* حقوق حاملي السندات:
لحامل السند حقان أساسيان:
1- الحصول على فائدة قانونية ثابتة في مواعيدها المتفق عليها، سواء ربحت الشركة أم خسرت.
2- استيفاء قيمة السند في الأجل المضروب، وقد يكون ذلك عن طريق الاستهلاك بالقرعة.
وما عدا ذلك فله حقوق الدائن تجاه مدينة وفقًا للأحكام القانونية (1) .
* طريقة إصدار السندات:
الإصدار هو العملية التي تمكن الشركة من طرح سنداتها على الجمهور، ويتم ذلك بطريق الاكتتاب العام، ويكون عادة بواسطة البنوك، وتعلن الشركة كل المعلومات المتعلقة بالسندات، وأهمها الوفاء بالمبلغ الذي تعهد به ومقدار الفائدة القانونية (2) .
* أنواع السند:
وهي خمسة أنواع:
1- السند المستحق الوفاء بعلاوة إصدار، وهو السند الذي تصدره الشركة بمبلغ معين يسمى (سعر الإصدار) ، ولكنها تتعهد برد المبلغ في ميعاد الوفاء بسعر أعلى، مضافًا إليه علاوة تسمى (علاوة إصدار) ، فمثلًا تصدر الشركة سهم الإصدار بمبلغ (50) دينارًا، ولكنها توقعه بمبلغ (60) دينارًا أي بعلاوة إصدار قدرها عشرة دنانير.
2- سند النصيب، وهو السند الذي يصدر بقيمة إسمية وحقيقية، أي تستوفي الشركة القيمة المعنية في السند، وتحدد لصاحبه فائدة ثابتة بتاريخ استحقاق معين، ولكنها تجري القرعة في كل عام لإخراج عدد من السندات، وتدفع لأصحابها مع قيمتها مكافأة جزيلة، وتجري قرعة لتعيين السندات التي تستهلك بدون فائدة، وهذا السند نوع من أنواع اليانصيب.
وقد منعت القوانين إصدار هذا النوع إلا بقانون خاص، أو بإذن من الحكومة.
3- سند النصيب بدون فائدة، وهو السند الذي يسترد حامله رأس ماله في حالة خسارة، بخلاف سند النصيب ذي الفائدة (النوع الثاني) ، فإنه لا يسترد حامله شيئًا في حالة الخسارة.
4- السند ذو الاستحقاق الثابت الصادر بسعر الإصدار، وهو السند العادي، إلا أن مدته تكون عادة قصيرة، ويعطي فائدة مرتفعة.
5- السند المضمون، وهو السند الذي تقدم الشركة ضمانًا عينيًّا للوفاء به، بأن ترهن عقاراتها في مقابل السندات المضمونة، أو ترهن عقارًا أو مالًا عينيًّا لكل سند، وتلجأ الشركة إلى إصدار مثل هذه السندات إذا كانت بحاجة إلى اجتذاب رجال المال لإقراضها بالنقد، لكي تتلافى سوء أحوالها المادية، ويعرف هذا النوع في إنجلترا باسم (السندات العادية) (3) .
__________
(1) الشركات: 2/106، عمل شركات الاستثمار: ص101.
(2) الشركات: 2/106، شركة المساهمة: ص 388.
(3) الشركات: 2/104، شركة المساهمة: ص391، عمل شركات الاستثمار: ص102.(6/964)
هذه هي أنواع السندات من حيث حقوق أصحابها، ولكنها قد تتنوع من ناحية الشكل إلى:
1- سند لحامله، لا يذكر عليه اسم الدائن، ويتعهد محرره دفع مبلغ معين من النقود في تاريخ معين، أو بمجرد الاطلاع، لمن يحمل هذا السند.
2- السند الاسمي، يذكر فيه اسم الدائن، ويكون شأنه شأن الأسهم الاسمية (1) .
(ب) الأسهم:
* التعريف اللغوي: الأسهم جمع سهم، والسهم في اللغة: النصيب، وجمعه سهمان وسهمة وأسهم وسهام.
والقدح يضرب فيه بالميسر، قال ابن الأثير: وهو الأصل فيه. وجمعه سهام.
وواحد النبل، وجمعه أسهم وسهام، ومقياس تمسح به الأرض، وحجر يجعل على باب البيت يبني ليصطاد فيه الأسد، وجائز البيت أي جسره (2) .
* التعريف الاصطلاحي: السهم هو النصيب الذي يشترك به المساهم في رأس مال الشركة، ويتمثل السهم في صك يعطي للمساهم، يكون وسيلة في إثبات حقوقه في الشركة.
وهناك تعريفات أخرى مقاربة (3) .
* خصائص الأسهم:
للأسهم خصائص تتميز بها نجمها فيما يلي:
1- تتساوى قيمة الأسهم حسبما يحددها القانون، والحكمة من تساويها تسهيل تقدير الأغلبية في الجمعية العمومية، وتسهيل عملية توزيع الأرباح على المساهمين، وتنظيم سعر الأسهم في البورصة.
2- تساوي قيمة الأسهم يقتضي تساوي الحقوق بين المساهمين، إلا أن بعض القوانين تجيز إصدار أسهم ممتازة بقرار من الهيئة العامة غير العادية، تمنح أصحابها حق الأولوية في الأرباح، أو في أموال الشركة عند تصفيتها، أو كليهما، أو أية ميزة أخرى.
3- تكون مسئولية الشركاء بحسب قيمة الأسهم، فلا يسأل عن ديون الشركة إلا بمقدار أسهمه التي يملكها.
4- عدم قابلية السهم للتجزئة، فإذا مات الشريك أصبحت ملكية السهم مشاعة بينهم، ويختار الورثة ممثلًا عنهم في الجمعية العمومية للمساهمين، لكي يباشر الحقوق المتصلة بالأسهم.
5- قابلية الأسهم للتداول. وهي أهم خصيصة للسهم، فإذا نص على خلاف ذلك فقدت الشركة صفة المساهمة (4)
__________
(1) الشركات: 2/106، عمل شركات الاستثمار: ص102، الموسوعة العربية: 1/1022.
(2) المصباح: ص293، متن اللغة: 3/236، المعجم الوسيط: 1/461.
(3) انظر: شركة المساهمة: ص232، الشركات: 2/94، عمل شركات الاستثمار: ص98، القاموس الاقتصادي: ص261.
(4) الشركات: 2/94، شركة المساهمة: ص334.(6/965)
* حقوق السهم أو المساهم:
يعطي تملك السهم للمساهم حقوقًا أساسية للمساهم بصفته شريكًا فلا يجوز حرمانه منها، أو المساس بها. وتتلخص فيما يلي:
1- حق البقاء في الشركة، فلا يجوز فصل أي مساهم من الشركة، لأن المساهم متملك في الشركة، ولا يجوز نزع ملكيته إلا برضاه، وذلك فيما عدا حالة التأميم، التي تنتزع فيها الملكية الخاصة وتتحول إلى ملكية عامة.
2- حق التصويت في الجمعية العمومية، وهو سبيل المساهم إلى الاشتراك في إدارة الشركة، وهو حق يجوز له التنازل عنه لغيره، ولكل سهم صوت، إلا إذا كان للسهم امتياز بأن يكون متعدد الأصوات.
3- حق الرقابة على أعمال الشركة، وهو لكل مساهم، وذلك بمراجعة ميزانية الشركة وحساب الأرباح والخسائر وتقارير مجلس الإدارة، وكل ما يتعلق بأمور الشركة قبل انعقاد الجمعية العمومية، ويكون ذلك بإذن من الجمعية أو بقرار من المحكمة، حتى لا تفشوا أسرار الشركة، وله أن يستجوب الأعضاء في الجمعية العمومية عن ما يريده من شئون الشركة.
4- حق رفع دعوى المسئولية على المديرين بسبب أخطائهم في الإدارة.
5- الحق في نصيب من الأرباح والاحتياطات، وذلك لأن المساهم يقدم حصته في رأس المال من أجل الربح، فلا يصح حرمانه من هذا الحق عند توزيع الأرباح المحققة، وكذلك له الحق في الاحتياطي المتكون من الاقتطاعات من الأرباح.
6- الأولوية في الاكتتاب، وذلك إذا قرَّرت الشركة بزيادة في رأس المال، فإن الأولوية في الاكتتاب تكون للمساهمين القدامى، لأنهم أولى بالأموال الاحتياطية وموجودات الشركة، فيعطي لهم الحق في المساهمة في زيادة رأس المال خلال مدة معينة ثم يباح للمساهمين الجدد بعد ذلك.
7- حق التنازل عن السهم، فللمساهم أن يتصرف في أسهمه بالبيع أو الهبة أو غيرهما، ويعد باطلًا كل شرط يحرم المساهم من هذا الحق.
8- حق اقتسام موجودات الشركة عند حلها، وذلك لأنه عضو في الشركة قد قدم حصته في رأس المال، فإذا صفيت الشركة كان حقه متعلقًا في موجوداتها لأنه نماء رأس المال (1) .
__________
(1) الشركات: 2/100، عمل شركات الاستثمار: ص98(6/966)
* ويظهر مما مضى الفرق بين السند والسهم في النقاط التالية:
1- ليس لحامل السند أن يتدخل في شئون الهيئة العامة للمساهمين، بينما ذلك من حق صاحب السهم، وليس لصاحب السند حق التصويت والرقابة على الإدارة، خلافًا لصاحب السهم.
2- حق حامل السهم في الربح، والربح متغير، بينما حق صاحب السند في فائدة ثابتة لا تتغير.
3- تستوفي قيمة السند في الوقت المحدد للوفاء، أما السهم فلا تستوفي قيمته إلا عند التصفية، أو استهلاك السهم، أو التأميم.
4- تنقطع صلة حامل السند بالشركة عند استيفاء قيمة السند، أما حامل السهم فتبقى صلته بالشركة قائمة إذا استهلك سهمه، ويبقى له حق المساهمة في الربح والاشتراك في الجمعية العامة.
* أنواع الأسهم (1) : تنقسم الأسهم إلى أنواع مختلفة بحسب طبيعة كل نوع:
(أ) من حيث الحصة التي يدفعها الشريك تنقسم إلى:
1- نقدية، وهي التي تدفع نقدًا.
2- عينية، وهي التي تدفع أموالًا من غير النقد.
(ب) من حيث الشكل تنقسم إلى:
1- أسهم اسمية: وهي التي تحمل اسم المساهم وتثبت ملكيته له.
2- أسهم لحاملها: وهي التي لا تحمل اسم حاملها، ويعتبر حامل السهم هو المالك في نظر الشركة، وقد قضت القوانين التجارية العربية أن تكون جميع الأسهم اسمية، ولا يجوز أن تكون أسهمًا لحاملها.
__________
(1) الشركات: 2/96، شركة المساهمة: ص353، عمل شركات الاستثمار: ص99، الموسوعة العربية: 1/1026.(6/967)
3- أسهم للأمر: وهي عبارة عن أسهم تتضمن (للأمر) ، فيكون السهم حينئذٍ قابلا للتظهير كسائر السندات التي تحمل شرط الأمر.
(ج) من حيث الحقوق التي تعطيها لصاحبها تنقسم إلى قسمين:
1- اسهم عادية: وهي التي تساوي في قيمتها، وتخول المساهمين حقوقًا متساوية.
2- أسهم ممتازة: وهي الأسهم التي تختص بمزايا لا تتمتع بها الأسهم العادية، وذلك أن الشركة قد ترغب في زيادة رأس مالها، فتعطى الأسهم الجديدة امتيازات لا تتمتع بها الأسهم القديمة، لتشويق الجمهور للاكتتاب بها.
ومن هذه المزايا: حق الأولوية في الحصول على الأرباح، كأن تختص الأسهم الممتازة بحصة في الأرباح لا تقل عن 5 % من قيمتها، وتوزع باقي الأرباح على الأسهم جميعًا بالتساوي، أو استيفاء فائدة سنوية ثابتة سواء ربحت الشركة أم خسرت، ومنها حق استعادة قيمة الأسهم بكاملها عند تصفية الشركة قبل إجراء القسمة بين سائر المساهمين، ومنها أن يكون للسهم الممتاز أكثر من صوت واحد في الجمعية العمومية.
(د) وتنقسم الأسهم من حيث إرجاعها إلى صاحبها أو عدم إرجاعها إلى قسمين:
1- أسهم رأس المال، وهي الأسهم التي لم تستهلك قيمتها.
2- أسهم تمتع، وهي الأسهم التي استهلكت قيمتها، بأن ردت قيمة السهم إلى المساهم قبل انقضاء الشركة، وهو معنى الاستهلاك، ويكون الاستهلاك بطرق متعددة.
(ج) حصص التأسيس:
صكوك تعطي حاملها حقوقًا في أرباح الشركة دون أن تمثل حصة في رأس المال، وتمنع حصص التأسيس مكافأة على خدمات أداها المؤسسون للشركة، ومن هنا جاءت تسميتها، وقد تمنح لغير المؤسسين وتسمى عندئذ حصص الأرباح، وأعطت بعض التشريعات الحرية في إنشاء هذه الحصص لمكافأة المجهودات التي بذلت في تأسيس الشركة أو الخدمات التي قدمت لهذا الغرض، وليست الحصص التأسيس قيمة اسمية، وإنما يحدد نصيبها في الأرباح، ولذلك لا تدخل في حساب رأس المال، ولا يكون لأصحابها نصيب في فائض التصفية عند حل الشركة، وهي لا تخول صاحبها التدخل بأي وجه في إدارة الشركة، وتكون هذه الصكوك اسمية عند نشأتها لمدة سنتين من تأسيس الشركة، وقد يتغير شكلها بعد ذلك، فتصبح لحاملها، وهي قابلة للتداول بالطرق التجارية بعد سنتين على الأقل (1) .
*
**
__________
(1) الموسوعة العربية: 1/724، عمل شركات الاستثمار: ص 104، الشركات: ص 106، شركة المساهمة: ص372.(6/968)
-3-
الأحكام الشرعية لهذه الأوراق
(أ) السندات:
1- التكييف الفقهي للسندات:
من تعريف السند عند الاقتصاديين يتبين أنه إثبات خطي بدين ثابت لشخص في ذمة شخص آخر.
وهذه المسألة لا حرج فيها شرعًا، بل هي مطلوب بنص القرآن الكريم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الآية [سورة البقرة: الآية 282] .
قال القرطبي – رحمه الله تعالى - (1) .:
ذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها، فرض بهذه الآية، بيعًا كان أو قرضًا، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود، وهو اختيار الطبري، وقال ابن جريج: من ادّان فليكتب، ومن باع فليشهد، وقال الشعبي: كانوا يرون أن (قوله فإن أمن) ناسخ لأمره بالكتب، وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروي عن أبي سعيد الخدري. وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ، ثم خففه الله تعالى بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} .
وقال الجمهور: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيًّا فما يضره الكتاب، وإن كان غير ذلك فالكتاب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق. قال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة. قال ابن عطية: وهذا هو القول الصحيح. ولا يترتب نسخ في هذا، لأن الله تعالى ندب إلى الكتاب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس.
ولكن المحذور الشرعي يأتي من الفائدة التي يعطاها أصحاب السندات، فهي زيادة في قيمة القرض مقابل الأجل، وهي عين ربا النسيئة، وربا النسيئة محرم بالكتاب والسنَّة والإجماع (2) .
ولا فرق بين أن تكون هذه الزيادة قليلة أو كثيرة، قال ابن قدامة – رحمه الله -: وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام – بغير خلاف -.
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية، فأسلف على ذلك، إن أخذ الزيادة على ذلك ربا. وقد روي عن أُبَيّ بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة.
ولأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه، ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة (3) .
__________
(1) الجامع: 3/383.
(2) انظر: المغني: 4/123.
(3) المغني: 4/360، وانظر: الربا المحرم لإبراهيم بدوي: ص206.(6/969)
2- حكم التعامل بالسندات:
وأيًّا كان نوع السندات فهي محرمة ما دامت تصدر بفائدة ثابتة معينة، لذا لا يجوز إصدارها ولا تداولها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء)) (1) .
وعلى هذا جرت البنوك الإسلامية، فهي لا تتعامل في السندات (2) .
هذا هو الحكم الإجمالي في المسألة، وتحتاج المسألة إلى شيء من التفصيل بالنسبة لمن تورط في شيء من المعاملة في هذه السندات، وأراد التوبة والتخلص منها.
قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة: الآية 279] .
ففي هذه الحالة ليس لصاحب السند الحق إلا في رأسماله، أما الفائدة فلا تحق له.
ويستطيع صاحب السند التخلص من سنده، بإحدى هذه الطرق:
(أ) إما أن ينتظر انقضاء مدة السند، دون أن يسعى إلى تجديده إذا طلبت الجهة المقترضة ذلك.
(ب) الصلح مع المقترض (3) .
(ج) وإذا قلنا إن العقد صحيح والشرط فاسد – كما هو مذهب بعض الفقهاء (4) فله أن يحيل بعض دائنيه على المقترض بالسعر الاسمي للسند (5) . - والله أعلم -.
3- زكاة السندات:
تزكى السندات زكاة الدين المرجو الأداء، بأن كان على موسر مقر بالدين وفي المسألة تفصيل ينظر في مظانه (6) .
(ب) الأسهم:
1- التكييف الفقهي للأسهم:
الأسهم عبارة عن حصة الشريك في رأس مال شركة المساهمة، وشركة المساهمة عبارة عن شركة عنان – باتفاق جمهور الفقهاء المعاصرين (7) .
2- التعامل بالأسهم:
وإصدار الأسهم وتداولها بالجملة جائز، بشرط خلوها مما يستوجب الحرمة (8) .
قال الدكتور محمد يوسف موسى:
والغالب أن الشركات تقسم رأس مالها إلى أسهم، يكتتب فيها من يريد وتكون أسهمه عرضة للخسارة أو الربح تبعًا لنشاط الشركة، ولا ريب في جواز المساهمة في الشركات بملكية عدد من أسهمها، لتوافر الشروط الشرعية فيها، إذ إن لها حقها من الربح، وعليها نصيبها من الخسارة، فالربح يستحق تارة بالعمل، وتارة بالمال، ولا شيء من الربا وشبهته في هذه العملية (9) .
__________
(1) رواه مسلم رقم (1598) ، طبعه فؤاد عبد الباقي، وانظر: جامع الأصول: 1/542.
(2) انظر: الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية: 2/241.
(3) انظر: معجم الفقه الحنبلي: 2/613.
(4) شرح منتهى الإرادات: 2/227
(5) انظر: الحوالة – طبعة تمهيدية للموسوعة.
(6) فقه الزكاة: 1/136، 526.
(7) انظر: الشركات 2/260، شركة المساهمة: ص 339، الفقه الإسلامي، د. الزحيلي: 4/881.
(8) المراجع السابقة، فقه الزكاة: 1/522.
(9) الإسلام ومشكلاتنا الحاضرة: ص 58.(6/970)
ويمكن أن نستشهد لصحة تداول الأسهم بيعًا وشراء بقول النووي – رحمه الله تعالى – في المجموع (1) :
المال إما دين وإما عين، والعين ضربان: أمانة ومضمون.
أما الأمانة فيجوز للمالك بيع جميع الأمانات قبل قبضها، لأن الملك فيها تام، وهي كالوديعة في يد المودع ومال الشركة والقراض في يد الشريك والعامل (2) .
وهذا الكلام مجمل، يحتاج إلى شيء من التفصيل.
ونبدأ هذا التفصيل بالكلام على أنواع الأسهم:
(أ) تقدم أن الأسهم تنقسم من حيث الحصة التي يدفعها الشريك إلى:
1- نقدية، وهي التي تدفع نقدًا.
2- عينية، وهي التي تدفع أموالًا من غير نقد.
وقد أجمع الفقهاء على جواز الشركة بالأثمان المطلقة، التي لا تتعين بالتعيين في المعاوضات كالنقدين (3) .
وتعتبر الفلوس الرائجة، والأوراق النقدية في حكم النقدين (4) .
وعلى هذا فلا خلاف في إصدار السهم النقدي والتعامل به.
واختلف العلماء في جواز الشركة بالعروض إذا قومت، فذهب المالكية إلى صحتها في العروض المقومة، وأما الشافعية فذهبوا إلى صحتها في المثليات من العروض (5) .
وعلى هذا يمكننا أن نحكم بصحة إصدار السهم العيني والتعامل به، اختيارًا لمذهب من قال به، وتيسيرًا على المسلمين في معاملاتهم، لا سيما أن المانعين لم يستدلوا على المنع بدليل نقلي – والله أعلم (6) .
(ب) وتنقسم الأسهم من حيث الشكل إلى:
1- أسهم اسمية، وهي التي تحمل اسم صاحبها.
2- أسهم لحاملها، وهي التي لا يذكر فيها اسم مالكها، ولكن يذكر أنها للحامل، فيكون أي شخص يحمل هذا الصك هو المساهم في الشركة.
3- أسهم للأمر، وهي التي يكتب عليها (للأمر) ، وتتداول بطريق التظهير (7) .
أما الأسهم الاسمية، فلا خلاف في جوازها، لأنها صكوك تحمل اسم صاحب الأسهم وتثبت ملكيته لها وهذا هو الأصل في الشركة – شرعًا (8) .
ولا خلاف في عدم جواز إصدار الأسهم لحاملها، لجهالة الشريك، وذلك يفضي إلى النزاع والخصومة كما يؤدي إلى إضاعة الحقوق. فإذا استولى عليها مغتصب أو ضاعت والتقطها إنسان آخر، فإن حاملها سيصير شريكًا في الشركة من غير وجه حق (9) .
__________
(1) المجموع: 9/265.
(2) وانظر: قواعد ابن رجب: ص 74.
(3) المغني: 5/124، معجم الفقه الحنبلي: 1/479، نهاية المحتاج: 5/6، جواهر الإكليل: 2/115، ابن عابدين: 3/340.
(4) ابن عابدين: 3/340، درر الحكام: 3/3872.
(5) الدسوقي: 3/348، جواهر الإكليل: 2/116، مغني المحتاج: 2/213.
(6) انظر: المغني: 5/124، ابن عابدين: 3/340.
(7) التظهير: بيان يدون على ظهر الصكوك الإذنية، إما بقصد نقل ملكية الحق الثابت في الصك من المظهر إلى المظهر إليه، أو بقصد توكيل المظهر إليه في تحصيل قيمة الصك، أو بقصد رهن الحق الثابت في الصك للمظهر إليه، انظر: الموسوعة العربية: 1/530.
(8) انظر: الشركات: 2/220، شركة المساهمة: ص354، عمل شركات الاستثمار: ص161.
(9) المراجع السابقة.(6/971)
وبالنسبة للأسهم للأمر، فقد قال الدكتور عبد العزيز الخياط:
ويفترق هذا النوع عن سابقة في أن الشريك يكون معروفًا في مبتدأ الاشتراك إذ أن الشريك الأول صاحب السهم يكون مقيدًا لدى الشركة، وهو لا يحيل السهم إلا إلى شخص آخر معروف لديه، فإذا لم يكتب التظهير باسم الشريك الثاني يبقى على ملكية الأول، ولا يعتبر الثاني مالكًا له ولو حمله، فيكون صاحب الأسهم معروفًا على كل حال، وهو نقل ملكية السهم إلى الشريك الثاني، أي يصبح الشريك الثاني مالكًا حقيقة للسهم بدلًا من الأول، ويكون الأول متخليًا عن حقه قبل الشركة بنقله ملكية السهم إلى الثاني.
وهو نوع من انتقال الحصة إلى شريك آخر، وهو جائز شرعًا سواء أكان بعوض كالبيع أم بغير عوض كالهبة ولا شيء فيه، لأن الجهالة منتفية بمعرفة الشريك، ولا يفضي إلى منازعة أو ضرر، ولأن باقي الشركاء قد ارتضوا شركة الثاني بموافقتهم على نظام الشرك الذي يبيح ذلك، والمؤمنون عند شروطهم، ولا يمنع قلة تداول هذا النوع من الأسهم شرعية جوازه، إذ إنه في حقيقته نقل لملكية الأسهم وتنازل من الشريك الأول عما يمثله هذا السهم في أموال الشركة للشريك الثاني (1) .
(ج) وتنقسم الأسهم من حيث الحقوق إلى:
1- أسهم عادية، وهي التي تتساوى في قيمتها، وتخول أصحابها حقوقًا متساوية.
2- أسهم ممتازة، وهي الأسهم التي تختص بمزايا لا تتمتع بها الأسهم العادية، قد بيناها فيما سبق.
أما الأسهم العادية فليس في إباحتها أي تردد، لأن الأسهم إنما تمثل حصة الشريك في الشركة، وهذه الحصة هي التي تعطي صاحبها الحق في الربح وغيره، وما دامت الأسهم متساوية في قيمتها الاسمية، فليس لأي سهم الحق في زيادة الربح (2) .
وإصدار الأسهم الممتازة بجميع أنواعها لا يجوز، لأن فيها مخالفات لأصل الشركة في الشرع.
فأما إعطاء أصحاب الأسهم الممتازة حق الأولوية في الحصول على الأرباح، وذلك بأن يأخذوا 5 % مثلًا، ثم توزع الأرباح بعد ذلك على المساهمين، فغير جائز، ومخالف لأصل الشركة – عند تساوي قيمة الأسهم الأسهم – كما بينا في الكلام على الأسهم العادية.
__________
(1) الشركات: 2/221.
(2) انظر: الشركة – طبعة تمهيدية للموسوعة: ص 74، والمراجع المذكورة فيها.(6/972)
وأما أن يكون الامتياز بتقدير فائدة سنوية ثابتة لبعض الأسهم، فباطل شرعًا، لأن هذه الفائدة ربا – كما بينا في الكلام على السندات-.
وجاء في فتح القدير: ولا تجوز الشركة إذا شرط لأحد دراهم مسماة من الربح، قال ابن المنذر: لا خلاف في هذا لأحد من أهل العلم (1) .
وكذلك منح بعض أصحاب الأسهم الممتازة حق استرجاع قيمة أسهمهم بكاملها عند تصفية الشركة وقبل إجراء القسمة بين الشركاء، غير جائز شرعًا، لأن الشركة تقوم على المخاطرة، إما ربح وإما خسارة (2) .
ومنح بعض الأسهم الممتازة أكثر من صوت في الجمعية العمومية، غير جائز – أيضًا-، لأن المفروض تساوي الشركاء في الحقوق، ومنها التساوي في الأصوات بعدد الأسهم.
وبصفة عامة، فطالما أن رأس مال الشركة يتجزأ إلى أسهم متساوية القيمة، فيجب أن تكون متساوية فيما لها من حقوق وما عليها من واجبات.
(د) وتنقسم الأسهم من حيث إرجاعها إلى أصحابها أو عدم إرجاعها إلى:
1- أسهم رأس المال، وهي التي لم تستهلك قيمتها.
2- أسهم تمتع، وهي تستهلك قيمتها، بأن ترد إلى المساهم – قبل انقضاء الشركة.
أما الأسهم الأولى فجائزة، ولا شيء فيها.
أما أسهم التمتع، فالاستهلاك فيها استهلاك صوري لا حقيقي، وذلك لأن الذي يأخذه المساهمون في مقابل أسهمهم، أو في مقابل أجزاء منها هو حقهم في الربح وليس شيئًا آخر، فهم يأخذون حقوقهم، وما يسمى بالاستهلاك لا وجود له في الحقيقة، لأن السهم يظل باقيًا على ملك صاحبه، وليس هناك طريق شرعية لاعتباره مبيعًا أو مسقطًا، فيبقى لأصحابه إلى أن تصفى الشركة، فيئول إليه من موجودات الشركة عند التصفية سواء قلت أم كثرت أم انعدمت، أو يهبه للدولة إن شرط في الشركة أنها تئول إلى ملك الدولة، وهو ما يعرف بشركات الامتياز، فالحكم على الأسهم بالاستهلاك هو حكم قانوني لا شرعي، وكل ما يأخذه الشركاء من الربح فهو حقهم سواء أخذوه في صورة ربح أم في صورة ثمن للأجزاء المستهلكة من الأسهم (3) .
__________
(1) فتح القدير: 6/183.
(2) المغني: 5/147، الباجوري ابن القاسم: 1/385.
(3) شركات المساهمة: ص367.(6/973)
3- قيمة الأسهم:
من المعروف أن للسهم أربع قيم هي:
(أ) القيمة الاسمية:
وهي القيمة التي تكون مبنية في السهم، وذلك عندما يصدر السهم، فإنه يكون بالقيمة الاسمية، أي القيمة التي دفعت لامتلاكه ابتداء، وهذا ما يفرضه الشرع، إذا إن الصك الذي يثبت حصة الشريك في رأس مال الشركة، يجب أن يكون مطابقًا للمبلغ الذي ساهم به الشريك حقيقة، خاصة وأنه يترتب على مقدار قيمته الحصة في الأرباح (1) .
(ب) القيمة الحقيقة:
وهي النصيب الذي يستحقه السهم من صافي أموال الشركة من منقولها وعقارها. فهذه القيمة الحقيقية تختلف بعد ابتداء العمل في الشركة عن القيمة الاسمية فقد تصبح القيمة الحقيقية أكبر أو أصغر من القيمة الاسمية، حسب ما تصادفه الشركة من نجاح أو فشل في أعمالها.
واعتبار القيمة الحقيقية أمر جائز شرعًا، لأنه إن صادفت الشركة نجاحًا وتوسعت ونمت أموالها وموجوداتها بالطرق المشروعة، يكون امتلاك مجموع المساهمين لهذه الزيادة من حقهم، وهو مقصودهم من الشركة، وإن صادفت الشركة خسارة في أعمالها، فإن قواعد الشرع تقضي بأن يتحمل المساهمون الخسارة كما يأخذون الربح، ولذا فتقل قيمة هذه الأسهم بحسب حجم الخسارة (2) .
(ج) القيمة السوقية:
وهي قيمة الأسهم عند عرضها للبيع، والقيمة السوقية تختلف عن القيمة الاسمية، وذلك بحسب نجاح الشركة في أعمالها، وضخامة موجوداتها، وبحسب رأس مالها الاحتياطي وبحسب الظروف والأزمات المالية والسياسية، وبحسب الرغبة والإقبال على شرائها، أو عدم الرغبة والإحجام عنها (3) .
وهذا أمر جائز شرعًا، فللإنسان أن يبيع سلعته بأي سعر يشاء دون أي قيد عليه، إلا إذا كانت السلعة من الربويات (4) .
(د) القيمة الإصدارية:
تلجأ الشركات في كثير من الأحيان إلى إصدار أسهم تباع بأقل من قيمتها الاسمية، وذلك كأن تكون قيمة السهم الاسمية 4 دنانير، فتصدره الشركة بقيمة 3 دنانير، وذلك بقصد زيارة رأس المال (5) .
وهذا أمر جائز شرعًا، لأن في الغالب أن كون قيمة السهم الإصدارية قريبة من القيمة السوقية للسهم – والله أعلم -.
__________
(1) عمل شركات الاستثمار: ص157، الشركات: ص212، شركة المساهمة: ص356.
(2) المراجع السابقة.
(3) المراجع السابقة.
(4) انظر: الموسوعة: 9/29، والمراجع المذكورة هناك.
(5) الشركات: ص213، عمل شركات الاستثمار: ص158.(6/974)
4- بيع الأسهم قبل الوفاء بكامل ثمنها:
وهذا الأمر جائز شرعًا، لأن المشتري بمجرد العقد، وانقطاع الخيارات صار مالكًا للسلعة، فجاز له التصرف فيها بما شاء – والله أعلم (1) -.
5- زكاة الأسهم:
- إذا قامت الشركة بتزكية أموالها فلا يجب على المساهم إخراج زكاة أخرى عن أسهمه، منعًا للازدواج.
- أما إذا لم تقم الشركة بإخراج الزكاة، فإنه يجب على مالك الأسهم تزكيتها على النحو التالي:
* إذا اتخذ أسهم للمتاجرة بها بيعًا وشراء فالزكاة الواجبة فيها هي ربع العشر (2.5 %) من القيمة السوقية يوم وجوب الزكاة، كسائر عروض التجارة.
* أما إذا اتخذ أسهمه للاستفادة من ريعها السنوي فزكاتها كما يلي:
(أ) إذا أمكنه أن – يعرف عن طريق الشركة أو غيرها – مقدار ما يخص كل سهم من الموجودات الزكوية للشركة فإنه يخرج زكاة ذلك المقدار بنسبة ربع العشر (2.5 %) .
(ب) وإن لم يعرف فعليه أن يضم ريعه إلى سائر أمواله من حيث الحول والنصاب ويخرج منها ربع العشر (2.5 %) ، وتبرأ ذمته بذلك (2) .
(ج) حصص التأسيس:
أما حصص التأسيس فيمكننا أن نعتبرها تبرعًا – هبة – التزم به أصحاب الشركة لأناس معينين، كنسبة مقتطعة من الربح سنويًّا.
وإن كان هذا المبلغ مجهولًا في وقت الوهب، فإنه آيل للعلم وقت القبض.
قال الإمام مالك: تصبح هبة المجهول، لأنه تبرع فصح في المجهول، كالنذر والوصية (3) .
ومع قولنا بجواز إصدار حصص التأسيس، فإنه لا يجوز التعامل بها بيعًا وشراء قبل قبض المبلغ المخصص لها من الربح، لعدم ملك حاملها لمحتواها إلا بالقبض، فينطبق عليها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبع ما ليس عندك)) (4) .
قال البهوتي: ولا يصح بيع العطاء قبل قبضه، لأن العطاء مغيب، فيكون من بيع الغرر، ولا يصح بيع رقعة به – أي بالعطاء، لأن المقصود بيع العطاء (5) .
وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء (6) .
وكذلك لا تجب الزكاة في حصص التأسيس، لعدم كمال الملك فيها – والله أعلم-.
*
**
__________
(1) انظر: الموسوعة: 9/36.
(2) المحضر: 8/88 للهيئة الشرعية لبيت الزكاة.
(3) المغني: 6/256، جواهر الإكليل: 2/212.
(4) رواه الترمذي وحسنه: تحفة الأحوذي: 4/430.
(5) كشاف القناع: 3/167.
(6) انظر: الموسوعة: 9/135.(6/975)
-4-
أنواع عمليات أسواق الأوراق المالية
تنقسم عمليات أسواق الأوراق المالية إلى عمليات عاجلة وعمليات آجلة
(أ) العمليات العاجلة:
وهي العمليات التي يلتزم كل من المشتري والبائع بتنفيذ عقودها، وذلك بأن يسلم البائع الأوراق المالية، ويسلم المشتري ثمنها حالًّا، أو خلال مدة وجيزة جدًّا – خلال 48 ساعة على الأكثر -.
وتجري العمليات في السوق العاجلة، على أية كمية من الأوراق المالية ولو ورقة واحدة، ويعمد المتعاملون في سوق الأوراق المالية إلى التعامل العاجل لواحد من السببين التاليين أو لكليهما:
1- للاحتفاظ بها، والاستفادة مما تدره عليهم من أرباح عند توزيع الأرباح، وغيرها من الحقوق المتعلقة بالأوراق المالية المشتراه.
2- للمضاربة (1) على ارتفاع أسعارها، فيعمدون إلى بيعها لدى تحسن أسعارها في السوق، مع ملاحظة أن أسعار الأوراق المالية في السوق العاجلة، أقل ارتفاعًا من أسعارها في السوق الآجلة (2) .
(ب) العمليات الآجلة:
وهي العمليات التي يلتزم بموجبها كل من المشتري والبائع على تصفيتها في تاريخ مقبل معين، يجري فيه التسليم والتسلم، ما عدا حالات التأجيل التي يتفق فيها الطرفان على شروط تأجيلها وتعويضها.
وتجري التصفية في كل شهر مرة واحدة، حيث تسوى الصفقات نهائيًّا بين المتعاملين، ويتم دفع الثمن وتسلم الأوراق المالية – فعليًّا – خلال عدة أيام من تاريخ التصفية.
ويشترط في الأوراق التي تشملها عمليات السوق الآجلة، أن تكون موجودة بكثرة، وأن يكون تداولها مألوفًا بصورة دائمة (3) .
وتجري التصفية في كل شهر مرة واحدة، حيث تسوى الصفقات نهائيًا بين المتعاملين، ويتم دفع الثمن وتسلم الأوراق المالية – فعليًا – خلال عدة أيام من تاريخ التصفية.
__________
(1) نعني بها المضاربة الاقتصادية، لا الشرعية التي هي القراض. والمضاربة في اصطلاح الاقتصاديين هي: عملية بيع وشراء صوريين، حيث تباع العقود، وتنقل من يد إلى يد، وغاية الطرفين – البائع والمشتري – الاستفادة من فروق الأسعار: انظر: دائرة المعارف: 2/394، الموسوعة العربية الميسرة: 2/1711، عمل شركات الاستثمار: ص252.
(2) عمل شركات الاستثمار: ص127، بورصة الأوراق المالية: ص12.
(3) عمل شركات الاستثمار: ص127، بورصة الأوراق المالية: ص12.(6/976)
وأهم العمليات التي يجري بها التعامل في السوق الآجلة العمليات التالية:
1- العمليات الباتَّة القطعية:
وهي العمليات التي يحدد تنفيذها بموعد ثابت يسمى موعد التصفية، يلتزم المتعاقدون فيه بدفع الثمن، وتسلم الأوراق المالية موضوع الصفقة، ولا يمكنهم الرجوع عن تنفيذ العملية، إلا أنه للمتعاملين في العمليات الباتَّة تأجيل موعد التسوية النهائية حتى موعد تسوية لاحقة.
ويؤدي تنفيذ البيع الباتّ، إلى خسارة أحد الطرفين المتعاملين – البائع أو المشتري- إلا إذا كان السعر يوم التصفية معادلًا لسعر البيع نفسه.
ويمكن أن يتضمن البيع الباتّ ما يسمى بشرط خيار التنازل عن الأجل، ويتمتع المشتري وحده بهذا الخيار، ويلجأ المشتري إلى استعمال هذا الخيار لإيقاف حركة هبوط السعر، فعندما يلاحظ اتجاه الأسعار نحو الهبوط، يطلب من البائع تسليمه الأوراق المالية موضوع الصفقة قبل الموعد المتفق عليه، فيشتري البائع هذه الأوراق من السوق بالسعر العاجل فيزيد من الطلب عليها، وبالتالي ترتفع أسعارها مرة أخرى، أو على الأقل تقف حركة الهبوط في سعر الورقة المال المعينة ولا يلزم مشتري الأوراق المالية هذه بالانتظار حتى موعد التصفية، حتى يمكنه التصرف في هذه الأوراق بالبيع، بل يمكنه تكليف وسيط ببيع هذه الأوراق، ويسجل رصيد العملية إذا اقترنت بربح في رصيد دائن (1) .
2- العمليات الآجلة بشرط التعويض:
وهي العمليات التي يلتزم كل من البائع والمشتري بتصفيتها في تاريخ معين على أنه يحق لأحد الطرفين عدم تنفيذ العملية، وذلك مقابل تخليه عن مبلغ من المال متفق عليه مسبقًا، كتعويض عن عدم تنفيذ العملية.
ويسمى اليوم الذي يسبق تاريخ التصفية بيوم جواب الشرط، فإما أن ينفذ (المشتري أو البائع) الصفقة فيرفع التعويض، أو يتنازل عن تنفيذ الصفقة، فيقال إنه تنازل عن التعويض (2) .
وتنقسم العمليات الآجلة بشرط التعويض إلى:
(أ) العمليات الشرطية للمشتري:
ويكون الخيار فيها للمشتري بين استلام الصكوك وبين التخلي عن التعويض. ويكون البائع ملزمًا بالقرار النهائي للمشتري.
ويجب أن تتضمن أوامر السوق المتعلقة بالعمليات الآجلة شرط التعويض عناصر ثلاثة مهمة وهي: السعر ومقدار التعويض وأجل التصفية
(ب) العمليات الشرطية للبائع:
في هذا النوع من العمليات، يحق للبائع في يوم جواب الشرط تنفيذ الصفقة أو التنازل عن تنفيذها، مقابل دفع تعويض متفق عليه مسبقًا (3) .
__________
(1) عمل شركات الاستثمار: ص129.
(2) عمل شركات الاستثمار: ص130
(3) المرجع السابق.(6/977)
3- البيع مع خيار الزيادة:
في هذا لنوع من العمليات يحق لواحد من المتعاملين الاستزاده من (البيع أو الشراء) عند حلول الأجل المتفق عليه، ويتخذ شكلين:
(أ) خيار الزيادة للمشتري.
(ب) خيار الزيادة للبائع.
إذا كان حق الزيادة للمشتري (البائع) فيمكنه طلب تسلم (تسليم) ضعف الأوراق المشتراه (المباعة) أو أكثر. ويعتبر الشراء (البيع) باتًّا في الكمية المتفق عليها مسبقًا، واختياريًّا بالنسبة للكميات الزائدة، وتكون أسعار الأوراق المالية في هذه الحال أعلى (أدنى) من أسعارها في السوق الباتَّة.
والمشتري (البائع) يوازن بين الأسعار الباتَّة، والأسعار الآجلة بشرط الزيادة، وأسعار السوق في موعد التصفية، محاولًا معرفة إمكانات الربح أو الخسارة (1) .
4- العمليات الآجلة بشرط الانتقاء:
للمتعاملين في سوق الأوراق المالية بموجب هذا الشرط الخيار في إبرام الصفقة في موعد التصفية بصفتهم من المشترين أو البائعين لقيمة معينة من الأوراق المالية المتفق عليها مسبقًا، ولهذه العمليات سعران، وللمتعامل الخيار في الشراء بالسعر الأعلى، أو البيع بالسعر الأدنى، فالمتعاملون بهذه العمليات يعتقدون أنه سيحدث تغير كبير في أسعار الأوراق المالية ارتفاعًا أو هبوطًا، بينما يعتقد بائعو الأوراق المالية أن الأسعار لن يطرأ عليها تغيُّر كبير، بل إن السوق ستبقى هادئة (2) .
5- المرابحة والوضعية:
تتطلب تسوية صفقات سوق الأوراق المالية الناجمة عن إبرام العملية الباتَّة، وجود أموال نقدية كبيرة في متناول يد المشتري، تخصص لإيفاء الدين المترتب على عقد الصفقة، كما يتطلب مجموعة الأوراق المالية، وعدم التصرف فيها انتظارًا لتنفيذ العقد، ولأن هذا فيه إرهاق كبير للمتعاملين – من وجهة نظر سوق الأوراق المالية – فقد تضمنت أنظمة التعامل بالسوق نوعًا من العمليات الآجلة، فيه بعض التسهيلات حسب ما تتطلبه عمليات المضاربة، وأهم هذه العمليات عمليات المرابحة والوضعية.
وبمقتضى هذه العمليات يجوز للمتعاملين في سوق الأوراق المالية، تأجيل موعد تسوية الصفقة حتى موعد التصفية اللاحق. ويحدث ذلك عندما يشعر المتعاملون في السوق بأنهم لن يستطيعوا تنفيذ الصفقة التي عقدوها، نظرًا لتطور الأسعار خلافًا لتقديراتهم (3) .
6- العمليات المركبة:
يلجأ المضاربون في سوق الأوراق المالية، إلى القيام بعمليات مركبة من العمليات التي سبق ذكرها، ولا حصر للعمليات المركبة نظريًّا، ولكن أكثر العمليات المركبة تعاملًا بها هي العمليات الأربع التالية:
1- شراء عاجل مقابل بيع بشرط التعويض (الخيار للمشتري) .
2- شراء باتّ مقابل بيع بشرط التعويض.
3- شراء بشرط التعويض مقابل بيع باتّ.
4- شراء بشرط التعويض مقابل بيع بشرط التعويض (4) .
*
**
__________
(1) المرجع السابق ص134.
(2) المرجع السابق ص135.
(3) المرجع السابق ص136.
(4) المرجع السابق: ص 139.(6/978)
-5-
الحكم الشرعي لهذه العمليات
(أ) العمليات العاجلة:
وهي من حيث الجملة عملية بيع شراء شرعيين، وينطبق عليها من حيث التفصيل الكلام المتقدم في بيع وشراء السندات والأسهم وحصص التأسيس.
(ب) العمليات الآجلة:
1- في الغالب تتم العمليات الآجلة على سلع وهمية- غير موجودة عند البائع - وتكون عمليتا البيع والشراء صوريتين، حيث تباع الأرواق المالية، وتنتقل من يد إلى يد على الورق فقط، دون أن يكون لها وجود فعلي (1) .
فإن كان الأمر كذلك، فهذه المعاملة لا تجوز، لأنها من أنواع بيوع الغرر (2) . - بيع معدوم-.
قال النووي: بيع المعدوم باطل بالإجماع، ونقل ابن المنذر وغيره إجماع المسلمين على بطلان بيع الثمرة سنتين ونحو ذلك (3) .
ودليلهم نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (4) .، ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الإنسان ما ليس عنده (5) .
2- كما أنه في الغالب أن يبيع المشتري لمشترٍ آخر أوراقه المالية قبل قبضها من البائع وهذا الأمر وإن يجزه جمهور الفقهاء، فقد أجازه المالكية في غير الطعام، ومنعوه في الطعام بشروط (6) .
3- فإن سلمت العمليات الآجلة من بيع المعدوم فإنها تحتاج إلى تفصيل فيما يلي:
(أ) العمليات الباتة القطعية:
وهي - كما بينا - تلك العمليات
التي يحدد موعد تنفيذها بموعد ثابت، يسمى موعد التصفية، يلتزم المتعاقدون فيه بدفع الثمن وتسلم الأوراق المالية، إلا أن للمتعاقدين تأجيل موعد التصفية النهائية حتى موعد تصفية لاحق.
والبيع في هذه الصورة صحيح – إن كان في أوراق مالية جائزة التعامل فيها كما بينا سابقًا -، ويملك المشتري المبيع، ويملك البائع الثمن، ويكون ملك المشتري للمبيع بمجرد عقد البيع الصحيح، ولا يتوقف على التقابض، وإن كان للتقابض أثره في الضمان.
جاء في الموسوعة الفقهية:
ولا يمنع من انتقال الملك في المبيع أو الثمن كونهما ديونًا ثابتة في الذمة، إذا لم يكونا من الأعيان، لأن الديون تملك في الذمم، ولو لم تتعين، فإن التعيين أمر زائد عن أصل الملك. فقد يحصل مقارنًا له، وقد يتأخر عنه إلى أن يتم التسليم، كما لو اشترى مقدارًا معلومًا من كمية معينة من الأرز، فإن حصته من تلك الكمية لا تتعين إلا بعد التسليم، وكذلك الثمن في الذمة (7) .
ويرى المالكية والحنابلة وغيرهم أنه يجوز أن يشترط تأجيل تسليم العين إلى المدة التي يحددها المتعاقدان (8) ، واستدلوا بحديث جابر – رضي الله عنه – ((أنه كان يسير على جمل قد أعيا، فضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسار سيرًا لم يسر مثله، فقال: بعنيه، فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي)) (9) .
__________
(1) عمل شركات الاستثمار: ص186، 252، دائرة معارف القرن العشرين: 2/ 396، 397
(2) الغرر لغة: الخطر ... واصطلاحا: ما انطوى عنه أره، وخفيت عليه عاقتبه. انظر: المصباح: ص 455، المغرب: 2 / 100، المجموع المذهب: 1/ 360، الكليات: 3/ 312
(3) المجموع: 9/ 258، وانظر: الشرح الكبير: 4/ 27، الموسوعة: 9/ 140، 145
(4) رواه مسلم رقم (1513) ، طبعة فؤاد عبد الباقي
(5) رواه الترمذي رقم (1232) ، طبعة أحمد شاكر، وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد: التلخيص: 3/ 5
(6) انظر: المغني: 4/ 220، الدسوقي: 3/ 151، الموسوعة: 9/ 123
(7) الموسوعة: 9/37.
(8) انظر: الدسوقي: 3/65، كشاف القناع: 3/190.
(9) وراه الشيخان: اللؤلؤ والمرجان رقم (1030) .(6/979)
أما الدين فلا خلاف في جواز تأجيله (1) .
وهذه الأوراق عبارة عن ديون (2) ، لأنها لا تتعين بالتعيين، ولكن تحدد بالجنس والنوع – كأسهم من الشركة الفلانية ... إلخ.
وفي حالة رغبة المتعاقدين في تأجيل موعد التصفية، يجب أن يكون ذلك مجانًا، فإن كان التأجيل في مقابلة زيادة من أحد الطرفين، فإنه لا يجوز، لأنه ربا، - والله أعلم- (3) .
(ب) العمليات الآجلة بشرط التعويض:
وهي – كما بينا – العمليات التي يلتزم فيها المتعاقدان بتصفيتها في تاريخ محدد، على أنه يحق لأحد الطرفين عدم تنفيذ العملية، وذلك مقابل تخليه عن مبلغ من المال متفق عليه مسبقًا.
وهذه العملية إن كان الخيار فيها للمشتري فهي أشبه ما تكون ببيع العربون (4) ، وجمهور الفقهاء يرون عدم صحته، للنهي الوارد فيه (5) ، ولأنه من أكل أموال الناس بالباطل، لأن المشتري شرط للبائع شيئًا بغير عوض، فلم يصح، كما لو اشترطه لأجنبي، وفيه غرر، لأنه بمنزل الخيار المجهول (6) .
وذهب الحنابلة إلى صحة هذا النوع من البيوع، لما روي عن نافع بن الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر، وإلا فله كذا وكذا.
قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه؟ قال: أي شيء أقول، هذا عمر – رضي الله عنه - (7) .
أما إذا كان الخيار للبائع، فإذا لم يرغب في البيع دفع مبلغًا من المال للمشتري، فهو أشبه ما يكون باشتراط عقد هبة في عقد البيع، لأن المشتري لا حق له في مبلغ المال إلا إذا كان على وجه الهبة.
__________
(1) انظر: الموسوعة: 2/21.
(2) الدين: هو مال حكمي يحدث في الذمة ببيع أو استهلاك أو غيرهما، انظر: البدائع: 5/174.
(3) انظر: الموسوعة: 2/39.
(4) بيع العربون: هو أن يشتري السلعة، ثم يقول: أعطيك دينارًا على أني إن تركت البيع فالدينار لك. انظر: نيل الأوطار: 5/173.
(5) الحديث رواه مالك وأحمد والنسائي وأبوداود بلفظ: (نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العربان) . واختلف في صحة الحديث. انظر: التلخيص: 3/17، نيل الأوطار: 5/173.
(6) الخرشي: 5/78، الجمل على المنهج: 3/72، نيل الأوطار: 5/173.
(7) الشرح الكبير: 4/58.(6/980)
واشتراط عقد في عقد آخر لا يصح، لما ورد من حديث ابن مسعود قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)) (1) .
(ج) البيع مع خيار الزيادة:
وهو بيع يحق لكل من البائع والمشتري الاستزادة من البيع أو الشراء عند حلول الأجل، على سبيل التخيير للطرف الآخر.
وهذه العملية مركبة من بيع، ووعد بالبيع (أو الشراء) عند إتمام الصفقة الأولى، مع علم الطرف الثاني بعد إلزام هذا الوعد، فتكون عملية البيع صحيحة، وتكون الصفقة الأخرى إذا تمت عقد بيع جديد لا علاقة له بالعقد الأول.
(د) العمليات الآجلة بشرط الانتقاء:
يعطي فيها الخيار للمتعاقدين بأن يختار كل منهما في موعد التصفية أن يكون إما بائعًا أو مشتريًا لكمية محدودة من الأوراق وبسعر محدد سابقًا.
وهذا لا يعتبر بيعًا، إنما هو نوع من المساومة، ثم إن تم في الموعد المحدد عقد البيع بين الطرفين على سعر معلوم وكمية معلومة، فتعتبر عملية البيع عملية شرعية – إذا كانت الأوراق المالية من النوع المباح التعامل بها (2) .
(هـ) المرابحة والوضعية (3) :
ويمكن توضيح الكلام النظري الذي سبق عن هذا النوع من المعاملة، بالمثال التالي:
متعامل في سوق الأوراق المالية اشترى في 3 أبريل 50 سهمًا من شركة (جنرال موتورز) بسعر 50 دولارًا للسهم الواحد، مضاربًا على ارتفاع الأسعار حتى موعد التصفية القادم، فعندما يحين موعد التصفية هناك احتمالان:
الأول: ارتفاع الأسعار حسب تقديرات المشتري، كأن يبلغ سعر الورقة المالية 60 دولارًا، هنا سوف يعمد المشتري إلى تنفيذ الصفقة ويكون ربحه من هذه العملية 50 × (60-50) = 500 دولار.
الثاني: انخفاض الأسعار خلافًا لتقديرات المشترين كأن يبلغ سعر الورقة المالية موضوع الصفقة 45 دولارًا، فإذا نفذ المشتري العملية ستكون هناك خسارة محققة تبلغ 50× (50-45) = 250 دولارًا. فسيقرر المشتري تأجيل موعد التصفية حتى موعد التصفية اللاحق، في انتظار تحسن سعر الورقة المالية المعنية لكي يتمكن المشتري من تأجيل وضيعته، فهو يبحث عن ممول يقبل بشراء الأسهم شراء باتًًّا في موعد التصفية، ويبيعها له ثانية بيعًا مؤجلا حتى موعد التصفية المقبل. وذلك لقاء فائدة يدفعها المشتري للممول تسمى فائدة التأجيل أو المراجعة، وتتم هذه العملية بناء على سعر للأوراق المالية تقدره لجنة السوق (4) .
__________
(1) رواه أحمد، قال الشيخ أحمد شاكر: حديث صحيح.انظر: المسند 2/295. وانظر المسألة في الموسوعة: 9/259، 264 وما بعدها، نظرية الشرط: ص293.
(2) وهو شرط في كل المعاملات، وإن لم نذكره.
(3) وليس المقصود بهما الاصطلاحين الشرعيين.
(4) عمل شركات الاستثمار: ص137.(6/981)
ويتضح من المثال السابق أن هذه العملية مركبة من عمليتين مستقلتين بعضهما عن بعض.
الأولى منهما عملية بيع شرعي، اشترط فيه تأجيل تسليم السلعة والثمن إلى موعد محدد، وقد سبق الكلام عنها.
أما العملية الثانية منهما فهي عكس بيع العينة (1) .
قال في كشاف القناع: وعكس مسألة العينة، وهو أن يبيع السلعة أولًا بنقد يقبضه، ثم يشتريها من مشتريها بأكثر من الأول من جنسه نسيئة، وهي مثل العينة في الحكم (2) .
وذهب جمهور العلماء إلى حرمة العينة، لما ورد من النهي فيها (3) ، ولأنها ذريعة إلى الربا، والذريعة معتبرة في الشرع، بدليل منع القاتل من الإرث (4) .
وأجازها الشافعية، مع الكراهة (5) .
أما العمليات المركبة فكلها لا تجوز لأنها عبارة عن اشتراط صفقة في صفقة أخرى، وقد مر الكلام عنها – والله أعلم -.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
الدكتور محمد عبد الغفار الشريف
*
**
__________
(1) للعينة المنهي عنها تفسيرات أشهرها: أن يبيع سلعة بثمن إلى أجل معلوم، ثم يشتريها نفسها نقدًا بثمن أقل: الموسوعة: 9/96.
(2) كشاف القناع: 3/186، وانظر: المغني: 4/257.
(3) انظر: نصب الراية: 3/17، نيل الأوطار: 5/233.
(4) انظر: المغني: 4/257، نيل الأوطار: 5/234.
(5) انظر: مغني المحتاج: 2/39، نهاية المحتاج: 3/460.(6/982)
مراجع البحث
* القرآن الكريم وتفسيره:
1- القرآن الكريم. طبعة دار المعرفة – بيروت، وبهامشه تفسير الجلالين.
2- الجامع لأحكام القرآن، للإمام محمد بن أحمد القرطبي. دار الكتاب العربي، مصورة عن طبعة دار الكتب، ط3، 1387هـ.
3- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وضعه محمد فؤاد عبد الباقي. المكتبة الإسلامية، تركيا، 1984م.
* الحديث الشريف وعلومه:
1- تحفة الأحوذي، للشيخ محمد عبد الرحمن المباركفوري. تحقيق عبد الرحمن عثمان، مطبعة الفجالة الجديدة، القاهرة.
2- تدريب الراوي، للحافظ جلال الدين السيوطي. تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، ط2، 1392هـ.
3- التلخيص الحبير، للحافظ ابن حجر العسقلاني. تحقيق السيد عبد الله اليماني، شركة الطباعة الفنية، القاهرة 1384هـ.
4- جامع الأصول، للعلامة ابن الأثير الجزري. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة الملاح والحلواني ودار البيان، 1399هـ.
5- سنن الترمذي، للإمام محمد بن عيسى الترمذي. تحقيق أحمد شاكر وزملائه، مصطفى الحلبي، القاهرة. ط1، 1374هـ.
6- صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري. تحقيق محمد عبد الباقي، عيسى الحلبي، ط1، 1374هـ.
7- فهارس التلخيص الحبير، إعداد د. يوسف المرعشلي. دارالمعرفة، بيروت، ط1، 1406هـ.
8- اللؤلؤ والمرجان، للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. وزارة الأوقاف بدولة الكويت، 1397هـ.
9- مسند الإمام أحمد، للإمام أحمد بن حنبل الشيباني. تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1368هـ.
10- نصب الراية، للحافظ جمال الدين الزيلعي. المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1392هـ.
11- نيل الأوطار، للعلامة محمد بن علي الشوكاني. مصطفى الحلبي، القاهرة.
12- نيل الغاية في ترتيب أحاديث نصب الراية، جمع وترتيب طالب بن محمود. دار الأقصى، الكويت، ط1، 1406هـ.
* الفقه وأصوله:
1- بدائع الصنائع، للإمام علاء الدين الكاساني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1394هـ.
2- جواهر الإكليل، للشيخ صالح بن عبد السميع الأبي. دار الفكر. بيروت.
3- حاشية الباجوري على الغزي، للشيخ إبراهيم الباجوري. بهامشه شرح ابن قاسم الغزي، عيسى الحلبي، القاهرة.
4- حاشية الجمل على شرح المنهج، للشيخ سليمان الجمل. وبهامشه الشرح المذكور، للقاضي زكريا الأنصاري. دار إحياء التراث العربي، بيروت.
5- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، للشيخ محمد بن أحمد الدسوقي. وبهامشه الشرح المذكور، للشيخ أحمد الدردير. عيسى الحلبي، القاهرة.
6- حاشية رد المحتار، للعلامة محمد أمين بن عابدين، وبهامشه الدر المختار، للعلامة الحصكفي. دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1407هـ.
7- الحوالة، للدكتور إبراهيم عبد الحميد. طبعة تمهيدية لموسوعة الفقه الإسلامي، الكويت، 1390هـ.
8- الخرشي علي خليل، للشيخ محمد بن عبد الله الخرشي. وبهامشه حاشية الشيخ علي العدوي. المطبعة الأميرية، القاهرة، ط1، 1317هـ.
9- درر الحكام، للعلامة علي حيدر. تعريف فهمي الحسيني. مكتبة النهضة، بيروت، بغداد.
10- الشرح الكبير، للعلامة عبد الرحمن بن أبي بكر المقدسي. مطبوع مع المغني.
11- شرح منتهى الإرادات، للعلامة منصور بن يونس البهوتي. مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
12- الشركة، للدكتور إبراهيم عبد الحميد. طبعة تمهيدية للموسوعة، الكويت.
13- فتح القدير، للإمام ابن الهمام السيواسي. مصطفى الحلبي، القاهرة، ط1، 1389هـ.
14- الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي. دار الفكر، دمشق، ط1، 1404هـ.
15- فقه الزكاة، للدكتور يوسف القرضاوي. مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1405هـ.
16- القواعد، للحافظ عبد الرحمن بن رجب الحنبلي. تحقيق طه سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط1، 1392هـ.
17- كشاف القناع، للعلامة البهوتي. تحقيق هلال مصيلحي، مكتبة النصر الحديثة، الرياض.
18- المجموع، للإمام يحيى بن شرف النووي، ومعه شرح الكبير، للإمام الرافعي، شركة الطباعة المنيرية، القاهرة.
19- المجموع المذهب، للحافظ خليل بن كيكلدي العلائي. تحقيق محمد عبد الغفار الشريف، آلة كاتبة، رسالة دكتوراه، 1405هـ.
20- معجم الفقه الحنبلي. وزارة الأوقاف الكويتية، ط2 1404هـ.
21- المغني، للإمام محمد بن عبد الله بن قدامة. دار الكتاب العربي، بيروت، 1392هـ.
22- مغني المحتاج، للعلامة الخطيب الشربيني. مصطفى الحلبي، القاهرة، 1377هـ.
23- الموسوعة الفقهية، مجموعة من العلماء. وزارة الأوقاف الكويتية، الكويت.
24- نظرية الشرط في الفقه الإسلامي، للدكتور حسن الشاذلي. دار الاتحاد العربي، القاهرة.
25- نهاية المحتاج، للعلامة شمس الدين الرملي. وبهامشه حاشيتا الرشيدي والشبراملسي. المكتبة الإسلامية، حلب.(6/983)
* المعاجم اللغوية والاصطلاحية:
1- التعريفات، للشريف الجرجاني. مكتبة لبنان، بيروت، 1978م.
2- الكليات، للعلامة أيوب بن موسى الكفوي. تحقيق، د. درويش وزميله، وزارة الثقافة، دمشق، 1974م.
3- لسان العرب، للإمام محمد بن منظور الإفريقي. دار صادر، بيروت.
4- محيط المحيط، للمعلم بطرس البستاني. مكتبة لبنان، بيروت.
5- المصابح المنير، للعلامة أحمد الفيومي. دار المعارف، القاهرة.
6- معجم متن اللغة، للشيخ أحمد رضا. دار مكتبة الحياة، بيروت، 1380هـ.
7- المغرب، للعلامة ناصر الدين المطرزي. تحقيق فاخوري وزميله، مكتبة أسامة بن زيد، حلب، ط1، 1399هـ.
* كتب أخرى:
1- الإسلام ومشكلاتنا الحاضرة، للدكتور محمد يوسف موسى. سلسلة الثقافة الإسلامية، 1958م.
2- بورصة الأوراق المالية الكويتية، للأستاذ فاضل القلاف. مؤسسة دار الكتب، الكويت.
3- دائرة معارف القرن العشرين، للأستاذ محمد فريد وجدي. دار المعرفة، بيروت، ط3، 1971م.
4- الشركات في الشريعة والقانون، للدكتور عبد العزيز الخياط. مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1403هـ.
5- شركة المساهمة في النظام السعودي، للدكتور صالح المرزوقي. مطابع الصفا، مكة، 1406هـ.
6- عمل شركات الاستثمار الإسلامية، للأستاذ أحمد محي الدين حسن. طبع بنك البركة الإسلامي، البحرين، ط1 1407هـ.
7- موجز القاموس الاقتصادي، مجموعة علماء روس. تعريب مصطفى الدباس، مراجعة د. بدر الدين السباعي، دار الجماهير، دمشق، 1972م.
8- الموسوعة العربية الميسرة، مجموعة من العلماء. بإشراف محمد شفيق غربال، دار النهضة، بيروت، 1401هـ.
9- الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية، الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية.
10- محاضر الهيئة الشرعية ببيت الزكاة. الكويت.(6/984)
السوق المالية
إعداد
فضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
الأستاذ بكلية الشريعة – جامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه هداة الشرع وأعلام الدين وبعد:
فهذا بحث يتناول حكم الإسلام في أهم المعاملات المعاصرة التي تتم فيما يسمى بالبورصة أو السوق المالية.
والمقصود بالبورصة هنا مجموعة العمليات التي تتم في مكان معين بين مجموعة من الناس لإبرام صفقات تجارية حول منتجات زراعية أو صناعية أو أوراق مالية، سواء أكان محل الصفقة حاضرا – وجود نموذج أو عينة منه – أو غائبا عن مكان العقد، أو حتى لا وجود له أثناء التعاقد (معدوم) لكن يمكن أن يوجد (1) . فيكون التعامل به أمرا احتماليا، أو ما يسمى في فقهنا غررا.
وليست البورصة في الحقيقة سوقا بالمعنى المفهوم الشائع من كلمة السوق، لأن البورصة تختلف عن السوق في ثلاثة أمور:
1- تتم الصفقات في الأسواق على أشياء موجودة بالفعل، أما في البورصة فيتم التعامل بالنموذج (عينة) أو بالوصف الشامل لسلعة.
2- التعامل في السوق يحدث في جميع السلع، أما في البورصة فلا بد من أن تتوافر في السلعة: القابلية للادخار، وأن تكون من المثليات، وتكرار التعامل، وكون أثمانها عرضة للتغير في فترة زمنية معينة بسبب ظروف العرض والطلب أو الأحوال المناخية.
3- تكون الأسعار في الأسواق ثابتة لا تؤثر الأسواق فيها لقلتها، بينما تؤثر البورصات على مستوى الأسعار، لكثرة ما يعقد فيها من صفقات ولذلك وصفت البورصة بأنها كجهنم.
ومن أهم وظائف البورصة المضاربة، أي المخاطرة بالبيع أو الشراء بناء على التنبؤ بتقلبات الأسعار بغية الحصول على فارق الأسعار، والبورصة ثلاثة أنواع:
1- بورصة البضاعة الحاضرة: وهي التي يتم التعامل فيها بناء على عينة، ثم يدفع غالب الثمن عند التعاقد، والباقي عند التسليم.
2- بورصة الأوراق المالية: وهي التي تباع فيها أسهم الشركات المختلفة، أو السندات بسعر بات أو بسعر البورصة في تصفية محددة بتاريخ معين. وهذه الأوراق قد تكون حاضرة، وقد تكون على المكشوف، أي لا يملكها بائعها.
3- بورصة العقود أو بورصة (الكونتراتات) : وهي التي يتم البيع فيها السلع غائبة غير حاضرة بسعر بات أو بسعر معلق على سعر البورصة في تصفية محددة، ويكون البيع فيها على المكشوف، أي بيع مقدور التسليم في المستقبل لا في الحال.
__________
(1) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية: 5/391.(6/985)
وعمليات البورصة ذات أشكال ثلاثة هي:
1- العمليات العاجلة: ويلجأ إليها الراغبون في استثمار أموالهم بشراء أوراق مالية، ويتم بيعها عند توافر فرصة للربح، أو وجود أمل في الحصول على الجوائز التي تعطي لبعض السندات بطريق السحب للأرقام.
2- العمليات الآجلة: وهي ثلاثة أنواع:
(أ) العمليات الشرطية البسيطة: وهي التي يكون الخيار للمضارب بين فسخ العقد في ميعاد التصفية أو قبله، أو تنفيذ العملية إذا رأى تقلب الأسعار لصالحه، على أن يدفع تعويضا متفقا عليه سلفا.
(ب) العمليات الشرطية المركبة: وهي التي يكون فيها الخيار للمضارب بين أن يكون مشتريا أو بائعا، وأن يفسخ العقد، إذا رأى مصلحة له في ذلك عند التصفية أو قبلها، مقابل تعويض أكبر مما يدفع في العمليات البسيطة، يدفعه لصاحبه.
(ج) العمليات المضاعفة: وهي التي يكون فيها الحق للمضارب في مضاعفة الكمية التي اشتراها أو باعها، بسعر التعاقد، إذا رأى مصلحة في التصفية، على أن يدفع تعويضا مناسبا متفقا عليه، يختلف بنسبة الكمية المضاعفة.
ويختلف معنى المضاربة في البورصة عن معناها الشرعي، فمضاربة البورصة، هي المخاطرة على سعر السلعة في البورصة في تصفية معينة، وهي إما مضاربة على الصعود: وهي أن المضارب يشتري السلعة بسعر، وهو يخاطر في أنه سيرتفع، فيبيع حالا ما اشتراه مؤجلا بالسعر المرتفع، ويقبض الفرق. وإما مضاربة على الهبوط: وهي أن يبيع الشخص سلعة بسعر، وهو يخاطر في أنه سينخفض يوم التصفية، حيث يبيع بالثمن الحال، ويشتري ما اتفق عليه مؤجلا، ويقبض الربح.
وفي كلتا الحالتين قد يحدث خلاف المتوقع فيخسر المضارب، ويتم البيع على المكشوف، فلا تكون السلعة في حيازة البائع، ولا الثمن في حيازة المشتري وقت التعاقد، ولا يتم تسليم أو تسلم إلا يوم التصفية. وهذا كله حرام شرعا.
أما المضاربة الشرعية أو القراض فهي عقد يقوم على تقديم المال من أحد طرفي العقد، والعمل من الطرف الآخر.
***
خطة البحث:
يتضمن البحث قسمين:
القسم الأول: أحكام بورصة الأوراق المالية.
والقسم الثاني: أحكام بورصة العقود (الكونتراتات) .
*
**(6/986)
القسم الأول
أحكام بورصة الأوراق المالية
الأوراق المالية هي الأسهم والسندات.
أما الأسهم: فهي حصص الشركاء في الشركات المساهمة، فيقسم رأس مال الشركة إلى أجزاء متساوية، يسمى كل منها سهما، والسهم: جزء من رأس مال الشركة المساهمة، وهو يمثل حق المساهم مقدرا بالنقود، لتحديد مسئوليته ونصيبه في ربح الشركة أو خسارتها، فإذا ارتفعت أرباح الشركة ارتفع بالتالي ثمن السهم إذا أراد صاحبه بيعه، وإذا خسرت انخفض بالتالي سعره إذا أراد صاحبه بيعه.
ويجوز شرعا وقانونا بيع الأسهم، بسعر بات، أما إذا كان السعر مؤجلا لوقت التصفية فلا يجوز البيع لجهالة الثمن، لأن العلم بالثمن شرط لصحة البيع عند جماهير العلماء. وأجاز الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم البيع بما ينقطع عليه السعر، قياسا على القول بمهر المثل في الزواج، وأجر المثل في الإجارة، وثمن المثل في البيع، وعملا بالمتعارف، وبما يحقق مصالح الناس.
أما بيع الأسهم على المكشوف أي إذا كان البائع لا يملكها في أثناء التعاقد، فلا يجوز، للنهي الثابت شرعا عن بيع ما لا يملك الإنسان.
أما السندات: فهي أوراق مالية، ضمانا لديه على الدولة، أو على إحدى الشركات، ويقدر لها فائدة ثابتة أو ربح ثابت، كما يكون هناك خصم في إصدار السندات بمعنى أن يدفع المكتتب أقل من القيمة الاسمية على أن يسترد القيمة الاسمية كاملة عند الاستحقاق، علاوة على الفوائد السنوية، والخلاصة: أنها قرض بفائدة سنوية، لا تتبع الربح والخسارة.
والرأي الراجح المتعين في حكم هذه السندات أنها حرام شرعا، ولا يجوز التعامل بها بيعا أو شراء، لأن كل قرض جر نفعا فهو ربا، وهذا قرض جر نفعا، فهو من الربا الواضح. والبديل لاستمرار الشركات التي تصدرها أن تتحول هذه السندات إلى أسهم، وأن تباع أو تشتري بعقد حال، بحيث يشارك حاملوها في الربح والخسارة، لأنها ترتب لحاملها فوائد ثاتبة، دون تحمله في الخسارة، وهذا يناقض المبدأ الشرعي: (لا ضرر ولا ضرار) ويناقض قاعدة: (الغنم بالغرم) وتكون المساهمة في الربح والخسارة عدلا، والعدل واجب، وغيره ظلم، والظلم حرام شرعا وعقلا وعرفا وقانونا، ولأن التعامل بالسندات يعتمد على الفكر الربوي الرأسمالي وهو أن المال يولد المال، أما الفكر الإسلامي فهو أن العمل هو الذي يثمر المال.
أما الذين أجازوا التعامل بالسندات من المعاصرين كالشيخ محمد عبده والأستاذ عبد الوهاب خلاف بالاعتماد على أن تحديد الفائدة أو الربح أصبح ضروريا بعد فساد ذمم الكثير من الناس، فإنهم يصادمون صراحة النصوص التي تحرم الفائدة الثابتة أو الربا، ويعتمدون على مصالح تصادم النص، فلا تعتبر كما أنه لا تتوافر ضوابط الضرورة الشرعية التي تسوغ الاستثناء.
*
**(6/987)
القسم الثاني
أحكام بورصة العقود (الكونتراتات)
الكلام في هذا القسم يتناول حكم بيع الإنسان ما لا يملك، وبيع الشيء قبل القبض، والعقد دون تحديد السعر، والعمليات الآجلة الشرطية البسيطة، والعمليات الآجلة الشرطية المركبة، والعمليات المضاعفة، وحكم بدل التأجيل للتسليم والتسلم، وبيع الدين بالدين، وعمولات المصارف مقابل الخدمات أو الضمانات.
أولا- حكم بيع الإنسان ما لا يملك (بيع المعدوم وبيع معجوز التسليم في الحال وبيع الغرر) :
اشترط جمهور العلماء لانعقاد العقد أن يكون محل العقد موجودا وقت التعاقد، فلا يصح التعاقد على معدوم، كبيع الزرع قبل ظهوره لاحتمال عدم نباته، ولا على ما له خطر العدم، أي احتمال عدم الوجود كبيع الحمل في بطن أمه، لاحتمال ولادته ميتا، وكبيع اللبن في الضرع، لاحتمال عدمه بكونه انتفاخا وكبيع اللؤلؤ في الصدف، ولا يصح التعاقد على مستحيل الوجود في المستقبل، كالتعاقد مع طبيب على علاج مريض توفي، فإن الميت لا يصلح محلا للعلاج، وكالتعاقد مع عامل على حصاد زرع احترق، فكل هذه العقود باطلة.
هذا الشرط مطلوب عند الحنفية والشافعية (1) ، سواء أكان التصرف من عقود المعاوضات أم من عقود التبرعات، فالتصرف بالمعدوم باطل، سواء بالبيع أو الهبة أو الرهن، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة (2) ونهيه عن بيع المضامين والملاقيح (3) ، وعن بيع ما ليس عند الإنسان فيما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) .
واستثنى هؤلاء الفقهاء من قاعدة المنع من التصرف بالمعدوم عقود السلم والإجارة والمساقاة والاستصناع، مع عدم وجود المحل المعقود عليه حين إنشاء العقد، استحسانا مراعاة لحاجة الناس إليها، وتعارفهم عليها، وأذن الشرع في السلم والإجارة والمساقاة ونحوها.
واكتفى المالكية باشتراط هذا الشرط في المعاوضات المالية، دون التبرعات كالهبة والوقف والرهن (4) .
__________
(1) المبسوط: 12/194، البدائع: 5/138، فتح القدير: 5/192، مغني المحتاج: 2/30، المهذب: 1/262.
(2) أي بيع ولد ولد الناقة أو بيع ولد الناقة، والحديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عمر.
(3) المضامين: ما في أصلاب الإبل، والملاقيح: ما في بطون النوق، والحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر.
(4) الشرح الصغير: 3/305، القوانين الفقهية: ص367.(6/988)
ولم يشترط الحنابلة هذا الشرط، واكتفوا بمنع البيع المشتمل على الغرر الذي نهى عنه الشرع، كبيع الحمل في البطن دون الأم، وبيع اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم، وأجازوا فيما عدا ذلك بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، كبيع الدار على الهيكل أو الخريطة، لأنه لم يثبت النهي عن بيع المعدوم، لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد النهي عن بيع الغرر: وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجودا أم معدوما، كبيع الفرس الهارب والجمل الشارد، فليست العلة في المنع، لا العدم ولا الوجود، فبيع المعدوم إذا كان مجهول الوجود في المستقبل باطل للغرر، لا للعدم. بل إن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فإنه أجاز بيع التمر بعد بدء صلاحه، والحب بعد اشتداده، والعقد في هذه الحالة ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد. وأما حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان المتقدم، فالسبب فيه هو الغرر، لعدم القدرة على التسليم، لا أنه معدوم (1) .
وعلى أي حال فقد اتفقت المذاهب الثمانية (2) وجميع الفقهاء، ومنهم ابن حزم وابن تيمية وابن القيم على أن بيع الإنسان ما لا يملك لا يجوز، إما لأنه معدوم أثناء العقد عند الأغلبية الساحقة، وإما لأنه غرر عند الحنابلة للأحاديث الثلاثة التالية:
1- حديث حكيم بن حزام الذي أخرجه أصحاب السنن قال: ((قلت: يا رسول الله، يأتيني الرجل، فيسألني البيع ليس عندي أبيعه منه، ثم أبتاعه له من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك)) .
2- حديث عبد الله بن عمرو المتقدم الذي أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والدرامي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) .
3- حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وعن بيع الحصاة)) .
__________
(1) المغني: 4/200، 208، نظرية العقد لابن تيمية: ص224، أعلام الموقعين: 2/8.
(2) فتح القدير والبدائع، المكان السابق، المقدمات الممهدات: 3/202، الشرح الصغير والقوانين الفقهية، المكان السابق، مغني المحتاج والمهذب، المكان السابق، المغني، المكان السابق، المحلي: 9/363، منهاج الصالحين: 2/24، البحر الزخار: 3/291.(6/989)
واتفقت المذاهب الأربعة على بطلان بيع معجوز التسليم أي ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء، والسمك في الماء والجمل الشارد والفرس الهارب والمال المغصوب في يد الغاصب، وكبيع الدار أو الأرض تحت يد العدو، لأن النبي صلى الله عليه وسلم – كما تقدم – ((نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر)) وهذا غرر (1) .
واتفق الفقهاء على عدم صحة بيع الغرر، كبيع اللبن في الضرع، والصوف على الظهر، واللؤلؤ في الصدف، والحمل في البطن، والسمك في الماء، والطير في الهواء قبل صيدهما، وبيع مال الغير على أن يشتريه فيسلمه قبل ملكه له، لأن البائع باع ما ليس بمملوك له في الحال، سواء أكان السمك في البحر أم في النهر، أم في حظيرة لا يؤخذ منها إلا باصطياد، وسواء أكان الغرر في المبيع أم في الثمن (2) .
ثانيا- بيع الشيء المملوك قبل قبضه من آخر:
اتفق الفقهاء من حيث المبدأ على عدم جواز بيع الشيء قبل قبضه من مالك آخر، ولكنهم اختلفوا في مدى عموم الحكم إطلاقه وتقييده، لاختلاف روايات الأحاديث المانعة منه، أو بسبب تأويل معنى الحديث، أو للعمل بظاهر الحديث فقط.
فمنهم كالشافعية، ومحمد وزفر من الحنفية من منع التصرف في المبيع قبل قبضه مطلقا، ومنهم من منع منه في المنقولات دون العقارات وهو مذهب الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف، ومنهم من جوزه في غير الطعام وهم المالكية، ومنهم من جوزه في غير المعدود والموزون والمكيل من الطعام (أي غير المقدرات) وهم الحنابلة، وقريب منهم الإمامية والزيدية، ومنهم من جوزه في غير القمح خاص وهم الظاهرية.
وأما الشافعية ومحمد بن الحسن وزفر فقالوا: لا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه مطلقا قبل قبضه، عقارا كان أو منقولا، لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض، في حديث أحمد وغيره المتقدم عن حكيم بن حزام: ((لا يحل سلف وبيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) وهذا من باب بيع ما لم يضمن، ومعناه: ما لم يقبض، لأن السلعة قبل تلفها ليست في ضمان المشتري، وإذا تلفت فضمانها من مال البائع، ولعدم القدرة على التسليم، ولأن ملكه عليه غير مستقر لأنه ربما هلك، فانفسخ العقد، وفيه غرر من غير حاجة، فلم يجز، فالعلة في منع البيع هي الغرر (3) .
وأما المعتمد عند الحنفية وهو رأي الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف فهو التفصيل، وهو أنه لا يجوز التصرف في المبيع المنقول قبل القبض، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع ما لم يقبض، والنهي يوجب فساد المنهي عنه، ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود، أي إنه يحتمل الهلاك، فلا يدري المشتري: هل يبقى المبيع أو يهلك قبل القبض، فيبطل البيع الأول، وينفسخ الثاني، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر، كما تقدم.
__________
(1) البدائع: 5/295، بداية المجتهد: 2/156، المهذب: 1/263، المغني: 4/202.
(2) المجموع للنووي: 9/280، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 2/76، نيل الأوطار: 5/148.
(3) مغني المحتاج: 2/68، المهذب: 1/264.(6/990)
وأما العقار: كالأراضي والدور، فيجوز بيعه قبل القبض، استحسانا استدلالا بعمومات البيع من غير تخصيص، ولا يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، ولا غرر في العقار، إذ لا يتوهم هلاك العقار، ولا يخاف تغيره غالبا بعد وقوع البيع وقبل القبض، أي إن تلف العقار غير محتمل، فلا يتقرر الغرر (1) . والخلاصة: أن العلة في مذهب الحنفية في عدم جواز بيع الشيء قبل قبضه هي الغرر، كما قال الشافعية.
وبما أن السلع التي تباع في البورصة (بيع الكنتراتات) هي منقولات لها مقدرات مثلية، وليست عقارات، فلا يجوز بيعها قبل قبضها عند الحنفية والشافعية.
ويكون البيع فاسدا عند الحنفية باطلا عند الشافعية، لأنه يتم فيه البيع قبل القبض وبثمن مختلف.
أما المالكية: فإنهم قصروا المنع في بيع الشيء قبل قبضه على بيع الطعام (2) خاصة، إذا بيع الكيل أو الوزن أو العد، أما غير الطعام أو الطعام المبيع جزافا: فيجوز بيعه قبل قبضه، لغلبة تغير الطعام بخلاف ما سواه، ولمفهوم حديث ابن عمر الذي رواه أصحاب الكتب الستة ما عدا ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعاما، فلا يبعه حتى يقبضه)) . والعلة في منع بيع الطعام قبل قبضه عندهم: هي أنه قد يتخذ ذريعة للتوصل إلى ربا النسيئة، فهو شبيه ببيع الطعام بالطعام نسيئة، فيحرم سدا للذرائع (3) .
وأما الحنابلة: فقالوا: لا يجوز بيع الشيء قبل قبضه إذا كان مكيلا أو موزونا أو معدودا أي المقدرات، لسهولة قبض المكيل والموزون والمعدود عادة، فلا يتعذر عليه القبض، واستدلالا بمفهوم حديث الطعام السابق، فإن تخصيصه الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه، يدل على إباحة البيع، فيما سواه ولم يصح غيره من الأحاديث. واشتراط الكيل أو الوزن أو العد، لأن الكيل والموزون والمعدود لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن أو العدد، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يضمن. فالعلة في منع البيع عندهم هي الغرر كما قال الحنفية (4) .
وأما غير المكيل والموزون والمعدود، أي غير المقدرات، فيصح عند الحنابلة بيعه قبل قبضه.
وبناء عليه يصح عند المالكية للمشتري التصرف في المبيع قبل قبضه، سواء كان البيع أعيانا منقولة أو أعيانا ثابتة كالأرض والنخيل ونحوها إلا الطعام المكيل أو الموزون أو المعدود. ويصح عند الحنابلة بيع غير المكيل أو الموزون أو المعدود. فلما يجري داخل البورصة من بيع العقود قبل قبضها يصح في هذين المذهبين بالتخلية، أي بتسليم البائع المبيع وقبض المشتري برفع الحوائل وإزالة المانع.
وأما الظاهرية: فأجازوا بيع الشيء قبل قبضه إلا القمح خاصة، سواء بيع كيلا أو وزنا أو جزافا، عملا بظاهر النهي في الحديث، والطعام عندهم لا يكون إلا في القمح. ومعنى القبض: أن يطلق البائع يد المشتري في المبيع، بألا يحول بينه وبينه (5) .
__________
(1) فتح القدير: 4/193، البدائع: 5/139.
(2) يشمل الطعام عندهم كل ما تجب فيه الزكاة من الحبوب والأدم بجميع أنواعها كالزيت والعسل ونحوها.
(3) المنتقى على الموطأ: 4/279، بداية المجتهد: 2/142.
(4) المغني: 4/110، 113 وما بعدها.
(5) المحلي: 1/292، 597.(6/991)
وأما الإمامية: فقالوا: لا بأس ببيع ما لم يقبض، ويكره فيما يكال أو يوزن، وتتأكد الكراهية في الطعام، وقيل: يحرم (1) .
وأما الزيدية: فأجازوا بيع الشيء قبل القبض إن كان مما لا يكال ولا يوزن، ومنعوا في الأظهر البيع بالربح فيما يكال أو يوزن قبل القبض (2) .
والظاهر رجحان رأي الشافعية، لعموم النهي عن بيع الشيء قبل قبضه في حديث حكيم بن حزام، دون قصره على الطعام، ويكون حديث النهي عن الطعام في حالة من حالات النهي لا تمنع غيرها، وهو احتجاج بالمفهوم المخالف من الحديث، والمنطوق في حديث حكيم بن حزام مقدم عليه، ويؤيده حديث زيد بن ثابت الذي أخرجه أبو داود بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، ثم إن الملكية في الشيء قبل القبض ضعيفة، وفيها غرر أي احتمال الحصول وعدم الحصول، ويترجح عدم الحصول في حال احتكار المنتجين للسلع وإيقاع البائعين على المكشوف في حرج.
ثالثا- البيع دون تحديد سعر (أو البيع بما ينقطع عليه السعر) :
اتفقت المذاهب الثمانية على اشتراط معرفة الثمن في عقد البيع حال العقد أو قبله، فلا يجوز البيع بثمن مجهول، ولا بد من بيان جنس الثمن وقدره وصفته (3)
وعليه فلا يصح عندهم البيع بما ينقطع عليه السعر أو بسعر السوق في يوم معين أو في فترة محددة.
لكن روي عن الإمام أحمد جواز البيع بما ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير الثمن أو تحديده وقت العقد، لتعارف الناس، ولتعاملهم به في كل زمان ومكان. وقد رجح ابن تيمية وابن القيم هذا الرأي، وأرادوا به سعر السوق وقت البيع، لا أي سعر في المستقبل (4) .
وبه يتبين أن جميع المذاهب لا تجيز البيع الحالي في البورصة حيث تباع السلع الحاضرة بثمن السوق في يوم محدد أو في خلال فترة محددة هي فترة التصفية، حتى عند ابن تيمية وابن القيم ورواية عن أحمد الذين يجيزون البيع بما ينقطع عليه السعر، فإنهم أرادوا كما بينا سعر السوق وقت البيع، لا أي سعر في المستقبل، كمن يشتري شيئا من خباز أو لحام أو سمان أو غيرهم، بسعر يومه، ثم يحاسبه في نهاية الشهر ويعطيه ثمنه، وهذا ما يسمى ببيع الاستجرار.
__________
(1) المختصر النافع في فقه الإمامية:ص148.
(2) منهاج الصالحين: 2/51.
(3) المبسوط: 13/49، البدائع: 5/158 , فتح القدير: 5/113 , رد المحتار: 4/30 , الشرح الكبير للدردير: 3/15 القوانين الفقهية: ص257، مغني المحتاج: 2/17، المهذب: 1/266، المغني: 4/187، المحلي: 9/19، المختصر النافع: ص143، منهاج الصالحين: 2/25.
(4) غاية المنتهى: 2/14، 26، نظرية العقد لابن تيمية: ص220، أعلام الموقعين: 4/5-6(6/992)
وقد تورط بعض الأساتذة المعاصرين برأي بعض الحنابلة، فأجازوا البيع بسعر السوق يوم كذا، أو بسعر الإقفال في بورصة كذا، لرضا المتعاقدين بذلك، ولأن جهالة الثمن حينئذ لا تؤدي إلى المنازعة، واحتجاجا بقول ابن تيمية بأنه عمل الناس في كل عصر ومصر، وقوله: هو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوة بالناس.
وكل ذلك في رأيي محل نظر وتأمل، فإن ما أراده ابن تيمية غير ما يحدث في بورصة العقود الحالية، كما أن بيع الاستجرار ونحوه روعي فيه حاجة بعض الناس، وأين مثل هذه الحاجة في البورصة؟!
رابعا – العمليات الآجلة الشرطية البسيطة:
وهي كما عرفنا أن يكون من حق المضارب فسخ العقد في ميعاد التصفية أو قبله إذا أحس بانقلاب الأسعار في غير صالحه، على أن يدفع أولا تعويضا للطرف الآخر، ولا يرد إليه، ويسمى هذا بالشرط البسيط.
ويمكن معرفة حكم هذه العمليات في ضوء ما يعرف في فقهنا بشرط الخيار، وقد أجاز جميع الفقهاء ما عدا الظاهرية خيار الشرط (1) ، ولكنهم اختلفوا في مدة الخيار المشروع:
فقال أبو حنيفة وزفر والشافعي: يجوز شرط الخيار في مدة معلومة لا تزيد على ثلاثة أيام عملا بحديث حبان بن منقذ الذي أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عمر، فقد شكا أنه يُغْبَن في البياعات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: ((إذا بايعت فقل: لا خلابة (2) ، ولي الخيار ثلاثة أيام)) .
وأجاز أبو يوسف ومحمد والحنابلة والإمامية والزيدية اشتراط مدة الخيار حسبما يتفق عليه البائع والمشتري من المدة المعلومة، قلت مدته أو كثرت، لأن الخيار يعتمد الشرط، فيرجع في تقديره إلى مشترط كالأجل.
وأجاز المالكية الخيار بقدر ما تدعو إليه الحاجة، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال، فخيار الشرط في الفاكهة يوم، وفي الثياب والدابة ثلاثة أيام، وفي الأرض أكثر من ثلاثة أيام، وفي الدار ونحوها مدة شهر.
__________
(1) المبسوط: 12/40، البدائع: 5/174، المدونة 3/223 المنتقي عن الموطأ: 5/108، المهذب: 1/258، مغني المحتاج: 2/47، المغني: 3/585، غاية المنتهى: 2/30، بداية المجتهد: 2/207، الدردير والدسوقي: 3/91، 95، المحلى: 9/328، المختصر النافع: ص145، منهاج الصالحين: 2/32، البحر الزخار: 3/349.
(2) أي لا خديعة ولا غبن، والمعنى: لا يحل لك خديعتي، أولا تلزمني خديعتك.(6/993)
وبناء على هذا الرأي للمالكية والحنابلة ومن وافقهم تجوز العمليات الآجلة الشرطية البسيطة إذا كانت مدة استعمال حق الخيار معلومة على النحو المذكور، ومدة الخيار في هذه العمليات معلومة وهي الفترة ما بين وقت العقد إلى وقت أقرب تصفية. ويجوز دفع المال بشرط متفق عليه أو التبرع به لاستعمال حق الخيار، لأن المسلمين على شروطهم، ولأن دفع المال يؤيد ما شرعه الشرع من حق الخيار. لكن لا يجوز الاتفاق على إسقاط حق الخيار بعوض، فقد نص فقهاؤنا على أنه لو صالح شخص بعوض عن خيار في بيع أو إجارة، لم يصح الصلح، لأن الخيار لم يشرع لاستفادة مال، وإنما شرع للنظر في الأحظ، فلم يصح الاعتياض عنه (1)
خامسا- العمليات الشرطية المركبة:
وهي العمليات التي يكون للبائع الحق فيها في أن يتحول إلى مشتر وأن يفسخ العقد، أو أن يظل بائعا حسبما يتراءى له من تقلبات الأسعار عند التصفية أو قبلها، مقابل تعويض أكبر مما يدفع في العمليات البسيطة يدفعه لصاحبه.
وهي جائزة كالعمليات الشرطية البسيطة (2) ، عملا بما يراه الجمهور من اشتراط مدة في خيار الشرط حسب الحاجة أو الأحوال.
سادسا- العمليات المضاعفة:
وهي التي يكون فيها الحق لأحد العاقدين: البائع أو المشتري في مضاعفة الكمية التي باعها أو اشتراها، بسعر يوم التعاقد، مقابل تعويض يدفعه الراغب في المضاعفة عند اتضاح الأسعار، ولا يرد إليه، وتختلف قيمة التعويض حسب كمية الزيادة وموضوع التخزين. وهذا أيضا جائز إذا كانت الكمية المضاعفة معلومة (3) ، لأنه لا يجوز تعديل العقد بشرط إضافي، ويعتبر التعويض مضافا إلى أصل الثمن، والمسلمون عند شروطهم.
سابعا- حكم بدل التأجيل:
إذا تم تسليم المبيع والثمن في وقت التسليم، فلا إشكال وتنتهي الصفقة، أما إذا اتفق العاقدان على تأجيل التسليم والتسلم لوقت لاحق هو وقت التصفية القادمة مقابل تعويض يدفعه إلى الآخر الذي يقبل نقل الصفقة إليه، وهو شخص آخر غير العاقدين، فهذا ربا واضح، لأنه يبيع دينا حالا بثمن مؤجل مع زيادة، كربا الجاهلية: إما أن تدفع أو تربي، لأن مشتري الصفقة الذي يحل محل المشتري، إنما يأخذ فائدة المبلغ الذي سيدفعه إليه العاقد الأصلي، وهذا ربا محقق، لأن الدافع للتعويض يدفعه مضطرا لنقل تصفية صفقته إلى وقت مؤجل، يأمل فيه تغير الأسعار لمصلحته، ولم يدفعه متبرعا كالعمليات الثلاثة السابقة، كما أن الآخذ لم يأخذ التعويض مقابل حق تنازل عنه كما هو الحال في العمليات المتقدمة.
__________
(1) العقود المسماة في القانونين الإماراتي والأردني للباحث: ص205، التقنين الحنبلي (م264) ، كشاف القناع: 3/687.
(2) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية: 5/425.
(3) المرجع السابق.(6/994)
ثامنا – بيع الدين بالدين:
الدين هو الشيء الثابت في الذمة، كثمن مبيع، وبدل قرض، وأجرة مقابل منفعة، وغرامة متلف ومسلم فيه في عقد السلم (بيع آجل بعاجل) .
وبيع الدين: إما أن يكون لمن في ذمته الدين، أو لغير من عليه الدين، وفي كل من الحالين إما أن يباع الدين في الحال، أو نسيئة مؤجلا.
وبيع الدين نسيئة: هو ما يعرف ببيع الكالئ بالكالئ، أي ببيع الدين بالدين، وهو بيع ممنوع شرعا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الدارقطني عن ابن عمر، والطبراني عن رافع بن خديج نهى عن بيع الكالئ بالكالئ (1) . ومع أن الحديث ضعيف لكن أجمع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين، سواء أكان البيع للمدين، أم لغير المدين.
مثال الأول- وهو بيع الدين للمدين: أن يقول شخص لآخر: اشتريت منك هذه السلعة بدينار على أن يتم تسليم العوضين بعد شهر مثلا، أو أن يشتري شخص شيئا إلى أجل، فإذا حل الأجل، لم يجد البائع ما يقضي به دينه، فيقول للمشتري: بعني هذا الشيء إلى أجل آخر بزيادة شيء، فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض، فيكون هذا ربا حراما تطبيقا لقاعدة: (زدني في الأجل، وأزيدك في القدر) ، كما تقدم في النوع السابق: سابعا.
ومثال بيع الدين لغير المدين: أن يقول رجل لغيره: بعتك السلعة التي لي عند فلان بكذا تدفعها لي بعد شهر. وهذا أيضا حرام.
وإذا كانت أغلب عمليات البورصة تتم في صورة بيع الدين بالدين دون تسليم ولا تسلم كما هو ملاحظ، فلا تجوزه هذه العمليات، ولا بد من تعجيل تنفيذ الصفقة دون تأخير.
أما بيع الدين نقدا في الحال: فمختلف فيه، فقد أجاز جمهور الفقهاء غير الظاهرية بيع الدين لمن عليه الدين أو هبته له، ولم يجز الجمهور غير المالكية بيع الدين لغير المدين، وأجازه المالكية بشروط ثمانية تبعده عن الغرر والربا وأي محظور آخر كبيع الطعام قبل قبضه (2) . ولا داعي لتفصيل الكلام في هذا النوع من البيع في الحال، لأنه غير موجود في البورصة، لاعتماد أغلب العمليات بها على التأجيل.
تاسعا: عمولات المصارف (البنوك) مقابل الخدمات أو الضمانات:
إن ما يأخذه المصرف (البنك) مقابل خدمات الحراسة، واستئجار الأرض، واستعمال المخازن (التخزين) وأجرة إعداد الفواتير وكتابة الحسابات، جائز مشروع لا شبهة فيه، لأنه مقابل منفعة، وإجارة المنافع والأعمال جائزة شرعا.
أما ما يأخذه المصرف من الفوائد على المال المودع زيادة على الخدمات، أو مقابل القروض أو الضمانات غير المغطاة فعلا، فهو غير مشروع، إلا إذا دخل البنك مع المضارب في شركة صحيحة، أو مضاربة شرعية، في الحالات التي لا يجوز فيها البيع أو الشراء داخل البورصة وهي حالات البيع الحال أو الشراء الحال. أما المؤجل فقد بينا عدم جوازه للغرر والتصرف فيما لا يملك، وبيع الشيء قبل القبض (3) .
والخلاصة: إن حكم عمليات العقود داخل السوق المالية أو البورصة ما يلي:
1- إذا كانت البضاعة حاضرة (أي وجود عينة) ، والسعر بات، فهذا حلال.
2- إذا كانت البضاعة حاضرة، والسعر مؤجل ليوم التصفية، فهذا غير جائز عند جماهير العلماء، وأجازه بعض المعاصرين عملا برأي الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم في البيع بما ينقطع عليه السعر.
3- العقود المؤجلة: وهي الحاصلة في بعض عمليات البورصة، فهذه غير جائزة، لأنها بيع الإنسان ما ليس عنده، وهو غير جائز بسبب وجود الغرر فيه، ولأنها بيع للشيء قبل قبضه، وهو الرأي الذي رجحناه من مذهب الشافعية ومن وافقهم، وهي بيع دين بدين.
والبديل الشرعي عن العقود المؤجلة هو عقد السلم الجائز شرعا، وهو بيع آجل بعاجل، أو بيع شيء موصوف في الذمة ببدل عاجل يجب قبضه عند الجمهور في مجلس العقد، ويجوز تأخيره مدة قليلة كيوم أو ثلاثة أيام عند المالكية، ويصح عقد السلم بلفظ البيع، ولا يشترط كون المعقود عليه موجودا عند التعاقد، ولا أن يكون في ملك البائع المسلم إليه، وإنما يكفي وجوده عند التسليم، وإنما يشترط فيه ألا يكون العقد مشتملا على ربا النسيئة، أي ألا يكون مطعوما أو نقدا في مقابل مطعوم أو نقد، ويصح أن يكون مطعوما مؤجلا في مقابل نقود.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
__________
(1) إلا أنه حديث ضعيف.
(2) البدائع: 5/148، تكملة ابن عابدين: 2/326، الشرح الكبير للدردير: 3/63، بداية المجتهد: 2/146، المهذب: 1/262، المغني: 4/120، 130، غاية المنتهي: 2/80، كشاف القناع: 4/237، المحلي: 9/7، أصول البيوع الممنوعة للشيخ عبد السميع إمام: ص19، الغرر وأثره في العقود للدكتور الصديق محمد الضرير: ص315.
(3) الموسوعة السابقة: 5/426.(6/995)
حكم أعمال البرصة
في الفقه الإسلامي
إعداد
فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس
الأستاذ بكلية الشريعة – جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم أعمال البرصة (1) . في الفقه الإسلامي
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونسأله عز وجل السداد والرشاد. ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن ديننا العظيم الذي شرع العبادات كان موقفه من المعاملات أنه نظمها، فجاء والناس يتعاملون، فأخذ ينظم هذه المعاملات: حرم منها ما حرم، وأحل منها ما أحل، وعدل منها ما عدل.
أحل البيع وحرم الربا، ووجدت أسواق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هو بنفسه عليه الصلاة والسلام يمر على هذه الأسواق، وأرسل من يراقب الأسواق في مكة لما كان في المدينة.والخلفاء الراشدون من بعده صلى الله عليه وسلم كانوا أيضا يراقبون الأسواق. ونعرف أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان لا يسمح لتاجر بأن يدخل سوق المسلمين إلا إذا كان عالما بفقه المعاملات حتى لا يقع في الربا، وكان يلاحظ عندما يدخل السوق ألا يكون ضرر بالمشترين ولا بالبائعين، ليست المسألة حماية المشترين فقط كما قد يتبادر إلى الأذهان، وإنما أيضا بالنسبة للبائعين فيذكر أن أحد البائعين أراد أن يبيع أقل من السوق فقال له: إما أن تبيع مثلهم وإما أن ترحل عن سوقنا. إذن هنا حماية للمشترين وحماية البائعين، وفرق بين أولئك البائعين الذي يستحقون الحماية، وبين بائعين محتكرين مستغلين جشعين.
وضعت القواعد العامة في البيوع، ولما تطورت الأسواق في ظل النظام الإسلامي كان التطور في حضانة الإسلام، ولذلك عندما نشأت عقود جديدة ومعاملات مستحدثة في تلك العصور: في القرن الثاني مثلا تعتبر مستحدثة بالنسبة للقرن الأول، وعقد ينشأ في القرن الثالث يعتبر مستحدثا بالنسبة لما قبله، وهكذا، كانت النشأة في حضانة الإسلام، ولذلك ما كان يأتي عقد من العقود، أو تنشأ معاملة من المعاملات إلا في ظل الإسلام، فإذا كانت تتفق مع كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ضوء المبادئ الإسلامية العامة أخذ بها، وإلا فلا يؤخذ بها.
ولهذا انتظمت الأسواق، وظهرت وظيفة المحتسب: والمحتسب كانت الوظيفة الأساسية له وظيفة دينية وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، غير أنه أيضا كان يراقب الأسواق، فيمنع الغش في الكيل أو الوزن أو البضاعة وهكذا.
ولهذا وجدنا أن البائع يستفيد وأن المشتري يستفيد، وبين البائع والمشتري محبة ومودة وأخوة إسلامية، لا عداوة كالتي نراها بين المقامرين، لا يكسب هذا إلا على حساب ذاك، إذا خسر هذا ربح ذاك، أما في البيع الحلال فالبائع يبيع للمشتري ويدعو له، والمشتري يأخذ من البائع ويدعو له. والبائع إذا عرف أن المشتري أخذ يتاجر فباع فكسب يفرح لهذا ولا يغضب، إنما المقامر ربحه مرتبط بخسارة غيره لا يربح إلا إذا خسر غيره.
__________
(1) البرصة: فتق في الغيم يرى منه أديم السماء، وبقعة في الأرض لا تنبت شيئا. وفي علم الاقتصاد السياسي: المصفق، وهو سوق يعقد فيها صفقات القطن والأوراق المالية، الجمع: براص، وبرص (انظر المعجم الوسيط) .(6/996)
من هنا وجدنا في البيوع أن ما فيه قمار فهو حرام أو ما هو شبيه بالقمار، فأكثر العقود مرد فسادها إلى أمرين أساسيين: الربا والميسر، وما في معنى الربا ومعنى الميسر.
لهذا وجدنا بيوعا ينهي عنها الإسلام كبيع الثمار قبل بدو صلاحها، لأنه لا يدري أتصلح أم لا تصلح؟ وكبيع الجمل الشارد، والعبد الآبق لأن هنا من باع إنما يبيع بثمن بخس، إذا كان هذا يساوي ألفا يمكن أن يبيعه بمائة، فإذا اشترى المشتري بمائة ثم بحث فوجده قال البائع له: قمرتني لأنك أخذت ما قيمته ألف بمائة، وإذا بحث المشتري ولم يجد وضاع عليه المائة أيضا قال للبائع: قمرتني.
الآن مثلا لو فرضنا أن سيارة ضائعة ومالكها يقول أنا أبيعها قيمتها خمسون ألفا وأبيعها بعشر آلاف. واشتراها شخص بعشرة آلاف بالتراضي بين الطرفين، المشتري راض والبائع راض، فإذا أخذ المشتري يبحث عن السيارة فوجدها في مكان قريب فهل التراضي الذي كان موجودا أهو فعلا لا يزال موجودا؟ إذا كان المشتري يبحث ولا يجد السيارة وخسر العشرة آلاف فهل يرضى؟ ولذلك مثل هذه البيوع حرمها الإسلام تماما.
والأصل في البيوع أن الإنسان يبيع الشيء أو يشتري لأنه في حاجة إلى المال أو السلعة أو في غنى عن السلعة، ولذلك يتم التقابض، وهناك بيوع لا بد فيها من هذا التقابض وهي تبادل الأجناس الربوية الستة وما يلحق بها، فاستبدال طعام بطعام، أو نقود بنقود، لا بد فيه من التقابض في المجلس. ولكن يمكن أن يكون هناك البيع الآجل، وهو بيع السلعة والثمن المؤجل، ويمكن أن يكون ما يسمى في الفقه الإسلامي بيع السلع، ندفع الثمن الآن والسلعة نتسلمها في وقت لاحق: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم) . وعند وضع الإسلام هذه القاعدة وضعها للتيسير على الناس، ولذلك إذا كان في البيع الآجل زيادة في الثمن فيها غبن فاحش وظلم بين كان البيع حراما.
في السلم المشتري يدفع الثمن ويستغني عنه ويستفيد البائع من هذا الثمن، وفي نظير ذلك قد تكون السلعة أرخص، ولكن لا يتخذ من هذا وسيلة للتجارة قبل أن يتسلم السلعة: لذا أجمع الفقهاء على أن من اشترى سلما لا يجوز له أن يبيع السلعة قبل قبضها، وفي الحوالة يقولون بأنه لا يجوز الحوالة إلا بدين مستقر، ويضربون مثلا على ذلك دين السلم، فيقولون لا يجوز الحوالة به لأنه دين غير مستقر، ما معنى دين غير مستقر؟ أنه إذا جاء الوقت الذي استحق فيه المشتري السلعة، ولأي سبب من الأسباب لم توجد، وأخذ الثمن يأخذ الثمن الذي دفعه ويفسخ العقد، والثمن دفعه بقي شهورا نرى هنا أنه لا يأخذ أكثر من الثمن.
وبعض الذين قرءوا لشيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه شيئا عن دين السلم بعضهم قرأ جزءا ولم يقرأ باقي الأجزاء، وقرأ شيئا متعلقا بموضوع معين ولم يفهم المقصود، ولم يجمع الموضوعات الأخرى، لأن شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى نجد الموضوع الواحد قد يكون في أكثر من جزء، ولذلك هذا يستدعي التثبت، وبعض المعاصرين قرءوا لشيخ الإسلام بأنه يجوز للمشتري الاعتياض عن دين السلم بأن يأخذ مكانه شيئا آخر، وأن هذه مسألة خلافية ولكنه أيد هذا الاعتياض: فقالوا إذن هنا يجوز بيع دين السلم، واقترحوا فعلا في عصرنا أن نستفيد من هذا، فنصدر صكوكا بألف وبعد شهر بألف وعشرة، وبعد شهرين بألف وعشرين وهكذا.(6/997)
هؤلاء الذين قرءوا لابن تيمية هذا القول لم يقرءوا له ما كتبه في مكان آخر من أن الأئمة الأربعة أجمعوا على أنه لا يجوز بيع دين السلم، ولم يفرقوا بين كلمتي بيع واعتياض: فالبيع للربح أما الاعتياض فمعناه أن يأخذوا بمثل السلعة أو بأقل، فلا يجوز الربح.
هذه قواعد عامة لاحظها فقهاء سابقون، بعد هذا نأتي إلى عصرنا، نظم الاقتصاد في العالم المعاصر بعيدا عن الإسلام، ونشأت المعاملات بعيدة عن الإسلام، ولذلك رأينا في المحاضرات السابقة كيف أن البنوك نشأت نشأة يهودية ربوية، فدخلت بلاد الإسلام كما هي يهودية ربوية، ولا تزال إلا ما نسمعه الآن عن المصارف الإسلامية.
ولننظر إلى البرصة: وهي تختلف عن الأسواق في بعض الأشياء، فصفقاتها مثلا عمليات كبيرة في أشياء مثلية متجانسة ... إلخ لا نريد أن نقول كثيرا في هذا، وإنما نريد أن نقف عند الصفقات التي تعقد في البرصة لنرى جانب الحل والحرمة. إذن البرصة هذه ما دامت نشأت في غير ظل الإسلام لا نتوقع أن تكون إسلامية. لا نتوقع هذا، قد يكون فيها شيء يتفق مع الإسلام، ولكن لا نتوقع أن تكون إسلامية خالصة، بل إننا عندما ننظر في أعمال البرصة فإننا سنجد أن أكثر أعمالها بعيدة عن الإسلام.
فعندنا مثلا بورصة الأوراق المالية: ماذا يباع فيها؟ السندات والأسهم، وبورصة سلع حاضرة، وآجلة، وبرصة النقود يباع فيها النقود. ننظر إلى ما يتم في تلك البرص.
السندات التي تباع، ما حقيقة هذه السندات؟ السندات سواء أكانت حكومية أم تصدرها هيئة أم شركة عبارة عن قروض طويلة الأجل أو قصيرة الأجل، وهذه القروض الهيئة أو الشركة أو الحكومة التي أصدرتها ضامنة لها، فتدفع فائدة سنوية محددة، سند مثلا بمائة وله فائدة سنوية عشرة، فلو فرضنا مثلا أن شركة من الشركات هي التي أصدرت السندات فإنها في نهاية العام قبل توزيع الأرباح على المساهمين تخرج الزيادة الربوية للمقرضين، وما يتبقى يوزع على المساهمين، إذا لم تربح الشركة أخذ من أصولها، إذا أفلست الشركة دخل أصحاب السندات مع الدائنين، والمساهمون لا يأخذون شيئا إلا بعد الديون.
إذن لا خلاف حول أن السندات قرض بزيادة في مقابل الزمن، وهذا هو ربا الديون الذي حرمه الإسلام. كأن البرصة إذن عندما تبيع سندات إنما تبيع قروضا ربوية. أمر عجيب أن القرض نفسه يباع. وأيضا قد يباع ربويا في الحال وقد يباع بالأجل كما سنرى في طريقة البيع، إذن هنا ما دام السند له فائدة محددة مقابل الزمن بالقيمة الاسمية فهذه الزيادة الربوية تجعل السند قرضا ربويا، وما دام قرضا ربويا فلا يحل بيعه ولا شراؤه ولا تملكه ولا إصداره ولا حيازته. كل من تعامل في سندات فقد أذن بحرب من الله ورسوله.(6/998)
هذا بالنسبة للسندات، ونأتي للأسهم: الأسهم عبارة عن ماذا؟ مثلا وجدنا اثنين أو ثلاثة يكونون شركة بينهم، وكل دفع جزءا من رأس المال في شركة صغيرة عادية، غير أننا نجد بعض الشركات وبالذات في عصرنا. رأس المال يكون كبيرا، ولذلك نسمع عن اكتتاب لشركة تحت التأسيس، أو بيع أسهم شركة كذا، معنى بيع أسهم يعني أن رأس مال الشركة قسم إلى أجزاء، السهم يمثل جزءا من هذه الأجزاء.
فلو فرضنا أن الشركة طرحت ألف سهم واشترى واحد عشرة أسهم، إذن هو يملك من الشركة عشرة في الألف (1 %) ، الشركة هذه التي تكونت من الأسهم أصبح المساهمون يمثلون أصحاب رأس المال.. أصحاب رأس مال الشركة. ومعنى هذا أن الربح للمساهمين والخسارة أيضا على المساهمين والغنم بالغرم.
وأحيانا نجد شركة تريد أن تزيد في رأس المال، فتصدر أسهما جديدة، أيضا من اشترى هذه الأسهم أصبح شريكا بنسبة أسهمه إلى مجموع الأسهم.
ولكن الشركة أحيانا تصدر سندات بدلا من الأسهم، لماذا؟ لأن الشركة تنظر بتفكير ربوي معاصر، الأفضل السند بفائدة كذا أم إصدار أسهم؟ فإذا وجدت أن السند بفائدة يحقق للمساهمين أرباحا أكثر أصدرت سندات، وإذا وجدت أن الأسهم تحقق أرباحا أكثر أصدرت أسهما. وقد تكون السندات لوقت قصير حتى يعاد القرض ويبقى عدد الأسهم كما هو.
إذن الفرق بين الأسهم والسندات أن السندات قرض ربوي وأن الأسهم جزء مشاع في شركة، ومعنى هذا أن من اشترى أسهما أصبح شريكا في الشركة. وهل هذا يعني أن شراء الأسهم في البرصة حلال؟. ننظر هنا: الأسهم هذه لأي شركة؟ لا بد أن ننظر أولا للشركة التي أصدرت الأسهم.
فلنفرض أنها شركة تتعامل بالحرام، شركة مصنع خمور وتجارة خمور، إذن من اشترى أسهما أصبح تاجر خمور. شركة لإنشاء بنك ربوي إذن شراء سهم من أسهم البنك الربوي يعين أن المشتري أصبح أحد المرابين. إذن لا بد أن ننظر إلى عمل الشركة. لنفرض أن الشركة تتعامل في الحلال، شركة نقل بحرية مثلا، أو شركة صناعية، ولكن هذه الشركة فائض أموالها أين تستثمره؟ إنها عادة تضع في البنوك الربوية بفائدة ربوية، ولذلك المشترك في هذه الشركة سيكون من كسبه هذا الجزء من الربا.(6/999)
ولهذا حتى لا يلتبس الأمر، وحتى نضع حدا فاصلا لمن أراد أن يشتري الأسهم، وضعت هيئة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي شرطين لا بد من تحققهما إذا أراد المصرف شراء أسهم أي شركة، وهذان شرطان هما:
أن تكون الشركة مالكة الأسهم شركة إسلامية، ولها رقابة شرعية. فإذا نظرنا إلى البرصة فأين الشركات المساهمة الإسلامية التي لها رقابة شرعية وتتعامل في البرصة؟ إذا وجدت هذه الشركات يكون الاشتراك في الشركات حلالا أما إذا لم توجد وقد لا توجد إلا إذا وجدت سوق إسلامية؟
معنى هذا أن الأسهم في البرصة معظمها إن لم يكن كلها حرام التعامل فيها: الشراء والبيع والحيازة وهكذا ما دامت الشركة ليست إسلامية.
أمر آخر: لو فرضنا أن الأسهم في الشراء حلال فكيف يتم البيع والشراء في البرصة؟
من المعلوم عند عقد البيع وجوب قبض البدلين كليهما أو أحدهما. فإما أن نقبض السلعة والثمن أو نقبض الثمن في السلم، أو نقبض السعلة في البيع الآجل، أما أن نبيع ولا ثمن ولا سلعة الآن فهذا ما يسمى ببيع الكالئ بالكالئ، أو الدين بالدين، والأئمة يمنعونه.
الشراء كيف يمنعونه في البرصة؟ البيع في السوق العاجل: يشتري ويبيع ويقبض، فإذا كان السهم حلالا فالعقد صحيح حلال، ولكن نأتي إلى البيع الآجل سواء أكان هذا في أسواق الأوراق المالية، أم البضائع، أم النقود، هذا البيع الآجل ماذا يعني؟
له صور مختلفة، منه ما يسمى بالبيع البات وهو بيع آجل وبات، يعني نهائي، بمعنى أن المشتري والبائع يتفقان على شراء أسهم معينة محددة تسمح بها نظم البرصة، فالبرصة تجعل البيع لعدد معين ومضاعفاته، وتتم الصفقة في أول تصفية، فوقتها هو موعد التقابض، فالثمن لا يدفع الآن، والأسهم لا تسلم الآن، ثم عندما يأتي الوقت ينظر إلى الثمن الحال في وقت التصفية كم هو؟ أزاد عن وقت الاتفاق أم قل أم بقي كما هو؟ فإذا كان أكثر أو أقل ننظر هنا: ألصالح البائع أم المشتري؟
نضرب مثلا: البائع والمشتري اتفقا على شراء أسهم معينة بسعر مائة، معنى هذا أن البائع ملتزم ببيع أسهم من هذا النوع في وقت التصفية بسعر مائة، وأن المشتري يلتزم بشراء هذه الأسهم بسعر مائة، فإذا كان السعر السائد في وقتها مائة انتهى الأمر بلا كسب ولا خسارة إلا بقدر ما يخسره المتعاملون في البرصة، وهو ما يدفع للإدارة والسماسرة. إذن يسلم الأسهم ويأخذ الثمن، ولكن لا حاجة إلى هذا، لأنه لا بيع ولا شراء أصلا في الواقع، وإنما هو ما يسمى بالمضاربة.
والحقيقة البرصة فيها أسماء تلتبس على المسلمين مثل كلمة مضاربة ومرابحة: المضاربة في الإسلام تعني شركة رأس المال من جانب والعمل من جانب والربح يقسم بين الأثنين بالنسبة المتفق عليها، إنما المضاربة في البرصة تعني المقامرة. كيف هذا؟ المشتري عندما اشترى بمائة اشترى لأنه يضارب (يقامر) على الزيادة، والبائع عندما باع بمائة إنما باع لأنه يتوقع النقصان: مثلا السهم الذي اتفق عليه بمائة في موعد التصفية أصبح يباع حالا في السوق العاجلة بمائة وعشرة، والمسألة اشترى بمائة.. إذن هنا معناه أنه يأخذ من البائع بمائة ويبيع هو بمائة وعشرة، والمسألة لا تحتاج إلى تعب وتسليم وتسلم، وإنما الوسيط الذي يقوم بالعلميتين يسجل العملية الأولى بأن المشتري اشترى مثلا ألف سهم بسعر مائة، ثم الآن له الألف هذا في مائة وعشرة، إذن المكسب عشرة آلاف، فيقيد لحسابه، وهذه تعني أنها تخصم من حساب البائع، ولذلك قلت بأنه لا كسب لأحد إلا على حساب الآخر، تماما كالمقامرين.(6/1000)
لنفرض أن هذا السهم جاء على غير ما توقع المشتري، المشتري توقع أن تزيد فإذا به ينخفض كما توقع البائع. فأصبح بخمسة وتسعين إذن البائع يستطيع أن يشتري من السوق الحال بخمسة وتسعين ويبيع بمائة، ولكن الوسطاء والقائمون على البرصة يسهلون المسألة، لا حاجة إلى تسليم وتسلم، ما جاء به الإسلام من مسألة القبض والتسليم والتسلم هذا أمر لا حاجة إليه عند هؤلاء، أنت الآن بعت واتفقت على أن تبيع بمائة والسعر الآن أصبح خمسة وتسعين، يعني إذن إذا اشتريت بخمسة وتسعين تبيع بمائة وتكسب خمسة، إذن لك خمسة آلاف، فيكون هذا كسبا لمن باع خصما من حساب المشتري. هذه حالة، فهل مثل هذا يمكن أن يعد بيعا وشراء.
شيء آخر: المشتري قد يحتاط لنفسه، يخشى أن تنخفض الأسعار لدرجة كبيرة جدا، فيشتري مع خيار شرطي، وهو إما أن يتم الصفقة أو يدفع تعويضا للبائع، أوضح هذا: المشتري يشتري ويجعل لنفسه الخيار: يتفق مع البائع بأن له الخيار إما أن يتم البيع أو يدفع له تعويضا، يعني مثلا في الحالة السابقة المشتري قد يشتري بمائة مع شرط التعويض بخمسة إذا رغب في عدم إتمام الصفقة، فعندما يأتي الوقت إما أن يشتري بمائة، أو يترك الصفقة ويدفع خمسة عن كل سهم، فلو فرضنا أن السعر في وقتها أصبح بمائة يشتري حتى لا يخسر، وإن كان بمائة وعشرة فهي فرصة للكسب، لأنه يشتري بمائة ويبيع بمائة وعشرة، وإن كان بخمسة وتسعين استوى عنده إتمام الصفقة وعدم إتمامها، فهو خاسر حتما، والخسارة واحدة: إذا اشترى بمائة وباع بخمسة وتسعين خسر خمسة، وإذا لم ينفذ العملية خسر خمسة، فإذن هنا الوسيط يقيد عليه عدد الأسهم وخسارتها، ولو أن قيمة الأسهم قلت عن هذا فأصبحت مثلا بثمانين فإنه يخسر عشرين في كل سهم إذا أتم الصفقة، ولهذا فإنه لا يتمها، ويكتفي بدفع التعويض للبائع.
هذا بالنسبة للمشتري، أما البائع فإنه على عكس هذا، يتوقع انخفاض السعر فيبيع مع شرط الخيار له أيضا في أن يتم الصفقة أو يدفع تعويضا. فهنا اتفق بمائة، ثم أصبح سعر السهم عند التصفية بتسعين، إذن يشتري بتسعين ويبيع بمائة ويربح عشرة، وإذا أصبح بمائة ويبيع ويشتري ولا يدفع تعويضا، ولا يربح ولا يخسر إلا الخسارة التي أشرت إليها من قبل وهي ما يأخذه السماسرة وإدارة البرصة. وإذا وصل سعر السهم إلى مائة وخمسة، وهو اتفق أن يبيع بمائة، إذن لو اشترى من السوق العاجل بمائة وخمسة وباعه بمائة خسر خمسة، والتعويض أصلا خمسة، إذن التعويض يدفعه وانتهى الأمر. وإذا ارتفع السعر أكثر من هذا، أصبح مائة وعشرة أو مائة وعشرين، هنا لا ينفذ العملية وإنما يدفع التعويض وهو خمسة.
فهذا كما نرى شرط للمشتري أو شرط للبائع، ولا ثمن ولا سلعة، ولا تسليم ولا تسلم، وإنما هي مسألة أن هذا يتوقع أن يكون السوق في اتجاه الارتفاع، والآخر يضارب – أي يقامر – في اتجاه الانخفاض، فإذا جاء كما توقع أحدهما ربح على حساب الآخر الذي جاء على خلاف توقعه، وهكذا.(6/1001)
قد يأتي واحد ويقول هنا: البيع في الإسلام فيه خيار الشرط، وأجازه الأئمة الأعلام؟ نعم يوجد خيار الشرط، ولكن ما معنى خيار الشرط في البيع في الفقه الإسلامي؟ عندنا خيار المجلس وخيار الرؤية وخيار التعيين وخيار العيب وهكذا، خيارات مختلفة، البيعان بالخيار ما لم يتفرقا.
إن خيار الشرط يعني أن البائع عندما يبيع السلعة يسلم ويتسلم المشتري، قد يشترط المشتري الخيار مدة يوم أو يومين أو ثلاثة مثلا، بحيث إنه في هذه المدة يشاور، قد يكون اشتراه لغيره فيسأل غيره، قد يكون على غير دراية بالسوق، فيقول هنا لي خيار يوم أو يومين أو ثلاثة حتى أبحث هل السعر مناسب أم لا؟ والبائع كذلك قد يجعل خيارا لنفسه، وخيار الشرط يعني أن المدة إذا انقضت ولم ينفسخ البيع فإن البيع تام كما هو، لا زيادة ولا نقصان ولا تعويض، إذا جاء المشتري في مدة الخيار وفسخ البيع أخذ البائع سلعته وأخذ المشتري الثمن. إذا جاء البائع وكان له حق الخيار – خيار الشرط – وأراد أن يسترد سلعته أخذها ورد الثمن.
هذا معنى خيار الشرط، إنما خيار بمعنى إلا سلعة ولا ثمن، وأن هناك تخمينا وتظننا أن السعر قد يكون كذا، فهذا أشبه في الحقيقة بموائد القمار، لأن الهدف الأساسي هنا هو المضاربة كما يقولون، ولكن الواقع أنها المقامرة: المترجمون ترجموا الكلمة إلى العربية بكلمة مضاربة، لأن المترجمين أيضا لا يعرفون معنى المضاربة الإسلامية، ولذلك وجدنا أن بعض المسلمين الذين فهموا معنى مضاربة إسلامية عندما جاءوا للترجمة قالوا نسمي هذه متاجرة، وأقول: إنها ليست متاجرة، إلا إذا اعتبرنا القمار نوعا من التجارة، فإنه لا تسلم ولا تسليم وتسليم ولا بيع ولا شراء، وإنما كل واحد يضارب الآخر على الصعود أو الهبوط، أي يقامره.
وأنتقل بعد هذا لبيان صورة أخرى من صور التعامل في البرصة وهي: أن يحدد سعر أدنى وأعلى للبيع أو الشراء، على أن يكون للمشتري أو للبائع الخيار ... في ماذا؟ السعر مثلا اتفق على أنه من سبعين إلى ثمانين والخيار للمشتري، والخيار للمشتري يعني إما أن يبيع بسبعين وإما أن يشتري بثمانين. معنى هذا أن المشتري عندما يأتي وقت التصفية إما أن يظل مشتريا، وإما أن يتحول إلى بائع، والبائع يتحول إلى مشتر.(6/1002)
فإذا كان السعر سبعين باعه بسبعين، وإذا كان ثمانين اشترى بثمانين، وإذا كان السعر بين السبعين والثمانين فإن البائع يربح، لأن المشتري إذا اختار أن يكون بائعا فسيبيع له بسبعين، يعني لو فرضنا مثلا أنه كان بخمسة وسبعين، فالمشتري الذي له الخيار إذا قال أنا أبيع فإنه يبيع بسبعين، إذن كان بخمسة وسبعين، فالمشتري الذي له الخيار إذا قال أنا أبيع فإنه يبيع بسبعين، إذن يخسر خمسة، أو يشتري بثمانين، فالبائع يشتري بخمسة وسبعين ويبيع بثمانين، يعني إذن البائع في حالة الخيار للمشتري يربح إذا كان السعر بين السعرين: السبعين والثمانين، أما إذا زاد عن الثمانين أو قل عن السبعين فإن البائع لا بد أن يخسر، والمشتري الذي قامره يكسب بقدر خسارة خصمه، بأن يتحول إلى بائع أو يظل مشتريا، والعكس بالنسبة للبائع لو أن الخيار كان له.
ونترك المضاربة ونأتي إلى مايسمى في البرصة بالمرابحة: قد يأتي الوقت المحدد للتصفية ولا يستطيع المشتري أن يتم الصفقة لأن الأسعار تطورت تطورا كبيرا على خلاف ما توقع، مثلا اشترى بمائة وثلاثين فإذا به يصل إلى مائة، فعليه أن يشتري الأسهم بمائة وثلاثين، ويبيع بمائة، فيخسر ثلاثين في كل سهم، ويمكن أن يكون اشترى مجموعة كبيرة من الأسهم، ونستطيع أن نتصور هنا الخسائر التي يمكن أن تقع، فإذا وجد المشتري أنه لا يستطيع أن يتم الصفقة في الموعد، هنا يمكن أن يؤجل هذه الصفقة إلى التصفية التالية عن طريق التأجيل بالمرابحة.
وقد يختلط الأمر عند سماع كلمة المرابحة، ونحن نعرف أن المصارف الإسلامية تبيع بالمرابحة، ولكن الأمر مختلف تماما كالمضاربة في البرصة والمضاربة في الإسلام، فالمرابحة في البرصة لا تعني المرابحة في المصارف الإسلامية، لأن المرابحة في المصارف الإسلامية تعني أن المصرف له الحق في بيع السلعة متى اشتراها وامتلكها وحازها، وضمن هلاكها قبل التسليم، ثم يقع على المصرف تبعه الرد بالعيب الخفي بعد البيع، إنما هنا التأجيل بالمرابحة معناه أنه يبحث عن ممول مما يخرجه من ورطته هذه مقابل زيادة (مقابل فائدة) ، فسمي هذا: زيادة بالمرابحة.. تأجيل بالمرابحة، أي قرض ربوي مقابل التأجيل.
والبائع قد يخسر ولا يستطيع تنفيذ الصفقة فهنا يؤجل بالوضيعة، الوضيعة أيضا نعرفها في الإسلام، فعندنا في الفقه الإسلامي البيع مساومة وبيوع أمانة. البيع مساومة وهو البيع الشائع الذي يتم به الشراء دون إشارة إلى ربح البائع أو عدم ربحه أو خسارته.
أما بيوع الأمانة فإنها تعتمد على أمانة البائع، وتنقسم إلى مرابحة وتولية وحطيطة أو وضيعة: فالمرابحة تكون عندما يتفق البائع مع المشتري على البيع مع تحديد ربح معين، كأن يقول، هذه كلفتني مائة وأبيعها لك بمائة وعشرة. هذا بيع مرابحة، وقد يكون التاجر عنده سلعة ويريد أن يتخلص منها فيقول أنا أبيعها بسعر التكلفة، فهذا بيع التولية: يعني لا ربح ولا خسارة. وقد يخشى التاجر على البضاعة أن تتلف أو لسبب ما فيقول: أنا أبيعها وأخسر فيها عشرة في المائة مثلا، فهنا يسمى ببيع الحطيطة أو الوضيعة.
إنما بالنسبة للبرصة الوضيعة لا تعني هذا، إنما تعني أن البائع إذا ارتفعت الأسعار، وأصبحت خسارته كبيرة، فأراد تأجيل الصفقة، فعليه أن يجد متعاملا يملك النوع المطلوب من الأوراق المالية، فيشتريها منه، ثم يبيعها له مرة أخرى على أساس موعد التصفية التالي حسب التقاص، أي تتم إعارة هذه الأوراق لقاء فائدة ربوية تسمى (وضيعة) .(6/1003)
إذن المرابحة – في البرصة – قرض ربوي للمشتري، والوضيعة قرض ربوي للبائع.
وأحيانا تكون العملية مركبة بحيث يشترط أكثر من شرط، أو يدخل ليشتري هنا ويبيع هناك، حتى إذا كان الاتجاه في الصعود يقلل من الخسارة، وكذلك إذا كان الاتجاه في الهبوط.
البيع الآجل في الواقع لا يعني بيعا ولا شراء، ولا تسليما ولا تسلما، فعلى سبيل المثال فبورصة نيويورك عندما قاموا بإحصائية وجدوا أن القبض الفعلي لا يكاد يصل إلى اثنين في المائة، معنى هذا أن الداخلين إلى سوق البيع الآجل إنما هم مريدون للمضاربة، أي المقامرة، فلا يريدون الشراء، ليسوا في حاجة إلى أسهم، وإنما هم يدخلون السوق من أجل المقامرة، بمعنى أنه إذا رأى أن السعر سيرتفع من وجهة نظره اشترى، وإذا رأى أنه سينخفض باع بسعر معين.
ويذكرون مما يحدث أشياء عجيبة، يذكرون أشياء يلجأ إليها هؤلاء أحيانا، حيل للتلاعب بالأسعار، كأن تتفق مجموعة مثلا على حيازة سلعة معينة أو أسهم معينة، ثم تشتري بالأجل، فإذا جاء وقت الأجل يبحث البائع عن السلعة فلا يجدها، لأن المجموعة احتفظت بها، ويسمون هذا (الكورنر) . يعني وضعه (الكورنر) .. يعني وضعه هكذا بحيث لا يستطيع أن يتحرك.. ما هذا؟ هل هذا هو البيع الذي أحله الإسلام؟ هل هذا هو الذي يحقق المصلحة التي من أجلها أحل الله البيع وحرم الربا؟
ولذلك الأسواق المالية هذه لا يجوز لمسلم أن يدخلها بائعا أو مشتريا إلا إذا كان يريد بالفعل أن يشتري أسهما إسلامية، وأن يتسلم الأسهم، ويدفع الثمن، أو يدفع الثمن ويتحدد موعد الأسهم، إنما لا ثمن ولا أسهم.. لا (بيع الدين بالدين) .. لا.
وهنا كذلك الأسهم إذا كانت تمثل نقودا فمن شروط بيع النقود بعضها ببعض – وهو ما يسمى بالصرف في الفقه الإسلامي – التقابض في المجلس، فلا يجوز التأجيل.
بالنسبة للسلع كذلك نفس العمليات التي قلناها هناك هي هنا، وأحيانا يقوم بعمليات مركبة.. فعالم البرصة هذا عالم عجيب، لأنه كما قلنا نشأ بعيدا عن حضانة الإسلام، وعن أحكام الإسلام.
هناك أنواع من البرص تبيع سلعا حاضرة بحيث إن الإنسان يشتري ويتسلم السلعة ويدفع الثمن، لا شيء في هذا. ومن قبل كانت برص فعلا تقوم بهذا مثل بورصة مينا البصل، وبرص معينة كانت تقوم بهذا البيع فعلا، وتيسر البيع والشراء، لأن الكميات كبيرة فيمكن شراء كميات كبيرة أو بيع كمية كبيرة، أو جمع كمية كبيرة وبيعها ما دام الاتجاه للشراء الفعلي.
ولو فرضنا أنه اشترى معادن بالأجل، وتسلم المعادن والثمن مؤجل، أو باع المعادن والثمن مؤجل، هل هذا حلال أم حرام؟(6/1004)
قلنا في الفقه بيع آجل وسلم، إذن هنا تبعا للبيع الآجل ممكن، أو تبعا للسلم هذا أيضا ممكن، ولكن يبقى هنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح يدا بيد سواء بسواء مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء)) . معنى هذا تبادل ذهب بذهب لا بد أن يكون بنفس الوزن، والنقود كذلك تلحق بالذهب والفضة. ولذلك قلنا في محاضرة النقود بأننا أصبح عندنا الآن أجناس كثيرة، ففي عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان جنسان: جنس الذهب وجنس الفضة، أما في هذه الأيام تجد الفضة والذهب والعملات الورقية، كل دولة لها عملة، فكل دولة عملتها تعتبر جنسا: ريال قطر جنس، درهم الأمارات جنس، الريال السعودي جنس، وهكذا، فيمكن التبادل: ((إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) .
وقول سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه بأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الذهب بالورق (العملة الفضية) ربا إلا هاء وهاء)) (خذ وهات) ، ولذلك كانت الفتوى الإجماعية للمؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي بأنه (لا يجوز إلا بالتقابض الفوري، وأن البيع الآجل هو من الربا المحرم، ومعنى هذا أننا إذا أردنا أن نشتري سلعا: والسلعة ستتأجل، أو الثمن سيتأجل، فإن هذا يمكن في غير الذهب والفضة، ولكن وجدنا في عصرنا من الباحثين المسلمين من قال بأن الذهب كما يجوز أن نشتريه ونقبضه يجوز مع الأجل. لماذا؟ قال: بالنسبة للذهب الرسول عليه الصلاة والسلام جعل القبض يدا بيد في البيع لأنه كان ثمنا، والعلة الثمنية، والأثمان في عصرنا هي النقود الورقية لا الذهب.
ولتوضيح ما يتصل بالعملة في الذهب أقول: الفقهاء اختلفوا في التعليل، فبعضهم قال العلة الوزن، وقال: كل ما يوزن لا بد أن يكون التقابض في المجلس، فيلحق بالذهب النحاس والرصاص والحديد وغير ذلك مما يوزن. وبعضهم قال بالثمنية، والفقهاء الذين قالوا بالثمنية قالوا بأن هذه العلة قاصرة، ومعنى قاصرة أي أنها لا تتعدى الذهب ولا الفضة، بمعنى أن هذا الحكم قاصر على الذهب والفضة. ولماذا إذن أدخلنا النقود؟ قالوا: ربما شارك الأصل شيء فيلحق به، ولذلك المالكية قالوا بالعلة القاصرة، فلما ظهرت في عصرهم النقود النحاسية وراجت وأصبحت نقودا، قال الإمام مالك قوله المشهور: (لو أن الناس اتخذوا الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة) ، يعني أكره أن تباع بالذهب والورق مع التأجيل، والكراهة عند الأقدمين ليس معناها ما نسمعه من أن الحكم الشرعي خمسة أقسام: حلال وحرام ومستحب ومكروه ومباح، لا، الكراهة إذا أطلقت عند الأقدميين فإنما تعني التحريم.(6/1005)
إذن الجلود في ذاتها لا تلحق بالذهب والفضة، ولكنها إذا أصبحت نقودا ألحقت بالذهب والفضة، الورق الآن لا يلحق بالذهب والفضة، فإذا أصبح هذا الورق ريالات قطرية أو سعودية أو غيرها ألحق بالذهب والفضة لا لأنه ورق، ولكن لأنه نقود. أما الذهب والفضة فالحكم باق بالنسبة لهما سواء أكانا نقودا أم غير نقود.
ومن المعلوم في أصول الفقه أننا عندما نبحث عن العلة للقياس، فإنها إذا وجدت في فرع ألحقناه بالأصل قياسا عليه، أما الأصل فهو ثابت بالنص لا بالاجتهاد، وعلى أي حال النص والإجماع مدة أربعة عشر قرنا على أنه لا يجوز التأجيل أبدا بالنسبة للذهب.
وبعض الاقتصاديين أيضا (أفتوا) بجواز التأجيل. قالوا: الآن الذهب لم يعد هناك علاقة بينه وبين النقود بعد أن ترك الدولار القاعدة الذهبية منذ عام 1972 فأصبح الذهب ليس ثمنا. فما دام الدولار تخلى عن الذهب، فلم يعد الذهب نقدا ولا ثمنا، إنما أصبح سلعة كأي سلعة.
وهذا القول لا يصح فقها ولا اقتصادا:
فمن الناحية الفقهية لا يجوز الخروج على النص والإجماع، لا يجوز أبدا، ومسألة العلة إنما هي للإلحاق لا لإخراج الأصل، فأنا أبحث عن العلة لماذا؟ لألحق شيئا بالأصل لا لأخرج الأصل وأدخل الفرع، فالعلة إذا وجدت في حكم لم ينص عليه فهل نلحقه بحكم المنصوص عليه وأخرج الحكم المنصوص عليه؟ كيف هذا؟ فقها كيف هذا؟
وأما من الناحية الاقتصادية فبعض الاقتصاديين الذين لم يتحرجوا عن التصدي للإفتاء، والقول بعلم أو بغير علم، قالوا: الذهب الآن يباح أن يباع مع التأجيل لأنه سلعة بعيدة عن الثمنية. وإذا بحثنا وجدنا هذا القول الذي لا يصح فقها غير صحيح من الناحية الاقتصادية.
الاقتصادي عندما يقول هذا ألا يعلم مثلا أن صندوق النقد الدولي يشترط بالنسبة لحصص الأعضاء أن يكون الربع من الذهب الخالص والباقي بالعملة المحلية؟ وأن هناك هيئات دولية كثيرة تشترط مثل هذا الشرط، حتى أوروبا الشرقية عندما ارتبطت بالروبل ربطته بالذهب وقدرته بالذهب. فإلى جانب صندوق النقد الدولي نجد بنك التنمية الآسيوي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، وهيئات التنمية الدولية، والبنك الدولي للتعاون الاقتصادي لدول أوربا الشرقية، كل هؤلاء يشترطون جزءا معينا من الذهب، والفرق بين الذهب وباقي العملة أن العضو المشترك في صندوق النقد الدولي له أن يأخذ قروضا ميسرة مثل نصيبه من الذهب، وإن زاد عن النصيب من الذهب يأخذ بالقروض التي يفرضها البنك.
إذن أيهما أكثر ثمنية ونقدية: الذهب أم النقود الإلزامية؟ ولو أن أي واحد منا عرض عليه أو أي دولة عرض عليها ذهب أو نقود ورقية فأيهما تفضل؟ ولو أن النقود الورقية لم تكن إلزامية من كان يأخذها؟ فيكف إذن أخرجت الذهب وهو الأصل؟ ولذلك أعجبني هذا الإعلان عن شركة إسلامية قامت لإعادة التعامل بالدينار الذهبي والدرهم الفضي، وأرباح المشتركين ستكون بالدينار الذهبي والدرهم الفضي.
وأذكر هؤلاء الاقتصاديين بأن فرنسا لا تزال مرتبطة بالذهب ارتباطا كليا، وأن بلادا أخرى تحتفظ بأرصدة ذهبية بنسبة معينة من قيمة عملتها.(6/1006)
وأذكر للاقتصاديين والفقهاء أيضا أنه في وقت ما كانت قاعدة المدفوعات في مصر بالنحاس، بحيث كان الذهب يقوم بالنحاس. العملة كانت نحاسية في وقت ما الأوقات، ومن كان عنده ذهب أو عملة ذهبية فإن قدر العملة يقدر بالنسبة للنحاس، وخسر الناس وقتها كثيرا لأن النحاس أصبح هو القاعدة. يعني من يملك نحاسا أفضل ممن يملك ذهبا، ومع هذا ما وجدنا فقيها يقول: أخرجوا الذهب من النص وأدخلوا النحاس، ما وجدنا هذا. ثم ما استمر هذا، وإنما فترة معينة كواحد مغتصب ثم عاد الذهب إلى وضعه الطبيعي مرة أخرى.
ولذلك احتمال أن يعود الذهب، ولو فرضنا أنه لا يعود فعندنا نص وإجماع، فلا نستطيع أن نخرج على النص ولا على الإجماع إطلاقا، وعلى الاقتصاديين أن يتوقفوا عن الإفتاء، وعلى الفقهاء الذين أفتوا أن يبحثوا الجانب الاقتصادي بحثا دقيقا، ثم عليهم أيضا ألا يخرجوا على إجماع أو على نص، والحمد لله كما قلنا هنا بأن الفتوى التي صدرت في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي صدرت بالإجماع، مع أن هناك من حاول أن يثير مسألة الذهب وأنه أصبح سلعة عادية، وبالمناقشة هو نفسه صوت مع الباقين على هذا القرار. إذن من قال بهذا لعله رجع أو يرجع، لأن هذه قضية خطيرة.
بعد هذا العرض السريع أقول:
إذا دخلنا في برصة السلع لنشترى بالسعر الحال، إنما مسألة أشترى في موعد التصفية القادمة، ولا سلعة تقبض ولا ثمن يقبض فهذا لا يبيحه الإسلام، وعلى ذلك ما دمنا قد عرفنا هذا أعتقد لو أننا أصبح في مقدورنا كمسلمين ونحن نمثل أكثر من خمس العالم , لو أصبح في مقدورنا أن ننشئ بورصة إسلامية (سوق إسلامية) لاستطعنا أن ننشئها كما كانت في الإسلام، ننشئها في ظل عقود المعاملات في الفقه الإسلامي، ولا نتخطى هذه العقود.
وأوضح مثل على هذا عندما وجدنا المسلمين يخرجون على هذه القاعدة، ويسايرون غيرهم، ويتعاملون بمثل هذا التعامل غير الشرعي، وجدنا في دولة شقيقة وهي الكويت وجدنا الكارثة التي حدثت في سوق المناخ: ربا وميسر، معاملات إذا أردنا أن نقومها فهي مجموعة من الربا والميسر، إلى أن تدخلت الدولة، واهتز الاقتصاد هناك، ثم لا تزال تعالج وتعاني من هذا.
إذن نحن كمسلمين لا حياة لنا حياة كريمة كمسلمين إلا إذا تمسكنا بكتاب ربنا، وسنة نبينا، وآمنا أننا في جميع المعاملات لا يمكن أن ننجح إلا إذا تعاملنا كمسلمين، لأننا في أي مجال.. في الحرب.. في السلم.. في أي مجال ما لم نتعامل كمسلمين: نقود الحرب كمسلمين.. نبيع كمسلمين.. نشتري كمسلمين، فلا خير فينا ولا في أموالنا، نسأل الله تعالى أن يزكي نفوسنا، وأن يزكي أموالنا، وأن يقنعنا بالحلال ويغنينا به، وأن يجنبنا الحرام ويبعده عنها ويبعدنا عنه، هو نعم المولى ونعم النصير، وشكر الله لكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور علي أحمد السالوس(6/1007)
الأسواق المالية والبورصة والتجربة التونسية
إعداد
سعادة الدكتور مصطفى النابلي
مدير بورصة تونس
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
يهدف هذا البحث أولا إلى تقديم إشكالية الأسواق المالية بصفة عامة ودورها في التنمية وكذلك وصفا لآليتها وكيفية عملها.
ونبين في مرحلة ثانية التجربة التونسية في ميدان السوق المالية مع خصائصها والمشاكل التي تعترض تطورها وكذلك آفاقها الجديدة بمناسبة الإصلاحات التي هي في حيز التطبيق.
الأسواق المالية دورها وآلياتها
يستدعي التعريف بالسوق المالية وأساليب عملها التعرض في مرحلة أولى إلى تحديد موضعها أو منزلتها من إشكالية التنمية وفي مرحلة لاحقة إلى بيان مختلف المفاهيم والآليات المتعلقة بها:
1 - إشكالية دور السوق المالية والبورصة في التنمية:
من أهم إشكاليات التنمية الاقتصادية هي طريقة الربط بين الادخار من جهة والاستثمار من جهة أخرى، أي الآليات التي تمكن من التوفيق بين:
- توظيف الادخار من طرف الأفراد أو المؤسسات ذات الفائض المالي سواء منها المالية (كمؤسسات التأمين) أو غير المالية من جهة.
- وتمويل المؤسسات ذات العجز المالي بما في ذلك الدولة لفائدة برامجها الاستثمارية من جهة أخرى.
ويمكن تقويم نجاعة هذا الربط الذي يعبر عنه بالوساطة المالية وآلياته عبر معيارين اثنين:
- الأول: هو مدى نجاعة توظيف الموارد نحو الاستعمال الأفضل (الأحسن) ، أي التمكن من تمويل واختيار أحسن المشاريع للاستثمار بما في ذلك اختيار القطاع ونوعية الإنتاج ... إلخ.
- والثاني: هو التمكن من بعث نسيج اقتصادي ومؤسسات إنتاج متوازنة ماليا وقوية يمكنها أن تجابه التقلبات والصعوبات المالية وغير المالية سواء في السوق الداخلية أو الخارجية.
والهدف الأصلي لكل ذلك هو تطوير الإنتاج القومي وتنشيط التشغيل لليد العاملة وخلق الثروات لفائدة المجموعة. ولئن تشعبت المسائل الخاصة بالأوراق المالية فلا يجب أن ننسى بأن المهمة والدور الأصلي للأوراق المالية يرجع إلى إضفاء أكثر نجاعة وفاعلية لعمليات الاستثمار الاقتصادية التي هي ركيزة التطور الاقتصادي وخلق الثروات الجديدة.
وقنوات الربط بين الادخار والاستثمار في جل البلدان هي ثلاثة:
أولها: التمويل الذاتي، أي أن المدخر يوظف وسائله المالية لفائدة مشاريع يقوم هو نفسه ببعثها على غرار رئيس العائلة الذي يقوم ببناء منزله الخاص أو المؤسسة التي تمول برنامج استثمارها من الأرباح التي تحققها والمدخرات التي تجمعها.(6/1008)
ثانيها: هو الجهاز البنكي والاقتراض، حيث تقوم البنوك بجمع المدخرات وتوظيفها عن طريق القرض لفائدة المؤسسات والأفراد.
وثالثها: هو السوق المالية التي تمكن باعث الاستثمار من التمول مباشرة لدى المدخر.
وتقاس نجاعة اقتصاد ما، بمدى استعمال القنوات الثلاثة للتمويل بصفة متوازنة وبعبارة أخرى فإن السوق المالية ليست السبيل الوحيدة إلى تمويل الاقتصاد بقدر ما هي الوسيلة الأنسب لتمويل الاستثمارات ذات الأمد الطويل خلافا للسوق النقدية مثلا التي هي موجهة لتمويل العمليات قصيرة الأمد.
ويمكن التذكير هنا بأن السوق المالية تنقسم عادة إلى قسمين:
- السوق الأولية أو سوق الإصدارات وهي التي يقع عبرها التمويل المباشر السابق ذكره. ويقع ذلك عن طريق مشاركة المدخرين في شراء مختلف الأوراق المالية كالأسهم والقروض الرقاعية أو السندات التي تصدرها مختلف المؤسسات ذات العجز في التمويل. وتتميز هذه التمويلات بطابع طول أمدها وتوفيرها لأموال قارة للمؤسسات.
- السوق الثانوية أو سوق البورصة وهي التي تمكن حاملي الأوراق المالية الموجودة والتي وقع إصدارها سابقا من تداولها من جديد. ودور هذه السوق هام إذ إنه يمكن من إعطاء الأوراق المالية السيولة التي تمكن بدورها من تنشيط السوق الأولية. وكذلك السوق الثانوية تمثل حافزا للشركات لتطوير تصرفها ونجاعتها، إذ إن السوق تشكل جهاز تقويم متواصل لفائدة المشاركين فيها.
ولهذين الجانبين من السوق المالية ارتباط متين إذ يكيف تطور الواحد منهما تطور الثاني.
2- السوق الأولية أو سوق الإصدارات:
الإصدارات الجديدة هي مجموع الأوراق المالية من أسهم وسندات وأدوات مالية أخرى التي يقع إصدارها من طرف الشركات أو بقية المؤسسات الأخرى مثل المجالس البلدية ومجالس المحافظات والدولة ... ويقع اكتتابها من طرف عموم الأشخاص بالمدلول القانوني للكلمة أي الأشخاص الذاتيين والمعنويين.
ومن الناحية الاقتصادية فإن مثل هذه العملية يقع بموجبها استحداث رأس مال، جديد ينشأ عنه استثمار جديد بتجميعه من مدخرات المكتتبين الذين هم في وضع فائض مالي بالنظر إلى حاجيتهم الاستهلاكية عند الاكتتاب ووضعه على ذمة خلايا إنتاجية هي المؤسسات التي عادة ما تكون في وضع عجز مالي لتمويل استثماراتها وبالتالي فإن دور السوق الأولية يتمثل في إرساء مسالك وقنوات الربط والاتصال بين أصحاب العلاقة في هذه الحلقة التي تصل المستثمر المدخر بمحقق الاستثمار الإنتاجي أو الخدمي.(6/1009)
ويستوجب منا تعريف السوق الأولية التعريج على أهم الأوراق المالية التي يقع إصدارها فيها ومواصفاتها القانونية والهيكلية من ناحية وعلى أبرز الطرق المتوخاة في توظيف هذه الأوراق لدى العموم من ناحية أخرى.
2-1 الأوراق المالية ومواصفاتها:
تنقسم الأوراق المالية عموما إلى صنفين بالنظر إلى شكلها القانوني وهما:
- الأوراق المالية التي تمنح حاملها نصيبا من رأس مال الشركة على قدر مساهمته فيه وتسمى عادة الأسهم وما يرتبط بها.
- الأوراق المالية التي لا تمنح لحاملها إلا حق دين على المؤسسة المصدرة يقع استرجاعه بعد مدة بمقابل.
إلا أن الاستنباط المالي الذي شهد تطورا بنسق منقطع النظير في الفترة الأخيرة وهو ما أصبح يصطلح عليه (بالهندسة المالية) قد توصل إلى استحداث أدوات مالية متنوعة ومتشعبة أحيانا قد يسهل ترتيبها بالقياس إلى طبيعتها كأدوات مساهمة في رأس المال أو كأدوات دين وقد يصعب أحيانا أخرى.
أما الأسهم فهي كما ذكرنا أوراق مالية يتمتع حاملها بحق ملكية لجزء مشاع من رأس مال شركة مساهمة وبقية أصولها وأموالها وينجم عن ذلك تمتعه بكل ما يحصل من زيادة في القيمة إلى هذه الموجودات ويجني ما يعود له من أرباح تحققها الشركة. كما أنه وبالمقابل فإن كل تدهور يحصل في الشركة ويمس موجوداتها ومدخراتها وأصولها وينتج عنه نقص في قيمة السهم أو خسارة، يكون على حساب المساهم ولو وصل الأمر إلى فقدانه لكل المبلغ الذي اكتتب به السهم عند الإصدار.
أما حامل السند، وعلى أساس أن هذا الأخير يمثل وثيقة إقراض للشركة أو أية مؤسسة مصدرة أخرى فإنه يكون في وضعية الدائن حيث إنه لا يتمتع بأية حقوق على أموال الشركة فهو لا يشارك في المرابيح بل يتقاضى فائضا سنويا أو في نهاية المدة يكون قارا أو متغيرا بتغير بعض المؤشرات حسب الحالة ولا ينتفع بالزيادة في القيمة التي تحصل لها وليس له أن يتدخل في شئون الشركة ولا في تسييرها. ولكنه لا يتحمل عادة الخسائر التي تتكبدها الشركة إلا في الحالات القصوى عند إفلاسها إذ قد يخسر حامل السندات جزءا أو كامل رأس المال.
2-2 آليات السوق الأولية:
يجدر التذكير أولا بأن شركات المساهمة أو الشركات خفية الاسم كما يصطلح عليها في بعض التشريعات العربية تكون من نوعين:
- الشركات التي تقوم بين عدد محدود من المساهمين غالبا ما يكونون من أفراد عائلة واحدة أو مجموعة تسمى شركات المساهمة الخصوصية أو الشركات المقفلة على أساس أنها ترفض دخول مساهمين من غير أفراد العائلة أو أفراد المجموعة وإن تم ذلك فإنه يتم بناء على مصادقة مجلس الإدارة أو الجمعية العامة على المساهم الجديد.(6/1010)
- شركات المساهمة العامة وهي التي تفتح رأس مالها للعموم بغض النظر عن انتسابهم وذلك بطرح رأس مالها للاكتتاب العام وهي ما تسمى بالشركات المفتوحة أو الشركات ذات القاعدة الواسعة للمساهمين حيث إن المساهمة في هذه الشركات تكون من رجال الأعمال ومن الأفراد العاديين كالأجراء وغيرهم ... إلى جانب المؤسسات الأخرى. وهذا الصنف من الشركات وهو الذي يقع تداول أسهمه في البورصة أو في السوق الثانوية.
وقد توصل الفكر المالي إلى استنباط أساليب عمل وطرق آليات لتسهيل انسياب الأموال من أصحابها إلى الذين هم في حاجة إليها مثلما أسلفنا سابقا. ومن أهم أركان هذه الآليات تجدر الإشارة إلى الوساطة المالية التي تقوم بها دور الوساطة المتخصصة وبنوك الإيداع والاستثمار وبنوك التنمية وغيرها من المؤسسات المهتمة بوصل حلقة الربط بين عارض الأموال وطالبها.
وقد استحدثت في هذا المجال فنيات عديدة ومتطورة لتوظيف الأموال وتغطية الإصدارات الجديدة حيث أصبحت المؤسسات التي ذكرناها تعد دراسة كاملة ومتكاملة لتمويل المؤسسات التي هي بحاجة إلى تمويل ثم تقتحم السوق بإصدار الأوراق والأدوات المالية لفائدة المؤسسة المصدرة (بتغطية) ذلك الإصدار أي أنها تتجمع كمؤسسات توظيف لتحصل على أقصى ما يمكن من الاكتتاب لدى الأفراد والمؤسسات وتتكفل بتغطية ما لم يمكن توظيفه لدى العموم باكتتابه مباشرة من طرفه كمؤسسات مغطية.
وتكون التغطية نفسها من نوعين:
- التغطية بضمان النتيجة، وهي التي يتكفل فيها الوسيط المالي بإنجاز الاكتتاب لفائدة المصدر بالبحث عن مكتتبين وبتحمل تبعة ما لم ينجح في توظيفه باكتتابه مباشرة من أمواله الذاتية.
- التغطية ببذل عناية، وهو العقد الذي بمقتضاه يتولى المغطّى البحث عن مكتتبين لفائدة المصدر مقابل عمولة متفق عليها دون الالتزام باكتتاب ما تبقى من الإصدار في حالة عدم توظيفه بالكامل.
إن مثل هذه الفنيات والوسائل المتبعة في ميدان الوساطة المالية لتهدف إلى بلوغ درجة عالية من مساهمة الأفراد والمؤسسات في السوق المالية عن طريق المشاركة الجماعية في تجميع الموارد الكافية لحاجيات الاستثمار وبما أن هذه العملية أصبحت تمس مصالح الفرد سواء كان عارفا بأصول المهنة وما تفرضه من حذق لأساليب وقواعد التعامل أو كان من غير أهل الاختصاص وهو ما يمثل السواد الأعظم من الناس، فإنه أصبح من المُتَحَتَّم على السّلطة الساهرة على سير الأسواق المالية حماية المتعاملين فيها بإرساء رقابة مختلفة الأوجه عليها سوف نتعرض إليها لاحقا.(6/1011)
3- السوق الثانوية:
السوق الثانوية هي سوق تبادل الأوراق والأدوات المالية التي سبق إصدارها طبقا للشروط التي أسلفنا ذكرها في السوق الأولية. وبصورة أدق فإن السوق الثانوية تجد تجسيما لها في البورصة وما يدور فيها من تداول للأوراق المالية المملوكة من طرف الأفراد والمؤسسات.
3-1 دور السوق الثانوية:
من هذا المنطلق فإن الدور الأساسي الموكول للسوق الثانوية أو للبورصة هو تمكين حاملي الأوراق المالية من أسهم وسندات من عرضها على الراغبين في شرائها أو طالبيها بالمفهوم الاقتصادي للسوق وبالتقاء العرض والطلب يتم تحديد السعر وبالتالي فإن السوق الثانوية تمكن المستمر حامل الورقة المالية من ترجمتها إلى نقود أي من تسييلها.
لكن دور السوق الثانوية أو البورصة لا يقتصر على هذه المهمة إذ زيادة على ما يوفره من تجميع لعناصر السوق من عرض وطلب في مكان واحد فإن البورصة تمكن حامل الورقة المالية من تسعيرها بالسوق علما وأن تلك الورقة وقع إصدارها بالسوق الأولية بقيمة اسمية.
وتختلف كفاءة السوق الثانوية أي درجة استجابتها للسيولة وتحديدها للأسعار أقرب ما يمكن إلى السعر الأعدل من بورصة إلى أخرى وترتبط كفاءة السوق الثانوية شديد الارتباط بازدهار السوق الأولية حيث كلما كانت السوق الثانوية عالية السيولة والمردودية والكفاءة وجدت السوق الأولية إقبالا على اكتتاب الإصدارات الجديدة.
3-2 تنظيم السوق الثانوية وآلياتها:
تختلف تنظيمات الأسواق الثانوية من بورصة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر ولكنها تشترك في أساسيات لعله من المفيد إبرازها.
أولا: تقوم كل سوق أوراق مالية على وسطاء يتولون تداول الأوراق بالسوق لفائدة المتعاملين ويكون هؤلاء الوسطاء إما أشخاص ذاتيين أو شركات مختصة أو مصارف أو الكل معا حسب الأنظمة والبلدان ويحرص هؤلاء الوسطاء على حماية مصالح متعامليهم وتنفيذ أوامر الشراء والبيع التي يتلقونها منهم بما يخدم تلك المصالح.
ثانيا: الشركات أو الأوراق المالية المدرجة: وهنا أيضا يختلف الوضع من تشريع إلى آخر فهنالك الأسواق التي لا تسمح بالتعامل في الأوراق المالية البتة خارجها، وكل تعامل تم خارجها يعتبر لاغيا، وهنالك التشريعات التي تقيم سوقا نظامية لأسهم عدد من الشركات وسوقا موازية لعدد آخر من الشركات. المهم أن الأسواق وإن اختلفت فإنها على الأقل بالنسبة للصنف الأول من الشركات وهي التي عرفناها سابقا بشركات المساهمة العامة التي تطرح أسهمها للاكتتاب العام يتم إدراجها بالسوق النظامية (أو ما يسمى أيضا السوق الرسمية أو السوق الأولى أو السوق القارة ... ) .
ويتم هذا الإدراج أو هذا القيد بناءا على طلب الشركة أو وسيطها وبعد دراسة مستفيضة لموازينها وحساباتها المالية من طرف البورصة طبقا لشروط الإدراج المبينة بالقوانين والنظم واللوائح العامة والداخلية للبورصات.(6/1012)
ثالثا: وجوب التزام الشركات المدرجة بالقواعد العامة لسير السوق والواجبات المفروضة عليها وتعليمات البورصة وتراتيبها خاصة فيما يتعلق بنشر المعلومات والإفصاح عنها بصفة مستمرة وكاملة وما يجب أن توفره من خدمة خاصة للمساهمين أو المشترين لأسهمها بالسوق.
أما القواعد التي تحكم السوق فتدخل ضمن آليات هذه السوق وهي تتمحور حول أساليب وإجراءات التعامل والوفاء والتسليم وطرق التداول وتحديد الأسعار.
4- مراقبة الأسواق المالية:
تنسحب مراقبة سلطات السوق المالية على السوق بفرعيها الأولي والثانوي لأن مصلحة التعامل تقتضي ذلك باعتبارها مصلحة غير قابلة للتجزئة ويمكن المس منها في أي مستوى كان.
وتستند قضية مراقبة السوق إلى الحرص على أن تكون التشريعات والإجراءات وكل قواعد اللعبة محترمة من طرف الجميع وخاصة من طرف المصدر للأوراق المالية وعلى أن تتم عملية الاكتتاب وبالتالي رصد المدخر لأمواله في مؤسسة ما في كنف الشفافية التامة وبناءً على معلومات مالية وغير مالية صادقة وثابتة ومستفيضة. لذلك فإن أهم التشريعات الرقابية تنص على أن لا يطرح المصدر أوراقه للاكتتاب العام إلا بعد أن يوزع نشرة إصدار يفصح فيها عن نشاط مؤسسته ومركزها المالي والقوانين التي تحكمها ونظامها الأساسي والداخلي وعن آفاقها المستقبلية وعن الفائدة المنتظرة من الاستثمار فيها ...
وتقوم المصالح الساهرة على تطبيق الرقابة وهي عادة بورصات الأوراق المالية أو لجان البورصة بنشر الضوابط التي يتم على مقتضاها إعداد نشرة الإصدار وتوزيعها. كما تتولى هذه المصالح مراجعة المعلومات الواردة بنشرة الإصدار والتثبت من صحتها ومطالبة المصدر بتعديلها أو زيادة شرحها قبل نشرها. ولا يمكن عادة للمصدر أن يمر إلى طرح إصداره للاكتتاب العام قبل الحصول على تأشيرة الجهة المختصة على نشرة الإصدار لترويجها.
وتختلف درجة شدة الرقابة نوعيا من سوق إلى أخرى بخصوص مصداقية المعلومات المالية المنشورة حيث تشترط بعض الأسواق أن تكون تلك المعلومات مراجعة من طرف مدققين حسب أنماط محاسبة معينة. ويمكن لسلطات هذه الأسواق أن تعترض على أي إجراء إذا رأت فيه مساسا بمصلحة المستثمر. وقد مكنت بعض التشريعات ومن بينها التشريع التونسي رئيس بورصة الأوراق المالية من جميع الصلاحيات اللازمة للدفاع عن حقوق المستثمرين والمتعاملين بصفة عامة ومن بين هذه الصلاحيات خاصة حق التقاضي أمام المحاكم باسمهم لمنع الممارسات المخلة بحقوقهم أو إزالة الآثار المترتبة عنها.(6/1013)
فيما يخص السوق الثانوية تهدف المراقبة إلى حسن تطبيق القواعد القانونية والإجرائية التي وقع سنها، وإلى احترام قانون اللعبة من طرف كل المتدخلين حتى تكون الفوائد المحققة والأرباح والفوارق المكتسبة في السعر مشروعة وعلى أساس سليم وهو ما يضمن السلامة والأمن لكل المتدخلين خاصة منهم الأفراد المدنيين الذين لا تسمح لهم وسائلهم ولا تكوينهم بمعرفة المخاطر والأساليب المعقدة التي قد تضر بمصالحهم.
ومهما كانت الجهات المكلفة بالرقابة حسب الأسواق والبلدان فإنها تهدف إلى توفر- على الأقل – ثلاثة عناصر أساسية وهي:
أولا: إرساء أخلاقيات وحد أدنى من المصداقية لدى المهنيين من وسطاء ومسيري مؤسسات واتصاليين ... وذلك بإرساء قواعد تعامل وشروط أخلاقية وتأديبية وغيرها.
ثانيا: الحرص على توفير المعلومات بالحد الأدنى المطلوب إلى المستثمر والمتعامل بصفة مستمرة ومتواترة وبعد مراقبتها والتصديق عليها من أهل الاختصاص.
ثالثا: حماية المستثمرين والمتعاملين والمتدخلين في السوق بصفة عامة من بعض المتعاملين الذي يستفيدون من معلومات داخلية بحكم وضعهم أو بمناسبة تأدية مهامهم وهو ما ينجر عنه عدم توازن في الاستفادة من المعلومات إذ يصبح تحرك المستفيد من المعلومات السرية بالبورصة غير متكافئ مع من يجهل هذه المعلومات وبالتالي، فإن قيام العلاقة بينهم في السوق تكون منخرمة. لذلك تعتبر بعض التشريعات ومن بينها التشريع التونسي الاستفادة من المعلومات الداخلية جنحة يعاقب عليها القانون كما يعاقب القانون التونسي على جنحة ترويج المعلومات الزائفة بخصوص الأوراق المالية قصد الاستفادة منها بالسوق ويعاقب أيضا على جنحة التناور بالأسعار للغرض نفسه.
وخلاصة القول أن الأوجه الرقابية متعددة ومتنوعة ومختلفة من بورصة إلى أخرى ولكنها بالأساس ترمي إلى صيانة العملية الاستثمارية من وقت مبادرة الاكتتاب إلى حين بيع الورقة المالية وقبض ثمنها مرورا بفترة تملكها والمساهمة في الشركة أو حمل سنداتها.
وكلما كانت العملية الاستثمارية سليمة وكلما كان دور الوسطاء الماليين والهياكل المالية من أسواق ومؤسسات مراقبة ناجعة، كلما ازدادت الدورة الاستثمارية كفاءة واستجابة لتطلعات من هو في حاجة إلى رأس المال ومن هم في فائض يبحثون عن استثماره.(6/1014)
5- تسعير الأوراق المالية في البورصة ومردوديتها:
5-1 التسعير:
قد يكون من المفيد أن نتناول بنوع من التفصيل مسألة تسعير الأوراق المالية في الأسواق الثانوية أو البورصات.
من الناحية المبدئية فإن قيمة سهم في شركة ما تعكس آفاق المرابيح المستقبلية لتلك الشركة. فملكية سهم في شركة يعطي من يملكه حقا في الجزء المناسب من مرابيح الشركة ما دامت هذه الأخيرة تتعاطى نشاطها. ولذا تكون قيمة السهم من الناحية الجوهرية تعادل القيمة الآنية لكل المرابيح المستقبلية. وبما أن قيمة السهم من وجهة النظر هذه تعكس ما يتكهنه المستثمرون عن الآفاق المستقبلية للشركة فإن أسعار الأوراق المالية تتأثر كثيرا بتغير المعلومات التي تتوفر للمستثمرين وتجعلهم يغيرون تكهناتهم. ومن هنا نفهم أن أسعار الأوراق المالية تكون عرضة أكثر من غيرها لتقلبات متكررة وقد تكون فَجَئَيَّة.
أما من ناحية آليات السوق فإنه تنظيم يمكّن من تسعير الأسهم حسب قاعدة العرض والطلب لتلك الأسهم وذلك على غرار أي سوق للسلع. لكن خصوصيات الأوراق المالية تجعل هذه الأسواق أكثر حساسية من غيرها. فسعر سهم ما يكون في انخفاض أو في ارتفاع حسب ما تكون عروض البيع تفوق عروض الشراء أو العكس وذلك في مدة التسعير التي تنظم بالسوق. أما العروض نفسها فتنتج كما ذكرنا عن التقويم الشخصي من طرف كل مستثمر لآفاق الشركة. وفي حالة أن السوق طبيعية والحالة الاقتصادية العامة تمتاز بالاستقرار فإن الأسعار السوقية للأسهم تكون عكس قيمتها الحقيقية التي هي تنتج عن مكونات الشركة وآفاقها المستقبلية.
لكن كثيرا ما تدخل في ميدان تسعير الأوراق المالية اعتبارات ظرفية تجعل هذه الأسعار تبتعد عن القيمة الحقيقية. ويمكن الإشارة هنا إلى اعتبارين اثنين:
الأول: يخص النفوذ على الشركة: فإذا كانت الشركة تخضع لنفوذ فرد أو مجموعة مضيّقة فذلك يجعل باقي المستثمرين لا يقبلون عليها وبذلك تكون قيمتها أدنى من القيمة الحقيقية. وفي حالة أن فردا أو مجموعة تريد شراء كمية من الأسهم يمكن من تغيير النفوذ على الشركة من المجموعة القديمة إلى المجموعة الجديدة فالأسعار التي يتم فيها هذا التحول تكون عادة تفوق تلك التي كانت سارية قبل تلك العملية.
والاعتبار الثاني: يخص التأثيرات البسيكولوجية في الأسواق المالية. فالذي لوحظ لدى المتدخلين في الأسواق المالية تأثرهم بما يفكر به البعض أو يأخذه البعض الآخر من القرارات. وبذلك هناك اتجاه نحو التقليد الذي يولد تقلبات مضخمة لأسعار الأوراق المالية. فعندما تكون الأسعار في الارتفاع يميل المستثمرون إلى الاعتقاد بأنها ستواصل الارتفاع وبذلك يتوقعون التحصل على أرباح من ذلك الارتفاع ويزداد الطلب على الأسهم مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بصفة متواصلة ولو أن المعطيات الجوهرية لا تبرر هذه الأسعار المتضخمة. وقد يتواصل هذه الارتفاع لمدة من الزمن حتى يحصل التعثر ويقع انهيار في الأسعار يرجعها إلى مستواها الطبيعي. وبذلك نرى أن الأسعار قد تكون في فترة زمنية ما لا تعكس القيمة الأصلية والحقيقية للأوراق المالية.(6/1015)
5-2 مردودية الأسهم:
يكون قياس مردودية سهم في شركة ما بمقارنة ما يمكن أن يتحصل عليه المستثمر من مدخول يخوله ذلك السهم في مدة ما مع سعر الشراء لذلك السهم. ويمكن تقسيم المدخول إلى عدة مكونات:
- الربح الذي يوزع من طرف الشركة في تلك الفترة.
- قيمة الحقوق التي قد يتحصل عليها المالك للسهم في تلك الفترة مثل حقوق الاكتتاب أو حقوق الإسناد وهي التي تمكن من التحصل على أسهم بدون مقابل.
- القيمة الإضافية التي يكسبها السهم بمقارنة سعره عند بداية الفترة بالسعر عند نهايتها إذ أنه يمكن للمستثمر بيع السهم في آخر الفترة وبذلك اكتساب هذه القيمة الإضافية كمربوح. وهذه القيمة الإضافية هي في الحقيقة وكما أسلفنا ذكره تعكس تطور المرابيح المستقبلية للشركة وتحسن مركزها المالي منذ بداية المدة وتمثل مردودا للمخاطرة التي يقدم عليها المستثمر.
- ويخصم من المكونات السابقة كل الضرائب والتكاليف.(6/1016)
التجربة التونسية في ميدان السوق المالية
ترجع التجربة التونسية المعاصرة في ميدان الأوراق المالية إلى أواخر النصف الأول من القرن الحادي الميلادي حيث بدأ ظهور إصدار السندات خاصة من طرف البنوك وتكثيف في إصدار الأسهم لشركات المساهمة. وأدى ذلك وفي عهد الحماية إلى تقنين المعاملات المالية عبر بعث الديوان التونسي لتسعير الأوراق المالية أو ما كان يسمى بالقيم المنقولة بأمر 23 أبريل (نيسان) 1945.
لقد كان الديوان التونسي للتسعير في شكل مؤسسة خاصة تعمل حسب قانون جمعية الوسطاء المرخص لها من طرف وزارة المالية وشملت هذه الجمعية في سنة 1968 عشر مؤسسات أغلبها بنكية ويديرها مكتب منتخب من مهامه تسيير ومراقبة التداول وتسجيل الإحالات المباشرة الخاصة بأوراق الشركات غير المسعرة وتبين الإحصاءات المتعلقة بنشاط ديوان التسعير. وكانت عمليات التسجيل تمثل 90 % من الحجم الكلي للمعاملات فأصبح شبة قباضة تسجيل مالية وابتعد كل البعد عن الغرض الذي بعث من أجله والذي يرمي أساسا لتشجيع الادخار وتنمية روح المبادرة عند المستثمرين ومواجهة متطلبات تمويل مخططات لتنمية التي فرضتها التحولات التي عرفها الاقتصاد التونسي خاصة مع بداية عهد الاستقلال. وجب عندئذ البحث عن أنجع الطرق لخلق عادات جديدة لرصد الادخار في الدورة الاقتصادية وتغيير عقلية المواطن بتشريكه مباشرة في تمويل المشاريع التي اقتضاها هذا الظرف ومحاربة الأشكال المتوازنة للادخار التي كانت لا تتعدى رصد متبقي الدخل في المجال العقاري أو الفلاحي أو حتى تجميده نقدا.
وفي هذا الاتجاه بالذات وقع تطوير السوق المالية وإحداث بورصة قصد إعطاء هذه السوق فاعلية الكافية وحظوظ النمو بإصدار القانون 13/69 المؤرخ في 28 فبراير (شباط) 1969.
1- السوق المالية والبورصة بين 1969 و 1989:
أوكل القانون الجديد لسنة 1969 اختصاصات جاءت في شكل أهداف يستدعي بلوغها وهو ما نص عليه الفصل الثاني من القانون المشار إليه وهي:
- تنظيم وتسيير سوق الأوراق المالية.
- تحقيق المعاملات بشأن تلك الأوراق في أحسن الظروف من حيث حسن السير والسرعة.
- تسهيل البحثعن رءوس أموال جديدة للشركات
- السعي والتشجيع لجمع وتوفير الادخار برصد المال في الأوراق المالية.
ويمكن درس التجربة التونسية بالتعرض إلى جانبي السوق أي السوق الأولية والسوق الثانوية.
1-1 السوق الأولية:
يقع إصدار الأوراق المالية من طرف المؤسسات بدون قيود في تونس فيما عدا إلزام إعلام البورصة بذلك. وفيما يخص الأسهم تصدر الأوراق بالقيمة الاسمية، وحسب قانون الشركات يعين القسط الذي يقع دفعه عند الإصدار مسبقا ولا يقل عن ربع القيمة ويقع دفع البقية حسب أقساط تحددها الشركة ولا يتعدى الأجل لتسديد كل قيمة المساهمة الخمس سنوات.(6/1017)
وفي حالة أن القيمة السوقية للأسهم الموجودة للشركة تفوق القيمة الاسمية للأوراق الجديدة المطروحة يقع الإصدار مع دفع المشتري للسهم لقيمة إضافية تحددها الشركة لدى الإصدار وتسمى بعلاوة الإصدار.
وفي الكثير من الأحيان يقع إصدار أسهم جديدة مع تمكين المساهمين القدامى:
أولا: من عدد من الأسهم دون مقابل حسب نسب معينة بالرجوع إلى الأسهم الموجودة التي يملكونها.
وثانيا: من حق الأولوية في اكتتاب الأسهم الجديدة، وقد يختار المساهم أن لا يستعمل هذا الحق في المشاركة الإضافية في رأس مال الشركة وفي تلك الحال يمكن له أن يبيع ذلك الحق في السوق الثانوية. ويقع تداول حقوق الاكتتاب هذه في السوق الثانوية كسائر الأوراق المالية.
وفيما يخص التجربة التونسية فقد تطورت الإصدارات للأوراق المالية بصفة هامة في هذه المدة وأصبحت تمثل حوالي 25 % من قيمة الاستثمار الإجمالي للبلاد. ولكن يجب الملاحظة بأن هذا التطور يرجع أساسا إلى استئثار نوعين من الأوراق المالية بالإصدارات:
الأول: هي السندات والرقاع التي تصدرها الدولة وخاصة منها التي تكتتب إجباريا لدى المؤسسات المالية.
الثاني: هي الأسهم التي تصدرها الشركات المقفلة.
ولذلك لم تلعب السوق الأولية دورا فعالا في توظيف الادخار العام لفائدة مؤسسات مفتوحة للمساهمة العامة إذ قلت العروض للاكتتاب العام الفائدة المؤسسات الإنتاجية.
1-2 السوق الثانوية:
بحكم قانون 1969 أعطيت البورصة خصوصية تسجيل كل المعاملات في السوق الثانوية للأوراق المالية إذا أوجب على كل المتعاملين في السوق تقديم تلك المعاملات للبورصة لإكسائها الصبغة القانونية ومن هنا جاء تنظيم السوق إلى جزءين أي السوق القارة والسوق غير القارة.
(أ) السوق القارة: هي التي يقع فيها تداول الأوراق المدرجة بالتسعيرة. وتم ضبط بعض الشروط لإدراج الشركة المصدرة للأسهم وهي أن:
- يكون لها رأس مال إسمي يساوي 50000 د على الأقل.
- تكون موجودة منذ ثلاثة أعوام وذلك بتقديمها ثلاث موازنات.
- تكون باشرت توزيع الأرباح مرة واحدة على الأقل منذ انبعاثها.
هذا وقد بلغ عدد الشركات المسعرة في السوق القارة إلى حد سنة 1989 حوالي 50 شركة في حين كان لا يتعدى سنة 1970 سبع عشرة شركة وقع إدراجها مع بداية نشاط البورصة.(6/1018)
فرغم تطور عدد الشركات المسعرة في هذه السوق، فإن نشاطها الكمي والنوعي بقي محدودا. فقد تطور حجم المعاملات في هذه السوق من المليون دينار تونسي سنة 1971 إلى 11 مليون دينار سنة 1988. وهذا التطور يبقى ضئيلا إذا ما قورن بتطور النشاط الاقتصادي العام أو النشاط المالي مثل حجم القروض أو حجم الكتلة النقدية.
وفي نطاق هذه السوق طغت المعاملات التي تهم أسهم القطاع البنكي بينما قلت تلك التي تخص القطاعات الإنتاجية الأخرى. وفي كل الحالات بقي نشاط السوق ضعيفا والأسعار المسجلة في غالب الأحيان دون القيمة الحقيقية للأسهم المتداولة.
(ب) السوق غير القارة: وهي التي يقع فيها تداول الأوراق التي غير المدرجة في السوق القارة وقد بعثت هذه السوق استجابة للمقتضى القانوني الذي يوجب مصادقة البورصة على كل عملية تتعلق بالأوراق المالية.
بصفة عامة تطور حجم المعاملات بصفة ملحوظة وواكب تطور النشاط الاقتصادي والمالي في البلاد حتى إن هذه المعاملات أصبحت تمثل ما يقرب من 80 إلى 90 بالمائة من نشاط السوق الثانوية الإجمالي. لكن هذه المعاملات ليست في غالب الأحيان إلا مجرد تسجيل اسمي لتحويلات يقع الاتفاق عليها خارج السوق وتهم شركات مقفلة.
1-3 آليات أسواق البورصة بتونس:
يمكن وصف الآليات المستعملة في سوق البورصة في تونس كما يلي:
- يعطي العميل أوامره بالبيع والشراء لوسيط بالبورصة ويحدد له شروط العملية أي كمية الأسهم من جهة والسعر من جهة أخرى، وفيما يخص السعر يمكن له أن يختار أن يحدد السعر الأقصى الذي يقبله كمشتر أو الأدنى إذا كان بائعا أو أن يعطي الصلاحية للوسيط أن يقوم بعملية البيع أو الشراء حسب مقتضيات السوق مع مراعاة مصالح العميل. وتكون هذه الأوامر مكتوبة.
- يجمع الوسيط الأوامر التي يتلقاها من العملاء.
- يجتمع الوسطاء بصفة منتظمة (مرتين في الأسبوع في بورصة تونس) في حصص للتسعير والتداول. وتقع المناداة عن الأوراق واحدة واحدة وفي كل حال تقع المزايدة الشفوية بين الوسطاء بمعية موظف من البورصة. ويعبر كل وسيط عن رغبته في البيع أو الشراء حسب الأسعار التي تعلن حتى يتم الوصول إلى سعر يتفق عليه البائعون والمشترون ويكون السعر الذي تتم فيه الصفقات الممكنة حسب أوامر العملاء.
- يقع تسليم الأوراق المالية بالحاضر مقابل نقد بين الوسطاء الذين يتحصلون على الأوراق أو النقد من عملائهم مسبقا.(6/1019)
- يقع دفع عمولة للوسيط من طرف العميل تقدر بـ0.8 % من قيمة المعاملة من طرف البائع وكذلك من طرف المشتري. ويقع استخلاص أداء لفائدة البورصة يعادل عمولة الوسيط. أي أن كل عميل في معاملة يدفع في الجملة 1.6 % من قيمتها.
1-4 الوسطاء:
لقد أحدث القانون المنظم للبورصة مهنة الوسيط واشترط فيه العديد من الضمانات المالية والأدبية وفرض عليه أداء القسم ومنحه الاختصاص في إجراء المعاملات المتعلقة بالأوراق المالية بكامل تراب الجمهورية ويؤلف الوسطاء جمعية تسهر على مصالحهم وتحافظ على شرف المهنة وكل وسيط ملزم بالانخراط في هذه الجمعية ويمكن للوسيط أن يكون شخصا معنويا أو ذاتيا أو بنكا تونسيا.
غير أن ضيق السوق التونسية لم تكن حافزا على مباشرة هذه المهنة من طرف الخواص فانحصر النشاط بأيدي البنوك وبعض الشركات المالية التابعة لها.
2- تقويم التجربة:
2-1 خصوصيات التجربة:
إذا أجدنا النظر في التجربة التونسية على مدى الثلاثين سنة الماضية في مجال تمويل الاستثمار تتبين لنا عدة خصوصيات يمكن حصرها فيما يلي:
أولا: الاعتماد المفرط على الجهاز البنكي في عملية توظيف الادخار لتمويل الاستثمار وذلك سواء لتمويل المؤسسات الاقتصادية المنتجة أو لتمويل حاجيات القطاع العمومي.
فبالنسبة للدولة اعتمدت ميزانية التجهيز على القروض الخارجية من جهة والقروض الداخلية من جهة أخرى التي تتحصل عليها إلزاما لدى البنوك والمؤسسات المالية الأخرى وذلك فيما عدا مناسبات قلائل اتجهت فيها الدولة إلى إصدار رقاع لدى العموم وكان ذلك خاصة سنة 1986 وأخيرا في 1988.
أما فيما يخص المؤسسات الاقتصادية فهي أيضا تتجه أساسا للبنوك لتمويل مشاريع استثماراتها باللجوء للقروض المتوسطة والطويلة الأمد، وحتى القصيرة الأمد كما سنتعرض إليه لاحقا.
وبهذه الصورة تطور القطاع البنكي بصفة هامة في تونس وتكونت لديه طاقات فنية وبشرية ومادية جعلت منه مركزا متميزا في عملية التمويل التنموي.
ثانيا: الاعتماد على التمويل الذاتي في كثير من الأحيان سواء من طرف الأفراد أو المؤسسات.
ثالثا: وكما تبين سابقا الضعف الفادح المسجل في تطور السوق المالية الذي جعلها لا تقوم بالدور الملائم المناط بعهدتها في توفير المعادلة بين الادخار والاستثمار. فمن جهة المدخرين لم يكن هنالك إقبال على السوق المالية وطلب الأوراق المالية المصدرة. ومن جهة أخرى فالمؤسسات نادرا ما طرحت أوراقا مالية لدى العموم قصد شرائها.(6/1020)
وبصفة عامة لم تلعب السوق دورها لا في توظيف الادخار لعمليات الاستثمار ولا كآلية فعالة للتسعير المحكم للأوراق المالية.
رابعا: ومما انجر عن الاعتبارات السابقة أن المؤسسات الاقتصادية التونسية تركز تمويلها على القروض البنكية وبذلك تقلصت لديها المشاركة سواء من المساهمة الذاتية أو التي تأتي عن طريق السوق المالية، وأصبحت نسبة مديونيتها عالية جدا قد تجعلها عرضة للتقلبات الاقتصادية.
وتدل بعض الدراسات على أن المؤسسات التونسية تعتمد في جميع مواردها على الإفراط في المديونية القصيرة وخاصة منها لدى البنوك مما يجعلها هشة وعرضة للتقلبات المالية والاقتصادية وهذا ما حصل بالفعل منذ سنوات أي منذ الأزمة الاقتصادية الأخيرة وإعلان البرنامج الإصلاحي. فهذه المؤسسات يصعب عليها عادة مواجهة التوجهات الجديدة للاقتصاد من نهوض بالصادرات وقدرة أوفر على مزاحمة الواردات في السوق المحلية.
2-2 شرح الأسباب:
بما أنه ليس لنا المجال هنا للتعرض وبالتفصيل للأسباب التي أدت إلى التهميش النسبي للسوق المالية وعدم قيامها بالدور الموكول لها في التنمية فسنقتصر على ذكر أهمها وبذلك يمكن أن نتبين تعقد مشكلة السوق المالية إذ تتداخل عديد العوامل في إفرازها.
أولا- العوامل الاقتصادية العامة:
تتمثل الأسباب التي عرقلت تطور السوق المالية في:
- احتكار الدولة لجزء كبير من الإمكانات المالية للبلاد سواء عن طريق الضرائب أو البنوك وذلك بواسطة رقاع التجهيز وغيرها من الوسائل لتمويل مشاريعها ومشاريع المؤسسات العمومية التي قامت بتنفيذ الإنجازات الكبرى في البلاد.
- عدم بروز شركات خاصة لها الحجم والخصائص التي تمكنها من الحصول على التمويل عن طريق السوق المالية. فقد طغت على المؤسسات التونسية الخاصة سمة الإغلاق بين المساهمين فيها وعدم قبولها للمشاركة من طرف العموم. زيادة على عقلية الانكماش يرجع هذا الطابع للمؤسسات لعدة اعتبارات موضوعية تخص الجباية وسوق الشغل والتجارة الخارجية ... إلخ. فمن ناحية الجباية مثلا بينما يقع خصم محصول الفائدة الذي تدفعه المؤسسة للبنوك من الأرباح التي تطبق عليها الجباية لا يمكن ذلك بالنسبة لمردود الأموال الذاتية، مما يدفع بالمؤسسات للاقتراض.
- السياسة المالية في الميدان البنكي التي تركزت على اختيار التمويل لدى البنوك بوضع أسعار للفائدة ضعيفة ودون مستوى المردودية الجمليّة للاستثمارات زيادة على الحوافز التي تأتي لدى الاقتراض حسب القطاعات ونوعية الاستثمار.(6/1021)
- ثقل الجباية الخاصة بمداخيل الشركات والتي توظف على مداخيل الأوراق المالية وحتى الحوافز الجبائية الممنوحة لم تكن كافية وواضحة بما فيه الكافية بالنظر خاصة إلى إمكانية التهرب الجبائي الذي هو أرفع وأسهل من التعقيدات الإدارية المصاحبة للحافز الجبائي.
ثانيا – العوامل التنظيمية للسوق:
ومن جهة أخرى فالإطار القانوني للسوق وخاصة القانون المحدث للبورصة سنة 1969 والتراتيب التي تلته لم تتطور مع مستلزمات الظرف الاقتصادي ولم تمكن من خلق سوق مالية تتوفر فيها الأرضية الملائمة من:
- شفافية كافية في الإفصاح عن المعلومات وسيولة مرضية في مستوى المعاملات.
- مراقبة كافية وحماية دنيا للادخار ويرجع ذلك إلى سلبيات في قانون الشركات الذي لا يعطي حماية كافية لحقوق المساهمين الأقلية.
- ديناميكية خلاقة لدى وسطاء البورصة تجعلهم يقومون بدفع السوق من خلال مساعدة حرفائهم على اختيار أحسن السبل لتوظيف مدخراتهم.
- ديناميكية لدى البورصة نفسها للنهوض بالسوق وتطويره بالعمل على تحسين وسائله وظروفه.
- ثقل المصاريف المترتبة عن المعاملات في الأوراق المالية، وقد أشرنا إلى أن العميل في عملية بيع وشراء يدفع من قيمتها كعمولة للوسيط وأداء لفائدة البورصة 1.6 % وهذه النسبة عالية جدا.
3- إصلاح السوق المالية وآفاق تطورها:
في نطاق الإصلاح الاقتصادي العام الذي بدأت فيه السلطات التونسية منذ سنة 1986 يأخذ إصلاح السوق المالية مكانا متميزا حيث إن إضفاء المزيد من النجاعة للاقتصاد القومي يمكن أن تساهم فيه بصفة فعالة سوق مالية متحركة وناجعة للأسباب التي ذكرناها آنفا.
ومن هذا المنطلق أدخلت وخاصة عن طريق قانون 8 مارس (آذار) 1989 المتعلق بالسوق المالية تحويرات جوهرية منذ سنتين على الإطار القانوني والتنظيمي للسوق وهي تخص تطوير الأدوات المالية وتنظيمها من جهة وإعادة تنظيم البورصة وإعطائها الصلاحيات اللازمة من جهة أخرى وباكتمال صدور النصوص القانونية في أواخر 1989 ينطلق العمل لتطوير وتعصير السوق المالية والتي يمكن حصر أهم جوانبه فيما يلي:
أولا: إعادة تنظيم السوق الثانوية لإعطائها المزيد من النجاعة والديناميكية وذلك بإحكام نظام المعاملات وشروط إدراج الشركات ومراقبة الشركات المدرجة في السوق الرسمية.(6/1022)
ثانيا: التخفيض بصفة في تكاليف المعاملات في السوق الثانوية وخاصة في السوق القارة لتحسين مردود الأوراق المالية.
ثالثا: إحكام تنظيم ومراقبة السوق الأولية وخاصة فيما يخص إصدارات شركات الاستثمار وتلك التي تهم أسهم الشركات المساهمة العامة.
رابعا: التكوين والإعلام من أجل تثبيت دور السوق المالية في الاقتصاد وحث الشركة التونسية على فتح رأس مالها للعموم وطرح أوراق مالية في السوق لتمويل برامجها الاستثمارية والعمل على إيجاد أنواع جديدة من الأوراق والأدوات المالية تأخذ بعين الاعتبار المعطيات والخصوصيات الذاتية للشركات والمستثمرين التونسيين.
خامسا: تطوير مهنة الوسطاء لدى البورصة والتشجيع على بروز وسطاء متخصصين في هذا الميدان إلى جانب البنوك. وقد أعطى قانون 8 مارس (آذار) 1989 حوافز جبائية هامة لفائدة هذا النوع من الوسطاء.
سادسا: العمل على تغيير الإطار العام للسياسة الاقتصادية التي كانت عائقا دون تطوير السوق المالية ونخص بالذكر منها الجباية والسياسة النقدية، وقانون الشركات، وتنظيم مهنة مدققي الحسابات.
الدكتور مصطفى النابلي(6/1023)
السوق المالية ومسلسل الخوصصة
إعداد
سعادة الدكتور الحسن الداودي
الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في الاقتصاد الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
أنيطت الدولة في مجموعة البلدان الإسلامية كما هو الشأن في بقية البلدان السائرة في طريق النمو بدور المحرك الأساسي في الإنماء الاقتصادي عبر استثماراتها المكثفة، إنها ضرورة كانت تفرض نفسها بمعزل عن الإطار الأيديولوجي وهكذا لا يوجد بلد لم تعد فيه الدولة أكبر مالك وأكبر مستثمر.
وفيما يرجع إلى مثال المغرب فإن استثمارات الدولة عرفت بدايتها إبان عهد الحماية وبالأخص في مجال استخراج الثروة المعدنية إلا أن نطاق الاستثمارات العمومية أخذ يتسع منذ الاستقلال ليشمل جميع قطاعات النشاط الاقتصادي، وهكذا تطور القطاع العمومي المغربي من 60 وحدة عام 1960 إلى 158 وحدة سنة 1969 ثم إلى 617 في 1970 و 680 حاليا دون الأخذ بعين الاعتبار ممارسة أحداث الشركات التابعة لها، الأمر الذي يثير بعض الغموض حول معرفة حدود القطاع العمومي المغربي.
إن منطق الدولة إنما هو منطق تنموي ولكنه أيضا منطق اجتماعي ومنطق الخدمات العمومية، ومنطق كهذا لا يسمح إلا بحيز ضيق للعقلانية الاقتصادية ذلك أن عجز القطاع العمومي كان بمثابة شر لا بد منه تتحمله الدولة من أجل إحداث فرص الشغل وتوفير ظروف الإقلاع الاقتصادي. ولقد ساعد على هذه المهمة كذلك الحصول على الرساميل الأجنبية بشروط قليلة التكاليف ذلك أن القروض التي منحتها الدول الصناعية كانت تعتبر مساعدة للتنمية ولكن منذ منتصف السبعينات التي شهدت تعميق أزمة المالية العامة في البلدان الغنية أصبحت القروض العمومية نادرة، ولم يبق للبلدان المقترضة إلا اللجوء إلى السوق العالمي، لتقترض منها بأسعار فائدة مجحفة، ومن شأن هذا التغيير ألا تتحمله اقتصاديات البلدان الناشئة التي من بينها اقتصاديات العالم الإسلامي، واتجهت الديون الخارجية لكل بلد نحو الارتفاع محدثة لها الاختناق الاقتصادي، الأمر الذي يحتم إعادة ترتيب الأمور في إطار هذه الاقتصاديات لأن عهد الإنفاق دون حساب قد ولى، وعلى الدولة أن تؤقلم سلوكها بحسب ما تمليه العقلانية، بل وأكثر من ذلك، يجب عليها أن تعيد النظر في وظيفتها على ضوء المعطيات الجديدة، والسؤال الذي يفرض نفسه على كل دولة من دولنا هو:
هل من الضروري أن تتبوأ الدولة حاليا مكانه المستثمر الرئيسي؟ إن عجز الميزانيات وكذا مستوى المديونية لم يتركا أي اختيار للدولة وما عليها إلا أن تقلل من النفقات كي تضمن للميزانية توازنها. ولا يمكن أن يشمل هذا الإجراء النفقات غير القابلة للتقليص إلا هامشيا، فيجب إذا تخفيض النفقات ذات الصبغة الاجتماعية ولكن هذا المستوى أيضا ليس لكل دولة أن تتعدى الحدود الضيقة لحرية تصرفها. والمنفذ الوحيد الذي يبقى هو التقليص الشديد من نفقات الاستثمار. ولقد تزامنت هذه الحالة مع بعض النضج لدى أصحاب الرساميل الوطنيين الذين استطاعوا أن يباشروا عملية التراكم تحت ظل الدولة منذ الاستقلالات الوطنية والذين يستطيعون أن يحلوا محلها في كثير من البلدان وهكذا تبدو الإجابة بالنفي على السؤال: هل من الضروري أن تتبوأ الدولة مكانة المستثمر الرئيسي؟ سهلة هنية، لأنه بإمكان القطاع الخاص أن يعوضها بنسب كبيرة ويبدو من المنطق إذا أن تخفف الدولة مجهوداتها الاستثمارية من أجل إعادة التوازنات الأساسية ولكن دون أن يكون لهذا التخفيف أثر كبير على المستوى العام للاستثمارات، والذي يطرح بمقابل المشكلة هو الضغط الداخلي والخارجي في آن واحد يكون تخلي الدولة عن جزء كبير من ثروتها لصالح القطاع الخاص.(6/1024)
إن سيرورة الخوصصة تمضي على هذا المنوال هنا وهناك في العالم أجمع وتطرح المشكلة كذلك على مستوى الدولة الغنية كما هو الحال في بريطانيا العظمى. وتطرحها أكثر في بلداننا الناشئة لأن هذه الخوصصات ينبغي ألا تؤدي إلى تبديد الخيرات العمومية ولا إلى تراجع الاستثمارات ولا إلى تمركز الندوات. وهذه الشروط الثلاثة تصحب توفيرها في كل بلد على حدة. وإذا رجعنا إلى مثال المغرب فإننا نلاحظ الخوصصة تستهدف كثيرا من المقاولات العمومية.
والسؤال الأول الذي يفرض نفسه هو: من المستفيد من هذه الخوصصة وبأي ثمن؟
إننا نعلم يقينا أنه إذا كانت الدولة ترفض التمركز حريصة على بيع خيراتها بثمن مرتفع فلا بد من تمديد الخوصصة على فترة طويلة، الشيء الذي يحد مع مرور الزمن من مجهوداتها في مجال ترتيب نفقاتها، إلا أن أي عرض كبير في الوقت الراهن يؤدي لا محالة إلى انهيار الأثمان وإلى تمركز لصالح أشخاص معينين، ويكمن مبرر هذه المخاطرة الكبيرة في الضعف الشديد الذي يطبع السوق المالي المغربي العاجز عن استيعاب عرض كامن وفير، ويتضح هذا الضعف من خلال تحليل سوق القيم بالدار البيضاء.
بورصة الدار البيضاء:
أنشئت هذه المؤسسة بنص القانون الصادر يوم الأربعاء 14 ديسمبر (كانون الأول) 1967، وحسب هذا القانون تتمثل مهمتها في تحريك الادخار ونشر رأسمال الشركات المنتجة، ولكن البورصة في أيامنا تعتبر وسيلة للبرالية الاقتصادية وأكثر فأكثر وسيلة لتقديم أنشطة المقاولات وميزانا للاقتصاد في مجمله.
وسوف نوضح فيما بعد أن بورصة القيم بالدار البيضاء، بعيدة أن مثل آلية كاملة من شأنها أن تمكن المقاولة المغربية من الاستفادة من مزاياها المختلفة، وعجزها عن القيام بمهماتها الرئيسية إنما هو راجع أساسا إلى نمط السير الخاص بها، وهذا ما سنتناوله أولا ثم نعكف على تحليل كمي لنشاطها ثانيا.
أولا- سير سوق البورصة المغربية:
يدور التحليل هنا حول مسألتين أساسيتين هما:
- أهمية القيم التي يتم تداولها في السوق.
- خصوصيات القائمين بالعمليات الطالبين منهم والعارضين.(6/1025)
(أ) ضعف إصدار القيم المتنقلة:
يمكن الوقوف على أهمية سوق البورصة بواسطة صيغ كثيرة فإذا ما أعرنا اهتمامنا لحجم الإصدار الإجمالي للقيم المنقولة فلا يسعنا إلا أن نلاحظ هزالة هذا الأسلوب من التمويل سواء بالنسبة إلى الناتج الداخلي والإجمالي أو إلى التكوين الإجمالي للرأسمال الثابت، ذلك أن نسبة الإصدار الإجمالي إلى الناتج الداخلي الإجمالي لا يتجاوز 3 % في 1970 و 4 % في 1983، وأن هذه النسبة إلى التكوين الإجمالي للرأسمال الثابت بلغت على التوالي معدل 22 % و 16 % ويبدو أن تفسير هذا الضعف يرجع إلى خصوصيات السوق ذاته، فعلا إن هذه السوق تمتاز بطابع الأحادية ما دامت كل العمليات التي تشهدها يكون العوض فيها نقدا، فنقص الأوراق المالية في البورصة وكذا ضعف الحركة فيها يدعمان محدودية هذا السوق. من جهة أخرى تستجيب بورصة القيم بالدار البيضاء لبعض التفضيل نحو البيع المباشر للقيم ذات الدخل المتغير، غير أنه كلما كثر هذا البيع كلما نزع الثمن المتوسط نحو الثبات. وهذا ما يبين الأسباب التي تجعل الأثمان الرسمية لكثير من الصكوك تبقى ثابتة خلال مدة طويلة. بالإضافة إلى ما سبق يمثل إهمال الشركات من جهة وانعدام مسايرة قنوات فعلية للأخبار من جهة أخرى عاملا رئيسيا آخر مسئولا من عدم فعالية البورصة. ويعكس هذا النمط من السير أيضا نمط سلوك مختلف المتدخلين في البورصة.
(ب) تقطب سوق البورصة:
ونعني بتقطب السوق تمركز القائمين بالعمليات في مجموعتين مختلفتين تدخلها شبه مؤسسي وبطريقة مهيمنة أحدهما في جانب العرض والآخر في جانب الطلب.
(1) عارضو الصكوك:
يجب التمييز بين فئتين من العارضين:
- الخزينة والهيئات العمومية من جهة.
- والشركات من جهة أخرى.(6/1026)
بالنسبة للفئة الأولى يجب الإشارة إلى هيمنة إصدارات الخزينة وبالنسبة للفئة الثانية يجب التنبيه إلى أن إصداراتها تتمثل أساسا في أسهم تضم صكوكا لا تدخل بالضرورة إلى السوق لأنها تمثل إما الزيادات في الرأسمال أو إحداث شركات جديدة، وبالتالي فإنها لم تساهم بالفعل في خلق قيم مستقبلية.
(2) طالبو الصكوك:
إزاء هيمنة القروض المستندية التي تصدر عن الدولة وبعض المؤسسات العمومية نصادف هنا أيضا التمركز القوي للأشخاص المشاركين في الاكتتاب، فإلى حدود 1977 كان الأمر يتعلق بهيئتين رئيسيتين هما: صندوق الإيداع والتدبير وشركات التأمين ولقد انضاف إليهما البنك المركزي الشعبي ابتداء من 1978.
هذه هي إذا الخطوط العريضة لخصوصيات سوق القيم بالمغرب، ما هي آثار هذه الخصوصيات على مستوى نشاط ديناميكية البورصة؟
ثانيا- التحليل الكمي لنشاط البورصة:
بالنظر إلى رقم أعمال البورصة بالدار البيضاء يتضح أنه في تراجع سريع، وهذا يفيد أن مكانة السوق المالية تعرف تدهورا قويا في السياسة المالية وفي الاقتصاد الوطني عموما كما يتراءى ذلك من خلال الجدول التالي (بملايين الدراهم) .
السنة 1966 68 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79
رقم الأعمال 20 33 50 63 108 117 193 212 182 174 107 202
السنة 80 81 82 83
رقم الأعمال 168 111 86 146
لقد دخل رقم الأعمال طور الانخفاض عمليا ابتداء من 1975 إذا ما استثنينا التحسن الملاحظ خلال 1979، وهذا التحسن راجع في هذا التاريخ إلى إدخال قرض الصحراء الصادر عام 1976، ويرتبط التراجع المشاهد بعد 1979 أيضا بصكوك الدولة وبالأخص بالأداء التدريجي لديونها من قبل الخزينة مما أدى إلى تقليص الصكوك المتداولة.(6/1027)
وفي ما يرجع إلى الصكوك المحولة إلى رأسمال قابل للتداول في البورصة (1) يمكن الإشارة على أنها أشد ضعفا قياسا بما يجرى في أماكن أخرى كما هو مبين أدناه (بالمليارات بالنسبة لسنة 1981) (2) :
المدينة الصكوك المحولة (الأسهم + الندوات)
البيضاء 2.009 درهم
باريس 795
ليون 15.2
نانسي 5.2
ليل 3.0
بوردو 3.2
وفي النهاية نلاحظ ثلاث مميزات رئيسية:
- محدودية حجم البورصة القيم بالدار البيضاء لاستيعاب كمية إضافية من الصكوك المعروضة.
- الشركات بصفة أكثر والأفراد أو المدخرون الصغار لا يعيرون أي اهتمام للبورصة لأسباب متعددة.
ومن بين ما يمكن استخلاصه منطقيا هو أنه من المحتمل أن يكون مصير مسلسل الخوصصة هو الفشل نظرا لتواضع مستوى السوق المالي كما بيناه.
وحتى الحالة غير المحتملة التي يفترض فيها وجود من يقتني المقاولات الخاضعة للخوصصة تقابلها آثار سلبية على الاستثمار في المدى القصير والمتوسط ما دام جزء كبير من الادخار الخاص يستقطبه هذا البيع من قبل الدولة، وما دام المنطق الجديد يقضي بألا تستثمر الدولة إلا في البنيات الأساسية فإن قسطا كبيرا من إيراد مبيعاتها سوف يستهلك في القطاعات غير المنتجة، وهذا أمر غير مرغوب فيه.
وإذا رجعنا إلى المحتمل فإننا نصل إلى النتيجة السابقة التي مفادها أن هناك تفاوتا بين العرض والطلب. وأن استيعاب العرض بكامله في ظروف مميزة يفترض الإشراك القوي للرساميل الأجنبية لتساهم في شراء المقاولات المرشحة للخوصصة الشيء الذي يثير مسألة الاستقلال الاقتصادي تجاه البلدان الصناعية.
إن تحدي الخوصصة يكمن إذا في البيع بثمن مرتفع دون أن يحدث تقوِّيًا في مستوى الاستثمار، وهذا يُحتم تحريكا هامًّا للادخار عن طريق الانتشار الواسع للأسهم، وكل بلد على حدة سوف يواجه صعوبات كبيرة في سبيل ضمان هذه الشروط، وبالأخص إذا علمنا أن دخل شعوب العالم الإسلامي لا يتجاوز سنويا 800 دولارا للفرد الواحد وهي حالة تنطبق على المغرب أيضا، وهو ما يبرز الطابع الضيق للإطار الوطني، ويستوجب طرح المسألة على مستوى أكثر امتدادا وفي ظروف جديدة، والمستوى الإسلامي يبدو حلا مناسبا ليس فقط لأن في بعض البلدان يتواجد ادخار عائد من جراء محدودية قدرات استيعابها للرساميل في حين أن البعض الآخر يعاني عجزا خطيرا على هذا المستوى، ولكن أيضا لأن أساليب التمويل الإسلامي تشجع كثيرا الاستثمارات المنتجة المباشرة التي من شأنها أن تقضي على أي شكل من أشكال المديونية، ذلك أن الممارسة الربوية هي جوهر المديونية وهي ممارسة تحرمها الشريعة الإسلامية.
والحل يكمن إذا في منح الفرصة لكل مواطن بإحداث ظروف مشجعة للاستثمار الخاص إلى جانب قطاع عمومي يتحدد حجمه في نقطة التوازن.
إن الإسلام يقبل شكلي الملكية العامة والخاصة دون أن يناصر مبدئيا لا هذه ولا تلك، بل إن الحكمة البالغة التي يمتاز بها هي اعتماده على مبدأ التوفيق الأمثل للشكلين معا، وإذا كانت ظروف تاريخية معينة تملي على البلدان الإسلامية تدعيم القطاع العام كضرورة حيوية وبالتالي مشروعة، فإن الحكمة تدعو اليوم إلى التقليص منه وليس إلى القضاء عليه.
والحكمة تقتضي أيضا أن يوظف ادخار البلدان الإسلامية لصالح العالم الإسلامي، الشيء الذي لا يمكن تحويله إلى واقع إلا إذا أنشئت بنيات ملائمة لها التوظيف، البنيات التي تحتل ضمنها السوق المالي الإسلامي مكانه الصدارة، والتي من شأنها أن تحرك الادخار الذي تغريه أسواق البلدان المصنعة أو الذي يفضل اللجوء إلى الأشياء المحافظة على القيمة كالذهب والأعمال الفنية، ولكن يجب العمل أيضا على حماية ادخار البلدان الأكثر فقرا من تحويله إلى البلدان الأكثر تصنيعا التي تمنح فرصا للاستثمار أكثر من سواها، بل يجب العمل على إيجاد نظام لإعادة التوزيع الذي يعمل على تعويض خروج الرساميل في الدول الفقيرة بجلب ما يقابلها أو أكثر من الرساميل الخارجية مثلا في إطار المضاربة أو المشاركة ليس في المجال التجاري ولكن أساسا في المجال الإنتاجي. وظهور مثل هذه الصيغ على مستوى العالم الإسلامي من طبيعتها أن تحرك الادخار الرافض للقنوات المالية التقليدية، ويصبح في الإمكان مشاهدة تراكم الرأسمال الشعبي وهو أمر محمود لدى الجميع.
الدكتور الحسن الداودي
__________
(1) عدد الصكوك قيمة × ثمنها المتوسط.
(2) المصدر: Durant Leboure ed. Maspero، p27.(6/1028)
الأدوات المالية الإسلامية
إعداد
سعادة الدكتور سامي حسن حمود
مدير عام شركة البركة
للاستثمارات المالية الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان المحتويات
• إهداء وشكر تقدير.
• الفرع الأول: مفهوم الأدوات المالية وتوزينها بالمعايير الفقهية:
• أولا – تطوير الأدوات المالية وصورها المعاصرة.
• ثانيا – توزين الأدوات المالية المعاصرة بالمعايير الشرعية.
(أ) توزين المسألة بالنسبة لأسهم الشركات.
(ب) توزين المسألة بالنسبة لسندات القرض.
• الفرع الثاني: أسس تطوير الأدوات المالية بما يتفق والشريعة الإسلامية.
• الفرع الثالث: الأدوات المالية الإسلامية القابلة للتطبيق:
أولا – الأسهم العادية في الشركات المساهمة.
ثانيا- الأسهم غير العادية.
ثالثا – سندات المقارضة.
رابعا- سندات الخزينة المخصصة.
• الفرع الرابع: مجالات تطبيق الأدوات المالية في عقود المعاملات الشرعية.
• الخلاصة وخاتمة الكلام.(6/1029)
بسم الله الرحمن الرحيم
إهداء وشكر وتقدير
يسرني أن أقدم هذا العمل الذي يقصد به وجه الله المعبود من كل شيء في الوجود، إلى هذا النفر الكريم من أهل العلم والمتوافدين من شتى أنحاء العالم الإسلامي الناهض للصعود.
كما أقدم الشكر الخالص لمجمع الفقه الإسلامي برئاسته وأمانته العامة على الاهتمام باحتياجات الأمة الإسلامية والنظر في إيجاد الحلول المعاصرة لمشاكل التنمية والنهوض الاقتصادي القائم على أساس من شريعة الله المبنية على العدل والرحمة والإحسان.
ويمثل موضوع الندوة المتعلق بالأسواق المالية بابا من أهم الأبواب التي يقع على عاتق العلماء والاقتصاديين أن يتصدوا لها بالفهم والصبر والعمل. فليس المال بالنسبة لمجموعة الأمة مجرد متاع دنيوي زائل كما هو بالنسبة للأفراد وإنما هو ثروة تحمي الكيان وترد العدوان.
لذلك كان حفظ المال بالمنظور الاجتماعي أمرا يرقى إلى درجة المنع من تصرف المالك فيما يملكه إذا كان ذلك التصرف يؤدي إلى إتلاف هذا المال الذي هو من مال المجتمع في المآل وإن كان مملوكا لفرد أو أفراد في الواقع الحال.
يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز:
{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} .
أما بالنسبة لموضوع الأسواق المالية، فإن هذا المصطلح هو من المفاهيم الجديدة المطروحة على بساط البحث الفقهي. ذلك أن السوق هو مكان التقاء الناس بالمفهوم العام أو مكان التقاء العرض بالطلب بالمفهوم الخاص لكي يتم التبادل من العارضين والطالبين.
وقد كانت أسواق السلع والبضائع موجودة ومعروفة من قبل الإسلام، حيث نظم النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإسلام أحوالها وبيوعها وطريقة العرض والمساومة وانعقاد البيع إلى آخر ما هنالك من علاقات.
أما أسواق المال فهي لم تكن معروفة بالمفهوم الذي تعرفه المجتمعات في هذه الأيام. ومن هنا فإن أسواق المال العالمية القائمة في المراكز الدولية ولدت وتطورات خارج نطاق الضوابط الشرعية، فكانت أدواتها خليطا من الأدوات الجائزة والأدوات الممنوعة بحسب المعايير الإسلامية في التمييز بين الحلال والحرام.
ولما كان العالم الإسلامي يعيش في واقعه المعاصر على هامش التبعية للدول الصناعية المتقدمة، وحيث إن أسواق رأس المال تعتبر في أي نظام مالي هي قمة الهرم المتكامل في سقف البناء الاقتصادي المتطور، فإن الأمر المؤسف حقا أن يكون هذا العالم الإسلامي - رغم اتساع رقعته وكثرة خيراته وموارده - خاليا من أي تنظيم أو تخطيط لتمهيد الوجود لقيام سوق لرأس المال الإسلامي.
وقد استتبع ذلك الأمر أن تخلو ساحة هذا العالم الإسلامي من الأدوات التي تشكل أساس قيام هذه السوق التي كانت ستشد الأواصر بين مختلف دول العالم الإسلامي المشتتة الاتجاه والوجود
فالدول الإسلامية الغنية برأس المال مضطرة للارتماء على أبواب البنوك والمؤسسات المالية المتطورة في خارج العالم الإسلامي بحجة عدم وجود المؤسسات القادرة في الداخل على استيعاب الزخم المالي الفائض عن قدرة الاستيعاب والاستثمار.(6/1030)
أما الدول الإسلامية التي تشكو من قلة رأس المال فإنها تأمل أن يأتيها العون بالمساعدة من الدول الإسلامية الغنية أو بالإقراض الذي يستنزف جهد الناتج القومي الإجمالي بحيث لا تتوفر في البلاد إمكانية التنمية القادرة على إزاحة سيف الفقر عن رقاب العباد.
ولم يساعد وجود البنوك الإسلامية في ساحة العمل المصرفي على كسر حواجز الفقر والغني حيث تسربت الأموال الفائضة لدى تلك البنوك الإسلامية الاتجاه إلى أسواق المال العالمية بعد أن ابتكر لها الجهابذة هناك الوسائل المناسبة للاستثمار الذي لا يخالف المبادئ الشرعية من حيث الشكل والأساس.
وقد كشفت الدراسة الغنية التي قدمها سمو الأمير الحسن بن طلال ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية في المؤتمر السنوي الخامس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل بيت) الذي جرى عقده في العاصمة الأردنية عمان ما بين 23-27/4/1986 عن جانب هامّ من جوانب قصور التلاقي بين عرض الأموال المتوفرة للقطاع الخاص من جهة وبين شدة الطلب على هذه الأموال من جهة أخرى.
وقد استهدفت الدراسة المشار إليها أعلاه توجيه النظر إلى اقتراح توسط البنك الإسلامي للتنمية لتشجيع انتقال رءوس الأموال بين الدول الإسلامية (1) .
ولما كان تجميع رءوس الأموال في المقام الأول ثم تنظيم انتقال هذه الأموال من مواطن الوفرة إلى أماكن الحاجة يعتمد على وجود الأدوات المناسبة للتجميع والنقل، لذلك كان اهتمام مجمع الفقه الإسلامي ببحث الأدوات المالية الإسلامية يمثل حجر الأساس في إقامة صرح هذا البناء الذي يحتاج إلى عقول مستنيرة وقلوب مؤمنة لكي تزهر ثمار الفكر الإسلامي بأغصان وارفة قوامها العدل بين الناس ولحاؤها الحسن والإحسان في تطهير مسيرة الحياة.
وإن الأمل منوط بأهل الرأي الشرعي في أن يكونوا عند مستوى أداء الأمانة في تفهم احتياجات هذه الأمة الإسلامية، والتي أراد لها الله – سبحانه وتعالى – أن تكون خير أمة أخرجت للناس إذ هي اتبعت شريعته فيما يأمر به هذا الدين من الخير وينهى عنه من الشر.
سائلين الله أن يلهمنا الحق ويعيننا على اتباعه وأن يجنبنا طريق الضلال والعمى عن الاهتداء بنوره الذي أنزله على رسوله الأمين محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*
**
__________
(1) انظر: الدراسة التي أعدها الدكتور سامي حمود لتنفيذ المقترح من سمو الأمير الحسن بن طلال ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية بتاريخ 27/1/1987، حيث أحيلت إلى جهات الاختصاص للمراجعة والتقويم.(6/1031)
الفرع الأول
مفهوم الأدوات المالية وتوزينها بالمعايير الفقهية
أولا – تطور الأدوات المالية وصورها المعاصرة:
عندما تكون الحياة الاقتصادية بسيطة فإن الوسائل المستعملة تكون بسيطة كذلك. لذلك فإن الأفراد في الحياة البدائية يزودون أنفسهم برأس المال اللازم للإنتاج أو يقترضون بالمجان أو يشتركون في الامتلاك.
ومع اتساع الاحتياجات وتطور الإمكانيات يصبح الاعتماد على التمويل الذاتي محدودا وتقل فرص الاقتراض المجاني وتزداد الحاجة للمشاركة من الآخرين.
وقد شهد العالم تطورا متميزا في أنواع المشاركة المالية حيث انتقلت المشاركة من صفة الشريك لذاته (المشاركة الشخصية) إلى نظام الشريك بماله حيث فقد الاعتبار الشخصي أهميته في المشاركة وأصبح انتقال حق المشاركة وملكيتها من شخص الآخر يتم دون أن يؤثر على جوهر استمرار المشاركة سواء كان الشريك زيدا أم بكرا.
وقد كان هذا التطور هو الذي أرسى الأساس لبناء صورة الشركات المساهمة التي يرجع إليها الفضل في إقامة المشروعات الكبرى والتي لا يستطيع الأفراد غالبا أن يتولوا تدير التمويلات الضخمة التي تحتاج إليها هذه المشاريع، وذلك مثل إنشاء شركات الإنتاج الأسمنت والنفط والنقل الجماعي والكهرباء والخدمات السلكية واللاسلكية في بعض البلاد.
ومع اتساع قاعدة المالكين للأنواع المختلفة من أسهم الشركات الكبيرة برزت الحاجة لوجود وسطاء للتداول والتوفيق بين عارضي بيع الأسهم وطالبي شراء هذه الأسهم وذلك إلى أن تطور الأمر إلى وجود أسواق منظمة يتم فيها إجراء عمليات البيع والشراء بطرق تجعل من الميسور إتمام البيع أو الشراء دون حاجة لتوافق رغبة البائع والمشتري في الصفقة الواحدة. فقد يأتي إلى السوق مائة بائع لبيع عشرين نوعا من الأسهم من عدة فئات وأنواع وشركات حيث يأخذهم جميعا وسطاء السوق وتكون لهم محفظتهم التي يبيعون منها ما يشاء الطالبون.
ومع وجود هذه الأدوات التي تمثل حصصا في رأس المال القابل للانتقال من مالك لآخر دون أن يتطلب ذلك الانتقال القيام بإجراء تصفية الشركة أو يؤثر على سيرها جعل من الممكن أن تتهيأ الأذهان لإمكان التبايع في هذه الأموال.
كما أن وجود السوق حوّل من صفة هذه الأسهم التي توصف عادة بأنها من الاستثمارات طويلة الأجل لكي تصبح استثمارا ماليا قصيرا عن طريق سهولة البيع في سوق منتظمة وبأسعار معلنة ليست خاضعة للمساومة بل محكومة بعوامل السوق والملاءة.
كل ذلك أدى إلى بناء الركن الأول من الأركان المنشئة لسوق رأس المال وذلك عن طريق تشجيع رءوس الأموال للانتقال من دائرة الاكتناز إلى دائرة الاستثمار دون خوف من التجميد طالما أن هناك الوسيلة المتاحة لتسييل هذه الاستثمارات.
ويسمى السوق الذي يتجمع فيه رأس المال ابتداء بالسوق الأولى، أما السوق الذي يتم فيه تسييل رأس المال المستثمر وتحوّله وتبديله فإنه يسمى بالسوق الثانوي.(6/1032)
أما الشكل الآخر الذي شهد التطور كذلك إلى جانب وجود الأسهم فإنه يتمثل في الرديف المحرم بالمفهوم الإسلامي وهو السند ذو الفائدة.
ذلك أن المعلوم أن السهم هو حصة مُشارَكة في ملكية الشركة، وأما السند فهو حصة إقراض للشركة، وفي الوقت الذي يأخذ فيه المالك نصيبا من العائد المتحقق ربحًا، فإن المقرض يتقاضى عائدا من المقترض بصفة فائدة والتي تعتبر أنها من الربا الحرام ومهما اختلفت الأشكال والأنواع والمسميات.
وكما تطورت سوق الأسهم واتسعت آفاقها ومجالات عملها، كذلك تطورت سوق السندات وتعددت أشكالها وأنواعها حتى برز من بينها سندات الفائدة المتغيرة وسندات الفائدة المخصومة من أصل القيمة عند البيع المبتدأ وهي السندات التي ظن بعض المأسورين أنهم يستطيعون بها أن يحتالوا على بعض الناس أو أن يخادعوا رب الناس بهذه الأوهام العارية عن كل غطاء.
وقد اشتركت في إصدار سندات الفائدة الشركات المساهمة الكبيرة والمؤسسات المالية العامة والخاصة والحكومات المحلية والسلطات النقدية المركزية حيث اختلطت هذه السندات بعضها ببعض سواء كانت سندات تعطي الفائدة كجزء مقتطع من الأرباح في حالة الشركات المنتجة أم كانت سندات تعطي الفائدة كعائد على القرض الذي اتخذ صورة السندات تسهيلا لتجزئة المال المقترض.
غير أن هناك نوعا جديدا من السندات الذي أطلق عليه اسم سندات المقارضة وذلك على أساس أنها تمثل حصة امتلاك في مشروع أو جملة مشاريع معينة حيث يتحول رأس المال الموزع على صورة حصص إلى سندات ملكية يخضع فيها رأس المال المدفوع لكل ما يخضع له رأسمال المضاربة من موجبات شرعية. ورغم سلامة هذا التصوير الذي أقره مجمع الفقه الإسلامي لسندات المقارضة باعتبارها تمثل حصة شائعة في ملكية المشروع المخصصة له، إلا أن الأمر ما يزال مختلطا على بعض أهل الفكر الإسلامي الذين لم يغوصوا إلى عمق المفاهيم الشرعية للتمييز بين ما يجوز وما لا يجوز في مقاطع الحقوق والشروط.
وقد تعرض الباحث لمثل هذا الهجوم الشكلي عندما طرح فكرة إصدار السندات المقارضة في المملكة الأردنية الهاشمية عام 1980 حيث اعتبر بعض المتدخلين على الفقه الإسلامي أن كلمة السند بحد ذاتها حرام لا يجوز أن تستعمل بهذا المقام رغم أن المفهوم اللغوي للسند هو الوثيقة وأن الحل أو الحرمة إنما تتقرر بالوصف أو الإضافة. فسند القرض أي وثيقة القرض حلال بحد ذاتها ولكن إذا كانت سند قرض بفائدة فإن الحرام هو الفائدة وليس أصل القرض ولو كان السند سند قرض حسن مثلا فإن ذلك السند يكون حلالا.(6/1033)
غير أن العذر الذي يلتمس لهؤلاء الأخوة الذين تشددوا مع كلمة السند مبني على شيوع فكرة السند الربوي أو سند الفائدة وإن كان شيوع الأمر الباطل لا يؤثر في الفهم الشرعي للأمور حيث لم يغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم البيع لمجرد مخالفة المشركين فيما يدخلونه في البيوع من بيوع باطلة مثل بيع النجش والمنابذة والملامسة. كذلك لم يغير المشرع لفظ النكاح مع أن الجاهليين كانت لديهم صور عديدة من الأنكحة التي أبطلها الإسلام من الأساس.
والذي يهم الباحث بيانه هو أنه الأدوات المالية المعاصرة تنقسم إلى صورتين رئيستين هما:
(أ) صورة حصة المشاركة القابلة للتداول والمعروفة بأنها من الأسهم التي تمثل حقا من حقوق الملكية أو المشاركة.
(ب) وصورة حصة القرض القابلة أيضا للتداول والمعروفة بأنها من سندات الدين سواء كانت دينا عاما أم خاصا.
ثانيا – توزين الأدوات المالية المعاصرة بالمعايير الشرعية:
(أ) توزين المسألة بالنسبة لأسهم الشركات:
يقوم بالنظر الإسلامي في عقود المعاملات على منهج الحلال والحرام حيث يسقط من سلطان الإرادة التعاقدية للإنسان أمام سلطان الإرادة الإلهية فيما يجيزه الشرع أو يمنعه من التصرفات.
والقاعدة العامة في موضوع الأدوات المالية مبنية على التفريق بين مفهوم الملك ومفهوم القرض.
فكل حصة امتلاك تأخذ عائدا ناتجا عن نماء المال تكون مقبولة شرعا مع مراعاة توافر شرط الغرم بالغنم. وبناء على ذلك فإن السهم في الشركة المساهمة أو حصة المشاركة القابلة للتداول أو سند المقارضة الذي يمثل حصة في ملكية المشروع المعين كل ذلك يعتبر من الأدوات المالية التي لا تتعارض مع الشرع إلا إذا كان هناك شرط مخالف مثل شرط الفائدة للسهم الممتاز إذا قلّت الأرباح عن نسبة معينة أو شرط الاختصاص والتفرد بالأرباح لصنف معين من الأسهم التي تنال نصيب الأسد دون غيرها من الأسهم.
غير أن هنالك تبقى مسألة تتطلب النظر بالنسبة لامتلاك الأسهم في الشركات المساهمة التي تتعامل بالفائدة سواء عن طريق إيداع أموالها لدى البنوك المتعاملة بها أم عن طريق الاقتراض بالفائدة أيضا من تلك البنوك.(6/1034)
وقد انقسم الرأي حول هذه المسألة إلى فريقين:
- فريق يرى أنه طالما كانت أغراض الشركة مشروعة من الأساس مثل شركات التجارة في المواد الحلال وشركات الصناعة كالأسمنت ومصافي النفط ومصانع السيارات وغيرها، فإن امتلاك الأسهم في مثل هذه الشركات جائز وربحها مقبول رغم أن هناك من اشتراط إخراج الجزء من الكسب الحرام إذا أمكن معرفته بالحساب. إما إذا كان غرض الشركة غير جائز أصلا مثل شركات الإقراض بالربا ومصانع الخمور وتسمين الخنزير فإنه لا يجوز شراء أسهم هذه الشركات ولا أخذ الأرباح منها بطبيعة الحال.
- أما الفريق الثاني فلم يميز بين العمل والغرض واعتبر كل مخالفة شبهة توجب الابتعاد مهما كانت الأسباب.
وهناك من ربط المسألة بالغلبة أي بمعنى أنه إذا كان الغالب على الأموال المستعملة في الشركة من أموال المساهمين فإنها تجوز وأما إذا كان الغالب من أموال الاقتراض بالربا، فإن المساهمة في مثل تلك الشركات لا يجوز.
والذي يظهر لنا أن الأحكام المتسرعة في مثل هذه الأمور لا تعود بالمنفعة على المجتمع الإسلامي، حيث لو سلمنا برأي من يقول بالابتعاد عن كل شركة مساهمة فيها شبهة من قريب أو بعيد لكان مؤدى ذلك أن ينسحب المسلمون من الحياة الاقتصادية في المجتمع لينفرد غير الملتزمين بالإسلام بإدارة الدفة الاقتصادية للبلاد دون وازع ولا ضابط ولا انقياد.
وقد كان الأولى أن تتكاثر أسهم الإسلاميين بالفكر والالتزام لكي يفرضوا على مجالس الإدارة من خلال سلطة الانتخاب أن تلتزم الشركة في التعامل بالطرق الحلال كما حدث لدى العديد من الشركات في أكثر من بلد إسلامي خاصة عندما وجدت البنوك الإسلامية.
(ب) توزين المسألة بالنسبة لسند القرض:
لما كانت فكرة السندات مبنية على الاقتراض غير الحسن أي الاقتراض بمقابل فليس هناك مجال من تصحيح المسار الذي نشأ على الاعوجاج من الأساس.
لذلك فإن وضوح المسألة يعفينا من الشرح الزائد من بداية الطريق.
وإن ما يقال عن سندات التنمية والإعمار وكذلك ما يستدرج إليه البعض من أهل العلم الذين ينظرون إلى ترجيح المصلحة المتوهمة التي تطرحها الأفهام القاصرة عند بعض المروجين لشهادات الاستثمار زعما بأن ما يوزع من فوائد إنما يمثل جزءا من عائد المشروعات غير المخصوصة بالبيان، لا يقوم على أساس.
فإن كل ذلك الكلام المبني على حيل أشبه بالصور التلفزيونية المتداخلة لا يجوز أن يكون محلا لإصدار الحكم الشرعي. فالسندات التنموية وشهادات الاستثمار هي أدوات اقتراض تدفع الخزينة عوائدها للمستثمرين.
وإن معنى قيام الخزينة بدفع العوائد أو الفوائد إنما يعني أن الدولة تقتطع هذه الأموال من دخل المواطنين بصورة ضرائب ليكون في ذلك أسوأ تحوير لإعادة توزيع الثروة في المجتمع حين يأخذ المستثمر الذي لا يعمل نصيبا من جهد العامل الذي لا يملك.(6/1035)
ولو شاء الحريصون على مصالح الناس أن يجدوا الطريق الميسر الحلال لكان لهم ما أرادوا من شهادات الاستثمار المخصصة بالمشاريع المعنية وسندات القراض والمقارضة المرتبطة بنشاطات محددة كما قد لا يخطر على بال الكثيرين من الخبراء والعلماء والاقتصاديين.
***
أما الحكم الشرعي فإنه لا يخضع للتصورات الموهومة فيما يظنه البعض أنه من المصالح العامة الراجحة، لأن عدل الله أرحم بالناس من حدبهم على أنفسهم إن أرادوا لأنفسهم الخير الذي قد يتصورون.
فهل هناك من سبيل لتطوير الأدوات المالية الحالية بما يتفق مع الأحكام الشرعية؟
هذا ما سوف نجيب عليه بإذن الله في الفرع الثاني من هذا البحث.
*
**(6/1036)
الفرع الثاني
أسس تطوير الأدوات المالية
بما يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية
إذا رجع الناظر إلى الغاية الأساسية من طرح الأدوات المالية للتداول العام يتبين أن المسألة تتطلب تحقيق أمرين هامين هما:
* الأول: يتمثل في جمع رأس المال اللازم لتأسيس مشروع معين وذلك عن طريق تقسيم رأس المال المطلوب إلى وحدات متساوية قد تسمى سهما كما هو الشائع عنها أو حصة مشاركة أو صك امتلاك أو غير ذلك من الأسماء. وتسمى الأدوات المالية الهادفة إلى جمع رأس المال اللازم لإنشاء المشاريع المختلفة بالأدوات الأولية ويسمى سوقها بسوق رأس المال الأولي أو الابتدائي.
ويكون المالك للسهم أو الحصة أو الصك شريكا مع الآخرين في ملكية المشروع بكل ما يمثله مركزه المالي من موجودات ومطلوبات وهو يتمتع بهذه الصفة بحق جني الربح ويتحمل الخسارة.
وليس هناك من تعارض في ضوء هذا الوضع مع الأحكام الشرعية للمعاملات سواء كان رأس المال المتجمع مقصودا به إنشاء شركة أملاك أم شركة عقود وسواء كانت الشركة عنانا أم مضاربة عادية أم مساهمة، اللهم إلا إذا كان عدد الشركاء محدودا لأسباب تنظيمية بعدد معين كما في بعض أحوال شركات التضامن وشركات التوصية البسيطة والشركات المحدودة المسئولية.
وبناء على ذلك، فإن الأساس العام للإدارة المالية التي تمثل حصة مملوكة في مجموع قائم من أموال مختلطة تعود لمشروع معين وله مركز مالي محدد يكون أساسا شرعيا طالما كانت المشاركة مرتبطة بالغنم والغرم فيما يتعلق بالأموال الداخلة في هذه المشاركة.
* أما الأمر الثاني: فإنه يتعلق بتداول هذه الأدوات وذلك على أساس إمكان بيع وشراء الأداة المالية بما تمثله من حقوق صافية في المشروع المعين.
فإن هذا التداول المفتوح للأدوات المالية هو الذي يقوم عليه بناء السوق الثانوية لرأس المال.
فإذا كانت الأدوات المالية المنتجة في السوق الأولية مقبولة من الناحية الإسلامية أي بمعنى أنها تمثل حصص امتلاك وليس حقوق إقراض، فإن تداول هذه الأدوات المشروعة من حيث الأساس يعتبر تداولا صحيحا وتكون السوق الثانوية لرأس المال الإسلامي مبنية على أساس سليم.(6/1037)
ومن هنا فإنه يمكن القول بأن أسس تطوير الأدوات المالية بما يتفق مع الشريعة الإسلامية يعتمد على القواعد التالية:
1- بلورة الأدوات المالية التي تمثل حصص امتلاك مثل الأسهم وما هو في حكمها وذلك على أساس تنقية بعض أحكامها مما يخالف الشريعة الإسلامية وذلك مثل حالات الأسهم التفضيلية وأسهم الامتيازات ذات الفائدة.
2- توسيع مفهوم المحاصصة أي قسمة رأس المال إلى حصص متساوية كالأسهم في الشركات الشرعية مثل شركة العنان وشركة المضاربة حيث يمكن في شركة المضاربة بالذات تصور قيام شركة مضاربة مساهمة وذلك على أساس أن يكون رأس المال الصادر عبارة عن أسهم يدخل بها رب المال في الشركة وتكون له حقوق رب المال في شركة المضاربة الفردية.
وإن هذا النظام الذي كان للباحث شرف تقديمه للعمل به في دولة البحرين في 1986م حيث أخذت به وزارة التجارة والزراعة كنظام صادر بالقرار رقم 17 لسنة 1986م يشبه إلى حد كبير النظام الإنجليزي الذي يسمح بإصدار نوعين من الأسهم في الشركات المساهمة وهما الأسهم الصوتية (Voting Shares) ، والأسهم غير المصوتة (Non- Voting Shares) .
ولو نظر المدقق في حكم رب المال في شركة المضاربة من ناحية الشرط الفقهي الخاص بعدم تدخل رب المال في إدارة المضاربة لتأكد أن هذا النظام الإنجليزي في الأسهم غير المصوتة منقول بروحه عن الأساس الإسلامي الذي اشترط إعطاء التصرف للعامل في مال المضاربة وإلا فإن العقد يكون فاسدا من الأساس.
3- فتح أبواب التداول عن طريق المبايعة لحصص المشاركة سواء كانت بصورة أسهم في الشركات المساهمة أو حصص مشاركة في شركات المضاربة أو العنان أو أي صورة من الصور الأخرى طالما أن هناك مجالا لتغيير أشخاص المتعاملين دون أن يؤثر ذلك على مسيرة المشروع.
وتمثل هذه الخطوة نقلة نوعية في مسيرة العمل الجاد لإنشاء سوق رأس المال الإسلامي وذلك عن طريق إيجاد الأدوات المالية التي تقبل التداول بالبيع والشراء رغم أنها تمثل حصص المشاركة. .
وطالما أن هذا التداول مبني على وجود أدوات مقبولة من ناحية الأساس الشرعي، فإن الوجود الواقعي لسوق رأس المال الإسلامي يصبح واقعا مرتبطا بالتطبيق والحياة المعاصرة.
***
وخلاصة القول هو أن الأساس الذي يعتمد عليه إيجاد الأدوات المالية الإسلامية إنما يقوم على اعتبار هذه الأدوات أنها حصص امتلاك في المشروع المعين وليست أجزاء من عملية الإقراض للمشروع المعني. وإن مقتضى هذا الامتلاك أن يكون الريع مرتبطا بحقيقة العائد تبعا لما يحققه المشروع المملوك من ربح أو خسارة حيث يكون الغنم متقابلا مع الغرم الذي يمكن أن يؤدي إلى الخسارة أو نقصان القيمة.
***
فما هي الأشكال الملائمة للتطبيق في هذا المجال؟
هذا ما يجيب عليه الفرع الثالث.
*
**(6/1038)
الفرع الثالث
الأدوات المالية الإسلامية القابلة للتطبيق
أولا – الأسهم العادية في الشركات المساهمة العامة:
تعتبر الأسهم المعروفة في نظام الشركات المساهمة أنها واحدة من الأدوات الأقرب للتطبيق والقبول في العالم الإسلامي وذلك بالنظر لاستقرار التعامل بالأسهم وانتشار الأسواق المالية التي يتم فيها تداول هذه الأسهم بالبيع والشراء دون نكير أو اعتراض من أحد باستثناء بعض الآراء المستهجنة.
وأنه من الواضح أن قبول فكرة التداول في الأسهم رغم أنها تمثل حصصا مالية في موجودات مختلطة من النقود والديون والأعيان إنما يقوم على الأساس الذي يسبق بيانه في الفرع الثاني وهو أن هذه الأسهم تمثل حصص امتلاك في المشروع المعين حيث تباع هذه الحصة بقيمة تزيد أو تنقص تبعا لزيادة قيمة الموجودات أو نقصانها.
وكل ما يهم الباحث التنبيه إليه هو أن الأسهم ذات الأفضلية التي تعطي لمالكها حقوقا متميزة في الأرباح أو أسهم الامتياز التي تضمن للمالك نسبة محددة من الفائدة إنما تعتبر غير مقبولة من الناحية الشرعية الإسلامية حيث يعتبر نظام الشركة الذي يجيز إصدار مثل هذه الأسهم أنه نظام مخالف لفقه المعاملات المالية الإسلامية.
فليس هناك في الإسلام تمييز بين الأموال كما أنه لا يوجد تمييز بين الأشخاص في التكاليف الشرعية. وليس هناك مال ممتاز يأخذ نصيبا محفوظا له من الربح أو نسبة محددة من الفائدة وإنما هناك مساواة لا تتميز فيها دنانير زيد عن دراهم عبيد وطالما أن هذه الدنانير والدراهم شريكة في الخسارة إذا خسر المشروع فإنها كذلك تشارك في الربح إذا نما المال بنفس النسبة على أساس العدل والإنصاف.
ثانيا – الأسهم غير العادية:
وتتمثل هذه الأسهم في صيغة الأسهم غير المصوتة (Non-Voting Shares) ، وهي من نوع رأس مال المضاربة حيث لا يملك رب المال التدخل في الإدارة.
ويمثل هذا النوع من الأسهم بابا من أبواب الخير الذي يحسن بالمفكرين والمشرعين في العالم الإسلامي أن ينتبهوا إليه لإدخاله في التطبيقات المعاصرة.
لقد كانت دولة البحرين – كما سبقت الإشارة إلى ذلك – هي أول دولة إسلامية تتقبل نظام الأسهم غير المصوتة وذلك بصدور القرار الوزاري رقم 17 لسنة 1986م وهو القرار الذي شهدت البلاد على أثره تسجيل عدد من الشركات المالية الإسلامية والتي كان من أوائلها شركة التوفيق للصناديق المالية وشركة الأمني للأوراق المالية حيث طرحت كلتا الشركتين أدوات مالية إسلامية بلغت قيمتها بضعة ملايين من الدولارات.(6/1039)
وإن العالم الإسلامي بحاجة إلى المزيد من التشريعات التي تنظم إصدار مثل هذه الأسهم وذلك لتحقيق ما يلي:
(أ) نشر المزيد من الأدوات المالية الإسلامية.
(ب) التغلب على معوقات الحواجز الإقليمية التي تمنع المواطنين في البلد الإسلامي من المساهمة في الشركات العامة في بلد إسلامي آخر بسبب عوامل الخوف من السيطرة أو انتقال الإدارة إلى غير المواطنين.
(ج) إمكان توفير السوق الثانوية لرأس المال عن طريق تسهيل تداول هذه الأسهم بسهولة أكثر مما يمكن أن تتداول به أسهم الشركات المساهمة العامة العادية.
ثالثا – سندات المقارضة (1) :
وهي نوع من حصص المشاركة في مشروعات معينة مبنية على أساس القابلية للتصفية التدريجية وذلك على نفس الأساس الذي يصفى به رأس المال في شركة المضاربة. فكما أن رب المال في شركة المضاربة يسترد رأسماله وحصته من الربح على أساس الحصة الشائعة المحددة من الابتداء، فإن مالك السند باعتباره مقدما لرأس المال إنما يسترد رأسماله مقسطا مع حصته من الربح الذي ينويه كشريك في المشروع المعين.
وتعتبر سندات المقارضة وبخاصة بعد إقرارها بالشروط التي حددها مجمع الفقه الإسلامي في المؤتمر الرابع المنعقد في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية عام 1408هـ أنها واحدة من أهم الأدوات المفيدة والقابلة للتطبيق على جميع حالات الاستثمار الإسلامي المخصص في بلاد العالم الإسلامي.
__________
(1) طرح الباحث فكرة سندات المقارضة لأول مرة بمناسبة قيامه بإعداد مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني الذي صدر في الأردن بالقانون رقم (13) لسنة 1978م، ثم تبنى فكرة إصدار قانون خاص لسندات المقارضة لإعمار الأملاك الوقفية حيث صدر القانون رقم (80) لسنة 1980م. انظر: الأعمال التحضيرية لمشروع قانون البنوك الإسلامي الأردني، إعداد الدكتور سامي حمود (مطبوع الآلة الكاتبة) .(6/1040)
رابعا – سندات الخزينة المخصصة للاستثمار الإسلامي:
قدم الباحث هذه الصيغة من صيغ الأدوات المالية الإسلامية كفكرة مهداه إلى إحدى الدول العربية الإسلامية تقديرا لمكانتها العالية في نفوس العرب والمسلمين وذلك حين واجهت هذه الدولة في عام 1408هـ عجزا في ميزانيتها بمقدار كان فيه اضطرار لإصدار سندات قرض على أساس نظام سندات الدين العام.
وقد أسس الباحث فكرة إصدار هذه السندات المخصصة على القواعد التالية:
1- إصدار سندات الخزينة المشاركة في المشاريع المنتجة للدخل وذلك على أساس بيع المشروع المعين أو جملة من المشروعات مقابل إعطاء سندات تمثل حصص امتلاك وانتفاع بريع المشروع أو المشروعات المعينة.
2- إصدار سندات الخزينة الإيجارية لمشاريع مملوكة لمؤسسات وشركات مساهمة ذات نفع عام وذلك باعتبار أن هذه السندات تمثل حصص امتلاك قابلة للتأجير.
3- إصدار سندات الخزينة البترولية بطريق السلم وذلك على أساس بيع الإنتاج المستقبل مع تنظيم بيوع السلم الأول والبيوع الموازية من أجل الموازنة بين الكميات المسلم فيها بالبيع والمطلوبة بالشراء.
وتعتبر هذه الأداة واحدة من أنجح الوسائل الملائمة للدول البترولية حيث يساعد الإنتاج البترولي الضخم على اجتذاب آلاف الملايين من الدراهم والدنانير والريالات التي لا تجد طريقها للمشاركة في التنمية الوطنية.
***
وخلاصة القول يتمثل في أن فتح أبواب العمل الاستثماري المنظم على أساس الإصدارات المخصصة لسندات الخزينة تعتبر بالنسبة للعالم الإسلامي بابا من أوسع أبواب الاستقطاب لرءوس الأموال من داخل البلاد الإسلامية وخارجها (1) .
كما أن تضافر جهود البنوك المركزية للدول الإسلامية في سبيل ضمان التغطية وإمكانية إعادة شراء مثل هذه السندات يفتح المجال لقيام سوق رأس المال الإسلامي من أوسع الأبواب.
*
**
__________
(1) انظر: الدراسة المقدمة كإهداء خاص من الدكتور سامي حمود بعنوان: (مقترحات حول إصدار سندات الخزينة السعودية بما يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية) ، مؤرخة في 19 جمادى الثاني 1408هـ، الموافق 9يناير 1988م.(6/1041)
الفرع الرابع
مجالات تطبيق الأدوات المالية
في عقود المعاملات الشرعية
يدخل تطبيق الأدوات المالية في معظم عقود المعاملات الشرعية وذلك عندما يتطور استعمال هذه العقود من الصورة الفردية إلى الصورة الجماعية.
ويتضح ذلك من استعراض العقود التالية المأخوذة على سبيل المثال وليس الحصر:
1- عقد المضاربة:
المضاربة نوع من الشركة وهي تقوم على دفع المال من شخص لمن يتجر به والربح بينهما على ما شرطاه (1) .
وتعتبر المضاربة من أوسع أبواب العقود المالية باعتبارها تقوم على أساس إعطاء المال لمن يعمل فيه مقابل حصة من الربح المتحصل من ذلك العمل.
فالمضاربة تقوم أساسا على مفهوم تلاقي رأس المال مع جهد الإنسان لتحقيق عمل مربح.
وكما أن رأس المال يمكن أن يقدمه فرد أو عدد محدود من الناس الراغبين في الاستثمار، فإنه من الممكن كذلك أن يكون رأس المال مقسما على هيئة حصص أو أسهم أو صكوك أو سندات امتلاك إلى غير ذلك من أشكال أو مسميات.
وبما أن رأس المال في المضاربة يتحول من الصورة النقدية إلى صورة الموجودات المختلطة من النقود والديون والأعيان تماما كما هو الحال في تحول رأس المال في الشركات المساهمة، فإن تداول الأجزاء التي ينقسم إليها رأس مال المضاربة بالبيع والشراء أمر ممكن.
صحيح أن الباحث يقرر من باب الأمانة في العرض أنه لم يقع على حالة من الحالات التي تعرض فيها الفقهاء لمسألة شراء رأس المال في المضاربة القائمة ولكن فلسفة الفقه الإسلامي بالمنظور الذي أحل فيه الله البيع وحرم الربا يمكن أن يشمل الكلام أي بيع ليس فيه ما يخالف الشرع.
وأن رأس مال المضاربة الذي يكون مالا مختلطا من النقود والديون والأعيان يمكن أن يكون محلا للبيع بنفس المنطق الذي أجاز فيه الفقهاء مسالة المخارجة في التركة وهي نوع من البيع أو المصالحة القائمة على المعاوضة عن مال بمال.
__________
(1) هذا ما يراه الأحناف في عمل المضاربة ولكن الباحث المدقق يرى أن شركة المضاربة تشمل سائر وجوه النشاط التجاري والصناعي وحتى الاستثمار الزراعي، ويعتبر مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أنه قد بلغ القمة في توسيع مفهوم شركة المضاربة ومبناها وكذلك العمل الذي تشمله مما ينفى عنها صفة الحصر في الاتجار فقط. (للمزيد من التوسع في ذلك – انظر: سامي حمود – تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، الطبعة الثانية، الصفحات 375-381) .(6/1042)
2- عقود المشاركات الأخرى:
ويشمل ذلك جميع عقود المشاركة الشبيهة بالمضاربة مما لا يكون لصاحب رأس المال أثر شخصي في الرضا بالعقد. فلا يستقيم الأمر مثلا في شركة العنان حيث يكون كل من الشريكين مفوضا بالتصرف ووكيلا عن الآخر فيه.
ولكن المشاركة التمويلية أمر آخر فمن يقدم رأس المال اللازم مثلا لإقامة مشروع معين أو إنشاء بناء على أرض مملوكة للأوقاف يكون فيه الأمر خارجا عن الاعتبار الشخصي لصاحب رأس المال. فلو قدمه زيد أو عبيد يكون الأمر سيان. لذلك فإن تداول حصص المشاركة التمويلية بصورة أدوات مالية يكون جائزا ومقبولا.
3- عقد السلم:
عقد السلم هو من عقود التيسير التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة من أول عهد الهجرة وهو عقد على شيء – يصح بيعه – موصوف في الذمة مؤجل بثمن متعلق بثمن مقبوض (1) .
ويقوم هذا العقد على أساس الدفع المقدم للثمن المطلوب فيما يجوز فيه السلم من المكيل أو الموزون أو المعدود المثلى مما يكون محلا للإنتاج حالا أو في المستقبل المعلوم.
وكما يجوز أن يكون رأس مال السلم مدفوعا من شخص واحد أو عدة أشخاص مشتركين في التمويل، فإنه يجوز أن يكون رأس المال مقسما إلى أجزاء موزعة على عدد كبير من المالكين.
وإن عقد السلم يمثل بابا من أبواب التطوير المناسب لإنشاء الأدوات المالية الإسلامية وبخاصة في مجال تخطيط الربح المحسوب على أساس التوقع المنظور.
إن مفهوم تعليق الربح بالاتكال على الله على ما يرزق به لا يتنافى مع التخطيط لتحقيق الربح المتوقع بعد الاتكال على الله.
فإذا كان المسلم (أي صاحب رأس المال في عملية السلم) قد تعاقد على شراء طن القمح بسعر مائة وعشرين دينارا لتسلمه في الأردن مثلا في شهر مايو (أيار) وذلك في الوقت الذي يعلم فيه من السوابق والظروف أن السعر سوف يكون في ذلك الوقت بحدود مائة وأربعين دينارا، فإن هذا التوقع المحسوب للأرباح لا يتنافى مع إمكان التخطيط لتداول الحصص الداخلة في السلم على أساس البيع الموازي.
__________
(1) البهوتي: كشاف القناع عن متن الإقناع (بيروت – عالم الكتب الجزء الثالث صفحة 288) .(6/1043)
إن الممنوع في السلم – كما قال به أهل الفقه – هو بيع المُسْلَم فيه لأنه معدوم وقت العقد، ولكن الفقه لا يمنع من إجراء عقد جديد للسلم الذي يراعى فيه المُسَلِّم الكمية المحتملة فيما أسلم الكمية المحتملة فيما أسلم فيه.
فإذا تعاقد زيد على شراء ألف طن من القمح الشامي يسلم له في شهر مايو (أيار) ، فإنه ليس هناك ما يحول شرعا دون قيامه بإبرام عشرة عقود للسلم يبيع بموجبها قمحا من ذات النوع حيث يكون كل عقد بمائة طن مثلا.
إن فتح أبواب السلم الأصيل والسلم الموازي يمكن أن يغطي ساحة واسعة من ساحة الأدوات المالية الإسلامية في العالم الإسلامي (1) .
4- عقد الاستصناع:
يعتبر الاستصناع من العقود المبنية على دليل الاستحسان الذي برع فيه الأحناف للتخلص من آثار القياس.
والاستحسان في علم أصول الفقه هو العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى بمقتضى هذا العدول (2) .
والاستصناع هو شراء ما سيصنع بطريق الطلب كأن يقول إنسان لآخر – كما أورد صاحب البدائع – اعمل لي خفا أو آنية من أديم أو نحاس من عندك بثمن كذا ويبين فيه نوع ما يعمل وقدره وصفته فيقول الصانع نعم (3) .
وقد كان الأصل في هذا العقد أنه غير لازم بمعنى أنه يجوز لكل من الطرفين فسخه كما في أصل المذهب الحنفي بلا خوف ما دام الشيء لم يصنع، أما بعد صنعه وإحضاره فيكون للمستصنع حق الفسخ من قبيل خيار الرؤية على المذهب الراجح (4) ، غير أن مجلة الأحكام العدلية أخذت في المادة 392 بلزوم العقد في حق الطرفين منذ انعقاد العقد إلا إذا جاء المصنوع على خلاف الوصف المعين في العقد حيث يكون للمستصنع حق الفسخ بمقتضى خيار فوات الوصف المشروط في العقد وليس بمقتضى عدم اللزوم في عقد الاستصناع (5) .
__________
(1) انظر: بحث الوسائل الشرعية لتداول الحصص الاستثمارية في حالات السلم والإيجار والمرابحة ورقة بحث من إعداد الدكتور سامي حمود مقدمة إلى ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي المنعقدة في تونس من 4-7 نوفمبر 1984م.
(2) مصطفى أحمد الزرقاء، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، الجزء الأول المدخل الفقهي العام (دمشق، مطبعة جامعة دمشق، 1959م) الطبعة السادسة، صفحة 48.
(3) انظر: الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (بيروت، دار الكتب العلمية، 1986م) .
(4) انظر: مصطفى الزرقاء، المرجع السابق، نفس الجزء، صفحة 455.
(5) المرجع السابق: صفحة 455-456.(6/1044)
وبناء على لزوم عقد الاستصناع من ناحية، واستنادا إلى إمكان الالتزام في عقد الاستصناع من طرف المتقبل على أساس أنه يعطيه إلى طرف آخر لصنع المطلوب بنفس الشروط والمواصفات فإن تمويل عقد الاستصناع يمكن أن يتم على أساس تجزئة الحصص لبيعها بسعر الأساس (أي سعر التكلفة الأقل) عن طريق المستصنع الوسيط حيث يقبض المشاركون القيمة البيعية عند تمام التنفيذ والاستلام.
فلو فرضنا أن بيت التمويل الكويتي تعاقد مع شركة الملاحة العربية في الكويت على تصنيع ناقلة نفط بمليون دينار كويتي مثلا، ثم قام بيت التمويل بالتعاقد مع شركة يابانية لصنع الناقلة بالمواصفات المطلوبة بسعر تسعمائة ألف دينار كويتي. فإنه يمكن لبيت التمويل أن يطرح حصص المشاركة في رأس المال اللازم للاستصناع على أساس البيع المجزأ لكل حصة بخمسة وتسعين دينارا كويتيا مثلا لكل حصة.
وبذلك يصبح مالك الحصة شريكا في ملكية الناقلة بمقدار حصته، فإذا سلمت هذه الناقلة إلى شركة الملاحة وتم البيع فإنه يقبض ثمنا لحصته مائة دينار محققا بذلك ربحا قدره خمسة دنانير للحصة الواحدة.
وإذا شاء أن يبيع حصته قبل ذلك فأن يبيع حصة في الناقلة أي أنه يبيع حصته الشائعة في ملكية الناقلة وهذا حقه طالما أنه المالك لهذه الحصة.
وبذلك تكون هذه الأداة المتداولة بصورة سند الملكية الممثلة للحصة الشائعة محلا للبيع والشراء.
*
**(6/1045)
الخلاصة وخاتمة الكلام
من ذلك نتبين أن الأدوات المالية الإسلامية يمكن أن تجد لها مجالا رحبا للتطبيق في ظلال تطور الحياة الإسلامية المعاصرة.
كما أن هذه الأدوات هي أقرب وأرحب من أدوات الاقتراض التي لا تسد الحاجات وإنما تزيد الكروب على المسلمين، وذلك لأن ارتباط رأس المال بالإنتاج يقود إلى طريق الانفراج أما ربط رأس المال بالربا فإنه يقود إلى الأذى.
وإن العالم الإسلامي الذي تزيد موجوداته بمجموعها من الأموال المقتناة بالعملات الأجنبية عن ديونه المقترضة جدير بأن تتفتح لديه التوجهات للاستفادة من أموال البلاد الإسلامية وتوجيهها لخير المسلمين ولخير الإنسان في كل مكان.
ذلك أن هذا العالم الذي نعيش فيه مع ظلام الجهل والابتعاد عن أنوار الهداية والإرشاد الإلهي، لا يكون إلا المسرح المهيأ لممارسة الإنسان ظلمه لنفسه وظلمه لأخيه الإنسان.
ولم يكن العالم في يوم من الأيام بأحوج إلى هداية السماء من هذا الوقت الذي ظن فيه الناس أنهم قد بلغوا بالعلم إلى الهبوط على سطح القمر ولكنهم غفلوا عن أبسط مبادئ العدل في تكريم الإنسان أمام المال.
وإن إيجاد الأدوات المالية الإسلامية القادرة على بناء سوق رأس المال الإسلامي تمثل المنطلق لتحرير المال الإسلامي من الوقوع في شراك الاصطياد السهل، وذلك حتى يعطي هذا المال ما عليه من حقوق لأهل البلاد التي خرج منها بسبب انعدام وسائل التعبئة والتوجيه للاستثمار الحلال.
سائلين الله أن يبارك جهود العاملين الواعين لما يصلح حال هذه الأمة وأحوال العالم التائه في ظلام الجهل والبعد عن الصراط المستقيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور سامي حسن حمود(6/1046)
الأدوات المالية الإسلامية
إعداد
فضيلة الدكتور حسين حامد حسان
رئيس الجامعة الإسلامية العالمية
بإسلام أباد – باكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
1- قامت البنوك الإسلامية لتحقيق أمل شعوب الأمة الإسلامية، في تحقيق التنمية الشاملة في أوطانها، وذلك عن طريق قيام هذه البنوك بجمع مدخرات المسلمين وتوجيهها للاستثمار وفق منهج الله، بما يحفظ لهذه الشعوب استقلالها، ويحمي حريتها، ويكفل أسباب التقدم والرقي لها حتى تتمكن من أداء رسالتها التي صارت خير أمة أخرجت للناس من أجلها.
2- ولقد أقبل الناس على التعامل مع البنوك الإسلامية فور قيامها، وذلك بالإيداع فيها وطلب التمويل منها. ولقد تمثلت إيداعات هذه البنوك غالبا في حسابات استثمار قابلة للسحب عليها، وودائع استثمارية قصيرة الأجل , مما اضطرت معه هذه البنوك إلى استخدام مواردها في استثمارات قصيرة الأجل تجنبًا للمحاذير التي تترتب على استخدام موارد قصيرة في استثمارات متوسطة وطويلة الأجل، وبذلك كان إسهامها في قضية التنمية دون المستوى المطلوب منها.
3- ومن الظواهر التي صاحبت نشأة البنوك الإسلامية انعدام التوازن بين مواردها واستخداماتها في كثير من الحالات. ففي الوقت الذي تعاني فيه بعض هذه البنوك من زيادة في السيولة لا تتاح لها الفرص المناسبة لاستخدامها، ولا المجالات الملائمة لاستثمارها، يعاني البعض الآخر من نقص في هذه السيولة، تعجز معه عن مواجهة ما يتوافر لها من فرص استثمار تعينها على تحقيق أهدافها. ولقد واجهت البنوك الإسلامية بسبب ذلك صعوبات عاقت مسيرتها، وضاعفت من ذلك أن البنوك الإسلامية بوضعها الحالي ليس لها مؤسسة مالية تقوم بدور البنك المركزي بالنسبة للنظام المصرفي التقليدي، تلجأ إليه عند الشدة كمقرض أخير لها. كما أن أسواق المال القائمة في البلاد الإسلامية لا تسمح أوضاعها الحالية باستخدام البنوك الإسلامية لها أو اللجوء إليها لاستحداث التوازن المطلوب، كما تفعل البنوك التقليدية.
4- لكل هذه الأسباب ظهرت حاجة البنوك الإسلامية الماسة، إلى وضع سياسات جديدة لموارد هذه البنوك واستخداماتها، واستحداث أدوات مالية مبتكرة تمكنها من تنفيذ هذه السياسة، وتتفق مع مقاصد الشريعة العامة وقواعدها الكلية، وتمكن هذه البنوك من المساهمة الجادة في قضية التنمية الشاملة.
5- وتحقيقا لهذه الغاية فقد عقدت ندوات، وحلقات بحث، ومجموعات عمل؛ قدمت فيها بحوث ودراسات لمعالجة هذه القضية. وقاد البنك الإسلامي للتنمية بجدة الجهود الرامية إلى استحداث أدوات مالية إسلامية، فكون مجموعات خبراء تضم علماء الاقتصاد وخبراء المال، وأساتذة الشريعة، وقد ظلت هذه تعمل على مدى عامين، حتى قدمت مشروعا للأدوات المالية الإسلامية القائمة على أحكام الشريعة، قدمته للاجتماع السابع للبنوك الإسلامية المنعقد في عمان في 21 مارس عام 1986، ثم تبع ذلك تبني البنك نفسه لصيغ تطبيقية، تقوم على أساس هذه الأدوات.
6- وهذا البحث دراسة لنتائج هذه البحوث والدراسات، وتوصيات هذه الندوات واللجان، والصيغ التي استحدثت بناء عليها، والأدوات المالية التي صدرت تطبيقا لها، وذلك كله في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية.(6/1047)
تعريف الأدوات المالية الإسلامية:
يعبر بعض الباحثين عن الأدوات المالية الإسلامية (بالأوراق المالية) تارة و (بشهادات الاستثمار) تارة أخرى، ويفرق البعض الآخر بين (الأوراق المالية) و (الأدوات المالية) ، فيرى أن الأولى تعني الأوراق المالية التقليدية أي الأسهم والسندات وأما الثانية فتعني الأوراق المالية المستحدثة وفق أحكام الشريعة الإسلامية، ونحن نرى أن هذه عبارات متساوية في الدلالة على نفس المعنى، ولذلك فسوف نستعمل عبارة الأوراق المالية، ونعني بها الأوراق المالية التي استحدثت وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وأما الأوراق المالية التقليدية فإننا سنعبر عنها بوصف التقليدية، أو بذكرها باسم أنواعها كالأسهم والسندات.
وتعرف الورقة المالية الإسلامية بأنها (صك يمثل حصة شائعة في مال جمع بقصد استثماره للحصول على ربح، يصدره الشخص المستثمر، بصفته مضاربا؛ أو يصدره شخص آخر لحساب المستثمر، يقبل التداول، والتحويل إلى نقود) .
1- الصك يمثل حصة شائعة في مال:
والصك شهادة أو وثيقة تصدر باسم المكتتب، مقابل المبلغ الذي اكتتب به في المشروع، وفقا لقواعد وشروط معينة، نذكرها عند الكلام على إصدار الأوراق المالية. وهو يمثل حصة شائعة في مال، وليس مالا في ذاته؛ لأن المال هو المتقوم، ولا قيمة لهذا الصك في ذاته.
ويقصد بالحصة جزء أو سهم يمثل نسبة قيمة الورقة المالية إلى مجموع حصيلة الاكتتاب، أو المجموع المالي الذي تحول إليه حصيلة الاكتتاب بعد قيام المشروع.
ويقصد بالمال الذي يمثل الصك حصة شائعة فيه: الحصيلة النقدية لبيع الأوراق المالية في فترة الاكتتاب، وهو الذي يمثل رأس مال المشروع، أو التمويل المطلوب للنشاط الاستثماري الذي صدرت الأوراق لتمويله.
أما بعد قيام المشروع، وتحويل النقود إلى أعيان ومنافع وحقوق لدى الغير، فإن الصك يمثل حصة شائعة في هذا المجال المالي.
وملكية حامل الصك ملكية شائعة، وليست مفرزة، والشريعة تجيز أن يتعدد أرباب المال وينفرد المضارب، فيملك كل واحد من أرباب المال حصة شائعة في مال المضاربة بنسبة رأس ماله إلى مجموع رأس مال المضاربة. كما أن الشريعة تجيز التصرف في الحصة الشائعة، كما تجيز التصرف في مجموع المال الذي يتكون من الأعيان والحقوق والمنافع، كما في تخارج أحد الورثة من التركة في مقابل مال يدفع إليه. وسوف نرى أن الورقة المالية يتم تداولها بقيمتها الاسمية في مرحلة الاكتتاب وبعده قبل بدء النشاط الاقتصادي، إذ لا تجيز الشريعة بيع النقد بالنقد متفاضلا، وأما بعد بداية النشاط الاقتصادي فإنه يجوز بيع الورقة المالية بقيمتها، وبأكثر أو أقل، كالشأن في التصرف في الأعيان والمنافع.(6/1048)
وقد تتحول أصول المشروع في أثناء حياته إلى نقود أو ديون، فيمتنع تداول الأوراق المالية في هذه الحالة، إلا وفق الشروط التي قررتها الشريعة في تداول النقد والتصرف في الدين، كما سنرى.
ففي حالة تحول أصول المشروع إلى نقود يتم تداول الورقة المالية بما يساوي حصتها من النقود، وليس بقيمتها الاسمية؛ إذ قد تزيد حصتها من النقود على قيمتها الاسمية. وفي حالة الديون تباع الورقة المالية بحصتها من الديون للمدين بها، وأما بيعها لغيره فلا يجوز إلا بغير جنس الدين، كأن تباع بالأعيان أو بعملة أخرى، كما سنفصله فيما بعد.
أما إذا كان المشروع الذي صدرت الأوراق المالية لتمويله يتمخض ديونا، طوال حياة المشروع، كالشأن في عقد السلم إذا ما تم تمويله بإصدار أوراق مالية دفعت حصيلتها ثمنا، أو رأس مال للمُسلَم فيه، فإن تداول هذه الأوراق يخضع لشروط بيع الدين؛ ذلك أن المُسلَم فيه قبل قبضه يعد دينا في ذمة المُسلَم إليه، والورقة تمثل هذا الدين.
وسوف نرى أنه عند قيام المشروع وأثناء حياته واشتمال أصوله على أعيان وحقوق ومنافع ونقود في الخزينة، فإن العبرة في جواز تداول الأوراق المالية بالغالب. فإذا غلبت الأعيان والمنافع على الديون والنقود جاز التداول دون قيود، وأما إذا غلبت الديون أو النقود، أو هما معا على الأعيان والمنافع فإن الشريعة تفرض قيودا على هذا التداول كما سنفصل القول فيه.
2- استثمار المال بقصد الحصول على ربح:
والورقة المالية صك يمثل حصة شائعة في مال جمع بقصد استثماره للحصول على ربح، والمال الذي جمع بقصد استثماره هو حصيلة الاكتتاب في الأوراق المالية المصدرة لتمويل مشروع أو نشاط اقتصادي، وهو يتمحض نقودا في فترة الاكتتاب وبعدها، قبل بدء النشاط الاقتصادي، أو قيام المشروع الاستثماري الذي صدرت الأوراق المالية لتمويله، ثم يتحول إلى أعيان وحقوق ومنافع عند بداية النشاط، أو قيام المشروع، كما ذكرنا، وهذا المال يكون رأس مال المضاربة، وقد أجازت الشريعة الإسلامية أن يدفع جماعة بوصفهم أرباب مال إلى مضارب واحد، مالا يستثمره والربح بينهم على وفق شرطهم، ويكون أرباب المال شركاء في هذا المال على الشيوع، ويقتسمون ربحه بينهم بنسبة مساهماتهم في رأس المال، بعد استنزال حصة المضارب من الربح.(6/1049)
ويشترط في اعتبار الصك ورقة مالية أن يكون المال الذي جمع بطريق إصدار الأوراق المالية والاكتتاب فيها، قد قصد بجمعه استثماره في نشاط اقتصادي بقصد الربح. فإن كان قد جمع لاستثماره في مشروع خيري لا يقصد به الربح، كبناء لمستشفى خيري أو مدرسة أو دار أيتام، أو كان الصك يمثل حصة في ملكية عقار مشترك بين اثنين أو أكثر للاستعمال لم يكن الصك ورقة مالية بالمعنى الذي نقصده.
3- المستثمر يصدر الصك أو يصدره الغير لحسابه:
المستثمر هو مصدر الصك أو الورقة المالية، لتمويل مشروعه الخاص، أو نشاطه المعين، وقد يكلف المستثمر شخصا آخر، بنكا أو مؤسسة مالية، بإصدار هذه الورقة لحسابه في مقابل أجر معين، وهو يقوم بإعداد دراسة جدوى لمشروعه، ويحدد رأس مال هذا المشروع، والربح المتوقع منه، ثم يعد نشرة إصدار يضمنها جميع أركان وشروط عقد المضاربة، يطرحها على الجمهور طالبا منهم الاكتتاب في المشروع في مقابل منحهم أوراق مالية تسلم إليهم. وسوف نرى أن نشرة الإصدار تعد إيجابا من جانب المصدر بوصفه مضاربا، موجها إلى الجمهور، فإذا صادفه قبول المكتتبين بشراء الأوراق المالية انعقدت المضاربة صحيحة منتجة لآثارها، والشريعة تجيز أن يوجه إيجاب إلى الجمهور مع التزام الموجب بالبقاء على إيجابه مدة محددة، فإذا صادف الإيجاب قبولا في هذه المدة انعقد العقد.
4- المستثمر يصدر الورقة المالية بوصفة مضاربا:
مصدر الورقة المالية أو من تصدر لحسابه ويتلقى حصيلة الإصدار لاستخدامها في تمويل مشروع معين، إنما يصدر هذه الورقة ويتلقى حصيلتها بوصفة مضاربا والجمهور الذين يكتتبون في الأوراق المالية يكتتبون فيها بوصفهم أرباب مال مشترك بينهم، على النحو الذي سبق بيانه، وهذا يعني:
(أ) أن علاقة مصدر الورقة المالية، والمتلقي حصيلة الاكتتاب فيها، بالمكتتبين؛ حملة هذه الأوراق، ليست علاقة دائن بمدين، بل علاقة مضارب يستثمر حصيلة الاكتتاب في مشروع اقتصادي بجماعة أرباب المال؛ فالمشروع ملك لحملة الأوراق المالية، ويد مصدر الاكتتاب عليه يد أمانة، يديره لحسابهم، في مقابل حصة معلومة من الربح، تحددها نشرة الإصدار، وبهذا تختلف الأوراق المالية عن السندات التي تصدرها الشركات والتي تمثل مديونية عليها لحملة السندات، وتتعهد الشركة فيها بدفع فوائد محددة مقدما، في فترات دورية، ثم تدفع قيمة السند في موعد استحقاقه.
(ب) أن حق إدارة المشروع وسلطة إصدار القرارات الاستثمارية الخاصة به تكون للمستثمر مصدر الأوراق المالية وحده، دون تدخل من حملة الأوراق المالية، الذين يقتصر دورهم على مراقبة المصدر المضارب في إدارته للمشروع، للتأكد من التزامه بشروط عقد المضاربة، التي تضمنتها نشرة الإصدار، وهذه النشرة – كما قلنا - تحتوي على شروط عقد المضاربة، وقد تتضمن هذه النشرة تعيين أمين للإصدار، يرعى حقوق المكتتبين ويحميها في مواجهة المصدر (المضارب) .(6/1050)
وبهذا تختلف الأوراق المالية عن الأسهم التي تمنح مالكيها حق إدارة الشركة عن طريق اختيار مجلس للإدارة، ثم عن طريق الجمعية العمومية، التي لها أوسع السلطات في إصدار القرارات التي لم تمنح لمجلس الإدارة المنتخب؛ ذلك أن الاستثمار بطريق تمويل المشروعات بأوراق مالية، وهو تطبيق حديث للمضاربة، يعني أن كل ما يريده أرباب المال من أوضاع وشروط، من حيث طبيعة المشروع وحجمه، وطريقة إدارته، ونسبه الربح التي يأخذها المضارب يتضمنها العقد الذي تمثله نشرة الإصدار، وهي وإن كانت تعد من قبل المضارب المصدر للورقة، إلا أن المصدر يراعي أن يضمنها شروطا وبيانات تجذب أرباب رءوس الأموال وتشجعهم على الاكتتاب، ويكون التنافس في ذلك كفيلا بحمل المضاربين المصدرين للأوراق المالية على تقديم أفضل شروط حتى يقبل الجمهور على الاكتتاب في مشروعاتهم.
(ج) أن المضارب المصدر للأوراق المالية ليس مأذونا في خلط حصيلة الاكتتاب بماله الخاص إلا في الحدود التي يكتتب هو فيها، في المشروع، كغيره، وذلك إذا كان الإصدار لتمويل مشروع معين، أو نشاط خاص، أما إذا كان الإصدار للمشاركة في أنشطة المضارب المختلفة، فهو مأذون له في ذلك، على النحو الذي سنبينه تفصيلا فيما بعد.
(د) أن المشروع المعين أو النشاط الخاص يعد (مال مضاربة) ، والمضاربة تختص في الفقه الإسلامي بحساب مستقل، وتتمتع بذمة مالية مستقلة، في حدود معينة، عن ذمة كل من أرباب المال والمضارب، فرب المال لا يسأل عن ديون المضاربة إلا في حدود رأسمال المضاربة، وما أذن فيه للمضارب من قرض يُضَم لرأس المال , ولا يستطيع ورثة رب المال نزع هذا المال من يد المضارب قبل انتهاء مدة المضاربة أو النض؛ أي تصفية المضاربة وتحويل أعيانها إلى نقود، وهذا المال ليس مملوكا للمضارب قطعا، ولا يرثه عنه ورثته، ولاينفذ عليه دائنوه، ولكل من المضارب ورب المال أن يشتري من مال المضاربة ولذا صرح بعض الفقهاء بأن بعض المصروفات التي ينفقها المضارب تلزم المضاربة، وتكون في مالها، ولا تلزم رب المال ولا المضارب. وهذا يدل على أن للمضاربة، شخصية مستقلة، وذمة مالية منفصلة، عن ذمة كل من رب المال والمضارب في حدود معينة، وأن على المضارب أن يمسك حسابات مستقلة للمضاربة، ويعد ميزانية دقيقة للأرباح والخسارة، حتى يتم توزيع الربح حسب الاتفاق في عقد المضاربة.
قابلية الورقة المالية الإسلامية للتداول والتسييل:
الورقة المالية الإسلامية قابلة للتداول؛ أي البيع والشراء بالأسعار السائدة وقت التداول، والتي تتحدد وفقا للمركز المالي للمشروع، الذي يعلنه البنك أو المستثمر في فترات دورية متقاربة، وذلك لحين قيام السوق المالية الثانوية الإسلامية، وهي الهدف المقصود، والشرط المسبق لجمع المدخرات الإسلامية وتوجيهها للاستثمار، في مشروعات متوسطة وطويلة الأجل، بما يحقق التنمية الشاملة في المجتمعات الإسلامية. وسوف نعرض لموضوع تداول الأوراق المالية بالتفصيل فيما بعد.(6/1051)
وحتى تستجمع الورقة المالية الإسلامية خصائصها، وتحقق هدفها، فإن البنك الذي أصدر الورقة المالية يتعهد، وحده، أو مع غيره من البنوك، بشراء ما يعرض عليه منها بالسعر السائد، وقت تقديم الورقة، وهذا ما يسمى بتسييل الورقة المالية؛ أي تحويلها إلى نقود عند الاقتضاء، وذلك تشجيعا لأصحاب المدخرات على شراء الأوراق المالية، ومن ثم استثمار حصيلتها في مشروعات متوسطة وطويلة الأجل، ذلك أن أصحاب المدخرات لا يقبلون عادة على إيداع مدخراتهم لمدد طويلة، تمكن المستثمر من الاستثمار في مشروعات متوسطة، أو طويلة الأجل؛ لأنهم قد يحتاجون هذه المدخرات لمواجهة ظروف طارئة، تقتضي مدفوعات غير منظورة، فكان استعداد البنك مُصدر الورقة لشرائها وتحويلها إلى نقود عند الطلب، بالسعر الذي يعلنه في فترات دورية متقاربة، وهو الحل الوحيد في غيبة السوق المالية الإسلامية النشطة، لتداول هذه الأوراق. فإذا ما قامت هذه السوق لم يصبح ذلك ضرورة ملحة، وإن ظل هذا الإجراء مرغوبا فيه. وسوف نرى أن محل البيع والشراء ليس هو الشهادة أو الورقة المالية؛ لأنها ليست مالا متقوما في ذاتها، ولكن محل البيع هو ما تمثله الورقة المالية من قيمة مالية؛ أي الحصة المالية الشائعة في صافي أصول المشروع، والذي يتكون عادة من أعيان ومنافع ونقود وحقوق مالية لدى الغير، والبيع لا ينصب على القيمة النقدية للورقة؛ لأنه لا يجوز بيع النقد بالنقد إلا متساويا، ولكن على حصة من المجموع المالي من النقود والأعيان والحقوق والمنافع والديون لدى الغير، وللمجموع حكم يختلف عن حكم كل جزء من أجزائه على حدة، وقد قرر فقهاء الشريعة أن ما لا يجوز بيعه استقلالا يجوز بيعه تبعا، و (أن العبرة بالغالب) ، و (أن النادر لا حكم له) ، وعلى ذلك، فإن حصيلة الاكتتاب قبل قيام المشروع، وبدء النشاط الاستثماري، وكذلك صافي أصول المشروع لو تمحضت في أي وقت أثناء حياة المشروع نقودا فقط، أو ديونا فقط، أو نقودا وديونا، فإن التداول لا يجوز إلا وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، الخاصة بالتصرف في الديون والنقود، كما سنفصله عند الكلام على تداول الأوراق المالية.
الفرق بين الأوراق المالية الإسلامية وغيرها من الأوراق المالية التقليدية:
الأوراق المالية التقليدية هي السهم والسند، وسوف نعقد مقارنة سريعة بين كل منهما، وبين الأوراق المالية، التي بدأت البنوك الإسلامية في إصدارها، والتعامل بها.(6/1052)
أولا- السهم والورقة المالية:
يشترك السهم مع الورقة المالية الإسلامية في الأمور التالية:
1- يمثل كل من السهم والورقة المالية الإسلامية حصة شائعة في صافي أصول الشركة أو المشروع، وهذه الأصول تشمل غالبا على أعيان وحقوق ونقود ومنافع وديون لدى الغير، بنسب مفتاوته. والشرط في صحة تداول كل من الورقة المالية والسهم ألا تكون النقود وحدها، أو الديون وحدها، أو هما معا تمثل غالب صافي أصول المشروع أو الشركة، فإن كانت كذلك، خضع تداول السهم والورقة المالية لأحكام التصرف في الديون والنقود، في الشريعة الإسلامية، كما أشرنا إليه سابقا، وكما سنفصله عند عرض أحكام تداول الأوراق المالية بالتفصيل.
2- يستحق مالك السهم والورقة المالية حصة في صافي ربح الشركة أو المشروع، تتناسب مع قيمة الأسهم التي يملكها في الشركة، أو الأوراق المالية التي يملكها في المشروع، إلى رأس مال الشركة أو المشروع.
3- يقوم كل من السهم والورقة المالية مقام الحصة الشائعة في صافي أصول الشركة أو المشروع في التسليم والحيازة والقبض، وهي أمور تلزم لصحة التصرف، أو لزومه وتمامه، أو تعد حكما للعقد، وأثرا من آثاره، فشرط محل البيع والهبة والرهن أن يكون مقدورا على تسليمه. وتقوم حيازة كل من السهم والورقة المالية وقبضها وتسليمها مقام الحصة المالية الشائعة التي يمثلها كل منها حيث تكون هذه الحيازة والتسليم والقبض لازمة لانعقاد العقد أو تمامه ولزومه، أو تكون حكما من أحكامه، وأثرا يرتبه الشرع عليه، فشرط محل التعاقد في البيع والهبة والرهن أن يكون مقدورا على تسليمه، وشرط صحة عقد الرهن عند البعض، أو تمامه ولزومه عند البعض الآخر أن يقبض المرتهن المال المرهون ويحوزه حيازة دائمة، فهنا يقال: إن الحصة المالية الشائعة في صافي أصول الشركة أو المشروع مقدور على تسليمها بتسلم الصك نفسه؛ السهم أو الورقة المالية وقبض المرتهن وحيازته للصك يقوم مقام حيازة الحصة الشائعة نفسها. وقد قرر المالكية أن قبض وثيقة الدين تقوم مقام قبض الدين نفسه، في صحة عقد الرهن وتمامه، مع أن القبض شرط في تمام الرهن، بنص القرآن الكريم، في قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} . فالقبض – كما يقول الشافعي – معنى عام يكون في كل شيء بحسبه، وقد أجاز الفقهاء التصرف في الحصة الشائعة، ولم يشترطوا الإفراز في صحة البيع، وقد أجاز الفقهاء المحدثون التصرف في أسهم الشركات المساهمة، ولا شك أن السهم يمثل حصة شائعة في صافي موجودات الشركة، التي تتكون من أعيان وحقوق ومنافع ونقود وديون في ذمة الغير، وقرروا أن للمجموع حكما يختلف عن حكم كل فرد من أفراده، وجعلوا الحكم للغالب.
وإذا تم بيع السهم أو الورقة المالية، فإن حيازة الصك وقبضه يعد حيازة للحصة الشائعة نفسها، كحكم من أحكام العقد، وأثر من الآثار المترتبة عليه، فيعد حامل السهم أو الورقة المالية حائزا للحصة الشائعة التي يمثلها كل منها.(6/1053)
ويفترق السهم عن الورقة المالية الإسلامية فيما يأتي:
1- يشترك مالكو الأسهم في إدارة الشركة، عن طريق انتخاب مجلس للإدارة من بينهم، وعن طريق الجمعية العامة لهم، وتكون سلطات الإدارة موزعة بين المجلس والجمعية على النحو الذي يراه ملاك الأسهم في حدود القوانين السائدة في مكان تسجيل الشركة، أما ملاك الأوراق المالية الإسلامية، فإنهم لا يشاركون في إدارة المشروع بطريق مباشر، فهم لا ينتخبون مجلس إدارة للمشروع من بينهم، وليست لهم جمعية عمومية، تشترك في إدارة المشروع، بل إن الإدارة توكل للمضارب وحده، والمضارب ملتزم في إدارته للمشروع، بأحكام عقد المضاربة وشروطها الشرعية، ولملاك الأوراق المالية أن يكونوا من بينهم أو من غيرهم مجلس مراقبة يرعى مصالحهم، ويحمي حقوقهم، في مواجهة المضارب، ويكون مسئولا عن مراقبة تنفيذ شروط العقد التي تضمنتها نشرة الإصدار، وما يلحق بها من دراسات الجدوى والبيانات والمعلومات التي تنص عليها هذه النشرة، وهي كما ذكرنا تعد إيجابا من جانبه، يقابله قبول المكتتبين.
فالشريعة الإسلامية ترى أن هذه الصورة من صور الاستثمار والتمويل تعتمد على أن رب المال لا يشارك في اتخاذ القرار الاستثماري، ولا يتدخل في إدارة المشروع، وله فقط أن يختار المستثمر الذي يجمع بين الأمانة والخبرة، ويضمن عقد المضاربة ما يراه من الشروط والقيود التي تتعلق بمجالات الاستثمار، ومكانه وطرقه التي يراها محققة لمصالحه، تاركا، المضارب وحده يتخذ القرار الاستثماري على مسؤوليته، وهو أن تعدي أو قصر، أو خالف شرطا من شروط المضاربة في إدارته، كان مسئولا عن كل ضرر يلحق بالمضاربة، ويضر بحقوق أرباب المال، ولذا فإن على رب المال أن يختار لهذا النوع من الاستثمار الكفء الأمين، وأن يضمن عقد المضاربة كل ما يرى من شروط وتعليمات، كما قلنا.
وقد يقال أن المضارب في هذا النوع من التمويل والاستثمار يستقل بإعداد نشرة الإصدار، وما تتضمنه من دراسة الجدوى للمشروع، وشروط الاستثمار، ولا يملك المكتتبون (أرباب المال) إلا قبول هذه النشرة والاكتتاب فيها، أو عدم قبولها، فكيف يتسنى لهم وضع الشروط التي يرونها محققة لمصالحهم؟ والجواب أن مبدأ العرض والطلب على رأس المال سوف يحمل المضاربين مُصدّري الأوراق المالية، على تضمين نشرات الإصدار الشروط التي تحقق مصالح أرباب المال، وتجذبهم إلى الاكتتاب لتمويل مشروعاتهم فتحقق الغرض، ويكون قبول المكتتب دليلا على رضاه بما جاء في نشرة الإصدار، فكأنه شريك في إعدادها، إذ العقد يتكون من الإيجاب والقبول.(6/1054)
2- الأسهم مشاركة دائمة في الشركة، تبقى مدة حياة الشركة، وإن انتقلت ملكيتها من شخص إلى شخص آخر: لأنها تمثل رأس مال الشركة المصدر، فهي إذن غير قابلة للرد من جانب الشركة، في حين أن الأوراق المالية ليست بالضرورة مشاركة دائمة في المشروع، فقد يكون إصدار الأوراق المالية لتمويل مشروع بطريق المشاركة المتناقضة، بحيث يتم إطفاء بعض الأوراق المالية على مراحل زمنية معينة.
الأوراق المالية والسندات:
يختلف السند عن الورقة المالية الإسلامية فيما يأتي:
1- ذكرنا أن الورقة المالية، كالسهم تمثل حصة مالية شائعة في صافي أصول الشركة، أي جملة الأصول بأنواعها المختلفة، مادية ومعنوية، ثابتة وغير ثابتة، مطروحا منها صافي التزامات الشركة، فحق صاحب الورقة المالية أو السهم حق عيني يتعلق بموجودات الشركة أو المشروع، في حين أن السند يمثل دينا في ذمة الشركة التي تصدره، ولا يتعلق بموجودات الشركة.
2- حامل السند لا يتأثر بنتيجة أعمال الشركة، ولا بمركزها المالي بطريق مباشر؛ لأن مالكه يستحق القيمة الاسمية لسنده في مواعيد الاستحقاق المدونة فيه، مضافا إليها الفوائد المحددة سلفا، بصرف النظر عن المركز المالي للشركة أو الربح الذي حققته، أو الخسارة التي منيت بها؛ فمالك السند لا يشارك في تحمل مخاطر الاستثمار للشركة المصدرة للسندات، بخلاف مالك السهم والورقة المالية فإنه يتأثر بنتيجة أعمال الشركة أو المشروع، ويشارك في تحمل المخاطر، فله الغنم الذي يحققه المشروع، وعليه الغرم الذي يتعرض له. فالسهم والورقة المالية يشاركان في الأرباح المحققة، ويتحملان الخسارة التي يتعرض لها المشروع أو الشركة.
على أنه قد ظهر نوع من السندات لا يستحق حامله فائدة محددة مسبقا، بل يشارك في أرباح الشركة التي أصدرته، وتسمى سندات مشاركة في الأرباح، وهذه قد تتحول إلى أسهم في أوقات لاحقة. على أن هذا النوع من السندات يبقى مساهمة مؤقتة في الشركة؛ لأن الشركة تدفع قيمة هذه السندات في مواعيد استحقاقها، ما لم تتحول إلى أسهم، فهي تمثل مشاركة متناقصة، غير أن الشركات المصدرة لهذا النوع من السندات لا تلتزم في استثماراتها بأحكام الشريعة الإسلامية.
*
**(6/1055)
خصائص الأوراق المالية الإسلامية
يؤخذ من تعريف الورقة المالية الإسلامية السابق، ومن الفرق بينها وبين كل من السهم والسند، أي الأوراق المالية التقليدية، أن للأوراق المالية الإسلامية خصائص لا بد من توافرها، حتى يكون إصدارها وتداولها، والأرباح المحققة منها موافقا لأحكام الشريعة من جهة، ومحققا للغرض من إصدارها من جهة أخرى، وهو تشجيع أصحاب المدخرات على شراء هذه الأوراق، ومن ثم تمكين المستثمر مصدر الورقة المالية من استثمار حصيلتها في مشروعات متوسطة، وطويلة الأجل، لإحداث تنمية اقتصادية شاملة، في ظل سوق مالي إسلامي نشط.
وهذه الخصائص هي:
1- الورقة المالية الإسلامية تخول حاملها حق ملكية في صافي أصول المشروع الذي يمول من حصيلة إصدارها، وهذا الحق يتمثل في حصة شائعة في صافي موجودات المشروع على النحو الذي سبق بيانه، فإذا انعدمت هذه الخصيصة؛ بأن كانت الورقة تمثل دينا في ذمة مصدرها، لم تكن ورقة إسلامية، فلا يجوز إصدارها، ولا تداولها، ولا يحل العائد منها وإن كان حصة محددة في نشرة الإصدار، من الربح؛ لأن حل العائد يعتمد على شرطين: أحدهما: ألا تكون القيمة الورقة مضمونة على المستثمر، وثانيهما: أن يكون هذا العائد حصة محددة من الربح عند التعاقد؛ أي في نشرة الإصدار، التي تعد إيجابا من جانب المضارب، والاكتتاب الذي يعد قبولا لهذا الإيجاب. والدين مضمون في ذمة المدين، بصرف النظر عن نتيجة المشروع الممول بهذه الورقة، والواقع أن الورقة المالية في هذه الحالة تعد سندا مشاركا في الأرباح، ومضمونا على المشروع الذي أصدره، فالمشروع يلتزم برد قيمة السند في مواعيد استحقاقه، وإن كان ما يدفعه عائدا ليس محددا مسبقا بنسبة من القيمة الاسمية له، بل حصة محددة من الأرباح.
2- الورقة المالية الإسلامية تخصص حصيلة الاكتتاب فيها للاستثمار في مشروع أو نشاط يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، فإذا كانت هذه الحصيلة تستثمر في أنشطة محرمة، كصناعة الخمور، والإقراض بفائدة، فإن الورقة لا تعد إسلامية، فلا يجوز إصدارها، ولا تداولها، ولا يحل الربح العائد منها؛ لأن إصدار مثل هذه الأوراق وشراءها يعد مساهمة في نشاط محرم، والربح العائد منها هو ربح في نشاط لا تجيزه الشريعة.
3- الورقة المالية الإسلامية وسيلة تمويل تقوم على مبدأ المضاربة الشرعية، من كل جوانبها، وتأخذ جميع أحكامها، فمصدر الورقة المالية، والمتلقي لحصيلة هذا الإصدار بقصد استثماره مضارب، ويده على هذه الحصيلة يد أمانة، لا يد ملك ولا يد ضمان، إلا في حالات التعدي، أو التقصير، أو مخالفة شروط المضاربة التي تتضمنها نشرة الإصدار، وحملة الأوراق المالية أرباب مال، يملكون حصيلة الاكتتاب قبل قيام المشروع، ويملكون المشروع بعد قيامه، وهم بهذه الصفة يتحملون كافة المخاطر التي يتعرض لها المشروع، وذلك في حدود الأموال التي اكتتبوا بها في المشروع، أو المبالغ التي أذنوا للمضارب باقتراضها لحسابهم لزيادة رأس مال مشروع.(6/1056)
فإذا تضمنت نشرة الإصدار، أو الورقة المالية التي تصدر بناء عليها، حكما يخالف هذه الأحكام لم تكن ورقة إسلامية، فلا يجوز إصدارها، ولا تداولها ولا يحل العائد منها.
4- الورقة المالية الإسلامية تعطي مالكها حصة من الربح، وليس نسبة محددة مسبقا من قيمتها الاسمية. وحصة ملاك الأوراق المالية من أرباح المشروع أو النشاط الذي تموله تحدد بالنسبة وقت التعاقد، أي في نشرة الإصدار التي تسبق الاكتتاب، أو في الورقة المالية نفسها، بحيث تتضمن هذه النشرة أو الورقة المالية حصة المضارب، وحصة أرباب المال، أي حملة الأوراق المالية من الربح الذي يتحقق في نهاية المشروع أو في فترات دورية معينة.
فإذا كانت الورقة المالية تعطي حاملها مبلغا محددا، أو نسبة معينة من قيمتها الاسمية، أو تعطيه حصة من الربح غير محددة، في نشرة الإصدار، أو في الورقة نفسها، بل يحددها المضارب في نهاية المشروع، أو في فترات دورية لاحقة، لم تكن ورقة مالية إسلامية، فلا يجوز إصدارها، ولا تداولها، ولا يحل العائد منها؛ ذلك أن العلم بمحل التعاقد شرط عند التعاقد، لا بعده، ومحل عقد المضاربة هو رأس المال والربح وحصة المضارب ورب المال منه، وهذا محل اتفاق بين الفقهاء، ولذا فإن ما جرت عليه بعض البنوك من عدم تحديد حصة كل من المودع والبنك المضارب في الربح عند الإيداع، يشكل مخالفة صريحة لأحكام الشريعة الإسلامية، في عقد المضاربة.
5- الورقة المالية تلزم مالكها بتحمل مخاطر الاستثمار كاملة، في حدود المبالغ التي اكتتب بها في المشروع، فهو يتحمل بحصته في أية خسارة يتعرض لها المشروع بسبب لا يد للمضارب فيه؛ لأن حملة الأوراق المالية (أرباب المال) يملكون المشروع ملكية مشتركة، وتلف المال، وهلاكه وخسارته على مالكه، وفقا لقواعد الشريعة، فإذا تضمنت نشرة الإصدار أو الورقة المالية شرط ضمان مخاطر الاستثمار في المشروع، على غير حملة الأوراق المالية، لم تكن الورقة المالية إسلامية، سواء كان هذا الضمان من المضارب أو من شخص ثالث غيره، تبرع بهذا الضمان، أو تقاضي عنه عوضا، أما ضمان المضارب فهو شرط ينافي مقتضى العقد فيبطل، وأما ضمان غيره بعوض فإنه ينافي قاعدة الضمان، باعتباره عملا من أعمال البر والمواساة، التي لا تكون إلا لله، وأما ضمان ذلك الغير بدون عوض فإنه تبرع بالضمان في حالات لا يترتب عليها لزوم الضمان؛ لأن شرط الضمان أن يكون محله حقا مضمونا على المضمون عنه، ومخاطر الاستثمار ليست مضمونة على المضارب فإذا انصب شرط الضمان على ما يلزم المضارب بسبب تعديه أو تقصيره، أو مخالفة لشرط من شروط المضاربة كان شرط الضمان صحيحا.(6/1057)
6- الورقة المالية الإسلامية قد تخصص حصيلة الاكتتاب فيها للاستثمار في نشاط خاص أو مشروع معين، وقد تخصص هذه الحصيلة للاستثمار في أنشطة متنوعة ومشاريع متعددة، يقوم بها البنك الصدر مع أمواله التي تستثمر في هذه الأنشطة وتلك المشروعات، فيكون المكتتبون في هذه الأوراق شركاء للبنك المصدر لها في مشروعاته ونشاطاته، التي يقوم بها بنسبة اكتتاباتهم إلى مجموع الأموال المستثمرة، ويكون البنك في هذه الحالة مضاربا في مال غيره وعاملا في مال نفسه، وهو يستحق حصة من الربح بوصفة مضاربا، تستنزل من صافي الأرباح، ثم يستحق حصة من الربح الباقي بنسبة رأسماله المستثمر مع حصيلة الأوراق المالية التي أصدرها إلى مجموع الأموال المستثمرة.
(أ) فالورقة المالية التي تخصص حصيلة الاكتتاب فيها للاستثمار في نشاط خاص، أو مشروع معين تقتضي أن توضع هذه الحصيلة في حساب خاص، منفصلة عن أموال المضارب مصدر الورقة المالية، وأن تكون للمشروع المعين، أو النشاط الخاص، بعد قيامه حسابات مستقلة، وذمة مالية منفصلة عن ذمة المضارب، ذلك أن المضاربة تتمتع بذمة مالية في حدود معينة، كما سبق بيانه، وبذلك يمكن تحديد الأرباح وتوزيعها بين المضارب وحملة الأوراق المالية، حسب الوارد في نشرة الإصدار والورقة المالية، وحتى يمكن تحديد خسائر المشروع إن كانت هناك خسارة.
(ب) وأما الورقة المالية التي توجه حصيلتها للاستثمار في جميع المشروعات والأنشطة الاستثمارية للبنك الذي أصدرها، فإنها تقتضي أن يمسك البنك المضارب حسابات خاصة لجميع أنشطة البنك التي تساهم حصيلة هذه الأوراق في تمويلها، مع حقوق الملكية الموجهة للاستثمار في هذه المشروعات منفصلة عن الأنشطة الأخرى التي يقوم بها البنك، كالخدمات المصرفية والوكالات وغيرها، حتى يمكن تحديد الأرباح المتحققة من الأنشطة الاستثمارية، وتلك المتحققة من غيرها، وكذلك تحديد حصة المصاريف التي تلزم حساب الاستثمار من مجموع مصاريف البنك المضارب، ثم توزيع الأرباح بين حملة الأوراق المالية، بعد استنزال حصة البنك المضارب تبعا لذلك.
فإذا تضمنت الورقة المالية أو نشرة الإصدار ما يخالف ذلك الحكم، بأن نصت على أن مصدر الورقة المالية والمستثمر لحصيلتها لا يمسك حسابات مستقلة للمشروع الخاص أو النشاط المعين في الحالة الأولى، أو لا يمسك حسابات مستقلة لمجموع الأنشطة الاستثمارية في البنك منفصلة عن حسابات الأنشطة الأخرى، في الحالة الثانية، كانت الورقة المالية غير مستكملة لخصائص الورقة الإسلامية، فإن خلت الورقة المالية ونشرة الإصدار عن الإشارة إلى هذا الموضوع بالكلية، التزم مصدر هذه الأوراق بإمساك هذه الحسابات المستقلة بحكم الشرع. حتى يكون ما يوزع من أرباح، أو ما يتحمله حملة الأوراق المالية من خسارة يمثل الحقيقة. فإذا تضمنت نشرة الإصدار أو الورقة المالية الصادرة بناء عليها ما يفيد التزام البنك الذي أصدر هذه الورقة بإمساك حسابات مستقلة على النحو السابق، ثم أخل البنك بهذا الالتزام، كان ضامنا، وأمكن لحملة الأوراق المالية حمله على تنفيذ التزامه قضاء.(6/1058)
7- الورقة المالية الإسلامية تقتضي أن يقوم مصدرها، المستثمر لحصيلة إصدارها بإصدار ميزانية أرباح وخسائر في نهاية المشروع المعين، أو النشاط الخاص، أو في فترات دورية منتظمة، حسب الوارد في نشرة الإصدار، والورقة المالية الصادرة بناء عليها.
أما مصدر الورقة المالية بقصد تمويل جميع أنشطته ومشروعاته الاستثمارية، فإنه يلتزم بعمل ميزانية أرباح وخسائر لهذه الأنشطة وتلك المشروعات في فترات دورية منتظمة، والغالب أن تكون سنوية.
وهذه الميزانيات لا بد أن تعلن للجمهور، وأن توضع تحت تصرف حملة الأوراق المالية، للتأكد من مقدار الأرباح الموزعة عليهم، وأنها تساوي النسبة المخصصة لهم في نشرة الإصدار والورقة المالية، أو مقدار الخسارة التي يتحملونها.
فإذا قام البنك مصدر الورقة بتوزيع أرباح دون أن تكون هناك ميزانية معلنة، أعدت وفقا للأصول الفنية من أهل الخبرة، تظهر هذه الأرباح، أو كانت هناك ميزانية ولكن توزيع الأرباح جاء مخالفا لما ورد في نشرة الإصدار، والورقة الصادرة بناء عليها، وما تظهره الميزانية، كان هذا التوزيع مخالفا لأحكام عقد المضاربة، ذلك أن البنك بوصفه مضاربا يلتزم شرعا بمعرفة الربح، وهو ما زاد على رأس المال، ثم معرفة حصة حملة الأوراق المالية، من هذا الربح، وفقا للنسبة المحددة لهم في عقد المضاربة، الذي تمثله نشرة الإصدار، والورقة الصادرة بناء عليها، ونسبة المضاربة، وهم حملة أسهم البنك، أي أصحاب حقوق الملكية، ثم توزيعه بينهم وفق العقد، دون زيادة أو نقص، وإذا كانت هناك خسارة، وهي ما نقص من رأس المال المستثمر، فيلزمه كذلك معرفتها، وتحديد حصة حملة الأوراق المالية، وأصحاب حقوق الملكية فيها، وهذا كله لا يتأتى إلا بإصدار ميزانية حقيقية، وفقا للأصول الفنية المرعية، وأن يأتي التوزيع متفقا مع ما جاء في هذه الميزانية، وعقد المضاربة الذي يتمثل في نشرة الإصدار والورقة المالية المصدرة بناء عليها.
وليس هناك ما يمنع شرعا من أن تتضمن نشرة الإصدار والورقة المالية الصادرة بناء عليها تحديد نسبة من الربح تودع في حساب أو صندوق خاص تخصص حصيلته لضمان مخاطر الاستثمار. فإذا وقعت خسارة في أحد الأعوام أمكن تغطيتها أو جزء منها من حصيلة هذا الصندوق.
والنسبة المخصصة لضمان مخاطر الاستثمار تبرع من أصحاب الحق في الأرباح، فأما المضارب فقد نص عليه في نشرة الإصدار، وفي الورقة المالية التي طرحها، فهو راض به، على سبيل التبرع، وأما حملة الأوراق المالية فقد قبلوا هذا التبرع بقبول الاكتتاب في الأوراق المالية المطروحة، بناء على نشرة الإصدار، والتبرع يلزم بالقول عند المالكية.(6/1059)
ومن ثم فإنه يستفيد من خدمات هذا الصندوق حملة الأوراق المالية الحاليين، ومن يأتي بعدهم، ممن يشتري هذه الأوراق، فإذا انتهى المشروع صرف ما بقي في الصندوق من أموال في جهة من جهات البر، وفقا لما تنص عليه نشرة الإصدار. وليس هناك ما يمنع شرعا، كذلك، من النص في نشرة الإصدار والورقة المالية على اقتطاع نسبة محددة من الأرباح قبل توزيعها، لتكوين مخصص تنص عليه القوانين، أو يتبرع به أصحاب الحق في الأرباح، للغرض الذي نص عليه القانون أو نشرة الإصدار، لأن الحق في الربح للمضارب، وأرباب المال، فلهم حق التبرع منه للأغراض المشروعة.
8- الورقة المالية إذا تضمنت نشرة إصدارها نتائج دراسات الجدوى التي أعدت عن المشروع الذي صدرت الورقة المالية لتمويله، ونسبة الربح المتوقعة للمشروع، فإنها تكون صحيحة، من الناحية الشرعية، ولا يعد ذلك تحديدا للربح بنسبة من رأس المال مقدما، ذلك أن المضارب ليس مسئولا عن هذه النسبة إذا ظهرت نتائج استثماره، مخالفة لها، وإنما يسأل عن صحة البيانات الواردة في دراسة الجدوى، وعن مخالفة هذه الدراسة للأصول الفنية لدراسة الجدوى، وبالتالي يلتزم بالتعويض إذا ثبت أنه أخفى بعض البيانات، أو أدلى ببعض المعلومات الكاذبة، أو خالف في دراسة الجدوى ما تواضع عليه أهل الاختصاص والخبرة، ولا يستطيع المضارب أن يتخلص من هذه المسؤولية، ويسقط عن نفسه الضمان إلا إذا أثبت أن مخالفة نسبة الأرباح التي أظهرتها ميزانيته لما ورد في دراسة الجدوى، الواردة في نشرة الإصدار، إنما كان بسبب لا يد له فيه، كصدور قوانين ضريبية أو جمركية أو نقدية جديدة، أو حدوث جائحة في إنتاجه الزراعي، أو مرض في إنتاجه الحيواني، أو حالة حرب منعت تصدير المنتج، أو غير ذلك من الظروف الطارئة، التي لم يكن من الممكن لمن قاموا بدراسة الجدوى توقعها.
أنواع الأوراق المالية:
تتنوع الأوراق المالية باعتبارات مختلفة، فهي من حيث اعتبار المدة يمكن أن تكون محددة بمدة طويلة، أو متوسطة، أو قصيرة، ويمكن أن تكون غير محددة المدة. ومن حيث اعتبار استخدام حصيلتها، يمكن أن تكون أوراقا مخصصة، وأوراقا غير مخصصة، ومن حيث نوع النشاط الذي تستخدم حصيلتها في تمويله يمكن أن تتنوع أنواعا كثيرة، بتنوع الأنشطة الاستثمارية نفسها، وسوف نعرض لكل تقسيم من هذه التقسيمات بشيء من التفصيل مع بيان حكم الشريعة في جواز إصدار أنواع كل تقسيم منها، وتداولها، واعتبارها وسيلة من وسائل التمويل المقبولة شرعا.(6/1060)
أولا- أقسام الورقة المالية من حيث المدة:
تنقسم الورقة المالية من حيث مدتها إلى قسمين، أولهما: أوراق مالية محددة المدة، وثانيهما: أوراق مالية غير محددة المدة، والأوراق محددة المدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أوراق مالية محددة بأجل قصير، وأوراق مالية محددة بأجل متوسط وأوراق مالية محددة بأجل طويل، مع ملاحظة أن الطول والقصر، في أجل الورقة المالية أمر نسبي، ويربط غالبا بأجل المشروع أو النشاط الذي تستثمر فيه حصيلة هذه الأوراق.
1- ورقة مالية غير محددة المدة:
تجيز الشريعة إصدار أوراق مالية غير محددة المدة؛ ذلك أن الأصل في المضاربة أن تكون مطلقة عن المدة، فمصدر الورقة مضارب يطلب تمويلا غير محدد المدة، ويوجه لأرباب المال إيجابا، في شكل نشرة إصدار، لهذا الغرض، فإذا اكتتب الجمهور في هذه الورقة انعقدت المضاربة، مطلقة عن المدة؛ لتوافر الإيجاب والقبول. وإذا استخدمت حصيلة هذه الورقة في تمويل مشروع معين، فإنها تنتهي بانتهاء أجل هذا المشروع، وتصفيته بصفة نهائية، وعلى ذلك، فإن الأصل ألا توزع أرباح على حملة هذا النوع من الأوراق قبل تصفية المشروع بصفة نهائية، وتحديد أرباحه، ومع ذلك إذا كان المشروع طويل الأجل نسبيا أمكن إجراء توزيعات سنوية تحت حساب أرباح المشروع. وأما إذا استخدمت حصيلة هذه الورقة في تمويل الأنشطة المختلفة للبنك المضارب، دون التقيد بمشروع خاص، أو نشاط معين، فإنه يمكن للبنك مصدر هذه الورقة أن يوزع على حاملي هذه الورقة حصتهم من الأرباح المتحققة في فترات دورية، تكون سنوية عادة.
ولمالك هذه الورقة أن يحتفظ بها للمدة التي يراها، وله أن ينقل ملكيتها لغيره، ويحل المالك الجديد محله في كافة حقوقه، وله أن يبيعها إلى البنك الذي أصدرها، بالسعر الذي يعلن البنك الشراء به، في فترات دورية، بناء على المركز المالي للأنشطة التي تستخدم فيها حصيلة هذه الأوراق. ونرى أنه من الناحية الشرعية يلتزم البنك الذي أصدر هذه الشهادة باعتباره مضاربا، بشراء الورقة المالية، لأن المضاربة غير محددة المدة تجيز لرب المال أن يطلب من المضارب إنهاء المضاربة ونض المال ليأخذ ماله مع ما قد يتحقق من أرباح المضاربة، وتطبيق هذا الحكم يقتضي التزام البنك مصدر الورقة بشرائها بالسعر السائد وقت تقديمها، والذي يتم تحديده بواسطة مراقبي حسابات معتمدين، تعينهم نشرة الإصدار عادة.
إما إذا صدرت الورقة المالية غير محددة المدة لتمويل مشروع معين، فإن على صاحبها أن ينتظر إلى نهاية اجل المشروع وتصفيته، كما ذكرنا، أو يبيعها في سوق الأوراق المالية، وليس له أن يلزم البنك المصدر لها بشرائها؛ لأن المضاربة الخاصة بمشروع معين تلزم رب المال بعدم إنهائها، قبل تصفيه هذا المشروع، فليس له طلب نض المال قبل ذلك، لما فيه من ضرر على المضارب.(6/1061)
2- ورقة مالية محددة المدة:
هذه الورقة قد تكون طويلة الأجل؛ أي لمدة خمس سنوات مثلا، وقد تكون قصيرة الأجل؛ لمدة سنة مثلا، وقد تكون متوسطة الأجل؛ أي لمدة ثلاث سنوات مثلا، وطول الأجل وقصره نسبي، كما ذكرنا.
والشريعة الإسلامية تجيز إصدار أوراق مالية محددة المدة طويلة أو قصيرة أو متوسطة، بناء على رأي القائلين – بجواز تحديد المضاربة بمدة معينة – من الفقهاء، ذلك أن الورقة تمثل حصة المالية التي يقدمها المكتتب بوصفه رب مال، إلى المصدر للورقة بوصفه مضاربا، وهو يقدم هذه الحصة لاستثمارها، لمدة محددة، وطالب التمويل وهو البنك المصدر للورقة، يوجه إيجابا إلى الجمهور، في شكل نشرة إصدار، يطلب منهم الاكتتاب في هذه الورقة، على أن تستثمر حصيلتها لمدد محددة، وهذا الإيجاب قد صادف قبولا من أصحاب المدخرات، يتمثل في إقبالهم على الاكتتاب، وتقديمهم للمال، فتنعقد المضاربة صحيحة، لازمة لمدة الورقة المالية.
ولمالكي الأوراق المالية محددة الأجل أن يحتفظوا بأوراقهم المدة المحددة، ولهم أن ينقلوا ملكيتها إلى الغير في سوق الأوراق المالية، ويحل المالك الجديد محل المالك القديم في كافة حقوقه، وليس لهم إلزام البنك مصدر الورقة بشرائها، قبل انتهاء مدتها؛ لأن المضاربة المقيدة بمدة تلزم رب المال البقاء عليها طوال هذه المدة. أما بعد انتهاء المدة، فإن على البنك مصدر الورقة أن يقبل شراءها بالسعر السائد وقت تقديمها، لأن المضاربة تنتهي بمدتها ويلتزم المضارب بنض المال وتسليم رأس المال لصاحبه، مع ما قد يتحقق من الأرباح. وواضح أن للبنك المصدر في جميع الأحوال أن يعلن، باختياره، تعهده بشراء ما قد يعرض عليه من أوراق أصدرها أيا كان أجلها، وذلك بالسعر السائد وقت الإصدار، ويمكن تحديد هذا السعر وفقا لمبدأ السعر العادل، الذي تكلم عليه الفقهاء. فإذا صدر منه هذا الإعلان كان ملتزما به، بناء على قاعدة وجوب بقاء الموجب على إيجابه، المدة التي يحددها في هذا الإيجاب، وهذه المدة قد تكون ثلاثة أيام أو عشرة، وقد تكون شهرا ينتهي التزامه بعدها، حتى يوجه إعلانا آخر.
وهذا النوع من الأوراق المالية قد يصدر بقصد استثمار حصيلته في نشاط معين كالنشاط التجاري والاستثمار العقاري، وأعمال المقاولات، والإنتاج الحيواني واستصلاح الأراضي، وقد يصدر بقصد المشاركة بحصيلته في جميع أنشطة البنك المصدر ومشروعاته الاستثمارية، دون التقيد بمشروع معين، أو نشاط خاص.
أما المشروع الخاص فلا يمكن تمويله بهذا النوع من الأوراق المالية، لاحتمال الاختلاف بين مدة الشهادة والمدة اللازمة لتصفية المشروع، والمضاربة إما أن تقيد بوقت معين، أو بعمل أو مشروع معين، أما الجمع بينهما فمتعذر للتنافي بين أحكامهما، كالشأن في عقد الإجارة مثلا، فإن العمل فيها إما أن يحدد بالمدة أو بعمل معين. على أنه إذا أمكن تحديد مدة تنفيذ المشروع المعين بدقة؛ بأن كانت طبيعته تسمح بذلك فإنه يجوز أن تكون الورقة المالية التي تصدر لتمويله محددة المدة؛ لعدم احتمال التنافي بين أجل الورقة، وتصفية المشروع.
ويمكن توزيع الأرباح الناتجة عن النشاط المعين، أو عن مجموع أنشطة البنك واستثماراته على حملة الأوراق المالية، في فترات دورية، كل سنة، أو أقل، أو أكثر، إذا أمكن إعداد ميزانية أرباح وخسائر في هذه الفترات، لأن التوزيع يعتمد من الناحية الشرعية على العلم بالأرباح، بالطرق المحاسبية المتاحة، وهذا لا يتأتى بدون إعداد ميزانية تظهر هذا الربح.(6/1062)
ثانيا - أنواع الورقة المالية من حيث استثمار حصيلتها:
تنقسم الورقة المالية من حيث النشاط الاقتصادي، الذي تستثمر فيه حصيلتها إلى ثلاثة أنواع: ورقة مالية مخصصة لتمويل مشروع معين، وورقة مالية مخصصة لتمويل نشاط خاص، وورقة مالية مخصصة للمشاركة في تمويل أنشطة البنك ومشروعاته الاستثمارية المختلفة مع حقوق الملكية الموجهة للاستثمار، في هذه الأنشطة، وتلك المشروعات.
1- ورقة مالية مخصصة لتمويل مشروع معين:
رأينا أن هذا النوع من الأوراق المالية تسبقه دراسة جدوى كاملة للمشروع المعين الذي تخصص حصيلتها لتمويله، وذلك مثل إنشاء مجمع سكني بقصد بيع وحداته، واستصلاح مساحة محددة من الأراضي الصحراوية وبيعها، وإقامة مصنع معين وبيعه، وغير ذلك من المشروعات التي تستغرق وقتا محدودا، وإن لم يمكن معرفة وقت إنهاء المشروع، على وجه التحديد.
والشريعة الإسلامية تجيز إصدار هذا النوع من الأوراق المالية، كوسيلة من وسائل تمويل المشروعات؛ لأن المضاربة تجوز شرعا في عمل اقتصادي معين، أو صفقة واحدة تنتهي بانتهائها، وتصفى بعدها، بنض المال وتسليم رأس المال لربه، واقتسام الأرباح وفق ما اتفق عليه في عقد المضاربة.
والمضارب ملتزم في هذا النوع من المشروعات، بإمساك حسابات خاصة للمشروع المعين منفصلة عن حساباته الأخرى، إذ للمضاربة ذمة مستقلة، في حدود معينة على النحو الذي ذكرناه سابقا، وقد قرر الفقهاء أنه ليس للمضارب أن يخلط ماله بمال المضاربة إلا إذا أذن له رب المال في ذلك. وواضح أن رب المال الذي اكتتب في أوراق مالية خُصِّصَت للاستثمار في مشروع معين لم يأذن للمضارب مصدر هذه الأوراق في خلط ماله بمال المضاربة في هذا المشروع، فهو مضارب مقيد بالاستثمار في مشروع معين، وغير مأذون له في خلط ماله بمال المضاربة؛ وهذا لا يتأتى إلا بإمساك حسابات خاصة للمشروع منفصلة عن ذمة البنك، مصدر الورقة المالية. ولقد سبق القول بأن الأصل أن حملة الأوراق المالية المخصصة لتمويل مشروع معين، لا يأخذون حصتهم من أرباح المشروع المعين إلا بعد تصفيته، غير أنه يمكن للمضارب أن يوزع على حملة هذه الأوراق مبالغ تحت حساب أرباح المشروع، إذا كان مركزه المالي يسمح بذلك، وكانت مدة الانتهاء من المشروع طويلة نسبيا. وهذا النوع من الأوراق المالية يخضع في إصداره، وتداوله لما تخضع له بقية الأوراق كما سنبين.(6/1063)
2- ورقة مالية مخصصة لتمويل نشاط خاص:
تجيز الشريعة الإسلامية أوراق مالية، لتمويل نشاط معين، كالنشاط التجاري والصناعي، والزراعي، والإنتاج الحيواني، ذلك أن المضاربة تجوز في هذا النوع من النشاط، فإذا اشترط رب المال على المضارب أن يستثمر رأس مال المضاربة في النشاط التجاري، أو العقاري، أو في إنتاج اللحوم، أو المحاصيل الزراعية، كان هذا الشرط صحيحا ملزما، فإذا تضمنته نشرة الإصدار، والورقة المالية، واكتتب رب المال في هذه الأوراق انعقدت المضاربة المقيدة بنشاط معين. والمضارب مقيد بالاستثمار في هذا النشاط دون سواه، فإن خالف كان ضامنا، وعليه أن يمسك حسابات مستقلة لهذا النشاط، ولا يخلط أمواله بالأموال المستثمرة فيه ما لم تنص نشرة الإصدار على رأس المال المستثمر في هذا النشاط، وأن المكتتب فيه نسبة معينة منه، وأن الباقي من التمويل يقدمه مصدر الورقة المالي، أو من صدرت هذه الورقة لحسابه، فهنا يكون المضارب مأذونا له في خلط ماله بمال المضاربة، ويكون إصدار الورقة المالية بقصد زيادة رأس المال الذي يستثمره مصدر الورقة، في هذا النشاط.
ويطبق على هذه الورقة في شأن الإصدار والتداول وتوزيع الأرباح ما قيل في شأن الورقة المخصصة لتمويل مشروع معين.
3- ورقة مالية غير مخصصة بمشروع معين ولا نشاط خاص:
بل تشارك حصيلتها في حقوق الملكية في البنك، في الاستثمار في جميع مشروعات البنك وأنشطته الاستثمارية. والبنك هنا مضارب مطلق، فله أن يستثمر حصيلة هذه الأوراق في أي نشاط أو مشروع، من مجموع الأنشطة والمشروعات التي يقوم بها البنك، حسب ما تقتضيه المصلحة، وهو مضارب مأذون له في خلط أمواله بأموال المضاربة.
والشريعة الإسلامية، وإن كان الأصل فيها أنه لا يجوز للمضارب أن يخلط ماله بمال المضاربة، إلا أنها أجازت هذا الخلط بإذن رب المال، وواضح أن نشرة الإصدار إذا نصت على أن للبنك المضارب أن يستثمر حصيلة الأوراق المالية المصدرة في أنشطته المختلفة، ومشروعاته الاستثمارية المتعددة، وأن هذه الحصيلة تضم إلى ما يخصصه البنك من موارد الأخرى، للاستثمار في هذه الأنشطة، وتلك المشروعات، ثم تقدم أرباب المال للاكتتاب في الأوراق المصدرة، بناء على ذلك فإن عقد المضاربة غير المقيدة يتم بذلك.(6/1064)
والبنك مصدر هذه الورقة، وإن كان لا يلتزم بإمساك حسابات مستقلة لحصيلة الأوراق المالية المصدرة؛ لأنها مخلوطة بغيرها، من أمواله الأخرى، التي يستثمرها، مع حصيلة الأوراق المالية التي أصدرها، إلا أنه يلتزم بالضرورة بإمساك حسابات للمضاربة التي تشتمل التمويل الذي خصصه هو للاستثمار، والحصيلة المتجمعة من بيع الأوراق التي أصدرها، وهذه الحسابات يجب أن تكون منفصلة عن حسابات أنشطة البنك الأخرى، من خدمات مصرفية، وعوائد استثمار الحسابات الجارية، وغير ذلك؛ إذ للمضاربة في كل صورها، وجميع أنواعها، ذمة مالية في حدود معينة، وهذا يعني أنه في جميع صور الأوراق المالية، ما صدر منها لتمويل مشروع معين , وما صدر منها لتمويل نشاط خاص , وما صدر منها لتمويل أنشطة البنك ومشروعاته المتعددة، يجب على البنك أن يمسك حسابات منفصلة، وألا يخلط بمال المضاربة أي مال آخر، لا يدخل في رأسمالها، غير أن رأسمالها قد يقتصر على حصيلة الأوراق المالية الصادرة لتمويل مشروع معين، أو نشاط خاص، دون أن يقدم المضارب حصة في رأس مال المضاربة، وقد يكون رأس مال المضاربة مكونا من جزئين؛ أحدهما هو حصيلة الأوراق المالية الصادرة للمشاركة في جميع أنشطة البنك ومشروعاته، وثانيهما ما يخصصه البنك من موارده الأخرى، ومن حقوق الملكية للاستثمار في هذه الأنشطة والمشروعات، وفي جميع هذه الصور فإن للمضاربة ذمة مالية مستقلة عن ذمة المضارب، ورب المال، ولا بد أن تكون هناك حسابات مستقلة للمضاربة؛ أي لرأسمالها المستثمر، سواء كان كله مقدما من أرباب المال؛ حملة الأوراق المالية، أو كان بعضه منهم، وبعضه من البنك المضارب. وهذا الاستقلال لازم شرعا، بناء على قاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والواجب هنا تحديد الربح وتوزيعه بين حملة الأوراق المالية والبنك المضارب، وهذا لا يتأتى إلا بإمساك حسابات لرأس مال المضاربة منفصلا عن حسابات البنك المضارب الأخرى.
وقد تثور صعوبات عملية محاسبية، بشأن الفصل بين أنشطة البنك الاستثمارية التي تمول بأوراق مالية، وبموارد البنك المخصصة لذلك، وأنشطة البنك الأخرى؛ كالخدمات المصرفية والحسابات الجارية وغيرها، وتخصيص كل نوع من هذه الأنشطة بحساب مستقل، وتشتد هذه الصعوبة في حساب المصاريف التي تخص كل نوع من هذه الأنواع، غير أن هذه الصعوبة لا تسقط الواجب، وإن كانت تجعل بذل أقصى الجهد وفقا لمعطيات العلم وإمكانات البشر وظروف البنك، كافيا في أداء هذا الواجب، والوفاء بهذا الالتزام؛ لأن التكليف لا يكون إلا بمقدور، والميسور لا يسقط بالمعذور، كما يقرر الفقهاء؛ ذلك أن قضية تحديد الربح الناتج عن الأنشطة المختلفة، ومعرفة ما يخص أرباب المال، أي حملة الأوراق المالية، وما يخص البنك، أي المساهمين أصحاب حقوق الملكية، منه من الأمور الواجبة شرعا قبل التوزيع تفاديا للظلم ومنع الحقوق، ولا يتم ذلك إلا بإمساك حسابات منفصلة، وعمل ميزانيات مستقلة، وتحميل كل نشاط بما يخصه من المصاريف.(6/1065)
إصدار الأوراق المالية:
يقوم المضارب بإعداد دراسة جدوى لمشروع معين، أو نشاط خاص، ثم يوجه نشرة إصدار إلى الجمهور، يضمنها جميع شروط وعناصر عقد المضاربة، فيحدد المشروع ويبين طبيعته، ورأس المال المستثمر فيه، وطريقة توزيع الربح بين المضارب وأرباب المال المرتقبين، فإذا أقبل الجمهور على الاكتتاب ينعقد عقد المضاربة، ذلك أن نشرة الإصدار تعد إيجابا موجها إلى الجمهور، والاكتتاب في الورقة المالية قبول لهذا الإيجاب، والورقة المالية يصدرها بنك لحسابه، فيكون هو المضارب المستثمر أو لحساب غيره من المستثمرين، في مقابل أجر معين.
وقد يقوم المضارب المستثمر بإقامة مشروع معين كمصنع أو مزرعة مثلا، ثم يقدر تكاليفه ويوجه نشرة إصدار للجمهور للاكتتاب فيه، فإذا تم الاكتتاب وجمعت حصيلته أخذها عوضا عما أنفق، أو ثمنا لهذا المشروع، فنشرة الاكتتاب هنا إيجاب يتضمن أمرين أحدهما: بيع المشروع، وثانيهما: عقد مضاربة يكون فيه البائع مضاربا، ويكون الاكتتاب بمثابة قبول لشراء المشروع , وموافقة على أن يكون بائع المشروع مضاربا, تخريج ذلك من الناحية الشرعية على أن المضاربة تمت أولا برأس مال نقدي، وهو رأس مال المضاربة، ثم تفويض المضارب بشراء المشروع.
فعملية الاكتتاب، وما يسبقها من نشرة إصدار تكون جميع العناصر التي تحقق المضاربة الشرعية.
*
**(6/1066)
تداول الأوراق المالية
الأوراق المالية على اختلاف أنواعها وصورها تمثل حصة مالية شائعة في مجموع مالي، هو صافي موجودات مشروع معين، أو عدد من المشروعات، أو مجمل مشروعات، وأنشطة البنك مصدر الورقة المالية.
وهذه الموجودات تشمل عادة نقودا وأعيانا ومنافع وديونا أو حقوقا لدى الغير، كالشأن في السهم في الشركات المساهمة؛ فإنه يمثل حصة مالية شائعة في صافي موجودات الشركة التي تشتمل على هذه العناصر. ولكن الورقة المالية قد تمثل أحيانا حصة شائعة في أحد هذه العناصر. كالأعيان أو المنافع أو الحقوق، إما ابتداء أو أثناء حياة المشروع الذي يبدأ بهذا المجموع من الأعيان والحقوق والمنافع، ثم يصير في مرحلة لاحقة قاصرا على عنصر واحد منها، كالنقود وحدها، أو الديون وحدها، أو المنافع وحدها، أو على عنصرين منها. وسوف أعرض حكم تداول الورقة المالية في صورها المختلفة بشيء من التفصيل:
الورقة المالية، بعد قفل باب الاكتتاب، وقبل إقامة المشروع وبداية التشغيل تمثل حصة نقدية، من حصيلة الاكتتاب في الورقة المالية، فلا يجوز تداولها بالبيع والشراء، إلا وفق أحكام الشريعة الخاصة ببيع النقد بالنقد، وهذه الأحكام تشترط التماثل في بيع النقد بالنقد، وعلى ذلك فإن الورقة المالية تباع في هذه المرحلة بقيمتها الاسمية دون زيادة أو نقص، فإذا بيعت للمضارب مصدر الورقة كان هذا البيع إقالة أو فسخا للاكتتاب، وليس عقدا جديدا، أما بعد قيام المشروع، وبداية النشاط فإن الورقة المالية تمثل – كما قلنا – حصة شائعة في مجموع مالي يتكون غالبا من أعيان ومنافع ونقود، وديون في ذمة الغير، ولما كان هذا المجموع يجوز التصرف فيه كله أو في حصة شائعة فيه، فإن الورقة المالية التي تمثل حصة شائعة يجوز تداولها والتصرف فيها كذلك، والشرط في جواز تداول هذه الورقة أن تكون الأعيان والمنافع غالبة على النقود والديون، ذلك أن الشريعة الإسلامية تجعل الحكم للغالب، ويقرر فقهاؤنا أن النادر لا حكم له، ومن القواعد المسلمة في الفقه الإسلامي أن ما لا يجوز انفرادا يجوز تبعا، فالدين عند الشافعية لا يجوز رهنه ابتداء، ويجوز تبعا، فإذا أتلف شخص المال المرهون وهو عند المرتهن ضمنه، وكان الضمان وهو دين في ذمة المتلف رهنا مكان العين المرهونة، والحمل في بطن أمه لا يجوز بيعه استقلالا، ويجوز بيعه مع أمه، وحقوق الارتفاق لا يجوز بيعها استقلالا، ويجوز بيعها مع العين التي تقرر الحق لها، كحق المسيل والشِرب، كما قرر الفقهاء أنه إذا كان بعض الثواب أبريسما أي حريرا والبعض الآخر قطنا أو كتانا جاز، وهكذا تجري قواعد الشرع الكلية وأحكامه الجزئية.
إما إذا كانت الديون هي الغالبة، فإن تداول الورقة المالية يخضع لأحكام تداول الديون، والجمهور يمنعون بيع الديون ورهنها، أما المالكية فإنهم يرون جواز بيع الدين للمدين به بما يساويه من النقود , بشرط أن تكون النقود مقبوضة في الحال , أما إذا بيع الدين لغير المدين به، فإنه يجب أن يباع بغير جنسه، فإن كان الدين نقودا وجب بيعه بسلعة، أو بنقد يختلف عن الدين في جنسه، وعلى ذلك فإن بيع الورقة المالية التي تمثل دينا في الذمة يخضع لهذه الأحكام.(6/1067)
وأما إذا كان النقد هو الغالب، فإن الورقة المالية التي تمثله لا تباع إلا بقيمتها الاسمية، إذا كان البيع في مدة الاكتتاب وبعده، قبل استثمار حصيلتها، أو بما تساويه من النقد إذا كانت غلبة النقد حدثت أثناء حياة المشروع، وكانت جملة النقود تزيد عن قيمة الأوراق الاسمية، وهذا بناء على أن النقد لا يباع بالنقد إلا متساويا.
وإذا كانت الورقة المالية قد صدرت لتمويل عقد السلم، وهو العقد الذي يعجل فيه المشتري دفع الثمن للبائع، ويؤخر فيه البائع الشيء المبيع إلى أجل يحدد في العقد، فإنه لا يجوز تداولها، لأنها تمثل دينا في ذمة البائع قبل قبضه، ودين السلم لا يجوز بيعه ولا استبداله، قبل قبضه. وإذا أريد تمويل عقود السلم بالأوراق المالية وجب أن تصدر ورقة مالية لتمويل نشاط بأكمله، في هذا المجال، بمعنى أن حصيلة الورقة المالية تمول عقودا كثيرة بحيث يكون لدى المضارب مع ديون السلم أعيان هي السلع التي يقبضها المضارب عند حلول آجالها من البائعين، فتكون الورقة والحال كذلك، ممثلة لديون وأعيان وخصوصا إذا ضممنا إلى هذه السلع موجودات المضاربة من المكاتب والمخازن ووسائل النقل وغيرها مما يلزم النشاط، على أنه إذا كانت الديون هي الغالبة وجب التزام أحكام الشريعة في تبادلها.
ولا خلاف في أن الورقة المالية لو كانت تمثل أعيانا فقط، أو منافع فقط فإن تداولها يجوز دون قيد، فإذا كانت الورقة المالية قد صدرت لتمويل شراء معدة أو آلة للتأجير، أو قطعة أرض لاستصلاحها واستزراعها , فإنها أي الورقة المالية تقبل التداول , لأنها تمثل حصة في أعيان مالية، وكذلك الحال فيما إذا كانت الورقة تمثل أعيانا ومنافع معا.
والأصل في تداول الأوراق المالية بالبيع والشراء أن يكون في سوق الأوراق المالية، إذا وجدت هذه السوق، ومع ذلك فإنه يجوز للبنك الذي أصدر الورقة أن يعلن تعهده بشرائها بالسعر السائد عند عرضها، وللبنك في سبيل تحديد السعر أن يقوم بإعداد مركز مالي كل فترة يعلن بعدها استعداده للشراء خلال مدة يحددها.
والله ولي التوفيق.
الدكتور حسين حامد حسان(6/1068)
الأسواق المالية
من منظور النظام الاقتصادي الإسلامي
(دراسة مقارنة)
إعداد
سعادة الدكتور نبيل عبد الإله نصيف
عضو مجلس الإدارة المنتدب
بمصرف فيصل الإسلامي البحريني
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن الاقتصاد الإسلامي بفروعه المختلفة جزء من كل لا يمكن أن يقوم منفردا عن النظام الإسلامي الشامل المرتبط ارتباطا وثيقا بالعقيدة، والملتزم بشريعة الخالق سبحانه وتعالى القائل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، فهو دين الشمولية والعدل والتوسط، فهو يجمع بين مادية الدنيا وروحانية الآخرة في نظام متكامل يغطي جوانب الحياة التي يحتاجها بنو البشر.
ورغم الفترة القصيرة للتطبيق العملي للاقتصاد الإسلامي في العصر الحديث من خلال المؤسسات المالية الإسلامية في أقل من العقدين الأخيرين من الزمن إلا أن تلك المرحلة الأولى التي خاضت فيها المؤسسات المالية معركة التأسيس وإثبات الذات حيث كان من نتائجها انتشار المؤسسات المالية الإسلامية على المستوى الدولي فقد بلغ عددها أكثر من مائة مؤسسة مالية إسلامية في أنحاء العالم الإسلامي وغير الإسلامي وكذلك الاعتراف الدولي بهذه المؤسسات وقبول النظام لإسلامي في المعاملات المصرفية العصرية حيث أنشأت كبرى المؤسسات المالية الدولية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وسويسرا وغيرها أقساما متخصصة لدراسة هذه الظاهرة الجديدة وكان من نتائجها قيامهم بتسويق منتجات وعمليات جديدة تراعي الضوابط الإسلامية، وذلك بهدف اجتذاب رءوس الأموال الإسلامية، التي يرغب أصحابها في توظيف أموالهم في استثمارات وعمليات حلال ضمن إطار أحكام الشريعة الإسلامية.
أما المرحلة الثانية التي تمر بها هذه المؤسسات فهي مرحلة الثبوت، والتي تتطلب مواكبة التغيرات التي تمر بها الصناعة المصرفية في العصر الحديث، وهي تغيرات سريعة قائمة على التقنية والتفكير والاختراع والإبداع والخيال الواسع المتجدد الذي يعمل باستمرار في تقديم المنتجات الجديدة ويقوم بتطوير الخدمات المساندة التي تناسب كل عميل حسب احتياجاته، وبما أن المصارف تلعب دورا أساسيا في حركة السوق المالية وتطورها حيث تقوم بدور الوسيط بين أصحاب رءوس الأموال الفائضة وبين المؤسسات التي تحتاج لتلك الأموال، لذا فإن المرحلة الثالثة من حياة البنوك الإسلامية هي العمل على تطوير الأدوات المالية لتنافس جنبا إلى جنب البنوك التقليدية العريقة في السوق على تطوير الأدوات المالية لتنافس جنبا إلى جنب البنوك التقليدية العريقة في السوق المالية المعاصرة. ونظرا للأهمية القصوى لهذا الموضوع قامت مؤسسات إسلامية ومؤسسات مالية أخرى بجهود كريمة لدفع هذه العجلة حتى تتكامل هذه الأعمال لتعلن ميلاد السوق المالية الإسلامية. وحيث إن موضوع الأسواق المالية من منظور النظام الإسلامي موضوع واسع مترامي الأطراف، فهو يقتضي البحث والمقارنة في الأسواق المالية المعاصرة والتي شهدت نموا مذهلا في غضون السنوات العشر الأخيرة، نتيجة لتحررها من القيود الحكومية، وقيام المؤسسات المالية الدولية.(6/1069)
إن موضوع الأسواق المالية في نطاق الاقتصادي الإسلامي موضوع واسع ومترامي الأطراف، فهو يقتضي – بادئ ذي بدء – البحث في أسواق المال المعاصرة التي شهدت نموا مذهلا في غضون السنوات العشر الأخيرة نتيجة لتحريرها من القيود الحكومية، وقيام المؤسسات المالية الدولية التي تلعب دورا حيويا كوسطاء في تلك الأسواق بتعميم خدماتها على الصعيد العالمي، فضلا عن التقدم الهائل في الاتصالات وتقنيات نقل المعلومات. ولعل استعراض عمل تلك الأسواق بإيجاز يوفر أساسا لتحليلها من وجهة نظر الاقتصاد الإسلامي.
بالرغم من الحرية القصوى الممنوحة للسوق من السلطات النقدية إلا أنه لا يمكن إغفال الحاجة الماسة لوجود أجهزة حكومية إشرافية تراقب وتنظم عمل تلك الأسواق، مثالا لذلك دور البنك المركزي في الإشراف على شئون الوسطاء (المصارف وبيوت الأوراق المالية، والسماسرة… إلخ) ، ونتناول بالدراسة أيضا دور البنوك المركزية فيما يتعلق بالمؤسسات المالية الإسلامية، حتى نستكشف مدى مساهمتها في تقدم تلك المؤسسات بصورة منظمة ومنسقة.
ولسوف نحاول أيضا وصف عمليات المؤسسات المالية الإسلامية في الأسواق المعاصرة بغية تقويم الإمكانيات المتاحة لها للاستفادة من البنية الأساسية الحالية للأسواق التقليدية. ونعرض في هذا الصدد بعض المقترحات الرامية إلى تطوير عدد من الأدوات أو المنتجات القابلة للتسويق والتي تتمشى مع أحكام الشريعة الإسلامية من جهة، والتي يمكن من جهة أخرى توفيرها في الأسواق المعاصرة شأنها شأن الأدوات الأخرى التي تتنافس فيما بينها على أساس مزايا الأداء لكل منها.
وقد تناولنا أيضا في هذه الدراسة الحاجة إلى أن تقييم المؤسسات الإسلامية سوقا فيما بين البنوك للوفاء بمتطلبات السيولة العارضة أو لغير ذلك من الأسباب، والسماح لتلك المؤسسات بتخصيص بعض الأموال الموضوعة في عهدتها في شكل استثمارات طويلة الأجل نسبيا. وفي هذه الحالة أيضا ذكرنا بعض الأسباب التي تهدف إلى تأكيد أهمية هذه المسألة.(6/1070)
-2-
الأسواق المالية المعاصرة
2-1 تعريف:
توفر الأسواق المالية شأنها شأن الأسواق الأخرى نظاما لتبادل الخدمات أو المنتجات أوكليهما عن طريق الجمع بين طرفين – الطرف المحتاج للخدمة و/أو المنتج والطرف الذي يقدمهما، ويقصد بالمنتجات في الأسواق المالية الموارد المالية والخدمات الاستشارية المالية وتحمل مسئولية الالتزامات الطارئة والوكالة والسمسرة…إلخ. فالأسواق المالية بوجه عام هي الوسيط الذي يعرض المدخرون الراغبون في الاستثمار من خلال مدخراتهم – إما مباشرة أو من خلال وسطاء – على مؤسسات الأعمال وأصحاب المشروعات والأشخاص الذين يحتاجون إلى اقتراض هذه الأموال، ويضم هؤلاء الوسطاء كافة أنواع المصارف وشركات التأمين ومؤسسات المعاشات التقاعدية، وشركات الاستثمار، وشركات استثمار الأموال المشتركة بالوحدات، ومؤسسات الاستثمار والسمسرة والإصدار…إلخ وتحقق الأسواق المالية من خلال هؤلاء الوسطاء توازنا بين الأموال المتاحة للاستثمار وسبل الاستثمار التي توفرها الفرص المتاحة في مجال النشاط الاقتصادي.
2-2 الأهداف والأغراض:
يتمثل الهدف الرئيسي للأسواق المالية في تخصيص وتوزيع الموارد المالية المتاحة في السوق من خلال المدخرين – سواء مباشرة أو بطريق غير مباشر من خلال الوسطاء – على المقترضين بأكثر الطرق كفاءة عن طريق تحديد أسعار لتلك الأموال سعيا إلى تحقيق التوازن مع مراعاة حالة الطلب على الأموال والمعروض منها والمخاطر الائتمانية المتعلقة بالمقترض والوضع الضريبي السائد في السوق والسياسات النقدية المعمول بها وسائر الاعتبارات الاقتصادية الكلية والجزئية، فالغاية إذن هي تخصيص الموارد لعروض الاستثمار التي تتوافر فيها وقت معين أفضل نسبة بين المخاطرة والعائد، ويتم ذلك عن طريق خلق سوق تتسم بالكفاءة مما يستدعي الإحاطة الكاملة بالمعلومات اللازمة لتقويم أو تعديل عوامل المخاطرة المتعلقة بعروض الاستثمار الحالية والجديدة وسرعة توافر تلك المعلومات.
2-3 وصف الأسواق:
وتشمل الأسواق المالية عدة قطاعات مختلفة لكل منها هدفه الخاص وغرضه المحدد في إطار التعريف والهدف العامين السابقين بيانهما.
2-3-1 سوق النقد: وهي على سبيل المثال التي تيسر توظيف أدوات التمويل القصير الأجل (أقل من سنة) القابلة للتداول والتي تصدرها الجهات المقترضة المختلفة كالحكومات، والشركات المعروفة وذات الأهلية الائتمانية العالية والهيئات العامة، وغيرها، والغرض الأساسي من سوق المال هو المواءمة بين الاحتياجات التمويلية قصيرة الأجل للمقترضين الممتازين، وبين الأموال التي يوفرها المستثمرون ذوو الميول و/أو الموارد قصيرة الأجل.(6/1071)
2-3-2 سوق رأس المال: أنها تفي من ناحية أخرى بأغراض التمويل الأطول أجلا، حيث يتم تدبير الأموال اللازمة إما من خلال إصدار سندات قروض مدتها أكثر من سنة مثل سندات الشركات، والأوراق المالية المضمونة برهن أو عن طريق إصدار أسهم في رأس المال كالأسهم العادية والأسهم الممتازة وغيرها، أو خليط من هاتين الأداتين في صورة سندات قابلة للتحويل، أو سندات تشمل الحق في شراء أسهم وغيرها.
2-3-3 سوق النقد الأجنبي: هي المثال الحقيقي الذي يجسد السوق الدولية التي تعمل الآن على مدار الساعة، فقبل إقفال سوق الشرق الأقصى تفتح سوق الشرق الأوسط التي تتداخل مواعيدها مع مواعيد السوق الأوربية بينما تنقل السوق الأوربية المعاملات التجارية مع الساحل الشرقي للولايات المتحدة (نيويورك) . وحتى بعد أن تقفل سوق نيويورك فإن سوق الساحل الغربي تبدأ التعامل وتستمر المعاملات من هناك إلى نيوزيلندا وأستراليا، بالإضافة إلى هذا النشاط والتعامل المستمر لمدة 24 ساعة يوميا فإن وسائل الاتصالات السريعة والحجم الهائل للمعاملات الناشئة عن النشاط التجاري / الاستثماري بالإضافة إلى نشاطات المضاربات قد جعلت هذه السوق حساسة وقابلة للتفاعل حتى مع أصغر قدر من المعلومات.
2-4 الحدود الجغرافية:
تناول القسم السابق بالاستعراض مختلف المهام التي تقوم بها الأسواق، وفي هذا القسم سوف ندرس هذه الأسواق من النواحي الجغرافية، على هذا الأساس فإن الأسواق المالية يمكن تقسيمها بشكل عام إلى ثلاث فئات وهي كما يلي بالتحديد:
2-4-1 الأسواق المحلية: وهي الأسواق التي تعمل في بلد معين وتستخدم في معظم عملياتها الموارد المحلية للوفاء بالاحتياجات التمويلية المحلية.
2-4-2 الأسواق الأجنبية: حيث يحصل المقترض على التمويل اللازم له في بلد أجنبي وبعملة ذلك البلد.
2-4-3 سوق المال الأوربية: فإذا ما استخدمت شركة ما مركزا ماليا لتدبير الأموال اللازمة لها بعملة بلد ثالث، كأن تطرح سندات مقومة بالدولار الأمريكي أو المارك الألماني في لندن أو لكسمبورج لحساب مقترض ياباني قيل إن العملية تجري في إطار (سوق المال الأوربية) . وبالمثل يطلق مصطلح (العملات الأوربية) على الأموال المودعة بعملة ما في بنوك تقع خارج البلد المصدر لتلك العملة، وأسواق المال الأوربية لا تقتصر على القارة الأوربية، بل يمكن أن تنشأ مثل هذه الأسواق في أي بلد تسمح قوانينه بمزاولة أنشطة خارجية، وتعد لندن في الوقت الحاضر أهم مراكز سوق المال الأوربية، وإن كانت تلك الأسواق تمتد إلى مختلف بقاع العالم، من اليابان وسنغافورة وهونج كونج والبحرين وسويسرا إلى جزر البهاما وجزيرة كايمان وكندا.(6/1072)
ولا تخضع أسواق المال الأوربية للقيود التنظيمية التي تفرضها السلطات المصرفية وغيرها من السلطات، وقد تطورت تلك الأسواق على مر السنين حتى بلغت عملياتها مستوى راقيا من النضج والكفاءة.
وكان لتطور أفكار المسئولين عن التمويل في الشركات، والزيادات التي طرأت على أسعار النفط في منتصف السبعينات، وإقدام كثير من الحكومات على إلغاء القيود التنظيمية فضلا عن الرغبة الدائمة في إقامة سوق حرة حقا الفضل الأكبر في تنمية هذا القطاع الهام من السوق الدولية، حيث يمكن طرح كل من الأدوات المالية القصيرة الأجل (سوق النقد) والأدوات الأطول أجلا (سوق رأس المال) وحصول مختلف فئات المقترضين الدوليين على الموارد المالية اللازمة لهم، سواء في ذلك البنك الدولي أو مملكة السويد أو الشركات اليابانية أو سلطنة عمان، وغيرها.
2 -5 الوسائل:
تعمل الأسواق المالية من خلال عدد من الوسطاء من الكيانات والأشخاص كالبورصات والمؤسسات المالية وغيرها (المصارف وبيوت الأوراق المالية وشركات السمسرة والمستشارين) وتخضع أعمال هؤلاء الأطراف لعقود محددة يوقعونها بينما تخضع في حالات أخرى للمبادئ العامة والأعراف السوقية المستقرة.
2-5-1 الوسطاء: أصبحوا يمثلون عاملا مهما في الأسواق المالية، وصاروا يؤدون دورا محوريا في تطوير تلك الأسواق، وفي أعقاب إلغاء القيود، وما ترتب على ذلك من تعميم لنشاط الأسواق المالية على الصعيد العالمي لعب الوسطاء دورا أساسيا في تصميم (منتجات) جديدة ومبتكرة، وأدى استحداث تلك الأدوات بما في ذلك الجمع بين خيارات مختلفة، والشراء والبيع الآجل للأوراق المالية لضمان توافر السمات المرغوبة في شكل حدود قصوى وحدود دنيا…إلخ – أدى إلى زيادة مذهلة في عدد (المنتجات) المالية.
2-5-2 يسر تطوير البورصات تسوية عمليات بيع وشراء الأوراق المالية وساعد على تحقيق طفرة هائلة في السوق عن طريق إتاحة التعامل في (الأدوات المالية القابلة للتسويق) على الصعيد الدولي. وتكفي الآن محادثة هاتفية بسيطة مع أحد الوسطاء المتصلين بإحدى البورصات التي تتعامل في نوع معين من (المنتجات) كسندات الخزانة الأمريكية أو السندات المضمونة من الحكومة البريطانية أو عقود النقد الأجنبي والسلع لإتمام عملية البيع أو الشراء. ومن ثم أصبح في مقدور المستثمر أن يتعامل في عدد من الأسواق المالية الدولية البعيدة عن مكان عمله، مثلما يتعامل مع السوق المحلية في بلده بل وربما بسهولة أكبر.
2-5-3 يكفل توافر القوى العاملة المدربة ذات المؤهلات الجامعية المناسبة والخبرة المكتسبة لهذه الأسواق أفضل السبل لعملها ولإحراز مزيد من التقدم في مجال التمويل. والواقع أن توافر هذه الموارد البشرية المدربة والمؤهلة والمقدامة بالقرب من ساحة النشاط الرئيسية هو الذي ساعد على اغتنام الفرص الجديدة التي أتاحتها بعض التطورات الحديثة، مثل رفع القيود التنظيمية والتقدم في مجال معالجة البيانات وتكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال من أجل استحداث أدوات مالية جديد للوفاء بمتطلبات السوق.(6/1073)
2-5-4 وقد ساعدت التطورات الحديثة التي وفرت وسائل قليلة التكلفة في مجال نظم الاتصالات وتخزين ونقل المعلومات على إنجاز عمليات بالغة التعقيد كانت منذ بضع سنوات تعد من قبيل الإمكانيات النظرية فحسب.
2-5-5 أدى تطور نظم الحاسبات القوية إلى تيسير عمليات تحليل البيانات ودراسات السوق وإعداد الرسوم البيانية ودراسات الأرقام القياسية وتحليل الرقم القياسي للقوة النسبية، واستخراج المتوسط المرجح المتحرك لفترة طويلة من الزمن وغير ذلك من أساليب التحليل الإحصائي، فأصبحت هذه العمليات لا تحتاج إلى أكثر من الضغط على مفتاح أو اثنين من لوحة مفاتيح الحاسب. وهناك كثير من البرامج الجاهزة للاستعمال بواسطة الحاسبات الشخصية العادية والتي تتيح عن طريق الإدخال المباشر للمعلومات تحديد فرص المرابحة والمضاربة. وقد أدى تزايد عدد الأشخاص الذين يستخدمون هذه الأدوات في الأسواق المالية إلى التقليل من فرص المضاربة في (المنتجات) التقليدية. غير أن حركة السوق الدائبة واستحداث منتجات جديدة باستمرار يخلق عددا من فرص المضاربة الجديدة. وقد ساعدت هذه النظم على التعرف على فرص تحقيق الربح بالاستفادة من أبسط صور القصور في شروط السوق الكاملة. غير أن تلك النظم ذاتها جعلت من السهل القضاء على أوجه القصور تلك عن طريق التعريف بها على نطاق واسع. ومن ثم أصبحت مدة قصور السوق من ذي قبل. وباتت الأسواق أقرب إلى تحقيق شروط السوق الكاملة.
2-6 دور المؤسسات المالية الكبرى:
لقد شهد التطور الهائل للأسواق المالية على الصعيد العالمي ظهور عدد ضخم من المؤسسات المالية التي عملت كوسطاء ما بين المستثمرين والمستفيدين من الأموال. وتتباين هذه المؤسسات من حيث حجمها بالإضافة إلى الوظائف والمهام التي تقوم بها في السوق. ونتيجة لحدة المنافسة فإن الاستمرار لا يكتب إلا لهذه المؤسسات المالية القادرة على تقديم خدمات تتسم بكفاءتها مع الاحتفاظ بسجل للأداء الطيب.
وكما سبق أن ذكرنا فإن الأسواق المالية تساعد على تحقيق التوازن ما بين الطلب والعرض من رءوس الأموال. ويمكن تحقيق هذه الغاية عن طريق عمل المؤسسات المالية في هذه الأسواق بواسطة:
(1) تسهيل وتوزيع الأموال باستخدام عدد من الوسائل الآلية السريعة للدفع/ قبض الأموال.
(2) التعامل الكفء في السندات القابلة للتداول للمحافظة على التوازن ما بين قوى السوق.(6/1074)
(3) تقديم خدمات إدارة المحافظ وبالتالي إتاحة إمكانية توفير الخبرة للمستثمرين دون الحاجة إلى الوسائل المتقدمة للدراسة والتحليل.
(4) إنشاء الأسواق الرئيسية عن طريق ضمان الإصدارات الرئيسية وبالتالي العمل كجهة محايدة ما بين المستثمرين والجهات التي تستخدم الأموال.
(5) مساعدة المستثمرين على تنويع المخاطر.
(6) تجميع الأموال الصغيرة لتحسين العائدات وتقليل نفقات المعاملات.
(7) تخفيض الالتزام الضريبي عن طريق الاستثمار من خلال أكثر الأنظمة الضريبية فاعلية.
وما تقدم هو إيضاح عام وشامل للأدوار التي تقوم بها المؤسسات المالية عن طريق بلوغ التخصيص في مجال واحد أو في عدة مجالات من النشاطات التي يستخدم فيها المستثمرون الوسطاء الماليين لاستغلال أموالهم، ومنها على سبيل المثال شركات التأمين ومؤسسات وحدات الائتمان والصناديق التبادلية والمؤسسات الاستثمارية وبنوك الادخار وجمعيات المباني وغيرها. من ناحية أخرى فإن بيوت الأوراق المالية ومؤسسات السمسرة وبنوك التجارة والاستثمار تقوم بأداء بعض المهام المذكورة أعلاه عن طريق إعطاء الأسواق المالية مزيدا من العمق وقدرة أكبر على العمل بتقديم خدماتها لتحمل المخاطر وخلق الأسواق لمختلف الأدوات الاستثمارية.
2-7 الحواجز:
تتسم الأسواق المالية بدرجة عالية من المنافسة. وقد أعطى تخفيف القيود التنظيمية دفعة جديدة للتنافس بين الأسواق المالية. ومن المعروف أن (الفرقعة الكبيرة) التي تعرضت لها سوق الأوراق المالية في المملكة المتحدة وما أعقبها في غضون بضع سنوات من حالات الهبوط الشديد كانت راجعة إلى تكبد بعض الأسماء اللامعة في عالم المال لخسائر كبيرة. والواقع أن هذه الخسائر إنما حدثت نتيجة لصفقات مختلفة اتسمت بتقليص شديد لهوامش الربح إلى الحد الذي أدى إلى انصراف الكثيرين عن السوق بما في ذلك كبار المتعاملين.
وبينما تعد حرية العمل التي تسود بعض الأسواق المالية الكبرى نعمة بالنسبة للعملاء فإنها تؤدي إلى التفرقة بين المتعاملين الأواسط والأدنى كفاءة وبين مؤسسات الخدمات المالية التي تتميز بالتجديد والابتكار والحركة السريعة والقدرة على المنافسة. ويعد هذا أيضا من الحواجز الفعالة التي تقف في وجه الوحدات التي تفتقر إلى الكفاءة. وإذا أمعنا النظر في المزايا والمساوئ التنافسية للوسطاء في الأسواق المالية ولا سيما في أسواق الأوراق المالية المدرجة في التسعيرة الرسمية (سواء في البورصات أو في حالات التعامل المباشرة) وجدنا أن هؤلاء الوسطاء يصطدمون بعدد من الحواجز التي تمنع دخول السوق كما تمنع الخروج منها.(6/1075)
ومن تلك الحواجز وفورات الحجم الكبير التي تتمتع بها بيوت الإصدار الضخمة (نتيجة لنفقاتها الثابتة في بعض المجالات مثل البحوث الاقتصادية وتطوير النظم وغيرها، وما تتمتع به من أسعار خاصة فيما يتعلق بتجهيزات الاتصالات – واستئجارها لبعض خطوط الاتصال وحصولها على أسعار مخفضة من وكالة رويتر وتليريت، وقدرتها على اجتذاب مديرين أكفاء يريدون تكريس حياتهم العملية لهذا النوع من النشاط…إلخ) . فضلا عن قدرتها على تخصيص موارد مالية كبيرة وموقفها القوي في التفاوض مع كل من المستثمرين والمقترضين نظرا لإمكانياتها الضخمة في مجال تجميع الأموال وتوظيفها.
وثمة حواجز أخرى تفرضها السياسات الحكومية لحماية بعض المشاركين في الأسواق والتي قد تؤدي إلى الإضرار بسائر المشاركين، مثل فرض ضرائب من المنبع أو غير ذلك من الرسوم. بيد أن عمليات سوق المال الأوربية قد قللت كثيرا من تأثير تلك الحواجز.
2-8 التحليل:
يعتبر العائد الذي يحصل عليه المستثمر من أهم القوى المحركة للأسواق المالية. فالسوق المالية إنما تقوم على توافر أموال المدخرين الذين يقل استهلاكهم عن حجم التدفقات النقدية التي تحت تصرفهم، واستخدام هذه الأموال بواسطة مستخدمي تلك الأموال الذين تفوق احتياجاتهم المالية حجم التدفقات النقدية التي تصلح، أي أن المدخر يريد التضحية بالاستهلاك العاجل في سبيل الحصول على مبلغ أكبر للاستهلاك الآجل.
وربما كان المدخر لا يحتاج إلى هذه الأموال إلا في المستقبل، ويلعب مستوى العائد دورا هاما في تخصيص تلك الأموال المتاحة على أساس تنافسي. ومن هنا يعتبر سعر الفائدة أو مقدار العائد المحرك الأول لتخصيص الأموال للاستثمار. فالمدخر يطلب أن يرد إليه في المستقبل مبلغ أكبر في مقابل السماح باستخدام أمواله في الحاضر.
والواقع أن المبلغ الأكبر إنما يمثل القيمة الزمنية للنقود والمخاطرة التي يتحملها المدخر عندما يترك ماله لغيره وتناقص القوة الشرائية للنقود إلى حين استردادها. وقد تزايدت أهمية هذا العامل مؤخرا نتيجة لارتفاع مستويات التضخم في عدد من الدول الصناعية الكبرى بعد الأزمة النفطية التي شهدتها في منتصف السبعينات. وكان من نتيجة ذلك تزايد أهمية مفهوم معدل العائد في جوهره المعدل الاسمي (سعر الفائدة) مع تعديله مراعاةً لمعدل التضخم. فإذا كان معدل التضخم 5 % والمعدل الاسمي لعائد استثمار معين 7 % بلغ معدل العائد الحقيقي 2 % ومن هنا فإن معدل العائد الحقيقي يعطي صورة أكثر واقعية للزيادة في القوة الشرائية للمدخرات.
بيد أن دور الأسواق المالية لا يقتصر على توزيع الموارد المالية بين الأطراف المختلفة التي تتنافس على الحصول عليها. بل إنها تساعد أيضا على تنويع المخاطر من وجهة نظر المستثمر.
ويتحقق هذا التوزيع نتيجة للاتساع الجغرافي لتلك الأسواق، وتعاملها مع عدد كبير من الصناعات والشركات والمقترضين الحكوميين، والقطاعات الأخرى.
*
**(6/1076)
-3-
الأسواق المالية من منظور النظام الاقتصادي الإسلامي
3-1 النموذج الاقتصادي الإسلامي
الإسلام أسلوب شامل للحياة لا فيما يتعلق بأمور الدنيا فحسب، وإنما أيضا في الأمور الاقتصادية، ويقوم النموذج الاقتصادي الإسلامي على الأسس التالية:
- الإنصاف والعدل في التعامل مع أموال الغير.
- كسب الربح باستخدام وسائل عادلة.
- كشف جميع المعلومات المتعلقة بالمعاملة.
- احترام المشروع الحر والملكية الخاصة.
- احترام حقوق الآخرين في المجتمع وخاصة الفقراء والمحرومين.
ومن تعاليم الإسلام أن كل عوامل الإنتاج إنما هي ملك الله سبحانه وتعالى، إلا أنه استخلف فيها البشر ليتمتعوا بمنافعها. وقد بلغ من احترام الإسلام للملكية الخاصة أن من يقتل دفاعا عن ماله (الذي ناله بطرق شرعية) يعد من الشهداء. كما يعتبر الكشف عن كل ما يتصل بالمعاملة والأمانة والاستقامة في التعامل مع الآخرين من الأركان الأساسية التي يشترطها الإسلام لمزاولة أي نشاط اقتصادي.
ومن جهة أخرى يؤكد الإسلام على التوازن العادل بين مصلحة المجتمع ومصلحة الفرد. فمع أن النموذج الاقتصادي الإسلامي يقوم على أساس الملكية الخاصة المستمدة من قاعدة الاستخلاف في الأرض إلا أنه يلزم الفرد بألا يهمل استثمار الموارد المملوكة عن طريق الإحياء. فإهمال الأرض الزراعية قد يضر بالاقتصاد القومي، لذلك تقضي الشريعة الإسلامية في شأن من يهمل استعمال أرضه ولا يقوم بزارعتها لمدة ثلاث سنوات بنقل الدولة ملكيتها إلى شخص غيره يستطيع استغلالها لمصلحته ومصلحة المجتمع بالتالي عن طريق زراعتها من جديد.
ويتضح مما سبق أن ثمة تشابها بين الاقتصاد الإسلامي ومفهوم الاقتصاد الحر، فيما عدا مبدأ الحرية المطلقة الذي تأخذ به المجتمعات الرأسمالية والذي يجيز لمن يملك موارد إنتاجية أن يتركها دون استغلال إذا شاء، بغض النظر عن تأثير ذلك على المجتمع. فمثل هذه الممارسات لا تقرها المبادئ الاقتصادية الإسلامية.
ونجد هذا المفهوم الإسلامي ذاته في الزكاة. فبالرغم أن من الهدف الأساسي من فرض الزكاة في الإسلام هو إلزام الأغنياء والأثرياء بإعطاء نسبة محددة من ثروتهم للفقراء والمحتاجين فإن تأدية الزكاة شجع بطريق غير مباشر على خلق ثروات جديدة وعلى النشاط الاقتصادي من حيث إن القادر الذي يؤدي الزكاة يتعين عليه أن ينمي ثروته، بعد اقتطاع نفقات استهلاكه بمعدل 2.5 % سنويا على الأقل حتى تظل القيمة الصافية لثروته دون نقصان من حول إلى حول.(6/1077)
أما تحريم الإسلام للربا عند إقراض المال فإنه مبنى على مبدأ الإسلامي الأساسي الذي يقضي بالعدل في كل المعاملات. فرغم أن المقترض يستفيد في نشاطه من المال الذي يقترضه ويحقق منه ربحا فإنه من الثابت أيضا أنه يتحمل وحده جميع مخاطر فشل ذلك النشاط ويتعين عليه أن يرد رأس المال كاملا مضافا إليه الفائدة المتفق عليها إلى المقرض بغض النظر عن نتيجة استثماره للمال. ومن هنا فإن المقرض يحصل على العائد المستحق له لدى المقترض دون أن يشارك أية مشاركة حقيقية في مخاطر المشروع. أما إذا اعتبرنا أن مالك رأس المال الذي أقرض المال إلى صاحب المشروع قد تحمل المخاطرة فإن نفس الحجة تنطبق عليه عكسيا، لأنه عندئذ يكون له (أي المقرض) الحق في المشاركة في الأرباح التي حققها المشروع لا في نسبة معلومة من أصل القرض. ومن ذلك يتبين أن تحريم الإسلام للفائدة إنما ينبع من الرغبة في إقامة نظام عادل وعدم استغلال ظروف المحتاج أو أي طرف في أي تعامل مالي.
وفي ضوء ما سلف ذكره وبعد أن أوضحنا الكيفية التي تستخدم بها أسعار الفائدة لتخصيص الموارد للمشاريع التي تستحقها نتناول الآن من وجهة النظر العملية تطبيق هذا المفهوم النظري. إذ ينبغي أن توجه الأموال للمشاريع التي تقدم أعلى معدل للمخاطر بالنسبة إلى العائد. ومع هذا وفي الواقع العملي وإذا كانت جميع الظروف مواتية فإن المقرضين يبدون اهتماما أكبر بالملاءة الائتمانية للمقترض وعندئذ تصبح للمشروع أهمية ثانوية. ففي هذه الحالة ينظر المقرض بعين الاهتمام إلى المشروع الذي يتمتع المقترض بوضع ائتماني أفضل حتى إذا كانت عائدات هذا المشروع أقل من مشروع آخر قد يحقق عائدا أفضل لنفس الاعتبارات أو لاعتبارات أخرى خاصة بالمخاطرة. وبالتالي فإن النظام التقليدي الذي يعتمد على العائد بسعر الفائدة المحدد لا يؤمن بالضرورة تخصيص الموارد بطريقة عادلة للمشاريع على أساس من جدواها وعائداتها.
3-2 عمليات السوق في الإسلام وضوابطها:
يجيز الإسلام بل ويشجع قيام السوق على المبادئ التالية:
(1) المنافسة الحرة والعادلة.
(2) تحديد الأسعار بناء على قوى السوق من خلال آلية العرض والطلب.
(3) توافر معلومات كاملة للمشترين والبائعين عن مختلف جوانب المعاملة التي هم بصددها ولا سيما إذا كانت تلك المعلومات تؤثر على سعر السلعة (وهو ما يطابق مفهوم كفاءة السوق في الأسواق المعاصرة) .
(4) عدم السماح للقوى الاحتكارية بالتعامل في السوق تجنبا للاستغلال.
(5) العمل قدر المستطاع على تجنب (الوسطاء) في المعاملات إلا إذا كانوا يؤدون بحسن نية خدمات تساعد على سلاسة التعامل في السوق.(6/1078)
(6) عدم السماح للمضاربات بتجاوز دورها الاقتصادي في الترجيح من حيث الوقت والمكان ويصبح غاية في حد ذاته وبالتالي تصبح العملية كلها لعبة حظ تلعب من أجل كسب المال. ومثل هذه المضاربات لا تلقى التشجيع حيث أنها تضر بالاستثمار الحقيقي وحيث يتم بسببها تجميد موارد ضخمة بعيدا عن الأنشطة الاقتصادية المفيدة للمجتمع.
ويلاحظ أن هذه المبادئ نفسها تطبق في تنظيم وظائف الأسواق المالية المعاصرة. ففي السوق الاقتصادية الإسلامية تترك الحرية لقوى السوق كي تؤدي دورها في تحديد الأسعار في حالة الاستقرار. أما إذا ظهرت في السوق تأثيرات احتكارية يحتمل أن تؤدي إلى تشويه آلية التحديد الحر للأسعار فإنه يجوز للدولة أن تتدخل حتى تعيد العدل إلى السوق.
ونظرا للطابع الخاص للتمويل الإسلامي الذي يقتضي من المؤسسة أو عملائها الذي يودعون أموالهم لدى البنك أن يتحملوا المخاطر التجارية للأعمال التي يستثمر فيها البنك أمواله فإنه ينبغي للبنك أن يتخذ بعض التدابير الإضافية للتحكم في عناصر المخاطرة حتى يحتفظ بمكانته في الأسواق ويكفل للمستثمرين الأمان والحصول على عائد مناسب.
والواقع أن المؤسسات الإسلامية ليست مطالبة فحسب – شأنها شأن المؤسسات التقليدية- بأن تتوخى الحيطة فيما يتعلق بمعايير الاستثمار بل إنها يجب عليها أن تتأكد أيضا من عدم الإخلال في أي وقت من الأوقات بتعهدها بالالتزام، بأحكام الشريعة الإسلامية. ولذا كان من الضروري القيام بمتابعة مستمرة لضمان الالتزام التام بالشريعة وتحمل مسئولياتها في هذا الصدد ومن هنا تخضع المؤسسات المالية الإسلامية لمراجعة إضافية من جانب هيئة الرقابة الشرعية فضلا عن المراجعة العادية من جانب مراقبي الحسابات الخارجين.
إن الأسواق المالية تخضع لقواعد ولوائح مختلفة تصدرها السلطات والهيئات المحلية كما تلتزم في الوقت نفسه بمبادئ توجيهية داخلية ونظم صارمة تفرضها على نفسها. ومن بين السلطات التي تشترك عادة في الإشراف على نشاط تلك الأسواق السلطات النقدية المركزية ووزارات المالية والسلطات المعنية بقانون الشركات وغيرها. وتشمل السلطات المحلية مجلس البورصة أو سوق الأوراق المالية وهيئة سوق الأوراق المالية. كما أن التوجيهات الصادرة عن اتحادات البنوك والهيئات المماثلة تساعد على تحقيق الانضباط الذي تتوخاه تلك المؤسسات من تلقاء نفسها.
3-3 الأسواق المعاصرة والمؤسسات الإسلامية:
يتخذ تدخل المؤسسات في الأسواق المالية الوساطة في المقام الأول. ويلاحظ أن تجنب المؤسسات المالية الإسلامية الواضح للفائدة قد حد من أنشطتها ووظائفها في الأسواق التقليدية المعاصرة وجعلها تقصر معاملاتها على عدد محدود من الأدوات المالية.(6/1079)
ومن ذلك الحصص والأسهم في رءوس أموال الشركات المدرجة في البورصات في البلدان الصناعية والتي تعمل وفقا لمبادئ اقتسام الأرباح والخسائر، مع وجود سوق جيدة تقوم على مبادئ العرض والطلب، وغيرها. ويتوخى المستثمرون المسلمون الحرص الشديد فيما يتعلق بأنشطة تلك الشركات في تلك البلدان وعلاقتها بالفائدة (دفع فوائد على القروض أو تقاضي فوائد على فوائض الأموال) . ومن المجالات الأخرى التي تستطيع المؤسسات الإسلامية المشاركة فيها عمليات شراء السلع المادية ثم إعادة بيعها أو توزيعها، وشراء بعض الشركات الصغيرة أو المتوسطة وإعادة تشكيل هياكلها التمويلية بما يتفق مع المبادئ الإسلامية، والمشاركة في رءوس أموال المشروعات الجديدة والاستثمارات العقارية الممولة بالكامل بمساهمات نقدية دون اللجوء إلى الاقتراض وتكوين شركات الاستثمار المشترك بناء على استثمارات مشروعة من وجهة النظر الإسلامية مع إدراجها في البورصات والتعامل فيها.
وبديهي أن دخول وسطاء إسلاميين في هذا المجال سيكون بمثابة تجربة جديدة. ومن ثم فإن قيامهم بدور محسوس في هذه السوق الواسعة لا بد وأن يتم بطريقة تدريجية. وربما كان الأسلوب الأمثل في البداية هو التعاون مع بعض شركات الاستثمار الغربية في التعامل مع عدد (المنتجات) المشروعة إسلاميا حتى تكتسب المؤسسات الإسلامية خبرة في هذه المجالات. ويتعين على المؤسسات الإسلامية لكي تحقق هذه الغاية أن تجتذب الكفاءات المناسبة وتحافظ عليها. وعلى الرغم من أنه يمكن للمؤسسات الإسلامية أن تطرح في الأسواق المالية المعاصرة عددا من الأدوات المالية الإسلامية القابلة للتسويق بل واشتراك بعض المؤسسات التقليدية فيها، فإنه من الأهمية بمكان أن تكون المؤسسات الإسلامية على وعي تام بالفرص والمخاطر التي ينطوي عليها التعامل بنشاط في تلك الأسواق.
*
**(6/1080)
-4-
البنوك المركزية ودورها في الأسواق
4-1 الوظائف الأساسية:
إن البنك المركزي للدولة هو المسئول عن التأكد من أن الأساس الذي يقوم عليه النظام المالي يتمشى مع أهداف سياساتها ومع احتياجاتها ومتطلبات تقدم مؤسساتها المالية، ويستلزم ذلك من البنك المركزي أداء الوظائف التالية:
(1) تنفيذ السياسات النقدية.
(2) تنظيم عملية دخول الأسواق المالية عن طريق الإجراءات الخاصة بالترخيص.
(3) التفتيش الدوري (المادي وعن طريق البيانات الإلزامية المختلفة) على المؤسسات المالية.
(4) تحديد الضوابط المختلفة وضمان الالتزام بها (نسبة السيولة ونسبة كفاية رأس المال ... إلخ) .
والبنوك المركزية في الدول الصناعية لا تحتاج إلى القيام بدور نشط في النهوض بالأسواق المالية، لأن تطور اقتصادياتها قد أدى بالفعل إلى قيام أسواق متقدمة للنقد ورءوس الأموال. أما في البلدان النامية فإن هذه الأسواق لم تبلغ بعد مرحلة التطور الكامل مما يحد بصورة خطيرة من إمكانيات النمو الاقتصادي في تلك الدول ومن التطور القطاعات المالية بها. ولذا يتعين على البنوك المركزية في البلدان النامية أن تضطلع بدور هام في تطوير أسواقها المالية حتى يكتب لها الخروج من هذه الحلقة المفرغة.
ولما كانت معظم البلدان الإسلامية لا تزال في طور (النمو) ، فإنها تفتقر إلى الأسواق المالية المتقدمة. ويلاحظ في هذا الصدد أن إنشاء عدد من المؤسسات المالية الإسلامية خلال العقدين الماضيين قد استلزم إيجاد معاملة خاصة بها وتم إدخال بعض التعديلات على قوانين البنوك في البلدان الإسلامية لمعالجة بعض الشؤون الأخرى.
المتعلقة بها. بيد أن هذه التعديلات كانت تستهدف إزالة بعض العقبات التي كانت تعرقل قيام المؤسسات الإسلامية بأعمالها أكثر مما تستهدف ضمان معاملة خاصة من قبل البنوك المركزية.(6/1081)
2-4 البنوك المركزية في البلدان الإسلامية والنشاط المصرفي الإسلامي:
تشكل البلدان الإسلامية الأسواق الطبيعية التي يمكن فيها للمؤسسات المالية الإسلامية أن تنمو بحيث يمكنها حجم عملياتها من التنافس على قدم المساواة مع سائر المؤسسات التقليدية العاملة في الأسواق المالية الدولية.
ومن المعروف أن المؤسسات الإسلامية لا تزال في أطوارها الأولى وتحتاج من البنوك المركزية في الدول الإسلامية التي تعمل فيها إلى إطار يكفل لها النمو حتى يشتد عودها.
وقد شكلت في 1981م في أعقاب المناقشات التي دارت في اجتماعات محافظي البنوك المركزية للبلدان الإسلامية لجنة من الخبراء لدراسة وإعداد المبادئ التوجيهية اللازمة للنهوض بالنشاط المصرفي الإسلامي وتنظيمه والإشراف عليه. وتضمنت توصيات اللجنة التوصية إلى البنوك المركزية بتوفير الموارد المالية اللازمة للبنوك الإسلامية لتمكينها من دخول السوق المصرفية للتعامل بين البنوك في الأوقات التي تواجه فيها البنوك الإسلامية نقصا في السيولة. كما أوصت اللجنة بأن تعمل البنوك المركزية على استحداث صكوك بدون فائدة تساعد المصارف الإسلامية على الوفاء بمتطلبات السيولة القانونية واستخدام تلك الصكوك في توظيف فائض السيولة بما يعود عليها بالربح.
وقد اعتمدت هذه التوصيات الصادرة عن لجنة الخبراء من قبل محافظي البنوك المركزية والسلطات النقدية في البلدان الإسلامية. ومع ذلك نجد أن فيما يتعلق بتنفيذ هذه التوصيات فإنه من المؤسف أن ما أحرز من تقدم في هذا المضمار قد كان بطيئا. وكانت أكبر ميزة لتشكيل لجنة الخبراء تتمثل في إجراء الاتصالات الدورية ما بين البنوك الإسلامية وممثلي البنوك المركزية للبلدان الإسلامية عن طريق عقد الاجتماعات المنتظمة. وفي وقت سابق من العام الحالي (1989م) عقد الاجتماع الخامس على مستوى الخبراء للبنوك الإسلامية في أبو ظبي برعاية البنك المركزي لدولة الإمارات العربية المتحدة. وقد تم في هذا الاجتماع بحث العديد من القضايا الهامة التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على السياسات النقدية نتيجة لعمليات البنوك الإسلامية مثل (تأثير الأنماط الإسلامية للتمويل على التوسع النقدي) ، ووضع نظام محاسبي موحد للبنوك الإسلامية وتطوير الآلية المناسبة لإعداد التقارير عن أنشطة البنوك الإسلامية لتقديمها إلى البنوك المركزية. ومن جديد، فقد نوقشت بالتفصيل مسألة تطوير الأدوات الاستثمارية ذات السيولة العالية لتلبية متطلبات السيولة مع الاحتفاظ في نفس الوقت بالأرباح. ومن الأمور التي نوقشت في الاجتماع كان دعم التعاون ما بين البنوك الإسلامية والبنوك المركزية. ومن المقرر أن يعقد الاجتماع القادم من البحرين.(6/1082)
وبالنسبة للبنوك الإسلامية، فإن أهمية التعاون مع البنوك المركزية لا يمكن تقدير علو مكانتها. ولقد كانت هذه البنوك الإسلامية تعتمد على مواردها الخاصة من أجل الاحتفاظ بالسيولة النقدية الضرورية، لعدم قدرتها إلى الالتجاء إلى الأسواق المالية وكذلك عدم حصولها على وعد قاطع من البنوك المركزية بدعمها عند الحاجة، قد حد كثيرا من عملياتها. ذلك أن اعتبارات السيولة تجعل المؤسسات الإسلامية تحجم عن الاستثمار في أية عمليات طويلة الأجل نسبيا ومن ثم تجد نفسها مضطرة إلى استخدام مواردها في أصول تدر عوائد غير تنافسية، فضلا عن أن هذه العوامل تعرقل التقدم نحو إقامة سوق مالية إسلامية متطورة. وبالتالي فإن أية مساعدة ودعم يقدمان من البنوك المركزية، في البلدان الإسلامية، إلى البنوك الإسلامية سوف تكونان بالتأكيد من التطورات الإيجابية.
4-3 العمل المصرفي الإسلامي في ظل البنوك المركزية التقليدية:
لا يجوز للمصارف الإسلامية في ظل العمل المصرفي الإسلامي قبول الودائع على أساس ضمان عائد محدد مسبقا للعميل. فالمصرف الإسلامي يتلقى الأموال من العميل في إطار اتفاق بين الطرفين لإدارة تلك الأموال. ويحيل إلى العميل ما ينتج من ربح أو خسارة عن استثمار الأموال في أوجه الاستثمار المشروعة إسلاميا بعد اقتطاع الأتعاب المستحقة له عن إدارتها. وهذا الأسلوب في التعامل أقرب إلى أسلوب صناديق الاستثمار التبادلي. أما في ظل النظام المصرفي التقليدي فإن ودائع العملاء تعد التزامات مباشرة على المصرف ومن ثم تدرج في باب الخصوم. ويلتزم المصرف بدفع العائد الذي تعهد به إلى صاحب الوديعة أيا كانت نتيجة استخدام تلك الودائع. وقد كان من نتيجة هذا الفرق الواضح في أسلوب التعامل أن البنوك المركزية في مراكز المال الرئيسية في العالم لا تدرج المصارف الإسلامية في عداد (البنوك) . بيد أنه إذا قامت المصارف الإسلامية بضمان الودائع (دون وعد بأي ربح) في ظل مفهوم (الأمانة) الإسلامي، فإن تلك الودائع يمكن أن تعتبر من قبيل الالتزامات المباشرة على المصارف الإسلامية، بالاستناد إلى هذا الأساس فقد تقدمت بعض البنوك الإسلامية العاملة في إطار النظام المالي الغربي بطلبات للحصول على رخص للعمل كمصارف.(6/1083)
في إنجلترا، تشترط الأنظمة المصرفية ضرورة قيام (البنك) بضمان المبلغ الأصلي المودع من أحد العملاء لديه. وعلى البنوك الإسلامية، الراغبة في العمل في النظام المالي الغربي، أن تستفيد من هذه الفكرة عند تقديم طلباتها للحصول على ترخيص للعمل في هذه البلاد.
بيد أن النظام الإسلامي القائم على العدل والذي يقضي بمكافأة المدخر على أساس المشاركة في الربح والخسارة. يمكن أن يطبق في البلدان الصناعية في ظل نظام تراخيص الاستثمار. ويلاحظ في هذا الصدد أن قوانين الولايات المتحدة الأمريكية تفرق بوضوح بين النشاط المصرفي التجاري الذي تقوم به البنوك التقليدية والنشاط المصرفي الاستثماري الذي تمارسه المؤسسات المالية الأخرى وذلك طبقا لقانون البنوك الصادر عام 1933م، والمعروف باسم قانون جلاس – ستيجال.
وترجع بعض العقبات الأخرى التي تعترض سبيل المصارف الإسلامية في ظل النظم المصرفية التقليدية إلى ما درجت عليه البنوك المركزية من استخدام آلية أسعار الفائدة، للتحكم في سياسات التوسع في الائتمان ولجوئها إلى عمليات (السوق المفتوحة) ، ومن هنا تحجم البنوك المركزية في تلك الدول عن منح صفة (البنوك) لتلك المؤسسات التي يحتمل أن يكون لها تأثير على سياسات التحكم في التوسع النقدي دون أن تخضع لرقابة البنوك المركزية بسبب عدم احتسابها أية فوائد على الأموال التي تتدفق منها في اقتصاد تلك الدول. غير أن هذا الاعتبار يغلب عليه الطابع النظري في الوقت الحاضر نظرا لضآلة حجم النشاط المصرفي الإسلامي بالمقارنة بالنشاط المصرفي التقليدي في تلك البلدان.
أما عن الاشتراطات الأخرى لمزاولة العمل المصرفي مثل تقديم كشوف المعلومات الإلزامية ونسبة السيولة ونسبة كفاية رأس المال ... إلخ، فإنه يسهل على المصارف الإسلامية العاملة في ظل النظم المالية التقليدية الوفاء بها.
*
**(6/1084)
-5-
تطور الأدوات المالية الإسلامية
5-1 مقدمة:
في ضوء المعلومات التي جاءت في الأبواب الأربعة السابقة فإنه من المناسب بحث خصائص وتطور الأدوات المالية والاستثمارية الإسلامية التي تستعملها المؤسسات المالية الإسلامية. وينظر إلى هذه الأدوات من وجهة نظر دولية أكثر من وجهة النظر في نطاق الاقتصاد الإسلامي البحت. وهذا الأسلوب الشامل يعتبر أكثر تناسقا في الظروف الاستثمارية العامة السائدة حاليا في العالم حيث يجد الاتجاه إلى العالمية والتدويل في الخدمات المالية إقبالا كبيرا. مع هذا قبل أن نتناول مختلف الأدوات المالية فلن يكون من غير المناسب أن نبحث عددا من العقبات التي تواجه المؤسسات الإسلامية في جهودها لتحقيق تقدم سريع في هذا المجال.
5-2 القيود المفروضة على تطوير السندات الإسلامية القابلة للتداول:
نتيجة للقيود التالية التي تواجه المؤسسات المالية الإسلامية، فإن عدد السندات المالية القابلة للتداول التي قامت هذه المؤسسات حتى الآن بتطويرها ليس كبيرا:
(1) الحداثة النسبية للمؤسسات الإسلامية.
(2) دخول عنصر الفائدة بشكل أو آخر في معظم الأدوات المتوفرة في السوق التقليدية المعاصرة.
(3) نقص الخبرة في الأعمال المصرفية الاستثمارية ... إلخ.
ويتحتم على المؤسسات الإسلامية أن تدرك الحاجة إلى تطوير الأدوات القابلة للتداول لكي تدخل غمار المنافسة في الأسواق المالية. وهذه الأدوات سوف تساعد في اجتذاب مزيد من القبول لهذه المؤسسات على نطاق واسع في عالم المال والاقتصاد إذا كانت نوعية هذه الأدوات مقبولة لدى البنك المركزي في القطر الذي تباشر فيه المؤسسة أعمالها فقد تستعمل هذه الأدوات لتلبية متطلبات الاحتياطات المفروضة من قبل البنك المركزي.
فعلى سبيل المثال إذا كانت المؤسسة قد شاركت في إصدار قصير الأجل لأحد الأدوات القابلة للتداول في إحدى صفقات المرابحة – فرضا – لإحدى الدول، عندئذ فإنه إذا كانت مخاطر تلك الدول المدينة مقبولة من البنك المركزي للقطر الذي يوجد فيه مقر المؤسسة المشاركة فإنه يمكن للمؤسسة أن تقدم إلى البنك المركزي شهادة المشاركة للوفاء بمتطلبات السيولة.(6/1085)
وبالتالي فإن تطوير الأوراق المالية القابلة للتداول سوف يساعد المؤسسات الإسلامية في اكتساب سيولة أفضل على مستوى عملياتها في الأسواق المالية بالإضافة إلى الاستفادة من الأوراق المالية القابلة للتداول بالنسبة للمخاطر المقبولة لكي تفي بالمتطلبات الأخرى.
5-3 العملية التطويرية للخدمات المالية الإسلامية:
- المرحلة التمهيدية:
5-3-1 خلق العوامل التي تدعو إلى الثقة: أخذت البنوك الإسلامية والمؤسسات الاستثمارية التي نشطت في التعامل في أموال واستثمارات المسلمين الراغبين في الابتعاد عن الأدوات الاستثمارية الربوية تعمل على تطوير أدواتها التي حرصت على أن تكون خالية تماما من عنصر الفائدة وأن تؤمن أيضا تقديم عائدات أكبر بعد أن تضع في اعتبارها معدلات المخاطر بالنسبة إلى الربح. مع هذا فنظرا لأن هذه المؤسسات لا تقدم ضمانا حتى للمحافظة على رأس المال ناهيك عن أي عائد على هذه الاستثمارات فإن دخولها مجال المعاملات المالية لم يكن يسيرا من حيث وضعها التنافسي في مواجهة المؤسسات المالية التقليدية على أساس اعتبارات السلامة.
وبالنسبة للمسلم الحريص على اتباع تعاليم الدين الحنيف فإن اهتمامه الأول ينصب على تفادي المعاملات الربوية. مع هذا فإن هذا الحرص لا يعني أن يعرض نفسه لمخاطر لا داعي لها لا سيما وأن اختيار الاحتفاظ بالأموال على شكل مبالغ نقدية في الحسابات الجارية متوفر دائما. وبالتالي ومن وجهة النظر التنافسية العامة فإنه تعين على المؤسسات المالية الإسلامية أن تخلق أسبابا تدعو إلى الوثوق بها حتى قبل أن يبدي المسلم الذي يتبع مبادئ الشريعة اهتماما بإعطاء مدخراته التي كسبها في حياته بصعوبة إلى هذه المؤسسات لإدارتها.
وقد شهد القطاعات المالية في جميع الاقتصاديات الغربية المتقدمة تغيرات هائلة خلال العقد الماضي. وبينما كانت هناك العديد من حالات الإفصاح عن المعلومات عن معاملات ومصالح الوسطاء كما أمكن تحقيق درجة كبيرة من العالمية الشاملة فقد زادت الجهود للحفاظ عليها وحماية حقوق المستثمرين. وفي ظل هذه الظروف فقد تعرضت البنوك الإسلامية لضغوط متزايدة لخلق العوامل القوية التي تدعو إلى الثقة وإعطاء (شعور ضمني بالأمان) للمستثمرين على أساس الخبرة السابقة بالنظر إلى عدم وجود التزام كتابي وتعاقدي لتقديم الضمان للأموال المستثمرة.
5-3-2 الاستراتيجية الاستثمارية المبدئية: إن الحاجة إلى خلق العوامل التي تدعو إلى الثقة في البنوك الإسلامية تفرض عليها ضرورة اتباع الاستراتيجيات الإسلامية الحريصة وانتهاج السياسات الحكيمة في استغلال أموال المستثمرين وقد توجه اهتمام خاص للمحافظة على نسبة عالية من السيولة من أجل المحافظة على ثقة المستثمرين في جميع الظروف حتى إذا أرادوا سحب أموالهم قبل مواعيد الاستحقاق. ومن الواضح أن هذا الأسلوب قد حقق نتائج طيبة في دعم ثقة المستثمرين بالمؤسسات المالية الإسلامية. مع هذا فقد أمكن تحقيق هذا على حساب تقديم عائدات صافية إلى المستثمرين خاصة وأنها قد كانت عائدات متواضعة نسبيا بالمقارنة بالودائع المصرفية العادية.
5-3-3 التطورات الأخيرة: انتقلت المؤسسات الإسلامية المالية في الآونة الأخيرة إلى المرحلة الثانية في نشاطاتها الاستثمارية بعد خلق عوامل الثقة المثيرة للإعجاب بتوفير السلامة والأمان وبالمحافظة على أموال المستثمرين خاصة مع عدم وجود أي التزام تعاقدي بالقيام بذلك. وقد اكتسبت عوامل الثقة هذه مزيدا من الأهمية وأصبحت ملموسة أكثر بالنظر إلى تجارب العديد من المؤسسات الاستثمارية التقليدية التي عانت كثيرا نتيجة (لانهيار بورصة الأوراق المالية في أكتوبر 1987م) والتقلبات الأخرى في بعض الأسواق المالية الدولية.
5-4 المرحلة الثانية للتطوير:
ينطوي الانتقال إلى المرحلة الثانية في نشاطاتها الاستثمارية أن تتجه المؤسسات الإسلامية إلى الجمع ما بين حاجتها إلى تقديم فرص استثمارية مأمونة ومضمونة مع فترات استحقاق أطول نسبيا. ويعني هذا أن عامل السلامة سوف يظل في صدارة الاعتبارات لكن العائد سوف يتحسن بدرجة هائلة على حساب قدر معين من السيولة وبالتالي سوف يصبح أداء هذه المؤسسات تنافسيا أكثر من المؤسسات المالية التقليدية الأخرى.
*
**(6/1086)
-6-
الأدوات المالية الإسلامية
يتضح من الأبواب السابقة مدى أهمية الدور الذي تقوم به المؤسسات المالية في تطوير السوق. وفي عالمنا الراهن حيث لا يمكن للمؤسسات التجارية أن تستمر في العمل في معزل عن غيرها وفي وسط احتدام المنافسة يعني هذا أن البقاء للأصلح ومن ثم فإنه من الممكن بالنسبة للمؤسسات المالية الإسلامية أن تواصل المحافظة على الزخم الذي حققته حركتها خلال العقدين الماضيين والعمل بأسلوب جديد من أجل مواجهة الضغوط التنافسية التي تفرضها عليها الأسواق المالية التقليدية ويكون ذلك فقط عن طريق تطوير سوق مالية إسلامية تدار بكفاءة باستخدام أدوات أعدت وصممت بطرق جيدة.
وتوجد لدى المؤسسات المالية الإسلامية أدوات يمكن لها عن طريقها خلق سندات قابلة للتداول. وباستخدام آلية (سوق المعاملات الأوربية) فإن هذه الأدوات يمكن أن تدرج في أية بورصات تقبل إدراج (إصدارات السندات الأوربية) ولأغراض المقاصة فإنه يمكن الاستفادة من خدمات مؤسسات مثل يوروكلير أوسيديل.
هذا ويمكن تصنيف الخدمات المقدمة من المؤسسات المالية الإسلامية على الصعيد الدولي بشكل عام إلى مجالين – تمويل الخدمات المقدمة إلى العملاء الذين وطدت علاقة العمل معهم عن طريق تقديم الأموال إليهم بشكل أو بآخر وتقديم الخدمات الاستثمارية إلى المستثمرين الذين توجد لديهم أموال الاستثمار في الفرص المقبولة إسلاميا. ونوضح فيما يلي هذين النوعين من الخدمات بالتفصيل:
6 -1 أدوات التمويل الإسلامية:
تلعب المؤسسات المالية دور الوسيط مثلها في ذلك مثل المؤسسات التقليدية الأخرى. فمن ناحية فإنها تقدم تسهيلات التمويل إلى عملائها – المؤسسات والأفراد – ومن ناحية أخرى فإنها تجتذب الأموال من المستثمرين الذين تتوفر لديهم أموال فائضة للاستثمار. والدور الذي تقوم به المؤسسات يتمثل في توجيه هذه المدخرات إلى وسائل التمويل المسموح بها بموجب الشريعة الإسلامية والتي يجب أيضا أن تفي بالمعايير الاستثمارية للمستثمرين. من أجل تلبية متطلبات التمويل لعملائها في السوق الدولية فإن المؤسسات المالية الإسلامية كانت قد استخدمت أدوات التمويل التالية:
6-1-1 المرابحة والتسهيلات الأخرى ذات العلاقة بالتجارة:
من البديهي أن الله سبحانه وتعالى قد حرم الربا في قرآنه الكريم وفي نفس الوقت فقد أحل التجارة وطلب من المؤمنين ضرورة التفرقة بينهما. وتنطوي المرابحة أساسا على تقديم التسهيلات إلى أحد العملاء للحصول على البضاعة لأغراض المتاجرة و/أو الاستهلاك مع السماح له بسداد مقابلها بما في ذلك الربح إلى المؤسسة المالية التي تقدم التمويل في المستقبل حسب الجدول الزمني المتفق عليه. ويقوم البنك بهذه العملية بالضرورة لامتلاك البضاعة أولا (تنتقل ملكية هذه البضاعة إلى البنك) ثم يقوم البنك ببيع هذه البضاعة إلى العميل.(6/1087)
وعلى المستوى الدولي فإن هذه المعاملات قد استعملت في البلدان الإسلامية لاستيراد البضائع من دول أخرى (مثل استيراد زيت النخيل لمصر من ماليزيا) وامتلاك البضائع قبل تصديرها حيث تتحقق الأرباح للمؤسسة المالية من حصيلة التصدير (مؤسسة تصدير الأرز الباكستانية ومؤسسة تصدير القطن الباكستانية قد استفادتا من هذا النوع من التمويل بفعالية بالغة) .
بيع السلم: وهو إحدى الوسائل للتعامل التجاري وفقا لمبادئ الشريعة الإسلامية. وفي الأصل كانت الفكرة تطبق على الإنتاج الزراعي لكنه امتدت فيما بعد بحيث شملت مجال الصناعة والمجالات الأخرى. وبالضرورة وفي نطاق نظام بيع السلم، فإن التمويل يقدم إلى أحد المنتجين لكي يقوم بتسليم بضائع ذات مواصفات محددة في وقت معين في المستقبل. وبالتالي فإن بيع السلم هو عبارة عن شراء البضاعة بالدفع مقدما مع تحديد موعد للتسليم في وقت لاحق. يمكن للبنوك أن تستفيد من هذه الفكرة في تطوير أسلوب لتمويل المنتوجات مع الدفع مقابلها مقدما إلى المنتجين مقابل شراء بضائعهم بعد السماح بالمدة الزمنية المعينة المطلوبة لتصنيعها وعندئذ بيع هذه البضاعة إلى الغير بسعر أعلى لاسترداد المبلغ المدفوع مقدما من البنك (باعتباره سعر الشراء) بالإضافة إلى الأرباح. ويمكن أن تستعمل هذه التسهيلات بطريقة فعالة في تمويل المرحلة السابقة للتصدير والمراحل السابقة للإنتاج بوجه عام وذلك من قبل البنوك الإسلامية لتوفير التمويل اللازم للمنتجين لإنتاج البضائع القابلة للتصدير أو البضائع المطلوبة في السوق المحلية والتي قد توجد طلبيات مؤكدة لشرائها من الغير وتغطيها عادة خطابات الاعتماد المفتوحة بالفعل لشراء هذه البضائع. وخطابات الاعتماد هذه قد تكون مفتوحة بالفعل لصالح البنك الذي اشترى البضاعة، بموجب نظام بيع السلم حيث إن البنك هو المالك الفعلي للبضاعة، متى تم توفيرها له في التاريخ المحدد بمقتضى نظام بيع السلم. من أجل تغطية وضعه من إساءة استخدام الأموال من قبل البائع، فإن البنك يتوخى الحذر البالغ في اختيار الطرف الذي يعتزم إبرام اتفاقية بيع السلم معه. وبدلا من ذلك، فإنه يمكن للبنك أن يطلب ضمانا أو نوعا آخر من الضمان الإضافي لحماية نفسه من المخاطرة حتى يتم تسليم البضائع الموعودة.
والمبدأ الآخر الخاص بالاستصناع يمكن توجيه تقديم طلب لصناعة صنف محدد من السلع مقابل، أو بدون، دفع سعر الشراء مقدما، يمكن اختيار هذا الأسلوب كوسيلة للتمويل، وذلك لأنه بموجب نظام الاستصناع لا يتم تحديد أجل زمني معين بشأن تسليم البضائع المطلوبة.
وتكون تسهيلات المرابحة في التجارة الدولية عادة لمدد قصيرة تصل إلى سنة واحدة. مع هذا فقد طلب في الآونة الأخيرة تطويل هذه المدد لبلدان معينة مثل الجزائر لفترات أطول. ويمكن سداد السعر بما في ذلك الربح بمبلغ مقطوع أو بأقساط على أساس السيولة النقدية المتوقع أن يحققها العميل. بالرغم أن ملكية البضاعة بموجب معاملات المرابحة تنتقل إلى العميل فإنه يمكن للمؤسسة المالية أن تحتفظ لديها برهن على البضاعة أو على موجودات أخرى بصفة ضمان فعلي وملموس لسداد المديونية المستحقة لها.(6/1088)
ومن أجل دعم عملية امتلاك البضاعة بموجب تسهيلات المرابحة على المستوى الدولي فقد يطلب من البنك الإسلامي فتح خطاب اعتماد نيابة عن العميل لأغراض الاستيراد. كما يمكن للمؤسسة المالية أن تقدم الخدمات التكميلية الإضافية مثل خدمات النقد الأجنبي وتداول المستندات وغيرها.
6-1-2 الإجارة والاقتناء:
(1) الإغراء بالنسبة للمؤسسات المالية: توفر الإجارة في المعاملات على المستوى الدولي فرصا جيدة للمؤسسة المالية الإسلامية للعمل مع كبرى الشركات الدولية عن طريق توفير تسهيلات التأجير للبضائع والأصناف ذات القيمة المالية الكبيرة. فمن وجهة نظر المؤسسة المالية فإن هذه الأنشطة تؤمن أسلوبا للتمويل ينطوي على مخاطر محدودة وضمانا يتمثل في الموجودات التي يجري التعامل فيها (التي تظل ملكيتها محفوظة باسم المؤجر) بالإضافة إلى معدل ربح طيب. وبالنسبة للمستأجر فإن المنتوج يكون معروفا جيدا ومن السهل فهم طبيعته، والمزايا الأخرى التي يحققها المستأجر تتمثل في تفادي الإنفاق الاستثماري الضخم واعتبار الإيجار المدفوع من وجهة النظر الضريبية بأنه مصروفات.
(2) الأنواع الرئيسية: يوجد نوعان رئيسيان من الإجارة (أ) إجارة التمويل و (ب) إجارة التشغيل.
بمقتضى إجارة التمويل فإن المؤجر يملك بعض الموجودات وفقا لحاجة المستأجر ويؤجرها له مقابل أجرة تحتسب على أساس تكلفة الموجودات بالإضافة إلى ربح المؤجر ويكون ذلك عادة لمدة أقل من العمر التشغيلي للموجودات. وبالتالي فإنه بموجب إجارة التمويل لا يتحمل المؤجر خطر القيمة المتبقية من الموجودات أو الخطر الناشئ عن عدم استغلال الموجودات وهي نوع من المعاملة المتكاملة حيث يكون العائد المقدم من الإجارة بالتمويل محددا بدرجة كبيرة ومتوقعا منذ البداية. مع هذا فقد أعرب بعض العلماء المسلمين عن تحفظاتهم تجاه شرعية الإجارة بالتمويل بسبب الحقيقة القائمة بأن المؤجر لا يتحمل الأخطار المالية الكاملة للمعاملة.
وبموجب إجارة التشغيل فإن الموجودات التي يقوم المؤجر باستقنائها تعتمد على تقويمه للطلب عليها في السوق وحاجة المؤسسات إليها في ذلك الوقت. وبالتالي فإن الموجودات التي تشملها إجارة التشغيل تؤجر إلى أحد المستأجرين لمدة محددة من الوقت قد تعادل أحد كسور العمر التشغيلي للموجودات. ومتى يكون المستأجر قد استعمل الموجودات في ذلك الوقت فإنه يمكنه إعادتها إلى المؤجر. عندئذ فإن الموجودات تبقى في انتظار مستأجر آخر لكي يستأجرها. وحتى يحين الوقت الذي يأتي فيه مستأجر آخر فإن الموجودات تظل بدون استعمال مع المؤجر وبدون إنتاج أي إيراد إيجاري. وفي نطاق إجازة التشغيل فإن على المؤجر أن يتحمل خطر تقادم المعدات. وتنطوي إجارة التشغيل على مخاطر أكبر ومن الحتمي ضرورة تقويم جميع الجوانب ذات العلاقة قبل تأجير أحد الموجودات بموجب إجارة التشغيل.(6/1089)
ومن أجل التعويض عن الأخطار الأكبر والنفقات الإدارية فإن معدل الإيجار يحدد بمستوى أكبر بموجب إجارة التشغيل عنه في حالة إجارة التمويل، كذلك فإن طبيعة الموجودات المؤجرة بموجب هذه الأنواع من الإجارات تتباين. فبينما تميل الموجودات المؤجرة بموجب إجارة التمويل إلى أن تكون متخصصة أكثر ومن نوع أكثر تحديدا فإن الموجودات التي تؤجر بموجب إجارة التشغيل تكون ذات نوع أكثر شمولية.
(3) اختيار الموجودات: من أجل مواجهة مخاطر إخلال المستأجر بالوفاء بالتزامه فإنه من الضروري أيضا المشاركة في الإجارة بالنسبة لهذه الموجودات التي تتمتع بقابلية جيدة للتسويق على المستوى الدولي. وكما سبق أن ذكرنا فإن عمليات الإجارة على المستوى الدولي قد تكون مناسبة للمواد والأصناف ذات القيمة العالية. وفي هذا الصدد فإن الإقبال الكبير على هذا النوع من التمويل للطائرات قد خلق ظروفا تنافسية للغاية.
وقد أثبتت الطائرات أنها عبارة عن استثمارات مجزية على مر السنين. فعلى الرغم من التطورات والتحسينات التقنية فإن الطلب على الطائرات القديمة قد ظل عاليا بسبب الزيادة في الحركة الجوية بالإضافة إلى الوقت الطويل اللازم لإنتاج الطائرات الجديدة. والموجودات الأخرى هي السفن القديمة التي شهدت طلبا متزايدا عليها في أعقاب الارتفاع الهائل في أسعار السفن الجديدة وعدم استعداد شركات الملاحة في الوقت الحاضر لتقديم طلبات لشراء سفن جديدة. والموجودات التي قد تكون مناسبة للتأجير (تفضل أن تكون على أساس إجارة التمويل) هي أنظمة الكمبيوتر المتكاملة والأجهزة الطبية مثل أجهزة الفحوص الداخلية وغيرها.
6-1-3 تمويل المشاريع:
(1) المبدأ الإسلامي: يمكن للمؤسسة الإسلامية المالية أن تشارك في تمويل أحد المشاريع على أساس (المشاركة في الربح) مع أحد العملاء بموجب نظام المشاركة.
ويتطلب هذا النوع من التمويل أن يحتفظ العميل بالسجلات المحاسبية للمشروع على أساس منفصل تماما من أنشطة الأعمال الأخرى حتى يمكن تحديد النسبة العادلة من الربح العائدة إلى المشاركين في التمويل بعد مواجهة أتعاب الإدارة المتفق عليها. ولن يكون هذا الأمر صعبا إذا أمكن معاملة المشروع على أساس (الوضع المنفرد) خاصة إذا لم يكن هناك تداخل ما بين المشروع والأعمال الأخرى للعميل.(6/1090)
(2) مصدر السيولة: إن الاعتبار الهام من وجهة نظر الممول هو المصدر الذي سيتم منه توفير السيولة لتمويله. وسوف يكون هذا بالضرورة إما عن طريق التصرف في المشروع بعد استكماله أو عن طريق تشغيل السيولة النقدية للسداد للتدريجي للممول بالإضافة إلى دفع حصته من الأرباح. ومن الواضح أن ملاءمة طريقة ما بالمقارنة مع طريقة أخرى سوف تتوقف على طبيعة المشروع. وسوف يحدد هذا أيضا المدة الإجمالية للتسهيلات.
(3) فصل أداء المشروع عن النشاطات الأخرى: في تمويل المشاريع سوف يتوقف ربح المؤسسة المالية على أداء المشروع أكثر من النشاطات الأخرى للشركة التي تقوم بالترويج للمشروع. ولذا فإنه يمكن أن تحقق الشركة خسائر إجمالية لكن إذا كان المشروع مربحا فإن المؤسسة الممولة سوف تستفيد من المشاركة في أرباح المشروع. من ناحية أخرى إذا فشل المشروع ونجم عن ذلك خسارة عندئذ وحتى إذا حققت الشركة ربحا إجماليا فلن يكون للممول الحق في الحصول على هذه الأرباح. وهذا يبرز مدى الحاجة إلى تقويم كل مشروع بدقة بالاستناد على مزاياه بصرف النظر عن الوضع المالي للمؤسس.
(4) الفرق عن التمويل التقليدي للمشاريع: فيما يختص بالنقطة التي ذكرت في الفقرة السابقة فإن الأعمال الإسلامية مختلفة بالمقارنة بالأعمال المصرفية التقليدية بشأن تمويل المشاريع. إذ يتيح التمويل الإسلامي للمشاريع للأموال فرصة التدفق إلى المشاريع الجديرة بالتمويل فيما يبدي الممول اهتمامه الرئيسي في نطاق التمويل التقليدي للمشاريع بالمجالات التي تعود عليه بفوائد ثابتة بينما يلعب الوضع المالي لمؤسسي لمشروع دورا هامشيا فقط.
6-1- 4 التمويل بالمشاركة في الأرباح والخسائر:
يجوز توفير التمويل على أساس المشاركة في الأرباح والخسائر لإحدى الشركات لتلبية المتطلبات العامة للتمويل لمدة محددة من الوقت وذلك مقابل أجر محدد أو متغير يتم تقاضيه على موجودات الشركة. ويستند هذا النوع من التمويل أيضا على مبادئ المشاركة. فيجوز للمؤسسة الممولة أن تأخذ حصة من الأرباح مقابل قيامها بتوفير التمويل. وتسدد نسبة مئوية متفق عليها مقدما إلى البنك الذي يقدم التمويل (بحيث تختلف عن سعر الفائدة) ناشئة من مبلغ الربح الذي تحققه المؤسسة باستخدام أسلوب التمويل بالمشاركة في الأرباح والخسائر. ويمكن احتساب توزيع الربح لمبلغ التمويل عن طريق القيام أولا باقتطاع دفعه مقابل خدمات الإدارة المقدمة من العميل في إدارة المؤسسة. عندئذ يقسم المبلغ الباقي بالنسبة المباشرة للتمويل بالمشاركة في الأرباح والخسائر إلى إجمالي الموارد المالية الموظفة في أعمال المؤسسة والتي تؤهل للمشاركة في الأرباح.
إذا تكبدت الشركة خسائر فإن هذه الخسائر يتم تغطيتها أولا من الاحتياطات المتوفرة وإذا لم يمكن تغطيتها فإن الممول يجب أن يتحملها في حدود مشاركته في التمويل الإجمالي.(6/1091)
6-1-5 إنشاء سوق التعامل القصير الأجل ما بين البنوك:
يمكن للبنوك الإسلامية استخدام معاملات المرابحة لتطوير سوق للتعامل قصير الأجل ما بين البنوك (من يوم واحد إلى 30 يوما) . ويعني هذا بالضرورة بيع أو شراء مشاركة لآجال معينة ضمن مجموعة من معاملات المرابحة يمكن أن يقدر له سعر تقريبي للعائد بالاستناد على المعاملات التي تشملها مجموعة أعمال المرابحة. وباستخدام هذا السعر بصفة مرحلية فإنه يمكن للمؤسسات الإسلامية أن تعمل مع بعضها الآخر لتغطية السيولة القصيرة الأجل. ومن الأهمية بمكان أن العائد المدفوع نظير هذه المشاركة ينبغي أن يخضع للتسوية النهائية في تاريخ إجراء التقويم الدوري التالي للأرباح. وإذا قامت محفظة بتقويم ربحيتها (عن طريق تثمين الموجودات المشمولة أو باستخدام طريق أخرى) بصفة يومية، عندئذ يمكن احتساب العائد من المشاركة على أساس المشاركة الفعلية في الأرباح والخسائر بدلا من احتسابها بصفة مؤقتة. مع هذا فليست هناك العديد من المؤسسات التي تقوم بتقويم مركزها بصفة يومية. كما أنه من الحتمي، إذا استلم أحد البنوك دفعة على الحساب ثم تبين فيما بعد أن الأرباح الفعلية كانت أقل أو أنه حدثت خسارة في الواقع، خلال الفترة التي قدم فيها التمويل، عندئذ يتعين على البنك المستثمر أن يعيد المبلغ الزائد المدفوع على سبيل الأرباح، وفي حالة الخسارة فإنه يجب عليه أن يشترك في الخسارة. ومع هذا فإن هذا الأسلوب في العمل يفترض أن البنوك الراغبة في التعامل مع بعضها البعض على هذا الأساس سوف تحتفظ بحجم مماثل من محافظ معاملات المرابحة ويكون لديها معدل مماثل من الربحية في هذه المحافظ.
ويتطلب هذا بالضرورة وجود المنافسة الشريفة ما بين البنوك بحيث إن البنك الذي يحقق عائدا أفضل سوف يجتذب السيولة عندما يكون بحاجة إلى الأموال على الأجل القصير بينما سوف يواجه البنك الذي يعاني من سوء الأداء أوقاتا عصيبة في محاولة تلبية متطلباته ومن ثم فإنه سوف يضطر إلى اتباع أسلوب صارم في مباشرة شئونه.
ويستدعي تنفيذ هذا النظام إلى عدم الإشارة إلى أسعار التعامل المتعارف عليها في المعاملات بين البنوك التقليدية.
ومن المسلم به أن هذا الاقتراح الداعي إلى إنشاء سوق للمعاملات بين البنوك الإسلامية قد يتطلب مزيدا من الدراسة من الناحية الفقهية والعملية.
6-1-6 المعاملات الدولي المشتركة للمضاربة:
(1) التطوير: مع زيادة الوعي بالأسلوب الإسلامي طلبت بعض الشركات الكبرى في البلدان الإسلامية من المؤسسات المالية الإسلامية أن تلبي متطلباتها التمويلية بمبالغ ضخمة من المال. وقد كان حجم هذه التسهيلات من الضخامة بحيث بحثت المؤسسات المالية إمكانية تقديم التمويل المطلوب على شكل مرابحة بتكوين صندوق خاص للمضاربة لهذا الغرض المحدد بموجب المشاركة ما بين مجموعة من المؤسسات المالية التي تشارك في تلبية المتطلبات التمويلية لذلك الغرض المحدد. وفي الوقت الحاضر فقد استخدمت المعاملات المشتركة لتوفير التمويل للنشاطات ذات العلاقة بالتجارة والتي استخدمت المرابحة كوسيلة إسلامية للتمويل.(6/1092)
وبالتالي فإن أداة (المضاربة) تستعمل لتجميع الأموال بينما تجري الاستثمارات على أساس (المرابحة) . وفي بادئ الأمر أبدت المؤسسات المالية الإسلامية اهتمامها بهذه الأداة التمويلية. ومع هذا وبعد أن تبين نجاح هذه المعاملات المشتركة فإنه حتى المصارف التقليدية التي تتمتع بسمعة دولية طيبة انضمت للمشاركة في هذا النوع من المعاملات. وهذه المعاملات الدولية المشتركة التي تعلقت حتى الآن بنشاطات تمويل التجارة شملت كلا من المرحلة السابقة للتصدير بالإضافة إلى استيراد البضائع من قبل دولة ما وذلك من دولة أخرى. والسبب الذي يجعل هذه المعاملات المشتركة محدودا حتى الآن ومقتصرا فقط على النشاطات ذات العلاقة بالتجارة حسب الموضح في القسم التمهيدي أعلاه هو قصر أجل هذه النشاطات والاحتمالات الطيبة لتحقيق الربح وعوامل السيولة وسهولة فهم المعاملة من قبل الأطراف المشاركة فيها.
وقد كان مصرف فيصل الإسلامي في البحرين رائدا في تقديم هذا النوع من التمويل وقد قام حتى الآن بإجراء عمليات بلغت قيمتها 600 مليون دولار أمريكي مع مؤسسة تصدير الأرز الباكستانية ومؤسسة توبراس التركية والمؤسسة الباكستانية لتصدير القطن.
وفيما بعد قامت إحدى المؤسسات مثل بيت التمويل السعودي التونسي في تونس باتباع نفس مبادئ المعاملات التي أبرمت مع الجزائر، وقام بيت التمويل الكويتي بترتيب معاملة مشتركة انطوت على تأجير عدد من ناقلات النفط.
(2) المقارنة مع المعاملات المشتركة التقليدية: إن معاملات المضاربة الإسلامية المشتركة تختلف عن المعاملات المشتركة التي تقوم بها البنوك التقليدية من حيث إنه بموجب المعاملة الإسلامية للمضاربة يجري الاستثمار المشترك مع أحد المضاربين الذي يتعهد بدوره بالقيام بالمعاملة ذاتها التي قد تكون بشكل مرابحة أو إجارة أو مشاركة أو غيرها. وبالتالي فإن المشاركين يتحملون المخاطرة بالضرورة في المقام الأول على المضارب وعلى قدرته على إجراء الاستثمارات بطرق سليمة. وبينما يتم تحمل قدر من المخاطرة على البنك الوكيل في المعاملات المشتركة للتسهيلات التقليدية فإن هذه المخاطر تعتبر مخاطرة في نطاق العمليات.
(3) الطابع الدولي: كانت لمصرف فيصل الإسلامي بالبحرين الريادة في ابتكار الأدوات المالية الإسلامية للمعاملات المشتركة، وحظيت هذه الأدوات بدعم من المؤسسات الإسلامية الأخرى والمؤسسات المالية التقليدية. وتمتعت هذه المعاملات المشتركة بالطابع الدولي فيما جاء المشاركون فيها والمضارب والعميل من بلدان مختلفة وعملوا معا بموجب اتفاقية أعدت بموافقة من هيئة الرقابة الشرعية التي اعتمدت أسلوب التمويل الدولي.(6/1093)
(4) المجال الآخر للأدوات الأخرى: بعد نجاح تطبيق مبدأ المعاملات المشتركة للمرابحات فقد يكون الوقت مناسبا لدراسة استعمال هذه الفكرة بالنسبة للأدوات الإسلامية الأخرى التي يمكن بموجبها وضع مضاربات خاصة على أساس مشترك لأغراض إنشاء المشاركة مثلا ومع هذا فسوف يعتمد هذا على الجاذبية المميزة لكل معاملة على حدة. وعلى سبيل المثال فإنه يمكن ترتيب مضاربة مشتركة لامتلاك أسطول من الطائرات لتأجيره لإحدى شركات الطيران.
وبالضرورة سوف تكون معاملة مضاربة الإجارة هذه لمدة تزيد عن عشر سنوات بالنسبة للطائرات الجديدة. وبينما قد يكون الضمان المقدم بواسطة المعاملة ممتازا بسبب القدرة على تسويق هذه الطائرات فإن العائد قد يزيد قليلا عن السعر المعروض من قبل البنوك نتيجة للمنافسة الشديدة في قطاع تمويل الطائرات. وبالتالي فإنه من المفهوم أنه بينما يشمل مبدأ تقديم التسهيلات الإسلامية على أساس المضاربة المشتركة جميع أساليب التمويل فإنه حتى تكتشف المؤسسات المالية الإسلامية مشاريع جيدة للشركة أو الإجارة فإن تطبيق أسلوب المشاركة لن يحقق تقدما طيبا.
6-2 الأدوات الاستثمارية:
بالإضافة إلى اجتذاب أموال من المدخرين في مختلف التجمعات المحددة بغرض تقديم التمويل لعملائها على أساس الترتيبات التمويلية المذكورة أعلاه فإنه يمكن للمؤسسات المالية الإسلامية أيضا أن تقدم أدوات استثمارية تتلاءم خصيصا مع متطلبات المستثمرين من حيث المخاطر والعائد والسيولة والتنويع الجغرافي وغيرها. وبالنسبة للعملاء من أصحاب رءوس الأموال الكبيرة والذين تتوفر لديهم مبالغ ضخمة من المال فإن هذه الخدمات تشمل إدارة المحافظة الاستثمارية الخاصة باستخدام الأسس الشاملة المقدمة من العملاء فيما يتعلق بالمخاطر والمدة والسيولة وغير ذلك.
أما بالنسبة للمبالغ الصغيرة: تقوم المؤسسات الإسلامية بتجميع الأموال (مضاربات) وبعد تجميع عدد كبير من الحسابات الصغيرة فإنها تقوم بالأنشطة الاستثمارية على أساس الحرية التقديرية الكاملة. ويتم المشاركة في الربح الذي تحققه المؤسسة على أساس نسبة محددة سلفا ومتفق عليها مع المستثمرين. وبالنظر إلى وجود عدد من المستثمرين الراغبين في الاستثمار والذين يتركون أموالهم لاستثمارها حتى تاريخ الاستحقاق المتفق عليها (وفي الأحوال الاستثنائية يترك البعض معاملة الاستثمار قبل الموعد المحدد) فإن يجري تقويم دوري من قبل المؤسسة المالية للتنازل عن قيمة الوحدة للمشتركين الجدد وتسدد الدفعات المستحقة للراغبين في الخروج من هذه المعاملات الاستثمارية. وهذا يساعد المؤسسات على تحقيق معاملة عادلة للموجودات التي تجري إدارتها في هذه التجمعات.
وبالنسبة لتمويل الأدوات الاستثمارية حسب ما سلف ذكره فإن المؤسسة المالية قد تستعمل رأسمالها بالإضافة إلى الأموال الخاضعة لإدارتها في مختلف الصناديق الجماعية طالما أن القيام بهذا لا يتناقض مع التعليمات الاستثمارية المقدمة من المستثمرين.(6/1094)
وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الأدوات التمويلية قد تكون بشكل أوراق مالية بحيث إنها تقدم للمستثمرين المشاركة المباشرة في الأخطار عن طريق خلق سندات قابلة للتداول يمكن أن تنشأ السوق للتعامل فيها. وتنطوي عملية إنشاء الأوراق المالية طرح موجودات إحدى المؤسسات المالية مباشرة على المستثمرين على شكل سند مالي قابل للتداول. وفي الأعمال المصرفية الإسلامية يمكن تحقيق هذا عن طريق تحويل الموجودات إلى وحدات ثم بيع هذه الوحدات بعد ذلك إلى المستثمرين. ويمكن تعديل قيمة الوحدات بصفة دورية ويمكن إنشاء سوق للتعامل المباشر فيها أو على أساس إدراجها في إحدى البورصات.
ويمكن أن تقدم الأدوات العديدة القائمة و/أو المحتملة والمقبولة وفقا لأحكام الشريعة وتقدمها المؤسسات المالية الإسلامية إلى عملائها باعتبارها أدوات استثمارية وفقا للمبين أدناه.
6 -2-1 الأسهم:
(1) التنظيم: تمثل الأسهم مصلحة ملكية في شركة تباشر أنشطة ينبغي أن تكون من وجهة نظر المستثمر المسلم متمشية مع مبادئ الشريعة الإسلامية. وهي بالضرورة عبارة عن مشاركة مستمرة في جميع أنشطة الشركة بالمقارنة بتمويل المشاريع الذي قد يكون قاصرا على نشاطات معينة للشركة لمدة محددة أو لتمويل المشاركة في الأرباح والخسائر الذي يكون لمدة محددة. بالإضافة إلى ذلك بالنسبة لأسهم فإن كل الأرباح لا توزع بل إن حصة منها تجنب من أجل مواجهة متطلبات التمويل المستقبلية للأعمال بالرغم أن تأثيرها ينتج عنه زيادة في قيمة السهم.
(2) القيود: إن معظم الشركات ذات الأسهم المدرجة في أسواق الأوراق المالية الدولية حتى تلك التي لا تتعامل في منتجات مثل المشروبات الكحولية ولحم الخنزير والقمار وغيرها والمحظور وفقا للشريعة الإسلامية تتعامل بالفوائد إما بدفعها على قروضها أو بقبضها على ودائع فوائض أموالها. وبالرغم من أن هذه الأنشطة ذات العلاقة بالفائدة قد تشكل في كثير من الحالات نسبة ضئيلة من مصاريفها أو إيراداتها الإجمالية فقد كانت الهيئات الإشرافية الشرعية تبدي اعتراضها على السماح بالتعامل في أسهم هذه الشركات. وهذا القيد من شأنه أن يفرض حظرا على التعامل في جزء كبير من السوق في الأسهم العادية المدرجة في البورصات من أنشطة الصناديق الاستثمارية الإسلامية.
(3) تأسيس شركة الإسلامية: إذ أرادت المؤسسات الإسلامية أن تستثمر أموالها في الأسهم فإنه يتعين عليها أن تجد الشركات التي يشترط أولا ألا تباشر نشاطات اقتصادية محظورة بموجب الشريعة الإسلامية ويجب كذلك ألا تكون لها معاملات بالفائدة. ويعني هذا القيد أن الاستثمار في هذا القطاع من قبل المؤسسات الإسلامية ممكن فقط إذا أجري في شركات أسست خصيصا لكي تلتزم من جميع النواحي بمبادئ الشريعة الإسلامية. وتوجد بالفعل بعض هذه الشركات على المستوى الدولي مثل مجموعة شركات دي أم آي وغيرها. مع هذا فإن العدد الإجمالي لهذه الشركات ليس كافيا بدرجة بحيث يجتذب المبالغ الضخمة من الأموال المتوفرة لدى المستثمرين من المسلمين. بالإضافة إلى ذلك ولما كانت الأسهم في كل هذه الشركات تقريبا يجري التعامل فيها بصفة مباشرة فإنه لا توجد سوق ذات سيولة كبيرة لهذه الأسهم. مع هذا فإن هذا يجب ألا يمنع المؤسسات الإسلامية من بذل الجهود لتطوير سوق منظمة للشركات الإسلامية. ويجب توجيه هذه الجهود في بادئ الأمر نحو إنشاء الشركات الإسلامية وعندئذ إقامة سوق نشطة في التعامل في أسهمها. ويكون هذا الأمر ممكنا إذا كان أساس إنشاء وتطوير هذه الشركات سليما ليس من حيث التقيد بأحكام الشريعة الإسلامية فقط ولكن أيضا من حيث جاذبيتها التجارية.(6/1095)
(4) تطوير الأسواق في الأسهم الشركات الإسلامية: لهذا الغرض قد يكون من المناسب اقتراح شراء بعض الشركات الصغيرة إلى المتوسطة الحجم ذات الإدارة الجيدة في قطاعات التصنيع والتجارة والخدمات وإعادة تنظيم أوضاعها المالية بما يتمشى مع المبادئ والأسس المقبولة وفقا للشريعة الإسلامية.
ومع زيادة عدد الشركات المؤسسة / المعدلة وفقا للمبادئ الإسلامية والتي تدار شئونها بالاستناد إلى أسس مهنية وتجارية لتحقيق أرباح طيبة فسوف توجه المؤسسات المالية الإسلامية استثماراتها نحو الحصول على حصص في هذه الشركات. ومتى يتم تأسيس عدد معقول من الشركات الإسلامية الناجحة على الصعيد الدولي عندئذ يمكن إدراج أسهم هذه الشركات في بورصات متخصصة منظمة وفقا للمبادئ الإسلامية في دولة مثل البحرين أو لوكسمبورج أو في إحدى بورصات الأوراق المالية القائمة بالفعل. وقد يستغرق الأمر بضع سنوات لتحقيق هذا الهدف.
مع هذا إذا لم تسعَ المؤسسات المالية الإسلامية إلى تحقيق هدفها ودعم حركتها فإنها سوف تظل تعاني من نقص في الأدوات الكافية اللازمة لاستثمار أموالها وسوف تبقى معتمدة على المؤسسات الاستثمارية الغربية لكي توجه مستثمريها من المسلمين نحو أدوات مثل التعامل في السلع على أساس الحصول على أدوات استثمارية جاهزة بالفعل.
6-2-2 صندوق رأسمال المشاريع:
(1) طابع المخاطر الكبيرة: قد يستثمر جزء معقول من أية محفظة استثمارية إسلامية (لا تتجاوز 10 % لكن تتراوح بين 2و5 % إذا كانت المحفظة الاستثمارية كبيرة الحجم) في صناديق رءوس أموال المشاريع لأغراض إجراء البحوث والتطوير التجاري للاختراعات في التقنية المتقدمة والمجالات الطبية التي تحقق عائدات كبيرة بالنظر إلى أنها ذات طابع ينطوي على مخاطر كبيرة. مع هذا وبالإضافة إلى كونها مصدرا محتملا للربح المجزي في حالة تحقيق نجاح باهر فإن المجالات المختارة يمكن أن تكون مفيدة للإنسانية ويعتبر هذا أحد جوانب الأعمال المصرفية الإسلامية المختلفة في طبيعتها عن الأعمال المصرفية التقليدية حيث يكون المعيار الوحيد لأي تمويل هو الدافع إلى تحقيق الربح.
وعندما تعطي الإمكانية للمستثمرين من المسلمين للاختيار من بين إمكانيات مختلفة للاستثمار حسب رأيهم من مساوئ المخاطر فإنه يجب أن يعطي لهم حق الخيار لكي يحددوا أيضا صندوق المشروع المرغوب. مع هذا فإنه يجب توعيتهم بالكامل بحجم الأخطار التي ينطوي عليها وضع مدخراتهم في هذه الصناديق كما ينبغي إرشادهم إلى ضرورة استثمار جزء صغير فقط من إجمالي استثماراتهم في هذه المحفظة الاستثمارية.
(2) التنويع: من أجل الجمع ما بين هدف تحقيق المنفعة والأداء المالي وتنويع المخاطر فإنه من الحكمة توزيع الاستثمارات في صناديق رءوس أموال المشاريع على عدد من المشاريع بحيث تزيد فرص النجاح بالإضافة إلى دعم عدد أكثر من مجالات البحوث.
(3) الاعتبار الحاسم: يعتمد موضوع تمويل المشاريع بالكامل على الالتزام من جانب المؤسسة. ويتطلب المعرفة التامة بالأشخاص المشاركين في البحوث ومجالات تخصصاتهم وفرص نجاحهم واحتمالات معدلات المخاطر/العائد المتوقع تحقيقها والنتائج المتوقعة والتكلفة الإجمالية للفشل.(6/1096)
(4) طرح الحصص في المشاريع الناجحة: بعد أن تحقق إحدى الشركات النجاح في تطوير منتوج معين باستخدام رأسمال المشروع وذلك في تحقيق النتائج المرجوة وترغب في الشروع في الإنتاج التجاري فإنها قد تريد اجتذاب مزيد من الأموال. وقد يكون هذا هو الوقت المناسب للتوجه إلى سوق رأس المال لطرح حصصها. وفي هذا الوقت يمكن للمؤسسة الإسلامية التي تكون قد شاركت في تطوير المنتوج من خلال صندوق رأسمال المشاريع أن تحصل على جزء من إصدار الحصص باعتبارها أحد المؤسسين. وبالتالي وبعد أن تنجح الشركة ويرتفع سعر حصصها فإنه يمكن للمؤسسة المالية أن تحقق ربحا ماليا كبيرا يستفيد منه مستثمروها.
6-2-3 شهادة المشاركة لأجل:
(1) تعريف: شهادات المشاركة لأجل هي بالضرورة تمويل الحصص في الأرباح والخسائر لأجل محدد. وقد تعتبر هذه الشهادات بصفة سندات ذات تاريخ استحقاق معروف حيث يكون سداد رأس المال بصفة (تجريبية) أو بصفة دورية بموجب جدول زمني متفق عليه.
ومع هذا وبالمقارنة بإصدار السندات التقليدية فإن شهادات المشاركة لأجل تنطوي على المشاركة في الربح والخسائر الإجمالية للأعمال على أساس نسبة مئوية متفق عليها، فعلى سبيل المثال إذا كان التمويل بشهادات المشاركة لأجل يمثل 30 % من إجمالي التمويل عندئذ فقد يتفق على إعطاء حاملي شهادات المشاركة لأجل 25 % من حصة من الدخل الصافي للأعمال. مع هذا إذا تعرضت الأعمال لخسارة عندئذ تكون حصة الممول من الخسارة 30 % يعني هذا أن مدير الأعمال سوف يحتفظ بجزء من الربح مقابل خدماته للإدارة لكن الخسارة بكاملها سوف تشترك المؤسسة المالية في تحملها على أساس النسبة المستحقة عليها.
وقد استعمل هذا النوع من التمويل في باكستان لتوفير التمويل لمؤسسات تعمل في قطاع التصنيع للأجل المتوسط. وبالضرورة فإن هذا يحل محل القروض المتوسطة الأجل في نطاق النظام المصرفي التقليدي. ومن وجهة نظر العميل فإن هذا النوع من التمويل يوفر الأموال اللازمة للمساعدة على إنشاء المشروع بدون إلزامه باستمرار مشاركة المؤسسة المالية على المدى الطويل. وبالتالي فإن العميل يتمتع بالفوائد الحقيقية للملكية المطلقة.(6/1097)
من ناحية أخرى وبعد أن تجري المؤسسة المالية تقويما وافيا للمشروع وبعد أن تدرس بدقة مدة السداد والجوانب الأخرى المشابهة للتمويل فإنها تتأكد من أن مساهمتها في المشروع سوف تستمر لسنوات قليلة فقط. ويمكِّن هذه المؤسسة المالية من استغلال أموالها التي يفرج عنها من استثمار معين لكي تستخدم في فرصة استثمارية أخرى. وبالنظر إلى هذه الاعتبار فإن البنك يمكن أن يخصص مبلغا أكبر لأحد المشاريع في نطاق هذه الطريقة للتمويل بدلا من الدخول في مشاركة دائمة.
(2) القابلية للتسويق: بالرغم أن شهادات المشاركة لأجل هي بالضرورة مثل تمويل المشاركة في الربح والخسارة فإن الفرق يمكن في شكل إصدارها بموجب شهادات. فإذا كان مبلغ الشهادة ضخما فإنه يمكن تطوير سوق للتعامل في هذه الشهادة فيما بين المؤسسات المالية فضلا عن المستثمرين من الأفراد. وهذه السندات القابلة للتداول تتمتع بفرصة أفضل للنجاح بالنسبة للشركات الكبيرة والمؤسسات المعروفة التي قد تعتبر مخاطرها جيدة وقد تتمتع بمكانة ائتمانية جيدة إذا طبقت عليها المعايير الدولية في هذا المجال.
(3) حق خيار التحويل الممكن: يمكن أن تضاف خصائص إضافية مثل التحويل إلى أسهم في رأس المال في نهاية المدة وفقا لما يختاره المستثمر وذلك لكي تصبح هذه الأداة أكثر جاذبية بالنسبة للمستثمرين.
6-2-4 المضاربات الخاصة:
مثل وحدات الائتمان التقليدية أو الصناديق التبادلية فإنه يمكن إنشاء المضاربات التي تنظم للأغراض الخاصة التي تعتمد على الاستثمارات في المجال المسموح به في الشريعة الإسلامية لتجميع الأموال من المستثمرين. وتتمثل ميزة هذه المضاربات الخاصة في أن الاستثمارات يمكن أن تجري لتحقيق غرض محدد بوضوح. وقد تتاح الفرصة للمستثمر لتقويم المخاطر وأوضاع السيولة لضمان ما إذا كانت تتلاءم أو لا تتلاءم مع متطلباته قبل الالتزام بتخصيص الأموال لها. وأحد الاعتبارات الهامة لأغراض السيولة هو تحديد ما إذا كانت المضاربة ذات (رأسمال مفتوح) أو ذات (رأسمال مقفل) . ويجوز التعامل في جميع المضاربات ذات رأس المال المفتوح إما في بورصات الأوراق المالية المعترف بها أو على أساس (مباشر) . إذا كان المبلغ ضخما عندئذ يكون هناك مبرر لتحمل نفقات التسجيل في البورصات وإلا فقد يتبين أن تكلفة إدراج الإصدار باهظة. وعلى أية حال فإن مباشرة هذه الإصدارات تكون أفضل على أساس تسجيلها لعدد كبير من المستثمرين الذين قد يبدون اهتماما بهذا النوع من الاستثمارات. وقد تثبت مشاركتهم بموجب شهادة المشاركة التي سوف تصدر من قبل المضارب ويمكن متابعتها بكفاءة باستخدام أنظمة الكمبيوتر للتحكم في التكاليف وللمحافظة على الدقة.(6/1098)
ويمكن إنشاء عدد من الأنواع التقليدية للمضاربات التي تتوفر للمستثمرين من الشركات التجارية وحتى المؤسسات للاستثمار في مجالات محددة أو متنوعة. وبشكل أو بآخر فإن هذه المضاربات قد طرحت من قبل عدد من المؤسسات المالية في باكستان وعدد من الدول الأخرى. فعلى سبيل المثال أنشأت الشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي مضاربات عامة ومحددة بعد تأسيسها بوقت قصير في عام 1979م بينما يوجد لدى مصرف فيصل الإسلامي البحرين 17 مضاربة يتولى إدارتها وهي مقومة بالدولار الأمريكي والريال السعودي. وهذه المضاربات مقسمة حسب مدة الاستثمار (عامل السيولة) ومعدل المخاطر (منخفض ومتوسط وعال) الذي يرغب المستثمر أن يتحمله. ومن الواضح فإن العائدات تتمشى مع نسبة المخاطر ومتطلبات السيولة.
وتوجد مضاربات محددة طرحها بنك (كريندليز) على أساس تأجير المنشآت والمعدات الصناعية، كما أنه توجد مضاربات أخرى طرحت من قبل مؤسسات (بي آر آر انفستمنت وناشيونال ديفلوبمنت فينانس كوربوريشان) (أن دي أف سي) ومؤسسة (آدمجي) وغيرها في باكستان. وقام بيت التمويل الكويتي بعمل صندوق لتمويل معاملات ناقلات النفط بالاشتراك مع (سيتي بنك) . وتوجد أنواع أخرى من المضاربات تتعلق بالعقارات والاستثمار التجاري طرحت من الشركة الفرعية التابعة لبنك البركة وهي صناديق الأمين والتوفيق في البحرين. وقد لقيت هذه المضاربات إقبالا طيبا للغاية من المستثمرين كما حققت نتائج طيبة، وفيما يلي نعرض المجالات العامة للمضاربات التي لقيت اهتماما عاما من المستثمرين:(6/1099)
(أ) المضاربة العقارية غالبا ما تستثمر الأموال في الأنشطة العقارية بالنسبة للعقارات التي قد تحقق الدخل. مع هذا فإذا كان مبلغ الأموال ضخما عندئذ يمكن القيام بأنشطة أخرى مثل إنشاء البنايات لأغراض خاصة وغير ذلك على أساس تنفيذ المشاريع وتضاف أية أرباح بعد استكمال وبيع المشروع إلى المضاربة. بالإضافة إلى ذلك قد تقوم المضاربة بالتعامل في الموجودات العقارية في السوق ذات المعاملات السريعة. وفي هذه الحالة من الضروري تحذير المستثمرين من انخفاض معدل السيولة وطابع المضاربة لهذا النوع من الاستثمار.
(ب) مضاربة تمويل الطائرات: لقد تكررت الإشارة إلى موضوع تأجير الطائرات في ورقة البحث هذه. ويمكن تنفيذ هذه المضاربة عن طريق اللجوء إلى المضاربة ذات الغرض الخاص التي سوف تقوم بتأجير الطائرات. ولعله من المناسب طرح مضاربة واحدة لطائرة واحدة على أساس معاملة واحدة فقط. وتكون مدة المعاملة طويلة بالضرورة لكن معدلات العائد والمخاطرة ستكون مجزية للغاية بالنسبة للمستثمر الذي يكون مستعدا لتخصيص الأموال للمدة بكاملها.
(ج) مضاربة السفن / الناقلات: بالنظر إلى الأوضاع الحالية في سوق الناقلات والسفن حيث شهدت أسعار التأجير انتعاشا طيبا في الآونة الأخيرة فلعل الوقت قد حان لإنشاء مضاربة لامتلاك ناقلة / سفينة بغرض تأجيرها للمستعملين. ومن المتوقع أن تظل سوق الناقلات منتعشة لبعض الوقت فقد لا تكون هناك ناقلات عديدة تحت الإنشاء بحيث تلبي متطلبات النقل المستقبلية في العالم.
(د) ملاحظات عامة: قد تكون هناك عدة مضاربات أخرى تعتمد على أداة تكون قد ثبتت جدواها التجارية وتتمشى مع أحكام الشريعة الإسلامية، وحتى تكون المضاربة ناجحة فإنه من الضروري أن تدرس جميع المعلومات ذات العلاقة والعوامل المؤثرة عليها بعمق فيها يتعلق بالنشاطات المؤثرة عليها (سوق العقارات وإيجارات ومبيعات البنايات التجارية والتثمين وغير ذلك من العوامل) لتحقيق أفضل النتائج من الاستثمار. لهذا السبب فإنه من الحتمي الاستفادة من خدمات المتخصصين في هذه المجالات. وبالرغم أن تكاليف بعض هؤلاء المتخصصين عالية فإنه قد لا يكون هناك بديل لخبرتهم وعلى المدى البعيد فإن المزايا الناجمة عن الاستفادة من خدماتهم سوف تساوي أضعاف ما دفعت لهم من أتعاب.
*
**(6/1100)
-7-
خاتمة
لقد اكتسبت المؤسسات المالية الإسلامية قوة دفع لا يستهان بها خلال فترة قصيرة من الزمن. ولا شك أن البلدان الإسلامية هي السوق الطبيعية لتلك المؤسسات. بيد أن هذا الاعتبار لا ينبغي أن يؤدي إلى اقتصار نشاطها على تلك البلدان دون غيرها.
ولقد اتسعت الأسواق المعاصرة حتى تجاوزت الحدود المحلية بعد أن انتشر مفهوم (سوق المال الأوربية) . ويعتمد نمو هذه الأسواق على التجديد وكفاءة الخدمات والاستجابة لاحتياجات المتعاملين في تلك الأسواق، وسرعة الاتصالات وتوافر أكبر قدر من المعلومات للمشتركين في السوق مما يزيل أوجه قصور السوق التي تستفيد منها قلة من المتعاملين. ويخضع السوق لقلة العرض والطلب، وكل هذه السمات تتفق مع البنية التي ينبغي أن تكون عليها السوق المالية القائمة على مبادئ الإسلام.
وسيكون على المؤسسات الإسلامية فيما تحافظ على قوة الدفع التي اكتسبتها، أن توسع أنشطتها على غرار ما يحدث في الأسواق المالية المعاصرة. ويقتضي ذلك منها أن تستحدث (منتجات) جديدة موافقة لأحكام الشريعة وتعمل على استحداث أدوات مالية يسهل تسويقها عن طريق تقسيم الاستثمارات المالية إلى وحدات وإدراجها في التسعيرة الرسمية للبورصات، سواء في ذلك الاستثمارات التي تديرها تلك المؤسسات أو الأموال الإضافية التي تجمعها بناء على معاملات حقيقية تدعمها استثمارات عقارية تدر دخلا منتظما، بالإضافة إلى أسهم الشركات ذات الهياكل الإسلامية، وعمليات التمويل بنظام المرابحة والمشاركات والتأجير ... إلخ.
ومما لا شك فيه أن استبعاد الأدوات المالية التي تنطوي على عنصر الفائدة يقلل من عدد الأدوات التي يمكن للبنوك الإسلامية المشاركة فيها في الأسواق المالية، بيد أنه لا ينبغي أن يغرب عن البال أن هذا هو أحد الاعتبارات التي تميز المؤسسات المالية الإسلامية عن المؤسسات المالية التقليدية، ولذا فإن التحدي الرئيسي الذي يتعين على المؤسسات المالية الإسلامية أن تتصدى له هو استحداث أدوات مالية تمكنها من تبوء المكانة اللائقة بها في هذه الأسواق.
إن المؤسسات المالية الإسلامية لا تزال في المراحل الأولى من حياتها، على خلاف المؤسسات التقليدية. وقد وصلت المؤسسات التقليدية إلى حالتها الراهنة بعد تطور استمر قرونا طويلة واعتمدت على الابتكار في تلبية متطلبات العملاء.(6/1101)
ولهذا الغرض أنفقت هذه المؤسسات التقليدية مبالغ طائلة من المال على البحوث والتطوير. هذا بينما نشأت حركة البنوك الإسلامية وحدها في وسط ظروف تشهد منافسة شديدة، ويعتمد بقاؤها في الأغلب على المحافظة على ثقة المستثمرين، وتتطلب هذه الثقة بعد الحصول على الدعم من المستثمرين من المؤسسات المالية أن تحصل أموال المستثمرين على عائدات طيبة ومجزية. ويتطلب هذا بدوره القيام بالبحوث في التعرف على الأدوات التي لا تقدم فقط معدلا مقبولا من المخاطر لكن يجب أيضا أن تتمشى مع أحكام الشريعة الإسلامية. ولهذا الغاية فإنه يتعين على المؤسسات الإسلامية أن تخصص الموارد اللازمة للاستعانة بالخبراء الذين تتوفر لديهم الدراية والمعرفة بالأسواق المالية والمخلصين لقضية الخدمة المصرفية والمالية الإسلامية وإنفاق الوقت والجهد في إجراء البحوث وتطوير الأدوات الجديدة.
وكان للسلطات النقدية الحكومية والبنوك المركزية دور حيوي في ذلك التطور من خلال التوجيه والدعم وتوفير الموارد لتلك البنوك. وما زالت المؤسسات الإسلامية بحاجة إلى دعم السلطات المختصة لا سيما وأن حركتها ما زال يتوجب عليها أن تطور البنية الأساسية الضرورية للعمل مثل إقامة سوق للمعاملات ما بين البنوك بالاعتماد على نظام يخلو من تقاضي الفائدة، ولهذا الغرض فإن دعم البنوك المركزية في البلدان الإسلامية هو أمر حتمي ولا غنى عنه. وإن استمرار التنسيق ما بين البنوك الإسلامية والبنوك المركزية في البلاد الإسلامية عن طريق اجتماعات هيئة من الخبراء قد أتاح الفرصة لإقامة الحوار وإجراء البحوث المتعلقة بالمسائل الجوهرية وهذا بدوره من شأنه توفير دعم قيم للنظام المالي الإسلامي. وفي الاجتماع الأخير الذي عقد في شهر مارس 1989م في أبو ظبي اتخذت قرارات بالغة الأهمية سوف يتبين جدواها وفاعليتها بالنسبة لحركة التمويل الإسلامي وذلك عند تنفيذ هذه القرارات. وتشمل هذه وضع الأنظمة المناسبة لإشراف البنوك المركزية على البنوك الإسلامية وزيادة التعاون ما بين البنوك الإسلامية والبنوك المركزية وتطوير أدوات السيولة التي تكون مقبولة للبنوك المركزية للوفاء بمتطلبات السيولة اللازمة.
ورغم أن حل تلك المشكلات لن يتسنى بين يوم وليلة، فإن الوعي المتزايد من جانب المؤسسات الإسلامية بالمشكلات العملية التي تعرقل مسيرتها، واهتمامها بإيجاد حلول لتلك المشكلات سوف يفتح أمامها سبلا وآفاقا جديدة لدعم قضية الأسواق الإسلامية، والاشتراك في عدد من الأدوات المالية التي تتداول في الأسواق التقليدية.
وينبغي للمؤسسات المالية الإسلامية، في سبيل بلوغ الأهداف السابق بيانها أن تبذل جهودا متضافرة في مجال البحث المكثف الذي يرمي إلى تصميم أدوات مالية مقبولة والاستعانة بالخبراء المخلصين الذين يهتمون اهتماما صادقا بالدعوة إلى قيام أسواق مالية إسلامية والذين يتوفر لديهم في الوقت ذاته المعرفة بدقائق الأسواق التقليدية وعملياتها. كما ينبغي لتلك المؤسسات أيضا أن توحد جهودها للتأثير على البنوك المركزية في العالم الإسلامي لحثها في معاونة المؤسسات المالية الإسلامية على إنشاء سوق للتعامل فيما بينها بدعم من تلك البنوك.
وما اكتسبته المؤسسات المالية الإسلامية من خبرة خلال العقد الماضي ما هو إلا المرحلة الأولى فقط في عملية تطويرها. ويسير القطاع المالي بخطى سريعة جدا من حيث تصميم الأدوات المالية للوفاء بمتطلبات العملاء. ويتوجب على المؤسسات المالية الإسلامية أن تسير بنفس الخطى السريعة للمحافظة على قوة الدفع التي حققتها في الماضي.
الدكتور نبيل عبد الإله نصيف(6/1102)
-8-
بيان المراجع
1- AHMAD DR. ZIAUDIN: Central Banks and Islamic Banking.
2- DUSEBERG، Hourst: Foreign Curency Loans and Eurocurrency Markets.
3- EDMISTER، ROBERT O.: Financial Institutions – Markets and Management.
4- AL-ASHKAR، Ahmaed Abdul-Fattah: The Islamic Business Enterprise.
5- KORTH. Christopher M.: International Financial Market.
6- SIDDIQUI، Nejatullah: Issues in Islamic Banking.
7- SIDDIQUI، Nijatullah: Islamic Banking – Theory and practice.
8- Wilson، Rodeny: Recent Developments and Scope for Further Financial Innovation.(6/1103)
الأدوات المالية الإسلامية
والبورصات الخليجية
إعداد
سعادة الدكتور محمد فيصل الأخوة
مدير بنك فيصل الإسلامي البحريني
بسم الله الرحمن الرحيم
• مقدمة:
• أولا – واقع البورصة الخليجية للأوراق المالية:
1- حداثة العهد بتنظيم أسواق الأوراق المالية.
2- عدم تنوع ومحدودية الأدوات الاستثمارية.
3- غياب المؤسسات الفاعلة في السوق.
• ثانيا- الأدوات المالية الإسلامية:
1- نماذج من الأدوات المالية الإسلامية.
(أ) سندات المقارضة.
(ب) شهادات الاستثمار.
(ج) أسهم المشاركة.
(د) نماذج أخرى.
2- الأسس الشرعية للأدوات المالية الإسلامية.
(أ) استناد الأوراق المالية على قاعدة لقاء رأس المال والعمل.
(ب) اتخاذ الأوراق المالية صفة رأس المال المضارب.
(ج) إمكانية تداول الأوراق المالية.
(د) جواز التعهد بإعادة شراء الأوراق المالية.
• خاتمة
سبل التعاون بين البورصات الخليجية والبنوك الإسلامية.(6/1104)
مقدمة
شهد العالم الإسلامي في العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري أهم حدث في تاريخه المعاصر ألا وهو ظهور البنوك الإسلامية. وبذلك تحولت الآمال العريضة لتنظيم وضبط حركة المجتمع وفقا لقواعد وأحكام الشريعة الإسلامية من مجرد أطروحات نظرية إلى بداية واقع ملموس تركزت فيه أولى اللبنات لبناء صرح النظام المالي الإسلامي.
وقد استهدف العمل المصرفي الإسلامي في نشأته أساسا إلغاء مختلف الأشكال الربوية في المعاملات المالية وإرساء وسائل بديلة مشروعة تتفق مع ظروف العصر، وشاءت رعاية الرحمن أن يتحقق لهذه التجربة المباركة نجاح باهر وانتشار سريع في مختلف البلاد الإسلامية وغير الإسلامية.
وتزامن بروز هذا المولود مع إحدى الفترات الدقيقة التي كان يعيشها النظام المالي الغربي حيث إن هذا الأخير بالرغم من بنائه المتكامل وتمتعه بشيوع مؤسسات وأجهزة وأدوات مالية تخدم أهدافه وبالرغم كذلك من تجربته العريقة، بل وهيمنته المطلقة على أسواق المال العالمية، فقد شهد في هذه الفترة هيكلية عميقة نتيجة تفاعله مع تحديات الواقع. كما اتسمت نفس الفترة بضعف أدوات وأجهزة الأسواق المالية العربية عموما جعلها أسواقا ضيقة وغير عميقة، وقد استأثرت في السنوات الأخيرة بقدر كبير من اهتمامات الباحثين وانعقد في شأنها العديد من الندوات والمؤتمرات بهدف دعمها وتطويرها.
وفي هذا المناخ المالي الدولي المتحرك، كان لابد للبنوك الإسلامية في انطلاقتها أن تفرض نفسها وأن تثبت للجميع إمكانية قيام نظام مالي لا يتعامل بالفائدة المصرفية. إلا أن وجود البنوك الإسلامية لا يمثل في حد ذاته نهاية المبتغي إذ إن النشاط المالي الإسلامي كما يقول الشيخ صالح عبد الله كامل: (لا يبدأ بتحريم الربا ولا ينتهي عنده) (1) ، وقيام البنوك الإسلامية ليس إلا خطوة أولى في تركيز أركان النظام المالي الإسلامي المعاصر. ولعل الحاجة إلى سوق إسلامي للأوراق المالية بكامل أجهزته ومختلف أدواته يمثل أولى التحديات المطروحة على البنوك الإسلامية.
ومن هذا المنطلق أنشئت شركتا التوفيق للصناديق الاستثمارية والأمين للأوراق المالية من قبل مجموعة البركة لكي تساهما في تقديم أدوات استثمارية تقوم بدور الأدوات المستعملة في سوق رأس المال، وذلك مع مراعاة الضوابط التي تخضع لها المعاملات الإسلامية من حيث اجتناب الربا والمحرمات وتطبيق القواعد الفقهية العامة في البيوع والعقود.
ونحاول في هذه الورقة التعرض إلى واقع البورصات الخليجية قبل الخوض في مبررات قيام سوق الأوراق المالية الإسلامية وإجلاء بعض الأضواء على الأدوات الاستثمارية المستحدثة لهذا الغرض لننتهي إلى بيان الدور المستقبلي لهذه التجارب الإسلامية وعلاقتها بالأسواق المالية في دول الخليج.
*
**
__________
(1) ندوة (البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية وآفاق تعاونهما مع البنوك التقليدية) المنعقدة بتونس.(6/1105)
أولا
واقع البورصة الخليجية للأوراق المالية
تكمن أهمية الأسواق المالية فيما تقوم به من دور هام ولازم لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية، والذي يتمثل في تعبئة المدخرات النقدية وتوجيهها نحو المشاريع الاستثمارية المختلفة، غير أن نجاح هذه الأسواق وتطورها يبقى رهين أسواق الأوراق المالية التي يتم فيها تداول الأوراق المالية بعد مرورها بالسوق الأولى أي بعد أن أصبحت في أيدي المستثمرين.
وتعتبر البورصات أهم أجهزة السوق المالية، وهي تمثل المكان الذي يتم فيه تداول الأوراق المالية وفقا لقواعد ونظم معينة تهدف إلى وضع هذا التعامل على أسس سليمة. وبقدر ما يكون هذا الجهاز منظما ونشطا بقدر ما ييسر عملية تحويل الاستثمارات طويلة الأجل إلى أصول سائلة عند الحاجة وهو ما يشجع المدخرين ويدفعهم إلى مزيد توظيف أموالهم وبالتالي يرتبط الادخار بالاستثمار والعرض بالطلب.
وتتميز دول مجلس التعاون الخليجي ما عدا دولة الكويت بعد قيام أسواق منظمة يتم فيها تداول الأوراق المالية، وكان يجب الانتظار إلى منتصف السنة الحالية لنرى افتتاح التداول الرسمي المنظم في بعض الدول واستعداد بعض الدول الأخرى للنهوض بأسواقها والتحول إلى مرحلة جديدة لنظامها المالي.
ونذكر فيما يلي ثلاثة متغيرات أساسية جديدة حدثت بالمنطقة خلال الثمانينات دفعت هذه البلدان إلى مزيد من الاهتمام بتطوير وتنظيم أسواقها.
• تقلص المواد المالية نتيجة انخفاض العوائد النفطية حيث وصل إجمالي العجز في موازين الحساب الجارية لدول مجلس التعاون حوالي 8 مليارات و 773 مليون دولار عام 1986م ومليارين و 609 ملايين دولار في عام 1987م.
• سعي دول مجلس التعاون الخليجي إلى تعزيز قاعدتها الصناعية وزيادة مشاركة القطاع الخاص في النشاطات الاقتصادية وإعطاء المزيد من الأهمية لمسالة اختيارات الاستثمارات المجدية.
• تزايد المخاطر التي يتعرض لها الاستثمار في الأسواق المالية العالمية إثر الأزمات الأخيرة التي تعرضت لها أسواق الأسهم مما يترتب عن ذلك استعادة المزيد من الأرصدة في الخارج وتوجيهها إلى قنوات استثمارية محلية.(6/1106)
1- حداثة العهد بتنظيم أسواق الأوراق المالية:
يعتبر أول سوق ثانوي منظم تنظيما كاملا في المنطقة هو سوق الكويت للأوراق المالية، وقد جاء هذا التنظيم على أثر تدهور الأوضاع في السوق نتيجة التلاعب والممارسات غير المشروعة مما أدى إلى تعدد الأزمات وإلى انهيار كامل للسوق (أزمة المناخ) ، تصديا لهذا الواقع تم إصدار المرسوم الأميري في 14/8/1983م لإيجاد التشريعات والضوابط الضرورية لتوفير سلامة المعاملات في سوق الأسهم.
كما انطلق السوق المنظم في نشاطه مباشرة بعد هذا المرسوم وما أعقبه من لوائح داخلية.
أما في دولة البحرين وسلطنة عمان فلم يدخل السوق الثانوي فيها مرحلة التنظيم القانوني إلا متأخرا بإصدار – على التوالي – المرسوم رقم 4 سنة لسنة 1987م والمرسوم السلطاني في شهر يونيه (حزيران) 1988م. كما استوجب إعداد وإصدار اللوائح الداخلية لهذين السوقين فترة طويلة أخرى حيث رأت السلطة المعنية ضرورة التأني في مثل هذا الموضوع والقيام بدراسات معمقة ومطولة للاستفادة من الأخطاء التي وقعت فيها الأسواق الأخرى وبذلك تأخرت المسيرة الفعلية للتداول المنظم إلى غاية الشهر السادس من سنة 1989م بالنسبة لدولة البحرين والشهر الخامس من نفس السنة بالنسبة لسلطنة عمان.
وفيما يتعلق بالمملكة العربية السعودية فإن السوق الثانوي لا يزال غير منظم تنظيما كاملا بالرغم من الوضع الاقتصادي والمالي الهام الذي تتميز به، وكل القوانين والضوابط المنظمة لعملية التداول تنحصر في (القواعد التنفيذية) التي صدرت سواء في سنة 1983م (المنظمة لتداول أسهم الشركات عن طريق البنوك التجارية) أو في سنة 1987م (المنظمة للتداول في القاعة المركزية والتي قد أغلقت بعد ثلاثة أسابيع من فتحها) .
أما في دولة الإمارات وقطر فلا تكاد تجد فيها تنظيما لأسواقها الثانوية ولا تزال الدراسات تجرى حاليا لبحث إمكانية إقامة سوق للأوراق المالية.(6/1107)
2- عدم تنوع ومحدودية الأدوات الاستثمارية المعروضة:
في حين يتم التداول في الأسواق المالية العالمية بعدد ضخم من الأوراق المالية التي توفر فرصا وبدائل استثمارية متنوعة لتوظيف الأموال، فإن أدوات الاستثمار المالي لا تزال في دول مجلس التعاون تتخذ أشكالا تقليدية محدودة تكاد تنحصر في التعامل بالأسهم العادية للشركات المحلية كما نجد إضافة لذلك سوقا للسندات ولأسهم الشركات غير المحلية في كل من الكويت والبحرين.
(أ) التعامل بالأسهم العادية للشركات المحلية:
يعتبر التعامل بالأسهم العادية للشركات المحلية أهم أشكال الاستثمار في منطقة الخليج إلا أن هذه الأسواق تتسم بكونها ضيقة وغير عميقة نتيجة لعدم توفر عرض كاف ومنتظم من الأوراق المالية ويرجع سبب ذلك إلى:
- سيطرة الحكومات على نسبة عالية من أسهم الشركات وعدم طرحها للاكتتاب العام، وتتجه سياسة دول المنطقة في هذه السنوات الأخيرة إلى التفويت في الشركات العامة للمستثمرين الخواص بغية تنشيط الحركة المالية.
- قلة عدد شركات المساهمة التي لديها أسهم قابلة للتداول، ويناهز هذا العدد حوالي 60 شركة مدرجة في سوق الكويت بينما يقل العدد حسب بعض البيانات الأخيرة لسوق البحرين إلى 29 شركة فقط.
أما بالنسبة لسلطنة عمان، فإن التقديرات تشير إلى أنه سيتم تداول من 2 إلى 3 % من رءوس أموال الشركات العمانية وهي بداية متواضعة لعمل السوق حيث إن مجموع الشركات المساهمة العمانية التي طرحت أسهمها في اكتتاب عام لا يتجاوز 48 شركة.
كما أكدت دراسة حديثة أعدها المركز الوطني للمعلومات المالية والاقتصادية التابع لوزارة المالية السعودية بأنه يوجد في بالمملكة 64 شركة عامة يمكن التداول في أسهمها ويصل رأس مالها إلى 54 بليون ريال.(6/1108)
(ب) التعامل بأسهم الشركات غير المحلية:
تتميز القوانين السائدة في دول مجلس التعاون الخليجي بتشدد كبير بخصوص طرح وتداول أوراق مالية غير محلية في أسواقها، فإذا تواجد في جميع هذه الدول بعض المنافذ لطرح إصدارات أوراق مالية جديدة لشركة غير محلية في أسواقها الأولية وذلك عند توفر شروط معينة وموافقة مسبقة من الجهات المختصة فإن الأمر يختلف بالنسبة لتداول الأوراق المالية غير المحلية (عربية أو أجنبية) في الأسواق الثانوية حيث يبقى غير مسموح به أصلا في كل هذه الدول ما عدا الكويت ومؤخرا البحرين اللذين يشترطان موافقة مجلس إدارة السوق المسبقة لإدراج أسهم الشركات الأجنبية في بورصة الأوراق المالية.
هذا ومن خلال بعض الدراسات التي تناولت البحث في تداول أسهم الشركات غير المحلية في دولة البحرين قبل افتتاح السوق الرسمي يتبين بأن عدد الأسهم المتداولة لهذا النوع من الشركات بلغ 18.5 مليون سهم قدرت قيمتها الإجمالية بحوالي 3.3 مليون دينار خلال النصف الأول من 1988م.
أما في دولة الكويت فقد جاء في التقرير الاقتصادي السنوي لسوق الكويت للأوراق المالية بأنه تم تداول حوالي 730 مليون سهم للشركات غير المحلية أي بنسبة 22 % من مجموع الأسهم المتداولة في السوق، وأشار التقرير بأن قيمة الأسهم المتداولة لهذه الشركات بلغ حوالي 59 مليون دينار كويتي في سنة 1987م.
(ج) التعامل بالسندات:
لا يجد سوق السندات إقبالا يذكر من طرف عدد هام من المستثمرين حيث يسجل عزوفهم عن توظيف أموالهم في سندات الدين العام والخاص إما بسبب التأثير السلبي للتضخم وإما لأسباب دينية. لذلك فإننا لا نكاد نجد مثل هذه الأسواق في الإمارات وعمان وكذلك في المملكة السعودية التي منعت أصلا إصدار هذا النوع من الأوراق المالية.
أما في دولة البحرين يكاد يقتصر التعامل على سندات التنمية دون سندات الدين الخاصة، ورغم ما تتضمنه تلك السندات من ميزة التداول فقد بقيت السوق الثانوية الخاصة بها قليلة النشاط.
وتعتبر سوق السندات القائمة في الكويت أهم أسواق السندات في المنطقة وقد بلغت قيمة التداول الاسمية على السندات المسجلة في السوق خلال 1987م حوالي 4.8 مليون دينار موزعة على 35 صفقة.(6/1109)
(د) التعامل بأوراق مالية أخرى:
تميز السنوات الأخيرة ببروز أداة استثمارية جديدة في أسواق المال وهي عبارة عن صناديق استثمارية تمثل صيغا مختلفة للاستثمار بمخاطر متفاوتة وبمردود متفاوت ولآجال متفاوتة.
وتغطي هذه الصناديق نطاقا واسعا من الاستثمارات مثل الأسهم والسندات المختلفة، والعملات، والعقارات والذهب وغيره.
ويتقيد تداول الشهادات أو الصكوك الممثلة لحصص معينة في الصناديق بحسب الشروط المنصوص عليها في البيانات المخصصة لكل صندوق، ولا يتم هذا التداول في إطار سوق معينة بل يقتصر الأمر على توجيه طلب استرداد الأموال المستثمرة إلى الشركة المصدرة والمديرة للصندوق في مدة التداول المنصوص عليها والتي تتعهد بإعادة الشراء.
ونستخلص من ذلك أن نشاط الأسواق المالية في دول الخليج يتسم بعدم تنوع ومحدودية الأدوات الاستثمارية المعروضة حيث يكاد يقتصر التداول على الأسهم فقط وهو ما يقلل من حرية المستثمر المتمثلة في توفر فرصة اختيار الاستثمار بالأشكال التي تتناسب وإمكانياته ومعتقداته وتوجهاته.
3- غياب المؤسسات الفاعلة في السوق:
من المعلوم أن وجود الإطار القانوني والتنظيمي الخاص بالبورصات وتوفر أدوات استثمارية متنوعة غير كاف لوحده لقيام سوق مالي مستمر ودائم، لذلك كانت الحاجة إلى أجهزة فنية معاونة تساعد على تنشيط الحركة في السوق تتمثل بالخصوص في الدور الهام الذي يقوم به الوسطاء في تسيير وتوجيه الأشغال اليومية للسوق وكذلك في دور المؤسسات المالية والاستثمارية بصفتها صانعة السوق التي تعمل على توفير السيولة للسوق وإيجاد التوازن الدائم بين العرض والطلب لتفادي أي هزات ممكنة.
والملاحظ في أسواق دول الخليج أن دور الوسطاء لا يزال يقتصر على تنفيذ أوامر العملاء فقط بحيث يعملون بصفة وكلاء للمستثمرين دون أن يساهموا في ترشيد قرارات المستثمرين وتقديم التوصيات اللازمة لهم.
وبالنسبة لصناع السوق فلا تزال هذه الوظيفة غير قائمة على الوجه الأكمل في دول المنطقة ما عدا الكويت وذلك نتيجة لعدم وجود أسواق منظمة فيها أو لحداثة تنظيمها. كما أننا نسجل وجود شركتين فقط في دولة الكويت تقومان بتأدية مهام منظمي السوق وهما شركة مجموعة الأوراق المالية وشركة بيت الأوراق المالية حيث توافرت فيهما الشروط اللازمة المنصوص عليها في قرار لجنة السوق رقم 16 لسنة 1986م بشأن شروط إدراج وتنظيم عمل صناع السوق، وقد بلغت كمية الأسهم المتداولة لدى الأولى نسبة 6.44 % من مجموع الأسهم التي تداولت في السوق سنة 1987م، كما بلغت هذه النسبة 6.9 % بالنسبة للشركة الثابتة.
*
**(6/1110)
ثانيا
الأدوات المالية الإسلامية
تسعى البنوك والمؤسسات الإسلامية إلى تحقيق حلقة جديدة في تطورها وهي الانتقال بالعمل المصرفي الإسلامي من مرحلة اجتذاب الودائع واستثمارها بالطرق الشرعية إلى مرحلة أرقى تتمثل في إيجاد سوق ثانوي يتم فيه تداول أوراق مالية إسلامية. ويهدف هذا التوجه بالخصوص إلى:
1- استقطاب المزيد من الأموال العاطلة ودفعها للمساهمة في عملية النمو الاقتصادي، ذلك أن توفير فرص الاستثمار عبر أوراق مالية قابلة للتداول يشجع المدخرين ويدفعهم لمزيد الاستثمار.
2- فتح المجال أمام البنوك والمؤسسات المالية وبيوت التمويل ذات الالتزام الشرعي لاستثمار السيولة الفائضة لديها عبر الأوراق المالية التي تحقق لها ربحا في فترة الاقتناء وتكون قابلة للتسييل عند الحاجة إلى نقود.
ولقد شهدت هذه السنوات الأخيرة اهتمام العديد من المؤسسات الإسلامية بموضوع تطوير أدوات مالية إسلامية تخدم أغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وتعود أولى المحاولات – حسب علمنا – إلى وزارة الأوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية التي بدأت منذ 1977م بإجراء الدراسات الاقتصادية والشرعية اللازمة.
وتوقفت إلى إصدار قانون سندات المقارضة في سنة 1981م.
ونحاول في هذه الورقة إبراز أهم خصائص هذه السندات وأسسها الشرعية كما نتعرض إلى محاولة أخرى لبنك التنمية الإسلامي الذي قام بإصدار شهادات تمثل ملكية المستثمرين في محفظة البنوك الإسلامية وننتهي إلى عرض الأداة الاستثمارية التي استنبطتها مجموعة البركة والمتمثلة في أسهم المشاركة لشركتي التوفيق والأمين.
1 - نماذج من الأدوات المالية الإسلامية:
(أ) سندات المقارضة:
كان إصدار أول قانون لسندات المقارضة مستمدا من الشريعة الإسلامية السمحة نتيجة لجهود وزارة الأوقاف الأردنية التي سعت إلى إيجاد وسائل مشروعة لإعمار الوقف الإسلامي تكون بديلة عن القروض الربوية.
وقد باركت الحكومة الأردنية هذا المجهود فاعتمدت الفتاوى الشرعية المتعلقة بشأن سندات المقارضة وأصدرت القانون المؤقت رقم 10 لسنة 1981م كما أن سمحت للمؤسسات العامة ذات الاستغلال المالي وللبلديات بالإضافة إلى وزارة الأوقاف للاستفادة بهذا القانون وإصدار سندات المقارضة.
وقد جاء في المادة الثانية لهذا القانون تعريف سندات المقارضة بأنها (الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه يقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح) . كما جاء في هذه المادة بأن سندات المقارضة لا تنتج أي فوائد بل يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع وتحدد هذه النسبة في نشرة الإصدار.(6/1111)
وتتميز هذه السندات بعنصرين اثنين:
أولا: عدم تحمل المكتتب في سندات المقارضة ما يصيبه من خسارة. فقد جاء في المادة 12 من القانون بأن الحكومة تكفل تسديد قيمة سندات المقارضة الاسمية الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة.
وتستند هذه المادة إلى الفتوى الشرعية الصادرة بتاريخ 17/1/1978م التي تجيز كفالة الحكومات لسندات المقارضة المخصصة لإعمار أراضي الأوقاف باعتبارها طرفا ثالثا وذلك على أساس الوعد الملزم حيث إنه يجوز للحكومة بما لها من ولاية عامة أن ترعى شئون المواطنين ولها أن تشجع أي فريق عمل القيام بما يعود على المجموع بالخير والمصلحة.
ثانيا: قابلية سندات المقارضة للتداول: فقد جاء في المادة 18 من القانون بأنه (يتم تداول سندات المقارضة في سوق عمان المالي حسب أحكام قانونه وأنظمته وتعليماته كما يتم نقل ملكيتها حسب هذه الأحكام) .
ونشير هنا إلى أن سندات المقارضة بالشكل المشار إليه أعلاه لم يتم – حسب علمنا – بعد إصدارها بصفة فعلية.
(ب) شهادات الاستثمار:
يقوم البنك الإسلامي للتنمية منذ سنوات بجهود حثيثة لتطوير أدوات مالية جديدة وتتمشى مع أحكام الشريعة الإسلامية بهدف تعبئة موارد إضافية تلبي الاحتياجات المتزايدة لتمويل المشروعات من الدول الأعضاء.
وتمكن البنك خلال سنة 1987م من إنشاء وتشغيل محفظة البنوك الإسلامية التي تتولى إصدار شهادات تمثل ملكية المستثمرين، وقد تم الاستناد لإصدار هذه الشهادات الاستثمارية على البيان الختامي لندوة (سندات المقارضة وسندات الاستثمار) الذي عقدها البنك بالتعاون مع مجمع الفقه الإسلامي في الفترة بين 30 أغسطس و2 سبتمبر 1987م.
وقد جاء وصف شهادات الاستثمار في محفظة البنوك الإسلامية التي يديرها البنك الإسلامي للتنمية بأنها (المستندات التي تمثل نصيبا في ملكية المحفظة ويصدرها البنك الإسلامي للتنمية وتسجل في سجل الشهادات بأسماء مالكيها) .
وتعتبر المحفظة استثمارا مخصصا أساسا لتمويل تجارة الدول الإسلامية وتكون موجوداتها تحت يد البنك بصفته مضاربا.(6/1112)
هذا وتمتاز هذا الشهادات بما يلي:
أولا – وجود نوعين من الشهادات:
- النوع الأول: هو مجموع الشهادات التي تصدر عند تأسيس المحفظة وتقتصر ملكيتها على البنك الإسلامي للتنمية والبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية الأخرى وهي ما تسمى بشهادات الإصدار الأساسي.
- النوع الثاني: هو مجموع الشهادات التي تصدر بعد تأسيس المحفظة وتطرح للاكتتاب العام وهي ما تسمى بشهادات الإصدار اللاحقة.
ونشير إلى أن المحفظة التي أصدرها البنك الإسلامي للتنمية هي حاليا محفظة مغلقة أي أنها تقتصر على البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية دون غيرها.
ثانيا- تمتع الشهادات بإمكانية التسييل:
وتتحقق السيولة بالنسبة لشهادات المحفظة التي تم إنشاؤها بإحدى الوسيلتين:
- البيع إلى مؤسسة مصرفية إسلامية بالسعر الذي يتفق عليه (وذلك بعد فترة الاكتتاب وبعد التشغيل الفعلي لعمليات المحفظة) .
- تعهد البنك الإسلامي للتنمية بشراء ما قد تعرض البنوك الإسلامية بيعه مما تملكه من شهادات وذلك بحد أقصى 50 % مما يملكه البنك الواحد من الإصدار الأساسي، ويسري هذا التعهد عند كل إعلان للأسعار على ألا يقل ما يحتفظ به البنك المشارك في الإصدار الأساسي – في أي وقت – عن 500 ألف دولار أمريكي.
(ج) أسهم المشاركة:
استجابة لتطلعات مختلف المستثمرين – أفرادًا ومؤسساتٍ – وسعيا للوفاء باحتياجاتهم المختلفة إلى تنوع استثماراتهم من حيث السيولة والمدة والمخاطرة، سعت مجموعة البركة إلى استنباط وإيجاد أدوات مالية إسلامية مشروعة مناسبة لإرساء سوق رأس المال الإسلامي.
وقد بارك الله في المجهودات الضخمة التي قامت بها المجموعة إذ توقفت لجنة العلماء المشاركين في ندوة البركة الثامنة للاقتصاد الإسلامي (تونس 4-7 نوفمبر 1984م) إلى إصدار عدد من الفتاوى تخص شرعية تداول حصص استثمارية لحالات المرابحة والإيجار والسلم والمشاريع، كما أن المولى سبحانه وتعالى يسر عملية نقل هذه الأفكار من الإطار النظري إلى الواقع العملي حيث صدر في سنة 1986م قرار وزاري رقم 17 في دولة البحرين يسمح لأول مرة في تاريخ التشريع القانوني السائد في البلاد العربية والإسلامية بتأسيس شركات مساهمة تعمل وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية وتصدر نوعين من الأسهم أحدهما يملك حق التصويت والإدارة (أسهم الإدارة) والثاني يملك حق المشاركة في الأرباح دون حق التصويت (أسهم المشاركة) .(6/1113)
وعلى أثر ذلك تم تأسيس شركة التوفيق للصناديق الاستثمارية في 5 يناير 1987م وشركة الأمين للأوراق المالية في 28 يونيو 1987 اللتين تهدفان إلى طرح أدوات مالية جديدة لجمهور المكتتبين وهي تتمثل في أسهم المشاركة في مختلف الصناديق الاستثمارية التي تنشئها الشركتان ويكون مالكو هذه الأسهم بمثابة رب المال في المضاربة الشرعية بشروطها. كما تتخذ الصناديق الاستثمارية أشكالا متنوعة من حيث الربحية والمخاطرة والمدة وإذ يمكن لها أن تكوّن صناديق مرابحات أو تأجير أو سلم أو مشروعات وغيره، ويتم تحديد خصائص كل صندوق في نشرة الإصدار الخاصة به.
وتمتاز أسهم المشاركة بما يلي:
1- انفتاح أسهم المشاركة لجمهور المدخرين: بالإضافة إلى البنوك والمؤسسات المالية التي تجدد في أسهم المشاركة ملاذا شرعيا لاستثمار سيولتها الفائضة فإن هذه الإدارة المالية تتيح أيضا الفرصة لأصحاب المدخرات البسيطة للمشاركة برأس مال قليل في عمليات كبيرة لم يكن باستطاعتهم المشاركة فيها لولا توزيعها في صورة أسهم المشاركة حيث إن الحد الأدنى للاشتراك لا يزيد عن 1000 دولار أمريكي وهو مبلغ – حسب اعتقادنا – في متناول القاعدة العريضة من المستثمرين.
2- قابلية أسهم المشاركة للتداول: تمتاز الاستثمارات بأسهم المشاركة التي تطرحها شركتا التوفيق والأمين بالضمان والسيولة النقدية إذ تلتزم مجموعة بنوك وشركات البركة والبنوك الإسلامية الأخرى المتعاونة معها بضمان إعادة شراء الأسهم طبقا للسعر المعلن وقت البيع، وبالتالي توفير السيولة النقدية اللازمة عند الطلب.
(د) نماذج أخرى:
تعرض العديد من الباحثين والمفكرين المسلمين في الفترة الأخيرة إلى محاولة بحث صور شرعية بديلة لسندات الدين العام وسندات التنمية وغيرها من الأدوات الاستثمارية الأخرى وقد تمكن بعضهم من ابتكار صيغ تمويلية بديلة تتفق مع الشريعة الإسلامية وتساهم في بناء سوق رأس المال الإسلامي غير أن هذه المحاولات لم تجد لها بعد موضعا للتنفيذ.
2- الأسس الشرعية للأدوات المالية الإسلامية:
تتفق الأوراق المالية الإسلامية المبتكرة في اعتمادها على أسس شرعية مشتركة نذكر منها مايلي:
(أ) تستند الأوراق المالية الإسلامية على قاعدة تزاوج رأس المال والعمل:
تشترك الأدوات المالية الإسلامية من كونها لا تنتج أي فوائد كما لا تعطي مالكيها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة، حيث إن الأساس الشرعي الذي تبنى عليه هذه الأوراق يتمثل في لقاء رأس المال مع العمل المنتج، لذلك يحصل المكتتب في هذه الأوراق على نسبة محددة من أرباح المشروع والتي تحدد مسبقا في نشرات الإصدار.(6/1114)
(ب) تمثل الأوراق المالية رأس مال المضاربة:
تمثل الأوراق المالية حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت لأجل تمويله ذلك أنه يجوز شرعا أن تجتمع أموال مملوكة لعدد كبير من الناس في يد شخص واحد – طبيعيا كان أم اعتباريا – ليستثمرها كمضارب، وتكون ملكية هذه الأوراق لأصحابها طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته ويترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعا للمالك في بنكه من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها.
(ج) إمكانية تداول الأوراق المالية الإسلامية:
يجوز تداول الأوراق المالية باعتبارها تمثل حصصا شائعة في موجودات المشروع وبعد ذلك من قبيل بيع وشراء للحصة التي يمتلكها المستثمر والمتمثلة في شكل ورقة مالية فهي بذلك تكون من التجارة الحلال بشرط أن تكون موجودات الإصدار حقيقية وغير مقتصرة على النقود والديون أو أحدهما وقد قيد مجمع الفقه الإسلامي ذلك بأن يكون غالب الموجودات أعيانا ومنافع.
(د) جواز التعهد بإعادة شراء الأوراق المالية:
يجوز للبنك الإسلامي الذي يعرض إيجابا عاما بشراء الحصص أو الأسهم المعروضة أن يشرك معه غيره من البنوك والمؤسسات الإسلامية في الإيجاب بنفس الشروط، شريطة أن يتم الإعلان عن اسم البنك أو المؤسسة المنظمة كلما طرأ تغيير على أسماء المشاركين بالإيجاب.
*
**(6/1115)
خاتمة
بعد هذا العرض الموجز لكل من:
أولا – واقع البورصات الخليجية: والذي حاز في الفترة الأخيرة اهتمام العديد من الجهات الرسمية منفردة ومجتمعه، وتتوجه النية حاليا لمزيد تطويره واستكمال تنظيمه.
ثانيا – نماذج من الأدوات المالية الإسلامية: والتي تتميز جميعها بكونها ابتكارات جديدة تعمل بجدية لإتاحة عرض متنوع من الأدوات المالية أمام المستثمرين لاختيار ما يناسبهم من الأوراق المعروضة بما يتفق مع إمكاناتهم ومعتقداتهم.
نحاول أن نستخلص من هذه الخاتمة آفاق التعاون المرتقب مستقبلا بين الأسواق المالية الخليجية والبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية التي قامت بالخصوص بإصدار الأوراق المالية المبتكرة، ونقتصر هنا على عنصر أساسي يمثل حسب اعتقادنا أهم المتطلبات للمرحلة القادمة وهو ضرورة قيام الأسواق المالية الخليجية بتشجيع انتشار الأوراق المالية الإسلامية لما تقدمه من مزايا مذكورة أعلاه ويكون ذلك بتيسير تسجيل هذه الأوراق وتداولها في أسواقها المنظمة.
إن ميزة التداول التي تتمتع بها الأوراق المالية الإسلامية الجديدة يتم تحقيقها حاليا بتعهد الشركة المصدرة بشراء الورقة المالية حسب الأسعار التي تعلنها، غير أن هذا الوضع يبقى مؤقتا إلى حين إدراجها في أسواق مالية منظمة.
وتحقيق هذا الهدف يمثل خطوة هامة في مسيرة التعاون العربي الإسلامي حيث يتيسر لقاء العرض المتمثل في الأموال المتدفقة من البلاد الإسلامية والتي ستستثمر بهذه الأوراق المالية الجديدة بالطلب المتمثل في المشاريع والعمليات المنتجة لبلدان إسلامية أخرى والتي تشكل مكونات الصناديق أو المحافظ التي طرحت الأوراق المالية لأجلها.
الدكتور محمد فيصل الإخوة(6/1116)
الأدوات المالية التقليدية
إعداد
سعادة الدكتور محمد الحبيب جراية
الأستاذ بقسم إدارة الأعمال – كلية العلوم
الإدارية – جامعة الملك سعود بالرياض
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
تمد الأسواق المالية الوحدات ذات العجز المالي بالأموال التي تحتاج إليها لتمويل نفقاتها وتنفيذ خططها الاستثمارية. بالإضافة إلى هذا فإن الأسواق المالية تمد الوحدات ذات الفائض بأصول مالية كبدائل للملكية المباشرة للأصول الحقيقية، وتحاول الأسواق المالية، إرضاء رغبات وحدات ذات العجز ووحدات ذات الفائض بإصدار العديد من الأدوات المالية بدرجات متفاوتة من الأمان والسيولة والعائد والمختلفة من حيث أنواعها وخصائصها ووظائفها.
وقد أدى ارتفاع معدلات التضخم المالي وزيادة درجة المخاطرة المتمثلة في تذبذب أسعار الفائدة وتذبذب أسعار صرف العملات في السنوات الأخيرة إلى ابتكار العديد من أنواع الاختيارات للوقاية من الخسائر المحتملة وكأداة للمضاربة.
وسنحاول في هذه الدراسة وصف وتعريف الأدوات المالية الآتية:
• السندات: أنواعها وخصائصها ووظائفها في النظام المالي المعاصر.
• الأسهم: أنواعها وخصائصها وأهم مزاياها وعيوبها وبعض العمليات المتعلقة بها.
• الاختيارات: أنواعها وتغطيتها وتطبيقاتها على الأسهم والسندات.
وتجدر الإشارة إلى أن هدف البحث هو إعطاء فكرة عامة عن الأدوات المالية المذكورة أعلاه دون التطرق إلى الأدوات النقدية مثل القبولات المصرفية والأوراق التجارية وشهادات الإيداع وغيرها من الأدوات قصيرة الأجل. كما أن هذا البحث سوف يستعرض هذه الأدوات المالية المذكورة دون الدخول في تفاصيل النواحي الفقهية والتشريعية.(6/1117)
الفصل الأول
السندات
تنقسم مصادر الأموال التي تتحصل عليها المؤسسات إلى قسمين: رأس مال الأسهم ورأس المال المقترض. ويمكن أن يكون الاقتراض قصير الأجل أو طويل الأجل. ويتخذ التمويل طويل الأجل عادة أحد شكلين: قروض تمنحها البنوك لمدة طويلة مقابل فائدة محدودة أو سندات يقع إصدارها وطرحها للاكتتاب العام. وسوف نحاول في هذا الفصل أن نعرف بالنقاط الآتية:
أولا – تعريف السندات وخصائصها.
ثانيا – تقديم أنواع السندات.
ثالثا – تقديم الابتكارات والتجديد.
رابعا – دراسة وظائف السندات في النظام المالي المعاصر.
أولا – تعريف السندات وخصائصها:
تمثل السندات قروضا طويلة الأمد لأنها تستخدم في التمويل طويل الأجل، وهذا القرض ينقسم إلى أجزاء متساوية في القيمة يطلق على كل منها اسم سند. والسند هو (شهادة دين يتعهد بموجبها المصدر بدفع قيمة القرض كاملة عند الاستحقاق لحامل هذا السند في تاريخ محدد بالإضافة إلى منحه مبالغ دورية تعبر عن فائدة في فترات محددة (1) ، وبما أن السند هو شهادة دين، فإن العلاقات بين المقترض والمستثمر تستلزم أن تكون منصوصا عليها في وثيقة تسمى نشرة الإصدار. وتنص تلك النشرة على عدة معلومات هامة حول شروط الإصدار والوضع المالي للمقترض.
1- مواصفات الإصدار:
(أ) القيمة الاسمية للسند: وهي ما يعبر عنها بفئة السند.
(ب) سعر الإصدار: وهو السعر الذي يباع فيه السند عند الإصدار في السوق الأولية ويمكن أن يكون مختلفا عن القيمة الاسمية وفي بعض الأحيان يعبر عنه بنسبة مئوية.
(ج) الفائدة: وهي نسبة من السعر الاسمي يلتزم مصدر السند بدفعها في فترات محددة حتى تاريخ الاستحقاق. وغالبا ما تكون تلك الفترات سنوية أو نصف سنوية.
(د) مدة الاستحقاق: وهي تمثل مدة حياة السند، ويتعهد المقترض عند تاريخ الاستحقاق بسداد القيمة للسند.
(هـ) حجم الإصدار: وهو يساوي القيمة الاسمية للقرض أي عدد السندات ضارب القيمة الاسمية للسند.
__________
(1) حمزة محمود بهبهاني: (تعريف السندات وخصائصها) ، سوق الكويت للأوراق المالية، دليل المستثمر في سوق السندات، إدارة الدراسات والبحوث الاقتصادية، يوليو 1986: ص21.(6/1118)
أما القيمة السوقية للسند فهي القيمة الحالية اعتمادا على سعر الخصم لمجموع التدفقات النقدية المكونة من الفائدة والقيمة الاسمية المستحقة حتى تاريخ الاستحقاق:
س = القيمة السوقية.
ف = حصيلة الفائدة السنوية.
ق = القيمة الاسمية للسند.
م = مدة الاستحقاق.
ع = سعر الخصم ويمثل سعر الفائدة في السوق.
وهنا نلاحظ أن القيمة الاسمية للسند تساوي القيمة السوقية إذا كانت نسبة الفائدة المتفق عليها عند الإصدار تساوي سعر الفائدة في السوق. أما إذا كان سعر الفائدة السائد في السوق أعلى من نسبة الفائدة المتفق عليها فسيؤدي ذلك إلى انخفاض السعر السوقي للسند الذي يصبح أقل من السعر الاسمي. وعند انخفاض سعر الفائدة السائد في السوق فسيؤدي ذلك إلى ارتفاع السعر السوقي للسند. إذن نستطيع أن نقول إن السعر السوقي للسند يتحرك بطريقة عكسية مع تحرك سعر الفائدة.
2- خصائص السندات:
وللسند خصائص تميزه عن الأسهم، وتتلخص هذه الخصائص فيما يلي (1) .:
(أ) السند يمثل شهادة دين على الشركة وليس جزءا من رأس المال ويترتب على ذلك أنه ليس لحامل السند الحق في التدخل في إدارة الشركة أو مناقشة قراراتها.
(ب) يعطي السند لحامله في الحصول على فائدة دورية ثابتة سواء حققت الشركة أرباحا أو خسائر. وعدم دفع هاته الفوائد قد يؤدي إلى وقوع الشركة في مأزق وتصفيتها أما حامل السهم العادي فإنه يحصل على أرباح تتغير حسب نتيجة أعمال الشركة وسياستها في توزيع الأرباح.
(ج) يحصل حامل السند على قيمة سنده في تاريخ محدد يتفق عليه عند الإصدار. أما حامل السهم فلا ترد له قيمة سهمه ما دامت الشركة قائمة.
(د) يحصل حامل السند على ضمان خاص على بعض موجودات الشركة أو ضمان عام على أموالها وبذلك فإنه يحصل على حقه في حالات التصفية قبل أن يحصل حامل السهم على أي شيء.
__________
(1) د. حلمي محمود نمرود. عبد المنعم محمود، الأصول العلمية والعملية في محاسبة الشركات – الجزء الثاني، شركات الأموال، دار النهضة العربية، القاهرة 1982: ص267.(6/1119)
ثانيا- أنواع السندات:
يوجد العديد من أنواع السندات وذلك لإعطاء أكثر الفرص لتطابق رغبات المستثمرين برغبات المقترضين. وتنقسم السندات إلى أنواع عديدة حسب الوجهة التي تتخذ أساسا للتقسيم (1) .
1- تصنيف السندات حسب المصدر:
هذا التصنيف للسندات يعتمد على هوية مصدر السند إن كانت منظمات عالمية أو الدولة أو هيئات حكومية محلية أو شركات.
(أ) سندات المنظمات الإقليمية: يصدر هذا النوع من السندات من طرف هيئات دولية كالبنك الدولي للإنشاء والتعمير ويقع استخدام الأموال المقترضة في تمويل مشاريعها.
(ب) سندات الدولة: يصدر هذا النوع من السندات من طرف الدولة لغرض تمويل الإنفاق العام في الدولة. ويمكن تصنيف هذه السندات من حيث درجة المخاطرة حسب العوامل الاقتصادية والسياسية.
(ج) سندات الهيئات الحكومية المحلية: يصدر هذا النوع من السندات من طرف الهيئات العامة والبلديات والمدن وغالبا ما تكون هذه السندات ذات مدة استحقاق طويلة. مما يجعل هذه السندات تتأثر بمخاطر التضخم بالتغييرات التي تحدث على أسعار الفوائد.
(د) سندات الشركات: يصدر هذا النوع من السندات من طرف الشركات التجارية والصناعية وشركات الخدمات، ويمكن تصنيف هذه السندات حسب درجة ملاءة الإصدار من AAA إلى CCC، وعادة ما يقوم بهذا التصنيف بعض الجهات المختصة المعترف بها من قبل المقرضين والمستثمرين.
ملاءة عالية ويرمز لها AAA.
ملاءة جيدة ويرمز لها AA.
ملاءة متوسطة ويرمز لها A.
وتعكس هذه الرموز قدرة المقترض على النجاح في الوفاء لالتزاماته نحو مقرضيه.
وتنقسم السندات التي تصدرها الشركات إلى أنواع عديدة حسب الوجهة التي تتخذ أساسا للتقسيم.
- فمن حيث طريقة التملك، تنقسم السندات إلى سندات اسمية وسندات لحاملها، أما السند الاسمي فهو الذي يسجل اسم صاحبه على السند نفسه وفي سجلات الشركة ويتم التنازل عنه بعد موافقة الشركة، والسند لحامله هو الذي لا يحمل اسم حامله ويتم نقل ملكيته بطريق التسليم من شخص إلى آخر.
__________
(1) جمال عبد اللطيف السرابي أهمية الاستثمار في السندات وأهمية ذلك في تكوين المحافظ المالية، سوق الكويت للأوراق المالية، دليل المستثمر في سوق السندات، إدارة الدراسات والبحوث الاقتصادية، يوليو 1986، ص: 32-35.(6/1120)
- ومن حيث درجة الضمان يمكن التمييز بين: السندات المضمونة برهن خاص على بعض موجودات المنشأة الثابتة، السندات العادية التي ليس لها غير الضمان العادي الذي يتمتع به الدائنون عادة والسندات المضمونة بواسطة هيئة خارجية سواء من ناحية سداد قيمة السند أو سداد الفائدة الدورية.
- ومن حيث نوع الدخل، يمكن التمييز بين السندات ذات فائدة دورية ثابتة بصرف النظر عن نتيجة أعمال الشركة والسندات ذات فائدة متغيرة حيث ينقسم التدفق النقدي إلى جزأين. الأول ثابت ويمثل فائدة دورية بمعدل ثابت والثاني متغير يتوقف على الأرباح التي تحققها الشركة ويسمى هذا النوع من السندات بسندات الدخل.
- ومن حيث قابلية السند للتحويل. فإن هناك نوعا من السندات يمكن تحويلها إلى أنواع أخرى من الأوراق المالية كأن تتحول إلى أسهم ممتازة أو أسهم عادية خلال فترة زمنية معينة، وعادة ما تكون أسعار الفائدة على هذا النوع من السندات أقل من أسعار الفائدة على السندات العادية لنفس فترة الاستحقاق وذلك نظرا لميزة التحويل التي يتضمنها.
2- تصنيف السندات حسب سعر الإصدار:
هذا التصنيف يعتمد على مقارنة سعر الإصدار بسعر القيمة الاسمية للسند أو مقارنة سعر الفائدة المحدد لهذه السندات بسعر الفائدة السائد في السوق في تاريخ إصدار السندات.
- فإذا كان معدل سعر الفائدة السائد في السوق في تاريخ الإصدار مساويا لسعر الفائدة المحدد للسندات أصدرت السندات بقيمتها الاسمية.
- أما إذا كان سعر الفائدة السائد في السوق أعلى من سعر الفائدة المدد للسندات فإن السندات تصدر عادة بقيمة أقل من قيمتها الاسمية ويسمى الفرق بين القيمة الاسمية وسعر الإصدار بخصم الإصدار. حيث يصبح العائد الذي يحصل عليه المستثمر من هذه السندات مساويا للعائد الذي يدره عليه سعر الفائدة السائد في السوق. فخصم الإصدار ما هو إلا تسوية لقيمة الفوائد التي تدفعها الشركة للمستثمر خلال فترة القرض حتى تتساوى مع الفائدة الحقيقية.
- أما إذا كان سعر الفائدة المحدد للسندات المصدرة أعلى من سعر الفائدة السائد في السوق في تاريخ الإصدار فإن السندات تصدر عادة بأعلى من قيمتها الاسمية ويسمى الفرق بين سعر الإصدار والقيمة الاسمية للسند بعلاوة الإصدار حيث يصبح العائد الذي يحصل عليه المستثمر من هذه السندات مساويا للعائد الذي يدره عليه سعر الفائدة في السوق. فعلاوة الإصدار ما هي إلا الالتزام على الشركة يدفع في أثناء مدة القرض كجزء من الفائدة الدورية المرتفعة التي تدفع لحملة السندات. فتحديد سعر إصدار السند يعتمد على القيمة الحالية للتدفقات النقدية المتمثلة في الفائدة الدورية الثابتة من تاريخ شراء السند حتى تاريخ سداده والحصول على القيمة الاسمية للسند في تاريخ الاستحقاق.(6/1121)
3- تصنيف السندات حسب استهلاكها:
تنص نشرة الاكتتاب في السندات على شروط استهلاك السندات وكيفيته ومدته حتى يكون المكتتبون على بينة من هذه الأمور وقت الاكتتاب. ويمكن التمييز بين حالات ثلاثة لاستهلاك السندات:
(أ) سداد نقدي في ميعاد الاستحقاق.
(ب) إحلال السندات بغيرها.
(ج) تحويل السندات إلى أسهم.
(أ) السداد النقدي للسندات: وهذا يعني رد القيمة المتفق عليها وقت الاكتتاب إلى حملة السندات نقدا عند تاريخ الاستحقاق وقد تكون القيمة التي يتفق على ردها لحملة السندات عند تاريخ الاستحقاق مساوية القيمة الاسمية للسندات، وقد تكون أكبر من القيمة الاسمية للسندات وهنا يقال أن السندات سترد بعلاوة سداد، أو قد تكون القيمة المتفق عليها ردها لحملة السندات أقل من القيمة الاسمية للسندات وهنا يقال أن السندات سترد بخصم سداد، والسبب الذي من أجله تتعهد الشركة بسداد السندات في تاريخ استحقاقها بعلاوة يرجع إلى أن سعر الفائدة الذي يحدد لهذه السندات يكون عادة أقل من سعر الفائدة السائد في السوق في تاريخ إصدار السندات فبدلا من إصدار السندات بخصم إصدار، فإن الشركة تصدر السندات بقيمتها الاسمية على أن ترد لحملة السندات في تاريخ استحقاق السندات مبلغا أكبر من القيمة الاسمية للسندات التي دفعوها وقت الاكتتاب. ومن هذا يتبين لنا أن علاوة سداد السندات لا تختلف في طبيعتها عن خصم إصدار السندات فكل منهما يعتبر تسوية للفوائد التي تدفع إلى حملة السندات حملة السندات خلال مدة العرض.
والسبب الذي من أجله يقبل المكتتبون في السندات في تاريخ استحقاقها مبلغا أقل من القيمة التي دفعوها عند الاكتتاب يرجع إلى أن سعر الفائدة المحدد للسندات المصدرة يكون عادة أعلى من سعر الفائدة السائد في السوق عند إصدار السندات. فبدلا من إصدار السندات بعلاوة إصدار فإن الشركة تصدر السندات بقيمتها الاسمية على أن تعوض تلك العلاوة التي كان يجب أن يحصل عليها وقت الاكتتاب بأن ترد إلى حملة السندات في تاريخ الاستحقاق مبلغا أقل من القيمة التي دفعوها عند الاكتتاب. ومن هذا يتبين أن خصم سداد السندات لا يختلف في طبيعته عن علاوة إصدار السندات، فكلاهما يعتبر تسوية لحساب الفائدة ولتدبير المال اللازم لسداد السندات في تاريخ استحقاقها فإن الشركة تلجأ إلى حجز جزء من أرباحها سنويا وتخصصه لتكوين احتياطي سداد السندات وقد يكون هذا الاحتياطي إجباريا أي أن الشركة تنص صراحة في نشرة الإصدار بالتزامها بحجز جزء من أرباحها إذا سمحت أرباحها بذلك لتكوين هذا الاحتياطي. وقد يكون تكوين هذا الاحتياطي اختياريا أي يترك لمجلس إدارة الشركة حرية تكوين هذا الاحتياطي من عدمه حتى لا تلزم الشركة نفسها بالتزامات قد تجد نفسها غير قادرة على الوفاء بها مستقبلا.(6/1122)
كما أن تكوين هذا الاحتياطي سيشجع المستثمرين على الاكتتاب في السندات لضمان حصولهم على قيمة سنداتهم في تاريخ استحقاقها.
(ب) إحلال السندات بغيرها: تقوم بعض الشركات كلما حل تاريخ استحقاق السندات بإحلالها بسندات أخرى جديدة مستخدمة المبالغ التي تحصل عليها من الاكتتاب في الإصدار الجديد لسداد المستحق لحملة السندات القديمة التي حل ميعاد استحقاقها وتعرف هذه الطريقة من طرق سداد السندات بطريقة الإحلال.
ولكن عملية الإحلال غالبا ما تقام في تاريخ سابق لتاريخ استحقاق السندات القديمة لأن انتظار ذلك التاريخ قد لا يكون في مصلحة الشركة لسبب ظروف اقتصادية.
ويترتب على ذلك أن حق الشركة في استدعاء سنداتها في أي وقت يجب أن يكون منصوصا في نشرة الإصدار كما يترتب على استدعاء الشركة لسنداتها قبل تاريخ استحقاقها لإحلالها بغيرها بعض الضرر لحملة تلك السندات. ولهذا يجب تعويض حملة تلك السندات عن الضرر وذلك بأن ترد لهم مبلغا يزيد عن القيمة الاسمية لسنداتهم أي تسدد لهم السندات بعلاوة سداد. وعلاوة السداد هذه ليس مرجعها أن معدل سعر الفائدة المحدد كان أقل من سعر الفائدة السائد في السوق في تاريخ إصدارها بل ترجع إلى رغبة الشركة في تعويض الضرر الذي قد يصيب حملة تلك السندات.
(ج) تحويل السندات إلى أسهم: إن تحويل السندات إلى أسهم يعطي للسندات قوة ويشجع المستثمرين على الاكتتاب فيه لاحتمال تحويل تلك السندات مستقبلا إلى أسهم وتمتع أصحابها بأرباح المشروع الفائضة.
كما أن وجود هذا الشرط يمكن الشركة من إصدار سنداتها بأعلى من قيمتها الاسمية ولو كان سعر الفائدة المحدد لها مساويا أو أقل من سعر الفائدة السائد في السوق وقت الإصدار.
غير أن عملية تحويل السندات إلى أسهم قد لا تكون دائما في مصلحة حملة السندات بل يضطرون لها اضطرارا. فقد يتعذر على الشركة في تاريخ استحقاق سنداتها تدبير المال اللازم لسداد قيمتها فيضطر حملة السندات إلى الموافقة على تحويل سنداتهم إلى أسهم لأنه قد يترتب على إصرارهم على سداد قيمة سنداتهم نقدا حل الشركة وتصفيتها وقد لا يحصلون في هذه الحالة على قيمة سنداتهم بالكامل.(6/1123)
ثالثا: الابتكارات والتجديد:
نجد الأسواق المالية تقوم بإصدار العديد من الأوراق أو الأدوات المالية والتي من خلالها تحاول إرضاء رغبات المستثمرين من جانب ورغبات المقترضين والمستخدمين للأموال من جانب آخر. وهذه الرغبات تعكس أفضليات مختلفة من حيث العائد، والتكلفة ودرجة المخاطرة ودرجة السيولة وفترة الاستحقاق والحجم، وتتنوع هذه الأدوات المالية كرد فعل للتغييرات البيئية المختلفة المتمثلة في الجوانب الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والقانونية (1) .
ومن أهم الابتكارات التي ظهرت في فترة السبعينيات وحتى وقتنا الحاضر من ناحية الجديد في أدوات الاستثمار نستطيع أن نذكر.
1- سندات بفائدة ثابتة وشروط متغيرة:
هذا النوع من السندات يشبع رغبات المستثمر من حيث فترة الاستحقاق حيث إنه قابل للتحويل إلى سندات أخرى بنفس القيمة الاسمية لكن بفترة استحقاق تختلف عن الأولى (من الممكن أن تكون أطول أو أقل) مع الاحتفاظ بنفس الفائدة.
هذا النوع يسمح للمستثمر أكثر حرية من ناحية انتقال الملكية حيث يستطيع سحب استثماره قبل حلول تاريخ استحقاق السند.
2- سندات الخصم:
هذا النوع من السندات يباع بسعر أقل من القيمة الاسمية وبسعر فائدة أقل من سعر الفائدة السائد في السوق وربما بسعر فائدة يساوي صفرا. ويثير هذا النوع من السندات الذي لا تدفع عنه فوائد الشبهة لدى بعض الناس ولكنه سندات لا تختلف عن السندات بفائدة إذا أن الفرق بين سعر البيع والقيمة الاسمية التي ترد في تاريخ الاستحقاق يمثل الفائدة المركبة على أصل المبلغ المدفوع (2) .
__________
(1) د. أمال تيجاني علي، الابتكار والتجديد في الأسواق المالية الدولية، سوق الكويت للأوراق المالية، دليل المستثمر في سوق السندات، إدارة الدراسات والبحوث الاقتصادية، يوليو 1986: ص67.
(2) د. جمال الدين عطية، البنوك الإسلامية بين الحرية والتنظيم، التقليد والاجتهاد، النظرية والتطبيق (كتاب الأمة) ، عدد 13، 1986.(6/1124)
ومن فوائد هذا النوع بالنسبة للمستثمرين انعدام مخاطرة الاستدعاء بواسطة المقترض في حالة انخفاض أسعار الفائدة. كما أن الفائدة يعاد استثمارها بمعدل العائد إلى فترة الاستحقاق الذي يساوي معدل العائد السوقي عند الإصدار ولكن ليس هناك ضمان بأن تستثمر الفائدة بنفس السعر عند تسلمها من المقترض. كما يفضل المقترضون هذا النوع من السندات لأن تكلفته أقل من تكلفة السند العادي.
3- السندات المسترجعة:
وهذا النوع من السندات يمنح لحامله الحق في استرجاع القيمة الاسمية بعد كل فترة محددة، خمس سنوات مثلا. وفي هذه الحالة يقوم المقترض بإعطاء شروط جديدة ومحسنة عندما يطالب حامل السند باسترجاع قيمته الاسمية.
4- السندات بفائدة عائمة:
هذا النوع من السندات هو عبارة عن سندات متوسطة أو طويلة الأجل بسعر فائدة يتغير دوريا على فترات، غالبا كل سنة أو ستة أشهر على أساس سعر فائدة أساسي معين زائد هامش أو سعر إضافي. ويكون السعر الأساسي متغيرا حسب حالة السوق المالية بينما يكون الهامش الإضافي ثابتا يعكس درجة المخاطر المتعلقة بالمقترض (1) ومن جراء تداول هذا النوع من السندات ظهرت:
(أ) سندات الأمان (2) : وهي سندات بفائدة عائمة تتحول أوتوماتيكيا إلى سند بسعر فائدة ثابت في حالة انخفاض سعر الفائدة إلى مستوى معين.
(ب) سندات بفائدة عائمة يمكن تحويلها إلى سندات بفائدة ثابتة حسب رغبة حامل السندات وليس أتوماتيكيا كما في الحالة الأولى. وللمستثمر في هذا النوع من السندات مزايا تتمثل في حماية قيمة استثماره من الانخفاض في حالة زيادة أسعار الفائدة، والحصول على زيادة قيمة استثماره في حالة انخفاض أسعار الفائدة عن المعدل الذي يكون التحويل فيه إلى فائدة ثابتة مفيدا.
5- سندات بشهادة حق:
هذا النوع من السندات لا يختلف عن السندات العادية ولكن مرفق بها شهادة حق تسمح للمستثمر الحق في شراء أوراق مالية طيلة فترة زمنية معينة وبسعر محدد مسبقا.
__________
(1) سعر الفائدة الأساسي هو سعر الفائدة بين البنوك أو فرانكفورت أو سنغافورة أو أي بلد آخر.
(2) Drop Lock(6/1125)
- ويمكن أن تكون تلك الأوراق المالية سندات لها نفس شروط وخصائص السندات القديمة حيث ينتج من استملاكها تحقيق زيادة من قيمة الاستثمار في حالة توقع انخفاض أسعار الفائدة.
- كما يمكن أن تكون تلك الأوراق المالية سندات لها شروط مختلفة عن السندات الأصلية.
- كما يمكن أن تكون تلك الأوراق المالية أسهما عادية. وشهادة الحق يمكن تداولها في السوق المالي بمفردها. كما يمكن أن تكون معلقة بالسند الأصلي. وكلما ارتفع سعر الأسهم العادية في السوق كلما ارتفع سعر شهادة الحق. فشهادة الحق تجلب أموالا إضافية حيث عندما تزدهر المؤسسة وترتفع أسعار الأسهم إلى ما فوق سعر ممارسة حق شراء الأسهم، فإن المستثمرين سيتخلون عن شهادات الحق بشراء أسهم عادية والمساهمة في تمويل الشركة. كما أن إصدار سندات مصاحبة بشهادة حق يسمح للشركة بدفع فائدة أقل من سعر الفائدة على السندات العادية وشروط أيسر في نشرة الإصدار.
رابعا – وظائف السندات في النظام المالي المعاصر:
تميل عدة شركات إلى تفضيل سياسة الاقتراض عن طريق إصدار سندات على طريق زيادة رأس مال الأسهم بإصدار أسهم جديدة لتمويل مشاريعها الجديدة وذلك لما تتمتع به الطريقة الأولى من مزايا (1) .
1- تجنب المشاركة في إدارة الشركة:
إن إصدار سندات جديدة يسمح للشركة أن تمول مشاريعها دون مشاركة حملة السندات للمساهمين العاديين في إدارة الشركة، أما إذا لجأت الشركة لتمويل مشاريعها بزيادة رأس مال الأسهم عن طريق إصدار أسهم عادية جديدة فإن ذلك سيؤدي إلى إضافة مساهمين جدد يكون لهم حق المشاركة في إدارة الشركة وبذلك يفقد المساهمون القدامى جزءا من سيطرتهم على إدارة الشركة.
2- تجنب المشاركة في أرباح الشركة الفائضة:
يتقاضى حملة السندات فائدة محدودة. فإصدار السندات لا يترتب عليه مشاركة حملة السندات المساهمين العاديين في الأرباح الفائضة عندما يكون مردود المشروع أعلى من سعر الفائدة.
3- إمكان المتاجرة بحقوق المساهمين:
يمكن للمساهمين أن يتاجروا بحقوقهم في الشركة عند التجائهم إلى سياسة الاقتراض وإصدار السندات. فإن كان العائد الناتج من استثمار الأموال المقترضة أكبر من سعر الفائدة فإن المساهمين يربحون من وراء ذلك. أما إذا كان العائد الناتج من استثمار الأموال المقترضة أقل من سعر الفائدة، فإن المساهمين يخسرون من وراء ذلك.
__________
(1) د. حلمي محمود نمرود. عبد المنعم محمود: ص1265-266.(6/1126)
4- اتساع سوق الاستثمار: إصدار سندات وطرحها للاكتتاب العام يشبع رغبة طائفة من المستثمرين الذين لا يفضلون المخاطرة بل يكتفون بعائد ثابت. وهذا يساهم في اتساع سوق الاستثمار وتيسير الحصول على الأموال اللازمة للمشاريع الجديدة التي قد لا يمكن الحصول عليها إذا ما طرحت أسهم جديدة للاكتتاب العام.
5- تجنب تعطيل الأموال للمشروع:
قد تكون حاجة الشركة إلى الأموال لمدة محدودة أو لمقابلة ضرورة مؤقتة فإذا ما قوبلت تلك الحاجة عن طريق إصدار أسهم جديدة فسيترتب على ذلك وجود أموال فائضة عن احتياجات الشركة بعد زوال تلك الضرورة المؤقتة لأن الشركة لن تتمكن من استهلاك هذه الأسهم التي أصدرتها أو رد قيمتها. أما إذا لجأت الشركة إلى إصدار سندات لمدة محدودة فإنها تستطيع أن ترد قيمة القروض عند تاريخ الاستحقاق وبذلك لا تبقى هناك أموال عاطلة بالشركة.
6- تكلفة القروض بالسندات:
إن تكلفة القروض بالسندات عادة ما تكون أقل من تكلفة التمويل بالأسهم العادية أو الأسهم الممتازة. كما أن دفوعات الفائدة على القروض بالسندات تعتبر نفقات وبالتالي فهي تؤخذ في الحسبان قبل حساب الأرباح الخاضعة للضريبة بينما تعتبر عائدات الأسهم العادية والأسهم الممتازة توزيعا للأرباح خاضعا للضريبة.
فالسياسة الضريبية الموجودة في غالب البلدان تشجع المؤسسات على تمويل استثماراتهم بالسندات عوض الأسهم.
إلى جانب هذه المزايا التي يتمتع بها الاقتراض عن طريق إصدار سندات لتمويل المشاريع الجديدة، يتصف التمويل عن طريق إصدار سندات بعدة مساوئ (1) .
1- يتعهد مصدر السند بدفع قيمة القرض كاملة عند الاستحقاق لحامل السند في تاريخ محدد إلى جانب الفوائد في فترات محددة وهاته التدفقات النقدية تزيد من مخاطر المؤسسة إذا كانت هاته الأخيرة لها أرباح ضئيلة لا تسمح لها بدفع التزاماتها في الوقت المحدد.
2- كلما ازدادت المخاطر في المؤسسة كلما ارتفع سعر الخصم بالنسبة للأسهم مما يؤثر سلبيا على سعر السهم العادي في السوق.
3- بما أن للسندات تاريخا محددا لدفع قيمة القرض والفوائد، فالمسئولون الماليون بالمؤسسة يجدون أنفسهم مجبرين على التخطيط والتفكير في طريقة إرجاع القرض والفوائد في التواريخ المحددة.
__________
(1) Weston et Brigham، gestion Financiere، traduit et adapte par Michel Caron، 2e edition، Les editions H R W Liee Montreal، p. 330(6/1127)
4- بما أن الاقتراض بالسندات يمثل التزاما على المدى الطويل فهو يعرض المؤسسة إلى مخاطر عندما تكون تنبوءات المؤسسة المتفائلة حول المستقبل مخالفة للحقيقة فيصبح التمويل عن طريق إصدار السندات الطويلة الأجل عبئا ثقيلا بالنسبة للشركة يسبب في بعض الأحيان في إفلاسها وما يترتب عليه من مشاكل اقتصادية واجتماعية.
5- الالتزام على المدى الطويل بالنسبة للمؤسسة عند إصدار السندات يقيدها في سياستها المالية والاستثمارية مثلما هو منصوص في نشرة الإصدار أكثر من الاقتراض قصيرة الأجل أو إصدار أسهم عادية.
6- إن جميع أنواع السندات مقابل فائدة متفق عليها مقدما أو عائمة ومتغيرة وفقا لسعر الفائدة الجاري، أو قابلة للتحويل إلى أسهم، وسواء أكانت بعملة محددة أو بسلة من العملات كحقوق الدفع الخاصة أو وحدات النقد الأوروبية محرمة شرعا لدخول عنصر الفائدة فيها. ويشمل التحريم الأسواق الأولية والثانوية لهذه السندات، كما يشمل المشاركة فيها وإدارتها والتعهد بشرائها فجميع ذلك سواء في التحريم (1) .
*
**
__________
(1) د. جمال الدين عطية (البنوك الإسلامية بين الحرية والتنظيم، والتقليد والاجتهاد، النظرية والتطبيق) مصدر سابق: 140.(6/1128)
الفصل الثاني
الأسهم
إن نصيب الشريك في شركات المساهمة وفي شركات التوصية بالأسهم يحسب بالأسهم. أما نصيب الشريك في شركات الأشخاص (شركات التضامن وشركات التوصية البسيطة وشركات المحاصة) والشركات ذات المسئولية المحدودة فيحسب بالحصص.
قبل أن نركز على الأسهم وأنواعها وخصائصها وتطبيقاتها سنحاول أن نبدأ بتعريف أشكال الشركات التجارية حتى نتعرف على مدى ارتباط الشخصية المعنوية للشركة بشخصيات الشركاء والفرق بين شركات الأشخاص وشركات الأموال والشركات المختلطة.
أولا – أشكال الشركات التجارية (1) .
جرى الفقه على تقسيم الشركات التجارية إلى قسمين كبيرين:
- شركات أشخاص وتسمى أيضا شركات الحصص (2) .
- وشركات أموال (3) .
وأساس هذا التقسيم هو مدى قيام الشركة على الاعتبار الشخصي بين الشركاء ومدى مسئولية الشركاء عن ديون الشركة في مواجهة الغير. وإذا كان هذا التقسيم قد أصبح من الأمور التقليدية بين فقهاء القانون التجاري، فإن هناك شركات يصعب إدخالها في القسمين السابقين وذلك لأنها تجمع بين خصائص شركات الأشخاص وشركات الأموال ولذلك فقد اصطلح على تسميتها بالشركات المختلطة.
(أ) شركات الأشخاص:
تقوم هذه الشركات على الاعتبار الشخصي وتتكون أساسا من عدد قليل من الأشخاص تربطهم صلة معينة كصلة القرابة أو الصداقة. ويثق كل منهم في الآخر وفي قدرته وكفاءته، وعلى ذلك فإنه متى ما قام ما يهدد الثقة بين الشركاء ويهدم الاعتبار الشخصي الذي تقوم عليه هذه الشركات، فإن الشركة قد تضطر إلى الحل.
__________
(1) د. محمد حسن الجبر، القانون التجاري السعودي، عمادة شئون المكتبات، جامعة الملك سعود، الرياض، 1982م: ص140-144.
(2) Societes de personnes ou societes par interets.
(3) societes de capitaux(6/1129)
ويشمل هذا النوع من الشركات:
- شركات التضامن: حيث يكون كل شريك فيها مسئولا مسئولية تضامنية وفي جميع أمواله عن ديون الشركة كما يكتسب كل شريك صفة التاجر.
- شركات التوصية البسيطة: حيث تتكون من فريقين من الشركاء: شركاء متضامنين مسئولين مسئولية تضامنية وغير محددة عن ديون الشركة ويكتسبون صفة تاجر وشركاء موصين لا يسألون عن ديون الشركة إلا في حدود حصصهم ولا يكتسبون صفة التاجر ولا يشاركون في إدارة الشركة.
- شركات المحاصة: حيث لا تتمتع بالشخصية المعنوية ولا وجود لها بالنسبة إلى الغير وتقتصر آثارها على الشركاء فيها.
(ب) شركات الأموال:
وهي تقوم أساسا على الاعتبار المالي ولا يكون لشخصية الشريك أثر فيها، فالعبرة في هذه الشركات بما يقدمه كل شريك من مال، ولهذا فإن هذه الشركات لا تتأثر بما قد يطرأ على شخص الشريك كوفاته أو إفلاسه. وشركات الأموال تشمل شركات المساهمة حيث يقسم رأس المال فيها إلى أسهم متساوية القيمة وقابلة للتداول بالطرق التجارية ويسمى الشركاء في هذه الشركات بالمساهمين، وهم ليسوا تجارا ولا يسألون عن ديون الشركة إلا في حدود قيمة الأسهم التي يمتلكونها في الشركة
(ج) الشركات المختلطة:
تقوم هذه الشركات على الاعتبار المالي والاعتبار الشخصي في نفس الوقت وبالتالي فهي تجميع بين خصائص شركات الأموال وشركات الأشخاص. ويشمل هذا النوع من الشركات:
• شركات التوصية بالأسهم: وهي تتكون من فريقين من الشركاء: شركاء متضامنون يكتسبون جميعهم صفة التاجر ومسئولون مسئولية تضامنية وغير محددة عن جميع ديون الشركة في مقابل ذلك يستأثرون بالإدارة (مثل شركات الأشخاص) . وشركاء موصون لا يترتب على دخولهم في الشركة اكتساب صفة التاجر ولا يسألون عن ديون الشركة إلا في حدود حصصهم التي تأخذ شكل الأسهم القابلة للتداول بالطرق التجارية (مثل شركات الأموال) .
• شركات ذات المسئولية المحدودة: وهي تتكون بين عدد قليل من الشركاء كأصحاب حصص وليس كمساهمين، كما يحظر فيها اللجوء إلى الادخار العام عن طريق الاكتتاب في أسهم أو سندات، فهي تشبه من هذه الناحية شركات الأشخاص كما تشبه شركات الأموال من حيث تحديد مسئولية كل شريك فيها عن ديون الشركة بمقدار حقه ومن حيث نظام إدارتها والرقابة عليها.(6/1130)
يمكن لنا أن نستخلص من هذا التقديم أن الأسهم القابلة للتداول بالطرق التجارية لها علاقة بشركات المساهمة وبشركات التوصية بالأسهم. غير أن شركات التوصية بالأسهم تكاد اليوم تختفي تماما من واقع الكثير من الدول نتيجة لظهور وشيوع الشركة ذات المسئولية المحدودة وعلى أثر إجازة معظم التشريعات تأسيس شركات مساهمة بغير ترخيص حكومي (1) . فجلُّ الأسهم التي يتم تداولها في بورصات العالم تخص إذا شركات المساهمة.
ثانيا- تعريف السهم وخصائصه:
السهم هو الصك الذي تصدره الشركة، ويمثل حق المساهم فيها، ويتمتع حامله بالحق في الحصول على عائد سنوي نتيجة استثمار رأس ماله، وقد يختلف العائد من سنة إلى أخرى، كما يضمن حامل الأسهم ديون الشركة في بطاقة حصته فقط دون أن تتعدى هذه الخسارة لتلحق بأمواله الخاصة (2) .
(أ) تحديد مدلول القيم المختلفة للسهم:
يجب التمييز بين القيمة الاسمية وقيمة الإصدار والقيمة الدفترية والقيمة الحقيقية والقيمة السوقية للسهم.
- القيمة الاسمية: هي قيمة السهم المبينة على شهادة السهم بمعنى أن مجموع القيم الاسمية لأسهم الشركة المساهمة يساوي رأس مال الشركة، ويقسم رأس مال الشركة المساهمة إلى مجموعة من الأسهم متساوية القيمة.
- قيمة الإصدار: هي القيمة التي يصدر بها السهم وعادة يصدر السهم بقيمته الاسمية، ولا يجوز إصدار السهم بأقل من قيمته الاسمية في عدة بلدان، فإن تم إصدار السهم بأكثر من قيمته الاسمية، يطلق على فرق القيمة علاوة الإصدار وبالتالي فإن قيمة الإصدار تساوي القيمة الاسمية للسهم زائدة علاوة الإصدار.
- القيمة الدفترية: هي نصيب السهم من صافي أصول الشركة والقيمة الدفترية للسهم قد تزيد أو تقل عن قيمته الاسمية ويتوقف ذلك على نتيجة أعمال الشركة.
- القيمة الحقيقية للسهم: هي نصيب السهم من صافي أصول الشركة بعد إعادة تقديرها وفقا للأسعار الجارية وبعد إعادة تقدير الخصوم لإظهار الالتزامات الحقيقية للشركة.
- القيمة السوقية: هي القيمة التي يباع بها السهم في السوق المالي وفقا لقوى العرض والطلب.
__________
(1) د. محمود حسن الجبر، مرجع سابق: ص309-310.
(2) د. عيد مسعود الجهني: الاستثمار بالأسهم في السوق السعودي، مطابع الشريف: ص36.(6/1131)
(ب) الوضع القانوني للسهم وخصائصه:
لشركات المساهمة شخصية معنوية مستقلة عن شخصية الشركاء، وهذه الشخصية من شأنها أن تغير من الطبيعة القانونية للسهم. فالمساهمون يملكون أسهما تمثل أنصبتهم في أرباح الشركة وفي خسائرها ما دامت الشركة قائمة، وتمثل أنصبتهم في مال الشركة بعد حلها وصيرورة هذا المال مملوكا مباشرة للمساهمين. وهذه الأسهم ليست إلا حقوقا شخصية للشريك قبل الشركة، هي بهذه المثابة أموال منقولة حتى لو كانت أموال الشركة كلها أموالا عقارية. ويترتب على أن السهم في الشركة هو حق شخص منقول عدة نتائج، نذكر منها:
- إذا تصرف صاحب السهم فيه فإنما هو يتصرف في منقول.
- إذا أوصى شخص آخر بمنقولاته دخل في هذه المنقولات ما عسى أن يكون للموصي من السهم في الشركات.
- في حالة الحجز على الأسهم يتم ذلك بطريق حجز ما للمدين لدى الغير أو حجز المنقول إذا كانت لحاملها. هذا وترتبط الأسهم بحياة الشركة ارتباطا وثيقا حيث تكون جنسية الشركة والنقود المستعملة في شرائها والقانون المطبق هو قانون المركز الرئيسي للشركة.
ومن خصائص السهم أنه يتميز بتساوي القيمة وعدم قابليته للتجزئة وبقابليته للتداول:
1- المساواة في القيمة:
ينقسم رأس مال شركة المساهمة إلى أسهم متساوية القيمة. وحكمة ذلك هي تسهيل حساب الأغلبية في الجمعية العمومية، وتسهيل عملية الأرباح على المساهمين. ويترتب على تساوي قيمة الأسهم المساواة في الحقوق التي يمنحها السهم، وهي الحق في الأرباح والتصويت وناتج التصفية وكذلك الالتزامات الناشئة عن ملكية السهم. ويمكن للشركة إصدار أسهم ممتازة تخول أصحابها أولوية في الأرباح أو في ناتج التصفية أو في الأمرين معا، ولكن يجب أن تتوافر المساواة بين الأسهم المتشابهة التي تنتمي لفئة واحدة.(6/1132)
2 - عدم قابلية السهم للانقسام أو التجزئة في مواجهة الشركة:
فإذا تعدد ملاك السهم، وجب أن يختاروا أحدهم لينوب عنهم في استعمال الحقوق المترتبة على ملكية السهم في مواجهة الشركة. ويكون الملاك المتعددون مسئولين بالتضامن عن الالتزامات الناشئة عن ملكية السهم.
3- قابلية السهم للتداول بالطرق التجارية:
يجوز للمساهم أن ينقل ملكية أسهمه لشخص آخر يحل محله في الشركة ويتم نقل الملكية بالتسليم إذا كان السهم لحامله، وبالقيد في سجل الشركة إذا كان السهم اسميا. وإذا نص نظام الشركة بما يتضمن تحريم التنازل عن الأسهم فإن الشركة تفقد صفتها كشركة مساهمة وتصبح من شركات الأشخاص.
ثالثا – أنواع الأسهم:
تنقسم الأسهم إلى أنواع مختلفة بحسب الوجهة التي تتخذ أساسا للتقسيم:
(أ) تنقسم الأسهم حسب ملكيتها إلى:
- أسهم اسمية: هي التي تصدر باسم صاحبها وتتداول بطريق القيد في سجل المساهمين الذي تعده الشركة لهذا الغرض.
- أسهم لحاملها: هي التي لا تحمل اسم المساهم، ويعتبر حامل السهم هو المالك في نظر الشركة، ويتم نقل ملكيته بطريق التسليم من يد إلى أخرى. وتتجه التشريعات التجارية في الوقت الحاضر إلى حظر إصدار الأسهم لحاملها، وذلك للتحقق من جنسية المساهمين والتأكد من حصة المواطنين في رأس مال الشركات وفي نفس الوقت القضاء على التهرب من الضرائب ولمحو مخاطر الضياع أو السرقة.(6/1133)
- أسهم لأمر: هي التي يذكر فيها اسم صاحب الحق مسبوقا بعبارة (الأمر أو الإذن) ، ويتم تداول هذا النوع من الأسهم بالتظهير دون حاجة إلى الرجوع إلى الشركة، ويشترط أن تكون قيمتها الاسمية قد دفعت بالكامل.
(ب) تنقسم الأسهم حسب طبيعة الحصة التي يقدمها المساهم إلى:
- أسهم نقدية: هي التي تمثل حصصا نقدية في رأس مال شركة المساهمة. ويجب أن تظل هذه الأسهم اسمية إلى أن يتم الوفاء بقيمتها كاملة.
- أسهم عينية: هي التي تصدرها الشركات في مقابل حصص عينية مثل العقارات والمباني والبضاعة، ولا يتم تسليم الأسهم التي تمثل حصصا عينية إلى أصحابها إلا بعد أن تنتقل ملكية هذه الحصص كاملة إلى الشركة.
- أسهم منحة: وهي التي تصدر من طرف الشركة في حالة زيادة رأس المال على شكل ترحيل جزء من الأرباح المحتجزة أو الاحتياطي إلى رأس المال الأصلي. وتوزع على المساهمين مجانا لأن قيمتها سددت من الأرباح المحتجزة أو الاحتياطي. ويتم التوزيع بنسبة ما يملكه كل مساهم من الأسهم الأصلية.
(ج) تنقسم الأسهم من حيث علاقة الأسهم برأس المال إلى:
- أسهم رأس المال: وهي التي لم يقبض المساهم قيمتها الاسمية من الشركة وهذه هي الصورة العادية للسهم، لأن رد قيمة الأسهم للمساهمين لا يجوز إلا عند تصفية الشركة وبعد الوفاء بديونها.
- اسهم التمتع: وهي التي تعطي للمساهم الذي استهلكت أسهمه، ويقصد باستهلاك السهم قيام الشركة بدفع القيمة الاسمية للمساهم أثناء حياة الشركة، لأن استهلاك الأسهم يبدو ضروريا في بعض الأحيان خاصة، إذا كانت ممتلكات الشركة مما يلحقها النقص على توالي الزمن كشركات المناجم أو المحاجر أو كانت حاصلة على امتياز من الحكومة ومضطرة إلى تسليم ممتلكاتها في نهاية مدة الامتياز.
فتقوم الشركة باستهلاك بعض الأسهم كل عام حتى يتم استهلاك جميع الأسهم عند انتهاء مدة الشركة. والاستهلاك لا يجوز إلا من احتياطي الشركة أو أرباحها. فسهم التمتع لا يستحق شيئا في الأرباح إلا بعد توزيع نسبة معينة من الأرباح على الأسهم التي لم تستهلك. كما أن حملة أسهم التمتع لا يشتركون في قسمة موجودات الشركة عند حلها إلا بعد أن يستوفي أصحاب الأسهم التي لم تستهلك قيمة أسهمهم نظرا لأن القيمة الاسمية لأسهم التمتع قد دفعت من قبل.(6/1134)
(د) تنقسم الأسهم من حيث الحقوق المرتبطة بها إلى:
- أسهم عادية: وهي التي تعطي لحاملها الحقوق العادية المترتبة للمساهم دون أي امتيازات في الأرباح أو في حالة تصفية الشركة أو غير ذلك. ومن أهم الحقوق التي يتمتع بها المساهم العادي الحق في التصويت في الجمعية العمومية، والحق في نقل ملكية الأسهم بالبيع أو بأي طريق آخر، والحق في الحصول على الأرباح إذا ما قررت الإدارة توزيعها كما يتمتع بمسئولية المحدودة بحصته في رأس المال.
- أسهم ممتازة: وهي التي تخول لأصحابها الأسبقية الحصول على نسبة معينة من أرباح الشركة أو في اقتسام أموال التصفية بعد حل الشركة
وتجمع الأسهم الممتازة بين سمات الأسهم العادية والسندات:
فالسهم الممتاز يشبه السهم العادي في بعض النواحي، من أهمها أنه يمثل صك ملكية ليس له تاريخ استحقاق وأن مسئولية حاملة محدودة بمقدار مساهمته، كما لا يحق لحملة هذه الأسهم المطالبة بنصيبهم من الأرباح إلا إذا قررت الإدارة إجراء توزيعات.
والسهم الممتاز يشبه السند لأن نصيبه من الأرباح محدد بنسبة معينة من قيمته الاسمية، وأنه لا يجوز لحملة الأسهم العادية الحصول على نصيبهم من الأرباح أو نصيبهم من أموال التصفية قبل أن يحصل حملة الأسهم الممتازة على نصيبهم منها كما يمكن استدعاء الأسهم الممتازة من طرف الشركة على النحو الذي يتم للسندات.
ويلاحظ أن الأسهم الممتازة لا تصدر عادة عند تأسيس الشركة بل عند الزيادة رأس مالها بقصد إغراء المستثمرين على الاكتتاب في الزيادة. ولكن ليس للشركة الحق في إصدار هذا النوع من الأسهم إذا لم يوجد نص في نظام الشركة أو إقرار من الجمعية العمومية غير العادية حتى يكون المساهمون العاديون على بينة من الأمر.
رابعا – الأسهم كمصدر للتمويل:
سنحاول تقويم الأسهم العادية والأسهم الممتازة كمصدر تمويل طويل الأجل فنعرض أهم المزايا والعيوب لكل من هذين المصدرين:
1 – الأسهم العادية كمصدر للتمويل (1) :
من مزايا وعيوب الأسهم العادية نعرض ما يلي:
(أ) مزايا الأسهم العادية:
هناك عدة مزايا ترتبط باستخدام الأسهم العادية كمصدر للتمويل طويل الأجل، وهي:
- أن الشركة المصدرة للأسهم العادية غير ملزمة بإجراء توزيعات لحملة هذه الأسهم.
- أن الأسهم العادية لا تحمل تاريخ الاستحقاق، فهي مصدر دائم للتمويل إذ لا يجوز للمساهم استرداد قيمتها من الشركة التي أصدرتها (2) .
-
__________
(1) منير هندي الإدارة المالية: مدخل تحليلي معاصر، المكتب العربي الحديث 1989م، ص469.
(2) من الممكن أن تستهلك الأسهم العادية في حالات خاصة فتستبدل بأسهم تمتع.(6/1135)
- إصدار المزيد من الأسهم العادية يؤدي إلى انخفاض نسبة الاقتراض وانخفاض المخاطر التي يتعرض لها المقرضون والملاك حيث ينخفض احتمال وجود صعوبات في سداد قيمة القروض والفوائد عندما يحل موعد استحقاقها.
(ب) مساوئ الأسهم العادية:
يتسم التمويل بالأسهم العادية ببعض العيوب من أهمها:
- أن إصدار أسهم عادية جديدة يترتب عليه في بعض الأحيان دخول مساهمين جدد مما يعني تشتتا أكبر للأصوات في الجمعية العمومية، وقد يكون في هذا إضعاف لمركز المساهمين القدامى.
- تكلفة التمويل بالأسهم العادية تعتبر مرتفعة مقارنة بتكلفة التمويل بالسندات لأن: العائد الذي يطلبه المساهمون عادة ما يكون مرتفعا نظرا للمخاطر التي تتعرض لها الأموال المستثمرة. كما أن الأرباح الموزعة على المساهمين عكس فوائد القروض لا تعتبر من بين التكاليف التي تخصم قبل حساب الضريبة ومن ثم لا يتولد عنها أي وفورات ضريبية (1) .
- لا يتمتع المساهمون العاديون بالأرباح الموزعة إلا بعد إرضاء حاملي السندات وحملة الأسهم الممتازة.
2- الأسهم الممتازة كمصدر للتمويل:
من مزايا وعيوب الأسهم الممتازة نعرض ما يلي:
(أ) مزايا الأسهم الممتازة:
- أن الشركة المصدرة للأسهم الممتازة غير ملزمة بإجراء توزيعات وذلك شأنه أن يرفع درجة سيولة الشركة لتمويل مشاريع جديدة، كما أن التوزيعات محدودة بمقدار معين (2) .
- لا يحق لحملة هذه الأسهم في التصويت إلا في: الحالات التي تعاني فيها المنشأة من مشاكل عويصة.
- أن إصدار المزيد من الأسهم الممتازة يسهم في تخفيض نسبة الأموال المقترضة للأموال المملوكة مما يترتب عليه زيادة الطاقة الاقتراضية المستقبلية للمنشأة.
- أن قرار إصدار الأسهم الممتازة قد يتضمن إعطاء الشركة الحق في استدعاء الأسهم الممتازة التي أصدرتها مقابل أن يحصل حامل الأسهم على مبلغ يفوق قيمتها الاسمية. وهذا يمكن الشركة من الاستفادة من انخفاض أسعار الفائدة في السوق وذلك بالتخلص من الأسهم الممتازة التي سبق أن أصدرتها وإحلالها بسندات ذات كوبون منخفض أو بأسهم ممتازة ذات معدل ربح منخفض.
__________
(1) هذا يعني القوانين الموجودة تشجع التمويل بالقروض والسندات عوض التمويل بالأسهم وذلك يمنح وفورات ضريبية للمؤسسات التي تمول مشاريعها بالاقتراض.
(2) Institut cadadien des valeurs mobilieres: comment placer son argent en actions et en obligations، 1976، p.140.(6/1136)
(ب) مساوئ الأسهم الممتازة:
يتسم التمويل بالأسهم الممتازة ببعض العيوب من أهمها:
- تكلفة التمويل بالأسهم الممتازة تعتبر مرتفعة مقارنة بتكلفة التمويل بالسندات، ويرجع هذا إلى أن توزيعات الأسهم الممتازة لا تخضع للضريبة ومن ثم لا يتولد عنها أي وفورات ضريبية.
- إن حملة الأسهم الممتازة يتعرضون لمخاطر أكبر من تلك التي يتعرض إليها المقترضون ومن ثم يطالبون بمعدل أعلى العائد.
- لا يتمتع المساهمون الممتازون بالأرباح الموزعة إلا بعد إرضاء حاملي السندات.
- فعلى عكس المقرضين ليس هناك ما يضمن حصول حملة الأسهم الممتازة على عائد دوري، كما أنه في حالة الإفلاس وتوزيع أموال التصفية يأتي حملة الأسهم الممتازة في المرتبة الثانية بعد حاملي السندات.
- ليس لحملة هذه الأسهم المطالبة بنصيبهم في الأرباح إلا إذا قررت الإدارة إجراء توزيعات، إلا أنهم يحتفظون بحقهم في الحصول على مستحقاتهم من أرباح السنوات التي لم يجر فيها توزيع، وذلك قبل أن يحصل حملة الأسهم العادية على أي توزيعات.
- أن حملة الأسهم الممتازة لهم الحق في التصويت في المسائل التي تتعلق بفرض قيود على إجراء التوزيعات أو في حالة عدم كفاية الأموال التي ينبغي احتجازها لاستدعاء الأسهم الممتازة.
خامسا – بعض العمليات المتعلقة بالأسهم العادية:
قد تبدأ الشركة المساهمة برأس مال بسيط ثم تأخذ أعمالها في النمو والاتساع فتلتمس الحاجة إلى زيادة رأس مالها.
كما تلجئ الحاجة في بعض الأحيان إلى ضرورة تخفيض رأس المال سواء بتخفيض القيمة الاسمية للسهم أو إنقاص عدد الأسهم أو شراء أسهم الشركة مما يؤثر في كثير من الأحيان على السعر السوقي للسهم وعلى ثروة الملاك.
1- زيادة رأس المال:
تتم زيادة رأس المال بإحدى الطرق الآتية:
(أ) إصدار أسهم جديدة:
قد تلجأ الشركة إلى إصدار أسهم جديدة إذا رأت أنها في حاجة إلى موارد مالية لمواجهة التوسع في أعمالها. وقد يكون في هذا ضرر بالمساهمين القدامى، لأن المساهمين الجدد يشاركونهم في الاحتياطات والأرباح المحجوزة من الأعوام السابقة والتي هي من حق المساهمين القدامى فقط. ولتحقيق التوازن بين المساهمين القدامى والمساهمين الجدد تلجأ الشركة إما إلى:
- إصدار الأسهم الجديدة بأكبر من قيمتها الاسمية، أي: بعلاوة إصدار وذلك نظير تمتع ومشاركة المساهمين الجدد للمساهمين القدامى في هذه الاحتياطات والأرباح.(6/1137)
- إعطاء الملاك القدامى حق الأولوية في شراء الإصدارات الجديدة من الأسهم العادية (1) .
فتقدم المنشأة لكل مساهم صك مقابل كل سهم يمتلكه (2) .
وهذا الصك (حق المساهم في الشفعة) يسمح للمساهم بالاشتراك في زيادة رأس المال بنسبة مساهمته السابقة. كما أنه قابل للتفاوض عموما ويمكن بالتالي اكتسابه أو ممارسته من قبل شخص آخر غير مساهم (3) .
أما إذا قلت القيمة السوقية عن القيمة الاسمية، فإن أسهم زيادة رأس المال تصدر عادة بقيمة أقل من قيمتها الاسمية، أي: بخصوم إصدار. مع الملاحظة أن قوانين بعض البلدان (4) تمنع إصدار أسهم زيادة رأس المال إذا كانت القيمة الحقيقية أقل من القيمة الاسمية وذلك لحماية المستثمرين من شراء أسهم الشركات غير الناجحة عن طريق خفض سعر السهم عن قيمته الاسمية.
(ب) إدماج الاحتياطي أو الأرباح غير الموزعة على رأس المال:
ويتم ذلك إما عن طريق:
- زيادة القيمة الاسمية بنسبة الزيادة في رأس المال.
- إصدار أسهم منحة بالقيمة المطلوب تعليتها على رأس المال وتوزيعها مجانا على المساهمين بنسبة ما يملكه كل مساهم من الأسهم الأصلية. وزيادة رأس المال في هذه الحالة لا تؤدي إلى حصول الشركة على أموال جديدة ولكن تتم بدمج جزء من الأرباح أو الاحتياطي أو علاوات الإصدار إلى رأس المال الأصلي. وتلجأ الشركة عادة إلى هذه الطريقة:
* إذا ارتفعت أسعار الأسهم كثيرا الأمر الذي من شأنه إعاقة تداول الأسهم وتشجيع المضاربات فتلجأ إلى هذه الطريقة لتخفيض قيمة السهم وتيسير سبل تداوله.
* إذا ارتفعت قيمة الأرباح الموزعة مما يجعلها لا تتناسب مع القيمة الاسمية للسهم فتلجأ الشركة إلى هذه الطريقة حتى تقلل من قيمة الأرباح وتصبح نسبة معقولة.
__________
(1) ويسمى كذلك حق المساهم في الشفعة أو حق الاكتتاب preemptive rights
(2) Weston، J. F. and E. F Brigham، Managerial Finance، The Dryden Press، 1981، p. 761.
(3) للتعرف على قيمة وعلى عدد الصكوك التي تسمح للمساهم شراء سهم واحد وتأثير إصدار الصكوك على القيمة السوقية للأسهم القديمة ارجع إلى Weston and Brigham، مرجع سابق: ص761 – 769.
(4) قانون الشركات المصري.(6/1138)
(ج) تحويل السندات إلى أسهم:
ويحدث ذلك إذا وجدت الشركة صعوبات عن سداد ما عليها من ديون في تاريخ استحقاقها. فيعرض على حملة السندات استبدال قيمتها بأسهم وذلك لأن إصرارهم في المطالبة بديونهم قد يؤدي إلى إفلاس الشركة. ويتم تحويل السندات إلى أسهم عن طريق إصدار أسهم جديدة بقيمة الديون وتوزيعها على الدائنين مجانا.
2- تخفيض رأس المال:
قد تلجأ شركة المساهمة إلى تخفيض رأس مالها في الحالات الآتية:
- إذا كان رأس مالها زائدا عن القيمة المستثمرة.
- إذا أتضح أن الأصول مقومة دفتريا بأكثر من القيمة الحقيقية وأن الخصوم مقومة بأقل من قيمتها.
- إذا كانت الخسائر جسيمة وأتضح أنه لا أمل في تعويضها من الأرباح المستقبلة. ومهما كان السبب فيمكن اختيار إحدى الطرق الآتية لإجراء هذا التخفيض.
(أ) تخفيض القيمة الاسمية للأسهم (1) .
ويتم هذا التخفيض:
- بإعفاء المساهم من دفع المبالغ الباقية من قيمة السهم إذا كانت قيمته غير مسددة بالكامل.
- رد جزء نقدي من قيمة السهم المدفوعة إذا كانت قيمة الأسهم مسددة بالكامل. وهنا تعوض الشركة الأسهم القديمة بأسهم جديدة بالقيمة الاسمية المخفضة.
(ب) إنقاص عدد الأسهم (2) :
ويتم هذا الإنقاص سواء أن:
- ترد الشركة نقدا كل القيمة المدفوعة عن عدد معين من الأسهم تختار بالاقتراع.
- أو تسترد الشركة الأسهم القديمة من المساهمين جميعا وتسلمهم مقابلها عددا أقل من الأسهم القديمة من دفع الفرق نقدا.
(ج) شراء الأسهم (3) :
وفي هذه الحالة، تلجأ الشركة إلى شراء أسهمها من البورصة بالقيمة السوقية. وينقص رأس المال بمبلغ معادل لثمن الأسهم المشتراة إذا كانت القيمة الاسمية تساوي القيمة السوقية. أما إذا كانت القيمة السوقية أكثر من القيمة الاسمية فإن الشركة تحقق أرباحا. وإذا كانت القيمة السوقية أقل من القيمة الدفترية فإن الشركة تحقق خسارة. كما يجب ملاحظة أن الشركة لا تلتزم بإلغاء الأسهم المشتراة بل يجوز لها أن تحتفظ بها وتضعها في التداول فيما بعد. وهذه الأسهم يطلق عليها أسهم الخزانة (4) . كما أن الشركة لا تكتسب صفة المساهم بما اشترته من أسهم ولا تحصل على نصيب من الأرباح ولا تصويت في الجمعية العمومية.
__________
(1) Reducation of par-value
(2) Reduction of number of shares
(3) Purchase of stock
(4) Treasury stock(6/1139)
3- التعهد بتسويق الأسهم عند الإصدار:
على الرغم من أنه يمكن تسويق الأسهم عند الإصدار بدون الاستعانة بالخدمات التسويقية لسماسرة وموزعي الأوراق المالية ومصرفي الاستثمار إلا أن ذلك غير ممكن في كثير من الأحوال وذلك نتيجة للجهد الذي لا بد أن يبذل وكذلك الوقت اللازم حتى تتلاقى شركات المساهمة بالمدخرين.
ولذا، فإنه غالبا ما يستعان في توزيع الأسهم بخدمات هؤلاء الوكلاء والسماسرة والذين يقومون بتكوين سوق لهذه الأسهم وتقديم التسهيلات اللازمة لكل من الشركة المساهمة والمدخرين.
وتتم إجراءات الإصدارات بأن تتفق شركة المساهمة والوكيل على تفصيلات الإصدار كالمبلغ المصدر ونوعية الأسهم المراد إصدارها وتاريخ الاكتتاب ومدته وتسليم علاوة على عمولات الوكيل والمصاريف التي يتحملها. ثم يطرح الإصدار للاكتتاب العام. وعند الانتهاء من فترة الاكتتاب تنقل المبالغ لحساب الشركة.
ولكن قد لا ترغب الشركة في الانتظار حتى تنتهي مدة الاكتتاب العام لأنها في حاجة ملحة للأموال، أو لأنها لا تريد أن تتحمل المخاطر التي قد تنجم عن انخفاض السعر أثناء توزيع الأسهم الجديدة. وفي مثل هذه الحالات يتم الاتفاق مع مصرفي الاستثمار أو مع مؤسسة مالية في أن تتولى دفع مبلغ يتفق عليه على أن تتولى هي الإصدار لصالحها وهو ما يسمى التعهد بتسويق الأسهم عند الإصدار أو ضمان تغطية الاكتتاب (1) .
ومن بين الذين يقومون بالخدمات التسويقية للأوراق المالية (2) . ويمكن أن نذكر:
__________
(1) Under writing
(2) عبد المنعم أحمد التهامي، التمويل، مقدمة في المنشآت والأسواق المالية – مكتبة عين شمس، 1985م، ص27.(6/1140)
(أ) سماسرة الأوراق المالية:
يؤدون دور الوسيط بين مشتري الأسهم (المدخر) وبائع تلك الأسهم (الشركة المساهمة) وذلك نظير عمولة محددة. وعلى ذلك فإنه لا يشتري هذه الأسهم لحسابه بل لحساب العميل والذي يتحمل بدوره كافة المخاطر المتعلقة بهذه الأسهم. فالسمسار لا يتحمل أي نوع من أنواع المخاطر لأنه ببساطة لا يمتلك هذه الأوراق وليس له أي حق قانوني عليها.
(ب) موزع الأوراق المالية:
يقوم بشراء الأسهم لحسابه وبيعها أيضا لحسابه ويحقق أرباحه من الفرق بين سعر شراء الأسهم وأسعار بيعها، وهو بذلك يتحمل مخاطر استثمار المال في شراء تلك الأسهم.
(ج) مصرفي الاستثمار (1) :
هي مؤسسات مالية تقوم بدور الوسيط بين الشركة وبين جمهور المستثمرين في الأوراق المالية. ومن أهم وظائف مصرفي الاستثمار.
- إعطاء المشورة المالية لعملائهم.
- القيام بدور الوسيط في عملية توزيع الأوراق المالية عند إصدارها للجمهور.
- تحمل المخاطر التي قد تنجر عن انخفاض السعر أثناء توزيع الأسهم الجديدة. كما يضمن مصرفو الاستثمار أن تحصل الشركة التي عقدت اتفاقا معهم على مبلغ محدد من المال مقابل الأوراق المالية التي أصدرتها في تاريخ معين.
*
**
__________
(1) Investment Bankers.(6/1141)
الفصل الثالث
الاختيارات
شهدت أسواق الاختيارات نموا سريعا طيلة السنوات الماضية خاصة بعد تأسيس سوق شيكاغو لتداول اختيارات الشراء على الأسهم سنة 1973م، وهو أول سوق منظم لتداول هذا النوع من الأدوات المالية (1) . كما تم تأسيس أسواق مماثلة بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1976م لتداول اختيارات الشراء على الأسهم (2) . أما في سنة 1977م فقد تم إدراج اختيارات البيع على الأسهم في جل أسواق الاختيارات الأمريكية. كما تم في الثمانينات إدراج أنواع جديدة من الاختيارات تخص ليس فقط الأسهم بل سندات الخزينة الأمريكية للعملات الأجنبية، والسلع والبضائع ومؤشرات قياس الأداء في أسواق الأسهم، وأسواق البضائع والأسواق المستقبلية: إذا نتوقع أن الاختيارات ستلعب دورا هاما في الأسواق المالية في المستقبل، يعرف (Sharpe) (3) ، الاختيار (كعقد يخول لحامله الحق لبيع أو شراء أوراق مالية أو سلع معينة بسعر معين طيلة فترة زمنية معينة، فالاختيار هو اتفاق بين طرفين وبموجبه يتعهد الطرف الأول (البائع) أن يعطي للطرف الآخر (المشتري) الحق وليس الإجبار لشراء أو لبيع أسهم أو سلع حسب شروط منصوص عليها في العقد. ومن هنا يمكن أن نتخذ عدة أوضاع:
(أ) شراء اختيار شراء.
(ب) بيع اختيار شراء.
(ج) شراء اختيار بيع.
(د) بيع اختيار بيع.
وتعتبر كل هذه الأوضاع غير مغطاة (4) . كما يمكن للمستثمر أن يتخذ أوضاعا مغطاة سواء.
(أ) تكوين محفظة أوراق مالية متكونة من اختيارات تخص نوعية معينة من الأسهم وأسهم من نفس النوعية وذلك للتحوط من تذبذب أسعار الأوراق المالية. ويسمى هذا النوع من التغطية التحوط (Hedging) .
(ب) تكوين محفظة أوراق مالية متكونة من اختيارات من نفس النوع ولكن ذات تاريخ استحقاق مختلف أو سعر ممارسة مختلف ويسمى هذا النوع: التغطية المنجرة من اختلاف الأسعار (Spread) .
(ج) تكوين محفظة أوراق مالية متكونة من اختيارات بيع واختيارات شراء تخص نفس الأسهم ويسمى هذا النوع من التغطية المزيج (Combination) ، وسنحاول في هذا الفصل أن نقدم الفقرات الآتية:
- تعريف الاختيارات وأنواعها والأوضاع غير المغطاة مع إعطاء أمثلة لذلك.
- تعريف الأوضاع المغطاة مع إعطاء أمثلة لذلك.
__________
(1) The Chicago Board options exchange
(2) The American، Philadelphia and Pacific Stock exchanges.
(3) William sharpe Investments Prentice Hall 1978، p. 475.
(4) uncovered Positions.(6/1142)
- تقويم سعر الاختيارات والعوامل التي تؤثر على قيمته.
- تطبيقات الاختيارات على الأسهم والسندات.
أولا- تعريف الاختيارات وأنواعها:
يوجد نوعان من الاختيارات:
- اختيار الاستدعاء (أو اختيار الشراء) .
- اختيار البيع.
(أ) اختيار الاستدعاء (Call) :
اختيار الاستدعاء هو عقد يعطي حامله الحق في شراء عدد معين من الأسهم بسعر معين وذلك عند تاريخ الاستحقاق أو طيلة فترة زمنية منصوص عليها في العقد. فمشتري اختيار الاستدعاء له الاختيار في ممارسة حقه طيلة الفترة الزمنية المحددة. أما بائع اختيار الاستدعاء فهو مجبر على بيع الأسهم عندما يمارس المشتري حقه في شراء الأسهم. والمشتري اختيار الاستدعاء عدة بدائل يمكن اتخاذها حتى ميعاد تاريخ الاستحقاق.
- يمارس حقه ويشتري الأسهم ويدفع السعر المحدد (سعر الممارسة) .
- بيع اختيار الاستدعاء بالسعر السوقي ويلغي وضعيته.
- يحافظ على حقه دون ممارسة إلى أن ينعدم حق الاختيار.
وعند ممارسة المشتري لحقه في الاختيار يتم تبادلان بين البائع والمشتري.
- التبادل الأول يتم عند إبرام العقد وبموجبه يعطي المشتري للبائع قيمة الاختيار (1) . ويسلم البائع مقابل هذه القيمة خيار الاستدعاء.
- التبادل الثاني يتم عند ممارسة المشتري حقه فيسلم اختيار الاستدعاء للبائع ويتسلم الأسهم مقابل السعر المتفق عليه: سعر الممارسة (2) . ففي حالة ارتفاع سعر السهم عن سعر الممارسة، فإن حامل العقد يمارس حقه ويشتري الأسهم بالسعر المحدد ويحقق أرباحا. وعند انخفاض سعر الأسهم عن سعر الممارسة، فإن حامل العقد سوف لا يمارس حقه في الشراء وبذلك تكون خسارته ثمن شراء الاختيار القيمة التي قدمها عند إبرام العقد. ولتوضيح العملية نفترض أن السعر الحالي للسهم العادي يساوي 40 دينارا في 1 أكتوبر (تشرين أول) 1989م وأن سعر اختيار الاستدعاء في ذلك التاريخ يساوي 4 دنانير عندما يكون تاريخ الاستحقاق يولية (تموز) 1990م وسعر الممارسة 50 دينارا.
فإذا ارتفع السعر السوقي للسهم عند تاريخ الاستحقاق إلى مستوى أعلى من 50 دينارا فحامل اختيار الاستدعاء يمارس حقه وبالتالي قيمة اختيار الاستدعاء تساوي الفارق بين السعر السوقي للسهم وسعر الممارسة عند تاريخ الاستحقاق.
__________
(1) premium or call price.
(2) Striking price.(6/1143)
وإذا كان سعر السهم أقل من خمسين دينارا عند فترة الاستحقاق فحامل الاختيار لن يمارس حقه وقيمة الاختيار تساوي صفرا. ويمكن أن نعبر عن قيمة اختيار الاستدعاء عند تاريخ الاستحقاق بالنحو التالي:
ق ش = أقصى (صفر، س – م)
ق ش = قيمة اختيار الاستدعاء عند تاريخ الاستحقاق.
س = السعر السوقي للسهم عند تاريخ الاستحقاق.
م = سعر الممارسة المتفق عليه.
وبهذا يمكن لنا أن نتعرف على قيمة اختيار الاستدعاء ومقدار الربح أو الخسارة الناتجة من شرائه عند تاريخ الاستحقاق وذلك حسب سعر الأسهم في ذلك التاريخ كما يتضح لنا في الجدول الآتي:
سعر السهم سعر اختيار الاستدعاء مقدارالربح أو الخسارة
30 - -4
40 - -4
50 - -4
60 10 6
70 20 16
80 30 26
90 40 36
100 50 46
ويتضح لنا من خلال هذا الجدول أن سعر اختيار الاستدعاء عند تاريخ الاستحقاق يساوي صفرا إذا كان سعر السهم أقل من خمسين دينارا وكلما ارتفع سعر السهم عن خمسين دينارا كلما كانت قيمة الاختيار إيجابية.
كذلك يمكن لنا أن نتعرف على مقدار الربح والخسارة الناتج من جراء شراء اختيار الاستدعاء وذلك بطرح تكلفة شراء اختيار الاستدعاء (4 دنانير) من سعر اختيار الاستدعاء عند فترة الاستحقاق. وبذلك نتحصل على الرسم الآتي:(6/1144)
وكما استنتجنا قيمة الربح أو الخسارة الناتجة من جراء عملية شراء اختيار الاستدعاء عند تاريخ الاستحقاق حسب سعر السهم في ذلك التاريخ، يمكن لنا أن نستنتج كذلك قيمة الربح أو الخسارة الناتجة من جراء عملية بيع اختيار الاستدعاء. فكل خسارة محققة للمشتري تعتبر ربحا بالنسبة للبائع. وكذلك الشأن بالنسبة للربح المحقق من طرف المشتري فهو يعتبر خسارة بالنسبة للبائع. وبذلك نتحصل على النتيجة الآتية من جراء بيع اختيار الاستدعاء.(6/1145)
وهنا نلاحظ أن ربحية مشتري اختيار الاستدعاء غير محددة، أما ربحية بائع اختيار الاستدعاء محدودة والخسارة غير محدودة.
(ب) اختيار البيع (put) :
اختيار البيع يعطي لحامله الحق في بيع عدد معين من الأسهم بسعر معين وذلك خلال فترة زمنية محددة منصوص عليها في العقد أو عند تاريخ الاستحقاق. ويتضح لنا من خلال هذا التعريف أن مشتري اختيار البيع له الاختيار في ممارسة حقه طيلة الفترة الزمنية المحددة المنصوص عليها في العقد. أما بائع اختيار البيع فهو مجبر على شراء الأسهم بالسعر المحدد (سعر الممارسة) عندما يقرر المشتري ممارسة حقه في بيع الأسهم.
ولمشتري اختيار البيع عدة بدائل يمكن اتخاذها حتى ميعاد تاريخ الاستحقاق.
- يمارس حقه ويبيع الأسهم ويتحصل على السعر المحدد في العقد وهو سعر الممارسة (1) .
- بيع اختيار البيع بالسعر السوقي ويلغي وضعيته.
- يحافظ على حقه دون ممارسة إلى أن ينعدم حق الاختيار.
وعند ممارسة المشتري لحقه في الاختيار هنالك تبادلان بين البائع والمشتري.
- التبادل الأول يتم عند إبرام العقد وبموجبه يسلم المشتري للبائع سعر اختيار البيع (2) ، ويتسلم مقابل ذلك السعر، العقد المتفق عليه.
- التبادل الثاني يتم عند ممارسة المشتري حقه فيسلم اختيار البيع لبائعه ويسلم الأسهم المتفق عليها مقابل سعر الممارسة.
واختيار البيع عكس الاستدعاء. ففي حالة انخفاض سعر السهم عن سعر الممارسة، فإن حامل العقد يمارس حقه ويبيع الأسهم بالسعر المحدد في العقد. أما في حالة ارتفاع سعر السهم عن سعر الممارسة فإن حامل العقد لا يمارس حقه في البيع وتكون خسارته عبارة عن سعر شراء اختيار البيع، القيمة التي قدمها عند إبرام العقد.
ولتوضيح العملية، نفترض أن السعر الحالي للسهم العادي يساوي 40 دينارا في 1 أكتوبر (تشرين أول) 1989م. وأن السعر الحالي للسهم العادي يساوي 12 دينارا ويكون تاريخ الاستحقاق يولية (تموز) 1990م وسعر الممارسة خمسين دينارا.
__________
(1) Striking price.
(2) Put price(6/1146)
فكلما انخفض سعر السهم عن خمسين دينارا (سعر الممارسة) عند تاريخ الاستحقاق، يمارس حامل اختيار البيع حقه وقيمة اختيار البيع تساوي حينئذ الفارق بيع سعر الممارسة والسعر السوقي للسهم. أما إذا ارتفع السعر السوقي للسهم إلى مستوى أعلى من خمسين دينارا فحامل اختيار البيع سوف لن يمارس حقه وقيمة اختيار البيع تساوي صفرا.
ويمكن أن نعبر عن قيمة اختيار البيع عند تاريخ الاستحقاق بالنحو التالي:
ق ب = اقصى (صفر، م – س)
ق ب = قيمة اختيار البيع عند تاريخ الاستحقاق.
م = سعر الممارسة المتفق عليها.
س = السعر السوقي للسهم عند تاريخ الاستحقاق.
وبهذا يمكن لنا أن نتعرف على قيمة اختيار البيع ومقدار الربح أو الخسارة الناتجة من شراء الاختيار عند تاريخ الاستحقاق وذلك حسب سعر السهم في ذلك التاريخ كما يتضح في الجدول الآتي:
سعر السهم سعر اختيار البيع مقدار الربح أو الخسارة
10 40 28
20 30 18
30 20 8
40 10 -2
50 صفر -12
60 - -12
70 - -12
80 - -12
90 - -12
100 - -12(6/1147)
ويتضح لنا من خلال هذا الجدول أن سعر اختيار البيع عند تاريخ الاستحقاق ينخفض كلما ارتفع سعر السهم ويساوي صفرا إذا كان سعر السهم أعلى من خمسين دينارا (سعر الممارسة) . كذلك يمكن لنا أن نتعرف على مقدار الربح أو الخسارة المنجرّة من شراء اختيار البيع وذلك بطرح تكلفة الشراء التي تبلغ قيمتها 12 دينارا من سعر اختيار البيع عند تاريخ الاستحقاق وبذلك نتحصل على البيان الآتي:(6/1148)
وكما استنتجنا قيمة الربح أو الخسارة الناتجة من جراء عملية شراء اختيار البيع عند تاريخ الاستحقاق حسب سعر السهم في ذلك التاريخ، يمكن لنا أن نستنتج كذلك قيمة الربح أو الخسارة الناتجة من جراء عملية بيع اختيار البيع.
فكل ربح محقق للمشتري يعتبر خسارة بالنسبة للبائع وكذلك بالنسبة للخسارة المحققة من طرف المشتري، فهي تعتبر ربحا بالنسبة لبائع اختيار البيع. وبذلك نتحصل على النتيجة الآتية:(6/1149)
وهنا نلاحظ أن الخسارة القصوى الممكن تحقيقها من طرف مشتري اختيار البيع تساوي العلاوة التي دفعها عند إبرام العقد (12دينارا) ، أما مقدار الربح فهو كذلك محدود مهما انخفض سعر السهم وبالتالي فشراء اختيار بيع يقدم أقل مخاطر بالنسبة لبيع اختيار استدعاء.
أما بائع اختيار البيع الذي يترقب ارتفاعا في سعر السهم فمقدار الربح الذي يمكن التحصل عليه طفيف أقصاه العلاوة التي تسلمها عند إبرام العقد، أما عند انخفاض سعر السهم فالخسارة القصوى تساوي الفارق بين سعر الممارسة والعلاوة التي تسلمها عند إبرام العقد. إذا اعتمادا على النوعين من الاختيارات السابق ذكرهما يمكن للمستثمر أن يتخذ أربعة أوضاع:
- شراء اختيار استدعاء - شراء اختيار بيع.
- بيع اختيار استدعاء - بيع اختيار بيع.
وتعتبر كل هذه الأوضاع غير مغطاة.
ثانيا- تعريف الأوضاع المغطاة مع إعطاء أمثلة لذلك (1) :
الاختيارات هي أدوات مالية، يمكن للمستثمر استعمالها كوسيلة للمضاربة كما يمكن استعمالها كوسيلة استثمار متحفظة وذلك حسب استراتيجياته. فيمكن للمستثمر أن يتخذ أوضاعا مغطاة بتكوين محفظة من اختيارات لحماية مردود أسهم أو مردود اختيارات أخرى. ومن بين الأوضاع المغطاة يمكن أن نذكر:
- عملية التحوط (Hodging) .
- عملية التغطية المنجرة من فروق أسعار الاختيارات (Spread) .
- عملية المزيج (combination)
وسنحاول تفسير هذه الأوضاع المغطاة.
(أ) التحوط (Hedging) :
في هذه الحالة توجد توليفة من اختيارات وأسهم أساسية التي يتم على أساسها الاختيار (2) ، بحيث تحمي الأسهم والاختيارات بعضها البعض من الخسائر المتوقعة، ولتفسيره هذه الوضعية سنقدم بعض الأمثلة:
* المثال الأول – الحماية من الخسائر المنجرة من شراء الأسهم:
لنفترض أن أحد المستثمرين اشترى سهما من شركة ما بـ40 دينارا ويخشى هذا المستثمر أن ينخفض السهم بشكل حاد في الثلاثة أشهر القادمة. لذلك، يستطيع المستثمر شراء اختيار بيع مثلا على أساس سعر ممارسة يساوي 40 دينارا وفترة زمنية تساوي ثلاثة أشهر بثمن قدره خمسة دنانير.
فإذا انخفض سعر السهم ارتفع سعر اختيار البيع حيث إن المستثمر يستطيع أن يبيع سهمه بسعر الممارسة فتجده مطمئنا لأنه تفادى خسارة محققة وذلك مقابل مبلغ تأمين تحمله مسبقا قدره خمسة دنانير (ثمن اختيار البيع) . أما إذا ارتفع سعر السهم فإنه لا يمارس حقه في البيع ويستفيد من ارتفاع سعر السهم. ومعنى هذا أن اختيار البيع استعمل في هذه الحالة كبوليصة تأمين ضد هبوط أسعار السهم. ويمكن لنا اعتمادا على هذه المعطيات استنتاج مقدار الربح أو الخسارة من هذه الوضعية حسب سعر السهم عند تاريخ الاستحقاق.
__________
(1) Cox john c.، and Mark Rubinstein، Options Markets، Prentice Hall Inc 1985. pp. 1-33.
(2) underlying security(6/1150)
سعر السهم نتيجة شراء السهم نتيجة شراء اختيار البيع نتيجة وضعية التحوط
10 -30 25 -5
20 -20 15 -5
30 -10 5 -5
40 صفر -5 -5
50 10 -5 5
60 20 -5 15
70 30 -5 25
80 40 -5 35(6/1151)
وهنا نلاحظ أن الخسارة الناتجة من وضعية التحوط محدودة عند انخفاض سعر السهم وتساوي ثمن شراء اختيار البيع (5دنانير) ، وكلما ارتفع سعر السهم عن سعر الممارسة كلما كانت قيمة المحفظة المتحوطة إيجابية. ويمكن أن نبين ذلك في الرسم التالي:(6/1152)
يظهر الرسم أن خسارة المستثمر العليا هي محددة مسبقا أما أرباحه فإمكانياتها غير محددة وفقا لتقدم سعر السهم.
* المثال الثاني – الحماية من الخسائر المنجرة من بيع اختيار الاستدعاء:
كذلك يمكن للمستثمر تفادي الخسارة المنجرة من ارتفاع أسعار الأسهم عند بيع اختيارات الاستدعاء فيشتري سهما لكل اختيار استدعاء ثم يبيعه مما يؤدي إلى ربح مضمون دون أي مخاطر عند ارتفاع سعر السهم إلى مستوى أعلى من سعر الممارسة. ولتحليل هذه الوضعية، لنفترض أنه تم شراء سهم بسعر يساوي 40 دينارا كما تم في نفس الوقت بيع اختيار استدعاء بسعر يساوي 4 دنانير. فإذا كان سعر الممارسة خمسين دينارا يمكن لنا أن نتعرف على نتيجة المحفظة المتحوطة عند تاريخ الاستحقاق حسب تطور سعر السهم:
سعر السهم نتيجة شراء السهم نتيجة بيع اختيار الاستدعاء نتيجة المحفظة المتحوطة
30 -10 4 -6
40 صفر 4 +4
50 10 4 +14
60 20 -6 14
70 30 -16 14
80 40 -26 14
90 50 -36 14(6/1153)
وهنا نلاحظ أن الخسارة الناتجة من بيع اختيار الاستدعاء هي غير محدودة وترتفع كلما ارتفع سعر السهم. ولكن عند شراء سهم وتكوين محفظة متحوطة نجد أن هنالك ربحا مضمونا قدره 14 دينارا دون أي مخاطر عندما يكون سعر السهم أعلى من سعر الممارسة. كما أن الخسارة الناتجة من جراء شراء السهم عند انخفاض سعره تنقص بمقدار 4 دنانير عن القيمة التي تحصل عليها المستثمر عند بيع اختيار الاستدعاء. وبذلك نتحصل على الرسم البياني الآتي:(6/1154)
* المثال الثالث – تغيير نسبة التحوط:
يمكن للمستثمر أن يغير نسبة التحوط إذ يستطيع مثلا أن يبيع اختياري استدعاء عند شراء كل سهم عادي مما ينتج عنه أرباح عندما نتوقع أن سعر السهم سوف لن يتغير بصفة ملحوظة لكل من الجهتين مثلما يوضحه الجدول الآتي:
سعر السهم مردود السهم المردود الناتج من بيع اختياري استدعاء مردود المحفظة
20 -20 8 -12
30 -10 8 -2
40 صفر 8 8
50 10 8 18
60 20 -12 8
70 30 -32 -2
80 40 -52 -12
90 50 -72 -22(6/1155)
وبالتالي نتحصل على الرسم البياني الآتي الذي يوضح مردود المحفظة والمخاطر الكبيرة التي يتعرض لها المضارب كلما ارتفع سعر السهم أو انخفض بصفة ملحوظة:(6/1156)
* المثال الرابع – قلب التحوط (Reverse Hedge) :
لنفترض أن المستثمر اكتشف أن هناك عدة معطيات ستنشر عن قريب حول إحدى الشركات وهذه المعطيات سوف تؤثر بصفة ملحوظة على سعر الأسهم (مثلا اندماج شركة مع شركة أخرى) ولكن لا يعرف المستثمر هل سيكون التأثير إيجابيا أو سلبيا؟ في هذه الحالة، يمكن للمستثمر أن يختار وضعية قلب التحوط (عكس الاستراتيجية السابقة) مما ينجر منها أرباح هامة إذا تغير سعر السهم بصفة ملحوظة إيجابيا أو سلبيا.
فمثلا يستطيع المستثمر أن يشتري مثلا اختياري استدعاء ويبيع سهما على المكشوف، فيكون مردود المحفظة كالآتي حسب سعر السهم:
سعر السهم مردود بيع السهم على المكشوف مردود شراء اختياري استدعاء مردود المحفظة
20 20 -8 12
30 -10 -8 2
40 صفر -8 -8
50 -10 -8 -18
60 -20 12 -8
70 -30 32 2
80 -40 52 12
90 -50 72 22
إذا يمكن أن تكون هذه الوضعية رشيدة إذا تغير السهم بصفة ملحوظة مثلما هو موضح في الرسم الآتي:(6/1157)
يمكن أن نستنتج من هذا التحليل أن المستثمر يستطيع أن يختار التوليفة المناسبة من اختيارات وأسهم توقعاته بالنسبة لسعر السهم وحسب الاستراتيجية التي يريد توخيها.
(ب) عملية التغطية المنجرة من فروق أسعار الاختيارات:
في هذه الحالة تتكون المحفظة من اختيارات فقط ومن نفس النوع ولكن ذات تاريخ استحقاق مختلف أو سعر مختلف. ففي الحالة الأولى يسمى الفرق في الأسعار عموديا (1) ، وفي الحالة الثانية أفقيا (2) ، ويمكن للمستثمر أن يختار التوليفة المناسبة حسب توقعاته من ناحية تطور الأسعار فيختار إحدى الاستراتيجيات الآتية:
- فرق عمودي أو أفقي أو قطري مضارب على الارتفاع (3) .
- فرق عمودي أو أفقي أو قطري مضارب على الانخفاض (4) .
- الوضع الفراشي (5) .
وسنحاول تفسير هذه الوضعيات اعتمادا على هذه المعطيات حول أسعار اختيار الاستدعاء، وذلك حسب تاريخ الاستحقاق وحسب سعر الممارسة الموضحة في الجدول الآتي:
__________
(1) Vertical Spread
(2) horizonatal Spread.
(3) Bullish Vertical، or Diagonal Spread.
(4) Bearish Vertical، or horizontal، or Diagonal Spread.
(5) Butterfly Spread.(6/1158)
* المثال الأول – فرق عمودي مضارب على الارتفاع (1) .
عندما يتوقع المستثمر ارتفاعا في سعر السهم يستطيع أن يتحصل على أرباح بتكوين محفظة من:
- شراء اختيارات استدعاء ذات سعر ممارسة منخفضة (مثلا ثلاثون دينارا) .
- بيع اختيارات استدعاء ذات سعر ممارسة مرتفع (مثلا خمسون دينارا) .
فإذا تم الاختيار على نفس تاريخ الاستحقاق (مثلا يولية (تموز) 1990م) يصبح الفرق في أسعار الاختيار أفقيا ويتمكن المستثمر من التحصل على المردود الآتي:
سعر السهم المردود المنجر من بيع اختيار استدعاء بسعر ممارسة مرتفع المردود المنجر من بيع اختيار استدعاء بسعر ممارسة منخفض مردود المحفظة
30 4 -13 -9
40 4 -3 1
50 4 7 11
60 -6 17 11
70 -16 27 11
80 -26 37 11
90 -36 47 11
كما يمكن تقديم مقادير الربح والخسارة في الرسم الآتي:
__________
(1) Bullish Vertical Spread.(6/1159)
وإلى جانب الفرق العمودي المضارب على الارتفاع يمكن للمستثمر أن يتخذ استراتيجيات متشابهة للرسم رقم 9 عند توقعه ارتفاعا في سعر السهم:
- فرق أفقي مضارب على الارتفاع وذلك بشراء اختيار استدعاء ذات فترة زمنية محددة للعقد أطول من الفترة الزمنية لاختيار الاستدعاء الذي تم بيعه.
- فرق قطري مضارب على الارتفاع وذلك بشراء اختيار استدعاء ذات سعر ممارس أقل من سعر الممارسة للاختيار الذي تم بيعه وفترة زمنية محددة للعقد أطول من الفترة الزمنية لنفس الاختيار الذي تم بيعه.
* المثال الثاني – فرق عمودي مضارب على الانخفاض:
عندما يتوقع المستثمر انخفاضا في سعر السهم يستطيع أن يتحصل على أرباح عندما تكون توقعاته صحيحة وعند اتخاذ استراتيجية معاكسة للمثال الأول.
فيبيع اختيار استدعاء ذات سعر ممارسة منخفضة (مثلا 30 دينارا) ويشتري اختيار استدعاء ذات سعر ممارسة مرتفع (مثلا 50 دينارا) ويكون للاختيارين نفس تاريخ الاستحقاق (مثلا يولية (تموز) 1990م) .
وفي هذه الحالة يكون المردود بالنسبة للمستثمر عند تاريخ الاستحقاق كالآتي:(6/1160)
وهنا نلاحظ أن هذا الرسم معاكس للرسم الأخير لأن توقعات المستثمر والوضعية التي اتخذها معاكسة تماما للحالة الأخيرة. وإلى جانب هذه الوضعية التي تعتمد على الفرق العمودي المضارب على الانخفاض (Bearish vertical spread) ، يمكن للمستثمر أن يتخذ وضعيات متشابهة للرسم رقم 10 مثل الفرق الأفقي المضارب على الانخفاض (Bearish horizontal spread) ، والفرق القطري المضارب على الانخفاض (Bearish Diagonal spread) .
* المثال الثالث – الوضع الفراشي (Butterfly spread) :
ويمكن اختيار هذه الوضعية عندما يتوقع المستثمر أن سعر السهم سوف يكون في المستقبل قريبا من سعر الممارسة لاختيار الاستدعاء الذي تم بيعه، فيحقق بذلك أرباحا إذا كانت توقعاته صحيحة.
والوضع الفراشي يقتصر على شراء اختيار استدعاء ذات أعلى سعر ممارسة (مثلا 50 دينارا) وشراء اختيار استدعاء ذات أقل سعر ممارسة (مثلا 30 دينارا) وبيع اختياري استدعاء ذات سعر ممارسة متوسط (40 دينارا مثلا) لنفس تاريخ الاستحقاق. ولذلك يكون المردود الناتج من هذه الوضعية كالآتي:
سعر السهم المردود الناتج من شراء اختيار استدعاء - المردود الناتج من بيع اختياري استدعاء مردود المحفظة
- ذات أقل س م (30) ذات أعلى س م (50) ذات س م (40) -
30 -13 -4 14 -3
40 -3 -4 14 7
50 7 -4 -6 -3
60 17 6 -26 -3
70 27 16 -46 -3
وهنا نلاحظ وجود ربح بسيط عندما يكون سعر السهم قريبا من 40 دينارا وخسارة محدودة تساوي 3 دنانير عند وجود تقلبات في سعر السهم. ويمكن رسم العلاقة بين سعر السهم ومردود الوضع الفراشي كالآتي:(6/1161)
(ج) عملية التغطية بمزيج من اختيارات الاستدعاء واختيارات البيع (Combination) :
عند اختيار هذه الطريقة يشتري المضارب اختيارات استدعاء واختيارات بيع في نفس الوقت أو يبيع اختيارات استدعاء واختيارات بيع في نفس الوقت وعلى نفس السهم. والمزيج الأكثر شعبية هو الاختيار المركب (Straddle) وهو عبارة عن خليط من اختيار استدعاء واختيار بيع في نفس الوقت وعلى نفس السهم، على أن يكون سعرا ممارسة اختيار الاستدعاء واختيار البيع متساويين. وعادة يشتري هذا النوع المستثمر الذي يتوقع تحرك أسعار الأسهم ولكن لا يعرف في أي اتجاه وتسمى الاستراتيجية التي اتخذها اختيارا مركبا (Bottom Straddle) . ويبيع هذا النوع المستثمر الذي يتوقع أن يكون سعر الأسهم ثابتا وقريبا من سعر الممارسة وتسمى الاستراتيجية التي اتخذها أعلى اختيار مركب (Top Straddle) .
فإذا افترضنا أن سعر الممارسة يساوي 50 دينارا وتاريخ الاستحقاق يكون في يولية (تموز) 1990م وسعر اختيار الاستدعاء الحالي يساوي 4 دنانير وسعر اختيار البيع يساوي 12 دينارا تكون وضعية أدنى اختيار مركب كالآتي:
سعر السهم مردود شراء اختيار الاستدعاء مردود شراء اختيار البيع مردود الاختيار المركب
20 -4 18 14
30 -4 8 4
40 -4 -2 -6
50 -4 -12 -16
60 6 -12 -12
70 16 -12 4
80 26 -12 14
90 36 -12 24
100 46 -12 34
وبذلك نتحصل على الرسم الآتي:(6/1162)
وتكون وضعية أعلى اختيار مركب الآتي:(6/1163)
وإلى جانب الاختيار المركب توجد أنواع أخرى ناتجة من مزج اختياري البيع والشراء مثل (1) .
الاختيار المجرد (Strips) : وهو عبارة اختيار استدعاء مع اختياري بيع. والمستثمر في هذا النوع يتوقع أن تكون حركة أسعار السهم بالانخفاض ولكنه كضمان يقوم بشراء اختيار الاستدعاء.
الاختيار المطوق (Strips) : وهو عبارة عن اختياري بيع مع اختيار استدعاء. والمستثمر هنا يتوقع ارتفاع أسعار الأسهم ولكن كضمان يقوم بشراء اختياري البيع.
ونظرا لأن هذه الأنواع توفر وقاية أكثر للمستثمر من العقود المنفردة فإنها عادة تكون أغلى من الاختيارات العادية.
مما تقدم يمكن لنا القول أن المستثمر يستطيع أن يستخدم الاختيارات للمضاربة. كما يستطيع أن يستخدمها للوقاية من الخسارة حسب توقعاته.
ويتفق العديد من الفقهاء على أن التعامل الآجل لمجرد المضاربة على توقعات ارتفاع الأسعار أو انخفاضها محرم، لما يؤدي إليه من مخاطر كبيرة لا ضرورة لها. فضلا عن أنه لا يخدم غرضا حقيقيا بمفهوم النماء الاقتصادي (2) .
ثالثا- تقويم الاختيارات والمتغيرات التي تؤثر عليها:
1- المتغيرات التي تؤثر على قيمة اختيار الاستدعاء:
توجد عدة متغيرات تؤثر على سعر الاختيار قبل تاريخ الاستحقاق من بينها:
- السعر المتوقع للسهم.
- سعر الممارسة حسب عقد الاختيار.
- طول الفترة الزمنية المحددة للعقد.
- التوقعات بالنسبة لتقلبات أسعار السهم خلال المدة.
- سعر الفائدة.
- الأرباح الموزعة.
(أ) تأثير السعر المتوقع للسهم على قيمة اختيار الاستدعاء:
إذا تم تحديد سعر الممارسة وتاريخ الاستحقاق يرتفع سعر الاختيار كلما ارتفع السعر المتوقع للسهم. ويمكن رسم العلاقة بين سعر الاختيار قبل تاريخ الاستحقاق وسعر السهم كما يلي:
__________
(1) عرفات وحجازي، (الخيارات) البورصة، العدد الثاني ديسمبر يناير (كانون أول، كانون ثاني) 1987، ص47.
(2) د. جمال الدين عطية، مرجع سابق، ص145.(6/1164)
وتجدر الإشارة إلى أن سعر الاختيار يكون دائما إيجابيا حتى إذا كان سعر السهم أقل من سعر الممارسة. وهذا راجع لوجود احتمال أن سعر السهم سيرتفع إلى مستوى أعلى من سعر الممارسة في المستقبل قبل تاريخ الاستحقاق.
(ب) تأثير سعر الممارسة على قيمة اختيار الاستدعاء:
توجد علاقة عكسية بين سعر الممارسة وسعر اختيار الاستدعاء. لأنه من الأفضل لحامل اختيار الاستدعاء أن يشتري السهم بسعر منخفض بدلا من سعر مرتفع.
- فإذا كان سعر السهم يساوي سعر الممارسة فإن اختيار الاستدعاء يكون في حالة (At the money) .
- وإذا كان سعر الممارسة أعلى من سعر السهم فإن سعر اختيار الاستدعاء يكون (Out of the money) .
- وإذا كان سعر الممارسة أقل من سعر السهم فإن سعر اختيار الاستدعاء يكون في حالة (In the money) .
(ج) تأثير طول الفترة الزمنية المحددة للعقد على قيمة اختيار الاستدعاء:
توجد علاقة طردية بين سعر اختيار الاستدعاء وطول الفترة الزمنية المحددة للعقد. وهذا يرجع لوجود احتمال أن السعر المتوقع للسهم سيرتفع كلما طالت الفترة الزمنية الباقية حتى تاريخ الاستحقاق مما يزيد من أرباح حامل اختيار الاستدعاء.
(د) تأثير تقلبات أسعار السهم خلال الفترة الزمنية المحددة للعقد على قيمة اختيار الاستدعاء:
توجد علاقة طردية بين سعر اختيار الاستدعاء وتقلب أسعار السهم. فحامل اختيار الاستدعاء يحبذ أن تكون أسعار الأسهم ذات تباين مرتفع. فكلما كان التباين مرتفعا كلما كان هناك احتمال أكبر أن يكون سعر السهم أعلى من سعر الممارسة، مما ينجر عنه ارتفاع قيمة اختيار الاستدعاء.
(هـ) تأثير سعر الفائدة على قيمة اختيار الاستدعاء:
توجد علاقة طردية بين سعر الفائدة دون مخاطر وسعر اختيار الاستدعاء. فكلما ارتفع سعر الفائدة كلما كانت القيمة الحالية لسعر الممارسة أقل، مما ينجر عنه ارتفاع سعر اختيار الاستدعاء.
(و) تأثير توزيع الأرباح على قيمة الاستدعاء:
أن توزيع الأرباح له أثر سلبي على سعر الاختيار الاستدعاء لأن حامله سوف لن يستفيد بتلك الأرباح عند ممارسة حقه. ولذلك ينصح بممارسة حق الاختيار قبل تاريخ الاستحقاق.
مما تقدم، يتضح لنا أن اختيار الاستدعاء له علاقة طردية مع المتغيرات الآتية:
السعر المتوقع للسهم، طول الفترة الزمنية المحددة للعقد، تقلبات أسعار السهم خلال الفترة الزمنية المحددة للعقد، سعر الفائدة كما أن له علاقة عكسية مع المتغيرات الآتية:
سعر الممارسة وتوزيع الأرباح على المساهمين.(6/1165)
كما تجدر الملاحظة أن سعر الاختيار يعتمد كذلك على قوى العرض والطلب.
2- قيمة الاختيار قبل تاريخ الاستحقاق:
قدم (Black and Scoles)
(1) ، نموذجا متكاملا وشاملا لتقويم اختيار الاستدعاء حيث أنه يأخذ بعين الاعتبار أغلب المتغيرات التي تم التعرض إليها معتمدا على بعض الافتراضات.
- هذا النموذج لا ينطبق إلا على الاختيارات الأوروبية التي لا تخول ممارسة الاختيار إلا عند تاريخ الاستحقاق (2) .
- يفترض أن السوق مثالي: ليس هناك ضرائب ولا تكلفة عند بيع وشراء الاختيارات. المعلومات متوفرة بمساواة لجميع المتعاملين بدون تكلفة. وتكون الأسهم والاختيارات قابلة للتقسيم.
- ليس هنالك توزيع للأرباح خلال الفترة الزمنية المحددة للاختيار.
- سعر الفائدة قصير الأجل ومعروف من طرف المستثمرين.
- سعر السهم يتبع توزيعا عشوائيا بينما الزيادات في سعر السهم تتبع توزيعا طبيعيا.
- تباين العائد معروف وثابت.
واعتمادا على هذه الافتراضات كون (Black Scholes) محفظة متحوطة متكونة من أسهم واختيارات حيث تكون درجة المخاطر تساوي صفرا وعائدا يفوق سعر الفائدة السائد في السوق. وتوصل الباحثان إلى تقديم سعر اختيار الاستدعاء على النحو التالي:
سعر اختيار الاستدعاء:
مع:
__________
(1) Black and Scoles The pricing of options and corporate liabilities. Journal of political Economics، May، June 1973.
(2) على عكس الاختيارات الأوروبية، يمكن ممارسة الاختيارات الأمريكية في أي وقت قبل تاريخ الاستحقاق.(6/1166)
مع افتراض:
س أ = سعر السهم الأساسي.
س م = سعر الممارسة.
ع = سعر الفائدة بدون مخاطر.
ز = الفترة الزمنية المتبقية حتى تاريخ الاستحقاق.
6 = الانحراف المعياري لمعدل تغيرات سعر السهم.
e = التابع الأساسي.
لغ = لو عزيتم.
ن (د) = القانون الطبيعي المجمع.
لنفترض مثلا أن:
السعر الحالي للسهم = 30 دينارا.
سعر الممارسة = 28 دينارا.
سعر الفائدة = 5 %.
تاريخ الممارسة = بعد 6 أشهر.
الانحراف المعياري = 0.4.
وبالرجوع إلى جداول القانون الطبيعي نجد أن قيمة:
ن (د1) = 0.682 وقيمة ن (د2) = 0.576.
وسعر اختيار الاستدعاء قبل 6 أشهر من تاريخ الاستحقاق يساوي:(6/1167)
كما، يمكن لنا تقويم اختيار البيع قبل تاريخ الاستحقاق وذلك من خلال تطبيق القانون الآتي:(6/1168)
وبالرجوع إلى معطيات المثال الذي قدمناه، نجد أن سعر اختيار البيع قبل تاريخ الاستحقاق يساوي:(6/1169)
والجدير بالملاحظة أن (ن) (د) التي تساوي 0.682 أو 682/1000 تعني أن المستثمر يستطيع أن يكون محفظة متحوطة بدون أي مخاطر وذات مردود يساوي سعر الفائدة إذ تم شراء 682 سهما وبيع 1000 اختيار استدعاء على ذلك السهم (1) .
رابعا – تطبيقات الاختيارات على الأسهم والسندات:
لقد تم تطبيق نموذج تقديم الاختيارات في عدة مجالات تتعلق بالإدارة المالية للمؤسسات كسياسة الاستثمار وسياسة التمويل وتكلفة رأس المال وسياسة توزيع الأرباح (2) .
كما، يمكن اعتبار بعض الأدوات المالية كالأسهم والسندات والسندات القابلة للتحويل إلى أسهم والسندات ذات شهادة حق كاختيارات (3) .
وسنحاول، تطبيق نموذج الاختيارات على الأسهم والسندات.
(أ) تقويم الأسهم العادية والسندات:
نموذج تقويم الاختيارات يعطي نظرة إضافية حول طبيعة السندات والأسهم. بما أن للسندات فترة استحقاق، يمكن اعتبار أسهم شركات المساهمة اختيارات استدعاء أوروبية على قيمة المؤسسة. فإذا كانت قيمة المؤسسة (ق م) أعلى من القيمة الأسمية للسندات (س د) ، عند تاريخ الاستحقاق، فقيمة الأسهم تكون لها قيمة إيجابية تساوي (قيمة المؤسسة – قيمة الدين) .
أما إذا كانت قيمة المؤسسات أقل من القيمة الاسمية للسندات عند تاريخ الاستحقاق، فقيمة الأسهم سوف لن تكون سلبية بل تساوي صفرا لأن المساهمين يتمتعون بمسئوليتهم المحدودة بحصتهم في رأس المال.
وبهذا يمكن أن نعبر عن قيمة الأسهم العادية عند تاريخ الاستحقاق بالنحو التالي:
سعر الأسهم = أقصى (صفر، قيمة المؤسسة – قيمة السندات) هذه المعادلة لا تختلف عن المعادلة التي تعرف اختيار الاستدعاء الأوروبي، كما يمكن لنا الاعتماد على نموذج (Black and Scholes) لتقويم سعر الأسهم.
أما قيمة السندات فهي تساوي = أدنى (قيمة المؤسسة، قيمة السندات) ، ولتوضيح الفكرة لنفترض أن (4) :
ق م = القيمة الحالية للمؤسسة = 3.000.000 دينار.
ق د = قيمة الديون عند تاريخ الاستحقاق = 1.000.000 دينار.
ز = فترة الاستحقاق بعد 4 سنوات.
ف = سعر الفائدة = 5 %.
6= الانحراف المعياري لعائد الشركة = 0.1.
__________
(1) Quintart Aimable et Richard Zisswiller، Theorie de le Finance، presses universitaires de France، 1985، p.193.
(2) Copeland Thomas E. and J. Fred Weston، Financial Theory and coporate policy، second edition، 1983.
(3) Quintart Aimable et Richard Zisswiller، op.cit، p، 204
(4) هذا المثال مقتبس من كتاب (Weston and Brigham) ، مرجع سابق، ص909.(6/1170)
اعتمادا على هذه المعطيات يمكن لنا اعتبار الأسهم العادية اختيار استدعاء أوروبي وكتابة قيمتها على النحو التالي:(6/1171)
ون (د) = القانون الطبيعي المجمع.
فتكون القيمة الحالية للأسهم تساوي 2.181.269 دينارا.
والقيمة الحالية للسندات تساوي 818.731 دينارا.
(ب) السندات ذات شهادة حق:
هي سندات عادية تلحق لها (شهادة حق) . وتسمح هذه الشهادات لحاملها بحق شراء عدد معين من الأسهم بسعر محدد وطيلة فترة زمنية محددة.
وشهادة الحق (warrant) تشبه اختيار الاستدعاء فلها نفس التعريف. ولكنها تختلف عن اختيار الاستدعاء في عدة نقط:
- يتم إصدارها من طرف الشركات وليس من طرف الأفراد.
- عند ممارسة شهادة الحق، يتم إصدار أسهم جديدة، وسعر الممارسة المدفوع للشركة يصبح من أصول الشركة.
- عند ممارسة شهادة الحق، يتم إصدار أسهم جديدة، وسعر الممارسة المدفوع للشركة يصبح من أصول الشركة.
- يتم في بعض الأحيان تغيير سعر ممارسة شهادة الحق من طرف الشركة، وهذا غير ممكن عند شراء اختيار الاستدعاء.
كما يمكن لشهادة الحق أن:
- تكون معلقة بالسند.
- تتداول في السوق المال بمفردها.
ولشهادة الحق قيمتان:
(أ) قيمة نظرية: وتكون إيجابية إذا كان السعر السوقي للسهم أعلى من سعر ممارسة شهادة الحق وتساوي صفرا إذا كان سعر الممارسة أعلى من السعر السوقي للسهم.(6/1172)
ويمكن أن نعبر عن القيمة النظرية بالنحو التالي:
أقصى (صفر، س أ – س م) .
مع:
س أ = السعر السوقي للسهم.
س م = سعر ممارسة شهادة الحق.
(ب) قيمة حقيقية: وهنا يمكن أن نطبق نموذج تقويم الاختيارات للتعرف على السعر الحقيقي لشهادة الحق لأنها تشبه اختيار الاستدعاء الأمريكي. والقيمة الحقيقية لشهادة الحق هي أعلى من القيمة النظرية.
والفرق بين القيمتين يحدد علاوة شهادة الحق. كما نلاحظ أنه كلما ارتفع سعر السهم كلما انخفضت تلك العلاوة. مثلما يوضحه الرسم الآتي:(6/1173)
ولتفسير وجود هذه العلاوة وانخفاضها كلما ارتفع سعر السهم نقدم المثال الآتي:
لنفترض أن سعر الممارسة يساوي 22 دينارا وقد تم شراء سهم عادي بسعر 25 دينارا وشهادة حق بسعر 3 دنانير (القيمة النظرية) .
فإذا ارتفع سعر السهم إلى 50 دينارا، يحقق صاحب السهم مردودا يساوي 100 %، أما صاحب شهادة الحق فهو يحقق مردودا. يساوي 833 %.
أما الخسارة القصوى لصاحب السهم فهي تساوي 25 دينارا والخسارة القصوى لصاحب شهادة الحق فهي تساوي 3 دنانير فقط. فاحتمال وجود أرباح مرتفعة وخسائر منخفضة لحامل شهادة الحق مقارنة بحامل السهم العادي يعتبر السبب الرئيسي لوجود هذه العلاوة.
أما إذا تم شراء السهم العادي بسعر مرتفع يساوي 75 دينارا وشهادة الحق بـ53 دينارا فإذا تضاعف سعر السهم العادي، فسيحقق صاحب السهم مردودا يساوي 100 %، أما صاحب شهادة الحق فيكون مردوده 132 % عوض 833 % وخسارته القصوى تكون 53 دينارا عوض 3 دنانير فقط مما يخفض من قيمة العلاوة كلما ارتفع سعر السهم العادي.
وللتعرف على قيمة العلاوة والقيمة الحقيقية لشهادة الحق يقدم لنا نموذج تقويم اختيارات الاستدعاء الحل الأمثل.
(ج) السندات القابلة للتحويل إلى أسهم:
يتميز هذا النوع من السندات بإمكانية تحويلها إلى أسهم، ويتم هذا التحويل خلال فترة زمنية محددة من تاريخ إصدار هذه السندات وتستمر حتى تاريخ الاستحقاق على أساس سعر ثابت تحدده شروط ذلك الإصدار (1) . والسندات القابلة للتحويل إلى أسهم تجمع بين صفات شهادات الحق وصفات السندات العادية.
فهي تشبه السندات العادية لأن حاملها يتحصل على فائدة دورية والقيمة الاسمية عند تاريخ الاستحقاق ويحصل على حقه في حالات التصفية قبل أن يحصل حامل السهم على أي شيء.
وهي تشبه كذلك شهادات الحق لأنه يمكن لحامل السندات القابلة للتحويل إلى أسهم أن يمارس حقه ويتحصل على أسهم جديدة مقابل قيمة سنداته التي تمثل سعر ممارسة الاختيار.
__________
(1) عايش سلمان: (السندات القابلة للتحويل إلى أسهم… أداة مالية جديدة) ، البورصة، العدد الثاني، ديسمبر / يناير 1987م: ص14-15.(6/1174)
ولتحليل هذا النوع من الأدوات المالية يجب التعرف على (1) :
نسبة التحويل (Conversion ratio) .
قيمة التحويل (Conversion value) .
قيمة المردود الثابت (Fixed return value) .
علاوة التحويل (Conversion premium) .
- نسبة التحويل: تمثل عدد الأسهم العادية التي يمكن لحامل السند أن يتحصل عليها لما يمارس حقه في تحويل السند إلى أسهم وهي تساوي:
القيمة الاسمية للسند
ــــــــــــ
سعر التحويل المتفق عليه
فإذا كانت القيمة الاسمية للسند تساوي 1000 دينار وسعر التحويل المتفق عليه يساوي 50 دينارا، فنسبة التحويل تساوي 20 سهما لكل سند.
- قيمة التحويل: تساوي نسبة التحويل ضارب السعر السوقي للسهم، فإذا كانت نسبة التحويل تساوي 20 والسعر السوقي للسهم يساوي 45 فقيمة التحويل تساوي 900 دينار. وتجد الإشارة أن السند لا يباع أقل من قيمة التحويل، لأن في هذه الحالة يمكن للمستثمر أن يشتري السندات القابلة للتحويل ويحولها إلى أسهم ويحقق من ذلك أرباحا، وتسمى هذه العملية: تحكيم (Arbitrage) . ونلاحظ أنه توجد علاقة طردية بين قيمة التحويل والسعر السوقي للسهم.
- قيمة المردود الثابت: وهي القيمة السوقية للسند إذا افترضنا أن حامل السند يفقد حقه في تحويله إلى أسهم. فإذا كانت حصيلة الفائدة السنوية 4 % ومدة الاستحقاق المتبقية للسند 10 سنوات وسعر الفائدة السائد في السوق للسندات غير القابلة للتحويل يساوي 8 % فإن قيمة المردود الثابت تساوي:
__________
(1) Hirt، Geoffrey A. and Stanley B. block، Fundamentals of Investment Management and strategy، Richard D. Irwin، Inc. Homewood، Illinois، 1938، p. 285-296.(6/1175)
- علاوة التحويل: بما أن حامل السندات القابلة للتحويل إلى أسهم له الاختيار بين:
- بقائه دائنا حاملا للسندات خاصة إذا ساءت أحوال الشركة وانخفضت قيمة أسهمها فيستفيد من قيمة المردود الثابت.
- تحوله إلى مساهم فعلي إذا اعتقد بتحسن أصول الشركة فيستفيد من قيمة التحويل.
هذا الامتياز الذي يملكه حامل السندات القابلة للتحويل إلى أسهم يجعل سعر هذا النوع من السندات أعلى من قيمة المردود الثابت ومن قيمة التحويل.
- فإذا كانت قيمة التحويل أعلى من قيمة المردود الثابت، فتكون علاوة التحويل تساوي السعر السوقي للسند قابل التحويل إلى أسهم ناقص قيمة التحويل.
- وإذا كانت قيمة التحويل أقل من قيمة المردود الثابت فتكون علاوة التحويل تساوي السعر السوقي للسند قابل التحويل إلى أسهم ناقص قيمة المردود الثابت.
ويمكن أن نبين العلاقة بين سعر السهم، قيمة المردود الثابت، قيمة التحويل وعلاوة التحويل في الرسم الآتي:(6/1176)
وتجدر الملاحظة إلى أن هذا الرسم هو لفترة زمنية محددة لأن أسعار الفائدة تتغير حسب حالة السوق المالي مما يؤثر على قيمة المردود الثابت. أما قيمة التحويل فهي لا تتغير إلا إذا تغيرت نسبة التحويل. علاوة التحويل فهي ترتفع إذا كانت حالة السوق حسنة وتنخفض إذا كانت حالته رديئة.
ونموذج تقويم الاختيارات يسمح لنا بالتعرف إلى قيمة السند القابل للتحويل إلى أسهم وتحديد علاوة التحويل لكل مستوى من سعر السهم.(6/1177)
الخاتمة
ظهر في السنوات الأخيرة العديد من الأدوات المالية المتفرعة من الأسهم والسندات والاختيارات نتيجة للتطور السريع في رغبات وحدات ذات العجز ووحدات ذات الفائض.
كما نشأ العديد من الأسواق المالية المحلية والدولية كسوق السندات الدولية وسوق الأسهم الدولية وسوق الخيارات والأسواق المستقبلية (1) .
وهذه الأسواق المالية هي مؤسسات يمكن لها أن تخدم الاقتصاد وتساهم في تنشيط حركته وتدعيمه. ولكن لا يمكن أن تقوم بدورها الكامل إذا لم نكيفها طبق مقتضيات واقعنا وعقيدتنا. فإذا نقلنا النموذج بحذافيره من أمريكا أو من بريطانيا وحاولنا تطبيقه في مجتمعه الإسلامي فلا مناص من حدوث خلل ولا طمع في أن نجني ما كنا نأمل وما قد يجني في أمريكا أو بريطانيا من استعمال هذا الهيكل.
فمعظم التشريعات السائدة في البلاد الإسلامية متأثرة بنسب متفاوتة بتشريعات بعيدة كل البعد عن معتقداتها وأسس حضارتها، ولا تمثل التشريعات الخاصة بالشركات وأسواق أوراق المال والأدوات المالية إلا جزءا لا يتجزأ من هذه القوانين.
فلذلك نرى معظم هذه التشريعات تستسيغ مثلا السندات التي تحلل الربا والأسهم الممتازة ذات العائد القار. وبعض هذه التشريعات السائدة في المجتمع الإسلامي والتي تعد أكثر تطورا بلغت في تأثرها بتشريعات الغرب إلى درجة أنها تدرس حاليا إمكانية الاستثمار عن طريق حق الاختيار وتنظيم البيع الآجل (2) .
كل هذه الممارسات وجدت في المجتمع الإسلامي من يقبل على تعاطيها إلا أن أغلب المواطنين يدينون بالإسلام ويعتقدون أن هذه الممارسات أكثرها محرمة وحتى لو أقبلوا عليها فإنهم يشعرون في قرارة أنفسهم بمرارة الذنب.
ولو منحت لهم فرص استثمار أموالهم بطرق أسلم لأقبلوا عليها باطمئنان وحماس أكثر ولأقبل عليها معهم الكثير ممن يحجم الآن عن دخول أسواق الأوراق المالية لأسباب عقائدية.
الدكتور محمد الحبيب جراية
__________
(1) د. آمال تيجاني علي: (الابتكار والتجديد في الأسواق المالية الدولية) ، مرجع سابق.
(2) د. جاسم المضف: (إمكانية التعاون والتنسيق بين البورصات العربية) ، ندوة الاستثمار ومعوقاته في بورصات الأوراق المالية العربية واتجاهاتها المستقبلية، الاتحاد العربي لبورصات الأوراق المالية 1986م: ص31-118.(6/1178)
المراجع
• المراجع العربية:
1- الاتحاد العربي لبورصات الأوراق المالية، ندوة الاستثمار ومعوقاته في بورصات الأوراق المالية العربية واتجاهاتها المستقبلية، الدار البيضاء من 16- 18 ديسمبر 1986م، إصدار إدارة الدراسات والبحوث الاقتصادية سوق الكويت للأوراق المالية.
2- آمال تيجاني علي: (الابتكار والتجديد في الأسواق المالية الدولية) دليل المستثمر في سوق السندات، سوق الكويت للأوراق المالية، إدارة الدراسات والبحوث الاقتصادية يوليو 1986م: ص67 – 85.
3- جمال الدين عطية: البنوك الإسلامية بين الحرية والتنظيم، التقليد والاجتهاد، النظرية والتطبيق كتاب الأمة، عدد 13، 1986م.
4- جمال عبد اللطيف السرابي: (أهمية الاستثمار في السندات وأهمية ذلك في تكوين المحافظ المالية) ، دليل المستثمر في سوق السندات، سوق الكويت للأوراق المالية، إدارة الدراسات والبحوث والاقتصادية، يوليو 1986م: ص29-38.
5- حلمي محمود نمر وعبد المنعم محمود: الأصول العلمية في محاسبة الشركات، الجزء الثاني شركات الأموال، دار النهضة العربية، القاهرة 1982م.
6- حمزة محمود بهباني: (تعريف السندات وخصائصها) ، دليل المستثمر في سوق السندات، سوق الكويت للأوراق المالية، إدارة الدراسات والبحوث الاقتصادية، يوليو 1986م: ص21-27.
7- عبد الله محمد الفيصل: (المحاسبة المالية في البنوك التجارية) ، عمادة شئون المكتبات جامعة الملك سعود الرياض، 1406هـ.
8- عبد المنعم أحمد التهامي: (التمويل: مقدمة في المنشآت والأسواق المالية) ، مكتبة عين شمس، 1985م.
9- عرفات حجازي: (الخيارات) ، البورصة، العدد الثاني، ديسمبر / يناير 1987م: ص46-47.
10- عايش سلمان: (السندات القابلة للتحويل إلى أسهم ... أداة مالية جديدة) ، البورصة، العدد الثاني، ديسمبر / يناير 1987م: ص14-15.
11- عيد مسعود الجهني: (الاستثمار بالأسهم في السوق السعودي) ، مطابع الشريف.
12- فريدي باز، مكرم صادر وجورج أبي صالح: (معجم المصطلحات المصرفية ومصطلحات البورصة والتأمين والتجارة الدولية) ، بالتعاون مع اتحاد المصارف العربية، ص. ب 2416 – بيروت، 1985م.
13- محمد حسن الجبر: (القانون التجاري السعودي) ، عمادة شئون المكتبات. جامعة الملك سعود، الرياض، 1982م.
14- مختار محمد بلول: (دليل المستثمر في الأوراق المالية) ، الأسهم والسندات، قسم الاقتصاد، كلية العلوم الإدارية، جامعة الملك سعود، الرياض، 1988م.
15- منير هندي: (الإدارة المالية: مدخل تحليلي معاصر) ، المكتب العربي الحديث، الإسكندرية، 1989م.(6/1179)
• المراجع الانجليزية:
1- Black and Scholes، The pring of options and corporate liabilities journal of political Economics، May- june 1973.
2- Copeland Thomas E. and J. Fred Weston، Financial Theory and corporate policy، second edition، 1938.
3- Cox john C. and Rubinstein، options Markets، Prentice Hall Inc، 1985.
4- Hirt Geoffrey A. and Stanley B. Block، Fundamentals of Investment Management and strategy، Richard D. Irwin. Inc 1938.
5- Sharpe William، Investments، Prentice Hall، 1978.
6- Weston J. Fred and Eugene F. Brigham، Managerial Finance، The Dryden Press 1981.
• المراجع الفرنسية:
1- Institut canadien des valeurs mobiliers: comment placer son argent en actions et en obligations، 1976.
2- Quintart Aimable et Richard Zisswiller، Theorie de la Finance، Presses universitaires de France، 1985.
3- Weston and Brigham، gestion Financiere، traduit et adapte par Michel Caron، les editions H R Ltee Montreal 976.(6/1180)
الأسواق المالية
إعداد
سعادة الدكتور محمد القري بن عيد
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونصلي ونسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن الدور الذي تلعبه الأسواق المالية في اقتصاد اليوم مهم وخطير. فلم تعد تلك الأسواق مكانا لالتقاء الباعة والمشترين فحسب، بل أضحت مؤشرا يدل على اتجاهات الاقتصاد العالمي ووسيلة لإعادة توجيه الموارد الاقتصادية على مستوى العالم برمته، حيث تجتذب المراكز المالية الرئيسية المدخرات من كل أنحاء العالم متمثلة إمتدادات جديدة لحركة الاستعمار القديمة. ولذلك أضحى على المسلمين أن يسعوا إلى إيجاد البدائل التي تكون متمشية أولا مع مبادئ الشريعة الغراء، خلوًّا من المعاملات المحرمة، ثم تكون، ثانيا قادرة على تمكين الأمة الإسلامية من الاستفادة من ثروات أبنائها بما يعود على كل شعوبها بالخير والوفاء.
والحق أن جل المعاملات في الأسواق العالمية في زمننا الحاضر متعارض مع المبادئ الإسلامية في أحكام المعاملات المالية في الشريعة الإسلامية، إذ يغلب عليها القمار والغرر والربا وبيع ما ليس عند الإنسان (1) المقامرة بعيدا عن الاستثمار الحقيقي وهو الوظيفة الرئيسية، من الناحية النظرية، لتلك الأسواق. ولقد أدرك الخبراء حتى في الدول المتقدمة خطورة هذا الاتجاه وأن الاستمرار فيه يهدد الاستقرار الاقتصادي والسياسي بين الأفراد والدول لا سيما وأن العالم أضحى في زمننا الحاضر كالجسد الواحد يعاني كله من صعوبات أجزائه.
إن الاستنتاج الذي توصل إليه كثير من المتخصصين هو ضرورة إبعاد تلك الأسواق عن المضاربات المحمومة وإعادتها مرة أخرى إلى وظيفتها الأصلية وهي توفير الوساطة المالية وتشجيع الادخار والاستثمار الحقيقي ... فاقترح بعضهم ضرورة فرض الضرائب المتناقصة على الأرباح بحيث يدفع من كانت مدة ملكيته للسهم (أو سواه) أقل من سنة أعلى نسبة من الضرائب ثم تتناقص حتى يعفى منها من زادت مدة ملكيته عن خمس سنوات، واقترح آخرون قصر حق التصويت على من زادت مدة ملكيته للسهم عن 18 شهرا. وانتبه كثيرون إلى دور البنوك وشركات التأمين وصناديق التقاعد والتأمينات الاجتماعية في تلك المضاربات وهي التي تمتلك تحت تصرفها مقادير هائلة من الأموال. فرأى أن تقنن تدخلاتها في تلك الأسواق ... وهكذا.
__________
(1) تستخدم كلمة المضاربة كثيرا لتعني أنواعا من المعاملات التي تجري في أسواق المال والتي تتسم بالمقامرة للحصول على عائد مجز من صفقة بيع أو شراء. والمضاربة في اللغة العربية وفي الاقتصاد الإسلامي هي عقد الشركة المعروفة بين رب مال وعامل يسمى المضارب يقدم الأول التمويل والثاني العمل ويقتسمان الربح على ما اتفقا عليه من نسبة لكل منهما. وتقع الخسارة المالية على رب المال. والمعاملات التي تسمى في لغة البورصات مضاربة هي أبعد ما تكون عن هذا العقد. ولذلك فالأجدر تسميتها باسم يدل على حقيقتها. كأن تسمى مجازفة أو مخاطرة والثانية أدق وأصح.(6/1181)
والذي نحن بصدده هنا هو تقديم عرض مبسط لأهم المعاملات (1) .
1- أسواق الأوراق المالية:
يتم تبادل الأسهم والسندات والأوراق المالية الأخرى في نوعين من الأسواق، الأول هو ما يسمى بورصة (وهي كلمة ربما يكون أصلها فرنسيا) وقد تسمى مصافق، وتشير إلى مكان محدد تعينه الحكومة لتداول تلك الأوراق ويكون له مقر ثابت وإدارة مستقلة (إما معينة من قبل الحكومة أو منتخبة بواسطة المتعاملين في السوق) ، وهذا النوع من التنظيم قديم يعود إلى أواخر القرن السادس عشر عندما بدأت الحكومات الأوروبية تستدين من مواطنيها بالربا عن طريق إصدار السندات. أما النوع الثاني فهو حديث ويسمى باللغة الإنجليزية over-the counter market ويشير إلى مجموعة المتعاملين بتلك الأوراق من السماسرة خارج سوق البورصة.
(أ) البورصة:
يتولى البيع والشراء في أسواق البورصة أعضاء محددون ولا يسمح لسواهم بذلك. ويكتسب الواحد منهم تلك العضوية عن طريق استئجار مقعد في السوق يخوله المزايدة وعقد الصفقات مع الأعضاء الآخرين. وغالبا ما تكون قيمة الإيجار عالية فقد تبلغ ملايين الدولارات (كما في بورصة نيويورك) . والعضوية، شأنها شأن كل شيء في أسواق البورصات، تكون قابلة للبيع ولذلك كثيرا ما ترتفع أسعارها في أوقات الانتعاش الاقتصادي. وقد يكون صاحب المقعد وكيلا لمئات السماسرة الذين يعملون خارج السوق فهو يعقد صفقات البيع والشراء نيابة عنهم في السوق مقابل عمولة. وتتم هذه المعاملات في الوقت الحاضر بواسطة الكمبيوتر وأجهزة الاتصال الإلكترونية أو الهاتف.
ويجري تنظيم المعاملات في أسواق البورصة بدقة بالغة فيبدأ التعامل فيها يوميا في لحظة محددة وينتهي في لحظة محددة يقرع فيها الجرس فتوقف كافة المعاملات بشكل قاطع. ويسيطر على التعامل أنظمة وقوانين ذات تفصيل بالغ. ويسود في كل بورصة أعراف متواترة يحرص المتعاملون وسلطة السوق على احترامها لأنها تساعد على تنظيم التعامل فيها.
__________
(1) مع أن المعاملات في أسواق المال العالمية والبورصات خصوصا في الولايات المتحدة شبيهة بالزئبق على صفاه، تتبدل وتتغير ويختفي منها أنواع ويظهر أنواع جديدة لا نقول كل سنة أو كل شهر بل كل يوم وساعة خصوصا بعد أن اتجهت أكثر الدول الغربية منذ عدة سنوات إلى إلغاء كثير من القيود القانونية التي كانت تفرضها على أنواع المعاملات المالية (Deregulation) ، ولذلك لا سبيل إلى حصر كل تلك المعاملات بطريقة مكتوبة، وأحسب الإلمام بكل تلك المعاملات لا يتيسر إلا للقلة من المتعاملين في تلك الأسواق مباشرة على أن ما نعرضه يمثل أهم صيغ في تلك الأسواق مما استقر عليه التعامل في شكل الصيغ الرئيسية للعقود.(6/1182)
ويقتصر التعامل في البورصة على الأوراق المالية المدرجة في قائمة السوق (Securities Listed) ، ولذلك فإن الأسهم التي يسمح بتداولها في أسواق البورصات لا تتضمن جميع أسهم الشركات في القطر ولكنها تكون نسبة محددة منها فقط. ولا تقوم سلطة السوق بإدراج أسهم شركة ما إلا بعد التحقق من توفر شروط معينة تتعلق بحجم الشركة وعدد أسهمها المتداولة وعمرها في النشاط الذي تمارسه.. إلخ. وتحرص الشركات دائما على أن تكون أسهمها وسنداتها مدرجة في قائمة بورصة رئيسية، لأن ذلك يؤدي إلى تداول أسهمها بشكل موسع يساعدها على النمو. وتمثل البورصة، في كل بلد المكان الرئيسي لالتقاء الباعة والمشترين للأسهم والأوراق المالية الأخرى. وهي وعاء هام لجمع المعلومات المتعلقة بنشاط الشركات، وبوتقة يتم من خلالها تجسيد رد فعل قطاع الأعمال تجاه التغيرات في الاقتصاد. ويعتقد أنها بذلك تساعد رجال الأعمال والحكومة على اتخاذ القرارات الصحيحة فيما يتعلق بتخصيص رأس المال على أوجه الاستثمار المتوفرة في القطر.
وتمثل عمليات البيع والشراء في أسواق البورصة (المزاد) (الحراج) في أدق صورة حيث إنها عملية مزايدة مستمرة على أسهم الشركات المدرجة في القائمة.
(ب) السوق خارج البورصة (over-the-counter market) :
لا يقتصر بيع وشراء الأوراق المالية على البورصات الرئيسية بل تنتشر في بعض البلدان أسواق منظمة ولكنها لا تقع تحت إشراف مباشر لسلطة واحدة ولا تنحصر في حيز ومكان واحد. وتتكون تلك السوق من مجموعة السماسرة المنتشرين في المدن المختلفة. وقد كان هذا السوق غير مهم في الولايات المتحدة مثلا حتى عهد قريب، ولكن أهميته أخذت تزداد بعد تطور سبل الاتصال وأجهزة الحاسب الآلي بحيث أصبحت مكاتب السماسرة رغم بعدها الجغرافي تكاد تتصل، ضمن شبكة متطورة، بالأسواق والمتعاملين في السوق. وكثيرا ما تكون القيود على العقود التي يتعامل بها السماسرة خارج البورصة أقل تشددا الأمر الذي يمكنهم في التعامل بشكل أكثر مرونة، ولكن النسبة من الصفقات التي يجري إتمامها بواسطتهم غالبا ما تكون ضئيلة إذا قيست إلى مجمل النشاط السوقي.
2- الوظائف الرئيسية لأسواق الأوراق المالية:
تعد أسواق الأوراق المالية جزءا من مؤسسات الوساطة المالية. ووظيفة الوساطة المالية هي إحدى الوظائف الأساسية التي لا يمكن أن تسير حياة المجتمع الحديث بدونها بشكل طبيعي يحقق الاستقرار والنمو الاقتصادي. ولذلك فهي وظيفة متممة للنشاط الاقتصادي، فهي تتعلق بالكفاءة الاقتصادية. فمن الممكن نظريا أن يعيش المجتمع الإنساني بدون أية مؤسسة للوساطة المالية لكن ذلك سيأتي على حساب الكفاءة الاقتصادية. ولعل أهم الأغراض التي تخدمها الأسواق المالية هي:
(أ) تمثل وعاء تجتمع فيه المعلومات حول النشاط الاقتصادي مما يمكن من تحسين كفاءة ونوعية القرارات الاقتصادية بالاستفادة من تلك المعلومات.(6/1183)
(ب) توفير السيولة، فالأسواق المالية تعمل كوسيط يؤدي إلى إعادة توجيه المدخرات نحو الأغراض الاستثمارية.
(ج) خلق فرص استثمار جديدة ولذلك لأنها تمثل مكان التقاء قوى العرض والطلب على تلك الفرص.
(د) تسهيل عملية التكوين الرأسمالي بتشجيع الاستثمار في القطاعات المنتجة في الاقتصاد عن طريق تفتيت المخاطر المتضمنة في تلك المشاريع وتشتيتها بواسطة الأسهم والأوراق الأخرى.
(هـ) تقلل من تكاليف الحصول على رأس المال بالنسبة للشركات.
ويعتبر السوق كفيًّا عندما تعكس أسعار الأوراق المالية فيه المعلومات المتوفرة عن وضع المتعاملين والاتجاه العام في الاقتصاد. ويعتبر عندئذ أداة جيدة للاستثمار، أما إذا أخذت الأسعار تتغير بدون وجود أسباب وتغيرات حقيقية أصبح المتعاملون فيه مقامرين همهم المضاربة وليس الاستثمار النافع لأن التغيرات السعرية ليس لها مبرر حقيقي كزيادة ربح الشركة أو فرض الأشياء المتاحة أو تحسين حال الاقتصاد ... إلخ.
3- المؤشرات في الأسواق المالية:
تكتسب المؤشرات في الأسواق المالية أهمية خاصة إذ تعطي فكرة سريعة عن الاتجاهات العامة في السوق، ولذلك فهي توجه المتعاملين نحو اتخاذ القرار الأمثل فيما يتعلق بالاستثمار. ولم تعد تلك هي الوظيفة الوحيدة للمؤشر في الوقت الحاضر بل أصبح هو نفسه أداة يتم المتاجرة فيها وعلى تغيراتها. وأشهر تلك المؤشرات في الولايات المتحدة هو متوسط (دو جونز الصناعي) (Dow Jones Industrial Average) ، وهو مجموع أسعار أسهم 30 شركة مختارة لأهميتها وحجمها مقسوما على رقم ثابت وهو يقيس مستوى الأسعار. ثم مؤشر ستاندرد أندبور 500 (Standard and poor 500) وهو أكثر دقة، إذ إنه يقيس التغير في قيمة حافظة استثمارية مكونة من أسهم 500 شركة. ولكل شركة وزن معتمد على القيمة الكلية لجميع أسهم الشركة في السوق. أما مؤشر Value line فهو يتضمن مسحا لأسهم 1700 شركة ولكنه معتمد على حاصل قسمة السعر السائد اليوم على السعر السائد يوم أمس، ولذلك فإنه يتجه إلى التحيز نحو تقليل النشاط ... إلخ. وهناك مؤشرات متعددة في كل دول العالم، ففي بريطانيا يشتهر مؤشر جريدة الفاينانشيال تايمز وفي طوكيو مؤشر نيكي ... إلخ. وكل هذه المؤشرات ماركات تجارية تقوم بها شركات وتقدمها إلى المستفيدين مقابل ثمن.(6/1184)
4- أهم الأوراق المتداولة في الأسواق المالية:
(أ) الأسهم:
تمثل الأسهم، بشكل عام (1) ، ملكية الشركة المساهمة في حكم هذا النوع من الشركات خلاف لعله الآن حسم، إذ جمهور الفقهاء المعاصرين يقولون بالجواز. ويدور محور الخلاف حول حقيقة السهم، من قال إنه سند بقيمة موجودات الشركة وليس حصة من رأس المال، وإنه شبيه بالنقود الورقية لأنه ورقة مالية يتغير سعرها تبعا لأحوال السوق أفضى به ذلك إلى القول بعدم الجواز (ممن قال بعدم الجواز: النبهاني، تقي الدين، النظام الاقتصادي الإسلامي) ، والذي عليه أكثر من تعرض لهذه القضية من علماء العصر جواز هذا النوع من الشركات، إذا خلت مما يستوجب التحريم كانخراطها في أعمال ربا أو إنتاج سلع محرمة أو ما إلى ذلك. وقد رأوا أن السهم يمثل حصة من رأس المال، وممن قال بالجواز الشيخ محمد أبو زهرة، عبد الوهاب خلاف، على الخفيف، ومحمد يوسف موسى، وعبد العزيز الخياط (الشركات) ، وممن قاسها على شركة العنان أو المضاربة قال بانتهاء الشركة عند انتقال ملكية سهم من شريك إلى آخر ومن ثم بطلان العقد. وقد رد الخياط على ذلك بأن المسلمين عند شروطهم فإذا نص نظام الشركة على رضا الشركاء بانتقال الحصة وقبول الشركاء الجدد فلا وجه للقول بعدم الجواز (الشركات، ج2، ص217) .
__________
(1) إذ إن هناك أنواعا من الأسهم تمثل حصة ودينا على الشركة وهي الأسهم الممتازة.(6/1185)
ومن الأسئلة الحائرة في موضوع الشركة المساهمة قضية المسئولية المحدودة. فإن من أهم ما تتميز به الصيغة المذكورة هو أن مسئولية حملة الأسهم (الشركاء) المالية محدودة بما دفعوه قيمة اسمية للسهم ولا تمتد لأموالهم الخاصة الأخرى. وللشركة شخصية اعتبارية وذمة مالية مستقلة عن الشركاء. فإذا اقترضت ثم قصرت في الوفاء بالدين ولم تكف أصولها لتغطية ما عليها من التزامات لم يجز – في ظل القوانين الحاضرة – أن يطالب المساهمون بمساعدتها. وهذه الصيغة غير معروفة في الفقه الإسلامي. وقد قال بعضهم إن لها سابقة في الفقه، فقال هي شبيهة بحال رب المال في عقد المضاربة وبالوقف. فرب المال في عقد المضاربة مسئوليته محدودة بما قدم من مال للمضارب ولكن هذا قياس مع الفارق فالشريك وإن كانت مسئوليته محدودة بما قدم في عقد المضاربة، لكن المسئولية على مستوى المجتمع لا تضيع، فالعامل إن كان رب العمل قد اشترط عليه شروطا ثم خالفها فهو مسئول، ومنها تحميل الشركة من الديون وما يفوق إمكانياتها الحقيقية. ثم هل لشركة المضاربة ذمة مالية مستقلة؟ أم أن ذمتها هي ذمة العامل ومن ثم لم تعد المسئولية مضيعة؟ أما الوقف فله ذمة مالية مستقلة وكذلك المسجد وبيت المال وقد بين الخفيف (الشركات لعلي الخفيف) والخياط (الشركات لعبد العزيز عزت الخياط) كيف أن فكرة الذمة المالية التي تعطي لغير الإنسان (شخصية اعتبارية) ليست غريبة على الفقه الإسلامي فهي واضحة المعالم في الوقف والمسجد وفي بيت المال فالوقف مثلا يخرج من ذمة المتبرع به ولا يدخل في ذمة المستفيد بل يبقى مستقلا، ويتحمل الالتزامات المالية مستقلا عن ناظره. ولكن يبقى أن فكرة الذمة المستقلة والشخصية الاعتبارية جديدة في العمل التجاري ليس لها سابقة.(6/1186)
وتكون على صفة وثائق قابلة للتداول تمثل كل واحدة منها جزءا من رأس مال الشركة الاسمي. ويدفع المساهم الأصلي، أي الذي يشتري الأسهم عند الاكتتاب، القيمة الاسمية غالبا. والقيمة الاسمية هي تلك المسجلة على السهم وربما تقتصر الشركة على طلب جزء من رأس المال المكتتب به فقط (50 % مثلا) . وفي هذه الحالة يكون الشركاء مدينين للشركة بالجزء المتبقي، فإذا أفلست، جاز للقضاء أن يطالبهم بما بقي من مبلغ الاكتتاب لسداد ديونها فمسئوليتهم محدودة ليس بما دفعوه ولكن بالقيمة الاسمية للسهم. إن الميزة العظيمة للسهم بصفة عامة أنه محدود المسئولية، إذ يمكن للمستثمر أن يخسر ما دفعه ثمنا للسهم ولكن تلك الخسارة لا تمتد إلى أمواله الخاصة الأخرى بحال، مع أنه شريك يتمتع بكافة حقوق المالك. لقد جعل ذلك الشركة المساهمة ذات شخصية مستقلة عن ملاكها، وإن كان ترتب عليه زيادة في تكاليف الاقتراض لمحدودية الضمان مقارنة بشركات الأشخاص مثلا (مع أن هذا ليس أمرا مطلقا) . لقد أدى هذا الاستقلال إلى انفصال الملكية (التي يمثلها حملة الأسهم) عن الإدارة (التي يمثلها مجلس إدارة الشركة) . ويفترض من الناحية النظرية أن مجلس إدارة الشركة هو بمثابة الوكيل الذي يحرص على مصلحة المالك الحقيقي ويدير الشركة نيابة عنه، وأنه أي ذلك الوكيل عرضة للتوجيه وللفصل أحيانا من قبل المالك في الاجتماع السنوي للجمعية العمومية. والواقع خلاف ذلك، فالشركة المساهمة الحديثة تبدو تحت التصرف المطلق للمدراء، وفيما عدا الحالات التي تتركز نسبة كبيرة من الملكية في أيد قليلة يكون لها تأثير مباشر على الشركة فإن المتصرف الحقيقي هو المدير لا المالك. على أن على الإدارة دائما ضغوطا خارجية أهمها محاولات الاستيلاء عليها من قبل بعض المساهمين أو الشركات الأخرى الأمر الذي يدفع الإدارة في كثير من الأحيان إلى العمل على إرضاء المساهمين حتى لا يستجيبوا لمثل تلك الضغوط. وتحتفظ الشركة بأسماء وعناوين حاملي أسهمها الذين يمنحون غالبا شهادة واحدة تتضمن عدد أسهمهم. ويمكن بيعها جملة أو أجزاء منها بواسطة تظهيرها إلى الزبون الجديد ثم تسجيل ذلك لدى السمسار أو البنك الذي تعينه الشركة وكيلا لها في ذلك. على أن ترتيب مثل هذه الأمور يختلف من قطر إلى آخر.
والذي عليه الأمر في الدول الكبرى في الوقت الحاضر أن تصدر الأسهم إلى شركة وسيطة تسمى Clearing Corp، تكون باسمهما ويكتفى عند نقل الملكية بين الأفراد بتسجيل ذلك في أجهزة الكمبيوتر التي يحتفظ بها السماسرة والوكلاء.(6/1187)
ولهذه الأسهم أنواع نذكر منها مايلي
4- أ-1 الأسهم العادية (Common stock) :
يمثل السهم العادي ملكية الشركة وحصة في رأس مال الشركة وحقا مشاعا في موجوداتها (1) وللسهم قيمة اسمية هي تلك المطبوعة على الوثيقة ويتمتع مالك ذلك السهم بحقوق متعددة أهمها انتخاب مدراء تلك الشركة والذين يقومون بدورهم بتعيين الموظفين التنفيذيين وتوجيه الشركة نحو تحقيق أغراضها المحددة بقرار الإنشاء. ويكون حجم الشركة صغيرا نسبيا فإن أكبر المالكين لأسهمها غالبا ما يتولى موقعا إداريا هاما فيها. وتنظيم قوانين الشركات في كل بلد الطريقة التي يقوم بواسطتها مالكو تلك الأسهم بممارسة ذلك الحق. فمثلا تلزم القوانين عادة تلك الشركات بعقد جلسة للجمعية العمومية (أي: اجتماع لكافة حملة الأسهم) (2) . والمعتاد أن يمثل كل سهم صوتا واحدا في الجمعية العمومية. ومن العسير على جميع حاملي أسهم شركة كبيرة (وقد يعدون بالملايين أحيانا) الاجتماع في وقت واحد ولذلك يغلب توكيلهم لغيرهم (وفي أحيان يوكل أكثرهم شخصا تعينه الشركة ذاتها) للتصويت نيابة عنهم. ويوقعون على ذلك وثيقة (وكالة) كثيرا ما تنشر صيغتها في الصحف أو ترسل إليهم بالبريد قبل موعد الاجتماع تسمى (Proxy) ويمكن لأي مساهم أن يعين نفسه وكيلا ويطلب ثقة أنداده من المساهمين، فيحضر إلى جلسة الجمعية العمومية وهو يحمل أصواتا كثيرة تعطيه ثقلا في توجيه الشركة. ولذلك فقد تستخدم هذه الطريقة لتغيير إدارة الشركة. وأهم وظائف التصويت هو انتخاب مجلس الإدارة، فيعطي لكل سهم صوت، ويختار من المرشحين لمجلس الإدارة من حصل على أغلبية بسيطة. وتعمل بعض الشركات بما يسمى التراكمي (Comulative Voting) ، حيث يمكن لمساهم أو مجموعة من المساهمين أن تصرف جميع أصواتها على مقعد واحد، ثم يختار له من حصل على أكثر الأصوات، وبذلك يستطيع مجموعة من المستثمرين تركيز أصواتهم لإيصال أحدهم إلى مجلس الإدارة.
__________
(1) ولا يجوز تداول الأسهم إلا بعد أن يكون للشركة أصول حقيقية لأن ما يباع عندئذ لا يكون حصة في الشركة ولكنه حصة في نقود، ومن ثم يدخل في باب الصرف لا البيع. فلا يجوز بيعه بأكثر من القيمة الاسمية. فإذا صار للشركة أصول حقيقية كمبان وعقارات وآلات وأثاث وما شابه ذلك صار البيع واقعا على هذه الأصول وليس النقود فقط. وسوف يبقى للشركة دائما أصول نقدية، ولكن ما دامت الأصول الحقيقية هي الغالبة فالأرجح الجواز. وفي معنى الغلبة خلاف، منهم من قال إنها الثلثان وبعضهم قال أكثر وبعضهم قال أقل. وإذا كانت الشركة ممن يتعامل مع البنوك الربوية بالاقتراض بالفائدة أو قبضها في حالة الإيداع، ففي التعامل بأسهمها اشتباه. فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه فهو لا يخلو أن يكون من أولئك. فإذا علم أن جزءا من الأرباح المتحققة لهذه الشركة إنما مصدره الفوائد على حساباتها في البنوك وجب على المساهم أن يطرح تلك النسبة مما يقبضه منها كأرباح، ويرى بعض العلماء عدم جواز شراء أسهم هذه الشركة ... والله اعلم.
(2) غالبا ما ينتخب ثلث مجلس الإدارة في كل عام حتى لا يتجدد مجلس الإدارة برمته بشكل مفاجئ.(6/1188)
والغالب أن تكتفي الشركة بإصدار نوع واحد من الأسهم العادية. لكن بعضها (وخصوصا في الولايات المتحدة) تعمد إلى إصدار فئات متعددة من الأسهم العادية يسمى كل منها فئة (مثلا class A، class B، class E) ، فعلى سبيل المثال قد تفرق بين أسهم المؤسسين وبين الأسهم المباعة إلى الجمهور فتقصر حق التصويت لعدد من السنوات على أسهم المؤسسين وتحرمهم من الحصول على حصة من الربح خلال هذه الفترة ويعطي هذا تأكيدا للسوق على حرص المؤسسين على نمو الشركة وأنهم لا يسعون إلى تحقيق ربح عاجل ... إلخ. وربما يكون إصدار أسهم من فئة جديدة حلا لضائقة مالية فتصدر أسهما جديدة ترغب في حرمان مالكيها من التدخل في الإدارة للحصول منهم على التمويل فتجعلها فئة مستقلة (مثلا Class E) أو قد تميزها بنسبة أعلى من الربح خلال فترة معينة ... وهكذا.
4-أ-2 الأسهم الممتازة (Preffered Stock) :
السهم الممتاز (وهي التسمية المتعارف عليها) أو المفضل (وهي ترجمة أكثر دقة للتسمية الأجنبية) هو مرحلة متوسطة بين السهم العادي وبين السند الذي سيأتي الحديث عنه، وقد سميت مفضلة لأنها مفضلة على الأسهم العادية في استحقاق الربح وفي ضمان القيمة الاسمية والسبق إلى متاع الشركة في حال تصفيتها. وهو أنواع متعددة يكون أحيانا أقرب إلى السهم العادي منه إلى السند وأحيانا العكس من ذلك (1) . فإذا كان من فئة الأسهم فهو وثيقة ملكية لكنه يمتاز على الأسهم العادية بأولويته في الحصول على الربح وفي التعويض عند تصفية الشركة. وإذا كان أقرب إلى السند كان مضمون العائد كنسبة معينة تصرف عند تحقق الربح وتتراكم سنة بعد سنة عندما لا يتحقق الربح فتدفع جميعا في أول فرصة (وقد يصل إلى حد اضطرار الشركة إلى الاقتراض لدفع العائد الموعود) . وتدفع الأرباح المستحقة على الأسهم الممتازة قبل أن يستحق حملة الأسهم العادية أي ربح لأن الربح على الأولى دين على الشركة مستحق الوفاء. وربما تكون لها مدة محددة تقوم الشركة في نهايتها بدفع القيمة الاسمية لذلك السهم أو تحويله إلى نوع آخر من الأوراق المالية كالأسهم العادية أو السندات. وفي أحيان تلتزم بشرائها بثمن يزيد على قيمتها الاسمية. والغالب أن السهم الممتاز قريب من السند ولذلك يسري عليها جل ما سنذكره عن السندات أدناه ولكنه يختلف عنه في أن الشركة المصدرة لا تدفع (كقاعدة عامة) فوائد تأخير عندما لا تدفع الربح إلى حامل السهم الممتاز وإنما تكتفي بتراكم تلك الأرباح.
__________
(1) الأسهم الممتازة أنواع مختلفة يصعب الحكم عليها حكما عاما إذ إن ذلك يعتمد على الخصائص الأساسية لكل سهم. وقد ذكرنا أنها تتأرجح بين السند (وثيقة دين) وبين السهم العادي (وثيقة مشاركة) . فالأرجح أن النوع الأول يحكم عليه بما آل إليه وهو السند الربوي الذي لا يجوز. أما النوع الثاني فإنه قريب من السهم العادي ولا يزيد عليه إلا بضمان الربح لحامله. وسبقه إلى متاع الشركة عند إفلاسها. وضمان الربح لجزء من المساهمين دون غيرهم فيه ظلم للعموم، والأرجح عدم جوازه(6/1189)
4-أ-3 الأسهم الممتازة ذات العائد المتغير (Adjustable-rate Pref-Stock) :
لم يظهر هذا النوع من الأسهم إلا قبل سنوات قليلة، وفيه يكون العائد مربوطا بنسبة مئوية مضافة أو مطروحة إلى عائد ورقة مالية أخرى متداولة في السوق. فمثلا قد يصدر السهم الممتاز ويحدد عائده السنوي بأنه نسبة العائد على سندات الخزانة الأمريكية ذات التسعين يوما (Treasury Bills) ، يضاف إليها (أو يطرح منها) نسبة 1.25 % مثلا أو أقل من ذلك أو أكثر. أو قد تربط بسعر الفائدة الذي يسوده على القروض بين البنوك في سوق لندن المالية، المسمى ليبور.
4-أ-4 أسهم التمتع:
يقدم المساهم حصة فيحصل على أسهم رأس المال التي تستمر استمرار الشركة ولا تعود إليه إلا عند انقضائها. أما أسهم التمتع فإن قيمتها الاسمية ترد إلى المساهم أثناء حياة الشركة، وتسمى هذه العملية استهلاكا للأسهم. فإذا استردها أصبح مساهما متمتعا. وترد إليه تدريجيا أو مرة واحدة إلى أن يسترد جميع ما دفعه للشركة مع بقاء استحقاقه للربح. والشركات التي تعمد إلى مثل هذه الطريقة هي تلك التي تكون محددة بفترة معينة أو تلك التي لا يؤمل أن يكون بيدها عند الانقضاء أصول توزع على حاملي الأسهم، مثال ذلك الشركة التي تستغل منجما بامتياز من الحكومة له سنوات محددة، فربما ينتهي ما بالمنجم من معدن فلا يعود بيد الشركة ما يستحق أن يوزع على المساهمين، أو ربما التزمت بأيلولة ما تملك عند انتهاء العقد إلى الحكومة فتعمل على تعويض المساهمين بإعادة القيمة الاسمية لهم. ولا تجيز كثير من القوانين عملية الاستهلاك المذكورة إلا أن يكون مصدرها الربح أو الاحتياطات وليس رأس المال. وقد يتم الاستهلاك بالقرعة لعدد محدود من المساهمين. وقد تنشئ الشركة أسهما تشترط لحملتها الاستهلاك، فتكون أسهم تمتع ابتداء. وفي أغلب الأحوال يستمر لحملة أسهم التمتع حق حضور الجمعية العمومية للشركة والتصويت فيها (1) .
4 – ب السندات:
السند ورقة ذات قيمة تتضمن تعهد مصدرها بدفع فائدة دورية في تاريخ محدد لحاملها (وأحيانا لمالكها المسجل في دفاتر الشركة) ثم دفع القيمة الاسمية المطبوعة عليها في تاريخ محدد. ولا يقتصر إصدار السندات على الحكومة إذ تعمد المؤسسات والشركات الخاصة في كثير من الدول إلى إصدارها.
__________
(1) الأرجح أن عملية الاستهلاك المذكورة لا تجوز إلا ضمن شروط منها أن يكون استهلاك السهم من الربح لأن رأس المال فيه حق للدائنين، أن لا تضمن الشركة لحملة الأسهم رأس مالهم لأنها إن ضمنت لهم ذلك انقلب السهم إلى قرض لا مشاركة. ومنها أن لا يفرق بين أنواع من المساهمين بعضهم يكون متمتعا وبعضهم لا يتمتع. وقد أجاز بعضهم حالة الاستهلاك التي يتم فيها استهلاك نسبة من جميع الأسهم أي 5 % أو 10 % ولا يختص فيها مجموعة من المساهمين دون أخرى (أنظر: البقمي صالح بن زابن المرزوقي، شركة المساهمة في النظام السعودي ص371.(6/1190)
والسند وثيقة دين لا ملكية، ولذلك يعامل مالكه كمقرض للشركة تسري عليه القوانين المنظمة للعلاقة بين الدائن والمدين. وليس من حقه المشاركة في إدارة الشركة أو عضوية جمعيتها العمومية وإن كان لبعض السندات حق التصويت كما سيأتي تفصيله.
كان للسندات، رغم أنها أقدم من الأسهم، أهمية ثانوية في أسواق المال، ولكن التذبذب الذي تعرضت له الأسهم في السنوات الأخيرة حول المتعاملين في السوق إلى الأوراق ذات العائد الثابت (وأهمها السندات) ، حتى صارت تمثل في الوقت الحاضر الجزء الأكبر من الأوراق المالية المتداولة في أسواق الدول المتقدمة. وإذا كان السند مضمونا برهن حيازي سمي Bond. وقد يكون الرهن جميع ممتلكات الشركة من عقار ومصانع وآلات ... إلخ. وعندها يسمى Mortgage Bond. فإذا فشلت الشركة المصدرة في دفع الفوائد أو القيمة الاسمية للسند، تقوم الجهة المشرفة على الإصدار ببيع ممتلكاتها حتى يتم الوفاء بذلك الالتزام. وقد يكون الرهن مقتصرا على ما سوف تتملكه الشركة من أصول بعد تاريخ إصدار السند، أي التي استخدمت حصيلة بيع الإسناد لشرائها (After-Aquired property clause) ، فلا يكون مضمونا إلا بما تمتلكه الشركة بعد حصولها على مبالغ السندات المصدرة. وقد تتعهد الشركة عند إصدارها لتلك السندات المضمونة بعدم إصدار أي سندات جديدة مضمونة بنفس الممتلكات فتسمى السندات عندئذ (Closed-end Bond) ، أما إذا لم تتعهد فإنها تسمى (Oper- end Bond) ، وتكون عادة أقل قيمة في التداول نظرا إلى أن نفس الأصول السابقة سوف تمثل ضمانا لعدد أكبر من السندات، الأمر الذي سيعني أن حصة الدائن عند تصفية أموالها ستكون أقل. ويسمى الإصدار الثاني المرهون بنفس الممتلكات (Mortgage bond Second and third) ونادرا ما يتعدى إلى رابع أو خامس، أما إذا كان السند غير مضمون برهن حيازي فإنه يسمى (Debenture) ، ويكون الضمان عندئذ هو سمعة الشركة المصدرة ومركزها المالي وثقة المتعاملين بها (1) . وقد تعمد الشركات إلى إصدار أنواع من هذه الأسهم ليس مضمونا بأي شيء ويستخدم في أعمال يكتنفها قدر كبير من المخاطرة مثل محاولة امتلاك شركة أخرى أو ما شابه ذلك. ويسمى هذا النوع في الولايات المتحدة سندات القمامة (Jink bond) ، وتكون أسعار الفائدة عليه عالية جدا ولكن احتمال استرداد قيمته الاسمية قليل نسبيا.
والسندات الحكومية هي في الحقيقة من نوع debentures لأنها غير مضمونة إلا بسمعة الحكومة وثقة الناس بها وحقيقة أن الحكومة لا تفلس (إلا في حالات نادرة جدا) .
__________
(1) وقد تتضمن وثيقة الإصدار وعدا بتحويل الـ (debenture) إلى (Bond) عندما تقوم الشركة بإصدار سندات مضمونة.(6/1191)
وللسندات مدد مختلفة أقصرها 90 يوما. ولكن بعضها يمتد إلى مائة عام (1) . وتستمر الشركة المصدرة بدفع فوائد سنوية (أو دورية) على تلك السندات حتى يحين وقت استردادها. على أن بعض السندات تصدر بدون مدة فهي تستمر لحين قيام المصدر باستدعائها أو شرائها من السوق.
وفي البلدان التي يكثر فيها إصدار المؤسسات الخاصة للسندات تتخصص بعض الشركات في إصدار تقويم دوري (rating) للسندات. ويقوم مصدر السند بدفع اشتراك يمكنه من الاستفادة من خدمات تلك الشركات فتقوم الأخيرة بمراقبة الوضع المالي للمصدر ثم تعطي سنداته عيارا محددا يكشف مدى قدرته، في نظر المقوم، على الوفاء بالتزاماته نحو دفع الفائدة السنوية والقيمة الاسمية للسند (2) .
4- ب –1 (أ) السندات ذات الأصول (Voting bonds) :
بخلاف السندات المعتادة، يعطي هذا النوع حامله حق الاشتراك في التصويت في الجمعية العمومية للشركة. وتميل الشركات إلى إعطاء هذا الحق عندما تكون ثقة المستثمرين في إدارتها قليلة ولذلك يقبلون إقراضها بشراء أسهمها على شرط أن يشاركوا في توجيه الإدارة، فيعطى لهم حصة التصويت.
4 – ب – 1 (ب) السندات المشاركة (Participating bonds) :
وهذه شبيهة بالسندات المعتادة، يضمن فيها سعر فائدة محدد ولكنها تتميز بوعد من الشركة بإضافة نسبة أخرى إذا تحقق لها ربح يسمح بذلك وكأنها مشاركة بالربح. فهو شرط معلق على تحقق معدل معين من الربح فإذا لم يتحقق لم يستحق حامل السند إلا النسبة الأولى فقط.
4 – ب – 1 (ج) السندات القابلة للتحويل (Convertible bonds) :
ويكون لحامل هذا السند، إذا نصت على ذلك وثيقة الإصدار حق تحويله إلى سهم عادي أو ممتاز أو نوع آخر من الأوراق المالية التي تصدرها الشركة.
4 – ب – 1 (د) السندات القابلة للاستدعاء (Callable bonds) :
عندما لا يكون للسند مدة محددة، أو تكون مدته طويلة بحيث ترغب الشركة المصدرة أن تعطي نفسها فرصة سداد القرض قبل نهاية المدة، فإنها تشترط القابلية للاستدعاء (أو الحق في الإطفاء) . فإذا اشترطت استرداده بالقيمة الاسمية فإن إقبال المستثمرين عليه يكون متدنيا، لأن الشركة ربما تستدعيه في وقت ارتفاع سعره فلا يستفيدون من بيعه، أو في وقت تكون أسعار الفائدة الثابتة عليه أعلى من تلك السائدة في السوق.
__________
(1) مثل السندات التي أصدرتها في عام 1895م شركة (Santa Fe) الأمريكية والتي تستحق في 1995م.
(2) وأشهر هذه الشركات في الولايات المتحدة ستاندرد أند بور (Standard and Poor) وموديز (Moodys) وكلاهما يصدر نشرة دورية تتضمن تقديمها لإصدارات الشركات المشتركة. وعلى سبيل المثال عندما تصف ستاندرد أند بور السند بأنه من فئة (AAA) ، فهذا يعني أنه لا يتضمن تقريبا أية مخاطرة فهو مأمون. (وبنفس المستوى معدل (A a a) في مقياس موديز) وأقل منه (A A) ثم (B B) ...(6/1192)
ولذلك ربما يعطون ضمانات بأنها لن تفعل ذلك خلال السنتين أو الثلاث الأولى. وربما تكون الطريقة كما يلي: تبيع الشركة السند وتشتري (من مشتريه) خيارا يتضمن الحق في شرائه عند سعر محدد غالبا ما يكون قيمته الاسمية.
4 – ب –1 (هـ) سندات الادخار (Saving bonds) :
لا يعتمد كثيرا على التسميات في التفريق بين حقيقة السندات، فهي في الغالب تسمى أسماء تشير إلى الهدف النهائي الذي يرجى أن تحققه، أو الغرض الذي تخدمه.
فسندات الادخار الأميركية على سبيل المثال: (U.S Saving bonds) تصدرها الحكومة وتباع مباشرة إلى الأفراد وإلى عدد قليل من الجمعيات والشركات، وما إلى ذلك. وهي غير قابلة للتداول، وهناك حد أعلى لما يمكن للفرد أن يشتريه منها (15.000 دولار) . وقد تدفع الفائدة فيها نصف سنوية، والأغلب أن تؤجل إلى نهاية مدتها التي تختلف وإن كان الغالب فيها أن تكون عشر سنوات. وتتغير شروط إصدارها كثيرا، فقد حددت في 1984م بسعر فائدة عائم يمثل 85 % من العائد على سندات الحكومة الأخرى.
من الجلي أن هذه السندات شبيهة بالسندات المعتادة، إلا أنها تقل عنها في عدم تداولها. ولذلك فإن الحكومة عند بيعها للناس تخاطب فيهم الروح الوطنية، والتضحية من أجل صالح الحكومة.
4 – ب – 1 (و) السندات المعفاة من الضريبة (Tax-excempt bonds) :
يلعب نظام الضرائب دورا مهما في توجيه النشاط الاقتصادي في أي قطر، وذلك يخلق الحوافز التي تدفع الأفراد والمؤسسات إلى نوع معين من الأعمال (بخفض تكاليفها) ، وبعيدا عن أنواع أخرى (برفع تكاليفها) . ولا يظهر هذا في أي بلد كما يظهر في الولايات المتحدة. ولذلك يستخدم نظام الضرائب المركزي (الحكومة الفيدرالية) والمحلي (حكومات الولايات وسلطات المدن) لتحقيق مثل تلك الأغراض. ويعتمد تمويل النشاط الحكومي، على كافة المستويات في تلك البلاد، على الضرائب والديون. وتصدر السلطات المحلية أنواعا لا تكاد تعد من سندات الدين، تختلف باختلاف المكان والغرض والجهة المصدرة ... إلخ.
والسندات التي تصدرها السلطات المحلية المذكورة، تتضمن مخاطرة تقل عن السندات التي يصدرها القطاع الخاص، لا سيما عندما يكون للجهة المصدرة حق فرض الضريبة، ولكنها تزيد مخاطرة عن السندات التي تصدرها الحكومة الفيدرالية التي تعد أكثر ضمانا وأمانا. وعلى ذلك فإن سعر الفائدة المتوقع على السندات المحلية يجب أن يكون أعلى من السندات الفيدرالية، الأمر الذي سيجعل تكاليف إصدارها أكبر نسبيا. ولذلك فقد جرت العادة أن تعفى السندات المحلية من الضرائب الفيدرالية حتى يمكن أن يدفع عليها سعر فائدة أقل نسبيا. والإعفاء يقصد به إعفاء الدخل المتحقق لحامل السند وليس السند ذاته. ولذلك يخلق هذا حافزا قويا لدى الأثرياء ولدى بعض الشركات بشراء هذه السندات التي تحقق دخلا معفي من الضريبة، خصوصا إذا كانت دخولهم الأخرى قد وصلت، من سلم الضريبة، إلى أعلى الشرائح.(6/1193)
وقد توسعت الحكومة الأميركية في الوقت الحاضر في إعفاء بعض السندات من الضريبة، فأصبح للجامعات حق إصدار سندات معفاة، بل ولبعض الشركات الخاصة أن تصدر سندات معفاة تمول بها تجهيزات تنظيف والمحافظة على سلامة البيئة وما إلى ذلك من النشاطات المرغوبة لمصلحة المجتمع. ولا تختلف هذه السندات عن السندات الحكومية الأخرى عدا أن الفوائد المدفوعة عليها لا تقتطع منها ضريبة دخل بعد أن تتحول إلى حسابات مالكيها، كما هو الحال في الأنواع الأخرى من السندات.
4 – ب –1 (ز) السندات المربوطة بالقوة الشرائية للنقود (Indexed bonds) :
أصبح التضخم، وهو الارتفاع الملموس والمستمر في مستوى الأسعار من حقائق الحياة المعاصرة. ومن آثار حدوث التضخم تدهور القوة الشرائية للنقود، وهو أمر يلحق الضرر بالدائنين ومنهم حملة السندات باعتبار أنها وثائق دين. ونظرا إلى أن الدائن إنما ينظر إلى العائد الحقيقي، لذلك ربما لا يكون في سعر الفائدة المضاف إلى السند الكفاية لتحقيق زيادة حقيقية في قيمة الدين. وربما لا تكون المشكلة ملحة عندما تكون مدة السند قصيرة مثل السندات ذات مدة ثلاثة أشهر أو ستة، ولكن بالنسبة للسندات التي تمتد إلى سنوات طويلة تبرز الحاجة إلى ترتيب مختلف. منها أن لا يحدد سعر الفائدة كنسبة ثابتة بل تصدر بنسبة متغيرة وتسمى (Variable or Floating rate) ، وغالبا ما تكون مربوطة بسعر يتحدد في سوق حرة مثل ليبور وهو سعر فائدة الإقراض بين البنوك في سوق لندن أو (Prime rate) وهو سعر الفائدة على القروض إلى أفضل الزبائن في سوق نيويورك ومن هذه السندات ما يكون مربوطا بمؤشر تكاليف المعيشة (Consumer Price Index) ، وهو المؤشر الذي تصدره سلطة حكومية متخصصة الذي يساعد على معرفة التغير في القوة الشرائية للنقود. ومنها تلك المسماة سندات (Granny) في بريطانيا، وهي نوع من شهادات الادخار التي تصدرها الحكومة لصالح الموظفين والعمال. فهي ذات مدة طويلة وتدفع فوائدها بعد مضي عدد من السنوات كنسبة مئوية تزيد على معدل الارتفاع في مستوى الاسعار. وتمثل برنامجا تقاعديا يمكن للمرء أن يشترك فيه فيدفع القيم الاسمية خلال سني عمله ثم يقبض الفوائد المصححة برقم وتكاليف المعيشة عندما يقرر التقاعد. ولا يسمح بشرائها عادة إلا للأفراد من الموظفين. فلا تمثل أداة استثمارية قابلة للتداول لجميع المستثمرين، ومع أن أنواعا من السندات المربوطة بتكاليف المعيشة تلقى قبولا وشعبية في بريطانيا إلا أن الأمر ليس كذلك في الولايات المتحدة ويعتقد بعض الباحثين أن مقدار المخاطرة المتدني يبعد عنها المضاربة.(6/1194)
4 – ب – 2 لماذا تستخدم الشركات التمويل بالإسناد أحيانا والأسهم الممتازة أحيانا أخرى؟
إن اختيار التمويل بإصدار سهم ممتاز أو سند إنما يعتمد غالبا على نظام الضرائب فنجد في الولايات المتحدة مثلا أن المؤسسات تميل إلى إصدار السندات حتى إنها ربما بلغت عشرة أضعاف الأسهم الممتازة وذلك يعود إلى أن ما يدفع على السند يأتي ضمن نفقات النشاط الإنتاجي فيطرح من مجمل الدخل مما يقلل من نسبة الضريبة التي تدفعها الشركة إلى الحكومة بينما أن ما يدفع على السهم الممتاز يعد ربحا لا يحسب ضمن التكاليف. ولكن من الناحية المقابلة فإن الضريبة التي تدفع على الدخول بالنسبة للمؤسسات في الولايات المتحدة هي أعلى عندما يكون مصدر الدخل فائدة السندات بينما يمكن إعفاء جزء كبير من الدخل من الضريبة إذا كان مصدره أرباح الأسهم مما يخلق حافزا لدى الشركات (وليس الأفراد) على شراء الأسهم الممتازة. إذا فإن الاختيار يعود في النهاية إلى ما يترتب على نوع الورقة المالية من تكاليف على المصدر.
4 – ب – 3 ضمان السندات:
إن الميزة الرئيسية للسند على السهم أنه ذو عائد ثابت، وأن أصله (قيمته الاسمية) مستحق الأداء في تاريخ لاحق. ومن ثم فإن مقدار المخاطرة التي يتحملها المستثمر عند شرائه للسند (مقارنة بالسهم) متدنية نسبيا. وتختلف السندات في هذه الناحية، فبعضها مأمون تماما كتلك التي تصدرها الحكومة (خصوصا الحكومة الأميركية) ، وبعضها يتضمن مخاطرة عالية كتلك التي تصدرها شركة صغيرة ناشئة لتمويل مشروع غير مضمون النجاح.
ولا غرابة في أن سعر الفائدة (والعائد) على النوع الأول سيقل كثيرا عن النوع الثاني. ورغبة في الاستفادة من العائد العالي نسبيا يمكن للمستثمر أن يؤمن على القيمة الاسمية ومدفوعات الفائدة على بعض أنواع السندات لدى شركات التأمين. ويتم ذلك بشكل خاص (في الولايات المتحدة) على أنواع السندات التي تصدرها السلطات المحلية.
فقد تصدر إدارة التربية والتعليم في إحدى المقاطعات سندا لتمويل أشغالها، وهو سند معفى دخله من الضريبة، ولذلك يكون مغريا للمستثمر. ولكن تلك الإدارة ليس بيدها فرض الضرائب، ولذلك فإن دخلها الذي ستدفع منه الفائدة والقيمة الاسمية سيعتمد على الوضع الاقتصادي لسلطة الولاية الأمر الذي يدخل احتمال الإفلاس والعجز عن السداد. يمكن في هذه الحالة التأمين بدفع مبلغ زهيد عادة كرسم للتأمين (يخصم من مجمل نفقات الشركة لأنه نوع من التكاليف) . والغالب أن هذا النوع من السندات فقط هو القابل للتأمين.(6/1195)
وفي كثير من الأحيان تقدم الحكومة الفيدرالية ذاتها ضمانا على بعض إصدارات السندات. فمثلا تصدر مؤسسة بناء المنازل أسنادا تمول بها نشاطاتها. لا شك أن قدرتها على الحصول على تمويل رخيص نسبيا إنما تعتمد على مقدار المخاطرة المتضمن في تلك الأسناد. ونظرا إلى أنها تضطلع بعمل نافع للمجتمع تقوم الحكومة الفيدرالية بضمان القيمة الاسمية ومدفوعات الفائدة على تلك الأسناد، مما يشجع الأفراد على شرائها. والأمثلة متعددة على مثل ذلك الضمان.
4 – ب - 4 السندات الحكومية عامة وسندات الحكومة الأميركية:
تتجه أكثر الدول في الوقت الحاضر إلى الاقتراض بإصدار السندات. وتمثل السندات الحكومية في أكثر دول العالم أهم الأوراق المالية ذات العائد الثابت في أسواق المال. وتتميز بانخفاض المخاطرة فيها وضمان العائد. والسندات هي وثائق دين على الحكومة، وفي أكثر الأحيان تستخدم هذه المبالغ لتمويل النفقات الجارية لا نفقات الاستثمار. والأغلب أن الفائدة على السندات القديمة إنما تمول عن طريق إصدار سندات جديدة إذا لم تستطع الحكومة زيادة إيراداتها بفرض ضرائب جديدة مثلا تعليق وقد ظن قوم أن للسند الذي تصدره الحكومة صفة مختلفة عن الدين، وطبيعة تميزه عن عقد القرض الربوي، فقال بجوازه قياسا على أن لا ربا بين العبد وسيده تارة، وأن لا ربا بين الأب وأبنائه تارة، وأخرى أنها مكافأة تقدمها الحكومة للمدخر كما يشجع الرجل أبناءه على بعض العادات الحسنة بمنحهم جائزة، وثالثة أن ما يدفع هو الربح في عقد مضاربة وأن مصدر الزيادة هو ملك الربح. والقول أن لا ربا بين العبد وسيده فيه خلاف، ومن قال بجوازه (أي لا ربا بين السيد وعبده) ، كالأحناف، إنما بنى الحكم على افتراض أن العبد وما ملكت يداه ملك لسيده فكأن الذمة المالية صارت واحدة كمثل أن يأخذ الرجل من جيبه الأيمن فيضع في الأيسر. فالعبد مملوك لسيده، ومال العبد مال سيده فما يقع بينهما ليس بيعا ولا قرضا فالزيادة فيه ليست ربا. فإذا اختلفت الذمة فالإجماع على عدم الجواز ولا خلاف في ذلك. يقول صاحب البدائع في بيان شرط ما يجري فيه الربا: (فإذا كان (البدلان) ملكا لواحد لا يجري فيه الربا وعلى هذا يخرج العبد المأذون إذا باع مولاه درهما بدرهمين ... لأنه إذا كان العبد وما ملكت يداه لمولاه فكان البدلان ملكا للمولى فلا يكون هذا بيعا فلا يتحقق الربا ... ) ولا تجوز إذا كان العبد مكاتبا لتعلق الدين بذمته. وقد وقع للحسن بن علي رضي الله عنه حادثة مشهورة ذكرها ابن حزم في المحلي تدل على أن للعبد ذمة مستقلة ومن ثم فإن الربا يقع بينه وبين سيده حتى لو كان ماله يئول إلى السيد.(6/1196)
أما القول بأن المعاملة المذكورة (أي اقتراض الحكومة عن طريق إصدار السندات) شبيهة بالعلاقة بين الأب وأبنائه، فهو قياس مع الفارق. فإن كان للأبناء ذمة مالية مستقلة عن الأب، فلا ريب في وقوع الربا بينها وهذا أمر واضح. فإن قلنا (جدلا) إن الذمة المالية للأب تحتوي الابناء (ولا أظن أحدا يقول بذلك) ، لم يعد للقرض معنى ابتداء، إذ كيف يقترض الرجل من نفسه ثم يزيد عند السداد. ولا وجه للمقارنة بين العلاقتين المذكورتين (الدولة ورعاياها والأب وأبنائه) ، فإن الفرق بينهما أبين من أن نزيد في توضيحه. فإن قيل إن السند قرض حسن غرضه إرفاق المسلمين بحكومتهم وإن الزيادة فيه من قبيل الهبة والتبرع أو منحة تقدمها الحكومة لأبنائها لأن القرض جائز والتبرع جائز. رد على ذلك بالقول أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني. فإن تبرع الحكومة المذكور ليس عاما لكل أبنائها، وليس خاصا للفقراء والمحتاجين وذوي العوز والحاجة منهم بل هو أمر ترتب على فعل محدد هو القرض المتمثل بشراء السند المضمون، فدل على أن هذه زيادة ربوية. فإن قيل إن الحكومة تعطي هذه الزيادة تشجيعا للادخار كالأب يشجع أبناءه على الادخار بأن يعطيهم مكافأة على سبيل الهبة رد على ذلك أولا أن التشجيع لم يقع على الادخار فإن للادخار أوجها كثيرة لا تعطي الحكومة عليها مكافآت فدل على أن غرضها ليس تشجيع الادخار، ثم إن هذه هبة مشروطة بالعوض، والهبة المشروطة بعوض هي عقد معاوضة والمعاوضة في القرض ربا. وحقيقة المعاملة أنها قرض فالزيادة فيه لا تجوز. أما القول بأن ما يدفع على السند هو ربح ناتج من مشروعات الحكومة فدون قبوله خرط القتاد. فمن وجه كيف تحقق الحكومة الربح وأكثر قرضها للنفقات الجارية؟ فحصيلة هذه السندات إنما تصب في ميزانية الحكومة ولا تخصص لمشروع بعينه بمحاسبات مستقلة تكون مصدرا لما يدفع كعائد على تلك السندات. ثم لو كان ربحا ترتب على نشاط تجاري أو صناعي فكيف تضمن الحكومة في أول العقد أمرا لم يتحقق بعد، وتحدد نسبته وهو لم يقع؟ والسند مضمون القيمة الاسمية لحامله، فيكف يستحق مالكه ربحا (إذا جاز تسميته الزيادة فيه ربحا) وهو لا يضمن المال إذا هلك؟ وتحريم ربح ما لا يضمن معروف. ثم إن الحكومة ضامنة لرأس المال والزيادة عليه فلذلك قرض ربوي (وإن سمي بغير ذلك) حتى لو استخدم في مشاريع تدر الربح ودفع العائد من الربح المتحقق فإن الضمان المذكور يخرجه من صفة الشركة إلى الدين. والله أعلم. .(6/1197)
وتقدم السندات التي تصدرها الحكومة الأميركية مثالا على سندات الدين العام التي انتشر العمل بها في أكثر الدول في الوقت الحاضر. وتعد سندات الخزانة الأميركية من أكثر الأوراق المالية تداولا على مستوى الأفراد والحكومات لعظم الثقة فيها وبمصدرها وهي الحكومة الأميركية. وتنقسم تلك السندات إلى ثلاثة أنواع رئيسية: قصيرة الأجل ومدتها ثلاثة إلى ستة أشهر وتسمى (Treasury Bills) وتباع أسبوعيا بالمزاد العلني. ويمثل الفرق بين سعر شرائها بالمراد والقيمة الاسمية المطبوعة عليها سعر الفائدة المتضمن. فمثلا قد يباع السند من فئة 10.000 دولار بالمراد بمبلغ 9.000 دولار. وفي نهاية المدة يسترد حاملة القيمة الاسمية بعد أن كان قد دفع مبلغا يقل عنها بمقدار 1.000 دولار فكأن الفائدة عليه هي قدرها 10 % ومن الواضح أن سعر الفائدة الذي سيتحقق في هذا النوع من السندات هو – منذ البداية – معتمد على العرض والطلب لأنه سيعتمد على الفرق بين القيمة الاسمية وسعر الشراء.(6/1198)
أما النوع الثاني فمدته تتراوح بين سنة إلى سبع سنوات ويسمى (Treasury Notes) والثالث من سبع إلى 25 سنة ويسمى (Bonds) وكلاهما يباع بقيمة ثابتة ويدفع فائدة دورية (نصف سنوية) طول مدته ثم يسترد مالكه قيمته الاسمية في نهاية تلك المدة.
ورغم أن السند يدر عائدا ثابتا، فإن امتلاكه يتضمن قدرا من المخاطرة حتى لو كان حكوميا، ذلك أنه غير مضمون ضد تغير القوة الشرائية للنقود، كما أن سعر السند يتقلب اعتمادا على سعر الفائدة السائد، فإذا ارتفعت أسعار الفائدة السائدة على أنواع القروض والودائع انخفضت أسعار السندات، والعكس صحيح.
4 – ب – 5 أنواع أخرى من السندات الحكومية:
تصدر البنوك في بعض الدول سندات دين لصالح الحكومة تسمى شهادات استثمار وتقسم هذه السندات أحيانا إلى مجموعات مشابهة لسندات الخزينة الأميركية مع بعض الاختلاف منها:
المجموعة (أ) : وهي سند مدته عشر سنوات لا يجوز للمالك استرجاع قيمته قبل انتهاء هذه المدة. وعند نهاية تلك المدة يحصل المالك على القيمة الاسمية – أي المبلغ الذي دفعه ثمنا للشهادة يضاف عليها ما تراكم من فوائد بالنسبة المتفق عليها (1) .
المجموعة (ب) : وهي سند دين يعطي المالك حق قبض الفوائد المتحققة للشهادة كل سنة، وبعضها كل ستة أشهر حسب شروط الإصدار ثم له أن يسترجع القيمة الاسمية في نهاية المدة (2) .
المجموعة (ج) : وتسمى الشهادات ذات الجوائز حيث تتم عملية سحب دورية ليفوز فيها بعض حملة تلك الشهادات بجوائز مالية اعتمادا على نتيجة (اليانصيب) .
__________
(1) هذا سند دين سمي شهادة استثمار مجازا. والسند وثيقة دين، وهو يتضمن قرضا يقدمه حامل السند إلى مصدره. والحكم فيه جلي. فإن كان قرضا بزيادة كما هي المعاملة السائدة فهو غير جائز لأن الفائدة فيه هي عين ربا النسيئة المقطوع بحرمته. ولا يغير من الأمر شيئا أن تكون هذه الفائدة ثابتة كنسبة مئوية من قيمته الاسمية أو أن تكون متغيرة كأن تربط بالفائدة السائدة في وقت الاستحقاق أو ما إلى ذلك لأن الحكم في ذلك قاطع: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} الآية فكل زيادة هي ربا
(2) الحكم في هذا النوع من السندات هو عدم الجواز. لأن السند وثيقة تتضمن قرضا من حاملها إلى مصدرها، وكل زيادة في القرض تعد من الربا المحرم. والعبرة بالمعاني وبحقيقة العقود لا بأسمائها. وبما أن الدائن (المقرض) قد دفع مبلغا للمقترض، والتزم الأخير برده سالما وزيادة فهو عين ربا النسيئة.(6/1199)
ولا يترتب عليها فوائد لحامل السند (1) .
4 – ب – 6 سندات حكومية بعملات أجنبية:
يصدر البنك المركزي في بعض البلدان سندات تسمى سندات التنمية الوطنية، وهي تباع على نطاق واسع في الأسواق الدولية، وتصدر بالدولار الأمريكي بفئات متعددة تبدأ بفئة 25 دولار حتى فئة 10.000 دولار. وهي سند دين يدفع البنك المركزي عليه فائدة تساوى الفائدة التي ترد في سوق لندن على القروض بين المصارف التجارية (ليبور) يضاف إليه نصف في المائة أو أكثر أو أقل وهي تتمتع غالبا بحقوق واسعة منها أنها معفاة من كل أنواع الضرائب ومن أنواع القيود الأخرى مثل قيود التحويل....إلخ. ويجوز لحاملها استبدالها بشهادات استثمار. وتطرح هذه السندات مرة كل شهر (2) .
5- أهم المعاملات وأنواع العقود في أسواق الأوراق المالية:
5 – (أ) الشراء بكامل الثمن:
وهذا هو المعتاد في البيع. وهو يحدث في أسواق الأسهم والسندات، فيدفع المستثمر كامل قيمة الأوراق المالية التي يشتريها من البائع. ولا نعرف بالضبط ما هي نسبة المعاملات في الأسواق المالية الرئيسية التي تتم بهذه الطريقة ولكننا نرجح أنها ليست كبيرة في الدول التي يسمح فيها بالاقتراض من البنوك والسماسرة للمضاربة في أسواق المال. والذي يجري في أكثر تلك الأسواق هو أن يفتح المستثمر حسابا مع السمسار شبيه بالحساب المصرفي. منه حساب نقدي (Cash account) وهذا يشبه الحساب الجاري في البنك، يودع فيه المستثمر ماله الذي يرغب في أن يستخدمه السمسار للشراء لصالحه، ويودع فيه السمسار ما يتحقق للمستثمر من أرباح أسهم أو فوائد سندات أو أثمان بيع ... إلخ.
__________
(1) يثور حول هذا النوع من السندات خلاف كبير في الوقت الحاضر، ولعل مرد هذا الخلاف هو عدم فهم حقيقة أن هذا السند وثيقة تتضمن قرضا من حامله إلى مصدره. وكل زيادة في القرض غير جائزة. وربما قال بعضهم إن الزيادة فيه ليست على صورة الفائدة، ولكنها هدية لتشجيع الناس على شراء تلك السندات بيد أن الأمر ليس كذلك. فمن جهة المعروف عرفا كالمشروط شرطا، فإذا نص في وثيقة الدين على هذه المكافأة الدورية ولجت المسألة في باب الربا. ثم إن مشتري السند إنما يفعل ذلك رغبة في الحصول على تلك الجائزة فكأنه قد دخل في عقد قرض وعقد آخر يتضمن شراء فرصة الفوز شبيه بورقة اليانصيب. فإذا أضيف إلى ذلك أن فرصة الفوز بالجائزة تتحسن بمرور الوقت أو بكثرة عدد السندات أو ما شابه ذلك فقد جمعت الربا والقمار. وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على حسن القضاء كما روي في صحيح مسلم عن أبي رافع أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فإن خيار الناس أحسنهم قضاء ... ) الحديث، ولكن الزيادة إذا شرطت شرطا أو كانت معروفة عرفا خرجت من باب حسن القضاء إلى الربا.
(2) يصح على هذه السندات ما ذكرناه أعلاه حول شهادات الاستثمار فئة (ب) .(6/1200)
ويستطيع صاحبه أن يسحب منه النقود متى شاء، كما يسحب السمسار منه لشراء الأوراق المالية باسم العميل. وحساب آخر يمكن للمستثمر أن يحصل منه على قرض أتوماتيكي شبيه بالسحب على المكشوف في البنوك. وهكذا يتم تمويل مضاربات المستثمر بواسطة سمساره بشكل متصل.
5 – (ب) الشراء بجزء من الثمن (1) .
الأصل أن تتم عملية شراء الأوراق المالية بدفع ثمنها كاملا في مجلس العقد، ولكن قوانين بعض الدول تجيز شراءها بجزء من الثمن أو الشراء بالهامش وفي هذه الحالة يدفع المشتري جزءا من الثمن، ويستدين الباقي من السمسار الذي يكون بدوره مقترضا من المصارف. وتخضع نسبة ما يشكله القرض من مجمل القيمة لقوانين صارمة ويتغير دوريا تبعا للظروف الاقتصادية. ففي أحيان تشترط السلطات المالية هامشا كبيرا عندما ترغب في تقليل عمليات المضاربة المحمومة في السوق. والهامش هو الجزء النقدي الذي يدفعه المشتري، وهو نادرا ما يزيد في الولايات المتحدة، عن 60 % وقد يقل عن ذلك كثيرا. وعندما ترغب السلطات المالية في زيادة نسبة التعامل فإنها تسمح بهامش أقل، لأنها تعطي بذلك الفرصة لمن لا تتوفر لديهم موارد مالية كبيرة بالدخول والشراء من السوق عن طريق الاقتراض. واكثر ما تستخدم هذه الطريقة في شراء الأسهم. ويبقى السهم، عندما يشتري بالهامش، في حيازة السمسار وقد يكون مسجلا باسمه أيضا ويكون رهنا لضمان السداد. ولكن يحق للمشتري أن يمارس حق التصويت في الجمعية العمومية للشركة وأن يحصل على ما قد يتحقق من أرباح. ويستخدم السمسار تلك الأسهم أو السندات في أعماله بإقراضها إلى زبائن يرغبون في إجراء بيوع قصيرة كما سيجري تفصيله لاحقا. وتفرق القوانين في الولايات المتحدة بين نوعين من الهوامش: الأول يسمى الهامش الابتدائي (Intial margin) ويتعلق بالقرض لشراء الأسهم في اليوم الأول فقط. والثاني الهامش لما بعد اليوم الأول والذي يسمى هامش الاستمرار (maintainance margin) والغرض من التفريق هو تشديد الرقابة على النوع الأول الذي يستخدم لأغراض المضاربات السريعة إذ يعتقد أن أحد أهم أسباب انهيار سوق البورصة سنة 1929 هو التوسع في الشراء بجزء من الثمن.
__________
(1) هذه المعاملة بالصفة المذكورة غير جائزة لأن فيها قرضا بفائدة والإجماع على أن الفائدة هي عين ربا النسيئة المقطوع بحرمته. فلو جرد العقد المذكور من الفائدة على القرض الذي يقدمه السمسار إلى المشتري هل يكون جائزا؟ الأرجح أنها تبقى ضمن عدم الجواز، لأن فيها عقودا قد اختلطت، منها بيع وقرض، والقرض فيها مشروط بالبيع، وللمقرض (حتى لو كان قرضه للإرفاق حسنا بدون زيادة ربوية) في عقد البيع التابع لعقد القرض مصلحة فكأنه قرض جر منفعة. وفيه بيع وسلف وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ... ) الحديث، والله أعلم(6/1201)
وعندما يتم الشراء بالهامش يدفع المشتري فائدة على الجزء المقترض من السمسار مدة استمرار ذلك القرض أي من تاريخ شرائه بالهامش حتى بيعه تلك الأسهم. ويتغير هامش الاستمرار تبعا لتغير السعر. فمثلا اشترى زيد 100 سهم في شركة الأمانة سعرها 40 ريالا للسهم دفع السمسار 3000 ريال واقترض منه الباقي (1000ريال) . واحتفظ السمسار بالأسهم رهنا مقابل القرض (وهو بفائدة) . فالهامش الابتدائي هنا هو 75 % ثم في اليوم الثاني انخفضت أسعار تلك الأسهم فصارت 30 ريالا للسهم فقيمتها الآن صارت 3000 ريال. لقد أصبحت حصة السمسار منها (وقد دفع 1000ريال) 23 % وليس 25 %، أي أن الهامش صار 66 % (وربما تزيد لو غلت الأسعار) . فإذا استمرت في الانخفاض حتى قاربت قيمتها 1000 ريال (وهو مبلغ القرض) سارع السمسار ببيعها لضمان استرداد قرض. ومن الجلي أن طريقة الشراء بجزء من الثمن تؤدي إلى توسيع التعامل في السوق وإعطاء أرباب الأموال قدرة على استغلال رساميلهم بشكل أكثر كفاءة من الناحية الاقتصادية حيث يستطيع المضارب أن يشتري أوراقا ذات قيمة تفوق ما يمتلك من مال.
5- (ج) البيع القصير والبيع الطويل (Short and Long Sales) :
يكثر في أسواق البورصة استخدام لفظ (طويل) و (قصير) لأنواع الصفقات. فقد يسمى البيع قصيرا أو طويلا وقد يسمى الهدف من الشراء قصيرا أو طويلا (Short or Long Position) . ولا علاقة لهذا التعبير بالمدة الزمنية ولكن علاقته مرتبطة بالهدف من الاستثمار. فالوضع الطويل يتعلق بشراء الأسهم والاحتفاظ بها للحصول على الربح أو بيعها للحصول على الزيادة الرأسمالية في أسعارها. أما الوضع القصير فيتعلق بالمقامرة على انخفاض أسعارها سواء كان المستثمر مالكا أو غير مالك لها في وقت إنشاء عقد البيع. فإذا توقع أحدهم أن أسعار إحدى الشركات (شركة الأمانة مثلا) سوف تنخفض فقد يعمد إلى عملية بيع قصير وذلك باقتراض عدد من أسهم تلك الشركة من سمسار (يكون محتفظا بها كضمان لسداد قرض في عملية بيع بجزء من الثمن انظر (5 ب) سابقا (1) وبيعها بالسعر السائد، ثم يعيد شراءها عند انخفاض الأسعار ثم تسديد ذلك القرض (أي يرجع الأسهم إلى صاحبها) ويحتفظ لنفسه بالفرق الذي تحقق من سعر بيعه وشرائه. وتتم العملية بواسطة السماسرة المتخصصين في أسواق البورصة كما يلي:
__________
(1) هل يجوز اقتراض الأسهم ثم بيعها؟ في تصور هذه المسألة صعوبة، والحكم على الشيء فرع من تصوره. والجواب يعتمد على حقيقة الأسهم من جهة وطبيعة هذا الاقتراض. والعبرة بحقيقة العقود لا بأسمائها فإن عدت الأسهم مالا مثليا بحيث يجوز اقتراضه ورد مثله لا عينه، فالقرض فيها جائز إن كان لا يترتب للمقرض فيه منفعة مشروطة. والواضح أن المعاملة مشروطة باقتراض السمسار لثمن المبيع. وإن كانت الأسهم مالا غير مثلي، فهي تكون على سبيل العارية لا القرض ففي اقتراض غير المثلى خلاف وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا وقضاه من إبل الصدقة. فهل يجوز له بيعها، أم يجب عليه رد عينها؟ ثم إنها مضمونة في الخصب والإتلاف بالقيمة، وهو شبيه في ظني والله أعلم بالصرف الذي يقع فيه ربا النساء، كأن يتم بيع100 درهم بمائة وبيعها آجل (ولكن هذه نقود وتلك إسناد) ثم زيد عليه اشتراط السمسار الانتفاع بثمن المبيع خلال هذه الفترة فكأنه اشترط عليه القرض، فأقرضه الأسهم واشترط عليه أن يقرضه النقود والله اعلم.(6/1202)
يتوقع زيد أن أسعار أسهم شركة الأمانة سوف تنخفض بعد فترة ويرغب في تحقيق ربح من هذا الوضع. يذهب إلى أحد السماسرة فيقترض منه 100 سهم من أسهم تلك الشركة، ويقوم ببيعها في السوق بالسعر السائد وهو (على سبيل المثال) 100 ريال، فيحصل بذلك على مبلغ 10.000 ريال يقوم السمسار بإتمام العملية وقبض الثمن والاحتفاظ به كرهن لضمان إعادة تلك الأسهم، وهو في هذه الفترة سيودعها في البنك (أو يتصرف بها بطريقة أخرى ... ) فتدر له – أي السمسار- عائدا خلال الفترة بين اقتراض الأسهم وإعادتها. فإذا حدث ما توقعه زيد وانخفضت أسعار تلك الأسهم (إلى 80 ريالا مثلا) فإنه سيقوم رأسا بشراء 100 سهم من أسهم ذات الشركة بقيمة 8000 ريال ويقوم بتسليمها إلى السمسار وقبض المبلغ السابق أي ثمن البيع (10.000 ريال) وتحقيق ربح قدره 2000 ريال. فالمستثمر ربح الفرق بين السعرين، والسمسار حقق عائدا من استخدام النقود (بالإضافة إلى مقابل الخدمات الإدارية) .
والقرض المذكور (أي اقتراض الأسهم) قرض حال وغير محدد بمدة زمنية إذ يستطيع المستثمر إعادة الأسهم في أي وقت ويستطيع السمسار استدعاءها أيضا. وفي هذه الحالة - أي طلب السمسار استرجاع الأسهم قبل الوقت المناسب للمستثمر - قد يضطر (المستثمر) إلى اقتراضها من جهة أخرى إذا كان الوقت لم يحن بعد لإقفال العملية. وعندما تخيب توقعاته فترتفع الأسعار بدلا من الانخفاض، يكون المبلغ المحتفظ به لدى السمسار أقل من القيمة السوقية ولذلك يكون المستثمر ملزما بزيادته إذا رغب في استمرار تلك العملية.
والأرباح التي توزعها الشركة المصدرة للأسهم في هذه الفترة هي (في الولايات المتحدة) حق للدائن (أي السمسار) رغم أن الأسهم تكون مسجلة باسم المستثمر، ولذلك يقوم هو بقبض الأرباح ثم يصبح مدينا بأي مبلغ استلمه من الشركة كربح للسمسار.(6/1203)
والغرض الأساسي من عمليات البيع القصير هو استغلال توقعات المضارب بأن الأسعار سوف تنخفض، وتحقيق ربح من هذا التوقع. لكنّ لهذه العملية آثارا مباشرة في نشر الرعب بين المتعاملين في السوق ومن ثم يؤدي انتشارها في الوقت غير المناسب إلى انهيار السوق. ولذلك نجد أن بورصة نيويورك مثلا تمنع عمليات البيع القصير إذا كان اتجاه سهم الشركة الذي يجري تداوله هو نحو الانخفاض. فمثلا عندما يكون سعر سهم شركة الأمانة في وقت افتتاح التعامل في السوق 50 ريالا لا يسمح بإتمام صفقة بيع قصير حتى يتضح اتجاه السعر. فإذا كان في الصفقات التالية أكثر من 50 سمح به وإذا كان أقل لم يسمح به. والسبب يعود إلى أن السماح بالمضاربة على انخفاض السعر عندما يكون اتجاهه نحو الانخفاض سيؤدي بالضرورة إلى الانهيار السريع لذلك السعر.
وقد يستخدم البيع القصير لحماية مكاسب البيع الطويل، أو لغرض نقل الأرباح التي تحققت هذا العام إلى عام قادم ومن ثم تخفيض نسبة ما يدفع من الضرائب.
وتتضمن العمليات المذكورة مقدارا كبيرا من المخاطرة، لأن نسبة الخسائر التي يمكن أن يتحملها المتعامل لا يمكن التنبؤ بها بشكل دقيق، فكل ارتفاع في سعر السهم الذي تم اقتراضه هو أعباء إضافية على المضارب، وبما أن سعر السهم يمكن أن يرتفع إلى أي مستوى (حتى إن أسهم بعض الشركات يصل إلى 90 ألف دولار للسهم الواحد) فخسائره إذا لا تكاد يكون لها حد بينما أن أقصى ما يمكن أن يخسره صاحب الموقف الطويل هو القيمة الكلية للأسهم التي يمتلكها.(6/1204)
5- (د) الخيارات (Options)
الخيار في عرف التعامل المالي: هو حق شراء أو بيع سلعة ما في تاريخ محدد بسعر متفق عليه سلفا. وفي أسواق الأوراق المالية والبورصات تكون السلعة سهما أو سندا أو أداة مالية متداولة معروفا. ولا يترتب على مشتري الخيار التزام بيع أو شراء، وإنما مجرد حق يستطيع أن يمارسه أو يتركه، ويصبح المضارب (المخاطر) مالكا للخيار بمجرد دفع قيمته.
وهناك أنواع متعددة من الخيارات سنعرض لبعضها ثم نفصل أهمها:
(1) الخيار الذي تمنحه الشركات لبعض العاملين (1) لديها من كبار المدراء فهي تمنحهم حق شراء عدد من أسهمها بسعر محدد سلفا (غالبا ما يكون أدنى من السعر السائد) ويمتد لفترة طويلة (ولكنها محددة) . والهدف من هذا هو تشجيع أولئك المسئولين على التفاني في العمل، لأن كل زيادة في السعر السائد لسهم الشركة تشكل ربحا لهم. وتميل الشركات إلى منح خيار، (وليس الأسهم) ، على العاملين فيها، لأن الخيار في هذه الحالة يمثل فرصة تحقيق ربح بدون احتمال تحمل الخسارة. إضافة إلى أن امتلاك الأسهم يترتب عليه ضرائب تشكل عبئا عليهم. ولا يحتاج المدير إلى شراء الأسهم للحصول على الربح حيث يستطيع بيع الخيار فقط كما سيأتي تفصيله.
(2) الخيار الذي تبيعه الشركة على مستثمرين جدد، ويسمى (warrants) ، حيث يكون لهم حق شراء مجموعة من أسهم الشركة، عند سعر محدد (غالبا ما يكون السعر السائد) خلال مدة محددة. وهو قابل للتداول وربما لسنوات.
__________
(1) هذا عقد بيع اشترط للمشتري فيه الخيار. ربما يكون هذا الخيار مجانيا تقدمه الشركة من باب الإهداء إلى بعض العاملين فيها ممن يتصف بالتفاني والاجتهاد في خدمة الشركة وهي لا تعطيهم تلك الأسهم مجانا بل بثمن محدد، ولكن تعطيهم حق الشراء، فالخيار هبة لا معاوضة، فمن قال بعدم لزوم الهبة لم يعد للخيار في ذلك معنى لأنها تقبل عندئذ الفسخ بلا اشتراط. ومن قال (كالمالكية) بالإلزام بالوعد لوقوع الموعود في ورطة صار للخيار فيه معنى، هذا على افتراض جواز أن يستقل الخيار عن العقد ذاته ولم نعلم أن أحدا قال بهذا. ثم إن المستفيد سيبيع الخيار دون حاجة إلى شراء الأسهم فكأن عقد البيع ذاته (أي شراء الأسهم) ليس له وجود، لأن قصد المتعاقدين ونيتهما هو الاستفادة من فروق الأسعار وليس امتلاك الأسهم، وفي أغلب الأحيان لا يترتب على بيع الخيار بيع الأسهم ذاتها. ويكون محل الهبة الخيار ذاته وليس الأسهم ثم إن العقد، أو الوعد في هذه المعاملة على شيء معدوم، لأن الشركة لن تعطي أولئك العاملين أسهما مما كان صدر قديما بل ستصدر لهم أسهما جديدة، وفي العقد على المعدوم كلام كثير. والأرجح الجواز إذا خلا من الغرر الفاحش المفضي إلى المنازعة. فإن عد هبة، فلا يفسده كثير الضرر، وإن عد معاوضة، فإن كان غير مقدور على تسليمه فالأرجح عدم الجواز، ولكن هذه من المقدور على تسليمه، لأن الواعد هو المصدر للأسهم.(6/1205)
(3) خيار يكتبه السمسار أو تصدره سلطة السوق المالية والبورصة تعطي حامله الحق في شراء أو بيع عدد محدد من الأسهم خلال فترة محددة وسيأتي تفصيله.
(4) الخيار الذي تمنحه الشركة لحاملي أسهمها بإعطائهم حق الحصول على أسهم في إصدار جديد بسعر يقل عن السعر السائد لتلك الأسهم ويسمى (Rights) . والهدف منه خلق بعض الصعوبات أمام من يريد شراء حصة غالبة من الأسهم المتداولة ثم السيطرة على الشركة، إذا يجعل هذا الإجراء الملاك الحاليين أكثر تمسكا بأسهمهم. وغالبا ما تكون مدة الخيار شهرا أو شهرين تحدده الشركة للدفاع عن نفسها من مشتر لا ترغب في سيطرته عليها.
ومع أن فكرة الخيارات في السوق ليست جديدة، إلا أنها لم تكتسب القبول كأداة للاستثمار إلا في عقد السبعينات عندما سمحت بورصة نيويورك بتبادلها لأول مرة سنة 1970م، ثم خصصت بورصة شيكاغو (في سنة 1973م) لها جزءا من السوق. حتى إذا حل عقد الثمانينات أصبحت هي عصب التعامل في أسواق البورصات. وسنفصل أدناه أهم أنواع الخيارات المذكورة، وهي تلك التي تصدرها الشركات (تعهدات) وتلك التي يصدرها السماسرة أو أدوات متخصصة في الأسواق المالية.
5-أ-1 التعهدات (warrants) :
تصدر الشركات أنواعا من التعهدات تتضمن الوعد ببيع عدد من اسهم الشركة بسعر معين خلال فترة محددة أو غير محددة (1) . وتستطيع الشركة بهذه الطريقة التي تحقق دخلا بدون أن تخاطر بتغير هيكل ملكيتها الذي قد ينتجه إدخال مساهمين جدد. وفي نفس الوقت يستطيع المستثمرون المضاربة على مستقبل الشركة بدون الحاجة إلى مبلغ كبير من المال.
مثال: أصدرت شركة الأمانة خيارا على أسهمها على شكل تعهدات. كل تعهد يخول حامله الحصول على سهم من أسهم الشركة بسعر قدره 20 ريالا خلال مدة قدرها عشر سنوات. وتم بيع هذه التعهدات بسعر خمسة ريالات لكل تعهد. فإذا افترضنا أن السعر السائد للسهم في بداية عام 1980م هو 20 ريالا، وأن مستثمرا يتوقع أن يرتفع السعر خلال الفترة 80-1985م إلى 40 ريالا فإنه سيحقق ربحا قدره 100 % (2) لو أنه اشترى عددا من أسهم تلك الشركة. ولكنه سيحقق ربحا قدره أكثر من 100 % لو أنه اشترى بنفس المبلغ تعهدات الخيار المذكورة بدلا عن الأسهم ذاتها. إن السبب يعود إلى أن أسعار تلك التعهدات سوف ترتفع بنسبة أكبر من ارتفاع سعر الأسهم عندما تتجه الأخيرة إلى الارتفاع وتنخفض بنسبة أكبر من انخفاض أسعار الأسهم عندما تتجه تلك الأسعار إلى الانخفاض (فخسارته تكون أكثر في حال انخفاض السعر أيضا) .
__________
(1) مثلا: أصدرت الشركة (T ri-Continental) الأمريكية تعهد خيار غير محدد بمدة بل مستمر مدة بقاء الشركة.
(2) مع ملاحظة أن مالك السهم ربما يحصل على ربح، لكن مالك الخيار لا يحصل على شيء من ذلك.(6/1206)
إذن فإن الحافز على شراء وبيع الخيارات إنما يعتمد على توقعات التغير في الأسعار، كما أن الربح الذي يمكن أن يحققه المستثمر سيكون معتمدا على صحة توقعاته تجاه سعر الأسهم التي يغطيها الخيار. ولا يحصل حامل الخيار على حصة من أرباح الشركة فدخله الوحيد هو التغير في الأسهم. ونظرا إلى أن حامل تعهد الخيار يقارن نفسه دائما بمالك الأسهم، فإن توزيع الشركة لنسبة عالية من الربح يؤدي دائما إلى انخفاض أسعار تلك التعهدات لأن الأسهم ذاتها تحقق في هذه الحالة ربحا أكبر من الخيارات.
وبمجرد إصدار الشركة لتلك التعهدات فإنها تصبح قابلة للتداول، وتحدد قوى العرض والطلب سعرها الذي يسود في السوق. وقد تشترط الشركة الحق في استدعائها بقيمتها الاسمية أو بقيمة تزيد بنسبة معينة عن سعرها السوقي.
وقد تلتزم الشركة عند إصدارها لتعهدات الخيار بعدم إصدار أسهم جديدة أو أن لا تبيعها في حالة الإصدار إلا بسعر يزيد على السعر المتضمن في تلك التعهدات. كل ذلك يؤدي على محافظة الخيارات على قيمتها السوقية.
وتستخدم الشركات هذه التعهدات لأغراض متعددة، فمثلا يمكن أن تصدرها مصاحبة للسندات (أو الأسهم الممتازة) ، ومن ثم تستطيع الحصول على دين بسعر فائدة أقل نسبيا فمثلا تصدر الشركة سندات دين بسعر فائدة قدره 9 % (بينما أن السعر الذي يقبله المستثمرون في مثل حالتها ومركزها المالي هو 14 % مثلا) ، وتصدر تعهدات تخول مالك كل سند حق شراء عدد من الأسهم بقيمة محددة خلال مدة محددة وتكون منفصلة عن السند بحيث يمكن تداولها بشكل مستقل، ويؤدي هذا في كثير من الأحيان إلى إقبال الجمهور على شراء تلك السندات رغم أن سعر الفائدة عليها أقل مما يجب، ومن ثم تستطيع الشركة الحصول على دين ذي تكلفة متدنية نسبيا.
5-د-2 تعهدات العملة الأجنبية (Currency Warrants) :
هذا تطور بني على فكرة تعهدات الأسهم، وتعهد العملة الأجنبية هو شهادة تصدرها الشركة تعطي صاحبها الحق في الحصول على مبلغ معين من عملة أجنبية بسعر محدد من العملة المحلية. وقد بدأت هذه الفكرة في أوروبا سنة 1986م ثم انتشرت في أسواق المال. وتقوم بها عادة الشركات (غير المالية) التي يؤدي تعاملها في الأسواق الأجنبية على دخولها في أسواق الصرف الدولية فتقوم بإصدار هذه التعهدات وبيعها على العملاء. والغالب أن الذين يشترون هذه التعهدات هم من صغار العملاء الذين لا يستطيعون شراء شهادات الخيار للعملات الأجنبية والتي تصدرها المؤسسات المالية المتخصصة بفئات كبيرة. وغالبا ما تكون مدة هذه التعهدات طويلة نسبيا (خمس سنوات مثلا) .(6/1207)
مثال: شركة التليفون والتلغراف الأمريكية (AT&T) أصدرت تعهدات عملة أجنبية بقيمة 3 ملايين دولار تعطي حاملها الحق في الحصول على 50 دولارا بسعر 158.25 ينا يابانيا للدولار. وليس للشهادة أية قيمة إلا إذا تخطى سعر الصرف بين الين والدولار 158.25 خلال مدة الشهادة وهي خمس سنوات. فإذا ارتفع السعر إلى 168.25 مثلا يصبح قيمة الشهادة 2.97 دولار (أي: أنها ستحقق ربحا مقداره 500 ين في كل شهادة) (1) . ومن ثم يحقق حامل التعهد المذكور الربح إذا تغير السعر بالطريقة التي يتوقع.
5-د-3 الخيارات التي يصدرها السماسرة والمتعاملون في السوق تعليق: الخيار مشتق من الاختيار، وهو طلب خير الأمرين. وهو يعني في المفهوم الفقهي أن يكون لأحد العاقدين أو لكليهما حق إمضاء العقد أو فسخه، وحكمته، الوصول إلى كمال الرضا، لأن العقود مبناها رضا المتعاقدين لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما البيع عن تراض)) . وقد يبدو الخيار مخالفا لمقتضى عقد البيع، لأنه عقد لازم. ولكنه ثابت في السنة فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لحبان بن منقذ الذي كان يغبن في البياعات: ((إذا بايعت فقل لا خلابة، ولي الخيار ثلاثة أيام)) ، وعنه صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا.. الحديث)) ، ويثبت الخيار لأحد العاقدين أو كلاهما، وفي ثبوته لغيرهما خلاف ومن قال بجوازه (وفي رواية لمالك في تهذيب الفروق وأحمد في كشاف القناع والشافعي في نهاية المحتاج ذكره علي الخفيف في أحكام المعاملات ص 401) استبقاه للعاقد، فيكون لمن شرط له ولمن اشترطه وإن لم يجعله لنفسه، فليس فيه إذا إثبات لبعض آثار العقد لغير عاقده وإنما أشبه في ذلك الوكالة وهو من باب الإنابة الجائزة.
وفي مدة الخيار خلاف، فقد ذهب أبو حنيفة على أنه مؤقت بثلاثة أيام، والجمهور على أنه ليس لمدته قدر محدد وإنما يقدر على حسب الحاجة ويكون في مدة مناسبة لما تقتضيه حال السلعة.
وفي الخيار تأخر القبول عن الإيجاب قدر مدة الخيار، ولكن لا يجوز أن يكون البيع معلقا كقوله بعتك دابتي إذا نزل المطر، ولا أن يعلق على ما ينعقد عليه السوق إلا أن يكون سعر يومه لا سعرا في المستقبل، والإيجاب والقبول (كأن يقول بعتك سلعتي هذه فيقول قبلت) إنما هما من لوازم عقد البيع والخيار في عقد البيع (وفي العقود المباحة الأخرى التي تقبل الخيار ضمن أحكام الشريعة الإسلامية) ، تابع للعقد متعلق به غير منفصل عنه وليس له وجود مستقل بذاته.
__________
(1) وحتى تحمي نفسها قامت الشركة بشراء خيار على الين مدته خمس سنوات بقيمة 500 ألف دولار للخيار الواحد. وبما أن تكاليف الخيار اقل من السعر الذي تتقاضاه من زبائنها في شهادات التعهد، ومن جهة أخرى فهي لا تتحمل أية مخاطرة لأنها مرتبطة بعقدين أحدهما بائعه والآخر مشتريه، فهي تحقق إذا أرباحا مضمونة.(6/1208)
وقد اختلف في جواز وراثته، فقالوا لا يجوز، لأنه إرادة ومشيئة وذهب الشافعي ومالك على أنه يورث لأنه حق متعلق بالمال لا بالشخص، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((ومن ترك مالا أو حقا فلورثته)) ، فإن شاء الوارث أمضى أو فسخ إذا مات المورث قبل نهاية مدة الخيار. ومع ذلك يبقى الخيار متعلقا بعقد البيع.
هل المعاملة المذكورة أعلاه هي نوع من الخيار المشروع؟ إن في المعاملة المذكورة أعلاه اختلافا واضحا عن الخيار في الفقه الإسلامي. ولعل أول هذه الاختلافات أن الخيار الموصوف والذي يتعامل به الناس في أسواق المال عقد مستقل عن عقد البيع. فالصيغة تتضمن انفصال البيع عن الخيار فيكون للخيار ثمن وللسلعة (أو السهم) ثمن. والخيار عقد مستقل يشتري فيه المستثمر حقا يخوله البيع والشراء والأغلب أن يبيع الخيار من لا يملك الأسهم من السماسرة فدل على أنه عقد مستقل بذاته. ومحل العقد هنا هو ذلك الحق وليس الأسهم، لأن للأسهم عقدا آخر هو عقد بيع وليس حقا. فما هي حقيقة هذا الحق؟ وهل يجوز أن يكون له ثمن؟ والأرجح عدم الجواز.
ثم إن هذين عقدين في عقد واحد. الأول هو ذلك الحق الذي ذكرنا والثاني: هو السلعة أو السهم المباع، فشابها في ذلك البيعتين في بيعة والشرطين في عقد فإن كان الأمر كذلك فهي غير جائزة. والله أعلم.
هل هي نوع من السلم؟ السلم جائز بالكتاب والسنة، وفيه تعجيل الثمن وتأجيل قبض المبيع والقبض شرط في صحة عقد السلم (أي قبض الثمن في مجلس العقد) ، ولذلك لا يجوز فيه الخيار فهذه المعاملة شبيهة بالسلم من حيث إنه عقد يتأخر فيه تسليم المبيع وهو الأسهم، وأن البيع يكون بسعر متفق عليه ابتداء على أجل معلوم. ولكن الاختلاف كبير، فليس فيه أولا قبض للثمن بل كلا البدلين مؤجلان، والأهم ثانيا أن عقد الخيار منفصل عن عقد بيع السلعة وله ثمن خاص به فأخرجه ذلك من باب السلم.
هل هو من بيع العربون؟ العربون هو أن يشتري الرجل السلعة فيدفع من ثمنها جزءا (درهمين مثلا) ويقول للبائع إن لم اشتر منك فالدرهمان لك، وجمهور الفقهاء على عدم جوازه، وقد ذهب الحنابلة في المشهور عندهم إلى صحة التعامل بالعربون وهو من مفردات المذهب) انظر: ماجد أبو رخية، حكم العربون في الإسلام) . وقد استدل ابن القيم رحمه الله على جواز بيع العربون بما أخرجه البخاري في باب ما يجوز من الاشتراط عن ابن سيرين قال (قال رجل لكريه ارحل ركابك فإن لم أرحل معك في يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح من شرط على نفسه طائعا غير مكروه فهو عليه) ويعد هذا العقد ملزما في حق البائع بمعنى أنه لا يستطيع الامتناع عن تنفيذه. أما المشتري فهو بالخيار. وخيار الطلب المذكور والذي يعطي مشتريه الحق في شراء عدد من الأسهم خلال فترة محددة شبيهة ببيع العربون المذكور وبينهما اختلاف.(6/1209)
ومن هذا الاختلاف أن العربون في البيع المذكور جزء من الثمن وفي الخيار ثمن منفصل عن سعر الأسهم وهو سعر الخيار ذاته وهذا اختلاف بين. أما خيار الدفع وهو الذي يكون لمشتريه حق بيع الأسهم فلا يشبه بيع العربون.
هل فيه نوع من أنواع التأمين؟ إن الدافع الحقيقي لشراء الخيار في أسواق البورصة هو الرغبة في دفع المخاطرة وضمان سعر محدد للبيع أو الشراء في المستقبل ومن ثم تفادي الخسارة. ومقابل ذلك يتنازل المستثمر عن مبلغ محدد يمثل ثمن الخيار المذكور. فكأن الخيار إذا نوع من التأمين. وهو عقد معاوضة يتضمن غررا فاحشا والبيع بهذه الصفة نوع من الميسر فالبائع إنما يبيعه مخاطرة، ففيه أكل للمال بالباطل وهو مفض إلى الظلم والتباغض. يقول المولى عز وجل: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الآية.
هل هو وعد أم عقد؟ هل يمكن أن نتصور هذه المعاملة أنها وعد ثم عقد. فيكون الخيار في البداية وعدا بالشراء، ثم إذا تم الوفاء بالوعد حصل العقد بشراء الأسهم أو السلع الأخرى. فإذا كان الأمر كذلك ثارت فيه مسألتان: الأولى هي هل يجوز أن يكون للوعد ثمن؟ فإذا كان له ثمن أضحى نوعا من عقود المعاوضات له صفة البيع. فالخيار الذي يعمل به الناس في أسواق البورصات مستقل عن ثمن السلعة (أو الأسهم) التي يكون عليها عقد الشراء فيما بعد. الأرجح عدم الجواز لأن الوعد له حقيقة مستقلة عن العقد فكيف يكون له ثمن؟ والثاني لأنه إن كان له ثمن ثم للسلعة ثمن صار عقدين جمعا في عقد واحد وبيعتين في بيعة وهو من الأمور المنهي عنها. والمسألة الثانية: هي قضية الإلزام بالوعد. فإذا افترضنا أنه وعد هل هو ملزم أو غير ملزم؟ ومسألة الإلزام بالوعد معروفة (وفيها تفاصيل ليس هنا مجال بسطها) ، فإذا قلنا بجواز الإلزام بالوعد في عقود المعاوضات منفصلا عنه سابقا له (كما تطبقه البنوك الإسلامية في بيع المرابحة للآمر بالشراء) ، بقيت مشكلة ثمن الوعد وأنه قابل للتداول مستقلا عن العقد، فدل على أن الوعد بذاته عقد مستقل له محل وثمن.
هل هي نوع من أنواع البيوع الجائزة؟ يقول المولى عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، فالأصل في البيع الإباحة وتشبه هذه المعاملة البيع العادي ففيها عاقدان، مشتر وبائع، وفيها ثمن وفيها محل للعقد، فأشبهت بذلك البيع المباح ولكنها اختلفت عن اختلافا جوهريا في محل العقد. فإن الثمن معلوم ولكن المبيع هو شيء مجرد ليس له حقيقة، فالعقد واقع على حق الشراء أو حق البيع من طرف والالتزام بالشراء أو الالتزام بالبيع من الطرف الآخر. أما ما يتم تبادله فيما بعد من أسهم أو سندات أو سلع..إلخ، فإنه إنما يأتي لاحقا، وليس له علاقة عضوية بعقد الخيار لأن كليهما يمكن أن يستقل بذاته. فهذا الحق والالتزام الذي يتم بيعه وشراؤه.(6/1210)
هل هذا حق يجوز بيعه؟ ذكرنا أن عقد الخيار إنما يعطي مشتريه حق البيع أو حق الشراء بثمن محدد. وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله (متقدموا الأحناف مثلا) أن الشيء لا يعد مالا إلا إذا أمكن حيازته وإحرازه وأمكن الانتفاع به عرفا أو عادة، فالعلم والصحة والشرف هي أمور معنوية لا يمكن حيازتها وإحرازها، والميتة والدم ... لا يمكن الانتفاع به لضررهما، وكذا حبة قمح أو قطرة ماء لتفاهته. فالمال مقصور على ما له صفة مادية محسوسة. فالحقوق نوع من الملك لا المال لأنها معنوية لا مادية ولذلك لم يجيزوا بيع حق الشفعة وحق الحضانة والولاية ... إلخ. على أن هناك أنواعا أخرى من الحقوق المعنوية يجوز أخذ البدل عنها بما يشبه البيع كحق ولي المقتول في القصاص إذ يجوز أن يأخذ الدية بدلا عنه، وحق الزوج في استمرار عقد الزواج، يجوز له التنازل عنه مقابل عوض الخلع. وحق الارتفاق وحق الشرب وحق المسيل. وقد ألحق بعضهم حق الملكية الأدبية والصناعية والاسم التجاري بهذا النوع من الحقوق (انظر مثلا وهبة الزحيلي: بيع الاسم التجاري والترخيص بحث مقدم إلى الدورة الرابعة لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي) جدة، وعلي الخفيف أحكام المعاملات الشرعية حاشية ص34-36.
من الملاحظ أن النوع الأول من الحق إنما ثبت من الشارع لبعض الأشخاص لدفع الضرر عنهم، وليس فيه منفعة لسواهم، أما النوع الثاني فقد ثبت لأصحابه أصالة فجاز أخذ البدل عنه. على أن جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة ومتأخري الأحناف يعرفون المال بحيث يشمل الحقوق المعنوية ولا يقصرون المال على ما أمكن حيازته وإحرازه وكان له صفة مادية. فالحق جوهره الاختصاص والاختصاص جوهر الملك وحقيقته، فإذا كانت الحقوق أملاكا فهي أموال. فإذا كان مالا جاز له فيه التصرف ومن هذه التصرفات التنازل عنه بعوض أو بغير عوض. فهل يمكن القول إن الخيار المذكور في العقد والمعاملة الموصوفة أعلاه يتضمن حقا من الحقوق التي يجوز التصرف بها بالبيع وما على ذلك؟
أولا: إن الملاحظ مما ذكرناه من كلام الفقهاء عن الحق أن الحقوق المذكورة هي حقوق ناتجة عن فعل سابق أو عن عقد سابق (ترتبت عليه علاقة بين طرفين) ، فحق ولي المقتول إنما نشأ من فعل القتل الذي تعدى به القاتل على ضحيته، وحق الزوج في استمرار عقد الزواج إنما هو حق نشأ بعقد زواج كان محله التمتع بالعلاقة المعروفة بين الزوج والزوجة ومن لوازمه الاستمرار.. وهكذا.
ثانيا: يغلب على هذه الحقوق جميعا صفة التعويض عن الضرر الذي لحق بفرد لعدم تمكنه من التمتع بحق أثبته له عقد سابق مثل حق الحضانة أو أثبتته له الشريعة كحق الشرب والمسيل والارتفاق.(6/1211)
أما هذا الذي نحن بصدده فهو حق أنشأه عقد كان محل العقد فيه هو ذلك الحق. فلم يكن تعويضا عن ضرر قد لحق بطرف ولا حقا نشأ بسبب عقد سابق. ثم إن هذا الحق الذي أنشأه عقد الخيار المذكور يتصرف به العاقدان كالسلعة التي تباع وتشترى، وتقام لها أسواق خاصة تكون مهمة السمسار فيها التوسط بين الباعة والمشتريين. من الجلي أن هذا الحق المذكور الذي يتضمنه عقد الخيار الموصوف مختلف تمام الاختلاف عن الحقوق القابلة للعوض كمثل تلك التي أشرنا إليها أعلاه.
ولو حاولنا استكشاف نية العاقدين وغرضهما من هذا العقد، لأن ذلك ربما يكشف لنا حقيقة هذا العقد، لو حاولنا ذلك لوجدنا أن غرض المتعاقدين من هذا النوع من العقود هو (في الأغلب الأهم) أحد أمرين أو كلاهما:
1- حماية المستثمر نفسه من خسارة متوقعة بإلقاء المخاطرة على طرف آخر وإلزامه بالشراء عند حصول المكروه بثمن يحمي ذلك المستثمر من الخسارة التي نتجت عن انخفاض الأسعار. ويلتزم الطرف الثاني بذلك مقابل ثمن يتعهد مقابله أن يشتري أسهمه (أو سنداته) بثمن محدد سلفا
2- رغبة مستثمر في تحقيق ربح عن طريق اقتناص فرصة سنحت معتمدا في ذلك على حواسه وتوقعه لما ستكون عليه حال الأسواق والأسعار في المستقبل، فيشتري اليوم حق الحصول على أسهم بسعر يتحدد اليوم ليبيعها غدا عندما ترفع أسعارها، أو حق بيع اسهم يتوقع انخفاض سعرها.. وهكذا. ثم عندما يتحقق ما أمل فيه يبيع ذلك الحق (وربما لا يحتاج إلى إتمام صور المعاملة بشراء الأسهم أو السندات فضلا) ليحقق ما يصبو إليه من ربح. من هذا كله نرى أن هذه المعاملة رغم ما فيها من صور البيع فإنها معاملة ضارة في أغلب الأحوال، وأن أغراض المتعاملين فيها شبيه بلعب الميسر، حيث يعتمد الربح فيها على الصدفة والمخاطرة والقمار. وفيها غرر فاحش بالدرجة المفسدة لعقود المعاوضات، بل إن الباعث لحصولها هو الغرر ذاته المنبعث من عقود أخرى ينتشر استعمالها في أسواق البورصات. والله أعلم. .
وتشكل هذه الخيارات أهم نشاطات أسواق البورصة في البيوع الآجلة في الوقت الحاضر. لقد بدأت عقود الخيارات في أسواق السلع ثم انتقلت إلى بورصات الأوراق المالية حيث اكتسبت أهميتها البالغة في الوقت الحاضر. ويمثل الخيار حقا (وليس الالتزام) بشراء أو بيع سهم أو سند أو أداة مالية أخرى. وفي أسواق البورصات في الدول المتقدمة يمكن للخيار أن يكون على مؤشر سعري فقط كما سيأتي تفصيله.
ويجري تداول الخيارات في أسواق البورصات الرئيسية كما يباع ويشتري في الأسواق خارج البورصات (Over the counter: OTC) .(6/1212)
أما في الحالات الأولى، فتكون العقود نمطية متشابهة من كل نواحيها ما عدا السعر فتحدد سلطة السوق مدة العقد ووقت انتهاء صلاحيته وعدد الأسهم المتضمنة فيه إذا كان خيار الأسهم. وتحدد الأسعار على شكل نقاط بحيث تنتهي بصفر أو برقم 5 ... إلخ. ويترك السعر للتفاوض بين المتعاملين. ولذلك نجد أن هناك تواريخ معينة تنتهي فيها الخيارات تكون موزعة على أشهر السنة.
ويلاحظ أن سلطة سوق البورصة، أو جهة متخصصة تحددها تلك السلطة، تكون ضامنة لوفاء الأطراف بتعهداتهم. فلا حاجة والحال هذه إلى وجود علاقة مباشرة بين البائع والمشتري حيث يجري تداول هذه الخيارات كما تتداول الأسهم أو السندات. أما في الأسواق غير المنظمة على شكل بورصات (OTC) فإن شروط الخيارات التي تصدرها تكون خاضعة للتفاوض. ويمكن أن تقسم الخيارات المتداولة في الأسواق المالية كما يلي:
5-د-5-2 (أ) عقد خيار الطلب (Call option) :
هذا خيار يصدره المتعاملون في السوق يخول مشتريه حق (1) شراء (وليس الالتزام بالشراء) عدد محدد من أسهم شركة (أو أية أوراق مالية أخرى) معينة بسعر معين خلال فترة محددة، غالبا ما تكون 90 يوما. يتضمن هذا العقد التزام المصدر، (أي: البائع) بتقديم تلك الأوراق إلى المشتري عند طلبه خلال تلك الفترة. ويدفع المشتري إلى البائع ثمنا يتحدد من خلال العرض والطلب في السوق مقابل التزامه بالبيع، وهو ثمن للخيار وليس للأوراق المالية التي يتضمنها.
ولا يشتري خيار الطلب إلا من يتوقع ارتفاع الأسعار. فإذا توقع زيد أن أسعار أسهم شركة الأمانة سوف ترتفع فإن بإمكانية شراء خيار الطلب يتضمن الحق في شراء 100 سهم بسعر محدد (أقل من السعر الذي يتوقع أن يرتفع السهم ليصل إليه) فإذا تحقق توقعه خلال المدة التي يسري فيها العقد مارس الخيار وحصل على الأسهم بالسعر المتفق عليه ثم باعها بالسعر السائد فربح الفرق بينهما.
وقد يكتفي زيد بالحصول من البائع على الربح بدون ضرورة الحصول على الأسهم ثم بيعها (أي على المقابل النقدي فقط) . ولا يحتاج البائع أن يكون مالكا للأسهم عند بيعه للخيار. فإذا كان مالكا لها سمي خيارا مغطى (Covered Option) ، وإذا لم يكن سمي خيارا مكشوفا (Naked Option) . ويلاحظ أن زيدا سوف لن يمارس حقه (أي لن يمارس الخيار) إلا إذا ارتفع سعر السهم بالقدر الذي توقعه. أما إذا انخفض سعر السهم فليس له مصلحة في ممارسة الحق، وإذا ارتفع ارتفاعا طفيفا فإنه لن يشتريه إلا بعد أن يتأكد أن ذلك الارتفاع سيغطي تكاليف نقل الملكية (التكاليف الإدارية) ويحقق عائدا.
__________
(1) نستعمل كلمة حق بالمعنى القانوني وليس الشرعي(6/1213)
5-د-2 (ب) خيار الدفع (Put option)
يعطي هذا الخيار حامله الحق في بيع (وليس الالتزام بالبيع) عدد معين من الأسهم أو الأوراق المالية بسعر محدد خلال فترة محددة، فإذا مارس الخيار أضحى على الطرف الآخر أن يقبل تلك الأسهم (أو الأوراق الأخرى) عند السعر المتفق عليه.
فعندما يشتري عمرو وثيقة خيار دفع يكون من حقه أن يبيع عدد الأسهم المتضمنة فيها عند سعر محدد خلال المدة التي يسري فيها الخيار. ويعمد عمرو إلى مثل هذا الإجراء عندما يتوقع انخفاضا في أسعار الأسهم ويريد حماية نفسه من الخسارة المتوقعة. فهو يستفيد من ارتفاع سعر الأسهم لأنه غير ملزم بالبيع ولكنه يحول الخسارة (عند الانخفاض) على الجهة المصدرة لذلك الخيار. فكأنه حصل على الحماية (تأمين) مقابل سعر الخيار.
5-د-2 (ج) الخيار المركب (Stradle option) :
ويتضمن هذا الخيار حقا في الشراء وحقا بالبيع في ذات الوقت. يصدر المستثمر هذا الخيار ثم ينتظر ماذا يحدث في السوق، فإذا وجد الأجدى له البيع مارسه، وإذا وجد الأجدى له الشراء مارسه، فيكون متأكدا لهذه الطريقة من الحصول على حد أدنى من العائد مقابل تحمله سعر الخيار.
5-د-2 (د) الخيار الممتد (Spread option) :
ويتضمن خيار شراء وبيع، أي خيارا مركبا، ولكن بسعر للشراء يزيد على سعر البيع.
5-د-3 الفوائد التي تعود على المتعاملين بالخيارات:
تمثل الخيارات مصدر عائد مالي لبائعها، وتأمينا ضد جزء من مخاطر المضاربات بالنسبة لمشتريها. فمشتري خيار الطلب (Call) يحصل على فرصة تحقيق الربح عند ارتفاع أسعار الأسهم ولكنه لا يتحمل خسارة (سوى ما دفعه كسعر الخيار) في حالة انخفاضها، والمشتري لخيار الدفع (Put) يحمي نفسه من الخسارة المتوقعة عند انخفاض الأسعار ويحتفظ بفرصة تحقيق ربح لو أنها ارتفعت، ويدفع مقابل ذلك قيمة الخيار. وفي الخيارات في نظر المتعاملين بها باستخدام أكثر كفاءة للموارد المالية إذ يستطيع من يمتلك 1000 ريال مثلا أن يتصرف في أسواق البورصة وكأنه يمتلك أكثر من ذلك بكثير، إذ يشتري الخيار بدلا من السهم ذاته فيستفيد من ارتفاع أو انخفاض الأسعار بمقدار ربما يزيد على من يمتلك تلك الأسهم، كل ذلك بدون الحاجة على شراء الأسهم ذاتها.
مثال: كان سعر أسهم شركة الأمانة 40 ريالا للسهم الواحد في أول شهر فبراير، وكان سعر شهادة الخيار التي تتضمن 100 سهم تسليم أكتوبر هو 500 ريال (أي 5 ريالات للسهم كخيار) ، وسعر السهم فيها هو 40 ريالا أيضا. فإذا ارتفعت أسعار الأسهم خلال شهر إبريل مثلا إلى 46 ريالا (أي بنسبة15 %) وارتفعت قيمة شهادة الخيار إلى 750 ريالا (أي بنسبة15 %) ، فلنقارن حالة زيد وعمرو، الأول اشترى 100 سهم والثاني اشترى خيارا يتضمن حق شراء100 سهم.(6/1214)
البيان زيد عمرو
قيمة الشراء:
4000
500
قيمة البيع:
4600 750
الربح (بافتراض عدم وجود مصاريف إدارية)
600 250
نسبة الربح:
(15 %) (50 %)
لقد حصل حامل الخيار على ربح أكبر من مالك الأسهم. ولكن لو لم تتحقق توقعات حامل الخيار لكانت خسارته أكبر من مالك الأسهم. ولذلك نجد أن ملاك الأسهم يصدرون على أساسها خيارا يبيعونه لكي يضمنوا إما ربحا أكبر أو حماية أنفسهم من احتمال الخسارة، ويستطيع مصدر الشهادة أن يعيد شراءها أو شراء مماثل لها بحيث يعفي نفسه من أي التزام (Offsetting option) فلا يضطر إلى بيع أو شراء. وتعد عملية إصدار الخيارات مصدرا للدخل لكل مالك لحافظة استثماره، حيث يصدر الخيارات اعتمادا على ما فيها من أسهم وسندات.
مثال: السعر الجاري لسهم شركة الأمانة هو 50 ريالا، يملك زيد منها 100 سهم، وقرر أن يكتب مقابلها شهادة خيار يبيعها بسعر 4 ريالات للسهم (هذا السعر يعتمد على أحوال العرض والطلب في السوق) . حصل مقابل ذلك على400 ريال. فإذا انخفض سعر السهم عن 50 ريالا فإن زيدا لن يتحمل تلك الخسارة (إلى حد 4 ريالات) . وإذا ارتفع سعر السهم فسوف يمارس مشتري الخيار حقه فيحصل على الأسهم، فكأن زيدا قد باعها بـ54 ريالا للسهم فهو قد تنازل عن الزيادة في سعر السهم مقابل حصوله على قيمة الخيار فضمن لنفسه الحصول على 54 ريالا لكل سهم، بينما أن مشتري الخيار سيحصل على مبلغ أكبر، معتمدا على السعر السائد للسهم الذي سوف يبيعه بعد ممارسته للخيار.
ونظرا إلى أن أسعار الخيارات تتحرك باتجاه أسعار الأسهم (1) (أو الأوراق المالية التي تتضمنها) لذلك فإن المستثمر لا يحتاج على ممارسة الخيار (أي شراء الأسهم) للحصول على الربح، ومن ثم فقد أصبحت الخيارات ذاتها مصدرا للأرباح. وهذا ما أدى إلى ظهور أدوات استثمار جديدة تعتمد على التحركات ذاتها ولا حاجة معها لشراء أي شيء كما سيأتي تفصيله أدناه.
5 -د-4 الخيار على المؤشر (2) (Index option) :
__________
(1) وينخفض السعر أوتوماتيكيا بمقدار ما توزعه الشركة من أرباح.
(2) هذا العقد صورة من صور القمار الذي ينتشر في أسواق البورصة في زمننا الحاضر حتى صارت بعض الصحف المتخصصة تسمى المجتمع الأمريكي مثلا (مجتمع صالة القمار) كناية عن هذه الظاهرة. إن ما يدفعه المشتري يحصل مقابله على فرصة ربح تعتمد على الحظ والمخاطرة. ثم إن ما يتحصل عليه من عائد ليس له مصدر حقيقي كربح أو ما شابه ذلك، ولكنه شبيه بالميسر يكسب الطرف الأول خسارة الطرف الثاني اعتمادا على ما قامرا عليه. والميسر مفسدة حرمها الإسلام. هي توقع العداوة والبغضاء بين الناس يقول المولى عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانَ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية. والله أعلم.(6/1215)
لقد بدا واضحا لدى أرباب البورصات منذ وقت طويل أن الهدف الرئيسي للمتعاملين هو تحقيق الربح عند أي تغير في مستويات الأسعار، فالأسهم والسندات وسواهما ليست هدفا بحد ذاتها ولكن الهدف هو استخدامها كأدوات للمضاربات المحمومة ولتحقيق الربح من الخطر. ولقد أظهر انتشار الخيارات أنه لا داعي ابتداء لامتلاك الأسهم أو السندات بل يكفي شراء وبيع الخيارات. ولذلك يعمد المتعاملون إلى تصفية عقد الخيار نقديا، فيدفع مصدر الخيار إلى المشتري الفرق بين السعر الجاري والسعر المتضمن في الخيار بدون الحاجة إلى بيع وشراء الأسهم ذاتها أو السندات. ولقد أدى هذا إلى تطور جديد حيث ظهرت أنواع من الخيارات لا تتضمن ورقة مالية بعينها (أي سهما أو سند شركة محددة) ، ولكنها تتضمن مؤشران فمثلا نعرف أن مؤشر ستاندرد أند بور 100 يقيس التغير في سعر مائة شركة تتداول أسهمها في بورصة نيويورك. فعندما يصدر الخيار على المؤشر المذكور فإنه يتضمن تلك الأسهم المائة (بدلا من سهم شركة واحدة) ، ولكن لا يحتاج المتعاملون فيه إلى قبض أو تسليم أي شيء بل يكفي تصفية العقد نقديا عند انتهاء مدته معتمدين على اتجاه المؤشر. فإذا ارتفع ربح من مقامر على ارتفاعه خسر من مقامر على الانخفاض، وهكذا.
وهناك عشرات المؤشرات التي تستخدم لهذه العقود بعضها عام وبعضها متخصص في أنواع محددة من الشركات، مثل شركة البترول، شركات المواصلات، الفنادق ... إلخ.
5-د-5 خيارات العملات الأجنبية (Foreign Currency Option) :
تشبه هذه الخيارات، ما سبق تفصيله، ولكنها بدلا من أن تكون متضمنة أسهما أو سندات فإن محلها خيار الشراء أو بيعه وهو عملة أجنبية. وتنتشر في الولايات المتحدة بشكل خاص (1) .
5-د-6 الخيار في أوروبا والخيار في الولايات المتحدة:
لا تكاد تختلف الإجراءات المتعلقة بالاستثمار في مجالات الخيارات في الأسواق المالية من أوروبا والولايات المتحدة، عدا نقطة واحدة، ففي الولايات المتحدة حق المشتري حال خلال مدة الخيار فهو يستطيع ممارسته في أي وقت يشاء قبل الساعة الثامنة مساء من آخر يوم فيه.
أما في أوروبا فلا يجوز له ممارسته إلا في آخر المدة المحددة أي في الساعات الأخيرة من تلك الفترة.
__________
(1) العقد بالصيغة المذكور غير جائز، فإن كان البيع واقعا على العملة ذاتها فهي صرف، والقبض يدا بيد شرط في صحة عقد الصرف، فلا يجوز تأجيل أحد البدلين في هذا العقد ومن ثم لم يَجْرِ فيه الخيار ابتداء والغالب أن محل العقد المذكور ليس العملة الأجنبية. ولكنه الحق في الحصول على فارق السعر الذي سيتحقق في المستقبل ومن ثم صار الثمن المدفوع هو ثمن الخيار ذاته الذي صار هنا مستقلا عن عقد البيع.(6/1216)
5 -هـ-5 المستقبليات (1) (Futures) :
تنتشر في أسواق الأوراق المالية عقود تسمى العقود الآجلة، أو المستقبليات، وهي تتضمن بيع سلعة أو ورقة مالية أو مؤشر على أن يكون القبض في تاريخ لاحق. صفة هذه العقود شبيهة بعقد السلم المعروف في الفقه الإسلامي ومختلفة عنه في آن الوقت. والأرجح أنها قديمة حتى في الغرب، ولكنها لم تظهر كأداة للاستثمار والمضاربة في سوق منظمة إلا في أواخر القرن التاسع عشر في المنطقة الزراعية في الولايات المتحدة آنذاك وهي الغرب الأوسط. كان الغرض تحقيق الاستقرار في أسعار السلع الزراعية بطريقة يستفيد منها الفلاح والتاجر، وقد بدأت بالقمح، ثم انتهت بكل أنواع السلع والأدوات التي يمكن أن تباع وتشترى. واستمرت شيكاغو، المدينة الرئيسية في الغرب الأوسط مركز هذا النوع من العقود. وقد حدث التطور الرئيسي فيها في أوائل السبعينات عندما افتتح مجلس إدارة سوق شيكاغو (2) سوقا خاصة للتعامل بهذه العقود. ليست عقود البيع الآجل هذه جديدة، ولكن الجديد فيها هو (تنميطها) بطريقة جعلتها قابلة للتداول. ففي الأسواق التي تتبادل فيها المستقبليات تلتقي رغبة بائع السلعة، مثل الفلاح الذي يتوقع أن سيكون لديه 100 طن من القمح بعد 9 أشهر ويرغب في ضمان وجود مشتر لها، ورغبة مشتر يتوقع أنه سيحتاج إلى القمح بعد 9 أشهر ويرغب في شرائه من الآن. ولا يحتاج أي منهما على الالتقاء بالآخر في أسواق البورصة، إذ كل ما في الأمر أن يشتري كل منهما عقدا نمطيا من سلطة السوق يتضمن تسليم كمية من القمح (5000 كيس تسليم شهر أكتوبر مثلا) من نوعية محددة في وقت معلوم.
ويتم تبادل السلعة مقابل النقود في الوقت المحدد للقبض وليس عند العقد. ولكن قد تحتاج كل منهما إلى تقديم ضمان أو دفع مبلغ من المال على سلطة السوق للتأكد من قدرتهما على الوفاء بالتزاماتهما، ولا تزيد هذه عادة عن 10 % من قيمة العقد عند التوقيع ثم نحو 7 % في اليوم التالي. وليس من الضروري أبدا دفع القيمة كاملة، بل يكفي مبلغ يغطي الخسارة في حال تخلف أي منهما عن الوفاء.
إن الميزة الأساسية لهذه العقود كما أسلفنا هو التنميط (النمطية) فهي تتضمن على سبيل المثال كميات محددة لكل عقد (5000 كيس بالنسبة للقمح) ونوعيات موصوفة بدقة، تسلم خلال فترة محددة على مستودعات معينة، ثم يقوم البائع بتسليم المشتري وثيقة الإدخال إلى المستودع ويحصل مقابلها على الثمن. وهكذا الأمر في السلع الأخرى.
إن الباعث على عقود المستقبليات هو تذبذب الأسعار، وعدم القدرة على توقع أسعار المستقبل بشكل دقيق، فلو أننا عرفنا سعر القمح بعد ستة أشهر بشكل يقيني لما كان لأسواق المستقبليات أي معنى.
__________
(1) آثرنا أن لا نسمي هذه العقود بالبيوع الآجلة حتى لا يختلط الأمر لشبهها بالعقد المعروف في الفقه الإسلامي.
(2) Chicage Board of trade.(6/1217)
ولذلك نجد أكثر التعامل في المستقبليات إنما يكون في السلع ذات التذبذب الموسمي مثل السلع الزراعية التي يعتمد سعرها في كل موسم على الأحوال الجوية وما إلى ذلك. ولكننا نادرا ما نرى هذه المعاملات في السلع المصنعة لاستقرار أسعارها بطريقة يمكن التنبؤ بها. مع أن هناك اتجاها في الوقت الحاضر لتوسيع هذه الأسواق لتشمل سلعا وخدمات جديدة مثل القواعد المتاحة للسفر في الطائرات وبعض السلع المصنعة ... إلخ تعليق: في هذه المعاملة شبه من عقد السلم وفيها اختلاف. وبيع السلم من البيوع الجائزة، وفيه بيع عوض حاضر بآخر موصوف في الذمة على أجل سلفا. ودليله من القرآن آية الذين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [سورة البقرة: الآية 282] . ومن السنة ما روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم إلى المدينة والناس يسلفون في الثمار العام والعامين فقال: ((من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم على اجل معلوم)) . وفي شروط السلم اختلاف بين المذاهب. فمنهم من قال بجواز عقد السلم استثناء لأن الأصل عدم جواز بيع المعدوم، فهو عقد غرر أجيز استحسانا، ومنهم من قال، كابن تيمية وابن القيم، أنه بيع عادي جائز قياسا، فليس مهما أن يكون المبيع معدوما عند العقد ولكن المهم القدرة على التسليم وقد حرمت الشريعة بيوعا السلعة فيها غير معدومة (كالبعير الشاردة) لعدم القدرة على التسليم. فإذا كان المبيع موصوفا في الذمة وصفا يضبطه وجوده عند الأجل مع تحقق رضى الطرفين وخلوه من الغرر والجهالة التي تقضي على النزاع أو الميسر. ومن شروط السلم قبض الثمن قبل التفرق في مجلس العقد، وأجاز مالك تأخيره إلى ثلاثة أيام.
هل تكون هذه المعاملة نوعا من بيوع السلم؟
تشبه هذه المعاملة بيع السلم المعروف في الفقه الإسلامي، فهي عقد بيع يتفق فيه الطرفان على التعاقد على بيع بثمن معلوم يتأجل فيه تسليم السلعة الموصوفة بالذمة وصفا مضبوطا إلى أجل معلوم. ولكنه يختلف في أمرين:
الأول: أن رأس مال السلم (الثمن) لا يدفع معجلا بل يقتصر على دفع نسبة منه فكأن البدلين فيه مؤجلان.
الثاني: أن المسلم فيه (أي السلعة) يباع قبل قبضه.(6/1218)
بالنسبة للنقطة الأولى، فإن تأجيل دفع الثمن يحول العقد على بيع غير جائز هو بيع الدين بالدين، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله: (.. ولهذا سمي سلما لتسليم الثمن فإذا أخر الثمن دخل في حكم الكالئ بالكالئ) (إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم: 2/20) ولا يجوز بيع السلم فيه، أي السلعة المؤجلة القبض الموصوفة في الذمة، قبل قبضها الفعلي واكتمال شروط الحيازة الشرعية فيها بالصفة الملائمة.
هل يغير وجود طرف ثالث في العقد من الأمر شيئا؟
من الملاحظ أن في المعاملة الموصوفة في أسواق المال والسلع طرف ثالث هو سلطة السوق. والعلاقة بين البائع والمشتري لا تتم مباشرة بل من خلال تلك السلطة. وهي تقدم الضمان لوفاء الطرفين بالتزامهما، كل واحد تجاه الآخر. (ربما يعقد هذا الضمان القضية، ويدخل في العقد تشعبات ليس هنا مكان الاستطراد فيها) فهل يؤثر هذا الضمان ووجود سلطة السوق المذكورة على موضوع تأجيل قبض الثمن؟ الأصل على أنه لا يجوز هذا التأجيل ومن أجازه لأيام (كالمالكية) إنما فعل ذلك باعتبار أن ما قارب الشيء أخذ حكمه فاعتبر هذا في حكم التعجيل، فإذا شرط فيه لأكثر من ثلاثة أيام فسد العقد. والذي لا يجوز هو تأجيل البدلين، كأن يكون رأس مال السلم مؤجلا كالسلعة بالموصوفة في الذمة حيث يفضي ذلك إلى بيع الكالئ بالكالئ. على أن مجرد عدم القبض في المجلس لا يعني التأجيل بالضرورة، لأن رأس المال حال فهو غير مؤجل وليس بنسيئة حتى لو لم يقبض فربما لا يفضي إلى بيع الدين بالدين. فإذا قبلنا أن عقد السلم بيع عادي أجيز قياسا لا استثناء أضحى في المسألة باب للتوسعة والله أعلم.
فإذا كانت هذه المعاملة من عقود السلم، ففي الموضوع مسألتان:
الأولى: أن الأسهم أوراق مالية وليس سلعا، فهل يجوز فيها السلم؟ الأرجح أنها إذا أخذت حكم السلع في البيع جاز فيها السلم. أما إذا أخذت حكم الديون لم يجز.
الثانية: هي أن السلم إنما يكون في سلعة موصوفة في الذمة ولا يجوز التعيين فيها فلا يجوز أن يسلم في ثمرة بستان بعينه لكونه لا يؤمن تلفه وانقطاعه، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أسلف إليه رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى فقال اليهودي: من تمر حائط بني فلان؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أما حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى)) رواه ابن ماجه. والذي عليه المعاملة الموصوفة في أسواق المال (إن كانت سلما) أن من أنواعها ما يكون فيه تعيين، فالسلع الموصوفة في الذمة (في مستقبليات الأسهم) هي أسهم شركة بعينها وليس أسهما موصوفة على أجل معلوم. على أن العلة في منع التعيُّن (وهي أنه لا يؤمن تلفه وانقطاعه) غير متصورة هنا لاستبعاد تعرض الشركة لحوائج مفاجئة تأتي على اسهم الشركة بالانقطاع إلا في حالات نادرة لا حكم لها.(6/1219)
هل هو بيع عادي؟
ليس كل بيع يؤجل فيه قبض المبيع يكون داخلا في باب السلم (ولا الاستصناع) ، وقد أثبت الفقهاء صورا من البيع الجائز الذي يؤجل فيه قبض المبيع، غير عقد السلم. من ذلك قول الشافعية والحنفية بعدم تسليم الثمن في المجلس إذا بيع موصوف في الذمة مؤجل بثمن معين (على غير السلم) . وقد ذكر الكاساني في بدائع الصنائع: (.. باع عبدا بثوب موصوف في الذمة مؤجل، فإنه يجوز بيعه، ولا يكون جوازه بطريقة السلم بدليل أن قبض العبد ليس بشرط، وقبض رأس مال السلم شرط جواز السلم) (البدائع: 7/30-31) . والعلة في تحريم كثير من العقود ومن الشروط في العقود هو الغرر المفضي على المنازعة، ومسألة دقيقة تحتاج إلى نظر وتمحيص في ظل الأشكال الجديدة من العقود.
هل يكون من عقود المقاولة؟
عقود المقاولة من أنواع العقود المستجدة، وهي شبيهة ببيع السلم وعقد الاستصناع ولكن فيها عنهما مخالفة تتمثل في تأجيل البدلين، وعقود المقاولة صورة من صور بيع الكالئ بالكالئ لأنها بيع دين مؤخر لم يكن ثابتا في الذمة بدين مؤخر مثله، ويسميها المالكية ابتداء الدين بالدين. وقد اقترح أحد الباحثين أن الحاجة إليها داعية والضرورة فيها معتبرة لعموم عمل الناس بها وتعذر إقامة أعمال التجار والمقاولين بدونها، فما دام خاليا من الربا فلا يوجد مانع شرعي من إباحته للضرورة (نزيه حماد، بيع الكالئ بالكالئ في الفقه الإسلامي، جدة مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، 1986م، ص29) والمعاملة الموصوفة شبيهة بعقد المقاولة المذكور الذي اتسع انتشاره والعمل به في كافة أنواع النشاط الاقتصادي حتى استقر عليه عرف التجار وعد من المعاملات المقبولة بينهم. والله أعلم.
هل يمكن اعتباره عقد سليم متجددا؟
يمكن للخروج من حرج النقطة الثانية المشار إليها سابقا، القول بأن ما يحدث ليس بيعا للمسلم فيه قبل قبضه، بل عقد سلم جديد لا تباع فيه السلعة ذاتها ولكن يسلم فيه بأخرى بنفس الوصف والمقدار في عقد جديد، (ويمكن إعادة صياغة العقد لينص على ذلك) . ولكن هذا غير ممكن في المعاملة الموصوفة في أسواق السلع والمال العالمية، لأن ما يحدث في الواقع هو تصفية نقدية لتلك العقود يوميا، فهي أي العقود، يجري إعادة كتابتها في أول وقت الافتتاح ثم تصفيتها في آخر النهار، فلا يبقى العقد الأول ساريا حتى نهاية الأجل ومن ثم لا يمكن القول بأنها عقد سلم يلغي بآخر يتضمن نفس السلعة.(6/1220)
5-هـ-5-1 الفرق بين الخيارات والمستقبليات:
هناك شبه كبير بين هذين النوعين من العقود حتى أن كثيرا من الناس لا يكاد يفرق بينهما. والفرق بينهما دقيق ومهم.
ففي عقد الخيار يدفع المشتري سعرا يعطيه الحق في شراء السلعة (أي الورقة المالية) التي هي محل الخيار. وسعر الخيار هو الذي يتحدد في العرض والطلب وليس سعر السلعة ذاتها، فالسوق للخيارات وليس للسلعة (أو الورقة المالية) . وبصرف النظر عن سعر السلعة التي هي محل الخيار فمشتري الخيار لا يمكن أن يخسر إلا ما دفعه ثمنا للخيار والعكس.
أما في المستقبليات فالأمر مختلف إذ أنها تتضمن بيعا آجلا، والسعر الذي يجري التفاوض عليه هو سعر السلعة ذاتها، كما أنه ينص على التزام المشتري بالشراء عند ذلك التاريخ ومحل العقد هو - في الظاهر- السلعة التي يتم التعاقد على تسليمها في تاريخ مستقبل.
5-هـ-5-2 كيف تتم عقود المستقبليات:
تلعب غرفة المقاصة (Clearing House) دورا هاما في أسواق البيوع المذكورة فهي ضامن للبائع والمشتري. ويتم العقد في الحقيقة بين البائع والغرفة، ثم بين المشتري والغرفة حيت لا توجد علاقة مباشرة بينهما (أي البائع والمشتري) ، فالعقد يتكون من طرفين بينهما غرفة المقاصة يتعهد الأول مثلا في يناير 1990م بشراء100 طن من القمح بسعر 1000 ريال للطن في يوم 15 يوليو 1990من ويتعهد الآخر بتسليمه هذه الكمية في التاريخ المحدد عند السعر المتفق عليه الذي سوف يجري بين يناير ويوليو 1990م هو انتقال هذا العقد من مستثمر إلى آخر عن طريق غرفة المقاصة عشرات المرات يوميا. فالمعاملات كلها تصفى في آخر النهار، ثم تبدأ في الغد بيعا وشراء ثم تصفى في آخر النهار ليظهر من ربح ومن خسر. فمن يمتلك حق الحصول على القمح بسعر1000 ريال للطن سيربح أتوماتيكيا عندما يرتفع السعر لأكثر من هذا المبلغ، ومن تعهد بتسليم القمح بسعر1000 ريال سيخسر أوتوماتيكيا عندما يرتفع السعر المذكور.. وهكذا. أما التسليم والقبض الفعلي للقمح (أو السلعة أو الورقة المالية التي هي محل العقد) ، فهذا أمر لا يهتم به المتعاملون إلا في تاريخ القبض (أي 15 يوليو في هذا المثال) ، حيث يتحول العقد في النهاية إلى المشتري الحقيقي للقمح بعد أن يكون قد مر على مئات المضاربين خلا لالفترة التي تفصل بين التعهد بتسليم تلك السلعة والقبض الفعلي لها.(6/1221)
افترض على سبيل المثال أن عقود بيع القمح تسليم شهر يوليو بدأ عرضها اليوم في السوق فأقدم زيد على شراء 5000 كيس بسعر 44 ريالا للكيس الواحد. بمجرد إبرام العقد تصبح غرفة المقاصة مسئولة عن تسليم 5000 كيس في شهر يوليو إلى زيد وتقبض منه 22 ألف ريال. ومن الجهة الأخرى تصبح مسئولة عن قبض تلك الكمية من البائع وتسليم المبلغ إليه. وفي اليوم التالي وجد زيد أن عمرا يرغب في شراء قمح تسليم شهر يوليو بمبلغ 45 ريالا للكيس الواحد، هذه فرصة ربح مؤكدة. فيستطيع من خلال غرفة المقاصة أن يحول العقد لصالح عمرو ويحصل على ربح مقداره 5000 ريال. فتقوم غرفة المقاصة بدفع المبلغ المذكور ثم قبضه حالا من البائع الأصلي الذي تعاقد على البيع بـ 44 ريالا. وفي حالة البيع بسعر اقل يكون على زيد أن يدفع لغرفة المقاصة الفرق حتى تضمن الغرفة دفع الغرفة مبلغ 44 ريالا للبائع الأصلي لأنه الآن سوف يقبض في شهر يوليو 45 ريالا لكل كيس. والواقع أن المعاملات أشبه بعقود يجري إعادة كتابتها يوميا. ففي كل يوم تقوم غرفة المقاصة بتجديد العقود وإبرامها بآخر سعر وصل إليه التعامل في اليوم السابق. ولذلك يحصل المتعاملون على الأرباح ويتحملون الخسائر يوميا.
ومن ذلك نرى أن غرفة المقاصة هي الوسيط بين المتعاملين، تقدم ضمان الوفاء بالعقود، وقد تطلب هذه الغرفة من بائع العقد أن يقدم ضمانا يتمثل بدفعه جزءا من القيمة أو تقديم ضمانات أخرى بدون الحاجة على دفع المبلغ كاملا. وبالنسبة للعقود المباعة في الأسواق الخارجية (أي خارج البورصة) ، تقوم شركات متخصصة في التعامل بالأوراق المالية بتقديم ضمان مشابه لذلك الذي تقدمه غرفة المقاصة.
ومن المهم أن نعلم أن عقد الصفقات المذكورة في أسواق البورصة مقصور على السماسرة المرخصين الذين هم أعضاء في تلك الأسواق.(6/1222)
5-هـ-5-3 عقود على السلع وعقود على الأوراق والمؤشرات:
لم تعد عقود البيع الآجلة التي وصفناها أعلاه مقتصرة على القمح والشعير، ولكنها توسعت لتشمل أنواعا متعددة من السلع والأوراق المالية المختلفة وعقود البيع الآجل على المؤشر. أما بالنسبة للسلع فلا يتطلب الأمر من البائع إلا القدرة على الوفاء بالتزاماته ولا يحتاج إلى إثبات ملكيته للأصل. إذ المطلوب منه بموجب العقد أن يسلم في التاريخ المحدد السلعة، ولا يهم أن يكون مالكا لها عند العقد أم سيشتريها في ذلك التاريخ. كما أن أكثر الأرباح يحققها المضاربون الذين يتبادلون العقود خلال الفترة السابقة لتاريخ القبض. والعقود الخاصة بالأوراق المالية شبيهة بذلك، إذ يحتاج البائع أن يسلم السند أو السهم الموصوف في التاريخ المحدد.
5-هـ-5-4 مستقبليات المؤشر (Index Futures) :
بدأت هذه العقود على السلع، حيث يلتزم أحد الطرفين بتسليم الآخر كمية من القمح مثلا في تاريخ لاحق، ثم توسعت لتشمل الأسهم والسندات والأوراق المالية، فيلتزم ذلك الطرف بتسليمها إلى المشتري في تاريخ لاحق. ثم تطورت لكي يلتزم طرف بدفع المؤشر على الطرف الآخر. لا شك أن المؤشر أمر مجرد، مثل درجة الحرارة، لا يمكن لأحد أن يقبضه أو يدفعه، ولذلك فالمقصود بهذا هو التسوية النقدية بين الحالين عند أول العقد وعند نهايته.
بدأ التعامل بهذا النوع من العقود في فبراير (شباط) 1982م، في بورصة مدينة كنساس سيتي الأمريكية، وقد بدأت بإبرام عقود البيع الآجل على الأسهم المتضمنة في مؤشر (Value Line) ، والذي يتضمن أسهم 1700 شركة. إن الجديد في هذه العقود هو أنها لا تتضمن قبض أو تسليم أي شيء، حيث يجري في نهاية العقد تسوية نقدية تمثل الفرق بين السعر المتضمن في العقد والسعر السائد في تاريخ انتهائه.(6/1223)
ويدعي المتعاملون بهذا النوع من العقود أن لها فوائد اقتصادية على المتعاقدين، فهي في ظنهم:
(1) تؤدي إلى تقليل التقلبات في أسعار وعائد الأسهم المتضمنة في الحافظة الاستثمارية وحمايتها ضد انهيار الأسعار.
(2) الاستفادة من التغيرات في الأسعار واستغلال القدرة على توقع الاتجاه العام في السوق.
(3) الاستثمار ليس في قطاع محدد أو عدد قليل من الشركات ولكن في السوق كله لأن المؤشر يعكس الاتجاه العام.
(4) الاستغلال الأمثل للموارد المالية وعدم تجميدها في شراء الأصول ذاتها، بل في المضاربة على فرض الربح مباشرة.
ومن الجلي أن هدف المقامرة هو المحرك الأساسي لمثل هذه المعاملات، ولذلك نجد أن توسعا كبيرا قد حصل في مستقبليات المؤشر حتى أنها أصبحت تشمل المتاجرة على مؤشر تكاليف المعيشة (Consemer Price Index) ، وهو المؤشر الذي تصدره الحكومات ليقيس معدل التضخم، رغم أنها لا علاقة له بالأوراق المالية. والواقع أن المضاربين لا يحتاجون على أكثر من شيء (أي شيء يتم تحديده بواسطة قوى مستقلة عن أي توجيه أو تأثير من أحدهم) ، ليقوموا بالبيع والشراء والمقامرة على تغيره.
5-هـ-5-5 مستقبليات العملات الأجنبية (Foreign Currency Futures) :
كانت أسعار صرف العملات الدولية تتسم بقدر كبير من الاستقرار والانضباط حتى أواخر العقد السادس من القرن الميلادي. ثم لما تم إلغاء العلاقة بين الدولار والذهب في أول السبعينات شهدت هذه الأسعار تقلبات كبيرة، مما اضطر المتعاملين في التجارة والمقاولين على حماية أنفسهم من تلك التقلبات ببيع حصيلتهم المتوقعة بعملة أجنبية قبل قبضها، أو شراء ما يحتاجون إليه من العملات الأجنبية قبل وقت الحاجة المباشرة لها. ويؤدي هذا إلى تحسين قدرتهم على حساب تكاليف إنتاجهم وأرباحهم المتوقعة.
ولقد أدى ذلك على ظهور أسواق منظمة لمثل هذه المعاملات. فظهرت سنة 1972م أول سوق متخصصة في ذلك في مدينة شيكاغو، ثم انتشرت في أسواق العالم الأخرى. وينص العقد على تسليم مبلغ من عملة أجنبية في تاريخ محدد ثم يصبح بعد ذلك قابلا للتداول ومحققا لعائد أو خسارة على حامله، ويشبه التعامل فيه الأنواع الأخرى التي تحدثنا عنها أعلاه (1)
__________
(1) هذا النوع من الصرف. والصرف فيه تأجيل أحد البدلين بل صحته تقتضي التقابض في مجلس العقد، أي أن يكون يدا بيد. فإن كان فيه تأجيل كلا البدلين (أي مواعدة على الصرف) وليس فيه إلزام شرطا ولا عرفا فربما كان جائزا، والمعاملة المذكورة هي من النوع الأول، والله أعلم.(6/1224)
5-هـ-6 الخيارات على المستقلبليات (Options on Financia Futures) :
بدأت في شيكاغو، في أكتوبر (تشرين أول) 1982م، أول عملية منظمة لعقود الخيار على عقود البيوع الآجلة، فهناك خيارات الطلب وخيارات الدفع لشراء وبيع العقود المستقبلية بسعر محدد لتاريخ معين، تبدأ العملية بوجود عقد بيع آجل ثم يتم على أساسه إصدار خيار يعطي حامله الحق في شراء ذلك العقد عند سعر محدد. ويجب ملاحظة أن عقد الخيار ليس له علاقة بالسلع أو الورقة المالية (السند أو السهم) الذي يتم التعاقد عليه في البيع الآجل فهي خيار على عقد البيع وليس على السلعة أو الورقة. ولذلك فإن تاريخ انتهاء عقد الخيار يكون دائما قبل وقت من حلول تاريخ القبض في عقد البيع الآجل حتى يعطي حامله فرصة المتاجرة به قبل انتهائه.
وهكذا، نجد أن اتجاه التطورات في هذه الأسواق هو دائما نحو التعقيد والإغراق في تركيب العقود الواحد فوق الآخر بحيث نجد أن كل عملية حقيقية يجري تركيب عشرات العمليات الوهمية فوقها حتى لا يكاد يظهر منها إلا جانب القمار والمضاربة المحمومة لا النشاط الاقتصادي النافع.
5-و-5 تداول الديون (Securitozation) :
اكتسبت وثائق تداول الديون أهمية في أسواق المال في السنوات الأخيرة. وتقوم هذه العملية التي تسمى (Securitization) ، على خلق أوراق مالية قابلة للتداول مبنية على حافظة استثمارية ذات سيولة متدنية. لقد بدأت فكرة تداول الديون عندما قامت مؤسسة تمويل بناء المساكن في الولايات المتحدة (Mortgaga Association Government National) ، باسم (Ginnie Mea) بتولي عملية تمويل بناء المنازل منذ 1968م، ليس عن طريق الإقراض المباشر ولكن عن طريق توفير السيولة لمؤسسات الإقراض الخاصة، ويتم ذلك بواسطة شراء القروض التي تقدمها تلك المؤسسات لبناء المساكن، ومن ثم تمكينها من التوسع في الإقراض. لقد خلق ذلك سوقا ثانوية لقروض بناء المساكن سرعان ما توسعت ودخلت فيها مؤسسات أخرى غير المؤسسة المذكورة (Ginnie Mea) ، مما أدى إلى تطورها بحيث لم تعد تقتصر على قروض بناء المساكن ولكن شملت كل أنواع الديون، كتلك الناتجة عن تمول شراء السلع الاستهلاكية والسيارات وقروض بطاقات الائتمان والقروض الخاصة بإنشاء الأصول الرأسمالية.. إلخ. وقد أمكن بهذه الطريقة تحويل الديون طويلة الأجل وقليلة السيولة إلى أصول سائلة.(6/1225)
وتتم عملية تداول الديون بطرق مختلفة. فقد يبيع المصدر الأصلي (أي البنك مثلا) الدين برمته إلى مالك جديد يقوم بعد شرائه هذه الديون، بقبض أقساط التسديد والفوائد المترتبة على القرض وعلى التأخير.. إلخ. وتقتصر مهمة المصدر الأصلي على خدمة العلاقة بينهما وتسمى (Pass-Throughs) ، وقد تبقى ملكية الدين للمصدر الأصلي وتبقى العلاقة مستمرة بينه وبين المدين ولكنه، أي المصدر الأصلي، يقوم ببيع تيار الفوائد المتوقع من ذلك القرض فيكون الدين مستحقا للمصدر الأصلي ويتحمل هو المخاطرة المتضمنة فيه، ولكنه يستعجل قبض الفوائد بأخذها من طرف ثالث معجلة ويسمى (Pay Throughs) ، أي أن المصدر يقبض مقدما الفوائد المتوقع دفعها فقط. أما الطريقة الثالثة فهي إصدار سندات مضمونة بتلك الديون، ثم بيعها فتكون الديون الأصلية ضمانا لتلك السندات فقط، وتسمى (Mortgaga Backed) قد تبدو هذه المعاملات شبيهة بما ورد في كتب الفقه من بيع الدين بالدين. والإجماع على عدم جواز بيع الدين بالدين (بيع الكالئ بالكالئ) ، قال الإمام أحمد: (إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع الدين بالدين) (المغني لابن قدامة: 4/53) ، وذكر ابن المنذر في الإجماع (ص 117) عملا ينهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ ولبيع الدين بالدين صور متعددة تتفق جميعا في كون أن كلا البدلين دين ثابت (أو لم يكن ثابتا) في الذمة. فقد عرفه مالك في الموطأ، (.. أن يبيع الرجل دينا له على رجل بدين على رجل آخر) (الموطأ: 2/660) ، ومنها أن يشتري الذي عليه دين السلم، المسلم فيه- عند حلول الأجل وعدم قدرته على التسليم- من صاحب رأس مال السلم بثمن مؤجل، (نقله نزيه حماد (بيع الكالئ بالكالئ) عن أبي عبيد القاسم بن سلام) ، ومنها بيع المؤخر الذي لم يقبض بالمؤخر الذي لم يقبض، كتأخير البدلين في عقد السلم (ابن القيم، إعلام الموقعين: 2/90) . ولعل الحكمة في منع هذه البيوع عظم الغرر المتضمن فيها.
من ذلك نرى أن الصورة التي وضحناها أعلاه في تداول الديون قد خرجت من صور بيع الكالئ بالكالئ لأنها بيع دين بعين (هي النقود) فالدين المتعلق في ذمة رجل يبيعه البنك إلى آخر نقدا لا نسيئة. الدين في المعاملة المذكورة ناتج عن قرض بفائدة وهو ربا محرم ولذلك فالمعاملة حرام ابتداء، ولكن لو افترضنا أن هذا الدين كان ناتجا عن بيع مؤجل صحيح فهل يجوز تنضيضه بالصورة التي ذكرنا؟
الأرجح أن الصورة المذكورة هي اقرب إلى الحوالة منها على بيع الكالئ بالكالئ. وبين الحوالة وبيع الدين بالدين شبه كبير، قال في بداية المجتهد: (الحوالة معاملة صحيحة مستثناة من بيع الدين بالدين) (ابن رشد، بداية المجتهد: 2/342) فدل على الشبه بينهما والمعاملة المذكورة وإن كانت قريبة من صيغة الحوالة فإن بينهما اختلافا، الأول: إن الإحالة هنا إنما ينشئها الدائن والمعروف أن الإحالة إنما هي فعل يقوم به المدين عن عجزه عن السداد كما قال عليه الصلاة والسلام: ((.. وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع)) ، أما المعاملة المذكورة فالمحيل هو الدائن.(6/1226)
ثانيا: أن الصيغة رغم قربها من صفة الحوالة لكن فيها معنى البيع، لأن الدائن لا يستوفي من المحال عليه كامل الدين وفاء فيقبض نفس مبلغه ولكنه يبيعه بثمن يتحدد في سوق بفعل قوى العرض والطلب, واعتمادا على تحليل المشتري لمقدار المخاطرة في ذلك الدين وطول أجله ونوع الدينين فيه.. إلخ. ثم إن هذا الدين يعاد بيعه في أكثر الأحوال ويتعامل فيه كسلعة في السوق. ومن ذلك يتضح أن هذه معاملة جديدة تحتاج على نظر وتمحيص، والله أعلم
وفي كل الحالات تقوم عملية تداول الديون على التنميط، إذ يقوم الدائن الأصلي بتوزيع تلك القروض إلى مجموعات متشابهة في مقدار المخاطرة المتضمنة فيها (أي ملأة المدين) وتواريخ استحقاقها ومعدلات الفوائد عليها، ثم يصدرها على شكل أدوات قابلة للتداول، وبذلك تستطيع أن تحول الدين قليل السيولة إلى سيولة كاملة. وقد توسعت هذه العمليات حتى صار جل الديون قابلا للتخفيض بهذه الطريقة بما في ذلك الديون على الدول (دول العالم الثالث) للبنوك الدولية.
6- الكمبيوتر وأسواق المال:
لم تعد المعاملات في أسواق المال تتم بواسطة البائع والمشتري يتفاوضان، ولا يعتقد أن الصفقات مباشرة. بل إن جل المعاملات يتم بواسطة أجهزة الكمبيوتر يتصل كل واحد منها بالآخر يبرمان الصفقات نيابة عن المتعاملين. وقد حدث تطور عظيم في هذه الأجهزة إلى الحد الذي أمكن معه إعداد برنامج دقيق لكل جهاز يوجهه إلى اتخاذ القرار المناسب بناء على المعلومات التي يتم تغذيتها فيه بواسطة أجهزة الاتصال، فكما هو معروف فإن أسعار الأسهم والسندات في أسواق البورصات يتم بثها مباشرة بواسطة الأجهزة المبرقة والهاتفية ويمكن كذلك الاشتراك فيها بحيث يتم توصيلها إلى جهاز الكمبيوتر مباشرة. وما عليك عندئذ إلا أن تخبر الجهاز برد الفعل المطلوب عند كل سعر. فمثلا زيد يمتلك خيارات في أسهم معينة يستطيع أن يخبر الكمبيوتر أنه إذا تخطي سعر الخيار المذكور 4 دولارات فعليك بالبيع فيقوم الجهاز عندما يتخطى السعر ذلك المستوى بتحويل الخيارات إلى السمسار الذي يتلقاها بواسطة جهاز الكمبيوتر ثم يسوقها إلى آخرين ... إلخ.
ويعتقد كثير من الخبراء أن وجود هذا النوع من الترتيبات هو السبب الرئيسي في انهيار، أكتوبر (تشرين أول) 1987م في أسواق البورصة إذ أدى اتجاه الأسعار إلى الانخفاض إلى توجه جميع الأجهزة إلى البيع ومن ثم حدوث الانهيار العظيم.
7- بعض القضايا والأسئلة التي تحتاج إلى نظر من قبل الفقهاء الأجلاء:
بعد هذا العرض الموجز لأهم المعاملات في الأسواق المالية تثور في الأذهان أسئلة كثيرة حول موقف الفقه الإسلامي من هذه الأنواع المتعددة من المعاملات. وأكثر هذه المعاملات واضح الحرمة لأنه يتضمن الربا أو القمار أو بيع ما لم يقبض. لكن جزءا منها يحتاج إلى نظر وتمحيص وسأحاول أدناه أن أسجل بعض ما خطر لي من تساؤلات حول المواضيع المطروحة:
(1) هل لفكرة الشركة ذات الذمة المالية المستقلة عن مالكيها والشخصية المعنوية (مثل الشركة المساهمة) أصل شرعي؟(6/1227)
(2) هل شراء الأسهم جائز؟ هل يجب التحقق من نشاط الشركة قبل الشراء؟ هل يجوز إذا كانت تقترض من البنوك في نشاطات غير رئيسية بينما أن أغلب تمويل الشركة غير ربوي؟
(3) هل البيع واقع على الجزء من أصول الشركة الذي يمثله السهم أم على السهم (أي الوثيقة) ذاته؟
(4) هل الخيار بيع أم وعد بالبيع؟ وإذا كان وعدا هل يجوز أن يكون ملزما وأن يكون له ثمن؟
(5) هل يمكن أن يكون الخيار بيعَ آجلٍ؟
(6) هل البيع الآجل (المستقبليات) هو بيع العربون؟ هل هو بيع السلم؟
(7) هل البيع بالعربون بيع خيار يجوز للمشتري التخلي عن الشراء مقابل العربون؟
(8) هل يجوز شراء العملات على أن يكون القبض في وقت لاحق (في غير المجلس) ؟
(9) هل يجوز ذلك في الذهب والفضة؟ هل يمكن اعتبارهما سلعا لا نقودا؟
(10) ما صفة القبض المقبول شرعا في الأسهم والعملات والسلع؟ هل يكفي تداول الأوراق المثبتة للقدرة على التسليم؟
(11) هل يجوز في عقود البيع الآجل (المستقبليات) تأجيل البدلين (عدم دفع الثمن والاكتفاء بجزء منه كضمان يحتفظ به السمسار) ؟ هل يجوز بيع السلعة في هذه العقود قبل القبض؟ هل يجوز إذا بيعت موصوفة لا هي بعينها؟
(12) هل يمكن أن تخرج هذه العقود (المستقبليات السلعية) على عقد الاستصناع الجائز فيه الدفع على أقساط؟
(13) تقوم فكرة سوق البورصة على السماح بالبيع فيها والشراء لمن يدفع رسم عضوية ولا يسمح لسواهم بذلك. هل هذا مقبول من الناحية الشرعية؟
(14) هل يجوز بيع الأسهم بيعا آجلا بدفع جزء من الثمن أم أن فيها بيعا للدين بالدين؟ هل تقاس على السلع أم على النقود؟
(15) هل يجوز بيع تلك الأسهم قبل تسديد كامل ثمنها؟
(16) هل يجوز أن تكون محل بيع ورهن بحيث يحتفظ بها البائع ضمانا حتى يتم تسديد ثمنها؟ وهل يكون ذلك منعا أو وعدا بالبيع؟ هل يجوز أن يكون ملزما؟
(17) هل يجوز التعاقد على الشراء ثم قيام المشتري بالتعاقد مع جهة أخرى على البيع قبل القبض؟
(18) هل يدخل شراء عملة أجنبية اليوم على أن تسلم بعد ثلاثة اشهر في ربا النسيئة؟
(19) هل يجوز التواعد على مثل ذلك مع تقديم ضمان من قبل كل طرف إلى الآخر (وتحديد السعر عاجلا) ؟.
الدكتور محمد القري بن عيد(6/1228)
المراجع
• المراجع العربية
1- أبو رخية، ماجد: حكم العربون في الإسلام، عمان: مكتبة الأقصى، 1986م.
2- ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، بيروت: دار المعرفة، 1983م.
3- ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين.
4- البقمي، صالح بن زابن المرزوقي: شركة المساهمة في النظام السعودي، مكة المكرمة: جامعة أم القرى، 1406هـ.
5- حماد، نزيه: بيع الكالئ بالكالئ، جدة: مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، 1406هـ.
6- الخفيف، الشيخ علي: أحكام المعاملات الإسلامية، البحرين: بنك البركة الإسلامي للاستثمار، بدون تاريخ.
7- الخياط، وعبد العزيز عزت: الشركات في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1983م.
8- الفقي، محمد حامد (محقق) : القواعد النورانية الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية بيروت: دار الندوة الجديدة، بدون تاريخ.
9- المقيت، أبو اليزيد علي: (ذاتية المعاملات الإسلامية) الإسكندرية: المكتب الجامعي الحديث، بدون تاريخ.
10- ابن منيع، عبد الله بن سليمان: الورق النقدي، بدون ناشر، 1984م.
11-موسى، محمد بن يوسف: فقه الكتاب والسنة. البيوع والمعاملات المالية المعاصرة، القاهرة: دار الكتاب العربي، 1954م.
1- sarnoff، paul: trading in financial features، London، woodhead-fanlkner، 1985.
2-sharpe، w.f: investments، Englewood cliffs، n.j. prentice-hall، 1985.
3-prager، jonas: fundamentals of money banking and financial institutions، new york، harper & row،. 1987.
4-smith، Courtney: option Strategies، New York، John Wiley & Son، 1987.
5- Cohen، Jerome. Edward D. Zinbarg and Arthor Zeikel: Investment Analysis and portfolio Management، Homewood III، Richard D، Irwin، 1977.
6- Business Week، January 18، 1988، p.37 and other Issues.
7- Brigham، Engene I: Fundamentals of Financial Management، Hinsdale III، The Dryden press، 1978.(6/1229)
تجلي مرونة الفقه الإسلامي
أمام التحديات المعاصرة
إعداد
فضيلة الأستاذ محمد الأزرق
مدير ديوان وزير الأوقاف المغربي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
الموضوع: تجلي مرونة الفقه الإسلامي أمام التحديات المعاصرة.
إن الإسلام باعتباره نظاما كاملا للحياة، أناط بالدولة الإسلامية القيام برعاية شئون الأمة في مختلف الميادين، ومكنها من الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الرعاية. ومن الأدلة الشرعية تتبين أنواع مواد الدولة المالية. وكيفية تحصيلها وتنظيمها والمسالك التي تصرف فيها، تحقيقا للتنمية في ظل الأحكام الشرعية المأخوذة من الكتاب والسنة. ومما ترجح من أقوال الأئمة المجتهدين، اعتبارا لكونها تؤخذ بغلبة الظن حيث لم يشترط فيها القطع واليقين كما لا يشترط في العقائد، واعتبارا كذلك لما تفرض المصلحة العامة.
فالدولة الإسلامية أيام ازدهارها لم تقف في طريقها المستجدات والطوارق التي كانت تحدث، بل استطاعت أن تتكيف مع الظروف التي واجهتها في مسيرتها منذ الفتوحات الأولى وانعكست الآثار الإيجابية للفقه الإسلامي على مختلف البيئات الجديدة، وهكذا تمكنت الدولة الإسلامية من مواجهة الظروف الناتجة عن وفرة المداخيل، ومن مواجهة الأعباء التي تتحملها في مختلف المجتمعات، اعتمادا على أحكام الشرع ومبادئه المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقف الفقه الإسلامي قط عقبة في وجه التطور، وذلك لقدرته على إيجاد الحلول في مختلف العصور ومختلف البيئات حيث أن مبناه على جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد كانت أحكامه هي السائدة في كل الميادين، وما ذلك إلا لما يتميز به من ثراء ومرونة، وما يزخر له من نظريات سواء في أصوله وفروعه.
إن هذا التراث الفقهي الذي نعتز به والذي يعتبر مفخرة من مفاخرنا نستطيع باستيعابه والبحث في أسراره وحكمه التغلب على ما تواجهه أمتنا الإسلامية في عالمنا المعاصر مما يمكننا من رفع هذا الصرح من جديد والرفع في ظل مبادئه وقيمه بمجتمعاتنا على التقدم والرقية، فنهضتنا هي في النهوض بتشريعنا، ولا يتحقق هذا إلا بإعطائه ما يستحق من العناية والاهتمام وتوفر كامل شروط البحث فيه، وجعله في متناول الدارسين والباحثين، لتتذوق مختلف الأجيال دقته ونتائجها وتتمكن من الغوص في جزيئاته ومدارك أئمته لتدرس قضايا كل عصر على ضوء المقاصد الشرعية والأحكام الدينية المستنبطة من الأصلين الأصيلين الكتاب والسنة لتوجد حلولا، مستمدة من تشريعنا، ومضيفة إليه آراء واجتهادات يسير فيها الخلف على سنن السلف، ذلك أن الواقع الجديد والتطور باستمرار يعرض مشاكل وقضايا لم تكن معروفة من قبل، ومن واجب علماء المسلمين المختصين في الفقه الإسلامي أن يواجهوها بكل عناية وإخلاص كما هو المطلوب منهم والمعهود فيهم ليتقدموا بحلول لها وفق مبادئ الشرع الحنيف.
وإن لنا في الفروع الفقهية مجالا خصبا للبحث، وذخيرة تعيننا على تحقيق غايتنا. فالفقه الإسلامي من سماته الارتباط بالمجتمع وقضاياه، وخير دليل على هذا الارتباط المكانة التي أولاها الفقهاء للعرف تعقيدا وتفريعا عليه مستندين في كل ذلك إلى السنة، وما سار عليه الصحابة والتابعون ومن تبعهم من سلف هذه الأمة.
كما أن لنا في الأصول ميدانا رحبا، نظرا لتعدد مصادر التشريع وقدرتها على استيعاب وإدراج العديد من الجزئيات تحت كلياتها.(6/1230)
فالعرف الذي سلفت الإشارة إليه تمتاز نظريته عند الأصوليين بدقتها وأصالتها، ويعتبر من الأدلة التي تبنى عليها الأحكام، ويترك به القياس، وتخصص به النصوص عند جمهور الفقهاء، فينتج عن ذلك تغير الأحكام التي بنيت عليه إذا ما تغير العرف. يقول الإمام القرافي في الفرق بين قاعدة العرف القولي والعرف العملي عند الكلام على اعتبار العرف وتغيره: فمهما تجدد العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذان والحق الواضح. والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين.
وابن القيم - رحمه الله- عند الكلام على تخير الفتوى واختلافها باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والبيئات والعوائد يقول: هذا فضل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به.
فالعرف يرجع في غالب صوره إلى المصلحة التي دعت إليها الحاجة فتكون مرتبته بين الأدلة مرتبة المصلحة: وهي قد تكون مرسلة أي لو لم تعارض دليلا من الأدلة الشرعية، وقد تكون معارضة لدليل آخر، فإن كان قياسا قدمت عليه، لأنها مصلحة محققة ومصلحة القياس محتملة، وإن كان نصا فإن كانت المعارضة كلية ألغيت وإن كانت جزئية خصص النص بها فيعمل بها في موضوع التعارض ويعمل بالنص فيما عدا هذا الموضع وإعمال الدليلين ما أمكن أولى من إبطال أحدهما.
والمصلحة التي دعت إليها الحاجة العامة أو الخاصة دليل من الأدلة التي يستند إليها في إثبات الأحكام، وهي ليست مجرد رأي، بل حدتها ثابتة بالنصوص الكثيرة النافية للحرج والداعية إلى التيسير وعدم التعسير، إضافة على أن من فوائد تعليل النصوص لكثير من الأحكام تبيان ما يترتب على الأفعال المأمور بها من مصالح وعلى المنهيات من مفاسد وهذا ما يجعل الحكم يتغير إن تغيرت مصلحته أو إن لم يحقق مقصود الشارع منه. يقول عز الدين بن عبد السلام: (كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل) (1) .
__________
(1) قواعد الأحكام: 2/121.(6/1231)
ويقول الإمام الشاطبي: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يئول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ. ولكن له مآل على خلاف ما قصد منه. وقد يكون غير مشروع كمفسدة تنشأ عنه ومصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة وتزيد عليها. فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية. فكذلك إذا أطلق القول الثاني بعد المشروعية ربما أدى استدعاء المفسدة إلى المصلحة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة (1) .
فهذه الأدلة والنظريات وغيرها تفيدنا- ولا شك – في مواجهة تحديات العصر ليظل تشريعنا مواكبا للواقع ومحققا سعادة الإنسان الدنيوية والأخروية، هذه السعادة التي عجزت مختلف الأنظمة عن تحقيقها.
وإني أغتنم فرصة هذا الجمع المبارك لأقترح تشكيل لجنة من ذوي الاختصاص في المجال الاقتصادي للقيام بدراسات مفصلة ومعمقة تتقدم باقتراحات للخروج بالمجتمعات الإسلامية من ورطة المعاملات التي من شأنها أن تصطدم وشريعتنا، وتعرض هذه الدراسات والمقترحات في مرحلة لاحقة على لجنة من الفقهاء المختصين في الشريعة الإسلامية ليعطوا نظرهم مراعين فيه المبادئ الشرعية وما تدعو إليه المصلحة العامة المقررة شرعا دون إغفال ما تتطلبه حالة الضرورة، لتكون اختياراتنا منبثقة من واقعنا ومطابقة لقواعد الشريعة ومقاصدها.
أما ما يتعلق بالعلاقات المالية فإن الفقه الإسلامي قد أولاها كثيرا من الأهمية وحقق علماؤها في جزئياتها بكتاباتهم القيمة واجتهاداتهم النيرة وفتاواهم الصحيحة، فأعطوا حلولا شرعية حسنة التوجيه مدعمة بالدليل.
وإن جهود أولئك الجهابذة الأعلام من علماء الملة الجديرة بالدراسات المستفيضة، ومناهجهم في البحث والاستنباط قمينة بتتبعها والنسج على منوالها.
__________
(1) الموافقات: 4/194.(6/1232)
ولإعطاء فكرة موجزة حول البعض من هذه الجوانب فيما يلي نلقي نظرة على بعض الأبواب الفقهية المرتبطة بالمعاملات المالية. يقال على سبيل التمثيل لدقة التفسير والتوجيه: إن من المقرر فقها أنه لا يحل الجمع بين البيع والسلف في معاملة واحدة (1)
واختلف في تفسير هذا العنوان، ففسره مالك بقول الرجل للرجل آخذ سلعتك بكذا وكذا على أن تسلفني كذا وكذا. فعقدهما هذا البيع المشروط بالسلف يعتبر محرما شرعا إلا أن تحريمه لما كان لأجل شرط السلف فيتبعه فإنه إن تركه المشترط - كسرا - فإنه يصير جائزا. وعلى هذا التفسير أهل العلم.
وفسره غيره من شراح السنة بأن يقول البائع للمشتري: أبيعك هذا الثوب بألف على أن تقرضني ألفا - مثلا - وهذا عقد فاسد إن وقع فسخ. وقد وجهوا فساده بأن البائع جعل ثمن مبيعه كلا من الدراهم وقرض مثلها. فاجتمع البيع والسلف، والسبيل لتصحيحه بإبطال شرطه - كما هو الحال بالنسبة للتفسير الأول- لأن بإبطاله يسقط بعض الثمن ويصير المبيع في مقابلة باقٍ مجهول (2) .
ويقال للاحتراز عن بعض سبل الربا إن لجواز السلم شروطا، منها ما ينفرد به رأس المال، وهو - عند المالكية - أن يكون نقدا فلا يجوز تأخيره إلا إذا كان دون اشتراط، أو باشتراط قليل الأيام الثلاثة فيجوز، أما الإمامان الشافعي وأبو حنيفة فقد اشترطا التقابض بالمجلس فلا يجوز التأخير عندهما، ومنها ما ينفرد به المسلم فيه. وهي ثلاث:
1- تأخير قبضه إلى أجل معلوم يدخلان عليه، وأقله الفترة التي تختلف فيها الأسواق خمسة عشر يوما ونحوها.
2- أن يكون مطلقا في الذمة، بمعنى أنه غير مقيد بما يعينه كأن يكون زرع تربة بعينها وإلا لم يجز لتعينه. أرأيت العقار فإنهم اتفقوا على عدم جواز السلم فيه وما ذاك إلا لتعينه.
3- أن يكون مما يوجد جنسه في مجرى العادة عند بلوغ الأجل المعروف مطلقا - إن كان عند العقد موجودا لو لم يكن موجودا- هذا على مذهب مالك. أما أبو حنيفة فالشرط عنده أن يوجد عند كل من العقد والأجل.
ومنها ما هي مشتركة بين رأس المال وبين المسلم فيه وهي أيضا ثلاث:
1- أن يكون كل من رأس المال والمسلم فيه مما يصح تملكه وبيعه، وما لا يصح تملكه وبيعه لا يجوز السلم فيه كالخمر والخنزير والميتة مثلا.
__________
(1) ينبه على أن بعض المالكية زاد الفرض على العقود الستة التي لا يجوز اجتماع البيع مع واحد منها لعلة تنافي أحكامها. وقد أشار إليها ابن عاصم في التحفة بقوله: وجمع بيع مع شركة وقع صرف وجعل ونكاح امتنع ومع مساقاة ومع فرائض وأشهب الجواز عنه ماض
(2) الروضة الندية، شرح الدرر البهية للعلامة الغنوجي البخاري: 2/104.(6/1233)
2- أن يختلفا جنسا بأن يسلم الذهب والفضة في الحيوان والعروض والطعام مثلا، فإن لم يختلفا جنسا كأن يسلم الذهب في الفضة..... لم يجز، لما فيه من الربا - العرف بتأخير- نعم يلاحظ أن المنع قد ينصب على بعض جزئيات السلم مع اتحاد الجنس، ويمكن أن يقسم إلى ما منع إطلاقا وهو تسليم بعض الطعام في بعض - بيع طعام بطعام نيئة- (1) فقد منع إطلاقا لعلة أنه ربا، وإلى ما منع بشرط وهو تسليم بعض العروض في بعض، وبعض الحيوان في بعض، فقد منع بشرط أن تتفق فيه الأغراض والمنافع، وذلك لعلة أنه يئول إلى سلف جر منفعة، فإن اختلفت – فيما ذكر- الأغراض والمنافع جاز التسليم فيه.
3- أن يكون كل منهما معلوما جنسا، وصفة، وقدرا (2) . احترازا عن الجزاف فقد اختلفت فيه المذاهب. فالشافعي أجازه، وأبو حنيفة منعه، والمالكية لهم خلاف فيه.
ويقال لبيان دور عقيدة الحسم في العلاقات المالية أنه يتجلى في مظاهر من بينها بيع المرابحة، وهو أن يعرف صاحب السلعة المشتري بقدر الثمن الذي اشتراها فيه ويأخذ ربحا، وذلك كأن يقول: أشتريها بألف وتربحني مائة أو مائتين مثلا.
ومن مسائلها أن تطرأ على السلعة زيادة على ثمنها فهل يحبسها مع الثمن ويجعل لها قسطا من الربح أو لا؟ الصور ثلاث (3) ، لأن هذه الزيادة إما أن تكون لها عين قائمة - كالخياطة والصياغة- أو ليست لها عين قائمة. وهذه الثانية، إما أن يعملها بنفسه - كالطي والنشر- أو يستأجر عليها ككراء نقل المتاع وأجرة شده.
وهي باعتبار الحكم على طرفين ووسيطة، ففي الصورة الأولى حيث تكون لها عين قائمة، يحسبها مع الثمن ويجعل لها قسطا من الربح وفي الثانية حيث لا تكون لها عين قائمة وقام بالعمل بنفسه لا يحسبها في الثمن ولا يجعل لها قسطا من الربح وفي الثالثة حيث لا تكون لها عين قائمة فاستأجر عليها يحسبها في الثمن ولا يجعل لها قسطا من الربح.
ويقال لبيان صورة من صور الحفاظ على حقوق الأجير إن الفقهاء اشترطوا العلم بالأجرة وجواز تقديمها، ذلك أنهم اشترطوا في الأجرة من بين أركان الإجارة شرطين:
1- أن تكون معلومة خلافا للظاهرية احترازا عما فيه جهالة كما لو قال: احصد زرعي ولك نصفه، أو اطحنه أو اعصر الزيت، وأراد نصف ما يخرج مما ذكر، فإنها إجارة لا تجوز وذلك لجهالة الأجرة، فإن ملكه نصف نتاج ما ذكر جازت (4) .
ولا يجب تقديمها إلا لشرط أو لاقتران ما يوجب تقديمها من كونها عرضا أو طعاما رطبا أو ما أشبههما.
2- ومن شرطي المنفعة أن تكون معلومة إما بالزمان، كالمياومة والمشاهرة وإما بغاية العمل كخياطة ثوب مثلا ولا يجوز أن يجمع في الاشتراط بين الزمان والعمل المذكورين، لأنه- أي العمل- قد لا يتم قبل الأجل أو بعده.
__________
(1) منع أخذ طعام ثمنا لطعام لأنه ذريعة إلى بيع الطعام بالطعام نيئة.
(2) وزنا أو كيلا أو عدا أو ذرعا بالنسبة لما يحصر بأحدها، ووصفا بالنظر لما لا يوزن ولا يكال ولا يعد ولا يذرع.
(3) محل هذا التفصيل ما لم يبين للمشتري، وإلا لجاز له أن يحسب ذلك كله.
(4) القوانين لابن الجزي – ص295 ط التونسية.(6/1234)
وهناك عقود حرمت في الأصل ثم استثنيت من التحريم مراعاة للمصلحة. وهي: المضاربة، وبيع النجس، والعرية، والمزارعة، والمغارسة، والمساقاة.
* أولا- المضاربة: (1) الفراض عند أهل المدينة، وصفته أن يسلم شخص ماله لعامل يعمل عنده ويكون الربح منهما على حسب ما دخلا عليه من النصف أو غيره بعد إخراج رأس المال.
وهو من حيث الحكم من العقود المحرمة في الأصل لما فيه من الغرر والإجارة المجهولة ولكنه استثنى فجاز ترخيصا من الشارع بشروط ستة مبسوطة في المطولات - لمراعاة مصلحة الطرفين، وبيانه أن هناك من لا مال له وفيه استعداد للعمل، وهناك على العكس والنقيض من له مال ولا استعداد له أن يعمل مع العلم بأنه مطالب بأن يستثمر ماله ولا يتركه جامدا.
أما عن أصلها من السنة فالذي صرح به الحفاظ أنه لم تثبت فيها شيء، مرفوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن جميع ما ورد فيها من آثار عن الصحابة- رضوان الله عليهم- وقد وقع - كما حكي غير واحد - إجماع من بعدهم على جوازها. وانظر تصريح الحافظ بما يخالف ما ذكر وأنها كانت ثابتة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها وإلا لما جازت البتة، ورد صاحب الروضة الندية (2) عليه، ورد رده بتعليق هامشي بها (3) .
* ثانيا- بيع النجس: بيع عين النجاسة كالميتة والمتنجس غير القابل للتطهير كالزيت (4) ممنوع على المشهور عند المالكية أما المتنجس القابل للتطهير كثوب تنجس فإنه يجوز بيعه لكن بشرط أن يبينه للمشتري ليدخل عليه. وإلا فبعد اطلاعه عليه يكون له الخيار في الرد وعدمه.
نعم رخص الفقهاء في بيع فضلات غير مأكول اللحم لضرورة الانتفاع به في فلاحة الأرض، ومعلوم أن الضرورة تبيح المحظور، وكما رخصوا فيها رخصوا كذلك في السقي بالماء المتنجس (5) .
* ثالثا- العرية: وهي أن يهب صاحب بستان ثمر نخل أو شجرة دون أصلها ثم يشتريها المعري من المعرى له. وهي منشأة من المزابنة التي هي بيع رطب بيابس من جنسه والتي ورد النهي عنها في السنة لكن رخص للمعري أن يشتريها ممن عراها له بيابس دفعا لما يتضرر به من كثرة طرقه البستان ليقتطف الثمر.
ومن أحكامها أن للمعري أن يشتريها كمن وهبها له بخرصها ثمرا إذا توفرت شروط أربعة. ونلاحظ أن من بين الشروط الأربعة أن يعطيه الثمر عند الجذاذ لا نقدا ومعجلا (6) وإلا لم يجز (7) .
__________
(1) عند العراقيين.
(2) هو العلامة القنوجي النجاري.
(3) الروضة: 2/141.
(4) ابن خويز منداد من المالكية على القول بإمكان تطهيرها.
(5) وهنا يقع التساؤل عن حكم ما يخرج مما ذكر من زروع، وخضر وفواكه. والمالكية على الجواز.
(6) وبقيتها منه ما هو راجع لحال الثمر وهو بدو الصلاح وما هو راجع للمقدار وهو خمسة أوسق، وما هو من فصل الاتحاد في النوع بأن يكون الثمر من نوع ثمر العرية.
(7) البداية لابن رشد: 2/163.(6/1235)
* رابعا- المزارعة والمغارسة:
1- المزارعة: الشركة في الزرع، وحكمها الجواز، واختلف فيما يقيد به جوازها – داخل المذهب المالكي- على أقوال ثلاثة:
(1) قول ابن القاسم:
(أ) السلامة من كراء الأرض بما يخرج منها.
(ب) تكافؤ الشريكين فيما يخرجان.
(2) وعيسى بن دينار على جوازها وإن لم يتكافآ (1) وبعض المالكية على جوازها، وإن وقع فيها كراء الأرض مما تنبت.
وللاحتراز عن أول شرطين إنه إن كانت الأرض من أحدهما والعمل من الآخر فلا بد من أن يساهم رب الأرض بحقه في البذر، لأنه إن لم يساهم به كان ذلك من كراء الأرض بما تنبت، وتحكيما للعلة إذا كانت الأرض لهما تملكا وكراء جاز حينئذ أن يكون البذر منهما معا، أو من أحدهما ويقابله حينئذ عمل الآخر.
2- المغارسة: أن يسلم الرجل أرضا يملّكها لمن يغرسها شجرا، ولها وجوه ثلاثة: إجارة، وجعل، ومتردد بينهما، ومنشؤها أنهما إن دخلا في مقابلة الغرس على أجرة معينة كانت إجارة. وإن دخلا على نصيب يكون له في خصوص ما بينت منها كانت جعلا. وإن دخلا على أن يكون له نصيب من كل الأشجار ومن الأرض كانت مترددة بين الإجارة والجعل.
وحكمها الجواز إذا توافرت شروط خمسة. كما هو مقرر في بابها.
* خامسا: المساقاة: أن يسلم الرجل شجرة لمن يخدمها ويتعهدها بالسقي والتنقية وكل ما يحتاج إليه نموها، وتكون غلتها بين أعلى ما دخلا عليه من نصف أو ثلث أو ربع مثلا.
ومن أحكامها أنها جائزة مستثناة من أصلين محرمين هما: الإجارة المجهولة، وبيع الشيء قبل أن يخلق.
وأصل جوازها واستثنائها من الأصلين المذكورين فعله صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر في نخيلها.
ثم إن الأئمة (2) اختلفوا في كون جوازها عاما في سائر الأشجار والزرع ما عدا البقول (3) وهو مذهب مالك، أو مقصورا على النخيل والأعناب وهو مذهب الشافعي، أو مقصورا على خصوص النخيل وهو مذهب الظاهرية.
الأستاذ محمد الأزرق
__________
(1) ويقول عيسى بن دينار هذا جرى العمل بالأندلس.
(2) غير أبي حنيفة فإنه ذهب على منعها مطلقا.
(3) جمع بقل: ما نبت في برزة لا في أرومة – بفتح الهمزة وضمها.(6/1236)
وثائق
ندوة الأسواق المالية
المنعقدة بالرباط
بين 20-25 ربيع الثاني 1410هـ
نوفمبر 1989م
البيان الختامي والتوصيات
لندوة الأسواق المالية من الوجهة الإسلامية
المنعقدة بين 20-25 ربيع الآخرة 1410هـ
الموافق نوفمبر 1989م
الرباط
(المملكة المغربية)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد عبد الله ورسوله ورضي عن صحبه وآله أجمعين.
البيان الختامي والتوصيات
لندوة (الأسواق المالية من الوجهة الإسلامية)
20-25 ربيع الآخر 1410هـ / نوفمبر 1989م
(الرباط - المملكة المغربية)
معالي مستشار صاحب الجلالة
معالي وزير الأوقاف والشئون الإسلامية
أصحاب المعالي الوزراء والسفراء
أصحاب الفضيلة العلماء
حضرات السادة المشاركين في هذه الندوة
تم بحمد الله تعالى وتوفيقه عقد ندوة: (الأسواق المالية من الوجهة الإسلامية) بالتعاون بين وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمملكة المغربية وبين مجمع الفقه الإسلامي بجدة، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، وذلك في الفترة من 20 على 24 ربيع الآخر 1410هـ / 20-24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989م في الرباط (بفندق حياة ريجنسي) .
وقد أقيم حفل افتتاح الندوة مساء يوم الاثنين 20/4/1410هـ، 20/4/1989م، وبعد تلاوة مباركة من آي الذكر الحكيم، ألقي معالي وزير الأوقاف والشئون الإسلامية الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري كلمة كريمة نوه فيها بأهمية الموضوع الذي تعقد له هذه الندوة المتخصصة وكونه تجربة جديدة ترتبط بمواكبة الفقه الإسلامي لمستجدات العصر وأن الجهد المبذول في هذا هو من صميم النصيحة لأمتنا الإسلامية. وأشار إلى دور المملكة المغربية –ممثلة في جلالة الملك الحسن الثاني- في الجمع بين الحفاظ على المبادئ والقيم والتفتح على الحضارات، ودعم كل عمل إسلامي بناء، وختم كلمته بشكر أمين عام مجمع الفقه الإسلامي وجميع المشاركين والترحيب بهم في بلدهم الثاني.
ثم ألقى الدكتور عبد الهادي أبو طالب المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة كلمة تحدث فيها عن إطار الندوة وبين دور التنمية وأهمية بحث مشكلاتها، ونوه بالجهود المبذولة من الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين لإبراز كنوز الفقه الإسلامي وإخراج رصيده لحل القضايا الاقتصادية أو إيجاد بدائلها السلمية ولا سيما في عهد شهد أفولا للنظرية الاقتصادية الشرقية واختلالا في النظريات الغربية.(6/1237)
ثم ألقى الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي كلمة ونوه فيها برعاية صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني – نصره الله- وشكر لمعالي وزير الأوقاف والشئون الإسلامية إشرافه على هذه الجلسة، وشكر كلا من رئيس البنك الإسلامي للتنمية وممثل المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب على المساعدة المبذولة للإعداد للندوة، ثم أشار إلى أن المجمع سبق له عقد ندوة عن (سندات المقارضة) ، ثم بين أن (الأسواق المالية) تمثل قمة الهرم في البناء الاقتصادي المتطور وأنها في حالتها الراهنة يختلط فيها الجائز بالممنوع شرعا وأن ذلك يدعو على تطوير الأسواق المالية في الدول الإسلامية والسعي لإقامة أسواق مالية إسلامية وشكر علماء الفقه والاقتصاد الذين استجابوا لدعوة المجمع في هذا اللقاء، أن نتائجه ستكون عونا لمجلس المجمع في استجلاء حقيقة هذا الموضوع والحكم عليه.
ثم ألقى الدكتور منذر قحف ممثل البنك الإسلامي للتنمية كلمة نوه فيها بالجهود العلمية للبنك من خلال معهده المهتم بتنظيم الندوات بالتعاون مع المؤسسات والجهات العلمية وأشار إلى ما تقدمه الأسواق المالية من خدمات وضرورة استكشاف الأحكام الشرعية لمعاملاتها وأنشطتها وأنظمتها لتحقيق الالتزام بأحكام الشريعة.
وقد شرف حفل الافتتاح مستشار جلالة الملك وأصحاب المعالي الوزراء والسفراء ووالي الرباط وسلا مع ثلة من أصحاب الفضيلة العلماء والباحثين ورؤساء وأعضاء المجالس العلمية وأساتذة الجامعات.
ولضمان مسايرة دراسات الباحثين وتدخلات المناقشين تكونت لجنة للصياغة برئاسة المقرر العام للندوة الدكتور عبد الستار أبو غدة وعضوية الأساتذة التالية أسماؤهم مع حفظ الألقاب.
- الأستاذ عمر بن عباد.
- الدكتور رضا سعد الله.
- القاضي محمد تقي العثماني.
- الأستاذ رضوان بن شقرون.
- الدكتور عبد السلام العبادي.
- الأستاذ عبد الجليل الغزاوي.
- الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين.
- الدكتور حسن حامد حسان.
- الدكتور محمد علي القري.(6/1238)
وقد تبع حفل الافتتاح عقد جلسة العمل الأولى ثم تبعها سبع جلسات طيلة أربعة أيام، فضلا عن الجلسة الختامية. وقد قدمت للندوة ست دراسات (مع ثلاث أوراق أخرى وزعت في إطارها) . وخصص وقت كاف للمناقشات المستفيضة كما خصصت لها ثلاث جلسات كاملة متمحضة لأدوات الأسواق المالية من أسهم وسندات وخيارات. وقد دارت الموضوعات في المحاور التالي:
* المحور الأول: أهمية تنمية الأسواق المالية في العالم الإسلامي لإصلاح الهيكلة الاقتصادية في مؤسساته، ولنشر اقتصاد المشاركة وتمويل عمليات التنمية، مع بيان مخاطرها وانعكاساتها، وعوائقها المتنوعة من جبائية ومؤسسية، واقتصادية، ومصرفية.
* المحور الثاني: بيان وصفي للأسواق المالية في البلاد النامية والأسس الفنية لنشاطها وأدوارها ووظائفها والعاملين فيها مع صور تطبيقية لبعض الأسواق المالية والبورصات ووجوه التعامل فيها.
* المحور الثالث: الأدوات المالية التقليدية، كالأسهم بأنواعها والمستندات بأنواعها وما يتعلق بذلك من خصائص ووظائف في النظام المالي المعاصر.
* المحور الرابع: الخيارات بأنواعها في السلع وغيرها والوحدات الحسابية والقياسية والصناديق المفتوحة والمغلقة.
* المحور الخامس: الأدوات المالية الإسلامية الممكن إصدارها واستخدامها من خلال صيغ المضاربة والمشاركات والمرابحة والسلم ونحوها.
وقد هدفت البحوث والمناقشات إلى استخلاص المبادئ , والضوابط الشرعية يجب أن تحكم المعاملات في الأسواق المالية والأدوات المشروعة للاستخدام فيها. كما طرحت تساؤلات كثيرة للإجابة عنها في ضوء فقه الشريعة الإسلامية واقتراح بدائل يمكن الاستعاضة بها عن المشبوه من المعاملات والممارسات مع الحفاظ على الخدمات التي تقدمها الأسواق المالية في تجميع المدخرات وتوجيهها نحو الاستثمارات المجدية، والكشف عن الأسعار السوقية للسلع والاستثمارات الحالية والمستقبلية والتوقعات والتوجهات للمستثمرين.
ونتوجه بالشكر والتقدير لجميع المشاركين في هذه الندوة، وبخاصة علماء المغرب الاجلاء، من فقهاء واقتصاديين ورؤساء وأعضاء المجالس العلمية الذين حرصوا على المشاركة الفعالة في جلسات الندوة وأثروا مناقشاتها، بالرغم من أعبائهم ومشاغلهم، وإلى وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ممثلة في معالي وزيرها، لما بذلته من جهود في إنجاح هذه الندوة وتوفير الراحة للمشاركين فيها والظروف المساعدة على تحقيق أهدافها.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
***(6/1239)
التوصيات والنتائج
لندوة (الأسواق المالية من الوجهة الإسلامية)
20-24 /4/1410هـ - نوفمبر 1989م
(الرباط - المملكة المغربية)
انتهى المشاركون في الندوة إلى التوصيات والنتائج الآتية فيما بعد والتي ستوضع بين يدي مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته القادمة وهي مشتملة على تصورات فنية لطبيعة الأسواق المالية وأدواتها، والأحكام الشرعية للتعامل بها.
1- في ضوء ما هو مقرر في الشريعة الإسلامية من الحث على الكسب الحلال واستثمار المال وتنمية المدخرات، ولما للأسواق المالية من دور في تداول الأموال وتنشيط استثمارها فإن العناية بأمر هذه الأسواق هي من تمام إقامة الواجب في حفظ المال وتنميته باعتبار ذلك أحد مقاصد الشريعة، وباعتبار ما يستتبعه هذا من التعاون لسد الحاجات العامة وأداء ما في المال من حقوق دينية أو دنيوية.
2- إن الاهتمام بدراسة الأسواق المالية في عصرنا الحاضر والبحث في أحكامها يلبي حاجة ماسة لتعريف الناس بفقه دينهم في المستجدات العصرية، ويتلاقى مع الجهود الأصلية لفقهاء الشريعة الإسلامية في بيان أحكام المعاملات المالية وبخاصة أحكام السوق ونظام الحسبة على الأسواق.
3- بعد استعراض المشاركين في الندوة لما تناولته البحوث المقدمة والمناقشات المستفيضة في قوانين الأسواق المالية القائمة وأنظمتها وآلياتها وأدواتها، تبين بوضوح أن هذه الأسواق - مع الحاجة إلى أصل فكرتها- هي في حالتها الراهنة ليست النموذج المحقق لأهداف تنمية المال واستثماره من الوجهة الإسلامية، وهذا الوضع يتطلب بذل جهود علمية مشتركة من الاقتصاديين والفقهاء لمراجعة ما تقوم عليه من أنظمة وما تعتمده من آليات وأدوات وتعديل ما ينبغي تعديله في ضوء مقررات الشريعة الإسلامية.
4- عن أهمية الأسواق المالية لا تقتصر على السوق الأولية (سوق الإصدارات) بل تشمل الأسواق الثانوية أيضا، لأنها تتيح للمستثمرين المتعاملين فيها أن يعاودوا دخول السوق الأولية، كما أن وجودها يشكل فرصة للحصول على السيولة وهو بدوره يشجع على الإقدام على توظيف المال في الأسواق الأولية ثقة بإمكان الخروج منها عند الحاجة.
5- إن أسس الاستثمار الإسلامي تقوم على المشاركة في الأعباء وتحمل المخاطر، ونظام المشاركة لا تنتج عنه مديونية، وإن المديونية العالمية التي تعاني منها الشعوب والأفراد هي نتيجة ما هو غالب في التعامل المالي والأسواق المالية من نظام الاقتراض الربوي للحصول على المال. وإن الحل البديل لمشكلة المديونية العالمية يقدمه الإسلام من خلال نظام المشاركة في تحمل المخاطر، وإلغاء فوائد الديون (الربا) لأن الالتزام بتحريم الفوائد يوجه المدخرات كلها إلى أوراق مالية تمثل حقوق ملكية مشتركة.(6/1240)
6- عن فكرة الأسواق المالية تقوم على أنظمة إدارية وإجرائية ولذا يستند الإلزام بها إلى تطبيق قاعدة المصالح المرسلة فيما يندرج تحت أصل شرعي عام ولا يخالف نصا أو قاعدة شرعية، وهي لذلك من قبيل التنظيم الذي يقوم به ولي الأمر في الحرف والمرافق الأخرى وليس لأحد مخالفة تنظيمات ولي الأمر أو التحايل عليها ما دامت مستوفية الضوابط والأصول الشرعية.
وهناك مهام وأعمال تجري في الأسواق المالية لأداء دور الوساطة أو السمسرة، أو الخدمات الإعلامية أو الكتابية، أو الوكالة، أو القرض، أو الصرف، وتطبق في كل من هذه التصرفات الأحكام الشرعية الخاصة بها.
7- أدوات السوق المالية منها حقوق ملكية كالأسهم ومنها ديون كالسندات، وهناك ما هو غير واضح الطبيعة والحاجة فيه شديدة إلى النظر الفقهي، وذلك كالخيارات والمستقبليات.
8- إن أهم الأدوات المستخدمة في الأسواق المالية هي الأسهم، السندات، والخيارات، والمستقبليات. وبيان الحكم الشرعي لها يحقق الضوابط الأساسية للتعامل في مجال الأسواق المالية. وفيما يلي نبذة تعريفية تقدم التصور الفني الأساسي لكل منها مع بيان الأحكام الشرعية لأهم النقاط للتعامل بها.
أولا: الأسهم في المعاملات الوضعية:
السهم هو الوثيقة التي تصدرها الشركة وتمثل حق المساهم في الشركة وملكيته لحصة مشاعة في موجوداتها ويتمتع حامل السهم بالحق في الحصول على عائد سنوي نتيجة استثمار رأس ماله، وقد يختلف العائد من سنة إلى أخرى. كما يضمن حامل السهم ديون الشركة في حدود حصته فقط دون أن تتعدى هذه الخسارة لتلحق بأمواله الخاصة.
ومن خصائص السهم أنه يتميز بتساوي القيمة لتسهيل حساب الأغلبية في الجمعية العمومية وتسهيل عملية توزيع الأرباح على المساهمين والغالب أن يترتب عن تساوي القيمة المساواة في الحقوق التي يمنحها السهم وهي الحق في الأرباح والتصويت وناتج التصفية وكذلك الالتزامات الناشئة عن ملكية السهم كما يتميز السهم بقابليته للتداول بالطرق التجارية وبعدم قابليته للانقسام والتجزئة في مواجهة الشركة.
وتنقسم الأسهم إلى أنواع مختلفة بحسب الوجهة التي تتخذ أساسا للتقسيم:
- تنقسم الأسهم حسب ملكيتها إلى أسهم اسمية (مسجلة) واسهم لحاملها وأسهم لأمر. ومن حيث علاقة الأسهم برأس المال يمكن تقسيم الأسهم على أسهم رأس المال واسهم تمتع وهي تعطي للمساهم الذي استرد القيمة الاسمية لأسهمه.(6/1241)
- ومن حيث حقوق الملكية تنقسم الأسهم إلى أسهم عادية وأسهم ممتازة (مفضلة) .
والأسهم الممتازة تخول لأصحابها الأسبقية في الحصول على نسبة معينة من أرباح الشركة وفي اقتسام أموال التصفية بعد حل الشركة. وتجمع الأسهم الممتازة بين سمات الأسهم العادية والسندات، فالسهم الممتاز يشبه السهم العادي حيث يمثل صك ملكية ليس له تاريخ استحقاق وإن المسئولية حاملة محدودة بمقدار مساهمته ويشبه السند لأن نصيبه من الأرباح محدد بنسبة معينة من قيمته الاسمية.
أجوبة مسائل تتعلق بالأسهم:
يتعلق بموضوع الأسهم الذي ناقشته ندوة (الأسواق المالية من الوجهة الإسلامية) ، مسائل تدور حول التعامل بها إصدارا وبيعا وشراء واستثمارا.
ومن الجدير بالتنويه أن السوق المالية الإسلامية لا يكتفى فيها بجانب التعامل الحلال فحسب، بل لا بد أن يرافق هذا التعامل مراعاة الخلق والسلوك الإسلامي بعدم المخالفة لقواعد التعامل في الشريعة، مثل حرمة الغش والربا والاحتكار والتدليس والمناجشة والتغرير وغير ذلك من الأسباب والوسائل المفضية إلى أكل أموال الناس بالباطل.
وإذا كانت البيانات الحسابية الموضحة للمراكز المالية للشركات المتداولة أسهمها في الأسواق المالية العالمية أمرا يفرضه نظام هذه الأسواق، فإن وجود هذه البيانات وتوضيحها لغير القادرين على فهم مصطلحاتها أمر لازم نظاما وأخلاقا في الأسواق المالية الإسلامية.
وفيما يلي أهم المسائل التي طرحت في الدراسات أو المناقشات والأجوبة الشرعية عنها:
السؤال (1) : هل السهم مثلي أو قيمي، منقول أو بحسب ما يمثله؟
الجواب (1) : السهم بحسب ما يمثله لأنه حصة شائعة في الأموال التي هي محل الشركة.
السؤال (2) : انتقال الأسهم لغير مالكيها الأصليين بتداولها مع بقاء الشركة؟
الجواب (2) : البيع جائز في مثل هذه الحالة إذا توافرت أركان البيع وشروطه وضوابطه.
السؤال (3) : ذمة المضاربة مستقلة عن أصحابها ومحدودية مسئولية المساهمين؟
الجواب (3) : ذمة المضاربة وشخصيتها مستقلة، تكون بالتالي مسئولية المساهمين محدودة.(6/1242)
السؤال (4) : شراء الأسهم ودفع جزء من قيمته وإقراض السمسار الباقي؟
الجواب (4) : الشراء جائز والإقراض مقبول بشرط ألا يترتب عليه أية زيادة في مقدار القرض.
السؤال (5) : اقتراض الأسهم ثم بيعها ثم شراؤها نفسها لإعادة القرض؟
الجواب (5) : مثل هذا التصرف من عقود متراكبة لا يجوز لما فيه من الربا.
السؤال (6) : السهم لحامله؟
الجواب (6) : لا يجوز لجهالة شخص المتعاقد.
السؤال (7) : السهم لأمر فلان؟
الجواب (7) : هذا جائز لمعرفة شخص المتعاقد.
السؤال (8) : حكم تملك وتداول أسهم الشركات التي غرضها الأساسي الربا أو التي غرضها الأساسي حلال لكنها تتعامل أحيانا بالربا باقتراض الأموال أو إيداعها بفائدة؟
الجواب (8) : إن تملك أسهم الشركات التي يكون غرضها التعامل بالربا والصناعات المحرمة والمتاجرة المواد الحرام غير جائز شرعا ولو كان ذلك التملك عابرا ولفترة لا تسمح بتحقيق الأرباح الناتجة عن ذلك النشاط. أما تملك أو تداول أسهم الشركات التي غرضها الأساس حلال لكنها تتعامل أحيانا بالربا باقتراض الأموال أو إيداعها بفائدة فإنه جائز نظرا لمشروعية غرضها مع حرمة الإقراض أو الاقتراض الربوي ووجوب تغيير ذلك والإنكار والاعتراض على القائم به ويجب على المساهم عند أخذ ريع السهم التخلص بما يظن على أنه يعادل ما نشأ من التعامل بالفائدة بصرفه في وجوه الخير.
السؤال (9) : ما هو الحكم في تعهدات تغطية شراء الأسهم، وما هو الحكم حول بيع الأسهم بعلاوة إصدار أو بخصم إصدار.
الجواب (9) : التعهد بشراء الأسهم المعروضة من مالكها بالقيمة السوقية من جانب الشركة المصدرة للأسهم جائز.
السؤال (10) : ما حكم القبض في شراء الأسهم وهل يعتبر البيع الحاصل في السوق المالية قبضا بمجرد الشراء بحيث يحق للمالك أن يأمر الوسيط بالبيع أم أنه لا بد من الانتظار إلى أن يتم تسجيل السهم الاسمي في سجلات الشركة المساهمة باسم المشتري حيث يجري البيع بعد ذلك؟
الجواب (10) : القبض في شراء الأسهم أمر لا بد منه، ويخضع تحقق القبض للقوانين التي تنظم الشركة وتخضع لها.
السؤال (11) : ما النظر الفقهي لأنواع الأسهم وهل يشترط التساوي في الحقوق بكل أشكالها أم أنه يكتفى بالتساوي في الحقوق المالية ويسمح فيما عدا ذلك من امتيازات التصويت والإدارة والتفضيل. وهل هناك مجال لتفاوت الأرباح مع إبقاء شرط الخسارة بقدر المال؟
الجواب (11) : لا مانع من إصدار الشركة نوعين من الأسهم، لكن الأفضل التساوي بين حاملي كل نوع في الحقوق الممنوحة لها ماديا وأدبيا وفي جميع الامتيازات، ويجوز التفاوت في الأرباح ولكن لا يجوز أن توزع الخسائر إلا بقدر الحصص في رأس المال، ولا يجوز تفضيل بعض الشركاء بضمان رأس مالهم.(6/1243)
ثانيا: السندات في المعاملات الوضعية:
السند وثيقة دين تصدر عند اقتراض هيئة أو مؤسسة خاصة أو عامة أو دولية من الجمهور. وهي تثبت مديونية المصدر لحامل تلك الوثيقة القابلة للتداول في الأسواق الثانوية، وتعهده برد القيمة الاسمية والتزامه بدفع فائدة على مبلغ القرض.
وتختلف السندات من حيث مدتها (فأقلها 90 يوما وربما تكون بتاريخ مفتوح تستمر في التداول حتى يستدعيها (يطفئها) المصدر أو يشتريها من السوق والغالب فيها أن تكون مدتها عدة سنوات) .
وتختلف من حيث طرق دفع الفائدة إلى المقرض، فبعضها تدفع عليه الفائدة بصفة دورية حتى انتهاء مدته (كل ستة اشهر) ، وبعضها تحسب عليه الفائدة بصفة دورية ولكنها لا تدفع إلا بعد انتهاء فترة زمنية معينة (بعد عشر سنوات مثلا) وبعضها تدفع الفائدة فيه مرة واحدة.
وتختلف من حيث طرق احتساب الفائدة، فبعضها يكون الفائدة فيه نسبة مئوية من القيمة الاسمية معروفة ومحددة في شهادة الإصدار تستحق في تواريخ محددة، ويعضها تكون الفائدة عليه غير محددة سلفا كنسبة ثابتة ولكنها تكون مرتبطة بمتغير مشهور مثل مؤشر تكاليف المعيشة، أو سعر الفائدة في الأسواق الدولية أو معدل النمو الاقتصادي في القطر.. إلخ.
وربما لا تحسب الزيادة على القرض الذي يتضمنه السند بالصيغة المعهودة للفائدة، وإنما يباع السند بأقل من قيمته الاسمية (تكون القيمة الاسمية 1000 فيباع 950) ويسدد المصدر في تاريخ الاستحقاق تلك القيمة الاسمية.
وربما تستخدم الجوائز التي توزع بالقرعة كمكافأة لحامل السند.
وتختلف من حيث شروط الإصدار فقد تكون تلك الشروط ثابتة لا تتغير طوال مدة القرض، وربما تكون قابلة للتغير عند تحقق شروط معينة أو برغبة المقرض مثل أن تتحول الفائدة فيه من متغيرة إلى ثابتة أو تتغير مدته بالزيادة أو النقصان أو يستبدل بأسهم عادية أو ممتازة. وقد يتبنى مصدر السندات بعض الإجراءات الإضافية لتشجيع الناس على إقراضه كالتعهد لهم بحمايتهم من الانخفاض في القوة الشرائية للنقود، أو إعفاء الدخل المتحقق لهم من الضرائب وربما يضاف إلى السند شهادة يتعهد المصدر فيها أن يبيع إلى حامل السند خلال فترة محدودة أوراقا مالية أخرى بسعر محدد.(6/1244)
السندات من الوجهة الإسلامية:
1- إن السندات التي تعطي لأصحابها فوائد منسوبة لقيمتها الاسمية، أو ترتب لهم نفعا مشروطا سواء أكان جائزة أو مبلغا مقطوعا أو خصما محرمة شرعا إصدارا وتداولا باعتبارها قروضا ربوية.
ويدخل في ذلك السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قرضا يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية، ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها خصما لهذه السندات ... كما يدخل في ذلك السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضا اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين لا على التعيين.
2- البدائل لهذه السندات- إصدارا وتداولا- السندات أو الصكوك القائمة على أساس عقد المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين بحيث لا يكون لمالكيها فائدة أو نفع مقطوع وإنما يكون لهم نسبة شائعة من ربح هذا المشروع بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك، ولا ينالون هذا الربح إلا إذا تحقق فعلا ... وذلك وفق الصيغة التي تم اعتمادها من مجمع الفقه الإسلامي لسندات أو صكوك المقارضة في دورته الرابعة.
3- وقد اقترحت مجموعة أخرى من السندات البديلة قائمة على عقود المشاركة، والإجارة والسلم والاستصناع.. ومما هو جدير بالدراسة والبحث، وتوصي الندوة بإعداد بحوث في هذه السندات البديلة لتعرض على مجمع الفقه الإسلامي ليتخذ فيها القرار المناسب.
4- كما اقترح في الندوة بديل لسندات الخزينة قائم على أساس المشاركة في المشاريع العامة المنتجة للدخل وفق إصدارات مخصصة لمختلف أنواع المشاريع بما هو جدير بالدراسة والتمحيص من مجمع الفقه الإسلامي على ضوء ما يعد من بحوث ودراسات في ذلك.
ثالثا- الاختيارات في المعاملات الوضعية:
هي عقود ينتج عنها أدوات مالية تتداول في الأسواق، وينخرط فيها المستثمرون في البورصات لأهداف متعددة أهمها حماية أنفسهم من خطر الانخفاض في العائد من الاستثمار، أو الاستفادة من توقعاتهم لزيادة تلك العوائد. والغالب تعلق الاختيارات بالأوراق المالية، ولكن الصيغة موجودة في أنواع كثيرة من الأسواق.
والاختيار يمثل حقا يتمتع به المشتري والتزاما يقدمه البائع فيدفع الأول الثمن مقابل تمتعه بذلك الحق ويقبض الآخر الثمن مقابل تعهده والتزامه. وينتج عنها أداة قابلة للبيع والتداول. واختيار الطلب أو الاستدعاء يعطي مشتريه حق شراء أسهم (أو أي شيء آخر) بسعر محدد خلال فترة محددة، ويلتزم بائعه ببيع تلك الأسهم عند طلب المشتري خلال الفترة المتفق عليها. واختيار الدفع (أو البيع) يعطي مشتريه حق بيع أسهم (أو أي شيء آخر) بسعر محدد خلال فترة محددة، ويلتزم بائعه بشراء تلك الأسهم بالسعر المتفق عليه خلال تلك الفترة، ويضمن وفاء الأطراف بالتزاماتهم جهة ثالثة (هي غرفة المقاصة أو السمسار) ، وتصدر تلك الأدوات على صفة نمطية تتشابه في كل شيء عدا سعرها الذي يتحدد بواسطة قوى العرض والطلب ومحل العقد فيها ذلك الحق وليس الأسهم أو السلع.(6/1245)
وقد يكون المتعهد بالبيع مالكا للأسهم عند انعقاد الاختيار والغالب أن لا يكون، وقد يكون صاحب حق البيع مالكا للأسهم عند انعقاد الاختيار والغالب أن لا يكون. وكثيرا ما يشتري المستثمر اختيارات متعارضة يلغي بعضها بعضا عند نهاية مدتها أو يقلل بعضها من المخاطرة المتضمنة في البعض الآخر.
وربما يرتبط عقد الاختيار بعقد آخر مثل أن تكون شرطا في بيع أو إيجار.
والباعث على شراء الاختيار هو الرغبة في تقليل المخاطر أو الاستفادة من التوقعات، ولذلك لا يمارس صاحب الحق الاختيار إلا إذا تحقق ما توقع. وقد توسع العمل بهذه الأدوات حتى شمل العملات الأجنبية والمؤشرات.
الاختيارات من الوجهة الإسلامية:
عقد أو اتفاق بين طرفين، يتعهد أو يلتزم فيه أحدهما ببيع سلعة معينة (Call option) أو شرائها (Put option) في المستقبل، في مقابل مبلغ معين يدفع عند التعاقد.
وواضح أن محل العقد هو التزام أو تعهد مجرد من أحد العاقدين للأخر بعمل هو البيع أو الشراء إذا رغب هذا المتعاقد الآخر، وسواء سمي التزاما شخصيا يترتب عليه حق شخصي، أو قلنا أنه حق مال كالدين فإنه لا يجوز العوض عنه، ولا تداوله.
فمحل العقد أو الالتزام، تعهد أو التزام من طرف يبيع أو يشتري، وثمن نقدي من الطرف الآخر (مشتري هذا الالتزام) كل التزام يقابله حق.
ليس محل العقد (الشيء المبيع) هو الأوراق المالية التي تعهد أحد المتعاقدين بشرائها أو بيعها وليس هناك عقد (إيجاب وقبول) في وقت العقد على البيع أو الشراء، وعلى فرض أن هناك عقدا على هذا المحل، فهو بيع (عقد تمليك) معلق على شرط هو إرادة الطرف الآخر. مشتري حق الخيار) ومضاف على زمن مستقبل.
والذي يتم تداوله هو الورقة التي تمثل حق من صدر التعهد لصالحه (ويسمى مشتري حق الخيار) في أن يبيع الطرف الآخر مانح حق الاختيار، ورقة مالية بالسعر المتفق عليه في عقد الاختيار.(6/1246)
رابعا- المستقبليات في المعاملات الوضعية:
هي عقود بيع أجل يؤجل فيه قبض المحل (سلع أو أسهم أو سندات ... ) ويؤجل فيه دفع الثمن فيما عدا نسبة مئوية صغيرة (نحو10 %) لا يقبضها البائع وإنما تحتفظ بها غرفة المقاصة في السوق ضمانا للوفاء بالعقد، وأهم صفة فيها أنها نمطية فهي تصدر كأداة تتضمن كمية معينة من القمح مثلا ذا صفة محددة تقبض في تاريخ محدد أو عددا من أسهم شركة بعينها أو سندات محددة تسلم في تاريخ محدد. ولا يوجد علاقة مباشرة بين العاقدين فيها حيث تتوسط بينهما غرفة المقاصة التي تكون واسطة بين البائع والمشتري أو السمسار.
ومحل العقد هنا هو السلعة أو الأسهم، ويكون التفاوض بين العاقدين على سعرها وتتغير النسبة التي تم قبضها من قبل الغرفة اعتمادا على السعر لأنه روعي في تحديده أنه ضمان للوفاء بذلك السعر ويتم تصفية جميع العمليات يوميا فيتضح الرابح والخاسر وإذا رغب شخص في إنهاء المعاملة اشترى أو باع قمحا مثلا يسلم في نفس التاريخ السابق فينقضي الالتزامان.
المستقبليات من الوجهة الإسلامية:
قدمت بحوثا حول حقيقة البيوع الآجلة في أسواق الأوراق المالية، كما تنظمها الأعراف ويجرى عليها العمل في أسواق الأوراق المالية، ثم ناقشها أعضاء الندوة والعلماء المشاركون في الندوة، لتحديد صفتها الشرعية والحكم الفقهي لها، الذي سيعرض على مجمع الفقه الإسلامي، انتهوا إلى:
المستقبليات أو البيوع الآجلة: هي عقود باتة غير معلقة على شرط ولا مضافة إلى أجل، يكون محلها بيع شيء غير معلن، بل موصوف في الغرفة، بثمن معلوم وقت التعامل، وبثمن محدد عند العقد، على أن يتم تسليم العوض في زمن معلوم معين محدد في المستقبل يقوم به وسيط يضمن تنفيذه لطرفيه مقابل عمولة، ويتقاضى من كل منهما نسبة من الثمن يوم التعاقد وبعده ضمانا لتنفيذ التزامه في المستقبل.
ومحل العقد الذي وقع على البيع على هذا النحو مال مثلي موصوف في الذمة يتم تسليمه في المستقبل بثمن نقد في الذمة يسلم كله أو بعضه في زمن محدد لا وقت التعاقد.
وهذا البيع يطلق عليه الفقهاء بيع السلم ويشترطون في صحته أن يتم تسليم الثمن، ويسمى رأس مال السلم، في مجلس العقد عند الجمهور، أو بعده بمدة لا تزيد على ثلاثة أيام عند المالكية. وحكمة هذا الشرط تلافي بيع الدين بالدين، أو ابتداء الدين بالدين كما يعبر عنه عند المالكية. وهو معاملة يرى الفقهاء أنها لا تحقق مصلحة اقتصادية ولا تضيف جديدا في مجال الإنتاج أو التبادل، إذ إن الشريعة الإسلامية لا تجيز التبادل إلا إذا تضمنت الصفقة أو العقد قبض أحد العوضين على الأقل.
وإذا كان هذا العقد باطلا، فإنه يحرم التعامل به، ولا يرتب حقوقا أو التزاما على طرفيه.
والورقة المالية التي تمثل حق المشتري في تسليم السلعة أو الورقة المالية في المستقبل ليست لها قيمة مالية فلا يجوز تبادلها، وحتى على فرض صحة هذا العقد فإن الورقة تمثل دينا في ذمة البائع (وهو المسلم فيه) ودين السلم لا يجوز بيعه أو التصرف فيه قبل قبضه اتفاقا.(6/1247)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأسواق المالية
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد:
في هذه الجلسة الصباحية المباركة بمشيئة الله تعالى لدينا هذا الموضوع الاقتصادي الشامل (الأسواق المالية) والذي عقدت له ندوة في المملكة المغربية في الرباط. ويشمل بمفرداته الأسهم والسندات والاختيارات والمستقبليات أي البيوع الآجلة. والعارض هو الأستاذ الدكتور منذر قحف والمقرر هو الشيخ وهبة.
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أولا: أريد أذكر أن الموضوع بطبيعته طويل وقد لا يسمح الوقت باستيعابه بكامله بل أن الندوة لم تستوعبه بكامله أيضا فأرجو من السادة العلماء الأفاضل أن يلحظوا ذلك في العرض وأرجو أن أوفق في عرض ما عرض من أوراق في تلك الندوة، أقول: لقد تم تنظيم ندوة الأسواق المالية من الوجهة الإسلامية من قبل مجمع الفقه الإسلامي الموقر بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية. وقد قام فضيلة الأمين العام للمجمع العام للمجمع بالاتصال بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في المغرب فقبلت مشكورة استضافة هذه الندوة في مدينة الرباط في الفترة من20-25 من ربيع الآخر 1410هـ. وقد عرض في الندوة عرض في الندوة المذكورة عدة أوراق قدمها السادة الباحثون دارت حول خمسة محاور:
المحور الأول: أهمية الأسواق المالية ودورها في تنمية العالم الإسلامي.
المحور الثاني: وصف الأسواق المالية وطرق عملها وأنظمتها.
المحور الثالث: الأدوات المالية المستخدمة في الأسواق المالية.
المحور الرابع: الاختيارات والسلع المتعامل بها في هذه الأسواق.
المحور الخامس: أدوات مالية إسلامية بديلة وشرائطها.(6/1248)
ولم تشمل الندوة بحث مسالة ما يسمى بسوق النقد (MONEY MARKET) وهي سوق حديثة وكثيرة الارتباط بالأسواق المالية. وبالنسبة للمحورين الأول والثاني تعرضت الأوراق المالية للنقاط التالية, ألخص النقاط هنا بمجموعها الذي ذكرت في الأوراق المتعددة فيما أستطيع بقدر ما فهمت منها:
* النقطة الأولى: غالب ما تعني كلمة السوق المالية مكانا محددا له نظام معين، يشرف عليه جهاز حكومي، يتم فيه تبادل الطلب على الأدوات المالية المختلفة، مع ما يعرض منها من قبل المحتاجين إلى الأموال. وهو ما يسمى بالبورصة أو (EXCHANGE) ، وقد تعني أحيانا مجموعة المتعاملين دون وجود مكان ونظام وهيئة مشرفة فلا تكون حيئنذ سوقا منظمة أو تكون المعاملات خارجا عن منصة التعاقد (OVERTHECOUNTER) فالبورصة أو السوق المنظمة تخضع لنظام رقابة شديد ودقيق أهم عناصره:
1- تتم جميع عمليات البيع والشراء عن طريق وسطاء هم وحدهم المرخص لهم بالتعامل ويخضع الوسطاء لإجراءات وضمانات تفصيلية عند تسجيلهم لاكتساب صفة الوساطة هذه.
2- تحدد المعاملات بمقادير وأوصاف محددة وثابتة ولا يمكن تجزئتها ويمكن مضاعفتها.
3- تخضع المعاملات لشروط مقننة بدقة من حيث الضمانات وكيفية انعقادها وتنفيذها، بشكل لا يترك مجالا لأي خلاف، ولم يحصل خلاف في تاريخ الأسواق المالية كله. وتهدف هذه الرقابة إلى الأمور التالية:
(أ) احترام قواعد التداول وإرساء أخلاق المصداقية في التعامل.
(ب) الحرص على توفير الحد الأدني من المعلومات اللازمة للمستثمر وللمتعامل.
(ج) تجنب كل ما يؤدي إلى إضعاف الثقة بالمعاملات.
(د) التدخل بالحد من المعاملات أو بإغلاق البورصة أحيانا عند الضرورة القصوى لتجنب الأزمات العنيفة.
• النقطة الثانية: البورصات قد تكون محلية تقتصر معاملاتها على الأدوات المالية التي تصدرها مؤسسات وهيئات داخل دولة واحدة، وقد تكون عالمية تقبل إصدارات ومعاملات من خارج بلادها، ويلاحظ أن الصلات المتعمقة بين البورصات العالمية من حيث الوسطاء وتعاملهم مع بعضهم البعض ومن حيث الإصدارات وتسجيلها في بورصات متعددة حيث يمكن اعتبار الأسواق العالمية على حد بعيد بمثابة سوق واحدة متكاملة.
•(6/1249)
وجميع البورصات متخصصة فمنها ما يتخصص بالأسهم والسندات، ومنها ما يتخصص بالعملات، ومنها ما يتخصص بالسلع أو بالسلع والعملات معا، وكثيرا ما تشتمل السلع على الذهب والفضة… التخصص في السلع معناه هو التخصص في بعض السلع فلا توجد بورصة تتعامل بجميع السلع الموجودة في الأسواق في العادة. ثم إن البورصات لا تقبل أي سهم أو أي سند أو أي عملة أو أية سلعة أو أي معدن، مثلا هناك سلعة معينة ومحددة البترول لم يدخل إلا حديثا في أوائل الثمانينات دخل البترول إلى سوق البورصة، قبلها لم يكن في البورصة. وهناك سلع كثيرة غير موجودة في أسواق البورصة حتى الآن.
* النقطة الثالثة: السوق غير المنظمة تجري فيها عمليات تداول الأدوات المالية عن طريق الصرافين أو البنوك أو مكاتب الشركات المصدرة نفسها، وتخضع لأنواع الرقابة التي تفرضها الدول عادة على ممارسة هذه المهن والأعمال، أي أنه ليس هناك تنظيم لبورصة وإنما هذه الأعمال والمهن تخضع للنظم التي هي خاضعة لها في بلدانها. ويتم في السوق المالية نوعان من المعاملات:
(أ) معاملات الإصدارات الأولى للأدوات المالية، لأول مرة لإصدار السهم أو السند، وعند مجموع هذه المعاملات تسمى السوق الأولية، وهي تعرض على المشترين المدخرين للمرة الأولى.
(ب) معاملات تتداول فيها أدوات مالية سبق لها أن اشتريت بكاملها، فيقال إذا إن هذه المعاملات تمثل سوقا ثانوية.
يلي ذلك من النقاط السوق الأولية: في السوق الأولية تقوم مؤسسات متخصصة أو بنوك تجارية أو بنوك تنمية واستثمار بدور المتعهد (UNDER RIGHTER) حيث تتعهد لمؤسسى الشركات الجديدة بتغطية إصداراتها من الأسهم أو عند زيادة رأس المال أيضا بإصدار جديد أي تتعهد بتغطية الإصدار الجديد أو بتغطية الإصدارات من السندات.
وتكون هذه التغطية بأحد شكلين:
(أ) تغطية بضمان النتيجة، يشتري بموجبه المتعهد جميع الإصدارات التي لم يتمكن من إيجاد مكتتبين لها، أو أن تكون تغطية بدون ضمان بحيث تتضمن هذه التغطية بذل الجهد فقط في إيجاد مكتتبين دون ضمانات التغطية الكاملة ... النقطة التي تلي، هناك ثلاثة اعتبارات هامة في تداول الأدوات المالية في الأسواق.. الأوراق المالية تتداول آخذين بعين الاعتبار هذه النقاط الثلاثة ودرجاتها:
1- الأمان أي مدى توفر القناعة بقلة مخاطر الورقة المالية.
2- السيولة أو القابلية للتداول أي أن هذه الورقة المالية سريعة التسييل أو قابلة للتداول بسرعة ومدى هذه السرعة.
3- العائد، عائد الورقة المالية، وهو يتألف في العادة من جزئين: عائد رأسمالي نتيجة لفروق الأسعار، وعائد إيرادي، ما يدفع من إيراد على تلك الورقة المالية.(6/1250)
أهم فوائد السوق المالية وخاصة المنظمة منها هي:
أولا: تيسير عمليات البيع والشراء للأوراق المالية وتوفير السيولة.
ثانيا: التسعير أي اكتشاف أسعار الأدوات المالية وهذه الأسعار تتأثر بالمعلومات المتوفرة عن الأرباح المستقبلية وبتوقعات المستثمرين.
ثالثا: التشجيع على الادخار وتعبئة المدخرات.
رابعا: توزيع المدخرات على الاستعمالات المختلفة.
خامسا: تقديم المعلومات والخبرات والاستشارات الاستثمارية.
كل من هذه النقاط، بحد ذاتها، هي باب كبير لتفصيل كثير، وأهميتها ينبغ أن لا تؤخذ بنظر قليل، فهي مهمة جدا، يلي ذلك من نقاط تلخيصية بالنسبة لهذين المحورين أن نسبة كبيرة من المعاملات تنظيم السوق المنظمة (البورصة) أو الإكسشينج بحيث إن نسبة كبيرة جدا من المعاملات التي تتم فيها لا يقصد بها الوصول إلى استلام المبيع ودفع الثمن، وإنما هي المجازفة فقط، والحصول على المكاسب من فروق أسعار البيع والشراء، حتى إن نسبة المعاملات التي تنتهي بالقبض والدفع لا تزيد على 4 % من مجموع المعاملات. أما بالنسبة للأسواق في البلدان المتخلفة فالأمر يختلف قليلا. فكثيرا ما يكون هناك قيود وشروط وظروف اقتصادية تؤدي إلى التقليل من المعاملات التي لا تنتهي بقبض المبيع، على أنه لا تخلو سوق منظمة من عمليات المجازفة , المجازفة وهي ما يسميه أحيانا بعض الكتاب بالمضاربة (خطأ) وهو يختلف مع اللفظ الشرعي للمضاربة أو ما هو بالإنجليزية (Speculation) .
وبالنسبة للمحور الثالث فإن الأدوات المالية المستعملة في الأسواق المالية هي الأسهم والسندات. وقد تسمى السندات أحيانا بأسماء أخرى مثل شهادات أو صكوك.
1- الأسهم: السهم هو الوثيقة التي تصدرها الشركة وتمثل حق المساهم في الشركة وملكيته لحصة مشاعة في موجوداته. ويتمتع حامل السهم بالحق في الحصول على عائد سنوي نتيجة لاستثمار رأس ماله. وقد يختلف العائد من سنة لأخرى، كما يضمن حامل السهم ديون الشركة في حدود حصته فقط، دون أن تتعدى هذه الخسارة لتلحق بأمواله الخاصة. ومن خصائص السهم أنه يتميز بتساوي القيمة لتسهيل حساب الأغلبية في الجمعية العمومية ولتسهيل عملية توزيع الأرباح على المساهمين. والغالب أن يترتب على تساوي القيمة المساواة في الحقوق التي يمنحها السهم، وهي الحق في الأرباح، والتصويت، وناتج التصفية، وكذلك في الالتزامات الناشئة عن ملكية السهم. على أن هناك تفصيلا سيرد بعد ذلك.. كما يتميز السهم بقابليته للتداول بالطرق التجارية في السوق المالية، على أن بعض القوانين تتيح لأنظمة الشركات أن تنص على تقييد تداول أسهمها، كما في الشركات المغلقة أو المقفلة، وهناك أنواع أخرى من القيود يمكن أن تتبناها أنظمة الشركات. وأخيرا يمتاز السهم أيضا بعدم قابليته للانقسام والتجزئة في مواجهة الشركة.(6/1251)
وتقسم الأسهم إلى أنواع بحسب الوجهة التي تتخذ أساسا.
للتقسيم تنقسم الأسهم حسب ملكيتها إلى أسهم اسمية أي أنها مسجلة في سجلات الشركة، وأسهم لحاملها لا تحمل اسما وليست مسجلة، وأسهم للأمر هي تسجل في المرة الأولى ولا تحتاج إلى تسجيل بعد ذلك، إلا أنها تنتقل لأمر شخص معين يكتب اسمه على ظهر السهم.
ومن حيث علاقة الأسهم برأس المال يمكن تقسيم الأسهم على أسهم رأس مال وأسهم تمتع. أسهم التمتع هي نوع من الأسهم في أصلها هي أسهم رأس مال، إلا أن الشركة تعيد القيمة الاسمية لجزء من حامل أسهمها على مدار السنة على مدار حياة الشركة، بحيث عند انقضاء الشركة، في نهاية مدتها، تعيد القيمة الاسمية لكل حامليها، فتأخذ كل سنة مثلا جزءا من الأسهم وتعطي بدلا منه سهم تمتع، هذا السهم التمتعي له حق بالأرباح وبالتصفية بعد دفع القيمة الاسمية لحملة الأسهم الآخرين.
وتنقسم الأسهم من حيث حقوق الملكية إلى أسهم عادية، وأسهم ممتازة أو مفضلة.
والأسهم الممتازة أنواع تخول لأصحابها مزايا معينة تختلف من نوع إلى آخر، فقد تكون هذه المزايا في أغلب الأحيان في ضمان أرباح محددة للسهم الممتاز. وقد تكون في ضمان نسبة أكثر من أرباح الأسهم الأخرى. وقد تكون أيضا في ضمان سداد القيمة الاسمية قبل غيرها من الأسهم عند التصفية عند حل الشركة وقد تكون امتيازا في التصويت أن يكون للسهم الممتاز مثلا صوتان ومثل ذلك ... وتجمع الأسهم الممتازة بين سمات الأسهم العادية والسندات، فالسهم الممتاز يشبه السهم العادي حيث يمثل صك ملكية ليس له تاريخ استحقاق، وأن مسئولية حامله محدودة بمقدار مساهمته، ويشبه السند لأن له – في الأغلب – حدا أدنى من الأرباح محددا بنسبة معينة من قيمته الاسمية.
وقد تصدر الأسهم بأكثر من قيمتها الاسمية، أي بما يسمى بعلاوة إصدار ويذكر أن القوانين الوضعية أيضا تعامل السهم معاملة المنقول، من حيث انتقال الملكية إلى غير ذلك، يعامل دائما معاملة المنقول.
ويضاف إلى الأسهم نوع شبيه بالأسهم هو حصص التأسيس وهي شهادات تمنحها الشركة لمن قدموا لها خدمات جليلة عند تأسيسها يحق لهم بموجبها الحصول على أرباح تعادل أرباح السهم دون دفعهم أي رأس مال ودون اشتراكهم في قيمة موجودات الشركة عند التصفية أو دون حق التصويت. ويمكن في العادة تداول هذه الحصص في السوق المالية، فحسب معايير الأسواق المالية كل قيمة مستقبلية متوقعة سواء كانت دورية أو دفعة واحدة له قيمة حالية وبالتالي يمكن بيعها وشراؤها.
هنا أود أن أذكر أن الندوة شكلت لجنة صياغة ولجنة الصياغة اقترحت بعض الأجوبة الشرعية على بعض النقاط التي وردت في خصائص الأسهم وأنواعها، فإن أحببتم هذه مكتوبة في البيان الختامي الذي وزع، وإن أحببتم قرأت ما يتعلق بالأسهم منها، أو أنني أتركه على افتراض أن كل أخ من الإخوة الأفاضل قد قرأه إذا وافق فضيلة رئيس الجلسة.(6/1252)
الرئيس:
بل تقرأ ما يتعلق بالأسئلة والأجوبة.. أستاذ منذر.. من الصفحة الثالثة. وقد دارت الموضوعات في المحاور التالية.. من المحور الأول، ثم بعد ذلك تنتقل إلى الصفحة الرابعة.
الدكتور منذر قحف:
بالنسبة للمحورين الأولين –قبل الكلام عن الأسهم- لجنة التوصية كتبت النقاط التالية، وقبل ذلك أود أن أذكر - قد يكون من المفيد تصحيح بسيط أيضا لو رغبتم في الصفحة الثانية من هذا البيان- أظن أنه قد وقع خطأ في اسم من أسماء أعضاء لجنة الصياغة فكان الدكتور حسن عبد الله الأمين في لجنة الصياغة بدلا من الدكتور رضا سعد الله.
بالنسبة للنقاط التي كتبتها لجنة الصياغة فيما يتعلق بالمحورين الأولين أقول:
1- في ضوء ما هو مقر في الشريعة الإسلامية من الحث على الكسب الحلال واستثمار المال وتنمية المدخرات، ولما للأسواق المالية من دور في تداول الأموال وتنشيط استثمارها، فإن العناية بأمر هذه الأسواق هي من تمام إقامة الواجب في حفظ المال وتنميته باعتبار ذلك أحد مقاصد الشريعة، وباعتبار ما يستتبعه هذا من التعاون لسد الحاجات العامة وأداء ما في المال من حقوق دينية أو دنيوية.
2- إن الاهتمام بدراسة الأسواق المالية في عصرنا الحاضر والبحث في أحكامها يلبي حاجة ماسة لتعريف الناس بفقه دينهم في المستجدات العصرية، ويتلاقى مع الجهود الأصلية لفقهاء الشريعة الإسلامية في بيان أحكام المعاملات المالية، وبخاصة أحكام السوق ونظام الحسبة على الأسواق.
3- بعد استعراض المشاركين في الندوة لما تناولته البحوث المقدمة والمناقشات المستفيضة من قوانين الأسواق المالية، القائمة وأنظمتها وأدواتها وآلياتها، تبين بوضوح أن هذه الأسواق، مع الحاجة لأصل فكرتها، هي في حالتها الراهنة ليست النموذج المحقق لأهداف تنمية المال واستثماره من الوجهة الإسلامية، وهذا الوضع يتطلب بذل جهود علمية مشتركة من الاقتصاديين والفقهاء لمراجعة ما تقوم عليه من أنظمة، وما تعتمده من آليات وأدوات، وتعديل ما ينبغي تعديله في ضوء مقررات الشريعة الإسلامية.
4- إن أهمية الأسواق المالية لا تقتصر على السوق الأولية، سوق الإصدارات، بل تشمل الأسواق الثانوية أيضا، لأنها تتيح للمستثمرين المتعاملين فيها أن يعاودوا دخول السوق الأولية، كما أن وجودها يشكل فرصة للحصول على السيولة، وهو بدوره يشجع على الإقدام على توظيف المال في السوق الأولية، ثقة بإمكان الخروج منها عند الحاجة.(6/1253)
5- إن أسس الاستثمار الإسلامي تقوم على المشاركة في الأعباء وتحمل الأخطار، ونظام المشاركة لا تنتج عنه مديونية، وإن المديونية العالمية التي تعاني منها الشعوب والأفراد هي نتيجة ما هو غالب في التعامل المالي والأسواق المالية من نظام الاقتراض الربوي للحصول على المال. وإن الحل البديل لمشكلة المديونية العالمية يقدمه الإسلام من خلال نظام المشاركة في تحمل المخاطر وإلغاء فوائد الديون (الربا) لأن الالتزام بتحريم الفوائد يوجه المدخرات كلها إلى أوراق مالية تمثل حقوق ملكية مشتركة.
6- إن فكرة الأسواق المالية تقوم على أنظمة إدارية وإجرائية، ولذا يستند الإلزام بها إلى تطبيق قاعدة المصالح المرسلة، فيما يندرج تحت أصل شرعي عام ولا يخالف نصا أو قاعدة شرعية، وهي لذلك من قبيل التنظيم الذي يقوم به ولي الأمر في الحرف والمرافق الأخرى، وليس لأحد مخالفة تنظيمات ولي الأمر أو التحايل عليها ما دامت مستوفية الضوابط والأصول الشرعية. وهناك مهام وأعمال تجري في الأسواق المالية لأداء دور الوساطة أو السمسرة أو الخدمات الإعلامية أو الكتابية أو الوكالة أو القبض أو الصرف، وتطبق في كل مرة هذه التصرفات الأحكام الشرعية الخاصة بها.
7- أدوات السوق المالية منها حقوق ملكية كالأسهم، ومنها ديون كالسندات وهناك ما هو غير واضح الطبيعة والحاجة فيه شديدة إلى النظر الفقهي، وذلك كالاختيارات والمستقبليات.
(والاختيارات هي الخيارات اختارت اللجنة أن تستعمل كلمة الاختيارات بدلا من الخيارات، لأن الخيارات معرفة لفظها مستعمل في الشريعة، فحتى لا نقع في لبس بين الألفاظ فهي الاختيارات.
8- إن أهم الأدوات المستخدمة في الأسواق المالية هي الأسهم والسندات والاختيارات والمستقبليات. وبيان الحكم الشرعي لها يحقق الضوابط الأساسية للتعامل في مجال الأسواق المالية.
وفي ما يلي نبذة تعريفية تقدم التصور الفني الأساسي لكل منها مع بيان الأحكام الشرعية لأهم النقاط للتعامل بها.
أولا: الأسهم في المعاملات الوضعية: السهم هو الوثيقة التي تصدرها الشركة وتمثل حق المساهم في الشركة، وملكيته لحصة مشاعة في موجوداتها ويتمتع حامل السهم بالحق في الحصول على عائد سنوي، نتيجة استثمار رأس ماله. وقد يختلف العائد من سنة لأخرى. كما يضمن حامل السهم ديون الشركة في حدود حصته فقط دون أن تتعدى هذه الخسارة لتلحق بأمواله الخاصة. ومن خصائص السهم أنه يتميز بتساوي القيمة لتسهيل حساب الأغلبية في الجمعية العمومية، وتسهيل عملية توزيع الأرباح على المساهمين.(6/1254)
والغالب أن يترتب عن تساوي القيمة المساواة في الحقوق التي يمنحها السهم. وهي الحق في الأرباح وفي التصويت وناتج التصفية، وكذلك في الالتزامات الناشئة عن ملكية السهم، كما يتميز السهم بقابليته للتداول بالطرق التجارية، وبعدم قابليته للانقسام والتجزئة في مواجهة الشركة. وتنقسم الأسهم إلى أنواع مختلفة، بحسب الوجهة التي تتخذ أساسا للتقسيم تنقسم الأسهم حسب ملكيتها إلى أسهم اسمية مسجلة وأسهم لحاملها وأسهم لأمر. ومن حيث علاقة السهم برأس المال يمكن تقسيم الأسهم إلى أسهم رأس مال وأسهم تمتع، وهي تعطي للمساهم الذي استرد القيمة الاسمية لأسهمه.
ومن حيث حقوق الملكية تنقسم الأسهم إلى أسهم عادية وأسهم ممتازة (مفضلة) والأسهم الممتازة تخول لأصحابها الأسبقية في الحصول على نسبة معينة من أرباح الشركة، وفي اقتسام أموال التصفية، بعد حل الشركة. وتجمع الأسهم الممتازة بين سمات الأسهم العادية والسندات. فالسهم الممتاز يشبه السهم العادي حيث يمثل صك ملكية ليس له تاريخ استحقاق وإن مسئولية حامله محدودة بمقدار مساهمته. ويشبه السند لأن نصيبه من الأرباح محدد بنسبة معينة من قيمته الاسمية.
الأجوبة على المسائل التي تتعلق بالأسهم:
يتعلق بموضوع الأسهم الذي ناقشته ندوة الأسواق المالية من الوجهة الإسلامية مسائل تدور حول التعامل بها إصدارا وبيعا وشراء واستثمارا. ومن الجدير بالتنويه أن السوق المالية الإسلامية لا يكتفى فيها بجانب التعامل الحلال فحسب بل لا بد أن يرافق هذا التعامل مراعاة الخلق والسلوك الإسلامي بعدم المخالفة لقواعد التعامل في الشريعة، مثل حرمة الغش والربا والاحتكار والتدليس والمناجشة والتغريم وغير ذلك من الأسباب والوسائل المفضية إلى أكل أموال الناس بالباطل. وإذا كانت البيانات الحسابية الموضحة للمراكز المالية للشركات المتداولة أسهمها في الأسواق المالية العالمية أمرا يفرضه نظام هذه الأسواق، فإن وجود هذه البيانات وتوضيحها لغير القادرين على فهم مصطلحاتها أمر لازم نظاما وأخلاقا في الأسواق المالية الإسلامية وفيما يلي أهم المسائل التي طرحت في الدراسات أو المناقشات والأجوبة الشرعية عنها.
السؤال الأول (1) : هل السهم مثلي أو قيمي منقول أو بحسب ما يمثله؟
الجواب الأول (1) : السهم بحسب ما يمثله لأنه حصة شائعة في الأموال التي هي محل الشركة.
الرئيس:
ترون أن نستعرض جميع الأسئلة ثم نعود إلى أول سؤال نقف عند أول سؤال من الآن؟
الأستاذ منذر سريع القراءة نستعرضها ونعود لأول سؤال.(6/1255)
الدكتور منذر قحف:
السؤال (2) : انتقال الأسهم لغير مالكيها الأصليين بتداولها مع بقاء الشركة.
الجواب (2) : البيع جائز في مثل هذه الحالة إذا توافرت أركان البيع وشروطه وضوابطه.
السؤال (3) : ذمة المضاربة مستقلة عن أصحابها ومحدودية مسئولية المساهمين؟ !
الجواب (3) : ذمة المضاربة وشخصيتها مستقلة وتكون بالتالي مسئولية المساهمين محدودة.
السؤال (4) : شراء السهم ودفع جزء من قيمته وإقراض السمسار الباقي؟
الجواب (4) : الشراء جائز والإقراض مقبول بشرط أن لا يترتب عليه أي زيادة في مقدار القرض.
السؤال (5) : اقتراض الأسهم ثم بيعها ثم شراؤها نفسها لإعادة القرض؟
الجواب (5) : مثل هذا التصرف من عقود متراكبة لا يجوز لما فيه من الربا.
السؤال (6) : السهم لحامله؟!
الجواب (6) : لا يجوز لجهالة الشخص المتعاقد.
السؤال (7) : السهم لأمر؟
الجواب (7) : هذا جائز لمعرفة شخص المتعاقد (لأمر فلان – لأمر اسم معين) .
السؤال (8) : حكم تملك وتداول أسهم الشركات التي غرضها الأساسي الربا أو التي غرضها الأساسي حلال ولكنها تتعامل أحيانا بالربا باقتراض الأموال أو إيداعها بفائدة؟
الجواب (8) : إن تملك أسهم الشركات التي يكون غرضها الأساسي التعامل بالربا والصناعات المحرمة والمتاجرة بالمواد الحرام غير جائز شرعا، ولو كان ذلك التملك عابرا، ولفترة لا تسمح بتحقيق الأرباح الناتجة عن ذلك النشاط. أما تملك أو تداول أسهم الشركات التي غرضها الأساسي حلال، ولكنها تتعامل أحيانا بالربا باقتراض الأموال أو بإيداعها بفائدة فإنه جائز نظرا لمشروعية غرضها، مع حرمة الإقراض أو الاقتراض الربوي، ووجوب تغيير ذلك، والإنكار والاعتراض على القائم به، ويجب على المساهم عند أخذ ريع السهم الخاص التخلص بما يظن أنه يعادل ما نشأ من التعامل بالفائدة بصرفه في وجوه الخير.
السؤال (9) : ما هو الحكم في تعهدات تغطية شراء الأسهم؟ وما هو الحكم حول بيع الأسهم بعلاوة إصدار أو بخصم إصدار؟
الجواب (9) : التعهد بشراء الأسهم المعروضة من مالكها بالقيمة السوقية من جانب الشركة المصدرة للأسهم جائز.(6/1256)
السؤال (10) : ما هو حكم القبض في شراء الأسهم؟ وهل يعتبر البيع الحاصل في السوق المالية قبضا بمجرد الشراء بحيث يحق للمالك أن يأمر الوسيط بالبيع أم أنه لا بد من الانتظار إلى أن يتم تسجيل السهم الاسمي في سجلات الشركة المساهمة باسم المشتري حيث يجري البيع بعد ذلك؟!
الجواب (10) : القبض في شراء الأسهم أمر لا بد منه، ويخضع تحقق القبض للقوانين التي تنظم الشركة وتخضع لها.
السؤال (11) : ما هو النظر الفقهي لأنواع الأسهم؟ وهل يشترط التساوي في الحقوق بكل أشكالها أم إنه يكتفى بالتساوي في الحقوق المالية ويسمح فيما عدا ذلك من امتيازات التصويت والإدارة والتفضيل؟ وهل هناك مجال لتفاوت الأرباح مع إبقاء شرط الخسارة بقدر المال؟
الجواب (11) : لا مانع من إصدار الشركة نوعين من الأسهم، ولكن الأفضل التساوي بين حاملي كل نوع في الحقوق الممنوحة لها ماديا وأدبيا وفي جميع الامتيازات، ويجوز التفاوت في الأرباح، ولكن لا يجوز أن توزع الخسائر إلا بقدر الحصص في رأس المال، ولا يجوز تفضيل بعض الشركاء بضمان رأس مالهم.
الرئيس:
هذا طيب.. ونعود للسؤال الأول.. تفضل يا أستاذ منذر.
الدكتور منذر قحف
بالنسبة للسؤال الأول: هل السهم مثلي أو قيمي؟ منقول أو بحسب ما يمثله؟
والجواب: السهم بحسب ما يمثله، لأنه حصة شائعة في الأموال التي هي محل الشركة.
الدكتور رفيق المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أنا، في الحقيقة، لم أفهم القصد من هذا السؤال، فهل يمكن بالنسبة للإخوة الذين كانوا حاضرين هذه الندوة أن يبينوا لنا غاية هذا السؤال وما يمكن أن ينبني عليه. وإلا فأنا لم أفهم مغزاه وأرى أنه غامض؟(6/1257)
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم:
من المعلوم تقسيم الأموال في الفقه الإسلامي على أموال مثلية وأموال قيمية، وأموال منقولة وأموال غير منقولة، التي هي العقارات وما ألحق بها، وتختلف الأحكام بحسب هذه التقسيمات. فهذا السؤال وارد لأن السهم يعتبر نوعا من أنواع الأموال، ففي أي قسم من هذه الأقسام يندرج، هل هو من المثليات فتطبق عليه أحكام المثليات من حيث التعيين؟ يعني لما يشتري مثلا 10 أسهم هل يجب أن يعينها أم يقول 10 (عشرة) بالعدد، لأن المثليات تتعين بالتقدير الكمي في الكيل والوزن، ويقول 5 لترات، 10 لترات إلخ. أيضا هناك بعض الأحكام بالنسبة للقبض بالنسبة للمنقول وغير المنقول، فهذا هو مورد السؤال، وأما الجواب فهو نظرا إلى أن السهم إنما هو ممثل لحصة شائعة في الشركة التي يكون فيها السهم جزءا من أجزائها، فيطبق على السهم ما يطبق على ما يعبر به عنه: هذا هو القصد من السؤال، وهذا هو الجواب.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
في الواقع باعتبار أن الشيخ عبد الستار أبو غدة كان مقررا للندوة، أنا عندي سؤال كذلك: لماذا حللت الأسهم إلى هذه الجزئيات؟ ألم يكن المفروض أن تدرس الأسهم على حسب صورها بحيث يرتب الحكم على كل صورة بعينها. طالما أن هناك صورا متعددة ذكرت في أول الصفحة رقم (6) لأن التحليل إلى هذه الجزئيات أخشى أن يذوب معه الحكم العام لأي صورة من الصور.
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
الحقيقة إن الكتابات التي قدمت إلى الندوة بخصوص الأسهم كان معظمها كتابات اقتصادية فنية، ولم تكتب كتابات مفصلة شرعية في هذا الموضوع، جاءت بعض الأجوبة في بعض كتابات الأساتذة الفقهاء المشاركين، ولذلك رؤي التركيز على ما أعطي حقه من البحث من هذه القضايا الأسهم.
الشيخ محمد المختار السلامي
بسم الله الرحمن الرحيم وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
هذا التدقيق لا بد منه في تصور كل عملية من العمليات، وذلك لأنه قد تكون الشركة عبارة عن حيوانات، تارة تكون الشركة تجارة، وتارة تكون الشركة عقارات، فما هو السهم في هذه الشركة؟ فينطبق على السهم في جميع أحواله ما ينطبق على الشركة بتمامها وهذا تعريف، لقد كنت قبل أن أتصل بالاقتصاديين لا أدري، وأقول الكل سهم، ولكن بعد ذلك أصبح إلقاء هذا السؤال ضروريا والإجابة عنه ضرورية لما يترتب عليه من الزكاة ويترتب عليه من عدة أشياء، فجعل أن السهم هو يمثل حصة شائعة في الشركة يختلف أحكامه أحوال الشركة، هو أمر ضروري لبناء الأحكام التي ستترتب على ذلك.(6/1258)
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
هذا صحيح أنه ضروري لكن هو ضروري ككل موضوع صور الأسهم ككلها. لكن أنا أقول لماذا ترتب الأحكام الشرعية على كل صورة من صور الأسهم؟ .. لا تحلل إلى أجزاء، لأن قضية التحليل إلى أجزاء، قد تحلل الحكم الشرعي للحكم العام لأي صورة من هذه الصور، لكن إذا أتى بالصورة الاقتصادية لأي صورة من صور الأسهم يرتب عليها الحكم الشرعي إن جوازا أو منعا أو يدخل عليها ما يصلحها حتى تكون جائزة، وهكذا.
الشيخ محمد المختار السلامي:
أعتقد أمرين: الضوابط لا بد من وجودها، وعلى حسب هذه الضوابط ينظر الفقيه لما تساعده هذه الضوابط ولغير ذلك، وهذا لا يجعل تعتيما في الرؤية، بل هو يزيد من التوضيح والتعقيد في الرؤية والضبط. خاصة ونحن الفقهاء لا ندرك كثيرا من القضايا كيف تسير؟
الرئيس:
إذا لم ندركها فكيف نحكم فيها؟
الشيخ المختار السلامي:
فلا بد من أخذ الضوابط من عندهم كيف تسير الحياة فهذه حياة أخرى.
الدكتور عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
الذي دفع إلى هذا الأسلوب هو أننا نريد أن نبين حكم المعاملات في الأسواق المالية، ليس الموضوع موضوع شركات المساهمة واستعراض ما يتعلق بصور الأسهم وبيان الحكم الشرعي كموضوع مستقل، لم يكن هذا هو الموضوع هناك صور متعددة يجري التعامل فيها في الأسواق المالية، فلذلك يلاحظ أن كل سؤال من هذه الأسئلة الهدف منه بيان الحكم بالصورة العامة التي تجري في الأسواق المالية. إنما يمكن كأسلوب آخر للصياغة يعني من أجل تسهيل بيان الحكم الشرعي، واضح إنك تريد أن تحدد المسألة بالضبط بكل دقة لتقول: ما هو الحكم الشرعي فيها؟ لكن إذا أردنا أن نخرج بصياغة أخرى تتفق مع ما تتفضلون به يمكن نفس هذا الكلام يعاد ترتيبه على أساس عرض للصور كاملة، يعني الأمر يعود عند ذلك لأمر الصياغة. لكن المهم أن نتفق على الأحكام الجزئية في هذه القضايا أنها سليمة من الناحية الشرعية، وإذا كانت سليمة من الناحية الشرعية عند ذلك يبقى الأمر أمر صياغة من حيث الترتيب والعرض.(6/1259)
الدكتور الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أنا - مع الأسف - لم أكن حاضرا في هذه الندوة، وهذا السؤال والجواب، الجواب في رأيي سليم، لكنه ينشأ عنه إشكال: فالجواب يقول: إن الأسهم قد تكون منقولة من المنقولات أو من العقارات بحسب موجودات الشركة، وهذا واضح بالنسبة للفقيه، فالإشكال هو أن القانون التجاري يقول: إن الأسهم كلها منقولات، وأظن الدكتور منذر أشار إلى هذا، وهذا اتفاق بين علماء القانون، فكيف يحل هذا الإشكال؟ أعتقد أن هذه النقطة يجب أن نقف عندها.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
هذا صحيح لأن الذي يحدد هذا الشيء هو الاقتصاديون الذين يمارسون عمليات الأسهم، فهم يحددونها بحكم طبيعة هذه الصورة التي يحصل تداولها في الأسواق. أما أن يقال أنه بحسبه، والصورة واضحة وجلية لدى المتعاملين، هذا لا يؤدي لترتيب حكم جلي في المسألة.
الدكتور منذر قحف:
الحقيقة أنا على هذا الجواب عندي سؤال صغير وأيضا استفسار، يبدو لي أولا أن الجواب لم يتعرض لكل السؤال، فهل الأسهم مثلية أو غير مثلية؟ يعني يبدو أنه أمر اغفل.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
هو تعرض له كله، لأنه قال: هل هي مثلية أو غير مثلية؟ وهل هي منقولة أم غير منقولة؟ هذا معنى السؤال، فالجواب قال: السهم بحسب ما يمثله، بحسب ما يمتثله بأي من هذه الوجوه، ولكن النقطة التي أثارها الدكتور الضرير ما جوابك عليها.
الدكتور منذر قحف:
هذه النقطة أنا لاحظت أنها لم تكن موجودة فيما كتب، ومن أجل ذلك أضفتها فعلا، لأن الأسهم من حيث من يتعامل بها، ومن حيث القوانين الناظمة للتعامل بها، تعامل معاملة المنقول بصورة دائمة، فالناس في الأسواق المالية ينظرون إليها بهذا المعنى، على أنها منقولة، لكن موضوع المثلية أظن ينبغي أن يشار إليها، لأن الأسهم مثلية بطبيعتها، ليست إلا مثلية هي تحويل أملاك الشركة إلى أشياء مثلية إلى حصة شائعة متماثلة تماما.(6/1260)
الدكتور الضرير:
الأسهم مثلية إذا كانت عقارات بحسب هذا المفهوم – لا يشترط – الجواب السليم حسب السؤال، إذا كانت الموجودات مثلية فالأسهم مثلية، وإذا كانت مثلية منقولة فالأسهم منقولة، وهكذا فالسؤال واضح والجواب واضح عليه، لكن الواقع أن الأسهم التي نتحدث عنها أصحابها يقولون: إنها منقولة في جميع الأحوال ولو كانت في شركة عقارية، كلها تتاجر في العقارات فالسهم مثلي هم ينظرون إلى السهم في ذاته هذه الورقة، ولا ينظرون إلى الأصل، والجواب جاء بخلاف هذا، ونحن نتحدث عن شيء موجود أمامنا في الأسواق المالية.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم:
سيادة الرئيس، أود أن اسأل الإخوة الذين يتفضلون في الكلام، عن هذا الموضوع، ما هي وجوه الاتفاق والاختلاف بين سندات المقارضة التي بحثها المجمع في إحدى دوراته السابقة وبين هذه الأسهم؟ في الواقع أريد أن أفهم إذا كان هناك اتفاق أو هناك اختلاف بين هذه الأسهم وبين سندات المقارضة التي بحثها المجمع في دورة سابقة.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
الحقيقة تساؤل فضيلة السيد الرئيس وارد وإنه لم يكن هناك إجابة كاملة عن كل الأوراق التي قدمت في تلك الندوة من الناحية القانونية، وإنما هذه الأسئلة –كنت أنا في تلك الندوة- هذه الأسئلة عرضها أحد الأساتذة القانونيين عقب ورقته القانونية وأراد منا أن نجيب عنها بشكل كما تصورها هو ولم تكن الإجابة عن كل ما طرح في الندوة، ولذلك تساؤلكم في محله وإن هذه مجرد أسئلة كانت موجهة من شخص وأجبناه عنها فالغاية تحققت بالجواب عن تساؤل هذا الأستاذ الذي كانت ورقته قانونية محضة وأراد أن يعرف حكمها في الشريعة ولم تكن أسئلته موجهة على كل ما دار في الندوة، فهناك بحوث شرعية تولت الإجابة عن موضوع الأسهم والسندات والمستقبليات والاختيارات والعمليات المركبة والبسيطة وذلك موجود في البحوث المعروضة والمطبوعة هنا.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
الأمر الأول هذا السهم ماذا يمثل؟ فالسهم في حقيقته هو يمثل موجودات الشركة، وهو تعبير عن الشركة، من ناحية أخرى هذه الأسهم في الشركة إن قارناها فيما بينها تصبح من المثليات، وإذا نظرنا إلى أنها ليست ثابتة فهي من المنقولات. فهي أنظار مختلفة لكن التحقيق في حقيقة ذات السهم الذي يباع ويشتري والذي يتملك هو سهم يمثل موجودات في الشركة، وأنه يختلف من شركة إلى شركة أخرى، وإني لا أعطي نفس الأحكام التي هي في شركة تعنى بالأبقار كما أعطيه لسهم في شركة تجارية أو في شركة عقارية، لكن عندما أقرر بين مجموعة الأسهم في شركة عقارية أقول هي من المثليات.
الرئيس:
لكن إذا كان الاقتصاديون يقولون بتحديد الوصف، فكيف نجعلها على هذا النحو؟(6/1261)
الشيخ محمد المختار السلامي:
لا يستطيعون دقتنا الشرعية تزيد عليهم..هم ينظرون إلى السهم كسهم، لأن عندهم القضية دائما وأبدا الذي يقود رجال المال هو المال، أما نحن عندنا أن الأموال تنقسم، وأن ماله أحكامه في الدين.
الدكتور محمد على القري:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أحب أن أشير إلى معاملة تجري في أسواق المال تثير سؤالا: هل السهم مثلي أم قيمي؟ وهذه المعاملة منتشرة كثيرا وهي مسألة اقتراض الأسهم، فإن كثيرا من المتعاملين يقترض مجموعة من الأسهم ثم يبيعها متوقعا انخفاض الأسعار فإذا انخفضت اشترى مثل تلك الأسهم وردها إلى من اقترضها منه، ليستفيد من الفارق بين السعرين، فإذا كانت الأسهم مثلية فإن هذا قرض، وأما إذا كانت قيمية فإن هذا لا يمكن أن يكون قرضا وإنما يكون عارية، فهذا النوع من المعاملات يثير سؤال مثلي أم قيمي، والذي عليه المعاملة في أسواق المال أن الأسهم دائما مثلية، وأحسب أن أهم مميزات الأسهم هو تسهيل تداولها بين الناس، فإذا كانت مقيدة بنوع نشاط الشركة هل هو عقار أم هو زراعة أم تجارة أو ما إلى ذلك، فإنه قد يفوت على المتعاملين مصلحة كبيرة في التعامل فيها.
الدكتور سعود الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
لو رجعنا إلى تعريف السهم الذي ذكر في الصفحة الخامسة لوجدناهم عرفوه بأنه هو الوثيقة التي تصدرها الشركة وتمثل حق المساهم في الشركة وملكيته، فهذا يدل على أن السهم في تعريف بعض الاقتصاديين –وليس هذا هو التعريف المختار عند الاقتصاديين كلهم- أنه هو الورقة (السهم) . أما في جوابهم: السهم بحسب ما يمثله يدل هذا على أن المقصود هنا هو نصيب المساهم في الشركة، وهذا هو التعريف السليم والصحيح من وجهة نظري، أن السهم هو نصيب المساهم في الشركة وليس هو الورقة التي تصدرها الشركة، لأننا لو قلنا بأن السهم هو الورقة التي تصدرها الشركة وهي تعتبر وثيقة في نظر كثير من الاقتصاديين لما أجزنا بيع الورقة وتداولها.
الدكتور عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
عندما تبدأ الشركة، تبدأ بتوزيع حصص رأس المال، بالإضافة لما قاله الأخوان السابقان، حصص رأس المال هذه توظف , هذه التوظيفات تخضع للنظام الأساسي للشركة، ومعظم الشركات، شركات المساهمة أغراضها لا تكون غرضا محددا.. يعني تتوسع، الأغراض متوسعة، فبالتالي لا نستطيع أن نجري عليها حكما واحدا، يجب أن الأحكام تفصل بطبيعة الأنشطة الواردة في أغراض تلك الشركة، فبالاعتبار الوضعي الموجود أن السهم ما هو إلا حصة في رأس المال ويأخذ صفة الورقة المالية كاملة، له قيمة سوقية مالية يتداول فيها، ولكن إذا أردنا أن ننظر فقهية متفحصة يجب النظر إلى أغراض الشركة نفسها حتى يمكن أن يكون الحكم واضحا.(6/1262)
الدكتور عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
في الواقع يبدو أن الذي أورد هذا الإشكال عدم توضيح دافع السؤال يعني الآن التوضيح الذي أشار إليه الدكتور محمد علي القري واضح أنه حدد القضية من أجل إقراض الأسهم الذي يتم في البورصة المالية، وإلا فإن الأمر مستقر في ظني، عند الفقهاء المعاصرين بالنسبة لتحديد طبيعة السهم. إن السهم إذا نظر إليه باعتبار التساوي وأنه يمثل حصة شائعة ومتساوية في شركة فهو مثلي، ولا نقاش في هذا. ولكن إذا اعتبر ما يمثله السهم من هذه الحصة الشائعة فهو قيمي، يعني من حيث أنه قد يرتفع وقد ينخفض وتجري فيه كل أنواع التبادل، باعتباره حصة شائعة في مال متعدد، ولذلك أنا أقترح ما دامت الصورة واضحة، هي القضية قضية صياغة، يعني يترك للجنة الصياغة لهذا الموضوع أن توضح هذا الأمر توضيحا كاملا وبعبارة بينة حتى لا يقع إشكال.
الدكتور بشار عواد:
بسم الله الرحمن الرحيم:
ذكر الشيخ عبد السلام العبادي ما كنت أريد أن أقوله، وأضيف إلى أن سؤال الدكتور الصديق الضرير ما زال قائما فينبغي أن يبحث الإشكال، هنا الجواب جواب شرعي في مسألة محددة، ويبقى ما هو شائع وواقع فعلا من أن جميع الأسهم التي تمثل العقارات وغير العقارات، جميع الأسهم المنقولة أو ما تمثل المنقول وغير المنقول هو منقول عندهم، فينبغي أن يشار إلى ذلك في التوضيح الذي يصدر عن هذا، وبيان اتفاقه أو عدم اتفاقه مع الشريعة الإسلامية.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
صحيح هو منقول باعتبارهم، لكن هل هذا الاعتبار يصححه الفقهاء أو لا يصححونه؟.. أنا قصدي على حسب كلام الأستاذ منذر بأنها منقولات، لكن هذا الاعتبار قد لا يتلاقى مع الواقع في كل حالة، فمن الجائز أن تكون منقولة أو غير منقولة قيمية أو مثلية ... إلخ.
الدكتور الصديق الضرير:
في الواقع إن هذا يرجع إلى حقيقة السهم أو مفهوم السهم عند الفقهاء، مفهومه عند القانونيين فمفهومه عند الفقهاء هو الحصة، السهم هو عبارة عن الحصة المملوكة هذه، فقد تكون عقارا أو قد تكون منقولة أو قد تكون مثلية ... إلخ، عند القانونيين هو الوثيقة، كما جاء في هذا التعريف، التي تمثل الموجودات. وصرفوا النظر حتى فيما أذكر أن القانونيين يقولون: إن السهم هذا ليس مملوكا للمساهم، لصاحبه، إنما أصبح ملكا للشركة، ولا يعطونه حق المطالبة إلا إذا صفيت الشركة، يستطيع أن يأخذ حقه، أما قبل ذلك فليس له الحق إلا في بيع هذه الوثيقة، والواقع أنهم يتعاملون في الوثيقة فالإشكال هذا قائم من الأصل، فالمسألة تريد حكما في: هل السهم، بهذا التكييف مقبول أو غير مقبول؟
الرئيس:
لعل لجنة الصياغة تصل لشيء في هذا ننتقل إلى الثاني.(6/1263)
الدكتور منذر قحف:
السؤال (2) : انتقال الأسهم لغير مالكيها الأصليين بتداولها مع بقاء الشركة.
الجواب (2) : البيع جائز في مثل هذه الحالة إذا توافرت أركان البيع وشروطه وضوابطه.
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
بسم الله الرحمن الرحيم:
شكرا يا سيدي الرئيس، أحببت أن اطرح سؤالا هو أن بعض الإخوة ذكر بأن هذه الأسهم تقرض، يقول: وإذا كانت عينية أو من قبيل المقومات لا تقبل القرض، وتكون العملية استعارة أو إعارة، والحقيقة أن كل مثلي أو مقوم يصح أن يسلم فيه يصح قرضه، وما لا يصح السلم فيه كالعقارات، لا يصح أن يقرض. فالعقارات، إذا كانت هذه الأسهم تمثل حصصا في شركة عقارية، فإن هذا لا يجوز قرضه، وبالتالي إذا كان غرض المقترض استهلاكه وتفويته ببيع أو غير ذلك فلا تصح استعارته، العارية لا تراد إلا للانتفاع، وبقاء الذات، أما أن استعير شيئا لأبيعه فهذا غير معقول، وأن أقترض عقارا لأرد مثله هذا غير معقول في الشريعة، لأن العقار لا يقبل السلف ولا يقبل السلم، لأنه عين قائمة لا تدخل الذمة، المعينات لا تقبلها الذمم، وقاعدة السلم أو السلف أنه يدخل ذمة المستقرض أو المسلم إليه.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أعتقد أنه لابد من أن نبين طريقة منهجية وإلا لا نستطيع أن نصل إلى شيء لأنه إذا أردنا أن نطبق ما نعرفه في أبواب الفقه عندنا، بل الحقائق الفقهية في تصور الفقهاء عندما تصوروا الشريعة وبوبوها ورتبوها، نريد أن نقول: هذا من هذا ولا بد أن يكون كذلك، وهذا غير واقع. والذي وقع اليوم أنه وقعت معاملات جديدة ما كانت موجودة. هذه الشركة التي هي عبارة عن أسهم لا نستطيع أن نقول: إنها كالشركات السابقة. والعقود التي عرضت علي في التعامل الاقتصادي اليوم، تجد عقدا مركبا من عشرة عقود، فإذا لم أفكك الجوانب لمعرفة كل جانب، ثم معرفة هل يمكن التقاء هذا الجانب مع الجانب الآخر أم لا؟ وهل هي من العقود التي يمكن أن تكون مع بعضها أو لا؟ لا نستطيع أن نصل إلى شيء فأعود إلى قضية السهم، قضية السهم لا نستطيع أن نقول: إنه عقار، هو ليس عقارا،، إن كان هو من موجودات عقارية، هو فيه جانب عقاري وفيه جانب مالي منقول، هو منقول لأني آخذه معي، أضعه في جيبي، أو في خزانتي وأرهنه.(6/1264)
الرئيس:
هذا في الوثيقة.
الشيخ المختار السلامي:
(تلك القيمة) هذا شيء جديد. إذا أردت أن أجعله هو العقار، أنا لا أملك العقار. من جهة أملك جزءا من العقار ومن جهة هذه الملكية أصبحت متمثلة بهذا السهم، فهو شيء جديد حصل في باب التعامل. وإذا لم ننظر بهذا النظر لا نستطيع أن نصل على شيء لا نريد أن نطبق على شيء جديد حادث له صور جديدة ما كان موجودا لعدة قرون هذا غير صحيح.
الدكتور رفيق المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم:
الحقيقة أنا لي تعليق قصير على كل من السؤالين وسائر الأسئلة. التعليق الأول: أنا، فيما بدا لي بعد توضيح الأستاذ وهبة مصطفى الزحيلي يعني، يبدو أن هذه الأسئلة أسئلة كأنها متناثرة من هنا وهناك، والرابطة بينها ضعيفة، وليست هذه الأسئلة مبنية على الأوراق والدراسات المقدمة. وفيها من الإجمال والإيجاز ما لا يستطاع الإجابة عنه بسهولة، فالسؤال فيه غموض وإجمال، والجواب كذلك. ونعطي مثالا على ذلك، فمثلا القول بأن السهم مثلي أو قيمي، بدون التوضيح الذي بينه أخونا الدكتور محمد علي القري، لا معنى له في الحقيقة، فمثلا تقرير السهم أن يكون مثليا أو قيميا، هذا لا يكون إلا في ضوء استعراض أنواع الأسهم، فهناك اسهم مثلا اسمية وأسهم للحامل، فهل يمكن أن يقال، مثلا بأن السهم الاسمي هو سهم مثلي؟ وما معنى هذه التقسيمات بدون بيان الغرض؟ ليست هذه الأسئلة في الحقيقة معدة لإجابة فقهية صريحة هذا فيما يتعلق بالسؤال الأول.
أما السؤال الثاني أيضا، انتقال الأسهم لغير مالكيها؟ الجواب هكذا بهذه الصورة فيه إجمال شديد، ويجب أن يكون فيه تفصيل، السؤال انتقال الأسهم لغير مالكيها الأصليين، لم يفصل الجواب حالة هذه الأسهم، هل هذه الأسهم في بداية الشركة أم عندما كانت الشركة كلها مؤلفة من النقود، من أموال ناضة أو عندما أصبحت مثلا نقودا وعروضا وديونا؟ على آخر ما هنالك، فأنا أقترح في الحقيقة أن هذه الأسئلة ليست مبنية على الدراسات ويصعب الإجابة عنها.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
في الواقع لا بد أن نحدد نقطة انطلاق، هل نمضي في هذه الأسئلة والأجوبة ونحرر ما يظهر؟ أم أنه لابد من تكييف الصور للمستندات المطروحة في الأسواق، وأن يرتب على كل صورة بعينها ما يظهر للمجمع الفقهي من حكم شرعي، جوازا أو منعا ... لكن إذا قلنا: تستقطب الصور وتجمع ويرتب على كل صورة حكم، هل في وسعنا في هذه الدورة أن نجري هذه العملية نظرا لأن هذه الصور غائبة عن هذه الأبحاث، سواء الفقهية أو الشرعية، وإن كان موجود بعضا منها، لكن نحن ليس في الوسع ترتيب الحكم الشرعي أو الفتيا إلا بعد استكمال التصور للصورة المعنية بعينها، فعلى كل الأمر مطروح لكم ماذا ترون؟(6/1265)
الشيخ عبد الحليم الجندي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
الواقع أن الأسئلة التي توجهت من رجل القانون صحيحة، وإنما المطلوب أن نغير نحن الآن وجهة نظرنا في أن تستصحب تقاسيم الأموال وما إليه في هذه الردود. السهم هو جزء من الشركة أيا كانت طبيعة عملها، عقارية، بحرية، جوية..إلخ. والسهم لا يظهر صاحبه أمام الشركة إلا عند التصفية أو عند قبض الأرباح. الذي يحكم في الشركة إدارة وباقي التصرفات هو جمعيتها العمومية، عن طريق مجلس الإدارة، بعد أن يدير طول العام، قد يبيع الرجل سهمه ولا يباع العقار، فلسنا إذا طالبين، المتاعب العقارية لا تجد لنا، لا تجد لنا، أيضا الواجبات التي تجب على السفينة في البحر، بيع السفينة يجب أن يكون رسميا، لكن السهم وحده منقول يتحرك في السوق كإنسان مستقل يتحرك في السوق، فهذا فقط هو الذي يتحرك في السوق هو منقول وتنتهي صلة الرجل به إذا باعه عن طريق سمساره، وقد يبيعه وهو في اليابان ولا يراه، وقد يشتريه في اليابان ولا يراه، لأنه حق في الشركة، إذا فهمناها على أنه حق في الشركة في ذلك المشروع الخاص يسهل جدا أن نتعرض للباقي، فلا نطلب تسجيل بيع عقار لأنه لم يبع عقارا، ولا نطلب ما يجب للحيوانات من السلامة وما إليه لأنه صحيح أن بائع السهم لم يبع سلامة الحيوان وإنما باع سهما والباقي هي أعمال إدارة. هذا هو الأصل الذي يحل جميع هذه المشاكل. وأنا لي تجربة كنت رئيس مجلس إدارة شركتين ومدير واحدة، فالذي أتحدث عنه أنا رأيت أن أقوله لعله يغير من هذه المناقشات.
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أعتقد أن الصورة أو التصور لا يمكنه أن تتم كل أبعاده في هذه الجلسة، والمهم أن تذكر الصور بالتفصيل، وترجع على قواعدها وأحكامها، وهذا يحتاج على بحوث، وخصوصا أننا استلمنا بعض البحوث بالأمس حتى البحوث القانونية لم تستكمل لدينا بشكل كامل، وقضية السوق المالية قضية مهمة جدا ومعقدة فلا نستطيع في مثل هذه الجلسة أن نصل فيها إلى قرار مجمعي.
الدكتور عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
شكرا سيدي الرئيس. في الحقيقة عندما نتكلم عن سوق الأسهم وما فيها من تعقيدات وأساليب المضاربة القائمة على الأسهم وحماية المضارب الموجود (بالأبشن) أو الخيارات أو الاختيارات، كما سماها الدكتور منذر قحف، هذه كلها في الأبحاث المقدمة يمكن بحث واحد تعرض لها بنوع من التفصيل الموجز، ولكن واقع السوق أوسع بكثير من هذه الأبحاث التي عرضت. لذلك رأيي، سيادة الرئيس، أن تخصص ندوة خاصة أو حلقة خاصة لهذه الأوراق حتى يستطيع الفقيه أن يلم بجوانب الموضوع يمكن أن يكون هذا الرأي الأصوب.
الرئيس:
المهم حتى لا يطول البحث، يا مشايخ، هل ترون أن نستمر في الأسئلة أو ننتقل للسندات وتؤجل هذه إلى دورة قادمة وتوضع النقاط الرئيسية التي في إطارها يكون بحثها في الدورة الآتية؟(6/1266)
الرأي الثاني: أجمعتم عليه.
إذن ننتقل إلى السندات ... الأستاذ منذر تفضل.. أعطونا عرضكم عن السندات.
الدكتور منذر قحف: ثانيا: (السندات في المعاملات الوضعية) :
السند هو شهادة يتعهد بموجبها المصدر لحاملها بدفع قيمتها كاملة عند الاستحقاق. هذه النقطة مهمة، السند لا يذكر فيه، في العادة أبدا أن هذا قرض ولا يذكر فيه، كما ذكرت هنا الأوراق (أنه تصدر عند اقتراض) . هذه الكلمة في العادة لا تذكر، إلا أنها شهادة يتعهد بموجبها المصدر لحاملها بدفع قيمتها كاملة عند الاستحقاق. أما ماذا تمثل؟ هي تمثل قرضا، هكذا يعتبرها المصرفيون والاقتصاديون والقانونيون. وهي تمثل قروضا تحصل عليها هيئة أو مؤسسة عامة أو خاصة أو دولة من الجمهور. وهي تثبت مديونية المصدر لحامل تلك الوثيقة القابلة للتداول في الأسواق الثانوية، وتعهده برد القيمة الاسمية والتزامه بدفع فائدة على مبلغ القرض.
ولا تصدر السندات على أفراد لأهداف استهلاكية، هي دين ولكن الأفراد لا يصدرون سندات وليس من حقهم إصدار السندات، وإنما تصدرها الشركات لمشاريع استثمارية تدعم بها تمويلها الذاتي، أو الهيئات الحكومية لأهداف تدعيم إيراداتها وسداد العجز في ميزانياتها العادية أو الإنمائية.
وقد يكون السند اسميا أو لحامله كما قد يدعم برهن خاص أو بضمان طرف ثالث.
وتختلف السندات من حيث مدتها، فأقلها (90) يوما وربما تكون بتاريخ مفتوح تستمر في التداول حتى يستدعيها –أي يشتريها أو يطفئها- المصدر أو يشتريها من السوق والغالب فيها أن تكون مدتها عدة سنوات.
وتختلف من حيث طرق دفع الفائدة إلى المقرض، وهنا أريد أن أؤكد أن تعبير قرض استعمله بعض الكتاب هنا إلا إنه تعبير من الكتاب وليس من العادة أن يذكر على السند أنه قرض، وإنما هو تعهد بمبلغ معين في ذلك، مثل الكمبيالة المعروفة، وأهل الفن من مصرفيين وقانونيين واقتصاديين يتفقون على أنه يمثل دينا في الذمة من المصدر لحامل السند. فبعضها تدفع عليه الفائدة بصفة دورية حتى انتهاء مدته، وبعضها تحسب عليه الفائدة بصفة دورية، ولكنها لا تدفع إلا بعد انتهاء فترة معينة مثلا (10) سنوات وبعضها تدفع الفائدة عليه مرة واحدة.
وتختلف السندات من حيث طرق احتساب الفائدة فبعضها تكون الفائدة فيه نسبية، نسبة مئوية من القيمة الاسمية معروفة ومحددة في شهادة الإصدار تستحق في تواريخ محددة، وبعضها تكون الفائدة عليه غير محددة سلفا كنسبة ثابتة ولكنها تكون مرتبطة بمتغير مشهور معروف مثل مؤشر تكاليف المعيشة أو سعر الفائدة في الأسواق الدولية ما يسمونه (بالليبر) أو معدل النمو الاقتصادي في القطر، وربما لا تحسب الزيادة على القرض الذي يتضمنه السند بالصيغة المعهودة للفائدة، وإنما يباع السند بأقل من قيمته الاسمية، بحيث تكون قيمته الاسمية ألفا مثلا فيباع بـ 950 بتسعمائة وخمسين ويسدد المصدر في تاريخ الاستحقاق تلك القيمة الاسمية، هذه لا تدفع عليه فوائد دورية أبدا. وربما تستخدم الجوائز التي توزع بالقرعة كمكافأة لحامل السند.(6/1267)
وتختلف السندات من حيث شروط الإصدار فقد تكون تلك الشروط ثابتة لا تتغير طوال القرض أو مدة السند، وربما تكون قابلة للتغير عند تحقيق شروط معينة أو برغبة المقرض مثل أن تتحول الفائدة فيه من متغيرة إلى ثابتة، أو تتغير مدته بالزيادة أو النقصان أو يستبدل بأسهم عادية أو ممتازة. وقد يتبنى مصدر السندات بعض الإجراءات الإضافية لتشجيع الناس على إقراضه، التعهد لهم بحمايتهم من الانخفاض في القوة الشرائية للنقود، أو إعفاء الدخل المتحقق لهم من الضرائب في بعض أنواع سندات الدولة والهيئات العامة. وربما يضاف إلى السند شهادة تعهد يتعهد فيها المصدر أن يبيع لحامل السند خلال فترة محددة أوراقا مالية أخرى بسعر محدد. وأخيرا قد يصدر السند بقيمة إصدار تختلف عن قيمته الاسمية، فيصدر بعلاوة إصدار أو بخصم إصدار.
السندات من الوجهة الإسلامية:
أولا: عن السندات التي تعطي لأصحابها فوائد منسوبة لقيمتها الاسمية أو ترتب لهم نفعا مشروطا، سواء أكان جائزة أو مبلغا مقطوعا أو خصما هي محرمة شرعا، إصدارا وتداولا، باعتبارها قروضا ربوية ويدخل في ذلك السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قرضا يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية. السندات ذات الكوبون الصفري هو ذلك المثال الذي تصدر فيه القيمة الاسمية بـ 1000 فيباع بـ950 ويدفع المصدر 1000 عند الاستحقاق ولا تدفع عليه فوائد خلال المدة. ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها خصما لهذه السندات، كما يدخل في ذلك السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضا اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين لا على التعيين.
ثانيا: البدائل لهذه السندات إصدارا وتداولا، هي السندات أو الصكوك القائمة على أساس عقد المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين، بحيث لا يكون لمالكيها فائدة أو نفع مقطوع، وإنما يكون لهم نسبة شائعة من ربح هذا المشروع بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك، ولا ينالون هذا الربح إلا إذا تحقق فعلا، وذلك وفق الصيغة التي تم اعتمادها من مجمع الفقه الإسلامي لسندات أو صكوك المقارضة في دورته الرابعة.
ثالثا: وقد اقترحت مجموعة أخرى من السندات البديلة قائمة على عقود المشاركة والإجارة والسلم والاستصناع مما هو جدير بالدراسة والبحث. وتوصي الندوة بإعداد البحوث في هذه السندات البديلة لتعرض على مجمع الفقه الإسلامي ليتخذ فيها القرار المناسب.(6/1268)
رابعا: كما اقترح في الندوة بديل لسندات الخزينة قائم على أساس المشاركة في المشاريع العامة المنتجة للدخل، وفق إصدارات مخصصة لمختلف أنواع المشاريع، بما هو جدير بالدراسة والتمحيص من مجمع الفقه الإسلامي على ضوء ما بعد من بحوث ودراسات في ذلك.
الشيخ على السالوس:
قوله: (وربما تستخدم الجوائز التي توزع بالقرعة كمكافأة) ، هي ليست مكافأة هي مجموع الفوائد الربوية وزعت عن طريق القرعة. فكلمة مكافأة ليست دقيقة هنا للتعبير عن طبيعة الجوائز.
الرئيس:
على كل هذا للتصور وهو كلام اقتصاديين في تصورهم وليس كلام الفقهاء والعبرة بما ورد في 1و2و3و4.
الشيخ محمد على التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم:
أنا أريد أن يوضح لي السادة وجه الحرمة فيما لو كان السند يباع بقيمته الاسمية ويستلم أيضا بقيمته الاسمية. والذي يقدم عليه يقدم عليه لوعد تعده الشركة مصدرة السند بأنها سوف تقوم بتوزيع جوائز شريطة أن لا تكون الشركة حتى ملزمة بإقامة هذه الجوائز، يعني حتى الجوائز غير إلزامية لهذه الشركة، لكنها جوائز عالية والاحتمال هنا هو الذي يغري هذا الشخص بالإقدام على شراء هذا السند. إذن السند بقيمته الاسمية ويسترجع بقيمته الاسمية، فقط الإغراء الموجود هنا هو إغراء المكافأة الاحتمالية العالية بشكل جائزة. ما هو وجه الحرمة في ذلك؟
الشيخ محمد علي القري:
بسم الله الرحمن الرحيم:
لدي تعليق على البند الأول في السندات من الوجهة الإسلامية: أن يضاف إلى كلمة جائزة أو جوائز (توزع بالقرعة) . لأن هناك نوعا من الجوائز، فيه سندات توزع فيها الجوائز بالقرعة وفيه سندات توزع فيها الجوائز بغير القرعة، لكل مقرض جائزة قد تكون غير معروفة في ابتداء عملية إصدار السهم، ولكن كل مقرض يأخذ جائزة. فالأفضل أن يضاف هنا أو جائزة (توزع بالقرعة) .
الدكتور رفيق المصري:
ملاحظتي تتعلق برقم واحد، السطر ما قبل الأخير يقول: (يدخل في ذلك السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضا اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين لا على التعيين) .. الحقيقة ليست الشبهة هنا فقط تتعلق بالربا وإنما هناك أيضا شبهة القمار.(6/1269)
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
بسم الله الرحمن الرحيم:
المعروف عند الفقهاء أو عند المدرسة التي عشنا في أحضانها، وإن كنت أنا لست مالكيا –لأنه كما يقول الأصوليين: العامي لا مذهب له، لكن المدرسة التي عشت في أحضانها ينص فيها على أن كل زيادة أو نفع في القرض محرمة، سواء كانت عن شرط منصوص أو رأي أو عادة، كل زيادة أو نفع مشروط أو موعود أو معتاد محرم في تلك المدرسة التي تفيأت ظلالها.
الدكتور على السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم:
مسألة الجوائز هذه كيف تتكون؟ لو عرفنا من أين جاءت هذه الجوائز وطريقة التوزيع أمكن معرفة الحكم الشرعي. لأن البنوك عندما تدفع فوائد، الفوائد هذه محددة قانونا، ولا تستطيع البنوك أن تغير في هذه النسبة القانونية. ولذلك نجد عندما توزع الفوائد القانونية توزعها بالنسبة المحددة، فإذا لجأت إلى الجوائز، والجوائز سواء كانت في السندات أو غيرها، كما في البنوك التي بدأت تلجأ إلى الودائع ذات الجوائز، فحولت الفوائد السنوية إلى جوائز. كيف تفعل ذلك؟ تأتي بالفوائد كلها، يعني لو فرضنا مثلا أن الفوائد المتحصلة نتيجة عشرة في المائة 10 % للمبالغ المتجمعة لدى البنك هي مليون. فهذا المليون بدلا من أن توزعه على الجميع، وتعطي الكل 10 %، المليون يمكن أن يقسم على 100 بحيث تكون الجائزة الأولى 50 ألفا والجائزة الثانية كذا، وهكذا. إذن مجموع الفوائد المحددة قانونا يوزع بطريقة القرعة، أضرب مثلا توضيحيا، لو أن عشرة مثلا كان لهم كل واحد له 10 آلاف في بنك، واتفقوا فيما بينهم أن مجموع الفوائد يحصل، وبالقرعة يوزع على واحد فقط. هل يكون هذا حلالا؟! ولذلك الودائع ذات الجوائز فعلا كما أشار لذلك الدكتور رفيق المصري ليس فيها الربا فقط، وإنما فيها الربا والميسر معا.
مسألة أنه ليس ملتزما. لا، هو ملتزم، المعروف عرفا كالمشروط شرطا. وهو يعلن، والذي اشترى إنما اشترى لأنه يريد الجوائز، وإلا لكان يلجأ للفوائد المعروفة يعني لولا أنه يعلم أنه عن طريق اليانصيب يمكن أن يدفع جنيها ويأخذ خمسين ألفا، لما قبل أن يشتري هذا النوع من الودائع ذات الجوائز. ولذلك الإخوة الذين كتبوا بيان التحريم كانوا دقيقين في التعريف، وأرجو أن تكون الصورة واضحة حتى يكون التحريم واضحا.
الدكتور عبد اللطيف الجناحي
بسم الله الرحمن الرحيم:
أنا أود أن يكون التركيز على عملية نشأة السندات يعني لم نأت للنتيجة الجائزة، وإنما عملية النشأة كيف تمت؟ هل المنبت حلال أو المنبت حرام؟ والتعبير ورد في البداية (السند هو وثيقة دين) فالحوار يدور على أنه وثيقة دين، مبلغ مقترض قد يكون لجأ إليه الشخص لأنه عجز أن يحصل عليه من البنوك فأراد أن يحصل عليه بوسائل أخرى.(6/1270)
الدكتور الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم:
تكلم الدكتور على السالوس عن بعض ما كنت أريد أن أقوله وإنني أؤيده في كل كلمة قالها، والبعض الآخر هو الرد على سؤال أو اعتراض الشيخ محمد علي التسخيري وهو اعتراض غير وارد في رأيي لأنه ليس موضوعنا. الموضوع عن السندات المعروفة الآن، والسندات يلتزم مصدرها بفائدة. ولكن الشيخ التسخيري يتحدث عن سندات لا يلتزم مصدرها بفائدة، ويقول: إنه يوفيها كما هي، ولكنه يعطي جائزة. هذا ما فهمته من كلامه، فهو في موضوع آخر غير موضوع السندات التي نتحدث عنها ولذلك أظن أن الجواب عنه غير لازم.
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم:
الحقيقة أنا أريد أن أقول بالنسبة لمسألة الجوائز، التفريق، إذا كان لهذا التفريق من مدلول شرعي، ينبغي أن يلحظ أن هناك أنواعا من السندات تعطي جائزة لكل حامل سند وليس لبعضهم. فهي بقرعة أو بغير قرعة، إلا أنها لكل حامل قد يتفاوت في القرعة مقدار ما يعطي لكل حامل. وهناك أنواع من الإصدارات يعطى للبعض، فيقال: يعطي 50 % أو 70 % من حاملي السندات، جوائز، والباقون لا يأخذون شيئا. فإن كان لهذا التمييز من فارق.
النقطة الثانية أنا لا أعرف قوانين تلزم الشركات أو الهيئات المصدرة للسندات أن تدفع لها فوائد. أنا لا أعرف هذا. فالدكتور على السالوس ذكر بأن القوانين تلزم بأن تدفع فائدة ولو ألزمت بعض القوانين بدفع الفوائد لبعض أنواع الإيداعات، مثل القانون الأمريكي الذي يلزم بدفع الفوائد للإيداعات طويلة الأجل أو الإيداعات الادخارية ما عدا الإيداعات تحت الطلب، فالقانون نفسه لا يلزم بمقدار هذه الفوائد، يعني لا يقول: 10 % أو 5 % أو أي مقدار فالأمر متروك للهيئة المصدرة.
الشيخ الدكتور الصديق الضرير:
يعني قانونا أو في اصطلاح الاقتصاديين، لا يلزم مصدره بفائدة؟
الدكتور منذر قحف:
يعني بالسندات الموجودة، التي أنا أعرفها، الموجودة في الأسواق، كلها فيها فوائد محددة مسبقا، أو شبه محددة مسبقا مربوطة بمؤشر، أما القانون الإيراني فقد سمح بذلك.(6/1271)
الدكتور أنس الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم:
ملاحظتي تتصل بالبند رقم (1) في الجزء الأول من هذا البند (محرمة شرعا إصدارا وتداولا باعتبارها قروضا ربوية) ، الحقيقة ينبغي أن تضاف عبارة إيضاحية، أظن لا اختلاف في أنها مقصودة ولكن من الخير أن يصرح بها، وهي عبارة (سواء أكانت الجهة المصدرة للسند خاصة أو عامة ترتبط بالدولة) ، هذا واضح مما تقدم من كلام، ولكن من الخير أن يذكر هنا حتى لا يكون أي التباس في الموضوع. لا نقول (حكومية) لأنه أحيانا هناك جهات ترتبط بالدولة ولا تعد جهات حكومية بالمعنى الضيق، مثل شركة تملكها الدولة أو مرفق عام. والأمر الآخر هناك وهم شائع، لدى ربما غير الاقتصاديين، بأن الدولة عندما تقترض فلعل دفعها للفوائد يكون أقل ضررا مما لو حصل الاقتراض فيما بين الأفراد ودفعوا فيما بينهم الربا. الحقيقة الاقتصادية هي عكس ذلك، إذا كان الربا محرما بين الأفراد، وهو بالطبع محرم، فإن ضرر الربا عندما تتلبس به الدولة أكبر بكثير وباختصار أقول:
1- إن الربا بين الأفراد لا يتعدى ضرره المباشر الفردين الذين يمارسانه، أما ربا الدولة فإنه يتعدى أثره لجميع المواطنين حتى الذين لا يشاركون في أي عملية ربوية، لأن الدولة إنما أموالها هي جيوب رعاياها، فهي عندما تقترض بالفائدة وتلتزم بسداد الفوائد، تلزم بطريق غير مباشر كل مواطن من مواطنيها أن يدفع الفوائد وأن يأكل الربا هذا من ناحية.
2- إن المؤكد في العالم اليوم، انتشار الاقتراض من قبل الدول على نطاق واسع، على نحو يتزايد باضطراد ويؤدي –كأحد الأسباب الجوهرية- إلى مشكلات اقتصادية مستعصية. وأذكر على سبيل المثال قضية واحدة، أكثر ديون الدول النامية، التي تسمعون عنها اليوم، ما كان يمكن أن تصل الأزمة إلى هذه الشدة في وقتها الحاضر لو كان اقتراض الدولة بفائدة، واضح أنه ممنوع، أن هذا المنع ملتزم به، بالطبع أكثر الدول ليست مسلمة أصلا فلا تلتزم هذا المنع، بعبارة أخرى إن وجود إمكانية اقتراض الدولة بفائدة يشجعها على أن تنفق أكثر من مواردها المتاحة، وتنقل أعباء أعمالها إلى حكومات مقبلة ولأجيال مقبلة، ويطول شرح الأضرار والمشكلات المستعصية التي تنشأ عن ذلك. فاقتراض الدولة يولد نوعا من الإدمان الاقتصادي، مثل إدمان المخدرات تماما، فكلما لزم الاقتراض يسدد الاقتراض السابق. وخلاصة ما أريد أن أقوله بأن اقتراض الدولة بالربا هو إذا كان الربا بين الأفراد محرما – وهو بالطبع محرم- فإن اقتراض الدولة أشد خطرا وأوسع ضررا من ربا الأفراد.(6/1272)
الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم:
التكييف الفقهي بالنسبة للسندات واضح جدا بأنه من القروض وليس من الديون. فحبذا لو في رقم (1) أن يقال: (إن السندات قروض اشترط فيها نفع) يكون ذلك في مقابل كلمة (السند وثيقة دين) فالفرق بين القرض والدين واضح جدا عند الفقهاء. وتكييف الفقهاء للسندات أنها من قبيل القرض لا من قبيل الديون.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أعتقد أنا بالنسبة (للسندات في المعاملات الوضعية) ، لا نتدخل في هذا، باعتبار أن هذا وصف لواقع يقدمه أصحاب هذه السندات الوضعية. عندنا قسم ثان وهو السندات من الوجهة الإسلامية (1، 2، 3) ندخل في واحد فما هي النواحي الموجودة في (1) التي لا نوافق عليها؟ فأعتقد أن ما جاء في (1) ما سمعت لحد الآن اعتراضا.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
السؤال الوارد: رقم (1) هل لأحد من اعتراض عليه؟
الشيخ محمد المختار السلامي:
ثانيا أنه (أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين لا على التعيين) فإن التعبير (إما للمقرضين أو لبعضهم لا على التعيين) يكون أدق، حسبما سمعت من أخينا أنه قد تكون الجائزة للجميع. وبهذا يصبح في نظري التكييف فيها سليما جدا، ولا اعتراض عليه، إلا ما جاء من الشيخ علي.
الشيخ عبد الله إبراهيم:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أريد أن أسال عن عبارة في الرقم (1) عندما قال التقرير: (كما يدخل في ذلك السندات ذات الجوائز) أظن كلمة (السندات) هي (شهادات ذات الجوائز) ألا يصح ذلك؟ لأن هناك شهادات ادخار ذات جوائز، لأننا قد ذكرنا سندات ذات جوائز في السطر الثاني، ترتب نفعا مشروطا سواء أكان مبلغا جائزة مقطوعا أو خصما، لأننا قد أدخلنا سندات ذات الجوائز في هذه الفقرة فلذلك أظن أنه يدخل فيها شهادات ذات الجوائز.(6/1273)
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
على كل هناك تعديلات موجودة الآن عند الدكتور عبد الستار.
الشيخ محمد على التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أنا بالدقة قلت: (سند) ، أنا أوافق أن كل هذه أمور ربوية، لكن هناك سند لا يعود بفائدة محددة. الشيخ الصديق الضرير قال: لا يجري. أقول له: يجري وبقانون قائم في إيران مشرع بأن هذا السند يجري بلا فائدة مطلقا، ولا تكون الشركة المصدرة حتى ملزمة بإجراء الجوائز، حتى هذا الإلزام غير موجود. هذا هو الموضع، وبقى إشكال واحد وهو مسألة الميسر، أرجو أن يلاحظ أستاذنا الشيخ السالوس: الميسر عملية لهو لا يقصد منها شيء، عملية غير عقلانية، وعملية لهو، لا أثر لها ثم تعود بنفع أو خسارة هنا عملية عقلانية اقتصادية نتصور لها نفعا، حينئذ لا يمكن أن ندخلها تحت الميسر بهذه السهولة، يعني ليس الأمر يسيرا حتى ندخلها كذلك تحت الميسر، فإذا سؤالي المحدد: سند يعود بنفس اسمه بلا أية فائدة، وهناك إغراء لاحتمال أن تقوم الشركة بإعطاء جوائز مغرية، احتمال فقط، حتى الشركة غير ملزمة بذلك، لا أن يأتي احتمال أن هناك أرباحا مسلمة أو فوائد مسلمة لكل المشتركين، هذا كله أرفضه، أقول بهذه الدقة ما المانع من ذلك؟ عسى أن نصل إلى بديل مشروع نطهر هذه الأسواق منها.
الدكتور بكر بن عبد لله أبو زيد:
المهم تعيين بعد إجماع.
الشيخ على التسخيري:
ليس إجماعا.
الرئيس:
بعد اتفاق أكثريتنا تنازل، المهم نرفع الجلسة حتى الحادية عشرة وخمس دقائق ثم نعود إن شاء الله ثانية.
الدكتور منذر قحف:
البدائل لهذه السندات إصدارا وتداولا:
الدكتور علي السالوس:
توضيح، قلت: المعروف عرفا كالمشروط شرطا. وتحدثت أن مسألة الجوائز هذه بدأت تدخل في ودائع البنوك، والبنوك مقيدة بالقانون، ولذلك الفوائد مقننة، ولهذا فالجوائز في حدود الفوائد المحددة لتلك البنوك. والميسر هنا ليس برأس المال، وإنما الميسر هنا بالربا، بالزيادة الربوية، ولذلك المثل الذي ضربته: لو أن عشرة أودعوا في بنك والفوائد أخذوها ووزعوها بطريقة القمار، هل يكون هذا حلالا؟ أو المعنى الآخر أن الربا لو وزعناه بطريقة الميسر أو لو أضفنا الميسر إلى الربا هل يصبح الربا هذا حلالا؟ يعني هذا المزيج بين الربا والميسر هل يصبح حلالا؟ الأمر الآخر الذي أريده في رقم (1) أن المجمع يمثل العالم الإسلامي كله، وهو يتحدث عن قواعد عامة، ولكن في العالم الإسلامي هناك أشياء معروفة ومشهورة، فلماذا لا يشير إليها وينص عليها؟ يعني لماذا يترك السندات؟ هذا كقاعدة عامة دون ذكر لما هو قائم فعلا، فيعرف المسلمين بأن هذه الأشياء التي لا تسمى باسم السندات هي من هذه السندات، والمجمع يرى أنها محرمة هذا ما أريده.(6/1274)
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم:
ثانيا: البدائل لهذه السندات إصدارا وتداولا: السندات أو الصكوك القائمة على أساس عقد المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين بحيث لا يكون لمالكها فائدة أو نفع مقطوع، وإنما يكون لهم نسبة شائعة من ربح هذا المشروع بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك، ولا ينالون هذا الربح إلا إذا تحقق فعلا، وذلك وفق الصيغة التي تم اعتمادها من مجمع الفقه الإسلامي لسندات أو صكوك المقارضة في دورته الرابعة.
الشيخ محمد علي القري:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أحب أن أضيف بديلا لهذه البدائل، أيضا، وإن كان مستبعدا في زمننا الحاضر ولكنه من الناحية النظرية ممكن، وهو السند الذي لا يدفع عليه أي شيء في المجتمع الإسلامي الذي يتوفر في أفراده الرغبة في التكافل والتعاون، ربما يكون لديهم حافز الإقراض الحكومة بسندات على سبيل المثال بدون أي عائد، وهذا أمر ممكن ولم يجرب ولكن أنا أرجح أنه لو جرب لنجح.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
المهم هل من اعتراض على هذه الفقرة؟
الدكتور محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أود أن أعرف هل يمكن أن ندرس ما طرحته كبديل؟ اعتبارا أن المهم في الأمر هو الشرط والاشتراط، وما قلته لا يشمل الاشتراط بأي حال من الأحوال، فلا الجائزة مشترطة، ولا حتى إجراء القرعة مشترط، فحينئذ فمجرد احتمال يحتمله الذي يدفع المبلغ أنه سوف يحصل على جائزة في ذلك، إذا لاحظنا مسألة استحباب حبوة المدين للدائن عند الدفع بدفع مبلغ معين، لدى الكثير من الفقهاء نجد أن هذا الأمر يشكل بديلا صالحا فيه الإغراء الاقتصادي وفيه البعد الكامل عن الصورة الربوية.
الشيخ الأمين:
بسم الله الرحمن الرحيم:
ما طرحه الشيخ محمد علي التسخيري الحقيقة الإنسان يكون في نفسه منه شيء، من ناحية إجازته الشرعية، لأن هذه الجائزة وإن لم تكن ملتزمة ولا معلنة رسميا من الجهة التي تصدر هذه السندات، إلا أنها أمر مفهوم عموما، ومتفق عليه، وإن كان تنفيذه احتماليا. وهو بهذه الصورة لاشك يمثل دافعا وإغراء لهذه السندات، وهو يمثل فعلا إغراء نفعيا، وفيما يبدو لي أنه بهذه الصورة يدخل الأمر في القرض الذي يجر نفعا، ويكون من هذه الزاوية غير مشروع.(6/1275)
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أرى أن المادة الثالثة التي بين أيدينا سوف تتناول البدائل للسندات المعروضة. ولا مانع من بحث أي شكل من أشكال البدائل التي يتقدم بها فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري أو غيره، ولكن هذا سيكون موضوع ندوة خاصة هي التي وقع اقتراحها هنا فأرجو أن لا نطيل، إذا كنتم توافقونني على هذا، وهو أن البند الثالث والبند الرابع، يقترحان عقد ندوات، وقد طلبنا من المقرر العام أن يضع هذه المقترحات في قائمة الندوات حتى تبحث في الإبان وبهذا نخلص مما نحن فيه وننتقل إلى ما وراءه.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
الفقرة الثانية هل من اعتراض عليها؟ الحقيقة يبقى نقطة واحدة هل من الضرورة أو تمشي؟ يعني التنصيص على أن المعاملة هنا تجري تحت المخاطرة بالربح أو الخسارة، أو يكفي مقتض عقد المضاربة؟ كاف بالإجماع.
الدكتور منذر قحف:
ثالثا: وقد اقترحت مجموعة أخرى من السندات البديلة قائمة على عقود المشاركة والإجارة والسلم والاستثمار، مما هو جدير بالبحث والدراسة، وتوصي الندوة بإعداد بحوث في هذه السندات البديلة لتعرض على مجمع الفقه الإسلامي ليتخذ فيها القرار المناسب.
الشيخ محمد تقي العثماني:
مادمنا قد اتفقنا على تحويل هذه الموضوعات والبدائل إلى الندوة، ولكن ينبغي لنا أن نصرح فيها بهذه البدائل التي أتى بها الإخوة كاقتراح، لتدرس في تلك الندوة.
الرئيس:
الصياغة ستضيف ما ذكره الإخوان..(6/1276)
الشيخ محمد تقي العثماني:
أرجو أن تقوم مقام المقرر حتى يعود، وأن تدون هذه الأشياء.
الدكتور منذر قحف:
رابعا: كما اقترح في الندوة بديل لسندات الخزينة قائم على أساس المشاركة في المشاريع العامة المنتجة للدخل، وفق إصدارات مخصصة لمختلف أنواع المشاريع بما هو جدير بالدراسة والتمحيص من مجمع الفقه الإسلامي على ضوء ما يعد من بحوث ودراسات في ذلك.
الدكتور رفيق المصري:
أنا لي تعليق على (4) بإيجاز. شديد. يقول البند هذا: كما اقترح في الندوة بديلا لسندات الخزينة قائما على أساس المشاركة في المشاريع العامة، أنا أرجو أن يلحظ الأساتذة الكرام هنا أن هذا البديل يحتاج إلى بيان، فيما يتعلق بنقطة دقيقة، وهي أن المشاركة في المشاريع العامة تقلب هذه المشاريع العامة إلى مشاريع خاصة أو مختلطة، كما يسمى (قطاع عام مختلط) (خاص وحكومي) هذا ما أردت أن أبين في هذه الفقرة.
الدكتور منذر قحف:
ثالثا: الاختيارات في المعاملات الوضعية: هي عقود ينتج عنها أدوات مالية تتداول في الأسواق، وينخرط فيها المستثمرون في البورصات لأهداف متعددة، أهمها حماية أنفسهم من خطر الانخفاض في العائد من الاستثمار، أو الاستفادة من توقعاتهم لزيادة تلك العوائد. والغالب تعلق الاختيارات بالأوراق المالية، ولكن الصيغة موجودة في أنواع كثيرة من الأسواق – بمعنى أنها موجودة في السلع والعملات والمؤشرات وغير ذلك – والاختيار يمثل حقا يتمتع به المشتري، والتزاما يقدمه البائع. فيدفع الأول الثمن مقابل تمتعه بذلك الحق، ويقبض الآخر الثمن مقابل تعهده والتزامه. وينتج عنها أداة قابلة للبيع والتداول. واختيار الطلب أو الاستدعاء يعطي مشتريه حق شراء أسهم، أو أي شيء آخر، بسعر محدد خلال فترة محددة. ويلتزم بائع هذا الاختيار ببيع تلك الأسهم عند طلب المشتري، خلال الفترة المتفق عليها، واختيار الدفع أو البيع يعطي مشتريه حق بيع أسهم، أو أي شيء آخر، بسعر محدد خلاف فترة محددة، ويلتزم بائعه بشراء تلك الأسهم بالسعر المتفق عليه خلال تلك الفترة، ويضمن وفاء الأطراف بالتزاماتهم جهة ثالثة هي غرفة المقاصة أو السمسار أو إدارة السوق. وتصدر تلك الأدوات على صفة نمطية تتشابه في كل شيء عدا سعرها الذي يتحدد بواسطة قوى العرض والطلب. ومحل العقد فيها ذلك الحق وليس الأسهم والسلع. وقد يكون المتعهد بالبيع مالكا للأسهم عند انعقاد الاختيار، والغالب أن لا يكون. وقد يكون صاحب حق البيع مالكا للأسهم عند انعقاد الاختيار، والغالب ألا يكون. وكثيرا ما يشتري المستثمر اختيارات متعارضة يلغي بعضها بعضا عند نهاية مدتها، أو يقلل بعضها من المخاطرة المتضمنة في البعض الآخر. وربما يرتبط عقد الاختيار بعقد آخر، مثل أن يكون شرطا في بيع أو إيجار. والباعث على شراء الاختيار هو الرغبة في تقليل المخاطر أو الاستفادة من التوقعات. ولذلك لا يمارس صاحب الحق الاختيار إلا إذا تحقق ما توقع. وقد توسع العمل بتلك الأدوات حتى شمل العملات الأجنبية والمؤشرات.(6/1277)
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
في الواقع أنا بالنسبة لي – فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه لم أتصور هذه المعاملة بأي وجه، على الرغم من أنني – والحق يقال، لأن الحكم فرع التصور، والمسألة ذمة دين- قرأتها في الذين تعرضوا لها وأعدت قراءتها وحصل تداول مع بعض الإخوان، ثم اختلفا فيما بيننا في المراد، مما يدل على أن القضية فيها شيء من التعقيد في نظري.
الدكتور عبد اللطيف الجناحي:
العرض جيد، لكن في البداية قال: (هي عقود ينتج عنها أدوات مالية) كلام سليم: تتداول في الأسواق وينخرط فيها المستثمرون (أنا أسميهم المجازفون) ولا أسميهم (المستثمرون) حتى لا يلتبس في الفهم.
الدكتور على السالوس:
ولكن أريد: (لا المجازفون ولا المستثمرون) بل (المقامرون) لأنهم فعلا هم مقامرون.
الدكتور منذر قحف:
أنا أرى أن هذا من وجهة النظر الإسلامية، أما في التصور الوضعي فهم المستثمرون.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
نعم هذا التصور وضعي لكن ما أتى الحكم حتى الآن ... المهم في قضية التصور هل هو مفهوم لديكم حتى ننتقل إلى البديل الشرعي؟ أم تريدون زيادة في توضيحها؟ يا أستاذ منذر: لو ربطها بأشخاص.. كزيد أو عمرو، أو مؤسسة كذا أو شركة كذا لنعرف كيف نحولها؟
الدكتور منذر قحف:
نأخذ شكلها البسيط.. الشكل البسيط طرفان.. أحدهما يتعهد للآخر بأنه ملتزم بأن بيعه إن اختار الآخر هذا البيع خلال فترة محددة، وقد يكون في وقت محدد أيضا.. والشائع خلال وقت، خلال ثلاثة اشهر زيد يقول لعمرو أنا ألتزم بأن أبيعك عشرة أسهم من شركة كذا بسعر كذا، عمرو يدفع لقاء هذا الالتزام مائة ريال، وهي مملوكة لزيد وهذا عقد نهائي بات، خلال هذه الأشهر الثلاثة عمرو يحق له أن يشتري في أي وقت أراد، هذه الكمية من الأسهم بذلك السعر، ويشتريها بالسعر الذي اتفق عليه، 100 سهم بسعر 1000 ريال، خلال هذه الفترة. إذا انقضت الفترة سقط هذا الاختيار، وله أن يمارسه أو ألا يمارسه هو. هو يمارسه إذا ارتفع السعر أكثر من ذلك فيمارس هذا الحق، هذه حالة، والحالة الثانية: هي أن نعكس التعهد، أن يكون التعهد من المشتري: أنا ألتزم بشراء عشرة اسهم بسعر السهم 1000 ريال، خلال ثلاثة أشهر، ويأتي الطرف الآخر، زيد، فهو الذي يختار أن يبيعني هذه الأسهم. فعند ذلك هو الذي يدفع لي، الذي يلتزم هو الذي يحصل على ثمن الاختيار والذي يحصل على حق الاختيار بأن يمارسه أو لا يمارسه، حسب رغبته، هو الذي يدفع ثمن حق الاختيار. وهذا الثمن ليس جزءا من القيمة، إذا أنفذ الاختيار، فلو تم شراء الأسهم العشرة، ما دفع ليس جزءا، من القيمة ولا علاقة له بهذه القيمة ... الآن لو لأمر ما وحسب تغيرات الأسعار بالسوق، أنا عندي حق بالاختيار، والآخر عنده التزام بأن يبيع، هو يستطيع أن يعطي نفسه بأن يشتري مقابل ذلك- لو تغير السعر في عكس مصلحته- بأن يشتري خيارا معاكسا لالتزامه، أن يشتري خيارا بأن المشتري، هو ملتزم بأن يبيع يشتري خيارا بأن يشتري.(6/1278)
فعند ذلك يستطيع أن يغطي نفسه بهذه العملية. فلو مارست أنا حقي بالاختيار تجاهه سيمارس هو التزامه بالبيع، بممارسة حقه بالاختيار تجاه طرف آخر، فيعطي نفسه بهذا ... الآن نقطة أخيرة مهمة، هذه العقود لا تتم بين طرفين في العادة، هناك طرفان، (هذه نقطة مهمة جدا في العقود كلها في البورصات) ، هناك طرفان فعلا لا ينعقد العقد إلا إذا وجد طرفان، إلا أن عقد كل طرف يكون مع إدارة الصندوق وليس مع الطرف الآخر، فأنا بالنسبة لي لما أشتري خيارا، أو أبيع خيارا، أنا بالنسبة لي الطرف الآخر مجهول جهالة تامة، لا أعرفه ولا علاقة لي به، علاقتي مع الوسيط الذي اشترى لي أو باع لي، ويعطيني عقدا هذا العقد هو صادر عن إدارة الصندوق، تقول بأن لي الحق في شراء كذا، كما أنها تصدر للآخر بأن عليه التزاما، لقاء ما أخذه من مال، أن عليه التزاما ببيع كذا. لكن لا اسمه يظهر في مال يعطي لي من وثيقة، ولا اسمي يظهر فيما يعطي له من وثيقة، لأنه عند التصفية، طالما أنه لا ينعقد عقد فيه اختيار، والحقيقة أو أي عقد آخر، إلا بوجود طرفين، هناك طرفان لكل عقد، فعند تصفية أي من هذه العقود سيبقى هنالك دائما طرفان، العقود التي تمارس ولم تسقط أو لم يشر مقابلها لتصل إلى التنفيذ، تنفيذ الاختيار، هذه هي العقود التي لها ما يقابل دائما، مثل المحاسبة المزدوجة، كل طرف له طرف مقابل، فكل بائع لتعهد هناك مقابل اختيار له، مشتر لهذا الاختيار. فعند ذلك العقود التي تبقى غير متقابلة في الفترة الأخيرة، التي يطرأ عليها التنفيذ، لها دائما ما يقابلها، وعند ذلك سيعرف الشخص الذي سيقابل ذلك الالتزام، ليس الشخص الأول زيد وعمرو، لأن هويات زيد وعمرو، مختفية عن التعامل وهذا نفسه فيما سيأتي من معاملات بالسلع.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم:
المتتبع لصفحة 11 التي تفضل بها الدكتور منذر قحف يقول (إن محل العقد هو التزام أو مجرد التزام) فهل مجرد التزام يصلح لأن يكون محلا للعقد؟ وما هو الالتزام؟ هل هو شيء مثمن حتى يصلح أن يكون محلا للعقد؟ شيء آخر، في الواقع أنني لا أرى في هذه المسألة سوى أنها نوع من المقامرة وفيها غرر وفيها جهالة، فلا يصلح أن يكون بديلا للمسألة التي ذكرها القانونيين.
الشيخ الدكتور علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أعتقد أن هناك صورة ثالثة، وهي أن يقول: مثلا أنه يبيع بـ 90 أو يشتري بـ 100. فإذا كان السهم أكثر من 100 يشتري، وإذا كان أقل من 90 يبيع، وإذا كان بين 90 و 100 ينظر إلى الخيار وإلى الأرباح، يعني مثلا 92 أو 93 في هذه الحال ما بين 90 و100 فلا بد أن يخسر سواء باع أو اشترى. فهل هذه الحالة الثالثة مقصودة أو غير مقصودة.(6/1279)
الدكتور منذر قحف:
ما أعرفه أن هذه المعاملة مركبة من خيارين، وليست عقدا واحدا. وقد يكون الدكتور محمد علي القري عنده شيء أدق مما أعرف.
الشيخ الدكتور عبد اللطيف الجناحي:
حتى تستكمل الصورة، الدكتور منذر لم يتعرض لما يسمى (بالبِنْيُمْ) سواء بالبيع أو حق الاختيار، لما اشتراه، دفع الـ 12 أو 10، ما مصيره؟ هذا يحتاج إلى توضيح، يا دكتور منذر، حتى تكتمل الصورة للفقهاء.
الدكتور منذر قحف:
هو ثمن بات دفع لقاء هذا الحق وانتهى. يأخذه من التزم سواء بالبيع أو الشراء، وهو نصيبه ربح له.
الدكتور عبد اللطيف الجناحي:
إذا لم يمارس ضاع عليه.
الدكتور منذر قحف:
نعم، انتهى عند العقد هو ثمن هذا الالتزام.
الشيخ محمد علي القري:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أحب أن أضيف على ما ذكره الأخ الدكتور منذر في وصفه وتصويره لموضوع الخيارات والاختيارات بعض الأمور إذا سمحتم لي.
أولا: ما هو الباعث على شراء الاختيار من قبل الناس المتعاملين في السوق؟ الباعث الرئيسي هو الاستفادة من التوقعات، فإن الرجل يشتري الخيار إذا توقع أن تغيرا في الأسعار سيحدث في المستقبل، ويريد أن يستفيد من هذا التوقع. أما الأسهم والسندات والسلع فإنها ليست ذات أهمية كبيرة في موضوع الخيارات. فالمعاملة تقع على التغيرات في أسعارها، فبائعو الخيار ومشتروه لا يلزم في هذه العقود أن يكونوا مالكين للأسهم أو للسندات أو للسلع، لا في وقت إجراء العقد ولا في نهايته. وفي كثير من الأحيان تصفى العقود بدون اللجوء إلى تبادل الأسهم أو السندات أو السلع أو ما إلى ذلك. إذا الباعث هو الاستفادة من التوقعات، فأنا أتوقع بأن الأسعار سترتفع لشركة معينة أو لقطاع معين أو للأسهم بشكل عام، وأريد أن أستفيد من هذا التوقع، فلذلك أقول، إذا كان توقعي أن الأسعار سوف تنخفض، فأبيع أو أشتري حتى أستفيد من هذا التوقع، والملتزم بالخيار هو الذي يقبض الثمن، في محصلة الأمر هو يلتزم بشراء أسهم، ولكنه في كثير من الأحيان لا يفعل.(6/1280)
وإنما يدفع الفرق بين السعر المتفق عليه للسهم والسعر الذي يسود عند انتهاء العقد، فإذا ما يحصل عليه من دفع ثمن هذا الخيار هو الفرق بين السعرين في أغلب الأحوال، هذه الخيارات في بعض صورها تكون مماثلة تماما للقمار، وهذه عندما تكون على المؤشرات، فيوجد في الولايات المتحدة علي سبيل المثال خيارات على مؤشر تكاليف المعيشة، ومؤشر تكاليف المعيشة ليس له حقيقة وإنما هو رقم تصدره الحكومة في أوقات محددة تبين فيه انخفاض أو ارتفاع الأسعار، فيتعامل في هذا المؤشر بيعا وشراء بالخيارات، بمعنى أني أتوقع أن تكاليف المعيشة ستنخفض وأريد أن استفيد من توقعي هذا، فأدخل بائعا أو مشتريا لخيارات، وهناك آخرون يتوقعون أنه لن ينخفض بل سيرتفع فيريدون أن يستفيدوا من هذا. فإذا من المهم جدا، لتصور هذه المسألة، أن يكون واضحا في أذهاننا أنها واقعة على هذا الحق أو الالتزام، وليس على السلعة التي ينتهي العقد-ربما احتمالا- بشرائها أو بيعها. فإذن هذا الحق أو الالتزام، الحق يقدمه من يدفع الثمن والالتزام يقدمه من يقبض الثمن، هذا هو العقد، الأشياء الأخرى هي لاحقة، وليست متصلة اتصالا تاما بهذا العقد، فالحكم إذا والذي يحتاج إلى نظر هو هذا العقد.
الشيخ عبد الكريم اللاحم:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله.
الذي أريد أن أعبر عنه فهمي للعرض، فالذي تصورته من العرض أنه يجمع عدة نقاط: الأولى بيع العربون لأن الملتزم يدفع له مبلغ لا يرجع حين عدم الإقدام علي الصفقة، وهذا يشبه بيع العربون. والنقطة الثانية: التصرف بما التزم به قبل قبضه يدخل تحت بيع ما لم يقبض , والنقطة الثالثة: ما أشير إليه في العرض وهو أن الأسهم الملتزم بها قد لا تكون داخلة في ملك الملتزم، وإذا كان كذلك فإنه ينطبق عليه قاعدة ما ليس عند البائع، فإذا كان هذا تصوري فإنه ممكن أن يبحث في الحكم عليه من خلال هذه النقاط الثلاث.
الدكتور أنس الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحقيقة أن هذه الموضوعات فيها كثير من التعقيدات والتفصيلات. لهذا يبدو لي من الضروري أن نبني جسرا بين الفقه وبن هذه القضايا، فأنا أحاول في ملاحظاتي الموجزة أن أبني مثل هذا الجسر البسيط، نأخذ حالة بسيطة من حالات بيع الخيار، وأظن أن أساتذتنا الفقهاء سيرون شبهة بما هو عندهم، إذا كان لدي – على سبيل التبسيط- مقدار من سلعة لنقل سلعة مثلية، عندي 10 أطنان من القمح، هناك طريقة أن أبيعها مباشرة لمن يريد شراءها، وهذا هو البيع العادي، وهناك طريقة أن أبيعها سلما، وهذا أيضا معروف، أقول: إني آخذ المبلغ الآن واسلم السلعة فيما بعد.(6/1281)
الآن طريقة بيع الخيارات هذه تختلف عن البيع العادي وعن بيع السلم بالشكل التالي، يأتي إنسان يقول: أنا لست متأكدا أني أريد أن أشتري منك هذا القمح. ولكن أنا يحتمل أن أحتاج إليه خلال الشهرين القادمين، فهل ترضى أن توجب لدي تعطيني إيجابا من طرفك بأنك مستعد أن تبيعني هذا القمح خلال فترة شهرين إذا أنا قبلت، إذا مارست القبول خلال هذين الشهرين آخذه منك بثمن كذا؟ هو لا يأخذ القمح الآن ولكنه يأخذ مني ... يعني يشتري مني إيجابا، والآن يدفع لي مقابل هذا الإيجاب يدفع لي ثمنا مقطوعا لهذا الإيجاب وليس للقمح نفسه. فالقمح ربما الطن منه بألف ريال هو حتى يشتري مني استعدادي لبيعه بالتفصيل الذي ذكره من خلال شهرين إذا أراد ذلك بثمن كذا، حتى يشتري مني إيجابي هذا يدفع لي مبلغا مقطوعا، يقول لي أعطيتك مثلا 10 ريالات على الطن، فأنا إذا أتى إلي زيد ودفع لي 10 ريالات وأعطيته مقابله تعهدا بأنه إذا شاء أن يشتري هذا القمح خلال شهرين فسأبيعه الطن بألف (1000) ريال. ذهب زيد، أتاني بعد يوم عمرو، أنا لدي السلعة – نضع الحالة البسيطة- أتى عمرو، وهو أيضا يطلب شراء اختيار مني، يشتري مني أيضا إيجابا ببيع قمح له بكذا، آخذ من الأول أخذت 10 ريالات مقابل كل طن تعهدت أو بعت إيجابا لبيعه، أتى عمرو أبيعه أيضا إيجابا آخر، وزيد وهكذا، فإذا السلعة التي لدي والتي يمكن أن أمارس عليها حق البيع المعتاد أو عقد البيع المعتاد، أبيع إيجابات كثيرة ترتبط بهذه السلعة لعدد من الناس، كل منهم يشتري مني إيجابا بمبلغ زهيد، فهو ممكن أن تسموه، أشبه ما يكون لو أنني أبيع خيار التروي، يأتي زيد ويقول لي: أنا أشتري منك هذه، ولكن لي الخيار 10 أيام، أقول له: قبلت، ولكن أنا، حتى أعطيك هذا العقد، أريدك أن تعطيني 10 ريالات، لأنه كبيع العربون، يأتي غدا شخص آخر، ويريد أن يشتري، أيضا مني خيار ترو على السلعة نفسها، فأيضا أبيعه، وهكذا. إذا هي ممكن نتصور تشبه بيع العربون ولكن تشبه أن يبيع خيار التروي أو أن يبيع إيجابا مقابل القبول، يبيع الإيجاب بمبلغ زهيد، على أن المشتري لهذا الإيجاب، إذا شاء أن يقبض السلعة فعلا، يمارس بعد ذلك عقد بيع عادي فيشتريها مني بالثمن الذي اتفقنا عليه. فالحقيقة أن الشيء المطلوب من الناحية الفقهية أول الأمر البت فيه، هل يحق لي إن كنت أملك سلعة معينة ومثلية- على الغالب هذه الأمور تجري في المثليات، سلع ما يجوز السلم فيه – هل يحق لي أن أبيع خيارات التروي على هذه السلعة، وأبيع إيجابات على هذه السلعة؟ لا ادري إذا كان فيما ذكرت تقريب للموضوع أم لا؟(6/1282)
الشيخ محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم:
الواقع أننا لم نزل في تصوير المسألة، ولم ندخل بعد في بيان الحكم الشرعي فيها، ولا بد لتصحيح هذا التصور، أن ننتبه أن ما شبه به هذا العقد بعض الأعضاء، ببيع العربون، أو ببيع ما لم يقبض، أو بخيار التروي، لا يتماشى في هذا. أما بيع العربون فالمبلغ الذي يدفع كعربون يعتبر، عند تمام العقد، جزءا من الثمن، أما في بيع الخيار فلا يعتبر هذا جزءا من الثمن وإنما هو ثمن دفع لشراء حق الشراء أو لشراء حق البيع، فلا يدخل هذا في بيع العربون أبدا، وكذلك لا يدخل في بيع ما لم يقبض لأن العقد هنا لم يقع على بضاعة معينة وإنما وقع على شراء حق، ينصب على شراء حق بيع أو حق شراء، فإذا اختصرنا صورة هذه المسألة يمكننا أن نقول: إن هذا العقد هو حق شراء بضاعة مخصوصة بسعر محدد في فترة معينة، أو حق بيع بضاعة مخصوصة بسعر محدد في فترة معينة، وحينما يقع العقد على هذا الخيار لا نأتي بأية بضاعة في الموضوع وإنما هو شراء حق. وهذه هي الصورة الحقيقة وليس لها علاقة ببيع العربون ولا بخيار التروي.
الشيخ سعود الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحقيقة عندي عدة أسئلة ربما تكون سبب إيضاح أو تكميلا للتصوير الذي تم عرضه من العارض:
السؤال (1) : السلع التي يتم العقد عليها هل هي في ملك البائع أو موصوفة في الذمة؟ وهل يمكن وجود جميع السلع التي تم التعاقد عليها؟ أم إن الموجود منها جزء بسيط في السوق فقط، والبقية تضارب أرباح في فروق السلع؟ حيث نعلم أن بورصة القطن مثلا، الموجود قد يكون لا يتجاوز (خمس) الأشياء المتعاقد عليها في بورصة القطن مثلا، والبقية أشياء مكتوبة على الأوراق فقط ولا توجد في حقيقة السوق.
السؤال (2) : الثمن هل هو في ملك المشتري الذي يعقد الصفقة أم إن الموجود في ملكه جزء بسيط يسلمه والأثمان التي يتضارب فيها أضعاف أضعاف ما يسلم في البورصة أو مكان العقد؟
السؤال (3) : جزء الثمن المدفوع هل هو قسط من الثمن أو زائد عليه لا يعود ولو لم يتم استلام المعقود عليه؟ ===============
والذي اقترحه أن تصور جميع الحالات التي يتعامل بها في بورصة النقود وبورصة البضائع تصويرا دقيقا من البنوك المتخصصة ومن غرف البورصات الموجودة عالميا، وتكيف كل صورة منها تكييفا فقهيا معينا، ثم بعد ذلك يعطى حكم لها على قدر ما ظهر من تصويرها.(6/1283)
الدكتور علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
ما قاله فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني كنت أريد أن أقوله وأريد أن أضيف إليه إضافة، لأن الحقيقة تصوير المسألة على أنه بيع عربون، هذا التصوير يدخل الفقهاء في بيع العربون وهل هو جائز أو غير جائز؟ وكذا. والحقيقة نجد أن في الأسئلة أحيانا التي تأتي من الاقتصاديين إلى الفقهاء محاولة بأن يضعوا التصوير الذي يريدون أن يصلوا به إلى الإجابة –طبعا هذا في غير المجمع- هنا فرق أيضا بين بيع العربون وبين هذا، أن العربون لسلعة موجودة، وبيع حال وليس آجلا، والبائع يريد أن يبيع والمشتري يريد أن يشتري، والسلعة معينة وموجودة، وهذه السلعة ليس لها سعر عام متداول وإنما بحسب الاتفاق. وهنا في الأسواق المالية، السلعة ليست مرادة، وإذا كان الأخ الدكتور منذر قد قال: إن التسليم لم يصل على 4 % ففي بعض الحالات في بورصة نيويورك لم يصل إلى 2 %، لأن السلعة نفسها غير مرادة وإنما الهدف هو الاستفادة من فروق الأسعار، يعني مسألة مقامرة، متوقع الانخفاض إذا انخفض السعر يستفيد، ومتوقع الارتفاع إذا ارتفع السعر يستفيد، والعكس لا يستفيد. ولذلك فرق كبير بين بيع العربون وبين هذا التعامل الموجود في الأسواق المالية. أردت فقط أن أنبه لهذا.
الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم:
كلن لي الشرف بحضور الندوة في الرباط أو الدار البيضاء واستمعت للإخوة الاقتصاديين والواقع أنه كان عندي إشكالان من ناحية الاختيارات، وهو هنا في الورقة المقدمة في البيان.
أولا: كون المشتري الثاني أو المشتري الأول يبيع ما لا يملكه، ولكن الأستاذ الدكتور أنس الزرقاء، الواقع، أزال هذا الإشكال بأن البائع الأول الذي هو المشتري الذي قدم، العربون وله الاختيار، باع للثاني، هو اشترى إيجابا من الأول فأزال عندي الإشكال الأول وهو أن المشتري هذا بالاختيار باع ما لا يملكه، لأنه ما زال في الاختيار فهو اشترى إيجابا. ولكن ما زال عندي إشكال آخر: إن هذا البائع الذي اشترى إيجابا هل القدر معلوم مما اشتراه، قدره معلوم أو غير معلوم؟ لأنه، مثلا يقول له: أنت لك 1000 سهم بسعر 500 ريال للسهم خلال هذه الفترة، فأنا ما أدري هل أشتري 100، 500، 600 سهم؟ فهذه هي الثغرة التي لا زالت عالقة بذهني.
الدكتور عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
على ضوء التوضيحات التي قدمها الإخوة الاقتصاديون، إذا رجعنا على التصور المطروح أمامنا في الورقة، لا بد في الواقع من استكمال أربعة نقاط أقترح أن تقوم لجنة الصياغة بتوضيحها بشكل جيد، لأنه على ضوئها سينبني التصور الفقهي، والتصور الفقهي سيلاحظ ما في التصور الموجود في الورقة، وليس بالتوضيحات التي أضيفت. لابد في الواقع أذكرها تعدادا دون صياغة متكاملة لأن لجنة الصياغة ستقوم بذلك.(6/1284)
الأمر الأول: التنصيص على أن هذا البدل هو ثمن للخيار ولا يدخل في الثمن فيما بعد.
الأمر الثاني: أن محل هذه الخيارات ليس، فقط، الأسهم والسلع، فقد يكون أمورا أخرى، مثل ما أشار إليه الدكتور محمد علي القري، مثل مؤشر ارتفاع مستوى المعيشة، يعني قد يكون، ليس سهما ولا سلعة، عبارة عن مؤشر معين موجود في السوق، فتضاف في المحال قضية الأمور الأخرى غير الأسهم والسلع.
الأمر الثالث: موضوع إنه إذا لم يكن مالكا ما الحكم إذا طلب المتعهد له تنفيذ الالتزام؟ وهو موضوع دفع الفرق بين السعر الملتزم به وليس تقديم الأسهم، يعني دفع الفرق بين السعر الملتزم به والسعر المتداول في السوق الآن.
الأمر الرابع: حسبما ورد في كلام الدكتور سعود، أنه قد تكون مجموع الالتزامات المتعاقد عليها أكثر من محالها في الواقع.
وإذا جاء هذا التصور سنلاحظ أننا عند بيان الحكم الفقهي لا بد من أن نضيف على الحكم الفقهي بيد أيدينا أمورا تتعلق بأحكام هذه الحالات.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
نحمد الله أن الفقهاء- رضوان الله عليهم- وضعوا لنا ضوابط وقواعد في النظر إلى كل ما يعرض علينا وأول ما ننظر فيه في البيع هما العاقدان، والمعقود عليه والصيغة، إن قلنا بها. فإذا نظرنا إلى العاقدين وجدنا البائع معلوما، شخص له كل شروط الأهلية للبيع، وأن المشتري له شروط أهلية الشراء. وأن الثمن معلوم، هو 100 دينار أو 50 دينار أو 1000 دينار، وهذا لا غبار عليه. القسم الرابع، هو محل الإشكال، هذا الذي اشترى ماذا اشترى؟ العقد وقع على التزام، الاختيار هو عبارة عن التزام من البائع بأن يبيع أو من المشتري بأن يشتري. فالالتزام هو أمر في الذمة أيصح أن يباع ويشترى؟ فهذه القضية في نظري. قد تشتبه بأنها من العربون، وهي بعيدة عنه تماما، إن كانت شبيهة به، ولما كانت القضية هي قضية بيع التزام، والالتزام هو شيء في الذمة، والذمة لا يصح بحال من الأحوال أن تقبل البيع، فلذلك لا أرى وجها لأن يكون هذا العقد عقدا صحيحا شرعيا لاختلال ركن من أركانه. هذه واحدة.(6/1285)
أما الأمر الثاني هو أن هذا العقد، وإن كان يشبه العربون في قضية حالة واحدة وهو حالة ما إذا تم العقد على أساس أنه تم العقد فعلا وتسلم المشتري السلعة وسلمها له البائع. وهي صورة نادرة في مجموع المعاملات التي تقع على أساس الاختيارات. ولما كانت هذه الصورة نادرة في المجموع العام فإن النادر يلغي في الحكم العام، واضح كيف يدخل في العربون، لأنه إذا اشترى اختيارا بـ 10 دنانير لشراء 10 أطنان قمح، ثم اشترى ذلك القمح ودفع ثمنه على أن الثمن 100 دينار للقنطار، فأصبح الثمن عنده 110 دنانير، وانتهى. ولكن العقد لم يقع على أساس أنه عربون، ولكنه وقع على أساس أنه اختيار. وفي النهاية هو شبيه بالعربون لكن ليس بيع العربون لأن المبيع هو التزام ولذلك لا أرى وجها لهذا العقد أن يكون عقدا يجيزه الإسلام وخاصة إذا تذكرنا سوق المناخ وما وقع فيه من كوارث عائلية واقتصادية وما سببه للدولة من مشاكل، يجعلنا نقول بأن هذا قد أبان الحقيقة الفعلية لضرره على الفرد وعلى المجتمع.
الدكتور عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
هناك في الحقيقة ورقتان، الأوراق كلها تستحق الثناء، ولكن هناك ورقتان متميزتان ورقة الدكتور محمد على القري وورقة الدكتور محمد الحبيب، إذا نظرنا لموضوع ذاته، والموضوع كله يتلخص في خلق أداة مالية جديدة، وهذه الأداة المالية ليس لها مقابل، يعني قضية السلعة بالنتيجة، ليست السلعة هي المقصودة، والذي يبيع الاختيار قد لا تكون لديه سلعة، وهذا هو الغالب، يعني ما لديه سلعة، ما عنده قمح وما عنده قطن ولا عنده شيء وإنما قضية توقعات، فنحن ننشئ ورقة مالية أو أداة مالية على وعود وكلام وعلى توقعات، وهذه التوقعات يدخل فيها ما تفضل به الدكتور محمد علي القري ارتفاع المعيشة، ويدخل فيها، أيضا، سعر الفائدة. لذلك يجب أن نبتعد في تصورنا أن هناك سلعة موجودة، السلعة هي الورقة التي يلعب فيها، لكن الحقيقة هي: المجازفون أرادوا أن يخلقوا أداة مالية جديدة تنبني على الكلام الشفاهي والوعود، لذلك التعبير (هي عقود ينتج عنها أدوات مالية) تعبير دقيق جدا، كما ورد في التوصية.
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم:
الحقيقة أهم نقطة كنت أريد أن أقولها ذكرها الشيخ محمد المختار السلامي، وهي أننا أمام عقدين، لو أنفذ الاختيار فهناك عقدان، العقد الأول عقد الاختيار نفسه والعقد الثاني عقد البيع الذي يحصل بعد ذلك، فلو جمعا معا يكون نوعا من العربون، أما حقيقتهما انهما منفصلان:
النقطة الثانية: المؤشر الذي ذكر، أرجو أن أذكر أن المؤشر رقم حسابي إحصائي فقط، ليس شيئا آخر، هو رقم حسابي تصدره الحكومات أو الشركات الإحصائية، فليس له أي شيء حقيقي أبدا.(6/1286)
النقطة الثالثة: أن يقال: إنه يمكن أن نشبهها بسلعة موجودة يباع عليها إيجابات، أنا أظن أن واقع الأمر سلعة غير موجودة، ومن يبيع أو يشتري الاختيارات ليس لديه سلعة ولا يقصد، في العادة بل في الغالب، بالنسبة للخيارات نسبة عدم التنفيذ أعلى بكثير مما هي بالسلع أو بالأسهم، عادة لا تنفذ تقابل باختيار مقابل ولا تنفذ.
النقطة الأخيرة: التي قرأتها تحت (ثالثا) في الفقرة قبل الأخيرة، التي تبدأ: (وربما يرتبط عقد الاختيار بعقد آخر) الحقيقة هذا موضوع قد يكون مستقلا عما ذكر، لأننا هنا نحن أمام حالة أخرى، أنا أشتري قطعة أرض، مثلا، واشترط على البائع أن يبيعني القطعة المجاورة لها بثمن معين، ولي الخيار خلال فترة ثلاثة اشهر، فخلال هذه الأشهر أستطيع أن أمارس هذا الحق على القطعة المجاورة فأنفذه بالسعر الذي اتفق عليه، أو أن أشتري كمية من القمح وأشترط على البائع أن أضاعفها أو أزيد فيها، يعني أشتري كميات أخرى فوقها بسعر متفق عليه خلال فترة معينة. هذا ما قصده بهذه الفقرة، وهي بعيدة عما وصف، وتستحق أن تناقش بذاتها وحدها.
الرئيس:
يعني أن تناقش من حيث التصور.
الدكتور الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة
بسم الله الرحمن الرحيم:
أنا بعد هذا الحديث الطويل والتداول في مختلف النقاط والذي كان الهدف من ورائه هو استيضاح الصورة المعروضة علينا في قضية الاختيارات في المعاملات الحديثة، حتى ننتقل منها إلى بيان الوجهة الشرعية في هذه الاختيارات، ما نتج عن هذه الدراسة أو عن هذا التشاور والتداول، أريد أن يصاغ من جديد بالشكل الذي تفضلتم به دكتور منذر قحف من أجل أن نضعه مكان هذه الصورة الباهتة الغامضة التي لا يفهمها أحد، على الأقل تكون بين أيدينا صورة مقترحة لهذا التعامل الجديد في القانون الوضعي أو في المعاملات الوضعية، تقع الإجابة عنه، بعد أن يكون قد اتضح أمره لكل ذي عينين، ويستطيع الناس عندما يقرأون هذا النص أن يكونوا على بينة مما يراد الاستفتاء فيه.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
فإذا رأيتم أن هذا مناسب يؤجل للندوة ... ننتقل إلى ما بعده.
الدكتور عبد السلام العبادي:
لو سمحت فضيلة الرئيس:
الواقع كل هذه الصور انتهى الفقهاء إلى التحريم فيها.. وليس هناك خلاف.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
انتهى إلى التحريم الذين قرروا التحريم، لكن مثلا بالنسبة لي أو بالنسبة لشخص من أصحاب الفضيلة المشايخ الذين يقولون: نرى أن هذه الصور تحتاج إلى الجواب على تلك التساؤلات لاستكمال الصور، كيف يرتب التحريم أو الجواز؟ أنت سمعت الآن عددا من الفقهاء المختصين الذين لهم مجال في الاقتصاد كذلك يتساءلون وأنتم فضيلتكم أثرتم على عدة أسئلة.(6/1287)
الدكتور عبد السلام العبادي:
أنا مع التأجيل ولو لدورتين قادمتين.. ولكن أقول أن هذا التوضيح زاد الصورة إضاءة وأولوية في التحريم، وهل هناك من يناقش بعد هذا التوضيح في أن الصورة حرام، فلماذا لا ينص على حرمتها؟ كل الأمر أمر صياغة لتكون الصورة واضحة حتى لا يترك بعض الصور دون تغطية، ولكن إذا رأيتم التأجيل فليكن ذلك.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
المهم هل ترون البت فيه أم تأجيله للندوة؟ والذي يرى من الأعضاء البت بالمنع يرفع يده.. إذن بعد العد: البت بالمنع ثمانية. فيؤجل. الدكتور منذر: رابعا لو سمحت.
الدكتور منذر قحف:
رابعا: المستقبليات في المعاملات الوضعية..أريد أن اذكر نقطة صغيرة قبل المستقبليات. المستقبليات في غالبها أنها تمارس في أسواق السلع ولذلك أريد أن أذكر كلمتين صغيرتين قبل ذلك. أقول: إن السلع في أسواق السلع المعروفة المنظمة، تشمل عادة أنواعا من المعادن كالنحاس والبلاتين والذهب والفضة والبترول، وأنواعا من الطعام كالقمح والشعير والذرة والقهوة، وأنواعا من العملات كالدولار والمارك والين. ويتم التعاقد في أسواق السلع إما حالا، ومعنى الحال أنه خلال الشهر الحالي الذي نحن فيه، الشهر الرومي الذي نحن فيه، وهذه المعاملات الحالة يمكن للمتعاقد فيها أن يصفيها بنفس اليوم إن شاء، بأن يعطي إيصالا بالتصفية فتصفى خلال ثلاثة أيام، ويمكنه –وتسمى حالة- أن ينتظر حتى آخر الشهر. فكل المعاملات الحالة، ذلك الشهر تصفى في آخره. أو أن يكون التعامل مستقبلا وهذه هي المستقبليات. فالتعامل إما أن يكون حالا للشهر الحالي، أو لشهر مستقبل هذا معنى المستقبل نحن الآن في شهر مارس، فنقول: لشهر أغسطس أو شهر سبتمبر. هذا معنى المستقبليات.
المستقبليات:
هي عقود بيع آجل، يؤجل فيه قبض المحل (سلع أو أسهم أو سندات أو عملات) ، ويؤجل فيه دفع الثمن، فيما عدا نسبة مئوية صغيرة نحو 10 % لا يقبضها البائع وإنما تحتفظ بها غرفة المقاصة (إدارة السوق) ضمانا للوفاء بالعقد –وأضيف هنا نقطة صغيرة: ويؤخذ مثلها أو قريب منها من البائع، أيضا، ضمانا للتنفيذ، يعني يؤخذ هذا الجزء من الطرفين وليس من طرف واحد، لأن: الطرفين مطلوب منهما ضمان التنفيذ –وأهم صفة فيها أنها نمطية، فهي تصدر كأداة تتضمن كمية معينة من القمح، مثلا، ذي صفة محددة تقبض في تاريخ محدد، ومكان محدد، أو عددا من أسهم شركة بعينها أو سندات محددة، تسلم في تاريخ معين، ولا توجد علاقة مباشرة بين العاقدين فيها، حيث تتوسط بينهما غرفة المقاصة التي تكون واسطة بين البائع والمشتري، أو بين سماسرتهما. ومحل العقد، هنا، هو السلعة أو الأسهم أو العملة أو الذهب أو الفضة.(6/1288)
ويكون التفاوض بين العاقدين على سعرها، وتتغير النسبة التي تم قبضها من قبل الغرفة، اعتمادا على السعر، لأنه روعي في تحديدها أنها ضمان للوفاء بذلك السعر لأنها. تتغير مع تغير السعر في اليوم التالي والذي يليه والذي يليه، كل يوم. ويتم تصفية كل العمليات يوميا، فيتضح الرابح والخاسر – الحقيقة هنا معنى التصفية: قد يكون الاحتساب وليس التصفية، لا يتم تصفية العمليات يوميا، هذا هو الاحتساب، أنه كل يوم يزداد أو ينقص، حسب السعر الذي يوجد في السوق، تعدل هذه النسب، ويعدل ما يحسب دائنا أو مدينا، للشخص، للمتعامل في حسابه، ولكن لا تصفى العملية إلا عند طلب تصفيتها، أو أنه يعقد العاقد معاملة معاكسة لها فتتهاويان معا. يعني هنا كأن التعبير غير دقيق- وإذا رغب شخص في إنهاء المعاملة اشترى أو باع قمحا، مثلا، يسلم في نفس التاريخ السابق فينقضي الالتزامان. يعني ينشئ التزاما معاكسا لذلك الالتزام فينقضي الاثنان ويتهاويان.
أظن هذا هو المكتوب هنا عندي فإذا كان هناك أسئلة أو توضيحات أخرى فأنا مستعد.
الدكتور علي السالوس:
أود هنا توضيح أن العمليات لا يقصد بها شراء فعلي ولا بيع فعلي، وإنما هي مجرد التزامات مستقبلية بحسب توقعات المقامرين، فالذي يتوقع أن السعر يسير نحو الانخفاض فإنه يبيع والذي يتوقع الارتفاع يشتري، يعني على سبيل المثال، إذا كان السوق حاليا، مثلا السعر بـ 1000 فشخص توقع أنه سيكون في موعد التصفية بـ 950 والآخر توقع أنه في موعد التصفية سيكون بـ 1050، فالذي توقع الانخفاض يمكن أن يتفق أن يبيع بـ 1000، والذي توقع الارتفاع يتفق على أن يشتري بـ 1000، فإذا جاء في موعد التصفية بحسب الاتفاق فوجد أنه أصبح السعر بـ900، إذا البائع يشتري من السوق بـ900 ويبيع بـ1000 والمشتري يشتري بـ 1000 ويبيع بـ 900 معنى هذا أن البائع يكسب 100 والمشتري يخسر 100، أو العكس لو جاء التوقع بحسب ما رأى المشتري، ففي هذه الحالة لا يتم تسليم السلعة عادة وإنما يحسب الفرق فيكتب لحساب البائع 100 × كذا وحدة من الوحدات، ويكتب على المشتري 100 × كذا وحدة من الوحدات، ثم عمولة السماسرة وإدارة البورصة. ولذلك بقدر ما يربح هذا بقدر ما يخسر الآخر، فهي عمليات مقامرة وليس فيها بيع حقيقي ولا شراء حقيقي. هذا لتوضيح الصورة حتى يمكن أن نصل للحكم الشرعي.
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم:
إخواننا، الحقيقة يبدو من جملة المناقشات صورة توضحت لفريقين صورة الإسلام الذي يحمي الضعيف دائما، وذلك من خلال مشروعية الخيار (فإذا ابتعت فقل: لا خلابة ولي الخيار خلال ثلاثة أيام) لأنه غالبا ربما يكون هذا المشتري غير خبير والبائع خبير، فإذا الإسلام بسط الأمور أمام الطرف الضعيف حتى لا يستغفل، حتى وإن استغفل في الواقع أعطاه شرعا كي يتخلص من هذا الأمر. الآن، أمام كل ما يجري، هنالك صورتان واضحتان – معذرة من البنوك والشركات- بنك يملك وفرد يملك، يا ترى من يزحف إلى من؟ هنا زحف منظم وبدقة وبتعقيدات من القوي نحو الضعيف، ولا أعني هنا الضعيف بماله ولكن الضعيف بخبرته.(6/1289)
فإذا هذا القوي حصن نفسه بكل شيء، فإذا ما يملكه وما نملكه في جيوبنا إذا بنا نصل إلى مرحلة تخرج من جيوبنا ولا نملك شيئا. فإذا أمام خلفيات القوانين التي أتت إلينا بالجملة كما نراها، ونحن هنا كثير منا أهل اختصاص، وبعد كل المناقشات تتعقد الأمور، فكيف بالناس العاديين البسطاء الذين إنما أتت الأسئلة لنحميهم ونحمي مالهم؟ أمر آخر –معذرة- من الملاحظ أن شرقنا وعالمنا، بحمد الله، ملك المادة وملك الشريعة، وأنعم الله عليه بالشريعة. فمادتهم وجهتها قوانينهم، ونحن مطلوب إلينا في هذا المجمع الكريم، الحقيقة، أن نقدم الحل الشرعي بالجملة الذي يحمي الضعيف من القوي، وما ترونه أمرا عجيبا، وسؤال أطرحه والجواب عندكم يا ترى ماذا نملك من المشتريات التي أشاروا إليها، بالقطن وغير القطن وغيرهما؟ إن مجتمعنا مبتلى، الرصيد في بنوك معينة والمال يذهب من هنا إلى هناك، من اشترى كيلو ذهب وأتى به من البورصة؟ أبدا، كلها التواءات لاستلال ما بجيوبنا من حقوق كما استل كثير من حقوقنا. والله أعلم.
الشيخ الدكتور محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أنا بين أمرين: الأمر الأول هو عدم وضوح، لأنني عندما قرأت واستمعت إلى الفقرة الأولى وجدت أن العلاقة ين العاقدين هي علاقة تقوم بها جهة ثالثة، وقد يكون العاقدان، أو في أغلب الأحوال، لا يعرف أحدهما الآخر، من الفقرة الثانية يقول: ويكون التفاوض بين العاقدين على سعرها وتتغير النسبة التي تم قبضها من قبل الغرفة، بحيث وجدت هنا أشياء لم أفهمها، أنا متوقف لعدم فهمي. الأمر الثاني هو أن طبيعة هذه العملية، حسب ما فهمت، طبيعة هذه العملية تختلف عن طبيعة العملية الأخرى. أما العملية السابقة، وهي الاختيارات، فمعظمها مضاربات، أما هذه فهي فعلية، إن دولة من الدول مثلا تشتري مصنعا من المصانع في أمريكا بثمن معين يدفع بالدولار، فهي تريد أن تضمن نفسها في تاريخ الدفع وتاريخ السداد بأن يكون الثمن معلوما لديها من الآن، لأن الدولار ينخفض ويصعد بالنسبة لعملتها. الأمر الثاني أن معملا يشتغل- له مواد أولية لا بد منها حديد أو نحاس أو سكر أو غيره- فيريد أن يكون في الفترة التي يصنع فيها والتي أعطى فيها وعودا بالبيع للخارج، لا بد من أن يكون له شيء معلوم، لأن هذه السلع أيضا تصعد وتنزل، فإذن هناك بيوع حقيقية تقع، وهناك بيوع غير حقيقية، فهذا الاقتراض مع وجود الاضطراب الثاني، أرجو من السيد العارض أن يزيدني توضيحا في هذا.
الدكتور عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
لإصدار حكم على الموضوع يجب أن يكون التصور واضحا، وما قدم من الأوراق لا يعطي التصور الكامل، واجتهد الدكتور منذر اجتهادا جيدا، ولكن اعتقد، بما أنكم أجلتم الاختيارات، وكان هناك ورقتان تتميزان بالوضوح نوعا ما، فالأولى أن تؤجل هذه، لأن هذه العمليات الحقيقة معقدة جدا.
في الواقع، الدراسات جيدة والحمد لله، لكن في غير سندات المقارضة، الواقع كلها فيها شيء من الخفاء والتعتيم في كليتها أو في بعض منها، فإذا رأيتم اختصار الوقت بأن تلحق بصواحبها في التأجيل للندوة؟ إذن تؤجل، وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(6/1290)
القرارات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (61 / 10 / 6)
بشأن
(الأسواق المالية)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410هـ الموافق 14 – 20 آذار (مارس) 1990م.
بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات والنتائج المقدمة في ندوة (الأسواق المالية) المنعقدة في الرباط 20 – 24 ربيع الثاني 1410هـ / 20 – 24 / 10 / 1989م بالتعاون بين هذا المجمع والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، وباستضافته وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمملكة المغربية.
وفي ضوء ما هو مقرر في الشريعة الإسلامية من الحث على الكسب الحلال واستثمار المال وتنمية المدخرات على أسس الاستثمار الإسلامي القائم على المشاركة في الأعباء وتحمل المخاطر، ومنها مخاطر المديونية.
ولما للأسواق المالية من دور في تداول الأموال وتنشيط استثمارها، ولكون الاهتمام بها والبحث عن أحكامها يلبي حاجة ماسة لتعريف الناس بفقه دينهم في المستجدات العصرية ويتلاقى مع الجهود الأصلية للفقهاء في بيان أحكام المعاملات المالية وبخاصة أحكام السوق ونظام الحسبة على الأسواق، وتشمل الأهمية الأسواق الثانوية التي تتيح للمستثمرين أن يعاودوا دخول السوق الأولية وتشكل فرصة للحصول على السيولة وتشجع على توظيف المال ثقة بإمكان الخروج من السوق عند الحاجة.
وبعد الإطلاع على ما تناولته البحوث المقدمة بشأن نظم وقوانين الأسواق المالية القائمة وآلياتها وأدواتها.
قرر:
1- إن الاهتمام بالأسواق المادية هو من تمام إقامة الواجب في حفظ المال وتنميته باعتبار ما يستتبعه هذا من التعاون لسد الحاجات العامة وأداء ما في المال من حقوق دينية أو دنيوية.
2- إن هذه الأسواق المالية - مع الحاجة على اصل فكرتها- هي في حالتها الراهنة ليست النموذج المحقق لأهداف تنمية المال واستثماره من الوجهة الإسلامية. وهذا الوضع يتطلب بذل جهود علمية مشتركة من الفقهاء والاقتصاديين لمراجعة ما تقوم عليه من أنظمة، وما تعتمده من آليات وأدوات، وتعديل ما ينبغي تعديله في ضوء مقررات الشريعة الإسلامية.(6/1291)
إن فكرة الأسواق المالية تقوم على أنظمة إدارية وإجرائية، ولذا يستند الالتزام بها إلى تطبيق قاعدة المصالح المرسلة فيما يندرج تحت أصل شرعي عام ولا يخالف نصا أو قاعدة شرعية، وهي لذلك من قبيل التنظيم الذي يقوم به ولي الأمر في الحرف والمرافق الأخرى وليس لأحد مخالفة تنظيمات ولي الأمر أو التحايل عليها ما دامت مستوفية الضوابط والأصول الشرعية.
ويوصي:
باستكمال النظر في الأدوات والصيغ المستخدمة في الأسواق المالية بكتابة الدراسات والأبحاث الفقهية والاقتصادية الكافية.(6/1292)
القرارات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (62/11 /6)
بشأن
(السندات)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410هـ الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990م.
بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات والنتائج المقدمة في ندوة (الأسواق المالية) المنعقدة في الرباط 20-24 ربيع الثاني 1410هـ/20-24/10/1989م بالتعاون بين هذا المجمع والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، وباستضافة وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمملكة المغربية.
وبعد الاطلاع على أن السند شهادة يلتزم المصدر بموجبها أن يدفع لحاملها القيمة الاسمية عند الاستحقاق، مع دفع فائدة متفق عليها منسوبة إلى القيمة الاسمية للسند، أو ترتيب نفع مشروط سواء أكان جوائز توزع بالقرعة أم مبلغا مقطوعا أم خصما.(6/1293)
قرر:
1- إن السندات التي تمثل التزاما بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعا من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول، لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكا استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحا أو ريعا أو عمولة أو عائدا.
تحرم أيضا السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضا يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية، ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها خصما لهذه السندات.
كما تحرم أيضا السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضا اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين، أو لبعضهم لا على التعيين، فضلا عن شبهة القمار.
من البدائل للسندات المحرمة –إصدارا أو شراء أو تداولا- السندات أو الصكوك القائمة على أساس المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين، بحيث لا يكون لمالكيها فائدة أو نفع مقطوع، وإنما تكون لهم نسبة من ربح هذا المشروع بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك ولا ينالون هذا الربح إلا إذا تحقق فعلا. ويمكن الاستفادة في هذا من الصيغة التي تم اعتمادها بالقرار رقم (5) للدورة الرابعة لهذا المجتمع بشأن سندات المقارضة.
***(6/1294)
زراعة خلايا الجهاز العصبي وبخاصة المخ
إعداد
فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن إلا الله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وإن الله تعالى يقول في التنزيل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [سورة النساء: الآية 83] . هذا، وإن هذه الواقعة وأمثالها من واقعات العصر خليقة بالدرس المتأني لاستخراج المدرك واستنباط الحكم، لا سيما أن هذه الواقعات لم توجد في كتب المتقدمين ولا المتأخرين من الفقهاء، فوجب التخريج والاستنباط ضمن دائرة الاجتهاد المذهبي بقدر الوسع والطاقة.
هذا، وقد بذلت الجهد في استنباط الحكم لهذه المسألة (زراعة خلايا الجهاز العصبي وبخاصة المخ) مستنيراً بقرارات مجمع الرابطة وما سبقها من دراسات موفقة مع الرجوع إلى أمهات كتب الفقه وعلم الخلاف واستشارة جهابذة الأطباء، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
هذا، لأن بحثي المتواضع هذا يتكون من مدخل ومقصد وخاتمة، فأقول وبالله التوفيق.
مدخل إلى البحث
الجملة العصبية شيء غير النفس والأطراف اللتين نص الفقهاء المتقدمون عليهما وفضلوا القول فيهما، فالجملة العصبية لا يمكن- بحال من الأحوال كما ثبت عند الأطباء- نموها واستدراك ما فات منها، لأن الخلية العصبية ذات خصائص تختلف عن كل الخلايا في الجسم الإنساني، وأن كل شيء من الوعي والإدراك مربوط بها، بل إن الحياة ذاتها مربوطة ببعض أجزائها، كشجرة الحياة في الجزء الخلفي من الدماغ، لذلك وجب النظر إليها من زاوية جديدة لا يمكن قياسها على الأطراف أو الحواس أو أي عضو من الأعضاء الإنسانية حتى يقال فيها ما يقال في تلك.(6/1295)
المقصد الأول
الأخذ من الإنسان الحي
إن تنازل إنسان حي عن شيء من جملته العصبية أو عن مخه لغيره تنازل عن حياته قطعاً، وهذه الحياة لا يملكها الإنسان، لأن الله تعالى هو المالك للنفس الإنسانية عبودية، والإنسان هو المالك لها استمتاعاً فقط، لذلك لا يجوز لأحد أن يتنازل عن حياته لغيره ولا عن بعضها كما يقول القرافي: (وحرم القتل والجرح صوناً لمهجته وأعضائه ومنافعها عليه، ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك لم يعتبر رضاه ولم ينفذ إسقاطه) ، وجاء في الموافقات: إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه ولا أن يفوت عضواً من أعضائه فقد قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [سورة النساء: الآية 29] . فإذا أكمل الله على عبد حياته وجسمه وعقله التي بها يقيم التكاليف لا يصح إسقاطه شيئاً منها) .
وعلى هذا لا يجوز لإنسان حي أن يعطي من خلاياه العصبية أو يهب دماغه أو مخه لغيره، أو يبيعه أو يتنازل عن شيء من ذلك بأي وجه من الوجوه، كما يحرم ذلك على المعطي والآخذ والطبيب المعالج لأن في ذلك إتلافاً لإنسان حي وهو حرام.
لكن إذا كان هذا الإنسان الحي المعطي للخلايا العصبية أو للمخ في حالة احتضار وتوقع للموت بين لحظة وأخرى، وحكم عليه الأطباء بأنه لن يعيش أكثر من وقت قصير جداً يكون فيه دماغه أو مخه المستطيل أو مخيخه أو الحبل العصبي الممدود في العمود الفقري- يكون كل ذلك- بحالة سليمة مهيأة للتلف بالموت القادم لا محالة، وأخذ شيء من ذلك أو كله لمريض ينقصه هذا الترقيع وهو بحاجة إليه، وربما أنقذه من موت محقق لولاه فما الجواب؟ الجواب: امتناع ذلك وحرمته أيضاً لأن المريض الأول بالرغم من جزم الأطباء بموته ربما شفي فجأة فما الذي يجعلنا نحكم عليه بالموت، والحياة بيد الله عز وجل والموت بيده عز وجل وحده "، ثم إن المريض الثاني ليس لدينا يقين ولا غلبة ظن إلى الآن بأنه سينجو من موت محقق إذا رقعناه بهذه الأعصاب ... !! فالمسألة لدينا سيان ولا مرجح، فتبقى الحياة للمريض الأول مقطوعاً بها في بقاء أجهزته كاملة غير منقوصة حتى يموت، والمريض الثاني ربما شفاه الله بغير ترقيع فالله قادر على ذلك.(6/1296)
المقصد الثاني
الأخذ من الإنسان بعد موته
بقيت لدينا مشكلة ثانية: وهي أخذ المخ أو شيء من الجملة العصبية من إنسان بعد موته مباشرة وبعد تيقن موته بالطب الحديث وقبل فساد هذه الأجهزة في جسم الميت، فهل يجوز هذا النقل بالطب الحديث ووسائله لإنسان محتاج إليها؟ يبدو لي أن هذا أمر جائز بشروط.
الأول: أن يأذن من سيؤخذ منه المخ أو شيء من الجملة العصبية قبل موته وهو بالغ عاقل مختار أو يأذن أولياؤه بعد موته بذلك.
الثاني أن تكون فائدة العلاج يقينية أو غالبة على الظن، لا موهومة.
الثالث: أن يتعين ذلك، النقل للعلاج، فلو لم يتعين لا يجوز النقل.
الرابع: أن لا يكون ذلك معاوضة كبيع أو شراء أو هبة بمعنى المعاوضة أي (هبة صورية) كمن يهب دماغ أبيه ليهبه الآخر مبلغاً من المال أو متاعاً، بل يجب كون ذلك مجرد تبرع محمض ليس فيه أي معنى من معاني المعاوضات.
والشرط الأساسي كما قدمت هو القطع بموت الأول من الوجهتين الطبية والشرعية معاً، وتأصيل هذه الواقعة، أن الشارع الحكيم كرم الإنسان ميتاً كما كرمه حياً، وأن للإنسان الميت حقاً في المحافظة على بدنه بعد موته كما له الحق في المحافظة على كفنه وقبره، ففيه حق لله وحق للميت، أما حق الميت فقد سقط بإسقاطه له، وهو حي، وأما تكريمه فهو مصلحة، ومصلحة إنقاذ حياة الحي المضطر مصلحة أخرى، ولدى الموازنة بين المصلحتين تبين أن المصلحة الثانية أعظم فترجحت، لهذا اشترطنا في النقل للعلاج بعد موت الأول للدماغ والجملة العصبية ما اشترطناه من نقل سائر أجزاء الميت بعد موته، أن يكون حصوله متيقناً أو غالباً على الظن فيما تأكد نجاحه بحيث تكون نسبة النجاح سبعين بالمائة على أقل تقدير، وعدم جواز شيء من هذا النقل في ما كان أقل من هذه النسبة كما قرره وأفتى به أستاذنا العلامة الدكتور الشيخ أحمد فهمي أبو سنة، وإني في هذه المسألة ونسبتها أميل إلى ما مال إليه- حفظه الله- وأفتى به والله تعالى أعلم، وذلك خلافاً لما ذهب إليه مجمع الرابطة الموقر في مكة المكرمة في قراره رقم 99 بشأن تبرع الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك حيث أباح ذلك المجمع ولا أرى لذلك وجهاً صحيحاً والله تعالى أعلم.
خاتمة
بعد هذا الذي ذكرت أعود فأقرر أن المسألة بحاجة إلى درس وتمحيص يسبقهما ورع وتحوط لأن الكلام في الفتيا ليس كأي كلام في أي أمر، لهذا وجب سد الذرائع الفاسدة وما يوصل إلى المحرم، وإني هنا أعود لأضيق الأمر أكثر فأقول:
(إن هذه الفتيا بقسميها ليست إلا مخلصاً ومخرجاً من الحرج حالة الضرورة أو الحاجة مشروطة بشروطها) وما عدا ذلك فلا مجال للتوسع أبداً لأننا رأينا كيف صار في الغرب من تمييع للمفاهيم بحيث صار الناس يبيعون أعضاءهم بعد أن يؤمنوا عليها، بل رأينا لما أفتى بعض المفتين بجواز التشريح لجثث الموتى كيف اجتراً الناس على جثث الناس في المقابر وصاروا يشترونها بأبخس الأثمان ويسلقونها بالماء الساخن بالنار حتى ينبكت الجلد ويبقى العظم ثم يبيعونها بأغلى الأثمان وصار لها سوق سوداء ووسطاء وسماسرة، وصارت تجارة رائجة وحرفة، وأصل الأمر غير ذلك وأبعد من ذلك بكثير.
لذلك أناشد العلماء والمفتين أن يتحوطوا لدين الله ولا يترخصون إلا في موضع الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة في إباحة ما كان محظوراً، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور(6/1297)
زراعة خلايا الجهاز العصبي وخاصة المخ
إعداد
فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
ومفتي الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
هذا البحث هو بحث مرتبط بزراعة الأعضاء. وزراعة الأعضاء مظهر من مظاهر التقدم العلمي والفوز الطبي في مجالات العلاج للأمراض والحفاظ على الخلق السوي المتوازن للإنسان.
وينقسم البحث في زراعة الأعضاء إلى أقسام أساسية، كل منها يتطلب حكما:
ا- الأعضاء المنقولة.
2- المنقول منه العضو ليزرع.
3- المنقول إليه ليزرع فيه.
4- القائم بالنقل الطبي ومعاونوه.
5- الغاية من نقل العضو.
العضو المنقول:
الأعضاء المنقولة كما يؤكده الأطباء لا تعود لها الحياة إذا فقدتها وبناء على ذلك فإذا تهدمت بالموت تصبح عديمة الفائدة تماماً ونقلها لا يحقق أي غرض ولذا كان نقلها حية هو المقصود أولاً من بحث زراعة الأعضاء على الميدانين. الميدان الديني الأخلاقي. والميدان الطبي التنفيذي.
- الأعضاء التي يجري نقلها تنقسم إلى:
ا- أعضاء ضرورية لبقاء الحياة وهي واحدة- كالقلب.
2- أعضاء ثنائية وهي ضرورية لبقاء الحياة- كالرئتين والكليتين.
3- أعضاء ثنائية وهي غير ضرورية لبقاء الحياة كاليدين والرجلين والعينين.
4- أعضاء منتشرة في الجسم كالجلد وهي الأنسجة.
أما الأعضاء المفردة الضرورية فلا يجوز انتزاعها من صاحبها ما دامت الحياة سائرة فيه وإن وصل إلى حالة الاحتضار لأن وقت خروج الروح منه لا يعلم يقيناً. كما أن المنقول إليه وإن كان ظاهر السلامة إلا أنه لا يعلم هل تسبق وفاته وفاة المحتضر أو تتأخر عنه؟
إلا أنه نظراً إلى التقدم العلمي فإنه أصبح من الممكن أن يموت صاحب العضو حقيقة ويبقى العضو حيًّا يؤدي وظائفه.(6/1298)
إن هذه الصورة التي أصبحت ممكنة وذات فائدة كبرى للتحصيل على العضو السليم الحي، أوجبت البحث عن حقيقة الموت، ومتى يعتبر الإنسان ميتاً؟ إذ فصلنا الحياة إلى حياة عامة حقيقية بزوالها، يعتبر الإنسان ميتاً، وبين الحياة الجزئية التي يمكن أن تتحقق مع اعتبار صاحبها ميتاً، يورث ولا يرث، ويدفن، وتنفصل العلاقة الزوجية. فلو فرضنا أنه اعتبر ميتاً وولدت زوجته، فإن لها أن تتزوج بزوج آخر، وإن كان قلبه ما يزال ينبض وكلاه تشتغل، ورئتاه تؤديان الوظيفة. واعتبر الحد الفاصل بين الحياة والموت هو موت جذع المخ وأخذه في التحلل. فإذا حقن ثلاث مرات فلم يسير فيه الحقن وكشفت الأجهزة عن أخذ تركيبه في التحلل فذلك الموت الطبي والشرعي، ومن هنا أصبح المخ على اعتبار إمكان تصور تحقق زرعه من الأعضاء الفريدة في الإنسان التي لا تعوض ولا يمكن أن تبقى بها حياة بعد صاحبها، إذ هي المرجع في الحياة أو الموت. وهذا ما أحسن الأستاذ الدكتور مختار المهدي التعبير عنه لما قال إن الترجمة الحرفية لزراعة المخ هي قتل إنسان لنقل مخه لإنسان متوفى. وأكد بأن ما يقال عن زراعة المخ ما هو إلا من قبيل الخيال العلمي، وعلى الفرض ففي حال النقل انه يقال إن الجسد قد نقل إلى المخ. وليس العكس (1) على معنى أنه هل يمكن زراعة جسد كامل ما عدا المخ في مخ حي؟
والبحث يتعدى المخ إلى الجهاز العصبي المرتبط بالمخ من قوى الإحساس من الأعصاب الناقلة للأثر والأعصاب التي تحدد المدركات الحسية.
وكذلك إلى أجهزة التنفيذ المتحكمة في كل إمكانات الجسم ما كان داخلاً في إطار الوعي وما هو دون مستوى الوعي بتحكمه في جميع الأجهزة التي تقوم بوظائفها في الكيان البشري.
فهاتان الوظيفتان للجهاز العصبي قدر مشترك بين البشر لا يختلف واحد عن الآخر اختلافاً واضحاً إلا إذا أصيب الناقل بخلل أو المركز بانحراف.
__________
(1) بحث الدكتور مختار المهدي (زراعة خلايا المخ) : ص 2.(6/1299)
ولكن القسم المهم في الجهاز العصبي هو المخ الذي يتقبل ما يأتيه عن الحس فيميزه ثم يقوم برد الفعل الذي ينفرد به كل إنسان والذي يختلف الرجع من النقيض إلى النقيض. ومن هنا فإن المخ من هذه الناحية يمثل الشخصية الحقيقية لكل فرد {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [سورة الإنسان: الآية 3] .
فاختلاف الإرجاع والاختيارات التي يقوم بها المخ تجعل الإنسان شقياً أو سعيداً. وعالماً أو جاهلاً. وذكيا نابهاً أو غبياً خاملاً. وشجاعاً مقداماً، أو خائفاً رعديداً إلى آخر السمات المميزة لكل شخص وفيه تغيير حسب ظني للحقيقة الوراثية التي تميز الذات أيضاً.
ولذا فإنه يترجح عندي أن الحكم يختلف بين المستويات الثلاثة فمناطق الإحساس في الدماغ والأعصاب الموظفة لذلك، وأجهزة التنفيذ الحاكمة في إمكانات الجسم هذان حكمهما يختلف عن المخ العاقل المدبر.
ولما كان المخ من الأعضاء المفردة التي لا تعوض ولا تتجدد فنقله بكماله كنقل أجزاء منه في الحكم.
المنقول منه:
إن المفروض في المنقول منه:
* أولاً: أن يكون صاحب العضو مالكاً أمر نفسه محترمة حياته ولا يخلو حاله من الصور الآتية:
ا- أن يتبرع بنقل دماغه أو بنقل بعض أجزاء الجهاز العصبي، وهذا التبرع غير مؤثر ذلك أن الحياة ملك لله، فليس لأحد أن يتبرع بحياته لفائدة شخص آخر. كما أنه ليس له أن يتبرع بشيء لا يعوض من جسمه إذا تلف. فكما لا يعتبر تبرع الإنسان بأصبعه تبرعاً معتبرا فكذلك بجزء من أجزاء الجهاز العصبي بل هو أولى، ولما كان الجهاز العصبي يسبق موته موت أجهزة الجسم الأخرى فإنه لا يتحقق إمكانية الاحتفاظ ببعض الأجزاء حية بعد موت جذع الدماغ.
2- أن يبيع العضو ويأخذ بدله ثمناً قد يكون هذا الثمن مالاً وقد يكون الثمن مبادلة عصب السمع بعصب البصر مثلاً والحكم كسابقه، فالعقد باطل لأن الإنسان لا يبيع ما لا يملك، لأن الحياة ملك لله وكذلك الجسم الإنساني في كل جزء من أجزائه..(6/1300)
* ثانياً: أن يكون صاحب العضو غير مالك أمر نفسه، وهو يتصور بصورتين:
ا- أن تكون مداركه العقلية مختلة وهذا أمره إلى وليه أو إلى الحاكم.
2- أن يكون سنه دون سن الرشد من الصبا الباكر إلى آخر لحظة من لحظات المراهقة في الذكر أو الدخول في الأنثى بالغة عاقلة، وليس للولي حق التصرف في جزء من أجزاء بدن المولى عليه إذ الولاية هي حفظ مصالحه التي لم تتوفر له القدرة على الحفاظ عليها.
* ثالثاً: أن يكون المنقول منه لم تكتمل شخصيته الإنسانية، ونعني بهذا الجنين، والجنين حسبما قدمه السادة الأطباء له أحوال، منها:
التكون الخلوي: الذي حسبما فهمته عبارة عن البييضة الملقحة التي أخذت في الانقسام حتى تبلغ 32 وحدة. ويذكر الأطباء أن هذه الخلايا هي خلايا غير متميزة بوظائف خاصة ولذا فهي لا تصلح للزرع.
حكم تحطيم الخلايا الملقحة: وقفت كثيراً أمام مشكلة الخلايا الملقحة الفائضة عن الحاجة والتي جمدت: هل يجوز إعدامها أو يجب إعدامها أو ماذا يفعل بها؟
الذي جرى عليه الأطباء أنهم يثيرون المرأة لإفراز عدد من البييضات ويلقحونها في المخبر ويقومون بزرع عدد منها ويجمد الباقي، فإذا تأكدوا أن اللقيحة قد انغرست في جدار الرحم ونمت وجدوا أنفسهم أمام مشكل هو هذه اللقيحات المجمدة ماذا يفعل بها؟ والتي هي عبارة عن خلايا تكاثرت. وتحمل كل خلية في رأسها حقيبتها الوراثية فبالنظرة الأولى كل خلية من الخلايا في هذا الطور هي الطور الأول من الحياة الإنسانية، وإذا كانت هي الطور الأول للحياة الإنسانية فهل يجوز القصد إلى إبادتها؟ قد يقال إن هذه الخلايا انتهت المنفعة منها وحصل الحمل الذي من أجله قام الطبيب بشفط (1) البييضات وتلقيحها والحذر عليها ولكن هل المنفعة إذا انعدمت تبرر القصد إلى الإعدام؟
لقد تحدث الفقهاء عن الحيوان إذا انتهى الانتفاع منه هل يقتل؟ ذكر الحطاب فرعاً نصه: (قال البرزلي نزلت مسألة وهي أن قطاً عمي وفرغت منفعته فأفتى فيه شيخنا (يعني ابن عرفة) الإمام، بوجوب إطعامه وإلا يقتل، وكذلك ما يئس من منفعته لكبر أو عيب. وكذا ذبح القطط الصغار والحيوان الصغير لقلة غذاء أمهاتهم أو اراحتها من ضعفها. والصواب في ذلك كله عندي الجواز لارتكاب أخف الضررين لقوله صلى الله عليه وسلم ((إذا التقى ضرران نفي الأكبر للأصغر)) ، كما سئل عز الدين بن عبد السلام عن قتل الهر المؤذي هل يجوز أم لا؟ فأجاب إذا خرجت إذايته عن عادة القطط وتكررت إذايته جاز قتله. واحترزنا بالأول (إذا خرجت اذايته عن عادة القطط) عما في طبعه من أكل اللحم إذا كان خالياً أو عليه شيء يمكن رفعه للهر فإذا رفع وأكل فلا يقتل، هذا ولو تكرر منه لأنه طبعه. واحترز بالثاني (وتكررت) مما وقع منه فلتة فلا يقتل.
__________
(1) كلمة شفط استعملها الأطباء ومادتها غير موجودة في كتب اللغة.(6/1301)
ومن هذا المعنى إذا يئس من حياة ما لا يؤكل فيذبح لإراحته من الوجع والذي رأيت المنع إلا أن يكون من الحيوان الذي يذكى لأخذ جلده. اهـ (1)
إن حاصل هذا التفصيل أن الحيوان الأهلي لا يذبح إلا لمنفعة الإنسان بذبحه، وإذا لم تكن له منفعة من ذبحه لأكل لحمه أو الانتفاع بجلده فلا يقتل إلا إذا تكرر ضرره وخرج عن طبعه في الضرر الحاصل منه.
ومعنى هذا أن البييضة الملقحة بعد تكاثرها وتجميدها أولى بالإبقاء على حياتها وعدم تدميرها، كما جاء في بحث الدكتور عبد الله حسين باسلامة أن اللقيحة تبلغ في انقسامها إلى مرحلة 8- 32 خلية فقط ولم يصل النمو فيها إلى مرحلة تكوين أعضاء، ثم يقول: فإننى لا أرى في الوقت الحاضر على الأقل إمكانية الاستفادة من الأجنة الفائضة في عملية زراعة الأعضاء ولكن قد يمكن الاستفادة من نقل بعض من خلايا تلك الأجنة الفائضة ويرجح الدكتور باسلامة نقل بعض تلك الخلايا وزراعتها في إنسان آخر وأنه أفضل بكثير من إتلافها، وفي إتلافها نوع من الوأد لها.
من هذه الناحية فقهياً وطبياً يترجح أنه لا تدمر اللقيحة ولكن من ناحية أخرى نجد أن الفائض من البييضات المخصبة سيتكاثر مع الزمن. وستزخر الحافظات بعدد مهول منها خاصة وقد علمت أنه يمكن الاحتفاظ باللقيحة إلى خمسين سنة، يعني حتى إلى ما بعد المعدل الأقصى لعمر الأبوين إذ المعتاد أن لا يباشر الأطباء عملية التلقيح المجهرى إلا ما بعد الثلاثين سنة من عمر الأبوين وتكاثرها مظنة اختلاطها، ومهما بذل القائمون من احتياطات فلن يستطيعوا أن يتيقنوا من السلامة من الاختلاط. ومعلوم أن كل باب يؤدي إلى اختلاط الأنساب فقد أحكم الشارع سده.
هذه واحدة، وأما الثانية فإنه على فرض الاحتفاظ بها فإلى أي حد من الزمن؟ لأن الخمسين سنة ليست غاية ما بعدها غاية، ثم ما هي حاجات البشرية لهذه الخلايا المأخوذة من اللقيحات؟ هل تبلغ فعلاً أنها عملة صعبة لا يتيسر الحصول عليها حتى ندخرها؟ ولهذه المحاذير أرجح أن كل لقيحة بلغت من الانقسام 8/32 وحدة، وانتهت حاجة الزوجين منها يجب أن تدمر في الحال.
__________
(1) مواهب الجليل: 3/236.(6/1302)
وأرى أنه من المجازفة أن يعمد الطبيب لزرع خلايا من طبيعتها أنها قابلة للنمو نمواً يحصل منه إنسان كامل، إذ معنى ذلك أن هذه الخلية المزروعة هي إنسان بالقوة تحمل حقيبته الوراثية في رأسها كل خصائصه- يزرع في مكان من إنسان آخر- تبعاً لما حصل عند العلماء من يقين.
الجنين بعد المرحلة الأولى:
الجنين بعد المرحلة الأولى أي عندما يزرع في رحم الأم، وينغرس في جدار الرحم. ويأخذ في النمو حسب سنن الله في الخلق، هذا الجنين قد يكون سوياً ينمو نمواً طبيعيا إلى فصاله عند أمده وهو الإنسان الكامل، وقد تعرض له من العوارض ما يجعل الرحم يقذفه إلى الخارج وهو السقط، وفي الحالة الأولى هو إنسان كامل الحقوق محترم الحياة في كلها وأجزائها لا فرق بينه وبين الراشد وفي الحالة الثانية لا ينتفع منه طبياً بشيء لأنه ميت. والحالة الثالثة هو الجنين السوي الذي سلم من الأعراض التي تعطل تطوره الطبيعي فهو إلى اللحظة التي تكون فيها الحامل أمام الطبيب لتجرى عليها عملية الإجهاض هو جنين سليم نام، ولكن الطبيب يتدخل للحيلولة بين هذا الجنين وبين الرحم الذي احتضنه وغذاه وتوثقت الصلة بين الجانبين.
لقد اطمأن كل الباحثين الذين يحترمون الحياة الإنسانية أنه لا يحل للطبيب أن يحول بين الجنين ومحضنه وأن يستله ويقتله استجابة لنزوة أم فاجرة تجمع إلى فجورها قتل عاطفة الأمومة الطبيعية وقتل كائن حي، أو أم متميعة، قتل جنينيها أهون عليها من التأخر عن سهرة حمراء وأنواع هي انحراف عن سنن الله في الخلق. ولكن في بعض الحالات قد يصحب الحمل أعراض يخشى معها على صحة الأم وسلامتها ولا يضحى بأصل الشجرة للإبقاء على فرع من فروعها. فعندها يكون الإجهاض حالة اضطرارية تقدر بقدرها.(6/1303)
الانتفاع من السقط:
السقط ما انفصل عن رحم الأم وخرج منه ولم تظهر عليه مظاهر الحياة الواضحة كالبكاء والحركة أو الرضاع أو العطاس ويتفق العلماء على أن السقط الذي لم يبلغ أربعة أشهر لا يغسل ولا يصلى عليه، وأما إذا بلغ أربعة أشهر فما فوقها ولم تتحقق حياته فالخلاف بين الفقهاء في الصلاة عليه وغسله، فإذا ما نزل حياً فهو إنسان كامل حكمه في الصلاة عليه وغسله وكفنه حكم الكبار. إن السقط قبل الشهور الأربعة لا يبلغ من الحرمة مبلغ الحرمة الإنسانية الكاملة بإجماع ولكن بانتسابه إلى العائلة البشرية فله حرمة ضعيفة تبدو في وجوب دفنه وأن موقع دفنه حبس عليه عند المالكية.
فهل لهذا السقط الذي تدخل الطبيب بآلاته لاقتلاعه من رحم أمه للضرورة هل لهذا السقط من الحرمة ما يمنع الانتفاع بخلايا دماغه لزرعها في دماغ مريض لا أمل في شفائه إلا من تلك الخلايا الغضة القابلة للنمو والالتحام مع الخلايا المجاورة فتعوض الخلايا المدمرة وتنسجم مع الأجزاء السليمة في مجرى الألياف العصبية الناقلة للحس والحركة كما جاء في بحث الأستاذ الدكتور مختار المهدي.
لكن كما جاء في بحثه أيضاً أن الأمر ما يزال يراود الباحثين كأمل يمكن تحقيقه مخبرياً وتطبيقياً لانتفاء المعوقات من نجاحه نظرياً.
إلا أن الاستفادة من الجنين السقط لا تمكن إلا إذا أسرع الجراح بنقل ما يريده من الجنين قبل موته وهي دقائق معدودة.
والحل هو أن يفتح بطن الأم وتؤخذ الخلايا قبل نزعه من الرحم،- ما وجدت أي مانع يمنع من إتمام العملية على هذا الوجه إذا كان ذلك برضا الأبوين ما دام الإجهاض كما بيناه إنما تم في الحدود المأذون فيها- أما الإجهاض غير المأذون فيه شرعا الحرام، فالمبني على الفاسد فاسد، وقد يكون مما يطرح للنظر اشتراط أن يكون الأبوان عند إذنهما يجهلان المستفيد من خلايا الجنين حتى لا تنقلب أرحام الفقيرات معامل للخلايا الجنينية. ومن الفروض العلمية أن تؤثر الخلايا الجنينية في نشاط ما فتر عن قدرات الدماغ ومن الهرمونات للتغلب على داء الوهن من الشيخوخة وقد يكون هذا الفرض أقرب إلى الخيال العلمي منه إلى التوقع بل أنا واثق من ذلك لأن التغلب على الشيخوخة معناه التغلب على الفناء، والإنسان فانٍ مهما حاول أن ينفلت من قبضة القدر المحتوم.(6/1304)
* رابعاً: أن يكون المنقول منه بالغاً رشيداً إلا أن حياته غير محترمة بمعنى أن واهب الحياة رفع الحصانة التي أعطاها لهذا الإنسان الخاص، ونعني المحكوم شرعاً بإعدامه في الحالات المحددة المضبوطة بالكتاب والسنة فلا تدخل في ذلك الأحكام الاستثنائية أو الصور التي هي محل خلاف بين العلماء مثال ذلك القاتل غيره عمداً عدوانا ولم يعف عنه أي واحد من أولياء القتيل {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} ، فهذا الذي أهدر دمه هل يحل الانتفاع ببعض أجزاء مخه أو جهازه العصبي أو بعض أجهزته وأنسجته؟ هذا الأمر يمكن قياسه على حالة المضطر التي تحدث عنها الفقهاء.
ا- من هو المضطر؟
يجيبنا عن هذا النووي يقول:
واتفقوا على جواز الأكل من الآدمي إذا خاف على نفسه لو لم يأكل من جوع أو ضعف عن المشي وعن الركوب وينقطع عن رفقته ويضيع ونحو ذلك، فلو خاف حدوث مرض مخوف من جنسه فهو كخوف الموت وإن خاف طول المرض فكذلك في أصح القولين.
قال إمام الحرمين: لا يشترط فيما يخافه تيقن وقوعه لو لم يأكل بل يكفي غلبة الظن، قالوا: كما أن المكره على أكل الميتة يباح له أكلها إذا ظن وقوع ما خوف به ولا يشترط أن يعلم ذلك فإنه لا يطلع على الغيب.
2 - من هو غير المعصوم؟
يجيب النووي أيضاً عن هذا فيقول:
ويجوز له قتل الحربي والمرتد وأكلهما بلا خلاف، وأما الزاني المحصن والمحارب وتارك الصلاة ففيهم وجهان أصحهما وبه قطع إمام الحرمين والمصنف والجمهور يجوز، قال الإمام: لأنا منعنا من قتل هؤلاء تفويضاً إلى السلطان لئلا يفتات عليه، وهذا العذر لا يوجب التحريم عند تحقق ضرورة المضطر.
وأما إذا وجد المضطر من له عليه قصاص فله قتله قصاصاً وأكله سواء حضره السلطان أم لا لما ذكرناه في المسألة قبلها صرح به البغوي وغيره.
3 - هل يمكن لغير المسلم أن ينتفع من المسلم المهدور دمه؟
يقول النووي أيضاً: ولو كان المضطر ذمياً ووجد مسلما ميتاً ففي حل أكله له وجهان حكاهما البغوي ولم يرجح واحداً منهما، والقياس تحريمه لكمال شرف الإسلام (1) من هذه النصوص يتبين لنا:
ا- أن المضطر يشمل من ظن ظناً قوياً أنه سيهلك أو ظن أنه سيلحقه مرض مخوف أو طول المرض.
__________
(1) المجموع: 9/ 44.(6/1305)
2- أنه يجوز له أن يأكل من غير معصوم الدم في بعض الصور على الراجح وفي صور أخرى باتفاق علماء الشافعية.
3- أنه قد اختلف في جواز انتفاع الذمي من المسلم.
وإذا جاز الأكل فإنه يجوز زرع الأعضاء والأنسجة وأخذها من المحكوم عليهم شرعاً بالإعدام قبل وقت التنفيذ إلا أن هذا يجب أن يجرى مع أخذ الاحتياط الكامل والإجراءات اللازمة لعدم التعذيب.
* خامساً: نقل عضو أو نسيج من الإنسان ذاته من مكان إلى مكان آخر جاء في بحث الأستاذ الدكتور مختار المهدي: وقد ابتدأت الجراحة بزراعة خلايا من نفس الحيوان استؤصلت من الغدة الفوق كلوية التي تفرز هرمون الدوبامين، فهل يجوز شرعاً أن يستأصل عضو أو نسيج من الإنسان ليحول إليه في مكان آخر هو أشد حاجة إليه في مكانه الجديد وأعود عليه نفعاً؟
يقول الزرقاني:
ولا يبعد القول بإباحة أكله من بعض أعضائه حفاظاً لنفسه كما ذكروه فيمن لدغته أفعى في يده وكان يرجو الحياة- بقطعها قبل سريان السم فيه- أو طولها فإنه يجب (1)
فالزرقاني قاس أكل الإنسان عضواً من أعضائه على قطعه العضو الملدوغ لتحقيق الحياة أو طولها فكلاهما عضو أتلفه صاحبه بعلة حفظ الحياة وإذا جاز العضو أو النسيج إبقاء على الحياة فجواز نقله من مكان إلى مكان آخر أولى بالقبول.
المنقول إليه:
بينا في المنقول منه أن المسلم ينتفع في الحدود التي ضبطناها بعضو من أعضاء أخيه المسلم، والاختلاف في الذمي وأنه لا يجوز نقل عضو أو نسيج من مسلم لكافر غير ذمي.
الغاية من زرع العضو:
إن حكم زراعة العضو أو النسيج تختلف باختلاف الغرض من ذلك فقد يكون الغرض جمالياً لإزالة تشوهات واضحة تنكد على الشخص حياته وتعقد نفسيته وقد يكون ذلك لغرض غير ضروري إذ المجرى عليه الجراحة سوي الخلقة إلا أنه يريد أن تزداد وسامته ويتغير شكل أنفه أو ذقنه مثلاً، وقد يكون الغرض من ذلك أن يغير الخلقة تغييراً يجعل من العسير معرفة صاحبها إخفاء لجريمة وخداعاً للعدالة وهذه صور لا تتأتى في زراعة المخ والجهاز العصبي إذ المخ والجهاز العصبي نظراً لمكانتهما المتميزة في الكيان البشري إذ هي التي تعطي للإنسان خصائصه الإنسانية فإن الزراعة فيها لا تكون إلا لغرض أصلي نفسي أو عضلي تعود به للجسم استقامته وللنفس توازنها، ولذا فإن الجراحة بالزراعة تكون مشروعة في الحدود التي بيناها سابقاً وبشرط أن يكون الشفاء راجحاً على التلف.
__________
(1) الزرقاني شرح خليل: 3/28.(6/1306)
القائم بالنقل:
القائم بالنقل، ونعني به الجهاز الطبي من رئيس الجراحين ومساعديه الأطباء وطبيب الإنعاش والممرضين: ما حكم قيامهم بعملهم في زرع المخ والجهاز العصبي. إذا توقفت حياة المريض على التدخل الجراحي حسب الظن الغالب فإن حكم عملهم هذا هو الوجوب حسب الضوابط المبينة في البحث، وإنهم يثابون عليه ثواب الواجب وإن تراخيهم في أداء هذا الواجب يكون حراماً طبعاً. وفي مباحث الفقه ما يترتب على ذلك دنيوياً.
وأما إذا كانت حالة المريض لم تصل إلى هذه الدرجة من الخطورة فعمل الطبيب في هذا هو كعمله في تخفيف الآلام عمل شريف خلقياً مجزي عنه عند الله متى أخلص بعمله لله ولا يتنافى مع ما يتقاضاه عن جهده المبذول في الصورتين.(6/1307)
ملخص البحث
تمثل زراعة الأعضاء مظهراً من مظاهر تغلب الطب على المرض والألم والتشوه، ولذلك فهي في حكمها العام تدخل تحت باب التداوي.
وينقسم البحث في زراعة الأعضاء إلى خمسة أقسام:
ا- العضو المنقول.
3- الشخص المنقول منه.
3- الشخص المنقول إليه.
4- القائم بزرع العضو.
5- الغاية من زرع العضو.
ا- العضو المنقول:
العضو المنقول لا ينتفع به إلا إذا كانت الحياة ما تزال سارية فيه.
قد يبقى العضو حياً ويكون صاحبه قد مات بتحلل جذع مخه.
العضو المنقول قد يكون ضرورياً لبقاء الحياة وقد لا يكون كذلك.
بما أن الدماغ عضو مفرد تتوقف عليه الحياة وحياته تدل على الحياة وفناؤه دليل الموت فإنه لا يحل نقله ولا جزء منه من محترم الحياة.
2 - الشخص المنقول منه:
وينقسم المنقول منه إلى أقسام:
ا- الراشد الذي له حياة محترمة لا يحل أخذ عضو منه لا تبرعاً ولا بعوض.
2- المولى عليه لقصور فكري أو صغر ليس لوليه أن يتصرف في أعضائه.
3- الجنين عند انقسام اللقيحة إلى حدود 32 فأقل- ولما كانت الخلايا غير متميزة بوظائف فهي غير صالحة للزرع، وهذه البييضات الملقحة يترجح عندي إعدامها بمجرد ما تنتهي الحاجة إليها في زرعها داخل رحم الزوجة في حياة زوجها.(6/1308)
أما الجنين بعد المرحلة الأولى من الأسبوع العاشر كما يقرره الأطباء فإن كان إجهاضه محرماً فلا يجوز الاستفادة منه ولا زرع أي عضو من أعضائه.
وأما إذا كان إجهاضه جائزاً فإنه يجوز الانتفاع ببعض أجهزته أو أنسجته ولو كان ذلك بفتح بطن أمه إذا رضيت.
4- البالغ الرشيد إذا كانت حياته غير محترمة.
يجوز الاستفادة من أعضائه إذا كان المستفيد مضطراً لذلك وهو الذي يخشى على حياته أو أن يحدث له مرض خطير أو أن يطول أمد مرضه.
وغير المعصوم هو الذي قرر الإسلام إهدار دمه.
5- النقل من الإنسان نفسه.
يجوز أن ينقل عضو من الإنسان ذاته من مكان إلى مكان آخر.
3- الشخص المنقول إليه:
يجوز في الحدود المبينة نقل عضو من مسلم إلى مسلم اتفاقاً ومن غير مسلم إلى مسلم كذلك وفي نقل العضو من مسلم إلى ذمي خلاف، والراجح عدم الجواز ونقل عضو مسلم إلى كافر غير جائز.
4- الغاية من زرع العضو:
زرع العضو إذا كان لحاجة عضلية أو نفسية فهو مشروع.
وإذا كان لتضليل العدالة فهو حرام.
وإذا كان لغاية جمالية لسوي الخلقة فالراجح عدم الجواز.
5- القائم بزرع العضو:
إذا كانت حياة المريض في خطر فالقيام بالزرع في الحدود المبينة واجب والجهاز الطبي مأجور.
وإذا كانت حالة المريض لم تصل إلى درجة الخطورة فالعمل شريف مجزى عنه عند الله، يجتمع الثواب الأخروي مع الجزاء المادي متى أخلص الطبيب عمله لله وسما في قصده عن محض إرادته للنفع العاجل، والله أعلم.(6/1309)
لقد تتبعت باهتمام البحوث الممتازة للأساتذة، الدكتور مختار المهدي مأمون الحاج علي إبراهيبم وعبد الله حسين باسلامة. جزاهم الله عن جهودهم وحسن غرضهم. وقد أفدت كثيرا منهم في فهم الواقع الذي عليه بنيت ما وصلت إليه، إلا أنني استشكلت بعض النقاط التي أرجو أن يتم توضيحها وذلك:
ا- ما جاء في صفحة 8 من بحث الأستاذ الدكتور مختار المهدي: وكذلك الهرمونات المؤثرة على الغدد الجنسية وإمكانها أن تقوم بالتبويض مرة أخرى، توقفت في هذا لأنه حسب البحوث الطبية التي درستها إن الأنثى تختزن عدداً من البييضات تفرز في كل دورة واحدة أو أكثر. فكيف تؤثر الهرمونات على التبويض مرة أخرى؟
2- ص 9- أن تأثير الزراعة داخل المخ لا يؤثر على الشخصية، توقفت في هذا بناء على أن خلايا المخ هي التي تكيف إرجاع الفرد وتعدل سلوكه واختياراته، فكيف تكون زراعة خلايا جنينية في مخ الإنسان لا تؤثر في شخصيته مع أن الخلايا المزروعة في المخ تحمل حقيبتها الوراثية وبرنامجها الكامل؟
3- ص 11- ذكر الأستاذ عدد الحالات التي أجريت فيها زراعة أنسجة عصبية والمهم في نظري هو نسبة النجاح.
4- توهين الأستاذ لاستخدام الأجنة المجهضة في الأسبوع الحادي عشر وهي فترة المضغة قبل نفخ الروح: أتساءل هل إن الطب يفرق بين ما بعد الشهور الأربعة وما قبلها؟ وهل إن ما يحدث هو تطور في الخلق الأول أو هو أشياء تحدث تضم إلى الخلق الأول؟
5- ما جاء في ص 5 من بحث الأستاذ الدكتور مأمون الحاج علي إبراهيم من نقل الأعضاء الميتة، فهل تزرع الأعضاء الميتة؟ بمعنى هل إن الإنسان مركب من أعضاء ميتة وأعضاء حية. ذلك أن العضو إذا مات فإنه لا تعود له الحياة في الدنيا.
6- ما جاء في ص 3 من بحث الأستاذ الدكتور عبد الله حسين باسلامة من أن الجنين في الأسابيع الثمانية الأولى ليس له أعضاء أو أنسجة يمكن الاستفادة منها ثم يقول: والأجنة التي تستخرج من الرحم بعد الشهر الرابع أو أكثر تكون أكثر فائدة في عملية النقل، ولم أستطع أن أوفق بين هذا وبين ما جاء في بحث الأستاذ الدكتور مختار المهدي ص 7، أن الخلايا الجنينية تؤخذ بين الأسبوع الثامن والعاشر من الحمل.
محمد المختار السلامي(6/1310)
زراعة الأعضاء وحكمه في الشريعة الإسلامية
إعداد
فضيلة الشيخ الشريف محمد عبد القادر
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وكرم بني آدم على سائر الخلائق، وعلمه ما لم يعلم من الكتاب والحكمة، والصلاة والسلام على أفضل البشر وسيد المرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
إن العلوم الطبية الجراحية قد تطورت وحققت منجزات باهرة- وأصبحت عمليات نقل الدم وزرع الأعضاء من الأعمال اليومية وتطورت بنوك الدم والأعضاء الإنسانية، ونالت عمليات البيع والتبرع بالدم والأعضاء الإنسانية حية أو مميتة رواجاً عاماً في كل مكان من العالم.
وفي هذه الظروف برزت مسألة تحديد موقف الشريعة الإسلامية من هذه الأمور خاصة مسألة زرع الأعضاء الإنسانية في نفس الجسد الذي بترت منه هذه الأعضاء أو في جسد آخر- وكذلك مسألة التبرع بالأعضاء وبيعها- هل تجيز الشريعة الإسلامية هذه الأمور أم تمنعها؟
ومن أجل التوصل إلى رأي حول هذه الأمور يجب النظر والبت في المسائل التالية:
* أولاً: كرامة الإنسان وحرمة أعضائه.
* ثانياً: ملكية الجسد الإنساني- هل يملك الإنسان جسده أم لا؟
* ثالثاً: نظرة الشريعة الإسلامية حول ضرورة بتر الأعضاء وزرعها.
* رابعاً: مسألة طهارة العضو المبتور وعدمها وحكم زرعه من هذه الناحية.
فلننظر في هذه الأمور لنتعرف على وجهة نظر الشريعة الإسلامية فيها، وفي مقدمتها:
* كرامة الإنسان وجسده:
قال الله ربنا سبحانه وتعالى في محكم كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [سورة الإسراء: الآية 70] .
إن هذه الكرامة التي منحها الخالق سبحانه وتعالى لأفضل خلقه البشر تشمل نفس الإنسان وجسده- حيث قال سبحانه وتعالى في سورة العلق من كتابه الفرقان المجيد {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} - وأشير في الآية إلى كرامة نفس الإنسان- فإن الإنسان هو الخلق الوحيد الذي فتح الله أمامه أبواب العلم والمعرفة وشرف نفس الإنسان بقوة البحث والتفكير ليخرج بها من الظلمة إلى النور ويتوصل إلى المجهول بواسطة المعروف- وهذه الكرامة النفسية ينفرد بها الإنسان فقط ولم يظفر بها غيره في الخلائق، وبخصوص كرامة الجسد الإنساني، فقد قال الله تعالى في كتابه المجيد {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [سورة التين، آية 4] .(6/1311)
ومن الواجب على الإنسان المحافظة على كرامته النفسية والجسدية ويحرم عليه تغيير هيكل جسده القويم، ولا يجوز للإنسان التصرف بجسده وبأي عضو من جسده بحيث يسيء إلى شرفه وكرامته، ومن ثم منع النبي صلى الله عليه وسلم من كسر عظم الإنسان ولو ميتاً، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كسر عظم الميت ككسره حياً)) ، وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ((لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة)) ، فإن السبب يرجع إلى أن هذه الأعمال لا تليق بشأن جسد الإنسان الكريم وشرفه، ورجع الإمام النووي أسباب لعنة النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة إلى أن هذا الأمر يعتبر تزويراً وتدليساً وتغييراً للخلق وذاك لا يجوز نظراً إلى كرامة الإنسان، حتى منع الإمام النووي رحمه الله الانتفاع بشعر الأدمي وبأي عضو من أعضاء جسده وذلك رعاية لكرامة الإنسان التي بها اختاره الخالق سبحانه من سائر خلقه الذي لا يدريه إلا هو.
ويستنتج مما ذكر أعلاه أن الشريعة الإسلامية لا تجيز التلاعب بأعضاء الجسد الإنساني ولا تجيز معاملته بحيث تسيء إلى كرامته.
* ملكية الإنسان لجسده:
قال الفقيه العلامة الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه للحديث النبوي الشريف: ((من قتل نفسه ... )) الحديث، لأن نفسه ليست ملكاً له مطلقاً بل هي لله تعالى، فلا يتصرف فيها إلا بما أذن له فيه (فتح الباري) - ويدل هذا التصريح من العسقلاني على أن الإنسان لا يملك جسده فلا يجوز له بيعه وبيع أي عضو أو جزء منه كما لا يجوز أن يتبرع به أو بأعضائه أو أجزائه- فإن الهبة والبيع لا يصح إلا من المالك.(6/1312)
* زرع الأعضاء للأغراض الطبية:
إن المسألة التي نحن بصدد البحث عنها هي: هل تجيز الشريعة الإسلامية بتر أي عضو من أعضاء الجسد حياً أو ميتاً مثل العين والأذن والمخ والكلية والقلب واليد والرجل وغيرها وزرعها في نفس الجسد أو في جسد غيره لأغراض طبية؟ وقد أوضحنا فيما أعلاه ضمن البحث عن كرامة الإنسان وجسده أن الشريعة الإسلامية لا تجيز أن يعامل الجسد الإنساني المحترم معاملة تسيء إلى كرامته، وما من شك في أن تقطيع الجسد الإنساني وأعضائه ومعاملته معاملة السلع والبضائع بالبيع والهبة ونقل أعضائه من مكان إلى مكان آخر أومن جسد إلى جسد آخر يعتبر انتهاكاً سافراً لكرامته، وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار آراء الفقهاء بهذا الخصوص.
قال العلامة الكاساني في كتابه البدائع: "أما عظم الآدمي وشعره فلا يجوز بيعه لا لنجاسته لأنه طاهر في الصحيح من الرواية ولكن احتراماً له، والابتذال بالبيع يشعر بالإهانة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله الواصلة والمستوصلة! .
وجاء في المبسوط للسرخسي بيع الحر لا يجوز، لأن الحر لا يدخل في العقد، لأن دخول الشيء في العقد هو بصفة المالية والتقوم، وذلك لا يوجد في الحر، وجاء في البحر: "ولبن المرأة أي لم يجز بيع لبن المرأة لأنه جزء الآدمي وهو بجميع أجزائه مكرم ومصون عن الابتذال بالبيع.
وعلاوة على ذلك لا يحق لأحد التبرع بالجسد الإنساني لأن الإنسان لا يملك جسده ملكية مطلقة، بل هو ملك لخالقه سبحانه وتعالى، وليس للإنسان إلا الاستفادة بجسده وأعضائه حسب أحكام الشريعة الإسلامية.
وقال القاضي أحمد بن رشد في بداية المجتهد: (أما الواهب فإنهم اتفقوا عل أن تجوز هبته إذا كان مالكاً صحيح الملك "، فقد تبين من الاقتباسات المذكورة أعلاه من أقوال الفقهاء أنه لا يجوز بيع وهبة جسد الإنسان أو أي جزء من أجزائه حتى لا يجوز لصاحب الجسد بتر أي عضو من جسده لاستخدامه لنفسه، كما جاء في الفتاوى العالمجيري: "مضطر لم يجد ميتة وخاف الهلاك، فقال له رجل: اقطع يدي وكلها، أو قال: اقطع مني قطعة فكلها لا يسعه أن يفعل ذلك ولا يصح أمره، كما لا يصح للمضطر أن يقطع قطعة من لحم نفسه فيأكل ".(6/1313)
وفي المبسوط للسرخسي أن المضطر كما لا يصح له قتل الإنسان ليأكل من لحمه لا يباح له قطع عضو من أعضائه.
ومن المعروف أن العضو المبتور من جسد الإنسان يعتبر نجساً، وحمل النجس وربطه بجسد الإنسان لا يجوز كما لا تجوزه الصلاة في هذه الحالة، وقد يستنتج مما ذكر أعلاه:
أولاً: أن أعضاء الإنسان شيء محترم، فلا يجوز بترها لزرعها في مكان آخر من نفس الجسد أو في جسد آخر حتى ولو كان لغرض العلاج لأن ذلك يعتبر انتهاكاً لكرامة الإنسان وأعضاء جسده.
ثانياً: أن أعضاء جسد الإنسان ليست سلعاً تباع وتشترى، ولا يملك الإنسان أعضاءه ملكاً تاماً، بل هي ملك خالص لله الخالق سبحانه وتعالى أما الإنسان فمجاز باستخدامها حسب أحكامه وإرادته، فلا يجوز للإنسان هبة أو بيع عضو من أعضائه مثل العين والمخ والكلية وغيرها في حين حياته أو بعد موته.
ثالثاً: أن الجثة الهامدة والملقاة في العراء أو في الحي مجهولة الهوية والجثة المشرحة محترمة كجثة أي إنسان آخر فلا يجوز بتر أعضائها وزرعها في جسد آخر لأغراض طبية كما لا يجوز استخدامها لأي غرض آخر.
قد عرضنا فيما مر أقوال كبار الفقهاء المتقدمين والمتأخرين وما يستنتج من أقوالهم حول موضوع زراعة الأعضاء.
وقد رأى بعض الفقهاء قياس مسألة زرع الأعضاء على مسألة التداوي بالحرام عند الضرورة أخذاً في الاعتبار تصنيف العلامة الهموي لأعمال الإنسان في خمسة أصناف الفضول والزينة والمنفعة والحاجة والضرورة، والضرورة تبيح المحظورات، فيجوز زرع الأعضاء في حالة الضرورة كما يجوز التداوي بالحرام فيها، وقد أجاز بعض فقهاء العصر التبرع بالدم للأغراض الطبية ولكنهم اختلفوا في بيعه.(6/1314)
وفي الختام أرجو أن تلتفت أنظار فقهاء العصر إلى المستجدات الباهرة في العلوم الطبية والجراحية والى التطورات والمتقلبات الحديثة في الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية، قد يصاب عدد كبير من أولاد البشر رجالاً ونساءً وأطفالاً بجروح شديدة في لحظة واحدة نتيجة الحروب العصرية والكوارث الطبيعية، وقد حققت العلوم الطبية والجراحية نجاحاً كبيراً في إنقاذ حياة الكثيرين عن طريق نقل الدم وزرع الأعضاء، واكتسبت الأعضاء الإنسانية نوعاً من المالية والتقوم حيث تباع هذه الأعضاء حية أو ميتة، وقد يتبرع بها كمبادرة إنسانية. ومسألة نجاسة الأعضاء المبتورة مما اختلف فيها العلماء، وزراعة العضو يعتبر إعادة الحياة فيها فيبرز سؤال: ألا تعتبر إعادة الحياة في العضو المبتور بمثابة إزالة النجاسة منها وإعادة الطهارة فيها؟ وصحيح أن جسد الإنسان محترم، ألا يجوز اعتبار التبرع بالأعضاء تضحية من قبل إنسان محترم لإنسان محترم آخر بشيء يمكن له الاستغناء عنه؟
ويشهد تاريخ تطور الفقه الإسلامي أن فقهاء الأمة قد غيروا آراءهم وقد عدلوا عن آرائهم السابقة وأجازوا ما منعوه من قبل نظراً إلى التغيرات الواردة في المسألة والمستجدات من الأحوال في الموضوع، فإن جمع سور القرآن الكريم في مصحف كان يعتبر ممنوعاً في عهد النبوة وفي الأيام الأولى من الخلافة وغير الصديق الأكبر والفاروق الأعظم وبالتالي جمهور الصحابة رأيهم بعد أحداث اليمامة حيث استشهد عدد كبير من حفظة القرآن وخشي من فقدان أجزاء القرآن الحكيم، كذلك كان الفقهاء المتقدمون يحرمون الأجرة على الإمامة وتعليم الكتاب والسنة، ولكن الفقهاء المتأخرين أجازوها نظراً إلى انقطاع المنحات الحكومية وقلة رغبة الناس في الإمامة والتعليم، والنظائر والسوابق في هذا المجال كثيرة.
فيجب على فقهاء الأمة وعلماء العصر إمعان النظر في هذه المسألة الاجتهادية آخذين في عين الاعتبار الظروف السائدة والتقلبات العصرية والمصلحة العامة للأمة. هذا والله أعلم بالصواب.
الشريف محمد عبد القادر(6/1315)
زراعة خلايا المخ
مجالاته الحالية وآفاقه المستقبلية
إعداد
سعادة الدكتور مختار المهدي
رئيس قسم جراحة الأعصاب
بمستشفى ابن سينا التخصصي - القاهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
بالرغم من أنه لم تمض غير سنوات قليلة على بداية علم زراعة الأعضاء البشرية كعلم حديث من علوم الطب، إلا أنه مثل غيره من العلوم في الأعوام الأخيرة، أصبح معدل التقدم فيه ليس بالاطراد المعتاد من قبل في أي وقت مضى، بل أصبح تقدماً سريعاً مركباً يلهث الإنسان ليدرك مداه إذا نظر إلى مجال واحد من مجالاته وهو ما لاحظته عند كتابة هذا البحث، ومرجع ذلك في رأيي هو الاتساع الشديد في مجالات المعرفة في العلوم المختلفة والتي يخدم بعضها بعضاً.
فمثلاً التقدم في العلوم الكيميائية والفيزيائية والإلكترونية والبصرية يخدم بعضها بعضاً في حل مشاكل تعترض نموها، كما أنها كلها مجتمعة تساعد التقدم في العلوم الطبية وتحل الكثير من مشاكلها وتفتح الكثير من الثغرات في العقبات التي تعترض هذا التقدم. فإذا أضفنا لذلك أيضاً سهولة انتشار وسائل المعرفة بين مختلف دول العالم من خلال المجلات العلمية المتخصصة، والتي يمكن أيضاً نقلها عبر الأقمار الصناعية في فترات زمنية وجيزة إلى كل مكان، ووجود أعداد غفيرة من العلماء الباحثين في جميع مجالات المعرفة في كل منها لأدركنا سر هذه السرعة غير العادية في التقدم العلمي الآن. فكل بحث يحل مشكلة ما في بلد ما يتم من خلاله تطبيقات كثيرة في بلاد أخرى ويتفرع عنها بحوث جديدة وهكذا ...
فنحن نعيش الآن عصراً يمكن تسميته بعصر الانفجار العلمي.
هذا النوع من التقدم يتطلب منا كجهة معنية بالتوجيه العلمي أو بالأصح بنقد التقدم العلمي بميزان الشريعة الإسلامية ووضع علامات الاستحسان والتحذير.. يتطلب منا هذا أيضاً، ليس فقط أن نسرع في عملنا لنلاحق هذه السرعة بسرعة مماثلة، وأن نضع العلامات الصحيحة والمطلوبة فقط، ولكنه يتطلب منا الآن أيضاً أن نشرك الإعلام الإسلامي الواعي بوسائله المختلفة في بلاده المختلفة لحضور هذه الندوات. إن ذلك ليس للاشتراك في مناقشة المواضيع المطروحة في الجلسات فقط، فالإعلاميون قطاع هام من جمهور المسلمين يهمنا أن نعرف انعكاسات آرائنا عليهم، وليبدأ عملهم من حيث تنتهي هذه الندوات من وضع توصياتها النهائية وذلك لعرض وجهات النظر التي تم عليها الاتفاق على جماهير المسلمين ومناقشتها إعلامياً ونشر الأبحاث والمناقشات التي تمت في قنوات الإعلام إلى الملايين.(6/1316)
إن تسجيل أحداث ومناقشات الندوات لهو مجهود وعمل شاق يستحق التقدير والإعجاب، ولكن الانتشار الجماهيري في دول العالم المختلفة عن طريق ممثلي الإعلام من مختلف الدول الإسلامية المشاركة يضيف الكثير إلى هذا العمل الجليل والذي نرغب له أن يخرج خارج نطاق المشاركين الحاليين ومجال الكتب التي تعقب الندوة، فهي مهما كثر عددها فإن تكلفتها تجعلها باستمرار محدودة الانتشار.
إن المتتبع للصحافة والتلفزيون المصري في مطلع هذا العام ليحز في نفسه ما تم من معارك على صفحاتها عقب حديث تلفزيوني في مجال زراعة الأعضاء البشرية. شارك فيها كل من يعرف ومن لا يعرف وجرح فيها عن قصد أو غير قصد بعض علمائنا الأفاضل تجريحاً قد يقصد به ذواتهم أو ما يمثلونه من فكر وتمادى البعض في ذلك واستمرت أسابيع وأسابيع.
لقد كان ذلك بعد أكثر من عام من عقد ندوة المركز الإسلامي بخصوص زراعة الأعضاء التي تم فيها وضع التوصيات السليمة والآراء الفقهية المدروسة التي شارك فيها ثلاثة من مفتي الدول الإسلامية المشاركة، وأيضاً بعد نشر كتاب الندوة الذي حوى كل الآراء والمناقشات، ولقد كان من الممكن تنظيم مثل هذه المناقشات على قنوات الإعلام الثلاث (الصحافة والإذاعة والتلفزيون) جماهيرياً وتحجيمها في النطاق المقبول بعد الندوة مباشرة.. كان ذلك ممكناً لو كنا خططنا له مسبقاً بدعوتنا إعلاميين مسلمين واعين ليحضروا جلساتنا ويتفهموا أهدافنا.. إنها دعوة لإدخال عنصر الإعلام في هذه الندوات جنباً إلى جنب مع العناصر الطبية والشرعية والقانونية والاجتماعية لتعم الفائدة وتنتشر، وهو أحد أهدافنا، وهو أيضاً ما يقطع الطريق على كل مغرض خبيث.
إن دين " اقرأ " هو دين العلم والمعرفة وليس للأقزام التي تتمسح بقشور العلم أن تتطاول عليه.(6/1317)
هل هناك ما يسمى بزراعة المخ؟
أما وقد تم حتى الآن زراعة كل شيء بشري في جسم الإنسان تقريباً من أطراف كالأيدي والأرجل ومن أعضاء كالقلب والرئة والكبد والعظام والبنكرياس والغدد ... إلخ. فإنه لم يبق ما لم يزرع إلا المخ، والطبيعي أن يكون تفكير البعض أنها الخطوة التالية.
إن هذه النظرة قد تبدو منطقية؛ فالمخ هو أحد أعضاء جسم الإنسان من الناحية التشريحية، ويقوم بوظائف نعرفها عندما يصاب بعض أجزائه بالتلف أو المرض أو تستأصل لوجود ورم بها.. ولكن هل هذه النظرة هي فعلاً منطقية؟
إننا نعرف أن من مبادىء زراعة الأعضاء أن العضو الذي ينقل لزراعته لا بد أن يكون عضواً سليما حياً لنقله مكان عضو تلف، ونعرف أيضاً أن وفاة الإنسان تكون لتلف مخه واستئصال مخ سليم من شخص هو قتل له لأن وفاة الإنسان الآن تعرف بوفاة المخ وتكون الترجمة الحرفية لهذا العمل إذن، هي: "قتل إنسان لنقل مخه لإنسان آخر متوفى.
ويمكننا إذن أن نقول إن الإنسان الحي هو الذي يملك مخاً حيًّا مهما تلف أحد أعضاء جسمه، فإن هذا العضو يمكن تعويضه بطريقة أو أخرى.. فمثلاً الكلية يمكن أن نستعاض عنها بجهاز كيميائي للغسيل الكلوي أو بزراعة كلية من متبرع وكلاهما يقوم مقام الكلية التي تلفت بدون أن يضار أحد ولو من الناحية النظرية، ولا يمكن أن يقال نفس الشيء عن المخ لأن الذي توفي بتلف مخه لا يمكن لبشر أن يبعثه بنقل مخ حي إليه، وما يقال عن زراعة المخ ما هو إلَّا من قبيل الخيال العلمي، وعلى الفرض الجدلي إذا أمكن نقل مخ من إنسان حي إلى إنسان متوفى، ففي هذه الحالة يقال: إن الجسد قد نقل إلى المخ وليس العكس.
ما هو المخ البشري وكيف يعمل؟
قبل أن نسترسل في هذا البحث يلزم لنا أساساً أن نعرف مكونات مخ الإنسان تشريحيًّا وما هو عمله حتى نتعرف على ما نتحدث عنه، ونتفق على تعريفات محددة، وما أسرده هنا هو مبادئ طبية معروفة في صورة مبسطة ومختصرة.(6/1318)
إن المخ الذي نتحدث عنه هو ليس فقط ذلك العضو الذي تحتويه الجمجمة، ولكن يدخل في تكوينه أيضاً أطراف أخرى متصلة به تكون جميعاً ما يعرف بالجهاز العصبي المركزي، فهي أساساً أجزاء منه، مثل شبكية العين والعصب البصري (الجزء المبصر من العين) ، وكذلك الأذن الداخلية والعصب السمعي (الجزء الذي يسمع من الأذن) ، وكذلك الخلايا الحساسة للروائح، ويصلها بالمخ عصب الشم وخلايا التذوق في اللسان والاتصال العصبي، وأيضاً النخاع الشوكي داخل الفقرات وجميع الأعصاب التي تتفرع منه والتي تجلب إحساس اللمس من سطح الجسم، وكذلك تنقل أوامر الحركة والتنفيذ إلى أجزاء الجسم المختلفة.
إن هذه الزوائد هي جزء لا يتجزأ من المخ تشريحياً ووظيفياً، فإذا انقطعت إحساسات النظر والسمع واللمس ... إلخ عن المخ، حتى مع بقاء المخ حياً، فإنه ينقطع عن العالم الخارجي، لا يعلم عنه شيئا وينعزل عنه ويصبح للجماد هو أقرب منه للإنسان، وكلنا يذكر معجزة الدكتور هيلين كلير، التي فقدت إحساس السمع والبصر منذ ولادتها، وكانت حاستا اللمس والشم عندها هي فقط التي تربطها بالعالم الخارجي.
كانت حياتها بهذا الأسلوب تشبه المعجزة، حيث كانت تعيش في عالم كله ظلام وصمت رهيب، وكان اللمس بأصابعها على وجوه الناس هو أسلوب التعرف عليهم، واللمس على حناجرهم وشفاههم هو أسلوب السمع لديها، وهو ما يشكل عظمة مقدرة هذه الإنسانة التي تمكنت برغم ذلك من الدراسة لتحصل على درجة الدكتوراه، فلو تصورنا أنها أيضاً فقدت حاسة اللمس، إذن لانقطعت كل اتصالاتها بالعالم الخارجي ككل، وأصبحت فعلاً أقرب للجماد من الإنسان.. إن هذه الزوائد الحسية- كما سبق وذكرنا- هي جزء أساسي من المخ كعضو، لا يستطيع أن يؤدي وظائفه بدونها.
أما عن المخ ذاته فهو عبارة عن نسيج هلامي ضعيف؛ ولذلك خلق الله له هذه العلبة العظيمة المسماة بالجمجمة ليحتمي بصلابتها مثلما تحتمي الحيوانات الرخوة داخل صدفات المحار.. بل إن المخ أيضاً يطفو داخل الجمجمة في السائل النخاعي المحيط به، فهو أقل منه كثافة مما يشكل زيادة في الحماية، وإن طبيعة تكوين هذا المخ الهلامي الذي لا يأخذ شكله الطبيعي إلا في وسط هذا السائل الذي يطفو فيه يشبه الحيتان تعيش في المياه العميقة، فإذا انحسر عنها الماء في المياه الضحلة فإنها لا تتحمل وزنها ويتفلطح شكلها وقد تهلك.(6/1319)
ويخرج من المخ عشرات الأطراف العصبية (الأعصاب) من خلال ثقوب في الجمجمة والعمود الفقري، كما أن الكثير من الشرايين والأوردة تنقل إليه ومنه الدم اللازم لتغذيته.
إن الجهاز العصبي المركزي والمخ بصفة خاصة لا يتحمل تغيرات فيزيائية أو كيميائية في محيطه الذي يعيش فيه إلا في نطاق محدود جداً، فمثلاً التغير في درجات الحرارة بالنسبة لأعضاء أخرى كالجلد يمكنه أن يتحمل درجات تصل إلى عشر أو عشرين درجة مئوية صعوداً أو هبوطاً من الدرجة العادية وهي 37 درجة، إلا أن المخ لا يتحمل انخفاضاً أكثر من درجتين وإلا ابتدأ عمله في التأثر، فقد يغيب الإنسان عن وعيه فيما يشبه النوم، وهو ما حدث لجيوش نابليون في هجومها على روسيا في الشتاء القارس البرد مما سبب اندحاره وهزيمته، وإذا زادت الحرارة عن درجتين أو ثلاث، فإنه يفقد الوعي كذلك ويصاب بما يسمى ضربة شمس.
كذلك التغييرات الكيميائية لا يتحملها المخ بعد نطاق محدود، وكذلك بالنسبة لتركيز سكر الجلوكوز أو الأوكسجين في الدم، فإذا انقطع سريان الدم مثلاً عن المخ لأي سبب من الأسباب ولو لثوان قليلة، فقد الإنسان وعيه، وإذا زاد ذلك عن دقائق أربع فقد يعني هذا نهاية خلايا المخ وبالتالي الإنسان ككل.
إذا كان هذا مدى رقة هذا العضو في تكوينه ومدى حساسيته المرهفة للظروف البيئية التي يعيش فيها، فما هو العمل الذي يؤديه؟.. إن جميع أعضاء جسم الإنسان الأخرى يمكن تقسيم الأعمال التي تقوم بها إلى أعمال كيميائية أو ميكانيكية في النهاية.. فالكلى والكبد والغدد تؤدي أعمال كيميائية لفصل الأملاح الضارة والتمثيل الغذائي، وأما أعضاء أخرى كالقلب والعضلات والعظام فعملها أساساً هو عمل ميكانيكي، وهناك ما هو مزدوج العمل، كالجهاز التنفسي والأمعاء ... ولكن ما هو عمل المخ؟ إنه يختلف تماماً.. إن عمله يمكن أن نلخصه في مجالات ثلاثة، هي:
الإحساس.. الوعي والإدراك والابتكار.. رد الفعل أو التنفيذ. فإذا دققنا النظر في هذه الوظائف لوجدناها تمثل كيان الإنسان وذاته، وأن الإنسان هو مخ حي.. خلقت الأعضاء الأخرى لتقوم على خدمته من هضم الغذاء وتقديمه وطرد الفضلات والتنقل به من مكان لآخر، والأكثر من ذلك أن المخ يسيطر على جميع الأعضاء الأخرى وجميع خلايا الجسم بصورة أو أخرى.(6/1320)
ا- الإحساس:
يقوم المخ عن طريق أطرافه التي دفعها على سطح الجسم بأن يتلقى المعلومات ويجمعها، وهي ما نسميه بالحواس الخمس، ما بين موجات ضوئية للنظر، أو ترددات سمعية أو كيماويات تنتشر في الهواء لتصل إلى الأنف أو تحسها خلايا التذوق على سطح اللسان أو ما يلامس سطح الجسد بتفاصيل مختلفة من الإحساس الخشن أو الناعم، الساخن أو البارد ... الخ، فتقوم أعصاب الإحساس بنقل هذه الأحاسيس إلى المخ، ويقوم هو بإدراكها.. هذه الحواس الخمس لم تتغير من عصر آدم حتى الآن فلم يستطع الإنسان أن يخلق لنفسه حواس أخرى.. ليدرك ما لم يأذن الله له أن يدركه مما يحيط به.. ولكنه استطاع عن طريق العلم الذي هداه الله له أن يوسع مدارك هذه الحواس ويضاعف قدراتها من ناحية الكيف، فإذا أخذنا إبصار العين مثلاً سنجد أن العين أصبحت تدرك وترى الجسيمات المتناهية في الصغر التي تقرب من الذرات عن طريق المجهر الضوئي أو الإلكتروني.. وترى الأجسام التي تبعد عنها بملايين الأميال من الأجرام السماوية عن طريق التلسكوب مما يستحيل على العين أن تدركه، وتتمكن العين أن ترى أكثر من ذلك وضوحاً سبع مرات عن طريق التلسكوب الذي يقوم العلماء بتركيبه خارج الغلاف الجوي.. بل استطاع الإنسان أن يطوع للرؤية موجات خلاف موجات الضوء، أصبح يرى عن طريق الموجات تحت الحمراء والليزر، والإلكترونات والموجات فوق الصوتية.
2- الوعي والإدراك والابتكار:
إن وصول الأحاسيس للمخ تترجم داخله إلى معان يعيها ويتعرف عليها، كما أنه يقارنها بما هو مخزون لديه من آلاف الخبرات السابقة، خبرات مختزنة لكل حاسة على حدة منذ ولادته كطفل وما تعلمه في مراحل التعليم المختلفة، وما قرأه وما سمع عنه، وما تعلمه من ممارسات في الحياة، وكلما زاد المخزون من الخبرات كلما كان تقويمه وتحليله لما يقابله في الحياة أكثر دقة، ويكون قراره في النهاية أكثر حكمة واتزاناً، ويقدر ما أنبأته به الأحاسيس من احتمالات الخير أو نذر الشر، فيتأهب لها.(6/1321)
3- رد الفعل وتنفيذ القرار:
يقوم المخ بالرد أو التجاوب والانفعال لما تثيره وصول هذه الأحاسيس في نفسه وبداهة ليستطيع المخ أن يقوم بالرد يلزمه أن يكون مسيطراً على كل إمكانيات الجسم، بما فيه من أعضاء وأنسجة وخلايا وهذه السيطرة من رد فعله منها ما هو على المستوى الواعي وتحت السيطرة المباشرة، كما في الجهاز الحركي من نشاط عضلي أو كلام أو إشارات أو أفعال ... ومنها أيضاً ما هو دون مستوى الوعي عن طريق الجهاز العصبي اللامركزي أو الجهاز السمبثاوي وغير السمبثاوي من سيطرة على ضربات القلب وحركة الأمعاء وتنظيم التنفس، كما أنه عن طريق السيطرة على الغدة النخامية يقوم بالسيطرة على الغدد المختلفة من النمو والتمثيل الغذائي والنمو الجنسي، وتنظيم الدورة الشهرية للإناث، وتنظيم الحمل.
من هذا الإيجاز في شرح تركيب وعمل المخ يبدو لنا من هذا الجهاز الرقيق، المعقد التركيب، شديد الحساسية المتناثر في أنحاء الجسم مدى الصعوبة الشديدة، ولا أقول استحالة نقله، فلفظ المستحيل يصعب استعماله في هذا العصر لأن الكثير من ممكنات اليوم كانت أصلاً مستحيلات الأمس.
زراعة الخلايا والأنسجة داخل المخ:
منذ عدة سنوات ابتدأت فكرة زراعة خلايا وأنسجة داخل المخ من مختلف الأنواع من البحوث الأكاديمية في عمليات تجريبية على حيوانات المعامل من فئران وغيرها لتجربة تأثير عقاقير مختلفة عليها، وكذلك مراقبة تصرف هذه الخلايا في الظروف البيئية المختلفة، كذلك في مجال دراسة الأورام السرطانية وإجراء الدراسات عليها.
وكان اختيار المخ بالذات كمكان للزراعة لما اكتشف له من ميزات لا تتوافر لأماكن أخرى (خلاف الغرفة الأمامية للعين) ، فهو يوفر حماية للخلايا المزروعة، والتي تكون أقل عرضة للطرد عن طريق الجهاز المناعي للجسم، وذلك لميزات معينة في طبيعة تكوين الدورة الدموية للمخ ووجود ما يسمى بالحاجز الدموي للمخ، وهو الذي يفصل بين مكونات الدم والأنسجة العصبية للمخ (Blood Brain Varner) .. وأخيراً ومع اطراد النجاح للزراعة داخل المخ أصبح التساؤل: ولم لا للزراعة للأغراض العلاجية لأمراض ومشاكل المخ المختلفة؟ توطئة للتطبيق على الإنسان فيما إذا نجحت مثل هذه التجارب على الحيوان.(6/1322)
وقد تم ذلك بالفعل، وكانت لبلاد مثل: السويد والمكسيك وبلاد أخرى قصب السبق في هذا المجال، وصدرت عنهم المئات من التقارير والأبحاث، بل إنه قد تمت بالفعل بعض التطبيقات على الإنسان.
ويمكننا الآن تقسيم هذه التجارب، والتي يقصد بها العلاج إلى اتجاهين مختلفين اعتماداً على نوع المرض، أحدهما يعتمد على العلاج الهرموني أو توفير ما يسمى بالهرمونات العصبية (Neuro Transmitie) ، مثل: الدوبامين والكولين والكاتيكولامين.. وغيرها عن طريق زراعة خلايا داخل المخ لإنتاجها، وهناك تجارب أخرى الغرض منها مختلف تماماً، وهو محاولة عبور التليفات داخل المخ والنخاع الشوكي، والتي تحدث بعد الإصابات والالتهابات، وقد أظهرت التجارب أن النتائج تختلف كثيراً اعتماداً على عوامل عدة، منها نوعيات الأنسجة المستخدمة في الزراعة ومصادرها، وكذلك أسلوب نقلها وأماكن زراعتها في المخ كما تعتمد أيضاً على عمر الخلايا المزروعة.
أولاً- زراعة الأنسجة العصبية بغرض توفير الهرمونات العصبية:
- ربما كان هذا هو أول الأهداف التي قصد بها الزراعة لعلاج مرض باركنسون أو الشلل الرعاش، وفكرة هذه الزراعة هو أن هناك من الخلايا العصبية ما هو مختص بإنتاج هرمون بالمخ، وأنه في هذا المرض يكون عادة المريض في سن متقدمة أو بفعل تصلب وضيق شرايين المخ، فتضمر هذه الخلايا التي تعيش أساساً في جذع المخ، فتبدأ عوارض المرض في الظهور مثل اهتزاز الأطراف والتيبس في حركة المفاصل، وهذا الهرمون يسمى بالدوبامين. هذا المرض يعالج حالياً بعقار يحتوي على المادة المطلوبة، هذا العقار ولو أنه يحسن الكثير من الجوانب المرضية، لكنه لا يحل كل المشاكل بالنسبة للمرض فضلاً عما له من آثار جانبية. وكثيراً ما يكون من الكثرة بحيث يقلل من فائدته في العلاج. وقد بدأت هذه الجراحة بزراعة خلايا من نفس الحيوان استؤصلت من الغدة فوق الكلوية الخاصة به، والتي تفرز هذا الهرمون أيضاً. وبالرغم من أن بعض هذه الحيوانات أظهرت بعض التحسن، إلا أنه وجد أن زراعة خلايا جنينية من المادة السوداء بجذع المخ (Substantia Nigra) ، تعطي نتائج أكثر إيجابية وأكثر استمراراية، وعلى أن تكون قد أخذت من أجنة ما بين الأسبوع الثامن والعاشر من الحمل.(6/1323)
وعند نجاح هذه التجارب على الحيوانات بدرجة كبيرة، بدأ بالفعل في كل من السويد والمكسيك إجراء هذه العمليات على مرضى متطوعين في حالات متأخرة من هذا المرض. وقد تمت الجراحة أولاً باستخدام أجزاء من النسيج العصبي للغدة فوق الكلوية بعد استئصالها من جانب واحد فقط، ثم زراعة أجزاء منها داخل مخ نفس المريض. ولقد تبين منها نفس النتائج التي تم الوصول إليها بالنسبة للحيوان بعد إجراء نفس الجراحة باستخدام خلايا إنسانية جنينية، غير أنه في الحالة الأخيرة يكون العلاج في صورة عملية واحدة بدلا من عمليتين كبيرتين إحداهما لاستئصال الغدة والأخرى عملية فتح الرأس لزراعة الخلايا، ولقد تمت أولى هذه العمليات في السويد عام 1983م.
- وقد اتضح أيضاً أن نفس الهرمون العصبي "الدوبامين، عن طريق زراعته في حيوانات تجارب المعمل قد أمكنه تحسين مظاهر شيخوخة المخ.
وقد أجريت التجارب على الفئران المسنة، والتي لا تستطيع أن تمشي بتوازن على عصا رفيعة ممتدة بين سطحين، وأنها تنزلق وتسقط من فوقها بخلاف الفئران الشابة التي تستطيع ذلك بسهولة.
وقد أمكن لهذه الفئران المسنة أن تظهر كفاءة واتزاناً أكبر بعد زراعة الخلايا الجنينية لها.
- كما أنه هناك هرمون عصبي آخر هو هرمون الكولين، وقد وجد أن الهرمون يمكنه علاج ضعف الذاكرة أيضاً في الفئران التي أتلف فيها عن عمد أجزاء من المخ ليحدث لها حالة مشابهة تصيب الإنسان وهو مرض (الزهايمر) وهو أحد أنواع عته الشيخوخة، وهذا المرض ليس له أي علاج حالياً.
ففي إحدى التجارب لتعليم الفئران الطبيعية بعض الحركات التي تتطلب بعض التركيز أمكن لهذه الفئران تأديتها بنسبة مائة في المائة بعد فترة تدريب مدتها أسبوعان، ولكن إذا أعطيت بعض أجزاء المخ التي تؤدي إلى إضعاف الذاكرة، فإن هذه الفئران لا يمكنها أن تتعلم على الإطلاق.(6/1324)
ولكن التجارب أيضاً أثبتت أن نفس الفئران يمكنها العودة إلى التعلم وتؤدي الحركات بنسبة دقيقة توازي ثمانين بالمائة إذا زرعت بها الخلايا العصبية الجنينية التي تفرز هرمون "الاستيلكولين "، وهنا يجب أن تلاحظ أنه على الرغم من أن الزراعة تنجح في بعض هذه الحيوانات، إلا أن هذا النجاح لا يؤدي إلى نفس النتيجة في كل حالة ويستنتج الباحثون بأنه ولو أن هرمون الكولين مهم لاستعادة الذاكرة، ولكن ربما هناك عناصر أخرى غير معروفة وضرورية لتكون النتائج كاملة.
قام بهذه البحوث عالم يدعى جوركلند بالسويد في الأعوام القليلة الماضية، وحتى الآن لم تنشر أي تطبيقات لمثل هذه العمليات على الإنسان.
وقد أُجْرِيَت أيضاً عمليات زراعة خلايا " الوِطَاء" أو (Hypothalamus) ، في بعض الحيوانات القارضة والتي تشكو من أمراض وراثية (Genetie) ، وأمكن للخلايا المنزرعة أن تسبب إفراز الهرمون الذي يحفظ أيونات الصوديوم والماء (Antiainretic H.) ، ويعالج حالات مرض السكر الكاذب.
وكذلك الهرمونات المؤثرة على الغدد الجنسية، وأمكنها أن تقوم بالتبويض مرة أخرى.
- وتأتي أكثر التجارب جراءة من تشيكوسلوفاكيا في أغسطس 1988م، حيث أجريت ثلاث عمليات لزراعة خلايا بشرية جنينية على ثلاثة مرضى مصابين بمرض " الشزوفرنيا" أو مرض الفصام.. وقد جاء في تقرير الباحث أنه اعتماداً على ما لوحظ من أن نقص الهرمونات العصبية المسماة بالكاتيكولامين (Catecolmines) ، ومدى ارتباط ذلك بمنشأ مرض العظام، واعتماداً على مدى الخبرة في زراعة الخلايا الجنينية الإنسانية، فإنه قد تم زراعة ما مقداره ستة مليمترات مكعبة من هذه الأنسجة بالأسلوب الجراحي المجسم من خلال ثقب صغيرة بالجمجمة وهذه الخلايا قسمت إلى نصفين زرع كل منهما في الحاجز الأوسط لكل من النصفين الكرويين.(6/1325)
وقد كان تعليق الباحث في النهاية على هذه الجراحات بأنها قد أدت إلى تحسين واضح في العلامات المرضية الإكلينيكية لهؤلاء المرضى، وبالذات في ناحية الذاكرة. أما من ناحية احتمال التغير في شخصية أو ذاتية أي مريض تجرى له عملية الزراعة فهو أمر ليس له أساس علمي يبرره. ولكن قد يحدث أن يتم إنتاج هرمون الدوبامين أو غيره بصورة مفرطة قد تؤدي إلى عدم توازن الشخصية وقد ينتج نفس الشيء نتيجة تلف المخ من زيادة نمو الأنسجة داخل المخ والضغط عليه.
ثانياً- العلاج لعبور تلف في مجرى الألياف العصبية الناقلة للحس والحركة:
كان من الأمور المسلم بها طبيًّا منذ زمن طويل أن تلف خلايا وأنسجة الجهاز العصبي المركزي (المخ والنخاع الشوكي) لا يمكن تعويضها والأعصاب التالفة لا تنمو لتصل ما انقطع، وتعيد العمل الوظيفي للجزء التالف، كما يمكن أن يحدث في الأعصاب الطرفية خارج المخ والنخاع الشوكي، وكان هذا ما يلقي ظلاً من اليأس والتشاؤم في علاج الأمراض العصبية ككل.
ولقد أثبتت بعض التجارب، والتي كانت تجرى منذ مدة أنه باستخدام وزراعة بعض الأعصاب الطرفية من نفس الحيوان وزراعتها داخل المخ بجوار الجزء التالف أو المصاب، فإنه يمكن للألياف المصابة النمو من خلال أنابيب الأعصاب الطرفية المزروعة، ولكنه وحتى الآن لم يستطع جعل نهايات الأعصاب النامية أن تتشابك عصبيًّا وتؤدي إلى اتصالات وظيفية مع الأنسجة التي وجهت لها لتعوض ما نتج عن الإصابة أو التلف.
ولكن ظهرت لنا الآن مقدرة الخلايا والأنسجة الجنينية أولاً للبقاء حية بعد زراعتها ثم إمكانياتها في النمو ويظهر لها تشعبات، ثم تتصل بعد ذلك بالاشتباكات العصبية مع الأنسجة العصبية المضيفة، وبالتالي يكون لها المقدرة على تأسيس وتأدية أعمال كهروفسيولوجية أو إفراز الهرمونات العصبية في نهايتها، وقد وجد أيضاً عن طريق البحث والتجربة أن الأنسجة العصبية المزروعة تكون أكثر قابلية للنجاح إذا زرعت في جوار أنسجة أخرى متجانسة معها تركيبيًّا ووظيفيًّا في المخ المضيف، وتزداد كذلك فرص النجاح إذا كان الجزء المجاور للأنسجة المزروعة قد تلف أو أصيب قبيل عملية الزراعة. ومن الممكن أن نتخيل أننا يمكن أن نستفيد من تجارب زراعة الأعصاب الطرفية داخل المخ في نفس الوقت بجوار الأنسجة الجنينية لاحتمال إمكان نقل أطراف الأعصاب الجنينية لتتشابك عصبياً مع الأجزاء المستهدفة من العلاج في الجهاز العصبي المضيف، على سبيل المثال النقل من قشرة المخ الحركية إلى ألياف الحركة في النخاع الشوكي بعيداً عن المرور داخل تشابكات معقدة داخل المخ.(6/1326)
كل ما سبق ذكره قد تم بالفعل أو يمكن أن يتم على مستوى حيوانات التجارب داخل المعامل، فهل يعني هذا بارقة أمل في علاج أمراض عصبية مستعصية لا يوجد لها علاج حتى الآن؟ ... إن مرضى التليف العصبي المنتشر (D. S.) ، وجلطات المخ التي تؤدي إلى تلف الألياف العصبية الناقلة للحس والحركة، وينتج عنها الشلل لا أمل لها في علاج أو شفاء.. وكذلك إصابات المخ في الحوادث، وإصابات النخاع الشوكي مع كسر الفقرات في حوادث السيارات وغيرها.. يقضي على آلاف الشباب أن يمضي ما بقي له من حياة على الكراسي المتحركة.. هل معنى ما وصلنا إليه الآن أن الطب سيتمكن أخيراً أن يفعل شيئاً في هذا المجال، ويعيد الأمل إلى الملايين؟ ... ثم هناك تساؤل آخر بل هو حلم للبشرية الذي طالما داعب خيالها من مئات الأجيال وهو: هل لهذه الجراحات المقدرة على إعادة الصحة والشباب، فتعالج المخ الذي هرم، والجسد الذي وهن؟
وهل يمكن للمرأة العجوز أن تعود إلى نضارتها والى إنجاب الأولاًد من جديد؟ إنها تساؤلات اليوم، ربما نجد الإجابة عليها بعد سنوات قليلة ... ولن أدهش إذا كان هناك في مكان ما من العالم من يملك الإجابة عليها الآن.
القيم والسلوكيات الطبية في زراعة الأنسجة العصبية:
بعد أن رأينا أن الكثير من التجارب التي تتطلب زراعة خلايا عصبية على مستوى حيوانات معامل الأبحاث، قد انتهت إلى نتائج مشجعة، وقد بدأ الباحثون فعلاً في التفكير في المضي قدماً في استكمال أبحاثهم على بني الإنسان، قد تكون هناك بعض العقبات أو المشاكل التي تحتاج لبعض الحلول، ولكن أين هذا من المارد العلمي الذي يكتسح في طريقه المشاكل والعقبات؟.
لقد وضح من الأبحاث والتجارب أن الخلايا العصبية الجنينية هي الأساس في هذا النوع من الجراحة، وبدونها تهدم كل الآمال التي تتعلق بهذا الحلم في شفاء كل ما هو مستعص من الأمراض، والسبب في ذلك أن الخلايا العصبية تامة النمو لا يمكنها الانقسام، ولا يمكنها أن تمتد وتتفرع وتكون نقط الاشتباك العصبية (Synapses) مع خلايا أنسجة الأهداف، وتؤدي ما هو مطلوب من هذه الجراحة.(6/1327)
وقد وجد أن الخلايا الجنينية المطلوبة هي التي تتواجد في الأجنة قبل بلوغها الاثني عشر أسبوعاً، أي قبل اكتمال نمو مخ الجنين (سلسلة مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية - يناير 1985 م - الجزء الثاني- ميلاد المخ 62- 73) . والأغلب يفضل ما بين الأسبوع العاشر والحادي عشر وألا يكون قبل ذلك، لأن الخلايا العصبية قبل ذلك لا تكون قد ابتدأت في التميز من ناحية العمل المستقبلي، فخلايا الدوبامين قد تختلط بغيرها ويكون تركيزها بعد النضوج أقل مما هو مطلوب في العينة المطلوب زراعتها.. والمشكلة الرئيسية في هذا المجال هي كيفية الحصول على هذه الخلايا من الجنين، إن أول ما يتبادر إلى الذهن هو الحصول عليها من الأجنة المجهضة في هذا الوقت.. وعدد هذه الحالات ليست قليلة، فحالات الإجهاض القهرية (Inevitable abosiion) ، تكثر باقتراب الشهر الثالث، ولكن هنا يجب أن نعلم أن هذا الجنين الذي يقرب حجمه من تسع سنتيمترات طولاً، قد تمضي فترة بين إجهاضه وانفصاله عن الأم، وبين الحصول عليه لاستخراج الأنسجة المطلوبة، ونحن نعلم مدى تأثير الدقائق على حرمان المخ من الأوكسجين واحتمال بدء التحلل للأنسجة مما يؤثر على حيويتها واحتمال نجاح زراعتها.
من هذا يتضح أهمية الحصول على الأنسجة فور الإجهاض مباشرة، ويصل البعض في التشدد للحصول على هذه الأنسجة في حالة جيدة بأن ينصح بالإجهاض بجراحة يشق فيها الرحم ويحصل على الخلايا والجنين في رحم أمه ... ولكن أليس الوصول إلى هذا الحد في العلاج هو أكثر مما تطيقه القيم والممارسات الأخلاقية في الطب؟ وهل يعيد هذا إلى الأذهان قصص الخرافات القديمة عن دراكولا، مصاص الدماء، الذي يحظى بالحياة الأبدية بامتصاص دماء الأبرياء؟.
وإذا افترضنا أن مثل هذه الجراحات قد عمت وانتشرت، فهل سيكون هناك انعكاسات تجارية.. لذلك؟ ليس فقط بازدياد حالات الإجهاض، وإنما أيضاً بازدياد حالات الحمل التي يقصد منها إنتاج هذه الأنسجة المطلوبة؟.(6/1328)
إن ما نناقشه الآن هو من سبيل استقراء المستقبل، فإن حالات زراعة الأنسجة العصبية قد تم منها حتى الآن حوالي مائة حالة في المكسيك والصين والسويد والولايات المتحدة، وفيها تم أخذ الأنسجة من الغدد فوق الكلوية لنفس المرضى، أما الحالات التي استخدمت فيها أنسجة عصبية جنينية، فهي نحو خمس حالات تمت في مكسيكو سيتى وستوكهولم ولندن.
وحتى يكون عرضنا للأمور واضحاً في كل جوانبه، ونحن نعلم أيضاً أن الأجنة التي تستخدم هي أجنة مجهضة في الأسبوع الحادي عشر، وهي فترة المضغة.. أي قبل نفخ الروح.
فإن تقويم القيم في الممارسات الطبية تبنى عادة على شروط ثلاثة:
أولاً: أن يحترم الإنسان وتحترم ذاته في كل مراحل أي عمل من الأعمال.
ثائياً: أن يؤدي العمل المطلوب فائدة تبرره وأن تكون احتمالات الفائدة قوية وواضحة.
ثالثاً: إلا يؤدي هذا العمل إلى ضرر أو أذى يصحب أحد الأطراف، وفي حالة الأضرار البسيطة يمكن التغاضي عنها في سبيل فائدة أعم وبموافقة الطرف المضار.
وفي كثير من بلاد الغرب يعتبر الإجهاض من شؤون المرأة الحامل، ولها القرار فيه، فهي التي تعتبر أضيرت في هذا المجال.
وفي إحصاء من الولايات المتحدة نشر: بأن عدد حالات الإجهاض الاختياري تصل كل عام إلى مليون وثلاثمائة ألف حالة اجهاض، وتكون الحالات التي تقل عن اثني عشر أسبوعاً حوالي ثلاثة أرباع العدد.
وحيث إن عمليات الإجهاض هناك تتم بأكثر الطرق أماناً وهي طريقة الإجهاض بالشفط وفيها تتحطم أجزاء الجنين أثناء مرورها في أنابيب الشفط، وفي هذه الأجزاء يمكن العثور على الأنسجة المطلوبة في حالة من كل عشر حالات، ويمكن استعمالها في الزراعة بطريقة معقمة.. وعليه فإن في الولايات المتحدة يمكن توفير أنسجة للزراعة لنحو 90 ألف عملية زراعة بالسنة، وهي ما تكفي احتياجاتهم وتزيد.(6/1329)
ويرى البعض أن عملية الزراعة في هذه الحالة من حطام الأجنة لا تشكل مشكلة قيم وأخلاق لأنها توازي تماماً عملية زراعة الأعضاء البشرية من متوفين حديثاً.
ويرى البعض الآخر أن هذا العمل يضفي على القائمين به مسحاً من القسوة والوحشية، وإن كان ليس هناك في الواقع ما ينم عن أن هؤلاء العلماء والأطباء والممرضات القائمين بهذا العمل قد تدنى إحساسهم بقيمة الحياة الإنسانية، كما أنه لا يوجد ما يرغم إنساناً على عمل ضد رغبته الشخصية.
وفي إحدى مجلات القيم والسلوك في الولايات المتحدة سؤال عن موقف الأطباء من سيدة تطلب الإجهاض والتبرع بالأنسجة لعلاج شخص ما، وهل يجوز لهم رفض هذا الطلب؟ بينما هم أنفسهم يقبلون إجراء الإجهاض ذاته بناء على طلب السيدة التي تريد أن تحدد نسلها.
ويبدو أن الأمر سينتهي بالولايات المتحدة إلى تحريم بيع الأنسجة الجنينية أو التبرع بها لشخص محدد، وهو ما يتم هناك بالنسبة للمتبرعين بالأعضاء البشرية. ومن جانب آخر يجب إلا ينسى أنه بالنجاح المتزايد في استعمال عقار السيكلوسبورين، والذي أدى وبدرجات كبيرة إلى إمكان زراعة أنسجة من فصائل مختلفة عن الإنسان- كالقرد مثلاً- بتقليل رفض الجسم لها، فهل يمكن زراعتها بدلاً من الخلايا الجنينية الإنسانية؟
وقد ينشاً حل وسط فيما نشر عن إمكان استزراع الخلايا الجنينية الإنسانية في صورة مزارع خلوية إنسانية على نطاق واسع، وذلك بعد الحصول عليها من جنين حي، ولمرة واحدة في البداية فقط، وربما أيضاً إنشاء بنوك لهذه الخلايا يمكن الأخذ منها بل والاختيار منها لما هو أنسب لكل مريض.
وتؤخذ الأنسجة الأولى من حالة تستدعي إجراء الإجهاض شرعاً، فتكفي هذه الحالة مئات أو آلاف المرضى.
الدكتور مختار المهدي(6/1330)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (56/ 5/ 6)
بشأن
"زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي"
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 – 20 آذار (مارس) بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع الذي كان أحد موضوعات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت من 23 إلى 26 ربيع الأول 1410 هـ الموافق 23 – 26/10/1990م، بالتعاون بين هذا المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية،
وفي ضوء ما انتهت إليه الندوة المشار إليها من أنه لا يقصد من ذلك نقل مخ إنسان إلى إنسان آخر، وإنما الغرض من هذه الزراعة علاج قصور خلايا معينة في المخ عن إفراز مادتها الكيميائية أو الهرمونية بالقدر السوي فتودع في موطنها خلايا مثيلة من مصدر آخر، أو علاج فجوة في الجهاز العصبي نتيجة بعض الإصابات،
قرر:
ا - إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو الغدة الكظرية للمريض نفسه وفيه ميزة القبول المناعي لأن الخلايا من الجسم نفسه، فلا بأس من ذلك شرعاً.
2 - إذا كان المصدر هو أخذها من جنين حيواني، فلا مانع من هذه الطريقة إن أمكن نجاحها ولم يترتب على ذلك محاذير شرعية. وقد ذكر الأطباء أن هذه الطريقة نجحت بين فصائل مختلفة من الحيوان ومن المأمول نجاحها باتخاذ الاحتياطات الطبية اللازمة لتفادي الرفض المناعي.(6/1331)
3-إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو خلايا حية من مخ جنين باكر (في الأسبوع العاشر أو الحادي عشر) فيختلف الحكم على النحو التالي:
(أ) الطريقة الأولى: أخذها مباشرة من الجنين الإنساني في بطن أمه، بفتح الرحم جراحياً وتستتبع هذه الطريقة إماتة الجنين بمجرد أخذ الخلايا من مخه، ويحرم ذلك شرعاً إلا إذا كان بعد إجهاض طبيعي غير متعمد أو إجهاض مشروع لإنقاذ حياة الأم وتحقق موت الجنين، مع مراعاة الشروط التي سترد في موضوع الاستفادة من الأجنة في القرار رقم (59 /8/ 6) لهذه الدورة.
(ب) الطريقة الثانية: وهي طريقة قد يحملها المستقبل القريب في طياته باستزراع خلايا المخ في مزارع للإفادة منها ولا بأس في ذلك شرعاً إذا كان المصدر للخلايا المستزرعة مشروعاً، وتم الحصول عليها على الوجه المشروع.
4 - المولود اللادماغي: طالما ولد حياً، لا يجوز التعرض له بأخذ شيء من أعضائه إلى أن يتحقق موته بموت جذع دماغه، ولا فرق بينه وبين غيره من الأسوياء في هذا الموضوع، فإذا مات فإن الأخذ من أعضائه تراعى فيه الأحكام والشروط المعتبرة في نقل أعضاء الموتى من الإذن المعتبر، وعدم وجود البديل وتحقق الضرورة وغيرها مما تضمنه القرار رقم (1) من قرارات الدورة الرابعة لهذا المجمع. ولا مانع شرعاً من إبقاء هذا المولود اللادماغي على أجهزة الإنعاش إلى ما بعد موت جذع المخ (والذي يمكن تشخيصه) للمحافظة على حيوية الأعضاء الصالحة للنقل توطئة للاستفادة منها بنقلها إلى غيره بالشروط المشار إليها.(6/1332)
إجراء التجارب على
الأجنة المجهضة والأجنة المستنبتة
إعداد
سعادة الدكتور محمد علي البار
مستشار قسم الطب الإسلامي بمركز الملك فهد
للبحوث الطبية
جامعة الملك عبد العزيز
وعضو الكليات الملكية للأطباء بالمملكة المتحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
إن إجراء التجارب والأبحاث على الأجنة الإنسانية أمر قديم قد عرفته البشرية منذ عهود طويلة. وقد فحص جالينوس وأبقراط مجموعة من الأجنة المجهضة.. وقام لينواردو دافنشي (الإيطالي الطبيب العالم الموسيقي الرسام الفلكي الرياضي) في القرن الخامس عشر بدراسة بعض الأجنة.
وكانت الدراسة تتمثل في معرفة تشريح الجنين وكيفية بنيته وتطورها مع تقدم الحمل، حتى تمكن العلماء من معرفة هذه المراحل المتطورة بدقة. وكانت هذه المعرفة نبراساً لمعرفة منشأ مختلف الشذوذات في التكوين التي يلاحظها الأطباء للأطفال عند الولادة وما بعدها، كما أن هذه الدراسات أدت إلى معرفة وثيقة لتشريح جسم الإنسان وكيفية تكون أنسجته وأعضائه مرحلة بعد مرحلة، وكيف يمكن أن تتوقف عملية النمو عند مرحلة معينة مؤدية إلى عيوب خلقية خطيرة أو يسيرة.
وفي العصر الحديث تم استخدام أنسجة الأجنة لدراسة فروع مختلفة من العلوم، فعلى سبيل المثال في مجال دراسة السرطان تمت دراسة مستضدات الأورام الجنينية (Oncofetal Antigens) ، في كثير من أعضاء الأجنة مثل الدماغ والكبد والبنكرياس والغدة الثيموبية (السعترية) . وفي مجال دراسة الفيروسات استخدمت أعضاء الأجنة مثل الكبد والرئتين والكلى لعزل الفيروسات ولإنتاج اللقاحات الفيروسية المختلفة.. وفي مجال الغدد الصماء استخدمت غدد الأجنة وخاصة الغدة الكظرية لإنتاج الهرمونات، وفي مجال كيمياء علم الموروثات الحيوي (Biochemical Genetics) تم استخدام الكبد والرئة والدماغ والمشيمة من الأجنة وذلك لمعرفة الأنزيمات المعينة ولمعرفة عيوب الاستقلاب الوراثية (Inborn errors of Metabolism) ، وفي مجال علم الدم (Haematology) استخدمت أعضاء الجنين مثل الكبد والطحال ونخاع العظام دراسة كيفية تكوين عناصر الدم المختلفة (Haemopoiesis) ، وفي حقل البيوليجيا بفروعها المختلفة استخدمت الأجنة لمعرفة فصائل الدم وتكوين الجنس والغدد التناسلية ودراسة الخلايا وتحضير الرسول الريبي (Messenger ribonucleic acid) ودراسة خصائص الخلايا الآكلة في تكوين الغشاء المشيمي. واتسعت الدراسة في مجال علم المناعة (Immunology) لتشمل الأجنة ولتحضير مضادات الأجسام ومستضدات وحيدات النسيلة (1) (Monoclonal antigens and antibodies) لأجنة وإجراء التجارب عليها.
__________
(1) هذه الأمثلة منقولة عن البحث التالي: Lawler, Sylvia D: concebtion and development of fetal tissue bank. J.clin path 1981. 34:240- 8.(6/1333)
وفي خلال ربع القرن الأخير بدأت الأبحاث تتجه إلى محاولة استخدام أنسجة الجنين لعلاج بعض الأمراض المزمنة وبداً بذلك عهد نقل الأنسجة الجنينية إلى منعطف جديد، ملتحقاً بذلك بما يعرف بزرع الأعضاء.
ومنذ فترة ليست بالقصيرة تمكن العلماء من استخراج الهرمون المنمي للغدة التناسلية (القند) (chorionic gonado trophins) من المشيمة. كما أنهم يستخدمون غشاء السلى (amniotic membrane) والأغشية المحيطة بالجنين لمعالجة الحروق وغيرها من الأمراض.
ولا بد لنا لكي نفهم موضوع استخدام الأجنة أن نلقي الضوء أولاً على موضوع الإجهاض باختصار:
الطرح والإجهاض ويسمى أيضاً الإسقاط والإملاص وإن كان الأطباء في الآونة الأخيرة يقصرون لفظ الإملاص على ولادة الطفل الميت (Still birth) (1)
وهناك نوعان أساسيان من الإجهاض:
ا- الإجهاض التلقائي: وهو الذي يحدث بدون سبب ظاهر. ويحدث تلقائياً دون أن يقوم شخص ما بإحداثه، وله أسباب عديدة نتيجة خلل في البويضة الملقحة بسبب خلل في الصبغيات (الكروموسومات) أونتيجة وجود خلل في جهاز المرأة التناسلي مثل عيوب خلقية في الرحم، أو نتيجة أمراض عامة في الأم مثل مرض البول السكري والزهري وأمراض الكلى أو نقص هرمون البروجسترون لدى الأم.
ويحدث الإجهاض التلقائي عادة في فترة مبكرة من الحمل، وقد أوصلها بعض الباحثين إلى نسبة 78 بالمئة من جملة حالات الحمل المبكر جداً (2)
ومما لا شك فيه أن ما لا يقل عن 20 بالمئة من حالات الحمل تجهض تلقائياً. ويقسم الإجهاض التلقائي إلى عدة أنواع حسب المرحلة التي يمر بها مثلا لإجهاض المنذر والإجهاض المحتم والإجهاض المختفي والإجهاض المتكرر ... إلخ.
__________
(1) المعجم الطبي الموحد، الطبعة الثالثة، إصدار اتحاد الأطباء العرب، مجلس وزراء الصحة العرب، المنظمة العربية للتريية والثقافة والعلوم ومنظمة الصحة العالمية.
(2) Medicine Digest Jan 1981, P: 47(6/1334)
2- الإجهاض المحدث (Induced Abortion) : وهو الذي كان يطلق عليه في الماضي الإجهاض الجنائي (Criminal Abortion) ، لأن القوانين كانت تعتبره جريمة يعاقب عليها القانون.. وقد تخلت معظم الدول الرأسمالية والاشتراكية عن هذه القوانين وأباحت الإجهاض. ولذا أصبح يدعى الإجهاض الاختياري (Electtive Abortion) ، وفي العالم اليوم ما لا يقل عن خمسين مليون حالة إجهاض محدث (جنائي) ؟ 25 مليوناً منها تتم في الدول النامية و 25 مليوناً أخرى تتم في الدول الاشتراكية والرأسمالية، ففي اليابان يتم إجهاض مليوني امرأة سنوياً، وفي الاتحاد السوفييتي ما بين مليونين إلى ثلاثة، وفي الولايات المتحدة 6. 1 مليون، وفي أسبانيا والبرتغال مليون حالة إجهاض سنوياً. وفي بقية دول أوروبا الغربية مليون ونصف المليون ... إلخ.
وتقول دائرة المعارف البريطانية (1)
: "إن خمسين بالمئة من جميع حالات الحمل تسقط (تجهض) بفعل فاعل، سواء كان بموافقة القانون أو بغير موافقته في فرنسا واليابان، وأن 25 بالمئة من جميع حالات الحمل تجهض في ألمانيا الغربية وهولنده والدنيمارك ".
ويقول كتاب ممارسة منع الحمل (2) إن استخدام وسائل منع الحمل تسير جنباً إلى جنب مع الإجهاض وتنتشران معاً.. وفي كوريا الجنوبية يعتبر الإجهاض مسؤولاً عن 33 بالمئة من انخفاض نسبة المواليد، بينما ساهمت وسائل منع الحمل في 67 بالمئة من هذه النسبة".
ويقول كتاب (The Pirl) : "يتم قتل 40 مليون جنين كل عام في العالم بواسطة الإجهاض المحدث، نصفهم على الأقل بصورة غير قانونية. ويؤدي ذلك إلى وفاة مائتي ألف امرأة وإصابة مئات الالآف بأمراض مختلفة وجعل عدد كبير منهن يعانين من العقم الدائم" (3)
من هذا كله يتبين لنا أن عدد الأجنحة المجهضة تلقائياً أو جنائياً يعد بالملايين وربما زاد عن مائة مليون جنين سنوياً..
__________
(1) دائرة المعارف البريطانية الطبعة 5 1 لعام 1982 1 1/1 85 و 69/2 0 1.
(2) Potts M and Diggory P: Textbook of Contraceptive Practice. Cambridge University Press, Cambridge 2nd edtion, 1983: 315.
(3) Guillebaud J: The Pill. Oxford University Press, Oxford, 3rd edition, 1987: 15.(6/1335)
استخدام الأجنة في زرع الأعضاء:
لهذا كله فإن الاستفادة من هذه الأجنة التي مآلها أن ترمى أو تحرق أو تدفن (وهو أمر نادر) أمر يبدو، في ظاهره على الأقل، عمل إنساني مثمر. ومنذ بداية الستينات (1960 وما بعدها) تم استخدام خلايا نقي العظام (Bone Marrow) لمعالجة بعض الأمراض النادرة المتميزة بنقص الخلايا المناعية.
ومنذ بداية الثمانينات بدأت عمليات زرع خلايا من الغدة الكظرية أو من خلايا الدماغ التي تؤخذ من الأجنة وتزرع في المرضى الذين يعانون من مرض الشلل الرعاش الباركنسونزم (Parkinsonism) . وقام الجراحون في مستشفى كارولينسكا (Karolinska) في مدينة ستوكهلم (Stockholm) في السويد بأول عملية من هذا النوع في 30 مارس 1982 " (1)
وتضمنت العملية نقل خلايا جنينية من الغدة الكظرية وزرعها في دماغ مريض يعاني من مرض الباركنسونزم وتم وضع هذه الخلايا المزروعة في النواة الذيلية (Caudate nucle) ، وقد أدى ذلك إلى تحسن ملحوظ خلال أسبوع واحد فقط. ولكن التحسن اختفى وعاد المريض إلى حالته الأولى.
وفي العام التالي (5 مايو 1983) قام الجراحون في نفس المستشفى المذكور بإجراء عملية مماثلة لمريض آخر يبلغ من العمر 46 عاماً. وتحسنت حالة المريض بشكل مذهل في اليوم التالي لإجراء العملية ولكن التحسن لم يستمر بنفس الصورة. ومع ذلك كانت حالة المريض بعد مرور عدة أشهر أفضل بكثير عما كانت عليه قبل العملية.
وانتشرت هذه العملية في السويد وفي المكسيك وفي بعض المراكز في الولايات المتحدة منذ ذلك الحين.
صحيح لا تزال العملية تعتبر ضمن حقل التجارب، إلا أنها قد حققت نجاحاً طيباً يجعلها تنطلق إلى آفاق أرحب لمعالجة أمراض أخرى في الجهاز العصبي مثل مرض الخرف المبكر (Presenile Dementia) المعروف باسم الزهايمر (Alzheimer) أو لمعالجة أمراض مزمنة عويصة مثل رقص هنتنجتون (Huntington chorea) .
__________
(1) Backlund. E. et al: J: Neuro Surg. 1985, b2: 169 – 73(6/1336)
التنظيمات والقوانين المتعلقة باستخدام الأجنة في الأبحاث الطبية:
بما أن استخدام الأجنة في الأبحاث انتشر في الآونة الأخيرة، وبما أن الإجهاض المحدث كذلك في ازدياد، تكونت لجان طبية قانونية لدراسة هذا الموضوع وإبداء الرأي فيه حتى لا تحدث تجاوزات، ويتم حمل مخصوص لإجهاضه واستخدامه في مرحلة من مراحل نموه من أجل الأبحاث، أو من أجل زرع الأعضاء.
وقد ذكرت مجلة الأبحاث الطبية (Clinical Research) في عددها الصادر في أبريل، 1988 (1)
ملخصاً لهذه الدراسات واللجان المنبثقة عنها نوجزها فيما يلي:
ا- تقرير لجنة بيل (Peelcommittee) : من المملكة المتحدة عام 1972.
2- تقرير الوكالةالوطنية: من الولايات المتحدة الصادر في 25 يولية 1975.
3- تقرير المجلس الاستشاري لأخلاقيات الطب عن تنظير الجنين: من الولايات المتحدة الصادر في 23 فبراير 979 1.
4- تقرير اللجنة الأخلاقية للأبحاث الطبية في أستراليا عن استخدام الأجنة في الأبحاث وزراعة الأعضاء الصادر في أكتوبر 1983.
5- تقرير اللجنة الأخلاقية الوطنية الفرنسية الصادر في 22 مايو 1984.
6- تقرير المجلس الأوروبي في اجتماع البرلمان بالتوصية رقم 1046 الصادر في 24 سبتمبر 1986.
وقد ظهرت عشرات المقالات والأبحاث في هذا الموضوع الحيوي الهام. كما صدر باللغة الإنجليزية كتابان هامان يتناولان هذا الموضوع هما:
"أخلاقيات إجراء الأبحاث على الجنين " (The Ethics of Fetal Research) ، تأليف بول رامزي (عام 1975) (2) (3) (The Foetus as Transplant Doner) .
__________
(1) walters L: Ethical Issues in Fetal Research. A Look Back and a Look Forward. Clin Research 1988 (April) 36 (3) : 209 – 214.
(2) Ramsy P: The Ethics of Fetal Research. New Haven Conn Yale University Press, 1975. وكتاب: "الجنين مصدر للأعضاء"، تأليف بيتر ماكولا (1987)
(3) Mc Cullagh P: The Foetus as a transplant Donner: Scientific , Social and Ethical Perspective. New York. John Wiley and sons. 1987.(6/1337)
وقد أحصى الدكتور والترز (Walters) أكثر من خمسين بحثاً علمياً في المجلات المتخصصة صدرت في الفترة ما بين عام 973 1 و 987 1 عن موضوع استخدام الأجنة في الأبحاث وزع الأعضاء..
وقد تركز الاهتمام حول استخدام الأجنة القابلة للحياة أو الأجنة التي تنزل حية ثم تموت أو يتم قتلها بعد.
وقد لا يتصور الإنسان خارج الحقل الطبي هذه القضية، فالإجهاض الذي يجري في الثلث الثاني والثالث من الحمل (1) يؤدي إلى إجهاض أجنة حية وبعضها يكون قابلاً للحياة. فالجنين بعد ستة أشهر (24 أسبوع) قابل للحياة إذا استخدمت الوسائل الحديثة لإنعاشه. ويتوقع العلماء أن يتمكنوا من إنقاذ أجنة أصغر عمراً وحجما ووزناً مع اضطراد تقدم الوسائل الطبية الحديثة.. وربما تمكنوا من إنقاذ أجنة عمرها عشرين أسبوعاً أو ما حولها في المستقبل القريب..
وعادة ما يتم الإجهاض في الثلث الثاني والثالث بشق الرحم (Hysterotomy) ، واستخدام محرضات الولادة مثل البروستاجلاندين والأوكسيتوسن.
والواقع أن ما يتم هو عملية ولادة قبل الموعد، ورغم أن هذا النوع من الإجهاض المتأخر نادر الحدوث نسبياً، إلا أن القوانين الوضعية في كثير من البلاد الاشتراكية. والرأسمالية تبيحه. فالإجهاض يمكن أن يتم حتى الأسبوع الثامن والعشرين في بريطانيا وحتى الأسبوع الرابع والعشرين في الولايات المتحدة.. كذلك تبيح معظم الدول الاشتراكية إجراء الإجهاض حتى الأسبوع الثامن والعشرين من الحمل.
وفي هذه الحالات ينزل الجنين حياً، بل ويكون قابلاً للحياة. ويعتبر قتله جريمة قتل كاملة مع سبق الإصرار والترصد. ولكن القوانين الوضعية تقع في اضطراب كبير عندما تبيح إجراء الإجهاض المتأخر.
لهذا بدأت اللجان المختصة تراجع هذه القوانين. وتم إصدار قوانين تعدل ما هو موجود، فعلى سبيل المثال لا يباح الإجهاض في كندا بعد الأسبوع العشرين من الحمل. وأخذت بعض الدول الأخرى بهذا المبدأ. وفي الولايات المتحدة دعوة قوية حالياً لخفض الحد الأعلى المسموح به للإجهاض إلى عشرين أسبوعاً.
__________
(1) يقسم الحمل إلى أثلاث: كل ثلث ثلاثة أشهر.(6/1338)
وحتى لو تم خفض الأجل المضروب لإجراء الإجهاض إلى عشرين أسبوعاً، فإن ذلك لن يحل المشكلة حيث إن الجنين ينزل حياً. ولكنه سرعان ما يموت.
الواقع أن المشكلة ليست متعلقة بإجراء الأبحاث أو باستخدام الأنسجة من هذه الأجنة، ولكن المشكلة الحقيقية هي في القوانين التي تبيح الإجهاض.
وتنتج المشاكل العويصة بسبب إباحة الإجهاض حسب الطلب أو لأسباب اجتماعية، فإذا كانت الأم هي السبب في قتل هذا الجنين فهل يحق لها أن تتبرع باستخدامه في حقل الأبحاث الطبية؟
فإذا كان ذلك لا يحق للأم التي قامت بقتله فمن هو الذي يستطيع أن يتبرع بالنيابة عن الجنين المقتول؟
وبما أن الإسلام لا يبيح الإجهاض بعد 120 يوماً من بداية الحمل (التلقيح) مهما كانت الأسباب، (إلا في حالة تعرض الحامل لخطر الموت إذا استمر الحمل وهو أمر نادر الحدوث جداً. وفي هذه الحالة يتم توليد المرأة وإنقاذ الجنين وهي ولادة قبل الموعد ولا تسبب في الغالب وفاة الجنين) ، فإن هذه المشكلة لا يمكن أن تقوم في مجتمع إسلامي يطبق التعاليم والأحكام الشرعية.
كذلك لا يسمح الفقهاء الأجلاء بإجراء الإجهاض (قبل 120 يوماً من التلقيح إلا إذا كان هناك سبب طبي قوي، وبعضهم لا يبيح ذلك إلا في الأربعين الأولى فقط.. وبعضهم لا يبيح الإجهاض مطلقاً إلا إذا تعرضت حياة الحامل لخطر موت محقق سببه استمرار الحمل.
وهكذا نجد أن قفل باب الإجهاض وحصره في الأسباب الطبية البحتة الداعية لذلك. ومنع الإجهاض مهما كان السبب بعد 120 يوماً من التلقيح، يؤديان إلى اختفاء كثير من المشاكل المتعلقة باستخدام الأجنة.(6/1339)
أما إذا كان الإجهاض تلقائياً، فإن الأم تستطيع أن تتبرع بهذا الجنين الميت للأبحاث الطبية دون وجود حرج، وغالباً ما يكون ذلك في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل.
ولا ريب أن أصحاب الأبحاث والذين يريدون استخدام الأنسجة في زرع الأعضاء يرغبون أن يستخدموا أنسجة حية لا أنسجة ميتة، لذلك تراهم يحرصون على استخدام الأجنة الحية أو التي فارقت الحياة بلحظات فقط.
ومما لا شك فيه أن استخدام الأنسجة التي مضى على موتها وقت طويل لا فائدة ترجى منها في هذا الصدد وخاصة في مجال زرع الأعضاء أو زرع الأنسجة.
لهذا لا بد أن تكون الأنسجة حية. ويمكن أن تكون الأنسجة حية إذا نزل الجنين حياً أو أن الفرق بين موته وأخذ الأنسجة المطلوبة محدود بدقائق معدودة. ويتم ذلك بإنزال الجنين بواسطة الشفط (Vacuum) أو بواسطة تحريض الولادة أو بشق الرحم. وقد أكد تقرير اللجنة الأخلاقية للأبحاث الطبية في أستراليا عدم جواز أخذ الأنسجة من الجنين لغرض زرعها أو لإجراء الأبحاث عليها إلا بعد وفاة الجنين.
وبما أن وفاة الجنين لا تعني بالضرورة وفاة الأنسجة، فإن ذلك يسمح للأطباء والعلماء بإجراء أبحاثهم في فترة زمنية محدودة هي الفارق الزمني بين وفاة الجنين وموت الأنسجة.
وناقش تقرير اللجنة الفرنسية استخدام الأجنة المبكرة (قبل الأسبوع العشرين) والأجنة المتقدمة (بعد الأسبوع العشرين) للأبحاث ولنقل الأنسجة وزرعها، فقرر أن استخدام الأجنة المبكرة مباح في كل وقت، وأن استخدام الأجنة المتقدمة في العمر لا يمكن استخدامها لهذه الأغراض إلا بعد موتها.
وفي هذه الحالات لا يمكن تعريف موت الدماغ بل يستخدم توقف القلب والتنفس دليلاً على حدوث الموت.(6/1340)
وصيغ قرار المجلس الأوروبي الصادر عام 1986 على غرار قرار اللجنة الفرنسية لاستخدام الأجنة الصادر عام 1984.
وقد اتفقت اللجان المختلفة على تقسيم الأجنة المجهضة إلى ثلاث مراحل:
ا- أجنة غير قابلة للحياة (Non Viable) وهي ما قبل الأسبوع العشرين، وهذه الأجنة يسمح باستخدامها للأبحاث ولنقل الأعضاء أو الأنسجة بشرط موافقة الأبوين على ذلك حتى لو كانت حية.
2- أجنة قابلة للحياة: وهي الأجنة التي وصلت الأسبوع الرابع والعشرين وما بعد، ووزنها يتراوح ما بين 400- 500 جم. وهذه الأجنة قابلة للحياة المستقلة خارج الرحم ويمكن إنقاذها..
وهذه الأجنة لا يسمح باستخدامها أو أخذ أنسجة منها إلا بعد وفاتها، وفي هذه الحالة لا بد أن تكون الوفاة طبيعية. وينبغي أن تقدم لهذه الأجنة وسائل الإنعاش المتاحة.
وهذا الموقف يشكل عقبة كأداء لمن أجرى الإجهاض. اذ أن الغرض من الإجهاض هو قتل الجنين والتخلص منه لا الاحتفاظ بطفل مبتسر خداج. وقد أباحت اللجان المختصة التي نظرت في هذا الموضوع استخدام هذه الأجنة في الأبحاث عند وفاتها وفاة طبيعية.
ولا بد أيضاً في هذه الحالة من موافقة الأبوين، أو موافقة الأم على الأقل (في حالة عدم وجود أب وهو أمر شائع) .
3- الأجنة التي تنزل حية ولكنها غير قابلة للحياة المستقلة خارج الرحم: والتي يتراوح عمرها ما بين عشرين أسبوعاً وأربعة وعشرين أسبوعاً.. وهذه الأجنة معضلة بالنسبة لرجال القانون.. وقد اتخذت اللجنة الأسترالية وبعض اللجان الأخرى قرارها بالسماح باستخدام الأجنة التي تزن 300 جرام فما دونها، وعدم السماح باستخدام الأجنة التي تزن أكثر من ثلاثمائة جرام حتى تتبين وفاتها..
وتحدد الوفاة بتوقف القلب والتنفس لا بموت الأنسجة والخلايا..
وبهذه الطريقة يمكن استخدام الأنسجة الحية في الجنين الميت لأغراض زرع الأعضاء وإجراء الأبحاث.
ولا شك أن الوقت المتاح ما بين وفاة الجنين وموت أنسجته ضيق ولا يعدو بضع دقائق بالنسبة لخلايا الجهاز العصبي وأكثر من ذلك قليلاً للأنسجة الأخرى، ما عدا الجلد والعظام التي يمكن أن تبقى لما يقارب 12 ساعة أو أكثر.(6/1341)
هذه المعضلة لم تقم حتى الآن في البلاد الإسلامية للأسباب التالية:
ا- أن الأبحاث في مجال الأجنة محدودة جداً بالدراسة التقليدية للأجنة الميتة.
2- لا توجد مشاريع أبحاث متقدمة لزراعة الأنسجة.
3- لا تسمح القوانين في البلاد الإسلامية بالإجهاض إلا لسبب طبي فقط.
وعادة ما يتم الإجهاض في فترة مبكرة من الحمل.
وهناك بلدان يسمحان بالإجهاض لأسباب اجتماعية هما تونس واليمن الجنوبية.. وتتأرجح تركيا بين الإباحة والحظر. ولكن هذه المشكلة لم تقم أيضاً في هذه البلاد لأن الأبحاث المتقدمة ليست متاحة حتى الآن.
بهذه العجالة نتعرف على مشكلة إجراء الأبحاث على الأجنة واستخدامها في زرع الأعضاء ولكن يبقى موضوعان هامان متعلقان بالأبحاث حول الأجنة، ويمكن أن يكون لهما علاقة بالوضع الحالي في البلاد الإسلامية عربية وأعجمية.
وأولهما: موضوع أطفال الأنابيب وما يتعلق به من الأجنة المجمدة.
وثانيهما: الجنين المولود بدون دماغ.
وسنتناول كلاً منهما فيما يلي بالبحث بصورة موجزة:
الأجنة المجمدة (Frozen Embryoes) :
لقد انتشرت مراكز ما يسمى "أطفال الأنابيب" في البلاد العربية في الآونة الأخيرة لعدة أسباب منها المكاسب المالية الكبيرة التي يحصل عليها القائمون على هذه المشاريع، والشهرة، واهتمام الإعلام بهذه القضية، ووجود عدد ليس بالقليل يعاني من العقم ويشعر بالإحباط نتيجة فشل الوسائل الأخرى ولذا يتجه إلى أي علاج يتوسم فيه الأمل في حل معضلته المزمنة.
وعلى سبيل المثال في جدة ثلاثة مراكز لمشاريع "أطفال الأنابيب" كلها تجارية بحته، وفي عمان مركزان تجاريان ولست أدري كم هو عدد المراكز في القاهرة وغيرها من العواصم والمدن العربية.
وبما أن الأطباء يحرضون المبيض على إفراز أكبر عدد ممكن من البييضات بواسطة العقاقير (الكلوميد والبرجونال) فإن الطبيب قد يحصل على عدد وفير من البييضات. وقد ذكر الأستاذ الدكتور عبد الله باسلامه في بحثه (الاستفادة من الأجنة المجهضة والفائضة في زراعة الأعضاء وإجراء التجارب، المقدم للمجمع الفقهي الموقر للدورة السادسة أنه أمكن استخراج خمسين بييضة من امرأة واحدة. وأن أحد مراكز أطفال الأنابيب كان لديه 208 1 جنين فائض أودعت الثلاجة وجمدت من 432 امرأة أجريت لهن عملية "طفل الأنبوب ".(6/1342)
وهذه الأجنة تسمى كذلك تجاوزاً وإلا فهي مرحلة ما قبل الجنين وتتكون من 4- 8 خلايا تقريباً مجمدة بالنتروجين السائل.
وهذه اللقائح يمكن استنباتها وجعلها تنمو. وقد وافقت لجنة وارنك البريطانية على استنباتها وتنميتها إلى اليوم الرابع عشر الذي يظهر فيه الشريط الأولي (Prinitive Streak) الذي يعتبر البداية الأولية للجهاز العصبي لإجراء التجارب على هذه الأجنة الفائضة عن الحاجة بشرط أن يوافق الأبوان على ذلك (1) (2)
وكذلك وافقت اللجنة الأخلاقية لدراسة استخدام الأجنة المجمدة في الولايات المتحدة على استخدام الأجنة المستنبتة حتى اليوم الرابع عشر من نموها (3)
وقد تحدد اليوم الرابع عشر باعتباره بداية ظهور الشريط الأولي (Primitive Streak) الذي يتكون منه الميزاب العصبي (Neural Groove) .
ولكن الجدل لا يزال محتدماً حول المدة التي يمكن أن يسمح بها لتنمية هذه الأجنة لاستخدامها في مجال الأبحاث أو الاستفادة منها في استخدام الأنسجة الجنينية.. ويحاول بعض العلماء والأطباء تمديد هذه المدة لتتجاوز اليوم الرابع عشر. وهناك اتجاه للإباحة لدى كثير من الدوائر العلمية ولكن لا يزال الموقف القانوني غير واضح حتى الآن في هذا المجال.
ويجادل كثير من الأطباء والعلماء حول أهمية هذه الاستخدامات لأن في ذلك معرفة للأمراض الوراثية المختلفة، كما يمكن أن توفر أنسجة الجنين مصدراً غنياً ثرياً للأعضاء، لأن أنسجة الجنين قابلة للنمو والانقسام وربما تكون أفضل من الناحية الوظيفية من الأعضاء التي تؤخذ من الموتى أو الأحياء المتبرعين.
__________
(1) Editorial: Lancet 1985 (Feb. 2) : 255-265
(2) Report of th Committee of Inquiry into Human Fertilization and Embryology (chairman: Dame Mary Warnock) London, HM 50, 1984.
(3) Jones H. W: The Ethics of In Vitro Fertilization, in Human Conception in Vitro. Proceedings of the Born Hall Meetings, 1982, London, Academi Press. Editors Edwards R. and Pardy J.: 351-369.(6/1343)
ويقول الدكتور إدواردز (أول من قام بمشروع أطفال الأنابيب مع د. ستبتو) : إذا كانت القوانين في البلاد الغربية وغيرها تبيح الإجهاض حسب الطلب، وبالتالي تقتل أجنة حية قد يكون عمرها بضعة أشهر، فالأحرى بهذه القوانين أن تسمح بإجراء التجارب العلمية على هذه الأجنة المجمدة والتي ستعود بالفائدة على البشرية (1)
ولا يقتصر استخدام الأجنة الفائضة على إجراء التجارب أو استخدامها في زرع الأعضاء (أنسجة الجهاز العصبي لعلاج مرض الباركنسونزم وخلايا جزر لانجرهان من البنكرياس لمعالجة البول السكري) ، وانما يمتد إلى آفاق أرحب لمعالجة أمراض العقم لمن يعانون منه. حيث يتم تنازل الوالدين عن الجنين الفائض لمن تعافي من العقم. كما يمكن استخدام الأجنة المجمدة في رحم مستأجرة. وهذه الوسائل للإنجاب قد بحثها السادة الفقهاء في المجمع الفقهي في دورتيه الثانية والثالثة، وقد أوضحوا حرمة استخدامها لأنها تدخل طرفاً ثالثاً في عملية الإنجاب.
وقد ذكر أصحاب الفضيلة الفقهاء في تلك الدورة أن على الأطباء الذين يعملون في مراكز "أطفال الأنابيب، في البلاد الإسلامية أن لا يلقحوا أكثر من بويضتين أو ثلاث، ثم تعاد هذه البويضات الملقحة إلى الرحم. وبذلك يسد باب اللقائح الفائضة أو الأجنة الفائضة.
الجنين بدون دماغ (Anencephaly) :
إن هذه التسمية ليست دقيقة، فالواقع أن هذه الأجنة أو الأطفال المولودين خداجاً أو في موعدهم لديهم جزء يسير من الدماغ هو جذع الدماغ. وبما أن مراكز اليقظة والتنفس والتحكم في الوظائف الأساسية للحياة موجودة في جذع الدماغ، فإن هؤلاء الأطفال يولدون وتكون لهم القدرة في أغلب الأحيان على التنفس الطبيعي الذاتي. كما أن قلوبهم تنبض ودورتهم الدموية سليمة. ولكن المشكلة الأساسية بالنسبة لهؤلاء الأطفال أن المناطق المخية العليا غير موجودة، ولذا ليست لديهم القدرة مطلقاً للإدراك أو حتى للإحساس بالألم..
__________
(1) Edwards R: The case for studying Human Embryoes and their Constitiuent tissues; 9n:Human Conception in Vitro, Proceedings of the Born Hall meeting 1982, London. Academic Press. Pp. 371-388.(6/1344)
وتتوفى معظم هذه الحالات في خلال بضعة أيام بعد الولادة. ولكن هناك حالات عاشت أربعة أسابيع. وهناك تقارير تدعي أن بعض هؤلاء الأطفال عاشوا لمدة سبعة أشهر وهناك تقرير يدعي أن طفلاً عاش سنة ونصف (1)
المشاهد والمعروف لدى عامة الأطباء أن هؤلاء الأطفال لا يعيشون سوى بضعة أيام ثم يتوفون.
وبما أن هناك طفلاً بدون دماغ من كل ألفي ولادة تقريباً، فهناك عدد كبير من هؤلاء الأطفال في البلاد ذات الكثافة السكانية العالية.
الجنين أو الطفل المولود بدون دماغ:
إن هذه الحالة الشاذة والخطيرة تحدث بنسبة مولود واحد لكل ألف أو ألفي ولادة، ورغم أن هذه الحالة نادرة إلا أن مجموع الحالات المولودة بهذا الشكل في البلاد ذات الكثافة السكانية العالية غير قليل. ففي مصر على سبيل المثال حيث تتم ولادة مليون طفل كل عام، يتوقع أن يكون هناك ألف إلى ألفي طفل مولود بدون دماغ سنويا..
بعض العيوب الخلقية:
__________
(1) المؤتمر العالمي لدراسة أخلاقيات زرع الأعضاء (أوتوا- كندا) 0 2- 25 أغسطس 989 1 بحث الدكتور آلان ماكدونالد (Allan Macdonald) من جامعة هاليفاكس في كندا حيث ذكر أن من بين 105 حالة من حالات طفل بدون دماغ عاش 18 منهم فترة تتراوح ما بين أسبوع وأربعة أسابيع. وذكر الدكتور ليسلي روثنبرج (Leslie Rothenburg) من لوس أنجلوس بالولايات المتحدة في بحثه أن هناك حالة طفل بدون دماغ مكثت ثلاثة أشهر ونصف وأن حالة أخرى مكثت 17 شهراً. ولكن يعتقد أن الحالتين الأخيرتين كان فيهما بقايا من المخ بالإضافة إلى جذع الدماغ، ولذا فإن تشخيص طفل بدون دماغ فيهما ليس دقيقاً.(6/1345)
{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}
* طفل حديث الولادة فاقد لنصف دماغه وقبوة الرأس ونصف الجمجمة ليس لدى هذا المخلوق من الدماغ إلا المخيخ والنخاع المستطيل الذي بواسطته يستطيع التنفس.. ومع ذلك فلا يستطيع العيش إلا لسويعات فقط وإن كان بعض هذه الحالات الشاذة قد عاش لعدة أيام.(6/1346)
حالة مشابهة للصورة العليا.. طفل مولود بدون رأس تقريباً وبدون دماغ ما عدا النخاع المستطيل المسؤول عن المناطق الحيوية.. لقد عاش هذا الطفل عدة أيام بعد ولادته.
ورغم أن هؤلاء الأطفال فاقدون للمخ (cerebrun) إلا أن جذع الدماغ موجود، ولذا يتنفس معظم هؤلاء تنفساً طبيعياً، كما أن قلوبهم تنبض وعروقهم تتدفق فيها الدماء.
وبما أن هناك آلاف الأشخاص الذين ينتظرون زرع الكلى أو زرع الكبد أو زرع القلب ولا يوجد لهم أعضاء، إذ أن عدد المحتاجين للأعضاء أكثر بكثير من عدد الأعضاء المتوفرة (عن طريق الموتى أو المتبرعين من الأحياء بالكلى) .(6/1347)
ونتيجة للنقص الشديد في الأعضاء المطلوبة للزرع لإنقاذ آلاف الأشخاص اتجه بعض الأطباء لمحاولة الاستفادة من هؤلاء الأطفال الذين لن يعيشوا سوى بضعة أيام على أكثر تقدير.
وواجهت هؤلاء الأطباء مشكلة عويصة، اذ لا تبيح القوانين والأعراف قتل إنسان حي بكل المقاييس، فقلب هذا الطفل ينبض ودورته الدموية يتدفق فيها الدم إلى كل الأجهزة والأعضاء وجذع دماغه لا يزال يعمل والتنفس طبيعي، فكيف يمكن أن يقدم شخص على قتل مثل هذا الطفل؟ إنها جريمة منكرة. وتنادى الأطباء والعلماء ورجال القانون ورجال الدين لدراسة هذه المشكلة.
وحاول بعض الأطباء أن يوجد مفهوماً جديداً لموت الدماغ، وهو موت المخ (ويقصد بالمخ (Cerebrun) المناطق المخية الموجودة في نصف الكرة من الدماغ والتي يوجد بها المراكز المخية العليا) . وعدم اعتبار جذع الدماغ. وهو أمر مناقض تماما لما تم الاتفاق عليه من قبل على اعتبار موت الدماغ بكامله ومن ضمنه موت جذع الدماغ كأساس لتعريف الموت.
وظهرت محاولات لجعل الطفل بدون دماغ (Anencephaly) يختلف عن حالات تعريف موت الدماغ وإخراجه من ذلك التعريف على اعتبار أنه حالة خاصة.
واحتدم الجدل لأن ذلك منزلق خطير جداً حيث تعتبر الحالات المماثلة لأناس عاشوا، ثم أصيبت المناطق العليا من أدمغتهم وأدى ذلك إلى أن يبقوا في حالة نباتيه مستمرة (persistent Vegetative State) ، وهي حالة يكون فيها الشخص فاقداً للوعي والإدراك فقداناً دائما ولكنه يستطيع أن يتنفس تلقائياً كما أن قلبه ينبض بالدم بدون أي مساعدة خارجية.(6/1348)
وقد امتلأت المستشفيات بمثل هذه الحالات وأصبحت تشكل عبئاً كبيراً على اقتصاديات تلك البلدان ففي الولايات المتحدة يتم إنفاق ألف مليون دولار سنوياً على مثل هذه الحالات التي تعيش سنوات طويلة مؤلمة لأهلها وأقاربها. وقد تم تسجيل حالات موفقة عاشت بضعاً وثلاثين سنة.
وتم انعقاد عدة مؤتمرات لبحث هذه المعضلات وآخرها مؤتمر عالمي عقد في أوتوا بكندا في 0 2- 25 أغسطس 989 1 لمناقشة المشاكل الأخلاقية الناتجة عن مشاريع زرع الأعضاء بما فيها موضوع زرع الأعضاء من الأجنة وزرع الأعضاء من الأطفال بدون أدمغة، وقد حضرت هذا المؤتمر وشاركت فيه ببحث. ولم يصل المؤتمرون إلى قرار موحد في هذه القضية الشائكة، كما هو متوقع.
وكانت معظم الآراء تميل إلى اعتبار الطفل بدون دماغ مثل أي إنسان حي من حيث حرمة الاعتداء عليه. وبالتالي لا يجوز نزع أعضائه إلا بعد التيقن من وفاته، وبشرط أن يسمح والداه بذلك. ولكن المشكلة تأتي من أن تشخيص موت الدماغ في هذه الحالات ليس يسيراً، بل تكتنفه صعوبات جمة لأن عيوباً خلقية قد تكون موجودة في الأذن أو العين تمنع إجراء هذه الفحوص.
ولكن أهم هذه الفحوص على الإطلاق هو توقف التنفس. وهذا ما يتم إجراؤه بالفعل. فإذا ما توقف التنفس أسرع الأطباء إلى إجراء التنفس الاصطناعي وقاموا بنزع الأعضاء المطلوبة.
ويمكن اتخاذ إجراء آخر للمحافظة على الكلى مثلاً. وذلك بإدخال قسطرة إلى الشريان الكلوي لتغذية الكلية بمحلول خاص مثلج، ويستمر ذلك حتى تتبين أول علامة من علامات الموت وهي توقف التنفس فيسرع الأطباء بعملية التنفس الاصطناعي وأخذ الأعضاء المطلوبة.
قد يبدو لبعض الناس أن هذا الموضوع نظري أو على الأقل لا يزال بعيداً عنا في الولايات المتحدة وأوروبا.
ولكن سيفاجأ كثير من القراء بأن أقول لهم إن هذه العملية قد تم إجراؤها في جدة أربع مرات. وقد تم ذلك في مستشفى الشاطىء بجدة وأجرى هذه العملية الدكتور نبيل نظام الدين وهو أحد الجراحين المهتمين بزرع الكلى في المملكة العربية السعودية.(6/1349)
وقد نشر بحثه ذلك في مجلة (Transplantation Proceedings 1989, 21, 1934-2935: (1.
وقد نجحت هذه العملية لدى خمسين بالمئة من حالاته. ولا شك أن مزيداً من الخبرة في هذا الميدان سيحقق نجاحاً أكبر.
ويجادل الدكتور نبيل نظام الدين بأن استخدام الأطفال بدون دماغ بعد التحقق من موتهم بالطريقة التي وصفناها سيوفر حوالي ألف كلية في مصر. وبالتالي يمكن زرعها في ألف مريض مدنف يعاني من الفشل الكلوي.
وإن اجراء عملية زرع الكلى من هؤلاء الأطفال غير معقدة، ويمكن لجراحي نقل الأعضاء اجراؤها بسهولة معقولة.. وقد لاحظوا أن هذه الكلى تنمو نمواً سريعاً في الشخص المنقولة إليه.
إن هذا الموضوع تكتنفه صعوبات جمة وأولها وأهمها التحقق من موت هذا الطفل إذ أن الفحوصات التي تجرى لإثبات موت الدماغ يصعب إجراؤها على مثل هذا الطفل ما عدا فحص توقف التنفس.
لهذا لا بد من أن يعلن الوفاة فريق آخر من الأطباء لا علاقة له بموضوع زرع الأعضاء على الإطلاق.
ولا بد أن يدرك الطبيب إدراكاً تاماً أن هذا الكائن المشوه أمامه إنسان حي له كافة حقوق الحياة المحترمة في الإنسان الحي. ولا يجوز لذلك الاعتداء على حياته أو تعجيل موته لأي سبب من الأسباب.
الأغراض التي تستخدم فيها الأجنة:
ا- أبحاث متعلقة بسلامة الجنين: وهذه تجرى والجنين لا يزال في رحم أمه. وغرضها إنقاذ حياة هذا الجنين ومداواة أمراضه. وهذا النوع من الأبحاث لا خلاف في إباحته بل في الندب إليه. لأنه يحقق مصلحة راجحة وهي إنقاذ حياة هذا الجنين أو مداواته من أمراضه الوبيلة.
2- أبحاث متعلقة بنمو الأجنة وتركيبها ومعرفة وظائفها: وهذه تجرى من أجل العلم ومعرفة تركيب جسم الإنسان ووظائفه العديدة. ولا تجرى إلا على الأجنة الميتة.
3- أبحاث تجرى على الأنسجة والأجنة لمختلف فروع العلم مثل علم الفيروسات وعلم المناعة وعلم الغدد الصماء وعلم البيوليجيا الجزيئية وعلم الجينات (المورثات) ... إلخ، وهذه تجرى على الأجنة الميتة وإن كانت بعض الأنسجة لا تزال حية. ويمكن في بعض الأحيان زرع أنسجة تتكاثر بدون توقف. وفي هذه الحالة على الأقل لا بد من إذن الوالدين.(6/1350)
4- أبحاث متعلقة باستخراج عقاقير وأدوية من المشيمة وكيس السلى والغشاء الكوريوني (المشيمي) واستخدامها ذاتها كعلاج للحروق وغيرها.. ولا يبدو أن هناك اعتراضاً على مثل هذا التصرف حيث تؤخذ الأجنة التي تم إسقاطها تلقائياً أو بسبب طبي. وإذا كان هناك من اعتراض فهو على إجراء الإجهاض بدون وجود سبب طبي. وهو موضوع آخر يتعلق بقضية الإجهاض.
5- أبحاث متعلقة بزرع الأنسجة والأعضاء من الأجنة. وقد تمكن العلماء بالفعل من زرع خلايا لانجرهان من البنكرياس لعلاج مرض البول السكري (المتقدم) وزرع خلايا نقي العظام (Bone Marrow) لعلاج بعض أمراض نقص المناعة الوراثية وغير الوراثية وزرع خلايا الغدة الكظرية لعلاج مرض الباركنسونزم (الشلل الرعاش) . وكذلك نقل خلايا من الأنوية القاعدية في الدماغ (Basal Ganglia) لعلاج مرض الباركنسونزم.. كما تمت محاولات عدة لزرع خلايا من الجهاز العصبي لعلاج العديد من الأمراض الخطيرة مثل مرض الزهايمر (Al Zeheimer Disease) والذي يحدث فيه خرف مبكر (في سن الخمسين وما بعدها) ومرض رقص هنتنجتون (Huntington chorea) ، وهو مرض وراثي يظهر في سن الأربعين تقريباً ويزحف حثيثاً ليقضي على المريض في خلال بضع سنوات ولا علاج له حتى الآن.
وهذه الأبحاث تحتاج إلى وقفة لأن الأطباء يحتاجون إلى أنسجة حية لا إلى أنسجة ميتة لا نفع فيها.
ويمكن أن تكون الأنسجة حية في الجنين في الحالات التالية:
(أ) إذا تم الإجهاض بواسطة الشفط الخوائي (Suction by Vacuum) .
(ب) إذا تم تحريض الولادة بالبروستاجلاندين والأوكسيتوسن.
(ج) إذا تم شق الرحم (Hysterotomy) .
وفي هذه الحالات قد يكون الجنين حياً وقابلاً للحياة (24 أسبوعاً فأكثر) فينبغي في هذه الحالة محاولة انقاذه وإنعاشه وتوفير كل الوسائل الممكنة للإبقاء على حياته. وهو أمر معاكس تماماً لغرض الإجهاض الذي تم.. ويشكل هذا الأمر معضلة قانونية وأخلاقية كبرى في الدول الغربية.. ولا يزال الجدل محتدماً بينهم حوله. ولكنهم متفقون على حرمة المساس به قبل موته. وخلافهم يندرج حول وجوب إنقاذه وإسعافه أو تركه ليموت.(6/1351)
وقد يكون الجنين حياً عند خروجه من الرحم، ولكنه غير قابل للحياة المستقلة لأنه دون 24 أسبوعاً ووزنه أقل من 400 جرام مثلا.. وفي هذه الحالة اختلف أهل القانون والدين والطب في الغرب حول المساس بهذا الجنين واستخدامه في الأغراض العلمية واجراء الأبحاث ونقل الأعضاء. فمنهم من سمح باستخدامه ولو كان حياً. ومنهم من أصر على تركه حتى يموت ثم تستخدم أنسجته الحية لأغراض البحث العلمي وزرع الأعضاء.
وأما إن كان الجنين أقل من 20 أسبوعاً فلا خلاف لديهم في السماح باستخدامه وأخذ أنسجته وأعضائه سواء كان به رمق حياة أم لم يكن به.
وكل ذلك بشرط موافقة الوالدين المسبقة على إجراء الأبحاث وزرع الأنسجة والأعضاء من جنينهم المطروح.
ونحن نرى أن الإجهاض الاختياري المحدث هو سبب في هذه المأساة، وقفل باب الإجهاض الاختياري (Elective Abortion) سيحد من وجود هذه الأجنة. وستبقى الأجنة المطروحة تلقائياً أو تلك التي طرحت بسبب طبي وهي محدودة نسبياً وأغلبها في مرحلة مبكرة من الحمل.. ولذا يمكن استخدامها للأغراض العلمية وإجراء الأبحاث وزرع الأنسجة إن أمكن بشرط موافقة الوالدين المسبقة على ذلك.. ولا يجوز مطلقاً بأي حال من الأحوال الاعتداء على جنين حي سواء كان قبل عشرين أسبوعاً أو بعدها ما دامت علامات الحياة فيه ظاهرة من نبضات القلب ودوران الدم وحدوث التنفس، فإذا توقف ذلك كله فهو ميت. ويعامل معاملة الميت.
6- بالنسبة للقائح المجمدة (الأجنة المجمدة تجاوزاً) : لا ينبغي الاحتفاظ بأي أجنة فائضة من مشاريع أطفال الأنابيب. وإنما ينبغي استخراج ثلاث بييضات فقط وتلقيحها وإعادتها إلى رحم المرأة صاحبة البييضة والملقحة بماء زوجها. باختصار ينبغي التأكد من عدم وجود طرف ثالث في عملية الإنجاب، ونعني بالطرف الثالث:
(أ) نطفة ذكرية (حيوان منوي) .
(ب) نطفة المرأة (البييضة) .
(ج) اللقيحة الجاهزة والتي تدعى أحياناً الجنين المجمد.
(د) الرحم المستأجر (Surrogate mother) .
7- بالنسبة للاطفال المواليد بدون أدمغة ينبغي أن يعلن موتهم بواسطة فريق طبي لا علاقة له بمشروع زرع الأعضاء قبل أن يمكن الاستفادة من أعضائهم التي تبرع بها ذووهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على خاتم النبيين واله وصحبه أجمعين.
الدكتور محمد على البار(6/1352)
الاستفادة من الأجنة المجهضة أو الزائدة عن الحاجة
في التجارب العلمية وزراعة الأعضاء
إعداد
سعادة الدكتور مأمون الحاج علي إبراهيم
رئيس قسم أمراض النساء والولادة
بمستشفى الولادة – الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
غاية هذا البحث هي دراسة مدى إمكانية الاستفادة من الأجنة الفائضة عن الاستنبات أو المجهضة في التجارب العلمية أو أخذ أعضاء منها لزراعتها في الآخرين. سأتناول هذا الأمر بعون من الله في مقدمة ومبحث وخاتمة. مقدمة نعرف فيها معنى كلمتي الإجهاض والأجنة ثم ما حرمة هذه الأجنة الفائضة والمجهضة من الناحيتين الشرعية والطبية؟ ثم بعد ذلك نتناول موضوع الحاجة للتجارب العلمية والحاجة العلاجية لنقل الأعضاء من هذه الأجنة، ثم نخلص إلى خاتمة البحث بإيجاز.
كلمة إجهاض: كما وردت في معاجم اللغة أو كما استعملها الفقهاء هي إلقاء الحمل ناقص الخلق أو ناقص المدة سواء كان من المرأة أو غيرها، وقد أطلق مجمع اللغة العربية كلمة إجهاض على خروج الجنين قبل الشهر الرابع وكلمة إسقاط على إلقائه ما بين الشهر الرابع والسابع، في هذا البحث نستخدم كلمة إجهاض بمعناها الطبي لتعني المعنيين المذكورين مع استثناء للجنين الذي تبدو عليه علامة من علامات الحياة أو ما دل على حياة في العرف والعادة من استهلال أو حركة أو سعال أو تنفس أو حركات غير ظاهرة كدقات القلب يثبتها أهل الخبرة من الأطباء والمتخصصين، فمثل هذا الجنين يكون مولوداً ناقص النمو فإن مات تجرى عليه أحكام الموتى ومنها ما تقتضيه الضرورة كالتشريح أو أخذ الأعضاء للنقل وهذا يحتاج إلى موافقة الوالدين، أما الإجهاض فحرمته أقل وعادة لا تحتاج إلى الموافقة لإجراء الفحص عليه. أرجو أن أشير هنا أنه في كثير من حالات الإجهاض نتحصل فقط على بقايا متفتتة من الأنسجة والخلايا لا تصلح للاستنبات ولا هي بالأعضاء الصالحة للنقل.
أما كلمة الأجنة: فتدل على الاستتار وتعني الاستتار داخل الرحم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} (الآية. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} الآية. ومنها الجن والجنون واستعمالنا لها في هذا البحث يكون استعمالا مجازياً لتشمل البييضات الملقحة في المختبر، وربما تكون كلمة بييضة ملقحة أو كلمة مضغة أكثر دقة وأرى أن من الضروري الإشارة إلى هذه المعاني عند كتابة التوصيات، وقد جاء في توصيات ندوة الرؤيا الإسلامية لبعض الممارسات الطبية أن البييضات الملقحة ليس لها حرمة شرعية من أي نوع ولا احترام لها من قبل أن تنغرس في جدار الرحم وأنه لذلك لا يمنع إعدامها بأي وسيلة، وبناء على هذه التوصية نقوم الآن بإعدام هذه البييضات الملقحة الزائدة عن الحاجة أو الفاسدة، ونعتقد أن هنالك ضرورة لإجراء البحث العلمي عليها بدلاً من إعدامها ورميها لأن الضرورة في النهاية ضرورة علاجية ولأن البحث العلمي والعلاج أمران متلازمان ولابد أن يسبق البحث العلاج لتحديد نوع هذا العلاج ومدى الاستفادة منه وعدم الضرر من تناوله.(6/1353)
فما هي الحاجة لإجراء البحث العلمي على الأجنة المجهضة أو الفائضة؟:
* أولاً- الإجهاض:
نحن الأن نقوم بإجراء البحث عليه لمعرفة أسبابه والتي ربما تكون متعلقة بالعوامل الوراثية كقصور الجينات أو عدم انفصالها أو ناتجة من أحوال بيئية كالإصابة ببعض الأمراض في الشهور الأولى من الحمل أو التعرض للأشعة السينية أو المواد الكيميائية السامة وغير ذلك، وعادة ما يتم البحث بواسطة التشريح لبقايا الإجهاض أو استنبات بعض من خلاياه وإجراء الفحص المخبري عليها لتحديد مدى القصور ونوعه ولتلافي حدوثه إن أمكن في أحمال لاحقة. ويعرف طبياً أن التشوهات الخلقية أو الولادية هي السبب الرئيسي للإجهاض في الشهور الأولى للحمل، وقد اقتضت حكمة الحكيم الخبير التخلص من هذه الأجنة المشوهة في وقت باكر من الحمل.
* ثانياً- إجراء البحث على البييضات المخصبة الفائضة:
وهي كما تعلمون نتاج لتقنية الإخصاب خارج الرحم المتعارف عليها باسم طفل الأنبوب.
وأود أن أشير هنا إلى أنه لولا البحث العلمي الدؤوب والمتواصل في هذا المجال ما توصلنا إلى هذا الكشف العلمي الذي أصبح مفخرة للطب والذي استفاد ويسفيد منه الآلاف في بلادنا وغيرها من بلاد الله والذي يسر علاج حالات كثيرة من حالات العقم المستعصية وقبولنا بشرعية هذه الوسيلة العلاجية يعني إقرارنا لما سبقها من جهد وبحث وما حرم فعله حرم طلبه وما حرم أخذه حرم إعطاؤه. والبحث العلمي في البداية ركز على شيئين أساسيين:
أولهما: تطوير وإجادة هذه التقنية نفسها من إعطاء الهرمونات للزوجة وشفط للبييضات من المبيض ثم في المجال المخبري من تهيئة الوسط الكيميائي والحراري والغازي المطلوب ليتم التقاء الحيوان المنوي مع البييضة ثم الإخصاب والانشطار والنمو وبعد ذلك إرجاع البييضات المخصبة المنقسمة إلى رحم الأم.
ثانيهما: البحث للتأكد من سلامة الإخصاب وعدم حدوث التشوهات الخلقية. والضرورة العلمية لإجراء مثل هذه البحوث ما زالت قائمة وقد ذكرت هذا في بحث سابق وأوجزها الآن في ما يلي:
ا- إن نسبة النجاح في تقنية الإخصاب خارج الجسم مازالت متدنية وهي حوالي 15 % فقط من عدد المرضى تحت العلاج في معظم المراكز وإذا أردنا رفع هذه النسبة فلابد من إجراء البحث العلمي وعلى وجه الخصوص للتركيز على معرفة فشل البييضات المخصبة المعادة إلى داخل الرحم في العلوق ونسبة النجاح عالية في الخطوات السابقة وأعني بها تحفيز المبيض على التبييض ثم شفط البييضات وإخصابها. كما أننا نسعى لدراسة طرق حفظ البييضات أو البييضات المخصبة حتى يستفاد منها في دورات طمثية قادمة وهذا يتم بواسطة التجميد، ونود أن نجري البحوث اللازمة لنطمئن على أن هذه الفترة الطويلة من التجميد والتدفئة لم تحدث خللاً في هذه البييضات ربما يؤدي إلى تشوهات خلقية بعد إخصابها وقد أثبتت التجارب في الحيوانات المخبرية أن فرص الإخصاب بأكثر من حيوان منوي تزداد بعد تجميد البييضات وحفظها لمدة طويلة.(6/1354)
2- البحث في العقم عند الذكور: وقد دلت الدراسات على أنه يشكل نسبة 25- 40 % من حالات العقم علما بأن نسبة العقم عند الزوجين قد تصل إلى 17 % ووسائل التشخيص المتاحة لمعرفة عقم الرجال غير دقيقة مقارنة بوسائل تشخيص عقم النساء، إذ أننا لا نستطيع حتى الآن أن نتبين على وجه الدقة ما يمنع بعض الحيوانات المنوية من التلقيح وما السبب أحياناً في اختراق أكثر من حيوان منوي للبييضة؟ وهذا في حالة حدوثه تصبح البييضة فاشلة فإن نمت فإنها تتحول إلى حمل عنقودي أو سرطاني وكلاهما يهدد حياة الأم. هنالك أيضاً حالات عقم الرجال الناتج عن قلة شديدة في عدد الحيوانات المنوية أو ضعف في حركتها وتجرى البحوث الآن لحقن هذه الحيوانات داخل البييضة بعد إحداث شرخ في جدارها، ويتم ذلك تحث المجهر لملاحظة الالتئام بين نواتي الحيوان المنوي والبييضة ثم تتبع النمو بعد ذلك ... أود أن أشير إلى أنه في الدول الأخرى تعالج مثل هذه الحالات من عقم الرجال بوساطة التلقيح الصناعي من بنوك المني، وبما أن شرعنا لا يجيز التلقيح الصناعي من غير الزوج كما أن نسبة عقم الرجال عندنا عالية فإنني أرى أنه من الواجب إجراء مثل هذه الأبحاث وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
3- دراسة حالات الإجهاض المتكرر: وهنا نلاحظ أن الإجهاض المتكرر يعتبر من المشاكل الطبية المستعصية وقد يكون نتاجاً لقصور في جينات البييضة الملقحة التي تتحكم في عوامل النمو أو عوامل العلوق في جدار الرحم، لأننا أحياناً نشاهد تحت المجهر بييضات تتخصب ولكن بعضها ينمو نمواً غير طبيعي من البداية فتضمر وتنكمش وتتفتت وهنالك ضرورة في مثل هذه الحالات لإجراء البحث لمعرفة أسباب ذلك.
4- دراسة الصفات الوراثية في حامض النوييك (DNA) في البييضة المخصبة لتشخيص الأمراض الوراثية لمحاولة علاجها في المستقبل وهنالك مثلاً بعض هذه الأمراض تصيب الذكور دون الإناث- والذي يحدث الآن هو أن تؤخذ بعض خلايا المشيمة خلال الشهور الأولى للحمل وتجرى عليها التحاليل، فإن دلت النتائج على وجود مرض وراثي تم إجهاض للجنين إن كان ذلك مباحاً - وأرى أن من الأفضل أن تؤخذ عينات من البييضات المخصبة وهي في المختبر ليتم استنباتها ثم تجرى عليها التحاليل لاستبعاد تلك التي يثبت فيها مرض وراثي ويعاد إلى رحم الأم تلك التي ليس بها مرض وراثي، أضف إلى ذلك أن الأمل معقود في المستقبل بإذن الله لمعرفة الجين المسؤول عن كل مرض وراثي وإصلاحه بما يسمى بالهندسة الجينية والتي أرى أن مجال أبحاثها سيتركز في البييضات المخصبة في المختبر قبل إعادتها إلى داخل الرحم.(6/1355)
5- دراسة التشوهات الخلقية الناتجة من العوامل البيئية والتي ذكرت منها على سبيل المثال سابقاً الإصابة ببعض الأمراض أو التعرض للأشعة السينية أو المواد الكيميائية السامة أو عوامل أخرى كثيرة لا نعلمها والبحث في البييضات المخصبة قد يؤدي إلى معرفة هذه العوامل الكثيرة المجهولة فتنصح الحامل أو التي في نيتها الحمل بالابتعاد عنها.
هنالك مجالات أخرى متعددة يمكن الاستفادة منها من إجراء البحث على البييضات المخصبة الزائدة عن الحاجة كمجالات تحديد النسل وطرق منع العلوق ودراسة حالات الحمل المتعدد وطرق انقسام البييضة الملقحة التي ينتج منها الحمل التوأمي المطابق وغيرها.
أما الناحية العلاجية فتتركز إمكانية الاستفادة منها في المجالات الآتية:
ا- الأجنة المجهضة: وهي غالباً ما تكون متفتتة وغير صالحة للإفادة منها، كما ذكرت سابقاً، أما حالات الإجهاض المتقدم أو السقط فيمكن الاستفادة من بعض أعضائها ونقلها إلى حي، ونحن نعلم أن الفتوى الشرعية أجازت نقل أعضاء الميت إلى الحي وفي هذا إبقاء لها في استدامة الحياة لحي، وحيث إن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف فالأولى الأخذ من الجنين المجهض، وهذا ضرر أخف ويستفاد الآن من بعض أعضاء الأجنة المجهضة مثل غدة البنكرياس في علاج حالات مرض البول السكري والنقي العظمي في حالات سرطان الدم، ويلاحظ أنه لم تنجح حتى الآن عمليات نقل الأعضاء كالكلى والكبد والقلب لصغر حجمها.
2- إمكانية الاستفادة العلاجية من البييضات المخصبة: وهي إن تركت في المختبر ولم تستنبت عادة لا تنمو لأكثر من خمسة إلى ستة أيام وعندها تبدأ الخلايا في الانقسام إلى خلايا مشيمية وخلايا جنينية، أما في اليوم الثاني عشر فتظهر خلايا الجهاز العصبي وخلايا الجهاز الدوري من قلب وأوعية دموية. وخلايا الجنين في هذه الأطوار ليست بها خاصية وجود المستضدات علما بأن المستضدات إن وضعت في جسم غريب أثارته لإنتاج الأضداد التي تقضي عليها. فخلايا الجنين في الأطوار الأولى لا ترفضها الأجسام وبالتالي يمكن أخذها بعد مرور أسبوعين أو ثلاث من إخصابها ونقلها إلى أطفال أو كبار يشكون من عاهات في أجسامهم على سبيل المثال حالات الشلل النصفي أو الشلل الرباعي الناتج عن وجود فجوة أو ثغرة في النخاع الشوكي يمكن معالجته بخلايا من الجهاز العصبي الجنيني فتنمو هذه الخلايا وتشكل ضفائر عصبية وتصبح جسراً يسد تلك الفجوة أو الثغرة.
وخلايا غدة البنكرياس للأطفال المصابين بمرض السكري وخلايا الكلى لمرضى الفشل الكلوي وكل هذه الآن في أطوار البحث والأمل معقود على نجاح هذه الأبحاث.
وفي الختام أرجو أن أخلص إلى مجالات الاستفادة من الأبحاث على الأجنة الفائضة والمجهضة كثيرة والفائدة العلاجية المرجوة منها كبيرة، ولا أرى فيما يبدو لي حرمة شرعية أو طبية أو عقلية تمنع مثل هذه الأبحاث، بل أرى أن من الواجب تشجيع مثل هذه الأبحاث والحث عليها وذلك لفائدتها الطبية.
وبالله التوفيق.
الدكتور مأمون الحاج إبراهيم(6/1356)
حكم الاستفادة من الأجنة المجهضة
أو الزائدة عن الحاجة
إعداد
فضيلة الدكتور عبد السلام داود العبادي
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم المبعوث رحمة للناس أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن التزم بشرعه إلى يوم الدين.. وبعد:
(1) فإن التوجه لدراسة القضايا الطبية المعاصرة بنظر شرعي أصيل يستحق كل دعم وتشجيع، لأنه يحدد الحكم الشرعي في هذه القضايا، ويعيد البحث العلمي إلى أطر أخلاقية تصونه من الانفلات والإضرار بالحياة الإنسانية.
ورغم التقدم الطبي الهائل الذي تحقق في العقود الأخيرة إلا أنه يلاحظ قدر كبير - من الخروج على الأطر الخلقية والدينية في مجالات البحث والتجارب والعلاج- يهدد مسير الحياة الإنسانية ويعرضها لأفدح الأخطار.
فلا بد أن تعلو الصيحات والتحذيرات وتهتم اللقاءات والقوانين والدراسات بتأصيل المسيرة الطبية الإنسانية على هدي من الإلتزام بأحكام الله تعالى وقواعد الأخلاق التي ما كانت إلا لخير الإنسان ومصلحته في الدنيا والآخرة.
والإسلام إذ يدعو إلى النظر في الكون والحياة والإنسان ويشجع كل بحث علمي مفيد يهتم في الوقت نفسه بالمحافظة على حياة الإنسان وصيانتها، ويندد بكل أنواع الاعتداء عليها، بهدف صيانة كرامة الإنسان والاهتمام بحق الحياة في كل إنسان، والاحترام لسائر أعضائه ومكوناته، والحرص على منع الاختلاط بين الأنساب والحماية للأسرة والمجتمع من كل ما يعود عليها بالإفساد والضرر.
ويعالج هذا البحث حكم الاستفادة من الأجنة في التجارب العلمية والعلاج وزراعة الأعضاء ... وهو موضوع يظهر فيه بكل وضوح التقاء البحث العلمي المبدع والتقدم الطبي الفذ مع نماذج من التفلت من أحكام الشريعة الإسلامية بخاصة وتوجيهات الأديان بعامة وقواعد الأخلاق والقوانين، ويتمثل ذلك في الاعتداء على الأجنة وانتزاع الأعضاء منها لأغراض علاجية، وفي الحصول على الولد بصرف النظر عن أي اعتبار تلزم به القيم والمبادىء والأخلاق ... بل ودون رقابة كافية تمنع الفساد والانحراف حتى وصل الأمر إلى استنبات الأجنة واستيلادها لغرض الحصول على أعضائها تجارة غير مشروعة في حياة الإنسان.(6/1357)
لذا فإن من الأمور التي يجب أن يهتم بها في المؤتمرات والندوات واللقاءات التي تبحث مثل هذه المواضيع هو الخروج بتوصيات عملية محددة تحفظ مسيرة الحياة الإنسانية وتصونها من العبث والانحراف سواء أكان ذلك بمعالجة الأمور من النواحي العلمية أو التشريعية أو الاجتماعية أو عن طريق الاتفاقات الدولية أو في إطار المؤسسات والمنظمات القائمة محلية وإقليمية ودولية.
تقسيم:
(2) وواضح أن هذا البحث يدور على تصرفين في مجالين.
أما التصرفان فهما:
ا- الاستفادة من الأجنة بأخذ أجزاء أو أعضاء منها لمصلحة إنسان آخر لأغراض علاجية.
2- الاستفادة من الأجنة بإجراء التجارب عليها لأغراض علمية.
والمجالان هما:
ا- الأجنة التي حملت بها المرأة لفترة ثم أجهضت.
2-الأجنة الفائضة من الاستنبات في المختبر لأغراض عمليات أطفال الأنابيب.
ونبين فيما يلي حكم كل من التصرف في كل مجال من المجالين على حدة.
أولاً- حكم الاستفادة من الأجنة المجهضة:
(3) المقصود بالجنين هنا الحمل المستكن في الرحم في أي مرحلة كانت قبل الولادة، والمقصود بالإجهاض إخراج أو إلقاء الحمل ناقص الخلق أو ناقص المدة أو هو إسقاط الحمل بعد استقراره في الرحم قبل التخلق، وبعده (1) وميز مجمع اللغة العربية في المعجم الوسيط بين الإسقاط والإجهاض، فجعل الإجهاض في خروج الجنين قبل الشهر الرابع والإسقاط بين الشهر الرابع والشهر السابع، أما بعد ذلك فخروج الجنين يسمى ولادة، وهناك ثلاث مراحل رئيسة يمر بها الجنين في رحم أمه قبل الولادة:
ا- المرحلة السابقة لتخلق الجنين.
2- مرحلة تخلق الجنين وتصوره.
3- مرحلة اكتمال نمو الجنين قبل الولادة.
__________
(1) الفيومي، المصباح المنير: 1/139، د. إيناس عباس إبراهيم، رعاية الطفولة في الشريعة الإسلامية ص 107، الموسوعة الفقهية: 2/ 56.(6/1358)
(4) والإجهاض قد يكون تلقائياً أو طبيعياً، وقد يكون غير تلقائي أو غير طبيعي، والمقصود بالإجهاض التلقائي أو الطبيعي خروج الجنين من الرحم لعدم قدرته على النمو والاستمرار لأسباب طبيعية بحتة، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [سورة الحج: الآية 5] .
فدلالة الآية واضحة على أنه ليس كل جنين يتكون في الرحم يستمر ليخرج طفلاً.
وأما الإجهاض غير الطبيعي أو غير التلقائي فهو الإجهاض الذي يعود لأسباب خارجة عن نمو الجنين نفسه واستمراره في الرحم، إنما يعود لأسباب خارجة أي بفعل فاعل، وهذا الإجهاض قد يتم خطاً وقد يتم عمداً وعدواناً، وهو عندما يتم عمداً وعدواناً قد يكون لغرض الاستفادة من الجنين وقد يكون للاعتداء عليه أو على أمه فحسب.
(5) والواقع أنه عند التدقيق في مسألة الاستفادة من الأجنة المجهضة فإن الحكم يختلف باختلاف نوع الإجهاض من الأنواع السابقة، وباختلاف المرحلة التي جرى فيها الإجهاض من حياة الجنين في رحم أمه.
فإذا كان الجنين المجهض غير مخلق فلا تتصور الاستفادة من هذا الجنين في مجال زراعة الأعضاء، إنما تتصور الاستفادة منه في العلاج الطبي وفي إجراء التجارب العلمية، أما الجنين المخلق أو المكتمل نموه فإن صور الاستفادة الثلاث متصورة.
فإذا كان الإجهاض قد تم عمداً لأغراض الاستفادة من الجنين في صورها أعلاه فإن الإجهاض نفسه محرم، والاستفادة من الجنين محرمة سداً للذريعة ودرءاً للفساد وتفويتاً لقصد الجاني، وحماية لحياة الجنين.
وأما إذا كان الإجهاض قد تم تلقائياً " أو خطأ أو عمداً" بقصد الاعتداء عليه أو على أمه فحسب دون قصد الاستفادة (1) فلا بد من النظر إلى المرحلة التي وصلها نمو الجنين: فإن كان مكتمل النمو وخرج حياً فلا يجوز المساس به أو الاعتداء عليه وتهديد حياته بأي صورة من الصور وكل فعل من ذلك يعتبر قتلاً له أو شروعاً في قتله، وهو حرام قولاً واحداً.
__________
(1) (1) وواضح حرمة الإجهاض هنا في حالة العمد، ولكن الحديث عن الاستفادة من الجنين.(6/1359)
وأما إذا كان مكتمل النمو ولم يخرج حياً أو كان غير مكتمل النمو (مخلقاً أو غير مخلق) وهناك قطع طبي باستحالة حياته فيجوز الاستفادة منه لأغراض العلاج الطبي الموثوق للأحياء وضمن الشروط المقررة لجواز الاستفادة من أعضاء جسم الإنسان لمصلحة إنسان آخر مثل ضرورة موافقة الولي وأن يكون ذلك دون مقابل مادي، وأن تتعين هذه الاستفادة لصيانة حياة المستفيد أو وظيفة أساسية من وظائف الجسم على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعاً، أما الاستفادة من هذه الأجنة لأغراض إجراء التجارب العلمية فإن ذلك يجوز في حدود الضرورة تحقيقاً للمصالح الشرعية المعتبرة، ودون مثلة أو اعتداء على كرامتها الإنسانية، أما إجراء التجارب لأغراض الترف العلمي أو دون هدف مشروع واضح فإنها لا تجوز حماية لكرامة الإنسان وحرصاً على الاستعجال في دفنها كما هو مقرر شرعا.
حكم الاستفادة من الأجنة الفائضة عن الحاجة في عمليات أطفال الأنابيب:
(6) المقصود بالأجنة الفائضة عن الحاجة في عمليات أطفال الأنابيب كما بين ذلك الأطباء المختصون: الأجنة التي تم الحصول عليها بالتلقيح الاصطناعي خارج الرحم ذلك أن عملية طفل الأنبوب تتطلب استخراج عدد من البويضات من مبيض المرأة، وتلقيحها خارج الرحم بالحيوانات المنوية وتتراوح في العادة من 4- 8 بويضات وقد تجاوز ذلك، ثم يقوم الأطباء بنقل ثلاثة من هذه اللقائح إلى الرحم بعد أن تبدأ في النمو، وأما الفائض فيحتفظ به بعد تبريده وتجميده انتظاراً لنتيجة الزرع في الرحم: هل ستنجح أم لا؟ فإذا لم تنجح تكرر العملية وبعد ذلك وفي العادة تظل هذه الأجنة مجمدة أو تتلف.
وموضوع الاستفادة من الأجنة الفائضة في غير زرعها في رحم الأم قضية مهمة ينظر لها من زوايا عديدة طبية وشرعية وقانونية واجتماعية.
(7) ويتعلق بموضوع الأجنة الفائضة عن الحاجة بحث الأمور التالية:
ا- حكم استنبات العدد الزائد.
2- حكم تنميتها في غير رحم الأم.
3- حكم الاستفادة منها في التجارب العلمية.
4- حكم الاستفادة منها في أغراض العلاج الطبي.
والواقع أن النقطتين الأولى والثانية ليستا من مشتملات هذا البحث المباشرة، ولكنهما وثيقتا الصلة به ... فأساس البحث في مشروعية الاستفادة من هذه الأجنة: هو القول بجواز استنبات العدد الزائد، أو أن هذا الزائد تمليه ضرورات هذه العملية، وهو محل البحث في النقطة الأولى: وعلى أساس القول بجواز الاستمرار بتنمية هذه الأجنة خارج الرحم وهو محل البحث في النقطة الثانية يرد البحث في موضوع الاستفادة من هذه الأجنة في مراحل نموها المختلفة وبخاصة بعد تكون الأعضاء.(6/1360)
(8) وقد كنت نبهت في مناقشات موضوع أطفال الأنابيب في الدورة الثانية لمجمع الفقه الإسلامي التي عقدت في جدة سنة 1407 هـ- 1986م إلى ضرورة بحث حكم الأجنة الفائضة عن الحاجة، فقلت في أثناء المناقشة (في الواقع لا أريد أن أكرر ما دار من نقاش، فقط أحب أن أشير إلى موضوع لم يوقف عنده في المناقشة، وهو الأمر الذي يجري الآن بالنسبة لأطفال الأنابيب بأخذ أكثر من بويضة وإعداد أكثر من جنين لتسهيل عملية الحصول على الولد، والتي تسمى الأجنة المجمدة: ما وقفنا عند هذه القضية ... وهي موضوع بداية الحياة ... هناك كثير من الآراء الفقهية الآن خاصة في موضوع الحديث عن الإجهاض تصر على أن بداية الحياة هي من لحظة اتحاد الحيوان المنوي بالبويضة، وبالتالي إذا أخذنا اللقيحة الأولى المرشحة ووضعناها في الرحم وتم الإنجاب، تلك ستتلف أو ستذهب إلى الاختبارات العلمية: فما هو حكم الإجهاز عليها؟ هل هذا يرشح قيداً جديداً على الذين أجازوا (أي عملية أطفال الأنابيب) بأن تتم العملية بالتدريج، بويضة بحيوان منوي، فإذا فشلت بدأنا بالعملية من جديد، وأنه لا يجوز أن تحضر مجموعة كبيرة من الأجنة، نقتل غير الناجح منها أو غير ما تم زرعه في الرحم وتم منه الولد، خاصة أن عملية الإجهاض الآن عملية نعاني منها معاناة كبيرة، وأيضاً تسبب محاذير كثيرة، فإذا أجزنا عملية قتل الأجنة في هذه الحالة بعد أن نأخذ منها واحداً (أو أكثر) وتتم عملية الولادة فإننا يجب أن. نأخذ هذا المنحى أيضاً في موضوع الإجهاض، أنبيح عملية قتل الأجنة في المراحل الأولى، وهو ما يتحفظ بعض العلماء عليه كثيراً في هذه الأيام؟) (1)
والواقع أن القرار قد صدر في الدورة الثالثة في موضوع أطفال الأنابيب دون إشارة لموضوع الأجنة المجمدة ... وقد قلت في الدورة الرابعة منبهاً إلى ضرورة بحث أو وضع بعض القيود على القول بالجواز بخصوص أطفال الأنابيب (بالإضافة إلى ما قرر من شروط) : قضية اللقائح المرشحة- وهذا تحفظ كنت أشرت إليه في بحث أطفال الأنابيب (في الدورة الثانية ولم ينبه عليه في الدورة الثالثة) - لا بد من إضافة قيد: أن لا يكون هنالك ترشيح لعدد كبير من اللقائح، لأنه حتى لو لم نستخدم منها في زرع الأعضاء فإننا قد ندخل في دائرة القتل فيما إذا سمحنا للأطباء بعد ذلك أن يتلفوها، أو لابد أن تكون اللقائح المرشحة بالقدر الذي يفي بعملية أطفال الأنابيب حتى لا تتولد عنها لقائح فيها الحياة، ثم بعد ذلك نقتلها أو نتيح للأطباء أن يفكروا في عملية الاستفادة منها في زرع الأعضاء (2)
ذلك أن احترام الحياة الإنسانية يقتضي باتخاذ الإجراءات الطبية اللازمة لمنع ظاهرة الأجنة الفائضة بحيث لا يلقح من البويضات إلا ما سوف يزرع في الرحم.
__________
(1) مجلة الفقه الإسلامي، العدد الثاني: 1/367- 368.
(2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الرابع: 1/ 470.(6/1361)
(9) ويبين الأطباء (1) أن الأجنة الفائضة عن الحاجة في هذه الأيام وعلى ضوء التقدم الطبي الذي تم على ثلاثة أنواع:
الأول: لقائح قبل مرحلة تكون الجنين وتشكله وتكون اللقيحة دون مظهر إنساني، فهي عبارة عن مجموعة خلايا تصل إلى 8 أو 16 خلية ولكل خلية قدرة كاملة على مواصلة الحياة وتكوين إنسان كامل.
الثاني: مرحلة بدء تصور الجنين وتشكله حيث تبدأ الخلايا باكتساب خصائص معينة ترتبط بأدوار هذه الخلايا في الجسم الإنساني مستقبلاً، وهي تبدأ من بلوغ مجموع الخلايا 32 خلية فأكثر.
الثالث: مرحلة بداية تكون الجهاز العصبي في الجنين الذي يحس من خلاله وقد يتألم وهي تبدأ بعد مرور أسبوعين على الجنين في الغالب، وهذه المرحلة الثالثة من النادر ترك الأجنة للنمو إليها، فقد اقترحت لجنة وارنك البريطانية المكونة من أطباء ورجال دين وقانونيين السماح بتنمية هذه الأجنة إلى اليوم الرابع عثر وذلك قبل ظهور الشريط الأولي والميزاب العصبي في الجنين، وذلك لأن الجهاز العصبي هو البداية الإنسانية الواضحة المعالم للإنسان (2) لذا فإن عملية زرع الأعضاء غير متصورة من هذه الأجنة، لعدم وجود أعضاء قابلة للنقل ولكن قد يستفاد من نقل بعض خلايا من تلك الأجنة لأغراض العلاج الطبي.
(10) والسؤال الآن بخصوص هذه الأجنة (3) ما حكم الاستفادة منها لأغراض العلاج الطبي أو في مجال إجراء التجارب العلمية؟ الواقع أن إجابة هذا السؤال ترتبط بأمرين:
الأول: حكم استنبات العدد الزائد وهو ما أشرنا إليه سابقاً، فإن انتهينا بمنعه أو تحريمه فلا يجوز الاستنبات الزائد ولا يجوز الاستقاله منها حتى لا يقع الاستنبات الزائد لهذا الغرض، ولكن إذا قلنا بجواز الاستنبات الزائد لضرورات عملية أطفال الأنابيب فقط فهل يجوز الاستفادة منها؟ الإجابة على هذا السؤال ترتبط بالأمر الثاني.
__________
(1) انظر بحث الأستاذ الدكتور عبد الله حسين باسلامه المقدم لهذه الندوة: ص 6- 8.
(2) انظر محمد علي البار: بحث التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب المقدم لمجمع الفقه، مجلة المجمع، العدد الثاني: 1/ 274، 301.
(3) الأولى أن يقصر تعبير الجنين والأجنة على ما يكون في رحم الأم فالجنين: المستور من كل شيء والحمل في بطن أمه. مجمع اللغة العربية- معجم ألفاظ القرآن: 1/223، قال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [صورة النجم: الآية 32] ، وليستعمل لفظ لقيحة أو لقائح مثلاً قبل الزرع في الرحم.(6/1362)
الثاني: هل لهذه الأجنة حرمة باعتبار كونها إنساناً مآلاً؟ فهل يجوز إتلافها وقتلها؟ وهل تجوز الاستفادة مها قبل ذلك أم أن اللازم هو انتظار زرعها في رحم الأم حتى تحين الفرصة المناسبة؟
(11) لم يتعرض علماؤنا لحكم القتل أو الإتلاف لهذه اللقائح أو الأجنة لأنها من القضايا الحادثة ولكنهم تعرضوا لما هو مثلها من الأجنة وهي الأجنة التي تتكون في رحم الأم في المراحل الأولى. فقد بين فقهاؤنا حكم الاعتداء عليها، واختلفوا في ذلك على ثلاثة مذاهب:
الأول: أن الجنين إذا أسقط بضرب ونحوه مضغة كان أو علقة أو ما يعلم أنه ولد ففيه الغرة ... والغرة باتفاق الفقهاء (1) هي الواجب في الجناية على الجنين الذي ترتب عليها انفصال الجنين عن أمه ميتاً عمداً كان أو خطأ، ومقدارها نصف عشر الدية الكاملة، مما ليس هنا مجال تفصيله.
الثاني: أن الجنين إذا أسقط لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه شيء.
الثالث: أن الجنين إذا أسقط لا شيء فيه حتى تنفخ فيه الروح، وذلك إذا بلغ عمره (120 يوماً) ، وقد ذهب إلى المذهب الأول جمهور المالكية، وذهب إلى المذهب الثاني الشافعية والحنبلية وجمهور الحنفية، وذهب إلى المذهب الثالث ابن رشد من المالكية وبعض الحنفية (2) وفيما يلي ذكر لبعض النصوص التي توضح هذه المذاهب:
(أ) قال ابن قدامة في المغني: (فإن أسقطت- أي الأم- ما ليس فيه صورة آدمي فلا شيء فيه لأنا لا نعلم أنه جنين، وإن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية ففيه غرة، وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي لو بقي تصور ففيه وجهان: أحدهما: لا شيء فيه لأنه لم يتصور، فلم يجب فيه كالعلقة، ولأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك، والثاني فيه غرة لأنه ابتداء خلق آدمي فأشبه ما لو تصور ... وهذا يبطل بالنطفة والعلقة) (3)
(ب) وقد أوضح القرطبي المذهبين الأول والثاني فقال: (النطفة ليست بشيء يقيناً، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم، فهي كما لو كانت في صلب الرجل ... فإذا طرحته علقة فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال ما يتحقق به أنه ولد، وعلى هذا فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل تبرأ به الرحم وتنقضي به العدة، وهذا مذهب مالك رضي الله عنه وأصحابه، وقال الشافعي: لا اعتبار بإسقاط العلقة وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط، فإن خفي التخطيط وكان لحما، فقولان بالنقل والتخريج. والمنصوص أنه تنقضي به العدة) (4)
__________
(1) الموسوعة الفقهية: 2/ 59.
(2) القرطبي، التفسير: 12/ 10؛ ابن قد امة، المغني: المهذب: 17/ 383؛ ابن عابدين، الحاشية: 6/ 59.
(3) ابن قدامة، المغني: 8/ 406.
(4) القرطبي، التفسير: 12/ 9.(6/1363)
(ج) وقال ابن العربي بعد استعراض بعض الأحكام التي تثبت للجنين إذا أسقط: (لا يرتبط به شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقاً) (1) وقال أيضاً: (وما لم يتبين خلقه فلا وجود له) (2) والمقصود الوجود الشرعي بحيث نرتب عليه الأحكام المقررة للجنين من صلاة عليه وتسمية وتغسيل وتكفين.
(د) وقال ابن رشد في بداية المجتهد مرجحاً المذهب الثالث: (واختلفوا في هذا الباب في الخلقة التي توجب الغرة، فقال مالك: كل ما طرحته من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الغرة) . .. وقال الشافعي: ... لا شيء فيه حتى تستبين الخلقة: والأجود أن يعتبر نفخ الروح فيه، أعني أن يكون تجب فيه الغرة إذا علم أن الحياة قد كانت وجدت فيه (3)
(هـ) وفي حاشية ابن عابدين عن عدد من الفقهاء (أن الغرة لا تجب إلا باستبانة بعض الخلق، ولا تأثم المرأة في الإجهاض إذا لم يستبن بعض خلقه) (4)
(12) وقد وردت بعض الأحاديث النبوية التي تتحدث عن بداية تكون الجنين في مرحلة ما قبل التخلق ومرحلة ما قبل نفخ الروح:
(أ) فعن حذيفة بن أسيد الغفاري: ((إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يارب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ... الخ)) (5)
(ب) وعن عبد الله بن مسعود، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)) (6)
قال ابن رجب هذا الحديث متفق على صحته وتلقته الأمة بالقبول (7) وقال:
(فهذا الحديث يدل على أنه يتقلب في مائة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار: في كل أربعين يوماً منها يكون في طور. فيكون في الأربعين الأولى نطفة، ثم في الأربعين الثانية علقة، ثم في الأربعين الثالثة مضغة، ثم بعد المائة وعشرين يوماً ينفخ فيه الملك الروح) (8)
__________
(1) انظر ابن العربي أحكام القرآن: 3/ 1261، القرطبي، التفسير: 12/ 10.
(2) انظر ابن العربي أحكام القرآن: 3/ 1261، القرطبي، التفسير: 12/ 10.
(3) ابن رشد، بداية المجتهد: 2/ 345.
(4) ابن عابدين، الحاشية: 6/ 59.
(5) أخرجه مسلم وغيره، انظر المنذري، مختصر صحيح مسلم: 249/2.1831
(6) أخرجه البخاري ومسلم وغيرها واللفظ لمسلم، انظر المنذري مختصر صحيح مسلم: 248/2؟ ابن حجر، فتح الباري: 7/ 114؟ محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان: 3/ 206 - 207.
(7) ابن رجب، جامع العلوم والحكم: ص 103.
(8) ابن رجب، جامع العلوم والحكم: ص 103.(6/1364)
(13) وقد أشار عدد من الآيات الكريمة إلى ذلك، نذكر منها:
(أ) قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون: الآيات 12 – 14] .
(ب) وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [سورة غافر: الآية 67] .
(ج) وقال جل من قائل: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [سورة الإنسان: الآية 2] . ذهب كثير من المفسرين أن معنى نطفة أمشاج أي أخلاط بين ماء الرجل وماء المرأة (1)
(د) وقال سبحانه: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [سورة عبس: الآيات 17 – 19] .
(هـ) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [سورة الحج: الآية 5] .
(و) وقال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [سورة الزمر: الآية 6] .
(ز) وقال سبحانه: {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [سورة القيامة: الآية 38] .
(ح) وقال سبحانه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [سورة العلق: الآية 2] .
(ط) وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [سورة فاطر: الآية11] .
فهذه الآيات تشير إلى مراحل الخلق وتوضح أن مراحل النطفة والعلقة والمضغة قبل مرحلة خلق الإنسان وهو ما يعنيه قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} ، وقد استدل ابن حزم بالحديثين السابقين على أن العلقة هي أول خلق الولد قائلاً: (معناه خلق الجملة التي تنقسم بعد ذلك سمعاً وبصراً وجلداً ولحما وعظاماً - فصح أن أول خلق الولد كونه علقة لا كونه نطفة وهي الماء) (2) ويبين العلماء أن نفخ الروح يكون بعد المائة والعشرين يوماً قال القرطبي: لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوماً (3) وقال النووي واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر (4)
__________
(1) القرطبي، التفسير:19/120 - 121.
(2) ابن حزم، المحل: 11/ 640.
(3) القرطبي، التفسير: 12/ 8.
(4) شرح مسلم:191/16.(6/1365)
قال الجصاص: وإنما ذكرنا أنه خلقنا من المضغة والعلقة، كما أخبر أنه خلقنا من النطفة ومن التراب ... ومعلوم أنه حين أخبرنا أنه خلقنا من المضغة والعلقة فقد اقتضى ذلك أن لا يكون الولد نطفة ولا علقة ولا مضغة، لأنه لو كانت العلقة والمضغة والنطفة ولداً لما كان الولد مخلوقاً منها إذ أن ما قد حصل ولداً لا يجوز أن يقال قد خلق منه ولد، وهو نفس ذلك الولد، فثبت بذلك أن المضغة التي لم يستبن فيها خلق الإنسان ليس بولد (1)
(14) فإذا كان الخلق الإنساني لم يتم في مرحلة النطفة والعلقة والمضغة فما وضع اللقائح قبل نفخ الروح؟
هذا، وقد ذكر ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن وابن حجر العسقلاني في فتح الباري أن علامة نفخ الروح في الجنين هو ظهور الإحساس والحركات العضلية الإرادية، ولا يكون ذلك إلا بتكوين الجهاز العصبي، ولا تظهر بوادره إلا في اليوم الأربعين أو الثاني والأربعين من عمر الجنين (2)
فابن القيم يقول: (فإنه قيل الجنين قبل نفخ الروح فيه هل كان فيه حركة وإحساس أم لا؟ قيل: كان فيه حركة النمو والاغتذاء كالنبات، ولم تكن حركة نموه واغتذائه بالإرادة. فلما نفخت (الروح) انضمت حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه واغتذائه) (3)
وقال ابن حجر: (ولا حاجة له (أي الجنين) حينئذ إلى حس ولا حركة إرادية لأنه حينئذ بمنزلة النبات، وإنما يكون له قوة الحس والإرادة عند تعلق النفس به) . فالعلماء يميزون بين الحياة النباتية والحياة الإنسانية، فالأولى فيها النمو والاغتذاء والثانية تتميز بوجود الحس والإرادة أي بتكون الجهاز العصبي.
(15) ولكن هل الحياة النباتية محترمة كالحياة الإنسانية؟ لقد بين العلماء أن احترام الحياة الإنسانية أهم وأولى من احترام الحياة النباتية، ولكن هذا لا يعني أن الحياة النباتية غير محترمة.
__________
(1) الجصاص، أحكام القرآن: 58/5.
(2) محمد علي البار، التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب، مجلة المجمع، العدد 2، 1/ 301 - 302.
(3) ابن القيم، التبيان في أقسام القرآن: ص 255.(6/1366)
يقول الإمام الغزالي: (وليس هذا (أي العزل) كالإجهاض والوأد، لأن ذلك جناية على موجود حاصل، والوجود له مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت نطفة فعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشاً ... ومنتهى التفاحش في الجناية هي بعد الانفصال حياً) .
(وإنما قلنا مبدأ سبب الوجود من حيث وقوع المني في الرحم لا من حيث الخروج من الإحليل لأن الولد لا يخلق من مني الرجل وحده بل من الزوجين جميعاً) (1)
(16) وعدم القول بالغرة لا يعني جواز الاعتداء، لأن الغرة تتعلق بوجود الإنسانية وفي هذه المراحل المتقدمة لم تبدأ الإنسانية، لذا لم تفرض دية الجنين وإن كان الاعتداء حراماً، فجماهير العلماء على تحريم الإجهاض، بمعنى إسقاط الجنين في أي فترة من فترات نموه سواء كان ذلك قبل نفخ الروح أم بعده إلا إذا كان هناك عذر قاهر.
وخالف بعض الحنفية وبعض الشافعية فأجازوا للأم اسقاط ولدها قبل الأربعين يوماً الأولى أي قبل أن يستبين، وقيل قبل المائة والعشرين يوماً الأولى أي قبل نفخ الروح، جاء في حاشية ابن عابدين: (قال في النهر: هل يباح الإسقاط بعد الحمل؟ نعم يباح ما لم يتخلق فيه شيء ولن يكون ذلك إلا بعد المائة والعشرين يوماً، ثم ناقش هذا وذكر أقوال العلماء بكراهية إسقاطه في هذه الفترة، فإن الماء بعدما وقع في الرحم مآله حياة إنسان وبين جواز الإسقاط لعذر ما دام الحمل مضغة أو علقة ولم يخلق له عضو، وقدروا تلك المدة بمائة وعشرين يوماً، وذكر أنه جاز لأنه ليس بآدمي وفيه صيانة الآدمي (2)
__________
(1) الغزالي، احياء علوم الدين: 2/ 65.
(2) انظر حاشية ابن عابدين: 6/ 429 0 الدكتورة إيناس عباس إبراهيم، رعاية الطفولة في الشريعة الإسلامية: ص 109 - 110.(6/1367)
وبعد هذا الاستعراض لأقوال العلماء في موضوع إتلاف الأجنة في مراحلها الأولى فقد اتجه العلماء المعاصرون إلى التأكيد على ما ذهب إليه جماهير العلماء من المنع والتحريم لاعتبارات أخرى - في هذه الأيام - حماية للأسرة وصيانة للأخلاق، ولكن لا بد من القول هنا انه إذا كان من جملة التشديد في هذا العصر على تحريم الإجهاض اتخاذه وسيلة لتسهيل الزنا والاعتداءات الجنسية المحرمة حيث يخفي الإجهاض آثار ذلك فإن هذا الأمر غير متصور في الأجنة الزائدة عن الحاجة.
والواقع أن القضية في رأيي ترجع إلى أصل المسألة، فإذا أمكن منع هذه الظاهرة أصلاً فهذا أولى وأجدر بحيث لا تكون أجنة زائدة عن الحاجة إبقاءً لاحترام الحياة الإنسانية ومنعاً للأطباء الذين لا يلتزمون بالمبادىء والقيم الدينية والخلقية من العبث في هذه الحياة.
ولكن إذا وجدت هذه الأجنة الزائدة عن الحاجة لسبب أو لآخر، فيجب أن يكون طريقها ما خلقت له وهو العلوق في رحم أمها إذا فشلت عملية الزرع الأولى، وإذا نجحت فليتم زرع جديد في الوقت المناسب، ولكن لا يجوز قتلها ولا الاستفادة منها ما دامت أنها ستكون إنساناً كاملاً ولو احتمالاً. فهذه الأجنة مستقبلة للحياة ومستعدة لها بخلاف الأجنة المجهضة إذا قطع باستحالة حياتها.
وأخيراً أرجو من الله سبحانه وتعالى أن تتمكن الندوة من الوصول إلى الرأي السليم في هذا الموضوع الشائك على ضوء البحوث الأخرى والمناقشات التي ستجرى. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
"وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين".
الدكتور عبد السلام العبادي(6/1368)
الاستفادة من الأجنة المجهضة والفائضة
في زراعة الأعضاء وإجراء التجارب
إعداد
سعادة الأستاذ الدكتور عبد الله حسين باسلامة
رئيس المجلس العربي لاختصاص أمراض النساء والولادة
ورئيس قسم أمراض النساء والولادة بكلية الطب جامعة الملك عبد العزيز – جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: الأجنة المجهضة
تقديم:
إذ تتبعناً مصير حمل حدث في رحم سيدة.. نجد أن مصير حوالي 20 % من الأجنة للإجهاض التلقائي أو الطبيعي.. وإذا ما تتبعنا نسبة الإجهاض العام - أي نسبة الإجهاض الطبيعي والإجهاض الجنائي أو المتعمد - نجد أن النسبة ترتفع، وقد تصل إلى حوالي 40 % من كل حمل!
وتجدر الإشارة هنا إلى أن في أمريكا وحدها قد تم إجهاض أكثر من 25 مليون حمل في عام واحد، كما أوردت مجلة (Human Rights) عام 1983م، وأشارت منظمة الصحة العالمية في تقريرها عام 1984م أن حالات الإجهاض الجنائي أو المتعمد قد بلغت أكثر من 25 مليون حالة سنوياً.
والإجهاض - الآن - إما أن يكون تلقائياً - أي طبيعياً - بمعنى أن الأرحام (تمج) تخرج ما بداخلها.. ويكون ذلك عادة لكون الجنين أو البويضة الملقحة غير قادرة على النمو والاستمرار.. وهذا مصداقاً لقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} . [سورة الحج: الآية 5] . ولقوله صلى الله عليه وسلم: (اذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة مجتها الأرحام دماً) .
فالمضغة غير الصحيحة تمجها الأرحام.. وهو أكثر أنواع الإجهاض التلقائي.
وإما أن يكون الإجهاض إجهاضاً جنائياً أو متعمداً.. وفي هذه الحالة فإن نمو الجنين داخل الرحم يكون طبيعياً واستمرار الحمل يكون عادياً، ولكن لأسباب من صنع الأسرة أو المجتمع أو الطبيعة.. يجهض هذا الحمل.. أي أن الإجهاض يكون عادة لنطفة مخلقة.
إذن فالأجنة المجهضة تكون على نوعين:
(أ) نوع غير مخلق، وبالتالي ليس مكتمل النمو، وفي أغلب الأحيان ليس بها أولها أعضاء يمكن نقلها أو الاستفادة منها.
(ب) النوع الآخر، أجنة مخلقة، وهي قد تكون قد وصلت إلى مراحل من النمو، وتكون لها أوبها أعضاء قابلة للنقل والزراعة في الغير.(6/1369)
إمكانية الاستفادة من الأجنة المجهضة:
إذا تجاوزنا السبب الذي أدى إلى الإجهاض (حيث إن بعض الأجنة المجهضة التي يمكن الاستفادة من بعض أعضائها.. والتي نتحدث عنها الآن في معظم المراكز الطبية، هي الأجنة المجهضة جنائياً أو متعمداً) .
فإنه طبياً، يمكن أن يقال: إن بعض تلك الأجنة يمكن الاستفادة منها.. ولكن الاستفادة من أعضاء الأجنة تتوقف - إلى حد كبير - على مدى نمو ذلك العضو في الجنين، فكما هو معروف أن الجنين في الأسابيع الثمانية الأولى من الحمل (طور النطفة والمضغة والعلقة) ليس له أعضاء أو أنسجة يمكن الاستفادة من نقلها.. وبعد تلك الفترة - أي بعد مرور 6 -8 أسابيع (شهرين من الحمل) - تأخذ أعضاء الجنين وأطرافه في النمو.. ويستمر النمو إلى مراحل متقدمة من الحمل، وكلما كان عمر الجنين عند إجهاضه كبيراً أو متقدماً في الحمل، كلما كانت أعضاؤه أكثر نمواً، والاستفادة منها أكبر.. بمعنى أن الأجنة المجهضة في الأشهر الأولى من الحمل لا تكون صالحة كثيراً لزراعة الأعضاء، ولكن الأجنة التي تستخرج من الرحم بعد الشهر الرابع أو أكثر - أي بعد مرحلة نفخ الروح - تكون أكثر فائدة في عملية نقل الأعضاء.
والخلاصة:
يمكن أن نوجز القول بالتالي: ان زراعة الأعضاء من الأجنة المجهضة ممكن طبيعياً ومفيد علمياً، ولكن لكي نحصل على الفائدة المرجوة، لا بد أن يكون الجنين المجهض قد وصل من النمو داخل الرحم إلى مرحلة كبيرة.. أي قد تعدت في نموه داخل الرحم مرحلة نفخ الروح (أربعة شهور) .. والمطلوب فيه أن يظل حياً أو أن تظل أنسجته حية إلى حين نقلها أو فصلها أو تجميدها.
والأسئلة التي تطرح نفسها في هذا الموضوع هي:
ا - من يملك حق التصرف في هذه الأجنة؟ الأبوان؟ أو المركز الطبي؟ أم أن هذا الجسد (جسد الجنين) ملك لله وليس لأحد الحق في التصرف فيه؟
2 – هل الوسيلة التي تم بها إجهاض الجنين تؤثر في مشروعية الاستفادة منه؟ لأنه قد تتخذ عملية الاستفادة من نقل أعضاء الأجنة ذريعة لعملية الإجهاض؟!
3 – الأعضاء التي تؤخذ للزراعة يجب أن تؤخذ من أجنة حية أو أجنة خرجت من بطون أمهاتها حية، وفي هذه الحالة نقل الأعضاء من الأجنة قد يؤذي تلك الأجنة أو بعضاً من حياتها.(6/1370)
ثانياً: الأجنة الفائضة
لا شك أن عملية طفل الأنابيب – أو علاج العقم بالتلقيح الاصطناعي الخارجي - التي تتم الآن في مراكز كثيرة من العالم الإسلامي وغير الإسلامي، ينتج عنها أجنة فائضة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نتج من عملية طفل الأنابيب التي أجريت لـ (432) امرأة في مركز واحد، نتج من تلك العمليات (208 1) جنين فائض أودع الثلاجة أو جمد!
وفي كل مركز من مراكز طفل الأنابيب الآن يوجد العديد من الأجنة الفائضة، حيث إن عملية طفل الأنابيب تتطلب الآن استنبات العديد من البويضات من المبيض عند المرأة تصل في عددها في المتوسط ما بين (4 -8) بويضات، وفي بعض الأحيان وصل عدد تلك البويضات إلى أكثر من 50 بويضة.. وفي العادة تسحب كل تلك البويضات عن المبيض وتلقح في المعمل، وينقل منها 3 أجنة فقط إلى رحم الأم، والفائض من تلك الأجنة يحتفظ به بعد تبريده وتجميده.
وبالتالي أصبح مصير الأجنة الفائضة يشكل قضية طبية وفقهية وشرعية مهمة، يضيق نطاق البحث - هنا - عن الخوض في كل أوجه تلك المشكلة، ولكن نكتفى بأن نشير إلى جانب واحد منها، وهو إمكانية الاستفادة من تلك الأجنة الفائضة في التجارب العلمية أو أخذ أعضاء منها لزراعتها، وقبل ذلك يجب أن نعرف من هو ذاك الجنين، أو من هي الأجنة الفائضة التي سوف تستفاد منها؟
من هو الجنين.. أو: ما صفات الأجنة الفائضة؟
بعد استخراج البويضة الناضجة من المبيض.. وإضافة الحيوانات المنوية إليها في أنبوبة الاختبار، ينتج عن ذلك بويضة ملقحة، نصف خلاياها من الأم والنصف الآخر من الأب.. وبعد ساعات (4 – 6 ساعات) تأخذ هذه البويضة الملقحة في الانقسام فتتحول الخلية الواحدة إلى خليتين ثم أربع ثم ثماني خلايا، وهكذا. وعلمياً أثبت أنه لو أخذت من هذه الخلايا خلية واحدة في هذه المرحلة لأمكن لهذه الخلية وحدها أن تتكاثر وينتج عنها شخص متكامل.. إذن في هذه المرحلة (المرحلة الأولى) من الحياة الإنسانية في المعمل يمكن أن نستخلص من البويضة الملقحة المنقسمة في هذا الطور، يمكن أن نحصل على 8 أشخاص بدلاً من شخص واحد.
وأثبت علمياً أيضاً، أنه لو أخذت خلية من هذه المرحلة - من جنين – وضمت إليها خلية من جنين آخر لنتج عن ذلك شخص بالغ كامل..!(6/1371)
إذن، فالجنين في مرحلته الأولى هو عبارة عن سلة بها خلايا متشابهة كل خلية منها لها القدرة الكاملة على النمو، وبعد تلك المرحلة - أي بعد مرحلة 8 خلايا في الجنين - تتكاثر الخلايا وتتحول من 8 إلى 16 و 32 خلية، وهكذا ... وعندما تصل إلى هذه المرحلة من التكاثر تفقد الخلايا تلك الخواص الكامنة، أي القدرة على صنع شخص.. وتصبح لتلك الخلايا تخصصات، فكل خلية يصبح لها دور في صناعة الإنسان، أو الشخص الناتج.
وأطلق على تلك المرحلة من النمو (مرحلة التكاثر من خليتين، إلى أربع، إلى ثمان، إلى اثنين وثلاثين) .
مرحلة ما قبل الجنن (Preembryo) :
وهي مرحلة الأسبوع الأول من الحياة. وبعد الأسبوع الأول من الحياة، وبعد أن يصل عدد الخلايا داخل الجنين 32 خلية، تأخذ الكتلة البشرية أو الجنين في التشكل، وتظهر داخله فراغات وتكتلات في الخلايا، ويصبح لتلك الخلايا خصائص وتخصصات، وتكرر هذه المرحلة - في الأسبوع الثاني من الحياة - وفي هذه المرحلة يطلق على الناتج اسم الجنين (Embryo) ، هذه التسمية هي السائدة في العرف الطبي الغربي.
إذن فالأجنة الفائضة، إما أن تكون في:
ا - مرحلة ما قبل الجنين (Preembryo) ، والتى هي عبارة عن مجموعة من الخلايا تصل إلى 8 أو 16 خلية، ولكل خلية قدرة كاملة على مواصلة الحياة وأن تكون شخصاً كاملا.
2 - مرحلة الجنين، وبها حوالي (32 خلية) أو أكثر، وهي مرحلة ما يسمى: الجنين.(6/1372)
والأجنة - في مرحلتها الأولى - ليس لها مظهر إنساني، إنما هي بويضة ملقحة في طريقها إلى العلق، ويقال علمياً إن 30 % إلى 40 % فقط من هذا النوع من الأجنة لو أتيحت لها الفرصة لواصلت النمو ليكون طفلاً، وهناك ثلاث وجهات نظر في حرمة هذه المرحلة توصل إليها لجان القيم والأخلاق والعلم في العالم الغربي:
ا – تعتبر هذه المرحلة - مرحلة ما قبل الجنين - مرحلة حياة إنسانية، ولها كل حقوق الحياة الإنسانية، وبالتالي فإن من حق كل هذه الأجنة في هذه المرحلة أن تنقل إلى رحم أمهاتها، ويمنع أي إجراء يؤذيها، ولا مانع من معالجتها بالتجميد والحفظ، ولا مانع من البحث عن مكوناتها إن كان البحث للاستدلال على وجود خلل خلقي بها من عدمه!!
2 - وجهة النظر الأخرى، تقول: إن هذه المرحلة - مرحلة ما قبل الجنين - لا حرمة لها، وإنما مثلها مثل أي نسيج من الجسم البشري، وبالتالي فإنه - وبموافقة أولياء أمرها - يمكن التصرف فيها كيفما نشاء!
3 - والرأي الثالث.. وهو الأكثر تداولاً.. فقد اتخذ أصحابه موقفاً وسطاً، ويقول: إن الجنين في هذه المرحلة يجب أن يحترم، وأن يكون له حقوق أكثر من النسيج المأخوذة من الجسم (Human Tissue) ، ولكن يجب أن لا يعامل معاملة الإنسان (Person ودليلهم في ذلك أن الجنين في هذه المرحلة له من الصفات والخصائص أكثر مما للنسيج، ولكنه أيضاً لم يصل - في تكوينه بعد - إلى خصائص الإنسان. عن محضر (The Ethic Committee of American Fertility Society 1986) .
(بعد الأسبوع الأول) :
وبعد الأسبوع الأول، فإن الجنين يكون جنيناً متكاملاً قابلاً إلى مواصلة الحياة وإنتاج إنسان، وهو في هذه المرحلة أكثر تعقيداً، وخلاياه أكثر تخصصاً، لذا - وفي عرف لجان القيم والأخلاق والعلم الغربية - له حرمة وحقوق، ولكن حقوقه وحرمته تقل عن حرمة الطفل أو الشخص البالغ.(6/1373)
وأقر بعضهم إجراء التجارب عليه إلى ما قبل الرابع عشر من عمره، حيث تظهر على الجنين بعد ذلك بداية الجهاز العصبي، أي ما يسمى (Premittive Stuk) ، أما بعد ذلك فسيكون للجنين جهاز عصبي.. يحس من خلاله، وقد يتألم.
الاستفادة من الأجنة الفائضة:
مما تقدم، يتضح أن الأجنة الفائضة (الفائضة عن عملية التلقيح الاصطناعي) ، هي: عبارة عن (سلة) من الخلايا عمرها أسبوع وأكثر قليلاً، وهي في مرحلة التكون، ولم يصل النمو فيها إلى مرحلة تكوين أعضاء.. مثل الكلى أو القلب الكامل أو الأطراف، حيث إنه لم يحصل إلى الآن أن نما أو نبت جنين في المعمل إلى مرحلة متقدمة.. وقد لا يحدث ذلك، فالأجنة في المعمل تنمو إلى مرحلة (8 -32) خلية فقط، ثم تنقل إلى أرحام الأمهات، أو تحفظ مجمدة في الثلاجة.
لذا، فإني: لا أرى - في الوقت الحاضر على الأقل - إمكانية الاستفادة من الأجنة الفائضة في عملية زراعة الأعضاء لعدم وجود أعضاء قابلة للنقل، ولكن قد يمكن الاستفادة من نقل بعض من خلايا تلك الأجنة الفائضة.
فكما ذكرت سابقاً: إن كل خلية من تلك الخلايا النامية تحمل في طياتها القدرة الكاملة على تكوين أنسجة الإنسان، فقد يكون في نقلها إلى الإنسان نوع من المعالجة لبعض معاناته وأمراضه، وإذا تم ذلك، فإنه سوف يكون له مردود علمي كبير على الإنسان.
وفي رأيي: إن الاستفادة من تلك الأجنة الفائضة - في مثل هذه الأمور - (نقل بعض الخلايا وزراعتها في إنسان آخر) أفضل بكثير من إتلاف تلك الأجنة، ففي إتلافها أو قتلها نوع من الوأد لها!!
فمن مشاكل الأجنة الفائضة أو المجمدة، أنها إذا لم تستعمل فقد تكون عرضة لإجراء التجارب عليها أو إتلافها.(6/1374)
إجراء التجارب على الأجنة:
طرحت، وتطرح هذه القضية على مختلف الهيئات الدولية العلمية العالمية،
فإجراء التجارب على الأجنة (الإنسانية) مجال جدل كبير، لما لها من نتائج علمية، والرأي السائد عالمياً (في أمريكا وبريطانيا وغيرهما) هو الموافقة على (استخدام الأجنة في البحث العلمي حتى اليوم الرابع عشر من نموها أو من عمرها) ، باعتباره في بداية لتكوين الجهاز العصبي، حيث يظهر - منذ ذلك اليوم، كما ذكرنا سابقاً – ما يسمى (Primitive Stuk) ، الذي هو بداية الميزاب العصبي.
وعل ما ذكر لم تصدر فتوى شرعية فيما يختص بإجراء التجارب على الأجنة الإنسانية، ولكن بالنسبة لي: ليس في الأمر غموض كبير، فالإسلام قد كفل حرمة الأجنة منذ تعلقها بالرحم، ولا شك أن التجارب العلمية على الأجنة تعد نوعاً من الإتلاف للأجنة أو القضاء عليها.. والجدير بالذكر أن المالكية والإمام الغزالي من الشافعية وابن رجب الحنبلي يحرمون الاعتداء على الأجنة حتى وهي نطفة، ويعتبرون هذه المرحلة أول مراتب الوجود، مما تجدر الإشارة إليه أنه لا توجد في الأديان الأخرى نصوص تدل أتباعها على حرمة الأجنة.. وبداية الحياة الإنسانية.. ومتى تحل الروح ... الخ.
إذن، فإجراء التجارب على الأجنة الحية - أو الأنسجة التي بها حياة - (حيث إجراء التجارب على الأجنة الميتة أو الأنسجة عديمة الحياة.. لا يفيد.) ، يعد نوعاً من الإتلاف أو القضاء عليها.. وهو - بالتالي - اعتداء على حرمتها.
والله من وراء القصد.
أ. د / عبد الله حسين باسلامة(6/1375)
(أ) استخدام الأجنة في البحث والعلاج
(ب) الوليد عديم الدماغ
مصدراً لزراعة الأعضاء الحيوية
إعداد
الدكتور حسان حتحوت
المركز الإسلامي لجنوب كاليفورنيا
بسم الله الرحمن الرحيم
(أ) استخدام الأجنة في البحث والعلاج
يخطىء من يظن أن الرأي في هذا الموضوع قد استقر أو أوشك على الاستقرار، وعلى الرغم من أنه قد دخل حيز التطبيق في مجالات كثيرة إلا أن حرارة النقاش حوله لم تخمد، لأن الاعتبارات التي تكتنفه تبدو متعارضة باختلاف التطبيق، فله ما يدعو إليه في باب حفظ النفس وعلاج المرض والوفاء بمصالح الناس المرسلة، إلا أن له كذلك محاذير لدى من يأخذون بالنظرة القيمية لا المنفعية ويدينون بحرمة اللحم الإنساني حياً أو ميتاً.
ولعل من أول استعمالات أنسجة الأجنة وأبعدها عن الخلاف استزراع سلالات خلوية باستنبات قطعة ضئيلة من الجنين وامتدادها أجيالاً متعاقبة بل دائمة، وقد كان لذلك مردود إيجابي كبير في مجال أبحاث الفيروسات واستنباط اللقاحات الواقية منها ومن أمثلتها اللقاح الواقي من مرض شلل الأطفال.
ثم عاد الموضوع إلى بؤرة الاهتمام عندما اكتشف بعض العلماء مؤخراً أن لبعض أنسجة الجنين فوائد علاجية مباشرة في بعض الأمراض. ومن أمثلة ذلك وضع النسيج العصبي الذي يكون قشرة الغدة الكظرية في مكان معين من مخ المريض بمرض باركنسون، فإن المادة التي يفرزها هذا النسيج تجبر نقصاً وتصلح خللاً وتفضي إلى انحسار أعراض المرض وإطالة معدل حياة المريض، ومن الأمراض المقترحة كذلك لهذا المنحى من التداوي مرض السكر، بزرع خلايا البنكرياس والدمار الإشعاعي لنخاع العظام الذي يعتمد في أصناف من سرطانه، فربما كان العلاج أفتك من الداء لولا محاولة زرع نخاع جديد من جنين طازج، وإنما فضل الجنين مصدراً لأن خلاياه ناشطة النمو ماهرة التكيف عديمة الإثارة لردود الفعل المناعية الرافضة أو قاب ذلك.
وإلى هنا يبدو في ظاهر الأمر أن الموضوع لا يعدو أنه نوع من زراعة الأعضاء وأنه لذلك أهل لعرض من أهل الشريعة ومن غير أهلها على السواء، وكاد ذلك يصح لولا أن المصدر هنا هو الإجهاض، وأن الأغلبية الغالبة من تلك الأجنة اجتلبت بطريق التجهيض الجراحي العمد، وارتفعت أصوات الذين يحرمون التجهيض شرعاً أو إنسانياً، ثم أصوات الذين خشوا أن تشيع تجارة الإجهاض، فتحمل المرأة بقصد أن تجهض فتبيع جنينها أو تهبه لعلاج قريب أو مبتاع، وهو منحنى خطير في السلوك الإنساني، فإن الطبيعي أن المرأة إن قصدت إلى الحمل برضاها فإنما تنوي الميلاد لا الإجهاض، وإنشاء الحياة بقصد قتلها مرفوض – ولا ريب - وأثبتت الوقائع أن هذه المحاذير قد ولغ فيها من ولغ سواء من الأطباء الذين يعالجون بأنسجة الجنين، أو الأطباء الذين يقترفون الإجهاض، أو النساء بائعات أجنتهن.(6/1376)
من أجل سد هذه الذرائع وتوقي تلك المحاذير قامت هيئات ولجان تحاول أن تضبط هذه الممارسة بضمانات وشروط تحول دون سوء استغلالها على ما ورد، فكان من أهم تلك الضمانات ما يلي:
ا - تحريم عملية التجهيض إن كان القصد منها استعمال الجنين، ونرى أنه تحريم لا عبرة به ولا جدوى منه في بلاد تبيح للمرأة أن تنال الإجهاض بدون إبداء أسباب على أنه حق لها.
2 - تحريم عملية البيع أو أية استفادة مادية للأم صاحبة الجنين.
3 - تحريم أن يقوم الطبيب المجهض بإزالة الأعضاء أو الأنسجة المطلوبة.
4 - تحريم الاشتراك في البحث العلمي بين الطبيب المجهض والطبيب المداوي أو ظهور اسميهما معاً في المنشورات العلمية في هذا الباب.
5 - لا يقبل من امرأة تطلب الإجهاض أن تطلب استعمال جنينها لعلاج مريض بذاته.
6 - اقتراح بإنشاء هيئة مستقلة تتلقى المجاهيض من أطباء الإجهاض وتتولى توزيعها على الأطباء الذين يحتاجونها للبحث أو العلاج دون اتصال مباشر بين الفريقين. وارتفعت أصوات تقول إن نسبة الإجهاض التلقائي غير المفتعل تبلغ عشرة إلى عشرين بالمائة من حالات الحمل عامة، وتنادي بأن في ذلك ما يفي بحاجة العلاج الطبي أو البحث العلمي من الأجنة، وتنادي بقصر هذا الباب على الأجنة المجهضة تلقائياً، ولكن يبدو أن هذا الرأي المنطقي في ظاهره رأي معيب، فمن المعروف أن نسبة الأخطاء (الكروموزدمية) عالية في حالات الإجهاض التلقائي، ولعلها هي التي أفضت إلى الإجهاض، وهي تصيب خمسين بالمائة من الأجنة الساقطة تلقائياً خلال الأشهر الثلاثة الأولى وعشرين بالمائة من الإسقاطات التلقائية فوق هذا العمر، كذلك وجد أن الإسقاط التلقائي مصحوب في نسبة عالية منه بتلوثات جرثومية يحرم من أجلها أن تستعمل في العلاج وأن تودع أنسجتها أبدان المرضى.(6/1377)
ورغم هذا الخلاف الجذري بين الفريقين، فقد ظلت بينهما مساحة مشتركة وإن كانت كالشريط الضيق، فإن عملية الإجهاض العمد إن كان القصد منها انقاذ حياة الأم من خطر يتهددها إن استمر الحمل، فهو تجهيض مباح ومشروع ولا بأس إذن ولا ضير من استعمال أنسجة هذا الجنين في العلاج أو في البحث العلمي، وفي كافة الأحوال فهناك إجماع على وجوب معاملة اللحم البشري بالاحترام اللائق به، فلا يهان ولا يلقى في القمامة، وإنما يستر ويوارى كما يليق بالإنسان، ونرى أنه إن كان بلغ مرحلة نفخ الروح زدنا على ذلك غسله وكفنه والصلاة عليه.
على أن واقع الحال أقسى فيما يبدو من كل من هذين الفريقين على بعد الشقة فيما بينهما، فما زالت مسيرة عالمنا المعاصر تتجه إلى اعتماد المنافع ولو فرطت في القيم، وعندما يكون القصد إبراء جسم الإنسان من أمراضه وعلله، فإن التعلل بحرمة الإنسان حياً وميتاً يبدو أمراً عاطفياً بعيداً عن الواقع، وجنوحاً إلى معتقدات بالية آن أن تزول، مع أن الاستقراء يعلمنا أن المجتمع الإنساني لو تشبع بفكرة حرمة الإنسان لكان من آثار ذلك تقليص الجريمة والعزوف عن العدوان الفردي أو الجماعي سواء في المجال الاجتماعي أو السياسي أو العسكري، ولكن من سمات هذا العصر أن النتائج السريعة والمحسوسة أكثر جاذبية من النتائج التي لا تؤتي ثمارها إلا على المدى الطويل وبالتدريج الذي لا يصاحبه بريق، إن عصرنا يتميز بأن الإنسان برع في التكتيك وضل في الاستراتيجية، ونعود إلى موضوعنا وهو استعمال الأجنة في البحث والعلاج فنقول برغم الضوابط والتحفظات فإن أرض الواقع شهدت عجباً، فهناك بالفعل تجارة واسعة وخفية في الأجنة المجهضة تقوم بها جهات محترمة، وهي تجارة محلية ودولية، وكانت إزاحة الستار عنها بالصدفة عندما لاحظ قسيس على أطراف الأرض التي تقوم عليها كنيسته صندوقين كبيرين ظل أياماً، ويظهر أنهما وضعا هنالك بالخطأ وأنهما كانا يخصان معهداً للأبحاث مجاوراً له وفتحهما ليجد فيهما عدة مئات من الأجنة البشرية المحنطة، وعلم بالأمر أحد رجال الصحف فالتقط طرف الخيط وتحرى الأمر ليعلم أن هناك اتفاقاً تجاريا مع متعهد في إحدى دول جنوب شرق آسيا ليشحن لهم دفعات من الأجنة لزوم الأبحاث، واتسعت تحرياته فكان من طريف ما وجده أن مستشفيات محترمة في أمريكا تعتمد في مخصصات الشاي والحلوى للأطباء أو ربما دعوة أستاذ زائر لإلقاء محاضرة على الريع الآتي من بين ما يجهض فيها من أجنة.(6/1378)
وأجريت تجارب على الأجنة الحية في أرحام أمهاتها اللاتي كن ينوين الإجهاض بسبب أو لآخر، وعللوها بأنه ما دامت الأم قررت الإجهاض على أية حال وأن الجنين محكوم عليه إذن بالإعدام، فقد حقنت السيدات بمواد دوائية وكيميائية لمعرفة تركيزها في الجنين وآثارها عليه بدراسته بعد إجهاضه. والقياس هنا ظالم لأنه لو حكم على إنسان بالإعدام لما جاز أن يباح للتجارب قبل اعدامه بحجة أنه آيل إلى موت على أية حال.
وقامت تجارب على أجنة حية بعد إجهاضها وبقائها أو استبقائها على قيد الحياة لفترة من الزمن فعرضت للإشعاعات لدراسة آثارها، وعرضت للسموم لدراسة مفعولها، بل ان إحدى الشركات التي تصنع مستحضرات التجميل كانت تدرس مفعول المواد الكيميائية على الجلد البشري مستخدمة الإسقاطات أو الإجهاضات الحية.
واستخدمت المجاهيض الحية فور إجهاضها في تجارب تقتضي إجراء جراحات لها وهي حية وبغير مخدر، منها ما أخذت قشرته الكظرية، ومنها ما أدخلت إبرة في قلبه النابض، ومنها ما حقن بالمستحضرات لرؤية آثارها على أجهزته، مع أنها أجنة متقدمة تشعر بالألم وإن لم تستطع له دفعاً.
كل هذا مبرر بأنه من أجل الإنسانية ومن أجل البحث العلمي الهادف إلى شفاء الأمراض، وما دامت الغاية نبيلة فالوسيلة مبررة وما دامت المعركة ضد المرض فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
يبقى بعد ذلك أن نشير إلى أمر آخر وأخير. وهو أمر الأجنة الباكرة في هيئة بويضات ملقحة، أو الجنين ذي العدد المحدود من الخلايا والتي تبقى فوائض عن الحاجة أثر عمليات الإخصاب خارج الرحم وهو ما اشتهر بأطفال الأنابيب، ذلك أن الطبيب يسحب عديداً من البويضات من المبيض، ثم يعرضها للمني فلا يعلم كم منها يلقح، ثم يودع منها الرحم عدداً ولا يعلم كم يعلق، وقد تبقى بعد ذلك فوائض تختزن لإعادة التجربة في دورة قادمة إن لم تسفر الأولى عن حمل، فإن حملت السيدة فالباقيات فوائض زوائد لا يحتاج إليها لانه كان في الإمكان حفظها حية لفترات طويلة بعملية تبريد خاصة.(6/1379)
وهنا كان من المنطقي أن ينظر الفهم العلمي والشغف التجريبي إلى هذه الأجنة بفهم جديد، فمن طول ما كشفت التجارب من أن النتائج والمشاهدات في أجنة الحيوانات قد لا تكون بالضرورة مطابقة لما يحدث في الإنسان، تهلل الباحثون فها هو ذا جنين الإنسان نفسه وفي أبكر أطواره وغير محتاج إليه وهو بين أيديهم وفي خزائنهم، إنها إذن الفرصة الثمينة لدراسة النمو الباكر والتكون السوي وغير السوي وأثر الكيماويات والإشعاعات وتناول المادة الوراثية بالحذف منها أو الإضافة لها من مواد الوراثة في الإنسان أو الحيوان، هذا إذن بشير كنز من المعارف عن التخلق السوي وأسباب العيوب الخلقية ومحاولات إحداثها أو مداواتها دراسة مباشرة على الإنسان لا استقراء من الحيوان قد لا يصدق على الإنسان، وتحمس لهذه الفكرة قوم وتحمس ضدها قوم آخرون، أصحاب المدى السريع يرون باباً للوقاية من مرض، ومعارضوهم يرون على المدى الطويل أن استخدام الإنسان حيوان تجارب وخامة بحوث يطفىء الهالة من حوله وينال من الحرمة التي ينبغي أن تصونه - وإن فتش العلماء في قواميسهم عن معنى كلمة حرمة فلم يجدوا للكلمة أصلاً – وتوسطوا في بريطانيا فأوصت لجنة وارنوك بجواز التجارب في الأيام الأربعة عشر الأولى على اعتبار أن تكون الجهاز العصبي يبدأ بعدها، ولكن بقي الأمر يفور ويمور حتى بتت فيه ألمانيا الغربية حديثاً جداً بقرارها الذي صك أسماع العالم، فقد قررت ألمانيا الغربية حظر جميع التجارب على جنين الإنسان، أما بالنسبة للأجنة الفائضة في عمليات أطفال الأنابيب فإنها لم تكتف بمنع التجارب عليها فقط، وإنما حظرت إنشاءها أصلاً فعلى الطبيب ألا يعرض للمنويات إلا البويضات التي ينوي فعلاً إيداعها الرحم اذا افترض وأخصبت جميعاً ولا يتجاوز هذا العدد، فإن كان أكبر عدد يودعه الرحم أربعاً، فلا يعرض للإخصاب إلا أربعاً، فإن أخصب منها شيء أودعها جميعاً وإن هافت جميعاً أعاد المحاولة في الدورة التالية وهكذا، والذي يختزنه بالتبريد هو البويضات غير الملقحة إذن ليسحب منها، ولكن ليس الأجنة الباكرة حتى لا يكون الإنسان في أبكر أدواره حبيس المبرد إن لم يحتج إليه أو شهيد الإلقاء في البالوعة أو مادة للتجربة العلمية كما تكون حيوانات التجارب.
ولعل ألمانيا الغربية كانت أسبق إلى هذا القرار من فرط حساسيتها بشأن التجارب الطبية التي كانت تمارس على الأسرى والمعتقلين أيام الحكم النازي، فأكسبتها السوابق إحساساً خاصاً بقيمة الإنسان وحرمته، ولا ندري إن كانت ستتبعها دول أخرى فلا تخلو دولة من المنادين بمثل ذلك، ولكن قرارها يظل جريئاً ولو وحيداً وأرى نفسيتي الإسلامية والإنسانية تستريح إليه. والله أعلم.(6/1380)
(ب) الوليد عديم الدماغ
مصدراً لزراعة الأعضاء الحيوية
مثلما يحتاج الكبار إلى زراعة عضو حيوي في حالات مرضية بعينها كذلك يحتاج الأطفال الصغار ممن يولدون بعيوب خلقية في عضو حيوي فلا أمل في النجاة والحياة إلا باستبدال عضو جديد بالعضو التالف، وكان التقدم العلمي والتقني في فن جراحة الأطفال حافزاً على خوض غمار عمليات زراعة الأعضاء لهؤلاء المواليد، وكان النجاح فيها مغرياً بالمزيد منها، لولا أن حال دون ذلك شح المصادر وندرة المطلوب بالقياس إلى الطلب على هذه الأعضاء الصغيرة، وجرب الأطباء استخدام أعضاء الحيوانات من قلوب وكلى وأكباد اعتماداً على أن الجهاز المناعي لدى المواليد لم يكتمل بعد فاحتمالات لفظ الزرعة أقل، ولكن التجارب لم تسفر عن النجاح المطلوب والأمل المنشود.
من أجل ذلك بدت فكرة استخدام الوليد عديم الدماغ فرجاً من ضيق ومخرجاً من هم، وبدا أنها سد حاجة وسداد رأي، فهو آدمي كالمريض المستقبل لأعضائه، وهما متشابهان في حجم العضو المنقول، والوليد عديم الدماغ مقضي عليه بالموت إن عاجلاً وإن آجلاً فلا أمل له في حياة ممدودة، وهيأته أن ليس له قبو رأس وليس له فصان مخيان، وإنما له جذع مخ يقوم على الوظائف الحيوية الأساسية من دورة دموية وتنفس بعد الانفصال حيا بالميلاد، ولكنها حياة محدودة موقوتة ثم يموت بعد ساعات أو أيام أو أسابيع، فجذع المخ المكشوف للهواء عرضة للعدوى المتلفة فضلاً عن التلف الناتج عن انضغاطه خلال رحلة الميلاد، وغياب الغدة النخامية وهي جزء من المخ الغائب يفضي إلى انهيار هرموني عام، فالنخامية هي سند الغدد الهرمونية الأخرى، وهو عرضة لعيوب خلقية أخرى قد تكون مستورة ولكنها قتالة، فلا يلبث حتى ينهار جهازه التنفسي والدوري ويفارق الحياة.(6/1381)
والمرأة التي يولد لها مثل هذا المولود تحس ولا شك بالفجيعة وتندب حظها العاثر، ولكن موته ليس فجيعة في عزيز غال كما لو فقدت وليداً صحيحاً سوياً، وربما وجدت الأم بعضاً من عزاء إن أفهمت أن وليدها بطبيعة الحال لا رجاء فيه ولكنها إن أذنت أن يؤخذ عضو من أعضائه لزرعه في طفل آخر محتاج إليه فهو رجاء في دفع موت واستبقاء حياة، وتستجيب أمهات لذلك وما يسري عنهن أن طفلهن عديم الدماغ لم يمت كله بل ظل له عضو حي في جسم طفل آخر، وإن الحمل لم يضع سدى وإنما ساهم في شفاء مريض وإنقاذ حياة.
لكن التجربة - وليس كالتجربة من معلم - سرعان ما كشفت عن أن الأمر في واقعه ليس على ما ينبىء ظاهره من بساطة واستقامة، وبدأت المحاذير الأخلاقية والعملية تبدو واحدة إثر أخرى، فإن شرط موت المخ الذي لا يجوز اقتلاع عضو حيوي إلا به ينص تعريفه على أنه: التوقف الكامل لوظائف المخ بكامله، والوليد الذي نحن بصدده ما زال لديه جذع مخ يؤدي وظيفته، فهو إذن غير ميت فلا يجوز بالتالي اقتلاع قلبه مثلاً، فإذا ترك ليموت تلقائياً فسرعان ما يدب التلف إلى أعضائه الحيوية فلا تعود تصلح للزرع وكذلك الحال إذا ولد ميتاً.
وكان المحذور الأول أن قام من بين الأطباء من يدعو لجعل غياب المخ مساوياً لموت المخ حتى وإن كانت منطقة الجذع حية، ولكن قام الاعتراض على ذلك لأن أخذ عضو حيوي من إنسان حي يعتبر قتلاً فضلاً عن أنه إن شاع بين الناس العلم به فسيفقدون ثقتهم في الأطباء، وسيكف الناس عن الوصية بأعضائهم ويكف الأهالي عن السماح بأخذ عضو من فقيدهم حذر أن يفعلها الأطباء وما زال على قيد الحياة، مما سيكون ضربة لبرامج زراعة الأعضاء من ضحايا الحوادث استناداً إلى تشخيص موت المخ ما دام هذا التشخيص أصبح محل شك الجمهور.
كذلك تبين أن تشخيص موت المخ في الوليد عديم الدماغ من الصعوبة بمكان، فليس في الإمكان القياس الكهربائي لنشاط المخ كما في الكبار، فإن الفصين المخيين غير موجودين، أما الاعتماد على غياب المنعكسات العصبية للعين وهو في الكبار حاسم فلا يعتمد عليه هنا نظراً لتفشي اختلالات شبكية العين والعصب البصري في هذه المواليد لتبدو النتيجة كما في الموت وإن كان على قيد الحياة.(6/1382)
وزاد الأمر تعقيداً أن التشريح الدقيق أثبت وجود بقايا نسيج مخي متلبسة بجذع المخ، وأن جذع المخ في بعض الأحيان يكتسب القدرة على القيام ببعض وظائف المخ الغائب.
وتنادى بعض الأطباء بالسماح بأخذ الأعضاء من ذلك المولود ولو حياً ما دام أنه وشيك على الموت، ولكن أنى ذلك، والمريض حتى في النزع له حرمته فمن قتله ولو قبل موته بلحظات كان قاتلاً.
وطالب آخرون بأن تعتبر هذه المواليد بذاتها هدراً مباحاً أي أنه ليس لها أهلية وجوب ناقصة كسائر الأجنة ولا هي كسائر المواليد، ولكن ذلك لم يجد سنداً من شريعة أو قانون، فضلاً عن أن التساهل في هذا الأمر قد يكون بداية منزلق، فقد يوسع تحت إلحاح الحاجة إلى الأعضاء ليشمل مواليد أخرى بعاهات أقل فداحة أو بأمراض يتوسم أن تكون، وقد يفضي إلحاح الحاجة أيضاً إلى الفكرة الشيطانية لإقامة مزارع لتفريخ الأجنة عديمة الدماغ بأن يتم التلقيح تحت تأثير مادة كيميائية تنتج هذه العاهة وتندب من تقبل إيواء هذا الحمل في رحمها لحين الميلاد لقاء أجر أو لقاء شكر.
وإزاء كل تلك المحاذير تفتقت أذهان الجراحين في جامعة لومالند بولاية كاليفورنيا عن فكرة جديدة - لن يطالبوا بتغيير التعريف القانوني لموت المخ ولن يمارسوا الغش فيه - إذا قاربت الحامل بالجنين عديم الدماغ موعد ولادتها نقلت إلى المستشفى، وتم توليدها بالجراحة القيصرية ثم يوضع الوليد الحي فوراً بأجهزة الإنعاش ويتم فحصه دوريا حتى يدركه الموت ويكون تشخيص الموت - وموت المخ - إذن صادقا وإن أبقت أجهزة الإنعاش على ظواهر الحياة في جثته، وهنا يكون أخذ أعضائه مباحاً وفي نطاق القانون. وقد أجروا تحت تلك الظروف عملية نقل قلب من وليد عديم الدماغ إلى وليد مصاب بعاهة في قلبه، وكان لهذه العملية صيتها وضجتها على الصعيدين المحلي والعالمي، ونجحت العملية في بادىء الأمر ولكنه كان نجاحاً موقوتاً فقد مات الطفل الذي تلقى القلب بعد فترة من الزمن.(6/1383)
ومع ذلك فقد أعلن رئيس فريق جراحي الأطفال في لومالند إيقاف هذا البرنامج وتخلى عن الجنين عديم الدماغ مصدراً لأعضاء الزراعة، لقد تغلب على المحاذير الأخلاقية والتعقيدات التقنية، ولكنه راجع حساباته من الناحية العملية فوجد أن الصفقة في مجملها لن تقدم الحل الوافي أو الكافي، وأن مردودها العملي أضأل من أن يسد الحاجة القائمة بدرجة تبرر ما تستدعيه من جهد ونفقة، فقد وجدوا بالحساب أنه حتى لو لم توجد محاذير أخلاقية أو قانونية:
- فإن نسبة المواليد عديمة الدماغ بين سائر المواليد تضاءلت إلى واحد كل أربعة آلاف وما زالت آخذة في التضاؤل، ومعنى هذا أن بلداً كالولايات المتحدة يشهد ثلاثة ملايين وثلاثة أرباع المليون ولادة سنوياً ينتج 1125 جنين عديم الدماغ.
- فإذا قدرنا أن عشرين بالمائة من الحوامل يشملهن المسح التشخيصي بالموجات فوق الصوتية والتحليلات الكيميائية التي تشخص هذه العاهة في مرحلة الحمل الأولى وأن خمساً وتسعين بالمائة من اللاتي يحملن جنيناً مصاباً يختزن الإجهاض فالباقي 911 وليد عديم الدماغ.
- وإذا علمنا أن ثلثي تلك الأجنة تولد ميتة فلا تصلح أعضاؤها للزرع بقي لنا 304 وليد.
- من هذه يولد نحو الثلثين قبل الأوان وبحجم صغير مما يجعل أعضاءها غير قابلة للزراعة، فإن تماثل الحجم في أعضاء المصدر والمتلقي مهم في جراحة الأطفال، وإذن ينزل العدد إلى 122 وليد صالح.
- ولكن أكثر من ثلث الأمهات ترفض أخذ عضو من وليدها مما يهبط بالعدد إلى 81.
- وزيادة على ذلك فليست كل الأعضاء الصالحة للزراعة تستعمل:
* فحيث يراد القلب نجد أن 15 % من الأجنة عديمة الدماغ معيبة القلب.
* وحيث يراد الكبد نجد أن 25 % منها معيبة الكبد.
* أما الكلى فقد وجد أن النتائج أفضل كثيراً لو بقي الطفل على عملية غسيل الكلى سنوات وبعد ذلك تزرع له كلوة.. وآنذاك تكون الكلوة التي يحتاج إليها أكبر كثيرا من كلوة وليد حديث الميلاد.
- ثم تأتي بعد ذلك مسألة تطابق الفصائل بين المعطي والمتلقي.
- ومسألة الفاصل الزمني بين وجود المعطي والمتلقي بسبب الفاصل المكاني..
- ونسبة نجاح العملية وهي خمسون بالمائة للقلب وعشرون بالمائة للكبد وقدر أن اعتماد الجنين عديم الدماغ مصدراً لزراعة الأعضاء يكتنفه من الإشكالات الأخلاقية والعملية والمادية ما يحول دون الأخذ به والاستمرار فيه ونميل إلى التوصية بتبني هذا الحكم وإن كنا نرى جوازه من حيث المبدأ شرط أن يتم أخذ العضو بعد موت المخ فعلاً وليس قبله.
الدكتور حسان حتحوت(6/1384)
(أ) حقيقة الجنين وحكم الانتفاع به في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.
(ب) حكم زراعة خلايا الدماغ والجهاز العصبي.
إعداد فضيلة الدكتور محمد نعيم ياسين
رئيس قسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية.
بكلية الشريعة – جامعة الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
(أ) حقيقة الجنين وحكم الانتفاع به
في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.
تقديم وتقسيم:
القضية المطروحة للبحث في الواقع العملي هي مدى مشروعية أخد أجزاء من الجنين، واستعمالها في علاج أمراض معينة يمكن أن يقع الإنسان فريسة لها، ومدى مشروعية اتخاذ الجنين محلا للتجارب العلمية بهدف التوصل إلى الكشف عن حقائق علمية تفيد في تقويم صحة الإنسان علاجاً ووقاية.
وهذه مسألة مستجدة بلا ريب، فلا يتناولها بصورة مباشرة نص من كتاب ولا سنة، ولم يبحث فيها علماء المسلمين القدامى؛ لأنها وليدة مراحل كثيرة من التقدم العلمي في مجال الطب، ولا نظن أن لها مثالاً مطابقاً من الوقائع التي بت فيها الشرع بحكم معين.
ومنهج الباحث المسلم في مثل هذه المسألة أن يستقصي جوانب الخير والمصلحة وجوانب الشر والمفسدة في موضوعها، ثم يستنبط الحكم بناءً على ما عهد في الشرع من طلب لمصالح العباد ودفع للمفاسد عنهم، وجعل العبرة في ذلك للغالب منهما، وإيجاب تحصيل أعظم المصلحتين المتعارضتين، ودفع أعظم المفسدتين عند تعذر الجمع بين تحصيل المصالح كلها ودفع المفاسد كلها.
وإذا كان تبين المصالح والمفاسد في موضوع هذا البحث أمراً يمكن تحقيقه بالرجوع إلى أهل الاختصاص في صنعة الطب، فإن عملية الموازنة بينها هي الأكثر خفاءً والأشد صعوبة على الباحث المسلم؛ وذلك أن أساس هذه العملية هو معرفة القيم الحقيقة لتلك المصالح والمفاسد في ميزان الشرع. وليس مجرد معرفة حجمها من حيث الكثرة والقلة؛ فرب مفسدة لعمل ما أعظم في ميزان الشرع من عشرات الفوائد التي يمكن نسبتها لذلك العمل، والعكس ممكن أيضاً. والأصل في ذلك كله هو التصور السليم (المطابق للواقع) لحقيقة التصرف المراد معرفة حكمه.
وفي موضوع هذا البحث فإن حقيقة التصرف بالجنين في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية لا يمكن تحديدها إلا بمعرفة حقيقة المحل الذي يقع عليه ذلك التصرف وهو الجنين ذاته: هل هو في نظر الشرع آدمي من أول لحظة يتكون فيها، أم أنه ليس كذلك أم أنه يكون آدمياً في مرحلة من مراحل الاجتنان ولا يكون كذلك في مرحلة أخرى؛(6/1385)
فإذا كان الشرع يعتبر الجنين آدمياً في جميع مراحله فإن ذلك التصرف يكون في أغلب الأحيان قتلاً له أو إيذاءً له في جسده بما دون القتل. وإيذاء الآدمي بالقتل أو بما هو أقل منه كبيرة من الكبائر، ولا مسوغ له أبداً؛ إذ القتل وإيقاع الأذى على جسد الآدمي لا يكون أي منهما مشروعاً في الإسلام إلا أن يكون عقوبة على أفعال حددها الشرع، ولا يتصور وقوع ذلك من الجنين، فلا يسوغ قتله أو إيذاءه في جسده أية منفعة يمكن تحقيقها من جراء ذلك، وإن كانت إحياء شخص آخر، أو كانت مكاسب علمية ذات أثر فعال في مكافحة الأمراض والعاهات، ولا مجال هنا للقياس على تبرع الإنسان العاقل البالغ ببعض أعضائه، لأن التبرع من الجنين لا يتصور، والتبرع من وليه غير مشروع؛ لما هو معلوم أن النيابة الشرعية مقيدة بتحقيق المصلحة.
وهكذا فإن اعتبار الجنين آدمياً من اللحظة الأولى يسد الباب تماماً في وجه أي تصرف في جسده يضره ولا ينفعه.
وأما إذ لم يكن الجنين آدمياً في مرحلة من مراحله، وإنما هو مخلوق آخر أقل رتبة في ميزان الشرع من الإنسان، فإن ذلك يفتح مجالاً للنظر عندما يكون إتلافه سبباً في تحقيق مصالح معتبرة للآدمي ودفع مفاسد حقيقية عنه.
وأغلب الظن عندي أن البحث عن حقيقة الجنين والوقت الذي يكتسب فيه إنسانيته وهويته الآدمية ينبغي أن يكون المنطلق لأي بحث يقصد منه معرفة حكم أي تصرف في جسده، ثم يأتي بعد ذلك اعتبار المصالح والمفاسد المترتبة على ذلك التصرف في ضوء ما يسفر عنه البحث عن تلك الحقيقة.
ومما تقدم يتضح وجه اختيار عنوان البحث "حقيقة الجنين وحكم الانتفاع به "، ويدرك العذر لما سيرى من الإطالة في البحث عن حقيقة الجنين، والوقت الذي يكتسب فيه هويته الآدمية؛ لأن ذلك يعتبر كالأساس بالنسبة للبحث عن أحكام ما يقع على جسد الجنين من التصرفات، ولا يمكن بدونه الاطمئنان لأية نتيجة في هذا الموضوع.(6/1386)
وبناء على ما سبق فإن البحث سينقسم إلى مبحثين:
* المبحث الأول - في حقيقة الجنين، ويتضمن خمسة مطالب هي:
المطلب الأول - معنى الجنين في اللغة والاصطلاح.
المطلب الثاني - تطور الجنين.
المطلب الثالث - التطور الذي يغير حقيقة الجنين هو نفخ الروح وبرهان ذلك من العقل والشرع.
المطلب الرابع - وقت نفخ الروح في الجنين.
المطلب الخامس - حقيقة الجنين بعد نفخ الروح وقبله.
. المبحث الثاني - حكم الانتفاع بالأجنة في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية، ويتضمن خمسة مطالب هي:
المطلب الأول - حقيقة الانتفاع بالأجنة في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.
المطلب الثاني - الحكم الشرعي للانتفاع بالجنين بعد نفخ الروح.
المطلب الثالث - الحكم الشرعي للانتفاع بالجنين قبل نفخ الروح فيه، ويتضمن هذا المطلب ثلاثة أفرع:
الفرع الأول - حكم الانتفاع بالجنين في بطن أمه.
الفرع الثاني - حكم الانتفاع بالجنين الحيي الذي هو خارج البطن ويمكن غرسه في رحم أمه.
الفرع الثالث - حكم الانتفاع بالجنين الميت واقعاً أو حكما.
المطلب الرابع - شروط وقيود الانتفاع بالأجنة الآدمية في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.
المطلب الخامس - ما ينبغي أن يكون عليه حكم الانتفاع بالأجنة الآدمية عند من ينكرون الروح.(6/1387)
المبحث الأول
حقيقة الجنين
المطلب الأول
معنى الجنين في اللغة والاصطلاح
الجنين في اللغة هو الولد في البطن، والجمع أجنة وأجنن، وهو مشتق من جن، أي استتر، وسمي جنيناً لاستتاره في بطن أمه.
وجنين الآدمي هو المخلوق الذي يتكون في رحم المرأة نتيجة تلاقح بيضتها مع الحيوان المنوي الذي يحتوي عليه ماء الرجل، ويطلق اسم الجنين على هذا المخلوق ما دام في رحم أمه، لتحقق استتاره فيه، فيشمل جميع مراحله من حين تكونه إلى وقت ولادته (1)
ويستعمل الفقهاء المسلمون لفظ الجنين بمثل ما يستعمل في اللغة، غير أن بعضهم قصره على الحمل الذي يتبين منه شيء من خلق الآدمي، ولم يطلقه على ما دون ذلك (2)
وأما عند الأطباء فيطلق بعضهم لفظ الجنين على الولد في بطن أمه عندما يظهر عليه الطابع الإنساني بتكون الأجهزة المعروفة للإنسان، ويكون ذلك فيما بين الشهر الثالث من الحمل إلى حين الولادة، ويقصره بعضهم على الولد في بطن أمه إذا اكتملت بنيته، وكان بإمكانه أن يعيش إذا نزل حياً من بطن أمه، ويكون هذا في الفترة الواقعة بين بداية الشهر السابع إلى وقت الولادة (3)
ومن علماء الأجنة من يطلق الجنين على الفترة الواقعة بين انغراز البيضة الملقحة في جدار الرحم ونهاية الأسبوع الثامن، ثم يطلقون عليه بعد ذلك اسم "حميل " إلى أن يولد (4)
ولا مشاحة في الاصطلاحات، وإنما العبرة بحقيقة الحمل في كل مرحلة من مراحل تطوره، وما يترتب على تحديدها من أحكام.
وموضوع هذا البحث يدخل فيه الحمل بجميع أطواره ومراحله، من وقت تكونه بتلقيح البيضة إلى وقت ولادته، وسواء أحصل ذلك التلقيح داخل الرحم أم خارجه في أنابيب الاختبار ثم أعيد إلى الرحم ليكمل رحلته بعناية ربه ورعايته.
__________
(1) المصباح المنير، الكليات للكفوي: 2/ 171، وتفسير القرطبي: 17/ 110.
(2) بدائع الصنائع للكاساني: 7/ 325، الموسوعة الفقهية: 17/16 1.
(3) تطور الجنين وصحة الحامل - محيي الدين طابو: ص 12.
(4) خلق الإنسان بين الطب والقرآن - محمد علي البار: ص 376، 379.(6/1388)
المطلب الثاني
تطور الجنين
لا نقصد من الكلام عن تطور الجنين هنا بيان ما يحدث له في رحم أمه من تصوير وتخليق ونمو وهدم وبناء وغيرذلك؛ فإن هذا من شأن أهل صنعة الطب وعلماء الأجنة. ولكن الذي يعنينا في هذا البحث هو معرفة المراحل الأساسية التي تتعاقب على الجنين، ويكتسب في كل مرحلة منها خصائص ومؤهلات جديدة يمكن أن تكون مناطاً للأحكام الشرعية التي تحكم تعاملنا مع جسده، فيستعان بها على معرفة الحلال والحرام من أشكال ذلك التعامل.
ولا شك في أن الأصل في معرفة مناطات الأحكام هو الرجوع إلى الشرع نفسه نصوصاً ومبادىء، ولا ينكر في هذا المقام دور المعارف البشرية المحصلة بالحس والمشاهدة والتجربة مما توصل إليه أهل الصنعة في هذا المجال.
والذي يدل عليه هذان المصدران أن الجنين قد أخضعه ربه خلال فترة الحمل لنوعين من التطور:
أحدهما: تطور مادي محسوس يمكن أن يلاحظ بالمشاهدة من أهل الاختصاص. وموضوعه العناصر المادية التي يتكون منها الجنين، وما يتعاقب عليها من نمو وتخليق وتسوية وتعديل وغير ذلك.
والثاني: تطور غير محسوس، ولا يخضع في ذاته لحس ولا مشاهدة ولا تجربة، وموضوعه مخلوق روحاني جمع الله تعالى بينه وبين تلك العناصر المادية من الإنسان في لحظة من اللحظات، وجعله مصدراً للأنشطة الإنسانية المتميزة، والتي ميز بها الإنسان عن سائر الأحياء، كالتصور والتعقل والتخيل والإرادة والتفكير وغير ذلك. وقد سمى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هذا المخلوق بالروح.(6/1389)
وقد وردت الإشارة إلى كلا النوعين من التطور في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ففي القرآن قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [سورة الحج: الآية 5] ؛ ففي هذه الآية بيان لمعالم التطور المادي الذي يتقلب فيه الجنين بالانتقال من صورة إلى صورة.
وقاد سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون: الآيات 12 - 4ا] ؛ وقد نقل كثير من المفسرين عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصحابة والتابعين أن المقصود بقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} هو نفخ الروح بعد استكمال تخليقه وتصويره (1)
وقال عز وجل: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ ونَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [سورة السجدة: الآيات 6 - 9 [؛ ففي هذه الآيات أيضاً إشارة إلى النوعين أيضاً.
وفي السنة أحاديث صحيحة ذكرت أطوار الجنين الجسمانية، وما يطرأ عليه من
تعلق الروح بجسده، وأشهرها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)) (2) ؛ ففي هذا الحديث ذكر للمعالم الرئيسية لتطور الجنين المادي المحسوس، وتحديد للزمن الذي تنفخ فيه الروح.
__________
(1) انظر مثلاً: تفسير القرطبي 2 1/ 09 1، وفتح القدير للشوكاني 477/3، وكتاب التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي 3/ 49، والتفسير الكبير للرازي 23/ 85، وفي ظلال القرآن 18/ 2459، تفسير الماوردي 3/ 94، مختصر تفسير ابن كثير 2/ 561.
(2) متفق عليه، انظر: اللؤلؤ والمرجان حديث رقم 1695، فتح الباري 417/11، عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي لابن العربي 301/8، صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 190، جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 44.(6/1390)
ووردت أحاديث أخرى فيها بيان لبدء تصوير الجنين وتخليقه منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليه ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ... )) (1)
ولم يرد في النصوص الشرعية تفصيلات ما يحدث للجنين من تطور مادي سوى ما ذكر من الإشارة إليها في معرض التذكير بقدرة الله تعالى وقدره. ولكن هذا النوع من التطور لما كان موضعه ما يطرأ على خلايا الجنين من نمو وتكاثر وتشكل، وما يتبع ذلك من ظهور أعضاء وأجهزة وأعصاب وغير ذلك، فإن الوقوف على تفصيلاته أمر يقدر عليه الإنسان؛ لأنه مشاهد ومحسوس، وقد عرف منه العلماء المسلمون قدراً معتبراً، ووصفوه وصفاً جيداً (2) وإن لم يصلوا في دقة الوصف إلى ما تحصل لأهل صنعة الطب المعاصرين.
وأما علماء الأجنة المعاصرون فقد استطاعوا بما اكتشف من الآلات والأجهزة الدقيقة أن يتابعوا التطور الجنيني المادي في معظم مراحله يوماً بيوم وأسبوعاً بأسبوع وشهراً بشهر.
وأما النوع الثاني من التطور الجنيني، وهو ما يحدث بإذن الرب جل وعلا من نفخ الروح في بدن الجنين، وما يكتسبه بذلك من شخصية جديدة هي حقيقة الشخصية الإنسانية، فإن ذلك لا يقع في اختصاص الأطباء وعلماء الأجنة، ولا يتوقع أن يتوصلوا إلى تحديد وقته بوسائلهم المادية ولا سبيل لهم إلى ذلك؛ لأن العنصر الجديد الذي يخلقه الله في الجنين ليس جسما مادياً ولا تناله الحواس مهما كانت الوسائل المعينة لها. وإنما السبيل إليه هو إخبار الذي خلقه عن طريق الوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يرد في ذلك ما ذكر من النص لظل مبدأ تعلقه بالبدن مطوياً في علم الغيب، ولكن الباري أوحى بذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ونقل الرسول إلينا ما أوحي إليه وعلمنا أن الروح تنفخ في الجنين بعد مائة وعشرين يوماً من تكونه.
__________
(1) رواه مسلم: انظر: مختصر صحيح مسلم حديث رقم 1894.
(2) انظر مثلاً: ما كتبه داود الأنطاكي في النزهة المبهجة 143/1 وما بعدها، والتبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص 337، وجامع العلوم والحكم لابن رجب ص 47. 1868.(6/1391)
وهذه المعارف الشرعية لا تتعارض مع معارف أهل الصنعة التي حصلوها بالتجربة والحس والمشاهدة فلا يقتضي التسليم بإحداهما نفي الأخرى؛ فإن التسليم بتطور الجنين في عناصره المادية المحسوسة لا ينفي تطوره باستقبال عنصر روحاني لطيف في فترة من فترات قراره داخل الرحم. فموضوع كل من النوعين السابقين من المعارف يختلف عن الآخر، ووجهة البحث في كل منهما مختلفة، وكذلك وسائل تحصيلها (1)
وإذا تبين أن وسائل العلم المادية لا تستطيع أن تدرك من نوعي التطور الذي يقع على الجنين سوى النوع الأول، فإنها أيضاً لا تستطيع أن تنفي وقوع التطور الآخر الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بنفخ الروح في الجنين؛ لأن وسائل تحصيل المعرفة لا يقتصر على التجربة والمشاهدة، فإن هذه إحداها، والاقتصار عليها في إثبات الموجودات يعد قصوراً في البحث، وبخاصة إذا كان المبحوث عنه أمراً لا يحس ولا يشاهد. وإن من وسائل المعرفة التي لا ينكرها العقلاء الخبر الصادق عمن عنده علم عن الموضوع محل البحث، والمحاكمة العقلية السليمة التي قد تنطلق من المشاهد المحسوس، وقد تنطلق من الخبر الصادق أيضاً؛ وقد أشار كتاب الله تعالى إلى هذه الوسائل المعتبرة في الوصول إلى الحقائق والمعارف في قوله عز وجل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [سورة الإسراء: الآية 36] ؛ فأشار سبحانه إلى تلك المصادر بذكر آلاتها التي رزقها للإنسان من أذن تسمع وعين ترى وفؤاد يعقل.
__________
(1) المطالب القدسية في أحكام الروح وآئارها الكونية - الشيخ مخلوف ص 95.(6/1392)
المطلب الثالث
التطور الذي يغير حقيقة الجنين هو نفخ الروح
لا شك في أن حقيقة كل مخلوق تتحذ بما يتميز به ذلك المخلوق عن غيره من القوى والملكات والخصائص الذاتية التي توجد فيه ولا توجد في سواه، وأما ما يشترك به مع المخلوقات الأخرى من تلك القوى والخصائص فلا يحدد حقيقته؛ وفي ذلك يقول ابن مسكويه: (كل موجود من حيوان ونبات وجماد ونار وهواء وأرض وماء وأجرام علوية له قوى وملكات وأفعال بها يصير ذلك الموجود هو ما هو وبها يميز عن كل ما سواه. وله أيضاً قوى وملكات وأفعال بها يشارك ما سواه. ولما كان الإنسان من بين الموجودات كلها هو الذي يلتمس له الخلق المحمود والأفعال المرضية، وجب أن لا ننظر في هذا الوقت في قواه وملكاته وأفعاله التي بها يشارك سائر الموجودات؛ إذ كان ذلك من حق صناعة أخرى وعلم آخر يسمى العلم الطبيعي، وأما أفعاله وقواه وملكاته التي يختص بها من حيث هو إنسان وبها تتم إنسانيته فهي الأمور الإرادية التي بها تتعلق قوة الفكر والتمييز 000) (1)
ولذلك فإن العلماء المسلمين يرون أن حقيقة الإنسان لم تتحدد بهيكله المخصوص بما يحتوي عليه من عناصر مادية وما يتكون منها من أعضاء وأجزاء. وإنما تحددت بروحه التي نفخت فيه والتي هي مصدر إرادته وقوته العاقلة؛ يقول الشيخ مخلوف: (على أن حقيقة الإنسان هي النفس الناطقة المتعلقة ببدنه تعلق التدبير والتصرف (2) والهيكل المخصوص خارج عن حقيقته، فلو وجدت الروح الإنسانية الناطقة في حيوان لما كان حيواناً، بل كان إنساناً في صورة حيوان. والنفس الإنسانية من أخص أوصافها النطق الفكري الذي يتأهب الإنسان به إلى النطق البياني، ويخوض به غمار البحث عن حقائق الأشياء وأحوالها ليتكمل به علما وعملاً، وذلك ليس بموجود في الحيوان مهما اهتدى إلى أي عمل من الأعمال) (3)
__________
(1) تهذيب الأخلاق: ص. ا. وانظر قريباً من هذا المعنى عند الغزالي في معارج القدس: ص 17.
(2) لا نظن أن الشيخ يقصد بهذا أن مسمى الإنسان هو الروح فقط دون بدنه، وإنما يعني أن العنصر الأهم من الإنسان هو روحه التي تميزه عن سائر أنواع الحيوان، وإلا فإن بدن الإنسان متميز أيضاً عن بدن الحيوان. ولكن هذا التميز ليس في حقيقة العناصر والمواد التي يتكون منها بدن الاثنين، ولكن في تصويرها وتسويتها؛ فقد صورها الله في بدن الإنسان أحسن تصوير، وجعله في أحسن تقويم؛ لأن هذا البدن بالذات صنعه ربه ليكون آلة للروح ومركباً لها، وقد أجرى الله العادة بلا استثناء أن الروح الإنسانية لا تسكن إلا ذلك البدن المهيأ لها، ولا تركب غيره. وهذا التميز في التصوير البدني يستحق أن يلاحظ عند تعريف الإنسان أو عند البحث عن مسماه، كما ينبغي أن يلاحظ ذلك الجمع المعجز الذي جمع به بين الروح والبدن مما لا يوجد مثيله في غير الإنسان، فالحق أن الإنسان هو المجموع الحاصل من الروح والبدن، وهذا ما عليه الجمهور انظر كتاب الروح لابن القيم: ص 241. ومع ما تقدم فإن المميز الأول للإنسان يظل ما أسكن فيه من روحه التي هي مصدر جميع ما يختص به من الآثار الخارجية.
(3) المطالب القدسية: ص 19، وقد أشار إلى هذا المعنى ابن مسكويه فيما تقدم نقله عنه، والغزالي في معارج القدس: ص 17، وابن القيم في كتاب الروح: ص 261، والفخر الرازي في التفسير الكبير: 1 39/2، 43،؛ فقد ذكر سبع عشرة حجة على ان حقيقة الإنسان هي روحه وليست جثته. ويقول سيد قطب في ظلال قوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} : (هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة، فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية، ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقاً آخر، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة المستعدة للارتقاء، ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان مجرداً من خصائص الارتقاء والكمال التي يمتاز بها جنين الإنسان. إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد، وهو ينشاً خلقاً آخر في آخر أطواره الجنينية، بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص، ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطوراً آلياً – كما تقول النظريات المادية – فهما نوعان مختلفان، اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين انساناً، واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة، والتي ينشاً بها الجنين الإنساني خلقاً آخر. إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني، ثم يبقى الحيوان حيواناً لا يتعداه، ويتحول الإنسان خلقاً آخر قابلاً لما هو مهيأ له من الكمال بواسطة خصائص مميزة وهبها الله له عن تدبر مقصود لا عن طريق تطور آلي من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان) - في ظلال القرآن: 2459/18.(6/1393)
وإذا كانت حقيقة الإنسان تتحدد بما ذكرنا من إسكان الروح في بدنه فإن هذا يلزمنا القول: إن التطور الذي يقع للجنين، فينقله من حقيقة إلى أخرى، فيجعله آدمياً بعد أن لم يكن إنما هو نفخ الروح فيه.
وأما التطور البدني الذي يحدث للجنين فإنه لا يغير حقيقته التي نشأ بها عند تكونه من ماء الرجل وماء المرأة، وإن نوع الحياة التي تسببه - بإرادة الله عز وجل - واحد لا يتغير؛ فتلك الحياة هي التي أجرى الله بها انقسام الخلية الواحدة التي تنشأ عند ذلك التكون، وتوليد خلايا جديدة وكثيرة، وهي التي ينشاً عنها كل ما ينشاً بعد ذلك للجنين من أعضاء وأجهزة وأعصاب ودم وعظم وشعر وغير ذلك، وتبقى مع الإنسان في جميع أطواره، قبل ولادته وبعدها، وبها تتجدد خلايا جسده، وتعوض ما يفنى منها، وتغذيها، إلى أن يحين أجله. وقد تبقى هذه الحياة مع بعض أجزاء الإنسان بعد وفاته، وخروج روحه ومفارقتها لتلك الأجزاء؛ فإن أهل صنعة الطب قد قرروا أن أعضاء الجسد تظل محتفظة بهذا النوع من الحياة بعد موت الدماغ، وذلك لمدد متفاوتة، فبعضها تبقى فيه تلك الحياة لدقائق وبعضها لساعات وبعضها لأيام، هذا إذا تركت دون تدخل صناعي من أهل الاختصاص، وأما مع تدخلهم بأجهزة صناعية ابتكرت في هذه الأيام صار من الممكن زيادة الفترات التي تظل معها تلك الحياة في أعضاء الجسد الذي مات دماغ صاحبه (1) ومع أن هذه الزيادة ما زالت محدودة بالساعات والأيام والأسابيع، لكن مجرد النجاح فيها ينبىء عن تقدم علمي يمكن بوساطته الحفاظ على تلك الحياة في أعضاء الموتى إلى مدد أطول قد تصل إلى السنين دون أن تكون في خدمة روح آدمية، ودون أن يكون في مقدورها ممارسة وظائفها التي كانت تمارسها في أجساد أصحابها تحت إمرة أرواحهم؛ فلا اليد تتحرك فضلاً عن أن تبطش، ولا العين ترمش فضلاً عن أن تبصر، ولا الأذن تسمع، ولا الرجل تمشي. ومع ذلك فإن نوع تلك الحياة التي بدأت مع الخلقة الأولى من جسد الآدمي ما زالت موجودة. فإذا ما وضعت هذه الأعضاء التي ما زالت تحتفظ بتلك الحياة في خدمة روح جديدة، فزرعت في جسد آدمي فيه روح استعملتها هذه الروح الجديدة، وأدت هذه الأعضاء وظائفها بالفاعلية نفسها التي كانت تؤديها عند انفصالها عن جسد صاحبها الأول (2)
__________
(1) انظر بحثاً للدكتور محمد علي البار عنوانه (انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً) مقدماً إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته المنعقدة عام 987ام: ص 5، 9.
(2) مع أن تنفيذ هذا في الواقع يعتبر من ثمرات التقدم العلمي في النصف الثاني من القرن العشرين لكن بعض علماء المسلمين القدامى أشاروا إلى أنه لو أمكن نقل عضو من إنسان إلى إنسان آخر بدلاً من عضوه الضعيف، فإن العضو المنقول يعمل بكفاءته التي كان عليها، ومما قالوه في ذلك: (إن الشيخ لو وجد عيناً كعين الشاب لأبصر كما يبصر الشاب) - انظر: مناهج الأدلة في عقائد الملة لابن رشد: ص 247. ويدل ذلك على أنهم كانوا يدركون حقيقة أن الجسد آلة الروح، وأن فيه نوعاً من الحياة يختلف عن حياة الروح، وأن هذه الحياة تبقى وان انفصلت عنها الروح التي كانت تستخدمها، وأنها مستعدة بإعداد الله تعالى لها لخدمة أية روح بشرية بكامل فعاليتها من غير أن تتأثر.(6/1394)
فهذه الأعضاء الحية احتفظت بما أودع الله فيها من الحياة في جسد الأول تحت خدمة روحه، وفي جسد الثاني تحت خدمة روحه، وظلت هذه الحياة موجودة فيها في المرحلة الوسطى بعد الانفصال عن الجسد الأول وقبل الاتصال بالجسد الثاني. وهذه المرحلة الوسطى صار العلم يتدخل فيها بإطالة مدتها بواسطة التبريد بطرق فنية متقدمة. وإذا ذكرنا في هذا المقام ما أسفر عنه التقدم العلمي من التمكن من تبريد اللقيحة (وهي الجنين في مبدأ تكونه) إلى مدة طويلة تقدر بالسنوات، ثم إعادتها إلى وضعها الذي كانت عليه قبل التبريد وغرسها في رحم المرأة لتواصل نموها حتى تكتمل جنيناً ثم مولوداً (1) إذا ذكرنا ذلك أدركنا وجه الشبه بين هذه اللقيحة قبل أن تقترن بحياة الروح وبين أعضاء الجسد الأدمي بعد وفاة صاحبه وخروج روحه، التي أمكن تبريدها أيضاً والحفاظ على الحياة فيها أيضاً مدة من الزمن.
إن هذه الكشوف العلمية فيها أبلغ الدلالة على أن الإنسان الحي مخلوق استودعه الله نوعين من أنواع الحياة: إحداهما مخدومة هي الأصل والمقصودة من خلقه، والأخرى خادمة للأولى، جمع بينهما بأسلوب معجز لا يعلم حقيقته الأ الله تعالى. وأن الحياة الخادمة تخلق قبل المخدومة، بحيث تعد لاستقبال سيدها. وأن شخصية الإنسان تبدأ في هذه الدنيا عندما تجتمع الحياتان، وأنها تنتهي عندما تفترقان. وأن مجرد وجود الحياة الخادمة لا يستلزم وجود الحياة الإنسانية، وأن الحياة الحاملة للإنسان المنتجة لآثاره الإرادية، ليست هي إلا الحياة المخدومة، حتى إذا ما رحل مصدرها (وهو ما أسماه القرآن والسنة بالروح) انتهت حياة الإنسان في هذه الدنيا، وإن بقي بعد ذلك شيء من الحياة الخادمة في بعض أجزاء الجسد الآدمي.
__________
(1) انظر بحثاً للدكتور عبد الله حسين باسلامه بعنوان "مصير الأجنة في البنوك " مطبوع في الثبت الكامل لأعمال ندوة الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية: ص 446.(6/1395)
اعتراض وجواب:
وقد يعترض على ما تقدم بأن بقاء نوع من الحياة في بعض أجزاء الجسد بعد وفاة صاحبه، لا يدل على أكثر من وجود نوعين من الحياة كانتا مجتمعتين في الإنسان الحي، إحداهما أرقى من الأخرى، وقد ذهبت الأولى وبقيت الأخرى. ولا يلزم أن مصدر الأولى مخلوق آخر حي عاقل جمع مع بدن الإنسان في طور من أطواره؛ وذلك أن هذا الذي ذهبتم إليه هو أحد احتمالين يقبلهما العقل. وأما الاحتمال الآخر فهو أن مصدر الحياة الأرقى كان هو الدماغ، وأنه هو الذي يفرز ما يميز الإنسان من إدراك وفكر ومشاعر، كما تفرز الكبد الصفراء والكلى البول، فلما مات الدماغ ذهبت تلك الحياة المميزة للإنسان، وهذا يقتضي أن التطور الذي يطرأ على الجنين ويكسبه مؤهلات تميزه عن غيره هو اكتمال دماغه، وليس خلق حياة جديدة في بدن الجنين.
وأساس هذا الاحتمال أن الأنشطة الإنسانية المتميزة إنما يقترن تخلفها مع تعطل الدماغ، وأن عجز الأعضاء وأجهزة الجسد الآدمي يقع دائما عند انقطاع صلتها بدماغ حي.
والجواب عن هذا الاعتراض أن مبناه - كالاحتمال الأول - على الإقرار بأن حياة الجنين تبدأ عند تكونها مجردة من المصدر الذي تصدر عنه حياة الفكر والإرادة؛ لأنه ينسب هذه الحياة العاقلة للدماغ، والدماغ، كما هو معلوم عند أهل الاختصاص، لا يتكون مع الجنين من أول لحظة، وإنما يبدأ تكونه بعد تلقيح البييضة بأسابيع، ويكتمل في الأسبوع الثاني عشر (1)
والمادة التي يتكون منها الدماغ هي عين المادة التي تنشاً منها بقية أعضاء الجسد. ونوع الحياة الذي يتسبب في نشوء الجميع واحد؛ فإن أصل الجنين خلية واحدة، تنقسم وتنقسم أقسامها وأقسام أقسامها ... وهكذا، ثم يحدث تخلق الأعضاء من تكتل الخلايا الناتجة عن عمليات الانقسام، وبفعل عمليات حيوية متعددة فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا يقتضي أن تكون الوظائف التي تقوم بها مختلف أعضاء الجسم من جنس واحد، وإن اختلفت تخصصاتها، وهي وظائف غير إرادية ولا فكرية، لأنها كلها نشأت من أصل واحد، هو الخلية الأولى والخلايا المتولدة منها، وهذا الأصل الذي نشأت منه جميع الأعضاء مجرد عن الفكر والإرادة، كما يقضي به احتمال المعترض، ويستحيل بحسب سنن الكون وموجوداته أن يتولد بصورة آلية المريد من غير المريد، والمفكر من غير المفكر. وإنما يتصور ذلك عندما يضاف إلى المتولد المجرد عن الفكر والإرادة مصدر آخر مريد ومفكر بذاته، وذلك بتدخل خارجي. ولا يتصور أن يكون المتدخل هنا سوى الله عزوجل؛ فإنه سبحانه هو المختص بالخلق المباشر، ولا يقدر على ذلك سواه، ومع هذا اللزوم يتحول الاحتمال الذي أورده المعترض إلى احتمال قريب من الاحتمال الآخر ومؤكد له.
__________
(1) انظر بحث الدكتور مختار المهدي "بداية الحياة الإنسانية" ضمن أبحاث ندوة الحياة الإنسانية ": بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي ص 67 - 69.(6/1396)
وأما ما يؤثر عن بعض العلماء الماديين من أن الإرادة والفكر والشعور وغيرها من الأنشطة الإنسانية الاختيارية إنما تنشاً عن الدماغ نتيجة تفاعلات كيميائية وفيزيائية، فهذا رأي لا يؤيده النظر، ويؤدي إلى نتائج غير مقبولة لا عقلياً ولا واقعياً؛ وذلك أن كل تفاعل لا بد له من عامل أو مؤثر يتسبب به، وهذا المؤثر إما أن يكون خارج الإنسان أو داخله، فإن كان خارج الإنسان، فمعنى ذلك أن أفكار كل إنسان وأنشطته الإرادية ومشاعره المختلفة كل ذلك ثمرات إلزامية لأمور لا يد له فيها، وغاية ما في الأمر أنه كان وعاءً جرى فيه التفاعل بتأثير غيره، وكل ما على وجه الأرض من الإنجازات العلمية والكشوف والعلوم ليست إلا ردود فعل لمؤثرات خارجية، ولا دخل لأصحابها فيها، ولا يستحقون عليها جزاء ولا شكوراً، وهذا اتجاه لتجريد الإنسان من الإرادة في كل ما يقوم به، وهو ينافي تماماً ما نشعر ونحس به، ويؤول في الوقت ذاته إلى إعفائه من مسؤولية أعماله، وهو تفسير للحياة الإنسانية بالفوضوية؛ لربط أنشطتها كلها بمصادر غير إرادية، ومع هذه النتائج الشاذة التي يؤدي إليها هذا الرأي إلا أنه مبهم وغير مفهوم في ضوء ما عرف من سنن الكون وموجوداته، إذ كيف يمكن لمؤثر خارج دماغ الإنسان أن يكون سبباً مباشراً في إجراء تفاعل مادي كيميائي أو فيزيائي داخل الدماغ؛ فهل عهد في مختلف أصناف التفاعلات، وما تجري عليه من العناصر خارج الكيان الإنساني أن تؤثر الأمور المعنوية في إجراء تفاعل كيميائي أو فيزيائي؛ ولماذا لا يستطيع العلماء الماديون أن يرتبوا - ولو مرة واحدة - تجربة توضع فيها العناصر والمركبات في أنابيب الأختبار، ثم يدفعوها إلى التفاعل بالتأثيرات المعنوية بدلاً من العوامل المادية المعهودة؟
هذا على فرض أن المؤثر في إجراء التفاعل المزعوم في الدماغ البشري كان من خارج الإنسان، وأما على افتراض أنه كان من داخله فما هو؛ هل هو مجرد احتكاك الخلايا والأعصاب أم هو مجرد وصول الدماء إلى عروق الدماغ أم هو شيء آخر؛ فليكن أي شيء، فلماذا تتعدد وتختلف نتائج ذلك التفاعل الكيميائي المزعوم باختلاف الأشخاص من جهة، وباختلاف الأزمان والساعات والأحوال في الشخص الواحد من جهة أخرى؛ إن محتويات الأدمغة واحدة في الأشخاص وفي الأزمان، وأنشطتها المادية واحدة، فلماذا تتعدد إذن نتائج التفاعلات التي تحدث فيها؛ فتتعدد الأفكار وتتعدد المشاعر والأحاسيس، وتتعدد الاكتشافات وتتعدد المواهب عند الأشخاص، بل وتتعدد عند الشخص الواحد: فتجده في الساعة الواحدة يتقلب من حال إلى حال، في مشاعره وأحاسيسه وأفكاره، فلماذا تكون النتائج مختلفة لمعادلة كيميائية واحدة، عناصرها واحدة، ومؤثراتها واحدة؛ ألا يدل ذلك على وجود مصدر آخر غير الدماغ وما يزعم من تفاعلات تجري فيه؛ الجهاز واحد هو الدماغ، وهو عند أبناء آدم متشابه في مكوناته المشاهدة المحسوسة ولا يختلف سوى في الوزن أو في الشكل ونحو ذلك، ومن المؤكد علمياً أن هذه الأمور غير مؤثرة في اختلاف وظائف الأدمغة عند البشر، ودماغ الشخص الواحد لا يختلف في تكوينه وعناصره ومحتوياته كلها بين آن وآن، ولا حال وحال، ولا مكان ومكان، ومع ذلك فإن منتجات صاحب هذا الدماغ من الأنشطة الإرادية والأفكار والمشاعر والخواطر والخيالات وغير ذلك مختلفة ومتعددة تعدداً لا نظير له.
خذ أي عدد من الناس كثر أو قل، ثم اجمعهم في قاعة واحدة، وأنشىء لهم دافعاً واحداً للتفكير، فاسألهم سؤالاً يحتاج في جوابه إلى النظر والاجتهاد أو اطلب منهم أن يكتبوا موضوعاً معيناً، ثم انظر ماذا ترى؛ فمع أن المؤثر واحد ومع أن لكل منهم دماغاً، وكل دماغ يشبه الآخر في تركيبه العضوي، مع كل ذلك فإن النتائج ستكون مختلفة، ومنتجات الأدمغة ستكون متعددة، وسيظهر بينها اختلافات واضحة. فلماذا هذا التفاوت في منتجات الأدمغة بين هؤلاء الناس مع تشابه أدمغتهم في تكوينها؛ إن تشابه التكوين واتحاد المؤثر لم يؤد إلى تشابه النتائج مع أنه كان ينبغي أن يؤدي إلى نوع واحد من التفاعلات المزعومة.(6/1397)
ثم إنك تجد الشخص الواحد يفكر في موضوع معين، وتجد أن رأيه فيه قد يختلف باختلاف الزمان، والدماغ المستعمل واحد، وخلاياه واحدة، فلماذا لم تتشابه نتائج التفكير في هذا الدماغ مع وحدة خلاياه وعدم تغيرها؟
هل هناك من تفسير لتعدد منتجات هذا الجهاز المسمى بالدماغ واختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان سوى تفسير واحد هو أن هذا الجهاز لا يقوم بتلك الأنشطة بذاته، وإنما يوجد وراءه مخلوق حي مريد بذاته يستعمل ذلك الجهاز بأساليب متعددة وهيئات مختلفة، وهو في ذاته مختلف بين شخص وشخص؛ لا سبيل إلى تفسير أنشطة الإنسان الإرادية والفكرية بغير هذا. ونسبتها إلى الدماغ لا ينبغي أن تتعدى نسبة المصنوع إلى آلة الصانع الحقيقي، وأما الصانع الحقيقي فهو ذلك المخلوق الحي المريد العاقل الذي سماه الشرع روحاً أو نفساً.
وأما ارتباط وجود العمل الإرادي والفكري بوجود الدماغ، وعدم إمكانه بغيره في هذه الحياة الدنيا (إن صح عند أهل الاختصاص على إطلاقه) ، فنرى أنه لا ينقض ما تقدم برهانه من وجود مخلوق حي مريد بذاته وراء الدماغ ينشىء ذلك العمل. وإنما يضيف إليه إضافة جديدة مفادها أن ذلك المخلوق الحي العاقل المريد قد جعل الخالق قيامه بوظائفه في هذه الدنيا عن طريق الدماغ، فجعله مخزناً لمعلوماته وإدراكاته ومجمعاً لاتصالاته إرسالاً واستقبالاً؛ فمن خلال الدماغ يؤثر ذلك المخلوق في الجسد، فإذا تعطل هذا الجهاز المسمى بالدماغ انقطع اتصال ذلك المخلوق المريد العاقل بالجسد، وانقطع عن تأثيره فيه، فيكون وجود الدماغ شرطاً لبقاء ذلك المخلوق في جسد الإنسان وتأثيره فيه. وبالتالي يكون شرطاً لبقاء الحياة الإنسانية الإرادية، وليس سبباً في وجودها؛ بمعنى أن عدمه يستلزم انعدام تلك الحياة ورحيل مصدرها عن الجسد وحصول الموت. ولكن وجود الدماغ لا يستلزم وجود تلك الحياة من الناحية النظرية. وإذا كانت التجارب العلمية تمكنت من أثبات الشطر الأول من هذه المقولة، ولم تستطع الوصول إلى أثبات الشطر الثاني منها، فإن ذلك لا يدل على بطلان هذا الشطر. بل إن النظر العقلي الذي قدمناه يثبت صحته ويؤكده؛ لأن الدماغ بتكوينه المعروف ونوع الحياة التي تكون منها لا يتصور أن يكون في ذاته مصدراً للأنشطة الإرادية والفكرية التي يقوم بها الإنسان، وإنما يجب أن تكون تلك الأنشطة متولدة عن مصدر حي مريد عاقل في ذاته. وإذا لوحظ الارتباط الواقعي المستمر بين وجود الدماغ ووجود الحياة الإرادية الفكرية، فإن هذا لا ينقض ما يحكم به النظر العقلي، وإنما يدل على عجز التجارب وأهلها عن مواصلة البحث إلى مداه، وذلك أن الاتصال بين حياة الجسد المجردة عن الإرادة والفكر وحياة الروح وعدم وجود صورة الانفصال بينهما في هذه الدنيا لا يرجع إلى كون الأولى مولدة للثانية، وإنما يرجع إلى سبب آخر، وهو أن الحياة الأولى المجردة من الفكر والإرادة ليست مقصودة لذاتها، وإنما خلقت لتكون مركباً لحياة الفكر والإرادة التي مصدرها الروح. وليس من المتصور في واقع هذه الدنيا أن يخلق اله جسداً بكامل أعضائه، ولا يمزج معه حياة الفكر والإرادة؛ لأن هذا يتنافى مع الحكمة من خلق الإنسان، وهو الابتلاء بإعمار الأرض وفق المناهج الإلهية، والعقل لا يمنع أن ينفصل المصدر الذي تنبثق منه حياة الفكر والإرادة عن مصدر الحياة الأخرى عندما يموت الإنسان، وهو ما قررته الشرائع الإلهية. ولكن العقل لا يتمكن من رصد ذلك المصدر منفصلاً عن الجسد بعد رحيله عنه بالموت، ولا يمكنه ذلك أثناء الحياة ما دام الجسد كله صالحاً وغير مستعص على تعلق ذلك المصدر به، وصلاح الجسد للتعلق بذلك المصدر مرهون بصلاح الدماغ، لأنه حلقة الوصل بين ذلك المصدر وبين بقية أعضاء الجسد.(6/1398)
إن ما تقدم من النظر العقلي والتقليب الفكري يدل على أنه يحدث للجنين قبل ولادته تطور ينقله من حال إلى حال مختلفة، ومن طبيعة إلى طبيعة مباينة، ومن حياة مجردة عن قوة الفكر والإرادة إلى حياة مشتملة على مصدر هذه القوة. وأن هذا التطور في الجنين لا يحدث إلا بعد تخلق الدماغ، وصيرورته صالحاً لاستقبال الحياة الجديدة والامتزاج بها. وأن هذه الحياة الجديدة ليست متولدة من الحياة السابقة لها بصورة آلية، لا من الدماغ ولا من غيره، وأنها إنما تنشاً بخلق مباشر من الله تعالى في بدن الجنين بعد استكمال خلق أعضائه. وأنها مادامت غير متولدة مما سبقها لم يلزم أن يكون وجود مصدرها بعد تمام تكون الدماغ مباشرة. وأن العقل بمفرده لا يستطيع أن يحدد الوقت الذي يخلق فيه ذلك المصدر بيقين.
تلك هي النتائج التي يمكن أن يتوصل إليها العقل البشري بالنظر في الواقع وفي معطيات العلم الحديث، بمعزل عن المعارف الشرعية التي يمكن أخذها من نصوص القرآن والسنة وأفهام الصحابة وعلماء المسلمين لتلك النصوص.
وهي نتائج ليست كلها قطعية ويقينية، والقطعي منها هو حدوث تطور في الجنين ينقله من حقيقة إلى حقيقة وحياة إلى حياة أعلى منها ومغايرة لها أشد المغايرة. وما سوى ذلك فقد يدخل عليه بعض الاحتمالات وهي وإن كانت ضعيفة لكنها تذهب القطع واليقين في الأمر.
وأما الشرع فقد جاء بما يقطع به العقل، وزاد عليه تفصيلات أدق وأوفى، وأسقط تلك الاحتمالات الضعيفة. ولولا أن المقصود بتلك المناقشات المنطقية هو الرد على أولئك الماديين الذين لا يؤمنون بالروح، ويزعمون أن الإنسان مادة فقط، وأن أنشطته المختلفة لا تعدو أن تكون إفرازات لما يبصره أهل الاختصاص من أجزاء الجسد، وأن الجنين لا يقع عليه أي تطور سوى التطور الذي يشاهده الأطباء وعلماء الأجنة، ولولا أن هذا الاتجاه المادي في بيان حقيقة الإنسان وتطوره قد ألقى ظلالاً مادية على بعض الباحثين المسلمين، فآمنوا بالروح إيماناً يقترب من إنكارها، بأن آمنوا بوجودها، وأنكروا كل أثر لها، لولا ذلك لما كان لذلك الجهد المضني في التفكير أية فائدة سوى ترويض العقل على النظر.
وذلك أن المتدبر لنصوص القرآن والسنة وما أثر عن الصحابة وعلماء المسلمين يستطيع أن يصل في هذا الموضوع إلى نتائج أكثر دقة وتفصيلاً وتحديداً بجهد أقل:
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا فيما تقدم ذكره من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الله يأمر بنفخ الروح في الجنين، وحدد موعد ذلك بأنه يكون بعد تمام أربعة أشهر من تكون الجنين في بطن أمه.(6/1399)
ثم وجدنا كتاب الله عز وجل يذكر الروح بأنها المخلوق الذي جعله الله سبباً لاكتساب أبي البشر آدميته، فاستحق بذلك التكريم، وتأهل به للعلم والإدراك اللذين هما مناط الابتلاء في هذه الدنيا فقال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [سورة الحجر: الآية 29، سورة ص: الآية 72] . ووجدنا فيه أيضاً ذكر الروح ينفخها في سلالة آدم بعد أن يسويهم في بطون أمهاتهم، قال سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ ونَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [سورة السجدة: الآيات 7 - 9] . ووجدنا فيه ما يدل على أن الله تعالى بعد أن ينقل بدن الجنين من طور إلى طور، ينشئه بعد تمام أطواره الجسمانية خلقاً آخر مغايراً لما تقدم من أطواره، فيقول سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون: الآيات 12 - 14] .
ويصلنا بعد ذلك بيان من ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أن المقصود بهذا الخلق الآخر هو نفخ الروح (1) وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إذا أتت على النطفة أربعة أشهر بعث الله إليه ملكاً فنفخ فيه الروح في ظلمات ثلاث، فذلك قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} ، يعني نفخنا فيه الروح) . ومثل ذلك روي عن أبي سعيد الخدري ومجاهد وعكرمة والشعبي والضحاك والحسن البصري (2)
ومع أن تلك النصوص لم تذكر بصراحة أن الروح التي يأمر الله بخلقها في الجنين هي ما تكون بها حياة ابن آدم، لكن هذا مستفاد من نصوص قرآنية ونبوية أخرى.
__________
(1) تفسير القرطبي: 12/ 109، تفسير الماوردي: 3/ 94، مختصر ابن كثير: 2/ 561.
(2) مختصر ابن كثير: 561/2.(6/1400)
ففي القرآن ما يدل على أن الموت إنما يفع للإنسان بخروج نفسه، وهي روحه، عندما يأمر الله تعالى ملائكته بإخراجها، فقال عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [سورة الزمر: الآية 42] ، والأنفس هي الأرواح (1) وقال أيضاً: {ولَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ والْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [سورة الأنعام: الآية 93] ؛ فبين سبحانه في هذه الآية حال الظالمين وهم في غمرات الموت، وأن الملائكة يبسطون أيديهم لانتزاع أرواحهم (2) وقال أيضاً: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الواقعة: الآيات 83 –87] ، والمقصود بذلك الروح وهي في طريقها إلى الخروج من الجسد، فتخرج منه، ولا يستطيع أحد ردها إليه (3) وقال سبحانه: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [سورة القيامة: الآية 26] ، أي بلغت الروح التراقي (4)
وفي السنة الصحيحة ما يؤكد ما دلت عليه نصوص القرآن من أن الموت يقع بخروج الروح من الجسد الذي نفخت فيه من قبل. وفي بعضها إشارة إلى أن دخول الروح في الجسد هو الذي يبعث فيه الحياة، وأن خروجها هو الذي ينقله من الحياة إلى الموت، ومن هذه الأحاديث:
- ما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد،
فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير، وهو يلحد له، فقال: ((أعوذ بالله من عذاب القبر)) (ثلاث مرات) ، ثم قال: ((إن العبد إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة كأن وجوههم الشمس، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقا، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها....)) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح (5) فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، أخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها ... )) (6)
وفي رواية أخرى عن البراء قال: كنا في جنازة رجل من الأنصار، ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إن المؤمن إذا احتضر أتاه ملك الموت في أحسن صورة وأطيبه ريحاً، فجلس عنده لقبض روحه ... فاستخرج ملك الموت روحه من جسده رشحاً ... )) (7)
__________
(1) تفسير الماوردي: 3/ 470.
(2) تفسير الماوردي: 1/ 545، مختصر تفسير ابن كثير: 1/ 600.
(3) تفسير القرطبي: 17/ 230، 231.
(4) تفسيرالقرطبي: 19/111.
(5) أي ثياب من الشعر غليظة.
(6) جزء من حديث طويل رواه أحمد وأبو داود ورجاله رجال الصحيح - مجمع الزوائد 3/ 50، الروح لابن القيم ص 58، 59، مختصر تفسير ابن كثير 298/2، شرح العقيدة الطحاوية ص 387.
(7) قال ابن القيم هذه الرواية والتي قبلها: هذا حديث ثابت مشهور مستفيض صححه جماعة من الحفاظ، ولا نعلم أحداً من أئمة الحديث طعن فيه، بل رووه في كتبهم وتلقوه بالقبول وجعلوه أصلاً من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه ومساءلة منكر ونكير وقبض الأرواح وصعودها إلى ما بين يدي الله تعالى ... الروح ص 68.(6/1401)
وفي الحديث الصحيح قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الروح إذ اقبض تبعه البصر)) (1) ؛ فهذا أيضاً وصف الرسول للروح بأنه يقبض. وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الشهداء أنهم لما سئلوا: ما تريدون؟ قالوا: نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل فيك مرة أخرى (2) ؛ فانظر إلى مفهوم الحياة والقتل في هذا الخبر، وأن الحياة رد الروح إلى الجسد، وأن القتل إخراجها.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها. قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك. قال: ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض صل الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه 00. (3) فوصف أبو هريرة الروح بالخروج معبراً عن موت صاحبها. وتدبر قوله: (جسد كنت تعمرينه) ، فإنه تعبير واضح عن التصور الإسلامي لعلاقة الروح بالجسد، وأن الجسد مسكن الروح والروح تعمره بما تشيع فيه من الحياة.
وصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول إذا أراد النوم: ((باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسى فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ عبادك الصالحين)) (4) ففسر الموت بإمساك الروح عن العود إلى الجسد.
والأحاديث التي ذكرت هذا المعنى كثيرة ومتفرقة في مواضع كثيرة من كتب الحديث، وهي متضافرة على ما ذكرنا من أن الموت إنما يكون بخروج الروح من الجسد.
فيدل على ما تقدم من النصوص وما في معناها أن الروح التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تنفخ في جسد الجنين بعد مائة وعشرين يوماً هي التي تكون بها حياة الإنسان، وهي التي يترتب على مفارقتها لجسده موته كما يدل على أنها جوهر مستقل، وليست جزءاً من بدنه ولا عرضاً من أعراضه، ولا صفة من صفاته؛ لأن الأعراض لا يمكن أن توصف بالدخول والخروج والقبض والأخذ والرد وغير ذلك مما ورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) رواه مسلم - انظر مختصر صحيح مسلم حديث رقم 456.
(2) رواه مسلم - انظر مختصر صحيح مسلم حديث رقم 1068.
(3) رواه مسلم - انظر مختصر صحيح مسلم حديث رقم 458.
(4) رواه مسلم - انظر مختصر صحيح مسلم حديث رقم 1900.(6/1402)
وهذا هو الذي فهمه علماء المسلمين من تلك النصوص وأشباهها، فصرحوا في كتبهم أن الروح التي تنفخ في جسد الإنسان وهو جنين في بطن أمه هي ما تكون به حياة الإنسان، وما يكون مفارقتها لبدنه سبباً في وفاته، وأن الروح ذات مستقلة عن الجسد وإن كانت سارية فيه، وليست متولدة عنه ولا عرضاً من أعراضه، وإنما هي مبدعة بأمر الله تعالى، قال لها: كوني فكانت من غير تحصل من أصل ولا تولد من مادة (1) كما فهموا من تلك النصوص ونصوص نسبت إلى الروح التعارف والتناكر والحب والكره والاطمئنان والسرور وغير ذلك، فهموا منها أن الروح هي مصدر الشعور والفكر وجميع الأنشطة الإرادية التي تصدر عن الإنسان. وفيما يأتي نذكر بعض أقوالهم الواردة في هذا الموضوع:
ا - يقول ابن تيمية: (الروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت) . ثم استدل على هذه المقدمة ببعض ما ذكرنا من النصوص وزاد عليها (2)
ويقول في موضع آخر: (النفس التي هي الروح المدبرة لبدن الإنسان هي من باب ما يقوم بنفسه، فهي جوهر وعين قائمة بنفسها، وليست من باب الأعراض التي هي صفات قائمة بغيرها ... وإنها يشار إليها وتصعد وتنزل وتخرج من البدن وتسل منه كما جاءت بذلك النصوص ودلت عليه الشواهد العقلية) (3)
2 - ويقول ابن قيم الجوزية: (الروح جسم مخالف لهذا الجسم المحسوس، وهو جنس نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيه سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكاً لهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية. وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح. وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة ... ) ، ثم ساق على قوله هذا مائة وستة عشر دليلاً من الكتاب والسنة والمعقول. وأجاب عن الأقوال الأخرى لبعض الطوائف والفلاسفة بعشرات الأجوبة (4)
__________
(1) رسالة العقل والروح من مجموعة الرسائل المنيرية 2/ 1 2، 37، 41 0 التفسير الكبير 21/38، الكليات 2/ 374، المطالب القدسية ص 28، 29.
(2) رسالة العقل والروح من مجموعة الرسائل المنيرية 36/2، 37.
(3) رسالة العقل والروح من مجموعة الرسائل المنيرية 36/2، 37 ص 47.
(4) كتاب الروح ص 242 وما بعدها.(6/1403)
ويقول في موضع آخر: (وأما الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة وهي النفس) (1)
ويقول تعقيباً على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء)) : - (فهذه الروح المقبوضة هي النفس التي يتوفاها الله حين موتها وفي منامها، وهي التي يتوفاها ملك الموت ... وهي التي يجلس الملك عند رأس صاحبها ويخرجها من بدنه كرهاً، ويكفنها بكفن من الجنة أو النار، ويصعد بها إلى السماء، فتصلي عليها الملائكة أو تلعنها، وتوقف بين يدي ربها، فيقضي فيها أمره، ثم تعاد إلى الأرض، فتدخل بين الميت وأكفانه، فيسأل ويمتحن ويعاقب وينعم، وهي التي تجعل في أجواف الطير الخضر تأكل وتشرب من الجنة، وهي التي تعرض على النار غدواً وعشياً، وهي التي تؤمن وتكفر وتطيع وتعصي، وهي الأمارة بالسوء، وهي اللوامة، وهي المطمئنة إلى ربها وأمره وذكره، وهي التي تعذب وتنعم وتسعد وتشقى وتحبس وترسل وتصح وتسقم وتلذ وتألم وتخاف وتحزن 000) (2)
3 – ويقول الفخر الرازي: (انه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال: {ولَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} إلى قوله تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} ، ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية. ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} ، وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية، وذلك يدل على أن الروح شيء مغاير للبدن 000) (3)
وقال في موضع آخر: (واعلم أن الأحاديث الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة، وكل ذلك يدل على أن النفس شيء غير هذا الجسد، والعجب ممن يقرأ الآيات الكثيرة الواردة في النفس، ويروي تلك الأخبار الكثيرة في صفات الأرواح ثم يقول: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يعرف الروح، وهذا من العجائب والله أعلم) (4) وساق في موضع آخر عدة حجج عقلية على وجود الروح وتميزها عن البدن (5)
__________
(1) كتاب الروح ص 293.
(2) كتاب الروح ص 205.
(3) التفسير الكبير 21/ 51.
(4) تفسير الكبير 52/21 (بتصرف بسيط لملائمة السياق) .
(5) تفسير الكبير 45/21 وما بعدها.(6/1404)
4 - ويقول ابن رشد الجد: (أكثر أهل العلم، أن الروح والنفس اسمان لشيء واحد ... والمراد به ما يحيا به الجسم، وهو الذي يتوفاه ملك الموت ويقبضه فيدفعه إلى ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ... وإنما قلنا إنه ما يحيا به الجسم ولم نقل: إنه الحياة الموجودة بالجسم؛ لأن الحياة الموجودة معنى من المعاني، والمعاني لا تقوم بأنفسها، ولا يصح عليها ما وصف الله تبارك وتعالى به الأنفس والأرواح في كتابه وعلى لسان رسوله من القبض والإخراج والرجوع والطمأنينة والصعود والتنعيم والتعذيب. فمعنى قولنا: ما يحيا به الجسم، أي ما أجرى الله تعالى بأن يحيا الجسم بكونه ويميته بإخراجه منه) (1) 5 – وقال الفراء: (الروح هو الذي يعيش به الإنسان) ، وقال ابن الأثير: (وقد تكرر ذكر الروح في الحديث كما تكرر في القرآن ووردت فيه على معان، والغالب منها أن المراد بالروح الذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة) (2) وقال الفيومي: (مذهب أهل السنة أن الروح هي النفس الناطقة المستعدة للبيان وفهم الخطاب، ولا تفنى بفناء الجسد، وأنه جوهر لاعرض؛ ويشهد لهذا قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ، والمراد هذه الأرواح) (3)
6 - وقال الكفوي: (الروح ما به حياة البدن، والأرواح عندنا أجسام لطيفة غير مادية خلافاً للفلاسفة، فإذا كان الروح غير مادي كان لطيفاً نورانياً غير قابل للانحلال سارياً في الأعضاء للطافته، وكان حيا بالذات؛ لأنه عالم قادر على تحريك البدن. وقد ألف الله بين الروح والنفس الحيوانية وجعل بينهما تعاشقاً، فما دام الروح في البدن كان البدن بسببه حياً ... وان فارقه بالكلية فالبدن ميت. 00) (4)
7 - ويقول عضد الدين الإيجي: (تعلق النفس بالبدن ليس تعلقاً ضعيفاً يسهل زواله بأدنى سبب مع بقاء المتعلق بحاله كتعلق الجسم بمكانه، وإلا تمكنت النفس من مفارقة البدن بمجرد المشيئة من غير حاجة إلى أمر آخر. وليس أيضاً تعلقاً في غاية القوة بحيث إذا زال التعلق بطل المتعلق مثل تعلق الأعراض والصور المادية بمحالها، لما عرفت أنها متجردة بذاتها غنية عما تحل فيه، بل هو تعلق متوسط ... ومن ثم قيل: هو تعلق العاشق بالمعشوق عشقاً جبلياً إلهامياً، فلا ينقطع ما دام البدن صالحاً لأن تعلق به النفس؛ ألا يرى أنها تحبه ولا تمد مع طول الصحبة وتكره مفارقته؛ وذلك لتوقف كمالاتها ولذاتها العقلية والحسية عليه 000) (5)
__________
(1) المقدمات الممهدات 1/ 170.
(2) لسان العرب - مادة روح.
(3) المصباح المنير - مادة روح.
(4) الكليات 2/ 374، 375.
(5) المواقف 7/ 253، 254.(6/1405)
8 - وقال السبكي: (الروح هي التي أجرى الله تعالى العادة بأنها إذا كانت في الجسد كان حياً، فإذا فارقته مات) (1) ونقل مثل هذا القول عن العز بن عبد السلام (2) كما نسب إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (3)
9 - وقال الشيخ محمد حسنين مخلوف: (دلت نصوص الشريعة الإسلامية كتاباً وسنة وإجماعاً على وجود الروح الإنسانية، وأنها نفخت في الجنين وهو في بطن أمه، وأجمع الِملِّيون وغيرهم على وجود الروح الإنسانية، وأن هناك شيئاً مغايراً لأعضاء البدن بالذات يسمى روحاً، وهو مصدر التصور والتعقل والتخيل والإرادة والفكر. 00) (4) ثم قال: (ولا يعبأ بشرذمة من الماديين أنكروا وجود الأرواح البشرية زاعمين أن القوة العقلية في الإنسان مصدرها الدماغ، وأن الشعور والفكر وظيفة عضوية نسبتها إلى الدماغ كنسبة الصفراء إلى الكبد والبول إلى الكلى، وأن الإنسان آلة مادية تعرض له التأثيرات الخارجية، وعند الموت يتلاشى منه كل شيء، وينطفىء فيه نور الشعور والفكر. فإن هذا قول باطل ومذهب عاطل، أصبح بنور العلم قديمه وحديثه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. ونصوص الشرع جمعاء وأبحاث مشاهير العلماء الذين اعتنقوا مذهب الروحانية من الغربيين وغيرهم، بل والذين تعمقوا في علم الفزيولوجيا أسفرت عن وجود الروح الإنسانية، وتميزها عن قوى المجموع العصبي ووظيفته. فلا يلتفت لمثل هذا المذهب بعد انعقاد إجماع المسلمين وغيرهم على خلافه) .
__________
(1) المنهل العذب المورود 2/ 22.
(2) حاشية البيجوري المسماة " تحفة المريد على جوهرة التوحيد " ص97.
(3) المطالب القدسية ص15.
(4) المطالب القدسية في أحكام الروح وآثارها الكونية ص 11.(6/1406)
ويقول في موضع آخر: (نحن لا ننفي نوع الحياة التي يثبتها الأطباء للجنين قبل نفخ الروح، ولا ما يترتب عليها من نمو. وإنما نقول: إن هذه الحياة المنبثة في الجنين قبل نفخ الروح حياة طبيعية محضة تشبه حياة النبات، ليس لها ظاهرة سوى خاصة حركة النمو والتغير في كم البدن وكيفيته، وهي ما تسميه الحكماء حياة التغذية والتنمية والتوليد أو الحياة الطبيعية. وبعد نفخ الروح الإنساني في البدن وسريانها فيه يتحصل نوع آخر من الحياة تندمج فيه الحياة الطبيعية للجنين، بحيث يكون مصدراً لظاهرة الحس والحركة الإرادية، ومبدأ مصححاً للعلم بالفكر والروية وغير ذلك من الأثار اللائقة بنوع الإنسان، وهو ما يسمونه حياة الحس والحركة والعلم والتمييز. فالحياة الأولى حياة حيوانية مترتبة على أرواح وقوى طبيعية، والحياة الثانية حياة إنسانية مترتبة على ما ذكر وعلى الروح الإنساني ...
وأهل الطب والتشريح يستندون في كثير من مباحثهم إلى التجربة والمشاهدة والفكر. وأهل الشرع يتمسكون مع ذلك بصريح النقل. ومن هنا مع تباين الاصطلاحات قد يتوهم خلاف بين ما جاءت به الشريعة الغراء في هذا الباب ونحوه وبين ما يذكره أرباب الصناعة في ذلك. وفي الحقيقة لا خلاف، وإنما هو اختلاف في النظر ووجهة البحث (1) ولوعني أصحاب الصناعة الحديثة بما ورد به الشرع في هذا الباب وأمثاله وفهموه على وجهه، وما أثبتته النظريات الصحيحة والتجربة الكافية، وأعطوه جانباً من العناية والتصرف الفكري، كما كان عليه الأوائل من أرباب هذه الصناعة في كثير من مباحثهم كالشيخ الرئيس ابن سينا وصاحب التذكرة، لاتسع لهم نطاق العلم ومجال الفهم وخرجوا عن كثير من المضايق الفنية التي تعترضهم أثناء تطبيق العلم على العمل. 00) (2)
__________
(1) وهذا صحيح ما دام كل فريق يتمسك بما توصل إليه وحصلة بوسائل معرفته، ولا ينفي ما أثبته الفريق الآخر مما لم يستطع أثباته ولا نفيه بتلك الوسائل؛ فإن ما يثبته الأطباء بتجاربهم وبحوثهم من وجود نوع من الحياة في الجنين قبل مائة وعشرين يوماً من عمره الجنيني لا يتناقض مع ما أثبته الشرع من نفخ الروح وبعث الحياة الإنسانية في الجنين عند ذلك الوقت، وإنما ينشأ الخلاف بعد ذلك عندما ينفي فريق من الأطباء ما أثبته الشرع أو يؤولونه بما يشبه نفيه وإنكاره حيث لا يرتبون أي أثر على نفخ الروح ولا يعترفون بحياة جديدة تبعثها في الجنين. كما ينشأ الخلاف أيضاً عندما ينفي بعض علماء الشريعة وجود أي نوع من الحياة في الجنين قبل نفخ الروح.
(2) المطالب القدسية ص 95.(6/1407)
ويقول في موضع آخر تكلم فيه عن معنى الحياة والموت: (والمعنى المبحوث عنه هنا هو الحياة التابعة لتعلق الروح الإنساني بالبدن وأجزائه، وهي المعبر عنها في تعريف النفس بالضوء المنتشر في قول الإمام الرازي وغيره. والنفس عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوء في جميع الأعضاء، فذلك الضوء المنتشر هو الحياة الإنسانية. فالحياة أمهر فائض عن تعلق الروح بالبدن منتشر في سائر أعضائه، وكل عضو يصل إليه نور الروح يتحول من الجمادية إلى الحياة، ففي النشأة الأولى إذا تكون وتم استعداده، وهو المراد بقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أنفذ الله فيه الروح الإلهي داخل أعضائه نفاذ النار في الفحم والماء في الورد فأحياه بعد موته، وذلك قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} ؛ فإن النفخ عبارة عن اشتعال نور الروح في الجسم بعد تسويته باستعداده، وذلك النور المنتشر في سائر الأعضاء هو الحياة الإنسانية) (1)
تلك هي أقوال العلماء المسلمين القدامى، وإنما استزدنا منها وأطنبنا في ذكرها لأن المسألة خطيرة يتوقف عليها معرفة حقيقة الإنسان وحقيقة الجنين ومعنى الحياة الإنسانية ومتى تبدأ ومتى تنتهي، وهي مفتاح الحل في البحث عن أحكام التصرف بالجنين في مختلف مراحله، سواء بالانتفاع بأعضائه أو بإجراء التجارب عليه أو غير ذلك كما أشرنا إليه في مقدمة هذا البحث.
وتلك المعاني التي حرصنا على نقل نصوص العلماء فيها متفق عليها بينهم، وأبرزها أن بدء الحياة الإنسانية يكون عند نفخ الروح في الجنين، وأن الروح هي سبب اكتسابه الهوية الآدمية، وأن الروح ليست هي الدماغ ولا صفة من صفاته ولا جزءاً من الجسد. ولم نشاً أن ننقل جميع أقوالهم في الروح؛ فإن لهم ما وراء ذلك الحد المتفق عليه تفصيلات كثيرة، وفيها كثير من الاختلاف، ولا تفيدنا في هذا المبحث. وفيما اتفقوا عليه كفاية لما نحن فيه.
__________
(1) المطالب القدسية ص 165.(6/1408)
المطلب الرابع
وقت نفخ الروح في الجنين
وكما اتفق علماء الإسلام على النتائج السابقة المتعلقة بنفخ الروح اتفقوا أيضاً على وقت حدوث هذا النفخ، لحديث عبد الله بن مسعود الذي ذكرناه سابقاً، والمتفق على صحته؛ حيث حدد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك باليوم، وأنه يكون بعد مائة وعشرين يوماً من تكون الجنين.
وقد اشتهر هذا التحديد بين العلماء المسلمين القدامى، والتزموا بما دل عليه الخبر الصحيح، وتلقوه بالقبول. ولم أعثر فيما رجعت إليه من كتب المفسرين وشراح الحديث والفقهاء وكل من تكلم في الروح ووقت نفخها من خرج عن ذلك التحديد. بل نقل غير واحد منهم إجماع العلماء على ذلك وعدم اختلافهم فيه؛ فقال القرطبي: (لم يختلف العلماء أن نفخ الروح في الجنين يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس - كما بيناه بالأحاديث - وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام) (1)
وقال ابن عابدين: (نقل بعضهم أنه اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر، أي عقبها ... ولا ينافي في ذلك ظهور الخلق قبل ذلك، لأن نفخ الروح إنما يكون بعد الخلق) (2)
وقال النووي: (واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر ... ) (3)
وقال الأبي في شرحه على صحيح مسلم: (لم يختلف العلماء في أن النفخ يكون لتمام أربعة أشهر والدخول في الخامس، وذلك موجود بالمشاهدة وعليه يعول فيما تحتاج إليه الأحكام في الاستلحاق عند التنازع وفي وجوب النفقة على حمل المطلقة 000) (4)
وقال ابن رجب الحنبلي: (فأما نفخ الروح فقد روي صريحاً عن الصحابة رضي الله عنهم أنه إنما ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر كما دل عليه ظاهر حديث ابن مسعود) (5)
ونقل ابن حجر القول باتفاق العلماء على أن نفخ الروح لا يقع إلا بعد أربعة أشهر عن أكثر من واحد: فنقل عن الفاضل علي بن المهذب قوله: (اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يقع إلا بعد أربعة أشهر) (6) 2وقال ابن حجر: (وحديث ابن مسعود بجميع طرقه يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار كل طور منها في أربعين، ثم بعد تكملتها ينفخ فيه الروح) (7) وقال في موضع آخر: (ثم يكون للملك فيه تصور آخر وهو وقت نفخ الروح فيه حين يكمل له أربعة أشهر كما اتفق عليه العلماء أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر) . ونقل عن القاضي عياض في موضع آخر أنه قال: (اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع ولم يختلف في أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك بعد تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام) (8)
__________
(1) تفسير القرطبي: 12/ 8.
(2) الحاشية: 1/ 302.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم: 16/ 191.
(4) 7/75
(5) جامع العلوم والحكم ص 49، وانظره في ص 46.
(6) فتح الباري: 11/ 420.
(7) فتح الباري: 11 / 422.
(8) فتح الباري: 11/423، 424.(6/1409)
وكل من تعرض لشرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه - الذي رواه البخاري ومسلم - أخذ بالتحديد المذكور في الحديث، وحمله على ظاهره، ولم يؤوله تأويلاً آخر. ولم ينقل أي واحد من شراح ذلك الحديث قولاً مخالفاً لعالم من علماء المسلمين (1)
وبالرغم من هذا الاتفاق الذي لم تخرمه مخالفة أحد من علماء المسلمين القدامى فقد وجد من الباحثين المعاصرين من قال بأن نفخ الروح يكون بعد الأربعين الأولى من مبدأ تكون الجنين في بطن أمه. وربما تأثروا في ذلك بما يقرره الأطباء من بدء تخلق الجنين في مرحلة مبكرة، واكتمال أعضائه الرئيسة قبل أربعة أشهر بأربعين يوماً تقريباً، وظناً منهم أن علماء المسلمين كانوا يجهلون هذه الحقيقة الطبية، وأنهم كانوا معذورين في حمل حديث ابن مسعود على ظاهره؛ لعدم معرفتهم بحالة الجنين في واقع الأمر. ولما كان هذا الرأي مخالفاً لظاهر الحديث المذكور أخذوا يبحثون عن تأويلات له تتفق مع الاتجاه الذي اتخذوه فمنهم من زعم أن رواية ابن مسعود رواية شاذة. ومنهم من سلم بصحتها، ولكنه رأى أنها لا تفيد أن نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وأن المراحل التي ذكرت فيه كلها تقع في أربعين يوما، والتمس لتوجيه رأيه بعض الاختلاف في اللفظ بين رواية البخاري ورواية مسلم؛ وذلك أن رواية مسلم وردت هكذا: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ... "؛ فزعم أن الإشارة الأولى تعود إلى "الأربعين يوماً" ولا تعود إلى بطن الأم، فيكون علقة ومضغة في الأربعين الأولى، فرتب على ذلك أن نفخ الروح يكون بعد أربعين يوماً وليس بعد مائة وعشرين يوماً. ثم رأى أن هذا التأويل ينبغي أن يصار إليه للتوفيق بين رواية ابن مسعود وروايات أخر ذكر فيها أن الملك الذي نسب إليه نفخ الروح في حديث ابن مسعود وكتب القدر من رزق وأجل وشقاوة وسعادة وغير ذلك، إنما يرسل إلى الجنين بعد أربعين يوماً (2)
وهذا الاتجاه في تأويل حديث ابن مسعود، المتفق على صحته، والذي بلغ حد الشهرة وتلقته الأمة بالقبول (3) فيه تكلف ظاهر، ولي لأعناق النصوص، وتقويم غير سليم لها، لما يأتي:
ا - الروايات التي ذكر فيها نفخ الروح ليس فيها أي نوع من التعارض، بل جاء ذكر نفخ الروح فيها بعد مائة وعشرين يوماً من تكون الجنين. وأما التعارض الموهوم فإنما جاء بين أحاديث أخرى لم تتعرض لذكر الروح، وإنما سيقت لبيان القدر المكتوب على الإنسان، فاختلفت في وقت كتابة القدر ولم تختلف في وقت نفخ الروح؛ لأنها لم تتعرض لذكره أصلاً، فإقحام نفخ الروح في الروايات المتعارضة غير صحيح. ومع ذلك فقد وجد من العلماء القدامى من جمع بين تلك الروايات المتعارضة في الظاهر من حيث وقت كتابة القدر، دون المساس بما ورد في حديث ابن مسعود عن وقت نفخ الروح (4)
__________
(1) انظر فتح الباري: 11/405، وجميع شروح الصحيحين والروح لابن القيم: ص 237، والتبيان له: ص 337، وشفاء العليل له أيضاً: ص 22.
(2) انظر الثبت الكامل لندوة "الحياة الإنسانية: بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي": ص 246، 253.
(3) جامع العلوم والحكم: ص 44. وانظر كثرة رواة حديث ابن مسعود وتعدد طرقه عن كثير من الصحابة في فتح الباري: 11/ 417 وما بعدها، وقال ابن حجر عن هذا الحديث (وكنت خرجته في جزء من طرق نحو الأربعين نفساً عن الأعمش: 11/418) .
(4) انظر شفاء العليل: ص 22.(6/1410)
2 - كل من تعرض لشرح حديث ابن مسعود من شراح الحديث لم يشكك في التوقيت الزمني الوارد فيه، ولم يتجاوز ظاهر النص فيما يتعلق بذلك قيد أنملة، سواء في ذلك من شرح صحيح البخاري ومن شرح صحيح مسلم. بل سبق أن طائفة من العلماء نقلوا الاتفاق على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام الأربعة الأشهر من عمر الجنين ودخوله في الشهر الخامس.
3 - ومن جهة أخرى فإن حديث ابن مسعود قد جاء متفقاً مع ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} . [سورة المؤمنون: الآيات 12 - 14] .
وذلك أن كثيراً من المفسرين وغيرهم نقلوا عن ابن عباس أن المقصود بالخلق الآخر نفخ الروح، ونقلوا مثل ذلك عن غيره من الصحابة والتابعين، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وإذا كان كذلك فإن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام الخلق والتصوير بمقتضى نص القرآن الكريم. وهذا في اعتقادي مما يؤيده النظر في الآية على ضوء ما يعرف من تطور الجنين ونشوء عظامه، واكتسائها بالعضلات؛ وذلك أن الآية الكريمة تقرر أن الجنين في مرحلة من مراحله ينشاً خلقاً آخر، أو ينشاً له خلق آخر هو الروح كما يقول بعض المفسرين، وأن هذه المرحلة التي تتضمن المغايرة لما سبقها لا تكون إلا بعد خلق العظام وكسوتها باللحم بفترة؛ كما تدل عليه لفظة "ثم". ومن المعلوم أن ذلك لا يكون في الأيام الأربعين الأولى من عمر الجنين، وإنما يكون بعدها، ولا يحدث في يوم أو يومين أو أسبوع، فثبت بذلك أن نفخ الروح في الجنين بحسب نص القرآن لا يمكن أن يكون فور تمام الأسبوع السادس من عمر الجنين ولا بعد ذلك بأيام، وإنما ينبغي أن يكون بعد تكون العظام وكسوتها بالعضلات، وأن يكون بعد ذلك أيضاً بفترة تناسب اللفظة القرآنية المستعملة في العطف وهي لفظة "ثم" التي تقتصي التراخي.(6/1411)
4 - وأما ما ذكره بعض الباحثين المعاصرين من أن رواية ابن مسعود شاذه، فهذه دعوى تحتاج إلى برهان، والبرهان قائم على ضدها؛ فقد ذكر ابن حجر في الفتح أن أحداً من رواة الحديث عن ابن مسعود لم يتفرد به عن شيخه؛ فقد رواه عن سليمان الأعمش عشرات ورواه مع الأعمش عن زيد بن وهب أكثر من واحد، ورواه مع زيد عن عبد الله بن مسعود أكثر من واحد أيضاً (1) ؛ فأين الشذوذ؛ وأين الرواية التي تفوق رواية ابن مسعود لموضوع الحديث؛ بل يقول ابن الصلاح - وهو من علماء الحديث - (أعرض البخاري عن حديث حذيفة بن أسيد، إما لكونه من رواية الطفيل عنه، وإما لكونه لم يره ملتئما مع حديث ابن مسعود، وحديث ابن مسعود لا شك في صحته) (2) فإذا كان حديث ابن مسعود كما وصفه علماء الحديث، فالأولى إيراد الشك على ما لا يلتئم معه، على أن أكثر العلماء لم يروا تعارضاً بين الحديثين وجمعوا بينهما بطريقة أو بأخرى دون المساس بما اتفق عليه من وقت النفخ الوارد في حديث ابن مسعود.
5 - وأما ما قيل من تأويل حديث ابن مسعود في رواية مسلم ليتفق مع ما ذهبوا إليه، بجعل المراد من اسم الإشارة الأول في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك)) الأربعين المذكورة قبله، وليس إلى "بطن أنه "، فإن هذا التأويل - فضلاً عن أنه لم يقل به أحد ممن شرح صحيح مسلم - لا يجد له أي سند من الناحية اللغوية، ولاً يستقيم به الكلام النبوي أبداً، وبيان ذلك:
أن العبارة المشار إليها فيها اسمان للإشارة، وينبغي أن يكون لكل منهما عائد يعود إليه، ولا يجوز الوقوف عند أحدهما في تحديد عائده حتى يعرف ما يعود إليه اسم الإشارة الأخر. وقبل الكلام في هذا الأمر لا بد من التنويه إلى أن جميع الروايات الصحيحة عن ابن مسعود لم يذكر فيها لفظ "النطفة"، وإنما وقع ذكرها في رواية واحدة عند "أبي عوانة" فقط، وقد وضعت بين لفظ "أحدكم" ولفظاً "الأربعين"؛ يعني هكذا: "إن أحدكم يجمع نطفة في بطن أمه أربعين يوماً" (3)
فإذا عدنا إلى البحث عن مرجع اسمي الإشارة: فأما رواية أبي عوانة التي ذكر فيها لفظ "نطفة" بين كلمة "أحدكم" وكلمة "أربعين"، فلا سبيل فيها إلى إعادة اسم الإشارة الأول إلى الظرف الزماني؛ لأن النص في هذه الرواية واضح في دلالته على أن الذي يجمع أربعين يوماً هو النطفة، ولا يمكن أن يدخل في مفهومها العلقة والمضغة.
__________
(1) فتح الباري: 11/ 417.
(2) فتح الباري: 11/ 417.
(3) فتح الباري: 11/ 418.(6/1412)
وأما على الروايات الأخرى، وهي التي لم يذكر فيها كلمة نطفة، فلا سبيل أيضاً إلى إعادة اسم الإشارة الأول إلى الظرف الزماني؛ إذ لو فعلنا ذلك لتعذر علينا معرفة مرجع اسم الإشارة الثاني الوارد في العبارة السابقة؛ لأن المشار إليه عندئذ لا يعدو أن يكون أمراً ذكر سابقاً، والأمور التي ذكرت قبل اسم الإشارة الأول هي الظرف الزماني "أربعين يوماً" والظرف المكاني "بطن الأم"، ونائب الفاعل للفعل "يجمع" وهو خلق الإنسان، والإنسان ذاته المعبر عنه بقوله "أحدكم". فأيها يصلح أن يكون مرجعاً لتلك الإشارة الثانية على فرض أن مرجع اسم الإشارة الأول الظرف الزماني؛ فأما الظرف الزماني فلا يمكن أن يكون مرجعاً للإشارتين في آن واحد. وأما الظرف المكاني فلا يمكن أيضاً؛ لأن المعنى يصير هكذا: "ثم يكون خلق أحدكم في تلك الأربعين مثل بطن أمه"، وهو غير مستقيم. وكذلك لا يصح أن يكون مرجعه نائب الفاعل؛ لأن المعنى يصبح هكذا: "ثم يكون خلق أحدكم في تلك الأربعين مثل خلق أحدكم " وهو غير سليم أيضاً. وكذلك الحال في إرجاع الإشارة إلى "أحدكم".
بقي أن يقال: ألا يمكن أن يكون المرجع هو المصدر المفهوم من قوله "يجمع خلقه"؟ والجواب أن ذلك غير ممكن أيضاً؛ لأنه يؤدي إلى التناقض بين معنى العبارة الأولى: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً" وبين العبارة التي تليها؛ إذ يصبح المعنى هكذا: (ثم يكون خلق أحدكم في تلك الأربعين علقة مثل ذلك الجمع) ، والمعنيان لا يلتقيان؛ وبيانه أن المراد بجمع الخلق أحد أمرين هما: الأول ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه من تفسيره بأن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في جسد المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين يوماً، ثم تنزل دماً في الرحم فذلك جمعها (1) وقد قيل عن هذا التفسير إئه ليس لابن مسعود وإنما هو لأحد رواة الحديث، نقله عنه بعضهم وأدرجه في الحديث حتى أوهم أنه من كلام ابن مسعود (2) والتفسير الثاني للجمع ذكره ابن قيم الجوزية، وهو أقرب لكلام الأطباء في الماضي والحاضر، وهو أن المراد به تخطيط أعضاء الجنين وتصويرها تصويراً خفياً (3)
__________
(1) فتح الباري: 11/ 419.
(2) فتح الباري: 11/ 419.
(3) التبيان في أقسام القرآن: ص 337.(6/1413)
فأما المعنى الأول لجمع الخلق، فإن كان هو المعتمد لدى أولئك الباحثين، فإنه صريح بأن الذي يستغرق أربعين يوماً هو ذلك الجمع المنقول عن ابن مسعود أو عن بعض الرواة عنه، ولا يدخل فيه العلقة ولا المضغة. وأما المعنى الثاني لجمع الخلق الوارد في الحديث، فإن كان هو المراد، فإن معنى الشطر الأول من الحديث أن التخطيط الخفي يستغرق أربعين يوماً. فإذا كانت العلقة أمراً مختلفاً عن ذلك الجمع، فكيف توضع في ذلك الظرف الزماني الذي يملؤه كله جمع الخلق، فإنها لو وضعت معه لما صح أن جمع الخلق يستغرق أربعين يوماً، بل ينبغي أن يكون أقل من ذلك حتى يكون هناك متسع للعلقة والمضغة؛ وأصل ذلك أن الظرف سواء أكان زمانياً أم مكانياً لا بد له من متعلق، ولا يوجد أدق شك في أن متعلق الظرف المكاني "بطن الأم " والظرف الزماني "أربعين يوماً هو الفعل "يجمع "، فإذا كان كذلك تعين أن تكون الأربعون يوماً ظرفاً زمانياً لفعل الجمع، وأن هذا الفعل يستغرق جميع تلك المدة. فإن كان معناه ما ذكر آنفاً لم يكن مجال لأن يشترك معه تصير الجنين علقة وتصيره مضغة، إلا أن يحمل النص النبوي ما لا يحتمله.
فإن قيل: إن تصيير الجنين علقة وتصييره مضغة داخل في مفهوم الجمع، فالجواب: أن هذا ترده صيغة البيان النبوي في الحديث الشريف؛ حيث عطف هذا التصيير على جمع الخلق بثم؛ وهذا الأسلوب قطعي في دلالته على أن ذلك التصيير يحدث بعد جمع الخلق مرتباً عليه، وليس داخلاً فيه. ولو كان داخلاً فيه لاستعمل الرسول صلى الله عليه وسلم الحرف الذي وضع في لغة العرب للتفسير والتفصيل وهو الفاء، وذكر قبله المجمل وبعده التفسير المفصل لمراحل الجنين الثلاث بأن قال: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً: فيكون فيها نطفة ثم علقة ثم مضغة)) . وأما "ثم" فإنه حرف عطف يفيد مغايرة المعطوف للمعطوف عليه، ولا يحتمل دخول الأول في الثاني دخول الجزء في الكل، وما دام الظرف الزماني في الحديث، وهو الأربعون يوماً، قد ذكر بعد المعطوف عليه وقبل المعطوف بثم، فإنه يكون ظرفاً للمعطوف عليه، ولا يكون ظرفاً للمعطوف.(6/1414)
ولذلك فإن ابن القيم بعد أن فسر جمع الخلق الوارد في أول الحديث بالتصوير الخفي صرح بأن ذلك الجمع إنما يحدث في الأربعين الأول، ولم يدخل فيه مرحلة العلقة ومرحلة المضغة، وإنما يتم كل طور من هذين الطورين بانصرام أربعين يوماً على نهاية المرحلة التي قبلها، ثم يكون نفخ الروح في بداية الأربعين الرابعة (1)
6 - كان العلماء المسلمون يدركون تمام الإدراك أن الجنين ينمو ويتخلق ويكتمل تصويره وتخليقه قبل تمام الأشهر الأربعة، وكان هذا معروفاً لديهم في الشرع وفي الطب: فأما في الشرع فقد صح من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: ((إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ... )) (2) ؛ فهذا خبر واضح في أن تصوير الجنين وخلق كافة أعضائه يكون بعد ستة أسابيع من عمره في بطن أنه. وأما طبياً فقد نقل أكثر من فقيه مسلم عن أطباء عصرهم أن الجنين يستكمل أعضاءه قبل تمام الأشهر الأربعة، وأن ذلك لا يتعارض مع ما جاء به الشرع من حقيقة تأخر نفخ الروح إلى ما بعد تمام تلك الأشهر الأربعة، بل يقتضيه ويتلاءم مع مقتضى الحكمة؟ فإن مقتضاها أن الروح لا تتعلق بالجنين إلا بعد تمام خلقه لا قبله؟ لأن البدن مركب لها، وآلة تستعملها في تحقيق ما خلقت من أجله، والحكمة تقتضي إعداد المركب وتحضير الآلة قبل خلق الراكب المستعمل لها، وفيما يلي أذكر نصوصاً لعلمائنا توضح ذلك:
يقول ابن قيم الجوزئة: (إذا اشتمل الرحم على المني ولم يقذف به إلى خارج استدار على نفسه وصار كالكرة، وأخذ في الشدة إلى تمام ستة أيام، فإذا اشتد نقط فيه نقطة في الوسط، وهي موضع القلب، ونقطة في أعلاه، وهي نقطة الدماغ، وفي اليمين، وهي نقطة الكبد. ثم تتباعد تلك النقط ويظهر بينها خطوط حمر إلى تمام ثلاثة أيام أخر، ثم تنفذ الدموية في الجميع بعد ستة أيام أخر، فيصير ذلك خمسة عشر يوماً، ويصير المجموع سبعة وعشرين يوما، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع، والبطن عن الجنبين، وذلك في تسعة أيام، فتصير ستة وثلاثين يوماً، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس ظهوراً بينا في تمام أربعة أيام، فيصير المجموع أربعين يوماً تجمع خلقه ... وهذا مطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: ((ان أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً)) . واكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإجمال عن التفصيل. وهذا يقتضي أن الله قد جمع فيها خلقها جمعاً خفياً. وذلك الخفي في ظهور خفي على التدريج، ثم يكون مضغة أربعين يوماً أخرى، وذلك التخليق يتزايد شيئاً فشيئاً إلى أن يظهر للحس ظهوراً لا خفاء به كله، والروح لم تتعلق به بعد؛ فإنها إنما تتعلق به في الأربعين الرابعة بعد مائة وعشرين يوماً، كما أخبر به الصادق، وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، إذ ليس في الطبيعة ما يقتضيه، فلذلك حار فضلاء الأطباء وأذكياء الفلاسفة في ذلك، وقالوا: إن هذا مما لا سبيل إلى معرفته إلا بحسب الظن البعيد ... وحقيقة العلم فيه عند الله تعالى، لا مطمع لأحد من الخلق في الوقوف عليه) ، ثم قال ابن القيم: (قد أوقفنا عليه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بما ثبت في الصحيحين: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً ... الخ) (3)
__________
(1) التبيان: ص 337.
(2) رواه مسلم - انظر مختصر صحيح مسلم حديث رقم 1849.
(3) التبيان ص 337، 338.(6/1415)
فهذا ابن القيم يصف التطور الجسماني للجنين بما لا يبتعد في مجمله عما توصل إليه الطب المعاصر (1) ويقرر أن التصوير والتخليق يحدث قبل أربعة أشهر بمدة طويلة، ومع ذلك فإنه يقرر أيضاً أن نفخ الروح لا يقع إلا بعد أربعة أشهر تمسكاً بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. بل يذهب إلى أكثر من ذلك، وهو أن أية حركة تصدر عن الجنين قبل ذلك الوقت فإنها لا تكون حركة ذاتية إرادية، بل لعلها حركة عارضة بسبب الأغشية والرطوبات ثم قال: (ولكن الذي نقطع به بأن الروح لا تتعلق به إلا بعد الأربعين الثالثة، وما يقدر من حركة قبل ذلك إن صحت لم تكن بسبب الروح) (2)
وقد نقل ابن حجر عن الأطباء في عصره ما هو قريب مما ذكره ابن القيم، وكذلك ابن رجب الحنبلي. وهما أيضاً قد صرحا بأن نفخ الروح لا يقع إلا بعد مائة وعشرين يوماً ونقلا الاتفاق على ذلك كما تقدم (3)
كما تقدم النقل عن ابن عابدين أن ظهور الخلق قبل أربعة أشهر لا ينافي نفخ الروح بعدها؛ لأن الروح إنما يكون بعد الخلق.
وقال النووي – مع تأكيده اتفاق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر – (لأن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام صورته) (4)
وأكد الشيخ داود الأنطاكي - وهو من علماء عصره في الطب - أن الروح التي تكسب الجنين الحياة الإنسانية إنما تنفخ بعد مائة وعشرين يوماً، كما جاء به الشرع، وسماه الروح النفساني، وأن ما يذكره الأطباء من حياة قبل ذلك فهي خالية من هذه الروح الإنسانية، وسببها ما سماه الروح الطبيعي (5)
__________
(1) خلق الإنسان بين الطب والقرآن: ص 403 وما بعد ما.
(2) التبيان: ص 339.
(3) فتح الباري: 11/ 424، جامع العلوم والحكم: ص 46، 47.
(4) شرح النووي على صحيح مسلم: 16/191.
(5) النزهة المبهجة: 154/1.(6/1416)
وقال الشيخ محمد حسنين مخلوف: ( ... ولما كان الغالب على الجنين في الطور الأول أعراض النطفة، وفي الأربعين الثانية أعراض العلقة، وفي الأربعين الثالثة أعراض المضغة ورد الحديث على هذا البيان طبقاً للظاهر المحسوس، وان كان خلق الجنين وتصويره قد تم قبل ذلك، فإن الروح الإنساني مستدع لتمام خلقه وتصويره؟ كيف والروح هي اللطيفة الربانية المتعلقة بالبدن تعلق التدبير والتصرف، وذلك يستدير تمام الخلقة والتصوير) (1) وقال في موضع آخر: (وإنما اختص طور العظام بنفخ الروح في البدن وتعلقها به لأنه الطور الذي صلبت فيه المضغة حتى صارت عظاماً مقومة للهيكل الإنساني، قابلة للآثار الروحية والأفاعيل المختلفة، فهو الحد الذي يصلح فيه البدن لقبول الآثار الفائضة عليه من عالم التدبير. 00) (2)
فيتبين مما تقدم أن العلماء المسلمين القدامى كانوا يعلمون أن الجنين يتخلق قبل نفخ الروح، وأن ذلك كان مشتهراً في أوساطهم الطبية، ولم يمنعهم ذلك من الأخذ بظاهر حديث ابن مسعود، بل اتفقوا على الأخذ به، ورأوا أن منطق الأشياء يقتضي تأخير نفخ الروح إلى وقت تكون فيه أعضاء الجنين الرئيسة قد اكتملت، ولم يتأثروا بما كان قد عرف في الأوساط الطبية من وجود نوع من الحياة أو الحركة السابقة على نفخ الروح، ولم يروه مناقضاً للحديث الشريف ولا مستدعياً لتأويله، بل رأوه مناسباً له ومؤكداً لحكمة مدلوله.
__________
(1) المطالب القدسية: ص 75.
(2) المطالب القدسية: ص 82.(6/1417)
المطلب الخامس
حقيقة الجنين قبل نفخ الروح
الجنين الذي بلغ أربعة أشهر من عمره، ونفخت فيه الروح، يكون إنساناً بحسب مختلف التصورات، وعند جميع الطوائف والعلماء:
أما في الإسلام، فلأن الروح هي أصل الحياة الإنسانية، ومصدر الإرادة والشعور والتفكير - كما تبين مما سبق تفصيله - وباتصالها بالجسد الجنيني يصبح الجنين إنساناً، ويكون حياً بالحياة الإنسانية، ويظل كذلك ما دام جسده، وروحه متحدين، فإن افترقا حل به الموت.
وأما عند الذين لا يؤمنون بالروح، أو يؤمنون بها ولكن لا يجعلون لها أي أثر؟؛ فلأن الجنين ينبغي أن يعتبر عندهم إنسانا بمجرد تكونه من الحيوان المنوي وبيضة المرأة؛ إذ لا يوجد في مسار التطور الجسدي الجنيني نقطة تصلح لاعتبارها مبدأ لتكون الإنسان أهم من لحظة ذلك التكون؛ فهي أوضح نقطة في ذلك المسار، وفيها يصبح الجنين قادراً على التدرج في مدارج النمو الجسماني حتى يفضي إلى التخلق الكامل ثم الولادة. وقبلها لا يمكن أن يدخل في ذلك التدرج، ولأنه تكتمل الحصيلة الإرثية لجنس الإنسان من تلك اللحظة (1)
وهكذا، فإنه مع إنكار اتصال الروح بالجسد في زمن لاحق لتكون الجنين لا يوجد مبدأ أهم من ذلك التكون يصلح أن ينسب إليه وجود الإنسان، وإذا كان كذلك فإن الجنين الذي بلغ من عمره أربعة أشهر لا شك في اعتباره إنساناً عند هذا الفريق أيضاً. والنتيجة أنه لا يخالف أحد في وصف الجنين بالإنسانية بعد بلوغه أربعة أشهر ودخوله في الخامس.
وأما قبل نفخ الروح فينبغي أن تختلف النظرة فيه ببن علماء الإسلام وبين أولئك الذين لا يؤمنون بالروح أو يؤمنون بها ولا يرتبون أي أثر عليها، ولا يعترفون بفاعليتها في تكوين الإنسان:
فأما حقيقته في الإسلام، وكما يراها علماء المسلمين القدامى، فهو أنه مخلوق أودع الله فيه نوعاً من الحياة، بمجرد تكونه من ماء الرجل وماء المرأة، وجعل فيه قوى النمو والتطور البدني والاغتذاء ليصل إلى وضع جسماني يكون فيه صالحاً لنفخ الروح. وهو في هذه الفترة لا يكون آدمياً ولا يوصف بالإنسانية، ولا يكون حياً بالحياة الإنسانية (المتميزة عن جميع أنواع الحياة في هذا الوجود) . وكذلك لا يوصف بأنه آدمي ميت؛ لأن هذا الوصف لا يطلق إلا على الجسد الذي حلته الروح في وقت ما ثم فارقته. وهذا لم تحل فيه الروح أصلاً، فلا يوصف بأنه حي بالحياة الإنسانية، ولا يوصف بأي وصف يدل على أنها كانت فيه. فلا سبيل إلى تعريفه بغير ما ذكرنا من أنه مخلوق حي بحياة النمو والاغتذاء والتطور جعله الله أصلاً للآدمي الذي تنفخ فيه الروح.
__________
(1) الحياة الإنسانية: بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي: ص 59.(6/1418)
ومع أن ما قدمنا من النصوص القرآنية والنبوية وأقوال العلماء في الروح وآثارها ووقت اتحادها مع جسد الجنين فيه دلالة كافية على نظرة الإسلام وعلمائه إلى الجنين قبل نفخ الروح فيه، لكننا هنا نستزيد من أقوال العلماء الصريحة في أن الجنين في هذه المرحلة لا يعتبر آدمياً ولا حياً بالحياة الإنسانية، ولا يوصف بأنه إنسان حي ولا ميت، سواء أكانت فيه حياة الاغتذاء والنمو أم كان فاقداً لها؟ وذلك لخطورة هذا الموضوع، وتأثيره بشكل أو بآخر في كثير من الأحكام العملية لتصرفات يكون الجنين موضوعها:
1 - يقول القرطبي في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: ((ينفخ فيه الروح)) (إن النفخ سبب خلق الحياة الإنسانية في الجنين، وأن هذا يحدث بإحداث الله تعالى) (1)
2 - وبقول ابن قدامة الحنبلي بصدد كلامه عن أحكام السقط (وأما قبل نفخ الروح فلا يكون الجنين نسمة، فلا يصلى عليه كالجمادات والدم) (2)
3 - ونقل الشوكاني عن الشافعي أنه كان يرى أن الجنين قبل أربعة أشهر لا يكون حياً ولذلك لا يغسل ولا يصلى عليه، ثم قال: (وقد رجح المصنف رحمه الله تعالى هذا واستدل له فقال: قلت: وإنما يصلى عليه إذا نفخت فيه الروح، وهو أن يستكمل أربعة أشهر، فأما إن سقط لدونها فلا؛ لأنه ليس بميت إذ لم ينفخ فيه روح) (3)
4 – ويرى ابن قيم الجوزية أن للجنين حياتين: الأولى كحياة النبات تكون معه قبل نفخ الروح وبعدها، ومن آثارها حركة النمو والاغتذاء غير الإرادية، والثانية حياة إنسانية، وتحدث في الجنين بنفخ الروح فيه، ومن آثارها الحس والحركة الإرادية (4) 5 – وقال فقهاء الحنفية بحسب ما ينقل عنهم ابن عابدين: (إنما يباح للمرأة استنزال الجنين قبل نفخ الروح؛ لأنه ليس بآدمي) (5)
6 – وقال ابن رشد الحفيد: (واختلفوا من هذا الباب في الخلقة التي توجب الغرة ... والأجود أن يعتبر نفخ الروح فيه، أعني أن يكون تجب فيه الغرة إذا علم أن الحياة كانت وجدت فيه 000) (6)
__________
(1) تفسير القرطبي: 12/ 6.
(2) المغني: 2/398.
(3) نيل الأوطار: 4/83.
(4) التبيان في أقسام القرآن: ص 351.
(5) حاشية ابن عابدين: 1/302.
(6) بداية المجتهد: 2/ 450.(6/1419)
7 - كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: خلق ابن آدم من سبع ثم يتلو هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} ، وسئل عن العزل، فقرأ هذه الآية ثم قال: فهل يخلق أحد حتى تجري فيه هذه الصفة؟ وفي رواية عنه قال: وهل تموت نفس حتى تمر على هذا الخلق؟ وروي عن رفاعة بن رافع قال: جلس إلي عمر وعلي والزبير وسعد ونفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكروا العزل، فقال: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموؤودة الصغرى، فقال علي رضي الله عنه: لا تكون موؤودة حتى تمر على التارات السبع: تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاماً ثم تكون لحما، ثم تكون خلقاً آخر، فقال عمر رضي الله عنه: صدقت أطال الله بقاءك (1) فهذا مفهوم الوأد "وهو نوع من القتل" عند الصحابة رضوان الله عليهم لا يتحقق إلا إذا أنشىء الجنين خلقاً آخر بعد تعاقب الأطوار الأخرى عليه، كما ذكرت الآية الكريمة. وقد تقدم أن الصحابة ومنهم ابن عباس وعلي كانوا يفسرون قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} بأنه نفخ الروح.
8 - وقال الشوكاني في معنى قوله تعالى: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} : ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه فهو المخلقة، وهو الذي ولد لتمام، وما سقط كان غير مخلقة، أي غير حي بإكمال خلقته بالروح (2)
9 - - وقال البيجوري: وأما السقط، وهو الذي لم تتم له ستة أشهر، فإن ألقي بعد نفخ الروح فيه أعيد بروحه ويصير عند دخول الجنة كأهلها في الجمال والطول، وإن ألقي قبل نفخ الروح فيه كان كسائر الأجسام التي لا روح فيها كالحجر، فيحشر ثم يصير ترابا (3)
10 - ويقول ابن حزم الظاهري في معرض الرد على من يجعل غرة الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح للورثة: أما قولهم: إن الغرة دية فهي كحكم الدية، وقد صح أن الدية موروثة على فرائض المواريث فالغرة كذلك، فإن هذا قياس باطل؟ لأن الجنين الذي لم ينفخ فيه الروح لم يقتل قط، فقياس دية من لم يقتل على دية من قتل باطل لو كان القياس حقاً؛ لأنه قياس الشيء على ضده، فبطل. وأما نحن فإن القول عندنا هو: ان الجنين إن تيقناً أنه قد تجاوز الحمل به مائة وعشرين ليلة فإن الغرة موروثة لورثته، وإن لم يوقن أنه تجاوزها فالغرة لأمه فقط؛ برهاننا على ذلك أن الله تعالى قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقاد وإما أن يودى)) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم: ص 46.
(2) فتح القدير: 3/436.
(3) تحفة المريد على جوهرة التوحيد: ص101.(6/1420)
فصح بالقرآن والسنة أن دية القتيل في الخطأ والعمد مسلمة لأهل القتيل، والقتيل لا يكون إلا في حي نقله القتل عن الحياة إلى الموت بلا خلاف من أهل اللغة التي نزل بها القرآن، وبها خاطب الرسول. والجنين بعد مائة وعشرين ليلة حي بنص خبر الصادق المصدوق، وإذ هو حي فهو قتيل قد قتل بلا شيء ... وأما إذا لم يوقن أنه تجاوز مائة وعشرين ليلة فنحن على يقين من أنه لم يحي قط ولا كان له روح بعد ولا قتل، وإنما هو ماء أو علقة من دم أو مضغة من عضل أو عظام ولحم، فهو في كل ذلك بعض أمه؛ فإذا ليس حياً بلا شك، فلم يقتل؛ لأنه لا يقتل موات ولا ميت، وإذ لم يقتل فليس قتيلاً، فليس لديته حكم دية القتيل (1)
هذه النصوص التي ذكرناها لبعض علماء الإسلام، وتلك النصوص التي ذكرناها في المطلب السابق لعلماء آخرين، والتي تدل على ارتباط الحياة الإنسانية بنفخ الروح، والتي استند فيها أولئك العلماء إلى ما ورد في الكتاب والسنة من نصوص حول الروح وآثارها، كل ذلك يدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن الجنين قبل نفخ الروح لا يوصف بأنه إنسان حي ولا ميت، سواء أكانت فيه حياة الاغتذاء والنمو أم زالت عنه.
ومن الجدير بالذكر أنني لم أجد في مصنفات العلماء المسلمين القدامى من صرح بخلاف ما ذكرنا من نفي الحياة الإنسانية عن الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح، سواء في ذلك علماء التفسير وعلماء الحديث وعلماء الفقه وغيرهم. بل إن أسلوب من تعرض لهذا الموضوع وبحث فيه يوحي بأن هذه القضية مسلم بها، وليس حولها شك. ولا يتعارض مع هذا أن كثيراً من علماء الإسلام قد رتبوا بعض الأحكام العملية على وجود الجنين مهما كان عمره في بطن أمه؟ فإنها عند التدقيق فيها يتبين أن مبنى تلك الأحكام لا يقوم على نفخ الروح ووجود الحياة الإنسانية في الجنين، وإنما مبناه على أمور أخرى: من ذلك تحريم إجهاضه ووضع حد لنموه وتطوره؟ لأن هذا العمل إتلاف لمخلوق لو ترك لنما وتشكل وصار أهلاً لنفخ الروح فيه، واكتساب الهوية الآدمية، ولا شك في أن إتلاف ما هذا شأنه لا يجوز، فإن إتلاف الأشياء النافعة أو التي يتوقع نفعها لذويها حرام إلا لمصلحة راجحة. ولهذا السبب أيضاً حرم الشرع إقامة الحد المهلك أو الذي يغلب على الظن أن يتضرر منه الجنين.
__________
(1) المحلى: 8/ 30، 33.(6/1421)
ومن الأحكام التي تتعلق بالجنين وان لم ينفخ فيه الروح انتهاء العدة بسقوطه، فإن ذلك غير مرتبط بنفخ الروح؟ حيث ربط الشارع انتهاء عدة الحامل بوضع حملها، وحكمة العدة – وهي استبراء الرحم – تحصل بالوضع مهما كان الجنين. ومنها أيضاً حجز نصيب من الميراث لحساب الجنين إذا تبين الحمل بغض النظر عن نفخ الروح فيه؟ لأن الغالب تطور الجنين ليصل إلى مرحلة نفخ الروح فيه وصيرورته إنساناً وولادته حياً، فلابد من النظر له، ولكن ما يحجز له لا يكون حقاً له قبل صيرورته إنساناً وولادته حياً، حتى لو سقط قبل ذلك لم يورث عنه ما حجز له.
فهذه الأحكام لا تدل على أن العلماء المسلمين قد خالفوا ما نصوا عليه بصراحة من أن الجنين قبل نفخ الروح لا يكون آدمياً؛ لأنها، كما يرى، غير متربطة بنفخ الروح ولا بإنسانية الجنين، وإنما ارتباطها بمعان أخرى.
ويرد هنا تساؤل يستحسن الإجابة عنه، وهو أن الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح إذا لم يكن آدمياً فهل يمكن اعتباره جزءاً من آدمي هو أمه؟
وفي الجواب لابد من الإشارة إلى أن بعض الفقهاء المسلمين قد ورد في كتبهم ما يدل على أن الجنين يعامل معاملة العضو من الأم في بعض الأحكام (1)
غير أن أغلب الظن عندي أن الجنين مخلوق مستقل عن أمه، سواء أنفخت فيه الروح أم لم تنفخ، وان كان له نوع اتصال بها، وأن بعض الفقهاء إنما اعتبره كالعضو من الأم من الناحية الحكمية لغرض ترتيب بعض الأحكام المتعلقة بالتعويض الواجب على إسقاطه (2)
وتوجيه ظننا في هذا الموضوع أن جسد الآدمي مركب الروح وآلتها بحسب التصور الإسلامي الذي بيناه فيما سبق. وهذا المركب مكون من أجزاء كلها تقع في موقع الخدمة للروح بأساليب وصور شتى. ومن خصائص تلك الأجزاء مصاحبة الروح من وقت نفخها إلى وقت رحيلها، وعدم مفارقتها لها بصورة آلية؛ لما جعل الله تعالى بين الروح والجسد من عشق جبلي لا ينقطع بدون سبب قوي؛ فالعين والأذن والقلب والدماغ والأطراف وكل عضو من أعضاء الجسد لا يفارق الروح المختصة به بصورة ذاتية إلا أن يوجد عارض قوي ينسب بتلك المفارقة، فالروح لا تلفظ اليد والرجل والعين والأعضاء التي خصها الله بها، ولا هذه الأعضاء تنسلخ عن الروح وإنما يمكن أن تنتزع منها انتزاعاً بسبب من الأسباب.
__________
(1) انظر المحلى: 8/ 30، وتكملة فتح القدير المسماة "نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار" لقاضي زادة: 10/ 30.
(2) انظر المحلى: 8/ 30، وتكملة فتح القدير المسماة "نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار" لقاضي زادة: 10/ 30.(6/1422)
والجنين في بطن أمه، سواء قبل نفخ الروح أو بعدها لا يتصف بشيء مما ذكرنا من خصائص الأعضاء، فهو لا يخدم روح الأم، ولا يأتمر بأوامرها (1) ولا يتوقف عليه صلاح أي عضو من أعضاء جسدها، وتنحصر علاقته بجسدها في الأخذ دون العطاء، وهو أشبه ما يكون بالرضيع الذي يأخذ لبن أمه بعد ولادته، ولكنه لما كان قبل الولادة غير قادر على الأخذ بطريقة الوليد رتب له ربه تبارك وتعالى طريقة أخرى تناسب طبيعته. وهو بعد ذلك صائر إلى الانفصال عن جسد الأم بصورة ذاتية. بل إن ذلك الجسد لا يقبله أكثر من المدة المعهودة للحمل، وروح الأم المسيطر على ذلك الجسد لا يطيق وجوده أكثر من تلك المدة. وكل ذلك يدل على أنه كيان مستقل عن أمه وعارض عليها، وليس جزءاً منها.
فنخلص مما تقدم إلى أن الجنين قبل نفخ الروح في التصور الإسلامي، ليس ادمياً ولا جزءاً من آدمي، وإنما هو مخلوق في طور الإعداد لاستقبال الروح التي تصيره آدمياً.
وأما الجنين عند الذين لا يؤمنون بالروح من العلماء الماديين، ومن تأثر بهم فأقر بوجودها وجردها من آثارها، فإن مقتضى عقيدتهم هذه أن حقيقته واحدة من أول لحظة يتكون فيها باتحاد مني الرجل ببييضة المرأة، وأن آدميته تولد معه في هذه اللحظة، ولا يطرأ عليها ما يغيرها في مختلف مراحله الخلقية حتى يتوفى بهلاك جسده؛ وذلك أن حقائق الأشياء لا تتغير بصغرها وكبرها، ولا بثقلها وخفتها، وإنما تتمايز باختلاف جوهرها. والحياة عندهم تنشأ مع الجنين من تلك اللحظة، وتبقى معه متصفاً بها حتى يفقدها بسبب من الأسباب ويفنى ذلك الجسد.
ونعتقد أن أي تغير في جسد الجنين المادي المحسوس من تعلق بجدار الرحم ونمو وكبر حجم وزيادة وزن وظهور طلائع الجهاز العصبي والأجهزة الأخرى وغير ذلك من التغيرات الجسمانية لا يصلح أبداً مستنداً للقول بتغير حقيقة الجنين؟ لأن جميع هذه التغيرات إنما هي ثمرات لنوع الحياة الذي وجد مع الخلية الأولى من خلايا جسد الجنين المتكون؛ فعند تكون الجنين بخليته الأولى ينشأ فيه ذلك النوع من الحياة، ويكون سبباً في كل ما يطرأ عليه من تحولات وإضافات وتشكلات وغير ذلك، فإن حقيقة الحياة التي وجدت في الخلية الأولى ومكنتها من رحلتها التطورية لا تختلف عنها في أي طور، بل هي عينها الحياة التي تكون فيه مهما كان عمره ووزنه وطوله وشكله، بل هي عين الحياة التي تكون معه بعد ولادته، والتي يكون من آثارها نموه في الطول والعرض وترميم أعضاء الجسم التالفة، ومقاومة الجراثيم الدخيلة، ولأم الجروح، ونمو الشعر والظفر، وهي عين الحياة التي تبقى فترة قصيرة من الزمن في الأعضاء بعد الموت الدماغي للإنسان.
__________
(1) وإذا كانت الروح تسيطر على الجسد المختصة به بواسطة الدماغ، وعن طريقه تحرك بقية الأعضاء، فإنا نظن - بالرغم من قلة بضاعتنا في علم وظائف الأعضاء - أن الدماغ لا صلة بينه وبين أعضاء الجنين، ولا سلطان له على أي عضو منها. وليس هذا رجماً بالغيب، وإنما هو استنتاج من الظواهر التي أشرنا إلى طائفة منها في المتن.(6/1423)
وهكذا فإن إنكار الروح وإنكار انضمامها إلى جسد الجنين في لحظة من لحظات عمر الجنين يلزم القائلين به والممالئين لهم ممن اعترفوا بالروح وأنكروا آثارها، وآثروا إهمالها عند البحث في حقيقة الجنين، يلزمهم بأن يعتبروا الجنين إنساناً من أول لحظة يتكون فيها باتحاد المني مع البييضة.
ومع أن هذا هو مقتضى تلك النظرة لكننا نجد كثيراً من أصحابها يرون أن موت الإنسان يقع بموت دماغه بعد نشوئه وقيامه بوظائفه (1) والذي يتفق مع نظرتهم تلك إلى حقيقة الجنين بصورة خاصة والإنسان بصورة عامة أن يكون موت الإنسان بذهاب تلك الحياة التي صاحبته منذ تكونه لا بمجرد موت دماغه؟ وإلا فإن الجنين قبل تكون دماغه وقيامه بوظائفه يعتبر بناء على نظرتهم تلك إنساناً حياً، فالقول بحياته يتعارض مع قولهم بأن الموت هو موت الدماغ، وتحديد الموت بموت الدماغ يتناقض مع القول بحياة الجنين قبل نشوء دماغه، ولا يخلصهم من هذا التناقض إلا القول بوجود نوعين من الموت: أحدها موت الجنين قبل نشوء دماغه ويكون بذهاب الحياة الموجودة في خلاياه وتوقفها عن النمو والتشكل والاغتذاء، والثاني موت الإنسان الذي تكون له دماغ ومارس هذا الدماغ وظائفه، ويكون بموت هذا الدماغ موتاً نهائياً، على أن هذا المخرج يلزم القائلين به الاعتراف بوجود نوعين من الحياة يتعاقبان على الجنين: النوع الأول قبل نشوء دماغه، والثاني بعد نشوئه؛ لأن الموت نقيض الحياة ووجود نوعين من الموت يقتضي وجود نوعين من الحياة، حتى يصدق على كل واحد منهما أنه نقيض الموت الذي يقابله، وهذه النتيجة تقترب إلى حد ما - وإن لم تطابق - مع نظرة علماء الإسلام في تحديد حقيقة الجنين قبل نفخ الروح وبعده. والفرق بينهما اعتبار نفخ الروح مصدراً للحياة الثانية في النظرة الإسلامية ونشوء الدماغ مصدراً لها في النظرة الأخرى. وقد تقدم ما يبعد معه كون الدماغ سبباً لإحداث نوع جديد من الحياة، وذلك عند الكلام عن تطور الجنين وأثره في تحديد حقيقته.
__________
(1) انظر كتاب: موت القلب أو موت الدماغ: ص 102 وما بعدها.(6/1424)
المبحث الثاني
حكم الانتفاع بالأجنة
في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية
تقدم أن البحث عن حكم تصرف ما لا يستقيم إلا بالبدء من معرفة حقيقة ذلك التصرف، وأن هذا التصرف إن كان عملاً يقوم به الإنسان في شيء ما، ويترك آثاراً بليغة في هذا الشيء، فإن تصوره يتوقف على معرفة ذلك الشيء الذي يقع عليه.
وقد أفضنا - في المبحث الأول - في بيان حقيقة الجنين، وخرجنا بنتيجة محددة في ذلك، وفيما يأتي سنتخذ تلك النتيجة أساساً في البحث عن حقيقة التصرف في الجنين بأخذ بعض أعضائه لزراعتها أو بجعله محلاً للتجارب العلمية. ومن ثم ننتقل إلى بيان حكم هذا التصرف من وجهة النظر الشرعية، وقيود ذلك ونختم المبحث - إن شاء الله تعالى - ببيان ما ينبغي أن يكون عليه حكم هذا التصرف عند من ينكرون الروح.
المطلب الأول
حقيقة الانتفاع بالأجنة في زراعة الأعضاءوالتجارب العلمية
ليس من غرضنا في هذا المطلب بيان حقيقة التصرفات التي تقع على الجنين، ولا تتسبب إلى أي نوع من الإضرار بجسده، أو تلك التي يقصد بها معالجة الجنين، سواء أكانت نتائجها إيجابية أم سلبية؛ فإن حقيقة هذه التصرفات أنها أعمال نافعة أو يقصد بها تحقيق مصالح معتبرة للبشرية عامة أو للجنين محل التصرف خاصة، وهي إما أن تكون سالمة تماماً من أي ضرر يقع على الجنين، كتلك الأبحاث التي تجرى على الجنين وتعتمد على ملاحظته داخل بطن أمه أو خارجه دون التسبب له بأية مضاعفات، وإما أن يكون الضرر الناشىء عنها غير مقصود وإنما جاء نتيجة لمحاولات طبية يراد بها إنقاذ الجنين من الهلاك أو من خلل جسدي (1) فمثل ذلك لا شبهة في تحديد حقيقته، ولا شك في جوازه شرعاً وعقلاً، وقد يقع على الإنسان المولود، كبيراً كان أو صغيراً.
__________
(1) انظر بحث "إجراء التجارب على الأجنة" للدكتور محمد علي البار المقدم إلى الندوة الفقهية الطبية الخامسة: ص 21.(6/1425)
وإنما نقصد من هذا المطلب بيان حقيقة التصرف بالأجنة مما يسبب لها الضرر، فيهلكها كلياً أو جزئياً دون أن يكون الهدف الأصلي منها إنقاذ الجنين أو معالجته، وذلك بأخذ بعض أجزائه لزراعتها في جسد إنسان مريض، أو بإجراء التجارب العلمية عليه مما يقتضي تفتيته أو تغيير أوضاع الخلقة الأصلية التي خلق عليها ونحو ذلك.
ومن وجهة النظر الإسلامية لا شك في أن تحديد حقيقة تلك التصرفات يختلف باختلاف المرحلة التي يكون فيها الجنين: مرحلة ما قبل نفخ الروح ومرحلة ما بعده، كما يختلف باختلاف حال الجنين إن كان حياً أو كان ميتاً.
وأما من وجهة النظر الأخرى التي لا تعترف بالروح، ولا تقر إلا بنوع واحد من الحياة يكون فيه الجنين في جميع أطواره، فإن حقيقة تلك التصرفات لا تختلف إلا من حيث وجود الحياة في جسد الجنين أو عدم وجودها.
حقيقة تلك التصرفات من وجهة النظر الإسلامية:
إذا كان الجنين قد استقبل الروح بانصرام مائة وعشرين يوماً على تكونه، ولم ترحل عنه، فهذا آدمي حي بحياة الروح كما ذكرنا، وأخذ أحد أعضائه أو إخضاعه للتجارب العلمية في المختبرات مما يتسبب في مفارقة روحه لجسده، يكون قتلاً له بالمعنى الاصطلاحي الدقيق للقتل. فإن نجا من ذلك كان ذلك التصرف إيذاء لجسد آدمي حي على أقل تقدير.
وهذا لا يختلف سواء أكان الجنين في بطن أمه أو سقط منه أو أسقط، ما دام حياً بحياة الروح، ويعرف ذلك بصدور أية حركة إرادية عن الجنين أو بتبين صلاحية دماغه وعدم موته؛ لأن الروح إنما تسيطر على الجسد بواسطة الدماغ، كما أسلفنا، ولا ترحل عنه إلا بتلفه تلفاً كليا. ولا يؤثر على ذلك كون الجنين قد سقط من بطن أمه في زمن لا يعيش فيه مثله، وأن مصيره إلى الموت وحدوث مفارقة روحه لجسده؛ لأن العبرة بوجود الروح في الجسد، وليس بما سيؤول إليه الوضع، وقد يتمكن أهل صنعة الطب من توفير الظرف المناسب للجنين الذي يسقط في وقت مبكر بعد نفخ الروح، فيظل على قيد الحياة (1)
__________
(1) بحث "إجراء التجارب على الأجنة " للدكتور محمد علي البار: ص 07 الحياة الإنسانية: بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي: ص 207.(6/1426)
وأما إذا فارقت الروح جسد الجنين بوفاة دماغه، سواء أكان في البطن أم خارجه، فإنه يصبح آدمياً ميتاً. ويكون أخذ عضو منه أو إجراء التجارب عليه تصرفاً بجسد آدمي كان مسكناً للروح، ولا يكون ذلك قتلاً له. وهذا كله إذا كان الجنين قد جاوز في عمره مائة وعشرين يوما أو بلغها.
وأما قبل ذلك، حيث لم تنفخ فيه الروح بعد، فإن التصرف فيه بأخذ جزء منه أو بإجراء التجارب عليه على النحو الذي بيناه لا يعد قتلاً لآدمي، وإن أدى ذلك إلى فقدانه قابلية النمو والاغتذاء والتطور؛ لأن القتل بمعناه الاصطلاحي الفقهي الدقيق هو فعل من الأدمي يؤدي إلى إزهاق روح آدمي آخر، فلا توجد حقيقة القتل إلا إذا كان محله آدمياً فيه روح (1) وهذا لم تنفخ فيه الروح بعد. نعم، قد يطلق على هذا الفعل قتلاً، لأنه أدى إلى إيقاف نوع من الحياة، ولكن لا يراد به عندئذ المعنى الاصطلاحي للقتل، وإنما يراد به إفساد الجنين بوقفه عن التطور والتغذي والتخلق، ومنعه من الوصول إلى كمال هذه المرحلة ببلوغ الحد الصالح لنفخ الروح.
على أنه ينبغي التمييز بين حالتين: إحداهما يكون فيها التصرف في الجنين قبل نفخ الروح فيه بأخذ جزء منه أو بإجراء التجارب عليه إفساداً له. والثانية لا يعتبر ذلك فيها إفسادا له:
فأما الحالة الأولى فتكون عندما يقع ذلك التصرف على جنين لو ترك على حاله الذي هو فيه لنما وتخلق وتطور، ليصل إلى الوضع الذي يصبح فيه صالحاً لنفخ الروح. والصورة الوحيدة المعروفة حالياً لهذه الحالة أن يكون الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح موجوداً في بطن أمه، وفيه حياة النمو والاغتذاء. فإذا أسقط من بطن أمه لغرض أخذ جزء منه أو لغرض التجارب الطبية كان ذلك إفساداً له.
وأما الحالة الثانية فهي أن يكون الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح في وضع لوترك فيه لتوقف عن النمو والتطور وفقد الحياة التي تسبب ذلك فيه، ويكون هذا عندما يكون الجنين خارج بطن الأم، ولا يمكن في الواقع أو في الشرع أن يجعل في وضع يتمكن فيه من النمو والتطور ليتأهل لنفخ الروح. ويقصد بعدم الإمكان في الواقع أن يكون أهل الصنعة عاجزين عن توفير الوضع الذي يجعل ذلك الجنين يواصل مسيرته التطورية، بحيث تستيقن أنه سيفقد الحياة التي تمكنه من النمو والتخلق قبل أن تنفخ فيه الروح، كما لو سقط الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح، وعجز الأطباء عن إعادته وعن توفير الرحم الصناعي البديل. ففي هذه الحالة يعتبر الجنين فاسداً حكما. وإذا كان كذلك فإن ما يقع عليه من أخذ بعض أجزائه، أو إجراء التجارب عليه لا تعد إفساداً له. والفرق في هذه الحالة بينه وبين جنين نفخت فيه الروح أن الحياة المودعة في الجنين قبل نفخ الروح ليست مقصودة لذاتها، وإنما جعلت فيه لتوصله إلى الوضع الذي يصلح فيه لاستقبال الروح، ولتكون خادمة لحياة الروح بعد نفخها، فإذا تيقن من عدم التمكن من الوصول إلى ذلك الوضع، فقدت تلك الحياة حكمتها وفائدتها. وأما حياة الروح فهي مقصودة لذاتها، لا لغيرها، فلا تعتبر فاسدة ما دامت الروح موجودة في الجسد، وإن كان يقطع من الناحية الواقعية بأنها سترحل عن الجسد بعد فترة قصيرة جداً.
__________
(1) المحلى: 8/33، التشريع الجنائي الإسلامي: 2/6 0 القصاص - الموضوع (7) من نماذج الموسوعة الفقهية - الطبعة التمهيدية: ص 22.(6/1427)
ويقصد بعدم الإمكان في الشرع أن لا يسمح الشرع بوضع الجنين في الظرف الذي يمكنه من التطور، ويكون ذلك في اللقائح الزائدة عن الحاجة في مشاريع أطفال الأنابيب، إذا استحال من الناحية الواقعية غرسها في رحم الزوجة صاحبة البيضة، كما لو توفيت بعد تلقيح بيضتها في المختبر بمنوي زوجها، أو خيف عليها الهلاك من الحمل ونحو ذلك، فلا يجوز شرعاً غرس تلك اللقائح في رحم امرأة أخرى، فإذا اجتمع مع ذلك عجز الطب عن توفير الرحم الصناعي الذي يمكن أن توضع فيه اللقيحة لتواصل تطورها، اعتبرت أيضاً في حكم الفاسدة ولا يعتبر التصرف فيها إفساداً لها، لما ذكرنا.
هذا ومن نافلة القول أن يذكر هنا أن التصرف بالجنين الذي لم تنفخ فيه الروح والذي فقد حياة النمو والتطور، بأخذ جزء منه أو بإجراء التجارب عليه لا يعد إفسادا له، وإن كان في بطن أمه، لأنه فاسد حقيقة، ولا يعتبر ذلك أيضاً اعتداء " على جثة آدمي ميت، لما سبق أنه ليس بآدمي.
حقيقة تلك التصرفات من وجهة نظر الذين لا يؤمنون بالروح:
ذلك كله من وجهة النظر الشرعية، وأما عند الذين لا يؤمنون بوجود الروح، وكذلك بعض الباحثين المعاصرين الذين يثبتون وجودها ولكنهم ينفون أن يكون لها أي تأثير في حقيقة الجنين والإنسان، فإن مقتضى هذا التصور أن يكون أي تصرف بالجنين يفقده صفة الحياة الموجودة فيه قتلاً لإنسان حي، سواء أكان عمره ساعة واحدة أم كان عمره تسعة أشهر، ما دام فيه الحياة التي تمكنه من النمو والتخلق، وأفقده ذلك التصرف تلك الحياة.
كما يقتضي هذا التصور أن يعتبر التصرف بالجنين الذي فقد تلك الحياة تصرفاً بجثة آدمي ميت.(6/1428)
المطلب الثاني
الحكم الشرعي للانتفاع بالجنين
بعد نفخ الروح فيه
سبق أن الجنين الذي بلغ من العمر أربعة أشهر ونفخت فيه الروح آدمي حي. وأن الانتفاع بأخذ أجزائه أو بإجراء التجارب عليه إذا تسبب في إزهاق روحه يكون قتلاً لآدمي حي. وقتل الآدمي في الإسلام لا يحل إلا أن يكون عقوبة على معاص حددها الشرع، ولا يوجد مسوغ له غير ذلك، وهو لا يتصور من الجنين بلا شك. ولا يسوغ إزهاق روح الآدمي كونه سبباً في إحياء روح آدمي آخر (1) ؛ لأن الأرواح الآدمية في ميزان الإسلام سواء ما دام أصحابها لم يرتكبوا من المعاصي ما يستوجب إهدار أرواحهم.
وهذا الحكم لا يختلف سواء أكان الجنين في بطن أمه، أم كان قد سقط منه بسبب من الأسباب ما دامت روحه باقية فيه، ولم تخرج من جسده؟ فلا يحل في شرع الله تعالى أن يمس بأي أذى، وإن كان ذلك بإذن الأبوين أو بناء على تبرعهما نيابة عن الجنين؟ لأن النيابة مقررة لمصلحة المنوب عنه، وليس لأي نائب أن يتصرف بما يتسبب بالضرر لمن ينوب عنه.
وأما إذا كان الجنين ميتاً بأن فارقته الروح بعد نفخها فيه، فحاله كحال الآدمي المولود الذي فارقته الروح، وحقه في الشرع أن يكرم بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وعدم التمثيل بجثته. والأصل أنه لا يحل أن يؤخذ شيء من جسد الأدمي الميت أو يجرى عليه من التجارب ما يغير خلقته إلا بإذن صدر من ذلك الميت قبل وفاته. والإذن من الجنين قبل وفاته غير متصور، ومقتضى القواعد الشرعية أن لا يقبل إذن أبويه؛ لأن إذن الإنسان في غير ما يملك لا قيمة له، وهما لا يملكان أن يتبرعا بشيء من جسد الجنين، لا عن طريق الإرث، ولا عن طريق النيابة الشرعية؛ أما الأول فلأن الإرث لا محل له بالنسبة لجسد الميت، وأما النيابة فلأنها تنتهي بالموت، ولأنها مقيدة في الشرع بعدم الضرر كما تقدم.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 1/602. لذلك أجمع الفقهاء على أنه لا يحل لمضطر أن يقتل غيره لإنقاذ نفسه من هلاك محقق؟ فنصوا على أنه إذا أشرفت سفينة عل الغرق، وكانت سلامتها في إلقاء بعض ركابها، فلا يجوز أن يقرع على طرح أحد الركاب في البحر لإنقاذ البقية. كذلك لا يحل لمن أصابته مخمصة أن يأكل لحم إنسان حي لينقذ نفسه من الموت: البدائع: 7/177، المبسوط: 24/76، كشاف القناع: 4 /118، أحكام القرآن للجصاص: 3/378، أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1611.(6/1429)
ولكن يحتمل القول بجواز الأخذ من جسد الجنين في حالة الضرورة بمعناها الاصطلاحي الدقيق؟ بأن يترتب على ذلك إنقاذ آدمي مشرف على الموت، أو إنقاذ طرف من أطراف إنسان آخر أو حاسة من حواسه، ويمكن قياس ذلك على ما ذهب إليه فريق من الفقهاء المسلمين من جواز أكل المضطر من جثة آدمي ميت (1) وإذا كانت الضرورة هي مستند هذا الاتجاه، فلا بد عندئذ من مراعاة شروطها بأن لا يكون هنالك سبيل آخر لدفعها، وأن تكون حالة، بأن يكون الضرر واقعاً أو على وشك الوقوع، وأن يكون الأخذ من الجنين الميت والزرع في المريض المشرف على الهلاك الكلي أو الجزئي موصلاً إلى النجاة أو الشفاء في غالب الظن. وبغير هذه الشروط الثلاثة لا يجوز الأخذ من الجنين الميت.
ومقتضى قاعدة الضرورة أن لا يشترط استئذان الوالدين في ذلك، ولا شك في أن أخذ إذنهما وتطييب خاطرهما أمر مستحسن.
__________
(1) التاج والإكليل للمواق: 2/ 254، المغني: 11/ 79، 89، المجموع: 9/ 36، حاشية قليوبي وحاشية عميرة: 4/262، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 1/ 95.(6/1430)
المطلب الثالث
الحكم الشرعي للانتفاع بالجنين قبل نفخ الروح فيه
الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح له أربع صور:
الأولى - أن يكون في بطن أمه حياً.
الثانية - أن يكون خارج البطن حياً ويمكن في الواقع والشرع غرسه في رحم أمه.
الثالثة - أن يكون خارج البطن حياً ويمنع تطوره مانع واقعي أو شرعي.
الرابعة - أن يكون ميتاً فقد ما أودع فيه من قوى النمو والتطور سواء كان في البطن أو خارجه.
وقد تبين من المطلب الذي عقدناه لبيان حقيقة الانتفاع بالجنين أن الصورة الثالثة تلتحق بالصورة الرابعة؛ من حيث إن الجنين في كل منهما فاسد، فهو في الرابعة فاسد حقيقة، وهو في الثالثة فاسد حكما.
لذلك فإن هذا المطلب سيتفرع إلى ثلاثة أفرع:
الفرع الأول
حكم الأنتفاع بالجنين الحي في بطن أمه
الانتفاع بالجنين الحي الموجود في رحم أمه، بأخذ عضو منه أو بإجراء التجارب عليه - على النحو الذي بيناه في المطلب الأول من هذا المبحث - يقتضي إسقاطه من بطن أمه. والبحث عن حكمه مرتبط بمعرفة حكم إجهاض الجنين قبل نفخ الروح؛ وفيما يأتي نبين باختصار أقوال الفقهاء في ذلك والرأي الراجح:
حكم الإجهاض قبل نفخ الروح:
اختلف فقهاء الإسلام في حكم إجهاض الجنين قبل نفخ الروح فيه على عدة أقوال:
القول الأول - إباحة الإجهاض في أي وقت قبل نفخ الروح. وقد قال بهذا القول معظم فقهاء الحنفية وجمهور الشافعية (وهو المعتمد عندهم) وابن عقيل من الحنابلة (1)
__________
(1) شرح فتح القدير: 2/495، حاشية ابن عابدين: 1/302، حاشية قليويي على شرح المحلى: 3/159، 160، نهاية المحتاج: 8/416، حاشية الجمل على شرح المنهج: 5/491، الإنصاف: 1/ 386.(6/1431)
الفول الثاني - تحريم الإجهاض في جميع مراحل الجنين قبل نفخ الروح، وهو قول معظم فقهاء المالكية، وبعض فقهاء الحنفية والغزالي من فقهاء الشافعية وابن الجوزي من فقهاء الحنابلة (1) وصرح بعض هؤلاء أن التحريم مقيد بعدم وجود العذر، فإن وجد عذر أبيح الإجهاض (2)
القول الثالث - إباحة الإجهاض في مرحلتي النطفة والعلقة (أي في الأيام الثمانين الأولى من عمر الجنين) ، وتحريمه في مرحلة المضغة، (أي في الأيام الأربعين السابقة لنفخ الروح) ، وهو قول بعض الشافعية (3)
القول الرابع - إباحة الإجهاض في مرحلة النطفة (أي في الأيام الأربعين الأولى) ، وتحريمه في مرحلتي العلقة والمضغة، وهو قول معظم فقهاء الحنابلة واللخمي من فقهاء المالكية (4)
ويظهر أن حجة الفريق الأول والثالث تقوم على أن الجنين قبل نفخ الروح لا يكون آدمياً (5) وأن هذا النفخ لا يقع إلا بعد مائة وعشرين يوماً من تكون الجنين. وإنما استثنى الفريق الثالث الأربعين الأخيرة منها احتياطاً لما قد يقع من الخطأ في تحديد عمر الجنين، فجعلها حريماً للروح (6)
وأما القائلون بالتحريم في جميع المراحل فحجتهم أن الجنين قبل نفخ الروح مخلوق فيه قابلية لأن يصبح آدمياً وأنه أصل للآدمي، فيحرم إتلافه، كالمحرم لا يحل له أن يكسر بيض الصيد؛ لأن البيض أصل الصيد، فكذلك لايحل إتلاف أصل الأدمي (7)
وأما أصحاب القول الأخير، فيظهر من أقوال بعض علمائهم أنهم إنما قصروا الإباحة على الأربعين؟ لأنهم كانوا يظنون أن الجنين لا ينعقد قبل ذلك (8)
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 6/950، 591، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2/267، حاشية الرهوني على شرح الزرقاني: 3/264، فتح العلي المالك: 1/399، إحياء علوم الدين: 2/53، الإنصاف: 1/ 386، تنظيم النسل للطريقي: 184، 185.
(2) فتح العلي المالك: 399/1، حاشية ابن عابدين: 6/ 1 59.
(3) تحفة الحبيب على شرح الخطيب: 3/303.
(4) فتح العلي المالك: 1/ 399، الإنصاف: 1/ 386، الفروع: 6/191.
(5) حاشية ابن عابدين: 1/302، تنظيم النسل: ص 192.
(6) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 8/416.
(7) حاشية ابن عابدين: 6/ 590، 591، إحياء علوم الدين: 2/53.
(8) جامع العلوم والحكم: ص 46.(6/1432)
والراجح – حسبما يغلب على ظني – أن الأصل هو تحريم الإجهاض قبل نفخ الروح، ولكنه تحريم غير مطلق، وإنما يخضع لقاعدة الضرورات، والقاعدة التي توجب الأخذ بأعظم المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين. وليس كتحريم الإجهاض بعد نفخ الروح الذي هو تحريم مطلق لا يخضع لقاعدة الضرورة، ولا يدخل في الموازنة عند التعارض مع مصالح أخرى.
فأما توجيه الحكم الأصلي، وهو التحريم، فهو ما ذكرنا في حقيقة الجنين قبل نفخ الروح، وأنه مخلوق نافع يتدرج في مدارج التأهيل لاستقبال الروح واكتساب الهوية الآدمية في مرحلة معينة، وذلك ما دامت فيه حياة النمو والتطور، ولا يمنع من تطوره مانع واقعي أو مانع شرعي بحسب ما وضحناه فيما سبق، فيكون إفساده عملاً ضاراً محرما.
وأما توجيه عدم الإطلاق في تحريمه، وخضوعه لقواعد الضرورة والمصلحة؟ فلأنه ليس ادمياً، وإيقاف حياته لا يعتبر قتلاً لآدمي، على التحقيق الذي سبق، وإنما هو إتلاف لمخلوق نافع. وإفساد ما ليس بأدمي من الأشياء النافعة قد ينتقل إلى دائرة الإباحة إذا غلب على الظن تحقيق مصالح أعلى من المصالح التي تفوت بإتلافه، أو دفع مفاسد أعظم من المفاسد التي تقع بإتلافه.
وهذه النتيجة التي توصلنا إليها في حكم إجهاض الجنين قبل نفخ الروح تسلمنا إلى البحث في مصالح التصرفات التي نبحث عن حكمها ومفاسدها، والموازنة بينها.
مفاسد تلك التصرفات:
ا - المفسدة الأولى المتبادرة من استخدام الأجنة في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية هي مفسدة إتلاف الجنين؟ بمعنى أن ذلك يمنع من تمام إعداده ليكون مركباً صالحاً للروح.
2 - والمفسدة الثانية التي تترتب على تلك التصرفات هي المعاناة التي تصيب أم الجنين من. جراء إسقاطه.
3 - والمفسدة الثالثة هي كشف عورة المرأة التي يراد أخذ الجنين منها.
4 - والمفسدة الرابعة هي المساس بكرامة الآدمي؛ وذلك من جهتين:
الأولى: جعل مادة جسده محلاً للقطع والتشريح والتجارب.
والثانية: أن تلك التصرفات يمكن أن تتخذ ذريعة للمتاجرة بأعضاء الأجنة، واستعمالها لأغراض لا تليق بكرامة الإنسان.(6/1433)
مصالح تلك التصرفات:
يذكر الأطباء مصالح كثيرة تترتب على زراعة أعضاء الأجنة، وإجراء التجارب عليها، يعود معظمها إلى علاج أمراض مستعصية، أو الوقاية منها، إما مباشرة باستعمال بعض أجزاء الجنين أو خلاياه، وإما بصورة غير مباشرة، بالتوصل إلى معارف طبية تمكن الأطباء من العلاج والوقاية.
ومما ذكره الأطباء من المنافع التي يمكن تحصيلها في هذا المجال:
1 - معالجة بعض الأنواع من الأمراض العصبية الخطيرة، وبعض أمراض المناعة، وبعض الأنواع من مرض السكري، وبعض أنواع العقم عند الرجال، وبعض أنواع الحروق.
2 - الوقاية من الإجهاض التلقائي، ومن بعض العيوب والأمراض الوراثية.
3 - استخراج أنواع من العقاقير والأدوية واللقاحات المفيدة في العلاج والوقاية.
4 - الوصول إلى معارف تشريحية عن الإنسان تساعد بصورة فعالة في اكتشاف كثير من الأمراض وعلاجها.
وهنالك فوائد أخرى يذكرها الأطباء، ويمكن الرجوع إليها في كتبهم وأبحاثهم (1)
__________
(1) انظر بحث "إجراء التجارب على الأجنة المجهضة" للدكتور محمد علي البار: ص 1، 5، 21، وبحث (انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر) للدكتور محمد أيمن صافي: ص 15، 16، وبحث (الاستفادة من الأجنة المجهضة) للدكتور مأمون الحاج: ص 5.(6/1434)
الموازنة بين مفاسد تلك التصرفات ومصالحها:
تقتضي عملية الموازنة بين مفاسد تصرف ما ومصالحه نصب ميزان له كفتان، يوضع في إحدى كفتيه ما يراد وزنه من مفاسد أو مصالح، ويوضع في الكفة الأخرى المعايير التي توزن بها تلك المفاسد والمصالح، ثم يقارن بين النتائج، ليعرف أيهما أعظم أثراً على الإنسان، ثم يحكم بعد ذلك على التصرف بالنظر إلى نتائج المقارنة، فلنبدأ بتحديد المعايير التي يوزن بها:
هنالك معياران يتخذهما أهل العلم والاجتهاد لمعرفة قيم المصالح والمفاسد: معيار نوعي هو الأهم، ومعيار كمي:
فأما الأول فهو تحديد نوع المقصد الشرير الذي تتعلق به المفسدة أو المصلحة، هل هو ضروري أم حاجي أم تحسيني.
وأما الثاني فهو تحديد كمية المتضررين من الناس من جراء وقوع المفسدة أو ترك المصلحة، وكمية المنتفعين من جراء دفع الأولى وتحقيق الأخرى. وذلك بالنظر إلى عدد الناس المتضررين والمنتفعين إن كان محصوراً أو غير محصور.
المعيار الأول:
يرى علماء الشريعة أن أحكامها ترجع إلى تحقيق مقاصد الشارع في الخلق وحمايتها. وأن هذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية. ويقول الشاطبي في تحديد مفاهيم هذه الأقسام:
(الضرورية معناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين ... ومجموع الضروريات خمسة وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل ... وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة ... كإصابة الصيد والتمتع بالطيبات مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً وما أشبه ذلك ... وأما التحسينيات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق) (1)
__________
(1) الموافقات: 2/8، 11، وانظر أيضاً مصادر التشريع الإسلامي ومناهج الاستنباط للدكتور محمد أديب صالح ص 466، 470.(6/1435)
وبالنظر في الأساس الذي بنى عليه العلماء ذلك التقسيم يتبين أنه مقدار الحرج الذي يقع على الإنسان بسبب فقد المصلحة أو وقوع المفسدة؟ فما فوت الحياة أو أفسد نظامها كان متعلقاً برتبة الضروريات، وما أدى إلى حرج أقل من ذلك أو مشقة لاحقة كان متعلقاً برتبة الحاجيات، وما لم يترتب عليه حرج، وإنماا فوت على الملكف وضعاً أحسن كان متعلقاً برتبة التحسينيات.
المعيار الثاني:
يقوم هذا المعيار على أساس النظر إلى عدد الناس المتضررين من ترك المصلحة أو وقوع المفسدة، وقد قرر العلماء أن ما كان من المصالح والمفاسد أعم وأشمل كان أولى بالاعتبار طلباً أو دفعاً (1) كما قرروا أن الحاجة إذا عمت صارت في منزلة الضرورة (2)
وبعد تحديد المعايير التي توزن بها المصالح والمفاسد، نشرع في وزنها في ضوء ما سبق:
وزن المفاسد:
أعظم مفسدة تذكر لاستخدام الأجنة في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية هي مفسدة إتلاف الجنين. فما قيمتها إذا وضعناها في الميزان في ضوء المعيارين السابقين؟
وفي الجواب عن هذا السؤال لا بد أن نشير أولاً إلى ما دل عليه الشرع واتفق عليه علماء الشريعة حسبما أسلفنا من أن إتلاف الجنين قبل نفخ الروح فيه لا ينطوي على إزهاق روح، ولا على إفساد جزء من جسد تستخدمه روح آدمية، لأن الجنين في هذه المرحلة لا روح فيه، ولا يعتبر آدمياً؛ فهذا العمل إذن ليس قتلاً لآدمي، ولا إيذاء لآدمي في ذاته، ومن هذه الجهة لا يعتبر تفويتاً لحياة إنسانية، ولا يترتب عليه حرج غير محتمل، ولا يجعل حياة الأم والأب فاسدة أو مختلة؛ نظراً لأن هذا الأمر يكون برضاهما، ولا يسمح به إلا بهذا الشرط كما سيأتي، وإذنهما هنا من أهم الأمور في تحديد قيمة هذه المفسدة؟ لأن الحاجة إلى الولد نسبية، وتختلف قيمتها باختلاف الناس، وباختلاف شوقهم ورغبتهم في تحقيقها، ويتدخل في تحديدها ظروف الزوجين كليهما، وقد لا تكون لهما حاجة في الولد، لكثرة أولادهما أو لأسباب أخرى، وإنما يعبر عن تلك الحاجة الرغبة المشتركة بين الطرفين، فإن أذنا بإسقاط الجنين من أجل تحقيق مصلحة صحية لشخص آخر أو للناس عامة دل ذلك على أن حاجتهما إلى الولد ضعيفة أو منعدمة. وأما إجبارهما على ذلك فقد يكون فيه تفويت لضرورة من الضرورات؟ فليست هذه الصورة مما نتكلم عنه.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 87.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 88.(6/1436)
ومما تقدم يتبين أن إتلاف الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح إذا كان بإذن أبويه ليس فيه تفويت لمصلحة ضرورية ولا حاجة تخص الجنين أو والديه.
وأما مفسدة كشف عورة المرأة المتبرعة، فتحديد مرتبتها أيسر من سابقتها؟ وذلك أن كلمة العلماء متفقة على أن ستر العورة يقع في رتبة التحسينيات، ومفسدة كشفها أقل في رتبتها من مفاسد كثير من الأمراض العادية، فضلاً عن الأمراض المستعصية؟ حتى أذن الشارع بتحملها للعلاج، ولأعذار أخرى (1)
وأما مفسدة المساس بكرامة الآدمي فأغلب الظن أنها مفسدة مبالغ فيها إذأ صيغت على النحو السابق؛ لأن الجنين في هذه المرحلة ليس آدمياً ولا جزءاً من آدمي، كما بينا في المطلب الأول من هذا المبحث. وأصل كرامة الآدمي ما نفخ فيه من روح، هي الذات الحية العاقلة التي تمنحه جميع خصائصه المتميزة، مما جعل مكانته في قمة مراتب المخلوقات.
ومن جهة أخرى فإن معنى المساس بالكرامة الآدمية يتوقف وجوده على القصد من الأفعال التي فعل بالآدمي؛ حتى إن الفعل الواحد قد يوصف بأنه مهين للإنسان ومسيء إلى كرامته، وقد لا يوصف بذلك، تبعاً لقصد فاعله وغايته من فعله، فإن كان قصده التمثيل والتشنيع والإهانة كان عملاً مسيئاً للكرامة الآدمية، وإن تجرد قصده عن ذلك، واتجه إلى تحقيق مصالح معتبرة لبني آدم لم يكن في ذلك اساءة للكرامة الإنسانية؟ ألا يرى أن الاجتهاد المعاصر قد استقر على جواز التبرع ببعض أعضاء الآدمي، وأجاز إجراء التجارب والبحث على الدم والمني وتشريح الجثث الآدمية لأغراض علمية وغيرها، ولم يقف معنى الكرامة حائلا دون ذلك الاتجاه.
وأما مفسدة فتح الباب أمام الاستغلال وإساءة التصرف في أجزاء الأجنة، فهذا أمر لا ينشاً عن ذات التصرف محل البحث، وإنما عن الانحراف في ممارسته، وكل مباح يمكن أن يساء استعماله، فلا يكون ذلك سبباً في التحريم، وإنما يكون حافزاً على أخذ الاحتياطات العملية عند التنفيذ، فإن أحداً لا يستطيع أن يزعم بأن الأعمال الطبية، وهي أعمال موضوعها الجسد الإنساني، كلها محرمة، مع أنها في معظمها يمكن أن يساء استعمالها، فالنساء يلدن في المستشفيات والاحتمال قائم في اختلاط المواليد، والمرأة تمرض وتحتاج إلى العلمية الجراحية، والاحتمال قائم في استغلالها وأخذ بيضاتها وهي تحت التخدير لا تدري شيئاً، والحيوانات المنوية تؤخذ من الرجال لإجراء الفحص عليها في كثير من الحالات المرضية مع قيام الاحتمال باستعمالها في أغراض محرمة، ولا يكاد عمل من أعمال الأطباء الذي يكون محله الآدمي إلا ويدخله احتمال الاستغلال وإساءة التصرف، ولا أحد يقول بتحريم العلاج وإجراء العمليات الجراحية ونحو ذلك. والمخرج في ذلك كله هو تقييد المباحات التي تحتمل الاستغلال، والاحتياط لها في الواقع بالقيود التنفيذية، والمراقبة الفعالة، ومنع التعرف في ممارستها بالتشريعات الدقيقة الجامعة المانعة، وإلا فإن هذا يدخل كل باب ويؤول إلى التضييق على العباد.
__________
(1) انظر: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 1/ 115، والموافقات للشاطبي: 2/ 11.(6/1437)
ولو أن إجراء عمليات أخذ الأعضاء وزرعها، والاختبارات التي يكون محلها الجنين وأجزاء الإنسان، لو أن ذلك ضبط من حيث المراكز التي تقوم به، ومنع من ممارسته في غير هذه المراكز، وخصص لها من أجهزة الرقابة المكونة من أهل الشرع وأهل الاختصاص، وكان ذلك على مستوى مقبول من الجدية والشمول، لما وقعت تلك المفاسد الناشئة عن الاستغلال واساءة الاستعمال. كذلك يغلب على ظني أن تحريم مثل تلك التصرفات لن يحول دون تلك الممارسات الخاطئة.
وخلاصة الرأي في قيمة ما ذكر من مفاسد التصرفات محل البحث أن شيئاً منها لا يعدو مرتبة التحسينيات، وأن بعضها موهوم أو مبالغ فيه.
تلك هي قيمة المفاسد بحسب المعيار الأول، وأما بحسب المعيار الثاني، فإن الضرر في المفسدة الأولى وهي إتلاف الجنين وتفويت فرصة تكون الولد إنما يقع على الأبوين، والمفروض أنهما أذنا بذلك. والمفسدة الثانية تختص بالأم، وكذلك الثالثة. وأما المفسدة الرابعة في شقها الأول، وهي ما قيل من الإساءة إلى كرامة الآدمي بالتصرف في مادة جسده بالقطع والتشريح، فقد تقدم أنها مفسدة موهومة، ولا مجال لوصفها بالعموم أو بالخصوص. وكذلك هي في الشق الثاني منها، لما تقدم أنها لا تنشاً عن التصرف ذاته، وأنه يمكن الاحتياط لها وسد بابها أو التخفيف منها.
وزن المصالح:
المصالح التي ذكرها الأطباء لاستخدام الأجنة في زراعة الأعضاء في التجارب العلمية، والتي سبقت الإشارة إليها، يقع بعضها في رتبة الضرورات، وبعضها في رتبة الحاجيات، وبعضها في رتبة التحسينيات، وبعضها أقل من ذلك، ويقع في مرتبة الزينة أو مرتبة الفضول (1)
ومثال الأولى ما يذكرونه من علاج بعض الأمراض المستعصية الخطيرة، كبعض الأمر اض العصبية العويصة، مثل مرض الشلل الرعاشي (الباركنسونزم) ، ومرض الخرف المبكر (الزهايمر) ، ومرض رقص هنتنجتون (2) ؛ فإن هذه الأمراض تسبب لأصحابها حرجاً عظيما، وتفسد عليهم حياتهم، وإن لم تفوتها بالكلية. وبالرغم من عدم إطلاعنا على التفصيلات الكافية لإبراز خطورة بعض الأمراض الأخرى التي يمكن معالجتها بأجزاء الأجنة المجهضة، كبعض الأمراض التي تصيب جهاز المناعة في الصغار، وبعض أنواع مرض السكري، وبعض أنواع الحروق، وغيرها، فإنا لا نستبعد أن تصل في خطورتها إلى مرتبة الضروريات، ولا نظن أنها تتدانى عن مرتبة الحاجيات.
__________
(1) يقصد بمرتبة الزينة مرتبة التوسع في المشتهيات المباحة، كاشتهاء الأطعمة اللذيذة ولبس الأثواب الفاخرة، ويقصد بمرتبة الفضول التوسع بأكل الحرام أو اتخاذ ما فيه شبهة ذكر هاتين المرتبتين الزركشي في "المنثور في القواعد": 2/319، 320.
(2) انظر بحث: "إجراء التجارب على الأجنة المجهضة " - محمد علي البار: ص 5.(6/1438)
وكذلك فإنا نظن أن ما يذكره الأطباء من أنواع المعارف التي يحصلون عليها من إجراء التجارب على الأجنة، وتكون سبباً في الوقاية من بعض الأمراض والعيوب. التي تنغص على الإنسان حياته، تلك المعارف لا تقل عن مرتبة الحاجيات وقد تنزل منزلة الضروريات بسبب اتصافها بصفة الشمول، وعموم نفعها على جنس الإنسان. ومثال ذلك ما يذكرونه من تحصيل المعارف المؤدية إلى الوقاية من الإجهاض التلقائي وبعض أنواع العقم عند الرجال، وبعض المعارف التي توصل إلى طرق لتعجيل اكتشاف الأمراض الوراثية والتشوهات الخلقية الخطيرة، فتمكن الأطباء من معرفة وجودها في الجنين قبل نفخ الروح فيه، فإن تلك الآفات شديدة الخطورة، وتتسبب في موت المولود بعد الولادة بأيام أو أشهر، وإن عاش معها أكثر من ذلك عاش حياة متخلفة سقيمة، وتشخيص حالاتها في الوقت الراهن لا يمكن أن يتم إلا بعد الأسبوع السادس عشر، كما يقول أهل الاختصاص (1) أي بعد نفخ الروح أو قبله بقليل، والراجح جواز إسقاط الأجنة المصابة بها إذا عرفت قبل نفخ الروح، ويمتنع المفتون - بحق - عن الإفتاء بجواز إسقاطها بعد نفخ الروح؛ فإن الآفات المذكورة تفوت على قطاع كبير غير محصور من البشر حاجات كبيرة، وتسبب لهم حرجاً شديداً، وإنقاذهم منها تلبية لتلك الحاجات ودفع لذلك الحرج.
وكذلك يمكن أن يقال فيما ذكره الأطباء من تحصيل بعض العقاقير واللقاحات والمضادات المفيدة في العلاج والوقاية من أمراض تنتشر بين الناس، ولا ترجى الوقاية منها بغير ذلك.
نعم يذكر بعض الأطباء أن الأجنة المجهضة قد تستعمل لتحصيل منافع تقل في قيمتها عما تقدم، وربما كانت من التحسينيات، أو أقل منها، وربما كانت من باب التوسع في تلبية شهوة البحث العلمي
، ولا تؤدي إلى منافع عملية، وربما كانت من قبيل التوسع في طلب مشتهيات الإنسان، كاستخراج يعض مستحضرات التجميل من الأجنة (2) فهذه لا شك في أنها منافع هابطة القيمة، ومصالح ملغاة، ولا تستحق أن توضع في كفة الميزان في مقابلة ما ذكرنا من مفاسد اجهاض الأجنة التي لم ينفخ فيها الروح.
__________
(1) انظر مقالاً للدكتور نجم عبد الله عبد الواحد في مجلة المجتمع عدد 935 الصادر في 3 أكتوبر 989ام تحت عنوان: "إجهاض الأجنة المريضة وراثياً أو المشوهة خلقياً": ص 50 - 53.
(2) انظر بحث: " انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر" للدكتور محمد أيمن صافي: ص 21.(6/1439)
تلك هي قيمة المصالح المذكورة بحسب المعيار الأول. وأما بحسب معيار العموم وعدمه، فإن طائفة منها مصالح خاصة - بلا شك - ولكنها كما ذكرنا قد تكون في مرتبة الضرورات أو الحاجيات، وكثير منها مصالح عامة يستفيد منها أناس غير محصورين، وبعض منها تافه من حيث نفعه للإنسان، وإن اصطبغ بصبغة الشمول.
نتيجة الموازنة:
بالنظر في مؤشر الميزان الذي نصبناه لوزن المفاسد والمصالح التي تذكر لاستخدام الأجنة المجهضة في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية، ومقارنة ما أشار إليه في كل منهما، يتبين أن مصالح هذا التصرف تتفوق على مفاسده من حيث الجملة. وأما من حيث التفصيل فينبغي أن ينظر إلى كل حالة بخصوصها، وإلى قيمة المصالح التي هي مظنة لتحقيقها، ومقارنتها بما سبق ذكره من المفاسد؟ لما تقدم ذكره من تفاوت مصالح ذلك التصرف بحسب الحالات والأهداف، واقتصار بعض حالات استخدام الأجنة على مصالح تحسينية، أو منافع قليلة الأهمية لا تخدم أي مقصد شرعي. فإن كانت الحالة واقعة في هذا التصوير الأخير كانت مفاسدها أعظم من المنافع التي تحققها، وكانت مستثناة من تلك القراءة الإجمالية لمؤشر الميزان.
ولذلك نرى أن الحكم الشرعي لذلك التصرف ينبغي أن يأخذ ذلك المنحى، فيقال بجواز استخدام الأجنة التي لم تستقبل الروح بعد في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية، وجواز إسقاطها لهذا الغرض من حيث الجملة، مع ضرورة النظر إلى كل حالة على حدة ليستبعد من هذا الجواز الحالات التي تقتصر على مصالح تحسينية أو أقل منها. ومع هذا ينبغي أن يتفطن إلى أمر آخر عندما يراد معرفة حكم شرعي عملي مبناه على أساس شرعي نظري، وهو وجود بعض الأمور والاعتبارات الواقعية التي تفرض نفسها على الباحث عن ذلك الحكم العملي، وتوجب عليه مراعاتها؟ وذلك من باب طلب الدقة والاحتياط. ومن ذلك:
ا - الأساس النظري الذي بنينا عليه تحديد المفاسد وقيمتها هو ما توصلنا اليه من حقيقة الجنين قبل نفخ الروح، وأنه ليس آدمياً، وأنه مخلوق فيه نوع في الحياة تختلف عن الحياة التي تفيضها الروح على الجسد بعد اتصالها به، فتجعله إنسانا. وأن هذا الاتصال بين جسد الجنين والروح الإنسانية إنما يحدثه الله تعالى بعد تمام مائة وعشرين يوماً من تكون الجنين. فاقتضى ذلك من الناحية النظرية أن يكون محل ما ذكرناه من الحكم الإجمالي هو الجنين الحي بذلك النوع من الحياة، الذي لم يبلغ من عمره ذلك الزمن. وهذا يقتضي أن يعرف بيقين أن الجنين لم يبلغ بعد مائة وعشرين يوماً.(6/1440)
ولكن جميع الطرق المعروفة اليوم لتحديد عمر الجنين ما زالت تقريبية، سواء ما اعتمد منها على إخبار الحامل ببدء حملها وحصول إلقاحها، أو بتاريخ آخر حيض رأته، وما اعتمد منها على القياسات الطبية، فإن ذلك كله يدخله احتمال الخطأ (1) ؛ لذلك وجب أن تجعل فترة احتياطية قبل تمام المائة والعشرين يوماً تكون حريماً للروح، وسياجاً زمنياً لها، بحيث تعطى الجنين فيها حكم الجنين الذي قطع بنفخ الروح وأما تحديد هذه المدة باليوم أو بالأسبوع ونحو ذلك، فإني غير مؤهل له بلا شك، ولكن يمكن تقييدها بقيدين اثنين، وعلى ضوئهما يمكن لأهل الاختصاص تحديدها:
القيد الأول: أن يستبعد من وسائل تقدير عمر الجنين تلك الطرق التي تعتمد على إخبار المرأة، لما قد يرد عليه من احتمالات الخطأ والتضليل، وإنما ينبغي أن تعتمد على أدق الوسائل العلمية في تحديد ذلك، ولا بأس بأن يستأنس بإخبار المرأة دون الاعتماد عليه.
القيد الثاني: أن لا يكون خلاف بين أهل الاختصاص في عدم إمكان وقوع خطأ في تقدير عمر الجنين يساوي الفترة الاحتياطية المقترحة أو يزيد عليها؛ فلو ذهب معظم أهل الاختصاص من الأطباء إلى أن الخطأ في تقدير عمر الجنين في الأشهر الأربعة الأولى قد يصل إلى عشرين يوماً ولا يتجاوزها، ورأى بعضهم أن الخطأ قد يتجاوز ذلك، وجب أن لا يؤخذ بها لتحديد فترة حريم الروح، ولكن يجب أن يؤخذ بالحد الأعلى الذي لا خلاف حوله.
وقد يقال: إن الأحكام العملية تبنى على غلبة الظن كما قرر علماء الأصول (2) والوسائل العلمية الدقيقة مع المعلومات التي تعطيها الأم عن بدء الحمل تكفي لتوليد غلبة ظن قوي بصحة عمر الجنين، وينبغي أن تبنى عليها الأحكام، وأن لا ينظر إلى الحالات الشاذة التي قد يحدث فيها الخطأ.
والجواب أن مجال الأرواح البشرية من المجالات التي تراعى فيها الشبهات، ويكون لها أثر في تغيير الأحكام لصالح الإبقاء على تلك الأرواح، والخطأ في تقدير عمر الجنين في هذا المقام قد يؤدي إلى إزهاق روح نفخت في ذلك الجنين الذي وقع الخطأ في تقدير عمره. ووجود احتمال هذا الخطأ مهما كان ضعيفاً يعتبر شبهة محرمة. ومن المعلوم أن مبدأ اعتبار الشبهات في الأحكام مبدأ مسلم به في باب العقوبات الشرعية المقدرة، حيث تقوم فيها غلبة الظن على وقوع موجباتها، فيهدرهذا الظن القوي ويعتبر فيها الاحتمال الضعيف، ويدرأ العقاب الشديد عن المجرم. فإذا كان كذلك فإن الأخذ بهذا المبدأ والاحتياط لروح الجنين أولى؟ لأن الجنين هنا على فرض وقوع الخطأ في تقدير عمره، وسبق نفخ الروح فيه، إنسان معصوم، ولم يرتكب شيئاً يستوجب العقاب، فالاحتياط له أولى، فلا ينبغي أن يقال بجواز إسقاط الجنين لأي عذر أو مصلحة إلا إذ احصل اليقين بأن الروح لم تتصل بجسده بعد، وأنه لم يبلغ مائة وعشرين يوماً، وحيثما قال الأطباء: إن هنالك احتمالاً – مهما كان ضعيفاً – ببلوغ الجنين ذلك العمر، فيجب استثناؤه من حكم الجواز.
__________
(1) انظر كتاب "خلق الإنسان بين الطب والقرآن " – محمد علي البار: ص 411 وما بعدها، وانظر أيضاً في كيفية تقدير عمر الجنين كتاب (تطور الجنين وصحة الحامل " – محي الدين العلبي: ص 223 وما بعدها.
(2) انظر كتاب: 5 المنخول من تعليقات الأصول لأبي حامد الغزالي: ص 327.(6/1441)
هذا وقد انتبه أحد فقهاء الشافعية لهذا المعنى، وهو بصدد الكلام عن حكم الإجهاض، ورأى أن الأصل وإن كان إباحة الإجهاض قبل نفخ الروح، فإنه ينبغي أن يحرم في الأيام الأربعين السابقة لنفخ الروح، واقتصر في الاستدلال لذلك بأن هذه الفترة ينبغي أن تعتبر حريماً للروح (1)
فإذا اتفق أهل الاختصاص على تحديد المدة الاحتياطية أضيفت هذه المدة إلى عمر الجنين الذي تدل عليه الوسائل العلمية، فإذا بلغ الناتج مائة وعشرين يوماً عومل هذا الجنين معاملة الآدمي الحي، وحرم إسقاطه واستخدامه في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية.
وأما إذا لم تتفق الأوساط الطبية على تحديد مدة الاحتياط، فإنا نميل إلى ما ذهب إليه ذلك الفقيه الشافعي من اعتبار مرحلة المضغة كلها حريماً للروح، ومعاملة الجنين فيها كما لو بلغ مائة وعشرين يوماً بالفعل، وتحريم مساسه بأي أذى ومهما كان في هذا التحديد من المبالغة، فإنه خير من وقوع خطاً واحد تذهب فيه روح آدمي؟ فإنه من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا. والخطأ في تفويت المصالح التي يتوقع تحقيقها من استخدام الأجنة في الزراعة والتجارب أهون في ميزان الله تعالى من الخطأ في ازهاق روح الآدمي.
2 - ومن الأمور الواقعية التي تستحق أن يأخذها الباحث بعين الاعتبار، وهو يبحث عن الحكم الشرعي لاستخدام الجنين في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية، المرحلة التطورية التي يكون الجنين قد وصل إليها بحسب إفادة الأطباء، بحيث تكون المصالح التي توضع في مقابلة إسقاط الجنين متناسبة مع المرحلة التي وصل إليها في تطوره الجسدي، وقربه أو بعده من لحظة كمال التخلق حيث تتصل به الروح مباشرة بحسب سنة الله عزوجل، فينبغي أن تكون المصالح التي تبيح إسقاط الجنين في مراحله القريبة من لحظة نفخ الروح قبل الدخول في مدة حريمها في مرتبة أعلى من تلك التي تبيح إسقاطه في المراحل البعيدة عن تلك اللحظة.
__________
(1) صاحب هذا الرأي هو الرملي ذكره في نهاية المحتاج: 8/416.(6/1442)
وتأصيل ذلك أن الجنين قبل نفخ الروح فيه مخلوق حي في طور الإعداد لاستقبال الروح الإنسانية، والشأن في كل شيء يعد لغيره أن تتعاظم قيمته مع اقترابه من نقطة الكمال الإعدادي، كالبيت يعد لساكنه، يكون إعداده على مراحل، وكلما اقترب من لحظة التهيئة التامة كلما غلت قيمته، وكلما ابتعد عنها تناقصت؟ فالجنين في مرحلة المضغة يكون أعلى قدراً وأعظم قيمة منه في مرحلة العلقة، وهو في هذه المرحلة أعلى قدراً من مرحلة النطفة. وكل مرحلة من هذه المراحل تشتمل على درجات بحسب تقدم الجنين فيها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المصالح، وإن صنفها العلماء المسلمون إلى ثلاث رتب هي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، فإن كل رتبة منها تتفاوت مصالحها في القدر؟ فليس كل الضروريات سواء وليس كل الحاجيات سواء، وكذلك التحسينيات.
ولهذا فإن الدقة في التشريع لهذا الأمر تقتفي أن تقام مصالح استخدام الأجنة في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية على المراحل التطورية للجنين قبل أن تنفخ فيه الروح، ويمكن بقيام تعاون جدي بين علماء الشرع وعلماء الطب المسلمين، ودراسة متعمقة من الناحيتين العملية والنظرية، تصنيف تلك المصالح بصورة تفصيلية ودقيقة إلى فئات وزمر، على أساس ما يدفع بها من حرج عن الناس، وتصنيف مراحل الجنين على أساس ما يطرأ عليه من تغيرات هامة، ثم تقسيم فئات المصالح وزمرها على مراحل الجنين قبل نفخ الروح، بحيث لا يصح إسقاطه في مرحلة من تلك المراحل إلا بالزمرة المخصصة له من المصالح أو بالزمرة الأعلى.(6/1443)
والذي نستطيع قوله في غيبة ذلك التصنيف المأمول إن الجنين في مرحلة المضغة، إذا استثنينا منها المدة الاحتياطية (1) (حريم الروح) ينبغي أن يراعى لجواز استخدامه في زراعة الأعضاء وإجراء التجارب العلمية أن تكون المصالح المراد تحقيقها في مرتبة الضروريات، كإنقاذ مريض من مرض مهلك أو مرض متلف لأحد الأعضاء الهامة، أو مرض مزمن يجعل حياة المريض صعبة محرجة، ولا علاج لهذه الأمراض سوى أخذ بعض أجزاء الأجنة الحية.
وذلك لما يذكر الأطباء أن الجنين إذ ابلغ أول هذه المرحلة اكتمل تكوينه الجسدي، بما في ذلك دماغه، وأن ما يجري عليه بعد ذلك من التطور إنما هو من قبيل نضج الأعضاء المتكونة، ولا تحدث له إضافات جسدية جوهرية (2)
وأما في مرحلة العلقة، وهي المرحلة المتوسطة من عمر الجنين قبل نفخ الروح، ومدتها أربعون يوماً، فيمكن أن يشترط لجواز استخدام الجنين فيها لزراعة الأعضاء والتجارب العلمية، أن تكون المصالح المراد تحقيقها لا تقل عن مرتبة الحاجيات التي تنزل منزلة الضروريات؟ وذلك لأن هذه المرحلة، وإن لم يتم فيها تكون أعضاء الجنين، فإنها تتسم من أولها إلى آخرها بالنشاط التخلقي في جسد الجنين وبناء الأعضاء شيئاً فشيئاً (3)
وأما مرحلة النطفة، وبخاصة قبل علوق الجنين بجدار الرحم فيمكن الاكتفاء فيها بالحاجيات لإباحة الانتفاع به.
وأما المصالح التحسينئة، وما يقترب منها من أدق درجات المصالح الحاجية، فلا نظن أنها تصلح مسوغاً لاستخدام الأجنة المجهضة.
3 - وهنالك اعتبارات أخرى تقتضي تسييج ما ذكرنا من جواز الاستفادة من الأجنة المجهضة بشروط موضوعية وقيود تنفيذية، سنرجىء ذكرها إلى المطلب التالي؛ لأن كثيراً منها يشترك فيه حكم هذه الصورة وأحكام الصور الأخرى التي لها في الفرعين الثاني والثالث من هذا المطلب.
__________
(1) مدة مرحلة المضغة أربعون يوماً تسبق نفخ الروح. فإذا فرضت المدة الاحتياطية عشرين يوماً كان محل الحكم المذكور في المتن الفترة الباقية من الأربعين "20 يوماً"، والتى تقع قبل المدة الاحتياطية.
(2) "خلق الإنسان بين الطب والقرآن": ص 352، 0353"تطور الجنين وصحة الحامل ": ص 132.
(3) "تطور الجنين": ص 130، 132.(6/1444)
الفرع الثاني
حكم الانتفاع بالجنين الحي الذي هو خارج رحم أمه
ولا يمنع مانع من غرسه فيه
صورة هذه الحالة أن يحدث تكوين الجنين خارج رحم الأم بتلقيح بيضتها في أنابيب الاختبار، ولا يوجد مانع واقعي أو شرعي يحول دون غرسه في رحم أمه، ليواصل تطوره.
والأصل في إتلاف هذه اللقيحة أو تركها حتى تفسد هو التحريم، ما دام الأمر كما افترضنا من عدم وجود المانع الذي يمنع من غرسها في الرحم، ولكن يمكن أن يرخص بإتلافها في سبيل تحصيل مصالح معتبرة؛ وذلك أن مفاسد إتلاف هذا الجنين تقل كثيراً عما ذكرنا من مفاسد تترتب على إسقاط الجنين في الصورة السابقة؛ فهو من جهة في أدق مراحله الإعدادية؛ لأنه في أبعد مدى عن زمن نفخ الروح. كما أن إتلافه لا يستلزم كشف العورات، ولا يتسبب بمعاناة جسدية للمرأة التي أخذت منها البيضة؛ وذلك على فرض أن عملية التلقيح الصناعي لم تجر خصيصاً لهذا الغرض، وإنما لغرض غرس اللقيحة في رحم المرأة صاحبة البيضة، ثم بدا لذوي اللقيحة أن يتبرعا بها لغرض الزراعة أو التجارب.
وفي الوقت ذاته، فإن أهل الاختصاص يذكرون أن طائفة من المصالح التي ذكرت في الصورة السابقة يمكن تحصيلها أيضاً باستخدام مثل هذا الجنين (1)
لذلك، فإن حكم التصرف فيها لهذا الغرض هو الجواز كما في الصورة السابقة، ما دامت المصالح التي يراد تحصيلها لا تقل عن مرتبة الحاجيات، ولا تتدانى إلى مرتبة التحسينيات أو مرتبة التزين والفضول. وذلك مع مراعاة القيود والشروط التي سنذكرها في المطلب التالي.
__________
(1) انظر: بحث (البويضات الملقحة الزائدة عن الحاجة) للدكتور مأمون الحاج، منشور في الثبت الكامل لندوة "الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية": ص 452 - 455.(6/1445)
الفرع الثالث
حكم الانتفاع بالجنن الذي لم تنفخ فيه الروح
إذا كان ميتاً حقيقة أو حكما
سبق أن الجنين قبل نفخ الروح فيه لا يوصف بأنه آدمي، ولكنه يكون حياً إذا وجدت فيه قوة النمو والتطور، ويكون ميتاً إذا فقد تلك القوة، وقد سبق الكلام عن حكم استخدام الجنين الحي، وفي هذا الفرع نتبين حكم استخدام الجنين الميت:
وما دام الجنين في هذه الصورة لم يسبق اتصال الروح به، فإن المقصود بموته صيرورة خلايا جسده عاجزة عن النمو والاغتذاء والانقسام. ومثل هذا لا يمكن أن يستفاد منه في زراعة الأعضاء، وأغلب الظن أنه غير مجد في الأبحاث أيضاً؛ لأن زراعة الأعضاء والأجزاء يستلزم أن تكون أنسجة الجنين حية، كما يرى أهل الاختصاص (1)
وعلى أية حال فإنه إذا احتيج إلى مثل هذا الجنين في بعض الأبحاث، فإنه لا يوجد شرعاً ما يمنع من الاستفادة منه، ولا يشترط لذلك إلا أن يرجى النفع من البحث في خلاياه، وأن لا يكون عبثاً.
وهنالك صورة أخرى تلحق بالصورة المذكورة، ولكن مجال الانتفاع بالجنين فيها أوسع، وبخاصة في التجارب العلمية، وهي أن تكون خلايا الجنين حية، ولو غرس في الرحم لنما وتطور، ولكن يوجد مانع واقعي أو ضرر يمنع من غرسه في رحم امرأة، كما في اللقائح التي تزيد عن الحاجة في مشاريع أطفال الأنابيب، ولا يمكن غرسها في رحم صاحبة البيضة لسبب من الأسباب. وكذلك الجنين الذي سقط من رحم أمه والطب عاجز عن إعادته إليه بالرغم من بقاء الحياة في خلايا جسده. فقد تقدم في مطلب سابق أن التصرف بمثل هذا الجنين بما يؤدي إلى فساد خلاياه لا يعد إتلافاً له، لأنه غير صالح لتحقيق المقصود من خلقه، وهو الوصول إلى الوضع الذي تحل الروح فيه، ومصيره المحتوم هو التوقف عن النمو قبل نفخ الروح.
واستخدام الجنين في هذه الصورة لزراعة الخلايا والأنسجة وفي التجارب العلمية حكمه كحكم استخدام الجنين في الصورة السابقة، لأنه يعتبر ميتاً حكما، وإن كانت خلايا جسده حية في الحقيقة.
__________
(1) بحث "استخدام الأجنة المجهضة" - محمد علي البار: ص 9.(6/1446)
المطلب الرابع
شروط وقيود الانتفاع بالأجنة التي لم تنفخ الروح فيها
في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية
لما كانت الأحكام التي توصلنا إليها مبناها في الجملة على الموازنة بين المصالح والمفاسد، ولما كان الأصل الذي رجحناه في حكم إجهاض الجنين قبل نفخ الروح، والإضرار به بأي أسلوب من غير مصلحة راجحة، هو التحريم، فإنا نرى أن القول بتلك الأحكام لا بد من أن يكون مشروطاً ببعض الشروط، ومقيداً ببعض القيود التي يفرضها التطبيق السليم لقاعدة الترجيح بين المفاسد والمصالح، وتفرضها أيضاً بعض المبادىء والقواعد الشرعية، وفيما يأتي نفصل هذا الإجمال:
1 - يشترط أولاً أن يغلب على الظن تحقيق مصالح معتبرة للآدمي الذي ينقل إليه جزء الجنين، أو للمجتمع من إجراء التجارب على الجنين، وأن يكون فوات هذه المصالح أخطر من مفسدة إتلاف الجنين بحسب المعايير التي تقدم ذكرها ولا يتحقق هذا بمجرد الشك، ولا بد من قناعة أهل الاختصاص به.
ويستثنى من هذا الشرط الصورة التي يكون فيها الجنين ميتاً حقيقة بتلف خلاياه أو حكما بأن تكون خلاياه حية ويمنع من نموه وتطوره مانع واقعي أو شرير، كاللقائح الزائدة عن الحاجة في مشاريع أطفال الأنابيب. وإنما اختلفا عن الجنين الحي الذي يكون في وضع يمكنه معه التطور والنمو؟ لأن الأصل في الجنين الصالح تحريم إفساده، والإباحة فيه من باب الرخصة، وهي خلاف الأصل، ولا يصار إليها إلا عندما يغلب على الظن تحقيق مصلحة أعلى، وأما في الجنين الفاسد حكما أو حقيقة فالأصل هو الجواز؟ لأن الفعل ليس فيه إفساد ولا إتلاف، ويكفي أن يكون في استخدامه نفع معتبر.
2 - والشرط الثاني هو أن لا توجد طريقة أخرى لتحقيق المصالح المبتغاة تكون خالية من المفاسد، أو ذات ضرر أقل مما ذكرنا؛ فإذا أمكن العلاج بغير إتلاف الجنين الحي بقي العمل غير مشروع. وكذلك إذا كان من الممكن تحقيق النتائج العلمية المرجو تحقيقها باستخدام غير جنين الآدمي، كأجنة الحيوانات.
كذلك لا يجوز استخدام الأجنة الحية في مراحل عليا من تطورها إذا أمكن تحقيق المطلوب باستخدام أجنة في مراحل أدق؟ فلا يصح استخدام جنين في مرحلة المضغة إذا أمكن واقعياً وعلمياً تحقيق المقصود باستخدام جنين في مرحلة العلقة أو النطفة، ولا استخدام جنين في مرحلة العلقة إذا أمكن استخدام جنين في مرحلة النطفة، ولا استخدام جنين في مرحلة النطفة تعلق بجدار الرحم إذا أمكن استخدام جنين لم يتعلق بعد بذلك الجدار، ولا استخدام جنين في الرحم إذا أمكن استخدام لقيحة خارج الرحم، ولا استخدام لقيحة خارج الرحم يمكن غرسها في رحم الأم إذا أمكن تحصيل المصلحة المقصودة من استخدام لقائح حية لا يمكن غرسها لمانع شرعي أو واقعي.(6/1447)
وهكذا فإن إباحة استخدام الأجنة مشروطة بهذا التدرج. وأصل هذا الشرط ما اتفق عليه العلماء من أن قاعدة الأخذ بأعظم المصلحتين مشروطة بعدم إمكان تحقيقهما جميعاً (1) وما اتفقوا عليه أيضاً من أن الضرورات والحاجات تقدر بقدرها إذا اقتضت مراعاتها ارتكاب فعل محرم في أصله (2)
3 - والشرط الثالث أن يكون استخدام الجنين بإذن أبويه ورضاهما كليهما.
وذلك لأن الجنين إذا كان في بطن أمه استلزم استخدامه الإضرار بها، وان كان ضرراً مؤقتاً يمكن استدراكه، فلا بد من إذنها، ولا بد من إذن والد الجنين أيضاً؟ لأن في ذلك تفويت فرصة تكون الولد له. ويستذكر هنا ما أشرنا إليه في المطلب السابق من أن حاجة الإنسان إلى الولد قد ترتفع إلى رتبة الضروريات إذا كان يرغب في تحقيقها، ولا يأذن بعفويتها، فإن أذن تدنت رتبتها.
وإذا كان الجنين حياً خارج الرحم، ولا مانع يمنع من غرسه فيه، فيشترط ذلك أيضاً لما ذكرنا من أهمية حاجة الإنسان إلى الولد إذا رغب فيه.
وإذا كان الجنين حياً خارج الرحم، ولا يمكن غرسه في رحم صاحبة البيضة، ويمكن في رحم غيرها؟ فلان هذا الإمكان يصلح لتكون خشية في نفس الأبوين من استغلال لقيحتهما وزراعتها في رحم امرأة أخرى، وتسرب نسلهما إلى غيرهما، فهذه مفسدة معتبرة، ولكنها دون ما ذكرنا من مفاسد الصورتين السابقتين.
غير أنه في هذه الحالة الأخيرة قد يتجاوز عن شرط الإذن إذا كان الأخذ من الجنين ضرورياً لتحقيق شفاء من مرض مستعص أو لإنقاذ آدمي من الهلاك؛ لأن الإذن في حالة الضرورة ليس بشرط إذا لم يكن المحظور المرتكب لدفعها، واقعاً في رتبة الضروريات أيضاً.
وكذلك لا يشترط الإذن إذا امتنع جميع الناس عن السماح بإجراء التجارب العلمية على لقائح لا فائدة منها لذويها؟ لأن تحقيق المصالح التي يذكرها الأطباء لهذه التجارب من باب فروض الكفاية بالنسبة للمجتمع، فيجب العمل لتحقيقها؛ فنلغى اعتبار الإذن فيما يقع من الحالات أولاً، فإن تحققت الكفاية به عاد الأمر إلى اعتبار الإذن لتحقيق المزيد من المعارف النافعة، وإلا بقي الحال على عدم اشتراطه حتى تتحقق الكفاية.
__________
(1) قواعد الأحكام: 1/98.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 86.(6/1448)
4 - والشرط الرابع يقتضيه الاحتياط للأنساب، وهو أن يكون الجزء الذي يؤخذ من الجنين لزراعته مما لا يؤدي نقله إلى تلك المفسدة العظيمة.
وبناءً على هذا الشرط يحرم أخذ خصية الجنين أو مبيضه لزراعته في شخص آخر؟ لما يقرره أهل الاختصاص من أن الحيوانات المنوية والبيضات تتكون من خلايا الخصية ذاتها، والمبيض ذاته، بحيث إذا نقلت الخصية فإن الحيوانات المنوية تتكون من خلايا تلك الخصية المنقولة، فتكون نسبتها إلى الجنين صاحب الخصية، وكذلك الحال في المبيض (1) والشرع قد حرم كل ما يؤدي إلى نسبة الولد إلى غير صاحب المنوي أو غير صاحبة البيضة، فيكون الأخذ في هذه الحالة محرماً.
وأغلب الظن أن غير هذين العضوين يجوز أخذه من الجنين لزراعته في شخص آخر.
حكم زراعة بعض خلايا الجهاز العصبي المأخوذة من الأجنة:
قد يثار - في هذا المقام - تساؤل حول جواز نقل الخلايا العصبية المأخوذة من الجنين لعلاج بعض الأمراض المستعصية.
ويغلب على ظني أن هذه الخلايا كبقية خلايا الجسد وأعضائه سوى ما استثنينا قبل قليل. ولا نظن أنه يرد هنا ما أورده بعض الباحثين من أن غرس خلايا عصبية في الجهاز العصبي أو في الدماغ قد يؤثر على شخصية المتلقي بحجة أن التفكير والعاطفة والإرادة وغيرها من المعاني مركزها في الدماغ، كما يقدر العلم التجريبي في الوقت الراهن (2)
__________
(1) انظر بحث: "غرس الأعضاء في جسم الإنسان " - محمد أيمن صافي ص 13، وبحث "انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر"، محمد علي البار ص 18، وله أيضاً بحث "زرع الغدد والأعضاء التناسلية " ص 7، وما بعدها. وانظر أيضاً بحث "إمكانية نقل الأعضاء التناسلية في المرأة " - طلعت أحمد القصبي ص 4، 5.
(2) انظر بحث: "انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر"، - محمد علي البار، ص 19، وقارن مع بحث الدكتور مختار المهدي "زراعة خلايا المخ "، ص 9.(6/1449)
وذلك أن علماء الإسلام قد قرروا - كما سبق بيانه - أن الذي يؤثر في الجسد الإنساني، وينتج عنه تصرفات الإنسان هو مخلوق عاقل نفخه الله في ذلك الجسد اسمه الروح، وأن كل نشاط اختيار يقوم به الإنسان من أثر من آثار الروح، وأن كل ما في العالم من الآثار الإنسانية إنما هو من تأثير الأرواح بواسطة الأبدان التي تعلقت بها؛ فالأبدان آلات للأرواج وجنود لها (1)
وأما العلماء الماديون، فإنهم لا يبحثون إلا في المحسوس، ولا يعترفون إلا بنتائج هذا البحث المادي؟ فإذا أرادوا تفسير أي نشاط يقوم به الإنسان تتبعوا ما يحدث لأجزاء الجسم المحسوسة عند ممارسة هذا النشاط، ولاحظوا مختلف التطورات والأفعال وردود الأفعال المحسوسة التي تقوم بها أعضاء الجسم المختلفة، فإذا انتهى بهم المطاف إلى آخر نشاط حيوي يقع تحت آلاتهم، نسبوا ذلك إلى العضو - الذي صدر عنه هذا النشاط الأخير - التصرف الذي قام به الإنسان.
وهكذا عندما اكتشفوا أن المخ هو العضو الأخير الذي ينفعل بأنواع من الانفعالات لكل تصرف يصدر عن الإنسان نسبوا إليه كل تصرف إنساني ماديا كان أو غير مادي.
والحقيقة أنهم قد يكونون على حق في تفسير جميع الخطوات المادية التي تتم داخل الجسد عند قيام الإنسان بتصرف ما، فهذا مجالهم وهم أدرى به.
ولكن الذي لا يقرون عليه أن ينسبوا النتائج النهائية إلى العضو المادي الذي كانت فيه خاتمة الانفعالات المادية قبل صدور ذلك التصرف، دون النظر في مدى التناسب بين ماهية ذلك العضو وخصائصه الخلقية وبين طبيعة الأنشطة التي نسبوها إليه؟ وذلك أن جميع التصرفات الإرداية الصادرة عن الإنسان فيها عنصر معنوي غير مادي هو الإرادة؛ والذي تدل عليه سنن الحياة ومعهودات الكون أن المادة لا يمكن أن تنتج المعاني، وإنما ينتج عن المادة مادة مثلها. ولا بد من أن يكون هناك مخلوق غير مادي عاقل مريد خلقه الله في جسد الإنسان، تصدر عنه جميع المعاني التي لا يمكن نسبتها إلى المادة.
__________
(1) كتاب الروح لابن القيم: ص 242، 285. شرح العقيدة الطحاوية: ص 381.(6/1450)
صحيح أن المخ وبقية أعضاء الجسد تختلف عن الأجهزة المادية الجامدة؟ بأنها تتكون من خلايا حية تنمو وتتطور وتموت، ولكن هذه الحياة غير عاقلة، وهي عينها حياة الجنين قبل نفخ الروح، وهي عينها حياة القلب النابض المقلوع من جسد الإنسان المحفوظ تحت ظروف معينة.
وبناء على هذا التصور في مبدأ نشوء التصرفات الإرادية عند الإنسان، فإن أغلب ظني أن نقل بعض الخلايا العصبية إلى الدماغ أو الجهاز العصبي لا ينقل معه أي مقوم من مقومات الشخصية، كالعقائد والعواطف والفكر والإرادة والشعور، وإنما يثمر تحسنا في عمل الدماغ المستفيد، كما يثمر نقل العين تحسناً في الإبصار، فيصبح الدماغ أفضل استجابة لأوامر الروح التي خص الله بها صاحب هذا الدماغ. والدماغ في هذا كبقية أعضاء الجسد (1) ؛ لأن علاقة الجميع بالروح واحدة من حيث النوعية، وهي علاقة الجندي المطيع بالقائد الآمر الناهي، وإن كانت علاقة الدماغ بالروح أعظم من حيث الأهمية؛ لأن سيطرة الروح على الجسد كله إنما هي بوساطته.
وبناء على ما تقدم فإني لا أرى مانعاً يمنع من نقل خلايا الجنين العصبية وغرسها في جهاز عصبي أو دماغ لإنسان محتاج ما دام ذلك ضمن الشروط السالفة الذكر.
5 - والشرط الخامس يقتضيه الاحتياط أيضاً لبعض المقاصد الشرعية؟ فإنه لما كان الجنين – وان لم تنفخ فيه الروح – أصلاً للآدمي، وكان التصرف فيه في الزراعة والتجارب قد تتخذ ذريعة لأعمال تتنافى مع مقاصد الشارع، ولا يكون الهدف من ذلك التصرف ما ذكره الأطباء من المصالح المعتبرة، كأن تستعمل أجزاء الجنين للتجارة، مما يتنافى مع كرامة الآدمي بامتهان أصله ومادته، وكأن تستعمل اللقائح الزائدة في مشاريع أطفال الأنابيب استعمالاً يؤدي إلى اختلاط الأنساب، كأن يزرع في رحم امرأة أجنبية، وقد تباع لأجل هذا الغرض. وكأن تستعمل تلك اللقائح في بحوث غير جادة ولا هادفة، ولا حاجة إليها. لما كانت هذه الاستعمالات وغيرها مما يتنافى مع مقاصد الشرع ممكنة الوقوع، فإن إباحة استخدام الأجنة في مجال زراعة الأعضاء والتجارب العلمية ينبغي أن تحاط بجملة من القيود التنفيذية؟ فلا يسمح بذلك الا لمراكز محددة ومتخصصة ومراقبة بأجهزة فعالة، بحيث لا يدخلها شيء من الأجنة ولا يخرج منها إلا أن يكون تحت نظر المراقبين.
__________
(1) وهذا ينطبق أيضاً على الخصية والمبيض، ولكن حرم نقلهما لمعنى آخر لا يوجد في سواهما من الأعضاء، وهو أن الشرع شدد في الاحتياط للأنساب، فقصر طريقة التناسل المشروعة على صورة واحدة، وهي أن يكون النسل قد تكون من اتحاد منوي رجل وبيضة امرأة أثناء قيام علاقة الزوجية بينهما، وحرم أية طريقة أخرى. فإذا نقلت خصية رجل لآخر، ثم عاشر المتلقي زوجته انتقل إليها منوي مصدره تلك الخصية المنقولة. والأمر بعد ذلك يتوقف على تحديد من ينسب إليه ذلك المنوي: أهو المتبرع أم المتلقي؟ فإن كان للأول وقع المحظور الشرعي؟ لأن النسل عندئذ سيتكون من منوي رجل غريب عن المرأة صاحبة البيضة، وليس بينها العلاقة الشرعية، علاقة الزوجية. والأطباء كلهم متفقون على أن ذلك المنوي ينسب إلى الأول؟ بناء على أنه يتكون من الخصية مباشرة، ويتم تصنيعه من موادها الأولى، ولا تحتاج إلى أية مواد خارجية تدخل في تصنيع النطفات التي تحتوي على الحيوانات المنوية. وبناء عل أن الصفات الوراثية الموجودة في الحيوانات المنوية الناتجة من الخصية المنقولة إنما تتبع المتبرع لا المتلقي، ولأن تلك الصفات لا تتغير بعد نقلها بحيث تصبح تابعة للمتلقي، بل تظل تتبع المتبرع؛ لأن مصدر تلك الصفات، وهو ما يسمى بالجينات، يجعل الله فيها برنامجاً محدداً منذ البداية، أي عندما خلقها في الجنين، ولا يحدث أي تغيير في برنامجها، وإن نقلت إلى شخص آخر. ومثل ذلك يمكن أن يقال في المبيض (انظر بحث: "غرس الأعضاء في جسم الإنسان، للدكتور محمد أيمن صافي، ص 13، وبحث الدكتور محمد علي البار: "زرع الغدد التناسلية والأعضاء التناسلية " ص 7، 9. وبما تقدم يتضح أن هذين العضوين: الخصية والمبيض يختلفان عن بقية أعضاء الجسد بما فيها الدماغ؟ فإن أية معاشرة جنسية يقوم بها من تلقى بعض الخلايا العصبية أو أي عضو آخر لا يخشى أن تكون سبباً في خلط الأنساب. كما أن النقل ذاته لا يتسبب في نقل الأفكار والمشاعر والعقائد كما أسلفنا، فلا يرد عليها ما قيل آنفاً عن الخصية والمبيض.(6/1451)
المطلب الخامس
ما ينبغي أن يكون عليه حكم الانتفاع بالأجنة
عند من ينكرون الروح
تقدم أن الذين ينكرون الروح أو يعترفون بها وينكرون آثارها يعتبرون الجنين إنساناً من أول لحظة يتكون فيها، فإن كان فيه حياة التطور والنمو فهو إنسان حي عندهم، فإن ذهبت منه تلك الحياة كان آدمياً ميتاً.
وتقتضي هذه النظرة للجنين أن يكون التصرف فيه بما يذهب منه حياته الطبيعية عملاً غير جائز؛ لأنه يكون قتلاً لآدمي حي، وقتل الآدمي لا مسوغ له إلا في حالة العقاب، والجنين ليس محلاً للعقاب مطلقأ.
وينبغي أن لا يختلف هذا الحكم عند أصحاب تلك النظرة بين لقيحة عمرها لحظات وجنين عمره تسعة أشهر، حيث يزعمون أن الجنين يكتسب إنسانيته بمجرد تكونه.
فإذا كان الجنين قد فقد حياته التي يتمكن بها من النمو والتطور وجب على أصحاب ذلك التصور أن يعتبروه إنساناً ميتأ، وينبغي عندئذ أن يعامل معاملة الآدمي الميت.
بل إن هذا التصور يقتضي أن لا يسمح بتلقيح بيضات تزيد عن الحاجة، كما يصنع الآن في مشاريع أطفال الأنابيب، حيث يلقح في المعمل أكثر من ثلاث بيضات، فيغرس بعضها، ويبقى الزائد احتياطاً لعدم نجاح العملية، فإن نجحت بقيت اللقائح الزائدة ليس لها مصير إلا فقدان الحياة، فيكون هذا تسبباً في قتل آدمي بناءً على تلك النظرة.
بل ذهب بعض العلماء الغربيين إلى أنه لا يجوز تجميد اللقائح في البرادات؟ لأنها كائنات بشرية، ولا يجوز سجنها بهذه الطريقة وتعريض حياتها للخطر؟ فقد جاء في صحيفة الشرق الأوسط (العدد 3910 - عام 1989 م) ما نصه: (اعتبر مدير المعهد الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية البروفيسور جيروم لوجون أن وضع كائنات بشرية صغيرة في مكان شديد البرودة وحرمانهم من الوقت يضعهم في وضع حياتي معلق شبيه بأوضاع معسكرات الاعتقال) .
وهذا الذي ذهب إليه هذا العالم متلائم مع تلك النظرة للجنين والإنسان، والتي لا تعترف باتصال الروح بالجسد في فترة من فترات تطور الجنين، والتي يترتب عليها اعتبار الجنين إنساناً من أول لحظة يتم فيها اتحاد المنوي مع البيضة؟ فإن الإنسان ينبغي أن يعامل معاملة واحدة لا تختلف سواء أكان صغيراً لا يرى بالعين المجردة أو كبيراً.
وأما الذين لا يعترفون بالروح أو لا يرتبون على الاعتراف بها أي أثر، ويعتبرون الجنين إنساناً من بدء تكونه، ثم يجيزون تبريده، وتوقيف نموه، وإسقاطه لأخذ أعضائه، أو لإجراء التجارب عليه، ويجيزون التسبب في موته بأية وسيلة، فهؤلاء متناقضون مع أنفسهم.
الدكتور محمد نعيم ياسين(6/1452)
حكم الانتزاع لعضو
من مولود حي عديم الدماغ
إعداد
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
فقد أحاطت الشريعة الآدمي - لشرفه وكرامته - بأنواع من الحفظ والصيانة لآدميته منذ كونه ماء إلى مروره بأطوار تخلقه إلى تكونه جنيناً، وأناطت بذلك أحكاماً معلومة في محلها من فقه الشريعة.
وأناطت الشريعة أحكامه مولوداً بأن يولد فيستهل صارخاً فيكون حينئذ آدمياً محكوماً باستقرار حياته، فله ما للآدميين من حرمة وعصمة وإرث وهكذا.. بصرف النظر عن كونه ولد بأحسن تقويم أو ناقص الخلقة بأمر ظاهر كمخرج الأطراف أو باطن كعديم الدماغ، أو اختلال في أحشائه أو ولادته وهو: أعمى، أصم، أبكم.. فلو استقرت حياته لحظات ثم مات في أثنائها مورث له من أب أو أم لكان وارثاً شرعاً.
ولوجنى عليه جان لترتبت على الجاني أحكام الجناية شرعاً كترتبها على من جنى على بالغ راشد ... وهكذا من وسائل حماية الشرع لهذه الضرورة العظمى من ضروريات الحياة (حفظ النفس) .
وبناء على ذلك:
فالمولود ناقص الخلقة ظاهراً أو باطناً كالوليد عديم الدماغ، ويراد بعديم الدماغ (1) "الذي يولد وليس له قبو رأس، وليس له فصان مخيان، وإنما له جذع مخ يقوم على الوظائف الحيوية الأساسية من دورة دموية وتنفس بعد الانفصال حياً بالميلاد ولكنها حياة محدودة موقوتة ثم يموت بعد ساعات أو أيام أو أسابيع ... ".
هذا المولود: آدمي انفصل من بطن أمه حياً، ناقص الخلقة، واستقرت حياته فتثبت له أحكام المواليد مستوي الخلقة، سواء بسواء، طرداً لقاعدة التعايش وضروريات الحياة، وحفظ النوع الإنساني، وحرمته (آدمياً) ورعاية حرمة الشرع بتحريمه الاعتداء عليه، وينسحب عليه قول الله تعالى في [سورة المائدة: الآية 32] : {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} .
هذا هو الأصل العام الذي تساق عليه أحكام هذا الباب في استبقاء الأنفس ورعاية الحرمات وهو من المسلمات، ومن استثنى مولودا ناقص الخلقة فقد قفى ما ليس له به علم، وأفتى بقتل الأحياء والأبرياء.
__________
(1) بحث الطبيب حسان حتحوت عن: الوليد عديم الدماغ: ص ا.(6/1453)
وعليه:
فلا يجوز لأحد والدي المولود ناقص الخلقة كعديم الدماغ الإذن لأي طبيب بانتزاع عضو منه لزرعه في طفل آخر محتاج إليه، فلا تستبقى نفس بقتل أخرى بلا ذنب.
ولا يجوز لأحد أبوي هذا المولود الإذن لأي طبيب بقطع وانتزاع عضو منه تحسباً لحالة طفل مريض.
ولا يجوز لوليه الإذن لطبيب بإجراء عملية تشريح لهذا المولود لصالح تعلم الطب أو اكتشاف نوع المرض.
كل هذه وما جرى مجراها إذن بالجناية، ومباشرة لها تستوجب العقوبة المقدرة شرعاً وتستوجب الإثم للاعتداء بغير حق.
كما يصاحب هذا محاذير أخلاقية شرعية إنسانية من ابتداء العدوان والإجهاز على آخرين بعلة نقص الخلقة، وهو تعليل ساقط يرفضه الشرع بكل قوة.
شبهة وجوابها:
يرد تساؤل وهو: أن الأطباء قرروا أن موت جذع المخ موت للإنسان، فيكون الحكم بموت "عديم الدماغ " من باب أولى. وأن من الفقهاء من أفتى بأن موت جذع المخ موت للإنسان، فكذلك يكون هنا؟
وجوابها:
أن هذا قياس على حكم مختلف فيه، وركن القياس أن يكون (الأصل) المقيس عليه شرعياً ثابتاً بالكتاب أو السنة أو الإجماع.. والمقيس عليه هنا ليس كذلك بل هو حكم فرعي حادث مختلف فيه اختلافاً كبيرا، ولم يثبت له حكم بنص من كتاب أو سنة أو اجماع. ولذا فلا يصح القياس لاختلال ركنه، وهذا قادح مسلم به لدى الأصوليين يمنع صحة إلحاق فرع به فهو إلحاق بفرع حادث مختلف فيه.
بل الأولى كما هو ظاهر العكس، فيقاس منع جعل موت جذع الدماغ علة للموت على (غياب جذع الدماغ عن المولود) الذي تستقر حياته، فإذا كان غياب جذع أصلاً تستقر معه الحياة ساعات أو أياماً أو أسابيع فهو محكوم بحياته قطعاً، فمن باب أولى من مات منه جذع الدماغ مع استمرار نبضات قلبه يكون الحكم باستمرار حياته استبقاء للأصل حتى تنقطع نبضات القلب، وتنفصل الحياة من بدنه من كل عضو بحسبه لمخالطة الحياة البدن.
وقبل كتابة هذا البحث ببضعة شهور، وفي شهر رجب من هذا العام 409اهـ، حكم جمع من الأطباء على شخصية مرموقة بالوفاة لموت جذع الدماغ لديه، وأوشكوا على انتزاع بعض الأعضاء منه، ولكن ورثته مانعوا من ذلك، ثم كتب الله له الحياة، وما زال حياً حتى تاريخه.
فموت جذع الدماغ علامة ظنية على موت الإنسان وليست قطعية، إضافة إلى احتمال خطاً التشخيص، فكيف تمكن الفتيا بما حقيقته ومآله قتل الأحياء فيتأمل.
والله أعلم.
الدكتور بكر عبد الله أبو زيد(6/1454)
الاستفادة من الأجنة المجهضة
أو الزائدة عن الحاجة
في التجارب العلمية وزراعة الأعضاء
إعداد
فضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر
أستاذ الفقه المقارن والسياسة الشرعية
بكلية الشريعة – جامعة الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
إن هذا البحث معني ببيان الحكم الشرعي في المسألة موضوع البحث لمن ارتضى الشريعة ديناً وقانوناً من الأفراد والمجتمعات والأطباء، ولذلك لن يؤثر على مسار البحث تلك الفوضى التي يرزخ تحتها العالم الغربي، فالعالم الإسلامي حتى يومنا هذا بهدي من شريعة الإسلام لا يشكل الإجهاض مشكلة عنده، فالمسلم يتأثم من إسقاط جنين من غير ضرورة، بينما يشهد العالم غير المسلم إسقاط عشرات الملايين من الأجنة - التي حرم الله إسقاطها - في كل عام.
ان هذه الأجنة المسقطة تجعل الأطباء في العالم الغربي يتجهون بقوة نحو الاستفادة منها بطريقة أو بأخرى، ومهما وضع من ضوابط وقيود في الديار التي يسودها الكفر، فإنها تبدو قيوداً وضوابط غير مقبولة في عالم يبيح قتل الجنين بإسقاطه، ولو التزم حكم الشرع لما وجد العلماء هذا الكم الضخم من الأجنة، ولما كانت المشكلة بهذا الحجم. ان الفوضى التي يعيشها العالم غير المسلم في هذا الأمر لن يكون لها أثر في مسار البحث لأن الحكم الشرعي يعطى لمن عنده الاستعداد للقبول به والالتزام به.
إن الإسلام غرس في أعماق المسلم احترام الإنسان وتوقيره منذ أن يكون نطفة في رحم الأم إلى أن يفارق الحياة، والإنسان بعد الموت له احترامه وتوقيره، فقد جاء في الأحاديث النهى عن الجلوس على القبور. وجعلت الشريعة العدوان على الجنين وإسقاطه جريمة يجازى مرتكبها بغرامة مالية تبلغ عشر قيمة عبد في الوقت الذي وقع فيه العدوان على الجنين، وهذا الاحترام الذي يجده المسلم في أعماقه نحو الإنسان في كل مراحل أطواره هو أكبر عاصم من الفوضى التي تجتاح الغرب - اليوم - والتي نقل لنا الأطباء صورة عنها في أبحاثهم المقدمة في هذا الموضوع.(6/1455)
إن مخافة الله وخشيته وتقواه هي العاصم الأعظم الذي يعصم الإنسان من الزلل في كل ما يأخذ ويدع، فإذا زال هذا العاصم فإن الهوى يضل الإنسان، وتصبح المنافع والمضار هي الميزان الذي يحكم مسار الإنسان، وكثير مما يعده الإنسان منافع ومضار لا تكون كذلك، وقد تتداخل المنافع والمضار وتختلط بحيث لا يستطاع تمييزها، كما لا يستطاع ترتيبها في سلم الأولويات، ويبقى حكم الشرع الذي لا يخضع للهوى والمصلحة الموهومة هو العاصم في خلق جهلهم أكثر من علمهم، وخطؤهم أكثر من صوابهم.
إن عنوان البحث يعطينا منهجية السير في البحث، فالعنوان يقرر أن الأجنة نوعان:
الأول: الأجنة الفائضة عن الحاجة.
والثاني: الأجنة المجهضة.
والعنوان يوجه أيضاً إلى أن البحث في كل واحد من هذين النوعين يمضي في مسارين:
الأول: إجراء التجارب العلمية على الجنين.
والثاني: الاستفادة من أعضاء الجنين بغرسها لطفل أو إنسان آخر.
وأحب أن أبادر إلى القول بأن أكثر نقاط البحث أثيرت في ندوات سابقة، وبحثت وبينت أبعادها، وصدرت بشأنها قرارات وتوصيات.
فالأجنة الفائضة عن الحاجة في علاج العقم بالتلقيح الصناعي، وهو الذي اشتهر باسم طفل الأنابيب، بحث في الندوة السابقة التي أقامتها هذه المنظمة تحت عنوان "الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية"، وجاء في التوصية المتعلقة بهذا الموضوع: "إن الوضع الأمثل في موضوع (مصير البويضات الملقحة) هو أن لا يكون هناك فائض منها، وذلك بأن يستمر العلماء في أبحاثهم قصد الاحتفاظ بالبويضات غير الملقحة مع إيجاد الأسلوب الذي يحفظ لها القدرة على التلقيح السوي فيما بعد، وتوصي إلا يعرض العلماء للتلقيح إلا العدد الذي لا يسبب فائضاً، فإذا روعي ذلك لم يحتج إلى البحث في مصير البويضات الملقحة الزائدة.
أما إذا حصل فائض، فإن الأكثرية ترى أن البيضات الملقحة ليس لها حرمة شرعية من أي نوع، ولا احترام لها قبل أن تنغرس في جدار الرحم، وأنه لذلك لا يمتنع إعدامها بأي وسيلة، وبرى البعض أن هذه البيضة الملقحة هي أول أدوار الإنسان الذي أكرمه الله تعالى. وفيما بين إعدامها أو استعمالها في البحث العلمي أو تركها لشأنها للموت الطبيعي يبدو أن الاختيار الأخير أخفها حرمة إذ ليس فيه عدوان إيجابي على الحياة" (1)
__________
(1) انظر ص 757 من الجزء الثالث من سلسلة مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية وعنوانه: "الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية".(6/1456)
إن أكثر المشاركين في الندوة السابقة أجازوا إجراء التجارب على البويضات الفائضة عن الحاجة قبل التلقيح وبعده، ومثل ذلك الاستفادة منها، وفيما توصل إليه المشاركون في تلك الندوة كفاية، فإن إعادة بحث الموضوع لن يجمع كلمة الباحثين فيه، فقلما يتفق الباحثون في شأن هذه الموضوعات.
ولكن إجراء التجارب يجب أن يقيد بقيد أشارت إليه توصيات ندوة (الإنجاب في ضوء الإسلام) وأكدته ندوة (الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية) ، وهذا القيد هو عدم تغيير فطرة الله، والابتعاد عن استغلال العلم للشر والفساد والتخريب (1)
وعدم الانضباط بهذا الضابط يخالف مبدءاً شرعياً قررته الأصول والقواعد الإسلامية، ويحرف مسار البحث العلمي، وفي النهى عن هذا التوجه يقول الحق تبارك وتعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} . [سورة الروم: الآية 30] . والمعنى لا تبدلوا خلق الله.
وقال تعالى مبيناً الجرائم التي يضل الشيطان بها الإنسان: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} . [سورة النساء: الآيتان 118 - 119] .
إن الأبحاث التي ترمي إلى تغيير خلق الله في البويضة الملقحة أو الجنين المسقط ضلال في الفعل كما هو ضلال في القصد، والأبحاث التي تجري على الجنين بقصد الإفساد والتدمير والتخريب - وهي اليوم كثيرة - هي كذلك جرائم في ميزان الشرع، فالله لا يحب الفساد، وإفساد النسل من أعظم الفساد، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [سورة البقرة: الآيتان 204 - 205] .
__________
(1) انظر ص 757 من الجزء الثالث من سلسلة مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية وعنوانه: "الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية".(6/1457)
ولا أحب أن أنتقل من هذه المسألة قبل أن أشير إلى أن جعل البويضات الملقحة داخلة تحت اسم الأجنة غير سديد كما أشار إليه بعض السادة الأطباء، فالجنين من الاجتنان وهو الاستتار، ولا يسمى بهذا الاسم ما لم يكن في رحم أمه، يقول ابن منظور في هذا: (جن الشيء يجنه جناً: ستره. وكل شيء ستر عنك فقد جن عنك، وجنه الليل يجنه جناً وجنوناً ... ستره ... وفي الحديث: "جن عليه الليل" أي ستره. وبه سمي الجنين جنيناً لاستتاره في بطن أمه) (1)
الأجنة المجهضة:
لا مجال للبحث في الاستفادة من الأجنة المجهضة عمداً لهذا الغرض، لأن الشريعة الإسلامية لا تبيح الإجهاض المتعمد إلا لسيب ضروري ضرورة لا يمكن تجنبها، وقد بحث هذا الموضوع في ندوة (الإنجاب في ضوء الإسلام) وجاء في التوصيات الصادرة عن هذه الندوة بخصوص موضوع الإجهاض المتعمد: "استعرضت الندوة آراء الفقهاء السابقين وما دلت عليه من فكر ثاقب ونظر سديد، وأنهم أجمعوا على تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح، أي بعد أربعة أشهر، وأن آراءهم في الإجهاض قبل نفخ الروح اختلفت، فمنهم من حرم بإطلاق أو كراهة، ومنهم من حرم بعد الأربعين يوما، وأجازه قبل الأربعين على خلاف في وجوب العذر.
__________
(1) لسان العرب لابن منظور: 1/515.(6/1458)
وقد استأنست الندوة بمعطيات الحقائق العلمية الطبية المعاصرة، والتي بينتها الأبحاث والتقنية الطبية الحديثة، فخلصت إلى أن الجنين حي من بداية الحمل، وأن حياته محترمة في كافة أدوارها، خاصة بعد نفخ الروح، وأنه لا يجوز العدوان عليها بالإسقاط إلا للضرورة الطبية القصوى، وخالف بعض المشاركين فرأى جوازه قبل تمام الأربعين، وخاصة عند وجود الأعذار" (1)
فالحكم في مثل هذه المسألة في غاية الوضوح، العدوان على الجنين وتعمد إسقاطه جريمة في حكم الشرع، وعلى المسلمين أن يأخذوا على أيدي الذين يفعلون ذلك، فإنه من إهلاك النسل، وهو من الفساد الذي لا يحبه الله تعالى.
وتبقى الأجنة المجهضة لضرورة طبية، أو المجهضة بسبب لا يعود إلى اختيار الإنسان، فهذه لا بأس من إجراء التجارب عليها والاستفادة منها بأخذ بعض الأعضاء أو الأنسجة لمن يحتاجون إليها من المرضى، ويطبق عليها في هذه الحال ما يطبق على الإنسان غير الجنين، وقد استقر الأمر على جواز أخذ أعضاء الإنسان بعد وفاته إذا أذن في ذلك قبل وفاته أو أذن فيه وليه، ويجوز في حياته (إذا كان لا يؤدي أخذ ذلك العضو إلى الهلاك أو عاهة بينة، وبشرط أن لا يأخذ المتبرع مالأ ... إلى آخر الشروط التي قررت في ندوات كثيرة عقدت بخصوص هذا الموضوع.
فالاستفادة من الجنين كالاستفادة من الإنسان غير الجنين حكمها واحد، بشرط أن يأذن ولي أمر الجنين فيه.
الدكتور عمر سليمان الأشقر
__________
(1) انظر ص 351 من الجزء الأول من سلسلة مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، وعنوان المجلد: (الإنجاب في ضوء الإسلام) .(6/1459)
زراعة الأعضاء من الأجنة المجهضة
إعداد
فضيلة الشيخ محمد عبده عمر
باحث بالمركز اليمني للأبحاث الثقافية عدن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وسلم.. وبعد:
فهذا بحث في زراعة الأعضاء من الأجنة المجهضة أو الفائضة عن الحاجة، مقدم إلى الدورة السادسة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي - جدة.
وقبل الدخول في مقدمة البحث يجب التنبيه على أن مسار البحث يقتضي الإشارة إلى أن الأجنة المجهضة عمداً كعملية تجارية كما هو اليوم في غالب الغرب الرأسمالي أو حتى بدون عملية تجارية ليست داخلة في بحثنا كونها معلومة التحريم من الدين بالضرورة. وإنما الذي يدخل في بحثنا هذا إنما هي الأجنة التي تعطى حكم انعدام الحياة بالضرورة ويكون إجهاضها من الأمور الطبيعية التي لا دخل فيها للإنسان قطعا لباب سد الذرائع، فهذا هو مناط البحث ومتعلقه؛ وهذا أوان الشروع:
المقدمة:
نظراً لكون الموضوع من الأمور المستجدة بعد أصحاب المذاهب الأربعة حيث لا يوجد فيها - حسب علمي - نص من كتاب ولا سنة ولا قول إمام من أئمة علماء الإسلام. بالإضافة إلى كونه من المواضع التي قد تلتبس أبعاده وغاياته الشرعية. لذا فلا بد من بسط الموضوع في هذه المقدمة تطبيقاً للقاعدة الأصولية التي تقول: الحكم على الشيء فرع عن تصوره. من هنا يمكننا أن نتصور إنساناً قد تعرض لحادث مفجع وخرج منه مجدوع الأنف مقطوع الأذن مكسور الرأس مبتور الذراع والساق مفقوء العين مهشم الأسنان والفكين مشلولا في أحد الطرفين فاقداً لبعض دمائه وجلده وعظامه إلى آخر هذه العاهات التي تترك بصماتها وتشوهاتها على الإنسان المصاب. ولو فرضنا بأن هذا الإنسان يمكنه أن يعيش، فإنه عندئذ سيكون أشبه بحطام كائن حي لا فائدة فيه ولا مأرب في حياته؟ ما رأي الإسلام وشريعته الخالدة بعد أن تجاوز العلم هذه الصورة المأساوية التي كانت في الماضي لا علاج لها إلا الموت؟ لكنها لن تكون كذلك في عصرنا الحاضر أو المستقبل، حيث أصبح العلم اليوم يصلح عيوبه ويرمم ما تهدم منه، وبالتالي تختفي كل إصابة حلت به ويعود إلى الحياة بدون عاهات. لقد كانت هذه المنجزات العلمية بالماضي أضغاث أحلام أو شطحات خيال، لكنها أصبحت في عالم اليوم حقيقة بفضل التقدم المذهل الذي حققته وتحققه العلوم التجريبية خاصة فيما يتعلق بقطع الغيار البشري التي بدأت تغزو أسواق العالم وتنتشر فيها كتجارة رابحة تدر آلاف ملايين الدولارات كل عام.(6/1460)
فلم يعد الطبيب أو الجراح أو الصيدلي هو المسؤول الوحيد عن مشاكل الجسم البشري بل دخلت في ميدانه تخصصات أخرى جديدة لم يكن أحد يسمع بها أو عنها من قبل ذلك، لقد أثبت العلم بأن الجسم البشري ينطوي على أسرار مذهلة وأحكام متقنة، وكأنما هو قد جمع في داخله كل أساسيات العلم أو التكنولوجيا الحديثة، ولكي ندرك كيف يشتغل فلا بد أن نتعلم منه الشرائع والأحكام والقوانين التي تهيئ له من أمره رشداً، ولا شك بأن ذلك يستلزم جيشا متكاملاً من العلماء ومن كل التخصصات حتى لكأنما هذا الجسم قد أصبح كوناً قائما بذاته أو كأنما ينطبق عليه قول المتصوف الإسلامي محيي الدين بن عربي: أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر؟ تلك نظرة تصوفية شاعرية صحيحة ولا شك أنها قد سبقت زمانها، ذلك أن البعض ينظر إلى الجسم كآلة حية على درجة هائلة من التعقيد والكفاءة والتنظيم وبحيث يتعلم منها العلماء كل يوم جديد فيرون فيها آيات من الخلق المذهل الذي يستحق الإعجاب والتأمل والدراسة، ولا يختلف في ذلك المتخصصون في العلوم الطبية أو البيولوجية من علماء الكيمياء أو الفيزياء والهندسة والكهربة والإليكترونيات، وعلى علماء الرياضيات الذين يحاولون استنباط المعادلات أن يعلموا بأن فن صناعة الجسم البشري والأسرار العلمية التي لا زالت مجهولة فيه والمودعة في كيانه والتي لو وصل العلم إليها لاحتارت عقول علماء كنا نعدها رائدة في هذا المجال، عليهم أن يعلموا بأن هذا الجسم هو من صناعة العليم الخبير الذي أتقن كل شيء صنعاً، والقائل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} علهم يدركون بمعادلاتهم التنسيق المتقن والتوازن المقدر بحيث يضعون أمام تخصصاتهم الأخرى نتائج معادلاتهم التي قد تنبئهم بما خفي عليهم من أسرار في داخل الجسم الإنساني. ولا غرو إذاً أن تظهر في عصرنا الحديث علوم عديدة يجتمع فيها أكثر من تخصص ليخدم بعضها بعضأ، وبهذا تنجز ما لا يمكن أن ينجزه تخصص واحد، فخرجت إلى الوجود تخصصات جديدة تعرف بأسماء شتى إلا أن هدفها واحد هو خدمة الجسم البشري في أمراضه وعاهاته وتشوهاته وبهذا أصبحنا نسمع اليوم عن درجات علمية تمنحها المعاهد والجامعات لخيرة أبنائها.(6/1461)
كل هذا وغيره تكون فيما بينه فريقاً متألفاً من العلماء ليتعاونوا فيما بينهم فتأتي ثمرات هذا التعاون بتطورات طبية عظيمة لم تكن تحلم بها الإنسانية من قبل وتمخض عن ذلك قطع غيار بشرية لتحل محل الأجهزة الطبيعية التي توقفت عن العمل. فأصبحنا نسمع عن عدسات وعيون صناعية أو تلفزيونية وقلوب ورئات وكلى صناعية وتوصيلات إلكترونية ومفاصل وأطراف صناعية وسبائك معدنية وغير ذلك من أجهزة ومواد تدخل في الجسم البشري كبدائل لتحل محل أعصابه ولحمه وعظمه ومرافقه الحيوية التي يؤدي عطبها إلى موت أكيد، لكن قطع الغيار البشرية أو الصناعية التي أخذت من أسلاك ومعادن وأجهزة كهربائية قد تقوم بوظيفة الجزء المعطوب وتدفع بالجسم إلى مواصلة الحياة وتبعث الأمل في نفوس الملايين من المرضى والمعذبين، وقد جرت سنة الله أن كل شيء يبدأ متواضعاً ثم يتطور إلى الأحسن دائما. وذلك بفضل الأفكار الخلاقة وتقدم فروع العلم المختلفة والتعاون المثمر بين علماء من تخصصات متباينة. ففي بداية القرن العشرين ظهرت إلى حيز الوجود محاولات جادة لإنتاج أسنان صناعية وعيون صناعية وأرجل صناعية وما شابه ذلك إلا أن النوعيات كانت متواضعة ثم تطورت الأمور إلى الأحسن وتحولت اهتمامات العلماء إلى إنتاج قطع الغيار للأعضاء الداخلية الحيوية وتم فعلاً إنتاج أول كلية صناعية في الأربعينات من هذا القرن وتبعها في أوائل الخمسينات أول إنتاج لقلب ورئة صناعيين يستخدمان أثناء إجراء العمليات الجراحية في القلب لفترة محدودة ثم الاستعاضة عن المفاصل الطبيعية التالفة بأخرى معدنية أو خزفية. والآن ظهرت إلى حيز الوجود شركات طبية آخذة بالتنافس لتطوير تلك الأعضاء وجعلها أكثر كفاءة وأطول عمراً وأقل تكلفة وأتقن أداة وواقع الأمر يجد المتتبع لتطور العلوم الطبية في هذا المجال بأن بحوث قطع الغيار البشرية تسير في طريقين إلا أنهما في النهاية يخدمان نفس الهدف، أي تغيير العضو المعطوب بأجزاء أخرى سليمة، فطريق منها يستخدم الأنسجة والأعضاء الطبيعية السليمة من إنسان لزرعها في إنسان آخر يحتاج إليها، والطريق الآخر يعتمد على تصنيع قطع الغيار من خامات مختلفة بحيث تؤدي نفس الهدف ولأطول فترة ممكنة.(6/1462)
وطبيعي بأن الطريقين اللذين يسلكهما العلماء في التعامل مع قطع الغيار الطبيعية والصناعية تعترضهما عقبات شتى وعويصة، وأكبر مشكلة تواجه زراعة الأعضاء الطبيعية هي مقاومة الجسم الحي لأي نسيج أو عضو غريب حيث إن الجسم لا زال يستخدم أسلحة المناعة في ضرب الجزء المزروع حتى يلفظه أو يبيده من ميدانه ولم يتغلب العلماء على مقاومة الجسم أو تعطيل أسلحته الدفاعية إلا أنهم حققوا بعض النجاح في هذا الميدان خاصة في زارعة الكلى وصمامات القلب وبعض الأنسجة، ولكي تعيش فإنما يعتمد ذلك على من يعطي هذا العضو أو يهبه، فالعقبة هنا هي عدم توافر هذه الأعضاء الطبيعية لكل من يطلبها. من أجل هذا لجأ العلماء إلى فكرة تصنيع بدائل عن الأنسجة والأعضاء البشرية، وعلى الرغم من أنهم قد حققوا في هذا المجال أهدافاً رائعة إلا أن الشيء الصناعي لا يقارن بالشيء الطبيعي لا في كفاءته ولا في تحمله أو حجمه أو وزنه وتكلفته. لو أخذنا الكلية الصناعية - على سبيل المثال - نجد أن المصاب بالفشل الكلوي المزمن ترتبط حياته بجهاز معقد وكبير ومكلف، ويحتاج إلى رعاية طبية طالما كان أسير هذا الجهاز الذي يزوده مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع وتظل دورته الدموية تدور في هذا الجهاز لمدة تتراوح ما بين 4 - 6 ساعات في كل مرة حتى يتمكن تخليص دمه من السموم والنفايات التي تجمعت فيه لو قورنت بالكلية الطبيعية التي لا يزيد وزنها عن 150 جرام وهي مزودة بحوالي مليون وحدة ترشيح دقيقة وكفاءتها لا يعلى عليها لدرجة أن نصف أو حتى ربع كلية طبيعية سليمة تكفي لتخليص الجسم من نفاياته الذائبة في دمائه وتلك نعمة كبرى لا يشعر بها حقاً إلا كل من افتقدها وما أكثر النعم التي زودت بها أجسامنا ولا نقدرها حق قدرها ولمعظم أجزاء الجسم التالفة الآن قطع غيار كثيرة تم تصنيعها من مواد مختلفة. وبحوث قطع الغيار البشرية لازالت تقدم لنا كل عام علم جديد بحيث يصبح الإنسان في المستقبل القريب أو البعيد يجمع في تكوينه أجهزة طبيعية من شحم ودماء وعظام وأخرى من بلاستيك ومعادن وخزف وتوصيلات كهربائية ... إلخ.(6/1463)
فهناك الآن عشرات من قطع الغيار البشري الصناعية التي يمكن أن تحل محل الأجهزة التالفة، فالقلب وحده له أكثر من قطعة غيار، وهناك الآن مئات الألوف من البشر أو ربما الملايين قد عطبت أجزاء من قلوبهم لسبب أو لآخر وهم يعيشون الآن بعد تغيير الأجزاء المعطوبة بأخرى طبيعية أو صناعية، فالمنظم الطبيعي لنبضات القلب عقدة عصبية صغيرة قد يفشل في إمداد القلب بالشحنة الكهربائية التي تجعله ينبض باستمرار وانتظام وبمعدلات أكبر عند بذل المجهودات الجسدية، وقد أمكن استبداله بمنظم صناعي صغير يزرع تحت الجلد ويشتغل ببطارية دقيقة، وهناك الآن عشرات الألوف يعيشون بمنظمات قلوب صناعية ولسنين طويلة خاصة بعد أن أدخل العلماء تحسينات أساسية على البطاريات لتعيش لأطول فترة ممكنة كما حدثت أيضاً تطورات في التوصيلات الكهربية الدقيقة التي تصل البطاريات بعضلة القلب، إذ كانت في الماضي تنهار بفعل التآكل والتفاعل الحاد بينها وبين الجسم. إلا أن عملية الانهيار الآن أصبحت غير واردة بعد اختراع مادة جديدة من المطاط السيليكوني الرملي الذي يستخدم الآن كثيراً في أغراض طبية شتى، إضافة إلى تحسين آخر حدث أضيف إلى هذا المنظم وأصبح مبرمجاً عن طريق حاسب إليكتروني وليس معنى ذلك أن البحوث لن تتناول مرافق الجسم الحيوية الأخرى بحيث لن يكون لمن قطعت يده أو ذراعه أو ساقه أمل في استعادتها، بل هناك أمل. ذلك أنه أمكن التوصل إلى إنتاج بنكرياس صناعي ليمد الجسم بالأنسولين وبداية كبد صناعي ليقوم بكثير من وظائف الكبد وأذن صناعية تسمع الأصم ونواة عين صناعية تجعل الأعمى بصيراً وطرف يتحرك بإيحاء من المخ ... إلخ. هذه الإنجازات الهامة والمثيرة في عالم العلوم الطبية التجريبية يعطي المؤشر نحو مستقبل العلم في هذا المجال الحيوي الهام، وأن ما قد نفشل فيه اليوم قد ننجح فيه غداً خاصة وأن الأفكار والبحوث والكشوفات تتطور بسرعة مذهلة، وقد قصدت بهذه المقدمة ما أشرت إليه في بدايتها، وهو أيضاح أبعاد الموضوع لكون الحكم أو الفتوى لا تكون إلا في موضوع واضح، وهذا ما قصدت من الإسهاب فيه وسوف نثبت مراجع النقل في قائمة المراجع.(6/1464)
البحث الشرعي في الموضوع:
لا شك بأن تصدي مجمع الفقه الإسلامي لمثل هذه المواضيع المستجدة وبيان حكم الشرع فيها يعتبر خطوة جبارة لها وزنها العلمي والحضاري في عالم اليوم ولبنة جديدة في صرح الفقه الإسلامي الشامخ الذي اعتصرت فيه عقول جهابذة العلماء من السلف والخلف - رضوان الله عليهم أجمعين -. لقد تقدمت الإشارة إلى أن هذه النازلة من النوازل التي لم يرد بشأنها نص من كتاب أو سنة. ومن هنا أطلق علماء الأصول على أمثال هذه الحالة اسم المصالح المرسلة: وعرفوها بأنها "كل مصلحة غير مقيدة بنص من الشارع يدعو إلى اعتبارها أو عدم اعتبارها، وفي اعتبارها مع هذا جلب نفع أو دفع ضرر" والشارع الإسلامي هو الذي يستهدف في أحكامه تحقيق مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم وهو أيضاً الذي يقدر ما إذا كان عملاً معيناً يحقق لهم مصلحة، أي يجلب لهم نفعاً أو يدفع عنهم ضرراً والمصالح التي أدخلها الشارع في اعتباره قسمها الأصوليون إلى ثلاثة أقسام: مصالح معتبرة، أي قام الدليل على اعتبارها. مصالح ملغاة، أي قام الدليل على إلغائها. مصالح مرسلة، أي لم يقم دليل على اعتبارها أوإلغائها، وهذ االقسم الثالث - أي المصالح المرسلة - هو الذي ينطبق على موضوعنا لكننا قبل أن نلج الموضوع نشير هنا بإيجاز إلى الصنفين السابقين - أي المصالح المعتبرة والمصالح الملغاة - حتى يتجلى صلب البحث للمصالح المرسلة. فنقول: بأن المصالح المعتبرة تنقسم على نفسها إلى ثلاثة أقسام:
ا - مصالح ضرورية: وهي التي تتوقف عليها حياة الناس في الدنيا والآخرة، وبدونها تتوقف الحياة وتنحصر في المحافظة على خمسة أمور، هي: الدين، النفس، العقل، النسل، المال. وهي ما يعرف عند الفقهاء بالكليات الخمس.
2 - مصالح حاجية: وهي التي لا تحقق مصلحة ضرورية، ولكنها تدفع الحرج والمشقة عن الناس، مثل: إباحة بعض صور المعاملات.
3 - مصالح تحسينية: وهي التي لا تستهدف المحافظة على مصلحة ضرورية ولا حاجية، ولكنها تستهدف الأخذ بمحاسن العادات ومكارم الأخلاق والوصول بالمجتمع إلى الكمال الإنساني. ومصالح ملغاة: أي قام الدليل على إلغائها مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا رهبانية في الإسلام)) .(6/1465)
أما المصالح المرسلة: فهي التي تعتبر دليلاً مستقلاً تبنى عليه الأحكام عند القائلين بها إذا كانت تحقق نفعاً للناس أو تدفع عنهم ضرراً. ويتبين من التعريف السابق بأن المصالح التي شهد لها الشارع بحكم معين لا تعتبر من قبيل المصالح المرسلة، بل يعتبر حكمها ثابت بنص الشارع. كما أن الأسباب التي تدعونا إلى الاعتماد على قاعدة المصالح المرسلة في استحداث الأحكام الشرعية يمكن إجمالها في أربع قواعد، هي: جلب المصالح، درء المفاسد، سد الذرائع (أي منع الطرق التي تؤدي إلى إهمال الأحكام الشرعية والتحايل عليها) تغير الزمان (وهو ما يعبر عنه بالقاعدة الشهيرة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) والمصالح المرسلة؛ وإن كانت تتفق مع الاستحسان في الغاية إلا أنهما يختلفان من حيث إن الاستحسان صوروه على أنه استثناء من القواعد التي يوجبها القياس، وخاصة استحسان الضرورة كما نص الأصوليون على ذلك. أما المصالح فهي أعم من ذلك لأنها تشمل الاستحسان، وتشمل أيضاً الحالات التي توجب المصلحة إقرارها، ولا يقوم دليل من الشارع على اعتبارها أو عدم اعتبارها، فتكون المصلحة هنا هي الدليل الوحيد الذي تبنى عليه الحكم. ومن هنا اعتبرها المالكية أصلاً مستقلاً بذاته تبنى عليه الأحكام. ذلك أن المصلحة المرسلة عند المالكية تطبق في حالتين: الأولى: إلا يكون في الموضوع قياس محمول على نص وحينئذ تكون المصلحة هي الدليل وحدها. والحالة الثانية: هي ما إذا كان اطراد القياس يؤدي إلى الوقوع في حرج أو ينافي مصلحة ظاهرة، فحينئذ يترك القياس لهذا النفع المجتلب، ولذلك الضرر المجتنب وإن سمي هذا النوع الذي قوبل بالقياس استحسانا، ومن هنا نجد جوهر الاستحسان عند الحنفية والقائلين به يتفق مع جوهر المصالح المرسلة عند المالكية والقائلين به أيضاً. غير أن المالكية بنوا نظريتهم في المصالح المرسلة في تاريخ لاحق لنظرية الاستحسان عند الحنفية، فجاءت نظرية المالكية أوفى وأوسع وحظيت بصياغة فنية دقيقة برزت في مذهبهم واشتهروا بها، وواقع الأمر أن الحنفية عندما سلموا بالاستحسان الذي يقضي بالعدول عن القواعد القياسية إلى الأخذ بما هو الأوفق للناس وأيسر لهم والالتفات إلى المصلحة والعدل قد اعتمدوا على المصالح المرسلة في تقدير هذه الاستثناءات وإن سموا هذا الاستنباط استحساناً، وهو أيضاً الذي يسميه بعض الأصوليين باستحسان الضرورة. أما المالكية فلم يقفوا في الاعتماد على المصالح المرسلة عند حد ترك القياس الذي يؤدي اطراده إلى خلاف المصلحة، بل جاوزوا ذلك النطاق إلى حد اعتبار المصلحة المرسلة دليلاً مستقلاً تبنى عليه الأحكام، فتكون هي الدليل عندما لا يوجد دليل سواها.(6/1466)
شروطها: اشترط الفقهاء القائلون بالمصلحة المرسلة كمصدر للتشريع عدة شروط أجملها الشاطبي في ثلاثة: أحدها: الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من أدلته. الثاني: أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول فلا مدخل لها في التعبدات وما يجري مجراها من الأمور الشرعية لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل. والثالث: أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازم في الدين. ويتبين من ذلك بأن القائلين بالمصلحة المرسلة كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي قد اشترطوا لاعتبارها كذلك شروطاً، منها: أن يكون ذلك في مجال المعاملات لا العبادات، لأن هذه الأخيرة ثابتة لا تتغير فضلاً عن أنه لا يجوز إعمال العقل والفكر فيها؛ ومنها: أن يستهدف بناء التشريع على المصلحة جلب نفع أو دفع ضرر؛ ومنها: أن تكون المصلحة التي يشرع من أجلها حقيقة وكلية، ومن ثم تستبعد المصلحة المتوهمة وتستبعد الجزئية، فلا يشرع حكم بناء على مصلحة خاصة بفرد معين بغض النظر عن بقية الناس، بل لا بد أن تشمل المصلحة أكبر عدد من الناس فتجلب لهم النفع وتدفع عنهم الضرر؛ ومنها: إلا يعارض التشريع الذي بنى على المصلحة مقصداً من مقاصد الشريعة ولا دليلاً من أدلتها.
والمتتبع لأحكام الشريعة يجد أنها قد رتبت هذه المقاصد وما شرع لها من أحكام على أساس أن الضروريات تأتي في المرتبة الأولى ثم تليها الحاجيات ثم التحسينيات. وبالتالي ترتب على ذلك أن كل مصلحة تختلف درجة طلبها قوة وضعفا تبعاً لقوة وضعف ما تحققه من مقاصد بحسب موقعها من الأقسام الثلاثة سالفة الذكر، ويتدرج الحكم من الوجوب إلى الندب إلى الإباحة وكل فعل ينافي مقصداً من المقاصد الثلاثة يعتبر مفسدة ينهى عنها الشرع، وتتوقف درجة المنع على نوع المقصد الشرعي الذي تخل به ويتدرج الحكم من التحريم إلى الكراهية، ومن المعلوم أن كل فعل من أفعال الناس يتضمن تحقيق مصلحة أو وقوع مفسدة أن يحقق نفعا أو يجلب ضرراً واعتبار الفعل مشروعاً أو ممنوعاً يتوقف على رجحان نفعه أو ضرره. وتقدير ذلك متروك للشارع وليس لأهواء الناس ومقياس الصلاح والفساد يستفاد من قواعد الشريعة ومقاصدها.(6/1467)
إن حفظ الكليات الخمس واجب شرعاً عند العلماء، ومن ذلك حفظ النفس بإنقاذ حياة نفس أخرى أو سلامة عضو من أعضائه بنقله من حي أو ميت بحيث يقدمان صورة متكاملة من المعالجة التشريعية الدقيقة لهذا الموضوع وفقاً لأحكام الشريعة. قال الإمام الشاطبي: لما كانت المصالح الدنيوية لا يتخلص كونها مصالح محضة، وإنما تكون على مقتضى ما غلب، فإن كانت المصلحة هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتبار فهي مقصودة شرعاً، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد. وقريب من ذلك ما ذكره العز بن عبد السلام في قواعده حيث قال: وما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه كقطع اليد المتآكلة حفظاً للروح إذا كانت الغالبة السلامة، فإنه يجوز قطعها. وهكذا كان الحكم صراحة في جواز قطع عضو إنسان لضمان استمرار سلامة البدن ونظيره شق بطن المرأة على الجنين المرجو حياته لأن حفظ حياة الجنين أعظم مصلحة من مفسدة انتهاك حرمة أمه. فالمصلحة ما دامت هي المقصودة من التصرف لا تمنع بمجرد وقوع المفسدة مادام أن المصلحة هي الراجحة. ويقول العز بن عبد السلام: ربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى المصالح المحققة. والشريعة الإسلامية إنما تهدف بالجملة إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وحيثما تكون المصلحة راجحة، فثم شرع الله تعالى. والنفس البشرية معصومة ومحترمة، ولذا تعلق بها حق الله تعالى حتى لا يبلغ بها أصحابها في وقت من الأوقات أو في بلد من البلدان إلى مرتبة السلعة تباع وتشترى ولا يخفى ما في ذلك من إهدار الآدمية الإنسانية وهدم لبنيان الرب كما جاء في الأثر: الجسم بنيان الرب، ملعون من هدمه: أي ظلما وعدواناً من غير وجه حق. ومما تقدم نخلص إلى القول بأن الإيصاء بعضو من الأعضاء في حال الحياة على أن يفصل من الموصي بعد الوفاة لينتفع به آخر تتوقف حياته عليه، أو عضو من أعضاء الجنين في موضوع البحث الذي أجهض بدون أي اعتداء على حياته بقصد الاستفادة منه، سواء أكان ذلك الجنين ميتاً أو فيه حياة أثبت الطبيب الشرعي بأن الحياة التي فيه في حكم العدم، وأن من مثله لا يمكن أن يعيش. فإن مما يرتبط بهذا المبدأ عدم جواز المتاجرة بأعضاء الإنسان، والبعد عن كل ما يؤدي إلى التشويه والمثلة والمحافظة على حياة الإنسان والتنديد بكل ما يضره ويؤذيه وترتيب الأجزية الرادعة على كل عدوان عليه بقتله، أو إتلاف عضو من أعضائه مما هو معروف في أحكام القصاص والديات، وأن مما ينسجم مع هذا المبدأ جواز الانتفاع بعضو الإنسان الآخر إذا كان يحفظ حياة المنتفع به دون أن يضر بالمنتفع منه، وأن ذلك لا يجوز في حالة الإضرار بالمنتفع منه أو تسبب هلاكه، لأن حق الحياة في الناس في نظر الشريعة واحد، والضرر لا يزال بالضرر ولا بمثله، ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.(6/1468)
ولا شك بأن الشريعة الإسلامية قد حثت على التداوي ودعت إليه، وبينت أن لكل داء دواء، وما على الإنسان إلا أن يبحث وينقب ليكشف المرض والعلاج؛ والأحاديث النبوية في ذلك معروفة. إن من مقاصد الشريعة وأهدافها السامية والأساسية في المجتمع الإنساني رعاية المصالح وتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وأن هذه الرعاية للمصالح تقوم على نظر متكامل يقدم الضروريات ثم الحاجيات ثم التحسينيات، بل إنها في إطار الضروريات تقيم نسقاً دقيقاً للمفاضلة بين المصالح عندما تتعارض: - الضرورات تبيح المحظورات؛ والضرورة تقدر بقدرها؟ والحاجة تنزل منزلة الضرورة.. إلى غير ذلك. وأن إقراره عليه الصلاة والسلام بأن لكل داء دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله، يفتح باب العلاج على مصراعيه ويمهد السبل أمام الباحثين لاستكشاف الأدواء وما لم يعلم بالأمس ربما يعلم اليوم أو غداً هذا مع أن الإسلام جاء لعلاج الأرواح من ظلمات الأخلاق والسلوكيات التي تجعل الجسم يعيش معتلاً. وهذا ما يصلنا إلى الاستدلال في هذا الموضوع بعموم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وبعد ذلك القواعد الفقهية والمبادىء العامة التي استنبطها الفقهاء المسلمون من تلك العموميات والإطلاقات لنفرع عليها من الأحكام في موضوعنا، وسوف نشير إلى بعض تلك الآيات والأحاديث في صفحة واحدة ملحقة بهذا البحث كمؤيدات على وجه العموم للمعنى الفقهي الواسع وتوحيداً لنظرية التطابق مع القواعد الأصولية التي سقناها في صلب الموضوع كنظرية تبنى عليها الأحكام الشرعية عندما لا يوجد دليل غيرها كدليل ينص على مأخذ الحكم الشرعي من الدليل. علما بأن إحياء النفوس مطلب شرعي صرحت به الآية الكريمة. قال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [سورة المائدة: الآية 32] . لقد استبط الفقهاء قواعد فقهية وضوابط أصولية تعتبر بمثابة الأصول لمسائل تفرعت عليها الأحكام، ومن ذلك قولهم: المشقة تجلب التيسير: وهي القاعدة الرابعة من قواعد الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي. ويخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته، وعد منها المرض ومن رخصة التداوي بالنجاسات وبالخمر على أحد القولين وتخرج على هذه القاعدة قولهم: الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق. وسوف نشير إلى بعض هذه القواعد العامة في المؤيدات بعد الإشارة إلى الآيات والأحاديث النبوية وبعض الأقوال الفقهية في نهاية البحث إن شاء الله.(6/1469)
إن تنويه الإسلام بقدسية الإنسان وكرامته ورعاية الشريعة الإسلامية المطهرة لذلك في سائر الأحكام الشرعية حقيقة ثابتة لا يرتاب فيها باحث أو فقيه يتمتع بملكة فقهية تؤهله لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية حتى يظهر له بأن رعاية الكرامة الإنسانية داخلة دخولاً أولياً في المقاصد أو المصالح التي هي محور الشرع الإسلامي الحنيف. ومن هنا أيضاً فإن إنقاذ حياة الإنسان أو تمتعه بعضو أصيل في جسمه أصبحت ضرورة راجحة في سلم المصالح المعتبرة شرعاً. وتأسيساً على هذه القواعد الأصولية والفقهية المترابطة والآخذة بعضها بحجز البعض الآخر، والتي يدور محورها على مقصد الشرع في ضرورة حفظ النفس، وبما أن أوسع هذه القواعد شمولاً وأرسخها في البنيان الفقهي الإسلامي هي قاعدة المقاصد الخمس والترتيب الذي صنفت من حيث الأمية على وفقه، وهي: مقاصد: الدين، فالحياة، فالعقل، فالنسل، فالمال. وبما أن ما وصل إليه الطب في عالم اليوم يرقى إلى درجة استعادة مقومات الحياة بعد فقدها أو بعد الإشراف على فقدها، فإن جواز العلاج بالأجنة المجهضة أو الفائضة عن الحاجة بشروطها الشرعية يدخل في دائرة الجواز في إنجاز أهم المقومات الضرورية لمصلحة الحياة، ويدخل حكمها في دائرة القاعدة الأولى من القواعد أو الكليات الخمس الضرورية، وهي: الحياة: أي الكلية الثانية إذا ما أخذ الترتيب بعين الاعتبار، وهي: الدين، الحياة، العقل، النسل، المال. والله أعلم.
المؤيدات للبحث الشرعي في الموضوع:
النصوص من الكتاب الكريم. لقد أرست بعض الآيات الكريمة القواعد التي تحفظ على النفس البشرية حياتها، والتي تنهى عن تعريضها للهلاك. قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [سورة النساء: الآية 29] .
وفي قصة نبي الله أيوب عليه السلام لما أصابه السقيم وأعياه المرض نادى ربه "أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " فأمره تعالى بما كان سبباً في شفائه، وهو القادر على أن يشفيه بلا سبب. قال تعالى: {واذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وشَرَابٌ} [الآيتان 41 و42 من سورة ص] . وقال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة: الآية 95 ا] .(6/1470)
كما أن لجذور هذه المسألة مستنداً أصيلاً من السنة النبوية الشريفة، بالإضافة إلى القواعد الفقهية التي تشكل أساس الاجتهاد في هذه المسألة كما أشرنا إلى ذلك. فقد ثبت بالسنة أن أعرابياً قال: يا رسول الله أنتداوى؟ قال: " نعم، فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله " رواه أحمد. وفي رواية: "نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا داء واحد " قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال: (الهرم) . وفي لفظ: "إلا السام"، وهو الموت.
قواعد دفع الضرر ورفع المشقة: (1) الضرر يزال، (2) الضرورات تبيح المحظورات، (3) يرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما، (4) يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، (5) الضرورة تقدر بقدرها، (6) المشقة تجلب التيسير، (7) الأمر إذا ضاق اتسع. ثم الضرورات إذا حصلت فإن الضرر يزال. والضرورة تبيح المحظور. والمشقة تجلب التيسير. وتأسيساً على هذه الفواعد المترابطة الآخذة بعضها بحجز بعض جالت أنظار العلماء المتقدمين في عدد من الفروع الفقهية في غذاء الآدمي عند الاضطرار أو دوائه وأشياء أخرى. كلها واردة على مقصد الشرع في ضرورة حفظ النفس بين الجواز والمنع والقبول والكراهة.
4 - اتفق الفقهاء على أن وصل الجسد بعظم من حيوان طاهر للتداوي به أو للاستعاضة به عن عضو أو عظم فقده صاحبه جائز، وإن وصل بعظم نجس مع وجود الطاهر أو بدون ضرورة تدعو إلى ذلك، فهو غير جائز ويجب نزعه عند الجمهور في هذه الحالة، إلا إن خيف من هلاك أو عطب. أما إن تعين العظم النجس فلا مانع من الاستفادة منه عند الضرورة.
5 - إن الطب الحديث قد بلغ اليوم شأواً بعيداً عما كان عليه بالأمس فقد تجاوز مرحلة تثبيت أنف أو أنملة أو سن اصطناعي أو وصل الجسم بعظم إنسان أو حيوان آخر تجاوزه إلى زراعة كلية مكان أخرى، وتركيب قلب مكان قلب آخر، وإلى استبدال عين سليمة بأخرى تالفة. وهو بهذا التقدم الذي بلغه اليوم إنما يعيد الأمل إلى الإنسان ويضع في الوقت نفسه أسمى امتحانات التعاون والإيثار.(6/1471)
خلاصة البحث إجمالاً
ا - بعد استعراض آيات وأحاديث الأحكام من الكتاب والسنة وأمهات مراجع الكتب الفقهية وجدت حشداً كبيراً من نصوص الكتاب والسنة، ومن القواعد والأدلة الفقهية قد استعرضت في البحوث التي قدمت إلى المجمع في مواضيع زراعة الأعضاء من حي إلى حي أومن ميت إلى حي ... إلخ. ونظراً لكون تلك الأدلة من باب العموميات على الموضوع محل البحث، فقد وجدت بأن استعراض تلك الأدلة من باب التكرار الذي لا يضاف إليه جديد، اللهم إلا إذا كان ذلك من باب المؤيدات للأدلة الأخرى التي تكون أقرب إلى مدرك الحكم الشرعي، وقد أشرت إلى ذلك.
2 - عرضت موضوع البحث وأوضحت أبعاده وغاياته الشرعية، وأن الطب قد بلغ اليوم شأواً بعيداً عما كان عليه بالأمس، وأن التقدم الذي بلغه الطب في عالم اليوم إنما يعيد الأمل بعد استيئاس الإنسان. ويضع في الوقت نفسه أسمى امتحانات التعاون والإيثار.
3 - عرضت المصالح المرسلة ووجه الدلالة منها، حيث لا يوجد دليل من الكتابة والسنة والإجماع والقياس دليل مباشر على مدرك الحكم الشرعي في الموضوع.
4 - إن الشرع الإسلامي قد رتب المصالح وجعل الحفاظ على الحياة ثاني الكليات الخمس الضرورية تبنى عليها الأحكام الشرعية.
5 - ان الاستدلال بالمصالح المرسلة وجعلها دليلاً مستقلاً بذاته حيث لا يوجد دليل غيرها هو الذي يمد الفقه الإسلامي بمعين لا ينضب من الأحكام التي تتطلبها مستجدات الحياة في شتى الميادين.
6 - جواز الانتفاع بالأجنة المجهضة بالشروط المعتبرة شرعاً والمستندة إلى عدالة الطبيب الشرعي.
والله الهادي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.
محمد عبده عمر 1968(6/1472)
أهم المراجع
1 - القرآن الكريم.
2 - السنة المطهرة.
3 - قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام. الجزء الأول، ص 84 - 99.
4 - المغني، لابن قدامة. الجزء التاسع، ص 415 - 420.
5 - محمد يوسف موصى: المدخل، ص 18.
6 - محمد زكريا البرديس: أصول الفقه، ص 21 وما بعدها.
7 - الإمام الشاطبي: الاعتصام، الجزء الثاني، ص 111 - 114.
8 - مصطفى الزرقاء: المدخل، ص 88 - 89.
9 – شفاء التباريح لليعقوبي. ص 45 -74.
10 - ابن نجيم الحنفي: الأشباه والنظائر، ص 88.
11 - الدكتور محمد علي البار: خلق الإنسان بين الطب والقرآن.
12 - الدكتور محمد علي البار: طفل الأنبوب والتلقيح الصناعي.
13 - الدكتور محمد أيمن صافي: غرس الأعضاء في جسم الإنسان.
14 – الشيخ خليل محيي الدين الميس: انتفعاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً.
15 - الدكتور محمد سعيد البوطي: انتفاع الإنسان بأعضاء إنسان آخر حياً أو ميتاً.(6/1473)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (58/ 7/ 6)
بشأن
"استخدام الأجنة مصدراً لزراعة الأعضاء "
ان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 – 0 2 آذار (مارس) بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع الذي كان أحد موضوعات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت من 23 إلى 26 ربيع الأول 1410 هـ الموافق 23 – 26/ 0 1/ 1990 م، بالتعاون بين هذا المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية،
قرر:
ا - لا يجوز استخدام الأجنة مصدراً للأعضاء المطلوب زرعها في إنسان آخر إلا في حالات بضوابط لا بد من توافرها:
(أ) لا يجوز إحداث إجهاض من أجل استخدام الجنين لزرع أعضائه في إنسان آخر، بل يقتصر الإجهاض عل الإجهاض الطبيعي غير المتعمد والإجهاض للعذر الشرير ولا يلجاً لإجراء العملية الجراحية لاستخراج الجنين إلا إذا تعينت لإنقاذ حياة الأم.
(ب) إذا كان الجنين قابلاً لاستمرار الحياة فيجب أن يتجه العلاج الطبي إلى استبقاء حياته والمحافظة عليها، لا إلى استثماره لزراعة الأعضاء، وإذا كان غير قابل لاستمرار الحياة فلا يجوز الاستفادة منه إلا بعد موته بالشروط الواردة في القرار رقم (1) للدورة الرابعة لهذا المجمع.
2 - لا يجوز أن تخضع عمليات زرع الأعضاء للأغراض التجارية على الإطلاق.
3 - لا بد أن يسند الإشراف على عمليات زراعة الأعضاء إلى هيئة متخصصة موثوقة.(6/1474)
حكم إعادة ما قطع بحد أو قصاص
إعداد
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
فقد علم من مدارك الفقه في أحكام أفعال العباد أن يبحث عن فقه المسألة في كلام العلماء فيحرر ويقابل بين أدلته ليتم الترجيح حسب الدليل وإن لم يكن لها ذكر كانت من النوازل المستجدة فينزل بيان حكمها على قواعد الشريعة وأصولها، وعليه: فعن حكم إعادة العضو المقطوع في حد أو قصاص شرعي إلى مكانه قلبت النظر في عدد من مدونات الفقهاء وكتب الأثر، فوقفت في مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - كما في مسائل ابنه أبي الفضل صالح، عنه 3 /64، 74، برقم 1347، 1 137، قال صالح لأبيه - رحمهما الله تعالى:
(قلت: قطع عضو من الجسد؟؟
قال: لا بأس أن يعيده مكانه، وذاك أن فيه الروح، مثل الأذن تقطع فيعيدها بطرائها) . اهـ.
ومنه أيضاً عن أبيه: (الأسنان تسقط فيضع فيها من كبر سنه سن الغنم لا بأس به، فسنه يعيدها من الرأس لا بأس به، يكره سن غيره) . اهـ. وفقهاء المذهب يذكرون هذه الرواية في (باب اجتناب النجاسة) من كتب الفقه في المذهب كما في: الروايتين والوجهين لأبي يعلى 1/202، والإنصاف 1/489، وكشاف القناع 1/34، وشرح منتهى الإرادات 1/155.. وغيرها.
مبينين: هل هذا العضو المعاد طاهر تصح الصلاة به لأنه جزء من جملته فحكمه حكمه؟
ومنهم من يذكر رواية أخرى عن الإمام أحمد – رحمه اله تعالى – بالمنع من الإعادة السن نفسه لأنها نجسة.
لكن هذا التفريع الفقهي ظاهره فيما سقط من الإنسان أو قطع منه في غير حد أو قصاص شرعي. وهذا ليس مما هنا.(6/1475)
وعليه: فإن النظر في حكم إعادة عضو قطع في حد أو قصاص شرعي يصار فيه إلى القواعد الشرعية وبالتأمل يظهر تحريم إعادة عضو قطع بحد أو قصاص لأمور:
* الأول: في هذا استدراك على الشارع في حكمه وهذا أمر لا يجوز أصلاً.
* الثاني؟ بدن الإنسان، وإن جرى الخلاف هل هو ملك له؟ أم ملك الله تعالى؟
أم مشترك فيه حق الله وحق لعبده؟. فإن الذي استقرت عليه كلمة التحقيق اجتماع الحقين، حق الله في الاستعباد، وحق العبد في الاستعمال والانتفاع في حدود الشرع. لكن هذا العضو المقطوع بحد تمحض حقاً الله تعالى والمقطوع بقصاص تمحض حق الله تعالى وحقاً لعبد آخر وبهذا:
ارتفعت حقوق المقطوع منه عن ذلك العضو شرعاً.
* الثالث: الحياة مخالطة للبدن، وحياة كل عضو بحسبه فالشرع حين حكم
بقطع اليد حداً في السرقة {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية. فهذا الحكم بالقطع لها شامل لجرمها وحياتها فصلاً لها عن البدن على التأبيد.
وعليه: فإن إعادتها فيه افتيات على الشرع في حكمه.(6/1476)
* الرابع: جاء النص عن النبي صلى الله عليه وسلم بحسم يد السارق بعد قطعها كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه)) .
والحسم لأجل سد منافذ الدم حتى لا يؤدي إلى تلف النفس، فرتب النبي صلى الله عليه وسلم الحسم على القطع، ولدى علماء الأصول: (أن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر) .
وعليه: فليس ثمة بعد القطع إلا الحسم فحسب، ولذا فإن إعادة العضو استدراك على الشرع من هذا الوجه.
* الخامس: ثبت من حديث فضالة - رضي الله عنه - ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه)) رواه أصحاب السنن وغيرهم.
فتعليق اليد في عنق السارق حكم شرعي من العقوبة الحدية والقول بإعادتها فيه تفويت لاستكمال الحد وتمامه.
* السادس: في خصوص القصاص فإنه حياة للأمة، وعدل في مماثلة العقاب، وشفاء للبدن الموتور بفوات عضو منه عدواناً، ففي إعادة العضو المقطوع قصاصاً تفويت لهذه المعاني، وفي إعادة العضو المقطوع بحد إعادة لحياته وقد أهدر استقرار حياة الأمة، ففي هذا نقص فيم الجزاء والنكال، والله يقول في حق السارق والسارقة: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} .
وفي حق العقوبات: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} .
وفي خصوص القصاص: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} .
فإذا أعيد العضو المقطوع بقصاص لم تكن العقوبة مثلية على الدوام.
تنبيه:
وبما أن الحدود الإتلافية شرعاً لا تطبق في العالم الإسلامي إلا ما ندر كالمملكة العربية السعودية فأرى عدم بحث هذا الموضوع لأنه فرع عن أصله وأصله لا يقام شرعاً في كل العالم الإسلامي، فليطو البحث فيه ولا ينبغي تمييع الأحكام الشرعية والوثبة عليها من كل جانب.
وإن كنا نحسن الظن - ولله الحمد - في مثل هذا البحث لكنه والحال ما ذكر يكون من باب الفقه التقديري وبلسان العصر (الترف العلمي) ... فلنبذل الجهد فيما له صفة العموم في العالم الإسلامي.
والله الموفق والمعين.
بكر بن عبد الله أبو زيد(6/1477)
زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص
إعداد
فضيلة حجة الإسلام محمد علي التسخيري
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
تحرير المسألة:
فهل يجوز شرعاً أن نزرع عضواً - كاليد مثلاً - استؤصل بحد أو قصاص لتعود إلى حالتها السابقة سليمة من أي نقص، وهو أمر ممكن؟
وهذه الحالة يمكن تصورها على أنحاء: منها إعادة نفس اليد المقطوعة، ومنها وضع يد أخرى من ميت آخر، ومنها أيضاً ترميم العضو المقتص منه بنقل قسم آخر من نفس البدن إليه.
وعلى أي حال فما هو الحكم الشرعي في الموضوع؟
ضرورة بحث المسألة:
ولا نرى صحة الغض عن هذه المسألة بحجة أن الحدود لا تطبق في كثير من البلاد الإسلامية، ذلك أن هذه المسألة ما دامت واقعة حتى في مورد واحد وجب علينا أن نستنبط حكمها الشرعي (وما من واقعة إلا ولله فيها حكم) ، فكيف بنا ونحن نواجه شوقاً إسلامياً عاماً لتطبيق الإسلام على كل مجالات الحياة، ومن أهم أجزاء النظام الإسلامي قانون العقوبات الإسلامية.
وبعد تقدم العلم لم يعد هذا الموضوع نادراً، بل أصبح أمراً عادياً، ومن هنا فمن الضروري بحث المسألة ومعرفة الرأي الشرعي فيها.
هل المسألة مستحدثة؟
يمكن القول بأن المسألة غير مستحدثة فقد تعرض لها بعض الفقهاء قديماً، بل لها جذور تطبيقية في عمر صدر الإسلام – كما سنرى – إلا أنها لما لم تكن حالة طبيعية متكررة نتيجة ضعف مستوى الطب فلم تشكل ظاهرة تستوجب البحث العلمي والفقهي فيها.. ونحن نشهد الإمام الشيخ الطوسي وهو من أئمة القرن الرابع الهجري ينقل قول الإمام الشافعي في موضوع مطالبة المجني عليه بقطع أذن الجاني بعد عمل هذا الأخير على إعادتها إلى محلها بعد أن اقتص منه بقطعها (1) ثم يرد عليه مستنداً إلى الإجماع، مما يكشف عن طرح المسألة آنذاك على بساط البحث!
__________
(1) جواهر الكلام: 42/ 365.(6/1478)
وقبل بحث مسألتنا هذه يطرح بعض الفقهاء، مسألة أخرى وهي ما لو افترضنا قيام المجني عليه بإلصاق أذنه المقطوعة في جانبه حتى برئت، فهل له المطالبة بالقصاص أم لا؟
ويجيبون عادة ببقاء حق المطالبة، إذ أن وقوع الجريمة كان مقتضياً للعقاب وثبوت الحق بالمطالبة بالقصاص، والإلصاق الطارىء لا ينفي بقاء ذلك الحق.
ولسنا بهذا الصدد حتى نتبين الحق فيه فلنركز على موضوع المسألة إذن لنعرف ما هو الموقف؟
الأقوال المتصورة في المسألة ثلاثة، هي:
أولاً: المنع من إعادة العضو مطلقاً ولو أعيد قطعه الحاكم.
ثانياً: الجواز مطلقاً.
ثالثاً: التفصيل بين حقوق الآدميين فلا يجوز وحقوق الله فلا مانع فيها، وعلى هذا فتجب ملاحظة أدلة كل قول ثم اختيار القول الأقرب للقواعد الشرعية.
* القول الأول:
المنع المطلق من إعادة العضو المبان بحد أو قصاص، وقد استدل لهذا - أو يمكن أن يستدل له - بالأدلة التالية:
ا - إن في التجويز استدراكاً على حكم الشارع، وهذا لا يجوز.
2 - إن المقطوع قد تمحض حقاً لله وليس للمقطوع منه فيه حق شرعي.
3 - إن العضو المقطوع قد حكم الشرع بقطعه نتيجة جرمه وبالتالي فهو يفصل عن البدن أبداً.
4 - إن الشارع حكم بحسم اليد المقطوعة لسد منافذ الدم وسكت عما وراءه مما يفيد الحصر إذا كان في مقام البيان.
5 - إن إعادة اليد فيه تفويت لاستكمال الحد بعد أن حكم الشارع بتعليق اليد في عنق السارق.(6/1479)
6 - إن فيه نقضاً للجزاء والنكال الوارد في حق السارق والسارقة.
7 - كون القطعة المضافة من الميتة النجسة التي تمنع من صحة الصلاة، الأمر الذي يدعو الحاكم لإزالتها من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
8 - فيه نفي للماثلة في الشين، وقد جاء في الرواية اعتباره، وهي على النحو التالي:
محمد بن الحسن الطوسي بإسناده، عن محمد بن الحسن الصفار، عن الحسين بن موسى الخشاب، عن غياث بن كلوب، عن إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) : أن رجلاً قطع من بعض أذن رجل شيئاً فرفع إلى علي (عليه السلام) ، فأقاده فأخذ الآخر ما قطع من أذنه فرده على أذنه بدمه فالتحمت وبرئت، فعاد الآخر إلى علي (عليه السلام) ، فاستقاده فأمر بها فقطعت ثانية وأمر بها فدفنت وقال (عليه السلام) : "إنما يكون القصاص من أجل الشين " (1)
9 - الإجماع.
هذا مجمل الأقوال التي ذكرت أو يمكن أن تذكر في البين (2)
قال في جواهر الكلام:
وفي محكي الخلاف: إذا قطع أذنه قطعت أذنه فإن أخذ الجاني أذنه فألصقها فالتصقت كان للمجني عليه أن يطالب بقطعها وإبانتها. وقال الشافعي: ليس له ذلك، لكن وجب على الحاكم أن يجبره على قطعها، لأنه حامل نجاسة.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
وفي محكي المبسوط: "لو قال المجني عليه قد ألصق أذنه بعد أن اقتطعها أزيلوها روى أصحابنا أنها تزال ولم يعللوا ".
__________
(1) وسائل الشيعة: 19/ 139 - 140.
(2) راجع جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: 42/ 365 - 366، وتحرير الوسيلة: 2/ 544 المسألة (19) ، ويحث الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد.(6/1480)
وفي التنقيح: "لا خلاف في جواز إزالتها، لكن اختلف في العلة فقيل ليتساويا في الشين، وقيل لكونه ميتة ويتفرع على الخلاف أنه لو لم يزلها الجاني ورضي بذلك كان للإمام إزالتها على القول الثاني لكونه حامل نجاسة فلا تصح الصلاة مع ذلك" (1)
* ثانياً - أدلة القول بالجواز مطلقاً:
ويستند القائلون به - أو يمكن أن يستدل لهم - بأنه لم يثبت دليل على المنع فيبقى الأمر على إباحته حيث الأصل هو (الإباحة) .
ذلك أن الأمر الصادر بالإبانة قد تم امتثاله لأنه يتعلق بطبيعتها وتتحقق الطبيعة بامتثال أول حصة منها، وحينئذ يسقط الأمر، كما قرر ذلك الأصوليون - بحق - وبالنسبة للرواية ذكروا أن فيها ضعفاً في السند. يقول الإمام الخميني (رحمه الله) بهذا الصدد: "وفي الرواية ضعف" (2)
أما الإجماع فهو منقول وغير محصل ولا يكشف عن شيء.
وأما دليل النجاسة فهو منتف موضوعاً لاتصالها بالبدن الحي وصيرورتها حية. وعليه فقد أفتوا بعدم جواز إبانتها بعد وصلها إذا صارت حية.
يقول الإمام الخميني: "ولو صارت بالإلصاق حية كسائر الأعضاء لم تكن ميتة وتصح الصلاة معها، وليس للحاكم ولا لغيره إبانتها، بل لو أبانها شخص فعليه القصاص لو كان عن علم أو عمد وإلا فالدية) (3)
* ثالثاً - القول بالتفصيل بين حقوق الناس وحقوق الله:
وخلاصة الاستدلال لهذا القول أن الاستحسان والمصلحة الضرورية أو الحاجية وغيرها من أصول الاستدلال لا تمنع من القول بإعادة اليد بحجة مصادمتها للنصوص الشرعية، لأن إعمال النص قد تحقق بقطع اليد أو بالقصاص وما وراء ذلك يكون على أصل الإباحة.
__________
(1) جواهر الكلام: 42/ 365.
(2) يقول السيد الصدر في دروسه ص 122: "وإن الأمر لا يدل على المرة ولا على التكرار.. وإنما تلزم به الطبيعة والامتثال يتحقق بالفرد الأول خاصة".
(3) تحرير الوسيلة: 42/ 544.(6/1481)
هذا ما يقوله العلامة الدكتور الزحيلي في بحثه القيم حول الموضوع والمقدم إلى المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الكويت، إلا أنه يستثني من ذلك ما لو تحول العلاج إلى ظاهرة عامة تؤدي إلى تجرؤ اللصوص والمحاربين.
كما يستثني ما لو كان الحد من حقوق العباد وثبت بالشهادة إلا إذا أذن المجني عليه ورضي بذلك، وبدون ذلك ينتفي عنصر المماثلة ويؤدي ذلك إلى مفاسد لا تحمد عقباها، فالعلة في الاستثناء هو المنع من الضغائن.
وفيما عدا ذلك فالحكم هو الجواز، أما في حقوق العباد وقد تم الإثبات بالإقرار فإعادته إليه رجوع عن الإقرار.
وأما في حقوق الله كحد السرقة والحرابة فقد رجح الجواز لأن النص قد استوفى نصيبه ولا سلطان للحاكم بعد تنفيذ الحد، وقد تحققت أهدافه المادية والمعنوية ولا مانع من زراعة العضو من إنسان آخر كما قرر المجمع الفقهي ولأن التوبة تسقط الحدود في مذهب الحنابلة، ولأن في ذلك مصلحة ضرورية، ولأن حقوق الله مبنية على الدرء والإسقاط والمسامحة، وبعد ذلك لا مناص من الرجوع إلى عدالة الإسلام وسماحته.
تقويم الآراء والأدلة:
وإذا شئنا أن نقوم الآراء والأدلة السابقة وصولاً إلى الرأي الحق أمكننا بعد التأمل أن نلاحظ النقاط التالية:
* النقطة الأولى:
من الملاحظ أن بعض الأدلة التي سيقت من أنصار هذا الرأي أو ذاك هي أدلة استحسانية محضة ولا تنهض مطلقاً كدليل شرعي على الرأي وفقاً لقواعد الاستثناء، وهي من قبيل:
(1) الاستدلال على المنع من إعادة العضو بأن هذا العمل استدراك عل حكم الشارع وهذا لا يجوز.
ذلك أن كونه استدراكاً واعتراضاً وإلغاء لحكم الشارع هو أول الكلام إن أريد منه معنى الإلغاء، أما لو أريد منه مجرد عدم الانسجام الأدبي مع الحكم الشرعي فهو مجرد استحسان لا دليل عليه.(6/1482)
(ب) الاستدلال على أن المقطوع لم يعد فيه مجال لحق المقطوع منه، فالقول فيه نفس القول السابق إذ يقال إن هذا هو المتنازع فيه أولاً ثم إن الوجد ان يبقي علاقة بينهما على أننا نتحدث لا عن الحق في العضو المقطوع وإنما نتحدث عن الإمكان الشرعي للإعادة والانتفاع الجديد به.
(ج) الاستدلال بأن العضو المقطوع تمت الجريمة به فيجب أن تكون عقوبته مؤبدة..
وهذا أيضاً لم نتحقق من المراد منه.
إذ أن المجرم الحقيقي هو الذات الإنسانية التي ارتكبت الجريمة، وقد تمت عقوبتها وتعذيبها بالقطع فما معنى ملاحقة العضو الذي لا حراك فيه بآثار الجريمة.
(د) الاستدلال على المنع بأنه يفوت استكمال الحد بعد حكم الشارع بتعليق اليد في عنق السارق.
فإن التعليق ليس بواجب أولاً، ثم إن الكلام يبقى بعد استكمال الحد فهل يجوز الرد من جديد؟
(هـ) الاستدلال على تخصيص حرمة الإعادة بحالة ما إذا كان القطع في حقوق العباد للقصاص بأننا لو سمحنا بالإعادة لثارت الضغائن.
فإن مجرد احتمال المفسدة لاً ينهض على المنع ثم هي حالة استثنائية يجب أن تعالج بعلاج قانوني مانع على أننا لا نستطيع أن نعمم هذا الحكم لكثير من الحالات التي لا نحتمل فيها ذلك.
ومن هنا فلا نستطيع الاستناد لهذا التعليل.
وخلاصة الأمر أن هذه لا تعدو كونها استحسانات لا تملك قدرة الدليل الشرعي.
* النقطة الثانية:
ولو تجاوزنا الاستحسانات فإن هناك استدلالات لها أهميتها من كل طرف يجب أن يتم تقويمها بدقة لنقف على القوي منها.
ا - منها: الاستدلال برواية إسحاق بن عمار، عن الصادق، عن الباقر (ع) ، على المنع، وهنا نقول:
أولاً: هذه الرواية إن صحت - سنداً ومتناً - فهي مختصة بحالة القصاص، ولا يمكن أن يستدل بها على المنع في الحدود، خصوصاً مع ملاحظة التعليل الوارد فيها: (إنما يكون القصاص من أجل الشين) .(6/1483)
ثانياً: اختلفت الأوصاف التي تطلق على الرواية المذكورة.
فقد وصفها صاحب جواهر الكلام بالحسنة والموثقة (1) ووصفها السيد الخوئي بالمعتبرة (2)
في حين ذكر الإمام الخميني أن في سندها ضعفاً (3)
فما هو الموقف الصحيح؟
إن هذه الرواية نقلت بسندين:
أحدهما: رواية التهذيب للشيخ الطوسي.
والثاني: رواية الشيخ الصدوق في (المقنع) .
أما رواية الشيخ الصدوق فهي مرسلة ولا اعتبار لها.
وأما رواية الشيخ الطوسي (رحمه الله) فسندها عل النحو التالي:
محمد بن الحسن (الطوسي) بإسناده عن محمد بن الحسن (الصفار) ، عن الحسن بن موسى (الخشاب) ، عن غياث بن كلوب، عن إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) .
وعند دراسة السند هذا نجد ما يلي:
(أ) أن غياث بن كلوب لم ينص على وثاقته.
نعم ذكر الشيخ الطوسي في كتاب "العدة " أن الإمامية عملت بأخباره إن لم يكن لها معارض (4) وهذا يعني درجة من التشكيك بلا ريب.
وقال عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في "لسان الميزان" (5) غياث بن كلوب عن مطرف بن سمرة ضعفه الدارقطني وقال: له نسخة عن مطرف بن سمرة. وقال البيهقي: غياث هذا مجهول.
__________
(1) جواهر الكلام: 42/ 365.
(2) تكملة المنهاج: 2/161.
(3) تحرير الوسيلة: 2/ 544.
(4) نقلاً عن معجم رجال الحديث: 13/235.
(5) لسان الميزان: 4/423.(6/1484)
(ب) عند مراجعة سند الشيخ الطوسي إلى الخشاب نجد الشيخ الطوسي يقول في فهرسته ص 171: "الحسن بن موسى الخشاب له كتاب أخبرنا به عدة من أصحابنا عن أبي المفضل، عن ابن بطة، عن محمد بن الحسن الصفار، عن الحسن بن موسى" (1)
وعن هذا السند يقول السيد الخوئي: (وطريق الشيخ إليه ضعيف بأبي المفضل وابن بطة) .
ومعنى هذا أن سند الشيخ الطوسي إلى الخشاب غير صحيح، فهل يمكن تصحيحه من طريق آخر بأن يقال: رغم ضعف هذا الطريق فإن هناك طرقاً صحيحة بين الشيخ الطوسي والراوي الذي يسبق الخشاب وهو العالم الكبير محمد بن الحسن الصفار، فيمكننا الاعتماد عليه محتملين أن الرواية نقلت من أحد تلك الطرق الصحيحة؟ إلا أننا نعتقد أنه ما دام احتمال نقل الرواية بالطريق الضعيف باقياً فلا يمكن الاعتماد على أنا نحتمل قوياً نقلها بالطريق الضعيف، وحينئذ لا يمكن الاستدلال بالرواية.
2 - ومنها: الاستدلال على المنع من إعادة اليد بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من الحسم بعد القطع: ((اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه)) .
باعتبار أنه ليس ثمة بعد القطع إلا الحسم فحسب، ولذا فإن إعادة العضو استدراك على الشرع ولدى علماء الوصول (إن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر) (2)
ولسنا نرى أن المقام مقام بيان كل ما يترتب على القطع، وإنما المقام مقام المنع من نزيف الدم الذي يسري بالعقوبة إلى النفس فيقضي عليها، ومن هنا جاء الإرشاد النبوي الشريف بلزوم ايقاف النزف بالحسم.
3 - ومنها: الاستدلال على المنع بأن فيه تفويتاً للنكال الوارد في الآية الشريفة:
{جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا} ، أو المثلية في قوله تعالى: {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، أو القصاص في قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} .
__________
(1) نقلاً عن قاموس الرجال: 13/145.
(2) الدكتور بكر عبد الله أبو زيد في بحثه حول الموضوع.(6/1485)
وهنا أيضاً نفول إن النكال هي العقوبة التي تكون عبرة للغير (1) وكفى في قطع الطرف من الجاني نكإلا ومثلية لما عمله وقصاصاً لذلك ولا دليل على العبرة المؤبدة وما أكثر العبر التي مرت لحظة ثم بقي خبرها عبرة للتاريخ.
4 - ومنها: الاستناد إلى دليل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر باعتبار القطعة المبانة من الميتة فهي نجسة، وحملها يبطل الصلاة فيجب النهى عن المنكر.
وهذا الاستدلال واضح الوهن، إذ أن الموضوع هنا ينتفي إذ تعود هذه القطعة حية موصولة بالجسد ولا يشملها دليل الميتة.
يقول الإمام الخميني: "ولو صارت بالإلصاق حية كسائر الأعضاء لم تكن ميتة، وتصح الصلاة معها ".
ولو افترضنا بقاء النجاسة فإن حصول الضرر بإزالتها تسقط وجوب إزالتها في الصلاة، بل يقال إنها كالمحمول النجس، وهناك قول بعدم بطلان الصلاة بالمحمول النجس كما يقول صاحب الجواهر.
وعلى أي حال فهذا الدليل رغم استناد الكثير من العلماء إليه (2) ليس قوياً.
الإجماع:
حيث ذكر في التنقيح أنه (لا خلاف في جواز إزالتها، أي: القطعة المبانة الملصقة بعد ذلك، لكن اختلف في العلة) .
إلا أننا لم نتأكد أولاً من حصول هذا الإجماع خصوصاً مع وجود المخالفين له وعدم انطراح المسألة بشكل عام.
على أنه إجماع معلل تبقى أهميته بمستوى أهمية علته وقد درسنا العلل فلم نجدها تقوى على النهوض.
* النقطة الثالثة:
إن الأدلة التي ساقها الرأي التفصيلي، باستثناء ما قلناه وبعض الإيرادات الأخرى، يمكنها أن تنهض على جواز إعادة المقطوع في موارد حقوق الله وحقوق العباد الثابتة بالإقرار، وحينئذ فلو لم نقبل الجواز المطلق فإن القول بالتفصيل الذي ذكره الرأي الثالث هو المتعين ولا مجال للرأي الأول الذي يمنع من الإعادة مطلقاً.
والله تعالى أعلم.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري
__________
(1) لسان العرب: 11/677.
(2) نسب الشيخ الطوسي القول به للإمام الشافعي، وحكي عن الفاضل والحلي، وقال في المسالك: 2 /484 من الطبعة الحجرية: (إذا قطع أذن إنسان فألصقها المجني عليه في حرارة الدم فالتصقت لم يسقط القصاص ولا الدية على الجاني، لأن الحكم يتعلق بالإبانة، وقد وجدت لكن لا يصح صلاة الملصق حتى تبين ما ألصقه لأن الأذن المبانة صارت نجسة حيث إنها قطعة تحلها الحياة أبينت من حي. وهل للجاني طلب إزالتها لا لأجل ذلك (النجاسة) بل لتحقق المماثلة؟ قال المصنف وجماعة: نعم، والتعليل الأول أجود ... فالإزالة من قبيل الأمر بالمعروف ولا اختصاص له به بل النظر في مثله إلى الحاكم) .(6/1486)
زراعة عضو استؤصل في حد
إعداد
فضيلة القاضي محمد تقي العثماني
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا ومولانا محمد النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
ا - فموضوع هذا البحث معرفة الحكم الشرعي في مسألة زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص، وإعادته إلى محله بعملية من عمليات الطب الحديث، هل يجوز ذلك شرعاً؟. وما حكم من فعل ذلك؟
2 - وبما أن المسألة أخذت اليوم مكانها من الأهمية بفضل ما وصل إليه التقدم الطبي في مجال زرع الأعضاء الذي لم يكن متصوراً في الأزمنة الماضية، فقد يزعم الزاعمون أنها مسألة مستجدة لا يمكن أن يوجد لها ذكر صريح في كتب الفقهاء السالفين، ولكن هذا الزعم غير صحيح. والواقع أن الفقهاء المتقدمين ذكروا هذه المسألة ودرسوها من النواحي المختلفة بما يدل في جانب على مدى توسعهم في تصوير المسائل ودقة أنظارهم في بيان الأحكام، وفي جانب آخر، على أن إعادة العضو إلى محله لم يكن أمراً غير متصور في عهدهم، بل كان أمراً عرفه وجربه المتقدمون، حتى في القرن الثاني من الهجرة، إذ يتحدث عنه الإمام مالك رحمه الله تعالى بكل بصيرة طبية لا تزال صادقة حتى اليوم.
3 - وقبل أن آتي بنصوص الفقهاء في المسألة أريد أن أحدد مجال البحث في نقاط آتية:
(1) إذا جنى رجل على آخر، فقطع عضواً من أعضائه، ثم أعاده المجني عليه إلى محله قبل استيفاء القصاص أو الأرش، هل يؤثر ذك في سقوط القصاص أو الأرش؟ ولو أعاده بعد استيفاء القصاص، هل يؤثر ذلك فيما استوفاه من القصاص أو الأرش؟
(2) إذا قطع عضو الجاني قصاصاً، فهل يجوز له أن يعيده إلى محله بطريق الزراعة؟ أو يعتبر ذلك إبطالاً لحكم القصاص؟ وإن أعاد الجاني عضوه المقتص منه هل يجوز للمجني عليه أن يطالبه بالقصاص مرة ثانية؟
(3) إن زرع أحد عضوه المنفصل عنه (سواء كان في حد أو قصاص أو لسبب آخر فأعاده إلى محله، هل يعتبر ذلك العضو طاهراً؟ أو يعتبر نجساً، بحيث لا تجوز معه الصلاة، فيؤمر بقلعه مرة أخرى؟
(4) هل يجوز للسارق المقطوعة يده أو رجله أن يعيدهما إلى محلهما؟ أو يعتبر ذلك اعتداء على الحكم الشرعي في قطع يد السارق، ولئن فعل ذلك أحد، هل تقطع يده مرة ثانية؟(6/1487)
وأريد أن أتكلم عن كل واحدة من هذه المسائل في فصل مستقل وبالله التوفيق.
المسألة الأولى
زرع المجني عليه عضوه
4 - أما المسألة الأولى، وهي أن يعيد المجني عليه عضوه المقطوع إلى محله، فأول من سئل عنها وأفتى فيها فيما أعلم: إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى. فقد جاء في المدونة الكبرى:
"قلت: (القائل سحنون) أرأيت الأذنين إذا قطعهما رجل عمداً، فردهما صاحبهما فثبتتا، أو السن إذا أسقطها الرجل عمداً، فردها صاحبها فبرئت وثبتت، أيكون القود على قاطع الأذن أو قالع السن؟ (قال: أي ابن القاسم) سمعتهم يسألون عنها مالكاً، فلم يرد عليهم فيها شيئا (قال) وقد بلغني عن مالك أنه قال: في السن القود وإن ثبتت، وهو رأيي، والأذن عندي مثله أن يقتص منه. والذي بلغني عن مالك في السن لا أدري أهو في العمد يقتص منه، أو في الخطأ أن فيه العقل، إلا أن ذلك كله عندي سواء في العمد وفي الخطأ (1)
5 - ثم تتابعت فيه الروايات عن الإمام مالك وتلامذته رحمهم لله، واتفقت الروايات جميعا على أن المجني عليه في العمد إن أعاد عضوه إلى محله، فلا يسقط به القصاص عن الجاني، سواء كان العضو قد عاد إلى هيئته السابقة أو بقي فيه عيب، أما إذا كانت الجناية خطاً فإن قضي على الجاني بالدية، ثم أعاد المجني عليه عضوه بعد القضاء، فالروايات متفقة أيضاً على أن الأرش لا يرد. وأما إذا أعاد عضوه قبل القضاء على الجاني بالدية، ففيه ثلاث روايات. وقد فصل ابن رشد الجد هذه المسألة في كتابه "البيان والتحصيل" فقال:
"وأما الكبير تصاب سنه فيقف له بعقلها، ثم يردها صاحبها فثبتت، فلا اختلاف بينهم في أنه لا يرد العقل إذ لا ترجع على قوتها. هذا مذهب ابن القاسم، وقول أشهب في كتاب ابن المواز، وروايته عن مالك.
__________
(1) المدونة الكبرى، باب ما جاء في دية العقل والسمع والأذنين: 16/113.(6/1488)
والأذن بمنزلة السن في ذلك، لا يرد العقل إذا ردها بعد الحكم فثبتت واستمسكت. وإنما اختلف فيهما إذا ردهما، فثبتتا، واستمسكتا، وعادتا لهيئتهما قبل الحكم على ثلاثة أقوال: أحدهما قوله في المدونة إنه يقضى له بالعقل فيهما جميعاً، إذ لا يمكن أن يعودا لهيئتهما أبداً. وقال أشهب إنه لا يقضي له فيهما بشيء إذا عادا لهيئتهما قبل الحكم. والثالث: الفرق بين السن والأذن، فيقضى بعقل السن وان ثبتت، ولا يقضى له في الأذن بعقل إذا استمسكت وعادت لهيئتها، وان لم تعد لهيئتها عقل له بقدر ما نقصت ... ولا اختلاف بينهم في أنه يتم له بالقصاص فيهما، وان عادا لهيئتهما (1)
6 - فالحاصل أن القصاص لا يسقط بالإعالة في حال من الأحوال، وأما الأرش ففيه ثلاث روايات:
(1) لا يسقط الأرش بإعادة عضو المجني عليه.
(2) يسقط الأرش بذلك.
(3) يسقط الأرش في الأذن ولا يسقط في السن.
7 - ووجه الفرق بين السن والأذن على هذه الرواية الثالثة ما حكاه العتبي في المستخرجة عن ابن القاسم برواية يحيى، قال:
"وسئل (يعني ابن القاسم) عن الرجل يقطع أذن الرجل فيردها وقد كانت اصطلمت فثبتت، أيكون له عقلها تاماً؟ فقال: إذا ثبتت وعادت لهيئتها فلا عقل فيها، فإن كان في ثبوتها ضعف، فله بحساب ما يرى من نقص قوتها.
قبل له: فالسن تطرح، ثم يردها صاحبها فتثبت، فقال: يغرم عقلها تاماً، قيل له: فما فرق بين هذين عندك؟ قال: لأن الأذن إنما هي بضعة، إذا قطعت ثم ردت، استمسكت، وعادت لهيئتها، وجرى الدم والروح فيها. وإن السن إذا بانت من موضعها ثم ردت لم يجر فيها دمها كما كان أبداً، ولا ترجع فيها قوتها أبداً. وإنما ردها عندي بمنزلة شيء يوضع مكان التي طرحت للجمال، وأما المنفعة فلا تعود إلى هيئتها أبداً.
__________
(1) البيان والتحصيل: 16/ 66 و67، كتاب الديات الثالث، وراجع أيضاً الحطاب: 6/262، والمواق: 6/ 264.(6/1489)
8 - وشرحه ابن رشد ببيان الروايات الثلاثة المذكورة (1) ولكن لم يذكر أحد منهم وجه الفرق بين القصاص والأرش، على الروايات التي تقول بسقوط الأرش دون القصاص عن الجاني بعد إعادة المجني عليه عضوه المقطوع. والذي يظهر لي - والله أعلم - أن القصاص إنما يجب في العمد جزاء للاعتداء القصدي من الجاني، عملاً بقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، وبقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، وإن هذا الاعتداء واقع لا يزول بإعادة المجني عليه عضوه إلى محله، فلا يسقط القصاص في حال من الأحوال. أما الأرش، فإنما يجب في الخطأ الذي لا يتعمد فيه الجاني اعتداء على أحد، فليس الأرش إلا مكافأة للضرر الحاصل من فعله، واستدراكاً لما فات المجني عليه من العضو أو المنفعة، فإن عاد العضو بمنفعته الفطرية وجماله السابق، إنعدم ضرر المستوجب للأرش، فسقط الأرش.
9 - ولكن الذي يظهر أن المختار عند المالكية عدم الفرق بين القصاص والأرش، حيث لا يسقط واحد منهما، هكذا ذكره خليل في مختصره، واختاره الدردير والدسوقي وغيرهما، وعلله الدردير بأن الموضحة إذا برئت من غير شين، فإنه لا يسقط الأرش، فكذلك الطرف إذا أعيد، فإنه لا يسقط أرشه مع كون كل منهما خطاً (2)
مذهب الحنفية في المسألة:
10 - ثم الذي ذكر هذه المسألة بعد الإمام مالك، هو الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله، فقال في كتابه "الأصل":
"وإذا قلع الرجل سن الرجل، فأخذ المقلوعة سنه فأثبتها في مكانها، فثبتت، وقد كان القلع خطاً، فعلى القالع أرش السن كاملاً، وكذلك الأذن " (3)
__________
(1) البيان والتحصيل لابن رشد: 16 /158و 159.
(2) الدسوقي على الدر ير: 4/256 و 278.
(3) كتاب الأصل لمحمد بن الحسن الثيباني: 4/467، كتاب الديات.(6/1490)
فاختار محمد رحمه الله أن إعادة العضو لا يسقط الأرش عن الجاني. ثم أخذ عنه الفقهاء الحنفية فقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله:
"واذا قلع الرجل سن رجل خطأً، فأخذ المقلوع سنه، فأثبتها في مكانها فثبتت، فعلى القالع أرشها، لأنها وان ثبتت لا تصير كما كانت، ألا ترى أنها لا تتصل بعروقها؟.. وكذلك الأذن إذا أعادها إلى مكانها، لأنها لا تعود إلى ما كانت عليه في الأصل، وإن التصقت " (1)
وهنا علل السرخسي عدم سقوط الأرش بكون العضو لا يعود إلى حالته السابقة بعد الالتصاق، وفرع عليه المتأخرون أن "هذا إذا لم يعد إلى حالته الأولى بعد الثبات في المنفعة والجمال، والغالب أن لا يعود إلى تلك الحالة. وإذا تصور عود الجمال والمنفعة بالإثبات لم يكن على القالع شيء، كما لو نبتت السن المقلوع، كما ذكره الزيلعي وغيره عن شيخ الإسلام) . (2)
11 - ولكن المسألة عند الحنفية مفروضة في جناية الخطأ، كما رأيت في عبارة الإمام محمد والإمام السرخسي، ولهذا اكتفوا بذكر سقوط الأرش، ولم أجد في كتب الحنفية حكم العمد، وأنه هل يسقط القصاص عندهم فيه بإعادة العضو أولا؟ والظاهر أنه لا يسقط وإن أعاده المجني عليه إلى هيئته، وذلك لما ذكرنا في الحديث عن مذهب المالكية (فقرة 8) من أن القصاص جزاء للاعتداء القصدي من الجاني، وهو واقع لا يزول بهذه الإعادة، فلما ذهب الحنفية إلى أن الأرش لا يسقط بها، فلأن لا يسقط بها القصاص أولى (3)
__________
(1) المبسوط للسرخسي: 26/98، والمسألة مذكورة أيضاً في الهداية وشروحها، راجع فتح القدير: 9/227، وبدائع الصنائع: 7/315.
(2) تبيين الحقائق للزيلعي: 6/137، والبحر الرائق: 8/305، ورد المحتار لأبن عابدين: 6/585.
(3) رد المحتار: 6 /585و 586.(6/1491)
12 - نعم، ذكر الحنفية أن القصاص يسقط فيما إذا ثبتت سن المجني عليه بنفسها، ولكن لا يقاس عليه مسألة زرع العضو وإعادته، وذلك لأمرين: الأول أن العضو المزروع لا يكون في قوة النابت بنفسه، والثاني: أن نبت السن بنفسها ربما يدل على أن السن الأولى لم يقلعها الجاني من أصلها، فتصير شبهة في وجوب القصاص، بخلاف ما أعيد بعملية، فإنه ليس في تلك القوة، ولا يدل على أن الجاني لم يستأصله. فالظاهر أن إعادة العضو من قبل المجني عليه لا يسقط القصاص عند الحنفية أيضاً كما لا يسقط عند المالكية.
مذهب الشافعية:
13 - ثم تكلم في المسألة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقال في كتاب الأم: " وإذا قطع الرجل أنف رجل أو أذنه أو قلع سنه فأبانه، ثم إن المقطوع ذلك منه ألصقه بدمه، أو خاط الأنف أو الأذن، أو ربط السن بذهب أو غيره، فثبت وسأل القود فله ذلك، لأنه وجب له القصاص بإبانته، (1)
وذكر النووي رحمه الله هذه المسألة في الروضة، فألحق بها مسألة الدية، فقال: "قطع أذن شخص، فألصقها المجني عليه في حرارة الدم، فالتصقت، لم يسقط القصاص ولا الدية عن الجاني، لأن الحكم يتعلق بإبانة، وقد وجدت) (2)
فاتضح بهذه النصوص أن مذهب الشافعي في هذا مثل المختار من مذهب المالكية أن إعادة العضو المجنى عليه لا يسقط القصاص ولا الأرش.
مذهب الحنابلة:
14 - وأما الحنابلة، فلهم في هذه المسألة وجهان. وقد ذكرهما القاضي أبو يعلى، فقال:
"إذا قطع أذن رجل فأبانها، ثم ألصقها المجني عليه في الحال فالتصقت، فهل على الجاني القصاص أم لا؟ قال أبو بكر في كتاب الخلاف: لا قصاص على الجاني، وعليه حكومة الجراحة، فإن سقطت بعد ذلك بقرب الوقت أو بعده كان القصاص واجباً، لأن سقوطها من غير جناية عليها من جناية الأول، وعليه أن يعيد الصلاة. واحتج بأنها لو بانت لم تلتحم، فلما ردها والتحمت كانت الحياة فيها موجودة، فلهذا سقط القصاص.
__________
(1) كتاب الأم للشافعي: 6 /52 تفريع القصاص فيما دون النفس من الأطراف.
(2) روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي: 9/197، وراجع أيضاً المجموع شرح المهذب: 17/252.(6/1492)
وعندي أن على الجاني القصاص، لأن القصاص يجب بالإبانة، وقد أبانها. ولأن هذا الإلصاق مختلف في إقراره عليه، فلا فائدة له فيه، (1)
وكذلك ذكر ابن قدامة القولين، ولم يرجح واحداً منهما، وكذلك فعل أبوإسحاق ابن مفلح (2) وذكر المرداوي وشمس الدين ابن مفلح القولين، واختار قول القاضي انه لا يسق القصاص (3) واختار البهوتي قول أبي بكر في أنه يسقط القصاص والأرش كلاهما (4)
القول الراجح في المسألة:
15 - والقول الراجح عندنا ما ذهب إليه الجمهور من المالكية والحنفية والشافعية، وجماعة من الحنابلة أن زرع المجني عليه عضوه لا يسقط القصاص أو الأرش من الجاني، لأن القصاص جزاء للاعتداء الصادر منه، وقد حصل هذا الاعتداء بإبانة العضو، فاستحق المجني عليه القصاص في العمد، والأرش في الخطأ، فلا يسقط هذا الحق بإعادة عضوه إلى محله، وذلك لأمور:
(1) ان إعادة العضو من قبل المجني عليه علاج طبي للضرر الذي لحقه بسبب الجناية، وان البرء الحاصل بالعلاج لا يمنع القصاص والأرش، كما في الموضحة، إن عالجها المجني عليه فبرىء، فإنه لا يمنع حقه في استيفاء القصاص أو الأرش. فكذلك العضو إذا أعيد بعد الإبانة من الجاني، فإنه لا يؤثر فيما ثبت له على الجاني من قصاص أو أرش.
(2) ان إعادة العضو من قبل المجني عليه، وإن كان يستدرك له بعض الضرر، فإن العضو لا يعود عادة إلى ما كان عليه من المنفعة والجمال، فإسقاط القصاص أو الأرش فيه تفويت لحق المجني عليه بعد ثبوته شرعاً.
__________
(1) المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين، لأبي يعلى: 2 /267و 268.
(2) المغني لابن قدامة: 9/422، والشرح الكبير: 9/431.
(3) الإنصاف للمرداوي: 10/ 100، والفروع لابن مفلح: 5/655.
(4) كشاف القناع للبهوتي: 5/641، وشرح منتهى الإرادات: 3/296.(6/1493)
(3) إن القصاص أو الأرش قد ثبت بالقلع يقيناً، وذلك بالنصوص القطعية، فلا يزول هذا اليقين إلا بيقين مثله، وليس هناك نص من القرآن والسنة يفيد سقوط القصاص بإعادة العضو.
16 - ولما ثبت أن إعادة المجني عليه عضوه لا يسقط القصاص عن الجاني، فلو قطع رجل عضوه المزروع مرة ثانية، هل يجب فيه القصاص مرة أخرى؟ قد صرح أكثر الفقهاء بأنه لا يجب، وعلل بعضهم بأن العضو المزروع لا يعود إلى هيئته الأصلية في المنفعة والجمال، فهذا الإلصاق لا يعتد به، قال الموصلي الحنفي رحمه الله تعالى:
"والمقلوع لا ينبت ثانياً، لأنه لا يلتزق بالعروق والعصب، فكان وجود هذا النبات وعدمه سواء، حتى لو قلعه إنسان لا شيء عليه (1)
ومقتضاه أنه لا يجب القصاص ولا الأرش، لأنه جعل النبات وعدمه سواء، ولكن اليوم أمكن في كثير من الأعضاء المقلوعة أن تعاد فتلزق بالعروق والعصب، فلا يتأتى فيها التعليل الذي ذكره الموصلي، فالظاهر في حكم أمثالها أنه لا يوجب القصاص، لأن العضو المزروع، وإن التزق بالعروق والعصب، فإنه عضو معيب لا يكون بمثابة العضو الأصلي، فلا يقطع به العضو الصحيح في أصل خلقته. ولكن يجب أن يلزم به الأرش على الجاني الثاني. وهو قول الحنابلة. قال البهوتي رحمه الله:
" (وإن قلعه) أي ما قطع ثم رد فالتحم (قالع بعد ذلك فعليه ديته) ولا قصاص فيه، لأنه لا يقاد به الصحيح بأصل الخلقة لنقصه بالقلع الأول" (2)
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار، للموصلي: 5/ 39.
(2) شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 3/ 296.(6/1494)
المسألة الثانية
إعادة الجاني عضوه المقطوع بالقصاص
17 - أما المسألة الثانية، فهي أن الجاني إذا قطع عضوه في القصاص، فأعاده إلى محله بعد استيفاء القصاص، هل يعتبر ذلك مخالفة لأمر القصاص، فيقتص منه مرة أخرى؟ أو لا يعتبر؟
18 - فجزم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بأن القصاص قد حصل بإبانة عضو الجاني مرة، فلو أعاده إلى محله فإنه لا يلغى استيفاء القصاص السابق، فلا يقتص منه مرة ثانية، وان ترك العضو المزروع في محله لا يعتبر مخالفة لأمر القصاص. قال رحمه الله تعالى بعد بيان المسألة الأولى (وهي إعادة المجني عليه عضوه إلى محله) :
"وإن لم يثبته المجني عليه، أو أراد إثباته فلم يثبت (1) وأقص من الجاني عليه، فأثبته، فثبت، لم يكن على الجاني أكثر من أن يبان منه مرة، وان سأل المجني عليه الوالي أن يقطعه من الجاني ثانية لم يقطعه الوالي للقود، لأنه قد أتى بالقود مرة إلى أن يقطعه لأنه ألصق به ميتة " (2)
فظهر أن الجاني لم يمنعه من ذلك، ولا يقطع عضوه مرة ثانية، لمخالفته لموجب القصاص. وأما ما ذكره الشافعي رحمه الله من الأمر بقطعه بسبب إلصاق الميتة فسيجيء الكلام على ذلك تحت المسألة الثالثة إن شاء الله تعالى.
19 - وأما الحنابلة، فعندهم في هذه المسألة قولان، أحدهما موافق للشافعية، وجزم به ابن قدامة في المغني، فقال:
"وإن قطع أذن إنسان، فاستوفي منه، فألصق الجاني أذنه، فالتصقت، وطلب المجني عليه إبانتها، لم يكن له ذلك، لأن الإبانة قد حصلت، والقصاص قد استوفي، فلم يبق له قبله حق ... والحكم في السن كالحكم في الأذن " (3)
__________
(1) إن هذا ليس قيداً احترازياً للحكم، وإنما صور المسألة فيما يمكن فيه القول بالاقتصاص مرة ثانية على أساس أن المجني عليه لم يعد عضوه إلى محله، فكيف يعيده الجاني؟ فذكر أن هذا النظر غير صحيح، لأن الواجب على الجاني هو الإبانة مرة واحده، وقد حصل. ويؤخذ منه بالبداهة أن الحكم كذلك بالأولى إذا أثبت المجني عليه عضوه، فإن حالى الجاني والمجني عليه يصير سواء في تلك الصورة.
(2) كتاب الأم للشافعي: 6 /25، وبمثله صرح النووي في روضة الطالبين: 9 /137و 138.
(3) المغني لابن قدامة: 9/423، ومثله في الشرح الكبير: 9/431.(6/1495)
وكذلك جزم القاضي أبو يعلى بأنه لا يقتص منه ثانياً. فقال رحمه الله:
"فإذا قطعنا بها أذن الجاني، ثم ألصقها الجاني، فإن قال المجني عليه: ألصق أذنه بعد أن أثبتها، أزيلوها عنه، قلنا: بقولك لا نزيلها، لأن القصاص وجب بالإبانة وقد وجد ذلك " (1)
ولكن جزم ابن مفلح في الفروع بأنه يقتص من الجاني مرة ثانية، فقال:
"ولو رد الملتحم الجاني أقيد ثانية في المنصوص" (2) واختاره المرداوي والبهوتي أيضاً. قال البهوتي:
"ومن قطعت أذنه ونحوها كمارنه قصاصاً، فألصقها فالتصقت، فطلب المجني عليه إبانتها، لم يكن له ذلك، لأنه استوفى القصاص. قطع به في المغني والشرح. والمنصوص أنه يقاد ثانياً، اقتصر عليه في الفروع، وقدمه في المحرر وغيره. قال في الإنصاف " (3) في ديات الأعضاء ومنافعها: أقيد ثانية على الصحيح من المذهب. وقطع به في التنقيح هناك وتبعه في المنتهى. قال في شرحه: للمجني عليه إبانته، ثانياً، نص عليه، لأنه أبان عضواً من غيره دواماً، فوجبت إبانته منه دواماً لتحقيق المقاصة " (4)
20 - وأما المالكية، فقد ذكروا إعادة المجني عليه عضوه، كما نقلنا عنهم في المسألة الأولى، ولم يذكروا إعادة الجاني عضوه بعد القصاص بهذه الصراحة التي وجدناها في كتب الشافعية والحنابلة. ولكن وجدت للمسألة ذكراً مختصراً في كلام ابن رشد رحمه الله، حيث يقول:
"فإن اقتص بعد أن عادا لهيئتها، فعادت أذن المقتص منه أو عينه فذلك، وإن لم يعودا، وقد كانت عادت سن الأول أو أذنه فلا شيء له، وإن عادت سن المستقاد منه أو أذنه، ولم تكن عادت سن الأول ولا أذنه كرم العقل. قاله أشهب في كتاب ابن المواز " (5)
__________
(1) كتاب الروايتين والوجهين: 2/268، ثم تكلم هل يأمره الإمام بإزالتها لكونها نجسة؟ وسيأتي الكلام على ذلك في مسألة النجاسة إن شاء الله.
(2) الفروع لابن مفلح: 5/655.
(3) الإنصاف للمرداوي: 10/ 100.
(4) كشاف القناع للبهوتي: 5/ 641.
(5) البيان والتحصيل لابن رشد: 16/67.(6/1496)
وحاصله أن إعادة الجاني عضوه انما لا يؤثر في القصاص، إذا كان المجني عليه أعاد عضوه أيضاً، أما إذا لم يعد المجني عليه وأعاده الجاني، فإن الجاني يغرم العقل.
21 - وأما الحنفية، فلم أجد عندهم مسألة إعادة الجاني عضوه، ولكن ذكر في الفتاوى الهندية عن المحيط مسألة تشابه ما نحن فيه، وهي ما يلي:
"إذا قلع الرجل ثنية رجل عمداً، فاقتص له من ثنية القالع، ثم نبتت ثنية المقتص منه، لم يكن للمقتص له أن يقلع تلك الثنية التي نبتت ثانياً " (1)
وهذا يدل على أن الأصل عند الحنفية أن المجني عليه إنما يستحق إبانة عضو الجاني مرة واحدة، وليس من حقه أن يبقي العضو فائتاً على الدوام، فالظاهر أن مذهبهم مثل مذهب الشافعية في هذه المسألة، وذلك لأمور:
(1) إنهم أجازوا بقاء الثنية النابتة بنفسها، ولم يروها معارضة لمقتضى القصاص، مع أنها أحكم وأثبت من السن الملصقة، وأكثر منها نفعاً، فالظاهر أن السن المزروعة أولى أن لا تكون معارضة لمقتضى القصاص.
(2) قد ذكرنا في المسألة الأولى أن المجني عليه إذا أعاد عضوه إلى محله، فإن ذلك لا يؤثر في ما ثبت على الجاني من القصاص والأرش، بل يجب القصاص كما كان يجب عند عدم الزرع. فيقاس على ذلك زرع الجاني عضوه، وأنه لا يؤثر في ما استوفي من قصاص. وإلا فليس من الإنصاف أن يزرع المجني عليه عضوه، ويمنع الجاني من ذلك بتاتاً.
22 - فالراجح عندي مذهب الشافعية وجماعة من الحنابلة، وهو مقتضى مذهب الحنفية، أن القصاص يحصل بإبانة العضو مرة واحدة، ولكل واحد من الفريقين الحرية في إعادة عضوه بعملية طبية إذا شاء. فلو فعل ذلك الجاني، ولم يفعله المجني عليه، فإن ذلك مبني على أن كل واحد يتصرف في جسمه بما يشاء، ولا يقال إن عمل الجاني مخالف لمقتضى القصاص، كما إذا أعاده المجني عليه، ولم يعده الجاني، فإن ذلك لا يؤثر في أمر القصاص، وكل واحد يختار في معالجة ضرر جسمه ما يتيسر له، ولا سبيل إلى إحداث المساواة بين الناس في علاج أجسامهم. والله سبحانه أعلم.
__________
(1) الفتاوى الهندية: 6/11 - الباب الرابع من الجنايات.(6/1497)
المسألة الثالثة
هل العضو المزروع في المسألتين نجس؟
23 – كل ما قدمنا كان يتعلق بمسألة القصاص، وإنما نظرنا إلى الآن في مسألة زراعة العضو المقطوع من حيث إنه يعارض مقتضى الحكم بالقصاص أو لا؟ وقد رجحنا مذهب جمهور الفقهاء أن الزراعة لا تؤثر في أمر القصاص شيئاً، فما كان ثابتاً قبل الزراعة، يبقى ثابتاً بعدها، وما استوفي قبلها، لا يحكم بإعادته بعدها.
24 - وننتقل الآن إلى مسألة أخرى، وهي: هل يجوز للمجني عليه أو الجاني ديانة أن يعيد عضوه المبان إلى محله؟ وهل يعتبر ذلك العضو طاهراً أم نجسأ؟ وهل تجوز الصلاة معه أو لا تجوز؟
25 – وإنما نشأت هذه المسألة، لأن الفقهاء قد اختلفوا في العضو المبان من الحي، هل هو طاهر أم نجس؟ فذهبت جماعة إلى أن كل ما أبين من الحي فهو نجس على الإطلاق، استدلالا بقوله عليه السلام:
((ما قطع من حي فهو ميت)) (1)
وبما رواه أبو واقد الليثي رضي الله عنه، قال:
((قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون أليات الغنم، فقال: ما يقطع من البهيمة وهي حية، فهو ميتة)) (2)
فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن هذا الحكم عام لكل حي، فقال في كتاب الأم:
"وإذا كسر للمرأة عظم، فطار، فلا يجوز أن ترقعه إلا بعظم ما يؤكل لحمه ذكيا. وكذلك إن سقطت سنه صارت ميتة، فلا يجوز له أن يعيدها بعد ما بانت ... وإن رقع عظمه بعظم ميتة أو ذكي لا يؤكل لحمه، أو عظم إنسان فهو كالميتة، فعليه قلعه، وإعادة كل صلاة صلاها وهو عليه. فإن لم يقلعه جبره السلطان على قلعه (3)
__________
(1) أخرج الحديث بهذا اللفظ الحاكم في المستدرك: 4/239، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وصححه وأقره الذهبي.
(2) أخرجه الترمذي في الصيد، باب ما جاء ما قطع من الحي فهو ميت، رقم: (1508) و (1509)
(3) كتاب الأم للشافعي: 1/ 54 - باب ما يوصل بالرجل والمرأة.(6/1498)