وهناك أحاديث أخرى ثابتة لكنها لا تدل على هذه الدعوى بوضوح منها: ما رواه أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، بسندهم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن)) ، وفي بعض الروايات: ((لا يحل سلف وبيع … ولا ربح ما لم يضمن)) (1) ، وقد فسروا هذا الحديث بأنه يعني: الربح الحاصل من بيع ما اشتراه قبل أن يقبضه، وينتقل من ضمان البائع إلى ضمانه، فإن بيعه فاسد (2) .
ولكن الحديث صريح في النهي عن ربح ما لم يضمنه، تطبيقًا لقاعدة "الخراج بالضمان " (3) ، وهذا إنما ينطبق على مسألتنا إذا كان القائلون بجواز بيع المبيع غير الطعام – أو غير المكيل والموزون، أو غير المنقول – لا يذهبون إلى أن المشتري ضامن بالعقد، في حين أن هؤلاء يذهبون إلى أن الضمان ينتقل في غير هذه الأشياء إلى المشتري بمجرد العقد، وحينئذٍ لم يكن الدليل في محل الدعوى فيصادر عليه فلا يقبل، يقول الخرقي: "وما عداه – أي ما عدا المكيل والموزون – فلا يحتاج إلى قبض. وإن تلف فهو من مال المشتري" وعلق عليه ابن قدامة فقال: "ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم ((الخراج بالضمان)) وهذا المبيع نماؤه للمشتري فضمانه عليه، وقول ابن عمر: "مضت السنَّة أن ما أدركته الصفقة حيًّا مجموعًا فهو من مال المبتاع" – أي المشتري – ولأنه لا يتعلق به حق توفية، وهو من ضمانه قبل قبضه، فكان من ضمانه قبله كالميراث، وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه دليل على مخالفة غيره له (4) .
__________
(1) النسائي، البيوع: 7/295، الحديث: 4630، والترمذي – مع شرحه تحفة الأحوذي: 4/431، الحديث: 1252، وابن ماجه: 2/738، الحديث: 2188، والحاكم في المستدرك: 2/17، وقال: صحيح، ووافقه الذهبي.
(2) تحفة الأحوذي: 4/431.
(3) رواه أحمد في مسنده: 6/49، 208، 237، والترمذي في سننه – مع تحفة الأحوذي – 4/507، والنسائي: 7/223، وابن ماجه: 2/754، وأبو داود في سننه – مع عون المعبود – 9/415، 417، 418. قال الترمذي: 4/508، وهذا حديث صحيح … والعمل على هذا عند أهل العلم.
(4) المغني: 4/124، 125.(6/452)
بل إن هذا الاستدلال في محل الخلاف نفسه، فأصل هذه المسألة يعود إلى مدى اشتراط القبض، ومدى جواز التصرف قبل القبض، والتفصيل فيه، يقول ابن حبيب: "اختلف العلماء فيمن باع عبدًا واحتبسه بالثمن فهلك في يديه قبل أن يأتي المشتري بالثمن، فقال سعيد بن المسيب وربيعة: هو على البائع، وقال سليمان بن يسار: هو على المشتري، ورجع إليه مالك بعد أن كان أخذ بالأول، وتابعه أحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال بالأول الحنفية والشافعية، والأصل في ذلك اشتراط القبض في صحة البيع، فمن اشترطه في كل شيء جعله من ضمان البائع، ومن لم يشترطه جعله من ضمان المشتري والله أعلم" (1) .
وهكذا لو استعرضنا جميع أدلتهم التي وفقت في الاطلاع عليها لوجدناها إما ضعيفة لا تنهض حجة، أو أنها ليست نصًّا في الدعوى، والقاعدة المعروفة تقول: "والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال".
ومن جانب آخر، أن الأدلة الصحيحة تدل على جواز إجراء بعض العقود على المبيع قبل القبض، منها ما رواه البخاري وغيره بسندهم عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر … فقال النبي لعمر: "بعنيه" قال: هو لك يا رسول الله. . قال رسول الله "بعنيه فباعه" … فقال: "هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت" حيث يدل الحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشترى الجمل، وأهداه قبل القبض، لأن ابن عمر الذي كان راكبًا عليه بأمر والده كان ولا يزال على جمله فلم تتم التخلية، ومع ذلك أهداه إليه، يقول الحافظ ابن حجر: " لأن النبي صلى الله عليه وسلم تصرف في البكر بنفس تمام العقد … واستفيد من الحديث أن المشتري إذا تصرف في المبيع ولم ينكر البائع كان ذلك قاطعًا لخيار البائع كما فهمه البخاري، والله أعلم، وقال ابن بطال: أجمعوا على أن البائع إذا لم ينكر على المشتري ما أحدثه من الهبة والعتق أنه بيع جائز "، وعلق عليه الحافظ فقال: " وليس الأمر على ما ذكره من الإِطلاق، بل فرقوا بين المبيعات، فاتفقوا على منع بيع الطعام قبل قبضه. . واختلفوا فيما عداه …" (2) .
__________
(1) فتح الباري: 4/352، النسائي، البيوع: 7/295، الحديث: 4630، والترمذي – مع شرحه تحفة الأحوذي: 4/431، الحديث: 1252، وابن ماجه: 2/738، الحديث: 2188، والحاكم في المستدرك: 2/17، وقال: صحيح، ووافقه الذهبي، تحفة الأحوذي: 4/431، رواه أحمد في مسنده: 6/49، 208، 237، والترمذي في سننه – مع تحفة الأحوذي – 4/507، والنسائي: 7/223، وابن ماجه: 2/754، وأبو داود في سننه – مع عون المعبود – 9/415، 417، 418. قال الترمذي: 4/508، وهذا حديث صحيح … والعمل على هذا عند أهل العلم، المغني: 4/124، 125.
(2) فتح الباري: 4/335، ودعوى الاتفاق على منع بيع الطعام قبل قبضه غير دقيقة لما ذكرنا فيه الخلاف.(6/453)
ويقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: "والدليل على ذلك أن الثمن يجوز الاعتياض عنه قبل قبضه بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عمر: "كنا نبيع الإِبل بالنقيع – بالنون سوق المدينة، وبالباء مقبرتها – كنا نبيع بالذهب ونقضي الورق، ونبيع بالورق، ونقضي الذهب، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا بأس إذا كان بسعر يومه، إذا تفرقتما وليس بينكما شيء" (1) ، فقد جوَّز النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتاضوا عن الدين الذي هو الثمن بغيره مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينتقل إلى ضمان البائع، فكذلك المبيع الذي هو دين السلم يجوز بيعه، وإن كان مضمونًا على البائع لم ينتقل إلى ضمان المشتري" (2) ، فعلى ضوء ذلك لا مانع من وجود الضمان على البائع مع جواز بيع المبيع قبل قبضه، ولذلك أجاز جماعة من الفقهاء بيع الثمرة على الشجرة بعد بدو صلاحها مع أنها لا تزال على الشجرة وفي ضمان البائع، واستدلوا بحديث مسلم، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا)) (3) ، يقول ابن القيم في هذه المسألة: "لأنها ليست في حكم المقبوض من جميع الوجوه، ولهذا يجب عليه تمام التسليم بالوجه المحتاج إليه، فلما كانت مقبوضة من وجه غير مقبوضة من وجه رتبنا على الوجهين مقتضاها، وهذا من ألطف الفقه " (4) .
__________
(1) مجموع الفتاوى: ط. السعودية 29/505، 510.
(2) مجموع الفتاوى: ط. السعودية 29/505، 510.
(3) مجموع الفتاوى: ط. السعودية 29/505، 510.
(4) شرح ابن القيم على سنن أبي داود، المطبوع بهامش عون المعبود: 9/410 ….(6/454)
وقد ذكر العلامة ابن القيم اثني عشر عقدًا أجاز فيها الفقهاء المانعون أيضًا بيع الشيء قبل قبضه وهي:
1- بيع الميراث قبل قبض الوارث له.
2- إذا أخرج السلطان رزق رجل فباعه قبل أن يقبضه.
3- إذا عزل سهمه فباعه قبل أن يقبضه.
4- ما ملكه بالوصية، فله أن يبيعه بعد القبول وقبل القبض.
5- غلة ما وقف عليه، حيث له أن يبيعها قبل قبضها.
6- الموهوب للولد إذا قبضه، ثم استرجعه الوالد، فله أن يبيعه قبل قبضه.
7- إذا أثبت صيدًا، ثم باعه قبل القبض جاز.
8- الاستبدال بالدين من غير جنسه هو بيع قبل القبض، ويدل عليه حديث ابن عمر (1) ، قال ابن القيم: "نص الشافعي على الميراث، والرزق يخرجه السلطان، وخرج الباقي على نصه".
9- بيع المهر قبل قبضه جائز، وقد نص أحمد على جواز هبة المرأة صداقها من زوجها قبل قبضه.
10- إذا خالعها على عوض جاز التصرف فيه قبل قبضه، حكاه صاحب المستوعب وغيره، وذكر أبو البركات في المحرر أنه لا يجوز.
11- إذا أعتقه على مال جاز التصرف فيه قبل قبضه، حكاه صاحب المستوعب.
12- إذا صالحه عن دم العمد بمال جاز التصرف فيه قبل قبضه، وكذلك إذا أتلف له مالًا، وأخرج عوضه – ومنع صاحب المحرر من ذلك كله.
وقد ذكر كذلك جواب المانعين عن هذه الصور والفرق بينها وبين التصرف في المبيع قبل القبض بأن الملك فيه غير مستقر، فلم يسلط على التصرف في ملك مزلزل، بخلاف هذه الصور حيث إن الملك فيها مستقر غير معرض للزوال (2) .
__________
(1) روى أحمد: 2/33، 83، وابن ماجه: الحديث 2262، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي: 2/44 بسندهم عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: (كنا نبيع الإِبل بالنقيع – بالنون سوق المدينة، وبالباء مقبرتها – كنا نبيع بالذهب، ونقضي بالورق … فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا بأس إذا كان بسعر يومه، إذا تفرقتما وليس بينكما شيء) .
(2) شرح ابن القيم على سنن أبي داود: 9/386-388، الفروق: 3/282، 283، وبدائع الصنائع: 8/3101، والمجموع شرح المهذب: 9/270، 271، والمغني لابن قدامة: 4/121.(6/455)
ونقصد بذكر هذه الصور أن مسلك هؤلاء المانعين منعًا مطلقًا ليس عامًّا، وسائرًا على طريقة واحدة، فهم كلهم، أو بعضهم أجازوا هذه الصور أو بعضها مما يضعف مسلكهم، بل إن تعليلهم يضعف الملك قبل القبض، وحتى لا يؤدي إلى توالي الضمانين ليس مقنعًا، ولا مسلمًا على إطلاقه، وأنه لا يوجد في الشرع، ولا في العقل مانع من كون الشيء مضمونًا على الشخص بجهة، ومضمونًا له بجهة أخرى، ولذلك يقول مالك وأحمد في المشهور من مذهبه: ما يمكن المشتري من قبضه وهو المتعين بالعقد فهو من ضمان المشتري، وحينئذٍ له الحق في التصرف فيه، بالإِضافة إلى أن جواز التصرف ليس ملزمًا للضمان (1) .
ثم إن الذي تقتضيه القواعد العامة لشريعتنا الغراء هي أن العقود – ولا سيما المالية – تتم، وتلزم بالإِيجاب والقبول – مع بقية الشروط المطلوبة – وبالتالي تترتب عليها الآثار الشرعية فلا ينبغي الاستثناء منها إلا ما يدل الدليل الصحيح الصريح على استثنائه، وفي نظرنا فهذا محصور في الطعام فلا يجوز بيعه ولا التصرف فيه قبل القبض، وفيما عداه يبقى على القاعدة العامة والله أعلم. ثم إن لفظ "الطعام" قد ثار حوله الخلاف في بيان ماهيته وحقيقته، حيث ذهب بعضهم إلى أن المراد به هو الحنطة فقط وذهب آخرون إلى أن المراد به هو ما يعد في العرف للأكل والاقتيات، يقول ابن منظور: "وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البر خاصة … وقال ابن الأثير: الطعام عام في كل ما يقتات من الحنطة، والشعير، والتمر وغير ذلك، وذهب بعضهم إلى أن المراد به التمر فقط" (2) ، وقد ورد لفظ "طعام" في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري في مقابل "شعير" مما يدل على أنه غيره حيث قال: "كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب" (3) . قال الحافظ: "حكى الخطابي أن المراد بالطعام هنا الحنطة، وأنه اسم خاص له، قال: ويدل على ذلك ذِكرُ الشعير وغيره" (4) ، لكن ابن المنذر رد عليه، واستشهد بقول أبي سعيد الخدري: "كنا نُخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعًا من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأَقِط والتمر" (5) ولذلك فالراجح هو أن الطعام يشمل كل ما يعد للقوت سواء أكان حنطة أم غيرها.
__________
(1) شرح ابن القيم على سنن أبي داود: 9/386، الفروق: 3/282، 283، وبدائع الصنائع: 8/3101، والمجموع شرح المهذب: 9/270، 271، والمغني لابن قدامة: 4/121.
(2) لسان العرب، ط. دار المعارف ص 2673، مادة (طعم) .
(3) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب الزكاة: 3/372.
(4) يراجع تفصيله في فتح الباري: 3/373، 375.
(5) صحيح البخاري – مع الفتح – 3/375.(6/456)
وإذا كنا نحن رجحنا جواز التصرف في المبيع قبل القبض في غير الطعام فإن ذلك مقيد بقدرة المشتري على إيصال الحق إلى صاحبه الجديد، وبعبارة أخرى، التمكن من القبض، وإن لم يتم القبض، يقول ابن القيم: "وأما مالك وأحمد في المشهور من مذهبه فيقولان: ما يمكن المشتري من قبضه وهو المتعين بالعقد فهو من ضمان المشتري، ومالك وأحمد يجوزان التصرف فيه، ويقولان: الممكن من القبض جار مجرى القبض على تفصيل في ذلك، فظاهر مذهب أحمد أن الناقل للضمان إلى المشتري، هو التمكن من القبض لا نفسه …" (1) .
ولذلك علل الشافعية وغيرهم في تجويزهم بيع الأرزاق التي يخرجها السلطان قبل قبضها بأن يد السلطان يد حفظ، فتكون مثل يد المقر له، ويكفي ذلك لصحة البيع (2) . ولهذا السبب أيضًا يجوز بيع الضال والمغصوب لمن يقدر على انتزاعه، ولا يجوز لغيره (3) ، ولهذا السبب نفسه يقول ابن القيم: "فإن قيل: فأنتم، للمغصوب منه أن يبيع المغصوب لمن يقدر على انتزاعه من غاصبيه، وهو بيع ما ليس عنده؟
قيل: لما كان البائع قادرًا على تسليمه بالبيع، والمشتري قادرًا على تسلمه من الغاصب، فكأنه قد باعه ما هو عنده، وصار كما لو باعه مالًا، وهو عند المشتري وتحت يده، وليس عند البائع، والعندية هنا ليست عندية الحس والمشاهدة، فإنه يجوز أن يبيعه ما ليس تحت يده ومشاهدته، وإنما هي عندية الحكم والتمكين … (4) .
وقد أثار بعض الفقهاء العلة في التفرقة بين الطعام وغيره فذكر بعضهم أنها تعبدية، وذكر الآخرون بأنها معللة بأن غرض الشارع سهولة الوصول إلى الطعام، ليتوصل إليه القوي والضعيف، ولذلك منع فيه الاحتكار وشدد فيه الإِسلام دون غيره. فلو جاز قبل قبضه لربما أخفى بإمكان شرائه من مالكه، وبيعه خفية فلم يتوصل إليه الفقير (5) .
__________
(1) شرح سنن أبي داود: 9/388.
(2) المجموع: 9/267.
(3) الغاية القصوى: 1/460، حاشية الدسوقي: 3/11.
(4) شرح ابن القيم على سنن أبي داود: 9/412.
(5) الفواكه الدواني: 2/117.(6/457)
وذكر الإِمام أبو محمد المنبجي الحنفي أن المعنى الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل القبض لأجله هو غرر انفساخ العقد بهلاك المعقود عليه قبل القبض، والهلاك في العقار نادر (1) .
وقد اعترف شيخ الإِسلام ابن تيمية بغموض هذه المسألة وعلتها ولذلك كثر فيها تنازع الفقهاء، ومال أكثرهم إلى التمسك بظاهر النصوص دون الركون إلى العلة (2) .
والذي يقتضيه مجموع الأدلة هو الوقوف عند ما ورد فيه النص الصحيح الخالي عن المعارضة وهو منع بيع الطعام قبل قبضه وجوازه في غيره لما ذكرنا.
وقد أجاب القرافي عن أدلة المانعين عن بيعه قبل القبض مطلقًا، حيث حمل أحاديثهم على بيع ما ليس ملكًا لبائعه، لأنه غرر، أما المعقود عليه فقد حصل فيه ملك بالعقد، وبالتالي فما دام متمكنًا من القبض فما المانع من التصرف فيه؟ ثم بيّن الفرق بين الطعام وغيره فقال: "إن الطعام أشرف من غيره لكونه سبب قيام البنية وعماد الحياة فشدد الشرع على عاداته في تكثير الشروط فيما عظم شرفه كاشتراط الولي والصداق في عقد النكاح دون عقد البيع، وشرط في القضاء ما لم يشترطه في منصب الشهادة، ثم يتأكد ما ذكرناه بمفهوم نهيه (عليه السلام) عن بيع الطعام حتى يستوفى، ومفهومه أن غير الطعام يجوز بيعه قبل أن يستوفى، وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (3) .
__________
(1) اللباب في الجمع بين السنَّة والكتاب، تحقيق د. محمد فضل، ط. دار الشروق: 2/528.
(2) مجموع الفتاوى: 29/403، 404.
(3) الفروق للقرافي: 3/281، 282.(6/458)
وقد رد ابن تيمية في مسألة بيع ما لم يضمن على وجود التلازم بين الضمان، وجواز التصرف، وقال: "وأصول الشريعة توافق هذه الطريقة، فليس كل ما كان مضمونًا على شخص كان له التصرف فيه كالمغصوب، والعارية، وليس كل ما جاز التصرف فيه كان مضمونًا على المتصرف كالمالك له أن يتصرف في المغصوب والمعار فيبيع المغصوب من غاصبه وممن يقدر على تخليصه منه وإن كان مضمونا على الغاصب، كما أن الضمان بالخراج فإنما هو فيما اتفق ملكًا ويدًا، وأما إذا كان الملك لشخص، واليد لآخر فقد يكون الخراج للمالك، والضمان على القابض"، كما ذكر عدة أمثلة أخرى في باب الإِجارة، وبيع الثمار، ونحوهما، كما ذكر أن النصوص خاصة ببيع الطعام قبل قبضه، أو توفيته، ومن هنا تبقى بقية التصرفات على الإباحة، حيث يقول: "وأيضًا فليس المشتري ممنوعًا من جميع التصرفات، بل السنَّة إنما جاءت في البيع خاصة، ولو أعتق العبد المبيع قبل القبض فقد صح إجماعًا… " (1) .
ثم إن جميع التصرفات ليست كالبيع، لأن النص وارد فيه فقط، وتبقى بقية التصرفات على الجواز، يقول ابن بطال: "أجمعوا على أن البائع إذا لم ينكر على المشتري ما أحدثه من الهبة والعتق أنه جائز، واختلفوا فيما إذا أنكر ولم يرض، فالذين يرون أن البيع يتم بالكلام دون اشتراط التفرق بالأبدان يجيزون ذلك، ومن يرى التفرق بالأبدان لا يجيزونه والحديث – أي حديث ابن عمر في البخاري – حجة عليهم " (2) . ويقول شيخ الإٍسلام ابن تيمية: "وأيضًا فليس المشتري – أي قبل القبض – ممنوعًا من جميع التصرفات، بل السنة إنما جاءت في البيع خاصة، ولو أعتق العبد المبيع قبل القبض فقد صح إجماعًا …" (3) .
ومن جانب آخر أن هذا المنع خاص بالمبيع عند جمهور الفقهاء، أما الثمن فيجوز التصرف فيه – من غير الصرف – قبل القبض عندهم (4) ، هذا أيضًا تضييق لدائرة المنع، وحصر لها فيما ورد فيه النص وهو المبيع دون الثمن، وهذا يؤكد على أن الأصل الحل، فجاء النص الصريح الثابت فمنع من بيع الطعام قبل القبض، وبقيت بقية التصرفات على الحل والإِباحة والله أعلم.
__________
(1) مجموع الفتاوى: 29/401.
(2) فتح الباري: 4/335.
(3) مجموع الفتاوى: 29/401.
(4) فتح الباري: 4/335، مجموع الفتاوى: 29/401 ويراجع الفتاوى الهندية 3/13.(6/459)
أثر القبض في العقود الفاسدة
(1)
لا خلاف بين الفقهاء في أن العقود الفاسدة لا يترتب عليها قبل قبض المعقود أي أثر شرعي غير أن الحنفية ذهبوا إلى أن العقود الفاسدة إذا أعقبها القبض فإنه يترتب عليه بعض الآثار الشرعية، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن جمهور الفقهاء يرتبون على القبض في العقود الفاسدة بعض الآثار من حيث الضمان ونحوه (2) .
والفرق بين الجمهور وبين الحنفية في هذه المسألة: أن الحنفية جعلوا الآثار التي تترتب على القبض في العقد الفاسد من آثار العقد نفسه، في حين أن الجمهور لم ينظروا إلى العقد الفاسد، وإنما رتبوها على القبض والرضا من الطرفين به.
ونحن نذكر هنا آراء الفقهاء في هذه المسألة، وبعض نصوصهم التي توضح المراد.
فالحنفية وسعوا في أثر القبض في العقد الفاسد على تفصيل ذكره فقهاؤهم، جاء في الدر المختار: "وإذا قبض المشتري المبيع برضا بائعه صريحًا، أو دلالة – بأن قبضه في مجلس العقد دون أن ينهاه – في البيع الفاسد ملكه إلا في ثلاث: في بيع الهازل، وفي شراء الأب من ماله لطفله، أو بيعه له كذلك فاسدًا لا يملكه حتى يستعمله … وإذا ملكه تثبت كل أحكام الملك إلا خمسة لا يحل له أكله، ولا لبسه، ولا وطؤها، - أي إذا كانت جارية – ولا أن يتزوجها منه البائع، ولا شفعة لجاره … ولا شفعة بها" (3) .
__________
(1) ذهب الحنفية إلى التفرقة بين العقد الباطل والعقد الفاسد، فقالوا: الباطل: هو ما لم يشرع لا بأصله ولا بوصفه، والفاسد هو الذي شرع بأصله دون وصفه، وأما الجمهور فقالوا بترادفهما، والجميع متفقون على أن العقد الباطل لا يترتب عليه أثر شرعي من آثار العقد – كقاعدة عامة – وأن الحنفية متفقون مع الجمهور في أن العقد الفاسد بمجرده لا يترتب عليه أثر شرعي، غير أن الحنفية قالوا: إذا تم القبض في العقد الفاسد فإنه يترتب عليه بعض الآثار منها انتقال الملكية في البيع، وقالوا: ومع إتمام القبض يظل الفسخ واجبًا في الشرع، لإزالة الفساد إلى أن يتعذر ذلك، وأما الإِثم فيبقى على العاقدين في كل الأحوال ما داما لم يفسخا. انظر في تفصيل هذه المسألة من حيث تحرير محل النزاع، ومنشأ الخلاف، وهل الخلاف لفظي أو معنوي: تيسير التحرير لأمير بادشاه: 2/234، والتوضيح على التلويح: 1/218، والمستصفى: 1/94، والمنثور في القواعد للزركشي 2/303، والتمهيد للأسنوي: ص 59، وتخريج الفروع: ص 76، ورسالتنا في مبدأ الرضا في العقود: 1/155.
(2) ذهب الحنفية إلى التفرقة بين العقد الباطل والعقد الفاسد، فقالوا: الباطل: هو ما لم يشرع لا بأصله ولا بوصفه، والفاسد هو الذي شرع بأصله دون وصفه، وأما الجمهور فقالوا بترادفهما، والجميع متفقون على أن العقد الباطل لا يترتب عليه أثر شرعي من آثار العقد – كقاعدة عامة – وأن الحنفية متفقون مع الجمهور في أن العقد الفاسد بمجرده لا يترتب عليه أثر شرعي، غير أن الحنفية قالوا: إذا تم القبض في العقد الفاسد فإنه يترتب عليه بعض الآثار منها انتقال الملكية في البيع، وقالوا: ومع إتمام القبض يظل الفسخ واجبًا في الشرع، لإزالة الفساد إلى أن يتعذر ذلك، وأما الإِثم فيبقى على العاقدين في كل الأحوال ما داما لم يفسخا. انظر في تفصيل هذه المسألة من حيث تحرير محل النزاع، ومنشأ الخلاف، وهل الخلاف لفظي أو معنوي: تيسير التحرير لأمير بادشاه: 2/234، والتوضيح على التلويح: 1/218، والمستصفى: 1/94، والمنثور في القواعد للزركشي 2/303، والتمهيد للأسنوي: ص 59، وتخريج الفروع: ص 76، ورسالتنا في مبدأ الرضا في العقود: 1/155.
(3) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/123-128.(6/460)
وقد فصل الحنفية في هذه المسألة وفرقوا بين بعض أنواع الفاسد، فقالوا مثلًا إن العقد الفاسد بسبب الإِكراه إذا تم فيه القبض برضا المكره – بفتح الراء – فقد زالت عنه جميع آثار الفساد، أما لو تم القبض فيه بدون رضاه، ثم باعه المشتري إلى شخص آخر، أو وهبه، أو أعتقه فإن هذه التصرفات كلها تنقض، أما إذا كان الفساد بغير الإِكراه وباعه المشتري بيعًا صحيحًا باتًّا لغير بائعه أو وهبه وسلم، أو أعتقه بعد قبضه، أو وقفه، أو رهنه، أو أوصى به، أو تصدق به نفذ البيع الفاسد في جميع ما مرّ، وامتنع الفسخ لتعلق حق العبد به، أما قبل هذه التصرفات، فإنه يمكن لكل واحد من الطرفين أن يفسخه، كما أنه لا يبطل حق الفسخ بموت أحدهما (1) .
وقد لخّص العلامة علاء الدين السمرقندي (ت 539 هـ) أحكام القبض في العقد الباطل والفاسد في المذهب الحنفي تلخيصًا جيدًا يحسن ذكره، فقال: "إن كان الفساد من قبل المبيع بأن كان محرمًا نحو الخمر، والخنزير، وصيد الحرم والإِحرام فالبيع باطل لا يفيد الملك أصلًا، وإن قبض، لأنه لا يثبت الملك في الخمر، والخنزير للمسلم بالبيع، والبيع لا ينعقد بلا مبيع … وإن كان الفساد يرجع للثمن … كما إذا باع الخمر … فإن البيع ينعقد بقيمة المبيع، ويفيد الملك في المبيع بالقبض … وكذلك إذا كان الفساد بإدخال شرط فاسد، أو باعتبار الجهالة، ونحو ذلك، وإن ذكر المبيع، والثمن فهو على هذا يفيد الملك بالقيمة عند القبض.
ثم في البيع الفاسد إنما يملك بالقبض إذا كان بإذن البائع، فأما إذا كان بغير إذنه فهو كما لو لم يقبض …، وذكر محمد في الزيادة: إذا قبضه بحضرة البائع فلم ينهه، وسكت أنه يكون قابضًا ويصير ملكًا له.
ثم المشتري شراء فاسدًا هل يملك التصرف في المشتري، وهل يكره ذلك؟ فنقول: " لا شك أنه قبل القبض لا يملك تصرفًا ما لعدم الملك.
وأما بعد القبض فيملك التصرفات المزيلة للملك من كل وجه، أو من وجه، نحو الإِعتاق، والبيع، والهبة، والتسليم …".
وأما الكراهة فقال الكرخي: يكره التصرفات كلها، لأنه يجب عليه الفسخ لحق الشرع، وفي هذه التصرفات إبطال حق الفسخ، أو تأخيره فيكره، وقال بعض مشايخنا: لا يكره التصرفات المزيلة للملك، لأنه يزول الفساد بسببها، فأما التصرفات التي توجب تقرير الملك الفاسد فإنه يكره، والصحيح الأول.
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/123-128.(6/461)
وأما المشتري شراء فاسدًا إذا تصرف في المشترى بعد القبض، فإن كان تصرفًا مزيلًا للملك من كل وجه كالإِعتاق والبيع والهبة فإنه يجوز، ولا يفسخ، لأن الفساد قد زال بزوال الملك، وإن كان تصرفًا مزيلًا للملك من وجه أو لا يكون مزيلًا للملك فإن كان تصرفًا لا يحتمل الفسخ كالتدبير، والاستيلاد والكتابة، فإنه يبطل حق الفسخ، وإن كان يحتمل الفسخ كالإِجارة فإنه يفسخ (1) .
وأما جمهور الفقهاء فعلى الرغم من أنهم لم يعترفوا بالتفرقة بين العقد الباطل والعقد الفاسد من حيث المبدأ لكنهم رتبوا بعض الآثار على القبض في العقد الفاسد، يقول ابن رشد: "اتفق العلماء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت ولم تفت بإحداث عقد فيها أو نماء: أن حكمها الرد أعني رد البائع الثمن، والمشتري المثمن واختلفوا إذا قبضت وتصرف فيها بعتق، أو هبة، أو بيع، أو رهن، أو غير ذلك من سائر التصرفات. هل ذلك فوت يوجب القيمة وكذلك إذا نمت أو نقصت؟ فقال الشافعي: ليس ذلك فوتًا، ولا شبهة ملك في البيع الفاسد، وأن الواجب الرد، وقال مالك: كل ذلك فوت يوجب القيمة إلا ما روى عنه ابن وهب في الربا: أنه ليس بفوت … " (2) .
فمذهب مالك في هذه المسألة هو أن البيوع الفاسدة عنده تنقسم إلى محرمة، ومكروهة، فأما المحرمة فإنها إذا فاتت بعد القبض مضت بالقيمة وأما المكروهة فإنها إذا فاتت بعد القبض صحت عنده، قال ابن رشد: "وربما صح عنده بعض البيوع الفاسدة بالقبض لخفة الكراهة عنده في ذلك" (3) .
وجاء في رسالة القيرواني (ت 386 هـ) وشرحه للنفراوي: "وكل بيع فاسد – لفقد شرط، أو وجود مانع – فضمانه من البائع، لبقائه على ملكه حيث لم يقبضه المبتاع، فإن قبضه المبتاع قبضًا مستمرًا، فضمانه من المبتاع من زمن قبضه، قال العلامة خليل: وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض …، لأنه قبضه على جهة التملك، لا على جهة الأمانة، فإن لم يقبضه فلا ضمان ولو مكنه البائع من قبضه، وقيدنا القبض بالمستمر للاحتراز عما إذا اشترى سلعة شراء فاسدًا فقبضها، ثم ردّها إلى البائع على وجه الأمانة، أو غيرها فهلكت، فإن ضمانها من بائعها، لأن هذا القبض بمنزلة العدم" (4) .
__________
(1) تحفة الفقهاء: 2/83-88.
(2) بداية المجتهد: 2/193.
(3) الفواكه الدواني، ط. مصطفى الحلبي: 2/129 - 130.
(4) بداية المجتهد: 2/193، الفواكه الدواني، ط. مصطفى الحلبي: 2/129 - 130.(6/462)
وقد اعتبر مالك تغير حال السوق – بأن تغير ثمنه بزيادة أو نقص بنسبة الربع – أو تغير المعقود عليه بصغر وكبر بعد القبض كالهلاك، فعلى هذا إذا قبض المشتري – في العقد الفاسد – المعقود عليه ثم تغير ثمنه أو ذاته فلا يحق له أن يرده على بائعه، لانتقال ملكه إليه بهذا التغيير الذي هو بمثابة الفوات، بل عليه قيمته يوم قبضه إذا كان قيميًّا، وعليه مثله إن كان مثليًّا كالمكيل والموزون، وأما العقارات فلا تؤثر فيها حوالة الأسواق كالمثلي، بل لا بد من ردها لفساد بيعها (1) .
وقد ذكر العلامة النفراوي عدة أمور هامة حول هذه المسائل منها أن كلام القيرواني يشعر بأن المبيع في العقد الفاسد بعد قبضه يحل تملكه، وذلك لأنه جعل الضمان على المشتري بعد قبضه، وهذا على عكس بيع الميتة والزبل، والكلب فلا ضمان على المشتري ولو قبضه وأدى ثمنه كما قاله ابن القاسم.
ومنها أن الضمان في البيع الصحيح عن الضمان في البيع الفاسد حيث إن العقد الفاسد وحده دون القبض لا يؤدي إلى ترتيب الضمان على المشتري، في حين أن العقد الصحيح فيما ليس فيه توفية يجعل الضمان على المشتري حتى قبل القبض.
ومنها الإِشكال الذي ذكره الفاكهاني حول نقل الضمان في العقد الفاسد بعد القبض إلى المشتري، فقال: "جعل الضمان من البائع صريح في أن الفاسد لم ينقل الملك، وجعل الضمان بعد القبض من المشتري يقتضي أن الفاسد ينقل … فأجاب النفراوي بأنه لا ملازمة بين نقل الملك والضمان، إذ قد يوجد الضمان من غير تقدم ملك، كمن أتلف شيء غيره من غير تقدم سبب ملك، فإنه يضمن لتعديه، والمشتري هنا متعد بقبض المشتري شراء فاسدًا …، فيكون ضمانه لتعديه بالقبض لما يجب فسخ عقده قبل فواته، ولذلك يضمن بعد القبض حتى ولو هلك بآفة سماوية، إذن فلا حاجة إلى بناء الضمان بعد القبض على القول بأن الفاسد ينقل الملك.
ومنها أنه إذا ردت السلعة بسبب الفساد، فإن المشتري يفوز بغلتها للحديث الصحيح ((الخراج بالضمان)) (2) ، وأما كلفتها فإن تساوت مع الغلة فلا شيء له، وإن زادت، أو لا غلة له فإنه يرجع على البائع بقدرها، لأنه قام عن البائع بما لا بد له منه (3) .
__________
(1) بداية المجتهد: 2/193، الفواكه الدواني، ط. مصطفى الحلبي: 2/129 - 130.
(2) سبق تخريجه.
(3) الفواكه الدواني: 2/129-131، والخرشي: 5/88.(6/463)
بل إن الشافعية صرحوا بأن فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان وعدمه بعد العقد. يقول الزركشي: "ومعنى ذلك أن ما اقتضى صحيحه الضمان بعد التسليم كالبيع والقرض، والعمل، والقراض، والإِجارة، والعارية فيقتضي فاسده الضمان، لأنه أولى بذلك، وما لا يقتضي صحيحه الضمان بعد التسليم كالرهن والعين المستأجرة والأمانات كالوديعة، والتبرع كالهبة والصدقة لا يقتضيه فاسده أيضًا" (1) ، غير أنه استثنى من هذه القاعدة عدة صور منها أن الهبة الصحيحة لا ضمان فيها على المشتري، والفاسدة تضمن على وجه نقل ترجيحه عن الشرح الصغير، ومنها إعارة الدراهم والدنانير، قال الغزالي: "فإن أبطلناها ففي طريقة العراق أنها مضمونة، لأنها إعارة فاسدة، وفي طريق المراوزة: أنها غير مضمونة … لأنها باطلة (2) .
وذكر الزركشي أن القبض الفاسد لا أثر له إلا فيما وقع في ضمن إذن فيبرئ، إلغاءً للفاسد، وإعمالًا للصحيح، ولذلك صور: منها لو كان لشخص طعام مقدر على زيد، وكان عليه مثله لعمرو فقال لعمرو: أقبض من زيد ما لي عليه لنفسك، ففعل فالقبض فاسد، ومع ذلك تبرأ ذمة الدافع عن دين الآخر في الأصح. ومنها: إذا فسدت ولاية العامل (الأمير) وقبض المال مع فسادها برئ الدافع، لأن الإِذن يبقى وإن فسدت الولاية، نعم لو نهاه عن القبض بعد فسادها لم يبرأ الدافع بالدفع إليه إن علم بالنهي، فإن لم يعلم فوجهان … (3) .
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي: 3/8-12.
(2) الوسيط مخطوطة بدار الكتب الرقم 312 – فقه الشافعي) ورقة: 100، والتمهيد للإِسنوي ص 60، والمنثور: 3/9.
(3) المنثور في القواعد: 3/16-17.(6/464)
والشافعية صرحوا أن العقد الفاسد لا يملك فيه شيء ويلزمه الرد ومؤنته، وليس له حبسه لقبض البدل، ولا يرجع بما أنفق إن علم الفساد، وكذا إن جهل على الأصح (1) .
والحنابلة كذلك يوجبون الضمان على المشتري في العقد الفاسد بعد القبض. قال ابن رجب الحنبلي: "كل عقد يجب الضمان في صحيحه يجب الضمان في فاسده … فالبيع والإِجارة والنكاح موجبة للضمان مع الصحة فكذلك مع الفساد، والأمانات كالمضاربة، والشركة والوكالة والوديعة، وعقود التبرعات كالهبة لا يجب الضمان فيها مع الصحة، فكذلك مع الفساد (2) .
وقد اتفق الظاهرية مع الجمهور في أن العقد الفاسد لا يفيد الملك مطلقًا، لكنهم قالوا: "إن المثمن المقبوض في العقد الفاسد مضمون على المشتري ضمان الغصب سواء بسواء، والثمن مضمون على البائع إن قبضه، ولا يصححه طول الأزمان، ولا تغير الأسواق، ولا فساد السلعة، ولا ذهابها … " (3) .
وبعد هذا العرض يمكن القول بأن الفقهاء متفقون على أن المقبوض بعقد فاسد مضمون ما دامت طبيعة هذا العقد لو كان صحيحًا يوجب الضمان على التفصيل السابق بينهم، واتضح لنا أن القبض كان له أثره حتى مع كون العقد فاسدًا، كما أنه يمكننا تلخيص هذه الآراء السابقة في ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: أن المقبوض بعقد فاسد لا يفيد الملك مطلقًا، وهذا اتجاه الشافعية، وأحمد في المشهور من مذهبه.
الاتجاه الثاني: أن المقبوض بعقد فاسد يفيد الملك وهذا مذهب الحنفية.
الاتجاه الثالث: أن المقبوض بعقد فاسد إن فات أفاد الملك، وإن بقي ولم يتغير يجب رده ولم يفد الملك، وإن تغير حاله، أو سعره بنسبه الربع فيعتبر كالهلاك، وبالتالي فلا يرده، بل يرد قيمته إن كان قيميًا، وأما إن كان مثليًا فيرد المثل، وأما العقار فلا يؤثر فيه تغير الأسعار.
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي: 3/8-12، الوسيط مخطوطة بدار الكتب الرقم 312 – فقه الشافعي) ورقة: 100، والتمهيد للإِسنوي ص 60، والمنثور: 3/9، المنثور في القواعد: 3/16-17.
(2) القواعد لابن رجب: ص 69، ويراجع: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 29/327، 406.
(3) المحلى لابن حزم: 9/418- 421.(6/465)
المقبوض على سوم الشراء، أو النظر، أو الرهن:
وأما المقبوض على سوم الشراء فهو أن يتساوم شخصان حول بضاعة ويصلان إلى ثمن معين، ثم يطلب المتساوم الراغب في الشراء أن يأخذها، على أن ينظر فيها: فإن أعجبته أنشأ العقد مع صاحبه، وإلا أرجعها إليه، وقد ضرب العلامة ابن عابدين مثلًا لهذه المسألة فقال: "طلب منه ثوبًا ليشتريه، فأعطاه ثلاثة أثواب، وقال: هذا بعشرة وهذا بعشرين، وهذا بثلاثين، فاحملها، فأي ثوب ترضى بعته منك، فحمل، فهلكت عند المشتري"، ففي هذا المثال يكون الضمان على المشتري لأحد هذه الأثواب الثلاثة لا على التعيين، لأنه هو المطلوب للشراء، فيكون الضمان بالثلث، ولذلك قال الإِمام ابن فضل في هذه المسألة: "إن هلكت جملة، أو متعاقبًا ولا يدري الأول وما بعده ضمن تلك الكل، وإن عرف الأول لزمه ذلك الثوب، والثوبان أمانة، وإن هلك اثنان ولا يعلم أيهما الأول ضمن نصف كل منهما، ورد الثالث، لأنه أمانة، وإن نقص الثالث ثلثه، أو ربعه لا يضمن النقصان، وإن هلك واحد فقط لزمه ثمنه ويرد الثوبين". يقول ابن عابدين: "قال في البحر: فهذا صريح في أن بيان الثمن من جهة البائع يكفي للضمان … قلت وبيان ذلك أن المساوم إنما يلزمه الضمان إذا رضي بأخذه بالثمن المسمى على وجه الشراء، فإذا سمى البائع الثمن، وتسلم المساوم الثوب على وجه الشراء يكون راضيًا بذلك، كما أنه إذا سمى هو الثمن، وسلم البائع يكون راضيًا بذلك فكأن التسمية صدرت منهما معًا بخلاف ما إذا أخذه على وجه النظر" (1) . أما إذا كان الثوب واحدًا – مثلًا – ثم هلك فيكون مضمونًا كله.
ثم الضمان في المقبوض على سوم الشراء يكون بالقيمة إذا هلك، أما إذا استهلكه الراغب في الشراء فمضمون بالثمن كما حققه الطرسوس، في حين أن بعض فقهاء الحنفية قالوا: يكون مضمونًا بالقيمة مطلقًا بالغة ما بلغت، وبعضهم الآخر قيدوا ذلك بأن لا يزاد بالقيمة على المسمى، وقد صرح الحنفية بأن اشتراط الراغب في الشرار (المساوم) عدم ضمانه لا يعفيه من المسئولية (2) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار: 4/50، والفتاوى الهندية: 3/11، والفتاوي البزازية: 4/366.
(2) حاشية ابن عابدين: 4/50-51، والفتاوي الهندية: 3/11.(6/466)
وأما المقبوض على سوم النظر فهو بأن يقول: أعطني هذه البضاعة حتى أنظر إليها، أو حتى أريها غيري، ولا يقول: إن رضيته أخذته سواء ذكر الثمن أم لا.
وحكمه عدم الضمان مطلقًا إذا هلك، أما لو استهلكه القابض فإنه يضمن قيمته.
والفرق بين هذا وسابقه هو وجود القبض على وجه الشراء في الأول، وعدم وجود ذلك في المقبوض على وجه النظر، بل القبض فيه على وجه النظر وقد رضي به المقبض فيكون أمانة، ومن هنا فقبض المساوم على وجه الشراء يصبح كأنه راض بتسمية البائع فكأنها وجدت منهما، وأما القبض على وجه النظر فليس فيه ذكر البيع فيكون أمانة (1) . جاء في الفتاوى الهندية: "وفي فروق الكرابيسي: هذا الثوب لك بعشرة، فقال: هاته حتى أنظر إليه، أو حتى أريه غيري فضاع، قال أبو حنيفة رحمه الله، لا شيء عليه يعني يهلك أمانة، وإن قال: هاته فإن رضيته أخذته فضاع كان عليه الثمن، والفرق أنه في الأول أمر بدفعه إليه لينظر إليه، أو ليريه غيره، وذلك ليس ببيع، وفي الثاني أمره بالإِتيان به ليرضاه ويأخذه، وذلك بيع بدون الأمر (أي المعاطاة) فمع الأمر أولى … وإن أخذه لا على النظر فضاع لا يخرجه الكلام الأخير عن الضمان الواجب بأول مرة" (2) .
وقد أفاض علماء الحنفية في هذه المسائل فقالوا: لو أرسل شخص رسولًا إلى بزاز – مثلًا – ليرسل إليه ثوبًا فبعثه البزاز مع رسوله، فضاع الثوب قبل أن يصل إلى الآمر، وتصادقوا على ذلك فلا ضمان على الرسول، وإنما الضمان على الآمر، ولكن لو أرسله البزاز مع رسوله فضاع قبل وصوله إلى الآمر يكون الضمان على البزاز (3) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار: 4/50، والفتاوى الهندية: 3/11، والفتاوي البزازية: 4/366، حاشية ابن عابدين: 4/50-51، والفتاوي الهندية: 3/11.
(2) الفتاوى الهندية: 3/11.
(3) الفتاوى الهندية: 3/11 - 12، والفتاوى البزازية: 4/366- 367.(6/467)
وقالوا أيضًا: لو قبض الوكيل بالشراء البضاعة على سوم فأراها الموكل فلم يرض به وردّه عليه فهلكت عند الوكيل ضمنها الوكيل بالقيمة ولا يرجع بها على الموكل إلا أن يأمره الموكل بالأخذ على سوم الشراء فحينئذ إذا ضمن الوكيل رجع على الموكل (1) .
وقالوا أيضًا: لو طلب شخص شراء قوس، فذكر الثمن وتقرر، ثم قبل أن يتم التعاقد اللفظي أخذ القوس بإذن البائع فمدَّه فانكسر يضمن قيمته حتى ولو قال له البائع: إن انكسر فلا ضمان عليك، أما إذا لم يتقرر الثمن فلا ضمان عليه ما دام الأخذ بإذن البائع (2) .
وقالوا أيضًا: رجل جاء إلى زجاج (بائع الزجاج) فقال له: ادفع لي هذه القارورة فأراها إياه فقال الزجاج: ارفعها، فرفعها فوقعت فانكسرت لا يضمن، لأنه رفعها بإذنه ما دام الثمن لم يتقرر، أما إذا ساوم عليها واستقر الثمن، ثم رفعها فالضمان عليه، هذا كله إذا كان بإذن الزجاج، أما لو رفعها بدون إذنه فانكسرت كان ضامنًا (3) .
وقالوا أيضًا: لو اشترى شيئًا فأعطاه البائع غير المبيع غلطًا فهلك ضمن القيمة، لأنه قبضه على جهة البيع وهو سوم (4) .
وأما المقبوض على سوم الرهن، وذلك بأن يعده شخص أن يقرضه مبلغًا معينًا فجاء المدين برهن فسلمه إليه قبل أن يأخذ دينه فهلك المرهون، جاء في البزازية: "الرهن بالدين الموعود مقبوض على سوم الرهن … بأن وعده أن يقرضه ألفًا فأعطاه رهنًا وهلك قبل الإِقراض … " (5) .
وحكمه أنه مضمون على الذي قبض بالأقل من قيمته ومن الدين ما دام سمى قدر الدين، أما إذا لم يبين مقداره فليس بمضمون على الإصلاح (6) .
* * * *
__________
(1) الفتاوى الهندية: 3/11 - 12، والفتاوى البزازية: 4/366- 367.
(2) الفتاوى الهندية: 3/11 - 12، والفتاوى البزازية: 4/366- 367.
(3) 3/11 - 12، والفتاوى البزازية: 4/366- 367.
(4) الفتاوى الهندية: 3/11 - 12، والفتاوى البزازية: 4/366- 367.
(5) حاشية ابن عابدين: 4/51.
(6) حاشية ابن عابدين: 4/51.(6/468)
الخاتمة
بعد المعايشة مع هذا الموضوع والبحث عن مسائله في بطون المصادر المعتمدة: من كتب التفسير، والحديث، والفقه يمكننا أن نلخص النتائج التي تمخض عنها البحث بما يلي:
* أولًا: إن القبض في اللغة لا ينحصر معناه في الأخذ باليد، وإنما له عدة معان منها الإمساك، والتمكن من الشيء، والأخذ المطلق، ونحوها، وقد ورد بهذه المعاني اللغوية أيضًا في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
ونفيد من هذا البحث اللغوي أن القبض ليس له معنى محدد معين في اللغة، ولم يخصصه الكتاب، أو السنة بمعنى معين، ولذلك يكون مرجعه إلى العرف، وهذا ما صرح به الفقهاء.
* ثانيًا: وفي اصطلاح الفقهاء وجدناهم متفقين على أن القبض في العقار بالتخلية، ثم ثار بينهم خلاف في غيره، فوجدنا اتجاهاتهم تنحصر – بشكل عام – في اتجاهين: اتجاه يرى أن القبض هو التخلية والتمكن من القبض دون حائل ولا مانع، واتجاه آخر يرى أن القبض في المنقول لا يتم إلا بالنقل، أو الكيل، أو الوزن، أو التوفية.
وقد ذكرنا أدلة كل فريق مع ما يمكن أن يجرى فيها من مناقشة، فوجدنا أن الذي يدعمه الدليل هو أن القبض هو التخلية، والتمكن من الاستلام دون حائل ولا مانع، لكنا اشترطنا أن يكون القبض في الربويات يتم داخل المجلس، وكذلك رجحنا القول بأن القبض التام في الطعام لا يتم إلا بالنقل أو التوفية، أو الكيل، أو الوزن جمعًا بين الأدلة.
* ثالثًا: وصلنا من خلال أنواع القبض وصوره التي ذكرها فقهاؤنا القدامى أن مرجع هذه الصور أعراف أزمانهم وعوائدها، حيث عللوا أحكامها بالعرف، وقرروا أن الحاكم فيها العرف.(6/469)
* رابعًا: وعند بحثنا عن صور القبض المعاصرة وضعنا ضابطة تسهل لنا كثيرًا من صور القبض المعاصرة، وهي أن مبنى القبض وأساس مسائله وصوره قائم على العرف، حيث إن أطلقه، ولم يرد في اللغة في معنى محدد، فيكون الرجوع فيه إلى العرف، ومن هنا فكل ما عدّه العرف قبضًا في أي عصر من العصور فهو قبض ما دام لا يصطدم مع نص شرعي ثابت صريح، ومن هنا فمقتضيات الأعراف السابقة لا تكون حدة على مقتضيات عصرنا الحاضر ما دامت أعرافه قد تغيرت، لأن ما هو مبني على العرف يتغير بتغيره، وعلى ضوء ذلك وصلنا إلى ما يلي:
1- قبض العقار لا يزال بالتخلية، وكذلك قبض المصانع والشركات.
2- المنقولات – ما عدا الطعام – إذا كانت حاضرة يتم فيها القبض بمجرد التخلية، وأما الطعام فلا يجوز بيعه إلا بعد نقله، أو كيله، أو وزنه.
3- وأما القبض في السلع الحاضرة – ما عدا الطعام – والسلع التي رآها المشتري سابقًا، فيتم بمجرد التخلية بعد العقد.
4- وأما السلع الغائبة، فإما أن يتم العقد فيها بين المستورد والمصدر مباشرة … وحينئذ لا يلزم العقد إلا بعد وصول البضاعة، ومطابقتها للمواصفات التي طلبها المشتري في العقد، وبالتالي فإن القبض يتم بعد ذلك مباشرة.
ومن المعلوم فقهًا أن رؤية الوكيل تنوب عن رؤية الموكل، وأن رؤية البعض قد تغني عن رؤية الكل.
5- وقد يتم العقد عن طريق البنوك من خلال الاعتمادات المستندية وحينئذ إما أن يدخل البنك كوكيل فيكون استلامه البضاعة قبضًا، وكذلك إذا دخل كشريك.
أما إذا دخل البنك كمرابح (بيع المرابحة) فيكون قبضه للبضاعة قبضًا لنفسه، ولا يتم القبض للعميل إلا إذا وصلت البضاعة إلى الميناء المطلوب، ويتم العقد بينهما، ثم يراها، ويخلى بينه وبينها حسب العرف الجاري.(6/470)
6- وأما القبض في النقود فلا بد أن يكون في المجلس، ولكن مفهوم المجلس قد يتوسع فيه، وكيفية القبض قد يؤثر فيها العرف دون الاصطدام مع النص على ضوء ما يأتي:
(أ) تقديم المبلغ إلى المصرف وقيامه بتسجيله لحساب العميل الخاص الاستثماري، أو الجاري قبض، وبذلك يكون المصرف مضاربًا، أو شريكًا – حسب الاتفاق – في حالة تسجيله في حسابه الاستثماري، ويكون مدينًا في حالة تسجيله في الحساب الجاري (حسب الاتفاق)
(ب) يدفع العميل ريالات مثلًا ليسجلها المصرف في حسابه الخاص بالدولار فيقوم المصرف بذلك ويعطي له إيصالًا، فهذا أيضًا جائز يدخل في باب المصارفة في الذمة التي أجازها جماعة من الفقهاء، وأكد على ذلك مؤتمر المصرف الإِسلامي بدبي.
(جـ) تحويل مبلغ من النقود بعد تحويلها إلى عملة البلد المحول إليه يتضمن المصارفة في الذمة، مع ما يسميه الفقه الإِسلامي بالسفتجة، وكلتاهما جائزتان، وكذلك لو أخذ العميل شيكًا مصرفيًا أو شيكًا سياحيًّا.
* خامسًا: وجدنا أن أركان القبض ثلاثة: القابض، والمقبض، والمقبوض، ويشترط في المتقابضين ما يشترط في العاقدين – كقاعدة عامة -.
* سادسًا: الأصل عدم اتحاد القابض والمقبض لكل الفقهاء أجازوا اتحادهما في عدة حالات ذكرنا منها سبعًا.(6/471)
* سابعًا: أوضحنا بشيء من التفصيل أثر القبض في العقود الصحيحة، فوجدناها بالنسبة له ليست على سنن واحد حيث قسم الفقهاء العقود بالنسبة لأثر القبض إلى أربعة أقسام وهي:
1- قسم لا يشترط فيه القبض لا في صحته، ولا في لزومه، ولا في استقراره مثل النكاح، والحوالة، والوكالة، والوصية.
2- قسم يشترط فيه القبض في صحته مثل الصرف.
3- ما يشترط فيه القبض في لزومه كالرهن، وقد أثرنا آراء الفقهاء في ذلك مع الأدلة والمناقشة، ثم رجحنا القول بأن الرهن يلزم بمجرد العقد، وأن القبض شرط للاستقرار، وحينئذ يجبر الراهن على تسليم الرهن بعد العقد.
وقد ذكر الفقهاء لهذا القسم مثالًا آخر وهو الهبة، وذكرنا آراء الفقهاء في ذلك وأدلتهم، مع المناقشة، وترجيح الرأي القائل بأن القبض فيها شرط للزوم.
4- وقسم يشترط فيه القبض لاستقراره مثل البيع، حيث يترتب على عدم القبض عدة آثار من أهمها أن المبيع يكون على ضمان البائع ما دام لم يقبض (على خلاف فيه وتفصيل) .
ومن أهم هذه الآثار أيضًا عدم جواز البيع قبل القبض، وقد ذكرنا فيه آراء الفقهاء، وأدلتهم مع المناقشة، ثم ترجيح جواز البيع قبل القبض إلا في الطعام جمعًا بين الأدلة (مع تفصيل وتحليل) .
* ثامنًا: فصلنا القول في أثر القبض في العقود الفاسدة، حيث ذكرنا اتجاهات الفقهاء، ورجحنا القول بأن المقبوض بعقد فاسد مضمون على قابضه.
* تاسعًا: أثرنا حكم المقبوض على سوم الشراء، أو النظر، أو الرهن، حيث وجدنا فيه تفصيلًا ذكرناه.
هذا والله أسأل أن يعصمني من الزلل والخطأ ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
والله أعلم بالصواب.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي(6/472)
القبض
تعريفه، أقسامه، صوره وأحكامها
إعداد
فضيلة الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي
أستاذ بكلية الشريعة – جامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد.
فإن موضوع القبض من أهم الأمور التي ينبغي بحثها في المعاملات المالية، وخاصة المعاصرة منها لما يترتب عليه من الأحكام الشرعية، حيث إن القبض مقصد المتعاقدين من العقد وغايتهما، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، [سورة المائدة: الآية 1] .
والوفاء بها هو: القبض إذ هو ثمرتها وفائدتها، ولذلك رأى علماء المجمع أن يكون موضوع القبض أحد الأبحاث التي تطرح للنقاش في الدورة السادسة، وقد طلب مني الكتابة فيه، فأبديت الاستعداد لذلك وإن كان الموضوع خطيرًا جدًّا، غير أني استعنت بالله، ولم يدر بخاطري تسويغ أو تحليل لشيء من المعاملات أو العقود التي يتعامل بها الناس في هذا العصر مستندين إلى أن العرف جرى بها، أو أقرها، أو أن النظام الاقتصادي يقوم عليها، ولهذا أو ذاك تكون ضرورة لا بد منها، لا أريد شيئا من ذلك ولا العمل إلى تحليل ما هو موجود وعليه التعامل، لأن للعمل بالعرف شروطًا لا بد من توفرها، ومن أهمها: أن لا يتعارض مع الكتاب أو السنة، وإنما هدفي هو البحث على ضوئهما، وما استنبطه الفقهاء الأجلاء من الأصول العامة والقواعد الكلية.(6/473)
وسوف أذكر في كل مبحث من المباحث ما أمكنني الاطلاع عليه من الأقوال المعتمدة في كل مذهب غير متعصب ولا متحيز لأي منها، وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وتعريف للقبض وقسمين وخاتمة واشتملت المقدمة عل سبب الكتابة فيه ومنهج البحث، ثم تلاها تعريف للقبض في اللغة والاصطلاح.
• أما القسم الأول: فكان في القبض الحقيقي وصوره.
• والقسم الثاني: في القبض الحكمي وقد قسمته إلى مبحثين:
• المبحث الأول: قبض غير المنقول.
• المبحث الثاني: قبض المنقول.
وقد قسمت هذا المبحث إلى مطلبين:
• المطلب الأول: قبض غير الربويات.
• المطلب الثانى: قبض الربويات.
وقد قسم القبض في الربويات إلى فرعين:
• الفرع الأول: بيع غير الأثمان.
• الفرع الثاني: بيع الأثمان بعضها ببعض.
وفي نهاية البحث أوردت ما أمكنني الاطلاع عليه من الصور المستجدة تفريعًا على ما سبق من آراء مستأنسًا بأقوال بعض الفقهاء المعاصرين والاقتصاديين.
وقد ذكرت في الخاتمة أهم النتائج التي توصلت إليها.
والله أسأل أن يكون عملي خالصًا خالصًا لوجهه الكريم وأن يجنبني الخطأ والزلل في القول والعمل.(6/474)
تعريف القبض
الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما يقال، ولذلك لا بد من بيان معناه اللغوي والاصطلاحي حتى يكون القارئ على بينة من أمره.
القبض في اللغة:
يدور معنى هذه اللفظة حول الجمع والأخذ، وفي هذا يقول ابن فارس: القاف والباء والضاد أصل واحد صحيح يدل على شيء مأخوذ (1) .
وجاء في لسان العرب: " القبض جمع الكفّ على الشيء وقبضت الشيء قبضًا: أخذته، والقبضة: ما أخذت بجمع كفك كله. . .
ابن الأعرابي: القبض: قبولك المتاع وإن لم تحوله، والقبض تحويلك المتاع إلى حيزك، والقبض: التناول للشيء بيدك ملامسة وقبض على الشيء وبه يقبض قبضًا انحنى عليه يجميع كفه. . . وصار الشيء في قبضتي، أي في ملكي (2) .
القبض في الاصطلاح:
القبض والحيازة والحوز من الألفاظ المترادفة، معناها هو حيازة الشيء والتمكن منه سواء كان التمكن باليد، أو بعدم المانع من الاستيلاء على الشيء، وهو ما يسمى بالتخلية أو القبض الحكمي ".
قال الكاساني: " معنى القبض هو التمكين والتخلي وارتفاع الموانع عرفًا وعادة حقيقية " (3) .
وقال التسولي: " الحوز: وضع اليد على الشىء المحوز " (4) .
وعرفه ابن عرفة بقوله: " رفع خاصية تصرف الملك فيه عنه بصرف التمكن منه للمعطي أو نائبه " (5) .
ونقل الدكتور نزيه حماد – عن الطوسي في الخلاف – تعريفه له بقوله:
" القبض: هو التمكن من التصرف. . . " (6) .
وقيل: " رفع الموانع والتمكن من القبض ".
__________
(1) معجم مقاييس اللغة: 5 /50.
(2) ابن منظور: قبض، وانظر المصباح المنير: قبض، الكفوي، الكليات: 4/187، سعدى أبو جيب: القاموس الفقهي: ص104
(3) بدائع الصنائع: 6/ 3017.
(4) البهجة شرح التحفة: 1/168.
(5) انظر الرصاع، شرح الحدود: ص 415.
(6) الحيازة: ص40.(6/475)
وإذا أمعن النظر في التعريفات السابقة وما قاله أهل العلم عند الكلام عليها أمكن تقسميه إلى قسمين: (1) .
القسم الأول: القبض الحقيقى، أو الحسي.
القسم الثاني: القبض الحكمي.
وحيث إن أول ما يتبادر إلى الذهن هو القبض الحقيقى وهو القبض التام فسأتكلم عنه بإيجاز، مبينًا كيفيته في الأموال منقولها وغيره، والأساس الذي اعتبره الفقهاء قبضًا في كل ما ذكروه.
أولا - القبض في المنقول:
قبل البدء في بيان كيفية القبض في المنقول يحسن تعريفه، وقد عرف بتعريفات من أوضحها وأدلها على المقصود ما ذكره الباز بقوله: " هو الشيء الذي يمكن نقله من محل إلى آخر فيشمل النقود والعروض والحيوانات والمكيلات والموزونات والأرض والشجر إن لم يكونا تبعًا للأرض " (2) .
أما كيفية قبضه فهي تختلف بحسب طبيعة الأشياء، وبحسب أحوال الناس في العصور المختلفة، والبيئات المتباينة، وطبيعة المعاملات، وكما هو معلوم فإن كل ما ورد في الشرع مطلقًا ولم يرد فيه ولا في اللغة ما يقيده يرجع في تحديده إلى العرف، وفي هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية " الأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع: كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وتارة بالغة: كالشمس والقمر، والبر والبحر، وتارة بالعرف: كالقبض، والتفرق، وكذلك العقود كالبيع، والإجارة، والنكاح، والهبة، وغير ذلك (3) فما ورد له كيفية شرعية في قبضه يرجع إليها، وما ليس كذلك فيرجع إلى ما تعارف عليه الناس، وتكاد تتفق عبارات الفقهاء على أن المكيلات قبضها بكليها، والموزونات بوزنها، والمذروعات بذرعها، والمعدودات بعدها، وما ينقل بنقله، وما يتناول كالجواهر والأثمان بتناوله، والحيوان بتمشيته من مكانه، إذا العرف في كل ذلك ما ذكر، ولعل من المناسب التمييز بين المكيلات والموزونات بما ذكره البهوتي حيث قال: " ومرجع الوزن لعرف مكة زمن النبى صلى الله عليه وسلم لما روى عبد الملك بن عمير عن النبى صلى الله عليه وسلم ((المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة)) (4) .
__________
(1) الرصاع شرح الحدود: ص 248.
(2) الباز، شرح المجلة: ص 70، التفصيل بين الشجر التابع للأرض وغير التابع لها عند الحنفية فقط حيث عدوا الأول من غير المنقول والثاني من المنقول، أما الجمهور فيرون أن الشجر غير منقول.
(3) ابن تيمية، الفتاوي: 29/448، وانظر رؤوس المسائل: ص 111.
(4) أبو داود، السنن: 3/ 246.(6/476)
" وما لا عرف له هناك أي بالمدينة ومكة اعتبر عرفه في موضعه، لأن ما لا عرف له في الشرع يرجع فيه إلى العرف، كالقبض والحرز، فإن اختلفت البلاد اعتبر الغالب، فإن لم يكن رد إلى أقرب ما يشبهه بالحجاز وكل مائع مكيل " (1) .
وأما بقية المقدرات من معدود ومذروع فلا تحتاج إلى إيضاح، وسأذكر نصًّا من كل مذهب في كيفية القبض توثيقًا لما ذكرته مجملًا.
جاء في فتح القدير: " ومن اشترى مكيلًا مكايلة أو موزونًا موازنة، أي اشترى على كذا كيلًا أو رطلًا فاكتاله أو اتزنه لنفسه ثم باعه مكايلة أو موازنة في الموزون لم يجز للمشترى منه أن يبيعه حتى يعيد الكيل والوزن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان: صاع البائع، وصاع المشترى " (2) ، وألحقوا بالمكيل الموزون، وينبغي إلحاق المعدود الذي لا يتفاوت كالجوز والبيض إذا اشتري معاددة " (3) .
وجاء في الشرح الصغير: " أي مبيع فيه حق توفية لمشتريه وهو المثلي وبينه بقوله: من مكيل أو موزون أو معدود فعلى البائع ضمانة لقبضه بالكيل، أو الوزن، أو العد واستيلاء المشتري عليه. . . والقبض الذي يكون به ضمان المشتري في ذي التوفية باستيفاء ما كيل أو عُدَّ أو وزن منه، أي من ذي التوفية. . . والقبض في غيره أي غير العقار من حيوان وعرض يكون بالعرف: كتسليم الثوب وزمام الدابة أو سوقها أو عزلها عن دواب البائع أو انصراف البائع عنها " (4) .
__________
(1) الكشاف: 2 /181 – 182.
(2) ابن ماجه، السنن: 2 /750
(3) ابن الهمام: 5/267- 268.
(4) الدردير: 3/195 – 200.(6/477)
وأما الجزاف فقال الباجي في قبضه: " وأما ما اشترى جزافًا، فإن استيفاءه بتمام العقد فيه، لأنه ليس فيه توفية أكثر من ذلك، ويتخرج في ذلك مذهبان:
أحدهما: أن الحديث بالمنع من بيع الطعام قبل استيفائه عام فيه وفي المكيل إلا أن الاستيفاء فيه بتمام العقد عليه.
والثاني: أنه لا يتعلق به المنع والحديث خاص في المكيل الذي فيه حق التوفية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حتى يستوفيه، ولم يقل حتى ينقله أو يأخذه فعلق هذا الحكم بما ثبت له حكم الاستيفاء وهو المكيل والموزون والمعدود " (1) .
وذكر النووي كيفية القبض بقوله " فصل في حقيقة القبض والقول الجملي فيه أن الرجوع فيما يكون إلى العادة ويختلف بحسب اختلاف المال وتفصيله: أن المبيع نوعان. . .
النوع الثاني: ما يعتبر فيه تقدير بأن اشترى ثوبًا أو أرضًا مذارعة أو متاعًا موازنة أو صبرة مكايلة أو معدودًا بالعد فلا يكفي للقبض ما سبق. . . بل لا بد مع ذلك من الذرع أو الكيل أو العد " (2) .
وكيفية القبض عند الحنابلة ذكرها البهوتي بقوله: " ويحصل القبض فيما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك أي بالكيل أو الوزن أو العد أو الذرع. . . ويحصل القبض في صبرة بنقلها ويحصل القبض فيما ينقل كالثياب والحيوان بنقله كالصبرة. . . ويحصل القبض فيما يتناول كالأثمان والجواهر بتناوله، إذا العرف فيه ذلك " (3) .
__________
(1) المنتقى: 4 /282 – 283.
(2) روضة الطالبين: 3/ 514 – 517، وانظر المحلى، شرح المنهاج: 2/217.
(3) الكشاف: 3 /246 – 247، وانظر المرداوي، الإنصاف: 4 /469، وابن قدامة، المغني: 4/125.(6/478)
القسم الثاني – القبض الحكمي " التخلية ":
الدين الإسلامي قوام الدنيا والآخرة وكل تجربة للبعد عنه بحجة المسايرة للزمن لا تنشأ إلا عن خفة في الرأي وقلة نظر في العاقبة، ومصدرها خصوم الإسلام، وضعف العقيدة، أو الانحراف بها، والزيغ عنها، وهذا هو الأصل في تقبل البسطاء من المسلمين لبعض التجارب الوافدة، ومن أخطرها العمل على الفصل بين أحكام الشريعة الإسلامية وبين المعاملات والتظاهر باحترام العبادات وأحكام الأسرة، فهبط فهم المسلمين لدينهم حتى ظنوا أن من يقوم بالعبادات مبتعدًا عن هدي الشريعة في المعاملات والجنايات ومسلم. ولا شك ولا ريب، أن الإسلام كل لا يتجزأ، نظم للبشرية ما يصلح دينها ودنياها، فأرسى قواعدها العامة، ودعائمها الأساسية، وترك للناس حرية الاختيار المبني على الاجتهاد المستمدة مبادؤه من الأصول العامة للشريعة والأمر المهم في المعاملات المالية التي كثرت في هذا العصر، واشتبكت في كثير من أمورها هو أن نبحث في أي معاملة عصرية ونحدد نوعها وإلى أي عقد تنتمي هذه المعاملة، والأحكام المتعلقة بها، فالحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، ولذا روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يمنع التجار من دخول السوق إلا إذا علموا فقه المعاملات التي يزاولونها، وذلك خوفًا من الدخول في الربا، فعلى هذا يجب بحث الأمور المشتبهة ودراستها دراسة متأنية مبنية على الأسس والمبادئ التي رسمها سلفنا الصالح، وعندما يتضح الأمر فيها يعمل به وإلا تركت حتى يتضح الأمر فيها وينجلي ولا شك أن مبحث القبض الحكمي من أهم الأمور التي تحتاج إلى بحث لما له من علاقة قوية بالضمان وجواز التصرف والربا، ففتح الباب للبحث فيه من أهم الأمور التي ينبغي أن يضطلع بها المجمع وما وجد من زلل أو خطأ سيجد التصحيح والتقييد من العلماء المجتهدين.(6/479)
وقد قسمت الكتابة فيه إلى مبحثين:
المبحث الأول: في قبض غير المنقول
قبل البحث في معرفة كيفية قبضه لا بد من تعريفه، ولعل من أوفى تعريفاته ما جاء في المجلة " غير المنقول: ما لا يمكن نقله من مكان إلى آخر كالدور والأراضي " (1) ويلحق به الثمر على الشجر والغراس، وفصل الحنفية بين الشجر التابع للأرض فعدوه غير منقول بالتبعية وما لم يكن تابعًا للأرض عدوه من المنقولات، وأما الجمهور فهو غير منقول عندهم (2) وحيث إن مبنى القبض فيما لا ينقل على العرف والعادة.
لذا يختلف بحسب اختلاف الزمان وبحسب حالة الشيء المبيع كما يختلف بين البلدان المتجاورة وقد يكون عامًّا، ومما يعتبره الفقهاء عامة قبضا حكميًّا التخلية في العقار، وقد اعتبروا لذلك شروطًا سأذكرها بعد ذكر نصوص من كل مذهب.
جاء في رسم المفتي:
والعرف في الشرع له اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار
(3)
وجاء في الفتاوى الخانية: " ولو باع الدار وسلم المفتاح فقبض المفتاح ولم يذهب إلى الدار يكون قابضًا قيل هذا إذا دفع مفتاح هذا الغلق، أما إذا لم يكن ذلك لم يكن تسليمًا لأنه يقدر على الدخول بهذا المفتاح فلا يكون قبض المفتاح كقبض الدار (4) ، وفصل أبو يوسف ومحمد بين العقار القريب والبعيد فاعتبرا تسليم مفتاح القريب قبضًا، وتسليم مفتاح البعيد غير قبض.
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية: ص 31.
(2) البهوتى، الكشاف: 3/248، والمحلى، شرح المنهاج: 2/215، والدردير، الشرح الكبير 3/130، الدردير، الشرح الصغير: 3/199.
(3) رسم المفتي: ص 44.
(4) قاضي خان، الخانية: 2/257، وانظر ابن عابدين، حاشية رد المحتار: 4/562، الباز، شرح المجلة: ص 138.(6/480)
وجاء في الشرح الكبير: " وقبض العقار وهو الأرض وما اتصل بها من بناء وشجر بالتخلية بينه وبين المشتري وتمكنه من التصرف فيه بتسليم المفاتيح إن وجدت " (1) .
وجاء في ميارة على العاصمية: " وتخلي المحبس عن الحبس إلى المحبس عليهم بمحضرهم حيازة له تامة " (2) .
وذكر النووي في الروضة أن التخلية كافية في العقار حيث قال: " وتفصيله أن المبيع نوعان، النوع الأول: ما لا يعتبر فيه تقدير إما لعدم إمكانه، وإما مع إمكانه فينظر إن كان مما لا ينقل كالأرض والدور فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري وتمكينه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه " (3) .
وذكر الحنابلة أن التخلية كافية بلا نزاع في العقار.
جاء في الكشاف: " ويحصل القبض فيما عدا ذلك. . . من عقار وهو الضيعة والأرض والبناء والغراس ونحوه كالثمر على الشجر بتخليته مع عدم مانع أي حائل بأن يفتح له باب الدار ويسلمه مفتاحها ونحوه وإن كان فيه متاع للبائع.
قال الزركشي ويأتي عملًا بالعرف " (4) .
وجاء في الإنصاف: " وفيما عدا ذلك بالتخلية كالذي لا ينقل ولا يحول وهذا بلا نزاع " (5) .
__________
(1) الدردير: 3 /130 – 131، وانظر الدسوقى، حاشية: 3/130 – 131.
(2) 2/144.
(3) 3/515.
(4) البهوتي: 3/247 – 248، وانظر المرادوي، الإنصاف: 4/471.
(5) المرداوي: 4/471.(6/481)
المبحث الثاني: قبض المنقول
قبض غير المنقول سبق الكلام عليه في المبحث السابق وأنه يكتفى فيه بالقبض الحكمي – التخلية – وأما ما يمكن نقله فهل تكفي فيه التخلية أو لا بد من القبض الحقيقي؟ وإن كفت فهل في جميع الأشياء أو أن بعضها لا تكفي فيه؟
يمكن تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين يسبق ذلك تعريف للمنقول، فهو الشيء الذي يمكن نقله من محل إلى آخر فيشمل النقود والعروض والحيوانات والمكيلات والموزونات والبناء والشجر إن لم يكونا تبعًا للأرض عند الحنفية " (1) .
المطلب الأول – التخلية في غير الربويات:
النصوص الواردة في المعاملات تتسم بالعموم في غالبها وهي مرتبطة بمصالح الناس على ضوء القواعد العامة وما اشتملت عليه الشريعة من جلب للمصالح ودفع للمضار ولا شك أن ما تعارف عليه الناس تعارفًا عامًّا ولو في بلد من البلاد الإسلامية ولم يخالف دليلًا صحيحًا أو أصلًا من أصول الشريعة يجري على القاعدة العامة.
الأصل في المعاملات الإباحة، وسأذكر فيما يلي بعض ما أورده الفقهاء من نصوص معتبرين التخلية فيه قبضًا، وما ذكروه من قيود لذلك وعليه يمكن تقسيم الأقوال فيه إلى مذهبين:
المذهب الأول: الراجح عند الشافعية وقول عند الحنابلة أن التخلية غير كافية في قبض ما ينقل أو يقدر ولا بد لمقبضه من تقدير المقدرات ونقل وتحويل ما ينقل أو تمشيته من مكانه.
جاء في روضة الطالبين: " إن كان المبيع من المنقولات فالمذهب المشهور أنه لا يكفي فيه التخلية بل يشترط النقل والتحريك " (2) .
وجاء في الإنصاف: " وفي الصبرة وما ينقل بالنقل وفيما يتناول بالتناول هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب " (3) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية، مادة 128، وانظر سليم الباز، شرح المجلة: ص 70.
(2) النووى: 3/515.
(3) المرداوي: 4/470، وانظر ابن قدامة، المغني: 4/25.(6/482)
أدلة هذا المذهب:
(1) ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه)) وفي رواية: ((حتى يقبضه)) (1) ، قال ابن عباس لا أحسب كل شيء إلا مثله ".
(2) قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل)) (2) .
(3) ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري)) (3) ، هذا فيما بيع كيلًا.
أما ما بيع جزافًا فقبضه نقله من مكانه وقد استدلوا عليه بعدة أدلة منها:
ما روي عن ابن عمر أنه قال: (كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعامًا جزافًا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه " (4) .
وفي لفظ: " كنا نبتاع الطعام جزافًا فبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه " (5) .
وفي لفظ: " كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله " (6) .
(4) ما ورد ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)) (7) .
المذهب الثاني: مذهب الحنفية وقول المالكية والحنابلة والشافعي إلى أن التخلية كافية مع التمييز ولو لم يحصل تقدير أو نقل.
__________
(1) البخاري، الصحيح مع فتح الباري: 4/344، 347، 349، مسلم، الصحيح مع شرح النووي: 10/168.
(2) البخاري، الصحيح، مع فتح الباري: 4/344.
(3) ابن ماجه، السنن: 2/750.
(4) مسلم، الصحيح، مع شرح النووي: 10/170، البخاري، الصحيح مع فتح الباري: 4/350.
(5) مسلم، الصحيح: 10/169.
(6) مسلم، الصحيح: 10/169: 10/170، ابن ماجه، السنن: 2/750.
(7) الشوكاني، نيل الأوطار: 5/178، وابن حجر، فتح الباري: 4/350.(6/483)
جاء في حاشية ابن عابدين وحاصله أن: " التخلية قبض حكمًا ولو مع القدرة عليه بلا كلفة لكن ذلك يختلف بحسب حالة المبيع ففي نحو حنطة في بيت مثلًا فدفع المفتاح إذا أمكنه الفتح بلا كلفة قبض. . . وفي نحو بقر في مرعي فكونه بحيث يرى ويشار إليه قبض، وفي نحو ثوب فكونه بحيث لو مد يده تصل إليه قبض، وفي نحو فرس أو طير في بيت وإمكان أخذه منه بلا معين قبض " (1) .
وجاء في الشرح الصغير " والقبض في غيره – أي غير العقار – من حيوان وعرض يكون بالعرف كتسليم الثوب وزمام الدابة أو سوقها أو عزلها عن دواب البائع أو انصراف البائع عنها " (2) .
وجاء في روضة الطالبين: " وإن كان المبيع من المنقولات فالمذهب المشهور أنه لا يكفي فيه التخلية بل يشترط النقل والتحريك وفي قول رواه حرملة يكفي " (3) .
وذكر وجهًا آخر أنه يكفي لنقل الضمان إلى المشتري ولا يكفي لجواز تصرفه إلا النقل أو التقدير حيث قال: " وفي وجه يكفي لنقل الضمان إلى المشتري ولا يكفي لجواز تصرفه " (4) .
وقال المرداوي: " وعنه أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز ونصره القاضي وغيره " (5) .
ويمكن أن يستدل لهذا القول بما يلي:
(1) عن ابن عمر قال: " كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق وآخذ الدنانير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكم شيء)) .
__________
(1) 4/562، وانظر، الحسيني الفرائد البهية: ص 53.
(2) الدردير: 3/200، وانظر الشرح الكبير: 3/131.
(3) النووي: 3/515، وانظر ابن حجر، فتح الباري: 4/350.
(4) النووي: 3/515، وانظر ابن حجر، فتح الباري: 4/350
(5) الإنصاف: 4/470 وانظر ابن رجب، القواعد ص 56، وابن قدامة، المغني: 4/125.(6/484)
وفيه دليل على جواز الاستبدال عن الثمن الذي في الذمة (1) .
وهو تصرف فيه قبل قبضه قبضًا حقيقيًّا وهو أحد العوضين.
(2) ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من جابر بن عبد الله جمله ثم نقده ثمنه ووهبه له (2) .
فقد تصرف فيه ولم يرد أنه نقله ولا مشّاه فيكون اكتفاء بالتخلية.
(3) عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوة فيؤخره عمر ويرده فقال النبي لعمر: ((بعنيه. . .)) فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي: ((هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت)) (3) . فالنبي وهب البكر لابن عمر قبل قبضه ولعله اكتفاء بالتخلية.
(4) إن ما اشتري جزافًا استيفاؤه بتمام العقد فيه، لأنه ليس فيه توفية أكثر من ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حتى يستوفيه، والاستيفاء يحصل بالتخلية)) (4) .
(5) الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور. . . وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل (5) .
وإذا نظرنا إلى معاملات الناس في هذا العصر وترابطها مع معاملات أخرى قلنا إن الاكتفاء بالتخلية قول متوجه ولا سيما إذا علمنا التبعات المالية المترتبة على النقل والتحويل من مكان إلى آخر، وقد يكون من جانب إلى آخر كما في صوامع الغلال مثلًا، والموانئ والمصانع الكبرى للسيارات والطائرات. . . إلخ.
__________
(1) أبو داود، السنن: 3/ 250، الشوكاني، نيل الأوطار: 5/176 – 177 ابن حجر، التخليص الحبير: 3/29.
(2) البخاري، الصحيح، مع فتح الباري: 4/321.
(3) البخاري، الصحيح، مع فتح الباري: 4/334.
(4) الباجي، المنتقى: 4/282.
(5) ابن القيم، إعلام الموقعين: 3/5.(6/485)
مناقشة أدلة المذهب الأول:
يمكن مناقشة أدلتهم بما يلي:
الأحاديث التي ورد فيها لفظ " حتى يقبضه " أو " حتى يستوفيه " تحمل على غير المتميز. . وأما إذا تميز المعقود عليه من غيره وتعين وأمكن قبضه وحيازته جاز التصرف فيه، لأن القبض ينقسم إلى حقيقي وحكمي، فالتخلية بين المشتري والسلعة بحيث يتمكن من القبض التامّ لها حكمه (1) ، وقيل: المراد بالاكتيال القبض والاستيفاء كما في بعض الروايات، ولكن لما كان الأغلب في الطعام الكيل صرح به (2) .
وأما حديث " حتى يجرى فيه الصاعان "، فيحمل على أن المراد أنه إذا اشترى الطعام كيلًا أو وزنًا فلا يكون قبضه إلا بكيله أو وزنه لمعرفة قدره، ويدل عليه حديث " إذا سميت الكيل فكل " وحديث " نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه " (3) .
وأما أحاديث التحويل والنقل إلى مكان آخر والإيواء إلى الرحال، فلم تحصر القبض في ذلك فيكون حينئذ خرج مخرج الغالب (4) .
وهذه المذكورات صور من صور القبض التي تعتبر التخلية أحدها. والله أعلم.
مناقشة أدلة المذهب الثاني:
ما ورد في حديث شراء النبي لجمل جابر بن عبد الله وهبته له، وشراء بكر من عمر بن الخطاب وهبته لعبد الله بن عمر.
يجاب عنه بأن البيع معاوضة وعقود المعاوضات تفارق غيرها من التصرفات كالهبة والوقف وغيرها من العقود التي لا يقصد بها العوض، فلا يصح الإلحاق للفارق (5) .
__________
(1) انظر ابن رجب القواعد: 74، الزيلعي، نصب الراية: 4/33.
(2) الزيلعي، نصب الراية: 4/33.
(3) الزيلعي، نصب الراية: 4/33.
(4) أبو داود، السنن: 3/281، ابن حجر، فتح الباري: 4/350.
(5) ابن حجر، فتح الباري: 4/350.(6/486)
صور القبض في المقدرات والمنقولات:
القبض له أحكام تترتب عليه كالضمان وجواز تصرف كل من المتبايعين فيما آل إليه.
وعلى ضوء ما سبق من الخلاف في اشتراط القبض الحقيقي أو الاكتفاء بالتخلية – القبض الحكمي – تتحدد كيفية القبض.
فعلى القول الأول لا بد من الكيل والوزن والذرع والعد في المقدرات والنقل في المنقولات من مكانها الذي تم التعاقد فيه إلى مكان آخر.
وعلى قول من يكتفي بالتخلية والترك بين محل البيع ومشتريه ترتب أحكام القبض عليها سواء كانت لفظية أو كتابية أو فعلية، فإذا قال اقبض، أو اكتب، أو وضع السلعة وترك بين المشتري وبينها، أو سلم المفتاح أو استمارة السيارة، أو الأوراق الخاصة بالطائرات، أو السفن، أو الأقمار الصناعية، أو العروض أو الحيوانات أو الأثاث المنزلي. . إلخ أيما ذلك حصل تم القبض ويتغير حينئذ بتغير العادات وحسب اختلاف البلدان، وفي هذا يقول القرافي: " كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديدًا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد ألا ترى أنهم أجمعوا على أن المعاملات إذ أطلق فيها الثمن يحمل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقدًا معينًا حملنا الإطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عينا ما انتقلت العادة إليه وألغينا الأول لانتقال العادة عنه " (1) .
وجاء في الفروق " العوائد لا يجب الاشتراك فيها بين البلاد خصوصًا البعيدة الأقطار، ويكون المفتي في كل زمان يتباعد عما قبله يتفقد العرف هل هو باق أم لا، فإن وجده باقيًا أفتى به وإلا توقف عن الفتيا وهذا هو القاعدة في جميع الأحكام المبنية على العوائد كالنقود والسكك في المعاملات والمنافع والإجارات والأيمان والوصايا والنذور في الإطلاقات فتأمل ذلك فقد غفل عنه كثير من الفقهاء ووجدوا الأئمة الأول قد أفتوا بفتاوى بناء على عوائد لهم وقد زالت تلك العوائد فكانوا مخطئين خارقين للإجماع " (2) .
__________
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 231، 234، وانظر ابن القيم، إعلام الموقعين: 3/5.
(2) القرافي: 3/162.(6/487)
المطلب الثاني – التخلية في الربويات وقد قسمت الكلام فيه إلى فرعين:
الفرع الأول – بيع غير الأثمان بعضها ببعض:
إذا كنا في حاجة إلى معرفة كيفية القبض وصوره في سائر المعاملات لما يترتب عليه من الضمان وجواز التصرف، فإننا في باب الربا أحوج إلى ذلك لما يؤدى إليه عدم القبض من الوقوع في الربا المحرم شرعًا.
ولو تتبعنا حركة البيع والشراء فقد لا نجد من يبيع ربويًّا بجنسه متفاضلًا وإن وجد فهو نادر وإنما يخشى منه إذا اختلفت الأجناس وبيع بعضها ببعض فقد يتم القبض الحقيقي وقد لا يكون إلا التخلية وحينئذ فهل تكفي أو لا؟
خلاف سيأتي تفصيله وقد قسمت الأقوال فيه إلى مذهبين.
* المذهب الأول: تقدم في قبض المنقولات والمقدرات وهو أنه لا بد من القبض الحقيقي وذلك بتقدير المقدرات، ونقل غيرها أو تحويله من مكانه الذي بيع فيه إلى مكان غيره فليرجع إليه في مكانه.
* المذهب الثاني: ذهب الحنفية وبعض الحنابلة إلى أن التخلية كافية إذا عين المبيع وميز بينه وبين غيره.
قال ابن عابدين: " القبض في المجلس لا يشترط إلا في الصرف – وهو بيع الأثمان بعضها ببعض – أما ما عداه فإنما يشترط فيه التعيين دون التقابض. . . والمعتبر تعيين الربوي في غير الصرف، لأن غير الصرف يتعين بالتعيين ويتمكن من التصرف فيه فلا يشترط قبضه كالثياب " (1) .
وقال المرداوي: " وعنه أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز ونصره القاضي وغيره " (2) ؟
__________
(1) حاشية رد المحتار: 5/172، 178.
(2) الإنصاف: 4/470، وانظر ابن رجب، القواعد: ص74.(6/488)
الفرع الثاني – بيع الأثمان بعضها ببعض:
أحكام الصرف واضحة جلية فلا يجوز بيع جنس بجنسه متفاضلًا ولا نسيئة، كما لا يجوز بيع جنس بآخر نسيئة وهذه الأحكام يخرج عليها بيع العملات بعضها ببعض فإذا اتحد الجنس حرم الفضل والنسأ، وإن اختلف جاز الفضل وحرم النسأ، ولكن جدت مشكلات وكانت مثارًا لإزعاج علماء الشريعة والاقتصاد حيث فرض قيود على بيع العملات بعضها ببعض، ولا سيما بين العملات الحرة والخاضعة للرقابة الاقتصادية في البنوك والدول التي تفرض قيودًا معينة على عملاتها.
وإن مما يهمنا في هذا البحث هو ما يتعلق بالقبض فهل تكفي فيه التخلية عند من يقول بالاكتفاء بها في غيرها من الربويات، أو لا بد من القبض الحقيقي؟
مذهبان:
* المذهب الأول: ذهب الحنفية والقول المشهور عند الشافعية وهو المذهب وبعض الحنابلة إلى اشتراط القبض الحقيقي في بيع الأثمان بعضها ببعض، وما يأخذ حكمها من العملات.
جاء في الفتاوى الهندية: " وأما شرائطة فمنها قبض البدلين قبل الافتراق كذا في البدائع سواء كانا يتعينان كالمصوغ أو لا يتعينان كالمضروب أو يتعين أحدهما ولا يتعين الآخر، كذا في الهداية " (1) ، ثم ذكر أن المراد بالقبض في باب الصرف هو الحقيقي حيث قال: " وفي فوائد القدوري المراد بالقبض ههنا القبض بالبراجم (2) لا بالتخلية، يريد باليد كذا في فتح القدير " (3) .
وجاء في فتح القدير: " ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق بإجماع الفقهاء، وفي فوائد القدوري المراد بالقبض هنا القبض بالبراجم لا بالتخلية يريد اليد " (4) ، واشتراطهم القبض الحقيقي في الصرف تفريعًا على أن الأثمان لا تتعين بالتعيين فلذا، يجوز لكل من المتبايعين تبديلها بغيرها (5) .
__________
(1) الفرغاني: 3/217.
(2) المفصل الظاهر أو الباطن من الأصابع واحده برجمة، الفيومي المصباح المنير " برجم ".
(3) المفصل الظاهر أو الباطن من الأصابع واحده برجمة، الفيومي المصباح المنير " برجم "، وانظر العيني البناية في شرح الهداية: 6/69.
(4) ابن الهمام: 5/369.
(5) ابن عابدين، حاشية: 5/172.(6/489)
وجاء في قواعد ابن رجب: " والتخلية قبض في المعينات. . . واستثنى بعض أصحابنا منها المتعينات في الصرف لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إلا هاء وهاء)) (1) ومراده أن الشارع اعتبر له القبض فالتحقق بالمبهمات " (2) وقول بعض الحنابلة هذا الذي اشترطوا فيه القبض الحقيقي مع قولهم أن الأثمان تتعين إلا أنهم ألحقوا الأثمان بالمبهمات في عدم الاكتفاء بالتخلية لما ورد من الحديث فيها " إلا هاء وهاء ".
* المذهب الثاني: ذهب بعض الحنابلة وما ورد من نصوص عامة عن المالكية وغير المشهور عند الشافعية – حيث أطلقوا في غير الصرف ولم أجد تقييدًا فيه – إلى أن التخلية قبض حتى في الصرف، جاء في الإنصاف: " وعنه أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز " (3) . .
وجاء في القواعد: " والتخلية قبض في المعينات " (4) ، والدراهم والدنانير تتعين عند الحنابلة بالتعيين، فلذلك جاء قول بعضهم أن التخلية كافية في الصرف.
وجاء في مواهب الجليل: " وقبض غير العقار مما ليس فيه حق توفيه بالعرف. . والتمكن من القبض هو معنى قول الموثقين أنزله فيه منزلته قال في مختصر المتيطة: ويلزم البائع إنزال المبتاع في البيع فيقول وأنزله فيه منزلته. . . ومعناه مكنه من قبضه وحوزه إياه " (5) .
وجاء في روضة الطالبين وتقدم: " وإن كان المبيع من المنقولات فالمذهب المشهور أنه لا يكفي فيه التخلية بل يشترط النقل والتحريك وفي قول رواه حرملة يكفي " (6) .
__________
(1) البخاري، الصحيح مع فتح الباري: 4/374.
(2) ص 74، وانظر المرداوي، الإنصاف: 4/467.
(3) المرداوي: 4/470 ن وانظر ابن رجب، القواعد: ص74.
(4) ابن رجب: ص 74.
(5) الحطاب: 4/477 – 478.
(6) النووي: 3/515، وانظر ابن حجر، فتح الباري: 4/350.(6/490)
شروط التخلية:
اشترط الفقهاء للتخلية شروطًا سأذكرها فيما يلي، هي:
(1) الإذن بالقبض، وقد ورد في بعض عبارات الفقهاء قولهم أن يقول البائع خليت بينك وبين المبيع فاقبضه، ويقول المشتري قبضت، وليس القول مقصودًا، فقد تكون بالكتابة أو الوضع أو أخذ الثمن وترك البائع ليقبض السلعة وكل ما تعارف الناس عليه إذ مرجع الأشياء المطلقة إلى العرف (1) .
(2) أن يكون المبيع بحضرة المشتري بحيث يصل إلى أخذه من غير مانع عند الصاحبين خلافًا لأبي حنيفة حيث تصح التخلية ولو كان المبيع بعيدًا، ووصف قوله بأنه ضعيف، وعلل بأنه إذا كان قريبًا يتصور فيه القبض الحقيقي في الحال فتقام التخلية مقام القبض، أما إذا كان بعيدًا فلا يتصور القبض في الحال فلا تقام التخلية مقامه (2) .
(3) أن يكون المبيع غير مشغول بحق الغير (3) ، أما إذا كان شاغلًا حق الغير كالحنطة في جوالق البائع وما أشبه ذلك فلا يمنع التخلية (4) .
__________
(1) ابن عابدين، حاشية: 4/652، الحسيني، الفرائد البهية: ص53، قاضي خان، الخانية: 2/258، الشرواني، حاشية على تحفة المحتاج: 4/411.
(2) قاضي خان، الخانية: 2/258، الحسيني، الفرائد البهية: ص 53، النووي، روضة الطالبين: 3/515، المرداوي، الإنصاف: 4/471.
(3) لم يعتبر الحنابلة خلو المبيع من متاع البائع شرطًا انظر ابهوتي، كشاف القناع: 3/248، وفروق المالكية بين دار سكنى البائع فاشترطوا خلوها ولم يشترطوه في غيرها، الدردير، الشرح الصغير: 3/199 -200.
(4) الحسيني، الفرائد البهية: ص 53، قاضي خان، الخانية: 2/258 الدردير، الشرح الصغير: 3/199 -200، النووي، روضة الطالبين: 3/514، 315.(6/491)
صور القبض المستجدة:
قبل الحكم على أي معاملة أو صورة من الصور المعاصرة لا بد من تحديد نوعها والنظر بعين فاحصة إلى أي العقود تنتمي، والأحكام المتعلقة بهذا العقد ومن ثم تكييف المعاملة المستجدة على ضوء ما أورده الفقهاء من النصوص العامة، وما اشتملت عليه الشريعة الإسلامية من جلب للمصالح ودرء للمفاسد.
وإن الباحث ليشعر حين الكتابة عن صور القبض في هذا العصر بشيء من الحرج والحذر ولا سيما فيما يتعلق بقبض الشيكات والأوراق التجارية الأخرى وتظهيرها (1) ، والقيد على الحساب، ولا سيما إذا كان العوضان ربويين ولكن لعلمي أن ما كتبته سيعرض على علماء أجلاء وخبراء اقتصاديين يصححون الخطأ ويقيدون المطلق، وما اتضح سيعمل به وما لم يتضح سيؤجل ويطلب فيه زيادة بحث وتمحيص حتى يتضح الصواب.
كتبت جملة من الصور التي أمكن الإطلاع عليها، ولم يكن الإحصاء مقصدًا من مقاصد هذا البحث فإن من بدأ في تأسيس شيء من هذه الصور لا يطلب منه الاستقصاء والحصر، وسيكون في المستقبل غير الموجود، والمتأخر يلحق الصور بأشباهها شيئًا فشيئا وما أوتيتم من العلم إلا قليلا والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وعلى اختلاف الآراء في التخلية هل هي قبض أو لا؟ تخرج الصور الموجودة في الأسواق من حيث الصحة وعدمها وعلى ضوء اختلافهم فيما تعتبر فيه هل هو العقار خاصة أو كل شيء إلا الربويات، أو أنها تكفي في الربويات غير الصرف أو حتى في الصرف خلاف سبق تفصيله تخرج عليه الصور القادمة.
__________
(1) التظهير: نقل ملكية الورقة التجارية لمستفيد جديد أو توكيله في استيفائها أو رهنها بعبارة تفيد ذلك الجعيد، احكام الأوراق النقدية والتجارية: ص 220.(6/492)
وأول الصور التي سأذكر ملخصًا للأراء فيها هو الشيك لكثرة استعماله بل غلبة قبضه في معاملاتنا المعاصرة؟ وهل قبضه قبض لمحتواه أم لا؟
إجابة على هذا السؤال أرى أنه لا بد من بيان وتوصيف للشيك؟ ما هو؟
وإجابة على هذا يقول الدكتورعيسى عبده رحمه الله: " الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية، وأنها يجرى تداولها بينهم كالنقود تظهيرًا وتحويلًا، وأنها محمية في قوانين جميع الدول من حيث إن سحب الشيك على بنك ليس للساحب فيه رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعًا، إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكًا بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس – أي أن قبض ورقة الشيك كقبض مضمونه – فيكون الصرف قد استوفي شريطته الشرعية في القبض " (1) .
وجاء في الأوراق التجارية: " الأوراق التجارية تقوم مقام النقد فهي قابلة للتداول وتنتقل بالتظهير من شخص إلى آخر أو تكون لحاملها فيكتفى فيها بالمناولة لتصبح في ملكية الغير الحائز لها وتيسر لحاملها الحصول على النقود فورًا بخصمها لدى المصارف أو باستعمالها في تسوية الديون فهي أداة ائتمان ووفاء ونقد ولها من ذاتها ما يساعد على حمايتها من العبث، لأن المشرع (2) عندما قرر وضعها قيد التداول حرص على أن تكون مقيدة بشروط شكلية ملزمة تصبغ عليها الصفة التجارية وأيدها بمؤيدات جزائية تحميها من العبث والاستهانة بقوتها المادية والإبرائية والحقوقية. . . وهي ورقة نقدية عند الحاجة إليها فيضمن حاملها الحصول على النقد مهما كان مقداره بمجرد حصوله على هذه الورقة وعرضها على المصرف أو على عملاء هذا المصرف في أماكن مختلفة " (3) .
وقد اشترط في كون قبض الشيك قبضًا لمحتواه أن يكون مؤرخًا للسحب في اليوم نفسه وأن يكون محدد المبلغ (4) ، وله رصيد كاف.
__________
(1) العقود الشرعية الحاكمة: ص 248، وانظر السالوس، استبدال النقود: ص96.
(2) التعبير بالقانونيين أو الاقتصاديين بدلًا من المشرع متعين لما فيه من الإيهام
(3) محمود بابللي: ص15.
(4) السالوس، استبدال النقود: ص42.(6/493)
وقد وردت عدة اعتراضات على القول بأن قبض الشيك قبض لمحتواه، منها:
(1) قد يسحب الشيك على بنك لا رصيد للساحب فيه، أو يكون الرصيد غير كاف بقيمة الشيك، فلا يتم القبض أو يتأخر، ومعلوم اشتراط التقابض في الصرف.
(2) قد يلغى الشيك بعد كتابته أو يسترد مقابله.
(3) قد يعلق صرف الشيك على أمر مكتوب بإخطار من صاحب الرصيد فيتأخر القبض أو يمتنع المسحوب عليه من الوفاء (1) .
وعلى الرغم من أن هذه الاعتراضات واردة على الشيك، ولكن نوقشت بأن هذه المخاطر لا تقل من حيث الخطورة عن مخاطر النقود التي قد تكون مزيفة وغالبًا لا يعرف من زيفها، والقانون لا يحمي حامل النقود المزيفة، أما حامل الشيك فمحمي إذ يعتبر سحب الشيك بدون رصيد من الجرائم التي تعاقب عليها الدول أشد العقوبات (2) .
وقد ذهب كثير من الباحثين المعاصرين إلى أنه يكفي قبض الشيك عن قبض محتواه (3) ، منهم الشيخ ستر الجعيد، والدكتور سامي حمود حيث ناقش بعض من اعترض على هذا القول بقوله: " الآراء الفقهية تختلف في المراد بالقبض، فالقبض على ما يرى الحنفية المراد به التعيين باعتبار أن اليد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((يدًا بيد)) ليس مرادًا بها اليد الجارحة. . بل يمكن حمل اليد على التعيين لأنها آلته، ولذلك فإنه إذا وقع البيع على مال ربوي بمال ربوي آخر – قمح بشعير مثلًا – فإن تعيينها يقوم عند الحنفية مقام القبض، ولكن الأمر يختلف عندهم بالنسبة للنقود " (4) .
وعلى هذه الأقول يعتبر قبض الشيك الذي أصبح وسيطًا في أكثر المعاملات التجارية قبضًا لمحتواه، لأن هذا معنى التخلية في قول الجمهور حيث يرونها كافية في القبض في غير الصرف.
أما بعض الحنابلة فيرونها كافية حتى في الصرف كما تقدم تفصيل ذلك وإيراد النصوص الدالة عليه، وممن اعتبر الحوالة قبضًا ابن قدامة حيث قال: " الحوالة بمنزلة القبض وكأن المحيل أقبض المحتال دينه فيرجع عليه به ويأخذ المحتال من المحال عليه وسواء تعذر القبض من المحال عليه أو لم يتعذر " (5) .
وقال: " وإن أحال المكاتب سيده بنجم قد حل عليه صح وبرئت ذمة المكاتب بالحوالة ويكون ذلك بمنزلة القبض " (6) .
__________
(1) المرصفاوي حسن صادق، جرائم الشيك: ص 100، 126، الجعيد، الأوراق التجارية والنقدية: ص 332.
(2) السالوس، استبدال النقود: ص 96، 168، الجعيد، الأوراق النقدية والتجارية: ص 333.
(3) الجعيد، الأوراق النقدية والتجارية: ص 333، أحمد الحسني، تطور النقود: ص 143.
(4) تطوير الأعمال المصرفية ص346.
(5) المغني: 4/578.
(6) المغني: 4/578.(6/494)
قبض الكمبيالة:
ليست حقيقة جميع الكمبيالات واحدة، وإنما بعضها يشارك الشيك في صفاته وهي المسحوبة على بنك أو مصرف يجب دفع قيمتها بمجرد الإطلاع عليها (1) ، فتأخذ أحكام الشيك في القبض والتداول بالتظهير.
قبض الشيكات السياحية:
إذا اعتبرنا قبض الشيك قبضًا لمحتواه فما حكم قبض الشيك السياحي هل هو مثل قبض الشيك أو أنه يغايره؟
نقل النقود من مكان إلى آخر قد عرضها خطر السرقة والغصب أو الضياع، وهذه المشكلات حلت بعد استحداث " الشيك السياحي " وظهرت له مميزات يستحيل تحقيقها عن طريق استخدام طرق الوفاء القديمة (2) .
ولكن عند الكلام على قبضها وهل هو قبض لمحتواها أو لا؟
لابد من بيان الوصف الفقهي لها.
وإجابة عليه لا بد من معرفة أن نظام الشيك السياحي حديث نسبيا ولذلك اختلف في تكييفه هل هو شبيه بالشيك المتعارف عليه؟ أو هو سند لآمر؟ أو هو من الأوراق المالية؟ -أوراق البنكنوت –فمن ألحقها بالشيك عد قبضها تخلية، ومن ألحقها بالأوراق النقدية تم القبض الحقيقي عنده (3) .
وذهب إلى القول بإعطائها أحاكم الأوراق النقدية بعض الباحثين المعاصرين (4) .
القيد على الحساب:
هل القيد على الحساب قبض؟ وهل يستوي الأمر في الصرف والتحويل أو أن لكلٍّ حكمًا يخصه؟
ورد في بحث أعد من قبل إدارة البحوث العملية نقلًا عن الدكتور علي البارودي ما نصه: " عملية التحويل المصرفي تتم بواسطة قيود يجريها البنك، مضمونها أنه يجعل حساب عميل معين مدين بمبلغ معين لكي يجعل حساب عميل آخر دائنا بذات المبلغ أو هي نقل من حساب لحساب آخر بمجرد قيود في الحسابين، وتبدأ هذه العملية عندما تنشأ علاقة مديونية بين شخصين لكل منهما حساب في البنك فبدلًا من أن يقوم المدين منهما بسحب مبلغ من حسابه فيوفي به للآخر الذي يلجأ إلى البنك مرة أخرى ليودعه يصدر العميل المدين أمرًا إلى البنك بأن ينقل من حسابه إلى حساب دائنه مبلغًا يعادل قيمة الدين فيجري البنك القيود اللازمة ثم يخطر العميل الدائن بأنه أضاف إلى حسابه هذا المبلغ نقلًا من حساب مدينه، وتمام العملية على هذا الوجه يغني عن استعمال النقود ماديًّا من العميل الآمر إلى دائنه العميل المستفيد عن طريق مناولة يدوية من جانب البنك المتوسط. . . لذلك اتجه أغلب القانونيين إلى تكييف النقل المصرفي بأنه عملية مادية شكلية تساوي في نظر القانون عملية تسليم مادية لمبلغ من النقود، بل قد أطلقوا عليها والتعبير موفق إلى أبعد حد أنها نقود قيدية، فالعميل المستفيد قد تسلم نقودًا بالفعل من العميل الآمر كل ما هناك أن طريقة التسليم طريقة مصرفية حديثة " (5) .
__________
(1) الجعيد، الأوراق التجارية: ص 209، 210، 225.
(2) أميرة صدقي، الشيكات السياحية: ص 5.
(3) أميرة صدقي، الشيكات السياحية: ص 40، 64،70 العتر، المعاملات المصرفية: ص 38.
(4) الجعيد، الأوراق النقدية والتجارية: ص 318، وانظر أميرة صدقي، الشيكات السياحية: ص 40، 73، 74،75.
(5) العقود وعمليات البنوك التجارية: ص 284، وانظر بحث إدارات البحوث العلمية، المعاملات المصرفية: ص 9، 10.(6/495)
القيد على الحساب في الصرف:
يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف أو بعملة مودعة فيه. . . والنقل أو التحويل المصرفي عملية مجردة فهو أشبه بعملية تسليم النقود ماديًّا من العميل الأمر إلى دائنه العميل المستفيد عن طريق مناولة يدوية من جانب البنك المتوسط " (1) .
قبض أوراق البضائع:
الأوراق الواردة على بضائع كوثيقة الشحن " البوليصة " وسند إيداع متاع، أو بضاعة في مخزن عام ليست أوراقًا تجارية، لأنها لا تمثل مبلغًا معينًا من النقود يسهل الحصول عليه ومع ذلك فإنه يتم تداولها بطريقة التظهير ويعتبر تظهيرها بمثابة قبض للأعيان التي هي وثائق بها (2) .
قبض أسهم الشركات:
الأسهم هي نصيب المساهم في مال الشركة وهي مثبتة في صكوك لها قيمة اسمية، وتمثل الأسهم في مجموعها رأس مال الشركة ويصدر بها صكوك تمثل حصة المساهم في رأس مال الشركة، ومن أهم خصائصها أنها أنصبة متساوية القيمة (3) .، وغير قابلة للتجزئة، وقابلة للتجزئة، وقابلة للتداول بالطرق التجارية (4) ويرى كثير من الاقتصاديين أن الفرق بين شركات الأشخاص وشركات الأموال هو قابلية الأسهم للتداول (5) ، وهي إما أسهم اسمية أو لحاملها، فإن الأسهم الاسمية – التي يوضح اسم مالكها تنتقل ملكيتها بنقل قيدها في سجل المساهمين (6) ، أو تظهيرها أما الأسهم لحامله – وهي التي لا تحمل اسم مالكها – ويحصل قبضها بتسليم الصك لحامله، وتداولها بالتسليم من يد إلى يد دون الحاجة إلى التنازل في دفاتر الشركة (7) وإن وجد نزاع في صحة هذا النوع من الأسهم لما فيها من الجهالة والغرر إلا أنها إن صحت فقبضها بما ذكر ومرجع ذلك العرف ونصوص اللوائح الأساسية لتأسيس الشركة.
* * *
__________
(1) البارودي، العقود وعمليات البنوك: ص 281، 284، انظر بحث إدارات البحوث العلمية المعاملات المصرفية: ص 9، 10.
(2) عيسى عبده، العقود الشرعية الحاكمة: ص 263، 264.
(3) قد يوجد أسهم ممتازة تخص دون غيرها من الأسهم العادية ببعض المزايا، أحمد محيي الدين سوق الأوراق المالية: ص 30.
(4) أحمد محيي الدين، سوق الأوراق المالية: ص 28، 31.
(5) أحمد محيي الدين، سوق الأوراق المالية: ص 31.
(6) أحمد محيي الدين، سوق الأوراق المالية: ص 81، 82.
(7) أحمد محيي الدين، سوق الأوراق المالية: ص 81، 82.(6/496)
الخاتمة
الفقه الإسلامي قادر على استيعاب جميع ما يجد من مشكلات في الحياة ووضع الحلول المناسبة لها، وليس معنى ذلك الموافقة على كل ما يجد وإيجاد المسوغات له، بل إنه يدرس الوقائع والنوازل المستجدة ويعطيها تكييفًا معينًا، ومن ثم الحكم بالقبول أو الرفض على ضوء الأسس العامة والقواعد الكلية الموجودة في الشريعة الإسلامية.
ومن أهم النتائج التي توصلت لها في هذا البحث المختصر:
(1) إن القبض ينقسم إلى قسمين، حقيقي وحكمي وهو " التخلية ".
(2) القبض الحقيقي يكون بتقدير المقدرات بالكيل والوزن والعد والذرع، ونقل المنقولات من مكانها وتحريك الحيوانات وتمشيتها من مكانها، فمتى تم ذلك ترتب عليه آثاره كالضمان وجواز التصرف.
(3) القبض الحكمي متفق على الاكتفاء به في غير المنقول كالدور والأراضي والآبار وبيع المدن والقرى والأشجار والغرس.
(4) أما في المنقولات فهل يكتفى به أو لا؟
خلاف بين العلماء مجملة في رأيين: أحدهما عدم الاكتفاء به ولا بد من تقدير المقدرات ونقل غيرها أو تحويلها من مكانها الذي تم التعاقد فيه.
والثاني: الاكتفاء به في غير الصرف وهو مذهب الحنفية والمالكية وأحد قولي الحنابلة، وأحد القولين للشافعي، أما الصرف ففي الاكتفاء به خلاف حيث يرى الحنفية وبعض الحنابلة أنه لا يكتفى فيه – أي في الصرف- إلا بالقبض الحقيقي، وقول بعض الحنابلة وما اتضح لي من أقوال المالكية وأحد القولين عند الشافعي الاكتفاء يه حتى في الصرف.
أما الربويات غير الصرف فيوافق الحنفية غيرهم في الاكتفاء بالتخلية فيها، وذلك بناء على أصلهم في أن الربويات تتعين بالتعيين، أما الدراهم والفلوس فلا تتعين بالتعيين عندهم.
(5) صور القبض تختلف باختلاف العرف وتتغير بتغيره فما يكون قبضًا في زمن وبلد قد لا يكون قبضًا في الزمن الذي بعده، وما يكون قبضًا في بلد قد لا يكون قبضًا في بلد قريب منه.
(6) إن الصور التي ذكرتها هي في البيوع الصحيحة العاجلة، وأما غير الصحيحة والآجلة فهي خارجة عن الصور المذكورة، ولها مجال آخر، وتبحث في سوق البورصة والبيوع الآجلة – السلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.(6/497)
ملخص البحث
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد.
فلما كان موضوع القبض أحد الموضوعات التي ستطرح للنقاش في الدورة السادسة لمجمع الفقه الإسلامي، فقد كتبت فيه بحثًا مختصرًا اشتمل على تعريفه وبيان أقسامه وكيفته في كل قسم، وصوره المستجدة مخرجة على ما سبقها من تقعيدات لأهل العلم والقيود التي ذكروها لذلك، وقد ذكرت في كل مبحث أقوال أهل العلم موثقة من أهم مصادرهم، وناقشت أدلة كل بما أمكن من مناقشة، وقد رتبت مذاهب العلماء حسب اختلافهم في كل مسألة وسأذكر في هذا الملخص ما يعطي صورة مصغرة للبحث تاركًا التفصيلات إلى مكانها المذكورة فيه.
تعريف القبض:
أولا – في اللغة: يدور معنى هذه اللفظة في اللغة حول الجمع والضم والأخذ.
ثانيا – في الاصطلاح: فلعل أوفى تعريف يشمل قسميه ما جاء في الحيازة نقلًا عن الطوسي في الخلاف حيث قال: " القبض هو التمكن من التصرف ".
وما ذكره الكاساني بقوله: " معنى القبض هو التمكن والتخلي وارتفاع الموانع عرفًا وعادة حقيقية " وعلى ضوء التعريفات وما ذكره أهل العلم عند شرحها ظهر أن القبض ينقسم إلى قسمين.
أحدهما: القبض الحقيقي ويتم بتقدير المقدرات بالكيل والوزن، والعد والذرع ونقل المنقولات، كالسيارات والطائرات والأثاث، مواد البناء، والحيوانات من مكانها الذي تم التعاقد فيه إلى مكان آخر.(6/498)
والثاني: القبض الحكمي، وقد اتفق الفقهاء جميعهم على الاكتفاء به فيما لا ينقل كالأراضي والدور والأشجار والغرس – على تفصيل فيهما – وأما ما ينقل كالحبوب والثمار والأثاث فهل يكفي فيه القبض الحكمي أم لا بد من القبض الحقيقي؟ خلاف بين العلماء رحمهم الله يتلخص في قولين في أحدهما تفصيل:
أحدهما: عدم الاكتفاء (بالتخلية) (1) فيما يمكن تقديره أو نقله وتحويله إلا بالقبض الحقيقي.
والثاني: قسمته إلى فرعين:
الفرع الأول: الاكتفاء بالتخلية في كل شىء حتى الصرف.
الفرع الثاني: الاكتفاء بها في غير الصرف، أما الصرف فلا يكفي فيه إلا القبض الحقيقي وقد فصلت ذلك في مكانه من البحث، وعلى ضوء ما ورد من تفصيل في مكانه ذكرت الصور المستجدة كقبض الشيك الحالِّ، والقيد على الحساب وقبض الكمبيالة التي تشارك الشيك في صفاته، وقبض أوراق البضائع وتظهيرها، وقبض أسهم الشركات وتظهيرها مما يعد قبضًا حكميًا، وقد بينت أن القبض يختلف باختلاف العرف ويتغير بتغيره، فما يكون قبضًا في زمن أو بلد قد لا يكون قبضًا في الزمن الذي بعده، وما يكون قبضًا في بلد قد لا يكون قبضًا في البلاد القريبة منه.
وليعلم أن الصور التي ذكرتها لا بد من توفر شروط التخلية فيها، وأنها خاصة بالبيوع العاجلة، وأما البيوع الآجلة أو الممنوعة شرعًا فتبحث في سوق البورصات والسلم والبيوع المنهي عنها.
والله أسأل أن يكون في اجتماع أصحاب السماحة والفضيلة ما يصحح ما قد يكون وقع في هذا البحث من زلل أو خطأ أو تعميم أو تصحيح نسبة وقع الخطأ فيها {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي
__________
(1) لغة: الترك ولإعراض، واصطلاحا: رفع الموانع والتمكن من القبض سعدي أبو جيب، القاموس الفقهي، ص 121، 122(6/499)
فهرس المصادر والمراجع
- أحمد الحسني، تطور النقود رسالة ماجستير جامعة أم القرى.
- أحمد محيي الدين، سوق الأوراق المالية. رسالة ماجستير، جامعة أم القرى.
- إدارات البحوث العلمية، المعاملات المصرفية بحث لم ينشر.
- أميرة صدقي، الشيكات السياحية. دار النهضة العربية، 1981 م.
- الباجي، المنتقى، الطبعة الأولى، 1331 هـ، مطبعة السعادة، مصر.
- الباز، شرح المجلة. الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث العربى.
- البخاري، الجامع الصحيح، مع فتح الباري. المطبعة السلفية، 1390 هـ.
- البهوتي، الكشاف. مكتبة النصر الحديثة.
- التسولي، البهجة شرح التحفة. دار الفكر، بيروت.
- ابن تيمية، الفتاوى. مكتبة المعارف، الرباط.
- ابن تيمية، رءوس المسائل – القواعد النورانية. الطبعة الأولى، 1370 هـ، مطبعة السنة المحمدية.
- الجعيد، أحكام الأوراق النقدية والتجارية. رسالة ماجستير، جامعة أم القرى.
- ابن حجر، تلخيص الحبير. تحقيق شعبان محمد إسماعيل، 1399 هـ، مكتبة الكليات الأزهرية.
- ابن حجر، فتح الباري. المطبعة السلفية، 1390 هـ.
- الحسيني، الفرائد البهية. الطبعة الأولى، 1406 هـ، دار الفكر، دمشق.
- الحطاب، مواهب الجليل. مكتبة النجاح، طرابلس – ليبيا.
- أبو داود، السنن. تعليق محمد محيي الدين، دار إحياء السنة.
- الدردير، الشرح الصغير. دار المعارف، مصر، 1974 م.
- الدردير، الشرح الكبير، على هامش حاشية الدسوقي.
- الدسوقي، حاشية الدسوقي. المكتبة التجارية الكبرى.
- ابن رجب، القواعد، تعليق طه عبد الرءوف. الطبعة الأولى، 1392 هـ، مكتبة الكليات الأزهرية.
- الرصاع، شرح الحدود. الطبعة الأولى، 1350 هـ، المطبعة التونسية.
- الزيلعي، نصب الراية. الطبعة الثانية، 1393 هـ، المكتبة الإسلامية.
- السالوس، استبدال النقود، الطبعة الأولى، 1405 هـ، مكتبة الفلاح – الكويت.
- سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية. الطبعة الأولى، 1396 هـ، دار الاتحاد العربي للطباعة.
- سعدي أبو جيب، القاموس الفقهي. الطبعة الأولى، 1402 هـ، دار الفكر، دمشق.
- الشرواني، حاشية على تحفة المحتاج. دار صادر.
-(6/500)
- الشوكاني، نيل الأوطار. مصطفى البابي الحلبي.
- ابن عابدين، حاشية رد المحتار. الطبعة الثانية، 1368 هـ، مصطفى البابي الحلبي.
- ابن عابدين رسم المفتي " مع مجموعة رسائل ابن عابدين ". دار سعادت، مطبعة " سي "، 1325 هـ.
- العتر، المعاملات المصرفية. الطبعة الرابعة، 1406هـ، مؤسسة الرسالة.
- عيسى عبده، العقود الشرعية الحاكمة. الطبعة الأولى، 1397 هـ، دار الاعتصام.
- العيني، البناية في شرح الهداية. الطبعة الأولى، 1401 هـ، دار الفكر.
- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، 1399 هـ، دار الفكر – بيروت.
- الفرغاني، الفتاوى الهندية " العالمكيرية ". الطبعة الرابعة، دار إحياء التراث العربي.
- الفيومي، المصباح المنير. مصطفى البابي الحلبي.
- قاضي خان، الخانية على هامش الفتاوى الهندية.
- ابن قدامة، المغني. مكتبة الجمهورية الغربية.
- القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام. تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتبة المطبوعات الإسلامية، 1387 هـ.
- القرافي، الفروق. دار المعرفة، بيروت.
- ابن القيم، أعلام الموقعين. تحقيق عبد الرحمن الوكيل، مطبعة الكيلاني.
- الكاساني، بدائع الصنائع. الناشر: زكريا علي يوسف.
- الكفوي، الكليات. الطبعة الثانية، 1981 م، وزارة الثقافة – دمشق.
- ابن ماجه، السنن. تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، عيسى الحلبي.
- مجموعة من العلماء مجلة الأحكام العدلية. الطبعة الخامسة، 1388 هـ.
- المحلي، شرح المنهاج. الطبعة الثالثة، 1375 هـ، مصطفى الحلبي على هامش قليوبي وعميرة.
- بابللي، الأوراق التجارية. المؤسسة العلمية للوسائل التعليمية، حلب.
- المرداوي، الإنصاف تحقيق الفقي، الطبعة الثانية، 1378 هـ، مطبعة السنة المحمدية.
- المرصفاوي، جرائم الشيك. الطبعة الأولى، 1963 م، دار المعارف، مصر.
- مسلم، الجامع الصحيح، مع شرح النووي. الطبعة الثانية، 1392 هـ، دار الفكر، بيروت.
- ابن منظور، لسان العرب. طبعة بولاق.
- نزيه حماد، الحيازة. الطبعة الأولى، 1398 هـ، دار البيان، دمشق.
- النووي، روضة الطالبين. المكتب الإسلامي.
- ابن الهمام، فتح القدير. الطبعة الأولى، 1315 هـ، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر.(6/501)
حُكم قبض الشيك
وهل هو قبض لمحتواه؟
إعداد
فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
القاضي بمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية
وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسوله الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين، وبعد:
لقد ابتلى هذا العصر بحكم تطور وسائل الحياة بمختلف ألوانها وأشكالها وأحوالها بمشاكل في العبادات والمعاملات لم يكن لأهل هذا العصر من أسلافهم البررة الفقهاء نصوص فيها وإن كانوا – رحمهم الله – أوغلوا في تصوير مسائل ليس لها من واقعهم نصيب وإنما تعتبر في زمنهم من مدارك الخيال، كقولهم: ولو أن حاجًّا طار في سماء عرفة كان له بذلك حكم الوقوف بها فجاء الطيران في عصرنا فنقل ذلك الخيال إلى حقيقة، وكقول بعضهم: ولو أن إنسانًا باع كاغدة بألف دينار. ولم يكن هناك واقع ملموس في وجود صفقات بيع من هذا النوع، فجاء تطور الأثمان بإمكان وجود قطع من الكاغد تبلغ قيمة الواحدة منها أكثر مما تبلغه قطعة نقد ذهبية.
وهكذا جاء عصرنا بعجائب الزمان وغرائبه، ولكننا أمام هذا السيل العارم من المشاكل الفقهية في العبادات والمعاملات والجنايات والتحقيقات الجنائية والقضائية لا نعدم من سلفنا الصالح من أئمتنا وفقهائنا قواعد عامة تعتبر مناطًا لتعليق هذا المشاكل الفقهية عليها ولتفريعها عنها. ومن تلك القواعد الفقهية الأصل في المعاملات الإِباحة والأصل في العبادات الحظر. المشقة تجلب التيسير. وإذ ضاق الأمر اتسع. العرف والعادة محكمان.(6/502)
ونظرًا إلى ضخامة حجم المعادلات التجارية في عصرنا الحاضر فقد ألجأت الحاجة إلى إيجاد أثمان ورقية عرفت بأوراق البنكنوت ثم حلت محل الأثمان المعدنية واكتسبت كل خصائص الأثمان فاعتبرت مقياسًا للقيم ومستودعًا للثروة وأداء للإِبراء العام. وانعقد الإِجماع أو كاد على إجراء أحكام الأثمان المعدنية عليها. وبالرغم من السهولة نسبيًّا في إصدار مبالغ كبيرة من الأثمان الورقية في حدود القيود الموجبة لاعتبارها فقد ظهر عجزها عن مجاراة متطلبات المبادلات التجارية وقام عرف عام معتبر في اعتبار الشيك المستوفي لأسباب قبوله في قوة النقد المشتمل عليه، وأن تسليمه وتسلمه موجب لبراءة الذمة من محتواه. ونظرًا إلى هذا الوضع للشيكات فقد قامت الرغبة والحاجة الملحة في بحث موضوع الشيك وهل قبضه قبض لمحتواه بحيث يوجب قبضه براءة الذمة من مشموله وتصح المصارفة به؟ وقد عرضت مسألته على هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ولا يزال نظره جاريًا في مجلسها كما عرضت المسألة على مجمع الفقه الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي فأصدرت باعتبار قبضه قبضًا موجبًا لبراءة الذمة وصحة الصرف قرارًا بعدد 7 وتاريخ 13/2/1409 هـ باعتبار قبضه قبضًا لمحتواه سيجري نقل نصه إن شاء الله في آخر البحث مع بعض نصوص أهل العلم في موضوع القبض وأنه نصه إن شاء الله في آخر البحث مع بعض نصوص أهل العلم في موضوع القبض وأنه راجع إلى العرف السائد.
ونظرًا لأهمية الموضوع فقد جرى مني إعداد بحث في تصوير واقع الشيك وتكييف حقيقته تكييفًا فقهيًا وإبداء رأيي في اعتبار قبضه قبضًا لمحتواه. نصه ما يلي:(6/503)
* خصائص الشيك:
للشيك خصائص ومميزات باحتوائه إياها يعتبر شيكًا معتبرًا. هذه الخصائص والمميزات حددتها كل دولة في أنظمتها وقد جاء النص عليها في نظام الأوراق التجارية السعودية، ومن ذلك ما يأتي:
1- المادة –91- يشتمل الشيك على البيانات الآتية:
(أ) كلمة شيك مكتوبة في متن الصك باللغة التي كتب بها.
(ب) أمر غير معلق على شرط بوفاء مبلغ معين من النقود.
(ج) اسم من يلزمه الوفاء (المسحوب عليه) .
(د) مكان الوفاء.
(هـ) تاريخ ومكان إنشاء الشيك.
(و) توقيع من أنشأ الشيك – الساحب -.
وقد نصت المادة الثانية والتسعون على سلب الصفة الاعتبارية من الشيك إذا خلا من البيانات المذكورة في المادة السابقة إلا في حالتين، هما:
(أ) إذا خلا الشيك من بيان مكان وفائه اعتبر مستحق الوفاء في المكان المبين بجانب اسم المسحوب عليه فإذا تعددت الأماكن المبينة بجانب اسم المسحوب عليه اعتبر الشيك مستحق الوفاء في أول مكان منها. وإذا خلا الشيك من هذه البيانات أو من أي بيان آخر اعتبر مستحق الوفاء في المكان الذي يقع فيه المحل الرئيسي للمسحوب عليه.
(ب) إذا خلال الشيك من بيان مكان الإِنشاء اعتبر منشأ في المكان المبين بجانب اسم الساحب.
2- الشيك ورقة تجارية تشبه النقد من حيث صلاحه للتداول والقبول.
3- الغالب على الشيك أن يشتمل على أطرافه ثلاثة، هي: الساحب والمسحوب عليه والمستفيد. ويجوز اقتصاره على طرفين، هما: الساحب وهو المستفيد والمسحوب عليه. وإلى هذا تشير المادة السادسة والتسعون من نظام الأوراق التجارية السعودي حيث تقول:(6/504)
(يجوز سحب الشيك لأمر الساحب نفسه ويجوز سحبه لحساب شخص آخر، ولا يجوز سحبه على الساحب نفسه ما لم يكن مسحوبًا بين فروع بنك يسيطر عليه مركز رئيسي واحد ويشترط ألا يكون الشيك مستحق الوفاء لحامله) .
4- يشترط لسحب الشيك أن يكون المسحوب عليه مدينًا للساحب بما لا يقل عن قيمته، ومع ذلك فيعتبر الشيك صحيحًا ولو لم يكن المسحوب عليه مدينًا للساحب إلا أنه يعتبر من ضمان الساحب نفسه فضلاً عما في سحبه على غير مدين به من الإِجرام الموجب للعقوبة.
5- إذا كان المسحوب عليه غير مدين بمثل قيمته فلا يلزمه اعتماده.
6- لا يعتبر الشيك مبرئًا ساحبه إبراءً تامًّا من قيمته حتى يتم سداده.
7- لحامل الشيك الرجوع على الملتزمين مجتمعين أو منفردين إذا قدم في ميعاده النظامي ولم تدفع قيمته.
8- لا يعتبر الشيك ورقة نقدية تضيع قيمتها بفقدها وإنما هو سند بدين يثبت بإحدى طرق الإِثبات المعتبرة في حالة ضياعه.
9- لا يشترط لصحة الشيك ووجوب دفعه لدى الاطلاع رضا المسحوب عليه إلا إذا كان غير مدين للساحب بمثل قيمته.
10- لا يشترط لصحة الشيك النص على وصول قيمته للساحب كما هو الشأن في الكمبيالة.
11- لا يعتبر لصحة الشيك ارتفاع رصيده أو نقصانه لدى المسحوب عليه (1) .
__________
(1) انظر نظرات في أحكام الشيك في تشريعات البلاد العربية للدكتور محسن شفيق: ص 32- 42، الموسوعة الفقهية الكويتية – الحوالة: ص 227، نظام الأوراق التجاري السعودي ومعه المذكرة التفسيرية له.(6/505)
ونظرًا لوجود تشابه بين الشيك والكمبيالة ولأن للشيك أحكامًا لا تثبت للكمبيالة فقد يكون من مستلزمات التصور والإِيضاح ذكر الفرق بين الشيك والكمبيالة، وتمهيدًا لذلك فلا بد من ذكر ما يعتبر مميزًا للكمبيالة حتى يتضح الفرق بينها وبين الشيك.
الكمبيالة هي أمر مكتوب وفقًا لأوضاع معتبرة معينة حددتها الأنظمة المختصة بإصدار تنظيمات الأوراق التجارية يطلب بها شخص يسمى الساحب من شخص آخر يسمى المسحوب عليه أن يدفع بمقتضاها مبلغًا معينًا من النقود للمسحوب له أو لأمره من غير تعليق على شرط، وقد نصت المادتان الأولى والثانية من نظام الأوراق التجارية السعودي على أهم خصائص الكمبيالة بما يلي:
المادة -1- تشتمل الكمبيالة على البينات الآتيه:
(أ) كلمة كمبيالة مكتوبة في متن الصك باللغة التي كتب بها.
(ب) أمر غير معلق على شرط بوفاء مبلغ معين من النقود.
(ج) اسم من يلزمه الوفاء (المسحوب عليه) .
(د) ميعاد الاستحقاق.
(هـ) مكان الوفاء.
(و) اسم من يجب الوفاء له أو لأمره.
(ز) تاريخ ومكان إنشاء الكمبيالة.
(ح) توقيع من أنشأ الكمبيالة – الساحب -.
المادة –2-: لا يعتبر الصك الخالي من البيانات المذكورة في المادة السابقة كمبيالة إلا في الأحوال الآتية:
(أ) إذا خلت الكمبيالة من بيان ميعاد الاستحقاق اعتبرت مستحقة الوفاء لدى الاطلاع عليها.
(ب) إذا خلت الكمبيالة من بيان مكان الوفاء أو من بيان موطن المسحوب عليه اعتبر المكان المبين بجانب اسم المسحوب عليه مكان وفائها وموذنًا للمسحوب عليه.
(ج) إذا خلت من بيان مكان إنشائها اعتبرت منشأة في المكان المبين بجانب اسم الساحب.(6/506)
وبما ذكر من ملامح وخصائص عامة لكل من الشيك والكمبيالة يمكننا القول بأن الشيك يتفق مع الكمبيالة في الخصائص التالية:
1- افتراض وجود ثلاثة أطراف هي الساحب والمسحوب عليه والمستفيد وذلك في الغالب.
2- وجود علاقتين حقوقيتين إحدهما بين الساحب والمسحوب عليه وهي الرصيد الدائن وهي ما يسمى بمقابل الوفاء، الثانية بين الساحب والمستفيد وهي وصول قيمة الكمبيالة أو الشيك.
3- قدرتهما على القيام بتسوية ما يرتبانه من علاقات قانونية بين المتعاملين بهما بعملية وفاء واحدة.
ويختلف الشيك عن الكمبيالة فيما يلي:
(أ) إن الشيك يسحب عادة على مصرف ويندر أن يسحب على فرد عادي أو مؤسسة غير مصرفية في حين أن الكمبيالة تسحب على أي جهة أو فرد أهل للالتزام بها.
(ب) إن الشيك واجب الدفع دائمًا لدى الاطلاع عليه ولا يجوز تأجيل دفعه بينما يغلب على الكمبيالة ألا تكون مستحقة الوفاء عند الاطلاع وإنما يجب وفاؤها بعد وقت يجري تعيينه فيها.
(ج) يشترط لسحب الشيك أن يكون المسحوب عليه مدينًا للساحب بما لا يقل عن قيمته، فإن سحب شيك على غير مدين به اعتبر ذلك جريمة توجب العقوبة، وتبقى للشيك قيمته المالية في ذمة ساحبه. وعليه فإنه لا يجوز للمسحوب عليه أن يؤشر على الشيك بالقبول لأنه طالما كان مستكملاً لشروط اعتباره كان واجب الدفع على المسحوب عليه رضي بذلك أم سخط.
وإلى هذا تشير المادة (100) من نظام الأوراق التجاري السعودي، حيث تقول:
لا يجوز للمسحوب عليه أن يوقع الشيك بالقبول، وكل قبول مكتوب عليه يعتبر كأن لم يكن ومع ذلك يجوز للمسحوب عليه أن يؤشر على الشيك باعتماده وتفيد هذه العبارة وجود مقابل في تاريخ التأشير ولا يجوز للمسحوب عليه رفض اعتماد الشيك إذا كان لديه مقابل وفاء يكفي لدفع قيمته ويعتبر توقيع المسحوب عليه على صدر الشيك بمثابة اعتماد. اهـ.(6/507)
على أن كثيرًا من علماء الاقتصاد والمصارف يرون أن التفرقة بينهما عسيرة في حال ما إذا كان ساحب الكمبيالة دائنًا للمسحوب عليه بقيمتها وكان النص فيها على الدفع حَالَ الاطلاع. وفي ذلك يقول الدكتور أمين بدر بعد أن استعرض الفروق بينهما وناقشها مناقشة أذابت كثيرًا منها وقربت بعضها لمقابلة، قال ما نصه: (وبالاختصار فإن التمييز بين الشيك والكمبيالة قد يغدو في بعض الصور عسيرًا. اهـ (1) .
وبمزيد من التأمل يمكن القول إن الكمبيالة قد تكون على حال من الإِجراء بحيث يصعب التمييز بينها وبين الشيك كأن يكون سحبها على مدين بها، وأن تكون واجبة الدفع عند الإطلاع، وأن يكون سحبها على مصرف وقد تختلف عن خصائص الشيك بالنسبة لنوع المسحوب عليه ووجود أجل معين لوجوب دفعها وانتفاء مديونية المسحوبة عليه بقيمتها، وحينئذٍ يبدو الفرق بينهما واضحًا جليًّا (2) .
ونظرًا إلى أن الشيك قد تعترضه بعض المخاطر من ضياع أو سرقة أو نحوهما فقد ابتدع النظام المصرفي ما يسمي بالشيك المسطر، وذلك بوضع خطين متوازيين على وجهه إشارة إلى تعيين أن يكون الوفاء بهذا الشيك لأحد البنوك لا لفرد أو شخص آخر فيكون على المستفيد منه أن يظهره لأحد البنوك ليتولى تحصيله لحسابه.
ويكون الشيك المسطر عامًّا إذا لم يرد بين الخطين إشارة أو وردت عبارة صاحب مصرف أو ما يعادلها.
ويكون خاصًّا إذا كتب بين الخطين اسم صاحب مصرف بالذات، وفي ذلك تقول المادة (112) من نظام الأوراق التجارية السعودي ما نصه:، ولا يجوز أن يوفي شيكًا مسطرًا تسطيرًا عامًّا إلا إلى أحد عملائه أو إلى بنك، ولا يجوز أن يوفي شيكًا مسطرًا تسطيرًا خاصًّا إلا إلى البنك المكتوب اسمه فيما بين الخطين وإلى عميل هذا البنك إذا كان هذا الأخير هو المسحوب عليه، ومع ذلك يجوز للبنك المكتوب اسمه بين الخطين أن يعهد إلى بنك آخر قبض قيمة الشيك.
__________
(1) الالتزام المصرفي قوانين البلاد العربية: ص 42.
(2) الالتزام المصرفي: ص 40 – 41، الموسوعة الفقهية الكويتية – الحوالة: ص 237، نظام الأوراق التجاري السعودي.(6/508)
وهناك وسيلة أخرى لاتقاء مخاطر ضياع الشيك أو سرقته أو تزويره وهي اشتراط قيد قيمته في الحساب الجاري بدلا من دفعها بالنقود ويفترض لهذه الطريقة وجود حساب جاري لحامل الشيك لدى المسحوب عليه، وفي هذا تقول المادة (113) من نظام الأوراق التجارية السعودي ما نصه: يجوز لساحب الشيك أو لحامله أن يشترط عدم وفائه نقدًا بأن يضع عبارة للقيد في الحساب أو أية عبارة أخرى تفيد نفس المعنى. وفي هذه الحالة لا يكون للمسحوب عليه إلا تسوية قيمة الشيك بطريق قيود كتابية كالقيد في الحساب أو النقل المصرفي أو المقاصة وتقوم هذه القيود مقام الوفاء ولا يعتد بشطب بيان (للقيد في الحساب) (1) .
وهناك ما يسمى بالشيك السياحي ويذكر الأستاذ علي جمال الدين عوض أن أول نشأته كانت عام 1891م بسبب رحلة قام بها رئيس شركة أمريكان إكسبرس للسياحة إلى أوروبا فصادفته فيها متاعب راجعة إلى كيفية حصوله على مال يقوم بشئون حياته في هذه الرحلة فابتكر نظام الشيكات السياحية حتى ذاع استعمالها فأصبحت البنوك تصدر شيكات سياحية قابلة للصرف لدى جميع البنوك الأخرى، ويذكر الأستاذ على جمال الدين عوض أن الصورة الغالبة للشيك هو أن يصدر الشيك بفئات نقدية معينة وعلى الصك مكان يوقع فيه العميل عند استلام الشيك ومكان آخر يوقع فيه عند قبض قيمته أمام البنك الذي يدفع هذه القيمة ليتحقق من تطابق التوقيعين ومن أن الذي يستوفي القيمة هو ذات المستفيد الذي تسلم الشيك ممن أصدره وتنفيذه بطريق المقاصة. ويذكر الأستاذ علي عوض: أن كثيرًا من الشراح يستبعد الشيك السياحي من تعريف الشيك إذا تخلف بيان من البيانات اللازمة للشيك.
وهو أمر غالب حيث لا يتضمن تاريخ السحب ومكان الإِصدار واسم المسحوب عليه كما ينكر عليه وصف السند الإِذني أو السند لحامله كما يعرفه القانون التجاري إذ هو لا يتضمن تعهد البنك بالدفع حتى ولو تضمن أمرًا للمسحوب عليه. لأن تعهد الساحب ضمنًا بالوفاء عند تخلف المسحوب عليه لا يكفي لاعتبار الورقة سندًا تجاريًّا صرفيًّا كما أن وظيفة الشيك السياحي تختلف عن وظيفة السند الإِذني أو السند للحامل لأن الشيك السياحي يستهدف مجرد نقل النقود ولا يستخدم أداة للأثمان وهي الوظيفة الأساسية للسندات التجارية، ومن هذا ندرك أن الشيك السياحي ورقة ابتكرها العرف وأقر حكمها بعيدًا عن الأحكام التي وضعها التشريع للأوراق التي قد تشتبه بها. اهـ (2) .
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية للدكتور علي عوض: ص 54 – 56، نظام الأوراق التجارية السعودي نظرات في أحكام الشيك في تشريعات البلاد العربية، للدكتور محسن شفيق: ص 68-71.
(2) عمليات البنوك من الوجهة القانونية: ص 603-604.(6/509)
* الوصف الفقهي الإِسلامي:
مرَّ بنا أن من خصائص الشيك أنه ليس ورقة نقدية وإنما هو وثيقة بدين تقضي بإِحالته من ذمة ساحبه إلى ذمة المسحوب عليه مع بقاء مسئولية ساحبه حتى سداده، وأنه لا ينبغي أن يسحب إلا على من لديه مقابل وفائه وأنه لا يلزم لاعتباره شيكًا قبول المسحوب عليه وهذه الخصائص هي خصائص الحوالة، فإذا قيل بأن الشيك حوالة كان لهذا القول وجاهته ولم يرد عليه إلا مسألة ضمان الساحب قيمة الشيك حتى يتم سداده، لأن الحوالة نقل الدين من ذمة إلى ذمة بمعنى براءة ذمة المحيل من الدين إذا كانت الإِحالة على مليء، وقد أجابت الموسوعة الفقهية الكويتية على هذا الاعتراض بأن الساحب يعتبر محيلاً بمبلغ الشيك وضامنًا سداده (1) .
وقد يقال بأن الشيك يعتبر في حكم ورقة نقدية، وفي ذلك تقول الموسوعة الفقهية الكويتية في معرض توجيه القول بأن تسلم الشيك من المصرف بمثابة تسلم قيمته ما نصه:
فإذا نظرنا إلى أن الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية، وأنه يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيرًا وتحويلاً وأنها محمية في قوانين جميع الدول من حيث إن سحب الشيك على جهة ليس للساحب فيها رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعًا، إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكًا بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس. اهـ.
بعد استعراض ما مرَّ إيراده عن الشيك ووضعه ووصفه وخصائصه وأحكامه وما بينه وبين الكمبيالة من فروق يطيب لي إيراد ما ذكرته اللجنة الدائمة للبحوث والإِفتاء التابعة لهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في بحثها موضوع التحويلات المصرفية والبريدية حيث إن التحويلات المصرفية تتناول تحويل النقد نفسه أو صرفه بنقد آخر ثم تحويله كما يتناول حالات ما إذا كان لطالب التحويل حساب جارٍ في البنك يأمر بالسحب منه لعملية التحويل أم لا؟ فقد جاء في بحث اللجنة في الموضوع نفسه ما يلي (2) :
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية – الحوالة: ص 239- 240.
(2) هذا البحث قمت بإعداده حينما كنت أحد أعضاء هذه اللجنة.(6/510)
* التحويلات المصرفية والبريدية:
من المعاملات المصرفية والتحويلات، وتتم بأحد طريقين:
أحدهما: أن يدفع شخص إلى مصرف ما مبلغًا من المال ليحوله إلى شخص يعينه في بلد آخر فيحرر المصرف حوالة بذلك المبلغ إلى مصرف آخر أو فرع له في البلد المطلوب تحويل المبلغ إليه بأمره بدفع المبلغ إلى الشخص الذي عيَّنه طالب التحويل فيتسلم دافع المبلغ سند التحويل ليقوم بتسليمه محتواه أو يرسله إلى الشخص الذي يريد تسليمه المبلغ ليقبض قيمته، وهذا ما يسمي بالتحويل المصرفي.
الثاني: أن يقوم المصرف بناء على رغبة دافع المبلغ بالكتابة أو الإِبراق إلى المصرف الآخر بتسليم المبلغ إلى الشخص المعين دون أن يتسلم العميل حوالة محررة بذلك، ويسمى هذا النوع بالتحويل البريدي.
وكما يقع التحويل من بلد إلى بلد فقد يكون في البلد نفسه بين مصرف وفروعه وبين حساب شخص في مصر وحسابه في مصر آخر، والغالب أن التحويل المصرفي والبريدي لا يتم إلا بعمولة يأخذها البنك في مقابلة قيامه بهذه المهمة (1) .
* الوصف الإِسلامي للتحويلات المصرفية:
حاولت الموسوعة الفقهية الكويتية التعرف على الوصف الفقهي الإِسلامي للتحويلات المصرفية فكتبت في ذلك بحثًا مطولا ناقشت فيه القول بتخريجها على السفتجة المعروفة لدى فقهاء الشريعة فذكرت ما بينهما من تشابه وفروق كما ناقشت القول بتخريجها على القرض أو الوكالة ثم انتهيت إلى القول بأن التحويلات المصرفية عملية مركبة من معاملتين أو أكثر وهو عقد حديث بمعنى أنه لم يجر العمل به على هذا الوجه المركب في العهود السابقة ولم يدل دليل على منعه فهو صحيح جائز شرعًا من حيث أصله.
ونظرًا لنفاسة البحث وما فيه من مناقشة لتخريج التحويلات المصرفية على بعض العقود المشابهة لها في الفقه الإِسلامي، فأرى مناسبة نقله في هذا البحث تحقيقًا للفائدة وفيما يلي نصه:
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية – الحوالة: ص 232.(6/511)
* الوصف (التكييف) الفقهي الإِسلامي:
سبق أن أشرنا في بحث (السفتجة) إلى وجه الشبه إجمالا بين السفتجة القديمة والتحويلات المصرفية الحديثة. ولبيان ذلك تفصيلا ينبغي التنبيه إلى أن السفتجة القديمة قد أجازها بعض الفقهاء (على الرغم من الشرط الذي يستفيد به المقرض الأمان من خطر الطريق، وهو شرط التوفية في بلد آخر) فهي وسيلة أجيزت لشدة الحاجة إليها ولم يحل دون جوازها اشتراط الوفاء في بلد آخر. تلك وجوه الشبه |شرنا إليها إجمالا هناك، لكن الناظر إلى هذه التحويلات الحديثة وإلى السفتجة القديمة يرى بينهما فرقًا من جهات أربع.
الجهة الأولى:
أن السفتجة القديمة لا بد أن تكون بين بلدين والتحويل المصرفي تارة يكون كذلك وتارة يكون بين مصرفين في بلد واحد.
الجهة الثانية:
أن السفتجة القديمة قد يكون المقترض فيها مسافرًا أو عازمًا على السفر، فيوفي هو نفسه أو نائبه إلى المقرض أو إلى مأذونه والتحويل المصرفي ليس فيه ذلك. فالمصرف الأول وهو المقترض لا يوفي بنفسه إلا إذا كان المصرف الثاني الدافع فرعًا للأول.
الجهة الثالثة:
أن المفروض في السفتجة القديمة اتحاد جنس النقد المدفوع عند العقد والمؤدى عند الوفاء. فالآخذ في السفتجة إذا أخذ دنانير من نوع مخصوص وفاها كذلك. وإذا أخذ دراهم من نوع مخصوص وفاها كذلك. فإنهم عرّفوا السفتجة بأنها قرض (وقد تتوافر معه فيها عناصر الحوالة) فلو كانت التأدية بنوع آخر لما كانت قرضًا، لأن القرض لا بد فيه من رد المثل.
والتحويل المصرفي لا يقتصر على هذه الحالة، فإن المصرف في أغلب الأحيان يأخذ نقودًا من نوع ويكتب للمصرف الآخر أن يوفي من نوع آخر، وهذه المعاملة ليست قرضًا محضًا، بل تشتمل أيضًا على صرف أو شبهه على ما سيأتي.(6/512)
الجهة الرابعة:
أن الآخذ في السفتجة القديمة لا يتقاضى أجرًا اكتفاء بأنه سينتفع بالمال في سفره أو إقامته، فيربح ما يغنيه عن اشتراط أجر لعمله. أما المصرف في التحويل المصرفي فيتقاضى أجرًا يسمى: عمولة.
وفيما يلي سنتناول بالبحث والمتحيص كل جهة من جهات الفروق الأربع هذه بين السفتجة الفقهية القديمة والتحويلات المصرفية الحديثة لنرى مقتضاها في الأحكام بالنظر الفقهي الإِسلامي.
الفرق الأول: كون السفتجة لا تتم إلا بين بلدين، والتحويل قد يتم بين مصرفين في بلد واحد.
هذا الفرق لا تأثير له في الحكم الشرعي بالجواز. فإن الذين أجازوا السفتجة بين بلدين يجب أن يجيزوا ما يشبهها بين مكانين في بلد واحد، بل هذه أقرب إلى الجواز، لأن اشتراط الوفاء في بلد آخر كان هو العلة التي جعلت بعض الفقهاء يكرهون السفتجة أو يحرمونها فإذا أجازها المحققون مع وجود هذه الشبهة فإجازتها مع قرب المكانين أولى لأن المقترض حينئذ لا يستفيد سقوط خطر الطريق، فلا يتوهم أنه قرض جرّ نفعًا.
الفرق الثاني: كون السفتجة القديمة تشمل صورًا مغايرة للتحويل المصرفي. هذا الفرق أيضًا لا تأثير له لأن الذين أجازوا السفتجة لم يخصوا الجواز بهذه الصورة المغايرة، فيكفي أن يكون التحويل موافقًا للصور الأخرى من السفتجة فالقائلون بجواز هذه الصور ينبغي أن يقولوا بجواز التحويل الموافق لها.
الفرق الثالث: كون السفتجة تجري بنقد واحد، أما التحويل المصرفي فقد يجري بنقد واحد وقد يكون بين جنسين من النقود.
هذه فروق جديرة بعناية الباحث، لأن لها تأثيرًا، وتحتاج إلى أي شيء من التحليل والتفصيل:
فالتحويل بين مصرفين في بلد واحد أو دولة واحدة إنما يكون بنقد الدولة غالبًا فيكون كالسفتجة القديمة بعد اعتبار أن المصرف شخصية اعتبارية. فما قيل في تطبيق السفتجة على المعاملات الشرعية المعروفة يقال في تطبيق هذا النوع من التحويلات فهو قرض وتوكيل. أو قرض وحوالة. والتحويل بين مصرفين في دولتين لا يمكن أن يكون بنوع واحد من النقد غالبًا. فالذي يريد تحويل دنانير عن طريق مصرف في الكويت إلى مصر في لبنان مثلاً لا بد أن يطلب التحويل إلى ليرات لبنانية بسعر الصرف وقت التحويل وهذا يستدعي ثلاث خطوات ذات أحكام وسنشرحها فيما يلي مبينين وصفها الفقهي خطوة خطوة.(6/513)
أولا: أن يتقدم إنسان للمصرف ويطلب تحويل النقود إلى مصرف آخر:
وهذا تمهيد لعقد التحويل، ويبين فيه عادة مقدار النقود، وهل يقصد تحويلها إلى نقود من جنسها أم من غير جنسها؟ وبيان المصرف الذي يراد التحويل إليه وبيان الشخص الذي سيقبض البدل من المصرف الآخر أهو طالب التحويل أم غيره؟
ثانيًا: قيام الطالب بدفع النقود إلى موظف المصرف:
وهذا بعد سبق الطلب المبين يعتبر إيجابًا للتحويل الذي يعد قرضًا إن كان المقصود التوفية بمثله من جنسه: فالدافع مقرض والآخذ مقترض من المصرف والدفع إيجاب والأخذ مع ما بعده قبول والمال المدفوع هو محل العقد وكذلك المِثْل الذي يلتزم به المقترض معطي الصك، فإنه العوض. فهذا القرض المستوفي لمقوماته عقد صحيح جائز شرعًا حيث خلا من الموانع الشرعية. وما يتخيل مانعًا وهو العمولة سيأتي الكلام عليه.
وأما إن كان المقصود التوفية بنقد من جنس آخر فهو صرف، ومن شرائط صحة الصرف التقابض ولا تقابض في هذا الصرف، فيلتحق بالربا لعدم التقابض، هذا إذا اعتبرنا الأوراق النقدية نقودًا وضعية، وأما إذا اعتبرت سندات على الجهة التي أصدرتها بالقيمة المذكورة فيها من الذهب، فإن معاملة التحويل المذكورة بين جنس منه وجنس آخر تعتبر بيع دين بدين دون قبض أصلاً في مجس العقد، لأن ما تم تسليمه من أحد الجانبين هو سند (صك) بمبلغه وليس نقدًا، فهل من حل؟
فنقول جوابًا عن ذلك:
1- إننا نعتبر الأوراق النقدية المذكورة من قبيل النقود الوضعية لا من قبيل الأسناد المعترف فيها باستحقاق قيمتها على الجهة التي أصدرتها من دولة أو مصرف إصدار، وإن كانت هذه الصفة الأخيرة هي أصلها ومنطلق فكرة إحلال الأوراق النقدية المعروفة بين الناس باسم (بنكنوت) محل النقود الذهبية والفضية في التداول أخذًا وعطاءً ووفاءً ذلك لأن الصفة السندية فيها قد تنوسيت بين الناس وفي عرفهم العام وأصبحوا لا يرون في هذه الأوراق إلا نقودًا مكفولة حلت محل الذهب في التداول تمامًا، وانقطع نظر الناس إلى صفة السندية في أصلها انقطاعًا مطلقًا، تلك الصفة التي كانت في الأصل حين ابتكار هذه الأوراق لإِحداث الثقة بين الناس لينتقلوا في التعامل عن الذهب إليها حيث يعلمون أن لها تغطية ذهبية في مركز الإِصدار وأنها سند على ذلك المركز بقيمتها مستحق لحامله يستطيع قبضه ذهبًا متى شاء.(6/514)
هذا أصلها أما بعد أن ألفها الناس وسالت في الأسواق تداولا ووفاءً من الدولة وعليها العمل بين الناس ولمس المتعاملون بها مزيتها في الخفة وسهولة النقل، فقد تنوسي – كما ذكرنا – فيها هذا الأصل السندي واكتسبت في نظر الجميع واعتبارهم وعرفهم صفة النقد المعدني وسيولته بلا فرق فوجب لذلك اعتبارها بمثابة الفلوس الرائجة من المعادن غير الذهب والفضة، تلك الفلوس التي اكتسبت صفة النقدية بالوضع والعرف والاصطلاح حتى إنها وإن لم تكن ذهبًا أو فضة لتعتبر حسب القيمة التي لها بمثابة أجزاء للوحدة النقدية الذهبية التي تسمى: دينارًا أو ليرة أو جنيهًا ذهبيًّا، بحسب اختلاف التسمية العرفية بين البلاد للوحدة من النقود المسكوكة الذهبية. هذه حال الفلوس الرائجة من المعادن المختلفة غير الذهب والفضة بالنظر الشرعي، وهو الصفة التي يجب إعطاؤها في نظرنا للأوراق النقدية (البنكنوت) فتبديل جنس منها كالدينار الكويتي الورقي أو الليرة السورية أو اللبنانية مثلاً بجنس آخر كالجنيه المصري أو الإِسترليني أو الدولار الأمريكي مثلا يعتبر كالمصارفة بين الذهب والفضة والفلوس المعدنية الرائجة على السواء.
والقاعدة الفقهية في هذه المصارفة أنه عند اختلاف الجنس يجوز التفاضل في المقدار بين العوضين ولكن يجب التفابض في المجلس من الجانبين، منعًا للربا المنصوص عليه في الحديث النبوي.
وبهذا التخريج يستبعد اعتبار عملية التحويل المصرفي بين جنسين من هذه الأوراق من قبيل بيع الدين بالدين وإنما هي مبادلة بين نقود فيها تحويل وصرف في وقت واحد.
2- بناء على ما سبق نقول: إن اعتبار الأوراق النقدية كما ذكرنا (نقودًا وضعية اصطلاحية) يقتضي في التحويل من جنس إلى آخر منها أن يتم تقابض العوضين في مجلس التحويل نظرًا لأن هذا التحويل بين جنسين من هذه النقود يتضمن مصارفة والصرف يشترط لصحته التقابض وهذا يقتضي أن يدفع طالب التحويل إلى المصرف الأوراق النقدية التي يحملها وأن يصرفها بالأوراق النقدية من الجنس الآخر المطلوب ويقبضها بالفعل من المصرف، ثم يسلمها إليه قرضًا ليوفيه في البلد الآخر من هذا الجنس الثاني، أي يجب فك عملية التحويل بين جنسين مختلفين من هذه الأوراق إلى عمليتين: مصارفة أولاً يقع فيها التقابض، وسفتجة ثانيًا يدفع فيها مبلغا من جنس ويستوفى نظيره من الجنس نفسه في البلد الآخر.(6/515)
هذا ما يستوجبه في الأصل عنصر المصارفة في عملية التحويل المصرفي بين جنسين ولكن هذه التجزئة العملية لا تقع فعلا بين طالب التحويل والمصرف الوسيط وإنما يدفع طالب التحويل إلى المصرف المبلغ المطلوب تحويله من نقود البلد الذي هو فيه فيقوم المصرف بتسليمه إيصالا به مع صك (شيك) يتضمن حوالة على مصرف في البلد الآخر بما يعادل هذا المبلغ من نقود البلد المطلوب التحويل إليه، فيرسل طالب التحويل هذا الشيك إلى الشخص المحول باسمه أو الذي حرر الشيك لأمره ليقبضه هناك من المصرف المحول عليه.
فإذا نظرنا إلى الشيكات فإنها تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية وأنها يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيرًا وتحويلا وأنها محمية في قوانين جميع الدول، من حيث إن سحب الشيك على جهة ليس للساحب فيها رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعًا، إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكًا بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس أي أن قبض ورقة الشيك كقبض مضمونه فيكون الصرف قد استوفى شريطته الشرعية في التقابض.
ثالثًا: إعطاء المصرف لطالب التحويل صكًا (شيكًا) بالمبلغ المطلوب:
فهذا الإِعطاء إما أن يكون مسبوقًا بإعطاء النقود أو غير مسبوق كما تقدم في الخطوة الثانية وأيًا ما كان فهو من تتمة قبول التحويل الذي هو عملية مركبة، ولكن لولا حظنا على انفراد لكان له وصف شرعي يختلف بحسب سبقه بدفع النقود وعدم سبقه بذلك.(6/516)
(أ) فإن كان مسبوقًا بإعطاء النقود التي اعتبرت مقترضة احتمل كونه حوالة أو وكالة: وتصوير الحوالة أن يقال: إن المصرف الذي أصبح مدينًا بدين القرض قد أحال دائنه – الذي أعطى النقود وأصبح مقرضًا – على المصرف الآخر ليدفع الدين الذي هو بدل القرض إلى ذلك الدائن، أو إلى الشخص الذي عينه وكتب اسمه في الصك. وتصوير الوكالة أن يقال: إن المصرف الآخذ قد وكل المصرف الثاني في دفع المبلغ المذكور في الصك إلى من ذكر اسمه فيه سواء أكان هو الطالب أم الشخص الآخر الذي عينه وهذا التوكيل مصرح في الصك بما يدل عليه، وإنما سلم هذا الصك لطالب التحويل تمكينًا له من استيفاء حقه، وأن اعتبار ذلك وكالة بهذا التصوير الثاني هو الأقرب وعليه يكون وكالة جائزة شرعًا وتكون عملية التحويل مركبة من قرض ووكالة إذا استوفى المحول بنفسه أو من قرض ووكالتين إذا كان المستوفي هو الشخص الآخر الذي عينه المحول فهو وكيله في الاستيفاء وإنما قلنا إن تقدير الوكالة هنا أقرب من تقدير الحوالة لأن الحوالة الشرعية ثمرتها براءة ذمة المحيل من الدين، وليست للتحويل المصرفي هذه الثمرة لأن المصرف الآخذ يبقى مدينًا بدين القرض ولا يبرأ منه إلا بتوفية المصرف الآخر، يضاف إلى ذلك أن المصرف الثاني قد يكون غير مدين للمصرف الأول فلا يصح أن يكون محالا عليه شرعًا عند الجمهور إلا على أساس الحوالة المطلقة عند الحنفية ومن معهم وأن الوكالة خالة من هذين الإِِشكالين، فالتخريج عليها يكون أولى وأرجح غير أنه قد يقال: إن الوكالة يجوز فيها رجوع الموكل ورجوع الوكيل وهذان الأمران ليسا من صفات التحويل المصرفي.
وجوابًا على هذا الإِيراد نقول: إن الوكالة هنا ليست عقدًا منفردًا معقودًا بصورة مقصودة مباشرة وإنما حللنا إليها عقد التحويل الذي هو عقد مركب من إقراض وشرط، وهذا الشرط ينحل إلى وكالة فهي وكالة مشروطة من جانب طالب التحويل، فتكون وكالة تعلق بها حق الغير فلا يجوز رجوع الموكل فيها ولا الوكيل بعد القبول. ومن جهة أخرى يلحظ أيضًا أن المصرف قد استوفى عمولة على هذه العملية فهي وكالة بأجر فلا يجوز الرجوع فيها.
(ب) وإن لم يكن إعطاء الصك مسبوقًا بدفع المبلغ المطلوب تحويله فلذلك حالتان:(6/517)
الحالة الأولى:
أن يكون للطالب في المصرف حساب جار دائن:
1- فإن كان المطلوب تحويل النقود إلى نقود من جنسها، كدنانير كويتية إلى دنانير كويتية فحينئذ يكون إعطاء الصك توكيلا من المصرف للطالب بقبض المبلغ المبين في الصك ليستوفيه من الدين الذي له على المصرف. . وقد استغني عن تقدير القرض لأن الدين السابق قام مقامه.
2- وإن كان المطلوب التحويل إلى نقود من غير جنسها، كدنانير كويتية إلى ليرات لبنانية أو غيرها كان طلب التحويل إيجاب مصارفة بين بعض النقود التي للطالب في حسابه الدائن لدى المصرف والمبلغ المطلوب من النقود الأخرى وكان تسليم الصك (الشيك) للطالب قبولا للمصارفة وتوكيلا من المصرف بالقبض قام مقام التقابض الواجب شرعًا في مجلس عقد الصرف لأن هذا الصك (الشيك) عرفًا في حكم النقد.
الحالة الثانية:
ألا يكون للطالب في المصرف حساب دائن:
فإن كان يريد تحويل النقود إلى نقود من جنسها كان الطلب التماسًا للوكيل في القرض كأنه يقول للمصرف: ألتمس منك أن توكل المصرف الثاني في دفع مبلغ كذا إليّ أو إلى فلان ليحتسب لك قرضًا عليّ. وحينئذ يكون إعطاء الصك توكيلا للمصرف الثاني أن يدفع للشخص صار هذا المصرف الثاني دائنًا للمصرف الأول بالمبلغ ما لم يكن له – أي للمصرف الأول – عنده حساب دائن، ويصير المصرف الأول دائنًا لطالب التحويل ما لم يكن قد قام بدفع المبلغ إليه قبل قيام المصرف الآخر بدفع ما في الصك.
وإن كان يريد تحويل النقود إلى نقود من غير جنسها – والمفروض أن طالب التحويل ليس له في المصرف حساب دائن ولم يدفع النقود في المجلس – فحينئذ يعد طلب التحويل التماسًا للتوكيل بالقرض (كما سبق بيانه) أي أن يقوم المصرف الأول بتوكيل المصرف الثاني في البلد الآخر بأن يدفع إلى الطالب (أو إلى من يعينه) المبلغ المطلوب من نقود ذلك البلد الآخر ليحتسب دينًا على الطالب. ويعتبر تسليم الصك إلى الطالب قبولا وتنفيذًا للتوكيل بالإِقراض. فيصبح طالب التحويل مدينًا للمصرف الأول بمبلغ الصك من نقود ذلك البلد متى تم قبضه هناك، ثم حين يوفي للمصرف قيمته من نقود الجنس الآخر (النقود المحلية) يعتبر ذلك الوفاء مصارفة بين ما للمصرف في ذمته من النقود الأجنبية وما يوفيه الآن من النقود المحلية. ويتحقق بذلك شرط التقابض في بدلي الصرف لأن أحدهما في الذمة مقبوض والآخر يدفع الآن في مجلس الصرف.(6/518)
الفرق الرابع والأخير: بين السفتجة القديمة والتحويل المصرفي اليوم: وهو أن المصرف يأخذ عمولة من طالب التحويل مع المبلغ المطلوب تحويله ولا يوجد هذا في عملية السفتجة القديمة التي تكلم عنها الفقهاء.
فنقول في هذا الفرق: إن في هذه العمولة إشكالا بحسب الظاهر، لا سيما إذا قلنا إن العملية من قبيل القرض وقد نص بعض الفقهاء على أنه لا يجوز في القرض اشتراط يجر نفعًا للمقترض كما لا يجوز اشتراط يجر نفعًا للمقرض.
ولكن شرط جر النفع للمقرض يعتبر ربا وشرط جر النفع للمقترض يعتبر زيادة إرفاق من المقرض للمقترض فيكون وعدًا حسنًا، ولا يلزمه تنفيذه اكتفاء بأصل الإرفاق. على أن بعض الحنابلة أجازوا في القرض اشتراط دفع المقترض أقل مما أخذ. كما لو قال: أقرضك مائة دينار على أن تردها لي تسعة وتسعين، فيجوز ذلك لأنه زيادة إرفاق بالمقترض، وقد التزمه المقرض فيلزمه. وليس للإرفاق حد يجب الوقوف عنده ولاسيَّما أن هذا الشرط مضاد للربا ففي التزامه تأكيد التبري من الربا، فهذا القول عند الحنابلة جيد جدًّا ويسعف في تخريج العمولة.
3- ثم إن بين المعاملات التي يقوم بها الأفراد والمعاملات التي تقوم بها المصارف فرقًا شاسعًا، فالمقترض في السفتجة القديمة لا يقوم بعمل للمقرض ولا يتحمل مئونة، لأنه إذا كان مسافرًا لحاجة نفسه، وغالبًا ما يتّجر في البلده أو في طريقه أو في البدل الذي يصل إليه وقد أصبح المال الذي أقترضه ملكًا له، فأرباحه كلها تخصه، وما صنع شيئًا للمقرض سوى كتابته الصك، ثم توفية الدين له أو لصديقه مثلاً.
أما المصرف الذي اعتبر مقترضًا في عملية التحويل فيختلف عن المقترض في السفتجة، فهو شخصية اعتبارية تجمع موظفين وعمالا يتقاضون رواتب شهرية غير مرتبطة بالعمل قلة وكثير، ويتخذ مقرًّا مجهزًا بأثاث وأدوات وآلات كثيرة لاستقبال العملاء وقضاء حاجاتهم، ثم إن العملية ليست كتابة ورقة فحسب وإنما هي إجراءات كثيرة ذات كلفة مالية، فلو لم يأخذ عمولة لما استطاع تغطية النفقات الطائلة التي ينفقها، فاشتراط العمولة محقق للعدالة ومتفق مع أصل التشريع الإسلامي، وليس هناك نص أو إجماع على منع مثل ذلك.(6/519)
* النتيجة:
والنتيجة التي تستخلص من كل ما سبق من كلام عن التحويلات المصرفية اليوم هي أن التحويل المصرفي أو البريدي عملية مركبة من معاملتين أو أكثر، وهو عقد حديث، بمعنى أنه لم يجرِ العمل به على هذا الوجه المركب في العهود السابقة، ولم يدل دليل على منعه، فهو صحيح جائز شرعًا من حيث أصله بقطع النظر عما يحيط به من مواد قانونية يجب لمعرفة حكمها استقصاؤها تفصيلا ودراستها للحكم فيها. اهـ (1) .
وقد بحث مسألة قبض الشيك قبض لمحتواه مجموعة من علماء الشريعة والاقتصاد منهم الدكتور علي السالوس والدكتور سامي حمود والأستاذ ستر الجعيد وغيرهم، وكلهم اتفقوا على أن قبض الشيك قبض لمحتواه وقد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بذلك وفيما يلي ذكر أقوالهم.
فقد جاء في كتاب الدكتور علي السالويس (استبدال النقود والعملات) في معرض رده على الشيخ حسن أيوب حيث كان حسن أيوب يرى أن الأوراق النقدية عروض تجارة، فرد عليه جزاه الله خيرًا وذكر في رده أن الشيك ينقل الملكية في حال وأنه قبض لمحتواه، وذكر رأي بعض علماء الاقتصاد ومنهم الدكتور يوسف إبراهيم فقال:
الشيك والقبض
قال الشيخ: (كان الاولى أن تطلب التوبة بشجاعة من نفسك ومن القائلين بأن الشيك يكفي عن قبض الأوراق المالية … إلخ) .
وأقول:
* عاد الشيخ للحديث عن الشيك والقبض وأحب أن أسأله: لو أن الشيك لا يكفي عن القبض فما النتيجة؟ أنبحث عن حل آخر أم نقول: إن هذه النقود ليست من الأموال الربوية؟
عندما كان المسلم يذهب إلى عبد الله بن الزبير في مكة، ويعطيه نقودًا، ويأخذ سفتجة يتسلم بها ما يقابل هذه النقود من أخيه مصعب في العراق، فأين القبض هنا؟ أليست السفتجة قد قامت مقام القبض؟
ألا يقوم الشيك بما قامت به السفتجة؟
ألا يعني الشيك نقل الملكية في الحال؟ فالشيك إذن قام بدور السفتجة أو أكثر ولا يمكن أن يكون أقل منها في أداء وظيفة القبض.
* قال صاحب المغني: (الحوالة بمنزلة القبض) (6/56) .
وقال أيضًا: (الحوالة كالتسليم (5/69) .
ونص على هذا أيضًا صاحب الشرح الكبير (انظر 5/58/69) .
* وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية:
(الأسماء تعرف حدودها تارةً بالشرع كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وتارةً باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر، وتارةً بالعرف كالقبض والتفريق) .
(مجموع الفتاوى 29/448) .
فإذا كان القبض مرده إلى العرف فإن الشيك هو الأداة الرئيسية التي تنتقل بها ملكية النقود المودعة في الحسابات الجارية بالمصارف، وإذا تعارف الناس على نقل هذه الملكية بالتلكس مثلا، ألا يكون هذا قبضًا في عرفهم؟ ويمكن أن يتوصل الناس إلى وسائل أخرى تنتقل بها ملكية النقود فتقوم هذه الوسائل مقام قبض النقود ذاتها.
ولقد عرضت هذا الأمر على عدد من الاقتصاديين، ورجعت إلى كتب آخرين، فما وجدت ما يمنع جعل الشيك يقوم مقام القبض، بل وجدت من يعتبر الشيك نقودًا بالفعل، وممن طلبت رأيهم بالفعل في هذا الموضوع بعض الأساتذة الاقتصاديين، فقد قالوا بأن بعض البنوك الأجنبية تقوم بصرف قيمة الشيك قبل تحصيله مما يدل على أن الشيك أصبح له قوة مشابهة لقوة النقود.
ومما أذكره أني عرضت هذا الأمر على الأستاذ الدكتور عبد العزيز رجب فأيد ما قلته ولم يعارضه بل عارض كلام الشيخ.
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية – الحوالة: ص 225، 235.(6/520)
وقد جاءنا من تجارة الأزهر الدكتور يوسف إبراهيم، فطلبت رأيه في هذا الموضوع فكتب يقول:
إن النقود في اصطلاح الاقتصاديين هي كل ما يستخدم وسيطًا في تبادل السلع والخدمات ويلقى القبول العام من الناس، دون نظر إلى الشكل الذي تكون عليه فقد تتخذ النقود الشكل المعدني مثل النقود الذهبية والنقود الفضية التي عرفتها البشرية منذ فترة ليست بالقصيرة ولا زالت تعرف بعضها حتى اليوم في صورة ضيقة، وقد تتخذ النقود الشكل الورقي، مثل النقود الورقية الإلزامية التي تصدرها البنوك المركزية وقد تتخذ شكل النقود الائتمانية (المصرفية) التي تقدمها البنوك التجارية. وبالشكل الأخير من أشكال النقود (النقود الائتمانية) تجري معظم المعاملات في الاقتصاديات الحديثة والتي يقتصر دور النقود المعدنية فيها على استخدامها نقودًا مساعدة فقط، بينما تستخدم النقود الورقية في الصفقات ذات القيم الصغيرة، أما الصفقات والمعاملات الأساسية في هذه الاقتصاديات فإنها تتم بواسطة النقود الائتمانية أو المصرفية والتي ليس لها أداة غير الشيك.
وتتمتع الأنواع الثلاثة بالخاصتين الجوهريتين للنقود وهما كونها وسيطًا للتبادل وكونها تلقى القبول العام، فلا فرق في ذلك بين النقود المعدنية والنقود الورقية والنقود المصرفية والذي يأخذ (الشيك) في معاملة من المعاملات فإنه يأخذ نوعًا من النقود ما في ذلك شك، وإذا كان بعض الناس في بعض المجتمعات لا يثقون في النقود الائتمانية ثقتهم في النقود الورقية فإن ذلك راجع إلى إِلْفهِم التعامل بهذه النقود وعدم إِلْفهِم التعامل بالنقود الائتمانية، ذلك أن النقود الورقية تحمل من المخاطر أكثر مما تحمله النقود الائتمانية بل والنقود المعدنية التي ربما تكون زيوفًا فليس هناك نوع من النقود يخلو من المخاطر، بل ربما تكون النقود الائتمانية من أقلها مخاطر، الأمر الذي جعلها تغطي الجزء الأكبر من المعاملات في المجتمعات المتقدمة اقتصاديًّا وستحتل نفس المكانة في بقية المجتمعات في المستقبل، بل لعل القبول بها لقي استجابة أكثر من الاستجابة التي قوبلت بها النقود الورقية عند نشأتها. اهـ.
وكثيرون كتبوا عن الشيك، ونقله للملكية، وبيَّنوا أن معظم المدفوعات النقدية تسوّى بواسطة الشيكات التي أصبحت أهم أدوات الائتمان في العصر الحديث وما ذكروا لنا حلولا أخرى أو التفكير في حلول أخرى، بل تحدثوا عن ميزات التعامل بالشيكات من حيث الملاءة واليسر والأمان وحماية القانون.
(انظر مقدمة في النقود والبنوك للدكتور شافعي: ص 51، 55 والمبسوط في الأوراق التجارية للدكتور صلاح الدين الناهي: ص 560 – 573) .(6/521)
ومن الاعتراضات التي تذكرها هنا:
- أن الشيك قد يكون بدون رصيد، فلا يتم قبض.
- وقد يتعلق صرف الشيك على شرط وصول إخطار للبنك من صاحب الرصيد، وبهذا يتأخر القبض.
- وقد يعارض صاحب الرصيد في صرف الشيك، فلا يتم القبض أو يتأخر. وهذه الاعتراضات لا تمنع ما انتهينا إليه.
فمخاطر الشيك بدون رصيد قد لا تقل عن مخاطر الأوراق النقدية المزيفة وغالبًا لا يعرف من قام بالتزييف.
ومما يذكر في هذا المجال أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عندما فكر في جعل الدراهم من الجلود كان مرد هذا إلى التزييف الذي لحق بالدراهم آنذاك.
وإن كان حامل النقود المزيفة لا يحميه القانون ما دام المزيف غير معروف فإن حامل الشيك يحميه القانون حيث ينص قانون العقوبات على توقيع عقوبة النصب على كل من أعطى بسوء نية شيكًا لا يقابله رصيد قائم أو قابل للسحب أو كان أقل من قيمة الشيك أو سحب بعد إعطاء الشيك كل الرصيد أو بعضه بحيث إن الباقي لا يفي بقيمة الشيك أو أمر المسحوب عليه بعدم الدفع.
وهذه الحماية القانونية كان لها أثرها في تعامل الناس بالشيكات في العصر الحديث. انتهى بتصرف في حذف ما رأيت الاستغناء عنه (1)
كما بحث المسألة الدكتور سامي حمود في كتابه الذي نال به الدكتوراه بعنوان تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية حيث قال تحت عنوان (القبض في مصارفة البنوك) ما نصه:
__________
(1) استبدال النقود والعملات: ص 164، 170.(6/522)
تتفق الآراء الفقهية على فساد الصرف إذا لم يكن فيه قبض فقد نقل السبكي في المجموع عن ابن المنذر أنه قال: (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد) (1)
ولكن الآراء الفقهية تختلف في المراد بالقبض، فالقبض على ما يرى الحنفية مراد به التعيين باعتبار أن اليد في قوله صلى الله عليه وسلم (يدًا بيد) ليس مرادًا بها اليد الجارحة.
كما يقول الكاساني في معرض رده على أخذ الشافعي بظاهر اللفظ بهذا الحديث – بل يمكن حمل اليد على التعيين لأنها آلته ولأن الإشارة باليد سبب التعيين (2) ، ولذلك فإنه إذا وقع البيع على مال ربوي بمال ربوي آخر (قمح بشعير مثلا) ، فإن تعيينهما يقوم – عند الحنفية – مقام القبض ولكن الأمر يختلف عندهم بالنسبة للنقود، وذلك لأن الدراهم والدنانير لا تتعين عند الحنفية بالتعيين ولذلك كان لا بد من التقابض (3) .
فإذا انتقلنا من حالة الكلام في البيع الذي يجري فيه الصرف بالمناولة (خذ وهات) إلى حالة وقوع الصرف في الذمة، فإن الصورة تتضح بأن المراد من القبض هو التعيين الذي تثبت به الحقوق وليس المراد شكله بالأخذ والإعطاء فلنستمع إلى ما يرويه ابن عمر – رضي الله عنهما – بقوله: كنت أبيع الإبل في البقيع أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وأخذ الدنانير فوقع في نفسي من ذلك، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة – أو قال حين خرج من بيت حفصة – فقلت: يا رسول الله رويدك أسألك: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وأخذ الدنانير، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفرقا وبينكما شيء" (4) .
ومن الواضح أن هذا التصارف الجاري على ما في الذمة ليس فيه تقابض بمظهره الشكلي – بأن يبرز كل طرف ما يريد مصارفته بل كان يتم على أساس أن الحق القائم بهيئة دنانير في الذمة يسدد بما يؤدى في مقابلها من دراهم بسعر اليوم.
__________
(1) السبكي، الجزء العاشر: ص 65.
(2) الكاساني، الجزء السابع: ص 319.
(3) السبكي، الجزء العاشر: ص 66.
(4) البيهقي، الجزء الخامس: ص 284.(6/523)
وقد أشكلت هذه النقطة على بعض من نظر إلى أن هذا الحديث المروي عن ابن عمر معارض بحديث أبي سعيد بالنسبة لما جاء فيه: (ولا تبيعوا منهما غائبًا بناجز) ، فقال ابن عبد البر موضحًا ذلك الإشكال على ما جاء في تكملة المجموع: (وليس الحديثان بمتعارضين عند أكثر الفقهاء، لأنه يمكن استعمال كل واحد منهما، فحديث ابن عمر مفسر، وحديث أبي سعيد الخدري مجمل، فصار معناه لا تبيعوا غائبًا – ليس في ذمة – بناجز. وإذا حملا على هذا لم يتعارضا. اهـ (1) .
ومن ذلك يؤخذ أن غاية القبض هي إثبات اليد، فإذا كان ذلك حاصلا فلا ينظر للشكل في المبادلة، ولذا كان الصرف في الذمة جائزًا، سواء كان أحدهما دينًا والآخر نقدًا أو كان المبلغان عبارة عن دينين في ذمة كل من المتصارفين.
فقد جاء في المدونة ما يلي:
قلت: أرأيت لو أن لرجل عليَّ مائة دينار، فقلت: بعني المائة دينار التي لك عليَّ بألف درهم أدفعها إليك فعل، فدفعت إليه تسعمائة، ثم فارقته قبل أن أدفع إليه المائة الباقية.
قال: قال مالك لا يصلح ذلك ويرد الدراهم، وتكون الدنانير التي عليه على حالها.
قال مالك: ولو قبضها كلها كان ذلك جائزًا (2) .
وأورد ابن رشد الخلاف في مسألة الصرف بين دينين في ذمة المتصارفين فقال: …
المسألة السادسة: واختلفوا في الرجلين يكون لأحدهما على صاحبه دنانير وللآخر عليه دراهم هل يجوز أن يتصارفا وهي في الذمة؟
فقال مالك: ذلك جائز – إذا كان قد حلا معًا.
وقال أبو حنيفة: يجوز في الحالَّ وفي غير الحالَّ.
وقال الشافعي والليث: لا يجوز ذلك حلا أو لم يحلا (3) .
وحجة من لم يجز العملية (الشافعي والليث) أنه غائب بغائب وقد بيَّنَّا أن قابلية الدين حالَ المطالبة لا تبقي في المسألة إلا الشكل الذي يجري فيه إبراز كل طرف ما عليه من دين للآخر، وهذا الإبراز وسيلة إبراء لا أكثر فإذا توصلنا إليه بالمصارفة فما المانع؟
__________
(1) السبكي، الجزء العاشر: ص 105.
(2) مالك في المدونة الكبرى، الجزء الثامن: ص 393.
(3) ابن رشد الحفيد، الجزء الثاني: ص 200.(6/524)
ومع ذلك فإن المراد هو بيان مدى الرحمة في اختلاف الأئمة – أثابهم الله جميعًا بما قدموا وما خدموا هذا الفقه العظيم.
فإذا انتقلنا لتطبيق المسألة على واقع العمل المصرفي فإننا نجد أن الصرف إما أن يكون على الصندوق أو بالحساب.
فإذا كان الصرف نقدًا على الصندوق فلا إشكال في المسألة حيث يسلم المتصارف نقوده (من الجنيهات الإِسترالينية – مثلا) ليتسلم من صندوق المصرف العملة المطلوبة من الجنس الآخر. فهنا تقابض حالّ منجز.
أما إذا كان الصرف بالحساب فإن المودع يتسلم إيصال الإِيداع الذي يحمل تاريخ اليوم الذي فيه الإيداع، ويقوم المصرف بقيد القيمة المعادلة للعملة الأجنبية – بحسب سعر يوم الإِيداع – بحساب العميل لديه بالعملة الوطنية. وهذا قبض، لأن فيه تعيينًا لحق العميل تجاه المصرف.
ولو كان للعميل حسابان أحدهما بالجنيه الإِسترليني مثلا والآخر بالدولار، وأراد أن يصارف من أحدهما ليضيفه للآخر فإنه يأمر المصرف بإجراء القيود بالمصارفة بسعر يوم التنفيذ فتكون العملية تبديل دين بدين بما يشبه مصارفة الدين بالدين، وهي العملية الجائزة عند مالك (إذا كان الدينان حالَّيْن) والجائزة أيضًا عند أبي حنيفة (حلَّ الدَيْنان أم لم يَحِلا) .
هذا ومن الجدير بالإِشارة إلى أن سير المصارف على نظام القيد المزدوج في إجراء القيود لا يسمح للمصرف إلا أن يجري العملية بشقيها في كل حال لأن كل قيد دائن لا بد أن يقابله قيد مدين وهذا أمر معروف ومتفق عليه في علم المحاسبة.
وتقوم المصارف العالمية بالإضافة إلى أعمال الصرف العادي مع العملاء بيعًا وشراء بإجراء عمليات يطلق عليها اصطلاح الترجيح وهي – في نطاق الصرف – تنطوي على شراء عملات أجنبية من سوق (لندن مثلا) لبيعها في سوق آخر (نيويورك) بهدف ربح فرق السعر بين المركزين – إذا وجد ذلك الفرق.(6/525)
وتتم العملية على أساس السعر الحاضر وتقيد الحقوق في دفتر كما لو كانت عملية صرف لعميل له لدى المصرف حسابان أو أكثر بأنواع مختلفة من العملات، وفي ضوء ذلك فإن أعمال الترجيح للاستفادة من فروق الأسعار بين مراكز العملات الأجنبية في الأسواق العالمية مقبولة في موازين النظر الفقهي الإسلامي باعتبار أنها أعمال صرف حاضر مع التقابض الحسابي المتبادل.
وهكذا يتبين أن القبض في بيوع الصرف – على أساس السعر الحاضر – لا يمثل مشكلة بالنسبة للعمل المصرفي المراعى فيه الخضوع لضوابط الشريعة الغراء وذلك لأن التقابض سواء كان يدويًّا (بالمناولة) أو حسابيًّا (بالقيود الدفترية) مبني على إثبات الحق المنجز بالنسبة للطرفين المتبايعين. اهـ. (1) .
وتحدث الأستاذ بجامعة أم القرى الدكتور ستر بن ثواب الجعيد في رسالة تقدم بها لنيل الماجستير بعنوان " أحكام الأوراق النقدية والتجارية في الفقه الإسلامي " وقد اشتركت في نقاش هذه الرسالة في جامعة أم القرى فقال:
الفرع السادس: حكم اقتران الصرف بالإجارة في التحويل بالشيكات:
ذكرنا فيما سبق حكم الشيك في التحويل إذا كان النقد من جنس واحد، والآن نبين ما لو أراد المستاجر – طالب التحويل – أن يتسلم المبلغ في البلد الآخر بنقد يخالف النقد الذي تقدم به إلى المصرف أو هو موجود في حسابه مع المصرف.
وإذا فرضنا أن زيدًا من الناس تقدم إلى المصرف بمبلغ عشرة آلاف ريال سعودي مثلا ويريد أن يحرر له المصرف شيكًا بهذا المبلغ على أن يتسلمه في مصر مثلا بالجنيهات المصرية أو الدولار الأمريكي أو أي عملة أخرى مخالفة للعملة التي جاء بها.
والمسألة ذات جوانب:
الأول: إذا كان طالب الشيك جاء بنقده معه ثم سلمه إلى المصرف وطلب منه أن يحرر له شيكًا إلى مصر يتسلمه بالجنيهات. . . فهنا المسألة صرف يتلوه إجارة ووكالة. .
أما الصرف فبين الريالات السعودية المفروضة في المثال وبين الجنيهات المصرية تم بسعر اليوم الذي يتقدم فيه الطالب.
والإجارة فهي تمكين المستأجر (الطالب للتحويل) من أخذ المقدار المساوي لنقده في المكان الذي يرغبه في مصر في مثالنا.
__________
(1) تطور الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى، ص 346، 350.(6/526)
والوكالة فإنها ذات جانبين: وكالة من المصرف للطالب ووكالة من المصرف القابض إلى المصرف الدافع والإشكال الوارد على العملية هو التقابض هل يتم بتسلم الشيك أم لا؟
لقد ذهب كثير من الباحثين المعاصرين إلى أن تسلم الشيك قبض لمحتواه وبالتالي يعتبر الصرف صحيحًا لتوفر شرطه (1) .
وإنما يعتبر قبض الشيك قبضًا لمحتواه لأنه يحاط بمضانات وضوابط تجعل القابض له مالكًا لمحتواه، ويستطيع أن يتصرف فيه فيبيع به ويشتري ويهب ويستطيع أن يظهر الشيك إلى آخر إذا مارس أي عملية من بيع أو شراء ونحوها. . .
كما أن من الضوابط التي تدعم الثقة بالشيك ما يلي:
(أ) اعتبار إصداره من غير رصيد جريمة يعاقب عليها.
(ب) كون الشيك غير مؤجل، بل يتم صرفه بمجرد تقديمه بخلاف الأوراق التجارية الأخرى، فإن الأجل لازم لها ومن طبيعتها غالبًا.
وذلك لا يمنع من دخول الأجل في الشيك أو انتفائه في الأوراق التجارية الأخرى ولكني يجب أن لا يدخل الأجل في الشيك – إلا الأجل الذي لا بد منه لانتقال المستفيد إلى البلد الذي يرغب تحويل النقد إليه – إذا ترجح هذا الحكم لأن الأجل يدخل العملية في ربا النسيئة.
ويدعي ما ذهب إليه هؤلاء الباحثون أن الأوراق النقدية كانت في بداية نشأتها سندات لحاملها حتى شاعت بين الناس وكان يدفع للراغب في استبدالها ذهبًا أو فضة حسب الغطاء ولكن ذلك تلاشى شيئًا فشيئًا مع انتشارها ورواجها وثقة الناس بها.
وبذلك تقترب الأوراق التجارية من الأوراق النقدية خاصة الشيكات – والسياحيّة منها خاصّة – إذ هي تحرر على شكل فئات معينة ومتساوية أما بقية الأوراق التجارية فتحرر على أرقام متفاوتة حسب ما تقتضيه المعاملة التي استدعت تحريرها.
وقد اشترط بعض العلماء في اقتران الصرف بالحوالة ثبوت الدين قبل الحوالة واعتبروه شرط صحة لها، قال بعض الفقهاء في تبريره: (احترز به – بثبوت دين لازم – في صرف دينار بدراهم وأحال غريمه عليها فلا تصح لعدم المناجزة في الصرف وهو يوجب فسخه فالدراهم لم تلزم المحال عليه (2) . وهذه تشبه الصورة الجارية في البنوك، ولكن هذا الفريق من العلماء فسروا ثبوت الدّيْن بما يستفاد منه أن الصرف المستقبل للشيك لا يضره عدم مديونيته المباشرة عن طريق وجود حساب للمصرف المرسل للشيك بل يكفي في ذلك ثبوت الدين ببينة أو إقرار.
__________
(1) انظر المعاملات المصرفية والربوية، د. نور الدين عتر: ص 38، 39، النقود والمصارف، د. عوف الكفراوي: ص 47، موقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة. د. عبد السلام العبادي ص 243، السالوس: استبدال النقود والعملات: ص 164 وما بعدها.
(2) فتاوى الشيخ عليش: 3 / 230. انظر ما نقله عن المدونة بخصوص عدم الممانعة من اجتماع الحوالة مع بقية الديون ما عدا الدين الثابت من الصرف.(6/527)
ما يرد على هذا التخريج ومناقشته:
وما سبق من القول بأن الشيك يكفي قبضه عن قبض محتواه لصحة عقد الصرف يرد عليه بعض الإيرادات أهمها:
1- إن قبض الشيك في قوة قبض محتواه وذلك لأن المتصرف الذي يملكه من قبض محتوى الشيك هو نهائي بينما يمارس من قبض الشيك بعض التصرفات وهي موقوفة على الوفاء الفعلي إذ قد يكون الشيك لا رصيد له وبذلك صار هذا وجه فرق بين المسألتين ولكن يمكن الرد عليه بأن هذا الفرق لا يؤثر في الإلحاق لأن قبض المحتوى هو الآخر ليس نهائيًّا إذا نظرنا إليه من جهة أخرى وهو كون النقد مزورًا أو معيبًا ونحو ذلك من العيوب ولكن النقد المزور لا يمكن معرفة أول من زوره لأنه يتداول بالمناولة بينما الشيكات تتداول بطريق يمكن معرفة من انتقلت إليه وبالتالي يسهل ضبط العيب إذا ظهر قريبًا هو من هذه الناحية أسهل ولكن يعوض هذا في الأوراق النقدية مراقبة ولي الأمر ومعاقبته لمن زوّر النقد فهذا يحد من التزوير في النقود، كما يحد من التزوير في الشيكات الضوابط الكثيرة – كالرصيد ومعاقبة من يصدر الشيك بدون رصيد – والضمانات ونحوها ويمكن القول بأن مسئولية مصدر الشيك عن صدق محتواه مع ما يحيط به من ضوابط أخرى تعزز الثقة في الشيك فتشبه ضمان الدولة عن الأوراق النقدية التي تصدرها؛ غاية ما هناك أن الأوراق النقدية شيكات لحاملها والأوراق التجارية – الشيك – اسمية وما بينهما من فروق لا يؤثر في عدم الإلحاق إذ لا بد أن يكون الفرق مقصودًا.
2- إن قابض الشيك قد يتأخر عن تقديمه إلى المصرف الوكيل وقد يزيد السعر أو ينقص في هذه الفترة فيتضرر أحدهما فلا يتحقق الوصف الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر ((أن لا تفترقا وبينكما بأس أو شيء)) .
ويجاب على ذلك بأن الأجير وموكله أو فرعه مستعدان للوفاء الفعلي للشيك في أي وقت يتقدم به حامله، فإذا تأخر فهو خطؤه ويتحمل نتيجته لو نقص السعر فضلا عن أن هذا المتأخر لا يتأخر إلا لمصلحة أو عذر وهو ممكن من نقل هذا الشيك والتصرف به في أنواع التصرفات، وهذا يجعل من النادر أن يتأخر أحد بشيكه يترصد زيادة السعر أو نقصه.
لكن الممنوع حقًّا أن يوضع للشيك تاريخ متأخر لا يتم صرفه إلا بعده كما هو الحال في الأوراق التجارية الأخرى – ومن هنا كان لا وجه لترجيح أن قبضها قبض لمحتواها إذ الأجل لازم لها.(6/528)
ويمكن القول في ضوء ما تقدم أن قبض الشيك قبض لمحتواه إذا لم يدون فيه تاريخ وأجل التسلم. اهـ (1) .
ويتأيد قول من قال بأن قبض الشيك قبض لمحتواه بما اعتبره العلماء في باب الزكاة قبضًا من أن الدين على مليء في حكم المقبوض حيث أوجبوا الزكاة فيه.
قال في الإنصاف بصدد الكلام عن زكاة الدين على مليء: (الحوالة به والإبراء منه كالقبض على الصحيح من المذهب وقيل إن جعل وفاء كالقبض وإلا فلا) (2) .
وجاء في الأموال لأبي عبيد عن ابن عمر رضي الله عنهما: (وما كان من دين على ثقة فزكه) (3) .
وقال الزيلعي: (ولو كان الدين على مقرٍّ تجب – أي الزكاة – لأنه يمكنه الوصول إليه ابتداء أو بواسطة التحصيل) . اهـ (4) .
وقد ورد عن الإمام مالك مسألة هبة الدين لغير من هو عليه (قلت – سحنون – فإن وهبت لرجل ديناً لي على رجل آخر قال: قال مالك: إذًا أشهد له وجمع بينه وبين غريمه ودفع إليه ذكر الحق فهو قد قبض) (5) .
وقال أبو عبيد بعد أن عرض أقوال العلماء في زكاة الدين: أما الذي أختاره من هذا فالأخير بالأحاديث العالية التي ذكرناها عن عمر وعثمان وجابر وابن عمر ثم قول التابعين بعد ذلك الحسن وإبراهيم وجابر بن زيد ومجاهد وميمون بن مهران أن يزكيه في كل عام مع ماله الحاضر إذا كان الدين على الأملياء المأمونين لأن هذا حينئذ بمنزلة ما بيده وفي بيته. اهـ. (6) .
وبعد فلو ذهبنا نستعرض كل ما قاله علماء الشريعة الإسلامية وعلماء الاقتصاد الإسلامي لخرجنا من محيط الإفادة والتصور إلى محيط التكرار الممل. وبناءً على ذلك أكتفي بما أوردته من نقول عن أهل العلم في الموضوع نفسه وألخص ذلك فيما يلي:
أولا: يكاد الإجماع ينعقد بين جميع من تحدث عن الشيك وخصائصه وأحكامه على أن قبضه قبض لمحتواه إذا كان محتواه في ذمة المسحوب عليه حيث إن الضمانات المتاحة لحماية حق المستفيد من الشيك أبلغ من الضمانات المتاحة لحماية ثمنية الأوراق النقدية المجمع على اعتبارها نقدًا موجبًا للإبراء العام والقابلية المطلقة.
__________
(1) رسالة جماعية للشيخ ستر الجعيد.
(2) المرداوي: 3 / 18.
(3) الأموال لأبي عبيد: 388.
(4) تبيين الحقائق: 1 / 256.
(5) المدونة: 14 / 46.
(6) الأموال: 392.(6/529)
ثانيًا: التحويل المصرفي له أحوال:
إحداها:
أن يأتي المحول إلى المصرف ومعه نقد يريد أن يحوله المصرف إلى عميله أو من يرغب التحويل إليه وليس له عند المصرف حساب سابق كمن يتقدم إلى البنك في مكة المكرمة بطلب تحويل عشرة آلاف ريال إلى عميله في الرياض ويتسلم صورة من إشعار التحويل فقد ذكر الباحثون أن هذه إجازة وبعضهم خرجها على السفتجة وإن كانت الإجارة تتفق مع السفتجة في العناصر الجوهرية في التحويل واختلفوا في حكم أخذ الأجرة عليها فاتجه غالبهم إلى جواز ذلك وأنه ليس من قبيل القرض الذي يجر نفعًا. .
الحال الثانية:
ما إذا كان للمحول حساب لدى المصرف فعمده بسحب مبلغ معين من حسابه لتحويله إلى من يرغب التحويل إليه فهذه الحال استيفاء من البنك بقدر المبلغ المحول عليه ثم حوالة لها حكم الحالة الأولى ولا يؤثر استيفاء المبلغ المراد تحويله من البنك على أحكام الحوالة واعتبارها إجارة أو سفتجة مقبوضة متصرفًا في مبلغها.
الحال الثالثة:
ما إذا أحضر مريد التحويل مبلغًا من النقد المحلي وطلب تحويله إلى خارج بلد النقد المحلي وبنقد البلد الخارجي كمن يطلب تحويل مبلغ من العملة السعودية إلى العملة الأمريكية إلى من يرغب التحويل عليه، فهذه العملية تشتمل على صرف وإجارة فإن كان لدى البنك وقت طلب التحويل العملة الأجنبية سواء كانت في صندوقه أو في صندوق من يحول عليه من البنوك الأجنبية بحيث يكون للبنك المحول حساب بالعملة المذكورة لدى البنك المحول عليه فإذا أجري الصرف بسعر وقته وتعين مقدار المبلغ المراد تحويله بالعملة الأجنبية فإن تحويل المبلغ بالعملة المحلية إلى العملة الأجنبية في قوة المصارفة يدًا بيد لأن عملية المصارفة تمت وليس بينهما بعد ذلك شيء ثم تؤول هذه الحال بعد المصارفة إلى الحال الأولى في اعتبارها بعد المصارفة إجارة أو سفتجة.
الحال الرابعة:
ما إذا كان لطالب التحويل لدى البنك حساب جار فطلب السحب منه ثم طلب صرف المبلغ المسحوب إلى عملة أجنبية ثم طلب تحويل تلك العملية الأجنبية إلى من يرغب التحويل عليه خارج البلاد، فإذا كان لدى البنك في صناديقه أو قيوداته العملة الأجنبية المراد صرف المبلغ إليها فهذه العملية هي استيفاء ثم صرف ثم تحويل وقبض الإشعار بالتحويل بالعملة الأجنبية بمثابة القبض الحسي، وما تقدم من النصوص الفقهية من أقوال بعض الفقهاء وعلماء الاقتصاد يؤدي القول بانتفاء المحذور من هذه العمليات المصرفية.(6/530)
الحال الخامسة:
ما إذا تقدم طالب التحويل إلى البنك بمبلغ معين من عملة محلية أو كان لطالب التحويل حساب عند هذا البنك فطلب منه سحب ذلك المبلغ ليقوم البنك بتحويله إلى عملة أجنبية إلى من يرغب طالب التحويل التحويل إليه فإذا لم يكن لدى البنك في صناديقه تلك العملة الأجنبية وليس له لدى البنك المحول عليه حساب بالعملة المذكورة – الأجنبية – ولكن له في بنوك أخرى سواء كانت محلية أو أجنبية حساب بنفس العملة قدر المبلغ المراد تحويله أو أكثر منه، فهل تصح هذه المصارفة باعتبار أن البنك صارف بما يملكه وأنه يمكنه تعميد البنك الذي له حساب عنده بنفس العملة الأجنبية بتحويل قدر المبلغ إلى البنك الذي حول عليه طلب التحويل؟ أو أنها لا تصح حيث أنه ليس لديه في صناديقه ولا في قيد البنك المحول عليه شيء من العملة الأجنبية التي حول عليه بها؟
والذي يظهر والله أعلم صحة المصارفة لأن البنك يملك العملة التي صارف بها وفي نفس الأمر لديه من وسائل الاتصال المباشرة والعاجلة ما يعتبر في حكم مجلس العقد والقيد في الحساب نوع من القبض.
الحال السادسة:
ما إذا تقدم طالب التحويل إلى البنك بمبلغ معين من العملة المحلية أو طلب من البنك إذاكان له عنده حساب جار أن يسحب من ذلك المبلغ ليصرفه إلى عملة أجنبية ليست لدى البنك في صناديقه ولا في قيوده لدى المصارف وإنما سيعمل البنك على تأمين النقد الأجنبي مستقبلا لمن حول عليه فهذه مصارفة يظهر – والله أعلم – بطلانها الانتفاء التقابض الحسي والمعنوي في مجلس عقد المصارفة لأن البنك صارف بما لا يملكه وقت المصارفة.
ونظرًا إلى أن القبض من المسائل التي تخضع لأحكام العرف والعادة فقد يكون من تمام البحث ذكر بعض من أقوال أهل العلم في معنى القبض.(6/531)
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وأما استدلالهم بأن القبض هو التخلية، فالقبض مرجعه إلى عرف الناس حيث لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع. وقبض ثمر الشجر لا بد فيه من الخدمة والتخلية المستمرة إلى كمال الصلاح بخلاف قبض مجرد الأصول. وتخلية كل شيء بحسبه ودليل ذلك المنافع في العين المؤجرة. اهـ (1) .
2- وقال ابن قدامة رحمه الله في المغني:
وقبض كل شيء بحسبه. . . وقال أبو حنيفة: التخلية في ذلك قبض، وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى، أن القبض في كل شيء التخلية مع التمييز لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل فكان قبضًا له كالعقار. . . إلى أن قال: ولأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق. اهـ (2) .
وقال في موضع آخر: وإن أحال المكاتب سيده بنجم قد حل عليه صح وبرئت ذمة المكاتب ويكون ذلك بمنزلة القبض. اهـ (3) وجه الشاهد من هذا النص أن الحوالة المستوفية شروط اعتبارها في قوة قبض محتواها. والشيك في حقيقته حوالة.
وقال في موضع آخر: فإن كان عليه ألف ضمنه رجل فأحال الضامن صاحب الدين به برئت ذمته وذمة المضمون عنه لأن الحوالة كالتسليم. اهـ (4) .
3- وقال في الشرح الكبير:
ولأن الحوالة بمنزلة القبض فكأن المحيل أقبض المحال. اهـ (5) .
4- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
والأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع كالصلاة والزكاة والصيام والحج. . . وتارة باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر. . . وتارة بالعرف كالقبض والتفريق. اهـ (6)
5- وقال المرداوي رحمه الله:
فائدة: الحوالة والإبراء منه كالقبض على الصحيح من المذهب وقيل إن جعلا وفاءً فكالقبض وإلا فلا. اهـ (7) .
6- وأذكر أيضًا عن شيخنا الجليل العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله حيث قال:
ونعرف أن القبض من الأمور التي تختلف باختلاف المقبوضات فما جاء فيه التنصيص في الشرع صار القبض فيه إلى مقتضى التنصيص، وما لا فيرجع فيه إلى المتعارف. اهـ (8) .
__________
(1) مجموع الفتاوى: 30/ 275 – 276.
(2) المغني: 45 / 125 – 126.
(3) المغني الشرح الكبير: 5 / 56.
(4) المغني الشرح الكبير: 5 / 69.
(5) المغني الشرح الكبير: 5 / 58.
(6) مجموع الفتاوى: 29 / 448.
(7) الإنصاف: 3 / 18.
(8) فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم: 7 / 103.(6/532)
7- وفي الدرر السنية جواب للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله ونصه:
وسئل عن صفة القبض للطعام ونحوه فأجاب: أهل العلم ذكروا أن القبض في كل شيء بحسبه. وأجاب أيضاً: القبض كيله أو وزنه وفي الرواية الأخرى أنه التخلية مع التمييز. اهـ (1) .
8- وفي المقنع ما نصه:
وعنه إن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز، قال في الحاشية: قوله بالتخلية إذ القبض مطلق في الشرع فيرجع فيه إلى العرف كالحرز والتفرق. اهـ (2) .
9- وقال المنقور في مجموعه:
قال الزركشي: والقبض فيه وجهان فإن كان مما ينقل فقبض المرتهن له أخذه من راهنه منقولا وإن كان مما لا ينقل كالدور والأرضين فقبضه تخلية راهن بينه وبين مرتهنه لا حائل دونه بشيء. فقبض كل شيء بحسبه على ما جرت العادة فيه – إلى أن قال – وما عد ذلك كالدور والعقار والثمرة على الشجر ونحو ذلك التخلية بينه وبين مرتهنه من غير حائل بأن يفتح له باب الدار أو يسلم إليه مفتاحها ونحو ذلك وإن كان فيها قماش للراهن ونحو ذلك في الدّكان ونحوها بأن يمشي إليها ويشاهد المرهون ليتحقق التمكن فيكون كالقبض. اهـ (3) .
ونصوص أهل العلم في ذلك أكثر من أن تحصر وهي في مجموعها تعطي القناعة على حصول الإجماع أو شبهه على أن حقيقة القبض مردها إلى العرف والعادة حيث إن علة اشتراط القبض هو التوثق من نفاذ العقد واستقرار الملك المبرر للتصرف. قال ابن القيم رحمه الله فيما نقله عنه الشيخ عبد الله بن بسام في كتابه " الاختيارات الجلية من المسائل الخلافية " ما نصه:
علة النهي عن البيع قبل القبض عجز المشتري عن تسلمه لأن البائع قد يسلمه وقد لا يسمه لا سيما إذا كان المشتري قد ربح فأنه يسعى في رد المبيع إما بجحد أو احتيال في الفسخ. اهـ (4) .
__________
(1) الدرر السنية: 5 / 47.
(2) المقنع مع حاشيته: 2 / 62، 63.
(3) الفواكه العديدة في المسائل المفيدة: 1 / 353.
(4) الاختيارات الجلية من المسائل الخلافية: 3 / 43.(6/533)
وهذا يعني ان المقصود من القبض تحقق بأي طريق من طرق العرف والعادة فإن ذلك الطريق يعتبر قبضًا وقد تقدم نقل النصوص من أقوال أهل العلم في تأييد ذلك.
وتأسيسًا على ما سبق ذكره يمكننا القول بأن الشيك قبضه قبض لمحتواه إذا كان مصدقًا أو في قوة التصديق وذلك بصدوره ممن تتوفر فيه الثقة والاطمئنان وسلامة التعامل التجاري ممن هو أمين على شرفه ومقامه وعلو سمعته. ويعتبر قبضًا لمحتواه في عملية المصارفة إذا كان مصدر الشيك يملك المبلغ المشمول بالشيك سواء في صناديقه المحلية أو في الصندوق المركزي في مقره الرئيسي وعلى التفصيل الوارد في الأحوال الست المتقدم ذكرها. وإتمامًا للفائدة واستئناسًا لهذه النتيجة فقد صدر من مجمع الفقه الإسلامي التابع لراطبة العالم الإسلامي قرار في مسألة الشيك وأن قبضه قبض لمحتواه هذا نصه:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409هـ الموافق 19 فبراير 1989م إلى يوم الأحد 20 رجب 1409هـ الموافق 26 فبراير 1989 وقد نظر في موضوع:
1- صرف النقود في المصارف هل يستغنى فيه عن القبض بالشيك الذي يتسلمه مريد التحويل.
2- هل يكتفي بالقيد في دفاتر المصرف عن القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى مودعة في المصرف؟ . وبعد البحث والدراسة قرر المجلس بالإجماع ما يلي:
أولا: يقوم تسليم الشيك مقام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقود بالتحويل في المصارف.
ثانيًا: يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف أو بعملة مودعة فيه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا والحمد لله رب العالمين.
أسماء الأعضاء: اهـ.
هذا ما تيسر ذكره وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد الله بن سليمان بن منيع(6/534)
مراجع البحث
1- القرآن الكريم.
2- السنن الكبرى، للبيهقي.
3- الأموال، لأبي عبيد.
4- بدائع الصنائع، للكاساني.
5- تبيين الحقائق، للزيلعي.
6- المدونة الكبرى، لمالك.
7- مقدمة ابن رشد.
8- بداية المجتهد، لابن رشد.
9- فتاوى عليش.
10- مجمع النووي والتكملة، للسبكي.
11- المغني والشرح الكبير , لابن قدامة وابن أخيه.
12- الإنصاف، للمرداوي.
13- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.
14- المقنع لابن قدامة وحاشيته، للشيخ سليمان بن عبد الوهاب.
15- الفواكه العديدة في المسائل المفيدة، للمنقور.
16- فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم.
17- الاختيارات الجلية في المسائل الخلافية، لابن بسام.
18- الدرر السنية، لمجموعة من علماء نجد.
19- الالتزام المصرفي في قوانين البلاد العربية، للدكتور أمين بدر.
20- استبدال النقود والعملات، للدكتور علي السالوس.
21- بحث في المعاملات المصرفية، للجنة الدائمة للبحوث، والإفتاء في المملكة العربية السعودية.
22- تطور الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، للدكتور سامي حمود.
23- أحكام الأوراق النقدية والتجارية في الفقه الإسلامي، رسالة جامعية، للدكتور ستر الجعيد.
24- الموسوعة الفقهية الكويتية.
25- موقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة، للدكتور عبد السلام العبادي.
26- النقود والمصارف، للدكتور عوض الكفراوي.
27- نظرات في أحكام الشيك في تشريعات البلاد العربية، للدكتور محسن شفيق.
28- نظام الأوراق التجارية السعودي مع مذكرته التفسيرية.
29- عمليات البنوك من الوجهة القانونية، للدكتور علي عوض.
30- المعاملات المصرفية والربوية، للدكتور نور الدين عتر.(6/535)
القبض الحقيقي والحكمي: قواعده وتطبيقاته
من الفقه الإسلامي
إعداد
فضيلة الشيخ نزيه كمال حماد
أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله بكلية الشريعة
جامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
القبض في اللغة:
1- القبضُ لغةً: هو تناولُ الشيءِ بجميع الكفَّ. ومنه قبضُ السيفِ وغيره. ويقال: قَبَضَ المالَ؛ أي أخذه بيده، وقَبَضَ اليدَ على الشيء؛ أي جَمَعَهَا بعد تناوله، وقبَضَها عن الشيءِ؛ أي جَمَعَهَا قبل تناوله، وذلك إمساكٌ عنه، ومنه قيل لإِمساك اليد عن البذل والعطاء قَبْض.
ويستعار القبضُ لتحصيل الشيء، وإن لم يكنْ فيه مراعاةُ الكفّ، نحو قَبَضْتُ الدار والأرض من فلان؛ أي حُزْتُهَا. ويقال هذا الشيء في قَبْضَةِ فلان؛ أي في ملكه وتصرّفه.
ويقال: قَبَضْتُهُ عن الأمر؛ أي عزلته. وتَقَبَّضَ عنه؛ أي اشمأزّ. وقد يكنّى بالقبض عن الموت، فيقال: قُبِضَ فلان؛ أي مات. فتجوّزوا بالقبض عن الإِعدام، لأنَّ المقبوضَ من مكان يخلو منه مَحَلّه، كما يخلو المحلُّ عن الشيء إذا عُدِم (1) .
القبض في الاصطلاح الفقهي:
2-لا خلاف بين الفقهاء – على اختلاف مذاهبهم – في أن القبض عبارةٌ عن حيازة الشيء والتمكن منه، سواء أكان مما يمكن تناوله باليد أو لم يكن (2) . قال الكاساني: ومعنى القبض هو التمكينُ والتخلي ارتفاعِ الموانع عرفًا وعادةً حقيقةً" (3) . وقال العز بن عبد السلام: "قولهم قَبَضْتُّ الدار والأرضَ والعبدَ والبعير، يريدون بذلك الاستيلاءَ والتمكنَ من التصرف" (4) .
3- وبالنظر إلى القبض في معناه اللغوي وفي معناه الاصطلاحي نلاحظ أنَّ بينهما نسبةَ العموم والخصوص المطلق، لأنَّ القبضَ يستعمل في اللغة لتحصيل الشيء وإن لم يكن فيه مراعاةُ الكفّ – وهو معناه الاصطلاحي – ويستعمل أيضًا لمعانٍ أخرى. فكان كلُّ قبضٍ بالمعنى الاصطلاحي قبضًا بالمعنى اللغوي ولا عكس، إذ الأخصُّ يستلزم دائمًا معنى الأعمّ ولا عكس.
__________
(1) انظر مادة قبض في الصحاح للجوهري: 3/1100، مفردات الراغب: ص 391، بصائر ذوي التمييز: 4/288، المصباح المنير: 2/587، معجم مقاييس اللغة: 5/50، المغرب للمطرزي: 2/107، وانظر الإِشارة إلى الإيجاز للعز بن عبد السلام: ص 106.
(2) انظر القوانين الفقهية: ص 328، البهجة شرح التحفة: 1/168، ميارة على العاصمية: 2/144، حدود ابن عرفه وشرحه للرصاع: ص 415، شرح مرشد الحيران للأبياني وسلامة: 1/58.
(3) بدائع الصنائع: 5/148.
(4) الإشارة إلى الإيجاز للعز بن عبد السلام: ص 106.(6/536)
الألفاظ ذات الصلة
النقد:
4- يطلق الفقهاء كلمة "النَّقْد" بمعنى الإِقباض والتسليم إذا كان الشيءُ المعطى نقودًا. ففي المصباح المنير "نَقَدْتُّ الرجلَ الدراهمَ، بمعنى أعطيتُه. . فانتقدها، أي قَبَضَها" (1) . وقال القاضي عياض: "النَّقْد: خلافُ الدّين والقرض" (2) . وقال الفيروزابادي: "النَّقْد: خلافُ النسيئة " (3) . وإنّما سُمِّيَ إقباضُ الدراهم نقدًا، لتضمنه – في الأصل (4) – تمييزها وكشف حالها من حيث الجودة وإخراج الزيف منها من قِبَلِ المعطي والآخذ (5) .
أما مصطلح "بيع النّقد" فهو – كما قال ابن جزي – "أَنْ يُعَجَّل الثمنُ والمثمون" (6) .
المناجزة:
5- وهذه اللفظة من المصطلحات الفقهية التي يستعملها فقهاء المالكية، ويعنون بها "قبض العوضين عَقِبَ العقد" (7) . وغيرهم يقول: "بعتُهُ ناجزًا بناجز" أي يدًا بيد. وشيء ناجزٌ: أي حاضر (8) : "وبعتُهُ غائبًا بناجز" أي نسيئةً بنقد (9) .
الحيازة:
6- يقول أهل اللغة: "كلّ مَنْ ضمَّ إلى نفسه شيئًا، فقد حازَهُ حَوْزًا وحيازةً" (10) . أما في الاصطلاح الفقهي، فأكثر ما تستعمل هذه الكلمة في مذهب المالكية، وإنهم ليستعملونها في كتبهم بمعنيين أحدهما أعمّ من الآخر.
(أ) أما بالمعنى الأعمّ، فيرديونَ بالحيازة إثباتَ اليد على الشيء والتمكنَ منه، وهو نفس معنى القبض عند سائر الفقهاء. وشاهد ذلك قول ابن أبي زيد القيرواني في الرسالة: "ولا تتمُّ هبةٌ ولا صدقة ولا حُبُس إلابالحيازة" (11) . أي إلا بالقبض.
__________
(1) المصباح المنير مادة نقد: 2/760، وانظر المطلع للبعلي: ص 234، الصحاح 2/544.
(2) مشارق الأنوار للقاضي عياض: 2/23.
(3) القاموس المحيط مادة نقد: ص 412 (ط. مؤسسة الرسالة) ، وانظر لسان العرب: 3/425.
(4) قال البعلي: النّقد في الأصل: مصدر نَقَدَ الدراهم؛ إذا استخرجَ منها الزيف". (المطلع: ص 265) .
(5) انظر معجم مقاييس اللغة: 5/467، لسان العرب: 3/425.
(6) القوانين الفقهية: ص 254.
(7) شرح الأبيّ المالكي على صحيح مسلم: 4/266.
(8) المصباح المنير مادة نجز: 2/725.
(9) المغرب للمطرزي: 2/289.
(10) الصحاح للجوهري: 3/875، الكليات للكفوي (ط. دمشق) : 2/187.
(11) الرسالة (تحقيق محمد أبو الأجفان) ص 228، وانظر التاودي على تحفة ابن عاصم: 1/168.(6/537)
وفي كثير من المواطن يعتاضون عن كلمة "الحيازة" بهذه الدلالة بكلمة "حَوْز"، ففي شرح التسولي على تحفة ابن عاصم: "الحَوْز وضعُ اليد على الشيء المحوز (1) وقال ابن رحال المعداني: " والحاصل: الحوز والقبض شيء واحد (2) .
(ب) أما الحيازة – بالمعنى الأخص – عند المالكية، أي الحيازةُ التي هي سَنَدُ الملكية لمن يدعيها، فهي عبارةٌ عن سلطةٍ فعليةٍ على شيء، يمارسها شخصٌ قد يكون مالكًا لذلك أو غير مالك له، وقد عرّفها أبو الحسن المالكي في كفاية الطالب الرباني بقوله: "الحيازةُ: هي وضعُ اليد والتصرفُ في الشيء المحوز كتصرف المالك في ملكه بالبناء والغرس والهدم وغيره من وجوه التصرّف" (3) . وقال الحطاب: والحيازة تكونُ بثلاثة أشياء، أضعفها: السكنى والازدراع. ويليها: الهدم والبنيان والغرسُ والاستغلال. ويليها: التفويت بالبيع والهبة والصدقة والنحلة والعتق والكتابة والتدبير والوطء، وما أشبه ذلك مما لا يفعلُهُ الرجلُ إلافي ماله" (4) .
اليد:
7- يستعمل الفقهاء كلمة "اليد" في باب ترجيح البينات بمعنى حَوْز الشيء والمكنة من استعماله والانتفاع به، فيقولون مثلا "بيّنةُ ذي اليد في النتاج مقدَّمةٌ على بيّنة الخارج" (5) ، ويريدون بذي اليد الحائزَ المنتفع. وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت لو أنَّ سلعةً في يدي ادّعى رجلٌ أنها له، وأقام البينةَ، وادعيتُ أنها لي، وهي في يدي، وأقمتُ البينةَ؟ قال: قال لي مالك: هي للذي في يده إذا تكافأت البيّنتان" (6) .
__________
(1) البهجة شرح التحفة للتسولي: 1/268
(2) حاشية الحسن بن رحال على شرح ميارة: 1/109، وانظر القوانين الفقهية: ص 328.
(3) كفاية الطالب الرباني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني: 2/340.
(4) مواهب الجليل: 6/222.
(5) جامع الفصولين: 1/107، وانظر: (م1759) من مجلة الأحكام العدلية.
(6) المدونة: 13/37.(6/538)
وقال العز بن عبد السلام: "اليدُ عبارةٌ عن القرب والاتصال، وللقرب والاتصال مراتب بعضُها أقوى من بعض في الدلالة أعلاها: ما اشتدّ اتصالُهُ بالإنسان، كثيابه التي هو لابسها وعمامته ومنطقته وخاتمه وسراويله ونعله الذي في رجله ودراهمه التي هي في كمه أو جيبه أو يده. فهذا الاتصال أقوى الأيدي لاحتوائه عليها ودنوّه منها. الرتبة الثانية: البساطُ الذي هو جالس عليه أو البغل الذي هو راكبٌ عليه، فهذا في الرتبة الثانية. الرتبة الثالثة: الدابة التي هو سائقها أو قائدها، فإنَّ يده في ذلك أضعفُ من يد راكبها. الرتبة الرابعة: الدار التي هو ساكنها. ودلالتها دون دلالة الراكب والسائق والقائد، لأنه غيرُ مستولٍ على جميعها. وتُقَدَّمُ أقوى اليدين على أضعفهما، فلو كان اثنان في دار فتنازعا في الدار وفي ما هما لابسانه، جُعِلت الدارُ بينهما بأيمانهما لاستوائهما في الاتصال، وجُعِل القولُ قولَ كل واحد منهما في ما هو لباسه المختص به، لقوة القرب والاتصال " (1) .
اليد باليد:
8- يطلَقُ مصطلحُ "اليد باليد" في عرف جماهير الفقهاء على التقابض بين البلدين في مجلس العقد (2) . فيقولون: بايعتُهُ يدًا بيد؛ أي حالًّا مقبوضًا في المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر (3) . أي بالتعجيل والنقد (4) . جاء في المصباح المنير: "بعتُه يدًا بيد: أي حاضرًا بحاضر والتقدير: في حالة كونه مادًّا يده بالعِوَضِ، وفي حال كوني مادًّا يدي بالمُعَوَّضِ. فكأنه قال: بعتُهُ في حال كون اليدين ممدودتين بالعِوضين" (5) . وقال العدوي: "قوله يدًا بيد" أي ذا يدٍ كائنة مع يدٍ، كناية عن كونهما مقبوضين" (6) .
وخالف في ذلك الحنفية وقالوا: إن معنى "يدًا بيد" إنما هو التعيين دون التقابض. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ربا البيوع "يدًا بيد" أي عينًا بعين. ولكنْ نظرًا لكون النقدين لا يتعينان بالتعيين، ولا يتحقق التعيُّنُ فيهما قبل التقابض، اعتُبِرَ التعيينُ دون التقابض في غير الصرف من بيع الأموال الربوية ببعضها، وذلك لحصول المقصود وهو التمكنُ من التصرف بالتعيين فيها، بخلاف النقدين، فحيث إنهما لا يتعينان إلابالقبض اشترط في الصرف التقابض (7) .
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/120، وانظر مواهب الجليل للحطاب: 6/209.
(2) شرح السنوسي المالكي على صحيح مسلم: 4/264، شرح السنة للبغوي: 8/60.
(3) مرقاة المفاتيح للملا علي القاري: 3/307.
(4) المغرب للمطرزي: 2/396، الأبِّي على صحيح مسلم: 4/270.
(5) المصباح المنير: 2/849.
(6) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني: 2/129.
(7) تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي عليه: 4/89، البحر الرائق: 6/141، البناية للعيني: 6/545.(6/539)
هاء وهاء:
9- قال الخطابي: "هاء وهاء" معناه التقابض، وأصحابُ الحديث يقولون: "ها وها" مقصورين، والصواب مدّهما ونصبُ الألف منهما. وقوله "هاء" إنما هو قول الرجل لصاحبه إذا ناوله الشيء "هاكَ" أي خُذْ، فأسقطوا الكاف منه وعوّضوه المدّ بدلا من الكاف (1) . وتعبير "هاء وهاء" جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب ربا إلاهاء وهاء)) إلى آخر الحديث (2) . ومعناه أن هذه البياعات لا تجوز إلا إذا قال كل واحد منهما لصاحبه "هاء" أي خُذْ، والمراد به القبض (3) .
القضاء والاقتضاء:
10- ومعناها في اللغة وعند الفقهاء: التسليمُ والقبضُ (4) . غير أنَّ هذين اللفظين يختصان بالديون دون الأعيان، فيقال: قَضَى غريمَه دينَه؛ أي أدّاه، واقتضاه؛ أي أخَذَه.
__________
(1) معالم السنن للخطابي: 5/20 (مطبوع مع مختصر سنن أبي داود للمنذري) .
(2) مختصر سنن أبي داود للمنذري: 5/20، وانظر البناية: 6/525.
(3) انظر تبيين الحقائق للزيلعي: 4/89، البناية على الهداية: 6/544.
(4) القوانين الفقهية: ص 294، المغرب للمطرزي: 2/184، المصباح المنير: 2/612، الكليات للكفوي: 1/88، 4/8.(6/540)
أنواع القبض
11- لقد قسَّمَ الإِمام العز بن عبد السلام – وتبعه في ذلك القرافي – القَبْضَ باعتباره تصرفًا من تصرفات المكلفين إلى ثلاثة أنواع (1) .
(أحدها) قبضٌ بمجرد إذن الشرعِ دون إذن المستَحِقِّ. وهو أنواع: منها: قبضُ ولاةِ الأمورِ والحكّامِ الأعيانَ المغصوبةَ من الغاصب. وقبضهم أموالَ المصالح والزكاة وحقوق بيت المال، وقبضُهم أموالَ الغائبين والمحبوسين الذين لا يتمكنونَ من حفظ أموالهم، وقبضُهم أموال المجانين والمحجور عليهم بسفهٍ ونحوهم. ومنها: قبضُ مَنْ طَيرت الريحُ ثوبًا، ثم ألقَتْهُ في حجره أو داره. ومنها: قبضُ المضطر من طعام الأجانب بغير إذنهم لِمَا يدفَعُ به ضرورته. ومنها: قبضُ الإِنسان حقَّهُ إذا ظفر به بجنسه.
(والنوع الثاني) قبضُ ما يتوقَّفُ جوازُ قبضِهِ على إذنِ مستحقَّهِ. كقبض المبيع بإذن البائع، وقبض المستام، والقبض في البيع الفاسد، وقبضِ الرهون والهبات والصدقات والعواري والودائع، وقبض جميع الأمانات.
(والنوع الثالث) قبضٌ بغير إذنٍ من الشرع ولا من المستحِق. وهذا قد يكون مع العلم بتحريمه، كقبض المغصوب، فيأثم الغاصبُ، ويضمنُ ما قَبَضَهُ بغير حقًّ ولا إذن. . وقد يكون بغير علم، كمَنْ قَبَضَ مالا يعتقد أنه ماله، فإذا هو لغيره. قال القرافي: "فلا يُقال إنَّ الشرع أذِنَ له في قبضه، بل عفا عنه بإسقاط الإثم" (2) . وعلى ذلك فلا إثمَ عليه، ولا إباحة فيه، وهو في ضمانه.
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (ط. المكتبة التجارية بمصر) : 2/71، شرح تنقيح الفصول للقرافي (بعناية طه عبد الرءوف سعد) : ص 455 وما بعدها.
(2) شرح تنقيح الفصول: ص 456.(6/541)
كيفيّة القبض
تختلف كيفيةُ قبض الأشياء بحسب اختلاف حالها وأوصافها، وهي في الجملة نوعان: عقار ومنقول.
(أ) كيفية قبض العقار:
12- ما هو العقار؟ لقد اختلف الفقهاء في المراد بالعقار على قولين:
(أحدهما) للحنفية: وهو أنَّ العقار "ما له أصلٌ ثابتٌ لا يمكنُ نقلُهُ وتحويله" كالأراضي والدور (1) . أما البناءُ والشجر فيعتبران من المنقولات، إلا إذا كانا تابعين للأرض، فيسري عليهما حينئذ حكمُ العقار بالتبعيّة (2) .
و (الثاني) للشافعية والمالكية والحنابلة: وهو أنَّ العقار هو الأرضُ والبناءُ والشجر (3) .
13- أمّا ما يكونُ به قبضُ العقار، فقد اتفق الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية على أنَّ قبض العقار يكونُ بالتخلية والتمكين من اليد والتصرف. فإن لم يتمكن منه بأنْ منعَهُ شخصٌ آخر من وضع يده عليه، فلا تعتبر التخليةُ قبضًا (4) .
__________
(1) رد المحتار (ط. مصطفى الحلبي سنة 1966م) : 4/361، وانظر: (م129) من مجلة الأحكام العدلية و (م2) من مرشد الحيران، كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي: ص 962.
(2) رد المحتار: 4/361، 6/271، وانظر: (م1019، 1020) من مجلة الأحكام العدلية. وقد قال الأستاذ مصطفى الزرقاء في "المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإِسلامي" ص 103 معبّرًا عن رأي الفقه الحنفي: "غير أنهم يحلقونَ البناء والشجر بالعقار حكمًا على سبيل التبعيّة له في التصرف الوارد على العقار بما فيه من بناء أو شجر. فلو بِيعَتْ دارٌ أو أرض مشجرةٌ، يتناول حقُّ الشفعةِ البناءَ والشجر مع الأرض. ومعنى هذا أنَّ البناء والشجر في النظر الفقهي لهما اعتباران: فهما منفردين من المنقولات، وهما مع العقار عقارٌ بالتبعيّة".
(3) انظر مغني المحتاج: 2/71، الخرشي على خليل: 6/164، كشاف القناع (مط. أنصار السنة المحمدية) : 3/202، المصباح المنير للفيومي: 2/503.
(4) الفتاوي الهندية: 3/16، رد المحتار: 4/561 وما بعدها، (م263) من مجلة الأحكام العدلية و (م435) من مرشد الحيران، روضة الطالبين: 3/515، فتح العزيز: 8/442، مغني المحتاج: 2/71، المجموع شرح المهذب: 9/276، منح الجليل: 2/689، مواهب الجليل: 4/477، كشاف القناع (مط. أنصار السنة المحمدية) : 3/202، المغني (مط. المنار 1367هـ) : 4/333، 5/596، المحلى: 8/89، وانظر (م335) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإِمام أحمد للقاري.(6/542)
وقد قيَّد الشافعيةُ قولهم هذا بما إذا كان العقارُ غير معتبر فيه تقدير. أما إذا كان معتبرًا فيه، كما إذا اشترى أرضًا مذارعةً، فلا تكفي التخلية مع المكين، بل لا بدّ مع ذلك من الذرع (1) .
كما اشترط الحنفية أن يكون العقار قريبًا. فإنْ كان بعيدًا فلا تعتبر التخليةُ قبضًا، وهو رأي الصاحبين وظاهر الرواية والمعتمد في المذهب، خلافًا للإمام أبي حنيفة، فإنه لم يعتبر القرب والبعد. ثم إنهم نصّوا على أنَّ العقار إذا كان له قفل، فيكفي في قبضه تسليمُ المفتاح مع تخليته، بحيث يتهيأ له فتحُهُ من غير تكلّف (2) .
14- هذا وقد ألحق الحنفيةُ والشافعيةُ والحنابلةُ الثمرَ على الشجر بالعقار في اعتبار التخلية مع ارتفاع الموانع قبضًا له، لحاجة الناس إلى ذلك وتعارفهم عليه (3) .
__________
(1) مغني المحتاج: 2/73، المجموع: 9/278، فتح العزيز: 8/448، روضة الطالبين: 3/517.
(2) رد المحتار (ط. الحلبي) : 4/561 وما بعدها، الفتاوى الهندية: 3/16 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص 218، 219، الحموي على الأشباه والنظائر: 1/327، لسان الحكام لابن الشحنة: ص311، عيون المسائل للسمرقندي: ص 127، وانظر (م270، 271) من المجلة العدلية و (م435، 436) من مرشد الحيران. وقد استظهر ابن عابدين في رد المحتار: 4/562، أنَّ المراد بالقرب في الدار بأن تكون في البلد.
(3) شرح معاني الآثار: 4/36، مجمع الضمانات: ص 217، كشاف القناع: 3/202، المغني (ط. المنار) : 4/333، قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/81، 172 * هذا وقد اختلف الشافعية في الثمرة على الشجرة، هل تعتبر في قبضها في معنى العقار قبل إيناعها وحلول أوان جذاذها فقط، أم تعتبر كذلك ولو بعد إيناعها وحلوله؟ فقال في مغني المحتاج: 2/71: "قال الرافعي: وفي معنى العقار الأشجارُ الثابتةُ والثمرةُ المبيعةُ على الشجر قبل أوان الجذاذ. وتقييده بذلك يُشعر بأن دخول وقت قطعها يلحقها بالمنقول. وهو كما قال الإسنوي: المتجه. وإن نازع فيه الأذرعي". وانظر أيضًا روضة الطالبين: 3/515، المجموع: 9/276، فتح العزيز: 8/443.(6/543)
(ب) كيفية قبض المنقول:
15- بعد أن بيّنا ما يكونُ به قبض العقار، نعرض للكلام عن كيفية قبض المنقول، لأنَّ ما يراد قبضُهُ لا يخرج عن كونه عقارًا أو منقولا.
والمنقول: هو ما يمكن نقلُهُ وتحويلُهُ. فيشمل النقود والعروض والحيوانات والسيارات والسفن والطائرات والمكيلات والموزونات وما أشبه ذلك (1) .
16- هذا وقد اختلف الفقهاء في كيفية قبض المنقول على النحو التالي:
(أ) فقال الحنفية: قبضُ المنقول يكون بالتناول باليد أو بالتخلية على وجه التمكين (2) . جاء في (م 274) من مجلة الأحكام العدلية "تسليم العروض يكون بإعطائها ليد المشتري أو بوضعها عنده أو بإعطاء الإذن له بالقبض مع إراءتها له". وقال ابن عابدين في حاشيته: "رد المحتار": "وحاصله أنَّ التخليةَ قبضٌ حكمًا لو مع القدرة عليه بلا كلفة، لكنَّ ذلك يختلف بحسب حال المبيع، ففي نحو حنطةٍ في بيت مثلا؛ فَدَفْعُ المفتاحِ إذا أمكنه الفتحُ بلا كلفة قبضٌ، وفي نحو دارٍ؛ فالقدرةُ على إغلاقها قبضُ، أي بأن تكون في البلد فيما يظهر، وفي نحو بقر في مرعى؛ فكونُهُ بحيث يُرَى ويُشار إليه قبضُ، وفي نحو ثوبٍ؛ فكونُهُ بحيث لو مدَّ يَدَهُ تَصِلُ إليه قبضٌ، وفي نحو فرس أو طيرٍ في بيت؛ فإمكانُ أخذه منه بلا معين قبضُ (3) . وجاء في "الفتاوي الهندية" "رجلٌ باع مكيلا في بيت مكايلةً أو موزونًا موازنةً وقال: خلّيتُ بينك وبينَهُ، ودَفَعَ إليه المفتاح، ولم يكله ولم يزنْهُ؛ صار المشتري قابضًا (4) . وجاء فيها أيضًا: "وتسليمُ المبيع هو أن يخلي بين المبيع وبين المشتري على وجه يتمكنُ المشتري من قبضه بغير حائل، وكذا التسليمُ في جانب الثمن" (5) .
__________
(1) انظر (م3) من مرشد الحيران، و (م128) من مجلة الأحكام العدلية.
(2) لسان الحكام لابن الشحنة: ص 311، شرح المجلة للأتاسي: 2/200 وما بعدها، وانظر (م272، 273، 274، 275) من مجلة الأحكام العدلية و (م437، 438) من مرشد الحيران.
(3) رد المحتار: 4/561.
(4) الفتاوى الهندي: 3/16.
(5) الفتاوى الهندي: 3/16.(6/544)
واستدلَّ الحنفية على اعتبار التخلية مع التمكين في المنقولات قبضًا: بأنَّ تسليم الشيء في اللغة معناه جَعْلُهُ سالمًا خالصًا لا يشاركه فيه غيره، وهذا يحصل بالتخلية. وبأنَّ مَنْ وجَبَ عليه التسليم لا بدَّ وأن يكونَ له سبيلٌ للخروج من عهده ما وجَبَ عليه، والذي في وَسْعِهِ هو التخلية ورفعُ الموانع. أمّا الإِقباضُ فليس في وسعه؛ لأنَّ القبضَ بالبراجم فِعْلٌ اختياري للقابض، فلو تعلَّق وجوبُ التسليم به لتعذَّر عليه الوفاءُ بالواجب، وهذا لا يجوز (1) .
هذا وقد وافقَ الحنفيةَ على اعتبار التخلية في المنقول قبضًا أحمدُ في رواية عنه، وذلك لحصول الاستيلاء بالتخلية، إذْ هو المقصود بالقبض، وقد حصل بها (2) .
(ب) وذهب الظاهرية إلى أنَّ قبضَ المنقول يكون بالنقل والتحويل إلى نفسه (3) .
(ج) أما سائر الفقهاء وجمهورهم، فقد ذهبوا إلى التفريق بين المنقولات فيما يعتبرُ قبضًا لها، حيث إنَّ بعضها يُتناولُ باليد عادةً، والبعضُ الآخر لا يتناول. ومالا يُتناول باليد نوعان؛ أحدهما: لا يُعتبر فيه تقديرٌ في العقد، والثاني: يعتبر يه. فتحصَّلَ لديهم في المنقول ثلاثُ حالات:
الحالة الأولى: أن يكون مما يُتناولُ باليد عادةً، كالنقود والثياب والجواهر والحليّ وما إليها، وقبضُهُ إنما يكون بتناوله باليد عند جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 5/244.
(2) المغني (ط. المنار) : 4/111، الإِفصاح لابن هبيرة (ط. الطباخ بحلب) : ص 224.
(3) المحلى لابن حزم: 8/89.
(4) المجموع للنووي: 9/276، مغنى المحتاج: 2/72، التنبيه للشيرازي: ص 62، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 2/81، الذخيرة للقرفي: 1/152 شرح تنقيح الفصول: (ط. القاهرة 1973م) ص 456، المغني: 4/332، كشاف القناع: 3/202، المحرر للمجد ابن تيمية: 1/323، وانظر (م33) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإِمام أحمد للقاري حيث جاء فيها "قبضُ كل شيء بحسبه عرفًا … وقبضُ ما يتناول باليد بتناوله باليد، كالدراهم(6/545)
والحالة الثانية: أن يكون مما لا يعتبرفيه تقدير من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ، أمّا لعدم إمكانه وإمّا مع إمكانه، لم يراعَ فيه، كالأمتعة والعروض والدواب والصُبْرةِ تباعُ جزافًا. وفي هذه الحالة اختلف المالكية مع الشافعية والحنابلة في كيفية قبضه على قولين:
(أحدهما) للمالكية: وهو أنه يُرجع في كيفية قبضه إلى العرف (1) .
(والثاني) للشافعية والحنابلة: وهو أن قبضَهُ إنما يكونُ بنقله وتحويله (2) . واستدلوا على ذلك بالمنقول والعرف:
- أمّا المنقول، فما روي عن ابن عمر أنه قال: كنّا نشتري الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه (3) . وقيسَ على الطعام غيره (4) .
- وأمّا العرف، فلأنَّ أهله لا يعدّونَ احتواء اليد عليه قبضًا من غير تحويل، إذ البراجم لا تصلح قرارًا له (5) .
الحالة الثالثة: أن يكون مما يعتبر فيه تقدير من كيل أو وزن أو ذرع، أو عدّ، كمن اشترى صبرة حنطة مكايلةً أو متاعًا موازنةً أو ثوبًا مذارعة أو معدودًا بالعدد. وفي هذه الحالة اتفق الشافعية والمالكية والحنابلة على أنَّ قبضه إنما يكون باستيفائه بما يقدَّر فيه من كيل أو وزن أو ذرع أو عدّ (6) . وقد جاء في مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإِمام أحمد (م 336) : "المبيع كيلاً أو وزنًا أو ذرعًا أو عدًّا يعتبر في قبضه إجراءُ عملِ الكيل أو الوزن أو الذرع أو العدّ بحضور المشتري أو نائبه. وتصحُّ استنابةُ البائع المشتري في العمل المذكور".
__________
(1) شرح الخرشي: 5/158، الشرح الكبير لدردير: (مط. مصطفى محمد) 3/145، المنتقى شرح الموطأ للباجي: 6/97.
(2) مغني المحتاج: 2/72، روضة الطالبين: 3/515، المهذب: 1/270، التنبيه للشيرازي: ص 62، قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/81، 171 وما بعدها، فتح العزيز: 8/444، المجموع: 9/276، 277، المغني: ط. المنار) 4/112، 332، كشاف القناع: 3/202، وانظر (م 333) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإِمام أحمد.
(3) أخرجه البخاري ومسلم كما في التلخيص الحبير: 3/27، وأخرجه أيضًا ابن ماجه: 2/750، والبيهقي في السنن الكبرى: 5/314، وابن الجارود في المنتقى: ص 207.
(4) مغني المحتاج: 2/72، فتح العزيز: 8/444، المغني: 4/332، كشاف القناع: 3/202.
(5) المجموع شرح المهذب: 9/282، المغني: 4/112.
(6) روضة الطالبين: 3/517 وما بعدها، فتح العزيز: 4/448، مغني المحتاج: 273، المجموع: 9/278، قواعد الأحكام: 2/82، 171، الذخيرة للقرافي: 1/152، الشرح الكبير للدردير: 3/144، كشاف القناع: 3/201، 272، المحرر للمجد ابن تيمية: 1/323.(6/546)
واشترط الشافعية بالإِضافة إلى ذلك نقلَهُ وتحويلَهُ.
* أمّا دليل جمهور الفقهاء على أنَّ قبضَ المقدّرات من المنقولات إنَّما يكون بتوفيتها بالوحدة القياسية العرفية التي تراعى فيها من الكيل أو الوزن أو الذرع أو العدّ، فهو ما روي ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجريَ فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري)) . (1) وقوله صلى الله عليه وسلم " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله "
(2) . حيث دلَّ على ذلك أنَّ القبض فيه لا يحصل إلا بالكيل، فتعيَّنَ فيما يقدّرُ بالكيل الكيلُ، وقيسَ عليه الباقي. (3)
17- بعد هذا البيان لآراء الفقهاء واختلافاتهم فيما يكون قبضًا للعقار والمنقول تحسن الإِشارةُ إلى حقيقة هامة، وهي أنَّ منشأ اختلافهم هذا إنَّما هو اختلاف العرف والعادة فيما يكون قبضًا للأشياء. قال الخطيب الشربيني: "لأنَّ الشارع أطلقَ القبضَ وأناط به أحكامًا، ولم يبينه، ولا حدَّ له في اللغة، فرجعَ فيه إلى العرف" (4) . وقال تقي الدين ابن تيمية: "وما لم يكن له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع، فالمرجعُ فيه إلى عرف الناس. كالقبض المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه)) (5) . هذا وقد سبق للإِمام الخطابي أن أومأ إلى سبب ذلك الخلاف حيث قال: "القبوضُ تختلف في الأشياء حسب اختلافها في نفسها، وحسب اختلاف عادات الناس فيها" (6) .
__________
(1) الحديث رواه جابر وأبو هريرة وأنس وابن عباس , ورواية جابر أخرجها ابن ماجه في سننه وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والبزار في مسانيدهم والدارقطني والبيهقي في سننيهما , وهي معلولة بابن أبي ليلى. ورواية أبي هريرة أخرجها البزار في مسنده وزاد فيها " فيكون لصاحبه الزيادة وعليه النقصان ". وروايتا أنس وابن عباس أخرجهما ابن عدي بإسنادين ضعيفين جدًّا كما قال الحافظ ابن حجر. (انظر نصب الراية: 4/34 وما بعدها , التلخيص الحبير 3/27 , سنن الدارقطني والتعليق المغني: 3/8 , نيل الأوطار: 5/68)
(2) أخرجه مسلم (صحيح مسلم بشرح النووي: 10/169) ، وأبو داود: 2/252، والنسائي: 7/285، عن ابن عباس.
(3) انظر مغني المحتاج: 2/73، المغني لابن قدامة: (ط. دار المنار) : 4/111، كشاف القناع: 3/201.
(4) انظر المهذب: 1/270، المغني: 4/112، المجموع للنووي: 9/275، و (م 333) من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإِمام أحمد.
(5) فتاوى ابن تيمية: (مط. كردستان العلمية بالقاهرة سنة 1328 هـ) 3/272.
(6) معالم السنن للخطابي: (ط. الطباخ بحلب) 3/136.(6/547)
القبض الحُكْمي
18- إنَّ ما أسلفناه من كلام الفقهاء عن معنى القبض وضروبه وكيفيته إنما هو منصبٌّ – في الجملة – على القبض الحقيقي المُدْرَك بالحسِّ. بيد أنَّ ذلك لا يعني أنَّ القبضَ الحكمي التقديري غير سائغ عند الفقهاء بإطلاق، بل هو مقبولٌ ومعتبرٌ ومعروف لديهم في أحوالٍ كثيرةٍ، يُقَامُ فيها مقامَ القبضِ الحقيقي ويُنَزَّلُ منزلته، وإن لم يكن متحققًا حسًّا في الواقع، وذلك لضرورات ومسوغات تقتضي اعتبارَه تقديرًا وحكمًا، وترتيبَ أحكام القبض الحقيقي عليه …
وبتتُّبع صور القبضِ الحكمي في مذاهب الفقهاء، نجد أنه سائغٌ مقرّرٌ في أربع حالات:
19- الحالة الأولى: عند إقباض المنقولات بالتخلية مع التمكين في مذهب الحنفية، ولو لم يقبضها الطرفُ الآخر حقيقةً، حيث إنهم يعدّون تناولها باليد قبضًا حقيقيًّا، والقبضَ بالتخلية قبضًا حكميًّا، بمعنى أنَّ الأحكام المترتبة عليه نفس أحكام القبض الحقيقي (1) .
قال الكاساني: "فالتسليمُ والقبضُ عندنا هو التخلية، وهو أن يخلّي البائع بين المبيع وبين المشتري برفع الحائل بينهما على وجهٍ يتمكنُ المشتري من التصرف فيه" (2) . وجاء في مجلة الأحكام العدلية "تسليمُ المبيع يحصل بالتخلية، وهو أن يأذنَ البائعُ للمشتري بقبض المبيع مع عدم وجود مانعٍ من تَسَلُّمِ المشتري إيّاه. ومتى حصل تسليم المبيع صار المشتري قابضًا له" (3) . وقال ابن عابدين: "وحاصله أنَّ التخلية قبضٌ حكمًا لو مع القدرة عليه بلا كلفة" (4) .
__________
(1) انظر بدائع الصنائع: 5/244.
(2) بدائع الصنائع: 5/224.
(3) مجلة الأحكام العدلية: (م263، 264) ، وانظر درر الحكام لعلي حيدر: 1/216 وما بعدها.
(4) رد المحتار: 4/561.(6/548)
وجاء في "شرح المجلة" للأتاسي: "إنَّ التخليةَ بين المشتري والمبيع تقوم مقامَ القبض الحقيقي إذا كانت على وجه يتمكنُ فيه المشتري من القبض بعد أن إذِنَ له البائع بقبضه" (1) . و"متى وُجِدَتْ التخليةُ على الوجه المذكور … صار المشتري قابضًا، وإنْ لم يقبِضْهُ حقيقةً، لأنَّ تمكنه من القبض بإذن البائع مع عدم المانع والحائل قائمٌ مقام القبض الحقيقي، فلو هلكَ المبيعُ هلكَ على المشتري؛ لدخوله في ضمانه" (2) . وفي "درر الحكام": "ولا يتوقف تحقق القبض الشرعي على قبض المشتري للمبيع بالفعل كما هو معنى لفظِ القبضِ لغةً". (3) .
ولعلَّ أهم ما يتفرع على هذا الأصل عند الحنفية التطبيقات الفقهية التالية:
* إذا سلَّم البائعُ المبيعَ إلى شخصٍ أَمَرَ المشتري بتسليمه إليه، فقد حصل القبض، كما لو سلَّم البائعُ المبيعَ إلى المشتري نفسه. فإذا أمر المشتري البائعَ قبل القبض بتسليم المبيع إلى شخص معيَّن، فسلَّمَ البائعُ المبيع إلى ذلك الشخص، يكون المشتري بذلك قد قَبَضَ المبيع (4) .
* إذا استعمل البائعُ المبيعَ قبل التسليم بإذن المشتري في مصلحة المشتري، يكون المشتري قد قَبَضَ المبيع (5) .
* لو أعطى المشتري البائَع كيسًا ليضعَ فيه المبيع، اعتبر ذلك قبضًا من المشتري (6) .
* لو اشترى شخصٌ من آخر قمحًا، وطَلَبَ إليه أن يطحن القمح، فطحنه البائع، يكون المشتري قابضًا لقمح تبعًا لطلبه من البائع أن يطحنه (7) .
* إذا بيعت ثمارٌ على أشجارها، يكونُ إذْنُ البائع للمشتري بِجَزِّها تسليمًا (8) .
* إعطاءُ مفتاح العقار الذي له قفل للمشتري يكون تسليمًا (9) .
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي: 2/192.
(2) شرح المجلة للأتاسي: 2/192.
(3) درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية للعلامة علي حيدر: 2/217.
(4) درر الحكام: 1/214.
(5) درر الحكام: 1/214 , 221.
(6) درر الحكام: 1/50. 214 , 221
(7) درر الحكام: 1/50 , 214 , 221، إلا أنه إذا امتنع البائع أن يسلّم الدقيق بعد الطحن إلى المشتري، فتلف، فالخسارة على البائع , (درر الحكام: 1/220)
(8) المادة 269 من مجلة الأحكام العدلية.
(9) المادة 271 من مجلة الأحكام العدلية.(6/549)
* إذا أتلف أجنبي المبيعَ قبل قبض المشتري له، فقام المشتري بتضمين المُتْلِفِ، يكون قابضًا (1) .
* إذا باع شخصٌ ثوبًا من آخر، وأذِنَ له بقبضه، فلم يقبضْهُ المشتري، فأخذه أجنبي وأضاعه فإن كان ذلك الثوب قريبًا من المشتري بحيث يمكنه قبضُهُ من دون قيام، يعتبر المشتري قابضًا بذلك، ويعود عليه الخسران (2) .
* العقار الذي له بابٌ وقفلٌ، كالدار والكرم، إذا وُجِدَ المشتري داخله، وقال له البائع: سلَّمتُهُ إليك، كان قولُهُ ذلك تسليمًا. وإذا كان المشتري خارج ذلك العقار، فإن كان قريبًا منه بحيث يقدر على إغلاق بابه وإقفاله في الحال، يكونُ قولُ البائع للمشتري سلَّمتُكَ إياه تسليمًا أيضًا. وإن لم يكن منه قريبًا بهذه المرتبة؛ فإذا مضى وقتٌ يمكنُ فيه ذهابُ المشتري إلى ذلك العقار ودخولُهُ فيه يكون تسليمًا (3) .
20- الحالة الثانية: اعتبارُ الدائنِ قابضًا حكمًا وتقديرًا للدَّين إذا شُغِلَتْ ذمتُهُ بمثله (4) للمدين، وذلك لأنَّ المال الثابت في الذمة إذا استحقَّ المدينُ قبضَ مثلِهِ من دائنه بعقدٍ جديدٍ أو بأحدِ موجباتِ الدّين، فإنه يعتبر مقبوضًا حكمًا من قِبَلِ ذلك المدين … وشواهد ذلك من نصوص الفقهاء عديدة، منها:
__________
(1) درر الحكام: 1/221 نقلا عن الفتاوي الهندية.
(2) درر الحكام: 1/223 نقلا عن الفتاوي الهندية.
(3) المادة 270 من مجلة الأحكام العدلية، وانظر درر الحكام: 1/291.
(4) أي بمثله في الجنس والصفة ووقت الأداء.(6/550)
(أ) اقتضاءُ أحد النقدين من الآخرَ:
ذهب جماهيرُ أهلِ العلم إلى أنَّ المدين بنوعٍ من النقود له أن يصرفه من دائنه بنقدٍ آخر. ولّما كان الصرفُ لا يصحُّ إلا مع التقابض بالإِجماع؛ وَجَبَ على المدين أن يدفع إليه البدل من النقد الآخر في مجلس العقد، بخلاف الدائن فإنه لا يلزمُهُ أن يسلَّمه النقد المبدلَ منه، لأنَّ ثبوته في ذمة المدين قبل المصارفة يعتبر قبضًا حكميًّا واقتضاءً تقديريًّا له من دائنه، فكأنَّ الدائنَ بعد المصارفة قَبَضَهُ منه ثمَّ سلَّمَهُ ثانيةً إليه (1) .
جاء في "المغني" ويجوز اقتضاءُ أحد النقدين من الآخرَ، ويكونُ صرفًا بعينٍ وذمَّةٍ في قول أكثر أهل العلم" (2) . وقال العلامة الأبّي " لأنَّ المطلوبَ في الصرف المناجزةُ، وصرفُ ما في الذمة أسرعُ مناجزةً من صَرْفِ المعَيَّنَات؛ لأنَّ صرفَ ما في الذمة ينقضي بنفس الإِيجاب والقبول والقبضِ من جهة واحدة، وصرفُ المُعَيَّنَات لا ينقضي إلابقبضهما معًا، فهو مُعَرَّضٌ للعدول، فَصَرْفُ ما في الذمة أولى بالجواز" (3) .
واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: كنتُ أبيعُ الإِِبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذُ مكانها الدراهمَ، وأبيع بالدراهم وآخذُ مكانها الدنانير، آخذُ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فسألتُهُ عن ذلك، فقال: ((لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيءٌ)) (4) .
قال الشوكاني: "فيه دليلٌ على جواز الاستبدال عن الثمن الذي في الذمة بغيره، وظاهره أنهما غير حاضرين جميعًا، بل الحاضرُ أحدُهما وهو غير اللازم، فدلَّ على أنَّ ما في الذمة كالحاضر" (5) .
__________
(1) شرح السنَّة للبغوي: 8/111، 113.
(2) المغني لابن قدامة (ط. مكتبة الرياض الحديثة) : 4/54.
(3) شرح الأبّي المالكي على صحيح مسلم: 4/264.
(4) الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم والبيهقي والدارقطني وابن ماجه وغيرهم. (انظر سنن البيهقي: 5/284، بذل المجهود: 15/12، سنن الدارقطني: 3/24، سنن ابن ماجه: 2/760، عارضة الأحوذي: 5/251، المستدرك: 2/44، التخليص الحبير: 3/25) .
(5) نيل الأوطار: 5/157.(6/551)
(ب) المقاصَّة:
وذلك إذا انشغَلتْ ذمةُ الدائن بمثل ما له على المدين في الجنس والصفة ووقت الأداء، برئَتْ ذمةُ المدين مقابلةً بالمثل من غير حاجةٍ إلى تقابض بينهما، ويسقطُ الدينان إذا كان متساويين في المقدار، لأنَّ ما في الذمة يعتبر مقبوضًا حكمًا. فإن تفاوتا في القدر، سقط من الأكثر بقدر الأقل، وبقيت الزيادةُ، فتقعُ المقاصَّةُ في القدر المشترك، ويبقى أحدهما مدينًا للآخر بما زاد (1) .
(ج) تطارُح الدَّيْنَيْن صرْفًا:
ذهب الحنفية والمالكية وتقي الدين السبكي من الشافعية وتقي الدين ابن تيمية من الحنابلة إلى أنه لو كان لرجل في ذمة آخر دنانير، وللآخر عليه دراهم، فاصطرفا بما في ذمتيهما، فإنه يصح ذلك الصرف، ويسقط الدينان من غير حاجة إلى التقابض الحقيقي – مع أنَّ التقابض في الصرف شرطٌ صحته بإجماع الفقهاء – وذلك لوجود التقابض الحكمي الذي يقوم مقام التقابض الحسيّ. وقد عللوا ذلك "بأنَّ الذمةَ الحاضرةَ كالعين الحاضرة" (2) و"بأنَّ المدين في الذمة كالمقبوض" (3) . قال ابن تيمية: "فإنَّ كلا منهما اشترى ما في ذمته – وهو مقبوض له – بما في ذمة الآخر، فهو كما لو كان لكلًٍّ منهما عند الآخر وديعةٌ فاشتراها بوديعته عند الآخر" (4) .
غير أنَّ المالكية اشترطوا أن يكون الدينان قد حلا معًا، فأقاموا حلول الأجلين في ذلك مقام الناجز بالناجز، أي اليد باليد.
__________
(1) انظر (م 224، 225، 226، 230، 231) من مرشد الحيران لقدري باشا.
(2) تبيين الحقائق: 4/140، رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4/239، الخرشي: 5/234، الزرقاني على خليل: 5/232، منح الجليل: 3/53، إيضاح المسالك للونشريسي: ص 141، 328، مواجب الجليل: 4/310، بداية المجتهد: 2/224، الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية، ص 128، طبقات الشافعية لابن السبكي: 10/131، شرح الأبّي على صحيح مسلم: 4/264، نظرية العقد لابن تيمية: ص 235. وخالف في ذلك الشافعية والحنابلة، ونصُّوا على عدم جواز صرف ما في الذمة إذا لم يُحْضِرْ أحدهما أو كلاهما النقدَ الوارد عليه عقد الصرف، لأنه يكون من بيع الدين بالدين. (انظر الأم: 3/33، تكملة المجموع للسبكي: 10/107، شرح منتهى الإِرادات: 2/200، المبدع: 4/156، المغني: (ط. مكتبة الرياض الحديثة) 4/53، كشاف القناع: (مط. الحكومة بمكة 3/257) .
(3) التمهيد لابن عبد البر: 6/291.
(4) نظرية العقد لابن تيمية: ص 235.(6/552)
(د) جَعْلُ الدّين الذي على المُسْلَم إليه رأس مال السلم:
ذهب الشيخ تقي الدين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى أنه إذا كان لرجل في ذمة آخر دينارًا، فَجَعَلَهُ سَلَمًا في طعام إلى أجل، فإنه يصحُّ السلم من غير حاجةٍ إلى قبضٍ حقيقي لرأس مال السلم – مع اتفاق الفقهاء على وجوب تسليم رأس المال معجلا لصحة السلم – وذلك لوجود القبض الحكمي لرأس مال السلم، وهو ما في ذمة المدني المُسْلَم إليه، فكأنَّ الدائن بعد عقد السلم قَبَضَهُ منه ثمَّ ردَّه إليه، فصار معجلا حكمًا، فارتفع المانع الشرعي (1) . قال العلامة ابن القيم: "لو أسلم إليه في كَرِّ حنطةٍ بعشرة دراهم في ذمته، فقد وجَبَ له عليه دَيْن، وسقَطَ له عند دَيْن غيره. وقد حكي الإِجماعُ على امتناع هذا، ولا إجماعَ فيه. قال شيخنا: واختار جوازه، وهو الصواب" (2) .
(هـ) رهن الدين عند المدين، وهبة المرأة مهرها المؤجل لزوجها:
قال القاضي ابن العربي: "إذا تعامل رجلان لأحدهما على الآخر دينٌ، فرهَنَهُ دينَهُ الذي له عليه، كان قبولُه قبضًا. وقال غيرنا من العلماء: لا يكونُ قبضًا. وكذلك إذا وهبَتْ المرأة كالئها – أي مهرها المؤجل – لزوجها جاز، ويكونُ قبولُه قبضًا. وخالفَنَا فيه أيضًا غيرنا من العلماء. وما قلناه أصحّ لأنَّ الذي في الذمة آكدُ قبضًا من المعيّن، وهذا لا يخفى" (3) .
__________
(1) وخالف في ذلك جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة بحجة أن ذلك افتراقٌ عن دَين بدَين. (انظر رد المحتار: (بولاق، 1272 هـ) 4/209، تبيين الحقائق: 4/140، نهاية المحتاج: 4/180، فتح العزيز: 9/212، بدائع الصنائع: مط الإِمام 7/3155، شرح منتهى الإِرادات: 2/221، المغني، ط. مكتبة الرياض الحديثة: 4/329) .
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين: (بعناية طه عبد الرءوف سعد) 2/9.
(3) أحكام القرآن لابن العربي: 1/261.(6/553)
21- الحالة الثالثة: وهي قيامُ قبضٍ سابق لعين من الأعيان مقامَ قبضٍ لاحقٍ مُسْتَحَقّ، وذلك كما لو باع شخصٌ شيئًا أو وَهَبَهُ أو رَهَنَهُ عند غاصبٍ أو مستعير أو مودَع أو مستأجر أو غيره، فإنَّ القبضَ السابق ينوبُ منابَ القبضِ المستحقَّ بالعقد مطلقًا، سواءٌ أكانت يد القابض عليه يَدَ ضمان أم يدَ أمانة، وسواءٌ أكان القبضُ المستحقُ قبضَ أمانة أم قبض ضمان، ولا يشترط الإذن من صاحبه ولا مضيُّ زمانٍ يتأتى فيه القبض. وعلى ذلك نصَّ المالكية والحنابلة (1) .
* أمّا نيابته منابَ القبض المستحق بالعقد، فلأنّ استدامةَ القبضِ للعين قبضٌ حقيقةً، لوجود الحيازة مع التمكن من التصرف. فقد وجِدَ القبضُ المستحق، ولا دليل على أنه ينبغي وقوعُهُ ابتداءً بعد العقد.
* وأمّا عدمُ اشتراطِ كونِ القبضين متماثلين من حيث الضمان وعدمه أو كونِ القبضِ السابق أقوى بما ينشأ عنه من ضمان اليد حتى ينوبَ عن القبضِ المستحقَّ بالعقد، فلأنَّ المراد بالقبض المستحق: إثباتُ اليد والتمكن من التصرف في المقبوض، فإذا وجِدَ هذا الأمر وجِدَ القبض. أما ما ينشأ عنه من كون المقبوض مضمونًا أو أمانةً في يد القابض، فليس لذلك أية علاقة أو تأثير في حقيقة القبض.
__________
(1) ميارة على التحفة: 1/111، بداية المجتهد (مط. الجمالية 1329 هـ) ، المحرر للمجد ابن تيمية: 1/374، المغني (ط. دار المنار) : 4/334 وما بعدها، 5/594، نظرية العقد لابن تيمية: ص 236، كشاف القناع (مط. أنصار السنة المحمدية) : 3/249، 273، 4/253، شرح تنقيح الفصول للقرافي: ص 456.(6/554)
* وأمّا عدم الحاجة للإذن بالقبض، فلأنَّ إقراره له في يده بمنزلة إذنه في قبضه، كما أنَّ إجراءه العقد الموجب للقبض مع كون المال في يده يكشف عن رضاه بالقبض، فاستغني عن الإِذن المشترط في الابتداء، إذْ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.
* وأمّا عدم الحاجة إلى مضيّ زمان يتأتي فيه القبض، فلأنَّ مضيّ هذا الزمان ليس من توابع القبض، وليس له مدخل في حقيقته في هذه الحال … نعم، لو كان القبضُ متأخرًا عن العقد؛ لاعتبر مضيُّ الزمان الذي يمكن فيه القبض، لضرورة امتناع حصول القبض بدونه، وأمّا مع كونه سابقًا للعقد فلا.
- وقد وافقَ الشافعيةُ المالكيةَ والحنابلةَ على نيابة القبضِ السابق منابَ القبض المستحق اللاحق، سواءٌ أكانت يد القابض بجهة ضمان أو بجهة أمانة، وسواءٌ أكان القبضُ المستحق قبضَ أمانة أو ضمان، غير أنهم اشترطوا لصحة ذلك أمرين:
(أحدهما) الإِذنُ من صاحبه إنْ كان له في الأصل الحقُّ في حبسه؛ كالمرهون والمبيع إذا كان الثمن حالا غير منقود. أما إذا لم يكن له هذا الحق، كالمبيع بثمن مؤجلٍ أو حالٍّ بعد نقد ثمنه، فلا يشترط عند ذلك الإِذن.
وسببُ اشتراط الإِذن من مستحقَّ حبسه في الأصل، هو عدم جواز إسقاط حقّه بغير إذنه، كما لو كانت العين في يده.
(والثاني) مضيّ زمان يتأتي فيه القبض إذا كان الشيءُ غائبًا عن مجلس العقد. لأنه لو لم يكن في يده لاحتاج إلى مضيّ هذا الزمان ليحوزّه ويتمكن منه، ولأنّا جَعَلْنا دوام اليد كابتداءِ القبض، فلا أقل من مضي زمان يتصور فيه ابتداء القبض. ولكنْ لا يشترط ذهابُهُ ومصيرُهُ إليه فعلا (1) .
- أمّا الحنفية، فمع ميلهم إلى نفس الاتجاه الذي نحا إليه بقية الفقهاء في المسألة، فقد أقاموا رأيهم فيها على مبنى آخر، وهو أنَّ القبض الموجود وقت العقد إذا كان مثل المستحق بالعقد، فإنه ينوبُ منابه. يعني أن يكون كلاهما قبض أمانة أو قبض ضمان، لأنه إذا كان مثله أمكن تحقيق التناوب؛ لأنَّ المتماثلين غيران ينوبُ كلُّ واحد منهما مناب صاحبه ويَسُدُّ مسدَّه، وقد وُجِدَ القبضُ المحتاجُ إليه.
__________
(1) المجموع شرح المهذب: 9/281، مغني المحتاج: 2/128، روضة الطالبين: 4/66 –68، فتح العزيز: 10/65-71، المهذب: 2/312 وما بعدها، الأم (ط. بولاق) : 3/124، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 2/82، التنبيه للشيرازي: ص 94.(6/555)
أمّا إذا اختلف القبضان، بأنْ كان أحدهما قبضَ أمانة والآخرُ قبض ضمان، فينظر: إنْ كانَ القبضُ السابق أقوى من المستحق، بأن كان السابق قبضَ ضمان والمستحق قبضَ أمانة، فينوبُ عنه؛ إذْ به يوجد القبضُ المستحق وزيادة. وإن كان دونه، فلا ينوبُ عنه؛ وذلك لانعدام القبض المحتاجِ إليه، إذْ لم يوجد فيه إلا بعضُ المستحق، فلا ينوبُ عن كلّه.
وبيان ذلك: أنَّ الشيءَ إذا كان في يد المشتري بغصب أو كان مقبوضًا بعقد فاسد فاشتراه من المالك بعقد صحيح، فينوبُ القبضُ الأول عن الثاني. حتى لو هلكَ الشيءُ قبل أن يذهب المشتري إلى بيته ويصل إليه أو يتمكن من أخْذِهِ، كان الهلاكُ عليه لتماثلِ القبضين من حيث كونُ كل منهما يوجبُ كون المقبوض مضمونًا بنفسه.
وكذا لو كان الشيءُ في يده وديعةً أو عاريّة، فَوَهَبَهُ منه مالكه، فلا يُحتاج إلى قبض آخر. وينوبُ القبضُ الأول عن الثاني، لتماثلهما من حيث كونهما أمانةً.
ولو كان الشيءُ في يده بغصب أو بعقد فاسد، فوهبه المالك منه، فكذلك ينوبُ ذلك عن قبض الهبة، لوجود المستحقّ بالعقد، وهو أصل القبض وزيادةُ ضمان.
أمّا إذا كان المبيعُ في يد المشتري بعارية أو وديعة أو رهن، فلا ينوبُ القبض الأول عن الثاني، ولا يصير المشتري قابضًا بمجرد العقد؛ لأنَّ القبضَ السابقَ قبضُ أمانةٍ، فلا يقوم مقام قبض الضمان في البيع، لعدم وجودِ القبضِ المحتاج إليه (1) .
22- الحالة الرابعة: تنزيل إتلاف العين منزلةَ قبضها، وذلك كما إذا أتلف المشتري المبيعَ وهو في يد البائع، حيث نصَّ جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة على أنَّ ذلك الإِتلاف يعتبر قبضًا، لأنَّ القبض يتحقق بإثبات اليد والتمكن من التصرف والإِتلافُ تصرّفٌ فيه حقيقةً، فكان قبضًا من باب أولى، إذ التمكن من التصرف دون حقيقة التصرف. . كما أن صدور الإتلاف من المشتري ينطوي على إثبات اليد فعلا، إذ لا يتصور وقوعه منه مع تخلف هذا المعنى، فكان الإِتلاف بمنزلة القبض ضرورة (2) .
__________
(1) مجمع الضمانات للبغدادي: ص 217، بدائع الصنائع: 5/248، 6/126 وما بعدها، الفتاوى الهندية: 3/22 وما بعدها، الفتاوى الطرسوسية: ص 253، رد المحتار (ط. الحلبي) : 5/694، شرح المجلة للأتاسي: 2/193.
(2) بدائع الصنائع: 5/246 وما بعدها، رد المحتار (ط. الحلبي) : 4/561، شرح المجلة للأتاسي 2/206، شرح منتهى الإِرادات: 2/191، كشاف القناع (مط. الحكومة بمكة) : 3/231، مغني المحتاج: 2/66 وما بعدها، روضة الطالبين: 3/499 وما بعدها، المجموع شرح المهذب: 9/281، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 192. وقال الشافعية: إنما يعتبر إتلاف المشتري قبضًا إذا علم أنه يتلف المبيع. أما إذا لم يعلم، فوجهان، بناء على القولين فيما إذا قدّم الغاصب الطعام المغصوب إلى المالك فأكله جاهلا، هل يبرأ الغاصب؟(6/556)
وبناءً على هذا الأصل:
(أ) قال الشافعية: إذا أتلفت الزوجةُ الصَداق، وهو بيد الزوج، صارت بذلك قابضة إياه، وبرئ الزوج (1) .
(ب) وقال الحنفية: كما ناب إتلاف المشتري المبيع، وهو بيد بائعه منابَ قبضه منه، فإنه لو تصرف المشتري فيه بتعييب أو تغيير صورةٍ أو استعمال، فإن ذلك يعتبر قبضًا أيضًا، لما في هذه الأفعال من إثباتً اليد فعلا، والتصرف الحقيقي في المبيع، كما هو الشأن في الإِتلاف، فتنزّلُ منزلته في اعتبارها قبضًا حكميًّا.
قالوا: ومثل ذلك في الحكم ما لو فَعَلَ البائع شيئًا من ذلك بأمر المشتري، لأنَّ فِعْلَهُ بأمر المشتري بمنزلةِ فعلِ المشتري بنفسه.
وقالوا: لو أعتق المشتري العبد المبيع يصير بذلك قابضًا، لأنَّ الإِعتاق إتلافٌ حكمًا، فيُلحقُ بالإتلاف حقيقة.
ولو أعار المشتري المبيعَ أو أودعه أجنبيًا صار بذلك قابضًا؛ لأنه بالإِعارة والإيداع أثبَتَ يَدَ النيابة لغيره فيه، فصار قابضًا. وكذا لو وهبه أجنبيًا، فقبَضَهُ الموهوب (2) .
__________
(1) روضة الطالبين: 7/251.
(2) البدائع: 5/246 وما بعدها، رد المحتار (ط. الحلبي) : 4/561، شرح المجلة للأتاسي: 2/206 وما بعدها.(6/557)
التطبيقات الفقهيّة المعاصرة للقبض الحكمي للأموال
23- في ضوء ما تقدم من أقاويل الفقهاء وأنظارهم في قبول وتسويغ واعتبار القبض الحكمي التقديري للأموال شرعًا، وترتيبِ الأحكام الشرعية للقبض الحقيقي عليه في الصور والحالات الآنفة الذكر، يمكننا تخريجُ بعضِ الفروع والمسائل المستجدّة التي يجري بها التعامل في المصارف وبيوت التمويل المعاصرة، وبناءُ أحكامها على قاعدة القبض الحُكمي للأموال، وذلك على النحو الآتي:
(أولا) يعتبر القيدُ المصرفي لمبلغٍ من المال في حساب العميل إذا أودعه في حسابه شخصٌ آخر أو جَعَله فيه بحوالةٍ مصرفيةٍ قبضًا حكميًّا من المستفيدِ صاحبِ الحسابِ، وتبرأ ذمةُ الدافع بذلك إذا كان مدينًا له به.
(ثانيًا) : إذا كان للعميل حسابٌ لدى مصرفٍ بعملةٍ ما، فأمَرَ المصرف بقيدِ مبلغٍ منه في حسابه بعملةٍ أخرى بناءً على عقد صرف ناجز تَمَّ بينه وبينَ المصرف، واستيفاءِ المبلغ الذي اشترى به من حسابه، فيعتبرُ القيدُ المصرفي المعجّلُ بالعملة المشتراةِ قبضًا حكميًّا من قِبَلِ العميل الآمر، ويعتبرُ الاقتطاعُ الناجزُ من قِبَلِ المصرف للبدلِ من حساب العميل قبضًا حكميًّا له من المصرف. ويُعَدُّ مجموعُ ذلك بمثابة التقابض بينَ البدلين في الصرف، وإنْ اتّحدَتْ يدُ القابض والمُقْبِضِ حسًّا.
(ثالثًا) : إذا اشترى شخصٌ نقدًا من مصرفٍ بنقدٍ آخر، فدفَعَ إليه البدلَ، وأخَذَ منه في المجلس شيكًا بعوضه من النقد الآخر مسحوبًا على البنك المراسل للمُصْدِرِ، فيعتبر قَبْضُهُ للشيك قبضًا حكميًّا لمضمونه، ويكونُ ذلك بمنزلة التقابض في البدلين قبل التفرق.
(رابعًا) : إذا اشترى شخصٌ نقدًا من مصرف بنقدٍ آخر، فدفَعَ إليه البدل، وأرسل المصرفُ – بناءً على طلب المشتري – برقية (تلكس) إلى بنكه المراسل يأمره فيها بدفعِ العوض من النقد الآخر لحساب المشتري أو لحساب مستفيدٍ آخر لدى مصرف ثالث، فيعتبرُ أَمْرُ المصرف الناجزُ (بالتلكس) لبنكه المراسل بأداءِ بدل الصرف حالا إقباضًا حكميًّا للمشتري، ويُنزَّلُ التعامُل بتلك الكيفية منزلةَ التقابض الناجز بين البدلين في الصرف.(6/558)
(خامسًا) : إذا تصارفَ العميلُ مع المصرف الذي له في حسابٌ، فأَمَرَ المصرفَ باقتطاع البدل الذي اشترى به من حسابه، وتسلَّمَ من المصرف شيكًا بالنقد الذي اشتراهُ مسحوبًا على البنكِ المراسل للمصرف الذي أَصْدَرَهُ، فيعتبرُ اقتطاعُ المصرفِ الناجزُ لبدلِ الصرف من حسابه قبضًا حكميًّا للبدل من العميل المشتري، ويعتبرُ تسلُّمُ العميل الشيكَ قبضًا حكميًّا لمضمونه، وإذا تمَّ ذلك في المجلس، فإنه يُعَدُّ بمثابة التقابض في البدلين قبل التفرق.
(سادسًا) : إذا اشترى شخصٌ من مصرف نقدًا بنقد آخر، وكان للمشتري حسابٌ لدى مصرف آخر بنفس العملة التي باعها، فأعطاه أمرًا برقيًّا ناجزًا (بالتلكس) بتحويل المبلغ الذي باعه للمصرف الذي اشتراه منه أو لمن ينوبُ عنه، ثم قَبَضَ المشتري في المجلس شيكًا بمضمون البدل الذي اشتراه من المصرف المشتري أو قيَّده المصرفُ في حسابه لديه، أو أرسلَ المصرفُ برقية (تلكس) لبنكه المراسل يأمره حالا بتحويل ذلك المبلغ لحساب المشتري أو لحساب مستفيدٍ آخر طلبَ المشتري الدفعَ إليه في مصرف آخر، فيعتبرُ ذلك كله إقباضًا حكميًّا للنقد الأول من المشتري للمصرف، وللنقد الآخر من المصرف للمشتري، ويُنَزَّلُ التعامل بهذه الكيفية منزلةَ التقابض الناجز بين البدلين في الصرف.
24- هذا ومما تجدر الإشارةُ إليه في هذا المقام قرار مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي لرابطة العالم الإِسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة من 13 رجب 1409هـ الموافق 19 فبراير 1989م إلى 20 رجب 1409 هـ الموافق 26 فبراير 1989م في بعض التطبيقات المعاصرة للقبض الحكمي للأموال، حيث نظر في موضوع:
1- صرف النقود في المصارف، هل يستغنى فيه عن القبض بالشيك الذي يتسلمه مريد التحويل؟
2- هل يُكتفى بالقيد في دفاتر المصرف عن القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى مودعةٍ في المصرف؟
وبعد البحث والدراسة قرَّر المجلس بالإِجماع ما يلي:
(أولاً) : يقوم تسلُّمُ الشيك مقام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقود في المصارف.
(ثانيًا) : يعتبر القيدُ في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى، سواء كان الصرف بعملةٍ يعطيها الشخص للمصرف أو بعملةٍ مودعةٍ فيه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلًَّمَ تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور نزيه كمال حماد(6/559)
المناقشة
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذه الجلسة المسائية عرض بحث القبض وصوره بخاصة المستجدة والعارض هو الشيخ علي محيي الدين، والمقرر هو الشيخ محمد رضا العاني، وأحب أن أشير إلى أن في المناقشات سيبدأ بأصحاب البحوث الذين يرغبون الكلمة ثم يأتي بعد ذلك الذين يرغبون في المناقشة، ونرجو أن يكون هناك التزام بالوقت تفضل يا شيخ.
الدكتور على محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبحوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. اللَّهم علَّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا، واجعل يومنا هذا خيرا من أمسنا، وغَدَنَا خيرا من يومنا واقبلنا في عبادك المخلصين. لا إلَه إلا أنت سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
أيها الأساتذة الفضلاء، يسعدني أن أشرف بتخليص هذه البحوث المقدمة من السادة العلماء، أن ألخَّصها لحضراتكم مع بحثي المتواضع في القبض وصوره المتعددة ولا سيما الصور المستجدة، ولا يفوتني هنا أن أنوَّه بجهود إدارة المجمع وأمانته في المتابعة والتنظيم لإِنجاح هذه الدورة والدورات السابقة، فجزى الله القائمين عليها خير الجزاء.
البحوث التي في متناول الأيدي حول موضوع القبض وصوره المعاصرة ثمانية بحوث، وهي للأساتذة الأجلاء: الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور، والشيخ عبد الله بن منيع، والأستاذ الدكتور نزيه حماد، والأستاذ الدكتور سعود بن مسعد، والدكتور محمد رضا العاني، والدكتور محمد الصديق الضرير، والدكتور عبد الله محمد عبد الله. . بالإضافة إلى بحثي المتواضع ولا أريد هنا أن ألج بكم في غمار التعاريف والأبحاث اللفظية حيث إن البحوث في متناول أيديكم، ولا شك أنكم تفضلتم بقراءتها وإنما أريد التركيز على اتجاهات الإِخوة بصورة عامة وأدلة كل اتجاه ولا سيما لفقهائنا الأجلاء.(6/560)
ففي نطاق تعريف القبض وكيفيته يتفق أصحاب أكثر البحوث الثمانية على أن مرجع ذلك إلى العرف في حين أن بعض البحوث لم تشر إلى ذلك، وإنما نظرت إلى تقسيمات الفقهاء مباشرة مع أنها في الواقع تعود إلى أعرافهم السائدة، مثل بحث أستاذنا الفاضل الشيخ محمد الصديق الضرير، حيث جعل القبض في المكيل والموزون، ونحوهما باستيفاء قدره، وفي الجزاف بتحويله، وفيما عدا ذلك يرجع إلى العرف. وأما الأستاذ الدكتور نزيه حماد والدكتور سعود بن مسعد، فقد سارا في بحثيهما على تقسيم القبض إلى قسمين قبض حقيقي، أي تام وقبض حكمي. غير أن الأستاذ الدكتور نزيه فصل في بحثه صور كل واحد من النوعين، ولا سيما صور القبض الحكمي، تفصيلا طيبا. فذكر ضمن القبض الحكمي عدة صور – حقيقية أحب أن الخَّص كل بحث حتى لا أكون ملخَِّصًا لبحثي فقط – فذكر ضمن القبض الحكمي عدة صور، منها: التخلية في المنقولات عند الحنفية، ومنها: القبض في الذمة بالنسبة للمدين والدائن، ومنها قيام قبض سابق لعين من الأعيان قيام قبض لاحق، ومنها: تنزيل إتلاف العين منزلة قبضها. ثم ألحق ببحثه أخيرا عدة تطبيقات فقهية معاصرة، منها: اعتبار القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل إذا أودعه في حسابه شخص آخر، ومنها صور أُخَر، وهي معروضة وموجودة أمام حضراتكم.
أما الأستاذ الجليل الدكتور محمد الصديق فقد كتب في ثلاثة موضوعات: أولا: النصوص الواردة في الموضوع , ثانيا: آراء الفقهاء في حكم بيع الإِنسان ما اشتراه قبل قبضه، ثالثا: في البيع قبل القبض في الطعام، ورجح فضيلة الدكتور أن النهي هنا للتحريم، والمسألة هنا، وإن كانت خلافية، في قضية النهي، هل النهي للتحريم؟ تحتاج إلى بحث وتمحيص، لكنه لا يخفى على فضيلته أن الخلاف حقٌّ أو أن الخلاف هنا هو هل النهي يقتضي الفساد أم لا؟ وليست القضية قضية التحريم أو الكراهة. ثم رجح فضيلته أن بيع الطعام قبل قبضه غير صحيح، وكذلك قاس على الطعام غير الطعام بل بني تعميمه في الطعام وغيره على حديث حكيم، قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فلا تبعه حتى تقبضه)) ، لكنه في نظري أن هذا الحديث لا ينهض حجة لضعف فيه كما هو مبين في بحثي، وقد ذكر عدة صور مستحدثة للقبض ولا سيما في بيع المرابحة للآمر بالشراء بالنسبة للقبض.(6/561)
وأما فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان، فقد خصَّص بحثه لجزئية من جزئيات القبض وهي قبض الشيك بجميع أنواعه حيث رجح أن قبض الشيك قبض لمحتواه. واعتمد في ذلك على أن للعرف حكما متميزا في تعيين صفة القبض حيث لم يرد نص ونحن جميعا معه في هذا الموضوع.
أما فضيلة الدكتور محمد الفرفور فذكر طرق القبض وهي التخلية عند الحنفية والإِتلاف وإيداع المبيع عند المشتري أو إعارته منه، وصور أخرى نتفق في بعضها أو تتفق هذه الصور في بعضها مع الصور التي ذكرها الأستاذ الدكتور نزيه. ثم ذكر أثر القبض، ثم رجح صورة التسجيل العقاري، في بلاد فيها سجل ونظام عقاريان، جعل ذلك بمثابة القبض حتى ولو لم يتم التسجيل، وفي اعتقادي أن هذه القضية بالإِضافة إلا أنها قضية قانونية للتثبت وهو الراجح بالنسبة حتى للقوانين المدنية لأن الشكلية قد انتهت، فالمسألة حقيقةً مجال للنظر والاجتهاد في هذه المسألة.
وأما الأستاذ الدكتور عبد الله بن محمد بن عبد الله فقد ذكر مذاهب الفقهاء، وكذلك ذكر ما يتعلق بالجانب القانوني في القبض. ثم ذكر أحكام القبض من انتقال الضمان إلى المشتري، وتسليط المشتري على التصرف، كما تطرق كذلك إلى آراء الفقهاء في التصرف في المبيع قبل القبض، وإلى مكان القبض وزمانه، وختم بحثه بالبحث عن القبض في القوانين الوضعية، وتكلم في ذلك عن القوانين البحرية والقوانين التجارية في هذا الصدد.
وتطرق الأستاذ الدكتور سعود بن مسعد في بحثه إلى قبض الربويات وغيرها بالإضافة إلى حكم القبض في الشيكات وقبض أوراق البضائع وتظهيرها وقبض الأسهم وتظهيرها.
وأما الأستاذ الدكتور محمد رضا العاني فقد سار في بحثه على بيان القبض من حيث الصحة وعدمها، وذكر بأن القبض الصحيح هو القبض الذي يتم بإذن صاحبه أو عن طريق إذن شرعي أو عرفي، كما أن القبض إما أن يكون أثرا من آثار العقد، كما في البيع ونحوه، وإما أن يكون من تمام العقد كما في السلف. ثم تطرق إلى صور تحقق القبض من حيث المناولة ونحوها، وكذلك إلى مدى جواز التصرف قبل القبض، وانتهى في الأخير إلى ترجيح رأي المالكية في جواز البيع قبل القبض إلا في الطعام. هذه هي معظم الأفكار المطروحة في البحوث السبعة أرجو أن أكون قد وُفَّقت في عرضها بصورة أمينة.(6/562)
وأما بحثي المتواضع فهو يتضمن ما يأتي:
أولا: إنني استعرضت بالتفصيل آراء الفقهاء في تعريف القبض واتجاهاتهم التي تنحصر في هذا الصدد في اتجاهين: اتجاه يرى عدم التفرقة بين جميع أنواع المعقود عليه حيث يتم قبضها بالتخلية فقط، وهذا مذهب الحنفية وأحمد في رواية وقول للشافعية حكاه الخراسانيون، والراجح عند الظاهرية والزيدية والإِمامية، وإليه مال البخاري وغيره. واتجاه ثانٍ يرى التفرقة بين أنواع المعقود عليه، فمنهم من جعل أساس التفرقة كون الشيء منقولا أو غير منقول، حيث يتم القبض في المنقول بالنقل، وفي غيره بالتخلية. ومنهم من جعل الأساس في التفرقة كون الشيء مكيلا أو موزونا أم لا. ومن هنا نستطيع القول إن الجميع يكادون يتفقون على أن القبض في غير المنقول كالعقارات يتم بالتخلية. وقد استعرضت أدلة كل فريق ومناقشاتها بالتفصيل، وهي أمام أصحاب الفضيلة من الصفحة الرابعة إلى الصفحة الثالثة عشرة. ولم أكتفِ في ذكر الأحاديث بعزوها إلى كتب السنَّة وإنما حققتها ووصلت فيها إلى الحكم عليها وانتهينا إلى ترجيح الرأي القائل بأن القبض يتم بالتخلية، كقاعدة أساسية إلا أن الطعام نظرا لورود أحاديث صحيحة فيه، وللخصوصية التي أصلها الإِمام القرافي، يستثنى فيكون قبضه بالكيل أو الوزن أو النقل – يعني هو فيه خلاف حقيقةً – وذلك لما ذكرناه من عدة أحاديث صحيحة تدل على أن القبض في الإِبل، وهي من المنقولات لا شك قد تم بمجرد العقد، كما في الصفحة الخامسة إلى السادسة من البحث، فقد روى البخاري " أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى من عمر – رضي الله عنه – بعيرا، ثم وهبه، قبل النقل، إلى ابن عمر ". وأشار ابن بطال إلى أن الحديث حجة في أن البيع يتم بالعقد مع شروطه، وأنه لا يحتاج إلى نقل المعقود عليه فعلا، بل قال الحافظ ابن حجر: وقد احتج المالكية والحنفية في أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية وإليه مال البخاري. وذكرنا أربعة أحاديث صحيحة في هذا الصدد، وحديثا حسنا، ولذلك رجحنا التعريف المختار للقبض: وهو أن القبض التخلية بين العاقد والمعقود عليه، على وجه يتمكن من التسلم بلا مانع ولا حائل حسب العرف.(6/563)
ثانيا: من الأمور التي تطرقنا إليها ما يشترط فيه القبض الفوري وهذا يخص الصرف، وأعتقد أن الفقهاء متفقون في ذلك، ولكنهم مختلفون في تفسير الفورية، وفي تفسير الفورية لهم اتجاهان: اتجاه الجمهور القائلين باعتبار المجلس حيث لم يشترطوا الفورية بمعناها الضيق، بل وسعوا دائرتها لتتسع كل أوقات المجلس، واتجاه آخر للسادة المالكية حيث اشترطوا القبض الفوري، قال ابن رشد: إن تأخر القبض في المجلس بطل الصرف، وإن لم يفترقا. وسبب الخلاف ترددهم في مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا هاء وهاء)) ، وكذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يدا بيد)) . وقد رجحنا رأي الجمهور لأحاديث صحيحة تدل على المقصود بوضوح، وأما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يدا بيد)) . فقد قال الخطابي: "فيه بيان أن التقابض شرط في صحة البيع في كل ما يجري فيه الربا ". وقال غيره: " أي حالًّا مقبوضا في المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر". وقال آخرون: أي عينا بعين، يعني "هاء وهاء" أو "يدا بيد"، أي عينا بعين. ثم إن الحنفية لم يقيسوا على الذهب والفضة، أي النقود غيرهما من الربونات، حيث لم يشترطوا فيها إلا التعيين في المجلس، فجعلوا قضية الفورية أو في المجلس خاصة بالنقود. وأما الشافعية والحنابلة فاشترطوا التقابض في المجلس في كل الربويات، سواء بيعت بجنسها أو بغير جنسها والمالكية، كما سبق أن ذكرنا، اشترطوا الفورية في جميع الربويات.
ثالثا: تقسيم العقود بالنسبة للقبض إلى أربعة أقسام: القسم الأول: ما يجب فيه التقابض قبل التفرق بالإِجماع وهو الصرف. ثانيا: ما لا يجب بالإِجماع كبيع السلع والطعام بالنقود. ثالثا: ما ورد فيه خلاف مثل بيع الطعام بالطعام حيث اشترطه الشافعي ومالك وأحمد، خلافا لأبي حنيفة. القسم الرابع: ما يشترط فيه التقابض الفوري بمعناه الضيق وهو ما يكون في الصرف والربويات عند الإِمام مالك.
تكلمنا كذلك في المسألة الرابعة عن أنواع القبض وصوره القديمة، حيث قسم الإِمام الكاساني القبض إلى قبض تام وقبض ناقص. ثم قال: التخلية قبض تام فيما يأتي: (أ) : في كل ما ليس له مثل من المذروعات والمعدودات المتفاوتة. (ب) : وفيما له مثل ولكنه بيع مجازفة. (ج) : وفي المعدودات المتقاربة إذا بيعت عددا لا جزافا – من باب الأمانة هذه الأرقام (أوب وج) من عندي حقيقةً وليس من النص – وأما التخلية فتكون قبضا ناقصا فيما له مثل، لكنه بيع مكايلة أو موازنة، وتطرقت بهذا الصدد إلى عدة مسائل جزئية في صفحة 18 أو الصفحة الثامنة عشرة إلى الصفحة التاسعة عشرة، كما تطرقت إلى الأنواع التي ذكرها بقية الفقهاء من الصفحة العشرين إلى الصفحة الثانية والعشرين.(6/564)
وأما صور القبض المعاصرة، فقبل أن أتطرق إليها، أود أن أؤصلها من خلال قاعدة عامة في القبض، وهي أن مبنى القبض وأساس مسائله وصوره قائم على العرف، حيث إن الشرع أطلقه، فيكون الرجوع فيه إلى العرف. ومن هنا فكل ما عدّه العرف قبضا في أي عصر من العصور فهو قبض ما دام لا يصطدم مع نص شرعي ثابت صريح، وكذلك لا يجب الالتزام بجزئيات القبض وصوره في عصر ما بالنسبة للعصر الذي يليه ما دام العرف قد تغير، لأن ما هو مبني على العرف يتغير بتغيره. يقول العلامة ابن القيم – رحمه الله -: "فمهما تجدد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده فأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك ودون المذكور في كتبك". ثم نقل عن المحققين من العلماء قولهم: "فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وما جرت به العادة واشتهر ذلك عند الناس، بحيث صار عرفًا متبادرًا إلى الذهن من غير قرينة، حمل عليه، ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم – والكلام للإِمام وليس لي – وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم، والله المستعان". وقد أكد على مثل ذلك العلامة ابن عابدين في رسالته القيمة، فقال: اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلا فقالوا: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة. وقال في القنية: ليس للمفتي ولا القاضي أن يحكما عن ظاهر المذهب ويتركا العرف. وهذه الضابطة تسهل كثيرًا من صور القبض المعاصرة، ما دامت لا تتعارض مع نصوص الشريعة الثابتة الواضحة، وعلى ضوء ذلك نقول: إن عملية القبض التسلُّم والتسليم، في عصرنا الحاضر، ليست جميع صورها حديثة، بل إن كثيرًا من صورها لا تزال باقية، مثل قبض العقار سواء كان أرضا أم بناء، وكذلك قبض الأشياء التي لا يمكن نقلها دون تغيير في شكلها، كالمصانع – عند المالكية في هذه المسألة بالنسبة للعقار شمول العقار للمصانع – فهذه أمور لا يختلف فيها القبض في عصرنا عما كانت عليه في السابق، فيكون قبضها بالتخلية كما قال فقهاؤنا الكرام. وأما المنقولات فهذه الممكن الاختلاف فيها حسب العصور والأزمان، حيث جدت معاملات حديثة وتطورت كيفية القبض ولا سيما في نطاق السلع والنقود "الصرف".(6/565)
ثم ذكرت عدة صور معاصرة يمكن تكوين صور كثيرة منها، مع مراعاة بحث الأستاذ الدكتور نزيه حماد، وتناولتها من الصفحة الثالثة والعشرين إلى السابعة والعشرين يمكن الرجوع إليها ولا حاجة في أخذ أوقاتكم القيِّمة فيها.
وقد تطرقت كذلك إلى أركان القبض الثلاثة: القابض والمقبض والمقبوض، وإلى اتحاد القابض والمقبض وصوره السبع، وأثر القبض في العقود الصحيحة. ثم ذكرت اختلاف الفقهاء في أثر القبض في الرهن على أربعة آراء، وذكرت أدلتهم مع المناقشة وترجيح رأي مالك وأحمد، في رواية، من أن القبض في الرهن ليس ركنا ولا شرطا للصحة، وإنما هو شرط لتمامه، وكذلك ذكرت آراء الفقهاء الثلاثة في الهبة مع الأدلة والمناقشة وترجيح أنها لا تلزم إلا بالقبض مع استثناء بعض صور موجودة في البحث، وأثرنا في هذا الصدد مدى كون المبيع قبل القبض على ضمان البائع أم على المشتري لأن هذه المسألة يبنى عليها قضية البيع وهل يباع بعد ذلك؟ وهل يجوز التصرف قبل القبض أم لا؟ وإن كان شيخ الإِسلام ابن تيمية لم يجعل هناك تلازما بين هذه المسألة ومسألة البيع قبل القبض، وتطرقت إلى كل هذه المسائل في البحث، وكذلك أثرنا مدى اشتراط القبض قبل التصرف في المبيع، حيث ثار في المسألة الأخيرة خلاف كبير على ثلاثة اتجاهات، يتفرع من كل اتجاه آراء فرعية من الصفحة الواحدة والأربعين إلى الواحدة والخمسين. وقد انتهينا إلى ترجيح جواز التصرف في المبيع قبل القبض، وأن هذا هو الأصل، وأن الأصل هو ذلك الجواز لأن العقد الناقل هو الإِيجاب والقبول لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . ولأدلة كثيرة ذكرتها، ولكن يستثنى من هذا الأصل الطعام لأحاديث صحيحة واردة فيه، وهذا رأي جماعة من الفقهاء. وقد أثرت كذلك أثر القبض في العقود الفاسدة وذكرت آراء الفقهاء في هذه المسألة واتجاهاتهم الثلاثة بالإِضافة إلى التطرق إلى آراء الفقهاء في المقبوض على سوم الشراء أو على النظر أو الرهن.
تلك هي خلاصة بحثي المتواضع عفا الله عن صاحبه، وغفر له إن وقع فيه خلل أو زلل، وجعل كل أعمالي وأعمالكم خالصة لوجهه الكريم، فإن كان صوابا فمن الله وفضه ومَنَّه ورحمته وإلا فعذري أنني بذلك كل ما في وسعي ولم آلُ جهدا، وشكرا لاستماعكم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. وشكرا.(6/566)
الشيخ محمد رضا عبد الجبار العاني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. الحقيقة أني أشكر الأخ الشيخ القره داغي على هذا العرض، لكن وقفت عند تعريفه للقبض، وفي الحقيقة في الصفحة الثالثة عشرة، لا أدري كيف نسي من تعريفه القبض الحقيقي؟ إنما التخلية قبض حكمي، والتناول والأخذ هو القبض الحقيقي. فقد عرف القبض بأنه هو التخلية بين العاقد والمعقود عليه على وجه يتمكن من التسلم بلا مانع ولا حائل حسب العرف. طيب، القبض الحقيقي هو التناول، فكيف لم يدخله في التعريف؟ إنما التخلية هي قبض حكمًا نعم، وليست قبضا حقيقةً، ولكن اعتبرها العلماء اعتبار الحقيقي في الأحكام، فرتبوا عليها ما قالوه. ولذلك يكون كلامه الذي قاله بعد هذا: "هذا هو حقيقة القبض في نظرنا" هذا الكلام ليس مسلمًا، إنما القبض الحقيقي هو الأخذ والتناول باليد، أما التخلية فهي قبض حكمًا. أرجو المعذرة، وشكرا.(6/567)
الشيخ وهبه مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم … وبعد: لا شك بأن هذه البحوث غنية ومفيدة وشاملة لكل ما يتعلق بالقبض، ولكن ينقصها شيء واحد وهو التطبيق الفعلي لبعض حالات القبض المعاصرة. فأما مجرد الإِحالة على العرف، والسادة، والدكتور محيي الدين القره داغي بالذات يتولى الإِجابة حول هذا الموضوع إذا أحلنا القضية على العرف، فعرف اليوم في المعاملات المصرفية معقد وكثير ومتنوع، فهل مجرد إحالة ابن القيم الموضوع على التعرف يُقِرُّ به عرفنا اليوم؟ عرف الماضين ليس كعرف الحاضرين، فهناك بالذات العقود التي نتعامل بها عند الصرافين، وهي أن نصرف مبلغًا من المال ثم نطالب الصراف بأن يحيل هذا المبلغ إلى أمريكا أو إنجلترا لأولادنا في الجامعات أو غيرها أو إلى بلد عربي، فهل مجرد أخذ الوصل من الصراف يعد قبضًا ينوب عن القبض المقرر شرعًا في الرويات؟ هذه مشكلة يُسأل عنها كثيرًا نريد أن نتعايش مع واقع الناس. فالحوالات، هل مجرد قبض هذه الأوراق يعد قبضًا؟ خصوصًا في الربويات التي تتطلب القبض الفعلي، وعندئذٍ نخرج من المأزق، مأزق الوقوع في الحكم والواقع لا يرحمنا، فمثل هذه الأمور جارية في الواقع، قضية الصرف مع وكالة بتحويل المبلغ، وعندئذٍ لا يتم لا صرف ولا غيره، لا يتم قبض صحيح في الواقع، ثم أيضا أداة القبض تغيرت، فهناك أمور كانت تباع بالكيل ثم أصبحت تباع بالوزن، فهل القبض المقرر والمعتبر شرعًا في عصرنا هو الأداة الحديثة؟ أغلب الأمور الآن في العالم العربي والإسلامي لم يعد فيها القبض كما كان في الماضي خصوصًا الحبوب وهي الكيل، إجراء الكيل كما نص الحديث النبوي، وإنما الذي يتم هو الوزن، يزن بالقنطار أو بالكيلو أو بالقبان أو بغير ذلك، إذن أداة القبض، أيضا، تغيرت، فمثل هذه القضايا الحديثة نحن لا نكتفي فيها بمجرد الإِحالة على العرف.(6/568)
الشيخ نزيه كمال حماد:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أحب أن أعرض لأمر وهو أن الأخذ العارض للبحوث قد فاته، بحسن نيَّة أن يقدم ثمرة البحث الذي أعددته وهو التطبيقات الفقهية المعاصرة للقبض الحكمي للأموال باعتبار أن الجانب الأساسي في البحث هو قضية القبض الحكمي للأموال لذلك أحب أن أقدم خلاصة في قضية التطبيقات الفقهية المعاصرة للقبض الحكمي للأموال وفيها إجابة على بعض التساؤلات التي تفضل بها بعض الزملاء، ومنهم الأستاذ السالوس. ذلك أنه في ضوء ما عرضت، وهو موجود بين أيديكم، من أقاويل الفقهاء وأنظارهم، في قبول وتسويغ واعتبار القبض الحكمي التقديري للأموال شرعا، وترتيب الأحكام الشرعية للقبض الحقيقي عليه، في الصور والحالات التي بينتها بتفصيل، يمكننا تخريج بعض الفروع والمسائل المستجدة التي يجري بها التعامل في المصارف وبيوت التمويل المعاصرة، وبناء أحكامها على قاعدة القبض الحكمي للأموال، وذلك على النحو الآتي:
أولا: يعتبر القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل المستفيد، إذا أودعه في حسابه شخص آخر أو جعله فيه بحوالة مصرفية، قبضًا حكميًّا من المستفيد صاحب الحساب وتبرأ ذمة الدافع بذلك إذا كان مدينا له به.
ثانيا: إذا كان للعميل حساب لدى مصرف بعملة ما، فأمر المصرف بقيد مبلغ منه في حسابه بعملة أخرى بناء على عقد صرف ناجز تم بينه وبين المصرف، واستيفاء المبلغ الذي اشترى به من حسابه، فيعتبر القيد المصرفي المعجل بالعملة المشتراة قبضًا حكميًّا من قبل العميل الآمر، ويعتبر الاقتطاع الناجز من قبل المصرف للبدل من حساب العميل قبضا حكميا له من المصرف، ويعد مجموع ذلك بمثابة التقابض بين البدلين في الصرف، وإن اتَّحدت يد القابض والمقبض حسًّا.
ثالثا: إذا اشترى شخص نقدا من مصرف بنقد آخر، فدفع إليه البدل وأخذ منه في المجلس شيكا بعوضه من النقد الآخر مسحوبا على البنك المراسل للمصدر، فيعتبر قبضه للشيك قبضا حكميا لمضمونه، ويكون ذلك بمنزلة التقابض في البدلين قبل التفرق.
رابعا: إذا اشترى شخص نقدا من مصرف بنقد آخر فدفع إليه البدل وأرسل المصرف، بناء على طلب المشتري، برقية (تلكس) إلى بنكه المراسل يأمره فيها بدفع العوض من النقد الآخر لحساب المشتري أو لحساب مستفيد آخر لدى مصرف ثالث، فيعتبر أمر المصرف الناجز (بالتلكس) لبنكه المراسل بأداء بدل الصرف حالًّا، إقباضًا حكميًّا للمشتري، وينزل التعامل بتلك الكيفية منزلة التقابض الناجز بين البدلين في الصرف.(6/569)
خامسا: إذا تصارف العميل مع المصرف الذي له فيه حساب، فأمر المصرف باقتطاع البدل الذي اشترى به من حسابه، وتسلم من المصرف شيكا بالنقد الذي اشتراه مسحوبًا على البنك المراسل للمصرف الذي أصدره، فيعتبر اقتطاع المصرف الناجز لبدل الصرف من حسابه قبضًا حكميًّا للبدل من العميل المشتري، ويعتبر تسلم العميل (الشيك) قبضًا حكميًّا لمضمونه وإذا تمَّ ذلك في المجلس فإنه يعد بمثابة التقابض في البدلين قبل التفرق.
سادسا: إذا اشترى شخص من مصرف نقدا بنقد آخر، وكان المشتري حساب لدى مصرف آخر بنفس العملة التي باعها، فأعطاه أمرا برقيًّا ناجزا (تلكس) بتحويل المبلغ الذي باعه للمصرف الذي اشتراه منه أو لمن ينوب عنه، ثم قبض المشتري في المجلس (شيكا) بمضمون البدل الذي اشتراه من المصرف المشتري أو قيده المصرف في حسابه لديه أو أرسل المصرف برقية (تلكس) لبنكه المراسل يأمره حالا بتحويل ذلك المبلغ لحساب المشتري أو لحساب مستفيد آخر طلب المشتري الدفع إليه في مصر ثالث، فيعتبر ذلك كله إقباضا حكميا للنقد الأول من المشتري للمصرف، وللنقد الآخر من المصرف للمشتري، وينزل التعامل بهذه الكيفية منزلة التقابض الناجز بين البدلين في الصرف.
هذا ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام قرار مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي لرابطة العالم الإِسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة في مكة المكرمة في 16 رجب 1409 هـ في بعض التطبيقات المعاصرة للقبض الحكمي للأموال، حيث نظر في موضوع صرف النقود في المصارف هل يستغنى فيه عن القبض (بالشيك) الذي يتسلمه مريد التحويل؟ ثم هل يكتفي بالقيد في دفاتر المصرف عن القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى مودعة في المصرف؟ وبعد البحث والدراسة قرر المجلس بالإِجماع ما يلي:
الرئيس:
بالأكثرية وما أتي بالقرار من الإِجماع غلط. المنشور جاء فيه (بالإِجماع) لكنه غلط بل هو بالأكثرية.
الشيخ نزيه حماد:
نعم … إذن هو بالأكثرية.
أولا: يقوم تسلم الشيك مقام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقود في المصارف.
ثانيا: يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض، لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى، سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف أو بعملة مودعة فيه.
وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. وشكرا.(6/570)
الدكتور درويش جستنيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
معالي الرئيس، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الواقع أنه لقد سبقني الأستاذ عبد اللطيف الجناحي فيما يتعلق بكثير من صور التجارة الدولية. وفي الحقيقة أريد أن أختصر وأريد أن أقترح اقتراحا، أما فيما يتعلق بالاختصار فهو أن التجارة الدولية في هذه الأيام تمتاز بالسرعة – كما قال – وتمتاز أيضا بتقلب الأسعار، فكي يستفيد المشتري من تقلب الأسعار وهي فورية بين منطقة في طرف العالم ومنطقة أخرى في طرف العالم الآخر، فإنه بهذه السرعة يستطيع أن يحصل بل إنه يبيع قبل أن يشتري. فإذن هناك عدد من الصور وأنا أقترح أن توكل للبنوك الإِسلامية فرصة لجمع عدد من الصور الرئيسية التي يمكن أن تعرض على المجلس حتى يتخذ فيها قرارات منفردة، لأنه ليست فقط السلع التي يقع بها التعامل ولكن الخدمات تباع أيضا، وتباع من الباطن.
وهذه مسألة مهمة وعلى مستوى العالم وتطبق في كثير من البلاد الإِسلامية. البيع للسلعة أو للخدمة من الباطن من قبل الاستلام أو من بعده أنا أعرف حالات السوق العالمية، مثلا تجارة الإِسمنت: يبيع الإِسمنت على شركات قبل أن يشتريه من المصدر لأنه يريد أن يتأكد من أنه يحصل على كمية كبيرة من أطنان الإِسمنت بسعر معين في ميناء معين في وقت معين، وهذه حالات تمت وأعرف عنها، فإذن أقول: إنه لا بد لكي يقر المجمع مسائل محددة أن ينهج كما نهج البنك الإِسلامي للتنمية حيث أعطى للمجمع صورا محددة للتعامل وطلب رأيه فيها. وقد سبق للمجمع أن أصدر فتاوى للبنك الإِسلامي للتنمية في مثل هذه القضايا. فالتقابض بشكل عام ربما يهم، في التصور، الأكادميين أو رجال الشريعة لكن في التطبيق العملي لرجال الأعمال أو للبنكيين أو الاقتصاديين تكون المسألة أصعب من ذلك بكثير. ولذلك أقترح على المجلس راجيا منه على أن مثل هذه الموضوعات يوضع لها عدد من الصور وتعرض في لجان متخصصة ثم تعرض في النهاية على المجلس. وشكرا.(6/571)
الشيخ المختار السلامي:
بسم الله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. المواضيع التي طرحت اليوم على بساط النظر. والتي أعتقد أن من أعقد القضايا فيها هي التسوية بين الطعام وغيره وهل كل المبيعات لا يجوز بيعها إلا بعد أن تقبض فعلا؟ أو أن هذا خاص بالطعام؟ ووقع الحديث في الاستناد إلى الأحاديث التي رويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحيح منها هو تخصيصه بالطعام. وقيل: إنه يستفاد أن غير الطعام يجوز بيعه قبل قبضه اعتمادا على المفهوم، وأعتقد أن المفهوم هنا هو مفهوم اللقب. ومفهوم اللقب لم يقل به إلا الدقائق. ولكن غير المنطوق مسكوت عنه، والمسكوت عنه داخل تحت قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فجميع صور البيع هي حلال إلا ما دل الدليل على تحريمه، والتحريم ضبط في بعض القضايا كقضايا عين، وضبط بقرائن، ومن ذلك الغرر والغرر يختلف باختلاف الأزمنة، فتطور التجارة العالمية اليوم وما تم بين التجار في أنحاء العالم نفى كثيرا من الغرر عن أنواع كثيرة من البيوعات وهو ما يجعل أنه لا يتجاوز بالنص غيره إلا في الحدود التي يتحقق فيها الغرر فعلا، ذلك أن الغرر هو يؤدي إلى الخصومة وتؤدي الخصومة إلى النزاع وتفريق شمل المسلمين. واليوم تقع هذه البياعات دون أن يترتب عليها أي غرر من ناحية، ومن ناحية أخرى لا تدخل تحت قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . بقي: لماذا خصص الطعام؟ خصص الطعام لأمر واضح، وهو ما ينادي به كل الناس اليوم، بالأمن الغذائي، فإن التقابض في الطعام يجعل الطعام ظاهرا بين أعين الناس ينتقل من مكان إلى مكان وتجري فيه المكاييل ويطمئن الناس إلى وجوده. فإذا وقعت فيه المضاربات وبيع بدون أن ينظر الناس إليه تلهف الناس على وجود الطعام ……… في النقد وفي الطعام، خصت الشريعة الطعام والنقد بأحكام لم تخص أو لم تعطها أو لم تعممها لغير الطعام والنقد لما بيناه فلم تبح أي عبث في النقد باعتبار أنه هو القيم التي يعود إليها البشر فلا يجوز أن يقع فيها عبث. فاحتاطت الشريعة في النقود واحتاطت الشريعة في الطعام، وأما في غيره فلا أرى أنه يجري فيه ما يجري على الطعام، وخاصة أننا نجد أن الفقهاء لما تحدثوا على البيع على البرنامج والبيع على الصفة هم كلهم استدلوا واستندوا لمن أجاز هذه الأنواع من البيوع، استندوا إلى أنه لا يقع فيها غرر ولا خصومة.(6/572)
ما تفضل به صديقنا الفاضل الدكتور نزيه حماد يؤكده هو أن العملات تتذبذب تذبذبا كبيرا ولا يكاد يوم يمر دون أن تتغير قيمة العملة، لكن إذا وقع القيد أو وقع الشيك أو تم، فإن القيمة لا تتغير بمعنى أن الشيء أصبح باتا، ولذلك اعتبرت هذه التصرفات كلها قبضا، باعتبار أن الإِنسان إذا قبض شيئا دخل في ذمته ولا يتغير ما عنده، والتغير إذا كان للأسفل هو الذي يخسر، وإذا كان للأعلى هو الذي يربح، فكذلك إذا وقعت في هذه القيود البنكية، وبناء على هذا فبيع السلع في البحر وتداول البيوعات عليها إذا انتفى فيها الغرر وانتفى فيها موجب الخصومة فإنه تيسير على الناس يدخل تحت قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . وما كان يقع فيها من الغرر في السابق حسب السنن التي جرت عليها التجارة العالمية اليوم ذهبت كل تلك الأنواع من التغرير ومن الغرر، وإن كان يقع فيها بعض أشياء قليلة إلا أنها تلغى، وهي كشأن النقود فالنقود فيها الزائف ولكن الزائف قليل، وهذا القليل يعتبر لاغيا ولا ينظر إليه لأنه أقل من القليل وكذلك هذه الصفقات التي تقع. وعلى كل بجانبنا هنا الاقتصاديون فهل يعلمون أن البيع على هذا وقع فيه غرر وخصومات؟ فإن كان وقع فيه خصومات ووقع فيه غرر كثير أو انتشر أو مما يخشى منه فأنا أسحب هذا الرأي، وشكرا والسلام عليكم.(6/573)
الدكتور رفيق يونس المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم:
الحقيقة أن هذه المسألة المعروضة في هذا المساء (القبض) بدت لي من أهم المسائل المعروضة على هذه الدورة من الناحية الاقتصادية ولدى اطلاعي على الأوراق المقدمة في الموضوع أنا أثني على ما قاله الرئيس وقاله أيضا غيره بأن هذه الأوراق كما بدت لي تنقسم قسمين وهذا ربما يكون فيه فائدة لما يستقبل من الزمان في الدورات القادمة إن شاء الله، فورقة أستاذنا الدكتور الصديق الأمين تحدث فيها عن البيع قبل القبض وبدا لي أن هذا الموضوع مختلف عن عنوان البحث (القبض وصوره وبخاصة المستحدثة منها) وقد ردنا في هذه الورقة إلى ما ذكره في كتابه القيم "الغرر وأثره في العقود"، ونحن نتمنى في الواقع، بالنسبة للمستقبل أن تكون الأوراق جديدة، وأن تكون هذه الأوراق أيضا على الأقل مكيفة بحسب الموضوع المعروض، اللهم إلا في نهاية بحثه في الورقتين الأخيرتين ربما تعرض فيهما إلى شيء عن القبض كما يجري في المصارف الإِسلامية، وربما يكون هذا الموضوع أيضا متعلقا بالقبض هل يحدث أم لا يحدث؟ وهذا الموضوع أيضا بدا لي أنه مختلف عن موضوع صور القبض المعروض في هذه الدورة، وهناك أيضا أوراق أخرى دخلت مدخلا يبدو لي أن هذا المدخل أفضل وهو مدخل التعرض إلى صور القبض القديمة، ولكن كنا نتمنى من الإِخوة الكرام أن يمهدوا بهذا المدخل وأن يستفيضوا في الصور المستحدثة لكننا عندما وصلنا إلى الصور المستحدثة، كلوا وملوا وانقطع النفس، وأيضا هناك أستثني ورقة واحدة في الواقع ورقة الشيخ ابن منيع ولعله غائب عن مجلسنا هذا، تعرض فيها إلى مسألة محددة وقد سبق عرضها على مجمع مكة واتخذ فيها قرارا ذكره في نهاية ورقته وما أرى أن هذه الأوراق ما لم تتعرض له أن الصور المستجدة وإن جاء ذكرها في هذه الأوراق إلا أنها في الواقع تحتاج إلى مزيد من المناقشة فأعطي أمثلة كما حضرت لي في الذاكرة: مثلا لم تبين أي ورقة من هذه الأوراق الفرق بين التقابض والحلول في مسألة الربويات هل نكتفي بالحلول أم لا بد من التقابض لا سيما في الأموال الربوية؟ أيضا حتى القرار الذي نقل عن مجمع مكة، ما أدري ربما نحن يكون لنا نظر جديد في الموضوع (فالشيك) كما تعلمون وكما ذكر في هذه الجلسة أحيانا يكون (شيكا) مؤجلا وليس (شيكا) حالًّا فهل نعتبر قبضه كقبض النقود؟ المسألة فيها نظر كبير ثم أيضا حتى (الشيك) الحال الذي نستطيع صرفه في الحال هذا يحتاج أيضا إلى مدة قد يكون (شيكا) داخليا وقد يكون (شيكا) خارجيا وقد ينقضي وقت منذ قبض الشيك فهل أيضا هذا نلحقه ونقول عنه إنه تقابض حكمي؟ ما جرت عليه بعض الأوراق في الواقع أنها صنفت هذا القبض إلى نوعين: حقيقي وحكمي، ثم ألحقت على استعجال كل الصور المعاصرة بالحكمي دون مناقشة مستفيضة للموضوع. أنا في الحقيقة أقترح على المجمع أن تحصر الصور المستجدة كما سبق لنا في بحث بيع التقسيط، وأن تناقش واحدة واحدة وما أدري في الواقع هل هذه المناقشات التي بين أيدينا نستطيع بالاستناد إليها أن يتخذ فيها المجمع قرارا أم لا؟ وأيضا الصور القادمة أنا أطالب الحقيقة الأستاذ الجناحي وأمثاله من الإخوة الكرام أن يوافقوا بها المجمع قبل مدة كافية وأن تعرض هذه الصور تحت أنظار الفقهاء والباحثين الاقتصاديين كي تكون الأوراق المقدمة في الواقع أقرب إلى موضوع الندوة وشكرا وأعتذر عن الإِطالة. شكرا.(6/574)
الشيخ نظام الدين عبد الحميد:
بسم الله الرحمن الرحيم:
لي كلمة مختصرة على تعليق الأستاذ الجليل الشيخ الضرير ذكر أن الحكم المبني على الحديث لا يتغير بالعرف هذا صحيح إذا لم يكن حكم الحديث مبنيا على العرف، أما إذا كان الحكم مبنيا على العرف فإن الحكم يتغير بتغير العرف وهذا ما ذكره أبو يوسف وموجود هذا القول في فتح القدير بشرح ابن الهمام وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(6/575)
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
سأختصر اكتفاء بما دار من تعليقات وخاصة ما يتعلق بالاهتمام بالصور الحديثة لكن أقول بصفة عامة: إن البحوث قد أنجزت قدرا كبيرا من المطلوب في مجال تأصيل القواعد وفي ظني الحكم على الصور الحديثة يحتاج إلى تأصيل واضح للقواعد، ومن القضايا التي يجب أن تولى اهتماما بالغا في هذا الموضوع موضوع الطعام وغيره هل يقصر الأمر على الطعام أم نتوسع به ليشمل كل شيء في مجال البيوع؟ ولعلنا في هذه الدورة ننجز قدرا من المطلوب في مجال تأصيل القواعد وفيما يتعلق في هذه القضية قضية تمييز الطعام عن غيره في هذا المجال ما زالت القضية تحتاج إلى مزيد من التحديد والتوضيح والاعتماد فقط على أن النهي ورد في الأحاديث على موضوع الطعام وإهمال ما ورد برواية أخرى يقوي بعضها بعضا، يحتاج إلى مزيد من الإِيضاح في البيان وبخاصة أن مطالع بعض الأحاديث تشير إلى أنه كان هنالك تبايع في الطعام بالطريقة المخطوءة فلعل هذا هو السبب الذي جاء سياق الأحاديث فيه على النهي عن الطعام بالإِضافة إلى أهمية هذا الموضوع والتداول الواسع في ذلك الوقت بخصوص الطعام، ثم في ظني أن هنالك أحاديث أخرى لم تستقصَ في المسألة فلا في الواقع أن يتم نوع من الاستقصاء الكامل للأحاديث التي وردت في هذه المسألة لتكون بين أيدينا مخرجة من جميع طرقها ليكون حكمنا في هذه القضية واضحا مبنيا على مجمل ما ورد من أحاديث، ثم أشير في الواقع إلى الصور الحديثة، بالنسبة إلى الصور الحديثة لا بد أن ننتبه إلى طبائع العقود، هنا تفضل المجمع وأخذ قرارا واضحا بخصوص بيع المرابحة للآمر بالشراء للطبيعة الخاصة التي يمتاز بها هذا العقد نأيا به عن شبهة الربا أو الوقوع في الربا. ولذلك كان اشتراط القبض بهذا الاعتبار فلا بد في الواقع أن يلاحظ هذا الأمر بخصوص بيع المرابحة للآمر بالشراء، وقد أشرت إلى هذا عند الحديث عن موضوع التمويل العقاري كيف أننا يجب أن ننتبه بالنسبة لموضوع بيع الأراضي وفق هذا العقد إلى موضوع أن الأمر قد ينقلب إلى تمويل بحت بزيادة واضحة متفق عليها مسبقا مما يعني الوقوع في الربا فلذلك كان لي توجه في هذا المجال أن استثنيت مجموعة كبيرة من السلع من أن تقع تحت بيع المرابحة للآمر بالشراء وذلك لخللها أو لأن شرط الضمان يختل فيما يتعلق بها لأن كثيرا من السلع ومنها موضوع التيار الكهربائي – الذي أشار إليه – التيار الكهربائي هنالك جهة تصنع التيار الكهربائي وجهة توزعه فإذا جاءت الجهة الموزعة وطلبت من البنك الإٍِسلامي المؤسسة الاستثمارية الإِسلامية أن يمول لها شراء التيار الكهربائي كيف يمكن أن نتصور القبض؟ وكيف يمكن أن نتصور الضمان واحتمالات الربح والخسارة في هذه الصورة؟ وإذا لم يكن هنالك تعرض لاحتمالات الربح والخسارة بيع المرابحة للآمر بالشراء ينقلب إلى تمويل ربوي بحت يجب أن يحذر منه، وهنالك قضية تحتاج أيضا للتجلية ولعلها تأتي في تأصيل القواعد وهي موضوع الضمان قبل القبض حتى نحدد بالذات ما يتعلق بموضوع الضمان، لأنه أساس حل بعض العقود المعاصرة كبيع المرابحة للآمر بالشراء، أنا أثني على الاقتراحات التي وردت بهذا الخصوص من حيث استقصاء الصور الشائعة في هذه الأيام للتعامل وتوصيفها توصيفا جيدا ثم وضعها بين يدي الفقهاء ليبين الحكم الشرعي على ضوء ما سيؤصل من قواعد في هذا المجال. وشكرا.(6/576)
الشيخ أحمد بن حمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وشكرا لفضيلة الرئيس على إتاحة هذه الفرصة للكلام وإن كنت أكتفي في الكثير مما خطر في بالي لما سمعته من أصحاب الفضيلة المشائخ الذين أدلوا بملاحظاتهم وتعقيباتهم فكان فيه ما يغني عن تعقيبي خصوصا فيما يتعلق بالمعاملات التي استجدت وتحتاج إلى تصور تام، حتى يكون الحكم فيها وعليها حكما صحيحا لأن الحكم على الشيء فرع تصوره وإنما أردت أن أذكر شيئا مختصرا فيما يتعلق بقضية البيع قبل القبض هل هو خاص بالطعام أو هو شامل لغير الطعام؟ ولا ريب أن الخلاف كثير في هذه المسألة بين الفقهاء منذ القديم وإنما تراعى مقاصد الشريعة كما تراعى قواعد الشريعة في رد الجزئيات إليها، ومن مقاصد الشريعة السمحة سد أبواب الفساد، فلذلك نجد في كثير من الأحكام التي جاءت النصوص فيها ما يدل على أن قصد الشارع بها سد ذرائع الفساد وإن من أكبر الفساد الربا ولا ريب أن كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يشير إلى أن هذا النهي إنما كان لئلا يقع الناس في الربا ذلك دراهم بدراهم فقد يريد البائع في مثل هذه الحالة التوصل إلى صورة هي في الظاهر مجردة من الربا ولكن لحسم القصد هي منطوية على الربا لا يريد السلعة نفسها وإنما يريد أن يتوصل إلى الدراهم، وأنا سمعت من فضيلة الشيخ الأمين تعقيبا على فضيلة الشيخ الضرير في قوله بأنه لا يصح أن تجعل هذه الأحاديث التي جاءت ناصة في الطعام مانعا من الاستدلال بالأحاديث الأخرى، سمعت التعقيب، وفي هذا التعقيب ما معناه أنه لا ينبغي أن يقال ذلك لأن أحاديث الطعام متعددة والأحاديث الأخرى معدودة أحاديث قليلة – حديثان – وبجانب ذلك لا يخلوان من مقال، نعم هذا مسلم لو كان هناك تعارض ولكن ذكر الحكم الذي ورد للعموم في بعض الأفراد العام لا يخصص ذلك العموم، فينظر في تلكم الأحاديث أوفي ذينك الحديثين من حيث الصحة والضعف، ينظر من حيث الصحة والضعف لا من حيث جعل تلك الأحاديث التي وردت في الطعام معارضة لهذين الحديثين فترجح الأحاديث الكثيرة على الحديثين القليلين نظرا إلى أن الحكم إذا ورد في أمر خاص، وقد ورد عاما من قبل فإن ذكره لجزء من أجزاء العام أو فرد من أفراد العموم لا يخصص عمومه وإلا فقد وردت أحكام كثيرة في الكتاب وفي السنَّة عامة ثم وردت في نفس الوقت تلكم الأحكام نفسها في أفراد تلك العموم فضلا عن كون الاستدلال – كما قيل – بمفهوم اللقب وإن كان وردت رواية بلفظ "إنما"، ولكن قد يأتي هذا الحصر ولا يقصد به الحصر وإنما يقصد به التأكيد كحديث (إنما الربا في النسيئة) أو نحو ذلك. وشكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله.(6/577)
فضيلة الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
ثلاثة نقاط فقط أريد أن أتحدث عنها اثنتان أمر عليهما مرورا سريعا والثالثة اسمحوا لي أن أقف عندها بعض الوقت.
* النقطة الأولى: ما علق عليه الدكتور حسن الأمين وشكرا للأخ الذي تحدث قبلي فقد أجاب عن هذه النقطة، والواقع أن الدكتور حسن قرأ بعض الكلام ولم يقرأ الباقي هي في صفحة تسعة والعبارة تؤدي تماما ما قاله الأخ الذي تحدث الآن أنا قلت: لا يصح تقديم حديث النهي عن بيع الطعام ولم أسكت على هذا وإنما قلت لأنه لا تعارض بينهما إذ لا مانع من ذكر الشيء بحكم وذكر بعضه بذلك الحكم فالعمل ممكن بكل هذه الأحاديث وهذه هي طريقة الفقهاء في الكلام على الأحاديث إذا كان التعارض لا يمكن إزالته في الحالة التي تؤدي إلى الترجيح فأنا آخذ الحديث القوي ونترك الحديث الذي دونه قوة، لكن إذا كان الجمع ممكنا فلا يطال إلى الترجيح على أنه يمكن أن الدكتور حسن أخذ كلمة (لا يصح) أخذها لوحدها وأشكره على هذا وأقول له: لو بدلناها بـ (لا يتعين تقديم حديث النهي) لعل هذا قد يرضيه.
* النقطة الثانية: أحد الإِخوة قال: لماذا حرم الضرير صورة الشراء بالتليفون؟! هذا لم يحدث بتاتا صحيح وردت كلمة تليفون في حديثي لكن ليس فيها تحريم هي هذه العبارة "والصورتان غير الصحيحتين إحداهما أن يتسلم الموظف الفاتورة المبدئية من طالب الشراء ويشتري السلعة للبنك حسب الفاتورة وقد يكون هذا الشراء بالتليفون"، وهذا جائز لم أقل إنه حرام أو مكروه، ثم يبرم عقد البيع مع طالب السلعة وهذا تقرير للواقع هذا هو ما حدث فليس في حديثي ما يدل على أن البيع بالتليفون حرام أو مكروه.
* النقطة الثالثة: التي أريد أن أقف عندها وهي ما وقف عندها طويلا الدكتور عارض الموضوع وأيده فيها الأستاذ مختار السلامي، الدكتور محيي الدين ذكر أني اعتمدت على أن هذا مبني على مفهوم المخالفة، أنا لم أذكر مفهوم المخالفة وإنما قلت (مفهوم) وقد أغناني الشيخ مختار وبين أن هذا مفهوم لقب. وقد ذكرت هذا في عبارة ابن القيم وهي عبارة واضحة وابن القيم يؤيدها وأنا مع ابن القيم في هذا، وهو أن هذا مفهوم اللقب ولا يؤخذ به، على أني لم أقف عند هذا، وذكرت أدلة أخرى، الدكتور محيي الدين ذكر أن هناك أحاديث صريحة تجوِّز البيع قبل القبض في غير الطعام وهذه نقطة مهمة لو ثبتت ودعاني إلى قراءة بحثه والواقع أني لم أقرأ هذا البحث لأنه سلم إلينا اليوم وقد اطلعت على الصفحات التي أشار إليها فلم أجد فيها دليلا: في صفحة ست وأربعين يقول:(6/578)
ومن جانب آخر إن الأدلة الصحيحة تدل على جواز إجراء بعض العقود على المبيع قبل القبض منها ما رواه البخاري وغيره بسندهم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكنت على ذكر صافٍ لعمر، فقال النبي لعمر: ((بعنيه)) . قال: هو لك يا رسول الله، قال رسول الله: ((بعنيه)) فباعه، فقال: ((هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت)) وقال حيث يدل الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشترى الجمل وأهداه قبل القبض – وهذه عبارة الدكتور محيي الدين – أنا لا أتحدث على التصرف بالهدية قبل قبض الشيء الذي اشتري وإنما أتحدث عن البيع وفرق بين البيع والهدية. البيع عقد معاوضة والهدية عقد تبرع، والعلة في المنع هي الغرر، والغرر لا يؤثر في عقود التبرعات فلا مانع من أن أهدي ما اشتريته قبل القبض بل لا مانع أن أهدي ما لا أملكه بل لا مانع من أن أهدي المعدوم، فالحديث ليس فيه رد على ما ذكرته ثم يستطرد ويأتي بأحوال اثني عشر لابن القيم يقول قد ذكر ابن القيم اثني عشر عقدا أجاز فيها الفقهاء المانعون أيضا بيع الشيء قبل قبضه، وأقول له: أنا واثق كل الثقة من أن رأي ابن القيم في بيع ما اشترى قبل القبض لا يجوز في جميع السلع والصور الاثنتا عشرة التي – أوردها الدكتور محيي الدين – ليس فيها تصرف بالبيع أولها بيع الميراث قبل قبضه هذا ليس تصرفا فيما اشتري هذا تصرف في الميراث وهذا خلاف التصرف فيما اشتري. أنا كلامي أن يبيع الإِنسان ما اشتراه لا ما ورثه، لأن ما ورثه يجوز أن يبيعه لأن هذا لا يدخل في الغرر، إذا أخرج السلطان رزق رجل هذا باع ما رزق لا ما اشترى إذا عزل سهمه فباعه ما ملكه بالوصية، الوصية وقت الميراث ما وقف عليه الموهوب للولد كل هذه ليس فيها صورة واحدة تدخل تحت بيع الإِنسان ما اشتراه قبل قبضه.(6/579)
وأكتفي بهذا وأعود إلى كلام الأستاذ السلامي، الأستاذ السلامي جعل العلة هي الغرر، وأنا ذكرت علة النهي عن بيع الإِنسان ما اشتراه وقلت هي الغرر والربا. وقد تحدث بعض الإِخوة في موضوع الربا، الربا هذه علة نص عليها المالكية قالوا إن العلة هي الربا ونص عليها من قبلهم ابن عباس كما ذكر أحد الإخوة. وقد أثبته في بحثي ونص عليها أيضا أبو هريرة والصحابي الذي معه عندما ذهبا إلى مروان فهذه هي أكثر من علة: واحدة: الربا. والثانية: الغرر، والغرر هذا ما عليه جمهور الفقهاء الأئمة الثلاثة يمنعون بيع ما اشتري قبل القبض ويعللون ذلك بالغرر إنما يختلفون هم في نوع الغرر، وكله يرجع إلى عدم القدرة على التسليم، الغرر هذا ناشئ عن عدم القدرة على التسليم، وابن القيم وأظن ابن تيمية والحنفية يقولون: غرر الانفساخ، ولذلك جوزوه في غرر الانفساخ بالهلاك قبل القبض لذلك جوزوا التصرف في العقار ولم يجوزوه في المنقول، ابن القيم أضاف علة أخرى تقول العلة تأتي أن البائع الأول إذا رأى أن السلعة ارتفع سعرها يتحايل، فيؤدي هذا إلى التشاحن والعداوة وأنا ذكرت هنا أيضا علة هي من عندي علة ثالثة هي: أن بيع الإِنسان ما اشتراه قبل قبضه يؤدى إلى ارتفاع الأسعار – عند عنوان في البحث في العلة في منع البيع أي نعم – هي التي أضفتها في النهي عن بيع السلع قبل قبضها إيجاد فرص للعمل وهذا مطلوب للشارع وذلك لأن بيع السلع قبل قبضها حرمان لعدد كبير من العمال الذين يقومون بالكيل والحمل إلى آخره، فثم أن بيعها قبل قبضها يترتب عليه ارتفاع الأسعار ولا يستفيد منه سوى التجار ترتفع أسعار السلع وهي في مكانها فتعود الفائدة كلها إلى طبقة التجار، العامل لا ينال من هذا شيئا والمستهلك لا ينال من هذا شيئا وينالهما ضرر ارتفاع الأسعار وهذا معنى اقتصادي أرجو أن ينظر إليه رجال الاقتصاد، هذه كلها أسباب تدعوني إلى أن أقول: إن المنهي عنه ليس هو الطعام وحده وإنما الطعام وجميع السلع لأن العلة متحققة في الجميع. شكرا.(6/580)
الدكتور محمد نبيل غنايم:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أرى أن جميع الصور التي تفضل بذكرها الأستاذ عبد اللطيف والأستاذ درويش من صور البيع المستحدثة تعتبر صورا جديدة ومعاملات لم يكن لها وجود أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بعده بأزمنة عديدة حتى عصرنا الحاضر، ولذا ينبغي الأخذ فيها بالعرف ومقاصد الشريعة الإِسلامية، فإذا كان العرف يقر تلك الصور ويعتبر التقابض فيها قائما فلم لا نقرها؟ بل هي معاملات واقعة فعلا وقائمة كما تفضل الأستاذ عبد اللطيف وإذا كنا اعتبرنا الشيكات والقيد على الحساب ونحوها من الصور التي تفضل بها الدكتور نزيه في النقدين فلم لا تعتبر المستندات الأخرى كبوليصة الشحن ومستنداته ونحو ذلك مع أن النقدين من الربويات وهذه الصفقات ليست من الربويات وبخاصة أنها تسهل على المسلمين وتحقق لهم مكاسب تجارية طيبة.
وإذا كان الشيخ الصديق قد أجاز الصفقة الأولى بمستند الشحن فلم لا يجوز ذلك في الصفقات التالية؟ وجميع الصفقات أو المواصفات تخضع لنفس القانون وهو بيع الغائب على الصفة. وقد أجزنا في الصباح إجراء العقود بآلات الاتصالات الحديثة وهذه الأجهزة تنفي الغرر الذي يتخوف منه، بل إنها تحدد الأوصاف المطلوبة بصورة دقيقة وإذا كان ذلك غير مقبول في الطعام للأحاديث الواردة خوفا من الاحتكار وغلاء الأسعار ولأن الطعام من الضروريات فلم لا يجوز في الأجهزة كالسيارات ومواد البناء وخلافها مما لا يقع فيه الاحتكار والضرر؟ وخصوصا أن الدكتور إبراهيم قد سأل عن بعض الإِيصالات التي تقدمها الحكومة وهي أمور مضمونة في شراء الإسمنت والحديد وغير ذلك من مواد البناء ولذا فأنا أؤيد الشيخ المختار فيما تفضل به من إقرار مثل هذه الصور التي تخلو من الغرر. وشكرا.(6/581)
الدكتور عبد الكريم اللاحم:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله.
إن بيع البضاعة في الشاحنة لا يفترق بين بيع البضاعة في المخزن إِن لم تكن البضاعة في المخزن أبعد عن الغرر من البضاعة على الشاحنة في البحر، والضرير تعرض للمشتري الأول وفصل فيه ومنع بيع المشتري الثاني ففي المشتري الأول إن كان تسَلَّم عند الشحن جاز له البيع لأنه تسلم وقبض وأما إذا لم يستلم فإنه لا يجوز له. وأما المشتري الثاني فإنه لا يجوز له لأنه لم يحصل له القبض من بعيد ولا قريب فالمسألة ليست جديدة بل هي جديدة في صورتها وتعامل الناس بها وهي قديمة في معناها لأنه لا تختلف البضاعة من مكان إلى مكان أو من شاحنة إلى مخزن، ولعل المجمع يتورع عن أن يفتح باب بيع السلع قبل قبضها وحوزتها لأنه يؤدي إلى أن تكون دراهم بدراهم بينهما سلعة في مكانها لا تتحرك ولا يستفاد منها إنما يستفيد التاجر فقط كما أشار الأستاذ الضرير ولا يستفاد من هذه البضاعة وليس المقصود بالتعامل بيع الشاحنة عدة مرات المقصود بها الدراهم فإذا كنا نستصعب في مسألة التورق بيع البضاعة التي اشتراها مريد النقود قبل أن يقبضها ونمنع ذلك فإن هذا بالمنع أولى. وشكرا.(6/582)
الشيخ أحمد جمال:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
سبقني الأستاذ نبيل وسماحة الشيخ المختار فعرضا ما أردت أن أقوله كنت أريد أن أضع القاعدة لهذه البيوع فأقترح أن تبنى الإِباحة لها على قاعدة القبض الحكمي، يسري على هذه البيوع القبض الحكمي، فعلا ليس هناك قبض ولا تسليم قبض حقيقي، لكن أرجو أيضا مع الإِخوة الذين تفضلوا بالاحتياط والتحفظ أن تحصى هذه البيوع الحديثة وأن يدرس ما قد يحيط بها من شبهات. أما أنها أصبحت ضرورة واقعة غالبة للتجارة الحديثة ولا يمكن أن يستغنى عنها لا في المجتمعات غير الإِسلامية ولا في المجتمعات الإِسلامية، أرى كما سبقني الإِخوة إلى أنه ينبغي أن تباح هذه البيوع على أساس القبض الحكمي وبموجب الصكوك أو المستندات التي يتبادلها المتبايعون في هذه الصفقات لكن مع التحوط والاحتفاظ. وشكرا.(6/583)
الشيخ الطيب سلامة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الواقع أن شريعتنا الإِسلامية السمحة غنية بما فيها من أحكام صالحة لكل الأزمان وهذه الكلمة نقولها ونرددها وندافع عنها.
وقد جرى سلفنا الصالح على أن ينظر إلى الجزئيات والمستحدثات من الأمور، ولا يخلو عصر من العصور إلا وله مستحدثاته، ينظرون إلى هذه الجزئيات من خلال مقاصد الشريعة، وبذلك يحلون ما لا ضرر فيه وما تحققت به المصلحة وما فيه تيسير على الأمة، والعكس بالعكس، فنحن اليوم أمام قضايا مستحدثة لم تجدَّ من قبل، وبعضها قد فشل العمل به فكيف السبيل؟ السادة العلماء الأفاضل قد ذكَروا العديد من هذه المسائل، لا أريد أن أعود إليها إلا بتعليق بسيط على قضية الشيكات ثم أمضي إلى موضوع آخر. إن الشيكات ليست دائما وأبدا مضمونة فلا بد إذا اتخذنا قرارا في قضية الشيكات لا بد من التفصيل فيها تفصيلا يقوم على استقصاء أنواع الشيكات لأن من الناس، وعددهم كثير، من يمسكون دفاتر شيكات ولكنهم لا يملكون شر نقير في بنوكهم، ويقدمون الشيكات إما من باب التغرير بالناس وهو ما يسمي الشيك بدون رصيد، أو يقدمون هذه الشيكات على اعتبار أنهم نزهاء باعتبار أنها رهون. ولذلك يقول لمن يقدم له الشيك: لا تقبضه لأنه مؤجل وعندما يحين الأجل، أنا أعطيك النقد وترجع إليَّ الشيك. وهذا لا يمكن بحال أن يعتبر هذا الشيك قبضا. بطبيعة الحال هذا لا يقارن بالشيك المصادق عليه الذي فيه ضمان من البنك بأن مال هذا الشيك مرصود وهو على ذمة صاحبه، وبطبيعة الحال لا يقارن هذا بالشيكات الصادرة عن المؤسسات الرسمية ولا عن المراجع الحكومية، هذه تعليقة عابرة تخص الشيك وإنما أردت أن أصل إلى أننا سواء قلنا بجواز بيع السلع، دون الطعام، قبل قبضها، أو عممنا وأخذنا بالرأي الذي يعمم بأن جميع السلع ينبغي إلا تباع قبل قبضها، فنحن واقعون اليوم في قضية جرى بها العمل بين الفلاحين وهي قضية بيع الطعام قبل قبضه، وصورة هذا أن الفلاحين يشترون البذور من الدولة، الفلاح ينتج القموح ويبيعها، ولكنه عند إرادة البذر في أغلب الأحيان يطلب الفلاح بأن يغير البذور حتى تكون نتائج البذر طيبة.(6/584)
والذي يتكفل بإعداد البذور الجديدة والصالحة للبذر هي الدوائر المسئولة، سواء كانت في المؤسسات التي تؤلفها الدولة أو دواوين تكونها الدولة وتتولى هذا الأمر، هذه الدواوين لا تستطيع عمليا أن تجعل البيع يدا بيد يعني الثمن والمثمن بدون نسيئة وإنما تعمد هذه الدواوين، يكون هناك ديوان وحيد ويتعامل مع تعاضديات جهوية، يبيع لها بحسب كل منطقة كميات من الحبوب تكفي الفلاحين، ثم تتولى هذه التعاضديات الاتصال أو يتولى الفلاحون الاتصال بهذه التعاضديات، ويتسابق الفلاحون للاتصال بهذه التعاضديات للحصول على منابهم من البذور حتى لا يقال لهم أن هذه البذور قد انتهت أو انتهى المعروض منها للبيع، حينئذٍ الوقت لا يتسع بالنسبة للفلاحين ولا بالنسبة للتعاضدية ولا بالنسبة للديوان في توزيع هذه الكميات فيقع البيع عن طريق وصولات، ولذلك يذهب الإِنسان للتعاضدية يدفع الثمن ويأخذ وصلا وينتظر إما التعاضدية حتى تأتيه بالكمية التي اشتراها بعد أيام، أو أنه يأخذ شاحنته ويذهب بنفسه إلى مكان الديوان وإلى مستودعات الدواوين ليتسلم بضاعته مقابل هذا الوصل الذي يعتبر وصلا موثوقا لأنه مسلم من مرجع حكومي تقريبا. حينئذٍ على مجمعنا المحترم أن ينظر في مثل هذه القضية، قضية بيع طعام ولكن لا يسلم الطعام عند بيعه من طرف التعاضدية بل يباع الطعام قبل قبضه ولا يسلم إلا بوثيقة، فهل يجوز أن نعتبر أن هذا قبض معنوي وهو داخل في القبض المعنوي هذا السؤال المطروح، أنا رأيي أنه تسهيلٌ وأنه إذا لم نقل بهذا فلا وجه بأن نمكن هؤلاء الفلاحين من القيام بأشغالهم وأعمالهم، وقد يؤول الأمر إلى خطورة وإلى أن نفوت عليهم مصالحهم، وكيف يمكن أن نعمد إلى هذا ونحن نروم ونسعى إلى الأمن الغذائي؟ وقضية أخرى في التعامل بين الفلاحين في البلاد الإِسلامية وبين جهات خارجية، إن ما نصدره من منتجات فلاحية بعد تصنيعها وبعد تعليبها هي في الواقع تباع قبل قبضها، لأن صاحب المعمل، الذي يعلب الطماطم مثلا أو أي نوع من أنواع الخضراوات التي يصدرها إلى أوروبا، هو يتعاقد بشأنها مع الخارج قبل أن يشتريها من الفلاحين ولذلك ماذا نقول لصاحب المصنع؟ نقول: انتظر حتى يبدو صلاح هذه المنتوجات لتشتريها ثم تصنعها ثم تبيعها بعد ذلك، فيقول فاتتني الأسواق، وإذا كان الأمر على مثل هذا فأنا أبقي المصنع مغلقا ولا أشتريها.
أنا أرى إذن أن هذه القضية من القضايا التي الحل فيها صعب وتخريجها قد يكون أصعب من الوجه الأول، ولكن لا بد أن نجد لها حلا حتى نعلم الناس أمر دينهم وماذا ينبغي أن يعملوا وأن يصنعوا، وكثير من أصحاب هذه المصانع يتقدمون إلى العلماء ويقولون أفيدونا يرحمكم الله، نريد أن نتبع دين الله. وعن قضية الأموال وقضية تنمية الثروة لا تغنينا من الله شيئا فنحن نحب أن نسير في طريق تنمية الثروة وطريق العمل ولكن نريد العمل الحلال وقضايا أخرى أكتفي بذكر هذا وأسأل الله تعالى أن يلهم الجميع الصواب. وشكرا.(6/585)
الشيخ عمر جاه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فضيلة الرئيس، سوف أكون مختصرا إن شاء الله، أريد أن أشير فقط ولا أريد أن أكرر نفسي لأن القضايا التي كنت أريد أن أتناولها قد تناولها غيري من المتدخلين أشير إلى ما تفضل به الأخ عبد اللطيف والأخ درويش إلى الصور المستجدة في ساحة التجارة الدولية وأريد أن أنبه أيضا وأنبه نفسي أولا أن العالم الإِسلامي جزء من العالم والمسلمون يتعاملون مع غيرهم، فبالنسبة لهذه الصور المستجدة أنا أرى على الرغم من أن هناك محاولة للتفريق بين المواد الغذائية والمواد غير الغذائية في هذا التعامل إلى أن طبيعة التجارة الدولية في الوقت الحاضر والنظم المتبعة والأشياء المعروفة لدينا جميعا تشير إلى أن التاجر المسلم الآن في كثير من البلدان في صور أنا أعرفها معرفة شخصية أنه لا يمكن أن يتعامل إذا أصررنا على أن يتم القبض قبل البيع، ذلك لأن التاجر الذي يشتري آلاف الكيلو مترات آلافا من الأطنان هذا لا يقبض قبل أن يدفع الثمن، هذا تاجر يدفع عن طريق البنك ويبيع قبل أن تصل إليه البضائع والذي يشتري يبيع قبل أن يقبض هو أيضا لأن طبيعة الأمور تقتضي أنه إذا كان سيظل في السوق أن يتعامل بهذه الكيفية وأعتقد أن مهمتنا هنا هي تسهيل الأمور، ولذلك أمثل إلى ما تفضل به الشيخ السلامي على أنه إذا لم يكن هناك ضرر واضح ولا غرر واضح ولا فساد ولا خصومة لأن هذه العملية بدأت منذ سنوات عديدة فم نرّ أو لم نعرف أن هناك خصومة أو أن هناك غررا في هذا التعامل ذلك لأن التاجر الذي يشتري بضمان من البنك يجد ضمانا من التاجر الذي يشتري منه أيضا أن يدفع إليه المال ويقبض منه فاتورة القبض ولو كان هناك مشاكل تقتضي إصدار فتوى ضد هذه لظهرت هذه المشاكل وأعتقد أن من واجبنا أي الواجب علينا أن نسهل للمسلمين الذين يعيشون على هذا ويحتاجون إليه والذين لا يجدون بديلا غير هذا البديل إننا نتوجه إلى استخراج فقهي نحافظ به على روح الشريعة مع المحافظة على مصالح هؤلاء الناس ولذلك أؤيد تأيدا كاملا ما ذهب إليه فضيلة الشيخ السلامي فيما يخص هذا الأمر. وشكرا.(6/586)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم:
سأتشجع وأحمل النفس عل ى ما تكره واختلف مع أخي فضيلة الشيخ السلامي القضية خطيرة للغاية إذا قلنا: إنه من بيع الغائب على الصفة فمعلوم أن المبيع في ضمان البائع إلى أن يسلم للمشتري وأن المشتري له خيار الرؤية وأن أي عيوب يتحملها البائع. هنا البيع الذي يتكرر في البحر من الذي يتحمل هذا؟ من الناحية الواقعية عندما أردنا أن نكتب عقدا لهذه البيوع اشترطنا في العقد أن البنك لا يقوم بالبيع إلا بعد وصول السلعة إلى مكان التسليم، حدث الآتي: بعض الأشياء الواقعية ليرى فضيلة الشيخ السلامي كيف أن الأمر فيه ضرر وغرر وخلافه وأشياء كثيرة، الباخرة تحمل السلعة وفي ميناء معين تم الحجز عليها لخلاف بالنسبة للجهة المعينة ومالك البخارة، ونتج عن هذا أنْ تأخرت السلعة وخسر البنك فعلا خسارات معينة إلى أن وصلت السلعة، من يتحمل مثل هذه الخسارة لو أن اليبع تم عدة مرات في داخل البحر؟
الشيخ مختار السلامي:
الأول، بالطبع.
السالوس:
من الأول؟ الأول الذي اشترى كيف باع ما لا يضمن؟! وكيف يربح ما لا يضمن؟! السلعة التي وصلت وصلت معيبة العيب الظاهر والعيب الخفي من يتحمل هذا، السلعة إذا كانت مخالفة للمواصفات من يتحمل هذا؟ ولذلك القضية خطيرة للغاية وأضم صوتي لصوت الإِخوة الذين قالوا بأن الصور المعاصرة تجمع وتبحث كاملة في ندوة أخرى، الجزء الأول استوفاه الباحثون الإِخوة الكرام جزاهم الله خيرا وهي المسألة الفقهية القديمة، أما بالنسبة للجزء الثاني الصور المعاصرة تحصر وتجمع ثم تكتب فيها أبحاث وتلحق هذه الصور بأصلها وتناقش مناقشة علمية مستفيضة بدلا من أن نتعجل ونصدر قرارا في هذا لأن القضية أرى أنها من أخطر ما يمكن بيع الأشياء في البحر بهذه الصورة. وشكرا.(6/587)
الشيخ وهبه الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
المعروف أن لدى فقهائنا أربعة آراء في هذا الموضوع، فرأي الشافعية أنه لا يجوز بيع الشيء قبل قبضه إطلاقا لوجود الغرر ورأي أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يجوز بيع العقار قبل القبض لانتفاء غرر الانفساخ فيه ولا يجوز ما عدا ذلك، والمالكية لا يجيزون بيع المكيل والموزون قبل القبض، ويجوز بيع ما عدا ذلك فهم يجيزون بيع ما عدا الطعام قبل القبض ولا يجيزون بيع الطعام قبل قبضه هذا ما هو المعروف لدى فقهائنا، أريد التذكير فقط والكل يعرف ذلك، لكني شدِهْت في أن المناقشات تدور الآن حول اتجاهين: أحدهما في أقصى اليمين والآخر في أقصى اليسار، اتجاه يمنع بيع الشيء قبل قبضه احتراما للأحاديث الواردة الصحيحة في هذا الموضوع وواضح أن فقهنا كله ينبني على هذا الاتجاه، أما الاتجاه الآخر وهو جواز بيع الأشياء كلها قبل القبض ما عدا الطعام يعني – هذا رأي المالكية الحقيقة – هذا يفتح منفذا خطيرا يؤدي إلى إقرار كل ما تجيزه القوانين الحديثة من المضاربات الكثيرة في البورصات وفي الأسواق المالية ويؤدي ذلك إلى أننا لا نختلف أي اختلاف عن هذه الأعراف السائدة فلا يجوز أن يكون ضغط المعاملات الحديثة مغيرا لأحكام الشريعة فأرجو التوسط والتمهل في الأمر وعدم التعجل أو إلقاء النظرة العاجلة في هذا الموضوع لأنه يؤدي إلى مخاطر وهو ينسف كثيرا من القواعد التي يقوم عليها فقهنا.(6/588)
الشيخ سعود مسعد الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أريد أن أتكلم عن موضوع الشروط التي أشار إليها بعض الأساتذة الأجلاء في الشيك أو التساؤلات التي طرحها بعض الأساتذة على موضوع قبض الشيك وكون اعتباره قبضا لمحتواه، فهم قد اشترطوا ومنهم الدكتور علي السالوس في كتابه المعروف " استبدال النقود " أن يكون الشيك مؤرخا للسحب في اليوم نفسه وأن يكون محدد المبلغ وأن يكون له رصيد تام، فهذه قد أجيب عليها في الأبحاث ونقلناها من بحث الدكتور السالوس. أما الاستدلال لكون التخلية قبضا حكميا يكتفي به عن القبض الحقيقي ففيه عدة أدلة في الحقيقة ذكرتها وذكرها الدكتور القره داغي.
منها ما ورد عن ابن عمر – رضي اللهم عنهما – قال: كنت أبيع الإِبل في القيع بالدنانير وأخد مكانها الورق وأبيع بالورق وآخذ الدنانير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء)) ، وفي هذا دليل على جواز الاستبدال عن الثمن الذي في الذمة وهو تصرف فيه قبل قبضه قبضا حقيقيا والثمن أحد العوضين.
الدليل الثاني ما ذكره الدكتور كذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى من جابر بن عبد الله جمله ثم نقده ثمنه ووهبه له وهذا تصرف فيه قبل قبضه.(6/589)
والدليل الثالث كذلك عن ابن عمر وهو ما ورد في البكر، وقد ذكر، ثم ابن القيم رحمه الله له كلام جيد قيم استقيته من كتابه إعلام الموقعين، يقول رحمه الله: الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فإذا نظرنا إلى معاملات الناس اليوم في هذا العصر وترابطها مع معاملات أخرى قلنا تفريعا على قول الحنفية والشافعية في القول الذي نقله حرملة وقول عند الحنابلة وقول عند المالكية أن الاكتفاء بالقبض الحكمي جائز ولا ضير في ذلك إن شاء الله وهو تفريع على قول قوي له أدلته التي ذكرناها. أما ما ذكرناه في البحوث من تفريع للصور المستجدة على القبض الحكمي فينبغي تقييد هذا التفريع بأن المقصود به هو البيوع العاجلة الحالة، أما البيوع الآجلة كالسلم والاستثناء فليست داخلة في هذه الصور التي ذكرناها كذلك ما من تداخلات من بعض الأساتذة الكرام كالدكتور عبد الكريم وغيره من الأساتذة الكرام الذين أثاروا تساؤلات كثيرة عن أعمال البورصات وما يرد عليها فأعمال البورصات من المعلوم أن غالب الصور فيها بيع ما لم يملك وبيع ما لم يملك غير داخل في هذه البحوث التي قدمناها حيث إن البحوث محصورة في قبض ما ملكه الإِنسان وباعه وأعطى ورقة الشحن أو ورقة الإِبداع في مخزن من المخازن وهذا تفريع على القبض الحكمي الذي قال به جمهور من الفقهاء قديما وحديثا وقد ذكرت هذا في البحث نتيجة لبحث قدم في جامعة أم القرى رسالة جامعية بذل فيها صاحبها أكثر من أربع سنين وقد استخلصت منه كلاما موجزا بسيطا في هذه البحث، فقلت في قبض أوراق البضائع، الأوراق الواردة على البضائع كوثيقة الشحن (البوليصة) أو سند إيداع متاع أو بضاعة في مخزن عام ليست أوراقا تجارية لأنها لا تمثل مبلغا معينا من النقود يسهل الحصول عليه، ومع ذلك فإنه يتم تداولها بطريقة التظهير، ويعتبر تظهيرها بمثابة قبض للأعيان التي هي وثائق بها، فهذا خلاصة لرسالة بذل فيها صاحبها خمس سنين في جامعة أم القرى وهي مطبوعة وموجودة ونحيل الأساتذة الذين يريدون أن يتوثقوا من هذا إلى هذه الرسالة وهي للعقود الشرعية الحاكمة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وشكرا.(6/590)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذه المناقشات مضافة إلى البحوث خلاصتها مقيدة لدى المقرر فضيلة الشيخ عبد الستار. وفي الواقع أن الذي من أجله رشح البحث وهو الصور المستجدة، وإن كان بعضها أخذ حظه ونصيبه في البحوث إلا أنه لم يأخذ حظه كاملا في المناقشة، لأن التركيز صار على التقعيد الأصل وهو اعتبار القبض في الطعام فقط أو تعميمه وتوظيف العرف، وهل توظيف العرف هو في القبض أو في صفة القبض؟ هذه أشير إليها وهي إشارة جيدة في عدد من كلام أهل العلم الذين جرى نقل كلامهم لكن ما رأيت وما قيدت في المناقشات البحث في توظيف العرف هل هو في القبض أو في صفة القبض؟ على كل قد ترون تأليف لجنة تجمع وجهات نظر التداول في هذا الموضوع وإن شاء الله تعالى الذي يصلون إليه سيعرض في الجلسة الختامية، وتتألف اللجنة من:
العارض الشيخ محيي الدين، والمقرر الشيخ العاني والشيخ الضرير والشيخ سعود والشيخ وهبه والشيخ نزيه والشيخ الجناحي وبهذا ترفع الجلسة.
وصلَّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * * *(6/591)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (55/4/6)
بشأن
القبض: صوره وبخاصة المستجدة منها وأحكامها
إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 – 20 آذار (مارس) 1990م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: "القبض: صوره وبخاصة المستجدة منها وأحكامها".
واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولاً: قبض الأموال كما يكون حسيًا في حالة الأخذ باليد، أو الكيل أو الوزن في الطعام، أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض، يتحقق اعتبارًا وحكمًا بالتخلية مع التمكين من التصرف ولو لم يوجد القبض حسًا. وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضًا لها.
ثانيًا: إن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعًا وعرفًا.
1- القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية:
(أ) إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية.
(ب) إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حالة شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل.
(ج) إذا اقتطع المصرف – بأمر العميل – مبلغًا من حساب له إلى الحساب آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيد آخر، وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإِسلامية.
ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي، للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل. على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلاَّ بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي.
2- تسلم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه وحجزه المصرف.(6/592)
بحث
فضيلة الدكتور محمّد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمَع الفقه الإسلامي الدّولي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مدخل إلى البحث
اتحاد المجلس عند الفقهاء
المراد باتحاد المجلس اتحاد الزمن أو الوقت الذي يكون فيه المتعاقدان مشتغلين بالتعاقد، وليس المراد من اتحاد المجلس كون المتعاقدين في مكان واحد، فمجلس العقد هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مقبلين على التفاوض في العقد، وعن هذا قال الفقهاء: (إن المجلس يجمع المتفرقات) .
وعلى هذا يكون مجلس العقد في المكالمة الهاتفية مثلا هو زمن الاتصال ما دام الكلام في شأن العقد، فإذا انتقل المتحدثان إلى حديث آخر انتهى المجلس، ومجلس التعاقد بالمراسلة أو بالمكاتبة هو مجلس تبليغ الرسالة أو وصول الخطاب، ويجب أن يكون القبول في المجلس الذي وصل فيه الرسول أو الخطاب، فإن تأخر القبول إلى مجلسٍ ثانٍ لم ينعقد العقد، فمجلس التعاقد بين حاضرين هو محل صدور الإيجاب، ومجلس التعاقد بين غائبين هو محل وصول الكتاب أو تبليغ الرسالة أو وصول السفير أو الموفد (1)
المقصد الأول
يمكن حصر الصور لاستخدام الآلات الحديثة للتعاقد غير المراسلة والمكاتبة والمهاتفة: (1) بالتلغراف (البرق) السلكي واللاسلكي، (2) بالتلكس، (3) بـ (فاكسملي) ، (4) بالراديو، (5) بالتلفزيون، (6) بالقمر الصناعي، (7) وبالأنترفون أو ما يقوم مقامه.
وقد تحدث بعض الفقهاء المعاصرين (2) .عن الاتصال بالبرق وأحكام التعاقد به (وهو التلغراف) وتوصلوا إلى أنه كالمكاتبة تماما لكنه أسرع، لكن لا يمتنع الخطأ لذا وجب التثبت بوسائل التثبت الموجودة حاليا كالهاتف وما شابه ذلك، ومثل البرق والتلكسي، لأنه برق خاص بصاحبه من كلا الطرفين.
وأما الفاكسميلي فهو أسرع من التلكس ويأخذ حكمها أيضا.
وأما الراديو والتلفاز والقمر الصناعي فهذه الوسائل كلها فيما يبدو لي لها حكم البرق مع وجوب التثبت من شخصية المتكلم حتى لا يحصل تزييف أو جهالة.
هذا، وستأتي أيام قريبة أم بعيدة تصبح هذه الآلات الحديثة هي محور التعاقد ووسائله الأولى ولا مانع شرعا من ذلك إذا حصل التثبت بوسائله المشروعة.
هذا ما بدا لي والله تعالى أعلم.
***
__________
(1) انظر المدخل الفقهي للأستاذ الجليل مصطفى الزرقا: 171، والبدائع: 5/137، والفقه الإسلامي وأدلته: 4/109 و 365 و503.
(2) هو الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية سابقا في رسالته أحكام التلغراف من مجموع رسائل له، رحمه الله.(6/593)
المقصد الثاني
التكييف الفقهي للموضوع وضوابطه
(أ) التكييف الفقهي للموضوع وضوابطه:
كل الآلات الحديثة الموصلة للتعاقد لا تعدو أن تكون في حالتين اثنتين:
1- الحالة الأولى: إما أن تكون مساوية للهاتف والبرق بالسرعة في الاتصال وقوته ووضوحه.
2- الحالة الثانية: أن تكون أشد من الهاتف والبرق في سرعة الاتصال وقوته ووضوحه.
وقد حكم الفقهاء المعاصرون كالشيخ محمد بخيت المطيعي رحمه الله في رسالته آنفة الذكر بالنسبة للبرق (التلغراف) بصحة التعاقد والتصرفات المالية كلها، ومثل ذلك يقال في الهاتف أيضا وقد نص عليه غير واحد من المعاصرين كما مرّ.
فإذا كانت هذه الآلات الجديدة مثل البرق والهاتف مساوية لها في سرعة الاتصال وقوته ووضوحه كالأنترفون وما شابه، جاز التعاقد وكان ذلك قياسا أو أخذا بمبدأ دلالة النص المساوي (معنى الخطاب) عند أصوليي الحنفية أو ما يسميه الجمهور من أصوليي المتكلمين (مفهوم الموافقة المساوي) ، وإذا كانت هذه الآلات الجديدة أكثر من البرق والهاتف سرعة ووضوحا وقوة حكمنا بجواز التعاقد وسائر التصرفات المالية أخذا بمبدأ دلالة النص الأولوي (فحوى الخطاب) عند أصوليي الحنفية أو (مفهوم الموافقة الأولوي) عند الجمهور من المتكلمين أي صح ذلك من باب أولى. وذلك كالتلكس والفاكسميلي والأقمار الصناعية وما شابه ذلك.
***
(ب) ضوابط الموضوع:
يضبط الحكم بالجواز في هذه المسألة ضوابط ثلاثة استخلصتها بالاستقراء من مدونات الفقهاء.
* الضابط الأول: اشتراط وجود التثبت من كل من المتعاقدين بشخصية صاحبه المتعاقد الثاني وصحة ما تنسب إليه الآلة الحديثة من أقوال وتصرفات، كي لا يدخل اللبس والوهم والتزييف من أحد الطرفين أومن ثالث، ونترك لكل من المتعاقدين أن يتثبت هو من ذلك كله بالطرق التي يطمئن بها قلبه، إلى صحة القول والقائل.
* الضابط الثاني: في حالة وصول الإيجاب ومضي فترة زمنية عادة قبل وصول القبول في بعض آلات الاتصال الحديثة، يشترط أن لا يرجع الموجب عن إيجابه أمام شهود، وإلا بطل الإيجاب وصار القبول الآتي بعد ذلك إيجابا يحتاج إلى قبول، وذلك على قول جمهور الفقهاء، خلافا للمالكية الذين يشترطون لصحة الرجوع عن الإيجاب مضي مدة على وصوله إلى المتعاقد الثاني تكون فرصة له يقرر العرف مداها.
واشترط الجمهور لصحة الرجوع من الموجب شرطين: (1) أن يكون الرجوع أمام شهودِ شُهودٍ، (2) وأن يكون قبل قبول المتعاقد الآخر، ووصول الرسالة أو الخطاب.(6/594)
فمجلس العقد بين الغائبين هو محل وصول الكتاب أو تبليغ الرسالة أو المحادثة الهاتفية أو ما قام مقامهما من الأدوات الحديثة للاتصال… (1) ، فإن تم القبول بعد هذا المجلس لم ينعقد العقد.
الضابط الثالث: أن لا يفهم من الإيجاب (وهو الكلام الأول من المتعاقد الأول) معنى السوم أو الترسمل أو ما شابه ذلك من المعاني التي يرفضها مقتضى العقد، وتحصل كثيرا بين التجار دهاء منهم فيبعثون برقية أو تلكسا أو ما شابه ذلك لا يقصدون من وراء ذلك التعاقد بل معنى تجاريا آخر كمعرفة السعر مثلا أو إظهار نَفَاق البضاعة أو التحدي، ومثل هذه الأمور تكون غالبا في الأدوات الحديثة وعن طريقها لا مشافهة، فحينئذٍ يكون الكلام كله ليس بتعاقد بل يكون ملغى.
خاتمَة
أضع هنا القلم بعد بذل الجهد في تلمس حكم الشريعة في هذه الواقعة، لا أدعي في ذلك الصواب كل الصواب، بل هو محض اجتهاد فيما لا نص فيه ولا حتى قول فقيه، وما كان كذلك فهو اجتهاد جديد، وهو قابل للخطأ والصواب، فإن وفقت للصواب فهو المرجو، وإن لم أوفق فيه للصواب فحسبي منه أجر واحد، وصدق الإمام أبو حنيفة إمام الأئمة الفقهاء حيث يقول (علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه كان أحق) وفي رواية ثانية (قبلناه) . أما حكم الله في الحادثة فما اتفقت عليه أقوال فقهاء العصر، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الدكتور محمّد عبد اللطيف صالح الفرفور
__________
(1) انظر: الفقه الإسلامي وأدلته: 4/108 و364 و 503.(6/595)
بحث
فضيلة حجّة الإسلام محمّد علي التسخيري
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدّولي
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم إجراء العقد بوسائل الاتصال الحديثة:
والمقصود بوسائل الاتصال الحديثة: الهاتف والبرقيات واللاسلكي والتلكس والفاكسميلي وغيرها مما يمكن أن يخترع في المستقبل والجامع بينها أنه ليس هنا محل مكاني واحد يجمع بين الموجب والقابل أو بين طرفي العقد.
ومن هنا يمكن أن يقع بحث حول حكم إجراء العقود بهذه الوسائل.
تحرير محل النزاع:
والظاهر أن النقاط التي تتطلب البحث هي أمور:
أولًا: هل يعتبر في العقد أن يجري بصيغة معينة أو مطلق الصيغة اللفظية أو يكفي فيه ما ينوب عن الصيغة اللفظية من إبراز الإرادة من قبل المتعاقدين.
وهنا يمكن أن تنوب عن الصيغة الإشارة، والكناية اللفظية، والصيغة المكتوبة والعمل نفسه.
ثانيًا: هل تعتبر الموالاة الدقيقة بين الإيجاب والقبول فيشكل الأمر في الكتابة والفاكسميلي والبرقيات وغيرها؟
ثالثًا: البحث عن مصير خيار المجلس.
رابعًا: من حيث إمكان الرجوع وعدمه بعد صدور القبول وعدم وصوله.
وليس علينا هنا إلا التعرض بشكل موجز لكل هذه النقاط مع الإشارة للرأي المختار ليتضح الموقف في النهاية.
* النقطة الأولى: اعتبار الصيغة المباشرة أو كفاية ما ينوب عنها:
يطرح الفقهاء عادة هذا البحث في موضوع المعاطاة إذ يقسمون العقود إلى قسمين: عقد بالصيغة وآخر بالمعاطاة ويتركز فيها البحث عن مدى نيابة الفعل عن اللفظ في تحقيق مقتضيات العقد.
في حين أن البحث يجب أن يتم على ثلاثة مستويات إذا أريد له أن يكون مستوفى أي أن يتخلل البحثين بحث حول مدى إمكان الاستعاضة عن اللفظ الصريح بالإشارة والكناية والكتابة.(6/596)
فهو باب مستقل وإن أمكن القول إنه إذا ثبت إمكان الاستعاضة عن اللفظ بالعمل فإن البحث الثاني سيتوضح الموقف فيه، وعلى أي حال فقد ذكر الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب (إن اعتبار اللفظ في البيع بل في جميع العقود مما نقل عليه الإجماع وتحقق فيه الشهرة العظيمة مع الإشارة إليه في بعض النصوص لكن هذا يختص بصورة القدرة إما مع العجز عنه كالأخرس فمع عدم القدرة على التوكيل لا إشكال ولا خلاف في عدم اعتبار اللفظ وقيام الإشارة مقامه، وكذا مع القدرة على التوكيل لا لأصالة عدم وجوبه (أي التوكيل) – كما قيل- لأن الوجوب بمعنى الاشتراط كما فيما نحن فيه هو الأصل، بل الفحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس فإن حمله على صورة عجزه عن التوكيل حمل المطلق على الفرد النادر مع أن الظاهر عدم الخلاف في عدم الوجوب… والظاهر أيضًا كفاية الكتابة مع العجز عن الإشارة لفحوى ما ورد من النص على جوازها في الطلاق مع أن الظاهر عدم الخلاف فيه، وأما مع القدرة على الإشارة فقد رجح بعضٌ الإشارة ولعله لأنها أصرح في الإنشاء من الكتابة وفي بعض روايات الطلاق ما يدل على العكس وإليه ذهب الحلي – رحمه الله – هناك) (1) .
ومن الواضح في هذا النص أن اللجوء للإشارة ثم الكتابة إنما يكون عند العجز عن اللفظ.
ولكن إذا أمكننا أن نصحح عقد المعاطاة ولزومه أمكن القول بأن تصحيح العقد بالكتابة أولى من ذلك في النتيجة.
فما هو الموقف من المعاطاة؟
وقد استدل على صحتها بأدلة كثيرة:
منها: السيرة العقلائية الممتدة إلى عصر المعصوم بل هي تمتد إلى أبعد من البيع بالصيغة، وهي سيرة ممضاة شرعًا ولم يثبت أي نهي عنها يتناسب مع سعتها وامتدادها.
وهي أيضًا من سيرة المتشرعة فضلًا عن السيرة العقلائية.
ومنها: الاستدلال بإطلاق قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [سورة البقرة: الآية 275] . على حلية كل بيع عرفي، وقد أشكل على الاستدلال بهذا المقطع القرآني أنه (لا يصح التمسك بإطلاق الآية لاحتمال أن يكون الحكم المجعول سابقًا بنحو خاص وكأن القائل بالتسوية – بين البيع والربا- ادَّعى التسوية بين المجعولين فلا يظهر حال المجعول هل هو مطلق أو مقيد، أو يقال إن الآية ليست في مقام بيان حلية البيع وإنما هي في مقام تحريم الربا (2) فليس لها إطلاق من تلك الجهة) .
__________
(1) المكاسب للشيخ الأنصاري: ص94 من الطبعة الخامسة الكاملة غير المجزأة.
(2) كتاب البيع للإمام الخميني: 1/61.(6/597)
وهناك وجوه لتصحيح الإطلاق تذكر في الكتب المفصلة.
ومنها: الاستدلال بقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} بتقريب حاصله أنه (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالوسائل الباطلة كالقمار والسرقة والخيانة إلا أن يكون ذلك بأسلوب التجارة وهذا يعني صحتها وتحقق الأثر العقلائي لدى الشارع بهذه الوسيلة) .
فالاستثناء منقطع وهو مطلق يقول الإمام: (وبالجملة يظهر منها أن الأكل التجارة مرخص فيه، لكونها حقًا ثابتًا وطريقًا مستقيمًا لتحصيل الأموال ويؤكد إطلاقها مقابلتها بالباطل الذي يشعر بالعلية، بل يدل عليها لدى العرف فيفهم من المقابلة أن التجارة عن تراض – لكونها حقا – سبب للملكية وموجبة لجواز الأكل والتصرف، ومن هنا يمكن التوسعة في السبب الحق لكل ما هو سبب حق لدى العقلاء لتحصيل المال… والظاهر عدم اختصاص التجارة بالبيع بل تشمل سائر المكاسب) .
هذا إذا قصدنا من الباطل، الباطل لدى العرف وهو الظاهر، أما إذا أريد الباطل لدى الشرع – كما هو المنقول عن الشيخ الأردبيلي – لم يمكن الاستدلال بالإطلاق لإثبات صحة معاملة عقلائية لأنه من الشبهة الموضوعية إذ لا نعلم أهي من الباطل الشرعي، أم لا؟
ومنها: الاستدلال بقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} بعد عدم تفسير العقود بالعهود المشددة؛ لأنه لا دليل على ذلك وإنما تدل على مطلق الربط الاعتباري.
وعدم جعل (أل) عهدية للعقود المذكورة سابقًا في الشريعة.
وقد أشكل على الاستدلال بإطلاق الآية على أنه يلزم من ذلك تخصيص الأكثر لخروج المعاملات الجائزة وهي أكثر من اللازمة بل وخروج العقود الخيارية فيخرج بخيار المجلس مطلق البيوع.
إلا أنه قيل في قبال ذلك إنه لا استهجان في تخصيص الأكثر إذا كان الباقي كثيرا بالإضافة إلى أن أفراد العقود اللازمة كثيرة جدًا وتزيد على العقود الجائزة أما الخيارات فهي لا تشكل استثناء بل العمل بالخيار وفاء للعقد في كثير من الموارد الخيارية.(6/598)
ولو جعلنا الآية إرشادًا لصحة العقود لا إثباتًا للوجوب التكليفي أو للزوم الوضعي فلا إشكال.
ومنها: الاستدلال بما روي عنه (صلى الله عليه وسلم) من أن ((الناس مسلطون على أموالهم)) (1) بتقريب أن الظاهر هو إثبات السلطنة لهم على الشكل المتعارف بينهم والمعاطاة متداولة فهي شرعية.
ويؤكد الإمام الخميني أن المعاملات إنما تنفذ بعد وجود أمرين:
الأول: السلطنة على المال.
الثاني: إيقاع المعاملة على طبق المقررات العقلائية، والرواية إنما تشير للأمر الأول فقط (2) .
على أنه قيل إن الرواية مسوقة لجعل السلطنة في مقابل الحجر وحينئذ لا يتم الاستدلال بها.
وهناك روايات أخرى استدل بها على صحة المعاطاة لا نرى مجالًا للتعرض لها من قبيل رواية (المؤمنون عند شروطهم) .
هذا وقد استدل على لزوم المعاطاة أيضًا بأحاديث (التسليط) وحديث ((لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيب نفسه)) .
كما استند البعض إلى آية التجارة وآية الوفاء وكذلك استندوا إلى أخبار خيار المجلس وقد دلت على اللزوم عند انفضاضه والمعاطاة بيع، والبيعان بالخيار ما لم يفترقا، وقد ذكر الإمام في نهاية بحثه ما يلي (وكيف كان فلا إشكال في أن الأصل لزوم عقد المعاطاة حسب القواعد) (3) .
هذا وقد أنكر البعض من العلماء أن تكون المعاطاة عقدًا لازمًا واستدل لذلك بأمور:
* الأول: الأخبار، ومنها رواية خالد بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد الله (ع) : الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا، قال: أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟ قلت: بلى. قال: لا بأس به (إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام) (4) .
والظاهر أن المراد ليس حصر التحليل بالكلام وإنما المراد هو أنه ما دام نوع الكلام يؤدي لبقاء الاختيار في الأمر بالشراء فلا مانع فالمعيار نوع الكلام المطروح.
__________
(1) بحار الأنوار: 2/272، الطبعة الحديثة.
(2) البيع1/1.
(3) البيع: 1/145.
(4) الوسائل – الباب الثامن من أبواب أحكام العقود – الحديث (13) .(6/599)
ومنها روايات وردت في بيع المصحف، كرواية سماعة عن أبي عبد الله الصادق (ع) :
(سألته عن بيع المصاحف وشرائها قال: لا تشتر عن كتاب الله، ولكن اشتر الحديد والروق والدفتين وقل أشتري منك هذا بكذا وبكذا) (1) .
ولكن الاستدلال بهذا واضح البطلان، فليس النظر إلى ما نحن فيه وإنما يراد تعليم كيفية تصحيح البيع.
* الثاني: ما نقل من الإجماعات أو الشهرة، إلا أنها إجماعات منقولة ومعللة لا يمكن الاعتماد عليها.
ونخلص من كل هذا إلى أن المعاطاة عقد شرعي لازم وأن الفعل يقوم مقام اللفظ في المعاملة اللازمة.
ومن هنا ننتقل إلى موضوع قيام الإشارة والكتابة مقام الفعل ونحن نعتقد أن الأولوية هنا حاصلة.
ولكن قد يقال إن الذي كان متعارفًا هو البيع بالصيغة والبيع المعاطاتي. أما البيع بالكتابة فلم يكن متعارفا فليست هي أسبابًا عقلائية متعارفة.
أو يقال إنه فرد نادر تنصرف عنه الأدلة.
إلا أن الواقع هو أن الكتابة وإن كانت آنذاك فردًا نادرًا لكنها عمل عقلائي مشمول بلا ريب للأدلة.
بل يمكن القول إنها آكد في العقلائية من العمل بلا ريب إذ العمل مجمل المضمون في حين يمكن التمسك بإطلاق ما كتب بلا ريب، وقد يمكن أن يقال إن الكتابة أشد توثيقًا من اللفظ نفسه.
ومن هنا فلا نشك في صحة العقد بالكتابة أو التلغراف وأمثال ذلك، ويحسن هنا أن نشير إلى كلام المحقق والشهيد الثاني.
* النقطة الثانية: في اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول:
ذكر الكثير من العلماء اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول وعدم الفصل بينهما بفاصل زمني أو بأجنبي.
قال الشيخ الأنصاري في مكاسبه: (ومن جملة شروط العقد الموالاة بين إيجابه وقبوله ذكره الشيخ – يعني الطوسي- في المبسوط في باب الخلع ثم العلامة والشهيدان والمحقق الثاني والشيخ المقداد: قال الشهيد (الأول) في القواعد: الموالاة معتبرة في العقد ونحوه وهي مأخوذة من اعتبار الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه… وأضاف القول: حاصله أن الأمر المتدرج شيئًا فشيئًا إذا كان له صورة اتصالية في العرف فلا بد في ترتب الحكم المعلق عليه في الشرع من اعتبار صورته الاتصالية فالعقد المركب من الإيجاب والقبول القائم بنفس المتعاقدين بمنزلة كلام واحد مرتبط بعضه ببعض يقدح تخلل الفصل بين كل من الإيجاب والقبول بما لا يجوز) (2) .
__________
(1) الوسائل- الباب الحادي والثلاثين من أبواب ما يكتسب به – الحديث (2) ج1.
(2) المكاسب: ص98، وراجع القواعد (للشهيد الأول) – القاعدة (73) .(6/600)
وحاصله أن مناط الموالاة واعتبارها أن العقدية لا تتحقق إلا إذا تحققت صورتها الاتصالية العرفية وإلا لم يتحقق عقد وارتباط، ثم رد عليه بأن مناط الحكم الشرعي بالصحة إن كان هو العقدية – كما يلاحظ من المنقطع القرآني الشريف {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ومن تعبيرات العلماء التي تعتبر العقدية مقومة للزوم – فهذا صحيح، أما لو كان المناط هو آية التجارة والبيع فلا يضره عدم صدق العقدية.
وربما يطرح البعض دليلًا عقليًا على اعتبار الموالاة باعتبار أن العقود تعني خلعًا ولبسًا ولا يمكن تصور الفاصل بينهما لأن ذلك يستلزم إضافة بلا محل.
وقد يقال: إن الإيجاب يعني نقل الملكية من حين صدوره فإذا تأخر عنه القبول فإما أن يكون قبولًا لتمام مضمون الإيجاب وحينئذ يلزم حصول نقل الملكية قبل تمام العقد (لأن الغرض أن الملكية بتمامها انتقلت من حين الإيجاب) ، أو لكون القبول لبعض مضمون الإيجاب (أي من حين القبول) فيلزم عدم التطابق بين الإيجاب والقبول وهو أمر معفو عنه عند الفصل القليل دون الكثير.
وقد يقال: إن العقد المركب من الإيجاب والقبول القائمين بنفس المتعاقدين بمنزلة كلام واحد إلا أن الإمام الخميني يشكل على كل هذه الاستدلالات.
فهو يرى أن العقد والبيع والتجارة ونحوها عبارة عن الأمور الناتجة من أسبابها إذ هي التي تبقى وهو ما يبدو للمتأمل في قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [سورة البقرة: الآية 237] . والحاصل من الأسباب ليس أمرًا متدرجًا ولا هو مقولة ألفاظ حتى تلاحظ هيئته الاتصالية فلا يمكن قياسها على القراءة والتشهد والصلاة ونحوها وهو ما نلاحظة عند الإسفراييني (1) مثلًا.
أما المعتبر فهو ارتباط عهديتهما وهو حاصل مع بقاء الإيجاب اعتبارًا (بعد أن لم يلغ أو ينسى) . وحينئذ يصح ضم القبول إليه (فلو قال بعتك هذا الفرس فقم وفكر في ما هو صلاحك، فقام وتأمل ساعة أو ساعتين بل يومًا أو يومين فاختار القبول يصدق العقد عليه ويجب عليه الوفاء عرفًا وشرعًا) ، كما أن العهود الكتبية بين الدول وبيت الشركاء في التجارات لا يعتبر فيها التوالي لدى العقلاء فالمضر عدم ربط المسببات والمعتبر ربطها لا التوالي بين الإيجاب والقبول وبين الأسباب من غير فرق بين كون دليل التنفيذ {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أو {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} أو {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (2) .
أما ما قيل من حصول اللوازم الفاسدة إذا جاء فصل طويل بين الإيجاب والقبول من قبيل عدم التطابق بينهما، أو حصول النقل قبل تمام العقد، فإنه يقال فيه إن مضمون الإيجاب ليس النقل من حينه بل هو التمليك بعوض أو التبادل بين المالين ولكن ترتيب الأثر العرفي والشرعي يتوقف على انضمام القبول إليه.
أما الاستدلال العقلي فلا محل له في الأمور الاعتبارية على أن هناك رأيًا للإمام فيه الفصل المسألة، وهو أن مقوم العقد هو الإيجاب فقط، أما القبول فليس له إلا شأن تثبيت الأمر لما أوقعه الموجب.
__________
(1) الشيرازي2/41.
(2) البيع: 1/231.(6/601)
وقد استند في ذلك إلى عمومات وإطلاقات ومما استند إليه الرواية الصحيحة التي رواها محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (ع) قال:
جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله، فقالت: زوجني. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من لهذه؟ " فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله – صلى الله عليه وآله – زوجنيها. فقال: "ما تعطيها؟ " فقال: ما لي شيء. قال: لا. فأعادت فأعاد رسول الله – صلى الله عليه وآله – الكلام، فلم يقم أحد غير الرجل، ثم أعادت. فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله- في المرة الثالثة: "أتحسن من القرآن شيئًا؟ " قال: قال: "زوجتكم على أن تحسن من القرآن فعلمها إياه" (1) .
وعلى هذا الرأي يكون القبول كالإجازة في عقد الفضولي حيث يكون الإيجاب تمام ماهية العقد.
وإذا استقر هذا الرأي على حاله لم نلق أية صعوبة في تصحيح العقود بالوسائل الحديثة على اختلاف أنواعها.
أما إذا أصررنا على لزوم الموالاة بين الإيجاب والقبول أمكننا الرجوع إلى العرف المحقق لمصداقية العقد والعرف مرن في هذه الحالة ولا يعتمد الطريقة العقلية المجردة تمامًا كما رأيناه يتسامح في الفاصل الحاصل بين الإيجاب والقبول، وفي قيام الإشارة أو الفعل مقام اللفظ.
وحينئذ يمكن القول بأن الموالاة في كل مورد بحسبه، فإذا كان الاتصال تلفونيًا لم يكن الفاصل فاصلًا في نظر العرف، وإذا كان إجراء العقد كتابيًا وتمت الاستجابة بمجرد وصول الرسالة الموجبة فقد تحققت الموالاة بحسب ذلك المورد وكذلك الفاكسميلي وأمثالها.
__________
(1) وسائل الشيعة – الباب الثاني من أبواب المهور – الحديث (1) .(6/602)
* النقطة الثالثة: البحث عن خيار المجلس في هذه الحالة:
هناك خلاف بين العلماء في هذا الخيار الذي يعطي كل بائع الحق في فسخ العقد ولو بعد إبرامه ما دام المجلس مستمرًا، فإذا افترقنا لزم البيع إذ أثبته الكثير من علماء السلف والشافعية والحنابلة وأنكره المالكية والحنفية.
أما الإمامية فهم يجمعون على وجود هذا الخيار والنصوص المنقولة عن أئمة أهل البيت مستفيضة أو متواترة، كما قال المحقق النجفي (1) .
ومنها رواية الصادق (ع) في صحيح ابن مسلم وصحيح زرارة (2) عن رسول الله صلى الله عليه وآله: البيعان بالخيار حتى يفترقا، وقوله عليه السلام في صحيح الفضيل (3) لما قال له ما الشرط في غير الحيوان:البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما. وفي صحيح الحلبي (4) : ((أيما رجل اشترى بيعًا فهما بالخيار حتى يفترقا فإذا افترقا وجب البيع)) . وقد اتفق علماء السنة على الحديث التالي:
روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يفترقا وكانا جميعًا أو يخيِّر أحدهما الآخر، فإن خيّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع)) (5) .
والظاهر أنه صريح في خيار المجلس ولا معنى لحمله على خيار القبول كما حمله الحنفية والمالكية على ذلك، فهو خلاف ظهور الحديث خصوصًا في عبارة (ما لم يتفرقا) الآتية بعد تبايع الرجلان أي بعد أن تم العقد وما زالا في المجلس فهما بالخيار.
__________
(1) جواهر الكلام: 4/23.
(2) وسائل الشيعة: 2/345.
(3) وسائل الشيعة: 2/346.
(4) وسائل الشيعة: 2/346.
(5) الوسائل: 12/348، الحديث الثالث عن محمد بن مسلم عن الصادق (ع) .(6/603)
إلا أنه يجب الإذعان بأنه لم يثبت نص وفتوى في ما عدا البيع.
ولكن ما المراد بمجلس الخيار؟ لا سبيل لنا لمعرفة المفهوم هنا إلا سبيل العرف بل لم يرد لفظ المجلس إلا بشكل عارض في بعض الروايات (1) .
والظاهر منه جو اللقاء بين المتبايعين، وحينئذ فيمكن أن يدعي أحد أن بقاء الاتصال التلفوني على بعد يعني بقاء مجلس التعاقد والخيار، وانقطاعه حتى – ولو كان صدفة لا عن اختيار – يعني انفضاض مجلس العقد وذهاب الخيار إذ إن العرف لا يفترق لديه أن يتم اتصال تلفوني مباشر أو بدني في مجلس واحد، وعنوان (افترقا) لا يصدق على الاتصال التلفوني حتى ولو كانا في طائرة أو سيارة متحركة.
وهل يمكننا تصور خيار المجلس في ما عدا الاتصال التلفوني؟ ذلك أمر مشكل حقًا ومن هنا فلا نستطيع تصور الخيار في غير ذلك أو شبهة كالاتصال من خلال المقابلة التلفزيونية المبثوثة عبر الأقمار الصناعية فهو كالتلفون بل أشد اتصالًا.
أما الرسالة والفاكسميلي وأمثالها فيبعد تصور مجلس فيهما حتى يتصور فيهما الخيار.
ومن هنا يعلم حكم النقطة الرابعة في مجال إمكان الرجوع بعد صدور الكتابة من قبل أي من الطرفين فإن الموجب بإيجابه أوجد العقد، إلا أنه لم يثبت إلا بعد صدور القبول، وحينئذ فله الرجوع قبل وصول الرسالة، أما إذا وصلت وصدر القبول فلا مجال لرجوع أي منهما عن العقد لعدم إمكان تصور خيار المجلس في هذه الحالة (حالة الكتابة) .
هذا في البيع، أما في العقود الأخرى فإن الأمر يتبع كونها من العقود اللازمة أو الجائزة، ووجود خيارات أخرى غير خيار المجلس فإنه يختص بالبيع والله أعلم.
الشيخ محمد علي التسخيري
__________
(1) الوسائل: 12/348، الحديث الثالث عن محمد بن مسلم عن الصادق (ع) .(6/604)
بحث
سعادة الدّكتور عبْد الله محمّد عبْد الله
مستشار محكمة الاستئناف العليا بالكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد خاتم النبيين والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الفقهاء العاملين والأئمة المجتهدين، وبعد:
فيحسن قبل الخوض في موضوع البحث أن نخصه بمقدمة ومدخل للدراسة نوجز فيها بعض المبادئ:
* أولًا: تحدث الفقهاء عن مجلس العقد، وخلاصته أن بعض العقود يشترط لوجوده شرعًا اتحاد مجلس الإيجاب والقبول، بمعنى أن يكون المتعاقدان في مكان واحد كعقود المعاوضات بالإجماع، وكذا سائر التمليكات على اختلاف في بعضها بين الأئمة كالهبة، غير أن الوصية بالإجماع لا يشترط فيها اتحاد مجلس الإيجاب والقبول، إذ الإيجاب فيها يكون حال حياة الموصي وأما القبول فلا يصح إلا بعد وفاته.
* وبعض العقود لا يشترط فيها اتحاد المجس كالوكالة ونحوها. ومن ذلك كل العقود التي يكون فيها أحد الركنين يمينًا والثاني معاوضة كالخلع.
فإن كان الإيجاب من الزوج صح قبول الزوجة في مجلس آخر، وذلك لأن الإيجاب هنا بمعنى اليمين أما إذا كان من الزوجة فلا بد أن يكون جواب الزوج في المجلس لأنه في هذه الحالة بمعنى المعاوضة.
* ثانيًا: المجلس قد يكون مكانا مستقرًّا وقد يكون متحركًا كالدابة والسفينة.
فلو تعاقدا البيع مثلًا وهما في بيت أو سفينة وهي تجري صحَّ العقد ولا ينقطع المجلس بجريان السفينة.
ولو عقداه وهما يمشيان أو يسيران على دابتين أو دابة واحدة في محل واحد، فإن خرج الإيجاب والقبول منهما متصلين انعقد البيع ولو كان بينهما فصل وسكوت، وإن قلَّ، لا ينعقد لأن المجلس تبدل بالمشي والسير وإن قلّ. يجوز في الماشين أيضًا ما لم يتفرقا بذاتيهما.(6/605)
* ثالثًا: وإنما اشترط اتحاد المجلس في البيع ونحوه، لأن الإيجاب يحتاج إلى جواب يلاقيه فوجب أن يكون القبول عقب الإيجاب مباشرة حتى يتصور الانعقاد بينهما، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وقال الحنفية والمالكية: يجوز أن يتراخى القبول إلى آخر المجلس ولو طال الزمن بينهما ما دام المجلس على حاله لم يتخلل فيه القبول والإيجاب ما يدل على الإعراض من كل واحد من المتعاقدين.
* رابعًا: وكما يكون كل من الإيجاب والقبول بالقول أو بالتعاطي على خلاف فيه بين الفقهاء كذلك يكونان أو أحدهما بالرسالة أو الكتابة وكل واحد من المتعاقدين في مكان غير المكان الذي فيه الآخر. وجدير بالذكر أن الرسالة في لسان الفقهاء يعبر بها عن الرسول بأن يرسل شخص إلى آخر رسولًا ويقول للرسول: إني بعت داري هذه من فلان الغائب بكذا فاذهب إليه وقل له: إن فلانًا أرسلني إليك وقال لي: قل له: إني بعت داري الفلانية من فلان بكذا، فذهب الرسول وبلَّغ الرسالة فقال المشتري في مجلسه ذلك: قبلت، انعقد البيع، لأن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسل، ناقل كلامه إلى المرسل إليه، فكأنه حضر بنفسه وأوجب البيع وقبل الآخر في المجلس. وفي هذا قلت المادة (1450) من مجلة الأحكام العدلية: (الرسالة هي تبليغ أحد كلام الآخر إلى غيره من دون أن يكون له دخل في التصرف، ويقال للمبلِّغ رسول، ولصاحب الكلام مرسل، وللآخر مرسل إليه (1) .
* خامسًا: أما التعاقد عن طريق الكتابة وما في معناها مما استجد من أمور كالتلكس والبرق وكذلك عن طريق الهاتف أو اللاسلكي وما في معناهما مما ينقل الكلام بين غائبين ولكن مباشرة بحيث يسمع كل منهما الآخر وقت صدوره فهو محور الكلام وسنتكلم عليه من جوانبه المختلفة في بحثين:
الأول: ونبحث فيه التعاقد عن طريق الكتابة وما في حكمها كالتلغراف أو التلكس وما يشبههما من وسائل الاتصال الأخرى، ونذكر مذاهب العلماء في التعاقد عن طريق الكتابة ثم نستظهر حكمه في القوانين الوضعية.
والثاني: ونخصصه للتعاقد عن طريق الهاتف واللاسلكي متلمسين ما يقارب ذلك مما ورد التمثيل به في المؤلفات ثم منزع القوانين الوضعية فيه.
__________
(1) الكاساني: 6/2994، فتح القدير: 6/254، 255، مجلة القانون والاقتصاد – السنة الرابعة – العدد الخامس: ص654 وما بعدها، المجموع: 9/169 وما بعدها.(6/606)
المبحث الأول
في التعاقد عن طريق الكتابة وما في حكمها
كالتلغراف والتلكس وما أشبه ذلك
من وسائل الاتصال الأخرى
وفيه مطلبان:
* الأول: في مذاهب العلماء في التعاقد عن طريق الكتابة ونحوها ثم حكم رجوع الموجب.
* الثاني: في منزع القوانين الوضعية.
المطلب الأول
في مذاهب العلماء في التعاقد عن طريق الكتابة
التعاقد عن طريق الكتابة والمراسلة تزداد شيوعًا يومًا بعد يوم، خاصة في المسائل التجارية. وقد تطورت طرق المراسلة تطور العلوم و (الثقافة والتكنولوجيا) ، وأخذت القوانين الوضعية تفسح لها مجالًا رحبًا بين نصوصه وتخصص لبحثه أبوابًا لأهميته، سواء لتحديد وقت نشوء العقد وترتب آثاره بارتباط الإيجاب والقبول أو تحديد مكان انعقاد العقد لمعرفة القانون الواجب التطبيق على التصرفات ذات العنصر الأجنبي هل هو قانون بلد الإيجاب أم قانون بلد القبول. أما بالنسبة للجانب الفقهي فإن المصادر الفقهية المختلفة تكاد تلتقي في الجملة على جواز التعاقد كتابة، وسأجمل الاتجاهات الفقهية فيه كما يلي:
أولًا- مذهب الأحناف
مثَّل الأحناف للتعاقد عن طريق الكتابة بأن يكتب الرجل إلى الرجل: أما بعد فقد بعت كذا منك بكذا، فبلغه الكتاب فقال في مجلسه اشتريت، انعقد البيع بينهما ويكون كأن الموجب حضر بنفسه وخاطب الآخر بإلايجاب وقبل منه الآخر في المجلس (1) .
وقال ابن عابدين: قلت: ويكون بالكتابة من الجانبين فإذا كتب اشتريت كذا بكذا فكتب إليه البائع قد بعت فهذا بيع كما في التتار خانية. قوله: فيعتبر مجلس بلوغها أي بلوغ الرسالة أو الكتابة. قال في الهداية: الكتابة كالخطاب وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتابة وأداء الرسالة.
ثم قال: وقال شمس الأئمة السرخسي في كتاب النكاح من مبسوطه: كما ينعقد النكاح بالكتابة ينعقد البيع وسائر التصرفات بالكتابة أيضًا.
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/2994، شرح فتح القدير: 6/254، 255، الفتاوى الهندية 3/9، البحر الرائق: 5/290، 291.(6/607)
وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في مبسوطه الكتاب والخطاب سواء، إلا في فصل واحد وهو أنه لو كان حاضرًا فخاطبها بالنكاح فلم تجب في مجلس الخطاب ثم أجابت في مجلس آخر، فإن النكاح لا يصح، وفي الكتاب إذا بلغها وقرأت الكتاب ولم تزوج نفسها منه في المجلس الذي قرأت الكتاب فيه، ثم زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود وقد سمعوا كلامها وما في الكتاب يصح النكاح لأن الغائب إنما صار خاطبًا لها بالكتاب، والكتاب باقٍ في المجلس الثاني فصار بقاء الكتاب في مجلسه، وقد سمع الشهود ما فيه في المجلس الثاني بمنزلة ما لو تكرر الخطاب من الحاضر في مجلس آخر، فأما إذا كان حاضرًا فإنما صار خاطبًا لها بالكلام، وما وجد من الكلام لا يبقى إلى المجلس الثاني، وإنما سمع الشهود في المجلس الثاني أحد شطري العقد.
ثم علَّق على هذا حاكيًا خلاف أئمة المذهب في البيع هل حكمه حكم النكاح في انعقاده في مجلس آخر، قال: وظاهره أن البيع كذلك وهو خلاف ظاهر الهداية، فتأمَّل (1) .
حكم رجوع الموجب:
قالوا: لو كتب شطر العقد ثم رجع صح رجوعه، لأن الكتاب لا يكون فوق الخطاب؛ ولو خاطب ثم رجع صح رجوعه فهاهنا أولى. وكذا لو أرسل رسولًا ثم رجع، لأن الخطاب بالرسالة لا يكون فوق المشافهة وذا محتمل للرجوع فهاهنا أولى. ولكن الرجوع مشروط بأن لا يصل كتابه إلى المكتوب إليه. ولا يشترط لصحة الرجوع علم الآخر مطلقًا. ولا يصح الرجوع بعد قبول المكتوب إليه لأن العقد قد تم وخرج الأمر من يد الكاتب وكذلك الحكم في الرسول.
ومن هنا يعلم أن العقد يتم بقبول المكتوب إليه أو المرسل إليه (2) .
قال في البدائع: وكذا هذا في الإجازة والكتابة إن اتحاد المجلس شرط للانعقاد ولا يتوقف أحد الشطرين من أحد العاقدين على وجود الشطر الآخر إذا كان غائبًا، لأن كل واحد منهما عقد معاوضة إلا إذا كان عن الغائب قابل أو بالرسالة أو بالكتابة كما في البيع.
__________
(1) حاشية رد المحتار: 4/513.
(2) البدائع: 6/2994.(6/608)
وأما في النكاح فهل يتوقف بأن يقول رجل للشهود: اشهدوا أني قد تزوَّجتُ فلانة بكذا وبلغها فأجازت أو قالت امرأة: اشهدوا أني زوَّجت نفسي من فلان بكذا فبلغه، فأجاز عند أبي حنيفة ومحمد لا يتوقف أيضًا، إلا إذا كان عن الغائب قابل.
وعند أبي يوسف يتوقف، وإن لم يقبل عنه أحد.
وكذا الفضولي من الجانبين بأن قال: زوجت فلانة من فلان وهما غائبان، فبلغهما فأجازا، لم يجز عندهما.
وعند أبي يوسف يجوز.
والفضولي من الجانبين في باب البيع إذا بلغهما فأجازا لم يجز بالإجماع.
وأما الشطر في باب الخلع فمن جانب الزوج يتوقف بالإجماع حتى لو قال: خالعت امرأتي الغائبة على كذا فبلغها الخبر فقبلت جاز.
وأما من جانب المرأة فلا يتوقف بالإجماع حتى لو قالت: اختلعت من زوجي فلان الغائب على كذا فبلغه الخبر فأجاز لم يجز (1) .
وكذلك لا يضر عدم علم الرسول رجوع المرسل بخلاف ما إذا وكل إنسانًا ثم عزله بغير علمه لا يصح عزله لأن الرسول يحكي كلام المرسل إليه فكان سفيرًا ومعبرًا محضًا فلم يشترط علم الرسول بذلك فأما الوكيل فإنما يتصرف عن تفويض الموكل إليه فشرط علمه بالعزل (2) .
ويوضح الشيخ أحمد إبراهيم هذا بقوله: وإذا رجع الموجب عن إيجابه قبل قبول الآخر، ففي عقود المعاوضات يبطل الإيجاب فلا يصح القبول بعد ذلك بالإجماع، وليس للطرف الآخر كالمشتري مثلًا أن يدعي أنه صار له حق تملك المبيع بسبب إيجاب البائع، وذلك لأن حقيقة الملك في العين لا تزال ثابتة للبائع، وهي أقوى من حق التملك، فلو لم يجز الرجوع لزم تعطيل حق الملك بحق التملك. ونظير هذا أن للأب حق التملك لمال ولده عند الحاجة، ومع هذا فللولد أن يتصرف في ماله كيف شاء مع أن حق تملك الأب إياه متعلق به (3) .
__________
(1) البدائع: 6/2994، 2995.
(2) البدائع: 6/2994، 2995.
(3) مجلة القانون والاقتصاد، السنة الرابعة: ص654.(6/609)
ثانيًا- مذهب المالكية
نصوص الفقه المالكي تقرر أن البيع ينعقد بما يدل على الرضا من العاقدين من قول من الجانبين أو فعل منهما أو قول من أحدهما وفعل من الآخر أو إشارة منهما أو من جانب وقول أو فعل من الآخر.
ومثلوا الفعل بالكتابة، قال العدوي: (قول أو فعل) ، أي غير إشارة كالكتابة (1) .
وكما ينعقد العقد بين الحاضرين ينعقد بين الغائبين. جاء في الحطاب: قلت: كتب موثق بيع مسافر عبر عنه بعت موضع كذا من زوجتي فلانة بكذا إن قبلت وبينه وبينها مسافة شهرين، فقال ابن عبد السلام: مدة قضائه لا أجيز هذا البيع على هذه الصفة فبدلت الوثيقة بحذف إن قبلت فقبلها، قال: فلعله رأى الأول خيارًا والثاني وقفًا، ثم قال: وانظر ما معنى قوله وقفًا، ويمكن أن يقال إنما لم يجز الأول لأنه بيع خيار إلى أمد بعيد بخلاف الثاني فإنه إقرار بيع فتأمله، والله أعلم (2) .
ولا يترتب على العقد بين الغائبين إلا تراخي القبول عن الإيجاب. والمنقول عن أئمة المذهب المالكي جواز ذلك.
نقل الحطاب عن ابن راشد القفصي أن ابن العربي أشار إلى الخلاف في ذلك وأن المختار جواز تأخيره ما تأخر.
ونص كلام ابن راشد: فرع – إذا تراخى القبول عن الإيجاب فهل يفسد البيع أم لا؟
أشار ابن العربي في قبسه إلى الخلاف في ذلك، ثم قال: والمختار جواز تأخيره ما تأخر (3) .
أيضًا يؤخذ من كلام ابن راشد وهو يناصر رأي ابن العربي واستدلاله له ببيع المحجور عليه إذا باع من ماله أن لوصيه الإجازة وإن طال الأمد، ولم يحصل غير الإيجاب من المحجور مع قبول المبتاع المحجور كالعدم، وكذلك بيع الفضولي يقف القبول على رضا ربه على المشهور وإن طال (4) .
__________
(1) شرح الخرشي على خليل: 5/5، وحاشية الشيخ العدوي عليه.
(2) مواهب الجليل: 4/241.
(3) المواهب: 4/241.
(4) المواهب: 4/240.(6/610)
حكم رجوع الموجب:
لم نجد نصًّا جليًّا على حكم رجوع الموجب في التعاقد بين الغائبين، أما بين الحاضرين فهناك كلام طويل ساقه الحطاب وغيره، وها نحن نذكره بطوله للوقوف من خلال عرض مسائله المختلفة على حكمه بين المتعاقدين الغائبين.
* أولًا: في بيع المساومة، قال سحنون عن ابن نافع عن مالك في الرجل يسوم الدابة، فيقول له رجل تبيعني بكذا وكذا، فيقول لا أفعل إلا بكذا، فيقول له المشتري انقصني دينارًا، فيقول لا أنقص فيقول له المشتري قد أخذتها بما قلت إنه يلزم ذلك البيع البائع وليس له أن يرجع. ابن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها إذا تبين بتردد المماسكة أنه مجد في السوم غير لاعب (1) .
المسألة الثانية في المساومة: أن من أوقف سلعته في السوق للسوم فقال له شخص: بكم تبيعها؟ فقال صاحب السلعة: بمائة مثلًا، فقال المشتري: أخذتها بها، فقال صاحب السلعة: ما أردت البيع وإنما أردت اختبار ثمنها أو كنت لاعبًا ونحو ذلك.
فإنه يحلف أنه ما أراد إيجاب البيع، فإن حلف لم يلزمه البيع، وإن لم يحلف لزمه.
وهذا قول مالك في كتاب الغرر. المدونة (2) .
ومن سماع أشهب من كتاب العيوب أن البيع يلزمه وليس له أن يأبى (3) .
وقال أبو بكر الأيدي: إن كان الذي سمّى قدر قيمة السلعة وكانت تباع بمثله لزمهما البيع فإن كان لا يشبه أن يكون ذلك ثمنها حلف أنه لاعب ولم يلزم. انتهى، فالأقوال ثلاثة (4) .
وقال ابن رشد: إن هذه الأقوال إنما هي في السلعة الموقوفة للسوم ولو لم تكن موقوفة للسوم فإنه يقبل قول ربها أنه كان لاعبًا ويحلف على ذلك ولا يلزم البيع إلا أن يتبين صدق قوله فتسقط عنه اليمين (5) .
معنى تسوَّق أوقفها للسوم في السوق، والظاهر أن المراد بالسوق سوق تلك السلعة، وأما سوق غيرها فحكمه حكم غير السوق (6) .
هذا الذي تقدم حكم بيع المساومة، وهو إيقاف الرجل سلعته ليساومه فيها من أرادها.
__________
(1) مواهب الجليل: 4/232، 233.
(2) المواهب: 4/233.
(3) المواهب: 4/213.
(4) المواهب: 4/233.
(5) المواهب: 4/234.
(6) المواهب: 4/236، 237.(6/611)
* ثانيًا – في بيع المزايدة: قال ابن رشد: الحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له ما لم يسترد سلعته فيبيع بعدها أخرى أو يمسكها حتى ينقضي مجلس المناداة وهو مخير في أن يمضيها لمن يشاء ممن أعطى فيها وإن كان غيره قد زاد عليه (1) .
ونقله ابن عرفة في الكلام على بيع الشخص على بيع أخيه من البيوع المنهي عنها، ثم نقل عن ابن حبيب ما يقتضي أن للبائع أن يلزم المشتري بعد الافتراق في بيع المزايدة بخلاف بيع المساومة فإنه لا يلزمه بعد الافتراق.
وذكر عن المازري أنه رد التفرقة المذكورة بأن ذلك كعرف جرى بينهم.
ونص ابن حبيب: إن فارق المشتري البائع في بيع المساومة دون إيجاب لم يلزمه بعد ذلك بخلاف بيع المزايدة يلزمه ما أعطى بعد الافتراق، لأن المشتري إنما فارقه في المزايدة على أنه استوجب البيع.
المازري: لا وجه للتفرقة إلا للرجوع للعوائد (2) .
ولو شرط المشتري إنما يلتزم الشراء في الحال قبل المفارقة أو شرط البائع لزومه أو أنه بالخيار في أن يعرضها على غيره أمدًا معلومًا أو في حكم معلوم لزم الحكم بالشرط في بيع المساومة والمزايدة اتفاقًا وإنما افترقا للعادة حسبما علَّل به ابن حبيب بينهما.
قال المازري: وإنما نبهت على هذا لأن بعض القضاة ألزم بعض أهل الأسواق في بيع المزايدة، بعد الافتراق، وكانت عادتهم الافتراق على غير إيجاب اغترارًا بظاهر قول ابن حبيب وحكاية غيره.... فنهيته عن هذا لأجل مقتضى عوائدهم. (3) .
قال ابن عرفة: قلت: والعادة عندنا اللزوم ما لم يطل زمن المبايعة حسبما تقرر قدر ذلك عندهم، والأمر واضح إن بَعُد. والسلعة ليست في يد المبتاع، فإن كانت بيده وموقوفة ففيه نظر، والأقرب اللزوم (4) .
وقال الزرقاني: شرحًا لمتن خليل (أو تسوق بها فقال: بكم، فقال: بمائة , فقال: أخذتها بها، فقال لم أرد البيع) قال: يحلف على ذلك وإلا لزمه البيع، وأنه إذا قامت قرينة على عدم إرادة البيع، فالقول للبائع بلا يمين أو على إرادته فيلزمه البيع كما إذا حصل تماكس وتردد بينهما أو سكت مدة ثم قال: لا أرضى فلا يلتفت لقوله.
__________
(1) المواهب: 4/237.
(2) المواهب: 4/238.
(3) المواهب: 4/238.
(4) المواهب: 4/238.(6/612)
وإن لم تقم قرينة لواحد منهما فالقول للبائع بيمينه.
وانظر هل من القرينة على عدم إرادة البيع ما إذا ذكر البائع ثمنًا قليلًا فيما تكثر قيمته كمائة وهي تساوي مائتين، فقال المشتري أخذتها بالمائة فلا يحلف البائع وهو الظاهر أم لا.
وأشعر كلام المصنف أن البيع منحل من جانب البائع لا من جانب المشتري، وأن البيع فيها مساومة فإن أجابه في المجلس بما يقتضي الإمضاء والقبول من غير فاصل لزمه البيع اتفاقًا.
وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزمه البيع قطعًا.
وكذا لو حصل فاصل يقتضي الإعراض عما كانا فيه حتى لا يكون كلامه جوابًا للكلام السابق في العرف فلا ينعقد البيع.
* ثالثًا – قال: وكذا يلزم في بيع المرابحة والمزايدة والاستئمان أي: كبعني كما تبيع الناس مع الفور في الثلاثة كالأول.
فإن أعرض البادئ لم يلزم في الأربعة، فإن انقضى المجلس لم يلزم فيها بيع إلا بيع المزايدة، فللبائع أن يلزم السلعة لمن زاد حيث اشترط البائع ذلك أو جرى به عرف إمساكها حتى انقضى مجلس النداء أو ردها وباع بعدها أخرى.
فإن لم يشترط ذلك ولا جرى به عرف لم يكن له ذلك (1) .
قال المازري: وإنما نبهت على ذلك لأن بعض الفقهاء ألزم بعض أهل الأسواق في بيع المزايدة بعد الافتراق مع أن عاداتهم الافتراق على غير إيجاب اغترارا بظاهر ابن حبيب وحكاية غيره، فنهيته عن هذا لأجل مقتضى عوائدهم – ابن عرفة.
والعادة عندنا، أي بتونس، وكذا عندنا بمصر عدم اللزوم وهو واضح إن بعد، ولم تكن السلعة بيد المبتاع، فإن كانت بيده فالأقرب اللزوم كبيع الخيار بعد زمنه يلزم فيه البيع من المبيع بيده.
__________
(1) شرح الخرشي: 5/6.(6/613)
وعلى كلام المازري، لو لم تكن عادة فالأقرب أن للبائع إلزام من زاد بعد التفرق ما لم يستر السلعة، ويشتغل ببيع أخرى أو يمسكها حتى ينقضي مجلس النداء (1) .
لكن ذكر الزرقاني أنه إن أتى أحدهما بصيغة ماضٍ، ورجع قبل رضا الآخر لم ينفعه رجوعه كما إذا أتيا بصيغة ماضٍ (2) .
ثم قال: ومحله أيضًا إن لم تقم قرينة على البيع أو عدمه وإلا عمل عليها من غير حلف.
الخلاصة:
الذي تفيده هذه النصوص، وخاصة النص الأخير للزرقاني، وما نصّ عليه ابن رشد:
هو أنه إذا رجع أحد المتبايعين عما أوجبه لصاحبه قبل أن يجيبه الآخر لم يفده رجوعه إذا أجابه صاحبه بَعْدُ بالقبول (3) أن ليس للموجب أن يرجع في إيجابه إذا كانت صيغة العقد تدل على القطع والثابت كأن كانت بصيغة الماضي، ويؤيد هذا أيضًا عبارة الزرقاني التالية: فإن أجابه في المجلس ... إلخ، هذا الكلام ليس مرتبًا على خصوص ما قبله، فلا يحسن تنزيله عليه، بل هو فرع مستقل كما في طيح وح، ونص ح التنبيه التاسع لم يذكر المصنف حكم تراخي القبول عن الإيجاب، وقد انجر الكلام إليه.
ثم قال بعده: نقول: والذي يتحصل أنه إن أجابه في المجلس إلى آخر ما ذكره ز، والمعنى فإن أجاب الثاني من بائع أو مشترٍ الأول في جميع ما تقدم وغيره من بيع المساومة فلا يخلو إما أن يجيبه في المجلس أم لا.
وقول ز فإن أعرض البادئ لم يلزمه في الأربعة ... إلخ.
ظاهره مع التعبير بالماضي وهو غير صحيح لما قدمه ابن رشد قريبًا قبل هذا.
فإذا تقرر هذا الحكم بين الحاضرين من المتعاقدين فينبغي أن يكون كذلك أيضًا فيما بين الغائبين.
__________
(1) شرح الخرشي: 5/6.
(2) شرح الخرشي: 5/6.
(3) مواهب الجليل: 5/6.(6/614)
ثالثًا- مذهب الشافعية
قال النووي في المجموع: المسألة الثالثة:
إذا كتب إلى غائب بالبيع ونحوه، قال أصحابنا: وهو مرتب على الطلاق هل يقع بالكتب مع النية، وفيه خلاف: الأصح صحته ووقوعه (1) .
ثم قال: أما النكاح ففي انعقاده بالمكاتبة خلاف مرتب على البيع ونحوه، ذكره إمام الحرمين والبغوي وآخرون، قالوا: إن قلنا لا يصح البيع فالنكاح أولى، وإلا فوجهان.
والمذهب أنه لا يصح، لأن الشهادة شرط فيه ولا اطلاع للشهود على النية، ولو قالا بعد المكاتبة نوينا، كانت شهادة على إقرارهما لا على نفس العقد فلا يصح، ومن جوزه اعتمد الحاجة.
قال أصحابنا: وحيث حكمنا بانعقاد النكاح بالمكاتبة، فليكتب زوَّجتك بنتي، ويحضر الكتاب عدلان ولا يشترط أن يحضرهما، ولا أن يقول لهما اشهدا بل لو حضرا بأنفسهما كفى، فإذا بلغ الكتاب الزوج فليقبل لفظًا ويكتب القبول، ويحضر القبول شاهدا الإيجاب، فإن شهده آخران فوجهان: أصحهما لا يصح لأنه لم يحضره شاهد له.
والثاني: الصحة لأنه حضر الإيجاب والقبول شاهدان، ويحتمل تغايرهما كما احتمل الفصل بين الإيجاب والقبول، ثم إذا قبل لفظًا أو كتابة يشترط كونه على الفور، هذا هو المذهب، وفيه وجه ضعيف كما سبق في البيع، والله أعلم (2) .
شرط التعاقد بالكتابة:
اشترطوا أن يقبل المكتوب إليه بمجرد اطلاعه على الكتاب في الرأي الأصح عندهم.
وفي وجه ضعيف أنه لا يشترط القبول بل يكفي التواصل اللائق بين الكتابين (3) .
__________
(1) المجموع: 9/167.
(2) المجموع: 9/167، 168.
(3) المجموع: 9/167.(6/615)
حكم الخيار في التعاقد بين الغائبين عن طريق الكتابة ورجوع الموجب عن إيجابه:
قال الغزالي إذا صححنا البيع بالمكاتبة، فكتب إليه فقبل المكتوب إليه، ثبت له خيار المجلس ما دام في مجلس القبول، قال: ويتمادى خيار الكاتب إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه مجلسه، صح رجوعه ولم ينعقد البيع (1) .
وقال في حاشية الجمل: ولو كتب إلى غائب ببيع أو غيره صح ويشترط قبول المكتوب إليه عند وقوفه على الكتاب، ويمتد خيار مجلسه ما دام في مجلس القبول، ويمتد خيار الكاتب إلى انقطاع خيار المكتوب إليه (2) .
قال في الحاشية تعليقًا على قوله: (إلى انقطاع خيار المكتوب إليه) تقتضي هذه العبارة شيئين:
الأول: أن الكاتب لو فارق مجلسه الذي كان فيه عند قبول المكتوب إليه أو ألزم البيع لم ينقطع خياره، وليس كذلك بل ينقطع.
والثاني: أن المكتوب إليه لو ألزم العقد أو فارق مجلسه، والكاتب باقٍ على مجلسه الذي كان فيه عند قبول المكتوب إليه انقطع خيار الكاتب، والمعتمد فيهما عدم الانقطاع، بل لا ينقطع خيار كل منهما إلا بإلزامه العقد أو مفارقة مجلس نفسه، ومجلس الكاتب هو الذي كان فيه عند قبول المكتوب إليه، وأوله من حين القبول (3) .
__________
(1) المجموع: 9/168.
(2) حاشية الجمل على شرح المنهج: 3/10.
(3) حاشية الجمل على شرح المنهج: 3/10(6/616)
رابعًا – مذهب الحنابلة
قال الحنابلة بجواز البيع بالكتابة:
قال في كشاف القناع: وإن كان المشتري غائبًا عن المجلس فكاتبه البائع أو راسله: إني بعتك داري بكذا أو إني بعت فلانًا – ونسبه بما يميزه – داري بكذا، فلما بلغه أي المشتري الخبر قبل البيع صح العقد، لأن التراخي مع غيبة المشتري لا يدل على إعراضه عن الإيجاب، بخلاف ما لو كان حاضرًا، ففرق المصنف في تراخي القبول عن الإيجاب بين ما إذا كان المشتري حاضرًا وما إذا كان غائبًا.
قال: وهذا يوافق رواية أبي طالب في النكاح.
قال في رجل يمشي إليه قوم فقالوا: زوج فلانًا، فقال: قد زوَّجته على ألف فرجعوا إلى الزوج فأخبروه، فقال: قد قبلت، هل يكون هذا نكاحًا؟
قال: نعم.
قال الشيخ التقي: ويجوز أن يقال إن كان العقد الآخر حاضرًا اعتبر قوله. وإن كان غائبًا جاز تراخي القبول عن المجلس كما قلنا في ولاية القضاء (1) .
وفي مجلة الأحكام الشرعية في (المادة 228) :
يصح الإيجاب والقبول كتابة كما لو كان المشتري غائبًا عن المجلس فكاتبه البائع أني بعتك داري بكذا أو نحو ذلك فلما بلغ المكتوب إليه الخبر قَبِلَ صح العقد.
__________
(1) كشاف القناع: 3/148.(6/617)
المطلب الثاني
في بيان منزع القوانين الوضعية في التعاقد
عن طريق الكتابة وما في حكمها كالتلغراف والتلكس
وما أشبه ذلك
التعاقد عن طريق الكتابة أخذت بها القوانين المعاصرة ويغلب التعبير على ألسنة وأقلام القانونيين لقب التعاقد بالمراسلة أو التعاقد بين الغائبين (1) .
ويقصدون بالمراسلة ما هو أشمل من إيفاد رسول يبلغ الطرف الآخر بإيجاب الموجب لما هو عند الفقهاء، فعند هؤلاء سيان أن يكون العقد قد تم عن طريق إيفاد رسول يبلغ الرسالة من هذا لذاك أو عن طريق المكاتبة بواسطة البريد أو عن طريق البرق أو التلكس أو ما يشبههما من وسائل الاتصال الأخرى (2) .
وإذا استعرضنا نصوص بعض القوانين نجد أن التعبير بالكتابة عندهم يساوي التعبير بالقول وغيره كالإشارة ونحوها.
نصت المادة (90) من القانون المدني المصري على: (أن التعبير على الإرادة يكون باللفظ وبالكتابة وبالإشارة.... إلخ) (3) .
ونص القانون المدني الكويتي في المادة (34) على أن: (التعبير يكون باللفظ أو بالكتابة) .
وينص القانون المدني المغربي على: (أن التعبير الصريح عن الإرادة غير خاضع لأي شكل خاص فيمكن أن يكون كتابيًّا أو شفويًّا وحتى بالإشارة المتداولة عرفًا) (4) .
ويقول السنهوري في وسيطه تحت عنوان: المتعاقدان لا يجمعهما مجلس واحد فرضنا فيما قدمناه أن التعاقد يتم بين حاضرين، سواء تم التعاقد بينهما مباشرة أو تم بوساطة نائب عن أي منهما ولكن يحدث كثيرًا أن يتم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مجلس واحد ويتم ذلك بالمراسلة بأية طريقة من طرقها المختلفة: البريد أو البرق أو رسول خاص لا يكون نائبًا أو غير ذلك.
__________
(1) الوسيط للسنهوري: 1/237، مصادر الالتزام.
(2) مصادر الالتزام في القانون للمدني الكويتي، نظرية العقد للدكتور عبد الفتاح عبد الباقي: ص132.
(3) القانون المدني: 1/13، وينظر الوسيط: 1/175.
(4) شرح قانون الالتزامات والعقود الصادر عن وزارة العدل الكتاب الأول: 1/53، 54.(6/618)
وليس الذي يميز ما بين الغرضين في حقيقة الأمر هو أن يجمع المتعاقدين مجلس العقد أو ألا يجتمعا في مجلس واحد، بل إن المميز هو أن تفصل فترة من الزمن بين صدور القبول وعلم الموجب به، ففي التعاقد ما بين حاضرين تنمحي هذه الفترة من الزمن، ويعلم الموجب بالقبول في الوقت الذي يصدر فيه.
أما في التعاقد بين غائبين فإن القبول يصدر ثم تمضي فترة من الزمن هي المدّة اللازمة لوصول القبول إلى علم الموجب ومن ثم يختلف وقت صدور القبول عن وقت العلم به (1) .
ويثور عند بحث التعاقد بالمراسلة في القانون ثلاث مسائل، وهي:
الأولى: مسألة زمان انعقاد العقد.
الثانية: مسألة مكان انعقاد العقد.
الثالثة: مسألة مدى التزام الموجب بالإبقاء على إيجابه بعد أن يبعث به إلى الموجب له.
أما عن المسألتين الأولى والثانية فقد نصت المادة (49) من القانون المدني الكويتي على أنه: (يعتبر التعاقد بالمراسلة أنه قد تم في الزمان والمكان اللذين يتصل فيهما القبول بعلم الموجب ما لم يتفق على غير ذلك أو يقضي القانون أو العرف بخلافه) .
__________
(1) الوسيط: 1/237.(6/619)
وقد بيَّنت المذكرة التفسيرية السند القانوني والأساسي الذي أخذت هذه المادة حكمها منه بقولها: (وتواجه المادة (49) مسألة تحديد زمان ومكان انعقاد العقد عندما يتم إبرامه بالمراسلة) ، وهي مسألة تباين وجه الحكم فيها تباينًا كبيرًا، وفي تقنيات الدول المختلفة، فمن هذه التقنيات ما يعتد في ذلك بصدور القبول، ومنها ما يعتد بوصول القبول إلى الموجب، وقد اعتمد القانون المصري هذا الرأي الأخير في المادة (97) وتبعه فيه أغلب القوانين العربية التي استوحته، كالقانون الليبي في المادة (97) منه والقانون العراقي في المادة (87) منه، وبيَّن لماذا أخذ المشرع بمبدأ العلم بالقبول، فذكر أنه يتمشى أكثر من غيره فقضى بأن التعاقد بالمراسلة يعتبر أنه قد تم في الزمان والمكان اللذين يتصل فيهما القبول بعلم الموجب ما لم يتفقا على غير ذلك أو يقضي القانون أو العرف بخلافه (1) .
ونص المادة (97) من القانون المصري (2) :
(يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك.
1- ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان وفي الزمان اللذين وصل إليه فيهما هذا القبول.
وجاء في الأخذ بمذهب العلم بأنه أقرب المذاهب إلى رعاية مصلحة الموجب، ذلك أن الموجب هو الذي يبتدئ التعاقد فهو الذي يحدد مضمونه ويعين شروطه، فمن الطبيعي والحال هذه، أن يتولى تحديد زمان التعاقد ومكانه، ومن العدل إذا لم يفعل أن تكون الإرادة المفروضة مطابقة لمصلحته عند عدم الاتفاق على ما يخالف ذلك، فمذهب العلم هو الذي يستقيم دون غيره مع المبدأ القاضي بأن التعبير عن الإرادة لا ينتج أثره إلا إذا وصل إلى من وُجِّه إليه على نحو يتوفر معه إمكان العلم بمضمونه، ومؤدَّى ذلك أن القبول بوصفه تعبيرًا عن الإرادة لا يصح نهائيًّا إلا في الوقت الذي يستطيع فيه الموجب أن يعلم به، ولا يعتبر التعاقد تامًّا إلا في هذا الوقت) (3) .
وخرج عن تلك القاعدة في المادة (98) : حيث وردت (4) :
(إذا كانت طبيعة المعاملة أو العرف التجاري أو غير ذلك من الظروف تدل على أن الموجب لم يكن ينتظر تصريحًا بالقبول، فإن العقد يعتبر قد تم إذا لم يرفض الإيجاب في وقت مناسب.
2- ويعتبر السكوت عن الرد قبولًا إذا كان هناك تعامل سابق بين المتعاقدين واتصل الإيجاب بهذا التعامل، أو إذا تمحض الإيجاب لمنفعة من وجه إليه) .
وقد بيَّن السنهوري ما يترتب على تحديد زمان العقد ومكانه بقوله:
(ومتى وضعنا المسألة على النحو الذي قدمناه تبين في الحال ماذا يترتب على هذا الوضع. فما دام أن هناك فترة من الزمن تفصل ما بين صدور القبول والعلم به وجب التساؤل متى يتم العقد؟ أو وقت صدور القبول أم وقت العلم به؟ فإذا تعين الوقت الذي يتم فيه العقد تعين أيضًا المكان الذي يتم فيه، يتم في المكان الذي يوجد فيه الموجب إذا قلنا أن العقد لا يتم إلا إذا علم الموجب بالقبول، ويتم في المكان الذي يوجد فيه من صدر منه القبول، إذا قلنا أن العقد يتم بمجرد صدور القبول، فزمان العقد هو الذي يحدد مكانه) (5) ، إلا فيما يتعلق بالتعاقد بالهاتف على ما سيأتي في محله.
__________
(1) المذكرة الإيضاحية للقانون المدني: ص65، تكوين الروابط العقدية فيما بين الغائبين، للدكتور صلاح الدين زكي: ص207، وما بعدها.
(2) المذكرة الإيضاحية للقانون المدني: ص65، تكوين الروابط العقدية فيما بين الغائبين، للدكتور صلاح الدين زكي: ص207، وما بعدها.
(3) القانون المدني ومجموعة الأعمال التحضيرية 2/53، 54.
(4) المذكرة الإيضاحية للقانون المدني: ص65، تكوين الروابط العقدية فيما بين الغائبين، للدكتور صلاح الدين زكي: ص207، وما بعدها.
(5) الوسيط: 1/238، النظرية العامة للالتزام وفقًا للقانون الكويتي للدكتور عبد الحي حجازي: 1/650، 684.(6/620)
والذي يدعو إلى بحث هذه الأمور في القانون هو أن لتحديد مكان العقد أهمية بالنسبة لمعرفة القانون الواجب التطبيق على التصرفات ذات العنصر الأجنبي هل هو قانون بلد الموجب أو قانون بلد القابل (1) .
وفي هذا يقول السنهوري: تقضي قواعد القانون الدولي الخاص بأن القانون الذي يخضع له العقد هو القانون الذي أراده المتعاقدان وفقًا لنظرية سلطان الإرادة، ويكون هذا القانون عادة هو قانون الجهة التي تم فيها العقد، فإذا تم عقد بين شخصين وكان من صدر منه الإيجاب موجودًا في مصر وعلم بالقبول فيها ومن صدر منه القبول كان موجودًا في فرنسا وقت صدور القبول فإن العقد يخضع للقانون المصري إذا أخذنا بمذهب العلم. ويخضع للقانون الفرنسي إذا أخذنا بمذهب الإعلان، وإن الأخذ بأي المذهبين في تحديد المكان يحدد الزمان كذلك (2) .
أما بالنسبة للمسالة الثالثة وهي: مدى التزام الموجب بالإيفاء على إيجابه، فقد نصت المادة (48) من القانون المدني الكويتي ويجري نصها:
1- (إذا حصل الإيجاب بالمراسلة بقي طوال الفترة التي يحددها الموجب لبقائه، فإن لم يحدد الموجب لذلك مدة التزام بالإيفاء على الإيجاب طوال الفترة التي تقتضيها ظروف الحال لوصوله للموجب له وإبداء رأيه فيه ووصول القبول إلى الموجب.
2- ويسقط الإيجاب إذا لم يصل القبول إلى الموجب في الفترة المعقولة التي تقتضيها ظروف الحال، ولو صدر من الموجب له في وقته المناسب) .
__________
(1) مصادر الالتزام في القانون المدني الكويتي للدكتور عبد الفتاح عبد الباقي: ص138.
(2) الوسيط: 1/244.(6/621)
وتقول المذكرة الإيضاحية في هذا:
وهذه وإن كان يمكن الوصول إلى بيان الحكم فيها عن طريق الاستنتاج من الفقرة الثانية من المادة (41) من المشروع، إلا أنه من المفيد أن يخصها التشريع بالذكر لإقامة معيار يحدد على أساسه فترة بقاء الإيجاب ملزمًا.
عندما لا يحدد الموجب لإيجابه ميعادًا صريحًا، وقد أقام المشرع لذلك معيارًا مرنًا قوامه الفترة المعقولة التي تقتضيها ظروف الحال لوصول الإيجاب للموجب له. وإبداء هذا رأيَه فيه ثم وصول قبوله للموجب إذا قدر له أن يكون.
وتعرض الفقرة الثانية من المادة (48) للحالة التي يصدر فيها القبول في وقت مناسب، بمعنى أن يجيء في وقت تسمح فيه الظروف بحسب المألوف بوصوله إلى الموجب خلال الفترة المعقولة التي يبقى فيها إيجابه قائمًا ولكنه مع ذلك يتأخر في وصوله لسبب أو لآخر إلى ما بعد فوات تلك الفترة، وهي هنا ترخص للموجب أن يعتبر إيجابه مرفوضًا إذ إنه أولى بالقابل أن يتحمل تبعة ذلك التأخير دونه.
والمادة (41) من القانون التي أحالت عليها المذكرة الإيضاحية يجري نصها:
(1- للموجب خيار الرجوع في إيجابه طالما لم يقترن به القبول.
2- ومع ذلك، إذا حدد الموجب ميعادًا للقبول، أو اقتضت هذا الميعاد ظروف الحال أو طبيعة المعاملة، بقي الإيجاب قائمًا طوال هذا الميعاد وسقط بفواته) .
تقرر المذكرة الإيضاحية لهذه المادة سندها من الفقه الإسلامي والتقنيات الأخرى فتقول: وتعرض المادة (41) للأثر المترتب على الإيجاب وتتنازع هذا الحكم في القانون المقارن فكرتان:
تقوم أولاهما على التزام الموجب بإيجابه، فتحرمه من الرجوع فيه ما لم يتضمن ما يَنُمُّ عن قصده في الاحتفاظ بحقه في ذلك.(6/622)
أما الفكرة الثانية فلا تضفي على الإيجاب في ذاته صفة الإلزام وتخول بالتالي لصاحبه أن يرجع فيه طالما لم يقترن به بعْدُ قبول، وهذه الفكرة هي التي تسود في الغالبية الكبرى من القوانين المعاصرة ومنها قانون التجارة الكويتي الحالي.
وهي الفكرة التي تسود أيضًا في الفقه الإسلامي حيث يثبت للموجب ما يطلق عليه الفقهاء (خيار الرجوع) ، وقد أخذت بها المجلة في المواد من (182 – 185) .
وذهب رأي في المذهب المالكي يقول بلزوم الإيجاب على صاحبه حتى إنه إذا رجع فيه وصدر مع ذلك القبول في مجلس العقد انعقد العقد (1) . وقد آثر المشرع أن يأخذ بمبدأ عدم لزوم الإيجاب على صاحبه لما فيه من التيسير عليه، بمنحه فرصة التحلل من العقد إذا أصبح عنه راغبًا (2) .
وتنص المادة (93) من القانون المدني المصري على هذه الأحكام مع فارق بسيط في الصياغة حيث يجري نصها:
(1- إذا عين ميعاد للقبول التزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد.
2- وقد يستخلص الميعاد من ظروف الحال أو من طبيعة المعاملة (3) ، ويقابل هذه المادة (84) في القانون المدني العراقي.
__________
(1) الحطاب: 4/240.
(2) المذكرة الإيضاحية: 56، 57.
(3) القانون المدني المصري ومجموعة الأعمال التحضيرية: 2/36، وانظر مصادر الالتزام، د. عبد الفتاح عبد الباقي: ص113.(6/623)
المبحث الثاني
في التعاقد عن طريق الهاتف واللاسلكي
وما يشبههما من وسائل الاتصال الأخرى
لا نخالف الحقيقة إن قلنا: إن الشيخ أحمد إبراهيم هو أول من تصدّى لبحث حكم التعاقد بالتليفون وبواسطة الراديو، وكان بحثه المنشور في مجلة القانون والاقتصاد المرجع الوحيد عند وضع القانون المدني المصري الجديد، كما يبين من الأعمال التحضيرية لهذا القانون.
وقد جاء في المشرع التمهيدي للقانون المدني المصري مادة برقم (140) ونصها: (يعتبر التعاقد بالتليفون أو بأية طريقة مماثلة كأنه تم بين حاضرين فيما يتعلق بالزمان وبين غائبين فيما يتعلق بالمكان) .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي:
لا يثير التعاقد بالتليفون أو بأية وسيلة مماثلة صعوبة إلا فيما يتعلق بتعيين مكان انعقاد العقد فشأنه من هذه الناحية شأن التعاقد بين الغائبين الذين تفرقهم شُقَّةُ المكان ولذلك تسري عليه أحكام المادة السابقة الخاصة بتعيين مكان التعاقد بين الغائبين، ويعتبر التعاقد بالتليفون قد تم في مكان الموجب إذا فيه يحصل العلم بالقبول ما لم يُتَّفق على خلاف ذلك.
أما فيما يتعلق بزمان انعقاد العقد فالتعاقد بالتليفون لا يفترق عن التعاقد بين الحاضرين، لأن الفارق الزمني بين إعلان القبول وبين علم الموجب به معدوم أو هو في حكم المعدوم، فليس للتفرقة بين وقت إعلان القبول ووقت العلم به أية أهمية علمية لأنهما شيء واحد، وتفريعًا على ذلك يعتبر التعاقد بالتليفون تامًّا في الوقت الذي يعلن فيه من وُجِّه إليه الإيجاب قبولَه، وهذا الوقت بذاته هو الذي يعلم فيه الموجب بالقبول.
ويترتب على إعطاء التعاقد بالتليفون حكم التعاقد ما بين الحاضرين فيما يتعلق بزمان انعقاد العقد أن الإيجاب إذا وجه دون تحديد ميعاد لقبوله ولم يصدر القبول فور الوقت تحلل الموجب من إيجابه.
وهذه هي القاعدة المقررة في الفقرة الأولى من المادة (131) من المشروع بشأن الإيجاب الصادر من شخص إلى آخر بطريق التليفون أو بأي طريق مماثل (1) .
ولكن هذه المادة حذفتها لجنة المراجعة لوضوح حكمها.
__________
(1) القانون المدني والأعمال التحضيرية: 2/52، 53، الوسيط للسنهوري: 1/239.(6/624)
فقد قال الشيخ رحمه الله في بحثه بعنوان (العقود والشروط والخيارات) (1) : (وأما العقد بالتليفون فالذي يظهر أنه كالعقد مشافهة، مهما طالت الشُّقَّةُ بينهما، ويعتبر العاقدان كأنهما في مجلس واحد، إذ المعنى المفهوم من اتحاد المجلس أن يسمع أحدهما كلام الآخر ويتبينه وهذا حاصل في الكلام بالتليفون، كما هو مشاهد لنا، غاية الأمر أنه يحتمل الكذب وتصنع صوت الغير، لكن هذا قد يحصل في الرسالة والكتابة أيضًا.
وقد يحصل العقد بواسطة الراديو كما نقلت الصحف في هذه الأيام نبأ عقد زواج بين فتاة في بلاد السويد وفتى في أمريكا والمسافة بينهما (4200) كيلو متر، وكان ذلك بواسطة الراديو، وأقول إن القول فيه كالقول في التليفون) .
ويؤيد هذا ما قرره الشافعية من أن المتعاقدين لا يشترط فيهما قرب المكان ولا رؤية بعضهما في صحة العقد، وكذلك في ثبوت الخيار لهما في أحد الاحتمالين وقول المتولي أحد أئمة الشافعية.
جاء في المجموع شرح المهذب:
فرع: لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف. وأما الخيار، فقال إمام الحرمين: يحتمل أن يقال لا خيار لهما، لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته، قال: ويحتمل أن يقال يثبت ما داما في موضعهما فإذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر أم يدوم إلى أن يفارق مكانه، فيه احتمالان للإمام وقطع المتولي بأن الخيار يثبت لهما ما داما في موضعهما فإذا فارق أحدهما موضعه ووصل إلى موضع لو كان صاحبه في الموضع عُدَّ تفرقًا، حصل التفرق وسقط الخيار هذا كلامه. والأصح في الجملة ثبوت الخيار وأنه يحصل التفرق بمفارقة أحدهما موضعه وينقطع بذلك خيارهما جميعًا.
__________
(1) مجلة القانون والاقتصاد، السنة الرابعة، العدد الخامس: ص656.(6/625)
وسواء في صورة المسألة كانا متباعدين في صحراء أو ساحة أو كانا في بيتين من دار أو في صحن وصفة، صرح به المتولي، والله أعلم (1) .
وقد نص القانون المدني الكويتي في مادته رقم (50) من القانون المدني الكويتي: (يسري على حكم التعاقد بالتليفون وهي تقريبا نفس المادة التي كانت مقررة في مشروع القانون المدني المصري بتعديل طفيف وهذا نص المادة (50) من القانون المدني الكويتي: (يسري على التعاقد بطريق الهاتف أو بأي طريق مشابه حكم التعاقد في مجلس العقد بالنسبة إلى تمامه وزمان إبرامه، ويسري عليه حكم التعاقد بالمراسلة بالنسبة إلى مكان حصوله) .
وتوضح المذكرة الإيضاحية هذه المادة بقولها: تعرض المادة (50) لصورة ثالثة من صور التعاقد، وهي تلك التي يتم فيها التعاقد بطريق الهاتف أو أي طريق آخر مشابه، وسمة التعاقد بالهاتف أو ما يشبهه أن يتم بين شخصين غائبين أحدهما عن الآخر مكانًا، ولكنهما في حكم الحاضرين كلامًا، حيث أن كلًّا منهما يسمع عبارة الآخر فور إبدائها منها ومن أجل ذلك يعطي المشرع التعاقد الذي يتم على هذه الصورة حكم التعاقد بين الغائبين أي التعاقد بالمراسلة بالنسبة إلى مكان انعقاد العقد حيث يتحدد هذا المكان بذاك الذي يتكلم منه الموجب ويعطيه حكم التعاقد بين الحاضرين أو التعاقد في مجلس العقد بالنسبة إلى كيفية تمام العقد وزمان انعقاده. إذ إنه من الممكن اعتبار التعاقد بالهاتف في خصوص تمام إبرامه وزمانه في حكم التعاقد الحاصل في مجلس العقد (2) .
ومن هذا العرض نرى أن ما انتهى إليه القانون في اعتبار التعاقد عن طريق الهاتف في حكم التعاقد بين الحاضرين في انعقاد العقد وترتب آثاره عليه صحيح ومطابق للنظر الفقهي السديد.
وأما بالنسبة لمكان انعقاد العقد وبالتالي تحديد أي من القانونين يجب تطبيقه على واقعة النزاع هل هو قانون بلد الموجب أو قانون بلد القابل، فهذا له بحث خاص في الفقه الإسلامي يصلح أن يكون موضوعًا قائمًا بنفسه ويعرض في ندوة أخرى.
وهذا ما انتهى إليه النظر في هذا الموضوع الهامّ وتأتي أهميته باعتبار أنه من الموضوعات التي تزداد شيوعًا، وتمارس على نطاق واسع في محيط التعامل بين المشتغلين بأمور التجارة.
فلا بد من الوقوف على أحكام الفقه الإسلامي فيه، وقد ظهر بجلاء أن ما انتهى إليه نظر رجال القانون قد جاء متطابقًا مع النظر الفقهي. وما ذكره فقهاؤنا من مسائل وتفريعات.
والله سبحانه وتعالى هو الموفق وهو الهادي إلى السبيل الأقوم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) المجموع: 9/181.
(2) المذكرة الإيضاحية للقانون المدني: ص66.(6/626)
خلاصة البحث
تناولت موضوع إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة في مبحثين:
اشتمل المبحث الأول على أحكام التعاقد بطريق الكتابة وما في حكمها مما استجد كالتلغراف والتلكس وما يشبههما.
وتضمن المبحث الثاني أحكام التعاقد عن طريق الهاتف واللاسلكي وما يشبههما.
واستعرضت في كل ما تقدم مذاهب الفقهاء ومصنفات المذاهب وما ورد فيها من مسائل افتراضية تصدق على المستجدات والمبتكرات في هذا العصر.
ثم تناولت أحكام التعاقد بهذه الآلات في التقنيات المعاصرة، وانتهى النظر في كل ما تقدم إلى تطابق ما أخذت به القوانين مع النظر الفقهي وهو جواز التعاقد بهذه الآلات وترتب الآثار التي تترتب على التعاقد بين المتعاقدين الحاضرين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله(6/627)
بحث
فضيلة الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:
يعتبر موضوع البحث هذا (حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة) من المواضيع المهمة في هذا العصر حيث يأتي تلبيةً لبيان حكم الشريعة الإسلامية في مسائل مهمة من حاجات المجتمع اليومية. ومن هذه المسائل المستجدة التي أصبحت واقعًا ملموسًا يتعامل بها الناس، تلك الوسائل التي جاد بها الفكر البشري حيث يسرت الاتصال بين أرجاء المعمورة فاختصرت المسافات الشاسعة وأصبح بمقدور الإنسان في الشرق أن يخاطب أخاه في الغرب في لحظات معدودة.
وقد استخدم الإنسان تلك الوسائل التي يسرت عليه الاتصال في أموره الخاصة والعامة. ومن بين تلك الأمور إجراء عقوده المالية والتجارية والشخصية أحيانًا.
وبما أن شريعتنا الغراء قد عُرِفت بشموليتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، لذا سأحاول من خلال بحثي هذا المتواضع بيان آراء فقهائنا الأعلام في حكم تلك العقود التي تجري عبر تلك الوسائل، كما أنني سأشير في هذا البحث إلى بيان موقف فقهاء القانون الوضعي في هذه المسائل.
والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم ومنه أستمد العون.
إنه حسبي ونعم الوكيل.
العقد لغة:
يطلق العقد في اللغة على عدة معان، وكلها تعني الربط الذي هو نقيض الحل. جاء في تاج العروس: (عقد الحبل بعقده عقدًا فانعقد، شدَّه، والذي صرح به أئمة الاشتقاق أن أصل العقد نقيض الحل) (1) .
وقال صاحب القاموس المحيط: (عقد الحبل شدَّه) (2) . وجاء في مختار الصحاح: (عقد الحبل والبيع والعهد فانعقد) (3)
والملاحظ على التعريف الأخير أن المعرّف جمع في تعريفه هذا بين الاستعمالين لكلمة عقد، الاستعمال الحسي الذي هو الربط كربط الحبل وبين الاستعمال المعنوي، وهو الربط بين الإيجاب والقبول في عقد البيع. كما أنه أدخل في التعريف الإطلاق الثالث لكلمة عقد الذي يراد به الضمان والعهد، يقال، تعاقد القوم بمعنى تعاهدوا، وهو أيضًا من قبيل الاستعمال المعنوي.
__________
(1) تاج العروس للعلامة محمد مرتضى الزبيدي، مادة عقد.
(2) القاموس المحيط لمجد الدين الفيروز آبادي، مادة عقد.
(3) مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مادة عقد.(6/628)
ولم ينفرد بهذا التعريف الشيخ الرازي، فالكثير من العلماء قد جمع بين المعنيين الحسي والمعنوي للفظ عقد، قال الزبيدي في معجمه: (عقدت الحبل فهو معقود وكذلك العهد ومنه عقد النكاح) .
وقد ذهب القرطبي إلى هذا الاستعمال أيضًا حيث قال: (العقود: الربوط، واحدها عقد، يقال: عقدت العهد والحبل وعقدت العسل فهو يستعمل في المعاني والأجسام) (1) .
قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدًا لجارهم
العناج وشدوا فوقه الكربا
والعقد كما يذكر القرطبي يشمل ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وغيرها من المعاوضات مما يتعلق به حق العباد ويشمل عقود الإسقاطات أيضًا كالطلاق والعتاق، وكذا يشمل المناكحات. ويشمل ما عقده المرء على نفسه لله تعالى من الطاعات كالحج والصيام والاعتكاف والقيام وما أشبه ذلك (2)
وقد ذكر بعض المفسرين أن العقد حقيقة في الربط الحسي كربط الحبل ونحوه ومجاز في الربط المعنوي.
قال الجصاص: (إن العقد كان في أصل اللغة الشدّ ثم نقل إلى الأيمان والعقود، عقد المبايعات ونحوها) (3) .
وقال الآلوسي: (أصل العقود الربط محكمًا ثم تجوّز به عن العهد الموثق) (4) .
إلاَّ أن ما نقلناه عن كتب أهل اللغة يدل على إطلاق العقد على الربط المعنوي إطلاقًا حقيقيًّا، وهذا ما ذكره صاحب مختار الصحاح وغيره.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن: 6/32.
(2) انظر القرطبي في المصدر السابق أيضًا.
(3) أحكام القرآن: 3/285.
(4) تفسير روح المعاني: 6/48.(6/629)
العقد في اصطلاح الفقهاء:
يطلق العقد في الشريعة بإطلاقين عامّ وخاص، فالمعنى العام، يراد به كل التزام تعهد الإنسان بالوفاء به سواء كان في مقابل التزام آخر كالبيع والشراء ونحوه أم لا، كالنذر والطلاق واليمين، وسواء كان التزامًا دينيًّا كأداء الفرائض والواجبات أم التزامًا دنيويًّا، قال أبو بكر الجصاص: (كل شرط شرطه إنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد، وكذلك النذور وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك) (1) .
ونقل ابن رجب الحنبلي عن بعض فقهاء المذهب إطلاق العقد على الطلاق والنذر (2)
ومن هنا يتضح لنا أن العقد بمعناه العام لا يشترط فيه تطابق إرادتين، بل يتحقق بإرادة منفردة كما رأيناه.
وفي هذا الخصوص يقول الأستاذ أحمد إبراهيم في مقال له في العقود والشروط والخيارات: (هل تسمى هذه التصرفات التي تتم بالإيجاب وحده من إعتاق وطلاق وإبراء ونحوها عقودًا، أو لا تسمى بذلك؟ لا شك في أنها عقود بالمعنى الأعم للعقد، إذ هي أمور وقعت في نفس الملتزم أولًا وعقد عليها نيته وعزم عليها عزمًا أكيدًا، ثم أبان عنها باللفظ أو بما يقوم مقامه) (3) .
على أن بعض الفقهاء المحدثين حرصوا على التمييز ما بين العقد والإرادة المنفردة من هؤلاء الأستاذ علي الخفيف حيث قال: (ومن هذا يتبين أن المناط في وجود العقد على وجه الإجمال هو التحقق من وجود إرادتي العاقدين وتوافقهما على إنشاء التزام بينهما بما يدل على ذلك من عبارة أو كتابة أو إشارة أو فعل ... وعلى ذلك فالعقد عند الفقهاء لا يكون إلا بين طرفين ولا يكون بين طرف واحد، وإذا كان من طرف واحد لم يكن عقدًا وإنما يسمى التزامًا أو تصرفًا، وقد يسمى عقدًا تسمية لغوية) (4) .
(أما المعنى الخاص للعقد فهو الالتزام الذي لا يتحقق إلا من طرفين. وهذا المعنى هو المراد عند إطلاق الفقهاء لفظ العقد، فهم يعنون به صيغة الإيجاب والقبول الصادرة من متعاقدين، وهذا هو المعنى الشائع في كتبهم) (5) . قال ابن الهمام معقبًا على كلام صاحب الهداية: النكاح ينعقد بالإيجاب والقبول، أي ذلك العقد الخاص لا ينعقد حتى تتم حقيقته في الوجود بالإيجاب والقبول (6) . وعرفه ابن عابدين بقوله: (العقد مجموع إيجاب أحد المتكلمين مع قبول الآخر) (7) .
__________
(1) أحكام القرآن: 3/285.
(2) قواعد ابن رجب، القاعدة التاسعة والثلاثون.
(3) نقلًا عن مصادر الحق للأستاذ السنهوري الهامش رقم (4) في 1/76، والبحث منشور في مجلة القانون والاقتصاد السنة الرابعة.
(4) انظر أحكام المعاملات الشرعية: ص 138
(5) انظر الأشباه والنظائر للسيوطي: ص318، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص336.
(6) انظر فتح القدير: 3/9.
(7) انظر رد المحتار على الدر المختار: 3/1.(6/630)
وقال صاحب الروض النضير في تعريفه للعقد: (والقول المنعقد به البيع هو الإيجاب والقبول في مال مع شروط معتبرة) (1) .
وعرفه المرحوم محمد قدري باشا بقوله: (العقد هو عبارة عن ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يثبت أثره في المعقود عليه) (2) .
وهذا التعريف من وجهة نظري وافٍ بالغرض، لذا يكون هو المختار عندي.
العقد في القانون الوضعي:
جاء تعريف العقد على لسان بعض رجال القانون بما يشبه تعريف الفقهاء له، فقد عرفه المرحوم منير القاضي بقوله: (هو ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه يثبت أثره في المعقود عليه) (3) . وقال عنه في عبارة أخرى: (هو اتفاق إرادتين على إنشاء التزام أو على نقله) .
وقد نحا المقنن في العراق منحى المجلة ومنحى مرشد الحيران في تعريفه للعقد، فقد نص في المادة (73) من القانون المدني على أن (العقد هو ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يثبت أثره في المعقود عليه) .
وقد فرق بعض فقهاء القانون بين لفظي الاتفاق والعقد، فقالوا: (الاتفاق هو توافق إرادتين أو أكثر على إنشاء التزام أو نقله أو إنهائه) (4) . وعرفوا العقد بما هو أخص من الاتفاق، فقالوا عنه: (هو توافق إرادتين على إنشاء التزام أو نقله) (5)
فعلى هذا الرأي يكون الاتفاق أعم من العقد. ولم يفرق البعض الآخر منهم بين الاتفاق والعقد، بل جعله بمعنى واحد، ومن هذه التعريفات ما ذكره الأستاذ جميل الشرقاوي حيث قال: (إن العقد هو توافق أو ارتباط بين إرادتين أو أكثر بقصد تحقيق آثار قانونية معينة، هذه الآثار قد تكون إيجاد التزامات على كل أو بعض أطراف العقد، وقد تكون الآثار المقصودة هي تعديل التزامات موجودة من قبل أو إنهائها أو نقلها) (6) .
__________
(1) انظر: 3/426.
(2) انظر المادة (168) من مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان وهو فقه مقنن في المعاملات الشرعية على مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
(3) انظر شرح المجلة: 1/11.
(4) نظرية العقد للأستاذ السنهوري: ص79.
(5) نظرية العقد للأستاذ السنهوري: ص80.
(6) النظرية العامة للالتزام: 1/47 نقلًا عن الأستاذ محمد عقله في بحثه حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة.(6/631)
والفرق بين تعريف الفقه الإسلامي للعقد والقانون الوضعي الذي لم يحذ حذو فقهاء المسلمين في تعريفه له هو:
(أ) إن تعريف الفقهاء المسلمين ينم عن النزعة الموضوعية، حيث ركز على أداة التعبير عن الإرادة ووسيلتها، وهي الإيجاب والقبول. أما التعريف القانوني فتظهر فيه النزعة الذاتية، حيث ركز على الإرادتين مما يوافق نظرية الإرادة الباطنة.
(ب) إن التعريف الفقهي يعرف العقد بواقعته الشرعية وهي الارتباط الاعتباري الذي يقدر الشارع حصوله بين الطرفين، أما التعريف القانوني فيعرفه بواقعته المادية وهي الاتفاق أو تلاقي الإرادتين (1) .
(ج) كما أن هناك فرقًا بين مفهوم العقد في الفقه الإسلامي وبين مفهومه في القوانين الوضعية، فهو يطلق عند الفقهاء كما رأينا بإطلاقين أحدهما عام يشمل التصرفات التي تنشأ بإرادة منفردة أو بتطابق إرادتين، وآخر خاص، يقتصر على المعنى الثاني – تطابق الإرادتين. أما في القوانين الوضعية التي لم تستمد أصولها من الشريعة الإسلامية، فنجدها تأخذ بالمعنى الخاص للعقد، وهو المعنى المراد عند إطلاق الفقهاء له كما ذكرنا.
ومن هنا يتبين لنا ميزة تعريف الفقهاء المسلمين للعقد على نظيره في القوانين الوضعية.
أركان العقد:
لا يتحقق العقد إلا بوجود أركانه الثلاثة، هي الصيغة والعاقدان والمعقود عليه. قال الدردير المالكي: (وأركان البيع ثلاثة: الصيغة والعاقدان وهما البائع والمشتري والمعقود عليه وهو الثمن والمثمن) (2) .
وقال البهوتي الحنبلي: (للبيع ثلاثة أركان؛ عاقدان ومعقود عليه وصيغة) (3) .
وقال الخطيب الشربيني الشافعي: (وأركانه – البيع – ثلاثة، وهو بائع ومشتر ومعقود عليه وهو ثمن ومثمن وصيغة وهي إيجاب وقبول) (4) .
__________
(1) الأستاذ السنهوري في مصادر الحق: 1/77.
(2) انظر الشرح الكبير: 3/2.
(3) كشاف القناع: 3/146.
(4) انظر مغني المحتاج: 2/3.(6/632)
وقد اقتصر الأحناف على ذكر الإيجاب والقبول عند كلامهم عن أركان العقد، من ذلك ما قاله الكاساني: (وأما ركن النكاح فهو الإيجاب والقبول) (1) . وقال ابن الهمام: (البيع ليس إلا الإيجاب والقبول لأنهما ركناه) (2) .
وما قاله الحنفية من اعتبار الصيغة ركن العقد يقتضي بالضرورة وجود الركنين الآخرين عند غيرهم، إذ لا يتصور تحقق الإيجاب بدون موجب ولا قبول بغير قابل، كما أن الإيجاب والقبول يقتضي وجود محل يجري التعاقد عليه.
وما جاء في بعض كتبهم يشير إلى هذا أيضًا، فقد ذكر ابن عابدين وهو حنفي المذهب عند كلامه عن النكاح أنه ينعقد بالإيجاب والقبول، ثم عقب في حاشيته على ذلك بقوله: ليس العقد الشرعي مجرد الإيجاب والقبول ولا الارتباط وحده، بل هو وجود شرعي وحسي، فالوجود الشرعي الحسي يقتضي وجود صيغة تتمثل بالإيجاب والقبول يرتبطان ارتباطًا حكميًّا ينتج عنه معنى شرعي، وهو الأثر الذي يترتب عليه الإيجاب والقبول (3) .
وجاء في المادة (267) من مرشد الحيران وهو فقه حنفي مقنن كما ذكرنا ما نصه: (يشترط لتحقق كل عقد توفر ثلاثة أشياء، وهي العاقدان وصيغة العقد ومحل يضاف إليه) .
ومن هنا يتضح للمتتبع لأقوال الحنفية بخصوص اعتبار صيغة الإيجاب والقبول هي ركن العقد، هو اصطلاح لفظي فقط.
أركان العقد في القانون:
حذا المرحوم منير القاضي في شرحه للمجلة حذو فقهاء المسلمين في اعتبار العقد يتألف من أركان ثلاثة هي: العاقدان والصيغة الدالة على إرادة العاقدين، والشيء الذي يرد عليه العقد وهو المعقود عليه (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 3/1327.
(2) انظر فتح القدير: 5/74.
(3) حاشية رد المحتار على الدر المختار: 3/9.
(4) انظر: 1/13.(6/633)
صيغة العقد:
سبق وأن قلنا إن العقد عبارة عن ارتباط إرادتين في مجلس واحد، يسمى مجلس العقد، وإن هذا الارتباط ينبئ عن الرضا والاختيار اللذين يعتبران هما أساس العقد وركنه الذي لا يقوم بغيره (1) .
وبما أن الرضا أمر خفي ليس بالإمكان معرفته، أقام الشارع مقامه ما يدل عليه من قول أو فعل محسوس. وبهذا تكون الإرادة الظاهرة هي المظهر الخارجي للتعبير عن الإرادة الباطنة، فالإرادة الباطنة التي يعبر عنها بالرضا هي الركن الحقيقي للعقد، وإلى هذا تشير عبارات كثير من الفقهاء رحمهم الله تعالى.
قال ابن عرفه المالكي: (ينعقد البيع بما يدل على الرضا) (2) . وقال الخطيب الشربيني: (وإنما احتيج في البيع إلى الصيغة لأنه منوط بالرضا، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 29] . ولقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((إنما البيع عن تراضٍ ... )) ، ثم يضيف قائلًا: إن الرضا أمر خفي لا يطلع عليه فأُنيط الحكم بسبب ظاهر وهو الصيغة) (3) .
وحكى ابن عابدين عن بعض كتب المذهب، أن ركن البيع الفعل الدال على الرضا بتبادل المِلْكين من قول أو فعل (4) . وجاء في الروض النضير نقلًا عن بعض المحققين: (لما كان البيع وغيره من المعاملات بين العباد أمورًا مبنية على فعل قلبي وهو طيبة النفس ورضى القلب وكان ذلك أمرًا خفيًّا أقام الشرع القول المعبر عما في النفس مقامه وناط به الأحكام على ما اعتيد من إقامة الأمور الظاهرة المنضبطة مقام الحكم الخفية في تعليق الأحكام بها، واعتبر أن يصدر عن قصد من المتكلم بها فلم يعتبر بكلام الساهي ولا من سبقه لسانه ولا من الحاكي ولا من المكره ولا من الجاهل لمعانيها بالكلية كالأعجمي حيث نطق بها بكلام عربي لا يعرف معناه أصلًا ونحو ذلك) (5) .
__________
(1) الرضا عند الحنفية عبارة عن امتلاء الاختيار، أي بلوغه نهايته، بحيث يفضي أثره إلى الظاهر من ظهور البشاشة في الوجه ونحوها. وأوجزه بتعريف آخر قالوا فيه: الرضا هو إيثار الشيء واستحسانه. انظر كشف الأسرار عن أصول البزدوي لعبد العزيز البخاري: 4/382، حاشية ابن عابدين على الدر المختار: 4/507. وعرفه الجمهور بأنه قصد الفعل دون أن يشوبه إكراه، انظر الخرشي على سيدي خليل: 5/9، ابن حجر في تحفه المحتاج: 4/229، المرداوي في الإنصاف: 4/265. أما الاختيار فعرفه الأحناف بقولهم: (إنه القصد إلى أمر متردد بين الوجود والعدم داخل قدرة الفاعل بترجيح أحد الأمرين على الآخر) ، ولخًَّصُوه بتعريف آخر جاء فيه: (هو القصد إلى الشيء وإرادته) . فالمكره على الشيء يختاره ولا يرضاه. انظر البخاري وابن عابدين في المصدرين السابقين. وعرفه غير الحنفية من الفقهاء بقولهم: الاختيار هو القصد إلى الفعل وتفضيله على غيره بمحض إرادته، فهو في هذه الحالة ينافي الإكراه. انظر الحطاب في مواهب الجليل: 4/245، البهوتي في كشاف القناع: 2/5، الدكتور علي محيي الدين القره داغي في رسالته مبدأ الرضا في العقود: 1/192.
(2) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/2.
(3) انظر مغني المحتاج: 2/3.
(4) انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/504.
(5) انظر: 3/426.(6/634)
ويقول الشيخ مصطفى الزرقا: (إن النطق باللسان ليس طريقًا حتميًّا لظهور الإرادة العقدية بصورة جازمة في النظر الفقهي بل النطق هو الأصل في البيان، ولكن قد تقوم مقامه كل وسيلة اختيارية أو اضطرارية مما يمكن أن يعبر عن الإرادة الجازمة تعبيرًا كاملًا مفيدًا) (1) .
يتضح لنا مما مضى أن صيغة العقد تعني ما يظهر حقيقة رغبة المتعاقدين في إنشاء العقد، سواء كان هذا التعبير باللفظ أو بالفعل أو بما سواهما، وهذه الصيغة اصطلح الفقهاء على تسميتها بالإيجاب والقبول.
وقد نحا رجال القانون الوضعي منحى فقهاء المسلمين في اعتبار الإرادة الظاهرة هي المظهر الخارجي للتعبير عن الإرادة الباطنة، وإن ما يدل عليها من قول أو فعل هو ركن العقد والصيغة التي ينشأ بها. واصطلحوا على تسمية هذه الصيغة بالإيجاب والقبول كما سيتضح لنا ذلك فيما بعد.
معنى الإيجاب والقبول في الاصطلاح:
لما كان الإيجاب والقبول هما الصيغة المعتمدة لإبرام أي عقد من العقود باعتبارهما الأداة الكاشفة لحقيقة ما يكنّه المتعاقدان، أصبح من اللازم بحث حقيقة هذين اللفظين وبأي شيء يتحقق كل منهما.
الإيجاب لغةً: الإثبات لأي شيء كان.
وشرعًا، عند الحنفية (هو الفعل الخاص الدال على الرضا الواقع أولًا سواء وقع من البائع كبعت أو من المشتري كأن يبتدئ المشتري فيقول اشتريت منك هذا بألف، والقبول الفعل الثاني) (2) .
هل الترتيب شرط بين الإيجاب والقبول؟
لقد تبين لنا من خلال تعريف الحنفية للإيجاب والقبول أنهم يعتبرون فعل العاقد الأول هو الإيجاب سواء صدر من المملك وهو البائع أو من المملك إليه وهو المشتري، معنى هذا أنهم يشترطون صدور الإيجاب أولًا من الجهة المالكة للمبيع. وهذه وجهة نظر الشافعية أيضًا، ذكر ذلك النووي عند كلامه عن صيغة العقد حيث قال: يصح البيع سواء تقدم قول البائع: بعت أو قول المشتري: اشتريت (3) . وقال الخطيب الشربيني: (ويجوز تقدم لفظ المشتري على لفظ البائع لحصول المقصود مع ذلك) (4) . إلا أنه بعد ذلك ذكر أن الإمام الشافعي والقفال، اشترطا في صيغة العقد الترتيب بين الإيجاب والقبول، ومنعا تقدم القبول على الإيجاب.
__________
(1) انظر المدخل الفقهي العام: 2/326.
(2) ابن الهمام في فتح القدير: 5/74.
(3) انظر الروضة: 3/236.
(4) انظر مغني المحتاج: 2/4.(6/635)
غير أن الشربيني رد على هذا الاعتراض، وذلك من خلال قولهما بعدم اشتراط الترتيب بين الإيجاب والقبول في النكاح، حيث أجاز الوكيل الزوج أن يبادر أولًا فيقول للوليّ: قبلت نكاح فلانة منك لفلان، يعني موكله، فيقول الولي: زوجتها فلانًا، فعقد النكاح صحيح في هذه الحالة، وقياسه أنه يجوز مثل ذلك في البيع أيضًا (1) .
وهذه وجهة نظر المالكية أيضًا، فقد ذكر ابن عرفة، أنه كما ينعقد البيع بالمعاطاة، ينعقد كذلك بتقدم القبول من المشتري على إيجاب البائع (2) . وإلى هذا ذهب الحنابلة أيضًا، ذكر ذلك ابن النجار قائلًا: (وصح تقدم قبول – على إيجاب – بلفظ أمر أو ماضٍ مجرد عن استفهام ونحوه) (3) .
فعلى هذا تكون آراء الفقهاء المتقدمة مطبقة على جواز تقدم القبول على الإيجاب، وأن ذلك لا يؤدي إلى أي خلال في العقد، لأن العبرة بالمعنى وإفادة المقصود وذلك حاصل في حالة تقدم الإيجاب على القبول أو العكس.
رأي القانون في الإيجاب والقبول:
ذكر الأستاذ منير القاضي في شرحه للمجلة أن الإيجاب معناه الإثبات (وهو أول كلام يصدر من أحد العاقدين بخصوص العقد فهو يريد إثبات العقد بانضمام قبول الثاني) . كما يعرّف القبول، بأنه الرغبة والرضا، وهو ما يصدر من العاقد ثانيًا، ومجموع الإيجاب والقبول، يسمى (صيغة العقد) (4) .
والتعريف كما هو واضح يتفق مع تعريف فقهاء المسلمين للإيجاب والقبول كما رأينا.
وقد نحا المقنن العراقي منحى فقهاء المسلمين والمجلة في تعريفه للإيجاب والقبول، حيث نص في الفقرة الأولى من المادة (77) من القانون المدني على ما يلي: (1- الإيجاب والقبول، كل لفظين مستعملين عرْفًا لإنشاء العقد، وأي لفظ صدر أولًا فهو إيجاب والثاني قبول) .
وكذلك جارى المقنن العراقي فقهاء المسلمين فيما ذهبوا إليه عندما أجاز تقدم القبول على الإيجاب ولم يشترط الترتيب بينهما، واعتبر اللفظ الصادر أولًا هو الإيجاب سواء صدر من البائع أو المشتري، كما هو الملاحظ من النص السابق.
__________
(1) انظر مغني المحتاج: 2/5.
(2) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/3.
(3) انظر منتهى الإرادات: 1/338.
(4) انظر: 1/13.(6/636)
شروط الإيجاب والقبول:
من أجل اعتبار الأثر المترتب على الإيجاب والقبول واستكمال العقد لصيغته النهائية يشترط فيهما ما يلي:
1- العلم بمضمون العقد:
وذلك بأن يسمع كل من المتعاقدين كلام صاحبه فيما لو تمّ التعاقد بينهما شفاهًا، أو يقرأه الطرف المرسل إليه الكتاب إذا كان العقد مما ينعقد بها، أو يرى الإشارة المفهمة من الأخرس.
وأن يفهم كذلك العاقد قصد الطرف المقابل , فيفهم الطرف المقابل قصد لموجب في إنشاء العقد وإيجابه وما يترتب على هذا الإيجاب , وكذا يفهم الموجب قصد القابل في رضاه لما أوجبه (1)
وهذا الشرط أمر بديهي، لأن الجهل بالعقد لا يتحقق معه القصد والرغبة في إنشاء العقد، وبدونهما تنعدم الفائدة من إبرامه.
2- موافقة القبول الإيجاب:
وهذا الشرط أيضًا ضروري لصحة إنشاء العقد، لأنه لا يتم إلا عن توافق الإرادتين، فلو انعدم التوافق بينهما لم يحقق العقد غرضه فلا فائدة في إنشائه، وفي هذا يقول النووي: (يشترط موافقة القبول الإيجاب، فلو قال: بعت بألف صحيحة، فيقال: قبلت بألف قراضة أو بالعكس، أو قال: بعت جميع الثوب بألف، فقال: قبلت نصفه بخمسمائة لم يصح) (2) .
ويعتبر من قبيل تطابق الإرادتين وتوافق الإيجاب والقبول ما إذا كان الخلاف جزئيًّا وليس حقيقيًّا في الصيغة، مثال ذلك: ما إذا قال البائع للمشتري: بعتك هذا الكتاب بدينار، فقال المشتري: قبلته بدينارين مثلًا.
ولم يعتبر الفقهاء الذين ذكروا هذه المسألة الخلاف بين الإيجاب والقبول خلافًا فاحشًا يؤدي إلى إلغاء العقد (3) .
__________
(1) انظر الأستاذ محمد عقلة في بحثه حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة
(2) انظر الروضة: 3/340.
(3) انظر النووي في المصدر السابق وابن الهمام في فتح القدير: 5/77.(6/637)
3- عدم الفصل بين الإيجاب والقبول:
مما اشترطه العلماء رحمهم الله تعالى في صيغة العقد، هو عدم الفصل بين لفظي الإيجاب والقبول بفاصل، لأن وجود الفاصل بينهما، يعني الانصراف عن العقد والدليل على عدم الإرادة الجازمة في إبرامه، قال النووي: (يشترط أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول وأن لا يتخللهما كلام أجنبي عن العقد، فإن طال أو تخلل، لم ينعقد سواء تفرقا عن المجلس أم لا) (1) .
4- عدم الهزل في كلام العاقد:
من الشروط التي ينبغي تحققها في ركن العقد، أن يكون العاقد غير هازل في كلامه، لأن الهزل دليل على عدم الرغبة الصادقة في إبرام العقد.
5- أن يكون كل من الإيجاب والقبول باتًّا منجزًا غير معلق على شرط ينافي مقتضى العقد أو مضافًا إلى زمن في المستقبل
فلو قال رجل لآخر: بعتك هذا العرض غدًا أو بعد أسبوع مثلًا، فلا يتم العقد في هذه الحالة، ذلك أن الأصل في عقود التمليكات أن يترتب عليها أثرها فورًا، فالتعليق على شرط أو الإضافة إلى زمن مستقبل يتنافى مع مقتضى العقد، فلم يصح (2) .
6- اتحاد مجلس العقد:
من شروط صحة العقد اتحاد المجلس، والمقصود بذلك أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، فإن اختلف المجلس لا ينعقد، فلو أوجب أحد العاقدين البيع، فقام الآخر عن المجلس قبل القبول أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس، ثم قبل لا ينعقد (لأن القياس أن لا يتأخر أحد الشطرين عن الآخر في المجلس لأنه كما وجد أحدهما انعدم في الثاني من زمان وجوده، فوُجِد الثاني والأول منعدم فلا ينتظم الركن) (3) . إلا أن اعتبار ذلك كما يقول الكاساني يؤدي إلى انسداد باب البيع فتوقف أحد الشطرين على الآخر حكمًا وجعل المجلس جامعًا للشطرين مع تفرقهما للضرورة، وحق الضرورة يصير مقتضيًا عند اتحاد المجلس (4) .
__________
(1) الروضة أيضًا: 3/340.
(2) الأستاذ محمد عقلة في بحثه السابق.
(3) بدائع الصنائع: 6/2992.
(4) بدائع الصنائع: 6/2992.(6/638)
7- أن تكون صيغة الإيجاب والقبول بلفظ الماضي:
يؤثر فقهاء المسلمين صيغة الماضي لانعقاد العقد، لأنها تعتبر مظهرًا واضحًا للتعبير عن الإرادة في مرحلتها النهائية، الإرادة التي تجاوزت دور التردد والتفكير والمفاوضة والمساومة إلى دور الجزم والقطع والبت والحسم، أما غيرها من صيغ المضارع والأمر والاستقبال فلأنها تحتمل الحال والاستقبال، ولأن الصيغة لا بدّ من أن تتمحض للحال دون الاستقبال، كذلك وجب الرجوع في هذه الصيغة إلى الظروف والملابسات، فإن دلت الصيغة بطريق الاقتضاء على الحال انعقد العقد (1) .
وفي ذلك يقول الكاساني: إن الإيجاب والقبول قد يقع بصيغة الماضي وقد يقع بصيغة الحال، أما صيغة الماضي فيتم الركن بها، لأنها وإن كانت للماضي وضعًا لكنها اعتبرت إيجابًا للحال في عرف أهل اللغة والشرع، والعرف قاضٍ على الوضع.
ومثل صيغة الماضي ما إذا كان الإيجاب بلفظ الحال والقبول بلفظ الماضي كأن يقول البائع: خذ هذا الشيء بكذا، أو: أعطيتك بكذا، أو: هو لك بكذا، فيقول المشتري: قبلت، أو: رضيت، فالعقد يتم في هذه الحالة (لأن كل واحد من هذه الألفاظ يؤدي معنى البيع وهو المبادلة، والعبرة للمعنى لا للصورة) (2) .
وإذا كان الإيجاب والقبول بلفظ الحال، وكانت نية المتبايعين متجهة إلى إبرام العقد، فالركن يتم في هذه الحالة، مثال ذلك: إذا قال البائع: أبيعه منك بكذا وقال المشتري: أشتريه، ونويا الإيجاب فقد تم الركن أيضًا. وقد علل الكاساني سبب وجوب النية في هذه الصيغة وإن كانت صيغة أفعل للحال في الصحيح، لأنه غلب استعمالها للاستقبال إما حقيقة أو مجازًا فوقعت الحاجة إلى التعيين بالنية. (3) .
أما انعقاد البيع بصيغة الاستفهام، فلا تصح باتفاق الفقهاء، فلو قال رجل لآخر: أتبيعني هذه السلعة بكذا أو أبعتها مني بكذا، فأجابه الطرف الآخر بالقبول، لا يتم العقد ما لم يقل الطرف الأول وهو المشتري اشتريت (4) .
وهل ينعقد بصيغة الاستقبال وهي صيغة الأمر، بأن يقول المشتري للبائع: بع هذا الثوب مني بكذا، فيقول البائع: بعت، فعلى رأي الأحناف لا ينعقد البيع ما لم يقل المشتري: اشتريت، ومثل هذه الصيغة أيضًا في الحكم ما إذ قال البائع للمشتري: اشتر مني هذا الشيء بكذا، فقال: اشتريت، فلا ينعقد البيع أيضًا ما لم يقل البائع: بعت (5) .
__________
(1) الأستاذ السنهوري في مصادر الحق: 1/85.
(2) انظر الكاساني في البدائع: 6/2983.
(3) انظر الكاساني في البدائع: 6/2983.
(4) البدائع: 6/2983، ابن قدامة في المغني: 3/481.
(5) الكاساني في البدائع أيضًا: 6/2984.(6/639)
وإلى هذا ذهب الحنابلة في رواية عنهم (1) . وقال الشافعية بجواز العقد في هذه الحالة أيضًا، فقد حكى النووي عن الغزالي، أنه لو قال أحد المتبايعين: بعني، فقال: قد باعك الله أو: بارك الله لك فيه، فإن نوى المتعاقدان البيع، صح، وإلا فلا (2) . وبهذا قال المالكية أيضًا (3) . وهذه هي الرواية الثانية للحنابلة (4) .
وهذا ما أختاره، لأن النية هي المعتبرة في مثل هذه العقود، والله أعلم.
كيف يتم العقد؟
إذا أوجب أحد المتعاقدين العقد بالصيغة الدالة عليه على النحو الذي ذكرناه، كان للمتعاقد الآخر أن يقبل هذا الإيجاب إلى حين انفضاض المجلس، وهذا ما يسمى بخيار القبول.
ولما كان الموجب نفسه بالخيار أيضًا في رأي أكثر المذاهب (5) بين البقاء على إيجابه أو الرجوع عنه، فمعنى ذلك أن الإيجاب غير ملزم، وللموجب أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول، وهذا ما يسمى بخيار الرجوع، فإذا انفض المجلس دون أن يصدر القبول، سقط الإيجاب. وإذا بقي الموجب على إيجابه، وصدر من المتعاقد الآخر قبل انفضاض المجلس قبول يطابق الإيجاب من جميع الوجوه، انعقد العقد (6) .
حكم التعاقد بغير صيغة لفظية:
قلنا فيما سبق: إن صيغة العقد تظهر حقيقة رغبة المتعاقدين في إبرام العقد وإن صيغة الماضي هي الصيغة المؤثرة عند فقهاء المسلمين لانعقاد العقد، ونريد أن نبين هنا حكم ما إذا أراد المتعاقدان أن يعبِّرا عن رغبتهما بغير صيغة لفظية، سواء كان ذلك بمحض اختيارهما كما في التعاطي أو اضطر أحدهما أو كلاهما لذلك كالإشارة بالنسبة للأخرس، أو المراسلة والكتابة بالنسبة للغائبين.
__________
(1) انظر المغني: 3/481.
(2) انظر الروضة: 3/339.
(3) الخرشي على سيدي خليل: 5/6.
(4) المغني: 3/481.
(5) سنتكلم عن هذه الجزئية بالتفصيل بإذن الله.
(6) انظر مصادر الحق: 2/5.(6/640)
رأي الفقهاء في البيع بالمعاطاة:
اتجه الفقهاء في البيع بالتعاطي اتجاهين:
1- ذهب أصحاب الاتجاه الأول إلى عدم صحة البيع بالمعاطاة هذا هو رأي الإمام الشافعي، جاء في الروضة: (المعاطاة ليست بيعًا على المذهب) (1) . وقال الفيروز أبادي: (ولا ينعقد البيع إلا بالإيجاب والقبول، فأما المعاطاة فلا ينعقد بها البيع) (2) .وبهذا قال الكرخي من الحنفية فيما لو كان المعقود عليه نفيسًا (3) .وحكى ابن قدامة عن القاضي الحنبلي مثل هذا الرأي أيضًا (4) . وبه قالت الزيدية والهادوية (5) .
2- ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز البيع بالتعاطي، جاء في مختصر سيدي خليل المالكي: (ينعقد البيع بما يدل على الرضا وإن بمعاطاة) (6) . قال الخرشي معقبًا على ذلك: وينعقد البيع وإن كان ما يدل على الرضا أو الدال عليه معاطاة، كأن يعطي رجل لآخر الثمن فيعطيه المثمون من غير إيجاب ولا استيجاب (7) . وهذه وجهة نظر الأحناف ما عدا الكرخي، نص على ذلك صاحب الهداية حيث قال: ينعقد البيع بالتعاطي في النفيس والخسيس وهو الصحيح لتحقق المراضاة من المتعاقدين (8) ، وهذا ما نص عليه الإمام أحمد (9) . وبه قال بعض أئمة الشافعية أيضًا، وهو المختار عند النووي والمتولي والبغوي، لرجحان دليل جواز البيع بالمعاطاة من جهة، لأنه على حد تعبير صاحب الروضة، لم يصح في الشرع اشتراط لفظ، فوجب الرجوع إلى العرف كغيره من الألفاظ (10) .
ومن أبرز أدلة الجمهور على جواز البيع بالمعاطاة ما يلي:
(أ) أن الله قد أحلّ البيع ولم يبين كيفيته، فوجب الرجوع فيه إلى العرف، وعرف الناس جارٍ على هذا.
(ب) لم ينقل عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا عن أحد من أصحابه مع كثرة تعاملهم بالبيع استعمال صيغة الإيجاب والقبول، ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم، لنقل نقلًا شائعًا.
(ج) أن الناس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر ولم ينكر عليهم أحد، فكان ذلك إجماعًا (11) .
والمرجح عندي رأي الجمهور لوجاهة أدلتهم ولما فيه من تيسير على الناس.
__________
(1) انظر: 3/336.
(2) انظر المهذب: 1/258.
(3) انظر فتح القدير: 5/77.
(4) انظر المغني: 3/481.
(5) الروض النضير: 3/426.
(6) انظر الخرشي على سيدي خليل: 5/5.
(7) انظر الخرشي على سيدي خليل: 5/5.
(8) انظر فتح القدير5/77.
(9) انظر المغني: 3/480.
(10) الروضة: 3/337.
(11) ابن الهمام في فتح القدير: 5/77، ابن قدامة في المغني: 3/481.(6/641)
البيع بالإشارة:
اتفق الفقهاء على أن إشارة الأخرس تقوم مقام لفظه، فإن لم تفهم إشارته أو جنّ أو أغمي عليه قام وليه من الأب أو وصية أو الحاكم مقامه.
قال النووي: (يصح بيع الأخرس وشراؤه بالإشارة والكتابة) (1) . وهذا ما نص عليها الفقهاء الآخرون (2) .
حكم التعاقد بالكتابة والمراسلة:
1- ذهب جمهور العلماء إلى جواز ذلك، قال الكاساني: (والأصل أن أحد الشطرين من أحد العاقدين في باب البيع يتوقف على الآخر في المجلس ولا يتوقف على الشطر الآخر من العاقد فيما وراء المجلس بالإجماع إلا إذا كان عنه قابل أو كان بالرسالة أو الكتابة) (3) .
وقد دلل الكاساني على وجهة نظره هذه بما يلي:
(أ) فيما يخص المراسلة قال: إن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسل وناقل لكلامه إلى المرسل إليه، فكأنه حضر بنفسه فأوجب البيع وقبل الآخر في المجلس.
(ب) أما بالنسبة للكتابة، فإن خطاب الغائب لا يكون إلا بطريق الكتابة، وخطابه بمثابة حضوره بنفسه، فكأنه خاطب بالإيجاب وقبل الآخر في المجلس.
فعلى هذا لو أرسل رجل ببغداد رسولا إلى البصرة مثلًا قائلا للرسول: إني بعت داري التي في البصرة لفلان الغائب فاذهب إليه وأخبره بذلك، فذهب الرسول وبلغ الرسالة، فقال المشتري في مجلسه ذلك: قبلت، انعقد البيع. ومثل الرسالة في الحكم ما إذا أبرق له برقية أو كتب له رسالة يخبره ببيع داره أو سلعته المعينة، فقبل المخاطب، فالعقد يتمّ في هذه الحالة.
ولو خاطب ثم رجع قبل قبول الآخر، صح رجوعه، وكذا لو أرسل رسولا ثم رجع (لأن الخطاب بالرسالة لا يكون فوق المشافهة، وذا محتمل للرجوع فههنا أولى) سواء علم الرسول برجوع المرسل أو لم يعلم.
__________
(1) انظر الروضة: 3/341.
(2) انظر ابن قدامة في المغني: 3/485، الكاساني في البدائع: 6/2988، الخرشي: 5/5.
(3) البدائع أيضًا: 6/2993.(6/642)
إلا أنه في حالة تكذيب المرسل إليه، على المرسل إثبات ذلك بالبينة أو بأية وسيلة إثبات أخرى.
ومثل عقد البيع في الحكم عقد النكاح أيضًا، حيث يجوز عقده بالرسالة أو الكتابة، ويعتبر محل بلوغ الرسالة أو الكتابة هو مجلس العقد، إلا أنه ينبغي مراعاة الإشهاد في النكاح، إذ لا نكاح إلا بشهود. (1) .
وبجواز التعاقد بواسطة الكتابة والمراسلة قال الإمام الشافعي أيضًا، فقد ذكر النووي في الروضة، أن البيع ينعقد بالمكاتبة على رأي المذهب، لحصول التراضي (2) .
وذكر في موضع آخر قائلًا: لو أن رجلًا قال بعت داري لفلان وهو غائب، فلما بلغه الخبر، قال: قبلت، انعقد البيع، لأن النطق على حد تعبيره أقوى من الكتابة، وإذا قبل المكتوب إليه تثبت له خيار المجلس ما دام في مجلس القبول، ويتمادى خيار الكاتب أيضًا إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه، حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه مجلسه، صح رجوعه ولم ينعقد البيع (3) .
وكذا أجاز المالكية (4) . والحنابلة (5) التعاقد بالمكاتبة والمراسلة.
2- ذهب بعض فقهاء الشافعية إلى عدم جواز التعاقد بالكتابة والمراسلة (6) . وهذا هو رأي الزيدية والهادوية (7)
والرأي المختار عندي هو رأي الجمهور الذي أجازوا فيه التعاقد بالكتابة والمراسلة لوجاهة أدلتهم من جهة ولما فيه من مصلحة وتيسير على الناس.
الصيغة التي يتم بها التعاقد في القانون:
نحا المقنن العراقي منحى فقهاء المسلمين عندما نص في الفقرة الثانية من المادة (77) من القانون المدني على انعقاد العقد بإيجاب وقبول بلفظ الماضي وبلفظ المضارع أو الأمر إذا أريد بهما الحال (8) .
وقد اعتبر المقنن المذكور صيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد صيغة يصح التعاقد بها، والوعد ملزم في هذه الحالة إذا انصرف إلى ذلك قصد المتعاقدين، وهذا هو منطوق المادة (78) من القانون المدني العراقي التي نصت على ما يلي: (صيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد ينعقد بها العقد وعدًا ملزمًا إذا انصرف إلى ذلك قصد العاقدين) .
والوعد ملزم ديانةً عند فقهاء المسلمين، أما قضاءً فهو محل خلاف بينهم على ما فصلته كتب الفقه (9) .
__________
(1) الكاساني في البدائع أيضًا: 6/3994.
(2) انظر: 3/338.
(3) انظر: 3/338.
(4) انظر الدردير في الشرح الكبير: 3/3.
(5) انظر البهوتي في كشاف القناع: 3/148.
(6) الروضة أيضًا: 3/339.
(7) انظر الروض النضير: 3/426
(8) ونص الفقرة كما يلي: (2- ويكون الإيجاب والقبول بصيغة الماضي كما يكونان بصيغة المضارع أو بصيغة الأمر إذا أريد بهما الحال) .
(9) انظر بحثنا الوفاء بالوعد والمقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة المنعقدة بالكويت. والمطبوع على الآلة الكاتبة.(6/643)
رأي القانون في المتعاقد بغير المشافهة:
جارى المقنن العراقي فقهاء المسلمين عندما أجاز التعاقد بواسطة الكتابة والمراسلة والإشارة أو أية وسيلة أخرى تدل على رغبة المتعاقدين في التعاقد، بهذا قضت المادة (79) من القانون المدني والتي نصت على ما يلي: (كما يكون الإيجاب أو القبول بالمشافهة يكون بالمكاتبة وبالإشارة الشائعة الاستعمال ولو من غير الأخرس وبالمبادلة الدالة على التراضي وباتخاذ أي مسلك آخر لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على التراضي) .
واعتبر المقنن المذكور عرض البائع سلعته ووضع قائمة الأسعار بإزائها من قبيل الإيجاب، ويعتبر هذا من وجهة نظر الفقه الإسلامي من قبيل البيع بالتعاطي.
فقد نصت الفقرة الأولى من المادة (80) على أنه: (1- يعتبر عرض البضائع مع بيان ثمنها إيجابًا) .
أما الفقرة الثانية من المادة المذكورة فقد تطرقت إلى موضوع النشر والإعلان من قبيل التاجر لتجارته، فلا يعتبر مثل هذا التصرف إيجابًا عند الشك، بل يعتبر من قبيل الدعوة إلى التفاوض. ويفهم من ذلك أن الوسائل المذكورة تكون إيجابًا فيما لو انتفى الشك (1) .
خيار القبول في القانون!
وكما أعطى فقهاء المسلمين للمتعاقدين حق الخيار في تنفيذ العقد أو إلغائه بعد صدور الإيجاب إلى آخر المجلس، كذلك الأمر عند المقنن العراقي، فقد جارى الفقه الإسلامي في هذه المسألة في هذه المسألة وذلك بموجب المادة (82) من القانون المدني عندما نص فيها على ما يلي: (المتعاقدان بالخيار بعد الإيجاب إلى آخر المجلس، فلو رجع الموجب بعد الإيجاب وقبل القبول أو صدر من أحد المتعاقدين قول أو فعل يدل على الإعراض، يبطل الإيجاب ولا عبرة بالقبول الواقع بعد ذلك) .
وفيما لو تكرر الإيجاب من الموجب قبل قبول الطرف الثاني، فقد أبطل المقنن المذكور الإيجاب الأول واعتبر الثاني نافدًا، بهذا قضت المادة (83) من القانون المدني، ونصها كالآتي: (تكرار الإيجاب قبل القبول يبطل الأول ويعتبر فيه الإيجاب الثاني) .
والملاحظ أن المقنن العراقي لم يتطرق في المادة المذكورة، ولا في غيرها من مواد القانون المدني إلى موضوع خيار المجلس، الذي قال به الشافعية والحنابلة وأنكره المالكية والحنفية، مما يفهم منه رفض المقنن لفكرة خيار المجلس.
__________
(1) ونص الفقرة كالآتي: (أما النشر والإعلان وبيان الأسعار الجاري التعامل بها وكل بيان آخر متعلق بعروض أو بطلبات موجهة للجمهور أو للأفراد فلا يعتبر عند الشك إيجابًا وإنما يكون دعوة إلى التفاوض) .(6/644)
تطابق الإيجاب والقبول شرط لصحة العقد في القانون:
وكما اشترط فقهاء المسلمين تطابق الإيجاب والقبول لصحة العقد، اشترطه المقنن العراقي، أيضًا، حيث نص في المادة (85) من القانون المدني على ما يلي: (إذا أوجب أحد العاقدين يلزم لانعقاد العقد قبول العاقد الآخر على الوجه المطابق للإيجاب) .
وقد بين المقنن في المادة (86) الكيفية التي يتم بها تطابق الإيجاب والقبول، وذلك في فقرتين، نص في الأولى منهما على ما يلي: (1- يطابق القبول الإيجاب إذا اتفق الطرفان على كل الوسائل الجوهرية التي تفاوضا فيها، أما الاتفاق على بعض هذه المسائل فلا يكفي لالتزام الطرفين حتى لو أثبت هذا الاتفاق بالكتابة) .
أما الفقرة الثانية فقد تناولت حكم ما إذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية أثناء العقد واحتفظا بمسائل تفصيلية على أساس أن يتفقا عليها فيما بعد، ولم يشترط عند التعاقد بإلغاء العقد في حالة عدم الاتفاق على تلك المسائل، ففي هذه الحالة يرى المقنن نفاذ العقد.
وإذا نشب خلاف في المستقبل حول المسائل المسكوت عنها حين التعاقد، فالأمر يؤول إلى المحكمة لتقضي بها طبقًا لطبيعة الموضوع ولأحكام القانون والعرف والعدالة (1) .
مجلس العقد:
سبق وأن ذكرنا أن اتحاد المجلس شرط في إبرام العقد، والغرض من هذا الشرط، هو تحديد المدة التي يصح أن نفصل القبول عن الإيجاب حتى يتمكن من عرض الإيجاب من المتعاقدين أن يفكر في الأمر فيقبل الإيجاب أو يرفضه، ولو أردنا أن نشترط على الطرف المقابل القبول فورًا، لألحقنا به الضرر من جراء ذلك، إذ ربما لا يتهيأ له الوقت الكافي للتدبر.
وفكرة مجلس العقد في الفقه الإسلامي كما يقول عنها الأستاذ السنهوري (نظرية بلغت من الإتقان مدى كبيرًا لولا إغراقها في المادية، فلا يطلب من المتعاقد الآخر القبول فورًا بل له أن يتدبر بعض الوقت، ولكن من جهة أخرى لا يسمح له أن يمعن في تراخيه إلى حد الإضرار بالموجب وذلك بإبقائه معلقًا مدة طويلة دون الرد على إيجابه، فوجب إذن التوسط بين الأمرين، ومن هنا نبتت نظرية مجلس العقد) (2) .
__________
(1) ونص الفقرة الثانية من المادة (86) كالآتي: (2- وإذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد واحتفظا بمسائل تفصيلية يتفقان عليها فيما بعد ولم يشترطا أن العقد يكون غير منعقد عند عدم الاتفاق على هذه المسائل فيعتبر العقد قد تم وإذا وقع خلاف على المسائل التي لم يتم الاتفاق عليها فالمحكمة تقضي فيها طبقًا لطبيعة الموضوع ولأحكام القانون والعرف والعدالة)
(2) انظر مصادر الحق: 2/6.(6/645)
حدود مجلس العقد:
يؤخذ مما قدمنا من أقوال الفقهاء رحمهم الله تعالى أن المجلس هو المكان الذي يضم المتعاقدين ويبدأ من وقت صدور الإيجاب ويستمر ما دام المتعاقدان منصرفين إلى التعاقد ولم يبديا إعراضًا عنه.
ويعتبر المجلس منفضًّا في حالة الإعراض كما قلنا وفي حالة قيام العاقد وتركه المكان الذي صدر فيه الإيجاب.
ويعتبر المجلس قد استنفد غرضه في حالة قبول أو رفض الطرف الثاني.
ولو انفض المجلس دون أن يقبل الطرف المقابل، فالإيجاب يعتبر لاغيًا في هذه الحالة ولا فائدة في قبول الطرف الآخر بعدئذ، فإن أفصح عن قبوله، عد قبوله إيجابًا مبتدأ يحتاج إلى قبول من الطرف الأول في مجلس الإيجاب المبتدأ.
والعلة الفنية في مجلس العقد كما يقول الأستاذ السنهوري: إن الأصل هو ألا يتوقف الإيجاب على وجود القبول، لأن وجود الأخير يعني انعدام الإيجاب من زمان وجوده، فوجد القبول، والإيجاب منعدم، ولكن لو أردنا أن نعتبر ذلك، لآل الأمر إلى سد باب التعاقد، فتوقف الإيجاب على القبول حكمًا في مجلس العقد، وجعل المجلس جامعًا للشطرين مع تفرقهما للضرورة (1)
تبدل مجلس العقد:
لقد تفرع عن الكلام عن مجلس العقد واعتبار اتحاده شرطًا في صحة العقد حكم ما لو تبدل مجلس العقد، كأن يكون الطرفان الراغبان في إبرام عقد من العقود راكبين في عربة أو سفينة أو سائرين على الأرض، فهل يعتبر المتعاقدان في مثل هذه الحالة في مجلس واحد، وبالتالي ينطبق عليهما من الأحكام ما ينطبق على غيرهما ممن يضمهما مجلس واحد؟
الجواب على هذا: إن فقهاء الحنفية قد صوروا مجلس العقد تصويرًا ماديًّا عندما اعتبروا فيه وحدة المكان، فالمجلس، على رأيهم يتبدل بالمشي، لأن الإيجاب وقع في مكان ثم وقع القبول في مكان آخر حيث انتقل المتعاقدان خطوة عن المكان الأول الذي تمَّ فيه الإيجاب، والخطوة هذه تعتبر فاصلًا بين الإيجاب والقبول، فعليه لا يعتبر العقد مستكملًا شروطه في هذه الحالة، فلا ينعقد. وكذا الحال في السير على الدابة، وفي الوقوف ثم المشي أو السير، وتختلف السفينة عندهم عن الدابة من جهة أن المجلس لا يتبدل بجريان السفينة، لأن الماء هو السبب في تحريك السفينة ولا دخل للفرد في ذلك، والمتعاقدان لا يملكان إيقافها بعكس الدابة.
فعلى هذا الرأي يتبدل المجلس بالنسبة للراكبين على الدابة ولا يتبدل بالنسبة للراكبين على ظهر السفينة.
ويتبدل المجلس كذلك بالمضي في الصلاة أو في الشرب أو في الأكل أو في نوم المتعاقدين مضطجعين لا جالسين (2) .
اعتراض الأستاذ السنهوري على تحديد مجلس العقد بوحدة المكان:
أثار المرحوم السنهوري اعتراضًا حول تحديد الحنفية مجلس العقد بالمكان دون أن ينظروا إليه من الناحية الزمنية، حيث قال: أليس الأولى أن ننبذ الوحدة المكانية والاستعاضة عنها بالوحدة الزمنية؟ (3) .
__________
(1) انظر مصادر الحق 2/7.
(2) الكاساني في البدائع 6/2993.
(3) انظر مصادر الحق: 2/14.(6/646)
فعلى هذا الرأي نجعل مجلس العقد ممتدًّا مدة الزمن الذي يظل فيه المتعاقدان مشتغلين بالتعاقد سواء برحا في مكانهما أو غادراه، فإذا اشتغل كلاهما أو أحدهما بشيء آخر وأعرض عن الكلام في العقد، فعندئذٍ نحكم بانقطاع المجلس واعتباره منفضًّا، ولا يحكم بانفضاضه فيما سوى ذلك حتى لو برحا هذا المكان. وعندئذٍ لا حاجة بنا إلى التمييز بين المشي والسير وبين سير الدابة وجريان السفينة، ثم لا نحتار بعدُ فيما استحدث من طرق المواصلات كالسير بقطار السكة الحديدية والسفر بالسفن بالبخارية وغير ذلك (1) .
والرأي الذي ذكره الأستاذ السنهوري وجيه من وجهة نظري لما ذكره من تعليل، والله أعلم.
الآثار المترتبة على نظرية مجلس العقد:
يترتب على القول بمجلس العقد الأحكام التالية:
* أولًا: أن يكون للطرف المخاطب بالإيجاب خيار القبول لحين انفضاض المجلس، فهو غير ملزم بالقبول، إذا لو ألزمناه بذلك، لآل الأمر إلى تجارة من غير تراضٍ وهذا لا يجوز.
* ثانيًا: أن يكون للطرف الموجب خيار الرجوع عن إيجابه إلى أن يصدر القبول أو ينفض المجلس، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية، والحنابلة (2) . وخالف المالكية حيث لم يجيزوا للموجب حق الرجوع (3) .
__________
(1) انظر مصادر الحق: 2/14.
(2) ابن الهمام في فتح القدير: 5/78، النووي في الروضة: 3/339، البهوتي في كشاف القناع: 3/147.
(3) القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن، وقد جاء فيه ما نصه: (ولو قال البائع بعتك بعشرة ثم رجع قبل أن يقبل المشتري فقد قال – يعني مالكًا – ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشتري أورده) ، انظر 3/357 الطبعة الثالثة، دار الكتب المصرية.(6/647)
وقد دلل الجمهور على وجهة نظرهم هذه بما يلي:
(أ) أن الثابت للقابل بالإيجاب حق التملك في المعقود عليه، في حين أن الثابت للموجب حق الملك، وهو أقوى من حق التملك فيقدم عليه.
(ب) أن الالتزام لا يتحقق إلا إذا وجد العقد، والعقد لا يتم إلا بتطابق الإيجاب والقبول، فما لم يوجد قبول، لا يعتبر العقد موجودًا ومن ثَمَّ لا ينشأ التزام، ومن هنا جاز للموجب الرجوع عن إيجابه قبل القبول إذا لم يوجد بعد التزام يمنعه من الرجوع.
وقد احتج المالكية بقولهم: إن الموجب قد بذل ذلك من نفسه وأوجبه عليها، فليس من حقه الرجوع بعد ذلك.
ورأي الجمهور هو الراجح لوجاهة أدلتهم.
* ثالثًا: أن يعطى للمتعاقدين خيار المجلس وهذا الخيار يعني أن لكل عاقد الحق في فسخ العقد ولو بعد إبرامه ما داما في مجلس واحد، فإذا انفض المجلس بطل الخيار.
وخيار المجلس محل خلاف بين الفقهاء، فقد أثبته كثير من فقهاء السلف، منهم ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح والشعبي، وبه قال الشافعية والحنابلة (1) ، مستدلين بالحديث الصحيح الذي رواه ابن عمر وهو أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يفترقا وكان جميعًا أو يخيِّر أحدهما الآخر، فإن خيَّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع)) (2) .
__________
(1) انظر النووي في الروضة 3/432، وابن النجار الحنبلي في منتهى الإرادات 1/356، المغني 3/482.
(2) الحديث متفق عليه.(6/648)
وقد أنكر المالكية والحنفية خيار المجلس، بحجة: أن في الفسخ إبطالًا لحق الطرف الآخر، فلا يجوز، وحملوا الحديث على خيار القبول (1) .
والراجح عندي من الآراء الرأي الذي لا يقول بخيار المجلس، ومما يؤكد رجحان هذا الرأي هو:
1- أن الأخذ برأي القائلين بخيار المجلس يقتضي تعليق العقد لحين انفضاض المجلس، ولما كان وقت انفضاض المجلس غير منضبط فهو متوقف على التفرق، وفي ذلك محاذير كثيرة (2) .
2- أن القول بخيار المجلس يزعزع من قوة العقد الملزمة، وما هي الفائدة من اشتراط تطابق الإرادتين واقتران القبول والإيجاب إذا كان العقد غير مستقر ومعرَّضًا للفسخ.
3- إذا كان القصد من خيار المجلس هو إعطاء حرية أكثر للمتعاقدين في المضي في العقد أو فسخه، ففي خيار القبول وخيار الرجوع من التدبر والتروّي ما يكفي الطرفين لاتخاذ القرار الحاسم لإمضاء العقد أو إلغائه.
4- أما الاحتجاج بالحديث فقد حمله الأحناف على خيار القبول وفيه إشارة إليه، فإن المتعاقدين متبايعان حالة المباشرة لا بعدها، أو يحتمل خيار القبول فيحمل عليه (3) .
التعاقد بين الغائبين:
إن التعاقد بين الغائبين كالتعاقد بين الحاضرين، يجب أن يتم في مجلس العقد وللموجب فيه خيار الرجوع في إيجابه، وللمتعاقد الآخر خيار القبول، ويجب فيه مطابقة القبول للإيجاب على النحو الذي فصلناه في التعاقد بين الحاضرين.
إلاَّ أن التعاقد بين الغائبين له خصائص كما ذكر الأستاذ السنهوري يتميز بها عن التعاقد بين الحاضرين من حيث:
(أ) مجلس العقد.
(ب) وقت تمام العقد.
(ج) خيار الرجوع وخيار القبول وخيار المجلس
__________
(1) انظر فتح القدير 5/81، بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد 2/139.
(2) انظر الأستاذ السنهوري في مصادر الحق 2/38.
(3) انظر ابن الهمام في فتح القدير: 5/81.(6/649)
وها أنا أتكلم عن هذه المسائل الثلاث بشيء من الإيجاز:
(أ) مجلس العقد في التعاقد بين الغائبين:
قلنا عند كلامنا عن التعاقد بغير صيغة لفظية: إن الأصل في الإيجاب والقبول أن يقترن أحدهما بالآخر في مجلس واحد، فإذا أوجب أحد المتعاقدين في غياب المتعاقد الآخر، لم يتوقف شطر العقد على الشطر الآخر إلا في المجلس، بحيث لو أراد فضولي أن يقبل وهو في المجلس نيابة عن المتعاقد الغائب، انعقد العقد على رأي الأحناف، وتوقف على إجازة الغائب، ولا يتوقف شطر العقد على الشطر الآخر فيما وراء المجلس إلا إذا كان التعاقد بواسطة الرسالة أو الكتابة، هذا ما صرحت به كتب الحنفية، حيث قال صاحب الهداية: (والكتاب كالخطاب وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة) (1) .
فعلى هذا يكون مجلس العقد في التعاقد بين الغائبين غير مجلسه في التعاقد بين الحاضرين، فالمجلس الثاني هو محل صدور الإيجاب، أما المجلس الأول فهو محل بلوغ الإيجاب إلى المتعاقد الغائب، أي محل أداء الرسالة أو بلوغ الكتاب، وهذا الفرق كما يقول الأستاذ السنهوري اقتضته طبيعة التعاقد بين الغائبين، فالمتعاقد الآخر غائب عن المجلس الذي صدر فيه الإيجاب، فلا بد من بلوغ الإيجاب إليه، ومحل بلوغه يعتبر مجلس العقد (2) .
(ب) متى يعتبر العقد مبرمًا بين الغائبين:
قلنا فيما سبق: إن العقد يتم بين الحاضرين عند سماع كل عاقد كلام صاحبه في مجلس العقد، ولو لم يسمع الطرف المقابل كلام صاحبه لا يصح العقد، وهذا ما نص عليه الفقهاء في كتبهم، قال ابن الهمام معقبًا على كلام صاحب الهداية في قوله: (البيع ينعقد بالإيجاب والقبول) . يعني إذا سمع العاقد كلام صاحبه، ولو قال البائع: لم أسمعه وليس به صمم وقد سمعه من كان حاضر المجلس، فلا يصدق (3) .
ولما كان من المتعذّر عند التعاقد بين الغائبين سماع العاقد كلام صاحبه، فقد اعتبر الفقهاء عند التعاقد بالكتابة أو المراسلة قبول القابل حين بلوغه الخبر، هو وقت انعقاد العقد، ولا يشترط أن يكون القبول قد وصل إلى علم الموجب، وفي هذا الصدد يقول الكاساني عند كلامه عن التعاقد بواسطة الرسالة: أما الرسالة، فهي أن يرسل رسولًا إلى رجل ويقول للرسول: بعت عبدي بكذا، فإذا بلغ الرسول المرسل إليه وهو المشتري، وقال في مجلسه ذلك: قبلت، انعقد البيع (4) . وفي التعاقد بواسطة الكتابة يقول ابن عابدين: (صورة الكتابة أن يكتب: أما بعد، فقد بعت عبدي فلانًا منك بكذا فلما بلغه الكتاب قال في مجلسه ذلك: اشتريت، تمَّ البيع بينهما) (5) . ولم تشترط النصوص في الحالتين لتمام البيع سماع المشتري قبول القابل.
__________
(1) انظر فتح القدير: 5/79.
(2) انظر مصادر الحق: 2/50
(3) انظر فتح القدير: 5/74، وكذا فتاوي البزازية: 4/364.
(4) انظر البدائع: 6/2994.
(5) حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/14.(6/650)
(ج) خيار الرجوع للمتعاقدين الغائبين:
سبق وأن ذكرنا أن فقهاء المسلمين على خلاف فيما بينهم، قد أثبتوا للمتعاقدين الحاضرين في حالة تعاقدهم في مجلس وحد خيارات ثلاثة، هي خيار الرجوع وخيار القبول وخيار المجلس، فهل يثبت هذا الحق للمتعاقدين الغائبين أم لا؟
أقول: إن خيار الرجوع للموجب حق أثبته جمهور العلماء للمتعاقدين الحاضرين، وهو يثبت كذلك عندهم للمتعاقدين الغائبين، إلا أن الفرق بينهما أنه لو نطق الموجب بالرجوع بعد القبول، فلا يُسمع فيما لو كان العقد بين غائبين، أما عند التعاقد بين حاضرين، فالرجوع مقبول على رأي من يجيز خيار المجلس فقط، أما عند غيرهم فلا.
وخيار الرجوع للقابل لا يقبل عن رأي من ينكر خيار المجلس سواء كان العقد بين حاضرين أم بين غائبين، لأن العقد قد تمَّ بقوله قبلت. أما على رأي من يجيز خيار المجلس، فرجوع القابل مقبول عنده فيما لو تم العقد بين حاضرين، لأن تفرق الأبدان غير حاصل، فعلى هذا ما زال العقد قابلا للانفساخ عندهم، وفي حالة التعاقد بين غائبين فلا يتصور خيار المجلس.
والذي نريد بحثه هنا هو: هل يشترط في الرجوع ذاته أن يسمع من الطرف المقابل قياسًا على وجوب سماع الصيغة الأولى وهي الإيجاب والقبول في حالة إبرام العقد بين حاضرين أو غائبين؟
الجواب على هذا: أن فقهاء الحنفية قد صرحوا في كتبهم، أن للعاقد بعد صدور الإيجاب منه الرجوع عن كلامه قبل صدور القبول من الطرف الثاني، سواء صدر الإيجاب من البائع أو المشتري، ذكر ذلك ابن عابدين نقلًا عن البحر، حيث قال: (والحاصل أن الإيجاب يبطل بما يدل على الإعراض وبرجوع أحدهما عنه وبموت أحدهما) (1) .
وبخصوص سماع كل طرف رجوع صاحبه، لم يشترط الأحناف في التعاقد بين الغائبين علم الطرف المقابل عند رجوع الموجب عن كلامه، وإنما يكتفي بالإشهاد على رجوعه كما هو الحال في حالة قبوله للبيع، وهذه المسألة تعتبر من وسائل الإثبات فقط.
قال ابن الهمام: (ويصح رجوع الكاتب والمرسل عن الإيجاب الذي كتبه وأرسله قبل بلوغ الآخر وقبوله، سواء علم الآخر أو لم يعلم، حتى لو قبل الآخر بعد ذلك لا يتم البيع) . وهذا بخلاف ما لو وكل بالبيع، ثم عزل الوكيل قبل البيع، فباع الوكيل، فبيع الوكيل قبل علمه بالعزل نافذ (2) .
__________
(1) انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/527.
(2) انظر فتح القدير: 5/79.(6/651)
أما في التعاقد بين الحاضرين، فإن هناك خلافًا في المسألة فقد جاء في الفتاوى الهندية ما نصه: (وللموجب أيًّا كان أن يرجع قبل قبول الآخر، هكذا في النهر الفائق، ولا بد من سماع الآخر رجوع الموجب كذا في التتار خانية. وفي اليتيمة يصح الرجوع وإن لم يعلم به الآخر، كذا في البحر الرائق، لو قال البائع: بعت منك هذا العبد بكذا، ثم قال: رجعت، ولم يسمع المشتري وقال: اشتريت، ينعقد البيع كذا في الظهيرية (1) .
ويستخلص من هذا النص أن هناك رأيًا يذهب إلى وجوب سماع الرجوع، فلو قبل الطرف المقابل قبل أن يسمع رجوع الموجب، انعقد العقد (لأن الرجوع لا ينتج أثره إلا إذا سمعه القابل قبل أن يقبل) . وهناك رأي آخر يرى عدم اشتراط سماع الرجوع، فعلى هذا لو قبل المتعاقد الآخر بعد رجوع الموجب، لا ينعقد العقد، حتى لو كان القابل لم يسمع الرجوع إلا بعد أن قبل (2) .
اتحاد مجلس التعاقد بين الغائبين في القانون:
عالج المقنن العراقي موضوع اتحاد مجلس العقد ما بين الغائبين من خلال المادة (87) من القانون المدني، فقد نص في الفقرة الأولى منها على ما يلي: (1- يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان والزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول ما لم يوجد اتفاق صريح أو ضمني أو نص قانوني يقضي بغير ذلك) .
وواضح من النص المتقدم أن المقنن جارى فقهاء المسلمين عندما اعتبر العقد تامًّا بين الغائبين في المكان والزمان الذي يصل فيه القبول إلى علم الموجب ما لم يكن هناك اتفاق صريح أو ضمني أو نص قانوني يقضي بغير ذلك.
وجاءت الفقرة الثانية من المادة نفسها مؤكدة لما جاء في الفقرة الأولى، حيث نص المقنن فيها على ما يلي: (2- ويكون مفروضًا أن الموجب قد علم بالقبول في المكان والزمان اللذين وصل إليه فيهما) .
__________
(1) انظر: 3/8.
(2) الأستاذ السنهوري في مصادر الحق: 2/57.(6/652)
التعاقد بواسطة وسائل الاتصال الحديثة – التليفون – البرقية – التلكس:
لقد تبين لنا من خلال البحث أن الفقه الإسلامي يعتبر الرضا هو الأساس في إبرام العقود، لهذا أجاز التعاقد بالرسالة والكتابة وبالإشارة وبالتعاطي، بل ذهب إلى أبعد من هذا عندما اعتبر التعاقد جائزًا باتخاذ أي مسلك آخر لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على التراضي وقد نص الفقهاء رحمهم الله تعالى في كتبهم على هذا، من ذلك ما قاله السرخسي: (العقد قد ينعقد بالدلالة كما ينعقد بالتصريح) . (1) وقال الحطاب: (واحتج المالكية بما تقدم من أن الأفعال وإن انتفت منها الدلالة الوضعية ففيها دلالة عرفية، وهي كافية، إذ المقصود من التجارة إنما هو أخذ ما في يد غيرك بدفع عوض عن طيب نفس منكما، فتكفي دلالة العرف في ذلك على طيب النفس، والرضا بقول أو فعل) (2) . وحكى ابن قدامة عن مالك قوله: (يقع البيع بما يعتقده الناس بيعًا) (3) .وحكى عن الحنابلة أيضًا ما يشبه هذا الكلام حيث قال: (إن الله أحل البيع ولم يبيِّن كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفرق) (4) .
وقد أكد الفقهاء المحدثون هذا المعنى في مؤلفاتهم التي تكلموا فيها عن العقود (5) .
ولم يتشدد في ذلك سوى بعض فقهاء الشافعية رحمهم الله تعالى على ما ذكرنا فيما سبق.
من هذا كله نستخلص أن التعاقد بواسطة وسائل الاتصال الحديثة يتماشى مع ما قرره الفقهاء من قبل، بل أن في نصوص الفقهاء ما يمكن أن نعتبره أساسًا لفكرة التعاقد بالهاتف، فقد قال النووي: (لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع) (6) ، والسؤال الذي يدور حول التعاقد بالهاتف وغيره من وسائل الاتصال الأخرى. هل يعتبر تعاقدًا بين حاضرين أم بين غائبين؟
__________
(1) انظر المبسوط 11/150
(2) انظر مواهب الجليل شرح مختصر خليل: 1/124.
(3) انظر المغني: 3/481.
(4) انظر المغني: 3/481.
(5) انظر في ذلك الشيخ على الخفيف في مؤلفه أحكام المعاملات الشرعية: ص155، 156 – وكذا الأستاذ أبو زهرة في مؤلفه الملكية ونظرية العقد: ص205، 206.
(6) انظر المجموع 9/193، وكذا الروضة: 3/438.(6/653)
لقد عبر أستاذنا صلاح الدين الناهي عن أساس هذه المشكلة بقوله: (من المشكلات التي يثيرها التعاقد بالتليفون أنه كيف يمكن حمل التعاقد بالتليفون على العقد بين حاضرين ليجري هذا الحمل على إطلاقه – أي من حيث الزمان والمكان – فتكون العبرة بزمن الصدور ومكانه، أم يقتصر على الزمان؟ وهل لزيادة مصطلح مجلس العقد ما يساعد على حل هذه المعضلة باعتبار مجلس العقد يعتبر فيه الطرفان حاضرين من حيث المكان؟ أم ينبغي القول بأن اعتبار الطرفين حاضرين من حيث المكان في حالة التعاقد بالتليفون قياس مع الفارق، لأن هذا الاعتبار مما يخالف طبيعة الأشياء) (1) .
والرأي القانوني السائد، هو أن التعاقد بالهاتف وما شابهه من وسائل الاتصال الحديثة ليس تعاقدًا بين حاضرين من كل وجه ولا بين غائبين من كل وجه، فالمتعاقدان لا يضمهما مجلس واحد وليس ثمة فاصل زمني بين القبول والعلم به، لذا ساد القول بأنه تعاقد بين حاضرين من حيث الزمان لعدم الفاصل الزمني، وبين غائبين من حيث المكان نظرًا لبعد الشُّقَّة بينهما، وهذا هو منطوق المادة (88) من القانون المدني العراقي التي نصت على ما يلي: (يعتبر التعاقد بالتليفون أو بأية طريقة مماثلة كأنه تمَّ بين حاضرين فيما يتعلق بالزمان وبين غائبين فيما يتعلق بالمكان) .
ويؤكد هذا المعنى الأستاذ السنهوري حيث قال: (التعاقد بطريق التليفون، هو تعاقد لا يجمع فيه المتعاقدين مجلس واحد، فقد يكون أحدهما في جهة تبعد عن الجهة التي يوجد فيها الآخرون بمسافة طويلة، بل قد يفصل المتعاقدين وهما يتخاطبان في التليفون بلاد شاسعة بعد أن اخترع التليفون اللاسلكي، ولكن التعاقد وهما يتخاطبان بهذه الطريقة لا يثير إشكالًا إلا من حيث معرفة مكان العقد. أما زمان العقد فلا صعوبة فيه، لأن وقت صدور القبول هو وقت العلم به، فلا فترة من الزمن تفصل بين الأمرين، ولذلك قيل إن التعاقد بالتليفون هو تعاقد فيما بين حاضرين من حيث الزمان، وهذا يدل مرة أخرى على أن العبرة في التعاقد بالمراسلة هي الفترة التي تفصل بين صدور القبول والعلم به، ويتبين من ذلك أن التعاقد بطريق التليفون يتمُّ في الوقت الذي يصدر فيه القبول، وهو نفس الوقت الذي يقع فيه العلم بالقبول.
أما من حيث المكان فالإشكال موجود، لأن المتعاقدين موجودان في جهتين مختلفتين، فهل يتمُّ العقد في الجهة التي يوجد فيها من صدر منه القبول، أو في الجهة التي يوجد فيها من صدر منه الإيجاب، أي الجهة التي وقع فيها العلم بالقبول....) (2) .
__________
(1) النظر الوجيز في النظرية العامة للالتزامات: ص63.
(2) نظرية العقد: ص290 وما بعدها، ويعتبر الأستاذ في آخر كلامه، أن تحديد المكان الذي ينشأ فيه العقد يتبع تحديد الوقت الذي يتم فيه. انظر ص309 من المصدر نفسه.(6/654)
الآثار المترتبة على حكم التعاقد بالتليفون ووسائل الاتصال الأخرى:
يترتب على ما ذكره فقهاء القانون من اعتبار التعاقد بالتليفون والتلكس وما ماثل ذلك من وسائل الاتصال الحديثة تعاقدًا بين حاضرين من حيث الزمان وبين غائبين من حيث المكان ما يلي:
1- مجلس العقد: في حالة التعاقد بالهاتف:
سبق وأن قلنا: إن مجلس العقد عبارة عن الفترة الزمنية التي تفصل بين الإيجاب والقبول ما دام المتعاقدان منشغلين بالعقد، ولم يبد منهما ما يدل على الإعراض وهذا بدوره ينتظم التعاقد بالتليفون وما شابهه يقول الدكتور محمد مصطفى شلبي: (وليس المراد باتحاد المجلس كون المتعاقدين في مكان واحد لأنه قد يكون أحدهما في مكان غير مكان الآخر، كالمتعاقدين بواسطة المسرة – الهاتف – أو بالمراسلة – وإنما المراد به الوقت الذي يكون فيه المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد ما لم يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل أجنبي يعتبر إبطالا للإيجاب كرجوع الموجب عن إيجابه قبل القبول أو إعراض القابل عن هذا الإيجاب باشتغاله بشيء آخر غير العقد، فإذا لم يوجد شيء من ذلك صح القبول الصادر منه مهما طال الوقت وانعقد العقد، وعلى هذا يكون مجلس العقد بالهاتف هو زمن الاتصال، فما دامت المحادثة في شأن العقد قائمة اعتبر المجلس قائمًا وإذا انتقلا إلى حديث آخر اعتبر المجلس منتهيًا) (1) .
2- مكان العقد:
بما أنه ينطبق على التعاقد بالهاتف حكم التعاقد بين الغائبين بالنسبة له لذا يمكن أن نعتبر ما قاله الفقهاء من التعاقد بالمراسلة والمكاتبة يجري عليه أيضًا، وهو أن تمام العقد يتحقق بتلفظ الغائب بالقبول، علم بذلك الموجب أم لا؟ (2) .
__________
(1) المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي: ص423، نقلًا عن الأستاذ محمد عقلة في بحثه (حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة) .
(2) انظر الكاساني في البدائع: 6/2994، ابن عابدين في حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/512.(6/655)
3- من حيث رجوع الموجب عن إيجابه:
لما اعتبر فقهاء القانون التعاقد بالهاتف وغيره من وسائل الاتصال الأخرى تعاقدًا بين حاضرين فيما يتصل بالزمان، فهذا يعني أنه يحق للموجب أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول من الطرف الآخر.
هذا ما نصت عليه المادة (94) من القانون المدني المصري حيث جاء فيها: (على أنه إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد دون أن يُعَيَّن ميعاد للقبول، فإن الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فورًا، وكذلك الحال إذا صدر الإيجاب من شخص إلى آخر بطريق التليفون أو بأي طريق مماثل، ومع ذلك يتم العقد ولو لم يصدر القبول فورًا إذا لم يوجد ما يدل على أن الموجب قد عدل عن إيجابه في الفترة ما بين الإيجاب والقبول وكان القبول قد صدر قبل أن ينفض المجلس) (1) .
إجراء عقود النكاح بواسطة المراسلة والمكاتبة:
إتمامًا لفائدة البحث، أو أن أذكر بشيء من الإيجاز ما قاله فقهاؤنا رحمهم الله تعالى بخصوص إجراء عقد النكاح بواسطة المراسلة والمكاتبة.
فأقول: صرح فقهاء الحنفية بجواز ذلك بشرط الإشهاد عند القبول، لأنه لا نكاح إلا بشهود.
من ذلك ما حكاه ابن عابدين عن السرخسي في مبسوطه حيث قال: (كما ينعقد النكاح بالكتابة ينعقد البيع وسائر التصرفات بالكتابة أيضًا) (2) . ونقل أيضًا عن شيخ الإسلام خواهر زاده مثل ذلك حيث قال: (لو كان حاضرًا فخاطبها بالنكاح فلم تجب في مجلس الخطاب ثم أجابت في مجلس آخر، فإن النكاح لا يصح، وفي الكتاب إذا بلغها وقرأت الكتاب ولم تزوج نفسها منه في المجلس الذي قرأت الكتاب فيه، ثم زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود وقد سمعوا كلامها وما في الكتاب يصح النكاح ... ) (3) .
ومثل ذلك حكى الكاساني عن أئمة الحنفية أيضًا (4) . ويعتبر من قبيل المراسلة والمكاتبة في عصرنا الحاضر، التلغراف – البرقية – والتلكس، ويشترط لصحة عقد النكاح بهاتين الوسيلتين ما يشترط في التعاقد بالمراسلة والمكاتبة من الإشهاد على العقد.
أما إجراء عقد النكاح بواسطة الهاتف فتتوقف صحته على إحضار الشهود عند المخاطبة وسماعهم كلام العاقدين، فإذا تحقق ذلك جاز، وإلا فلا، والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) النظرية العامة للالتزام الدكتور الشرقاوي: ص257، نقلًا عن الأستاذ محمد عقلة في بحثه السابق.
(2) انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/512.
(3) انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار: 4/512.
(4) انظر البدائع: 6/2994.(6/656)
خلاصة البحث
بسم الله الرحمن الرحيم
العقد في اصطلاح الفقهاء يطلق بإطلاقين عام وخاص، فالمعنى العام يراد به كل التزام تعهد الإنسان بالوفاء به سواء كان في مقابل التزام آخر كالبيع والشراء ونحوه أم لا. وسواء كان التزامًا دينيًّا كأداء الفرائض والواجبات أم التزامًا دنيويًّا.
قال أبو بكر الجصاص: (كل شرط شرطه إنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد، وكذلك النذور وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك) . ومن هنا يتبين لنا أن العقد بمعناه العام لا يشترط فيه تطابق إرادتين، بل يتحقق بإرادة منفردة.
أما المعنى الخاص للعقد، فهو الالتزام الذي لا يتحقق إلا من طرفين، وهذا المعنى هو المراد عند إطلاق الفقهاء لفظ العقد، فهم يعنون به صيغة الإيجاب والقبول الصادرة من متعاقدين.
وقد جاء تعريف العقد على لسان بعض رجال القانون بما يشبه تعريف الفقهاء له.
أركان العقد:
لا يتحقق العقد إلا بوجود أركانه الثلاثة، وهي: الصيغة والعاقدان والمعقود عليه.
وقد اقتصر الحنفية من بين الفقهاء الآخرين على ذكر الإيجاب والقبول عند كلامهم عن أركان العقد، إلا أنه يقتضي بالضرورة وجود الركنين الآخرين عند غيرهم، إذ لا يتصور تحقق الإيجاب بدون موجب ولا قبول بغير قابل، كما أن الإيجاب والقبول يقتضي وجود محل يجري التعاقد فيه، ومن يتتبع أقوالهم رحمهم الله تعالى يتبين له أن اعتبار صيغة الإيجاب والقبول هي ركن العقد عندهم، هو اصطلاح لفظي فقط.
صيغة العقد:
قلنا إن العقد عبارة عن ارتباط إرادتين في مجلس واحد يسمى مجلس العقد، وإن هذا الارتباط ينبئ عن الرضا والاختيار الذين يعتبران هما أساس العقد وركنه الذي لا يقوم بغيره. وبما أن الرضا أمر خفي ليس بالإمكان معرفته أقام الشارع مقامه ما يدل عليه من قول أو فعل محسوس، وبهذا تكون الإرادة الظاهرة هي المظهر الخارجي للتعبير عن الإرادة الباطنة، فالإرادة الباطنة التي يعبر عنها بالرضا هي الركن الحقيقي للعقد وإلى هذا تشير عبارات كثيرة من الفقهاء رحمهم الله تعالى.
والإرادة الظاهرة متمثلة بالإيجاب والقبول ركن العقد.(6/657)
شروط الإيجاب والقبول:
من أجل اعتبار الأثر المترتب على الإيجاب والقبول واستكمال العقد لصيغته النهائية يشترط فيهما ما يلي:
1- العلم بمضمون العقد: وذلك بأن يسمع كل من المتعاقدين كلام صاحبه فيما لو تمَّ التعاقد بينهما شفاهًا أو يقرأه الطرف المرسل إليه الكتاب إذا كان العقد مما ينعقد بها أو يرى الإشارة المفهمة من الأخرس.
2- موافقة القبول والإيجاب: إذ لو انعدم التوافق بينهما لم يحقق العقد غرضه فلا فائدة في إنشائه.
3- عدم الفصل بين الإيجاب والقبول: لأن وجود الفاصل بينهما، يعني الانصراف عن العقد والدليل على عدم الإرادة الجازمة في إبرامه.
4- عدم الهزل في كلام العاقد: لأن الهزل دليل على عدم الرغبة الصادقة في إنشاء العقد.
5- أن يكون كل من الإيجاب والقبول باتًّا منجزًا غير معلق على شرط ينافي مقتضى العقد أو مضافًا إلى زمن في المستقبل.
6- اتحاد مجلس العقد: والمقصود بهذا الشرط، أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، فإن اختلف المجلس لا ينعقد.
7- أن تكون صيغة الإيجاب والقبول بلفظ الماضي:
وقد اختار الفقهاء هذه الصيغة لانعقاد العقد، لأنها تعتبر مظهرًا واضحًا للتعبير عن الإرادة في مرحلتها النهائية.
كيف يتم العقد؟
إذا أوجب أحد المتعاقدين العقد بالصيغة الدالة عليه على النحو الذي ذكرناه كان للمتعاقد الآخر أن يقبل هذا الإيجاب إلى حين انفضاض المجلس، وهذا ما يسمى بخيار القبول. ولما كان الموجب نفسه بالخيار أيضًا في رأي أكثر المذاهب بين البقاء على إيجابه أو الرجوع عنه، فمعنى ذلك أن الإيجاب غير ملزم، وللموجب أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول، وهذا ما يسمى بخيار الرجوع، فإذا انفضَّ المجلس دون أن يصدر القبول سقط الإيجاب.
وإذا بقي الموجب على إيجابه وصدر من المتعاقد الآخر قبل انفضاض المجلس قبول يطابق الإيجاب من جميع الوجوه، انعقد العقد.(6/658)
حكم التعاقد بغير صيغة لفظية:
1- التعاقد بالمعاطاة: وقد اتجه الفقهاء في ذلك اتجاهين. ذهب الجمهور إلى جواز ذلك، وقال الشافعي وفقهاء آخرون بعدم جواز البيع بالتعاطي. ورأي الجمهور الراجح. لوجاهة أدلتهم ولما فيه من تيسير على الناس.
2- البيع بالإشارة: وقد اتفق الفقهاء على أن إشارة الأخرس تقوم مقام لفظه فإن لم تفهم إشارته أو جنّ أو أغمي عليه قام وليه أو وصيه أو الحاكم مقامه.
3- التعاقد بالكتابة والمراسلة: وقد أجاز الجمهور رحمهم الله تعالى التعاقد بهاتين الوسيلتين. وذهب بعض فقهاء الشافعية والزيدية والهادوية إلى عدم جواز التعاقد بالكتابة والمراسلة. ورأي الجمهور هو المختار.
مجلس العقد:
قلنا إن اتحاد المجلس شرط في إبرام العقد، والغرض من هذا الشرط، هو تحديد المدة التي يصح أن تفصل القبول عن الإيجاب حتى يتمكن من عُرِضَ عليه الإيجابُ من المتعاقدين أن يفكر في الأمر فيقبل الإيجاب أو يرفضه.
حدود مجلس العقد:
يفهم من أقوال الفقهاء رحمهم الله تعالى أن المجلس هو المكان الذي يضم المتعاقدين ويبدأ من وقت صدور الإيجاب ويستمر ما دام المتعاقدان منصرفين إلى التعاقد ولم يبديا إعراضًا عنه.
ويعتبر المجلس منفضًّا في حالة الإعراض كما قلنا وفي حالة قيام العاقد وتركه المكان الذي صدر فيه الإيجاب.
ويعتبر المجلس قد استنفد غرضه في حالة قبول أو رفض الطرف الثاني. ولو انفض المجلس دون أن يقبل الطرف المقابل، فالإيجاب يعتبر لاغيًا في هذه الحالة ولا فائدة في قبول الطرف الآخر بعدئذ. فإن أفصح عن قبوله، عُدَّ قبولُه إيجابًا مبتدأ يحتاج إلى قبول من الطرف الأول في مجلس الإيجاب المبتدأ.
الآثار المترتبة على نظرية مجلس العقد:
يترتب على القول بمجلس العقد الأحكام التالية:
1- أن يكون للطرف المخاطب بالإيجاب خيار القبول لحين انفضاض المجلس، إذا هو غير ملزم بالقبول.
2- أن يكون للطرف الموجب خيار الرجوع عن إيجابه إلى أن يصدر القبول أو ينفض المجلس، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة، وخالف المالكية في ذلك. والراجح رأي الجمهور لوجاهة أدلتهم.
3- أن يعطى للمتعاقدين خيار المجلس، وهذا الخيار محل خلاف بين العلماء فقد أثبته كثير من فقهاء السلف وبه قال الشافعية والحنابلة ونفاه المالكية والحنفية.
وقد رجحت رأي القائلين: بعدم مشروعية خيار المجلس، لمَّا تبين لي وجاهة أدلتهم.(6/659)
التعاقد بين الغائبين:
والتعاقد بين الغائبين كالتعاقد بين الحاضرين، يجب أن يتم في مجلس العقد، وللموجب فيه خيار الرجوع في إيجابه، وللمتعاقد الآخر خيار القبول، ويجب فيه مطابقة القبول للإيجاب على النحو الذي فصلناه في التعاقد بين الحاضرين.
إلا أن التعاقد بين الغائبين له خصائص يتميز بها عن التعاقد بين الحاضرين من حيث:
(أ) مجلس العقد.
(ب) وقت تمام العقد.
(ج) خيار الرجوع وخيار القبول وخيار المجلس.
إن مجلس العقد بين الغائبين غير مجلسه في التعاقد بين الحاضرين، فالمجلس الثاني هو محل صدور الإيجاب، أما المجلس الأول وأعني به مجلس الغائبين، فهو محل بلوغ الإيجاب إلى المتعاقد الغائب، أي محل أداء الرسالة أو بلوغ الكتاب.
واعتبر الفقهاء عند التعاقد بالكتابة أو المراسلة قبول القابل حين بلوغه الخبر، هو وقت انعقاد العقد، ولا يشترط أن يكون القبول قد وصل إلى علم الموجب.
خيار الرجوع للمتعاقدين الغائبين:
إن خيار الرجوع للموجب حق أثبته جمهور العلماء للمتعاقدين الحاضرين، وهو يثبت كذلك عندهم للمتعاقدين الغائبين. إلا أن الفرق بينهما أنه لو نطق الموجب بالرجوع بعد القبول فلا يسمع فيما لو كان العقد بين غائبين، أما عند التعاقد بين حاضرين، فالرجوع مقبول على رأي من يجيز خيار المجلس فقط، أما عند غيرهم فلا.
وخيار الرجوع للقابل لا يقبل على رأي من ينكر خيار المجلس سواء كان العقد بين حاضرين أم بين غائبين، لأن العقد قد تمّ بقوله قبلت. أما على رأي من يجيز خيار المجلس، فرجوع القابل مقبول عنده فيما لو تمّ العقد بين حاضرين، لأن تفرق الأبدان غير حاصل. وفي حالة التعاقد بين غائبين فلا يتصور خيار المجلس.
التعاقد بواسطة وسائل الاتصال الحديثة:
لقد ظهر لنا خلال البحث أن الفقه الإسلامي يعتبر الرضا هو الأساس في إبرام العقود، لهذا أجاز التعاقد بالرسالة والكتابة وبالإشارة وبالتعاطي، بل ذهب إلى أبعد من هذا عندما اعتبر التعاقد جائزًا باتخاذ أي مسلك آخر لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على التراضي. ولم يتشدد سوى بعض فقهاء الشافعية رحمهم الله تعالى.
من هذا كله نستخلص أن التعاقد بواسطة وسائل الاتصال الحديثة يتماشى مع ما قرره الفقهاء من قبل. والتعاقد عبر هذه الوسائل ليس تعاقدًا بين حاضرين من كل وجه ولا بين غائبين من كل وجه، فالمتعاقدان لا يضمهما مجلس واحد وليس ثمة فاصل زمني بين القبول والعلم به. لذا ساد القول بأنه تعاقد بين حاضرين من حيث الزمان لعدم الفاصل الزمني وبين غائبين من حيث المكان نظرًا لبعد الشُّقَّة بينهما.
والله أعلم.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو(6/660)
أهَم مراجع البَحث
بعد القرآن الكريم:
1- أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص. تحقيق محمد الصادق قمحاوي. الناشر دار المصحف شركة مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد – الطبعة الثانية، القاهرة.
2- الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. الطبعة الثالثة عن طبعة دار الكتب المصرية دار الكتاب العربي للطباعة والنشر 1387هـ- 1967م.
3- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. إدارة الطباعة المنيرية، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان.
4- نيل الأوطار، للشوكاني، محمد بن علي بن محمد، المتوفى سنة 1250هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، الطبعة الثالثة.
5- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني المتوفى سنة 587هـ - مطبعة الإمام بالقاهرة.
6- رد المحتار على الدر المختار، للشيخ محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز الدمشقي الشهير بابن عابدين، المتوفى سنة 1252هـ، والمطبوع مع الدر المختار.
7- الدر المختار- شرح تنوير الأبصار، للشيخ علاء الدين الحصكفي المتوفى سنة 1088هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، 1386هـ-1966م.
8- كتاب الأم، لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وبهامشه مختصر أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني الشافعي، مطبعة دار الشعب بالقاهرة.
9- المهذب، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي يوسف الفيروزآبادي الشيرازي، المتوفى 479هـ، مطبعة عيسى البابي الحلبي، بمصر.
10- مغني المحتاج إلى معاني ألفاظ المنهاج، للشيخ محمد بن أحمد الشربيني الخطيب، سنة 1977م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1377هـ -1958م.
11- شرح الخرشي على مختصر سيدي خليل، لأبي عبد الله محمد الخرشي، المتوفى سنة 1101هـ، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر، الطبعة الثانية 1317هـ، ومعه حاشية الشيخ العدوي.
12- الشرح الكبير، لأبي البركات أحمد بن محمد الشهير بالدردير، المتوفى سنة 1201هـ، مطبعة عيسى البابي الحلبي.
13- حاشية الدسوقي، للشيخ محمد عرفة الدسوقي، والمطبوع مع الشرح الكبير.
14- المغني، لابن قدامة: أبي محمد عبد الله أحمد بن محمد بن قدامة، المتوفى سنة 620هـ، على مختصر أبي القاسم عمر بن حسين بن عبد الله أحمد الخرقي، المتوفى سنة 334هـ، مطابع سجل العرب.
15- منتهى الإرادات، لابن النجار تقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي، المتوفى 972هـ، عالم الكتب.
16- شرح فتح القدير، لكمال الدين محمد بن عبد الواحد، المعروف بأبي الهمام الحنفي، والمأخوذ بالأوفسيت على الطبعة الأميرية ببولاق مصر.
17- الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم – أبو العباس تقي الدين بن تيمية الإمام، المتوفى سنة 728هـ، دار الكتب الحديثة، مطبعة دار الجهاد بالقاهرة.
18- شرح النيل وشفاء العليل، للعلامة محمد بن يوسف أطفيش، مكتبة الإرشاد بجدة، الطبعة الثالثة.
19- البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، للإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى، المتوفى 804هـ، مطبعة السنة المحمدية بمصر، 1368هـ- 1949م.
20- لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي، المتوفى 711هـ، دار بيروت للطباعة.
21- الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير، للعلامة شرف الدين الحسين بن أحمد السياغي. مكتبة المؤيد بالطائف، السعودية الطبعة الثانية 1968م.
22- روضة الطالبين وعمدة المفتين، للإمام النووي. الناشر المكتب الإسلامي، دمشق – بيروت.
23- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي. دار المعرفة، بيروت لبنان، مأخوذ بالأوفسيت.
24- كشاف القناع عن متن الإقناع – منصور بن إدريس البهوتي. الناشر مكتبة النصر الحديثة في الرياض.
25- الفتاوى الهندية، وبهامشها الفتاوى البزازية. تأليف جماعة من علماء الهند، المكتبة الإسلامية محمد أوزدمير، ديار بكر- تركيا، الطبعة الثالثة، أوفسيت.
26- شرح المجلة، للأستاذ منير القاضي. الطبعة الأولى، مطبعة العاني، بغداد 1949م.
27- مصادر الحق في الفقه الإسلامي، للدكتور عبد الرزاق السنهوري. معهد البحوث والدراسات العربية، 1954م.
28- نظرية العقد – النظرية العامة للالتزام، للدكتور عبد الرزاق السنهوري. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
29- المدخل الفقهي، للأستاذ مصطفى الزرقا. مطبعة جامعة دمشق، 1963م.
30- الموجز في النظرية العامة للالتزامات، للدكتور صلاح الدين الناهي. الطبعة الخامسة.
31- الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، المتوفى سنة 911هـ، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1387هـ - 1968م.
32- الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، للشيخ زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم. تحقيق عبد العزيز الوكيل، الناشر مؤسسة الحلبي وشركاه، 1387هـ- 1968م.
33- القواعد في الفقه الإسلامي، للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، المتوفى 795هـ، الطبعة الأولى 1971م، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية.
34- مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان – في المعاملات الشرعية على مذهب أبي حنيفة النعمان، لمحمد قدري باشا.
35- متن القانون المدني العراقي.
36- مبدأ الرضا في العقود – دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون المدني. رسالة دكتوراه، للدكتور علي محيي الدين على القره داغي، الطبعة الأولى، دار البشائر الإسلامية – لبنان.
37-حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة – للدكتور محمد عقلة إبراهيم بحث منشور في مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الكويت – العدد الخامس، السنة الثالثة.(6/661)
بحث
فضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
الأستاذ بكلية الشريعة – جامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا وشفيعنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين، وبعد:
فقد تمكن أبناء العالم المعاصر من إنجاز كثير من معاملاتهم وعقودهم المالية بواسطة آلات الاتصال الحديثة، كالهاتف والبرقية واللاسلكي والتلكس والفاكس ونحوها، وأصبح ضروريًّا معرفة كيفية إبرام تلك العقود من الناحية الشرعية، وهذا ما نبينه هنا بالاعتماد على ما كتبه فقهاؤنا وقرروه عند الكلام على صيغة العقد، وشروط الإيجاب والقبول، وشروط تحقيق معنى اتصال القبول بالإيجاب ليكون شطرًا العقد في مجلس واحد.
وبما أن هذه المعلومات معروفة في الجامعات، فأكتفى بإيجازها هنا، لتكون مدخلًا للحكم على موضوع البحث.
صيغة العقد:
هي ما صدر من المتعاقدين دالًّا على توجه إرادتهما الباطنة لإنشاء العقد وإبرامه. وتعرف تلك الإرادة الباطنة بواسطة اللفظ أو القول أو ما يقوم مقامه من الفعل (المعاطاة) أو الإشارة أو الكتابة. وهذه الصيغة هي الإيجاب والقبول الدالان على تراضي الجانبين بإنشاء التزام بينهما، وتسمى الصيغة عند القانونيين: التعبير عن الإرادة.
والتعبير عن الإرادة العقدية الجازمة يكون بأي صيغة تدل عرفًا أو لغةً على إنشاء العقد، سواء بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالكتابة (1) .
والقول أو اللفظ مثل بعت واشتريت، ورهنت وارتهنت، ووهبت وقبلت، وزوجت وتزوجت.
والفعل أو المعاطاة أو المراوضة: هو التعاقد بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي دون تلفظ بإيجاب أو قبول (2) ، كأن يأخذ المشتري المبيع ويدفع الثمن للبائع دون كلام من كلا الطرفين أو من أحدهما، سواء أكان المبيع حقيرًا بسيطًا أم نفيسًا. وهذا جائز عند جمهور العلماء غير الشافعية، لتعارفه بين الناس، لكن عقد الزواج بالإجماع لا ينعقد ولا يصح بالفعل أو بالمعاطاة كإعطاء المهر مثلًا، بل لا بدّ فيه من النطق بالإيجاب والقبول، لخطورته وأهميته، وتأثيره الدائم على المرأة، وحفاظًا على حرمات الأعراض المصونة شرعًا.
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية: (م173، 174) .
(2) المجلة: (م170)(6/662)
ويجوز انعقاد العقد بإشارة الأخرس أو معتقل اللسان المفهومة باتفاق الفقهاء للضرورة، حتى لا يحرم من حق التعاقد، لذا نصت القاعدة الفقهية: (الإشارات المعهودة للأخرس كالبيان باللسان) [المجلة: م70] . وأجاز فقهاء المالكية والحنابلة التعبير عن الإرادة من الناطق بالإشارة المفهمة المتداولة عرفًا، لأنها أولى في الدلالة من الفعل الذي ينعقد به العقد، كما في المعاطاة (1) .
ويصح التعاقد بالكتابة بين طرفين في رأي الحنفية والمالكية سواء أكانا ناطقين أو عاجزين عن النطق، حاضرين في مجلس واحد أو غائبين، وبأي لغة يفهمها المتعاقدان، بشرط أن تكون الكتابة مستبينة (بأن تبقى صورتها بعد الانتهاء منها) ، ومرسومة (مسطرة بالطريقة المعتادة بين الناس بذكر المرسل إليه وتوقيع المرسل) فإذا كانت غير مستبينة كالكتابة على الماء أو في الهواء، أو غير مرسومة كالرسالة الخالية من التوقيع مثلًا، لم ينعقد بها العقد (2) ، وعليه نصت القاعدة الفقهية: (الكتاب كالخطاب) [المجلة: م69] . مثل أن يرسل شخص خطابًا لآخر يقول فيه: (بعتك سيارتي بكذا) فإذا وصله الكتاب، وقال في مجلس قراءة الكتاب: قبلت، انعقد البيع. أما إن ترك المجلس أو صدر منه ما يدل على الإعراض عن الإيجاب، كان قبوله غير معتبر.
وإرسال رسول إلى آخر حامل مضمون الإيجاب مثل إرسال الكتاب، يعتبر مجلس وصول الرسول هو مجلس العقد، فيلتزم أن يقبل فيه، فإن قام من المجلس قبل أن يقبل، انتهى مفعول الإيجاب، ويكون المعول عليه هو مجلس بلوغ الرسالة أو الكتابة، كأن يقول شخص: بعت لفلان كذا، فاذهب يا فلان وقل له، فذهب فأخبره فقبل المشتري في مجلسه ذلك، صح العقد.
ومهمة الرسول أضعف من مهمة الوكيل، لأن الرسول مجرد مفوض بنقل تعبير المرسل دون زيادة أو نقصان، أما الوكيل فإنه يتولى إبرام العقد بعبارته، ولا يتقيد في الوكالة المطلقة إلا بالمعتاد المتعارف عليه، أما في الوكالة المقيدة بمكان أو زمان أو شخص أو محل معقود عليه أو بدل عقدي فيتم التعاقد بين الوكيل والقابل بعبارة الوكيل المقيدة بقيود الوكالة، وتعود حقوق العقد أي الالتزامات إلى الوكيل بعكس الرسول لا يتحمل شيئًا منها، أما حكم العقد الأصلي أي نقل الملكية فيعود إلى الموكل والمرسل على السواء.
ولا ينعقد عقد الزواج بالكتابة إذا كان العاقدان حاضرين في مجلس واحد، إلا في حال العجز عن النطق كالخرس، لأن الزواج يشترط لصحته حضور الشهود العدول وسماعهم كلام العاقدين، وهذا لا يتيسر في حال الكتابة.
وقيد الشافعية والحنابلة صحة التعاقد مطلقًا بالكتابة أو الرسالة فيما إذا كان العاقدان غائبين أما في حال الحضور فلا حاجة إلى الكتابة، لأن العاقد قادر على النطق، فلا ينعقد العقد بغيره (3) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 3/3، المغني: 5/562.
(2) الدر المختار ورد المحتار لابن عابدين: 4/10 وما بعدها، فتح القدير: 5/79، البدائع: 5/137، الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 3/3.
(3) المهذب: 1/257، غاية المنتهى: 2/4.(6/663)
شروط الإيجاب والقبول:
اشترط الفقهاء لانعقاد العقد شروطًا ثلاثة في الإيجاب والقبول وهي ما يلي (1) .
1- وضوح دلالة الإيجاب والقبول: أي أن يكون كل من الإيجاب والقبول واضح الدلالة على مراد العاقدين، بأن تكون مادة اللفظ المستعمل لهما في كل عقد تدل لغةً أو عرفًا على نوع العقد المقصود للعاقدين، لأن الإرادة الباطنة خفية، ولأن العقود يختلف بعضها عن بعض في الموضوع والأحكام، فإذا لم يعرف بيقين أن العاقدين قصدا عقدًا معينًا بعينه، لا يمكن إلزامهما بأحكامه الخاصة به.
ولا يشترط لهذه الدلالة لفظ أو شكل معين، فإن الشكلية في غير عقد الزواج الذي لا بد فيه من الشاهدين، والعقود العينية التي يشترط فيها القبض لتولد آثار العقد (وهي الإيداع والإعارة والرهن والهبة والقرض) غير مطلوبة فقهًا، لأن العبرة في العقود للمعاني، لا للألفاظ والمباني، فيصح البيع بلفظ الهبة بعوض، وينعقد الزواج بلفظ الهبة إذا اقترن بالمهر.
2- تطابق القبول والإيجاب: بأن يكون القبول موافقًا للإيجاب، بأن يرد على كل ما أوجبه الموجب وبما أوجبه، أي على كل محل العقد، ومقدار البدل في عقود المعاوضات، سواء أكانت الموافقة حقيقية، كما لو قال البائع: بعتك الشيء بعشرة، فيقول المشتري: اشتريته بعشرة، أو ضمنية، كما لو قال المشتري في المثال السابق: اشتريته بخمس عشرة، أو أن تقول المرأة: زوجتك نفسي بمائة، فيقول الزوج: قبلت الزواج بمائة وخمسين، فالتوافق متحقق ضمنًا، وهذه المخالفة خير للموجب. لكن لا يلزم العقد إلا بالمقدار الذي وجهه الموجب، أي مائة في المثال الأخير، وأما الزيادة فموقوفة على قبول الموجب في مجلس العقد، فإن قبل به الموجب، لزم القابل، لأن المال لا يدخل في ملك إنسان بغير اختياره إلا في الميراث. وهذا مذهب الحنفية. أما الشافعية فيرون أن أي مخالفة تعد رفضًا للإيجاب (2) .
فإن لم يتطابق القبول مع الإيجاب، وحدثت مخالفة بينهما، لا ينعقد العقد، كأن خالف القابل في محل العقد، فقبل غيره، أو بعضه مثل قول البائع: بعتك الأرض الفلانية، فيقول المشتري: قبلت شراء الأرض المجاورة لها، أو قبلت شراء نصفها بنصف الثمن أو البدل المتفق عليه، فلا ينعقد العقد، لمخالفة محل العقد، أو لتفرق الصفقة على البائع، والمشتري لا يملك تفريقها، أي تجزئتها، بأن يقبل بعضها دون البعض الآخر.
وإذا خالف في مقدار الثمن، فقبل بأقل مما ذكر البائع، لا ينعقد العقد أيضًا. وكذا لو خالف في مقدار الثمن، فقبل بأقل مما ذكر البائع، لا ينعقد العقد أيضًا. وكذا لو خالف في وصف الثمن لا في قدره، كأن أوجب البائع بثمن حالٍّ نقدي، فقبل المشتري بثمن مؤجل، أو أوجب بأجل إلى شهر معين، فقبل المشتري بأجل أبعد، لم ينعقد البيع في الحالتين، لعدم تطابق القبول مع الإيجاب وحينئذ لا بد من إيجاب جديد.
__________
(1) البدائع: 5/136، فتح القدير: 5/80، حاشية ابن عابدين: 4/5، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3/5، نهاية المحتاج: 3/8 – 10، مغني المحتاج: 2/5 وما بعدها.
(2) مغني المحتاج: 2/6.(6/664)
3- اتصال القبول بالإيجاب: بأن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد إن كان الطرفان حاضرين معًا، أو في مجلس علم الطرف الغائب بالإيجاب.
ويتحقق الاتصال بأن يعلم كل من الطرفين بما صدر عن الآخر، بأن يسمع الإيجاب ويفهمه، وبألا يصدر منه ما يدل على إعراضه عن العقد، سواء من الموجب أو من القابل.
مجلس العقد:
إن مجلس العقد هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد، أو هو اتحاد الكلام في موضوع التعاقد.
ويشترط لتحقيق معنى اتصال القبول بالإيجاب شروط ثلاثة هي:
1- أن يكونا في مجلس واحد.
2- ألا يصدر من أحد العاقدين ما يدل على إعراضه.
3- ألا يرجع الموجب في إيجابه قبل قبول القابل الآخر.
ويترتب على الشرط الأول، وهو اتحاد مجلس الإيجاب والقبول: أنه لا يجوز أن يكون الإيجاب في مجلس، والقبول في مجلس آخر، لأن الإيجاب لا يعد جزءًا من العقد إلا إذا التحق به القبول، فلو قال البائع: بعتك الدار بثمن كذا، أو آجرتك المنزل بأجرة كذا، ثم انتقل الموجب إلى مكان آخر بعيد عن مجلسه الأول بحوالي مترين أو ثلاثة، أو إلى غرفة أخرى، انتهى المجلس الأول، فإذا قبل القابل بعد هذا الانتقال، لم ينعقد العقد، ويحتاج إلى إيجاب جديد، لأن الإيجاب كلام اعتباري لا بقاء له، إذا لم ينضم إليه القبول في حال واحدة من المجلس.
فورية القبول:
لا يشترط عند الجمهور غير الشافعية (1) الفور في القبول، لأن القابل يحتاج إلى فترة للتأمل، فلو اشترطت الفورية لا يمكنه التأمل، وإنما يكفي صدور القبول في مجلس واحد، ولو طال الوقت إلى آخر المجلس، لأن المجلس الواحد يجمع المتفرقات للضرورة، وفي اشتراط الفورية تضييق على القابل، أو تفويت للصفقة من غير مصلحة راجحة فإن رفض فورًا فتضيع عليه الصفقة، وإن قبل فورًا فربما كان في العقد ضرر له، فيحتاج لفترة تأمل، للموازنة بين ما يأخذ أو يغنم، وبين ما يعطي أو يغرم في سبيل العقد، لأن المجلس جامع للمتفرقات، فتعتبر ساعاته وحدة زمنية تيسيرًا على الناس، ومنعًا للمضايقة والحرج، ودفعًا للضرر عن العاقدين قدر الإمكان.
وقال الراملي من الشافعية: يشترط أن يكون القبول فور الإيجاب، فلو تخلل لفظ أجنبي لا تعلق له بالعقد، ولو يسيرًا، بأن لم يكن من مقتضاه ولا من مصالحه ولا من مستحباته، لا يتحقق الاتصال بين القبول والإيجاب، فلا ينعقد العقد، لكن لو قال المشتري بعد توجيه الإيجاب له: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، قبلت (أي الشراء) صح العقد (2) .
__________
(1) البدائع: 5/137، فتح القدير: 5/78، مواهب الجليل للحطاب: 4/240، الشرح الكبير مع الدسوقي: 3/5، الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 3/17، الشرح الكبير مع المغني: 4/4، غاية المنتهى: 2/4.
(2) نهاية المحتاج: 3/8، مغني المحتاج: 2/6.(6/665)
وهذا الرأي متمشٍّ مع الأصل في القبول: وهو أن يتصل بالإيجاب مباشرة وفورًا لينعقد العقد.
وفسر غير الرملي من الشافعية اتصال القبول بالإيجاب بأنه السائد عرفًا بين الناس، فلا يضر الفصل اليسير، ويضر الفصل الطويل: وهو ما أشعر بإعراضه عن القبول: وحينئذ يقترب مذهب الشافعية من مذهب غيرهم وهم الجمهور.
والمراد بالشرط الثاني: ألا يصدر من أحد العاقدين ما يدل على إعراضه عن العقد: أن يكون الكلام في موضوع العقد، وألا يتخلله فصل بكلام أجنبي يعد قرينة على الإعراض عن العقد.
فإن ترك الموجب مجلس العقد قبل قبول الآخر، أو ترك الطرف الآخر المجلس بعد صدور الإيجاب، أو انشغل الطرفان في موضوع آخر لا صلة له بالعقد، بطل الإيجاب، ولو قبل الآخر لا يعتبر قبوله متممًا للعقد، لأن الإيجاب ذهب ولم يبق له وجود، إذا لم يتعانق مع القبول. وسبب ذهابه أنه كلام اعتباري لا بقاء له إذا لم يتصل بالقبول، ويجعل باقيًا مدة المجلس من باب التيسير على الطرفين، ودفع العسر عنهما ليمكن تلاقي القبول به، وانعقاد العقد.
تغير المجلس:
إن العرف الشائع بين الناس هو المحكَّم في بيان اتحاد المجلس أو تغيره، فإذا صدر القبول في حال اتحاد المجلس، نشأ العقد، وإذا صدر القبول بعد تغير المجلس، لم يعتبر ولم ينشأ به العقد.
وضابط ذلك أن القبول يكون معتبرًا ما دام لم يتخلل بينه وبين الإيجاب ما يعد إعراضًا عن العقد من الطرفين، وما دام المجلس قائمًا.
وتحقيق هذا المبدأ عند الحنفية مثلًا: أنه لو أوجب أحد الطرفين البيع، فقام الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس، ثم قبل، لا ينعقد العقد، لأن القيام دليل الإعراض والرجوع عن العقد (1) ، ثم إن الشافعية القائلين بفورية القبول قالوا: يعتبر العرف في تفرق العاقدين عن المجلس، فما يعده الناس تفرقًا يلزم به العقد، وما لا فلا، لأن ما ليس له حد في اللغة ولا في الشرع يُرْجَع فيه إلى العرف، ومثال التفرق: الخروج من البيت (الغرفة) إلى صحن الدار وبالعكس، والخروج من الدار الصغيرة إلى الشارع، وصعود السطح، ومشي خطوات ثلاث مع بقاء الآخر واقفًا، أما لو مشى الطرفان، فيظل المجلس قائمًا ما دام الكلام في موضوع العقد، ولو طال الزمن.
__________
(1) البدائع: 5/137، فتح القدير مع العناية: 5/78، 80.(6/666)
ويترتب على الشرط الثالث: ألا يرجع الموجب في إيجابه قبل قبول القابل أنه لا بد لانعقاد العقد من استمرار الموجب على إيجابه الذي وجهه للقابل، فإن عدل عن إيجابه لم يصح القبول.
ويصح في رأي الجمهور غير المالكية العدول عن المجلس في مجلس العقد، فللموجب أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول من الطرف الآخر، ويبطل الإيجاب حينئذ، لأن الالتزام بالعقد لم ينشأ بعد، ولا ينشأ إلا بارتباط القبول بالإيجاب، ولأن الموجب حر التصرف بملكه وحقوقه، وبإيجابه أثبت للطرف الآخر حق التملك، وحق الملك أقوى من حق التملك. فيقدم عليه عند التعارض، لأن الأول ثابت لصاحبه أصالةً، والثاني لا يثبت إلا برضا الطرف الأول، والتراضي بين الجانبين أساس لصحة العقود (1) .
وقال أكثر المالكية: ليس للموجب الرجوع عن إيجابه، وإنما يلتزم بالبقاء على إيجابه حتى يعرض الطرف الآخر عنه، أو ينتهي المجلس، لأن الموجب قد أثبت للطرف الآخر حق القبول والتملك، فله استعماله وله رفضه، فإذا قبل ثبت العقد، وإذا أعرض عن الإيجاب لم ينشأ العقد، وعليه لا يكون الرجوع مبطلًا للإيجاب (2) .
تعيين مدة القبول:
إذا حدد الموجب للطرف الآخر مدة للقبول، فيلتزم بها عند فقهاء المالكية، لأنهم قالوا كما تقدم: ليس للموجب الرجوع عن إيجابه قبل قبول الآخر، فيكون من باب أولى ملتزمًا بالبقاء على إيجابه إذا عين ميعادًا للقبول، كأن يقول: أنا على إيجابي مدة يومين أو يوم أو ساعات مثلًا، فيلزمه هذا التقييد، ولو انتهى المجلس. وهذا يتفق مع المبدأ العام في الشريعة وهو ((المسلمون على شروطهم)) (3) . ومثل هذا الشرط لا ينافي مقتضى العقد.
العقود التي لا يشترط فيها اتحاد المجلس:
اتحاد المجلس شرط في جميع العقود ما عدا ثلاثة: الوصية، والإيصاء، والوكالة.
أما الوصية (وهي تصرف مضاف إلى ما بعد الموت) : فيستحيل فيها تحقق اتحاد المجلس، لأن القبول لا يصح من الموصى له في حال حياة الموصي، وإنما يكون بعد وفاته مصرًّا على الوصية.
__________
(1) البدائع: 5/134، مغني المحتاج: 2/43، غاية المنتهى: 2/29.
(2) مواهب الجليل للحطاب: 4/241.
(3) هذا نص حديث نبوي أخرجه الترمذي عن عمرو بن عوف، وقال: هذا حديث حسن صحيح.(6/667)
وأما الإيصاء (وهو جعل الغير وصيًّا على أولاده ليرعى شؤونهم بعد وفاته) : فلا يلزم القبول فيه في حياة الموصي، وإنما يصح بعد وفاته. وعلى كل حال لا يصبح وصيًّا إلا بعد وفاة الموصي وإن قبل في حياته.
وأما الوكالة (وهي تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل في أثناء الحياة) فمبنية على التوسعة واليسر والسماحة، فلا يشترط فيها اتحاد المجلس، لأن قبولها قد يكون باللفظ (القول) أو بالفعل بأن يشرع الوكيل في فعل ما وُكِّلَ فيه، ويصح فيه توكيل الغائب (أي غير الموجود في مجلس العقد) ويكون له صلاحية القيام بالعمل الموكل فيه بمجرد علمه بالوكالة (1) .
ويرى الحنابلة: أنه يعد كالوكالة كل عقد جائز غير لازم، يصح القبول فيه على التراخي، مثل الشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة، والإيداع والجعالة.
التعاقد بالهاتف واللاسلكي ونحوهما من وسائل الاتصال الحديثة:
ليس المراد من اتحاد المجلس المطلوب في كل عقد كما بيَّنَّا كون المتعاقدين في مكان واحد، لأنه قد يكون مكان أحدهما غير مكان الآخر، إذا وجد بينهما واسطة اتصال، كالتعاقد بالهاتف أو اللاسلكي أو بالمراسلة (الكتابة) وإنما المراد باتحاد المجلس: اتحاد الزمن أو الوقت الذي يكون المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد، فمجلس العقد: هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مقبلين على التفاوض في العقد (2) ، وعن هذا قال الفقهاء: (إن المجلس يجمع المتفرقات) (3) .
وعلى هذا يكون مجلس العقد في المكالمة الهاتفية أو اللاسلكية: هو زمن الاتصال ما دام الكلام في شأن العقد، فإن انتقل المتحدثان إلى حديث آخر انتهى المجلس.
ومجلس التعاقد بإرسال رسول أو بتوجيه خطاب أو بالبرقية أو التلكس أو الفاكس ونحوها: هو مجلس تبليغ الرسالة، أو وصول الخطاب أو البرقية أو إشعار التلكس والفاكس، لأن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسِل، فكأنه حضر بنفسه وخوطب بالإيجاب فقبل، فينعقد العقد. وفي مكاتبه الغائب بخطاب أو برقية ونحوهما يجعله كأنه حضر بنفسه، وخوطب بالإيجاب، فقبل في المجلس، فإن تأخر القبول إلى مجلس ثانٍ، لم ينعقد العقد. وبه تبين أن مجلس التعاقد بين حاضرين: هو محل صدور الإيجاب، ومجلس التعاقد بين غائبين: هو محل وصول الكتاب أو تبليغ الرسالة، أو المحادثة الهاتفية.
__________
(1) البدائع: 6/20 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص328، نهاية المحتاج: 4/21، مغني المحتاج: 2/222، غاية المنتهى: 2/147.
(2) المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف171.
(3) البدائع: 5/137.(6/668)
لكن للمرسِل أو للكاتب أن يرجع عن إيجابه أمام شهود، بشرط أن يكون قَبْل قبول الآخر ووصول الرسالة أو الخطاب ونحوه من الإبراق والتلكس والفاكس. ويرى جمهور المالكية أنه ليس للموجب الرجوع قبل أن يترك فرصة للقابل يقرر العرف مداها كما تقدم.
هذا وإن بقية شروط الإيجاب والقبول عدا اتحاد المجلس لابد من توافرها في وسائل الاتصال الحديثة.
زمن إتمام العقد في التعاقد بين غائبين:
أجمع الفقهاء على أن العقد ينعقد بين الغائبين كما في آلات الاتصال الحديثة بمجرد إعلان القبول، ولا يشترط العلم بالقبول بالنسبة للطرف الموجب الذي وجه الإيجاب (1) .
فلو كان المتعاقدان يتحدثان بالهاتف أو باللاسلكي، وقال أحدهما للآخر: بعتك الدار أو السيارة الفلانية، وقال للآخر: قبلت انعقد العقد، بمجرد إعلان القبول، ولو لم يعلم الموجب بالقبول، بأن انقطع الاتصال بينهما.
ولو وَجَّه أحد العاقدين أو برقية إلى آخر أو تلكسًا أو فاكسًا، وفيها إيجاب بيع شيء، أو بإبرام عقد زواج، انعقد العقد بعد وصول البرقية أو الخطاب ونحوهما، وإعلان الآخر قبوله، دون حاجة إلى علم الموجب أو سماعه بالقبول.
لكن إبعادًا لكل لبس أو غموض، وتمكينًا من إثبات العقد، وتأكيدًا لإبرامه، جرى العرف الحاضر في التلكس مثلًا ونحوه على إرسال تلكس العرض، ثم تلكس القبول، ثم تلكس البيع، وساعد على ترسيخ هذا العرف ما تنص عليه بعض القوانين الوضعية كالقانون المدني المصري، فإنه نص على ما يلي:
في التعاقد بين حاضرين: تنص المادة (91) على أن (التعبير عن الإرادة ينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وُجِّهَ إليه، ويعتبر وصول التعبير قرينةً على العلم به، ما لم يقم الدليل على عكس ذلك) . واشتراط السماع أو العلم بالقبول حتى بين الحاضرين أخذ به بعض فقهاء الحنفية مثل النسفي وابن كمال باشا.
في التعاقد بين غائبين: تنص المادة (97) على ما يلي: (يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول، ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني بغير ذلك، ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان والزمان اللذين وصل إليه فيهما هذا القبول) .
وأرى الأخذ بضرورة العلم بالقبول بالنسبة للموجب في التعاقد بين غائبين بسبب تقدم وسائل الاتصال الحديثة وتعقد المعاملات، وتحقيقًا لاستقرار التعامل ومنع إيقاع الموجب في القلق، وتمكينًا من إثبات العقد وإلزام القابل، فإن جهل الموجب بالقبول يوقعه في حرج شديد. وهذا رأي الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري (2) .
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي
__________
(1) التعبير عن الإرادة في الفقه الإسلامي للدكتور وحيد سوار: ص118 طبع الجزائر.
(2) مصادر الحق: 2/57.(6/669)
بحث
سعادة الأستاذ محمود شمام
عضو المجلس الإسلامي الأعلى بتونس
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسوله، الصادق الأمين وآله وصحبه وسلم
تقديم
حاولنا الإجابة عن موضوع إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة بدراسة مختصرة تفي بالمقصود إن شاء الله.
1- شرحنا بطريقة بسيطة ساذجة لكنها قريبة من الواقع التعريف ببعض هذه الوسائل حتى نتصورها ونحكم عليها.
2- ربطنا بحثنا بما جاءت به القوانين الوضعية لنصل إلى غايتنا من هذا البحث ومعرفة ما جاءت به النظريات العصرية في الموضوع.
3- تعرَّضنا إلى أحكام الفقه الإسلامي شارحين نظريات مختلفة المذاهب في شأن إبرام العقود وتكوّنها ووجودها ولزومها، مع بيان صلة كل ذلك بالموضوع الأصلي لهذه الدراسة.
4- وانتهينا إلى أن إنشاء العقود وإجرائها بوسيلة من هذه الوسائل الحديثة المتطورة لا مانع منه فقهًا شريطة احترام مقاصد الشريعة الإسلامية السمحة والخضوع لأحكامها ومبادئها التي ألمحنا إليها.
5- ألحقنا ذلك بملاحظة عابرة تخص بعض العقود التي اعتاد الناس إجراءها وأحكامها، والتجاؤهم إلى هذه الوسيلة لغاية السرعة ولكنهم قد يخرجون في شأنها عن حدود الله وأحكامه بسبب التطلع إلى سرعة إنجازها. ونبَّهنا إلى حرمة كل إجراء يتخذ ولا يتقيد فيه بأحكام الشريعة الإسلامية السمحة.
وعسى أن نكون قد وفقنا في إعطاء نظرة حول الموضوع الذي هو عام شامل لكل تصرفات الناس في عصرهم هذا، والحمد لله أولًا وآخرًا.
أن قضية العلاقة المتينة بين أحكام الدين الإسلامي الحنيف – والدين عند الله الإسلام – وبين المعاملات المدنية الاجتماعية الاقتصادية – والدين عبادة وسلوك – من أبرز القضايا التي تطرح نفسها على العقل المسلم في هذا العصر المتطور ماديًّا وعلميًّا حسب أساليب ووسائل اخترعها وأنشأها وكوَّنها وأحدث بها قضايا يتساءل كل مسلم عن أحكامها شرعًا، ويبحث المفتي الباحث المجيب عن الجواب في نطاق اجتهادات الأئمة السابقين، رضي الله عنهم اعتمادًا على أحكام القرآن العظيم وسنَّة نبيِّه الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.(6/670)
ولم يعد بالإمكان تجاهل هذه المشاكل المطروحة والأسئلة الملقاة التي تطلب الحل والإجابة ببيان الحلال من الحرام.
ولقد تطورت الحياة الاقتصادية تطورًا عجيبًا وأصبحت وجهات نظرها وطرق عملها تهم كل المجتمعات الإسلامية بحكم الارتباط الحضاري والاقتصادي وانتشار طرق الالتقاء والاتصال وسهولة تبادل الآراء والاطلاع على خفايا الأمور بين أصقاع المعمورة مع تباعد الديار بفضل هذه الوسائل المتطورة العجيبة الميسّرة السّهلة في مآخذها وتطبيقها والتي فرضت نفسها على كل المجتمعات بشكل عجيب ورهيب، لا يسعى الإنسان إليها ولا يطلب حضورها ولا يرغب في تغلغل مفعولها وإنما تدخل البيوت من غير أبوابها ولا تستأذن أربابها وتربي الكسل الرخيص والارتخاء البسيط، فإذا الإنسان يرحب بمقدمها ويسعى لانتشار أمرها ويطلب التعامل معها. ولكل عصر نواميسه وموازينه ووسائل راحته وترفيهه سواء دعي ذلك تقدمًا أو نعُت بالكسل والارتخاء والاعتماد الكلي على الآلة ... والآلة وحدها.
والمسلمون بعد عصر النهضة وبعد الخلود إلى الراحة لم يكن لهم أي دور في وجود وفي تطور طرق ووسائل وآلات الاتصال الحديثة وإنما هي بضاعة مستوردة طلبوها من صناعها واستخدموها في بلادهم دون معاناة أو تعب أو مشقة ونصب ودون تفكير حتى في صنعها وتطويرها وفهم غامض أمرها وشأنها، وهي بقدر ما تجلب اهتمامهم تجلب أموالهم.
وكان لا بدَّ أن تحدث المشكلة وأن تبعث الأسئلة وأن توجد الحيرة بين رافض لا يحسن إلا التمسك بأساليب قديمة أبدى في شأنها العلماء رأيهم وتعوّد عليها الجميع في ظل الأمن والاطمئنان وراحة البال ولو أدى الأمر إلى خسارة الصفقات وضياع الأرباح وهلاك الاقتصاد وخسارة الحرب الدائرة.
وبين منغمس في استعمالها وفي التلذذ بمنافعها دون وعي بمضارِّها أو تبصّر بأحكامها وعن جهل بعلاقة أحكام دينه الحنيف بما ينتج عن هذه الطرق والآلات من ارتباطات ومعاملات وعقود وانجرار منافع قد تكون محرمة شرعًا في بعض الأحيان.
والدعوة الملحة وجريان الحياة وعدم توقفها تدفع بالفقيه العالم المتقصِّي إلى البحث عن الحلول طبق منهج الإسلام ومقصده في مثل هذه المسائل.
ولنا قدوة حسنة في الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، وفي أصحابه رضوان الله عليهم، وفي مجتهدي هذه الأمة الذين خبروا أمر استنباط الأحكام بطرق عرفوها وخبروها ووضعوا لها مقاييس ليس لنا الخروج عنها، إذا كانت جامعة مانعة تعبد الطريق وترسمه وتيسر سبيل السير فيه: سير الرشاد والهدى وبلوغ الغاية طبق أحكام الدين الحنيف.(6/671)
فالرسول صلى الله عليه وسلم يسأل قاضيه المتوجه لتسلم خطته ويفرح لإجابته بأنه يجتهد رأيه إذا لم يجد نصًّا من كتاب أو سنَّة. وهو بذلك يخطو أول خطوة في سبيل الاجتهاد والتصرف عند نزول القضايا وحدوث المشاكل.
وأئمة المذاهب رضي الله عنهم يسيرون في هذا السبيل ويقتفون أثر الرسول الكريم.
فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه إمام القائلين في الفقه بالرأي والقياس والاستحسان فيما ترك من أجله القياس متى تبين له المصلحة في ذلك، إلا أن ذهابه إلى القياس والاستحسان كان بلا ريب بعد الرجوع إلى القرآن والسنَّة الثابتة لديه ولا يجد نصًّا فيهما على حكم الله فيما عرض عليه وبعد أن لا يجد في المسألة موضوع البحث والفتوى حكمًا أو رأيًا مجمعًا عليه من الفقهاء ومن لهم حق الإجماع.
يقول الخطيب في تاريخ بغداد [13/340] :
(إن أبا حنيفة كان إذا وردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه وإن كان عن الصحابة التابعين، وإلا قاس وأحسن القياس) .
وفيما روي عن أبي حنيفة نفسه أن يقول: (علمنا هذا الرأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى ولنا ما رأينا) [الملل والنحل، للشهرستاني] .
وهو رضي الله عنه يوضح طريقته في استنباط الأحكام، فيقول:
(أني آخذ بكتاب الله إذا وجدته فما لم أجد فيه أخذت بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أصحابه من شئت وادع من شئت ثم أخرج من قولهم إلى قول غيرهم فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب – أي المجتهدين أمثاله – فلي أن أجتهد كما اجتهدوا) . [الانتقاء لابن عبد البرّ] .
يقول الشيخ الإسلام أحمد بن تيمية [مجموع الفتاوى 29/16] .
(إن تصرفات العباد في الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه) .(6/672)
والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن تكون مأمورًا بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه أنه عبادة، وما لم يثبت من عبادات أنه منهي عنه كيف يحكم على أنه محظور. ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرع الله تعالى وإلا دخلنا في معنى قوله:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى: الآية 21] .
والعادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله [سورة يونس: الآية 59] .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} .
ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا في الدّين ما لم يأذن به الله وحرَّموا ما لم يحرِّمه في [سورة الأنعام: الآية 135] .
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .
وفي صحيح مسلم، عن عياض، عن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: ((قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا))
وهذه قاعدة عظيمة نافعة. انتهى كلام شيخ الإسلام.
ومن هذه الزاوية، زاوية الحداثة والتطور الفني لآلات الاتصال وتقارب المسافات بين الذوات المادية وإن تباعدت الأجساد، يجمل بالباحث أن يستعرض أولًا هذا التطور والاختراع المحدث وما قيل في شأنه من طرف المقننين المعاصرين في النظام الوضعي الدولي ثم نتبع ذلك بعد التصور بأحكام الفقه الإسلامي ذي الثراء الواسع الذي يستطيع أن يمدنا بالمتشابه وبالنظير وأن ييسر لنا سبل استخراج الأحكام وتطبيقها على ما حدث من أقضية وطرأ من مشاكل ووجد من ابتكار دخل حياتنا وتغلغل في تصرفات تجارنا وفي معاملاتنا المدنية.
وعسى أن لا يأخذنا أحد إذا اتبعنا هذا السبيل ففيه الوضوح والجلاء والتقصي ثم محاولة وجود النص والمساعدة على إجراء القياس والانتهاء إلى المطلب المنشود فالموضوع جافٍ إن اقتصر على عنوانه وثري حافل إن وقع التطرق إلى شعبه وما يخضع له من عناصر متنوعة ومحاور متفرقة بين دفات الكتب الفقهية هذا الفقه الذي نفخر به وبمن عالجوا أبوابه ونظموا طرقه ولم يغفلوا حتى عن البسيط من الأمر.(6/673)
ما هي طرق الاتصالات الحديثة
يجمل التعريف بإيجاز واختصار ببعض هذه الطرق لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وما نذكره هنا هو تقريبي لا غير، إذ الغاية تصور هذه الطرق بصورة مجملة وندع التفاصيل لأهل الفن في هذا الميدان.
(أ) الهاتف:
1- دور الهاتف:
يتمثل دور الهاتف في نقل الصوت من مشترك إلى آخر عبر خطوط هاتفية مادية أو هوائية توفرها مصلحة البريد للمشتركين، ويقع التمييز بين مشترك وآخر برقم أو بعدد يتكون من عدة أرقام، مثلًا في تونس يتكون من ستة أرقام.. ويقع التمييز بين المناطق الجغرافية برقم إضافي، فمثلًا يضاف العدد (5) إلى رقم المشترك القاطن في صفاقس إذا خاطبته من خارج صفاقس. وكما يضاف رقم للتفريق بين الدول المرتبطة مع بعضها عبر خطوط الهاتف، فإذا أردت أن تخاطب شخصًا ما في أميركا فيجب إضافة العدد (1) .
فخلاصة القول: يتكون رقم الهاتف من مميز للبلد ومميز للتقسيم الجغرافي داخل البدل ورقم المشترك.
2- كيفية الاتصال:
عن طريق آلة الهاتف يقع تحويل الموجات أو الذبذبات الصوتية البشرية إلى ذبذبات كهربائية تترجم عن خصائص الموجات الصوتية من قوة وسرعة، وتحمل تلك الذبذبات الكهربائية عن طريق أسلاك معدنية أو على الهواء إن كانت سرعتها كبيرة إلى الآلة المقصودة بالخطاب فتحول تلك الموجات الكهربائية إلى ذبذبات صوتية.
فخلاصة القول: إن دور آلة الهاتف هو تحويل الذبذبات الصوتية إلى إشارات كهربائية بالنسبة للمتكلم وتحويل الإشارات الكهربائية إلى إشارات صوتية بالنسبة للسماع.
وإن مصلحة الاتصالات هي التي تنظم حركة المرور بين المشتركين، فهي تضمن إيصال المكالمات إلى أصحابها، وكما أسلفت فإنه يقع التمييز بين مشترك وآخر بالرقم الذي توفره له مصلحة البريد.
ولقد أمكن في هذه السنوات الأخيرة جعل الصورة مصاحبة للصوت، فبالإمكان مشاهدة الشخص المتخاطب معه وهذه الصورة تكون عادة مرسلة عبر موجات هوائية فائقة السرعة.(6/674)
(ب) التلغراف:
آلة التلغراف بسيطة الاستعمال، فهي تسمح بإرسال إشارات منظومة متعارف على معناها، فهي عبارة عن رموز لأحرف وكلمات.. وتنقل هذه الإشارات الكهربائية عبر خطوط (أسلاك) بسرعة ضعيفة نسبيًّا.
(ج) التلكس:
1 - دور التلكس:
يتمثل دورالتلكس في إرسال الأحرف المكونة لرسالة أو وثيقة من مشترك إلى آخر عبر خطوط (أسلاك مادية) أو عبر الهواء، وكل مشترك في نظام التلكس له رقم معين يميزه عن بقية المشتركين، كما هو الشأن بالنسبة لأرقام الهاتف.
2- كيفية الاتصال:
تحتوي آلة التلكس على مفاتيح كمفاتيح الآلة الكاتبة، وبعد أن يقع رقم الرسالة المزمع إرسالها تحول الآلة كل حرف من الرسالة إلى رقم – وهذه الأرقام التي هي رموز لكل حرف من أحرف الهجاء متعارف عليها عالميًّا – وبعد أن تحول الآلة كل حرف إلى رقم يقع بتحويل مجموع الأرقام إلى إشارات كهربائية ترسل عبر خطوط التلكس تستقبلها الآلة المقصودة فتحولها- أي تلك الإشارات الكهربائية – إلى أرقام ثم إلى أحرف وترقم تلك الأحرف على ورقة بطريقة آلية.
ويقع التعريف، سواء قبل إرسال الرسالة أو عند وصولها، برقم المرسل والمرسل إليه حتى تتم إرسال أو قبول الرسالة من طرف الآلة.
وسرعة التلكس كسرعة التلغراف ليست بالسرعة العالية، وتملك الآلة القدرة على إصلاح الخطأ الواقع من جراء تنقل الإشارات الكهربائية عبر خطوط التلكس، وذلك قبل تحويل الأرقام إلى أحرف الرسالة.. فمع كل حرف مرسل، أي بعد تغييره إلى رقم، ترسل معه إشارة إضافية، تبين بعض خصائصه من أن الرقم زوجي أو فردي أو عند وصول الرقم إلى الآلة المقصودة تصل معه الإشارة المصاحبة، فتفهم الآلة الرقم والإشارة وتتأكد من صحته، أي أنه إذا وصل رقم فردي وإشارته تعلم بأن الرقم زوجي، فإن الآلة تفهم بأن الرقم فيه خطأ.. وبوسائل أخرى متشعبة تستطيع إصلاحه في معظم الحالات.(6/675)
(د) التلفاكس: (TELEFAX - TELECOPIE)
1 - دور التلفاكس:
بإمكان آلة التلفاكس تحويل نسخة من رسالة أو صورة إلى إشارات كهربائية ترسل عبر خطوط هاتفية، وكما هو الشأن بالنسبة للهاتف فإن كل آلة أو مشترك يميزها رقم كرقم الهاتف تمامًا.
2- تستبين آلة التلفاكس الصورة عن طريق الأشعة وتقدر مدى إضاءة كل نقطة في الرسالة وتحول هذه المعلومات إلى إشارات كهربائية تبعث عن طريق الخطوط الهاتفية وعندما تصل تلك الإشارات إلى الآلة المقصودة تحول تلك الإشارات إلى صورة مماثلة للرسالة وذلك عن طريق الأشعة أيضا ولكن الصورة تكون أقل دقة ووضوحا من الصورة الحقيقية
وترسل إشارة من الآلة الباعثة قبل إرسال الصورة لطلب استعداد الآلة المرسل إليها للاستقبال، وعندما تكون الآلة المرسل إليها مستعدة أي أن الخط غير مشغول فإنها تجيب الآلة المرسلة بإشارة هي بمثابة علامة استعداد. وسرعة الإرسال هي كسرعة التخاطب بالهاتف، لذلك فاحتمال وقوع الخطأ أو عدم الوضوح يكون أكثر من استعمال التلكس، غير أن من حسنات هذه الآلة على غرار سابقتها أنها تسمح بإرسال الصورة زيادة على الرسائل، فهي بحد ذاتها كالآلة الناسخة غير أنها تتمكن من إرسال ما تنسخه.
(هـ) النقل بواسطة العقل الالكتروني: (ORDINATEUR)
هو وسيلة متطورة بالمعادلة مع الآلة الكاتبة، إذ بإمكانه خزن ما يكتب، أما الآلة الكاتبة فيه تبرز ما تكتب ولا تخزن.
وبالإمكان بإضافة آلات بسيطة إلى العقل الالكتروني وربطه بخط الهاتف، التخاطب مع عقل آخر له اتصال هو أيضًا بخط الهاتف بأرقام خاصة طبعًا.
وحينئذٍ يمكن كتب رسالة وخزنها مع توجيه نسخة منها إلى عقل آخر يتلقاها صورة على الشاشة المصاحبة للعقل في نفس الوقت كسرعة الهاتف.
وهذه الوسيلة دخلتها عدة اضطرابات إن لم نقل دخلها العبث. وبقدر محاسنها وسرعتها فإنها كثيرة العيوب ومن الصعب الاطمئنان إليها.
ومهما احتاط الناس فالمنحرفون يمكنهم الوصول إلى غايتهم السافلة بواسطة هذه الآلة.
(و) الاعتماد الموثق:
وهنا نقف في محطة أخرى ألحقناها إلحاقًا لأنها تشرح أهمية ونجاعة الاتصالات الحديثة بوسائلها المتطورة النابضة بالحياة والميسرة للمعاملات والمقربة للمسافات، وهي المتعلقة بسند الاعتماد أو الاعتمادات المستندية في الأعراف الدولية، وهي وسيلة تسهل المعاملات وتحكم ربطها بواسطة وسائل الاتصالات السابقة.
فالبنوك الآن تضطلع بدور كبير في شؤون التجارة والاقتصاد وعمليات الائتمان التجاري.(6/676)
فهي تمارس نشاطها وتحركها عن طريق العديد من العمليات المصرفية مرتبطة بحرفاء وبعقود تجارية لها مواصفات خاصة وأحكام مميزة.
وهذا النظام لم تكن له جذور قانونية تقليدية معينة، إنما بعث لحاجة العمل التجاري وتوفير الأمن والثقة بين الباعة والمشترين طبق عادات وأعراف وقعت محاولة لوضعها في صيغة ميثاق ليستأنس به ويستنار بأحكامه.
فالبيع قد يتم بين متعاقدين كل واحد منهما في جهة بعيدة كل البعد عن جهة ومقر صاحبه ومعاقده، ويكون ذلك بواسطة الاتصالات السريعة لأن الناس دومًا في حاجة أكيدة للسرعة في قضاء حاجياتهم.
ومن هنا جاءت هذه الطريقة التي نشرحها وهي مكملة متممة لما توفره تلكم الوسائل الاتصالية السريعة فالبضاعة تسلم تسليمًا حكميًّا معنويًّا قانونيًّا فقط لا بالمناولة والحوز المادي وإنما بتسليم المستندات الخاصة بها وهي سند الشحن وسندات تحقق سلامة تأمين البضاعة وسلامتها ووزنها ونوعها ووصفها مما يتحقق معه إنهاء البائع لواجباته المفروضة عليه في انتظار قيام المشتري بما عليه من واجبات.
والمشتري عليه أن يدفع الثمن بواسطة البنك الذي يتعامل معه، وفي ذلك ضمان مؤكد لحقوق البائع.
وجاء التفكير في هذه الوسيلة لدفع كل خطر لضمان حقوق كل الأطراف عند وجود فاصل مكاني يحول دون المتعاقد الفوري والتبادل الحيني للثمن والمثمن بطريقة (خذ.. وهات) المتعارفة.
وهذا النظام نشأ بدافع الحاجة العملية ثم تطور وتغير تحت ضغط تلكم الحاجة وإلحاحها. والعرف وحده هو الذي يحدد أحكام هذا النظام محترمًا في ذلك المقاصد الاقتصادية والأهداف العملية وسلامة كل ذلك من شوائب مخالفة القوانين والأنظمة.
يقول أحد رجال القانون المختصين، الأستاذ علي عوض، في كتابه (الاعتمادات المستندية) ، وهو من أحسن ما ألف في الموضوع.
: إنه قد لا يستطيع أحد المتعاقدين أن يبدأ بتنفيذ التزامه قبل أن ينفذ الآخر التزامه، أو قبل أن يطمئن هو بشكل أكيد إلى أن هذا التنفيذ سيحصل، فاتجه التفكير إلى الاستعانة بالمستندات التي تصدر بمناسبة تنفيذ هذا البيع، إذ هي تمثل حيازة البضاعة والحقوق الناشئة من البيع وتكشف عن مدى تنفيذ البائع لالتزامه وإلى الاستعانة بشخص وسيط يثق فيه كل من البائع والمشتري تمر عن طريقه المستندات والثمن وبشروط تجعل كل واحد مطمئنًا.(6/677)
فيشترط البائع في عقد البيع على المشتري أن يطلب إلى بنك يعينه أن يتعهد أمامه هو بدفع الثمن متى سلَّمه المستندات الخاصة بتنفيذ البيع والتي بها يتسلم المشتري البضاعة. ويقال عندئذٍ: إن بنك المشتري يفتح بهذا التعهد اعتمادًا مستنديًّا لصالح البائع.
ويسمى المشتري هنا الآمر، لأنه يأمر البنك الفاتح أو المصدر ويسمى الخطاب أو الإخطار الذي يرسله البنك إلى المستفيد متضمنًا تعهده (accrditif) .
وقد يكون تعهد البنك في هذا الخطاب غير مؤكد أو غير نهائي، أي قابلًا للرجوع فيه أو للنقض (Revocable) ، وفيه يكون البنك مجرد وكيل عن المشتري الآمر لا يلتزم بأي التزام شخصي أو مستقل أمام البائع. ولهذا يكون للمشتري أن يلغي أوامره السابقة ويطلب إلى البنك الرجوع في وعده الذي أخطر به البائع، كما يكون للبنك أيضًا أن يرجع في هذا الوعد متى قام سبب يبرر ذلك في علاقته بالمشتري الآمر كما لو ساء المركز المالي للمشتري.
والمعتاد أن يشترط البائع في البيع على المشتري أن يكون تعهد البنك في خطابه قطعيًّا (irrevocable) ، بمعنى أن يتعهد أمام البائع تعهد شخصيًّا مستقلًا منفصلًا بحيث لا يكون له بعد ذلك أن يرجع في تعهده أيا كان مصير علاقة البنك بالمشتري الآمر ولا ما يطرأ على المركز المالي للمشتري كما لا يكون المشتري أن يأمر البنك بالرجوع في تعهده ولا أن يرجع هو في تعليماته التي أصدرها للبنك من قبل، وهكذا يحصل البائع على الطمأنينة التي ينشدها من تدخل البنك وتبلغ أقصاها في حالة ما يؤكد بنك آخر تعهد بنك المشتري.
وقد انتشر استخدام الاعتماد المستندي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، إذا كان المصدرون من الولايات المتحدة الأمريكية يطلبونه من المشترين في أوروبا، ثم امتد بعد ذلك إلى كافة أنحاء العالم.
وجاء في المرشد العلمي الذي وضعته غرفة التجارة الدولية في شأن هذا الاعتماد سنة 1978م أن الاعتماد المستندي هو بعبارة وجيزة تعهُّد مصرفي مشروط بالوفاء، أو هو تعهُّد مكتوب من بنك يسمى المصدر مسلم للبائع المستفيد بناء على طلب المشتري وطبق تعليماته للقيام بالوفاء في حدود مبلغ محدد خلال فترة معينة في نظير مستند مشترط.(6/678)
وعرَّفه بعضهم بقوله:
(الاعتماد المستندي القطعي عقد بمقتضاه وبناء على طلب أحد طرفيه وهو الآمر يتعهد البنك فاتح الاعتماد شرطيًّا وبشكل لا رجوع فيه أمام شخص من الغير مباشرة وبواسطة تدخل بنك في بلد هذا الغير أن يدفع مبلغًا محددًا في مقابل أن تقدم إليه خلال مدة محددة مستندات معينة ويلتزم العميل المفتوح له الاعتماد الآمر من جانبه بتخليص العملية) .
وقد عرَّف القانون التجاري التونسي هذا الاعتماد تحت عنوان: (الاعتماد الموثق) ، عرفه في الفصل (720) وما بعده قائلًا:
الاعتماد الموثق هو الاعتماد الذي يفتحه أحد البنوك بطلب من شخص آمر لفائدة عميل له ويكون مضمونًا بحيازة الوثائق المتمثلة فيها البضائع أثناء نقلها أو البضائع المعدة للنقل.
والاعتماد الموثق ينشأ مستقلًّا عن عقد البيع الذي يمكن أن يكون أصلًا لتكوينه وتبقى البنوك أجنبية عنه.
وكل اعتماد يعتبر غير قابل للرجوع فيه إلا إذا نص شرط صريح على خلافه.
والاعتماد الذي لا رجوع فيه يقتضي التزام البنك التزامًا باتًّا مباشرًا تجاه المستفيد.
ويظهر أن هذا الاعتماد لجأ إليه العرف التجاري الدولي، لأنه يحقق سرعة التعاقد ويحمي سلامة تنفيذ العقود، لأن بقية الوسائل الأخرى قد لا تحمي الأطراف حماية تامَّة وقد لا تحقق السرعة المطلوبة. فالضامن الكفيل لا يؤدي إلا تحت شروط تهم اختيار حالة المدين وإذا صدر أي اعتراض أعرض الكفيل عن الأداء وتقاعس عن الوفاء وضاعت حقوق الدائن بسبب تلاعب أصحاب الأهواء وطول الترافع في ساحات القضاء.
والالتزام بفتح الاعتماد ينشأ تسهيلًا لعقد العقود وسرعة تنفيذها بتسلم الثمن والبضاعة وهذا يتم غالبًا بواسطة هذه الآلات السريعة العصرية المتطورة.
ومن هنا نفهم سبب إلحاق هذه الوسيلة بتلك الوسائل، لأنها تتكامل معها وتجر إلى نفس المرفأ وتنتهي بالعقود إلى النفاذ السريع العاجل في شبه اطمئنان وسلامة وأمن مع سرعة تتماشى وعصر السرعة والمادة وفقد الثقة وفتح الاعتماد هو تسهيل للوفاء وضمان له.(6/679)
الفرع الأول
التعاقد بين حاضرين
قد تبرم بين متعاقدين حاضرين حقيقة أو حكمًا أو بين غائبين عن بعضهما منفصلين جسديًّا بسبب بعد المكان.
الفرع الأول:
إذا كان الطرفان المتعاقدان في مكان واحد من بلد واحد وتفاهما في شأن عقد من العقود واتفقا على شروطه ولوازمه وتوابعه وكلياته وجزئياته، فقد انبرم العقد بينهما ولزم كل طرف الوفاء بما تعهد به دَيْنًا وقضاءً مع احترام وسائل الإثبات عند إنكار أي طرف لما يدعيه الطرف الآخر.
أما إذا وجد شخصان مثلًا في مكان واحد وعرض أحدهما على الآخر صفقة من الصفقات بشروطها وأوصافها ولم يعين له أجلًا لقبول العرض أو رفضه، أو بعبارة عرفية لقبول الإيجاب المعروض عليه أو رفضه، فالقوانين الوضعية هنا تقرر أن القبول يجب أن يكون حينيًّا.
يقول الفصل (27) من القانون المدني التونسي:
(إذا عرض شخص على شخص آخر حاضر بمجلسه عقدا من العقود ولم يعين له أجلا لقبوله أو رفضه، فلا يترتب على ذلك شيء إن لم يقبله في الحين) .
وتقول المادة (94) من القانون المدني المصري الجديد.
(إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد دون أن يعين ميعادًا للقبول فإن الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فورًا) .
هذا إذا كان الطرفان حاضرين ماديًّا ذاتيًّا في مكان واحد ومجلس واحد.
والأمر كذلك إذا كان حاضرين حكميًّا، أي حضور معنويًّا بأن كان أحدهما ببلد والآخر بأخرى يبعد عنه لكن أمكنهما الاجتماع معنويًّا بواسطة الهاتف والتخاطب المباشر والتفاهم على كل جزئيات وكليات العقد والهاتف قد يكون مصحوبًا بالصورة المرئية أحيانًا.
فالقبول هنا يجب أن يكون حينيًّا فوريًّا كما في الصورة الأولى، وهي صورة الاجتماع الحي المادي.
وهذا ما صرح به آخر فصل (27) من المدونة المدنية التونسية السابق:
(وهذا الحكم يجري فيما يعرضه شخص على آخر بواسطة التليفون) .
وهو عين ما جاء في المادة (94) من القانون المصري التي تنص:
(وكذلك الحال إذا صدر الإيجاب بطريق التليفون أو بأي طريق مماثل) .
ومن هنا نفهم أن التعاقد بين شخصين حاضرين حضورًا ماديًّا أو حكميًّا أن من وُجِّهَ إليه إيجاب في شأن إبرام عقد من العقود عليه أن يرد بغطاء القبول حالا وفورًا، فإن تراخى وأهمل أمر القبول فالإيجاب أصبح ساقطًا لا يعمل به، وإن قَبِل بعد ذلك يصير قبوله هذا إيجابًا جديدًا وعرضًا حديثًا وعلى الطرف الآخر قبوله حينًا أو رفضه ماديًّا أو معنويًّا بالصمت والسكوت.(6/680)
وهذا هو عين ما جنح إليه القانون المصري في مادته (94) ، والقانون المغربي في مادته (95) والليبي في مادته (94) .
وهو مبدأ متفق عليه مجمع على أحكامه بصرف النظر على اختلاف في الجزئيات.
والقانون الكويتي، الذي هو حديث عهد بالوضع وقام على أنقاض ما كان معمولًا به في (مجلة الأحكام العدلية العثمانية) التي أصدرتها الدولة العثمانية في شعبان سنة 1293هـ الملاقية سنة 1876 ميلادية، وهي متبعة للمذهب الحنفي.
هذا القانون الكويتي الحديث الصادر سنة 1400هـ - 1980م كان مرنًا في أسلوبه وفي صياغته واستفاد من آراء من سبقه، وقد عالج هذا الموضوع معالجة طيبة، فجاءت مادته (46) تشرح التعاقد بين حاضرين في مجلس العقد، فتقول:
(إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد من غير أن يتضمن ميعادًا للقبول كان لكل من المتعاقدين الخيار على صاحبه إلى انفضاض هذا المجلس، وإذا انفض مجلس العقد دون أن يصدر القبول اعتبر الإيجاب مرفوضًا) .
وهو يحدد موقفه من خيار المجلس ويأخذ برأي المالكية والحنفية، فيقول في مادته (47) :
(إذا ارتبط الإيجاب بالقبول لزم العقد طرفيه ولا يكون لأي منهما عنه نكوص حتى قبل أن يفترقا بالبدن) .
وقد شرحت المذكرة الإيضاحية هذا الموضوع شرحًا جيدًا فليرجع إليها من أراد الاطلاع عليها.
وما جاءت به القوانين الوضعية في هذا الشأن فيه نوع من الشدة والقسوة بالمقارنة مع ما جاءت به أحكام الشريعة الإسلامية السمحة الميسرة.
ومعلوم أن الخيار في الفقه الإسلامي له أنواع: خيار المجلس وخيار التروّي وخيار النقيصة أو العيب وخيار الرؤية.
وبالتعرض إلى الموضوع بإجمال كلي من ناحية أحكام الفقه الإسلامي، نلاحظ اليسر والسهولة في شأن هذا الخيار الذي اختلفت الآراء في شأنه واختلف الإسناد إليه والاعتماد عليه.
وبصرف النظر عن خيار النقيصة أو العيب فالخيار نوعان:
(أ) الذي عيّن فيه أمد وأجل للخيار.
(ب) والمطلق الذي لم يعين فيه أجل لذلك.
والأخير هو محل ومحط بحثنا لعلاقته المتينة بوجود شخصين حاضرين ماديًّا أو حكميًّا واشتغالهما بإنشاء عقد من العقود التعاملية المدنية ثم بتعاقد غائبين عن بعضهما بواسطة وسيلة من الوسائل قديمة أو حديثة تقليدية أو عصرية متطورة.(6/681)
مجلس العقد
روى الإمام مالك في الموطأ، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
قال مالك: وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه (1) .
قال عياض: وهذا أصل في جواز بيع المطلق والمقيد. قال الأبِّي: يعني بالمطلق المسكوت عن تعيين مدة الخيار فيه وبالمقيد ما عين فيه أمد الخيار.
فالمتعاقدان إذا حصل بينهما الاتفاق والتراضي على أركان العقد وشروطه تم العقد وانبرم بينهما ولاحق لأحدهما أن يرجع في التزامه سواء في نفس المجلس أو بعد انفضاضه.
والإيجاب المفتوح المتعارف بين التجار والشائع استعماله بين الناس، يقتضي العرض لشخص غير معين فإذا لحقه الإيجاب من أي شخص انبرم العقد، ولذلك صيغ مختلفة.
وهذا بخلاف المناداة على البضاعة والسلع، فهي ليست إيجابًا يتطلب القبول. ثم إنه في بيع المزايدة يحدث أن يقع الافتتاح للدلالة بثمن معين لكنه قابل للزيادة، فلا يمكن أن يكون الثمن المفتتح به إيجابًا وإن كان العرض بواسطة الدلّال في مفهومه الإيجاب لآخر ثمن يعرض.
يقول الشيخ عليش في منح الجليل [2/573] .
(إن الاستفتاح للدلّال بثمن ليبني عليه في المناداة من شخص عارف جائز لئلا يستفتح من يجهل القيمة بسوم قليل فيتعب الدلّال. وكان بالكتبيين في تونس رجل مشهور بالصلاح عارف بالكتب يستفتح للدلّالين ما يبنون عليه ولا غرض له في الشراء) .
والإمام مالك رضي الله عنه ينفي خيار المجلس، لأن الأصل في العقود اللزوم إذ هي أسباب لتحصيل المقاصد من الأعيان وترتب المسببات على أسبابها هو الأصل.
فالبيع والعقد حينئذٍ لازم تفرقًا أم لا فهو رضي الله عنه يقول عقب الحديث الذي يرويه: وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه.
وهو يدافع عن موقفه ويكتب إلى صاحب له فقيه متمكن ينصحه بالقول والإفتاء بعمل أهل المدينة ويبيّن له صحته في هذا التوجيه.
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} الآية.
والناس تبع لأهل المدينة ... إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن وأُحلَّ الحلال وحرِّم الحرام، إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يحضرون الوحي إلى آخر كتابه) .
وأجاب اتباع مالك عن الحديث بحمل (المتبايعان) على المتشاغلين بالبيع، فإن باب المفاعلة شأنها اتحاد الزمن كالمضاربة ويكون الافتراق بالأقوال كقوله سبحانه:
{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [الآية 129 من سورة النساء] .
__________
(1) وروي هذا الحديث عن أبي الحسن الشيرازي، عن زاهر بن أحمد، عن أبي إسحاق الهاشمي، عن أبي مصعب، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار) . قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته، أخرجه مالك في الموطأ والبخاري ومسلم في باب البيوع. وأخرج مسلم عن قتيبة، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعًا أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع) . قال البغوي: حديث متفق على صحته. وفي الصحيحين: للبخاري ومسلم، عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار) .(6/682)
ويكون الافتراق مجازًا جمعًا بين الأدلة ولأن ترتيب الحكم على الوصف يدل عليه ذلك الوصف لذلك الحكم فوصف المفاعلة هو علة الخيار فإذا انقضت بطل الخيار ببطلان سببه وحمل المتبايعين على من تقدم منه البيع مجازًا كتسمية الخبز قمحًا والإنسان نطفة.
حتى يقول: وأجيب أيضًا بأنه معارض بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وهذا منه، لأن كل واحد لا يدري ما يحصل له وهو خيار مجهول العاقبة فيبطل، ولأن الأمر في قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} للوجوب وهو ينافي الخيار.
ونقل محمد بن الحسن عن أبي حنيفة معنى الحديث إذا قال: بعتك فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قد قبلت وليس المراد ظاهره أرأيت لو كان في سفينة أو قيد أو سجن كيف يفترقان؟ والمذهب الحنبلي يقرر أنه لكل واحد من المتبايعين حق فسخ البيع ما داما مجتمعين لم يتفرقا بأبدانهما فإذا تفرقا من غير فسخ لم يكن لأحدهما رد البيع إلا لعيب أو شرط [المغني، لابن قدامة] .
يقول ابن رشد الحفيد موضحًا هذا الموضوع وباسطًا أسباب الخلاف [بداية المجتهد: 2/160] :
اختلفوا متى يكون اللزوم، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وطائفة من أهل المدينة: إن البيع يلزم في المجلس بالقول وإن لم يفترقا. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وابن عمر من الصحابة رضي الله عنهم: البيع لازم بالافتراق من المجلس وإنهما مهما لم يفترقا فليس يلزم البيع ولا ينعقد وعمدتهم حديث مالك عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار)) . وفي بعض الروايات هذا الحديث إلا أن يقول أحدهما لصاحبه اختر. وهذا الحديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد وأصحها حتى لقد زعم أبو محمد أن مثل هذا الإسناد يوقع العلم وإن كان من طريق الآحاد.
وأما المخالفون فقد اضطرب بهم وجه الدليل لمذهبهم في رد العمل بهذا الحديث.
فالذي اعتمد عليه مالك رحمه الله في رد العمل به أنه لم يلف عمل أهل المدينة عليه، مع أنه قد عارضه عنده ما رواه من منقطع حديث ابن مسعود أنه قال: أيما بيعين تبايعا فالقول قول البائع أو يترادّان. فكأنه حمل هذا على عمومه وذلك يقتضي أن يكون في المجلس وبعد المجلس. ولو كان المجلس شرطًا في انعقاد البيع لم يكن يحتاج فيه إلى تبيين حكم الاختلاف في المجلس لأن البيع بعدُ لم ينعقد ولا لزم بعد الافتراق من المجلس.(6/683)
وهذا الحديث منقطع ولا يعارض به الأول وبخاصة أنه لا يعارضه إلا مع توهم العموم فيه والأولى أن يبني هذا على ذلك.
وهذا الحديث لم يخرجه أحد مسندًا فيما أحسب. فهذا هو الذي اعتمد عليه مالك رحمه الله في ترك العمل بهذا الحديث.
وأما أصحاب مالك فاعتمدوا في ذلك على ظواهر سمعية وعلى القياس، فمن أظهر الظواهر في ذلك قوله عزَّ وجلَّ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [الآية 1 من سورة المائدة] .
والعقد هو الإيجاب والقبول والأمر على الوجوب. وخيار المجلس يوجب ترك الوفاء بالعقد إذْ يمكن الرجوع في البيع بعدما أنعم ما لم يفترقا.
وأما القياس فإنهم قالوا: عقد معاوضة فلم يكن لخيار المجلس فيه أثر، مثل النكاح والخلع والرهن والصلح. فلما قيل لهم: الظواهر التي تحتجون بها يخصصها الحديث المذكور فلم يبق لكم في مقابلة الحديث إلا القياس فيلزمكم على هذا أن تكونوا ممن يرى تغليب القياس على الأثر، وذلك مذهب مهجور عند المالكية وإن كان قد روي عن مالك تغليب القياس على السماع مثل قول أبي حنيفة، فأجابوا عن ذلك بأن هذا ليس من باب رد الحديث بالقياس ولا تغليب وإنما هو من باب تأويله وصرفه عن ظاهره. قالوا: وتأويل الظاهر بالقياس متفق عليه عند الأصوليين قالوا: ولنا فيه تأويلان أحدهما أن المتبايعين في الحديث المذكور هما المتساومان اللذان لم ينفذ بينهما البيع فقيل لهم: إنه يكون الحديث على هذا لا فائدة فيه، لأنه معلوم من دين الأمة أنهما بالخيار إذ لم يقع بينهما عقد بالقبول. وأما التأويل الآخر فقالوا: إن التفرق ههنا إنما هو كناية عن الافتراق بالقبول لا التفرق بالأبدان كما قال الله تعالى:
{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [الآية 129 من سورة النساء] .
والاعتراض على هذا أن هذا مجاز لا حقيقة هي التفرق بالأبدان. ووجه الترجيح أن يقاس بين ظاهر هذا اللفظ والقياس فيغلب الأقوى والحكمة في ذلك هي لموضع الندم. اهـ.
والقرافي في الفروق ص196 يقول:
إن أصل العقود أن تلتزم بالقول لقوله سبحانه وتعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، والمالكية أبطلوا خيار المجلس بناءً على أن هذه الآية قررت أصلًا من أصول الشريعة وهو أن مقصد الشارع إتمام العقود، وبذلك صار ما قررته مقدمًا عند مالك على خبر الآحاد ولذا لم يأخذ بحديث ابن عمر: ((المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا)) .(6/684)
ونحن هنا نشير إلى أن عمل أهل المدينة متى ثبت واتُّفِق عليه قُدِّم على خبر الآحاد عند المالكية، وهو ما اعتمده مالك رضي الله عنه عند قوله:
(وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه) .
والقاضي عياض في [المدارك: 1/72] يُخَرِّجُ المسألة من زاوية أخرى عند تحدُّثِه على عمل أهل المدينة فهو يذكر حديث ((المتبايعان بالخيار)) الذي رواه مالك وأهل المدينة بأصح أسانيدهم. وأما قول مالك عَقِبَهُ وليس لهما عندنا حد محدود ولا أمر معمول به. هو مسلط على فقرة: إلا بيع الخيار، أي أن بيع الخيار ليس له حد عندهم وفسر التفرق بالأقوال لا بالأبدان والخيار ما داما متراوضين ومتساومين.
ويقول خليل في مختصره: (إنما الخيار بشرط) .
فنبه بالحصر على أن خيار التروي لا يثبت بدوام اجتماع المتبايعين.
وعلق شراح خليل على ذلك بقولهم: وهذا قول الفقهاء السبعة إلا ابن المسيب وهو رأي مالك وأبي حنيفة.
والفقهاء السبعة جمع بعضهم أسماءهم فقال:
ألا كل من لا يقتدي بأيمة
فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فخذهم: عبيد الله عروة قاسم
سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وهم جميعًا من التابعين رضي الله عنهم.
وما ذهب إليه المذهبان الحنفي والمالكي واقتبسته عنهما القوانين الوضعية حينئذٍ هو أن العقد إذا تم وانبرم أصبح واجب النفاذ سواء بقي المجلس وطال أمده أو انصرم سواء اجتمعا بالأبدان اجتماعًا حقيقيًّا أو اجتماعيًّا حكميًّا بواسطة آلة اتصال كالهاتف.
لكن لا يفهم من هذا منع التراخي في قبول العرض ولا يمكن أن نتصور تصرفًا ماليًّا له أهمية كبرى تشترط فيه المسارعة بالقبول والمواثبة في الإجابة دون إعمال الرأي أو تدبير شأن وتفكير بموضوعية تتطلبها المعاملات التجارية عادةً وعرفًا، فالمتعاقدان قد يكون أحدهما درس الموضوع دراسة معمقة مركزة ثم جاء يعرض إيجابه ولذا فإن الطرف المقابل من حقه إعمال الرأي والتفكير والتدبير ثم إسناده القبول وتغطيه الإيجاب حتى يتكوَّن العقد.
وهذا ما يقرره غالب الفقهاء في مختلف المذاهب وإليه يجنح شراح القانون.
يقول الكاساني في [بدائعه: 5/137] .
(...... وأما الذي يرجع إلى مكان العقد فهو اتحاد المجلس بأن كان الإيجاب والقبول في مجلس واحد فإن اختلف المجلس لا ينعقد لأن القياس أن لا يتأخر أحد الشطرين عن الآخر في المجلس ... إلا أن اعتبار ذلك يؤدي إلى انسداد باب البيع فتوقف أحد الشطرين على الآخر حكمًا وجعل المجلس جامعًا للشطرين مع تفرقهما للضرورة وحق الضرورة يصير مقضيا عند اتحاد المجلس فإذا اختلف لا يتوقف. وعند الشافعي رحمه الله الفور مع ذلك شرط لا ينفذ الركن بدونه. ولنا في ترك اعتبار الفور ضرورة لأن القابل يحتاج إلى التأمل ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التأمل) .(6/685)
ويقول الزيلعي شارح الكنز [2/4] :
( ... وعند الشافعي رحمه الله خيار القبول لا يمتد إلى آخر المجلس بل هو على الفور ولنا – أي للحنفية – أنه يحتاج إلى التروّي والفكر والتأمل فجعل ساعات المجلس كساعة واحدة إذ هو جامع للمتفرقات وبه يرتفع الحرج، وفيما قاله الشافعي حرج بيِّن وهو منتفٍ بالنص، قال الله سبحانه وتعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [آية 185 من سورة البقرة] .
وقال عليه الصلاة والسلام: ((يسروا ولا تعسروا ... )) . وفي نفس السياق يقول الحطاب في شرحه لمختصر خليل [4/240] :
( ... والذي تحصل عندي من كلام أهل المذهب أنه إذا أجابه في المجلس بما يقتضي الإمضاء والقبول من غير فاصل لزمه البيع اتفاقًا، وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزمه البيع اتفاقًا وكذا لو حصل فاصل يقتضي الإعراض عمَّا كانا فيه حتى لا يكون كلامه جوابًا لكلام السابق عرفًا لم ينعقد البيع كما يفهم من كلام ابن عرفه ومن كلام ابن رشد: إن أجابه صاحبه في المجلس ولا يشترط أن لا يحصل بين الإيجاب والقبول فصل بكلام أجنبي عن العقد ولو كان يسيرًا كما يقوله الشافعية.
ولا يقال كلام ابن رشد وابن العربي في انعقاد البيع وعدم انعقاده وكلام ابن رشد وابن عرفه إنما يقتضي عدم اللزوم ولا يلزم من نفي اللزوم نفي الانعقاد لأنَّا نقول: لا موجب هنا لعدم اللزوم في حق من صدر منه ما يدل على الرضا إلا كونه لم ينعقد عليه البيع لعدم إجابة صاحبه بما يدل في وقت يكون كلامه جوابًا لكلامه ... ) .
وهكذا ننهي الحديث عن الفرع الأول وهو التعاقد بين حاضرين حقيقةً أو حكمًا كأن يكون التخاطب بالهاتف. وقد رأينا أن هذا جائز وصحيح بشروطه وقيام أركانه اعتمادًا على أحكام الفقه الإسلامي بصرف النظر عن الاختلاف الجزئي بين المذاهب التي تتفق مبدئيًّا على الصحة والقبول لا نبرام العقد بين غائبين عن بعضهما حاضرين في مجلس واحد بحكم وحدة الزمن عند المساومة والمناقشة في شأن إبرام العقد وإنهاء الصفقة.
فما دام المتساومان يتناقشان في شأن إبرام العقد بخط هاتفي ذي سلك أو دون سلك مشاهد الصورة أو غير مشاهد لها فهما في مجلس واحد تطبق عليه الأحكام السابق بسطها وشرحها.
هذا وإننا لا نتعرض إطلاقًا هنا إلى وسائل الإثبات وإنما نتحدث على المبدأ العام باعتبار اعتراف كل واحد بما صدر عنه.
وأما عند النزاع والإنكار فإن طرق الإثبات معروفة يفزع إليها الأطراف لإقرار العقد وإثباته في نطاق ما حدده التشريع وليس ذلك من مشمولات بحثنا هذا.(6/686)
الفرع الثاني
التعاقد بين غائبين
يحدث أن يتم التعاقد بين شخصين غائبين عن بعضهما جسديًّا لا يجمعهما مجلس واحد بل يكون وجودهما في بلدين بعيدين عن بعضهما ويقتربان بطريقة من طرق الاتصالات العصرية والقديمة كالرسالة أو البرق، وهي تساعد على تحقيق الصفقات وتقريب المسافات في المناقشات والمساومات والمفاهمات.
والقوانين الوضعية يشغلها من ناحية هذه العقود زمان العقد ومكانه.
متى يلتقي القبول بالإيجاب؟ ومتى يتكون العقد؟ وأية فرصة تمنح للقابل لإصدار القبول بعد اتصاله بالإيجاب هل على الفور أم على التراخي احترامًا لمجلس العقد وأحكامه؟
وإذا عدل الموجب عن إيجابه بعد أن أرسله إلى صاحبه وقبل أن يتصل هذا بالإيجاب سارع الآخر وأبرق له بوسيلة سريعة من هذه الوسائل يعلن رجوعه وإلغاء إيجابه ويصل الرجوع والإلغاء قبل وصول الإيجاب فهل هناك محل للقبول أم لا؟!
جاء القانون المدني التونسي في مادته (28) قائلًا:
(يتم العقد بالمراسلة في وقت ومكان إجابة الطرف الآخر بالقبول. والتعاقد بواسطة رسول أو غيره يتم في الوقت والجهة التي تحصل فيها الإجابة بالقبول من الطرف الآخر للرسول) .
أي إن مكان القبول هو مكان العقد. وهذا محل خلاف الآن بين القوانين.
وقد نصت لائحة المجلة المدنية التونسية الموضوعة سنة 1315هـ-1898م على أن هذه المادة مأخوذة من المادة (346) من مرشد الحيران ومن الفتاوى الهندية 3/9.
وجاءت المادة (30) من المدونة المذكورة تقول:
(يسوغ الرجوع في الإيجاب ما دام العقد لم يتم بالقبول) .
وتنص لائحة هذه المدونة على أن هذه المادة مأخوذة من مرشد الحيران ومن مجلة الأحكام العدلية والتاودي والتسولي.
أما القانون المصري الجديد فهو يذهب مذهب العلم بالقبول فتقول مادته (97) :
(يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول ... ) .
وإلى هذا يذهب القانون العراقي في مادته (87) والليبي في مادته (97) ، وكذلك الكويتي في مادته (49) ، ومثله القانون التجاري الكويتي في مادته (112) .
وهذا الموضوع محل اختلاف بين القوانين الوضعية كما رأينا. ومبدأ العلم بالقبول لم يأخذ به القانون المدني التونسي وكذلك القانون السوري. مخالفين غالب القوانين الأخرى باعتبار أن التعبير عن الإرادة يتكامل وجوده بمجرد صدوره من صاحبه وتنتج عنه آثاره فإذا صدر القبول مطابقًا لما جاء به الإيجاب انبرم العقد وكانت له آثاره بصرف النظر عن علم من وجه له القبول.(6/687)
ويظهر أن هذا يتماشى مع أحكام الفقه الإسلامي في مبادئه العامة التي شرحناها سالفًا.
وعلى كلٍّ فالموضوع دقيق يتطلب بحثًا واسعًا.
ومتى يمكن للقابل أن يصدر القبول؟ وهل له فرصة للتفكير والتروِّي وإعمال الرأي؟
تقول المادة (34) من المدونة المدنية التونسية:
(من صدر منه إيجاب بمراسلة بلا تحديد أجل بقي ملزمًا إلى الوقت المناسب لوصول الجواب إليه في مثل ذلك عادة ما لم يصرح بخلافه في الكتاب) .
والقانون المدني يفترض حصول تأخر في الجواب بسبب خلل ما بعد وقوع القبول ولذلك يضيف فقرة أخرى توضح الموقف فيقول آخر المادة (34) المشار إليها:
(فإن صدر الجواب بالقبول في وقته ولم يبلغه إلا بعد انقضاء الأجل الكافي لإمكان وصول الجواب إليه بالوجه القياسي، فالصادر منه لا يلزمه شيء ويبقى الحق لمن لحقه ضرر في طلب تعويض الخسارة ممن تسبب فيها) .
وهكذا يطرح القانون الوضعي الحل المناسب لمشكلة الفورية في القبول ويمنح فرصة متراخية حسب العرف والعادة يفسر فيها هذه الفورية وإمكانية وجود فترة ما زمنية بين بعث الإيجاب والتحاق القبول به.
ولا يضر شيء وجود اختلاف بسيط بين مذاهب القانون الوضعي فكلها ترمي إلى إقرار مبدأ التراخي في مجلس العقد حتى يتمكن كل طرف من حرية الاختبار والمصادقة دون ضغط زمني قد يلحق به خسارة ما، لكن مع احترام قواعد الفورية في عمومها وشمول أحكامها كما سبق بسطه.
ورغم حداثة بعض وسائل الاتصال فلقد جاء الفقه الإسلامي بأحكام واضحة نستخلصها مما سجله الفقهاء في هذا الموضوع لنخرج بحكم واضح في شأن التعامل بهذه الوسائل وأحكام العقود بواسطتها خاصة إذا كان المتعاقدان غير مجتمعين في مجلس واحد بل غير مجتمعين في بلد واحد واستعانا في اتصالهما وعقد عقودهما بالمراسلة البطيئة أو العاجلة.
فإذا فزع بائع إلى نائب عنه أرسله إلى شخص بعيد عنه يحمل عنه رسالة شفوية في عرض إيجاب بيع عقار مثلًا بشروط معينة وثمن معين واتجه الرسول وسافر يحمل رسالته ويحافظ على أمانته واجتمع بالمشتري وأبلغه الرسالة التي يحملها فمجلسهما هذا مجلس تبليغ الرسالة وإيصال الخطاب وعرض الإيجاب هو مجلس العقد ومجلس المتبايعين.(6/688)
فالموجب الذي بلغت رسالته يعتبر حاضرًا بشخصه يمثله من أرسله نائبًا عنه وحينئذٍ تنطبق الأحكام السابقة التي بسطناها بإيجاز في شأن مجلس العقد بين حاضرين حقيقة أو حكمًا.
فإذا انفض المجلس ولم يقبل المشتري فلا حق له في القبول من جديد. والفقهاء متفقون تقريبًا في صيغة العقد على أنه كل ما يدل على رضا الجانبين بالقول أو ما يقوم مقامه كرسول أو رسالة ويقولون: إنه إذا كتب رسالة لغائب يقول له: قد بعتك داري بكذا أو أرسل له رسولًا فقبل في المجلس صح العقد وانبرم ولكن مع التراخي والفصل البسيط الذي يعتبر حال التقاء المتعاقدين في مجلس واحد.
وحينئذٍ فسلوك وسيلة من وسائل الاتصال العصرية هو بمثابة الرسالة الخطية المكتوبة أو الرسالة الحية المرسلة بواسطة إنسان حي يتكلم ويبلغ ما كلف بإبلاغه.
ومن هنا نفهم أن أحكام الإيجاب والقبول بين حاضرين تطبق إذا كان العرض والقبول بواسطة رسالة متطورة سريعة لا فرق في ذلك تمامًا.
لكن إذا رجع الموجب عن إيجابه:
إذا كان المتعاقدان في مجلس واحد وعرض أحدهما عرضًا في صورة إيجاب فللطرف المقابل أن يقبل العرض أو يرفض والأمر ظاهر حينئذٍ لا غموض فيه.
لكن إذا كان التفاهم والتناقش والتساوم والعرض بواسطة الرسائل والبرقيات فقد يحدث أن يرجع العارض الموجب عن عرضه وإيجابه قبل صدور القبول من صاحبه وقبل انبرام العقد وتكونه. خاصة ونحن هنا ندرس حالة استعمال هذه الوسائل المتطورة للاتصال السريع.
فقد يبرق أحدهم إلى صاحبه بعرضه ثم يلجأ إلى سلوك وسيلة أسرع يعلن بواسطتها أنه عدل عن عرضه ورجع في إيجابه طالبًا اعتباره كأن لم يكن. ويصل العدول قبل الأصول أي قبل وصول الإيجاب أو معه وعلى كل حال قبل صدور القبول من المرسَل له.
ويجيب عن هذا الفقهاء بصورة مختلفة متعارضة.
فالمالكية لا يسمحون للموجب بالرجوع في إيجابه حتى يرفضه الآخر وإذا قبل هذا صح العقد وانبرم.
يقول الحطاب في مواهب الجليل [4/241] :
(لو رجع أحد المتبايعين عما أوجبه لصاحبه قبل أن يجيبه الآخر لم يفده رجوعه إذا أجاب صاحبه بالقبول) .(6/689)
وحكى القرطبي في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} خلافًا في ذلك. وظاهر كلامه أنه في المذهب رواية عن مالك ولكن الجاري على المذهب هو ما ذكره ابن رشد.
وخالف مالكًا في هذا بقية المذاهب الأخرى الحنفية والشافعية والحنبلية، الذين يرون إمكانية الرجوع إذا لم يصدر القبول من الطرف الآخر.
يقول الكاساني في البدائع [5/134] :
(.... وأما صفة الإيجاب والقبول فهو أن أحدهما لا يكون لازمًا قبل وجود الآخر. فأحد الشطرين بعد وجوده لا يلزم قبل وجود الشطر الآخر. حتى إذا وجد أحد الشطرين من أحد المتبايعين فللآخر خيار قبول القبول وله أي للمجيب خيار الرجوع قبل قبول صاحبه لما روي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) .
والخيار الثابت لهما قبل التفرق عن بيعهما هو خيار القبول وخيار الرجوع، ولأن أحد الشطرين لو لزم قبل وجود الآخر لكان صاحبه مجبورًا على ذلك الشطر وهذا لا يجوز، والرسول الكريم يقول: ((من أقال نادمًا بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة)) .
ونرى أن القوانين الوضعية المعمول بها في بعض البلاد الإسلامية والتي اعتمد واضعوها في أصولها على الفقه الإسلامي سارت في السبيل الذي ذهب إليه جمهور الفقهاء ومكَّنت المجيب من الرجوع في إيجابه إذا لم يقل الطرف الآخر كلمته بعد.
يقول الفصل (30) من المدونة المدينة التونسية واللائحة تنص على أنه مأخوذ من الفقه الإسلامي:
(يسوغ الرجوع في الإيجاب ما دام العقد لم يتم بالقبول) .
وهذا عين ما نصت عليه المادة (37) من القانون المدني الكويتي.
وهكذا نرى أن طرق الاتصال الحديثة قد أوجد لها الفقهاء من قديم أحكامًا تنطبق عليها في عصر حدوثها وإنشائها المتأخر.
وما توقعه الفقهاء في تصورهم لبعض القضايا كان يعالج حالات تقع اليوم في عصر السرعة البالغة.
وعل كلٍّ، فإن المدونة المدنية التونسية الموضوعة منذ قرن ونيف والتي اقتبست غالب أحكامها من أحكام الفقه المالكي والفقه الحنفي قد احتاطت لما يحدث من أقضية وما يجد من جديد فجاءت مادتها (575) قائلة:
(لا يصح بين المسلمين ما حجر الشرع الإسلامي بيعه) .(6/690)
وهذه المادة كانت سندًا يعتمده القضاة متعمقين بحثًا وتنقيبًا في كتب الفقه الإسلامي حتى لا تكون أحكامهم مخالفة للشرع الحنيف.
ونلاحظ لحد الآن أن استعمال هذه الوسائل والالتجاء إلى سرعتها ونفعها وصلاح عملها لا غبار عليه شرعًا ما دامت الاتفاقات والعقود تسير مسارها الطبيعي العام الذي رسمته وضبطته الأحكام الفقهية في مختلف المذاهب السنيَّة الإسلامية.
ومع ذلك فإننا نرى من الواجب الإشارة إلى بعض الحالات الخاصة من العقود المضبوطة أحكامها فقهيًّا وجاءت هذه الوسائل تسهل انبرامها وانعقادها ووجودها وقد لا يحترم بعضهم حدودها.
1- بيع ما لم يقبض مثلًا:
نشاهد الآن بسبب تطور وتقدم وسائل الاتصال أن بعضهم يشتري بضاعة ما وقبل أن يجوزها ويقبضها ويتصل بها يعلن عنها هاتفيًّا وبرقيًّا بواسطة السماسرة ويتصل به التجار ويقع التفاهم في الشروط والآجال والثمن وتنعقد الصفقة وتباع تلكم البضاعة وهي رابضة عند مالكها الأول عدة مرات، وقد عرف ذلك حتى تجار الطعام مثل تجار الزيت الذي يكون مخزونًا في مواجله (أماكن جمعه وخزنه) عند أصحابه ولما يباع تتراكم عليه الصفقات والبيعات وهو هناك لم يبرح مكانه.
حتى إذا انتهى الأمر لأحدهم الثالث أو الرابع ذهب المشتري الأخير إلى مالكه بائعه الأول ليتسلمه منه.
وما عرفناه في الزيوت يقع في عدة أمور أخرى ثابتة أو منقولة من الأطعمة وغيرها.
والسبب الأول في كثرة هذه العمليات وسهولة أمرها هو هذه الإمكانيات السريعة في الاتصال بين التجار بعضهم ببعض بفضل وسائل الاتصال الحديثة.
فالمبدأ العام في بيع ما لم يقبض أنه لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة بنقد أو نسيئة إلا إذا كان مالكًا لها وقبضها عملًا بقول الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: ((لا تبع ما ليس عندك)) .
وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك)) [رواه الخمسة بإسناد صحيح] .
وكذلك بالنسبة لمن يشتري تلك السلعة ليس له بيعها حتى يقبضها للحديثين المذكورين.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)) .
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لقد رأيت الناس يتبايعون جزافًا – يعني الطعام – يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤوه إلى رحالهم.(6/691)
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه)) .
وأخرج النَّسائي عن حكيم بن حزام قال: ((قلت: يا رسول الله إني رجل ابتاع هذه البيوع وأبيعها فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: لا تبيعنَّ شيئًا حتى تقبضه)) .
وحدث الاختلاف بين الفقهاء:
(أ) فمن قائل بالمنع المطلق قبل القبض في كل شيء من عقار ومنقول. وهذا ما ذهب إليه الإمام الشافعي وهو ماروي عن الإمام أحمد أيضًا.
(ب) منع بيع المنقول دون العقار وهو مذهب الحنفية لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما لم يقبض والنهي يوجب فساد المنهي عنه، ولأنه بيع يشوبه الغرر والغرر علة المنع، وأجاز أبو حنيفة بيع العقار قبل قبضه استحسانًا إذ لا غرر في العقار وهو رأي صاحبه أبي يوسف.
(ج) إن المنع خاص ببيع الطعام أما غيره فيجوز بيعه قبل قبضه سواء كان عقارًا أو منقولًا وهو مذهب مالك. والطعام هو ما تجب فيه الزكاة من الحبوب والأدم كالزيت والعسل ونحوها، وهذا اعتمادًا على قوله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يقبضه)) ومن هنا نفهم حصول الاتفاق على منع بيع الطعام قبل قبضه مع وجود الخلاف في الأصناف الأخرى.
ولذا فإن التعامل الذي يحدث اليوم بواسطة بل وبسبب هذه الطرق الحديثة للمواصلات السريعة والفائقة في سرعتها يجب التحري فيه حتى لا تتخذ وسائل الاتصال السريعة وسيلة لارتكاب الحرام والعياذ بالله.(6/692)
2- البيع على الصفة وخيار الرؤية:
من المعروف أن المبيعات على نوعين مبيع حاضر مرئي ومبيع غائب أو متعذر المشاهدة والرؤية.
وقد منع الإمام الشافعي رضي الله عنه بيع الغائب وصف أم لم يوصف.
وقال مالك رضي الله عنه وأكثر أهل المدينة: يجوز بيع الغائب إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه قبل القبض صفته.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجوز بيع العين ثم له عند الرؤية الخيار في النفاذ أو العدول. يقول ابن رشد الحفيد [بداية المجتهد: 2/146] : عند مالك إذا جاء على الصفة فهو لازم وعند الشافعي لا ينعقد.
وفي المدونة يجوز مع شرط خيار الرؤية وأنكره عبد الوهاب وقال: هو مخالف لأصولنا.
وأما المذهب الحنبلي فابن قدامة في المغني يشير إلى صحة البيع مع خيار الرؤية ووقت هذا الخيار عند رؤية ومشاهدة المبيع وقيل: يتقيد بالمجلس الذي وجدت فيه الرؤية.
وعلى كل فالعقود المنبرمة بواسطة اتصال سريع لغاية الوصول إلى الهدف المنشود ينبغي أن تراعى فيها الأحكام السابقة التي أشرنا إليها إشارة خاطفة كمثال فقط ومن أراد دراستها فليرجع إليها في مظانِّها.
وهكذا نرجع إلى المقولة القيمة شيخ الإسلام ابن تيمية في شأن ما اعتاده الناس في دنياهم وأن الأصل فيه العفو وعدم الحظر فلا يخطر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى.
وفقنا الله لما فيه الخير والصواب.
الدكتور محمود شمام(6/693)
بحث
فضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي
أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله
بكليّة الشريعة – جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين، وبعد:
فإن من عظمة الشريعة الإسلامية الغراء أنها تستوعب الحوادث – مهما كانت جديدة والقضايا مهما كانت خطيرة – من خلال قواعدها الكلية، ومبادئها العامة، وأدلتها التي تضبط الأمور المستحدثة وتبين أحكامها نصًّا أو استنباطًا.
وذلك لأن الشريعة نزلت من لدن حكيم عليم: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } [سورة الملك] أنزلها بعلمه لتكون شريعته الخالدة الدائمة إلى يوم القيامة، ولتكون رحمة للعالمين في كل العصور والأزمان.
ومن هذا المنطلق كان بحثنا عن: حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة من خلال نصوص الشريعة العامة، ودلالاتها المعتبرة، وما ذكره فقهاؤنا العظام من أشباه هذه المسالة ونظائرها للوصول إلى ما هو أقرب إلى الحق والصواب، بإذن الله تعالى.
وقد رأينا أن يتضمن البحث للتعريف بهذه الآلات الحديثة بصورة موجزة، ثم الدخول في أحكامها الخاصة بإجراء العقود بها مباشرة، دون الخوض في مقدمات حول وسائل التعبير عن الإرادة المعروفة إلا بالقدر الذي يوضح المراد، ويحقق الهدف المنشود.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الوسائل الحديثة: التليفون، البرق، والتلكس، والفاكس، وغيرها. ليس من وسائل جديدة للتعبير، وإنما هي وسائل حديثة للتوصيل، وإلا فوسائل التعبير عن الإرادة لم تزل ولن تزال هي إما القول، أو الفعل – أي المعاطاة أو البذل – أو الإشارة أو الكتابة، أو السكوت في معرض البيان، ومن هنا يكون البحث عن حكم إجراء العقود بهذه الوسائل لا يتطلب البحث عن أمر جديد في ذلك النظام، وإنما يتطلب البحث عن مدى دخول هذه الآلات الحديثة في تلك الوسائل المعتبرة، ومدى انطباقها عليها، أو وجود فوارق بينهما، فالتليفون – مثلًا – يدخل في وسيلة اللفظ والقول، ولكنه لا شك يوجد نوع من الفروق من حيث المجلس ونحوه بين التعاقد بدونه، والتعاقد من خلاله، وهكذا بقية الآلات الحديثة.
ولذلك كله، لم نَأْلُ جهدًا في البحث عن تراثنا الأصلي للوصول إلى أشباه هذه المسائل ونظائرها، ثم البحث عن الفروق الأساسية، ثم الحكم الذي يرجحه الدليل مع وضع الضوابط والشروط إن اقتضى الأمر ذلك.
والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل.(6/694)
آلات الاتصال الحديثة
من المعلوم فقهًا ومنطقًا أن الحكم على الشيء فرع من تصوره، والعلم به، ومن هذا المنطلق نلقى بصيصًا من الضوء على هذه الوسائل الحديثة للاتصالات وكيفية تطورها لنكون على بيِّنة من أمرها، وعلى بصيرة في تكييفها الشرعي.
حينما تقدمت المجتمعات الإنسانية أضحت بحاجة ماسّة إلى وسائل الاتصال فيما بينها، سواء كانت للارتباط السياسي، ومعرفة القيادة عما يجري في الساحات السياسية والاجتماعية بأسرع وقت، أو للجانب الاجتماعي والاقتصادي، ولذلك بحث الإنسان عن أسرع وسيلة ممكنة فاكتشف المرايا العاكسة، والدخان، والحمام الزاجل، وغير ذلك…
وفي عصرنا الحديث، وفي ظل تقدم العلوم تقدمت وسائل الاتصال بشكل كبير، فكانت الطفرة الكبرى باكتشاف اللاسلكي الذي كسر حاجز المسافة والزمن، ثم تطورت وسائل الاتصال باطراد الزمن، والاختراعات لتصل إلى أعلى مستوياتها من خلال استخدام الأقمار الصناعية.
فكانت القفزة الكبيرة في عام (1957) عندما تم إرسال القمر الصناعي: (سبوتنيك) إلى الفضاء الخارجي للدوران حول الأرض، ولإرسال المعلومات المدنية والعسكرية، ثم أدت المنافسة في هذا المجال بين المعسكرين الشرقي والغربي إلى أن توجد في الفضاء آلاف الأقمار الصناعية تجوب الفضاء ليل نهار (1) .
__________
(1) انظر: التلكس، وكمبيوتر الاتصالات الدولية والآلية، وضع إدوارد جورج، تنفيذ فاروق العامري، ط دار الراتب الجامعية، بيروت، سنة 1987، ص21، وإدارة منشآت النقل والاتصالات، لتامر يسري البكري، ط دار القادسية بغداد، سنة 1985، ص261.(6/695)
الاتصالات السلكية، واللاسلكية
حسبما جاء في تعريف الاتحاد الدولي للمواصلات السلكية واللاسلكية أنها: عملية تساعد المرسل على إرسال المعلومات بأي وسيلة من وسائل النظم الكهرومغناطيسية: من تليفون، أو تلكس، أو بث تليفزيوني، أو نحو ذلك (1) … فهذه الوسائل منها ما يسير عبر كوابل أرضية، أو بحرية، أو محطات لاسلكية كبيرة تعتمد على أجهزة إرسال واستقبال، ومجموعات هوائية لكل منهما، أو تستخدم الأقمار الصناعية كوسيلة وسيطة لتحقيق اتصالاتها.
فالبرق يعتمد على النموذج الخاص المعد لهذا الغرض فيقوم المرسل بكتابة المطلوب عليه، ثم يقوم المكتب الرئيسي للبريد بإرساله إلى بلد المرسل إليه ثم يكتب على ورقة خاصة لترسل عن طريق موظف البريد ليسلمها باليد.
تلك هي الصورة العامة للبرق (التلغراف) حيث يتضح منها طول الوقت وإمكانية الضياع والخلط – وإن كانت بنسبة ضئيلة – بالإضافة إلى فقدانها السرية (2) .
وأما التلكس فيتم الاتصال فيه من خلال جهازين مرتبطين بوحدة تحكم دولي ينقل كل واحد منهما إلى الآخر: المعلومات المكتوبة، دون توسط شيء آخر، حيث يمكن للمشترك الاتصال بجميع أنحاء العالم وهو في مكتبه من خلال ماكينة التلكس ووحدة التحكم الخاصة به دون الحاجة للانتقال، أو احتمال تسرب المعلومات، مع تحقيق أعلى قدر للسرعة (3) .
__________
(1) الاتصالات السلكية واللاسلكية، في الوطن العربي، بحث مقدم من ميسر حمدون سليمان، ط. مركز دراسات الوحدة العربية، عام 1982م، ص337.
(2) ادوارد جورج: المرجع السابق ص22 - 33.
(3) ادوارد جورج: المرجع السابق ص22 - 33.(6/696)
والخلاصة: إن المشترك في التلكس بعد الإجراءات الفنية الخاصة يبدأ بإرسال المطلوب على شريط تثقيب خاص عن طريق جهاز الإرسال الآلي، حيث ينقل الجهاز بدوره كل ما كتب إلى الجهاز المرسل إليه ليظهر المكتوب منه كما هو.
وإذا لم يقم الجهاز بالإرسال، أو لم يتلق الجهاز الآخر – لأي سبب كان – فإن ذلك يظهر على الجهاز حيث يعطي الإشارة بأن الاتصال لم يتم (1) .
وأما الإرسال عن طريق (الفاكس) فيتم من خلال جهازين مرتبطين بالخطوط التليفونية، حيث يضع المرسل الورقة المكتوبة في الجهاز ويضرب الأرقام للجهاز الثاني، فيحنئذٍ إذا لم يكن مشغولًا أو فيه خلل فإن صورة من تلك الورقة تنطبع على الورقة الخاصة الموجودة في الجهاز الثاني لتظهر للمرسل إليه.
فإذا كان التلكس يحتاج إلى ضرب الكلمات على الحروف الموجودة في الجهاز الأول ليظهر المطبوع في الجهاز الثاني، فإن الفاكس ينقل بالكامل صورة عن الورقة الموضوعة في الجهاز، دون الحاجة إلى كتابتها مرة أخرى، وهي صورة طبق الأصل بشكلها ونوعية الكتابة فيها، فكأنه ينقل الورقة عبر خطوط الاتصال ليصورها في الجهاز المرسل إليه فتظهر صورة منها بكل دقة متناهية.
وأما التليفون فهو معروف حيث يتم الاتصال عن طريق الخطوط (الكابلات الكهربائية) عبر الأرض، أو البحر، أو عن طريق الأقمار الصناعية.
بالإضافة إلى إمكانية الاتصال، وإنشاء العقود عن طريق جهاز اللاسلكي الذي ينقل الكلام الصريح، أو الكلام المفهوم عن طريق الشفرة (2) ، وكذلك عن طريق الراديو والتلفزيون، وإن كان الغالب على الأخيرين أنهما من الوسائل الجماهيرية.
ومن خلال هذا العرض الموجز يتبين لنا أن إنشاء العقود عبر الاتصالات الحديثة يتم إما من خلال اللفظ كالتليفون، واللاسلكي، والراديو، والتلفزيون، أو من خلال المكتوب كالبرقية، والتلكس والفاكس.
فلنبدأ بأنواع القسم الأول، وحكم كل نوع منها، وضوابطه وتأصيله الفقهي:
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المصادرالسابقة.(6/697)
القسم الأول
الوسائل الحديثة لنقل اللفظ
وهي تشتمل: التليفون، واللاسلكي، والراديو والتليفزيون.
إنشاء العقود عبر الهاتف (التليفون) :
لا يخفى أن التليفون ينقل كلام المتحدث فيه بدقة، فيسمع كل واحد منهما الآخر بوضوح، ولا يختلف الكلام من خلاله عن الكلام بدون واسطة سوى عدم رؤية أحدهما الآخر ووجود فاصل بينهما، وإن كان العلم الحديث قد بدأ خطوات جادة لإيجاد تليفون ينقل الصوت والصورة معًا.
ومن هنا فإذا انتهى عقد ما من خلال الهاتف، وتم فيه الإيجاب والقبول – مع بقية الشروط المطلوبة – فإنه صحيح لا غبار عليه، غير أن عدم رؤية أحدهما الآخر يجعل احتمال التزوير وتقليد صوت شخص آخر واردًا ولذلك إذا ثار النزاع حول ذلك فالقضاء هو الفيصل، وتسمع دعوى من يدعى ذلك ولكن عليه يقع عبء الإثبات.
أما عدم رؤية أحدهما الآخر فليس له علاقة بصحة العقود أو عدمها لأن المطلوب في باب العقود سماع الإيجاب والقبول، أو التقاؤهما، أو إدراكهما بأية وسيلة كانت.
فالعقد بالتليفون كالعقد بين شخصين بعيدين لا يرى أحدهما الآخر، ولكنه يسمعه، يقول الإمام النووي: (لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف) (1) . وقد ذكر الرافعي نحو ذلك في مسالة أخرى فبين أن المفروض أن الخلاف ينتهي ما دامت قرائن الأحوال متوفرة، وأفادت التفاهم، فحينئذ يجب القطع بصحة هذا العقد (2) ، كما ذكر مسألة أخرى وهي أنه إذا قال شخص بعت من فلان فلما بلغه الخبر قال: قبلت ينعقد البيع، لأن النطق أقوى من الكتابة (3) .
بالإضافة إلى أن وجود الساتر بين العاقدين – بل بناؤها – لا يؤثر حتى في خيار المجلس (4) ، فكيف يؤثر في إنشاء العقد.
ومن جانب آخر، إن الأساس في العقود هو صدور ما يدل على الرضا بصورة واضحة مفهومة كما تدل على ذلك نصوص الفقهاء (5) ، وذلك متحقق في التليفون حيث إن التعبير يتم من خلال اللفظ الذي هو محل الاتفاق بين الفقهاء، وما التليفون إلا وسيلة لتوصيل الصوت فحسب، وليس وسيلة جديدة.
__________
(1) انظر: المجموع، ط. دار الطباعة المنيرية: 9/181.
(2) فتح العزيز، بهامش المجموع، ط. المنيرية: 8/103 – 104.
(3) فتح العزيز، بهامش المجموع، ط. المنيرية: 8/103 – 104.
(4) المجموع: 9/181، والمغني لابن قدامة 3/565.
(5) يراجع: فتح القدير: 3/49، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص91 –101، والفروق للقرافي: 1/44، وشرح الخرشي: 5/5، والدسوقي مع الشرح الكبير: 2/380، 3/ 4، والوسيط مخطوطة طلعت: 3/141، والمجموع: 9/163، والروضة: 8/25، والأشباه والنظائر للسيوطي: ص99، والمنثور للقواعد للزركشي: 2/379، والمغني لابن قدامة: 3/562، والقواعد النورانية لابن تيمية: ص4، ومبدأ الرضا في العقود: 2/994.(6/698)
فالقاعدة الأساسية في العقود هي تحقق الرضا للطرفين والتعبير عنه، وإظهاره بأيَّة وسيلة مفهومة كما أن العرف له دور أساسي في باب العقود، حتى صاغت الحنفية منه قاعدة: العادة مُحَكَّمة، وقال ابن نجيم بعد سردها: (واعلم أن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في الفقه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، فقالوا في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة) (1) ، وكذلك أفاض القرافي المالكي في هذه المسألة، وذكر أن العرف يقضي في زمن معين، حتى بعدم قبول بعض ألفاظ مقبولة في زمن ما نظرًا لأنها أصبحت متروكة غير مفهومة، كما يقضي بقبول ألفاظ مفهومة لعصر لم تكن مقبولة من قبل، ونقل ذلك من الإمام الكبير أبي عبد الله المازري قوله: (… فإن النقل إنما يحصل باستعمال الناس لا بتسطير ذلك في الكتب، بل المسطر في الكتب تابع لاستعمال الناس) ، ثم رتب على ذلك أمورًا: (أحدها أن مالكًا وغيره من العلماء إنما أفتى في هذه الألفاظ بهذه الأحكام، لأن زمانهم كان فيه عوائد اقتضت نقل هذه الألفاظ للمعاني التي أفتوا بها فيها صونًا لهم عن الزلل) (2) . ويقول الدسوقي: (والحاصل أن المطلوب في انعقاد البيع ما يدل على الرضا عرفًا …) (3) . ويقول النووي: (… ولم يثبت في الشرع لفظ له – أي للعقد – فوجب الرجوع إلى العرف، فكل ماعدّه الناس بيعًا كان بيعًا…) (4) . ويقول ابن قدامة: (إن الله أحل البيع، ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف) (5) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإذا لم يكن له – أي للبيع ونحوه – حد في الشرع، ولا في اللغة، كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعًا فهو بيع، وما سموه هبة فهو هبة…) (6) .
والخلاصة: أن اللفظ – كما يقول الشاطبي – (إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود…) (7) . ومن هنا فما التليفون إلا آلة معتبر عرفًا لتوصيل تلك الوسيلة – اللفظ – إلى سمع الآخر، فيكون مقبولًا شرعًا.
مجلس التعاقد في العقد بالتليفون:
إن من يعمق النظر في التعاقد بالتليفون يجد أنه نوع خاص ليس مثل التعاقد بين الحاضرين في جميع الوجوه، ولا مثل التعاقد بين الغائبين عن طريق الكتابة – أو المراسلة- من كل الوجوه، ولذلك لا بد من إلقاء النظرة إلى ما يتعلق باتحاد مجلس التعاقد أو اختلافه، ومن هنا نرى من الضرورة أن نثير ثلاث مسائل لها علاقة مباشرة بهذا الموضوع، هي: خيار الرجوع من الإيجاب، وخيار القبول (8) ، وخيار المجلس. إذ إن هذه الموضوعات مترتبة على مجلس العقد، ولذلك نحاول أن نؤجل النظر فيها بالنسبة للتعاقد بالتليفون، ونحوه، فنذكر بالإيجاز التعريف بهذه الخيارات، ثم نفصل القول في كيفية مجلسه ومدته في التعاقد بالتليفون.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص93 –104.
(2) الفروق: 1/44-45.
(3) الدسوقي: 3/4.
(4) المجموع: 9/163.
(5) المغني: 3/561 - 562.
(6) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام: 29/13-19.
(7) الموافقات: 2/87.
(8) الإيجاب عند الحنفية هو التعبير الصادر أولا من أحد العاقدين، والقبول هو التعبير الصادر ثانيًا، وأما الجمهور فقد نظروا إلى أن الإيجاب هو تعبير المملك ونحوه، والقبول هو تعبير المتملك ونحوه عن العقد. يراجع في تفصيل ذلك: فتح القدير مع شرح العناية: 5/74، والفتاوى الهندية: 3/4، والبحر الرائق: 5/283، ومجمع الأنهر: 2/4، ومواهب الجليل: 4/228، والدسوقي: 3/4، والمجموع: 9/162، والغاية القصوى: 1/457، والروضة 3/339، والإنصاف: 4/260.(6/699)
والمراد بخيار الرجوع من الإيجاب: هو أن يكون للموجب الحق في الرجوع عن إيجابه قبل أن يتصل به القبول، عند جمهور الفقهاء ما عدا المالكية الذين قالوا بمنع رجوعه ما دام مجلس العقد باقيًا إذا كان إيجابه بصيغة الماضي، أو كان الأمر يتعلق بالتبرعات كما أن الجمهور منعوه من الرجوع في بعض العقود التي يكون مبناها لا على المال مثل الطلاق على المال والعتق عليه (1) .
ثم إن هذا الخيار يمتد عند الحنفية، والحنابلة ما دام المجلس قائمًا إلا إذا أعرض عنه أحد العاقدين، أو خيَّره، أو تفرقا على تفصيل فيه، في حين أن الشافعية اشترطوا الفورية لكنهم قالوا: لا يضر الفصل اليسير، والمالكية، قالوا: لا يضر الفصل ما دام الحديث يدور حول العقد (2) .
وأما خيار القبول فهو أن يكون للقابل الحق في الرفض والقبول ما داما في مجلس العقد، إلا إذا رجع الموجب عن إيجابه قبل قبوله، وهذا هو ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة، وخالفهم في ذلك الشافعية حيث اشترطوا الفورية (3) ، وذكر القرافي أنه لا يجوز التأخير، والفصل الكثير حسب العرف (4) .
وأما خيار المجلس فهو أن يكون لكل واحد منهما الحق في فسخ العقد بعد صدور الإيجاب والقبول منهما ماداما في مجلس العقد، وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، والإمامية، والزيدية (5) مستدلين بالحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وأصحاب السنن والمسانيد بسندهم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال: ((البيعان كل واحد منهما بالخيار، على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار)) (6) . في حين ذهب الحنفية، والمالكية إلى أن العقد يصبح لازمًا بمجرد الإيجاب والقبول – مع توفر الشروط المطلوبة- ولا يبقى لهما حق الفسخ بعد صدورهما إلا إذا اشترطا الخيار مستدلين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: الآية1] .
__________
(1) يراجع في تفصيل هذه المسألة: بدائع الصنائع: 6/2990، وحاشية ابن عابدين: 4/527، والفتاوى الهندية: 3/7-8، والفتاوى الخانية 2/172، والبحر الرائق: 5/293، وفتح القدير: 5/78، والدسوقي على الشرح الكبير: 3/0004، وبلغة السالك: 2/345، وشرح الخرشي: 5/5، والمجموع: 9/169، والروضة 3/340، وشرح المحلي مع القليوبي وعميرة: 2/154، والمغني: 3/561، والإنصاف: 4/263، والنيل: 2/11، والمحلي لابن حزم: 9/295، ويراجع مبدأ الرضا في العقود، ود. عبد الستار أبو غدة: الخيار 1/183.
(2) يراجع بلغة السالك: 2/245.
(3) يقول القرافي في الفروق: 3/173، (القسم الثاني الذي هو جزء السبب، فهذا لا يجوز تأخيره، كالقبول بعد الإيجاب في البيع والهبة والإجارة، فلا يجوز تأخير هذا القسم إلى ما يدل على الإعراض منهما عن العقد…) .
(4) يقول القرافي في الفروق: 3/173، (القسم الثاني الذي هو جزء السبب، فهذا لا يجوز تأخيره، كالقبول بعد الإيجاب في البيع والهبة والإجارة، فلا يجوز تأخير هذا القسم إلى ما يدل على الإعراض منهما عن العقد…) .
(5) يراجع في تفصيل ذلك: الأم للشافعي: 3/3، والوجيز للغزالي: 1/141، وفتح العزيز: 8/211، والمجموع: 9/184، والغاية القصوى: 1/475، والمغني لابن قدامة: 3/563، والإنصاف: 9/259، والروض المربع: 4/413، والعدة شرح العمدة: ص228، والمحلي لابن حزم: 9/295، والمختصر النافع للحلي: ص145، والروض النضير: 3/513، والبحر الزاخر: 4/345.
(6) صحيح البخاري، مع الفتح: كتاب البيوع: 4/328، ومسلم: 3/1163، وسنن أبي داود، مع العون: 9/322، والترمذي مع التحفه: 4/448، والنسائي: 7/217، وابن ماجه: 2/736، والموطأ: ص416، ومسند أحمد: 1/56، 2/4، 9، والرسالة للشافعي: ص313.(6/700)
ثم إن الخلاف في ثبوت الخيار في البيع ونحوه من العقود اللازمة للطرفين الواقعة على العين، أما العقود غير اللازمة، مثل: الوكالة، والمضاربة، والشركة ... ، والعقود الواردة على المنفعة مثل النكاح، والإجارة في وجه للشافعية فليس فيها خيار المجلس عند أولئك أيضًا (1) .
كيفية اعتبار المجلس وخياراته في التعاقد بالتليفون:
فإذا تعاقد شخص مع آخر بالتليفون، وصدر منه إيجاب فلا شك أن له الحق في رجوعه عن إيجابه عند الجمهور قبل صدور القبول منه، ما دام أسمع الآخر رجوعه (2) ، وليس في هذا إشكال، وإنما الإشكال في التعاقد بالتليفون حول امتداد الإيجاب وبقائه ما دام المجلس قائمًا عند القائلين به – الحنفية والحنابلة – في العقد بين الحاضرين يقولون: إن طول الفصل لا يضر، حيث يكون من حق الطرف الثاني أن يقبل ما داما في مجلس العقد، ولم يصدر منهما أو من أحدهما ما يدل على الإعراض عن العقد فهل نقول: إن مجلس التعاقد بالتليفون يظل مستمرًا ما دام المتحدثان بالتليفون في مكانيهما، أم نقول: إن مجلس التعاقد هو فترة الاتصال، بانتهائه ينتهي المجلس؟!
فالذي يظهر رجحانه هو أن مجلس العقد ينتهي بانتهاء المحادثة، ومن هنا فليس لمن وجه إليه الإيجاب أن يقبل بعد انتهائها وسد التليفون، وإذا أراد ذلك وأعاد الاتصال بالموجب، وقد رضاه إليه، فإن هذا الرضا يعتبر إيجابًا يحتاج إلى قبول الآخر، وذلك لأن الذين قالوا بخيار القبول وسعوا من دائرة معنى التفرق في المجلس، حيث اعتبروا مجرد القيام من المجلس، أو الانشغال بالأكل ونحوه، بل كل ما يدل على الإعراض عن الإيجاب تفرقا بقطع الخيار، أو نام أحدهما إن كان مضطجعًا فهي فرقة: ( ... رجل قال لغيره أعطيتك هذا بكذا، فلم يقل المشتري شيئًا حتى كلم البائع إنسانًا في حاجة له بطل البيع، كذا في فتاوى قاضي خان) (3) .
بل إن فقهاء الحنفية، وغيرهم ممن يقولون بخيار الرجوع، لاحظوا انتهاء المجلس في بعض المسائل التي ربما تكون قريبة من مسألتنا، وهي التعاقد أثناء السير والمشي حيث المجلس يختلف، وينتهي، وقالوا بوجوب الاتصال وعدم الفصل حتى يتم العقد، جاء في الفتاوى الهندية: (وإن تعاقدا عقد البيع، وهما يمشيان، أو يسيران على دابة واحدة، أو دابتين، فإن أخرج المخاطب جوابه متصلًا بخطاب صاحبه تم العقد بينهما، وإن فصل عنه وإن قل فإنه لا يصح وإن كانا في محل واحد كذا في العيني شرح الهداية. وفي الخلاصة عن النوازل إذا أجاب بعد ما مشي خطوة أو خطوتين جاز، كذا في فتح القدير.. وقال الصدر الشهيد في الفتاوى: في ظاهر الرواية لا يصح كذا في الخلاصة، وإن أوجب أحدهما وهما واقفان فسارا، أو سار أحدهما بعد خطاب صاحبه قبل القبول بطل الإيجاب ... ) (4)
__________
(1) يراجع: المصادر الفقهية السابقة.
(2) الفتاوى الهندية: 3/8.
(3) الفتاوى الهندية: 3/7، 8، وفتح القدير: 5/78، وحاشية ابن عابدين: 4/21، وبدائع الصنائع: 6/2992.
(4) الفتاوى الهندية: 3/7، 8 وفتح القدير: 5/78، وحاشية ابن عابدين: 4/21، وبدائع الصنائع: 6/2992.(6/701)
وهذه النصوص تدل بوضوح على أن التعاقد بين الماشين، أو الراكبين يختلف عن تعاقد الجالسين، حيث إن مجلس العقد الأول ينتهي فورًا فلا بد حينئذ من الفورية، في حين أن مجلس العقد في الثاني لا ينتهي ما داما في مجلس العقد، فعلى ضوء ذلك فالتعاقد بالتليفون أقرب من التعاقد وهما ساريان من حيث إن مكان العاقدين مختلف، ومن هنا فإن خيار القبول ينتهي بمجرد انتهاء المكالمة وسد التليفون، فلا يكون لمن وُجِّهَ إليه الجواب الحق في القبول بعد ذلك، وإذا قدم رضاه فيكون إيجابًا يحتاج إلى القبول من الشخص السابق. والله أعلم.
هذا على رأي القائلين بإثبات هذا الخيار، أما الذين لم يقولوا به – كالشافعية – فإن الأمر جد يسير، حيث يبطل الإيجاب بمجرد إنهاء المحادثة، وسد التليفون وذلك لأنهم يشترطون الفورية، كما سبق، وكذلك المالكية حيث وإن أجازوا الفصل بين الإيجاب والقبول لكنهم اشترطوا أن لا يخرج العاقد عن العقد إلى غيره عرفًا، بل إن القرافي صرح بعدم جواز التأخير فقال عند كلامه عن الإيجابات: ( ... القسم الثاني الذي هو جزء من السبب، فهذا لا يجوز تأخيره، كالقبول بعد الإيجاب في البيع، والهبة والإجارة، فلا يجوز تأخير هذا القسم إلى ما يدل على الإعراض منهما عن العقد، لئلا يؤدي إلى التشاجر والخصومات بإنشاء عقد آخر مع شخص آخر) (1) . كما اشترط المالكية في أثر الفصل بأن لا يكون في المزايدة يقول العلامة الصاوي (لا يضر الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن يخرج عن البيع لغيره عرفًا، وللبائع إلزام المشتري في المزايدة ولو طال حيث لم يجر عرف بعدمه) . (2) .
وأما خيار المجلس عند القائلين فيثور التساؤل نفسه أيضًا: هل يعتبر مجلس التعاقد حسب مكان كل واحد من المتعاقدين بالتليفون أم باعتبار فترة الاتصال بناء على اختلاف مكانيهما؟
لقد أثار فقهاء الشافعية مسألة شبيهة بمسألتنا، واختلفوا في حكمها، وهي مسألة التعاقد بين المتعاقدين المتباعدين كيف يكون مجلس العقد بينهما؟ قال النووي: (لو تناديا وهما متباعدان، وتبايعا صح البيع بلا خلاف) (3) ، وأما الخيار فقال إمام الحرمين: (يحتمل أن يقال: لا خيار لهما، لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته، قال: ويحتمل أن يقال: يثبت ماداما في موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره، وهل يبطل خيار الآخر أم يدوم إلى أن يفارق مكانه؟ فيه احتمالان للإمام، وقطع المتولي بأن الخيار يثبت لهما ما داما موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه، ووصل إلى موضع لو كان صاحبه معه في الموضع عُدَّ تفرقًا حصل التفرق، وسقط الخيار، هذا كلامه. والأصح في الجملة ثبوت الخيار، وأنه يحصل التفرق بمفارقة أحدهما موضعه، وينقطع بذلك خيارهما جميعًا، وسواء في صورة المسألة كانا متباعدين في صحراء، أو ساحة، أو كانا في بيتين من دار، أو في صحن وصفة، صرح به المتولي. والله أعلم (4)
__________
(1) الفروق، ط. دار المعرفة: 3/153 – 172.
(2) بلغة السالك: 2/345.
(3) المجموع: 9/169، والروضة: 3/340.
(4) المجموع: 9/181، ويراجع: مغني المحتاج شرح المنهاج: 2/45.(6/702)
ويتبين من هذا النص أن فقهاء الشافعية مختلفون في هذه المسألة، وأن الراجح عند أكثرهم هو ثبوت الخيار، وقد رجح النووي ثبوت الخيار لهما وأن التفرق يثبت بمجرد مفارقة أحدهما موضعه، وحينئذٍ يسقط خيارهما جميعًا.
وعلى ضوء هذه المسألة يثبت خيار المجلس – عند من يقول به فيها – للمتحدثين بالتليفون ما داما في مكانيهما، فإذا فارق أحدهما المكان الذي تحدث فيه بالتليفون فإن العقد يصبح لازمًا، وسقط حق الخيار للطرفين، وإذا حصل النزاع ولم يصدق أحدهما الآخر في المفارقة، بأن يقول: ألغيت العقد وفسخته قبل التفرق، والآخر ينكره فالأصل هو عدم التفرق إلا إذا أثبت الآخر عكس ذلك، وهناك تفصيلات ذكرها الفقهاء لا يسع المجال لذكرها (1) .
ومن هنا فإذا سرنا على رأي من يقول بثبوت الخيار للمتحدثين بالتليفون، فإنه يبقى أمامهما أن يقطعا خيار المجلس وآثاره من خلال اشتراط أن لا يكون لهما خيار المجلس، بحيث يشترطان في العقد الذي تم بالتلفون، أو بغيره، أن لا يكون لهما هذا الخيار، وحينئذ لا يكون لهما الخيار عند أكثر القائلين بخيار المجلس (2) أو يقولان بعد العقد: تخايرنا، أو أمضينا العقد، أو نحو ذلك، أو يتجاوز أحدهما مكان التليفون الذي تحدث فيه – كما فعل ابن عمر حيث كان يمشي بعد العقد هنيهة ثم يرجع – ففي كل هذه الحالات ينقطع الخيار، ويدل على ذلك الأحاديث الصحيحة في هذا المعني، منها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما، بسندهم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((البيعان، كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار)) (3) . حيث دلَّ الحديث على أن مجرد التفرق – حسب العرف – يقطع خيار المجلس، كما دل الحديث على أن العقد نفسه إذا تضمن شرط عدم الخيار لهما فإنه يصبح لازمًا ولا ينظر إلى المجلس، ويوضحه الحديث الصحيح المتفق عليه أيضًا وهو:) إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرقا وكانا جميعًا، أو يُخَيِّر أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع (4) .
__________
(1) يراجع تفصيل ذلك في المجموع: 9/183، والمغني لابن قدامة: 3/563.
(2) المجموع للنووي: 9/179، والمغني لابن قدامة: 3/567 – 568.
(3) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع: 4/328-333، ومسلم: كتاب البيوع: 3/1163-1164، وسنن أبي داود، مع العون: 9/322، والترمذي، مع التحفة: 4/448، والنسائي: 7/217، وابن ماجه: 2/736، والموطأ: ص416، والدارمي: 2/166، ومسند أحمد: 1/56، 2/4، 9، والرسالة للشافعي: ص313.
(4) صحيح البخاري: 4/332، ومسلم: 3/1164(6/703)
والحديث أيضًا – كما يقول ابن قدامة – دليل على أن التخاير في ابتداء العقد وبعده في المجلس واحدٌ، فالتخاير في ابتدائه أن يقول: بعتك كذا ولا خيار بيننا ويقبل الآخر على ذلك، فلا يكون لهما خيار، والتخاير بعد العقد: أن يقول كل واحد منهما بعد العقد: اخترت إمضاء العقد، أو إلزامه، أو اخترت العقد، أو أسقطت خياري، فيلزم العقد من الطرفين
(1) . بل أن البخاري عقد بابًا لذلك وسماه: (باب إذا خيَّر أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع) (2) . وكذلك يُبْطِل خيارَ المجلس بعضُ التصرفات إذا صدرت منهما، أما إذا صدرت من أحدهما فإنه يبطل خياره فقط (3) على تفصيل وخلاف.
أما إذا اخترنا قول القائلين – في مسألة التعاقد عن بعيد – بعدم ثبوت الخيار بناء على أن التفرق الطارئ يقطع الخيار، فحينئذٍ يكون الأمر ميسورًا حيث إن مجرد صدور الإيجاب والقبول من المتحدثين بالتليفون يجعل العقد لازمًا، بعد توفر الشروط الأخرى – دون أن يكون لأحدهما حق خيار المجلس -، وكذلك الأمر عند الحنفية والمالكية القائلين بعدم ثبوت خيار المجلس مطلقًا – كما سبق-.
الترجيح
الذي يظهر لنا رجحانه هو القول بخيار المجلس حيث الأدلة الصحيحة الثابتة من السنة ناهضة على إثباته (4) ، ولكن الذي ينبغي بيانه هو أن مجلس العقد في التعاقد بالتليفون الحكمي، إذ لا يوجد في الواقع اتحاد حقيقي لمجلس التعاقد، ومن هنا فالمجلس قائم ما دام المتحدثان متصلين من خلال التليفون، ولم يغلقا التليفون حتى ولو تحدثا بعد العقد في أمور أخرى طالت أم قصرت، فإن حق الفسخ قائم لهما، إذا بإمكان كل منهما أن يفسخ العقد ما دام الحديث موصولًا بالتليفون، ولم يقطع الخط، أما بعد أن سد التليفون، بعد تمام الإيجاب والقبول – مع بقية الشروط – فإن حق الفسخ قد انتهى إذا حصل التفارق.
وذلك لأن التعاقد بالتليفون ليس كالتعاقد بين الحاضرين، ولا كالتعاقد بين الغائبين في جميع الوجوه، حيث إن له شبهًا بكل واحد منهما، فهو مثل التعاقد بين الحاضرين من ناحية أن أحدهما يسمع الآخر مباشرة ولا تنقضي بينهما فترة زمنية بين صدور التعبير عن الإرادة إيجابًا وقبولا , ووصوله إلى علم الآخر , فلا تفصل بينهما فترة زمنية فتعبير أحدهما عن إرادته يصل إلى علم الآخر فور صدوره، كما لو كانا في مجلس واحد، ولذلك يعتبر العقد بينهما من حيث زمن انعقاده، كما لو كان بين حاضرين (5) .، ولكنه في جانب آخر يشبه العقد بين غائبين حيث إن مكان كل واحد من المتعاقدين بالتليفون مختلف عن الآخر تفصل بينهما مسافة، وأنه لا يعلم بتحركات الآخر، ولذلك لا ينبغي أن يعامل معاملة العقد بين الحاضرين في كل الجوانب، بل يحكم بأن المجلس ينتهي بانتهاء التحدث بالتليفون.
__________
(1) المغني لابن قدامة: 3/569 – 570، وشرح المنهج: 3/106، والخيار 1/165.
(2) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع: 4/332.
(3) المجموع: 9/205، والمغني: 3/569.
(4) يراجع: المصادر الحديثية، والفقهية السابقة.
(5) يراجع: مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني المصري: 2/140-141، ود. محمود جمال الدين زكي، النظرية العامة للالتزامات، ط. مطبعة جامعة القاهرة 1978م: ص94، وقد كان المشروع التمهيدي في مادته (140) ينص على أنه: (يعتبر التعاقد بالتليفون، أو بأية طريقة مماثلة كأنه تم بين حاضرين فيما يتعلق بالزمان، وبين غائبين فيما يتعلق بالمكان) . ولكن هذه المادة حذفت في لجنة المراجعة (لوضوح حكمها) وقد أخذ به القانون العراقي في مادته (88) ، وراجع: الوسيط للسنهوري: 1/213، وقد نصت المادة (94) من القانون المدني المصري على أنه: ( ... إذا صدر الإيجاب من شخص إلى آخر بطريق التليفون يجب أن يصدر القبول فورًا كالحاضرين، لكن الاشتغال بالعقد لا يضر ماداما في المجلس)(6/704)
ولوجود هذا الفرق في العقد بين متعاقدين متباعدين ذهب جماعة من فقهاء الشافعية إلى عدم ثبوت خيار المجلس بينهما مع أنهم من القائلين بخيار المجلس – كما سبق – ونحن لا نقول بذلك القول، بل نقول بثبوت خيار المجلس في العقد الذي جرى بالتليفون، ولكن نقول إن التفرق يحصل بمجرد انتهاء التحدث بالتليفون، وذلك لأن التفرق الحقيقي من حيث البدن حاصل بينهما، والشيء الوحيد الذي وصلهما هو التليفون، فإذا انتهى التحدث فقد انقطع الوصل، على عكس المتعاقدين في مجلس واحد حيث إن المجلس جامع المتفرقات، وإن المكان قد جمعهما، ولذلك لا يتم التفرق بينهما إلا من خلال التفرق بالأبدان إلا إذا كان عقدًا فيه خيار، كما سبق.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن المراد بالتفرق في الحديث الصحيح: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) هو التفرق بالأبدان، ولكن التفرق لما لم يرد تفسيره في الشرع، وليس له حد معين في اللغة يرجع فيه إلى العرف، كما هو الحال في القبض، والحرز، يقول ابن قدامة: (والمرجع في التفرق إلى عرف الناس، وعادتهم فيما يعدونه تفرقًا، لأن الشارع علق عليه حكمًا ولم يبينه، فدل ذلك على أنه أراد ما يعرفه الناس كالقبض والإحراز (1) ، ولذلك اعتبر بعض الشافعية طول الفصل والإعراض عما يتعلق بالعقد قاطعًا لخيار المجلس، قال النووي: (وفي وجه ثالث أنهما – أي العاقدان – لو شرعا في أمر آخر، وأعرضا عما يتعلق بالعقد فطال الفصل انقطع الخيار، حكاه الرافعي،.. قال أصحابنا: والرجوع في التفرق إلى العادة، فما عده الناس تفرقًا فهو تفرق ملتزم للعقد، وما لا فلا ... ) (2) .
ويؤكد هذا الرأي ويدعمه حرص الشريعة على مصالح العاقدين، واستقرار العقود، وإبعادها بقدر الإمكان عن الفوضى والاضطراب، وعن الجهالة والنزاع، ومن هنا فلا نقيس التعاقد بالتليفون على التعاقد بين حاضرين، في جميع الوجوه، بما فيه اعتبار المجلس إلى التفرق عنه، وبالتالي بقاء حق الفسخ إلى أن يتفرق الرجل من مكان تليفونه.. وذلك لأن هذا القياس مع الفارق إذ المتعاقدان الحاضران موجودان في مكان واحد في حين أن المتحدثين بالتليفون في مكانين مختلفين لا يربط أحدهما بالآخر إلا التليفون، ولذلك ينقطع بانتهاء التحدث فيه، بالإضافة إلى أن القول بدوام خيار المجلس إلى أن يفارق أحدهما مكان تحدثه يؤدي إلى عدم استقرار العقود وكثرة النزاعات والجدال، إذ أنهما لا يرى بعضهما البعض حتى يعلم بمجرد مفارقته أن العقد قد لزم، ولا يقال إن اشتراط البينات يدفع ذلك، لأن مبنى العقود على السرعة، كما أن الرجوع إلى القضاء والدخول في الخصومات ليسا من الأمور الهينة، فقد يترك الإنسان حقه الثابت حتى لا تُمَسَّ هيبته وكرامته أمام المحاكم، فما بالك بمثل هذه الأمور التي تحتاج إلى طول النفس، ولذلك كله نرى أن مجلس التعاقد بالتليفون يستمر ويبقى ما دام الكلام موصولًا بينهما، فإذا قطعا المحادثة، أو قطع المحادثة أحدهما بعد الإيجاب والقبول فإن العقد أصبح لازمًا للطرفين، والله أعلم.
__________
(1) المغني: 3/565.
(2) المجموع: 9/180.(6/705)
التعاقد بالراديو والتلفزيون:
يمكن إجراء العقد من خلال الراديو أو التلفزيون، ولا سيما في الإيجابات الموجهة للجمهور، فلو عرض أحد من خلال الراديو أو التلفزيون عرضًا خاصًّا ببيع شيء معين، أو إيجار، وأوضح الشروط المطلوبة، والمواصفات المطلوبة المعرِّفة للمعقود عليه بشكل يزيل الجهالة عنه فإن هذا الإيجاب مقبول ويبقى قائمًا إلى أن يتقدم آخر فيقبله، وحينئذ يتم العقد، وكذلك يمكن إجراء التعاقد الخاص، من خلال شخصين عن طريق الراديو، وذلك لأن الركن الأساسي من العقد هو صدور الإيجاب والقبول ووصول كل منهما إلى علم الآخر بصورة معتبرة شرعًا، وفهم كل واحد منهما ما طلبه منه الآخر، وهذا كله يتحقق من خلال الراديو، والتلفزيون ولا سيما في الإيجابات الموجهة للجمهور، والجعالة ونحوها.
فإذا كان الإيجاب خاصًّا – أي لم يكن موجهًا إلى الجمهور – فلا بد أن يتصل به القبول فورًا عند الشافعية، ومقيدًا بدوام المجلس عند الحنفية، والحنابلة. وبعدم الإعراض عنه عند المالكية – كما سبق.
وأما الإيجاب العام الموجه إلى الجمهور فإنه لا ينتهي بل يستمر إلى أن يتصل به القبول، أو يحدث عارض يقطعه – على التفصيل السابق.
بل إننا نجد بعض النصوص لبعض الفقهاء الشافعية أن الإيجاب ما دام موجهًا إلى الغائب لا ينتهي فورًا بل يستمر حيث لو أوصله شخص إلى الآخر وقبله تم العقد. قال الرافعي: (وأَلِفوا في مسودات بعض أئمة طبرستان تفريعًا على انعقاد البيع بالكتابة: أنه لو قال: بعت من فلان، وهو غائب فلما بلغه الخبر قال: قبلت ينعقد البيع، لأن النطق أقوى من الكتابة ... )
(1) ، واشترط الحنفية أن يكون ذلك بإذن الموجب (2) .
فعلى ضوء ذلك لو قال شخص في الراديو أو التلفزيون بعت هذا لكل من يريد أو لفلان فقبله آخر وبعث إليه القبول فقد تم العقد، وإذا حصل تزاحم فالاعتبار بأولوية الوصول إلى علم الموجب، وإذا كان بإذن الموجب فقد صح بالاتفاق.
وفي مذهب المالكية توسع جيد في هذا المجال ولا سيما هم يقولون بأن الموجب ملزَم بإيجابه الذي كان بصيغة الماضي، وليس له حق الرجوع، كما أنهم فصلوا في الإيجابات العامة، (قال البرزلي في نوازله: رجل قال في سلعة وقد عرضها: من أتاني بعشرة فهي له، فأتاه رجل بذلك، إن سمع كلامه، أو بلغه فهو لازم، وليس للبائع منعه، وإن لم يسمعه، ولا بلغه فلا شيء عليه) (3) ، فهذا النص يدل بوضوح على أن بإمكان الإنسان أن يعرض إيجابه في الراديو والتلفزيون ثم يتلقى القبول فيتم العقد.
ثم إن الإيجاب العام الذي قدمه أحد عبر الراديو أو التلفاز، لا يجوز الرجوع عنه، عند المالكية، وكذلك الإيجابات الموجهة للجمهور مثل الجعالة فإنها وإن لم تكن لازمة من حيث هي لكنها تفضي إلى اللزوم بحيث إذا أتى شخص بما طلبه الجاعل فإن الجاعل ملزم بالتنفيذ. (4) .
التعاقد باللاسلكي:
إذا كان جهاز اللاسلكي ينقل الكلام الواضح إلى الآخر فهو مثل التليفون في جميع ما ذكرناه، وكذلك إذا كان ينقل الكلام عن طريق الشفرات الواضحة المفهومة للطرفين حيث يتم العقد، إذا فهما الإيجاب والقبول بوضوح، أما إذا كان ينقل الشفرات على شريط مكتوب – فرضًا – فإنه حينئذٍ مثل البرقية – كما سيأتي – ما دامت واضحة.
__________
(1) فتح العزيز: 8/103، ويراجع: المجموع: 9/167.
(2) انظر الفتاوي الهندية: 3/9. وأما المالكية فمع الشافعية في صحة العقد حتى وإن لم يأمر الموجب به أو لم يأذن. انظر: حاشية البنا على الزرقاني: 5/5-6.
(3) حاشية البنا على شرح الزرقاني على مختصر خليل: 5/5-6.
(4) الحاوي للماوردي، كتاب البيوع، المحقق من قِبَل محمد الكزني ص224-226.(6/706)
ضوابط ينبغي التنبيه عليها:
أولًا: لا شك أن العقود تتم بلا خلاف عن طريق التليفون، أو الراديو أو التلفزيون أو اللاسلكي، ولكنه مع ذلك إن التعاقد بها يبقى معه احتمال التزوير وتقليد الصوت، والدبلجة، ولذلك فالأصل هو انعقاد العقد ولكن إذا ادعى أحدهما أن الصوت ليس له، فعليه إثبات ذلك من خلال الأدلة التي تقنع القضاء الذي هو الفيصل، لأنه المدعي (والبينة على المدعي، واليمين على من أنكر) (1) .
ثانيًا: إن العقود بالتليفون ونحوه إنما تصح فيما لا يشترط فيه القبض الفوري، أما إذا بيع ربوي بمثله فلا يصح العقد بالتليفون، إلا إذا تم القبض كأن يكون لكل واحد منهما وكيل بالتسليم عند الآخر، أو عن طريق بنك لدى كل واحد منهما فيه رصيد لكليهما، أو نحو ذلك مما يتعلق بموضوع القبض (2) كما دل على اشتراط القبض الفوري الأحاديث الصحيحة الثابتة، وإجماع العلماء من حيث المبدأ منها الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثْلًا بمِثْل ... )) .
__________
(1) يراجع فتح الباري: 5/145-146، والسنن الكبرى: 10/252، وروى البخاري: 5/145، ومسلم: 3/1336 بلفظ (قضى باليمين على المدعى عليه) .
(2) يراجع: فتح القدير: 5/274، وبدائع الصنائع: 7/3115، والبحر الرائق: 6/137، والدر المختار: 5/171، والدسوقي على الشرح الكبير: 3/47، وبداية المجتهد: 2/13، والروضة: 3/377، ونهاية المحتاج: 4/428، والمغني لابن قدامة: 4/5-7، والموسوعة الفقهية الكويتية: 1/206.(6/707)
وفي حديث صحيح آخر: ((نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) (1) .
وكذلك الحكم في عقد السَّلَم حيث يجب تسليم الثمن (رأس مال السَّلَم) في مجلس العقد، خلافًا للمالكية حيث أجازوا تأخيره ثلاثة أيام، ولكنهم اختلفوا فيما لو تأخر تسليمه أكثر من ثلاثة أيام بدون اشتراط التأخير حيث ذهب بعضهم إلى فساده، وبعضهم إلى صحته، أما إذا كان التأخير عن الثلاثة باشتراط، فقد فسد العقد بالاتفاق (2) .
ثالثًا: إن مجلس العقد بالتليفون واللاسلكي ونحوهما، ينتهي بانتهاء المحادثة كما سبق. إلا إذا كان العقد يتم من خلال المزايدة، حيث ذهب المالكية إلى أن الشخص الذي يعرض رضاه بثمن معين في المزايدة فليس له حق الرجوع حتى ولو طال، يقول العلامة الصاوي: (ولا يضر في البيع الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن يخرج عن البيع بغيره عرفًًا، وللبائع إلزام المشتري في المزايدة ولو طال حيث لم يجرِ عرف بعدمه) . (3) .
فعلى ضوء هذا نقول: إذا اتصل شخص عبر التليفون بمن يدير المزاد، فعرض عليه قبوله بمبلغ كذا، ثم سد التليفون، ورسا عليه بنفس المبلغ فإنه لا مندوحة له من قبوله بالعقد، وهذا رأي وجيه له وجاهته واعتباره حيث يؤدي إلى حماية العقود من الفوضى والاضطراب، والإضرار بالناس، لأنه إذا لم يلزم به يؤدي إلى الإضرار بالبائع – مثلًا، لأنه أنهى المزاد لأجله، فإذا لم يلزم به، فيحنئذٍ يؤدي إلى الإضرار به بلا شك، وهو مدفوع في هذه الشريعة: ((لا ضرر ولا ضرار)) (4) .
رابعًا: إن قولنا بأن مجلس العقد التعاقد بالتليفون ينتهي بمجرد إنهاء المحادثة خاص فيما إذا لم يُعْطِ أحدهما للآخر المهلة، أو لم يشترط لنفسه الخيار، فإذا اشترط أحدهما، أو كلاهما ذلك فإن لِمَنْ له الخيار، أو المهلة، أن يقبل في المدة المعينة.
__________
(1) وهناك أحاديث كثيرة بهذا الصدد فراجعها في صحيح: البخاري – مع الفتح – البيوع: 4/377-384 ومسلم، والمساقاة: 3/1208-1219، ومسند الشافعي: ص48، وأحمد: 3/4، 5/49، والمستدرك: 2/43 وسنن أبي داود – مع العون: 9/198، وابن ماجه: 2/757، والترمذي: 1/233، والنَّسائي: 7/240، والسنن الكبرى: 5/276.
(2) شرح الخرشي: 5/203، وبلغة السالك: 2/538 ويراجع: حاشية ابن عابدين: 4/208، والغاية القصوى: 1/497، والمغني لابن قدامة: 4/328.
(3) بلغة السالك: 2/345.
(4) حديث ثابت رواه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية ص464، وأحمد: 1/313، وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام: 2/784.(6/708)
القسم الثاني
الوسائل الحديثة لنقل المكتوب مباشرة
تشمل هذه الوسائل البرقية، والتلكس، والفاكس، حيث تطورت هذه الوسائل بشكل رهيب حيث أصبح من مقدور الإنسان أن ينقل ما كتبه خلال ثوانٍ، أو دقائق معدودة، إلى المكان الذي يريده ما دام لديهما جهاز الفاكس، أو التلكس، حيث ينقل حرفيًّا، بل إن الفاكس ينقل صورة منه طبق الأصل فيوصله إلى الجهاز الآخر مهما كان بعيدًا.
وأما حكم العقود من خلال جهاز الفاكس هو كحكم التعاقد بالكتابة سواء بسواء، إذ أنه ينقل صورة حقيقية من خطابك وتوقيعك دون أي تغيير، أو تبديل، فكما شرحنا سابقًا فإن جهاز الفاكس حينما تضع عليه الورقة المطلوب نقلها إلى آخر، وتدوس على الزر الخاص، فإنه يصوره لك صورة ويرسلها إلى الجهاز الثاني لتظهر الصورة بوضوح على الورق في الجهاز الثاني.
وأما البرقية والتلكس: فهما كذلك مثل الكتابة لكنه مع فارق أن البرقية، أو التلكس لا ينقلان صورة، وإنما يكتب العقد مرة أخرى، لينقل المكتوب إلى الجهاز الثاني، فهو أشبه ما يكون بخطاب شخص يطلب من آخر أن يكتبه ليرسله إلى الثاني، ومن هنا فلا بد من ملاحظة كون هذا الخطاب من الشخص الفلاني، فإذا ادَّعى أحدهما التزوير فعليه الإثبات من خلال الوسائل المتاحة له.
وعلى أية حال فإن التعاقد بهذه الأجهزة مثل التعاقد عبر الكتابة، ولذلك نذكر آراء الفقهاء في هذه المسألة، ثم نعود لنوضح حكم إجراء العقود بهذه الوسائل الحديثة من حيث مجلس العقد، ووقت تمام العقد، وخيارات المجلس الثلاثة.
التعاقد بالكتابة:
1- ثار خلاف بين الفقهاء في مدى الاعتداد بالكتابة كتعبير عن الإرادة سواء كانت بين حاضرين، أم غائبين، ويمكن ضبط توجهاتهم في ثلاثة اتجاهات وهي:
اتجاه التوسع، وهذا يمكن في اعتبار الكتاب كالخطاب سواء كان بين الحاضرين أو الغائبين، وإلى هذا ذهب المالكية، والحنابلة، وبعض الشافعية، لكنهم جميعًا – ماعدا وجهًا للشافعية – استثنوا من هذا الحكم النكاح لخصوصيته، واشتراط الشهود فيه (1) .
__________
(1) يراجع لتفصيل ذلك: بلغة السالك: 2/17، والدسوقي: 2/3، وشرح الخرشي: 5/5، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير: 2/166، وكشاف القناع: 3/148، والروض المربع: 6/249، والمغني: 7/239، والمجموع: 9/168، والأشباه للسيوطي: ص334، وفتح العزيز: 8/103، والروضة: 8/39، والمهذب: 1/257.(6/709)
2- اتجاه التضييق، وهو اتجاه الذين يقولون بعدم صلاحية الكتابة لإنشاء العقود بها إلا بالنسبة للعاجزين عن الكلام، وهذا مذهب الأباضية، والراجح في مذهب الإمامية، ووجه الشافعية، ورأي داخل المذهب الزيدي (1) .
3- اتجاه التوسط، وهذا مذهب الحنفية الذين جعلوا الكتاب كالخطاب بالنسبة للغائب، دون الحاضر، غير أنهم ذهبوا إلى أن النكاح إنما يتم بالكتابة إذا أحضر الجانب الثاني للشهود، وقرأ عليهم الكتاب، ثم يقول: قبلت أو زوجت، أو تزوجت (2) .
الأدلة والمناقشة والترجيح:
وقد استدل كل فريق على دعواه، حيث استدل المضيقون من دائرة الكتاب بأن الكتابة ليست وسيلة من وسائل التعبير المعتبرة، حيث إنها تحتمل التزوير وإرادة تحسين الخط فقط، ومع هذا الاحتمال لا يثبت بها العقود التي تترتب عليها آثار كثيرة من حل وحرمة، ومن انتقال الملكية، ونحوه، بالإضافة إلى أن وسائل التعبير عن العقود جاءت جميعها بالألفاظ، ولم يشتهر في عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) إنشاء العقود بالكتابة. غير أنه يستثنى من ذلك العاجز عن النطق الذي لا يجد حيلة إلى النطق، ولا يهتدي إلا إلى الإشارة أو الكتابة.
ويمكن أن تناقش هذه الأدلة بأن مبناها على أن الكتابة وسيلة ضرورية ولذلك لا تصلح إلا للعاجز عندهم، وهذا غير مسلم، لأن التعبير عما في النفس كما يمكن أن يكون باللفظ يمكن أن يكون بالكتابة، كما أننا لا نسلم أن الكتابة لم تستعمل كتعبير عن العقود في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث الصحيحة شاهدة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعملها في رسائله مع الملوك وغيرهم للتعبير عما يريده منهم من الدخول في الإسلام (3) ، ولو سُلِّم ذلك، فلا يدل عدم استعمالها في عصره على عدم جواز استعمالها، وذلك لأن مبنى هذه الدلالات على العرف، وأن الجمهور على عدم التقيُّد بالصيغ الواردة في الشرع ما دامت لا تصطدم مع نص شرعي، ولا دليل على منع الكتابة.
ومن جانب آخر إن ما أوردوه من احتمال التزوير والتقليد يتلاشى مع وجود القرائن الدالة عليه، بالإضافة إلى أن ذلك داخل في عملية الإثبات، وكلامنا هنا في مدى دلالة الكتابة على الرضا (4) .
__________
(1) شرائع الإسلام للحلي: 2/8، والمجموع: 9/167، والروضة: 8/39، والبحر الزخار: 4/26.
(2) الهداية مع فتح القدير، وشرح العناية: 5/79، والفتاوى الهندية: 3/9.
(3) انظر: صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب الجهاد -: 6/109، ويراجع المغني لابن قدامة: 7/341.
(4) المصادر السابقة، ويراجع لتفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود: دراسة مقارنة: 2/974 ...(6/710)
وأما الاتجاه الوسط فقد استدل بالأدلة السابقة لكنهم قالوا: إن الحاجة ماسة بالنسبة للغائبين دون الحاضرين، فيترخص للغائبين دون غيرهما، فلماذا يلجأ الحاضران إليها وهما قادران على النطق الذي هو الأقوى؟؟!
ويمكن أن يجاب عن هذا بأن النزاع في أن الكتابة هل تصلح للدلالة على ما في النفس أم لا؟ فإذا قلنا: نعم، فأي تقييد في حقها، وتضييق لنطاقها بما بين الغائبين لا يتفق مع هذا الجواب، ولا مع المبدأ السائد في الشريعة الغراء، القاضي بأن أساس العقود هو الرضا، وأما إذا كان جوابنا بالنفي فلا بد أن لا نستثنى الغائبين، لأن التعبير عن الرضى ضروري في إنشاء العقد بحيث لا يتم بدونه، كما أنه لا توجد ضرورة بالنسبة للغائبين إذ يمكنهما التوكيل (1) .
واستدل الموسعون بأن الكتابة وسيلة جيدة عن التعبير عن الإرادة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعملها في خطاباته مع الملوك، فدعاهم إلى الدخول في الإسلام (2) ، فإذا كانت الكتابة صالحة للتعبير عن نشر الدعوة، فكيف لا تكون صالحة لإنشاء العقد؟؟ قال الكاساني: (إن الكتابة المرسومة جارية مجرى الخطاب، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يبلغ بالخطاب مرة وبالكتاب أخرى ... وبالرسول ثالثًا، وكان التبليغ بالكتاب والرسول كالتبليغ بالخطاب، فدل على أن الكتابة المرسومة بمنزلة الخطاب) (3) ، بل إن القرآن الكريم قد الكتابة على الشهادة في آية الدين (4) .
وهذا هو الراجح الذي يدعمه الدليل ويتفق مع قواعد الشريعة وأصولها القاضية برفع الحرج ومبادئها الخاصة بالعقود الدالة على أن الأساس هو التراضي دون النظر إلى التقيد بأية شكلية، بالإضافة إلى أن الشرع علق حل أكل أموال على التراضي، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (5) ، ومع ذلك لم يفصل في وسائل التعبير عنه، كما أننا لا نجد لها تحديدًا دقيقًا في اللغة فيناط حينئذٍ بالعرف، والعرف جار قديمًا وحديثًا على صلاحية الكتابة للتعبير عن الرضا والإرادة، ولذلك فهي صالحة لإنشاء العقود (6) .
__________
(1) المصادر السابقة، ويراجع لتفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود دراسة مقارنة: 2/947 ...
(2) صحيح البخاري – مع الفتح -: 6/109، حيث روي بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام.
(3) بدائع الصنائع: 4/1813.
(4) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [سورة البقرة: الآية 282] ، ويراجع تفسير القرطبي: 3/376.
(5) سورة النساء: الآية 29
(6) يراجع مبدأ الرضا في العقود: 2/948 ... والمصادر الفقهية السابقة.(6/711)
صعوبات فنية في التعاقد بالبرق والتلكس والفاكس:
لا شك أن هناك صعوبات فنية في التعاقد بهذه الوسائل تكمن في كيفية تصور مجلس العقد، ووقت تمامه، وما يترتب على المجلس من خيارات الأمر الذي يقتضي معالجتها بدقة وأناة.
ولا يخفى أن مجلس العقد بالنسبة للحاضرين واضح يسهل تصوره، لكن الصعوبة قد تأتي لتصوره فيما لو كانا غائبين مثل التعاقد بالبرق أو التلكس، أو الفاكس، أو بعبارة أخرى: التعاقد عن طريق المكتوب، والسبب في هذه الصعوبة وجود المسافة الزمنية والمكانية بين الإيجاب والقبول، وكيفية وصول القبول إلى علم من وُجِّه إليه الجواب، وأيضًا فإن التساؤل يثور حول الوقت الذي يتم فيه العقد، هل يتم بمجرد قبول من أرسل إليه البرقية، أو التلكس، أو الفاكس، (وهذا ما يسمى في الفقه المدني الوضعي بنظرية إعلان القبول) . أو أنه يتم بقبوله، وإرساله إلى الموجب (وهذا ما يسمى في الفقه المدني الوضعي بنظرية تصدير القبول) ، أو أنه يتم بإيصال الجواب إلى الموجب – أي يصله القبول – من خلال الرسالة – أو البرق، أو التلكس أو الفاكس، بحيث إذا وصل إليه فقد تم العقد حتى ولو لم يعلم بمحتواه (وهذا يسمى في الفقه الوضعي بنظرية تسليم القبول) أو أنه لا يتم العقد إلا إذا وصل القبول إلى الموجب وعلم به فعلًا (وهذا يسمى في الفقه المدني الوضعي بنظرية العلم بالقبول) (1) .
ولا شك أن لكل نظرية من هذه النظريات أنصارها وروادها، كما أن لكل واحدة منها سلبياتها وإيجابياتها، ولكن الغالب في الفقه الوضعي الحديث يتجه إلى تفضيل نظرية الإعلان عن القبول على غيرها لما لها من مزايا عدة من أهمها:
أولًا: إن التماثل في جميع الجهات بين عقود الحاضرين، وعقود الغائبين أمر غير عملي، وذلك لاختلاف طبيعة التعاقد في كل منها، ومن ثم فلا ينبغي اشتراط وصول القبول إلى علم الموجب، بل يكفي مجرد تعبيره عن إرادته في القبول إذ إن العقد ليس إلا الإيجاب والقبول، وقد حصلا من خلال قبوله في مجلس الوصول.
ثانيًا: إن هناك صعوبة في تحديد وقت انعقاد القبول، إذا قلنا بغير نظرية الإعلان، فليس من الميسور معرفة لحظة إرسال الخطاب، أو تسليم القبول، أو العلم به، بالإضافة إلى احتمال الإنكار، وتأخير الاطلاع عليه عمدًا، وغير ذلك مما يؤدي إلى عدم استقرار العقود، وإلى الفوضى التي ينبغي أن تكون المعاملات والعقود بمنأى عنها.
__________
(1) د. السنهوري: الوسيط: 1/309، وجوسران: شرح القانون المدني بند 52، ومصادر كثيرة مشار إليها في رسالتنا: مبدأ الرضا في العقود: 2/1112.(6/712)
ثالثًا: إن الأخذ بنظرية الإعلان من شأنها كسب الوقت حيث ينشأ العقد بمجرد إعلان القبول، ولا سيما في العصر الذي يحتاج فيه إلى مزيد من السرعة في التبادل حتى لا تتعطل المصالح في حين على ضوء بقية النظريات ينبغي انتظار فترة كبيرة، ولا سيما على ضوء نظرية العلم بالقبول، حيث يمكن أن يصله الجواب لكنه لا يطلع عليه، لأي سبب من الأسباب، ومع ذلك يؤدي إلى عدم معرفة نتيجة الصفقة. ومع ذلك فإن القانون المدني المصري، والعراقي أخذا بنظرية العلم بالقبول، وصرح الفقه الإنجليزي بأن القاعدة العامة المستقرة في القضاء الإنجليزي تقتضي وجوب إحاطة العارض بقبول العرض، ما لم يكن هناك اتفاق على التنازل عن الإحاطة (1) .
تلك هي خلاصة موجزة جدًّا في الفقه الوضعي، فلنعد إلى فقهنا الإسلامي العظيم لنرى كيف عالج هذه الصعوبات الفنية التي تتعلق بمجلس العقد ووقت تمام العقد ثم بالخيارات، التي تترتب على المجلس.
أولًا- مجلس العقد في التعاقد بالبرق، والتلكس، والفاكس:
عالج الفقه الإسلامي هذه المسألة عند بحثه عن مجلس العقد بين الغائبين سواء كان عن طريق الكتابة، أو الرسول، ونحن نذكر هنا بعض النصوص للفقهاء، ثم نعقبها بالتعليق.
فقد صرح الحنفية بأن الأصل هو اتحاد المجلس بأن يقع الإيجاب والقبول في مجلس واحد، ولكن مجلس التعاقد بين الغائبين هو مجلس وصول الخطاب أو الرسول، قال الكاساني: (وأما الكتابة، فهي أن يكتب الرجل إلى رجل: أما بعد فقد بعت عبدي فلانًا منك بكذا فبلغه الكتاب، فقال في مجلسه: اشتريت، لأن خطاب الغائب كتابه، فكأنه حضر بنفسه، وخاطب بالإيجاب وقَبِل الآخر في المجلس ... ) (2) . وجاء في الهداية، والفتاوى الهندية وغيرهما: (والكتاب كالخطاب حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب، وأداء الرسالة) (3) ، ويقول النووي: (وإن قلنا: يصح – أي البيع بالمكاتبة – فشرطه أن يقبل المكتوب إليه بمجرد اطلاعه على الكتاب ... وإذا صححنا البيع بالمكاتبة جاز القبول بالكتب، وباللفظ، ذكره إمام الحرمين وغيره ... قال الغزالي في الفتاوى: إذا صححنا البيع بالمكاتبة، فكتب إليه فقبل المكتوب إليه ثبت له خيار المجلس ما دام في مجلس العقد) (4) .
ويظهر من هذه النصوص، وغيرها أن مجلس العقد بالنسبة للتعاقد بالبرقية، أو التلكس، أو الفاكس، هو مجلس وصول البرقية، أو التلكس أو الفاكس، فإذا وصل وقرأه وقال: قبلت، أو كتب الموافقة فقد انعقد العقد.
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن اتحاد المجلس لا يشمل بعض العقود مثل الوصية والإيصاء، والوكالة، حيث إن القبول في الوصية يكون في مجلس آخر بعد وفاة الموصي (5) .
__________
(1) مورانديه: شرح القانون المدني الفرنسي بند (32) ويراجع رسالتنا: مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقارنة: 2/1114 ... ومصادره التي اعتمد عليها في القانون الفرنسي، والإنجليزي، والمصري والعراقي، بالإضافة إلى المذاهب الفقهية الثمانية، ويراجع: د. وحيد الدين السوار: التعبير عن الإرادة، ط. مكتبة النهضة 1960م، ص129.
(2) بدائع الصنائع: 6/2994.
(3) فتح القدير على الهداية: 5/78، 82، والفتاوى الهندية: 3/9.
(4) المجموع: 9/167-168.
(5) مختصر أحكام المعاملات للشيخ الخفيف: ص79.(6/713)
ثانيًا- وقت تمام العقد:
ذكرنا فيما سبق أن الفقه المدني الوضعي قد اختلف في هذه المسألة اختلافًا كبيرًا حتى توزعت مدارسه بين أربع نظريات، وهي نظرية إعلان القبول، ونظرية تصدير القبول ونظرية تسليم القبول، ونظرية العلم بالقبول.
ونحن نعرض هنا بعض نصوص الفقهاء ليتبين لنا بوضوح وجهة نظرهم بهذا الخصوص ولا سيما أن بعض الباحثين أنكروا وجود وجهة نظر واضحة للفقه الإسلامي في هذا الصدد (1) .
يقول المرغيناني الحنفي: (والكتاب كالخطاب، وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب، وأداء الرسالة) (2) ، ويقول الكاساني: (وأما الكتابة فهي أن يكتب الرجل إلى رجل: أما بعد فقد بعت كذا منك، فبلغه الكتاب، فقال في مجلسه: اشتريت – أي انعقد العقد – لأن خطاب الغائب كتابه فكأنه حضر بنفسه وخاطب بالإيجاب وقبل الآخر في المجلس ... ) (3) ، وقال تاج الشريعة: (وصورة الكتابة أن يكتب إلى رجل ... فلما بلغه الكتاب وقرأه وفهم ما فيه قَبِل في المجلس صح البيع كذا في العيني ... ) (4) ، وقال ابن عابدين: (فإن قَبِل – أي الغائب – صح العقد) (5) .
وهذه النصوص لفقهاء الأحناف تدل بكل وضوح على أن العقد بالكتابة – ومنها البرق والتلكس والفاكس، يتم بمجرد القبول الصادر من الشخص الموجه إليه، واعتبروا مجلس وصول المكتوب مجلس العقد، بل اعتبروا المكتوب نفسه بمثابة حضور الموجب الكاتب نفسه، فعلى ضوء ذلك فإن الحنفية يقولون بنظرية إعلان القبول.
وجهة نظر والرد عليها:
وقد استنبط بعض الباحثين (6) من بعض النصوص الحنفية الدالة على اشتراط سماع كل من المتعاقدين كلام صاحبه في صحة العقد (7) ... إن الحنفية يقولون بنظرية العلم بالقبول، حيث قال: (إن منطق القاعدة التي تقول بوجوب سماع الموجب القبول في التعاقد بين الحاضرين تقتضي القول بوجوب علم الموجب بالقبول في التعاقد بين غائبين، والسماع في حالة حضور الموجب يقابله العلم حالة غيابه) (8) .
__________
(1) يقول الأستاذ السنهوري (رحمه الله) في مصادر الحق: 2/54: (فلم نعثر على نص صريح في هذه المسألة يبين متى يتم العقد بين الغائبين، هل يتم بمجرد إعلان القبول، أو لا يتم إلا بعلم الموجب بالقبول ... ) . ولكنا وجدنا نصوصًا – كما ترى – توضح وجهة نظر فقهائنا في هذه المسألة، وسبقهم إلى أدق نظريات نافعة: نعم إنهم لم يصرحوا بأن هذا القول يمثل النظرية الفلانية، لكن أقوالهم تدل عليهم بوضوح.
(2) الهداية مع فتح القدير والعناية: 5/79.
(3) بدائع الصنائع: 6/2994.
(4) الفتاوى الهندية: 3/9.
(5) حاشية ابن عابدين: 4/15.
(6) الأستاذ السنهوري: مصادر الحق: 2/56.
(7) الفتاوى الهندية: 3/3، والفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية: 4/364، وفتح القدير: 5/74.
(8) الأستاذ السنهوري: مصادر الحق: 2/56.(6/714)
ويمكن أن نرد على هذا بسهولة، وذلك لأن لازم المذهب ليس بمذهب، هذا أولًا، وثانيًا: إن الحنفية صرحوا – كما رأيت – بأن العقد يتم في الكتاب في مجلس وصوله إلى القابل من خلال قبوله في المجلس، وثالثًا: إن قياس العقد بين الغائبين على العقد بين الحاضرين قياس مع الفارق، لعدة وجوه من أهمها أن الإيجاب في العقد بين الحاضرين مرتبط بمجلس صدوره فيه بحيث إذا انفض المجلس انعدم الإيجاب ولم يبق له وجود في حين أن الإيجاب في العقد بين الغائبين يظل مستمرًّا إلى حين وصوله إلى الشخص الثاني، ويبقى طول بقائه في مجلس الوصول إلا إذا صدر ما يدل بوضوح على إعراضه عنه – كما سبق – وقد صرح الحنفية بهذا الفرق. قال الكاساني: (إن اتحاد المجلس شرط للانعقاد، ولا يتوقف أحد الشطرين من أحد العاقدين على وجود الشرط الآخر إذا كان غائبًا، أي عن طريق الكتابة أو الرسالة) ، وقال أيضًا: (والأصل في هذا أن أحد الشطرين من أحد العاقدين في باب البيع يتوقف على الآخر في المجلس، ولا يتوقف على الشطر الآخر من العاقد الآخر فيما وراء المجلس بالإجماع إلا إذا كان عنه قابلا، أو كان بالرسالة، أو بالكتابة) (1) ، ورابعًا: إن نصوص الحنفية في وجوب سماع كل من العاقدين كلام الآخر خاصة في التعاقد بالكلام، دون التعاقد بالوسائل الأخرى، مثل التعاطي والإشارة والكتابة حيث إن كل واحدة من هذه الوسائل المعبرة عن الإرادة ليس فيها سماع مع أن العقود تتم بها، على تفصيل فيها (2) .
وفي اعتقادنا أن بقية المذاهب أيضًا، تعتبر وقت تمام العقد حين يصل المكتوب سواء كان عن طريق شخص، أو عن طريق البرق، أو التلكس، أو الفاكس – إلى الشخص الذي وجه إليه فيقبله في المجلس، فحينئذٍ انعقد العقد، لكن المذاهب التي تقول بخيار المجلس – كالشافعية والحنابلة- تعطي حق خيار المجلس للكاتب والمكتوب إليه ما دام المكتوب إليه في مجلسه، وأما المذاهب التي لا تعترف بخيار المجلس فإن العقد يصبح تامًّا بمجرد القبول كما سبق.
وإليك بعض نصوص الفقهاء في هذا المضمار، يقول النووي: (قال الغزالي: إذا صححنا البيع بالمكاتبة فكتب إليه، فقبل المكتوب إليه ثبت له خيار المجلس مادام في مجلس القبول، قال: ويتمادى خيرا الكاتب إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه، حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه مجلسه صح رجوعه ولم ينعقد البيع. والله أعلم) (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/2993 – 2994، ومثله في ابن عابدين: 4/11.
(2) يراجع في تفصيل ذلك: رسالتنا: مبدأ الرضا في العقود: 2/833-1000، وراجع لمناقشة هذه الآراء حول اشتراط السماع، ص1098 منها.
(3) المجموع: 9/168.(6/715)
وهذا النص يدل أيضًا على أنه لا يشترط في تمام العقد وصول القبول إلى الموجب الكاتب بل يكفي صدور القبول من المكتوب إليه، في مجلس الوصول، فعلى ضوء ذلك يتم العقد بين الغائبين- عن طريق المكتوب- بمجرد إعلان القبول قبل رجوع الموجب عن إيجابه، بل صرح الرافعي بأن مجلس التعاقد بين الغائبين هو مجلس اطلاع المكتوب إليه، والمرسل إليه على الإيجاب، حيث يقول: (فالشرط أن يقبل المكتوب إليه كما اطلع على الكتاب على الأصح ليقترن القبول بالإيجاب بحسب الإمكان) (1) .
وأما المالكية فمذهبهم أن الإيجاب ملزم للموجب – بشروطه – فعليه لا يتمشى مع قواعد مذهبهم أن يشترطوا علم الموجب بقبول القابل حتى يتم العقد، بل إن نصوصهم ظاهرة كل الظهور بأن البيع ونحوه ينعقد بمجرد القبول بعد صدور الإيجاب (2) وعلى هذا نصوص الحنابلة (3) .
فعلى ضوء ذلك نستطيع أن نقول إن جانبًا كبيرًا من الفقه الإسلامي، ومنه الفقه الحنفي والمالكي، تبنى نظرية إعلان القبول قبل ظهور هذه النظرية في الغرب بعدة قرون، والبعض الآخر – كالشافعي والحنبلي – تبنى أيضًا نظرية الإعلان ولكن مع حق خيار المجلس.
فعلى ضوء الرأي الأول يتم بالقبول في مجلس الوصول ما دام الموجب لم يرجع عن إيجابه قبل ذلك، ولذلك لا يتوقف تمامه عند الجميع إلى أن يصل القبول إلى الموجب، أو بعبارة أخرى لا يتوقف تمامه على علم الموجب بالقبول، نعم إن العلم بالشيء أو عدم العلم به قد يؤثر في بعض التصرفات، مثل عزل الوكيل حيث إنما يؤثر في تصرفاته إذا علم الوكيل بعزله صيانة الحقوق الآخري، وحماية له من الوقوع فيما يترتب على العقود من حقوق وآثار والتزامات (4) . ومن هنا فالتعاقد بالبرق أو التلكس، أو الفاكس، يتم إذا وصل المكتوب إلى الموجه إليه وقبله في المجلس، لكنه في النكاح يحتاج إلى شهود أيضًا.
__________
(1) فتح العزيز بهامش المجموع: 8/103، والروضة: 3/339.
(2) حاشية البنا على الزرقاني: 5/5-6، والفواكه الدواني: 2/175، والدسوقي: 3/3، والخرشي: 5/5، وبلغة السالك: 2/243.
(3) يراجع: الإنصاف للمرداوي: 4/260، والروض المربع: 4/328، والمغني: 3/561.
(4) بدائع الصنائع: 6/2994.(6/716)
ثالثًا: الخيارات المتعلقة بمجلس العقد في البرق والتلكس والفاكس:
سبق أن ذكرنا بإيجاز بأن هناك ثلاثة خيارات تترتب على مجلس العقد هي: خيار الرجوع، وخيار القبول، وخيار المجلس.
فعند الجمهور – ما عدا المالكية: عندما يكون الإيجاب بصيغة الماضي – يجوز للموجب أن يرجع من إيجابه في غير الخلع والعتق (1) قَبْل قبول المكتوب إليه، فإذا قَبِل فقد تم العقد ولزم العقد عند الحنفية والمالكية الذين لا يقولون بخيار المجلس، وأما عند الشافعية والحنابلة فيبقى لكل واحد منهما حق خيار المجلس، وأما خيار القبول فعلى ضوء ما ذهب إليه الجمهور – أي ما عدا الشافعية – فإن المكتوب إليه له الحق في القبول ما داما في المجلس إلا إذا صدر من أحدهما ما يدل على الإعراض عن العقد، وأما الشافعية فاشترطوا الفورية في القبول، لكنهم أعطوا حق خيار المجلس بعد القبول للطرفين.
يقول الكاساني: (ولو كتب شطر العقد، ثم رجع صح رجوعه، لأن الكتاب لا يكون فوق الخطاب، ولو خاطب ثم رجع قَبْل قبول الآخر صح رجوعه فههنا، أولى، وكذا لو أرسل رسولًا ثم رجع، لأن الخطاب بالرسالة لا يكون فوق المشافهة، وذا محتمل للرجوع فههنا أولى) (2) . وجاء في الفتاوى الهندية: (وللموجب أيًّا كان أن يرجع قبل قبول الآخر) (3) ، ولا يشترط وصول رجوعه إلى علم القابل، قبل قبوله، فقد نقل ذلك صاحب الفتاوى الهندية عن علماء المذهب فقال: (ويصح رجوع الكاتب والمرسل عن الإيجاب الذي كتبه، وأرسله قبل بلوغ الآخر وقبوله سواء علم الآخر أو لم يعلم، حتى لو قبل الآخر بعد ذلك، لا يتم البيع، كذا في فتح القدير) ، وقال أيضًا: (وبعدما كتب شطر العقد، أو أرسل رسولًا إذا رجع عن ذلك صح رجوعه سواء علم الرسول أو لم يعلم، كذا في العيني شرح الهداية) (4) .
وأما عند الشافعية فإن القبول لا بد أن يكون فور وصول البرقية أو التلكس أو الفاكس، يقول النووي: (قال أصحابنا: وإن قلنا: يصح – أي البيع ونحوه بالمكاتبة – فشرطه أن يقبل المكتوب إليه بمجرد اطلاعه على الكتاب، هذا هو الأصح وفيه وجه ضعيف: أنه لا يشترط القبول، بل يكفي التواصل اللائق بين الكتابين) ، ثم قال: (وإذا صححنا البيع بالمكاتبة جاز القبول بالكتب وباللفظ، ذكره إمام الحرمين وغيره ... ) (5) .
__________
(1) المصادر السابقة: وراجع: ابن عابدين: 4/11، وقد جاء فيه: (فله – أي للموجب – الرجوع، لأنه عقد معارضة بخلاف الخلع والعتق على مال حيث يتوقف اتفاقًا، فلا رجوع، لأنه يمين نهاية، أي يمين من جانب الزوج والمولى.
(2) بدائع الصنائع: 6/2994.
(3) الفتاوى الهندية: 3/8.
(4) الفتاوى الهندية: 3/9، ويراجع فتح القدير: 5/74.
(5) المجموع: 9/167.(6/717)
وأما المالكية فقد ذهبوا إلى أن الإيجاب ملزم – بشروطه كما سبق – وحينئذٍ إذا كتب البرقية أو الفاكس، أو التلكس فقد أصبح ملزمًا به فلا يجوز له الرجوع ما دام الموجه إليه قَبِلَه في مجلس الوصول.
وقد رجحنا قول الجمهور القائلين بعدم فورية القبول، فعلى ضوء ذلك يحق للموجه إليه البرقية أو التلكس، أو الفاكس أن يقبل العرض الموجه إليه ما دام في مجلس وصول الإيجاب ما دام لم يعرض عنه، أما إذا أعرض عنه، أو قام من مجلسه دون قبوله، فقد سقط حقه، وبذلك يجمع بين مصلحة التروّي والتفكير، ووضع ضوابط من خلال التقيد بالمجلس.
ثم إذا قبل الموجه إليه في المجلس فقد تم العقد ولزم عند الحنفية والمالكية ولم يبق فيه حق خيار المجلس، ولكنه لا يصبح لازمًا عند الشافعية والحنابلة ومن معهم إلا بعد أن يفارق الموجه إليه مجلس الوصول أو يعرض عنه تمامًا (1) .
خصوصية للنكاح، فهل تعمم؟
ذكر الفقهاء الذين أجازوا عقد النكاح عن طريق الكتابة أنه يجوز للمرسل إليه إذا وصله الكتاب أن يخرج من مجلسه ليذهب إلى مجلس آخر يجد فيه الشهود على قبوله، وهذه المفارقة لا يعتد بها نظرًا إلى أن عقد النكاح يشترط فيه الإشهاد عند الجماهير، أو الإعلان عند بعض، فقد قال ابن عابدين: (وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في مبسوطه: الكتاب والخطاب سواء إلا في فصل واحد، وهو أنه لو كان حاضرًا مخاطبها بالنكاح فلم تجب في مجلس الخطاب، ثم أجابت في مجلس آخر فإن النكاح لا يصح، وفي الكتاب إذا بلغها، وقرأت الكتاب ولم تزوج نفسها منه في المجلس الذي قرأت الكتاب فيه، ثم زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود، وقد سمعوا كلامها وما في الكتاب يصح النكاح، لأن الغائب إنما صار خاطبًا لها بالكتاب والكتاب باقٍ لها في المجلس الثاني، فصار بقاء الكتاب في مجلسه، وقد سمع الشهود ما فيه في المجلس الثاني، بمنزلة ما لو تكرر الخطاب من الحاضر في مجلس آخر، فأما إذا كان حاضرًا فإنما صار خاطبًا لها بالكلام، وما وجد من الكلام لا يبقى إلى المجلس الثاني، وإنما سمع الشهود في المجلس الثاني أحد شطري العقد) ، وعلق عليه ابن عابدين فقال: (وحاصله أن قوله: تزوجتُكِ بكذا إذا لم يوجد قبول يكون مجرد خطبة منه لها، فإذا قبلت في مجلس آخر لا يصح، بخلاف ما لو كتب ذلك إليها، لأنها لما قرأت الكتاب ثانيًا، وفيه قوله: تزوجتُكِ بكذا، وقبلت عند الشهود صح العقد، كما لو خاطبها به ثانيًا وظاهره أن البيع كذلك، وهو خلاف ظاهر الهداية فتأمل) (2) .
فقد فهم العلامة ابن عابدين من تعليل شيخ الإسلام خواهر زاده أن ظاهره يدل على أن البيع مثل النكاح، في أن المكتوب إليه يكون له الحق في أن لا يقبل في مجلس الوصول وإنما في مجلس آخر ... غير أن ابن عابدين أوضح بأن هذا مخالف لظاهر الهداية.
__________
(1) المصادر الفقهية السابقة، ويراجع للتفصيل: رسالتنا مبدأ الرضا في العقود: 2/1093.
(2) حاشية ابن عابدين: 4/10-11.(6/718)
تعميم:
وإذا كان ابن عابدين فهم من تعليل خواهر زاده التعميم لكنه لم يرتضه وبين أنه مخالف لظاهر الهداية، فإن الأستاذ الجليل الشيخ علي الخفيف (رحمه الله) ذهب إلى تعميم هذا الحكم لجميع العقود حيث قال: (وفي رأيي أن عقد البيع وغيره من عقود المال أولى بهذا الحكم من عقد النكاح، إذ يُتساهل في عقد البيع ونحوه بما لا يُتساهل به في عقد النكاح، وعلى ذلك يجوز لمن أرسل إليه الإيجاب بالكتاب إذا قرأه فلم يقبله في أول مجلس أن يقرأه في مجلس آخر، ثم يقبل، ويكون مجلس العقد مجلس كل قراءة) (1) .
بل ذهب إلى أكثر من ذلك حيث ذهب إلى أن المرسل إليه إذا وصل إليه الكتاب فقرأه، أو قرأ غيره عليه، لكنه أعرض عنه، أو فارق هذا المجلس، ثم عاد إلى الكتاب مرة أخرى فقرأه أو قرأ عليه آخر في مجلس آخر فقبله، فقد تم العقد، ثم استشهد برأي بعض العلماء فقال: (ومن العلماء من اعتبر أن الإيجاب قائم بقيام الكتاب، فإذا قبل المرسل إليه في أي وقت نشأ العقد لقيام الإيجاب) (2) .
ويمكن أن يرد على هذا التوجه نحو التعميم بما يأتي:
أولًا: أن لازم المذهب ليس بمذهب، ولا سيما أن كبار علماء الحنفية صرحوا بخلاف ذلك، وقالوا: إنه ليس للموجه إليه – الخطاب، أو البرقية، أو التلكس، أو الفاكس- الحق في القبول إلا في مجلس الوصول أو الاطلاع عليه، وبعد ذلك إذا قام من مجلسه فقد سقط حقه، إلا في النكاح لأجل الشهود فقد قال المرغيناني وغيره: (الكتاب كالخطاب حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتابة) . وقالوا: (وإذا حصل الإيجاب والقبول لزم القبول) (3) .
ثانيًا: إن قياس البيع على النكاح قياس مع الفارق، فالنكاح يحتاج في انعقاده وصحته إلى الشهود عند الحنفية – والجمهور – ولذلك إذا قام الموجه إليه من مجلسه إلى مجلس آخر ليقرأ المكتوب بحضور الشهود لم يُلْغِ حقه، وذلك لأن قبوله بدون الشهود لا يعتد به، فكأن الخطاب لم يصل إليه، فيعتبر حينئذٍ المجلس الثاني الذي حضره الشهود هو مجلس الوصول المعتد به شرعًا، ومن المقرر فقهًا أن المعدوم شرعًا كالمعدوم حقيقة.
وأما البيع فهو لا يحتاج إلى الشهود لا في انعقاده، ولا في صحته. فحينئذٍ يعتبر مجلس الوصول والاطلاع عليه هو مجلس العقد الحقيقي، فإذا قام وأعرض عن العقد، فقد انتهى الإيجاب فكيف يقبل بعد؟؟.
__________
(1) أحكام المعاملات الشرعية، ص209-210، مع الهامش.
(2) مختصر أحكام المعاملات: ص78-79.
(3) الهداية مع فتح القدير، وشرح العناية: 5/74، وابن عابدين: 4/11، والفتاوى الهندية 4/8، والفتاوى البزازية: 4/366.(6/719)
يقول الأستاذ الجليل الشيخ أبو زهرة – رحمه الله -: (إن البيع لا يقاس على النكاح، لأن النكاح يحتاج إلى شهود، ولا يلزم أن يكونوا حاضرين وقت وصول الكتاب، فيصح أن ينتظر إلى مجلس الشهود، بخلاف البيع، فإنه لا يحتاج إلى شهود) (1) .
ثالثًا: إن ذلك يؤدي على أن يعطى للرسول، والمكتوب من قوة الأثر، ما ليس لمرسلهما نفسه، يقول الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى: (ونحن نرى أن هذا لا يتفق مع المنطق، وفيه إعطاء للرسول والكتاب من قوة الأثر، ما ليس لمرسلهما نفسه، ثم الكتاب ليس له من الأثر إلا أنه أبلغ الطرف الآخر إيجاب صاحبه، فتعتبر قراءته إيجابًا من مرسله، فلا بد إذن من قبول الطرف الآخر، أو رفضه في المجلس ... ) (2) .
رابعًا: إن ذلك يؤدي إلى إطالة مجلس العقد إطالة تضر بالعقد، فإذا أعطينا الحق للموجه إليه أن يقبل في أي مجلس يريده، دون التقيد بمجلس وصول الخطاب، فهذا بلا شك إضرار بمصالح الموجب، والفقهاء نظروا إلى هذه المسألة نظرة موضوعية، ولا حظوا أن الأصل في العقود الفورية بأن لا يتأخر القبول عن الإيجاب، لكن في اعتبار الفورية ضررًا على القابل إذ أنه بحاجة التروي والتفكير، كما أن في التأخير الكثير ضررًا على الموجب، وذلك ضبط الأمر بالمجلس إذ أنه جامع المتفرقات، وفي ذلك تيسير على الطرفين، يقول الكاساني: (القياس أن لا يتأخر أحد الشطرين على الآخر في المجلس إلا أن اعتبار ذلك يؤدي إلى انسداد باب البيع فتوقف أحد الشطرين على الآخر حكمًا، وجعل المجلس جامعًا للشطرين مع تفرقهما للضرورة) (3) .
بالإضافة إلى أن نصوص الفقهاء من غير الأحناف أيضًا واضحة في اعتبار المجلس سواء كان بين الحاضرين، وهو مجلس الإيجاب والقبول، أو بين الغائبين وهو مجلس وصول الرسول، أو المكتوب إليه كما سبق.
__________
(1) الأحوال الشخصية، ط. دار الفكر، فقرة (29) .
(2) الأموال ونظرية العقد، فقرة (387) .
(3) بدائع الصنائع: 6/299، وفتح القدير: 5/74.(6/720)
فعلى ضوء ذلك فلا نرى قياس البيع ونحوه على النكاح، ولا ترجيح التعميم الذي ذهب إليه أستاذنا الجليل، ولا نرى اعتبارًا ولا وجاهة للخروج من القاعدة العامة التي استقر عليها الفقه الإسلامي، من اعتبار المجلس وانحصاره فيما بين الحاضرين بمجلس الإيجاب والقبول، وفيما بين الغائبين بوصول الخطاب والرسول والاطلاع على الإيجاب، وإذا كان الاستثناء الوحيد بخصوص النكاح له مبرره من حيث ضرورة وجود الشهود فلا نرى مبررًا في العقود التي لا يشترط فيها الإشهاد حماية للعقود من الاضطراب والإضرار، وقد يقول قائل: إن القول بهذا التعميم له مبرره أيضًا حيث يستجيب للضرورات العملية التي تقتضي هذا الخروج في حال التعاقد بين الغائبين حيث إن الشأن في التعاقد بين الغائبين عادة أن يكون غير مسبوق بمجلس للمقدمات والمساومات التي يتمكن من خلالها الموجه إليه أن يقلب الإيجاب على وجوهه المختلفة قبل صيرورته باتًّا في حقه، ذلك، ومن هنا فيكون من الوجاهة حماية القابل بالتوسعة عليه في مجلسه (1) .
للجواب عن ذلك يقال: ليس هناك في الواقع ضرورة إذ أن المجلس يسعه مهما طال حيث بإمكانه أن يجلس ساعات في مكانه ينظر إلى العقد ويقلب فيه، ويسأل حول إيجابياته وسلبياته، فما دام هو مشغولًا به لم ينقطع المجلس. بالإضافة إلى أن له حق خيار المجلس حتى بعد القبول ما دام في المجلس كما سبق. ومن هنا فخيارات المجلس توسع عليه الباب، ولم تترك له العسر والضيق.
هذا ومن جانب آخر فإن بإمكانه أن يشترط خيار الشرط لمدة معينة سواء كانت بلفظ صريح، أو غير صريح، فمثلًا لو وصل إليه خطاب، أو برقية أو تلكس أو فاكس فوجد أن شروط العقد وتفاصيله طويلة جدًّا تحتاج إلى دراسة فله الحق في قبوله واشتراط خيار الشرط نفسه لمدة معينة، كما أن قوله: غدًا أكمل الدراسة أو نحو ذلك في حكم خيار الشرط، إذ العبرة في مثل هذه الأمور بالمقاصد والمعاني وليست بالألفاظ والمباني والله أعلم بالصواب.
__________
(1) د. وحيد الدين سوار: المرجع السابق هامش: ص142.(6/721)
خُلاصة البحث ونتائجه
انتهينا في هذا البحث إلى أن هذه الآلات الحديثة لإجراء العقود تعود في الواقع إلى قسمين: قسم لنقل الصوت واللفظ، وقسم لنقل المكتوب، وذكرنا ضمن القسم الأول: التليفون، والراديو، والتلفزيون، واللاسلكي. كما ذكرنا ضمن القسم الثاني: البرقية، والتلكس، والفاكس.
وقد وصلنا من خلاله إلى أن التليفون ينقل كلام المتعاقدين بدقة، ولا يختلف العقد به إلا من حيث البعد المكاني، وعدم رؤية أحدهما الآخر.
أما عدم الرؤية بين العاقدين فلا يترتب عليه حكم في باب العقود، سوى احتمال التزوير، وتقليد الصوت، ولذلك يقبل كلام من ادَّعى ذلك، ولكنه يقع عليه عبء الإثبات، وذلك لأن القاعدة الأساسية في العقود، هي: صدور ما يدل على التراضي من الطرفين بصورة واضحة مفهومة، وأن المرجع في ذلك هو العرف كما تدل على ذلك نصوص الفقهاء.
وأما البعد المكاني بين المتعاقدين – بالتليفون – فتترتب عليه المسائل الخاصة بمجلس التعاقد.
وقد ناقش البحث هذا الموضوع باستفاضة، وأثار ما ذكره الفقهاء واختلفوا فيه من خيار الرجوع، وخيار القبول، وخيار المجلس، وقد رجحنا بهذا الخصوص رأي الجمهور من حيث إن المتحدث بالتليفون الموجب له الحق في الرجوع عن إيجاب قبل قبول الآخر، وأن الموجه إليه لا يشترط على أن يتسارع إلى القبول فور سماعه، بل له الحق ما داما يتحدثان حول موضوع العقد، ولم يُعرضا عنه أو لم يقطعا المحادثة، فإذا قبل فقد تم العقد.
وقد رجحنا قول القائلين بخيار المجلس، لكننا قدرنا المجلس بفترة المحادثة وعدم انقطاع الخط مهما طالت، فإذا قبل الآخر، فقد انعقد العقد، لكنه لكل واحد منهما حق الخيار ما داما لا يزالان يتحدثان، ولم يقطعا المحادثة، فإذا أنهيا المحادثة وسدّا التليفون فقد انتهى المجلس ولزم العقد، لأنهما في الواقع متفرقان بأبدانهما، ولا وصال بينهما سوى المحادثة، فإذا انتهت انتهى المجلس حقيقةً وحكمًا، وقد وجدنا لذلك تأصيلًا فقهيًا ونصوصًا مساعدة.
وأما التعاقد باللاسلكي، فهو إذا كان مما ينقل الكلام الواضح، إلى الآخر فهو مثل التليفون في جميع الأحكام التي ذكرناها، وكذلك إذا كان يُنقل الكلام عن طريق الشفرات الواضحة المفهومة المسموعة للطرفين، حيث يتم العقد إذا فَهِما الإيجاب والقبول بوضوح.(6/722)
أما أنه لو نقل الشفرات على شريط مكتوب فرضًا فإنه حينئذٍ يكون حكمه حكم البرقية ما دامت واضحة مفهومة.
وكذلك يمكن إجراء العقود من خلال الراديو، أو التلفزيون، ولا سيما في الإيجابات العامة الموجهة للجمهور كالجعالة (والوعد بالجائزة) وقد عثرنا على نصوص فقهية تؤصل هذه المسألة.
ثم أنهينا القسم الأول بثلاثة ضوابط:
أولاها: إن العقود التي تتم من خلال التليفون، أو الراديو، أو التلفزيون، أو اللاسلكي يكون احتمال التزوير وتقليد الصوت، والدبلجة التلفزيونية واردًا، ولذلك نسمع دعوى من ادعي ذلك، ولكنه يقع عليه عبء الإثبات لأنه المدعي (والبينة على المدعي، واليمين على من أنكر) .
ثانيتها: إن العقود بالتليفون ونحوه تصح فيما لا يشترط فيه القبض الفوري بدون إشكال، أما ما يشترط فيه القبض الفوري فإنما تصح بالتليفون إذا تم القبض بعد انتهاء المحادثة مباشرة كأن يكون لكل واحد منهما عند الآخر وكيل بالتسليم مثلًا – أو نحو ذلك – وإلا فلا يتم عن طريق التليفون ونحوه.
ثالثتها: إن مجلس العقد بالتليفون ونحوه، ينتهي بانتهاء المحادثة إلا إذا كان العقد يتم من خلال المزايدة، حيث ذهب المالكية إلى أن الشخص الذي يعرض رضاه بثمن معين في المزايدة فليس له حق الرجوع حتى ولو طال.
وهذا الرأي في نظرنا يحقق المصلحة والتوازن والاستقرار.
وأما إجراء العقود بالوسائل الحديثة لنقل المكتوب مباشرة مثل البرقية والتلكس، والفاكس، فهو كحكم التعاقد بالكتابة سواء بسواء، ولذلك ذكرنا الاتجاهات الثلاثة حول التعاقد بالكتابة، ورجحنا اتِّجاه الموسعين الذين جعلوا الكتاب كالخطاب.
وقد تطرقنا إلى الصعوبات الفني التي تعترض طريق التعاقد بالبرقية، أو التلكس، أو الفاكس، من حيث تصوير مجلس العقد، ووقت تمامه، وما يترتب على المجلس من خيارات.
فبخصوص مجلس العقد قرر الفقهاء أن مجلس العقد بالنسبة للغائبين في حالة الكتابة، أو الرسول هو مجلس وصول الكتاب، وحضور الرسول، ولذلك اعتبرنا أن مجلس العقد بالنسبة للتعاقد بالبرقية، أو التلكس، أو الفاكس هو مجلس وصول البرقية أو التلكس، أو الفاكس.(6/723)
وأما وقت تمام العقد فقد آثرنا أن نثير الاتجاهات الفقهية الوضعية وهي نظرية إعلان القبول، ونظرية تصدير القبول، ونظرية تسليم القبول، ونظرية العلم بالقبول.
وبعد استعراض نصوص لبعض الفقهاء في المذاهب المختلفة وصلنا إلى أن العقد يتم بمجرد القبول في مجلس الوصول، ويلزم كذلك به عند الحنفية والمالكية في حين لا يصبح لازمًا ما دام في مجلس الوصول حيث لكل واحد منهما حق خيار المجلس، وهذا الأخير هو الذي رجحناه.
وبهذا الصدد قمنا بالرد على بعض الباحثين الذين قاسوا التعاقد بين الغائبين على التعاقد بين الحاضرين في وجوب السماع، وبالتالي قال بأن مقتضى المذهب الحنفي هو القول بنظرية العلم بالقبول.
وأما الخيارات المتعلقة بمجلس العقد في البرقية والتلكس والفاكس فهي خيار الرجوع حيث للموجب الحق في التراجع قبل قبول الآخر، خلافًا للمالكية فيما إذا كان الإيجاب بصيغة الماضي حيث يصبح ملزمًا به، وأما خيار القبول فهو حق ثابت للموجه إليه ما دام في مجلس العقد حيث لا يلزمه القبول فورًا خلافًا للشافعية. وقد رجحنا قول الجمهور في ذلك فعلى ضوء ذلك له الحق في التروي والتفكير ثم القبول ما دام لم يفارق مجلس وصول البرقية، أو التلكس أو الفاكس.
وأما خيار المجلس فقد رجحنا قول الجمهور واعتبرنا أن مجلس العقد هو وقت وصول البرقية، أو التلكس، أو الفاكس، وعلى ضوء ذلك يكون لكل واحد منهما الحق قبل فراق الموجه إليه مكان الوصول.
وقد أثَرْنا في هذا الصدد خصوصية للنكاح وهي أن من وُجِّه إليه الإيجاب في النكاح له الحق بعد وصول الكتاب، أو البرقية، أو التلكس أو الفاكس أن لا يقبل في مجلسه، بل يذهب إلى مجلس آخر، يجد فيه الشهود فيقرأ الكتاب بحضورهم.
وقد حاول بعض الباحثين أن يعمم هذا الأمر ليشمل عقود البيع ونحوه غير أنه ثبت من خلال الأدلة أن محاولته جانبت الدقة وعدم الاتفاق مع القواعد المستقرة لدى الفقهاء بهذا الخصوص.
هذا ... والله أسأل أن يجعل أعمالي كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يكتب لنا التوفيق والسداد، ويعصمنا من الخطأ والزلل في القول والعمل.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي.(6/724)
حكم إجراء العقود بوسَائل الاتصَال الحَديثة
في الفقه الإسلامي (موازَنًا بالفقه الوضعي)
إعداد
سعادة الدكتور إبراهيم كافي دونمز
كليّة الإلهيّات – جامعة مرمرة - استنبول
بسم الله الرحمن الرحيم
خطة البحث:
التمهيد وتحديد الموضوع.
1- حكم التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة في الفقه الإسلامي (من ناحية الجواز أو عدمه) .
2- مسائل التعاقد بين الحاضرين التي لها صلة بموضوع البحث وأحكامها.
2-1- الإيجاب.
2-1-1- ماهية الإيجاب، التفرقة بين مفهومي (الإيجاب) و (الدعوة إلى الإيجاب) .
2-1-2- اعتبار الإيجاب ملزمًا أو غير ملزم.
2-2- القبول.
2-3- ارتباط الإيجاب بالقبول (مجلس العقد) ، وتحديد وقت انعقاد العقد.
2-3-1- ارتباط الإيجاب بالقبول (مجلس العقد) .
2-3-2- تحديد وقت انعقاد العقد.
3- مسائل التعاقد بين الغائبين التي لها صلة بموضوع البحث وأحكامها.
3-1- الإيجاب.
3-1-1- ماهية الإيجاب.
3-1-2- اعتبار الإيجاب ملزمًا أو غير ملزم.
3-2- القبول.
3-3- ارتباط الإيجاب بالقبول (مجلس العقد) ، وتحديد وقت ومكان انعقاد العقد.
3-3-1- تحديد وقت القبول بوقت وصول الإيجاب أو عدم تحديده به.
(أ) الكتابة.
(ب) الرسالة (السفارة) .
3-3-2- اشتراط أو عدم اشتراط علم الموجب برفض الإيجاب لاعتبار الإيجاب ساقطًا.
3-3-3- تحديد وقت انعقاد العقد.
(أ) النظريات التي تحدِّد وقت انعقاد العقد.
(ب) النتائج المترتبة على تحديد وقت انعقاد العقد.
(ج) موقف التشريع الوضعي من هذه النظريات.
(د) موقف الفقه الإسلامي من تحديد وقت انعقاد العقد.
(أأ) الكتب الفقهية القديمة.
(ب ب) آراء الباحثين المعاصرين.
(ج ج) نقد هذه الآراء وتقييمها.
(د د) رأينا في هذه المسألة من خلال نقد النظريات السابقة.
3-3-4- تحديد مكان انعقاد العقد.
4- تصنيف وسائل الاتصال الحديثة وتعيين الأحكام التي تترتب على كل نوع منها.(6/725)
الخاتمة وملخص البحث.
بسم الله الرحمن الرحيم
التمهيد وتحديد الموضوع
إن مجرد إلقاء نظرة عامة إلى تاريخ القانون في العالم يمكِّننا من ملاحظة أن ظاهرة تناول ودراسة (انعقاد العقد) بين طرفين يكون نتيجة لتلاقي إرادتين مختلفتين ويعبَّر عنهما بتعبيرين متتالين وكذلك وضع المبادئ السائدة في هذا الموضوع، أمر حديث العهد نسبيًا بالنسبة للفقه الغربي (1) .
ومن الغريب أن هذه المسائل لم تكن معروفة في القانون الروماني، ذلك القانون الذي ذاعت شهرته واحتل مكانًا مرموقًا في تاريخ القانون في العالم وخاصةً من زاوية تناوله لمسائل فقه الالتزامات وتطوير مفاهيمه (2) ويمكن القول بأن السبب الرئيسي لهذه الظاهرة في القانون الروماني يرجع إلى أن تطور نظرية العقد – باعتبار معظمها – كان يعول على نظام (عقد المشارطة الشفهي (Stipulatio) ، بمعنى أن النزعة الشكلية كانت تسود هذا القانون. أما نظرية العقود الرضائية فلم تكن قد تطورت ذاك التطور، مما لم يتح للرومان فرصة تصور هذه المسائل وإدراك حلها (3) ؛ (4) .
ولأول مرة في تاريخ الفقه الغربي يمكننا مصادقة تناول هذه المسائل بشكل صريح في القرنين السابع عشر والثامن عشر في كتب أصحاب نظرية القانون الطبيعي. وأول قانون قام بتنظيم هذه المسائل بشكل تفصيلي هو القانون العام لدولة بروسيا (1- 5: 78 –110) . وبعكس ذلك فإننا لا نصادف بحث هذه المسائل في القانون المدني الفرنسي مطلقًا.
__________
(1) SCHWARZ (Andres B.) ، Borclar Hukuku Dersleri، Istanbul، 1948، ترجمه إلى التركية: Bulent DAVRAN، vol. I، P. 207. أنظر أيضًا: (المؤلف نفسه) : Das einseitige Rechtsgeschaft in den envesten kodificationen des Zivilrechts، Archiv f Rechts-u wirtse haftsphilosophie 16 (1923) p. 557 ... etc.
(2) SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p.207-208
(3) SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p.208، Not.5 أنظر في stipulatio: محمصاني (صبحي) ، النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية، بيروت، 1948م، 2/25-26
(4) MONIER (R.) ، petit vocabulaire de Droit Romain، paris. 1942. P 271; RADO (Turkan) ، Roma Hukuku Dersleri/Borclar Hukuku، Istanbul، 1969، p.51، 67 ... etc.(6/726)
وفيما بعد، نلاحظ أن هذه المسائل أصبحت ذات أهمية عظيمة وأصبحت مجالًا للبحث والنقاش في علم الباندكت (Pandect) ، الألماني في أواخر القرن التاسع عشر بسبب صدور القانون التجاري الألماني، وبعد ذلك دخلت هذه المسائل إلى التشريعات الحديثة المتعلقة بمجال القانون المدني، منها على سبيل المثال قانون الالتزامات السويسري وقانون الالتزامات التركي الجديد المأخوذ منه.
أما في الفقه الإنجليزي فقد تم تطور نظرية انعقاد العقد بشكل واسع ومفصل. ويظهر أن نتائج هذا التطور في القانون الإنجليزي تم تدوينها وتجميعها عن طريق التشريع وذلك في قانون العقود الخاص بالهند في سنة 1872 (1) .
وعلى عكس ما يلاحظ في الفقه الغربي، فإن المصادر الأصلية للفقه الإسلامي قد رسخت مبادئ الالتزامات في مجال العقود – وخاصة مبدأ الرضا منها – من جهة، وقام الفقهاء المسلمون بدراسة مسائل دقيقة تتعلق بموضوع انعقاد العقد منذ عهود مبكرة جدًّا في تاريخ الفقه الإسلامي بالحاجة إلى الاهتمام بدراسته على مستوى اهتمامهم بدراسة مسائل التعاقد بين الحاضرين، لأنه لم يكن لديهم وسائل الاتصال الحديثة ولم تبرز الحاجة إلى تلك المسائل بالشكل الذي نشعر به في هذا الزمان إلا أنه لم يهملوا هذا الموضوع بكامله، بل تطرقوا إلى مسائله بخطوطها العريضة تحت عنوان (التعاقد بالرسالة والكتابة) وبينوا أحكام هذه المسائل.
وفي وقتنا الحاضر، يكاد يشعر العالم بأسره بالحاجة إلى وحدة التشريع في هذا الموضوع (أي أحكام العقد) الذي له حيويته وأهميته والذي له صلة وثيقة بالحياة التجارية خاصة. ولعل أبرز دليل على هذه الحاجة الماسة هو (اتفاق الأمم المتحدة فيما يخص بيع السلع الدولي) الذي تم قبوله بفيينا في تاريخ 11 أبريل 1980، وذلك بعد فعاليات مشتركة بين الدول استمرت في هذا المجال منذ سنوات عديدة. وسنشير إلى هذا الاتفاق في بحثنا باسم (اتفاق فيينا) .
ومن البديهي أن موضوع بحثنا ليس شاملًا لجميع مسائل نظرية العقد بل هو محدّد بمسائل التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة.
والجانب الهام بالدرجة الأولى من وجهة نظر موضوع بحثنا هو التعاقد بين الغائبين. ولكن الأمرين التاليين يقتضيان دراسة كل من الشكلين للتعاقد أي ما بين الحاضرين وما بين الغائبين على حدة وذلك بقدر ما يتصل ببحثنا، الأمر الأول: ضرورة تطبيق أحكام التعاقد بين الحاضرين باعتبار معظمها في مجال التعاقد الذي يتم بواسطة بعض وسائل الاتصال الحديثة أيضًا. والأمر الثاني: أن أحكام التعاقد بين الحاضرين – دراسة وتحليلًا وتقييمًا – تحمل في طياتها أهمية بالغة في إلقاء الضوء على أحكام التعاقد بين الغائبين مما يتيح للباحث فرصة للتوصل إلى نتائج صائبة في هذا المضمار.
ومع هذا، فإن مسألة تحديد وقت انعقاد العقد في التعاقد بين الغائبين هي التي تكون العمود الفقري لموضوع بحثنا، ولذا فسيكون الحيّز الأوفر مخصصًا لها في هذا البحث.
وسنكتفي في بحثنا هذا بذكر بعض المعلومات الأساسية التي تسلط الأضواء على حل المسائل المتعلقة بموضوع بحثنا، متجنبين – بقدر الإمكان – تكرار المعلومات والتطرق إلى موضوعات جانبية. وبهذا الاعتبار، لن تحتل دراسة الموضوعات التالية مكانًا خاصًا في بحثنا هذا.
1- مقارنة مفهومي (العقد) و (التصرف) .
2- الخلاف الواقع بين الأحناف وبين غيرهم في تعريف مفهوم (الركن) وكذلك خلافهم في تعداد أركان العقد. (ويكفي هنا أن نذكر أن تراضي الطرفين (2) . هو أساس العقد وبعبارة أخرى أن حل أموال الناس منوط بالرضا باتفاق الفقهاء ولا يمكن القول بأن التراضي قد تحقق إلا بتوفر الأمور ثلاثة. (1) الإيجاب (2) القبول (3) ارتباط الإيجاب بالقبول.
__________
(1) انظر في هذا الموضوع مع معلومات حول بعض القوانين الأخرى: SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p.208.
(2) بدل استعمال تعبيري (عاقدين) نفضل استعمال تعبيري (طرف) و (طرفين) . لأن الطرف الواحد قد يكون شخصًا واحدًا أو أكثر. انظر في نفس المعنى: موسى (محمد يوسف) ، الأموال ونظرية العقد في الفقه الإسلامي 1987م ط. دار الفكر العربي(6/727)
3- الخلاف الواقع بين الأحناف وبين غيرهم في تعريف كل من مفهومي (الإيجاب) و (القبول) .
(سنعول في هذه المسألة على وجهة نظر المذهب الحنفي – وهو السائد في مصطلح يومنا – وعلى هذا فإن التعبير الدال على الرضا بإنشاء العقد الواقع أولًا يسمى إيجابًا، وأن التعبير الدال على الرضا بإنشاء العقد الواقع ثانيًا يسمى قبولًا) .
4- وسائل أو طرق التعبير عن الإرادة مثل اللفظ والإشارة، والكتابة، والتعاطي، والسكوت ... إلخ.
(لا شك أن موضوع بحثنا يرتبط بنتائج هذه المسائل ارتباطًا وثيقًا، ولكن دراستها على حدة ومناقشة الآراء فيها ليس مكانها هذا البحث) .
5- مسائل الإثبات (من حيث المبدأ) .
(بما أن تناولنا للموضوع سيكون من ناحية انعقاد العقد، فلن نتعرض لمسائل الإثبات إلا بقدر ما لها من صلة بأساس الموضوع) .
6- أقسام العقود والأحكام التي يمكن تطبيقها على كل من هذه الأقسام من ناحية موضوع بحثنا.
(مع أن البحث يتناول إجراء العقود بصفة عامة، فإنه لا ينبغي تصور أن جميع الأحكام الواردة والتي يناقش فيها هذا البحث شاملة لجميع العقود. والحقيقة أن الوصف السائد في العقود التي تثير بعض المسائل الهامة من ناحية التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة هو كون العقد من (المعاوضات المالية) وكونه أيضًا (لازمًا من الجانبين) ولهذا يجب الانتباه إلى أن البحث – باعتبار كله – ينطلق من منطلق هذا النوع للعقود) .
7- (خيار المجلس) .
(من المعلوم أن موضوع خيار المجلس يتعلق بما بعد انعقاد العقد، وإمكانية تطبيق هذا الحكم في التعاقد بين الغائبين محدودة جدًّا – كما سنشير إلى هذه النقطة في محلها – وبغض النظر عن المناقشات التي تدور حول قبول خيار المجلس أو عدم قبوله، فإن ما تجدر الإشارة إليه هو أن الطرفين إذا قاما بعقد البيع وأنواعه بشرط نفي خيار المجلس يصح البيع والشرط حتى عند من يقول بخيار المجلس (1) .
*
**
__________
(1) هذا مذهب الشافعي ومذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه (وهو الأصح في نظر بعض الفقهاء الحنابلة) ، انظر: ابن قدامة (موفق الدين) ، المغني، بيروت 1403هـ/1983م بالأوفست، 4/10-11؛ (أبو زكريا محي الدين بن شرف) ، المجموع شرح المهذب، ط. دار الفكر بالأوفست، 9/177.(6/728)
-1-
حكم التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة في الفقه الإسلامي
(من ناحية الجواز أو عدمه)
في حالة التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة، فإن الخروج عن الشكل العادي للتعاقد (أي التعاقد بين الحاضرين وبطريقة التعبير اللفظي) يكون بسبب أحد هذين الأمرين أو كليهما: (1) وجود مسافة بعيدة بين الطرفين، (2) تكوين العقد بطريقة أخرى عدا طريق المشافهة. والسؤال الآن هو: هل يوجب هذان الأمران نظرة سلبية إلى التعاقد بين الغائبين وبالتالي إلى التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة حسب قواعد الفقه الإسلامي أم لا؟
وبإلقاء نظرة إلى آيات القرآن الكريم، نجد أن هذا المصدر الأول للفقه الإسلامي فقد جعل (الرسالة) (السفارة) وظيفة هامة حتى بخصوص تبليغ المواضيع ذات الأهمية البالغة، وجاء بمبدأ إمكانية توظيف شخص معين بوظيفة تتحدد حدودها بنطاق تبليغ الخبر إلى المرسل إليه دون أن يكتسب حقوقًا وأن يتحمل التزامات باسم المرسل إزاء المرسل إليه وذلك على خلاف ما يكون في (الوكالة) أو (النيابة) ، وكذلك جاء بمبدأ أن لا يكون الرسول مسئولًا عن نتائج قيامه بأداء هذه الوظيفة كما بين الكتاب الكريم هذا المبدأ في آية: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) .
وقد قرَّر القرآن الكريم أيضًا تبليغ المواضيع ذات الأهمية البالغة بطريقة الكتابة وبناء الأحكام على هذا التبليغ كما جاء في قصة سليمان عليه السلام: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} (2) .
أما موقف السنة من (الرسالة) و (الكتابة) فإنه من المعروف – من السيرة النبوية – أن النبي (صلى الله عليه وسلم) استخدم هاتين الطريقتين في مواضيع هامة وبني أحكامًا على التبليغ بهما (3) . كما أننا نلاحظ أن بعض الفقهاء يستندون إلى هذا الدليل بخصوص تجويز التعاقد بين الغائبين، فمثلًا يقول سعدي جلبي: ( ... تمّ البيع بينهما لأن الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبلغ تارة بالكتاب وتارة بالخطاب وكان ذلك سواء في كونه مبلغًا) (4) . وكذلك يقول الكاساني بصدد ترتب الأحكام على التعبير عن الإرادة بطريقة الكتابة والرسالة: (لأن الكتابة المرسومة جارية مجرى الخطاب. ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبلغ بالخطاب مرة، وبالكتاب أخرى وبالرسول ثالثًا وكان التبليغ بالكتاب والرسو كالتبليغ بالخطاب فدلَّ أن الكتابة المرسومة بمنزلة الخطاب ... ) (5) .
__________
(1) العنكبوت (29) : الآية 18؛ ومن البديهي أنه يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن الأنبياء لهم وظائف أخرى إلى جانب وظيفة السفارة / الرسالة.
(2) النمل (27) : الآيتان 28-29. بما أننا استفدنا من هذا الدليل كفكرة عامة، لا نشعر بالحاجة إلى تناول مسألة (حجية شرائع من قبلنا) .
(3) والجدير بالذكر هنا هو أن كتابة الدكتور محمد حميد الله المسمى بـ (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة) بيروت 1405هـ/1985م. (الطبعة الخامسة) يشكل مرجعًا هامًا في هذا الموضوع.
(4) سعدي جلبي، حاشية على الهداية، وعلى شرحه العناية، بيروت، ط. دار إحياء التراث العربي بالأوفست، 5/461.
(5) الكاساني (علاء الدين) ، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، بيروت، 1394هـ/1974م بالأوفست، 3/109.(6/729)
أما الفقهاء المسلمون الذين بذلوا جهودهم من أجل التوصل إلى نتائج فقهية في ضوء أحكام القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ومبادئهما، فلم ينطلقوا من منطلق (الشكلية) في العقود بل من منطلق (الرضائية) فيها، وقالوا بأن العقد ينعقد بأي وسيلة من وسائل التعبير عن الإرادة إذا أمكن التأكد من أن هذه الوسيلة تدل على الرضا (إلا أن بعض الفقهاء والمذاهب وضعوا أحكامًا مقيّدة أو سلبية بخصوص بعض الوسائل مثل الإشارة والكتابة والتعاطي وذلك لعدم اطمئنانهم بها في التثبت من دلالتهم على الإرادة ولاهتمامهم الفائق بهذا التثبت) . وكذلك قال جمهورهم بأن التراضي يمكن أن يتحقق ولو أظهر كل من طرفي العقد رضاه وهما متباعدان وأجازوا التعاقد بين الغائبين (1) .
والخلاصة أن الأحكام التي توصل إليها الفقهاء المسلمون في مبحث انعقاد العقد قد منحت إطارًا واسعًا وشاملًا للموضوع بحيث لا تمس الحاجة – من ناحية جواز إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة – حتى ولو من باب الاستفادة من قاعدة (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) (2) . وبعبارة أخرى فإن هذا الإطار الواسع لم يترك مجالًا لتبديل الاجتهادات السابقة نظرًا للحاجات الزمنية.
كما يدل على ذلك أن لجنة تعديل (المجلة) (مجلة الأحكام العدلية) التي تكونت في أيلول 1921، لم تتردد في تقرير إضافة المادة التالية إلى هذه المجلة: (يكون الإيجاب والقبول بالتلفون والتلغراف أيضًا) (3) .
ويلاحظ أن الفقهاء المسلمين المعاصرين أيضًا يتعرضون مباشرة للمسائل التي تنشأ عن التعاقد بين الغائبين دون أن يشعروا بالحاجة إلى الاهتمام بمسائل جواز أو عدم جواز مثل هذا التعاقد.
__________
(1) إن موقف الحنفية والحنابلة الإيجابي من التعاقد بين الغائبين واضح جدًّا، ينظر مثلًا: الكاساني، بدائع الصنائع، 5/138؛ المرغيناني (برهان الدين) ، الهداية شرح بداية المبتدي، بيروت، ط. دار إحياء التراث العربي بالأوفست، 5/461، البهوتي (منصور بن يونس) ، كشاف القناع عن متن الإقناع، بيروت 1402هـ /1982م، 3/148. ومع أن المؤلفين المالكيين يذكرون أن العقد ينعقد بالكتابة أيضًا فإنهم (حسب مشاهدتنا في عدد كبير من كتبهم) لا يتناولون التعاقد بين الغائبين بصفة خاصة ويذكرون جواز الكتابة أثناء تناولهم للتعاقد بين الحاضرين، ينظر مثلًا: الخرشي (عبد الله) ، شرح مختصر سيدي خليل (مع حاشية العدوي عليه) ، بيروت، ط. دار صادر بالأوفست، 5/55؛ الدسوقي (محمد عرفة) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير، ط. دار الفكر بالأوفست، 3/3، 4. أما الشافعية فإن هناك خلافًا بينهم في هذا الموضوع، وإن رأي الغزالي والرافعي في اتجاه أن التعاقد بين الغائبين يصح كما أن النووي يقول في هذا الرأي (هو الأصح) ، انظر مثلًا: النووي، المجموع، 9/167 – 168، 177.
(2) مجلة الأحكام العدلية، المادة: 39.
(3) جريدة عدلية، كانون أول 1325هـ. السنة: 1، العدد: 2، ص94(6/730)
إذن، فإن الجانب الأساسي لموضوعنا (أي التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة) الذي يهم الفقهاء المعاصرين يتمثل أولًا في القيام بتثبيت أوجه الشبه والخلاف بين أشكال التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة وبين الأشكال المذكورة في الكتب الفقهية، وثانيًا في تسليط الأضواء على هذه الأحكام آخذًا بعين الاعتبار الظروف المستجدة، وثالثًا في بعض الإضافات والتبديلات إذا اقتضى الأمر ذلك.
ويجدر بنا أن نشير هنا إلى مسألة إجراء بعض العقود بواسطة الأجهزة الأتوماتيكية الحديثة في وقتنا الحاضر، وبعبارة أصح إلى مسألة قيام هذه الأجهزة مقام أحد طرفي العقد (أو كليهما) لما لها من صلة وثيقة بموضوعنا مع أنها لا تعد في نطاق إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة مباشرة.
من المعلوم أن بعض العقود التي يكون (المعقود عليه) فيها بيع بعض الأشياء أو الأمتعة أو تقديم بعض الخدمات يتم عن طريق أجهزة أوتوماتيكية في يومنا الحاضر. وإذا تناولنا موضوع جواز أو عدم جواز انعقاد العقود بمثل هذه الطريقة في ضوء ما ورد في الكتب الفقهية من مبادئ وقواعد مثل مبدأ الرضا والتيسير ومراعاة العرف فإن النتيجة تكون في اتجاه الجواز. إلا أن الموضوع إذا تم تناوله في إطار أحكام المعاطاة التي هي أبرز المباحث في الكتب الفقهية لتسليط الأضواء على الموضوع، فإنه يحتمل أن يصير إلى نتيجة سلبية من منظار بعض الفقهاء وبخاصة الفقهاء الشافعية (1) .
أما دراسة مسألة التعاقد عن طريق بعض الأجهزة الأوتوماتيكية من ناحية ماهية (الإيجاب) و (القبول) فستأتي تحت العنوانين (2-1-1) و (3-1-1) من هذا البحث.
__________
(1) يقترح د. القره داغي كلمة (البذل) بدل (المعاطاة) أو (الفعل) . ينظر في مَنْ يُجَوِّزُ التعاقد بهذه الطريقة ومَنْ لا يُجَوَّزُه، وأدلة كل الفريقين، ومناقشتها: القره داغي، مبدأ الرضا في العقود/ دراسة مقارنة في الفقه الإسلامي والقانون المدني، بيروت، 1406هـ /1985م، 2/917-932؛ موسى (م. ي.) ، الأموال ونظرية العقد، ص370-373.(6/731)
-2-
مسائل التعاقد بين الحاضرين
التي لها صلة بموضوع البحث وأحكامها
2-1- الإيجاب:
2-1-1- ماهية الإيجاب، التفرقة بين مفهومي (الإيجاب) و (الدعوة إلى الإيجاب) :
بعد دراسة العبارات المختلفة للفقهاء المسلمين الواردة في الكتب الفقهية يمكن للباحثين أن يجيبوا على السؤال الآتي بإجابتين مختلفتين: هل الإيجاب (1) في التعاقد بين الحاضرين في الفقه الإسلامي (تعبير ملقي) (وهو الذي يتم بمجرد صدوره) أم (تعبير متلقي) (وهو الذي لا يتم بمجرد صدوره بل لا بدَّ من توجيهه إلى الطرف المقابل؟ (2) . ولكن هذه المسألة ليست لها أهمية كبيرة من وجهة نظر موضوعنا لأن العبارات الفقهية بخصوص ماهية الإيجاب في التعاقد بين الغائبين واضحة، فلذا – دون أن نقف عند هذه المسألة – نكتفي بالإفادة أن الإيجاب في التعاقد بين الحاضرين ينبغي اعتباره تعبيرًا متلقًّى وليس ملقىً (3) .
والإيجاب يوجه عادة إلى شخص معين. فالدراسات النظرية للعقد التي تمت في ضوء تطبيقات العهود القديمة خاصة تتصور وتصور انعقاد العقد غالبًا بهذا الشكل ولهذا اشترط جمهور الفقهاء أن يتضمن الإيجاب الخطاب سوى بعض الحالات الاستثنائية. ومع ذلك، فإنه لا يسوغ القول بأن الفقهاء المسلمين اشترطوا هذا الشرط في الإيجاب بصورة قاطعة، وحقيقة نجد أن بعض الفقهاء الأحناف يكتفون بوجود المخاطبة في أحد شطري العقد فقط (4) .أضف إلى ذلك أن موقف الفقهاء المالكية من عدم اشتراط توجيه الإيجاب إلى شخص معين يتجلى بصورة واضحة في العبارة التالية: (لو عرض رجل سلعته للبيع وقال من أتاني بعشرة فهي له فأتاه رجل بذلك أن سمع كلامه أو بلغه فالبيع لازم وليس للبائع منعه، وإن لم يسمعه ولا بلغه فلا شيء له، ذكره في نوازل البرزلي ومثله في المعيار) (5) .
ويقول الدكتور القره داغي – ونحن نشاركه في رأيه –: (والذي يظهر لي هو عدم اشتراط تضمن الإيجاب الخطاب، بل كل ما يشترط هو أن يكون المقابل معلومًا ولو في الجملة. سواء كان واحدًا أو أكثر، وسواء كان معيَّنًا أو غير معيَّن، وبعبارة أخرى أن يكون الإيجاب جديًّا، يريد به الموجب إنشاء الأثر وكونه أحد ركني العقد المطلوب فحينئذٍ لا بدَّ أن يكون المقابل معلومًا أو يكون موجهًا للجمهور سواء كان التعاقد بين حاضرين أو بين الغائبين، وأن الأمر في ذلك يعود إلى أعراف الناس وعاداتهم) (6) .
__________
(1) انظر: سوار (وحيد الدين) ، التعبير عن الإرادة في الفقه الإسلامي / دراسة مقارنة بالفقه الغربي، الجزائر، 1979، ص147 وأيضًا ص117، هامش: 1؛ الدريني (السيد نشأت إبراهيم) ، التراضي في عقود المبادلات المالية، جدة، 1402هـ/1982م، ص268.
(2) انظر لتحليل عناصر هذين المصطلحين وللمصطلحات الأخرى المستخدمة للتعبير عن نفس المضمون سواء في الفقه الغربي أو في المؤلفات العربية المعاصرة مع المقارنة: سوار، التعبير، ص37 وما بعدها، وخاصة 74-76؛ SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p.172. وقد جاء في كلام د. سوار عبارة (إلى شخص معين) ، ولكننا فضلنا أن نقول (إلى الطرف المقابل) ، والحقيقة أن د. سوار أيضًا حينما يتناول هذا الخصوص بصفة خاصة يرى من الصائب استخدام تسمية (الموجه إليه التعبير المتلقي) ، أو (المخاطب المنشئ للتعبير المتلقي) ، (وفي مقابل ذلك لا يستصوب أن يقال (من يهمه أمر التعبير المتلقي، انظر: سوار، ص90 هامش2.
(3) إن الرأي السائد في الفقه الحنفي هو أن الإيجاب تعبير متلقي. انظر: سوار، التعبير، ص111؛ وينظر أيضًا: الملحق رقم 1 في آخر هذا الكتاب. كما يوصف الإيجاب في الفقه الغربي بأنه تعبير متلقي يتم بالإرادة المنفردة، انظر: TUNCOMAG (kenan) ، SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 208-209، Borclar Hukuku/Genel Hukumler، Istanbul، 1972، vol. 1، p. 128.
(4) سوار، التعبير، ص80-81؛ الدريني، التراضي، ص268؛ القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1071-1072.
(5) الدسوقي، حاشية الدسوقي، 3/4.
(6) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1072-1073.(6/732)
إزاء المعلومات السابقة وخاصة إزاء ظروف وقتنا الحاضر، ينبغي القول بأن توجيه الإيجاب إلى الجمهور يجوز وبأن العقد بهذه الطريقة ينعقد. وعلى هذا يجب مثلًا اعتبار عرض البائع سلعته في الواجهة ووضع قائمة الأسعار بإزائها إيجابًا ويجب القول بانعقاد العقد إذا التقى هذا الإيجاب بالقول ممن له أهلية التعاقد. (وعلى هذا الحكم نصت التشريعات الحديثة، نحو الفقرة الأولى من المادة (80) من القانون المدني العراقي) . لأن التراضي قد تحقق ولأن مبادئ الفقه الإسلامي في هذا الموضوع (الرضا، رفع الحرج، ومراعاة الاستعمال الشائع أو العرف العادة) تستوجب هذا القول (1)
إلا أنه يجب الانتباه هنا إلى التفرقة بين حالات الإيجاب وحالات الدعوة إلى الإيجاب. لأن جميع التعبيرات المتعلقة بإرادة التعاقد لا تعتبر إيجابًا. وعلى هذا، فإن التعبير الذي لا يشكل الكلمة الأخيرة لإنشاء العقد أو – بعبارة أخرى – فإن الاقتراح أو العرض الذي لا يريد صاحبه أن يلتزم به في حالة ما إذا صدر القبول من الطرف الآخر، لا يعد (إيجابًا) بل يعد (دعوة إلى الإيجاب) . فاقتراحات التعاقد بواسطة الإعلانات المذاعة في الراديو والتلفزيون ونحوهما، والمنتشرة في الجرائد ونحوها، والملصقة على الجدران، وما شبه ذلك، هذه كلها من قبيل الدعوة إلى الإيجاب في غالب الأحيان. ومن ثم فإن حل القضية لا يكون أمرًا سهلًا في جميع الأوقات فيما إذا طرح سؤال هل هذا التعبير إيجاب أم دعوة إلى الإيجاب؟ ، ويجب في هذه الحالة الرجوع إلى قواعد التفسير. (للتعبير عن الإرادة) . ويمكن استخراج قاعدة في هذا الموضوع إذا عبرنا عما سبق من توضيحاتنا بطريقة التعبير الإيجابي وهي: كل حالة يمكن القول فيها بأن صاحب الاقتراح قال كلمته الأخيرة معيِّنًا ومبيِّنًا جميع العناصر اللازمة لإنشاء العقد وكذلك يمكن التأكد من أنه أراد أن يلتزم باقتراحه هذا إذا صدر قبول يوافقه فالتعبير فيها يعد إيجابًا. (وفي نفس المعنى جاءت أحكام في التشريعات الحديثة، منها الفقرة الثانية من المادة (80) من القانون المدني العراقي) (2)
__________
(1) يجب التنبّه هنا إلى أن الموضوع وإن كان له علاقة نسبية بمسألة المعاطاة فإن أحكام المعاطاة لا تكفي لحل القضية.
(2) انظر في هذا الموضوع من وجهة نظر الفقه الغربي: SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 209-211; GHESTIN (Jacques) ، Traite de Droit Civil/Les Obligations- Le Contrat، Paris، 1980، vol. 2، p160. ; TUNCOMAG، Borclar vol. 1، p.128-129 ; TEKINAY، (Selahattin Sulhi) ، Borclar Hukuku، Istanbul، 1979، p.89-91.(6/733)
وفي هذا المضمار نصت المادة (14) من اتفاق فيينا ما يلي:
(إذا وجه عرض يتضمن إنشاء عقد لشخص معين أو لأشخاص معينين وهذا العرض يشكل إيجابًا إذا كان معرفًا بشكلٍ كافٍ ويتضمن إرادة صاحبة للالتزام في حالة القبول. ويكون العرض معرفًا بشكلٍ كافٍ إذا كانت السلع معينة، وإذا كان السعر والكمية محددًا بشكل صريح أو ضمني.
وإذا وُجِّه عرض إلى أشخاص غير معينين وهذا العرض يعتبر دعوة إلى الإيجاب فقط، إلا إذا صرح صاحب الإيجاب بعكس ذلك بشكل جلي) .
أما دور الأجهزة الأتوماتيكية التي تستخدم في إجراء بعض العقود فليس من الصعب التوصيف الفقهي له في التعاقد، حيث إن حالات التعاقد بهذه الوسائل – مثلًا في عقد بيع بعض الأشياء بالأجهزة الأوتوماتيكية (1) وفي عقد الإجارة بالميزان الأتوماتيكي (2) أو في عقد العمل أو الإجارة بما يقال إنسان آلي (Robot) الذي يقدم بعض الخدمات – فإن العقد ينعقد فيها بطريقة إقامة الطرف الموجب مقامه ذلك الجهاز دون أن يحضر بنفسه أو أن يحضر نائبه عند التعاقد. وإذا نظرنا إلى المسألة من زاوية الفقه الإسلامي فإنه يجب اعتبار هذه الحالات إيجابًا، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار الأدلة المذكورة بخصوص صحة الإيجاب الموجه إلى الجمهور. (3) .
2-1-2- اعتبار الإيجاب ملزمًا أو غير ملزم:
يقول الرأي السائد في الفقه الإسلامي أن للموجب حق الرجوع عن إيجابه قبل أن يصدر القبول من المخاطب. إلا أن جمهرة فقهاء المالكية قالوا بأن الإيجاب ملزم وحده، وليس للموجب أن يرجع عن إيجابه في المجلس قبل أن يترك فرصة، يقرر العرف مداها، لصاحبه ليقبل أو يرفض إبرام العقد، لأنه بإيجابه قد التزم أمرًا تعلق به حق هذا الطرف الآخر، ما دام مجلس العقد قائمًا. وعلى ذلك، يتم العقد إذا قبل المخاطب في المجلس وإن كان قد رجع الموجب عن إيجابه (4)
__________
(1) SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 128.
(2) SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 209 not.8
(3) ويمكننا أن نضيف هنا نصًّا فقهيًّا يسلط الأضواء على هذه المسألة؛ يقول البهوتي في كشاف القناع حينما يتناول البيع بالمعاطاة: (قال في المبدع وشرح المنتهي: وظاهرة ولو لم يكن حاضرًا (و) ينعقد البيع بـ (نحو ذلك مما يدل على بيع وشراء) في العادة) ، 3/149. انظر أيضًا شرح منتهى الإرادات للمؤلف نفسه، 3/141.
(4) الحطاب (أبو عبد الله) ، مواهب الجليل شرح مختصر خليل، 1398هـ/1978م بالأوفست، 4/241؛ ابن نجيم (زين الدين) ، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، بيروت، ط. دار المعرفة بالأوفست، 5/228؛ محمصاني، النظرية العامة، 2/39؛ موسى (م. ي.) ، الأموال ونظرية العقد، ص261-262؛ الدريني، التراضي، ص272-274.(6/734)
مع أن هذه القضية لم يتم حلها في مصادر القانون الروماني فإن النتيجة المستخلصة من المبادئ العامة لهذا القانون هي أن الإيجاب ليس ملزمًا (1) . وكذلك يسود كلًّا من الفقه الإنجليزي والفرنسي والإيطالي مبدأ عدم إلزامية الإيجاب. أما في كل من الفقه الألماني والسويسري والتركي الحديث فإن الإيجاب ملزم (2) ، إلا أن هذه الصفة الإلزامية للإيجاب محددة باشتراط القبول فورًا (أي بمدة معقولة) وذلك إذا لم يعيّن ميعاد للقبول (في نفس المعني نصت الماد (27) من المدونة المدنية التونسية وكذلك المادة (94) من القانون المدني المصري) .
وحسب الرأي القائل بخيار الرجوع فإن الموجب لا يمكن له أن يستعمل هذا الحق بعد صدور القبول كما قلنا (وهذا بغضّ النظر عن الرأي القائل بخيار المجلس) . ولو خرج القبول ورجوع الموجب معًا كان الرجوع أولى (3) .
أما اشتراط علم المخاطب بالرجوع – في حالة الرجوع عن الإيجاب في التعاقد بين الحاضرين -، فإن هناك رأيين في كتب الفقه الحنفي (4) .وبعبارة أخرى فإن الرجوع عن الإيجاب في التعاقد بين الحاضرين، يعد تعبيرًا متلقًّى في رأي وتعبيرًا ملقًى في رأي آخر (5) . وإزاء هذا يمكن القول بأن هناك رأيين في الكتب الحنفية يؤيد أحدهما في هذه المسألة (نظرية العلم) والآخر (نظرية الإعلان) . (6) .
وثمة مسألة هامة من ناحية تسليط الأضواء على موضوعنا، وهي حالة ما إذا حدد الموجب للطرف الآخر مدة يقبل فيها العقد أو يرفضه، فهل يلتزم الموجب بالبقاء على إيجابه هذه المدة أو له أن يعدل عنه؟ يشير الدكتور م. ي. موسى إلى أن هذه المسألة لم يتعرض لها أحد من الفقهاء صراحة ثم يذكر المادة (93) من القانون المدني المصري (وهي كالتالي: إذا عين ميعاد القبول، التزام الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد، وقد يستخلص الميعاد من ظروف الحال أو من طبيعة المعاملة) ويقول: (وهذا أدنى إلى الحق مما نستخلصه من كلام الفقهاء: من أنه ليس للطرف الآخر أن يقبل بعد انتهاء المجلس حتى في هذه الحالة، كما أن التيسير في المعاملات يقتضي القول به ما دام الموجب قد رضي بتحديد مدة للقابل، وبخاصة والمؤمنون عند شروطهم التي لا تنافي مقتضى العقد ولا تتعارض والغرض منه) . وبعد هذا الكلام، يشير المؤلف مرة ثانية إلى أنه لم يجد، بعد طول البحث وشدة التنقيب، من الفقهاء من تعرض نصًّا لهذه المسألة، ويستثنى من ذلك عبارة رآها في مواهب الجليل للحطاب (4/241) ويعتبرها مما قد يفيد الذهاب إلى ما ذهب إليه القانون. ثم يقول الدكتور م. ي. موسى في الهامش: (على أن الأستاذ الشيخ علي الخفيف يذكر (ص205 هامش رقم 1 من كتابه المعاملات الشرعية) أن المالكية يذهبون صراحة إلى ما ذهب إليه القانون، راجعًا إلى هذا الكتاب (4/23) ، وقد رجعت إلى هذا الموضوع فلم أجد الأمر على ما قال، ولعل هناك خطأ مطبعيًّا!) (7) ..
__________
(1) SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 214. (ومع هذا يقول بعض المؤلفين – بشكل مباشر – أن الإيجاب في القانون الروماني ليس ملزمًا، انظر: شحاته (شفيق) ، نظرية الالتزامات في القانون الروماني ص360، نقلًا عن (الدريني، ص274) .
(2) محمصاني، النظرية العامة، 2/39؛ SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 214-216; TEKINAY، Borclar Hukuku، p.91. وقد جاء في قانون المعاملات المدنية في الإمارات (م.136) ، وأصله الأردني (م.96) أن المتعاقدين بالخيار بعد الإيجاب إلى آخر المجلس، فلو رجع الموجب قبل القبول بطل إيجابه، الزحيلي (وهبة) ، العقود المسماة في قانون المعاملات المدنية الإماراتي والقانون المدني الأردني، دمشق، 1407هـ/1987م، ص16.
(3) ابن نجيم، البحر الرائق، 5/288.
(4) انظر: الدريني، التراضي، ص325 وما ورد فيها من مراجع.
(5) سوار، التعبير، ص108-109، 147.
(6) سيتم دراسة هذه النظريات تحت عنوان التعاقد بين الغائبين (3-3-3) لارتباطها الوثيق بذلك العنوان.
(7) موسى (م. ي.) ، الأموال ونظرية العقد، ص260-261(6/735)
ويصرح الدكتور الدريني – مستندًا إلى كتابين لمؤلفين معاصرين أحدهما كتاب الشيخ على الخفيف المذكور في عبارة د. م.ي. موسى بأن المالكية يرون أن الموجب إذا قيد إيجابه بمدة تقيد بها، فلا ينتهي إيجابه بانتهاء المجلس كما يتقيد كذلك بما يجري به العرف إذا جرى العرف على تقييد الموجب بمدة معينة الدريني، التراضي، ص274 (وهذان الكتابان هما: (1) علي الخفيف، أحكام المعاملات، ط1944م، ص175، (2) محمد مصطفى شلبي، نظام المعاملات، ص243) . ونرى أن د. شلبي (محمد مصطفى) ، يعيد الرأي نفسه في كتاب آخر له، وهو: المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي وقواعد الملكية والعقود فيه، بيروت، 1403هـ/1983م ص430-432، ويستند في هذا الرأي إلى كتاب مواهب الجليل للحطاب، 4/241، بيد أن هذا المرجع لا يحتوي – في المكان المذكور – إلا على المسألة التي أشار إليها د. م.ي. موسى والتي لا تدل على هذه النتيجة مباشرة، وعلى العبارة التالية التي تدل على إلزامية الإيجاب – بصفة عامة -: (لو رجع أحد المتابعين عما أوجبه لصاحبه قبل أن يجيبه الآخر لم يفد رجوعه إذا أجابه صاحبه بعد القبول) .
ومهما يكن من الأمر، فإن هذا الرأي يوافق والمبادئ السائدة في الفقه (1) المالكي – على ما نرى -، لأنه يعتبر أوسع المذاهب بخصوص الإدارة المنفردة حيث يمكننا القول بأنه جعل الإرادة المنفردة مصدرًا عامًّا للالتزام وذلك من خلال اعتباره عدة أمور أهمها: إعطاء القوة الملزمة للإيجاب بوحده دون الحاجة إلى القبول، بحيث لا يستطيع الموجب سحبه إلى أن ينتهي من المجلس أو يرفضه الطرف الآخر (2) . كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فإذا كان الإيجاب ملزمًا للموجب مدة يعين العرف مداها – أي إذا تحددت المدة بصورة ضمنية – فمن باب أولى يجب أن يكون الإيجاب ملزمًا إذا حدد الموجب ميعادًا يلتزم به بإرادته الصريحة. ومن ناحية أخرى، فإن هذا الحكم يلائم المبادئ المعروفة للالتزامات في الفقه الإسلامي عامة، منها ما يلاحظ في أحكام الخيارات من القيمة البالغة لإرادة الطرفين أو أحدهما في تحديد الصفة الإلزامية للعقد. أضف إلى ذلك أن الغاية المقصودة من إلزام الموجب نفسه بإيجابه ليست مخالفة نظام التعاقد والهدف المنشود من تشريع أحكام العقود، بل على العكس من ذلك فإنها عبارة عن سد حاجات الطرفين وتحقيق مصالحهما دون أن يضر أو يتضرر أحد منهما. وتجدر الإشارة إلى أن الأهمية البالغة التي يحظى بها هذا الحكم تتجلى بكل وضوح في التعاقد بين الغائبين كما سيأتي بيانها.
__________
(1) مع أن د. الجميلي قد أصاب حينما قال (وذهب المالكية إلى الأخذ بالإيجاب الملزم وهو صورة من صور نشوء الالتزام بالإرادة المنفردة) ، إلا أنه لم يحالفه الصواب إذ قام بإثبات هذه الفكرة بذكر الأمثلة. لأن كلا المثالين الذين ذكرهما د. الجميلي في هذا المضمار يتعلقان في حقيقة الأمر بعدم قبول خيار المجلس، لأنه لا يلاحظ أن القبول قد صدر قبل رجوع الموجب عن إيجابه في كل من هذين المثالين. انظر الجميلي (خالد رشيد) ، الجعالة وأحكامها في الشريعة الإسلامية والقانون / نظرية الوعد بالمكافأة، بيروت، 1406هـ/1986م، ص172. وينظر بخصوص تقييم قبول نظرية (الإرادة المنفردة) في الفقه الإسلامي إلى ص8-9 من هذا الكتاب. ومن جهة أخرى، يجدر بنا أن نذكر هنا أننا لا نرى صائبًا الرأي الوارد في كتب بعض رجال القانون الذي يقول – لتوضيح حكم عدم إلزامية الإيجاب الوارد في كل من القانون الروماني والفقه المشترك (Pandect) ومجلة الأحكام العدلية -: (لأن هذه الأنظمة القانونية لا تعترف بترتب الحكم على الإرادة المنفردة، انظر: SAYMEN-ELBIR، TURK Borclar Hukuku، Istanbul، 1958، vol، 1/1، p.101 نقلًا عن: FEYXIOGLU (Necmeddin) ، Borclar Hukuku/Genel Hukumler، Istanbul، 1976، vol. 1، p. 71-72. لأنه لا يمكن القول بأن المجلة وحدها تمثل الفقه الإسلامي، أي هناك من يقول بإلزامية في الفقه الإسلامي من جهة، ولأن هناك أحكامًا تترتب على الإرادة المنفردة في الفقه الحنفي أيضًا من جهة أخرى.
(2) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1031.(6/736)
والحرى بنا أن نذكر هنا أن معظم التشريعات الحديثة قررت بأن الموجب إذا حدد ميعادًا للقبول، يكون ملزمًا بإيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد، علمًا بأن هذا الحكم يكون بيت القصيد بالنسبة للتعاقد بين الغائبين في أغلب الأحيان ينظر مثلًا: القانون المدني المصري (م.97) ؛ القانون المدني العراقي (م.84) ؛ قانون الموجبات والعقود اللبناني (م.179) ؛ القانون المدني الكويتي (م46) ؛ المدونة المدنية التونسية (م.27) .
2-2- القبول:
إن الأصل هو خيار القبول في الفقه الإسلامي، أي أن الطرف الموجه إليه الإيجاب مخيَّر بين قبوله ورده، ولا يصادف في الفقه الإسلامي باستثناء من هذا الأصل. (1) .
يقول الدكتور محمصاني: (غير أن القانون اللبناني، وإن كان قد أثبت المبدأ بأن من يوجه إليه العرض حر في رفضه ولا يتحمل تبعة ما بامتناعه عن التعاقد، إلا أنه أتبعه باستثناء طريف، متأثرًا في ذلك بنظرية سواء استعمال الحقوق. وهذا الاستثناء يتعلق بحالة من يضع هو نفسه في معرض من شأنه استدراج العرض،) كالتاجر تجاه الجمهور أو صاحب الفندق وصاحب المطعم، أو رب العمل تجاه العمال. ففي هذه الحالة يجب أن يسند امتناعه عن التعاقد إلى أسباب حريَّة بالقبول، وإلا كان امتناعه استبداديًّا وجاز أن تلزمه التبعة من هذا الوجه (المادة 181) (2) . إلا أننا نلاحظ أن مثل هذه الأحكام الواردة في القوانين يمكن اعتبارها من قبيل القرينة القانونية التي يسترشد بها القاضي في تفسير إرادة الطرفين ويحكم بموجبها – مبدئيًّا – بأن عرض هؤلاء الأشخاص إيجاب ملزم وليس دعوة إلى الإيجاب.
ومما يجب الانتباه إليه في هذا الموضوع هو أن الحالات التي يمكن وصفها بأنها حالات (القبول الضمني) لا ينبغي تصورها بأن المخاطب أصبح ملزمًا بالقبول فيها (3) .
ويشترط أن يصدر القبول ممن وُجِّه إليه الإيجاب لا من شخص آخر، وقد صرح الفقهاء الشافعية بأن القبول لا يجوز من غير من وُجِّه إليه الإيجاب ولو كان موكله، أما الفقهاء الأحناف فقد جوزوا قبول الفضولي، ففي مجلس العقد موقوفًا على إجازة المخاطب الغائب.
وكما سبق أن أشرنا إليه أن الإيجاب إذا وجه إلى الجمهور لا يجب أن يتم القبول من طرف شخص معين عند المالكية (4) .
ويمكن الرجوع عن القبول إلى غاية وقت انعقاد العقد على الصعيد النظري، بيد أن إمكانية استعمال هذا الحق، إذا قلنا بأن العقد ينعقد بمجرد إعلان القبول، تكاد تنعدم على الصعيد العملي. أما مسألة انعقاد أو عدم انعقاد العقد بمجرد إعلان القبول فلها صلة وثيقة بمسألة وصف (القبول) هل هو تعبير متلقى أم تعبير ملقى؟ فبما أن هذه المسألة الأخيرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعنوان التالي، فإنه سيتم تناولها فيه أي تحت عنوان (2-3) .
__________
(1) محمصاني، النظرية العامة، 2/39.
(2) محمصاني، النظرية العامة، 2/39.
(3) وللاطلاع على حالات القبول الضمني يمكن الرجوع خاصة إلى عناوين (دلالة المعاطاة على الرضا) و (دلالة السكوت على الرضا) في الكتب الفقهية والمؤلفات الحديثة. انظر من وجهة نظر الفقه الإسلامي: محمصاني، النظرية العامة، 2/50-51، 52 وما بعدها؛ الدريني، التراضي، ص156 وما بعدها و 176 وما بعدها؛ القره داغي، مبدأ الرضا، 2/179 وما بعدها. وانظر من وجهة نظر الفقه الغربي: SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p. 227-230، GHESTIN، Traite de Droit Civil، vol.2، p. 172-174، 226 ... etc، 239 ... etc.
(4) انظر في هذا الموضوع (مع الشروط الأخرى للقبول) : الدريني، التراضي، ص281-284. ومن البديهي أن خاصية العقد تحظى بأهمية كبيرة في هذا الخصوص، ولهذا لم نرد أن نطيل الكلام في هذا المقام(6/737)
2-3- ارتباط الإيجاب بالقبول (مجلس العقد) وتحديد وقت انعقاد العقد:
2-3-1- ارتباط الإيجاب بالقبول (مجلس العقد) :
إن الإيجاب والقبول لا بد من تعلق أحدهما بالآخر لأجل حصول الانعقاد، لأن الرضى هو ارتباط الإيجاب بالقبول. فاتحاد الزمان والمكان الذي يسمح لهذا الارتباط من وجهة النظر الفقهية، يسمى (مجلس العقد) . وبعبارة أخرى فإن مجلس العقد هو الاجتماع الواقع من أجل التعاقد مع أن المؤلفين العرب ينقلون المادة 181 من مجلة الأحكام العدلية بهذا الشكل، فإن أصل المادة – إذا ترجمت لفظيًّا – كالتالي: (مجلس البيع هو الاجتماع الواقع من أجل المساومة)
ومع أن الفقيه الحنفي الكاساني الشهير بجودة تصنيفه للمواضيع وبدقته في تناوله للمفاهيم الفقهية يقسم شرائط الانعقاد لعقد البيع إلى أربعة أنواع. وهي: (1) ما يرجع إلى العاقد، (2) وما يرجع إلى نفس العقد، (3) وما يرجع إلى مكان العقد، (4) وما يرجع إلى المعقود عليه (1) ، ومع أنه يبدأ كلامه بعبارة (وأما الذي يرجع إلى مكان العقد فواحد وهو اتحاد المجلس بأن كان الإيجاب والقبول في مجلس واحد) حين تناوله لما يرجع إلى مكان العقد من هذه الشروط، فإنه في دوام هذه العبارة يعترف بأن كلًّا من عنصري الزمان والمكان له أهميته الخاصة في ارتباط الإيجاب بالقبول، إلا أنه يبين أن التشدد في التمسك بالقياس (أي القاعدة في هذا الموضوع) ، وبعبارة أخرى، إن اشتراط صدور الإيجاب والقبول في آن واحد أيضًا يؤدي إلى انسداد باب البيع (2) .
__________
(1) الكاساني، بدائع الصنائع، 5/135.
(2) الكاساني، بدائع الصنائع، 5/137. انظر أيضًا: المرغيناني، الهداية، 5/460؛ ابن نجيم، البحر الرائق، 5/284؛ الدريني، التراضي، ص294-295.(6/738)
ومع هذا فالفقهاء الأحناف لم يشترطوا الفورية وأجازوا صدور القبول ما لم يحدث شيء يدل على انتهاء المجلس وذلك لضرورة التأمل والتروي. وكذلك الحكم في المذهبين المالكي والحنبلي (1) . أما الشافعية فقد اشترطوا الفورية حيث يجب أن لا يكون الفاصل بين الإيجاب والقبول إلا يسيرًا أي ما لا يتجاوز حد الضرورة (2) . وتجدر الإشارة هنا إلى أن حكم خيار المجلس الوارد في هذا المذهب قد يزيل إلى حدٍ ما الحرج الذي يعاني منه المخاطب من أجل شرط الفورية.
ويرى معظم الباحثين في مجال الفقه الإسلامي أن الرأي الملائم لمبادئ الفقه الإسلامي ولمصلحة الطرفين في هذه المسألة هو رأي الجمهور (3) . كما أن التشريعات الحديثة تعول غالبًا على هذا الرأي، فعلى سبيل المثال تقول الفقرة الثانية من المادة (94) من القانون المدني المصري: (ومع ذلك يتم العقد، ولو لم يصدر القبول فورًا ... ) (إلا أنه يجب أن لا يفوتنا الحكم الذي يحدد مدة إلزامية الإيجاب الوارد في نفس المادة وهو: ( ... فإن الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فورًا.
ويتضح مما سبق، أن ارتباط الإيجاب بالقبول ليس ماديًّا بل هو حكمي (اعتباري) . أما اتحاد المجلس فهو – في التعاقد بين الحاضرين – مادي بحيث لا يتحقق اتحاد المجلس إلا بوحدة المكان (4) . إلا أن المؤلفين في الفقه الحنفي بخاصة – مع اعترافنا بدقتهم في تناول المسائل في إطار المفاهيم الفقهية – وهذا الموقف يقابله منهج (Begriffsjurisprudenz) من مناهج التفسير – قد غالوا في تصوير اتحاد المجلس تصويرًا ماديًّا يعبر الدكتور السنهوري عن موقفهم هذا بـ (الإغراق في المادية) انظر لعبارات المؤلفين الأحناف ولانتقادها: السنهوري (عبد الرزاق) ، مصادر الحق في الفقه الإسلامي/ دراسة مقارنة بالفقه الغربي، القاهرة، 1967م، 2/11-14. انظر في مجلس العقد ونتائجه – مقارنًا بين الفقه الإسلامي والفقه الوضعي -: الدريني، التراضي، ص286-299 انظر أيضًا الزحيلي، العقود المسماة، ص20-22، شلبي، التعريف، ص422-424، القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1076-1077.وتجدر الإشارة إلى أن د. سوار قد قام ببحث يتسم بالدقة والإتقان يسلط الأضواء على مواقف مذاهب الفقه الإسلامي من نظرية مجلس العقد. انظر: سوار (محمد وحيد الدين) , الشكل في الفقه الإسلامي 1405هـ/ 1985م، من منشورات معهد الإدارة العامة (المملكة العربية السعودية) ، ص138 وما بعدها. .
__________
(1) ابن نجيم، البحر الرائق، 5/284؛ الحطاب، مواهب الجليل، 4/240 (هناك رأي آخر في الفقه المالكي، انظر: شلبي، المدخل، ص423، هامش1) ؛ البهوتي، كشاف القناع، 3/147-148.
(2) النووي، المجموع، 9/169.
(3) انظر مثلًا: شلبي، المدخل ص422-424؛ الدريني، التراضي، ص295-296؛ القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1079.
(4) سيتم تناول مسألة تطبيق أحكام التعاقد بين الحاضرين – من حيث الزمان – في التعاقد بواسطة التلفون – بالرغم من عدم حصول وحدة المكان فيه – تحت عنوان (4-) من هذا البحث.(6/739)
ولنتمكن من الحكم بأن الارتباط (الذي هو حكمي كما أشرنا إليه سابقًا) بين الإيجاب والقبول قد تحقق، فإنه يجب أن تتوفر بعض الشروط في القبول. فالشرط الذي يحظى بأهمية كبيرة من وجهة نظر موضوعنا هو صدور القبول قبل سقوط الإيجاب. ولهذا ينبغي لنا أن نلقي نظرة عابرة إلى حالات سقوط الإيجاب، وهي (قبل صدور القبول) :
(أ) رجوع الموجب عن إيجابه.
(ب) رفض المخاطب للإيجاب.
(ج) وفاة الموجب أو فقد أهليته.
(د) وفاة المخاطب أو فقد أهليته.
(هـ) هلاك المعقود عليه أو تغييره.
ونظرًا لعدم اتصال الحالات الثلاث الأخيرة ببحثنا مباشرة ولئلا يتجاوز حجم البحث الحدّ المعقول ينظر في هذا الموضوع مثلًا: موسى (م. ي.) ، الأموال ونظرية العقد، ص262-263؛ الدريني، التراضي، ص278-281، 286-287؛ السنهوري، مصادر الحق، 2/16-17؛ محمصاني، النظرية العامة، 2/40-41؛ القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1073. . سنكتفي بالإشارة إلى بعض النقاط الهامة بالنسبة للحالتين الأوليين فقط:
(أ) رجوع الموجب عن إيجابه:
إن رجوع الموجب عن إيجابه قبل صدور القبول يسقط الإيجاب. ويجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن الرأي السائد في الفقه المالكي يقول بالصفة الإلزامية للإيجاب. أما اشتراط علم المخاطب بهذا الرجوع فقد أشرنا سابقًا (2-1-2) أن هناك رأيين يؤيد أحدهما (نظرية العلم) والآخر (نظرية الإعلان) في الفقه الحنفي.
فالرجوع عن الإيجاب نوعان:
(أأ) الرجوع الصريح: إذا رجع الموجب قبل صدور القبول عن إيجابه صراحة ولو في بعضه (1) بطل الإيجاب (2) .
(ب ب) الرجوع الضمني: لو ترك الموجب مجلس العقد قبل قبول الطرف الآخر وكذلك لو صدر من الموجب قول أو فعل يدل على الإعراض بطل الإيجاب (3) .
ومن جهة أخرى، فإن تكرار الإيجاب مع التبديل يعتبر إعراضًا ورجوعًا ضمنيًّا عن الإيجاب الأول، إلا أن الحنفية يعتبرون الإيجاب الثاني إيجابًا جديدًا (4) . والشافعية لا يعتدُّون به ويشترطون ألا يغير الموجب شيئًا مما تلفظ به إلى تمام الشق الآخر (5) ونرى أن قول الحنفية هو الراجح سواء من ناحية التعليل الفني أو من ناحية المقاصد والمبادئ الشرعية أي موافقته لما تقتضيه طبيعة المعاملات وجريان العادة في هذا الموضوع (6)
__________
(1) ابن نجيم، البحر الرائق، 5/288؛ البهوتي، كشاف القناع، 3/148.
(2) مجلة الأحكام العدلية، المادة: 184؛ البهوتي، كشاف القناع، 3/148.
(3) مجلة الأحكام العدلية، المادة: 183.
(4) مجلة الأحكام العدلية، المادة 185. وبهذا الرأي أخذ القانون المدني العراقي في مادته: 83.
(5) الرملي، نهاية المحتاج، 3/382 نقلًا عن: الدريني، التراضي، ص276.
(6) انظر أيضًا: الدريني، التراضي، ص276-277.(6/740)
(ب) رفض المخاطب للإيجاب:
وهذا الرفض أيضًا نوعان:
(أأ) الرفض الصريح: يبطل مفعول الإيجاب بالإجماع إذا رفضه الطرف الثاني (1) . هل يشترط لبناء الحكم على هذا الرفض علم الموجب برفض الإيجاب؟
وللإجابة على هذا التساؤل نجد الدكتور الدريني أنه يشير أولًا إلى عدم تعرض الفقهاء لهذه المسألة صراحة ثم يحاول أن يتوصل إلى نتيجة بطريقة قياس (رفض الإيجاب) على (القبول) ، حيث يقول (مشيرًا إلى الرأيين المتعلقين باشتراط أو عدم اشتراط سماع القبول من طرف الموجب لانعقاد العقد واللذين سنتناولهما بعد قريب تحت عنوان تحديد وقت انعقاد العقد) :
(وقد رأينا أن الرأي الراجح في التعاقد بين حاضرين هو اشتراط سماع القبول، وأن بعضهم لا يشترط هذا السماع وإنما يكتفي بسماع القابل نفسه. ومقتضى القول الأول أن الموجه إليه الإيجاب لو رفض ولم يسمعه الموجب ثم قبل وسمعه الموجب فإن العقد ينعقد، لأنه قد تحقق شرط الانعقاد وهو سماع القبول، ولأنهم يرون أن تحقق الكلام لا يكون إلا بسماع الغير. ومقتضى القول الثاني أنه لو رفض فإن الإيجاب يسقط ولو لم يسمعه الموجب لأنهم يرون تحقق الكلام بسماع نفسه ولو لم يسمعه الغير) (2) .
ولكننا لانرى مبررًا لقياس (رفض الإيجاب) على (القبول) بل نعتقد بأنه قياس مع الفارق، كما نرى أنه يجب ملاحظة رفض الإيجاب تعبيرًا متلقى. ونظرًا لأن أهمية هذه المسألة تتجلى في التعاقد بين الغائبين أكثر منه في التعاقد بين الحاضرين سنتناولها تحت عنوان (3-3-2) .
(ب ب) الرفض الضمني: يمكن أن يتحقق الرفض الضمني في أحكام مختلفة.
فالتغيير الواقع في الإيجاب في صالح الموجب وإنشاء القبول قد يعتبر رفضًا ضمنيًّا وإيجابًا جديدًا مبتدأ من طرف المخاطب كما يمكن اعتباره موافقة ضمنية. وقد أخذ الفقه الحنفي بالاعتبار الثاني (3) ، وأخذت بعض التشريعات الحديثة مثل القانون المدني المصري (في المادة 96) والقانون المدني السوري (المادة 97) بالاعتبار الأول وهذا ما يوافق ظاهر المذهب الشافعي. وكذلك عدت بعض القوانين أن الجواب المعلق بشرط أو بقيد بمثابة رفض للعرض مع اقتراح عرض جديد (المادة 182 من قانون الموجبات والعقود اللبناني) النووي، المجموع، 9/169-170؛ محمصاني، النظرية العامة، 2/41؛ موسى (م. ي.) ؛ الأموال ونظرية العقد، ص256؛ يقول د. الزحيلي: (وقد نص القانون الإماراتي (م.140) ؛ والأردني (م.99) على وجوب تطابق القبول للإيجاب ولم يجز الزيادة في الإيجاب … وهذا موافق لرأي الجمهور غير الحنفية) ، العقود المسماة، ص30. .
__________
(1) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1073.
(2) الدريني، التراضي، ص326-327.
(3) مجلة الأحكام العدلية، المادة: 178.(6/741)
2-3-2- تحديد وقت انعقاد العقد:
إن تحديد مكان انعقاد العقد في التعاقد بين الحاضرين لا يحظى بأهمية توجب دراسة تحديد مكان ووقت انعقاد العقد كل منها على حدة ولهذا سيقتصر حديثنا هنا على تحديد وقت انعقاد العقد.
إلا أنه يجدر بنا الإلمام بمسألة صدور الإيجاب والقبول في وقت واحد إلمامًا سريعًا قبل الانتقال إلى أساس الموضوع وذلك حفاظًا على وحدة الفكرة في هذا الموضوع.
لقد ورد في كتب الأحناف رأيان مختلفان في انعقاد العقد بالنسبة لحالة صدور الإيجاب والقبول بآن واحد: الرأي الأول يقول – حسب عبارة ابن نجيم -: (ولو صدر الإيجاب والقبول معًا صح البيع كما في التتارخانية) . (1) . أما الرأي الثاني – وهو المروي عن القهستاني – فيفهم منه أن العقد لا ينعقد في هذه الحالة (2) . ويرى شارح المجلة الأحكام العدلية علي حيدر أفندي أن المجلة اختارت الرأي السلبي في هذه المسألة (3) .
ويلاحظ أن الدكتور محمصاني يرى الرأي الإيجابي معقولًا يتفق ومبدأ الرضا في العقود إلا أنه يصف هذا الخلاف بأنه نظري في الواقع قائلًا: (لأنه يصعب بل يندر جدًّا أن يحصل الإيجاب والقبول بآن واحد…) (4) . ولكن يمكن القول بأن هذه المسألة تكتسب أهمية لا يستهان بها في يومنا هذا. لأن هذه الحالة يمكن تصورها في الواقع فيما إذا قام صاحبا مؤسستين تجاريتين أو النائبان الشرعيَّان لشركتين بتوقيع نسختي العقد بآنٍ واحد مثلًا، مع أن عملية التوقيع تبقى عبارة عن إكمال الشكليات في بعض الحالات نظرًا لتمام العقد في المرحلة التي سبقت هذه العملية. أما في المثال التالي يمكن تصور هذه المسألة بوضوح أكثر: إذا قام كاتب العدل بتحضير العقد وعرضه على كل من طرفي العقد ويسألهما هل يقبلان هذا العقد أم لا، فإذا كان رد كليهما بالقبول فإن العقد ينعقد بآن واحد (5) .
وبالرغم من أن بعض العلماء في الفقه الإسلامي يميلون إلى حصر جواز التعاقد بالكتابة في التعاقد بين الغائبين (6) . فإننا نرجح – إزاء ظروف وقتنا الحاضر – الرأي القائل بتجويز الكتابة في التعاقد بين الحاضرين أيضًا والرأي القائل بانعقاد العقد في وقت واحد، آخذين بعين الاعتبار آراء وتحاليل الفقهاء سواء في هذه المسألة أو مسألة إشارة وكتابة الأخرس وكذلك مسألة التعاطي.
__________
(1) ابن نجيم، البحر الرائق، 5/288.
(2) ابن عابدين (محمد أمين) ، حاشية منحة الخالق على البحر الرائق لابن نجيم، بيروت، ط. دار المعرفة بالأوفست، 5/288.
(3) علي حيدر أفندي، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، إستانبول، 1313هـ. (باللغة العثمانية) ، المادة: (167) 1/457.
(4) محمصاني، النظرية العامة، 2/38.
(5) لبعض التطبيقات في هذا الموضوع في الوقت الحاضر انظر: ENGEL (Peirre) ، Traite des Obligations en Droit Suisse، Neuchatel، 1973، P.148 نقلًا عن: EREN (Fikret) ، Borclar، Hukuku/Genel Hukumler، Ankara، 1985، p. 286.
(6) انظر للآراء في هذا الموضوع ولأدلتها ومناقشتها: القره داغي، مبدأ الرضا، 2/941-949 وينظر لوجهة نظر الفقهاء الشافعية خاصة: النووي، المجموع، 9/167.(6/742)
إذا قلنا بأن مجرد قبول المخاطب يكفي لانعقاد العقد نكون قد تبنينا (نظرية الإعلان) المعروفة في دراسات نظرية العقد. أما إذا لم نكتف بهذا واشترطنا اطلاع الموجب على القبول فيعني هذا أننا نرجح (نظرية القبول) (1) .
ونجد الدكتور سوار – مشكورًا – قد حقق دراسة قيمة في هذا الموضوع يسترشد ويستنير بها الباحث لمعرفة جواب هذه القضية من واقع الفقه الإسلامي. وقد توصل د. سوار في بحثه هذا إلى النتائج التالية (باختصار شديد) :
(أ) الفقه الحنفي: هناك رأيان في الفقه الحنفي:
(أأ) نظرية العلم: يعتبر أصحاب هذه النظرية أن القبول هو (تعبير متلقي) . وعلى هذا فإن وقت انعقاد العقد هو وقت علم الموجب بالقبول. وهذا الرأي – وأول من قال به أو نصر البلخي عام 305هجرية – هو الرأي السائد في الفقه الحنفي (2) .
(ب ب) نظرية الإعلان: وحسب أصحاب هذه النظرية أن القبول ليس تعبيرًا متلقًّى بل هو (تعبير ملقي) . وعلى هذا ينعقد العقد بمجرد إعلان القبول (3) .
(ب) المذهب الشافعي: يفترق المذهب الشافعي عن المذهب الحنفي في صدد تكون العقود بين حاضرين افترقا أساسيًا فبينما يذهب الرأي السائد في المذهب الحنفي إلى تطلب الإعلام المنشئ في كل من الإيجاب والقبول، ويأخذ بنظرية القبول، يلاحظ أن المذهب الشافعي يقرر انتفاء ضرورة الإعلام في التعبيرين التعاقدين، ويأخذ بنظرية إعلان القبول. ذلك أن العقد ينعقد في المذهب الشافعي بمجرد صدور القبول وإن لم يكن مسموعًا من الموجب. (إلا أنه يلاحظ أيضًا أن المذهب الشافعي قد تشدد في تطلب إظهار التعبير إظهارًا كافيًا بحيث يسمعه من هو بقرب صاحب التعبير عادة. ولعل المذهب الشافعي قد توخى من اشتراطه لسماع القريب من صاحب التعبير تأمين وسيلة للإثبات تحول دون نكران صاحب التعبير لتعبيره) (4) .
__________
(1) بما أن الأهمية التي تحظى بها هذه النظريات – باعتبار نتائجها العملية – تتبلور في التعاقد بين الغائبين بوضوح أكثر، ستتم دراستها تحت عنوان (3-3-3) .
(2) لا يشترط بعض أصحاب هذا الرأي السماع في الإيجاب والقبول في العقود كلها، فمنهم من يشترطه في النكاح ولا يشترطه في البيع مثلًا، انظر لعرض تاريخي لهذه الآراء: سوار، التعبير، ص602 وما بعدها (الملحق رقم1) .
(3) انظر لتحليل كل من هذين الرأيين ومقارنتهما: سوار، التعبير، ص112-117.
(4) سوار، التعبير، ص117-118.(6/743)
وبعد عرض هذه الآراء ينتقد د. سوار اعتبار الدكتور السنهوري بأن أخذ الفقه الإسلامي بنظرية العلم في التعاقد بين حاضرين هو من الأمور المسلمة (1) ، مشيرًا إلى أن هذا بالتأكيد يتعارض مع صراحة النصوص الفقهية التي ذكرها سابقًا (2) .
وبالرغم من أن بحث د. سوار يتسم بالدقة والإتقان فإننا لا نعتقد أن كلام السنهوري الآنف الإشارة يتعارض مع ما ورد في الكتب الفقهية تعارضًا تامًّا لأن الرأي الثاني الذي ذكره د. سوار بالنسبة للفقه الحنفي لا يعتبر رأيا احتل مكانًا مرموقًا في الكتب الفقهية المعتبرة وترقى إلى مرتبة نظرية حقوقية بحيث يدافع عنه ويؤيد بأدلة بارزة فيها. وحين يشير د. سوار إلى وجود عدد كبير من الكتب المعتبرة في الفقه الحنفي مما يؤيد هذا الرأي، فإنه يعول على الدليل السلبي أي على عدم تصريح اشتراط هذه الكتب لشرط السماع (3) . ومن جهة أخرى فإن الرأي القائل باشتراط السماع (العلم) استقر في الكتب المعتبرة للفقه الحنفي بحيث تم تأييده بعبارة (إجماعًا) (4) في كثير منها (5) . أما ما ذكره د. سوار بالنسبة للفقه الشافعي، فإن الرأي الوارد في النصوص المذكورة في كتابه وكذلك ما توصل إليه من نتائج معولًا على هذه النصوص يمكن أن يناقش مع بعض الجوانب (6) (والحري بنا أن نذكر هنا أن د. سوار لم يكن قد بنى النتيجة المبنية للفقه الشافعي على دراسات وتحقيقات تضم عرضًا تاريخيًّا وتهدف إلى إظهار مسيرة تطور الآراء كما فعل ذلك بالنسبة للفقه الحنفي) . أضف إلى ذلك أن تبنى حكم خيار المجلس، يحط من أهمية دراسة هذه المسألة في الفقه الشافعي من ناحية التعاقد بين الحاضرين إلى حد كبير.
وإزاء التوضيحات السابقة يمكن القول بأن الرأي السائد في الفقه الإسلامي هو رجحان نظرية العلم في التعاقد بين الحاضرين يعبر عن هذا الخصوص بعض المؤلفين بصورة مطلقة (مثلًا: محمصاني، النظرية العامة، 2/41) ، وبعضهم بأنه (من الأمور المسلمة) (مثلًا: السنهوري، مصادر الحق، 2/55) ، وبعضهم بأنه (الرأي السائد في الفقه الإسلامي) (مثلًا: الدريني، التراضي، ص287) ، والبعض الآخر بأنه (الرأي السائد في الفقه الحنفي) (مثلًا: سوار، التعبير، ص111 وما بعدها) - كما سبق-. مع مراعاة أن العلم يعتبر قد تحقق في الحالات التي يمكن فيها الحكم بأن العلم قد تحقق من خلال النظرة الموضوعية هذه النقطة تحظى بأهمية عملية في التعاقد بين الغائبين- كما سيأتي -. لقد ورد في كتب كثيرة للأحناف وكذلك للشافعية عبارات تشير إلى هذه النقطة مثل عبارة: (فإن سمع أهل المجلس كلام المشتري والبائع يقول لم أسمع ولا وقر في أذنه لم يصدق قضاء) . انظر مثلًا: ابن نجيم، البحر الرائق، 5/288، البجيرمي (سليمان) ، بجيرمي علي الخطيب، بيروت 1398هـ/1978م بالأوفست، 3/10. .
إذن، يمكن – عمليًا – تطبيق قاعدة إمكانية الرجوع عن القبول إلى غاية وقت انعقاد العقد التي أشرنا إليها تحت عنوان (القبول) ، إذا تم التعويل على نظرية العلم، أي أن المخاطب يمكن له أن يسترجع قبوله قبل سماع القبول من طرف الموجب.
***
__________
(1) انظر السنهوري، مصادر الحق، 2/55 (وقد ذكر سوار مكان هذا الكلام للسنهوري بأنه ورد في 4/56. ولعل هناك خطأ مطبعيًّا) .
(2) سوار، التعبير، ص118 هامش5.
(3) انظر: سوار، التعبير، ص115 هامش 5.
(4) ليس غائبًا عن ذهننا أن مفهوم (الإجماع) في الكتب الفقهية للأحناف يستخدم –غالبًا – في معنى (اتفاق علماء المذهب) وأن هذا المفهوم في كتبهم لا يعكس في بعض الأحيان الاتفاق التام حتى بين علماء المذهب) . ولكننا أردنا هنا أن نشير إلى مدى اعتمادهم على الرأي المذكور.
(5) ينظر مثلًا: ابن نجيم، البحر الرائق، 5/288 (ويلاحظ أن هناك عبارة تشترط (الفهم) أيضًا في هذا المرجع: (وشرط في الحاوي القدسي السماع والفهم) . انظر للإحالة على ستة مراجع بهذا الخصوص: سوار، التعبير، ص610 هامش4.
(6) انظر: الدريني، التراضي، ص313-316.(6/744)
-3-
مسائل التعاقد بين الغائبين يستخدم د. السنهوري (عبد الرزاق أحمد) عبارة التعاقد بالمراسلة أو فيما بين الغائبين في مقال: contrat par correspondence، ou entre absents نظرية العقد (الجزء الأول من النظرية العامة للالتزامات) ، بيروت، ط. المجمع العلمي العربي الإسلامي، (الطبعة الأساسية: مطبعة دار الكتب المصرية، 1353هـ/ 1934م) ص 288. ومن جهة أخرى يقول د. محمصاني- حينما ينتقد كلمة (المراسلة) الواردة في المادة 184 من قانون الموجبات والعقود اللبناني-: (الأصح أن يقال بالمكاتبة، لأن المراسلة هي المخاطبة بواسطة الرسول، كما جاء في الإصلاح العربي) ، 2/66 هامش4.
التي لها صلة بموضوع البحث وأحكامها
3-1- الإيجاب:
3-1-1- ماهية الإيجاب:
يعد الإيجاب التعاقد بين الغائبين (تعبيرًا متلقًّى) (1) في الفقه الحنفي إجماعًا (2) . ويتم تصوير هذا الأمر في كتب الأحناف كالتالي: لو قال رجل إني بعت متاعي هذا من فلان الغائب بكذا ثم بلغه هذا الخبر- دون إعلان الموجب إرادته للتبليغ- فقَبِل لا ينعقد العقد، ولكن إذا أعلن الموجب عن إرادته للتبليغ ثم بلغ الخبر للطرف الآخر فَقَبِل ينعقد سواء قام بالتبليغ من أمر به أو غيره (3) .
أما الشافعية فلا يشترطون إعلان الرضا بالتبليغ ويقولون بأن العقد ينعقد إذا بلغ خبر الإيجاب الطرف الآخر فقبل، وإن لم يكن الموجب قد أعلن عن إرادته للتبليغ (4)
ويلاحظ أن الدكتور الدريني فاتته أهمية التفرقة بين مفهومي (التعبير الملقي) و (التعبير المتلقي) حين انتقد الرأي الحنفي وتعجب منه، إذ يقول: (وأرجح قول الشافعية.. ولا أرى وجهًا لاشتراط الأمر بالتبليغ، لأن البائع إذا كان قد أعلن عن رضاه بالبيع لشخص معين فما الفرق بين أن يبلغه هذا الإيجاب بأمر الموجب بالتبليغ أو بغير أمره، وبخاصة أن الحنفية أجازوا أن يقوم بالتبيلغ المأمور به أو غيره؟) (5) وكذلك يبدو أن الدكتور الإبراهيم لم ينتبه إلى هذه النقطة الدقيقة أثناء التعبير عن ترجيحه للرأي الشافعي الإبراهيم (محمد عقلة) ، (حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة/ الهاتف- البرق- التلكس في ضوء الشريعة والقانون، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية (تصدر عن جامعة الكويت- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية) ، السنة: 3، العدد 5 شوال، 1406هـ/ يوليو 1986م. ص115. .
وقد سبق أن أشرنا إليه تحت عنوان (2-1-1) أن الرأي القائل بتوجيه الإيجاب إلى الجمهور هو الراجح، ونكتفي هنا بأن هذا الرأي هو الأوفق لحاجات الناس وطبيعة جريان المعاملات في الوقت الحاضر بالنسبة للتعاقد بين الغائبين أيضًا.
كما سبق أن بينا في التعاقد بين الحاضرين (2-1-1) أن دور الأجهزة الأتوماتيكية في إجراء بعض العقود يتمثل في إقامة الجهاز مقام أحد طرفي العقد (أو كليهما حسب الأوضاع المختلفة) . والذي ينبغي لنا أن نضيفه في هذا المقام هو أن هذه الطريقة يمكن استخدامها في التعاقد بين الغائبين أيضًا. وذلك إذا كان تقديم بعض الخدمات بين الغائبين عن طريق الجهاز الذي تستعمله المؤسسة التي تكون أحد طرفي العقد وليس عن طريق استخدام موظف ينوب عن هذه المؤسسة نحو بعض الخدمات التي تقدمها مؤسسات البريد والمواصلات.
__________
(1) انظر لهذا المفهوم (2-1-1) وهامش17.
(2) السنهوري، مصادر الحق، 2/55، سوار، التعبير، ص 147.
(3) الكاساني، بدائع الصنائع، 5/139؛ ابن الهمام (كمال الدين) ، فتح القدير (شرح الهداية) ، بيروت، ط. دار إحياء التراث العربي بالأوفست، 5/462.
(4) النووي، المجموع، 9/167.
(5) الدريني، التراضي، ص 302-303.(6/745)
وهذه الطريقة يمكن متابعتها في عقد البيع وأمثاله أيضًا. وليتجلى الفرق بين الجهاز القائم مقام أحد الطرفين وبين وسائل الاتصال يمكن إعطاء المثال الآتي: لنفرض أن بائع بعض المواد الضرورية للمنزل (مثل أنابيب الغاز المستعملة في البيوت) قام بتركيب جهاز التسجيل بهاتفه المخصص لهذا الأمر والمعروف رقمه من قبل الجمهور. وإذا دق جرس الهاتف المسجل فإنه يذيع على مسامع الطرف الآخر عبارات ومعلومات قد سجلها عليه صاحبه من قبل ويمكن أن يظهر للسامع هذه العبارات: (نحن مؤسسة.. نتعهد بإرسال السلع التالية بالكميات والأسعار التالية..) بحيث يتضمن هذا التعهد جميع الشروط اللازم توفرها في الإيجاب. فإذا أجاب الشخص الذي يرفع سماعة الهاتف في الطرف المقابل بالقبول ينعقد العقد. (وإذا تشددنا في التفرقة بين (الإيجاب) و (الدعوة إلى الإيجاب) نقول بأن الكلام المذاع في الجهاز هو الدعوة إلى الإيجاب، وكلام الشخص الذي يرفع السماعة في الطرف المقابل هو الإيجاب، وتنفيذ صاحب الجهاز موجب العقد هو القبول. ومع هذا فإن التعبير عن إرادة الشخص الهاتف المسجل في الجهاز يعتبر إيجابًا وبالتالي يكون أحد شطري العقد. إذن، فإن الجهاز الذي يصلح لتسجيل تعبير الموجب يمكن اعتباره صالحًا لتسجيل تعبير القابل أيضًا، وفي كلتا الحالتين) ، فإن النقطة التي يجب الانتباه إليها هنا هي أن دور التلفون عبارة عن توفير الاتصال بين العاقدين الغائبين، أما الجهاز المسجل فهو يقوم مقام أحد الطرفين.
3-1-2- اعتبار الإيجاب ملزمًا أو غير ملزم:
لا نصادف في الفقه الإسلامي بتفرقة بين التعاقد بين الحاضرين والتعاقد بين الغائبين من ناحية إلزامية الإيجاب أو عدم إلزاميته. وعلى هذا فإن الرأي السائد في الفقه الإسلامي هو أن للموجب حق الرجوع عن إيجابه قبل صدور القبول من المخاطب في التعاقد بين الغائبين أيضًا كما هو الشأن في التعاقد بين الحاضرين. ولكن فقهاء المالكية يرون أن الموجب لا يصح رجوعه قبل انتهاء مدة معقولة- حسن العرف- تتيح فرصة لتأمل المتخاطب فيه.
أما في اشتراط أو عدم اشتراط علم المخاطب بالرجوع عن الإيجاب لترتيب الحكم على هذا الرجوع فإن الفقه الحنفي يتفق على رأي واحد- على خلاف ماورد بالنسبة للتعاقد بين الحاضرين- وهو: أن الرجوع عن الإيجاب في التعاقد بين الغائبين لا يشترط فيه علم المخاطب به، وبعبارة أخرى فإنه يعد تعبيرًا ملقًى وإن الفقه الحنفي قد انحاز في هذه المسألة إلى نظرية الإعلان محمصاني، النظرية العامة، 2/64؛ سوار، التعبير، ص147 (وقد جاء في كتاب د. سوار- ص108- أن الرجوع عن الإيجاب في التعاقد بين الغائبين (تعبير متلقي) بالإجماع. ويبدو أن هناك خطأ مطبعيًّا- مع أنه لم يشر إلى ذلك في جدول الأغلاط المطبعية) . ويعبِّر المؤلفون الأحناف عن هذا الحكم بالعبارة التالية وأمثالها: (ويصح رجوع الكاتب والمرسل عن الإيجاب الذي كتبه وأرسله قبل بلوغ الآخر وقبوله سواء علم الآخر أو لم يعلم حتى لو قبل الآخر بعد ذلك لا يتم البيع) (1) .
ويختلف الأمر في التشريع الوضعي باختلاف وضع الإيجاب، حيث ينقسم الإيجاب أولًا إلى:
1- إيجاب موجود فعلًا، وهو الإيجاب الذي صدر من الموجب ولما يتصل بعلم المخاطب. وهذا الإيجاب يجوز العدول عنه.
2- وإيجاب موجود قانونًا، وهو ذلك الإيجاب الذي اتصل بعلم المخاطب.
وهذا ينقسم أيضًا إلى:
(أ) إيجاب ملزم، وهو الذي يلتزم صاحبه أن يبقى عليه مدة يحددها هو، أو يحددها القانون أو العرف. وهذا الإيجاب لا يجوز الرجوع فيه كما لم يجز العدول عنه.
__________
(1) ابن الهمام، فتح القدير، 5/462؛ ابن نجيم، البحر الرائق، 5/290.(6/746)
(ب) وإيجاب غير ملزم، وهو الذي لا يلتزم صاحبه البقاء عليه، وفي هذا يجوز الرجوع وإن امتنع العدول عنه السنهوري (عبد الرزاق أحمد) ، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، بيروت، ط. دار إحياء التراث العربي، 1/182-184؛ موسى (م. ي.) ، الأموال ونظرية العقد، ص262-263.TEKINAY , BORCLAR, HUKUKU , P. 89-90
ويشرح الدكتور السنهوري الفرق الأساسي بين الفقه الإسلامي والتشريع الوضعي في هذا الموضوع بكلماته التالية: (والظاهر أن العقد في الفقه الإسلامي ينبني على توافق الإرادتين دون تحفظ، فهو رضائي إلى حد جاوز فيه القوانين التي تأخذ برضائية العقد. ومما يدل على ذلك أن الموجب لو أرسل إيجابه في كتاب أو مع رسول، ثم عدل عن هذا الإيجاب، دون أن يعلم الطرف الآخر، وقبل هذا بعد العدول، فإن العقد لا يتم لعدم توافق الإرادتين وقت صدور القبول. وقد علمنا أن القوانين الحديثة تجعل الإيجاب قائمًا قيامًا حكميًّا حتى لو عدل عنه الموجب ما دام لم يصل هذا العدول قبل أو مع وصول الإيجاب , فلو قبل الطرف الآخر إيجابًا، عدل عنه الموجب، ولكنه (أي الطرف الآخر) لم يعلم بهذا العدول، فإن العقد يتم بالرغم من ذلك، وينبني على الثقة المشروعة لا على توافق الإرادتين) (1) .
ويعبر الدكتور الدريني عما توصل إليه من نتائج في هذا الموضوع- ونحن نشاركه في رأيه هذا – كالتالي: (وأما عدم اشتراط علم الطرف الآخر برجوع الموجب فإن فيه ضررًا بهذا الطرف الآخر، لأنه يكون قد رتب أموره على هذه الصفقة وقد يكون رفض غيرها. وقد رأينا أن أبا حنيفة يشترط في الفسخ في الخيار علم الآخر (2) لأن هذا الآخر قد يعتمد تمام البيع فلا يطلب لسلعته مشتريًا وقد تكون المدة أيام رواج بيع المبيع وفي ذلك ضرر لا يخفى. فينبغي من أجل دفع الضرر اشتراط علم الطرف الآخر برجوع الموجب في التعاقد بين غائبين كما في التعاقد بين حاضرين عند من يشترطون العلم بالرجوع) (3) .
(وستتبلور أهمية اشتراط علم المخاطب بالرجوع عن الإيجاب من خلال تصويرنا لمسألة الإيجاب المحدد بمدة معينة أدناه) .
وينبغي لنا أن نذكر هنا قضية إلزامية الإيجاب أو عدم إلزاميته إذا حدد الموجب للطرف الآخر مدة يقبل الإيجاب فيها أو برفضه. وقد سبق أن أشرنا إلى هذه القضية بالنسبة للتعاقد بين الحاضرين تحت عنوان (2-1-2) ، وبالنظر إلى شرحنا في هذا الموضوع يتبين لنا أنه يمكن القول بأن المبادئ السائدة في فقه الالتزامات المالكي تقتضي اعتبار مثل هذا الإيجاب ملزمًا طيلة المدة المحددة كما يمكن القول بأن هذا الرأي هو الأوفق لمبادئ الفقه الإسلامي بصفة عامة.
__________
(1) السنهوري، نظرية العقد، ص302.
(2) إن الفسخ بخيار العيب من التعبيرات المتلقاة المجمع عليها في الفقه الحنفي، انظر: سوار، التعبير، ص 147
(3) الدريني، التراضي، ص323-324، 325-326.(6/747)
وتتبلور أهمية هذه المسألة في التعاقد بين الغائبين، وخاصة في ظروف الوقت الحاضر. بناء على هذه الأهمية ينبغي لنا أن نقف أمام هذه المسألة موضحين الأمور التالية: إذا حدد الموجب للطرف الآخر مدة اعتبرها من مصلحة نفسه بعد تخطيط أموره وبإرادته الحرة، وقام الطرف الآخر معتمدًا على هذا التعهد بتحضير أموره لقبول هذا الإيجاب في إطار خطة مرتبطة بالمدة المتاحة له (وفي هذه الفترة قد يقوم الطرف الموجه إليه الإيجاب باستخدام كل الوسائل المتاحة أمامه لكي يلبي هذا الإيجاب وقد يتضرر هذا الطرف من جراء عدم انعقاد العقد نتيجة للتضحيات الجسيمة التي قدمها بهذا الخصوص) ثم قبل وأرسل خبر القبول إلى الموجب، وبعد زمن قصير وصل إليه خبر الرجوع عن الإيجاب الذي تم صدوره قبل صدور القبول أو وصل خبر الرجوع قبيل صدور القبول وتم القبول بعد هذا، فهل ينبغي لنا أن نقول بأن العقد لا ينعقد لأن الرجوع عن الإيجاب قد صدر قبل صدور القبول ولأن توافق الإرادتين لم يتحقق مهما يكن مستوى الضرر الذي لحق بالطرف الآخر؟ أم أن نقول بأن العقد ينعقد لأن الرجوع عن الإيجاب ليس من حق الموجب في هذه الفترة أي أنه صدر عن شخص لا يعتبر في نظر القانون ذا صلاحية في هذا الخصوص، وبالتالي يعتبر الإيجاب قائمًا حكمًا في مثل هذه الحالة؟
ونرى في هذه المسألة أن الحل الأول بالرغم من كونه مبنيًّا على منطق فقهي رصين فإن الحل الثاني هو الأوفق لمبادئ الفقه الإسلامي سواء من ناحية الشكل أو من ناحية المقاصد وإليك إيضاح ذلك:
أولًا: من ناحية الشكل: وكما بينا تحت عنوان (2-3-1) أن ارتباط الإيجاب بالقبول حكمي وليس حقيقيًّا. وأما في التعاقد بين الغائبين فإن اتحاد المجلس أيضًا حكمي وليس حقيقيًّا بالإضافة إلى ذلك. وإن هذا الموقف المتسامح الذي يتضمن التنازل عن بعض ما يقتضيه القياس (أي القاعدة العامة) بخصوص شكل انعقاد العقد والذي اتفق عليه معظم الفقهاء المسلمين يستهدف في حقيقة الأمر غاية مقصودة ولا يستند إلى مجرد فكرة (الشكل) (1) ويهدف هذا الموقف- أول ما يهدف- إلى إتاحة فرصة القيام بالعقد أي (سد الحاجة) أثناء قبول (الحُكمِيَّة) في كل من الحالتين السابقتين. وإزاء هذا، هل لا تكون اعتبار الإيجاب وخاصة الإيجاب المحدد بمدة معينة- وهو الذي نحن بصدده قائمًا حكميًّا إلى وقت انتهاء هذه المدة من مستلزمات الفكرة نفسها؟ وبعبارة أخرى، هل طريقة التعاقد بين الغائبين تملك حظًّا في حيز التطبيق- خاصة في ظروف وقتنا الحاضر- وهل تتحقق الغاية الآنفة الإشارة (وهي سد الحاجة) إذا لم نقل بقيام الإيجاب حكميًّا في هذه الحالة؟
ثانيًا: المقاصد العامة للتشريع: إذا قمنا بتحليل مصلحة كل من الطرفين في هذه القضية نجد أن إعطاء حق الرجوع المطلق للموجب الذي حدد إيجابه بإرادته المنفردة بمدة معينة (أي للشخص الذي تعهد أمرا معينًا إزاء آخر) هو- في التحليل الصحيح- عبارة عن (جلب المنفعة) . أما تقييد هذا الحق باشتراط انتهاء المدة المحددة فهو- في التحليل الصريح- عبارة عن (درء المفسدة) . وحسب القاعدة الكلية المقررة في الفقه الإسلامي إن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.
أما إذا لم يحدد الموجب ميعادًا للقبول أو إذا لم تدل الظروف أو طبيعة المعاملة على التزام الموجب إيجابه مدة معينة، فإن مبادئ الفقه الإسلامي تقتضي الاعتراف بحق الرجوع ما لم يصدر القبول كما ورد في الفقه الحنفي.
__________
(1) يراجع في تقييم موضوع (الشكل) من وجهة نظر الفقه الإسلامي: البحث القيم للدكتور سوار بهذا العنوان، المذكور في الهامش رقم 50 من هذا البحث.(6/748)
وهناك نوع آخر للإيجاب وهو ذلك العرض الذي يتضمن قيدًا احترازيًّا يهدف إلى أن الموجب سيظل حرًّا في الالتزام بالعقد. وينبغي اعتبار هذا العرض عبارة عن (الدعوة إلى الإيجاب) ولا يمكن وصفه بأنه (إيجاب) في حقيقة الأمر. أما إذا قصد الموجب من وراء هذا القيد أن يحتفظ بحق خيار الرجوع عن الإيجاب ريثما يصل إليه خبر القبول وكان هذا المقصد يفهم من ذلك القيد صراحة، فتمتد مدة حق الرجوع عن الإيجاب إلى ما بعد صدور القبول خلافًا للقاعدة واستنادًا إلى اتفاق خاص (1) ولكن ليس من اليسير التوفيق بين هذا القيد وبين الفكرة الأساسية التي تعتمد عليها مؤسسة العقد، ولهذا فإن الطريقة السليمة هي اعتبار مثل هذا العرض (دعوة إلى الإيجاب) وليس (إيجابًا) كما أشار إلى ذلك عدد من الحقوقيين (2) .
وقد نصت المادة (15) من اتفاق فيينا على أن الإيجاب يكون ساري المفعول ابتداء من وصوله إلى الخاطب، وأن الإيجاب يمكن سحبه-ولو كان إيجابًا غير قابل العدول عنه- بشرط أن يصل خبر السحب إلى المخاطب في نفس الوقت الذي وصل فيه الإيجاب أو قبله.
ونصت المادة (16) من الاتفاق نفسه على أن الإيجاب يمكن العدول عنه حتى ينعقد العقد وذلك بشرط أن يصل هذا العدول إلى المخاطب قبل إرساله للقبول. ومع ذلك فإن الإيجاب- حسب الفقرة الثانية من المادة- لا يجوز العدول عنه:
(أ) إذا انطوى الإيجاب على أنه غير قابل العدول عنه لصاحبه إما بتحديد مدة معينة للقبول وإما بطريقة أخرى.
(ب) إذا كان من المعقول أن يلاحظ المخاطب الإيجاب غير قابل العدول عنه وإذا قام بتنفيذ العقد.
3-2- القبول
لا نصادف باختلاف الحكم في التعاقد بين الحاضرين والتعاقد بين الغائبين من ناحية خيار القبول في الفقه الإسلامي، أي أن الطرف الموجب إليه الإيجاب مخير بين قبوله ورده.
وقد سبق أن أشرنا إليه في التعاقد بين الحاضرين أن الحالات التي تعد في إطار (القبول الضمني) لا ينبغي تصورها كان المخاطب أصبح ملزمًا بالقبول. ومن الواضح أن مثل هذه الحالات تجد مجالًا أوسع في التعاقد بين الغائبين.
__________
(1) انظر FYZIOGLU، Borclar، ukuku vol.1، P.82-83
(2) von Tuhr، Borclar، ukuku، (Edege trc) ، Istanbul، 1952 1/191 نقلًا عن: FYZIOGLU، Borclar، ukuku vol.1، P.82(6/749)
وفي اشتراط صدور القبول من شخص معين أو عدم اشتراط يجب مراعاة ما أوردناه من التوضيحات في التعاقد بين الحاضرين أيضًا.
أما إمكانية الرجوع عن القبول إلى غاية انعقاد العقد على الصعيد العملي فتتعين حسب اعتبار انعقاد العقد بمجرد صدور القبول أو عدم انعقاده أي حسب اعتبار (القبول) تعبيرًا متلقًّى أو تعبيرا ملقى. وسنتناول هذه القضية-وفق ما جرينا عليه في التعاقد بين الحاضرين- تحت عنوان (3-3-3) .
وهناك مسألة هامة أخرى تتعلق (بالقبول) في التعاقد بين الغائبين وهي مسألة تحديد وقت القبول بوقت وصول الإيجاب أو عدم تحديده به، وهذه المسألة أيضًا لما لها من صلة وثيقة بمجلس العقد سنتناولها تحت عنوان (3-3-1) .
3-3- ارتباط الإيجاب بالقبول (مجلس العقد) ، وتحديد وقت ومكان انعقاد العقد:
لقد سبق أن بينا- تحت عنوان (2-3-1) أن ارتباط الإيجاب بالقبول حكمي بالنسبة للتعاقد بين الحاضرين ولكن اتحاد المجلس فيه يتم تصويره عند الفقهاء الأحناف خاصة انطلاقًا من منطلق مادي. أما في التعاقد بين الغائبين فإن اتحاد المجلس أيضًا حكمي بحيث يعتبر حكمًا أن الرسول أو الكتاب ناقل لإرادة الموجب ويعتبر كأن الموجب حضر بنفسه في مجلس العقد (1) .
ولن نتعرض تحت هذا العنوان إلا للمسائل الأربع الآتية التي لها صلة وثيقة بموضوعنا:
1- تحديد وقت القبول بوقت وصول الإيجاب أو عدم تحديده به.
2- اشتراط أو عدم اشتراط علم الموجب برفض الإيجاب لاعتبار الإيجاب ساقطًا.
3- تحديد وقت انعقاد العقد.
4- تحديد مكان انعقاد العقد.
3-3-1- تحديد وقت القبول بوقت وصول الإيجاب أو عدم تحديده به:
لقد تناولت الكتب الفقهية موضوع التعاقد بين الغائبين في إطار طريقتين رئيسيتين وهما: (أ) الكتابة، (ب) الرسالة. وجمعت بعض الكتب هاتين الطريقتين في حكم واحد وفرق بعضهما بينهما من ناحية الحكم. وليتبين لنا الفرق بينهما سنتناولهما على حدة:
(أ) الكتابة:
لقد جاء في معظم الكتب الفقهية للأحناف أن مكان بلوغ الكتاب وأداء الرسالة يعتبر مجلس العقد وإن العقد يتم إذا اتصل به القبول في ذلك المكان (2) .ولم تتطرق تلك الكتب إلى حالة في أغلب الأحيان: وهي حالة عدم وقوف المرسل إليه موقفًا حاسمًا من الإيجاب في مجلس بلوغ الكتاب ثم قراءته للكتاب في مجلس آخر وقبوله للإيجاب. ولكن ظاهر هذه العبارات تدل على أن الإيجاب يسقط بانفضاض مجلس بلوغ الكتاب (3) .
__________
(1) (وهذا لأن الرسول ناقل فلما قَبِل اتصل لفظه الموجب حكمًا) ابن الهمام فتح القدير، 5/462؛ (فكأنه حضر بنفسه) الكاساني، بدائع الصنائع، 5/138. يراجع في هذا الموضوع: الهامش رقم 50 من هذا البحث وما ذكر فيه من مراجع.
(2) ينظر مثلًا: المرغيناني، الهداية، 5/411؛ الكاساني، بدائع الصنائع، 5/138؛ ابن الهمام، فتح القدير، 5/462.
(3) في نفس المعنى انظر مثلًا: الدريني، التراضي، ص303.(6/750)
ومن جهة أخرى، يشار في بعض الكتب إلى رأي ذكره شيخ الإسلام جواهر زاده في مبسوطه- بعد أن قال (الكتاب والخطاب سواء إلا في فصل واحد) - وهو أن المرأة إذا بلغها الكتاب وقرأته ولم تزوج نفسها منه في المجلس الذي قرأت الكتاب ثم زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود وقد سمعوا كلامها وما في الكتاب يصح النكاح، لأن الغائب إنما صار خاطبًا لها بالكتاب، والكتاب باق في المجلس الثاني بمنزلة ما لو تكرر الخطاب من الحاضر في مجلس آخر (1) وبعد ذكر هذا الرأي يقول ابن عابدين: (وظاهره أن البيع كذلك وهو خلاف ظاهر الهداية فتأمل) (2) . ويميل بهذا الكلام إلى أن الإيجاب بالنسبة لعقد البيع (وأمثاله) أيضًا لا يسقط بانفضاض مجلس بلوغ الكتاب ويمكن أن يتم العقد بقراءة الكتاب نفسه في مجلس آخر.
ويؤيد الأستاذ على الخفيف رأي ابن عابدين ويقول بأن المخاطب يمكنه أن يقبل الإيجاب في أي وقت- ما لم يرفضه – (حتى بدون قراءة الكتاب مرة جديدة) . إذ أن الإيجاب قائم في رأيه بقيام الكتاب (3) .
ولكن الأستاذ أبو زهرة يرى أن قياس البيع على النكاح قياس مع الفارق، لأن النكاح يحتاج إلى شهود ولا يلزم أن يكونوا حاضرين وقت وصول الكتاب فيصح أن ينتظر إلى مجلس الشهود بخلاف البيع فإنه لا يحتاج إلى شهود (4) .
ويرى د. م.ي. موسى ود. الدريني عدم تجدد الإيجاب بالكتابة في مجلس آخر فيما إذا لم يصدر القبول في مجلس بلوغ الكتاب (5) .
وإذا انطلقنا من منطلق عدم إلزامية الإيجاب- وهذا هو الحكم المقرر في الفقه الحنفي- ينبغي اعتبار ما يفهم من ظاهر كتب الأحناف وجيهًا أي يناسب القول بأن الإيجاب يسقط فيما إذا لم يصدر القبول في مجلس بلوغ الكتاب. وخاصة إذا وضعنا نصب أعيينا تطبيقات العهود القديمة في هذا الموضوع تتبين هذه الوجاهة بجلاء، حيث إن حامل الكتاب يأتي إلى المخاطب في أغلب الأحيان على أساس أن يتلقى منه جوابًا- سلبيًّا كان أو إيجابيًّا- ويوصله إلى الموجب انطلاقًا من هذا الواقع يصل د. الدريني – أثناء تناوله لمسألة وقت ومكان انعقاد العقد بين الغائبين- على نتيجة أن نظرية الإعلان كانت تتضمن في نفس الوقت نظرية العلم- في نظر الفقهاء-، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطلع عادة على القبول الصادر عن المرسل إليه في ظروف ذلك الزمن.
انظر: الدريني، التراضي، ص319. (وسندرس قضية اشتراط علم الموجب بالقبول لانعقاد العقد أو عدم اشتراطه في الصفحات القليلة القادمة بشكل مفصل: 3-3-3) . إذن، فإننا تناولنا المسألة في إطار هذه الظروف وانطلاقًا من عدم إلزامية الإيجاب، لا يمكن أن نستسيغ اعتبار قيام الإيجاب مادام الكتاب قائمًا.
ولكن التعاقد بين الغائبين في الوقت الحاضر لا يتم عن طريق ما كان يحدث في العهود القديمة (6) . حيث يصل الخبر إلى المخاطب في ظروف لا تكون مناسبةً لتكوين مجلس عقد في هذه الأثناء غالبًا. ومن جهة أخرى تستلزم ظروف يومنا ترجيح رأي جمهور المالكية القائل بأن أغلب الإيجاب يكون ملزمًا لصاحبه لمدة يحدد مداها العرف -كما بينا سابقًا-. ويمكن القول بأنه من الأحوط والأوفق لمصلحة الطرفين أن يعين الموجب ميعادًا للقبول وذلك وفقًا لمبادئ الفقه الإسلامي عامة ولفقه الالتزامات المالكي خاصة.
وفيما إذا انطلقنا من هذا المنطلق يمكننا أن نصل في مسألة وقت القبول من زاوية إقرار ارتباط الإيجاب بالقبول إلى النتيجة التالية: إن المخاطب له حق التأمل والتروي في نطاق الميعاد المحدد للقبول وليس من الضروري أن يصدر منه القبول في مجلس بلوغ الكتاب وما في حكمه لاتصال قبوله بهذا الإيجاب. أما إذا انتهى الميعاد المحدد للقبول سقط الإيجاب، ويكون القبول الصادر بعد ذلك في حكم الإيجاب الذي يوجهه المخاطب إلى الموجب الأول الذي سقط إيجابه.
__________
(1) ابن نجيم، البحر الرائق، 5/291؛ ابن عابدين (محمد أمين) ، حاشية رد المحتار على الدر المختار، مصر، 1386هـ/1966م، 3/14، 4/512-513.
(2) ابن عابدين، حاشية رد المختار، 4/513.
(3) الخفيف (علي) ، أحكام المعاملات الشرعية، الطبعة الثالثة، ط. دار الفكر العربي، ص178، هامش2، ص179.
(4) أبو زهرة (محمد) ، الأحوال الشخصية، القاهرة، ط، دار الفكر العربي، ص 44-45، هامش رقم 1.
(5) موسى (م. ي) ، الأموال ونظرية العقد، ص 370؛ الدريني، التراضي، ص305-306.
(6) نقصد هنا التعاقد بوسائل الاتصال التي يجب في التعاقد بها تطبيق أحكام التعاقد بين الغائبين.(6/751)
(ب) الرسالة (السفارة) :
لقد ذكر المؤلفون الأحناف أحكام الرسالة والكتابة معًا بصفة عامة دون أن يفرقوا بينهما من جهة الحكم. وعلى هذا فإن الرأي الشائع عندهم بخصوص الكتابة الذي ذكرناه آنفًا يسري على الرسالة أيضًا وإن مجلس آداء الرسالة هو مجلس العقد. وإذا لم يصدر القبول في هذا المجلس يسقط الإيجاب. وينبه ابن عابدين إلى أن الرأي المنقول عن كتاب شيخ الإسلام خواهر زاده في تجدد الإيجاب بتكرار قراءة الكتاب –ذلك الرأي الذي يبدو أن ابن عابدين يتبناه ويرى توسيع مجال تطبيقه أيضًا- ينبه إلى أن هذا الرأي لا يمكن القبول به بالنسبة للرسالة مشيرًا إلى كلام الرحمتي الذي يفيد ضرورة التفريق بين هاتين الطريقتين من هذه الجهة (1) .
ولكن الأستاذ على الخفيف يدافع عن رأيه في هذا الموضع بقوله عن العقد ينعقد إذا أعاد الرسول الإيجاب بعد إعراض المرسل إليه في المرة الأولى- مادام لم يصل خبر الإعراض إلى الموجب- وإذا قبل المخاطب هذا الإيجاب في المرة الثانية. ويرد أ. الخفيف على الاعتراض المحتمل الذي يحتج بأن مهمة الرسول قد انتهت بالتبليغ الأول وليس من مهمته تكرير هذا التبليغ قائلا: إذا أمر الموجب شخصًا ما بالتبليغ أي أظهر إرادته للتبليغ، لا يشترط تحقيق هذا التبليغ من طرف شخص معين. وعلى هذا إذا أعاد الرسول رسالته فلن يكون في تلك الإعادة أقل من شخص قام بها متبرعًا، وإذا فلا مانع من أن نعتبر إعادة التبليغ إيجابًا مبتدأ كما في اعتبارنا الكتاب إيجابًا قائمًا بقيامه (2) .
وفي مقابل ذلك ينتقد د. الدريني رأي أ. الخفيف –بعد أن أفاد أنه يرجح رأي ابن عابدين - بعبارته التالية: (أما الانعقاد بناء على تبليغ فضولي فلا يقضي بجواز تجدد الإيجاب إذا أعاده الرسول في مجلس آخر- كما قال الأستاذ الخفيف- لأن رضا المرسل بتبليغ أي شخص- بعد أن أعلن رضاه بالتبليغ- لا يدل على رضائه بتكرير الإيجاب لأنه لم يعط للمبلغ هذا الحق، لأن الرسول ليس نائبًا عن المرسل وإنما مهمته مجرد نقل الإيجاب كما قالوا، ولهذا قال الأستاذ الخفيف نفسه: أما ترك الرسول المجلس أو إعراضه أو انتقاله بالحديث إلى موضوع آخر بعد إبلاغه الرسالة فالظاهر أنه لا يترتب عليه بطلان الإيجاب لأن المرسل لم يجعل له حق إبطاله) (3) .
قبل أن نبين رأينا في هذه المسألة، نرى لزامًا علينا الإشارة إلى أن ما ذكره د. الدريني لا ينهض حجة لما ذهب إليه من أن كلام أ. الخفيف- يبدو كأنه- ينقض نفسه بنفسه. لأن أ. الخفيف يفيد في كلا الموضعين من كلامه أمرين يؤيد أحدهما الآخر ودون أن ينطوي على تناقض بينهما وهما: الأمر الأول عليه سقوط الإيجاب لأن المرسل لم يجعل له حق إبطاله (كما لا يترتب سقوط الإيجاب على إعراض الرسول نفسه أيضًا) ، وبهذا يحكم أ. الخفيف بأن الإيجاب لا يزال قائمًا ولو كان المرسل إليه قد أعرض عن خبر الإيجاب ما لم يبلغ المرسل هذا الإعراض، والأمر الثاني: أن الرسول إذا أعاد الإيجاب بعد إعراض المرسل إليه فلا يعتبره أ. الخفيف بعد ذلك رسولا أعطاه المرسل حق تكرير الإيجاب أو نائبًا عن المرسل وإنما يعتبره كأي شخص آخر اطلع على إعلان الموجب عن رضاه بالتبليغ (وتبليغ الإيجاب بهذه الطريقة يصح حتى في المذهب الحنفي الذي يعتب الإيجاب في التعاقد بين الغائبين تعبيرًا متلقى كما رأينا) .
__________
(1) ابن عابدين، حاشية رد المختار، 3/14.
(2) الخفيف، أحكام المعاملات الشرعية، ص178 هامش2، ص179 هامش1.
(3) الدريني، التراضي، ص307(6/752)
أما رأينا في هذه المسألة فيمكن إيجازه فيما يلي: إننا إذا اعتبرنا الإيجاب غير ملزم لمدة معينة- وهو المقرر في أكثر المذاهب وخاصة في الفقه الحنفي- يجب الإقرار بأن الإيجاب يسقط فيما إذا أعرض المرسل إليه عنه في مجلس آداء الرسالة- كما كان في التعاقد بالكتابة-. وبالرغم من إننا نرى احتجاج أ. الخفيف صائبًا بخصوص عدم اشتراط أن يكون التبليغ من شخص معين ووجوب الاكتفاء بإعلان الموجب عن رضاه بالتبليغ فإننا نلاحظ في هذه المسألة أن رأي أ. الخفيف لا يتفق ونظرية اتحاد المجلس إذا حددنا أنفسنا بنطاق أحكام المذهب الحنفي. ولكننا إذا تناولنا رأي أ. الخفيف في إطار حكم إلزامية الإيجاب فيمكننا إذن، أن نحكم بأن الإيجاب يعتبر قائمًا طيلة مدة الإلزام وأن نقول بأن العقد ينعقد بقبول المرسل إليه في هذه المدة حتى دون أن تمس الحاجة إلى تبليغ ثان – ذاهبين إلى أبعد مما قاله أ. الخفيف- وذلك وفقًا للمنطق الذي يعول عليه أ. الخفيف نفسه في مسألة الكتابة-. وهذا هو الحل الذي نرتئيه ملائمًا لظروف وقتنا الحاضر وموافقًا لمبادئ الفقه الإسلامي كما بينا وجه استدلالنا تحت عنوان (الإيجاب) (3-1-2) و (الكتابة) (3-3-1/أ) .
3-3-2- اشتراط أو عدم اشتراط علم الموجب برفض الإيجاب لاعتبار الإيجاب ساقطًا:
بادئ ذي بدء ينبغي لنا التنبيه على وجوب عدم الخلط بين المسألتين التاليتين:
الأولى: مسألة سقوط أو عدم سقوط الإيجاب بانفضاض مجلس آداء الرسالة أو الكتاب دون صدور القبول. والثاني: مسألة سقوط أو عدم سقوط الإيجاب في حالة رفضه ما لم يبلغ علم الموجب. والمسألة التي نحن بصددها الآن هي المسألة الثانية.
وقد سبق أن أشرنا في التعاقد بين الحاضرين (2-3-1) إلى أن د. الدريني يقول إن الفقهاء لم يتعرضوا لمسألة اشتراط علم الموجب برفض الإيجاب صراحة ثم يحاول أن يقيس (رفض الإيجاب) على (القبول) في التعاقد بين الحاضرين. وبناء على أن المسألة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعاقد بين الغائبين، كنا قد أجلنا دراستها إلى هذا العنوان.
إن (رفض الإيجاب) تجب ملاحظته (تعبيرًا متلقى) ويكون قياسه على (القبول) قياسًا مع الفارق – حسب ما يبدو لنا-. لأن القيام بتوصيف القبول – أهو تعبير متلقي أم تعبير ملقي- يتعلق بتحديد وقت انعقاد العقد، بمعنى أن السؤال الذي قد يطرح نفسه بهذا الخصوص هو: هل ينعقد العقد بمجرد إعلان المرسل إليه عن القبول الموافق للإيجاب إليه، أم يجب لانعقاد العقد علم الموجب بهذا القبول؟ بينما دراسة (رفض الإيجاب) لا تنصب على ارتباط الإرادتين والنتيجة المترتبة عليه بل تنصب على التأكد من قيام أو عدم قيام (الإيجاب) الذي هو عبارة عن التعبير عن إرادة منفردة إذا تم رفضه مكن طرف من وجه إليه. إذن، يناسب قياس (رفض الإيجاب) على (الإيجاب) ولا يناسب قياسه على (القبول) .
ومن جهة أخرى، فإن رفض الإيجاب – كما أشار إليه د. سوار مصيبًا في نظرنا- قد يتضمن تعديلا للإيجاب السابق فيعتبر عندها إيجابًا جديدًا، والإيجاب كما هو معلوم تعبير متلقى (1)
وفي هذا المضمار نلاحظ أن كلام أ. الخفيف المتعلق بتعليل حكم إعراض المرسل إليه يساعدنا في تحليل هذه القضية وهو كالتالي: (لأننا ما أبطلنا الإيجاب عند الإعراض عنه إلا ليسترد الموجب حريته في التعاقد مع غير من ساومه، أو في الاحتفاظ بملكه وذلك لا يتم إلا إذا علم بالإعراض فما الضرر من اعتبار إيجابه قائمًا إلى أن يعلم، حتى إذا صدر القبول قبل العلم نشأ العقد) (2) إلا أنه يفيد في مكان آخر أن الرفض الصريح يسقط بالإيجاب. ويقوم د. الدريني بانتقاد كلام أ. الخفيف الآنف الذكر من هذه الجهة ويشير إلى أن التعليل الوارد في هذا الكلام يقتضي عدم سقوط الإيجاب بالرفض أيضًا (3) . ومع أننا نجد نقد د. الدريني وجيهًا فإننا نرجح أن نحتاط في فهم كلام أ. الخفيف ونرى من الممكن أنه قصد (بالرفض الصريح) الإعراض أو الرد الذي وصل إلى علم الموجب ولم يقصد به مجرد تعبير الرفض الذي لم يبلغ علم الموجب.
__________
(1) سوار، التعبير، ص132 هامش1. (ويجب الانتباه إلى أن ما يذكر هنا بالنسبة لماهية الإيجاب هو حسب المذهب الحنفي) .
(2) الخفيف، أحكام المعاملات الشرعية، ص178 هامش2.
(3) الدريني، التراضي، ص127-128(6/753)
ومع ذلك كله، يجب الانتباه إلى أن الرأي القائل بعدم سقوط الإيجاب إذا رفضه المرسل إليه ما لم يصل خبر الرفض إلى الموجب، لا يجد مجالًا واسعًا في حيز التطبيق إذا انطلقنا من الرأي الحنفي بخصوص الرسالة ومن الرأي الحنفي الشائع بخصوص الكتابة، لأن مجلس العقد في التعاقد بين الغائبين ينتهي كما في التعاقد بين الحاضرين وكذلك لا تختلف النتيجة في هذه المسألة اختلافًا كبيرًا إذا اعتمدنا على الرأي الشافعي الذي يقول بخيار المجلس أيضًا. أما إذا انطلقنا من رأي الجمهور المالكية الذي يقول بإلزامية الإيجاب وخاصة في حالة تحديد مدة معينة للقبول فإن هذه المسألة قد تكتسب أهمية كبيرة في المدة التي يبقى فيها ملزمًا لصاحبه.
وقد نصت المادة (17) من اتفاق فيينا على أن الإيجاب –وإن كان غير قابل العدول عنه- يسقط بوصول رفضه إلى الموجب.
3-3-3- تحديد وقت انعقاد العقد:
ينبغي لنا قبل كل شيء أن نسترعي الانتباه إلى أن دراساتنا تحت هذا العنوان، ستنصب فقط على مسائل التعاقد الذي يأخذ حكم التعاقد بين الغائبين باعتبار التكييف الفقهي. أما التعاقد الذي يتحقق بين طرفين غائبين بالفعل أي متباعدين باعتبار المكان، والذي قد يأخذ مع هذا، حكم التعاقد بين الحاضرين من حيث الزمان نظرًا لشكل جريان المعاملة أي لاتحاد المجلس كما في التعاقد بين بالحاضرين، فإنه سيتم تناول هذه المسألة تحت عنوان (4-) .
ومن جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أننا إذا فكرنا في الموضع بشكل نظري يمكن أن نتصور أن العقد بين الغائبين (أي بالمراسلة) يتم بالنسبة لأحد الطرفين في زمان ومكان غير الزمان والمكان اللذين يتم فيهما بالنسبة للطرف الآخر، ولكن هذا لا يستقيم مع الحاجات العملية التي تقتضي في كثير من الأحوال وحدة الزمان والمكان الذين يتم فيهما العقد بالنسبة لكل من الطرفين (1) .
(أ) النظريات التي تحدد وقت انعقاد العقد:
للإجابة على سؤال (متى يتم العقد؟)
يمكن صياغة نظريات مختلفة حسب الاحتمالات المنطقية المتنوعة. وفي إطار أعمال صياغة النظريات في هذا الموضوع ظهرت واشتهرت أربع نظريات حسب الاحتمالات الأربعة الرئيسية:
1- نظرية إعلان القبول (Theorie de la declaration) :
تقوم هذه النظرية على أن العقد توافق بين إرادتين، وتقول بأن العقد يتم وقت إعلان المرسل إليه عن رغبته في القبول وذلك قبل إرسال الجواب وقبل وصوله إلى الموجب أو العلم به من طرفه.
__________
(1) السنهوري، نظرية العقد، ص292 هامش4.(6/754)
2 - نظرية تصدير بالقبول أو نظرية الإرسال (Theorie de la lexpedition) :
وهذه النظرية تتفق مع النظرية الأولى في أساسها، إلا أنها تشترط أن يكون القبول نهائيًّا أي تقول بأن العقد يتم إذا أرسل الطرف القابل قبوله بحيث لا يتمكن بعد ذلك من استرداده.
3- نظرية استلام القبول أو نظرية التسلم (Theorie de la reception)
هذه النظرية تقول بانعقاد العقد عندما يتسلم المرسل (الموجب) جواب الطرف القابل ولو قبل الاطلاع على مضمونه.
4- نظرية العلم بالقبول أو نظرية التبليغ (Theorie de l information)
تقوم هذه النظرية على أن العقد إذا كان توافقًا بين إرادتين، فإنه يجب أيضًا أن يعلم كل طرف بقيام هذا التوافق، وعلى هذا لا يتم العقد إلا عندما يتبلغ الموجب قبول المرسل إليه.
ويمكن زيادة نظرية أخرى إلى تلك النظريات الأربع وهي النظرية المختلطة التي أخذت بها بعض القوانين. وهي نظرية تتوسط بين نظرية تصدير القبول ونظرية استلام القبول. ففيها لا يعد العقد تامًّا إلا من وقت استلام القبول، من طرف الموجب. ولكن يعتبر العقد ساريًا منذ تصدير القبول يراجع في هذا الموضوع: السنهوري، نظرية العقد، ص 293-304؛ محمصاني؛ النظرية العامة، 2/65 –66؛ SCHWARZ، Borclar، vol. 1، P. 222-223;TEKINAY، Borclar، Hukuku، P.102-104; FEYZIOGLU، Borclar، Hukuku vol.1، p.94-99.
(ب) النتائج المترتبة على تحديد وقت انعقاد العقد:
تترتب على تحديد وقت انعقاد العقد آثار كثيرة ويتعين هذا الوقت حسب الترجيح بين النظريات الآنفة الذكر، كما تختلف هذه النتائج حسب هذا الترجيح. وسنكتفي بالإشارة إلى أهمها باختصار شديد:
1- حق عدول الطرف القابل عن قبوله محدد بوقت انعقاد العقد. وكذلك للموجب أن يعدل عن إيجابه، -في حالة ما إذا لم يكن الإيجاب ملزمًا حسب قواعد الفقه الذي تدرس القضية في إطاره- إلى وقت تمام العقد.
2- تهم معرفة وقت انعقاد العقد للحكم بانعقاد العقد أو عدم انعقاده، في حالة موت القابل بعد أن صدر منه القبول أو فقد أهليته وقبل إرساله إلى الموجب أو أن يستلمه الموجب أو أن يطلع عليه.
3- تهم أيضًا معرفة وقت انعقاد العقد للحكم بانعقاد العقد أو عدم انعقاده في حالة ضياع خبر القبول في الطريق، أو تأخر وصوله إلى الموجب عن الوقت الذي حدده.
4- تجب كذلك معرفة وقت انعقاد العقد للحكم بانعقاد العقد أو عدم انعقاده، في حالة هلاك الشيء المعقود عليه بعد إعلان القبول وقبل إرساله إلى بالموجب أو أن يستلمه الموجب أو أن يطلع عليه.(6/755)
وعلى هذا، فإنه إذا تم الحكم بأن الشيء المعقود عليه قد هلك بعد انعقاد العقد –حسب النظرية المختارة-، تطبق القواعد العامة في معرفة مَنْ مِنَ الطرفين يتحمل تبعة هلاك الشيء.
5- في العقود الناقلة للملكية كالبيع، إذا كان العقد بيعًا واقعًا على منقول معين، فإن ملكيته وثماره تنتقل إلى المشتري من وقت تمام العقد، ولهذا تمس الحاجة إلى تحديد وقت انعقاد العقد.
ويتفرع عن هذا أن منقولا معينًا بالذات إذا بيع إلى شخصين مختلفين ولم يسلمه البائع لأحدهما، فإن ملكية المبيع تنتقل لمن تم عقده أولا، ولذا تجب معرفة انعقاد العقد.
6- تهم أيضًا معرفة وقت انعقاد العقد في تطبيق أحكام المواعيد التي تسري من وقت انعقاد العقد. كميعاد التقادم بالنسبة لسماع الدعوى أو بالنسبة لبعض الالتزامات، أو المدة التي يصح فيها الاستراداد في بيع الوفاء وما شابه ذلك.
7- تجب أيضًا معرفة وقت انعقاد العقد لمعرفة صحة أو بطلان العقود التي تصدر من تاجر أشهر إفلاسه، هل انعقدت قبل فترة الريبة أو في أثنائها أو بعد تمام التوقف عن الدفع أو بعد إشهار الإفلاس؟ الذي يحدد ذلك هو معرفة تمام العقد.
8- في دعوى إبطال التصرفات التي لا يستطيع الدائن الطعن في عقد صدر من مدينه إضرارًا بحقه إلا إذا كان هذا العقد متأخرًا في التاريخ عن الحق الثابت له في ذمة المدين. ولذا تمس الحاجة أيضًا إلى معرفة وقت انعقاد ذلك العقد يراجع في هذا الموضوع: السنهوري، الوسيط، 1/237-245؛ نظرية العقد، ص304-309؛ سلطان (أنور) ، مصادر الالتزام في القانون المدني الأردني/ دراسة مقارنة بالفقه الإسلامي، عمان، 1987م، ص67-68؛
GHESTIN، Traite de Droit Civil، vol.2 P.193; TEKINAY، Borclar Hukuku، P.104-105; FEYZIOGLU، Borclar، Hukuku vol.P.93; EREN، Borclar، Hukuku vol. 1، P.287. .(6/756)
(ج) موقف التشريع الوضعي من هذه النظريات:
يقول الدكتور السنهوري أثناء قيامه بتقييم النظريات المذكورة فيما يخص تحديد وقت انعقاد العقد: (والواقع أن النظريتين الرئيسيتين هما نظرية إعلان القبول ونظرية العلم بالقبول، وما عداهما فمتفرع منهما ويرد إليهما) (1) .
ولعل بعض الباحثين المعاصرين الأجلاء ممن يدرسون هذه القضية من زاوية الفقه الإسلامي، قد تأثروا غالبًا بما ورد في كتب الدكتور السنهوري –الذي هو من أوائل من قام بدراسة هذه القضية وأمثالها بشكل مفصل في العالم الإسلامي- وهم ينطلقون من الفكرة نفسها ويبدون آراءهم في ضوء هاتين النظرتين فقط دون أن يولوا أي اهتمام للنظريات الأخرى (2) .
ولكن الأمر يختلف في الوقت الحاضر عما كان عليه في السابق مع اعترافنا بوجاهة رأي د. السنهوري في هذه المسألة والحري بنا أن نذكر هنا أن د. السنهوري –إلى جانب كلامه المشار إليه- يقول في الهامش رقم1، ص304 من كتابه نظرية العقد بخصوص (نظرية استلام القبول) : (الرأي الذي أخذ يتغلب في التشريع الحديث) وأيضًا: (هي النظرية التي يظهر أنها أخذت تكسب أنصارًا أكثر من غيرها من النظريات الأخرى) .
ويبدو أن هذه العبارات لم ينتبه إليها المؤلفون المشار إليهم آنفًا. . ويبدو أن د. القره داغي حين أبدى رأيه في ترجيح إحدى هذه النظريات من زاوية الفقه الإسلامي قائلا بأن نظرية الإعلان هي الأوفق لمتطلبات العصر الحديث وللفهم السائد في الفقه الحديث (3) ، وقائلا: (إن الرأي الحديث يتجه – في الغالب- إلى تفضيل نظرية الإعلان) (4) ، ويبدو أنه يعتمد على الكتب المنشورة قديمًا (مع أنه لا يذكر أسماء المراجع التي تؤيد هذا الرأي بالذات) .
وبالرغم من أن حقوقيي القرن التاسع عشر كانوا منقسمين إلى فئتين رئيسيتين تفضل إحداهما نظرية إعلان القبول وتفضل الأخرى نظرية العلم بالقبول، فإن معظم الحقوقيين في وقتنا الحاضر وكذلك معظم التشريعات الحديثة في اتجاهين يميل إحداهما إلى ترجيح نظرية تصدير القبول والآخر يميل إلى ترجيح نظرية استلام القبول (5) .
__________
(1) السنهوري، نظرية العقد، ص296؛الوسيط.1/243.
(2) يمكن أن نذكر على سبيل المثال: سوار، التعبير، ص125-145: الدريني، التراضي، ص307-331، وخاصة 328-329 القره داغي، مبدأ الرضا 2-1112-1127 الإبراهيم: (حكم إجراء العقود) ص123-124.
(3) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1126.
(4) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1114.
(5) SCHWARZ، Borclar، vol. 1، p.224;GHESTIN، Traitre de Droit Civil، vol.2 P.194-195.(6/757)
كما سنرى في الفقرة التالية:
وقد تبنى النظام الأنجلو- الأمريكي (Anglo-American) نظرية تصدير القبول، وتبنى القانونان الألماني (م.130) والنمساوي نظرية استلام القبول. ومع أن القانونين السويسري والتركي الحديث لم يصرحا بحكم ما في هذه القضية، فإن القانونيين لا يختلفون في أنهما تبنيا نظرية مختلطة في هذا المضمار وعلى هذا، فإن النظرية المعتمد عليهما في هذين القانونين هي نظرية استلام القبول –مبدئيًّا- من حيث وقت انعقاد العقد، ونظرية تصدير القبول من حيث سريان مفعول العقد (وإلى جانب ذلك ينص هذان القانونان على أن العقد تترتب عليه آثاره منذ وصول الإيجاب إلى المرسل إليه من حالات عدم الحاجة إلى قبول صريح للإيجاب) (م.10، 9، 5، 3) . وفي الفقه الفرنسي، من أن القضية لم يتم حلها من طرف حكم قانوني فإن الاجتهادات القضائية بعد أن ترددت بين نظريتي إعلان القبول والعلم بالقبول فترة من الزمن وبين نظريتي تصدير القبول واستلام القبول فترة أخرى من الزمن، مالت – أغلبها- السنوات الأخيرة على نظرية تصدير القبول، وأما القانون المدني الإيطالي الجديد (م. 1335) يعتمد – أساسًا- على نظرية العلم بالقبول، إلا أنه وضع قرينة يفرض بمقتضاها أن الموجب قد علم بالقبول بمجرد استلامه له انظر السنهوري، نظرية العقد، ص300؛ النظرية العامة، 2/65-66؛
SCHWARZ، Borclar، vol. 1، P. 224-228; GHESTIN، Traite de Droit Civil، vol.2 P. 194-198; TEKINAY، Borclar Hukuku، P. 102-103; FEYZIOGLU، Borclar، Hukuku vol. 1، P. 96-100.
بعض الملاحظات:
1- عن الدكتور السنهوري لم يحالفه الصواب حينما قال: (وقد قضت المادة العاشرة من قانون الالتزامات السويسري بأن العقد فيما بين الغائبين ينتج أثره من الوقت الذي يصدر فيه القبول، وإذا لم تكن هناك ضرورة لقبول صريح فإن العقد ينتج آثاره من وقت صدور القبول. ومن ذلك نرى أن هذا القانون قد أخذ بنظرية تصدير القبول، ما لم يكن القبول ضمنيًّا فيكتفي بإعلانه) . (نظرية العقد، ص300) لأن هذا القانون يصرح بأن العقد ينتج آثاره –في حالة القبول الضمني- (من وقت وصول الإيجاب) لا (من وقت صدور القبول) ، ومن جهة أخرى، فإن هذا القانون يأخذ – في الحالات العادية أي في حالة القبول الصريح – بنظرية استلام القبول من حيث وقت انعقاد العقد وبنظرية تصدير القبول من حيث سريان مفعول العقد- كما أشرنا إلى ذلك وكما سيأتي تحليل هذه النظرية تحت عنوان (د د) في الصفحات القليلة القادمة-. ولعل بعض الباحثين قد تأثروا بهذا الكلام للدكتور السنهوري (وقد جاء في كتابه الوسيط أيضًا-1/244- إن تقنين الالتزامات السويسري يأخذ بمذهب تصدير القبول) ، وقالوا بأن القانون السويسري قد أخذ بنظرية تصدير القبول، انظر مثلا: الدريني، التراضي، ص328؛ الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص123.
2- إن د. الدريني (التراضي، ص328) ود. القره داغي (مبدأ الرضا، 2/1114) لم يحالفهما الصواب أيضًا حينما قال كل منهما إن القانون المدني الألماني قد أخذ بنظرية العلم.(6/758)
3- لا يعتبر كلام د. الإبراهيم صائبًا حيث قال: (إن القانون الفرنسي قد أخذ بنظرية استلام القبول شريطة أن يكون قرينة على العلم بالقبول) . (حكم إجراء العقود) ، ص123
أما في البلدان العربية فيلاحظ وجود اتجاهين رئيسين أحدهما يتمثل في المادة (97) (وأيضًا 91) من القانون المدني المصري التي تنص على تبني نظرية العلم بالقبول والتي تنطوي على قرينة يفرض بمقتضاها أن الموجب قد علم بالقبول بمجرد استلامه له –كما هو الوضع في القانون المدني الإيطالي- وقد تبنى هذا الاتجاه معظم التشريعات الحديثة في البلدان العربية، منها: القانون المدني العراقي (م.87) ، والقانون المدني الجزائري (م.67، وأيضًا 61) ، والقانون المدني الكويتي (م.49) ، والقانون التجاري الكويتي (م.112) ، والقانون الليبي (م.97) ؛ وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاتجاه لا يهدف –أساسًا- إلى تطبيق نظرية العلم بالقبول بصورة مطلقة، ويمكن القول بأنه يقترب جدًّا إلى نظرية استلام القبول باعتبار نتائجه على الصعيد العملي، مع قبولنا بأن القرينة الآنفة الإشارة ليست قرينة قاطعة بل يمكن للموجب أن يثبت عكس ذلك (1) . والاتجاه الثاني تبنى نظرية إعلان القبول، كما ورد في قانون الموجبات والعقود اللبناني (م.184) ، والقانون المدني السوري الذي اقتدى في ذلك بالقانون اللبناني لكثرة المعاملات بالجارية بين سورية ولبنان (م.98) ، والقانون المدني الأردني (م.101) والمدونة المدنية التونسية (م.28) والقانون المراكشي. ومع هذا , فإن هذه القوانين تقيد هذا الحكم غالبًا بقيد: (ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك) (2) .
وقد تبنى اتفاق فيينا نظرية استلام القبول في مادته (23) و (24) مع ملاحظة الفقرة 2 من المادة (18) (3) . إلا أن المخاطب إذا عبر عن رضاه بطريقة التنفيذ الفعلي مثل تأدية الثمن أو إرسال السلعة دون الإخبار عن قبول صريح بطريقة المراسلة –حسب التطبيقات المستقرة بين الطرفين أو العرف والعادة- فإن القبول يكون ساري المفعول منذ ذلك التنفيذ. (الفقرة 3 من المادة 18) .
__________
(1) انظر في نفس المعنى: السنهوري، مصادر الحق 2/54 هامش2؛ الوسيط، 1/248؛ نظرية العقد، ص297 وهامش2؛ SCHEARZ، Borclar، vol. 1، P. 224-225، Not. 4.
(2) يراجع في هذا الموضوع: السنهوري، مصادر الحق، 2/53-54؛ الدريني، التراضي ص331؛ القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1116 –1118؛ الزحيلي، العقود المسماة، ص21؛ عبد التواب (معوض) ، مدونة القانون المدني، القاهرة، 1987، 1/130، 139 وما بعدها.
(3) STOFFEL (W.A) ، Formation du Contrat، Convention de Vienne de 1980 sur La Vente Internationale de Marchandises/ Collogue de Lausaanne des 19 et November 1984، Zurrich، 1985، P.59.(6/759)
(د) موقف الفقه الإسلامي من تحديد وقت انعقاد العقد:
(أأ) الكتب الفقهية القديمة:
يلاحظ أن الكتب الفقهية القديمة تصرح – غالبًا- بأن التعاقد بين الغائبين يصح، وإن العقد ينعقد إذا قبل المرسل إليه الإيجاب الذي وصل إليه بواسطة الكتاب أو الرسول، دون التطرق إلى قضية اشتراط أو عدم اشتراط علم الموجب بالقبول، ولكن ظاهر عبارات هذه الكتب تدل على أن العقد ينعقد بصدور القبول دون اشتراط علم الموجب بالقبول. ولا نرى فائدة في ذكر النصوص الفقهية المتعلقة بهذا الخصوص (1) ، بل سنكتفي بالاهتمام بتقييم هذه القضية في الصفحات القليلة القادمة.
(ب ب) آراء الباحثين المعاصرين:
سنعرض خلاصة آراء بعض الباحثين المعاصرين في الفقه الإسلامي في هذه القضية تحت هذا العنوان (ثم سنقوم بنقد هذه الآراء في العنوان التالي) .
* يبدأ الدكتور السنهوري كلماته في هذا الموضوع قائلًا: (أما في الفقه الإسلامي فلم نعثر على نص صريح في هذه المسألة يبين متى يتم العقد بين الغائبين، هل يتم بمجرد إعلان القبول أو لا يتم إلا بعلم الموجب بالقبول؟) (2) ، ثم يذكر نصوصًا من الكتب الفقهية تتعلق بـ (وجوب سماع المتعاقد الآخر الإيجاب) ، وبـ (وجوب سماع الموجب للقبول) بالنسبة للتعاقد بين الحاضرين، وكذلك يذكر منها ما يتعلق بالتعاقد بين الغائبين.
ويعبر د. السنهوري عن النتيجة التي توصل إليها من خلال دراسته في هذه المسألة كالتالي:
(فيتم العقد بين الغائبين، إذن، في الفقه الإسلامي، بإعلان القبول ولا يشترط علم الموجب بالقبول، وإذا كان التعاقد بين الحاضرين يشترط فيه سماع الموجب للقبول كما تصرح النصوص بذلك، فكل ما يشترط في التعاقد بين الغائبين أن يكون الموجب قد أراد تبليغ إيجابه للمتعاقد الآخر كما قدمنا، حتى يعلم بذلك أن إيجابه باتّ، ولا يشترط أن يسمع هو –أي الموجب- قبول المتعاقد الآخر أو يبلغه هذا القبول.
__________
(1) يراجع في هذا الموضوع: الكاساني، بدائع الصنائع، 5/138؛ البابرتي (محمد بن محمود) شرح العناية على الهداية، بيروت، ط. دار إحياء بالتراث العربي بالأوفست، 5/461؛ ابن الهمام، فتح القدير، 5/461-462؛ ابن نجيم، البحر الرائق، 5/290؛ العدوي، حاشية العدوي على الخرشي، 5/5؛ الدسوقي على الدردير، 3/3، 4؛ النووي، المجموع، 9/167؛ البهوتي، كشاف القناع، 3/184. (ويجب مراعاة ملاحظتنا السابقة في الهامش رقم 12 من البحث) .
(2) السنهوري، مصادر الحق، 2/54.(6/760)
هذا مانستخلصه من ظاهر النصوص ولكنا مع ذلك نرى أن الفقهاء لم يواجهوا، في وجوب سماع الموجب للقبول، حالة التعاقد بين الغائبين مواجهة صريحة. وهم لم يواجهوا في ذلك إلا حالة التعاقد بين الحاضرين، ولو أنهم واجهوا الحالة الأولى كما واجهوا الحالة الثانية، لما كان بعيدًا ـ أن تختلف الآراء فيها. بل نحن نذهب إلى أبعد من ذلك، ونقول إن منطق القاعدة التي تقول بوجوب سماع الموجب القبول في التعاقد بين حاضرين تقتضي القول بوجوب علم الموجب بالقبول في التعاقد بين غائبين والسماع في حالة حضور الموجب يقابله العلم في حالة غيابه) (1)
* ويقول الدكتور محمصاني استنتاجًا من بعض ماورد في الكتب الفقهية من العبارات في هذه المسألة ودون أن يقوم بتحليل أو تقييم: (فإذن، تنتمي الشريعة الإسلامية إلى نظرية إعلان القبول) (2) .
* ويقول الدكتور سوار – بعد أن أشار إلى مساوئ كل من نظرية الإعلان ونظرية القبول (3) : (عن المآخذ الجدية التي أسلفنا عرضها والتي تلحق بنظريتي العلم والإعلان تدعونا إلى التخلي عن كلتي النظريتين بوضعهما الحالي المعيب) ، ثم يشير إلى الحل السليم –في نظره- بقوله: (وإننا لواجدون مفتاح هذا الحل بكل يسر وسهولة في الفصل بين انعقاد العقد ولزومه. وذلك بالعمل على تعجيل انعقاد العقد بحيث يكفي لانبرامه مجرد صدور القبول، وهذا هو الوجه الحق في نظرية الإعلان. وتأخير لزوم العقد بحيث لا يكفي وجود شطريه لكي يغدو لازمًا، لا بد لهذا اللزوم من التقاء الشطرين وعلم الموجب بالقبول، وهذا هو وجه الصواب في نظرية العلم) (4) .
وبعد ذلك يقترح د. سوار نظرية جديدة أطلق عليها (نظرية خيار الطريق (في ظل نظرية الإعلان) انطلاقًا من فكرته المشار إليها أعلاه. كما يقوم بتوضيح نظريته تحت العناوين التالية: نطاقها، أحكامها، تأصيلها وتسميتها، مزاياها (5) . ونحن دون أن نتطرق إلى تفاصيلها نكتفي هنا بذكر ملخص نظرية خيار الطريق للدكتور سوار، إذ يقول: (تقنين من وضعنا: وبناء على ما تقدم نقترح تعديل نص المادة (98) من القانون المدني السوري بحيث يصبح على الشكل الآتي (م.98) : (1) يعتبر التعاقد بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين صدر فيهما القبول ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغير ذلك. (2) لكل من العاقدين خيار الرجوع عن العقد قبل وصول القبول الصريح إلى علم الموجب وينتقل هذا الخيار على الوارث حال وفاته، وإلى نائبه الشرعي حال فقده أهليته. (3) يعتبر وصول القبول إلى علم الموجب قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على عكس ذلك) (6) .
* يقول الدكتور الدريني أولا: (والمشهور على ألسنة الكتاب أن الفقه الإسلامي يتبع نظرية الإعلان، وهذه المسألة اجتهادية يجب أن يراعي فيها قاعدة دفع الضرر..) وبعد هذا نجد د. الدريني يلح على ضروة عدم الرجوع عن القبول بعد ثبوت القبول، ولهذا يرجح – مبدئيًّا- نظرية الإعلان عن القبول، إلا أنه يجب في نظره اشتراط إرسال القبول في وقت مناسب بموجب قاعدة (دفع الضرر) (7) . ومع ذلك، فإنه يقول في مكان آخر من كتابه أن سر اكتفاء الفقهاء بالإعلان يمكن إيضاحه باحتواء الإعلان في ظروف زمنهم على علم الموجب بالقبول أيضًا (8) .
__________
(1) السنهوري، مصادر الحق، 2/54-56. ويعبر د. السنهوري عن هذه النتيجة في كتابه نظرية العقد (ص302) بالعبارة التالية: (ويؤخذ من هذا أن العقد بالمراسلة في الشريعة الإسلامية يتم بإعلان القبول) .
(2) محمصاني، النظرية العامة، 2/64، 66.
(3) سوار، التعبير، ص129-132.
(4) سوار، التعبير، ص132.
(5) سوار، التعبير، ص132-145.
(6) سوار، التعبير، ص145.
(7) الدريني، التراضي، ص322-324.
(8) الدريني، التراضي، ص319.(6/761)
* ويدافع الدكتور القره داغي عن نظرية الإعلان بشكل حاسم. ويذكر د. القره داغي لترجيح هذا الرأي الأمور التالية:
1- (إن العقد على ضوء الفقه الحديث عامة لا يتطلب أكثر من الإيجاب والقبول، فإذا تم القبول فقد تم العقد. ففي القبول بنظرية العلم بالقبول ونحوها تأخير كبير لآثار العقد لا يتفق مع متطلبات العصر الحديث من سرعة إنهاء المعاملات) (1) .
(إن الرأي الحديث يكاد ينبذ نظرية العلم، ويتجه – في الغالب- إلى تفضيل نظرية الإعلان عن القبول عليها) (2) .
2- (كما أن ذلك (القول بنظرية العلم ونحوها) يؤدي إلى زعزعة الثقة وعدم اطمئنان القابل من فعالية قبوله، حيث أن للموجب الحق في رفض التعاقد بعد القبول وقبل وصوله إلى علمه، فاشتراط علم الموجب بقبوله دون اشتراط علم القابل بعدم رفض الموجب قبوله تحكم دون دليل مقنع) .
3- (وما ذكر من الأدلة (يقصد ما في صالح نظرية العلم) لا تخلو عن كونها أدلة للإثبات لا للانعقاد، ونحن لا ننكر أهمية ذلك في نطاق الإثبات، أما الانعقاد فيتم بوجود الرضاءين دون اشتراط عنصر ثالث وهو علم الموجب بالقبول) .
4- (ثم إن الأعراف التجارية تقتضي في بعض الأحيان عدم الحاجة إلى رد شفهي أو كتابي على الإيجاب، فمن أرسل بضاعة إلى عميل له في بلد آخر مثلا، فهل العقد لا يتم إلا إذا بلغ إلى علم الموجب القبول مع أن الفقه والقضاء على أن السكوت في هذه المسائل يكفي – كما سبق -، فلو شرطنا ذلك ليضار العاقدان أو أحدهما بهذا الإجراء، كما أنه يعطي فرصة لأحدهما أن يسحب إيجابه أو عرضه فيما إذا عرف أن المصلحة في ذلك، وفي هذا زعزعة لاستقرار التعامل وقلقلة للقواعد وأعراف التجارة) (3)
*أما الدكتور الإبراهيم- بعد أن أشار إلى بعض الآراء والمعلومات في هذا الموضوع بشكل خاطئ (كما سنناقش ذلك في العنوان التالي) ، يقول: (يمكن القول بأن الفقه الإسلامي يأخذ بفكرة إعلان القبول..) (4) .
(ج ج) نقد هذه الآراء وتقويمها:
بادئ ذي بدء، ينبغي لنا أن نقوم بتثبيت الرأي الصحيح في الخلاف الوارد بين د. السنهوري ود. سوار فيما يتعلق بموقف بالفقهاء من هذه النظرية.
__________
(1) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1126
(2) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1114
(3) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1126
(4) الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص127.(6/762)
يقول د. السنهوري – في كلامه الذي ذكرناه مفصلا
-: (ولكنا مع ذلك نرى أن الفقهاء لم يواجهوا، في وجوب سماع الموجب للقبول، حالة التعاقد بين الغائبين مواجهة صريحة، وهم لم يواجهوا في ذلك إلا حالة التعاقد بين الحاضرين، ولو أنهم واجهوا الحالة الأولى كما واجهوا الحالة الثانية، لما كان بعيدًا أن تختلف الآراء فيها) (1) .
وينتقد د. سوار هذا الرأي قائلا: (فنحن نعتقد أن الفقهاء قد واجهوا شريطة السماع في حالة التعاقد بين غائبين مواجهة صريحة، أطلقوا على السماع في هذه الحالة تسمية السماع الحكمي، وقصروه على الإيجاب فقط وجعلوا قراءة الإيجاب من الموجب له بمنزلة سماعه مباشرة من الموجب) (2) . ثم ينقل د. سوار نصوصًا فقهية لا تختلف اختلافًا كبيرًا في مضمونها عما أوردناه سابقًا من نصوص فقهية، أضف إلى ذلك أن النص الفقهي الذي يقول فيه د. سوار (ولعل أوضح نص يشير إلى مواجهة الفقهاء مواجهة صريحة..) لا يمكن اعتباره كافيًا لتمثيل موقف الفقهاء من هذه القضية لأن مؤلف الكتاب الذي ورد فيه هذا النص هو من علماء القرن العشرين.
ويبدو لنا أن د. سوار قد نظر إلى كلام د. السنهوري من منظار لفظي بحت لأن الرأي الذي أشار إليه د. سوار ليس مجهولًا عند د. السنهوري، وقد ذكر د. السنهوري نفسه نصوصًا فقهية في هذا المضمار. ونرى أن المقصود من كلام د. السنهوري في العبارة التالية: (لم يواجهوا مواجهة صريحة) يفهم بوضوح اكثر إذا تابعنا القراءة حيث نجد هذه العبارة: (ولو أنهم واجهوا ... لما كان بعيدًا أن تختلف الآراء فيها) . والحقيقة أن الفقهاء لم يواجهوا هذه القضية في إطارها التطبيقي من منظور زماننا الحاضر، ولم يولوا اهتمامًا كبيرًا لما قد يستجد من مسائل حول هذا النوع من التعاقد. وإذا وضعنا نصب أعيننا ما سبق من معلومات فإننا نجد أن عددًا من مسائل انعقاد العقد الدقيقة قد تناولها الفقهاء المسلمون في عهود مبكرة جدًّا في تاريخ الفقه الإسلامي وأبدوا فيها آراء مختلفة بالرغم من كونها مجهولة في القانون الروماني وعدم تناولها في الفقه الغربي إلا بعد القرن السابع عشر، ولو افترضنا – إزاء هذا الواقع – بأن الفقهاء المسلمين لم يبدوا آراء مختلفة في هذه القضية رغم مواجهتهم لها مواجهة صريحة ورغم وجود احتمالات منطقية مختلفة فإن هذه الفرضية التي افترضناها لا يتفق وطابع الفقه الإسلامي.
ولهذا نشارك رأي د. السنهوري من هذه الناحية. (وحتى يمكن القول بأن العبارات في كتب الفقه التي تخص التعاقد بين الغائبين تنصب على بيان جواز هذا النوع من التعاقد أكثر من أن تكون منصبة على دراسة المسائل الدقيقة له (3) . ويمكن كذلك القول بأن بعض هذه العبارات تهدف أول ما تهدف إلى بيان ضرورة التفرقة بين بعض التصرفات مثل البيع والنكاح والخلع بالعوض في هذا النوع من التعاقد)
__________
(1) السنهوري، مصادر الحق، 2/56.
(2) سوار، التعبير، ص120-122.
(3) الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ص126، وتأييدًا لهذه الفكرة يجب مراعاة وجود رأي قائل بعدم صحة التعاقد بين الغائبين في الفقه الشافعي.(6/763)
وعلى أية حال، فإن هذه القضية لم يرد فيها نص خاص كما لم ينقل رأي صريح فيها عن أئمة المذاهب،، ويصبح عندئذ من المعقول أن نقول بأن الفقهاء لم يواجهوا مسائل التعاقد بين الغائبين على شكلها المعروف في الوقت الحاضر. ومن أبرز الأدلة على ذلك أن يقول د. سوار: (إن المآخذ الجدية ... تدعونا إلى النخلي عن كلتي النظريتين (أي الإعلان والعلم) بوضعهما الحالي المعيب) (1) بعد أن قام بانتقاد رأي د. السنهوري، وإن قال: (إن الأخذ بنظرية الإعلان في التعاقد بين غائبين هو موضع إجماع الفقهاء) (2) .
* رأي الدكتور سوار في النظرية التي يجب الأخذ بها والاعتماد عليها.
يهدف د. سوار إلى إيجاد حل وسط بين نظريتي الإعلان والعلم ويقترح نظرية جديدة وهي (نظرية خيار الطريق) . وحسب هذه النظرية ينعقد العقد بمجرد الإعلان عن القبول إلا أن كلا من طرفي العقد يملك حق الخيار ريثما يطلع الموجب على القبول (ويعتبر وصول القبول إلى الموجب قرينة على علمه به) ، أي أن العقد لا يكتسب الصفة الإلزامية بالنسبة إلى كل من الجانبين إلى وقت اطلاع الموجب على القبول.
ويبدو لنا أن د. سوار بالرغم من نجاحه في دراسة مسائل دقيقة جدًّا في موضوع التعبير عن الإرادة – قد فاتته نقطة الانطلاق لهذه النظريات كما أنه لم ينتبه إلى أحكام الرجوع عن الإيجاب كما ينبغي؛ لأن هذه النظريات تنصب – في الدرجة الأولى – على تحديد وقت اكتساب القبول الصفة الإلزامية ووقت بناء الحكم عليه. أما حق (أو خيار) الرجوع عن الإيجاب يمكن تعيينه بصورةٍ ما في كل من هذه النظريات عدا نظرية الإعلان عن القبول. وحتى أن الأنظمة القانونية التي تقول بعدم إلزامية الإيجاب في الفقه الغربي (مثل فقه الباندكت (Panadect) والفقه الفرنسي الحالي) تميل إلى تحديد خيار الرجوع بوقت القبول أو بوقت تصدير القبول (إذا لم يكن هناك اتفاق خاص بخصوص توسيع حق الرجوع عن الإيجاب) (3) .
__________
(1) سوار، التعبير، ص132 وما بعدها.
(2) سوار، التعبير، ص123
(3) انظر: GHESTIN، Traite de Droit Civil، vol. 2 P.160.. etc special: 199-200، not.129; FEYZIOGLU، Borclar، Hukuku، vol. 1، P.82.(6/764)
أما في الفقه الإسلامي فإن حق الرجوع عن الإيجاب محدد بوقت وصول الإيجاب أو بوقت القبول كحد أقصى، حتى عند الفقهاء الأحناف الذين يقولون بأن الموجب له حق الرجوع عن إيجابه ولو لم يعلم المرسل إليه بهذا الرجوع (1) ، ومن جهة أخرى يحاول د. سوار أن يؤيد نظريته بالاستفادة من أحكام خيار المجلس وليس من المعقول- فيما يبدو لنا أن يحاول د. سوار أن يستفيد من الفكرة الأساسية التي يستند إليها حكم خيار المجلس، في الوقت الذي يعبر عن مخالفته لهذا الحكم مشيرًا إلى بعض مواطن الضعف له، مع أن النظرية التي يقترحها د. سوار لا تخلو من نقاط الضعف نفسها، إذ يقول: (لئن كنا ندعو إلى نظرية خيار الطريق وهي صورة مهذبة لنظرية خيار المجلس فنحن في نفس الوقت ننحاز إلى جانب نفاة هذه النظرية الأخيرة، نظرًا لإضعافها القوة الملزمة للعقد من جهة، وصعوبة تطبيقها في حالة التعاقد بين الغائبين من جهة أخرى) . سوار، التعبير، ص136 هامش4.، ولكننا إذا أمعنا النظر في آراء من يقول بخيار المجلس نجد أن إمكانية الرجوع عن الإيجاب – حتى عند هؤلاء – محدد بوقت مفارقة المرسل إليه المجلس بعد صدور القبول، وفي هذا المعنى ورد في كتب الشافعية:: قال الغزالي في الفتاوى إذا صححنا البيع بالمكاتبة فكتب إليه ثبت له خيار المجلس ما دام في مجلس القبول. قال ويتمادى خيار الكاتب إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه مجلسه صح رجوعه ولم ينعقد البيع ((2) فبناءً على ذلك، إذا صدر القبول وفارق المرسل إليه المجلس فلا يمكن القول بعد ذلك بقيام حق الرجوع عن الإيجاب في أي من مذاهب الفقه الإسلامي.
كما يلاحظ أن د. سوار يظن – كما كان شأن بعض الباحثين الآخرين_ إن إعطاء الموجب حق الرجوع عن الإيجاب إلى وقت انعقاد العقد من المستلزمات الضرورية لنظرية العلم (كذلك النظريات الأخرى سوى نظرية الإعلان) ، ويحاول – انطلاقًا من هذا الفهم – أن يليِّن نظرية الإعلان بإعطاء حق الخيار لكل من الطرفين ريثما يصل القبول إلى علم أو متناول يد الموجب وذلك بعد الحكم بأن العقد قد انعقد منذ وقت الإعلان عن القبول. ولكن ليس من الصعب للباحث أن يتفطن إلى محاذير إعطاء الموجب حق الرجوع عن الإيجاب بعد صدور القبول وبعد الحكم بأن العقد قد انعقد سواء من الناحية النظرية أو العملية إذا أخذ بعين الاعتبار الفكرة الأساسية التي تعتمد عليها العقود اللازمة (3) (وهذا بغض النظر عن حالات الاتفاق بالخاص التي يحمل الإيجاب فيها قيدًا احترازيًا في توسيع حق الرجوع عن الإيجاب كما أشرنا إليها تحت عنوان 3-1-2) .
__________
(1) يصادف في كتب الأحناف بعبارات مثل: (ويصح رجوع الكاتب والمرسل عن الإيجاب الذي كتبه وأرسله قبل بلوغ الآخر وقبوله) . انظر مثلا: ابن الهمام، فتح القدير، 5/462.
(2) النووي، المجموع، 9/168.
(3) (اعلم أن الأصل في العقد اللزوم، لأن العقد إنما شرع لتحصيل المقصود من المعقود به أو المعقود عليه ودفع الحاجة، فيناسب ذلك اللزوم دفعًا للحاجة وتحصيلًا للمقصود) القرافي (شهاب الدين) ، أنوار البروق في أنواء الفروق، بيروت، ط. دار المعرفة بالأوفست، الفرق السابع والمئتان، 4/13.(6/765)
ومن جهة أخرى فإننا، نلاحظ أن نظرية خيار الطريق التي جاء بها د. سوار تتعارض مع أفكاره في مسألة توصيف (القبول) ، وبذلك تكون آراء د. سوار قد نقضت نفسها بنفسها. وإليك إيضاح ذلك:
يشير د. سوار – عندما ينتقد نظرية العلم – إلى حالات القبول الضمني التي يعتبر العقد فيها قد تم في الزمان الذي بدأ فيه التنفيذ (في القانون المصري) ، ثم يقول: (.. ليس من المقبول عقلًا اعتبار انعقاد العقد متراخيًا إلى حين وصول القبول إلى علم الموجب في الحالة الأولى (أي حالة القبول الصريح) ، واعتبار انعقاد العقد فوريًّا بمجرد صدور القبول في الحالة الثانية (أي حالة القبول الضمني) ؟! وبعبارة أخرى ليس من وجه سائغ لاعتبار القبول الصريح تعبيرًا متلقى في الوقت الذي يعتبر فيه هذا القبول نفسه لو صدر بصورة ضمنية تعبيرًا ملقى!) (1) .
ومن جهة أخرى يقول د. سوار حين تعيينه لنطاق نظرية خيار الطريق أما المعاوضات المالية التي يكون القبول فيها ضمنيًّا. فهي خارجة عن نطاق تطبيقها وهي تظل من ثم خاضعة للقاعدة العامة في نظرية الإعلان، أي أن العقد فيها يقوم منعقدًا ولازمًا بمجرد القبول، ثم يأتي المؤلف بتوضيحات معقولة للفكرة التي تستند إليها أحكام القبول الضمني (2) (وهذا أمر معروف في أنظمة القانون التي انحازت إلى نظريات مختلفة عدا نظرية الإعلان بصفة عامة) . وكما يلاحظ أن وجه الانتقاد الذي يوجهه د. سوار إلى نظرية العلم (مع الحكم بأن العقد ينعقد في وقت التنفيذ في حالات القبول الضمني) موجود أيضًا في النظرية التي جاء بها وأسماها نظرية خيار الطريق (3) .
* رأي د. القره داغي في النظرية التي يجب الأخذ بها.
سبق أن ذكرنا أن د. القره داغي يبدي موقفًا حاسمًا من ترجيح نظرية الإعلان، كما سبق أن ذكرنا الأسباب التي يستند إليها في هذا الترجيح باختصار. والآن سنبين رأينا في هذه الأدلة حسب الترتيب السابق.
1- مع قبولنا بأن الحاجة تمس إلى سرعة إنهاء المعاملات في عصرنا، فإن القول بأن الفقه الحديث يتجه- في الغالب – لحل هذه القضية إلى نظرية الإعلان لا يعتبر صائبًا. وقد سبق أن بينا موقف التشريع الحديث في بلاد العالم المختلفة من هذه القضية.
__________
(1) سوار، التعبير، ص134.
(2) سوار، التعبير، ص134.
(3) قارن مع ما ورد في كتاب د. سوار تحت عنوان (تعاصر تمام التعبير الملقي ولزومه) ، التعبير، ص105.(6/766)
ويكفي لنا أن نشير هنا إلى موقف اتفاق فيينا في هذه القضية: - ذلك الاتفاق الذي يعتبر ممثلًا لآخر ما توصل إليه معظم الحقوقيين في العالم في هذا المضمار- وهو الانحياز إلى نظرية استلام القبول.
2- نرى أن د. القره داغي يقع في نفس المعضلة التي وقع فيها د. سوار حيث يفهم من كلامه أنه يعتقد أن الانحياز إلى نظرية العلم (أو إلى نظرية أخرى عدا نظرية الإعلان) يستلزم بالضرورة إعطاء الموجب حق الرجوع عن إيجابه إلى وقت انعقاد العقد. إذا يقول في نظرية العلم مثلًا: (حيث إن للموجب الحق في رفض التعاقد بعد القبول..) ويقول: (.. كما إنه يعطي فرصة لأحدهما أن يسحب إيجابه أو عرضه..) ويقول في نظريات العلم والاستلام والتصدير) وقبل انعقاد العقد على ضوء هذه النظريات يكون للموجب الحق في الرجوع كقاعدة عامة (1) . وهذا المعنى يفهم من كلامه بوضوح أكثر، إذ يقول: (وأما المالكية فهم يقولون بأن الإيجاب ملزم للموجب – كما سبق- فعلى هذا لا يتماشى مع قواعد مذهبهم أن يشترطوا علم الموجب بقبول القابل حتى يتم العقد) (2) وكما يلاحظ فإن د. القره داغي يظن أن اعتبار الإيجاب ملزمًا لا يسمح لنا بتبني نظرية عدا نظرية الإعلان، وهذا الفهم ليس صحيحًا – كما بينا -.
3- مع أن كلام المؤلف يعكس حقيقة الأمر حين أشار إلى أن الأدلة التي تدعم نظرية العلم لا تخلو عن كونها أدلة للإثبات، فإننا نلاحظ أن قضية الإثبات في هذا الموضوع تحظى بأهمية بالغة تقتضي القول بالتخلي عن نظرية الإعلان.
4- نلاحظ أن المؤلف قد أصاب حين أشار إلى نشوء مشاكل تحدث بسبب حالات القبول الضمني. ولكن هذا لا يستلزم بالضرورة أخذ نظرية الإعلان على إطلاقها، بل إن هذه القضية قد تم تنظيم أحكامها بشكل خاص حتى في الأنظمة القانونية التي أخذت بنظرية استلام القبول وبنظرية العلم بالقبول (3)
* رأي د. الإبراهيم في النظرية التي يجب الأخذ بها.
قبل كل شيء نرى لزامًا علينا أن نذكر أن د. الإبراهيم لم يحالفه الصواب حينما نسب إلى د. سوار قوله أن الفقه الإسلامي يتبنى نظرية العلم بالقبول (4) . ويبدو أنه لم تتح فرصة دراسة كتاب د. سوار جيدًا، لأن رأي د. سوار في هذا الموضوع هو كما ذكرناه سابقًا.
ونجد د. الإبراهيم أنه يشير إلى أن نظرية الإعلان تمنع الموجب عن الرجوع عن إيجابه (5) ، وكذلك يلح على أهمية هذه النقطة حين يعبر عن ترجيحه في هذا الموضوع تحت عنوان (موقف الإسلام من النظريات الأربع) (6) ، أي أنه يخلط أيضًا – كما كان الشأن في كلام كل من د. سوار ود. القره داغي – بين الفكرة الأساسية في هذه النظريات وبين مسألة حق الرجوع عن الإيجاب. والحقيقة أن بعض عبارات المؤلف يدل على أنه لم يجد فرصة كافية لدراسة هذه النظريات كما ينبغي، مثل العبارات التالية: (وتعتبر نظريتا إعلان القبول والعلم به أشهر هذه النظريات وأكثرها أنصارًا) (7) ، (والملاحظ أن نظرية العلم بالقبول هي التي يميل معظم فقهاء القانون المدني إلى الأخذ بها) (8) .
(د د) رأينا في هذه المسألة من خلال نقد النظريات السابقة:
إذا نظرنا إلى المسألة من زاوية تكون العقد يجب القول بأن العقد ينعقد بتلاقي الإيجاب بالقبول في حالة ما إذا توفرت الشروط اللازمة في كل من الإيجاب والقبول وارتباطهما. وهذه النظرة تقتضي تبني (نظرية الإعلان) . ولكن المقصد الأساسي من التعاقد ليس تحقيق بعض الشكليات، بل هو إيجاد بعض الحقوق والالتزامات بتراضي الطرفين، أي تحقيق مصلحة الطرفين، وبالتالي فإن النظر إلى المسألة من هذه الزاوية تقتضي اشتراط علم كل من الطرفين. برضا الطرف الآخر ويؤدي ذلك إلى تبني (نظرية العلم) .
__________
(1) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1114، 1126.
(2) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/1097.
(3) لقد أشرنا إلى هذه المسألة أعلاه، انظر، سوار، التعبير، ص134.
(4) انظر: الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص125.
(5) الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص120.
(6) الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص127.
(7) الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص122
(8) الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص124.(6/767)
وبالرغم من أن الفقهاء لم يتناولوا مسألة اشتراط علم الموجب بخبر القبول في التعاقد بين الغائبين بصورة خاصة، وقالوا بأن العقد ينعقد – بصفة عامة – بمجرد الإعلان عن القبول منطلقين من ظروف زمنهم، فإنه يمكن تبني نظرية العلم في التعاقد بين الغائبين بالتعويل على الرأي السائد الذي يقول باشتراط علم الموجب في التعاقد بين الحاضرين (أي بالتعويل على المبدأ السائد في تفكير الفقهاء أيضًا) على غرار اقتراح د. السنهوري.
بيد أنه تبين من خلال التطبيقات الحقوقية (أي بعد أن قامت مختلف بلاد العالم بتجربة النظريات المختلفة) أن كلًا من هاتين النظريتين تحتمل إلى حدٍ كبير سوء الاستعمال وغير صالحة لتحقيق مصلحة الطرفين. وأن دعوة د. سوار إلى التخلي عن هاتين النظريتين ومحاولته لإيجاد حل وسط بينهما – رغم ادعائه بأن القبول في التعاقد بين الغائبين هو تعبير ملقي بإجماع الفقهاء-، إنْ دل هذا على شيء إنما يدل على أن الانحياز إلى كل من هاتين النظريتين في ظروف وقتنا الحاضر لا يتفق وأسس الفقه الإسلامي.
وكذلك يدل موقف د. السنهوري – الذي له خبرة واسعة في مجال القانون- من هذه القضية (وهو كما سبق – لا يرى تبني نظرية الإعلان ملائمًا لتفكير الفقهاء بالرغم من تصريحه بأن ظاهر أقوال الفقهاء في اتجاه تبني نظرية الإعلان في التعاقد بين الغائبين، ولهذا يميل إلى نظرية العلم) على أن نظرية الإعلان لا تأتي في ظروف يومنا هذا بنتائج يطمئن الفقيه إليها حسب أسس الفقه الإسلامي.
وإذا وضعنا نصب أعيينا التعليلات الفنية التي قام بها الفقهاء المسلمون حين دراستهم لصورة تحقق التراضي (أي تلاقي الإيجاب بالقبول) ، نلاحظ إنهم يجعلون المصلحة والقواعد المستمدة من هذا المبدأ مثل الضرورة والتيسير مهيمنة على الحلول التي توصلوا إليها.
إذن، فإن الحل السليم في هذا الموضوع هو ذلك الحل الذي يسد حاجات الطرفين بأكمل وجه والذي يحصر الخلاف والنزاع في حدِّه الأدنى ولا يؤدي إلى الأمور المنهي عنها في الفقه الإسلامي مثل إضرار الغير والكسب غير المشروع. والذي يجب على الفقهاء المعاصرين في وقتنا الحاضر، هو الأخذ بعين الاعتبار الحلول المحتمل تطبيقها في هذه القضية واختيار أوفقها للأوصاف آنفًا.
وقد سبق أن أشرنا إلى الصور الخمس لحل هذه القضية، وهي تلك الصور التي ظهرت من خلال التطبيقات القانونية في عالمنا اليوم الذي يمتلئ بالعلاقات التجارية المكثفة والتي تبني كلا منها مختلف البلاد في العالم. ولا شك أن الاحتمالات المنطقية لا تنحصر في هذه الصور الخمس، ويمكن إيجاد نظريات جديدة بطريقة إضافة بعض العقود إلى تلك الصور.(6/768)
ولكننا نفضل – بدل المصير على نظرية جديدة – اختيار إحدى النظريات التي ظهرت محاسنها ومساوئها بشكل جلي من خلال التطبيقات القانونية التي هي بمثابة مرآة الحاجة (المصلحة) ، ما لم يوجد دليل خاص في الفقه الإسلامي (دون أن نعترض على إيجاد نظرية جديدة إذا أمكن دعمها بدليل مقنع) .
وينبغي لنا الآن، أن نلم إلمامًا سريعًا بمحاسن ومساوئ تلك النظريات الخمس:
1- نظرية إعلان القبول:
لقد وُجِّه انتقاد إلى هذه النظرية من ناحية التوصيف الفقهي للتعبير عن (القبول) أولًا. لأن القبول إذا تم اعتباره من التعبيرات المتلقاة – تمشيًّا مع الرأي السائد -، لا يمكن القول بأن العقد ينعقد بمجرد الإعلان عن القبول، مثلًا في حالة ما إذا كتب المرسل إليه قبوله في رسالة ثم لم يرسلها إلى الموجب.
إذا تم تبني هذه النظرية فإن إثبات وقت صدور القبول يشكل صعوبة كبيرة إلى درجة إنه يستحيل الإثبات في غالب الأحيان، وعلى سبيل المثال، إذا أعلن المرسل إليه عن قبوله إما بكتابة رسالة – لم يودعها في البريد بعد – أو بتعبير شفهي عند أحد موظفيه فإن العقد يعتبر منعقدًا وينتج آثاره منذ وقت صدور القبول حسب هذه النظرية. ولكن القابل يسعه أن يغير مضمون القبول أو يبطله ما لم يرسله إلى الموجب. أما تمكن الموجب من إثبات صدور هذا القبول ومن إثبات محتواه فلا يمكن الوصول إليه في غالب الأحيان.
إن هذه النظرية – مع أنها لا تتضمن فوائد النظرية التالية (أي نظرية تصدير القبول) - فإنها تنطوي على محاذيرها أيضًا. حيث إن القبول يمكن أن يفقد في الطريق بعد أن أرسله القابل، وأن الموجب الذي ليس على علم بذلك قد يعتبر إيجابه ساقطًا وقد يتعاقد مع شخص آخر ظنًّا منه بأن إيجابه لم يقبله المرسل إليه. وفي مقابل ذلك، يكون القابل في هذه الفترة على ثقة من انعقاد العقد وينظم أموره حسب ذلك.
2- نظرية تصدير القبول:
وهذه النظرية تتفادى مواطن الضعف والانتقادات الموجهة للنظرية السابقة حيث يتصف القبول فيها بصفة التعبير المتلقي، وتنتفي صعوبات الإثبات إلى حد كبير. وإذا أمعنّا النظر في هذا الحل من زاوية موازنة مصالح الطرفين، نلاحظ أن الموجب هو الذي يتحمل عبء فقدان القبول في الطريق، لأنه يعتبر في مثل هذه الحالة ملزمًا بالعقد مع أنه ليس على علم بالقبول. ومن جهة أخرى يلاحظ أن هذا الحل في صالح القابل لأن هذه النظرية أتاحت له فرصة الاطمئنان إلى انعقاد العقد من جهة والاستفادة من نتائج العقد وآثاره فورًا من جهة أخرى. أما إمكانية الرجوع عن القبول أو التغيير فيه للقابل محدودة بفترة قصيرة جدًّا(6/769)
3- نظرية استلام القبول:
راعت هذه النظرية موازنة مصالح الطرفين حيث أجلت انعقاد العقد وظهور آثاره إلى وقت استلام القبول ومنحت القابل فترة أطول نسبيًّا بالمقارنة مع النظرية السابقة، وكذلك لم تحكم بانعقاد العقد في حالة ضياع القبول في الطريق بهذا وسلكت مسلكًا يؤدي بالنزاعات والخلافات إلى حدها الأدنى.
وأهم محذور في هذه النظرية هو الصعوبة في تحديد وقت وصول خبر القبول، ويمكن الإشارة إلى قاعدة تمثل النقاط المشتركة لآراء ظهرت بخصوص هذه القضية وهي: أن المقصد من (الوصول) هو بلوغ خبر القبول إلى متناول يد الموجب وأن يكون الموجب في حالة تمكنه من الإطلاع على هذا الخبر كلما شاء، وليس المقصود من ذلك وصول عين الخبر إلى ذات الموجب، فالرسالة مثلًا إذا ألقيت في صندوق بريد الموجب فإن الوصول يكون قد تحقق من جراء ذلك.
4- النظرية المختلطة:
إن هذه النظرية تعتمد على نظرية استلام القبول من زاوية وقت انعقاد العقد وتعتمد على نظرية تصدير القبول من زاوية سريان مفعول العقد - كما سبقت الإشارة إلى ذلك -، وقد استهدفت هذه النظرية إزالة محاذير النظريتين الآنفتي الإشارة.
وقد لا تعد هذه النظرية وجيهة باعتبار أنها تأخذ بمبدأ سريان مفعول العقد قبل وقت انعقاده مما ينافي المنطق. ولكن بعض التشريعات انحازت إلى هذه النظرية انطلاقًا من الفرضية التالية: إن العاقدين يريدان أن ينتج العقد آثاره في وقت مبكر بقدر الإمكان، وانطلاقًا من مبدأ توفير السرعة في المعاملات أي لتحقيق مصالح الطرفين المشتركة. ويلاحظ أن هذه النظرية سلكت مسلكًا يعدّ في صالح مبدأ الحفاظ على العقد (Favor Contractus) . لأن إثبات الإرسال أسهل بالنسبة إلى إثبات الوصول.
5- نظرية العلم بالقبول:
توفر هذه النظرية إمكانية التأكد من انعقاد العقد، ولا تترك مجالًا للشك من هذه الناحية. ولكنها تحتمل إلى حد كبير سوء الاستعمال. لأن قبول انعقاد العقد يعد كأنه متروك إلى مشيئة الموجب.
ومن محاذير هذه النظرية أيضًا، الصعوبة في إثبات الاطلاع (على القبول) ووقته؛ والبطء في سير المعاملات (1)
* ترجيحنا
بما أننا أشرنا في بداية هذا العنوان إلى عدم صلاحية كل من نظريتي الإعلان والعلم لسدّ حاجات الطرفين وتحقيق مصالحهما مع اعترافنا باستناد كل منها إلى أساس منطقي رصين من الناحية النظرية، فإننا لن نتطرق إلى الحديث عنهما مرة أخرى.
__________
(1) يراجع في هذا الموضوع: المراجع المذكورة في الهامش رقم 114، 115 من هذا البحث. وانظر أيضًا: SCHWARZ، Borclar، vol. 1، P.224(6/770)
وإذ قمنا بموازنة بين النظريات الثلاث الباقية نجد أن النظرية المختلطة تحاول أن تجمع محاسن نظريتي التصدير والاستلام، وأن تزيل مساوئهما ولهذا يستحق الأخذ بها. إلا أنه يمكن الاعتراض على هذه النظرية من ناحية الفقه الإسلامي بحجة أنها تتضمن خروجًا بينًا على القاعدة الفلسفية التي تقتضي تقدم السبب على مسببه، والقاعدة الفقهية التي تقضي بتعاصر تمام التعبير وإنتاجه لأنه. ومع هذا يمكن التسامح في الخروج عن القاعدة إذا أمكن التأكد من تحقيق المصلحة بهذه الطريقة، لأن هناك مسائل تتقدم الأحكام فيها على أسبابها في الفقه الإسلامي. (1) .
ومع أننا نشارك د. السنهوري فيما ذهب إليه من أن الأمر يرجع قبل كل شيء إلى نية المتعاقدين، بل هو يرجع في الواقع إلى إرادة الموجب، وآمن فرض في تفسير إرادة الموجب أن يفرض ما هو في صالحه، والأصلح له ألا يتم العقد إلا عند علمه بالقبول، فإننا نلاحظ أن د. السنهوري يقترح في نهاية الأمر أخذ نظرية العلم ولكن على أن يكون استلام القبول قرينة على حصول العلم. وكذلك نعرف أن الأخذ بنظرية العلم بهذا القيد يؤدي إلى نظرية استلام القبول باعتبار أغلب نتائجها على الصعيد العملي كما سبق. ولذا نجد د. السنهوري نفسه يقول في الهامش: (ويتفق هذا الرأي مع الرأي الذي أخذ يتغلب في التشريع الحديث، فإن نظرية العلم بالقبول معدلة بنظرية استلام القبول هي النظرية التي يظهر أنها أخذت تكسب أنصارًا أكثر من غيرها من النظريات الأخرى. (2)
ونظرًا لهذا كله، ونظرًا لعدم اتصاف نظرية استلام القبول بالتعقيد نسبة إلى النظرية المختلطة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أيضًا أن اتفاق فيينا – الذي يمثل آخر ما توصل إليه معظم الحقوقيين في العالم في هذا الموضوع – قد قرر الانحياز إلى نظرية استلام القبول، فإن ترجيحنا يتعين في الأخذ بهذه النظرية.
3-3-4- تحديد مكان العقد:
إن تشخيص وسائل الاتصال الحديثة وتعيين أحكام التعاقد بها لا يحظى في تحديد مكان انعقاد العقد بأهمية قدر ما يحظى بها في تحديد وقت انعقاد العقد ولهذا سنكتفي هنا بالإشارة إلى أمور ثلاثة في إيجاز شديد:
الأمر الأول: إن تحديد مكان انعقاد العقد يرجع قبل كل شيء إلى مشيئة المتعاقدين، وإلى تفسير وتقدير القاضي حسب الظروف المختلفة التي تحيط بالعقد والمتعاقدين.
الأمر الثاني: يتفق تحديد الوقت مع تحديد المكان في بعض الحالات.
الأمر الثالث: يختلف تحديد الوقت عن تحديد المكان في بعض الحالات الأخرى (3) .
__________
(1) انظر: سوار، التعبير، ص99، 67.
(2) السنهوري، نظرية العقد، ص303، 304 وهامش 1. وينبغي التنبه إلى أن هذا الفهم يتفق وما ورد في الكتب الفقهية من آراء الفقهاء المسلمين، انظر الهامش رقم 79 من هذا البحث.
(3) ولمزيد من المعلومات انظر: السنهوري, نظرية العقد , 309- 312؛ سلطان , مصادرالالتزام ص 68؛ محمصاني، النظرية العامة، 2/67؛ GHESTIN، TRAITE de Droit Civil، vol. 2P. 193-194; FEYZIOGLU، Borclar، Hukuku، vol. 1، P. 76.(6/771)
-4-
تصنيف وسائل الاتصال الحديثة
وتعيين الأحكام التي تترتب على كل نوع منها
قبل كل شيء ينبغي لنا أن نلفت النظر إلى أن المقصود هنا من الوسائل هو ما يوفر إمكانية المخابرة أو المراسلة بين طرفي العقد المتباعدين من وسائل الاتصال الحديثة فقط، ولا يدخل في نطاق هذا الموضوع دراسة الأجهزة الأتوماتيكية التي تقوم مقام أحد طرفي العقد (أو كليهما) ، ويمكن للقارئ أن يرجع على عنوان (3-1-1) لتصور الحالات التي يمكن فيها استخدام وسائل الاتصال من جهة، واستخدام الأجهزة القائمة مقام أحد طرفي العقد في نفس الوقت من جهة أخرى.
إذن، فالسؤال الذي تدور دراستنا حوله هنا هو: إذا تم العقد والطرفان متباعدان تباعدًا ماديًّا إذا تم التعاقد بتوجيه الإيجاب إلى المخاطب بطريقة الكتابة (وليس شفهيًّا) وطرفا العقد في مجلس (مكان) واحد، هل يطبق في هذا العقد أحكام التعاقد بين الغائبين أم أحكام التعاقد بين الحاضرين؟ فهذه المسألة جرت مناقشة حولها في الفقه الغربي وظهرت آراء مختلفة فيها، انظر:
STANDINGER/COING، Kommentar zum burgerliches Gesetzbuch، Berlin، 1957، band 1،: 47، no. 3; FLUME (Werner) ، Allgemeiner Teil dse Burgerlichen Gesetzbuch، Berlin، 1960، 1/1، ; 35، 1، 2،
نقلًا عن:
TEKINAY، Borclar Hukuku، P.95، not.15.
انظر لبعض الفرضيات في هذا الموضوع، السنهوري، نظرية العقد، ص289 وهامش 3، 4. وقد ناقش الفقهاء المسلمون في جواز هذه الصورة للتعاقد أو عدم جوازها. والذي يفهم من خلال هذه المناقشات هو وجوب تطبيق أحكام التعاقد بين الحاضرين في هذه الصورة عند من يجوزها. انظر: القره داغي، مبدأ الرضا، 2/941 –949. فهل يطبق على هذا النوع من التعاقد أحكام التعاقد بين الغائبين بصورة مطلقة أم يجب تطبيق أحكام تختلف باختلاف وسائل الاتصال؟
وحسب ما يبدو لنا فإنه ينبغي تناول الوسائل التي يطلق عليها اسم (وسائل الاتصال الحديثة) من ناحية الأحكام التي تترتب على التعاقد بهذه الوسائل في فئتين:
(أ) الهاتف وما شابه من وسائل.
(ب) الكتابة (الرسالة) وما شابه من وسائل.
وقبل الانتقال إلى دراسة كل من هاتين الفئتين نود أن نشير إلى أمرين عامين:
الأمر الأول: لا ينصب اهتمام بحثنا هذا – مبدئيًّا – على مسائل الإثبات التي قد تحدث في التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة كما نبهنا إلى ذلك في (التمهيد وتحديد الموضوع) وعلى هذا فإننا لن نتطرق إلى تناول الصعوبات التي قد تعترض أثناء إثبات التعاقد بالتلفون (1) وسنحصر دراستنا هنا على (انعقاد العقد) فقط.
__________
(1) انظر لبعض الطرق المستخدمة في إثبات التعاقد بالتلفون: السنهوري، نظرية العقد، ص291 هامش1. علمًا بأن هناك تطورات في مجال التكنولوجيا في الآونة الأخيرة يسهل بفضلها حل هذه القضية إلى حد كبير.(6/772)
الأمر الثاني: إن الغلط أو التزوير الواقع أثناء تبليغ إرادة أحد الطرفين إلى الطرف الآخر، يشكل موضوعًا خاصًّا بين مواضيع فقه الالتزامات. ولبيان أحكام هذه الحالات يجب أولًا دراسة كل من نظريتي (الإدراة الظاهرة) و (الإرادة الباطنة) (آراء المذهب المادي والمذهب الشخصي) وتناول موقف الفقه الإسلامي من هاتين النظريتين بشكل مفصل وهذا – كما يظهر – يبقى خارج نطاق موضوع بحثنا.
(أ) الهاتف وما شابهه من وسائل الاتصال:
في حالة التعاقد الذي يتم بواسطة هذا النوع من الوسائل يتحقق ارتباط الإيجاب بالقبول كما في التعاقد بين الحاضرين، وإن كانت هنالك مسافة بعيدة بين طرفي العقد لأن الإعلان عن القبول والعلم به يتحققان بآن واحد – عدا بعض الحالات الاستثنائية – ولهذا يجب تطبيق أحكام التعاقد بين الحاضرين من حيث الزمان إذا تم العقد بهذه الطريقة. ويلاحظ أن التشريعات الحديثة وآراء الباحثين في الفقه الإسلامي تتفق على قبول هذه المنطقة (1) .
والسمة المميزة في التعاقد بالتليفون هي أن هذه الطريقة تمكّن الطرفين من تبادل التعبير عن إرادتهما وإجراء مفاوضات العقد بينهما بشكل شخصي كما كان في التعاقد بين الحاضرين بعينه. ففي مثل هذه المكالمة لا يصعب – من الناحية الفقهية – القيام بتثبيت ما به يتعين تحقق أو عدم تحقق ارتباط الإيجاب بالقبول، أو الإعراض عن العقد أو انفضاض مجلس العقد، فلهذا يجب أن تتصف الوسائل التي يمكن إلحاقها بهذه الفئة بالصفة المشار إليها آنفًا في المكالمة التلفونية. إذن يمكن القول بأن التلفون التلفزيوني (الآلة التي تجعل الصورة مصاحبة للصوت) وما شابهه يلحق بهذه الفئة من باب أولى. أما الوسائل مثل التلكس والفاكس وما شابهها فإننا لا نرى إلحاقها بهذه الفئة بصورة مطلقة.
وليتضح لنا هذا الأمر يجب أن يقوم بتحليل بعض الحالات في التعاقد بالتلفون ثم نقارن بينه وبين التعاقد بهذه الوسائل:
لنفرض أن المكالمة انقطعت أثناء التعاقد بالتلفون وذلك بعد أن صدر الإيجاب من الموجب وسمعه المخاطب، فهل يعتبر الإيجاب في هذه الحالة ساقطًا وبالتالي لا ينعقد العقد حتى ولو رفع الطرف الآخر الهاتف فورًا وعبر عن قبوله مخاطبًا الموجب، أو يعتبر أن الإيجاب لا زال قائمًا ويمكن بالتالي انعقاد العقد إذا عبر المخاطب عن قبوله بهذا الشكل؟
__________
(1) انظر مثلًا: الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ص131.(6/773)
نلاحظ أن رجال القانون (في الفقه السويسري والألماني) يفرقون في هذه المسألة بين احتمالين مختلفين: لو كانت المكالمة قد انقطعت بسبب عرض فنّيّ فإن الإيجاب يعتبر ساقطًا. أما إذا انقطعت المكالمة بفعل صدر عن الموجب عمدًا فإن للمخاطب حق بناء قبوله على هذا الإيجاب بأن يهتف فورا أو بأن يرسل القبول بوسيلة سريعة مثله (1) .
والذي يجب الانتباه إليه هنا هو أن الرأي القائل بأن الإيجاب يبقى قائمًا في الاحتمال الثاني ينطلق من حكم إلزامية الإيجاب. ولكننا إذا انطلقنا من حكم خيار الرجوع عن الإيجاب ما لم يصدر القبول (وهو الرأي السائد في الفقه الإسلامي والذي نراه راجحًا بالنسبة للتعاقد بين الحاضرين فيما إذا لم يحدد الموجب ميعادًا للقبول) ، ينبغي لنا القبول بأن الإيجاب يسقط حتى في حالة انقطاع المكالمة بسبب الفعل الصادر عن الموجب عمدًا. وحقيقة، أن الموجب إذا قصد من وراء فعله هذا الرجوع عن إيجابه نادمًا على هذا الإيجاب الذي لم يحدّد ميعاد معين لقبوله والذي لم يرتبط بالقبول بعدُ فإن منح هذا الحق له يكون أقرب للعدل وأوفق لمبادئ الالتزامات المعروفة في الفقه الإسلامي، إلى جانب صعوبات الإثبات التي تتمثل في انقطاع الخط بسبب فنّيّ أو بسبب فعل صادر عمدًا. وعلى هذا لا يمكن بناء القبول على الإيجاب الساقط في مثل هذه الحالة ولو وجه المخاطب قبوله بوسيلة أخرى فورًا.
والحقيقة أن القبول إذا صدر عقب الإيجاب (أي دون أن يكون بينهما فاصل زمني يتجاوز الحد المسموح في التعاقد بين الحاضرين) في التعاقد بواسطة التلكس وما شابهه فإن تعيين نوعية التعاقد (أي هل هو تعاقد بين حاضرين أم بين غائبين) ، لا يحظى بأهمية كبيرة على الصعيد العملي. لأن المدة التي تفصل بين الإيجاب والقبول قصيرة جدًّا، ولا تختلف النتائج العملية اختلافًا كبيرًا في مثل هذه الحالة أيًّا كان ترجيحنا في النظريات التي تحدد وقت انعقاد العقد، ولعل أهم مسألة في هذه الحالة هي أن يرسل المخاطب خبر رجوعه عن القبول إلى الموجب بوسيلة أسرع من الوسيلة التي استخدمها في إرسال القبول، ولا شك أن إلحاق هذه الوسائل إلى الفئة الأولى – التي نحن بصددها – أو إلى الفئة الثانية التي سنتناولها في السطور القليلة القادمة يكتسب أهمية لا يستهان بها.
__________
(1) FLUME (Werner) Allgemeiner Teil des Burgerlichen Rechts، des Rechtsgeschaft، 1965.: 35، 1.2 P.638; نقلًا عن: TEKINAY، Borclar Hukuku، P.93.(6/774)
أما الأهمية الكبرى لإلحاق هذه الوسائل إلى هذه الفئة أو إلى تلك وبالتالي اعتبار التعاقد بها تعاقدًا بين حاضرين أم بين غائبين تتبلور في حالة عدم صدور القبول عقب الإيجاب، وإذا تم إلحاق هذه الوسائل بهذه الفئة – التي نحن بصددها -، يجب اعتبار الإيجاب ساقطًا إذا حصل انقطاع في المراسلة لسبب ما قبل صدور القبول أو وصوله إلى الموجب حسب ما بينا الحالة نفسها في المكالمة الهاتفية. ولكننا إذا أمعنا النظر في القضية نلاحظ أن التعاقد بوسيلة التلكس أو الفاكس أو ما شابه ذلك لا يستند في حقيقة الأمر على أساس تبادل وجهات النظر وجهًا لوجه بل يهدف إلى إتاحة فرصة التأمل والتروي للطرف بالمقابل أكثر مما يوجد في التعاقد بالتلفون، إلى جانب أنه يهدف – بطبيعة الحال – إلى تثبيت العقد بمستند كتابي، مع أن استخدام هذه الوسائل واستخدام التلفون يتفقان في غاية واحدة وهي تأمين السرعة في المعاملات. إذن، فإن الإيجاب المرسل بهذه الوسائل يجب اعتباره قائمًا إذا انقطعت المراسلة حتى لو أرسل المخاطب قبوله بوسيلة أسرع منها دون انقطاع في المراسلة، ما لم يصل رجوع الموجب عن إيجابه إلى المخاطب قبل صدور القبول، وعلى هذا يمكن بناء القبول على ذلك الإيجاب أي ينعقد العقد بصدور القبول الموافق لهذا الإيجاب.
ونشاهد أن قضية إلحاق التلكس بالبرق أو بالتلفون قد اختلفت فيها الآراء سواء عند القانونيين أو عند الباحثين المعاصرين في الفقه الإسلامي.
وكما هو معلوم أن المراسلة بالتلكس تختلف عن البرق من جهة عدم الحاجة إلى وساطة مصلحة البريد، ولهذا يمكن أن يتواجد كل من طرفي العقد عند آلتي التلكس وأن تتم المراسلة بينهما خلال مدة قصيرة. أما إذا تمت المراسلة بالتلكس بوجود أشخاص آخرين دون أن يوجد كل من طرفي العقد عند آلتي التلكس فلا شك أن التلكس يلحق بالبرق وأن التعاقد بهذه الطريقة تأخذ أحكام التعاقد بين الغائبين.
إذن، فإن الحالة التي يمكن أن تختلف الآراء فيها هي أن يتبادل طرفا العقد الإيجاب والقبول وهما موجودان عند آلتي التلكس. فهناك رأي في الفقه الغربي يقول إن التعاقد بهذه الطريقة لا يمكن تطبيق أحكام التعاقد بين الحاضرين عليه (1) . وهناك رأي آخر يقول بأن المخاطب إذا كان في ظروف تمكّنه من إرسال قبوله فورًا – حسب الإمكانيات التقنية- فإن هذه الطريقة من المراسلة يمكن اعتبارها مثل المكالمة الهاتفية (2) .
__________
(1) ENGEL (Pierrre) ، Traite des Obligations en Droit Suisse، Neuchatel، 1973; نقلا عن: Tekinay، Borclar Hukuku، P. 93-94
(2) Tekinay، Borclar Hukuku، P. 94(6/775)
أما اتفاق فيينا ينص في مادته (13) على أن التعبير (الكتابي) يتضمن – من وجهة نظر غاية هذا الاتفاق – التعبيرات عن الإرادة التي ترسل بالتلغراف والتلكس أيضًا، وبهذا اعتبر هذا الاتفاق التلكس من وسائل المراسلة الكتابية. (1) .
أما الباحثون المعاصرون في الفقه الإسلامي فيمكننا أن نعثر على رأيين مختلفين عندهم أيضًا. فيعتبر مثلًا د. القره داغي – ونخن نشاركه الرأي – التلكس مثل البرق (2) ، ولكن الإبراهيم الذي كتب مقالًا يتناول حكم التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة بصورة خاصة لا يرى فرقًا بين التلكس والتلفون من جهة نوعية المراسلة ويسوّي حكم التعاقد بهما (3) . ونود الإشارة – قبل كل شيء – إلى أن عبارة د. الإبراهيم التالية لا تعكس الحقيقة حيث يقول: (فالتلكس أحدث وسائل الاتصالات التي تتم بها معظم حالات تبادل الإيجاب والقبول التي تترك أثرًا مكتوبًا) ، لأن هناك وسائل أحدث من التلكس مثل الفاكس. وغايتنا الأساسية إلى هذه الحقيقة المعروفة التي لا تحتاج الوقوف عندها بصورة خاصة، هي التنبيه إلى أن المؤلف المذكور يبدو أنه لم تتح له فرصة كافية لدراسة قضايا هذا الموضوع كما يدل على ذلك مجمل الانتقادات التي أشرنا إليها سابقًا أيضًا. ومن جهة أخرى فإن التعاقد عن طريق التلكس لا يشبه التعاقد عن طريق التلفون إلا إذا تبادل الطرفان الإيجاب والقبول وهما عند آلتي التلكس كما أن إلحاق التعاقد عن طريق التلكس في هذه الحالة بالتعاقد بين الحاضرين رأي لا يميل إليه معظم الحقوقيين.
ومع أن الفاكس أسرع وأحدث بالنسبة إلى التلكس ومع أن المراسلة به يتحقق عن طريق الخط الهاتفي فإننا لا نرى إلحاقه بهذه الفئة – التي نحن بصدد دراستها – نظرًا لتحليلاتنا السابقة سواء بالنسبة للتعاقد عن طريق التلفون أو التعاقد عن طريق التلكس والفاكس.
والخلاصة أننا نرى أن الوسائل التي تمكّن الطرفين من تبادل الإيجاب والقبول شخصيًّا وبشكل مباشر يسمح لهما التعاقد كما في التعاقد بين الحاضرين بعينه هي التي يمكن اعتبارها وحدها في هذه الفئة.
__________
(1) انظر في هذه المسألة: STOFFEL، Formation du contrat، P. 60-61.
(2) القره داغي، مبدأ الرضا، 2/950-956.
(3) الإبراهيم، (حكم إجراء العقود) ، ص129، 132.(6/776)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تطبيق أحكام هذه الفئة بأسرها على تعاقد ما يجب أن يتم تبادل الإيجاب والقبول في عملية الاتصال نفسها وعن طريق الوسائل الداخلة في هذه الفئة. فمثلًا إذا تم إرسال الإيجاب عن طريق التلغراف وإذا تم تبليغ القبول إلى الموجب أو نائبه بالذات عن طريق التلفون، يجب تطبيق أحكام التعاقد بين الغائبين على هذا العقد بالنسبة للفترة التي تسبق وقت القبول، أما وقت انعقاد العقد فلا يختلف باختلاف النظريات الخمس المعروفة لأن القبول قد صدر وتم التعلم به في آن واحد. ولك إذا بلغ الموجب إيجابه عن طريق التلفون وحدد للمخاطب ميعادًا للقبول وإذا تم تبليغ القبول بعد فترة من الزمن فإن هذا الإيجاب يعتبر كأنه تم تبليغه بالوسائل التي تدخل في الفئة الثانية.
والحري بنا أن نذكر أن بعض الحقوقيين يميلون إلى تطبيق النظريات التي تحدد وقت انعقاد العقد على تحديد مكان انعقاد العقد أيضًا، وعلى هذا يقولون بأن التعاقد بالتلفون – بالرغم من أنه يعتبر كالتعاقد بين الحاضرين من حيث الزمان – يسترجع صفته الحقيقية من حيث المكان ويصبح المكان بين غائبين وأن العقد يعتبر قد تم في مكان (بلد) من صدر منه الإيجاب إذا أخذنا بنظرية العلم وفي مكان (بلد) من صدر منه القبول إذا أخذنا بنظرية الإعلان (1) . ومع أن د. السنهوري يقول: (ولذلك قيل إن التعاقد بالتلفون هو تعاقد فيما بين حاضرين من حيث الزمان) مشيرًا إلى المادة (147) من القانون المدني الألماني والمادة (4) من قانون الالتزامات السويسري (2) ، فإننا لم نجد عبارة (من حيث الزمان) في هذين القانونين، بل نرى أنهما ينصان على هذا الحكم بصورة مطلقة. وهناك تشريعات حديثة نصت على أن التعاقد بطريقة الهاتف أو بأي طريقة مشابهة يسري عليه حكم التعاقد بين الحاضرين من حيث الزمان وحكم التعاقد بين الغائبين من حيث المكان مثل القانون المدني السوري (م.35) والأردني (م.102) . ويلاحظ أن المادة (94) من القانون المدني المصري اكتفت بالإشارة إلى أحكام التعاقد بالتلفون (أو بأي طريق مماثل) حينما نصت على أحكام التعاقد بين الحاضرين. أما القانون اللبناني فقد ذهب إلى حل مرن، فنص أن العقد الذي ينشأ بالمخاطبة التلفونية يعد بمثابة العقد المنشأ بين أشخاص حاضرين. وحينئذ يعين محل إنشائه إما بمشيئة المتعاقدين، وإما بواسطة القاضي وبحسب أحوال القضية (م.185) (3) .
__________
(1) السنهوري، نظرية العقد، ص312.
(2) السنهوري، نظرية العقد، ص290 وهامش3.
(3) محمصاني، النظرية العامة، 2/67.(6/777)
وعلى أي حال فإننا لا نستسيغ تطبيق النظريات التي تحدد وقت انعقاد العقد على تحديد مكان انعقاد العقد في التعاقد بالتلفون. لأن الأسباب والاحتمالات التي تعول عليها هذه النظريات لا يمكن تصورها فيما إذا تم صدور القبول والعلم به بآن واحد – كما رأينا سابقًا -.
(ب) الكتاب (الرسالة) وما شابهه من وسائل الاتصال:
يسري على التعاقد بطريقة هذه الفئة من الوسائل أحكام التعاقد بين الغائبين. وإن إلحاق البرق بهذه الفئة أمر لا يحتاج إلى دراسة خاصة.
وكما سبق أن بينا في الفئة الأولى أن التلكس والفاكس وما شابههما من وسائل بالرغم من إمكانية تصور بعض الحالات لإلحاقها بالتلفون فإنه يجب إلحاقها – في نهاية الأمر وفي التحليل الصحيح – بهذه الفئة.
ومن البديهي أن التعاقد بطريقة إرسال الكاسيت والديسكيت وما شابههما (مع أن هذه الطريقة ليست شائعة على الصعيد العملي حاليًا) يجب ملاحظته في إطار هذه الفئة.
أما التعاقد بالعقل الإلكتروني (وليس عن طريق إرسال الديسكيت) حسب الطريقة التي تسمى بـ (ON-LINE) فإنه يمكن التوصل إلى نتائج مختلفة بدراسة كل حالة من الحالات في هذا النوع من التعاقد. وإذا كان هناك عقل إلكتروني تمت برمجته حسب مضمون العقد، فإن التوصيف الفقهي يكون على أساس قيام الجهاز مقام أحد طرفي العقد (أو كليهما) كما قدمنا سابقًا. ولكن الطرفين إذا تبادلا الإيجاب والقول وهما أمام شاشتي العقل الإلكتروني، فإن هذه الطريقة يجب ملاحظتها في نطاق هذه الفئة مثل إلحاق التلكس والفاكس بها على ضوء ما ورد من توضيحاتنا للمكالمة التلفونية ولهاتين الوسيلتين، وإن كان بالإمكان القول بوجود شبه بين هذه الطريقة والمكالمة التلفونية أيضًا.(6/778)
الخاتمة وملخص البحث
سنحاول فيما يلي أن نعرض النتائج التي توصلنا إليها من خلال بحثنا هذا مع ملخص للبحث. (وقد أشرنا تحت عنوان التمهيد وتحديد الموضوع إلى بعض الموضوعات الجانبية التي لم نعتبرها في نطاق موضوع بحثنا والتي قد يتساءل القارئ عن عدم تناولنا إياها) .
بعض الملاحظات التي تشكل نقطة الانطلاق لآرائنا:
قبل كل شيء ينبغي لنا أن نشير إلى بعض العوامل الأساسية التي أثرت على أسلوب تفكيرنا وصولًا إلى النتائج التي سنذكرها بعد قليل.
1- بالرغم من أن مسائل انعقاد العقد (أي تكونه نتيجة لتلاقي إرادتين مختلفتين وللتعبير عنهما بتعبيرين متتالين) كانت مجهولة في القانون الروماني الذي ذاعت شهرته في تناول المفاهيم بشكل دقيق خاصة في مجال الالتزامات، وبالرغم من أن الفقه الغربي لم يتناول هذه المسائل إلا منذ القرن السابع عشر، فإن الفقهاء المسلمين قد أبدعوا في تناول ودراسة هذه المسائل بالدقة والإتقان منذ عهود مبكرة جدًّا في تاريخ الفقه الإسلامي. ويمكن اعتبار هذه الظاهرة دليلًا واضحًا على أن مبدأ الرضا في مجال الالتزامات هو الأساس في التفكير الحقوقي للفقهاء المسلمين بينما نجد أن النظرة الشكلية هي السائدة في التفكير الحقوقي للقانونيين الرومان.
2- مع أن التعاقد بين الحاضرين تمت بشكل مفصل في كتب الفقه الإسلامي فإنه لم يتم تناول التعاقد بين الغائبين فيها إلا بخطوطه العريضة ومحددًا بظروف وحاجات ذلك الزمن تحت العنوانين (الكتابة) و (الرسالة) خاصة. ونعتقد أن الفقهاء المسلمين لم يواجهوا مواجهة صريحة – كما قال د. السنهوري- واقعة التعاقد بين الغائبين على شكلها المعروف في وقتنا الحاضر. (بيّنّا لماذا لم نشارك رأي د. سوار حينما انتقد كلام د. السنهوري في هذا الموضوع) . ولو كانوا قد واجهوا تطبيقات التعاقد بين الغائبين التي هي وليدة حاجات بيئة تشكل مجالا لعلاقات مكثفة يتم جريانها عن طريق وسائل الاتصال السريعة جدًّا، ولو كانوا قد واجهوا مواجهة صريحة لما كانت حلول هذه التطبيقات في الكتب الفقهية على نحو ما نراه فيها من عدم وجود خلافات جذرية وآراء مختلفة في هذا الموضوع.(6/779)
إذن، يجب أن لا يفوتنا أن الأحكام الواردة في الكتب الفقهية بهذا الخصوص منوطة بالمصالح التي راعاها الفقهاء نظرًا لظروف وحاجات زمنهم، وتجب مراجعة هذه الأحكام حسب الحاجات المستجدة.
3- يلاحظ أن الفقهاء –حين تناولهم لمسائل انعقاد العقد التي لم ترد نصوص خاصة في أحكامها وحين إيجادهم حلولًا مناسبة لهذه المسائل- يلاحظ أنهم راعوا المبدئين التاليين واتفقوا على التنويه بهما وإن كانوا قد اختلفوا في تعيين الحلول التي تحققهما بأكمل وجه. وهما:
(أ) التراضي (الابتعاد عن الكسب غير المشروع) .
(ب) تحقيق المصلحة (سد حاجات الناس) .
وحتى أن الفقهاء الذين أوجدوا نظريات فقهية تمثل الحد الأقصى للتصوير المادي وتعكس النزعة الموضوعية الحاسمة لاهتمامهم البالغ بالمفاهيم الفقهية، فإنه يمكن القول بأن جهودهم كانت مبذولة من أجل التفتيش والبحث عن وجود ارتباط الإيجاب بالقبول بما لا يدع مجالًا للشكل من تحقق التراضي.
أما اهتمامهم بمبدأ المصلحة فيلاحظ بشكل جلي حينما أشاروا إلى محاذير التشدد في التمسك بالقياس (القاعدة العامة) بمناسبات كثيرة معبرين عن أهمية مبدأ المصلحة بعبارات مثل (دفعًا للعسر) ، و (دفعًا للحرج) ، و (لجلب اليسر) ، و (سد الحاجة) ونحوها.
وهناك أمر هام وهو أن العرف قد لعب دورًا بالغ الأهمية أثناء تطبيق هذين المبدئين في حوادث الحياة الواقعية – ما لم يتعارض العرف مع النص-، وهذا الدور قد اعترف به التشريع الإسلامي واعتمد الفقهاء المسلمون في عدد كبير من اجتهاداتهم –بالرغم من عدم احتلال العرف مكانًا مرموقًا في كتب الأصول (1) . ويمكن أن نذكر على سبيل المثال بالنسبة لموضوع بحثنا أحكام انعقاد العقد التي أوردها الفقهاء في بيع (المزايدة) والتوضيحات الواردة في كتبهم حول تحليل هذه الأحكام، إلى جانب أمثلة كثيرة لا يسع هذا المقام ذكرها.
__________
(1) ينظر في هذا الموضوع: دونمز (إبراهيم كافي) ، العرف في الفقه الإسلامي، بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة المنعقدة بالكويت.(6/780)
4- من مقتضيات مبادئ الفقه الإسلامي وأصوله مراعاة الخبرات والتطورات الملحوظة في العالم بالنسبة للمسائل الاجتهادية وخاصة المسائل التي تحظى فيها المصالح المستندة إلى العرف بأهمية كبيرة، وكذلك الأخذ بعين الاعتبار الحاجة الماسة إلى توحيد النصوص التشريعية الدولية في المسائل التي تتسم بالسمة التجارية (1) . (ونشاهد أن عددًا من الباحثين في مجال الفقه الإسلامي يشيرون أيضًا إلى هذا الخصوص حينما يوضحون سبب ترجيحهم إحدى النظريات من بين النظريات التي تحدد وقت انعقاد العقد) . وسنكتفي هنا بالإشارة إلى دليلين واضحين يدلان على الحاجة الماسة إلى هذا التوحيد ويتعلقان بموضوع بحثنا مباشرة:
الأول: لقد اقتدى القانون المدني السوري في مادته (98) بقانون الالتزامات اللبناني (م. 184) في مسألة الانحياز إلى نظرية الإعلان عن القبول، وهذه إحدى المسائل النادرة التي خالف فيها القانون المدني السوري القانون المدني المصري، (وذلك –كما تقول المذكرة الإيضاحية للقانون السوري- لكثرة المعاملات الجارية بين سورية ولبنان بحيث تفضي المصلحة بتوحيد النصوص التشريعية في هذا الموضوع بين البلدين لئلا يقع تنازع بين قانونيهما يؤدي إلى الإضرار بحقوق ذوي العلاقة) (2) .
الثاني: إن المحاولات والجهود التي بذلها حقوقيو مختلف بلاد العالم لتوحيد التشريع فيما يخص بيع السلع الدولي والتي استمرت منذ سنوات عديدة قد توّجت بقبول اتفاق فيينا في 11 أبريل 1980. وإن هذا الاتفاق قد نجح أثناء الأعمال التحضيرية بتجميع عدد كبير من الدول تختلف أنظمتها القانونية والاقتصادية بعضها عن البعض الآخر، وتم توقيع المذكرة النهائية له من قِبَل 65 دولة كما تمت المصادقة عليه من قِبَل 15 دولة باعتبارها طرفًا في هذا الاتفاق، ومن بينها مصر وسوريا. ويلاحظ أن عددًا كبيرًا من الدول على وشك المصادقة عليه ويزداد عدد الدول الأطراف بمرور الزمن انظر في هذا الموضوع:
ERDEM (H.Ercument) ، Uluslararasi mal satislarinda 11 Nisan 1980 tartihli Birlesmis Milletler Solesmesinin uygulama alani، Izmir Barosu Dergisi، annee: 54، no. 1 Ocak 1989-1990; Conventionne d Vienne de 1980 sur La Vente Internationale des Marchandises/ Collogue de Lausanne des 19 et 20 Novembre 1984، Zurich، 1985. .
__________
(1) انظر في هذا الموضوع: الجبر (محمد حسن) ، العقود التجارية وعمليات البنوك في المملكة العربية السعودية، الرياض، 1404هـ/1984م، ص 15-17.
(2) السنهوري، مصادر الحق، 2/53-54.(6/781)
(ب) النتائج:
1- تكاد تتفق آراء الفقهاء المسلمين على عدم اشتراط وجود طرفي العقد في مكان واحد وعلى جواز التعاقد بين طرفين متباعدين. والحقيقة أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد جاءا بمبدأ بناء الأحكام على المخابرة بطريقتي (الكتابة) و (الرسالة) (السفارة) ، ولهذا لا يعتبر هذا الموضوع مثارًا للجدل، كما أن الباحثين في مجال الفقه الإسلامي في الوقت الحاضر لا يشعرون بالحاجة –أثناء دراساتهم للعقد- إلى نقاش واسع في جواز أو عدم جواز التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة. وأدل شيء على ذلك أن لجنة تعديل مجلة الأحكام العدلية لم تترد في تقرير إضافة مادة إلى هذه المجلة تنص على صحة التعاقد بواسطة التلغراف والتلفون في سنة 1921.
2- وإذا وضعنا نصب أعيينا أن معظم الأحكام المتعلقة بانعقاد العقد لم تأت بها النصوص الخاصة بل وتوصل إليها الفقهاء من خلال التحليلات والتقييمات الفقهية أي من خلال الجهود المبذولة من أجل التأكد من وجود الرضا بين الطرفين، فإنه يتبين لنا أن هذه الأحكام التي وردت في الكتب الفقهية - باعتبار معظمها - ليست أحكامًا آمرة (أي من (النظام العام)) بل هي أحكام مكملة أو مفسرة حسب اصطلاح القانون.
إذن، يمكن للطرفين أن يعينا أو يحددا أحكام المسائل المتعلقة بانعقاد العقد (وخاصة بوقت أو مكان انعقاد العقد) . حتى ويمكن القول بأن هذا التعيين المسبق يكون أصلح وأوفق مع مبادئ الفقه الإسلامي من جهة سد باب النزاع والخلاف.
وعلى هذا، يجب ملاحظة الأحكام والنتائج التي سنذكرها فيما يلي بشرط (أن لا يكون الطرفان قد اتفقا على عكس ذلك) .
3- بيّنّا أن الرأي القائل بأن الإيجاب (تعبير متلقى) وليس (تعبيرًا ملقًى) سواء في التعاقد بين الحاضرين أو في التعاقد بين الغائبين هو الراجح –في نظرنا-. وعلى هذا، فإن الإيجاب لا يتم بمجرد صدوره بل لا بد من توجيهه إلى الطرف المقابل وبعبارة أخرى فإنه يجب إظهار الموجب إرادة تبليغ الإيجاب أي رضاه بالتبيلغ لترتيب الحكم على الإيجاب. (وقد أشرنا إلى الرأي المعارض له الوارد في كتب الشافعية) .
وكذلك أشرنا إلى رجحان الرأي القائل بأن توجيه الإيجاب إلى الجمهور يصح ويترتب الحكم على هذا التوجيه.(6/782)
وبعد أن نبهنا إلى ضرورة التمييز بين مفهومي (الإيجاب) و (الدعوة إلى الإيجاب) بينا أن كل تعبير يدل على أن صاحبه يريد به أن يلتزم به في حالة قبوله بما لا يدع مجالًا للشك – بأي طريق كان هذا التعبير (بالمواجهة الشخصية، بطريق الإعلان، بوسائل الاتصال، بوضع أجهزة أتوماتيكية) - يجب اعتباره (إيجابًا) .
وفي هذا النطاق أشرنا إلى أن الأجهزة الأتوماتيكية يمكن أن تقوم مقام أحد طرفي العقد (أو كليهما إذا كانت الظروف والإمكانيات مواتية لذلك) .
وقد قمنا بتوضيح أن الإيجاب يمكن الرجوع عنه - في الحالات العادية - إلى وقت القبول (وهذا هو الرأي السائد في الكتب الفقهية) ، غير أننا لاحظنا أن اشتراط علم الطرف المقابل بالرجوع عن الإيجاب لترتب الحكم على هذا الرجوع هو الأوفق لمبادئ الفقه الإسلامي (خلافًا لما ورد في كتب الأحناف) . ومن جهة أخرى، فإن الإيجاب الذي وصل إلى الطرف المقابل والذي يمنح له حق التأمل والتروي مدة معينة إما بالتصريح وإما بدلالة الحال أو طبيعة المعاملة، ارتأينا أنه من الأوفق لمبادئ الفقه الإسلامي اعتباره ملزمًا لصاحبه طيلة هذه المدة (خاصة في حالة تعيين ميعاد للقبول) ، ورجحنا بهذا الخصوص رأي جمهور المالكية.
4- بعد أن ذكرنا أن خيار القبول هو الحكم المتفق عليه في الفقه الإسلامي، أشرنا إلى أن الحالات التي يمكن وصفها بأنها حالات (القبول الضمني) لا ينبغي تصورها بأن المخاطب أصبح ملزمًا بالقبول فيها.
وقد رأينا أن وقت القبول يتحدد بمدة قيام المجلس الذي تم فيه أداء الكتابة أو الرسالة إذا تصورنا التعاقد بين الغائبين محددًا بطريقتي (الكتابة) و (الرسالة) في إطاره التطبيقي من منظور ظروف وحاجات ذلك الزمن. ولكن التعاقد بين الغائبين في ظروف وقتنا الحاضر لا يتم حسب الطريقة التي كانت جارية في الأزمان السابقة، ولهذا توصلنا إلى نتيجة أن سد الحاجة في يومنا هذا لا يتحقق إلا إذا قلنا بإمكانية القبول في المدة التي يعتبر فيها الإيجاب ملزمًا على ضوء ما ذكرناه من رأي جمهور المالكية بهذا الخصوص.، وإذا تم قبول هذا الرأي ينبغي القول أيضًا بأن الإيجاب لا يعتبر ساقطًا في حالة رفضه من طرف المرسل إليه ما لم يصل خبر الرفض إلى الموجب.
ونبهنا إلى أن القبول يمكن الرجوع عنه إلى وقت انعقاد العقد على الصعيد النظري. وأما على الصعيد العملي فإن هذا الرجوع لا يمكن إذا حكمنا بأن العقد ينعقد بمجد الإعلان عن القبول أي إذا تبنينا نظرية الإعلان (سنبين رأينا في النظريات المتعلقة بتحديد وقت انعقاد العقد بعد قليل) .(6/783)
5- رأينا أن ارتباط الإيجاب بالقبول حكمي (اعتباري) وليس حقيقيًّا سواء في التعاقد بين الحاضرين أو التعاقد بين الغائبين. أما اتحاد المجلس فهو مادي/ حقيقي (أي مرتبط بالمكان) في التعاقد بين الحاضرين، إن كان حكميًّا في التعاقد بين الغائبين ولكننا نوّهنا بكلام د. السنهوري الذي ينبه إلى ضرورة عدم الإغراق في التصوير المادي بالدرجة التي تؤدي إلى إهدار الغاية المقصودة من أحكام اتحاد المجلس.
وبما أن قيام الإيجاب إلى وقت القبول يحظى بأهمية بالغة في قبول تحقق هذا الارتباط فإننا رأينا من المناسب الإلمام بحالات الإيجاب إلمامًا سريعًا.
6- وتحت عنوان (تحديد وقت انعقاد، العقد في التعاقد بين الغائبين) الذي يشكل أهم وأوسع جزء من بحثنا، قمنا بتلخيص النظريات الموجودة في هذا الموضوع، وموقف كل من التشريع الوضعي والكتب الفقهية القديمة منها، وكذلك آراء الباحثين المعاصرين في الفقه الإسلامي في هذا المضمار. وقد تبين لنا من خلال نقد هذه النظريات والآراء حولها:
- أن عددًا من الباحثين المعاصرين في الفقه الإسلامي (ومنهم من يتعرض للموضوع بصفة خاصة مثل د، القره داغي ود. الدريني ود. الإبراهيم) لم يحالفهم الصواب فيما ذكروه من معلومات حول اتجاه الفقه الحديث في هذا الموضوع، ولعلهم استندوا غالبًا إلى المراجع القديمة ولم تتح لهم فرصة دراسة الموضوع بشكل دقيق. وقد اكتفى هؤلاء المؤلفون وكذلك د. سوار –الذي تناول بشكل مفصل ووضع نظرية جديدة فيه- بالوقوف أمام نظريتي (الإعلان) و (العلم) دون التطرق إلى تقويم النظريات الأخرى.
-وقد قمنا بتثبيت أن هؤلاء المؤلفين (د. سوار، د. الإبراهيم، خاصة د. القره داغي) وقعوا في معضلة وهي: ظنهم بأن الانحياز إلى نظرية عدا نظرية الإعلان يستلزم بالضرورة إعطاء الموجب حق الرجوع عن إيجابه إلى وقت انعقاد العقد. وأثبتنا أن هذه الفكرة التي تأثر بها هؤلاء المؤلفون في ترجيحهم للمسألة، ليس صائبة وقمنا بتوضيح أن الغاية الأساسية من وضع هذه النظريات - بالدرجة الأولى - تنصب على وقت اكتساب القبول الصفة الإلزامية وبالتالي على وقت انعقاد العقد ولا تنصب على وقت اكتساب الإيجاب الصفة الإلزامية. وكذلك أشرنا إلى أن إلزامية الإيجاب أو عدم إلزاميته يمكن تعيينها بصورة ما في النظريات الأخرى عدا نظرية الإعلان. وعلى هذا فإنه يمكن في تلك النظريات تحديد حق الرجوع عن الإيجاب إلى وقت انعقاد العقد نظريًّا، إلا أنه يختلف الأمر على الصعيد العملي، إلى درجة أن الأنظمة القانونية التي تقول بعدم إلزامية الإيجاب –مبدئيًّا-، تميل إلى تحديد هذا الحق بوقت القبول أو تصديره كحد اقصى.
أما في الفقه الإسلامي فقد بينا أن حق الرجوع عن الإيجاب محدد بوقت القبول، وكذلك أنه محدد بانفضاض المجلس الذي صدر فيه القبول عند من يقول بخيار المجلس كحد أقصى. وعبرنا عن قناعتنا بأن نظرية (خيار الطريق) التي جاء بها د. سوار لا تليق بالترجيح، مشيرين في ذلك إلى هذا الحكم الوارد في الفقه الإسلامي وإلى بعض مواطن الضعف الأخرى التي تكتنف هذه النظرية.(6/784)
- وبعد دراسة تلك النظريات الخمس كل على حدة توصلنا إلى نتيجة أن نظرية استلام القبول هي الأوفق لمبادئ الفقه الإسلامي آخذين بعين الاعتبار ظروف وقتنا الحاضر، ومع ذلك لا يمكن أن ننكر أن الموضع يحتمل اكثر من وجه ويوقع المرء في حيرة لا محالة.
7- أشرنا أولًا إلى أن وسائل الاتصال الحديثة يمكن دراستها في فئتين:
(أ) التلفون وما شابهه من وسائل.
(ب) الكتاب (الرسالة) وما شابهه من وسائل.
وبينا أن الفئة الأولى يجب تطبيق أحكام التعاقد بين الحاضرين فيها من حيث الزمان، وأن الفئة الثانية يجب تطبيق أحكام التعاقد بين الغائبين فيها. ثم وضحنا – بعد الإشارة إلى بعض مسائل التعاقد بالوسائل التي تدخل ضمن الفئة الأولى- أن الوسائل التي تشبه التلفون مشابهة تامة مثل التلفون التلفزيوني (الآلة التي تجعل الصورة مصاحبة للصوت) يجب إلحاقها بالفئة الأولى، في حين أن الآلات مثل التلكس والفاكس ينبغي إلحاقها - مبدئيًّا- بالفئة الثانية (واستثنينا من ذلك حالة تعاقد الطرفين وهما عند آلتي التلكس أو الفاكس وقلنا بأن أحكام التعاقد بين الحاضرين يمكن تطبيقها في مثل هذه الحالة حسب الإمكانيات والظروف التقنية، وقد نبهنا إلى أن النتائج العملية في هذا التعيين- أي إلحاقها بالفئة الأولى أو الثانية - محدودة جدًّا) . وذكرنا أن التعاقد بواسطة العقل الإلكتروني ينبغي تطبيق أحكام التعاقد بين الغائبين فيه - من حيث المبدأ -، وذلك في ضوء ما ورد من ملاحظاتنا حول استخدام كل من التلفون والتلكس والفاكس. والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور إبراهيم كافي دونمز(6/785)
الإسلام وإجراء العقود
بآلات الاتصال الحديثة
إعداد
فضيلة الشيخ محمد الحاج الناصر
الباحث الإسلامي (.. كل قول أو فعل يُعده الناس عقدًا فهو عَقد يجب أن يوفوا به كما أمر الله تعالى ما لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام مما ثبت في الشرع)
(تفسير المنار، محمد رشيد رضا)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، إياك نعبد وإياك نستعين، وبنورك نستهدي، وبألوهيتك نعتز، وبملكك نحتمي ونعتصم، لا إله إلا أنت، أنت الحق، وقولك الحق، وكتابك حق، ومحمد حق، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان، والمقتفين لهديهم بصدق، الذين لا يحيدون عن سننهم ولا تلتبس عليهم سلبهم فتفرقهم شيعًا وتبددهم بين خطل الغلوّ وزلل التحريف ومهاوي الانحراف مع أباطيل الأهواء ومنازع الضلال.
وبعد، فهذه لمح ما يسرَّ الله لنا وأرشدنا إليه في ما عُني به مجمع الفقه الإسلامي من البحث في حكم الله في ما يتصل باستعمال وسائل الاتصال الحديثة، مما أحدثته أو قد تُحدثه ذات يوم اكتشافات العقل البشري لمظاهر الكون وظواهره، واهتداءاته إلى طرق الاستفادة منها فيما درج عليه الناس في معايشهم وخاصة ما يتصل منها بالتزامات بعضهم مع بعض في مجال المعاملات، أو في غيره من المجالات مثل ضبط العلاقات الأسرية والاجتماعية وما إليها.
وقد ارتأينا – استمرارًا في الالتزام بالمنهج الذي آثرناه لأبحاثنا على اختلافها من اعتبار الحقائق اللغوية والنصوص الشرعية القطعية والظنية، واختلاف الأعراف المؤثرة في الاجتهادات والاستنباطات والناتجة عن اختلاف البيئات وتباين أطوار الإنسان الحضرية – أن نمضي في هذا البحث على ذلك النسق، فنسوق ما تعارف عليه اللغويون من معاني كلمة (العقد) ، وهو العروة التي تضبط العلاقات بين الناس في مجال المعاملات أو الشئون الاجتماعية، ثم ما تبلور فيه من معنى هذه الكلمة عند أئمة التفسير وأئمة السنة. وأيمة الفقه، ثم أيمة القانون الوضعي لنصير من ذلك كله إلى اجتلاء وضبط القواعد التي ننطلق منها في تحرير وتقرير ما يترجح لدينا أنه مطابق لمناط التشريع من الرأي في التوفيق بين هذه المستحدثات وسائل للتواصل بين الناس وبين تلك الضوابط التي تواضعوا عليها منذ القديم قواعد وأحكامًا تضفي على التزاماتهم صبغة الشرعية الملزمة لمختلف الأطراف والفرقاء بينهم.
ولا نزعم –في ما نحرر ونقرر- أننا – أو أن أيًّا كان غيرنا- يمكن بأن نجزم بأن ما وصل إليه بحثنا أو بحثه هو حكم الله الحق قطعًا وجزمًا، إنما شأننا –كشأن غيرنا ممن استفرغ مثلنا وسعه وبذل غاية جهده- هو البحث الصادق المخلص عمَّا قد يكون هو الحق، فإن جاءك ما نرجوا فذلك فضل من الله وتوفيق نحمده عليه أصدق الحمد ونشكره أجزل الشكر، وإن أخطأ كان عذرنا وعذر غيرنا ممن بذل ما بذلناه أو أحسن مما بذلناه، أننا قصدنا إلى الحق ابتغاء وجه الله وإسهامًا في التمكين لشريعته، ولم نسأل في ذلك جهدًا و (إنما الأعمال بالنيات) وعلى الله قصد السبيل.(6/786)
وفيه: ((أن رجلًا كان يبايع وفي عقدته ضعف)) ، أي في رأيه ونظره في مصالح نفسه.
وفي حديث عمر: ((هلك أهل العقد – وفي رواية: العُقَد بضم العين وفتح القاف- ورب الكعبة)) يعني أصحاب الولايات على الأمصار من عقد الألوية للأمراء. ومنه حديث أبي: مات أهل العقدة ورب الكعبة يريد البيعة المعقودة للولاة.
ثم قال: وفيه: فعدلت عن الطريق فإذا عقدة من شجر. العقدة من الأرض: البقعة الكثيرة الشجر.
وفيه ((الخيل معقود في نواصيها الخير)) ، أي ملازم كأنه معقود فيها. وفي حديث ابن عمرو: ألم اكن أعلم السباع هاهنا كثيرًا؟ قيل: نعم ولكنها عُقدت حتى تخالط البهائم ولا تهيجها أي عولجت بالأخذ والطلسمات كما تعالج الروم الهوام ذوات السموم يعني عُقدت ومنعت أن تضر البهائم.
وفي حديث أبي موسى أنه كسى في كفارة اليمين ثوبين ظهرانيًّا ومعقدًا، المعقد ضرب من برود هجر.
وقال النووي في [تهذيب الأسماء واللغات: 4/27]
قال صاحب المحكم: العقد نقيض الحل، عقده يعقده عقدًا وتعاقدًا وعقده واعتقده كعقده وقد انعقد وتعقد.
ثم قال: وعقد العقد واليمين: يعقدهما عقدًا، وعقدهما: أكد عقدهما. والعقد: العهد، والجمع عقود، وعاقده: عاهده، وتعاقدوا: تعاهدوا، والعقيد: الحليف.
وعقد العسل والرب ونحوهما يعقد ويعقد وأعقدته فهو معقد وعقيد، والعقيد: عسل يعقد حتى يخثر. وفي لسانه عقدة وعقد أي التواء. ورجل أعقد: في لسانه عقدة وعقد كلامه أعوصه وعماه. وعقد على الشيء لزمه، وعقد النكاح والبيع وجوبهما.
قال الفارسي: هو من الشد والربط، وعقد كل شيء إبرامه، واعتقد الشيء صلبه، وتعقد الإخاء: استحكم. وعقد الشحم يعقد: انبنى وظهر. والعقد المتراكم من الرمل واحدة: عقدة، والجمع أعقاد. والعقد –بالفتح- لغة في العقد. هذا آخر كلام المحكم.
وقال الأزهري: أعقدت العسل ونحوه ويروي بعضهم: عقدته، والكلام اعتقدت، موضع العقد من الحبل معقد، وجمعه: معاقد، هذا آخر كلام الأزهري.
وقال الليث في (العين) تعقد السحاب إذا صار كأنه عقد مضروب مبني. والعقد: الضيعة، والجمع: العقد، واعتقد الرجل مالًا وأخاه. وعقد الرجل والمرأة، فهو أعقد وهي عقداء إذا كان في لسانه عقدة وغلظ في وسطه. والفعل: عقد يعقد عقدًا.
***(6/787)
الفصل الثاني
كلمة (عقد) ومشتقاتها في القرآن
وردت كلمة (عقد) ومشتقاتها في سبعة مواضع.
قال الله تعالى في [سورة البقرة: الآية 235] : {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} .
وقال [الأية 237] : {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} .
وقال في [سورة النساء: الآية 33] {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} .
وقال في [سورة المائدة: الآية1] : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
وقال [الآية 89] : {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} .
وقال في [سورة طه: الآية 27] : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} .
وقال في [سورة الفلق: الآية4] : {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} .
وقال الراغب في [مفردات القرآن: ص510] :
العقد: الجمع بين أطراف الشيء. ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل وعقد البناء، ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع والعهد وغيرهما، ويقال: عاقدته وعقدته وتعاقدنا وعقدت. قال الله تعالى: {عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، وقُرئ: (عاقدت أيمانكم) . وقال تعالى: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وقُرئ: (بم عقدتم الإيمان) . ومنه قيل: لفلان عقيدة، وقيل: للقلادة عقد. والعقد مصدر استعمل اسمًا فجمع نحو قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، والعقدة اسم لما يعقد من نكاح أو يمين أو غيرهما. قال تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} . وعقد لسانه: احتبس، وبلسانه عقدة: أي في كلامه حبسة. قال تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} . وقوله تعالى: {النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} جمع عقدة، وهي ما تعقده الساحرة، وأصله من العزيمة ولذلك يقال: لها عزيمة، كما يقال: لها عقدة. ومنه قيل للساحر: معقد وله عقدة ملك. وقيل: ناقة عاقد: عقدت بذنبها ساعة لقاحها. وتيس وكلب أعقد: ملتوي الذنب. وتعاقدت الكلاب: تعاظلت.
قال الرازي في [مفاتيح الغيب: المجلد 3، 6/144] :
فأما قوله تعالى: {عُقْدَةَ النِّكَاحِ} ، فأعلم أن أصل العقد الشد والعهود والأنكحة تسمى عقودًا لأنها تعقد كما يعقد الحبل.
وقال محمد الطاهر بن عاشور في [التحرير والتنوير: 2/ 454، 455] :
وقوله: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} ، والعزم هنا عقد النكاح لا التصميم على العقد، ولهذا فعقدة النكاح منصوب على المفعول به، والمعنى: لا تعقدوا عقدة النكاح، أخذ من العزم بمعنى القطع والبث، قاله النحاس وغيره: ولك أن تجعله بمعناه المشهور أي لا تصمموا على عقدة النكاح، ونهى عن التصميم لأنه إذا وقع، وقع ما صمم عليه.
ثم قال:
والآية صريحة في النهي عن النكاح في العدة وفي تحريم الخطبة في العدة وفي إباحة التعريض فأما النكاح أي عقده في العدة، فهو إذا وقع ولم يقع بناء بها في العدة، فالنكاح مفسوخ اتفاقًا، وإنما اختلفوا هل يتأبد به تحريم المرأة على العاقد أَوْ لا، فالجمهور على أنه لا يتأبد وهو قول عمر بن الخطاب ورواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، وحكى ابن الجلاب عن مالك أنه يتأبد ولا يعرف مثله عن غير مالك.
***(6/788)
الفصل الثالث
تأويلات وأحكام
قال الطبري في [جامع البيان: 2/335، 340] عند تفسير قوله سبحانه وتعالى {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} :
اختلف أهل التأويل في من عنى الله تعالى ذكره بقوله: (الذي بيده عقدة النكاح) ، فقال بعضهم/ هو ولي البكر، وقالوا: ومعنى الآية: أو يترك الذي يلي على المرأة عقدة نكاحها من أوليائها للزوج النصف الذي وجب للمطلقة عليه قبل مسيسه فيصفح له عنه إن كانت الجارية ممن لا يجوز لها أمر في حالها.
ثم ساق بأسانيده مقولات القائلين بهذا التأويل. وأفاض في ذلك على أنهم قلة، وسننقل أسماءهم عن الطبري والرازي إذ ساقاها بإيجاز.
ثم قال: وقال آخرون: بل (الذي بيده عقدة النكاح) الزوج، قالوا: ومعنى ذلك: أو يعفو الذي بيده نكاح المرأة فيعطيها الصداق كاملًا.
ثم ساق كلام هؤلاء وهم كثر مسندة كعادته، وننقل منها رواية واحدة لما فيه من دلالة خاصة.
قال: حدثني يعقوب قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا أبو بشر عن سعيد بن جبير قال: (الذي بيده عقدة النكاح) هو الزوج. قال: وقال مجاهد وطاووس: هو الوالي قال: قلت لسعيد: فإن مجاهدًا وطاووسًا يقولان: هو الولي. قال سعيد: فما تآمروني إذن؟
ثم قال: أرأيت لو أن الولي عفا وأبت المرأة أكان يجوز ذلك؟! ، فرجعت إليهما فحدثتهما فرجعا عن قولها وتابعا سعيدًا.
ثم قال ابن جرير –رحمه الله-: أولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: المعنى بقوله (الذي بيده عقدة النكاح) : الزوج، وذلك لإجماع الجميع على أن ولي جارية بكر أو ثيب صبية، صغيرة كانت أو مدركة كبيرة، لو أبرأ زوجها من مهرها قبل طلاقه إياها أو وهبه له أو عفا له عنه، أن إبراءه ذلك وعفوه له عنه باطل، وان صداقها عليه ثابت ثبوته قبل إبرائه إياه منه، فكان سبيل ما أبرأ من ذلك بعد طلاقه إياها سبيل ما أبرأ منه قبل طلاقه إياها.
وأخرى أن الجميع مجمعون على أن ولي امرأة محجور عليها أو غير محجور عليها، لو وهب زوجها لمطلقها بعد بينونتها منه درهمًا من مالها على غير وجه العفو منه عمّا وجب لها من صداقها قبله، أنّ هبته ما وهب من ذلك مردودة باطلة، وهم مع ذلك مجمعون على أن صداقها من مالها فحكمه حكم سائل أموالها.
وأخرى أنّ الجميع مجمعون على أن بني أعمام المرأة البكر وبني إخوتها من أبيها وأمها من أوليائها، وأن بعضهم لو عفا عن مالها بعد دخوله بها أن عفوه ذلك مما عفا له عنه منه باطل، وأن حق المرأة ثابت عليه بحاله، فكذلك سبيل عفو كل ولي لها كائنًا من كان من الأولياء، والدًا كان أو جدًّا أو أخًا، لأن الله تعالى ذكره لم يخصص بعض الذين بأيديهم عقدة النكاح دون بعض في جواز عفوه إذا كانوا ممن يجوز حكمه في نفسه وماله.(6/789)
ويقال لمن أبى: ما قلنا ممن زعم أن (الذي بيده عقدة النكاح) ولي المرأة، هل يخلو القول في ذلك من أحد أمرين إذا كان (الذي بيده عقدة النكاح) هو الوليّ عندك، إما أن يكون ذلك كل وليّ جاز له تزويج وليته، أو يكون ذلك بعضهم دون بعض فلن يجد إلى الخروج من أحد هذين القسمين سبيلًا فإن قال: إن ذلك كذلك قيل له: فأي ذلك عنا به؟ فإن قال لكل ولي جاز له تزويج وليته قيل له: أفجائز للمعتق أمة تزويج مولاته بإذنها بعد عتقه إياها؟! فإن قال: نعم , قيل له: أفجائز عفوه إن عفا عن صداقها لزوجها بعد طلاقه إياها قبل المسّ؟! فإن قال: نعم، خرج من قول الجميع، وإن قال: لا، قيل له: ولم؟! وما الذي حظر ذلك عليه وهو وليها. الذي بيده عقدة نكاحها؟!
ثم يعكس القول عليه في ذلك ويسأل الفرق بينه وبين عفو سائر الأولياء غيره وإن قال لبعض دون بعض: سئل البرهان على خصوص ذلك، وقد عمّه الله تعالى ذكره ولم يخصص بعضًا دون بعض؟! ويقال له: من المعني به إن كان المراد بذلك بعض الأولياء دون بعض؟! فإن أومأ في ذلك إلى بعض منهم سئل البرهان عليه، وعكس القول فيه، وعورض في ذلك بخلاف دعواه ثم لن يقول في ذلك قولًا إلا ألزم الآخر مثله.
فإن ظن ظانَّ أن المرأة إذا فارقها زوجها فقد بطل أن يكون بيده عقدة نكاحها، والله تعالى ذكره إنما أجاز عفو الذي بيده عقد نكاح المطلقة فكان مع معلومًا بذلك أن الزوج غير معني به وأن المعني به هو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة بعد بينونتها من زوجها وفي بطول ذلك، أن يكون حينئذ بيد الزوج صحة القول بيد الولي الذي بيده عقد النكاح إليها وإذا كان ذلك كذلك صح القول بأن الذي بيده عقدة النكاح) هو الولي فقد غفل وظن خطأ وذلك أن معنى ذلك أن يعفو الذي بيده عقدة نكاحه وإنما أدخلت الألف واللام في النكاح بدلًا من الإضافة إلى الهاء التي كان النكاح ولو لم تكن (أل) فيه مضافًا إليها كما قال الله تعالى ذكره: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [سورة النازعات: الآية 41] فإن الجنة مأواه كما قال نابغة بني ذبيان:
لهم حجة لم يعطها الله غيرهم
من الناس فالأحلام غير عوازب
بمعنى: فأحلامهم غير عوازب والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، فتأويل الكلام {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وهو الزوج الذي بيده عقدة نكاح نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده لا إنّ معناه: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن، فيكون تأويل الكلام ما ظنه القائلون أنه ولي المرأة لأن ولي المرأة لا يملك عقد نكاح المرأة بغير إذنها إلا في حال طفولتها، وتلك حال لا يملك العقد عليها إلا بعض أوليائها في قول أكثر من رأي أن {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} الولي ولم يخصَّص الله تعالى ذكره بقوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} بعضًا منهم فيجوز توجيه التأويل إلى ما تأوَّلوه أو كان لما قالوا في ذلك وجه.(6/790)
وبعد، فإن الله تعالى ذكره إنما كنَّى بقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} عن ذكر النساء اللائي قد جرى ذكرهن في الآية قبلها وذلك قوله {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} والصبايا لا يسمين نساء وإنما يسمين صبايا أو جواري، وإنما النساء في كلام العرب جمع اسم المرأة ولا تقول العرب للطفلة والصبية والصغيرة: امرأة، كما لا تقول للصَّبي الصغير: رجل، وإذا كان ذلك كذلك وكان قوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} عند الزاعمين أنه الولي إنما هو أو بعض {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} عما وجب لوليته التي تستحق أن يولي عليها مالها إما لصغر وإما لسفه والله تعالى ذكره إنما اقتصر في الآيتين قصص النساء المطلقات لعموم الذكر دون خصوصه وجعل لهن العفو بقوله: {إَلَّا أَنْ يَعْفُونَ} كان معلومًا بقوله {إَلَّّا أَنْ يَعْفُونَ} أن المعنيات منهن بالآيتين اللتين ذكرهن فيهما جميعهن دون بعضهن إذ كان معلومًا أن عفوَ مَنْ تولى عليه ماله منهن باطل وإذا كان ذلك كذلك فبين أن التأويل في قوله: أو يعفو الذي بيده عقد نكاحهن، يوجب أن يكون لأولياء الثيبات الرشد البوالغ من العفو عما وجب لهن من الصداق بالطلاق قبل المس مثل الذي لأولياء الأطفال الصغار والمولى عليهن أموالهن لسفه وفي إنكار القائلين أنّ {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} الولي عفو أولياء الثيبات الرشد البوالغ على ما وصفناه وتفريقهم بين أحكامهم وأحكام أولياء الأخر ما أبان عن فساد تأويلهم الذي تأولوه في ذلك، ويسأل القائلون بقولهم في ذلك الفرق بين ذلك من أصل أو نظير فلن يقولوا في شيء من ذلك قولًا إلا ألزموا خلاف مثله.
وقال الرازي في [مفاتيح الغيب: المجلد 3، 6/153، 155] :
أما قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ففيه مسألتان:
(المسألة الأولى) : في الآية قولان:
الأول: هو الزوج وهو قول علي ابن أبي طالب عليه السلام وسعيد بن المسيب وكثير من الصحابة والتابعين وهو قول أبي حنيفة.
والقول الثاني: أنه الولي وهو قول الحسن ومجاهد وعلقمة، وهو قول أصحاب الشافعي.
حجة القول الأول وجوه:
الأول: أنه ليس للولي أن يهب مهر موليته صغيرة كانت أو كبيرة، فلا يمكن حمل هذه الآية على الولي.
والثاني: أن الذي بيد الولي هو عقد النكاح فإذا عقد حصلت العقدة لأن بناء الفعلة يدل على المفعول كالأكلة واللقمة، وأما المصدر فالعقد كالأكل واللقم. ثم من المعلوم أن العقدة الحاصلة بعد العقد في يد الزوج لا في يد الولي.(6/791)
والثالث: أن في قوله تعالى: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، معناه الذي بيده عقدة نكاح ثابت له لا لغيره كما أن قوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [سورة النازعات: الآيتان 40-41] ، أي نهى النفس عن الهوى الثابت له لا لغيره كانت الجنة ثابتة له فتكون مأواه.
والرابع: ما روي عن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل صداقها وقال: أنا أحق بالعفو وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج.
حجة من قال: المراد هو الولي، وجوه:
الأول: أن الصادر من الزوج هو أن يعطيها كلّ المهر وذلك يكون هبة والهبة لا تسمى عفوًا.
أجاب الأولون عن هذا من وجوه: (أحدهما) ، أنه كان الغالب عندهم أن يسوق المهر إليها عند التزوج فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها. و (ثانيها) ، سمّاه عفوًا على طريق المشاكلة. و (ثالثها) ، أن العفو يراد به التسهيل، يقال: فلان وجد المال عفوًا صفوًا وقد بيَّنَّا وجه هذا القول في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [سورة البقرة: الآية 178] . وعلى هذا عفو الرجل أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة.
أجاب القائلون بأن المراد هو الولي عن السؤال الأول بأن صدور العفو عن الزوج على ذلك الوجه لا يحصل إلا على بعض التقديرات، والله تعالى ندب إلى العفو مطلقًا وحمل المطلق على المقيد خلاف الأصل، وأجابوا عن السؤال الثاني أنّ العفو الصادر عن المرأة هو الإبراء وهذا عفو في الحقيقة، أما الصادر عن الرجل محض الهبة فكيف يسمّى عفوًا؟ وأجابوا عن السؤال الثالث بأنه لو كان العفو هو التسهيل، لكان كل من سهل على إنسان شيئًا يقال: إنه عفا عنه، ومعلوم أن هذا ليس كذلك.
الحجة الثانية للقائلين بأن المراد هو الولي، هو أن ذكر الزوج قد تقدم لقوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} ، فلو كان المراد بقوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو الزوج، لقال أو تعفو على سبيل المخاطبة، فلما لم يفعل ذلك بل عبر عنه بلفظ المغايبة، علمنا أن المراد منه غير الزوج.
وأجاب الأولون بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة التنبيه على المعنى الذي من أجله يرغب الزوج في العفو، والمعنى إلا أن يعفوا أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج، ثم لم يكن منها سبب في الفراق وإنما فارقها الزوج فلا جرم كان حقيقيًّا بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقتها.
الحجة الثالثة: للقائلين بأنه هو الولي، هو أن الزوج ليس بيده البتة عقدة النكاح، وذلك لأن قبل النكاح كان الزوج أجنبيًّا عن المرأة ولا قدرة له على التصرف فيها بوجه من الوجوه، ولا يكون له قدرة على إنكاحها البتة. وأما بعد النكاح فقد حصل النكاح، ولا قدرة على إيجاد الموجود له بل (لا قدرة على إزالة النكاح) – كذا ولا تستقيم العبارة وتحريرها: بل القدرة على إزالة النكاح- والله تعالى أثبت العفو لمن في يده وفي قدرته عقدة النكاح، فلما ثبت أن الزوج ليس له يد ولا قدرة على عقد النكاح، ثبت أنه ليس المراد هو الزوج، أما الولي فله قدرة على إنكاحها، فكان المراد من الآية هو الوليّ لا الزوج.(6/792)
قلت: لم يدفع الرازي هذه الحجة العجيبة مع أن مدفعها واضح جليّ فالقول بأن الزوج لا قدرة له على التصرف قبل النكاح تحصيل للحاصل، فقبل النكاح لا وجود لعقدة النكاح وإنما يتصرف في الشيء أو يقدر على التصرف فيه بعد وجوده، وما من أحد يجادل في أن التصرف في العقدة بعد وجودها بيد الزوج وثبوت العفو يترتب على ثبوت التصرف، في حين أن الولي كما أوضحنا أكثر من مرة لا يملك العقد ولا العقدة، وغاية صلاحياته أن يتولى أصالةً أو بالنيابة إبرام العقد ثم تنتهي صلاحيته، فإذا حصل الطلاق مثلا لم ينله منه شيء إيجابًا ولا سلبًا فكيف يقال أن بيده عقدة النكاح لمجرد اختصاصه بصلاحية محدودة مؤقتة؟
ثم قال الرازي:
ثم إن القائلين بهذا القول أجابوا عن دلائل من قال: المراد هو الزوج.
أما الحجة الأولى، فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة عند المباشرة وأخرى عند السبب يقال: بني الأمير دارًا وضرب دينارًا، وظاهر أن النساء إنما يرجعن في مهماتهن وفي معرفة مصالحهن إلى أقوال الأولياء، والظاهر أنّ كل ما يتعلق بأمر التزويج فإن المرأة لا تخوض فيه بل تفوضه بالكلية إلى رأي الولي، وعلى هذا التقدير يكون حصول العفو باختيار الولي وسعيه، فلهذا السبب أضيف العفو إلى الأولياء.
قلت: لو سلمنا المقدمة الأولى من هذه الحجة وهي تفويض المرأة مهماتها لا سيما ما يتعلق بالزواج لوليها وهذا ما لم يعد واقعًا الآن، والتشريع الإسلامي لكل زمان ومكان، فإننا لا نسلم المقدمة الثانية، وهي أن حصول العفو يكون باختيار الولي وسعيه، ذلك بأن تسليم أمر الزواج لا يعنى تسليم أمر الطلاق، وما يحدثه الطلاق من انفعالات لا يحدثه في الولي ولكن في المرأة، وهي في هذه الحال إنما تتصرف طبقًا لتلك الانفعالات فكيف تسلم أمرها للولي، ثم إن تسليم ما يتصل بالزواج لو حدث لا يعني بالضرورة تسليم ما يترتب عنه، ولو كان ذلك كذلك، لكان على المرأة حين تختلف مع زوجها أن لا تصير على صلح وتراض معه دون استشارة وليها، بل كان عليها أن تستشير الولي كلما وقع بينها وبين زوجها خصام وهذا ما لم يقل به أحد، بل إن تحكيم الحكمين من أهله ومن أهلها هو المصير الأخير الذي شرعه حين يتعذر أن يصلا بمفردهما إلى الاتفاق وهو مصير أريد به محاولة تجنب الطلاق، وبهذا سقطت هذه الحجة.
ثم قال الرازي:
وأما الحجة الثانية: وهي قولهم: (الذي بيد الولي عقد النكاح لا عقدة النكاح) ، قلنا: - وهنا أقحم الرازي نفسه وهو شافعي- العقدة يراد بها العقد، قال تعالى: (ولا تعزموا عقدة النكاح) ، وإذا سلمنا أن العقدة هي المعقودة، لكن تلك المعقودة إنما حصلت وتكونت بواسطة العقد، وكان عقد النكاح في يد الولي ابتداء فكانت عقدة النكاح في يد الولي أيضًا بواسطة كونها من نتائج العقد وآثاره.
قلت: ونحن نسلم لكم بل ونحن معكم أن العقدة قد يراد بها العقد وقد يراد بها نتيجة العقد، لكنا لا نسلم لكم أن عقد النكاح بيد الولي لسببين:
الأول: هو أن الولي لو قبل النكاح ورفضته المرأة لم يتم العقد حتى وإن كانت بكرًا راشدة، أما إن كانت غير راشدة ففي فسخه عند بلوغها مقال. ونحن نميل إلى فسخه.(6/793)
وأما الثاني: فإن صلاحية الولي ليست إبرام العقد لأن إبرام العقد ينبني على موافقة المرأة، إنما صلاحيته التعبير عن موافقتها وتأكيده بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ((الثيب تعرب عن نفسها والبكر تستأذن وإذنها صماتها)) ، وهذا يعني أنها إذا نطقت بالرفض لم يصح العقد وما من أحد قال بهذا فيما نعلم.
ثم قال الرازي:
وأما الحجة الثالثة: وهو قوله: إن المراد من الآية {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} لنفسه، فجوابه أن هذا التقليد لا يقتضيه اللفظ لأنه إذا قيل فلان في يده الأمر والنهي والرفع والخفض لا يراد به أن الذي في يده أمر نفسه ونهى نفسه، بل المراد أن في يده أمر غيره ونهى غيره، فكذا هاهنا.
قلت: ونحن مع أننا لا نقيم وزنًا لهذه الحجة ولا نعتمدها ندفع رد خصومها بأن النكاح إنما وقع بين الطرفين لأحدهما حق التصرف في مصيره بالإبقاء عليه وفسخه وهو الزوج، والإبقاء والفسخ من طرفه داخل في أمر نفسه لأن المطلقة ليست مستأمرة في تطليقها، وعلى هذا الاعتبار يندفع ردهم لهذه الحجة.
ثم قال:
المسألة الثانية: للشافعي أن يتمسك في هذه الآية في بيان أنه لا يجوز النكاح إلا بولي وذلك لأن جمهور المفسرين أجمعوا على أنّ المراد من قوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، إما الزوج وإما الولي، وبطل حمله على الزوج لما بيَّنَّا أنَّ الزوج لا قدرة له البتة على قدرة النكاح، فوجب حمله على الولي.
إذا ثبت هذا القول قوله: {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هذا يفيد الحصر بأنَّ بيده الأمر والنهي معناه أنه بيده لا بيد غيره، قال تعالى: {لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة الكافرون: الآية الأخيرة] ، أي: لا غيركم، فهكذا ها هنا بيد الولي عقدة النكاح لا بيد غيره، وإذا كان كذلك فوجب أن يكون بيد المرأة عقدة النكاح فذلك هو المطلوب والله أعلم.
قلت: نسلم لكم دلالة الحصر في قوله تعالى: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، ونعجب لتناقضكم مع أنفسكم، فإذا كانت عقدة النكاح بيد الولي فكيف تقولون أنها بيد المرأة؟! وإذا كانت بيد المرأة فكيف تقولون أنها بيد الولي؟ ولماذا جاء التعبير: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وليس التي بيدها عقدة النكاح، ثم لو كانت عقدة النكاح بيد الولي فلماذا لا يستطيع فسخها ولا يملك إبقاءها إذا فسخها الزوج، وكيف يتصور أن من بيده الأمر لا يستطيع له إبقاء أو إزالة، وإذن فكيف يكون بيده؟!(6/794)
قال القرطبي في [الجامع لأحكام القرآن: 3/206، 208] :
وروي الدارقطني مرفوعًا من حديث قتيبة بن سعيد: حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وليّ عقدة النكاح الزوج)) . وأسند هذا عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح قال: وكذلك قال نافع بن جبير ومحمد بن كعب وطاووس ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير زاد غيره: ومجاهد والثوري واختاره أبو حنيفة وهو الصحيح من قول الشافعي، كلهم لا يرى سبيلًا للوليّ على شيء من صداقها للإجماع على أن الوليّ لو أبرأ الزوج من المهر قبل الطلاق لم يجز فكذلك بعده، وأجمعوا على أنّ الوليّ لا يملك أن يهب شيئا من مالها، والمهر مالها، وأجمعوا على أنّ من الأولياء من لا يجوز عفوهم وهم: بنوا العم وبنوا الإخوة وكذلك الأب والله أعلم.
ومنهم من قال: هو الوليّ، أسنده الدارقطني أيضًا عن ابن عباس قال: وهو قول إبراهيم وعلقمة والحسن، وزاد غيره: وعكرمة وطاووس وعطاء وأبي الزناد وزيد بن أسلم وربيعة ومحمد بن كعب وابن شهاب والأسود بن يزيد والشعبي وقتادة ومالك والشافعي في القديم، فيجوز للأب العفو عن نصف صداق ابنته البكر إذا طلقت بلغت المحيض أو لم تبلغه. قال عيسى بن دينار: ولا ترجع بشيء منه إلى أبيها.
والدليل على أن المراد الولي أن الله سبحانه وتعالى قال في أول الآية: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب ثم قال: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فذكر النسوان: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فهو ثالث، فلا يرد إلى الزوج المتقدم إلا لو لم يكن لغيره وجود، وقد وجد وهو الوليّ فهو المراد.
ثم قال: وأيضًا فإن الله تعالى قال: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} ، ومعلوم أنه ليس كل امرأة تعفو، فإن الصغيرة والمحجور عليها لا عفو لها، فعين الله القسمين فقال: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} ، أي: كن لذلك أهلا {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، وهو الوليّ لأن الأمر فيه إليه، وكذا روى ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن القاسم عن مالك أنه الأب في ابنته البكر والسيد في أمته. وإنما يجوز عفو الولي إذا كان من أهل السداد ولا يجوز عفوه إذا كان سفيهًا.(6/795)
فإن قيل: لا نسلم أنه الولي بل هو الزوج، وهذا الاسم أولى به لأنه أملك للعقد من الولي على ما تقدم فالجواب: أنا لا نسلم أن الزوج أملك للعقد من الأب في ابنته البكر، بل الأب يملكه خاصة دون الزوج لأن المعقود عليه هو بضع البكر ولا يملك الزوج أن يعقد على ذلك بل الأب يملكه. وقد أجاز شريح عفو الأخ عن نصف المهر، وكذلك قال عكرمة: وكذلك الذي عَقَدَ عَقْدَ النكاح بينهما كان عمًّا أو أخًا وإن كرهت.
قلت: رحم الله مالكًا ومن قال بقوله فكأنهم غفلوا عن الآية السابقة لهذه الآية والمتصلة بها لا تفصل بينهما آية أو حكم وهي قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} ، ذلك بأن الذي نُهي عن عزم عقدة النكاح هو الرجل وليس المرأة بدليل أن المنهي عنه هو الرجل، بدليل أن المرأة المتوفى عنها زوجها ليست هي التي تعرض للرجل بالرغبة في الزواج منه في الأعم الغالب، وإنما الرجل هو الذي يعرض للمرأة وقد يتعجل ذلك وما تزال في عدتها، فأبيح له التعريض كما أبيح له الإكنان، وحرم عليه عزم العقدة لأن المرأة في عدتها ما تزال على حال تشبه بقية من عصمة الزوجية بينه وبينها- وإن احتفظ مودة لها بالرغبة في أن تكون زوجًا له في الآخرة- بقية أثر على تصرفاته في الدنيا، فله أن يتزوج إن شاء يوم وفاة زوجه من الناحية الشرعية وإن كان عملا غير لائق في الاعتبار الخُلُقي الصِّرف.
وبما أن الزوج هو الذي يعرض أو يكن فهو المقصود قطعًا بالنهي عن عزم عقدة النكاح وهو – بالتالي- الموصوف بإنه يملك عقدة النكاح فهو {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وهو المأذون له بالعفو عن بعض الصداق نصفًا أو أقل. في الآية موضوع النقاش، إذ الذي يملك العزم هو الذي يملك العقدة.(6/796)
أما دعوى الحاجة إلى ثالث فهي دعوى لا تنهض على حجة لأنّ هذا الثالث لا يملك شيئًا وغاية دوره أنه يتصرف نيابة عمَّن يملكها للزوج بعقدة النكاح، وعقدة النكاح لا ينحصر أثرها على البضع كما قال القرطبي، فلو كان منحصرًا على البضع لكان أيضًا من جانب الزوج منحصرًا على بضعه، والعلاقة بين الزوجين ليست منحصرة المجال في فرجيهما وإنّما مجالها يشمل جوانب شتى من حياتهما. وآية ذلك ما يترتب منها على الزوج من القوامة التي تعني الإنفاق والإسكان وما إلى ذلك من كفايات ضرورة الحياة، ومنها الحماية من العدوان وما يترتب منها على الزوجة من صيانة شرف الزوج وغيبته ورعاية ماله وبيته والامتناع عن مخالطة غيره ممّن ليسوا من أولي أرحامها وما إلى ذلك من ألوان التصون والتعفف، فوضح من هذا أن الولي –أيًّا كان- وهو الثالث الذي يقحمه البعض ويجعلون بيده عقدة النكاح ليس بأكثر من نائب عن الزوج القاصرة أو المحجور عليها في التصرف في نطاق محدود، وهذه النيابة لا تجعل شيئًا بيده نتيجة لها، فدوره بها ينتهي عند تمام إجراء ذلك التصرف المحدود وآية ذلك، أنه لا يملك تطليقها كما أن الزوجة نفسها لا تملك تطليق نفسها إلا في حالات قليلة كأن يجعل زوجها أمرها بيدها وهي حالات استثنائية لا تنبني عليها قاعدة عامة تصلح أساسًا لحكم دائم، والذي يملك الطلاق هو الذي يملك عقدة النكاح، لأن ملكيته لفسخها دليل حاسم على ملكيته أيضًا لإبرامها.
ولست أدري كيف غفل مالك –رحمه الله- وغيره ممن سبقه من بعض التابعين عن هذين الملحظين على وضوحهما، فذهبوا إلى القول بالطرف الثالث، فتأمل.
وحاول محمد الطاهر بن عاشور في [التحرير والتنوير: 2/463، 464] على أن يدافع عما ذهب إليه من أن {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو الولي – فقال:
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، استثناء من عموم الأحوال أي إلا في حالة عفوهن أي النساء بأن يسقطن هذا النصف، وتسمية هذا الإسقاط عفوًا ظاهرة لأن نصف المهر حق وجب على المطلق للمطلقة قبل البناء بما استخف بها أو بما أوحشها، فهو حق وجب لغرم ضُر فإسقاطه عفو لا محالة أو عند عفو {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} و (أل) في النكاح للجنس وهو المتبادر في عقد نكاح المرأة لا في قبول الزوج وإن كان كلاهما مسمى عقدًا.
قلت: سبحان الله كيف يكون متبادرًا في تصرف أحد الطرفين دون الآخر، والعقد إنما يكون بين طرفين وكيف يكون عقد النكاح كاملا من جانب الزوجة وحدها دون اعتبار إبرامه من الرجل مع أن الرجل هو الذي يملك الطلاق فهو تلقائيًّا الذي يملك العقد؟!(6/797)
ثم قال:
فهو غير النساء لا محالة لقوله: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فهو ذكر، وهو غير المطلق أيضًا لأنه لو كان المطلق لقال: أو تعفو بالخطاب، لأن قبله {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولا داعي إلى خلاف يقتضي الظاهر. قلت: لو أعيد الخطاب إلى المراد بقوله {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} دون تعليل لإعادته إليه لقيل: أو تعفون إذ لا داعي لحذف نون الجمع، لكن التعليل هو الذي اقتضى العدول عن الإضمار إلى الإظهار، وحكمة التعليل هو تأكيد الندب فـ: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو الذي فسخها بالطلاق فوجب عليه نصف الصداق وندب بتأكيد له العفو، أي: التخلي عن النصف الآخر على اعتبار أنّ الأصل في عقد النكاح أداء المهر كاملا عند إبرامه وتأجيل بعضه ليس أصلا، وبناء على هذا الاعتبار كان تخلّي الزوج عن النصف الذي على المطلّقة أن تعيده إليه إذا وقع الطلاق قبل المساس عفوًا بالحقيقة لا بالمجاز.
ثم قال:
وقيل: جيء بالموصول تحريضًا على عفو المطلق لأنه كان بيده عقدة النكاح فأفاتها بالطلاق فكان جديرًا أن يعفو عن إمساك النصف ويترك لها جميع صداقها، وهو مردود بأنه لو أريد هذا المعنى لقال: أو يعفو الذي كان بيده عقدة النكاح.
قلت: لا يتّسق هذا القول مع قوله قبله [نفس المرجع: ص461] :
(فالطلاق فسخ لعقدة النكاح بمنزلة الإقالة في البيع، إلا أنه فسخ لم يشترط فيه رضا كلا المتعاقدين بل اكتفى برضا واحد وهو الزوج تسهيلا للفراق عند الاضطرار إليه، ومقتضى هذا الحكم أن يكون الطلاق قبل البناء بالمرأة ممنوعًا إذا لم تقع تجربة الأخلاق، لكن لما كان الداعي إلى الطلاق قبل البناء لا يكون إلا لسبب عظيم لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث، كيف يعمد راغب في امرأة باذل لها ماله ونفسه إلى طلاقها قبل التعرف بها لولا أن قد علم من شأنها ما أزال رجاءه في معاشرتها فكان التخلص وقتئذ قبل التعارف أسهل منه بعد التعارف) .
وهذا القول منه ينبني على أنَّ الذي أوقع الطلاق هو الذي يملكه والذي يملك فسخ العقد هو الذي يملك العقد أي هو الذي بيده العقد وهو حالة فسخه العقد كان بيده، وبما أن الفسخ من عمله، اعتبر في الآية عندما ندب إلى التَّخلِّي عن حقه في نصف الصداق كما لو لم يكن قد فسخ العقد، لأنّ ابتداء وقت الندب كان عند ملكيته للعقد الذي فسخه، فأريد بهذا التعبير البليغ أن يقال للزوج {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، عليك أن تعزم على العفو حال عزومك على الفسخ بحيث يكون العفو مقترنًا بالفسخ ويكون العزم عليهما واحدًا وذلك لا يتأتى إلا قبل وقوع الفسخ أي حال العزم عليه.
وهذا ملحظ دقيق لا ندري كيف غاب عن ذهن أستاذنا الجليل وهو أحد أئمة البيان العربي ومن صدورهم.(6/798)
ثم قال:
فتبين أن يكون أريد به ولي المرأة لأن بيده عقدة نكاحها، إذ لا ينعقد نكاحها إلا به، فإن كان المراد به الولي المجبر وهو الأب في ابنته البكر والسيد في أمته فكونه {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ظاهر إلا أنه جعل ذلك من صفته باعتبار ما كان إذا لا يحتمل غير ذلك.
قلت: ولا يحتمل هذا أيضًا لأنّ عقدة النكاح ليست بيده إنما الذي كان بيده قبل إبرامها هو إتمام إبرامها إمَّا أصالة في حال غير البالغة والمحجور عليها، أو نيابة وتأكيدًا للموافقة في حال غيرهما، وآية ذلك أنه لا يملك نقض ما أتمّ إبرامه أي فسخ النكاح لأن عقدته لا يملكها ولا تلك التي أبرم أصالة أو نيابة عنها والذي يملك الفسخ هو الذي يملك العقدة.
ثم قال:
وإن كان المراد مطلق الوليّ فكونه بيده عقدة النكاح من حيث توقف عقد المرأة على حضوره، وكان شأنهم أن يخطبوا الأولياء في ولاياهم، فالعفو في الموضعين حقيقة والإتصاف بالصلة مجاز. وهذا قول مالك إذ جعل في الموطأ {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، هو الأب في ابنته البكر والسيد في أمته، وهو قول الشافعي في القديم فتكون الآية ذكرت عفو الرشيدة والمولَّى عليها، ونسب ما يقرب من هذا إلى جماعة من السلف منهم ابن عباس وعلقمة والحسن وقتادة.
قلت: وروي رجوع بعض هؤلاء عن هذا، ثم أننا لو جعلنا الولي هو {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} لكان علينا أن نتساءل ألا يكون تصرفه بمثابة (الاقتداء) ، إذ إنَّ فيه معنى إرادة التخلص من هذا الزوج غير المرغوب فيه والذي وقع إنكاحه عن خطأ وسوء تقدير. ثم ماذا في التي زوجها قاضي المسلمين لامتناع وليِّها عن تزويجها من كفء رغبت فيه عضلا لها أو لسبب آخر من الأسباب، هل يكون له هو أيضًا أن يعفو عن نصف الصداق؟ وكيف يكون له ذلك إذا رفضت المطلقة عفوه؟ وكيف يكون لغيره من الأولياء إذا عفى ورفضت المطلقة الرشيدة المالكة أمرها عفوه؟ وما من أحد يقول بجواز التصرف في أموال الرشيدة لوليٍّ أيًّا كانت درجته بغير إذنها.
ثم قال:
وقيل: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو المطلق لأن بيده عقدُ نفسه وهو القبول.
قلت: الذي بيده هو الرغبة، أما القبول فهو بيد الزوج المخطوبة، والعقد ينبرم طبقًا لرغبته بقبولها وموافقة وليّها لا سيما إن كانت بكرًا أو غير مالكة أمرها.(6/799)
ثم قال:
ونسب هذا إلى علي وشريح وطاووس ومجاهد وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد، ومعنى {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} أن بيده التصرف فيها بالإبقاء والفسخ في الطلاق، ومعنى عفوه تكميله الصداق أي إعطاؤه كاملًا.
قلت: بل إبقاءه كاملًا لأنّ المفروض – كما ألمعنا آنفًا- أن يتم تسديد الصداق كاملًا عند العقد وتأجيل بعضه استثناء مرخص به.
ثم قال:
وهذا قول بعيد من وجهين، أحدهما أن فعل المطلق حينئذ لا يسمى عفوًا بل تكميلًا وسماحة لأن معناه أن يدفع الصداق كاملًا، قال في (الكشاف) : وتسمية الزيادة على الحق عفوًا فيه نظر إلا أن يقال: كان الغالب عليهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف الصداق، فإذا ترك فقد عفا أو سماه عفوًا على طريق المشاكلة.
قلت: وذلك الغالب في الأصل شرعًا فالتسمية حقيقة لا مشاكلة.
ثم قال:
الثاني: إن دفع المطلق المهر كاملًا للمطلقة إحسان لا يحتاج إلى تشريع مخصوص بخلاف عفو المرأة أو وليها، فقد يظن أحد أن المهر لما كان ركنًا من العقد لا يصح إسقاط شيء منه.
قلت: التشريع لا يعني الإيجاب وإنما يعني الندب وغيره أيضًا ويصرف إلى أحد معانيه بالقرينة والإحسان مما ندب إليه الشرع، وعفو {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} إحسان إلى المطلقة وجبر لخاطرها، ولو لم يشرع الإحسان لما كان الإحسان.
ثم قال:
وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} تذييل أي العفو من حيث هو، ولذلك حذف المفعول والخطاب لجميع الأمة، وجيء بجمع المذكر للتغليب وليس خطابًا للمطلقين إلا لما شمل عفو النساء مع أنه كان مرغوبًا فيه.(6/800)
قلت: سبحان الله كيف يستقيم هذا التعليل مع قوله: وجيء بجمع المذكر للتغليب فيما معنى التغليب إذا لم يكن شاملًا عفو النساء، أقول هذا من حيث الشكل، أما من حيث الموضوع فلا أوافقه على هذا المعنى وإنما أميل إلى المعنى الذي يسوقه إذ يقول:
ومن الناس من استظهر بهذه الآية على أنّ المراد بـ: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} المطلق، لأنه عبر عنه بعد، لقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا} وهو ظاهر في الذكر، وقد غفل عن موقع التذييل في آخر القرآن كقوله: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [سورة النساء: الآية128] .
قلت: بل لم يغفل من ذهب إلى هذا التأويل عن النسق القرآني من تذييل آية كالآية التي استشهد بها لأنّ وصف العفو بأنه أقرب للتقوى من صميم هذا النسق باعتباره تأكيدًا للندب تعليلًا له وتبيانًا لمناطه، فأين الغفلة في هذا؟ رحم الله أستاذنا ولكل جواد كبوة.
وقد أحسن أبو حيان، أجاد إذ قال في [البحر المحيط: 2/236] بعد أن عرض بإيجاز ما سبق أن نقلناه عن غيره من أقوال المتأولين وبين ترجيحه أن {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو الزوج: ولو فرضنا أن قوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} من المتشابه لوجب رده إلى المحكم. قال الله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [سورة النساء: الآية4] . وقال تعالى: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [نفس السورة: الآية20] . وقال {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا} الآية [سورة البقرة: الآية 229] . فهذه الآية محكمة – كذا في النسخة المطبوعة ولعل الصواب: فهذه الآيات -تدل على أن الولي لا دخول له في شيء من أخذ مال الزوجة، ورجّح أيضًا أنه الزوج، أن عقدة النكاح كانت بيد الولي فصارت بيد الزوج، وأن العفو إنما يطلق على ملك الإنسان وعفو الولي عفو عما لا يملك وبأن قوله: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} يدل على أن الفضل في هبة الإنسان مال نفسه لا مال غيره.
***(6/801)
وفي تفسير الآية الأولى من سورة المائدة قال ابن جرير في [جامع البيان: المجلد 4، 6/32، 33] ، وساق بعض تعريف اللغويين لكلمة (عقد) مما سبق نقله عنهم في الفصل الأول:
وذلك إذا وافقه على أمر وعاهده عليه عهدًا بالوفاء له بما عاقده من أمان وذمة أو نصرة أو نكاح أو بيع أو شركة أو غير ذلك من العقود.
ذكر من قال المعنى الذي ذكرناه عمن قاله في المراد من قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، أي: بعقد الجاهلية. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدًا في الإسلام)) . وذكر لنا أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم الله؟ قال: نعم يا نبي الله، قال: لا يزيده الإسلام إلا شدَّة)) (1)
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن قتادة {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال: عقود الجاهلية الحلف.
ثم قال:
وقال آخرون: بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ويعقدها المرء على نفسه ذكر من قال ذلك.
حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثني أبي عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: العقود خمس: عقدة الأيمان، عقدة النكاح، عقدة العهد، عقدة البيع، وعقدة الحلف.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا وكيع عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي وعن أخيه عبد الله بن عبيدة نحوه.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: اخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال: عقد العهد وعقد اليمين وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد النكاح. قال: هذه العقود خمس.
حدثني المثنى قال: حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: حدثنا أبي في قول الله جل وعز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، قال: العقود خمس: عقدة النكاح وعقد الشركة وعقد اليمين وعقد العهد وعقد الحلف.
__________
(1) لم نقف على من أسند هذا الحديث لكن في رواية الطبري هذه تصحيف لا نراه إلا من المطبعة فالحديث كما نقله محمد الطاهر بن عاشور – وسيأتي- (لعلك تسأل عن حلف لجيم) ذلك بأنّ لجيمًا هو الجد الثامن لفرات بن حيان [وانظر ترجمة فرات في (الإصابة) : 3/200، 201، ترجمة 6964 لابن حجر. وفي (الاستيعاب) لابن عبد البر على هامش الإصابة: 3 /202] . بنو لجيم بطن من بكر [انظر (لسان العرب) لابن منظور: 12/534, و (المفصل) الجواد علي: 4/496](6/802)
وقال أبو حيان في [البحر المحيط: 3/411] عند تفسيره هذه الآية:
والظاهر عموم المؤمنين في الملخص والمظهر، وعموم العقود في كل ربط يوافق الشرع سواء كان إسلاميًّا أو جاهليًّا. ثم ساق حديث فرات العجلي ثم قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ((في حلف الفضول وكان شهده في دار عبد الله بن جدعان: ما أحب أن لي به حمر النعم ولو نودي به في الإسلام لأجبت. وساق موجزًا لحلف الفضول)) .
ثم قال:
وكان الوليد بن عقبة أميرًا على المدينة فتحامل على الحسين بن علي في مال فقال: لتنصفني من حقي وإلا أخذت بسيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول. فقال عبد الله بن الزبير: لئن دعاني لآخذن بسيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من خصمه أو نموت جميعًا، وبلغت المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التميمي فقالا مثل ذلك وبلغ ذلك الوليد فأنصفه. ويندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان كأمان ودية ونكاح وبيع وشركة وهبة ورهن وعتق وتدبير وتخيير وتمليك ومصالحة ومزارعة وطلاق وشراء وإجارة وما عاقده مع نفسه لله تعالى طاعة بحج وصوم واعتكاف وقيام ونذر وشبه ذلك.
ثم ساق مجمل ما ذكره الطبري عن محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما في تفسير معنى العقد.
وقال محمد رشيد رضا في [تفسير المنار: 6/120، 124] بعد أن ساق مجمل تأويلات المفسرين لهذه الآية.
وقد تجدد لأهل هذا العصر أنواع من المعاملات تبعها أنواع من العقود يذكرونها في كتب القوانين المستحدثة، منها ما يجيزه فقهاء المذاهب الإسلامية المدونة ومنها ما لا يجيزونه لمخالفته شروطهم التي يشترطونها كاشتراط بعضهم الإيجاب والقبول قولا حتى لو كتب اثنان عقدًا بينهما على شيء قولًا أو كتابة (نحو تعاقد فلان وفلان على أن يقوم الأول بكذا والثاني بكذا) من غير ذكر إيجاب أو قبول بالقول وأمضيا ما كتباه (بتوقيعه أو ختمه) ، كذا في النسخة المطبوعة وصوابه عندنا: بتوقيعهما وختمهما –لا يعدونه عقدًا صحيحًا نافذًا، وقد يصيغونه بصيغة الدين فيجعلون التزام المتعاقدين لمباح وإيفاءهما به محرمًا ومعصية لله تعالى لعدم صحة العقد، ويشترطون في بعض العقد شروطًا منها ما يستند على حديث صحيح أو غير صحيح، صريح الدلالة أو خفيّها ومنها ما لا يستند إلا على اجتهاد مشترطه ورأيه، ويجيزون بعض الشروط التي يتعاقد عليها الناس ويمنعون بعضها حتى بالرأي.(6/803)
وأساس العقود الثابت في الإسلام هو هذه الجملة البليغة المختصرة المفيدة {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، وهي تفيد أنه يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقده وارتبط به، وليس لأحد أن يقيد ما أطلقه الشارع إلا ببينة منه، التراضي من المتعاقدين شرط في صحة العقد لقوله تعالى: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 29] ، وأما الإيجاب والبول فلا نص فيه وإنما عبارة عن العقد نفسه إذ الغالب فيه أن يكون بالصيغة اللفظية قولًا أو كتابة، والإشارة تقوم مقام العبارة عند الحاجة كإشارة الأخرس، والفعل أبلغ من القول في حصول المقصد من العقد كبيع المعاطاة الذي منعه بعضهم تعبدًا بصيغة الإيجاب والقبول اللفظية، ومثل بيع المعاطاة إعطاء الثوب للغسال أو الصباغ أو الكواء، فمتى أخذه منك كان ذلك عقد إجارة بينكما بأجرة المثل، ومن هذا القبيل إعطاء المال لمن بيده تذاكر السفر في سكك الحديد أو البواخر وأخذ التذكرة منه، ومثله دخول الحمام وركوب سفن الملاحين ومركبات الحوذية والذين يأخذون الأجرة بعد إيصال الراكب إلى المكان الذي يقصده.
فكل قول أو فعل يعدُّه الناس عقدًا فهو عقد يجب أن يوفوا به كما أمر الله تعالى ما لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام مما ثبت في الشرع كالعقد بالإكراه، أو على إحراق دار أحد، أو قطع شجر بستانه، أو على الفاحشة، أو أكل شيء من أموال الناس بالباطل كالربا والميسر (القمار) والرشوة، فهذه الثلاثة منصوصة في الكتاب والسنة. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر كما في صحيح مسلم وغيره لأنه من قبيل الميسر في كونه مجهول العاقبة وهو من الغش المحرم أيضًا. وقد توسع بعض الفقهاء في تفسير الألفاظ القليلة التي وردت في الكتاب والسنة فأدخلوا في معنى الربا والغرر ما لا تطيقه النصوص من التشديد ودعموا تشديداتهم بروايات لا تصحُّ وأشدُّهم تضييقًا في العقود الشافعية والحنفية وأكثرهم تسامحًا وسَعة المالكية والحنابلة.
ومن الأصول التي بنوا عليها معظم تشديداتهم في ذلك ذهاب بعضهم إلى أن الأصل في العقود والشروط الحظر، فلا يصح منها إلا ما دل الشرع على صحته، وأن كل ما يخالف مقتضى العقد باطل وعدُّوا من هذا ما يمكن أن يقول أنه ليس منه.(6/804)
وإطلاق الوفاء بالعقود يدل على أنّ الأصل فيها الإباحة وكذلك الشروط ولا سيما العقود والشروط في أمور الدنيا، والحظر لا يثبت إلا بدليل، ويؤيد إطلاق الآية حديث: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا والمسلمون على شروطهم)) تعليق: أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وابن حيان والبيهقي عن أبي هريرة.
قال أحمد في [مسنده: 2/366] : حدثنا الخزاعي قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلح جائز بين المسلمين)) .
وقال أبو داود في سننه [: 3/304، ح 3594] :
حدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني سليمان بن بلال.
وحدثنا أحمد بن عبد الواحد الدمشقي، حدثنا مراون –يعني ابن محمد- حدثنا سليمان بن بلال أو عبد العزيز بن محمد – شك الشيخ-، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلح جائز بين المسلمين)) . زاد أحمد: إلا صلحًا أحلّ حرامًا حلالاّ، وزاد سليمان بن زيد: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((المسلمون على شروطهم)) .(6/805)
وقال الحاكم في [المستدرك: 2/49، 50] :
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلمون على شروطهم والصلح جائز بين المسلمين)) .
وتعقبه بقوله: رواة هذا الحديث مدنيون ولم يخرجاه وهذا أصل في الكتاب، وقال الذهبي في (التلخيص) : لم يصححه. وكثير ضعفه النسائي ومشاه غيره.
ثم قال الحاكم: وله شاهد من حديث عائشة وأنس بن مالك- رضي الله عنهما-. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة، حدثنا عبد العزيز بن عبد الرحمن الجزري، عن خصيف، عن عروة، عن عائشة – رضي الله عنهما- عن رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم قال: ((المسلمون عند شروطهم)) –رضي الله عنهما- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((المسلمون عند شروطهم ما وافقت الحق)) .
قال خصيف: وحدثني عطاء بن أبي رباح، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك)) . وسكت عنه الذهبي في (التلخيص)
وقال ابن حبان في [صحيحه: 7/275، ح 5069] :
أخبرنا احمد بن الفتح السمسار بـ: (سمرقند) قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: حدثنا مروان بن محمد الطاطري قال: حدثنا سليمان بن بلال، حدثني كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح. وساق مثل حديث الحاكم.
وقال البيهقي في [السنن الكبرى: 6/63] :
اخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقري بن الحمامي بـ: (بغداد) أنبأ أبو بكر احمد بن سليمان الفقيه قال: قرئ على جعفربن محمد بن شاكر وأنا أسمع، حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلح جائز بين المسلمين)) .
ثم قال [ص64] :
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا منصور بن سلمة أبو سلمة الخزاعي، حدثنا سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة. وساق الحديث.
أخبرنا أبو علي الروذبادي، أنبأ أبو بكر بن داسة، حدثنا أبو داود، حدثنا أحمد بن عبد الواحد الدمشقي، حدثنا مروان بن محمد، حدثنا سليمان بن بلال أو عبد العزيز بن محمد – شك أبو داود – عن كثير بن زيد، فذكره بنحوه وزاد: إلا صلح حرم حلالًا أو أحل حرامًا.(6/806)
وأخرجه الترمذي وابن ماجه والبغوي والبيهقي، عن عمرو بن عوف المزني، فقال في [الجامع الصحيح: 3/34، 35، ح 1352] :
حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) .
وتعقبه الترمذي بقوله: هذا حديث حسن صحيح.
وقال ابن ماجه في [سننه: 2/788، ح 2353] :
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وساق مثل الطرف الأول من حديث الترمذي.
وقال البغوي في [شرح السنة: 8/209] عند شرحه للحديث رقم (2151) : وروي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده. وساق مثل حديث الترمذي سواء.
وقال البيهقي [المرجع السابق: ص65] :
اخبرنا أبو علي الروذبادي، أنبأ الحسين بن الحسن بن أيوب الطوسي، أنبأ أبو يحيى بن أبي ميسرة بن زبالة، حدثنا كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حرامًا أو حرم حلالًا)) . وكذا رواه أبو عامر العقدي عن كثير بن عبد الله.
قال البيهقي: والاعتماد على روايته فمحمد بن الحسن بن زبالة ضعيف بمرة- كذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه بالمرة-، ورواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني إذا انضمت إلى ما قبلها قويتا. . رواه أبو داود والدارقطني من طريق كثير بن زيد والترمذي والبزار بزيادة ((إلا شرطًا حّرم حلالًا أو أحل حرامًا)) . وقال الترمذي: حسن صحيح والصواب أنه ضعيف أنه ضعيف يعتضد كما قيل بحديث: ((الناس على شروطهم ما وافقت الحق)) (1) . رواه البزار من حديث ابن عمر وهو أشدّ ضعفًا من حديث الصلح الذي ذكره السيوطي في الجامع الصغير بدون زيادة الشرط وعلم عليه بالصحة تعليق: أولا: انظر [الجامع الصغير على هامش فتح القدير للمناوي: 4/240، ح 5256] :
وقد التبس أمر هذا الحديث على رشيد رضا تقليدًا للمناوي شارح (الجامع الصغير) الذي خلط بين كثير بن زيد وكثير بن عبد الله، فنسب على الذهبي في (الميزان) كل ما قاله في كثير بن عبد الله بأنه قاله في كثير بن زيد وهذا نص كلام الذهبي.
__________
(1) الحديث نقله الهيثمي في [مجمع الزوائد: 4/86] فقال: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المنحة مردودة والناس على شروطهم ما وافق الحق. وتعقبه بقوله: رواه البزار وفيه محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني وهو ضعيف جدًّا.(6/807)
قال –رحمه الله- في [ميزان الاعتدال: 3/406، 408، ترجمة 6943] ما نصه بالحرف: كثير بن عبد الله- ورمز إلى أن أبا داود والترمذي وابن ماجه أخرجوا له - بن عمرو بن عوف بن زيد المزني المدني، عن أبيه، عن جده، وعن محمد بن كعب، ونافع، وعنه معن والقعنبي وإسماعيل بن أبي أويس وخلق.
قال ابن معين: ليس بشيء، وقال الشافعي وأبو داود: ركن من أركان الكذب وضرب أحمد على حديثه، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال مطرف بن عبد الله المدني: رأيته وكان كثير الخصومة لم يكن أحد من أصحابه يأخذ عنه.
قال له ابن عمران القاضي: يا كثير أنت رجل بطال تخاصم فيما لا تعرف وتدعي ما ليس لك وما لك بينة فلا تقربني إلا أن تراني تفرغت لأهل البطالة. وقال ابن حبان: له عن أبيه، عن جده نسخة موضوعة، وأما الترمذي فروى من حديثه ((الصلح جائز بين المسلمين)) وصححه. فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال ابن أبي أويس: سمعت منه سنة ثمان وخمسين ومائة وبعدها.
ثم ساق أحاديث مما أسنده عنه.
وكلام ابن حبان الذي ذكره الذهبي هذا نصه بالحرف.
قال في [الجرح والتعديل: 2/221، 222] :
منكر الحديث جدًّا يروي عن أبيه، عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب.
قلت: وهذه عبارة دأب ابن حبان على ترديدها في كثير ممن جرحوهم.
ثم قال: وكان الشافعي - رحمه الله- يقول: كثير بن عبد الله المزني ركن من أركان الكذب.
أخبرني محمد (المنذر) - كذا. ولعل صوابه محمد بن المنذر- قال: سمعت عباس بن محمد يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: كثير بن عبد الله لجده صحبة وكثير ضعيف الحديث سمعت يعقوب بن إسحاق يقول: سمعت الدارمي يقول: قلت ليحيى بن معين: كثير بن عبد الله المزني قال: ليس بشيء.
ثم ساق له حديثًا.
أما كلام ابن عدي الذي ذكره الذهبي فهذا نصه بالحرف.
قال –رحمه الله- في [كامله: 6/2078، 2083] :
حدثنا يحيى بن زكريا بن حيَّويْه، حدثنا أيوب بن سليمان بن سافري قال: قال لي أبو خثيمة: قال لي أحمد بن حنبل: لا تحدث عن عبد الله بن كثير شيئًا.(6/808)
حدثنا ابن أبي عصمة حدثنا أبو طالب أحمد بن حميد، سألت أحمد بن حنبل، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: منكر الحديث ليس بشيء، وسألته عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من شهر علينا السلاح فليس منا)) . فقال: منكر الحديث.
حدثنا ابن حماد، حدثنا عبد الله، عن أبيه قال: كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ليس يسوي شيئًا. قال عبد الله: ضرب أبي على حديث كثير بن عبد الله في المسند ولم يحدث بها.
حدثنا علام، حدثنا ابن أبي مريم، سمعت يحيى بن معين يقول: كثير بن عبد الله المزني حديثه ليس بشيء ولا يكتب.
حدثنا محمد بن علي، حدثنا عثمان بن سعيد. قلت ليحيى بن معين: وكثير بن عبد الله المزني كيف هو؟ قال: كثير بن عبد الله مدني ضعيف.
حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر وابن حماد، قال: حدثنا عباس عن يحيى قال: كثير بن عبد الله بن عوف لجده صحبة وكثير ضعيف.
حدثنا الجنيدي، حدثنا البخاري قال: إسماعيل بن أبي أويس قال: سمعت كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني سنة وخمسين ثم سنة إحدى أو اثنتين وستين ومائة.
روى يحيى بن سعيد الأنصاري، عن كثير بن عبد الله. وقال النسائي: كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف متروك الحديث.
وبعد أن أسند إليه جملة من الأحاديث قال:
ولكثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده قد بقي أحاديث يسيرة، وعامة أحاديثه التي قد ذكرتها وعامة ما يرويه لا يتابع عليه.
وكلام ابن معين الذي ذكروه لفظه في [تاريخه: 2/494، ترجمة607] : كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المدني لجده صحبة، وكثير ضعيف الحديث. قال يحيى: حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ليس بشيء.
وليس في (تاريخه) بقية ما أسند إليه في كثير هذا.
وأما كلام أبي حاتم فلفظه كما رواه الرازي في [الجرح والتعديل: 7/154، ترجمة 858] بعد أن ذكر بعض من روى عنه:
حدثنا محمد بن حمويه بن الحسن قال: سمعت أبا طالب قال: سمعت أحمد –يعني ابن حنبل - عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: منكر الحديث ليس بشيء.(6/809)
قرئ على العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين أنه قال: كثير بن عبد الله المزني ضعيف الحديث.
سألت أبا زرعة عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: واهي الحديث ليس بقويّ، فقلت له: بهز بن حكيم، وعبد المهيمن، وكثير بن عبد الله أيهم احب إليك؟ قال: بهز وعبد المهيمن أحب إلي منه.
سئل أبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: ليس بالمتين.
وأما كلام النسائي فلفظه في [كتاب الضعفاء والمتروكين: ص205، ترجمة 529] : كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف متروك الحديث.
وذكره الدارقطني في [الضعفاء والمتروكين: ص144، ترجمة 446] سردًا مع الآخرين دون تعقيب.
لكن قال ابن حجر في [تهذيب التهذيب: 8/421، 423، ترجمة 751] بعد أن ساق كلامهم فيه:
وقال الترمذي: قلت لمحمد –يعني البخاري -: في حديث كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة كيف هو؟ قال: هو حديث حسن إلا أن أحمد كان يحمل على كثير يضعفه، وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عنه.
ثم قال: وقال أبو نعيم: ضعفه ابن المديني. وقال ابن سعيد: كان قليل الحديث يستضعف.
وقال ابن السكن: يروي عن أبيه، عن جده أحاديث فيها نظر. وقال الحاكم: حدث عن أبيه، عن جده نسخة فيها مناكير. وضعفه الساجي ويعقوب بن سفيان وابن البرقي، وقال ابن عبد البر: مجمع على ضعفه.
ثم قال: وذكره البخاري في (الأوسط) في فصل من مات من الخمسين ومائة إلى الستين:
قلت: في قول ابن عبد البر: (مجمع على ضعفه) نظر، لأن فيمن روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من هو، وكما تقدم حسن البخاري حديثًا له ووصف مقولات أحمد فيه بأنه (كان يحمل عليه) ولم يذكره في (الضعفاء الصغير) ترجم له العقيلي في [ (الضعفاء الكبير) : 7/217، ترجمة 945] فقال:
كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، سمع أباهن وروى عنه مروان بن معاوية وإسماعيل بن أبي أويس ويحيى الأنصاري.
ولم يجرحه كعادته غالبًا فيمن يرى تجريحه.(6/810)
وأما كثير بن زيد راوي حديث أبي هريرة فترجم له البخاري [المرجع السابق: ص216، ترجمة 943] فقال:
كثير بن زيد مولى الأسلميين المدني سمع سالم بن عبد الله والوليد بن رباح، روى عنه حماد بن زيد ووكيع. ولم يضف شيئًا.
وترجم له الرازي في [الجرح والتعديل- المرجع السابق-: ص150، 151، ترجمة 841] فكناه أبا محمد وقال: توفى في آخر زمان أبي جعفر وساق طائفة ممن روى عنهم ثم ممن رووا عنه، وأبرز هؤلاء حماد بن زيد والدراوردي.
ثم قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة فيما كتب إلى قال: سئل يحيى بن معين عن كثير بن زيد فقال: ليس بذاك القوي.
ثم قال: سئل أبي عن كثير بن زيد فقال: صالح ليس بالقوي يكتب حديثه. قال: سئل أبو زرعة عن كثير بن زيد فقال: هو صدوق فيه لين.
وترجم له ابن عدي في الكامل: [6/2087، 2089] فقال:
يكنى أبو محمد مدني هكذا ذكر الواقدي. حدثنا أحمد بن علي بن بحر، حدثنا عبد الله الدورقي، حدثنا يحيى بن معين قال: كثير بن زيد الأسلمي ليس به بأس.
حدثنا علان، حدثنا ابن أبي مريم سمعت يحيى بن معين قال: كثير بن زيد ثقة سمعت أحمد بن حفص يقول: سُئل أحمد بن حنبل –يعني وهو حاضر- عن التسمية في الوضوء فقال: لا أعلم فيه حديثًا يثبت أقوى شيء فيه حديث كثير بن زيد عن ربيع، وربيع رجل ليس بمعروف. وبعد أن أسند إليه طائفة من الأحاديث كعادته في تراجمه قال:
ولكثير بن زيد غير ما ذكرت من الحديث، ويروي ابن حازم وسفيان بن حمزة وسليمان بن بلال كل واحد منهم، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم) نسخة، ويرويه عن ابن أبي حازم إبراهيم بن حمزة وأبو مصعب وابن كاسب وغيرهم، ويرويه عن سفيان بن حمزة إبراهيم بن المنذر وابن كاسب وغيرهما، ويروي عن سليمان بن بلال بن وهب فكل واحد منهما ينفرد بهذا الإسناد بنسخة، وربما اتفقوا في شيء منه، ولكثير بن زيد عن غير الوليد بن رباح أحاديث لم أنكرها ولم أر بحديثه بأسًا وأرجو أن لا بأس به.
وذكره الذهبي في [الميزان: 3/ 404، ترجمة 6938] ورمز بأن أبا داود والترمذي وابن ماجه أخرجوا له، ونقل كلام الرازي ونقل عن النسائي تضعيفه.
قلت لكن النسائي لم ينسبه بل اكتفى بقوله في [كتاب الضعفاء والمتروكين: ص206، ترجمة530] :
كثير بن زيد ضعيف:
ثم قال الذهبي: وروى ابن الدورقي عن يحيى: ليس به بأس. وروى ابن أبي مريم عن يحيى: ثقة. وقال ابن المديني: صالح وليس بالقوي، وأسند إليه ثلاثة أحاديث غمز فيها. وذكر ابن حجر في [تهذيب التهذيب: 8/413، 415، ترجمة 743] عند ترجمته له في جملة له من روى عنه مالك بن أنس والدراوردي وحماد بن زيد وآخرين من اللامعين.(6/811)
ثم ساق كلام ابن معين فيه باختلاف الروايات عنه، ثم قال:
وقال ابن عمار الموصلي: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: ليس بذاك الساقط وإلى الضعف ماهو. ثم ساق كلام أبي زرعة وأبي حاتم وابن عدي.
ثم قال: ذكره ابن حبان في (الثقات) . وقال ابن سعيد: توفي في خلافة أبي جعفر وكان كثير الحديث، وقال خليفة: توفي في آخر خلافة أبي جعفر وكانت وفاة أبي جعفر سنة 158.
ثم قال: وجزم ابن حبان بوفاته فيها. وقال أبو جعفر الطبري: وكثير بن زيد عندهم ممن لا يحتج بمثله.
قلت: لعل صاحب (المنار) لم يختلط عليه أمر الرجلين تقليدًا للمناوي فحسب بل أيضًا لابن حزم، فقد ذكر ابن حجر –المرجع السابق- أنه خلط بينهما أيضًا وتهجم عليهما وجرح الحديث نتيجة لهذا الخلط، وأحسب مردّ هذا الخلط إلى أن الجد الثالث لكثير بن عبد الله اسمه زيد، وابن حزم كثيرًا ما يتسرع، أما المناوي فلا يمكن اعتماده في الحديث إنما هو ناقل وهو إلى الفقه أقرب.
تعاضد الحديثين وربما أيضًا على ترجيحه توثيق كثير بن زيد، ولعل في نفسه –كما في نفسي- شيء من تجريحهم الشديد لكثير بن عبد الله، ويخيل إلى أن له موقفًا من قضية خلق القرآن ولعل ذلك ما جعل أحمد يحمل عليه، وجعل البخاري يشير إلى حمله عليه كما لو كان غير راضٍ عنه. والله أعلم. .
وقد يعارض على هذا بحديث عائشة في قصة بريرة وهو ((ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق)) (1) . رواه الشيخان وغيرهما.
ويجاب بأن المراد بالشرط هنا حاصل المصدر، أعني المشروط لا المصدر الذي هو الاشتراط ولذلك قال: ((ولو كان مائة شرط)) وآذن باشتراط الولاء لمكاتبي بريرة وهو موضع الإنكار كما يأتي قريبًا في بيان سبب هذا الحديث.
والمراد بما ليس في كتاب الله ما خالفه كما يؤخذ من سبب الحديث. وإلا كان جميع المسلمين مخالفين لهذا الحديث حتى الظاهرية لأنهم يجيزون في العقود شروطًا لا ذكر لها في كتاب الله تعالى، وليس في كتاب الله تعالى شروط لأنواع العقود فيكتفي بها ويقتصر عليها، وإنما الواجب أن لا يشترط أحد شرطًا يحل ما حرمه كتاب الله أو يحرم ما أحله، فذلك هو الذي يصدق عليه أنه ليس في كتاب الله إذ في كتاب الله ما يخالفه، وأمَّا اشتراط ما أباحه كتاب الله بالنص أو الاقتضاء فهو في كتاب الله تعالى.
__________
(1) الحديث متفق عليه، ورواه البخاري أطرافًا في أكثر من موضع، وهذا لفظه بسنده في كتاب (الشروط) من [صحيحه: 3/177] : حدثنا إسماعيل، حدثنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قال: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقالت: إن أحبوا أن أعدّها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها فاشترطي لهم فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق.(6/812)
وفي هذا الحديث بحث آخر وهو أنه ورد في مسألة دينية من العبادات وهي المكاتبة والعتق والولاء، وسبب الحديث بينته رواية عائشة في الصحيحين قالت: ((جاءتني بريرة وقالت: كاتبت أهلي على تسع أواقٍ في كل عام أوقية فأعينيني فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني قد عرضت عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فما بال رجال يشترطون ... إلخ)) (1) .
__________
(1) لحديث متفق عليه، ورواه البخاري أطرافًا في أكثر من موضع، وهذا لفظه بسنده في كتاب (الشروط) من [صحيحه: 3/177] : حدثنا إسماعيل، حدثنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قال:جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقالت: إن أحبوا أن أعدّها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها فاشترطي لهم فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق.(6/813)
فالواقعة في أمر ديني اشترط فيه شرط مخالف لحكم الله فكان لغوًا والأمور الدينية موقوفة على النص، وأما الأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والشركات وغيرها من المعاملات الدنيوية فالأصل فيها عرف الناس وتراضيهم ما لم يخالف حكم الشرع في (تحليل حرام أو تحريم حلال) كما تقدم، ومن أدلة هذا الأصل بعد الآية التي نفسرها وما أيَّدناها به حديث ((أنتم أعلم بأمور دينكم)) رواه مسلم من حديث أنس وعائشة (1) . وحديث: ((ما كان من أمر دينكم فإليَّ وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به)) (2) ، رواه احمد. لهذا نجد الإمام أحمد أكثر أئمة الفقه تصحيحًا للعقود والشروط على أنَّه أوسعهم رؤية للحديث وأشدهم استمساكًا به، فأبو حنيفة يقدِّم القياس الجليَّ على حديث الآحاد الصحيح وأحمد يقدِّم الحديث الضعيف على القياس.
ومن العقود التي تشدّد بعض الفقهاء في إبطال شروطها عقد النكاح، فترى الذين يجيزون الشروط في البيع وهو من المعاملات الدنيوية الموكولة على العرف لا يجيزون الشروط في عقد النكاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)) ، رواه أحمد والشيخان في صحيحيهما وأصحاب السنن عن عقبة بن عامر (3) . وقد جوَّز أحمد بهذا الحديث أن تشترط المرأة في عقد النكاح أن لا يتزوج عليها وأن لا تنقل من بلدها أو من الدار، ويجيز لها فسخ النكاح إذا تزوج عليها وقد اشترطت عدم التزوج عليها كما يجيز لها الفسخ بغير ذلك من العيوب والتدليس (4) .
وأجاز اشتراط التسري في شراء الجارية وحينئذ لا تجبر على الخدم (5) . واشتراط أن يأخذ البائع الجارية يثمنها إذا أراد المشتري بيعها (6) . ولكن قال: لا يقربها وله فيها شرط، ومذهبه هذا في الشرط هو الموافق لسهولة الحنفية السمحة ورفع الحرج منها، ولم أر أحدًا من العلماء وفَّى موضوع العقود مؤيدًا بدلائل الكتاب والسنة وآثار السلف ووجوه الاعتبار في مدارك القياس إلا شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- (7)
__________
(1) سيأتي تخريج الحديث في الفصل السادس.
(2) سيأتي تخريج الحديث في الفصل السادس.
(3) أخرجه الجماعة وغيرهم. انظر [المزي، تحفة الأشراف: 7/316، ح9953] :
(4) الذي وقفنا عليه من كلام أحمد في هذا الشأن ما نقله أحمد في [فتح الباري: 9/189] في سياق عرضه لأقوال الصحابة والتابعين وأيمة الاجتهاد في تأويل الحديث الذي سبق تخريجه في التعليق السابق: وقال أحمد وجماعة: يجب الوفاء بالشرط مطلقًا. وانظر ابن قدامة في [المغني: 6/548، 550] .
(5) لم نستطع تصور هذه المسألة ولم نقف على من تصورها لأن ملك الجارية يبيح لمالكها وطأها دون حاجة للاشتراك وبائعها لم يعد يملك عند بيعه لها شيئًا من أمرها والتسري لا يتأتى إلا بعد عقد البيع أي بعد انتقال أمرها نهائيًّا من البائع إلى المشتري فلا ندري أين يكون محل مثل هذا الشرط ولا ما الذي يدعوا إليه ولا كيف يمكن اعتباره لو وقع؟ ؟!.
(6) الأصل في ذلك ما أخرجه مالك وغيره من اللفظ لمالك في [الموطأ: ص516، ح5] : عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أخبره أن عبد الله بن مسعود ابتاع جارية من امرأته زينب الثقفية واشترطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن الذي تبيعها به. فسأل عبد الله بن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب، فقال عمر بن الخطاب: لا تقربها وفيها شرط لأحد. لكن عبد الرزاق أضاف في روايته جملة توضح كلام عمر إذ ذكر في [مصنفه: 8/56، ح 14291] : أن عبد الله بن مسعود (أراد أن يشتري من امرأته جارية يتسرى بها) ... إلخ.
(7) تقي الدين بن العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، المعروف بابن تيمية، ولد في (حران) في العاشر من ربيع الأول عام 661هـ من أسرة توارثت العلم صاغرًا عن كابر، وبعد أن حفظ القرآن عُني بدراسة الحديث وعلومه والتفسير والفقه وأصوله ثم المنطق والفلسفة وعلم الكلام والجبر والحساب والمقابلة والكيمياء والفلك وغيرها من العلوم التي كانت معروفة لعهده ومن نشأته عرف بتجرده من التقليد وابتغاء الدليل حيث كان مع من كان على خلاف ما كان عليه معاصروه من التقيد بالمذاهب والعكوف على نصوص أيمتها، فأحفظ ذلك عليه علماء عصره واستعدوا عليه الحكام، فجرحوه لديهم ونسبوا إله مقولات لم يقلها، وصوروه لهم مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع، لا سيما الصوفية الذين كان ابن تيمية شديدًا عليهم متعقبًا لهم مفندًا أباطيلهم، مما أدى إلى سجنه، لكن سجنه كان خيرًا على العلم والمسلمين إذ أتاح له أن يفرغ للمزيد من الدراسات العلمية والتأليف، فأنتج كتبًا قيمة عز نظيرها في المكتبة الإسلامية.. ومن أبرزها: (مجموع الفتاوى الكبرى) و (منهاج السنة) و (القواعد النورانية) و (رائد العقل والنقل) إلى كثير غيرها، وانتقل إلى جوار ربه - رحمه الله- في ذي القعدة سنة 728هـ بعد مرض دام بضعا وعشرين يومًا وتخرج عنه خلق كثير.. من أبرزهم نفعًا للإسلام والعلم: الذهبي وابن قيم الجوزية رحمه الله ورضوانه عليهم جميعًا.(6/814)
وقال محمد الطاهر بن عاشور في [التحرير والتنوير: 5/74، 76] :
والعقود جمع عقد- بفتح العين- وهو الالتزام الواقع بين جانبين في فعلٍ ما، وحقيقته أن العقد هو ربط الحبل العروة ونحوها، وشد الحبل نفسه أيضًا عقد، ثم استعمل في الالتزام فغلب استعماله حتى صار حقيقة عرفية.
ثم قال:
فالعقد في الأصل مصدر سمِّي به ما يعقد، وأطلق مجازًا على الالتزام من الجانبين لشيء ومقابله، والموضع المشدود من الحبل يسمى عقدة، وأطلق العقد أيضًا على الشيء المعقود إطلاقًا للمصدر على المفعول، فالعهود عقود والتحالف من العقود والتبايع والمؤاجرة ونحوها من العقود وهي المراد هنا، ودخل في ذلك الأحكام التي شرعها الله لنا لأنها كالعقود إذا قد التزمها الداخل في الإسلام ضمنًا وفيها عهد الله الذي أخذه على الناس أن يعبدوه ولا يشركون به.
ويقع العقد في اصطلاح الفقهاء على إنشاء تسليم أو تحمل من جانبين، فقد يكون إنشاء تسليم كالبيع بثمن ناضٍ، وقد يكون إنشاء تحمل كالإجارة بثمن ناضٍ، وكالتسليم والقراض، وقد يكون إنشاء تحمل من جانبين كالنكاح إذ المهر لم يعتبر عوضًا وإنما العوض هو تحمل كل من الزوجين حقوقًا للآخر، والعقود كلها تحتاج إلى إيجاب وقبول، والأمر بالإيفاء بالعقود يدل على وجوب ذلك فيتعين أن إيفاء العاقد بعقده حق عليه فلذلك يقضي به عليه لأنَّ العقود شرعت لسدّ حاجات الأمة، فهي من قسم الحاجي فيكون إتمامها حاجيًا لأنَّ مكمل كل قسم من أقسام المناسب الثلاثة يلحق بمكمله إن ضروريًّا أو حاجيًّا أو تحسينيًّا وفي الحديث: ((المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) (1) .
فالعقود التي اعتبر الشرع في إنعقادها مجرد الصيغة تلزم بإتمام الصيغة أو ما يقوم مقامها كالنكاح والبيع.
__________
(1) أخرجه البخاري تعليقًا فقال في [صحيحه: 3/52] : وقال النبي صلى الله عليه وسلم: المسلمون عند شروطهم.(6/815)
والمراد بما يقوم مقام الصيغة نحو الإشارة للأبكم ونحو المعاطاة في البيوع.
والعقود التي اعتبرها الشرع في انعقادها الشروع فيها بعد الصيغة تلزم بالشروع كالجعل والقراض.
وتمييز جزئيات أحد النوعين من جزئيات الآخر مجال الاجتهاد.
وبعد أن نقل كلامًا للقرافي سيأتي في موضعه قال:
واعلم أن العقد قد ينعقد على اشتراط عدم اللزوم كبيع الخيار، فضبطه الفقهاء بمدة يحتاج على مثلها عادة في اختيار المبيع والتشاور في شأنه.
ومن العقود المأمور بالوفاء بها عقود المصالحات والهادنات في الحروب والتعاقد على نص المظلوم وكلُّ تعاقد وقع على غير أمر حرام، وقد أغنت أحكام الإسلام عن التعاقد في هذا إذا اصبح المسلمون كالجسد الواحد، فبقى الأمر متعلقًا بالإيفاء بالعقود المنعقدة في الجاهلية على نصر المظلوم ونحوه كحلف الفضول، وفي الحديث: ((أوفوا بعقود الجاهلية ولا تحدثوا عقدًا في الإسلام)) (1) ، وبقى أيضًا ما تعاقد عليه المسلمون والمشركون كصلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش، وقد رُوي ((أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال: لعلك تسأل عن حلف لجيم وتيم قال: نعم، قال: لا يزيده الإسلام إلا شدَّة)) .
قلت: - القائل محمد الطاهر بن عاشور-:
وهذا من أعظم ما عُرف به الإسلام بينهم في الوفاء لغير من يعتدي عليه.
__________
(1) قال أحمد في [المسند، تحقيق شاكر، المجلد 5، ج10، ص167، 168، ح 6692] : حدثنا يزيد، اخبرنا محمد بن إسحاق، عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو. وساق الحديث بطوله وفيه: أنه ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة ولا حلف في الإسلام.. الحديث. ثم قال [المجلد 6، ج11، ص132، ح 6917] : حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن أبي الزناد، عبد الرحمن بن الحرث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقول: كل حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ولا حلف في الإسلام. ثم قال [نفس المرجع: ص 140، 141، ح 6933] : حدثنا يزيد، أخبرنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وساق الحديث طويلا يشبه في ألفاظه الحديث الأول في آخره: وأوفوا بحلف الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة ولا تحدثوا حلفًا في الإسلام ثم قال [ص174، ح6992] : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء قال: حدثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: لما فتحت مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:كفوا السلاح. فذكر نحو حديث يحيى ويزيد وقال فيه: وأوفوا بحلف الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة ولا تحدثوا حلفًا في الإسلام. ثم قال [ص187، 188، ح 7012] : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس وحسين بن محمد قالا: حدثنا عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحرث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده وساق حديثًا فيه طول. وفيه أيها الناس كل حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ولا حلف في الإسلام. وقال الترمذي في [الجامع الصحيح: 4/164، ح 1585] : حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا، يزيد بن زريع، حدثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته:أوفوا بحلف الجاهلية فإنه لا يزيده- يعني الإسلام- إلا شدة ولا تحدثوا حلفًا في الإسلام. وتعقبه بقوله: وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف وأم سلمة وجبير بن مطعم وأبي هريرة وابن عباس وقيس بن عاصم. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وعن أبي عباس وجبير بن مطعم- رضي الله عنهم- روايات في هذا المعنى، انظر: [مسند أحمد، بتحقيق شاكر: المجلد2، ج4، ص 325، ح2911، والمجلد3، ج5، ص19، ح3046] . و [مسلم في صحيحه: 4/1961، ح2530] . و [صحيح ابن حبان علاء الدين الفارسي، الإحسان بترتيب صحيح ابن حيان: 6/281، 282، ح4355 و 4356 و4357] . و [البغوي في شرح السنة: 10/202، 203، ح2542] . و [البيهقي السنن الكبرى: 6/262. و8/229] .(6/816)
الفصل الرابع
كل ما أفهم فهو ملزم
قال البخاري في [صحيحه: 6/175] في كتاب الطلاق (باب الإشارة في الطلاق والأمور) :
قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يعذَّب الله بدمع العين ولكن يعذّب بهذا وأشار إلى لسانه)) .
وقال كعب بن مالك: ((أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن خذ النصف)) .
وقالت أسماء صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف فقلت لعائشة: ما شأن الناس؟ فأومأت برأسها إلى الشمس فقلت: آية؟ فأومأت برأسها- وهي تصلي- أن نعم.
وقال أنس: ((أومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم)) .
((وقال ابن عباس: أومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده لا حرج)) .
وقال أبو قتادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصيد للمُحرم: ((أحد منكم أمره أن يحمل عليها؟ وأشار إليها، قالوا: لا، قال: فأكلوه)) (1) .
حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ((طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعيره وكان كلما أتى على الركن أشار إليه)) .
وقالت زينب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وهذه، وعقد إصبعين)) .
حدثنا مسدَّد، حدثنا بشر بن مفضل، حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيرًا إلا أعطاه، وقال بيده ووضع أُنمله على بطن الوسطى والخنصر قلنا: يُزهدها)) .
__________
(1) انظر في تخريج هذه الأحاديث عند البخاري [ابن حجر، تغليق التعليق: 5/472، 474 –وفتح الباري: 9/384، 386] وجلها من عدة طرق.(6/817)
قال-يعني مسدّد-: وقال الأويسي: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن شعبة بن الحجاج، عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك قال: ((عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية، فأخذ أوضاحًا كانت عليها ورضخ رأسها، فأتى بها أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أطمطت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتلك؟ فلان؟ لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها أن لا، قال: فقال لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت أن لا، فقال: ففلان، لقاتلها، فأشارت أن نعم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين)) .
حدثني قبيصة، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الفتنة من هنا وأشار إلى المشرق)) .
حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن أبي إسحاق الشيباني، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما غربت الشمس قال لرجل: انزل فاجدح لي. قال: يا رسول الله لو أمسيت، ثم قال: انزل فاجدح لي، فقال: يا رسول الله لو أمسيت، إن عليك نهارًا، ثم قال: انزل فاجدح لي، فنزل فجدح له في الثالثة، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بيده إلى المشرق فقال: ((إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم)) .
حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يمنعن أحدًا منكم نداء بلال- أو قال: أذانه- من سحوره فإنما ينادي- أو قال: يؤذن - ليرجع قائمكم وليس أن يقول- يعني الصبح أو الفجر- وأظهر- يريد يديه- ثم مدّ إحداهما من الأخرى)) .
وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، سمعت أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثدييهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق شيئًا إلا مادت على جلده حتى تجن بنانه وتعفوا أثره، وأما البخيل فلا يريد ينفق إلا لزمت كل حلقة موضعها، فهو يوسعها ولا تتسع ويشير بأصبعه إلى حلقه)) .(6/818)
قال ابن حجر في [فتح الباري: 9/384، 386] تعقيبًا على هذه الأحاديث: قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى أن الإشارة إذا كانت مفهمة تتنزل منزلة النطق، وخالفه الحنفية في بعض ذلك، ولعل البخاري ردّ عليهم بهذه الأحاديث التي جعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة قائمة مقام النطق.
وإذا جازت الإشارة في أحكام مختلفة في الديانة فهي لمن لا يمكنه النطق أولى.
وقال ابن منير: أراد البخاري أن الإشارة بالطلاق وغيره من الأخرس وغيره التي يُفهم منها الأصل والعدد نافذ- كاللفظ، كذا ولعل صوابه: نافذة كاللفظ-. ويظهر لي أن البخاري أورد هذه الترجمة وأحاديثها توطئةً لما يذكره من البحث في الباب الذي يليه مع من فرق بين لِعان الأخرس وطلاقه والله أعلم.
وقد اختلف العلماء في الإشارة المفهمة، فأما في حقوق الله فقالوا: يكفي ولو من القادر على النطق، وأما في حقوق الآدميين كالعقود والإقرار والوصية ونحو ذلك؟ واختلف العلماء فيمن اعتقل لسانه ثالثهما عن أبي حنيفة إن كان مأيوسًا من نطقه. وعن بعض الحنابلة إن اتصل بالموت. ورجحه الطحاوي. وعن الأوزاعي إن سبقه كلام. ونقل عن مكحول إن قال: فلان حرّ ثم أصمت، فقيل له: وفلان؟ فأومأ صحّ، وأما القادر على النطق فال تقوم إشارته مقام نطقه عند الأكثرين واختلف هل يقوم منه – كذا ولعل صوابه: هل تقوم منه بمثناة فوقية- مقام النية كما لو طلق امرأته فقيل له: كم طلقة؟ فأشار بأصبعه.
قلت: لا نرى مسوغًا لهذا الاختلاف لما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من قصة اليهودي الذي رضخ رأس الجارية – وسنذكرها بأسانيدهم عندهم بعد قليل- إذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينتظر إقرار اليهودي حتى وإن أقر كما جاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم اعتمد إشارة الجارية القتيل وهي تحتضر، فأمر بالاقتصاص من اليهودي بنفس طريقة عدوانه، وفعله صلى الله عليه وسلم هذا التشريع ثابت وصريح باعتماد الإشارة، إذ أفهمت ما أريد بها إفهامه بمثل ما كان سيفهم النطق لو كانت قادرة عليه، وهذا التشريع أصل لا نرى وجهًا للاختلاف فيه، لاعتماد كل وسيلة من وسائل التعبير أفهمت.
المقصود التعبير عنه إفهامًا واضحًا يماثل إفهام النطق أو الكتابة مثل الإشارات البرقية والإشارات اللاسلكية الأخرى القابلة لأن تترجم ترجمة يطمأن إليها إلى عبارات أو كلمات، وسنسوق أدلة أخرى تثبت ما رجحناه بعد قصة اليهودي والجارية.(6/819)
وهذا الحديث أخرجه أحمد في مسنده، فقال: انظر الساعاتي: [الفتح الرباني: 16/34، 35] :
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك: ((أن رجلًا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حُلي لها، ثم ألقاها في قليب، ورضخ رأسها بالحجارة، فأُخِذ فأُتِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يُرجم حتى يموت، فرجم حتى مات)) .
حدثنا يزيد، أخبرنا شعبة، عن هشام بن يزيد بن أنس، عن أنس بن مالك: ((أن جارية خرجت عليها أوضاح، فأخذها يهودي فرضخ رأسها وأخذ ما عليها، فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتلك؟ فلان؟ فقالت برأسها: لا، فقال: فلان؟ فقالت برأسها: لا، فقال: فلان اليهودي؟ فقالت برأسها: نعم، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين)) .
حدثنا يزيد بن هارون، اخبرنا همام عن قتادة، عن انس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل الطريق الثانية، إلا أن قتادة قال في حديثه: فاعترف اليهودي.
وقال البخاري في [صحيحه: 3/89] :
حدثنا موسى، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس-رضي الله عنه- ((أن يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين حجرين، قيل من فعل هذا بك؟ أفلان؟ أفلا ن؟ حتى سمَّي اليهودي فأومأت برأسها، فأُخِذ اليهودي فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بين حجرين)) .
ثم قال [ص187، 188] /
حدثنا ابن أبي عباد، حدثنا همام، عن قتادة، أن أنس –رضي الله عنه- ((أنَّ يهوديًّا رضّ رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك؟ أفلان؟ أفلان؟ حتَّى سُمِّي اليهودي فجيء به فلم يزل حتى اعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بالحجارة)) .
ثم قال: [8/37] :
حدثنا محمد قال: أخبرنا عبد الله بن إدريس، عن شعبة، عن هشام، بن زيد بن أنس، عن جده أنس بن مالك، قال: ((خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة، قال: فرماها يهودي بحجر. قال: فجيء بها على النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلان قتلك؟ فرفعت رأسها، فأعاد عليها قال: قال: فلان قتلك؟ فرفعت رأسها، فقال لها في الثالثة: فلان قتلك؟ فخفضت رأسها، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله بين الحجرين)) .(6/820)
ثم قال [ص38] :
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد، عن انس- رضي الله عنه- ((أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها قتلها بحجر، فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال، فقال: أقتلك؟ فأشارت برأسها أن لا، ثم قال الثانية، فأشارت برأسها أن لا، ثم سألها الثالثة، فأشارت برأسها أن نعم، فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين)) .
قال مسلم في [صحيحه: 3/1299، 1300، ح1672] :
حدثنا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار – واللفظ لابن المثنى- قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك، ((أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها، فقتلها بحجر، قال: فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال لها: أقتلك فلان؟ فأشارت برأسها أن لا، ثم قال لها الثانية، فأشارت برأسها أن لا، ثم سألها الثالثة، فقالت: نعم، وأشارت برأسها، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين)) .
وحدثني يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا خالد- يعني ابن الحارث-.
وحدثنا أبو كريب، حدثنا أبان بن أويس.
كلاهما عن شعبة بهذا الإسناد نحوه، وفي حديث أبي أويس فرضخ رأسه بين حجرين.
حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبد الرازق، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس: ((أن رجلا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حليّ لها ثم ألقاها في القليب، ورضخ رأسها بالحجارة، فأخذ فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات)) .
وحدثني إسحاق بن منصور، اخبرنا محمد بن أبي بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرني معمر، عن أيوب بهذا الإسناد مثله.
وحدثنا هداب بن خالد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، ((أن جارية وجد رأسها قد رضّ بين حجرين فسألوها: من صنع هذا بك؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكروا يهوديًّا فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة)) .
قال أبو داود في [سننه: 4/180، ح4529] :
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا ابن إدريس، عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن جده أنس، ((أن جارية كان عليها أوضاح لها، فرضخ رأسها يهودي بحجر، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال لها: من قتلك؟ فلان قتلك؟ فقالت: لا برأسها، قال: فلان قتلك؟ قالت: لا برأسها، قال: فلان قتلك؟ قالت: نعم برأسها، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل بين حجرين)) .
ثم قال [ص182، ح 4535] :
حدثنا محمد بن كثير، حدثنا همام عن قتادة، عن أنس، ((أن جارية وجدت قد رض رأسها بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سمّى اليهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة)) .(6/821)
وقال الترمذي في [الجامع الصحيح: 4/16، ح 1294] :
حدثنا علي بن حجر، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس قال: ((خرجت جارية عليها أوضاح فأخذها يهودي فرضخ رأسها بحجر وأخذ ما عليها من الحليّ، قال: فأدركت وبها رمق، فأُتي بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من قتلك؟ أفلان؟ قالت برأسها: لا، قال: ففلان؟ حتى سمّى اليهودي، فقالت برأسها أي نعم، قال: فأُخذ فاعترف، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين)) .
وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: (لا قود إلا بالسيف) .
قال النسائي في [سننه (المجتبي: 8/22] :
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة عن أنس – رضي الله عنه- ((أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها، فأقاده رسول الله صلى الله عليه وسلم بها)) .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا أبان بن يزيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك ((أنَّ يهوديًّا أخذ أوضاحًا من جارية، ثم رضخ رأسها بين حجرين، فأدركوها وبها رمق، فجعلوا يتبعون بها الناس هو هذا، هو هذا، قالت: نعم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بن حجرين)) .
أخبرنا علي بن حجر قال: أنبأنا يزيد بن هارون، عن هَّمام، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: ((خرجت جارية عليها أوضاح، فأخذها يهودي فرضخ رأسها وأخذ ما عليها من الحلي، فأدركت وبها رمق، فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من قتلك؟ فلان؟ قالت برأسها: لا، قال: فلان؟ قال حتى سمَّى اليهودي، قالت برأسها: نعم، فأخذ فاعترف، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين)) .
قال ابن ماجه في [سننه: 2/889، ح 2665] :
حدثنا علي بن محمد، حدثنا وكيع، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالك، ((أن يهوديًّا رضخ رأس امرأة بين حجريها فقتلها، فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين)) .
2666- حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر.
وحدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا النَّضر بن شميل قالا: حدثنا بن شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك، ((أنَّ يهوديًّا قتل جارية على أوضاح لها، فقال لها – هكذا في النسخة المطبوعة ولعل صوابه كما في الروايات الأخرى السَّالفة: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقتلك فلان؟ فأشارت برأسها أنْ لا، ثم سألها الثانية، فأشارت برأسها أنْ لا، ثم سألها الثالثة، فأشارت برأسها أنْ نعم، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين)) .(6/822)
قال ابن حبان في – صحيحه – علاء الدين الفارسي [الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: 7/395، ح 5960] :
أخبرنا زكريا بن يحيى، عن عبد الرحمن الساجي، قال: حدثنا محمد بن بشّار، ومحمد بن المثنَّى قالا: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد بن أنس، عن أنس بن مالك: ((أنَّ يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها، فقتلها بحجر. قال: فجيء بها وبها رمق، قال لها- ولعل صوابه: قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم -: أقتلك فلان؟ فأشارت برأسها أنْ لا، ثم قال لها الثانية، فأشارت برأسها أنْ لا، ثم سألها الثالثة فقالت: نعم وأشارت برأسها، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين)) .
5961- أخبرنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا هدبة بن خالد القيسى قال: حدثنا همّام بن يحيى قال: حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك ((أنَّ جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فقالوا: من فعل هذا بك؟ فلان وفلان؟ حتى ذكر رجل يهودي فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقرّ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة)) .
وقال ابن أبي شيبة في [الكتاب المصنف: 9/295، 296، ح 7528] :
حدثنا أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي قال: حدثنا علي بن مسهر، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، ((أن يهوديًّا رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين)) .
قلت: قصة اليهودي والجارية هذه رواها عن أنس حفيده هشام بن زيد، وقتادة، وأبو قلابة ورواه عن قتادة هّمام بن يحيى، وأبان بن يزيد، وانفرد همّام بينهم برواية اعتراف اليهودي، أما الباقون فتفهم من رواياتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثّق إشارة الجارية، فأمر بقتل اليهودي، بمثل ما قتلها به، ورواة الحديث جميعًا موثقون في الأغلب، وما تحدث به البعض في هذا أو ذاك منهم، لا يكاد يلتفت إليه عدا همّام، فمع أن الجماعة أخرجوا له – وهذا بحسبه توثيقًا – فإنَّ الحديث فيه لا يمكن إغفاله لأنه لم يكن كغيره من أحاديثهم في الآخرين مجرد كلام غير مستند إلى علَّة أو سبب وإنما كان جانب منه معلّلا، وعلى هذا الجانب يمكن حمل ما ليس بمعلَّل، فقد غمزوه في حفظه وكان يحيى بن سعيد شديدًا عليه، لكن جرحوا رأي يحيى فيه لأن همّامًا أمسك عن تعديل يحيى في شهادة شهد بها في حداثته، ولو ثبتت هذه الجرحة لكانت حرية بأن تريب يحيى في أحكامه وهو عندنا أجل من ذلك وأورع من أن يحكم في الآخرين حادثًا شخصيًّا وإن ثبت.(6/823)
ثم إن ابن حجر نقل في [تهذيب التهذيب: 11/67، 70، ترجمة 108] عن محمد بن المنهال الضرير قوله:
سمعت يزيد بن زريع يقول: همّام حفظه رديء وكتابه صالح. وقال ابن سعد: كان ثقة وربما غلط في الحديث. ونقل عن ابن أبي حاتم قوله: سئل أبي عن همام وأبان – يعني ابن يزيد-: من تقدّم منهما؟ قال: همَّام أحبُّ إلي ما حدث من كتابه، وإذا حدث من حفظه فهما متقاربان في الحفظ والغلط. وسألت أبي عن همام فقال: ثقة، صدوق، في حفظه شيء، وهو أحب إلي من حماد بن سلمة وأبان العطار في قتادة [انظر الرازي (الجرح والتعديل) : 9/107، 109، ترجمة 457] .
ثم قال:
وقال حسن بن علي الحلواني: سمعت عفّان يقول: كان همّام لا يكاد يرجع إلى كتابه ولا ينظر فيه، وكان لا يخالف فلا يرجع إلى كتابه، ثم رجع بعد فنظر في كتبه فقال: يا عفان كنا نخطئ كثيرًا فنستغفر الله تعالى.
وتعقبه ابن حجر بقوله: وهذا يقتضي أنَّ حديث همام بآخرة أصح ممَّن سمع منه قديمًا، وقد نص على ذلك أحمد بن حنبل، وقال أبو بكر البرديجي: همّام صدوق يكتب حديثه ولا يحتج به.
ثم قال:
وقال الساجي: صدوق سيء الحفظ، ما حدث من كتابه فهو صالح وما حدث من حفظه فليس بشيء.
قلت: ومع ما يفهم من كلام بعضهم عن أنَّ أباد بن يزيد يغمز أيضًا بسوء الحفظ وقد يقارن بهمّام في ذلك، فإن هذا الغمز لم تتعدد مصادره كما تعددت في همام، وقد زعم الكديمي أن القطان لم يكن يروي عنه، لكن الكديمي ليس بمعتمد كما قال ابن حجر في [تهذيب التهذيب: ج1 عند ترجمته لأبان، ص110، 111، ترجمة 175] : بل إنَّ ابن معين ذكر أنَّ القطان كان يروي عنه، وابن معين هو المعتمد.
أما أبو قلابة فهو تابعي من الطبقة الثانية وما من أحد غمز فيه بشيء، بل أجمعوا على توقيره وتبجيله [انظر ابن حجر (تهذيب التهذيب) . 5/223، 224، ترجمة 385] (عبد الله بن زيد أبو قلابة) .
واتَّفاق أبي قلابة وهشام بن زيد بن أنس وأبان بن يزيد العطّار على خلاف ما روه همّام أو – على الأقل – على عدم ذكر ما رواه من اعتراف اليهودي وما غمزوا به همَّامًا – ونقلناه آنفًا – من سوء الحفظ ومن اعترافه بذلك حين رجع إلى كتابه أمر أن يحملان على الاشتباه في هذا الذي انفرد به همّام من دعوى الاعتراف مع الملاحظة أنَّ أبان العطَّار روى عن قتادة مثل همام وقد يقال إنَّ توثيق جمهور النقد لهمَّام وإنَّ الجماعة أخرجوا له يضعان زيادة همّام في نطاق (الإدراج) وهذا صحيح لولا أنَّ عددا من الذين وثَّقوه تحفظوا من سوء حفظه وأنَّ يحيى القطان كان يغمز في حديثه كافة وهذا مما يمنع الاطمئنان إلى اعتبار زيادته (إدراجًا) من ثقة.(6/824)
على أننا لو اعتبرناها (إدراجًا) لما أوهى ذلك احتجاجنا بهذا الحديث على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر الإشارة وسيلة تعبير موثقة ينبني عليها الحكم ذلك بأنَّها إن لم تكن في قصة الجارية واليهودي وثيقة إدانة فهي – بلا ريب – وثيقة اتهام ولسنا بصدد الاحتجاج لاعتبار اعتراف الجاني ضروريًّا أم غير ضروري في إدانته فهذا ليس من مجالنا وإنَّما نحن بصدد الاحتجاج لاعتبار الإشارة كغيرها من وسائل الإفهام غير النطق أداة توثيق، وهذا حسبنا من الحديث الشريف.
وقال العيني في [عمدة القاري: 20/884، 885] معقبًا على ما سبق أنْ نقلناه عن البخاري وترجم له (باب الإشارة في الطَّلاق والأمور) :
قال المهلّب: إذا فهمت يحكم بها، وأوكد ما أوتي به من الإشارة ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في أمر السوداء حين قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء فقال: أعتقها فإنها مؤمنة. فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فيجب أن تكون الإشارة عامة في سائر الديانات وهو قول عامة الفقهاء. وقال مالك: الأخرس إذا أشار بالطَّلاق يلزمه، وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الطّلاق والرجعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أن كانت إشارته تعرف في طلاقه ونكاحه وبيعه فهو جائز عليه وإن كان يشك فيه فهو باطل. وقال: ليس ذلك بقياس إنما هو الاستحسان، والقياس في هذا كله باطل لأنّه لا يتكلَّم ولا تعقل إشارته. وقال ابن المنذر: وفي ذلك إقرار من أبي حنيفة أنه حكم بالباطل لأن القياس عنده حقٌّ، فإذا حكم بضدِّه وهو الاستحسان فإنَّه حكم بضدِّ الحقّ، وفي إظهار القول بالاستحسان وهو ضد القياس دفع منه للقياس الذي هو عنده حق. وتعقبه العيني بقوله: وقول أبي حنفية: القياس، فهذا باطل، هل يستلزم بطلان الأقيسة كلِّها؟ ! وليس الاستحسان ضد القياس بل هو نوع منه لأنَّ القياس على نوعين: جليّ وخفي، والاستحسان قياس خفيّ.
ثم قال:
وقال أصحابنا: إشارة الأخرس وكتابته كالبيان باللسان فيلزمه الأحكام بالإشارة والكتابة حتى يجوز نكاحه وطلاقه وعتقه وبيعه وشراؤه وغير ذلك من الأحكام، بخلاف معتقل اللسان – يعني الذي حبس لسانه – فإنَّ إشارته غير معتبر لأن الإشارة لا تنبئ عن المراد إلا إذا طالت وصارت معهودة كالأخرس.
ثم قال:
وفي (المحيط) ولو أشار بيده إلى امرأة وقال: (زينب) أنت طالق، فإذا (عمرة) طلقت (عمرة) لأنه أشار وسمَّى فالعبرة للإشارة لا للتَّسْمية.
أما الحديث الذي عرض له العيني فيما نقلناه عنه آنفًا من قوله: (وأوكد ما أتي به من الإشارة ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في السوداء حين قال لها: ((أين الله؟ فأشارت إلى السماء فقال: أعتقها فإنها مؤمنة)) ... إلخ) .
فأخرجه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والبيهقي.(6/825)
قال مالك في [الموطأ: ص666، ح8] :
عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ((أنَّ رجلًا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء، فقال، يا رسول الله، إنَّ علي رقبة مؤمنة فإن كنت تراها مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، قال: أتشهدين أنَّ محمَّدًا رسول الله؟ قالت: نعم، قال: أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتقها)) .
قال ابن عبد البر في [التمهيد: 9/113، 115] .
هكذا روى يحيى هذا الحديث فجوّد لفظه، ورواه ابن بكير وابن القاسم بإسناده مثله إلا أنهما لم يذكرا ((فإنْ كنت تراها مؤمنة)) قالا: ((فقال: يا رسول الله عليَّ رقبة مؤمنة أفأعتق هذه؟)) .
ورواه القعنبي بإسناده مثله وحذف منه ((أنَّ عليَّ رقبة مؤمنة)) . وقال: ((إنَّ رجلًا من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء قال: يا رسول الله أعتقها؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدين؟)) وذكر الحديث.
ثم قال:
ورواه ابن وهب، عن يونس بن يزيد ومالك بن أنس، عن ابن شهاب عن عبيد الله ((أنَّ رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء فقال: يا رسول الله إنَّ علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه؟)) وساق الحديث إلى آخره مثل رواية ابن القاسم وابن بكير سواء لم يقل: ((فإنْ كنت تراها مؤمنة أعتقها)) .
ولم يختلف الموطأ في إرسال هذا الحديث، ورواه الحسين بن الوليد، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ حديث الموطأ سواء وجعله متصلًا عن أبي هريرة مسندًا، ورواه الحسين هذا أيضًا عن المسعودي، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن عبيد الله بن عتبة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله إلا أنه زاد في حديث المسعودي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) وليس في الموطأ ((فإنها مؤمنة)) .
وهذا الحديث وإن كان ظاهره الانقطاع في رواية مالك فإنَّه محمول على الاتَّصال للقاء عبيد الله جماعة من الصحابة.(6/826)
وقد رواه معمر عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن رجل من الأنصار ((أنه جاء بأمة له سوداء فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقها!)) وساق الحديث بمثل رواية يحيى إلى آخرها ورواية معمر ظاهرها الاتصال.
وروي هذا الحديث عن عبد الله، عون بن عبد الله أخوه فجعله عن أبي هريرة وخالف في لفظه ومعناه.
حدثني أحمد بن قاسم، عن عبد الرحمن قال: حدثنا قاسم بن إصبغ قال: حدثنا الحرث بن أبي أسامة قال: حدثنا عاصم بن علي.
وحدثنا عبد الواحد بن سفيان قال: حدثنا قاسم بن إصبغ قال: حدثنا أبو بكر بن العوام قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا المسعودي.
عن عون بن عبد الله، عن عبيد الله بن عتبة، عن أبي هريرة قال: ((جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية أعجمية فقال: يا رسول الله إنَّ عليَّ رقبة مؤمنة أفأعتق هذه؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فأشارت إلى السماء فقال لها: فمن أنا؟ فأشارت إليه وإلى السماء أي أنت رسول الله قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) .
وهذا المعنى رواه مالك عن هلال بن أسامة.
قلت: سنسوق حديث هلال بن أسامة بعد ذكر طرق حديث الجارية السَّوداء هذا. وقال أحمد في [مسنده: 2/291] :
حدثنا يزيد، أنبأنا المسعودي عن عون، عن أخيه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة ((أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء أعجمية فقال: يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فأشارت إلى السماء بإصبعها السبابة فقال لها: من أنا؟ فأشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء أي أنت رسول الله فقال: إعتقها)) .
وتعقبه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند [المجلد 8، ج15، ص31، 32، ح7193] بقوله:
إسناده صحيح، ونقل عن الهيثمي قوله في [مجمع الزوائد: 1/23، 24] ، رواه أحمد والبزار والطبراني في (الأوسط) ورجاله موثقون.
قلت: قال الهيثمي نقلًا عن الطبراني في (الأوسط) ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: من ربك؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقالت: الله)) .
ثم قال أحمد شاكر: ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة في [كتاب التوحيد: ص81] ، عن محمد بن رافع، عن يزيد بن هارون بهذا الإسناد.
ثم رواه [ص81، 82] بنحوه بإسنادين من طريق أسد بن موسى ومن طريق أبي داود وهو الطّيالسي كلاهما عن المسعودي.(6/827)
ثم قال أحمد [3/451، 452] :
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله، عن رجل من الأنصار ((أنه جاء بأمة سوداء وقال: يا رسول الله، إنَّ عليَّ رقبة مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم قال: إعتقها)) .
ثم قال [4/222] .
حدثنا عبد الصمد، حدثنا ابن سلمة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن الشريد ((أن أمه أوصت أن يعتق عنها رقبة مؤمنة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: عندي جارية سوداء أو نوبية فأعتقها فقال: إئت بها فدعوتها فجاءت، فقال لها: من ربك؟ قالت الله قال: من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) .
ثم قال [ص388، 389] .
حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن الشريد ((أن أمه أوصت أن يعتقوا عنها رقبة مؤمنة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: عندي جارية سوداء نوبية فأعتقها عنها فقالت: ائت بها فدعوتها فجاءت، فقال لها: من ربك؟ قالت: الله. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) .
وحدثنا مهنى بن عبد الحميد، قال أبي: كنيته أبو شبل، حدثنا حماد – يعني ابن سلمة- عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن الشريد ((أن أمه أوصت أن يعتق عنها رقبة مؤمنة فقال: يا رسول الله إن أمي أوصت أن يعتق عنها رقبة مؤمنة وعندي جارية نوبية سوداء فقال: أدع بها فجاء بها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: من ربك؟ قالت: الله، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) .
وقال أبو داود في [سننه: 3/230، 231، ح3283]
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن الشريد ((أن أمه أوصته أن يعتق عنها رقبة مؤمنة فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي أوصت أن أعتق عنها رقبة مؤمنة وعندي جارية سوداء نوبية)) فذكر نحوه – يعني نحو حديث معاوية بن الحكم الذي سنسوقه بعد قليل -.(6/828)
3284- حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرني المسعودي، عن عون بن عبيد الله، عن عبيد الله بن عتبة، عن أبي هريرة ((أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال: يا رسول الله إنَّ عليَّ رقبة مؤمنة فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها فقال لها: فمن أنا؟ فأشارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى السماء يعني أنت رسول الله فقال: إعتقها فإنهَّا مؤمنة)) .
وقال النسائي في [سننه (المجتبي) : 6/252] :
أخبرنا موسى بن سعيد قال: حدثنا هشام بن عبد الملك قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمير، عن أبي سلمة، عن الشريد بن سويد الثقفي ((قال أتيت رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنَّ أمي أوصت أن تعتق عنها رقبة وإنَّ عندي جارية نوبية أفتجزي عني أعتقها عنها؟ قال: ائتني، بها، فأتيته بها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: من ربك؟ قالت: الله، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: فأعتقها فإنها مؤمنة)) .
وقال ابن حبان في – صحيحه علاء الدين الفارسي، [الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: 1/206، ح 189] :
أخبرنا أبو خليفة قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة.
عن الشريد بن سويد الثقفي قال: ((قلت: يا رسول الله، إنَّ أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة وعندي جارية سوداء، قال: (ادع بها) ، فجاءت، فقال: من ربك؟ قالت: الله، قال: من أنا؟ قالت: قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) .
وقال البيهقي في [السنن الكبرى: 7/388] :
أخبرنا أبو علي الروذبادي، أخبرنا أبو بكر بن داسة، حدثنا أبو داود. وساق مثل الحديث الثاني لأبي داود سواء.
ثم قال [10/57] :
أخبرنا أبو زكرياء بن أبي إسحاق وأبو بكر أحمد بن الحسن قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ محمد بن عبد الله بن الحكم، أنبأ ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة. وساق مثل حديث مالك في (الموطأ) بزيادة يسيرة ليست من شأننا في هذا المجال.
قلت: اعتبار العيني هذا الحديث (حديث الجارية السوداء أوكد ما أوتي به في الإشارة ... إلخ) لا يتجه عندنا، ومن عجب أن يعتمد العيني أو المهلَّب. وحتى إن كانت هذه المقولة لابن المهلب فإنَّ العيني لم يقف عند ما فيها من ضعف. فحديث الجارية السوداء لا نراه إلا مضطربًا متنًا وإسنادًا إلا أن تكون القصة متعدِّدة، وليست قصة جارية واحدة، ذلك بأنَّ رواية مالك المرسلة والتي وصلها ابن عبد البر ووصلها بعض رواة الموطأ أيضًا جاء فيها وصف الرجل غير المسمى صاحب القصة بأنه من الأنصار كذلك في إحدى روايات أحمد، وقد سمي الرجل في بعض الروايات لغير مالك بأنه الشَّريد الثقفي، وهو ثقفي بالمجاورة أو بالأصالة (1) . فليس أنصاريًّا إذن، فهل قصته غير قصة الأنصاري؟ الراجح عندنا أنها قصة واحدة وأنَّ كلمة الأنصاري كانت وهمًا من بعض الرواة لأن جميع روايات القصة جاءت عن طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وليس مستحيلًا لكن بعيدًا أن تتفق طرق الروايات ومعظم ألفاظها مع تعدد القصة.
__________
(1) انظر ابن حجر [الإصابة: 2/148، ترجمة 3892] .(6/829)
صحيح أنَّ هناك قصة معاوية بن الحكم- وسندرجها بعد قليل – وهي تشبه هذه في مجمع ألفاظها، لكن تختلف عنها في بعض أوصاف الجارية كما سيتضح من رواياته المختلفة حين نسوقها.
وكلمة: (أشارت) لم ترد إلا في الرواية الأولى لأحمد من طريق أبي هريرة، وفي الرواية الثانية لأبي داود، وعند البيهقي عن طريقه، أما بقية الروايات ومنها التي جاء التصريح فيها بأن صاحب القصة هو الشريد الثقفي، فجاءت فيها كلمة (قالت) بدلًا من كلمة (أشارت) . وفي بعض منها مزيد من الأقوال يمكن أن يعتبر إدراجًا، على أن حديث الشريد في ثلاث روايات لأحمد وفي رواية لأبي داود والنسائي وابن حبان، نص على أنَّ أم الشريد أوصت بعتق رقبة، أما في غير هذه الروايات فالرجل غير المسمَّى جاء بالجارية السوداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أنَّ عليه عتق رقبة والجارية أعجمية، وبعضهم نسبهم بالتحديد أنها نوبية، ومع ذلك نقلوا عنها القول لا الإشارة. أليس هذا كله مما يصدق عليه وصف الاضطراب؟ (1) . ومن عجيب أن يعتبر أحد هذا الحديث (أوكد ما أوتي به من الإشارة) . ولعل هذا الاضطراب في السَّند والمتن هو الذي جعل الشيخين لا يخرجانه في صحيحهما، ولا ندري كيف أخرجه مالك في (الموطأ) إلا أن يكون لم يبلغ غير حديث الزهري أو ترجَّح عنده لثقته في حفظ الزهري رجحانًا جعله يخفى – في رواية يحيى بن يحيى – عما فيه من الإرسال إذا لم يكن يحيى غفل عما ضبطه الحسين بن الوليد من وصله كما جاء في تعقيب ابن عبد البر في (التمهيد) على رواية يحيى.
وقد يقال: إنَّ من روى بكلمة (قالت) بدلًا من كلمة (أشارت) اعتبر الإشارة بمثابة القول، وهذا تأكيد لما نذهب إليه من اعتبارها عند التعاقد في حكم القول، وهذه المقولة وجيهة يدعمها وصف الجارية بأنَّها أعجمية أو – بالتحديد – نوبية، وما كنا لنعتبر اختلاف الرواة بين كلمة (أشارت) وكلمة (قالت) اضطرابًا في المتن لولا اختلافهم – إن لم تكن القصَّة متعددة – في وصف الرجل صاحبها، فمنهم من سمَّاه الشريد وهو ثقفي وليس أنصاريًّا، ومنهم من نسبه إلى الأنصار ولم يسمِّه.
__________
(1) قال النووي في [التقريب: 1/262] : المضطرب هو الذي يروى على أوجه مختلفة متقاربة. وقال ابن حجر في [النكت على كتاب ابن الصلاح: 2/773] : الاضطراب هو الاختلاف الذي يؤثر قدحًا.(6/830)
ويتراءى لنا أنَّ التباسًا وقع للرواة بين واقعتين: واقعة الشريد الثقفي، وواقعة معاوية بن الحكم، ويتجلَّى ذلك من حديثه الذي أخرجه مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم.
قال مالك في [المرجع السابق] :
عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمر بن الحكم، أنه قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنَّ جارية لي كانت ترعى غنمًا لي فجئتها وقد فقدت من الغنم فسألتها عنها فقالت: أكلها الذئب، فأسفت عليها وكنت من بني آدم فلطمت وجهها وعليَّ رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتقها)) .
وقال أحمد في [مسنده: 5/448] :
حدثنا عفّان بن حدثنا همام، سمعت يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة أنَّ عطاء بن يسار حدثه ((أن معاوية بن الحكم حدثه بثلاثة أحاديث حفظها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه من حديث طويل. وكانت لي غنم فيها جارية لي ترعاها في قبل أحد والجوانية فاطلعت عليها ذات يوم فوجدت الذئب قد ذهب منها بشاة، فأسفت وأنا رجل من بني آدم، آسف مثل ما يأسفون، وأنّي صككتها صكَّة قال: فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: ادعها، فدعوتها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: إنَّها مؤمنة فأعتقها)) .
حدثنا يحيى بن سعيد عن حجاج الصواف، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية السلمي قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه من نفس الحديث. ((وبينما جارية لي ترعى غنيمات لي في قبل أحد والجوانية، فاطلعت عليها اطلاعه فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة وأنا رجل من بني آدم يأسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة قال: فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ألا أعتقها؟ قال: ابعث إليها، قال: فأرسل إليها فجاء بها، فقال: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله؟ قال: أعتقها فإنَّها مؤمنة)) .(6/831)
وقال مسلم في [صحيحه: 1/381، 382، ح 537] :
حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح وأبو بكر بن أبي شيبة – وتقاربا في لفظ الحديث – قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن حجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: وساق حديثه بطوله وفيه:
((وكانت جارية ترعى غنمًا لي قبل أحد والجوانية (1) فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكن صككتها صكة (2) ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي. قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنَّها مؤمنة)) .
حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عيسى بن يونس، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد نحوه.
وقال أبو داود في [سننه: 1/244، ح930] :
حدثنا مسدد حدثنا يحيى.
وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم المعنَّى، عن حجاج الصواف، حدثني يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة قال: ((صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وساق حديثه بطوله وفيه قلت: جارية لي كانت ترعى غنيمات قبل أحد والجوانية إذا اطلعت عليها اطلاعة فإذا الذئب قد ذهب بشاة منها، وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكّة فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أفلا أعتقها؟ قال: فائتني بها فجئت بها، فقال: أين الله؟ قالت: في المساء، وقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: فأعتقها فإنها مؤمنة)) .
ثم قال [3/230، ح 3382] :
حدثنا مسدَّد، حدثنا يحيى. وساق من حديثه الأوَّل قصة الجارية بنفس السند واللفظ سواء.
وقال النسائي في [سننه: 3/14، 18] :
أخبرنا إسحاق بن منصور قال: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة قال: حدثني عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله. وساق حديثه بطوله وفيه: ((ثمَّ أطلعت إلى غنيمات لي ترعاها جارية لي في قبل أحد والجوانية. وإنِّي اطلعت فوجدت الذهب قد ذهب منها بشاة وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، فصككتها صكة ثم انصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فعظم ذلك عليَّ، فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: ادعها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله عزَّ وجلَّ؟ قالت: في السماء، قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّها مؤمنة)) .
__________
(1) موضع قرب أحد.
(2) الصكة: الضرب باليد مبسوطة.(6/832)
وقال البيهقي في [السنن الكبرى: 7/387] :
أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب أخبرنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك عن هلال بن أسامة. وساق مثل حديث مالك في (الموطأ) .
وتعقبه بقوله: كذا رواه جماعة عن مالك بن أنس – رحمه الله – ورواه يحيى بن يحيى، عن مالك مجوّدًا فقال: عن معاوية بن الحكم قال في آخره: فقال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) .
أخبرناه أبو جعفر كامل بن أحمد المستملي أنبأنا بشر بن أحمد الإسفراييني، حدثنا داود بن الحسن البيهقي، حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم فذكره.
ورواه يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي في الكهَّان والطِّيَّرة، ورواه الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن معاوية بن الحكم في الكهَّان والطِّيَّرة.
ثم قال [10/57] :
أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي وأبو بكر أحمد بن الحسين القاضي قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم، أنبأ ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمرة بن الحكم – رضي الله عنه – قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنَّ جارية لي كانت ترعى غنمًا لي ففقدت شاة من الغنم فسألتها عنها فقالت: أكلها الذئب فأسفت وكنت من بني آدم فلطمت وجهها وعليَّ رقبة أأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: هو في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها)) .
وتعقبه بقوله: كذا قاله مالك بن أنس، ورواه يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي، أخبرناه أبو عبد الله الحافظ وأبو عبد الله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي وأبو سعيد بن أبي عمرو قالوا: حدثنا أبو العباس حمد بن يعقوب، أنبأ العباس بن الوليد، أخبرني أبي، حدثنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، حدثني عطاء بن يسار، حدثني معاوية بن الحكم السلمي فذكر الحديث في الطيرة والعطاس في الصلاة. قال: ((ثم اطلعت غنيمة لي – لعل صوابه: ثم اطلعت على غنيمة لي كما في الروايات الأخرى – ترعاها جارية لي قبل أحد والجوانية، فوجدت الذئب قد أصاب منها شاة وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون فصككتها صكَّة ثم أنصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فعظَّم ذلك عليَّ قال: فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: بلى ائتني بها قال: فجئت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: إنَّها مؤمنة فاعتقها)) .(6/833)
قلت: لا ندري أوهم البيهقي في روايته الأولى حين زعم أن يحيى بن يحيى رواه عن مالك، عن معاوية بن الحكم، والذي في (موطأ) مالك براوية يحيى بن يحيى. ونقلناه آنفًا عن عمر بن الحكم، أم إنَّ يحيى رواه عنهما معًا؟
لكن قال ابن حجر في [الإصابة: 2/517، ترجمة 5437] عند ترجمة لعمر بن الحكم:
وأما رواة مالك عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمر بن الحكم في قصة الجارية التي ترعى الغنم فقد اتفقوا على أنه وهم فيه، والصواب معاوية بن الحكم.
قلت: ويبدو غير محتمل أن لا يكون ابن حجر – على سعة اطلاعه التي تبلغ درجة الإحاطة غالبًا – قد اطلع على ما ذكره البيهقي منسوبًا إلى يحيى بن يحيى من رواية الحديث عن معاوية بن الحكم إلا أن تكون لمالك روايتان لهذا الحديث رواهما معًا يحيى بن يحيى، لكن لماذا أثبت في روايته للموطأ الرواية عن عمر بن الحكم دون الرواية عن معاوية؟ !
الراجح عندنا أنَّ رواية البيهقي لم تثبت عند ابن حجر لعلة لا نعرفها ولا عند غيره ممن (اتفقوا) على توهيم مالك في روايته التي أثبتها يحيى في الموطأ وما كان ابن حجر ليقول: (فقد اتفقوا) إلا بعد أن استقصى أقوالهم وما كانوا ليتفقوا لو كان لرواية البيهقي أساس ثابت.
ومعاوية بن الحكم هذا وإخوته ليسوا من الأنصار وإن استقر معاوية في المدينة فعرف في الحجازيين (1) .
واستقراره هذا يمكن أن يوهم بأنَّ بعض الرواة اعتبره من الأنصار بناء على مستقرِّه ودون ضبط لنسبه ومحتده لكن حديثًا رواه الطبراني يجعل هذا الوهم بعيدًا.
__________
(1) انظر ابن حجر [الإصابة: 3/432، ترجمة 7064] .(6/834)
قال في [المعجم الكبير: 19 / 98، ح 193] :
حدثنا محمد بن عاصم الأصبهاني، حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا داود بن عبد الله الجعفري، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: ((جاءت جارية ترعى غنمًا لي، فأكل الذئب شاة، فضربت وجه الجارية فندمت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، لو أعلم أنَّها مؤمنة لأعتقتها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: فمن الله؟ قالت: الذي في السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنَّها مؤمنة)) .
وقال الهيثمي في [مجمع الزوائد: 4/239] :
رواه الطبراني في (الكبير) و (الأوسط) ، وفيه عبد الله بن شبيب، وهو ضعيف (1) .
فإن كان كعب بن مالك هو الذي قصده الرواة بقولهم: (رجلا من الأنصار) أو (رجل أنصاري) ، فهذا يعني أنَّ للحديث أساسًا ثابتًا، وأن ضعف عبد الله بن شبيب يزيح اعتباره اعتضاد الحديث بالأحاديث التي لم يصرح فيها باسم الرجل الأنصاري، بيد أنَّ حديث كعب بن مالك ليس فيه وصف للجارية بأنها أعجمية، ولا وصف لجوابها بأنه إشارة. فهل هي قصة أخرى غير سابقتها؟ وهل هنَّ ثلاث أو أربع قصص كان في بعضها الجواب بالإشارة من أعجمية أو من خرساء، وفي بعض الجواب بالقول إمَّا من أعجمية أجادت العربية وإمَّا من عربية كان سبيها قبل أن تسلم.
مهما يكن، فإنَّ اعتبار جواب التي أجابت بالإشارة أوكد من غيره مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دلالة على العمل بالإشارة اعتبار لا نراه متجهًا ولا ندري كيف أخذ به العيني أو ابن المهلب.
ومع أننا نعتمد الإشارة مثل غيرها من وسائل الإفهام غير النطق باعتبارها من أدوات التعاقد، ولذلك سقنا من أحاديث أدوات التعاقد، ولذلك سقنا ما سقناه من أحاديث لها بالإشارة علاقة وثقى، فإنَّنا لا نعتمد حديث الأعجمية أو الخرساء في ذاته لما فيه من اضطراب في المتن والسنَّد وإن كنَّا نستأنس به ونراه عاضدًا أو شاهدًا للأحاديث الأخرى الدالة على عمله صلى الله عليه وسلم بالإشارة، وهذا حسبنا في تأكيد ما نذهب إليه من عدم انفراد التعبير النطقي بكونه الوسيلة الوحيدة للتعاقد. والله أعلم.
__________
(1) انظر ابن عدي في [الكامل: 4/1574، 1575] – والذهبي [ميزان الاعتدال: 2/438، 439، ترجمة 4376] . وغير هذين من كتب الجرح والتعديل(6/835)
الفصل الخامس
أثر الجانب الزمني من دلالة الصيغ
في تكييف الحكم الشرعي
قال مالك في [الموطأ: ص559، ح67] :
عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
68- أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يحدث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيّما بيعين تبايعا فالقول ما قال البائع أو يترادَّان)) .
قال ابن عبد البر في [التمهيد: 14/7، 8] معقبًا على هذا الحديث:
لا خلاف عن مالك في لفظ هذا الحديث بهذا الإسناد، ورواه أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر)) . هكذا قال حماد بن زيد عن أيوب.
ورواه شعبة وسعيد بن أبي عروبة، عن أيوب بإسناده بلفظ حديث مالك ومعناه.
ورواه ابن علية، عن أيوب عن نافع، عن ابن عمر مثله ((البيعان بالخيار حتى يتفرقا أو يكون بيع خيار قال: وربما قال نافع: أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر)) .
ورواه عبد الرزاق في [مصنفه: 8/50، ح 14262] ، عن طريق معمر، فقال:
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيع خيار)) .
ورواه عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام، فقال فيه: ((ما ما لم يتفرقا أو يكون خيار)) .
ولفظ عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام: ((كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
قلت: أخرجه عبد الرزاق في (المصنف) بهذا اللفظ سواء [8/51، ح 14265] .
وأخرجه ابن أبي شيبة في [الكتاب المصنف: 7/124، ح 2606] فقال:
حدثنا ابن عيينة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا إلا أن يكون بيعهما عن خيار)) .
ثم قال ابن عبد البر:
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا)) من وجوه كثيرة من حديث سمرة بن جندب وأبي برزة الأسلمي وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وحكيم بن حزام وغيرهم.(6/836)
قلت: وسنسوق بعض طرق هذا الحديث بعد قليل.
وقال البخاري في [صحيحه: 3/17، 18] :
حدثنا صدقة، أخبرنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى قال: سمعت نافعًا، عن ابن عمر – رضي الله عنهما -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا أو يكون البيع خيارًا)) . وقال نافع: وكان ابن عمر إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه.
ثم قال:
حدثنا أبو النعمان، حديثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر)) . وربما قال: أو يكون بيع خيار.
ثم قال [ص18] :
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك. وساق حديث الموطأ سواء.
حدثنا قتيبة، حدثني الليث، عن نافع، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا، ويخير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع)) .
حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر وساق مثل حديث ابن عبد البر وعبد الرزاق وابن أبي شيبة.
وقال مسلم في [صحيحه: 3/1163، 1164، ح1531] :
حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
قلت: هو حديث الموطأ لكن يخالفه في لفظ (البيعان) ، ففي (الموطأ) – وقد سقناه آنفًا – (المتبايعان) .
حدثنا زهير بن حرب ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا يحيى – وهو القطان -.
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، محمد بن بشر.
كلهم عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثني زهير بن حرب وعلي بن حجر قالا: حدثنا إسماعيل.
وحدثنا أبو الربيع وأبو كامل قالا: حدثنا حماد – وهو ابن زيد -.
جميعًا عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.(6/837)
وحدثنا ابن المثنى وابن أبي عمر قالا: حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد.
وحدثنا ابن رافع، حدثنا ابن أبي فديك، أخبرنا الضحاك.
كلاهما عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث مالك، عن نافع.
قلت: يفهم من قول مسلم بعد هذه الأسانيد (نحو حديث مالك عن نافع) أنّ حديثهم جميعًا فيه (البيعان) . الحديث كذلك ثبت عنده أو أنه لا يرى فرقًا في الدلالة بين لفظ (المتبايعان) ولفظ (البيعان) وهو احتمال لا يتجه مع حرصه وحرص أمثاله من أيمة الحديث الكبار على ضبط الألفاظ.
ثم قال: حدثني زهير بن حرب وابن أبي عمر. كلاهما عن سفيان. قال زهير: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جريج قال: أملى علي نافع سمع عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايع المتبايعان فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيار، فإذا كان بيعهما عن خيار فقد وجب)) .
زاد ابن أبي عمر في روايته: قال نافع: فكان إذا بايع رجلًا فأراد أن يقيله قام فمشى هنية – أي شيئًا يسيرًا – ثم رجع إليه.
حدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، قال يحيى بن يحيى: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
وقال الترمذي في [الجامع الصحيح: 3/547، 548، ح 1245] :
حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يختارا)) . قال: وكان ابن عمر إذا ابتاع بيعًا وهو قاعد قام ليجب البيع.
وتعقبه الترمذي بقوله: وفي الباب عن أبي برزة وحكيم بن حزام وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وسمرة وأبي هريرة.
ثم قال: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح.
قال النسائي في [سننه (المجتبي) : 7/248] :
أخبرنا محمد بن سلمة والحرث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع واللفظ له عن أبي القاسم قال: حدثني مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر. وساق مثل حديث الموطأ سواء.(6/838)
أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا يحيى بن عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر. وساق الحديث كما تقدم من طرق سواء، وفي (البيعان) أيضًا.
أخبرنا محمد بن علي المروزي قال: حدثنا محرز الوضّاح، عن إسماعيل، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا أن يكون البيع كان على خيار، فإن كان البيع على خيار فقد وجب البيع)) .
أخبرنا عليّ بن ميمون قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج قال: أملي علي نافع، عن ابن عمر. وساق مثل حديث مسلم أيضًا. أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا شعبة , عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر وساق مثل حديث مسلم أيضًا
أخبرنا زياد بن أيوب قال: حدثنا ابن علية قال: أنبأنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار حتى يفترقا أو يكون بيع خيار)) . قال نافع: أو يقول أحدهما للآخر: اختر.
أخبرنا قتيبة قال: حدثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار حتى يفترقا أو يكون بيع خيار)) . وربما قال نافع: أو يقول أحدهما للآخر: اختر
أخبرنا قتيبة قال: اخبرنا الليث عن نافع، عن ابن عمر. وساق مثل حديث البخاري سواء.
أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت نافعًا يحدث عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يفترقا إلا أن يكون البيع خيارًا)) .
قال نافع: وكان عبد الله إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه.
أخبرنا علي بن حجر قال: حدثنا هشيم، عن يحيى بن سعيد قال: حدثنا نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المتبايعان لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .(6/839)
أخبرنا علي بن حُجْر، عن أسماء، عن إسماعيل، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم عن شعيب، عن الليث، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
أخبرنا عبد الحميد بن محمد قال: حدثنا مخلد قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
أخبرنا سليمان بن داود قال: حدثنا إسحاق بن بكر قال: حدثني أبي، عن يزيد بن عبد الله، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرّقا إلا بيع الخيار)) .
أخبرنا عمرو بن يزيد، عن بهز بن أسد قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار)) .
أخبرنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيار)) .
قال أحمد في [مسنده الساعاتي، الفتح الرباني: 15/57، 58، ح95] :
حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار حتى يتفرقا أو يكون بيع خيار)) . وربما قال نافع: أو يقول أحدهما للآخر: اختر.
حدثنا هاشم، حدثنا ليث، حدثني نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا فكانا جميعًا أو يخيِّر أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع)) .
قال أبو داود في [سننه: 3/272، 273، ح 3454] :
حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، وساق مثل حديث الموطأ سواء.(6/840)
3455- حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال: ((أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر)) .
قال ابن ماجه في [سننه: 2/736، ح2181] :
حدثنا محمد بن رمح المصري، أنبأنا الليث بن سعد، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا تبايع الرجلان وكل واحد منهما بالخيار ما لم يفترقا وكان جميعًا أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن افترقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع)) .
قال الدارقطني في [سننه: 3/5، 6 ح12] :
حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، حدثنا الليث أن نافعًا حدثه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا تبايع الرجلان وكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعًا أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع)) .
13- حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرني مالك، عن نافع، وعبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك في البيعين.
وتعقبه الدارقطني بقوله: تفرد به ابن وهب عن مالك.
قال ابن أبي شيبة في [الكتاب المصنف: 7/124، ح 2607] :
حدثنا يزيد بن هارون، عن سعيد، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يفترقا)) .
قال أحمد في [مسنده الساعاتي، الفتح الرباني: 15/57 ح 193] :
حدثنا إسماعيل، حدثنا سعيد – يعني ابن أبي عروبة-، عن قتادة عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث الهاشمي، عن حكيم بن حزام – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا رزقا بركة بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما)) .
قال البخاري في [صحيحه: 3/17] :
حدثنا حفص بن عمر، حدثنا همام، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحرث، عن حكيم بن حزام – رضي الله عنه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يفترقا)) .
وزاد أحمد: حدثنا بهز قال: قال همام: فذكرت ذلك لأبي التياح فقال: كنت مع أبي الخليل لما حدثه عبد الله بن الحرث بهذا الحديث.(6/841)
ثم قال [ص18] :
حدثني إسحاق، أخبرنا حبان قال: حدثنا شعبة، قال قتادة: أخبرني عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحرث قال: سمعت حكيم بن حزام – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبيّنا بُرك – ولعل الصواب بورك – لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) .
ثم قال:
حدثني إسحاق، حدثنا حبان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحرث، عن حكيم بن حزام – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) . قال همام: وجدت في كتابي.. أو يختار ثلاث مرار، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحًا ويمحقا بركة بيعهما.
قال: وحدثنا همام، حدثنا أبو التياح أنه سمع عبد الله بن الحرث يحدث بهذا الحديث عن حكيم بن حزام.
وقال مسلم في (صحيحه: 3/1164، ح1533] :
حدثنا محمد بن المثني، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة.
وحدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي قالا: حدثنا شعبة.
قال قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك في بيعهما وإن كذبا محقت بركة بيعهما)) .
حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا همام، عن أبي التّياح قال: سمعت عبد الله بن الحارث يحدث، عن حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
وقال أبو داود الطيالسي في [مسنده: ص187، ح1316] :
حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت صالحًا أبا الخليل يحدث عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار حتى يتفرقا وما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما)) .
حدثنا همام، عن قتادة، عن صالح، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا.
قال همام: حدثنا أبو التياح قال: سمعت عبد الله بن الحارث يحدث عن حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا.
قال أبو داود في [سننه: 3/273، 274، ح3459] :
حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا شعبة، عن قتادة وساق مثل حديث الطيالسي.
وتعقبه بقوله: وكذلك رواه سعيد بن أبي عروبة وحماد. وأما همام فقال: حتى يتفرقا أو يختار ثلاث مرار.(6/842)
وقال الترمذي في [الجامع الصحيح: 3/548، ح146] :
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)) .
وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن صحيح.
وقال النسائي في [سننه (المجتبي) : 7/247، 248] :
أخبرنا أبو الأشعث، عن خالد قال: حدثنا سعيد – وهو ابن أبي عروبة – عن قتادة، عن صالح أبي خليل، عن عبد الله بن الحرث، عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن بيَّنا وصدقا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما)) .
قال ابن حبان في – صحيحه علاء الدين الفارسي، [الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: 7/203، ح 4884] :
أخبرنا أبو يعلي قال: حدثنا يحيى بن أيوب المقابري قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي خليل، عن عبد الله بن الحارث الهاشمي، عن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما)) .
قال الدارمي في [سننه: 2/250] :
أخبرنا سعيد بن عامر، عن سعيد، عن قتادة، عن صالح (عن أبي الخليل) – كذا وهو خطأ صوابه: عن صالح أبي الخليل، وهو صالح بن أبي مريم الضبعي كما في الروايات الأخرى السابقة – عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما)) .
أخبرنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن قتادة بإسناده مثله.(6/843)
قال النسائي في [سننه (المجتبى) : 7/251] :
أخبرنا عمرو بن علي، حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار حتى يتفرقا أو يأخذ كل واحد منهما من البيع ما هوى وينتظران ثلاث مرات)) .
أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا يزيد قال: أنبأنا همام عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ويأخذ أحدهما ما رضي من صاحبه أو هوى)) .
قال ابن ماجه في [سننه: 2/736، ح2183] :
حدثنا محمد بن يحيى وإسحاق بن منصور قالا: حدثنا عبد الصمد، حدثنا شعبة عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) .
وقال الحاكم في [المستدرك: 2/15، 16] :
أخبرنا الشيخ أبو الوليد، حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، حدثنا أبو خثيمة، حدثنا زهير بن حرب، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ويأخذ كل واحد منهما من البيع ما يهوى)) . قالها ثلاثًا.
وتعقبه بقوله: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه الزيادة، وأقره الذهبي في (التلخيص) .
قال أحمد في [مسنده الساعاتي، الفتح الرباني: 15 / 57، ح194] :
حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد بن زيد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء قال: كنا في سفر ومعنا أبو برزة، وقال أبو برزة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البيع بالخيار ما لم يتفرقا)) .
قال ابن أبي شيبة في [الكتاب المصنف: 7/124، 125، ح2608] :
حدثنا الفضل بن دكين قال: حدثنا حماد بن زيد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضوء، عن أبي برزة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) .
قال أبو داود في [سننه 3/273 , ح3457]
حدثنا مسدّد حدثنا حماد عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء قال: غزونا غزوة لنا فنزلنا منزلًا، فباع صاحب لنا فرسًا بغلام، ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما، فلما أصبحا من الغد حضر الرجل فقام يسرجه فندم، فأتى الرجل وأخذه بالبيع فأبى أن يدفعه إليه فقال: بيني وبينك أبو برزة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقالا له هذه القصة فقال: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) . قال هشام بن حسان: حدث جميل أنه قال: ما أراكما افترقتما.(6/844)
قال الترمذي في [الجامع الصحيح: 3/549] تعقيبًا عن حديث حكيم بن حزام.
وهكذا روي عن أبي برزة الأسلمي أن رجلين اختصما إليه في فرس بعدما تبايعا وكانوا في سفينة فقال: لا أراكما افترقتما، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يفترقا)) ...
قال ابن ماجه في [سننه: 2/736، ح2182] :
حدثنا ابن عبدة وأحمد بن المقدام قالا: حدثنا بن زيد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء، عن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) .
قال الدارقطني في [سننه: 3/6، ح14] :
حدثنا محمد بن زيان، حدثنا إسماعيل بن محمد بن أبي كثير القاضي حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا هشام بن حسان، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء قال: كنا في سفر في عسكر، فأتى رجل معه فرس فقال له رجل منا: أتبيع هذا الفرس بهذا الغلام؟ قال: نعم، فباعه ثم بات معنا، فلما أصبح قام إلى فرسه فقال له صاحبنا: مالك والفرس؟ أليس قد بعتنيها؟ قال: مالي في هذا البيع من حاجة قال: مالك ذلك، قد بعتني. فقال لهما القوم: هذا أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتياه فقال لهما: أترضيان بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالا: نعم، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) وإني لا أراكما افترقتما.
15- حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد الوكيل، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عباد بن عباد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء العبدي قال: كنا في بعض مغازينا فنزلنا منزلًا، فجاء رجل من ناحية المعسكر على فرسه فساومه صاحب لنا بفرسه ثم ذكر نحوه عن أبي برزة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود في [سننه: 3/273، ح3456] :
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله)) .(6/845)
قال أحمد في [مسنده الساعاتي، الفتح الرباني: 15/58، ح 196] :
حدثنا حماد بن مسعدة، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: ((البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن يكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله)) .
قال النسائي في [سننه (المجتبي) : 7/251، 252] :
أخبرنا قتيبة بن سعيد قال: أنبأنا الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله)) .
قال الترمذي في [الجامع الصحيح: 3/549، 550، ح1247] :
ومما يقوي قول من يقول: الفرقة بالأبدان لا بالكلام حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرنا بذلك قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يقيله)) .
وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن.
قال ابن أبي شيبة في [الكتاب المصنف: 7/125، ح2609] :
حدثنا هاشم بن القاسم قال: حدثنا ابن عتبة قال: حدثنا أبو بكر السحيمي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا من بيعهما أو يكون بيعهما بخيار)) .
قال أحمد في [مسنده الساعاتي، الفتح الرباني: 15/58، ح197] :
حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أيوب – يعني ابن عتبة – حدثنا أبو بكير السحيمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار من بيعهما ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما في خيار)) .
198- حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، حدثنا يحيى – يعني ابن أيوب من ولد جرير – قال: سمع أبا زرعة يذكر، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يفترق المتبايعان عن بيع إلا عن تراضٍ)) .
قال أبو داود في [سننه: 3/273، ح 3458] :
حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي قال مروان الفزاري: أخبرنا عن يحيى بن أيوب قال: كان أبو زرعة إذا بايع رجلًا خيَّره قال: ثم يقول: خيِّرني ويقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يفترقن اثنان إلا عن تراضٍ)) .(6/846)
قال ابن أبي شيبة في [الكتاب المصنف: 7/125، 127، ح2610] :
حدثنا جرير بن عبد الحميد، عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة وعطاء قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار حتى يفترقا عن رضا)) .
2611- حدثنا أبو الأحوص عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يفترقا)) .
ثم قال [ح2617] :
حدثنا أبو الأحوص، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) .
وقال مالك في [الموطأ: ص569، 570، ح81] :
عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبع بعضكم على بيع بعض)) .
82- عن أبي الزَّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلقوا الركبان للبيع ولا يبع بعضكم على بيع بعض)) . الحديث.
وتعقبه بقوله: وتفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما نرى والله أعلم -: ((لا يبع بعض على بيع بعض)) ، أنه إنما نهي أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع إلى البائع السائل وجعل يشترط وزن الذهب، يتبرأ من العيوب وما أشبه ذلك مما يعرف به أن البائع قد أراد مبايعة السائم، فهذا الذي نهى عنه والله أعلم.
قال عبد الرزاق في [مصنفه: 8/198، 199، ح14867] :
أخبرنا معمر عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه: ((ولا يبيع الرجل على بيع أخيه)) . الحديث.
14868- أخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبيع الرجل على بيع أخيه)) . الحديث.
14869 – أخبرنا معمر بن همام، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبيع أحدكم على بيع أخيه)) . الحديث.(6/847)
قال أحمد في [المسند، ترتيب أحمد شاكر: مجلد 9، ج17، ص73، 74، ح8914] :
حدثنا محمد بن إدريس، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج. وساق مثل حديث الموطأ.
ثم قال [18/63، ح9299] :
حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وفيه ((ولا يبيع الرجل على بيع أخيه)) . الحديث.
ثم قال [المجلد 10، 19/69، ح9901] :
حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة قال: سمعت العلاء يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يستام الرجل على سوم أخيه ولا يخطب على خطبته)) .
ثم قال (ص88، ح9960] :
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن العلاء، عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وعن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة.
((أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستام الرجل على سوم أخيه أو يخطب على خطبة أخيه)) ثم قال أحمد في [الساعاتي، الفتح الرباني: 15/52، 53، ح179] :
حدثنا يحيى عن عبيد الله، حدثني نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لايبيع أحدكم على بيع أخيه)) . الحديث.
180- حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي عن أبي إسحاق قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن عبد الرحمن بن شماسة التجيبي قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول وهو على منبر مصر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحل لامرئ بيع على بيع أخيه حتى يذره)) .
181- حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا عبيد الله بن أبي جعفر، عن زيد بن أسلم قال: سمعت رجلًا سأل عبد الله بن عمر، عن بيع المزايدة فقال ابن عمر: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيع أحدكم على بيع إلا الغنائم والمواريث)) .
ثم قال ح [184] :
حدثنا سليمان أبو داود الطيالسي، حدثنا عمران عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبتاع على بيع أخيه)) .(6/848)
قال البخاري في [صحيحه: 3/24] :
حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبيع بعضكم على بيع أخيه)) .
حدثنا عليّ بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها)) .
ثم قال [ص26] :
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. وفيه: ((ولا يبيع بعضكم على بيع بعض)) . الحديث.
ثم قال [ص28] :
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبيع بعضكم على بيع بعض ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق)) .
ثم قال [6/136] :
حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا ابن جريج قال: سمعت نافعًا يحدث أن ابن عمر – رضي الله عنهما – كان يقول: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب)) .
وقال مسلم في [صحيحه: 3/1154، 1156، ح1412] :
حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. وساق مثل حديث مالك في (الموطأ) سواء.
حدثنا زهير بن حرب ومحمد بن المثنى واللفظ لزهير قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله أخبرني، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لايبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له)) .
حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد بن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل – وهو ابن جعفر – عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يسم المسلم على سوم أخيه)) .
وحدثنيه أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني عبد الصمد، حدثنا شعبة، عن العلاء وسهيل، عن أبيهما، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثناه محمد بن المثنى، حدثنا عبد الصمد، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.(6/849)
وحدثناه عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عدي – وهو ابن ثابت – عن أبي حازم، عن أبي هريرة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستام الرجل على سوم أخيه)) . وفي رواية الدورقي: على سيمة أخيه.
حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتلقى الركبان لبيع ولا يبع بعضكم على بيع بعض)) . الحديث.
حدثنا عبد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عدي – وهو ابن ثابت – عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ... وفيه: ((وأن يستام الرجل على سوم أخيه)) .
وحدثنيه أبو بكر بن نافع، حدثنا غندر.
وحدثناه محمد بن المثنى، حدثنا وهب بن جرير.
وحدثنا عبد الواحد بن عبد الصمد، حدثنا أبي.
قالوا جميعًا: حدثنا شعبة بهذا الإسناد.
في حديث غندر ووهب (نُهِي) ، وفي حديث عبد الصمد ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى)) بمثل حديث معاذ، عن شعبة.
قال أبو داود في [سننه: 3/269، ح 3436] :
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق)) .
ثم قال:
قال سفيان: لا بيع بعضكم على بيع بعض أن يقول: إن عندي خيرًا منه بعشرة.
قال الترمذي في [الجامع الصحيح: 3/587، 588، ح 1292] :
حدثنا قتيبة، حدثنا الليث عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب بعضكم على خطبة بعض)) .
وتعقبه الترمذي بقوله: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يسوم الرجل على سوم أخيه)) . ومعنى البيع في هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض أهل العلم هو السوم.(6/850)
قال النسائي في (سننه: المجتبي) : 7/255] :
أخبرني عبد الله بن محمد بن تميم قال: حدثنا حجاج، قال: حدثني شعبة، عن عادل بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة. وساق مثل الحديث الثامن عند مسلم.
ثم قال:
أخبرنا قتيبة عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، وساق مثل حديث مالك في (الموطأ) سواء.
ثم قال [ص258، 259] :
حدثنا مجاهد بن موسى قال: حدثنا إسماعيل عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفيه: ((ولا يساوم الرجل على سوم أخيه)) . الحديث.
أخبرنا قتيبة بن سعيد عن مالك والليث واللفظ له.
عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يبع أحدكم على بيع أخيه)) .
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر)) .
أخبرنا محمد بن يحيى قال: حدثنا بشر بن شعيب قال: حدثنا أبي، عن الزهري أخبرني أبو سلمة وسعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يبيع الرجل على بيع أخيه ... )) الحديث.
حدثنى محمد بن عبد الأعلى، حدثنا يزيد، حدثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وفيه ((ولا يزيد الرجل على بيع أخيه)) . الحديث.
وقال ابن ماجه في [سننه: 2/733، 734، ح2171] :
حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مالك بن أنس عن نافع. وساق مثل حديث (الموطأ) سواء.(6/851)
2172- حدثنا هشام بن عمار، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: ((لا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يسوم علبى سوم أخيه)) .
وقال ابن حبان في [صحيحه الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي: 7/223، 224، ح 4944] :
أخبرنا الحسن بن إدريس الأنصاري قال: أخبرنا أحمد بن أبي بكر، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. وساق مثل حديث (الموطأ) .
4945- أخبرنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبيع أحدكم على بيع أخيه إلا بإذنه)) .
4946- أخبرنا الحسن بن سفيان أخبرنا سعيد بن عبد الجبار، أخبرنا الدراوردي، عن داود بن صالح بن دينار التمار، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري ((أن يهوديًا قد زمن النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث حمل شعير وتمر، فسعر مدًّا بمد النبي صلى لله عليه وسلم بدرهم، وليس في الناس يومئذٍ طعام غيره، وقد أصاب الناس قبل ذلك جوع لا يجدون فيه طعاما (فأتى) – لعل صوابه: فأتوا – النبي صلى الله عليه وسلم يشكون إليه غلاء السعر، فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لألقين الله من قبل أن أعطي أحدًا من مال أحد من غير طيب نفس، إنما البيع عن تراضٍ ولكن في بيوعكم خصالًا أذكرها لكم: لا تضاغنوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا لا يسوم الرجل على سوم أخيه ولا يبيعن حاضر لباد، والبيع عن تراضٍ، وكونوا عباد الله إخوانًا)) .
وقال ابن الجارود في [المنتقى: ص227، ح677] :
حدثنا علي بن خشرم قال: حدثنا سفيان.
عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم.(6/852)
وقال علي: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه: ((ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه)) . الحديث.
وقال الدارقطني في [سننه: 3/11، ح32] :
حدثنا أبو محمد بن صاعد إملاء، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثني ابن وهب، أخبرني عمر بن مالك، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن زيد بن أسلم قال: سمعت رجلًا يقال له: شهر، كان تاجرًا، وهو يسأل عبد الله بن عمر، عن بيع المزايدة فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع أحدكم على بيع أخيه حتى يذر إلا الغنائم والمواريث)) .
33- حدثنا محمد بن عمر الرَّزَّاز، حدثنا أحمد بن الخليل، حدثنا الواقدي، حدثنا أسامة بن زيد الليثي عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم – ولعل الصواب عن النبي صلى الله عليه وسلم – مثله.
وقال الدرامي في [سننه: 2/250] :
أخبرنا محمد بن عبد الله الرقاشي، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا محمد محمد – هو ابن إسحاق – عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحل لامرئ يؤمن بالله وباليوم الآخر أن يبيع على بيع أخيه حتى يتركه)) .
وقد اضطرب فقهاء المذهب ومتفقهتها في تأويل هذا الحديث، وحديث ((البيعان في الخيار)) اضطرابا شديدًا تبعًا لأصولهم التي دأبوا على تحكيمها في نصوص الكتاب والسنة، فقال مالك في – الموطأ ص569-:
وتفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما نرى والله أعلم – ((لا يبيع بعضكم على بيع بعض)) أنه نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع إلى السائم وجعل يشترط وزن الذهب ويتبرأ من العيوب وما أشبه ذلك مما يعرف فيه أن البائع قد أراد مبايعة السائم، فهذا الذي نهى عنه والله أعلم.
وقال الشافعي في [الرسالة: ص314، فقرة 865] معقبًا على حديث نافع، عن ابن عمر في (بيع الخيار) وحديث سعيد عن أبي هريرة في (المساومة) .
وهذا معنى يبيّن أنَّ رسول الله قال: ((المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا)) وأن نهيه عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه إنما هو إذا تبايعا قبل أن يتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه.(6/853)
- فقرة 866:
وذلك أنهما لا يكونان متبايعين حتى يعقدا البيع معًا، فلو كان البيع إذا عقداه لزم كل واحد منهما ما ضر البائع أن يبيعه رجل سلعة كسلعته أو غيرها. وقد تم بيعه لسلعته ولكنه لما كان لهما الخيار كان الرجل لو اشترى من رجل ثوبًا بعشرة دنانير فجاءه آخر فأعطاه مثله بسبعة دنانير أشبه بأن يفسخ البيع إذا كان له الخيار قبل أن يفارقه، ولعله يفسخه ثم لا يتم البيع بينه وبين بيعه الآخر، فيكون الآخر قد أفسد على البائع وعلى المشتري أو على أحدهما.
قلت: رحم الله الشافعي كيف وقع في هذا الاضطراب وهو اللغوي والفقيه، الضليع، فالحجة التي ساقها افتراضًا عليه وليست له، فلو كان التفرق الذي جعل حدًّا لبيع الخيار هو التفرق بالأجسام لا بالأقوال، ولو كان البيع الذي نهى أن يمارسه أحد على بيع أخيه هو البيع الذي تمَّ انعقاده فعلًا يتعذَّر أن يتمَّ التبايع بين متعايشين معًا في منزل واحد أو في سفر واحد أو في عمل واحد، والحجة التي ساقها الشافعي نراها دامغة لما ذهب إليه من اعتبار التفرق بالأبدان لا بالأقوال ومن اعتبار البيع لا يطلق إلا على ما تم فيه العقد، ولا يمكن إطلاقه على المساومة أو التراكن كما ذهب إليه مالك، إذ التبايع المحتمل فيه الاختيار دون إضرار بأي من الفريقين هو حال المساومة أو المراكنة، والتبايع الذي يمكن عمليًّا أن يتنافس فيه صاحبا سلعة واحدة هو هذه الحال أيضًا، ومناط في الصورتين كلتيهما واضح بين في غير تمحُّل فجعل كلا المتبايعين بعد عقد البيع في حالة خيار ما لم يتفرقا، يعني أنَّ عليهما إذا أراد إنهاء الخيار أن يتفرقا إجبارًا، وجعل بيع أحد على بيع أخيه هو الذي يكون بعد العقد، معناه أن العقد ليس بملزم وأنَّ المشتري يمكنه أن يفسخ البيع ما لم يفارق صاحبه، وفي هاتين الحالتين من الإضرار بكل من البائع والمشتري ما لا سبيل إلى إنكاره.
ثم قال الشافعي – رحمه الله – فقرة 867] :
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يسوم أحدكم على سوم أخيه فإن كان ثابتًا – ولست أحفظه ثابتًا – فهو مثل ((لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)) . لا يسوم على سومه إذا رضي البيع وأذن بأن يباع قبل البيع حتى لو بيع لزمه.(6/854)
قلت: سبحان الله كيف غاب عن الشافعي وهو المحدِّث الصادق الثبت، أن هذا الحديث روي عن طرق عدة وفي بعضها (لا يسم) وفي بعضها (لا يسوم) وفي بعضها (لا يستام) وفي كثير منها (لا يبع) أو (لا يبيع) فلماذا لم ير الشافعي في اختلاف ألفاظ هذا الحديث ما يقتضيه الجمع بينها من أن الحديث رواه البعض بالمعنى، وأنَّ المساومة كانت عندهم مبايعة والسوم بيعًا والسائم بيعًا كالمساوم صاحب السلعة وهو أمر عرفه العرب كما سيأتي.
وقد أبدأ الشافعي وأعاد في تأييد ما ذهب إليه سالكًا منهاج الجدل السقراطي في ج3، من كتابه (الأم) [ص104، وما بعدها، وكذلك ص92] :
ومن أغرب الأشياء استدلال الشافعي بقصة مالك بن أوس بن الحدثان وقول عمر – رضي الله عنهما – له: (والله لا تفارقه) . الحديث. على دعواه بأن التفرق بالأبدان لا بألاقوال، وأن البيع لا يطلق إلا على ما تم العقد فيه. وأن العقد – نتيجة لذلك – غير ملزم للمتعاقدين في بيع إلا بعد أن يتفرقا بالأبدان أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر، فيختار صاحبه، ذلك بأن هذا الاستدلال لا يبعد كثيرًا عن قول الذين قالوا: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] ، فجوهر الموضوع واحد، إذ أن قصة مالك بن أوس بن الحدثان تستبدل أحد النقدين بالآخر وهي حال نص الشارع فيها، على أنه لا يجوز التفرق بين المتعاملين إلا بعد التقابض، أما في غير النقدين فإن تعليق العقد بالافتراق البدني لا يوجد نص صريح من الشارع فيه، ولا سبيل إلى دعوى الجمع بين وجود عقد – والعقد لا يكون إلا ملزمًا للطرفين المتعاقدين – وقيام حق الخيار الذي يناقض الإلزام بهما أو لأحدهما، وقيام حق الفسخ أيضًا وهو الصورة التي رآها الشافعي تأويلا لحديث منع بيع المسلم على بيع أخيه أو سومه على سوم أخيه.
وعلى هذا النسق جرى البيهقي – وهو من أئمة الشافعية ومحدثيهم – فقال في [السنن الكبرى: 5/345، 346] بعد أن ساق بعد الأحاديث السابقة مما أخرجه البخاري ومسلم أو أحدهما.
وهذا الحديث حديث واحد، واختلف الرواة في اللفظ لأن البخاري رواه على أحد هذه الألفاظ الثلاثة من البيع والسوم والاستيام لم يذكر معه شيئًا من اللفظتين الأخريين إلا رواية شاذة ذكرها مسلم بن الحجاج، عن عمرو الناقد، عن سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة ذكر فيها لفظ البيع والسوم جميعًا، وأكثر الرواة لم يذكروا عن ابن عيينة لفظ السوم، فإما أن يكون معنى ما رواه ابن المسيب، عن أبي هريرة ما فسَّره غيره من السوم والاستيام، وإما أن ترجح رواية ابن المسيب على رواية غيره فإنه أحفظهم وأفقههم، ومعه من أصحاب أبي هريرة عبد الرحمن الأعرج وأبو سعيد مولى عامر بن كريب وعبد الرحمن بن يعقوب وبعض الروايات عن العلاء، عنه وبأنَّ روايته توافق رواية عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.(6/855)
قلت: في هذا الترجيح من البيهقي نظر ولا نراه يتجه فلئن كان سعيد بن المسيب من الحفظ والفقه بحيث لا يزن بريبة فإن في ترجيحه على مالك ونافع وذكوان وغيرهم مجتمعين ومعهم غيرهم نظرًا، لا سيما إذا تدبرنا احتمال أن يكون ذكر السوم والبيع معًا في رواية سعيد قد يكون بالتفسير وقد لا يكون منه وإنما هو من بعض الرواة عنه، وإضافتهم التفسير إلى النص مألوفة فقد كان ابن مسعود وعائشة وأبو هريرة – رضي الله عنهم – ربما أضافوا تفسير بعض الآيات إلى الآيات نفسها في بعض مصاحفهم حتى وهم جمهرة من الناقلين عنهم فحسبوا تأويلاتهم تلك أطرافًا من الآيات التي أوَّلوها ولم يتدبَّروا لاختلاف في الأسلوب وخروج عباراتهم التأويلية عن النَّسق القرآني في التأليف وهذه كتلك عندنا، لكن البيهقي أراد أن ينصر مذهبه في تفسير كلمة (البيع) في حديث ((البيعان في الخيار)) فتكلف هذا الترجيح والله أعلم.
ويرجح أن ذكر اللفظتين معًا في رواية عمرو الناقد إنما هو من زيادة بعض الرواة للتفسير لأن حديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة روي من عدة طرق نقلناها آنفًا وليس فيه إلا لفظة واحدة، ففي البخاري جاءت روايته ((ولا يبيع على بيع أخيه)) ، وعند النسائي من طريق الزهري عن سعيد ((ولا يساوم الرجل على سوم أخيه)) ، وعند ابن الجارود ((ولا يبيع الرجل على بيع أخيه)) ، وعند الدارمي عن طريق الزهري وأبي سلمة عن سعيد ((ولا يبيع الرجل على بيع أخيه)) . وعن طريق الزهري عن سعيد ((ولا يزيد الرجل على بيع أخيه)) .
وحديث سعيد عن طريق عمرو الناقد الذي وقف عنده البيهقي أخرجه مسلم في [صحيحه: 2/1033، ح1413] من ثلاث طرق إحداها طريق عمرو هذا وقال مسلم: زاد عمرو في روايته ((ولا يسم الرجل على سوم أخيه)) .(6/856)
وهذا صريح في أن عَمْرًا انفرد بهذه الزيادة فهل هي منه أو من سفيان أو من سعيد؟
أخرج مسلم حديث سعيد هذا من طريقين آخرين عقب رواية عمرو الناقد وليست فيهما أيضًا هذه الزيادة وجميع هذه الطرق وغيرها من طرق هذا الحديث، عن نافع، عن ابن عمرو، وعن أبي هريرة من غير طريق سعيد، وعن عقبة بن عامر ساقها في كتاب النكاح ولم يخرج رواية عمرو الناقد في كتاب البيوع مع الروايات التي نقلناها عنه آنفًا. ومع أن عَمْرًا الناقد كادوا يجمعون على توثيقه [انظر ابن حجر، تهذيب التهذيب: 8/76، 79، ترجمة 156] فإن في النقدة من تكلم فيه شيئًا بل إن ابن المديني كذبه في حديث رواه عن ابن عيينة وفي قول أحمد فيه: (يتحرى الصدق) ما يشير أن أحمد ينزهه عن الكذب ولكن لا يبلغ به درجة التوثيق المطلق ولعله كان لفقهه يضيف بعض تأويلاته إلى النصوص التي يرويها.
وقد حمل الالتزام بأصل المذهب بعض اللّغويين إلى أن يتمحَّلوا حتى في تأويل نص لغوي ليكيِّفوه بحيث يتسق مع أصلهم. فقال ابن منظور في [لسان العرب: 8/24، 25] بعد أن ساق مقولات الشافعي في تأويل حديث (الخيار) وحديث (المساومة) ولفظتي (البيع) (والبيع) وعرض لمقولات مخالفيه:
وقد تأول بعض من يحتج بأبي حنيفة وذويه وقولهم: لا خيار للمتبايعين بعد العقد بأنهما يسمّيان متبايعين وهما متساومان قبل عقدهما البيع، واحتج في ذلك يقول الشماخ في رجل باع قوسًا:
فوافى بها بعض المواسم فانبرى
لها بيع يغلي لها السوم رائز
قال: فسماه بيع وهو سائم، قال الأزهري – وهو لُغوي شافعي، انظر هداية الله الحسيني طبقات الشافعية، ص94-: وهذا وهم وتمويه ويرد ما تأوله هذا الشيخ شيئان أحدهما أنَّ الشَّمَّاخ قال هذا الشعر بعدما انعقد البيع بينهما وتفرَّقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه فسماه بيِّعًا بعد ذلك، ولو لم يكونا أتَّما البيع لم يسمِّه بيِّعًا وأراد بالبيِّع الذي اشترى، وهذا لا يكون حجَّة لمن يجعل المساومين بيِّعين ولما ينعقد بينهما البيع والمعنى الثاني أنه يرد تأويله ما في سياق خبر ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يخيّر أحدهما صاحبه فإذا قال له: اختر فقد وجب البيع وإن لم يتفرَّقا)) .(6/857)
قلت: هاتان الحجتان داحضتان ونبدأ بالثانية فنحن لم نقف في حديث ابن عمر – مع تعدد طرقه وألفاظه – على عبارة (وإن لم يتفرَّقا) وهي موضع الشبهة ولا نعرفها حتى من رواية ضعيفة والذي يشبهها وربما اشتبه أمرها على الأزهري حديث ابن عمر، عن طريق الليث. وقد رواه أحمد وابن ماجه وسقناه آنفًا بسنديهما وفيه: ((فإن خيَّر أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك وجب البيع، وإن تفرَّقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع)) . فالتفرق الوارد في الحديث بعد حكم التخيير يتصل بحكم آخر هو أن يتفرق المتبايعان ولم يترك واحد منهما البيع فهذه صورة أخرى غير صورة الوجوب نتيجة للاختيار، وطبقًا لهذا الحديث فإن البيع المعني فيه ليس العقد وإنما هو السوم والمبايعة تعني المساومة بدلالة سياق الحديث، والتخيير المنصوص عليه في الحديث هو صيغة يراد بها إتمام البيع، وكان صلى الله عليه وسلم يفعلها ومناطها وهي تخيير البائع بين سلعته والثمن الموضوع بين يديه، فقد يكون البائع راغبًا في النقد المسكوك أو الموزون فإذا قدم المشتري إليه غير النوع الذي يرغب فيه كان له أن يعدل عن البيع لاختلاف نيته حال البيع عن واقع ما أريد إتمامه به، وهذا الاختلاف هو الذي تجنبه الحديث وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بتأكيد البيع بالتخيير وهو طبعًا لا ينطبق على التعامل بنقد واحد معلوم متفق عليه في سلعة حاضرة أو متفق على مواصفاتها والتفرق الذي جاء في الحديث أنه موجب للبيع مناطه أنَّ المساومة على الثمن أو المشارطة على المواصفات وما إليها قد انتهى شأنها بتفرق المتبايعين فوجب البيع إذا لو أن أحدهما غير موافق على ما عرضه الآخر لم يتفرقا عن صمت بل عن إلغاء المبايعة أو تأجيلها إلى أن يتفقا في أجل آخر، وبهذا يتَّضح أن الاحتجاج بحديث ابن عمر باطل وأنَّ الزيادة التي زادها الأزهري ونقلها عنه ابن منظور ليست صحيحة، أما الحجَّة الأولى وهي تأويله لبيت الشمّاخ المبني على الزعم بأنَّ الشماخ قال بيته ذاك وصفًا لحال مضت وانقضت فهو تأويل من الغريب أن يصدر عن لُغوي، ذلك بأنَّ إطلاق الشماخ وصف (البيع) على الذي (انبرى يَغلي السوم، لا يستقيم من عربي صريح أصيل إلا يكون (البيع) عنده هوالمساوم وأنَّ الكلمتين تعنيان معنى واحدًا، فقد كان الشماخ قادرًا، ودون تكلُّف، على أن يضع بدل كلمة (بيع) كلمة (مشتري) ، فتعبير بكلمة (بيع) ووصفه له بأنه (يغلي السوم) لا يساند زعم الأزهري، لأن الاحتجاج ببيت الشماخ وهم وإنما يكشف مدى تمحل البعض حتى في تأويل الألفاظ اللغوية ابتغاء تكييفها مع ما يلتزمون به من أصول مذهبهم.(6/858)
ويبدو أن الفيروزأبادي كان على خلاف مع الأزهري في تمحله هذا فقال في [القاموس المحيط: 3/8] في مادة (باع) :
وكسيد: البائع والمشتري والمساوم جمع: بيعاء كعنباء وأبعياء
بل إن المرتضى الزبيدي لا يبدو موافقًا للأزهري أيضًا وإن لم يجهر بذلك، فقد قال في [تاج العروس: 5/284] :
والبيع في قول الشماخ يصف قوسًا كما في العباب، وفي اللسان في رجل باع قوسًا. وساق البيت.
ثم قال: هو المساوم لا البائع والمشتري، وقول الشماخ حجة لأبي حنيفة – رحمه الله – حيث يقول: ((لا خيار للمتبايعين بعد العقد لأنهما يسميان متبايعين وهما متساومان قبل عقدهما البيع)) . وقال الشافعي – رضي الله عنه -: هما متساومان قبل عقد الشراء، فإذا عقد البيع فهما متبايعان ولا يسميان بيعين ولا متبايعين، وهما في السوم قبل العقد، وقد رد الأزهري على المحتج بقول الشماخ بما هو مذكور في (التهذيب) .
قلت: وأدق ما وقفت عليه وأجمعه في تحرير هذا المقام، قول التهانوي في [إعلاء السنن: 14/6، 7] بعد أن عرض لاختلافهم في خيار المجلس وتأويل قوله صلى الله عليه وسلم: (البيعان) و (ما لم يتفرقا) أو (يفترقا) :
إذا عرفت هذا، فاعلم أن الحق في هذا المقام مع أبي حنيف لأن قوله (البيعان) تثنيه للبيع، والبيع صفة مشبهة من البيع، وللبيع معنيان: أحدهما بدل السلعة بالثمن وبهذا المعنى يقال له: البائع، والآخر المشتري ولا يقال لهما: بائعين، والآخر العقد المعروف القائم بين المتعاقدين. وبهذا المعنى يقال لأحدهما: البيع ولهما البيعان ولا يقال لأحدهما: بائع ولا هما بائعان بهذا المعنى (1) .
قلت: وغاب عنه أن يشير إلى الفارق بين الصيغتين (البيع) و (البائع) من حيث تمايز الدلالة، فكلمة (البيع) التي هي صفة مشبهة تعني الوصف المستمر غير المرتبط بزمان معين ولا المتسم بالتكرار والتجدد، بخلاف كلمة (البائع) التي تعني الوصف المرتبط بزمان قد يكون ماضيًا وقد يكون حاليًّا وقد يكون متجددًا، ولا يمكن انصرافه إلى أحد هذه المعاني الثلاثة إلا بقرينة أغلب ما تكون من السياق.
__________
(1) انظر في جميع أحاديث بيع الخيار [البيهقي – السنن الكبرى: 5/268] وما بعدها-.(6/859)
وقد ألمع إلى ذلك ابن مالك بقوله في [شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ: ص706، 707] :
وقد استصحب الأصل لاسم فاعل (فعل) متعديًا كان أو غير متعد كحبس الشيء فهو (حابس) ، وجلس فهو (جالس) ، وإن جاء بخلاف ذلك فهو محمول على غيره لشبه معنوي كجلي فهو (جليل) ، وطاب فهو (طيب) ، وشاب فهو (أشيب) ، وحملت على عظم فهو (عظيم) ، وجاد فهو (جيد) ، وشمط فهو (أشمط) .
ويساوي فعل في استحقاق (فاعل) فعل المتعدي، كقبل الشيء فهو (قابل) فإن كان (فعل) غير متعدِّ، استغنى فيه عن (فاعل) بـ (فعل) في الأعراض كفرح فهو (فرح) ، وخجل فهو (خجل) . وبـ (أفعل) في الخلق والألوان كشنب فهو (أشنب) ، وسود فهو (أسود) . وبـ (فعلان) في الامتلاء وضده كشبع فهو (شبعان) ، وغرث فهو (غرثان) . وبـ (فعيل) في قوة أو ضعف كقوي فهو (قوي) ، وعمي فهو (عمي) ، وسمن فهو (سمين) ، ومرض فهو (مريض) . واستغني في (فعل) غالبًا بـ: (فعيل) كظرف فهو (ظريف) ، وشرف فهو (شريف) . وبـ (فعل) نحو ضخم فهو (ضخم) ، وشهم فهو (شهم) . وبـ (فعل) نحو حسن فهو (حسن) ، وبطل فهو (بطل) . وبـ (فعيل) نحو جاد فهو (جيد) ، وساد فهو (سيد) . وبـ (فعال) نحو جبن فهو (جبان) ، وعبم فهو (عبام) (1) .
وإنما سقنا كلام ابن مالك كله لنبين بالمقارنة تميز صيغة (بيع) عن غيرها من صيغ اسم الفاعل أو الصيغ الدالة عليه.
__________
(1) العبام هو الغليظ الخلقة في حمق والعييّ الأحمق [انظر ابن منظور: لسان العرب: 11/82] .(6/860)
ثم قال التهانوي:
وبهذا تبين فساد ما قال العيني من أنه أراد بهما البائع والمشتري، وإطلاقه على المشتري بطريق التغليب أو هو من باب إطلاق المشترك وإرادة معنييه معًا إذا البيع جاء لمعنيين فيه خلاف، لأنه ليس في هذا الإطلاق تغليب ولا استعمال مشترك بين المعنيين، بل هو استعمال للبيع في العقد. وظاهر أن العقد قائم بالمتعاقدين فيكونان كلاهما بيعين حقيقة، وإذا كان البيع صفة مشبهة من البيع بمعنى العقد المعروف فيكون هو حقيقة في العاقد حين العقد لا بعد العقد ولا قبله، بل هو مجاز فيهما كالأحمر فإنه حقيقة فيما قام به الحمرة لا ما كان أحمر أو ما يكون كذلك وهو ظاهر جدًّا، وقال به الشافعية، والجواب عنه بأن المتبايعين لا يكونان متبايعين حقيقةً إلا في حين تعاقدهما، لكن عقدهما لا يتم إلا بأحد أمرين، إما إبرام العقد أو بالتفرق على ظاهر الخبر، فصح أنهما متعاقدان ما داما في مجلس العقد، فعلى هذا تسميتهما متبايعين حقيقة مصادرة على المطلوب لأن هذا الجواب مبني على ثبوت خيار المجلس وهو أول النزاع، ومع قطع النظر عن المصادرة هو فاسد أيضًا لأن العقد هو الإيجاب والقبول، فلما انقضيا انقضى العقد، وبقاء حق الفسخ لا يقتضي وجوده إلى ذلك الوقت كما في خيار العيب وخيار الشرط.
قلت: ومن عجب أن المختلفين المتشاكسين في هذا الذي اعتبروه قضية من (خيار المجلس) لم يلتفتوا إلى حقيقة ذات بال، وما كان ينبغي إغفالها وهي هذا الاختلاف بين الرواة في الألفاظ التي رووا بها الحديث سواء في صفة من جاء الحديث الشريف بجعلهما في الخيار أو في صفة تعيين الحال التي ينتهي خيارهما بوقوعها.
ففي (الصيغة) وردت كلمة (البيعان) و (البيعين) – وهي صيغة واحدة اختلف وضعها باختلاف عامل الإعراب – في مجموع الروايات التي سقناها آنفًا ستين مرة.
منها عن ابن عمر: سبع وعشرون مرة. وعن أبي هريرة مرتان، وعن حكيم بن حزام ست عشرة مرة، وعن سمرة بن جندب أربع مرات، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص مرة واحدة، وورد من مراسيل ابن أبي مليكه ثلاث مرات.
أما كلمة (المتبايعان) أو (المتبايعين) فوردت عن ابن عمر أربع عشرة مرة، وعن أبي هريرة مرة واحدة، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص مرتين فيكون المجموع سبع عشرة مرة.
ثم ورد عن ابن عمر ثلاث مرات بصيغة (إذا تبايع) وفي إحداهن (المتبايعان) وفي الأخرين (الرجلان) كما وردت صيغة (تبايعا) عن مالك بلاغًا والضمير يعود إلى (أيما بيعين) .(6/861)
أما حديث (المساومة) أو (المبايعة) فورد بصيغة (يبع) أو (يبيع) عن ابن عمر ثماني عشرة مرة وعن أبي هريرة ثماني مرات وعن عقبة بن عامر مرة واحدة.
وورد بصيغة (يسوم) أو (يساوم) أو (يستام) أو (يسم) عن أبي هريرة تسع مرات وعن أبي سعيد الخدري، وورد مرة عن أبي هريرة بلفظ (يزيد) بدلًا من (يبيع) أو (يسوم) وما شاكلهما.
وجلي أن هذا الاختلاف دليل على أن الرواة رووا الحديثين بالمعنى وليس باللفظ فإن تكن فيهما رواية باللفظ فالراجح أنها في حديث الخيار التي جاءت بصيغة (البيعان) لأنها أكثر ورودًا ولم يرو غيرها حكيم بن حزام ولا أبو برزة ولا عقبة بن عامر، واشترك مع هؤلاء غيرهم من رواه الحديث من الصحابة في هذه الصيغة وإن امتازوا عنهم بالصيغتين الأخريين، أما في الحديث الثاني فإن تكن فيه رواية باللفظ فهي تلك التي وردت بصيغة (يبيع) وما تصرف منها لأنها الأكثر ورودًا ولم يرد الحديث بصيغة المساومة وما تصرف منها إلا عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ومع أنه من الممكن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كرر هذين الحديثين بلفظين مختلفين فإن اختلاف الصيغ في كلا اللفظين يجعل هذا الاحتمال بعيدًا والأقرب منه أن يكون اختلاف البنية في صيغة (البيعان) وصيغة (يبيع) من فعل الرواة وأن يكون أساسهما مسموعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الترجيح يبلغ بنا إلى حاصل هام وهو أن صيغة (البيع) أو (التبايع) وكلمة (البيع) لا تنصرفان بالضرورة إلى ما تم فيه التعاقد فأصبح ملزمًا للجانبين بل هي قد تدل على المتراكنين وهي الدلالة التي قال بها مالك – رحمه الله – ونؤثرها على (المتساومين) لأن مجرد المساومة لا يدل بالضرورة على الرغبة في الشراء أو في البيع وإنما الذي يدل عليها هو المراكنة، وإنما الذي يصرف تينك الصيغتين إلى إحدى هاتين الدلالتين هو القرينة، لفظية كانت أم حالية (من السياق) .
وهذا التحرير لهذه المسألة الدقيقة ضروري لما سيصير إليه تمحيص الرأي في التعاقد بالوسائل الحديثة من حيث إن الصيغ اللفظية تتحكم في تكييف دلالاتها ما تنطوي عليه من دلالات ومعانٍ لها علاقة بالزمن.
وصيغة أخرى وردت في الحديث الأول (حديث الخيار) وكانت العلة الأساسية والوحيدة لجميع الاختلاف والاضطراب حول ما سمي بـ (خيار المجلس) هي صيغة (تفرقا) أو (افترقا) ، فمجموع ما ورد بصيغة (تفرقا) في طرق الحديث التي سقناها آنفًا واحد وستون مرة.(6/862)
منها في رواية ابن عمر سبع وثلاثون، وعند حكيم بن حزام تسع، وعند أبي برزة خمس، وعند سمرة بن جندب أربع، وكذلك عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وعند أبي هريرة مرة واحدة وكذلك في مرسل عطاء.
أما مجموع ما ورد بصيغة (افترقا) فتسع عشرة مرة. منها في رواية ابن عمر عشر وعند حكيم بن حزام ثلاث، وعند كل من سمرة وأبي هريرة وفي مرسل عطاء اثنتان.
ومع أن الفرق بين دلالة تاء المطاوعة في (تفرقا) ودلالة تاء التكلف والافتعال في (افترقا) – على تمايزهما – في غير مسألة خيار المجلس – ليس بعيد الخطر ولا عميق الأثر في تكييف معنى الحديث الشريف فيما يتصل بخيار المجلس ولا فيما يتصل بالموضوع الذي نحن بصدده (التعاقد بالوسائل الحديثة) ، فإن الوقوف عند اختلاف الروايات له خطره وأثره الذين لا يمكن إغفالهما، إذ يتضح من اختلافها أن الحديث غير مروي باللفظ أو أن بعض الرواة لم يلتزموا التزامًا دقيقًا عند رواياتهم له باللفظ الذي سمعوه، فالاحتمال بعيد أن يكون رواته من الصحابة هم الذين رووه مرة بصيغة (تفرقا) وأخرى بصيغة (افترقا) . وآية ذلك أن صيغة (تفرقا) هي الأغلب عندهم جميعًا وصيغة (افترقا) هي الأقل، فتبين أنه إن كان في الرواة من التزم باللفظ الذي سمعه فهم أولئك الذين رووه بصيغة (تفرقا) أما غيرهم فرواه بالمعنى، والذين رووه بالمعنى هم من التابعين أو ممن بعدهم.
ولعل من المفيد – لتعميق الفائدة – في هذا المجال أن نذكر كيف وردت كملة (فرق) ومشتقاتها من الأفعال في القرآن الكريم، ذلك بأن نصوص الحديث النبوي نصوص تشريعية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينصرف عن صيغة قرآنية إلى غيرها في تنصيصه لتشريع ما إلا لمناط تشريعي اقتضى ذلك.(6/863)
وردت كلمة (فرق) وما تصرف منها من أفعال في القرآن الكريم اثنتين وعشرين مرة (1) أو لتشريع جديد غير منصوص عليه في القرآن الكريم , وليس هذا مجال تبيان هذا الملحظ الدقيق الذي كانت غفلة جمهور الفقهاء والمتفقهة عنه سببًا في كثير مما وقعوا فيه من الاختلاف والاضطراب.
__________
(1) (فرقنا) (2) : الآية (50) سورة البقرة، والآية (106) سورة الإسراء. 1- سورة البقرة: الآية 50: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ. 2- سورة الإسراء: الآية 106: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ. (افرق) (1) : الآية (25) سورة المائدة. سورة المائدة: الآية 25:قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ. (يفرق) (1) : الآية (4) سورة الدخان. سورة الدخان: الآية 4: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. (فرقت) (1) : الآية (94) سورة طه. سورة طه: الآية 94: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي. (فرقوا) (2) : الآية (159) سورة الأنعام والآية (31-32) سورة الروم. 1- سورة الأنعام: الآية 159:إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا. 2- سورة الروم: الآية 31-32:وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا. (تفرق) (3) : وهكذا بقية الآيات الكريمات في الحاشيتين: 1- سورة البقرة: الآية 136: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. 2- سورة البقرة: الآية 285: لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أََحَدٍِ مِنْ رُسُلِهِ. 3- سورة آل عمران: الآية 84: لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. (يفرقوا) (2) : 1- سورة النساء: الآية 150: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، والآية 152: وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ. (يفرّقون) (1) : 1- سورة البقرة: الآية 102: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. (فارقوهن) (1) : سورة الطلاق: الآيةفَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ. (تفرّق) (1) : سورة البينة: الآية 4: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. (تفرقوا) (2) : 1- سورة آل عمران: الآية 105: وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ. 2- سورة الشورى: الآية 14:وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ. (تفرق) وتاء المضارعة والإيماء إلى الإضمار منوية غير منطوق بها: 1- سورة الأنعام: الآية 153: وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. (تفرقوا) كسابقتها: 1- سورة آل عمران: الآية 103:وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ. (تتفرقوا) بتاء المضارعة والإيماء إلى الإضمار منطوق بها: 1- سورة الشورى: الآية 13: أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا (يتفرقا) (1) 1- سورة النساء: الآية 130:وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ. (يتفرّقون) (1) : سورة الروم: الآية 14:وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ.(6/864)
ولا نعرف في القرآن الكريم من مشتقات كلمة (فرق) ما يحتمل تأويله بأنه يتضمن الانفصال المادي أو الجسدي إلا في آية سورة المائدة من قوله سبحانه وتعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} ، فقد يتراءى احتمال – وإن كان بعيدًا – بأن موسى ربما كان من قصده أن يبعد الله عنه وعن أخيه أولئك القوم الفاسقين ليأمنا من أن يصيبهما ما قد ينزله عليهم من بلاء عقابًا لهم على فسقهم ذاك، لكن يبعد هذا الاحتمال – حتى ليكاد يكون تمحلا – أن موسى عليه السلام يعلم أنه وأخاه مرسلان إلى أولئك الذين سأل الله أن يفرق بينهم وبينهما، وأن عليهما الاستمرار في أداء الرسالة التي يضطلعان بمسئوليتها وتبعتها، فلا يتصور أن يطلب الابتعاد له ولأخيه عمن أرسل إليهم، وغاية ما سأله التمييز بينهما وبينهم إذا كان مقدرًا أن يُنْزِل عليهم بلاءً عقابًا لهم على فسقهم ذاك.
وآية أخرى قد يتوهم البعض أن فيها معنى الانفصال المادي وهي آية سورة النساء في المعلقة التي تعذر الصلح بينها وبين زوجها من قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} ، وهذا الوهم يبطله أن المطلقة لها أن تمكث في بيت زوجها حتى تستوفي عدتها، وأن التفرق هنا معنوي يقصد بها انفصال العصمة الواشجة بين الزوجين بالطلاق.
ولا سبيل إلى الوهم بأن التفرق في الدين وما شاكله مما جاء في الآيات الكريمة الأخرى يمكن أن يتضمن الانفصال المادِّي.
وبهذا يتضح أن صيغة (يتفرقا) في حديث الخيار هي الصيغة الأرجح أن تكون رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باللفظ وليس بالمعنى إذ لم نجد في القرآن الكريم التعبير بصيغة (افترق) وما تصرف منها، وقد سبق أن ألمعنا إلى أننا لا نتصور أن يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث تشريعي عن الصيغة القرآنية إلا لعلة موجبة لذلك، ولا نجد هذه العلة في حديث الخيار.(6/865)
ثم أنه على فرض أن صيغة: (افترقا) هي المروية باللفظ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعملها في حديث يبعد احتمال أن تكون الصيغة فيه رويت بالمعنى وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ... )) الحديث. وهو مشهور وليس من شأننا في هذا المجال تخريجه، وما من أحد يدعى أن صيغة الافتراق الواردة ثلاث مرات في هذا الحديث بصيغة الماضي مرتين والمضارع مرة تعني – أو يمكن أن تتضمن – الانفصال المادي، غاية أمرها أنها تعني نفس المعنى المعبر عنه بالتفرق – بدلًا من الافتراق – في الآيات القرآنية الكريمة الواردة في النهي عن التفرق في الدين، وإنما جاء التعبير في الحديث النبوي الشريف بـ (الافتراق) بدلًا من (التفرق) لملحظ بديع هو أن التفرق الوارد النهي عنه في القرآن الكريم أو التنديد به إما أنه قد حدث كما في سورة البينة: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، وجاء التعبير بـ (تفرق) بدلا من (افترق) لإيضاح أن الفرقة جاءت عن عمد وتكلف وسبق إصرار، وذلك أبلغ في التنديد بها وبمقترفيها.
وإما للنهي عنه وبيان أن اقترافه لا يمكن أن يكون عفوًا ودون قصد، بل لا يتأتى إلا عن عمد وتكلّف وسبق إصرار، فهو لذلك يوجب على مقترفه ما يستحقه من عقاب.
أما كلمة (افترق) في الحديث الشريف فهي إخبار بما حدث ونبوءة بما سيحدث ولئن تضمنت معنى التنديد فإن هذا المعنى لم تتضمنه الصيغة لذاتها وإنما تضمنه كل من الأخبار والنبوءة في مجموعة وليس بصيغة معينة.(6/866)
ثم إنّ تاء المضارعة والإيحاء بالإضمار معلوم أنها إذا دخلت على الفعل المضاعف تعني في كثير من الأحيان الاجتهاد والتكلف، كما تدل على المطاوعة لفظًا. أما تاء المطاوعة – وهي التي تأتي بين الفاء والعين في الفعل ومشتقاته (افتعل) – كما في صيغة (افترق) فهي تعني من حيث المعنى التكلف والمعاناة بصورة أساسية، وقلَّ أن تخلو من هذا المعنى وليس هذا المجال تفصيل ذلك.
غاية ما نقصد إليه بهذا الإلماع إلى ما تؤمئ إليه التاءان، هو أن نوضح أن الانفصال المادي إذا عبّر عنه بـ (التفرق) و (الافتراق) لا بد من قرينة تصرف العبارة إليه، وأن الصيغتين لا تعنيانه أساسًا كما لا تعنيان غيره من معانيهما وإنما تتصرفان إلى معنى منها بقرينة. وورود إحداهما في القرآن أو في الحديث يتحكم السياق والموضوع في تحديد المعنى المقصود إليه بها، وبذلك يتضح أن جدل الفقهاء والمتفقهة حول ما سموه (خيار المجلس) جدل قائم على وهم قد لا نعجب من صدوره من المتفقهة، إنما نعجب أشد العجب وأبلغه من صدوره من مثل الشافعي – رحمه الله – وهو اللغوي والمحدث والفقيه الذي لا يزن بريبة، ثم من إلحاحه في تقرير ما ذهب إليه إلحاحًا قل أن عهدناه في تقرير أصوله، ويظهر أن موضوع (خيار المجلس) كان لعهده موضوعًا متصلا بإثبات الوجود الفقهي لأرباب المذاهب أو المدارس الفقهية والأصولية، ولعله كان من أهم أسباب الخلاف وأعمقها نفسيًّا وبين أستاذه مالك – رحمه الله – على أن مالكًا كان أسلم منطقًا وأدرك للبيان منه حين اعتبر المبايعة والتبايع وما شاكلهما تعني المراكنة أو ركون أحد الطرفين، وأنَّ (التفرق) أو (الافتراق) يراد به أن يكون بالأقوال لا بالأبدان.
ورحم الله ابن تيمية – وهو حنبلي مجتهد – إذ يقول في [مجموع فتاويه: 29/26، 27] :
.... فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال: هو أفقه الناس في البيوع كما كان يقال: عطاء أفقه الناس في المناسك، وإبراهيم أفقههم في الصلاة، والحسن أجمعهم لذلك كله. ولهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه لمن استقرأ ذلك من أجوبته والإمام أحمد موافق لمالك في ذلك في الأغلب ... إلخ) .
والذي يعنينا من صيغتي (التفرق) و (الافتراق) في حديث الخيار، هو بيان أن المراد بهما وقوع الانفصال بالأقوال لا بالأبدان، وهذا أمر أساسي فيما نحن بصدده من محاولة استجلاء المطابقة بين الأحكام الشرعية وبين ما نعايشه اليوم من التعامل بالوسائل الحديثة للتواصل تعاملا كثيرًا ما يدخل في نطاق التعاقد، وتأكيد القاعدة التي نعتمدها أصلا في بحثنا هذا وفي غيره من أن الدلالة الظرفية في الصيغ أساسية في تكييف الحكم المستنبط منها، وهذا ما سيزداد جلاء في الفصول الآتية بحول الله.(6/867)
لكن قبل أن نختم هذا الفصل نود أن ننقل أروع وأجلى ما وقفنا عليه من كلام السلف الموقفين في ما نحن بصدده من بيان طرائق الاستدلال بالصيغ في تكييف الحكم الشرعي، ذلك هو قول ابن القيم – رحمه الله – في [أعلام الموقعين: 1/219، 220] :
... والألفاظ ليست تعبدية، والعارف يقول ماذا أراد، واللفظي يقول ماذا قال، كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقولون بقوله: {مَاذَا قَالَ آَنِفًا} [سورة محمد: الآية 16] . وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [سورة النساء: الآية 78] . فذم من لم يفقه كلامه، والفقه أخص من الفهم، وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وضع اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه.
وقد كان الصحابة يستدلون على إذْن الرب تعالى وإباحته وإقراره وعدم إنكاره عليهم في زمن الوحي، وهذا استدلال على المراد بغير لفظ بل بما عرف من موجب أسمائه وصفاته، وأنه لا يقر على باطل حتى يبينه، وكذلك استدلال الصديقة الكبرى أم المؤمنين خديجة – بما عرفته من حكمة الرب تعالى وكمالًا لأسمائه وصفاته ورحمته – أنه لا يخزى محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإنه يصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق، وإِنَّ من كان بهذه المثابة فإن العزيز الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإله العالمين لا يخزيه ولا يسلط عليه الشيطان، وهذا استدلال منها قبل ثبوت النبوة والرسالة بل استدلال على صحتها وثبوتها في حق من هذا شأنه فهذا معرفة منها بمراد الرب تعالى وما يفعله، من أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وإحسانه ومجازاته المحسن بإحسانه، وأنه لا يضيع أجر المحسنين. وقد كانت الصحابة أفهم الأمة لمراد نبيها وأتبع له، وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده، ولم يكن أحد منهم يظهر له مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعدل عنه إلى غيره البتة.(6/868)
والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر، وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها من عمومها وهضمها تارة وتحميلها فوق ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ.
ثم قال [3/119، 120] :
ومما يوضح ما ذكرناه – من أن المقصود في العقود معتبرة دون الألفاظ المجردة التي لم تقصد بها معانيها وحقائقها أو قصد غيرها – أن صيغ العقود (بعت) و (اشتريت) و (تزوجت) و (أجرت) إما إخبارات وإما إنشاءات وإما أنها متضمنة للأمرين، فهي إخبارات عما في النفس من المعاني التي تدل على العقود وإنشاءات لحصول العقود في الخارج، فلفظها موجب لمعناها في الخارج، وهي إخبار عما في النفس من تلك المعاني ولا بد في صحتها من مطابقة خبرها لمخبرها.
ثم قال: وقد تقدم أن صيغ العقود إخبارات لما في النفس من المعاني التي هي أصل العقود ومبدأ الحقيقة التي بها يصير اللفظ كلامًا معتبرًا، فإنها لا تصير كلامًا معتبرًا إلا إذا قورنت بمعانيها فتصير إنشاء للعقود والتصرفات من حيث إنها هي التي أثبتت الحكم وبها وجد، وإخبارات من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس، فهي تشبه في اللفظ (أحببت) أو (أبغضت) و (كرهت) ، وتشبه في المعنى (قم) و (اقعد) ، وهذه الأقوال إنما تفيد الأحكام إذا قصد المتكلم بها – حقيقةً أو حكمًا – ما جعلت له، وإذا لم يقصد بها ما يناقض معناها، وهذا فيما بينه وبين الله تعالى، فأما في الظاهر فالأمر محمول على الصحة وإلا ما تم عقد ولا تصرف، فإذا قال (بعت) أو (تزوجت) كان هذا اللفظ دليلا على أنه قصد معناه المقصود به وجعله الشارع بمنزلة القاصد إن كان هازلا، وباللفظ والمعنى جميعًا يتم الحكم فكل منها جزء السبب، وهما مجموعة وإن كانت العبرة في الحقيقة بالمعنى واللفظ دليل، ولهذا يصار إلى غيره عند تعذره، وهذا شأن عامة أنواع الكلام فإنه محمول على معناه المحمول منه عند الإطلاق لا سيما الأحكام الشرعية التي علَّق الشارع بها أحكامها، فإنَّ المتكلم عليه أن يقصد بتلك الألفاظ معانيها، والمستمع عليه أن يحملها على تلك المعاني، فإذا لم يقصد المتكلم بها معانيها بل تكلم بها غير قاصد لمعانيها أو قاصدًا لغيرها أبطل الشَّارع عليه قصده، فإن كان هازلا أو لاعبًا لم يقصد المعنى ألزمه الشارع المعني كمن هزل بالكفر والطلاق والنكاح والرجعة، بل لو تكلم الكافر بكلمة الإسلام هازلًا ألزم به وجرت عليه أحكامه ظاهرًا، وإن تكلم بها مخادعًا ماكرًا محتالا مظهرًا خلاف ما أبطن لم يعطه الشارع مقصوده.(6/869)
الفصل السادس
العرف فيصلا في التشريع
وردت كلمة (عرف) و (معروف) في القرآن الكريم بمعنى الإحسان أو القصد أو العدل سبعًا وعشرين، واحدة منها بصيغة (عرف) ، وست وعشرون بصيغة (المعروف) تعليق: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الآية 199 من سورة الأعراف] . {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [الآية 178 من سورة البقرة] . {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [الآية 180من سورة البقرة] . {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [الآية228 من سورة البقرة] . {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [الآية 229 من سور البقرة] . {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الآية 231 من سورة البقرة] . {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الآية 231 من سورة البقرة] . {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [الآية 232 من سورة البقرة] ، {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [الآية 233 من سورة البقرة] . {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [الآية 233 من سورة البقرة] . {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [الآية 236 من سورة البقرة] . {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} [الآية 240 من سورة البقرة] . {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [الآية 241 من سورة البقرة]
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [الآية 263 من سورة البقرة] . {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [الآية 6 من سورة النساء] . {فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [الآية 21 من سورة محمد] . {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الآية 12 من سورة الممتحنة] . {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الآية 2 من سورة الطلاق] . {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الآية 2 من سورة الطلاق] . {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الآية 6 من سورة الطلاق] . {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الآية 235 من سورة البقرة] . {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الآية 5 من سورة النساء] . {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الآية 8 من سورة النساء] . {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [الآية 15 من سورة لقمان] {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الآية 6 من سورة الأحزاب] . {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الآية 32 من سورة الأحزاب] . .(6/870)
وقد تواطأ أهل اللغة والمفسرون والأصوليون والفقهاء تواطُؤًا يكاد يكون تامًّا في تفسير كلمة (العرف) و (المعروف) بالإحسان والعدل والقصد والعادة وما شاكل ذلك.
قال ابن منظور في [لسان العرب: 9/239] :
وقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ، أي مصاحبا معروفًا، قال الزجاج: العروف هنا ما يستحسن من الأفعال.
ثم قال:
وقوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} ، قال بعض المفسرين فيها: أنها أرسلت بالعرف والإحسان. وقيل: يعني الملائكة أرسلوا للمعروف والإحسان. والعرف والعارفة والمعروف واحد ضدَّ النكر وهو كل ما تعرفه النفس من الخير وتبسأ (1) به وتطمئن إليه.
ثم قال:
وقد تكرر ذكر (المعروف) في الحديث وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات وهو من الصفات الغالبة أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه.
وقال الراغب في [المفردات: ص496] :
والمعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه والمنكر ما ينكر بهما.
قال تعالى: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران: الآية 104] .
وقال: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة لقمان: الآية 17] .
وقال: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [سورة الأحزاب: الآية 32] .
__________
(1) قال ابن منظور في [لسان العرب: 1/36] . بَسَأَ به يَبْسأُ وبُسُوءًا وبَسئَ بَسَأً: أَنِسَ بِهِ ... إلخ.(6/871)
ولهذا قيل للاقتصاد في الجود معروف لما كان ذلك مستحسنًا في العقود وبالشرع، نحو قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة النساء: الآية 6] .
وقوله: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} [سورة النساء: الآية 114] .
وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [سورة الطلاق: الآية 2] .
وقوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ} [سورة البقرة: الآية 263] ، أي رد بالجميل ودعاء خير من صدقة كذلك.
والعرف والمعروف من الإحسان.
قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [سورة الأعراف: الآية 199] .
وقال الرازي في: [التفسير الكبير: المجلد 3، 5 /59] في تفسير قوله تعالى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة: الآية 179] .
البحث الثالث: (الاتباع بالمعروف) أن لا يشدَّد بالمطالبة بل يجرى فيها على العادة.
وقال محمد الطاهر بن عاشور في [التحرير والتنوير: 2/400] ، عند تفسير قوله سبحانه وتعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة: الآية 228] .
والمراد به – أي بالمعروف – ما تعرف العقول السالمة المجردة من الانحياز إلى الأهواء أو العادات أو التعاليم الضّالة، وذلك هو الحسن، وهو ما جاء به الشرع نصًّا، أو قياسًا، أو اقتضته المقاصد الشرعية، أو المصلحة العامة التي ليس في الشرع ما يعارضها.
والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر.
ثم قال محمد الطاهر بن عاشور [ص407] .
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [سورة البقرة: الآية 229] .
والمعروف هنا هو ما عرفه الناس في معاملاتهم من الحقوق التي قررها الإسلام أو قررتها العادات التي لا تنافي الإسلام.(6/872)
ثم قال في [التحرير والتنوير: 9/277] عند تفسير هذه الآية:
والعرف اسم مرادف للمعروف من الأعمال، وهو العمل الذي تعرفه النفوس، أي لا تكره إذا خليت وشأنها بدون غرض لها في ضده. وقد دل على مرادفته للمعروف قول النابغة:
(فلا النكر معروف ولا العرف ضائع) .
فقابل النكر بالعرف.
وقال الرازي في [التفسير الكبير: المجلد 8، 15 /100] في معرض تأويل هذه الآية:
والعرف والعارفة والمعروف هو كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به وأن وجوده خير من عدمه
***
وقد ورد في الحديث الشريف من القول والفعل ما يثبت العمل بالعرف على اختلاف أنواعه التي ألمعنا إليها آنفًا، وسنعود إلى تبيان البعض بعد قليل، وما نريد أن نسوق من ذلك أكثر من أربعة نماذج أحدها لم نقصد إليه لذاته وإنما جاء في معرض كلام للبخاري – رحمه الله – رأينا من المفيد أن نسوقه، فنقلنا عنه طريقًا من طرقه وهي حسبنا ذلك هو حديث هند أم معاوية.(6/873)
قال البخاري في [صحيحه: 3/36] باب: من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة:
وقال شريح (1) للغزالين: (سنتكم بينكم) ، وقال.................. عبد الوهاب (2) عن أيوب........................ (3) . عن محمد (4) : (لا بأس العشرة بأحد عشر ويأخذ النفقة) ربحًا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهند: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) . وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} واكترى الحسن من عبد الله بن مرداس حمارًا فقال: بكم؟ قال: بدانقين، فركبه ثم جاء مرة أخرى فقال: الحمار الحمار فركبه ولم يشارطه فبعث إليه بنصف درهم. ثم قال: حدثنا أبو النعيم، حدثنا سفيان، عن هشام، عن عروة، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: ((قالت هند أم معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ أبا سفيان رجل شحيح فهل علي جناح أن آخذ من ماله سرًّا، قال: خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف)) .
حدثني إسحاق حدثنا ابن نمير أخبرنا هشام. وحدثني محمد قال: سمعت عثمان بن خرقد قال: سمعت هشام بن عروة يحدث. عن أبيه أنه سمع عائشة – رضي الله عنها – تقول: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أنزلت في أموال اليتيم الذي يقيم ويصلح في ماله وإن كان فقيرًا أكل بالمعروف. قال ابن حجر في [فتح الباري: 4/338] تعقيبًا على هذه الترجمة – باب: من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والكيل والوزن، وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة.
__________
(1) شريح بن الحارث بن قيس بن أمية القاضي أبوالوليد الكندي الكوفي الفقيه ويقال: شريح بن شرحبيل، هكذا ترجم له الذهبي – رحمه الله- في [تذكرة الحفاظ: 1/59، ترجمة 44] ، وهو موجز ما أطنب فيه حول نسبه غيره ممن ترجموا من أيمة الجرح والتعديل وتراجم الرجال ومؤرخي الصدر الأول. ثم قال – بعد أن رمز بأن البخاري ومسلم أخرجوا له-: من المخضرمين استقضاه عمر على الكوفة ثم علي فمن بعده، وحدث عن عمر وعلي وابن مسعود – رضي الله عنهم- وعنه الشعبي والنخعي وعبد العزيز بن رفيع ومحمد بن سيرين وطائفة. استعفى من القضاء قبل موته بسنة من الحجاج وعاش مائة وعشرين سنة، وثقه يحيى بن معين وكان فقيهًا شاعرًا فائقًا فيه دعابة. مات سنة ثمان وسبعين وقيل سنة ثمانين. قلت: وصفه علي – رضي الله عنه – بأنه أقضى العرب.
(2) عبد الوهاب هذا هو عبد الوهاب الثقفي وصفه الذهبي في [تذكرة الحفاظ: 1/321، ترجمة 300] بعد أن رمز إلى أن الجماعة أخرجوا له: بأنه الحافظ الإمام أبو محمد بن عبد المجيد بن السلط بن عبد الله بن عبد الحكم بن العاص الثقفي البصري، حدث عن أيوب السختياني ومالك بن دينار وخالد الحذاء وحميد الطويل وطبقتهم وعنهم أحمد بن حنبل وابن راهويه وأبو حفص القلاس وبندار وحفص بن عمر بن ربال الربالي والحسن بن عرفة وخلق. كان ثقة سريًّا جليل القدر فعن القعنبي قال: كانت غلة عبد الوهاب في السنة نحو أربعين ألفًا ينفقها كلها عن المحدثين. وقال ابن المديني ويحيى: ثقة. وقال قتيبة: ما رأيت مثل هؤلاء الفقهاء الأربعة: مالك والليث وعباد بن عباد عبد الوهاب الثقفي. وقال ابن المديني: ليس في الدنيا كتاب عن يحيى بن سعيد أصح من كتاب عبد الوهاب. قال الذهبي: توفي سنة أربع وتسعين ومائة له أربع وثمانون سنة فيقال إنه تغير بأخرة. قلت: ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الجرح والتعديل وتراجم الرجال من ترجمة له وحديث عنه ما بين موجز ومطنب.
(3) ترجم له الذهبي في (تذكرة الحفاظ) كما ترجم له غيره ممن عنوا بتراجم الرجال وأيمة الجرح والتعديل، فقال: [1/130، 132، ترجمة 117] – بعد أن رمز أن الجماعة أخرجوا له -: أيوب بن تيمية كيسان الإمام أبو بكر السختياني البصري الحافظ أحد الأعلام كان من الموالي سمع عمرو بن سلمة الحرمي وأبا العالية الرياحي وسعيد بن جبير وأبا قلابة وعبد الله بن شقيق وابن سيرين وعدة وعنه شعبة ومعمر والحمادان والسفيانان ومعتمر بن سليمان وابن علية وخلق كثير. قال ابن المديني: له نحو ثمانمائة حديث، وقال شعبة: كان أيوب سيد العلماء، وقال ابن عيينة: لم ألق مثله وقال حماد بن زيد: هو أفضل من جالست وأشده اتباعًا للسنة، وروى وهيب عن الجعد أبي عثمان أنه سمع الحسن يقول: أيوب سيد شباب أهل البصرة قال ابن عون: لما مات محمد بن سيرين قلنا: من ثم؟ قلنا: أيوب، قال ابن سعد: كان أيوب ثقة ثبتًا في الحديث جامعًا كثير العلم حجة عدلا وقال أبو حاتم: ثقة لا يسأل عن مثله، وروى جرير الضبي عن أشعت قال: كان أيوب جهبذ العلماء، وقال هشام بن عروة: لم أر بالبصرة مثل أيوب، وقال إسحاق بن محمد الفروي: سمعت مالكًا يقول: كنا ندخل على أيوب فإذا ذكرنا له حديث النبي صلى الله عليه وسلم بكي حتى نرحمه، وعن هشام بن حسان قال: حج أيوب السختياني أربعين حجة، قال وهيب: سمعت أيوب يقول: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل، وقال حماد بن زيد: كان أيوب صديقًا ليزيد بن الوليد فلما ولي الخلافة قال: اللهم أنسه ذكري وكان يقول: ليتقي الله رجل وإن زهد فلا يجعلن زهده عذابًا على الناس وكان أيوب يخفي زهده. كان الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. ابن مهدي: أخبرنا أحمد بن زيد سمعت أيوب وقيل له: مالك لا تنظر في هذا؟ يعني الرأي، قال: قيل للحمَّار ألا تجتر؟ قال: أكره مضغ الباطل. وقال حماد: ما رأيت رجلا قط أشد تبسمًا في وجوه الناس من أيوب. وقال ابن عقيل في (شمائل الزهاد) : أخبرنا محمد بن إبراهيم، أخبرنا أبو الربيع، سمعت أبا يعمر بالري يقول: كان أيوب في طريق مكة فأصاب الناس عطش وخافوا فقال أيوب: أتكتمون علي؟ قالوا: نعم فدوّر دائرة ودعا فنبع الماء فرووا وسقوا الجمال. ثم أمر بيده على الموضع فصار كما كان. قال أبو الربيع: فلما رجعت إلى البصرة حدثت حماد بن زيد بهذا فقال: حدثني عبد الواحد بن زياد أنه كان مع أيوب في هذه السفرة التي كان هذا فيها. عن النضر بن كثير السعدي، حدثنا عبد الواحد بن زيد قال: كنت مع أيوب فعطشت عطشًا شديدًا، فقال: تستر علي؟ فقلت: نعم، فغمز برجله على حراء فنبع الماء فشربت حتى رويت وحملت معي. مات أيوب سنة إحدى وثلاثين ومائة في الطاعون وله ثلاث وستون سنة.
(4) وصفه الذهبي في [تذكرة الحفاظ: 1/77، 78، ترجمة: 84]- ورمز بأن الجماعة أخرجوا له فقال-: أبو بكر مولى أنس بن مالك واصل سيرين من جرْجراية قال أنس بن سيرين: ولد أخي لسنتين بقيتا من خلافة عثمان وولدت بعده بسنة، سمع محمد أبا هريرة وعمران بن حصين وابن عباس وابن عمر وطائفة، وعنه أيوب وابن عون وقرة بن خالد وأبو هلال محمد بن سليم وعوف وهشام بن حسان ويونس ومهدي بن ميمون وجرير بن حازم وخلق كثير. كان فقيهًا إمامًا غزير العلم ثقة ثبتًا علامة في التعبير رأسًا في الورع وأمه صفيه مولاة لأبي بكر الصديق- رضي الله عنه-. قال مورق العجلي: ما رأيت أحدًا أفقه في ورعه ولا أورع في فقه من ابن سيرين وقال أبو قلابة: من يطيق مثل ما يطيق محمد؟ يركب مثل حد السناس، وقال شعيب بن الحبحاب: قال لي الشعبي: عليك بذلك الأصم- يعني ابن سيرين- وقال ابن عون: لم تر عيناي مثل ابن سيرين والقاسم ورجاء بن حيوة، وقال أبو عوانة: رأيت ابن سيرين فما رآه أحد إلا ذكر الله تعالى، وذكر الثوري عن زهير الأقطع قال ابن سيرين: إذا ذكرت مات كل عضو منه، قال يونس: كان ابن سيرين صاحب ضحك ومزاح. وتوفي محمد بن الحسن بمائة في شوال سنة عشر ومئة وهو أثبت من الحسن رحمه الله تعالى. وانظر في مزيد من ترجمته كتب الجرح والتعديل وتراجم الرجال كافة.(6/874)
قال ابن المنير: وغيره مقصود بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف وأنه يقضي به على ظواهر الألفاظ، ولو أن رجلا وكَّل رجلا في بيع سلعة فباعها بغير النقد الذي عرف الناس لم يجز، وكذا لو باع موزونًا أو مكيلًا بغير الكيل والوزن المعتاد. وذكر القاضي الحسين من الشافعية أنَّ الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس التي بني عليها الفقه، فمنها الرجوع إلى العرف في معرفة أسباب الأحكام من الصفة الإضافة كصغر ضبَّة الفِضَّة وكبرها، وغالب الكثافة في اللحية ونادرها، وقرب منزله وبعدِه وكثرة فعل أو كلام وقلته في الصلاة، ومقابلا بعوض في البيع وعينًا، وثمن مثل، ومهر مثل، وكفء نكاح، ومئونة، ونفقة، وكسوة، وسكنى، وما يليق بحال الشخص من ذلك ومنها الرجوع إليه في المقادير كالحيض، والطهر، وأكثر مدة الحمل، وسِنِّ اليأس، ومنها الرجوع إليه في فعل غير منضبط (يترتب) – كذا ولعل صوابه: تترتب – عليه الأحكام كإحياء الموات، والإذن في الضيافة ودخول بيت قريب وتبسط مع صديق، وما يعد قبضًا وإيداعًا وهدية وغصبًا، وحفظ وديعة، وانتفاعًا بعارية. ومنها الرجوع إليه في أمر مخصص كألفاظ الأيمان، والوقف والوصية والتفويض، ومقادير المكاييل والموازين وغير ذلك.
وأما الثلاثة الأخرى فقصدنا قصدًا إلى نقلها وإيراد كل واحد منها من عدة طرق لما سيتبينه القارئ بعد قليل، أما أولها فقوله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن أهل المدينة ... )) الحديث.
قال عبد الرزاق في [مصنفه: 8/67، ح 14335] :
أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المكيال على مكيال أهل مكّة والوزن على وزن أهل المدينة)) .
14336- أخبرنا معمر عن أيوب، عن عطاء بن أبي رباح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة)) .
14337- عن الثوري، عن رجل، عن عطاء مثله.
وقال أبو عبيد في [الأموال: 696، الأثر 1606] (بتصرف) .
سمعت إسماعيل بن عمرو الواسطي، يحدث عن سفيان، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاووس، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة)) . وبعضهم يرويه: ((الميزان ميزان المدينة والمكيال مكيال مكة)) .(6/875)
وقال ابن حبان في [الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي: 5/119، 120، ح3272] :
أخبرنا عمر بن محمد الهمذاني، حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان بن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاووس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة)) .
3273- أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري.
قال ابن خزيمة: وحدثنا محمد بن عبد الله الهاشمي، حدثنا أبو مروان العثماني، حدثنا عبد العزيز بن أبي حزم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله، صاعنا أصغر الصيعان ومدنا أصغر الأمداد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لنا في صاعنا وبارك لنا في قليلنا وكثيرنا واجعل لنا مع البركة بركتين)) .
وتعقبه بقوله: في ترك إنكار المصطفى حيث قالوا: ((صاعنا أصغر الصيعان)) ، بيان واضح أن صاع أهل المدينة أصغر الصيعان ولم يختلف أهل العلم من لدن الصحابة إلى يومنا هذا في الصاع وقدره إلا ما قاله الحجازيون والعراقيون فزعم الحجازيون أن الصاع خمسة أرطال وثلث. وقال العراقيون: الصاع ثمانية أرطال. فلمّا لم نجد بين أهل العلم خلافا في قدر الصاع إلا ما وصفنا صح أن صاع النبي صلى الله عليه وسلم كان خمسة أرطال وثلث، إذ هو أصغر الصيعان وبطل قول من زعم أن الصاع ثمانية أرطال من غير دليل ثبت له على صحته.
وقال أبو داود في [سننه: 3/246، ح 3340] :
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا ابن دكين، حدثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاووس، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة)) .
وتعقبه بقوله: وكذا رواه الفريابي وأبو أحمد، عن سفيان، وافقهما في المتن. وقال أبو أحمد: عن ابن عباس مكان ابن عمر ورواه الوليد بن مسلم، عن حنظلة قال: وزن المدينة ومكيال مكة.(6/876)
قال أبو داود: واختلف في المتن في حديث مالك بن دينار، عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا.
وقال النسائي في [سننه: 5/54] :
قال أبو عبيد: وحدثنيه زياد بن أيوب، أخبرنا أحمد بن سليمان قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاووس، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة)) .
ثم [نفس المرجع: 7/284] .
اخبرنا إسحاق بن إبراهيم عن الملائي عن سفيان.
وأنبأنا محمد بن إبراهيم قال: أنبأنا أبو نعيم، عن سفيان، عن حنظلة عن طاووس، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المكيال على مكيال أهل المدينة والوزن على وزن أهل مكة)) واللفظ لإسحاق.
وأخرجه البيهقي في [السنن الكبرى: 6/31] ، فقال:
أخبرنا أبو الحسن بن عبدان أنبأ سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاووس، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة)) .
أخبرنا علي، أنبأنا سليمان بن حنبل، حدثنا نصر بن علي.
وأخبرنا سليمان بن محمد بن الوليد الترسي، حدثنا عمرو بن علي، قالا: حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المكيال مكيال أهل مكة والميزان ميزان أهل المدينة)) .
قال سليمان: هكذا رواه أحمد، قال: عن ابن عباس فخالف أبو نعيم في لفظ الحديث والصواب ما رواه أبو نعيم بالإسناد واللفظ.
وأما الثاني فقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)) .
قال أحمد في [مسنده: 1/162] :
حدثنا بهز وعفان قالا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك عن موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: ((مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم في رءوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى قال: ما أظن ذلك يغني شيئًا فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كان ينفعهم فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذني بالظن ولكن إذا أخبرتكم عن الله عز وجل بشيء فخذوه فإني لن أكذب على الله شيئًا)) .
قلت: هذا الحديث من هذا الطريق ليس فيه ذكر لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)) أو ما في معناه مما سيأتي في طرقه الأخرى وإنما سقناه استكمالا لما بين أيدينا من طرقه.(6/877)
ثم قال: [3/152] :
حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس قال: ((سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصواتًا فقال: ما هذا؟ قالوا: يلقحون النخل فقال: لو تركوه فلم يلحقوه لصلح. فتركوه فلم يلقحوه فخرج شَيْصًا)) (1) ((فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لكم؟ قالوا: تركوه لما قلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، فإذا كان من أمر دينكم فإلى)) .
وقال مسلم في [صحيحه: 4/1835، 1836، ح2361] :
حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي وأبو كامل الجحدري وتقاربا في اللفظ وهذا حديث قتيبة قالا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: ((مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظن يغني ذلك شيئًا قال: فأخبروا بذلك فتركوه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنَّما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل)) .
2362- حدثنا عبد الله بن الرومي اليمامي وعباس بن عبد العظيم العنبري وأحمد بن جعفر المعفري قالوا: حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة – وهو ابن عمار-، حدثنا أبو النجاشي، حدثني رافع بن خديج قال: ((قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل. يقولون: يلقحون النخل. فقال: (ماتصنعون؟) ، قالوا: كنا نصنعه. قال: (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا) ، فتركوه. فنفضت أو فنقصت. قال: فذكروا ذلك له فقال: ((إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر)) )) .
قال عكرمة أو نحو هذا.
قال المعفري: فنفضت. ولم يشك.
2363- حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، كلاهما عن الأسود بن عامر، قال أبو بكر: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وعن ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يلقحون. فقال: ((لو لم تفعلوا لصلح)) . قال: فخرج شيصًا. فمرَّ بهم فقال: ((ما لنخلكم؟)) قالوا: قلت كذا وكذا. قال: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم)) .
قال ابن ماجه في [سننه: 2/825، ح2470] :
حدثنا علي بن محمد، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن سماك، أنه سمع موسى بن طلحة بن عبيد الله يحدَّث عن أبيه، قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نخل، فرأى قومًا يلَّقحون النَّخل، فقال: ((ما يصنع هؤلاء؟)) ، قالوا: يأخذون من الذَّكر فيجعلونه في الأنثى، قال: ((ما أظن ذلك يغني شيئًا)) ، فبلغهم فتركوه. فنزلوا عنها. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إنما هو الظن. إن كان يغني شيئًا فاصنعوه. فإنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب. ولكن ما قلت لكم: قال الله – فلن أكذب على الله)) .
__________
(1) قال ابن منظور [لسان العرب: 7/50] : الشيص والشيصاء رديء التمر وقيل هو فارسي معرَّب واحدته شيصة وشيصاءة ممدودة وقد أشاص النخل وأشاصت وشيص النخل. ثم قال: الفراء: التمر الذي لا يشتد نواه ويقوي وقد لا يكون له نوى أصلا. ثم قال: وإنما يشيص إذا لم يلقح. ثم قال: الأصمعي: شأصأت النخلة إذا صارت شيصًا وأهل المدينة الشيص السخل. وأشاص النخل إشاصة إذا فسد وصار حمله الشيص(6/878)
2471- حدثنا محمد بن يحيى. حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك وهشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتًا فقال:: ((ما هذا الصوت؟)) قالوا: النخل يؤبرونها. فقال: ((لو لم يفعلوا لصلح)) فلم يؤبروا عامئذٍ، فصار شيصًا. فذكروا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إن كان شيئًا من أمر دنياكم، فشأنكم به. وإن كان من أمور دينكم، فإليَّ)) .
قال الهيثمي في (مجمع الزوائد: 1/179] :
وعن جابر بن عبد الله ((أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يلقحون النخل، فقال: ما أرى هذا يغني شيئا فتركوها ذلك العام فشيصت فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعلم بصلحكم في دنياكم)) .
وتعقبه بقوله: رواه والطبراني في الأوسط بمعناه وفيه مجالد بن سعيد وقد اختلط.
وأمّا الثالث: فقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنًا ... )) الحديث.
قال أحمد في [مسنده: 1/379] :
حدثنا أبو بكر، حدثنا عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: إنّ الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيء.
قال أبو داود الطيالسي في [مسنده: 1/33، ح247] :
حدثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد فاختار محمدًا فبعثه برسالاته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده، فاختار له أصحابه فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه صلى الله عليه وسلم، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه – كذا ولعل صوابه: رأوه – قبيحًا فهو عند الله قبيح.
وقال الخطيب البغدادي في [الفقيه والمتفقه: 1/166، 167] .
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن محمد القاسم المخزومي، حدثنا جعفر بن محمد بن نصير الخلدي إملاء، حدثنا عمر بن حفص السدوسي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن معسود قال: إن الله نظر في قلوب العباد فاختار محمدًا فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس فاختار أصحابه فجعلهم وزراء نبيه وأنصار دينه فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح.(6/879)
أخبرنا الحسن بن أبي بكر، أخبرنا أحمد بن إسحاق، عن نيخاب الطيبي، حدثنا صالح بن محمد الأزاذواري، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا معاوية، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله: ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون سيئًا فهو عند الله سيئ.
قال البغوي في [شرح السنة: 1/214، 215، ح105] :
اخبرنا أبو الفتح نصر بن علي بن أحمد الحاكم الطوسي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أبو الفضل العباس بن محمد الدوري، حدثنا أبو النضرحدثنا المسعودي، حدثنا عبد الرحمن، عن عاصم، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: إن الله تعالى أطَّلع في قلوب العباد فاختار محمدًا فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعدُ فاختار له أصحابًا فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح.
وحدثنا أحمد بن عبد الله الصَّالحي أخبرنا أبو بكر الحميري، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أبو عتبة، حدثنا بقية، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله هو المسعودي بهذا الإسناد مثله.
أخرج الطبراني في [المعجم الكبير: 9/112، ح 8582] حديث زّر كما رواه أحمد بسنده، لكن إلى قوله: ((يقاتلون على دينه)) .
ثم أخرج [ح 8583] حديث أبي وائل فقال:
حدثنا عمر بن حفص السدوسي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله بن أبي مسعود قال: وساق الحديث بلفظ الخطيب.(6/880)
ثم قال [ص115، ح8593] :
حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، حدثنا عبيد الله بن يعيش، حدثنا علي بن قادم، عن عبد السلام بن حرب، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: إن الله عز وجل اطّلع على قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فذكر نحو حديث عاصم. وذكر محقّق (المعجم) حمدي عبد المجيد السلفي أنّ أبا سعيد الأعرابي أخرجه في [معجمه: 2/84] .
وقال الهيثمي في [مجمع الزوائد: 1/177، 178] بعد أن ساق الحديث لكن بلفظ أحمد:
((وما رآه المسلمون سيئًا فهو – عند الله – سيء)) . رواه أحمد والبزار والطبراني في (الكبير) ورجاله موثقون.
وقال السخاوي في [المقاصد الحسنة: ص367، ح 959] :
حديث ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو – عند الله – حسن)) . أحمد في كتاب السنة ووهم من عزاه للمسند (كذا) .
قلت: الوهم هو السخاوري فقد رواه أحمد في المسند، وعنه نقلناه آنفًا.
ثم قال:
من حديث أبي وائل، عن ابن مسعود. وساق الحديث كاملا.
ثم قال:
وهو موقوف حسن، وكذا أخرجه البزار والطيالسي والطبراني وأبو نعيم في ترجمة ابن مسعود من الحلية بل هو عند البيهقي في الاعتقاد من وجه آخر عن ابن مسعود.
وقال العجلوني في [كشف الخفاء: 2/263، ح 2214] : بعد أن ساق كلام السخاوري ولم ينسبه:
وفي شرح الهداية للعيني روى أحمد بسنده عن ابن مسعود. وساق الحديث، وخلط بين لفظ أحمد ولفظ الطبراني.(6/881)
ثم قال:
وقال الحافظ بن عبد الهادي: روي مرفوعًا عن أنس بإسناد ساقط والأصح وقفه على ابن مسعود.
حديث وائل عن ابن مسعود: (إنَّ الله نظر في قلوب العباد فاختار محمدًا صلى الله عليه وسلم، فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد فاختار له أصحابًا فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه، فما رآه المسلمون حسنًا فهو – عند الله – حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو- عند الله – قبيح) . وقد استشهد به الرازي في [المحصول: ج1 القسم 2 ص129، 131] ، في السياق، الدليل الثالث عشر من أدلة الغزالي ومن شايعه من القائلين: إنَّ صيغة (افعل) حقيقة لما في الوجوب فقط، أو في الندب فقط، أو فيهما معًا بالاشتراك، لكنا لا ندري ما هو الحق من هذه الأقسام الثلاثة فلا جرم توقفنا في الكل.
وفي الدليل الثالث عشر هذا، أنَّ الأمر يفيد رجحان الوجود على العدم، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعًا من الترك.
وإنما قلنا- يعني الغزالي ومن شايعه- أنَّه يفيد الرجحان لأن المأمور به إن لم تكن مصلحته راجحة لكان إما أن يكون خاليًا من المصلحة أو تكون مصلحته مرجوحة أو تكون مساوية للمفسدة.
فإن كان خاليًا من مصلحة كان محض المفسدة، فلا يجوز ورود الأمر به، وإن كان مصلحة مرجوحة فذلك القدر من المصلحة يصير معارضًا بمثله من المفسدة فيبقى القدر الزائد من المفسدة خاليًا من المعارض فيكون ورود الأمر به أمرًا بالمفسدة الخالصة فيعود إلى القسم الأول.
وإن كانت مصلحته معادلة للمفسدة كان ذلك عبثًا وهو غير لائق بالحكيم.
وإذا بطلت هذه الأقسام لم يبق إلا أن تكون مصلحة خالية من المفسدة وإن كان فيه شيء من المفاسد، ولكن تكون مصلحته زائدة وعلى التقديرين يثبت رجحان المصلحة.
وإذا ثبت هذا فنقول: وجب أن لا يرد الأمر بالترك لأنَّ الإذن في تفويت المصلحة الخالصة لأنه إذا وجدت مفسدة مرجوحة فتصير هي معارضة بما يعادلها من المصلحة فيبقى القدر الزائد من المصلحة الخاصة خالصة وإن لم توجد مفسدة أصلا كانت المصلحة خالصة فيكون الإذن في تفويته إذنًا في تفويت المصلحة الخالصة عن شوائب المفسدة وذلك غير جائز عرفًا فوجب أن لا تجوز شرعًا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو – عند الله – حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو – عند الله – قبيح)) .(6/882)
فمقتضى هذه الدلالة أن لا يوجد شيء من المندوبات البتة ترك العمل به في حق البعض تخفيفًا من الله تعالى على العباد فوجب أن يبقى الباقي على حكم الأصل.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بوجه آخر وهو أنه كما في الإذن في تفويت المصلحة الخالصة قبيح عرفًا، فكذا إلزام المكلف استيفاء المصلحة بحيث لو لم يستوفها لاستحق العقاب، قبيح أيضًا لأنه يصير حاصل الأمر أن يقول الشرع: استوف هذه المنافع لنفسك وإلا عاقبتك وهذا قبيح.
والجواب: ما ذكرتموه قائم في كل التكاليف، فلو كان ذلك معتبرًا لما ثبت شيء من التكاليف.
وقال محقق (المحصول) طه فياض:
وهو بعض الحديث المشهور اختلف في رفعه أو وقفه، عن ابن مسعود وهو ما رواه أحمد في كتاب السنة من حديث أبي وائل، عن ابن مسعود بلفظ. (وساق الحديث) .
ثم عاد الرازي في [المحصول: ج1 القسم 3 ص30، 31] ، فاستشهد بهذا الحديث في معرض بيانه لاختلافهم في: هل يجوز أو لا يجوز التمسك بالعام ما لم يستقص في طلب المخصص؟ فقال:
وقال الصيرفي: يجوز التمسك به – أي بالعامّ – ابتداء ما لم تظهر دلالة مخصصة.
واحتج الصَّيرفي بأمرين:
أحدهما: لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب أنه هل وجد مخصّص أم لا؟ لما جاز التمسك بالحقيقة إلا بعد طلب أنه هل وجد ما يقتضي صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز؟ وهذا باطل فذاك مثله.
بيان الملازمة: أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص لكان ذلك لأجل الاحتراز عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى قائم في التمسك بحقيقة اللفظ، فيجب اشتراكهما في الحكم.
بيان أنَّ التمسك بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما يوجب العدول إلى المجاز هو أن ذلك غير واجب في العرف بدليل أنهم يحملون الألفاظ على ظواهرها من غير بحث عن أنه هل وجد ما يوجب العدول أم لا؟(6/883)
وإذا وجب ذلك في العرف وجب في الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو – عند الله – حسن ... إلخ)) .
قلت: دأب أغلب الأصوليين على الاستشهاد بهذا الحديث باعتباره دليلًا من أدلة الإجماع، وعندي أنَّ هذا وهم؛ ذلك بأنَّ (أل) في حديث (ما رآه المسلمون) ، وإن كانت لاستغراق الجنس لا تعني جماعة المسلمين كافة، فقد تأتي (أل) الاستغراقية ويراد بها الجمهور أو الأغلب أو ما شاكل ذلك، ولا سبيل إلى اعتبارها كلّما وردت دليلًا على الاستغراق المطلق الشامل.
قال ابن هشام في [المغني: 73] ، في معرض ذكره لدلالة (أل) :
والجنسية أمَّا لاستغراق الأفراد، وهي التي تخلفها (كل) حقيقة نحو: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [سورة النساء: الآية 28] ، ونحو: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [سورة العصر: الآية2] ، أو لاستغراق خصائص الأفراد وهي التي تخلفها (كل) مجازًا نحو: زيد الرجل علمًا أي الكامل في هذه الصفة ومنه {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [سورة البقرة: الآية 2] ، أو لتعريف الماهية وهي التي لا تخلفها (كل) لا حقيقةً ولا مجازًا نحو: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [سورة الأنبياء: الآية30] . وقولك: والله لا أتزوَّج النساء، أو لا ألبس الثياب، ولهذا يقع الحنث بالواحد منهما، وبعضهم يقول في هذه إنّها لتعريف العهد فإن الأجناس أمور معهودة في الأذهان متميز بعضها عن بعض ويقسم المعهود إلى شخص وجنس ... إلخ) .
وعندي أنَّ اعتبار (أل) في (ما رآه المسلمون) للجنس المعهود هو الأولى، ذلك بأنَّ استحسان المسلمين لشيء لا يتوقف على إجماعهم على استحسانه ضرورة أنهم ليسوا بحاجة لإثبات حسنه إلى أن يجمعوا على ذلك بحسبه أن يراه غيرهم حسنًا ليثبت حسنه، ولا سبيل على القول بأنَّ استحسان البعض وسكوت الباقين قد يعتبر من الإجماع السكوتي عند من قال به، إذ يرد مثل هذا القول بأن ما قد يستحسنه البعض منهم بل قد ينكره، ومن ذلك استحسانهم الاحتفال بالمولد النبويّ، ففي المسلمين من لا يراه حسنًا بل فيهم من ينكره ويراه بدعة، ومع ذلك فإن جمهور المسلمين لم يعدلوا عنه لرأي هؤلاء أو أولئك، فهو عندنا داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنًا)) . الحديث.
واعتبارًا لهذا ولأنَّ الحديث عندنا ليس دليلًا على حجية الإجماع فهو إذن دليل على نوع من العرف غفل عنه بعض الأصوليين، وهو عرف المسلمين أو بالأحرى عرف جمهور المسلمين، وهو مرتبة بين الإجماع وبين العرف الذي هو العادة والذي اعتمده جماهرة الأصوليين باعتباره مصدرًا من مصادر التشريع يصار إليه عند عدم وجود نصّ أو إجماع عند من لا يقول بالقياس أو عدم وجود أساس قياسي عند من لا يقول بالقياس الخفي أو شبه القياس.(6/884)
ولا مجال للتردد في اعتبار العادة ملحوظة في التشريع الإسلامي، لأنَّ الشريعة وخاصة في المعاملات وفي كل ما ليس من العبادات الصرفة جاءت لتنظيم تصرفات البشر كما وجدتها، لكن بحيث لا تخرج من إطار العدل وبحيث تتكيف مع الإطار التشريعي العام الذي يجعل من كل تصرف بشري مجالًا من مجالات التعبد حتى وإن يكن دنيويًّا صرفًا لأن من مقاصد الشريعة الإسلامية أن تجعل المسلم في جميع حالاته متصلا بالله متعبدًا له. وفي الحديث الشريف المشهور ((وفي بضع آحادكم صدقة)) تعليق: الحديث أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم بطرق وألفاظ مختلفة. قال أحمد في [مسنده: 5/154] : حدثنا يعلي بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر يصلون ويصومون ويحجون قال: وأنتم تصلون وتصومون وتحجون قلت: يتصدقون ولا نتصدق قال: وأنت فيك صدقة , رفعك العظم عن الطريق صدقة , وهدايتك الطريق وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة , وبيانك عن الأرثم صدقة – الأرثم: هو الذي لا يصحح كلامه ولا يبينه لآفة في لسانه أو أسنانه وأصله من رثم الحصى وهو ما دق منه بالأخفاف أومن رثمت أنفه إذا كسرته حتى أذنيه فكأن فمه قد كسر فلا يفصح في كلامه [ابن الأثير، النهاية: 2/196] ، ومباضعتك امرأتك صدقة قال: قلت: يا رسول الله نأتي شهوتنا ونؤجر؟ قال: أرأيت لو جعلته في حرام أكان تأثم؟ قال: قلت: نعم. قال فتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير؟ !
ثم قال [ص167] :
حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي ذر قال: ((قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ذهب أهل الأموال بالأجر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن فيك صدقة كثيرة فذكر فضل سمعك وفضل بصرك قال: وفي مباضعتك أهلك صدقة فقال أبو ذر: أيؤجر أحدنا في شهوته؟! قال: أرأيت لو وضعته في غير حل أكان عليك وزر؟ قال: نعم. قال: أتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير؟!)) .
حدثنا عارم وعفان قالا: حدثنا مهدي بن ميمون، حدثنا واصل مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الديلي، عن أبي ذر قال: ((قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ليس قد جعل الله لكم ما تتصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة وبكل تحميدة صدقة وفي بضع أحدكم صدقة قال: قالوا يارسول الله أيأتي أحدنا شهوته يكون بها أجر؟! قال: أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر. قال عفان: تصدقون وقال: وتهليلة وتكبيرة صدقة وأمر بمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة وفي بُضْع)) .
ثم قال [ص168، 169] :
حدثنا وهب بن جرير، حدثنا مهدي بن ميمون، عن واصل، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الديلي، عن أبي ذر قال ((قيل يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إنه بكل تسبيحة صدقة وبكل تكبيرة صدقة وبكل تهليلة صدقة وبكل تحميدة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أليس كان يكون عليه وزر أو الوزر؟ قالوا: بلى قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون الأجر)) . ثم قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا علي – يعني ابن المبارك - عن يحيى، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام، قال أبو ذر ((على كل نفس في كل يوم طلعت فيه الشمس صدقة منه على نفسه قلت: يا رسول الله من أين أتصدق وليس لنا أموال قال: لأن من أبواب الصدقة التكبير وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحجر وتهدي الأعمى وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف كل ذلك أبواب الصداقة منك على نفسك ولك في جماعك زوجتك أجر. قال أبو ذر: وكيف يكون أجر في شهوتي؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت خيره أكنت تحتسب به؟ قال: نعم، قال: فأنت خلقته؟ قال: بل الله خلقه، قال: فأنت هديته؟ قال: بل الله هداه، قال فأنت ترزقه؟ قال: بل الله كان يرزقه قال: كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه، فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته ولك أجر)) .(6/885)
وقال مسلم في [صحيحه: 2/697، 698، ح1006] :
حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، حدثنا مهدي بن ميمون، حدثنا واصل مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الديلي عن أبي ذر أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ((قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموال، قال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر وفي بُضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) .
وقال أبو داود في [سننه: 2/26، 27، ح 1285] :
حدثنا أحمد بن منيع، عن عباد بن عباد.
وحدثنا مسدد، حدثنا حماد بن زيد (المعنى) .
عن واصل، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((يصبح على كل سلامى من بني آدم صدقة: تسليمه على من لقي صدقة ونهيه عن المنكر صدقة وإماطته الأذى عن الطريق صدقة وبُضعة أهله صدقة ويجزئ من ذلك كله ركعتان من الضحى)) .
وتعقبه أبو دواود بقوله: وحديث عباد أتم ولم يذكر مسدد الأمر والنهي وزاد في حديثه: وقال: كذا وكذا، وزاد ابن منيع في حديثه ((قالوا: يا رسول الله أحدنا يقضي شهوته وتكون له صدقة؟! قال: أرأيت لو وضعها في غير حلِّها ألم يكن يأثم؟))
ثم قال [4/362، ح 5243] :
حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد.
وحدثنا أحمد بن منيع، عن عباد بن عباد وهذا لفظه وهو أتم من واصل ... وساق الحديث. .
قال الشاطبي - رحمه الله - في [الاعتصام: 2/79] :
ثبت في الأصول الشرعية أنه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد لأن ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي.
وقال- رحمه الله - في [الموافقات: 2/279، 281] :
لما كان التكليف مبنيا على استقرار عوائد المكلفين - قلت: لا حظ جيدا قوله: (على استقرار عوائد المكلفين) - وجب أن ينظر في حكم العوائد لما ينبني عليها بالنسبة إلى دخول المكلف تحت حكم التكليف.
فمن ذلك أن مجاري العادات في الوجود أمر معلوم لا مظنون، وأعني في الكليات لا في خصوص الجزئيات، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: أن الشرائع بالاستقراء إنما جيء بها على ذلك ولنعتبر بشريعتنا فإن التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على وِزَان واحد، وعلى مقدار واحد، وعلى ترتيب واحد، لا اختلاف فيه بحب متقدم ولا متأخر. وذلك واضح في الدلالة على أن موضوعات التكليف – وهي أفعال المكلفين- كذلك. وأفعال المكلفين إنما تجري على ترتيبها إذا كان الوجود باقيًا على ترتيبه، ولو اختلفت العوائد في الموجودات لاقتضى ذلك اختلاف التشريع واختلاف الترتيب واختلاف الخطاب فلا تكون الشريعة على ما هي عليه، وذلك باطل.
الثاني: أن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة كالإخبار عن السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من المنافع والتصاريف والأحوال، وأن سنَّة الله لا تبديل لها وأنَّ {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [سورة الروم: الآية 30] ، كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوِزَان أيضًا، والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره بحال، فإن الخلاف بينهما محال.(6/886)
الثالث: أنه لولا أنَّ اطَّراد العادات معلوم لما عرف الدين من أصله فضلا عن تعرف فروعه لأن الدين لا يعرف إلا عند الاعتراف بالنبوة، ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة المعجزة، ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطِّراد العادة في الحال والاستقبال كما اطَّردت في الماضي، ولا معنى للعادة إلا أنَّ الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدِّي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله، فإذا وقع مقترنًا بالدعوة خارقًا للعادة علم أنه لم يقع كذلك مخالفًا لما اطرد إلا والدَّاعي صادق. فلو كانت العادة غير معلومة لما حصل العلم بصدقه اضطرارًا لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يُدَّعى بدون اقتران الدعوة والتحدى. لكن العلم حاصل على أنَّ ما انبنى عليه العلم معلوم أيضًا وهو المطلوب.
ثم قال [ص282، 288] :
العوائد المستمرة ضربان:
أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو ندبًا أو نهى عنها كراهة أو تحريمًا أو أذن فيها فعلا وتركا.
والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.
أما الأول: فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة، وفي الأمر بإزالة النجاسات، وطهارة المتأهب للمناجاة وستر العورات، وللنهي عن الطواف بالبيت للعري، وما اشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس إمَّا حسنة عند الشارع أو قبيحة، فإنَّها من جملة الأمور الداخلة تحت حكم الشرع، فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيهان فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا ولا القبيح حسنًا حتى يقال مثلا: إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه أو أن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنجزه أو غير ذلك إذ لو صحَّ مثل هذا لكان نسخًا للأحكام المستقرة المستمرة والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل فرفع العوائد الشرعية باطل.
وأما الثاني: فقد تكون العوائد ثابتة وقد تتبدل، ومع ذلك فهي أسباب لأحكام تترتب عليها.
فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب والوقاع والنظر والكلام والبطش والمشي وأشباه ذلك. وإذا كانت أسبابًا لمسببات حكم بها الشارع فلا إشكال في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائمًا.
والمتبدلة:
منها ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح، والعكس مثل كشف الرأس فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية وغير قبيح في البلاد المغربية فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك فيكون عند أهل المشرق قادحًا في العدالة وعند أهل المغرب غير قادح.(6/887)
ومنها ما يختلف في التعبير عن المقاصد فتنصرف العبارة عن معنى إلى عبادة أخرى – لعل الصواب: (إلى معنى عبارة أخرى) – أما بالنِّسبة إلى اختلاف الاسم كالعرب مع غيرهم أو بالنسبة إلى الأمة الواحدة كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصناعة في صنائعهم مع اصطلاحهم الجمهوري أو بالنسبة إلى غلبة الاستعمال في بعض المعاني حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما، وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر أو كان مشتركًا فاختص، وما أشبه ذلك. فالحكم أيضًا يتنزَّل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من أعتاده دون من لم يعتده وهذا المعنى يجري كثيرًا في الأيمان والعقود والطلاق كناية وتصريحًا.
ومنها ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوها كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنَّسيئة أو بالعكس أو إلى أجل كذا دون غيره، فالحكم أيضًا جار على ذلك حسبما هو مسطور في كتب الفقه.
ثم قال:
واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب لأن الشَّرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية، والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد وإنما الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها.
ثم قال:
العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية، أي سواء كانت مقررة بالدليل شرعًا أمرًا أو نهيًا أو إذنًا أم لا. أما المقّررة بالدليل فأمر ظاهر، وأما غيرها فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك.
ثم قال:
ووجه ثانٍ وهو ما تقدم في مسألة العلم بالعاديات فإنه جارٍ هنا – وقد تقدم في الفقرة الأولى التي نقلناها آنفًا-.
ووجه ثالث: وهو أنه لما قطعنا بأنَّ الشارع جاء باعتبار المصالح، لزم القطع بأنه لا بد من اعتباره العوائد لأنه إذا كان التشريع على وزان واحد دل على جريان المصالح على ذلك لأنَّ أصل التشريع سبب المصالح، والتشريع دائم كما تقدم فالمصالح كذلك وهو معنى اعتباره العادات في التشريع.(6/888)
ووجه رابع: وهو أنَّ العوائد لو لم تعتبر لأدَّى إلى تكليف ما لا يطاق وهو غير جائز أو غير واقع، وذلك أنَّ الخطاب إمَّا أن يعتبر فيه العلم والقدرة على (المكلف به) – لعل صوابه: على التكلف به أو لدى المكلف به – وما أشبه ذلك من العاديات المعتبرة في توجه التكليف أولى. فإن اعتبر فهو ما أردنا , وإن لم يعتبر فمعنى ذلك أن التكليف متوجه على العالم والقادر وعلى غير العالم والقادر وعلى من له مانع ومن لا مانع له، وذلك عين تكليف ما لا يطاق، والأدلة على هذا المعنى واضحة كثيرة.
ثم قال: [ص300] :
الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبَّد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني.
ثم قال [ص305، 307] :
وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني فلأمور:
أولها: الاستقراء، فإنا وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد والأحكام العادية تدور معه حيثما دار فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض، وبيع الرطب باليابس يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة، ولم نجد هذا في باب العبادات مفهومًا كما فهمناه في العادات.
ثم قال:
والثاني: أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدَّم تمثيله، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص بخلاف باب العبادات فإن المعلوم فيه خلاف ذلك، وقد توسع في هذا القسم مالك – رحمه الله تعالى – حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة وقال فيه بالاستحسان، ونقل عنه أنه قال: إنه تسعة أعشار العلم حسب ما يأتي إن شاء الله.
والثالث: أنَّ الالتفات إلى المعاني قد كان معلومًا في الفترات، واعتمد عليه العقلاء حتى جرت بذلك مصالحهم وأعملوا كلياتها على الجملة فاطَّردت لهم سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم، إلا أنهم قصّروا في جملة من التفاصيل فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق، فدل على أنَّ المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات، ومن ههنا أقرَّت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية كالدِّية والقسامة والاجتماع يوم العروبة وهي الجمعة للوعظ والتذكير والقراض وكسوة الكعبة وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودًا وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول وهي كثيرة.(6/889)
ثم قال:
فإذا تقّرر هذا وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني، فإذ وجد فيها التعبد فلا بد من التسليم والوقوف مع النصوص.
وقال عز الدين بن عبد السلام في [قواعد الأحكام: 2/115] :
وأما إشارة الأخرس المفهمة فهي كصريح المقال إن فهمها جميع الناس كما لو قيل له: كم طلقت امرأتك؟ فأشار بأصابعه الثلاثة أو كم أخذت من الدراهم؟ فأشار بأصابعه الخمس.
وإن كانت مما يفهمه الناس نزلت منزلة الظواهر، وإن كانت مما يتردد فيه نزلت منزلة الكنايات.
وكذلك من اعتقل لسانه بمرض أو غيره فقيل له: لفلان عليك ألف؟ فأشار برأسه – أي نعم – أو أشار برأسه إلى فوق – أي لا شيء له – وكذا لو قيل له: قتلت زيدًا؟ وكذلك كتابته تقوم مقام إشارته.
ثم قال:
فصل في حمل الألفاظ على ظنون مستفادة من العادات لمسيس الحاجة إلى ذلك وله أمثلة. وساق ثلاثةً وعشرين مثالًا لإثبات ذلك.
ثم قال [ص122] :
اعلم أنَّ الله تعالى شرع في كل تصرف من التصرفات ما يحصل مقاصده ويوفر مصالحة فشرع في باب ما يحصل مصالحة العامَّة والخاصة، فإن عمَّت المصلحة جميع التصرفات شرعت تلك المصلحة في كلِّ تصرف وإن أختصّت ببعض التصرُّفات شرعت فيما اختصت به دون ما لم تختص به.
بقل قد يشترط في بعض الأبواب ما يكون مبطلا في غيره نظرًا إلى مصلحة البابين، كما يشترط استقصاء أوصاف المحكوم له والمحكوم عليه أن ينتهي إلى عزَّة وجود المشارك في تلك الأوصاف كي لا يقع الحكم على مبهم. ولو وقع ذلك في السلم لأفسده لأنه مؤدٍّ إلى تعذر تحصيل مقصوده، ولذلك شرط التوقيت في الإجارة والمساقاة والمزارعة ولو وقع التوقيت في النكاح لأفسده لمنافاة مقصوده، وكذلك شرط في العقود اللازمة على المنافع أن يكون أجلها معلومًا، وجعل أجل النكاح مقدرًا لعمر أقصر الزوجين، عمرًا، فمن ذلك أن الشرع منع من بيع المعدوم وإجارته وهبته لما في ذلك من الغرر وعدم الحاجة وجوَّز عقود المنافع من عدمها، ولا يتصور وجودها حال التعاقد ولا تحصل منافعها إلا كذلك.(6/890)
ثم قال [ص148] :
وأما ما خالف القياس في المعاوضات وغيرها من التصرفات فله أمثلة.
أحدها: أنَّ الرضا شرط في جميع التصرفات إلا أن يتعدَّد رضا المتصرِّف والعامل ورضا نائبهما فإن الحاكم يتصرف فيما لزمه من التصرفات القابلة للنيابة مع غيبته أو امتناعه على كره (منهم) – لعل صوابه: منه – إيصالا للحق إلى مستحقه ونفعًا للممتنع ببراءته من الحق.
ثم قال:
ولا بد لهذا الرضا من لفظ يدل عليه سواء كان مما يستقل به الإنسان كالطَّلاق والعتاق والعفو والإبراء، أما ما لا يستقل به كالبيع والإجارة، فإن لم يقم مقام اللفظ عرف تعين اللفظ إلا فيمن خرس لسانه وتعذَّر بيانه فإن إشارته تقوم مقام لفظه للحاجة إذ لا مندوحة عنه ولا خلاص منه وفي إقامة الكتابة مقام اللفظ في حق الناطق خلاف.
وإن حصل عرف دال على ما يدل عليه اللفظ كالمعاطاة في محقرات المبايعات واستعمال الصناع وتقديم الطعام إلى الضيفان، ففي إقامة العرف مقام اللفظ خلاف لاشتراكهما في الدلالة على الرضا على المقصود، فإن حصل العلم أو الاعتقاد أو ظن قوي يربي على الظن الذي ذكرناه أقيم ذلك مقام اللفظ لقوة دلالة العرف واطراده.
قال محمد الطاهر بن عاشور في – مقاصد الشريعة الإسلامية، [ص102] :
قد يستكن في معتقد كثير من العلماء – قبل الفحص والغوص في تصرفات التشريع – أن الشريعة إنما جاءت لتغيير أحوال الناس والتحقيق أن للتشريع مقامين:
المقام الأول: تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها، وهذا المقام هو المشار إليه بقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الآية 257 من سورة البقرة] ، وقوله: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الآية 16 من سورة المائدة] .
ثم قال:
والمقام الثاني: تقرير أحوال صالحة قد اتبعها الناس وهي الأحوال المعبر عنها بالمعروف في قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [الآية 157 من سورة الأعراف] ، وأنت إذا افتقدت الأشياء التي انتحاها البشر منذ القدم وأقاموا عليها قواعد المدنية البشرية تجدها أمورًا كثيرة من الصلاح والخير توورثت من نصائح الآباء والمعلمين والمربين والرسل والحكماء والحكام العادلين حتى رسخت في البشر.(6/891)
ثم قال:
إلا أنَّ هذه الفضائل والصالحات ليست متساوية الفشو في الأمم والقبائل، فلذلك لم يكن للشريعة العامة غنية من تطرق هذه الأمور ببيان أحكامها من وجوب أو ندب أو إباحة وبتحديد حدودها التي تناط أحكامها عندها، فالنظر إلى اختلاف الأمم والقبائل في الأحوال من أهمِّ ما تقصده شريعة عامة كما أنبأ عن ذلك حديث الموطأ والصحيحين، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد هممت أن أحرم الغيلة في الرضاع لولا أن قومًا من فارس يفعلونها ولا تضر أطفالهم)) (1) .
وكذلك النظر إلى اختلاف النفوس في الشرع إلى النزوع عن الصالحات عند طروء معارضها في شهواتهم من جهة ما في الصالحات من الكلفة كما نرى في تحريض الشريعة على التزوج ومن إيجابها نفقة القرابة.
وأكثر ما يحتاج إليه في مقام التقرير هو حكم الإباحة لإبطال غلو المتغالين بحمله على مستوى السَّواد الأعظم من البشر الصالح كما قال الله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الآيات السابقة] ، فإن الطيبات تناولها الناس وشذَّ فيها بعض الأمم وبعض القبائل فحرَّموا على أنفسهم طيِّبات كثيرة، وقد كان ذلك فشيًّا في قبائل العرب.
وبعد أن ساق لذلك أمثلة قال:
والتقدير لا يحتاج إلى القول فقد علمت أن الاحتياج إلى القول فيه لا يكون إلا من سبب دعا إلى القول من إبطال وهم أو جواب سؤال أو تحريض على التناول. وفي ما عدا تلك الأسباب ونحوها يعتبر سكوت الشارع تقريرًا لما عليه الناس، فلذلك كانت الإباحة أكثر أحكام الشريعة لأنَّ أنواع متعلقاتها لا تنحصر، وقد تواتر هذا المعنى تواترًا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته، ويشهد له ويعضده الحديث الذي رواه الدارقطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها)) تعليق: لم نقف على هذا الحديث في (سنن الدارقطني) رغم شدة البحث في مظانه منها لكن ساقه التبريزي في [مشكاة المصابيح: 1/69، ح197] فقال: وعن أبي ثعلبة الخشني ... وساق الحديث. وتعقبه بقوله: وروى الأحاديث الثلاثة – يعني هذا الحديث واللذين من قبله – الدارقطني وأقره الألباني في تعليقه فقال: والثالث [ص502] رجاله ثقات ولكنه منقطع بين مكحول وأبي ثعلبة وله عند الدارقطني [ص550] شاهد من حديث أبي الدرداء وفيه نهشل الخراساني وهو كذاب كما قال ابن راهويه فلا قيمة لشهادته ومع ذلك فقد قال النووي في الأربعين بعد أن عزاه للدارقطني: حديث حسن، وتعقبه ابن رجب [ص200] بالانقطاع الذي ذكرناه. اهـ. كلام الألباني.
ولم يذكر إن كان الدارقطني أخرجه في (السنن) أم في غيره من كتبه ولم تبلغ صفحات أي جزء من أجزائها الأربعة رقم الخمسمائة ولا قريبًا منها ولا نعرفها طبعت أكثر من مرة ولم يخرجه البغوي في (شرح السنة) .
لكن أخرجه البيهقي في [السنن الكبرى: 10/12، 13] من حديث أبي ثعلبة الخشني فقال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا حفص بن غياث، عن داود – هو ابن أبي هند – عن مكحول، عن أبي ثعلبة – رضي الله عنه – قال: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رخصةً لكم ليس بنسيان فلا تبحثوا عنها. وتعقبه بقوله: هذا موقوف. وأنبأنيه شيخنا أبو عبد الله الحافظ في (المستدرك) في ما لم يقرأ عليه إجازة. وساق حديث الحاكم في (المستدرك) .
قال الحاكم [4/15] :
حدثنا علي بن عيسى، حدثنا محمد بن عمرو الحرشي، حدثنا القعنبي، حدثنا علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله حد حدودًا فلا تعتدوها وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وترك أشياء من غير نسيان من ربكم ولكن رحمة بكم فاقبلوها ولا تبحثوا فيها)) . وسكت عنه الذهبي في التلخيص.
قلت: والمشكلة التي وقعوا فيها من سند هذا الحديث هي اضطرابهم في مكحول هل سمع أول لم يسمع من أبي ثعلبة الخشني، والعجب من الذهبي – رحمه الله – وهو من هو أن يقع في هذا الاضطراب، فعند ترجمته لأبي ثعلبة الخشني في [سير أعلام النبلاء: 2/567، 570، ترجمة 120] في معرض ذكره لبعض من روى عنه: ومكحول إن كان سمع منه.
__________
(1) علق على هذه العبارة بقوله: عبّرت بالأجناس لأن أردت إثبات نحو الوجوب والحرمة ونحو الصحة والبطلان ونحو الغرم والعقوبة والجزاء الحسن وغير ذلك من آثار الأعمال.(6/892)
ثم قال في ترجمته لمكحول [نفس المرجع: 5/155، 160 ترجمة 571] في معرض ذكره لبعض من روى عنهم:
أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث وأرسل عن عدة من الصحابة لم يدركهم كأبي بن كعب وثوبان وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني ... إلخ.
ولسنا ندري كيف جزم بأن مكحولًا لم يدرك أبا ثعلبة مع أنه نقل عن أبي حسان الزيادي وأبي عبيد أن أبا ثعلبة توفي سنة خمس وسبعين، ومن قبل ذلك نص بأنه (نزل الشام وقيل سكن داريا، وقيل قرية البلاط - وهذه موجودة عامرة حتى الآن في ضواحي دمشق – وله بها ذرية) .
في حين أن مكحول عرف بـ (مكحول الشامي) إذ هاجر من مصر إلى الشام بعد أن عتق، وكان مولى لبعض سكانها وفيها توفى، وكانت وفاته ما بين سنتي اثنتي عشرة وثماني عشرة ومائة، وما من أحد ممن ترجم له ذكر أنه توفي دون الكهولة وهذا يعني أنه عند وفاة أبي ثعلبة الخشني سنة خمس وسبعين كان في سن تحمل الرواية، والظاهر أن اضطرابهم في أمره نتج عن سببين:
السبب الأول، اتهام بعضهم لمكحول بالقول بالقدر اتهامًا ألح فيه البعض إلحاحًا شديدًا، ولعل من هؤلاء من أراد تدعيم توهين مكحول بالتشكيك في لقائه لبعض من أسند إليهم من الصحابة.
أما السبب الثاني: فيما يبدو لنا فهو ما كان بين الحجازيين والعراقيين والشاميين المحدَّثين من تنافس بلغ حد تشكيك بعضهم في بعض والتماس أيسر الأسباب وأوهى الشبهات لتدعيم هذا التشكيك، وقد يكون ثمة سبب ثالث وهو أنهم درجوا على التمييز بين كلمة (عن) وكلمة (حدثنا) أو (حدثني) واعتبار كلمة (عن) في الإسناد دون التصريح بالتحديث مرتبة، بل والتذرع بها أحيانًا إلى دعوى (التدليس) على حين أن المتأمل في نهج الرواية عند الصدر الأول من التابعين ومن نحا نحوهم من الجيل الثاني منهم بل وعند الصحابة عامة يتبين أن كلمة (عن) هي التي كانت سائدة لديهم في الإسناد ولم يلتزموا بكلمة (حدثنا) أو (حدثني) إلا بعد أن ظهر الوضع من بعض خصوم الإسلام والتزييف بهدف الاستكثار من بعض أدعياء العلم لدوافع من أبرزها الازدلاف إلى الأمويين من عصر معاوية فما بعده والمناهضة لهم من خصومه وكلا الفريقين كان فيهم من يعمد إلى الاستكثار بتزييف الأسانيد ومن تتجاوز به الجرأة هذا الحد فيعمد إلى الوضع.(6/893)
مهما يكن فليس هذا مجال البسط لهذا الشأن حسبنا أن نشير إليه لمجرد تبيان أن اعتماد النووي ومن نحا نحوه لهذا الحديث إذا كان مما اختاره في الأربعين ومما اعتمده نفر من الأصوليين في معرض الاحتجاج لمذهبه في المسكوت عنه هل هو مباح أم معفو عنه كان له أساس سليم عندنا هو عدم الالتفات إلى ما كان من صراع أحيانًا وتنافس أحيانًا أخرى بين الأقران ثم بين أصحاب مدرسة كل واحد من الأقران نشأ عنه الكثير من الأخذ والرد الذي ينبغي أن تمحص منه مناهج ومصادر الجرح والتعديل.
وقد ذكر ابن حجر في [الإصابة: 4/29، 30، ترجمة 177] عند ترجمته لثعلبة: مكحولا فيمن أخذ عنه لكنه قال: ومنهم من لم يدركه ولم يشكك في مكحول بالذات.
على أنه نص في [تهذيب التهذيب: 12/9/49، 51، ترجمة 198] عند ترجمة لأبي ثعلبة: على أن مكحولا وأبا قلابة لم يدركاه ولسنا ندري من أين له ذلك إذ محال أن يكون ذلك على أساس اعتبار السن.
ثم إنه ذكر أبا ثعلبة فيمن أخذ عنهم مكحول عند ترجمته في [تهذيب التهذيب: 10/288، 293، ترجمة 509] ، ثم روى أقوال من شككوا في سماع مكحول من أبي ثعلبة وغيره ممن يروي عنهم بالعنعنة.
ويظهر أن المزي ومن قبله ابن ماكولا لم يترجما له لأن ابن حجر رمز في (تهذيب التهذيب) وهو يترجم له إلى أن هذه الترجمة من زوائده، على (تهذيب الكمال) .
وتحسب أن البخاري – رحمه الله – كان ممن ارتاب في بعض مرويات مكحول فلم يخرج على حين أخرج له مسلم والأربعة.
وقد أخرج هذا الحديث ابن عدي في [الكامل: 1/394، 397] عند ترجمته لأصرم بن حوشب ولفظه بسنده – بعد أحاديث ساقها له -.
حدثنا أحمد بن عبد الله بن شجاع الصوفي، حدثنا عثمان بن صالح الخياط، حدثنا أصرم بن حوشب، حدثنا قرة، عن الضحاك عن طاووس قال: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تبارك وتعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم محارم فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة من الله فاقبلوها)) .
وتعقبه مع الأحاديث التي ساقها قبله بقوله: وهذه الأحاديث بواطل عن قرة بن خالد كلها لا يحدث بها عنه غير أصرم هذا، وكان قد نقل عن يحيى بن معين قوله في أصرم بن حوشب، كذاب خبيث وعن البخاري قوله: متروك الحديث.(6/894)
ويظهر أن الخلط وقع في الإسناد إذ لا يعرف هذا اللفظ عن أبي الدرداء من غير هذا الطريق لكن يعرف له ما يشبهه.
قال البيهقي – المرجع السابق-:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو جعفر محمد بن علي الشيباني، حدثنا أحمد بن حازم الغيفاري، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه، عن أبي الدرداء – رضي الله عنه – يرفع الحديث قال: ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافيته فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن نسيًّا ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [الآية 94 من سورة مريم] .
قلت: والظاهر أن أصرم أو قرة أو غيرهما التبس عليه الحديثان لوحدتهما في المعنى فنسب لفظ أبي ثعلبة الخشني على لفظ أبي الدرداء وكلاهما كان يسكن الشام وهذه إحدى آفات الاعتماد على الاحتفاظ عند بعض من كان يحب أن يتظاهر بقوة الحفظ وأن يتجنب الوصمة التي كانوا في الصدر الأول يصمون بها من كانوا يعتمدون في الرواية على الكتابة إذ يسمونهم (صحفيين) . . ولأجل ذلك كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل لأن السؤال عن المشكل عبث.
ولا يستثنى من دلالة السكوت على التقدير إلا الأحوال التي دل النقل على إلحاقها بأصول لها حكم غير الإباحة وهي دلالة القياس بمراتبها.(6/895)
ثم قال:
ومن رحمة الشريعة أنها أثبتت للأمم معتادها وأحوالها الخاصة إذا لم يكن فيها استرسال على فساد، ففي الموطأ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية وأيّما دار أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام)) (1) ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: ((وهل ترك لنا عقيل من دار؟)) (2) يريد أن عقيل بن أبي طالب فرقها في حكم الجاهلية فلم ينقضه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة.
ثم قال [ص105، 106] :
... إن مقاصد الشريعة من أحكامها كلها إثبات أجناس تلك الأحكام (3) لأحوال وأوصاف وأفعال من التصرفات خاصها وعامها باعتبار ما تشتمل عليه تلك الأحوال والأوصاف والأفعال من المعاني المنتجة صلاحًا ونفعًا أو فسادًا وضرًّا قويين أو ضعيفين فإياك أن تتوهم أن بعض الأحكام منوط بأسماء الأشياء أو بأشكالها الصورية غير المستوفاة للمعاني الشرعية فتقع في أخطاء في الفقه مثل قول بعض الفقهاء في صنف من الحيتان يسميه البعض خنزير البحر أنه يحرم أكله لأنه خنزير، ومن يقول بتحريم، نكاح امرأة زَوَّجها إياه وليها بمهر وزوَّج هو ذلك الوليَّ امرأةً هو وليُّها بمهر مساوٍ لمهر الأخرى أو غير مساوٍ لاعتقاد أن هذا من الشغار، لأن شكله الظاهر كشكل الشغار مغمض العينين عن المعنى والوصف الذي لأجله أبطلت الشريعة نكاح الشغار وإنما حق الفقيه أن ينظر إلى الأسماء الموضوعة للمسمى أصالة أيامً التشريع، وإلى الأشكال المنظور إليها عند التشريع من حيث إنهما طريق لتعرف الحالة الملحوظة وقت التشريع لتهدينا إلى الوصف المرعي للشارع كما سيجيء في مبحث نوط التشريع بالضبط والتحديد. ولقد أخطأ من هنا بعض الفقهاء أخطاء كثيرة مثل ما أفتى بعض الفقهاء بقتل المشعوذ باعتبار أنهم يسمونه سحارًا مغمضين أعينهم عن تحقيق معنى السحر الذي ناط الشرع به حكم القتل، فمن حق الفقيه إذا تكلم على السحر أو سئل عنه أن يبين أو يستبين صفته وحقيقته وأن لا يفتى بمجرد ذكر اسم السحر فيقول: يقتل الساحر ولا تقبل توبته إن ذلك عظيم.
__________
(1) أخرجه مالك في [الموطأ: 639، ح 40] عن ثور بن زيد الديلي بلاغًا فقال: عن ثور بن زيد الديلي أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية وأيما دار أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام. وقال ابن عبد البر في [التمهيد: 2/48] : هكذا هذا الحديث في الموطأ لم يتجاوز به ثور بن زيد أنه بلغه عند جماعة رواة الموطأ والله أعلم ورواه إبراهيم بن طهمان، عن مالك، عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس تفرد به عن مالك بهذا الإسناد وهو ثقة. وقد روي هذا الحديث مسندًا من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس، ورواه ابن عيينة عن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، ثم ساق الحديثين لكن بلفظ مختلف وإن اتحدا مع حديث ثور في المعنى. وأخرجه البيهقي في [السنن الكبرى: 9/122] من طريق الشافعي عن مالك: ونقل عن الشافعي قوله: ونحن نروي فيه حديثًا أثبت من هذا بلغني بمثل معناه. وساق البيهقي بإسنادين حديث عمرو عن جابر بن زيد عن ابن عباس الذي ألمعنا إليه آنفًا.
(2) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من عدة طرق وبألفاظ فيها اختلاف. انظر [المزي، تحفة الأشراف: 1/57، 58 ح 114] . وأخرجه غيرهم من أصحاب مدونات السنة معاجمها لا سيما من عنوا بالمغازي والأموال، وننقل من ألفاظه وطرقه عندهم ما أخرجه أبو عبيد في [الأموال: ص208، ح 527] فقال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: أخبرني علي بن حسين أن عمرو بن عثمان أخبره عن أسامة بن زيد أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة – يعني في حجة الوداع -: أتنزل في دارك؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟ قال: وكان عقيل ورث أبا طالب ولم يرثه جعفر ولا علي لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين.
(3) أطلق – رحمه الله- كلمة (أجناس) في هذا المجال على ما يشبه أن يكون بمعنى الكليات، يريد أن الشارع شرع أنواعًا من الأحكام تنطبق على ماهيات الأحداث والأشياء والعبادات وليس على أشكالها أو أسمائها وهذا ملحظ في غاية الدقة والعمق والجلال. فتأمل.(6/896)
ثم قال:
وكذلك فإن الأسماء الشرعية إنما تعتبر باعتبار مطابقتها للمعاني الملحوظة شرعًا في مسمياتها عند وضع المصطلحات الشرعية، فإذا تغير المسمَّى لم يكن لوجود الاسم اعتبار.
وقال ابن تيمية في [مجموع الفتاوى: 19/235] :
الأسماء التي علَّق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة منها ما يعرف حدّه ومسمَّاه بالشرع، فقد بينه الله ورسوله كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج والإيمان والإسلام والكفر والنفاق، ومنه ما يعرف حدّه باللغة كالشمس والقمر والسماء والأرض والبر والبحر، ومنه ما يرجع حدّه على عادة الناس وعرفهم فيتنوّع بحسب عاداتهم كاسم البيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحددها الشارع بحد ولا لها حد واحد، فيشترك فيه جميع أهل اللغة بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس (1) .
ثم قال [28/386] في معرض بيانه بأنَّ الأموال يجب الحكم بين الناس فيها بالعدل:
والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه، كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقرّبون بها إلى الله إلا ما دلَّ الكتاب والسنَّة على شرعه، إذ الدين ما شرعه الله والحرام ما حرَّمه الله بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وشرعوا له من الديَّن ما لم يأذن به الله.
ثم قال: [29/5، 8] :
وأما العقود في المعاملات المالية والنكاحية وغيرها فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة، فإن القول فيها كالقول في العبادات، فمن ذلك صفة العقود فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها أنَّ الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغة وهي العبارات التي يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول سواء في ذلك البيع والإجارة والهبة والنكاح والعتق والوقف وغير ذلك، وهذا ظاهر قول الشافعي وهو قول في مذهب أحمد يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل كالبيع والوقف ويكون تارة رواية مخرجه كالهبة والإجارة.
ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها كما في إشارة الأخرس، ويقيمون الكتابة في مقام العبارة عند الحاجة، وقد يستثنون مواضع دلت النصوص على جوازه إذا مسَّت الحاجة إليها.
__________
(1) لكن الدينار والدرهم في الزكاة خاصة لا يمكن اعتبارهما من هذا القبيل فقد حددهما الشرع وزنًا وقيمة بفعله صلى الله عليه وسلم، ثم بفعل عمر – رضي الله عنه – ثم بإجماع الصحابة والتابعين لا سيما في عهد عبد الملك – انظر بيان ذلك في كتابنا (تغيير العملة نقدًا أو عينًا وآثاره في المعاملات الإسلامية) -.(6/897)
ثم قال:
لكن الأصل عندهم هو اللفظ لأن الأصل في العقود هو التراضي المذكور في قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [الآية 29 من سورة النساء] ، وقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [الآية 4 من سورة النساء] . والمعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي جعلت لإبانة ما في القلب إذ الأفعال من المعاطاة ونحوها تحتمل وجوهًا كثيرة، ولأن العقود من جنس الأقوال فهي في المعاملات كالذكر والدعاء في العبادات.
والقول الثاني: أنها تصح بالأفعال فيما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات بالمعاطاة وكالوقف فيمن بنى مسجدًا وأذن للناس بالصلاة فيه أو سبل أرضًا للدفن فيها أو بنى مطهرة وسبلها للناس، وكأنواع بعض الإجارة كمن دفع ثوبه إلى غسال أو خياط يعمل بالأجرة أو راكب سفينة ملاح وكالهدية ونحو ذلك، فإن هذه العقود لو لم تعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أمور الناس ولأنَّ الناس من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدَّالِّ على العقود، وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة وهو قول في مذهب أحمد ووجه في مذهب الشافعي بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة، فإنه لا حاجة إليه ولم يجر به العرف (1) .
القول الثالث: أنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، فكل ما عدَّه الناس بيعًا وإجارة فهو بيع وإجارة وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر لا في شرع ولا في لغة بل يتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم.
ثم قال:
ولا يجب على الناس التزام نزع معين من الاصطلاحات في المعاملات ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد، ولهذا يصح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقًا وإن كان قد وجد اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر بأن يقول: خذ هذا لله فيأخذه أو يقول: اعطني خبزًا بالدرهم فيعطيه، أو لم يوجد لفظ من أحدهما بان يضع الثمن ويقبض جرزة البقل أو الحلواء أو غير ذلك كما يتعامل غالب الناس، أو يضعوا المتاع ليوضع له بدله فإذا وضع البدل الذي يرضى به أخذه كما يجلبه التجار على عادة بعض أهل المشرق.
__________
(1) ومفهومه إذ جرى به العرف فأصبح قاعدة بين الناس يتعاملون بمتقضاها جرى حكمه على حكم ما ليس بجليل في مذهب أبي حنيفة وعند القائلين به في مذهب احمد إذ أن الأصل عند هؤلاء هو العرف. فتأمل.(6/898)
فكل ما عده الناس بيعًا فهو بيع وكذلك في الهبة مثل الهدية ومثل تجهيز الزوجة بما يحمل معها إلى بيت زوجها إذا كانت العادة جارية بأنه عطية لا عارية.
ثم قال [ص15، 18] :
ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعملون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة، والعلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود وهو ظاهر في بعضها وإذا وجد تعلق الحكم بها بدلالة القرآن، وبعض الناس قد يحمله اللدد في نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس، فلا عبرة بجحد مثل هذا فإنَّ جحد الضروريات قد يقع كثيرًا عن مواطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب، فالعبرة بالفطرة السليمة التي لم يعارضها ما يغيرها ولهذا قلنا: إن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم حيث لا تواطؤ على الكذب، لأنَّ الفطر السليمة لا تتفق على الكذب فأما مع التواطؤ والاتفاق فقد يتفق جماعات على الكذب.
ثم قال:
وما لم يكن له حدّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه)) (1) ، ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدًّا لا في كتاب الله ولا سنَّة رسوله، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتباعين أنَّه عيَّن للعقود صفة معيَّنة من الألفاظ أو غيرها أو قال ما يدل على ذلك من أنَّها لا تنعقد إلا بالصِّيغ الخاصة.
ثم قال:
فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعًا وما سموه هبة فهو هبة.
ثم قال:
... إنَّ تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة علم أنَّ العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات العادات فهي ما أعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى وذلك لأنَّ الأمر والنهي هما شرع الله.
__________
(1) الحديث أخرجه النسائي في [سننه (المجتبي) : 7/285] فقال: أخبرنا محمد بن سلمة قال: أنبأنا ابن القاسم، عن مالك، عن ابن دينار، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه. ثم قال [ص 286] : أخبرنا سليمان بن منصور قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عبد العزيز بن رفيه، عن عطاء بن أبي رباح، عن حزام بن حكيم، قال: قال حكيم بن حزام: ابتعت طعامًا من طعام الصدقة فربحت فيه قبل أن أقبضه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: لا تبعه حتى تقبضه.(6/899)
ثم قال:
والعادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [الآية 59 من سورة يونس] .
ثم قال:
وهذه قاعدة عظيمة نافعة وإذا كان كذلك فنقول: البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم – كالأكل والشرب واللباس – فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة فحرمت منها ما فيه فساد وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها.
وإذا كان كذلك فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة وإن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروهًا وما لم تحد الشريعة في ذلك حدًّا فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي.
ثم قال [ص 150، 154] :
... إن العقود والشروط من باب الأفعال العادية والأصل فيها عدم التحريم فيستحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم كما في الأعيان الأصل فيها عدم التحريم، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الآية 119 من سورة الأنعام] ، عام في الأعيان والأفعال وإذا لم تكن حرامًا لم تكن فاسدة، لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة.
وأيضًا ليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت حلّه بعينه.
ثم قال:
وإن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوًا كالأعيان التي لم تحرم.
وغالب ما يستدل به على أنَّ الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستصحاب العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله فإنه يستدل أيضًا به على عدم تحريم العقود والشروط فيها سواء سمي ذلك حلالا أو عفوًا على الاختلاف المعروف.
ثم قال:
... إنَّ الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح، نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا ولم يبثته ابتداء كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم ولم يحرم الشارع علينا رفعه لم يحرم علينا رفعه.(6/900)
ثم قال:
وهذه نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها وهو أن الأحكام الجزئية – من حلّ هذا المال لزيد وحرمته على عمرو – لم يشرعها الشارع شرعًا جزئيًّا وإنما شرعها شرعًا كليًّا.
ثم قال:
وهذا الحكم الكلي الثابت سواء وجد هذا البيع معين أو لم يوجد فإذا وجد بيع معين أثبت ملكًا معينًا فهذا المعين سببه فعل العبد فإذا رفعه العبد، فإنما رفع ما أثبته هو بفعله لا ما أثبته الله من الحكم الكلي إذ ما أثبته الله من الحكم الجزئي إنما هو تابع الفعل العبد سببه لا أن الشارع أثبته ابتداء.
ثم قال [ص340] :
وأصل العقود أنّ العبد لا يلزمه شيء إلا بإلزامه أو بإلزام الشارع له فما التزمه فهو ما عاهد عليه فلا ينقص العهد ولا يغدر.
وقال ابن قيم الجوزية – رحمه الله – في [أعلام الموقعين: 1/87، 88] أثناء شرحه لرسالة عمر إلى أبي موسى المشهورة:
ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا، فالعالم من يتوصل- بمعرفة الواقع والفقه فيه – إلى معرفة حكم الله ورسوله كما توصل شاهد يوسف- بشق القميص من دُبُر- إلى معرفة براءته وصدقه وكما توصل سليمان - صلى الله عليه - بقوله ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما إلى معرفة عين الأم، وكما توصل أمير المؤمنين على عليه السلام – بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب لما أنكرته لتخرجن الكتاب أو لنجردنك – إلى استخراج الكتاب منها، وكما توصل الزبير بين العوام بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دلهم على كَنْز حُيَيّ لما ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله: المال كثير والعهد أقرب من ذلك. وكما توصل النعمان بن بشير – بضرب المتهمين بالشرقة – إلى ظهور المال المسروق عندهم، فإن ظهر وإلا ضرب من اتهمهم كما ضربهم، وأخبر أن هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.(6/901)
ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله.
قال ابن القيم – رحمه الله – في [أعلام الموقعين: 1/344، 345] في معرض مناقشة خصومه -:
الخطأ الرابع لهم اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة. فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك كثيرًا من معاملاتهم الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذه الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأنَّ الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه وهذا هو القول الصحيح، فإنَّ الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنَّه لا حرام إلا ما حرَّمه الله ورسوله ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرَّمه الله، ولا دين إلا ما شرعه، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم، والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه، وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نهى الله سبحانه المشركين عن مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه والتقرب إليه بما لم يشرعه – وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوًا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله، فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، وما سكت عنه فهو عفو، فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها لأنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة في ما عدا ما حرمه الله. ثم ساق أدلة من الكتاب والسنَّة تؤكد هذه القاعدة التي أقرها ولا نريد أن نطيل بإيرادها.
قال ابن القيم في [أعلام الموقعين: 4/228، 229] بين ما ساقه من فوائد وإرشادات تتعلق بالإفتاء:
الفائدة الثالثة والأربعون: لا يجوز له – أي المفتي – أن يفتي في الإقرار والأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عرف أهلها والمتكلمين بها فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه وإن كان مخالفًا لحقائقها الأصلية فمتى لم يفعل ذلك ضلَّ وأضلَّ.
فلفظ الدينار عند طائفة اسم لثمانية دراهم، وعند طائفة اسم لاثنى عشر درهمًا، والدّرهم عند غالب البلاد اليوم – يعني في عصر ابن القيم – اسم للمغشوش.
قلت: وهو عندنا اليوم في بعض البلاد اسم لعملة ورقية لا علاقة لها من حيث القيمة بالدّرهم الشرعي الذي تنبنى عليه أحكام الزكاة وما شاكلها من الشرائع التعبدية.(6/902)
ثم قال:
فإذا أقّر له بدراهم أو حلف ليعطينه أو أصدقها امرأة لم يجز للمفتي ولا للحاكم أن يلزمه بالخالصة، فلو كان في بلد إنما يعرفون الخالصة لم يجز له أن يلزم المستحق بالمغشوشة.
وكذلك في ألفاظ الطلاق والعتاق، فلو جرى عرف أهل بلد أو طائفة في استعمالها لفظ الحرية في العفّة دون العتق، فإذا قال أحدهم عن مملوكه (إنه حرّ) أو عن جاريتها (إنها حرّة) ، وعادته استعمال ذلك في العفة لم يخطر بباله غيرها لم يعتق بذلك قطعًا وإن كان اللفظ صريحًا عند من ألف استعماله في العتق، وكذلك إذا جرى عرف طائفة في الطلاق بلفظ التسميح بحيث لا يعرفون لهذا المعنى غيره فإذا قالت: (اسمح لي) فقال: (سمحت لك) فهذا صريح في الطلاق عندهم. وقد تقدَّم في هذا الأصل مشبعًا وأنه لا يسوغ أن يقبل تفسير من قال لفلان عليَّ (مال جليل) أو (عظيم) بدانق أو درهم ونحو ذلك، ولا سيما إن كان المقرّ من الإغنياء المكثرين أو الملوك، وكذلك لو أوصى له بقوس في محلّة لا يعرفون أقواس البندق أو الأقواس العربية أو الأقواس الرِّجل، أو حلف لا يشمّ الريحان في محل لا يعرفون إلا هذا الفارسي، أو حلف لا يركب دابة في موضع عرفهم بالدابة الحمار أو الفرس، أو حل لا يأكل تمرًا في بلد عرفهم في التّمار نوع واحد منها لا يعرفون غيره، أو حلف لا يلبس ثوبًا في بلد عرفهم في الثياب القمص وحدها دون الأردية والأزر والجلباب ونحوها، تقيدت يمينه بذلك وحده في جميع هذه الصور واختصت بعرفه دون موضوع اللفظ لغة أو في عرف غيره.
بل لو قالت امرأة لزوجها الذي لا يعرف التكلم بالعربية ولا يفهمها قل لي: (أنت طالق ثلاثًا) وهو لا يعلم موضوع هذه الكلمة فقال لها، لم تطلق قطعًا في حكم الله تعالى ورسوله.
وكذلك لو قال الرجل الآخر: (أنا عبدك ومملوكك) على جهة الخضوع له كما يقول الناس لم يستبح ملك رقبته في ذلك ومن لم يراع المقاصد والنيات والعرف في الكلام فإنه يلزمه أن يجوز له بيع هذا القائل وملك رقبته بمجرد هذا اللفظ.
وهذا باب عظيم يقع فيه المفتي الجاهل فيغر الناس ويكذب على الله ورسوله ويغير دينه ويحرم ما لم يحرّمه الله ويوجب ما لم يوجبه الله والله المستعان.(6/903)
وقال السرخسي في [أصوله: 1/190، 191] في بيان جملة ما تترك به الحقيقة:
تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال عرفًا لأن الكلام موضوع للإفهام، والمطلوب به ما تسبق إليه الأوهام، فإذا تعارف الناس استعماله لشيء عينًا كان كذلك بحكم الاستعمال كالحقيقة فيه، وما سوى ذلك – لانعدام العرف – كالمهجور لا يتناوله إلا بقرينة، ألا ترى أن اسم الدّراهم – كذا ولعل صوابه: الدرهم – عند الإطلاق يتناول نقد البلد لوجود العرف الظاهر في التعامل به ولا يتناول غيره إلا لقرينة لترك التعامل به ظاهرًا في ذلك الوضع وإن لم يكن بين النوعين فرق فيما وضع له الاسم حقيقة وبيان هذا الاسم للصلاة فإنها للدعاء حقيقة.
ثم قال: وهي مجاز للعبادة المشروعة بأركانها سمّيت به لأنها شرعت للذكر قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [الآية 14 من سورة طه] وفي الدعاء ذِكْر وإن كان يشوبه سؤال، ثم عند الإطلاق ينصرف إلى العبادة المعلومة بأركانها سواء كان فيها دعاء أو لم يكن كصلاة الأخرس وإنما تركت لحقيقة الاستعمال عرفًا، وكذلك الحج فإن اللفظ للقصد حقيقة ثم سميت العبادة بها لما فيها من العزيمة والقصد للزيارة، فعند الإطلاق الاسم يتناول العبادة للاستعمال عرفًا والعمرة والصوم والزكاة وغيرها، على هذا فإن نظائر هذا أكثر من أن تحصى ولهذا قلنا: من نذر صلاة أو حجًّا أو مشيًا إلى بيت الله يلزمه العبادة وإن لم ينو ذلك، فالمشي إلى بيت الله تعالى غير الحج حقيقة، ولكن الاستعمال عرفًا ينصرف مطلق اللفظ إليه وكذلك لو قال: لله عليَّ أن أضرب بثوبي حطيم الكعبة يلزمه التصدق بالثوب للاستعمال عرفًا، فاللفظ حقيقة في غير ذلك، ومن حلف أن لا يشتري رأسًا ينصرف يمينه إلى ما يتعارف بيعه في الأسواق من الرءوس على حسب ما اختلفوا فيه وكل ذلك للاستعمال عرفًا.
فأما من حيث الحقيقة الاسم يتناول كل رأس.
ومن حلف ألا يأكل بيضًا يتناول يمينه بيض الدجاج والأوز خاصة لاستعمال ذلك عند الأكل عرفًا ولا يتناول بيض الحمام والعصفور وما أشبه ذلك.
وقال ابن نجيم في [الأشباه والنظائر: ص93، 101] :
القاعدة السادسة: (العادة محكّمة) .
وأصلها قوله عليه الصلاة والسلام ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) . قال العلائي: لم أجده مرفوعًا في كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- موقوفًا عليه أخرجه أحمد في مسنده.(6/904)
قلت: سبق أن ذكرنا تخريج هذا الحديث لكن من أغرب ما وقفنا عليه حوله قول ابن عابدين في [رسائله: ص120] .
(رسالة نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف) . _ ويظهر أنه نقل على القُنْيَة) -:
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خميرة يتعاطاها الجيران أيكون ربا؟ فقال: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح)) .
ولم نقف فيما بين أيدينا من مدونات السلف للفقه أو الحديث أو آثار الصحابة والتابعين على رواية لهذا الحديث بهذا اللفظ ولا ندري من أين جاء به.
ثم قال ابن نجيم:
واعلم أن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في اللغة في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلا فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة، تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة كما ذكر فخر الإسلام فاختلف في عطف العادة على الاستعمال فقيل: هما مترادفان وقيل: المراد من الاستعمال نقل اللفظ عن موضوعه الأصلي إلى معناه المجازي شرعًا وغلبة استعمال فيه ومن العادة نقله إلى معناه المجازي عرفًا. ثم قال:
وذكر الهندي في (شرح المغني) : العادة عبارة عما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المقبولة عند الطباع السليمة وهي أنواع ثلاثة: العرفية العامة كوضع القدم. والعرفية الخاصة كاصطلاح كل طائفة مخصوصة كالرفع للنّحاة والفرق والجمع والنقض للنظار. والعرفية الشرعية كالصلاة والزكاة والحج تركت معانيها اللغوية بمعانيها الشرعية.
ثم ذكر ممّا فرّع على هذه القاعدة (ألفاظ الواقفين تنبني على عرفهم وكذا لفظ النادر الموصي والحالف وكذا الأقارير تنبني عليه) غالبًا.
ثم قال:
فإذا تعارضا قُدِّم عرف الاستعمال خصوصًا في الأيمان – أي العرف والشرع-.
ثم قال:
صرَّح الزيلعي وغيره بأنَّ الأيمان مبنية على العرف لا على الحقائق اللّغوية.
ثم ساق قولهم: (المعروف عرفًا كالمشروط شرعًا) .
ثم قال:
العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر ولذا قالوا: لا عبرة بالعرف الطارئ، فلذا اعتبر العرف في المعاملات ولم يعتبر في التعليق فيبقى على عمومه ولا يخصُّه العرف.
*
**(6/905)
الفصل السابع
ظَاهرة حَضَاريَّة
الاختلاف المتمثل في النصوص التي سقناها في الفصول السابقة ليس في جوهره اختلافًا في تأويل نصوص القرآن والسنة وإنما هو اختلاف في فقه المناط، نشأ بعضه من افتقار البعض إلى الحاسة الفقهية مع تمسّك شديد بألفاظ النصوص افتقارًا يشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: ((رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ... )) الحديث تعليق: الحديث مشهور أخرجه من الستة بهذا اللفظ أبو داود والترمذي وابن ماجه كما أخرجه عدد من أصحاب السنن غيرهم.
أما أبو داود فرواه في [سننه: 3/322، ح 3660] عن زيد بن ثابت – فقال – حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن شعبة، حدثني عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب، عن عبد الرحمن بن أبان، عن أبيه، عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نضر الله امرءًا سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه)) .
وقال الترمذي في [الجامع الصحيح: 5/33، 35، ح2656] :
حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود، أخبرنا شعبة، أخبرنا عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب قال: سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان يحدث عن أبيه، قال: خرج زيد بن ثابت من عند مروان نصف النهار، قلنا: ما بعث إليه في هذه الساعة إلا لشيء سأله عنه فسألناه فقال: نعم سألناه عن أشياء سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نضر الله امرءًا سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه)) .
قال الترمذي: وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأنس: ثم قال: حديث زيد حديث حسن.
ثم قال: [ح2658] :
حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يحدث عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها وحفظها فبلغها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أيمة المسلمين، ولزوم جماعتهم فإن الدعوة تحيط من ورائهم)) .
وقال ابن ماجه في [سننه: 1/84، 86، ح 230] :
حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير وعلي بن محمد قالا: حدثنا محمد بن فضيل، حديثنا ليث بن أبي سليم، عن يحيى بن عباد، عن أبي هريرة الأنصاري عن أبيه، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله امرءًا سمع مقالتي فبلغها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) .
زاد فيه علي بن محمد: ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أيمة المسلمين، ولزوم جماعتهم.
231- حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن عبد السلام، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيف في مني: ((نضر الله امرءًا سمع مقالتي فبلغها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) . حدثنا علي بن محمد حدثنا خالي يعلي.
وحدثنا هشام بن عمار، حدثنا سعيد بن يحيى قالا: حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
ثم قال [ح236] :
حدثنا محمد بن إبراهيم الدمشقي، حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي، عن معان بن رفاعة، عن عبد الله بن بخت المكي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) .(6/906)
ثم قال [2/1015، 1016، ح 3056] :
حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، وساق مثل الحديث السابق سندًا ولفظًا سواء. . ونشأ بعضه من حال حضارية كانت سائدة عندهم فوقفوا عند مقتضياتهم في تكييف مفاهيمهم للنصوص.
ولو قد مضينا نتقصى مقولات الفقهاء والمتفقَّهة في مجالات العقود لملأنا مجلّدات من أعاجيبها وهي جميعًا – على تغاير وتعارضها وأحيانًا على تناقضها – لتكاد تخرج عند التمحيص عن هذين السببين اللذين ألمعنا إليهما إلا ما كان تمحّلات المقلدة الذين واجهتهم بعض التغيرات الحضارية، وقعد بها التقليد عن تجاوز مقولات أسلافهم والرجوع إلى نصوص القرآن والسنة لقراءتها وفهمها من جديد، فطفقوا يبدءون ويعيدون في تيه فقهي عجيب لا يكادون يجدون منه منفذًا، فكان أن تراءى للمحدثين من الراغبين في المواءمة بين الشريعة الإسلامية ومقتضيات الحضارة المعاصرة كما لو كان التشريع الإسلامي يعسر التوفيق بينه وبينها لأنهم حسبوا أنّ مقولات المقلدة من متفقهة عهود التحجر الواقفين أنفسهم في ما أرهقوها بوضعه من الشروح والحواشي والتقارير على ألوان من التمحلات تقديسًا لمقولات أسلافهم وجمودًا لها واعتبارًا لها مقدمة على نصوص الكتاب والسنة كما لو كان فهم تلك النصوص مقصورًا على السلف الأول محظورًا على غيره ممن يأتي بعدهم. أقول لأنَّ المحدثين حسبوا أن هذه المقولات هي لب الفقه الإسلامي وخلاصته وصفوته، فوقف جلهم عندها يحاولون هم أيضًا أن يجدوا سبيلا إلى التوفيق بينها وبين ما يعايشونه من أحوال حضارية وضرورية وحاجية محاولة كثيرًا ما أعجزتهم فاستسلموا وقليل منهم من اكتشف الواقع المرّ لتلك المقولات فتجاوزها باحثًا عن حقيقة التشريع الإسلامي في نصوص الكتاب والسنة، مسترشدًا بالقلّة النادرة من الفقهاء الموفقين أمثال الشاطبي وابن تيمية وابن القيم ومحمد الطاهر بن عاشور، أولئك الذين استطاعوا أن ينفذوا ببصائرهم إلى سرائر التشريع الإسلامي وأن يحكموا في استفقاههم له مياسم المناط وملامح الحكمة، وبذلك رسموا نهجًا نيرًا انفردوا به فجاء متكاملا عجبًا من التوفيق والسداد لما ينبغي أن يتخذ نبراسًا لتفهم الشريعة الإسلامية والتوفيق بينها وبين مقتضيات الحضارة مهما تطورت وتغايرت أوضاعها ومستلزماتها.(6/907)
وفيما يلي نتبين تأثير التغير الحضاري في تصورات ومقولات السلف الأول في الجانب المتصل بالعقود من تشريعات المعاملات والأحوال الشخصية.
لعل من أبرز ما يجلو تأثير المقتضيات الحضارية في فهم النصوص وفقه ما جاءت به من تشريع قضية (خيار المجلس) ومصدرها وما سقناه في الفصل الخامس من حديث ابن عمر وحكيم بن حزام وأبي هريرة وغيرهم، وفيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) وما شاكل ذلك من ألفاظ، فقد وقف ابن عمر – رضي الله عنه- عند لفظه فكان إذا صفق بيعًا مع مشترٍ قام فمشى خطوات ثم عاد إلى مجلسه ليكون بذلك فارقه فتم العقد، وعللوا ذلك فيما جاء في بعض روايات الحديث من أنَّ عدم الافتراق قد يوجب على المتبايعين أن يقيل أحدهما صاحبه إذا استقاله، وحاول ابن حجر في التلخيص مناصرة لمذهبه أن يعتذر لابن عمر بقوله [2/20، ح1182] :
لم يبلغ ابن عمر النهي المذكور فكان إذا بايع رجلا فأراد أن يتم بيعه قام فمشى هنيهة ثم رجع إليه. انتهى كلام ابن حجر.
وهو اعتذار عجب كما ترى ليس لأن ابن عمر لم يكن يقصد إلى معنى هذا الاعتذار، بل لأن ابن حجر جاء بعد ثمانية قرون ليدعم موقف الشافعي إمامه من قضية (خيار المجلس) ، إذا كان شديد التشبث – كما بينا في الفصل الخامس – بمقولة التفرق بالأبدان باعتباره شرطًا لانعقاد البيع وانتهاء حق المتبايعين في الخيار ما لم يشترطه أحدهما.
ومرد فهم ابن عمر ومن سار مساره ومنهم الشافعي لهذا النص إلى أنهم كانوا في ذلك العهد ومن قبله لا يعرفون في التجارة إلا التعامل المباشر سواء كان أساسه مقايضة أو ثمنًا، وكان الثمن نفسه يشبه المقايضة في الجزيرة العربية وفي غيرها من الأقطار التي لم تكن تسلك النقود بل كانت تستوردها أو تتعامل بمعدنيها وزنًا، وفي كلتا الحالتين كان لخيار المجلس معناه باعتبار التفرق تفرق أبدان لأن التصافق – وهو صيغة إتمام البيع عندهم يومئذ – على معاملة أساسها المقايضة قد يتم بسرعة يتعذر معها استكناه كلتا السلعتين المقايض بهما استكناهًا يستحيل معه خفاء ما يكون في إحداهما أو فيهما معًا من عيب، ولأن اضطراب أسعار العملة المسكوكة وأسعار الذهب والفضة الموزونين كل منهما بالنسبة إلى الآخر تبعا لتقلبات السوق الناتجة عن الطوارئ غير المقدر لها، ثم ما يكون أحيانًا في الدرهم أو الدينار من زيف كثير أو قليل بل وحتى في معدني الذهب والفضة نفسيهما، كل ذلك يسوغ فهمهم يومئذ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لم يفترقا)) أو ((ما لم يتفرقا)) على أنه افتراق أو تفرق بالأبدان، فما دام المتبايعان معًا في مجلسهما فقد يشعر أحدهما بالغبن لِمَا يكتشف من زيف أو نقص في وزن الدرهم أو الدينار أو لِمَا يطرأ على أحد النقدين من انخفاض أو ارتفاع فيحاول التحلل من صفقة بالاستقالة أو بدعوى عدم انعقاد البيع، ولذلك وقر في فهمهم من رأى التفرق بالأبدان أنَّ الافتراق والتفرّق الوارد في الحديث أراد أن يحسم مثل ذلك الاحتمال بابتعاد أحد المتبايعين عن الآخر، وإن بضع خطوات إنهاء لعملية المبايعة.(6/908)
وهذا الوضع الحضاري السائد يومئذ ما لبث أن تغير إذ ضولت عمليات المقايضة في المعاملات وساد التعامل بالنقد وتقلص العمل بالوزن لانتشار العملة المسكوكة وقل في الفترة الأولى - بصورة ظاهرة - وجود الزيف في العملة المسكوكة لكثرة الذهب والفضة في أيدي الناس ولشدّة رقابة الدولة الأموية على سك النقود واحتكارها الذي يكون تامًا له، كما تغيرت أساليب التجارة تدريجيًّا باتساع رقعة الدولة الإسلامية واشتداد قوتها وتمكنها اشتدادا جعل الدول الأخرى ترغب رغبة أكيدة متزايدة في التعامل معها تصديرًا واستيرادًا.
وكان من أئمة الفقه من اتخذ من التجارة مصدرًا لمعاشه ومنهم مالك بن أنس – رحمه الله – ونتيجة لذلك اتسع أفق الفهم لديه فاستقر على أنَّ الصفق وتبادل الأثمان والسلع هو التفرّق أو الافتراق المراد من الحديث، فكانت مقولته التفرّق بالأقوال.
والذي يعنينا من هذه القضية ما أصبح عليه التعامل يومئذ بين الناس من الاتساع والتنوع بحيث انحسر وكاد ينعدم التعامل مواجهة في المعاملات الكبرى، بل أخذ ينحسر حتى في المعاملات الصغرى، وساد بين الناس التعامل - حتى في المدينة الواحدة والحي الواحد- بالهاتف، وخارج المدينة والحي كان بالبرق ثم أصبح – إلى جانب الهاتف الصوتي – بالوثائق المتناقلة كهربائيًّا (تلكس – TELEX) ، والمصورة هاتفيًّا (تلفاكس – TELEFAX) ، بل قد أخذت تظهر وسيلة جديدة يوشك أن تقضي على الهاتف الصوتي المجرد وهي (الهاتف المرئي –TELECOME) ، أي الذي ينقل لكل من المتخاطبين – مع صوت مخاطبه – صورته، وفضلا عن ذلك أخذ ينتشر الهاتف المشترك وهو الذي يتيح لعدة أفراد أماكن مختلفة وقد يكونون في قارات مختلفة أن يتخاطبوا جميعًا في حالة واحدة كما لو كانوا في مجلس واحد متجاورين أو متواجهين.
فما حكم الشريعة الإسلامية في هذه الأنواع من المعاملات؟ هل تعتبر داخلة في نطاق (خيار المجلس) ؟ وإذن فعلى قول القائلين بالتفرّق بالأبدان كيف يتمّ هذا التَّفرُّق. هل يكون على أحد المتخاطبين أن يضع سمّاعة الهاتف الصوتي أو الهاتف المصور؟ أو أن ينصرف عن (الهاتف المصور للوثائق - TELEFAX) ، أو عن (الجهاز الناقل كهربائيًّا للمراسلات - TELEX) ؟ وإذن فكيف يتسنى المخاطبة أن يتبين أن صاحبه قد غير مجلسه فمشى خطوات فقطع عليه بذلك حق الخيار أو الاستقالة؟(6/909)
ثم لو قلنا بالتفرّق بالأبدان في (خيار المجلس) فما هو الحكم فيما إذا كان أحد المتبايعين قد ألزم نفسه أثناء اتصاله بصاحبه عن طريق أحد الأجهزة المشار إليها آنفًا أو ما شاكلها بسعر معين بيعًا أو شراء وبمواصفات معينة أيضًا للسلعة المباعة أو المشتراة وقبل أن يتلقى جواب صاحبه بالقبول – وهذا يتبين جليًّا في التعامل بآلات النقل والتصوير الكهربائي – تلقى بواسطة جهاز آخر إشعارًا عن تغيّر السعر في السوق إمّا سعر السلعة أو سعر العملة المتبايع بها، في حين أنَّ صاحبه قد قبل فعلا وهو بصدد إرسال الإجابة بالقبول أو لم يجب بعد في حالة التعامل بالأجهزة الصوتية لأنه استطرد في حديث آخر مع صاحبه، فهل يكون لهذا الذي تلقّى إشعارًا بتغيّر السعر في السوق أن يسحب موافقته بعد أن قطع بها على نفسه عهدًا وقبل بها صاحبه وإن لم يبلغه قبوله بعد؟ وفي هذه الحال أفلا يكون في ذلك إخلال بما أمر الله سبحانه وتعالى به من الوفاء بالعقود؟! وهل يجدي في تسويغ هذا الإخلال التشبث بحكاية التفّرق بالأبدان لو حاولنا تكييفها بحيث تنطبق أيضًا على هذا النوع من المعاملات التي تقع بين متباعدين اثنين أو أكثر، وفي هذا العصر الذي أصبح (الحسيب) (1) وفيه يقوم مقام المتعاملين أو المتعاملين الكثر وينجز العمليات التجارية في لحظات؟ ما موقع التفرّق بالأبدان من عملياته؟ وفي هذا العصر الذي تهيمن فيه أسواق الأوراق المالية مسيّرة بـ (الحسيب) خاضعة لسيطرته على مختلف أنواع المعاملات المالية وخاصة النقدية منها، إذ لم يعد النقد معدنًا أو مادة يتعامل بها لذاته بل أصبح اعتباريًّا وشبه وثائق تقديرية لقيم يتعامل بها وهميًّا. وقد يتغير سعر العملة من تلك التي يتعامل بها عالميًّا أكثر من مرة في الدقيقة الواحدة كيف يستقيم (خيار المجلس) على أساس التفرق بالأبدان أساسًا للمعاملات دون أن يحدث اضطرابًا وفوضى لا حدود لهما تختل بهما جميع العمليات المتداولة بين الناس والمتوقف عليها حياتهم المعاشية والحضارية؟!
لا نريد أن نستبق مسار البحث فنبلغ إلى غايته قبل نهايته إن نريد إلا أن نرسم معالم النهج الذي يتعين – ولا يصلح غيره – لفهم النصوص التشريعية لاسيما ما يتصل منها بالمعاملات وبعبارة عامة ما ليس منها تعبديًّا صرفًا ذلك بأنَّ الظروف التي كيفت أفهام ابن عمر والشافعي ومن نحا نحوهما لحديث الخيار ولمعنى عبارة التفرّق والافتراق منه قد تكون مسوّغة لذلك النوع من الفهم لعهدهما لكن لا سبيل إلى اعتبارها ولا إلى اعتبار الفهم المتكيف بها في حال تغيرت فيه جوهريًّا طرائق الحياة وأساليب التعامل بين الناس.
__________
(1) وهو الاسم الذي نفضله لـ (الكومبيوتر) بدلا من (الحاسوب) الذي شاع إطلاقه عليه لأنه أحق في التعبير عن طبيعة هذا الجهاز من كلمة (الحاسوب) التي تحصر طبيعته في الحساب ووظيفته في المحاسبة.(6/910)
وملحظ التأثير الزمني والبيئي في تكييف أفهام الناس ودلالات الصيغ – ألفاظًا كانت أوعباراتٍ – ملحظ دقيق على أنه ضروري لاستنباط الأحكام الشرعية وفهم النصوص الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان.
لذلك كان العرف والعادة مؤثرين تأثيرًا بليغًا في ضبط معاني الصيغ ودلالاتها وفي تحديد مناهج استنباط الأحكام وتعيين قواعده ومعالم مساره.
وقد يزيد من تبيان هذا الملحظ تأمل قضية (التعبير) الذي ينعقد به البيع وهي قضية أبدأ فيها المتفقهة وأعادوا ما شاءت لهم طرائقهم في فهم النصوص واستنباط الأحكام منها فاضطربوا أعجب اضطراب وأغربه في تعيين صيغ الإيجاب والقبول في عقود المعاملات والأنكحة وما شاكلها، فلما واجهتهم أفعال وأقوال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجدوا سبيلا إلى التشكيك فيها أثبتت اعتماده صلى الله عليه وسلم لغير اللفظ المقول أساسًا للحكم ذهب بعضهم يحاولون تضييق نطاق هذا الأساس وتحديد فعاليته بضوابط وحدود لا مسوِّغ لتمحلها إلا وقوفهم عند ظواهر بعض النصوص أو جمود بعضهم على مقولات أهل مذاهبهم حتى كانوا يؤثرونها على الثابت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله فيحكمونها فيه.
وشاء الله أن تتطّور الحضارة البشرية فينحسر مجال التّعامل بالقول المسموع لا سيما في المعاملات التجارية انحسارًا أوشك أن يلغيه فيما يتسع مجال التعامل بالتعبير المرتكز بعضه على الكتابة سواء كانت باليد أو بالإجهزة الناقلة كهربائيًّا، ويرتكز جانب منه على نوع آخر من الكتابة هو تحويل الألفاظ التي يراد تحويلها كتابة إلى رموز وإشارات، ثم ترجمة تلك الإشارات مرة أخرى بعد أن تنقل كهربائيًّا بين مكانين متباعدين – إلى تلك الألفاظ نفسها أو إلى ما يعبر عنها -، وذلك هو الشأن في التواصل البرقي أواللاسلكي غير البرقي مثل القائم على النقل الكهربائي للعبارات (التلكس – TELEX) وما شاكله، بل إن التواصل الصوتي نفسه يتحول بين الطرفين المتخاطبين ذبذبات كهربائية بعد أن يصير ألفاظًا مسموعة يتبادلانها، وهذه الذبذبات لا تختلف في جوهر طبيعتها عن تلك الرموز والإشارات التي تعمل بها غير الأجهزة الصوتية من أجهزة الاتّصال اللاسلكي.(6/911)
فلو وقفنا حيث وقف أولئك المتفقّهة من تحديد صيغ الإيجاب والقبول في تحقيق العقود تعذَّر أو استحال إنجاز التعامل بين الناس بهذه الأجهزة المستحدثة والتي تتوقّف عليها توقّفًا كاملا معاملات البشر اليوم.
وحتى إذا أمكن اعتبار بعض تلك الأجهزة – مثل أجهزة الاّتصال الصوتي – غير غريبة أو غير مستحيل التعامل بها في نطاق تحديدهم لصيغ الإيجاب والقبول، فإنّ التعامل بغيرها وخاصة (الحسيب) لا سبيل إلى إيجاد علاقة (شكلية) بينه وبين تلك الصيغ لاستحالة وجود صوت أو عبارة لفظية بذاتها يمكن له إلحاقها بها.
لكن فهم فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله مما سقنا بعضًا منه في الفصل الرابع إذ اعتمد الإشارة أساسًا للحكم في قصة الجارية المعتاد عليها مثلا، بل اعتمد عدم التعبير والإمساك عنه أساسًا لإبرام العقد بقوله صلى الله عليه وسلم: ((الثيب تعرب عن نفسها والبكر إعرابها صمتها)) تعليق: الحديث بهذا اللفظ أخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي من حديث عدي بن عدي بن عميرة. قال أحمد في [مسنده: 4/192] :
حدثنا إسحاق بن عيسى قال: حدثني ليث يعني ابن سعد قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن، عن ابن أبي حسين، عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الثيب تعرب عن نفسها والبكر رضاها صمتها)) .
ثم قال:
حدثنا علي بن عياش وإسحاق بن عيسى وهذا حديث علي قال: حدثنا الليث بن سعد قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن، عن ابن أبي حسين المكي، عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشيروا على النساء في أنفسهن فقالوا: إن البكر تستحي يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الثيب تعرب عن نفسها بلسانها والبكر رضاها صمتها)) .
وقال ابن ماجه في [سننه: 1/602، ح 1872] :
حدثنا عيسى بن حماد المصري، أنبأنا الليث بن سعد، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن ابن أبي حسين، عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الثيب تعرب عن نفسها والبكر رضاها صمتها)) .
وتعقبه الكتاني في [المصباح: 1/330، ح 674] بقوله:
هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع. عدي لم يسمع من أبيه عدي بن عميرة يدخل بينهما العرس بن عميرة قاله أبو حاتم وغيره.
وقال المزي: رواه يحيى بن أيوب المصري عن ابن أبي حسين، عن عدي بن عدي، عن أبيه، عن العرس رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال:
وهكذا رواه الحاكم في (المستدرك) من طريق عمرو بن الربيع، عن طارق، عن يحيى بن أيوب فذكره بإسناده ومتنه. ورواه البيهقي في (سننه الكبرى) عن الحاكم به، ورواه الإمام أحمد في (مسنده) عن طريق عدي بن عدي. ورواه ابن أبي شيبة في مسنده عن يحيى بن إسحاق، عن ليث بن سعد وأبو يعلي الموصلي، حدثنا زهير، حدثنا إسحاق بن عدي، حدثنا ليث فذكره.
ثم قال:
وله شاهد من حديث ابن عباس وأبي هريرة في (صحيح مسلم) وغيره.
قلت: لم أقف على هذا الحديث في مظانه من (مستدرك) الحاكم ولا من (الكتاب المصنف) لابن أبي شيبة لكن رواه البيهقي عن الحاكم فقال في [السنن الكبرى: 7/113] :
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق، أخبرني يحيى بن أيوب، عن أبيه، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، أنه أخبره عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه، عن عرس بن عميرة الكندي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وأمروا النساء في أنفسهم فإن الثيب تعرب عن نفسها والبكر رضاها صمتها)) .(6/912)
وأخبرنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق التركي وأبو بكر بن الحسن القاضي قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنبأ ابن وهب، أخبرني الليث بن سعد، عن عبد الله بن عبد الرحمن القرشي، عن عدي بن عدي الكندي، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((شاوروا النساء في أنفسهن فقيل له: يا رسول الله إن البكر تستحي قال: الثيب تُعَرِّف عن نفسها والبكر رضاها صمتها)) . ولم يذكر العرس في إسناده. . واعتباره الأساس الحق دون غيره لتحديد أساليب إبرام العقود. أقول لكن ذلك هو الذي يخرج بنا من دوامة تمحلات المتفقهة وتعقيداتهم في تحديد صيغ التعاقد وأساليبه، ويبين المعجزة الإلهية العجيبة المتجلّية في إثبات أنّ الشريعة الإسلامية شريعة أبديَّة لا تتخلّف عن زمان ولا تختلف في بيئة ليس بدلالات النصوص القرآنية فحسب بل وبدلالات ما ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله.
وفي هذا المجال أيضًا يتجلَّى تأثير الأعراف والعادات في تكييف مناهج استنباط الأحكام وفهم النصوص وتعيين أساليب التعامل وصِيَغِه طبقًا لها في غير عناء ولا تمحل، وذلك لما للأعراف والعادات التي تؤثر في صنعها تأثيرًا بليغًا مستحدثات الحضارة البشرية ومقتضياتها من أثر حاسم في توجيه وتكييف أفهام الناس للنصوص واستنباطهم الأحكام منها وفقههم لأسرارها وحكمها التشريعية.(6/913)
على أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع الأساس العملي بطريقة عملية لهذه الحقيقة حقيقة تحكيم الأعراف والعادات في ضبط طرائق المعاملات وأساليب صياغة العقود بين الناس بما أقرّ من معظم ما وجد عليه الناس في حياتهم المعاشية وتصحيح وتقويم بعضها مما لم يكن ملتزمًا بقواعد العدل التي هي أساس التشريع الإسلامي وكل تشريع سبقه.
ومن أبرز ما يشخص ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن مكة والكيل كيل المدينة)) . وما شاكل هذا القول من ألفاظ الحديث. وإقراره التعامل بالدينار والدرهم نقدًا ووزنًا وهو ما كان عليه العمل في الحجاز عندئذ.
وجلي أن تعيين المبيع بالكيل والوزن وما شاكلهما وتعيين الثمن بالنقد المسكوك أو الموزون أساسان ضروريان لتحقيق العدل ونفي الغرر والاعتساف في المعاملات المالية وما شاكلها.
ولو شاء صلى الله عليه وسلم لوضع للناس كيلا جديدًا ووسيلة أخرى للتثمين غير ما كانوا تعوَّدوا التعامل به، لكنه صلى الله عليه وسلم بإقراره لما وجده عادة عادلة درجوا عليها في تعيين المبيع وتحديد الثمن شَرَعَ تشريعًا يتجاوز هذين الأمرين، ومداه أنَّ كل عادة وكل عرف لا يخرج عن نطاق العدل والإنصاف مشروع له قوة النص بل له قوة التحكّم في تحديد ما يفهم من النص وما يفقه من دلالاته الشرعية، وبهذا التشريع يتحقق أساس قابلية التطور للنصوص الشرعية الحافظة وحدها لأساس العدل بين الناس ولبقاء العلاقة الضرورية بين معاملاتهم وبين ما تجب عليهم مراعاته من الالتزام بضوابط ومعايير شرع الله.
ولبيان أن هذا الأساس أساس طبيعي متجانس مع ما جرى عليه التطور الحضاري البشري نسوق فيما يلي شواهد مما درج عليه وتطور التشريع الوضعي لدى غير المسلمين واقتبسته دول إسلامية دأبت على التكيف بالمناهج التشريعية الوضعية في تشريعاتها.
*
**(6/914)
الفصل الثامن
العقد كما يتصور في التشريع البشري
قال السنهوري في [مصادر الحق: 3/144، 146] :
الوحدة في العقد كانت تضاهي الوحدة في الدعوى والعقد كالدعوى كانت تسوده البساطة العامة فكان لا يشتمل إلا على صفقة واحدة ولا ينشئ إلا حقًّا واحدًا، وبقدر تعدّد السلطات والحقوق كان من الواجب أن تتعدد العقود، كان لا يجوز أن يجتمع حقّان من طبيعة مختلفة، حق عيني وحق شخصي في عقد واحد، بل كان لا يجوز أن يجتمع حقان من طبيعة واحدة في عقد واحد سواء كانا حقّين عينيين أو حقين شخصيين.
كان لا يجوز أن يجتمع حق عيني وحق شخصي في عقد واحد يتجلى أثر ذلك في الرهن، فقد بدأت فكرة الرهن تدخل النظام القانوني على الوجه الآتي: كان الرهن ينقل ملكية العين المرهونة إلى الدائن المرتهن ثم يفرض عليه التزامًا أن يعيد إليه هذه الملكية عند وفاء الدين المضمون بالرهن، فكانت عملية الرهن على هذا الوجه تتضمن نقل حق عيني وإنشاء التزام شخصي ولكن لم يكن يجتمع الأمران معًا في عقد واحد فينقل الراهن في العقد ملكية العين المرهونة ويشترط في نفس العقد أن تعاد إليه الملكية عند وفاء الدين، بل كانت تنقل إلى المرتهن في عقد شكلي (MANCIPATION) مستقل والالتزام بإعادة نقلها إلى الدائن يفرض في عقد شكلي آخر (CONVENTION ACCESSOIRLAFIDUCIA) متميز عن العقد الأول، كذلك إذا أراد المولى أن يعتق عبده وأراد في الوقت ذاته أن يخدمه العبد بعد العتق لم يكن المولى يستطيع في عقد واحد أن يجمع بين العتق واشتراط الخدمة، بل كان عليه أن يعتق العبد بتصرف قانوني قائم بذاته غير مقترن بأي شرط ثم يشترط عليه الخدمة في عقد آخر متميز عن التصرف الذي تضمن الإعتاق.
وكان أيضًا لا يجوز أن يجتمع حقان عينيَّان في عقد واحد كأن يجتمع حق الملكية مع الارتفاق حتى إن المالك كان إذا أراد أن ينقل ملكية العقار إلى شخص آخر على أن ينشىء لمصلحته حق ارتفاق على هذا العقار لم يكن ينقل ملكية العقار كاملة، ثم يشترط في العقد ذاته إنشاء حق الارتفاق بل كان ينقل حق الملكية منقوصًا منه حق الارتفاق الذي يستبقيه لنفسه، فلم يكن العقد يتضمن صفقتين إحداهما نقل حق الملكية والأخرى إنشاء حق الارتفاق بل كان يتضمن صفقة واحدة هي الملكية الناقصة بعد الاحتفاظ بحق الارتفاق ولم يكن حق الارتفاق ينشأ بالعقد بل يستبقي على أصل الملك الأول.(6/915)
وكان أخيرًا لا يجوز أن يجتمع حقان شخصيان في عقد واحد، كبيع وإيجار أو بيع وقرض ذلك أن الصناعة القانونية كانت تقضي بأن يكون لكل عقد صيغة خاصة لا ينعقد إلا بها، ولا ينعقد بها غيره من العقود. وكان يراد التعامل. ومن ثم كان المتعاقدان لا يستطيعان استعمال صيغة عقد البيع في الوقت الذي يستعملان صيغة الإيجار أو صيغة عقد القرض، وكان لا يمكن تبعًا لذلك أن يجمع المتعاقدان صفقتين في صفقة واحدة.
ثم إن العقد طبقًا للصناعة القانونية القديمة هو أيضًا وحدة زمانية في وقت معين – هو الوقت الذي يبرم فيه العقد – يتركز كل شيء يتعلق بهذا العقد من ناحية تمامه والفراغ منه، ومن ناحية الشروط الواجب توافرها فيه ومن ناحية الآثار التي تترتب عليه.
1- فمن ناحية تمام العقد والفراغ منه تتجلى وحدة الزمان في أن المتعاقدين يجب أن يحضرا في مكان واحد وأن يبرما العقد في وقت واحد ذلك بأن وحدة الزمان تقتضي وحدة المكان، ففي مكان واحد وفي وقت واحد يبرم العقد الواحد وذلك هو مجلس العقد.
ويقول أهرنج [روح القانون الروماني: 4/149] في هذا الصدد: في جميع التصرفات القانونية التي تستلزم اشتراك أشخاص متعددين كانت وحدة التصرف تقتضي حضور هؤلاء الأشخاص في مكان واحد، فالوحدة في العقد أي الوحدة في الزمان تقتضي الوحدة في المكان ومن ثمَّ كان لا يجوز أن يدخل على العقد بعد إبرامه أي تعديل، وإذا أريد تعديل العقد وجب أولا إنهاؤه ثم إبرام عقد جديد ينشئ ابتداء الروابط القانونية على الوجه المعدل ذلك أن جواز تعديل العقد مع بقائه قائمًا يخل بالوحدة الزمانية في إبرامه فقد كان ينبغي جمع كل التعديلات المطلوبة وإدماجها في العقد وقت إبرامه حتى تتحقق الوحدة الزمانية.
ثم علّق السنهوري على هذه الفقرة مضيفًا إليها فقرة أخرى نقلها أيضًا عن أهرنج [نفس المرجع: ص52] وهي قوله: (على أن اتساع الرقعة الجغرافية وتعقد طرق المواصلات وانتشار الحضارة، كل أولئك دعا بعد ذلك إلى استعمال وسائل المراسلة من رسول وكتب ونحو ذلك، فوجد العقد بالتراسل والكتابة واختلت وحدة الزمان والمكان) .(6/916)
قلت: وعلى هذه القاعدة من التطور الحضاري وتأثيره في تكييف طرائق التعاقد بين الناس عادت الوحدة الزمانية لتصبح من جديد أساسًا فعالا في وحدة العقد ذلك بأن (إلغاء المسافة) بوسائل التواصل المستحدثة جعلت من الممكن بل من الأيسر عمليًّا أن يتعاقد أثنان أو أكثر في لحظة واحدة مهما تباعدت مواقعهما، فوسائل الاتصال السلكي واللاسلكي أعادت للوحدة الزمانية موقعها وتأثيرها في التعاقد بين الناس ولا عبرة بالثواني أو الدقائق التي تفصل بين الرسائل والأخرى عند استعمال وسائل الاتصال الكتابي لا سلكيًّا فهي لا تختلف في شيء عن تلك الثواني أو الدقائق التي يستغرقها ويستلزمها التفاوض بين اثنين أو أكثر على الثمن أو على نوع البضاعة أو على طرق تسليمها أو موعده أو ما إلى ذلك مما هو ضروري لضبط قواعد التعامل في السلع الكبرى والعقارات وما إليها ما لا سبيل إلى تصوُّر تناوله في مجلس العقد.
وإذا اعتبرنا الوحدة المكانية يمكن أن تشمل لزوم كل من المتعاقِدَيْنِ أو المتعاقِدِينَ مكانه حال التعاقد لا يَرِيمُه حتى يتم العقد وإن كانت بينهما أو بينهم مسافة أو مسافات فاصلة على أن الأصل في اعتبار الوحدة المكانية هي عدم الانتقال الذي يقضي على الوحدة الزمانية فإن وسائل الاتصال الحديثة أعادت أيضًا لهذه الوحدة موقعها وتأثيرها في تكييف العقود ولا عبرة باحتمال أن ينهض أحد المتعاقدين من كرسيه ليأخذ ملفًا في خزانة بجانبه أو بطاقة من درج بدافع الحاجة إلى مراجعة بعض المواصفات أو العناصر التي يترتب عليها التعاقد إذ إن مثل هذا التحرك يمكن أن يحدث في مجلس العقد بين متواجهين في مكان واحد وما من أحد يمكن أن يقول أنه يعتبر تفرقًا – حتى على مذهب الشافعي – يلغي الوحدة المكانية أو الوحدة الزمانية.
ومن هذا يتضح أن (خيار المجلس) – على اختلافهم في تصوره وضبط مقتضياته – لا يختلف في التشريع الإسلامي عما كان عليه العمل في التشريع الوضعي لدى الشعوب غير الإسلامية السابقة إلى الانضباط بالشرائع الوضعية في تعاملها، وهذا دليل آخر على ما سبق أن أوضحناه من أن التشريع الإسلامي لم يأت بالتغيير في جل المعاملات البشرية وإنما جاء بتنظيمها وضبطها وإقرارها على قواعد أوفر عدالة وأحق إنصافًا.
ثم قال السنهوري في [الوسيط: 1/137، فقرة 36] :
يميز بعض الفقهاء بين الاتفاق والعقد، فالاتفاق (CONVENTION) هو توافق إرادتين أو أكثر على إنشاء التزام أو نقله أو تعديله، أو إنهائه. فالاتفاق على إنشاء التزام، مثله عقد البيع البيع، ينشئ التزامات في جانب كل من البائع والمشتري. والاتفاق على نقل التزام،مثله الحوالة , تنقل الحق أو الدين من دائن لدائن آخر أو من مدين لمدين آخر. والاتفاق على تعديل التزام , مثله الاتفاق على اقتران أجل بالالتزام أو إضافة شرط له. والاتفاق على إنهاء التزام، مثله الوفاء ينتهي به الدين.
والعقد (CONTRA) أخص من الاتفاق فهو توافق إرادتين على إنشاء التزام أو على نقله، ومن ذلك يتضح أن كل عقد يكون اتفاقا. أما الاتفاق فلا يكون عقدًا إلا إذا كان منشئًا لالتزام أو ناقلا له، فإذا كان يعدِّل الالتزام أو ينهيه فهو ليس بعقد.(6/917)
ثم قال [فقرة 37، ص138] :
ولا نرى أهمية للتمييز بين الاتفاق والعقد ونتفق في هذا مع أكثر الفقهاء. وإذا كان الفقهاء الذين يقولون بالتمييز يرون أهمية له من حيث الأهلية، فهي تختلف في العقد عنها في الاتفاق، فإنه يلاحظ على هذا الرأي أن الأهلية تختلف باختلاف العقود ذاتها فهي في عقود التبرع مثلًا غيرها في عقود المعاوضة، ومع ذلك لم يقل أحد أن هنالك فرقًا ما بين الهبة والبيع من حيث أن كلا منهما عقد بمجرد أن الأهلية تختلف في أحدهما عن الآخر.
وفي معرض بيانه للتعبير عن الإرادة، قال [ص175، 178، فقرة 76] :
نصت المادة (90) من القانون المدني الجديد – يعني المصري – على ما يأتي:
1- التعبير عن الإرادة يكون باللفظ، وبالكتابة، وبالإشارة المتداولة عرفًا، كما يكون باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على حقيقة المقصود.
2- ويجوز أن يكون التعبير عن الإرادة ضمنًا إذا ما نص القانون أولم يتفق الطرفان على أن يكون صريحا.1212
ونرى من ذلك أن التعبير عن الإرادة - وهو مظهرها الخارجي وعنصرها المادي المحسوس - يكون تارة تعبيرًا صريحًا وطَوْرًا تعبيرًا ضمنيًّا.
ويكون التعبير عن الإرادة صريحًا إذا كان المظهر الذي اتخذه – كلامًا أو كتابة أو إشارة أو نحو ذلك – مظهرًا موضوعًا في ذاته للكشف عن هذه الإرادة حسب المألوف بين الناس. فالتعبير الصريح يكون بالكلام وذلك بإيراد الألفاظ الدالة على المعنى الذي تنطوي عليه الإرادة، وقد يؤدي اللسان هذه الألفاظ مباشرة وقد يؤديها بالواسطة كالمخاطبة التليفونية وكإيفاد رسول لا يكون نائبًا وقد يكون التعبير الصريح بالكتابة في أي شكل من أشكالها، عرفية كانت أو رسمية، في شكل سند أو كتاب أو نشرة أو إعلان، موقعًا عليها أو غير موقّع، مكتوبة باليد أو بالآلة الكاتبة أو بالآلة الطابعة أو بأية طريقة أخرى أصلا كانت أو صورة.
وبديهي أن الإثبات بالكتابة يتطلب شروطًا أشد مما يتطلبه التعبير بالكتابة، ويكون التعبير الصريح أيضًا بالإشارة المتداولة عرفًا فإشارة الأخرس غير المبهمة تعبير صريح عن إرادته، وأية إشارة من غير الأخرس تواضعت الناس على أن لها معنى خاصًّا يكون تعبيرًا صريحًا عن الإرادة كهز الرأس عموديًّا دلالة على القبول وهزها أفقيًّا أو هز الكف دلالة على الرفض. ويكون التعبير الصريح – أخيرًا – باتخاذ أي موقف آخر لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على حقيقة المقصود، فعرض التاجر بضاعته على الجمهور مع بيان أثمانها يعتبر إيجابًا صريحًا، ووقوف عربات الركوب ونحوها في الأماكن المعدة لذلك عرض صريح على الجمهور، ووضع آله ميكانيكية لتأدية عمل معين كميزان أو آلة لبيع الحلوى أو توزيع طوابع البريد أو نحو ذلك، كل هذا يعد تعبيرًا صريحًا.(6/918)
ثم قال:
وأي مظهر من مظاهر التعبير الصريحة أو الضمنية يكفي بوجه عام في التعبير عن الإرادة مع مراعاة أن هناك عقودًا شكلية سبقت الإشارة إليها تستلزم أن يتخذ التعبير مظهرًا خاصًّا في شكل معين ومع مراعاة أن هناك قواعد للإثبات تستوجب الكتابة في كثير من الفروض، ولكن الكتابة في هذه الحالة الأخيرة ليست مظهرًا للتعبير عن الإرادة بل طريقًا لإثبات وجودها من بعد أن يسبق التعبير عنها ومع ذلك فهناك أحوال يجب التعبير عن الإرادة فيها تعبيرًا صريحًا ولا يكتفي بالتعبير الضمني.
وقال في تعليق له قبل هذه الفقرة الأخيرة:
وهناك رأي يذهب إلى أن التعبير الصريح هو التعبير المباشر أو التعبير الذي يقصد به إيصال العلم بطريق مباشر إلى من توجَّه إليه هذه الإرادة.
قلت: على أن الكتابة بالوسائل اللاسلكية الحديثة الناسخة منها والناقلة لصور الوثائق يمكن أن تعتبر جامعة بين كونها وسيلة للتعبير الصريح عن الإرادة ووسيلة لإثبات وجودها باعتبار أن مجموع الرسائل أو الوثائق المتبادلة لا سلكيًّا تكون وثيقة العقد، ففي هذه الحالة تكون الوثيقة – في آن واحد – معبرة عن الإرادة ومثبتة لوجودها.
ثم قال [ص237، 245] :
.... يحدث كثيرًا أن يتم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مجلس واحد ويتم ذلك بالمراسلة بأية طريقة من طرقها المختلفة، البريد أو البرق أو رسول خاص لا يكون نائبًا أو غير ذلك.
وليس الذي يميز بين الفرضين في حقيقة الأمر هو أن يجمع المتعاقدين مجلس العقد أو ألا يجتمعا في مجلس واحد، بل إن المميز هو أن تفصل فترة من الزمن بين صدور القبول وعلم الموجب به في التعاقد ما بين حاضرين تمحي هذه فترة من الزمن ويعلم الموجب بالقبول في الوقت الذي يصدر فيه. أما في التعاقد ما بين غائبين فإن القبول يصدر ثم تمضي فترة من الزمن هي المدة اللازمة لوصول القبول إلى علم الموجب ومن ثم يختلف وقت صدور القبول عن وقت العلم به.
والذي يؤكد ما تقدم، أننا نستطيع أن نتصور تعاقدًا ما بين غائبين لا يفصل زمن فيه ما بين صدور القبول والعلم كالتعاقد بالتليفون وعندئذٍ تنطبق قواعد التعاقد ما بين حاضرين على ما صدر، ونستطيع أن نتصور تعاقدًا ما بين حاضرين يفصل زمن فيه بين صدور القبول والعلم به وعندئذٍ تنطبق قواعد التعاقد ما بين غائبين، ويكفي لتحقق ذلك أن نتصور أن المتعاقدين افترقا بعد صدور الإيجاب الملزم وقبل صدور القبول، ثم صدور القبول بعد ذلك وأتى من صدر منه القبول بنفسه يبلغ الموجب قبوله.(6/919)
وعلق على هذه الفقرة بقوله:
ولو قبل شخص إيجابًا صدر من أصم وهما في مجلس واحد فلم يسمع الموجب القبول فكتبه له الطرف الآخر فإن معرفة الوقت الذي تم فيه العقد هل هو وقت صدور القبول أو وقت كتابة القبول للموجب؟ وتمكن هذا من قراءته تتبع فيه قواعد التعاقد ما بين غائبين.
قلت: وافتراض آخر لم يتصوره السنهوري – رحمه الله – ولا نقله عمن نقل عنهم الفرض السابق وهو أن يكون أحد الطرفين أعمى والآخر أصم فأوجب الأعمى وقبل الأصم، وطبيعي في هذه الحالة أن يكون جواب الأصم كتابة وعلم الأعمى بعد قراءة ما كتب الأصم، وإذا تصورنا أن كاتب الأعمى الذي يبصر به إذ هو الذي يقرأ له ويقوده غاب لحظتئذٍ عن المجلس لبضع ثوانٍ أو دقائق فإن فترة زمنية تمر قبل أن يعلم القبول.
ثم قال السهنوري:
فالعبرة إذن ليست باتحاد المجلس أو اختلافه بل يتخلل فترة من الزمن بين صدور القبول والعلم به.
ثم قال:
ومتى وضعنا المسألة على النحو الذي قدمناه تبين في الحال ماذا يترتب على هذا الوضع، فما دام هناك فترة من الزمن تفصل ما بين صدور القبول والعلم به وجب التساؤل إذن متى يتم العقد؟ أو وقت صدور القبول أم وقت العلم به؟ فإن تعين الوقت الذي يتم فيه العقد تعين أيضًا المكان الذي يتم فيه: يتم في المكان الذي يتم فيه الموجب إذ قلنا: إن العقد لا يتم إلا إذا علم الموجب بالقبول ويتم في المكان الذي يوجد فيه من صدر منه القبول إذا قلنا العقد يتم بمجرد صدور القبول.
فزمان العقد هو الذي يحدد مكانه وهذا هو الأصل وقد يختلف مكان العقد عن زمانه في بعض الفروض أهمها التعاقد بالتليفون فإنه لا يفصل زمن ما بين صدور القبول والعلم به كما رأينا فهو من ناحية الزمان بمثابة تعاقد ما بين حاضرين، أما من ناحية المكان فالمتعاقدان في جهتين مختلفتين فتجرى في تعيينه قواعد التعاقد ما بين غائبين.
ثم قال [فقرة 122] :
الفقه في البلاد التي ليس فيها تشريع يعين الزمان والمكان اللَّذَيْنِ يتم فيهما العقد – كما في فرنسا – وفي مصر في ظل القانون القديم – منقسم متشعب الرأي وذلك بالرغم من أهمية تعيين زمان العقد ومكانه على ما سنرى.(6/920)
وذلك أن خاصية التعاقد بالمراسلة في ما بين غائبين هي - كما قدمنا - الفترة من الزمن التي تفصل ما بين صدور القبول والعلم به
وأضاف معلقًا على هذا قوله:
وهنالك أمر آخر يقع في التعاقد بالمراسلة وهو أن تبلغ أحد المتعاقدين إرادة الآخر على غير حقيقتها، فكثير ما يقع في المراسلات البرقية خطأ في نقل ما يريد المرسل تبليغه للمرسل إليه فيعتمد هذا على ما بلغه خطأ مثل ذلك أن يظن المشتري أن البائع يعرض عليه البيع بثمن هو دون الثمن الذي يرضى به ويكون هذا نتيجة لوقوع خطأ في البرقية التي أرسلها البائع للمشتري، فإذا قبل المشتري التعاقد فهل يتم العقد؟ العقد لا يتم إذا أخذنا بالإرادة الباطلة وهذا ما ذهب إليه القضاء في مصر.
وبعد أن أثبت مراجع لهذا الرأي قال:
ويتم العقد إذا أخذنا بالإرادة الظاهرة ولكن يرجع المتعاقد الذي أصابه ضرر بالتعويض على المسئول عن الخطأ الذي وقع.
قلت: حدوث هذا وارد الاحتمال في البرقيات لأنها تحول إلى إشارات ثم تترجم من تلك الإشارات لمن أرسلت إليه ويحتمل - لكن بصورة أقل - أن يحدث في الاتصال بوسيلة النقل الكتابية (التلكس - TELEX) ، لكن حدوثه في هذه الوسيلة يشاكل حدوثه في المراسلات الكتابية الخطية أو المطبعية وأي حكم يعتمد في حال حدوثه في هذه ينطبق على حدوثه في تلك. أما وسائل النقل اللاسلكي للوثائق بالتصوير وكذلك التعاقد بالهاتف فلا سبيل إلى احتمال مثل هذا الخطأ.
ثم استأنف السنهوري قائلا:
والحق أن التعاقد إذا تم بين غائبين تعذر الوقوف على وقت يعلم فيه المتعاقدان معًا بتلاقي الإرادتين فلا يمكن أن يعلم الموجب بصدر القبول بل يجب أيضًا أن يعلم القابل بهذا العلم. وهكذا. وهذا هو الدور وهو ممتنع بل إن تلاقي الإرادتين في التعاقد ما بين غائبين لا يمكن الجزم به فقد يعدل الموجب عن إيجابه ولا يصل هذا العدول إلى علم القابل إلا بعد وصول القبول إلى علم الموجب، وقد يعدل القابل عن قبوله ولا يصل هذا العدول إلى علم الموجب إلا بعد وصول القبول إلى علمه وفي الحالتين يتم العقد وفي الحالتين لم تتلاق الإرادتان.(6/921)
وعلق على هذا بقوله:
وقد قيل: إن الوقوف عند وقت صدور القبول في التعاقد ما بين الغائبين يلقي الموجب في حيرة فهو لا يعلم متى تم العقد ولكن هذا القول مردود بأن الوقوف عند وقت العلم بالقبول هو أيضًا من شأنه أن يوقع القابل في حيرة، إذ هو لا يدري متى وصل القبول إلى علم الموجب فلا يعلم متى تم العقد، ونرى من ذلك أن اعتبار وقت صدور القبول من شأنه أن لا يطمئن الموجب واعتبار وقت العلم بالقبول من شأنه أن لا يطمئن القابل فلا ميزة لقول على آخر من حيث اطمئنان المتعاقدين.
قلت: ولكن هذا الاعتبار يكاد يمحي باستعمال وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية الحديثة غير البرقية إذ إن الفترة الفاصلة بين تلقي القابل الرسالة الكتابية بالتلكس (TELEX) أو بالتلفاكس (TELEFAX) الوثيقة مصورة لا يعدو بضع ثوان أو بضع دقائق على أبعد احتمال. أما الهاتف فلا يوجد فاصل زمني إطلاقًا وهذا ما يرجح بوسائل الاتصال الحديثة 0 غير البرق – عن غيرها من وسائل التعاقد بين غائبين أو أكثر.
ثم استأنف السنهوري قائلا:
فليس يعنينا إذن في التعاقد ما بين الغائبين أن يعلم المتعاقدان معًا بتلاقي الإرادتين ولا بأن تتلاقى الإرادتان فعلا فإن هذا وذاك قد يتعذر تحققه كما قدمنا ولا يبقى أمامنا – وقد صدر القبول في وقت متقدم على الوقت الذي علم فيه الموجب بهذا القبول – إلا أن نختار بين الوقتين، وقت صدور القبول ووقت العلم به.
فإذا نحن وقفنا عند صدور القبول فعلينا أن نختار بين الوقت الذي أعلن فيه القابل قبوله – وهذا هو مذهب إعلان القبول (SYSTEME DE DECLARATION) – هذه هي مذاهب أربعة ولكل مذهب منها أنصار يقولون به.
[فقرة 123] :
أما أنصار مذهب إعلان القبول فيقولون: إن نظريتهم هي المنطبقة على القواعد العامة، فالعقد توافق إرادتين ومتى أعلن الطرف الآخر قبوله للإيجاب المعروض عليه فقد توافقت الإرادتان وتم العقد، هذا إلى أن المذهب يتفق مع مقتضيات الحياة التجارية من وجوب السرعة في التعامل.
ويؤخذ على هذا المذهب خروجه على القواعد العامة من ناحيتين، فليس من الضروري أن تكون الإرادتان متوافقتين بإعلان القبول إذ يجوز أن يعدل الموجب ولا يصل عدوله إلى القابل إلا بعد صدور القبول، كذلك ليس من الصحيح أن القبول ينتج أثره بمجرد صدوره فالقبول إرادة لا تنتج أثرها إلا من وقت العلم بها.
[فقرة 124] :
مذهب تصدير القبول: وأنصار هذا المذهب يتفقون في الواقع مع أنصار المذهب الأول فهم يكتفون بإعلان القبول ولكنهم يشترطون أن يكون هذا الإعلان نهائيًّا لا رجوع فيه ولا يكون ذلك إلا إذا كان من صدر عنه القبول قد بعث فعلا بقبوله إلى الموجب بحيث لا يملك أن يسترده بأن ألقاه في صندوق البريد أو سلمه لعامل البرق فبعث به أو أبلغه لرسول انطلق ليخبر به الموجب.
ويؤخذ على هذا المذهب أنه إذا كان مذهب القبول كافيًا لتمام العقد فليس من القانون ولا من المنطق أن يزيد التصدير أية قيمة قانونية على أن القبول المصدر يمكن استرداده كما تقضي بذلك لوائح البريد في كثير من البلاد، والكتاب في البريد ملك للمرسل حتى يتسلمه المرسل إليه.
[فقرة 125] :
مذهب تسليم القبول: وأنصار هذا المذهب يرون أن القبول لا يكون نهائيًّا بتصديره إذ يمكن استرداده وهو في الطريق وهو لا يكون نهائيًّا لا يسترد إلا إذا وصل إلى الموجب ففي هذا الوقت يتم العقد سواء علم الموجب أو لم يعلم على أن وصول القبول إلى الموجب قرينة على علم هذا به.
ومن ذلك نرى أن مذهب تسلم القبول يتذبذب بين مذهبي التصدير والعلم فهو بين أن يكون قد أخذ بمذهب التصدير مستأنيًا إذ لا يرى التصدير باتًّا حتى يصل القبول إلى الموجب وبين أن يكون قد أخذ بمذهب العلم متعجلا إذ يجعل وصول القبول قرينة على هذا العلم.(6/922)
والمذهب من حيث إنه صورة معدلة لمذهب التصدير لا يزيد في قيمته عن هذا، فإن وصول القبول إلى الموجب دون علمه به لا يزيد إعلان القبول شيئًا من الناحية القانونية، وإذا قيل إن الكتاب يصبح ملكًا للمرسل إليه فإن المقصود من هذا هو الملكية المادية، أما الملكية المعنوية فتبقى للمرسل، أما إذا أريد بالتسليم أن يكون قرينة على العلم، فإن كانت القرينة قاطعة أعوزها النص وإن كانت غير قاطعة فقد المذهب استدلاله واختلط بمذهب القبول الذي نتولى الآن بحثه.
[فقرة 126] :
مذهب العلم بالقبول: والواقع أن المذهبين الرئيسين هما: مذهب إعلان القبول ومذهب العلم بالقبول وما عداهما فمتفرع عنهما ويرد إليهما ولمذهب العلم بالقبول أنصار كثيرون وهم لا يكتفون من القبول بإعلانه بل يشترطون علم الموجب به شأن كل إرادة يراد بها أن تنشئ أثرًا قانونيًّا فهي لا يترتب عليها هذا الأثر إلا إذا علم بها من هي موجهة إليه وهم يتخذون من وصول القبول قرينة على علم الموجب ولكنها قرينة قضائية يؤخذ بها أو لا يؤخذ وهي على كل حال تقبل إثبات العكس.
[فقرة 127] :
النتائج التي تترتب على الأخذ بمذهب دون آخر: ونقارن الآن بين المذهبين الرئيسيين: مذهب الإعلان ومذهب العلم في النتائج التي تترتب على الأخذ بمذهب منهما دون الآخر فيتبين الفرق بينهما فيما يأتي:
1- إذا عدل الموجب عن إيجابه ووصل العدول إلى علم القابل بعد إعلان القبول وقبل علم الموجب به فإن العقد يتم وفقًا لمذهب الإعلان ولا يتم وفقًا لمذهب العلم، كذلك من صدر عنه القبول لو عدل عن قبوله ووصل العدول إلى الموجب غير متأخر عن وصول القبول، فإن العقد يتم وفقًا لمذهب الإعلان ولا يتم وفقًا لمذهب العلم.
2- إذا كان العقد بيعًا واقعًا على منقول معين بالذات فإن ملكيته تنتقل إلى المشتري من وقت تمام العقد وتكون الثمار للمشتري من ذلك الوقت أي من وقت العلم بالقبول إذا أخذنا بمذهب العلم أو من وقت إعلان القبول إذا أخذنا بمذهب الإعلان وكعقد البيع أي عقد آخر ناقل للملكية.
3- هناك مواعيد تري من وقت تمام العقد كمواعيد التقادم، بالنسبة إلى الالتزامات المنجزة التي تنشأ من العقد فتسري هذه المواعيد من وقت العلم بالقبول وفقًا لنظرية العلم ومن وقت إعلان القبول وفقًا لنظرية الإعلان.(6/923)
4- في الدعوى البوليصية – لعلها إشارة إلى ما يسمى في الشرق العربي بوليصة الثمن أي وثيقة شحن البضاعة في الباخرة أو الطائرة – لا يستطيع الدائن الطعن في عقد صدر من مدينه إضرارًا بحقه إلا إذا كان هذا العقد متأخرًا في التاريخ عن الحق الثابت له في ذمة المدين، فلو أن هذا الحق قد ثبت ذمة المدين في الفترة ما بين إعلان القبول والعلم به في العقد الذي يريد الدائن الطعن فيه فإنه يجوز للدائن الطعن في العقد وفقًا لنظرية العلم ولا يجوز له ذلك وفقًا لنظرية الإعلان.
5- العقود التي صدرت من تاجر شَهَرَ إفلاسَه يتوقف نصيبها من الصحة والبطلان على معرفة وقت تمامها وتختلف حظ – لعل صوابه: حظوظ – هذه العقود بحسب ما إذا كانت قد تمت قبل المدة المشتبه فيها أو في أثناء هذه المدة أو بعد التوقف عن الدفع أو بعد شهر الإفلاس، فمهم إذن معرفة وقت تمام العقد في مثل هذه الفروض فقد يعلن القبول في مرحلة من هذه المراحل ويحصل العلم به في مرحلة أخرى فيختلف الحكم على العقد باختلاف المذهب الذي يؤخذ به.
6- تقضي قواعد القانون الدولي الخاص بأن القانون الذي يخضع له العقد هو القانون الذي أراد المتعاقدان وفقًا لنظرية سلطان الإرادة ويكون هذا القانون عادة هو قانون الجهة التي تم فيها العقد (LEX LOCI COTRACTU) ، فإذا تم عقد بين شخصين وكان من صدر منه الإيجاب موجودًا في مصر وعلم بالقبول فيها ومن صدر منه القبول كان موجودًا في فرنسا وقت صدور القبول فإن العقد يخضع للقانون المصري إذا أخذنا بمذهب العلم ويخضع للقانون الفرنسي إذا أخذنا بمذهب الإعلان والأخذ بأي المذهبين في تحديد المكان يحدد الزمان كذلك.
7- وقد يكون ارتكاب جريمة في بعض الفروض متوقفًا على تمام عقد مدني كجريمة التبديد فإنها تتم بتمام عقد البيع الذي يتصرف بموجبه المبدد في الأشياء التي كان مؤتمنًا عليها، فيهم أن نعرف في أي مكان تم عقد البيع، فإن هذا المكان هو الجهة التي وقعت فيه الجريمة، ومحكمة هذه الجهة هي المحكمة المختصة بالنظر في التبديد فإذا فرض أن المبدد وقت أن باع كان في بلد غير البلد الذي كان فيه المشتري فإن المحكمة المختصة تكون محكمة هذا البلد أو ذاك تبعًا للمذهب الذي يؤخذ به وهذا المذهب الذي يعين أيضًا وقت تمام العقد.(6/924)
[فقرة 128] :
وتأخذ بعض التقنيات الأجنبية الحديثة، بمذهب العلم بالقبول: أخذ به القانون الألماني (م130) والمشروع الفرنسي الإيطالي (م2، ف1) ، والتقنين التجاري الإيطالي (م36) ، والتقنين الإسباني (م262، ف2) .
وأخذ تقنين الالتزامات السويسري بمذهب تصدير القبول (م10) .
ثم قال: أما في فرنسا حيث لا يوجد نص تشريعي فالقضاء منقسم بين مذهبي إعلان القبول والعلم بالقبول، وتقضي محكمة النقض الفرنسية بأن تحديد وقت تمام العقد ومكانه مسألة يرجع فيها إلى نية المتعاقدين وهي مسألة موضوعية لا رقابة لمحكمة النقض عليها.
وقال أنور طلبة في كتابة [طرق وأدلة الإثبات في المواد المدنية والتجارية والأحوال الشخصية: ص245، 246، فقرة 209] :
للرسائل الموقع عليها قوة الدليل الكتابي – من حيث الإثبات – فتكون حجة على المرسل بصحة المدون فيها إلى أن يثبت هو العكس بالطرق المقررة قانونًا للإثبات.
ثم قال [فقرة 212] :
إن الرسائل والبرقيات لها قيمة الورقة العرفية في الإثبات، متى كانت هذه الرسائل وأصل البرقيات موقعًا عليها من مرسلها.
ثم قال [فقرة 213] :
لا يلزم لانعقاد العقد إثبات الإيجاب والقبول في محرر واحد، فإذا كان الحكم قد اعتمد في إثبات مشارطة إيجار السفينة على تسلسل البرقيات والمكاتبات المتبادلة بين الطرفين وما استخلصه من أن الإيجار قد صادفه قبول، فإن الحكم في قضائه على أساس ثبوت مشارطة الإيجار لا يكون قد خالف القانون.
وقال مأمون كزبري في [شرح القانون المدني المغربي: 1/62، 72، فقرة 39] :
لا يكفي لتمام العقد أن يصدر إيجاب وقبول متطابقان – كذا وصوابه: متطابقين – بل يجب أن يقترن القبول بالإيجاب وتختلف صور اقتران القبول بالإيجاب باختلاف طرق التعاقد.
فالتعاقد يكون بين طرفين حاضرين يضمهما مجلس واحد هو مجلس العقد، وقد يتم بالمراسلة وقد يحصل بواسطة رسول أو وسيط يحمل الإيجاب إلى من هو موجه إليه وقد يجري بالهاتف (أي بالتليفون) وكل طريقة من هذه الطرق لها أحكامها.
غير أنها جميعًا تخضع لبعض القواعد العامة.
ثم قال: [فقرة 40] :
أولًا.............................................................................. في البيع مثلًا لا بدَّ أن يكون بالإيجاب والقبول قد تطابقا من حيث تعيين المبيع وتحديد الثمن وكذلك من حيث سائر ما يعتبر البائع والمشتري أساسيًّا لإنجاز البيع كتعيين أجل دفع الثمن إذا كان البيع بأجل، أما إذا كان التراضي قد اقتصر على بعض العناصر الأساسية وأهملت عناصر أساسية أخرى لم يتناولها الإيجاب والقبول كأن يقول أحد لآخر: بعتك هذه الدار، ويقبل الطرف الآخر الشراء دون أن يحدد الطرفان المثمن فإن العقد يعتبر غير تام ولا ملزم.(6/925)
ثم قال:
ثانيًا: إذا أقام المتعاقدان فور إبرامهما اتفاقًا على إجراء تعديلات على هذا الاتفاق كأن يكون تضمن العقد الذي أبرم بين البائع والمشتري أداء الثمن ودفعة واحدة، ثم اتفق الطرفان في مجلس العقد على أن يؤدي الثمن أقساطًا، فإن هذا الاتفاق لا يعتبر عقدًا جديدًا قائمًا بذاته جاء معدلا لعقد سابق بل إنما يعتبر جزءًا لا يتجزأ من العقد القديم ومن طلبه، هذا ما لم يعلن الطرفان عكس ذلك.
ثم قال:
ثالثًا: إذا وقع تراضي الطرفين على بعض شروط العقد وأسقط الطرفان صراحة (شروط) – كذا صوابه: شروطا – أخرى معينة لتكون مدار اتفاق لاحق، فإن العقد لا يتم والشروط التي تم الاتفاق عليها تبقى نفسها مجردة من أي أثر قانوني حتى لو حرر الطرفان ما تم الاتفاق عليه كتابة، فإذا ما اتفق البائع والمشتري مثلا على تعيين المبيع وتحديد الثمن ونظمًا عقدًا خطيًّا بذلك ونَصَّا فيه على أنهما يحتفظان لعقد لاحق (الاتفاق) – كذا صوابه: بالاتفاق – على بيان زمان أداء الثمن ومكانه وبيان ما إذا كانت الثمار الموجودة في المبيع وقت العقد تبقى للبائع أو تئول للمشتري فإن عقد البيع لا يعتبر قد تم بينهما ولا يلزمان بالشروط التي اتفقا عليها.
ثم قال:
رابعًا: العبرة في التراضي (للإرادة) – كذا، وصوابه (بالإرادة – الظاهرة (VOLONTE EXTERNE) التي اطمأن إليها كل من الموجب والطرف الآخر الذي قبل الإيجاب لا (إلى) – صوابه: (بـ) – الإرادة الباطنة (VOLONTE INTERNE) الكامنة في النفس والتي ليس بالوسع الإحاطة بها، وعليه فالتحفظات والقيود التي يحتفظ بها أحد المتعاقدين في قرارة نفسه والتي لا تتصل بعلم المتعاقد الآخر لا يعتد بها ولا تؤثر على ما تم عليه الاتفاق بمقتضى الإرادة الظاهرة، فلو أن تاجرًا مثلا عرض على آخر بضاعة بثمن معين وقبل الطرف الآخر هذا الإيجاب فليس باستطاعة الموجب أن يطالب بزيادة مئوية على الثمن معللا طلبه بالزيادة بأنه إنما كان محتفظًا في قرارة نفسه بالمطالبة بالزيادة باسم عمولة، ولو أن شخصًا اشترى مؤسسة تجارية وقبل الشراء دون تحفظ أو قيد فليس له منع البائع من فتح مؤسسة شبيهة بالمؤسسة المبيعة تأسيسًا على أن إرادته الباطنة كانت منصرفة إلى أن من حقه التمسك بهذا المنع، مثل هذه التحفظات التي بقيت سرًّا مكتومًا من الطرف الآخر ليست بملزمة ولا يمكن الاحتجاج بها.(6/926)
ثم قال: [فقرة 42] :
(أ) التعاقد بين غائبين بالمراسلة هو الذي يتم بين متعاقدين لا يضمهما مجلس واحد ويجري بتبادل رسائل بين الموجب من جهة والقابل من جهة أخرى بأن يرسل تاجر من فاس رسالة إلى تاجر في الرباط يعرض عليه فيها بعض بضاعة بشروط معينة ويجيب التاجر في الرباط برسالة يُضَمِّنُهَا قبوله الشراء بالشروط المفروضة.
(ب) وهذا يطرح سؤالان – كذا، وصوابه: سؤالين -.
السؤال الأول: يتعلق بالزمان الذي تم فيه العقد.
والسؤال الثاني: يتعلق بالمكان الذي يعتبر أن العقد قد انعقد فيه.
ففي المثال الأول الذي سقناه أعلاه هل نعتبر العقد قد تم في الزمان الذي صدر فيه قبول من وجه إليه الإيجاب أم أننا نعتبر أنه لم يتم إلا في الزمان الذي وصل فيه القبول إلى علم الموجب؟
ثم هل نعتبر أن العقد قد انعقد في الرباط حيث صدر القبول أم نعتبر أنه انعقد في فاس حيث اتصل القبول بعلم الموجب.
(ج) و (يترتب) – كذا، وهو سليم ولكن الأفصح: وتترتب – على تحديد زمان العقد ومكانه نتائج هامة:
فمعرفة زمان العقد يتوقف عليها مبدأ لترتيب آثاره التي عقد من أجلها وكذلك تحديد القانون (الواجب تطبيقه) – استعمال دارج في ألسنة الناس وصوابه: (واجب التطبيق) أو (الواجب تطبيقه) – استعمال دارج في ألسنة الناس وصوابه: (واجب التطبيق) أو (الواجب تطبيقه) – عند تنازع القوانين الزماني، ففي البيع الواقع على منقول معين بالذات مثلا تنقل ملكية المبيع إلى المشتري وتكون ثماره إليه من وقت صدور القبول إذا أخذنا بمذهب الإعلان ويتأخر تريتب هذه الآثار إلى وقت وصول القبول إلى علم الموجب وإذا أخذنا بمذهب العلم بالقبول، ولو أن قانونًا صدر في الفترة ما بين إعلان القبول وبين وصوله إلى علم الموجب وعدل في أحكام البيع المقررة بمقتضى التشريع السابق فإن عَقْدَ البيعِ يخضع للتشريع القديم إذا ما اعتمدنا نظرية الإعلان بينهما هو يخضع للقانون الجديد إذا ما أخذنا بنظرية العلم بالقبول.(6/927)
ومعرفة مكان العقد تتوقف عليها معرفة القانون الذي يسوده عند تنازع القوانين المكاني كما يتوقف عليها أحيانًا تعيين المحكمة المختصة للنظر في النزاع الذي يقوم بشأنه فلو أن عقدًا أبرم بين شخصين يقطن كل منهما بلدًا يختلف تشريعه عن تشريع البلد الآخر وجب بمقتضى مبادئ القانون الدولي الخاص إخضاع هذا العقد من حيث شروط انعقاده وصحته ومن حيث آثاره إلى قانون البلد الذي تم إبرامه فيه وعليه إذا ما اتبعنا مذهب إعلان القبول تعين تطبيق قانون بلد من وجه إليه الإيجاب، أما إذا اتبعنا مذهب الإعلام بالقبول، فإنه يتعين تطبيق قانون بلد الموجب في الحالات التي يجيز فيها قانون المسطرة – أي الإجراءات – المدنية إقامة الدعوى أمام محكمة التعاقد كما في المنازعات المتعلقة بالتوريدات والأشغال والكراء والاستصناع والشغل فإن المحكمة المختصة للنظر (بـ) كذا وهو تعبير ألفه الشوام وصوابه: في – الدعوى تكون محكمة المكان الذي صدر فيه القبول إذا اعتنقنا مذهب إعلان القبول وتصبح محكمة المكان الذي وصل فيه القبول إلى علم الموجب إذا اعتنقنا مذهب العلم بالقبول.
(د) وقد انقسمت القوانين في الإجابة على السؤالين المتعلقين بمعرفة زمان ومكان العقد الذي يتم بالمراسلة.
فبعضها أخذ بالمذهب المعروف، بمذهب إعلان القبول أو التصريح بالقبول (Systeme de declaration) ، واعتبر أن العقد يتم في الزمان والمكان اللذين يعلن فيهما من وُجِّهَ إليه الإيجاب عن قبوله ومن القوانين التي اتبعت هذا المذهب (القانوني) – كذا وصوابه: القانون – التونسي والقانون السوري وقانون الموجبات والعقود اللبناني والقانون السويسري والقانون الألماني.
وبعضها أخذ بالمذهب المعروف بمذهب العلم بالقبول (Systeme de I information) ، واعتبر أن العقد لا يتم إلا في الزمان والمكان اللذين يصل فيهما القبول إلى علم الموجب ومن القوانين التي اتبعت هذا المذهب القانون الإسباني والقانون التجاري الإيطالي والقانون المصري.(6/928)
وجدير بالذكر أن التقنين الفرنسي سكت عن هذا الموضوع لذلك انقسم الفقه والاجتهاد في فرنسا بين المذهبين وإن كان الاجتهاد يميل أكثر فأكثر إلى ترجيح مذهب التصريح بالقبول الذي يكاد يسوم اليوم في فرنسا.
(هـ) أما قانون الالتزامات والعقود المغربي فقد نَهَجَ نَهْجَ القانون التونسي من حيث الأخذ بنظرية التصريح بالقبول وقرر في (المادة 24) أن العقد الحاصل بالمراسلة يكون تامًّا في الوقت والمكان اللذين يرد فيهما من تلقى الإيجاب بقبوله.
ولكنه لا بد من لفت النظر إلى أن اعتبار العقد تامًّا في الوقت الذي يرد فيه من تلقي الإيجاب بقبوله يبقى معلقًا على شرط واقف وهو وصول الرد بالقبول إلى الموجب قبل انصرام الوقت المناسب الذي يكفي عادة لوصوله إليه (المادة 30) أو قبل انقضاء الأجل الذي يكون الموجب قد حدده للقبول (المادة 29) فإذا تحقق الشرط ووصل الرد بالقبول في الوقت المناسب أو داخل الأجل المحدد قام العقد بصورة نهائية وأنتج آثاره منذ صدور القبول عن الموجب أما إذا تخلف الشرط ولم يصل الرد بالقبول إلا بعد فوات الوقت المناسب أو خارج الأجل المحدد فإن الموجب يتحلل من إيجابه ولا يستطيع القابل التمسك بهذا الإيجاب لسقوطه، وسقوط الإيجاب يحول طبعًا دون قيام العقد على أن يبقى في هذه الحالة للقابل حق مقاضاة المسئول عن التأخير بالتعويض عن الضرر الذي أصابه من جراء حرمانه الاستفادة من العقد.(6/929)
ثم قال [فقرة 44] :
(أ) لقد اعتبر قانون الالتزامات والعقود – يعني المغربي – التعاقد بالهاتف كالتعاقد بين حاضرين من حيث الزمان إذ هو بعد أن نص في الفقرة الأولى من (المادة 23) على أن الإيجاب الموجه لشخص حاضر.... يعتبر كأن لم يكن إذا لم يقبل على الفور من الآخر، قرر في الفقرة الثانية من المادة نفسها وجوب سريان الحكم على الإيجاب المقدم من شخص إلى آخر بطريق التليفون ذلك أن المتعاقدين بالهاتف وإن كان لا يضمها مجلس واحد وكان كل منهما بعيدًا عن الآخر (إلا أن) – تعبير عامي والفصيح أن يقال (فإن) – الحوار المتبادل بينهما يجري بصورة آنية دون فاصل زمني فباستطاعة الطرفين والحالة هذه، التأكد في برهة واحدة من تلاقي إرادتهما ومن اقتران قبول أحدهما لإيجاب الآخر وعليه أن يسوي في الحكم بين العقد المعقود بالهاتف والعقد المعقود بين أشخاص حاضرين من حيث زمان الانعقاد وأن يعتبر تبعًا لذلك أن العقد بالهاتف قد تم في الوقت الذي جرت فيه المخاطبة الهاتفية.
وهذا الرأي الذي أخذ به المشرع المغربي هو المعول عليه في فرنسا بدون نص وهو الذي أخذت به التشريعات العربية الحديثة كالقانون المدني المصري والقانون المدني السوري وقانون الموجبات والعقود اللبناني.
(ب) أما من حيث مكان انعقاد العقد بالهاتف فإن المشرع المغربي قد التزم السكوت شأنه في ذلك شأن المشرع المصري والمشرع السوري اللذين اختارا هما أيضًا أن لا يعرضا للموضوع بنص صريح.
وفي الواقع لما كان المتعاقدان بالهاتف يختلف مكان أحدهما عن الآخر فإن وضعهما وضع متعاقدين غائبين لا وضع متعاقدين حاضرين في مجلس واحد، فإن الفقه في فرنسا يميل إلى اعتبار التعاقد بالهاتف (بحكم) – كذا وصوابه: في حكم – التعاقد بين غائبين من حيث تحديد مكان العقد.
وانطلاقًا من هذا الاعتبار الحري بالتأييد وتأسيسًا على أن المشرع المغربي أقر مذهب انعقاد العقد بين الغائبين بمجرد إعلان القبول فإنه يتعين القول بأن العقد بالهاتف يعتبر منعقدًا في مكان القابل.
*
**(6/930)
النتيجة
مما سبق يمكن أن نستخلص ما يأتي:
1- ليس في نصوص الكتاب والسنَّة تحديد حاصر لصيغ التعاقد ولا لوسائله، غاية ما جاءت به نصوصهما:
(أ) تنظيم ما كان عليه الناس عامة والعرب خاصة من وسائل وصيغ تواضعوا على التعاقد بها.
(ب) تكييف تلك الوسائل والصيغ بما يضمن بها العدل والإنصاف لطرفي التعاقد أو أطرافه، ويعصمها من الإجحاف بأي طرف سواء كان موجبًا أو قابلا.
2- اختلافهم في (خيار المجلس) أو بالأحرى في ما سموه (خيار المجلس) ليس أكثر من مجرد اختلاف في فهم نصوص سنية أحادية مردّه إلى ما ألفته كل طائفة من أساليب وصيغ التعامل في البيع والشراء وما شاكلهما وفي بعضهما إلى ما بلغ هذه الطائفة ولم يبلغ تلك، أو لم يثبت عندها من نصوص سنية لو بلغتها أو ثبتت عندها لتغير فهمها ثم حكمها الذي استقرت عليه نتيجة لعدم اطلاعها على تلك النصوص أو تأكدها من صحتها، وجلي أن سبب ذلك هو أحادية النصوص وتوزع الصحابة رواتها في الأقطار التي افتتحها الإسلام فاستوطنوها وتحكم المسافة يومئذٍ في أسباب التواصل العلمي بين الناس لما كانت عليه وسائل الاتصال من البدائية وعدم المقدرة على إخضاع المسافة لرغبات الإنسان وحاجاته. وعند تجميع النصوص السنية وتأملها يتبين أن ما ذهب إليه مالك وأصحابه من اعتبار الافتراق في الخيار افتراقًا قوليًّا وليس بدنيًّا هو المطابق والمستجيب لمجموع مقتضيات تلك النصوص ولما يستوجبه تيسير التعامل بين الناس وتطور أساليبه تبعًا لتطور أنماط معايشهم وأساليبهم الحضارية.
3- لا خلاف بين السلف في أن الوفاء بالعقود واجب على كل مسلم بنص قرآني صريح هو نص الآية الأولى من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
4- وعند التدبر والتمحيص الدقيق لمجموع نصوص القرآن والسنة المبينة لحكم الله في العقود لا سبيل إلى الالتباس في أن كل ما عبّر عن إرادة الإنسان صح أن يكون صيغة للتعاقد لأن الصيغة ليست مطلوبة لذاتها وإنما هي مطلوبة باعتبارها أداة للتعبير عن إرادة المتعاقدين فالالتزام بصيغة معينة أو بلغة معينة أو بأداة معينة لتحقيق توصل الصيغ بين طرفي التعاقد أو أطرافه التزام ليس له أساس من النصوص الشرعية بل هو مجرد اجتهاد بعض الفقهاء مرده إلى ما تواضعوا عليه في العصور السالفة وألفوا استعماله في تعاملهم وتعاقدهم من الصيغ والوسائل والجمود على تلك الصيغ والوسائل تعطيل لتطبيق الشريعة الإسلامية في العصور التي تغيرت أساليب التعامل فيها بين الناس بتغير أنماطها الحضارية نتيجة للتطور الطبيعي للحضارة الإنسانية.(6/931)
5- ويتضح من هذا أن العرف هو الفيصل في تعيين صيغ وأساليب التعاقد ووسائله بين الناس وليس له من ضابط غير تحقيق المناط الشرعي لنصوص الكتاب والسنة القاضي بكفالة العدالة بين طرفي أو أطراف التعاقد وعدم الإجحاف بحقوق أي طرف أو إيثار طرف على آخر وإن بمجرد التيسير ماديًّا أو زمنيًّا أو بيئويًّا.
6- وعلى هذه القاعدة يمكن القول بأن مبدأ التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة لا سبيل إلى الاختلاف في أنه مباح شرعًا إذا التزم بما سبق أن بيناه من ضوابط تحقيق العدالة ومنع الإجحاف.
7- لكن هذه الوسائل تتمايز ضوابطها تبعًا لتمايز طبيعتها وأساليب التعامل بها وبيان ذلك:
(أ) أن البرق أو الوسائل البرقية يجري التعامل فيها بتحويل الكلمات إلى إشارات من الطرف المرسل إليه وهذا العمل يقوم به طرف ثالث ويحتمل أن يحدث خطأ في التحويل الأول أو في التحويل الثاني من شأنه أن يجحف بحقوق أحد الطرفين إجحافًا قد يترتب عنه تغيير جوهري أو ذو أثر بليغ في طبيعة العقد أو في الهدف المبتغى منه وفي هذه الحال لا يمكن القول ببطلان العقد وإنما الذي يجب القول به هو تضمين الطرف الثالث الذي قام بالتحويل وكان منه الخطأ بحيث يتحمل جميع المسئوليات المادية الناتجة عن خطئه.
(ب) إن الاتصال الهاتفي لا يمكن لأي طرف من طرفي العقد أو أطرافه أن يزعم حدوث خطأ فيه لأن المتعاقدَيْن أو المتعاقدِين يسمع بعضهم بعضًا سواء كان الهاتف ثنائيًّا كما هو الشأن في الهاتف التقليدي أو مشتركًا لأكثر من اثنين كما أصبح عليه الطوار الجديد للهاتف، وإذن فهو وسيلة مضمونة لسلامة التعاقد بين طرفين أو أكثر وفيها ينعدم تمامًا كل التباس بما سمي قديمًا (خيار المجلس) لأن المكان في ذاته ليس مقصودًا وإنما المقصود انعدام فاصل زمني بين المتعاملين قد يحدث أثناءه تغير في السوق مثلًا أو في ظروف أحد المتعاملين يغير من طبيعة الدافع إلى التعاقد لأحد الطرفين أو الأطراف.
(ج) إن الجهاز الناقل كتابة (تلكس) لرسائل طرفي التعاقد أو أطرافه لا سبيل إلى الغمز فيما ينقل إذ إنه في حال الاشتباه في صحة رسالة من طرف إلى آخر يمكن للطرف المشتبه في صحتها أن يراجع الطرف المرسل للتأكد من جلية ما اشتبه فيه، ومجموع ما يتم تبادله بين طرفي التعاقد أو أطرافه من الرسائل يألف العقد وليس بعض منها دون بعض، وقد يقال في هذا المجال أن تبادل الرسائل يقتضي فاصلا زمنيًّا قد يحدث أثناءه ما يجعل أحد الطرفين أو الأطراف راغبًا في تعديل إيجابه أو قبوله أو شرط من شروط الإيجاب أو القبول.(6/932)
وهنا تبرز مشكلة ما سُمِيَ قديمًا (خيار المجلس) لكن هذا الاعتراض يزول ولا يبقى له أي اعتبار بالقاعدة التي لا سبيل إلى الجدال فيها وهي وجوب الوفاء بالوعد، فسواء كان البائع أو المشتري هو الذي قد يحاول التملص من الإيجاب أو من القبول أو من شرط اقترن به الإيجاب أو القبول بعد أن ألزم به نفسه نتيجة لأنباء بلغته أثناء تبادل الرسائل اللاسلكية بالجهاز الناقل (تلكس) أو بـ (الحسيب - COMPUTER) عن تغير السوق وذلك ما يكثر حدوثه عادة في الأسواق (البورصات - LES BOURSES) المالية منها وغير المالية من تقلبات قد تسابق الدقائق فإن عليه أن ينضبط بالضابط الخلقي الذي جعله الشرع الحكيم محكَّمًا في التعامل بأنه إذا تحلل من هذا الضابط الخلقي الذي جعله الشرع الحكيم محكَّمًا في التعامل بأنه إذا تحلل من هذا الضابط ترتب عن تحلله إضرار بالطرف الآخر في حين أنه لا يضار بالانضباط به وإن كان تقلب السوق قد يتسبب له ببعض الخسارة نتيجة للارتفاع أو الانخفاض في المادة المتعاقد عليها وهي خسارة ما من شك في أنها تضر بمصالحة، لكن هذا الإضرار باعتباره مفسدة يرجح عنه ضرر آخر أشد إفسادًا وهو الإخلال بالضابط الخلقي الذي يختل التعامل بين الناس بإبقائه فريسة لتقلبات الأسواق، وإذا تعارضت المفسدة والمصلحة تعينت الموازنة بينهما وإلغاء المرجوحة منهما وتحكيم الراجحة.
(د) إن (الآلة المصورة - TELEFAX) للوثائق في ما تنقّلها بين طرفي التعاقد أو أطرافه لا يختلف الشأن فيها عن ما سبق أن قررناه في (الآلة الناقلة للرسائل كتابة - TELEX) وإن كانت عملية التصوير أكد في الإلزام للطرفين أو الأطراف لما تتميز به من نقل خط كل طرف في الوثيقة الخطية أو توقيعه في الوثيقة المطبوعة الموقعة كما هو بحيث ينتفي – فضلًا عن ادعاء – الخطأ أو الالتباس.
8- ولا سبيل إلى محاولة التملص في التعاقد بإحدى وسائل الاتصال الحديثة بدعوى أن أحد الطرفين أو الأطرف فيه لم يكن جادًّا وإنما كان يقوم بعملية سبر، وما عرضه، أو قبل به أثناء الاتصال لا يخرج عن إطار هذه العملية وأن ما يجب اعتباره وتحكيمه هو الإرادة الباطنة لطرفي التعاقد أو أطرافه، فمع أن بعض الفقهاء قال مثل بعض رجال التشريع الوضعي (القانونيين) باعتبار الإرادة الباطنة، فإن هذا القول مردود على قائلة بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الخليفة الراشد من بعده عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وعن الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا من عدم اعتراضهم على موقف عمر مما يعتبر إجماعًا سكوتيًّا على الأقل من اعتبار الظاهر من أحوال الناس وأقوالهم هو المعتمد وأن السرائر أمرها إلى الله، ولا نريد أن نسوق مجموعة حاشدة من النصوص المثبتة لذلك حسبنا ما أوجزه ابن فرج القرطبي في كتابه (أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم) – ص257، 258 – من الحديث المشهور – إن لم يكن متواترًا – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((إنما أنا بشر مثلكم وأنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له وأحسب أنه صادق فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئًا فإنما اقطع له قطعة من النار)) .
والحديث أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم بألفاظ يزيد بعضها عن بعض لكن لا اختلاف جوهريًّا بينها.
وما أخرجه كلَّ من أحمد والبخاري من خطاب عمر الحاسم في هذا المجال وفي مجالات أخرى وقد أخرجه أحمد مطولا.(6/933)
أنظر [المسند، تحقيق أحمد شاكر: المجلد، 1/278، 279، ح286] :
وأخرجه منه البخاري الطرف الذي يعنينا في هذا المجال فقال [الصحيح: 3/148] .
حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: حدثني حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الله بن عتبة قال: سمعت عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول: إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الوحي قد انقطع وإنا نأخذكم الآن لما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة. ومن هذين النصين وما شاكلهما وهو كثير يتجلى أن الشرع الإسلامي لا يلتفت إلى السرائر في ما هو من الشئون العامة وإنما يأخذ بالظواهر وحديث (إنما الأعمال بالنيات) الذي حاول أن يستند إليه بعض الفقهاء ليس سندًا عند التحقيق لهؤلاء ولمن اشتبه عليه أمره مثلهم، إنما هو خاص بما يتصل بين العبد وبين ربه وآية ذلك استحالة اطلاع الناس على نوايا بعضهم بعضًا، فلو اعتمدنا مبدأ (النية) في تقرير مسار ومصير معاملاتهم لأصبح لكل واحد منهم أن يتحكم في تعامله مع الآخر كيف يشاء مسلطًا بلواته أو تقلبات الأسواق وما شاكلها على مسار التعامل ومصيره فمتحكما في مصائر الآخرين ومصالحهم بما تقتضيه مصالحه وإن أضرّ بهم ولا يمكن أن يقوم تعامل عادل بين الناس على أساس تحكيم النوايا بينهم.
نقول هذا لرفع كل التباس في حال التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة ومنع إخضاع التعاقد بها لتقلبات الأسواق وخاصة الأسواق العالمية (البورصات - LES BOURSES) التي أصبح (الحسيب - COMPUTER) يتحكم فيها وأوشك أن ينعدم الاستقرار في المعاملات من أجل ذلك انعدامًا تامًّا في بعض الحالات بما يتوارد عليها بوسائل الاتصال الحديث ثم – وهذا أخطر لأنه أسرع – بالتعامل بالحسيب من أنباء وأحوال عن التقلبات الاقتصادية والتجارية والسياسية والاجتماعية تؤثر تلقائيًّا في ما يجري فيها من معاملات.
والضابط في هذه الأحوال هو أن الإيجاب حين يصدر من الطرف الموجب والقبول حيث يصدر من الطرف القابل يكون ملزمًا شرعًا لمصدره بصرف النظر عن أي تغير أو تطور يحدث قبل أن يتطابق جواب المصدرين بالقبول أو بالاتصال بالقبول، ومعنى ذلك أننا نأخذ برأي من يقولون في التشريع الوضعي (القانونيين) بأن صدور الإيجاب أو القبول وليس بلوغه هو الحاسم في التعاقد.
وقد يكون اختلافهم – سواء كانوا فقهاء أو قانونيين – في هذا الشأن له ما يسوغه يوم كانت المسافة الزمانية والمسافة المكانية تتحكمان بطولهما في تكييف المصلحة والمفسدة الناتجين عنهما. أما اليوم ولم يعد لهما تحكم فإنا لا نرى مسوغًا لاعتبار هذا الاختلاف. صدق الله العظيم إذ يقول: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [سورة النحل: الآية 91] .
*
**(6/934)
المصَادر
* التفسير:
جامع البيان: محمد بن جرير الطبري: طبعة مصورة، نشر دار الفكر، بيروت.
مفاتيح الغيب: فخر الدين الرازي: نشر دار الفكر، بيروت.
الجامع لأحكام القرآن: محمد بن أحمد القرطبي: طبعة مصورة، نشر الهيئة العامة للكتاب، القاهرة.
التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور: نشر الدار التونسية للنشر، تونس.
البحر المحيط: محمد بن يوسف بن حيان الأندلسي: مطبعة السعادة، القاهرة.
تفسير المنار: محمد رشيد رضا: طبعة مصورة، نشر دار الفكر، بيروت.
* السنة:
الموطأ: مالك بن أنس (الإمام) : نشر دار الأوقاف الجديدة، بيروت.
التمهيد: يوسف بن عبد البر: نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الرباط.
المصنف: عبد الرزاق الصنعاني: منشورات المجلس العلمي بجنوب أفريقيا وباكستان والهند.
الكتاب المصنف: ابن أبي شيبة: نشر دار السلفية، الهند.
(أ) المسند: أحمد بن حنبل الشيباني: نشر المكتب الإسلامي، بيروت.
(ب) المسند: تحقيق أحمد محمد شاكر: نشر دار المعارف، القاهرة.
(ج) المسند: (الفتح الرباني) : أحمد عبد الرحمن البنا، طبعة مصورة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
الأموال: القاسم بن سلام: نشر مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
الصحيح: محمد بن إسماعيل البخاري: نسخة مصورة، نشر المكتبة الإسلامية، إسطمبول – تركيا.
فتح الباري: أحمد بن علي بن حجر: المطبعة الأميرية، بولاق، مصر.
عمدة القاري: محمود بن أحمد العيني: طبعة مصورة، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت.
الصحيح: مسلم بن الحجاج: نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت.
السنن: أبو داود السجستاني: نشر دار الفكر، بيروت.
الجامع الصحيح: محمد بن عيسى الترمذي: طبعة مصورة، نشر دار إحياء التراث الإسلامي، بيروت.
السنن: أحمد بن شعيب النسائي: نشر المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة.
السنن الكبرى: أحمد بن محمد البيهقي: طبعة مصورة، نشر دار الفكر، بيروت.
السنن: محمد بن يزيد القزويني (ابن ماجه) : نشر دار الفكر، بيروت.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: على بن أبي بكر الهيثمي طبعة مصورة دار الكتاب العربي بيروت.
السنن: عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: نشر دار إحياء السنة النبوية، بيروت.
شرح السنة: يحيى بن مسعود البغوي: نشر المكتب الإسلامي، بيروت.
السنن: علي بن عمر الدارقطني: نشر دار المحاسن للطباعة، القاهرة.
الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: علاء الدين الفارسي: نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
المعجم الكبير: سليمان بن أحمد الطبراني: مطبعة الوطن العربي، بغداد.
المنتقى: عبد الله بن علي بن الجارود: نسخة مصور، مطابع الأشرف، لاهور – باكستان.
المستدرك: الحاكم النيسابوري: نسخة مصورة نشر دار الكتاب العربي، بيروت.
المسند: أبو الوليد الطيالسي: نسخة مصورة، مطبعة مجلس دار المعارف النظامية، حيدرأباد الدكن، الهند.
النكت على كتاب ابن الصلاح: أحمد بن علي بن حجر: نشر الجامعة العربية، المدينة المنورة.
تلخيص الحبير: أحمد بن علي بن حجر: نشر دار المعرفة، بيروت، لبنان.
تحفة الأشراف: يوسف بن عبد الرحمن المزي: نشر الدار القيمة، بومباي – الهند.
كشف الخفاء ومزيل الألباس: إسماعيل بن محمد العجلوني: نشر مكتبة التراث الإسلامي، حلب.
مشكاة المصابيح: محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي: نشر المكتب الإسلامي، بيروت.
الجامع الصغير: عبد الرحمن السيوطي: طبعة مصورة، دار المعارف، بيروت.(6/935)
* الجرح والتعديل:
التاريخ: يحيى بن معين: نشر جامعة الملك عبد العزيز، جدة.
الجرح والتعديل: ابن أبي حاتم الرازي: نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
الكامل: عبد الله بن عدي الجرجاني: نشر دار الفكر، بيروت.
كتاب الضعفاء والمتروكين: علي بن عمر الدارقطني: نشر مؤسسة الرسالة، بيروت.
الضعفاء الكبير: محمد بن عمر العقيلي: نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
سير أعلام النبلاء: محمد بن أحمد الذهبي: نشر مؤسسة الرسالة بيروت.
تذكرة الحفاظ: محمد بن أحمد الذهبي نشر دار إحياء التراث الإسلامي , بيروت
ميزان الاعتدال: محمد بن أحمد الذهبي: طبعة مصورة، نشر دار المعرفة، بيروت.
الإصابة: أحمد بن علي بن حجر: مطبعة السعادة القاهرة.
تهذيب التهذيب: أحمد بن علي بن حجر نسخة مصورة مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر أباد الدكن- الهند
تقريب التهذيب: أحمد بن علي بن حجر: نشر دار المعرفة، بيروت.
* أصول الفقه ومقاصد الشريعة: المحصول: محمد بن عمر الرازي: نشر جامعة محمد بن سعود، الرياض.
الموافقات: أبو إسحاق الشاطبي: طبعة مصورة، نشر دار المعرفة، بيروت.
قواعد الأحكام: عز الدين بن عبد السلام: نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
الأصول: محمد بن أحمد السرخسي: طبعة مصورة، نشر دار المعرفة، بيروت.
مقاصد الشريعة الإسلامية: محمد الطاهر بن عاشور: نشر الشركة التونسية للتوزيع، تونس.
الرسالة: محمد بن إدريس الشافعي: تحقيق أحمد شاكر، لم يذكر مكان طبعه.
الفقيه والمتفقه: أحمد بن علي الخطيب البغدادي: نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
* الفقه: الأم: محمد بن إدريس الشافعي: نسخة مصورة، نشر دار الفكر، بيروت.
المغني: عبد الله بن أحمد بن قدامة: نشر مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
الاعتصام: أبو إسحاق الشاطبي: نشر مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
مجموع الفتاوي: أحمد بن تيمية: طبعة مصورة، الرباط.
الأشباه والنظائر: إبراهيم بن نجيم: نشر دار الكتب العلمية، بيروت.
إعلاء السنن: أحمد العثماني التهانوي: نشر إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، كراتشي- باكستان.
* اللغة وعلومها:
النهاية في غريب الحديث: ابن الأثير الجزري: نشر المكتبة الإسلامية، (لم يذكر موطنها) .
لسان العرب: جمال الدين بن منظور: نشر دار صادر، بيروت.
المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصبهاني: نشر مكتبة الأنجلو المصرية.
تهذيب الأسماء واللغات: يحيى الدين النووي: دار الكتب العلمية، بيروت.
القاموس المحيط: الفيروزآبادي: المطبعة الحسينية، القاهرة.
تاج العروس: محمد مرتضى الزبيدي، نسخة مصورة، نشر دار صادر، بيروت.
مغني اللبيب: جمال الدين بن هشام: نشر دار الفكر، بيروت.
شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ: جمال الدين بن مالك: مطبعة العاني، بغداد.
* القانون:
مصادر الحق: عبد الرزاق السنهوري: نشر دار الفكر، بيروت.
الوسيط: عبد الرزاق السنهوري: نسخة مصورة، نشر دار أحياء التراث العربي، بيروت.
طرق وأدلة الإثبات: أنور طلبة: نشر دار الفكر العربي، القاهرة.
شرح القانون المدني المغربي: مأمون كزبري: طبعة مصورة، الرباط.(6/936)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الرئيس:
ننتقل إلى الموضوع:
(حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة)
العارض هو الشيخ عبد الله محمد عبد الله والمقرر هو الشيخ إبراهيم كافي دونمز.
الشيخ عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم.
تقدم تسعة من الباحثين ببحوثهم في هذا الموضوع ويمكن تصنيفها إلى ثلاثة أصناف: منهم من أطال وفصَّل في المقال ومنهم من أوجز ومنهم من توسط. وملخصها هو: أن التعاقد إما أن يتم بين متعاقدين حاضرين ويشترط حينئذٍ اتحاد مجلس العقد، فلا يصح الإيجاب في مجلس والقبول في آخر. ولا بد من تحقق أركان العقد والشرائط الأخرى وذلك في غير الوصية وعقود أخرى كعقد الوكالة. وإما أن يتم التعاقد بين متعاقدين غائبين لا يجمعهم مكان واحد ولا يرى أحدهم الآخر ولا يسمع كلامه وطريق الاتصال بينهما إما الكتابة وإما الرسول ويلحق بالكتابة الوسائل المستجدة كالتلغراف والتلكس والفاكس وما يستجد من ذلك. وإما أن يتم التعاقد بين متعاقدين حاضرين غائبين في آن واحد بمعنى أن يكون في مكانين متباعدين أوفي بلدين ولكن يسمع كل منهما كلام الآخر وربما يشاهده كالاتصالات التي تتم بواسطة التليفون واللاسلكي والراديو أو التلفزيون وما يستجد من وسائل. أما الصورة الأولى فليست محل البحث. وأما الثانية وهي التعاقد عن طريق الكتابة. والكاتب إما أن يكتب بنفسه وإما أن يستكتب من يكتب له، والتلغراف من هذا القبيل إذ يقوم المرسل بكتابة ما يريد ثم يقوم مكتب البريد بإرساله إلى بلد المرسل إليه، وهناك يقوم موظف بريد بكتابة ذلك على ورقة خاصة ثم يسلمها ساع إلى المرسل إليه. والتلكس يتم الاتصال فيه من خلال جهازين مرتبطين بوحدة تحكم دولي ينقل كل واحد منهم إلى الآخر المعلومات المكتوبة دون توسط شيء آخر بطرق فنية. وأما الفاكس فيتم الاتصال فيه من خلال جهازين مرتبطين بالخطوط التلفونية حيث يضع المرسِل الورقة المكتوبة في الجهاز ويضرب أرقام الجهاز الثاني فتنطبع صورة تلك الورقة على الورقة الموجودة في الجهاز الثاني لتظهر للمرسَل إليه. والفرق بين هذه الصورة والصورة الأولى أنه في الصورة الأولى يتعين عدم الفصل بين الإيجاب والقبول، أما في الصورة الثانية فإنه يجوز أن يتراخى القبول عن المجلس لأن التراخي مع غيبة المشتري، مثلًا لا يدل على إعراضه عن الإيجاب بخلاف ما لو كان حاضرًا.(6/937)
حكم التعاقد بالكتابة: لا خلاف في الجملة في جواز التعاقد عن طريق الكتابة وما في معناها، والنقول معروضة بين أيديكم وأكتفي بذكر بعضها:
قال المالكية: إن البيع ينعقد بما يدل على الرضى من المتعاقدين من قول منهما أو فعل أو قول من أحدهما وفعل من الآخر أو إشارة منهما أو من أحدهما وقول أو فعل من الآخر. (شرح الخرشي على خليل 5/5 بحاشية العدوى) .
وكذلك الحنفية قالوا: إن التعاقد عن طريق الكتابة ومثلوا له بقولهم: أن يكتب شخص إلى آخر: أما بعد، فقد بعت منك كذا بكذا، فبلغه الكتاب فقال في مجلسه: اشتريت. انعقد العقد بينهما ويكون كأن الموجب حضر بنفسه وخاطب الآخر بالإيجاب وقبل منه الآخر في المجلس. وقال ابن عابدين: ويكون بالكتابة من الجانبين فإذا كتب: اشتريت كذا بكذا، فكتب إليه البائع: قد بعتك. فهذا بيع، كما في التترخانية.
قال: وقوله: فيعتبر مجلس بلوغهما، أي بلوغ الرسالة أو الكتابة. ونقل عن المبسوط: ينعقد سائر التصرفات بالكتابة أيضًا.
وتجدر الإشارة إلى أن الحنفية قد أوردوا رأيًا آخر قاسوا فيه البيع على النكاح في انعقاده في مجلس آخر.
وهنا مسألة تجدر الإشارة إليها وهي هل يجوز للموجب أن يرجع عن إيجابه؟ قالوا: لو كتب شطر العقد ثم رجع صح رجوعه. فها هنا أولى. وكذا لو أرسل رسولا ثم رجع، لأن الخطاب بالرسالة لا يكون فوق المشافهة، وذا محتمل الرجوع فها هنا أولى. ولكنهم اشترطوا في الرجوع بأن لا يصل كتابه إلى المكتوب إليه، ولم يشترطوا لصحة الرجوع علم الآخر به. وقالوا: لا يصح الرجوع بعد قبول المكتوب إليه لأن العقد قد تم وخرج الأمر من يد الكاتب. وكذلك الحكم في الرسول.
أما المالكية فإنهم يقولون: إن الإيجاب ملزم للموجب وليس له الرجوع عنه. وعلى ذلك يتم العقد بمجرد إعلان القبول على هذين المذهبين. وهما لا يقولان بخيار المجلس، فليس لهما بعد ذلك حق في الرجوع.
أما الشافعية فقد اشترطوا أن يقبل المكتوب إليه بمجرد اطلاعه على الكتاب، في الرأي الأصح عندهم. وفي وجه ضعيف أنه لا يشترط القبول بل يكفي التواصل اللائق بين الكتابين.
حكم الخيار في التعاقد بين الغائبين: قال الغزالي: إذا صححنا البيع بالمكاتبة، فكتب إليه فقبل المكتوب إليه ثبت له خيار المجلس ما دام في مجلس القبول، قال: ويتمادى خيار الكاتب إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه، حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه مجلسه صح رجوعه ولم ينعقد البيع.
وقال في حاشية الجمل: لا ينقطع خيار كل منهما إلا بإلزامه العقد أو مفارقة المجلس نفسه. ومجلس الكاتب هو الذي كان فيه عند قبول المكتوب إليه وأوله من حين القبول.(6/938)
منزع القوانين الوضعية: القوانين الوضعية أخذت بجواز التعاقد بالطرق المشار إليها. ويهتم القانون بنقطتين هما: مسألة انعقاد العقد من حيث الزمان والمكان. والثانية: مسألة التزام الموجب بالإبقاء على إيجابه بعد أن يبعث به إلى الموجب له.
أما المسألة الأولى فقد جاء نص المادة (49) من القانون المدني الكويتي، ويماشي معظم القوانين الأخرى وخاصة القانون المصري، ونصها: (يعتبر التعاقد بالمراسلة أنه قد تم في الزمان والمكان اللذين يتصل فيهما القبول بعلم الموجب ما لم يتفق على غير ذلك، أو يقضي القانون أو العرف بخلافه) . ومفاد هذه المادة أنها سرت باتجاه القانون المصري الذي أخذ بمذهب العلم. وخرج عن هذا الأصل المادة (98) إذا كانت طبيعة المعاملة أو العرف التجاري أو غير ذلك من الظروف يدل على أن الموجب لم يكن ينتظر تصريحًا بالقبول فإن العقد يعتبر قد تم إذا لم يرفض الإيجاب في وقت مناسب، واعتبر السكوت قبولًا إذا كان هناك تعامل سابق بين المتعاقدين واتصل الإيجاب بهذا التعامل أو إذا تمحض الإيجاب لمنفعة من وجه إليه.
ولتحديد مكان العقد أهمية في القانون وذلك لمعرفة القانون الواجب التطبيق على التصرفات ذات العنصر الأجنبي هل هو قانون بلد الموجب أو قانون بلد المقابل؟ ويدور ذلك مع الأخذ بأي من المذهبين، فإن أخذ بمذهب الإعلان كان القانون الواجب تطبيقه قانون بلد القابل، وإن أخذ بمذهب العلم كان القانون الواجب تطبيقه بلد الموجب.
ونشير إلى أن القوانين منها ما تأخذ بنظرية إعلان القبول، ومنها ما تأخذ بنظرية تصدير القبول، ومنها ما تأخذ بنظرية تسليم القبول، ومنها ما تأخذ بنظرية العلم بالقبول، والفقه الإسلامي، كما سبق يتفق مع النظرية الأولى وهي نظرية إعلان القبول.
وأما الصورة الثالثة، وهي التعامل عن طريق الهاتف وما شابهها كالراديو واللاسلكي وكل وسيلة تجعل متعاقدين حاضرين غائبين. وقد ذكر الشافعية مسألة قريبة الشبه من هذه الصورة وهي أن المتعاقدين لا يشترط فيهما قرب المكان ولا رؤية بعضهما لصحة العقد وانعقاده، ويسري ثبوت الخيار، وجاء في المجموع: لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف، وأما الخيار، فقد قال إمام الحرمين يحتمل أن يقال لا خيار لهما لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار فالمقارن يمنع ثبوته ويحتمل أن يقال ثبت ما داما في موضعهما فإذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره. وهل يبطل خيار الآخر أم يدوم إلى أن يفارق مكانه فيه احتمالان للإمام، وقطع المتولي بأن الخيار يثبت لهما ما داما في موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه ووصل إلى موضع لو كان صاحبه معه في الموضع عُدَّ تفرُّقًا حصل التفرق وسقط الخيار، ثم قال والأصح في الجملة ثبوت الخيار وأنه يحصل التفرق بمفارقة أحدهما موضعه وينقطع بذلك خيارهما جميعًا، وسواء في صورة المسألة كانا متباعدين في صحراء أو ساحة أو كانا في بيتين من دار، أو في صحن وصفة، صرح به المتولي.(6/939)
والذي تجدر الإشارة إليه أن لجنة تعليل مجلة الأحكام العدلية نصت على صحة التعاقد بالتلغراف والتلفون في سنة 1921م، وأفتى الشيخ أحمد إبراهيم سنة 1935م بنحو ذلك وقال: وأما العقد بالتليفون فالذي يظهر أنه كالعقد مشافهة مهما طالت الشُّقة بينهما، ويعتبر العاقدان كأنهما في مجلس واحد إذ المعنى المفهوم من اتحاد المجلس أن يسمع أحدهما كلام الآخر ويتبيَّنه وهذا حاصل في الكلام بالتليفون.
وقد أخذت القوانين بهذه الوجهة ونصت على أن التعاقد بالتليفون أو بأي وسيلة أخرى مماثلة يعتبر كأنه تم بين حاضرين فيما يتعلق بالزمان وبين غائبين فيما يتعلق بالمكان.
بقيت مسألتان: الأولى: التعاقد عن طريق العقل الإلكتروني، وهذا كما قال المالكية يعتبر من فعل الإنسان، فإذا انضبطت أموره وأمن اللبس كان التعاقد بواسطته كالتعاقد فيما سبق.
المسألة الثانية: ما أثاره البعض في احتمال التزوير والانتحال فهذه مسألة خاضعة لقواعد الإثبات والله أعلم.
الشيخ محمد علي التسخيري: بسم الله الرحمن الرحيم
أعتقد لكي نضع منهجًا لهذا البحث أن هناك ثلاث مسائل ينبغي أن نبت فيها أولًا، وإذا تم البت فيها فإن الحكم سوف يكون واضحًا.
المسألة الأولى: مسألة اعتبار الصيغة في صحة العقد وفي لزومه وهل تقوم الكتابة أو الإشارة أو حتى العمل بما يسمى بالمعاطاة مقام الصيغة في الصيغة في صحة العقد أوَّلًا وفي لزوم هذا العقد في المرحلة التالية هذه هي المسألة الأولى.
المسألة الثانية: هل تعتبر الموالاة بين الإيجاب والقبول أو هي غير معتبرة؟ يمكن أن تفترض فاصلًا زمنيًّا بينهما؟
المسألة الثالثة: هو خيار المجلس فهل يوجد مثل هذا الخيار وهل يعم العقود أو هو يختص بالبيع؟
هذه هي المسائل الثلاثة يا سيادة الرئيس لو أننا مشينا بها بشكل متدرج. لا أدري إن كان هذا مقبولًا، فأنا مستعدّ للسير مع هذا الموضوع بهذا الشكل، نبحث أولًا في مسألة الصيغة وما ينوب عنها ثم مسألة الموالاة ثم مسألة خيار المجلس فإذا نقِّحت هذه المسائل تنقَّح الحكم وشكرًا.(6/940)
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد: بسم الله الرحمن الرحيم.
في الواقع أن تنقيح هذه المسائل هو تأسيس لهذه المستجدات في إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة، لكن الأنظار تختلف في تنزيل هذه الأحكام على الأحكام الأصيلة هذه، هي تختلف باختلاف وجهات النظر فيها، فعلى كلٍّ هو الرأي أحيانًا قد يكون يبحث القضية من أصلها وأحيانًا يكون مشتركًا بين بحث هذا الأمر الواقع الجديد وربطة المعاملات السابقة.
الشيخ محمد علي التسخيري:
المشهور أن الصيغة معتبر في صحة العقد الصيغة القولية، وحتى في لزومه يعني في لزومه، إلا أنَّ الذي يبدو من خلال تتبع الأقوال ومن خلال الحقيقة التي ينبغي أن نعرفها قبل كل شيء وهي أن الشارع عندما جاء إلى معاملات عرفية جارية أمامه منع من بعضها وأمضى البعض الآخر ولم يرد من الشارع ما يؤكد علينا مسألة الصيغة اللفظية، فنستطيع بكل اختصار طبعًا لا أريد أن أفصل، نستطيع أن نقول: إن الصيغة تحقق العقد وإن ما يقوم مقامها يحقق العقد، من الإشارة ومن الكتابة وحتى العمل، وإذا استطعنا أن نصحح عقد المعاطاة له بحث مفصل والواقع بعد بحثي في هذا الموضوع ثبت لي أن بيع المعاطاة من حيث صحة البيع أو عقد المعاطاة عمومًا من حيث صحة العقد ومن حيث اللزوم مشمول لأدلة الصحة، سواء الآيات الكريمة أو الأحاديث النبوية الشريفة، وبالتالي فبيع المعاطاة صحيح ويؤدي للزوم العقد، وإذا تم هذا المعنى حينئذٍ سوف لن يكون للصيغة اللفظية دور مقوم لصحة العقد ولزومه، وقد فصلت في بحثي ذلك ولا أذكر التفصيل.
النقطة الثانية: موضوع الموالاة بين الإيجاب والقبول، الحقيقة أن الموالاة مطروحة في كلام الفقهاء ولكني لم أجد نصًّا يؤكد هذه الموالاة فهم أخذوها من فهمهم العرفي، والفهم العرفي هنا ربما يقوم على أساس أن العقد عمل تركيبي اتصالي وعقد ربط بين جانبين وحينئذٍ ينبغي أن تتم الموالاة بينهما، إلا أن الواقع أننا إذا نظرنا للأدلة يعني: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} ، وباقي الأدلة أدلة التسليط، كل هذه الأدلة لا تدل على هذه الصورة الاتصالية وإنما هي تصحح عملًا عرفيًّا، والعمل العرفي هنا لا يشترط فيه التوالي وخصوصًا التوالي القريب، يشترط أن يرتبط رضًا برضى. وهناك رأي آخر ووجيه جدًّا يقول بأن العقد أصلًا يتقوم بالإيجاب ولكن هذا الإيجاب لا ينفذ إلا بعد مباركة القبول له، كأنه القبول هنا يأتي بمنزلة الإجازة في عقد الفضولي إذا جرى عقد الفضولي ثم جاءت الإجازة بعد ذلك أَضْفَت عليه مباركة وربطا. فالمقوم ذلك، وربما يستند هذا الرأي الوجيه هنا إلى أن العقد في الواقع هو نتيجة هذه الأسباب وليس عين هذه الأسباب. هذه الأسباب توجد العقد، اللفظ يوجد العقد، العمل المعاطاة يوجد العقد، ولذلك في التعبير القرآني {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ، يعني أن العقدة هي النتيجة وهي تحصل بالإيجاب ومباركة القبول له، وحينئذٍ فالذي أراه من خلال بحثي الموجود هنا أن الموالاة، خصوصًا الموالاة المطروحة بكل قرب بين الإيجاب والقبول، لا تعتبر شرطًا في صحة العقد.(6/941)
أما خيار المجلس، خيار المجلس، رغم وجود الاختلاف فيه، فإن هناك خبرًا صريحًا بخيار المجلس، ولا يمكن حمله كما قال بعض الإخوة الكتّاب على خيار القبول، إن الموجب يمكنه أن يقبل ويمكنه ألا يقبل , لا هذا , الخبر واضح جدا في أنه يشير إلي خيار موجود للمتعاقدين ما داما لم يتفرقا عن مجلسهما. فالخبر صريح في خيار المجلس ولكن الخبر أذعن بأنه مخصوص بالبيع , ولا يمكن التعدي من البيع إلى غيره إلا بقياس قوي إذا قبلنا هذا المعنى. وحينئذٍ يبقى لدينا أن نحقق معنى المجلس في نظر العرف ولي تحقيق في حديثي، وقلت: أن الاتصال التليفوني أو الاتصال التليفوني المرئي يمكنه أن يعد في نظر العرف مجلسًا واحدًا، أما الاتصال بالكتابة أو الاتصال بالتلكس أو ما إلى ذلك أو الفاكسي ميل، فلا يمكن أن أتصور هنا موضوعًا لخيار العرف فهو منتفٍ موضوعًا.
الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:
هذا الموضوع لا يشكل مجالا كثيرًا من الخلافات والكلام، فالمبدأ متفق عليه، والذي يهم في هذا الشأن هو أن الأساتذة الباحثين تكلموا على مجالات معينة ولكن خرجوا في نظري ودعموا بالذات أكثر من موضوع للتعاقد.
فحللوا لنا نظرية الإيجاب والقبول، وهذه نظرية أوسع مما يدرس في مجال عهده، ثم حللوا في التعاقد خيار المجلس.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
يا شيخ حمداتي نحن لا نريد النقد للأبحاث فنحن لا نريد التقييم ونحن لا نعطي شهادات، نحن نريد ماذا لديك فقهًا في هذه المسألة فقط.
الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:
خيار المجلس عند المالكية هو مجلس الكلام وليس مجلس الأبدان، فالمالكية يعتبرون أن الفترة التي يقضيها المتعاقدان وهما يتداولان في العقد يعتبر هو مجلس العقد ... وأما إذا سكتا وانصرفا إلى حديث آخر غير موضوع العقد فقد انتهى مجلس العقد عندهم ...
أما فيما يرجع للتعاقد أي الصيغة فهذه هي الأسبقية التي سجلتها الشريعة الإسلامية على القوانين الغربية واقتبست منها، فلذا هي لا تشترط أي صيغة للتعاقد، وهذا ما قاله ناظم خليل:
ينعقد البيع بما يتلوه على الرضا والتعاقد كله.(6/942)
لهذا فأنا أقترح أن يحال هذا الموضوع إلى لجنة الصياغة لإعداد القرار المناسب مع مراعاة المسائل الثلاثة:
العلم بالقبول، وإعلان القبول، ومكان العقد.
لأنه تترتب عليه خلافات قانونية أصبحت ملحة ومداولة في الجامعات.
فضيلة الدكتور وهبه مصطفى الزحيلي:
لا خلاف في تقديري في أكثر هذه المسائل التي تدور عليها بحوث هذا الموضوع، فالمشافهة لاشك في أن العقد ينعقد بها. وكذلك الكتابة والمراسلة وأغلب الصور الحديثة يمكن أن نوزعها حول هذه الطوائف الثلاث، لذلك ينبغي أن نذكر المستجدات حول هذا الموضوع لا أن نكون مجرد مرددين لأمور تقليدية حول الخلاف في خيار المجلس أو فورية القبول أو ما يسمى بالموالاة في القبول أو البيع بالمعاطاة، فكل هذه المسائل فيها الخلاف بين فقهائنا، رأي للجمهور ورأي لفريق آخر من الفقهاء خصوصًا الشافعية لا يجيزون المعاطاة ويطالبون بفورية القبول، لكن تحقيق مذهب الشافعية أن هذه الفورية إنما المراد بها أن ترد إلى عرف الناس وليس المقصود بها الفورية الآنية ولذلك يكاد يكون مذهب الشافعية متفقًا مع بقية الفقهاء حول هذا الموضوع، كل ما في الأمر النقطة الجوهرية في هذا الموضوع أن ما أشار إليه الدكتور عبد الله وهي النقول عن القوانين فهذه القوانين نحن لا داعي أن نأخذ منها أو نرد عليها فنحن لا نؤمن بها أصلا، نحن نؤمن بفقهنا العظيم كل ما في الأمر أن هذه القوانين تثير مسائل ينبغي أن يكون للمجمع دور فيها. وأهم مسألة في هذه القضية هي قضية: هل نأخذ بمبدأ إعلان القبول وهو ما عليه جمهور الفقهاء أم نأخذ بما عليه القوانين وهو العلم بالقبول، وهذا أيضًا مأخوذ من بعض فقهاء الحنفية كابن كمال باشا والنسفي ولذلك القانون المصري المدني والذي سرى في فلكه كثير من القوانين الوضعية تأخذ بنظرية إعلان القبول فيوجه هناك تلكس العرض ثم تلكس البيع، منعًا من وقوع الخلافات. هل هذا الإيجاب الذي صدر من الموجب ما زال قائمًا؟ وهل استطاع الموجب أن يعلم أن القابل قد قبل؟ فلذلك، منعًا من هذه الخلافات، أخذوا بنظرية إعلان القبول للموجب، ولذلك لا بد من تلكسات ثلاثة منعًا من كل نزاع أو خلاف في هذا الموضوع. فأرجو من المجمع الكريم أن يبتّ في هذه القضية التي هي فارق واضح بين فقهنا وبين ما عليه هذه القوانين.(6/943)
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
تلكس العرض ليس بلازم يا شيخ، لأن تلكس العرض قد يكون مشتركًا في ساعة الإيجاب والقبول.
سعادة الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
إن الموضوع موضوع حكم إجراء العقود بوسائل الاتصال الحديثة من وجهة نظري هو كما يلي: إن فقهاءنا رحمهم الله، يعتبرون الرضا هو الأساس في إبرام العقود، إذا لم يعارضه قاعدة شرعية. لهذا أجازوا التعاقد بالمراسلة والمكاتبة وبالإشارة وبالتعاطي. من هذا يتبين أن التعاقد بواسطة وسائل الاتصال الحديثة يتماشى مع ما قرره الفقهاء من قبل رحمهم الله تعالى. والتعاقد عبر هذه الوسائل ليس تعاقدًا بين حاضرين من كل وجه ولا غائبين من كل وجه فالمتعاقدان لا يضمهما مجلس واحد، وليس ثم فاصل زمني بين القبول والعلم به، لذا ساد القول بأنه تعاقد بين حاضرين من حيث الزمان لعدم الفاصل الزمني وبين غائبين من حيث المكان نظرًا لبعد الشُّقة بينهما. إلا أنني لا أميل للرأي القائل بإجراء العقود من خلال الراديو أو التلفزيون واعتبار ما يصدر عن هاتين الوسيلتين إيجابًا عامًّا موجهًا للجمهور، لأن التعاقد لا يتم إلا بتلاقي إرادتين يعبر المتعاقدان عن رغبتهما في إبرام العقد، وذلك لا يتحقق من وجهة نظري المتواضعة إلا بالمخاطبة المقصودة، وما يصدر من خلال الراديو أو التلفزيون هو مجرد عرض أو إعلان.
إن المتتبع لأقوال أكثر الفقهاء رحمهم الله تعالى يجد أنهم يقولون بإبرام العقد بين الغائبين بمجرد صدور القبول من الشخص الموجه إليه، أي أنهم يقولون بنظرية إعلان القبول.
الرأي الذي أراه، والله أعلم، أن الأولى أن نأخذ برأي القائلين بعدم مشروعية خيار المجلس، لا سيما عندما يجري التعاقد عبر الوسائل مدار البحث للأسباب التالية:
إن الأخذ برأي القائلين بخيار المجلس يعني تعليق العقد لحين انفضاض المجلس ولما كان وقت انفضاض العقد غير منضبط فهو متوقف على التفرق وفي ذلك محاذير كثيرة.
إن القول بخيار المجلس يزعزع من قوة العقد الملزمة وما هي الفائدة من اشتراط تطابق الإرادتين واقتران القبول والإيجاب إذا كان العقد غير مستقر ومعرضًا للفسخ.
إذا كان القصد من خيار المجلس هو إعطاء الحرية للمتعاقدين في المضي في العقد أو فسخه، ففي خيار القبول وخيار الرجوع من التدبر والتروي ما يكفي الطرفين لاتخاذ القرار الحاسم لإمضاء العقد أو إلغائه. هذه هي وجهة نظري المتواضعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سعادة الدكتور علي محيي الدين القرة داغي:
بخصوص رأي فضلية الشيخ التسخيري باعتبار القبول إجازة وقياسه على عقد الفضولي، في اعتقادي أنه قياس مع الفارق، لأن الإجازة تعني ثبوت الأصل مع أن الأصل هنا غير ثابت، وبالإضافة ليس هناك أي ارتباط يربط الموجب بالقابل إلا من خلال القبول، فكيف نعتبر قول القابل إجازة لما قاله؟ فهذا لا يسمح المجال لمناقشته مناقشة تفصيلية في هذا الخصوص.(6/944)
مسألة أخرى بالنسبة لأخي الدكتور إبراهيم كافي دونمز أشار في بحثه إلى عدة ملاحظات، أنا أشكره على هذه الملاحظات، ولكنه أسند إلي بخصوص رأي المالكية أن فهمي لهذا المذهب غير صائب، ولكنه لم يوضح رأي المالكية حسب فهمه الصحيح، وكان بودي أن يضيف، فأنا قصدي بأن المالكية يقولون بإيجاب الموجب في بعض الحالات، وذكرت هذه الحالات، وقلت: إن وجود القول بإيجاب الموجب لا بد أن يترتب على ذلك القول بنظرية إعلان القبول، ثم وجدت بعد ذلك نصوصًا من المالكية صراحة تدل على هذا، فهذا بالنسبة للملاحظات، أما بالنسبة لرأيي ملخصًا أختصر وأقول: إن هذه الآلات الحديثة، كما أشار إلى ذلك الدكتور الزحيلي، إن هذه الآلات في الواقع صحيح أنها حديثة بالنسبة للظهور وبالنسبة للتوصيل ولكنها ليست حديثة بالنسبة للتأصيل الفقهي فهي كلها تعود إلى قسمين: قسم لنقل الصوت واللفظ، وقسم لنقل المكتوب، وبعد ذلك أنا أرى الرأي الراجح في هذه المسألة طبعًا لا نستطيع أن نرفض لا سمح الله خيار المجلس، فخيار المجلس الحديث فيه صحيح وثابت متفق عليه، ولكن أنا رجحت أن نقدر مجلس العقد بالنسبة للتليفون وبالنسبة لوسائل التلكس وما أشبه ذلك بفترة المحادثة، لأن الاتصال أي المجلس ينقطع تمامًا كمثل شخصين جالسين في مجلس واحد فيفترق أحدهما عن الآخر وينتهي العقد. فأنا حقيقةً أثبتُّ ورجحتُ مجلس التعاقد ولكنني أعطيت فترة زمنية محدودة للتعاقد بالنسبة للتلكس وخاصة بالنسبة للتليفون في فترة التحدث، لأنها بعد ذلك سينتهي. وحتى لا أطيل عليكم كذلك بالنسبة للتعاقد باللاسلكي، فإذا كان ينقل الكلام الواضح إلى الآخر فهو كمثل التليفون في جميع الأحكام التي ذكرناها، أما إذا كان ينقل الكلام عن طريق الشفرات الواضحة المسموعة المفهومة فحينئذٍ يتم العقد أيضًا إذا فهم الإيجاب والقبول. وبخصوص مسألة أشير إليها في قضية الراديو والتلفزيون: في الواقع إن هذه المسألة أنا لم أشر إليها من واقع خيالي، وإنما هذا البحث نوقش في كلية الشريعة عندنا، ومع كلية الاقتصاد، وحضره مجموعة من أساتذتي الكبار في هذا الموضوع وناقشنا هذه المسألة وأثبتت هؤلاء الاقتصاديون وبعد استشارتي لهم وإفادتي لهم الكثيرة ومنهم أثبتوا لنا وجاءوا ببعض الصور من أن هناك في فرنسا وغيرها تلفزيون تجاري يشترك فيه مجموعة من الناس ويعرض هذا التلفزيون العقد وبالتالي لك الحق مباشرة أن تتصل بجهة التلفزيون وتعرض عليه القبول. هذا جانب.(6/945)
أما الجانب الآخر بالنسبة للجعالة أي الجعال صحيح أنها من العقود الانفرادية أو من باب سلطان الإرادة المنفردة ولكنها في الأخير تصبح عقدًا مزدوجًا عقدًا يتكوَّن من شخصين أليس كذلك لما يقوم الشخص بذلك فحينئذٍ يكون تم العقد وأصبح لازمًا. ولذلك حينما كان كلامًا كان غير ملزم له الحق في الرجوع، لكن إنما يلزم إذا قام الشخص فحينما يقوم الشخص فاعتقادي أن القياس على الجعالة بالنسبة للوعد بالجائزة قياس ليس مع الفارق وإن شاء الله قياس مناسب وقياس قائم على العلة المناسبة. ووضعت بعض الضوابط وهي:
الضابط الأول: أن العقود التي تتم من خلال التليفون أو الراديو أو التلفزيون أو اللاسلكي يكون احتمال التزوير وتقليد الصوت والدبلجة التلفزيونية واردًا، ولذلك تسمع دعوى من ادعى ذلك، على عكس العقود العادية لا يسمع هذا إلا بأدلة، ولكنه يقع على من يدعى ذلك عبء الإثبات فنرجو من المجمع الموقر أن يشير إلى هذا الضابط، إن أراد.
الضابط الثاني: إن العقود بالتليفون ونحوه تصح فيما لا يشترط فيه القبض الفوري بدون إشكال. أما ما يشترط فيه القبض الفوري فإنما تصح بالتليفون إذا تم القبض بعد انتهاء المكالمة مباشرة كأن يكون لكل واحد منهما عند الآخر وكيل التسليم مثلًا أو نحو ذلك. فالعقود الربوية والأموال الربوية لا يتم فيها العقد بالنسبة للتليفون إلا مع هذه الضابطة، وهي ضابطة القبض والقبض مرجعه إلى العرف وطبعًا الشريعة الإسلامية شددت في القبض الفوري يدًا بيد في الأمور الستة.
الضابط الثالث: إن مجلس العقد بالتليفون ونحوه ينتهي بانتهاء المحادثة إلا إذا كان العقد - وهذا استثناء - يتم من خلال المزايدة، حيث ذهب المالكية إلى أن الشخص الذي يعرض رضاه بثمن معين في المزايدة فليس له حق الرجوع حتى ولو طال. وهذا الرأي في نظرنا يحقق المصلحة والتوازن والاستقرار. وقد بينت أسباب هذا الترجيح في داخل البحث.
أما بالنسبة لإجراء العقود بالوسائل الحديثة لنقل المكتوب مباشرة مثل البرقية والتلكس والفاكس فهو كحكم التعاقد بالكتابة سواء بسواء ولذلك ذكرنا الاتجاهات الثلاثة حول التعاقد بالكتابة ورجحنا اتجاه الموزعين الذين جعلوا الكتابة كالخطاب.
في قضية التعاقد بالبرقية أو التلكس لا بد من الإشارة إلى أن مجلس العقد ووقت تمامه وما يترتب على المجلس من خيارات لا بد من مراعاته فيما إذا تطرقنا إلى هذه المسألة وربما يلاحظ أو يعاد إلى القواعد العامة بهذا الخصوص.(6/946)
فضيلة الدكتور على السالوس:
أريد أن أركز في هذا الموضوع على أمرين:
1- ما يتصل بالخطأ.
2- الأمر الثاني ما يتصل بالإثبات.
الملاحظ أنه لا خلاف حول إمكان أن تتم العقود بهذه الوسائل المستحدثة ولكن إن كان الخطأ فكيف نتلافاه؟ لأن بعض الإخوة ذكر بأنه إذا حدث خطأ في الوسائل البرقية. وقالوا هذا ممكن، فإن هذا لا يبطل العقد، وإنما نلجأ إلى تضمين الطرف الثالث الذي وقع الخطأ منه. يدخل طرفًا آخر وتم التعاقد على شيء معين، وقد يكون الفرق ملايين، نلجأ إلى العامل أو الهيئة التي أجرت البرقية وهي التي تتحمل الخطأ وتضمنه. وهذا قول أعتقد بأنه غير سائغ، لذلك علينا أن نتأكد بالنسبة للوسائل المستحدثة من عدم الخطأ، بحيث على لجنة الصياغة عندما تصيغ القرار أن تنظر كيف يمكن تجنب الخطأ أي الوسيلة لهذا التجنب.
الأمر الثاني: كيف يمكن إثبات الإيجاب والقبول؟ إذا قلنا مثلًا بالهاتف ونحن في عصر أكثر العقود لا تثبت إلا بالكتابة، بل بالكتابة والتوثيق في كثير من الحالات، نقول: بالهاتف: قلت لك كذا، والآخر يقول أنا لم أقل كذا، أنا لم أوافق على كذا. إذًا هنا أيضًا لا بد أن تثبت لجنة الصياغة عن وسيلة تبين كيف يمكن إثبات الإيجاب والقبول، بحيث لا يستطيع أحد من المتعاقدين أن ينكر أنه قال كذا أو قبل كذا.
فضيلة الشيخ أحمد محمد الشريف:
الحقيقة كانت عندي بعض الملاحظات في هذا الموضوع.
أرى أن هذا الموضوع ليس من الموضوعات الجديرة بالبحث. قد يكون الحكم فيها بديهيًّا، الموضوع الأساسي هو أن العقد ربط الإيجاب بالقبول وهو في الحقيقة تلاقي إرادتين. أما الصيغ فهي الصور التي تحقق هذا التلاقي. الموضوع يتعلق بموضوع الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة. ومن المعلوم أن الشرع الإسلامي يتوجه إلى المعاني لا إلى المباني أي يحكم بالإرادة الباطنة. لكن لما كانت الإرادة الباطنة أمرًا نفسيًّا لا يمكن التعرف عليه إلا بأمر ظاهر، جعل الفقهاء الصيغة قرينة أو دلالة على هذه الإرادة الباطنية. فأية صيغة يمكن أن تعبر عن هذه الإرادة؟ طبعًا نقصد بالإرادة الإرادة التي تكون حرة وسليمة، سليمة من العيوب، عيوب الغلط والإكراه والتدليس على خلاف بين الفقهاء والقانونيين في مدى أثر هذه العيوب في مدى سلامة العقود أو في بطلانها أو فسادها أو توقفها. الوسائل التي كانت موجودة أيام كتابة الفقه كانت الكتابة، ثم لحق التليفون والتلغراف أخيرًا، فألحقوها به، وكذلك أية وسيلة اتصال حديثة تعتبر أيضًا دون معاناة في بحث أو تعمق، صحيح أن الفقه هو عمق في الفهم ولكن ليس دائمًا العمق هو الذي يوصل إلى طبيعة الحكم الشرعي، قد نصل إلى الحكم الشرعي بكل بساطة، دون الحاجة إلى تعمق وسبر أغوار التحليلات الفقهية في كل مسألة ومنها هذه المسألة.(6/947)
فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي:
أريد أن أقسم حديثي إلى أمرين: الأمر الأول هي قضية منهجية لا بد من اتخاذ قرار فيها. ذلك أن إعداد المواضيع الفقهية في ما يتصل بالقانون المدني، يذكر فيها الفقه الإسلامي ويذكر فيها القانون المدني، وكثيرًا ما يرتبط هذا القانون بدولة الكاتب الذي يكتب. ونعلم بأن القانون المدني تأثر في كثير من البلدان الإسلامية بالقانون الفرنسي وتأثر بالفقه الإسلامي، ويتأثر أيضًا بما يعبر عنه بفقه القضاء والأحكام التي تحكم بها المحكمة العليا، ويتأثر في دول أخرى بالقانون الإنجليزي، ودخل القانون الألماني أيضًا كقوة فاعلة. فاعتقد أن الباحث إذا أراد أن يستدل بالقانون أو نجعل مقارنة بين الفقه الإسلامي وبين القانون، فليكن القانون عامًّا لا قانون البلد، خاصة وأن البلدان الإسلامية ليس لها قانون واحد، ومجلة الأحكام العدلية في ذاتها غير مطبقة فأعتقد أنه نقتصر في الدراسات الفقهية على ما جاء في الفقه الإسلامي دون تعرض إلى القوانين الوضعية التي هي غير متأثرة 100 % بالشريعة الإسلامية، ولكنها تتأثر بالشريعة الإسلامية وبغيرها.
الأمر الثاني فيما يخص موضوع اليوم. أعتقد أنه يكاد الاتفاق يكون تامًّا بين كل المناقشين على صحة التعاقد بهذه الوسائل الحديثة. وقد وقع التعرض إلى خيار المجلس، وأعتقد أن خيار المجلس – اعتمادًا على قول الرسول صلى الله عليه وسلم) ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) ها هنا لم يتحقق، بمعنى أن تحقيق المناط إذ أردنا أن نحقق، هذا المجلس هو غير موجود لأن قوله صلى الله عليه وسلم ((لم يتفرقا)) حمل إما على التفرق بالأقوال أو التفرق بالأبدان. والأبدان قد تفرقا بهما، وأحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، وأحدهما يعطي هذه اللحظة والآخر بعد زمن طويل، فقضية خيار المجلس هنا ينبغي أن لا يحدث لأن الوسائل الحديثة أحدثت لنا طريقة أو وضعًا غير موجود في الحديث ولا يدل عليه الحديث إلا بتمحص وبقياسات لا أعتقد أنه من الخير أن تعمم لأن في تعميمها مشاكل. وإذا تجاوزنا قضية خيار المجلس التي أقول إن الحديث لا يدل عليها وإن تحقيق مناط غير متحقق في هذا. فاعتبار الصيغة كيفما كانت في صحة العقد أمر متفق عليه بين الجميع واعتبار التتابع أو الموالاة في الإيجاب والقبول هو أمر قد تحقق في العقود حسب ما بينه الباحثون.
كلمة بسيطة بقيت وهي الجعالة، والجعالة هي عقد غير لازم ولو قبل الشخص، لأن الجعالة عقد غير لازم ولو كان في أثناء العمل وذلك ضمانًا لحقوق العامل وهذا معروف.
بقي الإيجاب والقبول بما يثبت؟ وطرق إثبات الإيجاب والقبول؟ وإذا وقع خطأ؟ هذه قضايا جزئية يتعرض إليها القضاء لفصل النزاع ولا يمكن لمجمع أن يصل إلى كل الحلول، لكننا نبحث في القضية وفي أصل المشكل وهو أن هذه معتبرة أو غير معتبرة.(6/948)
فضيلة الشيخ محمد الحاج الناصر:
لا أرى أن الموضوع الأساسي لهذه المناقشة جدير بالمناقشة الذي يظهر من مختلف الأبحاث ومختلف ما تفضل به حضرات السادة المناقشين أن الكل متفق ولا سبيل لهم إلى الاختلاف على أن التعاقد بالوسائل الحديثة جائز.... ولا مساس مُسَّ به عُمْقٌ من أعماق عقيدتي وأحسُّ بأن كل مسلم لا بد من أن تكون عقيدته قد مُسَّت إن كان قد انتبه إلى هذا الرأي قيل. وذلك لأن أحد الإخوة غفر الله لنا وله، جرأ، من حيث يدري أو لا يدري، ليقول ما معناه لا أساس لخيار المجلس، وهو أمر وردت به أحاديث خرجناها من حوالي 20 طريقًا، رواه كل من ابن عمر وابن مسعود وأبي هريرة، رضي الله عنهم، وغيرهم، والذي دفع الناس إلى مثل هذا القول الذي قد لا يكونون قدَّروا عمقه حق التقدير هو عدم الاعتماد أساسًا على الحديث وعلى القرآن، والاكتفاء بما قاله الفقهاء على اختلاف أعصارهم وبيئاتهم واتجاهاتهم. وما من أحد من المسلمين يسمح بأن يقول عن الحديث وقد ورد في قضية أيًّا كانت بأنه غير موجود أو أنه غير أساسي، وقد اتفق الأئمة الأربعة الذين تواطأ الحاضرون، غفر الله لنا ولهم، على اعتماد مقولات أتباعهم، اتفقوا جميعًا على إيثار الحديث، حتى أبو حنيفة، وهو إمام القياس، كان يقول ما معناه: إذا وجدنا في القرآن شيئًا قبلناه، وإذا وجدنا في الحديث شيئا- وإن كان ضعيفًا – قبلناه، وإذا جاءنا عن الصحابة شيء أخذنا بقول الجمهور. أما اجتهادات النخعي ومن على شاكلته فهم رجال ونحن رجال. وذلك قول جليل من إمام جليل فلماذا نعرض عن هذا الأساس حتى نتجاهل، وإِنْ قَوْلا وعن غير اعتقاد، كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم إني أبرأ من هذا ومن سماعه ومن قبوله. شيء آخر: هذا الذي قيل عن القانون الوضعي أخذ البعض على من لجأ إلى الاستدلال به أو الاستئناس، والواقع أن أصل القانون الوضعي في كثير من مسائله المدنية والجنائية ليس بعيدًا في مآخذه ومصادره عن الفقه الإسلامي أيًّا كان المشرعون من الأوربيين وغيرهم. لكنهم قد يكونون انحرفوا أو حرفوا، فإن رجعنا إليه فإنما رجعنا إلى الاستئناس بشيء قد أخذ منا، هذا جانب. أما الجانب الثاني أن هذه القوانين بحكم طول فترة التعايش والتلاقح مع الدول الاستعمارية صنعت ما يوشك أن يكون أعرافًا ثابتة، وما دمنا نعتبر العرف في العقود فلا سبيل إلى الإعراض عن الاستئناس بهذه القوانين.
فضيلة الشيخ حمد آدم الشيخ عبد الله علي:
أود أن أشير إلى نقطة واحدة في بحث الدكتور وهبة (ص10) فيها: (لو وجه أحد العاقدين خطابًا أو برقية إلى آخر أو تلكسًا أو فاكسًا وفيها إيجاب بيع شيء أو بإبرام عقد زواج انعقد العقد بعد وصول البرقية أو الخطاب أو نحوهما) ، وأنا أرى أن عقد الزواج ليس من العقود المالية وهو عقد مكرمات لا يدخل فيها المعاطاة وليس فيها خيار المجلس وأقتراح على المجلس الموقر إبعاد عقود الزواج عن العقود المالية وتركه على ما عليه المسلمون الآن.(6/949)
فضيلة الدكتور بشار عواد:
أردت أن أنبه فقط للجنة الصياغة في المستقبل عند بحثها لهذه القضية، قضية العقود بطريقة المراسلة أو طريقة الاتصالات الحديثة، هو ضرورة التأكد من شخصية المتعاقد وهذه المسألة أصبحت اليوم خطيرة، لما يمكن أن يحدث من تزييف في شخصية المرسل بالدرجة الأولى أو المرسل إليه. ولقد جربنا في الأعصر الحديثة الكثير من التزييف في هذه الأمور وأن وسائل الاتصال الحديثة بقدر ما فيها من التيسير والتسهيل هي مواطن للتدليس والخداع أيضًا، إذ يمكن تقليد الأصوات عن طريق الهاتف أو يمكن تقليد الصور أو يمكن تقليد التلكس أو الفاكس أو نحو ذلك، فهذا ينبغي أن يُنَصَّ عليه عند اتخاذ أي قرار في هذه المسألة من باب التحوط.
المسألة الثانية ربما أشرت إليها في جلسة سابقة أرجو أن ينتبه إليها. قال الإمام الذهبي، رحمه الله عليه، في كتابة الموقظة: (واعلم أن مدار حديث الفقهاء إنما يكون على الأحاديث الحسنة والضعيفة) ، وفي رأينا هذا قد يكون من باب التوسع في مناقشة مسائل لم تكن موجودة في عصر النبوة، ويحاول الفقهاء أن يجدوا لها سندًا في الحديث النبوي الشريف وهي وإن كانت من الرأي أو ما إلى ذلك لكنهم يجتهدون في أن يجدوا فيقبلون بعض الأحاديث الضعيفة، الرجاء أن ما يحتج به من الأحاديث ينبغي أن يكون ثابت الصحة ولا سيما إذا بنيت عليه قواعد للاستدلال لأنه لا يجوز أن يكون شيء غير ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستدل به كأنه شيء ثابت إطلاقًا. وهذا يجعلني أشير إلى طريقة تناول هذه الأحاديث والكتابة فيها وأنا أطالع الأبحاث أجد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما نبحث عن هذا الحديث نجده ضعيفًا لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، في الأقل في مثل هذه الأمور سلفنا من المحدثين العلماء الأجلاء وضعوا لذلك ينبغي الالتزام بها إثباتًا لأن هذا الحديث غير ثابت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، كأن يقول روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أُسْنِد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما إلى ذلك من العبارات الدالة على عدم ثبوت الحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأن القطع بالصدور فيه مجانبة للعقيدة الإسلامية وفيه مجانبة في الوقت نفسه للبحث العلمي الرصين.(6/950)
سعادة الدكتور عبد السلام داود العبادي:
واضح أن كثيرًا من الأمور التي بحثت تحت هذا العنوان من الأمور المستقرة فقهًا والتي لا مجال إلى كبير نقاش حولها. وكان بودّي أن تركز الأبحاث على القضايا المستجدة فيما يتعلق بالمشكلات التي تحتاج نظرًا وبحثًا مستفيضًا في إطار هذه الصيغة المعاصرة للعقود. وقد حاولت بعض البحوث أن تقف عند بعض القضايا الهامة المتعلقة بهذا الموضوع كموضوع القبض وبيع المال الغائب وغير ذلك، لأن أساس هذه الوسائل الحديثة السرعة في عملية الإنجاز، ويترتب على هذه السرعة مشكلات تتعلق بالاستيثاق، وتتعلق ببيع ما لم يقبض، وبيع الغائب، وغيره من الأمور. أما الإطالة في تأصيل هذه المسألة على ضوء ما هو مستقر في التعبير عن الإرادة في الفقه الإسلامي، فهي قضية ليس من لب اهتمام هذا المجمع. المجمع يريد أن يتصدى للمشكلات المستجدة التي تحتاج إلى حلول ومعالجات مستفيضة. وأنا أعرف أن جلسة المساء ستعالج قضية القبض، ولكنها سنعالجها بما يشمل بيع المرابحة للآمر بالشراء، وبما يشمل الاتصال بالآلات الحديثة. لكن لو أهتم النقاش، على الأقل استفادة من الوقت، بهذه القضايا لعلها تكون تمهيدًا بما سيتبلور من قرارات تمس حياة الناس هذه الأيام. مستقرة الآن قضية اعتماد هذه الوسائل للتعاقد والفقه الإسلامي يؤدي ذلك، لكن المشكلات التي تترتب على اعتمادها هي التي تحتاج إلى مزيد بحث ومناقشة ودراسة. وأحب هنا أن أشير إلى قضية ولو أنها عرض لها كثيرًا وهي قضية منهجية البحث: لعله تكلف لجنة التخطيط بإعادة النظر فيما اعتمد من قواعد سابقة لأنه يبدو أن الحل لهذه المشكلة يكون في الواقع في اعتماد بحوث وباحثين ثم إرسال هذه البحوث لمعلقين مختصين بالموضوعات المطروحة ليوزع على الأعضاء بوقت مسبق، البحث أو البحثان والثلاثة حسب الموضوع وأهميته والتعليقات التي تصدت لمناقشة هذه البحوث حتى نكتفي إلى حد كبير من مؤنة النقاش في مثل هذه اللقاءات.(6/951)
فضيلة القاضي محمد تقي العثماني:
إنما أريد أن أنبه إلى نقطة واحدة فقط تتعلق بالموضوع ورأيت أن الباحثين على الرغم من استفاضتهم للموضوع وبسطهم بسطًا مشكورًا لم يتعرضوا لها تعرضًا يفي بحقها مع أنها هي المسألة المستجدة في هذا الموضوع، وهي مسألة خيار القبول، ومدى امتداده في العقود التي تتم بالآلات الحديثة كالتلكس أو الفاكس أو حتى بالبريد. والذي جرت عليه البحوث المعروضة علينا هو ما ذكره الفقهاء في كتبهم في العقود التي تتم بإرسال كتاب. وخلاصة ذلك أن خيار القبول للمرسل إليه، إنما يقتصر على مجلس وصول الكتاب إليه وهو القول الذي اختاره كثير من الباحثين في الموضوع. ولكنني أخشى أن يكون قياس البريد والتلكس والفاكس على ما ذكره الفقهاء في إرسال كتاب أن يكون قياسًا مع الفارق، وذلك لأن إرسال الكتاب، في زمن الفقهاء، إنما كان يتصور عن طريق رسول يحمل الرسالة شخصيًّا، فكان من الممكن أن يربط خيار القبول بمجلس وصول الرسالة، لأن رسول المرسل كان يمكن له أن يراقب هل قبل المرسل إليه الإيجاب في المجلس أولا. أما في التلكس أو البريد فليس هناك من يراقب المرسل إليه، فلو قلنا باختصار خيار القبول على مجلس وصول التلكس فهذا يعني أن التلكس الإيجاب بعد انتهاء مجلس الوصول يعتبر كأنه ملغي ولا يصح للمرسل إليه بعد ذلك أن يبني قبوله على أساس ذلك الإيجاب وذلك التلكس. وهذا على ما فيه من حرج شديد ربما يحدث نزاعًا في أن المرسل إليه هل قبل الإيجاب في المجلس أو لا ولا سبيل إلى الفصل في مثل هذا النزاع. والمعهود في الشريعة الإسلامية أنها تبتعد عن كل ما يفضي إلى النزاع. فالسؤال هنا هل يجوز لنا أن نقول في العقود التي تتم بالتلكس وغيره أن خيار القبول يستمر للمرسل إليه إلى أن يشعر مرسل التلكس المرسل إليه بالرجوع عن إيجابه إلا إذا ذكر في تلكسه مدة معلومة محددة أن الإيجاب سيستمر إلى هذه المدة وعند انقضاء تلك المدة سينقضي فعل القبول؟ فلا بد من دراسة هذه النقطة والبحث فيها فيما أراه، والله أعلم.
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
هناك في الواقع ثلاثة نقاط إضافة للنقطة التي ذكرها الشيخ محمد تقي العثماني وهي جديرة بالاهتمام، وهي قضية الربويات والنكاح وبيع السلم فبودي إذا أمكن بقية المناقشات وهي قليلة أن تشملها كل بقدر ما يستطيع.
سعادة الدكتور عبد الستار أبو غدة:
سأبدأ من حيث انتهى الشيخ محمد تقي العثماني لأن هذه الفقرة كانت هي في مخيلتي وهي أنني حينما اطلعت على هذه الأبحاث وجدت إشارة متكررة إلى مذهب الجمهور في الإيجاب وإلى مذهب المالكية. والجميع أو معظمهم ممن كتب في هذه الأبحاث أشاروا إلى أن مذهب الجمهور في الإيجاب أنه يتقيد بمجلس الإيجاب أو بمجلس العقد، وأن المالكية ذهبوا مذهبًا آخر بأنه كان بلفظ الماضي وبلفظ الجزم فإنه يبقى ولم يشر أحد إلى مذهب آخر للمالكية أو لبعض المالكية لعل فيه الحل لإشكالات التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة. هذا المذهب أشار إليه الحطاب وذكر أن ممن قال به أبو بكر بن العربي صاحب (أحكام القرآن) وهو أن (الإيجاب إذا قيد بوقت فإنه يستمر قائمًا ما بقي هذا الوقت) ، وهذا ما أخذت به كثير من القوانين المدنية وسموه الإيجاب المؤقت، فإذا كتب كاتب في وسائل الاتصال أو أرسل تلكسًا أو فاكسًا أو شيئًا ووضع هناك تاريخًا لنفاذ هذا الإيجاب واستمراره فإن هذا يحل الإشكال، فإذا جاء الرد في هذا الظرف فإنه قد التقى القبول بالإيجاب وتحقق الرضا، وإذا جاء بعده أو لم يأت شيء وانتهى الوقت سقط هذا الإيجاب ووئد كما ولد، وهذا فيه الحل لهذه الموضوع وهذا الرأي كما قلت مشار إليه في الحطاب وإن كان هو خلاف المشهور لكنه نسبه إلى عدد من علماء المالكية ومنهم أبو بكر بن العربي المعروف بتحقيقه وتدقيقه.(6/952)
سعادة الدكتور أحمد بن حميد:
في الحقيقة أريد أن أشير إلى نقطة واحدة وهي ما أشار إليه البعض من عدم خيار المجلس، إن كان يريد عدم إثباته في العقود جميعها فهذا موضوع آخر، وإن كان يريد عدم إثباته في وسائل الاتصال الحديثة، فهذا يرد عليه أنه يخالف عموم الحديث (البيعان بالخيار) فهو حديث عام يشمل كل بائع ولا يمكن أن يخص منه بائع إلا بدليل، ولا يظهر لي دليل هنا مخصص، وما أشار إليه البعض من عدم انضباط خيار المجلس في مسائل الاتصال الحديثة فهذا لا يمكن أن يعتبر مخصصًا أبدًا، لأنه يمكن الأخذ بالأعراف وما ذكره الفقهاء في مسائل التفرق يمكن تخريج التفرق في مسائل الاتصال الحديثة عليها. وقد ذكر بعض الباحثين عبارة جيدة للإمام المتولي فيمكن الاستفادة منها في هذا المجال.
الشيخ الأستاذ عمر جاه:
أتفق تمامًا مع الرأي الذي يقول بأن العقود بالآلات الحديثة مقبولة، وأذهب إلى أبعد من ذلك وأقول: إن العمل بهذه الآلات جارٍ وموجود في كل مكان وعلى جميع المستويات، ولكن أخي الدكتور قد أغناني عن التفسير في ما كنت أريد أن أقوله: إن هذه الآلات الحديثة فيها أخطار إمكانية التزوير والتزييف والتدليس قوي فيه. ولذلك أريد أن ألفت النظر على أن المؤسسات والبنوك التي تتعامل بهذا عندها الضمانات ووسائل الاستيثاق، يستوثق هذه الأمور بكيفية فنية معروفة لديهم، ولذلك أرجو من صياغتنا لأي فتوى نصدرها هنا أن ننتبه لهذا، ونضع الضمانات الكافية، وذلك لأن العقود بالكتابة في الزمن القديم، كما ذكر الشيخ محمد تقي الدين، كان هناك رسول يحمل الكتاب إلى الطرف الآخر، فالبريد قد يكون فيه شيئًا من هذا الضمان، لأن هناك توقيعًا على الوثيقة قبل أن تصل إلى الطرف الآخر لكن التلكس ليس فيه مثل هذه.
سعادة الدكتور إبراهيم كافي دونمز:
هناك جانبان أساسيان للموضوع: الجانب الأول يتمثل في مسألة جواز أو عدم جواز التعاقد بوسائل الاتصال الحديثة أو بشكل أوسع التعاقد بين غائبين. والأدلة المذكورة في البحوث تمكننا من القول بأن هذه الطريقة تجوز. ويبدو أن هذا الجانب ليس من النوع الذي يثير مناقشات واسعة، كما تفضل الأستاذ العارض بأن لجنة تعديل مجالات الأحكام العدلية قررت إضافة مادة في هذه المجلة في هذا الاتجاه. والجانب الثاني في الموضوع يتمثل في بعض المسائل الدقيقة التي تتعلق بنظرية العقد، ومع أن هذه المسائل تحظى بأهمية بالغة في دراسات فقه الالتزامات، فإنه لا تتعلق بالفتوى قدر ما تتعلق بالتقنين، يعني هذه المسائل أغلبها تتعلق بالتقنين أو المشرعين. ومع ذلك المسائل هذه لها مساس بالفتوى أيضًا، مثلًا كمسألة تبنى نظرية ما من هذه النظريات كما أشار إليه فضيلة الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي، تبني نظرية الإعلان أو العلم أو النظريات الأخرى لها نتائج عملية بيَّنَّاها في بحوثنا، وكذلك مسألة إلزامية الإيجاب، كما أشار إليه فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة، وأنا توسعت في بحثي المتواضع وجاهة قول المالكية في هذا الموضوع يعني إذا عين ميعاد معين للقبول هذا يكون ملزمًا في رأي المالكية أي جمهور المالكية.(6/953)
ولا أريد الإسهاب في الكلام لمناقشة هذه الأمور الدقيقة، لأنه قبل كل شيء يجب أن يبدي مجمعكم الموقر موقفه من دراسة هذه المسائل، إذا تمس الحاجة إلى دراستها على حدة، فنحن جاهزون لنقاشها، ولكن ليس من حقنا، إشغال حضوركم أكثر مما ينبغي لأننا توسعنا في بحوثنا، ومع ذلك أود أن أشير إلى بعض النقاط اللازمة، مثلا الدكتور القره داغي الأخ الفاضل، طلب مني أن أجيبه على سؤاله، كلامي الوارد في بحثه بالنسبة لعبارة الدكتور القره داغي لا ينصب على ما ينقله من المالكية بل ينصب على وجه استدلاله، الدكتور يقول: وأما المالكية فهم يقولون بأن الإيجاب ملزم للموجب كما سبق فعلى هذا لا يتماشى مع قواعد مذهبهم أن يشترطوا علم الموجب بقبول القابل حتى يتم العقد، وكما يلاحظ فإن الدكتور القره داغي يظن أن اعتبار الإيجاب ملزمًا لا يسمح لنا بتبني نظرية عدا نظرية الإعلان، يعني نقدنا في هذه المسألة ينصب على هذه النقطة لا على قول المالكية، بعبارة أخرى، ولو قلنا بإلزامية الإيجاب هذا لا يمنعنا من تبنّي نظرية ما عدا نظرية الإعلان. وهذه النقطة هامة جدًّا كما أشار إليه فضيلة القاضي محمد تقي العثماني، في وقتنا الحاضر تبني نظرية الإعلان لا يسُد الحاجات الماسة، لأننا إذا قلنا بأن العقد ينعقد بمجرد صدور القبول أي بمجرد الإعلان عن القبول من طرف الموجب إليه الإيجاب، هذا يؤدي إلى كثير من المشاكل مع أن بعض الباحثين ينتمي إلى تبني هذه النظرية، وأنا حاولت في بحثي المتواضع تحليل هذه النظريات كلها وسلبياتها وإيجابياتها والنظرة المختارة ولا أريد إسهاب الكلام فيها. وبالنسبة لقضية خيار القبول، إذا لم أفهم غير الصحيح في كلام فضيلة الدكتور محمد علي التسخيري، كأن فيه خلط بين مفهومين خيار القبول وخيار المجلس، حكم خيار القبول هو المتفق عليه في الفقه الإسلامي، كما نعرف، وهذا لا يعني ألا يوجد خيار المجلس، فخيار المجلس شيء آخر ونوقش كما نعرفه ولذلك لا أريد أن أتوسع في الموضوع.(6/954)
فضيلة الدكتور عبد اللطيف الفرفور:
في كل المناقشات والمداخلات الكريمة التي يتفضل بها الزملاء لم أستمع إلى موضوعين أرى أنهما بحاجة إلى شيء من البسط. الموضوع الأول هو اشتراط شروط لرجوع الموجب عن إيجابه، هل يجوز أم لا؟ ومتى يجوز؟ لأن الموجب قد يرجع عن إيجابه قبل أن يصل القبول قبل أن يصل الرد من القابل أي الطرف الثاني، وهذه المسألة في بحثي المتواضع في ص3 ذكرتها بشيء من البسط ومع ذكر بعض الأقوال وأرجو أن يرى المجمع الكريم رأيه فيها وأن تلحظ.
والمسألة الثانية هي أن يشترط في الإيجاب ألا يفهم منه معنى السوم أو الترسل أو استمزاج الأسعار أو معرفتها، كي لا يكون هذا الإيجاب بالتالي باطلًا أو لاغيًا لأنه ليس بالإيجاب، هذه ناحية أيضًا تدخل تحت التثبت، والتثبت يكون في أحد أمرين: إما أن يكون التثبت في الشخص أو في الصيغة. فالتثبت من الشخص ذكره الأفاضل الزملاء، والتثبت من الصيغة أيضًا لا بد منه، كي لا يكون الموضوع داخلًا تحت كلمة ما يسمى عندنا ببلاد الشام الترسمل، بالصيغة ويريد أن يترسمل بها. ولكن الأهم من ذلك هو قضية رجوع الموجب على إيجابه متى يجوز وما هي ضوابطه؟ ويمكن أن يستأنس بما ذكرته في البحث المتواضع وما ذكره بعض الإخوة الباحثين الآخرين من الأفاضل العلماء ولكن لم تدر المناقشة حول هذا الموضوع وشكرًا.
سعادة الدكتور محمد نبيل غنايم:
أرى الحديث في نقطتين: النقطة الأولى حكم إجراء العقود بوسائل الاتصالات الحديثة، وهذه كما يبدو من البحوث أنها قد انتهت إلى إجازتها، ونحن مع هذا الرأي بعد الأخذ بالضوابط التي ذكرها الإخوة في الإيجاب والقبول والتثبت وعدم التزوير ونحو ذلك، أما النقطة الثانية فهي استفسارات بعض الإخوة عن بعض الأمور التي يظن أنها لم ترد في البحوث التي بين أيدينا، وهذه أرى أن آفتها ترجع إلى عدم القراءة، ويمكن معالجة هذه القضية بأمرين، الأمر الأول أن الأمانة العامة للمجمع تقوم بإرسال هذه البحوث قبل بدء انعقاد الدورة بوقت كافٍ حتى يتمكن الإخوة المشاركون من القراءة لهذه البحوث قراءة متأنية وواعية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أقترح على رئاسة الجلسة أن تتفضل بالإجابة عن استفسارات الإخوة المشاركين في المناقشة أحد الإخوة الباحثين أو على الأقل الأخ الذي يتولى عرض هذه البحوث لأن كثيرًا من النقاط التي يثيرها الإخوة موجودة في البحوث ويستطيع الإخوة الباحثون أن يردوا عليها ويكشفوا ما غمض منها.(6/955)
فضيلة الشيخ محمود شمام:
كل الحاضرين هنا في هذا المجمع من السادة العلماء يطبقون في بلدانهم، عدا بلد واحد صانه الله وحفظه، قوانين وضعية موضوعه محددة معمول بها سواء كانت هذه القوانين مأخوذة عن الفقه الإسلامي أم لا، فهذا أمر واقع ومحسوس ولا بد من الاعتراف به ولا بد من الاستئناس بهذه القوانين لعرفة ما هو واقع في بلادنا، هذه القوانين تطبق في بلداننا والمجمع الإسلامي مدعو حفظه الله لأن يقرر من الناحية الفقهية الإسلامية، وإذا قرر المجمع الإسلامي موضوعًا فسوف نحاول جميعًا إصلاح هذه القوانين، لأن كل هذه القوانين هي قابلة للإصلاح والتغيير لأنها من وضع البشر، ونحن نحاول هذا من باب تغيير المنكر، ولذلك لا يمكن لنا أن نقول: لا يجب علينا أن نتعرض لهذه القوانين، فهذا أمر معمول به في بلادنا لا يمكن جحوده ونكرانه. فيما يتعلق بوسائل الإثبات، هنا في المجمع، إنما نتعرض وتحدث للمبادئ الأصولية التي يجب أن تطبق. أما فيما يتعلق بالشكليات وما يتعلق بوسائل الإثبات، فهذا أمر مفروغ منه، فوسائل الإثبات سواء كانت في الفقه الإسلامي أو في القوانين الموضوعة حديثًا تطبق في كل العقود وفي كل المراسم، سواء كنت هذه تتعلق بوسائل الإثبات أو بغيرها، ولذلك من الأحسن ألا نتعرض إطلاقًا لوسائل الإثبات، فالأمر المفروغ منه إذا كان العقد متفقًا عليه فإن هذا هو الموضوع، وأما إذا حصل اختلاف بين المتعاقدين فإنه يمكن الرجوع حينئذٍ إلى وسائل الإثبات الاعتيادية، الأمر الثالث الذي أردت أن ألاحظه من الناحية الشكلية، الإخوة الكرام اعتادوا ربما بحكم المهنة، أن يناقشوا المواضيع وكأنهم يناقشون أطروحات قدمت إليهم، ونحن نناقش مواضيع ولا نناقش بعضنا، نناقش آراءنا بصر النظر عن كون البحوث قد تعرضت لهذا أو لم تتعرض، فنحن عندما كتبنا هذه المواضيع بذلنا مجهودات جبارة في شأنها وأتينا بما أمكننا جمعه فيها ولذلك لا يمكن أن نتهم بعضنا البعض بالتقصير أو القصور. الناحية الشكلية الأخرى أنا اتصلت بمواضيع منذ أشهر عديدة أي منذ ثلاثة أشهر تقريبًا وراجعتها كلها وهي موجودة في داري في تونس ولذلك لا يمكن أن ننتقد الأمانة العامة التي تبذل مجهودات كبيرة في هذا الموضوع.(6/956)
فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي:
لعلّي قد قصرت في بيان وجهة نظري، قلت إنه إذا كان هناك المجمع وهو مجمع الفقه الإسلامي لمجموع العالم الإسلامي وليس لبلد واحد، والبحوث التي تقدم وفيها التعرض للقانون، قلت: فيها إما أن تتعرض لكل القوانين الموجودة، أما أن يتعرض المغربي للمغرب والجزائري للجزائر والتونسي لتونس والليبي لليبيا والمصري لمصر، فهذا لا يفيدنا في الموضوع لأنه ما كان هذا الموضوع دراسة مقارنة في بلد خاص وإنما قلت إن الأصل هو الفقه الإسلامي.
والتعرض لتأويل كلامي هو الذي دفعني لأبين هذا.
فضيلة الشيخ هارون خلف جيلي:
النقطة التي تجعلني أتكلم بعض الشيء هي نقطة لم أسمعها من واحد من الباحثين أو لم أرها من واحد من الباحثين ولم أسمعها من أحد الإخوة المشاركين في المداولات وهي: أولًا كنت أود أن نقسم العقود إلى أقسام كثيرة، لأن العقود كثيرة، وأدوات الاتصال الحديثة هي ربما ليست بكثيرة. وأنا أود أن أقول مسألة بسيطة، وهي مسألة النكاح مثلًا، النكاح عقد من العقود اللازمة، والبيع كذلك، ولكن بينهما بون شاسع، ولا أود أن نقول: إن كليهما سيان بالنسبة للعقد بهذه الآلات، آلات الاتصال الحديثة، فأرجو أن يستثنى المجمع الكريم في قرارته بهذه الحيثية الإنسانية، عقد النكاح لا يكون بهذه الأدوات، أدوات الاتصال الحديثة، فأنا أرجو من حضرتكم أن تعتبروا هذا الاستثناء نحن لا نقول إن عقد النكاح يمكن بواسطة هذا الاتصال.
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد:
لعله يتضح من مجموع الأبحاث والمناقشات التي حصلت، الاتفاق على أن الأصل في إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة هو الجواز، وأن آلات الاتصال هي في الواقع تنقسم إلى ثلاثة أقسام – وليس إلى قسمين -:
1- اللفظي منها.
2- الخطي أي الذي يكون بخط المتعاقدين أو أحدهما وما آخره حدث إنتاجي وهو الفاكس.
3- الكتابي كما هو معلوم في البرقيات والتلكس.
الأمر الثالث: المهم في هذا هو أن هناك ثلاث قضايا مهمة أرجو من لجنة الصياغة أن تأخذ البحث فيها بالاعتبار، وهو إجراء العقد في الأموال الربوية التي يشترط فيها التقابض في مجلس العقد.
الثاني ما يتعلق بالنكاح نظرًا لمسألة الاحتياط للأبضاع واشتراط الشهود.
والمسألة الثالثة ما يتعلق ببيع السلم. فهذه الأمور الثلاثة لعلها تتلخص من مجموع الأبحاث وإن كان لم يأت في المناقشة إلا شيء قليل في ما تعلق بالنكاح.
الشيخ محمد المختار السلامي:
هناك شيء غير واضح، ما معنى أموال ربوية؟ الأموال الربوية إذا بيع القمح بالقمح، أما إذا بيع القمح بالذهب أو الفضة فلا يشترط التقابض.
الرئيس:
الكلام على العقود التي يشترط فيها التقابض في مجلس العقد. المهم أنهم المشار إليها في الأبحاث، بعد هذا قد ترون مناسبًا تأليف اللجنة من كل من المشايخ:
1- الشيخ عبد الله محمد عبد الله.
2- الشيخ الدكتور إبراهيم كافي دونمز.
3- الشيخ الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي.
4- الشيخ القاضي محمد تقي العثماني.
5-الشيخ الدكتور علي محيي القره داغي.
6- الشيخ محمد الحاج الناصر.
الإجماع:
موافقون، وترفع الجلسة.(6/957)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (54/3/6)
بشأن
حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410هـ الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة) ،
ونظرًا إلى التطور الكبير الذي حصل في وسائل الاتصال وجريان العمل بها في إبرام العقود لسرعة إنجاز المعاملات المالية والتصرفات،
وباستحضار ما تعرض له الفقهاء بشأن إبرام العقود بالخطاب وبالكتابة وبالإشارة وبالرسول، وما تقرر من أن التعاقد بين الحاضرين يشترط له اتحاد المجلس (عدا الوصية والإيصاء والوكالة) وتطابق الإيجاب والقبول، وعدم صدور ما يدل على إعراض أحد العاقدين عن التعاقد، والمولاة بين الإيجاب والقبول بحسب العرف.
قرر:
1- إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد، ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه، وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة أو السفارة (الرسول) ، وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس وشاشات الحاسب الآلي (الكمبيوتر) ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله.
2- إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي، فإن التعاقد بينهما يعتبر تعاقدًا بين حاضرين وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء المشار إليها في الديباجة.
3- إذا أصدر العارض بهذه الوسائل إيجابًا محدد المدة يكون ملزمًا بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه.
4- إن القواعد السابقة لا تشمل النكاح لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصرف لاشتراط التقابض، ولا السلم لاشتراط تعجيل رأس المال.
5- ما يتعلق باحتمال التزييف أو التزوير أو الغلط يرجع فيه إلى القواعد العامة للإثبات.(6/958)
الأسواق المالية وأحكامها الفقهية
في عصرنا الحاضر
إعداد
فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه ... أما بعد:
فهذا بحث موجز جدًّا في الأسواق المالية من وجهة نظر الفقه الإسلامي حسب مستجدات عصرنا الحاضر كتبته بحسب الإمكان وأقدِّمه للمجمع الموقَّر لا أدَّعي فيه الإحاطة ولا الإصابة، بل هو جهد مقلٍّ، فما كان صوابا فمن الله تعالى، وما كان غير ذلك فمني وأستغفره تعالى وأستقيله.
وأما إيجازه فأول الغيث طلّ ثم ينهمر، والعلم يولد كالإنسان صغيرًا ثم يكبر، وإن مع اليوم غدًا ومع العسر يسرًا ولن يغلب عسر يسرين.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
تمهيد
الأسواق المالية كانت منذ كانت النقود، ولكنها تطورت مع تطور المعاملات المالية وتعقّدها، وأضحت اليوم في حالة من التعقيد بحيث أصبحت بحثًا مستقلا من مباحث الاقتصاد.
ولئن كان للإسلام في خطوطه العريضة كان له حكم في كل واقعة، فإن أحكام الأسواق المالية نجدها في مباحث الصرف بشكل رئيسٍ، وفي مباحث البيع، ومباحث الحوالة والرهن وما إليه.
وسأتعرض لبعض أبرز مباحث الأسواق المالية في عصرنا الحاضر من وجهة نظر الفقه الإسلامي في المقصد التالي بإيجاز.(6/959)
المقصد من المبحث
أبرز مباحث الأسواق المالية في الفقه الإسلامي
1- في الصرف:
ثبت واستقر اليوم أن الأوراق المالية أموال تجري فيها أحكام الربا كما تجري في الدراهم والدنانير، لكنها أجناس مختلفة، فإذا كان الجنس واحدًا في العقد – أي عقد الصرف – حرم ربا الفضل وربا النساء، وإذا كان الجنس مختلفًا حلَّ ربا الفضل وحرم ربا النَّساء، لذا يشترط التقابض في جميع الحالات، ولكنه يجوز في حالة اختلاف الأجناس كما إذا كان العقد منصبًّا على بيع دولار أمريكي بفرنك فرنسي يجوز التفاضل مع اشتراط التقابض هاءً بهاء.
2- وفي الحوالة:
لا يجوز بيع الدَّين إلا ممن عليه الدَّيْن في المذاهب الثلاثة الحنفية والشافعية والمالكية وهناك قول وجيه عند الحنابلة في جواز بيع الدَّين ممن ليس عليه الدَّيْن، ولذا يجوز بيع السَّندات لكن بلا خصم على هذا القول وهي المسماة بحوالة الدَّيْن لدى علماء القانون، ويفتى بهذا القول لدى الحاجة والتَّعامل.
3- الأسهم:
ويجوز بيع الأسهم بلا فائدة ولكن ليس للسهم قيمة مالية خاصة به من حيث كونه نقدًا بذاته، بل هو مجرَّد صك إثبات، والشيء المباع هو الحصة الشائعة وتسليم الصك مع التوقيع عليه تسليم حكمي للحصة الشائعة.
4- وفي البيع بعامة:
لا يجوز بيع الإنسان ما لم يقبض، ولذا لا يجوز بيع مالٍ من النقود الورقية أو غيرها لم يقبضها بائعها قبضًا حقيقيًّا أو حكميًّا اعتدّ به الفقهاء كتسليم المفتاح وما شابه ذلك من أنواع التسليم الحكمي.
خاتمة
هذه ابرز حوادث الأسواق المالية (البورصات) ما عدا، تغير قيمة العملة، الذي أفردت له بحثًا مستقلا في هذه الدورة راجيًا الله تعالى الهداية إلى الصواب وإليه المرجع والمآب والله تعالى أعلم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
محمد عبد اللطيف صالح الفرفور(6/960)
أحكام السوق المالية
إعداد
فضيلة الدكتور محمد عبد الغفار الشريف
أستاذ بكلية الشريعة جامعة الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أمر عباده المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . [سورة البقرة: الآية 172] ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، فبين شرائع الحق، ومعالم الحلال والحرام…وبعد:
فإن الله تعالى أنزل آدم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض ليكون خليفته فقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة: الآية 30] ، والاستخلاف في الأرض عن الله تعالى يعني تعميرها وتطبيق شرع الله فيها، وقد أرشد الرب بني آدم إلى ذلك في كتابه الكريم فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [سورة الملك: الآية 15] .
وتعمير الأرض يحتاج إلى الصناعة والزراعة والتجارة والتعليم، والصناعة والزراعة يحتاجان إلى التجارة، كما تحتاج هي إليهما، والكل بحاجة إلى العلم، لينير لهم الطريق المستقيم.
ومعاملات الناس فيما بينهم تختلف شكلًا وصورة، فهي سهلة ميسرة في المجتمعات البدائية، معقدة ومتعددة في المجتمعات الراقية.
وكذلك الأمر بالنسبة للأسواق، جاء في الموسوعة العربية الميسرة (1) :
سوق: قبل أن تنتشر وسائل النقل، ويتطور تسويق البضائع لم تكن فرص التعامل في الأسواق مواتية إلا في الأعياد والاجتماعات الدينية، حين يجتمع الناس من مختلف البلدان والأقطار. وعرف عند العرب سوق عكاظ، كما كانت الأسواق معروفة عند اليونان والرومان، وفي أوروبا إبان القرون الوسطى. ولا سيما القرنين 13، 14، ثم تقلصت هذه الأسواق وزالت مع سهولة المواصلات وانتشار المتاجر، ولم يبق منها في أوروبا إلا القليل، مثل سوق (ليبزج ونزني نفجورد) . وفي أمريكا سوق في (كونكتيكت) ، وهي من نوع خاص للمنتجات الزراعية والمنزلية التي ينتخبها محكمون. وهو أيضًا المكان الذي يلتقي فه البائعون والمشترون لسلعة معينة، غير أن وحدة المكان ليست شرطًا أساسيًّا لقيام السوق، ويكفي وجود صلة بين البائعين والمشترين، بحيث يكون الثمن الذي يقتضيه أو يدفعه أحدهم، يؤثر في الثمن الذي يقتضيه أو يدفعه الآخرون، وقد تتحقق هذه الصلة بالبرق أو بالبريد أو بأية طريقة أخرى، ولكل سلعة سوق، فإذا كانت السلعة متماثلة الوحدات، نشأت السوق المنظمة التي تعرف بالبورصة، كذلك توجد سوق للنقود تجمع بين المقرضين والمقترضين، فإذا كان القرض لأجل قصير لا يتجاوز عادة مدة سنة، سميت بالسوق النقدية، وتتداول فيها الأوراق التجارية، مثل الكمبيالات والسندات الإذنية، فإذ كان القرض لأجل يتجاوز سنة، سميت بالسوق المالية، وتتداول فيها الأوراق المالية، مثل الأسهم والسندات، ويوجد أيضًا ما يسمى أحيانًا بسوق العمل حيث يتلاقى عرض وطلب عمل معين.
والذي يهمنا – هنا – هو الكلام على السوق المالية، أو ما يسمى بسوق الأوراق المالية، أو بورصة الأوراق المالية (2) .
__________
(1) الموسوعة: 15/1034، وانظر: موجز القاموس الاقتصادي: ص264.
(2) انظر: بورصة الأوراق المالية الكويتية: ص5.(6/961)
-1-
البورصة (1) ، نشأتها وأعمالها
البورصة: سوق يتم التعامل فيها على سلعة معينة، أو على أوراق مالية، فبورصة القطن يلتقي فيها بائعو القطن ومشتروه، وبورصة الأوراق المالية يلتقي فيها بائعو الأسهم والسندات ومشتروها.
ولا تتمتع السلعة ببورصة خاصة بها، إلا إذا كانت متماثلة الوحدات، معروفة الأوصاف، بحيث يتم بيعها وشرؤاها دون حاجة إلى معاينة، وعلى ذلك فلا توجد بورصة للسيارات، لأنها غير متماثلة الوحدات، ولكن توجد بورصة للقطن أو القمح أو النحاس، لأنها ذات رتب متفق عليها عالميًّا، وهناك بورصة للبضاعة الحاضرة حيث يتم تسليم السلعة وتسلمها بعد عقد الصفقة، وبورصة العقود حيث يكون التعامل على سلعة غير موجودة حاليًا، ولكنها توجد مستقبلا.
وقد عرفها قانون التجارة الفرنسي (مادة 71) بأنها مجتمع التجار وأرباب السفن والسماسرة والوكلاء بالعمولة تحت رعاية الحكومة. وهي من النظامات الاقتصادية اللازمة لكل دولة متمدينة إذ هي للتجار، بمثابة مقياس الحرارة ينبئ بالأسعار، ومقدار المطلوب والمعروض، ويمكن بواسطتها جس نبض السوق، والاحتراس من الوقوع في الأزمات.
ويرجع تاريخ نشأة هذه الأسواق إلى الرومان الذين كانوا أول من عرف الأسواق المالية في القرن الخامس قبل الميلاد، وفي العصور الوسطى اعتبرت كل من بروج وأنفير وليون وأمستردام ولندن، من المراكز المالية المهمة حيث قامت فيها (البورصات) إلى جانب الأسواق التجارية، وتم التبادل فيها على السلع والنقود والحوالات وأسهم الشركات التجارية وظهرت أول قائمة لأسعار الأسهم في أنفير 1592، وبعدها على التوالي في كل من أمستردام وباريس ولندن، ومنذ بداية القرن السابع عشر كان يجتمع في أمستردام بين الساعة الثانية عشرة والثانية بعد الظهر آلاف المتعاملين لعرض آخر أسعار أسهم شركة الهند الشرقية.
ثم جاء دور باريس كمركز لبيع وشراء الأوراق المالية في القرن التاسع شعر، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر احتلت لندن الدور المالي الأول في العالم، ولكن بين الحربين العالميتين تقلصت أهمية لندن وإن كان ما زال مركز لندن المالي يحتفظ بفعاليته.
ثم نمت وول ستريت، ورغم أن أزمة 1929 أثرت على العديد من المصارف والشركات، إلا أن السوق الأمريكية سرعان ما عرفت الثقة والاطمئنان، ثم التوسع نتيجة الدور المتعاظم للدولار الأمريكي، ويشكل حجم التثمير البورصي فيها 850 مليون دولار، وهو يمثل 7 أضعاف التثمير في لندن و 8 أو 9 أضعاف التثمير في باريس.
ومما لا ينكر أن هذه السوق ساهمت في نقل اقتصاد الدول الكبرى من المرحلة البدائية والزراعية، إلى المرحلة الصناعية. (2) .
*
**
__________
(1) اشتقت كلمة (بورصة) من: (أ) فندق في مدينة (بروج) ببجليكا، كانت تزين واجهته شعار عملة عليها ثلاثة أكياس، كان يجتمع فيه عملاء مصرفيون ووسطاء ماليون لتصريف أعمالهم. (ب) أو من أحد صيارفة مدينة (بروج) اسمه – (فان دييربورسيه) كان تجار المدينة يجتمعون في قصره. وكان شعار أسرته ثلاثة أكياس من الذهب. (عمل) شركات الاستثمار الإسلامية: ص89) .
(2) انظر: الموسوعة العربية: 1/430؛ دائرة معارف القرن العشرين: 2/393، بورصة الأوراق المالية: ص9، عمل شركات الاستثمار: ص89، القاموس الاقتصادي: ص67، 68.(6/962)
الأوراق المالية (1) 2المتداولة في السوق المالية
يمكن حصر الأوراق المالية التي يجري التعامل بها في السوق المالية بما يلي: (2) .
(أ) السندات.
(ب) الأسهم.
(ت) حصص التأسيس.
(أ) السندات:
* التعريف اللغوي: السندات جمع سند، والسند في اللغة ما قابلك من الجبل، وعلا من السفح، ومعتمد الإنسان، وضرب من البرود (3) .
* التعريف الاصطلاحي: ونقصد به اصطلاح الاقتصاديون، وهو المستعمل في سوق الأوراق المالية (4) . وهو: صك قابل للتداول يمثل قرضًا يعقد عادة بوساطة الاكتتاب العام، وتصدره الشركات أو الحكومة وفروعها، ويعتبر حامل سند الشركة دائنًا للشركة، له حق دائنيه في مواجهتها، ولا يعد شريكًا فيها، على خلاف حامل السهم.
ويعطى حملة السندات فائدة ثابتة سنويًّا ولهم الحق في استيفاء قيمتها عند حلول أجل معين (5) .
* خصائص السندات:
للسندات خصائص مميزة لها، وهي:
1- يمثل السند دينًا على الشركة، فإذا أفلست أو قامت بأعمال تضعف التأمينات الخاصة الممنوحة من قبلها لحملة السند سقط أجل الدين، واشترك حامل السند مع باقي الدائنين للشركة.
2- يستوفي حامل فائدة ثابتة سواء ربحت الشركة أم خسرت، ويجوز أن يشترط حامل السند نسبة مئوية في الأرباح، ولا يعتبر مساهمًا لأنه لا يحق له التدخل في إدارة الشركة.
3- لحامل السند حق الأولوية في استيفاء قيمة السند عند التصفية قبل السهم.
4- لا يشترك حامل السند في الجمعيات العامة للمساهمين، ولا يكون لقراراتها أي تأثير بالنسبة له، إذ لا يجوز للجمعية أن تعدل التعاقد ولا أن تغير ميعاد استحقاق الفوائد.
5- يكون السند طويل الأجل.
6- يكون السند قابلًا للتداول كالسهم.
7- قرض السندات قرض جماعي، فالشركة تتعاقد مع مجموع المقرضين لأن القرض مبلغ إجمالي مقسم إلى أجزاء متساوية هي السندات (6)
__________
(1) تجدر الإشارة إلى أن الأوراق المالية تختلف عن الأوراق التجارية، إذ أن الأخيرة تعتبر صكوكًا تمثل نقودًا، وتقوم مقامها، في وفاء الديون بسبب سهولة تداولها بطريقة التظهير والمناولة، وهي واجبة الدفع في وقت معين، وتطلق على الكمبيالة والسند الإذني والشيك، لأنه يغلب استعمال هذه الأوراق في محيط التجارة، وهذه التسمية من شأنها أن تميزها عن الأوراق المالية كالأسهم والسندات: انظر: عمل شركات الاستثمار: ص97، الموسوعة العربية: 2/1948.
(2) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية: 2/241، القاموس الاقتصادي: ص68، الموسوعة العربية: 2/1948، عمل شركات الاستثمار: ص97.
(3) لسان العرب: 3/220، محيط المحيط: ص433، معجم متن اللغة: 3/222.
(4) انظر تعريفه عند علماء الحديث في: تدريب الراوي: 1/41، المجموع المذهب: 1/341، وعند علماء المنطق في التعريفات: ص127، محيط المحيط: ص433.
(5) الموسوعة العربية: 1/1022، القاموس الاقتصادي: ص259، شركة المساهمة في النظام السعودي: ص386.
(6) الشركات في الشريعة الإسلامية: 2/102، عمل شركات الاستثمار: ص101.(6/963)