الاستصناع بمعنى أثره الذي يترتب عليه بين العاقدين فهو أن يستحق المستصنع على الصانع أن يأتيه بالشيء المطلوب المعقود عليه موافقًا للأوصاف المبينة في العقد، وأن يستحق الصانع على المستصنع الثمن المتفق عليه متى جاء به مصنوعًا كذلك. وبتعبير آخر في اصطلاح علماء القانون الوضعي: أن يلتزم كل من الطرفين بما يتعلق به من محل العقد، باعتبار أن كلًّا من العوضين في عقود المعاوضة هو محل للعقد.(7/748)
قال الإمام الكاساني في البدائع (كتاب الاستصناع) : " وأما حكم الاستصناع فهو ثبوت الملك للمستصنع في العين المبيعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في الثمن ملكًا غير لازم على ما سنذكره ".
وهو يشير بقوله " ملكًا غير لازم على ما سنذكره " إلى ما هو مقرر في أصل المذهب الحنفي، (وقد بينه في لاحق كلامه) من أن عقد الاستصناع في رأي أبي حنيفة رحمه الله هو من العقود غير اللازمة. بمعني أن لكل من المستصنع والصانع الرجوع عنه قبل إتمام صنع الشيء المطلوب. أما بعد أن يأتي مصنوعًا وفقًا للمطلوب فيسقط خيار الصانع البائع، ويبقي الخيار للمستصنع باعتبار أنه مشترٍ لما لم يرَهُ.
ولأبي يوسف صاحب أبي حنيفة رأي آخر نقلته عنه كتب المذهب، وهو أنه إذا أتم الصانع صنع الشيء وأحضره للمستصنع موافقًا للأوصاف فليس لأحد منهما خيار، بل يلزم الصانع بتسليمه، ويلزم المستصنع بقوله. وتعليله عند أبي يوسف رحمه الله: أن الصانع لما أتي به موافقًا تعين حق المستصنع فيه بعينه بعد أن كان حقه متعلقًا بذمة الصانع، فلم يبق له خيار. وأما بالنسبة إلى المستصنع فإنه لو أعطي خيار رؤية بعد ما أتى به الصانع ضررًا قد يكون كبيرًا، لأنه إنما صنعه بحسب مطلوب المستصنع على أوصاف ومقاييس قد تكون تخالف المعتاد بين الناس، فبرفضه قد يتعذر على الصانع بيعه لغيره. وهذا إضرار بتغرير من المستصنع إذ لولا توصيته لما صنعه الصانع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا ضرر ولا ضرار)) . فليس للمستصنع خيار بعد إحضاره إلَّا إذا كان مخالفًا في أوصافه للمشروط، فيكون له عندئذ خيار فوات الوصف لا خيار رؤية.(7/749)
وتتضح في هذه الرواية الثانية عن أبي يوسف رحمه الله قوة الحجة ونصاعتها.
لكن أهل الترجيح في المذهب الحنفي وفي طليعتهم الإمام الكاساني رجحوا رأي أبي حنيفة في أن للمستصنع خيار الرؤية ولو جاء الصانع بالمصنوع موافقًا للأوصاف المطلوبة، عللوا ترجيحه بما لا ينهض حجة أمام رأي أبي يوسف.
لكن جمعية المجلة عندما وضعت نصوصها لاحظت أن رأي أبي حنيفة رحمه الله أصبح مشكلًا جدًّا بعد أن أصبح الاستصناع واسع النطاق إلى درجة لا حد لها بعد تطور الصناعة، وأصبحت البواخر والقطارات وأمثالها تستصنع استصناعًا. لذلك بينت جمعية المجلة في مقدمتها (التي نقلنا نصها أوائل هذا البحث) أنها وضعت المواد التي تكلمت عن الاستصناع في بابه المخصوص على أساس قول أبي يوسف في عدم الخيار للمستصنع إذا جاء المصنوع موافقًا للأوصاف المشروطة، تمشيًا مع الحاجة والمصلحة الزمنية.
لكن يلحظ في هذا المقام إن نص المادة: 392 من المجلة جاء بالصيغة التالية:
" إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع عنه. وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرًا ".
وواضح من هذا أن جمعية المجلة اعتبرت أن الاستصناع إذا انعقد صحيحًا كان لازمًا منذ انعقاده، ملزمًا للطرفين دون خيار لأحدهما منذ البداية ولو قبل كان لازمًا منذ انعقاده، ملزمًا للطرفين دون خيار لأحدهما منذ البداية ولو قبل البدء بالصنع، كما لو كان بيعًا مطلقًا لسلعة موجودة معينة. وهذا توسع عن رأي أبي يوسف المنقول في كتب المذهب، حيث يتفق رأيه مع أبي حنيفة إمام المذهب في أنه قبل الصنع عقد غير لازم، فلكل من الطرفين الرجوع عنه، وأبو يوسف إنما انفرد بعد ذلك بالقول بعدم الخيار لأحد منهما بعد الصنع إذا أتى به الصانع موافقًا للأوصاف المبينة، فالصانع ملزم عندئذ بتسليمه، والمستصنع ملزم بقبوله.
ومعني هذا أن ما قررته المجلة بهذا الإطلاق في لزوم عقد الاستصناع على الطرفين منذ انعقاده حتى قبل بدء الصانع بالصنع ليس له سند في المذهب المستمد منه.(7/750)
ومعلوم أن المجلة هي قانون مدني بالمعني الاصطلاحي مستمد كله من مذهب معين هو المذهب الحنفي، وصدرت بإرادة سنية رسمية من الخليفة صاحب السلطان، نظير ما يسمى اليوم بقانون الإصدار الذي تصدر به سائر القوانين فتصبح به نافذة منذ نشرها بحسب نصوصها دون نظر إلى مصادرها.
وهنا تثور نقطة مهمة عند علماء القانون الوضعي، أنه إذا ذكر في المذكرة الإيضاحية المرافقة للقانون إن مادة معينة من مواده قد أخذ فيها واضع القانون برأي أو نظرية مما عرض في المذكرة الإيضاحية ولكن جاء نص تلك المادة القانون الصادر مخالفًا من ناحية ما لذلك الرأي أو النظرية التي قالت المذكرة الإيضاحية أنها أخذت بها، فهل العبرة في هذه الحال لما في المذكرة الإيضاحية، أو لنص المادة التي جاءت مخالفة؟
المقرر في هذه الحالة عند علماء القانون الوضعي أن العبرة لنص المادة، لأنها هي النص المقنن وليس المذكرة الإيضاحية، لاحتمال أن المشرع القانوني قد عدل أخيرًا عن اختياره الأول. ولهذا المبدأ شواهد واقعية عديدة معروفة في التقنينات الوضعية لا محل لذكرها هنا.
فبناء على هذا المبدأ تكون العبرة في المادة: 392 من المجلة لإطلاق اللزوم في عقد الاستصناع منذ انعقاده، ولو أن أبا يوسف – الذي قالت مقدمة المجلة (وهي مذكرة إيضاحية مرافقة) أنها قد أخذت بقوله – لم يقل بهذا الإطلاق في لزوم العقد منذ انعقاده وإنما يقول به بعد أن يجيء الصانع بالمصنوع موافقًا للأوصاف المتفق عليها.
وصنيع المجلة بهذا الإطلاق في اللزوم يبرره أن واضعي المجلة، وهم من خيرة فقهاء عصرهم في القرن الثالث عشر الهجري قد لحظوا تطور الصناعة العظيم في ذلك الوقت، وتطور نطاق الاستصناع واتساع دائرته كما أشاروا إليه، فرأوا أن المصلحة الزمنية والاقتصادية والتعاقدية تقتضيه ولو لم يقل به الفقهاء السابقون في المذهب، إذ لو شاهدوا التطور الذي وصل إليه الاستصناع، والمداخل التي دخلها في حاجات الناس وتعاملهم، والضرر العظيم المهول الذي يلحق الصانع إذا رفض المستصنع المصنوع الذي صنع وأتى موافقًا لشروطه بحجة خيار الرؤية فيما لو كان المصنوع باخرة كبرى، أو معمل نسيج آلي عالي الكفاءة، أو قطار سكة حديدية. ونحو ذلك – نقول لو شاهدوا ذلك في العصر الحديث لما ترددوا في تقرير عدم خيار الرؤية، واعتبار عقد الاستصناع ملزمًا لطرفيه منذ انعقاده.(7/751)
هذا في عصر المجلة قبل قرن وربع. فاليوم بعد أن أصبح نقل العملات النقدية وحساباتها من المشارق إلى المغارب يتم بفلكة زر، وأصبحت الصفقات الضخمة التجارية والصناعية تعقد على الملايين، وأصبح التاجر والمستصنع والصانع بالوسائل الآلية الهائلة يبني حساباته وحقوقه والتزاماته في ما لديه وما عليه وما إليه على توقيت زمني دقيق بحيث لو اختلت معه حلقة من ذلك لجرت سلسلة من المشكلات في ارتباطاته المتداخلة والمتشابكة – نقول في ظروف كهذه اليوم يجب أن يطمئن كل متعامل ومتعاقد إلى أن ما تعاقد عليه قد ثبت ويستطيع أن يبني عليه. وهذا يدعم أيضًا إن المصلحة العملية في استقرار المعاملات تقتضي اليوم اعتبار عقد الاستصناع لازمًا بحق الطرفين منذ انعقاده، إذ أن الاستصناع لم يبق محصورًا في الحاجات الشخصية البسيطة كالخف وإناء نحاسي وبساط، وسرج فرس، وثوب ولد أو حذائه، حتى يكون ضرر الصانع صاحب المهنة من عدول المستصنع أو رفضه المصنوع ضررًا خفيفًا، بل أصبح العدول من أحد الطرفين بعد التعاقد، كرفض المصنوع الموافق للأوصاف بحكم خيار الرؤية دون عيب أو مخالفة وصف، قد يترتب عليه أضرار جسيمة عظيمة للطرف الآخر مما يزعزع مبدأ استقرار المعاملات الذي هو من أهداف الفقه الإسلامي والقانون الوضعي معًا.
محل عقد الاستصناع:
المراد بمحل عقد الاستصناع ما يسميه فقهاؤنا بالمعقود عليه، فما هو هذا المحل المعقود عليه في عقد الاستصناع؟
من المعلوم – كما في تعريف الاستصناع – أنه ينصب على شراء شيء في الحال مما يصنع صنعًا لكي يصنعه البائع المحترف لمشتريه بأوصاف معينة وثمن محدد. وكل مصنوع يحتاج إلى مادة وعمل. فهل المبيع في هذا العقد هو العين المصنوعة أيًّا كان صانعها، أو العمل من الصانع البائع نفسه؟ هذه نقطة اختلف فيها أيضًا فقهاء الحنفية، وتترتب عليها نتيجة ألمحنا إليها في تحليل تعريف الاستصناع. وبما أن لها تأثيرًا مهمًّا في المحور الثاني من هذا البحث (مدى أهمية الاستصناع في الاستثمارات الإسلامية المعاصرة) ، فسنتكلم عنها وعن أثرها في المحور الثاني التالي:(7/752)
المحور الثاني
مدى أهمية الاستصناع
في الاستثمارات الإسلامية المعاصرة
فرضت السنة النبوية في بعض أنواع من التعامل قيودًا وبخاصة في عقدي المصارفة والسلم، لأن فيها قابلية كبيرة للانزلاق إلى المراباة لولا تلك القيود. ومن أهم تلك القيود التي ضبطت بها بعض العقود ولمنع ذلك الانزلاق فيها إلى المراباة المقنعة ثلاثة قيود:
- التقابض في عقد الصرف بمختلف صوره.
- تعجيل رأس المال في السلم لتحقيق مزيته الاقتصادية المهمة.
- عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه
وقد بيَّنَّا أوائل هذا البحث في الإيضاحات التمهيدية أن لزوم تعجيل رأس المال في عقد السلم كان حائلًا دون الاستفادة منه في عصرنا الذي اشتدت فيه الحاجة إلى المداينات الائتمانية. فكأن عقد الاستصناع الذي هو محرر من قيد تعجيل الثمن هو الحل المناسب. ففيه توسيع لنطاق إمكان بيع المعدوم في كل شيء يصنع صنعًا مما اشتدت الحاجة إلى إمكان بيعه قبل صنعه في عصر انفجرت فيه الصناعة وفنونها وابتكاراتها القائمة على الاكتشاف العلمي والتقنية إلى درجة تذهل العقول.
وهذا الانفجار الصناعي يخدم اليوم حقولًا عظيمة الأهمية في حياة البشر اليوم كالطب وما إليه، والزراعة وما إليها، والدفاع، والهندسة بمختلف فروعها التي بلغت العشرات، وبناء المباني المختلفة من المجمعات السكنية، والمستشفيات، والمدارس والجامعات، وصوامع حفظ الغلات الزراعية إلى غير ذلك مما لا يحصى، ومما يؤلف شبكة الحياة المعاصرة المتطورة. كل ذلك من الحقول الحيوية التي يخدمها ذلك الانفجار الصناعي اليوم يحتاج لكي يستفاد منه أن تقوم بموازاته تجارة واسعة ميسرة تنقل ثمراته من السلع التي لا تحصى إلى مختلف أقطار العالم. ومن هنا ظهرت أهمية تيسير التجارة وتنوعها بصورة لم تكن لها في الماضي، ووضعت لها في النظم التشريعية قوانين استثنائية من القواعد العامة في القوانين المدنية لتسهيل معاملاتها في التعامل، وقضاياها في القضاء، سميت بقوانين التجارة بغية تحقيق سرعة إنجازاتها، ودوران دولابها.
ومن ثم أيضًا في هذا الظرف الزمني الذي وصفناه، وخصائصه الصناعية والتجارية تبرز أيضًا أهمية الاستثمار التجاري بطريق عقد الاستصناع موضوع بحثنا هذا.(7/753)
فاستثمار الأموال اليوم بغية تنميتها بالربح تنوعت سبله كثيرًا، وفيها الحلال والحرام في نظر الشريعة الإسلامية، وتزاحمت في طريق الاستثمار البنوك الإسلامية التي أُنشئت في هذا العصر في جذب مدخرات الناس وفائض أموالها، لدفعها ووضعها في طريق النماء والتنمية، وتسييلها في حقول النماء والربح.
لكن البنوك الإسلامية، رغم تقيدها باجتناب الربا وشبهاته، أمامها مجالات استثمارات ليست متاحة أمام البنوك الربوية. ذلك أن البنوك الإسلامية تقوم ترخيصاتها ونظمها على أساس الممارسات التجارية فعلًا في أسواق السلع المختلفة، بينما البنوك الربوية ينحصر نشاطها في التمويل فقط بطريق الإقراض والاقتراض بفوائد ربوية.
ومن هذا الأفق تبرز اليوم أمام البنوك الإسلامية، وأمام سائر التجار الإسلاميين في العالم الإسلامي الذين يحرصون على عدم تدنيس نشاطاتهم الاستثمارية بالربا ولا بشبهاته، أهمية عقد الاستصناع في ميدان التجارة وذلك من ناحيتين:
- الأولى: أن عقد الاستصناع لم يبق محصورًا، كما كان في الماضي، في نطاق الحاجات الفردية الشخصية التي كانت هي العامل الأساسي في وجوده وتعارفه حين يحتاج الشخص إلى شيء بمواصفات خاصة لا توجد عادة في المتداول العام من السلع، بل خرج اليوم المارد من القُمْقُمْ، وأصبح من الممكن أن ينطلق عقد الاستصناع إلى آفاق المصنوعات في نطاقها الواسع في عصر الانفجار الصناعي، وبالكميات الضخمة الهائلة من المصنوعات المثلية التي تنقلها التجارة إلى مختلف بلاد العالم، ولا سيما العالم المتنامي (الذي يسمى تلطيفًا اليوم بالعالم الثالث أو النامي) والذي أصبح لتخلفه، يحتاج في كل وسائل حياته، حتى في غذائه الضروري إلى منتوجات العالم الصناعي ومصنوعاته.(7/754)
- الناحية الثانية: أن عقد الاستصناع قد جمع بين خاصيتين: خاصية بيع السلم في جواز وروده على مبيع معدوم حين العقد، سيصنع فيما بعد، وخاصية البيع المطلق العادي في جواز كون الثمن فيه ائتمانيًّا لا يجب تعجيله كما في السلم.
ومن هاتين الخاصيتين يتبين أن أهمية الاستصناع في طريق الاستثمار الإسلامي اليوم كبيرة جدًّا إذا مورس بخبرة تجارية وبصيرة في الأسواق، وإن مدى أهميته هذه واسع غير محدود، وفي طريق إسلامي سليم.
ونقول: (إذا مورس الاستصناع بخبرة تجارية وبصيرة في الأسواق) لأن البنوك الإسلامية اليوم التي هي مصب المدخرات لكثير من المسلمين الملتزمين لأجل استثمارها بواسطة هذه البنوك الإسلامية بطرق بعيدة عن الربا وشبهاته، قد أهملت الطريق الذي خلقت لأجله، وهو أن تكون تاجرة مضاربة تنطح الأسواق، وتتصيد الفرص المناسبة التي ترصدها بمنظار وعيون مفتحة في الأسواق على الأسعار والسلع، ويكون لها مخازن ومعارض ككل متاجر برأس ماله، ومضارب مشارك بعمله، فتجني أرباحًا مضاعفة عن سعر الفائدة الذي تربحه البنوك الربوية في قروضها. وهكذا تضرب المثل الصالح للنظام الإسلامي في طريق المشاركة الذي يباركه الله، بدلًا من طريق التمويل الربوي المشؤوم.
ولكن البنوك الإسلامية أو معظمها أهملت ذلك الطريق الذي خلقت لأجله لاحتياجه إلى جهد ويقظة، وانصرفت إلى طريق المرابحة للآمر بالشراء إيثارًا منها للكسل، لأن القائمين على إدارتها أو معظمهم ليسوا من التجار الخبراء، بل هم مصرفيون نشأوا في العمل بالأوراق والحسابات وهم على مناضدهم، ولم يعتادوا أن ينطحوا الأسواق ويكونوا تجارًا عمليين بمعنى الكلمة. فمع هؤلاء لا يعطي طريق الاستصناع الذي بينا مزاياه وخصائصه، النتائج العظمى التي هو مهيأ لإعطائها لو مارسته البنوك الإسلامية، بل يبقى طريقًا منتجًا كبير الفائدة للتجار الفرادى الذين يخوضون معترك السوق التجارية ليستثمروا أموالهم بأنفسهم، سواء أكانوا أفرادًا أو شركات، ولا ينتظرون البنوك الإسلامية أن تستثمر لهم مدخراتهم.(7/755)
المحل المعقود عليه في الاستصناع:
قلنا قبلًا إننا سنرجئ الكلام على المحل المعقود عليه في الاستصناع والخلاف الفقهي فيه إلى هذا المحور الثاني من البحث لعلاقته بمدى أهمية الاستصناع في الاستثمارات الإسلامية.
اختلف فقهاء الحنفية الذين اهتموا بعقد الاستصناع وتفصيل أحكامه، وتفردوا بإفراد باب خاص به في كتاب البيوع، اختلفوا في تحديد المعقود عليه فيه (كما اختلفوا في تكييف العقد نفسه وتشخيص ماهيته وطبيعته مما سبق بيانه في موضعه) .
فقال بعضهم بأن المعقود عليه في الاستصناع (المحل في الاصطلاح القانوني) هو عمل الصانع البائع في العين المطلوبة، أي صنعه لها بنفسه. وهذا مع التسليم بأن العقد ليس إجارة بل هو بيع. فمقصودهم أنه بيع لعين موصوفة سيصنعها البائع نفسه.
وقال آخرون إن المعقود عليه في الاستصناع هو العين الموصوفة المطلوبة وليس عمل الصانع البائع.
وثمرة هذا الخلاف أنه لو أحضر البائع للمستصنع المشتري عينًا مطابقة للأوصاف المتفق عليها، لكنها من صنع صانع غيره، هل يجبر المشتري على قبولها. وإذا أعطاه إياها ولم يذكر أنها من صنع غيره فهل يكون قد برئت ذمته، أو يكون قد غشه؟ فإذا عرف بعد أخذه هل يكون له خيار في أن يردها.
- فعلى الرأي الأول (المبيع هو عمله بعد العقد) لا يجبر المشتري على قبولها، ولا تبرأ ذمته إن أعطاه صنع غيره فأخذه ظانًّا أنه صنعه.
- وعلى الرأي الثاني (المبيع هو العين لا العمل) يجبر المشتري على قبولها، وتبرأ ذمة الصانع إن لم يذكر له ذلك، لأنه قد وفى بالتزامه وهو تقديمه له عينًا مصنوعة موافقة للأوصاف المشروطة.
وكذلك بطريق الأولوية لو أحضر له عينًا مطابقة للأوصاف كان قد صنعها هو نفسه قبل التعاقد مع المستصنع.
مما يدعم الرأي الأول في نظرنا أن الاستصناع فيه شيء من عنصر الثقة الشخصية، فالمستصنع قد يكون إنما اختار هذا الصانع بالذات لثقته بمهارته، فربما لا يريد صناعة غيره.
ومما يدعم الرأي الثاني أن العبرة للمواصفات المطلوبة للمستصنع، فإذا كانت متوافرة مادة وصنعًا كما شرط لم يبق لاختلاف الصانع أي فرق بالنسبة للمشتري المستصنع، لأن السلعة ومواصفاتها هي المقصود.
والمرجح في المذهب هو الرأي الثاني أن المبيع هو العين الموصوفة فيوفي الصانع ذمته إذا جاءه بعين مستكملة الأوصاف المطلوبة من صنع غيره أو من صنعه هو نفسه قبل العقد. ومجلة الأحكام العدلية في هذه الناحية ساكتة، فتبقى العبرة لما هو مرجح في المذهب.(7/756)
أهمية هذا الرأي الثاني في الاستثمارات الإسلامية:
إن لهذا الرأي الثاني، وهو المرجح في الاستثمارات الإسلامية أن له أثرًا واضحًا في الوفاء بالالتزامات الصناعية، وذلك بتوسيع إمكانية الوفاء. ولا سيما في عصرنا الذي أصبحت فيه الصناعات جميعًا – حتى فيما اعتيد عمله يدويًّا من الأشياء البسيطة – تتم بواسطة المعامل الآلية التي تنتج منه الكميات الهائلة من السلع المتماثلة. حتى إن كثيرًا من السلع التي كانت في الماضي تعتبر من الأموال القيمية لاختلاف بين أفرادها التي تصنع بالأيدي، قد أصبحت أموالًا مثلية وأخذت أحكام المثليات لأنها تنتجها آلات في المعامل بالآلاف أو الملايين، وكلها متماثلة لا يلحظ فرق بين واحدة وأخرى.
فقد يكون أن المعمل البائع في عقد الاستصناع لديه من السلعة المطلوبة في العقد الجديد متراكمًا من صنع سابق، فيستطيع أن يفي بالتزام بما عنده منها دون أن يصنع غيرها ويتركها مركومة، كما أنه قد يكون لديه صفقة أخرى مستعجلة أهم لديه من الصفقة الجديدة، فيستطيع أن يشتري مما عند غيره ما هو موافق للمطلوب منه، ويوفي به التزامه.
وهكذا نجد أن الرأي الثاني أكثر عونًا على تحريك دولاب التجارة والصناعة في ظل الصناعة الآلية اليوم.
المجالات الجديدة اليوم لعقد الاستصناع:
سبق أن أشرنا إلى المجالات والآفاق الجديدة التي امتد إليها عقد الاستصناع.
والآن نختم هذا البحث بعرض لبعض هذه المجالات لمد البصر إلى المدى الواسع الذي يمكن أن يخدم فيه عقد الاستصناع الاستثمارات بطريق إسلامي سليم:
1 – عرفنا مما سبق أن عقد الاستصناع لا يجري في المنتوجات الطبيعية التي لا تدخلها الصنعة كالبقول والفواكه واللحوم الطازجة واللبن والقمح وسائر الحبوب ... إلخ، فهذه السلع الطبيعية طريق بيع غير الموجود منها وقت العقد إنما هو السلم. فلا يجري الاستصناع إلا فيما تدخله الصنعة كالأمثلة السابقة البيان.
واليوم قد وجدت صناعة التعليب لهذه المنتوجات الطبيعية وصناعة تجميدها أيضًا لتحفظ معلبة أو مجمدة مثلجة في علب أو أكياس من البلاستيك. فهل تنتقل بذلك من زمرة المنتوجات الطبيعية إلى زمرة المصنعات، فيصح فيها عقد الاستصناع، ويجوز التعاقد مع معمل التعليب على أن يقوم بتعليب الكميات المطلوبة من كل نوع بمواصفات معينة؟
لا شك في الجواب إيجابيًّا، لأنها انتقلت بهذا العمل الصناعي إلى زمرة المصنعات. ويدخل في ذلك الأسماك واللحوم والخضروات وسواها.(7/757)
2 – بطريق الاستصناع يمكن إقامة المباني على أرض مملوكة للمستصنع بعقد مقاولة: فإذا كان عقد المقاولة يقوم على أساس أن المقاول هو الذي يأتي بمواد البناء ويتحمل جميع تكاليفه يسلمه جاهزًا (على المفتاح) فهذا يمكن أن يعتبر استصناعًا. وأن المجلة في المادة 388 سمت استصناع السلاح مع معمل أسلحة: مقاولة.
ويشهد لما قلنا أن فقهاء الحنفية مجمعون على عد البناء وحده وهو قائم على أرضه من المنقولات وليس من العقار، فيأخذ حكم المنقولات إذا كان البناء لواحد والأرض لآخر. ففي هذه الحالة لا يجيزون وقف البناء وحده دون الأرض وإنما يجوزون وقفه مع الأرض تبعًا لها، إذ يشترط عندهم في المال الموقوف أن يكون عقارًا، فلا يصح عندهم وقف المنقولات إلا في حالات استثنائية كأدوات نقل الموتى والمصاحف والكتب.
وبطريق الأولوية يمكن اليوم استصناع المباني الجاهزة على أرض مملوكة للصانع المقاول نفسه كما يفعل اليوم تجار البناء إذ يشترون قطع الأراضي المناسبة وينشئون عليها بيوتًا للسكنى ويبيعونها جاهزة. فهذا بيع وشراء عادي للعقار المبني. فإذا عرضوا الأرض المقسمة إلى قطع مفرزة كل قطعة تصلح لأجل بيت لمن يختار منها قطعة ليبني صاحبها تاجر البناء له عليها البيت الذي يريد بالتقاسيم والأوصاف والكسوة التي يطلبها ويسلمه إياه جاهزًا بالثمن الذي يتفقان عليه، فذلك استصناع واضح.
وبطريق الأولوية يمكن اليوم استصناع البيوت المتنقلة الجاهزة التي يكن نقلها من أرض إلى أرض، مما لم يكن من الممكن تصوره في الماضي.
وهكذا نجد أن عقد الاستصناع قد دخل ويمكن أن يدخل في مجالات لا حدود لها في عصرنا الصناعي هذا، ويستفاد من استقلاله عن السلم والإجارة وشروطهما في الاستثمار الإسلامي على نطاق واسع.(7/758)
ملاحظة ختامية:
بقيت نقطة ينبغي التعرض لها في ختام هذا البحوث قد ترد إلى الذهن، وهي أن الحنفية الذين انفردوا بإعطاء الاستصناع هذه المكانة بين العقود، واعتبروه نوعًا مستقلًّا من البيوع غير داخل في الإجارة ولا في السلم، يعتبرونه هم أنفسهم استثناءً من عدم جواز بيع المعدوم الذي هو الأصل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه. وسند هذا الاستثناء الاستحساني هو الإجماع العملي المستمر للحاجة إليه حيث تعارفه الناس في أشيائهم الخاصة التي يوصون بعض الصناع على صنعها لهم بالصورة التي تلائمهم، كما سلف بيانه.
ومن ثَمَّ كان من المقرر عند الحنفية بلا خلاف أن الاستصناع إنما يجوز في الأشياء التي تعورف فيها، لأن العرف دليل الحاجة التي هي سبب الاستثناء، كما في استصناع الخف والثوب وبعض الآنية، ونحو ذلك من الأشياء الشخصية أو المنزلية الخاصة. وفيما سوى هذه المتعارفات لا يصح الاستصناع تمسكًا بالأصل، وهو عدم جواز بيع المعدوم. فكيف يفتح أمام الاستصناع هذا الباب الواسع في كل ما تدخله الصنعة؟ فبهذا التوسيع مخالفة للمذاهب الأربعة جميعًا: للثلاثة التي لم تجزه من الأصل إلا إذا توافرت فيه شروط السلم، وفي طليعتها تعجيل الثمن، وللحنفية أنفسهم الذين أجازوه مستقلًّا عن السلم ودون شرط تعجيل الثمن، لكنهم قيدوه بالمتعارف.
هذه ملاحظة واردة بالنظر الفقهي وتحتاج إلى جواب.(7/759)
ويبدو لنا في الجواب أن تنوع الحاجات، والصناعات، واختلاف الأشكال والأوصاف والخصائص في أصناف النوع الواحد إلى درجة كبيرة مما تَفَتَّقَتْ عنه أذهان المخترعين في عصر الانفجار الصناعي هذا، قد أدى إلى أن يصبح طريق الاستصناع متعارفًا عليه في كل ما يصنع بوجه عام.
- فلو أخذنا المثال الذي أوردته أول مادة من فصل الاستصناع في المجلة 388 بقولها: " كذلك لو تقاول مع صاحب معمل على أن يصنع له كذا بندقية كل واحدة بكذا قرشًا، وبين الطول والحجم وسائر أوصافها اللازمة وقبل صاحب المعمل انعقد الاستصناع ". وذلك منذ عام 1283هـ (تاريخ البدء بتأليف المجلة) أي قبل قرن كامل وربع القرن من الآن – لو أخذنا هذا المثال لرأينا أن البندقيات في ذلك التاريخ كانت تقريبًا على شكل واحد وبخصائص واحدة، وإنما تختلف بحسب الجهة التي ستستعمل فيها، فبندقية الصيد غير البندقية الحربية وهكذا.
فكم أصبح اليوم عدد أصناف البندقية، سواء بندقية الصيد أو البندقية الحربية، وكم تعددت خصائص كل نوع..؟!!
- ولو أخذنا المجهر الطبي مثلًا الذي كان في ذاك التاريخ شكلًا واحدًا وقوة تكبيرية واحدة أو متقاربة، فكم صنفًا أصبح اليوم بالابتكارات الجديدة فيه التي وصلت في المجهر الإلكتروني إلى قوة تكبير تبلغ أربعين ألف ضعف!! ويرى مثل هذا التطور في أصناف المصنوعات من النوع الواحد واختلاف خصائصها لدرجة مذهلة، حتى بيوت السكنى الحديثة وما دخلها من مرافق وتجهيزات بالنسبة للبيوت القديمة قبل قرن واحد.
- فمن ثم أصبح هناك بطريق التدرج حاجة عامة جعلت الناس يتعارفون الاستصناع في كل المصنوعات بوجه عام، فأصبح شرط العرف متوافرًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم
الشيخ مصطفي أحمد الزرقاء(7/760)
عقد الاستصناع
إعداد
الأستاذ الدكتور علي السالوس
أستاذ الفقه والأصول كلية الشريعة – جامعة القطر
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله تعالى حمدًا طيِّبًا طاهرًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، نستغفره ونتوب إليه، ونسأل الله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل وأن يجعل عملنا كله خالصًا لوجهه الكريم. ونصلي ونسلم على رسله الكرام، وعلى خاتمهم، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد كثر الحديث عن الاستصناع بعد أن بدأت المصارف الإسلامية في اتخاذه وسيلة من وسائل تمويلها، واحتاج الأمر إلى وضع الضوابط الشرعية لسلامة التطبيق، وصحة العقود. وعند النظر في هذه الضوابط، وأثناء تدريس المعاملات المالية، وجدت بعض الكاتبين يعرض الموضوع بطريقة غير دقيقة، إلى جانب بعض الأخطاء.
فرأيت أن أقدم هذا البحث مستعينًا بالله عَزَّ وَجَلَّ، وقسمت إلى أربعة مباحث:
المبحث الأول جعلته لتعريف الاستصناع.
والمبحث الثاني تحدثت فيه عن الاستصناع عند المالكية والشافعية والحنابلة، حيث إنهم يختلفون عن الحنفية، فلم يجعلوه عقدًا مستقلًّا، أو ما يعرف بالعقود المسماة، كما فعل الحنفية، وإنما جعلوه ضمن السلم.
وجعلت المبحث الثالث للاستصناع عند الحنفية.
أما المبحث الرابع، وهو الأخير، فقد جعلته للاستصناع في معاملاتنا المعاصرة.
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، وله الحمد في الأولى والآخرة.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(7/761)
بسم الله الرحمن الرحيم
المبحث الأول
تعريف الاستصناع
جاء في لسان العرب تحت مادة "صَنَع":
صنعه يصنعه صنعة: عمله …
واصطنعه: اتخذه … واصطنع فلان خاتمًا: إذا سأل رجلًا أن يصنع له خاتمًا. روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب كان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه، فصنع الناس، ثم إنه رمى به، أي أمر أن يصنع له، كما تقول أكتتب: أي أمر أن يكتب له، والطاء بدل من تاء الافتعال لأجل الصاد.
واستصنع الشيء: دعا إلى صنعه.
وفي المعجم الوسيط: استصنع فلانًا كذا: طلب منه أن يصنعه له.
وفي مجلة الأحكام العدلية نصت المادة "388" على ما يلي: "إذا قال رجل لواحد من أهل الصنائع: اصنع لي الشيء الفلاني بكذا قرشًا، وقبل الصانع ذلك، انعقد البيع استصناعًا".
مثلًا لو أرى المشتري رجله لخفاف، وقال له: اصنع لي زوجي خف من نوع السختيان الفلاني كذا قرشًا، وقبل الصانع، أو تقاول مع نجار على أن يصنع له زورقًا أو سفينة وبين طولها وعرضها وأوصافها اللازمة، وقبل النجار، انعقد الاستصناع. كذلك لو تقاول مع صاحب معمل على أن يصنع له كذا بندقية، كل واحدة بكذا قرشًا، وبين الطول والحجم وسائر أوصافها اللازمة، وقبل صاحب المعمل، انعقد الاستصناع".
وقال سليم رستم في شرح المجلة (ص220) عقب ما سبق:
" بشرط أن يكون الحديد من الصانع، إذ لو كان من المستصنع كان العقد إجارة لا استصناعًا".
وجاء في المادة "421" من المجلة ذاتها:
" … فإن إعطاء السلعة للخياط مثلًا ليخيطها ثوبًا يعد إجارة على العمل، كما أن استخياط الثوب على السلعة من عند الخياط استصناع".(7/762)
وقال علاء الدين السمرقندي في تحفة الفقهاء (2/538) :
" هو عقد على مبيع في الذمة، وشرط عمله على الصانع".
وقال الكاساني في بدائع الصنائع (5/2) :
" أما صورة الاستصناع فهي أن يقول إنسان لصانع من خفاف أو صفار أو غيرهما: اعمل لي خفًّا أو آنية من أديم أو نحاس من عندك بثمن كذا، ويبين نوع ما يعمل وقدره وصفته، فيقول الصانع: نعم".
وقال في موضع آخر (5/209) :
" يجوز السلم في اللبن والآجر إذا سُمِّيَ ملبنًا معلومًا، لا يختلف ولا يتفاوت إلى يسيرًا. وكذا في الطوابيق إذا وصفها بوصف يعرف على وجه لا يبقى بعد الوصف جهالة مفضية إلى المنازعة، لأن الفساد للجهالة، فإذا صار معلومًا بالوصف جاز، وكذا في طشت أو قُمْقُمة، أو خفين، أو نحو ذلك، وإن كان يعرف يجوز وإن كان لا يعرف لا يجوز، لأن المسلم فيه دين حقيقة، والدين يعرف بالوصف، فإذا كان مما يحصل تمام معرفته بالوصف بأن لم تبق فيه جهالة مفضية إلى المنازعة جاز السلم فيه، وإلا فلا. ولو استصنع رجل شيئًا من ذلك بغير أجل جاز" …
وقال صاحب لهداية:
ولا بأس بالسلم في طِست أو قمقمة أو خفين أو نحو ذلك إذا كان يعرف لاستجماع شرائط السلم، وإن كان لا يعرف لا خير فيه لأنه دين مجهول.
وإن استصنع شيئًا من ذلك بغير أجل جاز استحسانًا.
وقال ابن الهمام شارحًا ما سبق في فتح القدير (6/241 – 242) : " (قوله: ولا بأس بالسلم في طِسْت أو قمقمة أو خفين أو نحو ذلك) كالكوز، والآنية من النحاس والزجاج والحديد، والقلنسوة، والطواجن، إذا ضبط واستقصى في صفته من الغلظ والسعة والضيق بحيث ينحصر فلا يتفاوت إلا يسيرًا.
(قوله: وإن استصنع شيئًا من ذلك لغير أجل جاز استحسانًا) : الاستصناع: طلب الصنعة، وهو أن يقول لصانع خُفٍّ أو مكعب أو أواني الصفر: اصنع لي خفًّا طوله كذا وسعته كذا، أو دستًا أي برمة تسع كذا، وزنها كذا، على هيئة كذا، بكذا، ويعطى الثمن المسمى أو لا يعطى شيئًا، فيعقد الآخر معه".
وقال صاحب العناية شارحًا ما سبق أيضًا:
"الاستصناع هو أن يجيء إنسان إلى صانع فيقول: اصنع لي شيئًا صورته كذا وقدره كذا بكذا درهمًا، ويسلم إليه جميع الدراهم أو بعضها أو لا يسلم …إلخ".(7/763)
المبحث الثانى
الاستصناع عند المالكية والشافعية والحنابلة
يلاحظ فيما سبق أن التعريف الذي نقلته من كتب الفقه كان من كتب الحنفية فقط، وذلك لأن عقد الاستصناع لا يعد عقدًا مستقلًّا، أو مما يعرف بالعقود المسماة، إلا عند الحنفية، وإن كان بعض الباحثين ذكر جوازه عند المذاهب الثلاثة كلهم أو بعضهم، وضم المجيزين إلى الحنفية، وهذا غير دقيق كما سيتضح من الدراسة التالية:
أولًا – الاستصناع عند المالكية:
بالرجوع إلى كتب المالكية نرى الحديث عن الاستصناع عند الحديث عن السلم وشروطه وأحكامه، فالمدونة الكبرى للإمام مالك يبدأ المجلد الرابع بكتاب السلم، وفي ثنايا السلم يوجد عنوان "في السلف في الصناعات"، وتحت هذا العنوان نجد ما يأتي:
" (قلت) : ما قول مالك في رجل استصنع طستًا أو تورًا أو قمقمًا أو قلنسوة أو خفين أو لبدًا، أو استنحت سرجًا أو قارورة أو قدحًا، أو شيئًا مما يعمل الناس في أسواقهم من آنيتهم أو أمتعتهم التي يستعملون في أسواقهم عند الصناع، فاستعمل من ذلك شيئًا موصوفًا، وضرب لذلك أجلًا بعيدًا، وجعل لرأس المال أجلًا بعيدًا، أيكون هذا سلفًا؟ أو تفسده لأنه ضرب لرأس المال أجلًا بعيدًا؟ أم لا يكون سلفًا ويكون بيعًا من البيوع في قول مالك ويجوز؟
(قال) : أرى في هذا أنه إذا ضرب للسلعة التي استعملها أجلًا بعيدًا، وجعل ذلك مضمونًا على الذي يعملها بصفة معلومة، وليس من شيء بعينه يريه يعمله منه، ولم يشترط أن يعمله رجل بعينه، وقدم رأس المال، أو دفع رأس المال بعد يوم أو يومين، ولم يضرب لرأس المال أجلًا، فهذا السلف جائز، وهو لازم للذي عليه، يأتي به إذا حَلَّ الأجل على صفةٍ ما وصفًا.(7/764)
(قلت) : وإن ضرب لرأس المال أجلًا بعيدًا والمسألة على حالها فسد وصار ديناً في دين في قول مالك؟ قال: نعم.
(قلت) : وإن لم يضرب لرأس المال أجلًا، واشترط أن يعمله هو نفسه، أو اشترط عمل رجل بعينه؟ (قال) لا يكون هذا سلفًا، لأن هذا رجل سلف في دين مضمون على هذا الرجل، وشرط عليه عمل نفسه، وقدم نقده، فهو لا يدري أيسلم هذا الرجل إلى ذلك الأجل فعمله له أم لا؟ فهذا من الغرر، وهو إن سلم عمله وإن لم يسلم ومات قبل الأجل بطل سلف هذا، فيكون الذي اسلف إليه قد انتفع بذهب باطلًا.
(قلت) : فإن كان إنما أسلفه كما وصفت لك على أن يعمل له ما اشترط عليه من حديد قد أراه أياه أو طواهر أو خشب أو نحاس قد أراه إياه؟ (قال) : لا يجوز ذلك.
(قلت) : لِمَ؟ (قال) : لأنه لا يدري أيسلم ذلك الحديد أو الطواهر أو الخشب إلى ذلك الأجل أم لا؟ ولا يكون السلف في شيء بعينه، فلذلك لا يجوز في قول مالك". اهـ.
وفي مقدمات ابن رشد – الجد – نجد كتاب السلم (ص51) ، وتحدث فيه أيضًا عن السلم في الصناعات (ص519 –520) ، فقال:
"وأما السلم في الصناعات فينقسم في مذهب ابن القاسم على أربعة أقسام: (أحدها) : أن لا يشترط المسلم المستعمل عمل من استعمله، ولا يعين ما يعمل منه. (والثاني) : أن يشترط عمله ويعين ما يعمل منه.
(والثالث) : أن لا يشترط عمله ويعين ما يعمل منه.
(والرابع) : أن يشترط عمله، ولا يعين ما يعمل منه.(7/765)
فأما الوجه الأول، وهو أن لا يشترط عمله ولا يعين ما يعمل منه فهو سلم على حكم السلم، لا يجوز إلا بوصف العمل وضرب الأجل، وتقديم رأس المال.
وأما الوجه الثاني، وهو أن يشترط عمله ويعين ما يعمله منه، فليس بسلم وإنما هو من باب البيع والأجرة في الشيء المبيع، فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من العمل، أو تمكن إعادته للعمل، أو عمل غيره من الشيء المعين منه العمل، فيجوز على أن يشرع في العمل، وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام أو نحو ذلك، فإن كان على أن يشرع في العمل جاز ذلك بشرط تعجيل النقد وتأخيره، وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة الأيام ونحوها لم يجز تعجيل النقد بشرط حتى يشرع في العمل.
وأما الوجه الثالث، وهو أن لا يشرط عمله بعينه ويعين على ما يعمل منه، فهو أيضًا من باب البيع والأجرة في المبيع، إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام بتعجيل النقد وتأخيره. وأما الوجه الرابع، وهو أن يشرط عمله ولا يعين ما يعمل منه، فلا يجوز ذلك لأنه يحتويه أصلان متناقضان: لزوم النقد لكون ما يعمل منه مصونًا، وامتناعه لاشتراط عمل المستعمل بعينه، وبالله سبحانة وتعالى التوفيق". اهـ.
وفي بلغة السالك (2/103) يقول الصاوي:
" (قوله كاستصناع سيف) : أي كما أن استصناع السيف والسرج سلم، سواء كان الصانع المعقود معه دائم العمل أم لا، كأن يقول لإنسان: اصنع لي سيفًا أو سرجًا أو بابًا صفته كذا بدينار، فلا بد من تعجيل رأس المال وضرب الأجل، وأن لا يعين العامل ولا المعمول منه، إلى آخر شروط السلم". وفي الشرح الصغير يقول الدردير في الموضع السابع:
" (كاستصناع سيف) أو ركاب من حداد (أو سرج) من سروجي، أو ثوب من حياك، أو باب من نجار، على صفة معلومة بثمن معلوم، فيجوز، وهو سلم تشترط فيه شروطه، كان البائع دائم العمل أم لا (إن لم يعين العامل أو المعمول منه) ، فإن عينه فسد، نحو: أنت الذي تصنعه بنفسك، أو يصطنعه زيد بنفسه، أو تصطنعه من هذا الحديد بعينه، أو من هذا الغزل، أو من هذا الخشب بعينه، لأنه حينئذ صار معينًا لا في الذمة، وشرط صحة السلم كون المسلم فيه دينًا في الذمة".
وفي مواهب الجليل (3/349) يتحدث عن السلم فيقول:
"ويجوز فيما طبخ … والسيوف، وتور ليكمل، والشراء من دائم العمل كالخباز، وهو بيع وإن يدم فهو سلم، كاستصناع سيف أو سرج … إلخ".(7/766)
ثانيًا – الاستصناع عند الشافعية:
لا نجد عن الشافعية بابًا خاصًّا بالاستصناع، غير أنهم يذكرونه في السلم: ففي كتاب الأم للإمام الشافعي (3/78) نجد "باب السلف والمراد به السلم". ويتصل بهذا الباب عدة أبواب، منها: "باب السلف في الشيء المصلح لغيره"، ومما قاله تحت هذا الباب الأخير (3/116) :
" قال: ولا بأس أن يسلفه في طست أو تور من نحاس أحمر أو أبيض أو شية أو رصاص أو حديد، ويشترطه بسعة معروفة، ومضروبًا أو مفرغًا، وبصنعة معروفة، ويصفه بالثخانة أو الرقة. ويضرب له أجلًا كهو في الثياب، وإذا جاء به على ما يقع عليه اسم الصفة والشرط لزمه ولم يكن له رده. (قال) :
وكذلك كل إناء من جنس واحد، ضبطت صفته، فهو كالطست والقمقم. قال: ولو كان يضبط أن يكون مع شرط السعة وزن كان أصح، وإن لم يشترط وزنًا صح إذا اشترط سعة كما يصح أن يبتاع ثوبًا بصنعة وشي وغيره بصفة وسعة، ولا يجوز فيه إلا أن يدفع ثمنه. وهذا شراء صفة مضمونة، فلا يجوز فيها إلا أن يدفع ثمنها، وتكون على ما وصفت.
(قال) : ولو شرط أن يعمل له طستًا من نحاس وحديد أو نحاس ورصاص لم يجز، لأنهما لا يخلصان فيعرف قدر كل واحد منهما، وليس هذا كالصبغ في الثوب، لأن الصبغ في ثوبه زينة لا يغيره أن تضبط صفته، وهذا زيادة في نفس الشيء المصنوع.
قال: وهكذا كل ما استصنع، ولا خير في أن يسلف في قلنسوة محشوة، وذلك أنه لا يضبط وزن حشوها ولا صفته، ولا يوقف على حد بطانتها، ولا تشتري هذه إلا يدًا بيد، ولا خير في أن يسلفه في خفين ولا نعلين مخروزين، وذلك أنهما لا يوصفان بطول ولا عرض، ولا تضبط جلودهما، ولا ما يدخل فيهما، وإنما يجوز في هذا أن يبتاع النعلين والشراكين، ويستأجر على الحذو وعلى خراز الخفين".(7/767)
والجزء الرابع من روضة الطالبين للإمام النووي يبدأ بكتاب السلم، ومما جاء في هذا الكتاب (27) : "يجوز السلم في الزجاج، والطين، والجص، والنورة، وحجارة الأرضية، والأبنية، والأواني، فيذكر نوعها وطولها وعرضها وغلظها…
ولا يجوز السلم في الحباب، والكيزان، والطسوت، والقماقم، والطناجير، والمنائر، والبرام المعمولة، لندور اجتماع الوزن مع الصفات المشروطة، ويجوز السلم فيما يصب منها في القالب، لعدم اختلافه، وفي الأسطال المربعة.
… ولا يجوز السلم في العقار ".
ويقول الشيرازي في المهذب (تكملة المجموع 12/121) :
"يجوز السلم في كل مال يجوز بيعه وتضبط صفاته: كالأثمان، والحبوب، والثمار، والثياب … إلخ".
وقال أيضًا (12/139) :
"ولا يجوز فيما عملت فيه النار كالخبز والشواء، لأن عمل النار فيه يختلف فلا يضبط".
وقال (12/140) .
"ولا يجوز فيما يجمع أجناسًا مقصودة لا تتميز: كالغالية، والند، والمعجون، والقوس، والخف، … ولا يجوز في ثوب نسج ثم صبغ، لأنه سلم في ثوب وصبغ مجهول، ويجوز فيما صبغ غزله ثم نسج لأنه بمنزلة صبغ الأصل، ولا يجوز في ثوب عمل فيه من غير غزله كالقرقوبي لأن ذلك لا يضبط.
واختلف أصحابنا في الثوب المعمول من غزلين، فمنهم من قال: لايجوز لأنهما جنسان مقصودان لا يتميز أحدهما عن الآخر فأشبه الغالية. ومنه من قال: يجوز لأنهما جنسان يعرف قدر كل واحد منهما".(7/768)
وقال أيضًا (12/145) :
"وفي السلم في الأواني المختلفة الأعلى والأسفل، كالإبريق والمنارة والكراز، وجهان … ولا يجوز السلم في العقار، لأن المكان فيه مقصود، والثمن يختلف باختلافه، فلا بد من تعيينه، والعين لا تثبت في الذمة".
وفي حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج نجد مثل ما سبق.
ومما قاله ابن حجر الهيتمي: (لا يصح – أي السلم – فيما لا ينضبط مقصوده كالمختلط المقصود الأركان) الذي لا ينضبط (كهريسة ومعجون) مركب من جزءين أو أكثر (وغالية) وهي مركبة من دهن معروف مع مسك وعنبر أو عود كافور (وخف) ونعل مركبين من بطانة وظهارة وحشو، لأن العبارة لا تفي بذكر انعطافاتها وأقدارها.
ومن ثم صح – كما قاله السبكي ومن تابعه – في خف أو نعل مفرد إن كان جديدًا من غير جلد كثوب مخيط جديد لا ملبوس … (والأصح صحته في المختلط) بالصنعة (المنضبط) عند أهل تلك الصنعة، المقصود الأركان كما بأصله عند أهل تلك الصنعة، المقصود الأركان كما بأصله (كعتابي) من قطن وحرير (وخز) من إبريسم ووبر أو صوف بشرط علم العاقدين بوزن كل من أجزائه على المعتمد، وعليه يظهر الاكتفاء بالظن" (انظر 5/19 –20) .
وقال في موضع آخر (5/29) : " (ولا يصح) السلم (في مختلف) أجزاؤه (كبرمة) من نحو حجر (معمولة) أي محفورة بالآلة، واحترز بها عن المصبوبة في قالب، وهذا قيد أيضًا فيما بعد ما عدا الجلد كما يأتى (وجلد) ورق (وكوز وطَِس) يفتح أوله وكسره، ويقال فيه طست (وقمقم ومنارة) يفتح الميم من النور، ومن ثم كان الأشهر في جمعها منار لا مناير (وطَِنجير) بكسر أوله وفتحه خلافًا لمن جعل الفتح لحنًا وهو الدست، أو نحوها: كإبريق وحب ونشاب لعدم انضباطها باختلاف اجزائها.
ومن ثم صح في قطع أو قصاصة جلد دبغ واستوت جوانبه وزنًا (ويصح في الأسطال المربعة) مثلًا والمدورة وإن لم تصب في قالب لعدم اختلافهما، بخلاف الضيقة الرؤوس، ومحله إن اتحد معدنها لا إن خالطها غيره (وفيما صب منها) أى المذكورات ما عدا الجلد، أي من أصلها المذاب (في قالب) وذلك لانضباطها بالضباط قوالبها".(7/769)
ومما قاله الشرواني في حاشيته على ما سبق: (قوله: ومحله) أي الصحة في الأسطال (قوله: لا إن خالطه غيره) أي كالمصنوع من النحاس والرصاص (وفيما صب منها) ينبغي بالشرط المتقدم بقوله: ومحله إن اتحد …إلخ".
وفي زاد المحتاج قال المؤلف (2/122) :
(فلا يصح) السلم (فيما لا ينضبط مقصوده كالمختلط المقصود الأركان) أي الأجزاء التي لا تنضبط (كهريسة ومعجون وغالية وخف وترياق مخلوط) لعدم انضباط أجزائها، لأن الغالية مركبة من مسك وعنبر وعود وكافور، والخف يشتمل على ظهارة وبطانة وحشو، والعبارة لا تفي بذكر أقدارها وانعطافاتها، واحترز بالترياق المختلف عما هو نبات واحد، فإنه يجوز السلم فيه (والأصح صحته في المختلط المنضبط) الأجزاء (كعتابي) نوع من الثياب مركب من قطن وحرير، (وخز) هو مركب من أبريسم ووبر أو صوف لسهولة ضبط كل جزء من هذه الأجزاء، ومعنى الانضباط أن يعرف العاقدان وزن كل من الجزأين:
وقال في موضع آخر (2/127) " (ولا يصح) السلم (فى مختلف) أجزاؤه (كبرمة معمولة) وهي القدر، واحترز بالمعمولة عن المصبوبة في قالب (وجلد) على هيئته (و) معمول نحو (كوز وطس) بفتح الطاء ويقال له طشت (وقمقم ومنارة) بفتح الميم (وطنجير) بكسر الطاء: الدست، ويجوز فتحها (ونحوها) كالأباريق والحباب … (ويصح) السلم (في الأسطال المربعة) لعدم اختلافهما، والمدورة كالمربعة (وفيما صب منها) أي المذكورات (في قالب) ".(7/770)
ثالثًا – الاستصناع عند الحنابلة:
وجدنا من الحنابلة من نص على عدم جواز الاستصناع، قال ابن مفلح في كتاب الفروع (4/24) : "ذكر القاضي وأصحابه: لا يصح استصناع سلعة، لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم ".
وفي الحاشية قال مراجع الكتاب: بهامش مخطوط الأزهر ما يأتي: قوله: "استصناع سلعة" يعني يشتري منه سلعة، ويطلب منه أن يصنعها له، مثل أن يشتري منه ثوبًا ليس عنده، وإنما يصنعه له بعد العقد، فهذا قد باع ما ليس عنده.
ومع هذا النص الذي يبين المنع، نرى الحنابلة – كالمالكية والشافعية – يتحدثون عما يتصل بالاستصناع تحت باب السلم، قال ابن قدامة في المغني (4/213) : "لا يصح – أي السلم – فيما يجمع أخلاطًا مقصودة غير متميزة، كالغالية والند والمعاجين التي يتداوى بها للجهل بها…، ولا في الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط، لأن الصفة لا تأتي عليه، وفيه وجه آخر أنه لا يصح السلم فيه إذا ضبط بارتفاع حائطه، ودور أعلاه وأسفله، لأن التفاوت في ذلك يسير. ولا يصح في القسي المشتملة على الخشب والقرن والغضب والتوز، إذ لا يمكن ضبط مقادير ذلك وتمييز ما فيه منها، وقيل: يجوز السلم فيها، والأولى ما ذكرنا".
وقال أيضًا (4/314) : "يصح السلم في النشاب والنبل، وقال القاضي: لا يصح السلم فيهما، وهو مذهب الشافعي، لأنه يجمع أخلاطًا من خشب وعقب وريش ونصل، فجرى مجرى أخلاط الصيادلة … ولنا أنه مما يصح بيعه، ويمكن ضبطه بالصفات التي لا يتفاوت الثمن معها غالبًا، فصح السلم فيه كالخشب والقصب وما فيه من غيره متميز يمكن ضبطه والإحاطة به، ولا يتفاوت كثيرًا، فلا يمنع كالثياب المنسوجة من جنسين".
وما ذكره ابن قدامة جاء أثناء بيان الشرط الأول من شروط صحة السلم وهو: أن يكون المسلم فيه مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها ظاهرًا. ثم انتقل إلى الشرط الثاني وهو: أن يضبطه بصفاته التي يختلف الثمن بها ظاهرًا.(7/771)
ومما قاله (4/322 –323) :
"وإن أسلم في ثوب مختلف الغزول، كقطن وإبريسم، أو قطن وكتان أو صوف، وكان الغزول مضبوطة؛ بأن يقول: السدى إبريسم واللحمة كتان أو نحوه: جاز، ولهذا جاز السلم في الخز وهو من غزلين مختلفين. وإن أسلم في ثوب موشى، وكان الوشي من تمام نسجه: جاز وإن كان زيادة لم يجز لأنه لا ينضبط.
… ويصح السلم في الكاغد لأنه يمكن ضبطه، ويصفه بالطول والعرض والدقة والغلظ واستواء الصنعة ما يختلف به الثمن.
… وإن أسلم في الأواني التي يمكن ضبط قدرها وطولها وسمكها ودورها، كالأسطال القائمة الحيطان والطسوت، جاز، ويضبطها بذلك كله.
وإن أسلم في قصاع وأقداح من الخشب جاز، ويذكر نوع خشبها من جوز أو توت، وقدرها في الصغر والكبر، والعمق والضيق، والثخانة والرقة، وأي عمل.
وإن أسلم في سيف ضبطة بنوع حديده، وطوله، وعرضه ورقته، وغلظه، وبلده، وقديم الطبع أو محدث ماض أو غيره، ويصف قبضته وجفنه". اهـ.
وفي مطالب أولي النهي (3/210) قال المؤلف:
"ويصح – أي السلم – فيما يجمع اخلاطًا متميزة، كثوب نسج من نوعين كقطن وكتان، أو إبريسم وقطن، وكنشاب ونبل مريشين، وخفاف ورماح متوزة، أي: مصنوعة، لإمكان ضبطها بصفة لا يختلف ثمنها معها غالبًا.
ويتجه باحتمال قوي أنه لا يصح السلم في ثياب مخيطة، لاختلافها كبرًا وصغرًا وطولًا وعرضًا، والتفصيل والخياطة تختلف اختلافًا كليًّا، ولا في ثياب منقوشة بالطباعة أو التطريز أو الحياكة، لعدم انضباط عروقها كثرة وقلة، وصناعتها تختلف اختلافًا لا مزيد عليه".(7/772)
خلاصة المبحث
مما سبق نرى أن المذاهب الثلاثة لم تجعل الاستصناع عقدًا مستقلًّا، وإنما جعلوه ضمن السلم.
فالمالكية خصصوا جزءًا من كتاب السلم للسلم في الصناعات، أو السلف في الصناعات، وضربوا أمثلة لما كان يصنع في عصرهم، وأجازوه بشروط السلم.
أما الشافعية فقد أجازوا السلم فيما صنع من جنس واحد فقط كالحديد، أو النحاس، أو الرصاص، أو غيرها، ولم يجيزوه فيما يجمع أجناسًا مقصودة لا تتميز: كطست من نحاس وحديد، وكالغالية: وهي مركبة من دهن مع مسك وعنبر أو عود وكافور، وجعلوا مثل هذا لا يجوز إلا يدًا بيد.
وإجازتهم ما صب في قالب لا يخرج عن قولهم هنا، لا كما ذكره بعض الكاتبين، فإنهم لم يجيزوه إلا بالشرط السابق، أي أن يكون الأصل المذاب في القالب من جنس واحد، وما نقلته من أقوالهم ينص على هذا الشرط، وقد جعل الإمام الشافعي هذا الشرط عامًّا حيث قال بعد ذكره: "وهكذا كل ما استصنع".
أما ما يجمع أجناسًا مقصودة تتميز، كالقطن والحرير، فهو موضع خلاف بينهم، والأصح في المذهب الجواز بشرط علم العاقدين بوزن كل ما أجزائه.
والحنابلة لا يكادون يختلفون عن الشافعية إلا في القليل من الفروع التطبيقية.
ومن هذا نرى أن المذاهب الثلاثة أجمعت على عدم جواز الاستصناع إلا بشروط السلم، غير أن المالكية أجازوا استصناع أي شيء مما يعمل الناس في أسواقهم من آنيتهم أو أمتعتهم التي يستعملون في أسواقهم عند الصناع، على حين لم يجز الشافعية والحنابلة من هذه الأشياء ما جمع اجناسًا مقصودة لا تتميز.(7/773)
المبحث الثالث
الاستصناع عند الحنفية
أولًا – معناه:
قال الكاساني في بدائع الصنائع (5/2) :
" وأما معناه فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم هو مواعدة وليس ببيع، وقال بعضهم: هو بيع لكن للمشتري فيه خيار، وهو الصحيح، بدليل أن محمدًا رحمه الله ذكر في جوازه القياس والاستحسان وذلك لا يكون في العدات، وكذا أثبت فيه خيار الرؤية، وأنه يختص بالبياعات، وكذا يجري فيه التقاضي، وإنما يتقاضى فيه الواجب لا الموعود. ثم اختلفت عباراتهم عن هذا النوع من البيع: قال بعضهم هو عقد على مبيع في الذمة وقال بعضهم هو عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل.
وجه القول الأول أن الصانع لو احضر عينًا كان عملها قبل العقد ورضي به المستصنع لجاز، ولو كان شرط العمل من نفس العقد لما جاز؛ لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي. والصحيح هو القول الأخير، لأن الاستصناع طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا العقد يسمى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل.
وأما إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد ورضي به المستصنع فإنما جاز لا بالعقد الأول بل بعقد آخر، وهو التعاطي بتراضيهما". اهـ.
ويؤخذ من كلام الكاساني أن الحنفية اختلفوا في تحديد معنى الاستصناع: أيعد مواعده أم بيعًا؟
وذكر أن الصحيح أنه بيع، واستدل لقوله، ثم بيَّن أنهم اختلفوا في بيان هذا النوع من البيع: أهو عقد على مبيع في الذمة، أم عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل؟
وذكر أن الصحيح هو اشتراط العمل.
وقال ابن الهمام في فتح القدير (6/242) :
(اختلف المشايخ أنه مواعدة أو معاقدة. فالحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة وصاحب المنثور "مواعدة" وإنما ينعقد عند الفراغ بيعًا بالتعاطي، ولهذا كان للصانع أن لا يعمل ولا يجبر عليه بخلاف السلم، وللمستصنع أن لا يقبل ما يأتي به ويرجع عنه، ولا تلزم المعاملة، وكذا المزارعة على قول أبي حنيفة، لفسادها مع التعامل لثبوت الخلاف فيهما في الصدر الأول، وهذا كان على الاتفاق. والصحيح من المذهب جوازه بيعًا لأن محمدًا ذكر فيه القياس والاستحسان … إلخ) . اهـ.
وابن الهمام هنا ذكر أربعة من الحنفية ذهبوا إلى أنه مواعدة، بَيَّنَ أدلتهم، ثم انتهى إلى ما انتهى إليه الكاساني.(7/774)
ثانيًا – دليل مشروعيته:
ذهب الحنفية – عدا زفر – إلى جواز الاستصناع، واستدلوا على مشروعيته بما يأتى:
1- إن الرسول صلى الله عليه وسلم استصنع خاتمًا ومنبرًا.
2- الإجماع الثابت بالتعامل.
3- الاستحسان.
وذكروا أن المانعين استدلوا بأنه بيع معدوم، وبيع ما ليس عند البائع على غير وجه السلم، فهو مخالف للقياس، وردوا بالإجماع المؤيد بالسنة المطهرة، فلننظر فيما ذكر من الأدلة.
السنة المطهرة والإجماع:
لو كان الاستصناع الذي ذهب إليه جمهور الحنفية ثابتًا بالسنة والإجماع فكيف خالفهم باقي الأئمة الأعلام؟
واستصناع الخاتم والمنبر جاء في الصحيحين وغيرهما، ولا خلاف في أن الرسول صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا كتب عليه "محمد رسول الله" واصطنع منبرًا، أَفَتَرَكَ الأئمة هذه السنة الصحيحة الثابتة، وخرجوا على الإجماع؟
هذا أمر مستبعد كل الاستبعاد، ولذلك لم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم اصطنع الخاتم والمنبر بطريقة الاستصناع التي قال بها الحنفية، وليس هناك إجماع على هذه الطريقة، بل الأقرب إلى الإجماع هو مخالفتها وعدم جوازها، فما مراد الحنفية من هذا الاستدلال؟
قال صاحب الهداية: (ولا بأس بالسلم في طست أو قمقمة أو خفين أو نحو ذلك إذا كان يعرف) لاستجماع شرائط السلم، (وإن كان لا يعرف فلا خير فيه) لأنه دين مجهول، قال: (وإن استصنع شيئًا من ذلك بغير أجل جاز استحسانًا) للإجماع الثابت بالتعامل) . (فتح القدير: 6/241 – 242) .
قال صاحب الكفاية في شرحه بعد ما سبق مباشرة:
(الجواز ثابت بالإجماع، وإنما الاختلاف في أنه بيع، أو عدة، أو إجارة) . اهـ.
ولو كان العقد إجارة فلا خلاف حول جوازه، ولكن شرط الاستصناع عندهم أن يكون ما يصنع من عند الصانع لا المستصنع، وهذا خلاف الإجارة.
ولو كان عدة، ولا يتم التعاقد إلا بعد انتهاء الصانع، فهو بيع لمبيع حاضر غير معدوم، ومن المعلوم أن هذا جائز، غير أن جمهور الحنفية رفضوا القول بأنه وعد، والصحيح من المذهب أنه بيع، ولذلك قالوا بأنه مخالف للقياس.
وقال صاحب الهداية: (جواز السلم بإجماع لا شبهة فيه، وفي تعاملهم الاستصناع نوع شبهة) .
وقال صاحب العناية في شرحه:
[ (قوله: وجواز السلم بإجماع لا شبهة فيه) أي بإجماع الصحابة (وقوله وفي تعاملهم نوع شبهة) ، فإن عند زفر والشافعي – رحمهما الله – لا يجوز، ولأنه نقل من الصحابة – رضي الله عنهم – تعاملهم السلم، وتأيد الإجماع في السلم بظاهر الكتاب والسنة المشهورة، وفي نقل الصحابة في تعاملهم الاستصناع شبهة] . اهـ. (راجع فتح القدير: 6/245) .
إذن رأي الحنفية في الاستصناع لا يؤيده سنة ولا إجماع.(7/775)
الاستحسان:
الخلاف حول الأخذ بالاستحسان مشهور، والحديث عنه يطول، ويخرجنا عن الموضوع. ولذلك أكتفي ببيان مراد الحنفية من هذا الدليل.
الاستحسان عند الحنفية – كما عرفه أبو الحسن الكرخي: (هو أن يعدل المجتهد عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول) .
قال شيخي الإمام محمد أبو زهرة – رحمه الله: (وهذا التعريف هو أبين التعريفات لحقيقة الاستحسان عند الحنفية، لأنه يشمل كل أنواعه، ويشير إلى أساسه ولبه، إذ أساسه أن يجيء الحكم مخالفًا قاعدة مطردة لأمر يجعل الخروج عن القاعدة أقرب إلى الشرع من الاستمساك بالقاعدة، فيكون الاعتماد عليه أقوى استدلالًا في المسألة من القياس) . (أصول الفقه، لشيخنا: ص207 – 208) .
والاستحسان نوعان:
أحدهما: ترجيح قياس خفي على قياس جلي بدليل.
وثانيهما: استثناء جزئية من حكم كلي بدليل. والدليل قد يكون من السنة أو للإجماع، أو للضرورة.
والاستحسان هو عمدة أدلة الحنفية في الاستصناع، والمراد به هنا النوع الثاني: فالشرع نهى عن بيع المعدوم والتعاقد عليه، والاستصناع الذي يراه جمهور الحنفية بيعًا ومعاقدة، يعد من المعدوم وقت التعاقد، فأجازوه استحسانًا للإجماع الثابت بالتعامل بحسب قولهم. ولبيان استدلالهم نذكر أقوال بعضهم.(7/776)
قال الكاساني في البدائع (5/2 – 3) :
(وأما جوازه فالقياس أن لا يجوز، لأنه بيع ما ليس عند الإنسان لا على وجه السلم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم ويجوز استحسانًا لإجماع الناس على ذلك، لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح)) . والقياس يترك بالإجماع، ولهذا ترك القياس في دخول الحمام بالأجر من غير بيان المدة ومقدار الماء الذي يستعمل، وفي قصعة الشارب للسقاء من غير بيان قدر المشروب، وفي شراء البقل وهذه المحقرات، كذا هذا.
ولأن الحاجة تدعو إليه؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى خف أو نعل من جنس مخصوص ونوع مخصوص على قدر مخصوص وصفة مخصوصة، وقلما يتفق وجوده مصنوعًا، يحتاج إلى أن يستصنع، فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج.
وقد خرج الجواب عن قوله إنه معدوم لأنه ألحق بالموجود لمساس الحاجة، كالمسلم فيه، فلم يكن بيع ما ليس عند الإنسان على الإطلاق، ولأن فيه معنى عقدين جائزين وهو السلم والإجارة، لأن السلم عقد على مبيع في الذمة، واستئجار الصناع يشترط فيه العمل، وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزًا) . اهـ.
وقال صاحب الهداية في جوازه استحسانًا: (للإجماع الثابت بالتعامل، وفي القياس لا يجوز لأنه بيع المعدوم) .
وقال ابن الهمام في شرح ما سبق: (اصنع لي خفًّا طوله كذا وسعته كذا، أو دستًا أي برمة تسع كذا ووزنها كذا على هيئة كذا بكذا، ويعطى الثمن المسمي أو لا يعطى شيئًا، فيعقد الآخر معه، جاز استحسانًا تبعًا للعين.(7/777)
والقياس ألا يجوز، وهو قول زفر والشافعي، إذا لا يمكن إجارة، لأنه استئجار على العمل في ملك الأجير وذلك لا يجوز، كما لو قال أحمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا بكذا، أو أصبغ ثوبك أحمر بكذا، لا يصح، ولا بيعًا لأنه بيع معدوم، ولو كان موجودًا مملوكًا لغير العاقد لم يجز.
فإذا كان معدومًا فهو أولى بعدم الجواز، ولكنا جوزناه استحسانًا للتعامل الراجح إلى الإجماع العملي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم بلا نكير.
والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) ، وقد استصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا، واحتجم صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام، مع أن مقدار عمل الحجامة وعدد كرات وضع المحاجم ومصها غير لازم عند أحد، وثله شرب الماء من السقاء.
وسمع صلى الله عليه وسلم بوجود الحمام، وأباحه بمئزر، ولم يبين له شرطًا، وتعامل الناس بدخوله من لدن الصحابة والتابعين على هذا الوجه إلى الآن، وهو ألا يذكر عدد ما يصبه من ملء الطاسة، ونحوها، فقصرناه على ما فيه تعامل، وفي ما لا تعامل فيه رجعنا فيه إلى القياس كأن يستصنع حائكًا أو خياطًا لينسج له، أو يخيط قميصًا بغزل نفسه) . (فتح القدير: 6/242) .
وفي الصفحة المذكورة من المرجع السابق قال الكبرلاني في الكفاية: (الجواز ثابت بالإجماع، وإنما الاختلاف في أنه بيع أو عدة أو إجارة) .
ثم قال:
(كان على الاتفاق كذا ذكره الإمام قاضيخان رحمه الله، وفي القياس لا يجوز لأنه بيع المعدوم، وقد نهى النبي – عليه الصلاة والسلام 0 عن بيع المعدوم.
وجه الاستحسان أن النبي – عليه السلام – استصنع خاتمًا ومنبرًا، ولأن المسلمين تعاملوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير، فنزل منزلة الإجماع، وهو كدخول الحمام بأجر، فإنه جائز استحسانًا لتعامل الناس، والقياس يأبى جوازه لأن مقدار المكث وما يصب من الماء مجهول. وكذا لو قال لسقاء: أعطني شربة ماء بفلس، أو احتجم بأجر، فإنه يجوز لتعامل الناس، وإن لم يعرف قدر ما يشرب، ولم يكن قدر ما يحتجم من ظهره معلومًا. والأصل فيه قوله عليه السلام: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وقد رأوا الاستصناع حسنًا فكان حسنًا)) . اهـ.(7/778)
انتهى المطلوب من أقوال الحنفية.
وسبق من قبل القول في المنبر والخاتم.
أما ما ذكر من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) فهو كما يقول السخاوي في المقاصد الحسنة (ص460 – حديث 1288) : (حديث مشهور المتن، ذو أسانيد كثيرة، وشواهد متعددة في المرفوع وغيره) .
وأما قولهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) ، فهذا ليس بمرفوع، وإنما موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، (رواه أحمد في مسنده، والبزار، والطبراني في الكبير، وإسناده صحيح) .
(انظر المسند تحقيق شاكر: 5/211، رواية رقم 3600، من الأخطاء القليلة للسخاوي قوله في المقاصد: ص367 وهم من عزاه للمسند) .
والحديث الشريف والأثر ليسا بحجة للحنفية، فليس هناك إجماع على جواز الاستصناع الذي قال به جمهور الحنفية كما أشرت من قبل، والذين رأوا أنه غير جائز، وغير حسن، أكثر من الذين رأوا أنه جائز وحسن.
وما قيل في السلم والحجامة والحمام ليس حجة لهم، فهذه المعاملات شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد بعده حق التشريع، فيبقى الأصل كما هو إلى بدليل شرعي يجيز الاستثناء.
وأما قولهم "ولأن الحاجة تدعو إليه لأن الإنسان … فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج"، ففيه نظر:
لأن هذا الحرج يمكن أن يرفع بالسلم في الصناعات، والإجارة، والمواعدة.
وأما قول الكاساني: "ولأن فيه معنى عقدين جائزين، وهو السلم والإجارة … وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزًا) ، فقيه نظر أيضًا:
لأن هذا القول يؤيد جمهور الفقهاء الذين خالفوا الحنفية، حيث ألحقوا الاستصناع بالسلم، واشترطوا له شروطه، وسبق قول الحنفية في التفرقة بين الاستصناع والسلم. كما أن الاستصناع عند الحنفية في بعض حالاته يدخل تحت بيع الكالىء بالكالىء – المجمع على منعه – حيث لا يتم تسليم ثمن ولا مبيع وقت التعاقد، فهم لا يشترطون تسليم الثمن – كله أو بعضه – عند التعاقد، فله أن يسلم الثمن كله أو بعضه، أو لا يسلم. (انظر مثلًا العناية مع فتح القدير: 6/244؛ ومجلة الأحكام العدلية المادة: ص391 ونصها: "لا يلزم في الاستصناع دفع الثمن حالًا، أي وقت العقد") .
ومن كل ما سبق نرى أن ما ذكره الحنفية من الأدلة لا يؤيد ما ذهب إليه جمهورهم من أنه عقد بيع على غير وجه السلم. والاستصناع ليس كالصرف الذي لا يجوز فيه المواعدة، ولذلك يمكن الأخذ بقول من ذكر من الحنفية القائلين بأنه وعد وليس عقد بيع، مع النظر فيا يترتب على هذا الوعد.(7/779)
ثالثًا – شروط جوازه:
وجدنا أن المذاهب الثلاثة تشترط للاستصناع شروط السلم، والمالكية أجازوا استصناع أى شيء مما يعمل الناس في أسواقهم من آنيتهم أو أمتعتهم التي يستعملون في أسواقهم عند الصناع. أما الشافعية والحنابلة فلم يجيزوا من هذه الأشياء ما جمع أجناسًا مقصودة لا تتميز. وسبق بيان هذا من قبل.
والحنفية هم الذين جعلوه عقدًا مستقلًّا من العقود المسماة، ووضعوا شروطًا لجوازه عندهم.
قال الكاساني في البدائع (5/3) : (وأما شرائط جوازه:
(فمنها) بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته؛ لأنه لا يصير معلومًا بدونه.
(ومنها) : أن يكون ما يجري فيه التعالم بين الناس من أواني الحديد والرصاص والنحاس والزجاج والخفاف والنعال ولجم الحديد للدواب ونصول السيوف والسكاكين والقسي والنبل والسلاح كله والطشت والقمقمة ونحو ذلك، ولا يجوز في الثياب لأن القياس يأبى جوازه، وإنما جوازه استحسانًا لتعامل الناس ولا تعامل في الثياب.
(ومنها) أن لا يكون فيه أجل، فإن ضرب للاستصناع أجلًا صار سلمًا حتى يعتبر فيه شرائط السلم وهو قبض البدل في المجلس، ولا خيار لواحد منهما إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في السلم … (وهذا) قول أبي حنيفة رحمه الله.
. وقال أبو يوسف ومحمد: هذا ليس بشرط؛ وهو استصناع على كل حال، ضرب فيه أجلًا أو لم يضرب، ولو ضرب للاستصناع فيما لا يجوز فيه الاستصناع – كالثياب ونحوها – أجلًا ينقلب سلمًا في قولهم جميعًا.
(وجه) قولهما: أن العادة جارية بضرب الأجل في الاستصناع، وإنما يقصد به تعجيل العمل لا تأخير المطالبة، فلا يخرج به كونه استصناعًا، أو يقال: قد يقصد بضرب الأجل تأخير المطالبة، وقد يقصد به تعجيل العمل، فلا يخرج العقد عن موضوعه مع الشك والاحتمال، بخلاف ما لا يحتمل الاستصناع لا يقصد بضرب الأجل فيه تعجيل العمل، فتعين أن يكون لتأخير المطالبة بالدين وذلك بالسلم – ولأبي حنيفة – رضي الله عنه أنه إذا ضرب فيه أجلًا فقد أتى بمعنى السلم، إذ هو عقد على مبيع في الذمة مؤجلًا، والعبرة في العقود لمعانيها لا لصور الألفاظ، ألا ترى أن البيع ينعقد بلفظ التمليك، وكذا الإجارة، وكذا النكاح، على أصلنا (ولهذا) صار سلمًا فيما لا يحتمل الاستصناع، كذا هذا، ولأن التأجيل يختص بالديون، لأنه وضع لتأخير المطالبة. وتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه مطالبة وليس ذلك إلا السلم، إذ لا دين في الاستصناع:
(ألا ترى أن لكل واحد منهما خيار الامتناع من العمل قبل العمل بالاتفاق؟ ثم إذا صار سلمًا يراعى فيه شرائط السلم فإن وجدت صح وإلا فلا) . اهـ.(7/780)
وقال السمرقندي في تحفة الفقهاء (2/539) : "فإذا ضرب الأجل في الاستصناع ينقلب سلمًا عند أبي حنيفة، خلافًا لهما، لأنه إذا ذكر فيه الأجل يكون فيه جميع معاني السلم، والعبرة للمعنى لا للفظ، ولهذا لو استصنع ما لا يجوز استصناعه حتى يكون استصناعًا فاسدًا، وشرط فيه الأجل: ينقلب سلمًا بلا خلاف – كذا هذا، والله أعلم) .
وقال صاحب الهداية: (ولو ضرب الأجل فيما فيه تعامل يصير سلمًا عند أبي حنيفة خلافًا لهما، ولو ضربه فيما لا تعامل فيه يصير سلمًا بالاتفاق". (انظر فتح القدير: 6/244) .
وقال صاحب الكفاية في شرح ما سبق: (قوله: لأنه لو ضرب الأجل فيه تعامل يصير سلمًا عند أبي حنيفة – رحمه الله) فيشترط فيه شرائط السلم من قبض رأس المال في المجلس، وعدم الخيار لرب السلم إذا أتى بالمصنوع على الوصف الذي وصفه.
والمراد الأجل الذي يضرب للسلم، فقال في المبسوط: هذا إذا ذكر المدة على سبيل الاستمهال، أما إذا كان على سبيل الاستعجال بأن قال: على أن يفرغ عنه غدًا أو بعد غدٍ فهذا لا يكون سلمًا، لأن ذكر المدة للفراغ من العمل لا لتأجيل المطالبة بالتسليم، ألا ترى أنه ذكر أدنى مدة يمكنه الفراغ فيها من العمل؟ ويحكى عن الهندواني أن ذكر المدة من قبل المستصنع فهو الاستعجال فلا يصير به سلمًا.
وإن كان الصانع هو الذي ذكر المدة فهو سلم لأنه يذكره على سبيل الاستمهال. وقيل: إن ذكر أدنى مدة يتمكن فيها من العمل فهو استصناع، وإن كان أكثر من ذلك فهو سلم، لأن ذلك لا يختلف باختلاف الأعمال، فلا يمكن تقديره بشيء معلوم) . اهـ.
ومن هذا نرى أن الحنفية يشترطون لجواز الاستصناع ما يأتي:
1- بيان جنس المستصنع، ونوعه، وقدره، وصفته، لأنه لا يصير معلومًا بدون هذا البيان. وهذا الشرط لا ينفردون به، حيث إنه من شروط السلم.
2- أن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس.
3- ألا يكون فيه أجل، وهذا قول أبي حنيفة، وخالفه الصاحبان، وفي المذهب أقوال تتصل بهذا الشرط كما يظهر مما نقل من كتبهم.
ويلاحظ عند ذكر الأجل فيما يجري فيه التعامل – أن رأي الإمام أبي حنيفة لا يختلف عن السلم في الصناعات عند المالكية.(7/781)
رابعًا – حكمه:
حكم الاستصناع عند الجمهور هو حكم السلم تبعًا لرأيهم في الاستصناع كما بينا من قبل. أمَّا الحنفية فيبين الكاساني رأيهم حيث يقول:
(وأما حكم الاستصناع فهو ثبوت الملك للمستصنع في العين المبيعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في الثمن ملكًا غير لازم – على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وأما صفة الاستصناع فهي أنه عقد غير لازم قبل العمل في الجانبين جميعًا بلا خلاف، حتى كان لكل واحد منهما خيار الامتناع قبل العمل، كالبيع المشروط فيه الخيار للمتبايعين أن لكل واحد منهما الفسخ، لأن القياس يقتضي أن لا يجوز لما قلنا، وإنما عرفنا جوازه استحسانًا لتعامل الناس، فبقي اللزوم على أصل القياس، (وأما) بعد الفراغ من العمل قبل أن يراه المستصنع فكذلك، حتى كان للصانع أن يبيعه ممن شاء كذا ذكر في الأصل، لأن العقد ما وقع على عين المعمول بل على مثله في الذمة لما ذكرنا أنه لو اشترى من مكان آخر وسلم إليه جاز. ولو باعه الصانع وأراد المستصنع أن ينقض البيع ليس له ذلك. ولو استهلكه قبل الرؤية فهو البائع إذا استهلك المبيع قبل التسليم، كذا قال أبو يوسف.
فأما إذا أحضر الصانع العين على الصفة المشروطة فقد سقط خيار الصانع وللمستصنع الخيار، لأن الصانع بائع ما لم يره، فلا خيار له، وأما المستصنع فمشتري ما لم يره، فكان له الخيار، وإنما كان كذلك لأن المعقود عليه وإن كان معدومًا حقيقة فقد ألحق بالموجود ليمكن القول بجواز العقد، ولأن الخيار كان ثابتًا لهما قبل الإحضار لما ذكرنا أن العقد غير لازم، فالصانع بالإحضار أسقط خيار نفسه، فبقي خيار صاحبه، على حاله؛ كالبيع الذي فيه شرط الخيار للعاقدين إذا أسقط أحدهما خيار، أنه يبقى خيار الآخر، كذا هذا. (هذا) جواب ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رضي الله عنهم.
وروي عن أبي حنيفة – رحمه الله – أن لكل واحد منهما الخيار، وروي عن أبي يوسف أنه لا خيار لهما جميعًا.
(وجه) رواية أبي يوسف أن الصانع قد أفسد متاعه وقطع جلده وجاء بالعمل على الصفة المشروطة، فلو كان للمستصنع الامتناع من أخذه لكان فيه إضرار بالصانع، بخلاف ما إذا قطع الجلد ولم يعمل، فقال المستصنع: لا أريد، لأنا لا ندري أن العمل يقع على الصفة المشروطة أو لا، فلم يكن الامتناع منه إضرارًا بصاحبه، ثبت الخيار.
(وجه) رواية أبي حنيفة – رحمه الله – أن في تخيير كل واحد منهما دفع الضرر عنه، وأنه واجب. والصحيح جواب ظاهر الرواية، لأن في إثبات الخيار للصانع ما شرع له الاستصناع: وهو دفع حاجة المستصنع، لأنه متى ثبت الخيار للصانع فكل ما فرغ عنه يبيعه من غير المستصنع، فلا تندفع حاجة المستصنع.(7/782)
وقول أبي يوسف أن الصانع يتضرر بإثبات الخيار للمستصنع مسلم، ولكن ضرر المستصنع بإبطال الخيار فوق ضرر الصانع بإثبات الخيار للمستصنع، لأن المصنوع إذا لم يلائمه وطولب بثمنه لا يمكنه بيع المصنوع من غيره بقيمة مثله، ولا يتعذر ذلك على الصانع لكثرة ممارسته وانتصابه لذلك، ولأن المستصنع إذا غرم ثمنه ولم تندفع حاجته لم يحصل ما شرع له الاستصناع وهو اندفاع حاجته، فلا بد من إثبات الخيار له، والله سبحانه وتعالى الموفق.
فإن سلم إلى حدادٍ حديدًا ليعمل له إناء معلومًا بأجر معلوم، أو جلدًا إلى خفاف ليعمل له خفًّا معلومًا بأجر معلوم، فذلك جائز ولا خيار فيه، لأن هذا ليس باستصناع بل هو استئجار، فكان جائزًا فإن عمل كما أمر استحق الأجر، وإن أفسد فله أن يضمنه حديدًا مثله، لأنه لما أفسده فكأنه أخذ حديدًا له، واتخذ منه آنية من غير إذنه، والإناء للصانع لأن المضمونات تملك بالضمان) . اهـ.
(البدائع: 5/3 – 4، وراجع ما كتبه أيضًا في ص209، 210) .
وقال السمرقندي في تفسير الاستصناع:
"وهو عقد غير لازم، ولكل واحد منهما الخيار في الامتناع قبل العمل، وبعد الفراغ من العمل: لهما الخيارن حتى إن الصانع لو باعه قبل أن يراه جاز لأنه ليس بعقد لازم.
فأما إذا جاء به إلى المستصنع فقد سقط خياره، لأنه رضًى بكونه للمستصنع، حيث جاء به إليه.
فإذا رآه المستصنع فله الخيار: إن شاء أجاز، وإن شاء فسخ عند أبي حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: لا خيار له، لأنه مبيع في الذمة بمنزلة السلم.
وهما يقولان: إنه بمنزلة العين المبيع الغائب.
(تحفة الفقهاء: 2/538 – 539)(7/783)
وقال المرغيناني في الهداية:
"وهو بالخيار إذا رآه إن شاء أخذه وإن شاء تركه"، لأنه اشترى شيئًا لم يره، ولا خيار للصانع، كذا ذكره في المبسوط وهو الأصح، لأنه باع ما لم يره.
وعن أبي حنيفة – رحمه الله – أن له الخيار أيضًا، لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بضرر، وهو قطع الصرم وغيره.
وعن أبي يوسف أنه لا خيار لهما: أما الصانع فلما ذكرنا، وأما المستصنع فلأن في إثبات الخيار له إضرارًا بالصانع، لأنه ربما لا يشتري غيره بمثله.
وقال صاحب العناية في شرح ما سبق:
"وهو بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء تركه … إلخ": أي المستصنع بعد الرؤية بالخيار: إن شاء أخذه وإن شاء تركه لأنه اشترى ما لم يره، ومن هو كذلك فله الخيار كما تقدم. ولا خيار للصانع، كذا ذكر في المبسوط، فيجبر على العمل، لأنه بائع باع ما لم يره، ومن هو كذلك لا خيار له، وهو الأصح بناء على جعله بيعًا لا عدة.
وعن أبي حنيفة أن له الخيار أيضًا إن شاء فعل وإن شاء ترك دفعًا للضرر عنه، لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بضرر، وهو قطع الصرم وإتلاف الخيط.
وعن أبي يوسف أنه لا خيار لهما: أما الصانع فلما ذكرنا أولًا، وأما المستصنع فلأن الصانع أتلف ماله بقطع الصرم وغيره ليصل إلى بدله، فلو ثبت له الخيار تضرر الصانع لأن غيره لا يشتريه بمثله، ألا ترى أن الواعظ إذا استصنع منبرًا ولم يأخذه فالعامي لا يشتريه أصلًا.
فإن قيل الضرر حصل برضاه فلا يكون معتبرًا؟ أجيب بجواز أن يكون الرضا على ظن أن المستصنع مجبور على القبول، فلما علم اختياره عدم رضاه.
فإن قيل ذلك لجهل منه وهو لا يصلح عذرًا في دار الإسلام؟ أجيب بأن خيار المستصنع اختيار بعض المتأخرين من أصحابنا، ولم يجب على كل واحد من المسلمين في دار الإسلام علم أحوال جميع المسلمين، وإنما الجهل ليس بعذر في دار الإسلام في الفرائض التي لا بد لإقامة الدين منها … إلخ (راجع فتح القدير: 6/243 – 244) .
وفي المرجع السابق (ص243) جاء في الكفاية والعناية أن الاستصناع يبطل بموت أحد المتعاقدين لشبهة بالإجارة.
وجاء في شرح المجلة (ص221 شرح المادة 392) :
"يبطل الاستصناع بوفاة الصانع أو المستصنع لمشابهته للإجارة. والإجارة تنفسخ بالموت".(7/784)
وقال ابن عابدين في حاشيته (4/213) :
"للصانع أن يبيع المصنوع قبل أن يراه المستصنع، لأن العقد غير لازم ".
وقال: إذا أحضره الصانع على الصفة المشروطة سقط خياره، وللمستصنع الخيار – هذا جواب ظاهر الرواية، - وروى عنه ثبوته لهما، وعن الثاني عدمه لهما، والصحيح الأول".
وقال أيضًا:
" … فقد ظهر لك بهذه النقول أن الاستصناع لا جبر فيه إلا إذا كان مؤجلًا بشهر فأكثر فيصير سلمًا، وهو عقد لازم يجبر عليه ولا خيار فيه، وبه علم أن قول المصنف: فيجبر الصانع على عمله ولا يرجع الآمر عنه – إنما هو فيما إذا صار سلمًا، فكان عليه ذكره قبل قوله: وبدونه، وإلَّا فهو مناقض لما ذكره بعده من إثبات الخيار للآمر، ومن أن المعقود عليه العين لا العمل، فإذا لم يكن العمل معقودًا عليه فكيف يجبر عليه؟
وأما ما في الهداية عن المبسوط من أنه لا خيار للصانع في الأصح فذلك بعد ما صنعه ورآه الآمر، كما صرح به في الفتح، وهو ما مر عن البدائع، والظاهر أن هذا منشأ توهم المصنف وغيره كما يأتي. وبعد تحريري لهذا المقام رأيت موافقته في الفصل الرابع والعشرين من نور العين إصلاح جامع الفصولين حيث قال: "بعد أن أكثر من النقل في إثبات الخيار في الاستصناع: فظهر أن قول الدرر تبعًا لخزانة المفتي أن الصانع يجبر على عمله والآمر لا يرجع عنه سهو ظاهر. اهـ فاغتنم هذا التحرير ولله الحمد".اهـ (4/213) .
ويؤخذ مما سبق ما يأتي:
1- الاستصناع عقد غير لازم قبل العمل لكل من المتعاقدين، وهذا لا خلاف حوله عند الحنفية.
2- وهو كذلك لازم بعد الفراغ من العمل قبل أن يراه المستصنع.
3- اختلف الحنفية في الحكم إذا أحضر الصانع العين على الصفة المشروطة:
(أ) فظاهر الرواية عن الإمام والصاحبين: أن الصانع يسقط خياره، ويبقى للمستصنع الخيار.
(ب) وروي عن الإمام أن لكل واحد منهما الخيار.
(ج) وروي عن أبي يوسف أنه لا خيار لهما جميعًا.
والأول هو الأصح كما قال ابن عابدين.
ونلاحظ أن الأدلة تنبني أساسًا على القول بمنع الضرر، استدل بهذا من قال بالخيار، ومن قال بالإلزام.(7/785)
4- يبطل الاستصناع بوفاة أحد المتعاقدين.
هذا هو حكم الاستصناع كما جاء في كتب الحنفية، ولكن مجلة الأحكام العدلية جاءت برأي في الإلزام يخالف طبيعة العقد عند الحنفية حيث نصت المادة (392) على ما يأتي:
"إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع عنه.
وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرًا". اهـ.
ومن الخطأ ما قاله بعض الكاتبين من أن المجلة أخذت برأي أبي يوسف فقبل العمل، وكذلك بعده وقبل أن يراه المستصنع. لا خلاف أن العقد غير لازم عند أبي يوسف وغيره، والمجلة نفسها قالت في المادة (388) : "إذا قال رجل لواحد من أهل الصنائع: اصنع لي الشيء الفلاني بكذا قرشًا، وقبل الصانع ذلك، انعقد البيع استصناعًا ".
ومعنى هذا أن الاستصناع عقد لازم من بداية الإيجاب والقبول قبل العمل، وهذا لا يكون إلا إذا أصبح سلمًا، خلافًا للاستصناع عند الحنفية.
ولذلك يجب أن يضاف للمادة (392) بعد العبارة الأولى: إحضار الصانع المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة، فيكون اللزوم حينئذٍ، ويكون هذا موافقًا لرواية عن أبي يوسف خلافًا لظاهر الرواية عنه، ولا يقال إنه موافق لرأي أبي يوسف.(7/786)
النتائج والاقتراحات
أولًا: الاستصناع عند المالكية والشافعية والحنابلة جزء من السلم لا يصح إلا بشروطه، وهو عند الحنفية - عدا زفر – عقد مستقل له شروطه وأحكامه الخاصة.
ثانيًا: الشافعية والحنابلة نظروا إلى مادة المصنوع، فأجازوا ما كان من جنس واحد، واختلفوا فيما يجمع أجناسًا مقصودة تتميز بحيث يعلم العاقدان وزن كل من أجزائه، والراجح الجواز، ولم يجيزوا ما جمع أجناسًا مقصودة لا تتميز.
والمالكية نظروا إلى تعامل الناس فأجازوه، ولم ينظروا إلى مادة المصنوع، وإنما إلى المصنوع نفسه، سواء أكان من جنس واحد أم من أجناس مختلفة.
والحنفية أيضًا نظروا إلى ما فيه تعامل، فأجازوه استصناعًا، غير أنهم أجازوا ما ليس فيه تعامل سلمًا لا استصناعًا.
ثالثًا: إذا ذكر الأجل في الاستصناع أصبح سلمًا عند أبي حنيفة خلافًا للصاحبين، وهذا يعني أن رأي الإمام هنا كالسلم في الصناعات عند المالكية.
رابعًا: لعل الأولى النظر إلى تعامل الناس في الصناعات في مختلف العصور والأمصار، وبهذا نرجح ما ذهب إليه الحنفية والمالكية، والعرف – بضوابطه الشرعية- مصدر يحتج به في الأحكام.
خامسًا: لم نجد ما يجيز رأى الحنفية في جعل الاستصناع بيعًا على غير وجه السلم، وهو معدوم وليس عند البائع. كما أنهم أجمعوا على أنه عقد غير لازم قبل أن يراه المستصنع، وهذا لا يرفع حرجًا، ولا يحل مشكلة، وعلى الأخص في صناعات العصر التي قد تكون بآلاف الآلاف، و (بالمليارات) .
ولذلك رأينا مجلة الأحكام العدلية – وهي في الفقه الحنفي – تجعل الاستصناع عقدًا لازمًا منذ البداية، وهذا يخالف إجماع المذهب الحنفي، فضلًا عن باقى المذاهب.(7/787)
ولهذا أقترح ما يأتي:
1- إذا اعتبر عقد الاستصناع بيعًا ألحقناه بالسلم بجميع شروطه، ويصح في الصناعت التي يتعامل بها في أي عصر.
2- ما لم يكن سلمًا – حيث يتعذر تطبيق شروطه، ويقع الناس في حرج ومشقة – يعتبر وعدًا لا بيعًا، حتى لا نقع في محظور شرعي. وفي هذه الحالة نطبق قرار مجمع الفقه بمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بشأن الوفاء بالوعد في المرابحة للآمر بالشراء، ونجعل حكم الوفاء بالوعد في الاستصناع كالوعد في المرابحة.
وما يتصل بالوعد في القرار المذكور هو ما يأتي:
ثانيًا: الوعد (وهو الذي يصدر عن الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد. ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
ثالثًا: المواعدة (وهي التي تصدر عن الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده". انتهى المطلوب نقله.
ويعدل القرار بوضع كلمتي (المستصنع أو الصانع) بدلًا من (الآمر أو المأمور) في ثانيًا، وفي ثالثًا: يحذف (بيع المرابحة) ونضع الاستصناع في الموضعين.
وبعد: أظن أن هذا أكثر رفعًا للحرج، ودفعًا للمشقة، وأقرب للصواب.
والله عزَّ وجلَّ هو الأعلم.(7/788)
المبحث الرابع
الاستصناع في معاملاتنا المعاصرة
من الواضح في عصرنا كثرة الصناعات، وتنوعها، وتطورها تطورًا مذهلًا، ولا حاجة للحديث عن هذا الموضوع في مثل هذه الدراسة، ولكن الذي نريد أن نشير إليه هو دور عقد الاستصناع في هذا المجال، وفي التمويل الإسلامي.
بعض المصنوعات تكون حاضرة، فتباع بيعًا حالًّا أو آجلًا أو بالتقسيط، ولكن في كثير من الحالات تتم الصناعة بناء على طلب من مستصنع، وقد يكون المستصنع فردًا، أو جماعة أو شركة، أو وزارة، أو دولة.
وقد يكون الاستصناع لأحذية كما كان في النعال من قبل، وقد يكون لأثاث، أو أجهزة منزلية، أو سيارات، أو طائرات أو أسلحة حربية وغيرها.
والاستصناع هنا – يجعل الصانع يزيد من مصنوعاته كلما زاد الطلب، وهو لذلك يلبي حاجة المستصنع.
كما أن الاستصناع أصبح وسيلة هامة من وسائل التمويل الإسلامي في عصرنا. وأضرب هنا بعض الأمثلة من الواقع العملي لمصرف قطر الإسلامي.
قامت إحدى الشركات ببناء مبنى كبير، واحتاجت إلى تمويل لتوريد وتنفيذ أعمال الألمنيوم والزجاج، فلجأت إلى المصرف، وقدمت له المواصفات والمخططات وجداول الكميات.
عرض على المصرف هذا الموضوع، وطلب مني دراسته من الناحية الشرعية، وهل يوجد في الفقه الإسلامي عقد يمكن المصرف من قبول طلب هذه الشركة؟(7/789)
وبالبحث وجدنا أن ما طلبته الشركة ليس موجودًا بالأسواق، وبذلك استبعدنا عقد البيع.
وأخبرني المصرف بأن في قطر شركة صناعية يمكن أن تقوم بهذه الأعمال، ولكن تحتاج إلى استيراد بعض الخامات قبل البدء في التصنيع. لو أن الخامات كانت موجودة لأمكن شراؤها من هذه الشركة أو من غيرها، ثم إبرام عقد إجارة مع الشركة، لكن الخامات غير موجودة.
لهذا اقترحت على المصرف إبرام عقد استصناع مع الشركة الصناعية، ويذكر فيه، أو يلحق به، المواصفات والمخططات وجداول الكميات.
ويدفع المصرف جزءًا من الثمن عند التعاقد أو أثناء العمل، والباقي عند إتمام العمل.
وفي الوقت نفسه يبرم مع شركة البناء عقد استصناع أيضًا، ولكن يكون المصرف هنا هو الصانع وليس المستصنع، وبعد إتمام المشروع يبيع المصرف بيعًا بالتقسيط.
ويلاحظ هنا أن شركة البناء لا علاقة بينها وبين الشركة الصناعية، والأخيرة ليست ملزمة بأي شيء تجاهها، وإنما علاقتها بالمصرف، ولذلك إذا لم تف الشركة الصناعية بما التزمت به فعلى المصرف أن يلجأ لشركة أخرى حتى يفي بالتزاماته تجاه شركة البناء.
وأذكر مثلًا آخر:
يملك أحد القطريين قطعة كبيرة من الأرض، أراد أن يبني عليها مجموعة من البيوت (الفلل) ، وطلب من المصرف تمويل المشروع، عرض المصرف أن يبيع له ما يحتاج إليه من مواد البناء بيعًا آجلًا، فقال: إن هذا يحل جزءًا من المشكلة، فكيف يحل باقي المشكلة وتكلفتها ليست قليلة؟
عرفت من المصرف أنهما لا يريدان أي نوع من الشركة، فالشركة المنتهية بالتمليك مثلًا، فقلت: يدخل المصرف مع الطرف الآخر في عقد استصناع، ويكون الاتفاق معه على الثمن مقسطًا، وتبدأ الأقساط بعد الانتهاء من البناء، وتسليمه كاملًا موافقًا لرخصة البناء، والتصاميم والمخططات والرسومات، والمواصفات الهندسية، وجداول الكميات، والشروط العامة والخاصة للمشروع.(7/790)
وحيث إن المصرف لا يملك شركة للبناء، فعليه إذن الاتصال بشركات البناء، واختيار أفضلها لتولي العمل المطلوب. ومعنى هذا أن المصرف عليه أن يحضر مواد البناء، ويدخل مع إحدى الشركات في عقد إجارة، أو أن تقوم الشركة بعملية البناء وتحمل جميع النفقات على أساس عقد الاستصناع، ويكون المصرف هنا هو المستصنع، مع أنه الصانع بالنسبة لصاحب الأرض.
ويستطيع المصرف دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع، وعلى الأخص أنه سيعجل بدفع الثمن للصانع، وفي العقد الآخر البيع بالتقسيط.
رأى المصرف أن هذا العقد يحل مشكلة طالب البناء كاملة، ويمكن أن يحقق ربحًا معقولًا، ولكن توجد مشكلة تمنع المصرف من قبول عقد الاستصناع في البناء بصفة عامة، وهي ضمان المبنى، فبعد تسليم المبنى يظل الباني ضامنًا لمدة طويلة لا تقل عن عشر سنوات، وفي بعض البلاد تزيد كثيرًا على عشر سنوات. والمصرف لا يستطيع تحمل مثل لهذا الضمان.
فاقترحت عليهم أن تقوم الشركة – وهي الصانع – بضمان المبنى للمصرف أو لمن يحدده المصرف، ويشترط في العقد الآخر قبول صاحب الأرض ضمان المبنى من المصرف، أو من أي طرف آخر يحدده المصرف ويقبل إعطاء هذا الضمان.
وعندئذ قبل المصرف الدخول في عقدي الاستصناع، وبعد الانتهاء من البناء تقوم الشركة بضمان المبنى للطرف الذي حدده المصرف، ويخلى هذا الطرف المصرف من تحمل أية مسؤولية.
وبالفعل تم تنفيذ كل من العقدين، وأصبح المصرف مستعدًّا للدخول في مثل هذه العمليات.
وأذكر هنا أن المصرف بعد أن تعاقد مع صاحب الأرض قام بمناقصة لشركات البناء، فجاءت العطاءات متفاوتة لدرجة كبيرة: فأحدهما طلب مبلغًا يقترب من المبلغ الذي سيأخذه المصرف من طالب البناء، مع أن طريقة الدفع تختلف اختلافًا بينًا، فالمصرف يأخذ الثمن مقسطًا على ثمانية أعوام، والشركة تأخذ الثمن من المصرف نقدًا دون تأجيل.
وأنسب عطاء كان أقل من هذا بنسبة كبيرة تجعل المصرف يربح 50 % تقريبًا.
وأحب أن أختم هذا المبحث بعرض صورة لنموذج عقد من عقود الاستصناع في البناء.
الدكتور على السالوس.(7/791)
بسم الله الرحمن الرحيم
عقد استصناع
في يوم الموافق / / قد تحرر هذا العقد.
بين كل من:
1- مصرف قطر الإسلامي ومركزه الرئيسي بشارع حمد بالدوحة قطر ويمثله في التوقيع على هذا العقد السيد /
طرف أول
2-
ووعنوانه:
طرف ثاني
أقر الطرفان بصفتهما وأهليتهما الكاملة للتعاقد واتفقا على ما يلي:
تمهيد
تقدم الطرف الثاني إلى الطرف الأول بطلب يعلن فيه عن رغبته في أن يقوم الأخير بتنفيذ مشروع بناء لحسابه على قطعة الأرض التي يملكها على مساحة متر مربع لموجب سند الملكية رقم كما قدم الطرف الثاني إلى الطرف الأول رخصة البناء والتصاميم والمخططات والرسومات والمواصفات الهندسية وجداول الكميات والشروط العامة والخاصة للمشروع والتي تم إعدادها من قبل المكتب الهندسي.
وقد وافق الطرف الأول على طلب الطرف الثاني وتحرر بين الطرفين هذا العقد وفقًا للبنود التالية:(7/792)
البند الأول
يعتبر التمهيد السابق والطلب المقدم من الطرف الثاني المؤرخ وكذلك رخصة البناء والتصاميم والمخططات والرسومات والمواصفات الهندسية وجداول الكميات المرافقة للطلب المذكور والمعتمدة من الطرف الثاني جزءًا لا يتجزأ من هذا العقد ومتممًا له.
البند الثاني
اتفق الطرفان على أن يقوم الطرف الأول بكافة الأعمال اللازمة لإنشاء المشروع وتسليمه صالحًا للاستعمال وأن يلتزم بتنفيذ جميع الأعمال وفقًا للتصاميم والمخططات والرسومات والمواصفات الهندسية وجداول الكميات المقدمة من الطرف الثاني ووفقًا للشروط العامة وكذلك الشروط الخاصة المبينة في هذا العقد.
البند الثالث
قيمة هذا العقد مبلغ ريال ويلتزم الطرف الثاني بدفعة للطرف الأول على () قسطًا شهريًا قيمة كل قسط
ريال يستحق القسط الأول بعد سنة من تاريخ هذا العقد.
ويخضع سريان هذا العقد لإجراء الرهن لصالح المصرف على العقار رقم
والذي يمثل أرض المشروع وما عليها من مشتملات وبناء حيث أن الطرف الثاني لم يقدم ضمانًا آخر غير المشروع نفسه.
البند الرابع
يلتزم الطرف الأول بتنفيذ جميع الأعمال اللازمة لتشييد المشروع خلال مدة أقصاها
شهرًا تبدأ من تاريخ تسليم الموقع ويتعهد بتسليم المشروع صالحًا للاستعمال في نهاية المدة المحددة.(7/793)
البند الخامس
قام الطرف الثاني بتعيين المكتب الاستشاري
ليكون وكيلًا عنه في الإشراف على تنفيذ مراحل المشروع المختلفة وتسلم المشروع بعد إتمام التنفيذ بالكامل ووافق الطرف الأول على ذلك المكتب. ويقوم هذا الوكيل بالإشراف على جميع أعمال المشروع ومراحل التنفيذ المختلفة واعتماد جميع المواد المستخدمة في المشروع والتأكد من أن الأعمال المنجزة نفذت طبقًا للمواصفات المطلوبة والشروط المتفق عليها. وأن يقوم كذلك بإعداد شهادات الإنجاز وأن توقيعه عليها كوكيل عن الطرف الثاني بمثابة شهادة من الطرف الثاني بتسلم الأعمال المنجزة وقبوله لها وإقرار منه بأنها نفذت وفقًا للمواصفات المطلوبة والشروط المتفق عليها.
البند السادس
يعتبر المشروع متسلمًا من قبل الطرف الثاني بمجرد إصدار شهادة إتمام البناء الابتدائية من قبل المكتب الاستشاري المعتمد حيث تعتبر شهادة إتمام البناء الابتدائية الصادرة عن المكتب الاستشاري بمثابة تسليم ابتدائي من وكيل الطرف الثاني.
البند السابع
يحق للطرف الأول التعاقد مع إحدى شركات المقاولات لتنفيذ المشروع حسب الشروط والمواصفات المتفق عليها مع الطرف الثاني. كما يحق للطرف الأول في حالة مخالفة شركة المقاولات للشروط المتفق عليها وعدم الوصول إلى اتفاق لحل الخلاف مما يؤثر على سير العمل، استبدالها والتعاقد مع شركة أو شركات أخرى لإكمال تنفيذ المشروع.
البند الثامن
يقبل الطرف الثاني قبولًا غير قابل للنقض أو الإلغاء ضمان تنفيذ جميع الأعمال بالمشروع من الطرف الأول أو من الجهة التي يتعاقد معها الطرف الأول لتنفيذ المشروع وتقبل تقديم هذا الضمان وحيث إن شركة قد ضمنت المشروع للطرف الأول أو لأي طرف آخر يقبل هذا الضمان فإن الطرف الأول يجعل هذا الضمان لصالح الطرف الثاني وبناء على هذا فإن الطرف الثاني يتنازل عن حقه في الرجوع على الطرف الأول في أية مطالبة أو ادعاء قد ينشأ مستقبلًا بعد تسليم المشروع نتيجة سوء تنفيذ شركة المقاولات أو لأي سبب آخر، ويلتزم الطرف الثاني بناء على ذلك بالرجوع على شركة المقاولات في أية مطالبة أو ادعاء.(7/794)
البند التاسع
في حالة تأخر الطرف الأول أو من يتعاقد معه عن إتمام المشروع في الموعد المحدد فإنه يتحمل جميع الأضرار التي تنتج عن هذا التأخير ما لم يكن هناك أسباب قهرية لم يتسبب فيها الطرف الأول وتكون خارجة عن إرادته.
البند العاشر
على الطرف الأول أو من يتعاقد لتنفيذ المشروع اعتماد جميع المواد اللازمة للمشروع قبل استعمالها من الطرف الثاني أو وكيله.
البند الحادي عشر
يلتزم الطرف الأول أو من يتعاقد معه بتأمين وتوفير جميع ما يلزم المشروع من مواد ومعدات بشكل يكفل إنهاء المشروع في موعده المحدد.
البند الثاني عشر
على الطرف الأول أو من يتعاقد معه تقديم جدول زمني تفصيلي لسير الأعمال ومراحل تقدمها خلال فترة التنفيذ المحددة والحصول على موافقة الطرف الثاني أو وكيله على ذلك قبل مباشرة العمل في الموقع.
البند الثالث عشر
في حالة وجود أية أعمال إضافية أو تعديلات يقترح الطرف الثاني أو المكتب الاستشاري أو كلاهما معًا ضرورة إدخالها مما قد يؤثر على شروط وقيمة هذا العقد، فإن على الطرف الثاني مراجعة الطرف الأول والاتفاق على تعديل العقد أو أخذ موافقته على التعديل المقترح قبل تنفيذ أية أعمال خلاف الأعمال المعتمدة سواء كان بالزيادة أو النقصان، كما أن عليه تزويد الطرف الأول بموافقة المكتب الاستشاري على التعديلات المطلوبة وتعديل المخططات والتصاميم والمواصفات تبعًا لذلك.(7/795)
البند الرابع عشر
في حالة توقيع هذا العقد من قبل أكثر من شخص واحد بصفة طرف ثان، يكون جميع الموقعين مسؤولين وضامنين متضامنين، منفردين أو مجتمعين، تجاه الطرف الأول عن تسديد المبالغ المطلوبة له بموجب هذا العقد.
البند الخامس عشر
ما لم ينص على خلاف ذلك في العقد نفسه فإن الأحكام والشروط الواردة في الشروط العامة للتعاقد والصادرة من وزارة الأشغال العامة بدولة قطر تسود على أحكام أي مستند آخر يمثل جزءًا من العقد.
البند السادس عشر
(أ) يتم الفصل في النزاع على أساس الشريعة الإسلامية.
(ب) أي خلاف ناشئ عن تطبيق أحكام هذا العقد و/ أو متعلق به، يعرض على لجنة تحكيم تشكل من ثلاثة أعضاء على الوجه التالي:
1- حكم يختاره الفريق الأول.
2- حكم يختاره الفريق الثاني.
3- حكم يختاره المحكمان الأولان.
ويكون حكمهم، سواء صدر بالإجماع أم بالأغلبية، ملزمًا للطرفين، وغير قابل للطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن الجائزة قانونًا وبشرط إقرار هيئة الرقابة الشرعية للمصرف بعدم تعارض الحكم الصادر مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وفي حالة عدم توافر الأغلبية، يحال الخلاف موضوع التحكيم إلى المحاكم القطرية.
وتكون محاكم دولة قطر هي المختصة دون سواها، بالفصل في أية طلبات و/ أو قضايا تنشأ بمقتضى التحكيم و/ أو ناشئة و/ أو متعلقة به و/ أو بهذا العقد.
البند السابع عشر
تسري أحكام القانون القطري، والقوانين والأنظمة المرعية على هذا العقد فيما عدا ما نص عليه من اتفاق بين الطرفين وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
البند الثامن عشر
حرر هذا العقد من نسختين أصليتين موقعتين من قبل الطرفين بإرادة حرة خالية من العيوب الشرعية والقانونية بتاريخ / / 14هـ الموافق / / 19م ويسقط الطرف الثاني حقه في الادعاء بكذب الإقرار و/ أو أي دفع شكلي و/ أو موضوعي، ضد ما جاء في هذا العقد.
الطرف الثاني الطرف الأول
مصرف قطر الإسلامي(7/796)
عقد الاستصناع
إعداد
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه
بجامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
لم يكن الإسلام في ماضيه وحاضره ومستقبله قيدًا ثقيلًا على الناس في ممارسة حرياتهم الاقتصادية ومعاملاتهم وعقودهم، وإنما كان دائمًا متجاوبًا مع مصالح الناس في تشريعه وتجويزه كل ما كان محققًا لحاجاتهم، ومصالحهم المشروعة القائمة على الحق والعدل والتعادل في الأداءات المتقابلة في المبادلات أو المعاوضات، ومظهر هذا التجاوب واضح في أصول الاستنباط ومصادر الاجتهاد، وفي التطبيق الفعلي وواقع الاجتهاد الذي يمارسه المجتهدون في نطاق ما يسمى بالفقه وهو استنباط أحكام الحوادث والقضايا العملية من الأدلة التفصيلية، كلًّا على حدة.
ومن أبرز الأمثلة على هذا الاتجاه الواقعي: مشروعية بعض العقود المتكررة في الحياة العملية على سبيل الاستثناء من النصوص أو القواعد العامة، كعقد السلم أو السلف، وعقد الاستصناع، تيسيرًا على الناس في تحقيق حوائجهم، وتلبية لمطالبهم المشروعة دون حرج ولا إعنات ولا إرهاق، لأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة والمشقة تجلب التيسير والإسلام دين اليسر لا العسر.
وإذا كان الاستصناع في الماضي وليد الحاجة الخاصة والصناعة اليدوية في مجال الجلود والأحذية والنجارة والأثاث المنزلي، فإنه في عصرنا الحاضر أصبح من العقود المحققة للحاجات العامة والمصالح الكبرى، في بناء السفن في أحواض واسعة، والطائرات والآلات المختلفة في مصانع ضخمة ومعقدة ودقيقة دقة تامة بالغة الأهمية، مما أدى إلى وجود قفزة رائعة لهذا العقد بين العقود التجارية.(7/797)
خطة البحث:
يتناول البحث محاور ثلاثة هي ما يأتي:
* المحور الأول:
- تعريف الاستصناع.
- معناه، هل هو مواعدة أم بيع؟
- دليل مشروعيته.
- الشروط التي تلحقه أو تفارقه ومدى تأثيرها في حكمه.
- حكمه.
* المحور الثاني:
- الاستصناع والسلم.
- العلاقة بين العقدين – وجه التطابق فيما بين العقدين.
- شروط كل من الاستصناع والسلم.
* المحور الثالث:
- أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصناعية.(7/798)
المحور الأول
تعريف الاستصناع
الاستصناع في اللغة: طلب الصنعة، والصنعة: عمل الصانع في صنعته أي حرفته، كما جاء في المصباح المنير ومختار الصحاح والقاموس المحيط.
وهو في اصطلاح الفقهاء: طلب العمل من الصانع في شيء مخصوص على وجه مخصوص (1) ، أو هو عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة (2) ؛ أي العقد على شراء ما سيصنعه الصانع، وتكون العين أو مادة الصنعة والعمل من الصانع، فإذا كانت العين من المستصنع لا من الصانع، فإن العقد يكون إجارة لا استصناعًا وبعض الفقهاء يقول: إن المعقود عليه هو العمل فقط؛ لأن الاستصناع طلب الصنع وهو العمل.
مثاله: أن يطلب المستصنع (وهو المشتري أو المستأجر) أحد أفراد الناس من الصانع (وهو البائع أو الأجير) كنجار وحداد وحذاء ونحوهم من أصحاب الحرف أو المهن أن يصنع له شيئًا معينًا بأوصاف محددة، كأثاث منزل أو مكتبة أو كرسي أو حلي وغيرها، على ثمن معلوم، إذا جرى فيه التعامل كالقلنسوة والخف والآنية ونحوها عملًا بالعرف (3) .
وينعقد الاستصناع بالإيجاب والقبول من المستصنع والصانع ويقال للمشتري: مستصنع، وللبائع: صانع، وللشيء: مصنوع، كاتفاق شخصين على صنع أحذية أو آنية أو ثياب أو أثاث منزلي ونحو ذلك (4) .
وهو عقد يشبه السلم (بيع آجل بعاجل) لأنه بيع لمعدوم، وأن الشيء المصنوع ملتزم عند العقد في ذمة الصانع البائع، ولكنه يفترق عنه من حيث إنه لا يجب فيه تعجيل الثمن (رأس المال) ولا بيان مدة الصنع والتسليم، ولا كون المصنوع مما يوجد في الأسواق.
ويشبه الإجارة أيضا، لكنه يفترق عنها من حيث إن الصانع يضع مادة الشيء المصنوع من ماله.
__________
(1) رد المحتار، لابن عابدين: 4/221.
(2) المجلة: م124.
(3) البدائع: 5/209 وما بعدها.
(4) البدائع: 5/2؛ وفتح القدير: 5/355؛ والفتاوى الهندية: 4/504.(7/799)
معنى الاستصناع، هل هو مواعدة أم بيع؟
اختلف مشايخ أو فقهاء الحنفية في تخريج الاستصناع، أهو بيع أو وعد بالبيع، أو إجارة، وإذا كان بيعًا هل المبيع هو العين المصنوعة أو العمل الذي قام به الصانع؟
فقال الحاكم الشهيد المروزي والصفار ومحمد بن سلمة وصاحب المنثور: الاستصناع مواعدة، وإنما ينعقد بيعًا بالتعاطي عند الفراغ من العمل، ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولا يجبر عليه، بخلاف السلم، وللمستصنع ألا يقبل ما يؤتى به، ويرجع عنه، ولا تلزم المعاملة.
والصحيح الراجح في المذهب الحنفي: أن الاستصناع بيع للعين المصنوعة لا لعمل الصانع، فهو ليس وعدًا ببيع ولا إجارة على العمل، فلو أتى الصانع بما لم يصنعه هو، أو صنعه قبل العقد بحسب الأوصاف المشروطة، جاز ذلك والدليل أن محمد بن الحسن رحمه الله ذكر في الاستصناع القياس والاستحسان، وهما لا يجريان في المواعدة، ولأنه جوزه فيما فيه تعامل دون ما ليس فيه تعامل، ولو كان مواعدة جاز في الكل، وسماه شراء فقال: إذا رآه المستصنع فهو بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره، ولأن الصانع يملك الدراهم بقبضها، ولو كان العقد مواعدة لم يملكها، وإثبات الخيار لكل من العاقدين لا يدل على أنه غير بيع، بدليل أنه في بيع المقايضة لو لم ير كل من العاقدين عين الآخر أي مبيعه، كان لكل منهما الخيار وثبوت خيار الرؤية للمستصنع من خصائص البيوع، فدل على أن جوازه جواز البياعات، لا جواز العدات، ويترتب على كونه بيعًا أنه يجبر الصانع على عمله، ولا يرجع الآمر المستصنع عنه، ولو كان عدة لما لزم.
وقال أبو سعيد البرادعي: المعقود عليه هو العمل أو الصنع، لأن الاستصناع: طلب الصنع، وهو العمل والراجح في الاجتهاد الحنفي أن المعقود عليه هو العين المستصنعة دون العمل، فلو جاء الصانع بالمطلوب بما يوافق الأوصاف المشروطة ورضي به المستصنع، جاز العقد، سواء أكان من صنعة غيره أم من صنعته قبل العقد، ولو كان المبيع العمل نفسه لما صح ذلك قال الكاساني: ولو كان شرط العمل من نفس العقد، لما جاز، لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي، والصحيح القول بأن المعقود عليه هو المبيع الذي شرط فيه العمل، لأن الاستصناع طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل، لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا العقد يسمَّى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل وأما إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي به المستصنع، فإنما جاز لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر وهو التعاطي بتراضيهما (1) .
__________
(1) فتح القدير مع العناية: 5/355؛ والبدائع: 5/2، 209؛ والدر المختار ورد المحتار: 4/222 وما بعدها.(7/800)
دليل مشروعية الاستصناع:
يرى الفقهاء أن مقتضى القياس أو القواعد العامة ألا يجوز الاستصناع، لأنه بيع المعدوم كالسلم، وبيع المعدوم لا يجوز، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، فلا يصح بيعًا لأنه بيع معدوم، ولا يمكن جعله إجارة، لأنه استجار على العمل في ملك الأجير، وذلك لا يجوز، كما لو قال رجل لآخر: أحمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا، بكذا، أو أصبغ ثوبك أحمر بكذا، لا يصح وهذا قول زفر ومالك والشافعي وأحمد، لكن يصح الاستصناع عندهم على أساس عقد السلم، ويشترط فيه ما يشترط في السلم، ومن أهم شروطه تسليم جميع الثمن في مجلس العقد.
ويصح عند الشافعية حينئذٍ، سواء حدد فيه الأجل لتسليم الشيء المصنوع أم لا، بأن كان سلمًا حالًّا، والسلم الحال جائز عندهم (1) .
وذهب الحنفية إلى أنه يجوز الاستصناع استحسانًا، لتعامل الناس وتعارفهم عليه في سائر الأعصار من غير نكير، فكان إجماعًا من غير إنكار من أحد، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتي على ضلالة " (2) وقال ابن مسعود: " ما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن " (3) .
وقد استصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا، واحتجم صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام، مع أن مقدار عمل الحجامة وعدد مرات وضع المحاجم ومصها غير لازم عند أحد، ومثله شرب الماء من السقاء، وسمع صلى الله عليه وسلم بوجود الحمام فأباحه بمئزر، ولم يبين له شرطًا، وتعامل الناس بدخوله من لدن الصحابة والتابعين على هذا الوجه المعمول به الآن، وهو ألا يذكر مقدار الماء المستهلك ولا مدة المكث في الحمام، والمعدوم قد يعتبر موجودًا حكمًا (4) .
__________
(1) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص89؛ والعرف والعادة، للأستاذ الشيخ أحمد فهمي أبي سنة: ص131 وما بعدها.
(2) رواه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير وابن أبي خيثمة عن أبي بصرة الغفاري مرفوعًا بلفظ: " سألت ربي ألا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها "، ورواه ابن ماجه عن أنس مرفوعًا بلفظ: " إن أمتي لا تجتمع على ضلالة " وله روايات كثيرة (مجمع الزوائد: 1/177، 5/218، المقاصد الحسنة، للسخاوي: ص460
(3) حديث موقوف على ابن مسعود، وله طرق، رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله ثقات، ورواه أيضا أبو داود والبيهقي، ورواه كذلك ابن عباس (نصب الراية: 4/133؛ ومجمع الزوائد: 4/177؛ والمقاصد الحسنة: ص367.
(4) المبسوط، للسرخسي: 12/138 وما بعدها، والبدائع: 5/2، 209؛ وفتح القدير: 5/355.(7/801)
الشروط التي تلحقه أو تفارقه ومدى تأثيرها في حكمه:
اشترط الحنفية لجواز الاستصناع شروطًا ثلاثة إذا فاتت أو فات واحد منها فسد العقد، وكان له حكم البيع الفاسد الذي ينقل الملكية بالقبض ملكًا خبيثًا لا يجيز الانتفاع به ولا الاستعمال ويجب إزالة سبب الفساد احترامًا لنظام الشرع، وهذه الشروط هي ما يلى (1) :
1- بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته: لأنه مبيع، فلابد من أن يكون معلومًا، والعلم يحصل بذلك؛ فإذا كان أحد هذه العناصر مجهولًا، فسد العقد، لأن الجهالة المفضية للمنازعة تفسد العقد، وبناء عليه، إذا استصنع شخص إناءً أو سيارة بين في الإناء نوع المعدن وجنسه ومقاسه وحجمه وأوصافه وعدد الآنية المطلوبة إذا كانت متعددة، فإذا أخفى ذلك كله أو شيئا منه، فسد العقد للجهالة وكذلك في صنع السيارة تبين جميع المواصفات المطلوبة، منعًا من الجهالة والنزاع المنتظر عند تعارض المصنوع مع ما قد يترقبه المستصنع.
2- أن يكون المصنوع مما يجري فيه تعامل الناس كالمصوغات والأحذية والأواني وأمتعة الدواب ووسائل النقل الأخرى، فلا يجوز الاستصناع في الثياب أو في سلعة لم يجر العرف باستصناعها كالدبس (ما يخرج من العنب) لعدم تعامل الناس به، ويجوز ذلك على أساس عقد السلم إذا استوفى شروط السلم، فإذا توافرت فيه فسد استصناعًا وصح سلمًا، لأن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني ويصح السلم في غير المثلى كالثياب والبسط والحصر ونحوها، ويصح في عصرنا الحاضر الاستصناع في الثياب لجريان التعامل فيه، والتعامل يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة.
__________
(1) المبسوط: 12/139؛ والبدائع: 5/3، 209 وما بعدها؛ وفتح القدير: 5/355؛ والدر المختار ورد المحتار: 4/222 وما بعدها.(7/802)
3- ألا يذكر فيه أجل محدد: فإذا ذكر المتعاقدان أجلًا معينًا لتسليم المصنوع، فسد العقد وانقلب سلمًا عند أبي حنيفة، فتشترط فيه حينئذ شروط السلم، مثل قبض جميع الثمن في مجلس العقد، وأنه لا خيار لأحد العاقدين إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في العقد ودليله أن العاقد إذا حدد أجلًا فقد أتى بمعنى السلم, والعبرة في العقود بمعانيها، لا لصور الألفاظ. ولهذا إذا حُدِّدَ أجلٌ فيما لا يجوز الاستصناع فيه، كأن يستصنع حائكًا للنسج بغزل نفسه أو خياطًا للخياطة بقماش من عنده، انقلب العقد سلمًا.
والمراد بالأجل: شهر فما فوقه، فإن كان أقل من شهر، كان استصناعًا إن جرى فيه تعامل، أو كان القصد من الأجل الاستعجال بلا إمهال، كأن قال: على أن تفرغ منه غدًا أو بعد غد، فإن قصد من الأجل الاستمهال والتأجيل، لم يصح استصناعًا، ولا يصح سلمًا إذا كان الأجل دون شهر والخلاصة: أن المؤجل بشهر فأكثر سلم، والمؤجل بدونه إن لم يجر فيه تعامل فهو استصناع إلا إذا ذكر الأجل للاستعجال فصحيح.
وقال الصاحبان: ليس هذا بشرط، والعقد استصناع على كل حال، حدد فيه أجل أو لم يحدد، لأن العادة جارية بتحديد الأجل في الاستصناع، فيكون شرطًا صحيحًا لذلك وهذا القول هو المتفق مع ظروف الحياة العملية، وحاجات الناس، فيكون هو الأولى بالأخذ به.
نصت المادة (389) من المجلة على ما يلي: كل شيء تعومل استصناعه، يصح فيه الاستصناع على الإطلاق وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة، صار سلمًا، وتعتبر فيه حينئذ شروط السلم، وإذا لم يبين فيه المدة، كان من قبيل الاستصناع أيضا " وإذا حددت مدة لتقديم المصنوع، فانقضت دون أن يفرغ الصانع منه ويسلمه، فالظاهر أن يتخير المستصنع بين الانتظار والفسخ، كما هو المقرر في عقد السلم (1) .
__________
(1) عقد البيع، للأستاذ مصطفى الزرقاء: ص123 ف145(7/803)
الشروط اللاحقة:
اتفق الحنفية على أن الشرط اللاحق للعقد مثل الشرط الداخل في العقد عند تكوينه في الحكم، إن كان شرطًا صحيحًا، فإن كان شرطًا فاسدًا التحق بالعقد وأفسده كالشرط الداخل في العقد تمامًا في رأي أبي حنيفة وقال الصاحبان: لا يلتحق الشرط الفاسد بالعقد، بل يبقى العقد صحيحًا، ويلغى الشرط، حرصًا على سلامة العقد الذي وجد.
حكم الاستصناع:
حكم الاستصناع هنا: هو الأثر المترتب عليه، وللاستصناع الأحكام التالية (1) :
1- حكم الاستصناع بمعنى الأثر النوعي أو الجوهري المترتب عليه، هو ثبوت الملك للمستصنع في العين المصنوعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في البدل المتفق عليه.
2- صفة هذا الحكم أو صفة عقد الاستصناع: أنه عقد غير لازم قبل الصنع، وبعد الفراغ من الصنع، في حق الصانع والمستصنع معًا، فيكون لكل من العاقدين الخيار في إمضاء العقد أو فسخه والعدول عنه قبل رؤية المستصنع الشيء المصنوع، فلو باع الصانع الشيء المصنوع قبل أن يراه المستصنع، جاز؛ لأن العقد غير لازم، والمعقود عليه ليس هو عين المصنوع وإنما مثله في الذمة.
3- إذا جاء الصانع بالشيء المصنوع إلى المستصنع سقط خياره، لأنه رضي بكونه للمستصنع، حيث جاء به إليه، فيكون حكم الاستصناع في حق الصانع ثبوت الملك اللازم إذا رآه المستصنع، ورضي به، ولا خيار له، وهذا في ظاهر الرواية.
وأما المستصنع فحكم العقد بالنسبة إليه إذا أتى الصانع بالمصنوع على الصفة المشروطة: هو ثبوت الملك غير لازم في حقه، فإذا رآه فله الخيار: إن شاء أخذه، وإن شاء تركه، وفسخ العقد عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه اشترى شيئا لم يره، فكان له خيار الرؤية، بخلاف الصانع فهو بائع ما لم يره، فلا خيار له.
__________
(1) المبسوط: 12/139؛ وفتح القدير: 5/356؛ والبدائع: 5/3، 210؛ ورد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين: 4/223.(7/804)
وقال أبو يوسف: العقد لازم إذا رأى المستصنع الشيء المصنوع ولا خيار له، إذا جاء موافقا للصفة أو الطلب والشروط، لأنه مبيع بمنزلة المسلم فيه، فليس له خيار الرؤية، لدفع الضرر عن الصانع في إفساد المواد المصنوعة التي صنعها وفقًا لطلب المستصنع، وربما لا يرغب غيره في شرائه على تلك الصفة ونوقش هذا الرأي بأن ضرر المستصنع بإبطال الخيار له أكثر من ضرر الصانع، إذ لا يتعذر على الصانع بيع المصنوع على أية حال، لأنه إذا لم يرض به المستصنع، يبيعه من غيره بمثل قيمته، وذلك ميسر عليه لكثرة ممارسته ويجاب عنه بأن احتمال البيع الجديد مجرد أمل، ويغلب الضرر بالصانع، فيجب القول بلزوم البيع دفعًا للضرر عنه.
لذا أخذت المجلة برأي أبي يوسف، فقررت في المادة (392) : أن عقد الاستصناع ينعقد لازما، فليس لأحد الطرفين الرجوع، ولو قَبْلَ الصنع، إلا أنه إذا جاء المصنوع مغايرًا للأوصاف المشروطة، يتخير المستصنع بفوات الوصف (1) .
وفي تقديري: أن هذا الرأي الذي أخذت به المجلة سديد جدًّا، منعًا من وقوع المنازعات بين المتعاقدين، ودفعًا للضرر عن الصانع، إذ إن أغراض الناس تختلف باختلاف الشيء المصنوع حجمًا ونوعًا وكيفية، ولأن هذا الرأي يتفق مع مبدأ القوة الملزمة للعقود بصفة عامة في الشريعة، ويتناسب مع الظروف الحديثة التي يتفق فيها على صناعة أشياء خطيرة وغالية الثمن كالسفن والطائرات، فلا يعقل والحالة هذه أن يكون عقد الاستصناع فيها غير لازم.
4- لا يتعلق حق المستصنع في الشيء المصنوع إلا بعرضه عليه من قِبَلِ الصانع، وعلى هذا فإن للصانع أن يبيع المصنوع من غير المستصنع قبل عرضه عليه، كما تقدم بيانه.
__________
(1) نص المادة المذكورة هو: " إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة، كان المستصنع مخيرًا.(7/805)
المحور الثاني
الاستصناع والسلم
الاستصناع كما عرفناه: عقد مع ذي صنعة على عمل شيء معين وتكون مادة الصنع من الصانع، كاستصناع أحذية أو آنية بشرط وصف المصنوع في العقد بما يزيل الجهالة.
والسلم أو السلف: بيع آجل بعاجل، أو بيع شيء موصوف في الذمة، أي أنه يتقدم فيه رأس المال، ويتأخر المبيع (المثمن) لأجل، أو هو أن يسلم عوضًا حاضرًا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل، كأن يشتري تاجر من فلاح أو مزارع عشرة أطنان حنطة من ولاية كذا أو محافظة كذا تسلم عند الحصاد بمبلغ معين من المال يدفع كله نقدًا في مجلس العقد، ويتأجل تسليم المبيع غير الموجود عند العقد إلى وقت معين في المستقبل.
العلاقة بين العقدين – وجه التطابق فيما بين العقدين:
يشترك الاستصناع والسلم في أن كلًّا منهما بيع لشيء معدوم، أجيز للحاجة إليه، وتعامل الناس به، إلا أن الباعث على عقد السلم شدة حاجة البائع إلى نقود ينفقها على نفسه وأهله أو على إنتاجه الزراعي، وهو لا يملك ذلك آنيا، لذا سمي "بيع المفاليس" وأما الاستصناع فهو عقد تجاري يحقق الربح للبائع الصانع، ويلبي حاجة المستصنع، فيكون الباعث الدافع عليه حاجة المستصنع.(7/806)
وهناك فروق بين العقدين أوجزها فيما يلي:
أولا – إن المبيع في السلم دين (هو ما يثبت في الذمة) تحتمله الذمة، فهو إما مكيل أو موزون أو مذروع أو عددي متقارب كالجوز والبيض، أما المبيع في الاستصناع فهو عين (أي ما يتعين بالتعيين أو الشيء المعين الشخص بذاته) لا دين، كاستصناع أثاث (مفروشات منزلية) أو حذاء، أو إناء.
ثانيا – يشترط في السلم وجود أجل، فهو لا يصح عند الجمهور (غير الشافعية) إلا لأجل كشهر فما فوقه، على عكس الاستصناع في اجتهاد أبي حنيفة رحمه الله، فإن حدد فيه أجل انقلب سلمًا، ولا خيار شرط في السلم، وقال الصاحبان: يصح الاستصناع لأجل أو لغير أجل، لأن عرف الناس تحديد الأجل فيه، كما بينا وأجاز الشافعية السلم الحال خلافا لغيرهم.
ثالثًا – عقد السلم لازم لا يجوز فسخه بإرادة أحد العاقدين، وإنما بتراضيهما واتفاقهما معًا على الفسخ، وأما الاستصناع فقد عرفنا أنه عقد غير لازم يجوز لأي طرف من العاقدين فسخه في ظاهر الرواية، ويسقط خيار الصانع إذا أحضره على الصفة المشروطة، وللمستصنع الخيار.
رابعا – يشترط في عقد السلم قبض رأس مال السلم كله في مجلس العقد، ولا يشترط قبضه في الاستصناع، ويكتفي الناس عادة بدفع عربون أو جزء من الثمن كالنصف أو الثلث مثلًا، عملًا بمذهب الحنابلة، ويعد هذا الفرق من الناحية العملية أهم الفروق.(7/807)
شروط كل من الاستصناع والسلم:
لابد في كل من العقدين من العلم بالثمن جنسًا ونوعًا وقدرًا وصفة، وإلا كان العقد فاسدًا بسبب الجهالة، وينفرد السلم عند الجمهور باشتراط تعجيل رأس المال (الثمن) وقبضه فعلًا في مجلس العقد قبل افتراق العاقدين أنفسهما، وأجاز الإمام مالك تأخير قبض رأس المال إلى ثلاثة أيام فأقل؛ لأن ذلك التأخير لهذه المدة القريبة في حكم المعجل، لأن ما قارب الشيء يعطي حكمه ولا يشترط في عقد الاستصناع تعجيل رأس المال أو الثمن، وإنما يدفع عادة عند التعاقد ولو في غير مجلس العقد جزء من الثمن، ويؤخر الباقي لحين تسليم الشيء المصنوع.
أما المعقود عليه (المبيع المسلم فيه في عقد السلم، والمصنوع في عقد الاستصناع) فلابد في كلا العقدين من العلم بجنسه ونوعه وقدره وصفته، لأن كلا منهما مبيع، والمبيع يشترط كونه معلومًا غير مجهول.
ولا يجوز اشتمال كلا العقدين على الربا، كأن اتحد الثمن والمبيع في الجنس كبر ببر، أو شعير بشعير طبيعي أو مصنع مع التفاضل في ربا الفضل، أو نسيئة مؤجلًا من غير تفاضل مع تأخير التقابض في الأموال الربوية (الأصناف الستة المعروفة في الحديث النبوي وما في معناها) (1) .
ولا يثبت خيار الشرط في السلم، وإنما لابد من أن يكون العقد باتًّا لا خيار فيه، أما الاستصناع فهو عقد غير لازم يثبت الخيار فيه قبل العمل أو الصنع، وكذا عند أبي حنيفة ومحمد بعد الفراغ من الصنع، وذهب أبو يوسف إلى لزوم العقد بعد الصنع والرضا به كما تقدم.
أما خيار الرؤية وخيار العيب فيثبت كل منهما في رأس مال السلم إذا كان عينًا قيمية أو مثلية، وأما في المسلم فيه فلا يثبت خيار الرؤية فيه باتفاق الحنفية حتى لا يعود دينًا كما كان، ويصح ثبوت خيار العيب في المسلم فيه، لأنه لا يمنع تمام القبض الذي تتم به الصفقة.
ولابد في كلا العقدين من بيان مكان الإيفاء إذا كان المبيع كلفة ومؤونة في رأي أبي حنيفة، ويتعين مكان العقد مكانًا للإيفاء في رأي الصاحبين.
__________
(1) وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح.(7/808)
ويشترط في عقد السلم عند الحنفية كون جنس المسلم فيه (المبيع) موجودًا في الأسواق بنوعه وصفته من وقت العقد إلى وقت حلول أجل التسليم ولا يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس، كالحبوب، ولا يشترط ذلك في عقد الاستصناع ولم يشترط باقي المذاهب أو الجمهور هذا الشرط في السلم ويكفي وجود جنس المسلم فيه عند حلول أجل التسليم.
ويشترط الحنفية والشافعية والحنابلة إمكان ضبط المسلم فيه بالصفات بأن يكون من المثليات (المكيلات أو الموزونات أو الذرعيات أو العدديات المتقاربة) كالأقمشة والمعادن والرياحين اليابسة والجذوع إذا بين طولًا وعرضًا وغلظًا، ولا يصح السلم فيما لا يمكن ضبطه بالوصف كالدور والعقارات والجواهر واللآلئ والجلود والخشب، لتفاوت آحادها تفاوتًا فاحشًا في المالية، أما الاستصناع فيصح في الأمرين إذا تعامل الناس به وصحح المالكية السلم فيما ينضبط وما لا ينضبط بالوصف وأجاز الحنفية استحسانًا السلم في بعض الأشياء غير المثلية أيضا كالثياب والبسط والحصر ونحوها كما تقدم.
ولا بأس بالسلم في اللبن والآجُرِّ إذا اشترط فيه المشتري (رب السلم) ملبنًا معلومًا، لأنه إذا سمي الملبن، صار التفاوت بين لبن ولبن يسيرًا، فيكون ساقط الاعتبار، فيلحق بالعددي المتقارب.
ويصح السلم فيما جرى به التعامل أو لم يجر فيه التعامل، أما الاستصناع فضابطه أنه يصح في كل ما يجري فيه التعامل فقط، ولا يجوز فيما لا تعامل لهم فيه، كما إذا أمر حائكًا أن يحوك له ثوبًا بغزل نفسه، ونحو ذلك مما لم تجر عادات الناس بالتعامل فيه؛ لأن جوازه، مع أن القياس يأباه ثبت بتعامل الناس، فيختص بما لهم فيه تعامل، ويبقى الأمر فيما وراء ذلك متروكًا إلى القياس، لكن جرى التعامل في عصرنا باستصناع الثياب، فيكون جائزًا، لأن جريان التعامل يختلف باختلاف البلدان والأزمنة.(7/809)
المحور الثالث
أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصناعية
لقد أدى الاستصناع في الماضي دورًا مهمًّا في الحياة العملية، فأفاد الصانع الذي قدم في صنعته خبرة معينة ومهارة فائقة، وأضفى على مادة الصنعة التي يقدمها من نفسه فنًّا خاصًّا وإبداعًا جديدًا، واستطاع بذلك إدخال تطوير وتعديل على صنعته، وأفاد المستصنع الذي استطاع من خلال الاستصناع الحصول على ما يرغب فيه وإرضاء ذوقه وتحقيق مصلحته على وفق المقاييس المناسبة له والفنون التي يتصورها ويتأمل توافرها لديه.
ثم انتشر الاستصناع انتشارًا واسعًا في العصر الحديث، فلم يعد مقصورًا على صناعة الأحذية والجلود والنجارة والمعادن والأثاث المنزلي من مفروشات وغيرها من الخزائن والمقاعد والمساند والصناديق، وإنما شمل صناعات متطورة ومهمة جدًّا في الحياة المعاصرة كالطائرات والسفن والسيارات والقطارات وغيرها، مما أدى إلى تنشيط الحركة الصناعية ونمو حركة المصانع والمعامل اليدوية والآلية، وقد أسهم كل ذلك بنحو واضح في رفاه الأفراد والمجتمعات وتوفير حاجات الدول ومصالحها.
ولم يقتصر الأمر على الصناعات المختلفة ما دام يمكن ضبطها بالمقاييس والمواصفات المتنوعة، وإنما شمل أيضًا إقامة المباني وتوفير المساكن المرغوبة، وقد ساعد كل ذلك في التغلب على أزمة المساكن ومن أبرز الأمثلة والتطبيقات لعقد الاستصناع بيع الدور والمنازل والبيوت السكنية على الخريطة ضمن أوصاف محددة، فإن بيع هذه الأشياء في الواقع القائم لا يمكن تسويغه إلا على أساس عقد الاستصناع، ويعد العقد صحيحًا إذا ذكرت في شروط العقد مواصفات البناء، بحيث لا تبقى جهالة مفضية إلى النزاع والخلاف، وقد أصبح من السهل ضبط الأوصاف ومعرفة المقادير، وبيان نوع البناء، سواء بيع البناء على الهيكل، أم مكسيًّا كامل الكسوة، مع الاتفاق على شروط الكسوة، وأوصافها، من النوع الجيد أو الوسط أو العادي ويتم تسديد الثمن عادة على أقساط ذات مواعيد محددة أما مدة التسليم فيكون ذكرها عادة على سبيل الاستعجال والتقريب الزمني والحث على الإنجاز في وقت معقول؛ لأن المتعاقدين يقدران تمامًا مدى المشكلات والعوائق التي تعترض التنفيذ في وقت محدد.
وأما في مجال المقاولات التي يتم فيها عادة الاتفاق على مدة التسليم والإلزام بغرامات معينة عند التأخير، فهو أي التغريم أمر جائز أيضا وداخل تحت مفهوم ما يسمى قانونًا بالشرط الجزائي، وقد أقره القاضي شريح، وأيده قرار هيئة كبار العلماء في السعودية سنة 1394هـ، قال شريح: " من شرط على نفسه طائعًا غير مكره، فهو عليه " (1) .
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
__________
(1) أعلام الموقعين: 3/400؛ طبعة محيي الدين عبد الحميد.(7/810)
عقد الاستصناع
إعداد
الدكتور علي محيي الدين القره داغي
جامعة قطر – كلية الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعاملين وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد أولى الإسلام عناية كبرى بالصناعة والاستصناع في وقت كانت العرب – وغيرهم من الأمم – تنظر إلى الصناعات والحرف نظرة فيها التقليل من شأنها، فنزلت الآيات الدالات على أهمية الصناعة في حياة الأمة حتى قرن الله تعالى الحديد مع القرآن الكريم في الإنزال، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (1) .
بين القرآن الكريم في مقام الامتنان بالنعم العظمى أن الله علَّم أحد أنبيائه العظام – وهو داود – صنعة اللباس الحديدي، والدرع حيث يقول: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (2) .
كما يجعل الرسول الصناعة اليدوية، بل كل ما تصنعه اليد من أفضل الأعمال حيث يقول: " ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود – عليه السلام – كان يأكل من عمل يده (3) .
وجاء فقهاؤنا العظام منذ بداية القرن الثاني الهجري – مثل أبي حنيفة وصاحبيه وكذلك غيرهم – بتنظيم عقد الاستصناع وأهميته، وبيان شروطه وضوابطه، وفروعه ومسائله.
__________
(1) [سورة الحديد: الآية 25] .
(2) [سورة الأنبياء: الآية 80] .
(3) رواه البخاري في صحيحه، مع الفتح، كتاب البيوع، طبعة السلفية: 4/303.(7/811)
كل ذلك يحدث في هذا الوقت المبكر بينما الغرب لم يصل إلى تقنين عقد الاستصناع إلى وقت متأخر جدًّا، حيث نرى أن (دافيد) يستغرب جدًّا عن عدم وجود تنظيم لعقد الاستصناع في التقنين المدني الفرنسي الذي صدر عام 1804م ويعزى ذلك إلى أن مشرعي هذا القانون لم يكونوا يعرفون هذا العقد بصورة كاملة، وذلك بسبب عدم ظهور هذا العقد آنذاك.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظمة هذا الفقه الإسلامي العظيم، وسبقه بقرون عدة في كل مجالات التشريع.
ونحاول في هذا البحث المتواضع أن نستعرض عقد الاستصناع ونركز على أمرين أساسيين: هل هذا العقد عقد مستقل، أو تبع وداخل في عقود أخرى؟ وهل هو عقد لازم أم هو عقد جائز؟
وقد بذلت كل جهدي في رجوعي إلى المصادر المعتمدة في كل مذهب، وبيان آراء الفقهاء والاستفادة منها، ولكنه مع ذلك لم يقف جهدي عند هذا الحد، بل حاولت الوصول إلى صورة متكاملة لعقد الاستصناع وإن كان هذا الكمال له لم يتم إلا من خلال مخالفة الرأي الذي عليه الجمهور، لأنني وضعت نصب عيني مقاصد الشريعة ومبادِئَها الكلية، بل قدمت السير في ظلالها على السير في ظل التفسيرات الفرعية، فمثلًا إذا كنت قد أخذت لزوم عقد الاستصناع من رواية لأبي يوسف فإنني لم أقف عند قوله – مع قول بقية الحنفية – ببطلان الاستصناع بموت أحد الطرفين، وإنما قلت ببقائه، وانتقال الحق إلى الورثة، بل لاحظت التنظيمات الموجودة للشركات والمصانع في عصرنا الحاضر، التي اعترفت فيها بوجود شخصية معنوية لها تستمر ما دامت الشركة قائمة دون النظر إلى أصحابها ومدرائها، ولذلك قلت بعدم بطلان الاستصناع بموت أحد العاقدين، كما أن قول الحنفية هذا قياس الإجارة التي هي نفسها محل خلاف في بطلانها بموت أحد العاقدين، بل الجمهور على عدم بطلانها، ومن هنا قست الاستصناع في عدم البطلان بموت أحد العاقدين على الإجارة على مذهب الجمهور، بل إننا لسنا بحاجة إلى القياس، لأن الاستصناع عقد مستقل.
وهكذا حاولنا أن نبذل كل ما نستطيع بذله للوصول إلى صورة متكاملة محققة لمصلحة الطرفين، والأمة في الازدهار والتنمية والاستقرار.
والله أسأل أن يجعل جميع أعمالي خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا من الخطأ في القول والعمل.(7/812)
الاستصناع لغة واصطلاحا
الاستصناع في اللغة:
الاستصناع لغة مصدر " استصنع " بمعنى طلب الصنعة، فيقال: استصنع الشيء أي دعا إلى صنعه، وأصله " صنع يصنع صنعًا، فهو مصنوع وصنيع والصناعة حرفة الصانع، والصناعة: ما تستصنع من أمر (1) .
وقد ورد لفظ " صنع " ومشتقاته في القرآن الكريم عشرين مرة منها قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} (2) .
حيث أطلق على ما يصنعه الإنسان، ويطلق على صناعة السحر حيث يقول تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} (3) .
وعلى صناعة السفينة حيث قال: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} (4) .
ومنها قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}
قال الماوردي: (يحتمل وجهين أحدهما: خلقتك، مأخوذ من الصنعة، الثاني، اخترتك، مأخوذ من الصنيعة) (5) .
ومنها قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (6) .
أي فعل الله الذي أتقن كل شيء (7) ويبدو أن الصنع أخص من مطلق الفعل.
ومنها قوله تعالى في حق إدريس (عليه السلام) : {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} (8) .
ومنها قوله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (9) .
وقد تكرر لفظ " صنع " ومشتقاته في السنة المشرفة كثيرًا، منها إطلاق الصنع للطعام، والأعمال عمومًا مثل " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا " (10) أي فعل كذا من الوضوء المسح على الخفين، ومنها إطلاقه على صنع المنبر.
ومنها ما رواه البخاري وغيره بسندهم عن ابن عمر (رضي الله عنهما) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصطنع خاتمًا من ذهب وكان يلبسه فيجعل فصه في باطن كفه، فصنع الناس خواتيم، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه، فقال: " إني كنت ألبس الخاتم ... فرمى به، ثم قال: " والله لا لأبسه أبدًا " فنبذ الناس خواتيمهم " (11) .
وترجم ابن ماجه في سننه: باب الصناعات، وترجم الترمذي في سننه: باب ما جاء في صنائع المعروف.
والمقصود من هذا السرد أن هذه الكلمة مما شاع استعمالها في القرآن الكريم في معانيها اللغوية التي تشمل الحرفة، وغيرها من أي عمل كان، وفي إيجاد الشيء من العدم ونحو ذلك.
__________
(1) لسان العرب، طبعة دار المعارف: ص2058، وكشاف اصطلاحات الفنون، طبعة الهيئة العامة للكتاب: 4/235.
(2) [سورة الرعد: الآية 31.
(3) [سورة طه: الآية 69]
(4) [سورة هود: الآية 38]
(5) تفسير الماوردي، طبعة أوقاف الكويت: 3/15
(6) [سورة النمل: الآية 88]
(7) تفسير الماوردي: 3/212.
(8) سورة الأنبياء: الآية 80 قال الماوردي: 3/53 فيه وجهان: أحدهما: (لبوس) والثاني: (أن جميع السلاح لبوس عند العرب) .
(9) [سورة الشعراء: الآية 129] .
(10) صحيح البخاري، الصلاة.
(11) صحيح البخاري، مع الفتح، كتاب الأيمان: 11/537، وأحمد: 3/101.(7/813)
الاستصناع اصطلاحًا:
وقد عرف الاستصناع في عرف من قالوا به عدة تعريفات:
منها تعريف رجحه الكاساني واختارته الموسوعة الفقهية (1) وهو أن الاستصناع عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل (2) غير أن الكاساني ذكر عدة تعريفات فقال ": (وأما معناه فقد اختلف المشائخ فيه، قال بعضهم: هو مواعدة، وليس ببيع، وقال: بعضهم: هو بيع لكن للمشتري فيه خيار، وهو الصحيح بدليل أن محمدًا (رحمه الله) ذكر في جوازه القياس والاستحسان، وذلك لا يكون في العدات (أي الوعود) وكذا أثبت فيه خيار الرؤية، وأنه يختص بالبياعات ... ، ثم اختلفت عباراتهم عن هذا النوع من البيع، قال بعضهم: هو عقد على مبيع في الذمة، وقال بعضهم هو عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل " ثم رجح الكاساني التعريف الأخير فقال: (والصحيح هو القول الأخير، لأن الاستصناع: طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا العقد يسمى استصناعًا (3) ، ومنها ما ذكره ابن عابدين حيث قال: (وأما شرعًا فهو طلب العمل منه في شيء خاص على وجه مخصوص (4) وقال البابرتي: (والاستصناع هو أن يجيء إنسان إلى صانع فيقول: اصنع لي شيئًا صورته كذا، وقدره كذا بكذا درهمًا، ويسلم إليه جميع الدراهم، أو بعضها، أو لا يسلم) (5) .
وعرفته مجلة الأحكام العدلية في مادتها (124) بأنه عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة.
وجاء في بعض كتب الحنابلة: (استصناع سلعة يعني يشتري منه سلعة، ويطلب منه أن يصنعها له، مثل أن يشتري منه ثوبًا ليس عنده، وإنما يصنعه له بعد العقد) (6) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية، طبعة أوقاف الكويت: 3/325.
(2) بدائع الصنائع، طبعة الإمام بالقاهرة: 6/2677.
(3) بدائع الصنائع: 6/2677، ويراجع المحيط البرهاني، مخطوطة مكتبة الأوقاف العامة ببغداد: ج2 ورقة 572.
(4) رد المحتار على الدر المختار، طبعة دار إحياء التراث العربي في بيروت: 4/212.
(5) شرح العناية مع فتح القدير، طبعة مصطفى الحلبي، القاهرة: 7/114.
(6) كتاب الفروع لابن مفلح، مع ملاحظة ما ذكره مراجع الكتاب من أن العبارة السابقة من هامش مخطوط الأزهر: 4/24 ويراجع عقد الاستصناع في الفقه الإسلامي لكاسب عبد الكريم البدران، طبعة دار الدعوة الإسكندرية ص63 وما بعدها.(7/814)
أنواع الاستصناع
بالنظر إلى ما ذكره المالكية نجد أنهم يذكرون للاستصناع أربعة أنواع نذكرها هنا لأهميتها وهي: كما ذكره ابن رشد في مقدماته:
النوع الأول: أن لا يشترط المسلم المستعمل عمل من استعمله ولا يعين ما يعمل منه فهذا النوع سلم على حكم السلم لا يجوز إلا بوصف العمل وضرب الأجل وتقديم رأس المال.
النوع الثاني: أن يشترط المسلم عمل من استعمله، ويعين ما يعمل منه.
فهذا النوع ليس بسلم، وإنما هو من باب البيع، والإجارة في الشيء المبيع، فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من العمل، أو تمكن بإعادته للعمل، أو عمل غيره من الشيء المعين منه العمل فيجوز على أن يشرع في العمل، وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام، أو نحو ذلك، فإن كان على أن يشرع في العمل جاز ذلك بشرط تعميل النقد وتأخيره وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة أيام ونحوها لم يجز تعجيل النقد بشرط حتى يشرع في العمل (1) غير أن أشهب أجاز في السلم تعيين المصنوع منه، والصانع خلافًا لابن القاسم (2) .
النوع الثالث: أن لا يشترط المسلم عمل من استعمله، ويعين ما يعمل منه.
فهذا النوع أيضا من باب البيع والإجارة في المبيع إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام بتعجيل النقد، وتأخيره.
النوع الرابع: أن يشترط المسلم عمل من استعمله، ولا يعين ما يعمل منه.
فهذا النوع فلا يجوز على حال، لأنه يجتذبه أصلان متناقضان هما: لزوم النقد لكون ما يعمل منه مضمونا، وامتناعه لاشتراط عمل المستعمل بعينه (3) .
__________
(1) المقدمات الممهدات، طبعة دار الغرب الإسلامي: 2/32.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، طبعة عيسى الحلبي: 2/216.
(3) المقدمات: 2/32.(7/815)
وذكر العلامة الدسوقي بعض هذه المسائل، فقال: (وصورته: وجدت نحاسًا يعمل طستا، أو حلة، أو تورًا، أو غير ذلك فقلت له: كمله لي على صفة كذا بدينار فيجوز إن شرع في تكميله بالفعل، أو بعد أيام قلائل كخمسة عشر يومًا فأقل، وإلا منع، لما فيه من بيع معين يتأخر قبضه، ومحل الجواز أيضا إذا كان عند النحاس نحاس بحيث إذا لم يأت على الصفة المطلوبة كسره وأعاده وكمله مما عنده من النحاس ... ، وقد جعل مج (أي الشيخ محمد الأمير) وعبق (أي الزرقاني) وشارحنا هذه المسألة تبعا لابن الحاجب والتوضيح من باب اجتماع البيع والإجارة، وهو مغاير لأسلوب المصنف، ويصح أن يكون من باب السلم بناء (على مذهب أشهب المجوز في السلم تعيين المصنوع منه والصانع وهنا عين المصنوع منه، وهذه يمنعها ابن القاسم) (1) .
وعلق العلامة الدردير على قول خليل في إطلاق لفظ السلم على النوع الثاني فقال: (إطلاق لفظ السلم على هذا الشراء مجاز، إنما هو بيع معين يشترط فيه الشروع ولو حكما، فهو من أفراد قوله: (وإن اشترى المعمول منه واستأجره جاز إن شرع، ويضمنه مشتريه بالعقد، وإنما يضمنه بائعه ضمان الصناع) (2)
ثم أن المالكية فرقوا بين مصنوع يمكن إعادته إلى مادته الخام ليصنع منها آخر، ومصنوع ليس كذلك، يقول الدردير: (ومعنى كلامه أن من وجد صانعًا شرع في عمل تور مثلا فاشتراه منه جزافًا بثمن معلوم على أن يكمله له جاز، فإن اشتراه على الوزن لم يضمنه مشتريه إلا بالقبض، وهذا بخلاف شراء ثوب ليكمل فيمنع ... ، لإمكان إعادة التور إن جاء على خلاف الصفة المشترطة، أو المعتادة، بخلاف الثوب إلَّا أن يكون عنده غزل يعمل منه غيره إذا جاء على غير الصفة) (3) .
وهذا النص يدل على أن الأساس هنا في الجواز وعدمه هو مدى صلاحية كون المادة الخام لأن يصنع منها المطلوب، ولأن تعاد مرة أخرى ليصنع منها المطلوب مرة أخرى، أو وجود كمية إضافية ليصنع منها آخر حسب الوصف المطلوب.
__________
(1) حاشية الدسوقي: 2/215؛ ويراجع: شرح الخرشي، طبعة بولاق مصر: 5/224 – 225.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي 2/215 - 216.
(3) الشرح الكبير مع الدسوقي 2/215 - 216.(7/816)
ومن هنا فالمصنوعات الحديثة التي تقوم بصنعها المكائن حسب قوالب محددة غير مختلفة فلا إشكال في جوازها.
وكذلك فرق المالكية بين الشراء من دائم العمل أي محترف الصنعة كالخباز وغيره، حيث أجازوا شراء ما يصنع دون تعينه، أي يكون الصانع معينا، دون المصنوع منه، واعتبروه بيعًا، بينما يعتبر سلمًا إذا كان الصانع غير محترف أو على حسب تعبيرهم (غير دائم العمل) حيث يكون دينًا في الذمة كعقد على قنطار خبز يؤخذ من المسلم إليه بعد شهر يحدد قدره وصفته، لكن المالكية جعلوا استصناع السيف والسرج سلمًا سواءً كان الصانع المعقود عليه دائم العمل أم لا، يقول الدردير: (والحاصل أن دائم العمل حقيقة أو حكمًا إن نصب نفسه على أن يؤخذ منه كل يوم مثلًا ما نصب نفسه له من وزن أو كيل، أو عدد كالخباز، واللبان، والجزار، والبقال يمكن فيه البيع تارة، والسلم أخرى بشروطه، وإلا – (أي إن لم يكن دائم العمل ولا غالبه بأن كان انقطاعه أكثر، أو تساوى عمله مع انقطاعه) – فالسلم بشروطه كالحداد، والنجار، والحباك) (1) والدليل على جواز ذلك عمل أهل المدينة (2) .
ثم إن المالكية مختلفون في أن تعيين المصنوع منه هو يفسد السلم، فذهب ابن القاسم إلى أن تعيين المصنوع منه يفسد السلم، مثل أن يقول: اعمل لي من هذا الحديد بعينه، أو من هذا الخشب بعينه، لأنه حينئذ لا يكون دينًا في ذمته وبالتالي لا يكون سلمًا.
وذهب أشهب إلى جواز أن يكون المصنوع منه معينًا في السلم (3) ، وذلك لأن تعيين المصنوع منه لا يضر بطبيعة السلم في نظره، ولا يوجد نص يمنع ذلك.
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 2/216 – 217.
(2) جاء في المدونة: (قال مالك: ولقد حدثني عبد الرحمن بن المجبر عن سالم بن عبد الله قال: كنا نبتاع اللحم كذا وكذا رطلًا نأخذ كل يوم كذا وكذا، والثمن إلى العطاء، فلم ير أحد ذلك دينا بدين، ولم يروا به بأسا) – المدونة: 3/290؛ ويراجع مواهب الجليل: 4/538؛ وتبين المسالك، طبعة دار الغرب الإسلامي: 3/455.
(3) الشرح الكبير مع الدسوقي: 2/216 – 217.(7/817)
الاستصناع بين الاستقلال والاتباع
ثار خلاف بين الفقهاء فذهب جماعة منهم إلى أن الاستصناع عقد تابع وداخل في أحد العقود المشهورة المتفق عليها، وهؤلاء اختلفوا على ضوء ما يأتي:
1- هل هو سلم؟ هذه المسألة هي مثار خلاف كبير بين الفقهاء فذهب جمهور الفقهاء (المالكية على تفصيل والشافعية والحنابلة) إلى أن الاستصناع داخل في باب السلم، ولذلك يخضع لشروطه وضوابطه من تسليم الثمن في المجلس عند الجمهور أو خلال ثلاثة أيام عند المالكية وغير ذلك من شروط السلم.
ومن هنا يعترف هؤلاء بالاستصناع كعقد مستقل، وإنما أدخلوه في السلم، ولذلك ذكروه في باب السلم، جاء في المدونة: باب السلف في الصناعات: (قلت ما قول مالك في رجل استصنع طستا، أو تورا قمقما، أو قلنسوة، أو خفين، أو لبدًا، أو استنحت سرجًا، أو قارورة، أو قدحا، أو شيئا مما يعمل الناس في أسواقهم من آنيتهم، أو أمتعتهم التي يستعملون في أسواقهم عند الصناع فاستعمل من ذلك شيئا موصومًا، وضرب لذلك أجلًا بعيدًا، وجعل لرأس المال أجلًا بعيدًا، أيكون هذا سلفًا أو تفسده، لأنه ضرب لرأس المال أجلًا بعيدًا، أم لا يكون سلفًا، ويكون بيعًا من البيوع في قول مالك ويجوز؟
قال: أرى في هذا أنه إذا ضرب للسلعة التي استعملها أجلًا بعيدًا، وجعل ذلك مضمونًا على الذي يعملها بصفة معلومة، وليس من شيء بعينه يريه يعمله منه، ولم يشترط أن يعمله رجل بعينه، وقدم رأس المال، أو دفع رأس المال بعد يوم أو يومين، ولم يضرب لرأس المال أجلًا فهذا السلف جائز، وهو لازم للذي عليه يأتي به إذا حل الأجل على صفةٍ ما وصفا.
قلت: وإن ضرب لرأس المال أجلًا بعيدًا، والمسألة على حالها فسد وصار دينا في قول مالك؟ قال: نعم.(7/818)
قلت: وإن لم يضرب لرأس المال أجلًا، واشترط أن يعمله هو نفسه، أو اشترط عمل رجل بعينه؟ قال: لا يكون هذا سلفًا، لأن هذا رجل سلف في دين مضمون على هذا الرجل، وشرط عليه عمل نفسه، وقدم نقده فهو لا يدري، أيسلم هذا الرجل إلى ذلك الأجل فيعمله له أو لا؟ بطل سلف هذا فيكون الذي أسلف إليه قد انتفع بذهبه باطلًا.
قلت: لم؟ قال: لأنه لا يدري أيسلم ذلك الحديد أو الطواهر، أو الخشب إلى ذلك الأجل أم لا، ولا يكون السلف في شيء بعينه، فلذلك لا يجوز في قول مالك (1) هذا هو نص المدونة نقلناه بطوله لأهميته حيث يدل بوضوح على أن الاستصناع إنما يصح إذا توفرت فيه شروط السلم وضوابطه.
جاء في حاشية الدسوقي تفصيل أكثر وهو: (وصورته: وجدت نحاسًا يعمل طستا، أو حلة، أو تورا، أو غير ذلك، فقلت له: كمله لي على صفة كذا بدينار فيجوز إن شرع في تكميله بالفعل …) إلى آخر النص (2) .
والتحقيق أن المالكية جعلوا إحدى صور الاستصناع سلمًا، وبقية صوره الثلاث إما من باب البيع والإجارة – كما في النوع الثاني، والثالث، وإما باطل كما في النوع الرابع – كما سبق – كما جعلوا بعض صوره بيعا – كما سيأتي – وقد علق العلامة الدسوقي على النوع الذي قيل: إنه من باب البيع والإجارة فقال: (وأنت إذا أمعنت النظر وجدتها لها شبه بالسلم نظرًا للمعدوم في حال العقد، ولها شبه بالبيع نظرًا للموجود، وليست من اجتماع البيع والإجارة، لكن أقرب ما يتمشى عليه كلام المصنف قول أشهب الذي يجيز تعيين المعمول منه (3) . وحينئذ يكون سلمًا على قول أشهب.
وكذلك الأمر عند الشافعية والحنابلة حيث أدخلوا الاستصناع في باب السلم أيضا، حيث يقول الشافعي في كتاب السلم: (ولا بأس أن يسلفه في طست، أو تور من نحاس أحمر، أو أبيض …، أو رصاص، أو حديد، ويشترطه بسعة معروفة، ومضروبًا، أو مفرغًا، وبصنعة معروفة، ويصفه بالتخانة، أو الرقة، ويضرب له أجلًا كهو في الثياب وإذا جاء به على ما يقع عليه اسم الصفة، أو الشرط لزمه ولم يكن له رده، وكذلك كل إناء من جنس واحد ضبطت صفته فهو كالطست … ولا يجوز فيه الإذن إلا أن يدفع ثمنه، وهذا شراء صفة مضمونة فلا يجوز فيها إلا أن يدفع ثمنها وتكون على ما وصفت) وأجاز الشافعية الاستصناع سواء كان حالا أم مؤجلًا لأنه سلم (4) .
__________
(1) المدونة الكبرى لإمام دار الهجرة الإمام مالك، طبعة السعادة 1323هـ، القاهرة: 9/18- 19
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، طبعة عيسى الحلبي: 3/215- 216
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، طبعة عيسى الحلبي: 3/215- 216
(4) روضة الطالبين، طبعة المكتب الإسلامي: 4/7 جاء فيه: (يصح السلم الحال، كالمؤجل، فإن صرح بحلول، أو تأجيل فذاك، وإن أطلق فوجهان، وقيل: قولان، أصحهما عند الجمهور: يصح، ويكون حالًّا(7/819)
وقد وضع الإمام الشافعي ضابطة في جواز السلم تكمن في ضبط أوصاف المسلم فيه، وكون هذه الأوصاف مما يمكن تحقيقها ومعرفتها، ولذلك لم يجز السلم في شيء مختلط مثل أن يشترط أن يعمل له طستًا من نحاس وحديد وذلك، لأنهما لا يخلصان فيعرف قدر كل واحد منهما (1) وعلى ضوء ذلك إذا أمكن معرفته بدقة – كما يحدث اليوم في المصانع التي تضبط المواصفات، والمقادير – بدقة يكون الحكم الجواز، غير أن لازم المذهب ليس بمذهب.
كذلك يذكر الحنابلة موضوع الاستصناع في باب السلم قال ابن قدامة: (قال القاضي والذي يجمع أخلاطًا على أربعة أضرب) ثم ذكر ضمن النوع الأول الثياب المنسوجة من قطن وكتان، ثم ذكر كيفية ضبط الثياب، وضبط النحاس، والرصاص والحديد، والخشب وهكذا … (2) وجاء في مطالب أولي النهى في باب السلم: (ويصح – أي السلم – فيما يجمع أخلاطًا متميزة كثوب نسج من نوعين كقطن وكتان، أو إبريسم، وقطن … لإمكان ضبطها بصفة لا يختلف ثمنها معها غالبًا) (3) .
وأما الحنفية فقد فرقوا بين نوعي الاستصناع، حيث جعلوا أحدهما سلمًا، جاء في الدر المختار وحاشيته: (والاستصناع بأجل – مثل شهر وما فوقه سلم، فتعتبر شرائطه جري فيه تعامل كخف وطست، ونحوهما، أم كالثياب ونحوها هذا عند أبي حنفية، أما الصاحبان فقالا: إن ما جرى فيه تعامل استصناع، لأن اللفظ حقيقة الاستصناع فيحافظ على قضيته، وحينئذ يحمل الأجل على التعجيل بخلاف ما لا تعامل فيه لأنه استصناع فاسد فيحمل على السلم الصحيح، بينما قال الإمام أبو حنيفة إن النوع الأول أيضا سلم، لأنه دين يحتمل السلم وهو ثابت بالإجماع بينما الاستصناع فيه خلاف فكان الحمل على السلم أولى.
وأما إذا كان الأجل أقل من شهر فهو استصناع ما دام فيما جرى فيه عمل وصنعه (4) .
__________
(1) الإمام، طبعة دار المعرفة بيروت: 3/131، ويراجع: الغاية القصوى، للبيضاوي، بتحقيق علي القره داغي: 1/496؛ والمحلى مع حاشيتي القليوبي وعميرة، طبعة عيسى الحلبي: 2/254 …؛ وروضة الطالبين، طبعة المكتب الإسلامي: 4/27
(2) المغني، لابن قدامة، طبعة الرياض: 4/310- 316 ويراجع: الفروع: 4/24.
(3) مطالب أولي النهى: 3/310
(4) حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/212.(7/820)
2- الاستصناع بيع:
ذكر المالكية عدة صور للاستصناع - كما سبق – وجعلوا إحداها من باب البيع، وهي ما إذا طلب شخص من النحاس – مثلا - أن يصنع من نحاسه المعين تورًا – أي طشتًا – قال العلامة الدردير: (إنما هو بيع معين يشترط فيه الشروع ولو حكما، فهو من أفراد قوله: وإن اشترى المعمول منه، واستأجره جاز إن شرع، ويضمنه مشتريه بالعقد) (1) .
ولكن العلامة الدسوقي قال: (واعترضه شيخنا بأن بينهما فرقًا، لأنه هنا وقع العقد على المصنوع، ولم يدخل المعمول منه في ملك المشتري، والآتية دخل في ملكه المعمول منه بالعقد عليه ثم استأجره) (2) .
وذكر المالكية بعض الصور التي هي فيها صنعة لكنها تدخل في البيع منها: جواز أن يشتري شخص من دائم العمل أو غالبه – ككون البائع من أهل حرفة وذلك الشيء لتيسره عنده – وكان الصانع معينًا دون المصنوع منه، فأشبه المعقود عليه المعين، وذلك مثل الخبازة والجزار بنقد وبغيره، وكذلك لا يشترط فيه تعجيل رأس المال، ولا تأجيل المثمن؛ لأنه بيع وهو لا يشترط فيه واحد من الأمرين، وإنما يشترط الشروع في الأخذ حقيقة، أو حكمًا بأن يؤخر الشروع في الأخذ خلال خمسة عشر يومًا، حيث أجازوا التأخير لنصف شهر (3) يقول العلامة الدسوقي معلقًا على هذا النوع: (إنهم نزلوا دوام العمل منزلة تعين المبيع، وذكر العلامة الدردير مثالين لتطبيق ذلك فقال: (والشراء إما بجملة يأخذها مفرقة على أيام كقنطار بكذا كل يوم رطلين) والمثال الثاني هو أن يعقد معه على أن يشتري منه كل يوم عددًا معينا، قال الدردير: (وليس لأحدهما الفسخ في الصورة الأولى دون الثانية) حيث البيع فيها جائز غير لازم فلكل واحد منهما في الصورة الثانية حق الفسخ (4)
فالمالكية أيضا أجازوا شراء مصنوع – من نحاس ونحوه – لم يكتمل صنعه جزافًا بثمن معلوم على أن يكمله له، بينما منعوا مثل ذلك في ثوب من نسيج إلَّا إذا كان عنده غزل يعمل منه غيره إذا جاء على غير الصفة قال الدردير: (إن ما وجد صانعًا شرع في عمل تور مثلًا فاشتراه منه جزافًا بثمن معلوم على أن يكمله له جاز، فإن اشتراه على الوزن لم يضمنه مشترية إلا بالقبض، وهذا بخلاف شراء ثوب ليكمل فيمنع … لإمكان إعادة التور إن جاء على خلاف الصفة المشترطة أو المعتادة، بخلاف الثوب إلا أن يكون عنده غزل يعمل منه غيره إذا جاء على غير الصفة) (5) إذن فالسبب وراء الجواز هو قدرة البائع على الوفاء بأداء ما التزم به حسب المواصفات التي طلبت منه.
وذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع بيع ملزم للطرفين، وذهب بعضهم الأخير إلى أنه بيع ولكنه للمشتري فيه حق الخيار قال الكاساني: (وهو الصحيح) (6) ثم اختلفوا في أن المبيع هل هو العين، أم عمله؟ (7) .
3- الاستصناع بيع وإجارة:
أدخل المالكية بعض صور الاستصناع في باب البيع والإجارة حيث ذكر ابن رشد صورتين واعتبرهما من هذا الباب، وهما:
1- أن يشترط المسلم عمل من استعمله، ويعين ما يعمل منه، حيث قال: (وهذا ليس بسلم، وإنما هو من باب البيع والإجارة في الشيء المبيع، فإن كان يعرف وجه خروج ذلك الشيء من العمل، أو تمكن بإعادته للعمل، أو عمل غيره من الشيء المعين منه العمل فيجوز على أن يشرع في العمل، وعلى أن يؤخر الشروع فيه بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام، أو نحو ذلك، فإن كان على أن يشرع في العمل جاز ذلك بشرط تعجيل النقد وتأخيره، وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة أيام ونحوها لم يجز تعجيل النقد بشرط حتى يشرع في العمل) (8) .
2- أن لا يشترط المسلم عمل من استعمله، ويعين ما يعمل منه، قال ابن رشد: (فهو أيضا من باب البيع والإجارة في المبيع، إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام بتعجيل النقد وتأخيره) (9) .
إجارة ابتداء وبيع انتهاء:
وذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع إجارة ابتداء، وبيع انتهاء، جاء في الذخيرة: (هو إجارة ابتداء، وبيع انتهاء لكن قبل التسليم، لا عند التسليم بدليل أنهم قالوا: إذا مات الصانع يبطل، ولا يستوفي المصنوع من تركته، ذكره محمد في كتاب البيوع) (10) .
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2/216.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2/216.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2/216، ويراجع: شرح الخرشي: 5/225
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2/216، ويراجع: شرح الخرشي: 5/225
(5) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2/216
(6) بدائع الصنائع: 6/2677.
(7) حاشية ابن عابدين: 4/213
(8) المقدمات الممهدات: 2/32.
(9) المقدمات الممهدات: 2/32.
(10) فتح القدير، طبعة مصطفى الحلبي: 7/116.(7/821)
وقد شرح صاحب المحيط البرهاني هذه المسألة في كتابه القيم (المخطوط) شرحًا رائعًا حيث قال: (ثم كيف ينعقد معاقدة؟ نقول: ينعقد إجارة ابتداء، ويصير بيعًا انتهاء متى سلم قبل التسليم فباعه، بدليل أنهم قالوا: بأن الصانع إذا مات قبل تسليم العمل بطل الاستصناع، ولا يستوفي المصنوع من تركته، ولو انعقد بيعًا ابتداءً وانتهاءً …، لم يبطل بموته كما في بيع العين، والسلم، وقال محمد: إن أتى به الصانع كان المستصنع بالخيار، لأنه اشترى شيئا لم يره، ولو انعقد إجارة ابتداء وانتهاء لم يكن له خيار الرؤية، كما في الخياط والصباغ، ولو كان ينعقد بيعًا عند التسليم لا قبله بساعة لم يثبت خيار الرؤية، لأنه يكون مشتريا ما رآه، وخيار الرؤية لا يثبت في المشتري، فعلمنا أنه ينعقد إجارة ابتداء، وإن كان القياس يأباه، لأنه إجارة على عمل في ملك الآخر، ثم يصير بيعًا انتهاء قبل التسليم بساعة وإن كان القياس يأبى أن تصير الإجارة بيعًا لكنا تركنا القياس في الكل، لمكان التعامل، والمعنى في ذلك أن المستصنع طلب منه العمل والعين جميعًا فلا بد من اعتبارهما جميعا ـ واعتبارهما جميعًا في حالة واحدة متعذرة، لأن بين الإجارة والبيع تنافيا فجوزناها إجارة ابتداء، لأن عدم المعقود عليه لا يمنع انعقاد الإجارة ويمنع انعقاد البيع فاعتبرناها إجارة ابتداء، وجعلناها بيعًا قبل التسليم … كما فعلنا هكذا في الهبة بشرط العوض، اعتبرناها تبرعًا ابتداء عملًا باللفظ، بيعًا انتهاء عملًا بالمعنى، ولذلك قلنا: لو مات قبل التسليم يبطل كالإجارة، ومتى سلم كان المستصنع بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره) (1) .
__________
(1) المحيط البرهاني مخطوطة مكتبة الأوقاف العامة: ج 2 ورقة 575.(7/822)
4- الاستصناع إجارة محضة
ذكر الرأي أو الاحتمال صاحب العناية ورد عليه حيث قال: (فإن قيل: أي فرق بين هذا وبين الصباغ، فإن في الصبغ العمل والعين كما في الاستصناع، وذلك إجارة محضة؟ أجيب بأن الصبغ أصل، والصبغ آلته، فكان المقصود منه العمل، وذلك إجارة وردت على العمل في عين المستأجر، وههنا الأصل هو العين المستصنع المملوك للصانع فيكون بيعًا، ولما لم يكن له وجود من حيث وصفه إلا بالعمل أشبه الإجارة في حكم واحد لا غير) (1) .
5- الاستصناع مواعدة (أي وعد من الطرفين وليس عقدًا) :
ذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع مواعدة من الطرفين أولا، ثم حينما يكمل الصانع المصنوع ويسلمه إلى المصنوع له يصبح بيعًا بالتعاطي، وعلى ضوء ذلك لا يكون عقدًا ملزما للطرفين إلا بعد التسليم والرضاء به، بل يكون لهما الخيار، جاء في المحيط البرهاني في رده على كون الاستصناع مواعدة: (إذا جاز استحسانا فإنما يجوز معاقدة لا مواعدة بدليل أن محمدًا (رحمه الله) ذكر فيه القياس والاستحسان، ولو كان مواعدة …) لما احتاج إلى ذلك (وأن محمدًا قال في كتاب إذا فرغ الصانع من العمل وأتى به كان المستصنع بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره، فقد سماه شراء، وكذلك قال: إذا قبض الأجر فإنه يملك ولو كانت مواعدة لا معاقدة لكان لا يصير الأجر ملكًا له فدل أنها تنعقد معاقدة لا مواعدة) (2) .
__________
(1) شرح العناية على الهداية مع فتح القدير: 7/116.
(2) المحيط البرهاني مخطوطة مكتبة الأوقاف العامة: ج 2 ورقة 575.(7/823)
6- الاستصناع له شبه بالسلم والبيع:
جعل المالكية إحدى صور الاستصناع من هذا الباب، وهي ما إذا عين الشخص المصنوع منه والصانع ويطلب منه أن يصنع من نحاسه شيئا معينًا موصوفًا، قال الدسوقي: وأنت إذا أمعنت النظر وجدتها لها شبه بالسلم نظرًا للمعدوم في حال العقد، ولها شبه بالبيع نظرًا للموجود، وليست من اجتماع البيع والإجارة) (1) .
وهذا الرأي يقرب من القول باستقلالية الاستصناع، حيث أنه ليس مثل السلم في كل الوجوه، ولا مثل البيع في كل الوجوه، وحينئذ يكون عقدًا خاصًّا.
7- هل هو جعالة؟
الجعالة – كما لا يخفى – هي عبارة عن التزام عوض معلوم على عمل معين، أو مجهول عسر علمه، وهي عقد على عمل، وهو عقد غير لازم قبل الإتيان بالشيء المطلوب (2) مثل أن يقول: من رد بعيري فله كذا.
وجاء في الموسوعة الفقهية: (الجعالة تتفق مع الاستصناع في أنهما عقدان شرط فيها العمل، ويفترقان في أن الجعالة عامة في الصناعات وغيرها، إلا أن الاستصناع خاص في الصناعات، كما أن الجعالة العمل قد يكون معلومًا، وقد يكون مجهولًا في حين أن الاستصناع لابد أن يكون معلومًا) (3) .
وكذلك يفترقان في المحل المعقود عليه، حيث هو في الاستصناع عين وعمل، وفي الجعالة له عمل محض فقط.
8- الاستقلال:
الاستصناع عقد مستقل له أركانه وشروطه، وأحكامه وآثاره الخاصة، وهذا رأي الحنفية – من حيث المبدأ – عدا زفر (4) .
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير: 2/216.
(2) البجيرمي على شرح الخطيب: 3/238؛ والكتب الفقهية في باب الجعالة؛ والموسوعة الفقهية: 3/326.
(3) الموسوعة الفقهية: 3/326.
(4) المصادر الحنفية السابقة كلها.(7/824)
المناقشة والترجيح:
يمكن أن نناقش الأقوال السابقة بما يأتي:
أولا: أن الذين قالوا: إنه بيع، اعترف أكثرهم بنوع من التغاير بينه وبين الاستصناع، فمثلًا قالوا: إن الاستصناع يخالف البيع في اشتراط العمل في الاستصناع دون البيع، وفي إثبات خيار الرؤية عند بعضهم في الأول (1) .
ثم إن الاستصناع لو كان بيعًا لما بطل بموت أحد العاقدين عند الحنفية: كما أن الاستصناع بيع للمعدوم وهو لا يجوز كما يقولون (2) .
نعم إن هؤلاء حاولوا الإجابة عن هذه الاعتراضات، ولكن إجاباتهم أيضًا تحمل في طياتها الاعتراف بوجود شبه للاستصناع بغيره، فمثلًا قالوا في سبب بطلانه بموت أحد العاقدين: إن له شبهًا بالإجارة (3) .
ثم إن أكثر الحنفية القدماء لم يجعلوا لعقد الاستصناع اللزوم، بل اعتبروه من العقود الجائزة (غير الملزمة للطرفين قبل العمل وبعده) وحينئذ كيف يكون بيعا؟ نعم لو توفرت فيه شروط السلم أصبح حينئذ عقدًا لازما، لأنه سلم (4) وقال ابن الهمام: (ولا بيعا لأنه بيع معدوم) على غير شروط السلم، غير أنه أجيز استحسانا (5) .
ثانيا: الذين جعلوا الاستصناع إجارة يرد عليهم بوجود فرق كبير بينهما، فالاستصناع وارد على العين والعمل، بينما الإجارة وارد على العمل فقط، وحتى في الاستئجار على الصبغ أن محله الصبغ (أي عمل الصباغ) والصبغ مادته وآلته، فكان المقصود فيه هو العمل فلم يخرج عن إطار الإجارة التي ترد على العمل في عين يملكها المستأجر، أما الاستصناع فالأصل المقصود فيه هو العين المستصنعة المملوكة للصانع، فيكون ما حدث بين الصانع والمستصنع قريبا من البيع (6) ، ولكنه ليس بيعًا – كما سبق – وإنما له شبه به، وبالإجارة في وجود العمل، قال ابن الهمام: (إذ لا يمكن – أي الاستصناع – إجارة، لأنه استئجار على العمل في ملك الأجير، وذلك لا يجوز، كما لو قال: أحمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا بكذا أو أصبغ ثوبك أحمر بكذا لا يصح (7) .
وقد فرق السرخسي بين الاستئجار للصناعة، وبين الاستصناع فقال: الاستئجار للصناعة هو: بيع عمل، العين فيه تبع، ثم ضرب مثلًا فقال: (إذا أسلم حديدًا إلى حداد ليصنعه إناء مسمى بأجر مسمى ... فإنه جائز، ولا خيار فيه إذا كان مثل ما سمى، لأن ثبات الخيار للفسخ ليعود إليه رأس ماله فيندفع الضرر به وذلك لا يتأتى هنا، فإنه بعد اتصال عمله بالحديد لا وجه لفسخ العقد فيه، فأما في الاستصناع: المقصود عليه العين، وفسخ العقد فيه ممكن، فلهذا ثبت خيار الرؤية فيه، ولأن الحداد هناك يلتزم العمل بالعقد في ذمته، ولا يثبت خيار الرؤية فيما يكون محله الذمة كالمسلم فيه (8) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/2677؛ والمبسوط: 15/84؛ وابن عابدين: 4/212 – 213؛ وفتح القدير: 7/116- 117 ويراجع: كاسب عبد الكريم: عقد الاستصناع، طبعة دار الدعوى بالإسكندرية: ص128- 130.
(2) بدائع الصنائع: 6/2677؛ والمبسوط: 15/84؛ وابن عابدين: 4/212 – 213؛ وفتح القدير: 7/116- 117 ويراجع: كاسب عبد الكريم: عقد الاستصناع، طبعة دار الدعوى بالإسكندرية: ص128- 130.
(3) بدائع الصنائع: 6/2677؛ والمبسوط: 15/84؛ وابن عابدين: 4/212 – 213؛ وفتح القدير: 7/116 – 117 ويراجع: كاسب عبد الكريم: عقد الاستصناع، طبعة دار الدعوة بالإسكندرية: ص128-130
(4) ابن عابدين: 4/213؛ والمصادر السابقة.
(5) فتح القدير: 7/115.
(6) بحث الإجارة في الموسوعة الفقهية الكويتية: 1/252؛ وبحث الاستصناع: 3/326 ويراجع: د كاسب عبد الكريم، المرجع: ص131-132
(7) فتح القدير: 7/114- 115.
(8) المبسوط: 15/84- 85.(7/825)
ثالث: إن الذين قالوا: إنه مواعدة – وهم قلة – رد عليهم عامة فقهاء الحنفية فقالوا: إن الاستصناع يختلف عن المواعدة في كثير من الأمور منها أن محمدًا (صاحب أبي حنيفة) ذكر في جوازه القياس والاستحسان، وذلك لا يكون في إثبات العدات ومنها: أنه أثبت فيه خيار الرؤية، وهذا أيضا يختص بالبياعات، ومنها أنه يجري فيه التقاضي، وإنما يتقاضى في الواجب، لا الموعود، ومنها أن الاستصناع خاص بما تجري فيه الصنعة والمواعدة تجوز في كل شيء، وقد ذكرنا رد المحيط البرهاني على هذا القول (1) .
رابعا ً: أن الذين أدخلوا الاستصناع في السلم (وحينئذ تشترط فيه شروطه) فهؤلاء في الواقع لا يعترفون به أبدًا، وإنما الاعتراف بالسلم وأنواعه، وحينئذ يرد عليهم بالأدلة الدالة على مشروعية الاستصناع من السنة والاستحسان، إضافة إلى فروق جوهرية بينهما، فالمعقود عليه في السلم هو الشيء المبيع في الذمة، أما في الاستصناع فهو العين والعمل – كما سبق -.
خامسا: إن القائلين بأن الاستصناع بيع اختلفوا في محل العقد بشكل يدل بوضوح على عدم وضوح فكرة البيع فيه، يقول الكاساني: (ثم اختلفت عباراتهم عن هذا النوع من البيع، قال بعضهم: هو عقد على المبيع في الذمة، وقال بعضهم: هو عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل، وجه القول الأول: أن الصانع لو أحضر عينا كان عملها قبل العقد ورضي به المستصنع لجاز، ولو كان شرط العمل من نفس العقد لما جاز، لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي، والصحيح هو القول الأخير، لأن الاستصناع: (طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا العقد يسمى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل على اختلاف المعاني في الأصل، وأما إذ أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي به المستصنع فإنما جاز لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر وهو التعاطي بتراضيهما (2) .
كل هذه الاختلافات تدل بوضوح على أن عقد الاستصناع له شبه ببعض العقود، ولكنه ليس هو ذلك العقد، وإنما هو عقد مستقل كما فصلنا ذلك آنفًا.
__________
(1) المحيط البرهاني، مخطوطة مكتبة الأوقاف: ج 2، ورقة 575.
(2) بدائع الصنائع: 6/2677.(7/826)
الترجيح:
وقبل أن نقوم بعملية الترجيح أرى من الضروري تحرير محل النزاع وإجراء نوع من التفصيل وتنقيح المناط.
وذلك لأن كثيرًا من المسائل المختلفة قد حشرت تحت لواء (الاستصناع) بحيث نرى أن كل مسألة في باب البيع، أو الإجارة، أو السلم فيها صنعة أو استصناع لغوي أدخلت في باب الاستصناع، ولذلك نرى من الضروري حصر الاستصناع في مفهومه الخاص بحيث لا يكون فيه خلط أو التباس بغيره، وكذلك ينبغى إبعاد المسائل – التي هي مندرجة أساسًا تحت عقد خاص – عن الاستصناع، ولذلك، فإذا صيغ عقد الاستصناع على أساس مواصفات السلم وتوفرت فيه شروطه، فإنه حينئذ سلم، لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، ولذلك لو قال وهبتك هذا الثوب بعشرة دنانير بيعًا، وهكذا الأمر ههنا، فلو طلب شخص من آخر أن يصنع – بضم الياء – له مصنوع موصوف في الذمة ولم يحدد الشخص ولا الشيء المصنوع منه بعينه، فهذا سلم يجب فيه دفع الثمن في المجلس عند الجمهور أو خلال ثلاثة أيام عند المالكية، وحتى لو سمَّى استصناعًا فهو من الناحية اللغوية، وحينما يكون سلمًا يكون ملزمًا للطرفين، ويشترط فيه شروط السلم.
وكذلك الأمر حينما يكون المصنوع جاهزًا فيأتي به الصانع فيبيعه، أو يكون غائبا فيقع عليه العقد وحينئذ يكون بيعًا للغائب الذي لم يره فيكون له حق خيار الرؤية، وإذا كان قد باعه على الصفة فيكون له الخيار إذا تخلف المصنوع عن الصفات التي ذكرها.
وكذلك الحكم فيما لو صيغ العقد على أساس الإجارة، بأن يأتي شخص بكمية من الحديد، ويستأجر الصانع أن يصنع له منه سيفًا أو نحو ذلك، فهذا إجارة، ويصبح الصانع أجيرًا مشتركًا، ويشترط فيه شروط الإجارة، ويصبح ملزمًا للطرفين وكذلك الأمر حينما يصاغ على صورة الجعالة أو نحوها.
ولذلك يقول الكاساني: (وأما إذا أتي الصانع بعين صنعها قبل العقد ورضي به المستصنع فإنما جاز لا بالعقد الأول بل بعقد آخر، وهو التعاطي بتراضيهما (1) ، ويقول أيضا: (فإن سلم إلى حداد حديدًا ليعمل له إناء معلومًا بأجر معلوم أو جلدًا إلى خفاف ليعمل له خفًّا معلومًا بأجر معلوم فذلك جائز، ولا خيار فيه، لأن هذا ليس باستصناع، بل هو استئجار فكان جائزًا، فإن عمل كما أمر استحق الأجر، وإن فسد فله أن يضمنه حديدًا مثله، لأنه لما أفسده فكأنه أخذ حديدًا له واتخذ منه آنية من غير إذنه، والإناء للصانع، لأن المضمونات تملك بالضمان) (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/2677.
(2) بدائع الصنائع: 6/2681(7/827)
وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي الخلط، وإنما يجب الحكم على هذه المسائل التي ذكرت مع الاستصناع على ضوء العقود التي تندرج فيها تلك.
وبعد هذا التحرير والتفصيل نقول: (إن الاستصناع الذي هو خاص مستقل) هو ما إذا طلب المستصنع من الصانع صنع شيء معين موصوف في الذمة خلال فترة محددة قصيرة أم طويلة، وسواء كان المستصنع عين المصنوع منه بذاته أم لا، وسواء كان المصنوع منه موجودًا أثناء العقد أم لا.
وبعبارة موجزة: إن محل عقد الاستصناع هو العمل والعين من الصانع.
فهذا العقد بهذه الصورة ليس بيعًا ولا إجارة، ولا سلمًا ولا غيرها، وإنما هو عقد مستقل له شروطه الخاصة به، وخصائصه وآثاره الخاصة به ولا ينبغي صهره في بوتقة عقد آخر، يقول الإمام السرخسي: (اعلم أن البيوع أربعة: بيع عين بثمن ... وبيع دين في الذمة بثمن وهو السلم ... ، وبيع عمل، العين فيه تبع وهو الاستئجار للصناعة ونحوها ... فالمعقود عليه الوصف الذي يحدث في المحل بعمل العامل ... والعين هو الصبغ بيع فيه ... وبيع عين شرط فيه العمل ... وهو الاستصناع فالمستصنع فيه مبيع عين) (1) فهذا النص واضح جدًّا في الدلالة على أن الاستصناع مثل السلم والإجارة، فكما أنهما مستقلان، فكذلك الاستصناع، وإن كان لفظ البيع (بعمومه اللفظي) يشمل الجميع.
وعلى ضوء ذلك فالاستصناع عقد مستقل خاص، محله العمل والعين معًا، وبذلك يمتاز عن البيع الذي محله العين، وعن الإجارة التي محلها العمل، وعن السلم الذي محله هو الذمة، أو العين الموصوفة في الذمة، إضافة إلى ملاحظة كل هذه الفروق التي ذكرناها عند مناقشتنا في الأقوال السابقة، جاء في المحيط البرهاني: " إن المستصنع طلب منه العمل والعين جميعًا فلابد من اعتبارهما جميعًا) (2) .
__________
(1) المبسوط: 15/84- 85.
(2) المحيط البرهاني، مخطوطة مكتبة الأوقاف: ج 2 ورقة 575.(7/828)
هل يجوز إحداث عقد جديد؟
هذه المسألة تسمى بمدى الحرية التعاقدية في الفقه الإسلامي، وقد اختلف فيها الفقهاء، فذهب جمهور الفقهاء – كما حققناه في رسالتنا (1) .
وقد دافع شيخ الإسلام ابن تيمية بشدة عن مذهب القائلين بالإباحة (2) .
وقد استدل الجمهور بالكتاب والسنة، والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (3) .
وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (4) .
وغير ذلك من الآيات الدالة على وجوب الوفاء بالعقود، يقول ابن تيمية: (فقد أمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود، وهذا عام وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله، وبالعهد، وقد دخل في ذلك ما لا عقده المرء على نفسه بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} (5) .
فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر، والبيع ... وقال سبحانه {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (6) .
قال المفسرون – كالضحاك وغيره – تساءلون به: تتعاهدون وتتعاقدون، وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل، أو ترك، أو مال، أو نفع، أو نحو ذلك، وجمع سبحانه في هذه الآية، وسائر السورة أحكام الأسباب التي بين بني آدم المخلوقة كالرحم والمكسوبة كالعقود التي يدخل فيها العهد ... ) (7) .
وكذلك تدل مجموعة كبيرة من الأحاديث الشريفة على وجوب الوفاء بالعقود والوعود والعهود، وأن مخالفة الوعد من علامات النفاق، إضافة إلى أحاديث خاصة في الموضوع منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالا، أو أحل حراما " [رواه الترمذي وقال: (حسن صحيح) ورواه البخاري تعليقا بصيغة الجزم لكنه بدون الاستثناء، ورواه كذلك الحاكم وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ (المسلمون عند شروطهم) أي بدون الاستثناء] (8) .
__________
(1) يراجع: مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقارنة، طبعة دار البشائر الإسلامية:2/1148 – 1164ومصادره المعتمدة لكل المذاهب
(2) القواعد النورانية، طبعة السنة المحمدية 1951م: ص184؛ ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، طبعة دار العربية: 29/126.
(3) [سورة المائدة: الآية 1] .
(4) [سورة الإسراء: الآية 34]
(5) [سورة الأحزاب: الآية 15] .
(6) [سورة النساء: الآية 1] .
(7) مجموع الفتاوى: 29/138 – 139.
(8) الحديث في: سنن الترمذي – مع شرح تحفة الأحوذي، كتاب الأحكام: 4/584؛ وصحيح البخاري – مع الفتح – كتاب الإجارة: 2/451؛ وسنن أبي داود – مع عون المعبود -: 9/516؛ والحاكم في مستدركه: 2/49.(7/829)
وآثار الصحابة تشهد على ذلك، بل يقول ابن تيمية: (إن الوفاء بها أي بالالتزامات التي التزم بها الإنسان – من الواجبات التي اتفقت عليها الملل، بل العقلاء جميعهم) (1) .
ثم إن أساس العقود هو التراضي، وموجبها هو ما أوجبه العاقدان على أنفسهما.
وقد استدل الظاهرية بأدلة لا تنهض حجة على دعواهم (2) وإذا ثبت رجحان قول الجمهور فيكون من المشروع إحداث أي عقد جديد وإن لم يكن موجودًا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والفقهاء ما دام لا يخالف نصًّا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعلى ضوء ذلك فعقد الاستصناع – كعقد مستقل – له وجاهته في اعتباره ومشروعيته ناهيك عن الأدلة الخاصة بمشروعيته، ثم إن عقد الاستصناع يتضمن العقد على العمل، والعين في الذمة، وكل واحد منهما صالح لأن يكون معقودًا عليه، وكذلك الأمر بمجموعهما.
أما الأدلة الخاصة على مشروعية الاستصناع فمنها الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره بسندهم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتما من ذهب (3) كما استدل الحنفية بالإجماع العملي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون نكير وتعامل الناس بهذا العقد، وحاجة الناس إليه (4) .
والخلاصة: إن عقد الاستصناع – بهذا المعنى الخاص – عقد مستقل له كيانه الخاص، وشروطه الخاصة وآثاره الخاصة.
والاستصناع باعتباره عقدًا لابد من توافر أركانه، وهي العاقدان والمعقود عليه – أي ثمن والمستصنع – والإيجاب والقبول أي ما يدل على الرضا من قول، أو فعل أو إشارة، أو كتابة (5) وكذلك له شروطه العامة مما ذكره الفقهاء من شروط العقد، من أهلية التعاقد، وعدم وجود عيوب الرضا، وعدم الفصل الكثير بين الإيجاب والقبول، وأن يكون المحل حلالًا، ونحو ذلك.
__________
(1) مجموع الفتاوى: 29/154؛ والقواعد النورانية: ص53.
(2) يراجع لمزيد من أدلة الجمهور والظاهرية مع المناقشة والرتجيح، مبدأ الرضا في العقود: 2/1148 - 1164
(3) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب الأيمان: 11/537؛ وأحمد: 3/101.
(4) بدائع الصنائع: 6/2678
(5) يراجع: في التفصيل وسائل التعبير عن الإرادة: مبدأ الرضا في العقود: 2/833؛ وما بعدها.(7/830)
شروط الاستصناع الخاصة به
للاستصناع شروط خاصة به وهي:
1- أن يذكر العقد أوصاف الشيء المراد صنعه على شكل يؤدي إلى بيانه وتكوين العلم به، يقول الكاساني: (وأما شرائط جوازه فمنها بيان جنس المصنوع ونوعه، وقدره، وصفته، لأنه لا يصير معلومًا بدونه) (1) .
2- وأن يكون الاستصناع في الأشياء التي جرى العرف بالتعامل بها، وقد ذكر فقهاء الحنفية عدة أمثلة لذلك فقالوا: مثل استصناع الحديد والرصاص والنحاس، والزجاج، والخفاف، والنعال ونحو ذلك (2) غير أنه من الجدير بالتنويه به أن هذه الأمثلة كانت شافعة عندهم، ولم يريدوا من خلالها حصره فيه، بل أرادوا التمثيل بها فقط، ولذلك قد تختلف صناعات عصر عن عصر آخر كثرة وقلة وشيوعا وندرة، ولذلك نرى مجلة الأحكام العدلية ذكرت أمثلة مثل البندقية والسفن الحربية والتجارية لم تكن موجودة في العصور السابقة. (3) ويمكن أن تضاف في عصرنا الحاضر كل الصناعات الخفيفة والثقيلة والمتوسطة والبرية والبحرية والجوية، والفضائية كالأقمار الصناعية ونحوها.
3- أن يحدد فيه الزمن سواء أكان قصيرًا أم طويلًا، وذلك لأن العقود الواردة على العمل لابد أن يذكر معها الأجل.
غير أن الحنفية اختلفوا في هذه المسألة، فاشترط أبو حنيفة أن لا يكون في عقد الاستصناع أجل، قال الكاساني: (فإن ضرب للاستصناع أجلًا صار سلمًا حتى تعتبر فيه شرائط السلم، وهو قبض البدل في المجلس، ولا خيار لواحد منهما إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في السلم وهذا قول أبي حنيفة) (4) ، لكن فقهاء الحنفية اختلفوا في الأجل هنا فقال بعضهم هو شهر وما فوق، وقيل أدناه ثلاثة، وقيل نصف يوم فأكثر (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/2678.
(2) بدائع الصنائع: 6/2678؛ وفتح القدير: 7/114- 115؛ وابن عابدين: 4/213
(3) مجلة الأحكام العدلية، المادة 389.
(4) بدائع الصنائع:6/2678
(5) بدائع الصنائع: 7/3175(7/831)
وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن هذا ليس بشرط، بل هو استصناع على حال سواء ضرب له أجل أم لا.
وقد استدل أبو حنيفة بأنه إذا ضرب فيه أجل فقد أتى بمعنى السلم إذ هو على مبيع في الذمة مؤجلًا، والعبرة في العقود لمعانيها لا لصور الألفاظ، ألا ترى أن البيع ينعقد بلفظ التمليك، وكذا الإجارة ... ولهذا صار سلمًا فيما لا يحتمل الاستصناع، كذا هذا، ولأن التأجيل يختص بالديون، لأنه لو وضع لتأخير المطالبة، وتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه مطالبه، وليس ذلك إلا السلم، إذ لا دين في الاستصناع، ألا ترى أن لكل واحد منهما خيار الامتناع عن العمل قبل العمل بالاتفاق، ثم إذا صار سلمًا يراعى فيه شروط السلم فإن وجدت صح، وإلا فلا (1) .
واستدل الصاحبان بأن العادة جارية بضرب الأجل في الاستصناع وإنما يقصد به تعجيل العمل، لا تأخير المطالبة، فلا يخرج به عن كونه استصناعًا، أو يقال قد يقصد بضرب الأجل تأخير المطالبة، وقد يقصد به تعجيل العمل فلا يخرج العقد عن موضوعه مع الشك والاحتمال بخلاف ما لا يحتمل الاستصناع، لأن ما لا يحتملالاستصناع لا يقصد بضرب الأجل فيه تعجيل العمل فتعين أن يكون لتأخير المطالبة بالدين وذلك بالسلم (2) .
والذي يظهر رجحانه قول الصاحبين، بل إننا نرى ضرورة وجود المدة في العقد، وذلك لأن عقد الاستصناع عقد قائم على العمل والعين المؤجلين عادة، وكل ما هو شأنه لابد فيه من تحديد المدة لئلا يؤدى إلى النزاع والخصام وذلك لأن الصانع قد يتأخر في التنفيذ، والمستصنع يريد التعجيل، فإذا لم يكن في العقد تحديد للمدة أدى بلا شك إلى نزاع، وعلماؤنا اتفقوا على صنع كل ما يؤدي في العقود إلى النزاع، ولذلك منعوا الجهالة الفاحشة في المعاوضات، لأنها تؤدي إلى النزاع، فكذلك الأمر، في تعميم المدة حيث يؤدي إلى نزاع شديد، إذن لابد أن يمنع، ويوجب التحديد، ثم إذا حددت المدة يجب الالتزام بها بأن يكمل المصنوع قبل انتهائها، أما إذا انتهت دون إكمال الشيء المستصنع فإن للمستصنع – بالكسر – حق الفسخ (3) ، كما هو الحال في شأن كل العقود التي يحدد فيها الوقت.
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/2679 وقد نصت المادة 389 من المجلة على أن (كل شيء تعومل استصناعه يصح فيه الاستصناع على الإطلاق، وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة صار سلمًا، وتعتبر فيه حينئذ شروط السلم، وإذا لم يبين فيه المدة كان من قبيل الاستصناع أيضا)
(2) بدائع الصنائع: 6/2679 وقد نصت المادة 389 من المجلة على أن (كل شيء تعومل استصناعه يصح فيه الاستصناع على الإطلاق، وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة صار سلمًا، وتعتبر فيه حينئذ شروط السلم، وإذا لم يبين فيه المدة كان من قبيل الاستصناع أيضا)
(3) الأستاذ الجليل مصطفى الزرقاء، عقد البيع: ص123.(7/832)
آثار عقد الاستصناع:
يترتب على هذا العقد عدة آثار منها:
1- ثبوت الملك للمستصنع في الشيء المستصنع، وثبوت الملك في الثمن المتفق عليه.
ويثبت ذلك في نظرنا بمجرد العقد، لأن الله تعالى أمرنا بالوفاء به {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وهذا يعني أن الأثر قد ثبت بالالتزام، ولذلك يجب الوفاء به (وسيأتي لذلك مزيد من التفصيل عند اللزوم) .
وعند الحنفية يكون ثبوت ذلك ثبوتًا غير لازم، قال الكاساني: (وأمامكم الاستصناع فهو ثبات الملك للمستصنع في العين المبيعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في الثمن ملكًا غير لازم (1) .
2- عدم اللزوم بصفة عامة، والذي نراه هو اللزوم بمجرد العقد (وسيأتي مزيد من التفصيل) .
3- أن يقوم الصانع (أو مصنعه) بعمل الشيء المستصنع حسب المواصفات المطلوبة.
هذا هو مقتضى عقد الاستصناع (بمعناه الخاص المستقل كما سبق) ولذلك ليس من حقه أن يذهب إلى السوق ويشتري له شيئًا مصنوعا حتى وإن كان موافقا لما طلب منه، لأن عقد الاستصناع يقتضي العمل والعين، ولكن إذا أرادا غير ذلك فيمكن أن يصاغ العقد على صورة السلم بأن يتم الاتفاق على أن يأتي الصانع بعين موصوفة بصفات كذا خلال أجل محدد، وحينئذ يشترط منه شروط السلم – كما سبق - (2) .
4- خيار الوصف للمستصنع، بحيث إذا أكمل الصانع الشيء المراد صنعه وسلمه للمستصنع يكون له الخيار إذا كان غير مطابق للمواصفات، وإلا فهو ملزم بأخذه ودفع الثمن المتفق عليه.
5- عدم بطلان الاستصناع بموت أحد الطرفين ما دام التنفيذ ممكنًا بل الورثة يحلون محلهما إلا إذا نص في العقد خلاف ذلك.
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/2679
(2) جاء في البدائع: 6/2680 (أنه لو اشتري من مكان آخر، وسلم إليه جاز) .(7/833)
وذلك لأن الحنفية قاسوا الاستصناع في بطلانه بموت الصانع على الإجارة، وهذا القياس يمكن الرد عليه بعدة وجوه:
أولا: إن بطلان الإجارة بموت المستأجر مسألة ليس متفقًا عليها، بل هي خلافية حيث ذهب مالك والشافعي، وأحمد، وإسحاق وأبو ثور، وابن المنذر إلى أن الإجارة لا تبطل بموت العاقدين، ولا بموت أحدهما (1) فالجمهور على خلاف ما ذهب إليه الحنفية، ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة هذين الرأيين ولكن رأي الجمهور له أدلته التي تنهض حجة عليه) ومن هنا فما المانع من القول بعدم بطلان الاستصناع بموت العاقدين أو أحدهما، ولا سيما في وقتنا الحاضر الذي أصبحت للمصانع شخصية معنوية اعتبارية دائمة مستمرة ببقاء الشركة والمصنع، وأن الأشخاص بذواتهم ليس لهم أثر في شخصية الشركة – كما هو معروف -.
ثانيا: إن هذا القياس مع الفارق، وذلك لأن المعقود عليه في الإجارة هو العمل فقط، بينما المعقود عليه في الاستصناع هو العين والعمل معًا – كما سبق – وحتى الحنفية أثبتوا أحكامًا للاستصناع لا توجد للإجارة مثل خيار الرؤية، وعدم اللزوم ونحوهما.
6- إن حق المستصنع لا يتعلق بشيء معين، وإنما المطلوب من الصانع هو الإتيان بالشيء المستصنع في زمنه المحدد له، ولذلك لو قام الصانع بصنعه قبل الأجل المحدد له، وباعه لآخر لا يضر ما دام قادرًا على الإتيان بمثله في الزمن المحدد في العقد، وذلك لأن عقد الاستصناع يقتضي أداء الشيء المستصنع في الزمن المحدد له، ولا يقتضي تحدد المصنوع بعينه وذاته، فذمة الصانع مشغولة بصنع الشيء المطلوب منه صنعه بمواصفاته في الوقت الذي اتفق عليه الطرفان، وبعبارة أخرى أن ما في الذمة لا يتعين حتى بالتعيين ولذلك حتى لو نوى بصنعه أن هذا الشيء يصنع لفلان، لا تمنعه هذه النية، من بيعه لآخر ما دام قادرًا على صنع مثله وتسليمه للمستصنع في الوقت المحدد له.
__________
(1) يراجع القوانين الفقهية لابن جزي، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت: ص276؛ وروضة الطالبين، للنووي، طبعة المكتب الإسلامي: 5/245؛ والمغني، لابن قدامة: 5/467- 468.(7/834)
عقد الاستصناع بين اللزوم والجواز:
ولا شك أن الحنفية (وهم الذين أجازوا عقد الاستصناع بمعناه الخاص) لهم تفصيل في لزوم هذا العقد حسب مراحله:
المرحلة الأولى: بعد صدور الإيجاب والقبول من الطرفين، وقبل بدء العمل، فالعقد فيها غير لازم باتفاق الحنفية، يقول: (وأما صفة الاستصناع فهي وأنه عقد غير لازم قبل العمل في الجانبين جميعًا بلا خلاف حتى كان لكل واحد منهما خيار الامتناع قبل العمل كالبيع المشروط فيه الخيار للمتبايعين ... لأن القياس يقتضي أن لا يجوز، لما قلنا، وإنما عرفنا جوازه استحسانًا لتعامل الناس، فبقي اللزوم على أصل القياس) (1) .
المرحلة الثانية: هي بعد إجراء العقد، وبعد الفراغ من العمل لكن قبل أن يراه المستصنع، ففي هذه الحالة أيضًا غير لازم (حتى كان للصانع أن يبيعه ممن يشاء، كذا ذكر في الأصل، لأن العقد ما وقع على عين المعمول، بل على مثله في الذمة) قال الكاساني: (لما ذكرنا أنه لو اشترى من مكان آخر وسلم إليه جاز، ولو باعه الصانع، وأراد المستصنع أن ينقض البيع ليس له ذلك، ولو استهلكه قبل الرؤية فهو كالبائع إذا استهلك المبيع قبل التسليم، كذا قال أبو يوسف) (2) .
المرحلة الثالثة: هي ما إذا أكمل الصانع الشيء الذي طلب صنعه، وأحضره أمام المستصنع، أو وكيله، وحينئذ إما أن يكون المصنوع مطابقًا للمواصفات التي طلبت في العقد أم لا.
فإن لم يكن مطابقًا للمواصفات المطلوبة فإن العقد لم ينفذ بعد، حيث يحق له المطالبة بالتنفيذ على ضوء شروط العقد، وأما إذا كان فيه عيب يضر بالقيمة في عرف التجار، فإن المستصنع بالخيار (3) وقد نصت المادة (392) من مجلة الحكام العدلية على أنه: إذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة ... كان المستصنع مخيَّرًا) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/2680.
(2) بدائع الصنائع: 6/2680.
(3) يراجع في تفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود: ص 801 وما بعدها(7/835)
والذي نرى رجحانه هو الفرق بين إتمام المصنوع ووجود عيب فيه حيث يكون له الخيار، وبين عدم إتمامه على صورته المطلوبة أبدًا حيث يطالب بتنفيذه، أو بعبارة الفقهاء: فوات الجنس، وفات الوصف حيث يؤدي فوات الجنس إلى بطلان العقد أو فساده، بينما يؤدي فوات الوصف إلى حق الخيار (1) .
وإن كان مطابقًا للشروط والمواصفات المطلوبة في العقد فقد سقط خيار الصانع، وللمستصنع الخيار، هذا على ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
وروي عن أبي حنيفة أن لكل واحد منهما الخيار.
وروي عن أبي يوسف أنه لا خيار لهما (2) .
وقد ذكر الكاساني أدلة كل رأي فقال في وجه استدلال الرأي الأول: (بسقوط حق الصانع في الخيار بعد إكمال المصنوع وعرضه على المستصنع: بأن الصانع بائع ما لم يره فلا خيار له، ثم ذكر السبب في عدم سقوط حق المستصنع في الخيار: بأن المستصنع مشتر ما لم يره فكان له الخيار، قال الكاساني: (وإنما كان كذلك، لأن المعقود عليه وإن كان معدومًا حقيقة فقد ألحق بالموجود ليمكن القول بجواز العقد، لأن الخيار كان ثابتًا لهما قبل الإحضار لما ذكرنا أن العقد غير لازم، فالصانع بالإحضار أسقط خيار نفسه فبقي خيار صاحبه على حالة كالبيع الذي فيه شرط الخيار للعاقدين إذا أسقط أحدهما خياره أنه يبقى خيار الآخر، كذا هذا) (3) .
واستدل الرأي الثاني بأن في تخيير واحد منهما دفع الضرر عنه، وأنه واجب (4) .
واستدل الرأي الأخير بأن الصانع قد أفسد متاعه وقطع جلده وجاء بالعمل على الصفة المشروطة، فلو كان للمستصنع حق الامتناع من أخذه لكان فيه إضرار بالصانع، بخلاف ما إذا قطع الجلد ولم يعمل فقال المستصنع: (لا أريد، لأنا لا ندري أن العمل يقع على الصفة المشروطة أولا، فلم يكن الامتناع منه إضرار بصاحبه فثبت الخيار، وأما الدليل على أن الصانع ليس له الخيار فهو الدليل الذي ذكرناه للرأي الأول (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/2680.
(2) بدائع الصنائع: 6/2680.
(3) بدائع الصنائع: 6/2680.
(4) بدائع الصنائع: 6/2680.
(5) بدائع الصنائع: 6/2680(7/836)
تصوير المحيط البرهاني للمذهب الحنفي:
هذا الذي ذكرناه هو ما بينه الكاساني في تصوير المذهب الحنفي، حيث ذكر أن الخلاف في اللزوم وعدمه إنما هو في المرحلة الثالثة عندما يكتمل المصنوع ويعرض على المستصنع ...
لكن المحيط البرهاني صور المسألة عند الحنفية على أن الخلاف وارد في أصل العقد نفسه من حيث اللزوم والجواز، أو بعبارة أخرى ذكر لنا أن بعض الحنفية يرون لزوم العقد بمجرد الانعقاد، وحينئذ يُجبر الصانع على العمل، والمستصنع على أخذه إذا كان موافقًا للشروط والمواصفات، ولننقل نص عبارته حيث قال: (قلنا: الروايات في لزوم الاستصناع وعدم اللزوم مختلفة) ثم ذكر الروايات إلى أن قال ( ... ثم رجع أبو يوسف عن هذا وقال: لا خيار لواحد منهما، بل يجبر الصانع على العمل، ويجبر المستصنع على القبول، وجه ما روي عن أبي يوسف أنه يجبر كل واحد منهما، أما الصانع فلأنه ضمن العمل فيجبر على العمل، وأما المستصنع فلأنه لو لم يجبر على القبول يتضرر به الصانع، لأنه عسى لا يشتريه غيره أصلًا، أو لا يشتري بذلك القدر من الثمن فيجبر على القبول دفعًا للضرر عن الصانع) (1) .
وهذا الذي ذكره أبو يوسف وفصله المحيط البرهاني هو الموافق لمقتضى العقود، والقواعد العامة في هذه الشريعة من نفي الضرر والضرار ورعاية مصالح العاقدين.
__________
(1) المحيط البرهاني، مخطوطة مكتبة الأوقاف العامة: ج 20 ورقة 575 – 576.(7/837)
ولذلك أخذت مجلة الأحكام العدلية بهذه الرواية عن أبي يوسف ونصت في مادتها 392 على أنه: (إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيَّرًا) .
ويبدون أن المجلة أخذت لزوم العقد من هذا الكتاب وغيره من كتب الحنفية التي صورت الخلاف بهذا الشكل الأخير، وذكرت رأي أبي يوسف الأخير الذي رَجَعَ إليه، ولا أعتقد أن ما قام به ابن عابدين من تفصيل وتحرير للخلاف يرفع الخلاف الذي ذكره المحيط البرهاني، وغيره، حيث وصل ابن عابدين إلى أنه لا خلاف في المذهب الحنفي في عدم لزوم عقد الاستصناع (جبر فيه إلا إذا كان مؤجلًا بشهر فأكثر فيصير سلمًا، وهو عقد لازم يجبر عليه ولا خيار فيه، وبه علم أن قول المصنف: فيجبر الصانع على عمله.. إنما هو فيما إذا صار سلمًا) ثم قال: (فظهر أن قول الدرر تبعًا لخزانة المفتي أن الصانع يجبر على عمله، والأمر لا يرجع عنه سهو ظاهر) (1) .
وهذا التحرير الذي قام به ابن عابدين اجتهاد منه في فهم نصوص علماء المذهب الحنفي، وحينئذ يمكن اعتباره طريقة من الطرق – حسب اصطلاح الفقه المذهبي – ولكن لا يمكن اعتباره حسمًا في المسألة، وقضاء على الخلاف الذي ذكره المحيط البرهاني والمبسوط، والدر المختار، وخزانة المعنى، والدرر، وغيرها من الكتب المعتمدة التي صرحت بأن أبا يوسف يقول في روايته الأخيرة بلزوم العقد، ولذلك أخذت بها المجلة، وهي عادة لا تعدل عن ظاهر الرواية إلا نادرًا ولحجج قوية، وعلماء المجلة من محققي المذهب الحنفي، وهم اطَّلعوا على ما قاله ابن عابدين، ومع ذلك لم يولوا له عنايتهم، بل أخذوا بلزوم العقد أخذًا برواية أبي يوسف.
وقد قال صاحب الهداية (وهو من كبار محققي الحنفية) : (وعن أبي يوسف: أنه لا خيار لهما ... أما الصانع فلما ذكرنا، وأما المستصنع فلأن في إثبات الخيار له أضرارًا بالصانع، لأنه ربما لا يشتريه غيره بمثله ... ) وقال صاحب العناية: 0 والصحيح أنه بيع لا عدة، وهو مذهب عامة مشايخنا) ثم نقل أيضا هو الآخر رواية أبي يوسف في أنه لا خيار لهما، ولو كانت هذه الرواية غير ثابتة، أو أن المرغيناني فهمها على غير حقيقتها لعلق عليها) (2) بالشيء المستصنع في الزمن المحدد له، ولذلك لو صنع الصانع قبل وقته، ثم باعه لآخر، لا يضر ما دام قادرًا على الإتيان بمثله في الأصل المحدد وذلك لأن العين المستصنعة ليست معينة بذاتها، وإنما ذمته مشغولة بصنع المطلوب في وقته.
__________
(1) الهداية – مع شرح فتح القدير – طبعة مصطفى الحلبي: 7/116
(2) شرح العناية بهامش فتح القدير: 7/116(7/838)
الترجيح:
والذي يظهر لنا رجحانه هو القول بأن عقد الاستصناع عقد لازم – كما هو رواية عن أبي يوسف – لأن النصوص الشرعية دالة بوضوح على وجوب الوفاء بالعقود والعهود والالتزامات من قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) .
وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (2) .
وكذلك تدل أحاديث كثيرة على ذلك منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: " المسلمون عند شروطهم " (3) ، بل إن النصوص الشرعية تدل بوضوح على حرمة مخالفة الوعد ناهيك عن العقد، ولا نسلم التوسع في دائرة الفصل بين القضاء، والديانة، ولا سيما في نطاق الأمور المالية التي يترتب على مخالفتها أضرار بالغير، وذلك لأن المفروض من القضاء في الإسلام أن يحمي أوامر الشريعة ونواهيها بقدر ما يمكن أن يتحكم فيه القضاء، تاركًا الأمور القصدية والباطنية لله تعالى بناء على القاعدة الفقهية القاضية بأن علينا الظواهر، والله يتولى السرائر (4) .
وقد ذكر الإمام البخاري بعض أقضية السلف في وجوب الوفاء بالوعود والشروط فقال: قال ابن عوف عن ابن سيرين قال لكريه: (ادخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا، فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه، وقال أيوب عن ابن سيرين: أن رجلًا باع طعامًا، قال: عن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجيء، فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه) (5) وذكر الحافظ ابن حجر أن هذين الأثرين وصلهما سعيد بن منصور، ثم قال: (وحاصله أن شُريحًا في المسألتين قضى على المشترط بما اشترطه على نفسه بغير إكراه..) (6)
وهذه الآثار تدل أيضًا على مشروعية ما يسمى في وقتنا الحاضر بالشرط الجزائي سواء كان في الاستصناع أو في غيره، والذي يَهُمُّنَا هنا في الاستصناع.
__________
(1) [سورة المائدة: الآية 1] .
(2) [سورة الإسراء: الآية 34] .
(3) رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح – كتاب الإجارة (4/451) .
(4) وقد أقمنا الأدلة على ذلك بالتفصيل في رسالتنا الدكتوراه: مبدأ الرضا في العقود، ط. دار البشائر (2/1031- 1037) .
(5) صحيح البخاري – مع فتح الباري، كتاب الشروط، " السلفية (5/354) .
(6) صحيح البخاري – مع فتح الباري، كتاب الشروط، " السلفية (5/354) .(7/839)
ومن جانب آخر إن القول بعدم لزوم الاستصناع يؤدي إلى أضرار كبيرة للطرفين، بل إنه في الواقع إذا لم يكن عقدًا لازمًا لا يمكن الإفادة منه، لأنه بإمكان أي واحد التخلص من آثار العقد، بل قد يؤدي إلى أضرار كبيرة بالطرفين، فقد يقدم الصانع على صنع الشيء الذي طلب منه وحينما يفرغ منه على ضوء المواصفات التي طلب منه المستصنع، يأتي الأخير ويقول له: لا أريده، وحينئذ ماذا يفعل به فقد لا يقبل آخر بالشيء المستصنع على ضوء مواصفاته الحالية وهذا توريط كبير منه إلى الصانع، فيتضرر به ضررًا كبيرًا، وقد يتضرر به المستصنع حيث ينتظر فترة شهر – أو أكثر على الأقل – ليكمل له الصانع الشيء المطلوب صنعه، فلو كان بالخيار، وباع الصانع المصنوع ماذا يفعل المستصنع؟ فهذه الأضرار لا أعتقد أن الشريعة تقبلها، وهي – كما يقول ابن القيم – مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وهي الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث ... فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل (1) .
ومع أن الوعود ليست ملزمة قضاء في نظر جمهور العلماء إلا أن جماعة منهم المالكية جعلوا الوعد ملزمًا إذا ترتب عليه أضرار بسببه، قال سحنون: (الذي يلزم من الدعوة قوله: أهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنى به، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، وقال: أصبغ: يقضي عليك به تزوج الموعود أم لا ... ) (2) هذا في الوعد فما ظنك في عقد يتوفر فيه الأركان والشروط، ويترتب على الإخلال به أضرار كثيرة فردية – كما ذكرنا – وجماعية من خلال أنه لو لم يكن الاستصناع ملزمًا لما استفاد منه العاقدان على الرغم من أهمية هذا العقد في التنمية والتصنيع.
ومن جانب آخر أن عقد الاستصناع له شبه بمجموعة من العقود، وكلها عقود ملزمة، وهي السلم، والبيع، والإجارة، كما أن المعقود عليه في الاستصناع هو العمل والعين الموصوفة في الذمة وكل واحد منهما لو أصبح وحده محلًّا للعقد كان عقدًا لازمًا، فكذلك العقد الوارد عليهما معًا، فالعقد الذي محله العمل هو الإجارة، وهو ملزم، وكذلك العقد الوارد على العين الموصوفة – وهو السلم – ملزم، فيكون من الطبيعي المركب من اللزوم ملزمًا.
__________
(1) أعلام الموقعين، ط. شفرون (3/3) .
(2) الفروق للقرافي (4/24- 25) ط. دار المعرفة بيروت.(7/840)
الشرط الجزائي في عقد الاستصناع:
لا أريد الخوض في هذا الموضوع بصورة مفصلة، ولكن الذي أريد أن أذكره هنا هو أن الشرط الجزائي مقبول من حيث المبدأ، ولكن لا يترتب عليه من الضمان والتعويض إلا بقدر إحداث الضرر، فمثلًا لو خالف أحد العاقدين شروط العقد في المضاربة، أو الاستصناع، ورتب على ذلك إحداث ضرر فإن هذا الضرر لا يلحق العاقد الآخر، وإنما يكون على المتسبب في الضرر، وكذلك لو اشترط أحد العاقدين فرض غرامة مالية على الآخر في عقد الاستصناع إن تأخر الصانع في إكمال المال المستصنع في وقته، أو تأخر المستصنع في دفع المال إليه، وترتب على التأخير ضرر فإن المتضرر الحق في التعويض بقدر ضرره (1) ، وقد ذكرناه فيما سبق مستندًا لمبدأ الشرط الجزائي، يقول الأستاذ الجليل الزرقاء: (في أواخر العهد العثماني اتسعت في الدولة التجارة الخارجية مع أوروبا، وتطورت أساليب التجارة الداخلية، والصنائع، وتولدت في العصر الحديث أنواع من الحقوق لم تكن معهودة ... واتسعت مجالات عقود الاستصناع في التعامل بطريق الإيصاء على المصنوعات مع المعامل والمصانع الأجنبية ... وقد ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه.. ومثل هذا الشرط يسمَّى في اصطلاح الفقه الأجنبي: " الشرط الجزائي " (2) .
فعلى ضوء ذلك لا مانع من اقتران الشرط الجزائي بعقد الاستصناع، وحينئذ يلتزم به الطرفان، ويكون التعويض عند الإخلال بقدر الضرر وآثاره، ويرجع في ذلك إلى أهل الخبرة، أو إلى القاضي عند النزاع.
الظروف القاهرة:
إذا طرأت بعد انعقاد عقد الاستصناع ظروف قاهرة تحول دون تنفيذه فإنه على القول بلزومه تكون مقبولة، مثل حدوث حرب منعت الصانع من استيراد المادة الخام ولا توجد في البلاد – مثلا- ومثل أن شَبَّ حريق في المصنع أتى على كل ما فيه، فمثل هذه الطوارئ – سواء كانت مكتسبة من الغير أو سماوية – تعطي العذر للصانع، وتجعل المستصنع بالخيار بين الانتظار، أو فسخ العقد (3) وذلك لأن هذه الشريعة تقوم تكاليفها التشريعية على القدرة والاستطاعة {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (4) ، وأنه: ((لا ضرر ولا ضرار)) (5) .
__________
(1) يراجع في تفصيل ذلك: عبد المحسن الرويشد: الشرط الجزائي في العقود، رسالة دكتوراه بحقوق القاهرة، عام 1404هـ، وكاسب عبد الكريم: المرجع السابق ص (212) .
(2) المدخل الفقهي العام فقرة 386.
(3) يراجع: د. العطار: نظرية الالتزام ص 262، وكاسب عبد الكريم: المرجع السابق، ص211 ومصادرهما
(4) [سورة البقرة: الآية 286] .
(5) وهو حديث ثابت رواه أحمد في مسنده 1/313، 327، ومالك في الموطأ ص664، وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام 2/784.(7/841)
أهمية عقد الاستصناع في عصرنا الحاضر، وتطبيقاته المعاصرة:
إن لعقد الاستصناع أهمية بالغة من عدة جوانب:
الجانب الأول: أنه عقد فيه تيسير كبير على المسلمين، وذلك لأنه لا يشترط فيه تسليم الثمن، ولا المثمن، فهو تغطية كاملة لجانبين مهمين هما: عقد السلم الذي لا يشترط فيه وجود السلم فيه، ولكن يجب تسليم الثمن في المجلس عند الجمهور، وفي ثلاثة أيام عند المالكية وعقد بيع الأجل الذي لا يشترط فيه تسليم الثمن، ولكن لابد من وجود المثمن (المبيع) وتسليمه إلى المشتري، فأبح الإسلام عقد الاستصناع الذي هو في واقعة وارد على الذمة من حيث العين والعمل – كما سبق -.
وبذلك اكتملت جميع الجوانب الثلاثة، وغطيت الحاجة الأساسية للمجتمع المسلم الذي يحتاج كثيرًا إلى هذه العقود الثلاثة.
الجانب الثاني: أن عقد الاستصناع له دور بارز في تطوير المصانع وتنمية المجتمع، وتطويره، وكان له دور في المجتمعات السابقة، ودوره اليوم أكثر، نظرًا لحاجة المصانع إلى الأموال، وإلى التشغيل، فكثير من المصانع ليس لها من السيولة ما يكفي لتطويرها كما أنها قد تخاف من صنع مواد لا يشتريها الناس، وحينئذ تكسد بضائعها ومصنوعاتها، فتخسر، وقد يؤدى ذلك إلى غلقها وإفلاسها، ولكن يباح لها من التعاقد على المصنوعات، وتضمن لنفسها قبل البدء مشترين وزبائن تقدم على التصنيع وهي مطمئنة من عدم الخسارة، بل من الربح، وهكذا وبذلك تنمو المصانع وتكثر المصنوعات، بل وقد ترخص نتيجة لذلك وللتنافس.
وأما تطبيقاته المعاصرة فهي كثيرة حيث يمكن تطبيقه على كل ما دخلت فيه الصناعة، فهي تشمل جميع الصناعات التي يقوم بصنعها المصانع، أو الصناع، من الطائرات والصواريخ، إلى صنع الأحذية والأثواب ونحوها، وهي تشمل أيضا بناء العقارات، وتصنيع المباني الجاهزة وغيرها، إذا توفرت الشروط السابقة، بل أن المصنوعات أسهل في تطبيق الاستصناع عليه نظرًا إلى أن المصانع اليوم آلية لا تختلف مصنوعاتها بعضها عن بعض، فهي قادرة على الضبط الدقيق، والمثلية الكاملة بدقة متناهية، بينما كانت الصناعات في السابق كلها يدوية قد توجد الصعوبة في التحكم في المثلية.
كذلك يمكن تطبيق عقد الاستصناع للتمويل في جميع المشاريع الصناعية، وهذا هو مجال واسع للبنوك الإسلامية بأن تقوم بتمويل هذه المشاريع الصناعية على أساس عقد الاستصناع، وكذلك مشاريع البناء ونحوها مما فيه صناعة.(7/842)
الخلاصة
يتلخص هذا البحث في أن عقد الاستصناع عقد مستقل محله العمل، والعين الموصوفة في الذمة، ولذلك له شروطه الخاصة ومقوماته وخصائصه وآثاره، وأن من أهم آثاره التي رجحناها هي: ثبوت الملك للمستصنع في الشيء المستصنع، وثبوت الملك في الثمن المتفق عليه، ولزوم قيام الصانع بعمله في العين حسب الاتفاق، ولزوم دفع الثمن من قبل المستصنع، وثبات خيار الوصف، وعدم بطلان الاستصناع بموت أحدهما – حسب ترجيحنا – وأن حق المستصنع لا يتعلق بشيء معين، وإنما المطلوب من الصانع أن يصنع له المطلوب حسب المواصفات والشروط.
وقد انتهى البحث كذلك إلى لزوم عقد الاستصناع للطرفين، وعدم جواز الفسخ إلا في حالات الظروف الطارئة، أو بموافقة الطرفين.
وقد استعرض البحث المراحل الثلاث لعقد الاستصناع، كما استعرض المذهب الحنفي على ضوء ما ذكره الكاساني، وعلى ضوء ما ذكره المحيط البرهاني، وكذلك ما ذكره ابن عابدين فوجد أن حكم ابن عابدين على حصر طرق المذهب الحنفي في عدم اللزوم اجتهاد خاص به لا يلزم غيره من العلماء الأعلام أمثال المرغيناني والسرخسي، والبرهاني وغيرهم.
ووصل البحث إلى أن الصانع إذا أكمل المصنوع على المواصفات المطلوبة فإنه يلزم المستصنع أن يأخذه ويدفع ثمنه المتفق عليه، وأما إذا كان فيه خلل، أو عيب فإن المستصنع بالخيار كما تناول البحث موضوع الحرية التعاقدية، ومدى الالتزام بالوعود وموضوع الشرط الجزائي، والظروف القاهرة (1) .
وختامًا هذا جهد متواضع، وعمل أردنا به وجه الله تعالى فإن كنت موفقا فيه فذلك بفضل الله تعالى، وإلا فالتقصير يعود إلي، لكن الله هو الغفور الرحيم وهو الهادي إلى الصراط المستقيم.
والله أسال أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا من الخطأ في القول والعمل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور على محيى الدين القره داغي
__________
(1) وهو حديث ثابت رواه أحمد في مسنده (1/313، 327) ومالك في الموطأ ص (664) وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام (2/784) .(7/843)
ملحق بالبحث:
نموذج من عقد الاستصناع المعمول به في
بنك قطر الدولي الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
عقد استصناع
في يوم الموافق / / قد تحرر هذا العقد.
بين كل من:
بنك قطر الدولي الإسلامي (ش. م. ق) ومركزه الرئيسي بشارع الكهرباء بالدوحة قطر ويمثله في التوقيع على هذا العقد
السيد /.......................................
طرف أول
السيد/...........................................................................
وعنوانه:.........................................................................
طرف ثان
أقر الطرفان بصفتهما وأهليتهما الكاملة للتعاقد واتفقا على ما يلي:
تمهيد
تقدم الطرف الثاني إلى الطرف الأول بطلب يعلن فيه عن رغبته في أن يقوم الأخير بتنفيذ مشروع بناء لحسابه على قطعة الأرض التي يملكها على مساحة متر مربع بموجب سند الملكية رقم.
كما قدم الطرف الثاني إلى الطرف الأول رخصة البناء والتصاميم والمخططات والرسومات والمواصفات الهندسية وجداول الكميات والشروط العامة والخاصة للمشروع والتي تم إعدادها من قبل المكتب الهندسي.................................................
وقد وافق الطرف الأول على طلب الطرف الثاني وتحرر بين الطرفين هذا العقد وفقا للبنود التالية:(7/844)
البند الأول
يعتبر التمهيد السابق والطلب المقدم من الطرف الثاني المؤرخ وكذلك رخصة البناء والتصاميم والمخططات والرسومات والمواصفات الهندسية وجداول الكميات المرافقة للطلب المذكور والمعتمدة من الطرف الثاني جزءًا من هذا العقد ومتممًا له.
البند الثاني
اتفق الطرفان على أن يقوم الطرف الأول بكافة الأعمال اللازمة لإنشاء المشروع وتسليمه صالحًا للاستعمال وأن يلتزم بتنفيذ جميع الأعمال وفقًا للتصاميم والمخططات والرسومات والمواصفات الهندسية وجداول الكميات المقدمة من الطرف الثاني ووفقا للشروط العامة وكذلك الشروط الخاصة المبينة في هذا العقد.
البند الثالث
قيمة هذا العقد مبلغ ريال ويلتزم الطرف الثاني بدفعة للطرف الأول على () قسطًا شهريًا قيمة كل قسط
ريال يستحق القسط الأول بعد....................... من تاريخ هذا العقد ويخضع سريان هذا العقد لإجراء الرهن من الدرجة الأولى لصالح الطرف الأول (البنك) على العقار رقم والذي يمثل أرض المشروع وما عليها من مشتملات ومباني.
البند الرابع
يلتزم الطرف الأول بتنفيذ جميع الأعمال اللازمة لتشييد المشروع خلال مدة أقصاها........................ شهرًا تبدأ من تاريخ تسليم الموقع ويتعهد بتسليم المشروع صالحًا للاستعمال في نهاية المدة المحددة.
البند الخامس
قام الطرف الثاني بتعيين المكتب الاستشاري............................ ليكون وكيلًا عنه في الإشراف على تنفيذ مراحل المشروع المختلفة وتسلم المشروع بعد إتمام التنفيذ بالكامل ووافق الطرف الأول على ذلك المكتب ويقوم هذا الوكيل بالإشراف على جميع أعمال المشروع ومراحل التنفيذ المختلفة والتأكد من أن الأعمال المنجزة نفذت طبقًا للمواصفات المطلوبة والشروط المتفق عليها وأن يقوم كذلك بإعداد شهادات الإنجاز وأن توقيعه عليها كوكيل عن الطرف الثاني بمثابة شهادة من الطرف الثاني بتسلم الأعمال المنجزة وقبوله لها وإقرار منه بأنها نفذت وفقًا للمواصفات المطلوبة والشروط المتفق عليها.(7/845)
البند السادس
يعتبر المشروع مستلمًا من قبل الطرف الثاني بمجرد إصدار شهادة إتمام البناء الابتدائية من قبل المكتب الاستشاري المعتمد حيث تعتبر شهادة إتمام البناء الابتدائية الصادرة عن المكتب الاستشاري بمثابة تسلم ابتدائي من وكيل الطرف الثاني.
البند السابع
يحق للطرف الأول التعاقد مع إحدى شركات المقاولات لتنفيذ المشروع حسب الشروط والمواصفات المتفق عليها مع الطرف الثاني كما يحق للطرف الأول في حالة مخالفة شركة المقاولات للشروط المتفق عليها وعدم الوصول إلى اتفاق لحل الخلاف مما يؤثر على سير العمل، استبدالها والتعاقد مع شركة أو شركات أخرى لإكمال تنفيذ المشروع.
البند الثامن
يقبل الطرف الثاني قبولًا غير قابل للنقض أو الإلغاء ضمان تنفيذ جميع الأعمال بالمشروع من الطرف الأول أو من الجهة التي يتعاقد معها الطرف الأول لتنفيذ المشروع وتقبل تقديم هذا الضمان وحيث إن........................................ قد ضمنت المشروع للطرف الأول أو لأى طرف آخر يقبل هذا الضمان فإن الطرف الأول يجعل هذا الضمان لصالح الطرف الثاني وبناءً على هذا فإن الطرف الثاني يتنازل عن حقه في الرجوع على الطرف الأول في أية مطالبة أو ادعاء قد ينشأ مستقبلًا بعد تسليم المشروع نتيجة سوء تنفيذ شركة المقاولات أو لأي سبب آخر، ويلتزم الطرف الثاني بناء على ذلك بالرجوع على شركة المقاولات في أية مطالبة أو ادعاء.
البند التاسع
في حالة تأخر الطرف الأول أو من يتعاقد معه عن إتمام تنفيذ المشروع في الموعد المحدد فإنه يتحمل جميع الأضرار التي تنتج عن هذا التأخير ما لم يكن هناك أسباب قهرية لم يتسبب فيها الطرف الأول وتكون خارجة عن إرادته.(7/846)
البند العاشر
في حالة وجود أية أعمال إضافية أو تعديلات يقترح الطرف الثاني أو المكتب الاستشاري أو كلاهما معًا ضرورة إدخالها مما قد يؤثر على شروط وقيمة هذا العقد، فإن على الطرف الثاني مراجعة الطرف الأول والاتفاق على تعديل العقد أو أخذ موافقته على التعديل المقترح قبل تنفيذ أية أعمال خلاف الأعمال المعتمدة سواءً كان ذلك بالزيادة أو النقصان. كما أن عليه تزويد الطرف الأول بموافقة المكتب الاستشاري على التعديلات المطلوبة وتعديل المخططات والتصاميم والمواصفات تبعًا لذلك.
البند الحادي عشر
في حالة توقيع هذا العقد من قبل أكثر من شخص واحد بصفة طرف ثان، يكون جميع الموقعين مسئولين وضامنين متضامنين، منفردين أو مجتمعين، تجاه الطرف الأول عن تسديد المبالغ المطلوبة بموجب هذا العقد.
البند الثاني عشر
ما لم ينص على خلاف ذلك في العقد نفسه فإن الأحكام والشروط الواردة في الشروط العامة للتعاقد والصادرة من وزارة الأشغال العامة بدولة قطر تسود على أحكام أي مستند آخر يمثل جزءًا من العقد.
البند الثالث عشر
(أ) يتم الفصل في النزاع على أساس الشريعة الإسلامية.
(ب) أي خلاف ناشىء عن تطبيق أحكام هذا العقد و / أو متعلق به، يعرض على لجنة تحكيم تشكل من ثلاثة أعضاء ويكون حكمهم، سواء صدر بالإجماع أم بالأغلبية، ملزمًا للطرفين، وغير قابل للطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن الجائز قانونًا وتمثل اللجنة على الوجه التالي:
1- حكم يختاره الفريق الأول.
2- حكم يختاره الفريق الثاني.
3- حكم يختاره المحكمان الأولان.
وفي حالة عدم توافر الأغلبية، يحال الخلاف موضوع التحكيم إلى المحاكم القطرية، وتكون هي المختصة دون سواها، بالفصل في أية طلبات و / أو قضايا تنشأ بمقتضى التحكيم و/ أو ناشئة و/ أو متعلقة به و/ أو بهذا العقد.
البند الرابع عشر
تسري أحكام القانون القطري، والقوانين والأنظمة المرعية على هذا العقد فيما عدا ما نص عليه من اتفاق بين الطرفين وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
البند الخامس عشر
حرر هذا العقد من نسختين أصليتين موقعتين من قبل الطرفين بإرادة حرة خالية من العيوب الشرعية والقانونية بتاريخ / / 199م ويسقط الطرف الثاني حقه في الادعاء بكذب الإقرار و/ أو أي دفع شكلي و/ أو موضوعي، ضد ما جاء في هذا العقد.
الطرف الثاني الطرف الأول(7/847)
عقد الاستصناع
إعداد
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
محكمة التمييز - الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
توطئة:
يمثل عقد الاستصناع في فقه الحنفية مكانة بارزة ويشغل جانبًا من اهتمام فقهائهم لذا لا نجد مؤلفا في هذا الفقه إلا ويبرز الكتابة في عقد الاستصناع اهتمامًا بشأنه ولما يقدم هذا العقد من حلول عملية للمشكلة الاقتصادية التيى تتطلب مزيدًا من التيسير وعدم الحرج على أرباب الصنائع والأموال على خلاف المذاهب الفقية الأخرى التي ربطت عقد الاستصناع بعقد السلم وفيه ما فيه من قيود على حركة التعامل إذ أن إخضاع عقد الاستصناع لعقد السلم يوجب بادئ ذي بدء تسليم رأس مال عقد السلم أو ثمن المبيع حال إنشاء العقد وقبل التفرق من مجلس العقد كالشافعية والحنابلة وبعضهم رخص في تراخي تسليم رأس المال كالمالكية لمدة معلومة وهو وإن كان أخف من سابقه إلا أنه لا يعطي حلولًا عملية أو تيسيرًا ملحوظًا للمتعاملين كما نجده في الفقه الحنفي.
هذا فضلًا عن أن بعض المذاهب الفقهية كالشافعية لم يجيزوا السلم في أمور كثيرة وصلها بعضهم إلى ثلاثين شيئًا. (1) .
ولما رأى أئمة المذاهب الثلاثة هذا العسر والعوائق أمام أنشطة رجال المال وأرباب الأعمال والصنائع إذا ما تقيدوا بعقد السلم وما يحمله هذا العقد في طياته من شروط صعبة في المجال العملي ويشكل تعويقًا لأعمال أهل التجارة والصناعة على السواء. قالوا: لا مانع من أن يبتاع المادة التي يريدها ويستأجر على صنعها، قال الشافعي رحمه اله بعد أن ذكر الأمور التي يصح فيها السلم وشروطها ثم ذكر ما لا يجوز فيه السلم، قال: "وإنما يجوز في هذا أن يبتاع النعلين والشراكين ويستأجر على الحذو وعلى خراز الخفين، ولا بأس أن يبتاع منه صحافًا أو قداحًا من نحو معروف وبصفة معروفة ومقدر معروف من الكبر والصغر والعمق والضيق ويشترط أي عمل (2) .
وكذلك نرى مثل ذلك في الفقه الحنبلي جاء في المغني واختلف في تفسير الشرطين المنهي عنهما، فروي عن أحمد أنهما شرطان صحيحان ليسا من مصلحة العقد، فحكى ابن المنذر عنه وعن إسحاق فيمن اشترى ثوبًا واشترط على البائع خياطته وقصارته أو طعامًا واشترط طحنه وحمله إن اشترطا أحد هذه الأشياء فالبيع جائز. (3) .
ويورد المالكية خلافًا فيما لو تعاقد المريض والطبيب على أن يداويه مدة معلومة والدواء من الطبيب فقيل: يجوز وقيل: لا يجوز لما فيها من اجتماع الجعل والبيع. وثانيهما: أن يقول له أعاقدك بكذا على علاج هذا المريض حتى يبرأ فإن برئ كان له الجعل وإن لم يبرأ فلا شيء له ويكون الدواء من عند الطبيب فقيل يجوز وقيل لا يجوز لما فيه من الغرر (4) .
وإن كان في هذا المسلك ما يخفف من شدة وطأة شروط عقد السلم وآثاره إلا أننا نرى في الأسلوب الذي نحاه فقهاء الأحناف مرونة وتيسيرًا لا تتحقق في المذاهب الأخرى.
__________
(1) حاشية الشرقاوي على التحرير 2/37.
(2) الأم، للشافعي: 3/131.
(3) 4/202.
(4) الفواكه الدواني: 2/165.(7/848)
عقد الاستصناع في التشريعات الوضعية:
أولًا – مجلة الأحكام العدلية:
نظمت مجلة الأحكام العدلية كثيرًا من المسائل المتعلقة بالمعاملات وذلك تيسيرًا على القضاة كما جاء في تقرير عالي باشا الصدر الأعظم وكان مما تناوله بالتنظيم عقد الاستصناع وذلك في الفصل الرابع من الباب السابع في المواد من 388 – 392 وتناولت أهم مسائله من الكتب المعتمدة في الفقه الحنفي بل أخذت الأوفق من الآراء في المذهب الحنفي لروح العصر، وجاء في ختام التقرير المشار إليه فيما يتعلق بعقد الاستصناع قوله: وعند الإمام الأعظم للمستصنع الرجوع بعد عقد الاستصناع وعند الإمام أبي يوسف رحمه الله أنه إذا وجد المصنوع موافقًا للصفات التي بينت وقت العقد فليس له الرجوع والحال في هذا الزمن قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها المدافع والبواخر ونحوها بالمقاولة وبذلك صار الاستصناع من الأمور الجارية العظيمة فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة وبما أن الاستصناع مستند إلى التعارف ومقيس على السلم المشروع على خلاف القياس بناء على عرف الناس لزم اختيار قول أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذا مراعاة لمصلحة الوقت كما حرر في المادة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة من هذه المجلة.
ثانيًا – في القوانين الوضعية الأخرى:
تناول السنهوري عند كلامه على عقد المقاولة طبقًا لتعريف المادة 646 من التقنين المدني المصري التي عرفت عقد المقاولة بأنها "عقد يتعهد بمتقضاه أحد المتعاقدين أن يصنع شيئًا أو أن يؤدي عملًا لقاء أجر يتعهد به المتعاقد الآخر، فقال: انفصل عقد المقاولة بهذا التعريف عن عقدين آخرين كانا مختلطين به في التقنين المدني القديم، ولا يزالان مختلطين به في التقنين المدني الفرنسي وهما عقد الإيجار وعقد العمل، فقد كان التقنين المدني القديم يجمع بين هذه العقود الثلاثة تحت اسم الإيجار ثم يسمى عقد الإيجار بإجارة الأشياء وعقد العمل بإجارة الأشخاص وعقد المقاولة بإجارة أرباب الصنائع (1) .
__________
(1) الوسيط: ج 7 المجلد الأول ص6.(7/849)
وفي الجزء الخامس من مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني المصري الجديد في العقود المسماة. والعقود الواردة على العمل – وعقود الغرر وعقد الكفالة. قالت عند الكلام على المقاولة والتزام المرافق العامة إن مجرد التغيير الذي تم في عنوان هذا الفصل، وإبدال اسمه القديم ايجار أهل الصنائع باسم جديد هوعقد المقاولة لكاف في الدلالة على مدى التطور الذي لحق هذا العقد وتشعب نواحيه وتعدد أشكاله وصوره العملية في الوقت الحاضر. فقد كان القصد قديمًا من وضع أحكام هذا الفصل هو تنظيم العلاقة القانونية بين مستصنع وصانع يعهد إليه بعمل ما.
ولهذا نجد التقنين المصري – أهلي ومختلط – يتكلم عن عقد الاستصناع وعقد العمل في باب واحد إيجار الأشخاص وأهل الصنائع. (1) .
ومن هذا يظهر أن عقد الاستصناع المعروف في الفقه الحنفي يقرب كثيرًا عقد المقاولة في التقنينات الوضعية الحديثة.
ويقول السنهوري بعد أن استعرض مختلف الآراء في تكييف عقد المقاولة ومقارنته بالعقود الأخرى، قال: ورأي ثالث يذهب إلى أن العقد يكون مقاولة أو بيعًا بحسب نسبة قيمة المادة إلى قيمة العمل، فإن كانت قيمة العمل. تفوق كثيرًا قيمة المادة كالرسام يورد القماش أو الورق الذي يرسم عليه والألوان التي يرسم بها وهذه الخامات أقل بكثير من قيمة عمل الرسام فالعقد مقاولة، أمَّا إذا كانت قيمة المادة تفوق كثيرًا قيمة العمل كما إذا تعهد شخص بتوريد سيارة بعد أن يقوم فيها ببعض إصلاحات طفيفة فالعقد بيع وهذا هو الرأي الذي ذهبنا إليه عند الكلام في البيع ونزيده إيضاحًا فنقول: إن الأمر ظاهر في المثلين المتقدمين حيث تصغر قيمة المادة إلى حد كبير بالنسبة إلى عمل الفنان فتكون تابعة للعمل ويكون العقد مقاولة،
حيث تكبر هذه القيمة إلى حد بعيد بالنسبة إلى العمل في السيارة التي تحتاج إلى إصلاحات طفيفة فيكون العقد بيعًا. ولكن كثيرًا ما يقع أن تكون للمادة قيمة محسوسة إلى جانب قيمة العمل حتى لو كانت أقل قيمة منه وذلك كالخشب الذي يورده النجار لصنع الأثاث والقماش الذي يورده الحائك لصنع الثوب ويصبح العقد في هذه الحالة مزيجًا من بيع ومقاولة سواء كانت قيمة المادة أكبر من قيمة العمل أو أصغر، ويقع البيع على المادة وتسرى أحكامه فيما يتعلق بها وتقع المقاولة على العمل وتنطبق أحكامها عليه (2) .
وهذا الذي أطلق عليه المرحوم السنهوري بأنه مزيج من عقد البيع والمقاولة هو ما نسميه استصناعًا. إذا كانت المادة والصنع من الصانع أما إذا كانت المادة من المستصنع فهو عقد إجارة فحسب إن كان شراء المادة من غير الصانع أو كانت من المستصنع الذي طلب الصنع وعقد بيع وإجارة إن كان شراء المادة من الصانع طبقًا لمذهب غير الحنفية أما عند الأحناف فهو عقد استصناع لاغير.
__________
(1) القانون المدني: 5/655.
(2) الوسيط: ج7 المجلد الأول ص26، 27.(7/850)
ثالثًا – إلى جانب عقد المقاولة في التقنيات الوضعية المدنية والتجارية يبرز في القوانين البحرية عقد بناء السفن وهو لا يختلف في نتيجة عن عقد المقاولة فقد تكون المواد والمهمات اللازمة للبناء من طالب البناء ويقدم المقاول أو شركة البناء الخبرة الفنية واليد العاملة التي تتولى تحويل تلك المواد والمهمات إلى سفينة صالحة للملاحة لقاء أجر وليس لطالب البناء أي إشراف فِعْلِيٍّ على المقاول الذي يقوم ببناء السفينة فهذا العقد هو عقد مقاولة في القانون وهو عقد إجارة في نظر الفقه الإسلامي وقد يقدم الباني العمل والمواد اللازمة للبناء مقابل مبلغ نقدي إجمالي يلتزم بدفعه طالب البناء وهي الصور الغالبة في العصر الحاضر حيث تتخصص في بناء السفن شركات كبرى تتمتع بالكفاءة الفنية العالية والملاءة المالية ويكتفي طالب البناء بتكليف شركة إشراف لتقوم بمراقبة الباني للتأكد من احترامه للشروط والمواصفات الواردة في عقد البناء سواء من حيث كيفية الصنع أو نوعية الأدوات والمواد المستعملة، وقد اختلف في القانون في تكييف هذا العقد هل هو عقد مقاولة أو عقد بيع وإذا كان بيعًا هل هو عقد بيع معلق على شرط أم هو بيع لشيء مستقبل ويرجح رجال القانون بأنه عقد بيع أشياء مستقبلة لأن السفينة وقت التعاقد لم تكن موجودة وقد انصب البيع على شيء مستقبل هي السفينة عند تمام بنائها (1) .
وهو عقد استصناع في الفقه الحنفي وعقد سلم لدى المذاهب الثلاثة الأخرى وستظهر طبيعة هاتين النظريتين عند الكلام على طبيعة العقدين في الدراسة إن شاء الله.
__________
(1) الوسيط في القانون البحري الكويتي، للدكتور إبراهيم مكي: 1/117 – 119. الوسيط شرح القانون البحري الكويتى، للدكتور يوسف صرخوه: 1/116 - 117.(7/851)
بسم الله الرحمن الرحيم
عقد الاستصناع
المحور الأول، ويتناول المباحث الآتية:
1- تعريفه.
2- معناه وهل هو مواعدة أو بيع.
3- دليل مشروعيته.
4- الشروط التي تلحقه أو تفارقه ومدى تأثيرها على حكمه.
5- حكمه.
أولًا – التعريف:
عرف الاستصناع بتعريفين يترتب عليهما بعض الفروق.
أما التعريف الأول فهو عقد على مبيع في الذمة. وأما التعريف الثاني فهو عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل.
والفرق بين التعريفين أن الصانع لو أحضر عينًا كان عملها قبل العقد، ورضي به المستصنع لجاز، ولو كان شرط العمل من نفس العقد لما جاز لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي.
وقد صحح المحققون التعريف الثاني، لأن الاستصناع طلب الصنع فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا وهذا يسمى استصناعًا واختلاف الأسماء دليل اختلاف المعاني في الأصل.
وأما إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد ورضي به المستصنع فإنه يجوز بعقد آخر – لا بعقد الاستصناع – وهي التعاطي بتراضيهما وهو جائز استحسانًا والقياس يقتضي عدم الجواز، لأنه بيع المعدوم، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم، وهذا ليس بسلم لأنه لم يضرب له أجل.
ووجه الاستحسان الإجماع الثابت بالتعامل، فإن الناس في سائر الأعصار قد تعاملوا فيه من غير نكير.(7/852)
ثانيًا – الاستصناع هل هو بيع أو مواعده؟
ذهب فقهاء الأحناف إلى أن الاستصناع بيع فقد عددوا أنواع البيوع وذكروا منها الاستصناع وقالوا في توجيه ذلك:
إن الاستصناع مشتمل على معنى عقدين جائزين، وهو السلم والإجارة، لأن السلم عقد على مبيع في الذمة، والإجارة على استئجار الصانع للعمل، وما اشتمل على معنى عقدين جائزين لا يكون مواعدة، ولأنه بعد الفراغ منه والإرادة إذا كان موافقًا للشروط يكون لازمًا على القول الأوفق والمواعدة لا لزوم فيها. والمعقود عليه هو العين لكن بشرط أن يكون عمل الصانع بعد العقد. وعلى هذا لو تقاول مع نجار على أن يصنع له زورقًا أو سفينة وبين طولها وعرضها وأوصافها اللازمة وقبل النجار انعقد الاستصناع بيعًا لا عدة.
ثالثًا – دليل مشروعيته:
إن المتأمل في أحكام الشريعة الغراء يتبين له أن هناك جملة من الأحكام شرعها البارئ عز وجل تتسم بالعموم ولا تختص ببعض المكلفين دون بعض ولا بحال من الأحوال دون أخرى مثل وجوب الصلوات والصوم والزكاة والحج وتحليل الطيبات وتحريم الخبائث وصحة تصرف الإنسان فيما يملكه قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} .
وقد اصطلح أئمة الفقه والأصول على إطلاق اسم العزائم على هذا النمط من الأحكام وهناك طائفة أخرى شرعها الله تيسيرًا على عباده قصد التخفيف عليهم وقد أطلقوا عليها اسم الرخص وتشمل فيما تشمله بعض العقود التي لم تتحقق فيها الشروط العامة التي يتطلبها العقد من حيث انعقاده وصحته مثل عقد السلم وعقد الاستصناع وعقد الإجارة، فإن هذه العقود من قبيل العقد على معدوم، ومعلوم أن العقد على معدوم باطل شرعًا إلا أن الشارع الحكيم أجازها على خلاف القياس وفقًا لحاجة الناس وتيسيرًا عليهم، فيكون عقد الاستصناع جائزًا ويكون استثناء من الأصل الذي ورد النهي عنه كبيع ما ليس عند الإنسان (1) .
__________
(1) الموافقات، للشاطبي: 1/300، 303، بتصرف.(7/853)
رابعًا- الشروط التي تلخص عقد الاستصناع
أو تفارقه ومدى تأثيرها في حكمه:
لقد عالجت مجلة الأحكام العدلية الكثير من مسائل عقد الاستصناع وتناولها شراح المجلة بالبسط والبيان والتوضيح ومن هذه الشروط:
أولًا – بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصنعته، مثلًا: لو أوصى صانعًا بأن يعمل له طشتًا، يلزم بيان الجنس الذي يعمل منه الطشت حديدًا أو نحاسًا ونوع الحديد ومقدار حجمه ولونه وكونه منقوشًا أو لا إلى غير ذلك بوجهٍ يرفع الجهالة لئلا يؤدي إلى المنازعة. وفي هذا المعنى جاء نص المادة (390) يلزم في الاستصناع وصف المصنوع وتعريفه على الوجه الموافق للمطلوب.
ونصت المادة (388) من المجلة على أنه إذا قال شخص لأحد من أهل الصنائع اصنع لي الشيء الفلاني بكذا قرشًا وقبل الصانع ذلك انعقد البيع استحسانًا مثلًا لو أرى المشتري رجله لخفاف وقال له اصنع لي زوجي خف من نوع السختياني الفلاني بكذا قرشًا وقبل الصانع، أو تقاول مع نجار على أن يصنع له زورقًا أو سفينة وبين طولها وعرضها وأوصافها اللازمة وقبل النجار انعقد الاستصناع. وكذلك لو تقاول مع صاحب معمل على أن يصنع له كذا بندقية كل واحدة بكذا قرشًا وبين الطول والحجم وسائر أوصافها اللازمة وقبل صاحب المعمل انعقد الاستصناع.
ثانيًا – اشتراط المدة في عقد الاستصناع لا يخرجه عن كونه استصناعًا وإنما يحمل على الاستعجال وهو قول الإمامين وبه أخذت مجلة الأحكام العدلية لكونه أرفق وعند الإمام أبي حنيفة إذا ذكر الأجل يصير سلمًا فيشترط فيه ما يشترط للسلم.
ووجه قول الإمامين: إنه بدون ذكر الأجل جائز غير لازم فبذكر الأجل فيه لايصير لازمًا لأن ذكر الأجل للتيسير فلا يتغير فيه العقد من الاستصناع إلى السلم، ولأن اللفظ حقيقة الاستصناع وقد أمكن العمل بحقيقة اللفظ، وذكر الأجل يقتضي أن يكون سلمًا لكنه ليس بمحكم فيه بل يحتمل أن يكون للتعجيل وإذا كان كذلك فقد اجتمع المحكم والمحتمل فيحمل الثاني على الأول (1) .
ووجه قول أبي حنيفة:
أن هذا مبيع دين والمبيع الدين لا يكون إلا سلمًا كما لو ذكر لفظ السلم.
بيانه: أن المستصنع فيه مبيع، والأجل لا يثبت إلا في الديون، فلما ثبت فيه الأجل عرفنا أنه مبيع دين، والعبرة للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني (2) .
__________
(1) المبسوط شرح المجلة، للأتاسي: 2/403. ح 11/139.
(2) المبسوط شرح المجلة، للأتاسي: 2/403. ح 11/139.(7/854)
خامسًا – عقد الاستصناع:
تمهيد:
يطلق الحكم في لسان الفقهاء على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: صفة الشيء الشرعية من جهة كونه مطلوب الفعل والترك – ويسمى الحكم في هذا النوع حكمًا تكليفيًّا نسبة إلى التكليف من الشارع بالفعل أو الترك – واشتهر عند الفقهاء إطلاق لفظ الصفة، والصفة الشرعية على هذا النوع ويشمل الوجوب والسنية والحرمة والكراهة.
النوع الثاني: صفة الشيء الشرعية من جهة الاعتداد به وترتب الآثار عليه وعدم ذلك، ويسمَّى الحكم في هذا النوع حكمًا وضعيًّا نسبة إلى وضع الشارع ويشمل الصحة والنفاذ واللزوم والوقف والفساد والبطلان.
النوع الثالث: الأثر المترتب على تحقق صفة من صفات النوع الثاني وذلك كما يقال حكم البيع الصحيح النافذ أنه ناقل للملكية فيملك المشتري المبيع ويستحق البائع الثمن وهذا النوع هو الذي يتصرف إليه كلمة الحكم (1) .
وعلى هذا – فإن حكم عقد الاستصناع بالاعتبار الأول أنه جائز وهو من قبيل الرخص المستثناة من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا كالقرض والقراض والمساقاة وبيع العرية بخرصها تمرًا وضرب الدية على العاقلة وما أشبه ذلك وعليه يدل قوله: نهي عن بيع ما ليس عندك ورخص في السلم (2) وقد ثبت بالسنة والإجماع وقد استصنع النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم والمنبر إلَّا أنه مخالف للقياس لأنه بيع المعدوم وقد جوز بالنظر للحاجة (3) .
__________
(1) أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية، للشيخ عبد الرحمن تاج: ص61، 62، بتصرف.
(2) الموافقات: 1/303 ومابعدها.
(3) شرح المجلة للمحاسني على المادة (388) .(7/855)
أما من حيث الاعتبار الثاني:
فقد اختلفت أنظار الأئمة فيه إلى ثلاث اتجاهات:
الأول – أنه لازم في حق الجانبين ولو قبل عمل المصنوع وإرادته للمستصنع.
قال الشرنبلالي في حاشيتة على درر الحكام المسمَّى غنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام تعليقًا على قوله: (وله أي للأمر الخيار) أي، دون الصانع وهو الأصح. وعن أبي حنيفة أن الصانع له الخيار وعن أبي يوسف لا خيار لواحد منهما – كذا في الهداية (1) . – وبهذا الرأي القائل باللزوم في حق الصانع والمستصنع أخذت مجلة الأحكام العدلية: نصت المادة 392 إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرًا.
قال الشارح علي حيدر: فإذا انعقد فليس لأحد العاقدين على رواية أبي يوسف الرجوع عنه بدون رضا الآخر، فيجبر الصانع على عمل الشيء المطلوب وليس له الرجوع عنه لأن الذي يبيع مالًا لم يرد له خيار، وكذلك ليس للمستصنع أن يرجع عنه لأنه لو جعل له الخيار لَلَحِقَ البائع أضرار لأنه قد لا يرغب في المصنوع أحد غير المستصنع (2) .
وقال الأستاذ منير القاضي في شرحه على المجلة: هو عقد لازم ليس لأحد العاقدين الرجوع فيه. ثم قال: ولا يخفى أن مسلك المجلة هو الأوفق للمصلحة كما أنه أقرب إلى القواعد الفقهية فإن الاستصناع بيع والبيع من العقود اللازمة، كما أن توصيف المستصنع وبيان ما يعينه مُنَزَّل منزلة رؤيته فلا يبقى للمشترى خيار رؤية أيضًا، لأن المقصود من الرؤية حصول العلم وقد حصل ذلك بذكر أوصافه وقدره وجنسه ونوعه.
فإذا أتى الصانع بالمصنوع على الصفة المشروطة يكون ملكًا للمستصنع ملكًا لازمًا فليس له الرجوع كما أنه ليس للصانع أن يبيعه لآخر بعد أن أراه للمستصنع أما قبل إراءته إياه فيجوز له بيعه لآخر وعمل غيره للمستصنع وإذا كان الصانع قد أتى بالمصنوع لا على الأوصاف المطلوبة المبينة في العقد كان المستصنع مخيرًا بين قبوله ورده مع تكليف الصانع بتسليمه مصنوعًا موافقًا للأوصاف المطلوبة عند العقد (3) .
وقال المحاسني في شرحه على المادة (392) وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرًا بخيار العيب أو بخيار الوصف إذا كان النقص من قبيل الوصف إن شاء قبله وإن شاء ردَّهُ، وليس للمستصنع خيار الرؤية عند أبي يوسف، وقد أخذت المجلة بقول الإمام المشار إليه (4) .
__________
(1) 2/198.
(2) 1/361.
(3) شرح المجلة، لمنير القاضي: 1/208.
(4) شرح مجلة الأحكام العدلية، لمحمد سعيد المحاسني.(7/856)
الاتجاه الثاني:
وهو للصاحبين وجمهور الفقهاء إلى أنه عقد غير لازم في حق كل واحد من العاقدين قبل رؤية المستصنع والرضاء به، فللصانع أن يمتنع من الصنع وأن يبيع المصنوع قبل أن يراه المستصنع وللمستصنع أن يرجع أيضًا قبل رؤية المبيع أو بعد رؤيته قبل الرضاء به.
الاتجاه الثالث:
وهو عدم اللزوم ولو بعد رؤية المستصنع للمصنوع وهو قول أبي حنيفة فيكون له خيار الرؤية عند إحضار المصنوع لأنه شراء ما لم يره (1) .
وأما بالاعتبار الثالث فإنه يترتب على عقد الاستصناع إذا تكاملت فيه جميع عناصره تملك المستصنع للشيء المصنوع ويستحق الصانع الثمن المتفق عليه.
__________
(1) شرح الأتاسي:2/406.(7/857)
المحور الثاني، ويتناول المباحث التالية:
1- الاستصناع والسلم.
2- العلاقة بين العقدين.
3- شروط كل من الاستصناع والسلم.
اولًا – الاستصناع والسلم:
السلم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} .
قال ابن العربي في حقيقة الدين: هو عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدًا والآخر في الذمة نسيئة. فإن العين عند العرب ما كان حاضرًا والدين ما كان غائبًا (1) .
وورد في الحديث من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم إلا أنهم قالوا إنه مخالف للقياس لأنه عبارة عن بيع المعدوم وفيه فائدة للمسلم إليه ولرب السلم لأن المسلم إليه كثيرًا ما يكون من الزراع المحتاجين للنقود ورب السلم من التجار فيدفع رب السلم النقود بمقابل أمل ارتفاع أسعار المبيع حين تسليمه له ويستفيد المسلم إليه بالنقود التي قبضها من رب السلم ويعتبر فيه خيار العيب خلافا لخيار الشرط وخيار الرؤية لأن السلم دين وهذه الخيارات لا تقع في الدين (2) .
والسلم لا يصح إلا فيما يمكن ضبطه وتعيينه قدرًا ووصفًا كالمكيلات والموزونات والمذروعات والعدديات المتقاربة، وأما العدديات المتضاربة في القيمة كالبطيخ والرمان فلا يجوز السلم فيها عددًا إلا ببيان صفتها المميزة لها.
والقاعدة التي يرجع إليها أن مالا يمكن ضبط صفته ومعرفة قدره لا يصح السلم فيه لأنه يفضي إلى المنازعة، ويشترط لصحة السلم (إن كان المسلم فيه حنطة أو قطنًا أو خبزًا أو شعيرًا أو غير ذلك من الأشياء الي يمكن أن توجد ويمكن أن لا توجد) أن يكون موجودًا وقت العقد إلى وقت التسليم ليكون البيع بعيدًا عن الغرر بإمكان التسليم.
وذهب آخرون إلى جواز السلم فيما ليس بموجود في وقت العقد إذا أمكن وجوده في وقت حلول الأجل (3) .
أما الاستصناع فإنه يتفق وعقد السلم في أن كلًّا منهما بيع وأنه جوز على خلاف القياس إلا أن عقد الاستصناع يشترط فيه كون العين والعمل من الصانع وأن يقع فيما تعامل الناس به وإلَّا يكون سلمًا إذا عين له مدة، أو عقدًا فاسدًا إذا لم تعين مدته، ويجب تعريف المصنوع في الاستصناع ولا يجب دفع الثمن نقدًا ويختلف كذلك السلم عن الاستصناع من وجوه:
أولًا – السلم بيع من كل الوجوه والاستصناع بيع وإيجار وعمل.
ثانيًا – يبطل الاستصناع بوفاة أحد المتعاقدين خلافًا للسلم.
ثالثًا – يشترط في السلم دفع الثمن نقدًا وبيان الأجل وبالاستصناع لا يشترط ذلك (4) .
__________
(1) أحكام القرآن: 1/247.
(2) شرح المجلة، لعلي حيدر: 1/349؛ وكفاية الأخيار:1/159.
(3) المعاملات الشرعية، لأحمد إبراهيم: 145، 146 – مجلة الأحكام العدلية وشرحها.
(4) شرح المحاسني على المجلة: المادة (392) .(7/858)
ثانيا – العلاقة بين العقدين:
بينا أن كلًّا من السلم والاستصناع من العقود التي تشتمل على غرر وجُوِّزَا لمسيس الحاجة إليهما فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث فقال: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم".
وينعقد إن كان مؤجلًا بلا خلاف بين الأئمة أما إن كان حالًّا فلا يصح عند الأئمة الثلاثة ويصح عند الشافعى لأنه إذا جاز في المؤجل مع الغرر فهو في الحال أجوز، لأنه أبعد عن الغرر.
كما يتفق العقدان في أنه لا بد من ضبطهما بالصفة التي تنفي الجهالة قال في الكفاية: لأن السلم عقد غرر وعدم الضبط بما ينفي الجهالة غرر ثان وغرران على شيء واحد غير محتمل (1) .، ونصت المادة 390 من مجلة الأحكام العدلية يلزم في الاستصناع وصف المصنوع وتعريفه على الوجه الموفق المطلوب قال شارحه علي حيدر: يلزم في الاستصناع وصف المصنوع وصفًا يمنع حدوث أي نزاع لجهالة شيء من أوصافه وتعريفه تعريفًا يتضح به جنسه ونوعه على الوجه المطلوب (2) .
تنبيه:
اختلف أقوال شراح المجلة على المادة (389) ونصها: كل شيء تعومل فيه استصناعه يصح فيه الاستصناع على الإطلاق، وأما ما لم يتعامل باستصناعه (إذا بين فيه المدة صار سلمًا ويعتبر فيه حنيئذٍ شرائط السلم وإذا لم يبين في المدة كان من الاستصناع أيضًا) .
قال المرحوم خالد الأتاسي في شرحه على هذه المادة:
والحاصل: أن ما تعورف في استصناعه ولم يبين له مدة أصلًا أو بين دون الشهر فهو استصناع بالاتفاق، وإن بين له مدة شهر أو أكثر فهو استصناع عندهما سلم عنده. وما لم يتعارف استصناعه إن بين فيه مدة السلم شهرًا أو أكثر فهو سلم بالاتفاق، وإن لم يبين فيه مدة فهو استصناع فاسد منهي عنه.
ثم عقب على ذلك فقال: "فهو وإن كان فاسدًا لكن بعد وقوعه يأخذ حكم الصحيح وقد أشارت المجلة إلى هذا بقولها (كان من قبيل الاستصناع) أي تجري فيه أحكام الصحيح وإن لم يكن استصناعًا مشروعًا، لأن من العقود ما يكون فاسدًا منهيًّا عنه وبعد وقوعه يأخذ حكم الصحيح كالمبيع بعقد فاسد يدخل في ملك المشتري بالقبض. والرهن الفاسد بشيوع أو غيره إذا كان سابقًا على الدين، يأخذ حكم الصحيح بعد وقوعه (3) .
__________
(1) كفاية الأخيار: 1/159.
(2) دور الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/360.
(3) شرح المجلة، للأتاسي: 2/405.(7/859)
ويقول الأستاذ علي حيدر مسائل خمس في الاستصناع:
1- إذا لم تبين المدة في الأشياء التي جرى التعامل باستصناعها فالعقد عقد استصناع بالإجماع.
2- إذا كانت المدة المبينة أقل من شهر أي لم تبلغ المدة التي يصح بها السلم والأشياء مما جرى التعامل به على الاستصناع فهو كذلك عقد استصناع بالإجماع.
3- إذا كانت المدة المبينة في الأشياء التي تستصنع عادة شهرًا أو أكثر من شهر فهو عقد استصناع عند الصاحبين وعقد سلم عند الإمام وتؤخذ هذه الأحكام من الفقرة الأولى.
4- إذا كانت المدة لأقل من شهر أي للأجل الذي يصح به السلم والأشياء مما لم تستصنع عادة فهو سلم بالإجماع.
5- إذا لم تبين المدة في الأشياء التي لم يجر التعامل بها على وجه الاستصناع فظاهر المجلة أنه عقد استصناع، والحق أنه عقد فاسد (1) وإذا كان فاسدًا فإنه يأخذ حكم الصحيح بعد وقوعه على ما سلف البيان.
ثالثًا – شروط كل من الاستصناع والسلم:
يشترط في الاستصناع أن يكون العمل والعين من الصانع، وأن يكون في الأشياء المتعامل فيها أما التي لم يجر التعامل فيها فالعقد فيها فاسد إن لم يبين فيها مدة، ولكن بعد وقوعه يأخذ حكم الصحيح على ما سلف البيان (2) ولا يلزم في الاستصناع دفع الثمن وقت العقد، ويلزم وصف المصنوع وتعريفه ولا يشترط فيه تعيين الأجل وقد سبق بيان هذه الشروط في الفصول السابقة.
أما السلم فله شروط وقد قسم ابن جزي في قوانينه هذه الشروط إلى ثلاثة أقسام: قسم يشترك فيه رأس المال والمسلم فيه، وقسم ينفرد به رأس المال وقسم ينفرد به المسلم فيه.
__________
(1) شرح علي حيدر: 1/360 وينظر المعاملات الشرعية، لأحمد إبراهيم: ص148.
(2) شرح الأتاسي على المجلة: 2/404.(7/860)
أما الشروط المشتركة فهي ثلاثة:
الأول – أن يكون كل واحد منهما مما يصح تملكه وبيعه احترازًا من الخمر والخنزير وغير ذلك.
الثاني – أن يكونا مختلفين جنسًا تجوز فيه النسيئة بينهما فلا يجوز السلم في الذهب والفضة أحدهما في الآخر لأن ذلك ربا كذلك تسليم الطعام بعضه في بعض ممنوع لأنه ربا. ويجوز تسليم العروض بعضها في بعض وتسليم الحيوان بعضه في بعض ومنع أبو حنيفة السلم في الحيوان.
الثالث – أن يكون كل واحد منهما معلوم الجنس والصفة والمقدار إما بالوزن فيما يوزن أو بالكيل فيما يكال أو بالذرع فيما يذرع أو بالعد فيما يعد أو بالوصف فيما لا يوزن ولا يكال ولا يعد.
وأما الشروط التي ينفرد بها رأس المال فهو أن يكون نقدًا ويجوز تأخيره عند المالكية لغير شرط ويجوز بشرط ثلاثة أيام ونحوها. واشترط غيرهم التقابض في المجلس.
وأما الشروط التي في المسلم فيه فهي:
أولا- أن يكون مؤخرًا إلى أجل معلوم وأجازه الشافعي على المحلول.
ثانيًا – أن يكون مطلقًا في الذمة فلا يجوز في شيء معين كزرع قرية بعينها.
ثالثًا – أن يكون مما يوجد جنسه عند الأجل اتفاقًا سواء وجد عند العقد أو لم يوجد واشترط أبو حنيفة وجوده عند العقد والأجل (1) .
__________
(1) القوانين الفقهية، لابن جزي ص177، 178؛ الشرح الصغير: 3/262 وما بعدها؛ حاشية الشرقاوي على التحرير: 2/22 ومابعدها؛ كفاية الأخيار: 1/160 ومابعدها، المغني، لابن قدامة: 4/246 ومابعدها؛ كشاف الفتاح: 3/288 ومابعدها؛ درر الحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر: 1/373 ومابعدها.(7/861)
المحور الثالث
أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصناعية
عقد الإمام أبو الحسن الماوردي في كتابه أدب الدنيا والدين بحثًا في وجوه المكاسب فقال: وجهات المكاسب المعروفة من أربعة أوجه: نماء زراعة، ونتاج حيوان، وربح تجارة، وكسب صناعة.
وحكى الحسن بن رجاء عن المأمون قال: سمعته يقول: معايش الناس على أربعة أقسام: زراعة وصناعة وتجارة وإمارة.
وبعد أن تكلم عن الزراعة وأنها مادة أهل الحضر وسكان الأمصار والمدن ونتاج الحيوان وهو مادة أهل الفلوات وسكان الخيام والتجارة وهي فرع لمادتي الزرع والنتاج أسهب القول في الصناعة وأنها وثيقة الصلة بالأسباب الثلاثة وأنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صناعة فكر وصناعة عمل وصناعة مشتركة بين فكر وعمل. وتكلم عن العمل الصناعي بأنه أعلاها رتبة لأنه يحتاج إلى معاطاة في تعلمه ومعاناة في تصوره.
وقال عكرمة في قوله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} ، قدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد (1) .
وقد امتن الله على نبيه داود عليه السلام فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (2) .
__________
(1) أدب الدنيا والدين: ص208.
(2) سورة سبأ: الآيتان10و11.(7/862)
أي: وجعلت الحديد في يده لينًا يسهل تصويره وتعريفه كما يشاء فيعمل منه الدروع وآلات الحرب على أتم النظم وأحكم الأوضاع فيجعل حلقاتها على قدر الحاجة.
قال قتادة: إن داود أول من عملها حلقًا وكانت قبل ذلك صفائح فكانت ثقالًا.
وبين سبحانه وتعالى أنه أنعم على ابنه سليمان كذلك وأنه أذاب له النحاس على نحو ما كان لداود من إلانة الحديد وسخر له الجن عملة بين يديه يعملون له شتى المصنوعات من قصور شامخات وصور من نحاس وجفان كبيرة كالأحواض وقدور لا تتحرك لعظمها.
وقد حث الإسلام على العمل فقد روى البخاري أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه صدقة فأمره النبي بالانتظار ثم دعا بقدوم ودعا بيد من خشب سواها بنفسه ووضعها فيها ثم دفعها للرجل وأمره أن يذهب إلى مكان ليحتطب ليكسب قوته وقوت عياله.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يحب العبد المحترف)) .
ويعقد صاحب كتاب التراتيب الإدارية فصولًا مستفيضة في ذكر الحرف والصناعات التي كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر من عملها من الصحابة رضوان الله عليهم وقال إنه استدرك فصولًا على الإمام الخزاعي.
ونقل في المقدمة الثانية: قول المواق الذي يتبين من الفقه أن الصناعات والتجارات والاشتغال بالعلم الزائد على فرض العين وعلى الطب كل ذلك أسباب شرعية.
ونقل عن عمدة الطالب: طلب التكسب واجب فريضة كما أن طلب العلم فريضة ثم التكسب أنواع: كسب مفروض وهو الكسب بقدر الكفاية لنفسه ولعياله وقضاء دينه، وكسب مستحب وهو كسب الزيادة على أذي الكفاية ليواسي به فقيرًا أو يجازي به قريبًا ثم قال: إنه أفضل حتى من التخلي لنفل العبادة ثم قال: فأفضل مكسوب التجارة ثم الصناعة ثم طلب العلم.
وقال في المقدمة الرابعة: ترجم البخاري في كتاب البيوع من صحيحه باب ما ذكر في الأسواق. قال ابن بطال: أراد بذكر الأسواق إباحة المتاجر ودخول الأشراف والفضلاء إلى الأسواق وكأنه أشار إلى ما لم يثبت على شرطه من أنها شر البقاع.(7/863)
وقال ابن رشد: وأما جواز دخول الأسواق والمشي فيها فكفى في الحجية في ذلك قول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} (1) .
وكان البخاري صاحب تجارة وزع وروى أنه أعطي ببضاعة خمسة آلاف فذكر في نفسه ولم يتلفظ فأعطي فيها بعد ذلك أضعاف الأولى ألوفًا مؤلفة.
وقد صنفت مؤلفات كثيرة في وجوه المكاسب أشار إليها صاحب التراتيب الإدارية منها:
1- كتاب البركة في فضل السعي والحركة قال وهو مجلد اشتمل على سبعة أبواب، الباب الأول في فضل الحرث والزرع والثمار وغرس الأشجار وحفر الأنهار وفيه فصول. الباب الثاني في فضل الغزل وفيه فصول، الباب الرابع فيما ورد من الآثار في الطب والمنافع.
2- وكتاب الشرح الجلي للشهاب التبريز اشتمل على أنواع المتاجر والحرف والصنائع وأنه تكلم على الزراعة والتجارة والخياطة والحياكة والقصارة والجزارة والطباخة والصباغة.
ثم ذكر في المقدمة التاسعة: الحرف والصناعات التي عرفها أهل الإسلام واستعملوها وأن خالد بن يزيد الأموي ترجم بعض الكتب المصنفة منها باللسان القديم في أواخر عصر الصحابة. وألف الجاحظ كتاب الأخطار والمراتب في الصناعات وله أيضًا كتاب غش الصناعات، إلى غير ذلك مما مجرد الإشارة إليه يستغرق صفحات.
من هذا العرض يتبين مدى أهمية المكاسب على اختلاف وجوهها في الإسلام ومن ثم فليس غريبًا أن نرى التجارة تتسع وتنتشر مع اتساع الإسلام وانتشار سلطانه حتى تهيأت أسواق ضخمة وتجارات واسعة وصناعة متنوعة. وقد عرف المجتمع الإسلامي صيغة الإنتاج المشترك وكان هناك عقود المشاركة التي يسهم فيها الشركاء بنسب مختلفة بقوة العمل وأدوات الإنتاج والمواد الأولية ثم يتقاسمون الأرباح بينهم بنسبة إسهامهم.
وإن أمم الأرض قاطبة تسعى جاهدة لاستغلال اقتصادها ومواردها وإمكاناتها من أجل حياة أفضل وأخذت تنسق فيما بينها الخطط والمشروعات حماية لاقتصادها من جهة ورفعها لمستوى شعوبها من جهة أخرى كالسوق الأوربية وغيرها من المنظمات والأحلاف والمعاهدات وإن الأمة الإسلامية لها من تراثها الاقتصادي نظريًّا وتطبيقًا، ومن إمكاناتها المادية والمعنوية ومواردها الطبيعية وتشعب حاجاتها ما يدعوها إلى إقامة صروح اقتصادية تكفل لها القوة والمنعة والعزة.
والله ولي التوفيق.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله.
__________
(1) سورة الفرقان: الآية20.(7/864)
الخلاصة لعقد الاستصناع
أولًا – عقد الاستصناع يحتل مكانة بارزة في الفقه الحنفي له خصائصه ومميزاته عن العقود الأخرى، أما المذاهب الأخرى فقد مزجته بعقود أخرى كعقد السلم.
ثانيًا – عرفوه بتعريفين:
أحدهما – هو عقد على مبيع في الذمة.
والآخر: هو عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل.
وعند المحققين أن الصحيح هو التعريف الثاني لأن الاستصناع طلب الصنع فما لم يشرط فيه العمل لا يكون استصناعًا. واعتبروه من قبيل البيوع لا المواعدة.
ثالثًا – وحكمه أنه جائز على خلاف القياس وفقًا لحاجة الناس وتيسيرًا عليهم وهو لازم للطرفين وهذا الرأي أخذت به مجلة الأحكام العدلية.
رابعًا – ويتفق مع عقد السلم في بعض الوجوه ويفترق عنه من وجوه أخرى يتفقان في أن كلًّا منهما بَيعٌ وأنه جوز على خلاف القياس إلَّا أن عقد الاستصناع يشترط فيه كون العمل والعين من الصانع وأن الاستصناع يقع فيما يتعامل الناس به وإلا كان سلمًا ويفترقان من وجوه أخرى فإن السلم بيع من كل الوجوه، أما الاستصناع فبيع وإيجار وعمل وأن الاستصناع يبطل بوفاة أحد المتعاقدين بخلاف السلم وأن السلم يشترط فيه دفع الثمن مقدمًا بخلاف الاستصناع. وأنه يلزم بيان الجنس والصفة وكل المواصفات بدقة تمنع الجهالة والمنازعة بين المتعاقدين.(7/865)
الاستصناع ودوره في
العمليات التمويلية المعاصرة
إعداد
الدكتور عبد السلام العبادي
ممثل المملكة الأردنية الهاشمية في المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة بالناس أجمعين وعلى آله وصحبه ومن اتبعه وسار على دربه إلى يوم الدين، وبعد ….
1- فهذه ورقة علمية حول عقد الاستصناع ودوره في العمليات التمويلية المعاصرة، وبخاصة في البنوك والمؤسسات التمويلية الإسلامية، أقدمها لمجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة المنعقدة في جدة في الفترة من 7 – 12 ذي القعدة 1412هـ وفق 9 – 14 مايو 1992م راجيًا أن تحظى بالمناقشة على ضوء ما قدم للمجلس من بحوث وأوراق عن عقد الاستصناع.
2- لذا لا تهتم هذه الورقة باستعراض مباحث عقد الاستصناع الاستعراض الفقهي المعهود من حيث التعريف في اللغة والفقه وبيان أركانه وشروط انعقاده وشروط صحته واختلافات الفقهاء في مسائله، فهذا يمكن معرفته بسهولة بالعودة لما كتب عن هذا العقد في الكتب الفقهية قديمًا وحديثًا – ولكنني – أريد أن أعرض لبعض من المشكلات التمويلية التي نريد حلها في الواقع الاقتصادي المعاصر على ضوء قواعد الاقتصاد الإسلامي …. وبعد عرض طرف من هذه المشكلات ننظر إلى عقد الاستصناع لنعرف هل يمكنه حل هذه المشكلات أو المساعدة في حلها بصورة مقبولة، ولو على أساس بعض المذاهب الفقهية المعتبرة فيه … أو أنه لا يمكنه ذلك، وبالتالي فلنبحث عوضًا من ضالتنا في عقود أخرى أو لنتوجه إلى استحداث عقود جديدة نلتزم فيها بالقواعد الشرعية المقررة، بحيث لا نحل حراما ولا نحرم حلالا دون تقيد بما قرره الفقهاء من عقود في السابق من منطلق أن الأصل في ذلك الإباحة ما دام لم يمنع منه مانع شرعي.(7/866)
3- وواضح أن المقصود هنا بالمشكلات التمويلية التي نريد حلها ليس المشكلات التمويلية بمعناها الواسع وبأبعادها كلها فكثير من هذه المشكلات بمعناها الواسع لها حلول مستقرة واضحة في الفقه الإسلامي قديما وحديثا … فهناك عقود معروفة تعمل في هذا المجال، وبشكل مباشر منذ نشأة الفقه الإسلامي مثل عقد المضاربة وهنالك عقود جديدة تم استحداثها مع نشأة البنوك ومؤسسات التمويل الإسلامية مثل عقد المرابحة للأمر بالشراء، وعقد المشاركة المتناقصة، وسندات المقارضة فالذي نريده هنا المشكلات التمويلية، التي يمكن معالجتها على أساس عقد الاستصناع، فمن المعلوم أن كثيرًا من الناس يحتاجون إلى سلع متنوعة تدخلها الصنعة الإنسانية، وهي ذات أثمان ليست متاحة للراغبين في الحصول عليها باستمرار، لأنهم لا يملكون أثمان هذه المصنوعات، والصانع يرغب في الحصول على ثمن ما يصنع كله أو جزء كبير منه ليتمكن من مواصلة عمله، وصناعة أشياء أخرى وهنالك جهات أخرى تملك المال ويمكنها أن تدفع للصانع ثمن ما يصنع عن الراغب في الشراء ثم تسترد ما دفعت مع زيادة مناسبة. وهذا الدفع يكون في البنوك التجارية العادية، على سبيل الإقراض مقابل فائدة ربوية … والبنوك الإسلامية لا يمكنها أن تدفع ذلك على سبيل الإقراض الربوي، فهل يمكن أن يساعد عقد الاستصناع في ذلك. وكيف؟
4- قد يقول قائل أليس في عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء حلًّا لهذه المشكلة؟ …. نعم، لقد حل عقد المرابحة للآمر بالشراء جزءًا كبيرًا من المشكلة على أساس أن تقوم البنوك الإسلامية بشراء السلعة المصنعة ومن ثم بيعها بربح للمحتاج لمثل هذه السلعة والطالب لشرائها … ولكن ما زالت جوانب مهمة من هذه المشكلة بحاجة إلى حل …. فعقد المرابحة لا بد أن يكون قائما على أساس شراء سلع ومواد فحسب فهو لا يلبي دفع الأجور المكلف بها طالب التمويل لأنها ستكون عند ذلك قرضا ربويا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن من شروط عقد المرابحة أن يمتلك البنك أو المؤسسة المالية السلع المشتراة ويتسلمها، وبالتالي يتحمل تبعة هلاكها ….فإذا كانت الأشياء المصنعة لا يمكن للبنك أن يتسلمها قبل تسلم طالب الشراء فهي تصنع وتركب مباشرة في حوزة المرابح، مثل تصنيع الحجر الذي تكسى به وجوه الجدران الخارجية في البنايات، وتصنيع الخشب للأبواب والحديد أو الألمنيوم للشبابيك، ومثل تصنيع المصاعد للبنايات …. ففي هذه الأشياء وأمثالها لا يعتبر التسليم إلَّا على الراكب، كما يقال في اصطلاح أهل هذه الحرف، ومن المعلوم فقها أن التسليم في كل شيء بحسبه … ومعنى ذلك أن التسليم المعتبر في شراء هذه السلع لا يمكن أن يتم إلا بعد تركيبها، والتركيب يعني أن المرابح قد تسلمها قبل تسلم البنك، فكيف يبيعها البنك الإسلامي أو المؤسسة التمويلية الإسلامية له بعد ذلك إذا كان الأمر قد تم وفق عقد المرابحة للأمر بالشراء؟! فهذا لا يجوز كما هو واضح.(7/867)
5- وبعد تفكير وجدت أن عقد الاستصناع يحل هذه المشكلة التمويلية حلًّا جذريًّا على أساس أن يجري اتفاق بين طالب الاستصناع والبنك أو المؤسسة التمويلية الإسلامية يلتزم فيه البنك أو المؤسسة بتصنيع شيء معين بسعر معين يتفق على تقسيطه الفترة التي يراها المتعاقدان مناسبة … وواضح أن البنك أو المؤسسة سوف يحسب بهذا الثمن ما سوف يدفعه حقيقة عند اتفاقه مع صانع لهذه الأشياء مضافا إليه الربح الذي يراه مناسبا …. وبعد ذلك يجري البنك أو المؤسسة اتفاقا منفصلا مع صانع أو جهة يختارها لتصنيع هذه الأشياء وفق المواصفات التي ضمنت العقد الأول وبحيث يدفع الثمن فورا أو بعد التسليم وعلى أن تركب الأشياء المصنعة وتسلم في المكان المحدد في العقد أيًّا كان هذا المكان، وواضح أنه لا إشكال في أن يكون هذا المكان البناية التي يقوم طالب الاستصناع في العقد الأول ببنائها، ويقوم البنك أو المؤسسة بعد ذلك بالتأكد من أن هذه الأشياء قد تم تصنيعها وفق المواصفات ومن حق طالب الاستصناع في العقد الأول – صاحب البناية – التأكد أيضا إن ما ركب قد تم وفق المواصفات التي طلبها … ويجب أن نشير هنا إلى الانفصال الكامل بين العلاقة الحقوقية وتحمل الالتزامات في العقد الأول عنه في العقد الثاني، بحيث لا يكون هنالك أي علاقة حقوقية والتزامات مالية بين طالب الاستصناع في العقد الأول – صاحب البناية – والصانع الذي كلفه البنك …. وإذا حدث خلاف من حيث المواصفات ومواعيد التسليم وغيرها فهو يحل في ظل كل عقد على حده وفق الشروط الواردة فيه.
6- وبناء على هذا الفهم أشرفت على وضع عقود استصناع في مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام التي أعمل مديرا عاما لها وهي مؤسسة مالية عامة في المملكة الأردنية تعمل وفق قواعد الاقتصاد الإسلامي لتنمية أموال الأيتام واستثمارها، بحيث تحول لها جميع الأموال المنقولة التي يمتلكها كل من لم يبلغ سن الرشد في المملكة ليتم تنميتها بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، ومن ثم تعاد إلى أصحابها بعد بلوغ سن الرشد هي والأرباح التي تحققت خلال فترة وجودها في المؤسسة، وذلك على أساس أنها وصي عام على مال القاصرين، وفق إجراءات وشروط حددها القانون، ليس هنا مجال الحديث عنها …. وألحق بهذه الورقة صورا عن بعض العقود التي تعاملت بها المؤسسة في مجال عقد الاستصناع.
وواضح أن هذا الفهم والتوجه يتيح استصناع أمور أخرى أكثر أهمية مثل بناء بناية كاملة وفق مواصفات محددة، أو بناء مصنع، أو سفينة كبرى أو طائرة، مما يعني أن عقد الاستصناع بهذا الفهم قد يشارك مشاركة فاعلة في تحقيق التنمية الاقتصادية في مجالات الإسكان والصناعة والنقل وغيرها من الحالات المشابهة.(7/868)
7- ومن المعلوم فقها أن الاستفادة من عقد الاستصناع على هذه الصورة لا تقره جميع المذاهب الفقهية … فعقد الاستصناع بصورته المعروفة كان محل خلاف بين الفقهاء فالحنفية نظروا إليه عقدا مستقلا بشروط خاصة به فهو عقد بيع، فقد عرفه السمرقندي في تحفة الفقهاء بأنه (عقد على مبيع في الذمة وشروط عمله على الصانع (1) ، وعرفه ابن عابدين بأنه (طلب العمل من الصانع في شيء خاص على وجه مخصوص) (2) ، وذكر السرخسي أن بيع عين شرط فيه العمل هو الاستصناع (3) .
واشترطوا أن يبين في عقد الاستصناع نوع ما سيعمل وقدره وصفته كما ذكر الكاساني في البدائع أن يكون موصوفا (يوصف ويعرف على وجه لا يبقى بعد الوصف جهالة مفضية إلى المنازعة، لأن الفساد (أي فساد العقد) للجهالة فإذا صار معلوما بالوصف جاز) (4) .
كما اشترطوا أن يكون المراد وصفه مما يجري فيه التعامل بين الناس (5) ، وقد نص فقهاء الحنفية على أن هذا العقد يجب أن تكون فيه العين والعمل من جهة الصانع أما إذا كانت العين من المستصنع، فإن العقد يكون إجارة لا استصناعا وكذلك إذا لم يشترط العمل على جهة الصانع، فإنه لا يكون استصناعا بل سلما أو سلفا فالاستصناع عند الحنفية غير الإجارة وغير السلم والذي هو بيع آجل بعاجل أي بيع ما ليس عند الإنسان بثمن حال … على أن يكون البيع موصوفًا محددًا وأجل تسليمه محددًا أيضًا, فلا بد من تعجيل الثمن أما الاستصناع فلا يشترط فيه تعجيل الثمن عند الحنفية …. كما لا يشترط أن يخلو من أجل التسليم في رأي أبي يوسف ومحمد على خلاف رأي أبي حنيفة.
والأصل في المذهب الحنفي أن عقد الاستصناع ليس لازما إلا ما نقل عن أبي يوسف وقد ذهبت مجلة الأحكام العدلية المبنية على المذهب الحنفي إلى لزوم هذا العقد منذ انعقاده فجاء في المادة (392) (إذا انعقد الاستصناع، فليس لأحد العاقدين الرجوع، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرا) … والواقع أن المجلة قد تبنت هذا الموقف على أساس التوسع في رأي أبي يوسف، فقد نقل عنه أن المستصنع بالخيار إذا جاء المصنوع مغايرا للأوصاف المشروطة، وأنه جاء متفقا مع الأوصاف المشروطة فلا خيار له في ذلك ولا يندرج هذا الأمر في حالات خيار الرؤية، ولم ينقل عنه ما يتعلق بلزوم العقد قبل العمل من الصانع، فكونه لم ينص على عدم اللزوم إلا في حالة مخالفة المواصفات يدل على أنه يذهب إلى اللزوم قاعدة عامة باستثناء ما ذكر فيه عدم اللزوم، ولذا نصت كثير من البحوث المعاصرة على أن المجلة قد تبنت في هذه المسألة رأي أبي يوسف. والواقع أن القول بعدم لزوم عقد الاستصناع بعد التوسع في مجالات عمله مع نمو الصناعات وتطورها يؤدي إلى الإخلال بمصالح مهمة لا يجوز التفريط بها … مما يقتضي الترجيح للقول باللزوم.
8- أما المالكية والشافعية والحنابلة فلم يذهبوا إلى أن الاستصناع عقد مستقل إنما عالجوا المسألة من خلال عقد المسلم أو الدفع على أساس المسائل التي تندرج تحت ما يسمى بالسلم في الصناعات، فاشترطوا الالتزام فيها بالشروط المقررة لعقد السلم عندهم (6) وأهم هذه الشروط أن يقوم المسلم وهو طالب الاستصناع هنا بتعجيل الثمن، وأنه لابد من بيان مدة الصنع النهائي، ووقت التسلم وأن يكون المصنوع مما يوجد في الأسواق … وعلى هذا الفهم لطبيعة هذه المعاملة وتكييفها فإنها لا تقدم معالجة للمشكلة المطروحة للبحث. لذا فإن ترجيح ما ذهب إليه أئمة الحنفية وبخاصة الإمام أبي يوسف بخصوص عقد السلم هو المناسب والمحقق للمصلحة الشرعية المعتبرة.
الدكتور عبد السلام العبادي
__________
(1) تحفة الفقهاء، السمرقندي:2/538
(2) حاشية ابن عابدين: 5/223
(3) المبسوط، السرخسي: 15/84
(4) بدائع الصانع، الكاساني: 5/209
(5) فتح القدير، الكمال بن الهمام: 6/262
(6) انظر: مواهب الجليل شرح مختصر خليل: 4/538، والمهذب، للشيرازي: 1/296، كشف القناع على متن الإقناع، للبهوتي: 3/133(7/869)
ملحق بأمثلة على عقود استصناع تمويلية
بسم الله الرحمن الرحيم
عقد استصناع أبواب حديد
بعون الله تم الاتفاق بين:
الفريق الأول: مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام.
الفريق الثاني: ………………………………
1- بالمتر المربع: تقديم وتركيب أبواب حديد بلجيكي ومشابك من تيوبات عرض 6 سم وقضبان 20/5 والنهايات الملتوية 20/5 ولا تزيد المساحة بين القضبان عن 15 سم والسعر يشمل الخردوات اللازمة والمفصلات والأيدي مع تقديم وتركيب الرسمات الجاهزة من الحديد كما هو بالرسم المرفق والسعر لا يشمل الزرفيل والزجاج والدهان والكيل الهندسي صافي للفتحة الإنشائية.
2- يجب على الفريق الثاني تزويد الفريق الأول بالمخططات اللازمة والتفصيلية لأعمال الأبواب الحديدية المراد تركيبها بالمشروع والموقعة من قبل الفريق الثاني.
3- يلتزم الفريق الأول بإتمام الأعمال الموكلة إليه خلال خمسة وخمسين يوما (من تاريخ أمر المباشرة بالعمل الصادر من الفريق الثاني خطيًّا) .
4- على الفريق الثاني وبشكل فوري إعلام الفريق الأول خطيًّا (خلال مدة تنفيذ متعهد الأبواب الحديدية لأعماله عن أية أضرار يحدثها أو يتسبب بها بالمشروع.(7/870)
5- يتم قيد قيمة أعمال الأبواب الحديدية المنفذة على حساب الفريق الثاني وبالسعر المحدد بهذه الاتفاقية وتعتبر هذه الاتفاقية من أصل قيمة عقد بيع المرابحة بين الفريقين.
6- إن أي خلاف أو نزاع ينجم عن هذه الاتفاقية يتم البت فيه عن طريق التحكيم بموجب قانون التحكيم الأردني الساري المفعول.
7- يعتبر هذا العقد بكافة بنوده جزءًا لا يتجزأُ من الاتفاقية العامة المعقودة ما بين الفريق الأول والفريق الثاني للشروط العامة للتعامل وعقود المرابحة الموقعة بين الطرفين.
8- تكون الأسعار للأبواب الحديدية حسب الشروط والمواصفات المذكورة بالبند رقم (1) ثمانية وستين دينارًا (للمتر المربع الواحد شاملًا الخردوات اللازمة والمفصلات، شَبَك حماية سعر المتر الواحد تسعة عشر دينارًا) ……..، م مع مبسط 20/5.
9- تكال أعمال الأبواب على الراكب بالمتر المربع لمساحة الباب على أن يتم الكيل من السلاح إلى السلاح ومن العتبة أو البرطاش إلى القمط أو صندوق الأباجورات ولا يؤخذ أي عرف آخر بالكيل.
10- في حالة تأخر أو تعثر أو إخلال المتعهد الرئيسي في إنهاء أعمال تجهيز الفتحات المعمارية والمعين من قبل الفريق الثاني وفي حالة تأدية هذا التأخير أو الإخلال بأي شكل من الأشكال التي ترتب المسؤولية على الفريق الأول تجاه متعهد الأبواب الحديدية فيتحمل الفريق الثاني كامل المسؤولية التي تترتب على الفريق الأول تجاه متعهد الأبواب الحديدية.
11- عند استلام الأبواب الحديدية من قبل لجنة المؤسسة من الصانع حسب المواصفات الموضحة في البند الأول من هذه الاتفاقية يتم دفع القيمة المستحقة للصانع دون الحاجة إلى موافقة الطرف الثاني في هذه الاتفاقية على دفع القيمة للصانع ولا يحق للطرف الثاني الاعتراض.
12- يقر الفريق الثاني بأن دفاتر الفريق الأول وحساباته تعتبر بنية قاطعة لإثبات أية مبالغ ناشئة ومتعلقة بهذا العقد وتطبيقاته مهما كانت مع ما يلحقها من مصاريف سواء أكانت للفريق الأول أم للغير. ويصرح بأن قيود الفريق الأول وحساباته تعتبر نهائية وصحيحة بالنسبة له ولا يحق له الاعتراض عليها، كما أنه يتنازل مقدما عن أي حق قانوني يجيز له طلب تدقيق حسابات الفريق الأول وقيوده من قبل أي محكمة أو إبراز دفاتره وقيوده، وتعتمد في ذلك الكشوفات المنسوخة عن تلك الدفاتر والحسابات والتي يصادق المفوضون بالتوقيع عن الفريق الأول على مطابقتها للأصل.
13- القيمة التقديرية لأعمال الأبواب الحديدية تقدر.
14- وقعت هذه الاتفاقية من قبل الطرفين بتاريخ / / 199م.
الفريق الثاني الفريق الأول(7/871)
بسم الله الرحمن الرحيم
عقد استصناع أبواب حديد
بعون الله تم الاتفاق بين:
الفريق الأول: مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام.
الفريق الثاني: …………………………….
يلتزم الفريق الثاني بتقديم وتركيب أبواب حديد للمشروع المقام على قطعة الأرض في وذلك حسب الشروط التالية:
1- بالمتر المربع: تقديم وتركيب أبواب حديد بلجيكي ومشابك من تيوبات عرض 6 سم وقضبان 20/5 والنهايات الملتوية 20/5 ولا تزيد المساحة بين القضبان عن 15 سم والسعر يشمل الخردوات اللازمة والمفصلات والأيدي مع تقديم وتركيب الرسمات الجاهزة من الحديد كما هو بالرسم المرفق والسعر لا يشمل الزرفيل والزجاج والدهان والكيل هندسي صافي للفتحة الإنشائية.
2- يلتزم الفريق الثاني بإتمام الأعمال الموكلة إليه خلال أربعين يوما من تاريخ أمر المباشرة بالعمل الصادر من الفريق الأول خطيًّا باستثناء الدرابزين حيث يتم تركيبه بعد إنجاز أعمال البلاط.
3- يلتزم الفريق الثاني بأن يقوم بجميع الأعمال بواسطة عمال أكفاء من ذوي السمعة الحسنة ويتحمل مسؤولية عمله وعماله طيلة فترة العمل ويحق للفريق الأول رفض أي عامل دون اعتراض من الفريق الثاني.
4- على الفريق الثاني أن يقوم بحماية أعمال الأبواب الحديدية المركبة كافة من أي تلف أو خدش وعليه أن يستبدل وعلى نفقته الخاصة القطع التي يلحق بها الضرر نتيجة لعدم تقيده بهذا الشرط.(7/872)
5- على الفريق الثاني أن يتحمل أية أضرار تلحق بالمشروع قد تنجم للفريق الأول أثناء تنفيذ الفريق الثاني للأعمال الموكلة إليه.
6- يلتزم الفريق الثاني بعدم تأخير تقديم وتركيب الأبواب الحديدية للمشروع وحسب طلب الفريق الأول وضمن المواصفات والشروط المذكورة وبعكس ذلك فإنه يتحمل غرامة مقدارها خمسة وعشرون دينارا عن كل يوم تأخير.
7- في حال إخلال الفريق الثاني بإحكام البند الثاني من هذه الاتفاقية وفي حال تأدية هذا الإخلال بأي شكل من الأشكال إلى ترتب مسؤولية على الفريق الأول تجاه الغير فيتحمل الفريق الثاني كامل المسؤولية التي تترتب على الفريق الأول تجاه الغير دون أن يكون للفريق الثاني حق الاعتراض على ذلك.
8- يلتزم الفريق الثاني بالعمل حسب المخططات والمواصفات المذكورة بالبند رقم (1) .
9- إذا حصل أي تقصير من الفريق الثاني عندها يقوم الفريق الأول بتكملة العمل على حساب الفريق الثاني مهما بلغت التكاليف.
10- تكون الأسعار للأبواب الحديدية حسب الشروط والمواصفات المذكورة بالبند رقم (1) ، خمسون دينارًا للمتر المربع الواحد شاملا الخردوات اللازمة والمفصلات، شبك حماية سعر المتر 14 دينار.
11- تكال أعمال الأبواب على الراكب بالمتر المربع لمساحة الباب على أن يتم الكيل من السلاح إلى السلاح ومن العتبة أو البرطاش أو القمط أو صندوق الأباجورات والكيل هندسي ولا يؤخذ أي عرف آخر بالكيل.
12- تقدر أعمال الأبواب الحديدية بحوالي ألفين ومائتي دينار تسدد للفريق الثاني على الوجه الآتي:
(أ) يدفع الفريق الأول للفريق الثاني 90 % من العمل المنجز بموجب تقديم فاتورة بالجزء المنجز.
(ب) يتم تنظيم فاتورة نهائية للفريق الثاني بعد أن يتم استلام الأعمال استلاما نهائيا من قبل مهندسي المؤسسة.
13- لا يحق للفريق الثاني إحالة الاتفاقية بمجموعها أو مجزأة إلى أي فريق آخر إلَّا بموافقة الفريق الأول.
14- وقعت هذه الاتفاقية من قبل الطرفين بتاريخ / / 199م.
الفريق الثاني الفريق الأول(7/873)
بسم الله الرحمن الرحيم
عقد استصناع أبواب خشبية
بعون الله تم الاتفاق بين:
الفريق الأول: مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام ممثله بمديرها العام.
الفريق الثاني: ……………………
1- يلتزم الفريق الأول بتقديم وتركيب أبواب خشبية للمشروع المقام على قطعة الأرض رقم حوض وفق المواصفات والشروط التالية:
بالمتر المربع تقديم وتركيب أبواب منجور داخلية كبس على خشب أبيض 7.5 – 3.4 وتركيب قشاط سويد على الباب من جميع حوافه سماكة 4.4- 2.5 والمعاكس 5 ملم أكومية وعرض خشب الحلق 13.5 إلى 14 سم بزيادة 2سم تقريبا للقصارة والبلاط الصيني يكون الحلق – 16.0 سم تضاف الزيادة في الحلق على مربع الباب والكشفات خشب سويد 7 سم والسماكة 1 سم والكيل من طرف الكشفة إلى طرف الكشفة وكل زيادة على عرض الحلق بعد 13.5 تضاف مع كيبل الباب والمفصلات عدد (3) زر صيني مع ستوب كاوتشوك والسعر لا يشمل الدهان ولا الزجاج ولا الزرفيل مع التزام الطرف الثاني بتركيب الزرفيل والتزام الطرف الأول بتقديم الزرفيل.
2- يقوم الفريق الثاني بتزويد الفريق الأول بأية مخططات تفصيلية لأعمال الأبواب الخشبية المراد تركيبها بمشروع الفريق الثاني إذا طلب منه ذلك.(7/874)
3- يلتزم الفريق الأول بإتمام الأعمال الموكلة إليه خلال خمسة وأربعين يوما على النحو التالي:
(أ) المرحلة الأولى تقديم وتركيب حلوق الأبواب بعد دهنها بدهان أساس (زيت) وقبل أعمال القصارة أخشنه للجدران خلال مدة سبعة أيام من تاريخ أمر المباشرة الأول والصادر من قبل الفريق الثاني خطيا.
(ب) المرحلة الثانية تقديم وتركيب الأبواب الداخلية بعد الانتهاء من أعمال تبليط البلاط الأرضي والبلاط الصيني لجدران الحمامات والمطبخ وذلك خلال مدة ثمانية وثلاثين يوما من تاريخ أمر المباشرة الثاني والصادر من قبل الفريق الثاني.
4- على الفريق الثاني إعلام الفريق الأول خطيا خلال مدة تنفيذ متعهد المنجور عن أية أضرار يحدثها أو يتسبب بها بالمشروع.
5- تكال أعمال الأبواب الخشبية على الراكب بالمتر المربع لمساحة الباب على أن يتم الكيل من الكشفة للكشفة للبلاط والكيل هندسي.
6- إن أي خلاف أو نزاع ينجم عن هذه الاتفاقية يتم البت فيه عن طريق التحكيم بموجب قانون التحكيم الأردني الساري المفعول.
7- عند استلام الأبواب الخشبية من قبل لجنة المؤسسة من الصانع حسب المواصفات الموضحة في البند الأول من هذه الاتفاقية يتم دفع القيمة المستحقة للصانع دون الحاجة إلى موافقة الطرف الثاني في هذه الاتفاقية على دفع القيمة للصانع ولا يحق للطرف الثاني الاعتراض.
8- يقر الفريق الثاني بأن دفاتر الفريق الأول وحساباته تعتبر بنية قاطعة لإثبات أية مبالغ ناشئة ومتعلقة بهذا العقد وتطبيقاته مهما كانت مع ما يلحقها من مصاريف سواء أكانت للفريق الأول أم للغير. ويصرح بأن قيود الفريق الأول وحساباته تعتبر نهائية وصحيحة بالنسبة له ولا يحق له الاعتراض عليها، كما أنه يتنازل مقدما عن أي حق قانوني يجيز له طلب تدقيق حسابات الفريق الأول وقيوده من قبل أية محكمة أو إبراز دفاتره وقيوده، وتعتمد في ذلك الكشوفات المنسوخة عن تلك الدفاتر والحسابات والتي يصادق المفوضون بالتوقيع عن الفريق الأول على مطابقتها للأصل.
9- يلتزم الفريق الأول بمتابعة تنفيذ هذه الاتفاقية وبذل كل جهد لتنفيذ كل ما ورد فيها من بنود وذلك وفق ما يراه مناسبا من إجراءات.(7/875)
10- يتم قيد قيمة أعمال الأبواب الخشبية المنفذة على حساب الفريق الثاني وبالسعر المحدد بهذه الاتفاقية، وتعتبر هذه الاتفاقية من أصل قيمة عقد بيع المرابحة بين الفريقين.
11- يعتبر هذا العقد بكافة بنوده جزءًا لا يتجزأ من الاتفاقية العامة المعقودة ما بين الفريق الأول والفريق الثاني للشروط العامة للتعامل وعقود المرابحة الموقعة بين الطرفين.
12- على الفريق الثاني أن يعلم وبشكل فوري الفريق الأول عن أي تأخير يحدث من قبل أي مقاول فرعي (عينه الفريق الثاني) وأدى هذا التأخير إلى تأخير التوريد من قبل متعهد أعمال المنجور (والمعين من قبل الفريق الأول) لتقديم وتركيب أعمال الأبواب الخشبية الخاصة بمشروع الفريق الثاني.
13- يكون سعر المتر المربع للأبواب الخشبية حسب الشروط والمواصفات المذكورة أعلاه.
14- لا يحق للفريق الثاني إلغاء أو إضافة أية كمية من الأعمال المتفق عليها دون أخذ الموافقة الخطية من الفريق الأول.
15- في حالة تأخر أو تعثر أو إخلال المتعهد الرئيسي في إنهاء أعمال تجهيز الفتحات المعمارية والمعين من قبل الفريق الثاني وفي حالة تأدية هذا التأخر أو الإخلال بأي شكل من الأشكال إلى ترتب المسؤولية على الفريق الأول تجاه متعهد أعمال المنجور والمعين من قبل الفريق الأول، فيتحمل الفريق الثاني كامل المسؤولية التي تترتب على الفريق الأول تجاه المتعهد.
16- وقعت هذه الاتفاقية من قبل الطرفين بتاريخ / / 199م ,
الفريق الثاني الفريق الأول.(7/876)
بسم الله الرحمن الرحيم
عقد استصناع أبواب خشبية
وأعمال منجور
بعون الله تم الاتفاق بين:
الفريق الأول: مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام ممثلة بمديرها العام.
الفريق الثاني: ……………………………………….
يلتزم الفريق الثاني بتقديم وتركيب أبواب خشبية للمشروع المقام على قطعة الأرض حوض وقد قام الفريق الثاني بزيارة الموقع والاطلاع على المخططات الهندسية الخاصة بالمشروع وقام بدراستها ووافق على تقديم وتركيب أبواب خشبية وفق المواصفات والشروط التالية:
1- بالمتر المربع:
- الأبواب الداخلية:
تقديم وتركيب أبواب خشب كبس سمك صافي 4.5 سم مع معاكس 5 ملم على الوجهين والحلق من خشب سويد بمقطع صافي 14×4.5 سم مثبت بمرابط حديد مجلفن والإطارات من خشب سويد بمقطع 10×4.5 سم والحشوات من خشب أبيض 3.5×3.5 سم مثبتة على بعد 7 سم من المحاور.
والوقافات والمفصلات عدد (3) صيني والزجاج والبراويز من خشب سويد 7×2 مثبتة على دفائن خشبية سمك 3 سم بواسطة براغي مع تأسيس الحلق بالزيت الحار قبل التركيب وهذه المواصفات للأبواب الداخلية والحمامات والمطابخ والسعر لا يشمل الزرافيل.
- الأبواب الخارجية:
تقديم وتركيب أبواب خارجية خشب مرنتي سمك 4.5 سم مع معاكس من الداخل ميجانو 3 ملم، والحلق مرنتي بمقطع 14×4.5 سم وما زاد عن ذلك يضاف إلى طول وعرض الباب. والمفصلات عدد (3) للباب الواحد من نوع صيني، مع تأسيس الحلق بالزيت الحار قبل التركيب والسعر لا يشمل الزرافيل.(7/877)
2- يلتزم الفريق الثاني بإتمام الأعمال الموكلة إليه على النحو التالي:
(أ) تركيب الحلوق: خلال شهر واحد من تاريخ توقيع هذا العقد.
(ب) إنجاز الأبواب الداخلية والخارجية والمطابخ وجميع الأعمال الواردة في هذا العقد بالكامل خلال ثلاثة أشهر من أمر المباشرة الصادر من الطرف الأول إلى الطرف الثاني.
3- يلتزم الفريق الثاني بأن يقوم بجميع الأعمال بواسطة عمال أكفاء من ذوي السمعة الحسنة ويتحمل مسؤولية عمله وعماله طيلة فترة العمل ويحق للفريق الأول رفض أي عامل دون إبداء الأسباب ودون اعتراض من الفريق الثاني.
4- على الفريق الثاني أن يتحمل أية أضرار تلحق بالمشروع قد تنجم للفريق الأول أثناء تنفيذ الفريق الثاني الأعمال الموكلة إليه.
5- يلتزم الفريق الثاني بعدم تأخير تقديم وتركيب الأبواب الخشبية للمشروع وحسب طلب الفريق الأول وضمن المواصفات والشروط المذكورة وبعكس ذلك فإنه يتحمل غرامة مقدارها 20 عشرون دينارا عن كل يوم تأخير.
6- في حال إخلال الفريق الثاني بأحكام البند الثالث من هذه الاتفاقية وفي حالة تأدية هذا الإخلال بأي شكل من الأشكال إلى ترتب مسؤولية على الفريق الأول تجاه الغير فيتحمل الفريق الثاني كامل المسؤولية التي تترتب على الفريق الأول تجاه الغير دون أن يكون للفريق الثاني حق الاعتراض على ذلك.(7/878)
7- إذا حصل أي تقصير من الفريق الثاني عندها يقوم الفريق الأول بتكملة العمل على حساب الفريق الثاني مهما بلغت التكاليف ويعود بفرق السعر على الفريق الثاني.
8- يكون سعر المتر المربع الواحد كما يلي:
- الأبواب الداخلية والمطابخ 32 دينارا للمتر المربع الواحد.
- الأبواب الخارجية: 55 دينارا للمتر المربع الواحد.
- صناديق الإباجورات: 14 دينارا للمتر المربع الواحد.
وذلك حسب المواصفات المذكورة في البند الأول دون علاوات أو إضافات والسعر لا يشمل الزرافيل.
9- تكال الأبواب على الراكب بالمتر المربع من الكشفة للكشفة، ومن الكشفة للبلاط والكيل هندسي.
10- تقدر أعمال الأبواب الخشبية بحوالي عشرة آلاف دينار تدفع للفريق الثاني على الوجه التالي:
(أ) 35 % من القيمة الإجمالية عند الانتهاء من تركيب الحلوق وصناديق الأباجورات.
(ب) يتم تسليم الجزء الثاني على دفعتين:
- الجزء الأول من الدفعة الثانية بعد تسلم أعمال المنجور في الطابق الأرضي والأول بكامله.
- الجزء الثاني من الدفعة الثانية بعد تسلم أعمال المنجور في الطابق الثاني والرووف كاملة.
(ج) يقدم الطرف الثاني شيك تأمين 10 % من القيمة الإجمالية كفالة حسن الأداء، ويقدم مع توقيع هذا العقد.
11- لا يحق للفريق الثاني إحالة الاتفاقية أو أي جزء منها إلى أي فريق آخر إلَّا بموافقة الفريق الأول.
12- وقعت هذه الاتفاقية من قبل الفريقين بتاريخ / / 199م.
الفريق الثاني الفريق الأول(7/879)
الاستصناع وموقف الفقه الإسلامي منه
في
صورة عقد استصناع " أو عقد السلم "
إعداد
أ. د. حسن علي الشاذلي
أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن
بالمعهد العالي للقضاء
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن نهج نهجه وسار على هديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن نعم الله تعالى على الإنسان كثيرة، ولا يحصيها عد، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (1) .، ولا يلم بأطرافها ومداها فكر، ولا يحيط بأسرارها عقل، إلَّا من أذن الله له، وشاءت إرادته أن يمنحه شيئا من أسرارها.
قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (2) .
ولما كان الإنسان محتاجا في مسيرته الحياتية إلى أن ينال من نعم الله، وينعم بما تفضل الله به عليه من حوله من نعم ميسورة التحصيل، ظاهرة الأسباب، تحصيلها ميسور لكل الخلق على السواء، كذلك فإنه محتاج إلى نعم أخرى تحتاج في كسبها وتحصيلها، وصياغتها وتوطئة أكنافها واستخراجها إلى جهد – يقل ويكثر – وإلى عقل وفكر – يثابر أو يقصر – ولكل قدر من الفكر والجهد والتدبر نتيجته التي ترضي، وتسد حاجات للناس، وبقدر ما يعلو الفكر والجهد بقدر ما تكون النتائج عالية والمصالح مجلوبة، والقوة محققه، وهذا ما يدعو إليه الإٍسلام {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} .
__________
(1) الآية 18 من سورة النحل
(2) الآية 255 من سورة البقرة(7/880)
وقال عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير …)) الحديث.
ومن هنا جاء توجيه الله تعالى للمؤمنين وتفكيرهم، وأمرهم بالنظر والتدبر في هذا الكون ومن احتواه، لمعرفة القدرة القادرة والقوة القاهرة، التي خلقت وأوجدت، وسخرت ويسرت، ووهبت وأعطت، منة منه جل شأنه وفضلًا، فبقدر أعمال العقل – هبة الله إلى الإنسان - في العلو والبحث والتدبر، بقدر ما تكون المعرفة، ويكون الإيمان ويكون القرب، ويكون الخضوع والتذلل، ومن ثم يكون للائتمار بما أمر حلاوة، ويكون للانتهاء عما نهى طلاوة، وفي كل ذلك شفاء وسعادة للروح وللجسم، للفرد وللمجتمع، للدولة وللدول وللعالم بأسره.
والآيات في هذا المضمار كثيرة ….
قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (1) .
وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (2) .
وقال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (3) .
* وبقدر الامتثال والائتمار، والاستشفاف والتشبع، والسلوك والاستيعاب كان أهل العلم لهم منزلتهم ….
قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (4) .
ولقد كان من آيات ذلك التوجيه الرباني للعلم منذ آدم عليه السلام، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (5) .
إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (6) .
وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (7) . وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (8) .
__________
(1) [الآيات من 20-23 من سورة الذاريات]
(2) [الآيات من 24-32 من سورة عبس]
(3) الآيات من 17-26 من سورة الغاشية
(4) [الآية 9 من سورة الزمر]
(5) [الآية 31 من سورة البقرة]
(6) [الآية من 1-5 من سورة العلق]
(7) [الآية 113 من سورة النساء]
(8) [الآية 114 من سورة طه](7/881)
* كان من آيات هذا التوجيه الرباني إلى العلم أن يتنوع العلم ويزكو، وينبعث من شجرته فروع كثيرة، بقدر ما كان استيعابها لأمة من الأمم بقدر ما كان تقدمها ورقيها، ومن هنا انطلق العالم في حرب شعواء لاكتساب ضروب العلم وتسخيرها لخدمة كل شعب ظفر من هذه الشجرة بما يحقق له علوا، ونصرا، وسيادة، وبات الناكص والخامل في هذا الدرب كسيف البال، عالة على أولئك المثابرين في رحابه والمتفانين في معرفة ضروبه ودروبه.
ولقد وجدنا فقهاء الأمة الإسلامية، يعكسون من أنوار التشريع الإسلامي ما يفتح الباب دائما، إلى نيل ضروب المعرفة، وتحصيل كل سبل العلم، مدرسة بعد مدرسة وفنا إثر فن، وصنعة إثر صنعة.
ما أغلقوا بابا فتحه الله، ولا ضيقوا طريقا وسعه الله على خلقه، بل كان همهم تطبيق شريعة الله تعالى، التي وسعت كل شيء بحكمة بالغة، وإعجاز معجز، استمر طيلة القرون، بل ويستمر – بمشيئة الله تعالى – إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولقد كان الفقه الإسلامي حريصا كل الحرص، وهو يوضح ويبين شريعة الله تعالى أن يبرز أحكام العقود والتصرفات التي تتم بين الناس – ما شرع منها وما لم يشرع، ما صح منها وما لم يصح – توجيها لمسيرة الناس إلى ما فيه خيرهم وتحقيقا لمصالحهم، وتحديدا لعلاقات الناس في معاملاتهم، منعا من الظلم والتظالم، ودفعا للشحناء، وإيضاحًا للآفاق التي من خلالها يرى كل إنسان ما يحقق له مصلحته فيسير فيه، وما يجلب له مضرة فيبتعد عنه.
ولقد كان للصناعة أثرها في الماضي والحاضر، وكان لها دورها في رقي الأمم ومكانتها في سد حاجات الناس المتجددة، ورغباتهم المتنامية تجدد الليل والنهار ونمو المسيرة الإنسانية عبر القرون والأزمان.
وكان دور الفقه الإسلامي أن يبين للناس – إذا ما أرادوا أن يصنع الإنسان لغيره شيئا – حقيقة العقد المنظم لهذه العلاقة – وهو الذي أطلق عليه بعض الفقهاء (الحنفية) " عقد الاستصناع " – ومشروعيته، وحكمه وآثاره، وعالجه فقهاء المذاهب (المالكية والشافعية والحنابلة) عن طريق عقد السلم.
ولما كان إبراز المنهج الذي عالج به كل مذهب (الاستصناع) أهميته البالغة، التي تظهر لنا بوضوح، إحاطتهم لهذه العقود بما يدرأ عنها المضرة لأي من المتعاقدين ويجلب لكل منهما ويحقق له المصلحة التي ابتغاها من وراء هذا العقد….(7/882)
كان تناولي لهذا العقد حسب المنهج التالي:
المبحث الأول: عقد الاستصناع عند الحنفية، ويشمل:
تعريفه، وحكمه ومشروعيته، وتكييفه، وأركانه وشروط جوازه وصفته، آثاره.
المبحث الثاني: الاستصناع عند المالكية، ويشمل:
رأي المالكية في عقد الاستصناع، ورأيهم في بعض الاستصناع – حسب اصطلاح الحنفية – ثم عرض رأيهم في " السلم " في أشياء تصنع، وشروط هذا العقد، ومتابعة صور السلم في الصناعات وبيان حكمها.
المبحث الثالث: الاستصناع عند الشافعية، ويشمل:
رأي الشافعية في عقد الاستصناع، ثم رأيهم في (السلم) في أشياء تصنع، سواء صنعت من مادة واحدة، أو من أكثر من مادة خلقة، أو صنعة (ويمكن ضبط أجزائها، أو لا يمكن، يقصد كل جزء منها أو لا يقصد) …
المبحث الرابع: الاستصناع عند الحنابلة، ويشمل: رأي المذهب الحنبلي في عقد الاستصناع، ثم رأيهم في التعاقد على أشياء تصنع …..
* وبعرض ذلك – بمشيئة الله تعالى وتوفيقه – ينكشف لنا حقيقة كل من عقدي "الاستصناع" و "السلم" ووجه الالتقاء، والتباعد، وشروط كل من العقدين ….
وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا الجهد خالصا لوجهه الكريم، وأن يغفر لنا زلاتنا، وقصورنا.
{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (1) .
__________
(1) من الآية 286 آخر سورة البقرة(7/883)
المبحث الأول
رأي المذهب الحنفي في عقد الاستصناع
يلزمنا أولا أن نبين حقيقة هذا العقد، ثم حكمه، وتكييفه، وشروط صحته وأركانه، وما يشترط في المعقود عليه، ثم صفة هذا العقد، وآثاره، وانتهاءه.
تعريف الاستصناع، لغة، واصطلاحا:
(أ) تعريفه لغةً:
الاستصناع مصدر للفعل استصنع واستصنع الشيء: أي دعا إلى صنعه، ويقال: اصطنع فلان بابا: إذا سأل رجلا أن يصنع له بابا، كما يقال: اكتتب: أي أمر أن يكتب له.
فمعناه لغة: طلب الصنعة، وفي القاموس: الصناعة ككتابة حرفة الصانع وعمله الصنعة، فعلى هذا الاستصناع لغة طلب عمل الصانع.
(ب) تعريف الاستصناع اصطلاحا:
عرف الحنفية عقد الاستصناع بتعريفات متعددة نورد منها ما يلي:
عرفه الكاساني بقوله: الاستصناع عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل (1) ، وعرفه ابن عابدين بقوله: " الاستصناع هو طلب العمل من الصانع في شيء خاص على وجه مخصوص يعلم مما يأتي …. " (2) .
وعرفه البابرتي بقوله: " الاستصناع أن يجئ إنسان إلى صانع فيقول:
اصنع لي شيئا صورته كذا، وقدره كذا بكذا درهما، ويسلم إليه جميع الدراهم، أو بعضها أو لا يسلم " (3) .
ومثله تعريف الكمال بن الهمام: "الاستصناع طلب الصنعة وهو أن يقول لصانع خف أو مكعب أو أواني الصفر: اصنع لي خفا طوله كذا وسعته كذا أو دستا – أي برمة – تسع كذا، ووزنها كذا على هيئة كذا بكذا، ويعطى الثمن، أو لا يعطى شيئا، فيعقد الآخر معه (4) وعرفه ابن نجيم بقوله: الاستصناع أن يقول لصاحب خف أو مكعب أو صفار اصنع لي خفا طوله كذا أو سعته كذا، أو دستا - أي برمة - تسع كذا ووزنها كذا على هيئة كذا بكذا، ويعطى الثمن المسمى، أو لا يعطى شيئا، فيقبل الآخر منه. (5) .
وعرفه في مجلة الأحكام العدلية في المادة (124) :
" الاستصناع عقد مقاولة مع أهل الصنعة على أن يعمل شيئا، فالعامل صانع، والمشتري مستصنع والشيء مصنوع.
ويتضح من تعريف الاستصناع عند الحنفية ما يأتي:
(أ) أنه تعاقد بين: صاحب صنعة – وهو الصانع – وآخر هو " المستصنع ".
(ب) أن المبيع (الشيء المصنوع) هو مبيع في الذمة، شرط فيه العمل – وحددت أوصافه المميزة له عن غيره من وزن وهيئة وغير ذلك.
(ج) أن الثمن معلوم ومحدد، ويصح أن يعطيه المستصنع للصانع مقدما عند التعاقد، ويصح أن يعطيه قدرا منه والباقي عند استلام " الشيء المصنوع " ويصح أن يؤخره إلى أنه يتسلم " المصنوع ".
__________
(1) بدائع الصنائع: 5/2،3،4
(2) حاشية رد المحتار: 5/223
(3) شرح فتح القدير: 5/354
(4) شرح فتح القدير 5/354.
(5) البحر الرائق كنز الدقائق: 6/185(7/884)
مشروعية عقد الاستصناع:
اختلف الفقهاء في جواز عقد الاستصناع إلى رأيين:
الرأي الأول:
يرى أنه لا يجوز عقد الاستصناع، وهو قول زفر من الحنفية وكذا المالكية والشافعية والحنابلة (مع إيجاد بديل لهذا العقد في المذاهب الثلاثة) كما سيأتي بيانه:
إن القياس يقتضي عدم جواز عقد الاستصناع، وذلك لأنه لا يمكن أن يكون عقد إجارة، لأنه استئجار على العمل في ملك الأجير، وذلك لا يجوز، كما لو قال شخص لآخر: أحمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا بكذا، أو قال له: أصبغ ثوبك أحمر بكذا، فإنه لا يصح.
وكذلك لا يمكن أن يكون عقد الاستصناع " عقد بيع " باعتبار أن " المستصنع " فيه مبيع لأنه بيع معدوم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان أي أن بيع ما يكون موجودا مملوكا لغير العاقد لا يجوز للنهي عنه، والصنعة المطلوبة – حال العقد – هي معدومة وغير موجودة فتكون أولى بعدم الجواز.
وأيضا فإنه لا يمكن أن يكون (سلما) (1) لأن هذا ليس بسلم، لأنه لم يضرب له أجل، ومن شروط صحة السلم أن يكون المعقود عليه وهو (المسلم فيه) مؤجلا (2) ، وذلك عند الحنفية والمالكية والحنابلة خلافا للشافعية (3) .
__________
(1) عرف الحنفية السلم بقولهم: " بيع الدين بالعين " فإن السلم فيه مبيع، وهو دين، ورأس المال قد يكون عينا وقد يكون دينا، ولكن قبضه شرط قبل افتراق العاقدين بأنفسهما، فيصير عينا. اهـ. في حاشية أحمد الشلبي هامش تبيين الحقائق: 4/110. * وعرفه المالكية بـ " عقد معاوضة يوجب عمارة ذمة بغير عين ولا منفعة، غير متماثل العوضين ". قال ابن عرفة: الحطاب: 4/514. * وعرفه الشافعية بـ " بيع موصوف في الذمة …". قال الشارح هذه خاصته المتفق عليها. مغني المحتاج: 2/102. وعرفه الحنابلة بـ " عقد على شيء يصح بيعه " موصوف في الذمة، مؤجل – أي الموصوف – بثمن مقبوض في مجلس العقد. قال في المبدع: واعترض بأن قبض الثمن شرط من شروطه، لا أنه داخل في حقيقته فالأولى أنه " بيع موصوف في الذمة إلى أجل " وأجمعوا على جوازه. كشف القناع: 3/289
(2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " متفق عليه. وبهذا أخذ جمهور الفقهاء
(3) جاء في مغني المحتاج: 2/105، " ويصح السلم حالا ومؤجلا … وإنما يصح حالا إذا كان المسلم فيه موجودا عند العقد، وإلا اشترط فيه الأجل …"(7/885)
الرأي الثاني:
يرى جواز عقد الاستصناع استحسانا وهو رأي الحنفية غير زفر، والمالكية في بعض الصور ووجه الاستحسان ما يلي:
1- أن التعامل بالاستصناع يرجع إلى الإجماع العملي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم من غير نكير، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتي على ضلالة "، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ".
2- وقد استصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما: " واستصنع منبرا " (1) .
3- وقد احتجم صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام. مع أن مقدار عمل الحجامة، وعدد كرات وضع المحاجم، ومصها، غير لازم عند أحد ومثله شرب الماء من السقاء.
* وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجود الحمَّام، فأباحه بمئزر، ولم يبين له شرطا وتعامل الناس بدخوله من لدن الصحابة والتابعين (رضوان الله عليهم) على هذا الوجه إلى الآن، وهو لا يذكر عدد ما يصبه من ملء الطاسة ونحوها، فقصرناه على ما جرى به التعامل.
* ومن ثم قصر الحنفية جواز عقد الاستصناع على ما فيه تعامل، وأما ما لا تعامل فيه فقد رجعوا فيه إلى القياس، فقالوا بعدم جوازه، كأن يستصنع حائكا أو خياطا لينسج له، أو يخيط قميصا بغزل نفسه " (2) .
* وقال المالكية في بعض الصور بذلك – كما سيأتي، وهو ما سمي بـ " بيعة أهل المدينة " (3) على تفصيل وضوابط سيأتي بيانها.
__________
(1) شرح فتح القدير: 5/355، وتبيين الحقائق: 4/123
(2) تبيين الحقائق: 4/123
(3) يراجع ص28(7/886)
تكييف عقد الاستصناع:
* وبناء على القول بجواز عقد الاستصناع عند الحنفية، فما تكييفه؟
اختلف علماء الحنفية في تكييف عقد الاستصناع إلى رأيين:
الرأي الأول:
يرى أن عقد الاستصناع هو مواعدة " وهو رأي عند الحنفية حكي عن الحاكم الشهيد والصفار، ومحمد بن سلمة، وصاحب المنثور "
" وإنما ينعقد العقد بيعا بالتعاطي إذا جاء به مفروغا عنه "، أي قد أتم صنعه، والدليل على أنه مواعدة: أن للصانع ألا يعمل، إذ ليس هو عقدا لازما (1) ، وأنه لا يجبر عليه، بخلاف السلم، وللمستصنع ألا يقبل ما يأتي به الصانع، ويرجع عنه، ولا تلزم "المعاملة" وكذا " المزارعة " على قول أبي حنيفة لفسادهما مع التعامل، لثبوت الخلاف فيهما في الصدر الأول، وهذا كان على الاتفاق (2) .
أو نقول: " أن ثبوت الخيار لكل واحد منهما فيه دليل على أنه مواعدة وليس عقد بيع وإنما ينعقد بالتعاطي، أي بعد أن يتم الصنع، يعطى هذا الشيء المصنوع ويعطى الآخر الثمن " (3) .
الرأي الثاني: في عقد الاستصناع:
يرى أنه ينعقد بيعا.
وهو الرأي الصحيح في مذهب الحنفية.
وهو مذهب عامة مشايخ الحنفية جاء في شرح فتح القدير: " والصحيح من المذهب جوازه بيعا، لأن محمدا (رضي الله عنه) ذكر فيه القياس والاستحسان، وهما لا يجريان في المواعدة، ولأنه جوزه فيما فيه تعامل دون ما ليس فيه تعامل "، ولو كان مواعدة جاز في الكل، وسماه (أي محمد بن الحسن) شراء، فقال إذا رآه المستصنع فهو بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره، ولأن الصانع يملك الدراهم بقبضها، ولو كانت مواعدة لم يملكها، وإثبات أبي اليسر الخيار لكل واحد منهما لا يدل على أنه غير بيع، ألا ترى أن في بيع المقايضة (4) لو لم ير كل منهما عين الآخر كان لكل منهما الخيار، وحين لزم جوازه علمنا أن الشارع اعتبر فيه المعدوم موجودا، وفي الشرع كثير كذلك، كطهارة المستحاضة، وتسمية الذبائح إذا نسيها، والرهن بالدين الموعود، وقراءة المأموم. كل ذلك اعتبر فيه الشرع المعدوم موجودا.
__________
(1) تبيين الحقائق: 4/123، وشرح فتح القدير: 5/355
(2) شرح فتح القدير: 5/355، والمبسوط: 12/139
(3) والوعد غير ملزم عند الحنفية
(4) بيع المقايضة هو "بيع العين بالعين - كبيع السلع بأنواعها، نحو بيع الثوب بالثوب وغيره" تبيين الحقائق: 4/110، حاشية أحمد شلبي.(7/887)
شروط صحة عقد الاستصناع عند الحنفية:
نعرض فيما يلي الشروط التي يلزم توافرها لجواز عقد الاستصناع عند الحنفية – مع إيراد آراء المخالفين في اشتراط أي من هذه الشروط إذا وجد اختلاف.
الشرط الأول:
أن يكون المصنوع معلوما.
وذلك بأن يبين جنس المصنوع، ونوعه، وصفته، وقدره، لأنه لا يصير معلوما بدونه فإذا جهل شيء من ذلك يفسد العقد، لجهالة المعقود عليه، إذ هو مبيع.
الشرط الثاني:
(أن يكون المصنوع مما يجري فيه التعامل بين الناس) وقد ضرب علماء المذهب أمثلة لذلك:
فقالوا: (مثل أواني الحديد والنحاس والرصاص، والزجاج وكذا الخفاف، والنعال، ولجم الحديد للدواب، ونصول السيوف، والسكاكين، والقسي، والنبل، والسلاح كله والطشت والقمقمة ونحو ذلك – قال الكاساني.
ثم قال:
(ولا يجوز في الثياب، لأن القياس يأبى جواز الاستصناع، وإنما جوازه استحسانا لتعامل الناس، ولا تعامل في الثياب) (1) .
* وإذا نظرنا إلى الأمثلة التي أجازوا فيها الاستصناع وجدناها تشمل ما يأتي:
- الأواني المنزلية جميعها.
- والأحذية.
- والأسلحة جميعها.
- والمصنوعات الحديدية لاستعمال الدواب.
كما أننا إذا نظرنا إلى دليل جوازها وجدناه (تعامل الناس في هذه الأشياء) وهو عرف مدعم بالنصوص التي أوردناها فيما تقدم، ومن ثم يمكن أن يقال بناء على رأي الحنفية أن كل مصنوع جرى فيه التعامل بين الناس اليوم – مما يبيحه الشرع – يكون جائزا.
* ومن ثم جاء نص المادة (389) من مجلة الأحكام العدلية مقررا ذلك ونصها: (كل شيء تعومل استصناعه يصح فيه الاستصناع على الإطلاق وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة صار سلما، وتعتبر فيه حينئذ شروط السلم، وإذا لم يبين فيه المدة كان من قبيل الاستصناع أيضا.
__________
(1) بدائع الصنائع: 5/2-5(7/888)
أثر اشتراط الأجل في عقد الاستصناع:
فإذا ضرب للاستصناع أجل، وقد اختلف في اعتباره استصناعا إلى رأييين عند الحنفية:
الرأي الأول: رأي أبي حنيفة.
(يرى الإمام أبو حنيفة أنه إذا ضرب المتعاقد للاستصناع أجلا صار سلما، حتى يعتبر فيه شرائط السلم، وهو قبض البدل في المجلس ولا خيار لواحد منهما إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في السلم.
أما عقد الاستصناع فقد ثبت فيه خيار الرؤية، فإذا رآه المستصنع فهو بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء تركه، لأنه اشترى ما لم يره – خلافا لأبي يوسف – ومن هنا افترقا.
ووجه قول أبي حنيفة:
أنه إذا ضرب أجلا في الاستصناع فقد أتي بمعنى السلم (إذ السلم عقد على مبيع في الذمة مؤجلا) (1) والعبرة في العقود لمعانيها، لا لصور الألفاظ فيها، ألا ترى أن البيع ينعقد بلفظ التمليك، وكذا الإجارة، وكذا النكاح على أصلنا، ولهذا صار سلما فيما لا يحتمل الاستصناع، وهو ما لم يجر التعامل فيه وكذا هذا الذي ضرب فيه أجلا.
- ولأن التأجيل يختص بالديون، لأنه وضع لتأخير المطالبة، وتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه مطالبة، وليس ذلك إلا السلم إذ لا دين في الاستصناع، ألا ترى أن لكل واحد منهما خيار الامتناع من العمل قبل بالاتفاق، ثم إذا صار سلما يراعى فيه شرائط السلم، فإن وجدت صح سلما، وإلا لم يصح.
__________
(1) قد سبق تعريف السلم ص434(7/889)
الرأي الثاني: رأي أبي يوسف ومحمد:
يرى الصاحبان أنه لا يشترط (ألا يكون في عقد الاستصناع أجل) وأنه يكون عقد استصناع على كل حال بدون هذا الشرط، فسواء أضرب فيه أجل أم لم يضرب فيه أجل هو عقد استصناع ما دام الشيء المستصنع مما يجوز فيه الاستصناع. فإن كان مما لا يجوز فيه الاستصناع (كالثياب ونحوها) فضرب أجلا للاستصناع فيها ينقلب عقد الاستصناع سلما في قول أبي حنيفة وقول الصاحبين بالاتفاق.
ووجه قول أبي يوسف ومحمد في أن هذا ليس بشرط: أن العادة جارية بضرب الأجل في الاستصناع، وإنما يقصد به تعجيل العمل، لا تأخير المطالبة، فلا يخرج بالأجل عن كونه استصناعا.
- أو يقال: قد يقصد بضرب الأجل تأخير المطالبة، وقد يقصد به تعجيل العمل فلا يخرج العقد عن موضوعه مع الشك والاحتمال، بخلاف ما لا يحتمل الاستصناع، لأن ما لا يحتمل الاستصناع لا يقصد بضرب الأجل فيه تعجيل العمل، فتعين أن يكون لتأخير المطالبة بالدين، وذلك بالسلم. أو يقال أن اللفظ حقيقة في الاستصناع وتقريره أن ذكر الاستصناع يقتضي ألا يكون سلما، لأن اللفظ حقيقة وهو ممكن العمل، وذكر الأجل يقتضي أن يكون سلما لكنه ليس بمحكم فيه بل يحتمل أن يكون للتعجيل وإذا كان كذلك فقد اجتمع المحكم والمحتمل فيحمل الثاني على الأول.
ويحكى عن الهندواني: أن ذكر المدة إن كان من قبل المستصنع فهو للاستعجال، فلا يصير به سلما، وإن كان من قبل الصانع فهو سلم لأنه يذكره على سبيل الاستمهال، وفيما إذا صار سلما يعتبر شرائط السلم المذكورة.
الترجيح:
أرى أن قول الصاحبين – أبي يوسف ومحمد – في الهدف من ذكر الأجل في عقد الاستصناع وهو أن يقصد المستصنع بذكره والنص عليه تعجيل العمل، وتقديم الشيء والمصنوع في موعد ملائم لمصلحة المستصنع بل والصانع، هو قصد معتبر لا غنى عنه في مثل هذه العقود ضمانا للوفاء بالشيء المستصنع في وقت الحاجة إليه، إذ لو فات هذا الوقت ومضى لأمكن أن تكسد السلعة ولا تتحقق المصلحة من ورائها.
وبخاصة أن عقد الاستصناع عقد غير لازم من الطرفين قبل الصنع بالاتفاق بين علماء المذهب الحنفي، فمن مصلحة المستصنع أن يقدر الأجل الذي يمكنه فيه أن يحصل على الشيء المستصنع تحقيقا لغرضه، وضمانا لعدم تسرب الزمن منه، وإعذارا للصانع حتى لا يكون انصرافه عنه ورجوعه عن الوفاء دون سبب ظاهر وفيه أيضا مصلحة للصانع، إذ أنه بالأجل يحثه على الإنجاز وإتمام العمل في الوقت المطلوب، وتقديمه إلى المستصنع في موعده المحدد، وبعد ذلك يتفرغ لغيره من الأعمال.(7/890)
أركان عقد الاستصناع:
الركن الأول: الصيغة – وما يشترط فيها.
ويشترط في صيغة العقد ما يشترط في صيغة عقد البيع ولا نرى الحاجة في الإفاضة في ذلك.
الركن الثاني: العاقدان.
ويشترط فيهما ما يشترط في العاقدين في عقد البيع، ولا نرى الإفاضة في ذلك (1) .
الركن الثالث: المعقود عليه في عقد الاستصناع وما يشترط فيه.
وهذا الركن أرى بسط الحديث فيه إذ هو يتميز بميزات خاصة جعلته يصدق عليه هذا الاسم، وهو (الاستصناع) ، فأبين حقيقة المعقود عليه في عقد الاستصناع ثم ما يشترط في المعقود عليه لكي يصح عقد الاستصناع عند علماء الحنفية.
أولا: حقيقة المعقود عليه في عقد الاستصناع.
اختلف فقهاء المذهب في حقيقة المعقود عليه في هذا العقد إلى رأيين:
الرأي الأول: لأبي سعيد البردعي (2) ،
يرى أبو سعيد البردعي أن المعقود عليه في عقد الاستصناع هو العمل لأن الاستصناع استفعال من صنع أي طلب الصنع، وهو العمل، فتسمية العقد به دليل على أن المعقود عليه هو العمل، والأديم فيه والصرم بمنزلة الصيغ، أي بمنزلة الآلة للعمل. (3) ولهذا يبطل عقد الاستصناع بموت أحد المتعاقدين، كما تبطل الإجارة بذلك (عند المذهب الحنفي) .
الرأي الثاني: وهو رأي جمهور علماء المذهب (4)
يرى هؤلاء أن المعقود عليه هو العين وليس العمل، وذكر الصنعة لبيان الوصف وهذا هو الأصح في المذهب الحنفي، وقد قالوا في توجيه هذا الرأي: إن المعقود عليه هو العين (أي المستصنع فيه) لأن الصانع لو جاء بالمستصنع فيه مفروغا عنه، ولا من صنعته (بأن كان من صنع غيره) أو من صنعته قبل العقد، فأخذه المستصنع كان جائزًا، أي أنه لا يشترط أن يقوم الصانع بعمله في العين بعد العقد، حتى لو جاء به مفروغا، لا من صنعته، أو من صنعته قبل العقد، فأخذه المستصنع جاز.
__________
(1) إذا سرنا على رأي الحنفية فالركن هو رضا المتعاقدين، ولكنه لا يقوم الرضا إلَّا بوجود عاقدين، ومعقود عليه، ومن ثم كان رأي غيرهم جعل هذه الثلاثة أركانا
(2) أبو سعيد البردعي: هو أحمد بن الحسن – أبو سعيد – من الفقهاء الكبار، قتل في وقعة القرامطة مع الحاج سنة 317هـ سبع عشرة وثلاثمائة من الهجرة وتمام ترجمته في طبقات عبد القادر، وحاشية ابن عابدين: 5/225
(3) تبيين الحقائق، للزيلعي: 4/124.
(4) تبيين الحقائق، للزيلعي: 4/124.(7/891)
وكذا لو عمل بعد العقد، وباعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز، ولو كان المعقود عليه العمل لما جاز، وكذا محمد رحمه الله قال: (إذا جاء به مفروغا فللمستصنع الخيار لأنه اشترى ما لم يره سماه شراء، وأثبت فيه خيار الرؤية، وهو لا يثبت إلا في العين.
ثم ردوا على ما قاله أبو سعيد البردعي من قوله: (إنه يبطل بموت أحدهما) فقالوا: إنما بطل بموت أحدهما، لأن للاستصناع شبها بالإجارة من حيث إن فيه طلب الصنع، فلشبهه بالإجارة قلنا يبطل بموت أحدهما. ولشبهه بالبيع، وهو المقصود بالعقد أجرينا فيه ما ذكرنا من أحكام البيع.
وقيل أن عقد الاستصناع ينعقد إجارة ابتداء وبيعا انتهاء قبيل التسليم، لأن البيع لا يبطل بموت أحدهما، بل يستوفى من تركته، والإجارة لا يثبت فيها ما ذكرنا من أحكام البيع، فجمعنا بينهما على التعاقب لتعذر جمعهما في حالة واحدة، كما قلنا في الهبة بشرط العوض إنها هبة ابتداء بيع انتهاء، والمعنى فيه أن المستصنع طلب منه العين والدين، فاعتبرناهما جميعا، توفيرًا على الأمرين حظهما.
فإن قيل: إذا اعتبرتهم فيه معنى الإجارة ومعنى البيع وجب أن يجبر كل واحد منهما على المضي (في العقد) ولا يخير (كما سبق القول) .
قلنا: الإجارة تفسخ بالأعذار (عند الحنفية) وهذا عذر (لأن الصانع يلزمه الضرر بقطع الصرم، فباعتباره كان للصانع فسخه (منعا للضرر به) .
وكذا البيع يثبت فيه خيار الرؤية، فباعتباره يكون للمستصنع الفسخ، لأنه اشترى ما لم يره – على قول من قال بالتخيير – ولأن الجواز للضرورة فيظهر في حقه، ولا ضرورة في حق اللزوم، فلا يظهر في حقه (1) .
__________
(1) تبيين الحقائق: 4/124(7/892)
صفة عقد الاستصناع:
يرى الحنفية: أنه لبيان صفة هذا العقد يلزم التفرقة بين احتمالات ثلاثة: حالة ما قبل العمل في السلعة المطلوب صنعها وحالة ما بعد العمل فيها، قبل رؤية المستصنع الشيء المصنوع وحالة ما بعد هذه الرؤية.
الحالة الأولى: حالته قبل العمل في الشيء المستصنع:
أما صفة عقد الاستصناع قبل العمل في الشيء المصنع: فهو عقد غير لازم في الجانبين، جانب الصانع، وجانب المستصنع، بلا خلاف عند الحنفية.
وبناء على ذلك يكون لكل واحد منهما خيار الامتناع عن العمل، كالبيع المشروط فيه الخيار للمتبايعين، ويكون لكل واحد منهما الفسخ، لأن القياس يقتضي ألا يجوز عقد الاستصناع – كما سبق ذكره – وإنما عرفنا جوازه استحسانا لتعامل الناس، فبقي اللزوم على أصل القياس.
أو نقول إن جواز عقد الاستصناع للحاجة، وهي في الجواز، لا اللزوم. ولذا قلنا إن للصانع أن يبيع المصنوع قبل أن يراه المستصنع، لأن العقد غير لازم.
الحالة الثانية: حالته بعد العمل في الشيء المستصنع، وقبل رؤية المستصنع له:
أما صفة عقد الاستصناع بعد الفراغ من العمل في الشيء المستصنع، وقبل أن يراه المستصنع، فهو أيضا عقد غير لازم، لأنه لا يتعين إلا باعتبار المستصنع، حتى كان للصانع أن يبيعه ممن شاء (كذا ذكر في الأصل) لعدم تعينه، لأن العقد ما وقع على عين المعمول، بل على مثله في الذمة، لما ذكرنا من أنه لو اشترى المصنوع من مكان، وسلمه إليه، جاز، وهذا دليل على أنه يتعلق بالذمة (مثله) ولا يتعلق بالعين.
* وكذا لو باعه الصانع لغير المستصنع، وأراد المستصنع أن ينقض البيع ليس له ذلك، لأنه لا يتعين إلا باختيار المستصنع، ولم يختر، لكنه لم يره.
* ولو استهلك الصانع المصنوع قبل رؤية المستصنع للشيء المصنوع فهو كالبائع إذا استهلك المبيع قبل التسليم – كذا قال أبو يوسف – فإنه لا يجب شيء، إذ قد فات في مقابل الثمن، فلا يستحق البائع شيئا، ومثله هذا.
الحالة الثالثة: حالته بعد انتهاء العمل وإحضار المصنوع للمستصنع: إذ أحضر الصانع العين للمستصنع على الصفة المشروطة، ورآها، فقد اختلفت الرواية في اللزوم وعدمه بالنسبة لكل من الصانع والمستصنع إلى ثلاث روايات:(7/893)
الرواية الأولى:
أنه إذا أحضر الصانع العين على الصفة المشروطة فقد سقط خيار الصانع، وللمستصنع الخيار أي أنه يكون العقد لازما بالنسبة للأول دون الثاني.
وذلك لأن الصانع بائع للمستصنع ما لم يره. فلا خيار له.
وأما المستصنع فمشتري ما لم يره، فكان له الخيار، إذا رآه.
وإنما كان كذلك، لأن المعقود عليه وإن كان معدوما حقيقة، فقد ألحق بالموجود ليمكن القول بجواز العقد، كما سبق بيانه.
ولأن الخيار كان ثابتا للصانع والمستصنع قبل الإحضار، لأن العقد غير لازم كما سبق القول – والصانع بإحضاره المصنوع أسقط خيار نفسه، فبقي خيار صاحبه (وهو المستصنع) على حاله، كالبيع الذي شرط فيه شرط الخيار للمتعاقدين، إذا أسقط أحدهما خياره أنه يبقى خيار الآخر، كذا هذا.
(هذا جواب ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رضي الله عنهم) .
الرواية الثانية:
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أن لكل واحد منهما الخيار. أي أن العقد لا يكون لازما حتى بعد إحضار المصنوع ووجه هذه الرواية أن في تخيير كل واحد منهما دفع الضرر عنه، ودفع الضرر واجب.
الرواية الثالثة:
روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا خيار لهما، أي أن العقد يكون لازما وذلك لأن الصانع قد أفسد متاعه، وقطع جلده، وجاء بالعمل على الصفة المشروطة فلو كان للمستصنع الامتناع عن أخذه لكان فيه إضرار بالصانع.
بخلاف ما إذا قطع الجلد ولم يعمل، فقال المستصنع: لا أريد، لأنا لا ندري أن العمل يقع على الصفة المشروطة، أو لا يقع، فلم يكن الامتناع مه إضرارا بصاحبه. فثبت الخيار.(7/894)
* وقد رجح المذهب جواب ظاهر الرواية، فقال الكاساني هو الصحيح، لأن في إثبات الخيار للصانع ما شرع له الاستصناع، وهو دفع حاجة المستصنع، لأنه متى ثبت الخيار للصانع، فكل ما فرغ عنه يتبعه من غير المستصنع، فلا تندفع حاجة المستصنع.
* ورد على قول أبي يوسف بقوله:
وأما قول أبي يوسف أن الصانع يتضرر بإثبات الخيار للمستصنع مسلم، ولكن ضرر المستصنع بإبطال الخيار فوق ضرر الصانع بإثبات الخيار للمستصنع لأن المصنوع إذا لم يلائمه وطولب بثمنه لا يمكنه بيع المصنوع من غيره بقيمة مثله، ولا يتعذر ذلك على الصانع، لكثرة ممارسته وانتصابه لذلك.
ولأن المستصنع إذا غرم ثمنه، ولم تندفع حاجته لم يحصل ما شرع له الاستصناع وهو اندفاع حاجته، فلا بد من ثبوت الخيار للمستصنع، والله سبحانه وتعالى أعلم وهو الموفق (1) .
فإن سلم إلى حداد حديدا ليعمل له إناء معلوما بأجر معلوم، أو جلدا إلى خفاف ليعمل له خفافًا معلومًا بأجر معلوم فذلك جائز، ولا خيار فيه، لأن هذا ليس باستصناع بل هو استئجار، فكان جائزًا.
فإن عمل كما أمر استحق الأجر، وإن أفسد فله أن يضمنه حديدا مثله، لأنه لما أفسده، فكأنه أخذ حديدا له، واتخذ منه آنية من غير إذنه، والإناء للصانع لأن المضمونات تملك بالضمان.
* وهذا غير ما نحن فيه، إذ ما نحن فيه (عقد الاستصناع) هو أن الشيء محل عقد الاستصناع يتكون من مادة وصنعة، وكلاهما من عند الصانع، ولذلك افترقا فهذا عقد استصناع وأما الآخر فعقد إجارة كما أسلفنا.
الترجيح:
وأرى رجحان ما انتهى إليه المذهب من أن خيار الصانع سقط بعد إحضار السلعة إلى المستصنع، وثبت خيار الرؤية للمستصنع، لأنه يشتري ما لم يره.
__________
(1) بدائع الصانع: 5/2-4(7/895)
آثار عقد الاستصناع:
وأما حكم عقد الاستصناع، أي الأثر المترتب على عقد الاستصناع فهو:
ثبوت الملك للمستصنع في العين المبيعة في الذمة.
وثبوت الملك للصانع في الثمن.
وكل ذلك على الوجه الذي بيناه فيما تقدم.
انتهاء عقد الاستصناع:
ينتهي عقد الاستصناع بما يلي:
1- إتمام صنع الشيء، وتقديمه إلى المستصنع، وقبوله له فإذا تم ذلك ملك المستصنع الشيء المصنوع، وملك الصانع الثمن، فإن كان الثمن قد دفعه مقدما فيها، وإلا بأن كان مؤجلا كله أو بعضه فإنه يلزمه دفعه كله أو ما تبقى منه، فور قبوله الشيء – المصنوع.
2- موت أحد العاقدين:
وذلك نظرا لأن لعقد الاستصناع شبها بالإجارة وشبها بالبيع، أو هو كما سبق أن بينا إجارة ابتداء بيع انتهاء.
وإذا كان لعقد الاستصناع شبها بالإجارة فإن الإجارة تنفسخ بموت أي العاقدين أو كليهما، وذلك لأن الإجارة عند الحنفية تنعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة شيئا فشيئا، وإذا كان كذلك فما يحدث من المنافع في يد الوارث لم يملكها المورث لعدمها، والملك صفة الموجود لا المعدوم، فلا يملكها الوارث، إذ الوارث إنما يملك ما كان على ملك المورث، فما لم يملكه يستحيل وراثته.
وإذا كان عقد الاستصناع له شبه بالإجارة فيعطى حكمها، ومن ثم نص فقهاء المذهب على أنه إذا مات الصانع يبطل عقد الاستصناع ولا يستوفى المصنوع من تركته [ذكره محمد في كتاب البيوع فتح القدير: 5/356] ونص في الحموي على الأشباه على أنه (يبطل الاستصناع بوفاة الصانع أو المستصنع لمشابهته للإجارة، والإجارة تنفسخ بالموت) .(7/896)
3- وبناء على أن للاستصناع شبها بالإجارة، فإنه أيضا ينتهي عقد الاستصناع بهلاك العين التي تعينت لصنع الشيء المطلوب صنعه في عقد الاستصناع منها وذلك لوقوع اليأس من استيفاء المعقود عليه (المصنوع) حينئذ، أما إذا كان مثلها يوجد في الأسواق ويتمكن الصانع من الحصول عليه بيسر وسهولة فإنه لا ينتهي عقد الاستصناع لعدم اليأس من استيفاء المعقود عليه.
4- نص المذهب الحنفي على أن الإجارة تنتهي بإنقضاء المدة إلا لعذر لأن الثابت إلى غاية ينتهي عند وجود هذه الغاية، إلا إذا كان ثمة عذر بأن انقضت المدة وفي الأرض زرع لم يستحصد فإنه يترك إلى أن يستحصد بأجر المثل.
ولما كان عقد الاستصناع له شبه الإجارة فإننا إذا طبقنا هذا الحكم عليه وأجزنا ذكر الأجل فيه على رأي أبي يوسف ومحمد – (كما سبق بيانه) (1) فإنه إذا انقضى الأجل دون أن يتم الانتهاء من الصنع، فإن عقد الاستصناع ينتهي بانقضاء المدة دون الانتهاء من الصنع وتقديم الشيء المصنوع إلى المستصنع على الصفة التي اتفقا عليها.
__________
(1) ص440(7/897)
رأي المذهب المالكي
في التعاقد (استصناعا) أو (سلما)
على الأشياء التي يراد تصنيعها
نوضح فيما يلي – بإذن الله تعالى وتوفيقه – رأي المالكية في عقد الاستصناع، الذي أجازه المذهب الحنفي، ثم رأيهم في عقد السلم الذي يرد على عين تصنع، ثم تسلم عند حلول الأجل الذي اتفق عليه العاقدان في عقد السلم إلى المسلم (المشتري) .
المطلب الأول
رأي المالكية في جواز عقد الاستصناع
يرى المالكية عدم جواز عقد الاستصناع، الذي بيناه آنفا في المذهب الحنفي، والذي يدور حول أن يتعاقد المستصنع مع الصانع على أن يصنع له من مادة مملوكة للصانع شيئا ما بثمن معين يدفعه عند تقديم الصانع الشيء المستصنع إلى المستصنع.
* وقد أثار علماء المذهب هنا صورتين جمع بينهما أن المعقود عليه يسلم في المستقبل وكذا الثمن، وقد اختلف الحكم فيهما:
الصورة الأولى: (الشراء من دائم العمل حقيقة أو حكما (1) – كالخباز والجزار والبقال واللبان – وحكمه أنه بيع في المذهب، وروي عن مالك عدم جوازه.
(أ) قال الحطاب: (هذه تسمى بيعة أهل المدينة) لاشتهارها بينهم، والمسألة في كتاب التجارة إلى أرض دار الحرب من المدونة، وفي أوائل السلم قال في كتاب التجارة، وقد كان الناس يتبايعون اللحم بسعر معلوم، يأخذ كل يوم شيئا معلوما، ويشرع في الأخذ ويتأخر الثمن إلى العطاء، وكذلك كل ما يباع في الأسواق، ولا يكون إلا بأمر معلوم يسمى ما يأخذ كل يوم، وكان العطاء يومئذ مأمونا، ولم يروه دينا بدين واستخفوه انتهى. وقد ذكروا أنه يتأخر الشروع العشرة أيام ونحوها، وقال في رسم حلف بطلاق امرأته من سماع ابن القاسم من كتاب الجامع، وحدثنا مالك عن عبد الرحمن بن المجمر عن سالم بن عبد الله قال: كنا نبتاع اللحم من الجزارين بسعر معلوم نأخذ منه كل يوم رطلا، أو رطلين، أو ثلاثة، ويشترط عليهم أن يدفعوا الثمن من العطاء قال: وأنا أرى ذلك حسنا، قال مالك: ولا أرى به بأسا إذا كان العطاء مأمونا وكان الثمن إلى أجل، فلا أرى به بأسا، قال ابن رشد (كنا …. إلى آخره) يدل على أنه معلوم عندهم مشهور ولاشتهار ذلك من فعلهم سميت (بيعة أهل المدينة) ، وهذا أجازه مالك وأصحابه اتباعا لما جرى عليه العمل بالمدينة بشرطين، أن يشرع في أخذ ما أسلم فيه، وأن يكون أصله عند المسلم إليه، على ما قاله غير ابن القاسم في سماع سحنون من السلم والآجال.
__________
(1) حقيقة ككون البائع من أهل حرفة هذا الشيء لتيسره عنده فأشبه المعقود عليه المعين، وحكما بأن يؤخر الشروع في الأخذ خمسة عشر يوما – الدسوقي: 3/216، والحطاب(7/898)
وليس ذلك محض سلم، ولذلك جاز تأخير رأس المال إليه فيه، ولا شراء شيء بعينه حقيقة، ولذلك جاز أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله.
(ب) وقد روي عن مالك أنه لم يجز ذلك، ورآه دينا بدين. وقال تأويل حديث (مجمر) أن يجب عليه ثمن ما يأخذ كل يوم إلى العطاء، وهذا تأويل سائغ في الحديث، لأنه إنما سمي فيه السوم وما يأخذ كل يوم، ولم يذكر عدد الأرطال التي اشترى منه فلم ينعقد بينهما بيع على عدد مسمى من الأرطال، فكلما أخذ شيئا وجب عليه ثمنه إلى العطاء، ولا يلزم واحدا منهما التمادي على ذلك إذا لم يعقدا بيعهما على عدد معلوم مسمى من الأرطال، فكلما أخذ شيئا وجب عليه ثمنه إلى العطاء، وإجازة ذلك مع تسمية الأرطال التي يأخذ منها في كل يوم رطلين أو ثلاثة على الشرطين المذكورين هو المشهور في المذهب، وهو قوله في هذه الرواية: وأنا أراه حسنا، معناه: وأنا أجيز ذلك استحسانا، اتباعا لعمل أهل المدينة وإن كان القياس يخالفه انتهى.
هذه المسألة كما قررها علماء المذهب تحتوي على عناصر معينة.
1- أن يتعاقد المشتري مع شخص دائم العمل حقيقة، أو حكما ككون البائع من أهل حرفة ذلك الشيء لتيسره عنده، فأشبه المعقود عليه المعين. (قال اللخمي (السلم في الشيء لمن هو من أهل حرفته جائز على الحلول) .
فهو تعاقد مع أهل حرفة معينة، وضربوا له مثلا بالخباز، والجزار، واللبان والبقال ومثل ذلك كل ما يباع في الأسواق.
2- أن المعقود عليه كله غير موجود وقت التعاقد، وأن مقتضى هذه المهنة أن يوجد مع البائع في كل يوم، وما على المشتري إلا أن يتقدم إليه لأخذ ما اتفقا عليه من المقدار في كل يوم.
3- (أن الشراء إما لجملة يأخذها مفرقة على أيام – كقنطار بكذا كل يوم رطلين – أو يعقد معه على أن يشتري منه كل يوم عددا معينا – وليس لأحدهما الفسخ في الصورة الأولى، أما الثانية فلأي منهما ذلك) الدسوقي: 3/216، ومسألتنا هي الأولى.
4- أن مقدار ما يأخذه البائع في كل يوم معلوم.
5- أن الثمن هنا في صورتنا مؤجل إلى أجل معلوم – وهو العطاء – وكان العطاء يومئذ مأمونا – ومنه يفهم أن الأجل معلوم لأن للعطاء أجلا معينا، وأن الوفاء بالثمن مطمئن إليه، لأن العطاء مأمون الوصول إلى مستحقه. فإذا حل الأجل سلمه جميع ثمن ما أخذه خلال المدة الماضية.(7/899)
* هذا النوع من التعاقد يرجح المذهب المالكي أنه بيع، وليس سلما.
- أما أنه بيع، فقد تقدم لنا نص ما ورد في المدونة وهو يعبر عن كونه بيعا (قال في كتاب التجارة: وقد كان الناس يتبايعون اللحم بسعر معلوم …) .
وقد روي عن سالم بن عبد الله قوله: (كنا نبتاع اللحم من الجزارين بسعر معلوم) قال الدسوقي: (ووجه كونه بيعا لا سلما أنهم نزلوا دوام العمل منزلة تعين المبيع والمسلم فيه لا يكون معينا) .
وقال ابن عرفة أنه: (يخالف السلم أيضا في عدم وجوب نقد رأس المال) (1)
ولكن اللخمي ورد عنه: (السلم في الشيء لمن هو من أهل حرفته جائز على الحلول) (2)
- وقد نقلنا آنفا أنه: ليس ذلك محض سلم، ولذلك جاز تأخير رأس المال إليه فيه.
ولا شراء شيء بعينه حقيقة، ولذلك جاز أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله.
وإذا لم يكن بيعا حقيقة ولا سلما محضا، فما هو؟
فهو عقد خاص جمع بين بعض خصائص البيع وبعض خصائص السلم وسموه (بيعة أهل المدينة) .
__________
(1) المواق على الحطاب: 8/538
(2) المواق على الحطاب: 8/538(7/900)
حكم هذا النوع من التعاقد:
في المذهب رأيان:
الرأي الأول: وهو المشهور في المذهب – أنه يجوز هذا التعاقد ويصح – وقد أجازه مالك وأصحابه اتباعا لما جرى عليه عمل أهل المدينة، فقد اشتهر ذلك بينهم، ولاشتهار ذلك من فعلهم سميت (بيعة أهل المدينة) .
وقد اشترطوا لصحته شرطين:
الشرط الأول: أن يشرع في أخذ ما أسلم فيه، وقد ذكروا أنه يجوز أن يتأخر الشروع العشرة أيام ونحوها.
الشرط الثاني: أن يكون أصل المسلم فيه عند المسلم إليه، على ما قاله غير ابن القاسم في سماع سحنون من السلم والآجال، وليس ذلك محض سلم: ولذلك جاز تأخير رأس المال إليه فيه، ولا شراء شيء بعينه حقيقة، ولذلك جاز أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله.
* وكأني بالمذهب يريد أن يطمئن إلى أمرين: الأول: أن يكون أصل السلعة موجودا حتى لا يكون العقد دينا بدين، والثاني: أن يشرع في الأخذ فعلا، بأن قبض أوله، حتى لا يكون بيعا لشيء غير موجود عند التعاقد بثمن مؤجل، ويعتبر الشروع قائما إذا تم في مدة قريبة.
الرأي الثاني: ما نقلناه آنفا (أنه روي عن مالك أنه لم يجز هذا العقد، ورآه دينا بدين، وقال تأويل حديث مجمر، أن يجب عليه ثمن ما يأخذ كل يوم إلى العطاء، وهذا تأويل سائغ في الحديث، لأنه إنما سمي فيه السوم وما يأخذ كل يوم، ولم يذكر عدد الأرطال التي اشترى منه، فلم ينعقد بينهما بيع على عدد مسمى من الأرطال، فكلما أخذ شيئا وجب عليه ثمنه إلى العطاء، ولا يلزم واحدا منهما التمادي على ذلك إذا لم يعقدا بيعهما على عدد مسمى من الأرطال، فكلما أخذ شيئا وجب عليه ثمنه إلى العطاء.
وإجازة ذلك مع تسمية الأرطال التي يأخذ منها في كل يوم رطلين أو ثلاثة على الشرطين المذكورين هو المشهور في المذهب، وهو قوله في هذه الرواية: وأنا أراه حسنا، معناه: وأنا أجيز ذلك استحسانا اتباعا لعمل أهل المدينة، وإن كان القياس يخالفه.
إذن إجازة هذا النوع من التعاقد مبنية على الاستحسان الذي دليله عمل أهل المدينة، وحديث مجمر.
أما القياس فإنه لا يجيز هذا النوع من التعاقد.(7/901)
الآفاق التي تمتد إليها هذه الصورة في عالمنا المعاصر:
على ضوء ما قرره علماء المالكية من جواز هذا النوع من العقد (على المشهور في المذهب) وعلى ضوء ما أحاطوا به العقد من شروط للقول بصحته وما يحيط به من خصائص لا تجعله سلما محضا، ولا شراء شيء بعينه حقيقة، على الوجه الذي أوضحاناه تفصيلا فيما تقدم.
أستطع أن أقول:
إن المالكية فتحوا بابا للتعاقد مع أصحاب الحرف – ومنهم أصحاب الصناعات – على أن يقدموا لهم ما يحتاجون إليه من أشياء مصنعة، سواء أكانت خبزا، أو غيره من المصنوعات التي تنتجها المصانع بصفة مستمرة يوميا، ويحتاج إليها الناس في كل يوم من لحم، وخبز، أو لبن، أو مشروب مشروع، بل يمكن أن نعديه إلى ما ليس بمأكول، ومن أدوات التنظيف كالصابون بأنواعه للوجه أو للملابس أو للأرض …. وأدوات التطهير، وأدوات الخياطة من خيط وأزرار، وما شابه ذلك من كل ما يباع في الأسواق وما يعتاده الناس.
* علاقة هذا العقد بعقد التوريد:
إن عقد التوريد هو عقد يلتزم فيه المورد بتقديم سلعة معينة بثمن معين لجهة معينة في موعد معين.
إذا نظرنا إلى خصائص هذا العقد وجدناه يتفق مع عقد التوريد في هذه الخصائص ومن ثم يكون عقد التوريد عقدا صحيحا، إذا توافرت فيه جميع الشروط التي نص عليها الفقهاء في عقد البيع، بالإضافة إلى ما اشترطناه في هذا العقد الذي معنا.(7/902)
صلة هذا العقد بعقد الاستصناع عند الحنفية:
(أ) واضح أن كلا المذهبين بنى رأيه في جواز العقد (عقد الاستصناع عند الحنفية) و (بيعة أهل المدينة) على الاستحسان، وقد سبق أن بينا أدلة كل مذهب للأخذ بالاستحسان.
أما القياس: فقد رأي المذهبان أنه لا يصح أي عقد من هذين العقدين لأنه بيع ما لم يوجد، وبيع ما لم يوجد منهي عنه بحديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم … إلى آخر ما ذكرناه في موطنه في بداية عقد الاستصناع.
(ب) وأن كلا المذهبين قد فتح بابا لسد حاجات الناس من السلع التي تحتاج إلى صناعة، والصناعة في كل عصر تحتاج إلى دراسات للسوق، ولحاجة الناس المتجددة، ولأغراضهم المختلفة، ولقدراتهم المادية ….، ولرغباتهم وغير ذلك من الدراسات، ومن ثم فتح الباب لتلبية هذه الحاجات بتقديم المنتج أو الشيء المصنع إلى من يطلبه مع بيان الجنس والنوع والصفة، والشكل والهيئة، والحجم، والمقدار …. وغير ذلك مما اتفق عليه المتعاقدان.
(ج) ويختلف العقدان من جوانب.
- أن عقد الاستصناع عقد جائز غير لازم عند الحنفية، قبل العمل، أما بعد العمل، وإحضاره فقد اختلف في لزومه – على ما سبق ذكره وإن كان أحد الآراء يجعله لازما إذا جاء على الصفة التي اتفق عليها، وهو رأي أبي يوسف (1) .
__________
(1) يراجع رأي أبي يوسف في صفحة 446(7/903)
أما المالكية: فيجعلونه لازما، إذ هو بيع كما صرح المذهب (والشراء من دائم العمل كالخباز وهو بيع …. ولا يكون إلا بأمر معلوم يسمى ما يأخذ كل يوم، ويشرع في الأخذ (ويجوز التأخر في الشروع لعشرة أيام) ويتأخر الثمن جميعه إلى العطاء) .
والقول باللزوم في عقود المعاوضات هو الذي أراه راجحا، منعا من النكوص عن الوفاء بما أوجبه العقد عند التغير الذي يحدث عادة في الأسواق من جراء رواج سلعة أو نفاذها، أو من تبدل الرغبات فيها أو من إغراق السوق ببديل أفضل أو ما إلى ذلك، مما يؤدي إلى الإضرار بأحد المتعاقدين عند التراجع عن العقد والعدول عن الصفقة.
الصورة الثانية:
الشراء من غير دائم العمل لسلعة تصنع هو سلم:
نص المذهب المالكي على أن شراء سلعة تصنع من غير دائم العمل هو سلم يأخذ. أحكامه فلا يعين العامل ولا المعمول منه، ويكون دينا في الذمة.
وقد مثلوا له بما إذا عقد على قنطار خبز يؤخذ من المسلم إليه بعد شهر قدره – وصفته كذا.
ثم أوضح الدسوقي أن غير دائم العمل هو من كان انقطاعه أكثر من عمله أو تساوى عمله وانقطاعه (1) .
وحكم هذه الصورة:
أن الشراء من غير دائم العمل جائز، وهو سلم يشترط فيه ما يشترط في السلم من تعجيل رأس المال، وضرب الأجل، وعدم تعيين العامل، والمعمول منه، فإن عُيِّنا أو أحدهما كان فاسدا.
وسيأتي لنا في الصور التالية رأي أشهب في جواز السلم إذا عين العامل والمعمول منه حيث قال: (وإن تعيين المعمول منه أو العامل لا يضر في السلم) .
وبناء على ذلك يصح شراء سلعة تصنع من غير دائم العمل، مطلقا سواء عين المعمول منه بأن قال من هذا النحاس بعينه – أو عين العامل – بأن قال من صنعة فلان من الناس أو عينهما.
__________
(1) حاشية الدسوقي: 3/217(7/904)
المطلب الثاني
في السلم في الصناعات
لقد نص علماء المالكية على أن استصناع شيء معين – كاستصناع سيف أو ركاب من حداد، أو سرج من سروجي، أو ثوب من حياك، أو باب من نجار – على صفة معلومة بثمن معلوم، وهو سلم تشترط فيه شروط السلم (1) على الوجه الذي سنبينه.
ويستوي في هذه الصورة أن يكون الصانع المعقود مع دائم العمل، أو غير دائم العمل (2) .
شروط صحة السلم في الصناعات:
بينَّا آنفا أن استصناع السيف والسرج ونحوهما سلم، سواءً كان الصانع المعقود معه دائم العمل أو غير دائم العمل، كأن تقول لإنسان اصنع لي سيفا أو سرجا صفته كذا بدينار، فقبل، فإنه يشترط لصحته تعجيل رأس المال، وضرب الأجل، وألا يعين العامل، ولا المعمول منه.
* أما فساد السلم بعدم تعجيل رأس المال، فذلك حتى لا يصير بيع كالئ بكالئ، وهو منهي عنه.
* أما فساده بعدم ضرب الأجل، فذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم " [رواه البخاري ومسلم] .
* وأما فساده بتعيين العامل والمعمول منه أو أحدهما فلاعتبارات نبينها فيما يأتي نظرًا لاختلاف الآراء في هذا الحكم في كل صورة منها، مما يقتضي منا فصل كل صورة عن الأخرى.
مع النص مقدما على أن الرأي السائد في المذهب هو فساد هذا السلم إذا عين العامل، أو المعمول منه، أو هما معا بالأولى، وصحته إذا لم يعينهما أو أحدهما وذلك أربعة أقسام نعرضها فيما يلي:
__________
(1) وشروط السلم عند المالكية إجمالا هي: * الأول: تسليم رأس المال (حلوله) (ورأس المال هو الثمن أو السلم) للنهي عن الكالئ بالكالئ. * الثاني: أن يكون المسلم فيه (وهو السلعة المؤخرة – الثمن -) دينا. * الثالث: أن يكون المسلم فيه مؤجلا إلى أجل معلوم. * الرابع: أن يكون المسلم فيه مقدورا على تسليمه عند المحل. * الخامس: أن يكون المسلم فيه معلوم المقدار. * السادس: أن يكون المسلم فيه معلوم الأوصاف.
(2) الدسوقي: 3/217(7/905)
القسم الأول
حكم السلم في الصناعات إذا لم يعين العامل
ولا المعمول منه (الشيء المصنع)
في هذه الصورة يكون سلما يجري عليه حكمه، فلا يجوز إلا بوصف العمل وضرب الأجل، وتقديم رأس المال.
قال في المدونة: من استصنع طستا أو قلنسوة أو خفا أو غير ذلك مما يعمل في الأسواق بصفة معلومة، فإن كان مضمونا إلى مثل أجل السلم، ولم يشترط عمل رجل بعينه، ولا شيئا بعينه يعمله منه، جاز ذلك إذا قدم رأس المال مكانه، أو إلى يوم أو يومين، فإن ضرب لرأس المال (الثمن) أجلا بعيدا لم يجز، وصار دينا بدين.
القسم الثاني
حكم السلم في الصناعات
إذا عين الشيء المعمول منه والعامل
وقد ضرب المذهب أمثلة لهذا القسم بما إذا قال المستصنع للصانع اعمل من هذا الحديد بعينه، أو من هذا الخشب بعينه، أو من هذا الغزل بعينه، قوسا أو بابا صفته كذا …
حكم هذا القسم:
(أ) يرى المذهب المالكي (خلافا لأِشهب) فساد السلم في هذا القسم لأن المعمول منه ليس دينا في الذمة، ومن شروط صحة السلم أن يكون المسلم فيه (المثمن) دينا في الذمة.
إذ السلم بالاتفاق (بيع شيء موصوف في الذمة) .
وإذا لم يكن سلما فإنه يكون من باب البيع والإجارة في الشيء المبيع … فإن كان يعرف وجه خروج الشيء من العمل، أو تمكن إعادته للعمل (كالنحاس) " وعمل غيره من الشيء المعين منه العمل فيجوز على أن يشرع في العمل، وعلى أن يؤخر الشروع في العمل بشرط ما بينه وبين ثلاثة أيام أو نحو ذلك … فإن كان على أن يشرع في العمل جاز ذلك بشرط تعجيل النقد وتأخيره وإن كان على أن يتأخر الشروع في العمل إلى الثلاثة أيام ونحوها لم يجز تعجيل النقد بشرط … حتى يشرع في العمل.
فإن انتفى معرفة وجه خروج الشيء من العمل (صفته من كونه جيدا أو رديئا) أو إمكان إعادته فلا يجوز.
(ب) يرى أشهب جواز السلم إذا عين المعمول منه أو العامل حيث قال: (إن تعيين المعمول منه أو العامل لا يضر في السلم " (1) .
__________
(1) حاشية الدسوقي: 3/217(7/906)
القسم الثالث
حكم السلم في الصناعات
إذا عين المعمول منه دون العامل
(أ) يرى المذهب أنه إذا عين المسلم (المستصنع) المعمول منه، دون العامل فإنه لا يصح السلم عند المالكية أيضا (خلافا لأشهب) .
وذلك لأن المسلم فيه (المثمن) لا بد من أن يكون دينا في الذمة، ولا يصلح أن يكون معينا، فإذا عين كما في هذه الصورة فإنه لا يصح السلم.
وإذا لم يصح السلم فإنه يكون أيضا من باب البيع والإجارة في المبيع – على الوجه الذي ذكرناه في القسم الثاني – إلا أنه يجوز على تعجيل العمل وتأخيره إلى نحو ثلاثة أيام، بتعجيل النقد وتأخيره.
(ب) ويرى أشهب جواز السلم إذ أن تعيين المعمول منه، أو العامل لا يضر في السلم، وهنا عين المعمول منه، فلا يضر ذلك ويصح السلم فيه.
القسم الرابع
حكم السلم في الصناعات إذا عين العامل فقط
إذا عين المستصنع العامل فقط دون المعمول منه، كأن يقول له:
أن يكون الصانع فلانا من الناس، فقد اختلف في حكم هذه الصورة أيضا.
(أ) يرى المذهب المالكي: (خلافًا لأشهب) أنه لا يصح السلم إذا عين العامل. قال في المدونة: فإن شرط عمل رجل بعينه لم يجز، وإن نقده، لأنه لا يدري أيسلم ذلك الرجل إلى ذلك الأجل أم لا، فذلك غرر. اهـ. وعلى هذا درج ابن رشد.
وقال ابن رشد: لا يجوز ذلك لأنه يحتويه أصلان متناقضان:
لزوم النقد لكون ما يعمل منه مصوغا، وامتناعه لاشترط عمل المستعمل بعينه (1)
(ب) ويرى أشهب جواز السلم في هذه الصورة أيضا لأن تعيين العامل أو المعمول منه لا يضر في السلم عنده.
وقد جاء في المدونة – في موضع آخر – ما يقتضي جواز السلم إذا عين العامل فقط، لقولها: من استأجر من يبني له دارا، على أن الجص والآجر من عند الأجير جاز، وهو قول ابن بشير. اهـ موّاق.
وهذه الصورة الواردة في المدونة تفتح بابًا لجواز عقد المقاولة، والذي بمقتضاه يقوم المقاول بالقيام بالعمل ومادة العمل من عنده هو رأي المقاول – وما على الطرف الآخر إلا أن يتسلم المعقود عليه كاملا في مقابل ما دفعه من الثمن.
__________
(1) المقدمات، لابن رشد: 2/159(7/907)
المطلب الثالث
صور أخرى في هذا الموطن
أثار علماء المالكية عدة صور تتعلق بموضوع بحثنا بينوها ووضحوا حكمها، وهي:
الصورة الأولى: أن يجد صانعا يصنع شيئا من مادة يملكها، فقال له: (أكمله لي على صفة كذا بدينار) . وهي مسألة (وتور ليكمل) (1) .
ففي هذه الصورة:
نجد أن المادة المصنعة ملك للصانع.
وأن الصانع بدأ في تصنيعها.
وأن المشتري رأي ما يصنعه في المرحلة الأولى.
ثم طلب المشتري من البائع أن يكملها له، وحدد الصفة الخاصة التي يبتغيها، وحدد الثمن لهذا الشيء والمصنع.
ففي هذه الصورة وقع العقد على المصنوع على وجه السلم، ولم يدخل المعمول منه في ملك المشتري.
حكمها:
يرى المالكية جواز هذا البيع، ولكن بشرط أن يشرع الصانع في تكميله بالفعل أو بعد أيام قلائل، كخمسة عشر يوما فأقل، وإن لم يشرع في تكميله خلال هذه المدة منع هذا البيع، لما فيه من بيع معين يتأخر قبضه.
وكذلك يشترط أن يكون عند الصانع نفس المادة المصنعة – كالنحاس مثلا – بحيث إذا لم يأت المصنوع على الصفة المطلوبة كسره وأعاده، وكمله مما عنده من النحاس، فإن كان الشيء لا يمكن إعادته كالثياب.
فقد قال اللخمي: في مسألة شراء الثوب على أن يتم له نسجه إن مثل ذلك الثوب يشترط صبغه، وشراء العود على أن يعمله له تابوتا، هذا كله لا يجوز، لأنه مما يختلف خروجه، ولا يمكن أن يعاد لهيئته الأولى.
قال: فأما إن كان هذا المشتري المعين إذا شط على بائعه أن يعمله لا يختلف صفته إذا صنع فإنه جائز، قال وذلك كالذي يشتري القمح على أن يطحنه بائعه والزيتون على أن يعصره فيأخذ منه كيلا معلوما، وكذلك الثوب على أن يخيطه فهذا كله جائز.
وقال: لو لم يسلم في الغزل على أن ينسج، واشتراه على أنه إن خرج على ما وصفه أخذه ونقد الثمن، وإن خرج على غير ذلك كان لبائعه جاز. اهـ.
انظر على هذا بالنسبة إلى الحرار يكون الثوب بيده يعمله فيشتريه منه التاجر على أن يكمله له على هذا المأخذ.
__________
(1) حاشية الدسوقي: 3/215(7/908)
تكييف المذهب لهذه الصورة:
اختلف علماء المذهب في تكييف هذه الصورة، هل هي من باب اجتماع البيع مع الإجارة – باعتبار أن المادة المصنعة من عند البائع – أو من باب السلم باعتبار عدم وجود الشيء المصنوع وقت التعاقد؟
فقد اختلف علماء المالكية في ذلك إلى رأيين:
الرأي الأول: يرى أن هذه الصورة من باب اجتماع البيع والإجارة وذلك يجوز وهذا الرأي هو ما نص عليه في الشرح الكبير للدردير، تبعا لابن الحاجب والتوضيح (1) .
أما أنها من باب البيع، فلأن السلعة المطلوب تضيعها موجودة حال التعاقد، وقد تعاقد مع صاحبها على صنعها.
وأما أنها من باب الإجارة، فلأنه قد تعاقد مع صاحب السلعة على أن يتم تصنيعها شيئا معينا من هذه المادة.
فقد اجتمع في العقد بيع وإجارة، ويجوز عند المالكية اجتماع عقد البيع مع الإجارة.
الرأي الثاني: يرى أنها من باب السلم فتجوز أيضا:
وهذا الرأي يتمشى مع رأي أشهب الذي يجوز في السلم تعيين المصنوع منه والصانع، وفي هذه الصورة عين المصنوع منه – فقط – أي المادة المصنعة التي اشتراها من البائع.
أما أنها من باب السلم، فلأنه (السلعة المصنعة) ، والتي جرى التعاقد عليها معدومة حال العقد، إذ الموجود فقط مادتها لدى البائع، ولكن ما جرى عليه التعاقد هو (إبريق أو طشت أو غيرهما) مما يصنع من هذه المادة، فالإبريق وما ماثله معدوم حال التعاقد.
يقول صاحب الشرح الكبير: " وإطلاق السلم على هذا الشراء مجاز وإنما هو بيع معين يشترط فيه الشروع ولو حكما، فهو من أفراد " وإن اشترى المعمول منه واستأجره جاز إن شرع، ويضمنه مشتريه بالعقد وإنما يضمنه بائعة ضمان الصناع (2) .
وقد منع ابن القاسم: - في السلم تعيين المعمول منه لأن من شروط السلم أن يكون – المسلم فيه دينا (في الذمة) فإذا تعين المعمول منه، لا يكون حينئذ دينا، ومن ثم لا يصح سلما لعدم توافر شرطه وبناء على رأيه تكون بيعا أي مع إجارة – كما تقدم -.
__________
(1) جاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/215: " وقد جعل عج وعبق، وشارحنا هذه المسألة تبعا لابن الحاجب والتوضيح من باب اجتماع البيع والإجارة "، ثم قال وهو مغاير لأسلوب المصنف: ويصح أن يكون من باب السلم بناء على رأي: أشهب المجوز في السلم تعيين المصنوع منه والصانع، وهنا عين المصنوع منه وهذه يمنعها ابن القاسم وأنت إذا أمعنت النظر وجدتها لها شبه بالسلم، نظرا للمعدوم في حال العقد، ولها شبه بالبيع نظرا للموجود، وليست من اجتماع البيع والإجارة، ولكن أقرب ما يتمشى عليه كلام المصنف قول أشهب الذي يجيز تعيين المعمول منه
(2) حاشية الدسوقي: 3/216(7/909)
النتيجة:
بناء على ما تقدم تكون هذه الصورة جائزة عند المالكية، سواء اعتبرت بيعا وإجارة، أو اعتبرت سلما …. وقد قدمنا الشروط اللازم توافرها.
الصورة الثانية:
أن يشتري المعمول منه من البائع، ثم يستأجره حال العقد على عمله أو صناعته شيئا معينا، آنيه أو سيوفا أو غيرهما ….
ففي هذه الصورة:
اشترى مادة معينة من صاحبها، وملكها. ثم استأجر المشتري البائع على صنعها شيئا معينا على أن يتم ذلك الاستئجار حال التعاقد على بيعها.
ففي هذه الصورة وقع العقد فيها على المعمول منه على وجه البيع، وملكه المشتري ثم استأجره حال العقد على عمله، وهذه الصورة فيها حالتان:
الأولى: أن يعين العامل.
الثانية: ألا يعين العامل.
حكم هاتين الصورتين:
نص المذهب على صحة العقد في الصورتين – بشرط أن يشرع في العمل، ولو حكما، كتأخيره نصف شهر. جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (وأما إن اشترى المعمول منه) وعينه، ودخل في ضمانه (واستأجره) بعد ذلك على عجلة (جاز، إن شرع) في العمل، ولو حكما، كتأخيره نصف شهر (عين العامل أم لا) .
قوله: (وإن اشترى المعمول منه ….) يعني أنه إذا اشترى منه حديدا … معينا، واستأجره على أن يعمل له منه سيفا بدينار، فإن ذلك جائز، سواء شرط تعجيل النقد أم لا، لأنه من باب اجتماع البيع والإجارة في الشيء، وهو جائز، وسواء كان العامل معينا أم لا، بشرط أن يشرع في العمل.
وفهم من قوله: (واستأجره) أنه لو استأجر غير البائع لجاز من غير قيد الشروع، قوله: (وإن اشترى المعمول منه …) إلخ، الفرق بين هذه والتي قلبها، وهو قوله (وتور ليكمل) أن العقد فيما قبلها وقع على المصنوع على وجه السلم، ولم يدخل المعمول منه في ملك المشتري، وهذه وقع العقد فيها على المعمول منه على وجه البيع وملكه المشتري، ثم استأجره حال العقد على عمله، وهذه الثانية هي مسألة ابن رشد، والتي قبلها مسألة المدونة.
ففي الأولى أربعة أحوال وهي تعيين المعمول منه، والعامل وعدم تعيينهما، وتعيين الأول دون الثاني، والعكس، صحة العقد في حالة وفساده في ثلاث (1) .
وفي الثانية: حالتان فقط: أن يعين العامل أو لا يعين، والعقد صحيح فيهما)
__________
(1) خلافا لأشهب كما سبق بيانه(7/910)
رأي المذهب الشافعي
في التعاقد (استصناعا) أو سلما
على الأشياء التي يراد تصنيعها
نبين فيما يلي رأي المذهب الشافعي في هذا النوع من التعاقد، والذي يرد على سلعة – غير موجودة – وهي سلعة لا توجد إلا بصنعة يقوم بها البائع في العين التي تتخذ منها هذه السلعة.
وقد علم لدينا مما تقدم أن مذهب الحنفية يجيز عقد الاستصناع، ويلزمنا هنا أن نبين رأي المذهب الشافعي في هذا العقد.
كما أنه يلزمنا أن نبين رأي هذا المذهب في التعاقد عن طريق عقد السلم على عين تصنع، ثم تسلم عند حلول الأجل الذي اتفق المتعاقدان عليه في عقد السلم.
المطلب الأول
رأي المذهب الشافعي في عقد الاستصناع
نص المذهب الشافعي على أن " عقد الاستصناع " لا يجوز، لأن المستصنع فيه مبيع وهو معدوم، وبيع المعدوم لا يجوز لنهيه صلى الله عليه وسلم (عن بيع ما ليس عند الإنسان) .
وأيضا لأن هذا البيع هو في حكم بيع العين، ولو كان موجودا غير مملوك للعاقد لم يجز بيعه، فكذلك إذا كان معدوما بل أولى. وقد سبق إيضاح ذلك (1) .
وقد جاء في الأم، قال (الشافعي) .
((قال) ولو شرط أن يعمل له طستا من نحاس وحديد، أو نحاس ورصاص، لم يجز لأنهما لا يخلصان فيعرف قدر كل واحد منهما، وليس هذا كالصبغ في الثوب، لأن الصبغ في ثوبه زينة، لا يغيره أن تضبط صفته، وهذا زيادة في نفس الشيء المصنوع. (قال) وهكذا كل ما استصنع) .
__________
(1) ص434(7/911)
المطلب الثاني
رأي المذهب الشافعي في
التعاقد (سلما) على أشياء تصنع
نظرا لأن عقد (الاستصناع) لا يجوز عند الشافعية، كما بينا آنفا، ونظرًا لأن بعض صور الاستصناع قد وردت عندهم في عقد السلم، مع الاختلاف بين العقدين في أحكامهما، فإنني أورد هذه الصور، وأبين حكمها عند الشافعية حتى تتضح رؤية المذهب في سد حاجات الناس فيما يرغبون التعاقد عليه من سلع يرغبون في صنعها لهم، مع النص مقدما على أنها تخضع لأحكام عقد السلم عندهم، صحة وفسادًا.
إذا تتبعنا ما ورد من الصور في المذهب الشافعي لبعض السلع التي يراد شراؤها إذا صنعت – عن طريق عقد السلم – نجد أنهم يفرقون في الحكم بين السلع التي تصنع من شيء واحد، وبين السلع التي تصنع من أكثر من شيء، وبين الأشياء المختلطة خلقة، وبين الأشياء المختلطة صنعة …. وأورد فيما يلي هذه الصورة وحكمها:
أولًا – الأشياء المصنعة من مادة واحدة.
في التعاقد سلما على شيء مصنع من مادة واحدة:
فرق المذهب في الحكم بين المصبوبة في قالب أو المضروبة، وبين المعمولة بآلة فأجاز السلم في الأولى دون الثانية: فقالوا: (لا يصح السَّلَم في مختلف أجزاؤه كبرمه من نحو حجر – معمولة – أي محفورة بالآلة، واحترز بها عما صب منها في قالب وهذا قيد أيضا فيما بعدها – من كوز، وطس (طشت) وأباريق، وحباب (الزير) ونشاب ونحوها لعدم انضباطها باختلاف أجزائها) .
(قال الأشموني) والمذهب جواز السلم في الأواني المتخذة من الفخار – ولعله محمول على غير ما مر أي من المعمولة.
(ويصحُّ السلم في الأشكال المربعة لعدم اختلافها، والمدورة كالمربعة، كما صرح به سليم في التقريب، وقال الأوزاعي أنه الصواب، واقتضاه كلام الشيخ أبي حامد، بل صحح في كل ما لا يختلف من ذلك، مضروبا أو مصبوبا – كما صرح به المارودي، ولو شرط كون السطل من نحاس ورصاص جميعا لم يصح – نص عليه في الأم، قال لأنهما لا يخلصان فيعرف قدر كل منهما.
* ويصح فيما صب من المذكورات – كما اقتضاه كلام الشرح والروضة – أي من أصلها المذاب في قالب – كالهاون – مربعا كان أم لا، لأن ذلك لا يختلف (1) .
* وكذلك نص المذهب على صحة السَّلَم في الأشياء المتخذة من شيء واحد كالخفاف والنعال المتخذة من شيء واحد، بشرط أن تكون جديدة واتخذت من غير جلد.
__________
(1) 2/114 , ب(7/912)
* ومن هذه الصورة يتبين لنا أن المذهب يصحح السلم في السلع المصنعة من شيء واحد بشرط أن تكون مصبوبة في قالب، حتى لا تختلف وحداتها ولا مادتها، ولا أشكالها، ولا ثخانتها ورقتها …
أما المعمولة: وهي التي صنعت باليد بآلة كما صرح المذهب بذلك (أي الصناعة اليدوية) فإنها تختلف من واحدة إلى أخرى، مادة وثخانة ورقة، وصنعة نظرًا لما يكتنف يد الصانع من تفاوت بين شخص وآخر، ومن وقت إلى وقتٍ ومن حالة إلى حالةٍ جاء في نهاية المحتاج:
(ولا يصح السَّلَم) في مختلف أجزاؤه (كبرمة) من نحو حجر (معمولة) أي محفورة بالآلة، واحترز بها عما صب منها … وكوز، وطس، وقمقم، ومنارة وطجير (الدست) ونحوها من حب وإبريق ونشاب لعدم انضباطها باختلاف أجزائها) .
إذ المحفورة بالآلة من مادة واحدة، هي صنعة يدوية، تختلف من واحدة إلى أخرى، مادة وتخانة ورقة، ومهارة فوحداتها تختلف كما ذكرنا آنفا.
وخلاصة ذلك أن الأشياء المصنعة عن طريق صب مادة واحدة في قالب، أو ضربها فإنه يجوز السلم فيها، لعدم اختلافها، وهذا يصدق على كل ما تخرجه المصانع من السلع التي يتحقق فيها ما ذكرنا، والمادة واحدة – مصبوبة في قالب أو مضروبة -.
أما الأشياء المصنعة يدويا من مادة واحدة فإنه لا يصح السلم فيها لاختلافها.(7/913)
ثانيا – التعاقد (سلما على شيء مصنع من أكثر من مادة) :
ونظرًا لأن التعاقد على الأشياء المصنعة من مواد متعددة (أي الأشياء المختلطة المواد) يختلف حكمه باختلاف انضباط الأجزاء المختلطة أو عدم انضباطها، قصدها أو عدم قصدها، اختلاطها خلقة أو صنعة، في المذهب الشافعي، فإنني أورد هذه الصور مع بيان حكمها، وأبدأ بالصورة الأولى منها.
الصورة الأولى: التعاقد على شيء مختلط الأجزاء خلقة:
وقد ضرب المذهب مثلا لهذه الصورة بالشهد، بفتح الشين وضمها، وهو مركب من عسل النحل وشمعة خلقة، فهو شبيه بالتمر وفيه النوى.
حكمه:
(أ) الأصح عند الشافعية صحة السلم فيه لانضباط أجزائه.
(ب) ومقابل الأصح أنه لا يصح السلم فيه، لأن الشمع يقل ويكثر فيه، فينتفي الانضباط بين أجزائه فيه، وإذا انتفى الانضباط فيه لا يصح السلم فيه.(7/914)
الصورة الثانية: التعاقد (سلما) على شيء مختلط الأجزاء صنعة:
ويمكننا أن نعرض رأي المذهب في أنواع هذه الأشياء المختلطة صنعة في ثلاثة أنواع:
النوع الأول: من الأشياء المختلطة صنعة:
(التعاقد على الشيء المختلط صنعة المنضبطة أجزاؤه (عند أهل تلك الصنعة) المقصود الأركان كما بأصله.
وقد مثل له الفقه الشافعي بـ (العتابي – وهو مركب من قطن وحرير – وخز (1) وهو مركب من إبريسم ووبر، أو صوف.
حكمه:
1- الأصح عند الشافعية صحة السلم في هذه الصورة أيضا، وذلك لسهولة ضبط كل جزء من هذه الأشياء (2) .
المراد بالانضباط:
لقد ذكر علماء المذهب رأيين في المراد بالانضباط:
الأول: أن المراد بالانضباط أن يعرف العاقدان أن اللحمة من أحدهما والسدى من الآخر.
والثاني: (وقد حكى بقيل) أن المراد به معرفة وزن كل جزء من الأجزاء وقد رجح السبكي الأول، ورجح الثاني الأذرعي، لأن القيم والأغراض تتفاوت بذلك تفاوتا ظاهرا (3) ، وعليه ينطبق قول الرافعي في الشرح الصغير لسهولة معرفة اختلاطها وأقدارها.
2- ومقابل الأصح أنه لا يصح السلم في هذه الصورة أيضا، لانتفاء الانضباط فيها إذ أن الحرير وغيره يقل ويكثر، فإذا وجد ذلك انتفى الانضباط فلا يصح السلم.
__________
(1) الخز اسم دابة، ثم أطلق على الثوب المتخذ من وبرها والجمع خزوز مثل فلوس فقول الشارح أنه مركب من إبريسم … لعله اصطلاح حادث – حاشية الشبراملسي القاهري، توفي سنة 1087هـ، ونهاية المحتاج: 4/196.
(2) علق الشبراملسي عليه بقوله (زاد حج وعليه يظهر الاكتفاء بالظن والمراد ظن المتعاقدين: 4/197.
(3) علق الشبراملسي عليه بقوله: (زاد حج وعليه يظهر الاكتفاء بالظن، والمراد ظن المتعاقدين: 4/197(7/915)
النوع الثاني: من الأشياء المختلطة صنعة:
هو: (التعاقد على الشيء المختلط صنعة الذي يقصد أحد الخليطين فيه والخليط الآخر أضيف لإصلاح هذا الشيء) .
وقد مثل المذهب له بـ "خل تمر، أو زبيب" فالخل يحصل باختلاط التمر أو الزبيب بالماء الذي هو قوامه.
فقد اختلط هنا التمر والزبيب بمادة غير مقصودة غير أنها من مصلحته.
الحكم:
الأصح في المذهب الشافعي هو أنه يصح التعاقد سلما على هذا الشيء المختلط صنعة على النحو الذي سبق ذكره.
والظاهر أن وجه الحكم في ذلك.
أن المادة المضافة هي من مصلحة المادة المقصودة.
وأن المادة المضافة غير مقصودة.
فقد اختلطت المادة المقصودة بمادة غير مقصودة وتحقق مصلحته للمادة المقصودة.
ومقابل الأصح أيضا لا يجوز التعاقد سلما على هذه الصورة أيضا لأن الماء يقل ويكثر، فإذا كان ذلك كذلك انتفى الانضباط، وإذا انتفى الانضباط لم يصح السلم.(7/916)
النوع الثالث: من الأشياء المختلطة صنعة:
هو: التعاقد (سلما) على الشيء المختلط المقصود الأركان التي لا تنضبط) .
وقد مثل فقهاء المذهب الشافعي لذلك بـ (هريسة، ومعجون ركب من جزئين أو أكثر، وغالية، وخف ونعل، وترياق مخلوط (1) والقِسي، لأنها مركبة من خشب وعظم وعصب (2) .
ولأن الغالية مركبة من مسك وعنبر وعود وكافور – كما في الروضة، وفي تحرير المصنف: مركبة من دهن ومسك وعنبر.
ومثل الغالية النَدُّ، وهو بفتح النون: مسك وعنبر وعود خلط بغير دهن والخف والنعل كل منهما على ظهارة وبطانة وحشو والعبارة لاتفي بذكر أقدارها وأوضاعها.
أما الخفاف المتخذة من شيء واحد، ومثلها النعال، فقد سبق أن ذكرناها في الصورة "أولا" التعاقد على شيء مصنع من مادة واحدة، وذكرنا حكمها.
حكمها:
يرى المذهب الشافعي عدم صحة السلم في هذه الصورة، لعدم انضباط أجزائها جاء في الأم:
(قال) الشافعي: (ولو شرط أن يعمل له طستا من نحاس وحديد، أو نحاس ورصاص لم يجز لأنهما لا يخلصان، فيعرف قدر كل واحد منهما، وليس هذا كالصبغ في الثوب لأن الصبغ في ثوبه زينة لا يغيره أن تضبط صفته، وهذا زيادة في نفس الشيء المصنوع، قال: وهكذا كل ما استصنع.
ولا خير أن يسلف في قلنسوة محشوة، وذلك أنه لا يضبط وزن حشوها ولا صفته ولا يوقف على حد بطانتها، ولا تشتري هذه إلا يدا بيد.
ولا خير في أن يسلفه في خفين ولا نعلين مخروزين، وذلك أنهما لا يوصفان بطول ولا عرض، ولا تضبط جلودهما، ولا ما يدخل فيهما، وإنما يجوز في هذا أن يبتاع النعلين والشراكين ويستأجر على الحذو، وعلى إخراز الخفين.
__________
(1) واحترز بالترياق المختلط عما هو نبات واحد، أو حجر فإنه يجوز السلم فيه.
(2) ومثل القوس: النبل المريش: بفتح الميم وكسر الراء وإسكان الياء بوزن كريم لاختلاف وسطه وطرفيه دقة وغلظة وتعذر ضبطه(7/917)
(ولا بأس أن يبتاع منه صحافا أو قداحا من نحو معروف، وبصفة معروفة وقدر معروف من الكبر والصغر، والعمق والضيق، ويشترط أي عمل.
ولا بأس إن كانت من قوارير، ويشترط جنس قواريرها ورقته وثخانته، ولو كانت القوارير بوزن مع الصفة كانت أحب إليَّ، وأصح للسلف، وكذلك كل ما عمل فلم يخلط بغيره والذي خلط بغيره النبل فيها ريش ونصال وعقب ورومة، والنصال لا يوقف على حده، فأكره السلف فيه، ولا أجيزه) .
واضح أن المذهب الشافعي جعل السبب في عدم جواز السلم في الصور التي لم يجز السلم فيها هو:
* عدم انضباط الأجزاء التي تكون منها الشيء المختلط صنعة.
* عدم إمكان فصل هذه الأجزاء ليعرف قدر كل جزء منها.
* تفاوت الصنعة أو تفاوت الأشكال في الأشياء المصنعة من مادة واحدة.
[الصورة الأولى: ص468] .
ومن هذا يمكن أن نقول إنه:
(أ) إذا انضبطت أجزاء الشيء المصنع من أكثر من مادة، بحيث يمكن أن يعرف قدر كل مادة منها بأي وسيلة من الوسائل العلمية.
(ب) أو أمكن فصل كل جزء من هذه الأجزاء ليعرف مقدار نسبته في الشيء المصنع المختلط، بأي وسيلة من الوسائل العلمية.
(ج) وكذلك إذا أمكن ألا تتفاوت الصنعة من سلعة إلى أخرى من السلع المصنعة، وألا تتفاوت أشكالها … تفاوتا يتعلق به غرض للمتعاقد أو يعتد به في أمثالها.
* إذا تحقق ذلك فإنه يمكن أن نقول أن المذهب يجيز التعاقد (سلمًا) على هذه الأشياء المصنعة سواء كانت تتخذه من مادة واحدة، أو من أكثر من مادة.(7/918)
ولعل هذا هو الذي جعل الشيخ محمد نجيب المطيعي يفتي بجواز السلم في الأشياء المصنعة في زماننا هذا كأجهزة التلفاز، والمذياع والسلع المعمرة: مثل الثلاجة والغسالة ونحو ذلك. حيث يقول: (فرع) استحدثت في زماننا هذه من أسباب الصنعة أدوات لم تكن معروفة عند أئمتنا السابقين رضوان الله عليهم – كالمذياع والمرناة – وهو جهاز يأتيك بالصورة والصوت (تلفزيون) من بعيد، والثلاجة الكهربائية والغسالة الكهربائية، وكل نوع من هذه الأنواع له من التركيب وتنوع القطع وتباين الأجزاء ما يصعب على المتعاقدين ضبطه، فإن أمكن تحديد النوع والعلامة وكان مع الجهاز دليل مطبوع مكتوب يوضح أجزاءه ومقاديرها وأبعادها وقوتها وكان المتعاقدان خبيرين بأسرارها كوكيل المؤسسة لصنع الأجهزة، وتوزيعها، جاز السلم بينهما.
أما إذا لم يكن عليمًا بدقائق هذه الأجهزة بحيث يمكن تغيير مصباح، أو محرك جيد، ووضع بدله، أقل جودة، أو قديمًا، فسد السلم، لانعدام العلم والإحاطة بدقائق الجهاز.
ويؤخذ من قول الشافعي في الأم في باب لحم الوحش: (جواز سؤال أهل العلم به، فإن بينوا عيبا رد بالعيب وإلا فلا) .
ثم قال: (فرع) .
(لا يجوز السلم في أنواع الأثاث إذا كان يشتمل على الحشايا والأسلاك اللولبية والقطن والجلد والقماش والطلاء وما أشبه ذلك، لعدم إمكان انضباطه وتشابه الرديء منها بالجيد والله أعلم) . اهـ.
(وأقول: ما يمكن انضباطه، ومعرفة أجزائه مادة وقدرًا … ونسبة، بواسطة أهل الخبرة، ولا يتفاوت صنعة وشكلًا....
يمكن القول بجواز عقد السلم فيه تخريجًا على رأي الشافعية كما بيناه آنفًا) .(7/919)
***
المطلب الثاني
النصوص الفقهية من كتب المذهب الشافعي
جاء في مغنى المحتاج 2/108 في باب السلم:
1- (ويشترط في السلم معرفة الأوصاف التي يختلف بها الغرض اختلافًا ظاهرًا)
وينضبط بها السلم فيه، وليس الأصل فيه عدمها لتقريبه من المعاينة ولأن القيمة تختلف بسببها وهذا الشرط معطوف على قوله أول الفصل، ويشترط كون المسلم فيه مقدورًا على تسليمه، كما قدرته في كلامه، وكان ينبغي أن يقدم شرط كونه موصوفًا ينضبط بالصفات، ثم العلم بها، فإن لم تعرف لم يصح السلم لأن البيع لا يحتمل جهل المعقود عليه وهو عين، فلأن لا يحتمل وهو دين أولى.
وخرج بالقيد الأول، ما يتسامح بإهمال ذكره كالكحل والسمن في الرقيق كما سيأتي، وبالثاني ما لا ينضبط كما سيأتي أيضًا.
وبالثالث: كون الرقيق قويًا على العمل وضعيفًا أو كاتبًا أو أميًّا، أو نحو ذلك فإنه وصف يختلف به الغرض اختلافًا ظاهرًا، مع أنه لا يجب التعرض له، لأن الأصل عدمه.
2- (ويشترط ذكرها في العقد) مقترنة به ليتميز المعقود عليه، فلا يمكن ذكرها قبله ولا بعده، ولو في مجلس العقد، نعم إن توافقا قبل العقد، وقالا أردنا في حالة العقد ما كنا اتفقنا عليه صح كما قاله الأسنوي، وهو نظير من له بنات وقال لآخر زوجتك بنتي ونويا معينة، ولابد من أن يكون ذلك (على وجه لا يؤدي إلى عزة الوجود) لأن السلم غرر كما مر فلا يصح إلا فيما يوثق بتسليمه، والعزة هنا بمعنى القلة، ويقال شيء عزيز أي قليل.(7/920)
فلا يصح السلم فيما لا ينضبط مقصوده، كالمختلط المقصود الأركان التي لا تنضبط كالهريسة ومعجون وغالية، وخف، ونعل (وترياق مخلوط) لعدم انضباط أجزائها لأن الغالية مركبة من مسك وعنبر وعود وكافور – كما في الروضة – وفي تحرير المصنف مركبة من دهن ومسك وعنبر، ومثل الغالية الند – وهو بفتح النون: مسك وعنبر وعود خلط بغير دهن.
والخف والنعل كل منهما على ظهارة وبطانة وحشو، والعبارة لا تفي بذكر أقدراها وأوضاعها.
أما الخفاف المتخذة من شيء واحد، ومثلها النعال فيصح فيها إن كانت جديدة واتخذت من غير جلد، يجوز السلم فيها – كالثياب المخيطة والأمتعة.
واحترز بالترياق المختلط عما هو نبات واحد أو حجر فإنه يجوز السلم فيه وهو بتاء مثناة أو دال مهملة أو طاء كذلك مكسورات أو مضموات، فهذه ست لغات ذكرها المصنف في دقائقه، ويقال أيضًا دراق وطراق.
ومثل ذلك القِسِيّ – وهي بكسر القاف والسين وتشديد الياء، جمع قوس، ويجمع أيضًا على أقواس = مركبة من خشب وعظم وعصب.
والنبل المَرِيش، بفتح الميم وكسر الراء وإسكان الياء بوزن كريم – لاختلاف وسطه وطرفيه دقة وغلظة وتعذر ضبطه.
أما النبل قبل خرطه وعمل الريش عليه، فيصح لتيسر ضبطه.
ولا يصح السلم في الحنطة المختلطة بالشعير، ولا في الأدهان المطيبة من نحو بنفسج وبان وورد بأن خالطها شيء من ذلك، أما إذا روح سمسمها بالطيب المذكور واعتصر فإنه لا يضر.
(والأصح صحته في المختلط (1) المنضبط) الأجزاء (كعتابي) وهو مركب من قطن وحرير (وخز) وهو مركب من إبريسم ووبر أو وصوف لسهولة ضبط كل جزء من هذه الأجزاء.
__________
(1) نهاية المحتاج: 5/196(7/921)
تنبيه:
المراد بالانضباط: قيل أن يعرف العاقدان أن اللحمة من أحدها والسدى من الآخر.
وقيل معرفة الوزن , رجح السبكي الأول، والثاني الأذرعي، وهو الظاهر لأن القيم والأغراض تتفاوت بذلك تفاوتًا ظاهرًا، وعليه ينطبق قول الرافعي في الشرح الصغير لسهولة معرفة اختلاطها وأقدراها.
(وجبن وأقط) كل منهما فيه مع اللبن المقصود الملح، والإِنْفَحة من مصالحه، وهو بكسر الهمزة وفتح الفاء وتخفيف الحاء المهملة: كرش الخروف والجدي ما لم يأكل غير اللبن، فإن أكل فكرش، وجمعها أنافح ويجوز في باء الجبن السكون والضم مع تخفيف النون وتشديدها، والجيم مضمومة في الجميع وأشهر هذه اللغات إسكان الباء وتخفيف النون.
(وشهد) بفتح الشين وضمها مركب من عسل النحل وشمعه خلقة، فهو شبيه بالتمر وفيه النوى.
(وخل وتمر أو زبيب) هو يحصل من اختلاطهما بالماء الذي هو قوامه.
ومقابل الأصح في السبعة ينفي الانضباط فيها قائلًا إن كلًّا من الحرير والشمع والماء وغيره يقل ويكثر، والسمك المملح كالجبن.
تنبيه:
كلام المصنف قد يوهم أن هذه الأمثلة من أمثلة القسم المتقدم – وهو المختلط المقصود والأركان وليس مرادًا بل من أمثلة النوع الثالث من المختلطات (وهو أن يقصد أحد الخليطين والآخر للإصلاح كما هو في الشرح والروضة … وإدخاله الشهد في هذا النوع تبع فيه المحرر وليس منه، بل هو نوع رابع، كما ذكراه في الشرح والروضة وهو المختلط خلقة فلو قدمه أو أخره لكان أولى.
ويصح السلم في اللبن والسمن والزبد، ويشترط ذكر جنس حيوانه ونوعه ومأكوله من مرعى أو علف معين بنوعه ويذكر في السمن أنه جديد أو عتيق، ولا يصح في حامض اللبن لأن حموضته عيب إلا في مخيض لا ماء فيه فيصح فيه.
ولا يصح السلم فيما يندر وجوده كلحم الصيد بموضع العزة، أي محل يعز وجوده فيه لانتفاء الوثوق بتسليمه، نعم لو كان السلم حالا، وكان السلم فيه موجودا عند المسلم إليه بموضع يندر فيه، صح كما في الاستقاء، ولا فيما لو استقصى وصفه عز وجوده – لما مر – كاللؤلؤ الكبار واليواقيت وغيرهما من الأحجار النفيسة لأنه لا بد من التعرض للحجم والوزن والشكل والصفاء – واجتماع الأمور نادر، وخرج باللآلئ الكبار وهي ما تطلب للزينة، الصغار وهي ما تطلب للتداوي وضبطها الجويني بسدس دينار.(7/922)
فرع (ويصح السلم في الحيوان) :
لأنه ثبت في الذمة قرضا في خبر مسلم، ففيه: "أنه صلى الله عليه وسلم اقترض بكرا" فقيس على القرض السلم، وعلى البكر غيره من سائر الحيوان.
وروى أبو داود بأنه صلى الله عليه وسلم أمر عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن يأخذ بعيرا ببعيرين إلى أجل، وهذا سلم، لا قرض، لما فيه من الفضل والأجل وحيث النهي عن السلف في الحيوان قال ابن السمعاني في الاصطلام: غير ثابت وإن خرجه الحاكم.
ولا يصح السلم في مختلفٍ أجزاؤه (كبرمة معمولة) وهي القدر (وجلد) على هيئة (و) معمول نحو (كوز وطس) بفتح الطاء، ويقال له طشت، ولم يذكره في المحرر.
(وقمقم ومنارة) بفتح الميم (ونحوها) كالأباريق والحباب بكسر الحاء المهملة وبالموحدة جمع حب بضمها وهي الخابية والأسطال الضيقة الرأس لندرة اجتماع الوزن مع الصفات المشروطة ولتعذر ضبطها إما لاختلاف الأجزاء في الدقة والغلظ كالجلد، أو لمخالفة أعلاها أو وسطها لأسفلها كالأمثلة المذكورة.
أما قطع الجلد فيجوز السلم فيها وزنا لانضباطها، لأن جملتها مقصودة، وما فيها من التفاوت يجعل عفوا، ولا يصح في الرق لما ذكر.
تنبيه:
تقييده البرمة بالمعمولة للاحتراز عن المصبوبة في القالب كما سيأتي فيكون ذلك قيدا في كل ما بعده إلا الجلد – كما قدرته في كلامه، فكان ينبغي تقديمه وعطف هذه الأشياء عليه أو عكسه لمغايرته لها.
قال الأشموني: والمذهب جواز السلم في الأواني المتخذة من الفخار، ولعله محمول على غير ما مر.
ويصح السلم في الأسطال المربعة لعدم اختلافها، والمدورة كالمربعة، كما صرح به سليم في التقريب. وقال الأذرعي إنه الصواب، واقتضاه كلام الشيخ أبي حامد، ويصح في كل ما لا يختلف من ذلك مضروبا كان أو مصبوبا، كما صرح به الماوردي، ولو شرط كون السطل من نحاس ورصاص جميعا لم يصح نص عليه في الأم، قال: لأنهما لا يخلصان فيعرف قدر كل واحد منهما.
(وفيما صب منها) أي المذكورات – كما اقتضاه كلام الشرح والروضة: أي من أصلها المذاب (في قالب) بفتح اللام – أفصح من كسرها – كالهاون – بفتح الواو مربعا كان أم لا، لأن ذلك لا يختلف. مغني المحتاج: 2/114.(7/923)
شروط السلم عند الشافعية:
بعد أن عرف فقهاء الشافعية السلم بأنه شرعًا "بيع شيء موصوف فيه الذمة".
ذكروا أن يشترط لصحة السلم – على شروط البيع المتوقف صحتها عليه – أمور سبعة أخرى، ثم عدوها شرحًا وتفصيلًا، ونوجزها فيما يلي:
الشرط الأول: تسليم رأس المال – وهو الثمن – في المجلس الذي وقع العقد به قبل التفرق منه، أو لزومه؛ لأن لزومه كالتفرق، إذ لو تأخر تسليم الثمن لكان في معنى بيع الدين بالدين إن كان رأس المال في الذمة، ولأن في السلم غررا، فلا يضم إليه غرر تأخير رأس المال ولابد من حلول رأس المال كما قاله القاضي أبو الطيب كالصرف، ولا يغني عنه شرط تسليمه في المجلس.
الشرط الثاني: كون المسلم فيه دينًا (1) .
الشرط الثالث: بيان محل التسليم للمسلم فيه – إذا كان العاقدان في موضع لا يصلح للتسليم، أو كان يصلح ولكن لحمله مؤنة، وإلا فلا يشترط ذلك ويتعين محل العقد للتسليم للعرف فيه.
الشرط الرابع: حلول رأس المال.
الشرط الخامس: القدرة على تسليم المسلم فيه عند وجوب تسليمه؛ لأن المعجوز عن تسليمه يمتنع بيعه فيمتنع السلم فيه.
الشرط السادس: كون المسلم فيه معلوم القدر، كيلا – فيما يكال أو وزنا فيما يوزن – أو عدا فيما يعد، أو ذرعا فيما يذرع، مع قياس ما ليس فيه بما فيه، ويصح في المكيل وزنا وعكسه حيث كان الكيل يعد ضابطا فيه، بخلاف الربوي لأن الغالب ثم التعبد.
الشرط السابع: معرفة الأوصاف (2) التي تتعلق بالمسلم فيه التي ينضبط المسلم فيه بها، ويختلف بها الغرض اختلافًا ظاهرًا، ويشترط ذكرها في العقد (مقترنة به ليتميز المعقود عليه …) على وجه لا يؤدي إلى عزة الوجود (أي قلته) لأن السلم غرر فلا يصح فيما يوثق بتسليمه.
__________
(1) يراجع نهاية المحتاج، للرملي:4/178- 214. أراد بالشرط ما لا بد منه فيدخل فيه الركن – كما هنا – لأن لفظ السلم موضوع لما كان – المسلم فيه – دينًا. نهاية المحتاج: 4/183
(2) معرفة الأوصاف، للمتعاقدين، مع عدلين، نهاية المحتاج:4/194(7/924)
رأي المذهب الحنبلي في
التعاقد (استصناعًا) أو (سلمًا) على الأشياء المصنعة
يلزمنا حين نبين رأي المذهب الحنبلي في ذلك أن نوضح رأيه في (عقد الاستصناع) الذي سبق بيانه، والذي أجازه المذهب الحنفي – ثم نبين رأي المذهب الحنبلي في سد حاجات الناس إلى السلع المصنعة، وضوابط جوازها، وذلك من خلال ما أورده في عقد السلم.
المطلب الأول
رأي المذهب الحنبلي في عقد الاستصناع:
(أ) أوردت كتب المذهب الحنبلي في أكثر من موضع أنه لا يصح عقد الاسصناع، فقد نص البهوتي على ذلك حيث يقول:
(ولا يصح استصناع سلعة) بأن يبيعه سلعة يصنعها له (لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم) ذكره القاضي وأصحابه.
وكذلك نَصَّ المرداوي على ذلك فقال:
ذكر القاضي وأصحابه: أنه لا يصح استصناع سلعة، لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم. واقتصر عليه في الفروع.
ثم أثار فقهاء المذهب صورتين لهما تعلق باستصناع السلعة المباعة.(7/925)
المطلب الثاني
صور لها تعلق باستصناع السلعة
الصورة الأولى:
صورة يكون فيها الشيء المستصنع، قد تم صنع بعضه، ولم يتم الانتهاء من تصنيعه جميعه – كما في ثوب نسج بعضه، ولم يتم نسج باقيه (1) ففي هذه الصورة وجد بعض المعقود عليه (الثوب المنسوج بعضه) وبعضه لم يوجد (وهو باقي الثوب الذي لم ينسج بعد) فالتعاقد على هذا الثوب جمع بين موجود، ومعدوم، فهل يصح التعاقد (بيعًا) على مثل ذلك؟
لقد ظهر في المذهب رأي حكي بـ (قِيلَ) مما ينبئ عن ضعفه أنه يصح التعاقد على ذلك إن صح الجمع في عقد واحد بين بيع وإجارة منه.
ولكن الرأي في المذهب أنه لا يصح العقد على ذلك، حيث قالوا:
(لا يصح بيع ثوب نسج بعضه على أن ينسج بقيته، وعللوا – تبعا للقاضي (في تعليله لعدم صحة استصناع سلعة الذي قدمناه) بأن بيع المنسوج بيع عين، والباقي موصوف في الذمة، ولا يصح أن يكون الثوب الواحد بعضه بيع عين، وبعضه مسلم فيه لأن الباقي سلم في أعيان، وذلك لا يجوز، ولأنه بيع وسلم، واستئجار، فاللحمة غائبة، فهي سلم فيه، والنسج استئجار.
واقتصر على هذا الحكم في المستوعب والحاويين، والفروع، وغيرهم، وقدمه في الرعاية الكبرى وقال: وقيل يصح بيعه إلى المشتري، إن صح جمع بين بيع وإجارة منه بعقد واحد، لأنه بيع وسلم، أو شرط فيه نفع البائع) .
* أما الجمع بين بيع وإجارة في المذهب الحنبلي في عقد واحد على محل واحد، وذلك كما لو اشترى ثوبا وشرط على البائع خياطته، أو زرعا وشرط على البائع حصاده، أو قطعة حديد وشرط على البائع ضربها سيفا، ونحو ذلك، فإن المذهب يرى صحة هذا العقد لأن كل واحد منهما يصح إفراده بالعقد واجتماع هذين العقدين صحيح، فيقاس عليه اشتراط قيام البائع بعمل في المبيع فيكون صحيحًا متى كان هذا العمل معلومًا.
وبناء على ذلك تصح هذه الصورة التي معنا، لأنها جمعت بين بيع وسلم على محل واحد، وليست من قبيل جمع بين عقد بيع عين، وعقد سلم على محل آخر، إذ لا يصح في المذهب اجتماع عقدين في عقد، للنهي عن ذلك فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.
أو أنها تصح على أنها بيع شرط فيه نفع البائع، فقد نص المذهب على جواز اشتراط شرط يحقق نفعًا مباحًا لأحد المتعاقدين، كما في الأمثلة التي ذكرناها آنفا (في الجمع بين بيع وإجارة) إذ هي تحقق نفعًا لأحد المتعاقدين: البائع أو المشتري وكل هذه الصور ترد على محل عقد البيع فقط (وليست على محلين حتى تكون من باب عقدين في عقد) كما لو اشترى قطعة حديد وشرط على البائع ضربها سيفًا ونحو ذلك فإنه يجوز، فقد روي عن محمد بن مسلمة أنه اشترى من نبطي حزمة حطب، وشارطه على حملها.
وبناء على هذا التوجيه أيضًا تصح هذه الصورة التي معنا. كما صحت في المذهب المالكي.
الصورة الثانية:
كما أثار المذهب صورة أخرى، وهي أن البائع أحضر لحمة الثوب وباعها مع الثوب وشرط على البائع نسجها.
ذكر المرداوي أنه (إن أحضر اللحمة وباعها مع الثوب، وشرط على البائع نسجها فعلى الروايتين في اشتراط منفعة البائع. أي كما ذكرنا في الصورة السابقة) .
__________
(1) هذه الصورة هي الصورة التي أثارها المالكية يراجع: ص462(7/926)
المطلب الثالث
رأي المذهب الحنبلي في التعاقد
(سلمًا) على أشياء تصنع
إذا تتبعنا ما أورده المذهب الحنبلي من صور لما يصح التعاقد عليه بعقد السلم من الأشياء التي لابد من صنعة تجري فيها، وتبرزها وتعطيها هذا الاسم الذي تم التعاقد عليه، والذي هو محل عقد السلم، تجد أن هنا صورًا متعددة، كلها تحتاج إلى قيام البائع بصنعها وتقديمها عند حلول الأجل (الأجل الذي نص عليه في عقد السلم) تامة طبقًا للأوصاف التي نص عليها في هذا العقد.
فقد صح في المذهب السلم في الغزل، والثياب، والرصاص، والنحاس، والحديد، والبلور، والسيوف، والنشاب، والنبل المريشين والقوس، والآجر، واللبن، ونحو ذلك ولا شك أن كل هذه الأشياء لابد فيها من صنعة تأتي عليها وجهد وعمل في استخراجها، واستخلاصها، وصياغتها، وصنعها …
ونوضح ذلك فيما يلي:
* فالغزل لا يكون إِلَّا بعد غزَّالٍ، يجعل القطن أو الصوف أو الحرير وغيرها مغزولًا ليصبح صالحا للنسج.
* والثياب لا تكون كذلك إلَّا بعد حياكتها وإعدادها للبس سواء أكانت من نوع واحد من الغزل أو أكثر من نوع، مصبوغة أو غير مصبوغة، والصبغ يحتاج إلى صباغ، والغزل يحتاج إلى غزال، والثوب يحتاج إلى حائك.
* ومثل ذلك الرصاص والنحاس والحديد، والبلور، كل ذلك يحتاج إلى مصانع لاستخلاصه من الخام الذي يعطي ذلك، بل يحتاج إلى أكثر من خام ليأخذ هذا الاسم في بعض المعادن.
* ومثل ذلك الأواني، والقصاع والأقداح، فلا بد من وجود صانع يقوم بصياغة المادة المتخذ منها كل نوع حتى تأخذ هذا الاسم.
ومثل ذلك السيوف، والنشاب، والنبل، ونحو ذلك من أنواع الأسلحة …
كل ذلك أيضا يحتاج إلى صناعة تقوم على مدين المعسر معدما، أي إنه يملك بعض المال، ولكنه قليل لا يكاد يكفيه للإنفاق على نفسه وعياله بالمعروف وقضاء دينه إلا بمشقة وضيق وضرر. فقد قال ابن رشد فيه: " وأما المعسر الذي ليس بمعدم – وهو الذي يحرجه تعجيل القضاء ويضر به – فتأخيره إلى أن يوسر ويمكنه القضاء من غير مضرة. تلحقه مرغب فيه ومندوب إليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَظَلَّهُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)) كما رأينا في صدر ما نقلناه عن المذهب بعدم صحة عقد الاستصناع، كعقد مغاير، عن عقد السلم له خواصه وأحكامه.(7/927)
المطلب الرابع
النصوص الفقهية من المذهب الحنبلي
وجاء في كشف القناع:
* ولا يصح استصناع سلعة بأن يبيعه سلعة يصنعها له (لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم) ذكره القاضي وأصحابه (1) .
كما جاء فيه أيضا بخصوص ما يصح السلم فيه من الأشياء المختلفة (المصنعة من أكثر من شيء) (2) .
(ويصح السلم فيما يجمع أخلاطا) وأحدهما خلط – بكسر الخاء (مقصودة متميزة، كثياب منسوجة من نوعين) كإبريسم وقطن، لأن ضبطها ممكن ونشاب، ونبل مريشين، وخفاف ورماح متوز ونحوها) لإمكان ضبطها بالصفة (3) .
(ولا يصح السلم فيما يجمع أخلاطا) غير متميزة (كقسي مشتملة على خشب وقرن وعصب وتَوْز) بفتح المثناة فوق وسكون الواو (ونحوها) كطلاء، إذ لا يمكن تمييز ما في القوس من كل نوع من هذه.
(ويصح) السلم (في شهد) وهو العسل في شمعها (وزنا) لأنه اتصال خلقة، كالنوى في التمر، والعظم في اللحم.
ولا يصح السلم (فيما لا ينضبط: كالجواهر كلها من در، وياقوت، وعقيق وشبهه كلؤلؤ ومرجان، لأنه يختلف اختلافا متباينا بالكبر والصغر وحسن التدوير، وزيادة ضوئها، ولا يمكن تقديرها ببيض العصفور لأن ذلك يختلف، ولا بشيء معين، لأنه قد يتلف.
* ولا يصح السلم في مخلوط بما لا ينفعه خلط، كلبن مشوب بماء وحنطة مخلوطة بزوان لأنه مجهول لا ينضبط بالصفة (أو لا يتميز، كمغشوش من أثمان) فلا يصح السلم فيها، لأن غشها يمنع العلم بالقدر المقصود منها. (وكعاجين وحلوى وند وغالية) فلا يصح السلم فيها لعدم ضبطها بصفة.
* (ويصح السلم فيما يترك فيه شيء غير مقصود لمصلحة) كجبن يوضع فيه الإنفحة والخبز يوضع فيه الملح، وخل تمر يوضع فيه الماء، والمسكنجبين يوضع فيه الخل ونحوها، كدهن ورد وبنفسج، لأن ذلك يسير غير مقصود لمصلحة فلم يؤثر ….
ثم أورد بعد ذلك من أنواع ما يصح السلم فيه: السلم في الأشياء التي لابد فيها من صنعة، لكي تستخلص وتصبح بحال يطلق عليها اسم خاص بها يميزها عن غيرها.
ومن هذه الأشياء السلم في الغزل. وفي الرصاص، وفي النحاس، وفي الحديد وفي الأواني، وفي القصاع والأقداح، وفي السيوف وفي النشاب وفي النبل، وفي الخشب بأنواعه (للبناء، للقسي، أو الوقود) وفي الحجارة للأرحية أو للآنية وفي البلور، وفي الآجر واللبن، وفي الثياب مصبوغة أو غير مصبوغة، متخذة من نوع واحد من الغزل أو من أكثر من نوع.
فقال في أثناء ذكر الشرط الثاني من شروط السلم ما يأتي:
__________
(1) 3/165
(2) 3/290
(3) وورد في المبدع أن الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط كالقماقم (ما يسخن فيه من نحاس) والأسطال الضيقة الرؤوس(7/928)
الشرط الثاني:
(أن يصفه) أي المسلم فيه (بما يختلف به الثمن) اختلافا (ظاهرا) لأن السلم عوض يثبت في الذمة، فاشترط العلم به كالثمن، وطريقة الرؤية أو الصفة، والأول ممتنع فتعين الوصف، فعلى هذا يذكر جنسه - أي المسلم فيه فيقول مثلا تمر (و) يذكر (نوعه فيقول) مثلا (برني أو معقلي) ونحوه (و) يذكر (قدر حبه، فيقول: صغارا أو كبارا) (و) يذكر (لونه إن اختلف) اللون (كالطيرزد) نوع من التمر، يكون منه أسود وأحمر (و) يذكر (بلده، فيقول) مثلا (كوفي أو بصري (و) يذكر (حداثته وقدمه) ….. (ثم يتابع البهوتي تطبيقات ذلك فيما يجري فيه السلم في الذهب من المحاصيل والحيوانات …. ومنتجاتها) ثم يذكر ما أردت إظهاره هنا مما يلزمه صنعة لكي يصبح بهذا المسمى المتعاقد عليه، ومنه قوله.
* ويصف غزل القطن، وغزل (الكتان باليد واللون والغلظ والرقة والنعومة والخشونة، ويصف القطن بذلك) أي البلد واللون (ويجعل مكان الغلظ والدقة طويل الشعرة أو قصيرها …) .
* (ويضبط الرصاص) بفتح الراء (والنحاس) بضم النون (والحديد) بالنوع فيقول في الرصاص قلعي أو أسرب (و) يذكر (النعومة والخشونة واللون، إن كان يختلف) لونه (ويزيد في الحديد ذكرا أو أنثي، فإن الذكر أحد وأمضى) من الأنثى.
* (وتضبط الأواني غير مختلفة الرؤوس والأوساط) لأن السلم لا يصح في مختلفها و (بقدرها) أي كبرها وصغرها (وطولها وسمكها، ودورها، كالأسطال القائمة الحيطان) .(7/929)
* (ويضبط القطاع والأقداح من الخشب بذكر نوع خشبها) فيقول (من جوز أو توت أو نحوه (وقدرها في الصغر والكبر، والعمق والضيق، والثخانة والرقة) .
(وإن أسلم في سيف ضبط) السيف (بنوع حديده و (ضبط) طوله وعرضه ودقته وغلظة، وبلده، وقديم الطبع أو محدثة، ماض أو غيره ويصف قبيعته وجفنه) أي قرابه.
(ويضبط خشب البناء بذكر نوعه ورطوبته، ويبسه، وطوله ودوره) ، أي إن كان مدورا (أو سمكه وعرضه) إن لم يكن مدورا …. [ثم وَالَى أنواع الأخشاب … ص296 ومنها الخشب للقسي …. وللوقود ….] .
*ويذكر في النشاب والنبل نوع خشبه، وطوله (أي النشاب أو النبل) وقصره ودقته وغلظه ولونه ونصله وريشه.
* ويضبط حجارة الأرحية بالدور والثخانة والبلد والنوع إن كان يختلف، وإن كان الحجر للبناء.
* ذكر اللون والقدر والنوع والوزن.
* ويذكر في حجارة الآنية: النوع واللون والقور واللين والوزن.
* ويصف البلور بأوصافه هكذا في المغني، مع أنه قال قبله لا يصح السلم في البلور.
* ويصف الآجر واللبن بموضع التربة، واللون والدور والثخانة.
(ويضبط الثياب) إذا أسلم فيها (فيقول: كتان أو قطن) أو إبريسم (والبلد والطول والعرض والصفاقة والرقة والغلظ والنعومة والخشونة، ولا يذكر الوزن، فإن ذكره لم يصح) السلم لندرة جمع الأوصاف مع الوزن …
(وإن أسلم في مصبوغ مما يصبغ غزله صح السلم، لأنه مضبوط) وإن كان المصبوغ مما يصبغ بعد نسجه لم يصح (السلم فيه، لأن الصبغ لا ينضبط، ولأن صبغ الثوب يمنع الوقوف على نعومته وخشونته.
وإن أسلم في ثوب يختلف الغزل أي من نوعين فأكثر – كقطن وكتان، أو قطن وإبريسم وكانت الغزول – من كل نوع – مضبوطة، بأن يقول السدى إبريسم، واللحمة كتان أو نحوه) كقطن صح السلم للعلم بالسلم فيه وإلا لم يصح.
ويصح السلم في الكاغد – ويضبطه بذكر الطول والعرض والرقة والغلط واستواء الصنعة (1) .
__________
(1) ويراجع الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد ابن حنبل، تأليف علاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي: 4/300(7/930)
تقسيمات للصور التي يصح فيها
استصناع السلعة (سلما) عند الحنابلة
على ضوء ما قدمناه في المطلب الثاني، والثالث، وما أوردناه من جملة للأمثلة التي وردت في كتب المذهب الحنبلي نستطيع أن نضع من خلال ما صرح به المذهب من ضوابط للصحة والفساد فيما يتعاقد عليه عن طريق عقد السلم في سلع يطلب صنعها. وهذا التقسيم يتقارب تقاربا كبيرا مع ما قمت بإبرازه من أقسام في مذهب الشافعية في مثل هذا الموطن … وأعراض هذا التقسيم فيما يلي:
القسم الأول
التعاقد سلما على أشياء تصنع من مادة واحدة
أجاز المذهب الحنبلي صحة التعاقد "سلما" على أشياء تصنع من مادة واحدة، وقد سبق أن مثل لها المذهب الشافعي بالكوز والطست والأباريق والحباب، (الزير) والنشاب …، فإذا تابعنا هذه الأمثلة عند الحنابلة نجد أنهم نصوا على أنه يصح السلم في غزل القطن، والكتان، والرصاص والنحاس، والحديد ….
والأواني غير المختلفة الرؤوس والأوساط، لأن السلم لا يصح في مختلفها والقصاع والأقداح من الخشب.
والسيف، والنشاب، والنبل والخشب بأنواعه والأرحية …. والبلور، والآجر، واللبن، والثياب، والمصبوغ منها إذا كان مما يصبغ غزله، فإن كان مما يصبغ بعد نسجه لم يصح السلم فيه، لأن الصبغ لا ينضبط، والكاغد.
كل هذه الأشياء التي أوردها المذهب عند ذكر الشرط الثاني لصحة السلم، وهو (أن يصف المسلم فيه بما يختلف به الثمن اختلافا ظاهرًا، لأن السلم عوض يثبت في الذمة، فاشتراط العلم به كالثمن، وطريقة الرؤية أو الصفة، والأول ممتنع، فتعين الوصف، فعلى هذا يذكر جنسه ونوعه، وقدر حبه، ولونه إن اختلف اللون، وحداثته وقدمه، و …(7/931)
القسم الثاني
عقد السلم على أشياء تصنع من أكثر من مادة
وهذا القسم يمكن أن نضعه في الصور الآتية، ضبطا للمسيرة، وإيضاحا للحكم في كل منها، وعلة الحكم.
الصورة الأولى
عقد السلم على شيء مكون من
أكثر من مادة. والخلطة حدثت خلقة
فقد نص فقهاء المذهب الحنبلي على (صحة السلم في الشهد) وهو العسل في شمعها (وزنًا) لأنه اتصال خلقة، كالنوى في التمر، والعظم في اللحم.
* وتعليل المذهب هنا يجعل الحكم يعم كل الأشياء المكونة من أكثر من مادة خلقة، ولا يعلل بما علل به الشافعية من قولهم (لانضباط أجزائه) .(7/932)
الصورة الثانية
التعاقد (سلما) على الأشياء
المختلطة من أكثر من مادة صنعة
وهذه الصورة تشمل ثلاثة أنواع يصدق عليها هذا الاسم:
النوع الأول: التعاقد على ما يجمع أخلاطا مقصودة متميزة.
فقد نص فقهاء المذهب على (صحة السلم فيما يجمع أخلاطا مقصودة متميزة، كثياب منسوجة من نوعين – كإبريسم وقطن، لأن ضبطها ممكن، ونشاب، ونبل مريشين، وخفاف ورماح متوز ونحوها، لإمكان ضبطها بالصفة) .
(ولا يصح السلم فيما يجمع أخلاطا غير متميزة، كقسي مشتملة على خشب وقرن وعصب وتوز. ونحوها , كطلاء، إذ لا يمكن تمييز ما في القوس من كل نوع من هذه) .
(ولا يصح السلم في مالا يتميز كمغشوش من أثمان – لأن غشها يمنع العلم بالقدر المقصود منها – وكمعاجين وحلوى وند وغالية، فلا يصح السلم فيها لعدم ضبطها) .
* وواضح أن تعليل المذهب هنا لصحة السلم في هذا النوع بأن (ضبطها ممكن بضبط صفاتها) يجعلنا نقول: إن كل ما يتحقق فيه هذه العلة من الأشياء المراد صنعها عن طريق عقد السلم يكون صحيحا. ومعلوم لنا أن ضبط الأجزاء الآن وتمييزها ممكن بواسطة أهل الخبرة.
النوع الثاني: التعاقد "سلما" على ما يترك فيه شيء غير مقصودة لمصلحة.
هذا النوع يتميز بأن فيه أكثر من مادة، إلا أن ما زاد عن مادته وضع فيه لمصلحة هذه المادة الأصلية. وقد صح السلم فيه. حيث قالوا: (يصح السلم فيما يترك فيه شيء غير مقصود لمصلحة (كجبن يوضح فيه الإنفحة، والخبز يوضع فيه الملح، وخل تمر يوضع فيه الماء، والسكنجبين يوضع فيه الخل، ونحوها كدهن ورد وبنفسج، لأن ذلك يسير غير مقصود لمصلحة فلم يؤثر) .
ومن هذا التعليل أيضا الذي أورده المذهب الحنبلي لصحة السلم فيما ما هذا شأنه وهو (وضع شيء يسير غير مقصود لمصلحة المادة الأصلية المقصودة) لا يؤثر في صحة السلم. ويمكن أن يطبق ذلك على كل المواد التي يحتاج فيها إلى خلطها بقدر يسير من مادة أخرى غير مقصودة لمصلحة المادة الأصلية) . وذلك يعم كل ما هذا شأنه من أنواع المواد المثيلة أو المشابهة.
* أما المخلوط بما لا ينفعه فإنه لا يصح السلم فيه، وقد ضرب المذهب له مثلا باللبن المشوب بالماء، والحنطة المخلوطة بزوان، فإن السلم في ذلك لا يصح، لأنه مجهول لا ينضبط بالصفة.
* ومن هنا يتبين لنا أن المذهب الحنبلي يصحح السلم في الأشياء المختلطة صنعة من أكثر من مادة وذلك إذا تحقق فيها ما يأتي:
أولا: أن تكون أخلاطها مقصودة متميزة.
ثانيا: إمكان ضبطها بالصفة.
فما لا يتحقق فيه ذلك لا يصح السلم فيه.
* أما الأشياء المختلطة خلقة فيصح السلم فيها لاتصالها خلقة، إذ لا دخل لعمل الإنسان فيها، فإن دخل فيها غش – كلبن مشوب بالماء فلا يصح السلم فيها لعدم ضبطها بصفة.(7/933)
الخاتمة
وتحتوي على خلاصة ما عرضناه من آراء المذاهب: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، مع إبراز ما تلتقي فيه هذه المذاهب أو تفترق، والآفاق التي يمكن أن يمتد إليها هذا النوع من التعاقد في كل مذهب.
آراء المذاهب
أولا – المذهب الحنفي:
* وقد عرضت من خلال هذا المذهب تعريف الاستصناع عند جمع من فقهاء الحنفية، ومنه تعريف الكاساني: (الاستصناع عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل) والثمن معلوم ومحدد، ويصح أن يدفعه كله عند التعاقد أو بعضه والباقي عند استلام المصنوع ويصح تأخيره إلى أن يتسلم المصنوع.
* ثم بينت رأي الحنفية في جواز هذا النوع من التعاقد (غير زفر) وبينت أدلة كل فريق.
* ثم عرضت رأي الحنفية في تكييف عقد الاستصناع هل هو مواعدة، أو هو عقد بيع، أو هو عقد يبدأ إجارة وينتهي بيعا – ورجحت أنه بيع.
* ثم ذكرت شروط صحة عقد الاستصناع عندهم من كون المصنوع معلوما، وكونه مما يجري فيه التعامل بين الناس، كما وضحت أثر اشتراط الأجل في عقد الاستصناع، وهل يصير به سلما – كما يرى أبو حنيفة – أو يظل عقد استصناع كما يرى أبو يوسف ومحمد …. ورجحت قول الصاحبين.
* ثم تعرضت لأركان عقد الاستصناع، وفصلت الحديث في المعقود عليه (في حقيقته) .
ثم بينت صفته – لازما أو غير لازم – وعرضت رأي المذهب في أنه غير لازم في حالة ما قبل تمام الصنع، وكذا حالة ما بعد تمامه قبل تقديمه للمستصنع، أما بعد تقديم المصنوع إلى المستنصع فقد عرضت آراءهم وهي: يسقط خيار الصانع وللمستصنع الخيار - وهذا هو جواب ظاهر الرواية - وروي عن أبي حنيفة أن لكل منهما الخيار، وروي عن أبي يوسف أنه لا خيار لهما – أي أن العقد يكون لازما عنده – وإن كانت مجلة الأحكام العدلية رأت أن عقد الاستصناع عقد لازم فليس لأحد المتعاقدين الرجوع، وإذا لم يكن على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرا (م392) .
* ثم بينت الأثر المترتب على عقد الاستصناع من ثبوت الملك للمستصنع في العين المبيعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في الثمن.
* وأخيرًا بينت ما ينتهي به عقد الاستصناع – من تقديم المصنوع إلى المستصنع وقبوله له، ومن موت أحد العاقدين، ومن هلاك العين التي تعينت لصنع الشيء المطلوب صنعه في عقد الاستصناع منها ووقوع اليأس من استيفاء المعقود عليه حينئذ منها، ومن أنه إذا أجزنا ذكر الأجل في عقد الاستصناع – بناء على رأي أبي يوسف ومحمد – فإنه ينتهي بانقضاء الأجل دون أن يتم انتهاء الصانع من الشيء المصنوع وتقديمه إليه على الصفة المتفق عليها.(7/934)
ثانيا – المذهب المالكي:
تناولت بيان رأي المالكية في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: بينت أن المذهب المالكي لا يجيز عقد الاستصناع، ولكن وردت صورتان في المذهب تقتربان من عقد الاستصناع عند الحنفية.
الصورة الأولى: الشراء من دائم العمل حقيقة أو حكما – كالخباز والجزار والبقال واللبان وكذلك كل ما يباع في الأسواق، وهو (بيعة أهل المدينة) قال سالم بن عبد الله: كنا نبتاع اللحم من الجزارين بسعر معلوم نأخذ منه كل يوم رطلا أو رطلين أو ثلاثة، ويشترط عليهم أن يدفعوا الثمن من العطاء: قال: وأنا أرى ذلك حسنًا، قال مالك: ولا أرى به بأسا إذا كان العطاء مأمونًا وكان الثمن إلى أجل …. بشرط أن يشرع في أخذ ما أسلم فيه، وأن يكون أصله عند المسلم إليه.
* وروي عن مالك أيضا أنه لم يجزه، ورآه دينا بدين – وأول الأثر.
* ورجحنا جوازه – وبينا الآفاق التي تمتد إليها هذه الصورة – مع مقارنتها بعقد التوريد – وبينت صلة هذه الصورة بما قرره المذهب الحنفي ورجحت لزوم العقد في عقود المعاوضات.
الصورة الثانية: شراء سلعة تصنع من غير دائم العمل، وقد نص المذهب على أنها سلم تأخذ أحكامه ….
المطلب الثاني: السلم في الصناعات، وقد بينت حقيقته، وشروط صحته، ثم قسمته إلى أربعة أقسام، وذلك، لأنه إما أن يعين المعمول منه والعامل، أو لا يعينهما، أو يعين أحدهما دون الآخر، وبينت حكم كل قسم، ورجحت رأي أشهب الذي يرى صحة السلم في الأقسام الأربعة، خلافا للمذهب الذي يرى صحته في صورة واحدة، وهي إذا لم يعين المعمول منه ولا العامل.
المطلب الثاني: بينت فيه رأي المذهب في صورتين:
الصورة الأولى: شراء شيء يجري البائع صنعه، ولم يتم هذا المصنع، على أن يتم البائع صنعه، وللمذهب رأيان.
الرأي الأول: يرى أنه يصح هذا التصرف، لأنها تؤدي إلى اجتماع بيع وإجاره، ويصح ذلك في المذهب المالكي.
الرأي الثاني: يرى أنه يصح على أنه سلم وتطبق عليه أحكامه، ويقول الدسوقي إن إطلاق السلم عليه مجاز، وإنما هو بيع معين يشترط فيه الشروع ولو حكما ….
الصورة الثانية: شراء مادة معينة من صاحبها، ثم يستأجر المشتري البائع على صنعها شيئا معينا على أن يتم ذلك الاستئجار حال التعاقد على بيعها.
ويرى المذهب صحة هذا التصرف على أن يشرع في العمل.(7/935)
ثالثا – المذهب الشافعي:
بينت أيضًا رأي الشافعية في التعاقد (استصناعا) أو (سلما) على أشياء يراد صنعها في مطلبين:
المطلب الأول: رأي الشافعية في جواز عقد الاستصناع، وقد بينت أنهم لا يجيزون هذا العقد، وبينت أدلتهم.
المطلب الثاني: في السلم في الصناعات، وقد تابعت الصور التي أثار علماء المذهب، وضبطتها فيما يأتي:
أولا: التعاقد (سلما) على شي يصنع من مادة واحدة.
* وقد أجاز المذهب منها (المصبوبة في قالب، أو المضروبة) مثل كوز، وطس، وحباب، وأباريق ونشاب ونحوها، والهاون، لأن ذلك لا يختلف.
* أما المعمولة بآلة – أي المحفورة بالآلة – فإن المذهب لم يجز السلم فيها، لعدم انضباطها باختلاف أجزائها.
* وكذلك يصح السلم في الأشياء المتخذة من شيء واحد كالخفاف والنعال المتخذة من شيء واحد بشرط أن تكون جديدة، واتخذت من غير جلد.
ثانيا: التعاقد (سلما) على شيء مصنع من أكثر من مادة، وله صورتان رئيستان:
الصورة الأولى: التعاقد (سلما) على شيء مختلط الأجزاء خلقة، وذلك مثل (الشهد) إذ هو مركب من عسل وشمع.
والأصح في المذهب صحة السلم في ذلك لانضباط أجزائه.
ومقابل الأصح أنه لا يصح لأن الشمع يقل ويكثر فينتفي الانضباط بين أجزائه فلا يصح السلم.(7/936)
الصورة الثانية: التعاقد (سلما) على شيء، مختلط الأجزاء صنعة، وقد جعلته في الأنواع التالية:
النوع الأول: التعاقد على الشيء المختلط صنعة، المنضبطة أجزاؤه عند أهل الصنعة، المقصود الأركان كما بأصله. كالعتابي – وهو مركب من قطن حرير، وخز، وهو مركب من إبريسم ووبر أو صوف.
النوع الثاني: التعاقد على الشيء المختلط الأجزاء صنعة، الذي يقصد أحد الخليطين فيه، والخليط الآخر أضيف لإصلاح هذا الشيء مثل خل تمر، أو خل زبيب، فالخل يحصل باختلاط التمر – أو الزبيب – بالماء الذي هو قوامه – فالماء أضيف لمصلحة الخل.
* وقد اختلف رأي المذهب الشافعي في صحة السلم في هذا النوع إلى رأيين:
الرأي الأول وهو الأصح: يصح السلم فيهما، لسهولة ضبط كل جزء في الأول، ولأن الثاني من مصلحته.
الرأي الثاني: وهو مقابل الأصح: لا يصح السلم فيهما، لعدم انضباط الأجزاء فيهما.
النوع الثالث: التعاقد (سلما) على الشيء المختلط المقصود الأركان التي لا تنضبط، مثل هريسة، ومعجون مركب من جزأين أو أكثر، وغالية، وقسى مركب من خشب وعظم وعصب.
وهذا النوع لا يصح السلم فيه، لعدم انضباط أجزائه.
وبينت أن مدار القول بالصحة أو عدمها هنا يدور حول ما يأتي:
(أ) في الأشياء المصنعة من مادة واحدة: تفاوت الصنعة أو تفاوت الأشكال ونحوها، فإن لم تتفاوت صح السلم، وإن تفاوتت لم يصح.
(ب) في الأشياء المختلطة الأجزاء خلقة أو صنعة: انضباط الأجزاء المتكون منها هذا الشيء، أو إمكان فصل هذه الأجزاء ليعرف قدر كل جزء منها فإن أمكن ذلك صح السلم وإلا لم يصح وأخيرًا بينت أن هذا الضابط يمكن أن يحكم لنا على كل أنواع ما يجري السلم فيه من الأشياء المختطلة خلقة أو صنعة، فإن تحقق هذا الضابط صح السلم وإلا لم يصح.
وهذا ما اتجه إليه الشيخ محمد نجيب المطيعي (الفقيه الشافعي) معممًا ذلك على كل أنواع المصنوعات في زمننا من السلع المعمرة كالتلفاز والمذياع والثلاجة والغسالة ... ونحو ذلك [يراجع ص475] .(7/937)
رابعًا: المذهب الحنبلي.
بينت أيضًا رأي المذهب الحنبلي في عقد الاستصناع ثم في عقد السلم على الأشياء التي يراد صنعها في ثلاثة مطالب المطلب الأول بينت فيه أن المذهب الحنبلي لا يصح عنده عقد الاستصناع كما ذكره القاضي وأصحابه لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم.
المطلب الثاني:
صور أوردها المذهب لها تعلق باستصناع السلعة
الصورة الأولى: صورة يكون فيها الشيء قد تم صنع بعضه ولم يتم الانتهاء منه وأراد بيعه على أن ينسج باقيه (وهي مسألة تور ليكمل عند المالكية) ففي المذهب رأيان:
الرأي الأول: يرى أنه لا يصح بيعه لأن بيع المنسوج بيع عين والباقي موصوف في الذمة ولا يصح أن يكون الثوب الواحد بعضه بيع عين وبعضه مسلم فيه لأن الباقي سلم في أعيان وذلك لا يجوز ولأنه بيع واستئجار وسلم.
الرأي الثاني:
وحكى بـ (قيل) ـ ما ينبئ عن الضعف أنه يصح بيعه إلى المشتري إن صح جمع بين بيع وإجارة منه بعقد واحد، لأنه بيع وسلم، أو شرط فيه نفع البائع.(7/938)
الصورة الثانية: إذا أحضر البائع لحمة الثوب وباعها مع الثوب وشرط على البائع نسجها:
ففي هذه الصورة تجري الروايتان في اشتراط منفعة البائع.
* والمذهب يرى صحة الجمع بين بيع وإجارة، ويرى صحة بيع شرط فيه نفع البائع.
المطلب الثاني: التعاقد (سلما) على أشياء تصنع.
وقد أبرزت تحت هذا المطلب صورا متعددة نص المذهب على صحة التعاقد عليها سلما، وهي كلها تحتاج إلى صنعة …
المطلب الثالث: الضوابط التي يلزم توافرها لصحة عقد السلم في الأشياء المتعاقد على صنعها:
أستطيع أن أخلص إلى التقسيم التالي:
القسم الأول: الأشياء المصنعة من مادة واحدة، ويرى المذهب صحة السلم في هذه الأشياء.
القسم الثاني: السلم في أشياء تصنع من أكثر من مادة، ويندرج تحتها صورتان:
الصورة الأولى: السلم في الأشياء المختلطة خلقة، وهو صحيح في المذهب.
الصورة الثانية: السلم في الأشياء المختلطة صنعة، ويصح السلم في نوعين منها:
النوع الأول: السلم فيما يجمع أخلاطا مقصودة متميزة – كثياب منسوجة من نوعين (كإبريسم وقطن) .
وبينت ضابط هذا النوع، وآفاق تطبيقه.
النوع الثاني: السلم فيما يترك فيه شيء غير مقصود لمصلحته، كخل تمر، أو زبيب، يوضع فيه الماء، وخبز يوضع فيه الملح.
ويصح السلم في هذا النوع أيضا، لأن ما خلط به يسير غير مقصود لمصلحته، فلم يؤثر.
ثم بينت الضابط الذي يمكن أن يحكم صحة السلم في الأشياء المختلطة صنعة، وهو أن تكون أخلاطها مقصودة متميزة، وإمكان ضبطها بالصفة.
أما المختلطة خلقة فهي صحيحة مطلقا، لأنه لا عمل للإنسان فيها فإن دخلها غش لا يصح السلم فيها.
"وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ".
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن نهج وسار على هديه إلى يوم الدين.
أ. د. حسن علي الشاذلي(7/939)
أثر الاستصناع
في تنشيط الحركة الصناعية
إعداد
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمع الفقه الاسلامي بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
عرف الفقه الإسلامي بمجموعة مذاهبه أنواعًا من العقود المرنة ذات الطابع اللين المستجيب لمقتضيات التطور الاجتماعي للجماعات الإنسانية، من هذه العقود اللينة: عقد الاستصناع والواقع أن عقد الاستصناع ليس عقدًا متفقًا عليه كعقد الرهن مثلًا، بل هو من العقود المختلف فيها بين المذاهب الفقهية؛ فمن مبيح ومن مانع، ومن مفصل.. بين هذا وذاك.. بشروط. ومع ذلك فلقد كان المذهب الحنفي – وهي شهادة حق – أوسع المذاهب المحتضنة لهذا العقد التعاملي الذي إنما أجازه من أجازه من الفقهاء استحسانًا لشدة حاجة الناس إليه وللتعامل به سلفًا وخلفًا حتى أصبح ذلك من المسلمات.
هذا العقد صار له اليوم في عالم المعاملات المالية – صار له دور بارز وأثر فعال في تنشيط الحركة الصناعية الجبارة في هذا العصر، عصر الآلة، فلماذا لا ندرس هذا المحور درسًا متأنيًا مستوعبًا، لنهتبل فرصة اعتراف الفقه الإسلامي به بشروطه المعتبرة فنفيد منه أفرادًا وجماعات في مضمار الطيران والبحار والمعامل والآلات والبخار والكهرباء؟!!
بل ولماذا نستجدي دائمًا من الآخرين الملاليم مع الذل، ونحن لدينا الكنوز المترعة مع العز؟! لهذا كله أشرعت اليراع وتوفرت على هذا المحور النفاع ورأيته أجدى المحاور وأحراها بالبحث والتقصي، فالعصر لا يريد منا أن نكرر ما قاله الأولون، بل أن نفهمه ونهضمه ونزيد عليه، ونستخرج منه ومنا شرابًا طيبًا مباركًا فيه سائغًا للشاربين وقدمت هذا البحث المتواضع لمجمعنا الفقهي الإسلامي العتيد في دورته السابعة الميمونة، وأقمته على مدخل ومقصد وخاتمة سائلًا الله تعالى أن يجعل له القبول وأن يسدد خطانا جميعًا لما يحب ويرضى والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(7/940)
المدخل إلى البحث
تعريف عام بعقد الاستصناع
الاستصناع هو (عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل) (1) .
جاء في شرح المجلة للشيخ خالد الأتاسي ما نصه في شرح المادة 388 منها في ترجيح هذا الحد؛ [والصحيح هو القول الأخير – أي المذكور آنفًا – لأن الاستصناع طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا يسمى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل] .
ثم قال في الاستدلال لمشروعيته، [وهو جائز استحسانًا، والقياس يقتضي عدم الجواز لأنه بيع المعدوم، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده ورخص في السلم، وهذا ليس بسلم، لأنه لم يضرب له أجل، وجه الاستحسان الإجماع الثابت بالتعامل، فإن الناس في سائر الأمصار تعارفوا الاستصناع فيما فيه تعامل من غير نكير، والقياس يترك بمثله] ، ثم قال: (ودليله الإجماع العملي، وهو قاض على القياس) (2) .
فعقد الاستصناع يشمله بالمنع عموم النص المانع، وإن لم يكن واردًا فيه خصيصًا، ولكن الاستصناع عقد قد تعارفه جميع الناس في كل البلاد لاحتياجهم إلى طريقته، فلذلك أقر الاجتهاد عقد الاستصناع للعرف الجاري فيه، واعتبر هذا العرف مخصصًا لعموم النص العام المانع، فكأنما ورد النص باستثناء الاستصناع ضمنًا كما استثنى السلم صراحة، وبقي العمل بالنص في غير ذلك من أنواع بيع المعدوم، وقد نقل انعقاد الإجماع على صحة الاستصناع، وهذا يقال له في عرف الفقهاء واصطلاحهم: (العرف المقارن العام) وهو في الاجتهاد الحنفي مخصص للنص (3) .
__________
(1) انظر شرح المجلة، للشيخ خالد الأتاسي: 2/400.
(2) انظر شرح المجلة، للشيخ خالد الأتاسي: 2/400 وما بعدها.
(3) انظر المدخل الفقهي العام: 1/889، ف 518/أ، للأستاذ الجليل مصطفى أحمد الزرقاء حفظه الله، وانظر (العرف والعادة عند الفقهاء) ، لأستاذنا الجليل أحمد فهمي أبو سنة، وانظر كتابنا (نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي) .(7/941)
وأبرز شروطه: بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته بما ينفي الجهالة المفضية للمنازعة، وأن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس، واشترط الإمام أبو حنيفة أن لا يكون فيه أجل وإلا انقلب سلمًا، وقال الصاحبان ليس هذا بشرط، والعقد استصناع على كل حال حدد فيه أجل أم لا، لأن العادة جارية بتجديد الأجل في الاستصناع، وقولهما هو الأولى بالأخذ لتمشيه مع الحياة العملية (1) .
وصفته؛ أنه عقد غير لازم قبل الصنع؛ وبعد الفراغ من الصنع، ولكل من العاقدين الخيار في إمضاء العقد أو فسخه والعدول عنه، قبل رؤية المستصنع للشيء المصنوع، فإذا جاء الصانع بالشيء المصنوع إلى المستصنع، فقد سقط خياره لأنه رضي بكونه للمستصنع حيث جاء به إليه، وحينئذ إذا رآه المستصنع فله الخيار؛ إن شاء أخذه وإن شاء تركه، وفسخ العقد، عند الإمامين أبي حنيفة ومحمد، لأنه اشترى شيئًا لم يره، فكان له خيار الرؤية، بخلاف الصانع فهو بائع فلا خيار له.
وقال الإمام أبو يوسف: العقد لازم إذا رأى المستصنع المصنوع ولا خيار له إذا جاء موافقًا للطلب والشروط، لأنه مبيع، بمنزلة المسلم فيه، فليس له خيار الرؤية لرفع الضرر عن الصانع في إفساد المواد المصنوعة التي صنعها وفقًا لطلب المستصنع فربما لا يرغب غيره في شرائه على تلك الصفة، قلت؛ والقول برأي أبي يوسف أجدر بالترجيح في هذا العصر للحاجة إلى تثبيت العقود وعدم خلخلتها واهتزازها في عصر فسدت فيه الذمم، هذا حكم الاستصناع في حق المستصنع، وأما حكمه في حق الصانع فثبوت الملك اللازم إذا رآه المستصنع ورضي به ولا خيار له وهذا في ظاهر الرواية (2) وبعد؛ فيجوز عدم وجود المعقود عليه في بيع الاستصناع في رأي بعض الحنفية (3) .
__________
(1) انظر البدائع: 5/3، 210؛ وفتح القدير: 5/350 وما بعدها؛ ورد المحتار: 4/223؛ والمبسوط: 12/121؛ والفقه الإسلامي وأدلته: 4/243 وما بعدها، الطبعة الأولى.
(2) انظر المبسوط: 12/139 وما بعدها؛ وشرح المجلة للأتاسي: 2/400 وما بعدها.
(3) راجع الفقه الإسلامي وأدتله: 4/243، وما بعدها؛ وشرح المجلة للأتاسي الصفحة ذاتها.(7/942)
المقصد من البحث:
المبحث الأول
المعضلات الفقهية في عقد الاستصناع
1 - المعضلة الأولى؛ مدى اللزوم في عقد الاستصناع:
الاستصناع كان يعتبر في أصل المذهب الحنفي عقدًا غير لازم، فأصبح بمقتضى نصوص المجلة عقدًا لازمًا، وعلى هذا فيجوز في الاستصناع لكل من الطرفين فسخه في أصل المذهب بلا خلاف ما دام الشيء المستصنع لم يصنع بعد، أما بعد صنعه وإحضاره فيكون للمستصنع حقًّا في الفسخ من قبيل خيار الرؤية على الرأي الراجح في المذهب، ولكن المجلة أخذت بلزوم العقد في حق الطرفين منذ انعقاده، إلا إذا جاء المصنوع مغايرًا للأوصاف المبينة في العقد، وحينئذ يكون للمستصنع حق الفسخ بمقتضى خيار فوات الوصف المشروط، لا بمقتضى عدم اللزوم في عقد الاستصناع، وذلك بنص المادة 392 من المجلة.
جاء في لائحة الأسباب الموجبة من مقدمة المجلة أنها اختارت قول الإمام أبي يوسف بعدم خيار المستصنع إذا أحضر الصانع المصنوع بعد العمل موافقًا للشروط، وذلك وفقًا لما تقضي به المصلحة الزمنية.
والمنقول في كتب المذهب أن أبا يوسف لا يقول بعدم خيار المستصنع إلا بعد الصنع وإحضار الصانع المصنوع موافقًا للأوصاف المشروطة، أما قبل الفراغ من صنعه أو بعد الفراغ قبل إحضاره فلا خلاف في أن المستصنع مخير (1) ، لكن نص المادة 392 من المجلة جاء صريحًا في أنه بعد انعقاد الاستصناع لا خيار لأحد من الطرفين إلا إذا جاء المصنوع مغايرًا للأوصاف المشروطة، فأفاد إطلاق نصها اللزوم بحق الطرفين قبل الصنع بعد انعقاد العقد، وهو ليس قولًا لأحد في المذهب الحنفي، والذي رجحه الأستاذ الجليل الزرقاء في كتابه القيم المدخل الفقهي ورمز له بقوله: (الظاهر) وهو أن المجلة اتخذت نظرية الإمام أبي يوسف أساسًا وتوسعت فيه بالتعديل في بعض نواحيها بحسب المصلحة الزمنية، وقد اقترنت بالإرادة السلطانية فأصبحت قانونًا من ولي الأمر، فالعبرة لنصها لا للنصوص التي استُمِدَّت منها (2) .
والذي يتوجه اليوم ترجيح قول الإمام أبي يوسف أولًا، ثم الوصول إلى ترجيح رأي المجلة ثانيًا بالإلزام في حق الطرفين حفظًا لحقوق الناس من الضياع.
__________
(1) انظر البدائع ورد المحتار في مبحث الاستصناع؛ والمدخل الفقهي العام: 1/456، ف 202 وحاشيتها، للأستاذ الجليل مصطفى أحمد الزرقاء.
(2) انظر المدخل الفقهي: 1/456، الحاشية.(7/943)
2- المعضلة الثانية، الشرط الجزائي في عقد الاستصناع:
كان الاجتهاد الحنفي الذي جاء بنظرية الفساد من الاجتهادات التي ضيقت من حرية سلطات الإرادة في الشروط العقدية، وإن كان يعد متوسطًا بالنسبة إلى غيره، فكان الشرط الذي لا يجوز اشتراطه في العقد يعد مفسدًا للعقد. ولما كانت هذه الشروط كثيرة أصبحت حوادث الفساد في العقود كثيرة كذلك (1) .
وفي أواخر العهد العثماني اتسعت في الدولة التجارة الخارجية مع أوروبا، وتطورت أخيرًا أساليب العقود في التجارة الداخلية والصنائع، وتولدت في العصر الحديث أنواع من الحقوق لم تكن معهودة كالحق المسمى بحق الابتكار أو الحق الأدنى، واحتاج أصحاب هذه الحقوق والامتيازات إلى بيعها أو التنازل عنها لغيرهم من القادرين على استثمارها. واتسع مجال عقود الاستصناع في التعامل بطريق الإيصاء مع المعامل والمصانع، وكذا عقود التعهد بتقديم الأرزاق وغيرها إلى الهيئات الاعتبارية، مما سمي (عقود التوريد) وكل ذلك يعتمد المشارطات في شتى صورها، وازدادت قيمة الزمن في الحركة الاقتصادية حتى أصبح تأخر أحد المتعاقدين، أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضرًّا بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما كان قبل، ولا يعوض هذا الضرر القضاء على الملتزم بتنفيذ التزامه الأصلي، لأن هذا القضاء إنما يضمن أصل الحق لصاحبه، ولا يجبر ضرر التعطل أو الخسارة الذي يلحقه جراء تأخر خصمه عن وفاء الالتزام في حينه تهاونًا منه أو امتناعًا.
وهذا قد ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الآخر الذي يتأخر في تنفيذ التزامه في حينه، ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح علماء القانون الوضعي الحديث (الشرط الجزائي) وهو يتخرج على مذهب القاضي شريح في ضمان التعويض عن التعطل والانتظار، وقد أيد ذلك ابن القيم رحمه الله بما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عون عن ابن سيرين أنه قال: (قال رجل لكريه: أرحل بركابك، فإن لم أرحل معك في يوم كذا فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح، (من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه) (2) ، وابن شبرمة قال في حديث جابر بن عبد الله في قصة البعير (البيع جائز والشرط جائز) (3) فهذا وأمثاله يدل دلالة قاطعة على أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود تعويضًا عن ضرر محقق هو شرط صحيح معتبر يضاف إليه ما لم يكن هنالك عذر شرعي في الإخلال بالالتزام به.
وقد تأيد ذلك بقرار هيئة كبار العلماء في السعودية سنة 1394هـ.
__________
(1) انظر المدخل الفقهي: 1/713، ف 386 وما بعدها.
(2) أعلام الموقعين، طبعة المنيرية: 3/339؛ والمدخل الفقهي، للأستاذ الجليل الزرقاء: 1/343، وف 386 وما بعدها، وانظر صحيح البخاري مع فتح الباري: 5/262.
(3) أخرجه الطبراني في الأوسط.(7/944)
المبحث الثاني
مدى أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصناعية
أدى الاستصناع في العُصُر الخوالي وظيفته في الحياة العملية، فأفاد كلا من الصانع والمستصنع والصنعة والفرد والجماعة، ثم تطورت الحياة الاجتماعية في العصور الحديثة فانتشر الاستصناع انتشارًا بين الناس واسعًا، فشمل صناعات متطورة ومهمة في حياة الناس اليوم، كالطائرات والسفن والسيارات والقطارات والمعامل، فأدى إلى تنشيط الحركة الصناعية وأسهم في سعادة الفرد والمجتمع.
والشيء الملفت للنظر ما وصل إليه الاستصناع في هذه الأيام من بناء المساكن الحديثة وغيرها من المباني والمؤسسات.
وإني أستطيع أن أضرب عددًا من الأمثلة على هذا الأثر ومداه في تنشيط الحركة الصناعية في العصور الحديثة، وذلكم في كل من عقد التوريد وعقد المقاولة، ثم في التمويل للمشاريع الكبرى، وبيع الدور السكنية على الخريطة.
1- فأما عقد المقاولة؛ فهو عقد عرفه علماء القانون، وليس هو في الواقع عقد الاستصناع، ولا يجوز الخلط بينهما، ولو أن بينهما نسبًا ووليجة، لكن عقد المقاولة يمكن التصرف فيه ببعض التحوير الفقهي، فيصبح حينئذ عقد استصناع شرعيًّا لا غبار عليه، وهو يتم فيه عادة الاتفاق على مدة التسليم والإلزام بغرامة معينة عند التأخير، فالتغريم كما مر أمر جائز بالشرط المسمى بالشرط الجزائي الذي أقره الاجتهاد الحنبلي من الفقه الإسلامي كما مر آنفًا.
2- وكذلك عقد التوريد؛ فهو غير عقد الاستصناع بل هو تعهد والتزام من إنسان يجلب أشياء لإنسان آخر أو لجهة أخرى، فهذا هو فحواه، ومع ذلك فإنه عقد يمكن أن يبتني على عقد الاستصناع بوجه من الوجوه.
3- وكذلك التمويل للمشاريع الكبرى في هذا العصر يمكن أن يبتني على عقد الاستصناع في كثير من الوجوه، كل ذلك بشرط وضوح التعاقد في كل هذه الأمور مع بيان شروطه، وأوصافه بيانًا وافيًا كافيًا مزيلًا لكل جهالة مفضية إلى النزاع والخلاف، وذلك كتمويل المعامل الكبرى، والصناعات الثقيلة كالطائرات والسيارات وما شاكل ذلك.
4- ومن التطبيقات الجديدة على عقد الاستصناع بيع الدور السكنية وما شاكلها على الخريطة، ضمن أوصاف محددة، فهذا الأمر لا يصح إلا بتخريجه على عقد الاستصناع، ويعد العقد صحيحًا إذا ذكرت في شروط العقد كل المواصفات التي تمنع الجهالة المفضية إلى النزاع وتزيلها، وأصبح اليوم من السهل الميسور بيان كل ذلك بشكل مكتوب واضح متفق عليه مع بيان تسديد الثمر وآماده، ومدة التسليم بشكل تقريبي مستعجل، مع توثيق ذلك كله (1) .
__________
(1) قلت: ولقد انعقدت في الخرطوم العاصمة السودانية في تشرين الثاني عام 1991م ندوة دولية لشؤون الإسكان من المتخصصين بالاقتصاد المعاصر، وبحثت فيها الموضوعات المهمة من مسائل الإسكان ولا سيما على ضوء عقد الاستصناع وغيره من العقود الفقهية الصحيحة وخرج المشاركون بالندوة بتوصيات مهمة جدًّا في هذا المضمار، وكان لعقد الاستصناع دور بارز في هذه الندوة التي أسهمت بتطويره من الناحية الفنية، وكان كاتب السطور أحد المشاركين في هذه الندوة الدولية مع لفيف من الزملاء العلماء الأجلاء من شتى بلاد العالم الإسلامي.(7/945)
خاتمة البحث
والآن أضع القلم بعد أن تحدثت عن عقد الاستصناع وأثره في تنشيط الحركة الصناعية المعاصرة، بحيث بات اليوم من الضروري توسيع بحث الاستصناع وتطويره من ناحية الصياغة الفقهية الحديثة، وذلك بالأخذ بكل الاجتهادات الفقهية الإسلامية ضمن المذاهب الفقهية الكبرى لفقهاء الأمصار، دون تحرج من ذلك، فإن المعاملات المالية اليوم لا يتسع لها مذهب واحد من مذاهب الشريعة، وهي دائمًا في توسع وازدياد وتطور، والرأي أن نخضعها للفقه الإسلامي بمذاهبه كلها، فنجد فيها جميعًا العلاجات العجيبة لمشكلات التعامل المالي الحديث، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو ينبوع الشريعة، والمذاهب الفقهية بجداولها، وهو بعث بها كلها فكأنه بعث بشرائع متعددة، وما هي إلا شريعة واحدة ذات كنوز متعددة متنوعة.
وما أحسن ما قاله العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:
[هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل] (1) .
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
__________
(1) أعلام الموقعين، طبعة المنيرية: 3/؟؟؟.(7/946)
مصادر البحث ومراجعه
1- الأتاسي (خالد) ، شرح المجلة، طبعة حمد.
2- الكاساني (علاء الدين) ، البدائع في ترتيب الشرائع.
3- ابن الهمام (كمال الدين) ، فتح القدير شرح الهداية.
4- ابن عابدين (محمد أمين) ، رد المحتار على الدر، طبعة بولاق سنة 1272هـ مع التكملة.
5- السرخسي (شمس الأئمة) ، المبسوط شرح الكافي.
6- ابن القيم (الزرعي) أعلام الموقعين عن رب العالمين، طبعة المنيرية.
7- العسقلاني (الحافظ أحمد ابن حجر) ، فتح الباري شرح صحيح البخاري.
8- الزرقاء (مصطفى أحمد) ، المدخل الفقهي العام، الطبعة الثانية، مطبعة الجامعة السورية.
9- الزحيلي (وهبة) ، الفقه الإسلامي وأدلته، مطبعة دار الفكر، الطبعة الأولى.
10- قدري باشا (محمد) ، مرشد الحيران إلى أحوال الإنسان.
11- أبو سنة (أحمد فهمي) العرف والعادة عند الفقهاء.
12- الفرفور (محمد عبد اللطيف) ، نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي وصلتها بالمصالح المرسلة، طبعة دار دمشق.(7/947)
عقد الاستصناع
إعداد
فضيلة الشيخ كمال الدين جعيط
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى وصحبه.
الاستصناع:
الاستصناع: لغة مصدر ثلاثي مزيد بثلاثة أحرف من استصنع الشيء أي دعا وطلب صنعه والاستصناع افتعال من الصنيعة وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا توقدوا بليل نارا" ثم قال: "أوقدوا واصطنعوا فإنه لن يدرك قوم بعدكم مدكم ولا صاعكم".
فقوله: اصطنعوا، أي اتخذوا صنيعًا أي طعامًا تنفقونه في سبيل الله، يقال: (اصطنع فلان خاتمًا إذا سأل رجلًا أن صنع له خاتمًا، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب كان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه فصنع الناس ثم أنه رمى به) . أي أمر أن يصنع له كما تقول اكتتب أي أمر أن يكتب له. والطاء في اصطنع بدل من تاء الافتعال لأجل الصاد، والحرفة المصطنعة هي الصناعة والعمل الصنعة والصناعة (1) فالاستصناع من استصنع فلان عنده صنيعة اتخذها نقله الجوهري (2)
وصيغة استفعل ترد الزيادة فيه لعدة معان أولها الطلب ومعناه نسبة الفعل إلى الفاعل للدلالة على إرادة تحصيل الحدث من المفعول وهو الغالب في هذه الصيغة حقيقة كان كاستكتب واستفهم، أو مجازًا كاستخرج الذهب من الأرض واستوقد النار، كما ترد صيغة استفعل للتحول ومعناه الدلالة على أن الفاعل قد انتقل من حالته إلى الحالة التي يدل عليها الفعل كما في قولهم استنوق الجمل واستنسر البغاث أي الطيور الصغيرة فتشبهت بالنسور (3) وقد دخله الإبدال إبدال التاء بالطاء والطاء تبدل من تاء الافتعال بعد حروف الإطباق وهي الصاد والضاد والظاء فيجب إبدال تائه طاء فتقول في افتعل من صبر اصطبر ومن ضرب اضطرب ومن طهر اطّهر ومن ظلم اظطلم والأصل اصتبر واضترب واظتلم فاستثقل اجتماع التاء مع الحرف المطبق لما بينهما من تقارب المخرج وتباين الصفة إذ التاء مهموسة مستقلة والمطبق مجرور مستقل فأبدل من التاء حرف استعلاء من مخرجها وهو الطاء. (4)
__________
(1) لسان العرب: 8/208 ـ 213، دار الطباعة والنشر، بيروت 1956م.
(2) تاج العروس من جواهر القاموس:5/412 ـ 415
(3) دروس من التصريف، لمحيي الدين عبد الحميد: طبعة 1931م.
(4) شرح الأشموني المعنون بمنهج السالك إلى ألفية ابن مالك" 2/303، طبعة 1 تونس 1393هـ.(7/948)
وفي العرف الاصطلاحي هو عقد على مبيع في الذمة مشروط فيه أوصاف وعمل فمن قال لمن هو من أهل الصنعة اصنع الشيء الفلاني مما هو من اختصاصك وقد أجابه إلى ذلك بعد ما اتفقا على الثمن فقد انعقد العقد، إذن فهو عقد على مبيع في الذمة مشروط بعمل كما عرفه الكاساني (1) وفي المبسوط قال السرخسي: وإذا استصنع الرجل خفين أو قلنسوة أو طستا أو كوزًا أو آنية من أواني النحاس فالقياس أن لا يجوز ذلك لأن المستصنع فيه مبيع معدوم وبيع المعدوم لا يجوز لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ثم هذا في حكم بيع العين ولو كان موجودًا غير مملوك للعاقد لم يجز بيعه فكذلك إذا كان معدومًا بل هو أولى ولكنا نقول نحن تركنا القياس لتعامل الناس من غير نكير وهو أصل من الأصول كبير لقوله صلى الله عليه وسلم "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". وهو نظير دخول الحمام بأجر فإنه جائز لتعامل الناس وإن كان مقدار المكث فيه وما يصب من الماء مجهولًا وكذلك شرب الماء من السقاء بفلس والحجامة بأجر جائز لتعامل الناس وإن لم يكن له مقدار مما يشترط أن يصنع من الكنه على ظهره معلوم، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استصنع خاتمًا واستصنع المنبر فإذا ثبت هذا يترك كل قياس في مقابلته (2) فالاستصناع هو بيع سلعة ليست عنده على غير وجه السلم فهو عقد على مبيع في الذمة مشروط فيه العمل فمن قال لغيره: اصنع لي كذا بكذا درهمًا، واتفقا على ذلك انعقد عقد الاستصناع عند الحنفية وكذلك عند الحنابلة على غير وجه السلم فهو إذن من البيوع مذكور عند الكلام على البيع بالصنعة.
__________
(1) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/2677، طبعة الإمام
(2) المبسوط للسرخسي: 12/138 ـ 139، طبعة 1(7/949)
وبيع الاستصناع عند الشافعية والمالكية ملحق ببيع السلم ويؤخذ تعريفه وأحكامه من السلم وذلك عند الكلام على السلف في الشيء المسلم للغير من الصناعات ففي المدونة قلت: ما قول مالك في رجل استصنع طستًا أو كوزًا أو قميصًا أو قلنسوة أو خفين أو لبدًا أو استصنع سرجا أو قارورة أو قدحًا أو شيئًا مما يعمل الناس في أسواقهم من آنيتهم أو أمتعتهم التي يستعملون في أسواقهم عند الصناع فاستعمل من ذلك شيئًا موصوفًا، وضرب لذلك أجلًا بعيدًا وجعل لرأس المال أجلًا بعيدًا أيكون هذا سلفًا أو تفسده لأنه ضرب لرأس المال أجلًا بعيدًا أم لا يكون سلفًا ويكون بيعًا من البيوع في قول مالك؟ قال: أرى في هذا أنه إذا ضرب للسلعة التي استعملها أجلًا بعيدًا أو جعل ذلك مضمونًا على الذي عملها بصفة معلومة وليس من شيء بعينه يريه بعمله منه ولم يشترط أن يعمله رجل بعينه وقدم رأس المال أو دفع رأس المال بعد يوم أو يومين ولم يضرب لرأس المال أجلًا فهذا سلف جائز وهو لازم للذي عليه يأتي به إذا حل الأجل على صفة ما وصف. قلت: وإن ضرب لرأس المال أجلًا بعيدًا والمسألة على حالها فسد وصار دينًا في دين في قول مالك، قال: نعم، قلت: وإن لم يضرب لرأس المال أجلًا واشترط أن يعمله هو نفسه أو عمل رجل بعينه، قال: لا يكون هذا سلفًا لأن هذا رجل سلف في دين مضمون على هذا الرجل وشرط عليه عمل نفسه وقدم نقده فهو لا يدري أيسلم هذا الرجل إلى ذلك الأجل فيعمله له أو لا، فهذا من الغرر وهو إن سلم عمله له، وإن لم يسلم ومات قبل الأجل بطل سلف هذا فيكون الذي أسلف إليه قد انتفع بذهبه باطلا.(7/950)
قلت: فإن كان إنما أسلفه كما وصفت لك على أن يعمل له ما اشترطه عليه من حديد قد أراه إياه أو طواهر أو خشب أو نحاس قد أراه إياه قال: لا يجوز ذلك قلت: لم؟ قال: لأنه لا يدري أيسلم ذلك الحديد أو الطواهر أو الخشب إلى ذلك الأجل أم لا، ولا يكون السلف في شيء بعينه فذلك لا يجوز في قول مالك (1) وتتفق الإجارة على العمل مع الاستصناع في أن العامل الذي هو الصانع في الاستصناع والذي هو الأجير في الإجارة على الصنع والفرق بينهما أن في الإجارة على الصنع أن المحل هو العمل. وفي الاستصناع هو العين الموصوفة التي تكون في الذمة فليس فيه بيع عمل (2) ثم إن الإجارة على العمل تكون بشرط أن يقدم التاجر للعامل المادة التي ستصنع فالعمل على العامل والمادة على من استأجره وأما في الاستصناع فكلاهما من العامل المادة والصنعة ويتفق الاستصناع مع بيع السلم في كون كل منهما شراء آجل بعاجل كما في ابن عابدين فالاستصناع هو نوع من أنواع السلم لأن الأصل أنه في المزروعات والاستصناع إنما هو شراء آجل بعاجل في المصنوعات فيتفق الاستصناع مع السلم في صور كثيرة ولذا أجرى المالكية والشافعية ذكر الاستصناع في باب السلم وجعله الحنفية ضمن مبحث السلم إذ هو نوع منه والفرق بينهما أن السلم أعم لأنه عام في المصنوع وغيره وأما الاستصناع فهو خاص بما اشترطت فيه الصنعة والعامل وكذلك السلم من شرطه تعجيل الثمن على أن لا يكون من الدين بالدين وهو ممتنع في حين أن الاستصناع ليس فيه تعمير ذمتين بدينين لأن العمل معدوم سيوجده الصانع في المستقبل ولذا أجاز أكثر الحنفية تأخير الثمن ولم يشترطوا التعجيل فيه (3) كما يتفق الاستصناع مع الجعالة في أنها التزام عوض معلوم على عمل معين والاستصناع عقد عمل كذلك (4) فهما يتفقان في أنهما عقدان مشروط فيهما العمل ويفترقان في أن الجعالة عامة في الصناعات وغيرها من الأعمال بخلاف الاستصناع فإنه خاص بالمصنوعات كما أن العمل في الجعالة قد يكون معلومًا وقد يكون مجهولًا كحفر البئر فإنه مجهول فيه ساعات العمل لتحقيق الغاية وقد يكون معلوم المقدار والزمن وما يستغرق من ساعات العمل أما الاستصناع فلابد أن يكون معلومًا وإلا لامتنع.
__________
(1) المدونة الكبرى، للإمام مالك بن أنس الأصبحي: 9/18 ـ 19، طبعة السعادة 1323هـ
(2) حاشية ابن عابدين: 5/225، طبعة الحلبي
(3) فتح القدير: 5/355، وبدائع الصنائع: 6/2677، والمبسوط: 12/138، وما بعدها.
(4) البجيرمي على شرح الخطيب: 3/33، طبعة مصطفى محمد(7/951)
والاستصناع كغيره من كثير من العقود هو مستثنى من أصل ممنوع ذلك أن المعقود عليه وهو ما التعاقد عليه ظهرت فيه أحكامه وترتبت عليه آثاره قد يكون عينًا ماليّةً كالمبيع والمرهون والموهوب وقد يكون عينًا غير مالية كعقد الزواج فإنه عقد على مجرد متعة التلذذ بآدمية وقد يكون منفعة كمنفعة المأجور في الإجارة من الدور والعقارات ومنفعة الشخص في صباغة ثوب أو إصلاح آلة. فما يصلح أن يكون معقودًا عليه هو الأمر المهم في ذاته أو في الانتفاع به وليس كل شيء صالحًا لأن يكون معقودًا عليه بل لابد أن تكون هناك منفعة معتبرة شرعًا وعرفًا فلذا لا يصح العقد على خمر بين المسلمين ولا يصح العقد على امرأة محرم بسبب نسب أو رضاع ولا على ما لا يعتبر منفعة شرعًا كصنع آلات الغناء أو العزف وهذا شرط عام في كل معقود عليه، ومن شرط المعقود عليه أن يكون موجودًا وقت التعاقد لأنه لا يصح التعاقد على المعدوم ولذا لا يصح بيع زرع قبل ظهوره أو قبل بدو صلاحه لأنه لا يعلم هل ينبت أم لا ولا يصح العقد على ما فيه غرر أو خطر، فإذا لا يصح العقد على بيع الجنين في بطن أمه لاحتمال انعدامه قبل ولادته بموته في بطن أمه ولا يصح بيع اللبن في الضرع لاحتمال عدم وجوده، وأن ما به هو انتفاخ ولا بيع اللؤلؤ في الصدف أو الحيتان في البحر، وكل ما لا يصح التعاقد عليه لعدم وجوده والأصل في كل ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك وقال: "لا تبع ما ليس عندك". وكذلك لا يصح التعاقد على ما هو مستحيل الوجود في المستقبل كالتعاقد مع حكيم على علاج مريض توفي إذ الميت لا يصلح للعلاج كما لا يصلح للتعاقد على حصاد زرع قد احترق فمثل هذه العقود كلها وهذا الشرط مطلوب لا فرق بين عقود المعاوضات أو عقود التبرعات عند الحنفية والشافعية فلا فرق بين عقد البيع والهبة والرهن عندهما وذلك لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك وعن بيع حبل الحبلة أي بيع ولد الناقة أو ولد ولدها (1) وقد كان بيع الملاقيح والمضامين متعاملًا بهما في الجاهية فورد الحديث بالنهي عن الملاقيح والمضامين عن ابن عمر (2) وفرق مالك بين عقود التبرعات وعقود المعاوضات فأجاز الغرر في التبرعات ومنعها في المعاوضات وأباح اليسير منه فيما كان منشأه المكارمة والمجاملة وهو النكاح ونفاه فيما كان مبنيًّا على المشاحة والمكايسة.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والترمذي عن ابن عمر، نيل الأوطار: 5/137.
(2) نصب الراية: 4/10(7/952)
ومنع التصرف بالمعدوم وبما يستحيل وجوده قاعدة عامة لا مراء فيها لكن استثنى الفقهاء من هذه القاعدة مجموعة من العقود كعقد السلم والإجارة والمساقاة والاستصناع إذ السلم بيع آجل بعاجل أي بيع ما ليس بموجود بثمن حال كما يفعل الزراع مع التاجر فيبيع المحصول الزراعي قبل الحصاد وقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم". والإجارة عقد على منافع بعوض ثبتت مشروعيتها بالكتاب والسنة والإجماع وكذلك الاستصناع هو عقد على عمل الصانع بأن يصنع مثلًا شيئًا نظير عوض معين بخدمات من عنده كما نفعله مع الخياطين والنجارين والحدادين مثلًا وقد أجيز بالإجماع لحاجة الناس إلى التعامل به في كل زمان ومكان وهذه العقود الثلاثة المعقود عليه غير موجود عند إنشاء العقد فالإباحة استثناء من المنع الأصلي واستحسانًا لحاجة الناس إليها وتعارفهم عليها. وعليه فهو رخصة إذ هو استثناء من بيع ما ليس عندك وبشكل كونه رخصة بتعريفها بأنها انتقال من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي وذلك لأن الاستصناع والمزارعة والمغارسة والسلم ونحوها لم تكن ممنوعة ثم أبيحت حتى يتحقق التغيير.
والجواب على هذا أن الرخصة تطلق بإزاء أربعة أشياء يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}
وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}
وقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}
فالرخصة هنا راجعة إلى معنى اللين وهو الأصل فيها وتطلق الرخصة على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مما هو راجع إلى نيل حظوظهم وقضاء أوطارهم. والعزيمة الأولى هي التي نبه إليها قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .
وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} الآية.(7/953)
والعباد ملك الله على الجملة والتفصيل فحق عليهم التوجه إليه وبذل الجهد في عبادتهم لأنهم عباده وليس لهم الحق لديه ولا حجة عليه فإذا وهب لهم حقًّا ينالوه فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود واعتناء بغير ما اقتضته العبودية إذ العزيمة هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم أكانت أوامر ندب أو وجوب أو كانت النواهي كراهية أو تحريمًا والإذن من الله في أن ينال حظًّا من الحظوظ هو بهذا المعنى رخصة ويدخل فيها على هذا الوجه كل ما كان تخفيفًا وتوسعة على المكلف والعزائم حق الله على العباد والرخص حظ العباد من لطف الله وهكذا تشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب من حيث إنها توسعة على العباد ورفع حرج ومشقة وإطلاق الرخصة على ما استثنى من أصل كلي بمقتضى المنع مطلقًا من غير اعتبار لكونه لعذر شاق يدخل فيه القرض والقراض والمساقاة ورد الصاع من الطعام والمصراة وبيع العرايا بجزها تمرًا وضرب الدية على العاقلة وما أشبه ذلك وكل هذه العقود ونحوها مستند إلى أصل الحاجيات فهي قد اشتركت مع الرخصة بالمعنى الأول في هذا الأصل فيجري عليها حكمها في التسمية كما جرى عليها حكمها في الاستثناء عن أصل ممنوع (1) والحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي والرخصة راجعة إلى جزئي مستثنى من ذلك الأصل الكلي وقد يكون لعذر شاق فلا ينتقل إلى الرخصة إلا عند العذر وقد يكون مطلقًا من غير اعتبار عذر فيدخل في كل ذلك ما أبيح ابتداء للحاجة إليه كبيع الاستصناع فهو مستثنى من أصل كلي يقتضي المنع وهو بيع ما ليس عندك الذي ورد النهي عنه واستثناء بيع الاستصناع هو استحسان والاستحسان في مذهب مالك هو الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي يقتضي المنع. ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس لأن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما علم من مقاصد الشريعة في الجملة في مآلات الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرًا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك وكثيرًا ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي، والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقًا، والضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج والمشقة. وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي وله في الشريعة أمثلة كثيرة فالقرض مثلًا هو ربا في الأصل لأنه درهم بدرهم إلى أجل ولكنه أبيح لما فيه من الرفقة والتوسعة على المحتاجين بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق وحرج على المكلفين ومثله بيع العرايا بخرصها تمرًا فإنه بيع رطب يابس وهو ممنوع لما فيه من الغرر ولكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة للمعري والمعرى ولو امتنع مطلقًا لكان وسيلة لمنع العرايا كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه وجميع الرخص ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك لأنا لو بقينا على الأصل أي أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل العام من المصلحة فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه،
__________
(1) الموافقات، للشاطبي: 1/181 إلى 184، طبعة بولاق(7/954)
وهي قاعدة بنى عليها مالك وأصحابه قال ابن العربي في أحكام القرآن: والاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين والعموم إذا استمر والقياس إذا اطرد فإن مالكًا وأبا حنيفة يخصصان العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ويريان معًا تخصيص القياس ونقض العلة ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبت تخصيصًا وهذا الذي قال هو النظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام. وفي المذهب المالكي من هذا المعنى كثير جدًّا والاستحسان في العلم قد يكون أغلب من القياس قال ابن العربي وقد سمعت ابن القاسم يقول ويروي عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان وهذا كله يوضح أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة إلا أنه نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها (1) وقاعدة الاستحسان نشأت من أصل عظيم متين العرى هو النظر في مآلات الأفعال الذي هو مجال للمجتهد صعب المورد وإن كان عذب المذاق محمود الغب يدل عليه أن التكاليف الشرعية شرعت لمصالح العباد وهي إما أخروية فترجع إلى مآل المكلف في الآخرة ليكن من أهل النعيم وإما دنيوية فالأعمال عند التأمل مقدمات لنتائج المصالح وأنها أسباب لمسببات مقصودة للشارع والمسببات هي مآلات الأسباب واعتبارها وجريان الأسباب مطلوب وهو النظر في المآلات الذي تفرع عليه قاعدة مراعاة الخلاف والحيل وسد الذرائع والاستحسان وقد اختلفت الآراء هل الاستصناع بيع أو وعد بيع؟ وقد رأى بعض الفقهاء أنه بيع يثبت فيه الخيار للمشتري وفيه أيضًا خيار الرؤية وثبوت الخيار للمشتري للرد بالعيب لا يكون إلا في البياعات اللازمة التي يجري فيها التقاضي بين البائع والمشتري والتقاضي إنما يجري في الواجب لا في الموعود لأن الموعود غير لازم وهذا كله يرجح أن يكون الاستصناع بيعًا من البيوع وليس مواعدة نعم هو بيع مبنى على الخيار وهذا مذهب محمد من الحنفية حيث ذكر في جواز بيع الاستصناع القياس والاستحسان وهناك من يرى أنه مواعدة وليس ببيع بدليل أن الصانع بالخيار في العمل إن شاء عمل وإن شاء ترك وبهذا يظهر أن الاستصناع وعد لا بيع لأن كل ما لا يلزم به الصانع مع إلزامه بنفسه به يكون وعدًا لا عقدا فالارتباط بين الصانع والمستصنع ارتباط مواعدة لا ارتباط بيع وحجته أنه مواعدة وليس بيعًا أن الصانع لا يجبر على الصنعة وإن ألزم نفسه بها بخلاف السلم مثلًا فإن البائع إذا قبض الثمن فقد التزم بالمسلم فيه عند الأجل فوجب عيه وأجير على ما التزم به ومن جهة أخرى فالمستصنع له الحق في عدم تقبل المصنوع كما له أن يرجع عما استصنعه قبل تمامه ورؤيته وكل هذا علامة على أنه مواعدة لا بيع.
__________
(1) الموافقات: 4/103 ـ 109، طبعة بولاق 1302هـ.(7/955)
وسواء قلنا هو بيع أو مواعدة فالاستصناع من العقود غير المسماة ومعنى ذلك أن الشارع لم يضع لها اسمًا خاصًّا بها ولا بين أحكامها المترتبة عليها بخلاف البيع والإجارة والشركة والهبة والكفالة والحوالة والوكالة والرهن والقرض والصلح والوصية ونحوها فإنها من العقود المسماة التي وضع لها الشرع اسمًا وبين أحكامها والعقود غير المسماة هي العقود المستحدثة التي استحدثها الناس تبعًا للحاجة وهي كثيرة لا تنتهي ولا تنحصر لأنها تنشأ وتظهر بحسب حاجات الناس وتطور المجتمعات وتشابك المصالح مثله مثل بيع الوفاء وبيع الاستئجار والتحكير وأنواع المقالات أي التعهدات والالتزامات الحديثة وأنواع الشركات التي تمنح امتيازات للتنقيب عن البترول أو التنقيب عن المياه والمعادن وكعقود النشر والتوزيع والإعلان الذي يكون على طريق الصحف أو المجلات والإذاعة والتلفزة ونحوها. وقد تردد الاستصناع الذي هو صنع شيء معين كصنع الأحذية والمعطف ونحوها من الثياب أو صنع الآلات والأواني أوالسيارات والبواخر والمفروشات ونحوها من كل ما يستلزم مواد أصلية وتراكيب خاصة ليحقق الغاية التي من أجلها وقع عقد الاستصناع.
وبالرجوع إلى بحث حرية التعاقد اتفق المجتهدون على أن الرضا أساس التعاقد لقوله تعالى في المعاملات المالية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1)
__________
(1) سورة النساء: الآية 29(7/956)
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما البيع عن تراض)) (1) وقوله: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)) (2) فالتراضي هو الذي يولد العقد والتزامه دون حاجة إلى شكلية معينة إلا عقد النكاح لأن الأصل في الأبضاع التحريم وفي غيرها من الأشياء التحليل وإذ ذهبت الظاهرية وابن حزم إلى أن الأصل في العقود المنع حتى يقوم الدليل على الإباحة وجمهور الفقهاء جعلوا الأصل في العقود وما يتصل بها الإباحة ما لم يمنعها الشرع أو تخالف النصوص فلم يشترطوا لصحة العقد إلا الرضا والاختيار وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
أوجبت الوفاء بالعقود من غير استثناء فيها، باشره الإنسان بنفسه أو بتوكيل منه بإرادته الحرة وبذلك يكون العقد ملزمًا له بنتائجه ومقيدًا لإرادته حفظًا على مبدأ استقرار التعامل ولذا قلنا إن الأصل في العقود التحليل وإن الجري على الشروط التي يتعامل بها الناس تحقيقًا لمصالحهم وتثبيتًا لأغراضهم مما يقتضيه العقد ومما لا ينافيه جائز وإن تحريم شيء من العقود أو الشروط بغير دليل شرعي تحريم لما لم يحرمه الله. ويستخلص من ذلك أن الأصل فيها الإباحة إلا ما دل الشرع بخلافه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)) [رواه مسلم وفي رواة البخاري: من أحدث في أمرنا ما ليس منه..] فكل موضوع لا يمنع الشرع ولا تقتضي قواعد الشريعة وأصولها منعه فجائز التعاقد عليه فإذا استكمل العقد أركانه وشروطه وباشره الإنسان بإرادته الحرة كان ذلك ملزمًا له بنتائجه ومقيدًا لإرادته تحقيقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
وهذا ما تستلزمه الذمة وهي كما للقرافي معنى شرعي مقدر في المكلف قابل للإلزام واللزوم واختار ابن الشاط في تفسيرها أن يقال قبول الإنسان شرعًا للزوم الحقوق والتزامها إن قلنا بسلب الأهلية عن الصبي أو يقال دون التزامها إن أثبتنا له ذمة. والفرق بين كلام الإمامين أن القبول مسبب عن الذمة على ما للشهاب القرافي وهو عينها على ما لابن الشاط. والأقرب إثبات الذمة للصبي للزوم أرش الجنايات وقيم المتلفات له. وربما التبست الذمة بالأهلية أي أهلية المعاملات ويحسن بنا إيراد حقيقتهما والتمييز بينهما.
__________
(1) رواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري
(2) رواه الدارقطني عن أنس قال الشوكاني وفيه مجهول، نيل الأوطار: 5/316(7/957)
فأهلية التصرف كما للشهاب القرافي قبول يقدره الشرع ولا يشترط فيه الإباحة والفرق بين الذمة والأهلية أن أهلية التصرف قبول خاص ليس فيه إلزام ولا التزام والذمة معنى مقدر في المحل قابل لهما (1) وكل من أهلية التصرف والذمة من قبيل خطاب الوضع كما أن ترتيب آثار العقود من عمل الشارع وإرادة العاقدين تنشئ العقد والشريعة ترتب ما لكل عقد من أحكام وآثار ترتيب المسبب عند وجود سببه وانتفاء موانعه، فنقل ملكية المبيع للمشتري واستحقاق الثمن في ذمة المشتري للبائع بتقدير الشرع وتستمد إرادة العاقدين سلطانها من الشرع بالحدود التي حددها لكل عقد من العقود وقد تكون هذه الحدود محققة لحاجة المتعاقدين فلا يحتاجان إلى اشتراط شروطه وقد لا تتحقق حاجتهما وغرضهما فيحتاجان أو أحدهما إلى شروط تحقق الغرض المطلوب في حدود ما تبيحه الشريعة وحرية هذا الاشتراط هو مبدأ سلطان الإرادة في تعديل آثار العقد المقرر في القوانين الوضعية والشريعة والقانون متفقان على أن تقدير آثار العقود وأحكامها هو من إرادة الشارع لا من عمل العاقد إلا أن الفارق بينهما في مدى تفويض الشارع إلى العاقدين من السلطان على تعديل الأحكام التي قررها التشريع مبدئيًّا في كل عقد (2)
وللعقود أثران عامان هما النفاذ والإلزام واللزوم فالنفاذ معناه ثبوت حكم العقد الأصلي والالتزامات منذ انعقاده وهي آثار العقد الخاصة ونتائجه المترتبة عليه التي هي انتقال المبيع ملكًا للمشتري وانتقال الثمن ملكًا للبائع بمجرد انعقاد العقد وإيجاب تنفيذ الالتزامات على المتعاقدين كتسليم المبيع وتسليم الثمن وضمان العيب إن ظهر به عيب وانتقال الضمان على المشتري بعد التسليم.
__________
(1) الفروق للقرافي: ص183 قاعدة الذمة وقاعدة أهلية المعاملة
(2) المدخل الفقهي، للأستاذ الزرقاء وحاشيته: ف217 ص475(7/958)
والفرق بين اللزوم والإلزام أن الإلزام هو إيجاب تنفيذ التزامات التعاقد من الجانبين وهي من أثر العقد، أما اللزوم فهو عدم استطاعة فسخ العقد إلا بالتراضي، وهو المسمى بالإقالة وهو في الواقع بيع إذ شرطه الرضا، ويكتسب العقد صفة اللزوم عند الحنفية والمالكية بمجرد تمام العقد وهو ما أخذت به القوانين وجرى عليه القضاء، أما عند الشافعية والحنابلة فلا يكسب العقد صفة اللزوم إلا بعد انقضاء مجلس العقد بأبدانهما عملًا بحديث خيار المجلس وبما نقلنا ندرك سبب الخلاف بين الفقهاء في أن الاستصناع بيع أو وعد ببيع فمن ذكر في جوازه القياس والاستحسان جعله بيعًا وأثبت فيه خيار الرؤية الذي من مختصات البيعات وأكد أنه بيع حيث يجري فيه القضاء والتقاضي إنما يكون في اللازم الواجب لا في الموعود ومن رأى أنه وعد نظر إلى اختيار الصانع في العمل وعدمه بناء على أن المواعدة لا تلزم الذمة وأن من التزم شيئًا لزمه وذلك إنما يكون بالشروع فيه وذلك هو الفرق بين الاستصناع والسلم فإن السلم يجبر بما التزم به من تسيم المسلم فيه والمستصنع له الحق في عدم قبول ما يأتي به الصانع وله أن يرجع عما استصنعه قبل تمامه ورؤيته وكل ذلك علامة على أنه وعد لا عقد؛ لأن من أثر العقود اللزوم ومن أثر المواعدة عدم اللزوم.
وكما تردد الفقهاء في كون الاستصناع بيعًا أو هو وعد بيع كذلك اختلفوا في كونه بيعًا أم إجارة فرأي أكثر الحنفية والحنابلة أن الاستصناع بيع وعدوا الاستصناع من أنواع البيوع وعرفوه بأنه بيع عين شرط فيه العمل كما في المبسوط للسرخسي حين بين أنواع البيوع وجعلها أربعة وجعل الاستصناع بيع عين شرط فيه العمل، ثم قال فالمستصنع فيه مبيع عين ولهذا ثبت فيه خيار الرؤية والعمل مشروط فيه لأن هذا النوع من العمل اختص باسم فلا بد من اختصاصه بمعنى يقتضيه ذلك الاسم (1) وفي البدائع أن الاستصناع بيع لكن للمشتري الخيار فيه خيار الرؤية فهو حينئذ بيع إلا أنه ليس على إطلاقه وبذلك خالف البيع المطلق في اشتراط العمل في الاستصناع.
__________
(1) المبسوط: 13/86، 87(7/959)
والمعروف أن البيع المطلق لا يشترط فيه العمل وذهب آخرون إلى أن الاستصناع إجارة محضة وهو قول أبي سعيد البرادعي وغيره فالمعقود عليه عنده هو العمل لأن الاستصناع طلب الصنع وهو العمل قال ولو كان بيعًا لما بطل بموت أحد المتعاقدين لكنه يبطل بموت أحدهما ذكره في جامع قاضيخان. وأجاب آخرون بأن للاستصناع شبهًا بالإجارة من حيث إن فيه طلب الصنع وهو العمل، وشبهًا بالبيع من حيث إن المقصود منه العين المستصنع فلشبهه بالإجارة قلنا يبطل بموت أحدهما ولشبهه بالبيع هو المقصود أجرينا فيه القياس والاستحسان وأثبتنا خيار الرؤية ولم نوجب تعجيل الثمن في مجلس العقد كما في البيع (1) وذهب آخرون إلى أنه إجارة ابتداء وبيع انتهاء كما في الذخيرة لكن قبل التسليم لا عند التسليم بدليل أنهم قالوا إذا مات الصانع يبطل، ولا يستوفى المصنوع من تركته. ذكره محمد في كتاب البيوع. فإن قيل انعقد إجارة أجبر الصانع على العمل وأجبر المستصنع على إعطاء المسمى؟ فالجواب أنه لم يجبر لأنه لا يملكه إلا باتلاف عين له من قطع الأديم ونحوه والإجارة تفسخ بهذا العذر والمستصنع ولو شرط تعجيله لجاز لأن هذه الإجارة في الآخرة كشراء ما لم يره والاستصناع للحاجة وهي في الجواز لا اللزوم، ولهذا كان للصانع أن يبيع المصنوع قبل أن يراه المستصنع لأن العقد غير لازم، أما بعدما يراه فالأصح أنه لا خيار للصانع بل إذا قبله المستصنع أجبر عي دفعه لأنه بالآخرة بائع (2) والاستصناع باعتباره عقدًا مستقلًّا جائز مشروع عند أكثر الحنفية على سبيل الاستحسان ومنعه زفر من الأحناف أخذًا بالقياس إذ قد ورد النهي عن بيع المعدوم وبيع ما ليس عندك كما تقدم، والصحيح الجواز استحسانًا فقد استصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاتم ففي النهاية في غريب الحديث استصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب. قال صاحب الاعتبار (3) هذا حديث صحيح ثابت وله طرق في الصحاح عدة وفي البدائع الإجماع من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاستصناع من دون نكير وتعامل الناس بهذا العقد والحاجة الماسة إليه وفي الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الجوزي الحنبلي: نص الحنابلة على أنه لا يصح استصناع سلعة لأنه بيع ما ليس عندك على وجه غير السلم وقيل يصح بيعه إلى المشتري إن صح الجمع بين بيع وإجارة منه بعقد واحد لأنه بيع وسلم (4) يصح الاستصناع عند المالكية والشافعية والحنابلة على اعتبار أنه عقد سلم ويشترط فيه ما يشترط في السلم التي من بينها تسليم جميع الثمن في مجلس العقد. ويصح عند الشافعية سواء حدد فيه الأجل لتسليم المصنوع أم لا، نص عليه السيوطي (5) وحيث جرى على الاستصناع عمل الناس واستحسنوه كان ذلك دليلًا على جوازه وصحته يشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (6) وما رواه ابن مسعود من قوله عليه السلام: ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن (7) وبالرغم من أن الاستصناع كالسلم ففرق بينهما فهو كالسلم من حيث أنه بيع معدوم أجيز للحاجة ولتعامل الناس به وللعرف اعتباره ولكن هناك فروق بينهما أهمها:
__________
(1) فتح القدير وشرح العناية على الهداية: 5/356، وفتح القدير: 5/357
(2) البدائع: 6/2678
(3) الاعتبار: ص 187، طبعة المنبرية.
(4) الأنصاف: 4/300
(5) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص89
(6) رواه أحمد والطبراني وابن خزيمة عن أبي خيثمة عن أبي بصرة الغفاري مرفوعًا
(7) رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير(7/960)
ـ أن المبيع في السلم دين تتحمله الذمة وهو إما مكيل أو موزون أو معدود متقارب أو مذروع والمبيع في الاستصناع هو عين لا دين كاستصناع أثاث أو حذاء أو خياطة ثوب.
ـ من شرط السلم الأجل المعلوم وليس الاستصناع كذلك على ما تقدم عن أبي حنيفة.
ـ عقد السلم لازم وعقد الاستصناع غير لازم لا قبل الصنع ولا بعد الفراغ منه فلكل من المتعاقدين الخيار في الإمضاء والفسخ والإنجاز والعدول عنه قبل رؤية المستصنع للشيء المصنوع. بحيث لو باع الصانع المصنوع قبل أن يراه المستصنع جاز لأن العقد غير لازم والمعقود عليه ليس هو عين المصنوع وإنما مثله في الذمة نعم إذا جاء الصانع بالشيء المصنوع إلى المستصنع سقط حق خياره لأنه رضي بكونه للمستصنع حيث جاء به إليه.
ـ الفارق الرابع من شرط السلم قبض رأس المال في مجلس العقد ولا يشترط قبضه في الاستصناع وإنما اشترط في السلم تقديم رأس المال حتى لا يؤدي إلى الدين بالدين وهو ممتنع.(7/961)
حكمة مشروعية الاستصناع:
هي لسد حاجات الناس ومتطلباتهم وقد تطورت الصناعات تطورًا كبيرًا وبالصناعة يحصل للصانع الارتفاق ببيع ما يبتكر وما ينتج من صناعته وفق الشروط والمتطلبات في المواصفات والمقايسات، والمستصنع يحصل له الارتفاق بسد حاجاته وفق ما يناسبه في نفسه وماله وقد يكون الموجود في الأسواق من المصنوعات ما لا يفي بحاجته ولا يحقق رغبته والاستصناع هو الذي يحقق له مطلوبه ومرغوبه فهو حينئذ يرجع إلى نمو المال وزيادته ومنفعة المتعاقدين فيكون بيد أحدهما نقد يطالب نماءه وبيد الآخر ثمرة وعمل يبتغي فضل الله فيهما وهذا يرجع إلى الحاجيات وهو ما يفتقر إليه من حيث التوسعة ورفع التضييق المؤدي إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب وهي كالمتممة للضروريات الخمس التي دارت الشريعة على المحافظة عليها لعظمها حيث روعيت في كل ملة فإن في الترخيص في الاستصناع تتميمًا لقاعدة حفظ المال الذي هو أحد الكليات الخمس، وهذه المتممات والمكملات هي مثار التشديدات والترخيصات كمنع الربا وجواز السلم والقرض والمساقاة والاستصناع بالنسبة لمال وكوجوب الحد في شرب القليل من الخمر الذي لا يسكر بالنسبة للعقل. ولقد اعتبر الشارع المتممات وجعلها في رتبة ما أتمه بطريق التبع لها مبالغة في مراعاتها وما ذلك إلا لترد الأمة المصالح وتجافي المفاسد وهذا هو السر الذي يرنو إليه التشريع من وراء التكاليف فإن الحكمة فيه إقامة مصالح الدارين على وجه لا يختل لها به نظام ولذلك كان وضع الشريعة على هذا الوجه أبديًّا وكليًّا وعامًّا وزادت عناية الله بهذه الشريعة الغراء فعصمها من التبديل والتغيير كما أنبأ بذلك تصريحًا وتلويحًا فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
وقال: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ} .(7/962)
أركان الاستصناع:
أركانه ثلاثة العاقدان والمحل والصيغة: أما الصيغة فكل ما يدل على الرضا والقبول كقول المستصنع للصانع اصنع لي كذا ونحوها من العبارات لفظًا أو كتابةً واستجابة الصانع للطالب وقبوله لذلك. أما المحل فقد اختلف الفقهاء فيه هل هو العمل أو العين مشروطة بالعمل؟
ذهب جمهور الحنفية إلى أن العين هي العقود عليه بدليل ثبوت خيار الرؤية للمستصنع وخيار الرؤية يكون في البيع العين (1) والاستصناع هو طلب العمل لغة (2) والأشياء التي تستصنع بمنزلة الآلة للعمل كما في المبسوط، وأما العاقدان فشرطهما أهلية التعاقد بالأصالة عن نفسه أو بولاية شرعية للتعاقد بالنيابة عن غيره.
الشروط الخاصة بالاستصناع:
للاستصناع شروط هي: أولًا أن يكون المستصنع معلومًا وكون محل العقد معلومًا علمًا يمنع من النزاع شرط عام في كل المعاوضات وذلك للنهي الوارد في السنة عن بيع الغرر وعن بيع المجهول فقد أخرج الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وبيع الحصاة أن يقول: بعتك هذه الأثواب ما وقعت عليه هذه الحصاة ويرمي بالحصاة أو قول هذه الأرض ما انتهت إليه في الرمي. والعلم إما أن يتحقق بالإشارة إلى المبيع إذا كان موجودًا أو بالرؤية عند العقد أو قبله بوقت لا يحتمل تغييره فيه أو برؤية بعضه إن كانت أجزاؤه متماثلة أو بالوصف المانع للجهالة الفاحشة وذلك ببيان الجنس والنوع والقدر وهذا هو الشرط المشترط في الاستصناع إذ لا يصح التصرف بالمجهول جهالة فاحشة المفضية إلى المنازعة ويكون العقد بالجهالة الفاحشة فاسدًا عند الحنفية وباطلًا عن غيرهم كما لا يصح التصرف بما يشتمل على الغرر الكثير والفرق بين الجهالة والغرر أن الغرر أعم من الجهالة فكل مجهول غرر وليس كل غرر مجهولًا فقد يوجد الغرر بدون جهالة كما في شراء الشيء الهارب المعلوم الصفة ولا توجد الجهالة بدون غرر كما أوضحه القرافي في فروقه (3) وقد بين القرافي أن ما يجوز بيعه على الصفة هو ما توفر فيه شروط ثلاثة:
__________
(1) المبسوط: 12/139
(2) فتح القدير: 5/355 وما بعدها، والدرر شرح الغرر: 2/198، طبعة1
(3) الفروق للقرافي: 3/258؛ الفرق 187: قاعدة ما يجوز بيعه على الصفة وما لا يجوز بيعه على الصفة.(7/963)
ـ القرب حيث تمكن رؤيته من غير مشقة لأنه عدول عن اليقين إلى توقع ما فيه غرر.
ـ عدم البعد جدًّا لتوقع تغييره قبل التسليم.
ـ أن يصفه بصفاته التي تتعلق الأغراض بها وهي شروط التسليم ليكون مقصود المالية حاصلة فإن لم يذكر الجنس امتنع إجماعًا وإن ذكر الجنس جوزه أبو حنيفة إذا عينه بمكانه فقط كقوله: من مخزني الذي هو بالبصرة. وللمشتري الخيار عند الرؤية ومنع الاقتصار على الجنس مالك والشافعي وابن حنبل رضي الله عنهم لبعد العقد عن اللزوم بسبب توقع مخالفة الغرض عند الرؤية وأبو حنيفة يقول لا ضرر عليه لأن له الخيار فإن أضاف إلى الجنس صفات السلم جوزه مالك وابن حنبل ووافقاه على الجواز وألزما البيع إذا رآه موافقًا ومنع الشافعي الصحة للغرر وأثبت له الخيار أبو حنيفة عند الرؤية وإن وافق الصفة فالصفة عند أبي حنيفة في غير الحيوان توجب الصحة دون اللزوم وعند الشافعي لا توجبهما وعند المالكية توجب الصحة واللزوم. وحجة أبي حنيفة أن الجهل إنما وقع في الصفات دون الذوات ونهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع المجهول إنما هو فيما جهلت ذاته لأن الجهل بالذات أقوى من الجهل بالصفات لأن الصفات تابعة للذوات لقوله عليه السلام: "من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه". ولأنه عقد معاوضة فلا يشترط فيه الصفة كالنكاح وباطن الصبرة والفواكه في قشرها وقياسًا على الأخذ بالشفعة فإنه لا يشترط معرفة الصفة، وأجاب القرافي عن ذلك بأن تفاوت المالية إنما هو بتفاوت الصفات دون الذوات ومقصود الشرع حفظ المال من الضياع وعن الثاني بأن حديث من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه قال الدارقطني حديث موضوع. وعن الثالث بأن كل من قال بانتفاء خيار الرؤية قال باشتراط الصفة وقياس ذلك على النكاح بعيد، والفرق هو سترة المخدرات عن الكشف لكل خاطب لئلا يتسلط عليهن السفهاء ثم باطن الصبرة مساوٍ لظاهرها وليست صفات المبيع مساوية لجنسه والعلم بأحد المتساويين علم بالآخر والأخذ بالشفعة إنما هو دفع للضرر فلا يلحق به ما لا ضرر فيه. وأما احتجاج الشافعي بالقياس على السلم فالجواب إن من شرط السلم أن يكون في الذمة والمعين لا يكون في الذمة بدليل لو رآه وأسلم فيه لم يصح. ولاشك أن الصفة تنفي الجهالة، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] .(7/964)
فأخبر تعالى أن رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم كان معروفًا عندهم لأجل الإحاطة بصفته في كتبهم. وحيث اشترطنا الصفات في الغائب أو السلم ونحوه من كل ما كان معدومًا عند التعاقد فينزل كل وصف على أدنى رتبة وعلى صدق مسماه لغة وذلك لعدم انضباط مراتب الأوصاف في الزيادة والنقض حتى لا يؤدي إلى التخاصم والتشاجر.
والقوانين الوضعية المدنية اشترطت هذا الشرط وهو أن يكون المبيع معينًا أو قابلًا للتعيين ببيان طرق التعيين الأحق فإذا كان الشيء محل التزام مما يعين بذاته وجب أن تكون ذاتيته معروفة وإذا كان الشيء مما يعين بنوعه لزم أن يذكر جنسه ونوعه ومقداره (1) والشرع والقانون وإن اتفقا على هذا الشرط من حيث المبدأ فقد اختلفا في التطبيق فالفقهاء يوجبون تعيين محل العقد تعيينًا تامًّا لا يتطرق إليه احتمال وإلا كان العقد فاسدًا عند أبي حنيفة وباطلًا عند غيره وأهل القانون يكتفون بكون المحل قابلًا للتعيين وإن لم يكن معينًا وقت العد كالتعهد بتوريد أغذية معينة النوع لمدرسة أو مستشفى. والعقود ثلاثة منها ما يرد على الذمم فيكون متعلقة الأجناس الكلية دون أشخاصها ويحصل الوفاء بمقتضاها بأي فرد من أفراد ذلك الجنس فإن دفع فردًا منه فظهر مخالفته للعقد رجع بفرد غيره وتبينا أن المعقود عليه باق في الذمة إلى الآن حتى يقبض من ذلك الجنس فردًا مطابقًا للعقد هذا متفق عليه. القسم الثاني مبيع مشخص الجنس فهذا معين وخاصيته أنه إذا فات ذلك المشخص قبل القبض انفسخ العقد اتفاقًا واستثنى من المشخصات صورتان: النقود إذا شخصت وتعينت للحس هل تتعين أم لا؟ وفي ذلك أقوال ثلاثة، الصورة الثانية المستثناة من المشخصات ما إذا كان لأحد على أحد دين فلا يجوز أن تأخذ فيه سكنى دار أو ثمرة يتأخر قبضها وهو يؤدي إلى فسخ الدين في الدين وقيل بجواز ذلك للتعيين، والتعيين لا يكون إلَّا في الذمة وما لا يكون في الذمة لا يكون دينًا، الأول لابن القاسم والثاني لأشهب من المالكية. القسم الثالث من الأقسام الثلاثة ما لا هو معين مطلقًا ولا هو غير معين مطلقًا بل فيه شبه للطرفين وهو بيع الغائب على الصفة فهو من جهة أنه غير مرئي أشبه ما في الذمة ولذلك قيل ضمانه من البائع وهو من جهة أن العقد لم يقع على جنس بل على مشخص معين أشبه المعين من هذا الوجه ولذلك قيل أن ضمانه من المشتري (2)
__________
(1) انظر موجز النظرية العامة للالتزامات، للدكتور/ عبد الحي حجازي: ص66 وما بعدها
(2) انظر الفروق، للقرافي في الفرق 189: قاعدة ما يتعين من الأشياء وما لا يتعين في البيع ونحوه: 3/261.(7/965)
الشرط الثاني الخاص بالاستصناع أن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس كطست وقمقم وخفين كأن يقول اصنع لي خفًّا طوله كذا وسعته كذا أو دستًا أي برمة تسع كذا ووزنها كذا على هيئة كذا بكذا، ويعطي الثمن المسمى أولًا يعطي شيئًا فيعقد الآخر معه وهذا جائز استحسانًا تبعًا للعين أما ما لا تعامل فيه فيمتنع ويرجع فيه للقياس الذي يقتضي المنع وعدم الجواز لأنه بيع معدوم وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم وهذا ليس بسلم لأنه لم يضرب له أجل. والقياس يترك بالاستحسان والاستحسان هنا هو الإجماع الثابت بالتعامل فإن الناس في سائر الأعصار تعارفوا الاستصناع فيما فيه تعامل من غير نكير والقياس يترك بمثله كدخول الحمام ولا يشكل ذلك بالمزارعة لأن للناس فيها تعاملًا على أن المعدوم قد يعتبر موجودًا حكمًا وقد ذكرنا أن المعقود عليه العين دون العمل وإنما العمل تابع. وعليه فمن شروط الاستصناع أن يكون مما فيه تعامل بين الناس أما ما لا تعامل فيه فإنا نرجع إلى القياس المقتضي للمنع لوجود الجهالة والعدم ويحمل على السلم ويأخذ أحكامه ومعلوم أن من شروط المسلم فيه أن يكون معلوم الجنس كأن يبين أنه من حنطة أو شعير وأن يكون معلوم النوع كأن يقول حنطة سقية أو سهلية أو جبلية وأن يكون معلوم الصفة كأن يقول جيدة أو رديئة أو وسط وأن يكون معلوم القدر بالكيل أو الوزن أو العد أو الأذرع.
وكل هذه الشروط ترجع إلى إزالة الجهالة المفضية إلى التنازع وأن يكون رأس المال والمسلم فيه مختلفين جنسًا تجوز النسيئة فيه بينهما فلا يجوز إسلاف الذهب والفضة أحدهما في الآخر لأن ذلك ربا ولا يجوز تسليم الطعام بعضه ببعض على الإطلاق لأنه ربا ويجوز إسلاف الذهب والفضة والحيوان والعروض والطعام كما يجوز إسلاف العروض بعضها ببعض (1)
__________
(1) البدائع: 5/207، ورد المحتار: 4/215 ـ 217، والقوانين الفقهية، لابن جزي: ص269.(7/966)
الشرط السادس: أن يكون المسلم فيه مما يتعين بالتعيين فإن كان مما لا يتعين بالتعيين كالدراهم والدنانير لا يجوز السلم فيه لأن المسلم فيه مبيع والمبيع مما يتعين بالتعين والدراهم والدنانير لا تتعين في عقود المعاوضات فلم تكن مبيعة فلا يجوز السلم فيها.
الشرط السابع أن يكون المسلم مؤجلًا وقد اختلف العلماء في هذا الشرط فالمالكية والحنفية والحنابلة اشترطوا لصحة السلم أن يكون مؤجلًا ولا يصح السلم الحال لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ". فهذا الحديث أمر بالأجل والأمر يقتضي الوجوب كما أوجب كون المسلم فيه مقدرًا بالكيل أو الوزن، ولأن السلم رخصة أجيز للرفق بالناس ولا يحصل الرفق إلا بالأجل فإذا انتهى الأجل انتهى الرفق فلا يصح حينئذ وباعتباره رخصة يقتصر على حال ورودها (1) وفي المنتقى للباجي أن الظاهر من مذهب مالك أن السلم لا يجوز إلا في مؤجل وبه قال أبو حنيفة وروى ابن عبد الحكم وابن وهب عن مالك يجوز أن يسلم إلى يومين أو ثلاثة وزاد ابن عبد الحكم أو يوم. قال القاضي أبو محمد: واختلف أصحابنا في تخريج ذلك على المذهب فمنهم من قال إن ذلك رواية في جواز السلم الحال وبه قال الشافعي ومنهم من قال أن الأجل شرط في السلم قولًا واحدًا وإنما تختلف الرواية عنه في مقدار الأجل والدليل على اعتبار الأجل أن ما اختص بالسلم فإنه شرط في صحته كعدم التعيين ووجه القول الثاني أن هذه معاوضة فلم يكن من شرط صحتها التأجيل كالبيع (2) وعند الشافعية يصح السلم حالًّا ومؤجلًا فإن أطلق عن الحلول والتأجيل وكان المسلم فيه موجودًا انعقد حالًّا لأنه جاز السلم مؤجلًا فلأنه يجوز حالًّا بالأولى لبعده عن الغرر وما ورد في الحديث، من قوله صلى الله عليه وسلم إلى أجل معلوم فمعناه العلم بالأجل للأجل نفسه. وفائدة العدول من البيع إلى السلم الحال هو جواز العقد مع غيبة المبيع فإن المبيع إذا لم يكن حاضرًا مرئيًّا لا يصح عند الشافعية، وإن أخر العقد لإحضاره فربما تلف وربما لا يتمكن المشتري من الحصول عليه كما لا يتمكن من فسخ العقد لأن العقد متعلق بالذمة وما ثبت بالذمة يلزم العاقد به (3) ولقد اتفق الفقهاء على أن الأجل لابد أن يكون معلومًا لقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] .
__________
(1) المبسوط: 12/125، والبدائع: 5/212، وفتح القدير: 5/355.
(2) المنتقى، للباجي: 4/297
(3) المهذب: 1/297.(7/967)
ولقول الرسول في الحديث المتقدم إلى أجل معلوم ولأنه بتعريف الأجل يتحدد الوقت الذي يقع فيه قضاء المسلم فيه فإذا جهل الأجل وقع رب السلم في الغرر وبعد ما اتفقوا على وجوب معرفة الأجل اختلفوا في كيفية العلم به، قالت الحنفية والشافعية والحنابلة: لابد من تحديد زمن بعينه لا يختلف فلا يصح التأجيل للحصاد والدارس والنيروز وهو اليوم الأول من السنة القبطية وهو أول الربيع والمهجران وهو أول الخريف وقدوم الحاج ونحو ذلك كالصيف والشتاء وحجتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إلى أجل معلوم والتحديد بهذه الأوقات غير معلوم ومثير للنزاع حيث أنه يتقدم ويتأخر ويقرب ويبعد وزادوا فأكدوا ذلك بما رواه البيهقي في كتاب المعرفة من طريق الشافعي عن ابن عباس أنه قال: لا تبيعوا إلى العطاء ولا إلى الأندر ولا إلى الدياس ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم (1) أما المالكية فقالوا بجواز السلم إلى هذه الأوقات ويعتبر ذلك ميقاتها وهو الوقت الذي يحصل فيه غالب ما ذكر وهو وسط الوقت المعد لها الذي يغلب فيه الوقوع وحجتهم أن هذا أجل يتعلق بوقت من الزمن يعرف في العادة ولا يتفاوت فيه تفاوتًا كثيرًا فأشبه ما إذا قال إلى رأس السنة وضرب الأجل شرط في السلم وبعكسه الاستصناع فمن الحنفية من يرى أنه يشترط في عقد الاستصناع خلوه من الأجل وكلما ذكر الأجل في الاستصناع انقلب إلى سلم واعتبرت فيه شروط السلم (2) واستدل على اشتراط عدم ضرب الأجل في الاستصناع بأن السلم عقد على مبيع في الذمة مؤجلًا فإذا ضرب الأجل في الاستصناع صار بمعنى السلم وأخذ حكمه،
__________
(1) العطاء: المناولة ـ والإنذار: البيدر أو المكدس من القمح ـ والدياس هو دوس الحب بالقدم ونحوه لينقشر. راجع: نصب الراية 4/21.
(2) البدائع: 6/2678.(7/968)
ولو كانت الصيغة استصناعًا كما احتج بأن التأجيل يختص بالديون لأنه وضع لتأخير المطالبة فتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه مطالبة وليس هذا إلا في السلم لأنه لا دين في الاستصناع فإذا ضرب فيه الأجل وكانت تلك الصنعة معروفة فهو سلم في قول أبي حنيفة بمعنى تعتبر فيه شروط السلم من قبض رأس المال في المجلس ومن انعدام الخيار فيه لرب السلم إذا أحضره المسلم إليه وخالف في ذلك الإمامان أبو يوسف ومحمد واعتبراه استصناعًا على حاله اعتمادًا على العرف والعادة (1) إذ قد جرى العرف بضرب الأجل في الاستصناع وهو إنما جاز للتعامل ولولا التعامل لما جاز وقد جرى العرف بضرب الأجل فيه فلا يتحول إلى السلم بضرب الأجل وهو عقد جائز غير لازم وذكر الأجل تيسير فيه وتأخير المطالبة فلا يتغير العقد به من جنس إلى آخر ولو كان الاستصناع بذكر الأجل فيه يصير سلمًا لصار السلم بحذف الأجل منه استصناعًا ولو كان هذا سلمًا لكان سلمًا فاسدًا لأنه شرط فيه صنعة صانع بعينه وذلك مفسد للسلم فالاستصناع عندهما إذا أطلق يحمل على حقيقته ولا ينقلب سلمًا ولو لم يضرب الأجل لأن كلام المتعاقدين يحمل على مقتضاه وإذا كان كذلك فالأجل حينئذ يحمل على الاستعجال لا الاستمهال ولم يرتض السرخسي قولهما ورد كل ما ضرب فيه الأجل إلى السلم موضحًا أن الأجل مؤخر للمطالبة ولا يكون ذلك إلا بعد لزوم العقد واللزوم إنما هو في السلم دون الاستصناع فثبوت الأجل دليل على أنه سلم وذكر الصنعة لبيان وصف المسلم فيه ولهذا لو جاء به مفروغًا لا من صنعته يجبر على القبول قال السرخسي وبهذا يظهر فساد قولهم أنه سلم شرط فيه صنعة صانع بعينه قال السرخسي: نعم،إذا قال على سبيل الاستعجال: أفرغ منه غدًا أو بعد غد، فهذا لا يكون سلمًا لأن ذكر المدة للفراغ من العمل لا لتأخير المطالبة بالتسليم أي أنه ذكر أدنى مدة يمكنه الفراغ من العمل ويحكى عن الهندواني قال: إن كان ذكر المدة من قبل المستصنع فهو للاستعجال ولا يصير به سلمًا وإن كان من الصانع فهو سلم لأنه يذكر على سبيل الاستمهال وقيل أن ذكر أدنى مدة يتمكن فيها من الفراغ من العمل فهو استصناع وإن كان أكثر من ذلك فهو سلم لأن ذلك يختلف باختلاف الأعمال فلا يمكن تقديره بشيء معلوم (2)
__________
(1) تحفة الفقهاء: 2/539
(2) المبسوط: 12/140(7/969)
الآثار العامة للاستصناع:
الاستصناع عقد غير لازم عند أكثر الحنفية سواء تم أو لم يتم وسواء كان موافقًا للصفات المتفق عليها أم غير موافق، لكن ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه إن تم صنعه حسب الاتفاق مطابقًا للأوصاف المتفق عليها يصير لازمًا عند أبي يوسف فإن لم يطابق لها فهو بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء رده وقد اختارت مجلة الأحكام العدلية في مادتها 392 قول أبي يوسف من لزوم عقد الاستصناع، وذلك لما يترتب على استقلال أحد الطرفين بفسخه من المضار إذا كان مطابقًا للوصف المتفق عليه. وينعقد الاستصناع على العين لا على عمل الصانع ويكون في كل ما جرى به التعامل وشرط صحته بيان الجنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته ولا يصح فيما لا تعامل فيه إذا ضرب له شهرًا فأكثر ويكون حينئذ سلمًا يعتبر فيه شروط السلم كذلك يعتبر سلمًا إذا ضرب له أجل بشهر فأكثر ولو كان ما جرى به العمل وكل هذه الأحكام مستفادة من الدر وحاشيته رد المحتار أواخر السلم. وإذا عين في العقد بدء المدة اتبع ما نص عليه في العقد وإلا فمن تاريخ العقد إلا إذا قضت ظروف العقد أو العرف بغير ذلك. ويظهر هذا ويتجلى في عقود العمل وكثيرًا ما تكون بين أصحاب الشركات والمعامل وبين من يعمل فيها وقد تكون بين الصانع وصاحب رأس المال وكثيرًا ما كان العامل ضحية مالك رأس المال يستغله وينتفع بثمرة عمله إلى أبعد حدود الاستغلال حتى إذا شاخ أو أصيب بعاهة ولو من جراء عمله تركه صاحب المعمل وهكذا يكون فريسة للفقر والمرض. فسنت قوانين لتأمين العمال في عملهم وفي حياتهم حتى الممات واشترطت أن العامل إذا مرض يداوى على حساب من يعمل عنده في معمله وإذا أصيب يعطى أجره كاملًا مدة من الزمن ثم يعطى نصف الأجرة فإذا عجز أحيل على المعاش وكانت هذه الشروط قد وضعت لحماية العامل من طغيان أرباب رؤوس الأموال على العمال واستنفاذ قواتهم لمصلحتهم بلا تفكير فيمن كانوا سببًا مباشرًا لإثرائهم،(7/970)
وقام بعد ذلك من يدافع عن أصحاب رؤوس الأموال وضنوا بتطبيق هذه القوانين التي هي لفائدة العمال ووضعوا عقدًا يسمى عقد العمل ودونوا فيه من البنود ما لو تمسك بها الطرفان لما استفاد العامل بشيء ولو كانت إصابته وقت العمل بل ولو ذهبت بحياته كل ذلك تحايلًا على الإفلات من تطبيق القوانين قوانين حماية العمال وهو في غاية الاحتياج لسد الرمق يقدم له العقد المذكور فإن نازع فيه رفض ولكنه لشدة احتياجه وتحت تأثير الضرورة يتقدم ويمضيه ومثل هذا العقد في الواقع باطل لأنه فقدت فيه إرادة العامل هذا من جهة ومن جهة أخرى ففيه إسقاط الحق قبل وجوبه وكل حق أسقط قبل وجوبه لا يلزم لأن التنازل وإسقاط الحقوق إنما يكون عن شيء محقق أو مقدر الوجود غالبًا ولذا تعهد العامل بأن لا يطالب صاحب العمل بتعويض عما يصيبه في عمله كان تعهده هذا باطلًا، وأما ضمان الصناع شرعًا فإنهم يضمنون ما هلك عندهم إذا كانوا يأخذون العمل في بيوتهم ودكاكينهم أو يغيبون عليه دون حضور صاحبه فكان لزامًا أن يضمنوا كل ما أتى على أيديهم من حرق وكسر أو قطع في المصنوع إن قام بالعمل في محله والقاعدة العامة أن الأجير ليس بضامن لما هلك عنده مما استوجب عليه لأنه أمين ولا ضمان على الأمين إلا أن يتعدى سواء أكان التعدي بالنفس أو بالسبب لعدم الاحتياط والإهمال فإن هلك بغير تعديه ومع احتياطه فلا ضمان عليه كذلك لا ضمان عليه لما فيه غرر كثقب الجواهر ونقش الفصوص وقد ضمَّن مالك رحمه الله الصناع لما هلك عندهم عملًا بقول علي: لا يصلح الصناع إلا ذلك، اللهم إلا أن تقوم لهم بينة على هلاكه من غير تعديهم ومن التزم عملًا ملحوظًا فيه شخص الملتزم كخياط معروف أو نجار أو حداد مثلًا معينًا فيتعين عليه أداء الالتزام بنفسه حسب التعاقد فإن أداه غيره فللملتزم له الامتناع عن القبول ولو تلفت مادة الالتزام فالملتزم ضامن لأنه يجعله الغير يفي بما التزم هو به مع أنه هو المقصود بالذات اعتبر ذلك تعد منه والمتعدي ضامن والصانع أحق بما صنع مما تحت يده متى كان يعمل في بيته أو حانوته حتى يأخذ أجره ومعنى هذا إن عامل الغرس والبناء كالبستاني وكالبناء والمهندس له حق الامتياز على ما عمل ما لم يسلمه لربه ومتى سلمه لربه حاصص بدينه كبقية الغرماء كالصانع فإن سلم ما تحت يده للمالك فلا امتياز له بل يشارك كبقية الغرماء (1) ،
__________
(1) المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدنية والتشريع الإسلامي، لعبد الله علي حسين:3/90(7/971)
وخيار الرؤية يثبت بالشرع لا بالشرط أي دون حاجة إلى شرط خاص يدرج في العقد بخلاف خيار الشرط وخيار التعيين بل لابد لثبوتهما من شرط خاص بحيث إذا انعدم هذا الشرط لم يقم الخيار ويثبت خيار الرؤية في الفقه الحنفي لمن لم يكن قد رأي المعقود عليه بحيث يكون له عندما يراه أن يمضي العقد أو أن يفسخه دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رأه وفي خليل عند قوله وغائب ولو بلا وصف على خياره بالرؤية قال الحطاب يعني يجوز بيع الغائب ولو بلا وصف لكن يشترط أن يجعل للمشتري الخيار إذا رآه وأما إذا انعقد البيع على الإلزام أو سكتًا على شرط الخيار فالبيع فاسد نقله عن ابن عبد السلام ويفهم هذا من قول خليل على خياره وقيل الغائب لا يباع إلا على الصفة أو رؤية متقدمة قال في المقدمات وهو الصحيح. والبيع لا ينعقد إلا على صفة توصف أو على رؤية قد عرفها أو على شرط في عقد البيع أنه على الخيار إذا رأى، فكل بيع ينعقد في سلعة بعينها غائبة على غير ما وصفنا فهو منتقض (1) قال ابن الهمام: وإن اشترى الشيء وهو يراه فلا خيار له وإذا كان رآه قبل ذلك فإن ظل المبيع على حاله ولم يتغير فلا خيار له وإن كان قد تغير عن حاله فله الخيار لأنه إذا تغير عن حاله فقد صار شيئًا آخر فكان مشتريًا شيئًا لم يره فله الخيار إذا رآه (2)
__________
(1) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: 4/296، مطبعة السعادة 1329هـ، والمهذب: 1/3 ـ 264، والمغنى: 4/74 ـ 90
(2) فتح القدير: 5/141(7/972)
ومن باب الاستصناع العقود الواردة عن العمل وهو المعبر عنها بالمقاولات والمقاولة عقد يلتزم بمقتضاه أحد الطرفين أن يؤدي عملًا للطرف الآخر مقابل عوض دون أن يكون تابعًا له أو نائبًا عنه ويجوز أن يقتصر التزام المقاول على تنفيذ العمل المتفق عليه على أن يقدم رب العمل المواد اللازمة لذلك كما يجوز أن يلتزم المقاول بتقديم المواد كلها أو بعضها إلى جانب التزامه بالعمل فإذا التزم بتقديم مواد العمل كلها أو بعضها وجب أن تكون هذه المواد مطابقة للموصوفات المتفق عليها فإن لم يقع التعرض لموصوفات المواد وجب أن تكون المواد وافية بالغرض المقصود فإن ظهر في هذه المواد أو في بعضها عيوب ضمنها المقاول وللمشتري رفض المبيع ويضمن المقاول كل عيب يتعذر كشفه عند تسليم العمل وذلك وفقًا للأحكام ضمان العيب في الشيء المبيع.
وإن كانت مواد العمل مقدمة من رب العمل وجب على المقاول أن يبذل في المحافظة عليها عناية الشخص العادي وأن يراعي أصول الفن في استعمالها واستخدامها وأن يقدم حسابًا عنها لرب العمل ويرد عليه ما بقي منها بعد استفراغ العمل فإذا فسدت أو انعدم صلاح بعضها ولم تبق صالحة للاستعمال بسبب إهمال المقاول أو بتقصير منه أو بقصور كفاية فنية وجب عليه قيمتها أو التعويض عما فسد إن كان له مقتض.
وإذا ظهر أثناء العمل عيوب في المواد التي قدمها رب العمل للعامل وجب على العامل أن يخطر فورًا رب العمل بذلك فإذا أهمل ولم يخبره بذلك كان مسؤولًا على ما يترتب على إهماله من نتائج وكذلك إذا قامت عوامل أخرى تعوق العامل أو المقاول من تنفيذ العمل في أحوال ملائمة فإن لم يخطر رب العمل فورًا كان مسؤولًا عن نتائج ذلك.(7/973)
التزامات المقاول:
على المقاول أن ينجز العمل طبقًا للشروط الواردة في عقد المقاولة وفي المدة المتفق عليها فإن لم تكن هناك شروط أو لم يقع الاتفاق على أجل التزم بإنجاز العمل حسب ما يقتضيه العرف في أمثالها وحسب المدة المعقولة التي تقتضيها طبيعة العمل وعرف الحرفة كما على المقاول أن يأتي على نفقته بكل ما يحتاج إليه في إنجاز العمل من عمالة وأدوات ومهمات ما لم يقع الاتفاق على غير ذلك.
وإذا تبين أثناء سير العمل أن المقاول يقوم بتنفيذ ما عهد إليه على وجه معيب أو مخالفًا لمقتضيات العقد فلرب العمل أن ينذره لتصحيح طريقة التنفيذ خلال أجل معقول يضربه له فإن انقضى الأجل ولم يرجع المقاول في التنفيذ في الطريقة الصحيحة أو المتفق عليها جاز لرب العمل أن يطلب فسخ العقد أو الإذن له بأن يعهد إلى مقاول آخر بإنجاز العمل على نفقة المقاول الأول متى كانت طبيعة المقاولة تسمح بذلك كما يجوز له فسخ العقد دون إنذار أو تحديد أجل إذا كان إصلاح العيب أو المخالفة مستحيلًا أو ممتنعًا، وللقاضي رفض طلب الفسخ إذا كان العيب في طريقة التنفيذ ليس من شأنه أن يقلل إلى حد كبير من قيمة العمل أو من صلاحيته للاستعمال المقصود لكن يثبت لرب العمل التعويض إذا كان له مقتضى.
وإذا تأخر المقاول في البدء في تنفيذ العمل أو في إنجازه تأخرًا لا يرجى معه مطلقًا أن يتمكن بالقيام بما عهد له كما ينبغي في المدة المتفق عليها جاز لرب العمل فسخ العقد دون انتظار لحلول أجل التسليم. وكذا إذا اتخذ المقاول مسلكًا ينم عن نيته في عدم تنفيذ الالتزام أو أن يأتي فعلًا ما من شأنه أن يجعل تنفيذ هذا الالتزام مستحيلًا وكل هذه الأحكام منشؤها قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
وإذا هلك الشيء المقاول عليه أو تلف بسب حادث مفاجئ أو بقوة قاهرة قبل تسليمه لرب العمل فليس للمقاول أن يطلب بالثمن المتفق عليه ولا يرد نفقاته ما لم يكن رب العمل قد أجل التزامه وتسلم العمل فإذا حل أجل التسليم وتأخر عن تسلمه حسب الاتفاق فوقع الحدث المفاجئ حق للمقاول أن يطالب برد نفقاته لأن الإخلال بسبب رب العمل وكذلك إذا كانت المواد مقدمة من رب العمل وهلك الشيء أو تلف قبل تسليمه له بسبب حادث مفاجئ أو قوة قاهرة فليس له أن يطالب المقاول بقيمة تلك المواد ما لم يكن المقاول وقت الهلاك أو التلف مخلًّا بالتزامه بتسليم العمل لصاحبه ولم يثبت أن الشيء كان ليتلف لو أنه قام بالتسليم من غير إخلال بالتزامه وتعتبر مواد العمل مقدمة من رب العمل إذا كان قد أدى للمقاول قيمتها أو عجل له مبلغًا تحت الحساب يشمل هذه القيمة.(7/974)
والفرق بين الطوارئ الحادثة غير المتوقعة وبين القوة القاهرة هو أن الطوارئ الحادثة غير المتوقعة يصبح تنفيذ الالتزام التعاقدي مرهقًا يجاوز حدود السعة دون أن يكون مستحيلًا وأما القوة القاهرة فهي التي تتحقق فيها الاستحالة ونظرية الطوارئ غير المتوقعة تستجيب لحالة ملحة تقتضيها العدالة فهي تستهدف بالنقد باعتبارها مدخلًا لتحكم القاضي ولم تترك هذه الطوارئ لتقدير القاضي تقديرًا ذاتيًّا وشخصيًّا بل قيد ذلك بأن اقتضت العدالة ذلك وهي عبارة تشير إلى توجيه موضوعي النزعة وعليه فإذا تثبت القاضي من قيام الطوارئ غير المتوقع عمد إلى إعمال الجزاء برد الالتزام الذي أصبح يجاوز السعة إلى الحد المعقول وشرط الحادثة الطارئة أن تكون حادثة استثنائية عامة كالفيضان مثلًا والجراد ونحو ذلك مما لا يختص بالشخص كالحريق مثلًا. ثم نظرية الطوارئ غير المتوقعة تختلف عن نظرية القوة القاهرة في أن الطارئ غير المتوقع لا يجعل التنفيذ مستحيلًا بل يجعله مرهقًا يجاوز السعة دون أن يبلغ به حد الاستحالة ويستتبع ذلك قيام فارق آخر يتصل بالجزاء فالقوة القاهرة تقضي على انقضاء التزام وعلى هذا النحو يتحمل تبعاتها كاملة. أما الطارئ غير المتوقع فلا يترتب عليه إلا إنقاص الالتزام إلى الحد المعقول وبذلك يتقاسم تبعته الطرفان. ومرجع هذه الأحكام منشؤها الإعذار في المذهب الحنفي والجوائح في المذهب المالكي والحنبلي مع خلاف في الأحكام في المساواة بين طرفي العقد التبادلي وفي العدالة عمومًا (1) وقد وقع في سنة 1250 في غلة حب الزيتون عاهة وهي الدود ولا يليق عصره في معصرة ضرب الماء لأنه يفسد لون الزيت فعدل الناس إلى عصره بمعصرة السلنطي وتركوا معصرة ضرب الماء وقد كان إنسان اكترى معصرة من معاصر ضرب الماء أوائل الشتاء فوقعت العاهة بالحب فقل الواردون لمعصرة ضرب الماء فتضرر المكتري بذلك
وطلب فسخ الكراء عن نفسه كالفنادق إذا قل الواردون إليها لفتنة فهو عيب يوجب خيار المكتري ولا يلزم المسوغ أن يحط من الكراء والله أعلم (2) وإذا طرأت قوة قاهرة تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلًا في العقود ينفسخ العقد من تلقاء نفسه وهذا إذا كانت الاستحالة كلية فإذا كانت جزئية انقضى ما يقابل الجزء المستحيل ومثل الاستحالة الجزئية الاستحالة الوقتية في العقود المستمرة وفي كليهما فسخ العقد بشرط علم الطرف المقابل. ويضمن المقاول ما تولد عن فعله وصنعه من ضرر أو خسارة سواء أكان بتعديه أو بتقصيره أم لا وينتفي الضمان أو الخسارة إذا نجم ذلك عن حادث لا يمكن التحرز منه.
__________
(1) يراجع فيما يتعلق بالحوادث الطارئة غير المتوقعة: الكاساني: 4/197 ـ 199، والهندية: 4/459 ـ 462، وابن عابدين: 5/76، ومصادر الحق: 6/95 ـ 118.
(2) من لفظ الدرر فيما به العمل من مذهب دار الهجرة، لمحمد السنوسي: فصل جوامع الكراء: ص166(7/975)
وإذا كان لعمل المقاول أثر في العين جاز له حبسها حتى يستوفي الأجرة المستحقة فإذا تلفت في يده قبل سداد أجره فلا ضمان عليه ولا أجر له أما إذا لم يكن لعمله أثر في العين فلا حق له في حبسها لاستيفاء الأجرة فإن فعل وتلفت كان عليه ضمان الغصب، وإذا كان عقد المقاولة قائمًا على تقبل بناء يصنع المهندس تصميمه على أن ينفذه المقاول تحت إشرافه كانا مشتركين في التعويض لصاحب العمل على الخلل الحاصل بسببهما من تقصير أو تعد وعن كل ما يحدث في خلال عشر سنوات من تهديم كلي أو جزئي فيما شيداه من البناء وما أقاماه من منشآت وهما مسؤولان وضامنان لكل عيب يهدد متانة البناء وسلامته فإذا تضمن العقد السلامة لمدة أطول كانا ضامنين للمدة المتفق عليها وهما ضامنان وإن كان الخلل ناشئًا عن عيب في الأرض ذاتها لعدم احتياطهما لذلك. وتبدأ مدة الضمان من وقت تسلم المحل فإذا اقتصر عمل المهندس على وضع التصميم من غير إشرافه على التنفيذ كان مسؤولًا عن عيوب التصميم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الخراج بالضمان)) . لا عن عيوب التنفيذ لأن الغرم بالغنم وإذا عمل المقاول بإشراف مهندس آخر فلا يكون مسؤولًا عن التصميم ولكن يكون مسؤولًا عن عيوب التنفيذ لأن الغرم بالغنم كما قدمنا. ولو شرط المهندس أو المقاول الإعفاء من المسؤولية وحط الضمان عنه والحد منه كان الشرط باطلًا ووجب عليه الضمان لأن هذا الشرط ينافي المصلحة مع حق الآخرين لكن إذا سكت رب العمل عن العيوب التي انكشفت أو عن التهديم الذي حصل سنة كاملة وبعدها قام بدعوى الضمان سقط حقه فيه وذلك أخذًا بقاعدة مبدأ المنع من سماع الدعوى وبمبدأ تخصيص القضاء (1) وقرر بعضهم السقوط بعد ثلاث سنوات تنزيلًا له منزلة من أخرج الشيء من يده والخراج بالضمان.
__________
(1) أحكام التزامات المقاول: 4/211 وما بعدها؛ والمغني لابن قدامة: 6/33 ـ 36 وما بعدها، ورد المحتار 5/10 و11، وتحفة الفقهاء: 2/484 ومن المواد التي: 43 و 58 و 85 و 87 و 88 و 392 و 482 و 483 و 574 و 608 و 609 و 611 و 891 و 1387 و 1398 و 1660 و 1801 من المجلة وشرحها لعلي حيدر الأتاسي والمواد 613 و 620 من مرشد الحيران.(7/976)
التزامات صاحب العمل:
أما صاحب العمل فيجب عليه أن يتسلم العمل متى أنجزه المقاول ووضعه تحت تصرفه فإذا امتنع بغير سبب مشروع رغم دعوته لذلك وتلف في يد المقاول أو تعيب بدون تقصير منه فلا ضمان عليه وعلى صاحب العمل أن يبادر إلى دفع الأجرة عند تسليم المعقود عليه إلا إذا كان الاتفاق على غير ذلك أو جرى العرف في ذلك على طريقة مخصوصة وإذا تم عقد المقاولة على أساس الوحدة وبمقتضى تصميم معين وذلك لقاء بدل محدد لكل وحدة ثم تبين أن التنفيذ يقتضي زيادة حسية في النفقات جاز لصاحب العمل بعد إعلامه بمقدار الزيادة جاز له أن يتحلل من العقد مع أداء قيمة ما أنجزه المقاول من العمل وفقًا لشروط العقد أو قبول متابعته مع التزامه بالزيادة فإذا لم تكن الزيادة جسيمة ولكنها محسوسة وضرورية لتنفيذ التصميم المتفق عليه وجب على المقاول أن يخطر رب العمل قبل الاستمرار في التنفيذ بمقدار ما يتوقعه من زيادة في النفقات فإذا مضى في التنفيذ دون إخطار فلا حق له في طلب الزيادة. وإذا أبرمت المقاولة على تصميم وقع الاتفاق لقاء أجر معين فليس للمقاول أن يطالب بأية زيادة بسبب تعديل أو إضافة في هذا التصميم إلا إذا كان التعديل والزيادة من صاحب العمل وبرضاه فإذ ذاك يراعي الاتفاق الجاري مع المقاول بشأن هذا التعديل أو الإضافة فإن لم يقع الاتفاق على الأجر ولم يقع تعينه استحق المقاول أجر المثل مع قيمة ما قدمه من المواد التي يتطلبها العمل وكذلك إذا لم يقع الاتفاق مع المهندس الذي قام بتصميم للبناء وقام على الإشراف على التنفيذ فإن لم يتفق على أجر المثل طبقًا لما جرى به العرف والعادة محكمة كما هو معلوم فإذا طرأ ما يحول دون إتمام تنفيذ العمل طبقًا للتصميم الذي أعده استحق أجر المثل فيما قام به من العمل دون الباقي. (1)
__________
(1) أحكام التزامات رب العمل، أشارت إليها مجلة الأحكام العدلية في موادها 225 - 226 - 439 - 466 - 468 - 469 - 473 - 563 - 580 - 582- 610 - 768 من المجلة وشرحها لعلي حيدر والأتاسي. والمواد 582 - 583 - 619 - 624 - 629 من مرشد الحيران(7/977)
المقاول الثاني: يجوز للمقاول أن يكل تنفيذ العمل كله أو بعضه إلى مقاول آخر إذا لم يمنعه شرط في العقد من ذلك ولم تكن طبيعة العمل تقتضي أن يقوم به بنفسه وتبقى مسألة المقاول قائمة قبل صاحب العمل ولا يجوز للمقاول الثاني أن يطالب صاحب العمل بشيء مما يستحقه المقاول الأول إلا إذا أحاله على رب العمل (1)
انتهاء المقاولة: ينقض عقد المقاولة بإنجاز العمل المتفق عليه أو بفسخه رضاء أو قضاء وكذلك تنتهي إذا حصل عذر يحول دون تنفيذ العقد أو إتمام تنفيذه فيجوز لأحد عاقديه أن يطلب فسخه لكن إذا بدأ المقاول في التنفيذ ثم أصبح عاجزًا عن إتمامه لسبب لا يد له فيه فإنه يستحق قيمة ما تم من العمل وما أنفقه في سبيل التنفيذ بقدر ما يعود على صاحب العمل من نفع ولمن تضرر من الفسخ أن يطالب الطرف الآخر بتعويضه في الحدود التي يقرها العرف (2) وتفسخ المقاولة بموت المقاول إذا كان متفقًا على أن يعمل بنفسه أو كانت مؤهلاته الشخصية محل الاعتبار في التعاقد فإذا خلا العقد من ذلك ولم تكن مؤهلاته الشخصية أو إمكاناته محل اعتبار في التعاقد فلا ينتهي العقد من تلقاء نفسه ولكن يجوز لرب العمل إنهاؤه إذا لم تتوفر في ورثته الضمانات الكافية لحسن تنفيذ العمل وفي كلا الحالتين للورثة قيمة ما تم من العمل والنفقات وفقًا لشروط العقد وما يقتضيه ولرب العمل أن يطالب بتسليم المواد والله أعلم وأحكم.
الشيخ كمال الدين جعيط
__________
(1) بدائع الصنائع: 4/208، ورد المختار: 5/11 و 12 والمواد 571 - 573 من المجلة وشرحها والمواد 621 - 626 - 627 من مرشد الحيران
(2) مرجع ذلك قاعدة لا ضرر ولا ضرار. وهو حديث رواه مالك والشافعي عنه وعن يحيي المازني مرسلًا وأحمد وعبد الرزاق وابن ماجه والطبراني عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي شيبه والدارقطني عنه وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة وجابر وعائشة وغيرهم. انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما ظهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل ابن محمد العجلوني الجراحي بتعليق أحمد القلاش الحلبي، طبعة مؤسسة الرسالة 2 صحيفة 491.(7/978)
الاستصناع والمقاولات
في العصر الحاضر
إعداد فضلة الشيخ مصطفى كمال التارزي
بسم الله الرحمن الرحيم
الاستصناع
مقدمة:
الاستصناع هو عقد من العقود، كالبيع، ينعقد بالإيجاب والقبول، وصورته: أن يقول إنسان لنجار، مثلًا: اصنع لي خزانة، أو يقول لحداد اصنع لي شباكًا، ويبين نوع ما يريد وقدره وصفته، فيستجيب الصانع لإنجاز ما طلب هذه بثمن معين.
والاستصناع كان موجودًا منذ القدم، لحاجة أعضاء المجتمع إلى هذا النوع من الجهد، وتلبية رغباتهم ورغبات غيرهم، وتعامل الناس به في مختلف البلدان. واستمر العمل به في الجزيرة العربية قبل الرسالة، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن جاءه الوحي بما أحله الله وحرمه.
ذلك لأن الشريعة الإسلامية ما جاءت لتقضي على كل عادات الناس ومعاملاتهم قبل الإسلام، بل أقرت البعض مما هو صالح، ويتماشى مع مبادئ الشريعة وأهدافها ومنعت البعض الآخر، واشترطت شروطًا قومت بها اعوجاجه، فأصبح بها يسير طبق نصوص الشريعة ومنهجها.
فكان الاستصناع من العقود التي أقرها الإسلام، بعدما قيده بشروط تقي المجتمع من الضرر والضرار.(7/979)
الصناعة والاستصناع في الشريعة الإسلامية:
الصناعة والاستصناع عمل يقره القرآن، وتؤيده القواعد والمبادئ الإسلامية.
أما القرآن فقد عني بتوجيه الناس إلى الصناعة بمختلف أنواعها، وجاءت آيات كثيرة من القرآن تحث المؤمنين على ممارسة الصناعات، واستخراج خيرات الأرض، وجعلها صالحة لتلبية حاجيات الإنسان المتعددة. قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} . (1)
وقال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} . (2)
وقال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3)
ولقد وردت هذه الآيات تستعرض العناية الربانية بالأمم التي قبلنا، واستمرار هذه العناية بالإنسان الذي جعله الله خليفة في الأرض، عملًا بالقاعدة المقررة في الشريعة الإسلامية: أن (شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ) ، لاسيما إذا كان السياق في معرض المدح والتحسين.
__________
(1) سورة الحديد: الآية 25.
(2) سورة الأنبياء: الآية 80.
(3) سورة هود: الآية 38، 39(7/980)
موقف الشريعة الإسلامية من إنشاء العقود:
الأصول العامة الإسلامية تعطي الحرية لكل مكلف أن ينشئ ما شاء من عقود، ولو لم يرد نص من الشرع في إباحته، للقاعدة المعروفة عند الفقهاء: أن "الأصل في الأشياء الإباحة "، ومنها العقود والشروط، إلا إذا ورد نص من الشارع يفيد التحريم أو المنع.
وقد ذكر الشاطبي في الموافقات أن القاعدة المستمرة بين العلماء هي: التفرقة بين العبادات والمعاملات، فالأصل في الأولى ألا يقدم عليها المكلف إلا بإذن من الشارع، إذ لا مجال للعقول في اختراع العبادات، والأصل في الثانية الإباحة، حتى يدل دليل على خلافه (1) ، فالعقود والشروط هي من باب الأفعال العادية، والأصل فيها عدم التحريم، لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (2) ، فإذا لم تكن حرامًا لم تكن فاسدة، بل كانت جائزة ومباحة.
وعلى هذا الأساس صرح الإمام الشافعي في الأم: إن أصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضى المتبايعين الجائزي الأمر فيما تبايعا، إلَّا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بإذنه، داخل في معنى المنهي عنه، وما فارق ذلك - أبحناه بما وصفناه من إباحة البيع في كتاب الله تعالى (3)
وقد ذهب الإمام ابن تيمية في نفس هذا الاتجاه، إذ يقول: (ولا يحرم منها ولا يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًّا أو قياسًا) (4)
وتماشيًا مع هذا الرأي قال الكاساني في باب الشركات: (إما العنان فجائز بإجماع فقهاء الأمصار، لتعامل الناس بذلك في كل عصر، من غير نكير، ولأن هذه العقود شرعت لمصالح العباد وحاجاتهم إلى استنماء المال، وهذا النوع طريق صالح للاستنماء، ولم يرد نص في تحريمه، فكان مشروعًا (5)
وقال الزيلعي في باب الربا: ولا نسلم أن حرمة البيع أصل، بل الأصل هو الحل، والحرمة إذا ثبتت إنما تثبت بالدليل الموجب لها، وهذا لأن الأموال خلقت للابتذال فيكون باب تصليحها مفتوحًا، فيجوز ما لم يقم الدليل على منعه (6)
وهناك رأي ثان في موضوع إنشاء العقود. وهو يقول بأن الأصل في العقود والشروط الحظر، إلا ما ورد من الشارع إباحته، وهو مذهب الظاهرية، وقلة من العلماء في المذاهب الأربعة.
ولقد رد على هذا المذهب ابن القيم عندما قال في هذه المسألة (7) : القول بأن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان خطأ، ما لم يقم عندهم دليل على دعواهم، وجمهور الفقهاء على خلاف هذا الاعتقاد، إذ يرون أن الأصل في العقود والشروط الصحة، إلا ما أبطله الشارع، أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح.. وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه (الله) .
__________
(1) الموافقات، للشاطبي: 1/284
(2) سورة الأنعام: الآية 119
(3) الأم، للشافعي: 3/3
(4) القواعد النورانية ص184
(5) بدائع الصنائع: 6/86
(6) تبيين الحقائق: 4/87
(7) إعلام الموقعين: 1/384(7/981)
الاستصناع لغة وشرعًا:
(أ) الاستصناع في اللغة:
جاء في لسان العرب: صنعه يصنعه صنعًا فهو مصنوع، وصنع عمله، ومن ذلك قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} . (1)
ثم قال: ويقال اصطنع فلان خاتمًا إذا سأل رجلًا أن يصنع له خاتمًا.. روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب.
فقوله (اصطنع) أي أمر أن يصنع له، كما تقول اكتتب أي أمر أن يكتب له، والطاء في اصطنع بدلًا من تاء الافتعال، أي أبدلت التاء طاء لوجود الصاد.
ثم قال: واصطنع الشيء، أي دعا إلى صنعه. والصناعة: حرفة الصانع، وعمله الصنعة، والصناعة ما تستصنع من أمر (2)
وقال في القاموس المحيط: والصناعة ككتابة: حرفة الصانع، وعمله الصنعة. وصنعة الفرس حسن القيام عليه، والصنيع السيف الصقيل والمجرب، والسهم كذلك. وصنيعتي أي اصطنعته وربيته وخرجته.
ثم قال: ورجل صِنَع اليدين (بالكسر وبالتحريك) : حاذق في الصنعة (3)
وفي الصحاح: الصنع (بالضم) مصدر قولك صنع إليك معروفًا، والصناعة حرفة الصانع، وعمله الصنعة، وسيف صنيع أي مجلو. وامرأة صناع اليدين أي امرأة حاذقة ماهرة بعمل اليدين (4)
وفي المعجم الوسيط: صنع صنعًا: مهر في الصنع فهو صنع، استصنع فلانًا كذا طلب منه أن يصنعه له، والتصنيع: جعل الأمة صناعية بالوسائل الاقتصادية. الصانع من يصنع بيديه، ومن يحترف الصناعة. والصناعة حرفة الصانع، وكل علم أو فن يمارسه الإنسان حتى يمهر فيه ويصبح حرفة له (5)
وبهذا ندرك إجماع علماء اللغة على أن (الاستصناع) هو: طلب عمل من الصانع فيما هو من خصائص حرفته ومهارته.
__________
(1) سورة النمل: الآية 88.
(2) ابن منظور، مادة: صنع 2/481 - 482
(3) الفيروز آبادي: 3/52.
(4) الجوهري: ص1245
(5) المعجم الوسيط - مجمع اللغة العربية: 1/527(7/982)
(ب) الاستصناع في اصطلاح الفقهاء:
لقد كان هذا العقد مثار خلاف بين المذاهب، وحتى داخل المذهب الحنفي: هل هو بيع السلم فتجب فيه شروط السلم؟ أو هو بيع عادي فيجب فيه ما يجب في البيع من شروط؟ أو هو وعد بالبيع وليس بعقد بيع، فيتم بالتعاطي؟
ثم هل المبيع هو العين التي ستصنع؟ أو المبيع هو العمل؟
وهل يجري فيه خيار الرؤية، بعد الصنع كما في البيع العادي؟ أو لا يجري فيه الخيار، كي لا يتضرر الصانع، لأنه صنعه خصيصًا للمستصنع؟ (1)
وهذا ما سنحاول بيانه عندما نبين وجهة نظر كل مذهب بانفراده. ويجدر أن نشير هنا إلى أن الاستصناع عند الحنفية هو بيع، لا وعد بالبيع، وهو عقد من العقود أجازوه استحسانًا لا قياسًا، وبسطوا فيه القول في كتبهم، ببيان حقيقته وصفته وشروطه وحكمه، بينما بقية المذاهب الأخرى منعت هذا العقد، واعتبرته من بيع المعدوم، وألحقوه بالسلم في الصناعات.
اختار جانب كبير من فقهاء الحنفية تعريف هذا العقد بذكر وصفه وصورته، وهو المعروف عندهم: التعريف بالرسم (2) ، واختار جانب آخر تعريف هذا العقد ببيان طبيعته.
__________
(1) المدخل الفقي العام، لمصطفى الزرقاء: 1/205.
(2) الرسم: هو لفظ مميز للمخبر عنه مما سواه دون أن ينبئ عن طبيعته، (الأحكام، لابن حزم: 1/34)(7/983)
(أ) تعريف الاستصناع بالرسم:
فقد مثل السرخسي للاستصناع بقوله: (فإذا قال شخص لآخر من أهل الصنائع: اصنع لي الشيء الفلاني، بكذا درهم، وقبل الصانع ذلك انعقد استصناعًا عند الحنفية، كما إذا استصنع الرجل عند الرجال خفين أو قلنسوة، أو طستًا، أو كوزًا، أو آنية من النحاس (1)
ومثل الكاساني لصورة الاستصناع بقول الإنسان لصانع خفاف أو صفار: اعمل لي خفًّا أو آنية من أديم أو نحاس، من عندك، بثمن كذا، ويبين نوع ما يعمل وقدره ووصفه، فيقول الصانع: نعم (2)
ومثل العلامة نظام (3) للاستصناع: بقوله: جائز في كل ما جرى التعامل فيه، كالقلنسوة والخزف والأواني المتخذة من الصفر والنحاس وما أشبه ذلك، استحسانًا.
ويقول الكمال بن الهمام: الاستصناع: طلب الصنعة، وهو أن يقول لصانع خف أو كعب أو أواني الصفر: اصنع لي خفًّا طوله وسعته كذا، أو دستًا أي برمة تسع كذا ووزنها كذا على هيئة كذا (4) ويبدو أن الصور التي تعرض لها الفقهاء في الاستصناع كانت لا تتعدى حدود الخف والقلنسوة والأواني والآلات النحاسية والحديد والزجاج.
فإذا اقتصرت حاجاتهم في ذلك العصر على هذه الأشياء، فلا مانع من أن يتناول الاستصناع أشياء أخرى اقتضتها حاجات العصور المتأخرة، كالأسلحة الحربية والسيارات والأرتال والطائرات والسفن، وكل المحركات على اختلاف أنواعها، ومواد البناء، وكل المعدات التي يحتاج إليها في هذا العصر.
__________
(1) المبسوط: 12/138
(2) بدائع الصنائع: 5/2
(3) الفتاوى الهندية: 3/207
(4) فتح القدير: 6/242(7/984)
(ب) تعريف الاستصناع عند الحنفية بالحد:
(1)
وقد اختارت الموسوعة الفقهية تعريف الكاساني للاستصناع وهو: عقد على مبيع في الذمة، شرط فيه العمل على الصانع (2)
وقال ابن عابدين: هو: طلب العمل من الصانع في شيء خاص على وجه مخصوص (3) أي يكون العقد على شراء ما سيصنعه الصانع، وتكون العين والعمل من الصانع، فإذا كانت العين من المستصنع لا من الصانع فإن العقد يكون إجارة لا استصناعًا (4)
ولو لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا، بل يسمى: سلما.
فإذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، رضي بها المستصنع، فإنما جاز لا بالعقد الأول بل بعقد آخر، وهو: التعاطي، بتراضيهما (5)
وبهذا نعلم أن الاستصناع هو غير السلم وغير الإجارة عند الحنفية، لأن السلم هو بيع آجل بعاجل، أي بيع شيء غير موجود بثمن حال، والإجارة هي عقد على المنافع بعوض، أما الاستصناع فهو: الاتفاق على عمل الصانع بأن يصنع شيئًا نظير عوض معين بخامات من عنده.
وهو يشبه السلم لأنه بيع المعدوم، وأن الشيء المصنوع ملتزم به عند العقد في ذمة الصانع البائع، ولكنه يفترق عنه من حيث إنه لا يجب فيه تعجيل الثمن، ولا بيان مدة الصنع والتسليم، ولا كون المصنوع مما يوجد في الأسواق.
ويشبه الإجارة أيضًا، لكنه يفترق عنها من حيث أن الصانع في الاستصناع يضع مادة الشيء المصنوع من ماله. (6)
وبما أن الفقهاء كغيرهم اشترطوا في كل حد أن يكون جامعًا مانعًا، فلا يكون التعريف الذي اختير للاستصناع حدًّا إلا إذا كان جامعًا لجميع أفراده، ومانعًا من دخول أي عقد من العقود هو خارج عن الاستصناع، فقولنا: هو عقد، إخراج لقول من قاله: إنه مواعدة، أي وعد بالبيع، إذ الوعد ما يطلبه الطالب فيعده صاحبه بإنفاذ ما يطلب، ولكنه لا يلزم به قضاء، لأنه ليس بعقد، بينما الاستصناع عقد يجري فيه التقاضي، ويجب الإيفاء به (7)
القاعدة المعروفة عند الفقهاء أن التقاضي لا يكون في الموعود، وإنما يكون في الواجب.
وكذا أثبت الفقهاء في الاستصناع خيار الرؤية، وهذا الخيار يختص بعقد البيع.
والاستصناع إنما جاز اعتباره عقدًا بالقياس والاستحسان، والوعد بالبيع لا يتوقف إثباته على دليل (8) وهذه الفوارق هي التي وجه بها محمد الاستصناع.
وقولنا: على مبيع يدل على أن شيئًا مخصوصًا ذكرت مادته ومواصفاته، يباع، وهذا القيد أخرج الإجارة أنها عقد على عمل من الأجير.
وقولنا: في الذمة يدل على أن المقصود هو بيع خاص لا البيع المطلق، لأن من شروط البيع المطلق أن يكون المبيع مقبوضًا في المجلس.
وقولنا: شرط فيه العمل، قيد أخرجنا به السلم، لأن السلم هو بيع عاجل بآجل، ويشترط فيه قبض المال قبل افتراق العاقدين، أما الاستصناع فلا يشترط فيه القبض.
وقولنا: على الصانع، قيد يميز الاستصناع إذ السلم لا يشترط فيه الصنع، بينما الاستصناع قائم على الصنع.
وجاء في البدائع: أن الصانع إذا أتى بعين صنعها قبل العقد، ورضي بها المستصنع، جاز وجواز هذا لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر هو التعاطي، بتراضيهما (9)
وبهذا أخرج هذا الحد: الوعد بالبيع، والإجارة، والسلم، والبيع المطلق، والتعاطي، فكان تعريفًا جامعًا مانعًا.
__________
(1) الحد هو لفظ وجيز يدل على طبيعة الشيء المخبر عنه، (الأحكام، لابن حزم: 1/34)
(2) بدائع الصنائع: 5/2
(3) حاشية ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار: 5/223
(4) الفقه الإسلامي وأدلته، للزحيلي: 4/631
(5) بدائع الصنائع: 5/2
(6) الفقه الإسلامي وأدلته: 4/631
(7) بدائع الصنائع: 5/2
(8) موسوعة جمال عبد الناصر: 7/91
(9) الكاساني: 5/2(7/985)
حكم عقد الاستصناع عند الحنفية:
لقد كادت تجمع كلمة فقهاء الحنفية على جواز عقد الاستصناع ومشروعيته واعتمدوا في جواز هذا العقد على الاستحسان، قال صاحب الهداية: (1) : إذا استصنع شيئًا بغير أجل جاز، استحسانًا، للإجماع الثابت بالتعامل، وفي القياس لا يجوز، لأنه بيع المعدوم لا على وجه السلم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم خاصةً، وإلى هذا ذهب زفر.
وقال الكمال بن الهمام: ولكنا جوزناه (أي الاستصناع) استحسانًا، للتعامل الراجع إلى الإجماع العملي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم بلا نكير، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، وقد استصنع رسول الله خاتما (2)
وقال الكاساني (3) : أما جوازه، فالقياس أن لا يجوز، لأنه بيع ما ليس عند الإنسان لا على وجه السلم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم، ويجوز استحسانًا، لإجماع الناس على ذلك، لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، وقال: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح"، والقياس يترك بالإجماع ولهذا ترك القياس في دخول الحمام بالأجر من غير بيان المدة ومقدار الماء الذي يستعمل، وفي قطعة الشارب للسقاء من غير بيان قدر المشروب، وفي شراء البقل لأن الحاجة تدعو إليه. وقال الكمال ابن الهمام: واحتجم صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام، مع أن مقدار عمل الحجامة وعدد كرات وضع المحاجم ومصها غير لازم (4) .
وقد قصر الحنفية تجويز بعض الأشياء على غير قياس على ما جرى فيه التعامل بين الناس وأقره المسلمون وقال السمرقندي (5) : والقياس أنه لا يجوز، وفي الاستحسان جائز.
ولم يشذ من علماء الحنفية عن القول بجواز الاستصناع إلا زفر الذي لا يقول بالاستحسان، ولا يقدمه على القياس، ولهذا قال بعدم جواز بيع الاستصناع (6) .
ووجه تقديم الاستحسان على القياس في الاستصناع، هو تعامل الناس بهذا العقد، وإجماعهم على ذلك منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى اعتبروه دليلًا من أدلة الشريعة، يقابل القياس الجلي الذي تسبق إليه الأفهام، وهو عدم جواز بيع المعدوم، ولذلك كان الاستحسان عند علماء الأصول من الحنفية والحنابلة قياسًا خفيًّا، رجح على القياس الجلي، للمصلحة.
__________
(1) شيخ الإسلام برهان الدين: شرح بداية المبتدئ: 3/85
(2) فتح القدير: 5/242
(3) البدائع: 5/2
(4) فتح القدير 6/242
(5) تحفة الفقهاء: 2/528
(6) فتح القدير: للكمال ابن الهمام: 6/242(7/986)
أما الشافعية فإنهم لا يقولون بالاستحسان، ولذا استنكر الشافعي العمل بالاستحسان، وقال: (من استحسن فقد شرع) .
على أن من قال بالاستحسان لا يقول به اعتباطا، بل لابد له من مستند يستمد منه حجيته، وهو ما يعبر عنه بوجه الاستحسان، وهو في الغالب حاجة الناس الملحة إلى ذلك، لأنه قلما يوجد في السوق ما يتطلبه الإنسان على وجه المطلوب، فيحتاج أن يستصنع، فلو لم نقل بالجواز لوقع الناس في حرج، والدين يسر وليس بعسر، والله تعالى يقول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1)
وحكم الاستصناع إنما يضاف ثبوته إلى السنة أو الإجماع أو القياس، أما الاستحسان فإنما يراد به، في الغالب: قياس خفي يقابل قياسًا جليًّا.
وقد عده عدد آخر من الفقهاء من العرف العام. قال مصطفى الزرقاء: العرف العام هو الذي يكون فاشيًا في جميع البلاد بين جميع الناس في أمر من الأمور، وذلك كالاستصناع في كثير من الحاجات واللوازم، من أحذية وألبسة وأدوات وغيرها، فإن الناس قد احتاجوا إليه، ودرجوا عليه من قديم الزمان، ولا يخلو اليوم من التعامل به مكان، وقد أصبح جاريًا في جميع الحاجات (2) ، والحقيقة أنه لا منافاة بين كل هذه الأقوال.
فاعتباره من الاستحسان، لأننا قدمنا فيه العمل بالقياس الخفي على القياس الجلي، وهو مسمى الاستحسان عند الحنفية.
واعتباره من العرف العام، لأن تعامل الناس به من أقدم العصور هو مبني على استحسان بعض الأعراف التي تحل حاجات المجتمع، وهو الذي فسره الغزالي في المستصفى (3) ،وهو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع بالقبول، والذي سماه فقهاء المسلمين: إجماعًا.
__________
(1) سورة الحج: الآية 78
(2) المدخل الفقهي: 2/838
(3) المدخل الفقهي العام: 2/838(7/987)
أما الشافعية فإنهم لا يقولون بالاستحسان، ولذا استنكر الشافعي العمل بالاستحسان، وقال: (من استحسن فقد شرع) .
على أن من قال بالاستحسان لا يقول به اعتباطا، بل لابد له من مستند يستمد منه حجيته، وهو ما يعبر عنه بوجه الاستحسان، وهو في الغالب حاجة الناس الملحة إلى ذلك، لأنه قلما يوجد في السوق ما يتطلبه الإنسان على وجه المطلوب، فيحتاج أن يستصنع، فلو لم نقل بالجواز لوقع الناس في حرج، والدين يسر وليس بعسر، والله تعالى يقول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1)
وحكم الاستصناع إنما يضاف ثبوته إلى السنة أو الإجماع أو القياس، أما الاستحسان فإنما يراد به، في الغالب: قياس خفي يقابل قياسًا جليًّا.
وقد عده عدد آخر من الفقهاء من العرف العام. قال مصطفى الزرقاء: العرف العام هو الذي يكون فاشيًا في جميع البلاد بين جميع الناس في أمر من الأمور، وذلك كالاستصناع في كثير من الحاجات واللوازم، من أحذية وألبسة وأدوات وغيرها، فإن الناس قد احتاجوا إليه، ودرجوا عليه من قديم الزمان، ولا يخلو اليوم من التعامل به مكان، وقد أصبح جاريًا في جميع الحاجات (2) ، والحقيقة أنه لا منافاة بين كل هذه الأقوال.
فاعتباره من الاستحسان، لأننا قدمنا فيه العمل بالقياس الخفي على القياس الجلي، وهو مسمى الاستحسان عند الحنفية.
واعتباره من العرف العام، لأن تعامل الناس به من أقدم العصور هو مبني على استحسان بعض الأعراف التي تحل حاجات المجتمع، وهو الذي فسره الغزالي في المستصفى (3) ،وهو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع بالقبول، والذي سماه فقهاء المسلمين: إجماعًا.
__________
(1) سورة الحج: الآية 78
(2) المدخل الفقهي: 2/838
(3) المدخل الفقهي العام: 2/838(7/988)
السنة القولية تجيز الاستصناع:
ويرى بعض فقهاء الحنفية أن الاستصناع لم يكن دليله الاستحسان فقط، وإنما كان دليله السنة القولية، واستشهدوا بحديثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
الحديث الأول:
ما رواه نافع عن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب، وكان يجعل فصه إلى باطن كفه إذا لبسه، فصنع الناس، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه وقال: إني كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصه من داخل، فرمى به ثم قال: لا والله لا ألبسه أبدًا، فنبذ الناس خواتيمهم (1)
وقد استشهد بهذا الحديث الفقهاء وأهل اللغة في حديثهم عن الاستصناع (2) وفي تفسيرهم مادة صنع (3) ، مع أنه حديث لم يرو في الصحاح، وإنما روى في كتاب النهاية في غريب الحديث (4) وعقب عليه صاحب الاعتبار بأنه حديث صحيح ثابت، وله طرق في الصحاح، وهو حديث نص في معنى الاستصناع.
الحديث الثاني:
الحديث الذي رواه البخاري، أن الرسول صلى الله عليه وسلم استصنع المنبر رواه عن أبي حازم بن دينار: (إن رجالًا أتوا سهل بن سعد الساعدي وقد امتروا في المنبر مم عوده فسألوه عن ذلك، فقال: والله لا أعرف مم هو، ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة (امرأة قد سماها سهل) : مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن إذا علَّمت الناس. فأمرته، فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بها فوضعت ها هنا) (5)
إن حديث المنبر وإن استشهد به فقهاء الحنفية (6) إلا أنه لا يعتبر نصًّا صريحًا يدل على تجويز الرسول للاستصناع، لأن الروايات مختلفة في الصنع: أهو رغبة من الرسول وإنجاز من المرأة والغلام؟ وهذا لا يدل على أنه عقد استصناع أو هو عقد استصناع من الرسول نفسه نفذته المرأة؟
__________
(1) كتاب الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ: أبو بكر محمد الحازمي الهمداني: ص231
(2) فتح القدير: 6/242؛ ومجمع الأنهر: 2/106
(3) ابن منظور: 2/481
(4) النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير: 3/56
(5) فتح الباري شرح صحيح البخاري: 2/397، وعمدة القاري: 6/214
(6) فتح القدير: 6/242، ومجمع الأنهر: 2/106(7/989)
إجماع المسلمين على التعامل بالاستصناع:
وعلى كل فإن الاستصناع عند الحنفية لم يثبت بالسنة وحدها، بل ثبت بالإجماع، وإقرار الرسول لهذا النوع من العقود الذي اصطلح عليه العرب وتعاملوا به من الجاهلية، وجاء الإسلام فأقره، وتنوقل إقرار الرسول باستمرار المسلمين على التعامل به في عهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يومنا هذا، بدون نكير، وقد قال رسول الله: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة" (1)
وقد ذكر مصطفى الزرقاء (2) أن بعض فقهاء الحنفية أطلقوا على هذا النوع من الإجماع: (استحسان الإجماع) وهو عدول عن مقتضى القياس إلى حكم آخر انعقد عليه الإجماع.
وتعامُلُ المسلمين بهذا النوع من العقود يسمى عندهم: إجماعًا عمليًّا، اعتبره الحنفية حجة، استنادًا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه. فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيِّء)) (3)
وكادت كتب الفقه الحنفي تجمع على جواز الاستصناع، مستندة في ذلك إلى السنة، والإجماع العملي، والاستحسان، إلا أن الإمام الكاساني زاد شيئًا آخر، مستندًا في ذلك إلى قاعدة، فقال: لأن فيه معنى عقدين جائزين، وهو السلم والإجارة، لأن السلم عقد على مبيع في الذمة، واستئجار الصناع يشترط فيه العمل، وما اشتمل على معنى عقدين جائزين كان جائزًا (4)
وبهذا نعلم أن المذهب الحنفي حل مشكلة الصناعات التي تطورت تطورًا غريبًا، واحتيج إليها في هذا الزمان أكثر من كل الأزمنة الماضية، لأن السلم والإجارة لا يحلان كل حاجيات هذا العصر في الصناعة والاستصناع، فهذا العقد بما أحيط به من شروط ومواصفات، قد سهل على الناس أبواب التعامل، ووفر لهم كل مقومات الحياة بلا مشقة ولا ضرر ولا غرر، مع اجتناب كل ما حرمه الله، ونصت الشريعة على بطلانه.
ولما كان هذا العقد يتماشى مع ما جاءت به الشريعة من حفظ الحاجيات، ورفع المشقة على الناس، تماشيًا مع قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (5)
كان الحكم بجوازه لا يخالف منهج الشريعة الإسلامية، ولا يناقض أهدافها.
ومن الحنفية - كالحاكم الشهيد، والصفار، ومحمد بن سلمة - من ذهبوا إلى أن الاستصناع ليس عقدًا من عقود المعاودة، وإنما هو مواعدة تقوم على بيان ما يطلبه الطالب فيعده صاحبه بإنفاذ ما يطلب، فإذا أنجز المطلوب منه وسلمه إلى الطالب فقبله، انعقد عند ذلك عقد البيع، بالتعاطي، لا قبله (6)
أما جمهور الحنفية فإنهم يعتبرون الاستصناع عقد بيع بعد الإيجاب والقبول، اعتمادًا على ما ذكره الإمام محمد رحمه الله من أنه عقد بيع وليس بمواعدة (7)
__________
(1) سنن ابن ماجه: 2/1202.
(2) المدخل الفقهي العام: 1/85
(3) مسند الإمام أحمد: 1/379
(4) بدائع الصنائع: 5/3
(5) سورة الحج: الآية 78
(6) موسوعة جمال عبد الناصر: 7/91
(7) انظر في توجيه ذلك ما ورد في ص565(7/990)
التعاقد على المعدوم وموقف الفقهاء منه وخاصةً الحنفية:
لما كان الاستصناع قائمًا على أساس التعامل بشيء غير موجود وقت العقد، والقاعدة المقررة في العقود اشتراط وجود المعقود عليه، لأن بيع المعدوم لا ينعقد، كان الاستصناع مثار جدل بين العلماء.
فمن اعتبر تعامل المسلمين بالاستصناع من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، من غير نكير، دليلًا على الجواز، اعتبر الاستصناع عقدًا مستثنى من القاعدة، كالسلم، لتعامل الناس به، استحسانًا، وهذا هو مذهب الحنفية.
ومن قال: إن الاستصناع عقد بيع اختل فيه شرط من شروط عقد البيع، وهو وجود المعقود عليه، حكم بعدم جوازه، لعدة أمور:
أولًا: لأنه بيع غرر يؤدي إلى المنازعة، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، للحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر (1) واعتبروا الاستصناع، كبيع الثمرة التي لم تخلق، وبيع السمك في الماء: بيعًا فاسدًا.
ورد هذا من طرف من أجاز الاستصناع بأن الرسول لم ينه عن المعدوم، وإنما نهى عن الغرر، ومن المعدوم ما لا غرر في بيعه، لأنه ضبطت أوصافه في العقد، وفي الإمكان وجوده عادةً، وتعامل الناس به في السلم والاستصناع بلا نزاع، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان،فقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي عن حكيم ابن حزام، أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل يسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم ابتاعه له من السوق، ثم أبيعه: فقال لا تبع ما ليس عندك (2)
ورد هذا الاستدلال على المنع، من طرف المجيزين للاستصناع، فأنه: ليس بيع معدوم، لأن المادة الخام للمبيع تكون موجودة عادةً عند البائع، والمواصفات التي طلبها المشتري من الصانع هي سهلة التنفيذ عند الصناع عادةً، ولا ينجر بهذا النوع من التعامل غرر أو نزاع، وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم تعامل الناس به، وأجمع المسلمون على جوازه.
وقال ابن قدامة من الحنابلة (3) : لا يجوز بيع ما لا يملكه ليمضي فيشتريه ويسلمه، رواية واحدة، وهو قول الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفًا.
والاستصناع ليس من باب بيع، المعدوم، ولا من باب بيع غير المملوك وإنما ينطبق عليه حكم تأجيل قبض المبيع، كما إذا تم الاتفاق على أن يسلم البائع المبيع بعد مدة من الزمن، مع أن الاستصناع عقد أجازه أحد مصادر التشريع وهو الاستحسان، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع العقود التي جرى تعامل الناس بها، ما دامت محققة لمصالح المسلمين، وغير جالبة للنزاع والضرر، مستجيبة للكليات العامة التي نادت الشريعة بالمحافظة عليها.
__________
(1) رواه مسلم: مختصر مسلم، للحافظ المنذري: رقم 939
(2) نيل الأوطار، للشوكاني: 5/252، باب النهي عن بيع ما لا يملكه ليمضي فيشتريه [رواه الخمسة، وأخرج هذا الحديث ابن حبان، وقال الترمذي: حسن صحيح]
(3) الشرح الكبير مع المغنى: 4/19(7/991)
الاستصناع في المذاهب الأخرى
المالكية:
يرى المالكية أن الاستصناع هو عقد سلم، تشترط فيه جميع شروط السلم. ولا يرونه عقدًا مستقلًّا بعنوان الاستصناع، ولكنهم يتكلمون عنه في حديثهم عن السلم، بعنوان السلم في الصناعات. قال الدردير: إن استصناع سيف أو ركاب من حداد، وسرج من سروجي، أو ثوب من حياك، أو باب من نجار، على صفة معلومة، بثمن معلوم، يجوز، وهو سلم تشترط فيه شروطه (1)
أما خليل في مختصره، فيقسم الاستصناع إلى قسمين:
الأول: هو ما كان العمل فيه دائمًا، ومثل له بقوله: (والشراء من دائم العمل كالخباز، هو بيع فهو استصناع ملحق بالبيع) (2)
الثاني: هو ما كان العمل فيه غير دائم، ومثل له بقوله: (وإن لم يدم، فسلم، كاستصناع سيف أو سرج، وهو عندئذ استصناع ملحق بالسلم تشترط فيه جميع شروط السلم) (3)
وإن عين المعمول منه (أي المصنوع) أو العامل (أي الصانع) فسد العقد، لأنه حينئذ صار معينًا لا في الذمة، وأصبح دينًا بدين، وشرط صحة السلم كون المسلم فيه دينًا في الذمة.
__________
(1) الشرح الصغير: 3/287
(2) كتاب مواهب الجليل (مختصر خليل) : 4/538 - 540
(3) كتاب مواهب الجليل (مختصر خليل) : 4/538 - 540(7/992)
وقال في المدونة: وإن اشترط أن يعمله هو بنفسه، أو اشترط عمل رجل بعينه؟ قال: لا يكون هذا سلفًا لأن هذا الرجل سلف في دين مضمون على هذا الرجل، واشترط عليه عمل نفسه، وقدم نقده، فهو لا يدري أيسلم هذا الرجل إلى ذلك الأجل فيعمله له أم لا؟ فهذا من الغرر: إن سلم عمله له، وإن لم يسلم ومات قبل الأجل بطل سلف هذا، فيكون هذا الذي أسلف إليه قد انتفع بذهبه باطلًا.
ثم قال: وإن اشترط أن يعمل له من حديد قد أراه إياه أو ظواهر أو خشب أو نحاس قد أراه إياه؟ قال: لا يجوز ذلك لأنه لا يدري أيسلم ذلك الحديد أو الظواهر أو الخشب إلى ذلك الأجل أم لا. ولا يكون السلف في شيء بعينه، فذلك لا يجوز في قول مالك (1)
فالمالكية يعتبرون هذا العقد بيعًا معينًا، والحنفية يعتبرون بيعًا موصوفًا في الذمة.
وبهذا ندرك أن الأصل في هذا الموضوع هو اتفاقهم على صحة هذا النوع من التعامل الذي كان موجودًا من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الخلاف بينهم في تخريج هذا العقد: هل هو بيع، فتجري عليه أحكام البيع؟ أو هو سلم فتجرى عليه أحكام السلم؟ أو هو إجارة فتجرى عليه أحكام الإجارة؟
فالمالكية لم يخرجوا بهذا النوع من التعامل عن العقود المتعارفة والتي ضبطت شروطها وأركانها.
أما الحنفية فإنهم اعتبروا الاستصناع عقدًا جديدًا غير البيع والسلم والإجارة. وحاولوا أن يضبطوه بشروط من شأنها أن تحقق المصلحة المرجوة منه بدون مساس بأصول الشريعة وقواعدها، متجنبين كل ما من شأنه أن يكون سببًا في غرر أو ضرر أو مفسدة.
أما ابن رشد فقد ذكر في المقدمات أن ابن القاسم يقسم السلم في الصناعات إلى أربعة أقسام:
الأول: أن لا يشترط المسلم المستعمل عمل من استعمله (أي الصانع) ولا يعين ما يعمل منه، فهو سلم على حكم السلم، لا يجوز إلا بوصف العمل، وضرب الأجل، وتقديم رأس المال.
الثاني: أن يشترط عمله. ويعين ما يعمل منه، فليس هذا العقد بسلم، وإنما هو من باب البيع والإجارة بالعمل في الشيء المبيع.
الثالث: أن لا يشترط عمله بعينه. ويعين ما يعمل منه، فهو أيضًا من باب البيع والإجارة في المبيع.
الرابع: أن يشترط عمل الصانع بعينه، ولا يعين ما يعمل منه، فلا يجوز على حال، لأنه عقد يجتذبه أصلان متناقضان: لزوم العقد، لكون ما يعمل منه مضمونًا، وامتناعه، لاشتراطه عمل المستعمل بعينه (2)
ويبدو أن ابن القاسم كان أكثر فقهاء المالكية وضوحًا في بيان أن المالكية لا تمنع تعامل الناس بالاستصناع، وإنما تسميه، حسب نوع التعامل: سلمًا، أو بيعًا، أو إجارة. وإذا كان هذا التعامل لا تتوفر فيه شروط السلم أو البيع أو الإجارة فإنها عند ذلك تمنع هذا النوع من التعامل.
__________
(1) الشرح الصغير، للدردير: 3/233
(2) المقدمات، لابن رشد: 2/32(7/993)
في المذهب الشافعي:
الشافعية: ألحقوا الاستصناع بالسلم، كالمالكية، فيؤخذ تعريفه وأحكامه من السلم عند الكلام عن السلف في الشيء المسلم للغير من الصناعات، فإن كانت المادة من المستصنع فهي من باب الإجارة، وإن كانت من الصانع فهي من باب السلم
وغالب كتب الشافعية لم تفرد الاستصناع بحديث خاص، وإنما تحدثت عما يصنع ضمن حديثها عن مسائل باب السلم، وأكدوا على صفات المطلوب صنعه حتى لا يؤدي التعامل بها إلى الجهل المفضي إلى النزاع والخصومة والغرر.
فقد جاء في المهذب (1) : ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه، وتضبط صفاته، ومثل لها بأشياء، من ضمنها ما يصنع، كالفخار والورق المصنوع وصبغ الغزل ونسجه.
ويقول النووي (2) ويجوز السلم في الزجاج والطين والجص والأبنية والأواني فيذكر نوعها وطولها وعرضها وغلظها.. كما يجوز السلم في الكاغد عددًا، ويبين نوعه وطوله، كما يجوز في الآجرّ على الأصح، وفي وجه لا يصح (لتأثير النار، لأن النار لا يمكن ضبطها في طبخ الآجرّ) .
وبهذا نعلم أن الشافعية يجيزون التعامل بالاستصناع على شروط معينة إذا ضبطت صفات المستصنع ضبطًا يزيل كل جهالة مفضية إلى النزاع، ولهذا أطال الشيخ النووي (3) في ذكر الأمثلة والأشياء التي يجوز فيها السلم، وما لا يجوز فيه السلم، معتمدًا في كل ذلك على ما تعورف ضبط صفاته، وقبل في التعامل بين الناس بدون نزاع. أما ما أفضى إلى نزاع أو غرر أو جهالة فقد منعه.
وهم لا يسمون هذا النوع من التعامل بالاستصناع، وإنما يسمونه، سلمًا.
وما اشتهر في كتب الفقه من أن المالكية والشافعية لا يجيزون الاستصناع يوهم بأنهم عطلوا هذا النوع من التعامل بين الناس وإباحة غيرهم، بينما القضية هي قضية تخريج، والتزام بمصطلحات معينة لكل مذهب لا تزيد عن تقييد هذا العقد بقيود جديدة، وتغير التسمية.
وإذا كان الشافعي لا يقول بالاستحسان الذي بموجبه أجاز الحنفية الاستصناع بل اعتبر أن "من استحسن فقد شرع" فليس معنى ذلك أنه لا يجيز هذا النوع من التعامل بل خرج هذا النوع من التعامل على أنه سلم بشروطه.
__________
(1) المهذب، للشيرازي: 1/297
(2) روضة الطالبين: 4/27 و 28
(3) روضة الطالبين: 4/25 - 29(7/994)
عند الحنابلة:
إن الحنابلة لم يقدموا الاستصناع في باب مستقل كما فعل الحنفية، وإنما تعرضوا إليه ضمن حديثهم عن السلم في الصناعات، كما فعل المالكية والشافعية.
فقد ذكر ابن قدامة عدة فصول بين فيها ما يصح فيه السلم مما يوزن ويكال، ومما يضبط بالصفة التي تختلف أثمانها بقيمتها حسب الصفات والمواصفات، ومن ضمنها الأشياء التي تصنع، وقال (1) : وتضبط الثياب بستة أوصاف: النوع: كتان أو قطن، والبلد، والطول والعرض، والصفاقة والرقة، والغلظ والدقة، والنعومة والخشونة.
ويوصف غزل القطن والكتان بالبلد واللون والغلظ والدقة والنعومة.
وقد أطلق الحنابلة التعامل بالسلم في كل الصناعات، متي توفرت شروط السلم المعروفة.
فإن فقد شرطٌ من الشروط المقررة في السلم عند الحنابلة، بطل العقد كما لا يصح اعتباره بيع استصناع لأنه يعتبر بائعًا ما ليس عنده على غير وجه السلم، وهو باطل كذلك (2)
فالحنابلة لا يمنعون تعامل المجتمع الإسلامي بالاستصناع. بل يبيحونه ولكن على اعتباره عقد سلم، يصح بما تصح به كل عقود السلم عندهم.
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير: 4/334
(2) كشف القناع على متن الإقناع: للبهوتي: 3/133، والإنصاف، للمردوي: 4/300، والموسوعة الفقهية الكويتية: 3/321، وموسوعة جمال عبد الناصر: 7/92.(7/995)
مقومات عقد الاستصناع عند الحنفية:
لقد ذكرنا فيما سبق أن الحنفية هم الذي يجيزون عقد الاستصناع، وهو عندهم عقد مستقل عن عقود البيع (1) ، ولكنه فقد بعض مستلزمات البيع، لأنه أشبه السلم من جهة، إذ هو كالسلم: بيع آجل بعاجل، لكنه يفترق عن السلم بأمور:
أولًا: لا يجب في الاستصناع تعجيل الثمن، بينما يجب في السلم التعجيل.
ثانيًا: لا يجب في الاستصناع بيان مدة الصنع والتسليم، بينما يجب ذلك في السلم.
ثالثًا: لا يجب كون المصنوع مما يوجد في الأسواق، بينما هو مشروط في السلم.
ويشبه الاستصناع الإجارة من جهة أخرى، من حيث أن الاستصناع بيع عمل كالإجارة، ويفترق عن الإجارة بشيئين:
الأول: أن الصانع يضع مادة الشيء المصنوع من ماله، وهو محل البيع، بينما الأجير مكلف بخصوص العمل.
الثاني: الإجارة على الصنع محل العقد فيها هو العمل، بينما في الاستصناع محل العقد هو العين الموصوفة في الذمة (2) .
وقد عد السرخسي الاستصناع نوعًا من أنواع البيع، إذ قسمه إلى أربعة أنواع، قال: اعلم بأن البيوع أربعة:
الأول: بيع عين بثمن، وهو البيع المطلق.
الثاني: بيع دين في الذمة بثمن، وهو السلم.
الثالث: بيع عمل، العين فيه تبع، وهو الاستئجار.
الرابع: بيع عين، شرط فيه العمل، وهو الاستصناع (3)
والكاساني اعتبر الاستصناع بيعًا، فقال (4) : هو بيع، لكن للمشتري خيار الرؤية. وبهذا نعلم أن للاستصناع شبهًا بالإجارة من حيث أن فيه طلب الصنع، وهو العمل، وشبهًا بالبيع من حيث أن المقصود منه العين فلشبهه بالإجارة قلنا: يبطل بموت أحدهما، ولشبهه بالبيع وهو المقصود أجرينا فيه القياس والاستحسان، وأثبتنا خيار الرؤية (5) .
ولهذا قال في الذخيرة: هو إجارة ابتداءً، بيع انتهاءً، لكن قبل التسليم، فإذا مات الصانع قبل التسليم يبطل، ولا يستوفي المصنوع من تركته (6) .
وقد ذكر البابرتي صاحب العناية: أن أبا سعيد البردعي يقول: إن المعقود عليه هو العمل، وهو إجارة محضة (7) . واستدلوا بفعل الصباغ، فإن في الصبغ العمل والعين، وهو إجارة محضة.
__________
(1) فتح القدير، للكمال بن الهمام: 6/246، والكفاية، لجلال الدين الخوارزمي: 6/16
(2) فتح القدير، للكمال بن الهمام: 6/246، والكفاية، لجلال الدين الخوارزمي: 6/16
(3) المبسوط: 15/84
(4) بدائع الصنائع: 5/3، والمبسوط: 15/85
(5) العناية: للبابرتي: 6/243
(6) العناية: للبابرتي: 6/243
(7) فتح القدير، للكمال بن الهمام: 6/244 - 245(7/996)