أما أن كان العرف المقارن عرفًا عمليًّا أي عرف الناس في أعمالهم ومعاملاتهم فإن الحكم يختلف باختلاف المذاهب الفقهية، فقد ذهب الحنفية إلى ضرورة التفرقة بين العرف العام والعرف الخاص، وقرروا بأن العرف العام أي المنتشر في سائر البلاد يعتبر مخصصًا للنص؛ أي يطبق على ما سوى الأمر الذي جرى به العرف العام المقارن للنص، وهذا التخريج ليس فيه تعطيل للنص أو إهماله بل هو إعمال للنص والعرف معًا وذلك تأسيسًا على أن وجود هذا العرف وقت صدور النص يعتبر قرينة على أن الشارع لم يرد شمول ذلك الأمر المتعارف عليه بعموم نصه والمعارض له في الظاهر ومن أمثلة ذلك عقد الاستصناع؛ فالحديث النبوي الشريف نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم، فالمنع يشمل الاستصناع ضمن ما يشمل غير أن العرف جرى بين الناس على الاستصناع لحاجتهم إليه، وقد انعقد إجماع الفقهاء على صحة عقد الاستصناع فارتقى الاجتهاد في هذه المسألة إلى مرد الإجماع. أما العرف الخاص: أي العرف السائد في بلد دون آخر أو طائفة من الناس كالتجار والصناع إلخ … فلا عبرة به إذا ما عارض نصًّا تشريعيًّا عامًّا ولو كان مقارنًا تأسيسًا على انعدام هذا العرف في بقية البلدان إلا أن البعض من الفقهاء لا يقتضي عندهم تخصيص النص لأن التخصيص لا يثبت بالشك.
أما المالكية فقد ذهب المحققون منهم إلى أن العرف العملي يخصص النص العام دون تمييز بين عرف عام وعرف خاص. والنتيجة التي نخلص إليها: هو اتفاق الفقهاء على أن لفظ النص العام سواء كان عرفًا أو خاصًّا يحمل على المعنى المقارن للعرف. أما بالنسبة للعرف العملي المقارن فإن المالكية يعتبرونه مخصصًا للنص العام سواء كان عرفًا عامًا أو خاصًّا. أما الحنفية فإنهم يسلمون للعرف العام بهذا الدور ولكنهم ينكرونه على العرف الخاص، أما العرف الطارئ: أي العرف الحادث بعد صدور النص فقد سبقت الإشارة إليه بهذا الفصل بأن الفقهاء متفقون على أن هذا العرف الطارئ للنص التشريعي يعتبر نسخًا بالعرف وهذا غير جائز لأن العرف في مرتبة أدنى من التشريع، والنسخ لا يكون إلا بدليل أقوى أو من نفس المرتبة ولا فرق في ذلك بين العرف اللفظي والعرف العملي، وقد أشرنا في هذا البحث إلى الاستثناء الذي نص عليه الفقهاء، فلا حاجة لإعادته هنا.
إلا أننا نجد أن من المفيد هنا أن نذكر بعضًا من نماذج أو من تطبيقات هذا الاستثناء للإيضاح: من المعلوم بأن الحديث النبوي الشريف نهى عن بيع وشرط إلا أن الأحناف فسروا هذا الحديث بأنه مخصوص في عقود المعاوضات وأن الشرط المفسد للعقد هو كل شرط فيه منفعة خارجة عن الحكم الأصلي للعقد وعن ما يلائمه غير أنهم استثنوا من ذلك الشرط الذي ورد بجوازه نص شرعي مثل خيار الشرط، والشرط الذي جرى به العرف ولو كان حادثًا. ونخلص من هذا إلى أن الشرط الذي يقتضيه العقد أو يلائمه ويؤكد موجبه معتبر، ويصح اقتران العقد به كما أجازوا الشرط المتعارف عليه والذي جرت به عادة البلد وتقرر في المعاملات بين التجار وأرباب الصنائع وتفريعًا على ذلك أجازوا بيع الوفاء رغم أنهم كانوا قد أفتوا بفساده بعد أن انتشر بين الناس وتفريعًا على ذلك بين العرف العام والعرف الخاص. وقد أسسوا هذا الحكم على أن علة منع الشرط في البيع هي أن الشروط الزائدة على أصل البيع تفضي إلى منازعة، فإذا جرى العرف على بعض هذه الشروط انتفى النزاع إلا أن العرف يجعل موضوع الشرط معلومًا ومألوفًا واعتبار العرف في هذه الحالات لا يعطل النص بل يتفق مع غرضه وروحه.
الشيخ محمد عبده عمر.(5/2824)
مراجع البحث
1- الأشباه والنظائر – لزين العابدين إبراهيم بن نجيم المصري.
2- شرحة: غمز عيون البصائر: لأحمد محمد الحموي.
3- أصول الفقه، للخضري.
4- الأم في مذهب الإمام الشافعي.
5- المدخل، للشيخ مصطفى أحمد الزرقاء.
6- مصادر الحق في الفقه الإسلامي، للأستاذ عبد الرازق السنهوري.
7- أصول الفقه، للشيخ عبد الوهاب خلاف.
8- البداية والنهاية، لابن رشد.
9- إعلام الموقعين، لابن القيم.
10- أحكام القرآن، لابن العربي.
11- سبل السلام على بلوغ المرام.(5/2825)
مناقشة البحوث
العرف
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلي الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.
العرف هو موضوع هذه الجلسة، وقد قدم فيه إحدى عشر بحثًّا، والعارض لها هو الشيخ خليل الميس، والمقرر الشيخ عمر بن سليمان الأشقر.
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وبعد:
العرف من المباحث التي تجذرت أصوليًّا، وتوزعت فروعه على غير باب من أبواب الفقه، وشأنه بذلك شأن مصادر التشريع التبعية حيث اختلف في حجيتها، فاختلف الأقوال بالتالي في أحكام المسائل المتفرعة عليها، وإنني أسوق عرضًا موجزًا لأبحاث أصحاب الفضيلة.
أبدأها ببحث فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري: والذي جاء في أربع صفحات فقط مقتصرًا على تعريف العرف وتقسيماته إلى عام وخاص، وقولي وفعلي، وصحيح وفاسد، ثم ذكر مجالات العرف الأربعة ليصل إلى تساؤل، هل العرف أصل قائم برأسه؟. ثم أجاب بقوله: إنه لا يشكل أصلًا قائمًا برأسه في قبال الأصول الفقهية الأخرى. وعرض لمقالة ابن عابدين والتي يفهم منها ميله إلى اعتبار العرف دليلًا مستقلًا. ثم أورد الأدلة على ذلك، وخلاصة قوله، إن العرف ليس أصلًا من أصول الفقه، وإنما يرجع إليه في بعض المجالات للكشف عن السنة وتشخيص المرادات. هذا ما تمكن تلخيصه من بحثه، ثم نصل إلى بحث الدكتور محمد عطا السيد أحمد: ويقع في خمس صفحات، بدأه بالعرف اللفظي أو القولي، وأنه يعتد به متى كان عامًّا لبلد أو قوم، وأما أن كان خاصًا بالمتكلم حمل لفظ على عرفه الخاص عند المالكية كما قال في الأيمان والنذور والطلاق وغيره. والعرف العملي، ذكر مذهب الإمام مالك رضي الله عنه في المسألة، ثم قسم العرف إلى فعلي أي الخاص بفرد، وذكر عدم الاعتداد به، ثم العرف الجاري بالترك، كترك الثمر والتسامح بها أي على الشجر، ثم عرض لحجية العرف وذكر كلًّا من قولي أبي سنة والمرحوم أبي زهرة، ثم مقالة العز بن عبد السلام، بأن الأيمان مبنية على العرف، فمقالة ابن عابدين بأن كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف، ثم قسم العرف إلى ثلاثة أقسام، أولًا: ما يقوم الدليل الخاص على اعتباره، كالكفاءة. ثانيًا: ما يقوم الدليل على نفيه، كعادات الجاهلية. ثالثًا: ما لم يقم الدليل على اعتباره أو نفيه. ثم عرض للعرف الفاسد وأنه لا يراعي، وذكر قاعدة تغير الأحكام ودورانها مع أعراف الناس، مستدلًا بمقالة ابن القيم في المسألة. وانتهى في آخر بحثه إلى القول هو أن العرف أصل من الأصول التي يستند إليها في الوصول إلى الفتوى بشروط ومواصفات تعرف في أماكنها.(5/2826)
بحث الدكتور أبو بكر دكوري، جاء فيه ثماني صفحات، وقسمه إلى مباحث أربعة:
- تعريف العرف.
- تقسيمات العرف.
- حجية العرف ومذاهب العلماء في اعتباره.
- شروط اعتبار العرف وتحكيمه.
وعرض إلى بيان الفرق بين العرف والعادة، وأنهما بمعنى واحد. كما أورد مسألة الفرق بين العرف والإجماع نقلًا عن أصول مذهب الإمام أحمد. ثم بين تقسيمات العرف إلى قولي وفعلي، وإلى خاص وعام، وفاسد وصحيح. وبين مذهبي المالكية والحنفية في الأخير منها، ثم ذكر مقالة الدكتور التركي في أصول الإمام أحمد، وأن الحنابلة كغيرهم يلاحظون العرف في كثير من فتاواهم وأحكامهم، ثم مقالة ابن القيم في هذا الباب، وأدلة اعتبار العرف من الآثار يقول في نهايتها: تقرر اعتبار العرف في الشريعة الإسلامية وأنه دليل يرجع إليه الفقيه إذا أعوزه دليل آخر أرجح منه، ثم ذكر شروط الاحتجاج به، وهي سبعة: الاضطراد، وعدم مخالفة النص، أن لا يتفق العاقدان على استبعاد العرف، وجود العرف عند العقد، وأن يكون العرف عامًّا وملزمًا، وأن يكون مفتى به، ثم عرض لتغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة.
الدكتور إبراهيم فاضل: بحثه في اثنتي عشرة صحيفة، بدأ بتقسيم الأدلة الشرعية النقلية والعقلية، وبيان مراتبها، وحجيتها، ومنزلة الكتاب والسنة منها بالذات، وعلاقة كل منها بالآخر. ثم عرض لترتيب الأدلة أخذًا من حديث معاذ رضي الله تعالى عنه، ثم مسألة عمر لشريح رضي الله تعالى عنهما، ثم بدأ بالعرف معرفًا ومقسمًا التقسيمات المعهودة إلى عرف عملي وقولي، ثم كل منهما إلى خاص وعام، وإلى العرف القولي الخاص أنه يخصص العرف العام، وأن العرف الفعلي الخاص مخصص للعام عند الحنفية دون الشافعية، ثم أقسام العرف الصحيح والفاسد، وحكم الفاسد منها، ووصل في مبحثه في حجية العرف، إلى بيان أن المالكية يقيمون للعرف وزنًا كبيرًا، وعرض لمقالة ابن عابدين، وكيف أن الفقهاء يرجعون إلى العرف والعادة في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، وأن الثابت بالعرف كالثابت بالنص، والقاعدة " العادة المحكمة ". وخلص إلى القول بأن العرف معتبر في الشرع ويصح ابتناء الأحكام عليه، وأنه ليس دليلًا مستقلًا، لكنه يرجع إلى أدلة الشريعة المعتبرة، وأورد الأدلة على مقالته هذه، ثم أورد شرط اعتبار العرف كأصل من أصول الأحكام وهي أربعة: (ألا يكون مخالفًا للنص. أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا. أن يكون العرف مقارنًا ولا يعتبر متأخرًا في التصرفات. ألا يوجد قول أو عمل يفيد لخلاف مضمونه) . ثم عرض لمبحث تعارض العرف مع الدليل الشرعي، وفي هذه الحال ذكر مقالة ابن عابدين في نشر العرف، وأجمل القول بأن مخالفة العرف للأدلة الشرعية تتنوع إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: مخالفة العرف النص الشرعي من كل وجه.
النوع الثاني: مخالفة العرف من بعض الوجوه.
النوع الثالث: مخالفة العرف والاجتهادات الفقهية للناس.(5/2827)
ثم عرض لحكم كل منها بالتفصيل ملخصًا مقالة ابن عابدين في نشر العرف، وانتهى إلى فصل أثر العرف في العقود، وأورد منها ست عشرة مسألة منتقاة من نشر العرف، وقواعد العز بن عبد السلام، لتبين مدى حجية العرف فيها.
ثم الدكتور محمد جبر الألفي: البحث في أربعين صحيفة، عشرة منها بيان الهوامش، والتعليقات، والمصادر.
إن هذا البحث مستفيض، ومستوعب، ومقسَّم إلى مقدمة وأربعة فصول.
الفصل الأول: معنى العرف وبيان أركانه.
الفصل الثانى: القوة الملزمة للعرف.
الفصل الثالث: العرف في التشريع.
الفصل الرابع: التطور التشريعي للعرف.
وفي فصل التعريف أورد مقالة الجرجاني والنسفي، ثم علي حيدر في المجلة، فالزرقاء في شرح القواعد، فعبد الوهاب خلاف. ليخلص إلى تحقق الارتباط بين المعنى اللغوي للعرف والمعنى الاصطلاحى. ولما كانت المصادر قد جمعت بين العرف والعادة، لذلك عرض لمقالة العلماء في التفريق والجمع بينهما في المفهوم. وخلص من هذا كله إلى القول: إن العمل يتطلب وجود رأي فقهي يستند إليه ولو كان مرجوحًا، وهذا ما يفرق بينه وبين العرف، فهو ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول.
العرف والإجماع:
فرق بينهما من عدة وجوه:
أولًا: أن الإجماع لا يكون إلا من مجتهدين.
ثانيًا: أن الإجماع يتحقق ولو بمرة واحدة دون حاجة للتكرار.
ثالثًا: أن الإجماع لا بد له من مستند بخلاف العرف.
أركان العرف:
ذكر ركنين: ركنًا خارجيًّا، وآخر داخليًّا نفسيًّا.
والركن المادي له ثلاث صفات (عموم وقدم وثبات) ، ثم توصل الكلام إلى تقسيم العرف إلى عام وخاص، ثم القدم مسألة تقديرية تختلف باختلاف الأحوال، وأما الثبات دفعًا للاضطراب حيث يصار عند ذلك إلى اللغة، وأما الركن النفسي هذا التقسيم جرى عليه أبو سنة في دراسته المشهورة.(5/2828)
حجية العرف:
أورد النصوص من كتب مذاهب الأئمة الأربعة على حجية العرف، منهم ابن عابدين من الحنفية، وابن حجر من الشافعية والطرطبي من المالكية، وابن القيم من الحنابلة، وعقب على ذلك كله بالقول: وبناء على ذلك تقرر في التشريع والفتوى والقضاء أن العادة محكمة، وأن استعمال الناس حجة يجب العمل بها. قال: وللعلماء في تحديد طبيعة العرف مسلكان، الأول: يعتبر العرف دليلًا مستقلًّا يمكن أن يستفاد منه أحكام شرعية، والآخر لا يسلم بهذا الاستقلال، بل يرد العرف إلى دليل آخر ثبت لديه كالاستصناع عند الحنفية، وعمل أهل المدينة عند مالك رضي الله تعالى عنه.
رد العرف إلى الاستحسان كوقف المنقول، ورد العرف إلى المصلحة أو إلى دليل الاستصلاح.
القوة الملزمة للعرف:
الدليل على حجية العرف: عرض لمذاهب كل من الأشاعرة والمعتزلة والماتريدية في التحسين والتقبيح، أو هل للعقل استقلال بإدراك حكم الله تعالى أم لا؟.. ثم وصل به الكلام إلى وظائف العرف وعد منها:
أولًا: المكمل للتشريع، وقف المنقول والاستصناع.
ثانيًا: العرف المساعد للتشريع، كآية النفقة، أثبتت حكمًا شرعيًّا وأحالت إلى العرف بيان مقدارها.
ثالثًا: العرف المخالف للتشريع: سواء خالف النص من كل وجه فلا اعتبار له، أما إن أمكن التوفيق بينهما فأكثر الفقهاء على اعتباره كمذهب مالك في آية الرضاع.
مخالفة العرف لحكم اجتهادي كجواز الاستئجار على تعليم القرآن الكريم: قاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان، بين مضمونها وذكر بعض التطبيقات عليها، منها الطلقات الثلاث كانت واحدة وأمضاها أمير المؤمنين عمر – رضي الله تعالى عنه – ثلاثًا، وتابعه الصحابة على ذلك، حديث الأصناف الستة المشهور (الكيلي والوزني منها) ، ثم تغير بعضها من الكيلي إلى الوزني، وإن العمل بالتغيير عمل بالاستصحاب كما قال.
رابعًا: التطور التشريعي للعرف، فيه مبحثان:
- إحياء الأعراف المحلية.
- انتشار حركة التقنين.
وعزا إحياء الأعراف المحلية إلى خلو بعض الأقاليم النائية من التنظيم القضائي، والاستعمار الغربي في بلاد الإسلام، وعرض لأحوال شبه القارة الهندية وشمال أفريقيا وجزر الهند الشرقية، ثم عرض للتقنينات الحديثة والعرف، وكيف أن العرف احتل المركز الثاني يلجأ إليه القاضي عندما لا يجد نصًّا تشريعيًّا. وبعضهم جعله في المرتبة الثالثة، وأنه يشترط لتطبيقة عدم المخالفة للنظام العام. وفي الخاتمة، قال: إن الشرع الإسلامي يحمل في طياته بذور نمائه وأحكامًا يمكن أن تتسع لمواجهة الأوضاع المستجدة دون أن تفقد خصائصها المميزة.(5/2829)
بحث الدكتور محمود شمام: وفيه ثمان وخمسون صفحة، وله ميزة أنه جمع بين الفقه والقانون. بدأ بحثه بعنوان " العرف بين الفقه والتطبيق"، وأن القاضي يفزع إلى العرف كلما نفذ النص، أو احتاج إلى شرح غموض نص، وأشار إلى أهمية العرف والعادة واستهل بحثه بقول ابن عابدين:
والعرف في الشرع له اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار
ثم عرف العرف لغة واصطلاحًا، ووصل به الكلام إلى حجية العرف، واستعرض الآيات التي لها علاقة بالموضوع، ثم الأحاديث والآثار الواردة في الباب. وساق مذاهب الفقهاء الأحناف وقولهم: التعيين بالعرف كالتعيين بشرط. مذهب المالكية وقولهم: عمل أهل المدينة هو أصل مشهور. مذهب الحنابلة، لم يأخذوا بالعرف إلا في حدود ضيقة. مذهب الشافعية، عملوا به في فروعهم، وإن لم يثبت عند إمامهم. مذهب الشيعة الإمامية: العرف تأكيد لحكم العقل، أو أنه من أدلة الإجماع.
الخلاصة:
اتفاق كلمة الأئمة على اعتبار العرف، وساق العديد من المسائل المنتقاة من أحكام العرف عند المذاهب.
مبدأ اعتبار العرف: فيما يتعلق بالحقوق والمعاملات، والمبدأ العام يقول: إن للعادة تأثيرًا على التشريع، وللعرف علاقة وطيدة ومتينة بالاجتهاد، وإن الفقهاء جميعًا اعتبروا العرف ولكن بقيود، وأشار إلى منزلة العرف عند علماء القانون، حيث قالوا: إن الشريعة غير المدونة هي التي تستحسنها العادة وتقرها، ثم ذكر شروط اعتبار العرف وحصرها في خمسة معلومة، وخلص إلى القول: العرف المعتبر هو ما يخصص العام، ويقيد المطلق فقط.
أنواع العرف:
عد منها العام والخاص، واللفظي، والفعلي، وعرض لمقالة ابن عابدين في المسألة.
الفرق بين العرف والعادة:
حيث ميز بينهما رجال القانون بأن العادة غير ملزمة بخلاف العرف، ثم ساق أمثلة على أحكام وقائع ثبتت بالعرف نقلًا عن الإمام القرافي، وأحكام المحاكم المدنية في المغرب، وأن العرف له دور كبير في المعاملات المالية من بيع وشراء، وكراء، وإجارة.
ثم عرض للعرف في الاصلاح القانوني في التطبيق، وأشار إلى قانون العرف يقابله القانون المكتوب، وأن العرف يستمد إلزامه من تلقاء نفسه، وأنه لا يعذر بجهل العرف كما لم يعذر بجهل الشريعة.(5/2830)
مظاهر تطبيق أحكام العرف في القانون:
قال تحت هذا العنوان: جاءت غالب القوانين الوضعية – المدنية والتجارية خاصة – على اتباع العادات والأعراف، وعد منها القانون المصري، والسوري، والعراقي، والإنجليزي، والفرنسي. وبين مظاهر تطبيق أحكام العرف في القانون التونسي في العقود وتفسير العقود بالعرف، وشروط الأخذ بالعرف. العادة والعرف لا يخالفان النص الصريح، وبين تأثير العرف في أحكام البيع وساق المواد في هذه المسألة، ثم بين تأثير العرف في أحكام الكراء، والأراضي الفلاحية، ثم العرف في نقل الأشياء والوديعة والعارية، والوكالة، والشركات، والمساقاة، والمغارسة، وخلص من ذلك كله إلى نتيجة يمكن أن يلاحظ الدارس المقارن وجه الشبه وعلامات الاقتباس في أجلى صورها – أي عن الشريعة الإسلامية-، وأنهى بحثه في بيان أهمية العرف في المسائل التجارية.
البحث للعبد الفقير: البحث طبعًا في أربع وخمسين صحيفة – هذا وإن العرف له حظ وافر عند ابن فرحون – إن العرف قد عرض له المصنفون في آداب القضاء والمفتين، فله حظ وافر عند ابن فرحون المالكي في "التبصرة" والطرابلسي في "معين الحكام"، والقرافي في "الفروق والفصول"، وكل من السيوطي وابن نجيم في "الأشباه"، والشاطبي في "الموافقات والاعتصام"، والزركشي في "الدر المنثور". وأفرده بالبحث ابن عابدين في إحدى رسائله، والكوثري في مقالاته ضمن رسائله، كما أفرده بالبحث أبو سنة في رسالة علمية معروفة، وكذلك أفرده بالبحث أبو عجيلة الذي خالف أبا سنة في كثير مما ذهب إليه، هذا وقد عمل بالعرف الصحابة والتابعون في أزمانهم.
تقسيمات العرف:
هو عام وخاص، وعادي واستعمالي، وإن العرف الاستعمالي له ثلاثة أوجه، لغة وشرعًا وصناعة. كما عرضت لأسماء العرف والحقيقة الشرعية، والحقيقة اللغوية، للأسماء العرفية والحقيقة الشرعية، والحقيقة اللغوية.
أوجه استعمال العرف، وهي سبعة:
1- استعمال بمنزلة الدليل على تشريع الحكم، كالمضاربة، ووقف المنقول.
2- أن يكون استعمال العرف معيارًا يرجع إليه القاضي والمفتي في تطبيق الأحكام المطلقة، كعقوبة التعزير.
3- أن يقوم العرف مقام التطبيق بالأمر المتعارف في الدلالة على الإذن أو المنع.
4- الاستعمال العرفي للألفاظ اللغوية، العرف القولي كلفظ الصلاة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) .
5- أن يكون العرف الجاري بين الناس مرجحًا لبعض المذاهب الفقهية على بعض.
6- أن يكون العرف مفيدًا لتمويل بعض الأشياء، كالنحل.
7- تأثير العرف في الحكم الشرعي، كعدالة الشهود.
ما يحكم به بالعرف: كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة.
تغير العرف مرة بعد مرة: وهي مسألة مشهورة، واتباع المفتي العرف الحادث في الألفاظ العرفية أمر لازم.(5/2831)
أما الاصطلاح: الاصطلاح الخاص والاصطلاح العام، أو تغيير اللغة بالاصطلاح. وفيه قولان للأصوليين، تعارض العرف العام والخاص وجهان في المسألة، وكذلك تعارض اللغة والعرف فيه وجهان. وإذا تعارض عرف الاستعمال مع عرف الشرع فهو نوعان أيضًا. النوع الأول: ألا يتعلق بالعرف الشرعي حكم، فيقدم عليه الاستعمال، "وحلف لا يأكل لحمًا فلا يحنث بأكل لحم السمك، وإن سماه الله تعالى لحمًا طريًّا. الثاني: أن يتعلق بعرف الشرع حكم فيقدم على عرف الاستعمال. مثاله: "حلف لا يصلي، لم يحنث إلا لذات الركوع والسجود".
حجية العرف عند الأصوليين:
أورد بعض الأصوليين دلالة استعمال العرف في مبحث تخصيص العام.
قالوا – أي العنوان -: بيان ما تترك به الحقيقة، وهي خمسة أنواع عدُّوا منها: دلالة الاستعمال عرفًا، وساقوا له أمثلة منها لفظ الحج. فإن اللفظ للقصد حقيقة، ثم سميت العادة بها لما فيها من العزيمة، والقصد للزيارة فعند الإطلاق يتناول العبادة للاستعمال عرفًا. أما العرف في أقوال الفقهاء: اتباع العرف أمر مجمع عليه. حكاه القرافي وغيره. قال البدر العيني: حمل الناس على أعرافهم ومذاهبهم واجب. وقال ابن العربي: العرف والعادة أصل من أصول الشريعة. لكن الكوثري، قال: وأما تحكيم العرف على النصوص فلم يقع من مسلم ولن يقع، وليس للعرف في الشرع إلا ما بينه علماء المذاهب في كتب القواعد وكتب الأصول والفروع، ويبدو أن هذه المقالات أوردها عند إثارة قضية التجديد في مصر، يعرفها من عايشه.
أما تخصيص العام في العرف العملي، ذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا فرق بين العرف القولي والعرف العملي، فكلاهما يخصص العام، وخالفهم في ذلك الشافعية؛ ذهبوا إلى أن العرف العملي لا يقوى على التخصيص.
حجية العرف:
قال القرافي: العرف مشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك. قال ابن العربي في تفسير قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} ، ليس في الإنفاق تقدير شرعي، وإنما أحاله الله تعالى على العادة، وهي دليل أصولي بنى الله عليه الأحكام، وربط به الحلال والحرام.(5/2832)
استدل القائلون بحجية العرف بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . قال السيوطي: أي اقضِ بكل ما عرفته النفوس مما لا يرده الشرع، وهذا أصل القاعدة الفقهية في اعتبار العرف، وتحتها مسائل لا تحصى، كما قال السيوطي. استدل بهذه الآية أيضًا على حجية العرف غير واحد من فقهاء المذاهب، ومن الآيات التي ساقوها للاستدلال قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، قال القرطبي العرف والمعروف والعارفة كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس، ومنها قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، قال ابن تيميمة: تنازعوا في النفقة، والراجح أنه يرجع فيه إلى العرف، ومن السنة الحديث: الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة. قال العلائي: قرر النبي صلى الله عليه وسلم الاعتداد بالعرف الجاري بين الناس، ومنها قضاء النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها في النهار، وعلى أهل المواشي حفظها في الليل، قال الخطابي: لأن العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها في النهار، ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرِّحوها بالنهار ويردوها مع الليل إلى المراح.
تخصيص العام بعادات المخاطبين:
قال به المالكية وخالفهم الحنابلة.
وأما شروط اعتبار العرف والعادة فبالاستقراء هي خمسة ذكرها غير واحد ولا داعي لتعدادها.
أهم القواعد الفقهية في العرف وسلطانه؛ منها:
1- العادة محكمة.
2- الحقيقة تترك بدلالة العادة.
3- استعمال الناس حجة يجب العمل بها.
4- المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.
5- لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
6- التعيين بالعرف كالتعيين بالنص.
وخرج الفقهاء على هذه القواعد ما لا يحصى من فروع الأحكام في مختلف الأبواب الفقهية وخاصة المعاملات والأيمان والنذور. وعرض لكثير منها العز بن عبد السلام في قواعده والقرافي في فروقه، والشاطبي في موافقاته، هذا وهل الخلاف في حجية العرف حقيقي أو ظاهري؟
من المسلَّم به بين المخالفين والموافقين أن هنالك تصرفات كثيرة للمكلفين للعرف فيها مدخل، ولكن لا بد من التوسط ما بين التفريط والإفراط، خاصة بالنسبة لنفاة حجية العرف، فحيث نفوه دليلًا، ووصفوه كاشفًا للحكم لا مثبتًا له، نقول: وهل القياس وهو المصدر الرابع من مصادر التشريع المجمع عليها إلا دليل كاشف على ما قال أهل العلم؟. باعتبار أن الكتاب والسنة والإجماع هي مثبتة للأحكام فقط، وهي من المصادر الأصلية وما سواها من المصادر أو الأدلة التبعية، والعرف مصدر من المصادر الاجتهادية، نعم لا اجتهاد في مورد النص، ولم يقل مثبتو حجية العرف بأن العرف يعارض النص بوجه من الوجوه، وإن قالوا إنه مخصص، وبذلك يكون تابعًا لا أصلًا، قال صاحب المسودة: وتخصيص العموم بالعادة، بمعنى قصره على العمل المعتاد كثير المنفعة. وكذا قصره على الأعيان التي كان الفعل معتادًا فيها زمن المتكلم.(5/2833)
كلمة ختامية
فهو يعتبر بحق نوافذ الفقه الإسلامي التي يطل منها على حياة الناس الواقعية، فيسلط عليها الأضواء لتنير الطريق للسائرين كي لا تلتوي بهم السبل عن الجادة، وليميز الخبيث من الطيب، فإذا ما انكشفت الحقائق أقر منها النافع، وألغي الفاسد الضار.
هذا: وكم من أصولي لم يقل بالعرف في أصوله ولكن على صعيد التطبيق لا يسعه إلا القول به، حتى قال ابن القيم في أمثال هؤلاء "فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به".
أو كما قال القرطبي: "ينكرونه لفظًا ويعملون به معنى"، والصحيح أن الشريعة الإسلامية راعت العرف وجعلته أصلًا من أصولها – وكان أثر إقرار هذا المبدأ – اعتبار العرف وغيره أن زخر الفقه الإسلامي على مر العصور بشتى الحلول لما استجد ويستجد من القضايا بين الناس.
وما من شك أن العمل بالعرف أحد مظاهر السماحة والتيسير في هذه الشريعة الغراء، والتي قال فيها تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} … وقال صلى الله عليه وسلم: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، بشِّروا، ولا تنفِّروا)) .
والله من وراء القصد … والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
شكرًا. أحب أن أعيد إلى الأذهان أن السبب الرئيسي في عرض موضوع "العرف" على دورة المجمع – هنا صار اقتراحه في القائمة من هيئة التخطيط للمجمع – هو ما استمر في عدد من القضايا والأحوال من جعل العرف قاضيًا على النص أو مخصصًّا للنص وما جرى مجرى ذلك مما يؤثر على نصوص الشريعة، وأدلتها القطعية.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم.
السيد رئيس الجلسة المحترم،
أساتذتي الحضور،
في البداية أشكر الأستاذ خليل، على عرضه الجيد الرائع لمواضيع العرف في هذا المجلس، وأود أن أقول: الحق أن العرف معتبر في الشرع ويصح ابتناء الأحكام عليه، وهو في الحقيقة ليس دليلًا مستقلًا، ولكنه يرجع إلى أدلة الشريعة المعتبرة. والدليل على اعتبار العرف ما ذكرناه في بحوثنا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أنا وجدنا الشارع الحكيم يراعي أعراف العربي الصالحة، من ذلك إقراره لنوع من التعامل المالي عندهم كالمضاربة والبيوع، والإيجارات الخالية من المفاسد، كما استثنا السلم من عموم نهيه عن بيع الإنسان ما ليس عنده لجريان أهل المدينة به، ونهى عن بيع التمر بالتمر، ورخص في العرايا. إن العرف في حقيقته يرجع إلى دليل من أدلة الشرع المعتبرة، كالإجماع، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع. احتجاج الفقهاء بالعرف في مختلف العصور واعتبارهم إياه في اجتهادهم دليل على صحة اعتباره، لأن عملهم به ينزل منزلة الإجماع السكوتي، فضلًا عن تصريح بعضهم به وسكوت الآخرين عنه. فيكون اعتباره على هذا الأساس ثابتًا بالإجماع.(5/2834)
شروط اعتبار العرف كأصل من أصول الأحكام، من أجل اعتبار العرف وبناء الأحكام عليه، يجب أن تتوفر فيه الشروط التالية:
أولًا: أن لا يكون مخالفًا للنص، قال ابن عابدين – رحمه الله -: " ولا اعتبار للعرف المخالف للنص لأن العرف قد يكون على باطل بخلاف النص". من ذلك ما تعارفه الناس من تعاطي كثير من المحرمات كالربا وشرب الخمر، وما اعتادته كثير من النسوة من كشف شيء من أجسامهن كالساق وشعر الرأس أمام الرجل الأجنبي، فهذا عرف فاسد.
ثانيًا: أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا، ومعنى الاطراد أن تكون العادة كلية، أي لا تتخلف، وقد يعبر عنها بالعموم، ومعنى الغلبة أن تكون أكثرية، بمعنى أنها لا تتخلف إلا قليلًا، والغلبة أو الاطراد إنما يعتبران إذا وجدا عند أهل العرف لا عند الفقهاء لاحتمال تغيرها من عصر إلى عصر.
ثالثًا: أن يكون العرف مقارنًا ولا يعتبر العرف المتأخر في التصرفات السابقة، فإذا طرأ عرف جديد بعد اعتبار العرف السائد عند صدور الفعل أو القول، فلا اعتبار بالعرف المتأخر.
رابعًا: أن لا يوجد قول أو عمل يفيد عكس مضمونه، كما إذا كان العرف يقضي بتحمل المشتري مصاريف تصدير البضاعة المشتراة واتفقا على أن تكون على البائع، أو اتفق المتعاقدان على أن تكون على البائع.(5/2835)
مخالفة العرف للأدلة الشرعية:
تتنوع مخالفة العرف للأدلة الشرعية أنواعًا مختلفة وذلك على النحو التالى:
1- مخالفة العرف للنص الشرعي من كل وجه:
إذا اصطدم العرف بنص تشريعي خاص من نصوص الكتاب أو السنة فلا اعتبار للعرف في هذه الحالة، كالأحكام التي كانت متعارفة في الجاهلية وحرمها الإسلام، لمصادمة تلك الأعراف لإرادة الشارع في موضوع أصبح المسلم مكلفًا بتطبيق النص والأخذ به، فلا يجوز إهماله وإعمال العرف. مثال ذلك العقود التي نهى الإسلام عن إبرامها كالملامسة والمنابذة، ويستثنى من ذلك ما إذا كان النص حين نزوله أو حين صدوره عن المشرع مبنيًّا على عرف قائم ومعللًا به، فإن النص عندئذ يكون عرفيًّا فيدور مع العرف ويتبدل بتبدله. مثال ذلك الحديث الذي نص على التساوي الوزني في الذهب والفضة، والتساوي الكيلي فيما عداها، غير أن العرف تبدل في هذه الأوزان، وهنا يأتي قول أبي يوسف رحمه الله: إن النص على بيع الحبوب كيلًا، وعلى الذهب والفضة وزنًا لكونهما كانا في ذلك الوقت كذلك، فالنص جاء موافقًا للعادة، فلما كانت العادة هي المنظور إليها في الحكم المذكور، فإذا تغيرت تغير الحكم، فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص بل فيه اتباع للنص.
2- مخالفة العرف للنص من بعض الوجوه:
إذا عارض العرف نصًّا تشريعيًّا عامًّا، أي لم يخالف النص من كل وجه، فلا يخلو العرف من أن يكون عامّا أو خاصًّا، فإن كان عامًّا فالعرف العام يصلح مخصصا ويترك به القياس كما في مسألة الاستصناع ودخول الحمام وغير ذلك. أما لو كان العرف خاصا فللفقهاء رحمهم الله اتجاهان في اعتباره أو عدم اعتباره، وما عليه المذهب عند الحنفية عدم اعتبار العرف الخاص، ولكن أفتى كثير من مشايخهم باعتباره. مثال ذلك: لو دفع رجل إلى حائك غزلًا على أن ينسجه بالثلث – مثلًا – فقد أجاز هذا النوع من الإجارة كثير من مشايخ بلخ لتعامل أهل بلدهم بذلك، والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الأثر.
3- تعارض العرف والاجتهادات الفقهية:
لا تخلو المسائل الفقهية من أن تكون ثابتة بصريح النص، وأن تكون ثابتة بضرب من الاجتهاد والرأي؛ فما كان ثابتًا بصريح النص من كل وجه أو من بعض الوجوه، وقد تكلمنا عنه، أو ما كان ثابتًا بضرب من الاجتهاد والرأي فأقول: إن كثيرًا من المسائل الاجتهادية مبنية على عرف زمان المجتهد بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال المجتهد بخلاف ما قاله أولًا. ولهذا قال العلماء رحمهم الله تعالى من شروط الاجتهاد أنه لا بد للمجتهد من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان وذلك بسبب تغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا، لأصاب الناس الحرج ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لأجل بقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام، من ذلك تحقق الإكراه من غير السلطان، على قول محمد بن الحسن الشيباني لما رأى فساد الزمان على خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة – رحمهم الله تعالى – ومن هذا القبيل أيضًا قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى، بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفة هذا القول لما نص عليه أبو حنيفة بناءً على ما كان في زمنه من غلبة العدالة.
وقد أثر العرف في كثير من العقود، مما سرده الفقهاء في كتبهم، ومن هنا يمكن لنا أن تخضع ما يستجد من العقود للعرف على أن لا يخالف العرف قاعدة من قواعد الشريعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وشكرًا سيادة الرئيس.(5/2836)
الدكتور عمر سليمان الأشقر:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مع الشكر الجزيل للأخ العارض للأبحاث، إلا أنني أعتب أنه لم يستعرض جميع الأبحاث التي قدمت في موضوع "العرف"، وكان بحثي واحدًا من هذه الأبحاث، وعندما أقدمت على الكتابة في هذا الموضوع كنت أعلم أن هذا الموضوع قد انتهى من بحثه العلماء.
فجزئياته مكررة في كتب الأصول وتكاد تكون متشابهة، والعلماء توصلوا إلى نتائج حاسمة في هذا الموضوع. إنما كتبت فيه لقضيتين أبنتهما من خلال البحث؛ القضية الأولى قضية معاصرة، إن كثيرًا من الأمم الإسلامية قدم العرف في قوانينه على الشريعة الإسلامية. لم يكتفوا بأن يقدموا القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية، بل نصوا في كثير من القوانين المدنية في البلاد العربية والبلاد الإسلامية على أن العرف مقدم على مبادئ الشريعة. وفي هذا بينت الدور في معركة الصراع بين العرف والشريعة الإسلامية عبر التاريخ. كانت الأعراف البشرية أكبر ما صد الناس عن دين الله تبارك وتعالى، فعندما كان يأتي الرسول كل جماعة تقول لرسولهم: "إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، أَوْ مُهْتَدُونَ". آيتان. كل جماعة تقول: تراث آبائنا وأجدادنا وأعرافهم، فيجري صراع بين الرسل وما أنزل عليهم، وبين أقوامهم وما كان عليه الآباء والأجداد ينتهي إما بانتصار الشريعة الإسلامية كما حدث على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما بتعذيب القوم المكذبين. فعندما تنتصر الشريعة الإسلامية تقصي الأعراف الباطلة وتحصرها في دائرة ضيقة، وعندما تنتصر الجاهلية كما حدث في هذا القرن الأخير، فإن الأعراف تقصي الشريعة الإسلامية، فكثير من القوانين إنما هي أعراف كانت أعرافًا سائدة ثم حولت إلى قوانين، هذه هي القضية الأولى التي أحببت أن ألفت النظر إليها.
القضية الثانية، قضية قديمة يشكو منها العلماء عبر العصور (فقهاؤنا) ، وهي أن كثيرًا من الفقهاء يجمدون في الأحكام المبنية على العرف على الأحكام التي صدرت قديمًا من علمائنا وفقهائنا، فيوقع المسلمين في حرج شديد، وقد باح بهذه الشكوى كثير من العلماء نقلت نصوص كلامهم في بحثي، يشكون شكوى مرة من فقهاء تعرض لهم مسائل مما تغير فيه أعراف الناس فيفتون بما أفتى به الأوائل من غير نظر إلى الأعراف المتغيرة والأعراف المتجددة. وقد نص المحققون من العلماء في مختلف المذاهب أنه لا يجوز للمفتي أن يفتي بأحكام بنيت على العرف تغيرت أعرافها، وينبغي للمفتي أن يكون عالمًا بأعراف زمانه، وأن يكون عارفًا بالأحكام التي بنيت على العرف في الماضي.(5/2837)
ومن هنا أقترح على المجمع الكريم أن يكلف بعض الباحثين في استقصاء المسائل الفقهية التي بنيت على العرف في الماضي حتى يكون المفتون والعلماء على بصيرة من أمرهم عندما يفتون في مثل هذه المسائل. وقضية رابعة تلمح من خلال البحث أنني جعلت الشريعة حاكمة على مباحث القانونيين في العرف، فهناك فرق في بحوث القانونيين في موضوع العرف، في تعريفه، وفي شروطه، وفي تطبيقاته، وهذا ما ألحظه على بعض البحوث التي قدمت أنهم خلطوا بين مباحث الفقه ومباحث القانون حتى كأنها بحث واحد، وينبغي التدقيق في هذه المسألة، مباحث الفقهاء لها سمتها مرتبطة بأصول الشريعة الإسلامية، أما مباحث القانونيين ففيها خلط كبير. كنت أتمنى على الأمانة العامة في المجمع أن توضح لنا – حقيقة – في الخطاب الذي أرسل في هذا الموضوع حتى نتجه مباشرة إلى الهدف الذي طلب من العلماء أن يكتبوا في موضوع "العرف"، حيث أكثر البحوث توسعت توسعًا شديدًا في تعريفاته، وتقسيماته، وشروطه، وحجيته، وهي أمور يكاد يتفق عليها الباحثون، فلو حدد الهدف من الكتابة لكان الباحثون قد تجاوزوا هذه القضايا التفصيلية التي فرغ منها العلماء قديمًا، واتجهوا إلى الموضوع المطلوب في موضوع العرف. أكتفي بهذا المقدار وشكرًا لكم.
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرًا سيدى الرئيس. أنا أعتقد أن التعبيرات الواردة عن العرف متفرقة وكثيرة بحيث يضيع معها الإنسان، ولا يستطيع أن يقع منها على موقع صلب، لذلك، حبذا لو حددنا التعبير وطرحنا المسألة بشكل أصولي، وأعتقد أننا لو حددنا تعبيرنا لتوصلنا إلى أن النزاع أحيانًا نزاع لفظي، وأن العلماء يتفقون إجمالًا على شيء مشترك. أهم البحوث في مجال العرف هو مجالات نفوذ الأعراف. العرف: ما هو المجال الذي ينفذ من خلاله إلى الشريعة وتقبله الشريعة؟. مجالات النفوذ العرفي – وهي النقطة التي لم يتفضل أخي العزيز الشيخ الميس، رغم جمال عرضه للتركيز عليها في بحثي – الذي اعتقده أن هناك مجالين فقط لنفوذ الرأي العرفي فقط، وأستطيع القول بأنني لو أستعرض ما ذكر من استنادات إلى العرف أستطيع أن أصنفها إلى أحد هذين المجالين؛ المجال الأول: هو عملية اكتشاف لرأي السنة أو اكتشاف للسنة، هناك المجالات التي ينفذ فيها العرف ويشكل واسطة لمعرفتنا للسنة الشريفة.(5/2838)
وهذا أيضًا له قسمان، تارة نكتشف من خلال العرف رأي السنة في هذا الحكم الفرعي، وأخرى نكتشف رأي السنة في هذه الحجة الأصولية. فأحيانًا يستندون في صحة عقد الاستصناع إلى أنه متعارف، ولكنه متعارف كيف؟ يمتد هذا العرف إلى عصر التشريع، ويقره عليه الصلاة والسلام، وحينئذٍ من طريق التقرير – وهو جزء السنة – نكتشف صحة عقد الاستصناع. العرف هنا شكل واسطة ومرآة يرينا بها السنة فقط. القسم الثاني من المجال الأول وهو اكتشاف السنة، اكتشاف الحجة الأصولية. نسأل ما الدليل على جواز الأخذ بالظواهر، أو وجوب الأخذ بالظواهر؟ يقولون: العرف عرف العقلاء، عرف الناس هو الأخذ بظواهر الكلام، وهذا العرف – كما يقول البعض – يستصحب استصحابًا قهقريًّا، يرجع به إلى عصر التشريع، وهو متداول أمام الرسول العظيم، وحينئذٍ فقد أقره، ونكتشف منه بعد عدم صدور ردع منه عليه الصلاة والسلام أنه يقره. فهنا نكتشف الحجة الأصولية، ويجمعهما اكتشاف السنة فقط، هذا هو المجال الأول، وأرجع إليه الكثير مما قيل عن الإسناد إلى العرف.
المجال الثاني، ما يشخص به مفردات النصوص الشرعية يعني هناك مفردات ترد في النصوص الشرعية (إناء، صعيد، غنى، إسراف، تبذير، قوة) هذه تعبيرات ترد في النصوص الشرعية لكى نشخص مراداتها نرجع إلى العرف. فبهذا المعنى تارة نشخص هذه المفاهيم، وأخرى نشخص المرادات لما يمكن أن نسميه بملازمات الحكم. يعني، عندما يحكم الشارع بطهارة الخمر الذي تحول إلى خل، أستطيع أن أكتشف بأن الشارع أيضًا يحكم بطهارة أطراف الإناء الذي يكون فيه الخل، انتقالي من طهارة هذا السائل إلى طهارة الإناء انتقال عرفي بملازمة عرفية، بعمقة لزومية عرفية نقلتني من هذا المجال إلى المجال الآخر، كأن الشارع قال لي من خلال هذه الواسطة: إن السائل يطهر، ويطهر أطراف إنائه معه من خلال الملازمين، اعتمد الشارع على هذا الفهم العرفي لمراداته. هذا جانب مهم، ويدخل في هذا الارتكازات العرفية للمتكلمين أيضًا، عندما يحتمع متعاقدان في سوق تسودها ارتكازات عرفية معروفة لا يحتاجان للتصريح بكل القيود، وبكل الارتكازات التي يعتمد عليها السوق، يكفي أن يعقدا العقد، وبشكل طبيعي تتضمن تلك الارتكازات كشروط في هذا العقد، باعتبارها شروطًا ضمنية لو كانت واضحة. أيضًا يدخل في هذا الباب تشخيص ما يسمى بمناسبات الحكم والموضوع لنفترض أننا لا نملك دليلًا، وهذا افتراض قد يخالف الحقيقة، على أن ولاية المرأة باطلة، لكن مناسبات الحكم والموضوع أو ما يمكن أن يسمى بروح الشريعة التي يفهمهما العرف تجعل الإنسان يطمئن، ما دام الرجل هو القاضي، وما دام الرجل هو الإمام في الجماعة، … إلخ. يطمئن مناسبات الحكم والموضوع هي التي تفرض وجود شرط الرجولة في ولي المجتمع. وأريد أن أقول – وأعتذر من هذا التطويل، وأنا لا أريد التطويل لكن هذا مهم جدًّا – إن العرف يدخل إذن في مجالين فقط، استكشاف السنة، وتشخيص المراد. هناك بعض الردود السريعة جدًّا – وإذا سمح لي سيدي الرئيس.(5/2839)
الرئيس:
لو تكرمتم، لعل كلمة ثانية إن شاء الله بعد الصلاة.
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
أرجو أن يكون حظنا سعيدًا دائمًا إلا أن حظنا من نظرات الرئيس لم يكن بذاك فنحن قلنا لعل الرئيس رغب بنا عن الكلام أو رغب بالكلام عنا، فلا ندري، أننا نود أن الرئيس وهو قاضٍ – إن شاء الله من قضاة الجنة – إن شاء الله – أن يسوي بين الخصوم في النظر، وفي المجلس.
الرئيس:
لو سمحت ياشيخ، فقط أعطونا الموضوع الذي تريد.
الشيخ عبد الله بن بيه:
أنا أشكو من عدم الكلام، فلا بد أن تسمح لي بالكلام.
الرئيس:
نحن نسمح بالكلام، لكن فضول الكلام لا لزوم لنا به، نريد ذات الموضوع، أما الباقي لا لزوم له.
الشيخ عبد الله بن بيه:
ليس فضولًا، باسم المحرومين من الكلام، يا سيادة الرئيس.
الرئيس:
يا شيخ عبد الله بدون مؤاخذة، هذه الأشياء تترك في المجالس الخاصة، أما في مثل هذا اتركوها عنا يا شيخ.
الشيخ عبد الله بن بيه:
سيدى الرئيس،
وإذا تكون كريهة أدعى لها
وإذا يحاس الحيس يدعى جُندَب
هي لتلك قضيته، عجبي لتلك القضية، وإقامتي فيكم على تلك القضية أعجب.(5/2840)
الشيخ عبد الله بن بيه:
أعود إلى مسألة العرف، فيه قضية في غاية الأهمية كنا ننتظر من الباحثين أن يتعرضوا لها وهي تطبيقات العرف في الوقت الحاضر، وفي الزمان والمكان، في الزمان الذي نعيش فيه، وفي هذه الكرة الأرضية التي أصبحت كقصعة بين يدي الآكل، تطبيقات العرف في قضايا اليوم لم يتحدث أحد عنها، هذه بحوث أصولية معروفة تقريبًا، وفيها رسائل كثيرة أخرى لم تذكر، في بلادي رسالة (حسام العدل والإنصاف في العمل بالأعراف) للشيخ محمد يحيى – رحمه الله تعالى – و (طرد الضواد والهمل عن الكروء في حياض العمل لسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم) التوفيقات بين العرف وبين العمل لن يجري. ولكن التطبيقات العملية في الأوضاع الحالية، هل القبض مثلًا يكون بمكالمة تليفونية أو غير ذلك؟ كثير من المسائل التي تتعلق بالأوضاع التي نعيشها، هل النص الشرعي إذا كان مبنيًّا على عرف، هل إذا انتقل هذا العرف بأن كانت الماشية مثلًا تحفظ نهارًا ولا تحفظ ليلًا. والحرث بالعكس، هل يتغير معها؟ كثير من هذه المسائل لم نسمعها في كلام الباحثين، واحترامًا لوقتكم، شكرًا، والسلام عليكم.
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
موقف المذهب المالكي من العرف.
المذهب المالكي لا يعد العرف دليلًا مستقلًا، ولا يعده أصلًا من أصول الفقه، وإنما هو وسيلة من وسائل الإثبات. فهو شاهد أو شاهدان، وهو إذا أردنا أن نعرف وظيفته بالاصطلاح المنطقي يقوم بدور صغرى الشكل الأول في قياس الاقتران، وإذا أردنا أن نعرف وظيفته تعريفًا أصوليًّا فهو يحقق مناط الحكم، وليس هو حكمًا ما، إنما هو يحقق مناط الحكم، ويعين مجال تطبيق الحكم، وعناية القرآن بالعرف كبيرة جدا، لأنني وأنا الآن أتهيأ للكلام أعددت آيات من سورة البقرة فيها كلمة معروف إحدى عشرة مرة، تبدأ من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} إلى قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، فعددت إحدى عشرة مرة كلما يقول القرآن بالمعروف، ومعنى هذا أننا لا نهضم حق العرف اليوم ونقول إن العرف التركيز عليه دائمًا قد يهدمه، أو يهدم أسس الشريعة، أو يتنافى مع أصولها، هو في الحقيقة في المذهب المالكي الذي يركز الناس على أن المالكية يعتبرون العرف كثيرًا ما يعتبرونه وسيلة من وسائل الإثبات، ولكن العرف في حد ذاته هو مركز عليه في القرآن الكريم، في المعاملات، وأريد أن أوضح أن اعتبار المالكية لعمل أهل المدينة – أيضًا – هو أنهم يستدلون بها على السنة التقريرية، إذا كان العمل منقولًا نقلًا متواترًا من طرف أبناء الصحابة – رضي الله عنهم – عن آبائهم، معنى هذا أن هذه الحادثة كانت معروفة في العهد النبوي وأقر الرسول صلى الله عليه وسلم عليها الناس، ونقولها تطبيقًا عمليًّا من طرف عشرة آلاف من الصحابة توفوا في المدينة، كانوا مقيمين في المدينة وتوفوا بها، ونقلها عنهم أبناؤهم، وبعد الجيل الثالث لم يعد هناك مجال للاحتجاج بعمل أهل المدينة. هذا ما أردت أن أنبه إليه وشكرًا.(5/2841)
الدكتور محمود شمام:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين.
سيدي الرئيس الكريم،
فقد كفانا فضيلة الشيخ العارض القول في هذا الموضوع، لكن لي ملاحظة بسيطة؛ من حسن الصدف ومن أطيب ما يحدث أن أكتب دراستي عن العرف، شارحًا فيها النظرية بإطناب في الشريعة الإسلامية، معقبًا على ذلك بما اقتبسته القوانين الوضعية من أحكام التشريع الإسلامي، وفقهه السامي. وكنت أنوي إلى إبراز ما في أحكام شريعتنا السمحة من كنوز أخذ منها الغرب، وأقتبس دون نسبة أو تنبيه، وعنه – أي عن الغرب – أخذنا قوانينا وردت إلينا بضاعتنا، وكان هذا هو أهم ما جاء في مناقشات الأمس حول موضوع المواجهة بين الشريعة والعلمنة، وما قدم فيها من أبحاث قيمة، جيدة، جادة، فقد درست موضوع العرف من هذه الزاوية، راميًا إلى هذه الغاية، وشرحت شرحًا وافيًا توعية هذا الاقتباس بذكر الأمثلة من القوانين وأصولها ومصادرها من التشريع والفقه الإسلامي الذي بسط القول في هذا الموضوع بإطناب، وهذا يبشر بما اتفقنا عليه أمس من وجوب الرجوع إلى أصل الإسلام، وتطبيق أحكام شريعتنا السمحة، مع السعي إلى توحيد العمل القضائي، وتوحيد الفقه القضائي مهما أمكن، وبحثي بين أيديكم سعى إليكم، فالرجاء حسن الاطلاع عليه، والتنازل بدراسته بهذه النظرة، والتجاوز عما به من تقصير. والسلام عليكم ورحمة الله.
الدكتور إبراهيم كافي دونمز:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
شكرًا للسيد الرئيس، وأشكر لأصحاب البحوث القيمة والأستاذ العارض ولم يحالفني الحظ، لأن بحثي لم يصل إلى يد الأستاذ العارض، ولذا أود أن أشير إلى بعض النقاط المهمة الموجودة في بحثي، الحقيقة البحث بين أيديكم ولا أريد الإسهاب في الكلام، ولا أخذ أوقاتكم القيمة. تعريف العرف، أنواع العرف، حجية العرف، إلى آخر هذه الأمور كلها أتركها، وأود أن أشير إلى أمرين هامين:
الأمر الأول: القيام بتثبيت مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي.
الأمر الثاني: القيام بتثبيت مكانة العرف والعادة بين مصادر التشريع الإسلامي.(5/2842)
الأمر الأول: مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي. الباحث يلاحظ أن العرف على الأقل الكلمات المتعلقة بالعرف والعادة تحتل مكانًا هامًّا في كتب الفروع، ولكن في الكتب الأصولية لا نكاد نعثر على الكلام عن العرف والعادة. معنى ذلك أن الباحث يلاحظ ثنائية في هذا الموضوع في أدب الفقه الإسلامي، مكانته في الكتب الفقهية والأصولية. فعلى سبيل المثال – مثلًا – فإن السرخسي في كتابه المتعلق بالفروع، يذكر بين أنواع الاستحسان، الاستحسان بالعرف. ولكن في كتابه المتعلق بالأصول هو يتحرز عن إعطاء مكانه للعرف وكذلك النسفي في كتابه المتعلق بالفروع (المستصفى) ، يذكر من بين أدلة مشروعية الأحكام تعامل الناس، ولكن في مكانه الأصلي في كتابه المتعلق بالأصول وهو (المنار وشروحه) ، لا يذكر تعامل الناس بين الأدلة الشرعية، فيه ثنائية، وفي كتب الفروع – حقيقة- الباحث يجد مكانة واسعة للعرف، ويجدر بنا أن ننبه إلى أن معظم العبارات الواردة في المواطن التي يعمل فيها الكاتبون من أجل إبراز أهمية العرف والعادة في الفقه الإسلامي، لا تتعلق إلا بدور العادات في إنارة الطريق، أما من يقوم بتفسير التصرفات القانونية، وبالتالي إلى أن سهمًا مهمًّا من المكانة التي يحرزها العرف في أدب الفقه الإسلامي راجع إلى هذا النوع من العرف. يلاحظ الباحث أن سهمًا مهمًّا آخر في المكانة التي يحرزها العرف في أدب الفقه الإسلامي يتعلق بدور العادات أثناء تقدير وتحكيم القاضي أدلة الطرفين المتنازعين، والحقيقة أن كثيرًا من المواطن التي يصار فيها إلى استعمال اصطلاح تحكيم العادة لا تتعلق إلا بمضامين مفهوم تحكيم الحال أو ظاهر الحال أو القرينة ونحوهما. هذا جانب.(5/2843)
والأمر الثاني: يعني القيام بتثبيت مكانة العرف والعادة بين مصادر التشريع الإسلامي هناك أدلة كثيرة لضرورة مراعاة العرف والعادة في التشريع الإسلامي – لا أريد الإسهاب في الكلام – هذه الأدلة موجودة، ومناقشتها موجودة في البحث. ولكن كما سبق أن أشرت إليه فإن كتب الأصول لا تذكر العرف بين الأدلة الشرعية، باستثناء ما ورد في كتاب القرافي، ويقول: أما العرف فمشترك. ولكن إذا دقق الباحث النظر يجد أن دور العرف هنا الذي يذكره القرافي ليس في معنى مصدر للتشريع، بل يعود في آخر المطاف إلى تفسير النصوص، وإلى تفسير التصرفات القانونية فحسب. إذا لا يمكن اعتبار عدم اهتمام الأصوليين بمفهوم العرف بالسلب أو الإيجاب أثناء دراستهم للأدلة الشرعية من قبيل الصدفة. إذا وضعنا نصب أعيننا أنهم جعلوا بعض المفاهيم الأخرى موضوع تحاليل دقيقة، ومناقشات واسعة، مثل القياس والاستحسان. أما بخصوص الكشف عن سر الثنائية الملحوظة في موضوع العرف في أدب الفقه الإسلامي، فلتحليل مفهوم المصدر أهمية كبيرة في نظرنا، لأنه كما هو معلوم فإن اصطلاح الدليل أشمل بكثير من اصطلاح المصدر الحقوقي. ولذا نجد أدلة كثيرة في الكتب الأصولية، وحتى بعض الكاتبين يجعلون عدد الأدلة إلى ثمانية عشر إلى عشرين، ستة وثلاثين، ذكرتها. إذا أمعنا النظر في هذه المفاهيم نجد أن بعضها مصدر في المعنى الحقيقي، مثل القرآن والسنة، وبعضها لا يمكن أن نسميها مصدرًا، مثلًا القياس، الاستحسان، هذه مناهج، وهناك مفاهيم أخرى سد الذرائع إلى آخرها، هذه مبادئ. والغزالي يمتاز بخاصية التمييز بين هذه المفاهيم، والقياس هو لا يذكره بين الأدلة الشرعية مع أنه يدافع عنه دفاعًا حارًّا، وهو أيضًا يفرق بين تفسير النصوص وبين عملية القياس، إذن العرف باعتبار ماهيته نعم مصدر، مصدر بما معناه إذا رجعنا إلى العرف نجد حلًّا جاهزًا لحل القضية، ولكن هذا باعتبار ماهيته، هل يمكن أن نعتبر العرف مصدرًا باعتبار حجيته وباعتبار احتلاله مكانًا بين مصادر التشريع الإسلامي؟ هذا لا يمكن. لأن هذا يؤدي بنا إلى نتائج محظورة من ناحية منهجية الحقوق إذا قلنا إن العرف هو مصدر يجب على المجتهد إذا لم يجد حلًّا جاهزًا في القرآن والسنة أن يرجع مباشرة إلى العرف دون أن يتطرق إلى طريق القياس، وهذا يخالف منهجية الفقه الإسلامي. أنا حاولت أن أشرح هذه الفكرة، والوقت ضيق، ولذا لا أريد إطالة الكلام من ناحية فلسفة القانون أيضًا، تطالعنا نظرية الحسن والقبح، مصدر الأحكام في الشريعة الإسلامية هو الله وحده كما نعرف، وإذن الإرادة البشرية لا يمكن اعتبارها مصدرًا للتشريع حسب البنية الفلسفية للحقوق الإسلامية، هذه النقطة أيضًا حاولت أن أشرحها. وهنا تأتي أمامنا مشكلة، وهي مشكلة قاعدة العرف يترك به القياس، عدد من العلماء الأجلاء ومنهم أستاذنا الفاضل الزرقاء مثلًا، يأخذ بهذه القاعدة على إطلاقها، وفي رأيي المتواضع يعطي فكرة ناقصة في هذه النقطة، المقصود في هذه القاعدة التي توجد خاصة في كتب الأحناف، المقصود من العرف يترك به القياس، القياس هنا مصطلح القياس لا في معنى القياس الأصولي أو القياس القانوني، بل القياس الحقوقي، أي القاعدة العامة أو المقتضى العام للدليل. وفي بعض الأحيان كلمة العرف هنا المقصود منها من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير نكير، هذه الصيغة تعكس الإجماع السكوتي عند الأحناف في بعض الأحيان، وهذا الإجماع السكوتي إذا أمعنا النظر في القضية نجد أنه راجع في آخر المطاف إلى السنة التقريرية. إذن لا يمكن أن نأخذ هذه القاعدة على إطلاقها، بل يمكن أن نقول: إذا تثبتنا من زوال علة القياس. نعم في هذه النقطة العرف يعكس أن المصلحة تدل على أن العلة انتفت، وبانتفاء العلة ينتفي القياس، في هذه الحالة طبعًا العرف يؤخذ به. والحقيقة أنا جهزت خاتمة قصيرة للبحث من سوء الحظ لم يصل إلى الأستاذ الفاضل. إذا تكرمتم تقرؤون، ولا أريد الإسهاب في الكلام. وشكرًا جزيلًا.(5/2844)
الدكتور طه جابر العلواني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الذي وددت قوله أن أدلة الشرع المتفق عليها هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما ما عداهما فالإجماع إجماع على مستند منهما، أو من واحد منهما. كل ما عدا ذلك فهي أمارات وعلامات يستعين بها القاضي أو المفتي باعتبارها مناهج بحث لفقه الواقع وفهمه، وحسن تطبيق النص على الواقعة، أو النازلة. فالقول بأن هذه الأمارات أدلة قول فيه كثير من التجوز، هذه نقطة النقطة الثانية: أن الأعراف تنشئها مفاهيم الناس، وثقافاتهم، ومناهج حياتهم، وفي عصرنا هذا أصبحت الأعراف تصنع صناعة، نعم تصنع الأعراف صناعة، فأجهزة الإعلام والتربية والتعليم وقوى أخرى مختلفة تستطيع أن تصنع الأعراف، وأن تغير الأعراف من اتجاه إلى اتجاه آخر، ومن هنا فينبغي أن نكون شديدي التنبه لهذه القضايا، فالعرف الذي تكلم أسلافنا من أصوليين وفقهاء، واحتجوا به، هو شيء، والعرف الذي يتحدث عنه اليوم شيء آخر، الأمر الآخر؛ الزعم – ومعذرة إذا قلت هذا – بأن العرف لا بد أن يكون وراءه دليل من نص، أو افتراض أن يكون وراءه دليل من نص، كتاب أو سنة مندثرة لم تصل إلينا أو نحو ذلك، السنة طريقها الرواية لا الافتراض. لا نستطيع أن نفترض افتراضًا بأن هناك سنة أو أن هناك نصًّا وراء شيء من الأشياء، فالسنة لا يمكن إثباتها إلا من طريق الرواية بشروطها المعروفة عند أهل العلم. الأعراف اليوم – كما قلت – ظواهر اجتماعية، تنشأ إنشاء، وتصنع صناعة، إثارة أقوال العلماء دون تحفظات، ودون أخذ هذه الظواهر بنظر الاعتبار، يعتبر تبريرًا لواقع صنعته ثقافات أخرى، ومفاهيم أخرى، ومحاولة تسويغ لأشياء ولأمور ولتقنيات وتشريعات لم يأتِ بها من الله سبحانه وتعالى سلطان. العرف يبقى مجرد أمارة يستعين بها القاضى المجتهد، أو المفتي المجتهد، لفهم النازلة، لفهم الواقعة لحسن تطبيق الحكم الشرعي على النازلة أو الواقعة. أما الواقعة. أما أن يقال إنه دليل، أو أنه شيء يمكن أن يستفاد منه حكم أي حكم، فذلك ما لم يأذن به الله سبحانه وتعالى. وشكرًا.
الدكتور محمد عمر الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأعراف تتغير بتغير الأزمان والأحوال، والأعراف متغيرة ومتطورة، فهل تتبدل الأحكام مع هذه الأعراف؟ في اعتقادي أن العرف مفسر للأحكام الشرعية، وليس حجة مستقلة بذاتها. وعمل أهل المدينة – الذي يتركز عليه المذهب المالكي – يرجع في الأصل إلى السنة التقريرية، فهو منقول بالتواتر بطبقات كبيرة نقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فحجية العمل أو العرف السائد والمتقول نقلًا بالتواتر ترجع في أصلها إلى التقرير، ثم إن المذهب الحنفي حينما يرجح بين نصين داخلهما دليل قوي، ودليل خفي تظهر فيه المصلحة أو يظهر فيه العرف، فيعدلون في الترجيح معتمدين على العرض، إنما ذلك من باب الترجيح ومن باب التفسير، ثم إن الأحكام الشرعية مرتبطة بنصوصها، فلنأخذ – مثلًا – قضية اختلاف الموازين، واختلاف الكيل، وأثر ذلك على ربا الفضل، فإذا أصبح الذهب مكيلًا في وقت من الأوقات، أو أصبح البرموزونا، وكان مكيلًا، إذا عدلنا واعتبرنا العرف هو السائد في هذا الحكم، يظهر ربا الفضل الذي هو ممنوع حتى ولو كان حفنة صغيرة من البر، إذا تغيرت الأوزان فالأحكام مرتبطة في الأصل بالعرف السائد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن كثيرًا من المعاني التي وردت في القرآن تفسير بأعراف ذلك الزمان، لأن العرف اللغوي السائد في ذلك العصر هو الذي يعطي المدلول للأحكام الشرعية، فلذلك يعتبر العرف – في نظري والله أعلم – أنه مفسر وليس حجة مستقلة بذاتها. والله أعلم.(5/2845)
الرئيس:
شكرًا. بهذا انتهى ما لدينا من تسجيل كلمات. فنختتم الجلسة.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إنه من أثناء هذه المناقشات المباركة، والبحوث الثمينة، تكاد تتفق- ولله الحمد – على أن نصوص الشريعة حاكمة على العرف، وأن العرف لا يقضي على النص، وأن الأحكام التي فرعها الفقهاء مبنية على العرف، بما أن العرف متغير ومتجدد فإن الحكم كذلك الذي رتب على العرف هو بذاته قابل للتغير والتجدد سواء باختلاف الأقطار أو باختلاف الأزمان، وقد ترون مناسبًا أن يتألف لجنة لهذا، من المشايخ.
الشيخ خليل الميس، الشيخ طه العلواني، الشيخ محمود شمام، الشيخ هاشم برهاني، الشيخ عمر الأشقر (مقررًا) .
ترونه مناسبًا؟
وبهذا ترفع الجلسة، وقبل ذلك أحب أن أذكركم بما يلي:
أولًا: إن الاجتماع سيكون في الصالة الساعة الثالثة والنصف للتحرك إلى منظمة الطب الإسلامي، وفي الساعة الخامسة والنصف نعود إن شاء الله تعالى إلى الاجتماع في هذه القاعة، يعود الأعضاء العاملون والمعينون إلى هذه القاعة في الساعة الخامسة والنصف مساء هذا اليوم إن شاء الله تعالى، لقراءة القرارات ومناقشتها.
ثانيًا: وفي صباح يوم الخميس الساعة التاسعة والنصف صباحًا، تعرض القرارات وتكون الجلسة الختامية، وتكون الدعوة للجميع.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(5/2846)
لقرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (9)
بشأن
العرف
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادي الأولى 1409هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (العرف) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولًا: يراد بالعرف ما اعتاده الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، وقد يكون معتبرًا شرعًا أو غير معتبر.
ثانيًا: العرف إن كان خاصًّا فهو معتبر عند أهله وإن كان عامًّا فهو معتبر في حق الجميع.
ثالثًا: العرف المعتبر شرعًا هو ما استجمع الشروط الآتية:
(أ) أن لا يخالف الشريعة، فإن خالف العرف نصًّا شرعيًّا أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنه عرف فاسد.
(ب) أن يكون العرف مطردًا (مستمرًا) أو غالبًا.
(ج) أن يكون العرف قائمًا عند إنشاء التصرف.
(د) أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه فلا يعتد به.
رابعًا: ليس للفقيه – مفتيًا كان أو قاضيا- الجمود على المنقول في كتب الفقهاء من غير مراعاة تبدل الأعراف.
والله أعلم.(5/2847)
تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية
إعداد
أ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد.
فقد تفيأت الأمة الإسلامية – قبل أن تمنى بالاستعمار الأجنبي – ظلال الشريعة فأشاعت الأمن والاطمئنان، وانتشرت الفضيلة، وعم الرخاء، وكانت مصدر عزهم وسر منعتهم.
كانت الشريعة عبر القرون الماضية الحارس الأمي للأمة محافظة على ذاتيتها ومستبقية خصائصها، ومن الطبيعي أن يسهل العبث بكل المقدرات إذا أغفت عين الحارس، فكيف إذا أبعد عن الساحة، وأقصي عن الميدان؟
كان كل هذا في وعي المتربصين بها، الحاقدين عليها، الذين جندوا طاقاتهم الفكرية، وإمكاناتهم المادية نحو الأسس والجذور في فكر الأمة الإسلامية، ومقومات شخصيتها، وكان الاختيار الأول إلغاء العمل بالشريعة الإسلامية في المجتمع المسلم، فمن ثم أقاموا من أنفسهم، وبأنفسهم برهانًا على صدق التنزيل الحكيم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1) .
فكانت ضربة محكمة زعزعت كل القيم في المجتمع الإسلامي، فأصابه ما أصابه من تفكُّك، وانحلال.
أحكم المستعمرون الحاقدون المؤامرة ابتداء بإلغاء العمل بالشريعة، وامتدادًا بإيجاد أجيال من المسلمين تتحمس لقوانينهم وتدين بمبادئهم، وما كان من الصعب بعد أن تعصف التيارات، وتهب ريحها على أبناء الأمة الإسلامية فتختلف بهم الأهواء، وتتجاذبهم الانتماءات المتعددة، وتعددت الولاءات لكل مذهب واتجاه ولم يكن للإسلام من نصيب إلا اللاآت.
أحكم أولئك المؤامرة ابتداء وامتداد لا انتهاء بإلقاء الشبه والشكوك في صلاحية الشريعة بل صحة مصادرها.
__________
(1) سورة البقرة: الآية120(5/2848)
تحقق لهم كل ما أرادوه، بل أكثر مما أرادوا بعد إلغاء الشريعة تعاملًا وقضاءً وأحكامًا.
تلك هي البداية التي أوصلتهم إلى أبعد من الهدف والغاية.
وما كان من سياسته ومؤامراته المحكمة أن يفرغ الأمة الإسلامية من شريعتها ومبادئها الروحية دون أن يملأ هذا الفراغ فأحل محلها معتقداته، وسلوكياته وقوانينه حتى لا تتنبه للمؤامرة، أو تحس بالشر المحدث بها.
أيها السادة:
إن اجترار الماضي، وتحميله مساوئ الحاضر بعد الزمن بالاستعمار من صفات العاجزين، وتكأة يعتمد عليها المتخاذلون، وما أكثر ما يتذرع بها المخادعون الغالطون.
وما سطر القلم ما سطره من استرجاع شريط الماضي إلا لنأخذ منه درسًا مفيدًا لحاضرنا فتشخيص الداء هو المرحلة الأولى في طريق الشفاء.
والدرس الذي نعيه من ذلك الفصل التاريخي هو الآتي:
أولًا: إقصاء العمل بالشريعة تعاملًا وقضاءً في المجتمعات الإسلامية هو البداية التي تهاوت بعدها عقده، وتحطمت قيمه.
ثانيًا: إيجاد فئة من المثقفين متحمسة لقيم المستعمرين وقوانينهم، تتحدث بمنطقهم، وتجادل بلسانهم.
ثالثًا: بث الشبه والشكوك بين المثقفين المسلمين لزعزعة إيمانهم بصلاحية الشريعة وقدرتهم على مواكبة الحضارة الحديثة.
والكثير الكثير من أمثال هذه الشبه والشكوك التي ترتدي مسوح العلم والفكر.
كل هذا أو غيره يدفع الأمة الإسلامية، وقد منَّ الله على معظم بلادها بالتخلص من الاستعمار فملكت زمام أمورها أن تخطط للعودة إلى رحاب الشريعة تخطيطًا محكمًا، وتسلك السبل الفاعلة لعودة كريمة، باحثة عن شخصيتها مسترجعة خصائصها.
وإذا كان معلوما أن إقصاء الشريعة عن التطبيق في المجتمعات الإسلامية هو بداية البداية في هزيمتها النفسية، وفقد هويتها، فمن الطبيعي بل من الضروري أن تكون عودتها إلى التطبيق هي القضية الأولى التي لا يمكن التنازل عنها، أو التهاون بها، بل إن عودتها إل التطبيق يعد الرمز الحقيقي لاستقلالها، ونبذ التبعية عنها.
إلا أن العودة إلى تطبيق الشريعة في بلاد حكمتها قوانين أجنبية عقودًا طويلة من السنين نشأ في ظلها أجيال وأجيال لن يكون سهلًا معبدًا، بل ستكون معارضات ومقاومات مخططًا لها تخطيطًا محكمًا كما خطط للبدايات، فمن ثم يتوجب العمل في سبيل إرجاعها إلى الساحة الاجتماعية تدبيرًا محكمًا بعيدًا عن الغوغائية والعشوائية.(5/2849)
والبداية الصحيحة تقتضي العمل في ثلاثة اتجاهات:
الأول: إصلاح التعليم الديني في معاهده ومؤسساته والخروج به من أسر الطرق التلقينية، وحشد المعلومات التي تعتمد على الكم، والحفظ والترديد دون وعي.
ولا يتحقق الإصلاح في هذا المجال إلا بتحسن الدارسين للمعاني والحكم لتعاليم الشريعة، وتنمية ملكات الطلاب، وإثارة مواهبهم لإدراك مفاهيمها، والوقوف على جوانب العظمة فيها، وتناول الحقائق الشرعية مفصلة مبرهنة بعيدًا عن التعميمات الخطابية، والعبارات الانفعالية.
إن إيجاد الوعي الصحيح، واستقامة المفاهيم عن الشريعة بين صفوف الأمة الإسلامية، وبخاصة ناشئتها أمر ضروري للعودة المستنيرة، وسلامة التطبيق.
ثانيًا: ومع الاعتراف التام، والقناعة الكاملة بأن الفقه الإسلامي نظام قانوني عظيم، يتميز بأصوله الثابتة، ومرونته الكافية، وخصائصه الوافرة، وأخلاقياته الرفيعة، وبأن حظ الأمة الإسلامية في أجيالها المتأخرة من التراث الفقهي الرصين ثروة عظيمة، كمًّا ونوعًا، تتابعت على تطويره، وتنقيحه عقول كبيرة، وجهود مخلصة غير محدودة، برغم كل هذا فإنه يعترض الاستفادة منه الاستفادة الحقيقية صعوبات عديدة دفعت بالكثير من المتخصصين إلى الإفصاح عنها، وأنها بمقارنتها بالقانون من حيث الصعوبة … أشد وعورة لما يلقاه الباحث، من صعوبات مردها الأول عدم صياغة أحكامها صياغة فنية كتلك التي نجدها في القانون … إذ هي عبارة عن حلول لمسائل كثيرة معقدة، ومن هذه الحلول تستنبط القاعدة العامة. واستنباط القاعدة العامة أمر من الصعوبة بمكان لكثرة المسائل وتعقدها. وقد يختلف الحل فيها، لا لاختلاف الحكم، ولكن لاختلاف التقدير، وقد يخفى هذا فيضطرب الحكم في ذهن الباحث، فلا بد له ليتفادى ذلك من كثير من البحث والاستقصاء. هذا إلى تعدد الروايات واختلافها، وعدم مراعاة المؤلفين أحيانًا ذكرها جميعًا أو نسبتها إلى صاحبها مما يجعل الباحث في حيرة. يضاف إلى ذلك أن كثيرًا من عبارات الفقهاء غير محددة المعاني، فيمكن حلها على أكثر من معنى، وأن الحكم قد يرد بغير تعليل، أو بتعليل غير قريب.
أما الصعوبة الثانية، وهي تتصل بالأولى، فهي حال مؤلفات الفقه الإسلامي. فما زالت هذه المؤلفات، على ضخامتها وكثرتها، في حاجة إلى فهارس تهدي الباحث إلى موضع مسألته ولا يخامره شك في أنها لم تبحث في مواضيع أخرى، حتى لا يضطر، إذا كان مدققًا، إلى قراءة المؤلف كله، وقد يتكون من عدة مجلدات، بحثًا وراء مسألته. هذا فوق أن ما طبع منها قليل، وأن الكثرة منها لم تطبع بعد. وما طبع لم يحفظ بالعناية الواجبة في التحقيق وفي الطبع. يضاف إلى ذلك تشتت المؤلفات مطبوعها ومخطوطها، في المكتبات العامة المختلفة وصعوبة الحصول على المطبوع منها، وصعوبة المكث في المكتبات للاطلاع على المخطوطات لظروف الباحث ولظروف المكتبات نفسها (1) ، ويستخلص مما تقدم النتيجة التالية: "لهذا السبب وذاك قل عدد الباحثين في الفقه الإسلامي وضؤل إنتاجهم …" (2) .
__________
(1) عبد البر، محمد زكي، نظرية تحمل التبعة في الفقه الإسلامي، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة الفجالة الجديدة، 1369هـ/ 1950م، ص1-2
(2) عبد البر، محمد زكي، نظرية تحمل التبعة في الفقه الإسلامي، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة الفجالة الجديدة، 1369هـ/ 1950م، ص1-2(5/2850)
فتذليل هذه الصعوبات خطوة ضرورية، ومرحلة أولية للاستفادة من الفقه الإسلامي، وإن كانت الجهود المبذولة في الوقت الحاضر قد تجاوزت بعضًا منها، وأنَّى يكون الحماس لتطبيقه دون معرفته في صورة كاملة، بأسلوب مشرق!!!
ثالثًا: وثالثة الأثافي لأحكام خطة تطبيق الشريعة بين الشعوب الإسلامية عن قناعة تامة، وفهم كامل يكون بالقيام بدراسات علمية جادة لإزالة الشبه والشكوك في صحته وفاعليته، ومواكبته للتقدم الحضاري في العصر الحديث.
أيها السادة:
كانت الآمال معلقة في تكوين هيئات علمية متخصصة تمتلك الإمكانات المادية والطاقات الفكرية لمواجهة تلك المخططات بتأنٍ وعقلانية، وعلى نفس المستوى من الأحكام كالذي فعله المستعمرون، إن لم يكن أحكم وأضبط.
وتشاء إرادة المولى عز وجل وعلا الذي تكفل بحفظ هذا الدين، وإظهاره على الدين كله أن أصبحت الآمال أعمالًا بارزة، ومؤسسات شامخة، ومجامع فقهية، وهيئات علمية هنا وهناك بتمويل مادي وتعضيد معنوي من الدول الإسلامية، صدقت وعدها ليتحقق التخطيط والتنفيذ، وهكذا تهيأت أسباب العمل الناجح.
والمجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي أنجز في السنوات القليلة الماضية الأبحاث والدراسات للموضوعات الفقهية الملحة، وخطط لمشروعات علمية فقهية ما بعد إنجازًا كبيرًا في فترة قياسية.
ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي وقد اضطلع بهذه الأمانة الكبيرة، وأثبت قدرته في هذا الميدان بما تحقق على أيدي المسؤولين الأكفاء فيه قادر بمشيئة الله ثم بكفاءة نخبة الفقهاء المخلصين أن يسد الفراغ القانوني في العالم الإسلامي بتأليف مدونة فقهية كامل في المعاملات والأحوال الشخصية والجنايات والمحاكمات تلبي حاجة العصر وتواكب التقدم الحضاري في تخطيط سليم، ومسار شرعي مستقيم، يسجل به إنجازًا تاريخيًّا على مستوى العالم الإسلامي كالذي تحقق بظهور مجلة الأحكام العدلية العثمانية، يجد فيه العالم الإسلامي حكومات وشعوبًا بغيتهم، تقوم به الحجة على عامتهم وخاصتهم، فتقطع به اتهامات المبغضين، وتدحض به تبريرات المستسلمين المنهزمين.
ومما يعزز هذا المشروع ويعضده أن يخصص جانب من نشاط هذا المجمع المبارك لتجميع كافة دراسات المستشرقين والقانونيين والباحثين في الفقه الإسلامي، ودراستها وفحصها فحصًا علميًّا دقيقًا، للإفادة من نقدها، في سبيل إيجاد مدونة فقهية كاملة، ونقض ما يتخللها من نقائض ونقائص قد أسيء فيها فهم الشرعية قصدًا أو بغير قصد، بمنطق واعتدال.
إن تعبئة الطاقات البشرية، والإمكانات المادية لهذين المشروعين المتكاملين في المرحلة الجديدة القادمة تعد خدمة جليلة في سبيل مساعدة الدول الإسلامية للحكم بما أنزل الله، وتطبيق الشريعة بصورة كاملة في جميع الجوانب التشريعية.
إذا تحقق هذا بمشيئة الله بالخطى والخطوات المطلوبة على مستوى العصر فكرًا وتنظيمًا فسيكون علامة بارزة في تاريخ هذا المجمع، وأمجاد هذا الجيل من الفقهاء والمفكرين والدول الإسلامية المعاصرة تحمده لهم الأجيال الحاضرة والقادمة.
وإن أمانة المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بما هيأ الله لها من رئاسة وأمانة مخلصة يساندهم، ويقوي من أزرهم الفقهاء والمفكرون ورؤساء الدول الإسلامية جديرة بإنجاز هذه المهمات، وتحقيق الطموحات والتطلعات في سبيل إنجاز هدف سام، وغاية نبيلة، ذلك هو بذلك كل جهد من شأنه أن يساعد على تطبيق الشريعة لتعود للمجتمعات الإسلامية فضائلها، وتسترد بالاحتكام إليه عزتها وكرامتها، والله الموفق، وهو الهادي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.
أ. د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان.(5/2851)
أفكار وآراء للعرض:
المواجهة بين الشريعة والعلمنة
إعداد
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الشريعة:
الإسلام ليس دين عبادة فحسب ولكنه عقيدة وشريعة وسلوك، على أساسها جميعًا بنى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الفرد المسلم والجماعة المسلمة. وعلى هذا الاعتبار تميز المؤمنون عن الكافرين والموقنون عن الجاحدين، فأعلن الأولون عن ولائهم وشعار إيمانهم بما ذكره القرآن عنهم في قوله عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة النور: الآية51] .
وقوله سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء: الآية 65] .
شمولية المنهج الإسلامي لجميع قضايا الحياة الإنسانية:
ولا بدع في أن هذا الموقف يلزمه اتباع شرع الله، فإن الإسلام قد وضع للعالمين منهجًا متميزًا للحياة ونظامًا متكاملًا لها تشمل أصوله ومبادؤه وكلياته وقواعده: العقيدة والعبادات والمعاملات والنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والشؤون الدولية والقيم والأخلاق: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [سورة الأنعام: الآية 126] .
وفى تاريخ الأمة شواهد قائمة على ذلك وبراهين لا ينكرها إلا معاند أو مكابر، وقد تجمعت المادة الشرعية الفقهية مما نزل من الوحي والأحكام في أمهات القضايا على رسول الله، ومما قام به صلى الله عليه وسلم من تفصيل وبيان لذلك في أحاديثه وما تبع هذا وذاك من أقوال الصحابة والتابعين وآراء الأئمة المجتهدين الذين شرحوا وعللوا وأبرزوا النظائر والمتشابهات وضبطوا القواعد والفروق من أوائل القرون الوسطى بما لا يرقى إليه أي تشريع أو قانون. فجاءت الشريعة الإسلامية آية مفردة في التدقيق الفقهي وتفريع المسائل واستخلاص الجزئيات ببيان ومنطق أساسه عمق الفهم والتفقه في دين الله بالكتاب والسنة وجودة الاستنباط. وحكمت الشريعة الإسلامية المجتمعات الإسلامية دولًا وشعوبًا، واعتنقها المسلمون مبدأ وطبقوها منهجًا وكانت طوال ثلاثة عشر قرنًا القانون الوحيد بينهم يعتمدونه في كل ما يلم بهم من النزاعات أو يحدث لهم من القضايا في الأحوال الشخصية والمعاملات والمضاربات المالية والجنايات والعقوبات وأحوال السلم والحرب وما يتبعها من معاهدات واتفاقات مع سائر الدول شرقًا وغربًا. كل ذلك مع التقديس لها والتسليم بها تقديسا وتسليمًا يوجبهما الإيمان بالله وبكتابه ورسوله.(5/2852)
بداية التحول:
وعندما بدأت تتداعى أحوال الرجل المريض ودب الوهن في جسم الخلافة العثمانية واستشعر الباب العالي بتأثير سفراء الدول الأوروبية وقناصلها، إما الرغبة في تسهيل التعامل مع أوروبا والقضاء على المشاكل المتنازع فيها بين رعايا دولته والأجانب من الأوروبيين، وإما الحاجة إلى اقتباس قوانين الدول الغربية في المعاملات التجارية والمضاربات المالية التي تقيد حريته فيها الشريعة الإسلامية بسبب الشروط القاسية التي تفرضه الصحة العقود وحصرها أصدرت الخلافة فيما بين 1826م – 1839م قوانين عديدة عرفت بالتنظيمات شملت نظام البحرية وقانون العقوبات، وتبنت في 1850م القانون الفرنسي أقامت على أساسه محكمة تجارية خاصة للفصل في النزاعات القائمة بين رعاياها والأوروبين، وأحدثت محاكم مدنية 1871م غير المحاكم الشرعية ووسعت في نظرها 1880م. وكونت لجانًا عدلية:
الأولى: تتمثل في مجلس الدولة الاستشاري الذي يتولى إعداد النظم والقوانين ومراقبة تنفيذها.
والثانية: اللجنة القانونية التي تحدد القضايا التي يفصل فيها القضاء الأوروبي.
والثالثة: اللجنة الموكل إليها وضع مجلة الأحكام العدلية قصد تقنين الشريعة وذلك من أجل تحقيق صورة من التوازن الظاهري.
وقد هزت هذه التنظيمات البلاد الإسلامية وعصفت ريحها في أطراف بلاد الخلافة، وقام الصراع بين الشريعة والقانون وتنازعت المحاكم الشرعية والمحاكم الجديدة والهيئات التشريعية السلطة وعمَّت البلبلة. وقضي بالإخارة للتنظيمات على الشريعة إلا في الأحوال الشخصية وبعض قضايا الاستحقاق. ولا غرابة في ذلك، فإن القوي مطاع والكلمة الأخيرة لأصحاب النفوذ الدولي والقوى الصناعية ومؤسسات التجارة الدولية بين الأوروبين. فهم الذين رجحوا الكفة لمصالحهم ففرضوا مبادئهم وشروطهم وطرق تعاملهم على هذه السلطنة المنهارة والدولة المستلبة النفوذ والهيبة. وما كانوا ليتوصلوا إلى ذلك لو بقي العمل بالشريعة أساسًا للتقاضي وإقامة العدل بين الناس.(5/2853)
يقول أ. د. أنكلهارد في كتابه تاريخ إصلاحات الدولة العثمانية: "وفي الحقيقة أن الإسلام الذي قد كان مؤسس الحكومة العثمانية بقي حاكمًا مطلقًا فوق الحكومة. فقد كان القانون المدني متحدًا مع القرآن، ولكون تشكيلات الأمة اشتبكت بالعقائد الدينية بحيث لا يمكن تفريق بعضها عن بعض كانت هذه التشكيلات لا تقبل التغيير كالعقائد الدينية. فوجب لتحصيل الائتلاف الذي لا تستطيع تركيا الاستمرار على الاستغناء عنه، إما إزالة الحائل في البين بالمرة، وإما تخفيف وطأته ومعناه إما أن تحول الحكومة من الروحانية إلى الدنيوية بتخليصها من تأثير القوانين الدينية كما وقع في العالم المسيحي، وإما أن تتخلص بالتدرج من الحدود والقيود الدينية عن طريق تفسير العقائد الأساسية تفسيرًا موسعًا. وللاحتراز من الحالات الموجبة لاشمئزاز شعب جاهل متعصب لا يلبث أن ينفعل ويتأثر من كل شيء، كانت الحكومة العثمانية اختارت الشق الثاني" (1) .
وإذا صحت هذه الشهادة من ديبلوماسي غربي معاصر لهذه الأحداث والتطورات وكشفت عن السر منها واتباع القصد الأول القصد الثاني بعلمنة الدولة وإعلان أتاترك بعد حين عن أخذه باللائكية والالتزام بها، فإننا ونحن نتحدث الآن عن خصوص التحرير القضائي وتعويض الشريعة بالقوانين الوضعية في البلاد الإسلامية لا بد أن نشير إلى رأي بعض الأساتذة البارزين في هذا التحول القضائي والتطور التشريعي بالبلاد التركية، يقول رئيس معهد القانون الأستاذ أندرسون بالحرف الواحد: "إن اقتباس تركيا للقانون السويسري وتطبيقه في بلادها أشبه ما يكون بارتداء القزم ثوبًا فضفاضًا" (2) ، في حين يلتمس أحد أعضاء المؤسسة العالية المتابعة للتطورات التشريعية في العالم قسم القانون بجامعة لندن الدكتور هنشف: لقد كان اقتباس الدولة العثمانية للقانون الفرنسي بدافع من الرغبة في رفع معنوياتها وهيبتها في عين الدول الغربية التي نظرت إلى قانون العقوبات والقصاص وقطع اليد والرجم بكثير من الدهشة والاشمئزاز (3) .
وهذا الخوف من التغيير غير المبرر ومن الطمع غير المشرف اللذين يصاحبهما الاحتقار والسخرية لم يصرف شيء منها في الأول كثيرًا من المثقفين ممن استولى الغزو الفكري على عقولهم، وسيطر على ألبابهم عن طلب العدول عن هذا الانحراف الذي ضاعت به مقومات الأمة وفقدت به رابطًا من روابط وحدتها وأساسًا ذاتيًّا لشخصيتها الإسلامية. وحين نتساءل عن سبب ذلك نجده متمثلًا في الاتهامات والدعاوى والفتنة التي تنتاب مجتمعاتنا في مدارسنا وجامعاتنا وفي الثقافة التي نقبل عليها في حرص غير شاعرين بخطرها ولا متصورين لأبعادها.
__________
(1) مصطفى صبري: 4 /348.
(2) د. عبد الوهاب أبو سليمان، التشريع الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري. مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية. مكة المكرمة: 1 /1393 – 1394. العدد الأول: 55.
(3) القانون التقليدي الإسلامي والقانون الحديث 31.(5/2854)
دحض الحملات المغرضة والاتهامات الباطلة:
لقد حمل رجال الفكر التحرري على الشريعة والفقه الإسلامي حملة شرسة ورموها ادعاء وكيدًا بشتى التهم معلنين ومرددين:
إن هذه الشريعة غير صالحة لزماننا وإنها جاءت لوقت معين وظرف خاص، فمسائلها محدودة وأحكامها معدودة إن في الكتاب وإن في السنة وما وراءهما، وخصوصًا فيما استجد من شؤون الحياة ومشاكل المجتمعات التي لا تكاد تنحصر كثرة وجزئيات ولا أثر لذلك في مصنفات الفقه وكتب الأحكام عامة. في حين عرف القانون الأوروبي والأحكام الوضعية تقدمًا وتطورًا ومجاراة للمجتمعات الإنسانية حيث وضعت التشاريع والقوانين لكل ما يقع فيها. فالشريعة والفقه وقفا عند حدود النصوص المثبتة في المدونات والكتب الفقهية التي جمدت كما يشهد لذلك تاريخ الفقه الإسلامي، أما القوانين الوضعية فهي توضع كل يوم وبحسب الحاجة إليها. وهي بذلك مواكبة للعلم والتقدم ومغطية لكل مشاكل الحياة قديمها وحديثها. ولا يترك المتطور الجديد المناسب لأوضاعنا في هذا العصر من أجل العكوف على القديم الجامد والالتزام به. هذا مع ما في الأحكام الشرعية من شدة وقسوة ووحشية نلمسها في الحدود والقصاص ولا تستطيع معها أن ترقى إلى مرتبة الأحكام الوضعية المتناسقة مع الزمن والمسايرة للرقي والمدنية.
وهذا الاتهام بالضيق وبالحصر والتخلف والتأخر وإن انطلى على العامة فزعزع عقيدتهم في دين الله وذعر الخاصة فراحوا يطلبون المخرج من ذلك، يعلم الناقدون للشريعة الإسلامية والمتحاملون عليها أنه مردود بما يصدر عن الفقهاء والمفتين فرادى ومجتمعين في أحكام النوازل من بحوث وفتاوى. "وإن للشرع مبنى بديعًا وأساسًا هو منشأ كل تفصيل وتفريع. وهو معتمد المفتي في الهداية الكلية والدراية وهو المشير إلى استرسال أحكام الله على الوقائع مع نفي النهاية، وذلك أن أصول الأحكام وقواعد الشريعة العامة متقابلة بين النفي والإثبات والأمر والنهي والإطلاق والحصر والإباحة والحظر. ولا يتقابل قط أصلان إلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما وتنتفي النهاية عن مقابلة ومناقضة" (1) . وإن الأحكام الشرعية دين تقوم على حماية حقوق الناس وضمان المصالح والمنافع لهم في أي عصر من العصور، وإنها تجمع الرادع إلى الوازع بما تغرسه في النفس من هداية وتملأ به الروح من استقامة، وتحميه وتنشره من مبادئ وقيم ثابتة، كانت منشأ عزة الإسلام وقوته وتقدمه. وإن عوارض التخلف والتأخر في المجتمعات الإسلامية كانت بالعكس بسبب التفريط في هذه الأحكام ووقوع الناس فريسة للجهل والتواكل والفقر والرضا بالدون وقعود الهمم وخراب الذمم {وأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (2) .
__________
(1) إمام الحرمين. الغياثي: ص 433، 645.
(2) سورة الجن: الآيتان16،17.(5/2855)
أما ما حصل للفقه من استقرار وجمود حمل الشيخ محمد مصطفى المراغي على الإشارة بأصابع الاتهام فيه إلى الفقهاء في مذكرته الشهيرة حول إصلاح الأزهر 1928م حين قال:"إن الأمة المصرية تركت الفقه الإسلامي لأنها وجدته بحالته التي أوصلها إليه الفقهاء غير ملائم … ولو أنها وجدت من الفقهاء من جارى أحوال الزمان وتبدل العرف والعادة وراعى الضرورات والحرج لما تركته إلى غيره". فإن مرده في الواقع ليس ما ذكره في المحل الأول وإنما السبب في ذلك هو الاستعمار وما حمل الناس عليه بالقوة، أو الحكام ومافرضوه على المسؤولين من اتجاه أو طبيعة التطور وما تحكمت به الظواهر الاجتماعية والفكرية في الناس، أو الشريعة والفقه ذاته الذي لم يستفد من الأصول والقواعد العامة التي من أبرزها في هذا المجال التيسير على الناس ورفع المشقة والحرج ومراعاة المصالح والضرورات وتغير الأحكام بحسب العادات والأعراف في كل زمن مما يخلع على الشريعة الصلاحية الدائمة واستيعاب القضايا والجزئيات ويكسب الفقه المرونة التي تميز بها في صدر النهضة الأولى. (1) .
ولقد وجهت طائفة من المستشرقين في دراساتها تهمة جديدة للشريعة الإسلامية حين اعتبروها أمرًا مثاليًّا يعني أساسًا بالقيم الدينية والأخلاقية المؤمل توفرها في حياة الناس وإنها بذلك لا تنطبق بالضرورة على الواقع وجعلوها في مرتبة القانون الوضعي. ومن بين هؤلاء جولدزيهر وأندرسون وشاخت ولولسون. وازداد هذا الموقف وضوحًا في كتاب نوبل ج كولسون حين قال في "تاريخ الفقه الإسلامي": " إن انقطاع الوحي بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الشريعة الإسلامية بما تحقق لها من كمال التعبير والبيان ثابتة غير قابلة للتغيير.. وأصبح على المجتمع أن يتطلع إلى ما تمثله من معايير مثالية وصحيحة إلى الأبد" (2) . وأكد ذلك في كتابه الثاني "التعارض والقضاء في الفقه الإسلامي" بتخصيصه فصلًا يبحث فيه التنازع القائم في الفقه الإسلامي بين النزعتين المثالية والواقعية (3) . وكان من الطبيعي أن يجد هذا الاتجاه الخطير لفصل الشريعة والفقه عن الحياة إبطالًا ونقضًا فكتبت الدراسات والبحوث لبيان الأمر وتصحيح النظر وكان ممن أسهم في هذا د. محمد مصطفى شلبي بكتابه الفقه الإسلامي بين المثالية والواقعية (4) .
__________
(1) فهمى هويدي. العربي: 338. يناير 1987م: ص82.
(2) فهمى هويدى.
(3) فهمي هويدي: ص83.
(4) فهمي هويدي: ص83.(5/2856)
ومن أبرز الاتهامات التي روجها مؤرخو الغرب عن التشريع الإسلامي، وبحثها الحقوقيون والفقهاء في دراساتهم ومحاضراتهم وكتبهم وناقشوها قديمًا وحديثًا دعوى أن الفقه الإسلامي مستعار من التشريع الذي كان العمل به قائمًا قبل الهجرة وأنه قد استمد أحكامه وخاصة في المعاملات من القانون الروماني. فقد لبث بنو أمية في الشام مدة طويلة يطبقون الأحكام الموجودة به في عهد الرومان وأن الإسلام كان مضطرًا لمواجهة النزاعات والخصومات منذ السنين الأولى من انتشاره شامًا وعراقًا بالاحتكام إلى القانون الروماني تفاديًّا من وقوف سير العدل ومن حصول الخلل في الأحكام وإن التشريعات التي كان يعمل بها الفقهاء أوائل الدولة العباسية كانت عبارة عن مجموعة أحكام تضاهي ما كان العمل جاريًّا به في سورية قبل الفتح الإسلامي. وقد نقض هذه الفرية من البداية الأستاذ صاوا باشا الرومي أحد رجال الحقوق في عهد السلطان عبد الحميد الثاني وصاحب كتاب "نظرية الحقوق في الإسلام"، حمله على ذلك عدم الأخذ بالظنة والحيطة في الأمر ورجوعه قبل إبداء الرأي إلى كتب الفقه الإسلامي يدرسها ويحللها مفرقًا بذلك بين منابع التشريعين الروماني والإسلامي ومنبهًا إلى أن فقه الإمبراطور تروستينيانوس الذي كان يدرس بأشهر مدرسة للحقوق في ذلك العصر مدرسة بيروت والذي كان من أكبر القائمين عليه فيها بتلك الفترة " دورني مساعد تريبونين" الفقيه المشهور كان العمل فيه مبنيًّا على العقل البشري السليم وإن اصطبغ في تلك الآونة بالصبغة المسيحية. أما الفقه الإسلامي الذي تتبعه صاوا باشا في أقرب المصادر إليه وهي كتب الفقه الحنفي فهو مبني على كتاب الله وسنة رسوله. ولن تجد في الفقه الإسلامي حكمًا واحدًا غير مدعم على هذا أو هذه. وبذلك يتمايز مصدر الفقهين. ويمضي صاحب نظرية الحقوق في الإسلام فيورد خلاصة اجتهاد الإمام أبي حنيفة وأصحابه أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وزفر، ثم من بعدهم من الأئمة ملخصًا تاريخ التشريع الإسلامي مبينًا مآخذه كلها مثبتًا فلسفة هذا الفقه المتمثلة في علم الأصول قائلًا: "إنه لا يقدر أحد من الناس أن يعلم مأخذ الشرع الإسلامي إن لم يقرأ أصول الفقه، وأدعو من يهمه هذا الموضوع أن لا يحكم فيه قبل أن يطالع هذا التاريخ المتسلسل للفقه الإسلامي مطالعة كافية" (1) .
ومن المفارقات المذكورة بين القانونين والفقهين أن القانون الروماني يقوم أساسًا على اعتبار سلطة رب الأسرة وليس كذلك الشريعة الإسلامية التي جعلت أساسها حرية الفرد، ومنها اختلاف القانون التجاري الإسلامي عن القانون الروماني – الذي كان من قبل قانونًا عامًّا لأوروبا بخلوه من الإجراءات والتعقيدات الشكلية التي تدعو إلى بطء المعاملات وعرقلة التجارة ويؤكد هذا ما ذكره الدكتور زيني المدرس بالجامعة المصرية وعميد كلية التجارة بها سابقًا، في كتابه "أصول القانون التجاري" من أن التهمة باطلة والعكس هو الصحيح وذلك في عرض حديثه عن تأثير الشريعة الإسلامية في تكوين العادات التجارية إذ يقول: "ذكر بعض مشاهير كتاب الغرب أن تجار الجمهوريات الإيطالية في القرون الوسطى استفادوا من عادات العرب والأتراك (المسلمين) واستمدوا منها لتجارتهم ماتخلصوا بواسطته من القيود والتعقيدات التي ألفوها في القانون الروماني" (2) .
__________
(1) صبري: 4 /299؛ محمد حميد الله. (هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإسلامي) دراسات لخمسة من العلماء.
(2) صبري: 4 /299.(5/2857)
وفى المقارنة بين مروجي التهمة والناقضين لها يقول شكيب أرسلان: لقد بنى صاوا باشا حكمه على أدلة وبراهين ووثائق ونصوص وحقائق تاريخية، أما أولئك فقد أقاموا حكمهم على ظنون وتخرصات، وعلى نظر من جهة واحدة، وعلى قولهم لا بد أن يكون كذا، وهناك أسباب تدعو إلى الظن بأنه كذا، ومن يدري فقد يكون كذا، وهذه أشياء لا تصلح أن تكون مدارًا للأحكام، ولا يقال هذا تمحيص وإنما هو تخمين وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا (1) .
مدى تطبيق القوانين الإسلامية على غير المسلمين:
كما يناسب في هذا المقام أن نشير إلى أن الإسلام لم يحكم غير المسلمين قسرًا فيفرض عليهم في مسائل دينهم قوانين كما فعل الغرب، بل جعل للقاضي الشرعي أن يفصل بينهم إذا تراضوا على حكمه، فإن أبوا فصل بينهم إجباريًّا قاضي دينهم. وبهذا يعتبر التشريع الإسلامي مصدرًا فقهيًّا لإحدى القواعد الأساسية للقانون الدولي الخاص وهي قاعدة شخصية قوانين الأحوال الشخصية التي تقررت في مجمع أكسفورد 1883م وفي مؤتمر لاهاي 1904م وجاءت بها أخيرًا اتفاقية مونترو 1931م.
استقلالية القوانين الإسلامية:
هذا وقد أبطل الدعوى من أساسها قرار مؤتمر القانون المقارن الذي عقد في مدينة لاهاي 1938م والذي قضى صراحة بأن للشريعة الإسلامية نظامًا قانونيًّا مستقلًا غير مأخوذ من التشريع الروماني. وعلى أساس هذا القرار طالب رئيس وفد مصر حافظ رمضان باشا لدى لجنة المشرعين في واشنطن المنعقدة بشأن وضع مشروع قانون محكمة العدل الدولية بوجوب تمثيل الشريعة الإسلامية في محكمة العدل الدولية.
تفنيد وإبطال الدعاوى التي قامت ضد الفقه الإسلامي:
وبسبب ما اقتضاه النظر الفقهي الاجتهادي في تحديد الأحكام من الاختلاف واعتماد كل إمام على ما صح عنده من الأدلة وأخذ به من الضوابط والمرجحات وهو ما زكاه النبي صلى الله عليه وسلم وأذن به فقال: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)) (2) . جاء يزكيه أيضًا ما أقره الأشياخ من اعتبار لتلك المذاهب الفقهية بقولهم اتفاقهم بحجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة، فإن الناكبين عن الشريعة والمشككين في صحة الفقه ووجوب الالتزام به حملوا مرة على هذه الثروة القانونية التي تنطوي على كل ما يحتاج إليه المسلمون فرادى وأمة ودولة والتي هي على مقربة منا تقع تحت أيدينا وفي خزائن دور الكتب التي ورثناها عن أسلافنا، والتي تمثل أثرى كنز للمسلمين وعملت بها الدول الإسلامية المتعاقبة إلى أقرب عهد منا، فقالوا إنها ليست من الدين، ونادوا مرة أخرى بإبطال المذاهب ونبذها، وذهبوا ثالثة إلى الاعتصام بالقوانين الوضعية المضبوطة وترك ما قد تحمل عليه تلك الآراء المختلفة من الفوضى والاضطراب. وقد يكون من المناسب أن نقف قليلًا إزاء كل دعوى كاشفين عن الباطل فيه موجهين إلى وجه الصواب في معالجتها.
__________
(1) صبري: 4 /299.
(2) خ اعتصام: 31؛م أقضية: 15؛ د أقضية: 2؛ ن أحكام 2؛ قضاة: 3؛ حـ أحكام: 3؛ حم: 4، 198، 204، 205.(5/2858)
أما الدعوى الأولى التي كان يمثل صداه ويرددها بعض الشيوخ في قوله: "إن الدين في كتاب الله غير الفقه، وإنما الدين هو الشريعة التي أوحى الله بها إلى الأنبياء جميعًا. فقد جاء يقابلها بعد إعلانه هو نفسه: " إن القوانين المنظمة للتعامل والمحققة للعدل والرافعة للحرج هي آراء الفقهاء مستمدة من أصولها الشرعية تختلف باختلاف العصور والاستعدادات، وتبعًا لاختلاف الأمم ومقتضيات الحياة فيها وتبعًا لاختلاف البيئات والظروف". وإن مردها إلى ما أعلن عنه البخاري وأسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) . ومعناه يبصره بأحكامه ويفهمه مقاصده وعمل الفقهاء الذي يعترف بأهميته وجدواه الشيخ المراغي مستمد كما ذكر في كلامه من الأصول الشرعية. وإذا كانت الأصول الشرعية التي يفيض بها المصدران الأساسيان الكتاب والسنة من الدين فلا وجه لإنكار أن الفقه من الدين. وهو لا ينحصر في العبادات وتلك مزية التشريع الإسلامي، بل "يعم نظرة المعاملات والعقوبات وكل ما يدخل في اختصاص المحاكم والوزارات ومجالس النواب والشيوخ. فهو عبادة وشريعة وتنفيذ ودفاع … وهذه المزية يصعد بها الإسلام إلى سماء الرجحان بالنسبة إلى سائر الأديان" (1) .
وأما الدعوى الثانية القائمة على التنفير من المذاهب الفقهية والاستهانة بها حرصًا من أصحابها على الاجتهاد وترغيبًا فيه وصرفًا عن التقليد وإبعادًا عنه فلا يبررها قول بعض المتنطعين:
الذين قال الله قال رسوله
والنص والإجماع فادأب فيه
وحذار من نصب الخلاف سفاهة
بين الإله وبين قول فقيه
وإن فيها عودًا على الثروة الفقهية والأنظار الشرعية بالنقض. وهو ما لا يقول به عاقل متدبر. وإنما يردد ذلك الغوغائيون من الذين لا يدركون والذين هم عن الحق محجوبون. والتقليد وإن ذمه الأوائل ففي العقائد لا في الفروع. وإن الاجتهاد ليس بالأمر السهل الذي يقدر عليه حتى من لا يعرف لغة القرآن ووجوه التعبير وأنواع الدلالات وأسباب النزول وملابساته والناسخ والمنسوخ وما ورد في السنة من بيان وتفصيل لأحكامه. كما أن في ترك المذاهب وجمع الناس على مذهب واحد تضييقًا على الناس وتشديدًا عليهم والله سبحانه يقول: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) .
__________
(1) صبري: 4 /295.
(2) سورة الحج: الآية 78.(5/2859)
والدعوى الثالثة مردودة بإطلاق، فالقوانين الوضعية من صنع الناس للناس والشريعة من صنع الله لعباده، وما كان من الناس لا يخلو من ضعف أو غفلة أو هوى أو تحيز أو مراعاة مصالح بلد دون بلد أو فئة دون أخرى. وهو نتيجة بينة يمليها المجتمع وتتطلبه أوضاعه، والمشرعون منقادون لها متأثرون بها. أما الشريعة فهي عامة شاملة صالحة لكل زمان ومكان خالصة من شوائب النقص مهيمنة على الناس بالحق وهي التي توجه الجماعة. فهي مأمونة ومحررة لإقامة العدل وتحقيق الاستقامة.
وإن الأخذ بهذه الشريعة لهو كما قال علي عبد الرازق: الذي يحفظ على الأمة المسلمة وحدتها الدينية التي كتب الله أن تكون بين المسلمين: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (1) .
ولقد كان الفقه الإسلامي من أكبر العوامل في بناء هذه الوحدة الإسلامية، وكان من أمتن الأسس فيها. فإذا لم يبق لهذا الفقه حياة، وإذا ما ضاره أمره إلى أن يصبح رسومًا وأحاديث فقد أوشك المسلمون يومئذٍ أن يعمهم الله بالفرقة وأن يقطع أمرهم بينهم وأن يتناكروا فلا يعرف بعضهم بعضًا ولا يرجع آخرهم لأولهم ولا يهتدي لاحقهم بسابقهم. ويومئذٍ لا تغني عنهم تلك الدعوة الجوفاء التي يتصايح بها من يزعمون أنهم يدعون إلى الوحدة الإسلامية وهم يسكتون عن هذه المعاول الهدامة التي تنقض على أسس هذه الوحدة وتعمل فيها هدمًا وتخريبًا (2) .
وإذا أسلم الأصل الذي به يتمسك المسلمون وينادي بالمحافظة عليه علماؤهم ويدعو إلى تيسير أمره قادتهم ومفكروهم فإن أمر الفوضى والاضطراب الذين ضاق بهما الناس في القرنين الماضيين خاصة بسبب الغزو الفكري وإفساد العقيدة والاتجاه ليس أمرًا صحيحًا على الحقيقة لأن لكل منطقة من مناطق البلاد الإسلامية مذهبًا سائدًا وفقهاء عدولًا يقضون به ويلتزمونه، والآن بحمد الله نرى السعي حثيثًا في وضع القوانين والمجلات المستحدثة التي ظهرت في المملكة العربية السعودية ومصر والكويت والأردن مستمدة من التشريع الإسلامي ودواوين الفقه، وقد تكونت لجان لتقنين الشريعة في عدة دول كما قامت المجالس والمجامع بتهيئة ذلك وتيسيره بفضل الجهود العلمية الخيرة والعلم الفقهي المتواصل.
__________
(1) سورة المؤمنون: الآية 52.
(2) الأهرام: العدد 20682.(5/2860)
استهداف الحكم الإسلامي والتنكر للتراث الفقهي:
ومن التهجمات الغربية التي لا تصدر عن واعٍ بحقائق الدين ينتسب للإسلام تلك التي تستهدف الحكم الإسلامي في مجاليه القضائي والسياسي. فلقد حرصوا كل الحرص على تركيز دعوى فصل الزمني عن الروحي والدين عن الدولة لدى المسلمين. وهذا يناقض قطعًا القاعدة الأساسية عندنا وهي أن الأحكام الشرعية الإسلامية تقوم على المعنى التعبدي الروحي وعلى المعنى القانوني النافع للإنسانية. وهذا ما يشير إليه الشاطبي بقوله في الموافقات: إن كل حكم شرعي لا يخلو عن حق الله وهو من جهة التعبد … كما لا يخلو عن حق العبد لأن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد. فالحقان متلازمان (1) . ولإبطال هذا المعنى وإلغاء هذا التصور يقول أحد المضللين متأثرًا بواقع الغرب: " الاتجاه الحديث يتمثل ببعد روحاني ديني يخص وعي الإنسان وعلاقة هذا الوعي بالله من جهة، ثم بعد الحياة السياسية والاجتماعية الذي يحكم علاقات الناس بعضهم بالبعض الآخر في المجتمع من جهة أخرى … وهكذا لا يمكن أن نحشر الدين في كل شيء في الأكل والشرب والنوم والقيام والقعود وتنظيم العلاقات الاقتصادية والروابط الاجتماعية والخطة الخمسية والسياسة الخارجية للدول … إلخ هذا غير ممكن …". ويمضي بعد ذلك قائلًا: "إنه من الضروري إعادة التفكير الجذري في الإسلام لكي يكون هناك قضاء ديني مدني واجتماعي يتساوى فيه البشر طبقًا للقوانين المدنية الحديثة. هذا القضاء الاجتماعي المدني غير موجود الآن، وينبغي أن نناضل من أجله لكي يوجد في المستقبل، وهذا لا يعني القضاء على الدين أو محاربته كما يدعي بعضهم، وإنما على العكس يعني احترام الدين والحفاظ على هيبته الروحية وعدم تلويثه بكل شيء" (2) .
وهذه المواقف ليس غريبًا ولا عجبًا حصولها ممن يخلط في تصوره بين أصول الدين الذي هو أصل بناء العقيدة، وأصول الفقه الذي هو من عمل رجال الاستنباط للأحكام الشرعية من مصادرها المتنوعة. فيحمله الغموض والوهم على إنكار أن تكون الشريعة ذات أصل إلهي ويصف رسالة الشافعي التي أقامت أسس وقواعد القانون الإسلامي على أربعة مبادئ: -القرآن، الحديث، الإجماع، القياس بأنها الحيلة الكبرى التي أتاحت شيوع ذلك الوهم (3) ، ولا يحتاج عاقل ولا عالم إلى دفع هذه التهمة، ولكننا من أجل التعريف برسالة الشافعي هذه نذكر بأن الإمام كان قد عرف أئمة المذاهب عن قرب ووقف على ثروة فقهية من أحكام الفروع يشير إلى ما يسلكه أئمة الفقه في المدن المختلفة عند استنباطهم الأحكام. فنظر في الفروع وتعرف على الموازين، وساعده هذا على وضع قواعد الأصول، وقد اتجه بهذه القواعد اتجاهًا علميا ونظريًّا، وجعل الفقه بهذا مبنيا على أصول مقررة منضبطة، وليس مجموعة من الحلول الجزئية لمسائل واقعة أو مفترضة (4) . وقد نوه الرازي بمنزلة الإمام الشافعي ووضعه لعلم أصول الفقه بقوله: "استنبط الشافعي علم أصول الفقه ووضع للخلق قانونًا كليًّا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع.
__________
(1) الشاطبي الموافقات.
(2) حوار هاشم صالح مع أركون: من أجل مقاربة نقدية للواقع؛ المستقبل العربي: 101- 7 /1987: 9.
(3) أركون. تاريخية الفكر العربي الإسلامي: ص297.
(4) محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام: ص655. أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية: 2/ 272 – 273.(5/2861)
فهذا الاتجاه من الشافعي هو اتجاه العقل العلمي الذي يعنى بالجزئيات والفروع. فكان تفكيره تفكير من لا يهتم بالمسائل الجزئية والتفاريع بل يعني بضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها. وذلك هو النظر الفلسفي (1) .
ويمضي صاحب هذه المقالة بعد ذلك متنكرًا للتراث الإسلامي الفقهي أغنى التشاريع وأشملها وأدقها وأضبطها على الإطلاق، فلا يذكر أصوله ولا قواعده، ولا نظائره، ولا فروقه ولا أحكامه، ولا مسائله، ولا فلسفته، ولا نظرياته، ولا أسراره، ولا مقاصده. وفي كلمة مرتجلة إن أحسنا به الظن يدعو إلى إلغاء ذلك على نحو ما فعلت المسيحية من جعل اللاهوت مقصورًا على العبادة وعلى ما يتصل بعلاقة المرء بربه. واعتبار الناسوت الشامل لكل أحوال الإنسان في الأرض من معاملات وعلاقات وتصرفات وقضايا وأحكام سياسية مفصولًا عن الأول وغير وارد به الدين. وهو ينسى أو يتناسى في مرة واحدة ما شرع الله في كتابه للناس وما فصله رسوله من أحكام: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2) .
ولا أظن أن حملته على الأحكام الشرعية مدنيها وجزائيها تقف بصاحبها المتظاهر بالإسلام مع المسلمين عند الحد الذي وصفنا فيقال إنها فهم وتأويل ونظرة جديدة يجوز مخالفة السابقين بها وتوجيه المسلمين فيها وجهة أخرى لأن من كان هذا شأنه دل على فساد عقيدته وضلاله وكشف عن حقيقة أمره حين حاول سخاء وتفضلًا أن يبطل الحدود ويلغي الجهاد ويغير أحكام الإرث ويرفع عن الناس الصوم وغيره من التكاليف حرصًا منه في زعمه على تحقيق العدل ومسايرة التطور والتقدم كما يوحي بذلك حديثه لنوفال أبسرفاتور (3) .
__________
(1) مصطفى عبد الرازق، تاريخ الفلسفة الإسلامية: ص330.
(2) سورة المطففين: الآية 14.
(3) نوفال أبسرفاتور، الإسلام بفرنسا عدد: 7- 18 / 2/ 1986.(5/2862)
الخلافة الإسلامية وتطبيق الأحكام الشرعية:
وقد عد الناس من إنكار الشريعة والفصل بين الدين والسياسة ما هو دون ذلك، وهو ليس أقل منه خطرًا – ما كان من علي عبد الرازق حين زلت به القدم في كتابه "الإسلام وأصول الحكم " فقال: " رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن له حكومة حتى يكون أبو بكر خليفته فيها، وإنما كانت له نبوة لا تقبل الخلافة. وإنما هي رسالة لا حكم ودين لا دولة" (1) . ونسي أن معنى الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذلك الالتزام بأحكام الشرع الإسلامي ممن يتولى الحكم على المسلمين. وقد تصدى له الفقهاء والمؤرخون والمفكرون جميعًا فردوا عليه أبلغ رد في مشارق الأرض ومغاربها (2) ، وقد صرَّحَ الماوردي من قَبْلُ في الأحكام السلطانية بأن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم (3) . وبهذا قال غير واحد من الأشياخ السابقين مثل أبي يعلى وابن حزم وابن تيمية والكمال بن الهمام وابن خلدون وغيرهم (4) . وقد لاحظنا أن عليًّا عبد الرازق وإن اجتهد بما يخالف آراء عامة المسلمين في قضية الخلافة قد وقف موقفًا مخالفًا في قضية تحكيم الشريعة؛ فحين همت الحكومة المصرية بإعداد مشروعين لتعديل أحكام الأحوال الشخصية في مادتي المواريث والوصية وهما يتجهان إلى خلاف حكم الشرع الإسلامي المعمول به ظهر مشروع علي عبد الرازق ينقضهما على صفحات جريدة الأهرام (5) . بقوله: " إن هذا الاتجاه دون غيره هو الذي يتفق مع ما تقضي به أصول التشريع العامة من أن القوانين لا ينبغي أن تكون موضعًا للتغيير والتبديل في عجلة وسفه ولا في طفرة ثائرة … وإنه لم يكد يبقى من الفقه الإسلامي في عامة بلاد المسلمين إلا هذا الجزء الذي يمس الأحوال الشخصية، فأما الأجزاء الأخرى فقد أضاعها أهل الفقه الإسلامي وباعوها طمعًا في جاه أو خوفًا من غير الله وأسلموها لجيش التشريع الحديث والتمدن الحديث فدمرها ذلك الجيش وعفرها في التراب".
__________
(1) صبري: ص40، 360. يقول عبد الرازق أيضًا: زعامة النبي عليه السلام كانت كما قلنا زعامة دينية جاءت عن طريق الرسالة لا غير، وقد انتهت الرسالة بموته، فانتهت الزعامة أيضًا، وما كان لأحد أن يخلفه في زعامته كما أنه لم يكن لأحد أن يخلفه في رسالته. الإسلام وأصول الحكم: ص181.
(2) محمد سلام مدكور، الإباحة عند الأصوليين والفقهاء: ص318 – 319؛ مناهج الاجتهاد في الإسلام: ص465.
(3) الماوردي: ص3.
(4) انظر الأحكام السلطانية، لأبي يعلى، والعقل في الحكم: ص135؛ والأهواء والعمل: ص4، 87؛ والسياسة الشرعية: ص 60 –77؛ والمساير: ص2، 141؛ والمقدمة: ص179.
(5) الأهرام: العدد 20682.(5/2863)
ومثل هذا الصوت الذي دوى معلنًا حرصه على التمسك بالفقه بعد التفريط في قسم كبير منه تحت تأثير النظم والضغوط الفكرية والاجتماعية والاقتصادية في هذا العصر لم يمر بدون رد أو معارضة من العلمانيين بل أثار سخطهم ونقمتهم على الفقهاء وعلى الدولة التي من وراء هذا الاتجاه الديني العلني تحميه وتنصره بتمسكها بالشريعة والتزامها بتطبيقها وراح أحدهم يقول: بالرغم من كل هذه الاعتبارات والمراجعات النقدية فإننا لا نستطيع أن نتجاهل وجود قوة هائلة للظاهرة القرآنية، استمرت هذه القوة في الوجود بفضل بعض الشخصيات الدينية الكبرى والشخصيات المثقفة، وبفضل قوة الدولة أيضًا التي قامت بعملها حسب الظروف والمنعطفات التاريخية … نعم هناك قوة ما تعبر التاريخ والقرون، إنها هنا موجودة، موجودة في القرآن كانت قد اتخذت لها شكلًا في القرن السابع الميلادي وفي اللغة العربية. كيف أمكن لهذه القوة أن تنتج هذه الظاهرة المدهشة التي انفجرت هنا وليس في مكان آخر: هنا في الجزيرة العربية وباللغة العربية (1) .
إن الخطة التي يرسمها هذا الفكر التجديدي والتي تستهدف القرآن والتفسير والحديث والشريعة واللغة والدولة الإسلامية لتضع صورة واضحة لمقاصدها وتعلن في غير وجل أو تردد اتجاهها الهدام متسترة بالمنهجية الجديدة للبحث التي تدعو لها في مجال الإسلاميات التطبيقية.
العلمنة أخطر أساليب الهجوم لمنع تطبيق الشريعة:
إن مجموعة التهجمات والتهم التي قدمنا أمثلة منها، وألوان التحديات التي تظهر في الساحة بقصد الإجهاز على الدين كعقيدة وشريعة ودولة لهي الجانب التطبيقى والعملي للتحرك العلماني في عصرنا الحاضر الذي تشهد له مقالات فلول من المتحررين من الدين في المشرق والمغرب في البلاد العربية والإسلامية. وإنهم ليزعمون أن ما يقومون به في هذه السبيل ليس صادرًا عنهم إلا بقصد تطهير المجتمع من رواسب الماضي المتخلف بشتى الطرق وإنهم يدعون المسلمين عامة إلى منهج فكري راق يخرج بهم من الظلمات وينير لهم المسالك لتحقيق التقدم بل للمنافسة في مجالاته وكسب السبق في الميادين الحضارية الجديدة التي صرفوا عنها طويلًا بسبب الأوهام والتقاليد. ومن الطبيعي أمام هذه الظاهرة المتفشية في أطراف العالم العربي والإسلامي والتي تنطلق بها الممارسات من جهة (تركيا، لبنان) والكتب والمقالات من جهة أخرى متحدثة عن اللائكية واللادينية والعقلانية والعلمانية والعلموية، أن نقف متسائلين عنها متعرفين عليها مقومين أعمالها ونتائج الدعوة إليها، فاللائكية كما صرحوا بذلك مأخوذة من لايكوس اليونانية والتي كان يراد بها الشعب ككل بمنأى ومنجى من رجال الدين، أو من كلمة لايكوس التي كانت في القرن الثالث عشر تطلق على الحياة المدنية أو النظامية أي على الشعب أن يعيش حياته الخاصة بكل معطياتها من غير تدخل رجال الدين في هذه الحياة قصد ضبطها وتوجيهها بطريقة ما. ومن المعلوم أن الشعب الوسط الإغريقي أو اللاتيني في القرون الوسطى كانت تنتشر فيه الأمية، وكان يتكون في جملته من الزراع وأوساط الحرفيين والعاديين من الناس في المدن، وإن رجال الدين (كلاركس) الذين كانوا أحسن حظًّا لمعرفتهم القراءة والكتابة كانوا يستخدمون الشعب الجاهل الساذج ويخضعونه لسلطتهم السياسية والاقتصادية والدينية. فكان هناك تقابل بين العنصرين الجهل والعلم، والخضوع والحكم، والحرية والدين.
__________
(1) تاريخية الفكر العربي الإسلامي: ص299.(5/2864)
ومن ثم عرفت اللائكة باللادينية وتسمت بالعقلانية "أراسيوناليسم" بمقابلة العقل للإيمان كما جنحوا إلى تسميتها في الغرب بالعلمانية والعلموية "سيانتسيم" بمقابلة العلم بالدين.
فالعلمانية في النهاية منهج في الحياة لا يخضع للدين ولكنه يحتكم حرًّا للعقل والعلم. وهي في نظرهم بعد فكري وطريقة محددة لتشكيل مفهوم جديد عن السيادة والمشروعية وممارسة جديدة لهما (1) كما أنهم لديهم ثورة عظمى في تاريخ الفكر الإنساني، والتفاته للذهن للوصول إلى المعرفة، وأمر ثمين ودرس قويم بعيد عن الصراع السياسي البذيء بين اللادينية والأيدولوجيات الدينية (2) ، وبذلك فهي ترقى بالإنسان إلى قدرة التمييز بين القضاء السياسي والقضاء الديني وهي تستلزم الأخذ بعين الاعتبار فتوحات الفكر العلمي وكذلك تناقل هذا الفكر، فهي ترد الإسلام لا فقط إلى ما قطع عنه من جذوره الفلسفية القديمة بل ترده أيضًا وهو المهم إلى الإنتاج العقلي الذي نشأ في الغرب في العصور الحديثة (3) ، فتربطه بأصوله الحكمية القديمة وتبعثه نشيطًا قويا مواكبًا للحياة. وهل يعقل أن يحيا الإنسان في هذا العصر العلمي المتطور متأثرًا دائمًا بأسطورة الأديان فيكون في نهاية القرن العشرين راضيا بامتداد سلطان الدين الذي يريد أن يشمل كل مجالات الوجود والمجتمع لضبطها والسيطرة عليها، قابلًا غياب المشروع البديل الذي سيحقق بدون شك وكما هو مشاهد إشباع الحاجات الأساسية للجماهير.
وبهذا يكشفون عن منهجهم ويفسرون خطتهم بقولهم:
لقد غير الفلاسفة فرويد ونيتشه وكارل ماركس في هذا القرن مناهج النظر والتفكير وتقدموا بالعقل البشري مراحل كثيرة وأعطوا للفكر الإنساني استقلاليته الكاملة بالقياس إلى العقل المطلق المتعالي. ومن أجل ذلك فقد آن للفكر العربي المعاصر والفكر الإسلامي بشكل عام أن يعيدا النظر في مفهوم الوعي الميتي مع مقارنته بالوعي التاريخي الواقعي والمستقل. ومن الملاحظ أن مطلبًا كهذا لن يتحقق إلا بالدخول في طفرة أيستيمولوجية وحيوية هائلة وعنيفة سوف تؤدي حتمًا إلى زلزلة الوعي والقيم السائدة بأكملها (4) ، وربما هون ذلك علينا اعتقادنا أن المحتويات العلمانية التقديرية للفكر الإسلامي ستبقى في غير متناولنا ما دمنا نريد البقاء متشبثين بإسلام لا يعدو أن يكون دينًا يأمر ويسجن كليًّا العالم أجمع (5) .
__________
(1) محمد بريش. وقفات مع أركون. الهدى: 16، 17 /1987م: 24.
(2) أركون. محاضرة بالرباط من أجل تحليل للعقل العربي. انظر: محمد بريش. الهدى: 15، 12 /1986: 51-54.
(3) أركون. نوفال أبسرفاتور: 7 / 2 /1986؛ محمد بريش. الهدى: 15، 12 /1986/ 59، 15 /69.
(4) هاشم صالح. ترجمة مشكلة الأصول، لمحمد أركون. الفكر العربي المعاصر: 13 /1986: 20.
(5) أركون. الأمة الإسلامية: ص120؛ محمد بريش. الهدى: 15، 12 /1986: 45.(5/2865)
وهكذا يتأكد القيام بثورة شاملة تهز فكر العالم العربي والإسلامي رأسًا على عقب مطالبين بعدم ترك الإسلام للكليات التقليدية تدعو له ولا بأيدي الشيوخ وعلماء الدين يلقنونه. إن مثل هذا الأمر سيزيد في القطيعة والتطرف بين الطرفين المتقابلين الإسلاميين الملتزمين والعلمانيين الحريصين على أن تخلوا الساحة العامة من كل ما هو ديني. وهنا يعرض بعض الدعاة حلًّا يتمثل في النظر إلى الدين نظرة تاريخية تراثية مصرحًا بأن العلمنة تقتضي في واقع الأمر إيجاد مجابهة خصبة بين الرؤيا العلمانية للعالم والرؤيا الدينية له، ويصرح بقوله: أنا مع العلمانية بقوة ولكني أرفض أن يمنع المتطرفون العلمانيون دراسة الأديان بصفتها ظواهر ثقافية كبرى عاشتها البشرية خلال قرون … (1) .
ومن جهة أخرى يرى أصحاب البرامج الفكرية النهضوية أن المنهج لإعادة تشكيل العقل العربي وبالتالى إعادة تاريخ الفكر العربي الإسلامي يمكن أن يتم بأخذ طريقين:
أولهما: تبني الأفكار المادية واقتباس المناهج الاشتراكية الماركسية للخروج بالفكر العربي من أوضاعه المتردية الراهنة ثم إعادة كتابة التاريخ على ضوء مناهج المادية الجدلية.
ثانيهما: تبني الأفكار المادية أو غيرها من أفكار المذاهب السياسية المعاصرة بالمرور من مرحلة تاريخية فكرية تتم فيها علمنة الشعوب العربية الإسلامية وجعل إيمانها بعقيدتها الإسلامية وعلمها بشريعتها المحمدية ينقلب إلى تقديس لتلك العقيدة كإرث حضاري وثقافي إنساني وتعظيم من طرفها لتلك الشريعة كعطاءات فكرية بشرية تحمل في كيانها عناصر ثورية إذا ما قورنت بزمانها وفترة تاريخها (2) .
__________
(1) من الموقف الميثولوجي إلى الموقف العرفي. حوار أركون مع هاشم صالح. مجلة الوحدة: 3 ديسمبر 1984. محمد بريش. الهدى: 14، 5- 7 /1986: 27؛ أركون: 14 /27.
(2) محمد بريش. الهدى: 130، 1 – 2 /1986: 31.(5/2866)
وفي بحث أعدة (أركون) الداعي إلى العلمنة الإسلامية وصانعها بعنوان "الإسلام والعلمنة" ونشره في مجلة الفكر العربي المعاصر، نجده يتناول بالعرض والتحليل والنقد وجوه هذه القضية فيتعرض لإحدى مشاكل الإسلاميات التطبيقية التي ما يزال يدعو إليها ويهيئ لها الشباب المقتنع بمنهجيته والسائر على طريقه. ويتحدث عن مثال مزدوج للعلمنة في البلاد الإسلامية العربية هي تركيا ولبنان، ثم يتناول القضايا الساخنة التي عرضنا لبعض أقواله فيها مثل النص القرآني والحديث عن جمعه وقراءاته وتفسيره وقوة الظاهرة القرآنية، ومثل قضية السلطة بالحديث عن الخلافة عند السنة والشيعة وعرض الأصل التاريخي وبيان عملية التسويغ والتبرير، وبالطبع بدون شك التعرض لانبثاق العلمنة وإلحاحها في هذا العصر مع بيان المنهج والطريق الذي ينبغي لأهل الفكر أن يسيروا فيه من أجل ممارسة علمنة إسلامية. وليكشف طريق ذلك تفضل فأعد مع الأستاذ حسن حنفي مشروعًا متكاملًا بينهما للتخطيط الشامل للفكر الإسلامي المستقبلي قدمه للجنة المكلفة ببحث هذا الموضوع بالكويت بدعوة من المنظمة العربية للتربية الأليكسو. وأهم ما ورد في هذا المشروع إذا تركنا أدبياته ومناقشته وآراءه وتاويلاته يتمثل في ثماني نقاط هي كالآتي:
1- العلمنة موجودة في القرآن وفي تجربة النبي صلى الله عليه وسلم.
2- الدولتان الأموية والعباسية علمانيتان وليستا دينيتين، والتطور الأيدولوجي الذي قام به الفقهاء يعبتر إنتاجًا عرضيًّا محكومًا بظروف وقتية.
3- للقوة العسكرية في نظام الخلافة والسلطنة دور أساسي في تحديده وتحديد كل أشكال الحكم اللاحقة المدعوة الإسلامية.
4- محاولات عقلنة العلمنة الممارسة في واقع المجتمعات الإسلامية حصلت في تلك الظروف من قبل ظهور الفلاسفة المسملين.
5 – أشكال الإسلام الأرتودكسي كالسني والشيعي والخارجي عبارة عن انتقاءات اعتباطية واستخدامات إيديولوجية لمجموعة من العقائد والأفكار والممارسات التي يدعي وهما أنها تقوم على أساس ديني محض.
6- إعادة بحث وفحص مكانة العامل الديني والتقديس والوحي على ضوء النظرية الحديثة للمعرفة.
7- كل الأنظمة السياسية في المجتمعات العربية والإسلامية بعد تحررها من الاستعمار علمانية واقعيًّا.
8- العلمنة إذ تؤخذ كمصدر للحرية وبقضاء تنتشر فيه هذه الحرية من أجل افتتاح نظرية جديدة في ممارسة السيادة العليا والمشروعية هي عبارة عن أمر ينبغي الشروع به داخل المجتمعات الغربية الأوروبية المعاصرة أيضًا (1) .
__________
(1) محمد أركون القدسي والثقافي والتغيير. مفهوم السيادة العليا في الفكر الإسلامي. مجلة الفكر العربي المعاصر. 39 جوان 1986، ص 30-31؛ محمد بريش. الهدى: 16-17 / 1987: ص24.(5/2867)
وقد كتب لي حضور هذه الاجتماعات التي احتد فيها النقاش وقوبلت العروض فيها بالإنكار والنقض. ونحن لم نذكرها هنا إلا كصورة مخططة وبإصرار لتحدي المسلمين ومهاجمتهم في قرآنهم وسنتهم وعقيدتهم وتشريعهم ونظام الحكم عندهم، ولا أعود إلى ما سبق عرضه ومناقشته في محله من تهم وتهجمات تتصل بالقرآن أو السنة أو العقيدة أو اللغة ولكني أقف ثانية عند قضية السلطة السياسية العامة " الدولة "، وعند قضية الشريعة وتطبيق أحكامها لنرى مواقف أخرى للعلمانية منها:
أما القضية الأولى فالمسيحية فصل فيها بين الدين والدولة ولا كذلك الإسلام، واعتبر ماكسيم رودنسون أن الإسلام ارتبط بالسلطة الزمنية من الأول وظهور ذلك واضح في عمل النبي الذي كان رسولًا وإمامًا. ويجنح أركون بحكم دعوته إلى علمنة الإسلام إلى أنه من الأكيد الفصل بين الدين والدنيا، بين الديني والزمني. ويتساءل هل هذا الفرق الأصلي والأولي الأكيد الفصل بين الدين والدنيا، بين الديني والزمني. ويتساءل هل هذا الفرق الأصلي والأولي حاسم أم هو دون ذلك في تشكيل نوعي السلوك بين المسيحيين والمسلمين؟ ويقرر بعد ذلك معلنًا أن النبي لم يكن قائدًا عسكريًّا أو سياسيًّا فقط، وأن للخطاب الديني الذي جاء به أهمية بالغة كما أنه يتميز بتجربة دينية غنية جدًّا وبقصاء رمزي جديد. وبناء على ذلك – وهنا تكمن حقيقة العلمنة التي يدعو إليها – يمكن التعلق بهذا الدين دون أن نستنتج بالضرورة قواعد سياسية واقتصادية واجتماعية معينة، وأنه لا يلزم بالضرورة أن تكون علاقة الأديان بأصولها مبنية بناء النتائج على أسبابها في كل الظروف وفي كل المنعطفات التاريخية. فهناك إذن دين وأهم ما يتمثل فيه الرسالة وهناك بإزائه مجتمع وتاريخ (1) . وبعد تقرير وجهة النظر هذه القائمة على مبدأ فصل الدين عن الدولة أو السلطة يذكر أن الخلافة والدولة في الأساس كانت علمانية وأنها كانت تبحث في الطور الأول عن تبرير أو تسويغ ديني. ونسي أو هو لم يقف على كتاب تخريج الدلالات السمعية للخزاعي ولا على كتاب التراتيب الإداية للكتاني ولكنه اعتمد فقط للاستدلال على رأيه على كتاب ابن المقفع الكاتب والأديب الباطني "رسالة الصحابة" الذي صنعه للدولة العباسية سنة 750 ليجعلها حسب زعمه نسخة طبق الأصل من الدولة الساسانية الإيرانية. وإن بنى الدولة العباسية ومؤسساتها وأسلوب الحكم في سوريا العراق وطريق إعادة الأمن لها والقرارات التي كانت تصدر عن الجيش والشرطة والقضاة. كانت كلها مستوحاة من النظم الفارسية دون أي استعانة بالفكرة الوهمية " القانون الديني والإسلامي". وهكذا يصبح جليًّا أنه لا خشية في الفصل بين الدين والدنيا، بين الروحي والزمني. وأنها تجربة واقعة من صدر الإسلام فلا يضير الدين الحنيف أبدًا أن يكون متهجًا لإشباع الجانب الأساسي الروحاني في الناس من غير أن يدخل في متاهات الحكم وصراعاته والسلطة وأشكالها وممارستها.
__________
(1) حوار مع الأكون أجراه هاشم صالح. من أجل مقاربة نقدية للواقع. المستقبل العربي: 1010، 7 /1987: 7-8.(5/2868)
وأما القضية الثانية وهي الشريعة فقد أضاف إلى ما عرضنا له بشأنها قبل جوانب جديدة تتمثل في كونها (أتيمولوجيا) بمعنى الطريق المستقيم المؤدي إلى الله، وإن ما قامت عليه في تصور الناس في بعض البلاد كالجزيرة العربية لا يعدو أن يكون فهمًا تقليديا ممارسًا، وهي وإن كانت في الواقع مجموعة من المبادئ تشمل كل نواحي القانون من مدني ومؤسساتي وجنائي تلقاها المسلمون وكأنها ذات أصل إلهي قد ترسخ في الوعي الإيماني فترة من الزمن في الأوساط القروية والمدنية على سواء، إنها ناتجة عن الوسائل الاستنباطية المطبقة بصرامة على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية لكنها في الواقع لم تكن مطبقة على كل المجتمعات الإسلامية، فالعالم الرعوي والزراعي نجا منها باستمرار، كما أنها كانت في الغالب مرتبطة بمركزية الدولة أو السلطنة أو الخلافة. فالسلطان أو الخليفة وهو الإمام وقاضي القضاة والقاضي الأكبر كان يعين قضاة الأمصار الذين يتولون تطبيق أحكام الشريعة حيثما امتدت السلطة المركزية جغرافيًّا. وهذا بالطبع لم تكن تاريخيا كلية ولا شاملة وهكذا فإن قسمًا كبيرًا من البلاد كما كان الأمر في الجزائر قبل الاستقلال سنة 1962 – 1974 كان لا يخضع للتشريع الإسلامي ولكن تطبق فيه الأحكام العرفية المتوارثة (1) .
وللتمكين من هذا التصور يقابل هذا المؤرخ الفرنكو مسلم بين تاريخ التشريع في نظر المسلمين والفقهاء خاصة وبين ما كانت عليه قصة التشريع في الواقع من الناحية التاريخية التي قدمها لنا محررة عن طريق سنده ونظرته النقدية لها. وإذا كان جمهور المسلمين سابقًا وحاضرًا يعتقد أن الشريعة تشكلت تدريجيًّا بفضل ممارسة القضاة الذين كان عليهم مواجهة حل مسائل المسلمين المتفرقة والعديدة، وأن تلك الحلول كانت نتيجة دائمة لاستجواب القرآن ثم السنة ولاعتماد الفهم فيهما وروح الشريعة منهما، وأن هذه الممارسة القضائية والاجتهادات الفقهية كانت أساس مجموعة كبيرة من الأحكام التي اعتمدت خلال القرون الثلاثة الأولى من التاريخ الإسلامي ومن بعدها، وأن مدارس اجتهادية سنية وشيعية قد ظهرت هنا وهناك في أقطار العالم الإسلامي وكانت وما تزال مهيمنة على الأقل فكريًّا إلى الآن، فإن الصورة الثانية لتاريخ التشريع الإسلامي حسب رئيس قسم الدراسات الإسلامية بالسربون هي التي يوحي بها جولدزهير وشاخت في كتاباتهما والتي ينزعان عنها الأصل الإلهي بانتهائهم إلى القول بأن الشريعة عبارة عن هذا القانون الذي أنجز داخل المجتمعات الإسلامية وبشكل وضعي كامل.
__________
(1) محمد أركون. تاريخية الفكر العربي الإسلامي: ص296.(5/2869)
ولتفصيل القول في هذا يعمد إلى قضية تأثر الشريعة الإسلامية بالأعراف المحلية التي وجدتها قائمة في البلاد المفتوحة ويؤكد أن الرجوع في آخر الأمر لم يكن إلى قواعد ثابتة ولكن إلى الرأي الشخصي للقاضي. ويدل على هذا أن ما حصل من اضطراب وتقطع في تطبيق الشريعة هو الذي حمل الشافعي على وضع رسالته والدعوة إلى الأخذ بالأصول الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وقد عرضنا من قبل رأينا في القرآن والحديث، أما الإجماع فأمره غمض لأنه لم يحدد كما أنه نادرًا ما يتحقق وإن اعتمد في بعض المسائل الكبرى، والقياس كما رأينا حيلة جلب بها القانون الوضعي المخترع بالتعظيم والتقديس (1) .
ويمضي بعد هذه المقارنة يقول: ومن العجب أن تظل ملايين من البشر مقتنعة بأن الشريعة ذات الخطر الكبير على حياة الناس والتي يراد تحكيمها في كل شؤون المسلمين في عامة تصرفاتهم وحتى في تفكيرهم هي من الله. ولا نجد مبررًا لهذا الوهم المستولي على عقولهم إلا من حيث أن موقفهم هذا يمثل نوعًا من التقليد التعبدي السكولاستيكي الذي رسخ في الأذهان عن طريق التعليم والتلقين، والذي سبب الخلط فيه بين الزمني والروحي يرجع إلى خلطهم بين القانوني والشرعي حيث استعملت الكلمة الثانية بقدر مشترك بين الموضوعين. وإنَّ السبيل الوحيد لتصحيح ذلك وتغيير الوهم السائد يكون باعتماد المنهج التاريخي النقدي المنهج التفكيكي التحليلي العلمي المحرر الذي ما يزال لسوء الحظ يلاقي صعوبات أكثر من هائلة.
وهنا يأتي الإمعان في الدعوة إلى ضرورة علمنة الإسلام والإخافة من مظاهر الصحوة في العالم بقوله: "مقابل المتمسكين بالدين والمنغمسين فيه والعائدين إليه بأعداد كبيرة طائفة من المثقفين كانوا بالأمس يدعون للعلمانية ويحثون على اختيار المادية التاريخية كمنهج فكري ثوري يتيح للشعوب العربية التخلص من ظلمات الجهل التي ساهمت في صنعها العقائد الدينية" (2) ، ويقاسمه بعض العلمانيين تخوفه حين يحذر أصحاب المسار اليساري بقوله: "إن الإسلام كان ولا يزال مركز الشرعية الأول والأخير بالنسبة للأغلبية الساحقة من الجماهير العربية التي تتعامل معها، ويدعو هذا بدون شك إلى مضاعفة الجهود تخطيطًا وتطبيقًا لنشر العلمنة وإقناع الناس بها" (3) .
__________
(1) محمد أركون. تاريخية الفكر الإسلامي: ص297، 298.
(2) محمد بريش. وقفات مع أركون. الهدى: 63-1-2 /1986: 29.
(3) محمد بريش. وقفات مع أركون. الهدى: 63-1-2 /1986: 29.(5/2870)
الصحوة الإسلامية:
مما قدمنا يتجلى التقابل بين الاتجاه الإلحادي والتجديدي واليساري وبين الاتجاه الإسلامي الشامل بجميع صنوفه وأشكاله ومراتبه في ساحة واسعة غير مقصورة على البلاد العربية، ولكنها تتسع لتمتد فتشمل البلاد الإسلامية ومن ورائها وكور ومراكز الدعوات المناوئة للمسلمين كأمه وللإسلام كدين ولحركات المعارضة لها والقائمة في وجهها في كل مكان من أجل حماية العقيدة ورد العدوان. إنها مسابقة ومناظرة بل نقائض وملاحم وحرب مقنعة وجهاد.
تلك ترفض الإسلام كدين أو تقبله، ولكن كفكر حضاري تتمسك به إلى حين ما دام يحقق لها مصلحة، فإذا وجدت المصلحة في غيره نبذته وولت وجهها عنه، وهذه تؤمن به كعقيدة مقدسة جاء بها الرسول الخاتم وبيَّنها لها بالقول والعمل والدعوة إلى الحق والهداية إلى الخير فهي تتمسك به كمنهج وتؤثره على كل شيء ولا تبحث عن شيء وراءه.
تلك لا ترتبط بقومية ولا تلتزم بدين ولا عقيدة. وهي حين تصرح بأن ظروفًا قضت عليها بالتحرك في دائرة الانتماء العربي الإسلامي تعلن عن وجوب تجاوز النرجسية والمركزية العريقة والقومية من جهة، وأنها لا تعتبر العروبة غاية قصوى لمصيرها ولا قيمة في حد ذاتها، ومن جهة أخرى ترفض أن يكون الإسلام الأس الوحيد للأخلاق والمجتمع والمحرك الأساسي الفعلي للعبة الاجتماعية فارضًا قواعده المدنية ومايرتبط بها من فروض في العادات والتقاليد (1) .
وهذه تصر على أن النظام الإسلامي هو النظام الديني الإلهي الذي يجب على كل مسلم أن يمارس الحياة على أساسه وألا يستبدل به غيره مهما تكن الظروف والمناسبات من حيث إنه النظام العام الدائم الصالح لكل زمان ولكل مكان.
وحين تذكر الأولى بما حققه العلم من إنجازات والتطور الفكري والحضاري القائم على العلمانية من رقي وازدهار وتقدم ومدنية تكشف الثانية عن حقيقة هذه الحضارة العلمية، وهي وإن سلمت بجدواها واعترفت بما قدمته للإنسانية من ثروات هائلة وخدمات عظيمة غير أنها تؤمن بأنها بفقدانها للجانب الروحي الضروري والمهم لم تستطع أن تحقق الأمن والطمأنينة للبشر الذي يمرغ في أوحال المادية ويزداد مع الأيام قلقًا وشقاء وخوفًا ويأسًا مع ما هو ملحوظ للعيان ومشاهد في أطراف العالم وبخاصة في البلاد الإسلامية من ضروب الفشل في مختلف المجالات الروحية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية.
__________
(1) هشام جعيط. الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي: ص102، 103؛ محمد بريش. الهدى: 13، 1-2 /1986: 30.(5/2871)
ومن ثم جاءت حركة رد الفعل الطبيعية التي حمل عليها استشراء الفساد والجور واختلال التوازن وفقدان الأمل في الغد المرتقب، وقام الدعاة المسلمون بما فرضه عليهم دينهم وناداهم به قرآنهم في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .
وهكذا بدأت الصحوة كما يسميها المسلمون مشرقًا ومغربًا ويسميها خصومها فتنة وثورة وهي في واقع الأمر عنوان على اليقظة بعد السبات وعلى الانتباه بعد الغفلة وعلى الاهتداء إلى الأسس المقومة للأمة والقيم والمبادئ التي يتميز بها الإسلام بعد طول نسيان أو تجاهل بفعل التبعية البغيضة بجميع أشكالها للدول الاستعمارية وسلطان الغزو الفكري المادي على عامة أفراد الأمة.
ولا بدع أن يغيظ انبلاج الصحوة الغرب المتحيز للائكية فيرمي دعاتها والمسلمين عامة بالتخلف والرجعية، فإن الغربيين من مسيحيين وغيرهم لم يفهموا لهذه الحركة معنى ولم يدركوا أبعادها بسبب ما يملأ حسهم الباطني الجماعي من أخيلة وتصورات غير صحيحة عن الدين الإسلامي، وبسبب انزعاجهم أكثر بالتحرر والثقافي الذي يواجهونه في أكثر البلاد التي كانت بالأمس محتلة من طرفهم فكانوا لها سادة وكان أهلوها لهم تبعًا (2) .
وسار الدعاة المجددون لأمر هذا الدين يخوضون غمار معركة الإصلاح ببث الوعي الديني، وظهرت آثار ذلك في مختلف الطبقات الشعبية، ولما استشعر خصومهم تجدد قوتهم واجتماع الناس من حولهم وعمر الشباب المساجد وحلقوا حول المرشدين والأساتذة يفسرون لهم القرآن ويعلمونهم الحكمة ويزكونهم نعتوهم بكل الصفات وضيقوا عليهم وصدوهم كلما استطاعوا عن مباشرة وظيفتهم الدينية الخيرة، ولربما ألحقوا بهم أنواعًا من الأذى والعذاب والتنكيل إخفاتًا لأصواتهم وإرهابًا لهم. وتواصل الحذر وازدادت الخشية من الجماعة الإسلامية وحصل التطرف، فذهب أحد العلمانيين إلى الدعوة إلى إخلاء المساجد لكونها وكر التجمعات الإسلامية ومركز نشر الدعوة، ولكون الدين لا يقتضي بالضرورة التحول إلى المساجد فيقول: إن مسألة الإسلام تستوجب أن يعاد التفكير فيها كليًا خلافًا لما يحاول التاريخ الراهن والمتعصبون الذين تكلمت عنهم إثباته، الإسلام يفترض وجود علاقة شخصية مع الدين، ليس من الضروري دومًا أن يحتشد الناس جماعات في مسجد لإقامة الصلاة، إن الصلاة مسألة شخصية في الإسلام كما في الديانات التوحيدية الأخرى، وكل الداء يأتي من الخلط الذي وقع لأسباب تاريخية بين الاستعمال السياسي للدين والقضاء الشخصي للمتدين (3) .
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 104.
(2) ميشال لالون:17.
(3) حوار مع أركون لنوفال أبسرفاتور 1109. 7 /2 /1986؛ محمد بريش. الهدى: 15 /58.(5/2872)
وسخرت كل الوسائل لمنع مثل هذه الاجتماعات والدروس، وواصل الطرف الثاني عمله بالإمعان في القيام بتظاهراته والاجتماع بالناس في عدة أماكن أخرى، وحصلت الاصطدامات القمعية والدموية وواجهت الصحوة التطورات بما يناسبها وتعددت واختلفت هيآتها ووسمت كلها، بل الإسلام نفسه بالعنف حتى قال كلود ليفي ستراوس رائد الأنتولوجيا البنيوية المضادة للعنصرية والاستعمار في الستينات أنه خائف من الإسلام (1) . وصرح آخر في حوار أجري معه: أن الأحداث الجارية في البلدان الإسلامية والعربية وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط تفرض فكرة أن الإسلام عنيف ويحاولون تفسير ذلك عن طريق العودة إلى الوراء نحو أصول الإسلام، ويحتجون بأن النبي محمدًا نفسه قاد الحروب، واعتمادًا على ذلك يقولون إن الإسلام دين استخدم العنف منذ البداية، وبالتالي فإن المسلمين يعيدون إنتاج موقف قديم يتخذ شكل المثال والقدوة من موقف النبي نفسه (2) .
ونحن لا يعنينا هنا تقديم المواقف أو نقدها ويكفينا أن نشير إلى أن الحرب المقنعة ضد الإسلام مستمرة على كل حال وفي أي وقت عند ضعف المسلمين وهوانهم وتبعيتهم للدول المتحكمة في مصائرهم أو بعد تحررهم وحصولهم على استقلالهم ومحاولتهم التجديد لكيانهم وتحقيق المناعة لجماعاتهم.
الدعوة من أجل تجديد الذات:
إن ما غال المسلمين من فتن وعرض لهم من نكبات، ولحقهم من هوان على الناس وعلى أنفسهم، وما انتشر بينهم من فساد وسوء وشر، كان كله بسبب بعدهم عن دينهم، وإعراضهم عن هديه، واستهتارهم بمقاصده، وتجنبهم للالتزام بأحكامه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3) .
وقد دعت الضرورة المسلمين إلى مراجعة النفس ومحاسبتها ونقدها ومراقبتها وبيان طرق الخلاص والعزة لاستعادة الأمجاد واسترجاع السيادة والريادة والوفاء بأمانة التبليغ للهدي الإسلامي ونشر دين الله في العالمين، فتتم بذلك النعمة على الناس وينتشر الأمن والسلام بينهم وتتحقق لهم السعادة في هذه الدار وفي الدار الآخرة. وإن في هذا ما يغني عن الأخذ بالمذاهب الفكرية والفلسفية والاقتصادية والسياسية من مثل العالمية والقومية والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية. فإن تلك الاتجاهات التي جربها الناس وأقاموا عليها أسس أنظمتهم ومعاملاتهم قد صدع القرآن من قبل بأكمل ما فيها من إيجابيات وصرف عما تضمنته من سلبيات ودعا إلى المنهج الأقوم.
__________
(1) حوار مع أركون من أجل مقاربة نقدية للواقع أجراه هاشم صالح. المستقبل العربي. 101 –7 /1987: 10.
(2) حوار مع أركون من أجل مقاربة نقدية للواقع أجراه هاشم صالح. المستقبل العربي. 101 –7 /1987: 5.
(3) سورة الأنفال: الآية 53.(5/2873)
ولذلك ترى الثلة المؤمنة الموقنة القائمة بالحق والداعية إليه: "تتخذ القرآن منهجًا لها – كما قال البنا – تتلوه وتتدبره، وتقرؤه وتتفحصه، وتنادي به وتعمل له، وتنزل على حكمه، وتوجه أنظار الغافلين عنه من المسلمين وغير المسلمين". وتردد بين الناس فخورة معتزة معلنة: "نحن مسلمون وكفى ومنهاجنا منهاج رسول الله وكفى، وعقيدتنا مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله وكفى"، وقد اعتبر القائمون على هذا الأمر في الشرق الأقصى والشرق الأوسط وفي بلاد المغرب أنهم مهما اختلفت هيآتهم وأشكال عملهم وطرق المعالجة لقضاياهم سواء كانوا من المعتدلين أو من المتطرفين أنهم يحملون أمانة ويبلغون رسالة:
تتمثل في إخلاص الوجه لله والخضوع لإرادته في كل ما أمر به أو نهى عنه.
وفي الممارسة الشاملة للإسلام عبادة وقيادة، دينًا ودولة، روحانية وعملًا، صلاة وجهادًا، مصحفًا وسيفًا، فلا ينفك واحد من الأمرين عن الآخر.
وفي تنبيه الغافلين من الناس إلى ما في الإسلام من قيم وإلى وجوب عودة الإسلام إلى الحياة بعد غيبته الطويلة عنها.
وفي بناء الفرد المسلم والأسرة المسلمة والشعب المسلم والأمة المسلمة بناء يقوم على الاحتكام إلى شريعة الله لا إلى أي حكم سواها.
وفي تجهيز المؤمنين بقوة في الاعتقاد والتصور، وبقوة الخلق والتكوين النفسي، وبقوة التنظيم والبناء الجماعي، وقوة الصمود والتصدي، وقوة التغلب على جميع المعوقات.
وفي التضحية والبذل والجهاد وفي سبيل الحق، فما الوهن الذي أذل المسلمين إلا حب الدنيا وكراهية الموت.
وفي التناصر والتعاون والتكافل والتضامن وتقوية الروابط وتعزيزها بين الأقطار الإسلامية جميعًا وبخاصة العربية منها تمهيدًا للتفكير الجدي العملي في توحيدها وجمع كلمتها راية واحدة وجعلها وإن اختلفت بها المناطق والآفاق دولة متكاملة متلاحمة تعود بها الخلافة الضائعة.
ولو أتيح بلوغ هذه الأهداف الغالية بتربية الأمة وتغيير العرف العام وتزكية النفوس وتطهير الأرواح والقضاء على الأفكار والحلول المستوردة التي لا يقرها الإسلام لتغيرت الأرضية التي يمكن للإسلام أن ينطلق منها قويًّا مجددًا ليتبوأ مرة أخرى مكانته التي أرادها الله له في هذا العالم. وإن هذا كما قال الدكتور القرضاوي لرهين قيام مجتمع إسلامي توجهه عقائد الإسلام، وتحكمه شرائع الإسلام، وتقوده مفاهيم الإسلام، وتسوده أخلاق الإسلام، وتسيطر عليه تقاليد الإسلام، وتسري في كل جنباته روح الإسلام، ويصبغ كل شيء فيه بصبغة الإسلام: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} ٍ (1) . مجتمع عقيدة وفكر، مجتمع دعوة ورسالة، لا بد أن تتمثل في جميع نواحي حياته: روحية ومادية، فكرية وسلوكية، تربوية وثقافية، نفسية واجتماعية، اقتصادية وسياسية (2) .
__________
(1) سورة البقرة: الآية 138.
(2) الحل الإسلامي فريضة وضرورة: ص148.(5/2874)
وهذا الأمر العظيم الجليل الذي هو قوام الأمانة وموضوع الرسالة ليحتاج دون شكل إلى تضافر الجهود وإسهام كل الطاقات الفعالة في المجتمع الإسلامي.
فإن على الحكومة أو الحكومات الإسلامية أن تنهض بجزء كبير من أعبائه لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وعلى الهيئات أن تسهم فيه بفعالية لأنها هي التي تتولى إصدار القوانين للناس فتلتزم فيها مراقبة الله ومراعاة مصالح المسلمين.
وعلى الأغنياء والسراة لما خولهم الله من قدرات على التمويل والإصلاح.
وعلى العلماء والطلبة المسلمين بما يدعون إليه ويلتزمون به فيرفعهم مقامًا عليًا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) .
السيادة والسلطة:
على أساس شمولية الدين الإسلامي للجانبين الروحي والزمني واقتضاء نظامه الجمع ين الدين والسياسة خلافًا لما لحق المجتمع المسيحي في ظل الثورات والأنظمة اللائكية من تصدع سببه الفلسفات المادية والتوترات الاجتماعية والنزعات الطبقية رفض دعاة الاتجاه الإسلامي وأعلام الصحوة في كل بلد عربي مسلم وفي سائر الأقطار الإسلامية الاستجابة للعلمانيين من قادة ومفكرين وساسة في أي شكل ظهروا وعلى أي وجه انقلبوا لافتضاح أمرهم وانكشاف مؤامراتهم ضد الإسلام والمسلمين. وهل العلمنة إلا قضاء على الإسلام كدين ومنهج حياة وتدخل في شؤون المسلمين بما يفسد عليهم عقيدتهم وحياتهم ويجعلهم في ديارهم غرباء لا يقدرون على ممارسة شعائرهم ولا على القيام بأدنى الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظًا على كيانهم وصيانة لجماعتهم لأن في ذلك عند خصومهم تضييقًا للحريات وتدخلًا في الحياة الشخصية ومشاغبة وتعطيلًا لكل مظهر أو سبب من أسباب التطور والتقدم في نظرهم.
__________
(1) سورة فصلت: الآية33.(5/2875)
هذا، ومن المسلم أن لكل جماعة الحق في اختيار من تؤمر عليها وتوكل إليه تصريف شؤونها وتدبير أحوالها. والأمة الإسلامية أو الشعوب الإسلامية من حقها أن تختار ولا يجوز أبدًا أن يفرض عليها من يحكمها لأن حاكم المسلمين – كما كان الخليفة – من أهم واجباته وأقدسها صيانة الدين والعقيدة والاجتهاد في تحقيق المصلحة العامة للأمة أو الجماعة التي يلي أمرها. ولذلك، فإن السلطة عند المسلمين لا تطلب لذاتها وإنما تطلب من أجل أنها الأداة الفعالة في سبيل الدعوة إلى الله ومن أجل الحفاظ على المجتمع الإسلامي سليمًا معافى متكافلًا ناميا متطورًا متقدمًا. وهل يتحقق ذلك مع القوميات أو الوطنيات؟ وهي مدعاة إلى تقسيم الأمة الواحدة إلى طوائف متباغضة متناحرة تحكمها مناهج وضعية أملتها الأهواء، وتفصل بين وحداتها حدود مصطنعة وأجناس متغايرة مفوتة عليها الأخوة في الله والمواطنة الصادقة النابعة من العقيدة المشتركة.
إن المسلمين لا يفرقون بين ملكية وجمهورية إذا كان الحاكم مسلمًا أمينًا تتوفر فيه شروط الإمامة التي نص عليها الفقهاء في كتب السياسة الشرعية كالماوردي في الأحكام السلطانية واختارته الأمة عن رضا وأسلمته مقاليد أمورها. ولكنهم يخلعون حكمه ويرفضونه إن كان ديكتاتوريًّا لأن النظام الإسلامي يقوم على الشورى والبيعة، وتقييد سلطة الحاكم والحق في عزله، والحكومة الإسلامية لا هي ثيوقراطية دينية، كما كانت تدعي الكنيسة أنها تستمد سلطتها من الله، لأنها تستمدها من الجماعة الإسلامية التي بايعتها ولا هي ديمقراطية لأن هذه وإن اتفقت مع الإسلامية في حرصها على تحقيق العدالة والحرية والمساواة، فإنها تختلف عنها من حيث عدم تقييد الحاكمين والمحكومين في تصرفاتهم وأعمالهم وعلاقاتهم بما أنزل الله.
وإنما هي نظام متميز تسوده الشورى لقوله جل وعلا لنبيه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (1) . {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (2) .
وقوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (3) .
ويحفظه تقييد سلطة الحاكم خلافًا لما كان عليه الحكم المطلق الاستبدادي الذي لا حد له ولا قيد عليه والذي كان مهيمنًا في كثير من البلاد قبل الإسلام.
وهكذا بعد أن كانت علاقة الحاكمين والمحكومين تقوم على القوة البحتة أصبح أساسها في ظل الإسلام تحقيق المصلحة العامة لا قوة الحاكمين ولا ضعف المحكومين، وأعطيت الجماعة حق اختيار راعيها ووضعت لسلطة الحاكم حدود لا يتعداها، فإن تجاوزها كان عمله باطلًا وجاز للجماعة عزله. ومبدأ الحكم في الإسلام: الاستخلاف في الأرض لإقامة حكم الله فيها.
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 159.
(2) سورة الشورى: الآية 38.
(3) سورة النساء: الآية83.(5/2876)
ومن ثم كان للحكم الإسلامي القائم في أصوله على الاستقامة ومراقبة الذات والمحاسبة وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ما يحقق الأهداف منه وييسر على المجتمع الإسلامي نيل حقوقه وبلوغ عزته في ظل الإسلام وتعاليمه ونهجه ونظامه.
وللشريعة اعتبار مهم في حياة المسلمين لا يثني عنها انحراف المنحرفين ولا جحود الجاهلين وهي دستورهم الذي يحكم الأمة جميعها فيحمي مصالحها ويضع قواعد المعاملة بين أفرادها وهي النظام الإلهي الذي اختاره الله لها وتمت به النعمة عليها وهي وحي منزل من خالق العباد البصير بعباده لإقامة العدل بينهم لا يرقى إليها ما تواضع الناس عليه من الأحكام لثباتها ودوامها وسموها وكمالها ودرئها ما يغلب على أحكام الناس من نزعات وميول وشهوات وأهواء. وهي لكونها من الدين ولبابه قد فرض الشارع الاحتكام إليها. ومن خرج من هذا الحد يكون ظالمًا وفاسقًا وكافرًا بتصريح القرآن لكونها إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادًا لله. وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وقف أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت. وقد قال ربنا سبحانه: {ولَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ ومَن فِيهِنَّ} (1) .
وهي بحكم أصولها العامة وقواعدها الكلية قد هيأت للعلماء المحققين والفقهاء المبرزين الاجتهاد فيما لا نص فيه بحمل المسائل المستجدة والقضايا المحدثة على نظائرها على وفق ما يقتضيه روح التشريع وسماحة الدين ومقاصد الشريعة وأسرارها، تشهد لذلك هذه الحركة العجيبة، التي نلمسها في كل بلد إسلامي بمجالس الفتوى والمجالس العليا الإسلامية ومعاهد البحوث ومجامع الفقه، وإنها لحركة جد مباركة لأنها لا تخدم المسلمين وحدهم، بل تنير الطريق للفقهاء ولرجال القانون في العالم، وقد اعترف بفضلها المنصفون من قضاة الغرب وعلماء القانون مثل كوهلر الذي لم يتردد أن صدع بقوله: إن الشريعة الإسلامية لتحتوي على أحكام لم يصل إليها القانونيون الغربيون إلا بعد عشرة قرون (2) .
واللقاءات الدراسية التي عقدت بلاهاي في السنوات 1932م، 1937م، 1948م، وبباريس في أسبوع الفقه 1951م توصيات من أهمها: أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها، وإن اختلاف المذاهب الفقهية لينطوي على ثروة من المفاهيم والأصول الحقيقية هي مناط الإعجاب. وبها يتمكن الفقه الإسلامي من أن يستجيب لجميع مطالب الحياة والتوفيق بين حاجاتها، وإن التشريع الإسلامي يعد في طليعة المصادر الصالحة لسد حاجات التشريع الحديث (3) .
__________
(1) سورة المؤمنون: الآية 71.
(2) مجلة القضاء العراقية مارس 1926؛ مجلة البعث الإسلامي م18 عدد10 يونيو 1974م.
(3) أسبوع الفقه بباريس 1951م؛ الزرقا. المدخل الفقهي: 1، 94، 229.(5/2877)
هذه صورة من الحرب المقنعة ضد الإسلام يتهجم فيها المبطلون والجهلة الضالون في القديم والحديث على عقيدة الإسلام ومصادر شريعته وتاريخه. وهي متناسقة بعضها مع بعض، رغم تطور الأزمان واختلاف الظروف، تستهدف أمرًا جللًا هو تغيير العقيدة والتحلل من كل القيود والقيم والمبادئ وإحداث الفوضى وزلزلة الكيان في المجتمع الإسلامي. ولكن المؤمنين لم يعدموا لا ماضيًّا ولا حاضرًا صوتًا مجلجلًا يقوم الله بالحجة ويدفع عن دين الله الباطل ويكشف عن أعمال المفسدين المحاربين: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} (1) .
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة.
__________
(1) سورة الكهف: الآيات 103-106.(5/2878)
الوثائق
تطبيق الشريعة
إعداد
الدكتور صالح بن حميد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المتوحد بالعظمة والجلال المتعالي عن الأشباه والأفعال. أحمده سبحانه وأشركه من علينا بواسع الفضل وجزيل النوال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق والأمر وله الحكم وهو الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله مصطفاه من خلقه، كتب الفلاح لمن اتبعه واحتكم إلى شرعه ففاز في الحال والمآل صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فاتقوا الله أيها المؤمنون فبتقوى الله تزكو الأعمال وتنال الدرجات وارغبوا فيما عنده فبيده الخير وهو على كل شيء قدير. اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتعبوا من دونه أولياء.
أيها المؤمنون:
من حق هذه الأمة أمة الإسلام: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أن تفخر بدينها وتعتز بتشريعها حيث توحدت به الصفوف وأتلفت به القلوب. أنقذها، من مهاوي الرذيلة إلى مشارف الفضيلة ونقلها من الذل والاستعباد والتبعية إلى العزة والكرامة وصحيح الحرية. دين الأمن والأمان وشريعة العدل والرحمة. دين أكمله الله فلن ينقص أبدا ورضيه فلن يسخط عليه أبدًا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .
عباد الله:
شريعة الله هي المنهج الحق الذي يصون الإِنسانية من الزيغ ويجنبها مزالق الشر ونوازع الهوى شفاء الصدور وحياة النفوس ومعين العقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) } .
منبع الشريعة ومصدرها كتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
كتاب الله أساس الدين ومصدر التشريع حجة الله على العالمين حوى أصول الشريعة وقواعدها في عقائدها وأخلاقها وحلالها وحرامها يضيء للأئمة مسالك الاستنباط في معرفة أحاكم الحوادث والمستجدات في كل زمان ومكان.(5/2879)
(فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلاَّ في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها) ، كما قال الإِمام الشافعي رحمه الله، يقول الشاطبي: (الكتاب كل الشريعة وعمدة الملة وينبوع الحكمة وآية الرسالة ونور البصائر والأبصار، لا طريق إلى سواه ولا نجاة إلاَّ لمن استضاء بهداه) . اهـ.
يفتح مغاليق القلوب وتستنير به الأفئدة.
كتاب الله الحكيم فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينبكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم.
أما سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وتقريراته المعزة للقرآن الدالة عليه والمبينة لمجمله والمفصلة لأحكامه، فرضٌ اتباعها وحرام مخالفتها: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} , {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} , {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
أيها المؤمنون:
الإِسلام عقيدة وشريعة. إيمان بالله وتوحيد له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. عبودية تامة وخضوع مطلق ورضى بدين الله وتصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم من غير شك ولا ريب ولا حرج. التزام في المنهج والعمل في التعامل والقضاء والحكم والإِدارة في الأفراد والجماعات.
إن الإِسلام حياة تعبدية تجعل المسلم موصول القلب بربه يبتغي رضوانه في شؤونه كلها.
نظام خلقي يقوم على إشاعة الفضيلة واستئصال الرذيلة. نظام سياسي أساسه إقامة العدل وتثبيت دعائم الحق. نظام اجتماعي نواته الأسرة الصالحة وعماده التكافل بين أبناء المجتمع. دين عمل وإنتاج منهج كامل متكامل لكافة أنماط النشاط البشري على نور من الله ابتغاء مرضاة الله.
من هنا – أمة الإِسلام – فإن هذا الدين بأصوله ومبادئه وفَّى ويفي بحاجات البشرية في كل عصر ومصر، انتشر في أنحاء الدنيا ودخل تحت سلطانه أجناس البشر فوسع بمبادئه وقواعده كل ما امتد إليه نفوذه من أصقاع المعمورة، عالج كافة المشكلات على اختلاف البيئات وما عجز في يوم من الأيام عن أن يقدم لكل سؤال جوابًا ولكل واقعة فتوى ولكل قضية حكمًا. ومدونات الفقه والفتاوى برهان للمتشككين.(5/2880)
وكيف يكون ذلك والشريعة – كما قال الحافظ ابن القيم رحمه الله:
(مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد عدل كلها رحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة) .
لقد كانت هذه الشريعة أساس الحكم والقضاء والفتيا في العالم الإِسلامي كله أكثر من ثلاثة عشر قرنًا انضوى تحت لوائها أعراق شتى وامتزجت بها بيئات متعددة فما ضاقت ذرعًا بجديد ولا قعدت عن الوفاء بمطلوب.
ولماذا نرجع إلى الماضي وبين يدينا ولله الحمد والمنة حجة قائمة وبرهان ظاهر، فهذه بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية قائمة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم محكمة شرع الله قادتها وحكومتها وأهلها ومجتمعها يعيشون في ظلال الشريعة ونور الكتاب والسنة في أمن وطمأنينة وخير ونعمة ملء القلوب الرضى وما يرجى من الله خير وأبقى أدام الله علينا نعمه وزادنا إيمانًا وتوفيقًا ورضى وتسليمًا.
أيها الإخوة في الله:
إن من مقتضيات الإِيمان الإِقرار بحق التشريع لله وحده فالحكم لله وحده: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ، والتولي والإِعراض عن تحكيم شرع الله من مسالك المنافقين والظالمين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50) } . {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} الآية.
أمة الإِسلام:
على الرغم من هذا الوضوح والجلاء إلاَّ أن أعداء الإِسلام أبوا إلاَّ وضع العراقيل وتلفيق التهم واختلاق الشبه حول الشريعة وشمولها وصلاحيتها، بل لقد استطاع الغزو الفكري أن يجعل من بعض المسلمين حتى المثقفين يستحيون أو يشمئزون من ذكر بعض شرائع الإِسلام كالحدود والقصاص والحجاب وكأنهم لا يرون مانعًا أن تكون ديار الإِسلام ميدانًا فسيحًا تنمو فيه الدنايا وسفاسف الأخلاق وموطنًا رحبًا يجد فيه المرجون والمتوحشون فرصًا للاعتداء والاغتيال – بل إنك ترى في بعض من يخوض فيها ويلوك أناسًا لا يعرفون الطريق إلى المساجد ولا يتورعون عن الموبقات والمزالق فتراهم يسرون أو يعلنون أن تحريم الخمر والزنا وقطع دابر اللصوصية والمفسدين تشدد وهمجية. أما سمعوا قول الله في المنافقين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، وقوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
أيها الأخوة في الله:
ليس الإِيمان بالتحلي ولا بالتمني وليس الإِسلام مجرد الانتساب الاسمي ولكنه ما استيقن والقلب وصدقه العمل.
ومن هنا فحين يصدق المسلمون ويخلصون لدينهم فيجعلون كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أساس الحكم وتبنى عليهما مناهج التربية والتوجيه حينئذٍ يتحقق الوعد ويتأكد التمكين وينزل النصر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } .
نفعني الله وإياكم بهدى كتابه وسنَّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
الدكتور صالح بن حميد.(5/2881)
مناقشة البحُوث
تطبيق الشريعة الإسلامية
الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سيدي الرئيس، السادة العلماء، الإخوة الزملاء.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا يخفاكم ما تعيشه أمتنا الإِسلامية في وقتنا الحاضر، من صحوة واسعة يشارك فيها سائر طبقات المجتمع الإِسلامي جميعهم، تتوحد اتجاهاتهم ومطالباتهم إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية المطهرة بينهم في كافة شؤون الحياة دون استثناء، كانت هذه الطموحات والتطلعات في الماضي تصطدم بقوة المستعمرين الغاشمين، وتلك مرحلة تاريخية، مهما اشتدت وطأتها، فقد عرفت الأمة عدوها، وما كان متوقعًا من مستعمر أجنبي غير هذا، ويهون ذلك الماضي أمام واقع مؤلم، تسدد فيه الطعنات نحو الشريعة المطهرة، ويطالب بإبعادها ويحاربها على كل منبر وميدان فئة من أبنائها اتخذت العلمانية شعارًا، والجحود لمبادئ الدين دفاعًا.
وظلم ذوي القربى أشد غضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
إن هذا الموضوع هو موضوع الساعة، وهاجس الأمة الذي يعيش في نفسها وفي بالها، ولأهمية هذا البحث وضع هذا الموضوع على جدول أعمال مجمعكم الفقهي الموقر. الأعمال المقدمة في هذا الموضوع ثلاثة:
الأول: بحث ضافٍ بعنوان: "مواجهة بين الشريعة والعلمنة".
الثاني: خطبة رصدها المجمع ألقاها إمام وخطيب المسجد الحرام.
الورقة الثالثة: بعنوان تطبيق الشريعة الإِسلامية "لعبد الوهاب أبو سليمان" وهنا استعرض في خطوط عريضة الموضوعات الرئيسية للبحث الأول، بعنوان "المواجهة بين الشريعة والعلمنة" من إعداد فضيلة العلامة الأستاذ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإِسلامي: جاء هذا البحث في تسع وعشرين صفحة، وهو بحث ضاف تناول جوانب موضوعية عديدة، ذات علاقة وثيقة بالموضوع كلَّه، وبجزئيات كل طرف فيه، ولا أعتقد أن تقديم هذا الموضوع بعرض خطوطه العريضة كافٍ لتقديم صورة كاملة عنه، أو إعطاء انطباع صادق عما حواه من أفكار ومبادئ وقيم ومناقشات علمية هادفة في تسلسل منطقي وعبارة جزلة، ولكنه الالتزام بامتثال الأمر، وكل هذا لا يغني عن قراءته وتأمله.(5/2882)
اشتمل الموضوعُ البحث عن القضايا الرئيسية التالية:
أولًا: بيان طبيعة الإسلام وماهيته، وفي هذا يقول فضيلة الأستاذ الدكتور الباحث: فالإسلام ليس دين عبادة فحسب، ولكنه عقيدة وشريعة وسلوك على أساسها جميعًا بنى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الفرد المسلم والجماعة المسلمة.
هذه العبارات هي القضية الحقيقية التي يدور حولها – لإثباتها – البحث بالأدلة والبراهين وبالمقولات، ثم يوضح أن المؤمنين يعلنون ولاءهم بصدق، وأنهم يتميزون عن الجاحدين بالولاء التام والإذعان الصادق لشريعة الله، وأن شعارهم ما وصفه القرآن عن سلفهم الصالح: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
ثانيًا: اقتباس الدولة العثمانية القوانين الأوروبية وأسباب هذا ونتائجه.
ثالثًا: تقويم الدارسين الأوروبيين لعدول الدولة العثمانية إلى القوانين الغربية.
ولا أرى بأسًا من قراءة جزء من هذه الاقتباسات، فقط للتذكير ببعض هذه المقولات، يستشهد فضيلة الأستاذ الدكتور الحبيب بمقولة الأستاذ الدكتور انكلهارد الدبلوماسي الغربي المعاصر في كتابه (تاريخ إصلاحات الدولة العثمانية) ، أن الحل الذي اختاره العلمانيون المتآمرون مع المستعمرين للقضاء على الإسلام في البلاد الإِسلامية هو التخلص التدريجي من الحدود والقيود الدينية للاحتزار من الحالات الموجبة لاشمئزاز الشعوب الإسلامية، ويحكم الغربيون أنفسهم على هذه التجربة التركية، بكل هزء وسخرية، فيقول رئيس معهد القانون في جامعة لندن أندرسون: "إن اقتباس تركيا للقانون السويسري وتطبيقه في بلادها أشبه ما يكون بارتداء القزم ثوبًا فضفاضًا"، وتعبر عن انطباعات الغربيين (مس: هنشف كلف) في قولها: "اقتباس الدولة العثمانية للقانون الفرنسي بدافع من الرغبة في رفع معنوياتها وهيبتها في عين الدول الغربية، التي نظرت إلى قانون العقوبات والقصاص، وقطع اليد والرجم، بكثير من الدهشة والاشمئزاز". ويعلق الأستاذ الدكتور الحبيب بن الخوجة على هذا بقوله: إن هذا لم يصرف كثيرًا من المثقفين ممن استولى الغزو الفكري على عقولهم وسيطر على ألبابهم عن طلب العدول عن هذا الانحراف الذي ضاعت به مقومات الأمة، ورابطة من روابط وحدتها وأساس ذاتي لشخصيتها.(5/2883)
رابعًا: في الموضوع الرابع أو العنصر الرابع، يعلق الأستاذ الدكتور الحبيب على هذا، ويقول إن العلمانية لم يأخذوا درسًا من هذه الموافقة.
خامسًا: رصد فضيلته شُبَهَ العلمانيين القديمة والحديثة، وتتبعها بالتعقيب والرد عليها وإبطالها في تحليل وتفصيل، ووضح الآثار السيئة لكل دعوة ومقابلها من الحقائق في الشريعة الإِسلامية وفوائدها على المجتمع الإسلامي.
سادسًا: بعد الانتهاء من عرض ودراسة الموضوعات السابقة، بين أن الهدف من هذا، ومن هذه الدراسة والعرض، هو كشف المؤامرة المقنعة المستمرة ضد الإسلام من قبل هؤلاء العلمانيين.
سابعًا: وفي القسم الثاني من البحث يعدد شُبَهَ واتهامات المستشرقين ويجيب على كل واحدة واحدة بالنقض والإبطال شرحًا واستدلالًا.
ثامنًا: وتحت عنوان جانبي "العلمنة" يعرفها، ويكشف نوايا أصحابها، ومنهجهم وفلسفتهم، كما يكشف جوانب اللائكية قرينتها ومماثلتها، ويذكر ما يجب اتخاذه نحو هذه الدعوات المنتشرة، التي أفسح لها المجال كتابة وإذاعة وتلفزة وصحافة، ثم يقوم طالبًا تقويم أعمال هؤلاء، وتوضيح نتائج وآثار دعوتهم السيئة على المجتمع والأجيال.
تاسعًا: ذكر نقاط مشروع ممارسة العلمنة الإسلامية، وقد عرض نقاط هذا المشروع الثماني الرئيسية، وذكر مواجهته التي حدثت بينه وبين بعض أنصارها والداعين لها، وأن هؤلاء لا يكتمون تخوفهم من الصحوة الإسلامية.
عاشرًا: وتحت عنوان جانبي "الصحوة الإسلامية" قام الأستاذ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة، بمقارنة علمية بينت الاتجاه الإسلامي، والاتجاه الإلحادي، كما وضح أسباب الصحوة الإسلامية، وبين أن خصومها يسمونها تارة فتنة وتارة ثورة.
الحادي عشر: وتحت عنوان "الدعوة إلى تحديد الذات" يدعو المسلمين إلى وجوب مراجعة النفس ومحاسبتها، ونقدها نقدًا ذاتيًّا ومراقبتها، ثم يبين طرق الخلاص والعزة، وأن ما احتواه الإسلام من معانٍ ومبادئ يغني عن الأخذ بالمذاهب الفكرية أيًّا كان نوعها، ثم تناول بالتفصيل نتائج الممارسة الشاملة للإسلام، وأن على كل فرد وهيئة وحكومة، وعالم وطالب علم، مسؤولية تجاه التبشير بالإسلام، والإعلان عن خصائصه، والمطالبة بتطبيقه، كل في موقعه ومن مكانه.(5/2884)
الثاني عشر: وتحت عنوان " السيادة والسلطة" بين أسباب رفض دعاة الاتجاه الإِسلامي وأعلام الصحوة الإِسلامية استجابة العلمانيين، كما وضح حق الأمة في اختيار من يحكمها، لأن من أهم واجباته صيانة الدين والعقيدة، والاجتهاد في تحقيق المصلحة العامة للأمة، ولا يمكن أن يتحقق هذا مع الدعوة للقوميات والوطنيات، ثم ينتهي فضيلته أخيرًا إلى أن الحرب المستعرة تحتاج إلى صمود وإلى وقوف أمام هذه الحرب المقنعة ضد الإسلام، التي يتهجم فيها المبطلون والجهلة الضالون في القديم والحديث، على عقيدة الإِسلام ومصادر شريعته وتاريخه، وينتهي إلى القول بأن هذه دعوة متناسقة بعضها مع بعض، في القديم والحديث، رغم تطور الأزمان واختلاف الظروف تستهدف أمرًا جليلًا، هو تغيير العقيدة والتحلل من كل القيود والقيم والمبادئ، وإحداث الفوضى وزلزلة الكيان في المجتمع الإسلامي، ولكن المؤمنين لم يعدموا – لا ماضيًا ولا حاضرًا – صوتًا مجلجلًا يقوم لله بالحجة ويدفع عن دين الله الباطل، ويكشف عن أعمال المفسدين المخربين، هذه خلاصة مقتضبة وعرض سريع لما تضمنه هذا البحث الضافي.
أنتقلُ بعد هذا لعرض خطبة إمام المسجد الحرام، والتي في مفهومها ومضمونها وفحواها، تستثير مشاعر الأمة الإِسلامية لإنقاذ مجتمعها من مهاوي الرذيلة، وتطالب وتحاول ما بوسعها الطلب والمحاولة بالعودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، فدين الإسلام هو دين الأمن والأمان، وشريعة العدل والرحمة، ثم ذكر خصائص الشريعة الإسلامية، وما حواه كتابها من تفصيل ومن أحكام تضمن لهم العزة والسعادة.
أما الورقة الثالثة: فإن موضوعها تحدث أولًا عن ما فعله المستعمر من إقصاء الشريعة الإِسلامية عن مجال التطبيق، وكانت كما يقول: وكان اختياره للتشريع الإِسلامي كما نقول في المثل (ضربة معلم) ، فقد أحكم المستعمرون الحاقدون المؤامرة ابتداء بإلغاء العمل بالشريعة، وإلغاء الشريعة تعاملًا وقضاء حقق لهم أكثر مما كان يدور بخلدهم، تلك هي البداية التي أوصلتهم إلى أبعد من الهدف والغاية وحينما أقصى الشريعة عن العمل وعن المجتمع، فإنه لم يترك الأمة فراغًا، بل أحل محلها مبادئه الروحية، وتشريعاته الوضعية، وسلوكياته وقوانينه، حتى لا تنتبه إلى المؤامرة وحتى لا تشعر بالفراغ، وخَلصَ الحديث إلى أن الدرس الذي نعيه من ذلك الفصل التاريخي هو ثلاث أمور:
أولًا: إقصاء العمل بالشريعة تعاملًا وقضاء في المجتمعات الإِسلامية هو البداية التي تهاوت بعدها عقده، وتحطمت قيمه.
ثانيًا: إيجاد فئة من المثقفين متحمسة لقيم المستعمرين وقوانينهم، تتحدث بمنطقهم وتجادل بلسانهم.
ثالثًا: بث الشُّبه والشكوك بين المثقفين المسلمين، لزعزعة إيمانهم بصلاحية الشريعة وقدرتها على مواكبة الحضارة الحديثة.
وانطلاقًا من هذا الدرس فإن هذه الورقة تقدم مقترحات للبداية الصحيحة، فاقترحت العمل في ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: إصلاح التعليم الديني في معاهده ومؤسساته، والخروج به من أسر الطرق التلقينية، وحشد المعلومات التي تعتمد على الكم والحفظ والترديد دون وعي.(5/2885)
ولا يتحقق الإصلاح في هذا المجال إلا بتحسس الدارسين للمعاني والحكم لتعاليم الشريعة، وتنمية ملكات الطلاب، وإثارة مواهبهم.
العمل في الاتجاه الثاني: هو الاعتراف والقناعة الكاملة بأن الفقه الإِسلامي نظام قانوني عظيم، وثروة فكرية ثرّة، ولكن تحتاج إلى صقل وحسن إخراج وفهرسة، ليسهل تناوله للمثقفين وللمتعلمين.
ثالثًا: وثالثة الأثافي لإِحكام خطة تطبيق الشريعة بين الشعوب الإِسلامية عن قناعة تامة، وفهم كامل، يكون بالقيام بدراسة علمية جادة لإزالة الشُّبه والشكوك في صحته وفاعليته، ومواكبته للتقدم الحضاري في العصر الحديث.
أيها السادة: تعليقًا على هذه الأوراق، كانت الآمال معلقة في تكوين هيئات متخصصة، تمتلك الإمكانيات المادية والطاقات الفكرية، لمواجهة تلك المخططات بتأنٍ وعقلانية، وعلى نفس المستوى من الإحكام كالذي فعله المستعمرون إن لم يكن أحكم وأضبط.
وتشاء إرادة المولى عزَّ وجلّ الذي تكفل بحفظ هذا الدين، وإظهاره على الدين كله، أن أصبحت الآمال أعمالًا بارزة، ومؤسسات شامخة، ومجامع فقهية وهيئات علمية هنا وهناك بتمويل مادي وتعضيد معنوي من الدول الإسلامية، صدقت وعدها ليتحقق التخطيط والتنفيذ، وهكذا تهيأت أسباب العمل الناجح.
والمجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي أنجز في السنوات القليلة الماضية، الأبحاث والدراسات للموضوعات الفقهية الملحة، وخطط لمشروعات علمية فقهية ما يعد إنجازًا في فترة قياسية.
ومجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، وقد اضطلع بهذه الأمانة الكبيرة وأثبت قدرته في هذا الميدان، بما تحقق على أيدي المسؤولين والأكفاء فيه، قادرة بمشيئة الله ثم بكفاءة نخبة الفقهاء المخلصين، أن يسد الفراغ القانوني في العالم الإِسلامي، بتأليف مدونة فقهية كاملة، في المعاملات والأحوال الشخصية والجنايات والمحاكمات، تلبي حاجة العصر، وتواكب التقدم الحضاري في تخطيط سليم، ومسار شرعي مستقيم، يسجل به إنجازًا تاريخيًّا على مستوى العالم الإِسلامي، كالذي تحقق بظهور مجلة الأحكام العدلية العثمانية، يجد فيه العالم الإِسلامي – حكومات وشعوبًا – بغيتهم، تقوم به الحجة على عامتهم وخاصتهم، فتقطع به اتهامات المبغضين، وتدحض به تبريرات المستسلمين المنهزمين.
ومما يعزز هذا المشروع ويعضده، أن يخصص جانب من نشاط هذا المجتمع المبارك، لتجميع كافة دراسات المستشرقين والقانونيين والباحثين في الفقه الإِسلامي، لدراستها وفحصها فحصًا علميًّا دقيقًا، للإفادة من نقدها، في سبيل إيجاد مدونة فقهية كاملة، ونقض ما يتخللها من نقائض ونقائص قد أُسيء فيها فهم الشريعة قصدًا أو بغير قصد، بمنطق واعتدال.
إن تعبئة الطاقات البشرية، والإمكانات المادية لهذين المشروعين المتكاملين، في المرحلة الجديدة القادمة، تعد خدمة جليلة في سبيل مساعدة الدول الإِسلامية، للحكم بما أنزل الله، وتطبيق الشريعة بصورة كاملة في جميع الجوانب التشريعية.
إذا تحقق هذا – بمشيئة الله – بالخطى والخطوات المطلوبة على مستوى العصر، فكرًا وتنظيمًا، فسيكون علامة بارزة في تاريخ هذا المجمع، وأمجاد هذا الجيل من الفقهاء والمفكرين، والدول الإِسلامية المعاصرة تحمده لهم الأجيال الحاضرة والقادمة.
وإن أمانة المجتمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، بما هيأ الله لها من رئاسة وأمانة مخلصة يساندهم، ويقوي من أزرهم الفقهاء والمفكرون ورؤساء الدول الإِسلامية، جديرة بإنجاز هذه المهمات، وتحقيق الطموحات والتطلعات في سبيل إنجاز هدف سامٍ، وغاية نبيلة، وذلك هو بذل كل جهد من شأنه أن يساعد على تطبيق الشريعة لتعود للمجتمعات الإِسلامية فضائلها وتسترد بالاحتكام إليها عزتها وكرامتها، والله الموفق، وهو الهادي إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/2886)
الدكتور محمد عطا السيد:
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلَِّ على محمد عبدك ورسولك.
كم كنت أود يا سيادة الرئيس أن لو أرسل هذا الموضوع مسبقًا عندما أعلنت المواضيع التي ستناقش في هذا المجمع، ولكنا أعددنا له عدة كبيرة، وما كتبت أنا شخصيًّا وما ركزت إلا على هذا الموضوع، ولكن على كل حال أحمد الله حمدًا كثيرًا أن أثير هذا الموضوع الآن، وجزى الله خيرًا كثيرًا من اقترحه ومن أدرجه للمناقشة، وأحب أن أذكر نفسي يا سيادة الرئيس وكل عضو من أعضاء هذا المجمع أن هذا يكاد يكون أهم موضوع أثير لهذا المجمع للنقاش، منذ أن بدأنا إلى يومنا هذا، ولذلك أذكر نفسي وأذكر كل عضو من أعضاء هذا المجمع، أن يولي هذا الموضوع كل أهمية، لأنه موضوع مصيري، هو موضوع أساسي وموضوع مستقبلي لنا مع الله تعالى، ولذلك أرجو أن يولى هذا الموضوع كل عناية وكل اهتمام من كل أعضاء المجمع وأن يخرجوا فيه بقرار واضح شافٍ كافٍ، للشعوب الإِسلامية ولحكام المسلمين فيما ينبغي العمل فيه في هذه المسألة، فجميع القرارات التي نناقشها الاقتصادية وتحديد النسل، وموضوع الجنين وما إلى ذلك، كل هذه الموضوعات تأتي تبعًا لهذا الأمر، ولذلك ما أراه إلا كالبند الأساسي في أي دستور، موضوع تطبيق الشريعة الإِسلامية هو البند الإساسي، ثم تأتي كل هذه المواضيع التي ناقشناها تبعًا لهذا الموضوع، ولذلك – يعني لا أملك – يعني كل لغة أستطيع أن أقولها في تأكيد أهمية هذا الموضوع وإيلائه كل أهمية وكل اهتمام من جانبنا – ونحن الآن – أنا الآن أمثل دولة تعاني معاناة شديدة، وتجاهد جهادًا مستمرًا في هذه المسألة، طائفة من المؤمنين وهبوا أنفسهم لله تعالى، يريدون إقرار شرع الله تعالى في دولتنا، ونجد مقاومة شديدة ومقاومة عنيفة من داخل بلادنا نفسها، ومن الخارج، وحربًا لا هوادة فيها في هذه المسألة، ولذلك أرجو أن نولي هذا الموضوع عناية كبيرة، واهتمامًا كبيرًا، ونصدر فيه قرارًا شافيًا كافيًا في هذه المسألة، هنالك مسائل: ليس الموضوع أن أي عضو من أعضاء هذا المجمع يناقش أننا نطبق الشريعة الإسلامية أو لا نطبق، وهذه المسألة من بلايانا الكبيرة في يومنا الحاضر، وأكبر مسألة بلينا بها أننا نعتقد في الله تعالى أنه هو المشرع الحكيم وأنه هو الخالق البارئ، وهو الحكيم العليم، ومع ذلك لا نطبق شريعته في بلادنا، أو على الأقل في كثير من بلاد المسلمين، ولذلك أرى أن هنالك مواضيع كثيرة يجب أن نناقشها، وهي مثلًا موضوع تطبيق الشريعة على غير المسلمين في البلاد الإِسلامية، هذا الموضوع الآن يثار في السودان إثارة عنيفة لمواجهة تطبيق الشريعة، جزء من السودان عدد كبير، أو نسبة معينة من المواطنين غير مسلمين، فهل نطبق عليهم الشريعة الإِسلامية أم لا؟ وأنا كما أعلم أن المذاهب الأربعة مجمعة على أن تطبيق حدود الشريعة الإِسلامية وتفصيلات الشريعة الإِسلامية كالقوانين الجنائية وما إلى ذلك، يجب أن تطبق على كل مواطن في البلاد الإِسلامية بغير استثناء، هذا ما أعلمه، ولذلك أرجو من المجمع أيضًا أن يبين في هذه التفصيلات بيانًا كافيًا شافيًا والله سبحانه وتعالى كما تعلمون، لا شك، يعني الآيات كثيرة وآيات محكمة. {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} , {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، ولذلك أرى يا سيدي الرئيس – هذه الكلمات التي قلتها على عجالة وعلى غير استعداد – أرى وأذكر نفسي والأعضاء أن يولوا هذا الموضوع غاية الأهمية، وأن يصدروا فيه قرارًا واضحًا شافيًا يبين لحكام المسلمين الذين لا يطبقون الشريعة الإِسلامية، وكذلك هذا قرار ينتظره كثير من شعوبنا الإِسلامية، ليسمعوا فيه رأي هذا المجمع. والسلام عليكم.(5/2887)
الدكتور أحمد محمد جمال:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
أرجو أن يعذرني أصحاب الفضيلة، الذين قدموا الأبحاث الثلاثة تحت عنوان يغاير المضمون، العنوان هو (تطبيق الشريعة الإِسلامية) ، تصورت أن المضمون هو أن يطالب المجمع بتطبيق الشريعة الإِسلامية، يطالب الحكام وولاة الأمر، ويدلل على ذلك بالقرآن والسنة، فإذا بالموضوعات الثلاثة، تخلو من هذه الدعوة وهذا الطلب وهذا الوجوب، وإذا بها تبحث أو تطلب أن تقنن الشريعة الإِسلامية، يعني البحث الثالث الذي قدمه سعادة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان يطالب فيه تقريبًا بتقنين الشريعة، بتوضيحها، بإثبات قواعدها للشعوب الإسلامية، لكن التصور الأول كما قلت: إنه المطلوب هو تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد العربية والإِسلامية، لا بد أن يتضمن البحث المقدم للمجمع وجوب التطبيق قرآنًا وسنة، والاستدلال بالآيات القرآنية الواردة في ذلك، والأحاديث النبوية الواردة في ذلك، وأن تذكر معارضات الذين عارضوا في تطبيق الشريعة الإِسلامية في مصر، في السودان، في باكستان، الآن هناك نزاع وصراع كبير في مصر وفي السودان وفي باكستان، حيث بدأت الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية في مصر، فقابلها العلمانيون بكتب ومؤلفات ومقالات، وانعقدت ندوات في مصر بين العلمانيين وبين الشرعيين، وكما ذكر الأستاذ عطا، في السودان الآن بدأ بتطبيق الشريعة أجزاء منها في عهد النميري، ثم ألغيت بما سمي قوانين سبتمبر، والآن يلقى المسلمون في السودان أو دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان مقاومة عنيفة من الوثنيين أو غير المسلمين، فأنا ما أتصور أن الأبحاث التي قدمت تخلو من الدعوة إلى إقامة الشريعة الإسلامية، الدعوة كما أوضحها الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان – هي دعوة إلى تقنين الشريعة الإِسلامية، إلى تقعيد قواعدها، لكن نحن هنا فهمنا أن المطلوب أو المنتظر بحثه هو دعوة ولاة الأمر في المجتمعات الإِسلامية إلى ضرورة تطبيق الشريعة الإِسلامية، ويجب ألا ننتظر أن تطبق الشريعة الإسلامية على الشعوب، عن طريق الكتب والمؤلفات والمحاضرات والندوات والمجامع، إذا لم يطبق الرأس الشريعة الإِسلامية، لا ننتظر من الأعضاء تطبيق الشريعة الإِسلامية، فإذا كان للمجمع عمل منتظر – كا يرجو الأستاذ عطا في كلمته – إذا كان للمجمع عطاء منتظر، فهو الدعوة الصريحة لحكام المسلمين بتطبيق الشريعة الإِسلامية، والاستدلال على ذلك بالآيات القرآنية التي جاءت في سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فالله عزَّ وجلّ هنا جمع الكفر والظلم والفسق على من لم يحكم بشريعته. وهناك آيات أخرى تعلمونها أيضًا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، إلى آخر آيات كثيرة لا نحصيها في هذا التعليق الوجيز وأحاديث أخرى أيضًا وآراء للعلماء السابقين واللاحقين.(5/2888)
الرئيس:
هذه ما فيها آراء يا شيخ.
الدكتور أحمد محمد جمال:
لا، فيه آراء، أمر …
الرئيس:
أقول يعني معلومة من الضرورة بالإسلام.
الدكتور أحمد محمد جمال:
يا سيدي العزيز، لكن هناك معارضات أيضًا وهناك من كبار المفسرين القدامى، يفسرون هذه الآيات على أهل الكتاب، فلذلك أقول آراء معناه اتباع لما جاء في القرآن رأي، ومخالفة لما جاء في القرآن رأي، الإمام الطبري يقول: إن هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب أي لا تطبق على المسلمين، وأنا رددت عليه في كتابي "القرآن أحكمت آياته". فهو رأيي طبعًا، أنا أرى أن تطبق الشريعة، غيري يرى ألا تطبق لأنها لا تصلح لهذا الزمن، فرأيي لا بد من رأي عالم يؤيد وعالم يعارض، وهذا الإِمام الطبري يقول: إن هذه الآيات التي في سورة المائدة، إنما هي خطاب لأهل الكتاب، ماذا تقول في هذا؟ إذن فلا تؤاخذني فيما قلت.
الرئيس:
لا ما في مؤاخذة.
الدكتور أحمد محمد جمال:
فأرجوكم أنا إنما أردت أن أقول: إن الأبحاث التي قدمت مع – الأسف الشديد – لا تدعو إلى تطبيق الشريعة، إنما تدعو إلى تقنينها وتقعيدها. فأضيف صوتي إلى صوت الأستاذ عطا السيد، بأن هذه القضية قائمة وظاهرة ومحل نزاع وصراع شديدين في المجتمعات الإِسلامية، فلا بد من إعطاء المجمع حكمًا فيها ودعوة إلى ولاة الأمر، وأرجو الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.(5/2889)
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أشكر لأخي الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عرضه الدقيق الوجيز، وهو دقيق لأنه تناول العناصر وأحاط بها، وهو وجيز لأن الوقت لا يسمح بأكثر من هذا، وأشكر الأستاذ عطا السيد تأكيده على هذا الموضوع، الذي يقتضي منا موقفًا عمليًّا في هذا المجتمع الذي نعيشه، وفي هذه الفترة من حياتنا كأمة إسلامية، وأشكر للأستاذ أحمد جمال على هذه الملاحظات الطيبة، ولكني أدعوه قبل إصدار حكمه على الدراسات أن يقرأها، وهي كما ترون لم تصلنا إلاَّ الآن، وما كنا نتصور أننا سنتحدث عن هذا الموضوع الليلة، كان البرنامج أنه سيعرض بعد غد أو على الأكثر غدًا، فأنا أريد أن أطمئن أستاذنا أحمد جمال، إلى أن القضايا التي أشار إليها جميعها قد بحثناها وتعرضنا لها، وهي موجودة، ذكرنا المراحل التي مرت بها الأمة الإِسلامية، واحتكامها إلى كتاب الله وسنة رسوله، والتزامها بشريعتها، حين كانت الأمة الإِسلامية غير ممزقة بين عقيدة تؤمن بها وشريعة تتحلل منها، ثم رأينا أن نشير إلى التغير الجذري الذي وقع تدريجيًّا في مجتمعاتنا الإِسلامية، بسبب التدخل الأجنبي الذي حكم العالم الإِسلامي، وركز للقوانين الوضعية وجودها، حتى أصبح كل الناس منصرفين عن الشريعة الإِسلامية، ومحتكمين إلى هذه القوانين الوضعية، إلاَّ في مسائل معدودة، ثم ذكرنا هذه الحملة الشنيعة التي نجدها في بيوتنا، في دورنا، في أوطاننا، في كل رقعة من أراضي العالم الإِسلامي، ونجدها في أوروبا وفي أمريكا، وهي متظاهرة مع بعضها، تريد أن تقضي نهائيًّا على الفكر الإِسلامي وعلى التشريع الإِسلامي، على التشريع الإِسلامي في الدولة، وعلى التشريع الإِسلامي في القضايا العامة المدنية والجزائية والأحوال الشخصية وما إليها، هذه الحركة المدبرة كانت تعتمد آراء بعض المستشرقين مرة، وهم يجهلون الفقه الإِسلامي، وتعتمد السياسة التوجيهية الاستعمارية في البلاد الإِسلامية، والتي تدعو إلى التخلص من هذه الأشياء التي تريد باسم الدين أن تحكم كل شيء، وأقام العلمانيون منهجهم على التذكير بالفصل بين الدين والدولة، ويقولون: إن المسيحية تخلصت من هذه الأشياء، وأصبحت تكل إلى الناس ما يعنيهم، وتكل إلى اللاهوت ما يتصل به من عبادة فقط، ولذلك ينبغي أن نكون أحرارًا في حياتنا العملية، لا نخضع لما يأتينا من فوق، فوقع الردّ على كل هذه الاتهامات، وعلى كل هذه الاتجاهات، ووقع بيان خطرها على الإسلام وعلى المجتمع الإِسلامي، والرد على من يتهم الشريعة الإِسلامية بالجمود، وعلى من يتهمها بعدم مسايرة العصر ومواكبة المراحل الحضارية التي نعيشها، فالإطار الذي بحث فيه الموضوع – هو كما تفضلتم – دعوة صريحة إلى تطبيق الشريعة، ونريد من هذا أن ننتهي إلى قرار في الالتزام بأحكام الشريعة، كلنا يعلم بأن البلاد الإِسلامية المتعددة، بعضها يجعل في دستوره، القول بأن الحكم في هذه البلاد يستمد أصوله من الشريعة الإِسلامية، والآخر يقول: نحن نُحَكِّم الشريعة الإِسلامية، لكن في الواقع العملي لا تحكيم ولا استمداد ولا التفات إلى الشريعة الإِسلامية ولا إلى أصولها، فكيف الطريق إلى معالجة هذا؟ أنا أعتقد أن هناك مراحل ومشاكل عديدة، من أولها حالة الفكر عند المسلمين، حالة الفكر في المجتمعات الإِسلامية، الفكر عند الشباب اليوم، الشباب الذي انتزع منا، الذي وقع التغلب عليه بألوان الدعاية، بالجامعات الغربية، بالاتجاهات الفكرية الهدامة، في الحركات الهدامة التي كانت في الماضي هي أقل شرًّا من الحركات الهدامة الموجودة في عصرنا الحاضر. هذا يدعو إلى معالجة الوضع وإلى التنبيه على الأخطاء، لنرد شبابنا إلينا ومجتمعاتنا إلينا، ثم بعد ذلك نوصيهم بالطريق الذي ينبغي أن نسلكه، لتحقيق تطبيق هذه الشريعة، الذي ندعو إليه ونقرره كمجمع، هذه كلمة مختصرة ولعلكم سيدي تستطيعون بوقوفكم على البحث أن تجدوا بعض ما يتطلبه الوضع من عناية بمشاكل معينة. وشكرًا.(5/2890)
الشيخ علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرًا سيدي الرئيس. أعتقد أن المتحدثين قبلي نابوا عن قلوبنا جميعًا، وتحدثوا عن شوقنا جميعًا لغد القرآن الحاكم في كل وجودنا الإِسلامي، والموضوع مهم وحبذا لو كنا أخبرنا به من قبل، إذن لصرفنا له كل طاقاتنا وهو أهل لذلك، الموضوع مهم في جوانب كثيرة. هناك موضوع على الصعيد النظري نتحدث فيه عن وضع الأمة الإِسلامية الطبيعي الذي يريده القرآن وخصائص هذه الأمة.
وهناك موضوع آخر، وهو دراسة الوضع القائم اليوم في عالمنا الإِسلامي، ومقارنة هذا الوضع بالصورة الإِسلامية الأصيلة، موضوع دراسة الشبهات التي تطرح أمام تطبيق الشريعة الإِسلامية، وادعاء أنها غير قابلة للتطبيق، وأنها إذا طبقت لا تفيد، وقد صرح بذلك بعض من ينتسبون إلى الإسلام كذبًا وزورًا.
ثم بعد ذلك هناك موضوع وضع الخطوات العملية الواقعية الصحيحة للسير إلى هذا الغد الأمثل، من مسألة تقديم الشريعة الإِسلامية وعرضها بشكل طبيعي وقانوني قابل للتطبيق، ومنها مسألة التخطيط لتطبيق نظام اقتصادي يتناسب مع الإِسلام، منها مسألة التخطيط لتطبيق النظام الأخلاقي الإِسلامي، هذه أمور تحتاج إلى دراسة يا سيدي الرئيس.
وأصل إلى النقطة المهمة: أنا أقترح على ضوء ما قلته من هذه الأمور، وعلى ضوء ما قاله إخوتي وسادتي أقترح، أن نؤجِّل هذا الموضوع إلى العام الآتي لنكتب فيه ويطرح بشكل علمي دقيق، أعلم أننا نحتاج إلى تطبيق الشريعة غدًا، اليوم، الآن. ولكن أعلم أن الأمر كبير يحتاج منا إلى مزيد من الاهتمام، وتخطيط دقيق وقرار حكيم مفيد وليكن مستمرًّا معنا في كل مجمع وشكرًا.(5/2891)
الأمين العام:
اسمحوا لي، أريد أن أتدخل، لأبين سبب تحديد أو اقتراح هذا الموضوع الذي وقع إقراره بعد الجلسة الافتتاحية، والذي لم يكن لكم حضرات الإخوان سابق علم به، لماذا؟ كانت الموضوعات كما وصلتكم في المرة الأولى، تشتمل على قضية مهمة جدًّا هي قضية " الأسواق المالية " وكنا نظن أننا نستطيع أن نعقد الندوة الممهدة لدراسة الأسواق المالية، حتى تكونَ النتائج واضحة كما فعلنا بالنسبة لندوة " سندات المقارضة " التي أفدنا منها، حين اجتمعنا في الدورة السابقة، فلما تعطل هذا الموضوع، ونحن قد قررنا عشرة موضوعات، كانت هناك القضية التي يتحدث عنها الناس كلهم، وكانت الصحافة كما تفضل الأستاذ أحمد، في كل بلد حتى في السعودية في صحيفة الشرق الأوسط، تطالعنا من يوم إلى آخر، بما يكتبه العلمانيون وبما يرد به له كثير من الإخوان العلماء الملتزمين من المسلمين على هؤلاء العلمانيين، والقضية الأساسية هي قضية الشريعة، فأردنا أن نطرح هذه الفكرة، وأن نتخذ فيها قرارًا لا ينبغي أن يكون منفصلًا، وهو يقرر مبدأ، ولكن ليس معنى هذا أن الموضوع مقصور على هذه الدورة، ونحن في الدورات القادمة لا بد أن نعني بهذا الموضوع عناية كاملة، وعندما تتوافر الدراسات لا ينبغي – في اعتقادي – أن تكون الدراسات نقولًا، ولا اعتمادًا على كثير مما نؤمن به نحن من مسلمين وملتزمين، والقضية هي إقناع الضالين من إخواننا، وهدايتهم إلى الحقِّ، والقضية هي صرف هؤلاء الإخوان عن تهجمات وهيمنة التفكير العلماني الغربي، الذي يكاد يفصلهم عن مجتمعاتهم، ويجعلهم غرباء في ديارهم، أو يجعلنا نحن غرباء معهم في ديارنا، هذه هي القضية، ولذلك فإننا في كل دورةٍ – بإذن الله – يمكن أن نأخذ جانبًا من جوانب هذا الموضوع الهام، الذي يتصل بعقيدتنا وبكياننا وبحياتنا وبمعاملاتنا، وكما تفضل الأستاذ الدكتور عطا: الموضوعات التي نطرحها لماذا؟ لنعرف حكم الله في هذه القضية، وعندئذٍ فنحن نبحث عن تطبيق الشريعة في القضايا المستجدة، فلأن نكون مؤمنين بهذه القاعدة وهي تطبيق الشريعة الإِسلامية – والدعوة لها من باب أولى. وشكرًا لكم.(5/2892)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحقيقة كنت سأبادر إلى التحدث بما تحدث به فضيلة الأمين العام، فلا يصح بحال من الأحوال، أن نجعل هذا الموضوع مجال تأجيل على الأقل من حيث المبدأ، فتطبيق الشريعة أمر معروف وواجب وفرض، وأمر مقرر بداهة، ومن الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، فحينئذٍ ينبغي أن يكون لنا الآن صرخة واضحة وعالية ومدوية، لكل هذه الدول التي تنتسب إلى الإسلام دينًا وحكمًا وشرعًا، وإن قصرت في تطبيق أحكامه، ثم هناك رسائل التطبيق، فهناك لا بدّ أن يبحث هذا الموضوع من النواحي المختلفة في الإسلام والجوانب الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والجوانب التشريعية، فكلنا عندما نجادل الحكام في هذا الموضوع، يدّعون أين نظامكم الاقتصادي؟ أين نظامكم الاجتماعي؟ أين التقنين؟ التقنين الذي إلى الآن لم تقتنع بعض الدول العربية أو الإِسلامية، بضرورة تقديم بضاعة جاهزة، ومشروع كامل للقوانين المدنية والجنائية، في صورة ميسرة ومعبدة الطريق لتأخذ سبيلها إلى التطبيق، هم يتذرعون بهذه الذرائع الواهية لا شك، ولكن ينبغي أن نقطع دابر الاحتجاج بمثل هذه الذرائع… هذا شيء. الشيء الآخر طبعًا أرجو ألا يكون هذا الموضوع فيه إثارة حساسية، فهناك دول في هذه المنظمة ودول في هذا المجمع منبثقة من منظمةالمؤتمر الإِسلامي، لا أجد دولة من هذه الدول تقول بمبدأ الإِلحاد، فهناك فرق بين الإِلحاد والعلمانية، فالعلمانية هي مبدأ فصل الدين عن الدولة، أما الإِلحاد فلا أجد دولة لا عربية ولا إِسلامية تجاهر بمبدأ الإِلحاد، وإلا وَجَب شرعًا وجوبًا قاطعًا على أهل ذلك البلد أن يقتلعوا حاكم تلك الدولة من جذوره، إلاَّ أن يكون كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه نور وحجة وبرهان، فهناك أرجو ألا يثير هذا الموضوع حساسية، فلا نقرن الإِلحاد بالعلمنة، فهناك فرق، الشيء الذي أقترحه: أنه منذ عشر سنوات دعينا إلى جامعة الإِمام محمد بن سعود، وطرح هذا الموضوع طرحًا، وعرضت فيه دراسات وافية، واليوم منذ شهرين جدد الطلب في العام القادم في ربيع الآخر سيكون الموضوع، وقد وزع على مختلف العلماء في البلاد الإِسلامية لبحث موضوع "تطبيق الشريعة" من مختلف جوانبه، فأرجو من السادة القائمين على المجمع، أن يكون بينهم وبين جامعة الإِمام محمد بن سعود تنسيق في هذا الموضوع، لأن اليد يجب أن تتعاون مع الأيدي الأخرى، فلا نحن نصرخ في وادٍ وغيرنا في واد وكلها جهود جزئية مبعثرة – يجب أن تكون دائمًا – أثبتت الأحداث فشل المواجهات أو الجمعيات أو التكتلات الإسلامية، بسبب تفرقها وعدم إعلان كلمة واحدة لها أمام الدول.
وعندما يكون القرار نابعًا من الجامعات الإِسلامية، والمجامع الفقهية والمسلمين قاطبة، عندئذٍ لا بدَّ أن يفكر الحاكم بأن هناك قوة هائلة ينبغي أن يذعن لها يومًا ما، فالمطالبة ينبغي أن تنظم وتنسق، ويكون هناك دور بيننا وبين جامعة الإِمام محمد بن سعود، في الواقع دراسات عظيمة ومخطط لها من الآن تخطيط رائع، ينبغي أن تنسق هذه الجهود، ويكون للمجمع دور فيها وتطبع حينئذٍ هذه البحوث بشكل موحد بين الجامعة وبين المجمع. وشكرًا.(5/2893)
الدكتور إبراهيم الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
هناك ثلاثة جوانب في هذه القضية يجب أن نفرق بينها.
الأول: أن موضوع " تطبيق الشريعة الإسلامية " وهو موضوع كما قال أخي الشيخ عطا الله والشيخ علي التسخيري، لو علمنا به – ولكن السيد معالي الأمين العام أوضح السبب – لكان الجميع قد اهتم به لأننا نعتبر أنه نقطة الأساس في هذا المجمع، والاهتمام به كان سيمكن من دراسات معمَّقة لمشاكل عملية واجهناها، فقد كان – من فضل الله علي – أن قضيت خمس سنوات في اللجنة العليا لتقنين الشريعة الإِسلامية في بلدي، وواجهتنا مشكلات التقنين، سواء في المجال الجنائي والحدود وما يتعلق بها، ومراجعة القانون المدني على ضوء الشريعة الإِسلامية ومراجعة القانون التجاري على ضوء الشريعة الإِسلامية وقانون المصارف الذي أشير إليه، فلم يفت فيه أحد بأن للدولة أن تعمل، إنما كان الأمر أمر التدرج في التطبيق، فمنع على مجال الأفراد والشركات الخاصة، ولكن بحكم العلاقات المعينة التي كانت تربط الدول الإسلامية، في ظل النظام العالمي الذي يفرض هيمنته عليها أرجئ هذا الأمر، ولكن لم يقل أحد بحليته، وأطمئن أخي الدكتور وهبة الزحيلي على ذلك لأنني عضو هذه اللجنة العليا، وأعرف ما دار فيها جيدًا، وفيما يتعلق بالربا، هذا جانب، ولا زلت أكرر أنه فعلًا قد لا نقول بالإِرجاء، ولكن يجب أن نقول بالاستمرار، الاستمرار في بحث هذا الموضوع، وأن يكون موضوعًا أساسيًّا للدعوة، الأمر الآخر يتعلق بما قدم من بحوث، قطعًا سيستغرب معالي الأمين العام أن أقول له أني اطلعت على بحثه، ولديَّ ملاحظات عديدة، طبعًا هو جهد، ومعالي الأمين العام ليس في مكان أن يثني عليه، ولكني كنت أتمنى أن يتم التوقف أمام كثير من الأفكار التي وردت في هذا البحث، فالتفرقة بين الشريعة والفقه، لا أعتقد أنه يمكن أن ينظر إليها بالصورة التي رأى بها معالي الأمين العام، وكأنها إحدى المحاولات للهجوم على الشريعة، فشريعة الله وما شَرَع الله من دين غير ما فهمه واستنبطه الفقهاء: باختلاف الزمان والمكان والظروف، المذهبية أيضًا والنظر إليها، لا يمكن أن ينظر إليه والقول بالموقف من المذهبية، أمر لا يمكن أن ينظر إليه بالصورة التي نظر إليها معالي الأمين العام، والأمر يحتاج إلى تفسير وتوسيع ومناقشات موسعة حول هذه القضايا، أيضًا النظر بالنسبة للعَلْمانية: للأسف ساد في العالم الإِسلامي تفسير العَلْمانِيّة، وذهب كثير من الناس إلى استعمال كلمة "العَلْمانِيّة": وهي في الواقع آتية من الاهتمام بهذا العالم فسميت العَلْمانِية وأراد الذين سموها أن يتلاعبوا بقربهم من كلمة العلمانية: يظن الناس أنها عِلمانية وأنها متصلة بالعالم، أصل كلمة "العلمانية" في الغرب هي "سيكيوار" (الآن وهذا العالم) ، وتهدف بالأصل إلى مواجهة ما كان في الرهبنة من الالتفات عن العالم الذي يعيشه الناس، ونفي التقديس عن مظاهر الطبيعة، أي اعتبار مظاهر الطبيعة مسخَّرة وليست هي عفاريت وجن وما إليها، ونفي القداسة أو العصمة على الأفراد الذين كانوا يدعونها في الحكم، وهي قد وصلت إلى الغرب من عين الحضارة الإِسلامية، ولكنهم ولم يؤمنوا بأنه "لا إله إلا الله" أرادوا أن يؤسسوها على (الاهتمام بالعالم والآن) فالعَلْمانية في أساسها وفي جذورها هي نبع الفكر الإِسلامي، ولكنها بحكم عدم اتصالها بكلمة "لا إله إلا الله" جرت، وحينما جاءت إلى الوطن العربي أراد من جاؤوا بها عن جهل – كما فعلوا في قضايا كثيرة – أن يربطوها بالعلم ويربطوها بمناقشة الدين، ولم يعرفوا أن الإسلام في حقيقته يؤكد أن للمسلمين حتى في دعائهم أن يقولوا: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".(5/2894)
الرئيس:
ممكن يا شيخ إبراهيم تذكر لنا سلفك في هذا التفسير للعلمانية من أهل العلم.
الدكتور إبراهيم الغويل:
في كتاب هارفي عن العلمانية.
الرئيس:
لا لا، أنا أقول من أهل العلم في الإسلام، من المسلمين.
الدكتور إبراهيم الغويل:
سيدي، أنا قلت لك: إنه حينما نقل الذين بشروا بالعَلْمانية إلى هذه الكلمة، اختاروا لها هذه التسمية، لكي يحدثوا التباسًا، وأرادوا أن يفسروها تفسيرات مخالفة.
الرئيس:
المهم الاصطلاح. المعنى المراد من هذا الاصطلاح على أرض العالم الإِسلامي.
الدكتور إبراهيم الغويل:
في العالم الإِسلامي في الوطن العربي حقيقة …
الرئيس:
هل يراد أنها ترادف كلمة إسلام؟
الدكتور إبراهيم الغويل:
ولكن سبيل تجهيل الناس أن يبين لهم: أنهم حينما نقلوا عن هذا الفكر لم يعرفوا مصادره.
الرئيس:
لا، لا ما نستطيع يا شيخ إبراهيم. نحن نعني في أقل الأحوال أن العرف يقضي بالاصطلاح، هذا أقل الأحوال وأضعفها، فأصبح لفظ علمانية، تعني فصل العلم عن الدين، هؤلاء أولاد المسلمين في المدارس يعرفون هذا وينابذونه ولله الحمد، ولا زال في المسلمين خير إلى يومنا هذا.
الدكتور إبراهيم الغويل:
على العموم – سيدي – إذا أردتم أن تصطلحوا عليها بهذا الاصطلاح …
الرئيس:
لا، ما اصطلحنا عليها. أبدًا.
الأمين العام:
يا سيدي، أنا في حديثي قد ذكرت شخصًا ولا أريد …
الدكتور إبراهيم الغويل:
هذه النقطة التي كنت أريد …(5/2895)
الأمين العام:
لحظة. قد ذكرت شخصًا هو الداعية الأكبر للعلمنة على حد تعبيره، وقد ناقشه المسلمون في كل مكان، وظل شره مستطيرًا في كثير من البلاد العربية والجامعات الإِسلامية – أي القائمة في بلاد الإسلام – يدعو فيها صراحة إلى نبذ القرآن والتشكيك فيه.
الدكتور إبراهيم الغويل:
معالي الأمين العام، أنا …
الأمين العام:
سامحني، أكمل جملتي. فهذا الرجل في كتابته وهو فرنسي عربي.
الدكتور إبراهيم الغويل:
أنا، جايه، جايه. هذا الرجل.
الأمين العام:
هذا الرجل الفرنسي العربي، هو الذي جعلت موضوع النقاش بيني وبينه، تعرض للعلمانية ففسرها بهذه التفاسير، فنحن نأخذ الكفر عن الكافر بمقولته، ونحدده على الصورة التي يريد أن يشيعها في الناس.
نحن لا نريد أن نلتمس له حجة نقول بها إن الإسلام فيه علمنة، هو ذهب يدعو إلى أن القرآن فيه عَلْمَنة.
الدكتور إبراهيم الغويل:
هذا الرجل أكثر من ذلك، هذا الرجل تبنى فكرة اللغة الميتية "الميتزم" الخرافية، واعتبر أنه يفسر بها كلمات القرآن، هذا الرجل بدأت قصته قبل أن يتولى هذا الموضع الأخير، حينما بدأ أول كتاب حول مفهوم … وهو أمر يسود للأسف في الجامعات الإِسلامية وردده بعض علماء اللغة، علماء الاجتماع، والتفسيرات الاجتماعية للدين، فتبين مفهوم "الميتزم" أو مفهوم "الخرافة" في تتبع الألفاظ القرآنية.
الأمين العام:
موجود في البحث.
الدكتور إبراهيم الغويل:
وهذا الرجل بهذه القضية وأمثاله خطيرون، ولكن القضية أنا أتصور أن يحدد لها – كما أشار الشيخ على التسخيري – أن هناك عدة مجالات في قضية تطبيق الشريعة الإِسلامية، في مجال الفكرة والتمهيد الكفري، وخطورة الذين يتبنون أفكارًا محددةً، وأنتم أشرتم إلى الذين يتبنون آراء (فرويد) ، و (داروين) والذين يتبنون آراء (ماركس) ورؤى كثيرة في التاريخ، وفي الاجتماع وفي النفس، وأن يحدد لها جانبًا فيما يتعلق بالتشريعات، وأن يحدد لها جانبًا فيما يتعلق بجوانب مناهج التعليم والإطار العام للتعليم، فالقضية ضخمة وتحاج إلى مزيد … أنا هذا الذي أقوله، ولكن فيه بعض النقاط تحتاج إلى وقفات يصحح فيها بعضنا البعض، والله يهدينا إلى سبيل الرشاد. وشكرًا.(5/2896)
الدكتور عمر سليمان الأشقر:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أقترح على المجمع الكريم أن يجعل هذا الموضوع في دورة كاملة.
هذا الموضوع جدير أن يعطى وقتًا أكثر من الإِيجار المنتهي بالتمليك، ومن تحديد النسل وما أشبهه من موضوعات، وهذه الدعوة نابعة من رؤية فأنا قد قمت بدراسة فترة طويلة من الزمان، لأتتبع جذور هذا الموضوع، فتتبعت جذور القوانين الوضعية في الديار الإِسلامية قديمًا، منذ التتار وما قبل التتار، ثم وصلت إلى العصر – القرن الأخير – الذي ألغيت فيه الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، الذي هو بمثابة القانون الذي يحكم الديار الإِسلامية، وقد رأيت المؤامرة الكبرى من خلال التتبع لاستئصال المسلمين واستئصال دين المسلمين، نحن في سنة 1988م، في سنة 1888م ألغيت الشريعة الإِسلامية في مصر الإلغاء الأول كان في سنة 1882م بعد دخول الإنجليز، ثم بعد أن طبقت جزئيًّا ألغيت كليًّا وثار الشعب المسلم في تلك الديار، ولكن السلطات والقوة أخضعت المسلمين لحكم الطاغوت، في سنة 1923م قبل خمس وستين سنة ألغيت الشريعة الإسلامية في تركيا، وزال سلطان الإِسلام، وألغيت الحروف العربية، وألزم المسلمون بأن يضعوا (البرنيطة) فوق رؤوسهم، مآسي في هذه القضية أعلمها، عندما اجتمع وزير الخارجية التركي والوفد التركي بوزير الخارجية البريطاني في المفاوضات، كان أحد الشروط الرئيسية أن تلغوا الشريعة الإِسلامية، والقانون الإِسلامي، والخلافة الإِسلامية، ثم تتابع المسلسل في البلاد العربية التي كانت تخضع للشريعة الإِسلامية، لا أريد أن أستطرد في هذا، ثم تبينت المخطط الذي وضعه الكفار لإلغاء الشريعة، وقد تبين لي هذا المخطط، ودرست أبعاده، وكان يمثل إحدى عشرة خطوة بينتها في كتابي "الشريعة الإلهية" وليس هناك مجال لتفصيل هذه القضايا، لكن أرى أن هذا الموضوع، إما أن تخصص له دورة كاملة وإما كما اقترح بعض الإخوة، أن يجعل له مخطط متكامل، وفي كل دورة من الدورات يطرح موضوع أو يطرح موضوعان، فنستكمل على مدى الدورات القادمة، نستكمل خطوط هذا الموضوع، وشكرًا.(5/2897)
الشيخ إبراهيم زيد الكيلاني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أحب أن أعلق أولًا على كلمة " العِلْمانية " أو "العَلْمانية" كما رآها الأخ الكريم، وأقول: إنها تؤدي إلى الإلحاد وتقضي إليه وتشترك معه في أمور كثيرة، من أخطرها إبعاد الدين كليًّا عن الحياة، عن التوجيه وعن التربية والتعليم، العَلْمانية تعني حياد الدولة، إنها ليست مع الدين وليست ضد الدين، فليس لأحد أن يقول: "إنني أريد أن أضع المناهج في التربية والتعليم على أسس إسلامية، وليس لأحد أن يقول: إنني أريد أن أعمق فكرة الإِيمان بالله واليوم الآخر في مؤسسات الدولة أو في المؤسسات الإِعلامية، لأن حياد الدولة يقتضي ألا تتدخل في أمر الدين، هذا الذي تمشي عليه الدول الغربية، وتمشي عليه الدول العربية، التي اتخذت العلمنة طريقًا لها، وأذكر على سبيل المثال أنه كان بيننا في الأردن، وبين دولة عربية شقيقة، صار خطوة لتوحيد المناهج، في فلسفة التربية والتعليم في الأردن العبارة التالية: "تنبثق فلسفة التربية والتعليم من الإِيمان بالله والقيم العليا للأمة العربية" فيها هذه العبارة، من وحي هذه العبارة مؤلف كتاب الطبيعيات للصفوف الابتدائية – كتب وأذكر للصف الرابع الابتدائي – خلق الله السمكة، خلق الله الشجرة، فقال له المؤلف العَلْماني أو العِلْماني: نحن لا توجد عندنا فكرة "الله" نحن لا نوافق أن نضع "خلق الله" قال له: يا أخي أنا فلسفة التربية عندي تقول: "خلق الله" قال: لا نحن لا نوافق عليها يجب أن تحذفها فصارت مشادة ومصارعة انتهت بأن بُني الفعل للمجهول، فقالوا: "خُلِقَتْ السمكة، وخلقتْ الشجرة" فالذين يدافعون عن العَلْمانية ويقولون: لا، ليست هي إلحادًا، هي تفضي إلى الإِلحاد وهي مظلة للإِلحاد، وهي مظلة للكفر وهي كفرٌ وضلال انتشرت في بلاد المسلمين تدريجيًّا لإِبعاد الإسلام عن الحياة، أحب أن أشير إلى نقطة ثانية: إلى دور كليات الحقوق في البلاد العربية والإِسلامية في العلمنة، وفي إبعاد الشريعة الإِسلامية عن الحياة، وما تتلقاه من مساعدات من الدول الغربية، القانون الفرنسي، والقانون السكسوني، كل كلية حقوق: هذا مختص في السكسوني، هذا مختص في الفرنسي، ويجدون دعمًا ومساعدات سخية لأجل تقويتها حتى لا تتصل الشريعة الإِسلامية وتعود إلى الحياة. النقطة الثالثة: التي أحب أن أشير إليها – وقد أشار إليها الأخ الأستاذ إبراهيم – أن تطبيق الشريعة أوسع من التطبيق القانوني، هو إعداد للأمة لتستقبل شريعة الله وتطبيقها بتسليم كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فتطبيق الشريعة الإِسلامية في باكستان، تطبيق الشريعة الإِسلامية في السودان، كان من الذين عارضوه المستغربون الذين تلقوا الدراسة في جامعات الغرب، وعشقوا مناهجه ومذاهبه، وما زالوا يعارضونه – الشريعة الإِسلامية التي كانت مطبقة في كثير من البلاد العربية من الذي حاربها؟ ومن الذي يحاربها؟ أبناء البلد العلمانيون الذين تربوا على أن العلمانية طريق الحياة، ولذلك إذا أردنا أن نعيد الشريعة الإِسلامية فلا بد أن نبدأ بالمناهج، بالكتب والتعليم، بالإِعلام لإِعداد الأمة إعدادًا يستقبل شريعة الله ويقتنع بها، وعلى سبيل المثال أذكر أنه عندما طبقت الشريعة الإِسلامية في السودان، تخصصت إذاعة لندن بمحاربتها وبرصدها، ويعرف إخواننا السودانيون ضغوط الدول الكبرى لإِبعادها، عندما أرادت سوريا أن تجعل قانونًا مدنيًّا مستمدًا من الفقه الإِسلامي بديلًا عن المجلة، كان انقلاب حسني الزعيم – الذي كما تعلمون وكما اعترفت أمريكا نفسها بأنه انقلاب أمريكي – الذي كان أول خطواته أو الخطوة الوحيدة التي عملها، أن ألغى خطوة تطبيق قانون مدني إسلامي، أو تشكيل لجنة لوضع قانون مدني مستمد من الفقه الإِسلامي، واستمدوا قانون مصر الفرنسي، مع العلم كان في تطبيقه طفرة هائلة لا يقبلها أهل القانون، ولكنهم وضعوه وطبقوه، ثم جاؤوا ليطبقوه في الأردن، وفي يوم وليلة: مجلس النواب الأردني أقر القانون السوري،.(5/2898)
وعندما أرسلوه إلى مجلس النواب نقلوه نقلًا حرفيًّا ونسوا أن يحذفوا العبارة الأخيرة "وهو صدر عن قصرنا الجمهوري" فكان للعلماء دور هنا، كان للعلماء دور مجيد فعلًا، واستطاعوا أن يبعثوا في الشعب روح الإِيمان وروح الإِسلام، وطالبوا الحكومة، واستجاب ملك البلاد لهذه الرغبة، وأمر بتشكيل لجنة لوضع قانون مدني مستمد من الفقه الإِسلامي، وفعلًا وضع هذا القانون وطبق – والحمد لله – في الأردن، وعندما أرادت جامعة الدول العربية أن تضع قانونًا مدنيًّا عربيًّا مُوَحدًا للدول العربية، وجدوا في القانون المدني الأردني أساسًا وقاعدة ليمشوا عليها، وساروا واستطاعوا أن يؤصلوا هذا القانون ويضعوا النظرية العامة للالتزامات، ثم يؤصلونه، والأستاذ الكريم محمد ميكو الأمين العام لوزراء العدل العرب، من خير الأعضاء الذين يعون هذه المسألة ويواكبونها وهو أعرف بالمشكلات التي يجدها من العلمانيين، الذين يقفون في وجه الاستمرار في هذا العمل. ولذلك أرى أن نعرف الجهود التي قطعناها في السبيل وأن نعرف كيف ندعم بعضنا بعضًا. القانون المدني المصري الذي وضعه السنهوري مستمد من القانون الفرنسي وبعض القوانين الأجنبية، شرحه شرحًا وأصبح مسيطرًا في أكثر المنطقة العربية، بينما القانون المدني المستمد من الفقه الإِسلامي، حتى الآن لم يجد الشروح الواسعة، وكما ذكر الإِخوان مصادر الفقه الإِسلامي يصعب على كثير من القانونيين أن يرجعوا إليها، فلا بد من تيسيرها وتذليلها، ولكن ليس هذا الذي يعيق تطبيق الشريعة، الذي يعيق تطبيق الشريعة هي القوى العلمانية والماسونية والغربية، في بلاد المسلمين التي ترصد كل حركة تريد تطبيق الشريعة الإِسلامية وتحاول لتجهضها بالسرعة الممكنة وتنفر الناس منها، ومن هنا أرى أن تتكاتف الجهود لبعث الشريعة الإِسلامية، وأن يكون كل عالم في بلده داعية إلى الله تبارك وتعالى، يعتبر نفسه جنديًّا من جنود الإِسلام، قبل أن يعتبر نفسه موظفًا يقبض الراتب، ويقف لتطبيق الشريعة الإِسلامية في بلده، والله سبحانه وتعالى قد أخذ العهد على العلماء أن يكونوا أنصار دينه وأن يكونوا المدافعين عن تطبيق شريعته، من الأشياء التي تعيق تطبيق الشريعة، وقد وجدت عقبات كثيرة في باكستان – كما أذكر – التعصب – المذهبي، ولذلك البعد عن التعصب المذهبي والاتصال بفقه الكتاب والسنة والمذاهب الإِسلامية، الثانية: مواكبة تطور الزمن وفهم الأحداث، وأهم الأمور: العزيمة الصادقة عند الشعوب، بإقناعها ودعوتها للقيام بواجبها، والعزيمة الصادقة عند الحكام، وأحب قبل ذلك – يحسن ونحن ندعو إلى تطبيق الشريعة – أن نرصد ونعرف القوى الكبرى التي تخشى من تطبيقها وأن نحاول جهدنا لنعمل على مواجهتها، وإقناع الناس بها، وتحقيق أهدافنا بحكمة وقوة وإقناع، والله المستعان، وشكرًا للأستاذ الكريم.(5/2899)
الشيخ مصطفى العرجاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وجميع العلماء الأفاضل ما عدا الزميل الأستاذ الدكتور عمر الأشقر، وأستاذنا الفاضل الدكتور إبراهيم الكيلاني، تكلم الجميع في الفروع، ما عداهما تكلما عن بعض جذور المشكلة، ما أصل المشكلة؟ أصل المشكلة يحلها ما نحن فيه الآن، عندما أراد أحد الحكام وضع قانون معين يحكم العلاقات التجارية، وهو بالتحديد محمد علي في مصر، طلب من العلماء أن يضعوا هذا القانون، فاحتكموا إلى المذهبية، هذا يريده مالكيًّا وأخر شافعيًّا وآخر حنفيًَّا وأخر حنبليًّا، فماذا صنع؟ جاء بالقانون كما هو من الغرب، وقال نضعه بصفة مؤقتة – في عام 1830م – إلى أن تتفقوا على رأي، ثم بعد ذلك نطبق الشريعة الإِسلامية، وهذه هي البذرة الأولى لتطبيق النظم الغربية كاملة شاملة، الميلاد غير المشروع للقوانين الغربية في البلاد الإِسلامية، بداية جذور المشكلة المذهبية، عندما تقول لي هذا حرام ما هو الرد؟ أقول لك: أين الحلال؟ أعطني حلًّا، أريد حلًّا، معاملات الناس وحياة الناس لن تنتظر، والأحكام الشرعية مبثوثة وموزعة وتحتاج إلى تجميع، خصوصًا في نطاق المعاملات، والأمور الخلافية، إذا تم وضعها في نظام قانوني معتمد لرأي معين صارت مقرة ومطبقة، ثم بعد ذلك جذور المشكلة، بدأت بهذا القانون، ثم أخذت القوانين الأخرى تتسلل شيئًا فشيئًا، لماذا؟ أيضًا بسبب المذهبية، ومن الذي يقول أن الشريعة الإِسلامية في حاجة الآن إلى إعادة نظر فيها، لوضع قوانين ولوضع كذا أو كذا؟ القوانين موجودة والذين تحدثوا عن القانون الفرنسي، وقالوا إن القانون المدني الفرنسي هو قانون فرنسي، لو دققوا وراجعوا لوجدوا أن جذور هذا القانون مأخوذة من أين؟ مأخوذة من إسبانيا أي بلاد الأندلس، من بلاد الأندلس وبلاد الأندلس ماذا كان فيها؟ كان فيها الفقه المالكي، ولذلك بعض نصوص القانون المدني بدراسة وتحليل وتدقيق فيها نفس العبارات الموجودة في كتب الفقه المالكي، وكلها لا تتعارض مع الشريعة الإِسلامية في المعاملات، إلاَّ في باب الربا، وبعض الأبواب الأخرى المتعلقة بالمقامرة، وبعض الشروط الفاسدة، لو رفعنا هذا الفساد من داخل القانون لكان كما هو، كذلك أيضًا في مصر، الشريعة الإِسلامية منصوص عليها أنها المصدر الرئيسي للتشريع، واجتمع العلماء وبحثوا ودققوا، بل إن الكليات تطورت، صارت كلية الشريعة والقانون، بهدف ماذا؟ بهدف تطبيق الشريعة الإِسلامية، واكتمل القانون بصورة تامة، وذهب إلى مجلس الشعب ثم نام نومة كبرى، لكنه في الواقع موجود، القانون موجود، القانون الإِسلامي موجود، وكذلك أيضًا القانون الجنائي الموجود الآن، إذا طبقنا الحدود والقصاص ورفعنا ما يناقضهما، باقي العقوبات تعد تعازير، ما هو التعزير؟ التعزير عقوبة غير مقدرة شرعًا، متروكة للإِمام أو للمجتهدين، ثم بعد ذلك تصاغ وتوضع، فليست هناك مشكلة، المشكلة هي أن أولياء الأمور يخشون الحاكمية يخشون ماذا؟ إذا نجحت الشريعة الإِسلامية في الاقتصاد، ونجحت في المعاملات المالية، ونجحت في الجنايات، إذًا لا بد أن تطبق في الحكم، لماذا؟ - لأننا – أفنؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؟ {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ؟.(5/2900)
ولذلك تسعون في المائة من المشاكل التي طرحت علينا والموضوعات التي طرحت علينا، موضوعات غربية جاءتنا مستوردة، بعض الأفكار المستوردة، ونريد حلًّا، كأن الإسلام دين تبرير لا دين تدبير، هل الإسلام دين تبرير؟ يبرر؟ تأتينا المسائل لنبررها؟ نحلها أو نحرمها؟ نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، فأساس المشكلة – سيدي الرئيس – الأساس الأساس، هو عدم وجود هيئة علمية تعطي رأيًّا واضحًا وحكمًا واضحًا في قضية معينة، وكثرة الفتاوى الفردية التي في بعض الأحيان تعتمد بعض الآراء الداخلية، لكن الشريعة موجودة، بها القوانين ومنصوص عليها، في الدستور المصري: الشريعة الإِسلامية المصدر الرئيسي، قالوا: مصدر رئيسي، فاعترضنا قلنا: إنها كلمة ربما تكون أحد المصادر فوضعت لها الألف واللام "المصدر الرئيسي للتشريع" والآن محظور حظرًا تامًّا صدور أي قانون يخالف الدستور، لماذا؟ لأن بمعيارهم الدستور هو سيد القوانين، والدستور لا يلغى إلاَّ بدستور، إذن الشريعة الإِسلامية موجودة ولكنها معطلة. قانونها يحتاج فقط إلى العرض على مجلس الأمة، ليطبق، لكنه موجود، وشارك فيه كثيرٌ من العلماء ومواده القانونية موجودة، ومن الممكن أن نأتي بنسخة نعطيها إياكم … موجود القانون … القانون الإِسلامي موجود، وكذلك أيضًا في العقوبات، موجود القانون الإِسلامي لا يحتاج منا إلى شيء، أما أن نقول نعد الأمة الإِسلامية لاستقبال الإِسلام، هذا مستحيل، إنها فطرة الله، كيف نعدهم؟ أنمشي على هواهم؟ هذه مشكلة كبرى، يجب علينا أن نضع القواعد والقوانين، وجاء الإسلام ليحكم لا ليحكم عليه، وجاء ليسود لا يحكم عليه ولا يتحكم فيه، فهذه هي لب المشكلة، لب المشكلة وجذور المشكلة أن القوانين الغربية جاءت لماذا؟ لأن العلماء تمسكوا بمذاهبهم ولأن بعضهم لم يحاول أن يجتمع مع أخيه ويعطي رأيا مأخوذًا من روح الشريعة الإِسلامية، ومرحلة ثانية – يا سيدي – المرحلة الثانية الاستشراق: بدأ المستشرقون يشككون فكشفناهم، فماذا صنعوا؟ أخذوا من بيننا بعض الأفراد أنفقوا عليهم، لمعوهم وأظهروهم وملؤوا رؤوسهم بأفكارهم الخبيثة، فصاروا يطعنون على الشريعة، ويبحثون عن كل أمر فيه شذوذ، ويحاولون خلق الفتنة وعندما يظهر رأي غير شرعي تحتاج إلى الرد عليه، كيف ترد عليه إذا كانت وسائل الإِعلام في يد العلمانيين، وإذا كانت الصحف في أيدي من أغلبهم علمانيون؟ فماذا تصنع؟ كيف تُبَلَّغُ كلمتك للمسلمين؟ كيف تقول كلمة الحق؟ لأن العلماني بيده وسائل وبيده طرق، لذلك الشريعة الإِسلامية لا يمكن أن تؤجل، بل ينبغي علينا أن نحث جميع المسلمين وجميع حكام المسلمين أن يخرجوها، فهي موجودة، نصوصها موجودة وبحثت، يكفي أن القانون المدني في مصر أخذ سنوات حتى تم استقاؤه من الشريعة الإِسلامية، وكان ينبغي أن يصدق عليه، ولكنه لم يصدق عليه حتى الآن، لماذا؟ لا ندري! وعندما قال رئيس مجلس الشعب واكتفى: "إن القانون غير موجود"، احتجوا عليه. فقال: لم أعلم، فإذا كان رئيس المجلس لا يعلم. ما نقول وقد علم. فماذا تم لا شيء. لأني كما قلت لكم القضية منذ البداية نية مبيتة بعدم تطبيق الشريعة الإِسلامية، وما لا يدرك كله لا يترك جُلُّه، فعلى قدر الاستطاعة نطبق ما نستطيع، وشكرًا جزيلًا.(5/2901)
الشيخ يوسف القرضاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم. شَكَرَ الله للإخوة الكرام والأخ الأستاذ مصطفى.
أحببت أن أوضح بعض النقاط. من هذه النقاط: ما قيل من أن العلماء طلب إليهم أن يضعوا قانونًا مستمدًا من الشريعة الإِسلامية، فاختلفوا ولم يضعوا هذا القانون. هذا أمر ذكره المرحوم الشهيد عبد القادر عودة في رسالةٍٍ له اسمها " الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه"ولكن بالتتبع والبحث والاستقراء لم يوجد لهذا أي مصدر. أوَّلًا قيل: إنه في عهد محمد علي، والمعروف أن عهد محمد علي كانت فيه الشريعة الإِسلامية تطبق، الشريعة الإِسلامية ظلَّت في مصر تطبق إلى عهد إسماعيل، فالقضية تنسب إلى إسماعيل، هذه القضية، الحقيقة بعد التتبع لم يوجد لها إلاَّ مصدر واحد، هو أن العلامة الشيخ رشيد رضا – رحمه الله – ذكر أنه كان قد قال له رافع ابن الشيخ رفاعة الطهطاوي، إن الخديوي إسماعيل ذكر له أنه طلب من بعض العلماء أن يجتمعوا ليضعوا قانونًا ولكنهم اختلفوا، هذا هو المصدر الوحيد لهذه القضية، يعني مصدر إذا نظرنا في سنده أو نظرنا في دلالته لا نعرف هل هذا صحيح؟ لأن الكلام كله منسوب إلى إسماعيل بهذا السند، وهل إسماعيل كان جادًّا حقيقة؟ وكيف طلب منهم؟ هل طلب واحدًا منهم أو اثنين؟ ولذلك لا ينبغي أن ننسب إلى علمائنا هذه القضية الكبيرة، بهذه السهولة دون أن توثق التوثيق الكافي، ولو صح أنهم أرادوا تطبيق الشريعة الإِسلامية – والأخ نفس كلامه يرد بعضه على بعض.(5/2902)
لو أردوا أن يطبقوا الشريعة لوجدوا ألف وسيلة ووسيلة لتطبيقها ولتقنينها إن كان لا بد من التقنين، هذه واحدة، الأخرى: هي مسألة اتفاق القوانين الوضعية في معظمها مع الشريعة الإِسلامية، هذه قضية تذكر دائمًا، ونقول إن الاتفاق لا يكفي لأنه لا بد أولًا من تحديد المنطلقات، منطلقات الشريعة غير منطلقات القانون الوضعي، الفلسفة مختلفة، والدليل مختلف، وقطع النص القانوني عن مصدره الإِسلامي يجعله قانونًا وضعيًّا، لا يكون هناك قيمة ما لم يقل: إن هذا الأمر مستمد من كذا أو كذا، من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ومما قاله الفقهاء وبناء على كذا حتى القوانين التي تبنى على المصالح المرسلة أو على سد الذرائع، يجب أن تؤصل تأصيلًا إِسلاميًّا وإلاَّ رفضت، هذا يعني لا بد من توضيح هذه المسألة، قضية أخرى: وهي قضية التدريج في تطبيق الشريعة، والذين يقولون إن الشريعة تطبق بالتدريج، طيب سلمنا بالتدريج، وبعضهم يقول: أتريدنا أن نطبق الشريعة فيما بين عشية وضحاها؟ طيب طبقوها بالتدريج، ولكن ما معنى التدريج؟ التدريج أن تكون هناك مراحل كل مرحلة تسلم إلى مرحلة، تريد أن نطبق الشريعة في خلال خمس سنوات أو عشر سنوات؟ إذن ضعوا خطة زمنية بحيث إنه بعد سنتين نخلص من القانون المدني، وبعد كذا نخلص من مناهج التربية، هذا معنى التدريج، إنما هؤلاء لا يريدون التدريج، يريدون التمويت، فنحن إذا سلمنا بالتدريج – وقد قال به مثل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي قال له ابنه الورع التقي عبد الملك: يا أبي ما لي أراك تتباطأ في إنفاذ الأمور؟ والله لا أبالي لو غلت بي وبك القدور في سبيل الله، فقال يا بني: إن الله ذم الخمر في آيتين ثم حرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أدفع الناس إلى الحق جملة فيدعوه جملة، ولكن أما ترضى ألاَّ يمر على أبيك يوم إلاَّ وهو يميت فيه بدعة ويحيي سنة؟ - فهذا هو التدريج أن تمات كل يوم بدعة وتحيا سنة، أما أن يقولوا بالتدريج ولا يفعلون شيئًا وتمر السنين وراء السنين، وهم في موقعهم، فليس هذا من التدريج في شيء، المهم أيها الإخوة أن تكون هناك نية – فعلًا – صادقة للحياة حياة إسلامية، وهذا هو المراد من كلمة "تطبيق الشريعة"، ليس الجانب القانوني فقط، وليس جانب الحدود والعقوبات فقط، ولكن أن تحيا مجتمعاتنا حياة إِسلامية، حياة توجهها العقيدة الإِسلامية، وتضبطها الأخلاق الإِسلامية، وتحكمها التشريعات الإِسلامية، وهذا ما تريده، الأمة، وما يريده الله تعالى منها: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(5/2903)
الشيخ طيب سلامة:
بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بلسان الثناء والشكر، أتوجه إلى هذا المجمع الكريم، لوضع الإِصبع على الداء، وهو أكبر داء، وكنت أستمع إلى حضراتكم وأنا أتخيل لو فتح على مجمعنا هذا جهاز التلفاز لالتهت الأكف في الدنيا وفي العالم الإِسلامي بالتصفيق، ولصفرَّت الوجوه القليلة التي عادت هذه الشريعة وتعاديها وهي مصرة على معاداتها، اسمحوا لي أن أعود إلى أصل الداء لأنني أعتقد أن الجسم إذا سكنته الجراثيم لا يبحث الطبيب عن تقويته قبل أن يبحث عن القضاء على الجراثيم الفتاكة التي تنخره من الداخل، وأقول: إن عملية تكريه العالم الإِسلامي في الإِسلام، هي عملية غربية، عملية عداء غربي، عملية عداء للإسلام قديمة ومعروفة، والصهيونية والتي نسميها الصهيونية العالمية الموجودة اليوم هي موجودة من عهد خيبر، وهي مستمرة، ثم انضافت إليها المسيحية بتخطيط من الصهيونية حتى تعضد جانبها، وبرزت الأمور في ميدان تطبيقي عملي إثر الحروب الصليبية، وكان ما كان مما انتاب الخلافة العثمانية، وبقي الصليب يحقد على الإسلام ولم يجدوا سبيلًا، فقاموا بحركة التبشير، وكنا نرى في القرى والمدن في البلاد الإِسلامية الآباء البيض يطوفون متظاهرين بالرحمة والإِشفاق على الصغار، كما أنهم أخذوا من أبناء البلاد الإسلامية شبابًا يربونهم على الطريقة التي يريدونها. أعطيناهم أبناءنا، ومكنَّاهم منهم، وبذلك كرهوا إليهم دينهم، وحببوا إليهم حياة المدنية، وأقنعوهم بطرقهم بأن الإسلام هو سبب تأخر المسلمين، ولو تخلى المسلمون عن إسلامهم، ولو انحصر – على الأقل – الإسلام في المساجد والجوامع كما فعلت المسيحية مع المسيحيين، لآل الأمر إلى تقدم، وإلى مماشاة المسلمين للعالم العصري المتقدم – وقد اقتنع الكثير – بأنه لا يجوز لنا إذا رمنا الخير لأطفالنا أن نحفظ القرآن، كما قال الغربيون، ونظرية تربوية عقيمة، نشروها فينا بدعوى أن الحفظ يقوي الحافظة، فتطغى الحافظة على الفكرة، وبذلك يصبح الطفل عندما يشب وعندما يصير كهلًا، لا شخصية له لأنه عبارة عن آلة حاكي لا تحسن شيئًا، والنتيجة رأيناها بالعكس، رأينا بالعكس أن جميع من حفظوا القرآن هم من العلماء العلام الأعلام السلف الصالح من علمائنا ما من واحد منهم في ترجمته إلاَّ وهو يحفظ القرآن زيادة على ما يحفظه من آلاف الأحاديث بأسانيدها، فكانت هذه الحافظة، التي هي منطلق التربية الإِسلامية، أصبحت عيبًا كما أراد الغرب أن يصوِّرها، هذه مثلًا صورة من الصور، وبذلك تعليمنا اليوم خالٍ أو أشد ما يتبرم منه الطلاب والتلاميذ أن تأمرهم بحفظ شيء، وزالت الكتاتيب، وحذفت الكتاتيب، بهذه الدعوة لأن الأمر تقليدي وأمر لا يمكن أن نبقى عليه في هذا العصر، وهكذا: ما أردت أن أقوله إخواني من غير أن أطيل، هو أن القضية قضية هامة جدًّا، والقضية تحتاج إلى عناية كبرى، ولكن تحتاج إلى إقناع شبابنا اليوم: الدعوات التي توجه إليهم باسم التكنولوجيا، وباسم جلب العلوم العصرية، باعتبار أن الحياة ما كانت تقوم إلاَّ على ما أوجدته الحياة العصرية من علوم مادية، اقتنعوا بهذا، وانصرفوا إلى هذه العلوم، وتخلوا عن دينهم وعن تعاليم دينهم، فأصبحنا نكون مديري المصارف والمهندسين، ولكن بدون ضمائر إسلامية، هذا الذي ينقصنا، وهذا الذي جعلنا في تخلف، ومهما تكن ثرواتنا – نحن ثرواتنا – والحمد لله – أغدق الله علينا من الثروات الشيء الكثير، ولكن ثرواتنا لم تنفعنا، العلم والتكنولوجيا قد أتينا بذلك، ولكن أيضًا لم نستفد من ذلك شيئًا ولا يتم نفع إلاَّ إذا قامت على القيم الإسلامية، وتعاليم الشريعة الإِسلامية، هذا ما أردت أن أقوله وشكرًا سيادة الرئيس.(5/2904)
الرئيس:
شكرًا في الواقع بقي نحو عشرين متحدثًا، فهل ترون أن نستمر في هذه الكلمات ونعطي خمس دقائق فقط؟
مناقش:
بسم الله الرحمن الرحيم
بناء على ما تقدم من كلام الأساتذة الأفاضل ومن الضروري أن نوجد المناخ المناسب لتطبيق الشريعة الإِسلامية، في عالمنا العربي والإِسلامي، إذ أن من المعلوم أن تطبيق الشريعة الإِسلامية أمر معروف من الدين بالضرورة – كما تفضل الأساتذة الأفاضل – فأرى – وكما يقال خير البر عاجله – أن تؤلف لجنة من هذا المؤتمر الكريم، لوضع خطة لبحث المواضيع المناسبة، لإِيجاد الوسائل الكفيلة بتطبيق الشريعة الإِسلامية، أو نقول الوسائل الكفيلة بإيجاد المناخ المناسب، لتطبيق الشريعة الإِسلامية، وشكرًا.
الرئيس:
هل ترون أن نكتفي بهذا، أم بقية الكلمات؟
بعض المناقشين:
لا نوافق على هذا، نعترض.
الرئيس:
إذن لو رأيتم أن يتنازل البعض للآخر، لأن عشرين متحدثًا، والوقت عندنا ما بقي الآن إلاَّ عشرون دقيقة، أمر ليس في الإِمكان.
مناقش:
كان من الممكن تدبير الوقت منذ البداية وتقسيمه على الراغبين في الحديث.
الرئيس:
الآن حصل شيء من الخطابة وطالت وطولت، والله نحن سبق أن نبهنا في مرتين وثلاث وأربع، يعني ما فيه داع للإِكثار.
مناقش:
دقيقتين لكل متكلم.
الرئيس:
لا: خمس دقائق، ممكن؟ بس خلاص نمضي يا شيخ.(5/2905)
الأستاذ يوسف محمود القاسم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله.
هذا الموضوع في غاية الأهمية، وفي غاية الخطورة، وشكرًا للعلماء الأفاضل الذين كتبوا في هذا الموضوع، وشكرًا للأخ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان الذي عرض عرضًا وافيًا للأبحاث الثلاثة.
القضية – قضية تطبيق الشريعة – تعتبر هي كل شيء بالنسبة لمجمع الفقه الإِسلامي، فلا بد أن تأخذ العناية اللائقة بخطورة هذا الموضوع.
فكرة التدوين أو التقنين، التي أشار إليها الأخ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان فكرة جيدة لكنها في الواقع فكرة جانبية تتخذ أو اتخذت فعلًا سبيلًا للمرواغة في تطبيق الشريعة الإِسلامية، فالتقنين قائم: مشروعات خاصة قدمت لمجلس الشعب المصري، تزيد عن عشرة مشروعات في السبعينات، ثم مشروع محكمة النقض المصرية – قدم سنة 1975م – ثم مشروعات لجان مجلس الشعب الكاملة المتكاملة، في كل فرع من فروع القانون (في المدني، في الجنائي، في المرافعات، في التجاري، في البحري) في كل فرع من فروع القانون، وضعت القوانين الإِسلامية الكاملة المتكاملة، وليست فقط مجرد النصوص، بل والمذكرات التفسيرية الخاصة بكل مادة، حتى لا يقال إن القاضي الذي يدرس الحقوق، كيف يطبق الشريعة وهو لا يعلم منها شيئًا؟ وضعت له المذكرة التفسيرية، لتبين له مصدر كل مادة من أي مذهب من المذاهب الفقهية على اختلافها، هذا كله فضلًا عن مشروعات الأزهر الشريف، لدرجة أن أعضاء هذا المجلس الموقر يندهشون عندما يعلمون أن مجمع البحوث الإِسلامية وضع مشروعات قوانين في كل فرع من فروع القانون مأخوذة من كل مذهب، نقول القانون المدني الإِسلامي من المذهب المالكي، نصوص كاملة متكاملة خاصة، القانون المدني الإِسلامي من المذهب الحنفي، نصوص كاملة متكاملة خاصة، يقول له: ربما بعض البلاد الإِسلامية يريد أن يطبق المذهب المالكي، فلنضع له قانونًا، ولا تزال هذه القوانين قائمة وموجودة وينسخ كثيرة جدًّا، أيضًا مجمع البحوث الإِسلامية، دخل في مجال تنقية القوانين، فوضع مشروعًا يسمي "تنقية القوانين" حتى لا يدع حجة لأي متحجج مبطل، لأنه حينما قيل: إننا نكتفي بالقوانين القائمة، وننقيها مما يخالف الشريعة، وضعت مشروعات بهذه الموضوعات، أحد الزملاء الأفاضل – العلماء الكبار الذي تكلموا – أشار إلى الآيات الكريمة الواردة في سورة المائدة وأنها نزلت في حق أهل الكتاب، في الواقع هذا حق، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، هذه نزلت في حق أهل الكتاب، لكن الآية التي بعدها والآيات التالية: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ، ثم يقول سبحانه في الآية التالية: {وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ واحْذَرْهُمْ أن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .(5/2906)
ما أشار إليه الزميل الأخ الدكتور مصطفى، مما قيل من أن محمد علي جمع العلماء، وهم تنازعوا فكرًا مذهبيًّا، هذا باطل لا أساس له كما أشار الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي، هذا في الواقع لا أساس له، بل يثبت النقيض، لأن علماء مصر بل العلماء في كل الدنيا أحرص الناس على تطبيق شرع الله عزَّ وجلّ، ولم يثبت هذا على الإِطلاق، ولا أساس له مطلقًا، وإنما الاستعمار الغربي، اختار هذا الرجل ليكون الخطوة الأولى في تغيير المنهج، بعد فشل الحملة الفرنسية، أعداء الإسلام فكروا أن الحلول العسكرية والمواجهة العسكرية بينهم وبين الإسلام لن تجدي، ففكروا في الدهاء والخبث، فاختير رجل معين، وكان أول ما عمله، ينزع قاعدة إسلامية ويضع محلها قاعدة من القانون الفرنسي دون أن يعلن بين العلماء هذا، إلى أن جاء عهد إسماعيل كما أشار الأخ الدكتور يوسف القرضاوي، في الواقع إسماعيل غير مُبَرّأ، شكرًا لكم وجزاكم الله خيرًا.(5/2907)
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
مؤتمركم الكريم له عنوان " منظمة المؤتمر الإِسلامي "، نحن مفوضون قانونًا ودينًا بهذه المهمة الكبيرة، فإذن مؤتمر وزراء الخارجية الدول الإِسلامية، طبعًا عندما أصدروا هذا القرار لم يكن في ذهنهم أحكام الوضوء وهي هامة، إنما كان في ذهنهم كيف نعيش مسلمين قانونًا وحياة كاملة، فإذن هذا الموضوع هو صلب مهام المؤتمر، نرجو، لا نقول أن نخرج بقرار توصية، ولكن أن تشكل لجنة لوضع خطة مرحلية – أظن لا يكون الجواب في مؤتمر واحد – على مراحل متعددة، كيف نمهد لهذه الفكرة بأبحاث موزعة ومدروسة. وشكرًا.
الدكتور طه جابر العلواني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
هذه الموجة العاطفية العارمة، التي قوبل بها هذان البحثان وخطبة إمام الحرم، موجة تدل على مدى تعلق هذه الأمة بشريعتها والحمد لله، ولكن الذي أود أن أشير إليه وأنبه الأذهان له، أن الصراع بين أعداء الإسلام والمسلمين قد أخذ أطوارًا عديدة منذ البداية، وقد كان الصراع الفكري الحلقة الأهم والأخطر، والثغرة الكبرى التي أتي المسلمون منها، ففي القديم استدرج العقل المسلم إلى متاهات التأويل ودهاليز الباطنية، التي شوهت العقيدة السليمة النقية، وحولت الفقه الإِسلامي من علم يضبط حياة المسلمين بضوابط الشريعة، ويمد ظل حاكمية الله جل شأنه على سائر شجون وشؤون الحياة، إلى علم تستثمر بعض قضاياه في إثارة الخلافات وعقد المناظرات والمنافرات والجدل، حتى لم يجد عقلاء الأمة حلًّا لمصائب تلك الاختلافات والحروب الأهلية، التي كانت تقع أحيانًا في شوارع بغداد، بين أرباب المذاهب المختلفة بدافع التعصب إلا الدعوة إلى الالتزام بتراث الأئمة الأربعة الفقهي، والتوقف عن الاجتهاد خارج ذلك الإِطار، ثم سيادة التقليد المطلق بعد ذلك، لا بالمفهوم الأصولي وحده، ألا وهو قبول قول الغير بلا حجة، بل بمعناه اللغوي والعام، وتحولت الأمة بعد ذلك إلى أمة تحمل عقلية عوام، وطبيعة قطيع، ونفسية عبيد، تسير خلف كل ناعق، وتوقف العقل المسلم عن العطاء، واجتاح الصليبيون أجزاء كثيرة من ديار الإِسلام، ثم استمرت الحروب مائتي عام، ولكن الله جلَّ شأنه قد نصر الأمة بعد ذلك نتيجة اصطلاحات فكرية، وعلمية، وثقافية، وإدارية، وتشريعية، وعسكرية، قام بها المرحوم محمود زنكي ثم صلاح الدين، وتحقق الانتصار العظيم، ثم طال على المسلمين الأمد بعد ذلك وقست منهم القلوب مرة أخرى، وبدأت دورة تراجع ثانية أدت إلى سقوط بغداد بأيدي التتار سنة 656هـ.(5/2908)
ثم هيأ الله لهذه الأمة دورة انتعاش أخرى على أيدي آل عثمان، فاستردت أنفاسها، وبدأت دورة انتصار جديدة، ولكن على الصعيدين العسكري والسياسي، لا على الصعيدين الفكري والعقيدي والاجتهادي والثقافي، ورغم الانتصارات الهائلة، فإن الدولة العثمانية لم تستطع مواجهة التحديات الحضارية، التي فرضتها النهضة الأوروبية وحاول العثمانيون بقيادة سليم الثاني تطوير الدولة، والاستفادة من التصنيع، الذي نستطيع قوله: إن اليسار الذي أشار معالي الأمين في ورقته إليه، بعد أن نضجت الصحوة الإِسلامية، وبدأ المسلمون يفيقون من سباتهم، ويحاولون أن يبحثوا عن أصالتهم في كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم بدأ اليسار بكل فصائله يقذف هذه المرة لا بفكر مستشرقين، ولكن بفكر تلامذة لهم، معظمهم قد تخرج في أديرة النصارى، وتنصر بالفعل، وهناك وثائق تثبت تنصر هؤلاء الذين ذكرهم فضيلته في مقالته، فهذا التيار الجارف، قذف به ليدرس الفكر الإِسلامي والثقافة الإِسلامية وعلم الكلام والفقه، يبحث عن كل شبهة، وعن كل ثغرة، ليعرضها بين شباب المسلمين، المقترح الذي أود الوصول إليه: أن يخصص محور دائم في كل دورة من دورات هذا المجمع، للبحث في جميع القضايا التي تشكل تحديًّا للفكر الإِسلامي والثقافة الإِسلامية، والشريعة الإِسلامية، ويكشف سائر المحاولات المعادية للإسلام، في الفكر والثقافة والشريعة، سوف يكون ذلك – إن شاء الله – نافعًا في تحذير المسلمين وتوعيتهم، ومن أولى من المجمع الفقهي الدولي الإِسلامي بتحذير المسلمين وتوعيتهم؟ وشكرًا.(5/2909)
الدكتور عمر جاه:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرًا سيدي الرئيس. لقد استمعت إلى البحوث، وإلى التعليقات التي تفضل بها الإِخوة، ومما لا شك فيه أن قضية تطبيق الشريعة هي أساسية أو هي القضية الأساسية، ولولاها لما أنشئ هذا المجمع، فالمجمع أنشئ لإِيجاد وسائل عملية لتطبيق الشريعة الإِسلامية، وأذهب إلى أبعد من هذا وأقول: إن كل عمل، كل بحث، كل موضوع ناقشناه في هذا المنبر إنما هدف إلى تطبيق الشريعة، وأنا أرى أنه حتى مسائل البنوك، ومسألة الأسهم، ومسألة طفل الأنابيب، هذه كلها موضوعات تتعلق بوضع نظام شرعي يعيش عليه المسلمون، إذن فالمسألة لا ينبغي أن نفهمها كما يريد آباؤنا أن نفهم الشريعة فيها، فالشريعة هي دين الإسلام، الدين هو الشريعة، والشريعة هي الدين، وأتعاطف كثيرًا مع فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي حينما ذهب إلى القول: إن تطبيق الشريعة لا ينبغي أن أحصرها على مسألة الحدود أو القوانين، إنما الشريعة تعني سلوك الفرد، سلوك الفرد المسلم على المستوى الفردي، على المستوى الأسري، على المستوى الدولي، وعلى جميع المستويات، ويبقى لنا يا فضيلة الرئيس، أن نكون واقعيين مع أنفسنا، المطلوب هنا ليس توجيه دعوة أو استعطاف إلى رؤساء الدول، إلى القائمين بالأمر في دول الإسلام لتطبيق الشريعة، هذا لا يكفي، وأعتقد أننا كلنا نتفق، كلنا يتفق على أن رؤساء الدول يفهمون هذه القضية فهمًا دقيقًا، ولا يجهلون أبدًا أن الأمة الإِسلامية تريد أن تعيش مسلمة، لكن، كيف الطريق إلى ذلك؟ هذا مجمع علمي، فقهي، كون الوضع قواعد، وتسهيل الأمور، لكن يتسنى للحاكمين القائمين بالأمر ليتقيدوا وليطبقوا الشريعة، فأتناول قضية واحدة بسيطة لكنها قضية خطيرة، ولماذا نرى أن أجهزة الإِعلام في الغرب – نذكر إذاعة لندن داتشي فيلا وصوت أمريكا – هذه الأجهزة تركز تركيزًا كبيرًا على كل شيء يشير إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية، المشكلة في السودان، تطبيق الشريعة في السودان، أخرط سلاح مسلط على الحكومة السودانية، هي هذه وسائل الإِعلام، وما هي الطريقة التي نريد أن نستعملها نحن في هذا المجال؟ لأننا ينبغي أن نقوم بعملية توعية أساسية، حتى يقتدي الفرد المسلم بأنه من غير تطبيق الشريعة لا يعيش مسلمًا، أنا لا أتصور أن يكون هناك مسلم يعتقد أنه مسلم حقيقي إذا لم تعش الشريعة في اسمه، الشريعة في المسجد، الشريعة في وظيفته، الشريعة في كل ظاهرة من ظواهر حياته، ونقول: نتوجه إلى الحكام ليطبقوا الشريعة، فما بالنا بمئات الملايين إن لم يكن أكثر من خمسمائة مليون يعيشون خارج نطاق الدول المسلمة في الدول العربية الإِسلامية؟ ينبغي أن يُعنى بهم، ينبغي أن يستمر هذا الموضوع في كل جلسة من جلساتنا، وفي كل مرة نجتمع فيها نخصص وقتًا كافيًا لدراسة الموضوع من جميع نواحيه، ووضع حلول عملية منطقية نستعين بها لأن تطبق الشريعة، أكرر مرة ثانية أن الشريعة ليست حدودًا وليست قوانين إنما الشريعة هي دين، والسلام عليكم ورحمة الله.(5/2910)
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه وبعد:
الدين مثل ما قال الشيخ الأمين الخوجة "النصيحة" ومجمعنا هنا مجمع فقهي، ولا بد أن نؤدي النصيحة، وأن ما تعانيه الأمة الإِسلامية من مآسي سببها الرئيسي وسببها الأول هو عدم تطبيق الشريعة الإِسلامية، فأعتقد أن هذا الموضوع تأخيره بعد طرحه إثم، نأثم في الحقيقة إذا أخرناه ولو لحظة واحدة، ولذا أرى وأقترح ثلاثة أمور أو أربعة.
الأمر الأول: بأن ننادي وندعو المجتمع الإِسلامي شعوبًا – قبل الحكومات – شعوبًا وحكومات بتطبيق الشريعة الإِسلامية.
ثانيًا: أقترح بأن يقوم المجتمع – حالًا – في وضع الشريعة الإِسلامية بشكل مواد ميسرة للتطبيق مع التعاون مع من سبق في الأزهر، في جامعة الإِمام محمد بن سعود، في الإِمارات.
ثالثًا: الدعوة بالاعتناء بالمعاهد الشرعية لتخريج القضاة والفقهاء ليقوموا بالمهام القضائية.
رابعًا: تكوين لجنة من العلماء الأعلام والفقهاء البارزين، لوضع خطة عامة شاملة متكاملة لقواعد تطبيق الشريعة الإِسلامية، في المجتمع الإِسلامي، ثم بعد ذلك ندعو أيضًا المجتمع غير الإِسلامي لأنا نحن أمة – في الحقيقة – مطالبة بأن ندعو إلى دين الله والله سبحانه وتعالى خلقنا في هذا الكون وفي هذه الأرض لعبادته حيث قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . والعبادة عقيدة وشريعة ومنهج حياة وسلوك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/2911)
الدكتور أحمد محمد جمال:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لي تعليقات خفيفة أرجو أن أوفق لها، لا أريد أن نضيع الوقت في الحديث عن الاستعمار وعن كونه سببًا لعدم تطبيق الشريعة الإِسلامية في بلادنا، ولا نتحدث عن تاريخ هذا الاستعمار، لأننا نضيع الوقت في هذا الحديث الطويل العريض، ولا نريد أيضًا أن نتجه إلى المجتمعات – أي إلى الشباب والشعوب – كما جاء ذلك في بعض تعقيبات الإِخوة الأفاضل، لأن الشريعة الإِسلامية إذا لم تطبق من الرؤوس كما قلت في كلمتي السابقة: انحراف الشباب، انحراف النساء، انحراف الإِعلام الإِسلامي، كل هذه مرجعها إلى انحراف الرؤوس، نطبق الشريعة الإِسلامية من فوق: يصلح الإِعلام ويصلح التعليم وتصلح التربية ويصلح الشباب إذا بدأ التطبيق من الأعلى، وما لم نطبق الإسلام من الأعلى فلا يزال الشباب منحرفًا، والإِعلام منحرفًا والنساء منحرفات، وكل أمورنا تبقى كما هي، لنبدأ من الرؤوس وَلنَدْعُ الرؤوس أولًا قبل كل شيء أن تطبق شريعة الله عزَّ وجلّ، هذا ما أريد أن أقوله، ولي تعليق بسيط على الأخ قاسم، فهم كلمتي خطأ عن الآيات التي وردت في سورة المائدة، أنا قلت: إن الإِمام الطبري
يرى أنها خطاب لأهل الكتاب فقط، وأنها ليست خطابًا للمسلمين، وهذا خطأ في نظري لم أقل إنها لم تنزل في أهل الكتاب، وهي نزلت في خواتيم آيات تتعلق بأهل الكتاب، لكن الإِمام الطبري يرى أنها ليست خطابًا للمسلمين، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} , {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . يقول إن هذه ليست خطابًا للمسلمين، ورأيي أنها خطاب للمسلمين. هذا الذي قلته، ولم أقل إنها لم تنزل في أهل الكتاب، أنا الحمد لله حافظ القرآن ومؤلف فيه. وشكرًا.
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم.
ينبغي أن نلاحظ أولًا، أن المسلمين لم يحسب لهم أي حساب، إلا في الفترة التي حكَّموا فيها شريعة الله، وجعلوا القرآن دستورهم، والسنة قوانينهم المطبقة التنظيمية، واليوم ومجلسكم الموقر ومعقد آمال كل المسلمين، شعوبًا وحكومات ينبغي ألا يؤخر مستقبل المسلمين، وتطلعات أبناء المسلمين، قبل أن يتخذ فيها قرارًا حاسمًا يضع فيه الحاكمين والمحكومين أمام مسؤولياتهم، إن أولئك الذين يظنون أن الشريعة الإِسلامية لم تستجب، وليست قادرة على أن تستجيب لكل التطلعات، هم مخربون أكثر دسًّا من الصهاينة، وأكثر دسًّا من الكنيسة للمسلمين، وعلى هذا الأساس فإنما نتغاضى عن الشارع الإِسلامي، ولم يصبح شارعًا إسلاميًّا، فتبرج النساء أصبح الشباب يجهل أنه محرم، وشرب الخمر أصبح شباب المسلمين يجهلون أنه حرام، وقد أوشك الربا أن يصبح التعامل به، يجهل المسلمون أنه حرام. ولذا، انطلاقًا من هذه المعطيات التي لا يجادل فيها أحدنا إلا إذا كان يخادع نفسه، فإنني أقترح – نظرًا لضيق الوقت، ولكون كلماتي التي كنت أود أن أقول، قالها بعض الإخوان من قبلي بعض السادة العلماء الفضلاء أساتذتي – أقترح:
أولًا: أن تصدر هذه الندوة قرارًا كما قال الشيخ الحبيب يناشد الحكومات والشعوب بأن تطبق الشريعة الإِسلامية.(5/2912)
ثانيًا: أن تخصص ندوة يعلن تاريخها من الآن، على أن يبقى للأمانة العامة والرئاسة التداول مع دول الإسلام في مكانها، تخصص لتطبيق الشريعة الإِسلامية، على أن تكون البحوث المنصبة في تلك الندوة هي تعنى بوسائل تطبيق الشريعة الإِسلامية.
ثالثًا: قيام المجمع بإعداد مدونة تعنى بالمعاملات المدنية والتجارية، والقوانين الجنائية، لا كالتي سبقت لأن المدونات التي سبقت كان يعدها رجال القانون الذين تعلموا في الجامعات الأوروبية، وأتفق مع بعض الإِخوة الذين قالوا: إن المنطلق ليس واحدًا والأهداف ليست واحدة والغايات ليست واحدة، فتكون هذه من علماء المسلمين، ومن وضع الصورة الأساسية لقيام مجتمع يرضي الله ورسوله.
رابعًا: هو أن تقوم الأمانة العامة بمراسلات كل الجامعات الإِسلامية، لتعقد ندوات إقليمية، تدرس فيها وسائل تطبيق الشريعة الإِسلامية ميدانيًّا، ثم تبعث بما لديها إلى الأمانة العامة، قبل انعقاد الدورة القادمة تأسيًّا بما تقوم به جامعة الإِمام محمد ابن سعود جزاها الله خيرًا عن الاهتمام بالإِسلام.
وشكرًا لكم سيدي الرئيس.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
اللجنة إذا رأيتم: تتألف من المشايخ الآتية أسماؤهم:
عبد الوهاب أبو سليمان، وهبة الزحيلي، إبراهيم الكيلاني، عمر الأشقر، مصطفى العرجاوي، طه العلواني، مصطفى الغزالي مقررًا.
بهذا تنتهي هذه الجلسة، ونذكركم بأن هناك لجنة الصياغة مدعوة إلى الاجتماع في هذه الليلة في الساعة الثامنة والنصف في قاعة الروضة من هذا الفندق، وهم المشائخ الآتية أسماؤهم:
حسن الشاذلي، العاني، سامي حمود، محمد الأشقر، الأمين عبد الله محمد، عبد الله ابن منيع، محمد عطا، عمر الأشقر، مصطفى الغزالي.
وصلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وَعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.(5/2913)
القَرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (10)
بشأن
تطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية
إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطِّلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبمراعاة أن مجمع الفقه الإِسلامي الذي انبثق عن إرادة خيرة من مؤتمر القمة الإِسلامية الثالثة بمكة المكرمة، بهدف البحث عن حلول شرعية لمشكلات الأمة الإِسلامية وضبط قضايا حياة المسلمين بضوابط الشريعة الإِسلامية، وإزالة سائر العوائق التي تحول دون تطبيق شريعة الله وتهيئة جميع السبل اللازمة لتطبيقها، وإقرارًا بحاكمية الله تعالى، وتحقيقًا لسيادة شريعته، وإزالة للتناقض القائم بين بعض حكام المسلمين وشعوبهم وإزالة لأسباب التوتر والتناقض والصراع في ديارهم وتوفيرًا للأمن في بلاد المسلمين.
قرر:
أن أول واجب على من يلي أمور المسلمين تطبيق شريعة الله فيهم، ويناشد جميع الحكومات في بلاد المسلمين المبادرة إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية وتحكيمها تحكيمًا تامًّا كاملًا مستقرًا في مجالات الحياة، ودعوة المجتمعات الإِسلامية أفرادًا وشعوبًا ودولًا للالتزام بدين الله تعالى وتطبيق شريعته باعتبار هذا الدين عقيدة وشريعة وسلوكًا ونظام حياة.
ويوصي بما يلي:
(أ) مواصلة المجمع الأبحاث والدراسات المتعمقة في الجوانب المختلفة لموضوع تطبيق الشريعة الإِسلامية ومتابعة ما يتم تنفيذه بهذا الشأن في البلاد الإِسلامية.
(ب) التنسيق بين المجمع وبين المؤسسات العلمية الأخرى التي تهتم بموضوع تطبيق الشريعة الإِسلامية وتعد الخطط والوسائل والدراسات الكفيلة بإزالة العقبات والشبهات التي تعيق تطبيق الشريعة في البلاد الإِسلامية.
(ج) تجميع مشروعات القوانين الإِسلامية التي تم إعدادها في مختلف البلاد الإسلامية ودراستها للاستفادة منها.
(د) الدعوة إلى إصلاح مناهج التربية والتعليم ووسائل الإِعلام المختلفة، وتوظيفها للعمل على تطبيق الشريعة الإِسلامية، وإعداد جيل مسلم يحتكم إلى شرع الله تعالى.
(هـ) التوسع في تأهيل الدارسين والخريجين من قضاة ووكلاء نيابة ومحامين لإعداد الطاقات اللازمة لتطبيق الشريعة الإِسلامية.
والله الموفق.(5/2914)
قرار بشأن
ميزانية المجمع للسنة المالية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
1408/1409هـ - 1988/1989م
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على تقرير مدقق الحسابات عن السنة المالية 1407/1408هـ (1987/1988م) .
وبعد تدارسه لمشروع ميزانية المجمع للسنة المالية 1408/1409هـ (1988/1989م) .
وبعد تدارسه لمشروع ميزانية المجمع للسنة المالية 1408/1409هـ (1988/1989م) المقدم من الأمانة العامة، والبالغة مليوني دولار أمريكي.
قرر:
الموافقة على المشروع بالمبلغ الإجمالي المقرر له.
ويوصي بما يلي:
أولا: حث الدول الأعضاء في المجمع على الوفاء بالتزاماتها بالنسب المكتتب بها في ميزانية المجمع مما لم يقع الوفاء به، لكي يمكنه مواصلة مسيرته على الوجه المأمول.
ثانيا: دعوة الأعضاء المنتدبين من دولهم لبذل مساعيهم لسداد دولهم التزاماتها كاملة من خلال توضيح الظروف المالية التي يمر بها المجمع وما ينشأ عن ذلك من البطء في إنجاز مشاريعه العلمية التي تعود بالخير والنفع على الأمة الإسلامية.
ثالثا: مناشدة اللجنة المالية الدائمة للسعي لدى الدول الأعضاء لسداد مساهماتها في ميزانية المجمع لكي يتمكن من أداء رسالته كاملة.
والله الموفق.
وبإثر ذلك رفع الشيخ الرئيس الجلسة.(5/2915)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (1)
بشأن تنظيم النسل
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تنظيم النسل) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأن إهداره يتنافى مع النصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها.
قرر ما يلي:
أولا: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب.
ثانيا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم , ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية.
ثالثا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعا بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض، بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم. والله أعلم.(5/2916)
قرار رقم (2، 3)
بشأن
الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي (الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما.
قرر:
أولًا: أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعًا، هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه.
ثانيًا: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب ودخل الوعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
ثالثًا: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة ((لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.))
ويوصي المؤتمر:
في ضوء ما لاحظته من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء.
يوصي بما يلي:
أولًا: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد ولا سيما إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى.
ثانيًا: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية، لوضع اصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء.
والله أعلم(5/2917)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ,الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (4) بشأن
تغيُّر قيمة العملة
إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1998م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تغير قيمة العملة) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (9) في الدورة الثالثة بأن العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمينة كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما.
قرر ما يلي:
- العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًا كان مصدرها بمستوى الأسعار.
والله أعلم.(5/2919)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (5)
بشأن
الحقوق المعنوية
إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الحقوق المعنوية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولًا: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها. وهذه الحقوق يعتد بها شرعًا فلا يجوز الاعتداء عليها.
ثانيًا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك اصبح حقًا ماليًا.
ثالثًا: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعًا ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها.
والله أعلم.(5/2920)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه
قرار رقم (6)
بشأن
الإيجار المنتهي بالتمليك
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ/10 إلى 15 كانون الأول) ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع) الإيجار المنتهي بالتمليك) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (1) في الدورة الثالثة بشأن الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامى للتنمية فقرة (ب) بخصوص عمليات الإيجار.
قرر
أولاً: الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى منها البديلان التاليان.
(الأول) : البيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية
(الثاني) : عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في واحد من الأمور التالية:
- مد مدة الإجارة.
- إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها.
- شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.
ثانياً: هناك صور مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك تقرر تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة بعد تقديم نماذج لعقودها وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود بالتعاون مع المصارف الإسلامية لدراسته وإصدار القرار في شأنها.
والله أعلم.(5/2921)
قرار التأجيل للدورة السادسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (7)
بشأن
التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد عرض موضوع (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها)
قرر:
تأجيل النظر في موضوع (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) لإصدار القرار الخاص به إلى الدورة السادسة من أجل مزيد من الدراسة والبحث.
والله الموفق.(5/2922)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (8)
بشأن
تحديد أرباح التجار
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي لمنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تحديد أرباح التجار) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولا: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارا في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملًا بمطلق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .
ثانيًا: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التجار والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير.
ثالثًا: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش، والخديعة، والتدليس، والاستغفال، وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة.
رابعًا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللًا واضحًا في السوق والأسعار ناشئًا من عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذٍ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش.
والله اعلم.(5/2923)
لقرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (9)
بشأن
العرف
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادي الأولى 1409هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (العرف) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولًا: يراد بالعرف ما اعتاده الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، وقد يكون معتبرًا شرعًا أو غير معتبر.
ثانيًا: العرف إن كان خاصًّا فهو معتبر عند أهله وإن كان عامًّا فهو معتبر في حق الجميع.
ثالثًا: العرف المعتبر شرعًا هو ما استجمع الشروط الآتية:
(أ) أن لا يخالف الشريعة، فإن خالف العرف نصًّا شرعيًّا أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنه عرف فاسد.
(ب) أن يكون العرف مطردًا (مستمرًا) أو غالبًا.
(ج) أن يكون العرف قائمًا عند إنشاء التصرف.
(د) أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه فلا يعتد به.
رابعًا: ليس للفقيه – مفتيًا كان أو قاضيا- الجمود على المنقول في كتب الفقهاء من غير مراعاة تبدل الأعراف.
والله أعلم.(5/2924)
القَرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (10)
بشأن
تطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية
إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطِّلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبمراعاة أن مجمع الفقه الإِسلامي الذي انبثق عن إرادة خيرة من مؤتمر القمة الإِسلامية الثالثة بمكة المكرمة، بهدف البحث عن حلول شرعية لمشكلات الأمة الإِسلامية وضبط قضايا حياة المسلمين بضوابط الشريعة الإِسلامية، وإزالة سائر العوائق التي تحول دون تطبيق شريعة الله وتهيئة جميع السبل اللازمة لتطبيقها، وإقرارًا بحاكمية الله تعالى، وتحقيقًا لسيادة شريعته، وإزالة للتناقض القائم بين بعض حكام المسلمين وشعوبهم وإزالة لأسباب التوتر والتناقض والصراع في ديارهم وتوفيرًا للأمن في بلاد المسلمين.
قرر:
أن أول واجب على من يلي أمور المسلمين تطبيق شريعة الله فيهم، ويناشد جميع الحكومات في بلاد المسلمين المبادرة إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية وتحكيمها تحكيمًا تامًّا كاملًا مستقرًا في مجالات الحياة، ودعوة المجتمعات الإِسلامية أفرادًا وشعوبًا ودولًا للالتزام بدين الله تعالى وتطبيق شريعته باعتبار هذا الدين عقيدة وشريعة وسلوكًا ونظام حياة.
ويوصي بما يلي:
(أ) مواصلة المجمع الأبحاث والدراسات المتعمقة في الجوانب المختلفة لموضوع تطبيق الشريعة الإِسلامية ومتابعة ما يتم تنفيذه بهذا الشأن في البلاد الإِسلامية.
(ب) التنسيق بين المجمع وبين المؤسسات العلمية الأخرى التي تهتم بموضوع تطبيق الشريعة الإِسلامية وتعد الخطط والوسائل والدراسات الكفيلة بإزالة العقبات والشبهات التي تعيق تطبيق الشريعة في البلاد الإِسلامية.
(ج) تجميع مشروعات القوانين الإِسلامية التي تم إعدادها في مختلف البلاد الإسلامية ودراستها للاستفادة منها.
(د) الدعوة إلى إصلاح مناهج التربية والتعليم ووسائل الإِعلام المختلفة، وتوظيفها للعمل على تطبيق الشريعة الإِسلامية، وإعداد جيل مسلم يحتكم إلى شرع الله تعالى.
(هـ) التوسع في تأهيل الدارسين والخريجين من قضاة ووكلاء نيابة ومحامين لإعداد الطاقات اللازمة لتطبيق الشريعة الإِسلامية.
والله الموفق.(5/2925)
الجلسة التنظيمية
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
افتتحت هذه الجلسة بكلمة من الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي وحضرها أعضاء مجلس المجمع خاصة، فأعلن الأمين العام أن المدة الرئاسية للدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ولنوابه الثلاثة: الدكتور عبد السلام داود العبادي، الشيخ الحاج عبد الرحمن باه، الدكتور عبد الله إبراهيم قد انتهت كما أن عضوية المكتب المتمثلة في نواب: مالي، السنغال، الجزائر، تركيا، باكستان، الكويت قد مر عليها أكثر من ثلاث سنوات.
وبناء على الفقرة الثانية من المادة الرابعة عشرة وعلى الفقرة الثانية من المادة الثامنة عشرة من نظام المجمع اللتين تنصان على أن المدة الرئاسية والعضوية بمكتب المجمع تكون لثلاث سنوات قابلة للتجديد. عرض الأمين العام على المجلس انتخاب أعضاء آخرين لهذه المهام أو التجديد للسادة الأساتذة الذين كانوا يباشرون هذه المهام.
وبعد تدخل عدد من الأعضاء منوهين بما قام به الإخوة المتخلون من جهود مشكورة، رأى المجلس بالإجماع أن يجدد لهم جميعا المهام التي كانوا يضطلعون بها في الفترة الماضية.
وبإثر ذلك اقترح الأمين العام على المجلس تعيين الدكتور عبد الستار أبو غدة مقررا عاما للدورة الخامسة ولقي هذا الترشيح مساندة كاملة وإجماعا من الأعضاء.
وبإثر ذلك دعى فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد لأخذ مكانه وإدارة أعمال المجلس.(5/2926)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ولي الخلق والأمر والتدبير، غافر الذنوب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وعلى أصحابه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فعودا حميدا وبدءا سعيدا في هذه الدورة الخامسة، قبل أن نبتدئ الجلسة العلمية الأولى في مساء هذا اليوم السبت، نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق والسداد والوصول إلى ما يرضي ربنا سبحانه وتعالى. والموضوع الذي سيكون في هذه الجلسة هو في مسألة النازلة المعاصرة " منع الحمل " بألقابها التي وردت على سبيل التتابع.
أعطي الكلمة لفضيلة الشيخ الأمين العام ليعرض عليكم أسماء المقررين والعارضين لموضوعات هذه الدورة. وشكرا.(5/2927)
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم. صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حضرات الأساتذة،
يشرفني في بداية عمل هذا المجلس المبارك في الجلسة الثانية من مؤتمرنا هذا أن أعرض عليكم اقتراح بعض الأسماء للسادة الأعضاء والخبراء الذين نرشحهم مقررين للموضوعات المطروحة في هذه الدورة.
ففي موضوع تحديد النسل نقترح على حضراتكم أن يكون المقرر فضيلة الدكتور حسن على الشاذلي.
وفي موضوع الوفاء بالوعد فضيلة الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني.
وفي موضوع المرابحة للآمر بالشراء فضيلة الدكتور سامي حسن محمود.
وفي موضوع تغيير قيمة العملة فضيلة الدكتور محمد سليمان الأشقر.
وفي موضوع الحقوق المعنوية فضيلة الدكتور حسن عبد الله الأمين.
وفي موضوع التأجير المنتهي بالتمليك فضيلة الدكتور عبد الله محمد عبد الله، وفي موضوع التمويل العقاري لبناء المساكن فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع.
وفي موضوع تحديد أرباح التجار فضيلة الدكتور محمد عطا السيد.
وفي موضوع العرف فضيلة الدكتور عمر سليمان الأشقر.
وفي موضوع تطبيق الشريعة فضيلة الشيخ مصطفى الغزالي.
فهؤلاء هم مقررو اللجان أو الموضوعات المطروحة، وتتكون منهم جميعا لجنة الصياغة التي يترأسها المقرر العام الدكتور عبد الستار أبو غدة، فإذا كنا متفقين على هذا ننتقل إلى النقطة الثانية.
الرئيس:
بعد قبول هذه الترشيحات بالإجماع أعطي الكلمة للأمين العام ليحدثنا عن النقطة الثانية.(5/2928)
الأمين العام:
تتمثل هذه النقطة في كون الموضوعات المطروحة على الدرس، الموضوع الأول مثلا تنظيم النسل أو تحديده فيه عدد كبير من العروض، وإن الذين كتبوا في هذا الموضوع يبلغ عددهم خمسة وعشرين.
والموضوع الثاني الوفاء بالوعد ثمانية،
المرابحة للآمر بالشراء عشرة،
وتغير قيمة العملة أحد عشر،
والحقوق المعنوية اثني عشر،
والتأجير المنتهي بالتمليك أربعة،
والتمويل العقاري لبناء المساكن واحد،
وتحديد أرباح التجار خمسة،
والعرف أحد عشر،
وتطبيق الشريعة اثنين،
وليس من الممكن أبدا نظرا لضيق الوقت ولكون هذه الدورة تتناول كل هذه الموضوعات، أن نستمع إلى كل بحث على حدة، وأن نقوم بمناقشته منفردا.
ولذلك نقترح عليكم بعض الأسماء لمن شاركوا في إعداد هذه الموضوعات ليتولوا العرض، والبقية ممن كتب فيها أحق الناس بإبداء الرأي وبيان وجهة النظر، ولفت الانتباه إلى جوانب ربما يكون قد أهملها الأول فيقع تداركها وذلك في طور المناقشة.(5/2929)
وبناء على ذلك نقترح بالنسبة لموضوع تحديد النسل عارضين: فضيلة الشيخ إبراهيم فاضل الدبو، وسعادة الدكتور حسان حتحوت.
وبالنسبة لموضوع الوفاء بالوعد عارضا واحدا هو الدكتور نزيه كمال حماد،
وبالنسبة لموضوع المرابحة للآمر الدكتور على أحمد السالوس،
وبالنسبة لموضوع تغير قيمة العملة القاضي محمد تقي العثماني.
وبالنسبة لموضوع الحقوق المعنوية "بيع الاسم التجاري" الدكتور وهبة الزحيلي.
وبالنسبة لموضوع التأجير المنتهي بالتمليك الدكتور عبد الله محفوظ بن بيه،
وبالنسبة لموضوع التمويل العقاري لبناء المساكن الدكتور محي الدين قادي،
وبالنسبة لموضوع تحديد أرباح التجار فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي،
وبالنسبة لموضوع العرف فضيلة الشيخ خليل محي الدين الميس،
وبالنسبة لموضوع تطبيق الشريعة فضيلة الدكتور عبد الوهاب أبو سلمان.
وشكرا سيدي الرئيس.
الرئيس:
شكرا. لعل هذا الترتيب بالنسبة للمقررين والعارضين إن شاء الله تعالى يكون مناسبا.
وبعد الاتفاق على العارضين والمقررين لكل موضوع. طرح رئيس المجمع الموافقة على ميزانية المجمع المعروضة على المجلس قصد مناقشتها واعتمادها.
وتمت بإثر ذلك المصادقة عليها بالإجماع.
وصدر بذلك القرار المجمعي الذي نصه:(5/2930)
الجلسة الختامية
(1) كلمة معالي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت
الأستاذ خالد أحمد الجسّار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.. وأصلي وأسلم على محمد سيد الأنبياء والرسل والقائل: ((من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين)) وعلى آل بيته الأطهار، وصحابته الأخيار.
صاحب الفضيلة رئيس هذه الدورة رئيس المجمع الفقهي الإسلامي الدكتور بكر أبو زيد،
صاحب الفضيلة الدكتور ممد الحبيب ابن الخوجة،
صاحب الفضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة،
أصحاب الفضيلة والعلماء المشاركون في هذه الدورة،
تحية لكم من عند الله مباركة طيبة:
نحن في هذه الجلسة الختامية وقد انقضى أسبوع، كان أسبوع العلم والفقه، وكانت موضوعيته وجديته ومقاصده محل إعجاب المجتمع، سواء كان في الكويت وأعتقد أنه كذلك خارج الكويت، لقد أعطيتم الكثير من بحوثكم، وناقشتم ما طرحتموه بموضوعية جادة لا يدخلها شيء يشوبها، وكانت محفوفة بالعلم والفضل، وهذا هو شأن العلماء وشأن الفضلاء وشأن الفقهاء.
وإذا كان المجمع الفقهي هو ثمرة من ثمرات المؤتمر الإِسلامي فسيأتي المؤتمر الإِسلامي كذلك بثمرات أخرى، ولا أبالغ إذا قلت: كاد اليأس يغلب الرجاء في الفقه وضياعه، وكاد يضيع هذا التراث من بين يدي المسلمين فهيَّأ الله له من يبعثه من جديد من مرقده، وأصبح له صوته وله حكمه وله قوته في المجتمع الإِسلامي، وسيزداد يومًا بعد يوم بإخلاصكم وجديتكم وتفانيكم في هذا المجال فبارك الله فيكم، ولا يسعنا بهذه المناسبة ونحن في الجلسة الختامية إلاَّ أن نقدم أخلص الشكر لصاحب السمو أمير البلاد – حفظه الله – على استضافته للمجمع، وإحاطته ورعايته والعناية به، وهو دأبه في كل ما يتصل بالإسلام والمسلمين، كما أنني أكرر الشكر لكم مرة أخرى، وقد أكون عاجزًا عن الشكر فيما قدمتموه خلال أسبوع كامل من هذا البحث الموضوعي الهادف، وقد أتى ثماره، وتليت عليكم قراراته وتوصياته. فشكرًا لكم وبارك الله فيكم.(5/2931)
وأحب أن أقول لأصحاب الفضيلة والفقهاء والضيوف الكرام، إن اهتمام دولة الكويت وعلى رأسها حضرة صاحب السمو – حفظه الله – ماضٍ بدعم جهود مجمع الفقه الإِسلامي لتحقيق أهدافه وغاياته ومقاصده، بالتعاون مع إخوانه ملوك ورؤساء الدول الإِسلامية من أعضاء منظمة المؤتمر الإِسلامي ونحن سعداء وموفقون كل التوفيق أن يكون هناك تعاون بين المجمع الفقهي الإِسلامي وبين وزارة الأوقاف فيما تقوم به من نشاط فقهي، ومن إحياء للتراث الإِسلامي، ولا أخص بذلك وزارة الأوقاف في الكويت، فقد يكون هناك وزارات أخرى في العالم الإِسلامي تسير نحو المنهج، فالوزارة أصدرت "الموسوعة الفقهية" وقد سلمت إليكم وإلى فضيلتكم ونأمل أن تكون موضع إعجابكم، إن شاء الله.
أصحاب الفضيلة والعلماء:
إن أسبوع الفقه الإِسلامي الذي انعقد في الكويت، يعطي صورة صادقة جدية عندما يعمل أصحاب الفضيلة والعلماء في هذا المجال، ولقد كنتم محل إعجاب المجتمع في الكويت، سمعتها من مختلف الطبقات ومن مختلف الثقافات أن المجمع الفقهي الذي انعقد في الكويت ضرب المثل الأعلى في مصداقيته في عمله، وفي جديته، وفي أصوليته للوصول إلى ما يهدف إليه فأهنئكم بهذا، وأنا واثق أنكم ستسمعون ما أقول في بلادكم عندما تذهبون إليها سالمين غانمين إن شاء الله، فشكرًا لكم وشكرًا لكل من تعاون معنا في هذا المجمع، ولا أحب أن أطيل، إنما أختم كلمتي بأني أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق هذه الأمة، وأن يجمعها على كلمة الخير، وأن يحقق المقاصد والأهداف، ونسأله تعالى أن يحفظ صاحب السمو أمير البلاد – حفظه الله – الذي كان حريصًا على هذا المجمع، وكان حريصًا على نجاحه في رسالته، وقد حقق المجمع ذلك، كما نشكر سمو ولي العهد، شكرًا لكم وبارك الله فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/2932)
(2)
كلمة معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإِسلامي
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدًا يليق بجزيل آلائه من معترف بنعمائه، مستزيد من كريم عطائه، والصلاة والسلام الأتّمان الأكملان على خير أصفيائه وخاتم أنبيائه سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه.
معالى الوزير،
سيدي الرئيس،
حضرات الإِخوة،
لقد كان انعقاد مؤتمر هذه الدورة الخامسة لمجمع الفقه الإِسلامي في دولة الكويت، بالاستضافة الكريمة من صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت رئيس القمة الإِسلامية الخامسة، من خلال الدعوة التي نقلها للمجمع معالي الأستاذ خالد أحمد الجسَّار وزير الأوقاف والشؤون الإِسلامية، وقد شرف سمو أمير دولة الكويت عقد هذه الدورة برعايته الشخصية، وإشرافه الكريم المباشر، حيث تولى حفظه الله تتويج الجلسة الافتتاحية بإلقائه الخطاب الجامع الذي اهتزَّ له المؤتمر، وتأثر به، واعتمده وثيقة من وثائق المجمع لعظيم أهميته وما تناوله من حقائق ونبه إليه من مقاصد فقد أشار فيه سموه – حفظه الله - إلى منزلة الفقه وإلى ما يقابله الفكر الإِسلامي من تحديات ومشكلات تتطلب حلولًا اجتهادية إيجابية، وتحدث عن الصحوة الإِسلامية والمستويات المستلزمة للمسؤولية ودور التربية، كما نوه بالإِخاء الإِسلامي والإِنجاز الذي حققته القضية الفلسطينية والاستبشار بالتطور في العلاقات العراقية الإِيرانية، وقضية فلسطين فضلًا عن الجوانب الاقتصادية والإِنسانية للأمة الإِسلامية كما أبدى سموه – حفظه الله – الأمل والتطلع إلى اليوم الذي يلتقي فيه علماء الإسلام على دستور عمل يجمع المسلمين ويوجههم إلى بناء مستقبل رشيد، ثم تفضل معالي وزير الأوقاف والشؤون الإِسلامية بإلقاء كلمته البليغة التي بين فيها دور المجمع ومنزلته في حل المشكلات العصرية، وتوأمته مع مشاريع الوزارة العلمية والمؤسسات الثقافية التي تحفل بها دولة الكويت، ثم تحدث على التوالي كل من معالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزادة أمين عام منظمة المؤتمر الإِسلامي.(5/2933)
وفضيلة الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، رئيس مجلس المجمع، والشيخ محمد الحبيب بلخوجة الأمين العام للمجمع، وقد شهد حفل افتتاح هذه الدورة صاحب السمو الأمير الشيخ سعد بن عبد الله الصباح، ولي العهد – حفظه الله – وعدد كبير من أعضاء الحكومة، وثلة من رجال السلك الدبلوماسي الإِسلامي، وكان من ضيوف المؤتمر ممن شارك في حفل الافتتاح أصحاب المعالي وزراء الأوقاف في دولة الإمارات، والبحرين، والعراق، ومصر. ورئيس البنك الإِسلامي للتنمية، وأمين عام جمعية الدعوة الإِسلامية العالمية، وشارك في أعمال هذه الدورة خمسة وثلاثون من الأعضاء المنتدبين من دولهم، وأربعة من الأعضاء المعينين، وقرابة عشرة ومائة من الخبراء والباحثين، واستمرت أعمال هذه الدورة لمدة ستة أيام، ابتداء من 1 – 6 جمادي الأولى 1409 هـ الموافق 10 – 15 ديسمبر 1988م، وتم في جلستها الثانية الإجرائية المغلقة تجديد انتخاب فضيلة رئيس مجلس المجمع الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، ونوابه الثلاثة، كما وقع التجديد لأعضاء مكتب المجمع وتعيين المقرر العام للدورة الدكتور عبد الستار أبو غدة، وتأليف لجنة الصياغة من مقرري الجلسات للموضوعات العشرة المطروحة على الدورة وبإثر ذلك عرض على المجلس جدول الأعمال فأقره بدون تغيير، ودرس مشروع الميزانية المقدم له من طرف الأمين العام وتم إقراره ليرفع إلى اللجنة المالية الدائمة لمنظمة المؤتمر الإِسلامي … وكانت الموضوعات المطروحة على الدورة الخامسة والتي استمع فيها المؤتمر للعروض المقدمة لها على نسق، هي: تنظيم النسل، والوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء، وتغير قيمة العملة، والحقوق المعنوية (بيع الاسم التجاري والترخيص) ، والتأجير المنتهي بالتمليك، والتمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها، وتحديد أرباح التجار، والعرف، وتطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية.
وقد قدم في هذه الموضوعات العشرة تسعون بحثًا، وناقش المؤتمر أحد عشر عرضًا فيها خلال ثلاث عشرة جلسة، وصدرت بشأن القضايا المعروضة على النظر والدرس القرارات والتوصيات المناسبة التي استمعتم حضراتكم إليها بعد أن صادق عليها أعضاء المجلس، والتي تم توزيعها عليكم.
كما أقرت الدورة مشروعًا علميًّا جديدًا نيط إنجازه بالمجمع، وهو دراسة النظام الأساسي للجنة الإِسلامية الدولية للقانون، والنهوض بمهامها بعد إحالة ذلك للمجمع بقرار من مؤتمر وزراء الخارجية الإِسلامي السابع عشر المنعقد بعمان – الأردن، في السنة الماضية.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أجزل عظيم الشكر والتقدير لسمو أمير دولة الكويت – أعزه الله ونصره – ولولي عهده الأمين – رعاه الله وحفظه – ولأعضاء الحكومة وبخاصة وزير الأوقاف والشؤون الإِسلامية، جزاهم الله عنا كل خير.(5/2934)
وإني لأنوِّه باللجان الإِعلامية، والإِدارية، والفنية، والسكرتارية العامة، وأخص بالشكر السيد وكيل الوزارة الأستاذ محمد ناصر الحمضان، على ما لقيناه من صنوف الإِكرام والحفاوة والتسهيلات والسعي الدؤوب لإِنجاح أعمال هذه الدورة على نمط من التنظيم فريد. كما أشكر السادة أعضاء هذا المجمع وخبراءه على ما بذلوه من جهد خلال هذا الأسبوع، ولا سيما المقرر العام للدورة الدكتور عبد الستار أبو غدة، ولجان الصياغة وأجهزة الإِعلام العامة، والمؤسسات الثلاث التي أسهمت في أعمال هذه الدورة، وأبت إلاَّ أن تكرم المشاركين فيها، وأعني بها بيت التمويل الكويتي والهيئة الإِسلامية الخيرية العالمية، والمنظمة الإِسلامية للعلوم الطبية تلك المنظمة التي كان لها الفضل في المبادرة إلى توقيع ميثاق للتعاون بينها وبين المجمع، ليكون هذا تعزيزًا لما تحرص عليه الجهتان من التنسيق والعمل الجماعي المنظم لتحقيق أهدافهما في المجالات المشتركة، وأشكر لمعالي الرئيس الشيخ بكر بن أبي زيد، حسن إدارته وجميل أدبه وجهوده المتواصلة لتحقيق الخير للمجمع، والنهوض بكل الوسائل المتاحة له لبلوغ وتحقيق أهدافه.
وختامًا: آمل أن تكون هذه الدورة إضافة جديدة إلى منجزات مجمعكم الموقر، وأن يتضاعف نشاطه عامًا بعد عام ليواصل مسيرته في سبيل خير الأمة الإِسلامية، وإلى لقاء خير جديد حافل بالجهود العلمية والدراسات الشرعية الفقهية، والقرارات المجمعية العملية، تتجلى به الحقائق وتؤصل به الأنظار والقواعد، وتبين به المناهج القويمة والمسالك الرشيدة بتوفيق من الله العزيز الحميد، وتسديد كريم من الله سبحانه إنه ولي الخير والهادي إلى أقوم سبيل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم …(5/2935)
(3)
كلمة معالي رئيس مجمع الفقه الإِسلامي
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وسلم عليه وعلى آله وعلى أصحابه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن أهل العلم والإِيمان من سلف هذه الأمة أبانوا غاية البيان وأوضحوا غاية الإِيضاح عن منزلة العلم في الإِسلام، وقد كان من دقيق تراجمهم باب: "العلم قبل القول والعمل" وإن مجمع الفقه الإِسلامي في دورته الخامسة هذه، قد أمد المسلمين والباحثين والدارسين بجملة وافرة من البحوث والدراسات الإِسلامية في القضايا والنوازل المعاصرة، بلغت نحوًا من تسعين بحثًا إضافة إلى بحوثه السابقة في دوراته المنصرمة والتي تمثل مجموعها نحوًا من خمسين ومائتين من البحوث، وأنتج عشرة كاملة من القرارات الفقهية إضافة إلى القرارات الإِدارية تنضم جميعها إلى قراراته المجمعية والتي تبلغ نحوًا من خمسة وأربعين قرارًا، وكل هذه القرارات – ولله الحمد والمنّة – تتسم بالوسطية والاعتدال بالرأي لأنها تناشد الدليل من الكتاب والسنة ومصادر الشريعة الأصلية والتبعية كافة، وإن هذا المجمع برجاله أعضائه العاملين والمعينين والباحثين والخبراء تمَّ بفضل الله على أيديهم، ثم بفضل جهودهم أن يكون الاعتدال والوسطية في الرأي هو النتيجة التي تكون في قرارات هذا المجمع، وعليه فإنني أبشركم وسائر المسلمين ممن يسمع أو تبلغه كلمتي هذه أنه لا مكان للشذوذ في الرأي في هذا المجمع بحمد الله، وأنه لا مكان لتبرير واقع آثم في هذا المجمع بحمد الله، فكل ذلك منبوذ نبذ النواة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
هذا وإن من رد أعجاز الكلم على صدرها، وإن من محاسن الشريعة ومكارمها وسمو آدابها إبداء الاعتراف بالفضل لأهله والبر للبررة، فنشكر صاحب السمو أمير البلاد سمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، على كريم عنايته وضيافته وتتويجه هذه الدورة بالافتتاح ونشكر سمو ولي العهد الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح، على جهوده المباركة ولا نملك لهما إلاَّ الدعاء الصالح وأن ينفع بهما الإسلام والمسلمين إنه على كل شيء قدير.(5/2936)
هذا:
إذا ما راية نصبت لمجد
تلقاها الموفق باليمين
وذلك أن معالي وزير الأوقاف والشؤون الإِسلامية الأستاذ خالد الأحمد الجسار، قد بذل عناية فائقة، ودقة في تسيير الأعمال، ومراقبة دقيقة آناء الليل وأطراف النهار، يشاهده كل واحد من أعضاء هذا المجمع، وكل زائر لهذا المبنى، فجزاه الله كل خير، وقد كان هذا من أعظم الأسباب التي وفرت على المجمع نجاحه، ومن توفيق الله له أن كان بجانبه ثلة من العاملين في وزارة الأوقاف وعلى رأسهم سعادة الأستاذ الفاضل محمد بن ناصر الحمضان، وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية، ووكلاؤه المساعدون، ومدراء الإدارات، وأجهزة الإِعلام، وغيرهم من رجال هذه الحكومة، فإلى جميع هؤلاء أجزي خالص الشكر والتقدير ودعوة صالحة لهم في الحاضر والعاجل فجزاهم الله خيرًا..
هذا، وإن معالي أمين هذا المجمع الشيخ محمد الحبيب بالخوجة، الشاب الفتي في روحه وأخلاقه وتصرفاته، الشيخ في سنه، والذي عركته الحياة، وعرف تجارب الأمم والدول إضافة إلى علمه وفضله، فله مني ومن جميع الأعضاء خالص الشكر والتقدير، لدقة ترتيبه وتنظيمه وعنايته في نجاح هذه الدورة، ولرجال الأمانة العاملين فيها من السكرتارية والراقمين وغيرهم، أبدي خالص الشكر والتقدير.
وفي النهاية أدعو الله فأقول: اللهمَّ اجعل عملنا كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لواحد فيه شيئًا، اللهمَّ أعز الإسلام والمسلمين وانصر عبادك المؤمنين …
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين …
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبهذا تُرفع الجلسة.. وشكر الله سعيكم.(5/2937)
العدد السادس(6/1)
كلمة
معالي الأمين العام
لمنظمة المؤتمر الإسلامي
الدكتور حامد الغابد
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد المبعوث للعالمين.
إنه لمن دواعي السرور والبهجة أن أقدم هذا العدد السادس من مجلة مجمع الفقه الإسلامي إلى ملوك ورؤساء الدول الإسلامية وإلى كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية.
وهذا العدد - كالأعداد السابقة - يزخر بموضوعات تخص حياة كل مسلم نعم لقد عالج المجمع من خلال هذا العدد موضوعات متنوعة ومتجددة ومشكلات عدة تشغل بال كل مسلم، وكأن المجمع فحص ضمير كل فرد من المسلمين وتعرف على ما يقلق ضمائرهم ويشغل أذهانهم، فجاء اختيار هذه الموضوعات ناطقاً بلسان أحوالهم.
فعلى سبيل المثال لا الحصر من ضمن المسائل التي بحثت في هذا العدد: حكم زراعة الأعضاء، حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة، حكم التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها. إلخ. فهذه المسائل - كما هو واضح - تعد كلها من قضايا الساعة.
فقام علماؤنا الأجلاء - أعضاء المجمع - بتناول هذه الموضوعات دراسة وعرضًا ومناقشة، ثم توصلوا فيها - بحمد الله - إلى حلول ناجعة ومقنعة.
فجزى الله - عن الإسلام والمسلمين- هذه النخبة من علماء الأمة.
وهذا في الواقع ليس بغريب ولا بجديد على المجمع، فلقد دأب منذ إنشائه على مواكبة الحياة العصرية وتطور العلوم بجميع أنواعها، وذلك باستباق الحوادث والبحث عن حل لكل ما يطرأ على الحياة اليومية للمسلمين من مشكلات وقضايا معقدة، مستقيًا تلك الحلول من نبع شريعتنا الغراء.
فدور المجمع - من بين كل المؤسسات المنبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي - دور متميز وحيوي حيث إن الأمانة العامة للمنظمة والمؤسسات الأخرى كثيراً ما تحتاج إلى المجمع في الاستفسار عن حكم الله في بعض أمورها. وأكبر دليل على ذلك، أنني - شخصيًا - طلبت أكثر من مرة مساعدة المجمع في توضيح بعض المسائل الدينية، كما أعرف أن البنك الإسلامي للتنمية يستعين غالبًا بالمجمع في إيجاد حل لبعض الأمور المتعلقة به.
وبذلك نستطيع القول بأن المجمع بمثابة العمود الفقري في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي.(6/2)
وهكذا يتبين لنا أن دور المجمع أساسي خصوصا إذا لاحظنا أن شعوبنا بحاجة ماسة إلى التوعية بالثقافة الإسلامية المستنيرة التي تعادل ما يشهده العالم بأسره من تطور وللوقوف في وجه التيارات, تلك التيارات التي لا تدخر وسعا في تشويه الصورة المشرفة لشريعتنا الإسلامية السمحة حيث تكمن وراءها تنظيمات وحركات مشبوهة تعمل على توفير الإمكانات لها وتعنى بتأطير المفكرين ورجال التعليم والأطباء وكبار المسئولين في العديد من المؤسسات، ومختلف الشرائح الاجتماعية في بلدانها لتحقيق أهدافها ودسائسها عن طريق مختلف وسائل الإعلام التي تتوافر لها بصورة مذهلة.
وإنني على ثقة بأن المجمع لقادر على التصدي لهذه التيارات والحركات المشبوهة، بل هذا التصدي حاصل فعلاً وإن كان بصورة أقل بالنسبة للشعوب غير الناطقة باللغة العربية، ولذلك أدعو العلماء في هذا المجمع الموقر بمزيد من الاهتمام بالشعوب الإسلامية غير الناطقة باللغة العربية فإنها - ولله الحمد - تتميز بصادق الإيمان والحرص الأكيد للحصول على ما يدعو إلى بناء شخصيتها الإسلامية.
ومن المهم هنا أن أجدد دعوتي بترجمة أكبر قدر ممكن مما يصدره المجمع إلى اللغات التي يتكلم بها المسلمون حتى يدركوا مقاصد الشريعة الإسلامية بالاستناد إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وليعملوا بالحلول والأحكام الشرعية التي تصدر عن هذا الصرح الإسلامي الكبير.
وفي الختام يسعدني أن أرفع شكري وتقديري لمقام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود وأن أنوه بما تظفر به منظمة المؤتمر الإسلامي وجميع أجهزتها من كريم رعايته ودعمه السخي مما يمكنها من ممارسة أنشطتها بكل نجاح وطمأنينة، فشكر الله له وسدد خطاه إنه نعم المولى ونعم النصير.
كما أشكر جميع ملوك الدول الإسلامية ورؤسائها لما قدمونه من دعم للمنظمة ومختلف أجهزتها.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أشيد بالجهود التي يقوم بها فضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع الذي يعود إلى حسن إعداده وعلمه وإخلاصه الدور الكبير في تهيئة الجو المناسب لنجاح أعمال المجمع فجزاه الله عن الأمة كل خير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.
الدكتور حامد الغابد
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي(6/3)
كلمة
معالي رئيس مجمع الفقه الإسلامي
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمد العابدين الشاكرين، أحمد وأثني عليه بما هو أهله، وبما أثنى هو على نفسه، وأصلي وأسلم على صاحب الخلق العظيم، الذي أرسله الله للناس كافة بشيراً ونذيراً، محمد رسول الله صفوته من خلقه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن يتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
ففي السابع عشر من شهر شعبان عام 1410 هـ، وبرعاية خادم الحرمين الشريفين، وبالإنابة عنه - حفظه الله - افتتح صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة الدورة السادسة لمؤتمر مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة بكلمة سامية منوهًا فيها بالمجمع وبرسالته ومؤيدًا ما يصدر عنه من قرارات وتوصيات، وقد تلقى المؤتمر هذه الكلمة الكريمة بالثناء والشكر والتقدير وعدها من وثائقه الرسمية.
ولقد ضم موكب الافتتاح جمعاً كريما من العلماء، والفقهاء، والخبراء، وأرباب الفكر وأصحاب الرأي، ورجال السلك " الدبلوماسي " العربي وغيرهم من مختلف الدول الإسلامية يتقدمهم الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي معالي الدكتور حامد الغابد، هذا إلى جانب ممثلي وسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، والمكتوبة، مما عكس صورة الاهتمام بالمجمع ومكانته العلمية المرموقة في العالم الإسلامي.(6/4)
وباستضافة كريمة من حكومة خادم الحرمين الشريفين ومن شعب المملكة العربية السعودية الكريم، تواصلت أعمال هذه الدورة المباركة في الفترة من 17 إلى 23 شعبان 1410 /14 -20 مارس 1990 م حيث عرض أصحاب الفضيلة العلماء والسادة الخبراء على مجلس المجمع عددًا وافرًا من البحوث القيمة التي تناولوا فيها عددًا من الموضوعات والنوازل، والمستجدات الفقهية المعاصرة، وبذلوا فيها من الوسع ما وسعهم البذل، وأداروا حولها حلقات العرض، وجلسات المناقشة التي اتسمت بتلاقح المذاهب الفقهية، ونضج الآراء والمفاهيم، وبتحري الدقة، واعتماد مبدأ الاستقراء لاستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة، ومظانها الموثوقة، ولإيجاد الحلول الشرعية لمشكلات الحياة المعاصرة التي اختلط فيها الحلال بالحرام، وحارت بسببها العقول، وعانى منها المسلمون ما عانوا فنهض المجمع مضطلعًا بمسئولياته بحثًا عن تحقيق مصالح الأمة على وفق مقاصد الشريعة الغراء وروحها السمحة.
وكان فضل الله عظيما على رجال المجمع إذ جاء نتاج هذه الدورة جمًا وفيرًا، فضم إلى - جانب هذه البحوث- اثني عشر قرارًا مجمعيا شرعيا وتسع توصيات تُوِّجت في مبتداها بدعوة المسلمين في كل مكان إلى التضامن واتحاد الكلمة والالتزام بالحلول الإسلامية لمشكلاتهم، وتقديم الإسلام للعالم حلاً لجميع معضلاته.
وأنت أيها القارئ الكريم: ترانا قد جمعنا لك كل هذا في المجلدات الثلاثة التي نضعها بين يديك ممثلة العدد السادس من "مجلة مجمع الفقة الإسلامي " في ثوبها القشيب، لتبلغ من أعداد الدورات السابقة ستة عشر مجلداً، نشرناها لإفادة العلماء وطلاب العلم، وخاصة المسلمين وعامتهم، بما يقوم به المجمع من أنشطة وما يقدمه من دراسات ويصدر عنه من قرارات.
أسألك اللهم التوفيق والسداد في جميع أعمالنا والحمد لله رب العالمين وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد(6/5)
كلمة
معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، له الحمد - كما ينبغي لجلاله وسلطانه {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وجعله خاتمًا للأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
ها هي الرعاية الملكية السامية المتجددة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز - حفظه الله - تتصل حلقاتها، وتتواصل معطياتها في صورة متعددة تمثل حرصه - أعزه الله - على تقديم كافة أشكال الدعم المعنوي والمادي لمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، مؤكداً بالفعل قوله السامي " إننا ندعم هذا المجمع لأننا نعتقد أن مهمته كبيرة، ومسئولياته عظيمة وأن أمة الإسلام تنتظر من ورائه الخير والفلاح إن شاء الله تعالى ".
فمع إشراقة اليوم السابع عشر من شهر شعبان عام 1410 هـ قام صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة – نيابة – عن حضرة خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – بافتتاح الدورة السادسة لمؤتمر مجلس المجمع وقد جاء في كلمته: وأنتم هنا في المجمع الفقهي تواجهون شئون الحياة المتغيرة المتطورة بالكلمة الطيبة الحكيمة، ودراسة القضايا المطروحة أمامكم بالبحث والتقصي علميًا ودينيًا لتحقيق مستقبل أفضل للمجتمعات الإسلامية. . . وبتطبيق الدول الإسلامية لقراراتكم وتوصياتكم تستطيع المجتمعات الإسلامية أن تكيف نفسها وعلاقاتها حسب تغير الزمن وتغير أوضاع الحياة "
هذا وقد اعتمدت الكلمة الملكية الشريفة وثيقة أساسية من وثائق المؤتمر.(6/6)
وفي رحاب هذه الديار استضاف الشعب العربي السعودي الكريم، وحكومة خادم الحرمين الشريفين مشكورين هذه الدورة السادسة لمؤتمر مجلس المجمع مثلما استضافوا من قبل دوراته: الأولى، والثانية، والرابعة، فجزاهم الله جميعاً عن المسلمين بعظيم الأجر، وجزيل المثوبة.
وفي الفترة من 17 إلى 23 شعبان عام 1410 هـ (14 إلى 20 مارس 1990 م)
التأم جمع من رجال الفقه والطب والاقتصاد، وأسهم في أعمال هذه الدورة ثلة كريمة من أصحاب الفضيلة العلماء، وزمرة متميزة من المتخصصين والباحثين والخبراء إلى جانب أعضاء مجلس المجمع ممن حضروا المؤتمر، فبلغت جلسات العرض والدرس والمناقشة (16) جلسة، تناولوا فيها (68) بحثًا بذل أصحابها في إعدادها أقصى جهد، وعرضوا فيها الموضوعات التالية:
1- التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها.
2- البيع بالتقسيط.
3- حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة.
4- القبض وصوره، بخاصة المستجدة منها.
5- زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي.
6- البويضات الملقحة الزائدة عن الحاجة.
7- استخدام الأجنة مصدرًا لزراعة الأعضاء.
8- زراعة الأعضاء التناسلية.
9- زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص.
10- الأسواق المالية.
11- السندات.
وقد اتخذ مجلس المجمع بصدد كل موضوع من هذه الموضوعات قراره الشرعي كما أصدر قرارًا بشأن " الموضوعات والندوات المقترحة من شعبة التخطيط " فجملة ما صدر عن هذه الدورة اثنا عشر قرارًا مجمعيًا، وأوصى مجلس المجمع بتقديم دراسات وبحوث وافية في موضوع " تعدد كفارة القتل " للبت في اتخاذ قرار بشأنه، وبتأجيل موضوع " الأسهم " لإعداد المزيد من البحوث والدراسات فيه، وبتكوين لجنة - تعيينها الأمانة العامة للمجمع - من الفقهاء والاقتصاديين للإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بشأن المشاركة في الشركات المساهمة، هذا إلى جانب عدد آخر من التوصيات التي بلغ مجموعها تسع توصيات.(6/7)
وحرى بنا ونحن نقدم العدد السادس من " مجلة مجمع الفقه الإسلامي" أن نؤكد للقارئ الكريم أن سنة مجلس المجمع التي جرى عليها منذ تأسيسه قد اعتمدت المنهج العلمي للوصول إلى اتخاذ قراراته الشرعية، وتوصياته المجمعية، فهو لا يفتأ يدرس واقع المسائل والمشكلات والنوازل، ويعرضها على أنظار العلماء والباحثين والخبراء، ويوازن بصددها بين الآراء ويفيد من اختلاف المذاهب الفقهية حتى يظهر له الدليل الشرعي بشأنها بالاستناد إلى مصادره الأساسية من القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والإجماع، والقياس، مع مراعاة مصالح المسلمين في إطار المقاصد الشرعية، لتحقيق الحياة الإسلامية في شتى شئون الحياة المعاصرة.
ومما تجدر الإشارة إليه - ونحن نقدم للقراء الأكارم هذا العدد السادس بأجزائه الثلاثة من: مجلة مجمع الفقه الإسلامي " - هو أن هذه البحوث التي أعدت حول الموضوعات التي طرحت على مجلس المجمع هي نتاج جهود مخلصة بذلها أصحاب الفضيلة العلماء والفقهاء، والأساتذة الخبراء والمتخصصون الذين نتقدم إليهم بخالص الشكر والثناء على ما يبذلونه من جهد في سبيل تبصير أمتهم بأمور دينها ويعملون ابتغاء مرضاة الله لتحقيق نهضتها، فجزاهم الله عنا وعن المسلمين بما يجزي به عباده الصالحين، وضاعف لهم - ولكل من أسهم في إنجاز هذا العمل الشريف - الأجر والمثوبة، إنه سميع كريم ودود رحيم.
أسأل الله تعالى أن يسلكنا في زمرتهم، وأن يمدنا بالقوة لخدمة الإسلام والمسلمين، وأن يحفظ أمتنا ويأخذ بيدها للالتزام بخط الإسلام وتطبيق شرائعه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبة وسلم.
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة(6/8)
كلمة
صاحب السمو الملكي
الأمير ماجد بن عبد العزيز
أمير منطقة مكة المكرمة
نيابة عن خادم الحرمين الشريفين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خلق الإنسان علمه البيان، زوده بالفكر الثاقب والدراية الحميدة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الحق المبين وعلى آله وصحبه أجمعين:
أيها الإخوة الأعزاء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
إن من دواعي سروري أن أفتتح نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز الدورة السادسة للمجمع الفقهي، كما يسرني أن أرحب بكم في بلدكم وبين إخوانكم وإننا في المملكة العربية السعودية نستبشر كلما اجتمع علماء وفقهاء وحكماء الأمة الإسلامية، فبالأمس القريب اجتمع في القاهرة مندوبو الدول الإسلامية وتوصلوا إلى نتائج عظيمة في مقدمتها بل من أهمها التوصية بتطبيق الشريعة الإسلامية وأنتم هنا في المجمع الفقهي تواجهون شئون الحياة المتغيرة المتطورة بالكلمة الطيبة الحكيمة ودراسة القضايا المطروحة أمامكم بالبحث والتقصي علميًا ودينيًا لتحقيق مستقبل أفضل للمجتمعات الإسلامية.
وبتطبيق الدول الإسلامية لقراراتكم وتوصياتكم تستطيع المجتمعات الإسلامية أن تكيف نفسها وعلاقاتها حسب تغير الزمن وتغير أوضاع الحياة دون أن تفقد الأمة الإسلامية خصائصها ومقوماتها الذاتية وحتى يتمكن المجتمع المسلم من أن يعيش ويستمر ويرتقي ثابتاً على أصوله وقيمه وغاياته متطوراً في معارفه وأساليبه وأدواته.
أيها الإخوة الأعزاء:
لقد مرت بنا فترة من الزمن نرى حولنا من ينظر بنظرة إعجاب إلى المعتقدات النظرية والأيدلوجيات الفكرية ويتمنون أن يسود هذا الفكر المجتمعات الإسلامية والإنسانية كلها شرقاً وغرباً باعتقاد أنه الحل السليم والوحيد للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعيشها الإنسان ويعاني منها في جميع أدوار الحياة.
ورأينا كيف انهار هذا الفكر المضاد لشريعة الله في الأرض بسرعة عجيبة فقد ثبت زيف هذه الأفكار والمعتقدات التي لا تنبع من واقع الإيمان لعدم انسجامها مع طبيعة الإنسان وفطرة الله التي فطره عليها.
أيها الإخوة الكرام:
إننا في المملكة العربية السعودية مع تمسكنا بكتاب الله وشرعه ومع التزامنا بهدى نبينا عليه الصلاة والسلام نتابع ما يجري في العالم من متغيرات وتطورات ونأخذ منها ما يتمشى وديننا الحنيف وما يتناسب وتقاليدنا وأخلاقنا الإسلامية ونؤيد ما يصدر من مجمعكم الفقهي ونسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين في كل مكان لتطبيق كتاب الله وشرعه في كل أمر من أمورهم. . كما نسأل الله تبارك وتعالى أن يلهم الأمم الإسلامية ما فيه رضاه وأن يوفقنا إلى الهدى والرشاد ,
والسلام عليكم.
ماجد بن عبد العزيز(6/9)
كلمة
معالي الأستاذ خالد أحمد الجسار
وزير الأوقاف والشئون الإسلامية
بدولة الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز آل سعود أمير مكة المكرمة معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس مجلس المجمع
فضيلة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام للمجمع
أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع وخبرائه الكرام
السادة الضيوف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه. . وبعد:
فإن أبرز خصائص شريعتنا الإسلامية السمحة الوفاء بحاجات الناس في كل عصر ومكان، مهما تطورت مرافق الحياة وتنوعت وسائلها، ولا سيما في المجالات التي شهدت وثبة أشبه ما تكون بالطفرة بفعل أدوات البحث وأجهزة الاستبصار بالحقائق الطبية ووسائل الاتصال والصيغ المبتكرة للتعامل في الأنشطة الاقتصادية، والانفجار الفكري في المقولات العقدية والتربوية، كل ذلك على أصعدة مشتركة ووفق تصورات جديدة ومعطيات فريدة. . وبالرغم من هذا كله لم تضق بها شريعتنا الغراء ولا عجز عنها ديننا الكامل، فهما العروة الوثقى وحبل الله المتين لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وبكتاب الله وسنة رسوله الأمان من الضلال، ومنهج الفوز والفلاح.
إن مجمع الفقه الإسلامي كما يحقق صورة جلية من صور التعاون والتكامل في عالمنا الإسلامي فإنه عودة مدروسة للاجتهاد بصورة جماعية، وهو لون من ألوان الإجماع على الوجه المتاح عصرياً لوقوعه، ولا يخفى ما في ذلك من قطع دابر الخلاف الفكرى وتضييق شقة الاختلاف العملي، لمواجهة متطلبات العصر بما تستحق من طاقات علمية وثقافية، ومعالجة القضايا المستجدة بما يواكب آفاقها التشريعية والإجرائية للأجيال المتلاحقة.(6/10)
ولقد يسر الله لدولة الكويت أن تستضيف الدورة الخامسة للمجمع ـ تعبيرًا عن اهتمامها بدعم المشاريع العلمية الإسلامية على أوسع نطاق ـ وتحقيقًا لأهداف مؤسساتها وأنشطتها التي تعنى بخدمة الإسلام ونفع المسلمين، ولا سيما مشروع الموسوعة الفقهية التي صدر منها ثلاثة وعشرون جزءًا فضلا عن مشروع آخر علمي إسلامي تخطط وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت للمضي فيه مع البنك الإسلامي للتنمية في جدة لوضع كشاف آلي لمائة كتاب من أشهر مصادر الفقه الإسلامي بواسطة الحاسب الآلي، مع إعادة نشر تلك المصادر بما يضمن ملاءمتها مع ما انتهت إليه أصول الإخراج والنشر.
وإذا كان هذان المشروعان يتعلقان بالفقه والتشريع فإن سمو أمير دولة الكويت – حفظة الله – قد رعى مشروعًا آخر أهداه للعالم الإسلامي وهو الموسوعة الإسلامية التي تشتمل على دراسة مستفيضة لأحوال وأوضاع العالم الإسلامي التاريخية والسكانية والغذائية والصحية والجغرافية والاجتماعية والثقافية وكل ما يحقق التكامل بين طاقات الأمة الإسلامية لتزداد تقدمًا وازدهارًا في شتى المجالات، وبهذا التعريف وتسليط الأضواء على أحوال المسلمين في بلادهم تتوثق علاقاتهم القائمة على أخوة الإيمان.
إن هذا المجمع الفقهي الدولي الذي نشهد اليوم افتتاح دورته السادسة لهو أحد ثمرات منظمة المؤتمر الإسلامي – التي ترعى الكويت شئونها منذ ثلاث سنوات ويتولى سمو أميرها الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح رئاستها وتسيير دفتها بما آتاه الله من قوة وحرص على تحقيق ما فيه مصلحة الإسلام وخير المسلمين. . ولم تزل حية تلك الدعوة الحقة التي أعلنها من أعلى منصة دولية لحل مشكلة الديون العالمية، بإسقاط الفوائد عن الدول النامية التي تعاني من غلبة الدين ومعضلاته، وأن يشمل الإسقاط جزءا من أصول الديون عن الدول الأشد فقرا، فضرب بذلك مثلا للتكافل الاقتصادي في ظل مبادئ الإسلام، وطالب بالاحتكام إلى ما فيه من حلول لإحدى المشكلات العالمية التي تصيب الاقتصاد الدولي بالشلل إن لم يبادر إلى حلها.
وإذا كان فيما مضى نمط من التحدث بنعمة الله، واستجماع الجهود والطاقات لنجاح المبادرات لتأخذ عمقها في مظلة التعاون الإسلامي المثمر فإن إزجاء الشكر لمستحقه واجب إذ لا يشكر الله من لا يشكر الناس. فلا يخفى الدور الكبير للملكة العربية السعودية بقيادة رائدها وقائد مسيرتها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود – حفظه الله – في توفير ما يتطلبه هذا المجمع من مقومات ودعم مستمر، ومن خلال العناية التي توليها المملكة لتنفيذ مشروعاته ونشر إنتاجه وهي مأثرة تتواءم مع حرص المملكة على تجلية مبادئ الإسلام ودعم روابطه وإمداد مؤسساته داخل وخارج العالم الإسلامي.
ولا يفوتني أن أشكر القائمين على المجمع فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد والعالم الفاضل الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة لجهودهما المبرورة في الإعداد للدورات والتفاني في توثيق علاقات المجمع بالمؤسسات المشابهة في شتى أنحاء العالم الإسلامي.
وفي الختام أسأل الله – عز وجل – أن يبارك في أوقات هذه الدورة وأن يعين أعضاء المجمع وخبراءه ورئاسته على أداء الأمانة التي حملوها للحفاظ على أصالة هذا الدين وتحقيق خصائص هذه الشريعة بما يجدد للأمة دينها ويبعث فيها النهضة ويستثمر صحوتها، ويحقق آمالها، إنه سميع مجيب. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
خالد أحمد الجسار(6/11)
كلمة
معالي الدكتور حامد الغابد
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وتفقه في دينه إلى يوم الدين.
حضرة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز
أمير منطقة مكة المكرمة وممثل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز صاحب الفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس مجمع الفقه الإسلامي
صاحب الفضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
أمين عام المجمع
أصحاب المعالي
أصحاب السعادة
أصحاب الفضيلة
أيها السادة الحضور
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته:
يشرفني أن أشارك لأول مرة منذ تحملت مسئوليتي في الأمانة العامة في جلسة افتتاح هذه الدورة السنوية السادسة لمجمع الفقه الإسلامي التي يرعى أعمالها خادم الحرمين الشريفين مثلما رعى - حفظه الله - الدورات الأولى، والثانية، والرابعة لهذا الصرح الإسلامي العظيم.
وإني لأشعر بسعادة غامرة لوجودي بينكم خاصة وأن هذه الدورة السادسة لمجمعكم الموقر تلتئم بعد أسابيع قليلة من احتفال المنظمة بعيدها العشرين الذي أقيم تحت الرعاية السامية لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، وبإشراف صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام.
ويشرفني أن أنوه برعاية خادم الحرمين الشريفين، ودعمه المادي والمعنوي لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ولجميع المؤسسات المنبثقة عنها، وأود أن أؤكد بهذه المناسبة الكريمة بأن هذه الرعاية السامية للعمل الإسلامي المشترك ما هي إلا إمتداد للمنهج الذي اختطه المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - حيث حمل أبناؤه الكرام الراية من بعده، وبذلوا كل ما يملكون من جهد ومال في سبيل الدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية، وتوفير الأمن والراحة لضيوف الرحمن من الحجاج والمعتمرين القادمين من كل فج عميق.(6/12)
واسمحوا لي أن أرفع لمقام خادم الحرمين الشريفين أسمى آيات الشكر والتقدير، وأن أشيد بما تحظى به منظمة المؤتمر الإسلامي وكافة أجهزتها من كريم رعايته، ودعمه السخي مما يمكنها من ممارسة أنشطتها في جو من الطمأنينة والأمان، فجزى الله خادم الحرمين الشريفين عن الأمة الإسلامية كل خير.
كما أود أن أتقدم أيضاً إلى صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز، أمير منطقة مكة المكرمة، بوافر التقدير وأصدق عبارات الشكر لما قدمته جميع المصالح المختصة في منطقة مطلقة مكة المكرمة حتى أقيم الاحتفال بالذكرى العشرين لإنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي في أحسن الظروف، فأرجو أن أعبر من خلال سموه إلى كل المسئولين عن هذه المصالح عن مشاعر التقدير والامتنان.
صاحب السمو الملكي
حضرات السادة
لقد أتيح لي أن أطلع عن كثب على أنشطة مجمع الفقه الإسلامي، وأن أتعرف على المهام التي يضطلع بها والأعمال التي أنجزها في هذه الفترة القصيرة وفي ظروف لم تخل من الصعوبات – فوجدتها إنجازات بالغة الأهمية فاسمحوا لي بهذا الصدد بأن أنوه بالجهود الخيرة التي يبذلها فضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام للمجمع، تلك الجهود المتواصلة التي آتت أكلها وتكللت – بفضل الله – بالنجاح، وبتحقيق النتائج الإيجابية المرجوة حيث أصبح للمجمع مكانته العلمية المرموقة، وصار يمثل ركيزة أساسية من ركائز منظمة المؤتمر الإسلامي، فامتد أثره إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي والجاليات الإسلامية التي تعيش في دول غير إسلامية.
ولقد كان من رواء كل ذلك، هذا الإدراك العميق الذي تميز به فضيلة أمين عام المجمع وبتحريه للمشكلات المعاصرة التي تواجه الشعوب الإسلامية، وبمتابعة التيارات المناهضة للإسلام، ولا يفوتني أن أنوه بالجهود العظيمة التي يبذلها معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع وأصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء وأصحاب السعادة الخبراء والباحثون حيث تضافرت جهودهم وأعمالهم لمعالجة القضايا المعاصرة، ولمواجهة تحديات العصر.
ولقد وجدت خير دليل على هذا المستوى الرفيع لاهتمامات مجلسكم الموقر فيما يحتويه جدول أعمال هذه الدورة من موضوعات حية ذات صلة مباشرة بحياة المسلمين اليومية مثل: التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها، وبيع التقسيط، وحكم إجراء العقود بالآت الاتصال الحديثة، وفن التمثيل، وزراعة الأعضاء، والقبض والأسواق المالية، هذه الموضوعات تعد كلها من قضايا الساعة.(6/13)
صاحب السمو الملكي
أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة
أيها الإخوة
إن شعوبنا الإسلامية بحاجة إلى التوعية بالثقافة الإسلامية المستنيرة التي توازي ما يشهده العالم بأسره من تطور، وللوقوف في وجه التيارات الخطيرة المناهضة للإسلام، تلك التيارات التي لا تدخر وسعاً في تشويه الصورة المشرفة لشريعتنا الإسلامية السمحة، حيث تكمن وراءها تنظيمات وحركات مشبوهة تعمل على توفير الإمكانات لها، وتعنى بتأطير المفكرين ورجال التعليم والأطباء وكبار المسئولين في العديد من المؤسسات ومختلف الشرائح الاجتماعيه في بلدانها لتحقيق أهدافها ودسائها عن طريق مختلف وسائل الإعلام التي تتوافر لها بصورة مذهلة، وليس من شيء أدل على ذلك من الإعلام الصهيوني العنصري الذي يعمل على محو تراثنا الإسلامي في القدس الشريف والأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.
ولكن الانتفاضة الفلسطينية الباسلة التي يقودها أبطال الحجارة على أرض فلسطين، استطاعت أن تكشف زيف هذا الإعلام، وأن تقف في وجه مخططات الاستيطان والتهويد الصهيونية، وأن تبرز للعام عنصرية الكيان الصهيوني حيث قدم أبناء الشعب الفلسطينى المجاهد عبر انتفاضتهم الشجاعة عشرات الألوف من ضحايا القتل والإبعاد والاعتقال.
صاحب السمو الملكي.
أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة
أيها الإخوة
لقد سعدت بمبادرة المجمع في ترجمة مجموعات القرارات والتوصيات الصادرة عن مجلسكم الموقر في دوراته الخمس السابقة إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وآمل أن يتصل هذا العمل، وأن يتسع مداه إلى اللغات الأخرى التي ينطق بها المسلمون حتى يدركوا مقاصد الشريعة الإسلامية بالاستناد إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وليعملوا بالحلول والأحكام الشرعية التي تصدر عن هذا المعلم الإسلامي الكريم.
ولذلك فإن دعوتي للسادة العلماء في هذا المجمع هي المزيد من الاهتمام بالشعوب الإسلامية غير الناطقة بالعربية، فإنها – ولله الحمد – تتميز بصادق الإيمان والحرص الأكيد للحصول على ما يدعم كيانها وبناء شخصيتها الإسلامية التي ظلت صامدة بفضل الله، ثم بتمسكها بعقيدتها في مواجهة التيارات العاتية.
إن العمل الإسلامي من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي ومختلف أجهزتها من خلال مجمع الفقه الإسلامي لقادر على تحقيق إنجازات ضخمة لفائدة الشعوب الإسلامية وعلى اختراق الحواجز ليشع على العالم بأسره فيعم نفعه البشرية قاطبة وبخاصة المجتمعات التي طغت المادية على حياتها فأضحت في حيرة من أمرها تتقاذفها التناقضات والأزمات المادية والروحية.
إننا معشر المسلمين مطالبون ببذل الجهد على صعيد العالم الإسلامي وخارجه، لأننا أصحاب رسالة خالدة، رسالة الإسلام التي يمتد إشراقها إلى البشرية قاطبة , فلنعمل متضامنين في هذا السبيل..
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}
صدق الله العظيم
والله ولي التوفيق. .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حامد الغابد(6/14)
كلمة
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبوزيد
رئيس مجلس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
بسم الله الرحمن الرحيم. . الحمد لله بكل نعمة أنعم الله بها علينا في قديم أو حديث أو في سر أو علانية وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون ورضي الله عن الصحابة والتابعين ومن يتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. . أما بعد:
فعلى خمس سنوات مضت من عمر هذا المجمع المبارك المجيد، تم عقد دورات خمس له في بعض من دول العالم، في المملكة العربية السعودية، وفي المملكة الأردنية الهاشمية، وفي دولة الكويت، واليوم تعقد دورته السادسة على أرض المملكة العربية السعودية في ضيافة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود – حفظه الله ورعاه – ملك المملكة العربية السعودية، مفتتحة بنيابة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز آل سعود – حفظة الله ورعاه – أمير منطقة الحرم الحرام حرسه الله تعالى.
صاحب السمو الملكي
أصحاب المعالي الوزراء
أيها العلماء الأجلاء
أيها الجمع الكريم
ما أسعدها من لحظات قضيتها مع صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز آل سعود – حفظة الله – بين يدي هذه الدورة منذ لحظات وكان أن سمعت مع بعض أصحاب الفضيلة المشايخ لفتة كريمة واهتماما كريما بشئون العالم الإسلامي وبخاصة فيما يتعلق بأحوال غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية وما ينبغي من اليسر والسهولة وإبلاغهم دين الله وشرعه على أتم وجه وأحسنه. وإن من المنافذ التي تصد دون ذلك تعدد الفتوى واضطرابها وبين يدي ذلك أقوال: إن الأمة وإن اعتراها ضروب من المذاهب المادية في جل ديارها، ثم كتب لها أن تكشفت أو تحطمت على صخرة الإسلام وتسللت عن ديار الإسلام لواذا، وما بقي إلا فلول جمع مهزوم مقهور مغلوب يعلنون إفلاسهم وفشل مبادئهم وانتماءاتهم، فإن هناك طلائع أنوار الكتاب والسنة التي تنتشر على أيدي رجال ما ساروا مسيرا إلا كانوا من السنن حيث كانت مضاربها، ومع الشريعة حيث كانت مساكنها، يدلون على الله بهديهم وصالح أعمالهم قبل أن يدلوا عليه بأقوالهم، فأحيوا سيرة السلف الصالحين من الصحابة والتابعين، فكأنما ألحقوا الأحفاد بالأجداد ووطئا على أعقابهم الرجال، ضاربين شوطا بعيد المدى، متغلغلا في حقب التاريخ ومسارب الحياة ليمتاح من هدي أمته في سيرتها الأولى. شاهد المسلمون واستبشروا بذلك ميلاد يقظة إسلامية مباركة علا فيها الحق على الباطل {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [سورة الرعد: آية 17] .(6/15)
إذا كانت الحال كذلك فإنه بدا في الصف المقابل عنق سوادي يلفح بسموم لا بارد ولا كريم، يجمع ذلك ما نشاهده من دخول عير المختصين في غير اختصاصهم، أنها وثبات على الشريعة تفرز للأمة الهوس الفكري والعبث التراثي والضرب في المقامات والتعدي على الحرمات إلى أخر تلك المنظومة العدائية الفسلة والذي تولى كبرها ونفخ في كيرها دخول غير المختصين في غير اختصاصهم، فهل سمعت الدنيا بطبيب يباشر عملاً هندسياً وهل سمعت وسمعت؟ ولكن كم رأى الراءون وسمع السامعون، الخوض من أناس في لجب الشريعة وحضارها، فحللوا وحرموا، وأمروا ونهوا وبدأوا وأعادوا، وقالوا على الله ورسوله ما لم يسعه دليل من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ذلك أنا نشاهد في الساحة عدة وثبات من التجاسر على دين الله وشرعه يجمعها كما أسلفت وثبة التجاسر من غير المختصين في غير اختصاصهم، وثبة الذين لم يثافنوا بالركب للتفقه في الدين على أحكام الله وشرعه، وأخت لها وثبة الاعتداء بأقلام مأجورة مأزورة على مقام السنة المشرفة المرفوعة، إلى آخر تلكم الوثبات التي تمثل الاسترسال مع الأهواء والأغراض والأغراض والتخبط في مضاجع الفساد والتقلب في عدة أوجاع، فأثاروا – والله حسيبهم – بذلك عقدة الخصومة الملدة والشطط، وأثاروا مرض الشبهة وحركوا الشبهات، وأثاروا تحويل أحكام الكتاب والسنة إلى قضايا فكرية تحول حسب لغة الحامل والمحمولة إليه، فأبقوا بذلك نائم الأهواء، وأخضعوا العلوم الشرعية لفروضات العقل، وأخضعوها للتذوق، والتذوق أو الذوق مصدر سيال متحرك من شخص إلى آخر، ولكن نقول لهم أمام ذلك إن فطرة المسلمين وإن علماء المسلمين يقول لسان حالهم لكل هذه البدوات الآثمة التي تخالف دين الله وشرعه – يقول لسان حالهم – يا أوراق يا أقلام ارجعي أدراجك، فإنك لم تهتكي الستر على نيام ولم تطرقي الحمى على سواد مغفل، ولا يهولنك هملجة البراهين ولا تصعيد المعتلين، فإنك بذلك نسألك بالله أن تنزعي هذا البرقع وهلم نحتكم على سفور ومكاشفة عائذين بالله أن نقول بالسفور في نساء المسلمين، لأن كل واحد من المسلمين ينشد لمحارمه ما قاله حسان رضي الله عنه لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ
فَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
وفوق ذلك: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [سورة الأحزاب: آية 53]
وعائذين بالله أن نطلب على تلكم المناظرة قرضاً فضلاً عن أن يكون بفائدة لأن شيمة المسلمين هي الكسب الحلال.(6/16)
صاحب السمو الملكي
أيها العلماء الأجلاء
أيها الجمع الكريم
لا بد لأبناء النشأة الآخرة من علاج لهذه العلل الفاقرة، ألم يأن للذين أمنوا أن تكون لهم قلوب واعية وآذان صاغية ليردوا تلكم الهجمات الشرسة فيثبوا على أولاء وثبة رجل واحد بأقلام يمدها العلم والإيمان وبألسنة تنطق بالسنة والقرآن ليعيش المسلمون تحت سرادق السعادة مستظلين تحت لواء الشريعة لا يزاحمهم فيه مزاحم؟
إن المسلمين يقلبون أبصارهم في الحجب لينظروا كوة تنفتح منها بوارق الشريعة، فتحرق تلكم الهجمات الشرسة، وتقيم دين الله وشرعه، وتنشر راية التوحيد، وتنشر أحكام الكتاب والسنة بلا عوج ولا أمت، ولا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك.
وأنتم أيها العلماء الأجلاء، أيها المجمعيون، محل أمل لأمتكم، فابصروا رحمكم الله تعالى واقع أمتكم وأوفوا بعقدكم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: آية 1]
{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111] {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} [سورة الكهف: آية 46] وما هذه الحياة الدنيا إلا لحظات، فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويذهب هذا كله ويزول وصدق الله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت: آية 64] .
ثبتنا الله وإياكم على الإسلام ورزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بكر بن عبد العزيز أبو زيد(6/17)
كلمة
معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الودود الكريم، الرءوف الرحيم، ذي المنن السابغة والآلاء الباطنة والظاهرة. أمد أمتنا الإسلامية بسر حياتها، وضمان عزتها وسبب بقائها وتجددها كتابه الذي أوحى به إلى رسوله، والحكمة التي ميزه الله بها، فأقبلت على دينه الذي ارتضاه الله لها، وكانت خير أمة أخرجت للناس، وهي بقدر تمكن هذا الدين منها وتمسكها به، تصمد في وجه الأعاصير والتقلبات، وتواجه المحن والتحديات، وبثبات وعزم، متواصية بالحق ومتواصية بالصبر، باذلة أقصى جهدها في الدعوة إلى الله، ابتغاء إعلاء كلمته، ونشر الخير والهدى، وتركيز المبادئ العالية والقيم الخالدة بين الناس، والتعريف بالصراط السوي وسبل الصالحين ومن اهتدى، ما تعاقبت فيها الأجيال والأزمان واختلف على أبنائها ومنتسبيها الملوان: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) } [سورة الشورى] .
فله الحمد كفاء نعمه ووفاء مننه لا يبلغ مدحته القائلون ولا يؤدي حقه المجتهدون، نحمده ونثني عليه بما هو أهله وبما أثنى به على نفسه , فله الحمد كله وله الملك كله بيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، إمامنا ونبينا سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين، الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة وعبد ربه حتى أتاه اليقين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(6/18)
حضرة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز الموقر
أمير منطقة مكة المكرمة
حضرة صاحب المعالي الأستاذ خالد أحمد الجسار المحترم
وزير الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت
حضرة صاحب المعالي الدكتور حامد الغابد المبجل الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أصحاب المعالي والسماحة والفضيلة المكرمين
ضيوفنا الأكارم وإخواننا الأماجد
أيها الحفل الكريم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نزولاً عند التقاليد الملتزمة والآداب المرعية في مثل هذا المقام، يسعدني أن أتناول الكلمة في هذا الحفل البهيج المقام لافتتاح أعمال الدورة السادسة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة الذي يزدان بهذا الحضور الواسع ويزيده سنا وسناء إشراف صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز حفظه الله، وإن فيما استمعتم إليه الساعة من خطب شريفة وكلمات بليغة ما يغني بحق عن تدخلي ولكن الفضل الذي طوقتم به عنقي وكريم استجابتكم لدعوة مجمعكم وحضوركم من كل بلد وصقع للمشاركة الفعلية والعملية في مداولات مجلسكم الموقر، لتحملني توا على أن أتقدم إلى حضراتكم شاكرا ومحييا متمثلا في هذا الموقف قول أبي الطيب:
" لا خَيْلَ عِنْدَكَ تُهْدِيهَا وَلا مَالَ
فَلْيُسْعدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ تُسْعِدِ الْحَالُ "
وإنى لأبادر فأهنئكم جميعا بسلامة الوصول وأتمنى لكم طيب الإقامة داعيا المولى عز وجل أن يسدد خطاكم ويجعل ما تقومون به من جهود في خدمة الشريعة الإسلامية في صحائفكم يوم القيامة، وأن يهدي بكم المسلمين ويوحد على أيديكم وبفضل اجتهاداتكم صفوفهم ويجمع على تقوى الله والالتزام بهديه كلمتهم إنه سميع مجيب.
وإني في افتتاح هذا الموسم العلمي الفقهي الذي نلتقي فيه بحمد الله كل عام وفي بداية حديثي هذا إليكم ليشرفني أن أنوه بالخطاب المنهجي لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز نصره الله الذي خصنا به هذا اليوم على لسان صاحب السمو الملكي أمير مكة المكرمة، وإنه لرعاية سامية وتنوية وتصديق وتوجيه على طريق الخير لمؤسستكم الموقرة التي يرجع إليه الفضل في تأسيسها. وتقوم الشواهد تلو الشواهد منه على عنايته الفائقة بها، فكم لفتة كريمة أولى، وكم من مكرمة سنية أعطى حتى يقوم مجمعكم الفقهي هذا برسالته العظيمة، ويعقد في الموعد المحدد مؤتمره على أديم هذه الأرض المباركة الطيبة، المملكة العربية السعودية بلاد المكارم والأمجاد التي يعتز بالانتساب إلى حرميها الشريفين كل مسلم ويفاهر بما حققته من خطى عملاقة في مجالات التنمية كل مؤمن. بلاد ضمت الطريف من ثمار جهودها وبذلها وعطائها إلى التليد من محاسنها ومفاخرها.
ونحن شاكرون للمقام السامي ما نلقاه دوما من لدنه ومن حكومته الرشيدة ومن أبناء هذا الشعب السعودي الأكارم من مساندة أدبية عالية، ودعم مادي غير ممنون.(6/19)
هذا وإن نظرة في نشاط مجمعكم خلال الفترة الفاصلة بين مؤتمره الخامس الذي انعقد بالكويت في العام الماضى بدعوة كريمة من حضرة صاحب السمو الأمير الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح رئيس القمة الخامسة – حفظه الله – وبين مؤتمره السادس هذا الذي يقام من جديد باستضافة سخية سامية من خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – بجدة البوابة البحرية للحرمين الشريفين ومأم قصاد بيت الله العتيق لتدل على جهود المجمع المكثفة وسعيه المتواصل لتحقيق ما ينشده من غايات وبلوغ ما يتطلع إلى إنجازه من أهداف.
فقد رفع رئيسه الجليل فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد في هذه الأيام الأخيرة كتاب التراث الفقهي الأول الذي فرغ المجمع من إعداده وتحقيقه وهو " عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة " للمجاهد أبي محمد عبد الله بن نجم بن شاس الجذامي السعدي الذي استشهد في معارك دمياط سنة 610. وهذا التأليف الحسن العبارة المصنف على ترتيب وجيز الإمام الغزالي، والقائم على المقارنة أحيانا كثيرة بين المذهبين المالكي والشافعي، ليعد من أنفس وأحسن ما صنف في الفقه المالكي في عصره.
وقام مجمعكم الموقر بجمع القرارات والتوصيات التي صدرت عنه من حين تأسيسه إلى اليوم وأعاد ترجمتها إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وطبعها في كتيب في نشرات ثلاث تيسيرا على المسلمين في أكثر الأقطار والأقاليم والأوطان للاستفادة منها ومعرفة حكم الله في كثير من القضايا الدينية التعبدية والسلوكيات الاجتماعية والممارسات الطبية والاقتصادية، وقد صدرت هذه الأحكام والفتاوى عن أهل الاختصاص المسئولين عن حكم الله فيما عرض ويعرض من المسائل الجارية والقضايا الدقيقة المستجدة.(6/20)
وتولى المجمع إثر ذلك جمع بحوث الدورة الخامسة وإفراغ تسجيلاتها وإعدادها ومراجعتها وتقديمها للطبع وتصحيحها بغاية التثبت والحيطة، وذلك حرصاً منه على إخراج وإصدار العدد الخامس من المجلة الواقع كسائر أعدادها في ثلاثة أجزاء، وقد تولى الإنفاق على طبع هذا العدد الخامس من المجلة الواقع كسائر أعدادها في ثلاثة أجزاء، وقد تولى الإنفاق على طبع هذا العدد والإشراف عليه فنيا معالي السري الماجد صاحب المشاريع الخيرة والأيدي البرة الكريمة الشيخ أحمد جمجوم أجزل الله إحسانه وكافأ بمنه مبادراته الخالصة الصادقة للخير والعمل الصالح، ولسوف يصلنا هذا العدد إن شاء الله بين حين وآخر.
ومن الأعمال التي قام بها مجمعكم هذه السنة تمحيصا ودرسا وإعدادا لبحث بعض القضايا المعروضة عليكم في هذه الدورة، ندوتان علميتان: الأولى الندوة الفقهية الطبية التي انعقدت بالتعاون مع المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية والتي عكفت فيما بين 23 – 26 ربيع الأول 1410هـ / أكتوبر 1989م بالكويت على بحث زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي، ومدى الاستفادة من المولود اللادماغي والأجنة المجهضة، ونقل بعض الأجهزة التناسلية وأعدت في ذلك كله توصيات يتولى عرضها على حضراتكم المقرر العام للندوة سعادة الدكتور أحمد رجائي الجندي في الموعد المحدد لذلك.
والثانية الندوة الفقهية الاقتصادية حول " الأسواق المالية " التي أقيمت بالرباط في المملكة المغربية فيما بين 20 –25 ربيع الثاني 1410 هـ / 1989م بالتعاون مع معهد البحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية ورعاية فائقة من رئيسه الموقر معالي الدكتور أحمد محمد علي واستضافة كريمة من وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب، وقد استهدفت البحوث والمناقشات فيها استخلاص المبادئ والضوابط الشرعية التي يجب أن تحكم المعاملات في الأسواق المالية والأدوات المشروعة للاستخدام فيها، كما طرحت تساؤلات واقتراحت بدائل للمشبوه فيه من الممارسات، وكانت نتيجة ما عرض بهذه المناسبة توصيات صدرت عن الندوة هي التي سيتولى في إبانه تقديمها إلى حضراتكم مقررها العام سعادة الدكتور منذر قحف.
إلى جانب ذلك استكتب المجمع عددا من الفقهاء والخبراء في مواضيع دينية واجتماعية واقتصادية هي: حكم تعدد كفارة القتل مع تعدد المقتول، وزراعة عضو استؤصل في حد، وفن التمثيل، والتمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها، وبيع التقسيط، وحكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة، والقبض وصوره وبخاصة المستجدة منها وأحكامها.
وقد شارك في إعداد ذلك وبحثه أكثر من مائة وثلاثين فقيها، وخمسة عشر طبيبا مختصا، وثمانية عشر باحثا وإخصائيا في العلوم الاقتصادية، وما زال الإقبال على المجمع والتعاون معه يزداد مع الأيام خيرا يضاعف من جهوده ويسهم في نشاطاته.(6/21)
فقد أنجز من مشروع الموسوعة الفقهية ثمانية بحوث تتصل بالمعاملات الاقتصادية القديمة والمعاصرة كالمزارعة والمضاربة والتخارج وأنواع الشركات، وكان للأساتذة الجامعيين من جامعة الإمام وجامعة أم القرى وجامعة الملك عبد العزيز وجامعة بغداد وجامعة دمشق وجامعة الزيتونة وللباحثين بمركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي بجدة دور أي دور في القيام بها ومعالجة بقية الزمرة الأولى من بحوث الموسوعة.
وتفرغت ثلة من علماء وفقهاء المملكة المغربية من القرويين لوضع وتحديد المصطلحات الشرعية في الفقه المالكي، وقد أتوا الآن على النصف من ذلك مستوعبين جملة أقسام الفقه ولم يبق بأيديهم سوى ما يرجع منه إلى قسم العبادات وأبواب البيوع وما يتصل بها من المعاوضات، وبانتهائهم قريبا بإذن الله من ذلك كله، يعرض عملهم على لجنة فقهية قانونية منهم للمراجعة والضبط، وبهذا نكون قد أنجزنا عملا مهما ننتقل منه إلى وضع معجم عام للمصطلحات الفقهية في سائر المذاهب المعتمدة كما كان مقررا في أصل المشروع الذي أقره مجلس المجمع.
وإلى جانب الدراسات المعمقة والبحوث العلمية المتخصصة سهر المجمع على كتابة الفقه حسب طريقة سهلة ومنهج ميسر يمكن عامة الناس من معرفة أحكام دينهم في أي مجال من مجالات الحياة، وقد أعدت لذلك نماذج نوقشت وعدلت لتكون أمثلة يحتذيها المستكتبون في هذه المادة، ووجدنا سندا لهذا المشروع معالي الشيخ صالح عبد الله كامل وأخانا معالي الدكتور محمد عبده يماني أجرى الله الخير على أيديهما وجازاهما أحسن الجزاء، فاستكتبنا عددا كبيرا من الأساتذة في نحو اثنين وسبعين موضوعا أنجزت الدفعة الأولى منها في قضايا العبادات وبعض مسائل الأحوال الشخصية، وهي عبارة عن أربع عشرة رسالة فقهية ترتكز على المهم من الأحكام وعلى أدلتها وبيان المقصد الشرعي منها تيسيرا للوعي وأحياء للدين.(6/22)
ونحن في كل هذه الجهود المبذولة، والاجتهادات التي يصدر عنها المجمع في توصياته، محكمون للنصوص الثابتة القطعية، مقارنون بين الآراء الفقهية المذهبية في الأحكام الظنية مراعون للأحوال المتطورة والملابسات القائمة، حريصون على الاستفادة من الاختلاف بين الأئمة ونبذ الخلاف في الدين، وقد نادى معالي الشيخ محمد بن جبير وزير العدل بالحكومة السعودية في توصية له جزاه الله خيرا بوجوب التنسيق بين المجامع والهيئات والمراكز المماثلة لها، حتى لا تتفرق الأمة ولا يحصل خلاف في الدين، وإنا حين نشيد بموقفه ونثني عليه شاكرين له حماسه وصائب نظره وصدق موقفه، ندعوا أعضاء مجمعنا والهيئات المماثلة له كلها إلى وجوب التنسيق فيما بينها بتبادل الوثائق والدراسات والمجلات العلمية والنشرات، حتى تكون الآراء الصادرة عنها آراء دقيقة وسليمة قائمة على أساسين ضروريين في هذا الزمن هما: الاستيعاب الكامل وعمق النظر، ولعل ذلك مما تدفعنا إلى القيام به والتثبت منه السنة النبوية الشريفة، روى أبو عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) .
وإن مهمة المجمع ليست مقصورة على بيان الحلال والحرام في الأمور المشتبهات حماية للمسلمين بالذود عن شريعتهم والحفاظ على دينهم وتيسيرا عليهم بمراعاة ظروفهم وتحقيق مصالحهم، بل هي أشمل من ذلك وأوسع يكتنفها مبدءان أساسيان هما: الحيطة في الأمر، وواجب النصيحة، يتمثل الأول فيما حفظنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الخير طمأنينة والشر ريبة)) . ويتمثل الثاني فيما رواه تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم ((الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله، قال: لله عز وجل ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم)) .
وإن على أعضاء المجمع وخبرائه أن يعملوا فرادى ومجتمعين على نشر الهدي الديني وتطبيق أحكام شريعة الله، وذلك بالسعي للقضاء على أنواع التحلل والتفسخ وبتثبيت الإيمان وتركيز الخلق الإسلامي في النفوس، وشد أواصر الأخوة وبيان ما على الإنسان من واجبات وماله من حقوق في نظر الإسلام وإقامة العدل بين الناس، وإن ذلك لن يتحقق في مجتمعات سطت عليها الانحرافات وغزاها الفكر الغربي بأسوأ مقوماته حتى يعود المسلمون إلى أصول مناهجهم الفكرية والتربوية. ويبرز ذلك في الآباء والأمهات وفي حياة الأسرة بما ينبغى أن يكون لديهم من التزام بالإسلام وغرس للقيم السامية الخلقية والمبادئ الفاضلة الدينية في الأطفال الذين ينشئون بينهم.(6/23)
وتعود للمسجد الجامع وظيفته الاجتماعية التي سما بها في الأعصر الأول عند بناء الشخصية الإسلامية، ويعود التعليم في البلاد الإسلامية إلى تكوين أجيال مسلمة متطورة تملك العقيدة الصحيحة والتقنية الصالحة الفاعلة.
وما من شك في أن الدول الإسلامية قاطبة تعمل جاهدة لتوفير منعتها وتحقيق عزتها وبلوغ أهدافها من أجل الانطلاقة الشاملة والثابتة، كما أنه لا شك في أمانة ورفعة مستوى من انتدبتهم من الفقهاء والعلماء ومن انضم إليهم من أصحاب الاختصاصات المختلفة من الخبراء لتحقيق التحول المدروس وإدخال الإصلاحات الضرورية اللازمة في كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عند المسلمين.
وإن على حضرات أعضاء المجمع الأكارم والعلماء المختصين الذين ينتسبون إليه ويعملون في رحابه أن يفكروا ويخططوا لتذليل المعوقات واجتياز العقبات والسير قدما لتحقيق التغيير الشامل في الأمة الإسلامية بتركيز الثوابت ودراسة وتوجيه المتغيرات والتحديات والانتصار عليها بإيجاد البدائل والتمكين لها.
وإني في ختام كلمتي هذه لأزجي الشكر مجددا لحضرة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز على تفضله بالإشراف على حفلنا هذا، ولأصحاب المعالي ولضيوفنا الكرام على تشريفهم لنا بالحضور، كما أتقدم بالثناء والشكر لمعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور حامد الغابد على عنايته البالغة بالمجمع ورعايته لجهوده، ولمعالي الدكتور عبد الله عمر نصيف الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الذي لا يدخر وسعا في التعاون مع المجمع، وللثلة الكريمة من الإخوة الأعزاء السراة الأماجد المقدرين لدور مؤسستنا العلمية الفقهية الدولية، المنوهين برسالتها والمتجاوبين مع مشاريعها أمثال أصحاب المعالي المشايخ أحمد زينل وعبد المقصود خوجة وإبراهيم أفندي جزاهم الله عنا أحسن الجزاء.
ولا يفوتني كذلك أن أنوه بالجهود الخيِّرة والعلمية المتواصلة التي يقدمها للمجمع رئيس المجلس فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، وبما يقوم به مكتب المجمع وأعضاء المجلس والخبراء الذين هم الأسس والدعائم الثابتة لتحقيق أفضل النتائج والبلوغ بأعمالنا أرقى مستوى، وبما نجده من تعاون كبير وخدمة فائقة متجددة من أجهزة الإعلام السعودية والعربية والإسلامية التي تعنى جميعها بالفكر العربي الإسلامي.
وإني بعد أن أوفيهم وأوفيكم جميعا حقكم من التقدير والإكبار والثناء والشكر، أرحب بكم ثانية برحاب مجمعكم في هذا البلد الأمين، وأسأل الله لكم المثوبة وخير الجزاء، وأدعوه سبحانه أن يسدد خطانا ويكلل أعمالنا بالنجاح وأن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه إنه سميع مجيب. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد الحبيب ابن الخوجة(6/24)
كلمة الأعضاء
لسعادة الدكتور عبد الله إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز
أمير منطقة مكة المكرمة ونائب خادم الحرمين الشريفين
الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود – حفظة الله – في افتتاح الدورة السادسة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي.
معالي الأستاذ خالد أحمد الجسار
وزير الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت
معالي الدكتور حامد الغابد
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس مجلس المجمع
معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي
أصحاب المعالي الوزراء
أصحاب السعادة أعضاء السلك الدبلوماسي بالمملكة
أصحاب الفضيلة والسعادة الخبراء من مختلف التخصصات المدعوين للمشاركة في أعمال هذه الدورة السادسة
أصحاب الفضيلة العلماء ورجال العلم والتعليم والأدب والصحافة
زملائى أعضاء مجلس المجمع من دول منظمة المؤتمر الإسلامي والمجتمعات الإسلامية السادة الحاضرون جميعا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
الحمد لله الذي منَّ علينا بنعم لا تحصى وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله المصطفى محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، وبعد:(6/25)
يا صاحب السمو الملكي الكريم:
يسرني ويشرفني أن أقف هنا بين يدي سموكم لألقي كلمة بالأصالة عن نفسي ونيابة عن زملائي أعضاء مجلس مجمع الفقه الإسلامي، مندوبي دول منظمة المؤتمر الإسلامي ومندوبي المجتمعات الإسلامية في أوروبا وأمريكا وغيرهما من القارات الأخرى وكذلك عن أعضاء المجمع الخبراء من مختلف التخصصات الذين وقع عليهم الاختيار للمشاركة في اجتماعات هذه الدورة السادسة لمؤتمر المجمع ـ التي تبدأ اليوم والتي تبدأ مراسم افتتاحها في هذه الساعة على يدي سموكم ونيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، ونرجو أن يكون افتتاحا مباركا يؤتي ثماره بتزويد العالم الإسلامي خاصة والعالم الإنساني أجمع بالحلول الفقهية لمختلف المشكلات التي تواجهها الإنسانية والمجتمعات الإسلامية في كل مكان وهي مشكلات يسبب ظهورها في كثير من الأحيان إعراض هذه المجتمعات عن كتاب الله وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإضافة لما فرضته الحياة المعاصرة من أوضاع وممارسات مما يتطلب بيان الحكم الشرعي فيها طبقا لقواعده ومبادئه.
فهذه الكلمة ما هي إلا لتعرب عن شكرنا جميعا والمسلمين جميعا في بقاع الأرض مشارقها ومغاربها لسموكم على تفضلكم وإشرافكم بالحضور معنا هنا وعلى تفضلكم نيابة عن جلالة الملك في افتتاح مؤتمرنا اليوم وهو مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الذي كان ولا يزال يجد المساندة الكاملة التامة من خادم الحرمين ومن حكومته، ولا غرابة في ذلك إذ أن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد هو صاحب الفكرة لإنشاء هذا المجمع وهو – حفظه الله - أول من قام بمساندته منذ إنشائه ولا يزال هو السبَّاق في رعاية هذه المؤسسة العتيدة التي تمثل قمة العطاء الفقهي في العالم الإسلامي بما تقدمه من اجتهاد جماعي في قضاياه المعاصرة وبما توفره من حلول لمشكلاته المستجدة، جزاه الله عن الأمة الإسلامية كل خير.
ولقد كانت إقامة هذه المؤسسة خطوة رائدة تبناها قادة الأمة الإسلامية لتأكيد أصالة هذه الأمة وارتباطها بدينها الذي أراده الله سبحانه وتعالى لتحقيق خيرها وسعادتها في الدنيا والآخرة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ خادم الحرمين الشريفين ويوفقه دائما لخدمة الإسلام والمسلمين وقضاياهم المختلفة وعلى رأسها قضية التضامن الإسلامي وقضية فلسطين وأفغانستان وأمثالها، كما نسأله جل وعلا أن يحفظ سموكم ويرعاكم وأنتم أمير هذا البلد الأمين، والحمد لله رب العالمين. .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد الله إبراهيم(6/26)
التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها
إعداد
سماحة الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي
مفتي جمهورية مصر العربية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه.
وبعد: فلعل من المناسب قبل أن أتكلم في الموضوع الذي اخترت الكتابة فيه، وهو: " التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها "، أن أعرض الحقائق التالية، التي أرجو أن تكون محل اتفاق بيننا ألا وهي:
أولاً: إن من شأن العقلاء في كل زمان ومكان، أنهم يتحرون الحلال الطيب، في جميع تصرفاتهم ومعاملاتهم. امتثالاً لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) } [سورة البقرة]
واستجابة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي أخرجه الشيخان عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله علية وسلم يقول: ((إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما شبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه. ألا وأن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة. إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) .
ثانيا: إن من شأن العقلاء – أيضاً - أنهم إذا ناقشوا مسألة فيها مجال للاجتهاد، بنوا مناقشاتهم على النية الطيبة، والكلمة المهذبة، وعلى تحري الحق والابتعاد عن التعصب، وعن الحكم بالهوى وعن سوء الظن بلا مبرر.
ولقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم الذين يجتهدون – فيما يقبل الاجتهاد من الأمور – بنية طيبة، بالأجر الجزيل. فقال في حديثه الصحيح: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد)) .
والأمم السعيدة الرشيدة هي التي يكثر فيها عدد الأفراد الذين يتعاونون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
أما الأمم الشقية الجاهلة فهي التي يكثر فيها التنابذ والتراشق بالتهم بدون دليل أو برهان.
ثالثاً: إن الكلام في الأحكام الشرعية بصفة خاصة، وفي غيرها بصفة عامة، يجب أن يكون مبنياً على العلم الصحيح، والفهم السليم، والدراسة الواسعة الواعية لأصول الدين وفروعه ولمقاصده وأهدافه.(6/27)
ويجب أن يكون المتحدث في هذه الأمور، غايته الاهتداء إلى الحق والصواب، فإذا خفي عليه شيء سأل أهل العلم والخبرة، استجابة لقوله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة الأنبياء: الآية 7] .
والمراد بأهل الذكر هنا: الخبراء وأهل الاختصاص في كل علم وفن. ففي مجال الطب نسأل الأطباء، وفي مجال الفقه نسأل الفقهاء. وهكذا في كل علم نسأل الخبراء فيه.
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضى الله عنهما – قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من قلوب الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضَلُّوا وأَضَلُّوا)) .
رابعاً: إن الأصل في العبادات أنها مبنية على الاتباع والاقتداء بدون زيادة أو نقصان، لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها لا تقبل الابتداع أو الاختراع أو الاجتهاد. ففي شأن الصلاة – مثلا – يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) .
أما المعاملات فإنها مبنية على التيسير والتوسعة وتعدد الوسائل، ورعاية مصالح الناس، في حدود شريعة الله تعالى، وفي النطاق الذي لا يتعارض مع آداب الإسلام ومع سماحته.
وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن تيمية – رحمه الله -: الأصل في العبادات: التوقيف أي الدقة في الاتباع، فلا يشرع فيها إلا ما شرعه الله. وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} .
والأصل في المعاملات: العفو والحل. فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ... } (1) الآية (1) . .
__________
(1) الفتاوى الكبرى: 3/ 412.(6/28)
ولقد قالوا: الأصل في الأشياء الإباحة، وأنه لا تحريم إلا بنص من كتاب الله، أو من السنة النبوية أو من أقوال الصحابة ومن تبعهم بإحسان، الذين استنبطوا من الكتاب والسنة ما استنبطوا من أحكام شرعية.
خامسا: إن تجاربي الشخصية جعلتني أقتنع اقتناعا تاما، بأننا في عصرنا هذا الذي تشابكت فيه المصالح، وتنوعت المقاصد، وتعددت الوسائل، وتعقدت الأمور لا يمكن أن نصل إلى معاملات اقتصادية سليمة، إلا عن طريق التعاون الصادق، بين رجال الفقه ورجال الاقتصاد والقانون وغيرهم، وما خفي على الفقهاء من أمور اقتصادية أو قانونية، سألوا عنها الخبراء في ذلك، وما خفي على هؤلاء من أحكام شرعية، سألوا عنها العلماء وبهذا التعاون الصادق، الذي ينبع عن النيات الطبية، والعزائم القوية، والعقول الراجحة، والنفوس النقية، نحصل على معاملات صحيحة.
سادساً: بعد هذه المقدمات أقول: إن كلامي في هذا البحث ينصب على المعاملات التي يجريها البنك العقاري المصرى، الذي يعتبر – كما جاء في التعريف به – أقدم البنوك المصرية قاطبة، فقد تم إنشاؤه في 15 من فبراير سنة 1880، كشركة مساهمة مصرية، غرضها: إقراض مالكي العقارات في مصر، قروضا مضمونة. وقد رأيت من الخير قبل أن أكتب في هذا الموضوع، أن ألتقي بالمسئولين عن إدارة هذا البنك لكي أحصل منهم على ما أحب الحصول عليه من معلومات، تتعلق بوظيفة هذا البنك وبمجالات نشاطه.
سابعا: وقد جاء في النظام الأساسي للبنك المذكور – الباب الأول – المادة الثانية – ما يلي: (غرض البنك القيام بأعمال الائتمان (1) (1) . العقاري، وما يتصل بها من تمويل مشروعات التعمير، والبناء، والتشييد والإسكان، والمرافق، واستصلاح الأراضي، أو المساهمة فيها.
وللبنك في سبيل تحقيق أغراضه القيام بما يأتي:
(1) منح القروض وغيرها من التسهيلات (2) . الائتمانية المرتبطة بأغراض البنك، وذلك على الوجه الآتي:
قروض أو تسهيلات ائتمانية لآجال لا تتجاوز خمس سنوات، بضمان رهن عقارى. ويجوز أن يكون الضمان ودائع، أو خطابات (3) . ضمان، أو أوراق مالية – أي: أسهم وسندات.
(ب) قروض أو تسهيلات ائتمانية لآجال تتجاوز خمس سنوات، بضمان رهن عقاري، وأوراق مالية.
(ج) يجوز لمجلس الإدارة منح قروض أو تسهيلات ائتمانية إلى الأشخاص الاعتبارية العامة، ووحدات القطاع العام، والشركات التي تساهم فيها وغيرها من الشركات المساهمة بضمانات أخرى إضافية يحددها المجلس.
__________
(1) الائتمان بصفة عامة هو التنازل عن مال حاضر مقابل مال مستقبل وربط الائتمان بالصفة العقارية يجعله مخصصا لتمويل العمليات العقارية مثل بناء العقارات أو شرائها. وهذه التفسيرات التي بالهامش قام بها سيادة الأخ الفاضل الأستاذ أحمد شاكر أبو العز مدير عام البنك العقاري المصري للشئون القانونية
(2) التسهيلات الائتمانية تشمل القروض، وفتح الاعتمادات وإصدار خطابات الضمانات والاعتمادات المستندية. . إلخ.
(3) خطاب الضمان له تعاريف عديدة تدور حول أنه تعهد نهائي من بنك بناء على طلب أحد عملائه نسميه (الآمر) أي من أمر البنك بإصدار خطاب الضمان بأن يدفع لشخص آخر نسميه (المستفيد) مبلغا من النقود أو قابل للتعيين، في خلال مدة معينة، بمجرد أول طلب من المستفيد ودون الالتفات إلى أي معارضة من الأمر ودون توقف هذا الدفع على التحقق من أية شروط خارجة عن خطاب الضمان ذاته ودون حاجة إلى البت من إخلال الآمر بالتزاماته قبل المستفيد، وبعبارة أخرى يعتبر خطاب الضمان في يد المستفيد شأنه شأن النقود كبديل كامل عنها.(6/29)
وفي جميع الأحوال يجب أن تصرف القروض في الأغراض التي منحت من أجلها.
(2) استثمار أموال البنك في مختلف أوجه الاستثمار بما يكفل تحقيق أغراضه، وتنمية موارده.
(3) القيام بدراسات الجدوى المتعلقة بالمشروعات التي يشارك فيها، أو يساهم في تمويلها.
(4) إدارة القروض والأموال وتسويقها وتوظيفها في حدود أغراض البنك.
(5) قبول الودائع، وإصدار شهادات الادخار والإيداع ـ وفقا للشروط التي يحددها البنك المركزي المصري.
(6) القيام بأعمال أمناء الاستثمار (1) .
ويجوز للبنك أن يساهم في تأسيس شركات لتحقيق كل أو بعض أغراضه كما يجوز أن تكون له مصلحة أو أن يشترك بأي وجه من الوجوه مع الهيئات والجهات التي تزاول أعمالا شبيهة بأعماله، أو التي قد تعاونه على تحقيق أغراضه في مصر أو في الخارج أو أن يندمج معها، أو يشتريها أو يلحقها به.
كما يجوز للبنك المشاركة في مشروعات التعمير والإسكان واستصلاح الأراضي في إطار الشريعة الإسلامية.
ثامناً: وبعد هذا العرض لجانب من النظام الأساسي للبنك العقاري المصرى، يتبين لنا بوضوح أن الأغراض والأهداف التي قام من أجلها، متعددة الأنواع، مختلفة الوسائل، مترامية الأطراف، وأنها تشمل ما يأتى:
المساهمة في تمويل عمليات استصلاح الأراضي، وتحويلها من أرض جدباء إلى أرض خضراء، تنبت من كل زوج بهيج، وينتفع الناس والدواب والأنعام والطيور بما تخرجه هذه الأرض المستصلحة من زروع وثمار.
ولا شك أن هذا العمل في ذاته عمل نافع، حضت عليه شريعة الإسلام، في عشرات الآيات القرآنية وفي كثير من الأحاديث النبوية.
أما الآيات القرآنية فمنها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [سورة الملك: الآية 15] .
ومنها قوله سبحانه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ... } الآية [سورة هود: الآية 61] .
__________
(1) المراد بأعمال أمناء الاستثمار: إدارة أموال الغير نيابة عنهم بناء على طلبهم لظروف تقتضي ذلك من وجهة نظرهم، وكذلك تسويق عقارات الغير الذين يعهدون إلى البنك بذلك، أو شراء العقارات لصالح عملاء البنك الذين يرغبون في ذلك.(6/30)
وأما الأحاديث النبوية، فمنها ما أخرجه الشيخان عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة)) .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم ((من أحيا أرضا ميتة فهي له ولعقبه)) .
وفي رواية: ((من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العوافي فهو له صدقة)) .
وفي رواية ((من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) ، أي: ليس لمن يغتصب أرض غيره حق فيها.
وبذلك نرى أن العمل على تحويل الأرض من أرض جدباء إلى أخرى خضراء من أجل الأعمال التي تدعو إليها شريعة الإسلام.
(ب) المساهمة في تمويل بناء المساكن التي تأوي من هم في أشد الحاجة إلى الإيواء والستر ونحن نعلم أن قلة المساكن في معظم البلاد الإسلامية قد أصبحت تمثل مشكلة خانقة. فملايين الفتيان والفتيات الذين صاروا في سن الزواج لم يتمكنوا من تحقيق ما يرجونه من ارتباط شرعي، بسبب عدم استطاعتهم الحصول على المسكن المناسب، أو حتى غير المناسب.
وكلنا نعلم ما يترتب على ذلك من انحرافات في السلوك والأخلاق ومما لا شك فيه – أيضا – أن المساهمة في إنشاء المساكن التي تستر الناس، وتصون أعراضهم، من الأعمال الجليلة التي ترضي الله – عز وجل – لأنها لون من التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج على مسلم كربة فرَّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة،ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)) .
وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. . .
(ج) المشاركة مع الأفراد والهيئات في إقامة المشروعات المتنوعة النافعة، التي أباحتها – بل حضت عليها – شريعة الإسلام، لأن خيرها يعود على الأفراد والجماعات، ولأن المشاركة فيها تفتح أبواب العمل لمن لا عمل لهم بعد أن صارت مشكلة البطالة من أشد المشاكل التي تعاني منها كثير من الدول العربية والإسلامية، بل صارت هذه المشكلة تنذر بشر مستطير، وبخطر جسيم، نسأل الله تعالى النجاة منه.(6/31)
وقد جاء في الفقرة السادسة من المادة الثانية من النظام الأساسي للبنك العقاري المصري ما يأتي (كما يجوز للبنك المشاركة في مشروعات التعمير والإسكان واستصلاح الأراضي، في إطار الشريعة الإسلامية) .
ولا يختلف عاقلان في أن هذه المشاركة، في إطار الشريعة الإسلامية، من الأعمال الصالحة التي تدعو إليها شريعة الإسلام.
(د) تقديم المساعدة الفنية، والخبرة النافعة، لمن يقومون بأعمال التعمير، والبناء والتشييد والإسكان والمرافق واستصلاح الأراضي.
فمن وظائف البنك – كما جاء في نظامه -: (القيام بدراسة الجدوى للمشروعات العقارية على اختلاف أنواعها، وتقديم المشاورات الفنية، والقانونية، والهندسية. . . إلخ) .
ومن المتفق عليه أن هذه الدراسات النافعة، التي يقدمها البنك لطالبيها تمثل لونا من التعاون النافع، متى أداها البنك بصورة صحيحة، لا يشوبها غش أو خداع أو استغلال أو ربا. . . وما يأخذه البنك في نظير ذلك من أجور يقدرها الخبراء العدول جائز شرعا.
تاسعا: هذه أهم الأغراض التي قام من أجلها البنك العقاري، وتلك أهم وظائفه.
وهي- كما سبق أن قلنا – أغراض شريفة في ذاتها، ولا يختلف عاقلان في سلامتها ونفعها، ولكن يأتي بعد ذلك سؤال هام وهو: ما الوسائل التي يستخدمها البنك في تحقيق هذه الأغراض وتلك الوظائف؟
وللإجابة على ذلك أقول: هناك وسائل متعددة تسلكها تلك البنوك لتحقيق أغراضها، وهذه الوسائل منها ما هو جائز شرعا ومنها ما ليس كذلك فأما الوسائل التي اتفق الفقهاء على جوازها شرعا، فمن أبرزها:
(أ) أن تقدم الدولة للبنوك العقارية ما هي في حاجة إليه من أموال كافية لتلبية مطالبها الذاتية كأجور العمال والموظفين. . إلخ ولتلبية مطالب الراغبين في استصلاح الأراضي أو في بناء المساكن، دون أن تأخذ البنوك من هؤلاء الراغبين في إقامة تلك المشروعات، أية مبالغ تزيد عما قدمته لهم.(6/32)
وتكون وظيفة البنوك العقارية في تلك الحالة، هي الوكالة عن الدولة في تنظيم وتنسيق وتنفيذ تقديم هذه الأموال، لأصحاب تلك المشروعات، ثم استردادها منهم بعد ذلك على أقساط، لا تزيد في مجموعها على ما قدمته لهم من أموال، بل ربما تتنازل الدولة عن جزء كبير منها في بعض الأحيان. . . وهذه الطريقة تتبعها – في العادة – الدول الغنية الرشيدة، لكي تساعد أبناءها على امتلاك المسكن المناسب، وعلى التوسع في إحياء الموات من الأرض، وقد ترتب على هذه السياسة الحكيمة أن زاد العمران وكثر عدد العاملين في مجالات النشاط الاقتصادي على اختلاف ألوانه، وأنفقت الأموال في وجوه الخير التي يعود نفعها على الجميع، كما ترتب على هذه السياسة الحكيمة – أيضاً – أن كثرت المساكن، وصار المعروض منها أكثر من المطلوب، فرخصت أسعارها، وأصبح المسكن الذي كان يؤجر منذ عشر سنوات في المملكة العربية السعودية – مثلاً – بثلاثين ألف ريال في السنة، أصبح الآن – كما بلغني – يؤجر بأقل من هذا المبلغ بنسبة قد تصل إلى الثلث.
ومما لا شك فيه أن هذه الطريقة التي اتبعتها بعض الدول، هي من السنن الحسنة، التي لأصحابها من أولي الأمر، أجرها وأجر من عمل بها من بعدهم.
(ب) أما الطريقة الثانية من الطرق التي اتفق العلماء على إباحتها، فهي: أن تقدم البنوك العقارية لأصحاب مشروعات استصلاح الأرض، أو تشييد المساكن، الأموال التي هم في حاجة إليها لإقامة مشروعاتهم، ولكن على سبيل المشاركة لهم بالنصف أو بالثلث أو بعير ذلك. . .
والمشاركة – كما نعلم – جائزة شرعاً، بدليل قوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [سورة النساء: الآية 12] .
وبدليل ما أخرجه الإمام أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: ((يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما)) .
أي أن الله – تعالى – يبارك للشريكين في المال، ويحفظه لهما ما لم تحدث خيانة من أحدهما للآخر، فإن حدثت نزع الله – تعالى –البركة من مالهما.
وقد جاء في الفقرة السادسة من المادة الثانية من النظام الأساسي للبنك العقاري المصري ما نصه: (كما يجوز للبنك المشاركة في مشروعات التعمير والإسكان واستصلاح الأراضي في إطار الشريعة الإسلامية) .
(ج) والطريقة الثالثة التي يمكن للبنوك العقارية أن تسلكها لتمويل المشروعات العقارية النافعة تتلخص في الرهن.
وهو في اللغة يطلق على الثبات والدوام، ومنه قولهم: نعمة راهنة، أي ثابتة ودائمة كما يطلق أيضاً على الحبس، كما في قوله – تعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي: محبوسة بكسبها وعملها ومعناه شرعا: إعطاء الدائن ضمانا ذا قيمة معلومة، يضمن له حقه في ذمة المدين.(6/33)
والرهن جائز شرعا، بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة: الآية 283] .
أي: وإن كنتم – أيها المؤمنون – مسافرين، وتداينتم بدين إلى أجل مسمى، ولم تجدوا كاتبا يكتب لكم ديونكم، أو لم تتيسر لكم أسباب الكتابة، فإنه في هذه الحالة يقوم مقام الكتابة رهان مقبوضة، يقبضها صاحب الدين ضمانا لحقه عند تعذر أخذه من المدين.
ومن الأحكام التي أخذها الفقهاء من هذه الآية الكريمة: أن تعليق الرهان على السفر ليس لكون السفر شرطا في صحة الرهان، فإن التعامل بالرهان مشروع في حالتي السفر والحضر.
وإنما علق هنا السفر لأنه مظنة تعسر الكتابة، لما فيه من التنقل وعدم الاستقرار وقد ثبت في الصحيحين عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير، رهنها قوتًا لأهله. (1) .
ومن الواضح أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – عندما رهن درعه لليهودي، كان مقيما ولم يكن مسافرا.
قال القرطبي: " ولم يرد عن أحد منع الرهن في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود، متمسكين بظاهر الآية، ولا حجة لهم فيها، لأن الكلام وإن خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال. . . " (2) .
وإذًا فمن الوسائل المشروعة التي يمكن أن تستعملها البنوك العقارية لضمان حقها بالنسبة لمن سلمتهم شيئًا من أموالها لاستصلاح الأرض، أو لبناء المساكن، أن تأخذ منهم على سبيل الرهن ما يناسب قيمة تلك الأموال التي دفعتها لهم.
وقد جاء في الفقرة الأولى من المادة الثانية من النظام الأساسي للبنك العقاري المصري ما نصه / (وللبنك في سبيل تحقيق أغراضه القيام بما يأتي: منح القروض وغيرها. . . وذلك على الوجه الآتي: قروض أو تسهيلات ائتمانية لآجال لا تتجاوز خمس سنوات، بضمان رهن عقاري ويجوز أن يكون الضمان ودائع، أو خطابات ضمان، أو أوراق مالية. . .) .
(د) كذلك من الوسائل التي نرى إباحتها للبنوك العقارية التي تقدم الأموال اللازمة لأصحاب تلك المشروعات العقارية النافعة أن تأخذ منهم مقابل خدماتها لهم، مبالغ مناسبة، يقدرها الخبراء العدول كأجور للموظفين وللعمال ولغير ذلك من المرافق التي تكلف البنوك الكثير من الأموال، والتي تخلت الدولة عن دفعها، وأذنت للبنوك في تحصيلها من المتعاملين معها نظير ما تقدمه لهم من خدمات متنوعة، لا تستطيع القيام بها إلا بتحصيل تلك المبالغ.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 1/ 337.
(2) تفسير القرطبي: 3/ 407(6/34)
ويبدو لي أنه لا يوجد مانع شرعي يمنع البنوك من أن تأخذ تلك المبالغ من المتعاملين معها ما دامت هذه المبالغ مقدرة من جهة الخبراء العدول ولا جشع معها ولا استغلال، وما دامت تؤخذ على أنها في مقابل خدمات معينة يقدمها البنك للمتعاملين معه في سبيل تبادل المنافع المشروعة.
عاشرا: هذه في نظري أبرز الوسائل التي أرى أن البنوك العقارية يجب عليها أن تأخذ بها أو ببعضها عند تمويلها للمشروعات التي وجدت من أجل المساهمة في تحقيقها وهي: التعمير، والبناء والتشييد، والإسكان، واستصلاح الأراضي. لأن هذه الوسائل مع جوازها من الناحية الشرعي، سيترتب عليها – بإذن الله – ما يأخذ بالأمة إلى طريق الخير والرقي والأمان.
وأما الوسائل التي اتفق العلماء على حرمتها وعلى وجوب التخلي عنها، فهي كل وسيلة تسلكها هذه البنوك في تعاملها مع غيرها وتكون هذه الوسيلة مصحوبة بالغش أو بالتدليس، أو بالاستغلال أو بالربا، أو بغير ذلك من المعاملات المحرمة.
فمثلا ما تأخذه هذه البنوك من فوائد باهظة على المبالغ التي تقرضها لمن هم في حاجة إليها لسد ضرورات حياتهم، هي من قبيل الظلم، والاستغلال والربا المحرم.
وما تأخذه من فوائد مضاعفة على المعسرين، هو – أيضا – من قبيل الظلم البين، والربا الجلي الذي أعلن القرآن الكريم حرب الله ورسوله لمن يتعاطاه، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} – أي: فإن لم تتركوا التعامل بالربا – {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة: الآية 289] .
حادي عشر، وهنا أحب أن أنبه إلى أن الوسائل المنحرفة عن الحق في التعامل، هي محرمة شرعاً سواء أصدرت عن البنوك أم عن المتعاملين معه، بقصد استغلاله لمصالحهم الخاصة، وبقصد أخذ جزء من أمواله – التي هي ملك للأمة – لا من أجل حاجتهم الماسة إليها وإنما من أجل الزيادة في ثرواتهم الضخمة ومن أجل إشباع مطامعهم التي لا نهاية لها.(6/35)
ويحضرني بهذه المناسبة أن رجلا أرسل إلى دار الإفتاء المصرية سؤالا ملخصه: أنه يأخذ من أحد البنوك التي هي ملك للدولة مبالغ معينة بفائدة معينة، ثم يضع هذه المبالغ في بنك آخر بفائدة أعلى وأكبر. .
ويسأل: هل عليه زكاة على هذا المال؟
ولا شك أن هذا السلوك يمثل لونًا من التحايل القبيح الذي يدل على انطماس البصيرة، وضعف الدين وسوء الخلق.
ثاني عشر: وبعد فهذه كلمة عن (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) ذكرنا فيها بعض المقدمات التي لا بد منها، ثم ثنينا ببيان جانب من النظام الأساسي للبنك العقاري المصري، ثم ثلثنا بتوضيح الأغراض والأهداف التي قامت من أجلها هذه البنوك، وأنها أهداف شريفة في ذاتها، ثم ختمنا كلمتنا ببيان الوسائل التي لو استخدمتها هذه البنوك، وأنها أهداف شريفة في ذاتها، ثم ختمنا كلمتنا ببيان الوسائل التي لو استخدمتها هذه البنوك لكانت معاملاتها سليمة وخالية من الربا ومن كل ما يتنافى مع شريعة الله، وكذلك لو سلكها الذين يتعاملون مع هذه البنوك.
ويعجبني في هذا المقام قول فضيلة الدكتور محمد عبد الله دراز – رحمه الله -: " قضية الربا في زمننا هذا، إنما هي قضية (تطبيق) وهي فوق ذلك ليست – فيما أرى – من الشئون التي يقضي فيها فرد أو بضعة أفراد، بل ينبغى أن يتداعى لها طوائف من الخبراء في القانون والسياسة والاقتصاد والفقه، وأن يدرسوها دراسة دقيقة مستفيضة، من جميع نواحيها الحاضرة والمستقبلة. . . " (1) .
وأن التمويل العقاري لبناء المساكن وما يشبهها لهو في ذاته عمل جليل، إذا قامت به البنوك وفق الأحكام الشرعية، التي لا ظلم فيها لأحد، لأنها من عند أحكم الحاكمين.
وبالله التوفيق
الدكتور محمد سيد طنطاوي
__________
(1) الربا في نظر القانون الإسلامي: مجلة الأزهر، المجلد الثالث والعشرون، ج 11.(6/36)
التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها
إعداد
سعادة الدكتور عبد الله إبراهيم
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد عبد الله ورسوله وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم على نهجهم إلى يوم الدين.
1-مقدمة:
هذا البحث موضوعه هام جدا وهو التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها وهو موضوع تطلع إليه – ولا يزال يتطلع إليه – المجمع الإسلامي في كل مكان إلى حل أو حلول عادلة نزيهة من أية شبهة بالربا للمسألة التي تتعلق بإحدى حاجاته الأساسية وهي المسكن اللائق المناسب للفرد ومن يعولهم من أفراد أسرته، فقد اضطر المجتمع الإسلامي – بل الإنساني – في كل مكان إلى مواجهة هذه المشكلة مع جهات التمويل القائمة والتي تطبق في تعاملها مع أفراد المجتمع النظام المستورد من النظام الرأسمالي القائم على الربا ـ لاشتماله على معاملات تعتمد على فرض فائدة ربوية على خدمات التمويل التي تقدمها لمن يحتاج إلى التمويل للحصول على أية حاجة من الحاجات الأساسية كقطعة أرض ومسكن وسيارة ومكائن وأدوات زراعية وصناعية وغيرها وكذلك الحاجات الاستثمارية من رأس المال وغيره.
على أن مما يبعث على الحيرة والأسى للمجتمع الإسلامي أنه توجد هناك بين حين وآخر فتوى من أشخاص أو جهات معينة لها مكانتها في المجتمع بأن هذه الفائدة المفروضة على القروض لشراء الحاجات الاستهلاكية أو لاستخدامها في أوجه الاستثمارات المختلفة ليست بربا محرم بل هي أجرة خدمة أو خدمات تقوم بها جهات التمويل سواء كانت عامة حكومية كوزارة المالية والإسكان والزراعة وما إليها من المؤسسات الحكومية أو أهليه خاصة كالبنوك التجارية والجمعيات التعاونية ونحوها.
كما توجد هناك فتوى بأن هذه الفائدة الربوية ما هي إلا ربح حلال يعود لصاحب المال نتيجة استخدام ماله ووضعه بعيدا عن متناول يديه في أغراضه مدة من الزمن.(6/37)
وجدت كل هذه الفتاوى مع إغماض العين عن أوجه التفرقة بين الربا وكل من أجرة الخدمات والربح، وهي أوجه تفرقة ظاهرة واضحة لا تقبل الجمع بين الربا وكل من أجرة الخدمات والربح، في حال من الأحوال.
وقد ذكر العلماء الكثيرون – علماء الشريعة وعلماء المال والاقتصاد – مع الأدلة والحجج الواضحة أن هذه الفائدة ربا محرم سواء كانت على القروض بنوعيها الاستهلاكية والاستثمارية أو على الودائع الثابتة في البنوك وأمثالها.
ولهذا كله اتفق المسئولون في عالمنا الإسلامي وغيره في أوروبا وأمريكا على إقامة البنك الإسلامي الذي تجرى المعاملات فيه طبقا لقواعد الشريعة ومبادئها في المعاملات وقدمت حلول كثيرة لتكون بديلة عن تلك المعاملات الربوية التي تتبعها البنوك الربوية خاصة في التمويل لمختلف الأغراض الاستهلاكية والاستثمارية معا وغير ذلك من خدمات كانت تتضمن الربا أو شبهة منه وأغرقت الأسواق والمكتبات بالكتب التي تبحث عن هذه الحلول البديلة للمعاملات الربوية.
إذن فلا يصح أن تعتبر تلك الفائدة أجرة خدمات كما لا يصح أن تعتبر ربحا لما بين الربا وكل من أجرة الخدمات والربح من فروق واضحة، ولسنا هنا في موضع بيان لتلك الفروق، وأكتفي هنا بأن نركز مناقشتنا في الحلول الإسلامية لمسألة التمويل الربوي المذكور واختيار الأوجه الصالحة لتطبيقها في تمويل بناء المساكن وشرائها ونحوها من الحاجات الأساسية الاستهلاكية مع التركيز على نقطة من النقاط التي لم تنل حظا وافرا من العناية من كثير من الباحثين في موضوعات التمويل.
2- تعريف للموضوع:
والموضوع هو التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها، وتعني كلمة التمويل قيام الجهة المالكة للمال – بنكا كان أو مؤسسة مالية عامة أو خاصة – بتقديم المال اللازم للمتعامل معها من أجل الحصول على حاجة ما أساسية أو غيرها كالمسكن ونحوه، وليس المراد قصر ذلك على بناء المساكن وشرائها فحسب، فإن غيرها من الأغراض مثلها، إلا أن الغرض من البحث هنا الاقتصار على التمويل لبناء المساكن وشرائها نظرا لأهميتها باعتبار أن المسكن من الحاجات الأساسية للإنسان في كل مكان وزمان، ومع هذا يجوز أن يقاس غيره من الحاجات على المسكن كالسيارة وماكينة زراعية أو صناعية وغيرها.
هذا والمفروض في مثل هذا البحث أن يتناول الباحث كالعادة ذكر أوجه التمويل الصالحة المناسبة وبيان التعريف عن كل وجه من جميع جوانبه، إلا أني أرى في هذا البحث أن أقتصر وأركز على بعض النقاط التي تراءى لي أنها تحتاج إلى المناقشة وبت الحكم الشرعي فيها حيث إنها لم يسبق أن اتخذ قرار بشأنها وأترك بقية الجوانب التي كثر النقاش في شأنها ووضح أمرها وأحكامها الشرعية وذلك حتى لا يتكرر النقاش خاصة إذا كانت قد سبق أن اتخذ في شأنها قرار أو قرارات من قبل في مجمعنا في دورة من دوراته.(6/38)
3- أوجه التمويل الصالحة:
بعد النظر إلى مختلف التمويل التي قامت بها مختلف بنوكنا الإسلامية نجد أن هناك عدة أوجه صالحة لأن تكون أوجه تمويل لبناء المساكن وشرائها وذلك لأنها قد قدمت على أنها حلول بديلة لأوجه التمويل الربوي التي تطبقها البنوك الربوية.
وهذه الأوجه هي البيع بثمن آجل والمرابحة للآمر بالشراء والمشاركة المنتهية بالتمليك والتأجير المنتهي بالتمليك إلى جانب القرض الحسن.
ويمكن إجمال التعريف عن هذه الأوجه بأنها جميعا تجمع معنى المرابحة للآمر بالشراء، وذلك لأن الأول يعني قيام الجهة الممولة بشراء مسكن عينه العميل بمواصفات خاصة والتزم بشرائه منها بقيمة التكلفة مضافا إليها ربح معين يدفعها في أقساط خلال مدة متفق عليها.
والوجه الثاني كذلك كما هو واضح، إلا أن القيمة المتفق عليها بين الطرفين (وهي مكونة طبعا من قيمة التكلفة والربح) ، قد تدفع في الحال، إلا أن الغالب أنها تدفع في أقساط خلال مدة معلومة أيضا.
وأما الثالث فهو مبني أيضا على المرابحة للآمر بالشراء، إلا أن التمويل في المرحلة الأولى هنا لا يكون كليا بل جزئيا حيث يشترك الطرفان في شراء المسكن، ثم تبيع الجهة الممولة نصيبها للعميل بقيمة التكلفة مضافا إليها الربح أيضا ويدفع العميل هذه القيمة في أقساط خلال مدة متفق عليها.
وأما الأخير وهو التأجير المنتهي بالتمليك فكذلك بناء على اختيار وطلب من العميل للمسكن وبمواصفات خاصة، سواء كان مسكناً جاهزاً أو غير جاهز ولم يتم بناؤه بعد والمطلوب بناؤه وتأجيره بهذه الصفة، وسواء كان المسكن المذكور من أملاك الممول أو من غيرها فيتملكه الممول ويؤجره له بهذه الصفة أيضا.
ومهما كان الأمر فإن هذا التأجير يعقبه تمليك للممول بالبيع – كما هو الغالب الواقع عملا – بقيمة التكلفة المضاف إليها الربح وبناء على أمر من العميل في بداية الأمر إلا أنه يختلف من الأوجه الأولى في أنه لابد أن يشتمل على عقدين مستقلين الأول عقد إجارة والثاني عقد بيع بعد انتهاء مدة الإجارة أو في خلال المدة على أن يسري مفعوله بعد انتهاء مدة الإجارة أو بعد العقد مباشرة إذا اتفق الطرفان على فسخ الإجارة.(6/39)
على أن يراعى في جميع هذه الأوجه القيمة المناسبة وإن أضيف إليها مقدار معين من الربح، وفي مسألة الإجارة يكون ثمن الإيجار مناسبا للمسكن طبقا لنظام العرض والطلب في المكان والزمان الذين تم فيهما عقد إجارته ومناسبا أيضا لحجمه والمنفعة المستفادة منه ويقترن بهذا العقد وعد بالبيع من قبل الممول المؤجر ووعد بالشراء من قبل العميل المستأجر بعد انتهاء مدة الإجارة وإتمام دفع إيجاراته حسب المتفق عليه، ويتفق الطرفان حول اعتبار قيمة الإيجار المدفوعة أو جزء منها قسما من قيمة البيع، كما أن للطرفين الاتفاق على إضافة مقدار معين إلى ثمن الإيجار حين عقد الإجارة مقابل البيع الموعود به، ويودع هذا المبلغ – وهو يدفع على أقساط من ثمن الإيجار الشهري طول مدة الإجارة – في حساب الودائع الاستثمارية في البنك الإسلامي ليكون ضمانا للممول ويستفيد منه بأرباحه بعد إتمام عقد البيع مباشرة ويتسلمه عاجلا باعتبار أنه جزء من قيمة البيع الذي تم العقد عليه، لا على أنه ربح من قبل أن يتم عقد البيع عليه، ويدفع العميل بقية القيمة مخصوما منها الإيجار السابق الذي دفعه أو جزءا منه تبعا للاتفاق بين الطرفين، في أقساط خلال مدة معينة، وتتخذ جميع الإجراءات اللازمة الأخرى على حسب قوانين البلاد.
وأحيلكم بعد هذا إلى قراءة بحثي عن موضوع التأجير المنتهي بالتمليك لمعرفة بقية التفاصيل عنه وهو مقدم أيضا إلى مجمعنا هذا.
هذا ويوجد هناك بعض البنوك الإسلامية يمارس ما يسمى باسم: (الإقراض برسم التمليك) كوجه من أوجه التمويل، ويعنى أن البنك يتملك أشياء منقولة أو غير منقولة ويؤجرها للعميل مقابل تعهد الأخير بدفع أقساط متساوية في آجال معينة ولمدة يتفق عليها في حساب توفير يفتحه البنك لهذه الغاية ويعطي البنك تفويضا بحق استثمار موجودات الحساب ويمكن إضافة الأرباح إلى هذا الحساب وعندما تتكامل الأقساط يلغى العقد وتنتهي الإجارة وتنتقل الملكية من البنك إلى العميل. (بحث د. أوصاف أحمد موضوعه: الأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفي الإسلامي: أدلة عملية من البنوك الإسلامية، مقدم إلى المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) ، عمان 18 – 21 /6 /1987 ص6) ذكره الدكتور أوصاف أحمد بعد ذكر الإجارة مباشرة وقال عنه: (هذه طريقة أخرى من التعامل تقوم بها البنوك الإسلامية، وهي وجه آخر من أسلوب الإجارة السابق) ، ثم عرفه كما نقلت عنه أعلاه.(6/40)
فالدكتور شحاته – ذكر ضمن العناصر والأسس والقواعد السليمة في عملية بيع المرابحة – ذكر حول الربحية أمرين:
ملاءمة الربحية لذات السلعة أو النشاط في ضوء أسعار السوق أو العمليات السابقة.
مدى الالتزام بالقرارات الخاصة بنسب تحديد نسب الربح، وقوانين الاستيراد واللوائح التنفيذية (بحثه المقدم إلى ندوة خطة استراتيجية الاستثمار في البنوك الإسلامية, الجوانب التطبيقية والقضايا والمشكلات في عمان، الأردن 18/6/1987 ص17) .
وتناولها الدكتور محمد عبد الحليم عمر بشيء من التفصيل حول عنصر الربح كأحد عناصر الثمن الثلاثة: الثمن الأساسي أو الأول، المصروفات ثم الربح، فقال: " إن هذا العنصر هو مقصود العملية " وقال: " والعلم به وذكره في العقد شرط من شروط المرابحة "، وذكر عن بعض البنوك الإسلامية: " فإن بعض البنوك تذكره والبعض الآخر لا يذكره بل يذكر الثمن إجماليا متضمنا الربح دون إشارة إلى ذلك ".
فقال عن هذا: " وهذا أمر يجب تعديله بضرورة ذكر الربح في عقد البيع حتى يحقق شرط العلم بالربح كأحد شروط المرابحة ".
وقال: " ولا يكفي في ذلك ذكره في عقد الوعد حتى ولو أشير إليه صراحة في عقد البيع على هذه الحالة، أولا لأن عقد الوعد لا ينعقد به بيع. . . وثانيا لأنه ربما يتم تغيير الربح بين مرحلة المواعدة ومرحلة البيع لأية ظروف مثل صدور قوانين أو قرارات من الدولة تنظم ذلك) .
وتناول كيفية حساب الربح فذكر أولا اختلاف البنوك الإسلامية في كيفية حسابه فقال: " يحسب الربح كنسبة مئوية من ثمن الشراء وجميع المصروفات في بعض البنوك، ومصروفات محددة في بنوك أخرى ".
ويلفت النظر بعد ذلك إلى " أن نسبة الربح يجب أن تختلف بحسب نوع البضاعة وأجل السداد بما يؤثر على إجمالي الثمن الذي يريد في البيع الآجل عنه في البيع النقدي. . مع ضرورة الإشارة إلى أن ذلك يجب أن يكون محددا بصفة قاطعة عند إبرام عقد البيع ولا يقال مثلا إن نسبة الربح لسعلة ما 5 % إذا كان السداد على شهرين، و7 % إذا كان السداد على أربعة شهور) .(6/41)
وقال: " فإذا كان يجوز أن يكون هذا واضحا قبل التعاقد فإذا تم العقد على نسبة 5 % مثلا والسداد لمدة شهرين ثم تأخر المشتري عن السداد في الموعد المحدد أن لا تزاد نسبة الربح مقابل الأجل في هذه المرة، بل يعالج الموقف بأحد الإجراءات المقررة للتوقف عن الدفع ".
على أن بعض البنوك تلتزم في تحديد الربح بالنسب المقررة بالدولة عندما تحدد الدولة بقرارات نسب الربح لكل سلعة مستوردة أو محلية لكل من المستورد أو تاجر الجملة والتجزئة.
وذكر أن بعض البنوك تحدد الربح بنسب ثابتة على جميع أنواع السلع (18 % مثلا) مسترشدة في ذلك بسعر الفائدة الربوي السائد في السوق.
وهي بذلك تفرغ عملية المرابحة من مضمونها الاقتصادي والشرعي وتصبح كأنها عملية إقراض الثمن للمشتري مرابحة خاصة إذا علمنا أنها توكل العملية كلها – شراء أول وبيع مرابحة للمشتري – (بحثه المقدم إلى المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي بالأردن 18-21/6/1987 في موضوع التفاصيل العملية لعقد المرابحة في النظام المصرفي الإسلامي ص 26-27) .
هذا وتحدد بعض البنوك الإسلامية نفس الطريقة التي اتبعتها البنوك الربوية في تحديد مقدار الفائدة المطلوبة على القروض وذلك بضرب نسبة الفائدة السنوية في عدد السنوات المتفق عليها لدفع أقساطها خلال أشهرها، مثلا 6 % ×10 سنوات =60 % من قيمة التكلفة.
بينما سلكت بعض مؤسسات التمويل سلوك التخفيف والرحمة فاكتفت بمقدار ما يساوي 10 % من الربح مضافا إلى قيمة التكلفة بدون ضربها في عدد السنوات ولكن يوجد البعض الآخر يزيد على قيمة التكلفة مبلغا كبيرا من الربح بدون ضابط مثل أن يكون المقدم في بيع بثمن آجل للغسالة: 15 دولار والقسط الشهري 24 دولار في 36 شهرا = 864 دولار مع أن قيمتها نقدا 414 دولار فقط. ويكون الفرق 450 دولار أي مقدار الربح المضاف إلى قيمة التكلفة أكثر من مائة في المائة.(6/42)
ضمانات:
هذا ومع اختلاف طرق تحديد الربح – كما رأينا – يختلف مقدار الربح المضاف إلى قيمة التكلفة تبعا لاختلاف طريقة تحديده من بنك إلى آخر.
وإن هناك اختلافا ثالثا بين البنوك الإسلامية فيما أخذت من ضمانات.
فإن هذه الضمانات تتكون من أمور – وإن اختلف في الأخذ بها جميعًا من بنك إلى آخر – منها ما يمثل مجرد توثيق لحق الممول ولا يأتي بمزيد الربح إليه، ومنها ما هو أكثر من مجرد توثيق لحقه، بل يأتي بمزيد الربح إلى الممول فوق الأرباح المضاعفة التي جاءت بها طريقة تحديدها.
فالمجموعة الأولى هي:
الضمان الشخصي المتعلق بسمعة العميل ومركزه المالي.
الحصول على رهن بقيمة الثمن أو رهن البضاعة ذاتها رهنا تأمينيا.
طلب كفالة شخص آخر مليء لضم ذاته إلى ذمة المشتري.
الحصول على سندات إذنية للتحصيل أو سندات إذنية بالاطلاع.
تحفظ البنك على وديعة للمشتري طرف البنك.
توقيع المشتري على إيصال أمانة أو شيكات مؤجلة السداد بقيمة المبلغ.
إعطاء البنك حق امتياز البائع على السلعة المباعة.
إلى غير ذلك من ضمانات من هذا القبيل.
والمجموعة الثانية هي:
1تقديم المشتري خطاب ضمان مصرفيًا بقيمة البضاعة للبنك.
التأمين على البضاعة محل العقد من كافة الأخطار لصالح البنك.
3- عقد البيع مرابحة ذاته (1) (1) .
4-إيداع ما بين 3-6 أقساط مثلا من أول مدة سريان مفعولية العقد في حساب الودائع الاستثمارية في البنك الذي يقوم بالتمويل، وتقتسم فيه الأرباح بين الطرفين الممول والعميل مضاربة.
إلى غير ذلك من ضمانات من هذا القبيل: الذي يمكن أن يأتي بمزيد الربح إلى الممول.
__________
(1) د. محمد عبد الحليم عمر، بحثه المقدم إلى المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي عمان، الأردن، موضوعه: التفاصيل العملية لعقد المرابحة في النظام المصرفي الإسلامي بتاريخ 18-21/6/1987، ص 28.(6/43)
الطريقة المختارة:
ولهذا كله أرى أن علينا أن نركز في مناقشة طرق تحديد الربح وما يجوز أخذه كضمان حتى لا يأتي هو الآخر بمزيد الربح فوق الأرباح المضاعفة التي قد أضيفت إلى قيمة التكلفة تبعا لطريقة تحديد هذه الأرباح، وهي في أحيان كثيرة قد أثقلت كاهل العميل المسكين المحتاج إلى مسكن يقيه هو وأهله من مخاطر الجو وأعين الناس، مع أن البنك الإسلامي ما أنشئ إلا وكان من أوائل أهدافه هو أن يكون بديلا للبنوك الربوية التي طالما أثقلت كواهل الناس بما فرضت من فوائد ربوية وغيرها.
هذا وإذا كان لي أن أختار من تلك الطرق المختلفة لتحديد الربح فالطريقة التي تنبئ عن الإنصاف والرحمة والتوسط في جمع الأرباح هي الأفضل وهي الطريقة التي لا يمكن أن تأتي بربح أكثر من الثمن الحالي للفائدة في السوق المحلي، من غير ضربه في عدد السنوات المتفق عليها لدفع الأقساط، وذلك حتى لا تأتي بأضعاف مضاعفة من الربح الذي يشبه الربا الجاهلي المطبق على الناس في عهد نزول القرآن الكريم بتحريم الربا.
ومن ناحية الضمانات نرى أن نختار من الضمانات كذلك ما لا يمكن أن يأتي بمزيد الربح والمكاسب لطرف الممول دون غيره خاصة إذا كان يتم بالشرط المفروض على العميل.
وبهذا أكتفي. وصلى الله وسلم على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الدكتور عبد الله ابراهيم(6/44)
التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها
إعداد
فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن البحث الذي طرحه مجمعنا الموقر للمناقشة وتشرفت باختياره للكتابة فيه هنا هو: (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) .
وهذا البحث على أهميته وخطورته اليوم في عالمنا المعاصر لم يفرده فقهاؤنا القدامى – رحمهم الله تعالى وأجزل مثوبتهم – بكتاب فيما أعلم، حتى ولا برسالة أو بحث منفرد على حدة، لا تقصيرًا منهم، بل لأن هذه المشكلة وهي مشكلة السكن لم تكن موجودة في عصرهم بشكلها الحالي المخيف، فلم تكن نازلة، بل الأمر عندهم كان أيسر مما نتصور، لذلك تجد أحكامًا للمساكن والدور والعقار بعامة مبثوثة هنا وهناك في طيات كتبهم ومدوناتهم وثنايا عباراتهم، هي على قصورها مفاتيح لبحثنا اليوم لا يستغنى عنها فجمعت هذا إلى ذاك وزدت من توفيق الله ما أفاد,
هذا, ولقد أقمت البحث هنا على مدخل ومقصد وخاتمة، ودونك التفصيل:
المدخل إلى البحث
يدخل التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها تحت كليات فقهية (ثلاث) هن على الترتيب التالي:
كلية الاستصناع عقدًا من العقود المسماة عند الحنفية وله شروطه وضوابطه.
كلية بيع العقار قبل قبضه وأقاويل العلماء فيه.
كلية التمويل المصرفي وضوابطه في الفقه الإسلامي.(6/45)
ودونك التفصيل:
* أولا: (كلية الاستصناع) لدى الحنفية. وهو (التعاقد على صنع شيء معين) (1) (1)
وعرفه الأستاذ الدكتور وهبه الزحيلي فقال: " هو عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة " (2) .
وينعقد بالإيجاب والقبول من المستصنع والصانع، ويقال للمشتري (مستصنع) وللبائع (صانع) وللشيء (مصنوع) والراجح لدى الحنفية أنه بيع لا وعد ولا إجارة، وأن المعقود عليه هو العين الموصى بصنعها لا عمل الصانع، ويجوز عند الحنفية استحسانًا لتعامل الناس وتعارفهم عليه في سائر الأعصار من غير نكير فكان إجماعًا منهم على الجواز، ويصح الاستصناع عند الجمهور، المالكية والشافعية والحنابلة على أساس عقد السَّلَم وعُرف الناس. ويشترط فيه لديهم ما يشترط في السلم، ويصح عند الشافعية سواء حدد فيه الأحل لتسليم الشيء المصنوع أم لا بأن كان حالا.
أما شروط الاستصناع عند الحنفية فأبرزها:
بيان جنس المصنوع وقدره وصفته لأنه مبيع، فلا بد من أن يكون معلوما، والعلم يحصل بذلك.
أن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس من أوان وأحذية وأمتعة الدواب ونحوها، ولا يجوز الاستصناع في الثياب لعدم تعامل الناس به، فإذا تعاملوا به وصار متعارفًا صح.
ألا يكون فيه أجل عند الإمام أبي حنيفة لأنه بتحديد الأجل انقلب سلمًا عنده، وقال الصاحبان ليس هذا بشرط، والعقد استصناع على كل حال حدد فيه أجل أم لم يحدد، لأن العادة جارية بتحديد الأجل في الاستصناع، ورجح الدكتور الزحيلي قول الصاحبين فقال: "ونرى أن قولهما هو المتمشي مع ظروف الحياة العملية فهو أولى بالأخذ " (1) (3) .
والراجح في صفة عقد الاستصناع هو قول الإمام أبي يوسف بأن العقد لازم إذا رأى المستصنع المصنوع ولا خيار له إذا جاء موافقًا للطلب والشروط، لنه مبيع بمنزلة المسلم فيه فليس له خيار الرؤية لدفع الضرر عن الصانع، ورجح الدكتور الزحيلي هذا القول الذي أخذت به المجلة فقال: " وفي تقديرنا أن هذا الرأي الذي أخذت به المجلة سديد منعًا من وقوع المنازعات بين المتعاقدين ودفعًا للضرر عن الصانع "، ثم قال " ولأن هذا الرأي يتفق مع مبدأ القوة الملزمة للعقود بصفة عامة في الشريعة الإسلامية، ويتناسب مع الظروف الحديثة التي يتفق فيها على صناعة أشياء خطيرة وغالية الثمن جدًّا كالسفن والطائرات، فلا يعقل أن يكون عقد الاستصناع فيها غير لازم " (2) (4) .
__________
(1) البدائع: 5/2، فتح القدير: 5/354 والفتاوى الهندية: 4/504، والفقه الإسلامي وأدلته: 4/243.
(2) الفقه الإسلامي وأدلته: 4/631 وما بعدها.
(3) البدائع: 5/3، فتح القدير: 5/355، رد المحتار: 4/223، المبسوط: 129، والفقه الإسلامي وأدلته: 4/633.
(4) المبسوط: 12/139، فتح القدير: 5/356، البدائع: 5/210، رد المحتار: 4/223، والفقه الإسلامي وأدليته: 4/634.(6/46)
أما حكم الاستصناع في حق المستصنع إذا أتى الصانع بالمصنوع على الصنعة المشروطة فهو ثبوت الملك غير لازم في حقه، حتى يثبت له خيار الرؤية إذا رآه: إن شاء أخذه وإن شاء تركه.
وأما في حق الصانع فحكمه ثبوت الملك اللازم إذا رآه المستصنع ورضي به ولا خيار له، هذا كله إذا رأى المستصنع المصنوع، أما إذا لم يره فالعقد غير لازم قبل الصنع وبعد الفراغ من الصنع، ولكل من العاقدين الخيار في إمضاء العقد أو فسخه والعدول عنه قبل رؤية المستصنع للشيء المصنوع فلو باع الصانع المصنوع قبل أن يراه المستصنع جاز، لأن العقد غير لازم، والمعقود عليه ليس هو عين المصنوع وإنما مثله في الذمة، فإذا جاء الصانع بالمصنوع إلى المستصنع سقط خيار الصانع لأنه رضي بكونه للمستصنع حيث جاء به إليه (3) (1) . هذه هي الكلية الأولى.
* ثانياً: أما الكلية الثانية، وهي بيع العقار قبل فيضه وأقاويل العلماء فيه إلى اتجاهين:
الاتجاه الأول: يجوز بيع العقار قبل قبضه من المشتري عند الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف – رحمهما الله تعالى – بخلاف المنقول فلا يجوز بيعه قبل القبض أو التسليم، لأن المنقول عرضة للهلاك كثيرا بعكس العقار.
(ب) الاتجاه الثاني: وقال جمهور الفقهاء الإمام محمد من الحنفية والأئمة الثلاثة: لا يجوز بيع العقار قبل القبض من المشتري كالمنقول؛ لورود النهي عن بيع الإنسان ما لم يقبض. (1) (2) .
ثالثاً: وأما الكلية الثالثة، وهي التمويل المصرفي لبناء المساكن وشرائها.
فالذي يحصل في هذه الأيام في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر الهجري، بالنظر لأزمات السكن ومشكلاتها فهو حالة من الحالات الثلاث التالية. حصرًا بالاستقراء التام.
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته: 4/633.
(2) انظر الفقه الإسلامي وأدلته: 4/48 وما بعدها.(6/47)
* الحالة الأولى: التمويل لبناء المساكن وشرائها بالجهود الفردية أو شبه الفردية، مثل تجار تعمير العقارات والشركات الخاصة المؤسسة لهذا الغرض من مجموعة من الأفراد، أو جمعيات أسرية ليس لها طابع رسمي، هؤلاء يتعهدون تعمير العقارات بعد شرائهم الأرض وبيع أكثرهم المساكن على الخارطة قبل بنائها، وربما باعوا البناء كله قبل البدء بعمارته واستوفوا أرباحهم ثم عمروه من هذه الأرباح وأبقوا رأسمالهم إلى بناء جديد وهكذا، وربما احتاجوا إلى قرض من المصرف العقاري فأقرضهم بالفائدة مع كفالة.
* والحالة الثانية: التمويل لبناء المساكن وشرائها بالجهود الجماعية الرسمية لكن ليس من الدولة، بل بإشراف الدولة وترخيصها واطلاعها، بل ومحاسبة هذه المؤسسات التي تأخذ اسم (الجمعيات السكنية) ، وهي عبارة عن مجموعة أفراد مؤسسين يجب أن يبلغوا الثلاثين عدًّا في الأنظمة السورية المعمول بها حاليا، فما فوق، لا ما دون ذلك، ثم يتقدمون لوزارة الإسكان في قطرنا العربي السوري – وهي وزارة من وزارات الدولة – فإن حازوا الشروط والثقة أجيزوا على عملهم برخصة جمعية سكنية ينشئونها هم في مكان ما من المدينة أو الريف، ثم ينشرون ذلك في أجهزة الإعلام فيكتتب الناس بها تقسيطا وبعد اكتمال نصاب عدد معين يجتمع هؤلاء فينتخبون مكتبا إداريا له مدير ونائبه ومحاسب وأمين سر وما شابه، فإن وافقت عليهم السلطات المختصة ذهبوا إلى المصرف العقاري فأودعوا أسهم الاكتتاب التي دفعها الأعضاء المسهمون حتى يجدوا عقارا مناسباً فيأخذون ما أودعوا ويستقرضون من المصرف العقاري بالفائدة إن لزمهم الأمر، وهكذا حتى يقوم البناء، فيخصص كل عضو مكتتب بشقة أو مساحة طابقية حسب أسهم اكتتابه، فإذا خصص يخير هذا العضو بين طريق من طريقين:
الطريق الأول: أن يوافي الجمعية بالأموال التي تزيد على ما دفعه من أسهم الاكتتاب حتى يصل إلى السعر المقرر لدى الجمعية.
والطريق الثاني: أن يأذن للجمعية أن تستقرض على اسمه من البنك مبلغا مع الفائدة يوفيه هو من راتبه إن كان له راتب أو من دخله مع كفالة في بعض الحالات.
هذه خلاصة مكثفة لطريقة الجمعيات السكنية في قطرنا العربي السوري لتمويل المساكن وشرائها.
هذا، ولا يجوز للمشتري أن يبيع ما اشتراه من عقار إلا بعد مضي مدة معلومة حددتها الدولة كي لا تصير هذه المساكن تجارة لمن شاء أن يتجر بها.
* والحالة الثالثة: تمويل الدولة في قطرنا العربي السوري ومن سار على نهجه من الدول العربية في خطة ترسمها الدولة وتنفذها وزارة الإسكان أصولا، وبما أن المصارف كلها بيد الدولة فإن المصارف العقارية هي التي تمول هذه المشاريع السكنية مع وزارة الإسكان بقصد سد حاجة المواطن أولا ثم الاسترباح ثانيا (1) (1) .
__________
(1) هذه المعلومات استقيتها من بعض المسئولين في وزارة الإسكان وهي معلومات دقيقة يمكن اعتمادها.(6/48)
المقصد من البحث
أحكام التمويل العقاري المذكور آنفا لبناء المساكن وشرائها
في الفقه الإسلامي
على ضوء ما ذكرت من الكليات الثلاث، يجب أن نفرق بين التكييف الفقهي لهذا التمويل العقاري بالذات وبين ملابسات هذا التمويل من ربا وما شابه الربا (شبهة الربا) .
ودونك التفصيل:
(أ) التكييف الفقهي بالذات لهذا التمويل العقاري:
هلهذا العقد وهو بيع المساكن وشراؤها على الطريقة المذكورة آنفا (أي قبل بنائها) هل هذا العقد هل هو عقد صحيح مشروع أم لا؟
يدخل في هذه المسألة:
1-أن نعتبره (أي هذا العقد) عقد استصناع ونشترط له ما اشترطه ففقهاء الحنفية للاستصناع، وهو التعامل بين الناس.
وأن نعتبره بيعا بالتقسيط إلى أجل.
فإذا اعتبرناه بيعا بالتقسيط إلى أجل جاز لدى جمهور الفقهاء بشرط جواز بيع التقسيط ليخلوا من شبهة الربا، وهو أن يخلو مجلس العقد عن السوم، فلا يقول له في مجلس العقد (إن كان نقدا فبكذا، وإن كان تقسيطا فبكذا) فينتج عن ذلك شبهة الربا، بل إذا حصل هذا الكلام في مجلس السوم فقط وخلا عنه مجلس العقد كان العقد صحيحا وخاليا عن شبهة الربا بأن يقول له قولا فصلا (بعتك هذا المبيع بكذا تقسيطا كل شهر بكذا) إلى سنة مثلا، لكن بقي أن هذا السعر الموضوع المقرر في مجلس العقد إذا كان البيع مقسطا - كما ذكرنا – سعر قطعي غير قابل للزيادة ولا للنقص، ولا يجوز اعتماد التكلفة على هذا الأساس مطلقا.
وإذا اعتبرناه عقد استصناع – وهو الأشبه – وجب أن يجري به التعامل بين الناس، وأن يتعارفوه بحيث تشتد إليه الحاجة العامة ويصبح من عموم البلوى، وإذا ضاق الأمر اتسع، وبهذا التخريج نُلْحِق هذا العقد الجديد (وهو البيع على الخارطة) بعقد الاستصناع، فنجيزه بشروطه.(6/49)
وإننا اليوم أصبحنا في عصر تغيرت فيه أوضاع الناتس وأعرافهم، وتبدلت كثير من معالم التعامل بينهم، بحيث صار من الحرج الشديد اشتراط قيام المسكن لصحة بيعه وشرائه، بل ربما ألغي هذا الاعتبار بالكلية فلم يعد معمولا به، بل إن العكس هو المعمول به المعتبر بل وأصبح هو القاعدة وما عداه هو الاستثناء وفي ظل هذه الأعراف الجديدة والتحولات الجذرية التي غيرت وبدلت من أوضاع المعاملات المالية مما تعدى إلى المساكن بيعا وشراء من جريان التعامل اليوم على أساس البيع على الخارطة سواء كانت الجهة الممولة الدولة أو الجمعيات السكنية أو الأفراد، وجب النظر إلى هذه العقود نظرا جديدا بحيث نعدها (استصناعا) ونشترط لها ما نشترطه للاستصناع، ونلحق به أحكام الاستصناع آنفة الذكر في طالعة البحث، وهذا الذي يطمئن إليه القلب، وترتاح إليه النفس، وعلى هذا فالسعر مقطوع لا يخضع للتكلفة.
وقبل الرؤية والتخصيص كل مع البائع والمشتري غير ملزَم، فإذا تخصص المشتري بسكنه ورآه صار ملزَمًا إذا وافق عليه وجاء مطابقا للشروط والمواصفات المطلوبة وإلا – بأن كان مخالفا لما اشترطوه من شروط ومواصفات – فالمشتري غير ملزم وله حق خيار الوصف أو الرؤية.
وإذا لم نفعل ذلك نكون قد ضيعنا الناس ووضعناهم في متاهة الجهل ومتاهة الحرج، وإذا ضاق الأمر اتسع، وما جعل عليكم في الدين من حرج.
وتأسيساً على ما ذكرت، فالخلاف جارٍ في بيع العقار قبل القبض على ما نوهت به في طالعة البحث، والرأي لدي الراجح اليوم هو عدم جواز ذلك وهو ما أرجحه وهو قول الجمهور والإمام محمد من الحنفية لأن هذا يفتح علينا بابا من الفساد والذرائع الفاسدة يجب سده، حتى إذا حصل البيع وانتهى الأمر أخذنا بقول الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف من الحنفية بجواز ذلك تصحيحا للعقد من الإبطال ورحمة بالناس، ولا سيما المبتلين (1) (1) وهو استحسان مقبول.
(ب) وأما ملابسات هذا التمويل وما يصحبه أو يخالطه من الربا أو من شبهة الربا فمسألة أخرى هنا مجال بحثها ومن المعلوم أن العقد لا يكون محرما شرعا إذا خالطه محرم يمكن التنزه عنه، فكل العقود يمكن أن يخالطها الربا أو شبهته كالبيع والإجارة والمزارعة والمساقاة والوكالة وغير ذلك، فهل تصبح محرمة منهيًّا عنها لهذا الافتراض وحده؟ ! اللهم لا …
__________
(1) انظر كتابنا " نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي وصلتها بالمصالح المرسلة "، طبعة دار دمشق، بدمشق.(6/50)
وفي التمويل العقاري الذي ألحقناه فيما ذكرنا بعقد الاستصناع استحسانا يدخل الربا أو شبهته في جميع الحالات في صوره المعاصرة حال غياب الفقه الإسلامي عن التعامل في الساحة العامة لدى المسلمين بعامة.
ولكن الربا ليس بشرط في تمام هذا العقد ولا في نشوئه فقها ولا قانونا، إذ بإمكاننا إقامة عقد استصناع في بناء المساكن وشرائها غير ربوي.
وقبل ذلك يجدر بنا أن نحصر الملابسة الربوية في العقود الجارية لبناء المساكن وشرائها في هذه الأيام في حالة الجمعيات السكنية في مشكلتين، إما الربا الصراح أو شبهة الربا.
فالربا الصراح هو أن تخصص الجمعية السكينة الدار بأحد المشتركين من أعضائها المكتتبين وليس معه ما يتمم ثمن الدار بعد دفع الأقساط المترتبة فيفوض هذا المشترك المكتب الإداري للجمعية بالاستقراض على اسمه من البنك الربوي بحيث يكون هو ذاته مسئولا عن تسديد هذا المبلغ من ماله الخاص بالتقسيط قولا واحدا، وبهذا يتسلم الدار ويتمم هو للبنك دفع الأقساط المترتبة عليه مع فوائدها، وهذا عين الربا وهو حرام، والعقد هنا حرم القيام به على هذه الصورة لأنه جاوره محرم وهو الربا فصار قبيحا لغيره.
وأما شبهة الربا فهي أن يدفع العضوالمشترك الأقساط المترتبة عليه حتى إذا خصصوه بدار وخيروه بين الاستقراض على اسمه بالتوكيل منه من البنك الربوي وبين دفع بقية الذمم المترتبة عليه من ثمن الدار من ماله، ففي هذه الصورة نجا العقد من حقيقة الربا، ولكن شابته شبهة الربا وهي كون البنك اقترض منه المكتب الإداري للجمعية سلفا باسم أعضائه ما نقصهم من المال وهو بنك ربوي، وهذه هي شبهة الربا، هي شبهة قوية تجعل العقد مكروها كراهة تجريمية لمخالطته شبهة محرمة شرعا.
فالحالة الأولى: وهي حقيقة الربا المخالطة للعقد لا تجوز إلا للضرورة القصوى بحيث لم يجد المبتلى من يقرضه ولا من يسكنه ولا من يدعمه حتى ولا بالأجرة ليسكن مع عائلته بوجه من وجوه الدعم فإما أن يبيت في الشارع العام يلتحف السماء ويفترش الأرض وإما أن يسلك هذا السبيل جاز له ذلك بقدر الضرورة، وبقدر ما يدفع الهلاك عن نفسه وعياله.
وأما الحالة الثانية: فتجوز لغير القدوة من العلماء والفهاء في حالة الحاجة والحرج وهي حالة دون الضرورة وفوق الحالة العادية، وبقدر ما يدفع الحرج والحاجة. . والله أعلم.(6/51)
اقتراح من صاحب هذا البحث لحل مشكلة الربا وشبهته
في عقود الإسكان
ولقد فكرت مليا في هذا الأمر فوجدت أنه لا يجوز لنا نحن معاشر خدام هذه الشريعة وحملتها من أهل الفقه والاجتهاد في المسائل أن نترك هذه العقود الإسكانية الاستصناعية يتخللها الربا فيفسدها أو شبهته فيلوثها. . والناس اليوم في أزمات إسكانية في أنحاء العالم، لتفجر المشكلة السكانية، فالمشكلة في تزايد، والربا إذا دخل أفسد كل شيء ولوث بأوضاره كل شيء، فما هو الحل؟ 1!
أجد الحل يكمن في تخليص هذه العقود الإسكانية الاستصناعية بعد استكمال شروطها وضوابطها – في تخليصها من الربا ومن شبهته، وذلك يكون بأحد حالتين اثنتين ظهرتا لي الآن:
(أ) الحالة الأولى: في تسلم الدولة حصرا حل مشكلة الإسكان بالتزامها بإنشاء المساكن وبيعها للمواطنين بيعا على الخارطة دون اللجوء إلى بنوك ربوية أو ما شباه ذلك فالدولة بائع والمواطن مشتر والعقد استصناع مستكمل شروطه وضوابطه، والبيع هنا ولو كان بالتقسيط أو نقدا فهذا لا يهم ما دام المشتري لا علاقة له بالبنك توكيلا ولا قبضا ولا صرفا، لا سيما إذا كانت البنوك الربوية ملكا خالصا للدولة فإنها تلحق بالخزينة العامة، ويجب أن ينص على أن التعامل مع البنك الربوي ولو اضطرت إليه الدولة فهو بلا فائدة قطعا قرضا أو إقراضا لهذه المشكلة الإسكانية حصرا.
(ب) والحالة الثانية: وتعتمد قيام بنوك إسلامية غير متوفرة في بلادنا، فيتولى البنك الإسلامي غير الربوي هذه المشاريع الإسكانية ويشرف على عقودها إشرفا كاملا فيصبح بائعا والأفراد مشترين، ويكون ذلك كله عن طريق شركات المضاربه وينبغي أن ينص في وثائق تأسيس هذه البنوك على ذلك صراحة.
ولعل هناك حلولا أخرى لم أوفق إليها فأنا هنا باحث ولست مستقصيا، والمقصود هو تنقية هذه العقود من شوائب الربا ورجسه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لأن الأصل فيها أنها عقود غير ربوية، والربا أو شبهته أمران طارئان وليسا أصليين، فيستبعدان، ليبقى العقد صالحا للعمل ويرجع كما كان عقدا غير ربوي، هذا والله تعالى أعلم.(6/52)
خاتمة
بتوفيق الله تعالى استطعت أن أجول في روضات الفقه الإسلامي وأقطف من زهوره ياسمينه ونسرينه ما يفي بالحاجة ويزيد، وتوصلت إلى نتائج جديدة لا أدعي أنها حكم الله في الواقعة، بل هي جهد، والمجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد، وهو بحث معروض على المجمع الموقر، وقول المجمع هو القول الفصل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور(6/53)
أبرز مصادر البحث ومراجعه
في الفقه الإسلامي
1- ابن عابدين (محمد أمين) : رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) ، ط. بولاق سنة 1272 هـ.
2- الكساني (علاء الدين) : بدائع الصناع في ترتيب الشرائع (شرح نحفة الفقهاء للسمرقندي) .
3- ابن الهمام (كمال الدين) : فتح القدير شرح الهداية مع تكملة الفتح للطوري.
4- عالم كير (مجموعة من علماء الهند) : الفتاوى الهندية.
5- السرخسي (شمس الأئمة) : المبسوط شرح الكافي، للحاكم الشهيد.
6- الزحيلي (د. وهبه) : الفقه الإسلامي وأدلته، ط. دار الفكر بدمشق.
7- الفرفور (د. محمد عبد اللطيف) : نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي وصلتها بالمصالح المرسلة، ط. دار دمشق.(6/54)
الطرق المشروعة للتمويل العقاري
إعداد
فضيلة القاضي محمد تقي العثماني
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن السكن من الحاجات الأصلية التي لا يمكن المرء أن يعيش بدونها. قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا}
وروي عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ((ثلاث من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب الهنيء)) (1) (1) .
وإن الحصول على المسكن الواسع المناسب أصبح اليوم في مقدمة المشاكل التي يجابها المرء في حياته، ولا سيما في المدن الكبيرة المزدحمة بالعمران، وذلك لتعقد الحياة وكثرة السكان، وغلاء الأسعار، والذين يستطيعون أن يشتروا أو يبنوا لأنفسهم مسكنا يفي بحاجاتهم قلة قليلة بالنسبة إلى الذين لا يستطيعون ذلك.
ونظرا إلى هذا، ظهرت في معظم البلاد مؤسسات تقوم بتمويل الناس لشراء المساكن أوبنائها، ولكن أكثرها إنما تعمل في إطار النظام الربوي، فتقدم إلى عملائها قروضا، وتطالبهم على ذلك بالفائدة المعينة المتفق عليها في عقد التمويل، وبما أن هذا العقد يقوم على أساس الربا، وهو من أكبر المحرمات التي نهى عنها الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد، فأنه لا يجدر بأي مسلم أن يدخل في عقد يقوم على هذا الأساس الفاسد.
وحينئذ، يجب على علماء المسلمين أن يقترحوا للناس طرقا للتمويل العقاري لا تعارض أحكام الشريعة الغراء، والتي يمكن أن تتخذ كبديل للتمويل الذي يقوم على أساس الربا المحرم شرعا.
__________
(1) أخرجه أحمد والبزاز والطبراني في الكبير والأوسط. وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح راجع مجمع الزوائد: 4/272، وكشف الأسرار عن زوائد البزاز: 2/156، رقم (1412) .(6/55)
ونريد في هذه العجالة أن نذكر طرقا شرعية للتمويل العقاري، مع ذكر أدلة إباحتها، وبيان الثمرات الناتجة عنها، والله سبحانه هو الموفق للصواب.
إن الأصل في الدولة الإسلامية أن تقوم بواجبها في توفير الحاجات الأساسية لشعبها، وتهيئ لهم هذه الحاجات، دون أن تطالبهم على ذلك بربح. وبما أن السكن من الحاجات الأساسية لكل إنسان، فمن حقه أن يحصل عليه في حدود إمكانياته المالية، ومن كانت إمكانياته ضيقة لا يستطيع بها أن يشتري مسكنا أو يبنيه من جيبه، فعلى الدولة أن تقوم بقضاء حاجته إما بأن تساعده من صندوق الزكاة، إن كان مستحقا لها، وإما بأن تبيع إليه المسكن على أساس التكلفة الفعلية، دون أن تطالبه على ذلك بربح، وإما بأن توفر له قرضا حسنا لا تتقاضى عليه أية فائدة.
وإن هذه الطرق الثلاثة هي الأصل في التمويل العقاري، وهي التي توافق الروح الإسلامية، وطبيعة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على أساس المواساة، والمساعدة على الخير، والتعاون على البر، والتألم بألم الآخرين، والارتياح براحتهم، والأخذ بأيدي الضعفاء ليرتفعوا إلى مستوى معيشة مقتصدة هنيئة.
ولكن العمل بهذه الطرق الثلاثة، أو بواحدة منها، إنما يمكن لدولة تكون لديها موارد ضخمة ووسائل جمة، فإن كلا من هذه الطرق يتطلب أموالا غزيرة، ولاسيما في عصرنا هذا الذي تضاعف فيه عدد السكان، وغلت فيه الأسعار، ولا شك أن إمكانيات الدولة يمكن – وينبغي – أن تزداد بالتقليل في مصاريف غير منتجة، والتحرز عن النفقات الباهظة التي لا يقصد منها إلا الرياء أو الترف، ولكن معظم الدول اليوم لا تستطيع أن توفر السكن لجميع سكانها بهذه الطرق، ولو بتخفيف مثل هذه النفقات.
فحينئذ، لا بد من اختيار بعض الطرق التي لا تكلف الدول بالتبرع المحض لتوفير المساكن، ولا بتحمل النفقات التي لا تطاق، وتكون في الوقت نفسه سالمة من الربا، أو المحظورات الشرعية الأخرى، وهي كالتالي:(6/56)
1- البيع المؤجل:
فالطريق الأول هو أن يتملك الممول بيتا، ثم يبيعه إلى العميل (1) بربح بيعا مؤجلا ويستلم منه الثمن بأقساط معلومة في عقد البيع، يمكن أن يعفيه هذا البيع المؤجل مطلقا عن بيان نسبة الربح، وحينئذ يكون تعيين تلك النسبة بيد الممول. ويمكن أيضا أن يعقد البيع عن طريق المرابحة، وذلك بأن يصرح في العقد بنسبة الربح الذي يتقاضاه الممول زائدا على تكاليفه الفعلية.
فإن كان البيت موجودا عند التمويل، ولا يحتاج إلى بناء، فللممول أن يشتريه، ويبيعه إلى العميل بالطريق المذكور، وإن لم يكن هناك بيت مبني، ويريد العميل أن يبنيه، فحينئذ يستطيع الممول أن يوكل العميل ببناء البيت، ويكون بناؤه على ملك الممول، وإنما يشرف عليه العميل كوكيل له، وحينما يتم البناء يبيعه الممول إلى العميل بيعا مؤجلا.
هذا إذا كان العميل لا يمكن له أن يستخدم شيئا من ماله نقدا في شراء البيت أو بنائه.
أما إذا كان العميل يستطيع أن يقدم حصة من تكاليف البيت نقدا، غير أن السيولة الموجودة عنده لا تفي بجميع النفقات اللازمة للشراء أو البناء، فيريد أن يطلب من الممول الحصة الباقية فقط، كما هو الحال في أكثر التمويلات العقارية اليوم، فيمكن له أن يتملك جزءا من البيت بمال نفسه، بأن يقع شراء البيت مشتركا من الممول والعميل، فيقدم الممول نصف ثمن البيت مثلا، ويقدم العميل نصفا أخر، ويكون البيت بينهما مشاعا بالنصف، ثم يبيع الممول نصفه إلى العميل بيعا مؤجلا بثمن أكثر من الثمن الذي دفعه إلى بائع البيت.
أما إذا كان المقصود بناء البيت على أرض خالية، فيمكن استخدام نفس الطريق في شراء الأرض، بأن يقع شراؤها على سبيل الاشتراك من الممول والعميل، ثم يبيع الممول حصته في الأرض إلى العميل مؤجلا بثمن أكثر.
فإن كانت الأرض مملوكة للعميل، أو صارت ملكا له بهذا الطريق وأراد العميل التمويل للبناء عليها، فإنه يمكن للممول والعميل أن يبنيا البيت على أساس المشاركة، فيدفع هذا نصف نفقة البناء، ويدفع ذلك النصف الآخر، فيقع البناء مشاعا بينهما بالنصف، وحينما يتم البناء يمكن للممول أن يبيع حصته من البناء إلى شريكة العميل مؤجلا بربح، وبيع الرجل حصته من البناء إلى شريكه مما لا نزاع في جوازه، وإن كان هناك خلاف في بيعها إلى الأجنبي، يقول ابن عابدين في رد المحتار:
__________
(1) إننا في هذه المقالة نستعمل لفظ "الممول " لمن يريد أن يقدم التمويل العقاري ولفظ " العميل " لمن يريد أن يستفيد بذلك التمويل.(6/57)
" ولو باع أحد الشريكين في البناء حصته لأجنبي، لا يجوز، ولشريكه جاز " (1) .
ولضمان أداء الثمن المؤجل يجوز أن يطلب الممول رهنا من العميل، وبالإمكان أن يمسك مستندات ملك البيت كرهن عنده، وإن هذا الطريق لا غبار عليه شرعا، غير أن الممول لا يستطيع أن يقدم مثل هذه التمويلات إلا إذا كان على ثقة كاملة بأن العميل سوف يشتري منه ما سيتملكه الممول من البيت أو البناء، لأنه إن امتنع العميل من الشراء بعدما أنفق عليه الممول نفقات باهظة، فإن ذلك لا يحدث ضررا بالممول فحسب، بل سوف يخيب هذا النظام بأسره.
وبما أن البيع لا يجوز أن يضاف إلى زمن مستقبل، فلا بد لنجاح هذا الطريق أن يتعهد العميل مسبقا، بأنه يلتزم بشراء حصة الممول بعدما يمتلكها.
وإن هذا التعهد من العميل، وإن كان وعدا محضا، والوعد عند أكثر الفقهاء لا يكون ملزما في القضاء، ولكنَّ هناك عددا من الفقهاء جعلوا الوعد ملزما في الديانة والقضاء جميعا، وهو المذهب المشهور عند مالك رحمه الله، فإنه يجعل الوعد ملزما، لاسيما إذا دخل الموعود له بسببه في مؤنة، يقول الشيخ محمد عليش المالكي رحمه الله تعالى:
" فالوفاء بالعدة مطلوب بلا خلاف. واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع، وفي كتاب العارية، وفي كتاب العدة، ونقلها عنه غير واحد. فقيل: يقضى بها مطلقا، وقيل: لا يقضى بها مطلقا، وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب، وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء كقولك أريد أن أتزوج. . . فأسلفني كذا. . . والرابع: يقضى بها إن كانت على سبب، ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور من الأقوال " (2)
وقال القرافي رحمه الله تعالى: " قال سحنون: الذي يلزم من الوعد: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، لأنك أدخلته بوعدك في ذلك. أما مجرد الوعد، فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق. (3) .
__________
(1) رد المحتار: 3/365- كتاب الشركة.
(2) فتح العلي المالك، للشيخ محمد عليش: 1/256، مسائل الالتزام.
(3) الفروق، للقرافي 4: 25، الفرق الرابع عشر بعد المائتين.(6/58)
وقال ابن الشاط في حاشيته:
" الصحيح عندي القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقا، فيتعين تأويل ما يناقض ذلك. . . إلخ " (1) .
وكذلك اختار المتأخرون من الحنفية لزوم الوعد قضاءً في عدة من المسائل، كما في مسألة البيع بالوفاء، قال قاضي خان رحمه الله في البيع بالوفاء: " وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة جاز البيع ويلزمه الوفاء بالوعد لأن المواعدة قد تكون لازمة فتجعل لازمة لحاجة الناس " (2)
وقال ابن عابدين رحمه الله:
" وفي جامع الفصولين أيضا: لو ذكرا البيع بلا شرط، ثم ذكر الشرط على وجه العقد جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد إذا المواعيد قد تكون لازمة، فيجعل لازما لحاجة الناس (3) .
فبناء على هذه النصوص الفقهية، يجوز أن تجعل مثل هذه المواعيد لازمة في القضاء، فإذا تعهد العميل في الاتفاقية الموقع عليها من قبل الفريقين أنه سوف يشتري حصة الممول من البناء أو العقار، فإنه يكون ملزما بوفاء هذا الوعد قضاءً وديانةً.
ولكن يجب أن لا يقع البيع إلا بعدما يمتلك الممول حصته ‘فإن البيع لا يضاف إلى المستقبل، وعلى هذا يجب أن يقع عند ذلك عقد البيع بالإيجاب والقبول.
__________
(1) حاشية الفروق لابن الشاط: 4/24 و25
(2) الفتاوى الخانية: 2/138، فصل في الشروط المعدة في البيع
(3) رد المحتار: 4/135 – باب البيع الفاسد، مطلب في الشرط الفاسد إذا ذكر بعد العقد.(6/59)
2- الشركة المتناقصة:
والطريق الثاني للتمويل العقاري يبتنى على أساس الشركة المتناقصة. وإن هذا الطريق يتلخص في نقاط تالية:
إن الممول والعميل يشتريان البيت على أساس شركة الملك، فيكون البيت مشاعا بينهما بنسبة حصة الثمن التي دفعها كل واحد منهما، فإن دفع كل منهما نصف الثمن، يكون البيت مشاعا بينهما بالنصف، وإن دفع أحدهما الثلث والآخر الثلثين، كان البيت بينهما أثلاثا، وهكذا.
ثم يؤجر الممول حصته من البيت إلى العميل بأجرة شهرية أو سنوية معلومة بينهما.
ج- وتقسم حصة الممول على سهام متعددة معلومة، كالعشرة مثلا.
د- وبعد كل فترة دورية متفق عليها بين الفريقين (كستة أشهر مثلا) يشتري العميل سهما من هذه السهام بحصة من الثمن، فإن كانت حصة الممول مثلا تساوي ستة أشهر يشتري العميل سهما بعشرين ألف ربية.
هـ – وبعد شراء سهم من حصة الممول تنتقص ملكيته في البيت، وتزداد ملكية العميل.
و وبعد شراء كل سهم من حصة الممول تنتقص الأجرة بحساب ذلك السهم، فإن كانت أجرة حصة الممول بكاملها ألف ربية مثلا، فإنها تنتقص بعد شراء كل سهم بقدر مائة ربية،، فتصير الأجرة بعد شراء السهم الأول تسعمائة ربية، وبعد شراء السهم الثاني ثمانمائة ربية، وهكذا.
ز- حتى إذا اشترى العميل سهام الممول كلها صار البيت كله مملوكا للعميل، وانتهت الشركة والإجارة معا.
وإن هذا الطريق من التمويل العقاري، يشتمل على عقود ثلاثة:
العقد الأول: لإحداث شركة الملك.
والثاني: إجارة حصة الممول.
والثالث: بيع السهام المتعددة من حصة الممول إلى العميل. فلنتكلم أولا على كل عقد على حدة، ثم لنبحث عن مدى شرعية هذا الطريق بمجموعه.
أما شراء البيت بمالهما المشترك، فلا مانع منه شرعا، ويحدث بذلك شركة الملك بينهما، فإن شركة الملك عرفها الفقهاء كالتالي:
" شركة الملك هي أن يملك متعدد عينا أو دينا بإرث أو بيع أو غيرهما " (1) .
فهذه الشركة في البيت قد حدثت بالشراء بمالهما المشترك.
__________
(1) تنوير الأبصار، مع رد المحتار: 3/364 و365(6/60)
وأما إجارة حصة الممول من العميل، فهذه إجارة جائزة أيضا. لأن إجارة المشاع من غير الشريك وإن كان في جوازه خلاف بين الفقهاء، فلا خلاف في جواز إجارة المشاع من الشريك. قال ابن قدامة رحمه الله:
" ولا تجوز إجارة المشاع لغير الشريك، إلا أن يؤجر الشريكان معا وهذا قول أبي حنيفة وزفر، لأنه لا يقدر على تسليمه فلم تصح إجارته. . . واختار أبو حفص العكبري جواز ذلك، وقد أومأ إليه أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد، لأنه معلوم يجوز بيعه، فجازت إجارته كالمفروز، ولأنه عقد في ملكه يجوز مع شريكه، فجاز مع غيره " (1) وجاء في الدر المختار للحصكفي: " وتفسد – أي الإجارة – أيضا بالشيوع. . . إلا إذا آجر كل نصيبه أو بعضه من شريكه، فيجوز، وجوازه بكل حال " (2)
وبما أن إجارة الحصة المشاعة تقع في الطريق المذكور من الشريك، فإنها جائزة بإجماع الفقهاء.
أما بيع الحصة الشائعة من الدار، فإنه يجوز أيضا، فإن كان المبيع حصة في العرضة والبناء كليهما، فلا خلاف في جواز البيع، وأما إذا كان المبيع الحصة الشائعة في البناء فقط، فيجوز البيع مع شريكه بالإجماع، وفي جواز البيع من الأجنبي خلاف، وقدمنا ما ذكره ابن عابدين في رد المحتار من قوله " ولو باع أحد الشريكين في البناء حصته لأجنبي لا يجوز، ولشريكه جاز " (3) وبما أن البيع ههنا لا يقع إلا من الشريك، فلا خلاف في جوازه، فظهر بهذا أن هذه العقود الثلاثة من المشاركة في الملك، والإجارة، والبيع، كل واحد منها صحيح في حد ذاته، فإن وقعت هذه العقود من غير أن يشترط أحدها في الآخر، بل يعقد كل منها مستقلا، فلا غبار على جوازها.
وأما إذا وقعت هذه العقود باتفاق سابق بين الفريقين، فربما يبدو أن ذلك لا يجوز، لكونه صفقة في صفقة، أو لكون العقد الواحد شرطا زائدا في العقد الآخر، وإن الصفقة في الصفقة لا تجوز، حتى عند من يجوز بعض الشروط في البيع، كالحنابلة، قال ابن قدامة رحمه الله:
__________
(1) المغني، لابن قدامة رحمه الله: 6/137.
(2) الدر المختار، مع رد المحتار: 6/47 و48.
(3) رد المحتار: 3/365، كتاب الشركة.(6/61)
" الثاني – أي النوع الثاني من الشرط – فاسد، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: أن يشترط على صاحبه عقدا آخر، كسلف أو قرض، أو بيع أو إجارة، أو صرف الثمن أو غيره، فهذا يبطل البيع، ويحتمل أن يبطل الشرط وحده، المشهور في المذهب أن هذا الشرط فاسد يبطل به البيع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل بيع وسلف، ولا شرطان في بيع)) .
قال الترمذي: هذا حديث صحيح، ((ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة)) حديث صحيح وهذا منه، قال أحمد: " وكذلك كل ما في معنى ذلك، مثل أن يقول: على أن تزوجني بابنتك، أو على أن أزوجك ابنتي. فهذا كله لا يصح، قال ابن مسعود صفقتان في صفقة ربا، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء، وجوزه مالك وجعل العوض المذكور في الشرط فاسدا " (1) .
ولكن هذا المحظور إنما يلزم إذا كان العقد الواحد مشروطا بالعقد الآخر في صلب العقد، أما إذا وقعت هناك مواعدة بين الفريقين، بأنهما يعقدان الإجارة في الوقت الفلاني، والبيع في الوقت الفلاني، وانعقد كل عقد في وقته مطلقا عن أي شرط، فالظاهر أنه لا يلزم منه الصفقة في الصفقة وقد صرح به الفقهاء في عدة مسائل ولا سيما في مسألة البيع بالوفاء وقدمنا عن الفتاوى الخانية:
(وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة جاز البيع، ويلزمه الوفاء بالوعد، لأن المواعدة قد تكون فتجعل لازمة لحاجة الناس) .
وبمثله صرح علماء المالكية في مسألة البيع بالوفاء الذي يسمى عندهم " بيع الثنايا "، فإنه لا يجوز عندهم في الأصل. قال الحطاب: " لا يجوز بيع الثنايا، وهو أن يقول: أبيعك هذا الملك، أو هذه السلعة على أن آتيك بالثمن إلى مدة كذا، أو متى آتيك به فالبيع مصروف عنى " (2)
ولكن إذا وقع البيع مطلقا عن هذا الشرط، ثم وعد المشتري البائع بأنه سوف يبيعه إن جاءه بالثمن، فإن هذا الوعد صحيح لازم على البائع، قال الحطاب رحمه الله:
" قال في معين الحكام: ويجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد العقد بأنه إن جاء بالثمن إلى أجل كذا، فالمبيع له ويلزم المشتري متى جاءه بالثمن في خلال الأجل أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه، ولا يكون للمشتري تفويت في خلال الأجل، فإن فعل ببيع أو هبة أو شبه ذلك نقض إن أراده البائع، ورد إليه " (2) (3)
__________
(1) الشرح الكبير على المقنع لشمس الدين ابن قدامة: 4/53، وبمثله ذكر الموفق بن قدامة في المغني: 4/290
(2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب: ص 233.
(3) المصدر السابق: ص 239.(6/62)
هذا إذا انعقد البيع مطلقا من غير شرط ووقعت المواعدة بعد انعقاد البيع، وقد صرح عدة من الفقهاء بأن الحكم كذلك لو وقعت المواعدة قبل انعقاد البيع، ثم انعقد البيع مطلقا من غير شرط. قال القاضي ابن سماوة الحنفي رحمه الله: " لو شَرَطا شرْطًا فاسدًا قبل العقد، ثم عَقَدا، لم يبطل العقد، ويبطل لو تقارنا) (1) .
وقال في مسألة البيع بالوفاء:
" وكذا لو تواضَعَا الوفاء قبل البيع، ثم عقَدا بلا شرط الوفاء فالعقد جائز، ولا عبرة بالمواضعة السابقة " (2) .
وحكاه ابن عابدين في رد المحتار، واعترض عليه، قال: " في جامع الفصولين أيضا: لو شرطا شرَطًا فاسدًا قبل العقد ثم عقدا، لم يبطل العقد. اهـ. قلت: وينبغي الفساد لو اتفقا على بناء العقد عليه كما صرجوا به في بيع الهزل كما سيأتي آخر البيوع " (3) .
ولكن تعقبه العلامة محمد خالد الأتاسي رحمه الله تعالى بقوله:
" أقول: هذا بحث مصادم للمنقول (أي ما هو منقول في جامع الفصولين) كما علمت، وقياسه على بيع الهزل قياس مع الفراق، فإن الهزل، كما في المنار، هو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له ولا ما يصلح له اللفظ استعارة، ونظره بيع التلجئة، وهو كما في الدر المختار، أن يظهرا عقدًا وهما لا يريدانه. وهو ليس ببيع في الحقيقة، فإذا اتفقا على بناء العقد عليه فقد اعترفا بأنهما لم يريدا إنشاء بيع أصلا، وأين هذا من مسألتنا؟ . . . وعلى كل حال، فاتباع المنقول أولى " (4) .
ولهذا أفتى جماعة من متأخري الحنفية بأن المواعدة المنفصلة عن عقد البيع، سواء كانت قبل العقد أو بعده، لا يلتحق بأصل العقد، ولا يلزم عليه البيع بشرط، أو صفقة في صفقة، فلا مانع حينئذ من جواز العقد (5)
وربما يقع هاهنا إشكال، وربما يقع هاهنا إشكال، وهو أن المواعدة إذا وقعت قبل العقد، فالظاهر أنها ملحوظة عند العقد لدى الفريقين ولو لم يتلفظا بها صراحة عند الإيجاب والقبول، وأنهما لا يبنيان العقد المطلق إلا على أساس ذلك الوعد السابق، فلم يبق هناك فرق بين هذا العقد المطلق الذي سبقه مواعدة من الفريقين، وبين العقد الذي شرط فيه العقد الآخر صراحة، وينبغي أن يكون الحكم دائرًا على حقيقة المعاملة دون صورته، وأن تكون المواعدة السابقة في حكم الشرط في البيع في عدم الجواز.
__________
(1) جامع الفصولين: 2/237
(2) جامع الفصولين: 2/237
(3) رد المحتار: 4/135
(4) شرح المجلة للأتاسي: 2/61.
(5) راجع عطر الهداية، للعلامة فتح محمد اللكنوي، رحمه الله.(6/63)
والجواب عن هذا الإشكال على ما ظهر لي – والله سبحانه أعلم – أن الفرق بين المسألتين ليس في الصورة فحسب، بل هناك فرق دقيق في الحقيقة أيضا وذلك أن العقد الواحد إن كان مشروطا بالعقد الآخر، والذي يعبر عنه بالصفقة في الصفقة، لا يكون عقدا باتا، وإنما يتوقف على عقد آخر بحيث لا يتم العقد الأول إلا به، فكان في معنى العقد المعلق أو العقد المضاف إلى زمن مستقبل، فإذا قال البائع للمشتري بعتك هذه الدار على أن تؤجر الدار الفلانية لي بأجرة كذا، فمعناه: أن البيع موقوف على الإجارة اللاحقة، ومتى توقف العقد على واقع لاحق، خرج من حيز كونه باتًّا، وصار عقدا معلقا، والتعليق في عقود المعاوضة لا يجوز، ولو حكمنا بمقتضى هذا العقد، وامتنع المشتري من الإجارة، فإن ذلك يستلزم أن يرتفع البيع تلقائيا، لأنه كان مشروطا بالإجارة، وعند فوات الشرط يفوت المشروط.
فالعقد إذا شرط معه عقد آخر، كان ذلك في معنى تعليق العقد الأول على العقد الثاني، وصار كأنه قال: (إن اجرتني الدار الفلانية بكذا فداري بيع عليك بكذا) . وهذا مما لا يجيزه أحد، لأن البيع لا يقبل التعليق.
وهذا بخلاف ما لو ذكرا ذلك على سبيل المواعدة في أول الأمر، ثم عقدا البيع مطلقاً عن شرط، فإن البيع ينعقد من غير تعليق بيعا باتا ولا يتوقف تمامه على عقد الإجارة، فلو امتنع المشتري من الإيجارة بعد ذلك، فإنه لا يؤثر على هذا البيع البات شيئا، فيبقى البيع تامًّا على حاله. وغاية الأمر أن يجبر المشتري على الوفاء بوعده على القول بلزوم الوعد. لأنه أدخل البائع في البيع بوعده، فلزم عليه أن يفي بذلك الوعد قضاء عند المالكية. وهذا شيء لا أثر له على البيع البات الذي حصل بدون أي شرط، فإنه يبقى تامًّا، ولو لم يف المشتري بوعده.
وبهذا تبين أن البيع إذا اشترط فيه العقد الآخر مترددًا بين التمام والفسخ، وإن هذا التردد يورث فيه الفساد، بخلاف البيع المطلق الذي سبقه الوعد بالشيء، فإنه لا تردد في تمام البيع، فإنه يتم في كل حال، وغاية الأمر أن يكون الوعد السابق لازمًا على المشتري على قول من يقول بلزوم الوعد.
فالطريق المشروع للشركة المتناقصة الذي لا غبار عليه أن تقع هذه العقود الثلاثية في أوقاتها مستقلة بحيث يكون كل عقد منفصلا عن الآخر، ولا يشترط عقد في عقد، نعم، يجوز أن تحدث بينهما اتفاقية يتواعدان فيها بالدخول في هذه العقود، فيتفقان على أنهما يشتريان الدار الفلانية بمالهما المشترك، ثم يؤجر الممول حصته إلى العميل بأجرة معلومة، ثم يشتري العميل حصة الممول بأقساط متعددة إلى أن يتملك الدار كلها.
ولكن هذه الاتفاقية لا تكون إلا وعدًا من الفريقين بإنشاء هذه العقود، ولا ينشأ أحد من هذه العقود إلا في وقته الموعود بإيجاب وقبول، ويقع العقد حينئذ مطلقًا من أي شرط فلا يشترط الإجارة في البيع، ولا البيع في الإجارة.
القاضي محمد تقي العثماني(6/64)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها
الرئيس:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أعمال هذه الدورة مجدولة أمامكم، والظاهر أنه لا اعتراض على ترتيب أعمال هذا الجدول، وكذلك بالنسبة للعارضين والمقررين عرضت عليكم أو زُوِّدتم بها في بيان يضم أسماء العارضين وأسماء المقررين وتعداد الباحثين لكل قضية فقهية ستدرس في هذه الدورة بإذن الله تعالى.
في هذه الجلسة الصباحية لدينا موضوع " التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها " وكان من المقرر أن يكون العارض هو فضيلة عضو المجمع الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور، لكن لشيء من الصداع ألم به – شفاه الله – سيكون العارض فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني.
قبل أن يتفضل الشيخ محمد تقي بالعرض أحب أن أعيد إلى ذاكرة أصحاب الفضيلة أن الوقت محدد وأن المناقشات أحيانًا تتكرر وتتسع وتخرج عن الموضوع، فمثلا إذا كان البحث في قضية عينية لها تعلق بالمصارف الإسلامية يأتينا البحث من أحد الإخوان – وهو مشكور على كل حال – في قضية المصاريف الإسلامية ككل أو في قضية الربا ككل أو في أي قضية من القضايا التي تخرج عن ذات الموضوع إلى الإطار الكلي، وهذا لا يخدم الموضوع لأن المراد هو بيان المدرك الفقهي لذات القضية المبحوثة محافظة على الوقت ومحافظة على قيمة البحوث، وأنتم تعلمون أن المداولات والمناقشات تسجل وتنشر وهي تعطي انطباعًا عن نفس الباحث أو المناقش في أي موضوع من هذه الموضوعات.
لهذا أرجو أن تجدوا لي عذرًا حينما يتبين – وحسب رغبة كثير من أصحاب الفضيلة الأعضاء – أن بعض الأخوة في المناقشة قد يطيل وقد يكون هناك خروج عن الموضوع مما يكون على حساب وقت هذه الجلسة، فأرجوا أن تجدوا لي عذرًا في أن نشير إلى الاختصار ونعطي الكلمة لأحد الباحثين من أصحاب الفضيلة المشايخ وشكرًا.
الشيخ محمد تقي، تفضل.(6/65)
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبى الأمي وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فإن الموضوع المطروح لدى هذه الجلسة هو موضوع " التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها " وإن البحوث المقدمة في هذا الموضوع أربعة: بحث للدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور، وبحث لفضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي، وبحث للأستاذ الدكتور عبد الله إبراهيم، وبحث لهذا العبد الضعيف عفا الله عنه.
أريد في هذا العرض أن آتي بخلاصة ما كتب في هذه الأبحاث الأربعة. ويدور الكلام في هذا الموضوع على نقاط ثلاثة: الأولى التعريف بالموضوع، والثانية الطرق المستخدمة في البنوك العقارية التقليدية وبيان ما يجري فيها من الحكم الشرعي من الناحية الشرعية، والثالثة ذكر الحلول الشرعية والبدائل الشرعية التي بها أتى الباحثون في بحوثهم لغرض التمويل العقاري.(6/66)
فأما التعريف بالموضوع: فإن التمويل العقاري يتعلق بحاجة من الحاجات الأصلية للإنسان وهي السكن التي لا يمكن للمرء أن يعيش بدونها، قال سبحانه وتعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} وروي عن عائشة – رضي الله تعالى عنها – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ثلاث من السعادة، المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب الهنيء)) ، وأن الحصول على المسكن الواسع المناسب أصبح اليوم في مقدمة المشاكل التي يجابهها المرء في حياته ولا سيما في المدن الكبيرة المزدحمة بالعمران، وذلك لتعقد الحياة وكثرة السكان وغلاء الأسعار، ونظرًا إلى هذا ظهرت في معظم البلاد اليوم مؤسسات تقوم بتمويل الناس لشراء المساكن أو بنائها، ولكن أكثرها إنما تعمل في إطار النظام الربوي، فتقدم إلى عملائها قروضًا وتطالبهم على ذلك بالفائدة المعينة المتفق عليها في عقد التمويل. وبما أن هذا العقد يقوم على أساس الربا وهو من أكبر المحرمات التي نهى عنها الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد، فإن لا يجدر بأي مسلم أن يدخل في عقد يقوم على هذا الأساس الفاسد، وأن البحوث الأربعة المقدمة في هذا الموضوع كلها متفقة على أن هذا الطريق الذي تتعامل به البنوك العقارية التقليدية لا يجوز شرعا، ومحرم على كل مسلم أن يتعامل بها، وحينئذ يجب على علماء المسلمين أن يقترحوا للناس طرقًا للتمويل العقاري لا تعارض أحكام الشريعة الغراء، والتي يمكن أن تتخذ كبديل للتمويل الذي يقوم على أساس الربا المحرم شرعًا، وإن الأصل في الدولة الإسلامية أن تقوم بواجبها في توفير الحاجات الأساسية لشعبها، وتهيئ لهم هذه الحاجات دون أن تطالبهم على ذلك بربح أو فائدة وبما أن السكن من الحاجات الأساسية لكل إنسان فمن حقه أن يحصل عليه في حدود إمكانياته المالية، ومن كانت إمكانياته ضيقة لا يستطيع بها أن يشتري مسكنًا أو بينيه، فعلى الدولة أن تقوم بقضاء حاجته، إما بأن تساعده من صندوق الزكاة إن كان مستحقًا لها، وإما بأن تبيع إليه المسكن على أساس التكلفة الفعلية دون أن تطالبه على ذلك بربح، وإما بأن توفر له قرضًا حسنًا لا تتقاضى عليه أية فائدة، وإن هذه الطرق الثلاثة هي الأصل في التمويل العقاري، وهي التي توافق الروح الإسلامية وطبيعة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على أساس المواساة والمساعدة على الخير والتعاون على البر، ولكن العمل بهذه الطرق الثلاثة أو بواحدة منها إنما يمكن لدولة تكون لديها موارد ضخمة ووسائل جمة، فإن كلًّا من هذه الطرق يتطلب أموالا غزيرة ولا سيما في عصرنا هذا الذي تضاعف فيه عدد السكان وغلت فيه الأسعار، ولا شك أن إمكانيات الدولة يمكن وينبغي أن تزاد بالتقليل من المصاريف غير المنتجة، والتحرس من النفقات الباهظة التي لا يقصد منها إلا الرياء أو الترف، ولكن معظم الدول اليوم لا تستطيع أن توفر السكن لجميع سكانها بهذه الطرق ولو بتخفيض مثل هذه النفقات، فحينئذ لابد من اختيار بعض الطرق التي لا تكلف الدولة بالتبرع المحض لتوفير المساكن، ولا بتحمل النفقات التي لا تطاق، وتكون في الوقت نفسه سالمة من الربا أو المحظورات الشرعية الأخرى، وإن البدائل التي تقدم بها الباحثون – البدائل لهذا النظام الربوي 0 تتلخص في ستة بدائل، وهي:(6/67)
الأول: البيع المؤجل.
الثاني: الشركة المتناقصة (وهذان البديلان عما اللذان ركزت عليهما في بحثي) .
الثالث: (وقد أتى به الأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور) وهو الاستصناع.
الرابع: التأجير المنتهي بالتمليك (وهو الذي ذكره الأستاذ الدكتور عبد الله إبراهيم) .
الخامس: ذكره أيضًا (الدكتور عبد الله إبراهيم) باسم الإقراض برسم التمليك.
السادس: ذكره كذلك (الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور) ، وهو رائج في بعض البنوك العقارية السورية.
فلنتحدث عن البدائل الستة:(6/68)
*أما البديل الأول: فهو (البيع المؤجل) وهو أن يتملك الممول بيتًا ثم يبيعه إلي العميل – وإني في عرضي هذا حينما أستعمل كلمة الممول أريد به من يقدم التمويل العقاري، وحينما أستعمل لفظ العميل فإني أقصد من يستفيد بذلك التمويل – فالبيع المؤجل هو أن يتملك الممول بيتًا ثم يبيعه للعميل بربح بيعًا مؤجلا، ويستلم منه الثمن بأقساط معلومة في عقد البيع، ويمكن أن يعقد هذا البيع المؤجل مطلقًا عن بيان نسبة الربح، وحينئذ يكون تعيين تلك النسبة بيد الممول، ويمكن أيضا أن يعقد البيع عن طريق المرابحة وذلك بأن يصرح في العقد بنسبة الربح الذي يتقاضاه الممول زائدا على تكاليفه الفعلية، فإن كان البيت موجودا عند التمويل ولا يحتاج إلى بناء، فللممول أن يشتريه ويبيعه إلى العميل بالطريق المذكور، وإن لم يكن هناك بيت مبني ويريد العميل أن يبنيه فحينئذ يستطيع الممول أن يوكل العميل ببناء البيت، ويكون بناؤه على ملك الممول وإنما يشرف عليه العميل كوكيل له، وحينما يتم البناء يبيعه الممول إلى العميل بيعا مؤجلا، وهذا إذا كان العميل لا يمكن له أن يستخدم شيئا من ماله نقدا في شراء البيت أو بنائه، أما إذا كان العميل يستطيع أن يقدم حصة من تكاليف البيت نقدا غير أن السيولة الموجودة عنده لا تفي بجميع النفقات اللازمة للشراء أو للبناء فيريد أن يطلب من الممول الحصة الباقية فقط كما هو الحال في أكثر التمويلات العقارية اليوم، فيمكن له أن يتملك جزءا من البيت بمال نفسه، بأن يقع شراء البيت مشتركا من الممول والعميل، فيقدم الممول نصف ثمن البيت – مثلا – ويقدم العميل النصف الآخر ويكون البيت بينهما مشاعا بالنصف، ثم يبيع الممول نصفه إلى العميل بيعا مؤجلا بثمن أكثر من الثمن الذي دفعه إلى بائع البيت، أما إذا كان المقصود بناء البيت على أرض خالية فيمكن استخدام نفس الطريق في شراء الأرض، بأن يقع شراؤها على سبيل الاشتراك بين الممول والعميل ثم يبيع الممول حصته في الأرض إلى العميل مؤجلا بثمن أكثر، فإن كانت الأرض مملوكة للعميل أو صارت ملكًا له بهذا الطريق المذكور وأراد العميل التمويل للبناء عليها، فإنه يمكن للممول والعميل أن يبنيا البيت على أساس المشاركة فيدفع هذا نصف نفقة البناء ويدفع ذاك النصف الآخر فيقع البناء مشاعا بينهما بالنصف، وحينما يتم البناء يمكن للممول أن يبيع حصته من البناء إلى شريكه العميل مؤجلا بربح، وبيع الرجل حصته في البناء إلى شريكه لانزاع في جوازه ـ ولضمان أداء الثمن المؤجل يجوز أن يطلب الممول رهنًا من العميل وبالإمكان أن يمسك مستندات ملك البيت كرهن عنده، وإن هذا الطريق لا غبار عليه شرعًا، غير أن الممول لا يستطيع أن يقدم مثل هذه التمويلات إلا إذا كان على ثقة كاملة بأن العميل سوف يشتري منه ما سيتملكه الممول من البيت أو البناء، لأنه إن امتنع العميل من الشراء بعدما أنفق عليه الممول نفقات باهظة فإن ذلك لا يحدث ضررا بالممول فحسب بل سوف يخيب هذا النظام بأسره، وبما أن البيع لا يجوز أن يضاف إلى ثمن المستقبل فلا بد لنجاح هذا الطريق أن يتعهد العميل مسبقًا بأنه يلتزم بشراء حصة الممول بعدما يمتلكها. وإن هذا التعهد من العميل، إن كان وعدًا محضًا، والوعد عند أكثر الفقهاء لا يكون ملزما في القضاء، ولكن هناك عددًا من الفقهاء جعلوا الوعد ملزمًا في الديانة والقضاء جميعًا، وهو المذهب المشهور عند مالك رحمه الله، فإنه يجعل الوعد ملزما، وقد أتيت ببعض النصوص الفقهية في هذا الصدد، لا حاجة بنا أن نقرأها لأن هذا الموضوع قد فرغ منه في الدورة السابقة للمجمع.(6/69)
فبناء على هذه النصوص الفقهية، يجوز أن تجعل مثل هذه المواعيد لازمة في القضاء فإذا تعهد العميل في الاتفاقية الموقع عليها من قبل الفريقين أنه سوف يشتري حصة الممول من البناء أو العقار، فإنه يكون ملزمًا بوفاء هذا الوعد قضاء وديانة، ولكن يجب ألا يقع البيع إلا بعدما يمتلك الممول حصته، فإن البيع لا يضاف إلى المستقبل، وعلى هذا يجب أن يقع عند ذلك عقد البيع بالإيجاب والقبول.
وهناك نقطة أخرى في هذا الموضوع قد أثارها وتناولها بالبحث الدكتور عبد الله إبراهيم في بحثه وهي مسألة تتعلق بتحديد نسبة الربح التي يتقاضاها الممول من العميل، وقد أشار فضيلته إلى أن المعمول به في أكثر المصارف الإسلامية في عمليات المرابحة، أنها تحدد نسبة الربح على نفس الأساس الذي يحدد به البنوك الربوية نسبة فوائدها وهذا شيء ينبغي أن تبتعد عنه المصارف الإسلامية والمؤسسات المالية التي تسير على أسس شرعية، لأنها تشابه عقد الربا ولا سيما في التمويل العقاري، فإن التمويل المقدم فيه إنما يقدم لسد حاجة أصلية وليس للاستثمار، فلا ينبغي للممول أن يطالب عميله بنفس المبلغ الذي تتقاضاه الجهات المرابية. هذا بالنسبة للبديل الأول وهو (البيع المؤجل) .(6/70)
* والبديل الثاني: هو (الشركة المتناقصة) وإن هذا الطريق يتلخص في النقاط التالية:
1-إن الممول والعميل يشتريان البيت على أساس شركة الملك، فيكون البيت مشاعا بينهما بنسبة حصة الثمن التي دفعها كل واحد منهما، فإن دفع كل منهما نصف الثمن، يكون البيت مشاعا بينهما بالنصف، وإن دفع أحدهما الثلث والآخر الثلثين، وكان البيت بينهما أثلاثا، وهكذا.
2-ثم يؤجر الممول حصته من البيت إلى العميل بأجرة شهرية وسنوية معلومة بينهما.
3- وتقسم حصة الممول على سهام متعددة معلومة، كالعشرة مثلا.
4- وبعد كل فترة دورية متفق عليها بين الفريقين (كستة أشهر مثلا) يشتري العميل سهما من هذه السهام بحصتها من الثمن. فإن كانت حصة الممول مثلا تساوي مائتي ألف روبية، فإن كل سهم من سهامها العشرة يقوم بعشرين ألف روبية فبعد كل ستة أشهر يشتري العميل سهما بعشرين ألف روبية.
5- وبعد شراء كل سهم من حصة الممول تنتقص ملكيته في البيت، وتزداد ملكية العميل.
6- وبعد شراء كل سهم من حصة الممول، تنتقص الأجرة بحساب ذلك السهم، فإن كانت أجرة حصة الممول بكاملها ألف روبية مثلا، فإنها تنتقص بعد شراء كل سهم بقدر مائة روبية، فتصير الأجرة بعد شراء السهم الأول تسعمائة روبية، وبعد شراء السهم الثاني ثمانمائة روبية، وهكذا.
7- حتى إذا اشترى العميل سهام الممول كلها صار البيت كله مملوكا للعميل، وانتهت الشركة والإجارة معا.
وإن هذا الطريق من التمويل العقاري يشتمل على عقود ثلاثة:
العقد الأول: لإحداث شركة الملك.
والثاني: إجارة حصة الممول.
والثالث: بيع السهام المتعددة من حصة الممول إلى العميل.
فلنتكلم أولا على كل عقد على حدة ثم لنبحث عن مدى شرعية هذا الطريق بمجموعه:
أما شراء البيت بمالهما المشترك، فلا مانع منه شرعًا، ويحدث بذلك شركة الملك بينهما، فإن شركة الملك عرفها الفقهاء كالتالي: " شركة الملك هي أن يملك متعدد عينًا أو دينًا بإرث أو بيع أو غيرهما ". فهذه الشركة في البيت قد حدثت بالشراء بمالهما المشترك، فكان البيت مشتركًا بينهما بشركة الملك.(6/71)
وأما إجارة حصل الممول من العميل، فهذه إجارة جائزة أيضًا، لأن إجارة المشاع من غير الشريك وإن كان في جوازه خلاف بين الفقهاء ولكنه لا خلاف في جواز إجارة المشاع من الشريك. وذكرت النصوص الفقهية في هذا الشأن عن المغني لابن قدامة وعن رد المحتار وما إلى ذلك.
فظهر بهذا أن هذه العقود الثلاثة من المشاركة في الملك، والإجارة، والبيع، كل واحد منها صحيح في حد ذاته، فإن وقعت هذه العقود من غير أن يشترط أحدها في الآخر، بل يعقد كل منها مستقلًا، فلا غبار على جوازها.
وأما إذا وقعت هذه العقود باتفاق سابق بين الفريقين، فربما يبدو أن ذلك لا يجوز، لكونه صفقة في صفقة، أو لكون العقد الواحد شرطًا زائدًا في العقد الآخر، وإن الصفقة في الصفقة لا تجوز، حتى عند من يجوز بعض الشروط في البيع، كالحنابلة، وقال ابن قدامة رحمه الله: " الثاني (أى النوع الثاني من الشرط) فاسد، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يشرط على صاحبه عقدًا آخر، كسلف أو قرض، أو بيع أو إجارة أو صرف الثمن أو غيره، فهذا يبطل البيع ". والنص مذكور بكامله في بحثي.
ولكن هذا المحظور – يعني محظور الصفقة في صفقة – إنما يلزم إذا كان العقد الواحد مشروطًا بالعقد الآخر في صلب العقد، أما إذا وقعت هناك مواعدة بين الفريقين، بأنهما يعقدان الإجارة في الوقت الفلاني، والبيع في الوقت الفلاني، وانعقد كل عقد في وقته مطلقًا من أي شرط، فالظاهر أنه لا يلزم منه الصفقة في الصفقة وقد صرح به الفقهاء في عدة مسائل، ولا سيما في مسألة البيع بالوفاء، وقد ذكر في الفتاوى الخانية: " وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة، جاز البيع ويلزمه الوفاء بالوعد، لأن المواعدة قد تكون لازمة فتجعل لازمة لحاجة الناس ".
فالبيع بالوفاء كان غير جائز عند الحنفية، ولكنهم جوزوا أن تقع المواعدة قبل البيع أو بعده فينعقد البيع مطلقًا عن الشرط ثم يقع الوعد الملزم، وهذا ما صرح فقهاء الحنفية بجوازه، وبمثله صرح علماء المالكية في مسألة البيع بالوفاء الذي يسمى عندهم " بيع الثنيا " فإنه لا يجوز عندهم في الأصل.
ولكن إذا وقع البيع مطلقًا عن هذا الشرط، ثم وعد المشتري البائع بأنه سوف يبيعه إن جاءه بالثمن، فإن هذا الوعد صحيح لازم على البائع، كما ذكره الحطاب وذكرت نصه.(6/72)
هذا إذا انعقد البيع مطلقًا من غير شرط، ووقعت المواعدة بعد انعقاد البيع. وقد صرح عدة من الفقهاء، بأن الحكم كذلك لو وقعت المواعدة قبل انعقاد البيع، ثم انعقد البيع مطلقًا من غير شرط، قال القاضي ابن سماوة الحنفي رحمه الله: " شَرَطا شرطًا فاسدًا قبل العقد، ثم عقدا، لم يبطل العقد، ويبطل لو تقارنا ". وقال في مسألة البيع بالوفاء: " وكذا لو تواضعا الوفاء قبل البيع، ثم عقدا بلا شرط الوفاء فالعقد جائز، ولا عبرة بالمواضعة السابقة ". وحكاه ابن عابدين في رد المحتار واعترض عليه، ولكن أجاب عنه العلامة محمد خالد الاتاسي – رحمه الله – في شرح المجلة، وقد ذكرت نص كل واحد منهما.
ولهذا أفتى جماعة من متأخري الحنفية بأن المواعدة المنفصلة عن عقد البيع، سواء كانت قبل العقد أو بعده، لا تلتحق بأصل العقد، ولا يلزم منها البيع بشرط أو صفقة في صفقة، فلا مانع حينئذ من جواز العقد.
وربما يقع ههنا إشكال، وهو أن المواعدة إذا وقعت قبل العقد، فالظاهر أنها ملحوظة عند العقد لدى الفريقين ولو لم يتلفظا بها صراحة عند الإيجاب والقبول، وإنهما لا يبنيان العقد المطلق إلا على أساس ذلك الوعد السابق، فلم يبق هناك فرق بين هذا العقد المطلق الذي سبقه مواعدة من الفريقين وبين العقد الذي شرط فيه العقد الآخر صراحة، وينبغي أن يكون الحكم دائرًا على حقيقة المعاملة دون صورتها، وأن تكون المواعدة السابقة في حكم الشرط في البيع في عدم الجواز، وهذا هو المنهج الذي سار عليه ابن عابدين – رحمه الله – في رد المحتار.
والجواب عن هذا الإشكار على ما ظهر لي – والله سبحانه أعلم – أن الفرق بين المسألتين ليس في الصورة فحسب، بل هناك فرق دقيق في الحقيقة أيضًا – وهذا شيء مهم – وذلك أن العقد الواحد إن كان مشروطًا بالعقد الآخر، والذي يعبر عنه بالصفقة في الصفقة، لا يكون عقدًا باتًّا، وإنما يتوقف على عقد آخر بحيث لا يتم العقد الأول إلا به، فكان في معنى العقد المعلق أو العقد المضاف إلى زمن مستقبل، فإذا قال البائع للمشتري – مثلًا – بعتك هذه الدار على أن تؤجر الدار الفلانية لي بأجرة كذا، فمعناه: أن البيع موقوف على الإجارة اللاحقة، ومتى توقف العقد على واقع لاحق، خرج من حيز كونه باتًّا، وصار عقدًا معلقًا، والتعليق في عقود المعارضة لا يجوز، ولو حكمنا بمقتضى هذا العقد، وامتنع المشتري من الإجارة، فإن ذلك يستلزم أن يرتفع البيع تلقائيًّا، لأنه كان مشروطًا بالإجارة، وعند فوات الشرط يفوت المشروط.(6/73)
فالعقد إذا شُرِط معه عقد آخر، كان ذلك في معنى تعليق العقد الأول على العقد الثاني، وصار كأنه قال: إن آجرتني الدار الفلانية بكذا فداري بَيْع عليك بكذا. وهذا مما لا يجيزه أحد؛ لأن البيع لا يقبل التعليق.
وهذا بخلاف ما لو ذكرا ذلك على سبيل المواعدة في أول الأمر، ثم عقدا البيع مطلقًا عن الشرط، فإن البيع ينعقد من غير تعليق بيعًا باتًّا ولا يتوقف تمامه على عقد الإجارة، فلو امتنع المشتري من الإيجار بعد ذلك، فإنه لا يؤثر على هذا البيع الباتّ شيئًا فيبقى البيع باتًّا على حاله وغاية الأمر أن يجبر المشتري على الوفاء بوعده، على القول بلزوم الوعد، لأنه أدخل البائع في البيع بوعده، فلزم عليه أن يفي بذلك الوعد قضاء عند المالكية. وهذا شيء لا أثر له على البيع الباتّ الذي حصل بدون أي شرط، فأنه يبقى تامًّا ولو لم يف المشتري بوعده.
وبهذا يتبين أن البيع إذا اشترط فيه العقد الآخر يبقى مترددًا بين التمام والفسخ، وإن هذا التردد يورث فيه الفساد، بخلاف البيع المطلق الذي سبقه الوعد بالشيء، فإنه لا يتردد في تمام البيع، فإنه يتم على حال. وغاية الأمر أن يكون الوعد السابق لازمًا على المشتري على قول من يقول بلزوم الوعد.
فالطريق المشروع للشركة المتناقصة الذي لا غبار عليه أن تقع هذه العقود الثلاثة في أوقاتها مستقلة بحيث يكون كل عقد منفصلًا عن الآخر، ولا يشترط عقد في عقد.
نعم، يجوز أن تحدث بينهما اتفاقية يتواعدان فيها بالدخول في هذه العقود، فيتفقان على أنهما يشتريان الدار الفلانية
بمالهما المشترك، ثم يؤجر الممول حصته إلى العميل بأجرة معلومة، ثم يشتري العميل حصة الممول بأقساط متعددة إلى أن يتملك الدار كلها.
ولكن هذه الاتفاقية لا تكون إلا وعدًا من الفريقين بإنشاء هذه العقود، ولا ينشأ أحد من هذه العقود إلا في وقته الموعود بإيجاب وقبول، ويقع العقد حينئذ مطلقًا من أي شرط، فلا يشترط الإجارة في البيع، ولا البيع في الإجارة، هذا بالنسبة للبديل الثاني وهو (الشركة المتناقصة) ,
* والبديل الثالث: الذي ذكره الأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور هو (الاستصناع) والفرق بين هذا العقد – يعني عقد الاستصناع – وبين ما ذكرناه من البيع المؤجل، أن البيع المؤجل إنما يكون بعد تمام البناء أو بعد شراء الأرض أو البيت من قِبَل الممول، وأما الاستصناع فيمكن عقده قبل أن يشتري الممول الأرض أو البناء، وإن الاستصناع عقد مقبول شرعًا وقد ذكر الأستاذ عبد اللطيف الفرفور شروطًا لجوازه وهي الشروط التي ذكرها الفقهاء في كتبهم ويمكن استخدام هذا الطريق بعد توفير هذه الشروط ولكن الذي أراه أن هذا العقد إنما يمكن في الصور التي يبذل فيها الممول كل المبلغ المطلوب لبناء المسكن أو شرائه. وأما في الصور التي يتقدم فيها الممول بجزء من المبلغ المطلوب فقط، والجزء الآخر يتقدم به العميل بنفسه فإنه من العسير استخدام هذا الطريق في تلك الصور.(6/74)
*والبديل الرابع: الذي ذكره الأستاذ الدكتور عبد الله إبراهيم، هو (التأجير المنتهي بالتمليك) وهذا موضوع لعنا قد فرغنا منه في الدورة السابقة فلا يحتاج إلى مزيد من التفصيل.
* وبالنسبة للبديل الخامس: هناك صورة ذكرها أيضًا الأستاذ عبد الله إبراهيم وهي (الإقراض برسم التمليك) وقد ذكر أنه لا يجوز شرعًا، ولكنني لم أستطع أن أفهمه حق الفهم لأنه طريق يتبع في ديار ماليزيا ولم أتمكن من فهمه تمامًا، فيمكن لسيادة الدكتور أن يشرحه في مناقشته.
أما البديل السادس: الذي ذكره الأستاذ محمد عبد اللطيف الفرفور فإنه متبع في البنوك العقارية السورية، وهو أيضًا لم أتفهمه حق الفهم، فألتمس من فضيلته حينما يتدخل في مناقشاته أن يشرح لنا هذه الصورة.
وهذا ما أردت أن أبينه وألخصه لكم من البحوث الأربعة. والله سبحانه وتعالى أعلم، وعلمه أتم وأحكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(6/75)
الدكتور عبد الله إبراهيم:
بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شكرًا لفضيلة الرئيس ولأصحاب الفضيلة، وأحب أن أشارك في العرض فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني، خاصة وقد أشار إلى أحد الأوجه للتمويل باسمي، وهو (الإقراض برسم التمليك) فإنه – كما سمعنا – يطلب أن يفهم طريقة تطبيق هذا الوجه.
والواقع أن هذا الوجه ليس تطبيقًا ماليزيًّا، لا يوجد في ماليزيا هذا التطبيق وإنما ذكرت ذلك نقلًاعن بحث للدكتور أوصاف أحمد، وهو بحث قدمه في المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت – عمان) ما بين 18-21/6/1987م. فقد ذكر الدكتور أوصاف أحمد هذا الوجه باسم (الإقراض برسم التمليك) كوجه من أوجه التمويل، وهذا يعني أن البنك يتملك أشياء منقولة أو غير منقولة ويؤجرها للعميل مقابل تعهد الأخير بدفع أقساط متساوية في آجال معينة، ولمدة يتفق عليها في حساب توفير يفتحه البنك لهذه الغاية، ويعطي البنك تفويضًا بحق استثمار موجدات الحساب، ويمكن إضافة الأرباح إلى هذا الحساب، وعندما تتكامل الأقساط يلغى العقد وتنتهي الإجارة وتنتقل الملكية من البنك إلى العميل، هذا ما ذكره الأستاذ الدكتور أوصاف أحمد، تعريفًا لهذا الوجه وهو (الإقراض برسم التمليك) ، ولكني كما قلت هنا لا أدري ما إذا كان المشتركون بالمؤتمر قد تناولوا هذا الوجه من أوجه التمويل بالمناقشة واتخاذ موقف معين سابق؟
ومهما كان الأمر فإنني وجدت – كما يظهر لي – أن هذا الوجه لا يخرج عن دائرة القروض بالفائدة الربوية، لأن الشيء حينما يؤجر بتلك الأقساط المدفوعة في تلك الآجال المعينة، وباعتبار أنها إقراض يكون الرسم المضاف إلى القرض فائدة عليه، وما دام العقد يتم باعتبار أنه إقراض، وهناك رسم يضاف باسم الفائدة، فهذا طبعًا وجه لا يخرج عن التطبيق الربوي.
ولهذا أرى أن هذا الوجه لا يكون صالحًا لتطبيقه في مسألتنا (مسألة تمويل بناء المساكن وشرائها) ، اللهم إلا إذا صحح مساره ويعقد عقد بربح أو يعقد عقد بيع بثمن آجل على أقساط متساوية لآجال معينة بقيمة التكلفة المضاف إليها المقدار المناسب من الربح، فإذا صحح على هذا، فأنا أوافق أن يكون هذا الوجه صالحًا بأن يكون أحد أوجه التمويل الشرعي. وشكرًا.(6/76)
الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا أيها السيد الرئيس، كان بودي أن أقرأ العرض لولا ما تفضلتم به من العذر الذي أسأل الله بدعواتكم ودعوات زملائي في المجمع أن يعجل لنا جميعًا بالشفاء.
بالنسبة لما تفضل به أخي وزميلي فضيلة القاضي الأستاذ الشيخ محمد تقي العثماني من الحلول التي أوردها عن بحثه القيم وعن بحث زميلي الأستاذ عبد الله إبراهيم، هذا لا كلام لي ولا تدخل لي فيه، ولكن ربما نسي فضيلته بحث الأستاذ السيد طنطاوي وأنا لم أقرأه ولم أتشرف بقراءته. ولعلكم أنتم تنظرون في هذه المسألة.
أما بالنسبة لبحثي بالذات فربما العجلة حالت دونه ودون تعمقه في هذا البحث المتواضع. فأنا – العبد الضعيف – بالنسبة لهذا البحث قسمت المسألة قسمين: قسمًا يعالج الموضوع كأمر واقع – وقسمًا أرتئي فيه من الحلول أو أقترح حلولًا لأمور في المستقبل.
أما بالنسبة للبحث حول الأمر الواقع فجعلت ما هو واقع الآن إما أن يكون استصناعًا – كما تفضل أخي الأستاذ القاضي حفظه الله – بشروطه، وإما أن يكون بيعًا بالتقسيط إلى أجل – أيضا – بشروطه وضوابطه، هذا فيما هو واقع. ثم بينت أن ما هو واقع إذا جعلناه استصناعًا أو جعلناه بيعًا بالتقسيط أو جعلناه أيًّا ما كان، فأنه لا يخلو أبدًا عن شبهة الربا إن لم تكن حقيقة الربا، هذا ما بينته بشكل واضح جدًّا وحتى ربما بتوسع، فإن المسألة في بلادنا – حسب ما هو موجود الآن – عبارة عن مدخل إلى العقد ثم هناك شبهة الربا، فتظل هذه المسألة حتى يخصص البيت أو المنزل من الجمعية السكنية - لأنه تقوم جمعيات سكنية بإشراف الدولة، وليست هي الدولة التي تقوم ولكن بإشراف إداري – ثم إما أن تظل شبهة الربا وهو اختلاط الأموال الربوية واستقراض الجمعية من البنوك الربوية بالفائدة، وحينما يخصص المنزل يقال للشاري: إما أن تأتينا بما بقي من المال ويتخلص من حقيقة الربا – تقريبا – وتبقى الشبهة، أو ربما وَكَّلَهُم الشاري فقال لهم: ادفعوا لي أنتم استقرضوا لي من البنك وأنا أدفع لكم الكمالة، في جميع الأحوال حتى لو أننا كيفناه بعقد استصناع أو ببيع إلى أجل فلا يخلو الأمر أبدًا من شبهة الربا إن لم يكن حقيقة الربا. لذلك اقترحت في بحثي – وهذا جهد المقل – حالتين:(6/77)
الحالة الأولى: أن تتولى الدولة حصرًا حل مشكلة الإسكان بأن تلتزم الدولة باعتبارها ولي الأمر – وأنها يجب عليها أن توفي الناس مساكنهم لأن المسكن هو الحاجة الدنيا أو الحاجة الأولى، على الأقل مسكن عادي جدًّا، ليس شرطًا أن يكون فيه ترف أو رفاهية – وأن يكون ذلك بيعًا بالتقسيط وعلى الدولة أن تتلخص من المعاملات الربوية قدر الاستطاعة، لأن الربا هنا مسألة تداخلت في الموضوع وليست أصلًا فيه، فيمكن تخليص العقد من الربا.
الحالة الثانية: وهذا لم يتوفر في بلدنا وهو وجود بنوك إسلامية ولعله توفر في المملكة العربية السعودية وفي الأردن – كما سمعت – وفي مصر، ونرجو الله أن يتوفر في بلدنا، فإذا قامت البنوك الإسلامية على هذا الموضوع فإنها تلخص المشكلة كلها من الربا وتجعل له – لهذا الموضوع – حلًّا إيجابيًّا فقهيًّا إسلاميًّا مثمرًا على أحد الطريقين: إما الاستصناع، أو البيع إلى أجل.
هذا ما اقترحته في بحثي، وهذا مجرد رأي، وكما قال الإمام أبو حنيفة – رضي الله تعالى عنه – فيما تعلمون علمًا: " هذا رأي وهو أحسن ما استطعنا أن نأتي به، فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه ". والله تعالى أعلم، وشكرًا.(6/78)
الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرًا سيادة الرئيس. فيما ذكره الشيخ تقي العثماني – حفظة الله - في الطريقة الأولى للتمويل العقاري وهو البيع المؤجل، ذكر الطريقة الأولى ولا غبار عليها أن يتملك الممول ثم يبيع بربح أو مرابحة إلى أجل مسمى.
أما الطرق الأخرى التي بناها على الوكالة، فالحقيقة أن هذا ليس مسلمًا، وذلك لأن الوكالة عقد غير لازم، وإدخاله في مثل هذه المعاملة لا يجدي نفعًا، ثم إن الموكل هنا يوكل في بناء دار، والموكل المفروض فيه أن يدفع الثمن أو يثبت الثمن في ذمته، والأمر هنا ليس متحققًا إنما سيبيع الوكيل القائم بالعمل لمن وكله، وهذه الطريقة لا تسلم هنا أيضًا.
الحل الثاني – أيضًا – في هذا الباب ذكر الوعد، والوعد هنا أيضًا كما دار في المناقشات السابقة وعند المالكية – بالذات – أنهم يلزمون في التبرعات لا في المعاوضات، فبناء المسألة على الوعد – أيضًا – لا يسلم.
بالنسبة للطريق الثاني في قضية شركة الملك، والملك المشاع ثم التأجير، ثم بيع الملك أقساطًا أو أجزاءً: الحقيقة نحن أمام مسألة خطيرة جدًّا، ونفترض ثلاثة عقود ثم نقول إنه ينبغي أن يكون كل عقد منها مستقلًّا، كيف يتم هذا؟ تتم شركة ثم إجارة ثم بيع لأجزاء، ويريدها أيضًا على طريق المواعدة، وهذا الحل محل نظر شديد لأنه لكي تسلم المعاملة لابد من أن تكون العقود الثلاثة في عقد واحد وملزمة، وهذا طبعًا سيكون صفقات في صفقة وليس صفقة، ثم بناها أيضًا على المواعدة مرة أخرى، وأتى بالمواعدة في بيع الوفاء وأنها تلزم عند الحنفية، والحقيقة أن هذه خاصة في بيع الوفاء وليس في بيع العقار هنا على هذه الطريقة.
لذلك لا يكون مسلَّمًا هنا إلى القول بأن الممول يشتري ثم يبيع بربح أو على طريقة المرابحة. والله أعلم، وشكرًا.(6/79)
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
فيما يتعلق بالنقطة التي طرحها فضيلة الرئيس في البداية، وهي موضوع عام أرجو أن أشير فيه إلى أنه لعله نستطيع في هذه الجلسة – أقصد في هذه الدورة – أن نتفق على أسلوب لإعداد البحوث حيث تخرج توجيهات للباحثين تطلب منهم التركيز على القضايا المطلوب التركيز عليها، لتحقيق ما تفضلتم به بحيث يكون البحث في إطار بيان الحكم الشرعي، لأنه يلاحظ على بعض البحوث أنها تخرج عن الموضوع وتقدم عرضًا لقضايا أخرى لا علاقة لها بصلب الموضوع، يجب في الواقع أن نميز في هذا الأمر بين أمرين: من حيث المساكن ومن حيث الجهات التي تتولى هذا الموضوع أيضًا بين جهتين.
فيما يتعلق بموضوع المساكن هنالك مساكن للفقراء الذين لا يجدون ما يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء وعيون المارة – كما عبر ابن حزم – أي بعبارة أخرى تأمين حد الكفاية من حاجة السكن الذي لا يصح أن لا يوفر للإنسان في المجتمع الإسلامي، والأمر الآخر الذي هو مساكن فوق هذا الحد مما يحرص عليه الناس لمزيد من الراحة والتمتع، وهذا – ما دام لم يخرج إلى إطار الترف – لا تجد الشريعة فيه حرجًا.
أما من حيث الجهات: - جهة الدولة كما أشارت بعض البحوث وجهة المؤسسات الاستثمارية التي تعالج هذا الموضوع وتشتغل به – فيما يتعلق بأمر الدولة هنا لا نستطيع أن ننيط بها أكثر من النوع الأول من المساكن، وهو مساكن الذين لا يجدون ما يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء وعيون المارة، باعتبار مسؤولية الدولة في تحقيق الحد الأدنى أو حد الكفاية بالنسبة للحاجات الأساسية ضمن التشريعات المقررة في هذا المجال ويقف على رأسها تشريع الزكاة كما نعلم جميعًا.
لذلك أنا مع أستاذنا الشيخ محمد العثماني من حيث إن من الأمور التي يجب أن نركز عليها في مجتمعاتنا المعاصرة موضوع تحصيل الزكاة، وبالتالي يكون الإعطاء من الزكاة لحاجة السكن، باعتبار أن حاجة السكن حاجة أساسية يجب أن توفر للناس الذين لا يستطيعون أن يجدوا ذلك من الفقراء والمساكين، ويمكن أن تقوم الدولة بهذا الأمر عن طريق مؤسسة الزكاة أو صندوق الزكاة ببناء مشاريع توزع على الفقراء أو تدفع إليهم أموالًا منها لغرض بناء المساكن كما أن للدولة إمكانية استخدام مواردها الأخرى بأن تبني أو توزع على الفقراء ما يمكنهم من تأمين هذه الحاجة، وكذلك صورة القرض الحسن أيضًا في هذا المجال ممكنة، لكن الموضوع الآخر، إذا لم تجد الدولة المال الذي يكفيها لتحقيق هذه الحاجة الأساسية للفقراء، فمن المعلوم أن فقهاءنا قد عالجوا هذه القضية ونصوا بكل وضوح على أن من حق الدولة أن تفرض على الأغنياء ما يفي بحاجات الفقراء الأساسية، ومنها حاجة السكن، ولعل هذه الموضوع – موضوع فرض ضرائب جديدة – من الموضوعات التي يمكن أن تعالج باستفاضة في دورات قادمة، وقد أوضحت في إحدى الدراسات الخاصة بي حول هذا الموضوع أن حق الفقراء – حق الفقراء بالكفاية ومنها كفاية المسكن – متعلق بأموال الأغنياء، وأن للدولة أن تضع من التشاريع والأنظمة لتحقيق هذا الجهد.(6/80)
هذا في إطار الحاجة الأساسية لكل إنسان في المجتمع فيما يتعلق بحاجة السكن، ولكن فيما يتعلق بالموضوع الآخر: وهو تأمين مساكن فوق ذلك وتحقيق هذا عن طريق جهات تمويلية سواء أكانت من القطاع الخاص أو مؤسسات متخصصة بهذا الغرض تشرف عليها الدولة.
ذكر الإخوة مجموعة من الصور بعضها في ظني محل اتفاق من حيث الجواز كأن تبني الشركة العقارية أو المؤسسة مشروعًا عقاريًّا وتبيعه بالتقسيط – والبيع بالتقسيط من الموضوعات المطروحة في هذه الدورة ولعله يصل فيها المجمع إلى قرار واضح – شريطة أن يكون السعر كما هو معلوم عند كثير من الذين أجازوا هذا من البداية ملحوظًا على أساس الكلفة والربح بدون أي إضافات مستقبلية إذا تم العجز عن تسديد الأقساط.
وكذلك الصورة الثانية التي حاول أستاذنا الشيخ الفرفور أن يستفيد من عقد الاستصناع فيها وهي بيع بناء لم يقم بعد وفق مخططات ومواصفات واضحة، وهذا أيضًا في ظني من الصور الجائزة.
هنا أريد أن أشير لقرارات الدورة الماضية التي يبدو أنها لم تلحظ في بحث الأستاذ العثماني عندما تحدث عن المرابحة للآمر بالشراء في هذا الموضوع، في ظني أن موضوع الرابحة للآمر بالشراء من الموضوعات التي يجب أن نحذر باستمرار ونحن نتحدث عنها حتى لا نكون أداة ووسيلة للربا، وفي الصورتين اللتين طرحتا لم يُنْتبه إلى هذا، لا في صورة المشاركة المتناقصة ولا في صورة المرابحة للآمر بالشراء، لأنه إذا تم الاتفاق مسبقًا على كل هذه الترتيبات، فيمكن أن تكون الصيغة ملحوظًا فيها عملية تمويلية زائد فوائد ربوية، فيكون الظاهر أنها عقود تستخدم الاصطلاحات الشرعية في عرضها، ولكن حقيقتها أن المؤسسة العقارية كل ما تريده أن تمنح هذا الإنسان قرضًا من المال ثم تضيف عليه فائدة معينة وتستوفيه على أقساط، لذلك لابد من التنبيه هنا – خاصة إذا أخذنا بلزوم الوعد – إلى أن العملية لا تنقلب إلى وسيلة للربا، وفي ظني أنه إذا تم الاتفاق مسبقا على هذا الترتيب، وبخاصة في عقود المرابحة التي محلها العقارات، أي مخاطرة تقع على الممول هنا فيما إذا قام بشراء أرض طلبت منه أو عقار، طلب منه أحد الأشخاص شراءها فقام بشرائها وتسجيلها باسمه ثم نقلها إلى ملك ذلك الإنسان بزيادة على ما دفع من ثمن لهذا العقار؟ في الواقع العملية أخرجت بهذه الصورة بدلا من أن يدفع المال مباشرة للآمر بالشراء دفع إلى صاحب العقار وما كانت الصورة إلا لإخراج هذا الأمر من إطار شكلية معارضته للربا.(6/81)
أما في موضوع المشاركة المتناقصة فيبدو أن الأستاذ العثماني قد طرح القضية خارج الاصطلاح الذي استقر عندنا في معنى المشاركة المتناقصة، وقد ركز في بحثه على قضية صفقة في صفقة، وكنت أود أن يركز أيضًا على أنه: كيف تحمى هذه الصورة من أن تقع في الربا أيضًا؟ لأن العملية عندما يقسط المبلغ الذي دفعه الشريك لتجري عملية سداده أولًا بأول على أقساط على أساس أنه ثمن لحصته في الشركة، هذا المبلغ إذا أضيف إليه ربح لحظ معدلات الفائدة ولحظ أن 0الأجرة جزء منها يسدد كأجرة ثم حسم الأمر على هذا الأساس وأخرج كمعاملة أساسها قرض يجر نفعًا أو يجر فائدة، كيف يمكن أن نجيزه؟
لذلك الذي أرجوه أن يعاد النظر في النقطتين: نقطة المرابحة للآمر بالشراء، والمشاركة المتناقصة، ملاحظين ما تم إقراراه من شروط في بيع المرابحة للآمر بالشراء في الدورة الماضية، وخاصة فيما يتعلق بالحيازة والتملك وتحمل تبعة الهلاك، هذه القضايا التي تجعل العقد في إطار المخاطرة والتجارة الحلال، وملاحظين أيضًا التمييز الذي انتهى إليه المجمع في الدورة الماضية بين الوعد والمواعدة، والصورة التي أشير إليها في اتفاق فريقين على الوعد فهذه هي المواعدة وهذا ما نبه إليه المجمع في المرة الماضية.
هنا أيضًا أحب أن أشير إلى الإقراض برسم التمليك. في ظني بشأن الإقراض برسم التمليك هناك استعجال من الأستاذ الكريم الدكتور عبد الله بالتحريم، وإذا تم الإمعان في هذه الصورة فإنه يمكن أن تكون جائزة شرعًا بشروط معينة، وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(6/82)
الدكتور محمد سيد طنطاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه، وبعد:
فالبحث الذي أتشرف بتقديمه إلى المجمع في دورته هذه، موضوعه (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) . هذا البحث يشمل على عدة نقاط:
النقطة الأولى: عبارة عن مقدمات أرجو أن تكون مسلمة عندنا جميعًا.
النقطة الثانية: وجدت أن الأمانة العلمية تقتضيني عندما أتكلم عن موضوع كهذا الموضوع، لابد أن أذهب إلى البنك العقاري المصري وأن أطلع على لوائحه وأن أجلس مع العاملين فيه وأن أتفهم الموضوع تفهمًا تامًّا لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما يقولون.
النقطة الثالثة: أغراض البنك العقاري كما جاء في نظامه الأساسي.
النقطة الرابعة: الوسائل التي يستخدمها البنك لتحقيق أغراضه، وبينت ما هو جائز منها وما هو ليس كذلك.
* النقطة الأولى: وهي المقدمات أمر عليها مرًّا سريعًا، لأني أعتقد بأنها من المسلمات وأولها أن العقلاء في كل زمان وفي كل مكان يتحرون الحلال في جميع تصرفاتهم وثانيها أن العقلاء. . .
الرئيس:
يا شيخ سيد، على كلٍّ بحث فضيلتكم هو بين أيدينا، وإذا تكرمتم والكلام لبقية الإخوان، العارض ما اختير عارضًا إلا حتى يستغني به عن قراءة أي بحث كان أو تلخيص أي بحث كان، وإنما بعد العرض هي مناقشة فقهية محددة لذات الصور، ماذا يجوز منها، وماذا لا يجوز؟ هذا هو المراد.
الدكتور محمد سيد طنطاوي:
نعم حاضر.
بعد هذه المقدمات قلت بأن كلامي في هذا البحث ينصب على المعاملات التي يجريها البنك العقاري المصري الذي يعتبر – كما جاء في التعريف به – أقدم البنوك المصرية قاطبة. فقد تم إنشاؤه في 15 فبراير 1880 م، أي منذ أكثر من مائة سنة، ثم نقلت نصًّا أو بعض النصوص من نظامه الأساسي وهو موجود أمامكم، ثم انتقلت بعد ذلك بعد أن نقلت جملة من مواد هذه النصوص، قلت: بعد هذا العرض لجانب من النظام الأساسي للبنك العقاري المصري يتبين لنا بوضوح أن الأغراض والأهداف التي قام من أجلها متعددة الأنواع وأنها تشمل ما يأتي:
أولًا: المساهمة في تمويل عمليات استصلاح الأراضي وتمويلها. . . إلخ. وهذا شيء حسن.
ثانيًا: المساهمة في تمويل بناء المساكن التي تأوي من هم في أشد الحاجة إلى الإيواء والستر. وهذا شيء حسن أيضًا.
ثالثًا: المشاركة مع الأفراد والهيئات في إقامة المشروعات المتنوعة.
رابعًا: تقديم المساعدات الفنية والخبرة النافعة لمن يقومون بأعمال التعمير.(6/83)
هذه هي أهم الأغراض التي قام من أجلها البنك وتلك أهم وظائفه، وهي – كما سبق أن قلنا – أغراض شريفة في ذاتها، ولكن يأتي بعد ذلك سؤال هام وهو:
ما الوسائل التي يستخدمها البنك في تحقيق هذه الأغراض وتلك الوظائف؟
وللإجابة على ذلك أقول: هناك وسائل متعددة تسلكها تلك البنوك لتحقيق أغراضها، وهذه الوسائل منها ما هو جائز شرعًا ومنها ما ليس كذلك، فأما الوسائل التي اتفق الفقهاء على جوازها شرعًا، فمن أبرزها أن تقدم الدولة للبنوك العقارية ما هي في حاجة إليه من أموال كافية لتلبية مطالبها الذاتية كأجور العمال والموظفين، وتكون وظيفة البنوك العقارية في تلك الحالة هي الوكالة عن الدولة في تنظيم وتنسيق وتنفيذ تقديم هذه الأموال لأصحاب تلك المشروعات، ثم استردادها منهم بعد ذلك على أقساط لا تزيد في مجموعها على ما قدمته لهم من أموال، بل ربما تتنازل الدولة عن جزء كبير منها في بعض الأحيان، وهذه الطريقة تتبعها في العادة الدول الغنية الرشيدة لكي تساعد أبناءها على امتلاك المسكن المناسب وعلى التوسع في إحياء الموات من الأرض، وقد ترتب على هذه السياسة الحكيمة أن زاد العمران، وكثر عدد العاملين في مجالات النشاط الاقتصادي، وأنفقت الأموال في وجوه الخير، كما ترتب على هذه السياسة الحكيمة أيضًا أن كثرت المساكن وصار المعروض منها أكثر من المطلوب فرخصت أسعارها وأصبح المسكن الذي كان يؤجر منذ عشر سنوات في المملكة العربية السعودية – مثلًا بثلاثين ألف ريال في السنة أصبح الآن كما بلغني يؤجر بأقل من هذا المبلغ بنسبة قد تصل إلى الثلث، ومما لا شك فيه أن هذه الطريقة التي اتبعتها بعض الدول هي السنن الحسنة التي لأصحابها من أولي الأمر أجرها وأجر من عما بها من بعدها.
* الطريقة الثانية من الطرق التي اتفق العلماء على إباحتها: هي أن تقدم البنوك العقارية لأصحاب مشروعات استصلاح الأرض وتشييد المساكن، تقدم لهم الأموال التي هم في حاجة إليها لإقامة مشروعاتهم ولكن على سبيل المشاركة لهم بالنصف أو بالثلث أو بغير ذلك، وأتينا بالأدلة:
الطريق الثالثة التي يمكن للبنوك العقارية أن تسلكها لتمويل المشروعات العقارية النافعة تتلخص في الرهن، وتكلمنا عن الرهن، وبينا أنه جائز وأن من حق البنوك أن تقوم برهن أشياء من أصحابها ضمانًا لحقها، وأتيت أيضًا بالنصوص الموجودة في نفس النظام الأساسي للبنك.(6/84)
كذلك من الوسائل التي نرى إباحتها للبنوك العقارية التي تقدم الأموال اللازمة لأصحاب تلك المشروعات العقارية النافعة، أن تأخذ منهم في مقابل خدماتها لهم مبالغ مناسبة يقدرها الخبراء العدول، كأجور للموظفين وللعمال ولغير ذلك من المرافق التي تكلف البنوك الكثير من الأموال والتي تخلت الدولة عن دفعها، وأذنت للبنوك في تحصيلها من المتعاملين معها نظير ما تقدمه لهم من خدمات متنوعة لا تستطيع القيام بها إلا بتحصيل تلك المبالغ، ويبدو لي أنه لا يوجد مانع شرعي يمنع البنوك من أن تأخذ تلك المبالغ من المتعاملين معها ما دامت هذه المبالغ مقدرة من جهة الخبراء العدول ولا جشع معها ولا استغلال وما دامت تؤخذ على أنها في مقابل خدمات معينة يقدمها البنك للمتعاملين معه على سبيل تبادل المنافع المشروعة.
هذه في نظري أبرز الوسائل التي أرى أن البنوك العقارية يجب عليها أن تأخذ بها أو ببعضها عند تمويلها للمشروعات التي وجدت من أجل المساهمة في تحقيقها وهي التعمير والبناء إلى آخره، لأن هذه الوسائل مع جوازها من الناحية الشرعية سيترتب عليها – بإذن الله – ما يأخذ بالأمة إلى طريق الخير والرقي.
وأما الوسائل التي اتفق العلماء على حرمتها وعلى وجوب التخلي عنها فهي كل وسيلة تسلكها هذه البنوك في تعاملها مع غيرها وتكون هذه الوسيلة مصحوبة بالغش أو بالتدليس وبالاستغلال أو بالربا أو بغير ذلك من المعاملات المحرمة، فمثلًا ما تأخذه هذه البنوك من فوائد باهظة على المبالغ التي تقرضها لمن هم في حاجة إليها لسد ضرورات حياتهم هي من قبيل الظلم والاستغلال والربا المحرم، وما تأخذه من فوائد مضاعفة على المعسرين هو أيضًا من قبيل الظلم البين والربا الجلي الذي أعلن القرآن الكريم حرب الله ورسوله لمن يتقاضاه {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .
وهنا أنبه إلى أن الوسائل المنحرفة عن الحق في التعامل هي ليست محرمة على البنوك فقط، بل هي محرمة شرعًا سواء أصدرت عن البنك أم عن المتعاملين معه بقصد استغلاله لمصالحهم الخاصة وبقصد أخذ جزء من أمواله التي هي ملك للأمة لا من أجل حاجتهم الماسة إليها وإنما من أجل الزيادة في ثرواتهم الضخمة ومن أجل إشباع مطامعهم التي لا نهاية لها.
ويحضرني بهذه المناسبة أن رجلًا أرسل إلى دار الإفتاء المصرية سؤالًا ملخصه: أنه يأخذ من أحد البنوك التي هي ملك للدولة مبالغ معينة بفائدة معينة، ثم يضع هذه المبالغ في بنك آخر بفائدة أعلى وأكبر، ثم يسأل هل عليه زكاة على هذا المال؟ ولا شك أن هذا السلوك القبيح يمثل لونًا من أبشع وأقبح ألوان التحايل الذي يدل على انطماس البصيرة وضعف الدين وسوء الخلق.
انتهيت بعد ذلك بأن هذه الكلمة عن التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها، ذكرنا فيها بعض المقدمات التي لا بد منها ثم ثنينا بكذا وكذا، وأن التمويل العقاري لبناء المساكن وما يشبهها لهو في ذاته عمل جليل إذا قامت به البنوك وفق الأحكام الشرعية التي سبق أن بينّاها والتي لا ظلم فيها لأحد لأنها من عند أحكم الحاكمين.
وبالله التوفيق.(6/85)
الدكتور وهبه مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
لي ملاحظات ثلاث، الأولى: هي ما ورد في كلمة الأخ الشيخ تقي العثماني من أن الشركة التي تتم بين الممول والعميل إنما هي شركة ملك، والحقيقة أنها ليست بشركة ملك، شركة الملك هي شركة جبرية وهي لا يترتب عليها أي حكم من أحكام الشركات المعروفة في الفقه الإسلامي وهي تحدث تبعًا، هذا الاشتراك الجبري يحدث تبعًا عقب شراء شركة، أن يشتري اثنان شاة بقصد الذهاب إلى الصحراء لذبحها وشوائها وأكلها، فهذه هي صورة البيع التي تكون مدخلة تحتها شركة الملك.
إذن الشركة التي تتم في بيوع العقارات والأراضي، ليست من قبيل شركة الملك، وإنما هي شركة عقد حتى يتمكن الشريكان من إجراء أحكام الشركات على هذا النوع من القصد الواضح من إقامة شركة بينهما في الأرض عند شرائها. هذا شيء.(6/86)
الشيء الثاني، هذه الصورة – البدائل – التي ذكرها الأخوة الكرام هي كلها يراد بها البعد عن الربا، وأي لون من الأوان التي تقوم بها البنوك العقارية في البلدان العربية والإسلامية كلها لا تخلو من الربا؟ ولذلك تحسين الظن بالمعاملات الربوية بهذه البنوك هو في رأيي غير واقعي، والصورة الواقعية هي ما تقوم به الدول الغنية من إقامة مبان متعددة كليبيا والسعودية، تبيعها بأقساط لمدة عشرين سنة ويدفع كل متملك لبيت اشتراكًا شهريًّا جزئيًّا بسيطًا خمسة عشر أو عشرين جنيهًا مثلًا ثم في نهاية العشرين سنة يتملك هذا البيت، هذا الذي تقوم به الدول الغنية لا غبار عليه إطلاقًا، لأنه من قبيل مساهمة الدولة بتحقيق التكافل الاجتماعي المفروض على الدولة، وهذا لا نقاش لنا فيه، كل ما في الأمر أن النقاش ينبغي أن يكون بين الجهات التي تقصد الربح من تصرفاتها وأعمالها وهي إما شركات وإما أفراد، وهؤلاء لا يستغنون بحال من الأحوال عن الربح أيًّا كانت صورة الربح، الذي نريد أن نكيفه لهم ونسبغ عليه صبغة المشروعية. فالحقيقة أنهم يريدون الربح بأي صورة من الصور، ومن تلك الصور الكثيرة الوقوع مع هؤلاء من أجل إيجاد بناء سكني للإنسان هي الصورة التي يتم فيها بيع صوري، لأن أغلب الدول الآن لا تعترف بالعقود الفردية في العقارات إلا بتسجيلها بالسجلات العقارية، والمملك التاجر، المقاول الباني الذي يبني هذه المباني لا يعقد إلا عقدًا خاصًّا بينه وبين هذا الشخص، والدولة لا تعترف بهذا القدر. فإذن هو يضمن حقه، ولذلك أغلب هذه الصور تتم فيها صورة تمليك صوري ومرهون برهن شديد، أنه لا يملك العميل – كما قال أخونا الشيخ تقي – إلا بعد أن تسدد أقساط ملكية هذا البيت، وحينئذ تنتقل الملكية، وبعدئذ يقوم صاحب البناية بإفراغ هذه الملكية في السجل العقاري وبعد أن يستوفي كامل حقوقه. فالملكية المصحوبة برهن لا شك أنها جائزة، من البدائل التي لم تذكر في كلمات الإخوة السادة الأفاضل وأظنهم خشية المساس بقضية الربا وهي قضية الاقتراض بفائدة للمضطر أو للمحتاج، وقد نص على ذلك صراحة فقهاء الحنفية، وينبغي أن لا يفهم من كلامي أن الضرورة بالمعنى الذي يشيع فيما بين الناس، كل واحد يريد أن يوسع بيته أو متجره أو غيره فيقول: أنا مضطر. هذا الكلام مردود عليه، إن وجدت قيود الضرورة الشرعية بضوابطها المعروفة وهي التي يترتب عليها إن لم يقع في المحظور يهلك، بمعنى أنه لم يقترض من البنك بفائدة يصبح يعيش في الشارع إما في كوخ كالبلاد الهندية وجنوب شرق آسيا في الأكواخ والشوارع يولدون ويموتون وهم في الشوارع، وأيضًا بيوت العرب في بعض البلاد العربية يعيش في البيت من الشعر فإن أصبح في مثل هذه الحالة من الضرورة القصوى بحيث إن لم يقترض من البنك بفائدة لبناء سكن يصبح في الشارع أو في كوخ أو في خيمة، عندئذ ما المانع من أن نجيز ذلك بحدود ضيقة جدًّا وحالات نادرة جدًّا وليست على سبيل الاستقصاء ولا على سبيل الفتوى العامة، فنحن إن قررنا هذا إنما نظهر ما هو موجود لدى فقهائنا في مثل هذا الأمر. . . والسلام عليكم.(6/87)
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
أريد أن أعلق على نقطة جاءت على لسان أستاذنا الدكتور وهبه، واعترض فيها على ما جاء في بحث الشيخ تقي العثماني، حيث كان غائبًا فأردت أن أنوب عنه فإذا لم يكف فهو صاحب الأولوية.
الدكتور وهبه يقول إن الشركة هنا ليست شركة ملك وإنما هي شركة عقد، والواقع أنها شركة ملك لأن شركة العقد يلزم فيها خلط الأموال وأن تكون قائمة على الوكالة والكفالة، كل من الشركاء وكيل وكفيل عن الآخر، أما هنا الشركة شركة ملك صحيح أن معظم صور شركة الملك تكون جبرًا أو بتملك جبري كالميراث أو نحوه لكن يمكن أن تقع ابتداء، يعني أنا أشتري نصف البيت والآخر يشتري نصف البيت فنلتقي على هذا الاشتراك وليس عندنا نية الاستثمار، شركة العقد نشتري البيت لنبيعه ونستربح فيه أو لنستغله فترة من الزمن ثم نبيعه، يعني نية البيع موجودة لأن هذه هي الشركة أن يشتري برأس المال ثم يقلب رأس المال في البيع والشراء ويحقق ربحًا، فالشركة هنا شركة ملك على وجهها، والله أعلم.(6/88)
الدكتور عبد العزيز الخياط.:
بسم الله الرحمن الرحيم. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا أريد أن أكرر الملاحظات التي أبداها بعض الإخوة، إنما بقي عندي بعض الملحوظات وتأكيد على أمر ذكر في بحث الدكتور عبد الله إبراهيم.
الملحوظة الأولى: في بحث الشيخ القاضي محمد تقي الدين العثماني، في الصفحة الثانية ذكر إحدى طرق ثلاثة لقضاء حاجة الإنسان للمساكن وهو أن يعطي من الزكاة لبناء البيوت، أرجو أن يوضح لنا الدليل الشرعي على ذلك، المسألة قد يكون فيها خلاف.
في الصفحة الثالثة من بحثه كذلك ذكر موضوع البناء على الأرض الخالية أن يشتريها الممول والعميل فما العمل في حالة ما إذا كانت الأرض الخالية ملكًا للعميل واتفقا على البنيان ولم يذكر الأرض، هو لم يذكر موضوع الأرض في هذا البحث، هل تبقى على ملك العميل أو أن الممول يشتري بحسب الاتفاق نصفها أو ربعها لأنه إذا بنى الممول البناء على هذه الأرض التي هي مملوكة للعميل لا يكون له حق في تملك الأرض، فمن هذه الناحية أرجو أن يبين موضوع الأرض، ونحن نعلم أن البناء على أرض مملوكة لأحد فإن القوانين في بعض البلدان تعتبر البناء عليها ملكًا لصاحب الأرض، ولا يعتبره ملكًا للممول أو شراكة الممول فيه.
وفي الصفحة السادسة ذكر أن الممول يؤجر حصته من البيت للعميل بأجرة شهرية أوسنوية معلومة:
سؤالي هنا: هل تخصم الأجرة من ثمن البناء أو لا تخصم. فإذا كانت لا تخصم كما أراد هو: أليس في ذلك إرهاقًا للعميل؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يستطيع العميل أن يسدد الثمن الباقي من البيت، لأنه لو كان بالأجرة كان يستأجر بناء ولا حاجة له أن يشترك في هذا البناء لذلك أرى أن موضوع الأجرة يجب أن يعاد النظر فيه مرة أخرى وفي رأيي أنها إرهاق.
نعم من حق الممول أن يؤجر هذا البيت، ولكن المقصود بذلك الوفاء بحاجة هذا الإنسان المحتاج للمسكن، فإذا ألزمناه بدفع الأجرة وألزمناه كذلك بأن يأتي بتحصيل المال لسداد الباقي من ثمن البيت فإني أعتبر أن في ذلك إرهاقًا كبيرًا جدًا. . هذه ملحوظات ثلاث.
أما في بحث الدكتور عبد الله إبراهيم فقد أشار إلى قضية هامة: تحديد مقدار الربح المضاف إلى قيمة التكلفة وكيفية حسابه، فأعتقد أن هذه قضية مهمة أرجو أن تدرج في أبحاث المجمع القادمة. وشكرًا(6/89)
الدكتور على محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الواقع أن كثيرًا مما كنت أريد أن أقوله قد سبقني إليه الأساتذه خاصة الدكتور عبد السلام العبادي والدكتور رضا والدكتور الزحيلي، خاصة حول بحث الأستاذ القاضي العثماني، ولذلك يمكن أن أعلق على بعض التعليقات البسيطة المتواضعة على بحث أستاذنا الجليل فضيلة المفتي.
فضيلة المفتي أشار أو أراد أن يكيف مسألة البنك العقاري على أنه يقوم بمشروعات استثمارية، بينما نصوص البنوك ونص هذا البنك كذلك ينص على أن البنك لا يستثمر أمواله مباشرة، كما هو في المقدمة ذكر فضيلته في الهدف بأن البنك أساسًا – هذه أهدافه – للبنك في سبيل تحقيق أغراضه القيام بما يأتي:
منح القروض.
قروض أو تسهيلات.
حقيقة وظيفة البنك كما هو منصوص عليه في جميع الدول بالنسبة للبنوك الربوية ليس من وظيفتها ولا من أهدافها الاستثمار، وإنما القروض وبفوائد معينة، ومن هنا ما قاله فضيلته من أنه لا يرى بأسًا في إباحة ما تأخذه إذا كان هناك شروط، وشرط حقيقة عدة شروط – جزاه الله خيرًا – لكن ما اشترطه من شروط، وهو أن يكون يقدره العدول وما أشبه ذلك شيء والواقع الذي يسير عليه البنك العقاري المصري شيء أخر. فالبنك العقاري المصري حسب معلوماتي عن هذا البنك وغيره، ينص على نسبة معينة، بينما لو كانت القضية قضية العمولة حسب العمل فلا بد أن تكون على قدر العمل وليس على قدر المال، فقد تكون عملية وصفقة واحدة عدة ملايين فحينئذ لا يجوز أن يأخذ البنك عليها إلا بمقدار معين بينما الواقع أن البنك يأخذ عليها مقدارًا نسبيًا محددًا.
ومن هنا حقيقة لا بد من توضيح هذه المسألة لأن القارئ العادي يفهم من هذا البحث أن فضيلة الشيخ ركز على تكييف لما يدور في البنك أو المصرف المصري العقاري ولم يرد أن يعطي لنا بديلًا إسلاميًا لما يمكن أن يقوم عليه التنوير بالنسبة للشريعة الإسلامية، فنرجو من فضيلته توضيح ذلك سواء كان في بحثه أو سواء كان في مداخلاته، لأن الموضوع منصب على ما يقوم به هذا البنك من ثلاث وسائل.(6/90)
ومن هنا أكرر وأثني على ما قاله الأستاذ الدكتور الزحيلي من أنه لا ينبغي لنا أن نظن الظن الحسن بالبنوك مطلقًا ولا سيما بالبنوك الربوية بل إن هناك بنكًا يسمي نفسه بالبنك الإسلامي ومع ذلك يلاحظ كل إنسان في قضية هذه المسألة في كل سنة يجدد نسبة معينة حسب الأرباح والفوائد الدورية، فالقضية لابد أن لا نحسن الظن في مثل هذه الأمور وعلينا أن ندرس الواقع دراسة صحيحة، وبالإضافة إلى ذلك نأتي بالبديل.
هذا بالنسبة لهذا البحث الجليل.
ثانيًا: بالنسبة لقضية (اشترط فيه ألا تكون الفوائد باهظة أو مضاعفة) – فما أدري يعني إن شاء الله هو طبعًا بالتأكيد ليس من أنصار أن يكون هذا القيد له مفهوم مخالف ويكون على مذهب الحنفية الذين لا يعتبرون ولا يقولون بمفهوم المخالفة – فهل يعني ذلك أنه لو كانت الفوائد بسيطة هل يجوز؟ هذا سؤال في الحقيقة موجه إلى فضيلة المفتي.
شيء آخر بالنسبة لما أشار إليه الدكتور عبد الله فعلًا كما ذكره الدكتور عبد السلام وأنا أيضًا أقول الإقراض برسم التمليك يمكن تكييفه بأنه حرام ويمكن كذلك تكييفه بأنه حلال على صورة العقد الذي يجرى. فمن هنا يمكن إطلاق القول بالحرمة يعني أنه ليس دقيقًا، والذي أريد أن أصل إليه أننا في الواقع نريد في كثير من الأحيان والأحوال أننا نرقع بعض الأحوال الموجودة، بينما في مثل هذه التجمعات يجب أن تتجه أنظارنا إلى البديل الحقيقي للإسلام وليس ترقيع الصور – وردت إلينا من الخارج صور تقوم بها البنوك الإسلامية – ولاسيما مع متطلبات الصحوة الإسلامية وإقامة نظام اقتصادي عادل، فإقامة هذا النظام الاقتصادي العادل يجب الآن أن ننتهي من قضية الانبهار والاندفاع وإنما ننتقل إلى مرحلة البناء والهجوم الفكري إن صح التعبير، فهذا حقيقة ما أرجو من أصحاب الفضيلة ووفق الله الجميع لخدمة دينه، وسلام عليكم، ومعذرة للإخوة إذا كنا قد أسأنا الأدب.(6/91)
الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحل الثاني في بحث الدكتور القاضي محمد تقي العثماني عن الطرق المشروعة للتمويل العقاري استحوذ على اهتمامي حقيقة لأمور عديدة:
أولًا: أن الشركة المتناقصة تتوافر فيها جوانب عملية مقبولة من قبل البنوك وليس لهذا أثر كبير في موضوع الحكم وإنما على الأقل الطرف الثاني يكون الحل له مقبولًا ومعقولًا، وذلك الشركة المتناقصة. وتحليل هذه الشركة موجود عندنا في الورقة إنما الشيخ القاضي تقي العثماني حلل هذا العقد أو هذه الشركة إلى ثلاثة أمور: العقد الأول إحداث شركة الملك، الثاني إجارة حصة الممول، الثالث بيع سهام متعددة من حصة الممول إلى العميل. التحليل هذا قد يكون مقبولا عنده إلا أن الثالث بيع السهام المتعددة وإجارة حصة الملك هذا أمر ضروري من أمور الشركة، وهو إذا كانت هناك شركة فلابد فيها من استثمار، هذا الاستثمار سواء كان عن طريق استثمار المنفعة أو عن طريق الربحية، والربحية هذه سواء كانت بصورة تأجير أو بصورة أخرى.
إذن أنا أعتبر هذا العقد هو عقد شركة ملك فحسب، وأما التحليلان الآخران فأظنهما من ضروريات هذا العقد، لأنهم إذا تملكوا هذا المال واشتركوا فيه لا يريدون أن ينظروا إليه فقط وإنما يريدون أن يستثمروه والاستثمار بأي عقد من العقود وإلا دخل علينا المحظور الذي قال عنه بأنه هو عقد بيعتين في بيعة أو أكثر من عقد، ثم مما يحرر هذا الكلام لو افترضت تنزلًا مع القاضي العثماني بأن فيها هذين الأمرين: إجارة حصة الممول – وهو من ضرورة شركة الملك – وبيع السهام، وهو من ضرورة الشركة، فهناك قاعدة ذكرها الإمام الشافعي " إذا تم العقد صحيحًا فلا يفسده شرط باطل قبله ولا بعده، وإذا تم العقد فاسدًا فلا يصححه شرط صحيح قبله ولا بعده " وأظن أن هذا يساعدنا كثيرًا في موضوع الشركة المتناقصة وفي هذا الحل.
ثانيًا: لو افترضنا تنزلًا مع الشيخ القاضي العثماني بأن هذا العقد يتضمن هذه الأمور الثلاثة – وأنا أخالفه في هذا – فالأمران الأخيران هما ضروريان للشركة وليست أشياء خارجة، إذا كان فيها بيع أسهم فلا أدري هناك قاعدة فقهية أخرى – ولا أظن أننا نستطيع أن نتوسع في هذا – " لا تلزم الوقاية مما لا يمكن التوقي منه "، فإذا كان عقد شركة الملك يوجب تأجيرًا – وهو استثمار مباح – وبعد ذلك هذا الإيجار مع ما أتى به من ربح يوزع بين الاثنين، ثم بعد ذلك يعطى صاحب الشركة جزءًا من قسطه فهذا لا يلزم التوقي منه، إذا كان هذا التحليل ضروريًا ولا أرى أنه ضروري فهو يدخل تحت هذه القاعدة " لا تلزم الوقاية مما لا يمكن التوقي منه " وشكرًا.(6/92)
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم
أريد أولًا أن أعلق على مسألتين ذكرهما الدكتور وهبه الزحيلي:
الأول: موضوع شركة الملك وقد أغناني الدكتور عبد الستار، ولكن أريد أن أضيف إليها شيئًا قليلًا إلى ما قاله الأخ عبد الستار، فالدكتور وهبه يقول إن شركة الملك هي شركة جبرية، هذا ليس شرطًا في شركة الملك، قد تكون جبرية وقد تكون اختيارية، تكون اختيارًا كما في المثال الذي أورده القاضي العثماني، أرضًا فأصبحت بينهما شركة ملك، وتكون جبرية إذا ورث أخوان أرضًا – هذه شركة جبرية – أما شركة الملك الاختيارية فهي اشتراك طرفين بماليهما وعملهما على أن يشتريا ويبيعا ويكون الربح بينهما مناصفةً أو أثلاثًا، فالفرق واضح بين الأمرين.
أنتقل إلى النقطة الثانية هي النقطة المهمة. الدكتور وهبة الزخيلي أضاف بديلًا إلى ما ذكره القاضي العثماني وهو القرض بفائدة للمضطر، وهذا لا يدخل في موضعنا بتاتًا، أحكام الضرورة معروفة (الضروريات تبيح المحظورات) فإذا كان شخص إذا لم يقترض بفائدة يهلك أو يقارب الهلاك، وأضيف هذا: الضرورة ليس شرط فيها أن يتأكد من الموت، لا، حتى ولو اعتقد أنه سيقارب الهلاك يجوز له أن يقترض بفائدة لمسكن، لأكل، لأي شيء، على أن تحكم الضرورة، في حالة المسكن قد يكون بعيدًا بعض الشيء، لكن الذي أريد أن أقوله هو أن هذا المثال لا دخل له بموضوعنا لأننا نريد بديلًا شرعيًا بالنسبة للمقترض وللمقرض، وليس للمقترض فقط. فلابد أن يكون هذا البديل جائزًا أيضًا بالنسبة للممول، فكيف تتطور الضرورة في حالة الممول؟ ممكن أتصورها أنا في حالة العميل، هذا في المقترض، لكن سيقترض مِنْ مَنْ؟ فهذا لا يمكن أن نتصوره في حالة الضرورة، ولذلك فهذه النقطة ينبغي أن تحذف إذ لا محل لها كبديل، البديل الذي يمكن أن ينظر فيه هو ما قاله الشيخ الطنطاوي بالنسبة لموضوع القرض أو غيره على أن يتحمل هو (المشترط هذا) يتحمل.(6/93)
الأخ العثماني البدائل التي ذكرها، المسكن الذي يراد التعامل فيه قد يكون مملوكًا للممول، فإذا كان مملوكًا له صار طريقه التي لا شبهة فيها هي أن يبيعه بالتقسيط لمن يطلبه، وهذا ما قاله الدكتور العثماني. ويمكن هذا البيع أن يكون مساومة من غير اعتماد على رأس المال ويمكن أن يكون مرابحة بأن يقول له الممول: هذا المنزل كلفني مائة ألف وأبيعه لك بزيادة عشرة في المائة أو عشرين في المائة، هذا لا شبهة فيه في رأيي، ويمكن أيضًا أن يكون إجارة منتهية بالتمليك، وهو المنزل المملوك للممول، أجره لطالبه وجعل له الحق في أن يشتري هذا المنزل أو جزءًا منه في أي وقت يشاء لكن على أن يكون العميل بالخيار في الشراء، ليس هناك التزام من الجانبين، يكون العميل بالخيار ويشتري بسعر الوقت الذي يريد الشراء فيه، يعني في أي وقت أراد هذا العميل أن يشتري له أن يساوم الممول صاحب المنزل ويتفقا على شراء المنزل كله أو جزء منه، ربعه أو عشره، حسب استطاعة العميل. أما لو دخل من أول الأمر كما قال الشيخ العثماني وأصبح التزامًا من الجانبين، فإن هذا لا يجوز في رأيي واعتماده على مذهب المالكية غير صحيح، وقد تطرقنا لهذه المسألة في المرة الماضية، فالمالكية لهم قاعدة واضحة في هذا، هم يقولون: إن الوعد من طرف واحد ملزم، أما مثل هذه الحالة فيسمونها " المواعدة "، والمواعدة عندهم لا تجوز فيما لا يجوز إنشاؤه في الحال، فهذه لا تصح في مثل هذه الحالات، لا في هذه الحالة ولا في الحالة التي بعدها، يعني كل الأحوال التي ذكرها الشيخ العثماني واستدل عليها بمذهب المالكية غير مقبوله عندي.(6/94)
الحالة الثانية أن يكون المسكن غير مملوك ويطلب منه العميل شراء المنزل وبيعه له، هذه هي طريقة بيع المرابحة للآمر بالشراء بشروطها التي اتفقنا عليها في الاجتماع السابق، ويمكن أن تكون شركة منتهية بالتمليك، العميل عنده بعض المال يشتريان سويًّا المنزل – شركة ملك كما قال الشيخ العثماني – ثم يعطيه شريكه – الذي هو الممول – يعطيه الحق في أن يشتري أيضًا أي جزء يشاء من نصيبه في أي وقت شاء بالثمن الذي يتفقان عليه من غير إلزام على هذا العميل، وهنا أيضًا الإلزام غير ممكن هذه صورة.
هناك صورة أيضًا هي أن تكون الأرض مملوكة للعميل ويريد البناء عليها، وهذه حادثة واقعة عندنا في السودان ومعمول بها، الإنسان قد يكون عنده الأرض لكنه لا يستطيع البناء فيذهب إلى البنك أو الممول، وهذه ليس لها طريقة سوى الاستصناع، فمع التوسع في مفهوم الاستصناع وعدم حصره في الدائرة الضيقة التي وضعه فيها الحنفية يمكن أن نعتبر بناء المساكن منه، وصورته أن يقدم للبنك الخارطة، ويقول: أريد البناء على هذه الأرض بهذه الصفقة ويتفقان على الثمن مقدمًا، لابد من الاتفاق على ثمن البيع، لا يصح أن يقول له البنك: أبيعه لك بثمن التكلفة زائدة عشرة في المائة، هذا لا يجوز لأن الثمن مجهول، لابد من العلم بالثمن وقت عقد الاستصناع فالممول يعمل هو حسابه ويرى أرباحه وكم يكلفه ويضع عليه الأرباح ويقول له: سأبني لك هذا المنزل بهذه الصورة بمبلغ مائتي ألف ريال مقسطه والاستصناع لا يشترط فيه، ليس كعقد السلم وإن كان هو شبيهًا به في أن المبيع مؤجل لكن لا يشترط فيه أن يكون الثمن حالًّا فيمكن أن يكون بالتقسيط، وهذه هي التي حلت المشكلة بالنسبة للبنوك العقارية التي كانت تقرض بفائدة، هذه هي الصور التي أرى أنها مقبولة ولا اعتراض عليها، وشكرًا.(6/95)
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
بالنسبة للبحوث التي سمعناها بحوث كلها قيمة وكلها تحتاجها المصارف الإسلامية أو المصارف العادية التي تريد أن تنهج النهج الإسلامي. وأود أن أبين بأنه بالنسبة للبنوك العقارية فإنها لا تقوم في موضوع الخدمات، بمجرد خدمات وتأخذ مقابلًا فقط على ما تقوم به من خدمة إنما هي إذا أخذت بمسمى الخدمات تنظر إلى القرض المالي وإلى المدة، فالتسمية في الحقيقة لا تقلب المواضيع، البديل الذي قاله الشيخ الضرير الآن بالنسبة إلى أن البنوك تقوم بالخدمات، هذه بنوك مخصصة إذ يجوز أن تخصص الدولة بنوكًا لهذه الخدمات، فالدولة يمكن أن يكون عندها بنك ويريد أن يخدم الناس ويأخذ على الخدمة حاجة بسيطة وأما إعطاء الأموال كقرض حسن فهذا شيء في الحقيقة لا تدخل لي فيه، إنما البنوك العادية الخاصة حين تسمي هذه خدمات فالحقيقة هذا مسمى مغلوط ما هو حقيقي، إنما تلحظ – وإن سمّت ذلك خدمات، إنما تلحظ المال المقدم والقرض والفائدة للمال وليست الأجرة على الخدمات البنوك الإسلامية الآن تقوم في بيوع الأجل في الوقت الحاضر وهو المعمول فيه سواء عن طريق المرابحة أو عن طريق المساومة، والاستصناع أيضًا عند قيام البنك بالبناء.
عندي سؤال للشيخ تقي الدين وبودّي أن أسأله عن الملكية المتناقصة في السهم، هذا متى يحدد سعره، يعني متى يحدد سعر السهم؟ هذا السؤال الذي أحب أن أسأله، والحقيقة الآن بدر في ذهني توصية أود من المجمع الفقهي الإسلامي أن يوصي البنوك الإسلامية – يعني نحن ليست مهمتنا فقط إصدار الفتاوى بل يجب علينا أن نتابع هذه المصارف الإسلامية حتى لا تقع في الزلل عند الممارسة – فلو أن مجمع الفقه الإسلامي يوصي بالبنوك الإسلامية بما أنها أصبحت قوة اقتصادية فاعلة منتشرة في المعمورة وليست في البلاد الإسلامية فقط إنما هي منتشرة في المعمورة، يعنى أود أن يوصي مجمع الفقه الإسلامي بأن يكون في كل بنك إسلامي فقيه يوجه ويراقب ويدقق في إجراء العمليات حتى لا يقع بالبنك الإسلامي في الزلل والخطأ، وشكرالله لكم.(6/96)
الشيخ محمد المختار السلامي:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
هذه من المشاكل أو من القضايا التي جاء بها العصر نتيجة أوضاع الانفجار السكاني أولًا، وثانيًا العقلية الجديدة التي أصبحت للفرد وفي العائلة الجديدة من الاستقلال، وثالثًا الإمكانات المادية للدول الإسلامية التي هي إمكانات ضعيفة فهي لا تستطيع أن تلبي حاجات المسلمين وأن تعطي لكل عائلة سكنًا، وحل هذه المشكلة يقع على صورتين:
الصورة الأولى: وهي بناء مساكن كثيرة وكراءها، وهو أمر اتخذه كثير من الناس وكثير من الشركات وكثير من البنوك تبني وتكري أو أن يرغب الإنسان – وهي رغبة أكيدة عند كل إنسان – أن يكون له سكن خاص. وقد أردت بهذه المقدمة أن أبين أن الحل ليس فقط هو أن الناس ليسوا في ضرورة تامة إلا أنه لابد من الملك، فالملك هو رغبة، رغبة في تحسين الحال وليست رغبة ضرورية.
ما تفضل به الشيخ تقي الدين العثماني من عرض عدة صور لحل هذه المشكلة المعروضة، هذه الحلول لابد أن ننظر فيها، ليس فقط من الناحية الشرعية وحدها، ولكن لابد من أن ينظر إلى القوانين الموجودة في العالم الإسلامي، وأعني بهذه القوانين التي تقرها الشريعة كقانون، أنه لابد أن يكون كل عقد من العقود مؤثقًا ومسجلًا، وأن الأرض لا يمتلكها الشخص إلا بعقد مسجل ولا تنتقل من شخص إلى شخص آخر إلا بعقد مسجل، فهذه هي واقعة حقيقة لا بد من أن ينظر الفقيه فيها وأن يكيف فتواه حسب ما هو موجود في العالم الإسلامي.
وبناء على ذلك، فإن البيع (الصورة الأولى) وهو البيع المؤجل مقاصة إما مع بيان الربح أو مع بيان النسبة الزائدة في الربح أو بيع صفقة واحدة بدون معرفة أصل ثمن التكلفة والربح، فهذه مقبولة ولا ينبغي أن يقع فيها إشكال.(6/97)
كذلك قضية التأجير المنتهي بالتمليك، هي قضية واضحة، التأجير المنتهي بالتمليك وهو أن يتفق صاحب المشروع أو الممول والمستفيد من هذا المشروع يتفقان على أن القيمة الأصلية المعروضة قطعًا هي نتيجة تكلفة زائد الربح الذي يريد أن يربحه الشخص الباعث للمشروع ويتفقان على أن الصفقة واقعة ويأخذ المشتري العقار ويسكنه ثم يدفع أقساطًا هي إيجار، هذا الإيجار ينتهي بالتمليك. ههنا قضية التمليك: كيف تنتقل الملكية؟ وهي مشكلة، هل يجوز أن يكون القسط الآخر أخر قسط هو ثمن الملكية؟ فإن وضع العقار في ذلك الوقت غير معروف ولا يجوز أن يباع الشيء وهو مجهول، لأنه لا يستطيع أن يخلص من جميع الأقساط إلا بعد عشرين سنة، فكيف يكون حال العقار بعد عشرين سنة؟ ولذلك كان المخرج الذي اتفق عليه في كثير من المؤتمرات، هو أن يكون وعد بهبة، أن يعده بأن يهبه، فهذا ملك عند نهاية الأقساط، ويترتب على هذا قضية أخرى موجودة في العالم الإسلامي وفي قوانين العالم الإسلامي وهو أن كل نقل ملكية وإن كانت على طريق الهبة فلابد لها من رسوم، وهذه قضية أخرى أيضًا لابد من اعتبارها.
ولذلك أراد كثير من الناس أن يقع البيع من الأول، وأن تكون الملكية من أول الأمر باسم الشخص الباعث للعقار ويكون الرسم مرهونا عنده - عند باعث العقار - باسم الشخص الذي يؤجر وينفقان على الإيجار وينتهي في النهاية إلى التمليك بدون رسوم عقارية جديدة، وعلى هذه الطريقة لا أرى في ذلك مانعًا.
عندنا الاستصناع، هل الاستصناع حل بديل؟ أنا حسب ما أعرف من المذهب الحنفي أن عقد الاستصناع هو عقد ليس ملزمًا وللطرف أن يتخلى عن العقد، وعقد كهذا لا يصح أن يقوم عليه التعامل بين الباعثين وبين المستفيدين.
الأمر الذي أريد أن أؤكد عليه هو أن صورة العقد إذا كانت حلالًا بمعنى أننا استطعنا أن نكيفه تكييفًا شرعيًا، فينبغي أن لا يقع فيه خلاف لأن العقود إذا افترضنا أن تكون في صورتها حلالًا وفي بواطنها حرامًا وهو أن الشخص الذي قام بها يقصد الحلال في كل عملية من معاملاته وليس يتحايل على ذلك فإننا لا نصل إلى نهاية، لأن قضية الباطل هي قضية عند الله.
قضية جمع عقدين في عقد تكاثر الحديث عنه، وجمع عقدين في عقد أصله الحديث الذي روي ((عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن بيعتين في بيعة)) وتأويل هذا الحديث هو عند الفقهاء تأويل كثير، فالحنفية يئولونه تأويلًا والحنابلة يئولونه تأويلًا والمالكية يئولونه تأويلًا، وبذلك فإن جمع العقدين في عقد هي عقود خاصة نص عليها المالكية أنها لا تجمع، أما الإجارة فإنه يجوز جمعها مع البيع، وأما عند أشهب فهذه العقود كلها يجوز أن تجمع مع بعضها.(6/98)
قضية أن الضرورة قد تبيح للشخص أن يأخذ بالربا والتي أثارها فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي ثم عقب عليه الشيخ الدكتور الصديق، أعتقد أن ما ذكره الشيخ وهبة الزحيلي ثم ما ذكره الدكتور الضرير فيه نظر لأن الشيخ الضرير يفترض أنه لا يجود من يقرض بالربا لكن قد يكون الإنسان في حالة ضرورة ولا يجد من يقرضه بالربا، والقضية هي هل يعتبر بناء مسكن ضرورة من الضرورات؟ لأنه المندوح عنها هو في الكراء أولًا، وثانيًا ما جاء في الآية فلم يجعل القرآن البيوت هي فقط البيوت المسكونة المبنية الكاملة {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل 80] . فسماها ربنا سبحانه وتعالى بيوتًا، والإنسان إذا رغب في الحلال ليس مشروطًا عليه أنه لابد أن يبني بيتًا بربا، فالبيت يستطيع أن يأخذه بالكراء ويستطيع أن يأخذه بغير الكراء بطريقة أخرى، لكن كونه لابد أن يبني بيتًا وأنه في حالة الضرورة فإنما يكون ذلك في حالات نادرة لا تتجاوز واحد في المائة ألف من أن يكون مريضًا وحالته متعبة ولا يجد مالًا ولا يجد من يكريه ثم بعد ذلك نقول له: إذا كنت في هذه الحالة تخاف على نفسك هلاكًا لك أن تقترض بالربا إذ ذاك! فهي قضية لا ينبغي أن تذكر في الأصل في قرار المجمع، ولكنها قضية خاصة عينية تعرض على الفقيه فيجد لها حلًا إذا ما عرضت بعد عشرات الآلاف من المشاكل.
قضية مقابل الخدمات وهذا أمر خطير جدًا، لأن مقابل الخدمات كنت تحدثت عنه مع جماعة من إخواننا في أحد البنوك الإسلامية التي ترغب في التعامل بالحلال، ووجدنا أن مقابل الخدمات 2.5 % وهو القيمة الربوية التي يدفعها الياباني منذ ثلاث سنوات، ففي اليابان القيمة الربوية هي 2.5 %، ثم إنها رفعت الآن بعد تدخل أميركا إلى 4.25 %، فمقابل الخدمات حسب الحساب الذي قمنا به هو لا يتجاوز 0.90 %، فلابد أن يقال، إذا أردنا أن نأخذ هذا بقرار المجمع، ألا يتجاوز 1 % حتى يكون الأمر مضبوطًا وحتى لا يؤخذ من هذا ذريعة للوصول إلى الربا بطرق غير صحيحة.(6/99)
كلمة سمعتها كثيرًا، الفوائد الباهظة والفوائد المضاعفة وهذا حرام، هذه جاءتنا من الغرب فقبل أن تقوم المجموعات لحصانة المستهلك ما سموه بحصانة المستهلك من جمعيات وقوانين كانت الفائدة كلها تسمى فائدة (INTERET) ، بالفرنسية وبالإنجليزية كلمة تقابل هذا، فلما قامت جمعيات الدفاع عن حقوق المواطنين انقسم عندهم مفهوم الفائدة إلى قسمين إلى ما يعبر عنه (INTERET) ، إلى ما يعبر عنه (UZUR) ، فجعلوا أن الفائدة إذا تجاوزت المقدار الذي تحدده الدولة فهي من النوع المحرم الممنوع وإذا كانت الفائدة مما تحدده الدولة فهي فائدة وربا ولكنه عندهم حلال وجائز، فإذا أخذ بما جاء على لسان الغرب الذي يبيح الربا ووصف الربا عندنا بكونه ربا باهظًا وبكونه مضاعفًا إلى آخر ما جاء من الكلام فإذًا هذا انحدار إلى تصور غير إسلامي لأن التصور الإسلامي يقول: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . فكل مقدار زائد عن الحد الأصلي هو ربا حرام لا يجوز.
أما سعر السهم قد يكون الاتفاق على أن سعر السهم ثابت ويكون الكراء ما يتفق عليه، ويكون الربح الذي يريد أن يحققه الممول، ولا بد له من أن يحقق ربحًا وهو ما يتقاضاه من الكراء الذي يمثل ما دفعه والربح الذي أضافه، والكراء المنتهي بالتمليك على هذا الطريق أو الكراء المعين ثم الأقساط التي يدفعها المستفيد هو أمر جائز، فأرجو أن تأخذ لجنة الصياغة مجموعة الاحتياطات كلها والتصور الكامل لهذه القضايا. وشكرًا والسلام عليكم ورحمه الله.(6/100)
الشيخ خليل محي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لا شك أن سماحة الشيخ المختار عرج على أمر خطير، على البيوت التي أشار بأنها يمكن أن تكون بيوتًا في الظعن وفي الإقامة وربما غاب عن ذهنه أنه في كثير من البلاد حتى الظعن لابد له من إذن، ولا بد من استئجار أرض، فقد ذهبت أيام الظعن التي أشارت إليها الآية الكريمة، وحتى البيت الذي بالاستئجار، لقد وصلت الأمة في مستواها الاقتصادي إلى أن كثيرًا من الناس لا يمكنهم حتى أن يستأجروا.
الرئيس:
ذهبت في البعض يا شيخ، حتى نكون أدق في العبارة ذهبت في البعض وليس في الكل، القرآن ما نستدرك عليه.
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
نعم، إن هذا الاستئجار في كثير من الدول مُكْلِف، إن مشكلة الشباب في الزواج ليست مشكلة التملك التي يصبو إليها سماحة الشيخ إنها مشكلة الاستئجار وبينها وبين التمليك شوط بعيد.
ثم إن ما ذهب إليه فضيلة القاضي العثماني من البند الثاني في عقد التمليك والتنزل الذي وصل إليه لا شك أن فيه الحل المعقول ولا ضير فيه وأنه بسطه بسطًا كافيًا، والله أعلم، وشكرًا.(6/101)
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحقيقة أن ما كنت أريد أن أقوله قيل الكثير منه في تدخلات السادة العلماء.
المهم هو أن حديثي يؤيد ما دار في حديث الشيخ عبد السلام العبادي من أنه ينبغي على الدولة أن تكون هي الواسطة بين المستفيدين الذين يرغبون في الحصول على المنازل وبين الشركات التي تريد أن تبنيها، وأيضًا أؤيد ما قال إنه من أموال الزكاة يمكن في كل بلد من البلاد الإسلامية أن ترصد للأولويات ومن أهمها بناء المساكن للفئات المستضعفة، وعندما، وعندما نرجع إلى تفسير الآية الكريمة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ ... } إلى آخر الآية، عندما قال تعالى {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ} نجد أن الخلاف حصل بين جمهور العلماء ولكنهم حددوا حدًّا أدنى يمكن أن يعطى للشخص منه، منهم من قال: يكون له دار وجواد إذا كان من أهل الجهاد، ومكتبة إذا كان من أهل العلم، وخادم يخدمه، هذا يدلنا على أن الضروريات منها بيت للسكنى وأنه يمكن أن يعطى له من متحصل الزكاة، ثم عندنا هؤلاء الذين عبر عنهم بالمضطرين، وأنا أشاطر الأستاذ وهبة الزحيلي في كثير من تدخله لكني لا أشاطره في الضرورة الملحة لأن سيدنا عمر لما أتاه أحد الصحابة وقال له إني رجل أعرج ولا أستطيع الصلاة في المسجد فأمر واليه على العراق بأن يبنى له بيتًا بقرب المسجد حتى يؤدي الصلاة من قريب.
فالأضطرار هنا ينبغي أن لا يكون عاملًا على أن نهدر أحكام الربا والاستثناء لم يرد في القرآن، ولم يرد في السنة، فالحرب من الله أعظم مما يتساهل فيه حتى تكون الضرورة الملحة تبيح أن نبيح لهذه الشركات التعامل مع الأشخاص، أما فيما يرجع لعقود الإيجار والتي قيل إنه يمكن أن يكون آخر حصة منها هي التي تؤدي إلى تمليك العقار ولم تكن هناك وثائق موثقة، فهذا نوع من التحايل ونوع من بيع العينة التي قالت فيها عائشة لزيد: (أبلغي زيدًا أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فإذا لم ينظم العقار ويثبت في الوثائق الرسمية اليوم في مختلف أقطار العالم – وأؤيد ما قاله الشيخ المختار السلامي – فإنه لا يعتبر مملوكًا أمام المحاكم حتى ولو كان أدى ثمنه كاملًا، والدليل على ذلك أنه في حالة موت هذا الذي واعد بالتمليك عند نهاية القسط الأخير من مبلغ الإيجار تكون ورثته متحللة من هذا العقد، ومن يضمن لنا حسن نيته.
فالذي أريد أن أخلص إليه – وإن كان كلامي سبق أن قاله الإخوة – هو أنه في نظري يجب أن لا نفتح المجال للتعاقد بين ضعيف لا يملك شيئًا وشركة تمويل تحاول أن تربح على حسابه، بل ينبغي أن تكون الدولة هي المتدخلة في الموضوع حتى تحمي المعاملات التي تقع بين ضعفائها وبين شركات المساهمة من الربا. وشكرًا.(6/102)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أرى من بعض التدخلات التي أدركتها، أولًا: مسألة الوعد الملزم – كما قال الشيخ الضرير – هذا الوعد ليس موجودًا في المعاوضات عند المالكية وإنما الوعد الملزم هو بتبرعات أكدتها للشيخ العثماني ولكن اعترفت بأن الفروع التي نقلها عن ابن عابدين قد تكون سندًا صالحًا ووافق على ذلك، فقضية الوعد الملزم أرجو أن يبت فيها وألا تبقى دائمًا حجة وليست بحجة.
في مسألة الزيادة مقابل خدمات لا أضيف الكثير على ما قاله – أبو مقبل – أحمد بازيع الياسين وهو أن هذه البنوك ليست بنوك خدمات، الفتوى كانت في بنك التنمية الإسلامي على ما أذكر، وكان بنك التنمية الإسلامي لا يربح بمعنى أن الممولين لا يتلقون ربحًا , فإذا كانت هذه البنوك العقارية لا تتلقى ربحًا , وإنما تقوم بخدمة المجتمع وفي نظير هذه الخدمة توظف رسومًا ولا تربح، معناه أن رأس المال لا يزداد، يمكن أن ينظر في هذه القضية. إني أخاف كثيرًا من أن تصدر من مجمعنا فتوى بهذا الصدد يمكن أن تفسر تفسيرًا خاطئًا وأن تفتح بابًا للربا، أعتقد أن مجمعنا لا يريد أن يفتحه وأن النوايا – إن شاء الله – طيبة.
مسألة ثالثة: مسألة الضرورة، كما قال الشيخ الضرير، ليست واردة في مسألة المساكن إلا بعسر، والضرورة كما قال: هي الأمر الذي إذا لم يرتكبه المضطر أو إذا لم يستعمله في الأطعمة هلك أو قارب الهلاك، ما سوى ذلك فإنه من باب الحاجة، والصحيح أن الحاجة لا تبيح محرمًا كما قال الشافعي رحمه الله تعالى: " الحاجة لا تبيح أخذ مال الغير " هذا هو الصحيح وإن كان ابن نجيم والسيوطي فرَّعَا في قاعدة مستقلة بعد أن ذكرا أن الحاجة لا تبيح حرامًا، فرَّعَا على أن الحاجة العامة أو الحاجة الكلية قد تنزل منزلة الضرورة، والمالكية لهم قولان في ذلك، قال صاحب المنهج
" تبيح محظورا ضرورة كما
لذي اضطرار وخلاف علما
فِي كسفاتج ربا وسائس
بسالم وأخصر بيابس"
إلا أنهم افترضوها في مسائل محدودة كمسألة الذي يريد أن يسافر فيأخذ من دار الضرب دراهم أو دنانير ويعطيها تبرًا. إذن الحاجة لا تبيح محرمًا، هذا هو الأصل الذي يجب أن يعتد به.
سمعت كلمة من الشيخ العبادي وهي مسألة الأخذ من الأغنياء للبناء للفقراء، هذه أيضًا تسير في هذا النسق – لا أقول اشتراكي – ولكن النسق الذي يريد أن يساعد الفقراء ولكن أعتقد أن نظرة المسلمين يجب أن تكون نظرة شاملة لسد خدمات الفقراء، بإنشاء المشاريع الكبيرة وبتشغيل العاطلين حتى نجد حلولًا جذرية للفقر، أما أن نأخذ من مال الأغنياء غير الزكاة لبناء مساكن، هذا لا أعرفه جائزًا وأعتقد أنه لا ينبغي أن يصدر عن مجمعنا هذا، وشكرًا.(6/103)
الشيخ محمد على التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا سيدي الرئيس. هناك بعض النقاط أقولها بكل اختصار:
النقطة الأولى: الحقيقة لكي نخرج من مأزق التحايل على الربا علينا أن نوضح العرف الذي هو المقياس في تعيين مصاديق المفاهيم، علينا أن نوضح الفرق بين هذه الصور المعقدة وبين العملية الربوية، وإلا وجدنا العرف يوسع مفهوم حرمة الربا القرض الربوي لتشمل هذه العقود أيضًا رغم أنها بشكلها الموجود ليست قروضًا ربوية، ومن هنا فالذي أعتقده لكي نوضح أمام العرف أن الربا غير موجود في حقيقته ولا في شبهته، علينا إما أن نحذف عنصر الإلزام بالوعد حتى ولو كنا ممن يؤمنون بإمكان الإلزام في الوعود المحضة، ومع ذلك عنصر الإلزام يجب أن يحذف حتى يتأكد العرف أن العملية عملية تبعد عن الربا، وكما قلت العرف هنا يشخص لنا المصداق وليس كما تصور البعض للتشريع، هو يشخص لنا مصداق الأمر وطبعًا إذا حذفنا الإلزام يقل إقبال الممولين على مثل هذه العقود ولكن الهدف الإسلامي يبقى هو الأصل ويكون لكل منهما حقه الاختياري حين إجراء كل عقد، يعني حين إجراء العقد التالي يكون لكل منهما – للممول والعميل، كما عبر سماحة الشيخ العثماني – الحق في أن يقدم على هذا العقد أو لا يقدم، أو أن علينا إبقاء الفواصل الزمنية بين هذه العقود والالتزام بكل مقتضياتها، فإذا اشترى العميل العقار بالوكالة وكان هناك فاصل زمني معقول وتم التلف كان ذلك من ملك الممول أو البنك الذي دفع هذا المال وحينئذ فهناك فارق عرفي معقول بين هذه العملية والعملية الربوية، أما أن نرتب عقودًا كثيرة ونطيل الطريق، فالحقيقة هي أننا نقوم بعملية ربوية ولكن نطليها بطلاءات معقدة حتى تخرج عن حرمتها، الظاهر أننا نسير في هذا السبيل.(6/104)
النقطة الثانية: ألاحظ أن هناك إبهامًا كبيرًا في قاعدة " بطلان البيعتين في بيعة "، في مفهوم هذه القاعدة وبالتالي في مصاديق تحقق هذه القاعدة، وهل تشمل كل شرط في العقد؟ هل تختص بالشرط العقدي؟ هل تتجاوز حدود البيع إلى كل عقد؟ هل لنا الحق بإلغاء خصوصية البيع والتوسع لكل عقد؟ لذلك أقترح، والبحث مبنائي ومؤثر ونلجأ إليه دائمًا في استدلالاتنا، أقترح أن يطرح كبحث مستقل في هذا المجمع لتعرف حدود هذه القاعدة حتى لا نقع في التطبيقات التي توجب الكثير من التساؤلات.
النقطة الثالثة: أؤيد سماحة الشيخ السلامي في قضية بدل الخدمات، أعتبر أن هذا الطريق طريق وعر وطريق خطير، ويمكنه أن يبرر الكثير من الربا، صحيح أن بدل الخدمات أمر صحيح ولكن يجب أن يحدد طبعًا لا بالحد الرقمي الذي اقترحه فضيلة الشيخ السلامي وإنما بالحد الذي لا يشتبه العرف بربويته. نحن عندما ناقشنا قضية هذا البنك الذي كان يأخذ 2.5 % كبدل خدمة عندما قلنا له ما هي الأموال التي صرفتها في الخدمات؟ هو بيَّن هذه الأموال، وما هي القروض؟ أيضًا بيَّنها، عندما قُسِّمت تبيَّن لنا أنه – كما تفضل - 0.90 %، أيضًا اللجنة اقترحت على البنك أن ينزل إلى حد النصف بالمائة، حتى يتأكد العرف من أن هذا البدل هو بدل خدمات وليس ربا، وهذه نقطة مهمة جدًّا.
النقطة الرابعة: التي أؤكد عليها هي أن الدولة الإسلامية – طبقًا لنصوص لدينا – عليها أن تحقق حد الغنى لكل فرد، يعني هذا هو الهدف الأقصى لها في المجال الاقتصادي، حد الغنى، تعطيه حتى تغنيه، فحد الغنى هنا يعنى حد الاكتفاء الطبيعى للفرد، والاكتفاء الطبيعي بلا ريب يشمل المسكن الطبيعي، ولذلك على الدولة أن توفر هذا المعنى من الزكاة وإن أمكن من الأنفال، وكل الأموال التي تدخل في ملك الدولة وهي في الواقع ملكية عامة والدولة تنوب بها عن الشعب، وإذا لم يمكن ذلك فإن ذلك يصبح مبررًا لضرائب علمة يمكن أن تسنها لتحقق هذا الاكتفاء – طبعًا – مع ملاحظة النمو الاقتصادي العام، وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله.(6/105)
الدكتور عبد الله الركبان:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابة أجمعين.
لدى بعض الملاحظات. أولًا: أود أن ألفت نظر رئيس المجمع والمسئولين إلى أن تأخر البحوث حال بيننا وبين قراءتها قراءة فاحصة فضلًا عن استيعابها، وأظن أن ذلك ينعكس على تصورنا للموضوعات وما قيل عنها تصوُّرًا جيدًا، ومن ثم تكون المناقشات في الجملة يغلب عليها السطحية.
الأمر الثاني: أود أن أثني على ما تفضل به الدكتور العبادي حول ضرورة التركيز على موضوع البحث بالذات وغض النظر عن الاستطرادات لأنها تضيع فائدة الموضوع.
جانب آخر واقع ولفت انتباهي كثيرًا وهو لا شك ينبع من حرص الذين تكلموا هو أنهم يجنحون كثيرًا على الأخذ بالأحوط، الأخذ بالأحوط أمر جيد والذمة تبرأ به، لكن ذلك لا يؤدي إلى حل المشكلات التي أنشئ المجمع لحلها، وتتطلع الأمة الإسلامية إلى حلول آنية للمشاكل التي تعايشها، وما يقوله البعض من أننا ينبغي أن ننطلق من منطلق إسلامي كامل وأن نأتي بنظام اقتصادي كامل، هذا هدف عظيم والكل يسعى إليه، لكننا ينبغي أيضًا أن نتعامل مع الواقع وأن ننظر إلى حلول مرحلية وهذا لا يمنع أبدًا من أن نعمل في نفس الاتجاه لنعدّ اقتصادًا إسلاميًّا كاملًا، هذا من جانب.
من جانب آخر، وهو يتعلق بما تفضل به الدكتور العثماني حول الوعد الملزم، أو أخذ بوجهة المالكية وقال إنهم يرون أن هذا الوعد ملزم، أو أن بعضهم يرى ذلك، فقد تكلم عنه الدكتور الضرير وتكلم غيره من أن ذلك لا ينصب إلا على التبرعات، أما المعاوضات فلا ينصب عليها، لكن مع ذلك بالنسبة لما تفضل به القاضي العثماني لم يبين وجه ترجيحه لهذا القول، هذا لو فرضنا أنه ينطبق على المعاوضات، ثم ما الفرق بينه وبين الربا ما دام ملزمًا وما دام أن النسبة قد حددت وعلمت؟ . وشكرًا.(6/106)
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع ما وددت أن أقوله قد تكلم عنه كثير من إخواني ممن سبقوني بالكلام ولكن لي كلمة بسيطة أذكرها بهذا الصدد.
أقول: نحن بصدد إيجاد نظام اقتصادي متكامل فينبغي في الواقع أن نلاحظ ما يلي:
إن بناء المسكن – كما ذكر الفقهاء رحمهم الله وبيَّنه أخواني من قبل – واجب من واجبات الدولة، ولا نغفل دور بيت المال في هذا المضمار، فينبغي مناشدة مؤسسات الدول الإسلامية ذات العلاقة المسئولة بتوفير السكن لكل من يحتاجه.
إن سوء توزيع الثروة في البلاد الإسلامية هو الذي أدى إلى حرمان كثير من الأفراد الذين يقطنون في بلاد فقيرة من أبسط حقوقهم وهو السكن.
إن البنوك الإسلامية المنتشرة في كثير من بلاد المسلمين تستطيع أن تقوم بمثل هذه المهام في حدود إمكانياتها، وكذلك بإمكاننا أن ننشئ جمعيات إسكان تتولى هذه المهمة على أساس التكافل الاجتماعي الذي دعا إليه الإسلام الحنيف وبيع تلك المسكن بأقساط معلومة مريحة لمن يحتاج ذلك، والله أعلم. وشكرًا.(6/107)
الدكتور رفيق يونس المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
إنني أعرض لنقطتين، النقطة الأولى: أود أن أقول إن من جملة صور التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها وتأمينها صورة ذكرها الفقهاء وهي الإجارة مع تعجل الأجرة، إجارة جزء من العقار مع تعجيل أجرته، أو إجارة أشياء أخرى يملكها هذا الشخص، هذه القضية من الناحية الشرعية لا أرى أي غبار عليها لكن ربما الذي يستحق البحث هنا في صدد هذا المقترح هو قضية مدة هذه الإجارة، مدة التعليل، وأن هذه المدة إذا طالت فإن الشخص ربما يلجأ إلى الشراء بدلًا من الاستئجار، هذه النقطة الأولى.
النقطة الثانية في بحث الأستاذ العثماني – جزاه الله خيرًا – هناك نقطة لم أجد أنه تعرض إليها وهي مهمة في الحكم الشرعي، فعندما تعرض إلى بيع السهام العميل عندما يريد أن يشتري سهام الممول، كأنني فهمت أنه يشتريها بحصتها من الثمن، والمقصود هنا بالثمن كما فهمته هو ثمن الشراء، ترى هنا أن المسألة مهمة لمعرفة الحكم الشرعي؟ هل الأمر يتعلق بتمويل أم يتعلق ببيع؟ أنا أرى أن الأسلم شرعًا والواجب شرعًا أن يكون البيع هنا بثمن السوق لا بثمن الشراء. وشكرًا.(6/108)
الدكتور بشار عواد:
بسم الله الرحمن الرحيم.
إخواني، سير المناقشات يسير باتجاه معين وهو ما يسمى بإيجاد الحلول للمشكلات التي يعاني منها المسلمون وتطرح الآراء، وفي هذا الاتجاه مخاطر حقيقية كبيرة، إذ إن الأخوة ينظرون إلى إيجاد الحلول في بعض الأحيان مما قال به بعض الفقهاء أو مما قال به بعض العلماء، ويستندون إليه ويستدلون بأدلتهم.
أعتقد أننا يتعين علينا في هذا المجمع الموقر أن نسير على المبادئ الأساسية، المبدأ الأساسي وهو أن هذا المجمع مؤسسة كبيرة وخوفي من أن تصدر بعض القضايا من المجمع مما يخاف أن يستدل به أو بما يستفاد منه مستقبلًا على حلية بعض القضايا ولا سيما في هذه القضايا الربوية التي يتطلع إليها أصحاب الأموال وكثير من المنتفعين بمثل هذه الأمور.
طرح قبل قليل القول بجواز الاستقراض بالفائدة عند الاضطرار مما نسب إلى الحنفية في بناء المساكن مثلًا، وهذا شيء كما تعلمون مما انفرد به الأحناف وليس لهم فيه سلف، ودليلهم الذي استدلوا به ليس بالقوي، ونحن نقول إذا كان هذا الضعيف المسكين الذي يستقرض لسبب مرضه أو بسبب عجزه كيف سيسد هذه الأموال؟ كيف سيقوم بسداد هذه الأموال التي يستقرضها إن كان ذلك صحيحًا؟ فريما بقاؤه على هذا الحال أفضل له من أن يستقرض ولا يستطيع السداد بعد ذلك.
هذه الفتوى أذكرها لأنه قد استغلت من قِبَل بعض الناس – عندنا كما أذكر في العراق في الخمسينات – حيث أفتى بعض ذوي المذاهب الفاسدة بجوازها عمومًا ومطلقًا وليس على المضطر، وحصلت فيها مشاكل كثيرة، حتى إن كثيرًا من المسلمين بدأوا يأخذون بهذه الفتوى ويستقرضون من البنوك الربوية لبناء مساكنهم وهم ليسوا بحاجة لهذا الأمر.
فرجائي أن يبتعد المجمع ابتعادًا كاملًا عن أي مجال يمكن أن ينفذ إليه لتحليل أي نوع من أنواع الربا، حتى ولو حددت هذه النسبة بنصف بالمائة أو بواحد بالمائة كما تفضل الشيخ السلامي، فهذا لا يجوز لأن هذا شيء قد حدد، مجرد التحديد هو ربا، فرجائي أن نبتعد عن ذلك ابتعادًا كاملًا وأن يبتعد المجمع عن كل ما فيه شبهة.
أقول إن الأخذ بالأحوط هو الأفضل ليس بالنسبة للفرد كفرد، ولكن بالنسبة لهذا المجمع، الأخذ بالأحوط هو الأفضل لأن هذا المجمع مسئول ليس أمام شخص أو شخصين بل هو مسئول أمام الأمة الإسلامية، فينبغي أن لا يصدر هذه الفتاوى إلا بعد دراسة وتمحيص، وصحيح أن هناك بعض الحلول التي ربما يجد الإنسان لنفسه العذر في ارتكابها أو في الأخذ بها لنفسه أو لبعض الحالات الخاصة ولكن لا ينبغي أن يصدر ذلك عن مجمع فقهي يمثل جميع الدول الإسلامية، نحن نقصد من ذلك أننا نريد حلولًا ناجعة نابعة من الفهم السوي للكتاب والسنة وأن نبتعد جهد المستطاع حقيقة عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتهويل الجاهلين. بكل صراحة نقول إن هذا المجمع ينبغي أن يكون حازمًا، لأن المرحلة التي نمر بها اليوم هي مرحلة عصيبة، هي مرحلة العالم كله يتغير فيها، ومما يتغير في هذا العالم تتغير المجتمعات العربية والمجتمعات الإسلامية، فواجب المسلمين الأخذ بالأحوط وإيجاد الحلول الإسلامية لكل مسألة من المسائل. نعم نحن مسئولون أمام الله أولًا ثم أمام المسئولين في دولنا بأن نقدم لهم ما هو متفق مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس ما هو متفق مع رأي فقيه من الفقهاء.(6/109)
الناحية الأخرى أعتقد أن هذا المجمع بحكم تكوينه كفرع متفرع من منظمة المؤتمر الإسلامي الممثلة لجميع الدول الإسلامية يتعين عليه أن يناشد هذه الدول الإسلامية بأن تعمل على حل هذا الإشكال، والحل بسيط وقد جرب في كثير من الدول، نحن لا نقصد بذلك الدول الغنية، ما تفعله الدول الغنية، لا يحتاج إلى دراسة ولا يحتاج إلى مساعدة وإن هذه الدول أنعم الله سبحانه وتعالى عليها بأن قدمت المعونات فجزى الله سبحانه وتعالى القائمين عليها بما وفروه للبلاد والعباد من الخدمات ولكن كيف تعمل الدول الفقيرة؟ إلا ما ينبغي أن يتوجه إليه المجمع باعتباره جهة فقهية، وأعتقد أن هناك حلًّا من الممكن أن يستفاد منه وهو البنوك العقارية التابعة للدولة، نحن نطالب كل دولة من الدول مهما كانت فقيرة الدولة حينما تكون فقيرة لا بد لها من أموال أن تضع في ميزانيتها مبلغًا ثابتًا من المال لا ينقص، يعني يبقى ثابتًا ولمرة واحدة، هذا المال يوظف لخدمة بناء المساكن ومساعدة المحتاجين فمن يستطيع أن يبني على نفقته فليبن، لكن هذا يكون للمحتاج المعسر الذي لا يستطيع أن يبني دارًا له وهو محتاج، وتستطيع الدولة أن تنشىء مصرفًا (بنك) لهذا الغرض يوضع فيه شيء من المال الثابت لا تأخذ عليه أي فوائد بأي شكل من الأشكال، هذا لا تعجز عنه الدولة بل نستطيع - نحن أيضًا - أن نناشد المسلمين المحسنين بأن يساعدوا البنوك عن طريقة أن يقرض هذا البنك قرضًا حسنًا لمدة معلومة من ماله ويعاد إليه ماله بعد ذلك وفي الحديث الصحيح: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، فنحن نستطيع أن ننهض بالهمم الإسلامية في نفوس كثير من الأغنياء بدلًا من أن نأخذ من مال الغني، لا يجوز ذلك بأي حال من الأحوال، هناك حدود وضعها الله سبحانه وتعالى على هذا المال ويعطي المال لمن يشاء لكن نستطيع أن نقول له يا أخي هذا أخوك في حاجة إلى مسكن نرجوك أن تتبرع بنصف مليون أو بربع مليون أو بعشرة دنانير أو بعشرين دينارًا في هذا البنك تسهم فيه تقول أضع هذا المال حسبة لله تعالى لمدة سنة أو سنتين أو ثلاث سنين لينفق على بناء هذه المساكن، وهذه المسألة سهلة ويسيرة، لماذا نحن نبتعد ابتعادًا؟ نحن نناقش القضايا التي تقام في الدول الإسلامية والدولة مهما كانت بعيدة عن التطبيق الإسلامي من الممكن أن تستجيب لطلب المسلمين في إنشاء مصرف لا يكلفها الكثير من الأموال، اليوم ميزانيات الدول بمئات وآلاف الملايين، ماذا يكون للدولة إذا وضعت مرة واحدة في حياتها عشرة ملايين أو عشرين مليون في مصرف ثم يساهم فيه المحسنون، لا يساهمون فيه من مالهم يعطونه عطاء نهائيًا بل يساهمون فيه لمدة معلومة.
قصدي من كل ذلك أن نبتعد عن إيجاد الحلول المبسطة وكأن الناس قد انتهوا وكأن المحسنين لم يعد منهم من يعين أخاه في شدته ((لا يؤمن أحدكم)) كيف يكون ذلك؟ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، يكون الإيمان – طبعًا – ناقصًا في هذه المسألة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ورجائي الأخير أن يبتعد المجمع عن هذا – لأننا نشعر فيه بخطر كبير – عند إصدار أي فتوى فيها أدنى شبهة فليصدر الأفراد منفردين، أما المجمع فرجائي أن يلتزم الالتزام الكامل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(6/110)
الدكتور درويش جستنية:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحقيقة أريد أن أتكلم في ثلاثة موضوعات: الموضوع الأول هو مسألة النظم العقارية، في كل دولة أو معظم الدول لديها بنوك عقارية تختلف أنظمتها من دولة لأخرى، وكما رأينا، في مصر كيف تكلم الشيخ طنطاوي عن الوضع هناك وحقيقة مسألة أن كل دولة لها نظامها، فكنت أود لو تمت دراسة مقارنة لهذه النظم في ضوء الالتقاء أيضًا بالبنوك الإسلامية، وقدمت للمجمع دراسة لنرى ما هي الأشياء التي يمكن أن نستفيد منها من كل نظام وبالتالي يمكن أن تعتبر موافقة للشريعة الإسلامية وتعتبر حلًّا للمشكلة.
فيما يتعلق بالبنك المصري – مثلًا البنك العقاري – في صفحة سبعة من بحث الشيخ مفتي مصر تكلم عن منح القروض، فإذن هي مسألة قروض ويقول في نفس الصفحة: " كما يجوز للبنك المشاركة في مشروعات التعمير والإسكان واستصلاح الأراضي في إطار الشريعة الإسلامية، ولم يبين ما هي الأطر في هذه الشريعة الإسلامية فكأنه أساسًا يقول إنها هي قروض والقروض تعلمون أنها بفوائد وأيضًا يجوز له، فإذن هنا في رأيي نوع من التفرقة.(6/111)
النقطة الأخرى التي أريد أن أتكلم فيها أيضًا الإقراض برسم التمليك وهي في صفحة خمسة في بحث الدكتور عبد الله إبراهيم وهذه أيضًا في نفسي منها شيء، في صفحة خمسة يقول: " إن الإقراض برسم التمليك أن المبالغ التي تدفع وتوضع في حساب خاص تستثمر لحساب المشتري وهذا تعقيد، أعتقد – أنا رجل اقتصاد – لكن علماء الشريعة يستطيعون أن يقولوا هذا الكلام، وإذا أنا دفعت له هذه على أنها أجرة فكيف يستثمر المبلغ لحسابه ويبيعني هذه الدار؟ إذن هذا نوه من التعقيد يجب أن ننظر إليه.
فيما يتعلق بالإقراض برسم التمليك، أيضًا تكلم الدكتور عبد الله إبراهيم عن تحديد الربح في صفحة سبعة وكأنه يقول إن للدولة أن تحدد أرباحًا في مشروعات معينة، وأنا أقول نعم ولكن ليس أرباحًا لكن خدمات كما يحدد بنك التنمية الصناعي السعودي خدمة معينة، كما يحدد بنك التنمية الإسلامي خدمة معينة، ولكن هذه الخدمة ليست ربحًا وإلا انقلبت إلى قرض وإلى فائدة ربوية، أما الربح على إطلاقه فهذه مسألة تتعلق بالعرض وطلب النقود بأموال المستثمرين، وأنا كأني أرى أن هناك خلطًا في أذهان البعض فيما يتعلق بدور الدولة، هل نحن هنا في المجمع نريد أن نقول ينبغي على الدولة أن تعمل مشاريع إسكان؟ لا، نحن نريد أن نقول شيئًا واحدًا إذا كان هناك تمويل، التمويل هذا يأتي من قطاع خاص، أكيد لأنهم هم الذين يبحثون فيما يتعلق بتشييد المشروعات العمرانية، صحيح، الدولة لها دور لكن كأني أنا في ذهني أن هنا المطلوب هو ما يتعلق بالقطاع الخاص، تشجيع الأموال على الدخول في مجال التنمية العقارية، هذا يتطلب أن يحسب الإنسان الذي يدخل في هذا المجال تكلفة رأس المال بالنسبة له وبالتالي يريد أن يوظف رأس المال على عشرين سنة، لابد أن يحسب التكلفة بحسب الأسعار الحالية والمتوقعة وبالتالي يخرج بنوع من النسبة المناسبة له في الربح ويدخل في المشروع، هذا فيما يتعلق بتحديد الربح، ونحن لا نستطيع أن نقول لأحد حدد ربحك بكذا أو بكذا.
فيما يتعلق أيضًا بمسألة البناء في أرض لا يملكها، يعني واحد يملك أرضًا ولا يملك التمويل الكافي يذهب لبنك، فالبنك كيف يعطي له، هل يعطي له قرضًا أو يبني له، البنوك لا تبني، البنوك العادية التجارية سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية لا تدخل في البناء ولكن تدخل في تمويل المشروعات.
فعندي حل اقترحته من البداية وهو أن نُكوِّن دراسة فيها صور لما يمكن أن يقبل وفيها صور للواقع الموجود في الدول الإسلامية، فأنا عندي حل: يتقدم للبنك ويقول له ابن لي بكذا حسب المواصفات وبعد ذلك أنا أستأجر منك هذا لمدة عشرين سنة أو لمدة خمسين سنة حسب الاتفاق فيعطيه ما يستطيع أن يبني به حسب الاتفاق وتكون الأجرة معروفة سواء يدفعها مالك الأرض أو أن مستأجرًا آخر يأتي ويستأجر الأرض، بمعنى أن هناك حلولًا عملية فلو تكونت بعض الأفكار نستطيع أن نقدم دراسة جيدة للمجمع.
وشكرًا.(6/112)
الرئيس:
في الواقع إن الوقت تجاوز بنحو نصف ساعة، ويوجد من الذين يطلبون الكلام والذين مقيدة أسماؤهم أحد عشر من أصحاب الفضيلة الأعضاء، فهل ترون أن نختم الجلسة
الأعضاء والخبراء:
موافقون:
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من خلال هذه المداولات ومجموع الأبحاث التي قدمت في موضوع التمويل العقاري لبناء المساكن تبين أمامنا ثماني صور، والصورة التاسعة التي أشار إليها الشيخ بشار، جائز أن تكون صورة تاسعة، وجائز أن تكون هي على سبيل المناشدة للدول.
الذي أحب أن ألخصه في هذا أن هناك ثلاثة صور: الصورة الأولى وهي البيع بالأجل أو البيع بالتقسيط هذه داخلة في إطار موضوع الجلسة المسائية، البيع بالتقسيط، الشركة المتناقصة، وبعض الصور كذلك داخلة في بعض جزئياتها تحت بحث المواعدة أو الوعد هل هو ملزم أو غير ملزم – وأذكركم بهذا بأن قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة المنعقدة في الكويت توصل في قراره إلى أن الوعد غير ملزم – وأما ما يتعلق بالإيجار المنتهي بالتمليك سبق أن صدر قراره المجمع الفقهي بذلك في قراره السادس في دورته الثالثة إضافة إلى هذا هنالك بعض الصور حصل حولها شيء من المناقشات وبعضها لم يحصل حوله شيء من المناقشات فيما يحضرني الآن لأنني لم أقيد حولها شيئًا إلا إذا كان فات علي.
النقطة المهمة هو أنه ينبغي أن يلاحظ في صياغة وإعداد القرار أن لا تكون الحلول نظرية وإنما يكون لها واقع عملي لمعرفة مدى إمكانيات أو الوضع للعالم الإسلامي ومدى انسحاب هذه الحلول وتطبيقها في دول العالم الإسلامي أو في بعض دول العالم الإسلامي، نظرًا لارتباط هذا الموضوع ببيع التقسيط في بعض صوره فقد ترون الموافقة على تأليف لجنة من كل من: الشيخ تقي العثماني، الشيخ الصديق الضرير، الشيخ المختار السلامي، الشيخ رفيق المصري، الشيخ العاني، الشيخ أحمد بن حميد. هل أنتم موافقون على هذا؟ هي صورة ثمانية التي تلخصت لدينا منها الاستصناع ومنها الإقراض برسم التمليك، وقلت أنا إنه جرى حولها مناقشات ولكن لم أذكر أعيانها إنما ذكرت الصور التي برزت في هذا الموضوع.
إذن تمت الموافقة على ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(6/113)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (52/1/6)
بشأن
التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها
إن هذا مجلس الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها)
واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
1-إن المسكن من الحاجات الأساسية للإنسان، وينبغي أن يوفر بالطرق المشروعة بمال حلال، وإن الطريقة التي تسلكها البنوك العقارية والإسكانية ونحوها، من الإقراض بفائدة قلت أو كثرت، هي طريقة محرمة شرعًا لما فيها من التعامل بالربا.
2- هناك طرق مشروعة يستغنى بها عن الطريق المحرمة، لتوفير المسكن بالتملك (فضلًا عن إمكانية توفيره بالإيجار) ، منها:
أن تقدم الدولة للراغبين في تملك مساكن قروضًا مخصصة لإنشاء المساكن، تستوفيها بأقساط ملائمة بدون فائدة سواء أكانت الفائدة صريحة أم تحت ستار اعتبارها (رسم خدمة) على أنه إذا دعت الحاجة إلى تحصيل نفقات لتقديم عمليات القروض ومتابعتها وجب أن يقتصر فيها على التكاليف الفعلية لعملية القرض على النحو المبين في الفقرة (أ) من القرار رقم (1) للدورة الثالثة لهذا المجمع
أن تتولى الدول القادرة على إنشاء المساكن وتبيعها للراغبين في تملك مساكن بالأجل والأقساط بالضوابط الشرعية المبينة في القرار (53/2/6) لهذه الدورة.
أن يتولى المستثمرون من الأفراد أو الشركات بناء مساكن تباع بالأجل.
أن تملك المساكن عن طريق عقد الاستصناع – على أساس اعتباره لازمًا – وبذلك يتم شراء المسكن قبل بنائه، بحسب الوصف الدقيق المزيل للجهالة المؤدية للنزاع، دون وجوب تعجيل جميع الثمن، بل يجوز تأجيله بأقساط يتفق عليها، مع مراعاة الشروط والأحوال المقررة لعقد الاستصناع لدى الفقهاء الذين ميزوه عن عقد السلم.
ويوصي:
بمواصلة النظر لإيجاد طرق أخرى مشروعة توفر تملك المساكن للراغبين في ذلك.(6/114)
قرار التأجيل للدورة السادسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (7)
بشأن
التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد عرض موضوع (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها)
قرر:
تأجيل النظر في موضوع (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) لإصدار القرار الخاص به إلى الدورة السادسة من أجل مزيد من الدراسة والبحث.
والله الموفق.(6/115)
بيع التقسيط
إعداد
فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
في النصوص الواردة من الشارع الحكيم
وأقوال الفقهاء المجتهدين الأولين
في بيع التقسيط
من نصوص التشريع:
قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} . [سورة البقرة: الآية 282] . ومعنى الدين البيع أو الشراء بأجل: من تداين: تبايع بالأجل.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى بالأجل: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير)) . [رواه مسلم] .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعامًا بنسيئة – أي بالأجل - ورهنه درعًا له من حديد)) [متفق عليه] .
من أقوال الفقهاء:
قال الإمام البغوي: (إذا باتّه على أحد الأمرين في المجلس فهو صحيح به لا خلاف فيه) انظر ص 142، مجلد 8: شرح السنة، للبغوي.
وقال الشيخ ابن قدامة: " وقد روي عن طاوُس والحكم وحماد أنهم قالوا " لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد كذا، والنسيئة كذا، فيذهب على أحدهما، وهذا محمول على أنه جرى بينهما بعدما يجري في العقد، فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا، فقال: خذه، أو: قد رضيت، ونحو ذلك، فيكون عقدًا كافيًا، فهم قد أجازوا هذا البيع حيثما تحدد الثمن ". اهـ. انظر ص 211، مسألة 3130 مجلد 4: المغني.
وقال الشيخ الشوكاني: " نقل ابن الرفعة عن القاضي أنه قال عن هذه المسألة: لو قال البائع: بعتك بألف نقدًا أو ألفين إلى سنة، قال القاضي: لو قال المشتري: قبلت بألف أو ألفين بالنسيئة صح ذلك ". اهـ. انظر ص 161 – 162، ج 5: نيل الأوطار.
وقال الإمام الترمذي (أبو عيسى) : " إذا قال البائع: أبيعك هذا الثوب بنقد عشرة، وبنسيئة بعشرين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحد منهما ". اهـ. انظر ص 533، حديث 1231: سنن الترمذي، مج 3.
وقال الإمام الأوزاعي عن البيع: " لا بأس بذلك، ولكن لا يفارقه حتى يباتّه بأحد المعنيين ". اهـ. انظر ص 739 – 740، مج 3: سنن أبي داود.(6/116)
مدخل
أولًا: الأصل في الثمن الحلول، وهذا متفق عليه بين الفقهاء في الجملة، فالثمن إما أن يكون عينًا أو دينًا في الذمة ثم الثمن بالدين يجوز أن يكون معجلًا وهو الأصل.
وأن يكون مؤجلًا. . .
والثمن المؤجل إما أن يكون إلى موعد معين لجميع الثمن، وإما أن يكون (منجمًا) مقسطًا على مواعيد معلومة.
ففي الثمن الدين يختلف الحكم في أدائه بحسب كونه معجلًا أو مؤجلًا أو منجمًا، فإذا كان مؤجلًا أو منجمًا يتعين أن يكون الأجل معلومًا للمتعاقدين على تفصيل في ذلك سأذكره إن شاء الله بالتفصيل المذهبي (1)
ثانيا: جاء جاء في مختار الصحاح: (النجم لغة: الوقت المضروب، ويقال: نجم المال تنجيمًا إذا أداه نجومًا (أقساطًا) والتنجيم اصطلاحًا هو (التأخير لأجل معلوم نجمًا أو نجمين) أو هو: [المال المؤجل بأجلين فصاعدًا، يعلم كل نجم ومدته من شهر أو سنة أو نحوها] .
فالتنجيم نوع من الأجل يرد على الدين المؤجل ويوجب استحقاق بعضه عند زمن مستقبل معين، ثم يليه البعض الآخر لزمن آخر معلوم يلي الزمن الأول وهكذا. . . وهو جائز في البيع إذا اتفق عليه المتعاقدان باتفقا الفقهاء ومن أبرز العقود التي برز فيها التنجيم الإجارة – وهي بيع المنافع استحسانًا – جاء في المغني أنه " إذا شرط تأجيل الأجر فهو إلى أجله، وإن شرطه منجمًا يومًا يومًا، أو شهرًا شهرًا، أو أقل من ذلك أو أكثر، فهو على ما اتفقا عليه، لأن إجارة الدين كبيعها، وبيعها يصح بثمن حال أو مؤجل، فكذلك إجارتها (2) . اهـ.
ثالثًا: تأجيل الدين: هو (مال حكمي يحدث في الذمة ببيع أو استهلاك أو غيرهما) .
وقد شرع تأجيل الدين بالكتاب والسنة والإجماع:
- أما الكتاب، فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [سورة البقرة: الآية 282] . فهذه الأية وإن كانت لا تدل على جواز تأجيل سائر الديون، إلا أنها تدل على أن من الديون ما يكون مؤجلًا، وهو ما نقصده هنا من الاستدلال بها على مشروعية الأجل.
- وأما السنة، فما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل، ورهنه درعًا له من حديد)) . [رواه مسلم، واللفظ له] . فهذا يدل على مشروعية تأجيل الأثمان. وقد أجمعت على ذلك (3) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية: 9/37 وما بعدها
(2) الموسوعة الفقهية: 2/7 وما بعدها
(3) الموسوعة الفقهية: 2/21 وما بعدها.(6/117)
وحكمة قبول الدين التأجيل دون العين: ما قرره الفقهاء من أن الفرق بين الأعيان والديون من حيث جواز التأجيل في الثانية دون الأولى: أن الأعيان معينة ومشاهدة، والمعين حاصل وموجود، والحاصل والموجود ليس هناك مدعاة لجواز ورود الأجل عليه.
أما الديون فهي مال حكمي يثبت في الذمة، فهي غير حاصلة ولا موجودة، ومن ثم شرع جواز تأجيلها رفقًا بالمدين، وتمكينًا له من اكتسابها وتحصيلها في المدة المضروبة، حتى إن المشتري لو عين النقود التي اشترى بها لم يصح تأجيلها.
والديون من حيث جواز التأجيل وعدمه: قرر الفقهاء أن الديون في الأصل تكون حالّة وأنه يجوز تأجيلها إذا قبل الدائن واستثنى جمهور الفقهاء من هذا الأصل عدة ديون:
(1) رأس مال السلم، (2) وبدل الصرف، (3) والثمن بعد الإقالة، (4) وثمن المشفوع فيه على خلاف. واختلفوا في جواز اشتراط تأجيل القروض، فيرى جمهور الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة وغيرهم أنه يجوز للمقرض المطالبة ببدله في الحال، وأنه لو اشترط في التأجيل لم يتأجل وكان حالًّا.
وذلك لأنه سبب يوجب رد المثل في المثليات، فأوجبه حالًّا، كالإتلاف، ولو أقرضه بتفاريق، ثم طالبه بها جملة له ذلك، لأن الجميع حالٌّ، فأشبه ما لو باعه بيوعًا حالًّة ثم طالبه بثمنها جملة، ولأن الحق يثبت حالًّا، والتأجيل تبرع منه ووعد، فلا يلزم الوفاء به، كما لو أعاره شيئًا، وهذا لا يقع عليه اسم الشرط، ولو سمي شرطًا مجازًا (1) .
جاء في اللباب شرح القدوري ما نصه: "ويجوز البيع بثمن حالٍّ وهو الأصل، ومؤجل إذا كان الأجل معلومًا لئلا يفضي إلى المنازعة، وهذا إذا بيع بخلاف جنسه ولم يجمعها قدر، لما فيه من ربا النساء كما سيجيء، وابتداء الأجل من وقت التسليم، ولو فيه خيار فمنذ سقوطه عنده خانية، ويبطل الأجل بموت المديون لا الدئن " (2) .، ومثل ذلك في الدر بحاشية رد المحتار لابن عابدين فلينظر (3) .
وجاء في الدر المختار للحصكفي ووافقه عليه ابن عابدين: " عليه ألف ثمن جعله ربه نجومًا، إن أخل بنجم حل الباقي، فالأمر كما شرط ". اهـ ومعنى (حل) أي صار حالًّا (4) (4) .
__________
(1) انظر الموسوعة الفقهية 2/22 وما بعدها.
(2) انظر اللباب: 2/6.
(3) انظر رد المحتار: 4/24 وما بعدها.
(4) المرجع السابق الصفحة ذاتها.(6/118)
المقصد إلى البحث
حكم البيع بالتقسيط وضوابطه الفقهية
تلخص مما ذكرت اتفاق الفقهاء في المذاهب الأربعة الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة على جواز البيع بالتقسيط إلى أجل معلوم مهما طال الأجل ولو إلى عشرات السنين.
ولآجل خلو هذا العقد عن الربا أو شبهته، وعن الجهالة الفاحشة، وجدت بعد الاستقراء ضوابط فقهية معتبرة لهذا العقد الذي تفشى اليوم تفشيًا ملحوظًا حتى صار أكثر وقوعًا من البيع النقدي في كثير من البلدان والحالات.
وهذه الضوابط – استخلصتها كما ذكرت بالاستقراء من كتب الفقه المقارن وعلم الخلاف - تنحصر فيما يلي
1- الضابط الأول: افتراق مجلس السوم عن مجلس العقد في هذا النوع من البيوع (بيع التقسيط) كي لا تقع في شبهة الربا (زدني أجلًا أزدك مالًا) .
وعلى هذا:
فللمشتري أن يقوم أولًا بمجلس سوم يعرف فيه ثمن السلعة المباعة نقدًا وثمنها تقسيطًا وما الفرق بينهما من حيث قدر الثمن، ويعرف كذلك النجوم وآجالها. فإذا عرف ذلك غير المجلس تغييرًا حقيقيًا وهو الأفضل بالانصراف بنفسه عن المجلس أو حكميًا بالانصراف عن الكلام في الموضوع والتحدث بأمر آخر لا علاقة له بما ذكرت ثم يعود بعد فاصل أجنبي إلى الحديث في إيجاد العقد على مبدأ التقسيط بالنجوم والآجال المذكورة (حصرًا) ، أما إذا خلط المشتري ذلك كله في مجلس واحد وقع في شبهة الربا.
2- الضابط الثاني معلومية الأجل، ومعلومية النجوم، فالجهالة الفاحشة مفسدة للعقد، وقد صرح المالكية بأنه لا بأس ببيع أهل السوق على التقاضي، وقد عرفوا قدر ذلك بينهم، والتقاضي: (تأخير المطالبة بالدين إلى مدى متعارف عليه بين المتعاقدين) (1) .
هذا: ومن حق المشتري إذا كان المبيع معيبًا أو ظن أنه مستحق أن يمتنع من أداء الثمن، إلى أن يستخدم حقه في العيب فسخًا أو طلبًا للأرش إلى أن يتبين أمر الاستحقاق.
ويجوز تأخير الدين الحالّ، أو المؤجل بأجل قريب إلى أجل بعيد، وأخذ مساوي الثمن أو أقل منه من جنسه، لأنه تسليف، أو تسليف مع إسقاط البعض، وهو من المعروف، ولكن لا يجوز تأخير رأس مال السلم عند الجمهور خلافًا للمالكية حيث أجازوا تأخيره في حدود ثلاثة أيام ولو بشرط.
__________
(1) انظر الموسوعة الفقهية: 9 / 40 وما قبلها.(6/119)
هذا، وقد أفتى الحنفية أن الجهالة اليسيرة لا تؤثر في صحة الأجل فيعد كالأجل المعلوم ولكن اشترطوا لذلك أن لا يذكر هذا الأجل المجهول جهالة يسيرة في العقد ـ بل يكون بيعًا مطلقًا، ثم يذكر الأجل بعد ذلك لم يفسد العقد وكان له أخذ الكل جملة، ولو باع مؤجلًا بلا ذكر مدة في العقد انصرف لشهر أو للعرف العام الذي تعارفه الناس (1) .
3- والضابط الثالث: المؤيد الفقهي في حال إخلال المشتري بأداء الثمن المؤجل، أي أخل بالوفاء بقسط أو بأقساط حل أجلها.
فقد اتفق الفقهاء على أنه: إذا كان المشتري موسرًا فإنه يجبر على أداء الثمن الحالِّ، كما ذهب الجمهور في الجملة إلى أن للبائع حق الفسخ إذا كان المشتري مفلسًا، أو كان الثمن غائبًا عن البلد مسافة القصر.
وذهب الحنفية إلى أنه ليس للبائع حق الفسخ، لأنه يمكنه التقاضي للحصول على حقه، وهو في هذه الحالة دائن كغيره من الدائنين، لكن يسقط الأجل وله المطالبة بكل الأقساط من الثمن المتبقية حالّة.
وهذا عندهم ما لم يشترط لنفسه خيار النقد، بأن يقول مثلًا (إن لم تدفع الثمن في موعد كذا فلا بيع بيننا) ، واختلف في مقتضى هذا الشرط، هل هو انفساخ البيع، أو استحقاقه الفسخ باعتباره فاسدًا، والمرجح عند الحنفية أنه يفسد ولا ينفسخ (2)
وللشافعية والحنابلة تفصيل في حال إخلال المشتري بأداء الثمن الحالّ لا للعكس ينظر في مدوناتهم.
وقالت المالكية بِشأن خيار النقد الذي أثبته الحنفية في تصريح لهم بمثله فيما إذا قال البائع للمشتري: (بعتك لوقت كذا) أو (على أن تأتيني بالثمن في وقت كذا، فإن لم تأت به في ذلك الوقت فلا بيع بيننا) ، فقد جاء في المدونة تصحيح البيع وبطلان الشرط، وروي عن الإمام مالك قولان آخران. صحة البيع والشرط، وفسخ البيع (3)
ذيل البحث
وإذا كان الثمن منجمًا، فإن على البائع تسليم المبيع ولا يطالب المشتري بالثمن إلا عند حلول الأجل الأول فيما بعده بالاتفاق، وأما إذا كان بعض الثمن معجلًا وبعضه مؤجلًا، فإن للبعض المعجل حكم تعجيل الثمن كله، فلا يطالب المشتري البائع بتسليم المبيع إلا بعد تسليم الجزء المعجل من الثمن (4) .
خاتمة البحث
في هذه العجالة اللطيفة استطعت إلى حد أن أسلط الأضواء على مسألة ظلت تختلف فيها الآراء وتتقاذفها الأهواء، وهي بعد من النوازل المهمة في عصرنا هذا، جرى بها التعامل وتعارف عليها الناس بل وعقدوا كثيرًا من معاملاتهم المالية بمقتضاها ألا وهي بيع التقسيط.
لعلي أكون قد وفقت إلى الخير وهديت إلى الرشد، وأصبت فيما اجتهدت. . . إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
__________
(1) انظر رد المحتار: 4/23 وما بعدها.
(2) انظر المرجع السابق: ص 24، وشرح المجلة: 2/191.
(3) الشرح الصغير، والدسوقي وفتح العلي المالك، والموسوعة الفقهية: 9/39.
(4) الموسوعة الفقهية: 9/40.(6/120)
أبرز مصادر البحث ومراجعه
1- رد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) ، العلامة ابن عابدين.
2- الشرح الصغير مع حاشية الدسوقي، الدسوقي والدير.
3- شرح المجلة، خالد الأتاسي.
4- اللباب شرح الكتاب، عبد الغني الغنيمي الميداني.
5- الموسوعة الفقهية في الكويت، مجموعة من العلماء المعاصرين.
6- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الكساني.
7- الاختبار شرح المختار، ابن مودود الموصلي.
8- البحر الرائق وحاشيته منحة الخالق، زين الدين ابن نجيم وابن عابدين.
9- ابن عابدين وأثره في الفقه. دراسة مقارنة بالقانون، د. محمد عبد اللطيف صالح الفرفور.
10- نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي وصلتها بالمصالح المرسلة، د. محمد عبد اللطيف صالح الفرفور.
11- مختار الصحاح، الرازي.(6/121)
بيع التقسيط
إعداد
فضيلة الدكتور محمد عطا السيد
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
اتفق الفقهاء على مشروعية البيع على سبيل الجواز، دل على جوازه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. فمن الكتاب قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة] : الآية 275] ، وقوله عز وجل: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 29] .
وأما السنة فمنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكسب أطيب؟ فقال: ((عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ)) (1)
والإجماع قد استقر على جواز البيع.
أما المعقول: فلأن الحكمة تقتضيه لتعلق حاجة الإنسان بما في يد صاحبه ولا سبيل إلى المبادلة إلا بعوض غالبًا. ففي تجويزالبيع وصول إلى الغرض ودفع للحاجة (2)
هذا هو الحكم الأصلي للبيع، ولكن قد تعتريه أحكام أخرى، فيكون محظورًا إذا اشتمل على ما هو ممنوع بالنص، لأمر في الصيغة، أو العاقدين، أو المعقود عليه. وكما يحرم الإقدام على مثل هذا البيع فإنه لا يقع صحيحًا بل يكون باطلًا أو فاسدًا على الخلاف المعروف بين الجمهور والحنفية ويجب فيه التراد. . .
وقد يكون الحكم الكراهة، وهو ما فيه نص غير جازم ولا يجب فسخه. (3) وحكمة مشروعية البيع ظاهرة، فهي الرفق بالعباد والتعاون على حصول معاشهم.
والسؤال عن بيع التقسيط يفترض صحة العقد باعتبار الصيغة والعاقدين ومحل العقد ولكن الخلاف في كيفية الوفاء بالثمن ويمكن لنا أن نثير الجوانب التالية فيما يتعلق بالبحث في حكم صحة بيع التقسيط.
أولًا: هل يجوز البيع بالثمن المؤجل وهو ما يسمى البيع بالنسيئة؟
ثانيًا: هل يمكن تقسيط الثمن، وكيف يكون التقسيط؟
ثالثًا: هل يمكن زيادة الثمن في التقسيط عن الثمن المنجز؟
رابعًا: ما الحكم إذا أخل المشتري بدفع الأقساط؟ هل تسترد السلعة المباعة له أم يعامل باقي الثمن كدين عادي؟
واليك التفصيل في هذه الجوانب.
__________
(1) أورده الهيثمي في المجمع: 4/60، ط. القدسي، وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.
(2) الموسوعة الإسلامية الصادرة من وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – دولة الكويت: 9/8.
(3) الموسوعة الإسلامية: 9/8.(6/122)
أولًا: هل يجوز البيع بالنسيئة؟
انعقد الإجماع على صحة تأجيل الثمن إلى أجل معلوم، روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعامًا بنسيئة ورهنه درعه. وفي رواية أخرى: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعامًا من يهودي إلى أجل فرهنه درعه)) .
ذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري بشرح صحيح البخاري: " قوله: باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة أي بالأجل – قال ابن بطال: الشراء بالنسيئة جائز بالإجماع. قلت: لعل المصنف تخيل أن أحد يتخيل أنه صلى الله عليه وسلم لا يشتري بالنسيئة لأنها دين فأراد دفع ذلك التخيل " (1) .
وجاء في المغني والشرح الكبير في معرض الكلام عن بيع العينة والبيع نسيئة: وقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) وهذا وعيد يدل على التحريم، وقد روي عن أحمد أنه قال: (العينة أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة فإن باع بنقد ونسيئة فلا بأس) . وقال: (أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا يبيع بنقد) . قال ابن عقيل: " إنما كره النسيئة لمضارعته الربا فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالأجل غالبًا، ويجوز أن تكون العينة اسمًا لهذه المسألة وللبيع نسيئة جميعًا لكن البيع بنسيئة مباح اتفاقًا ولا يكره إلا أن لا يكون له تجارة غيره " (2)
وجاء في حاشية رد المحتار لابن عابدين: " اختلف المشايخ في تفسير العينة التي ورد النص عنها. قال بعضهم: تفسيرها أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر ويستقرضه عشرة دراهم ولا يرغب المقرض في الإقراض طمعًا في فضل لا يناله بالقرض فيقول لا أقرضنّك ولكن إن شئت أبيعك هذا الثوب إن شئت باثنى عشر درهمًا وقيمته في السوق عشرة ليبيعه في السوق بعشرة فيرضى به المستقرض فيبيعه كذلك، فيحصل لرب الثوب درهمان وللمشتري قرض عشرة. وقال بعضهم: هي أن يدخل بينهما ثالثًا فيبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثنى عشر درهمًا ويسلمه إليه ثم يبيعه المستقرض الثالث بعشرة ويسلمه إليه ثم يبيعه الثالث من صاحبه وهو المقرض بعشرة ويسلمه إليه ويأخذ منه العشرة ويدفعها المستقرض فيحصل للمستقرض عشرة ولصاحب الثوب عليه أثنا عشر درهمًا كذا في المحيط " (3)
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني. مكتبة الكليات الأزهرية 9/149
(2) ابن قدامة: الشرح الكبير: 4/45-46
(3) حاشية ابن عابدين: 5/273، الطبعة الثانية، دار الفكر، 1979م(6/123)
وفي البيع بالنسيئة لا بد لصحة البيع من تحديد الثمن، وتحديد الأجل الذي يدفع فيه لعموم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} . [سورة البقرة: الآية 282] .
وحقيقة الدين عبارة عن كامل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدًا والأخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرًا، والدين ما كان غائبًا، قال الشاعر:
وعدتنا بدرهمينا طلاءً
وشواءً معجلًا غير دين
وقال آخر:
لترم بي المنايا حيث شاءت
إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا لم أوقدوا حطبًا ونارًا
فذاك الموت نقدًا غير دين
وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله الحق: {أَجَلٍ مُسَمًّى} (1)
فالدين إلى أحل غير مسمى يقود إلى المنازعة، ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معنى كتاب الله تعالى. ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((مَن أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ)) ، رواه ابن عباس. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
والحكمة في ذلك أن جهالة الأجل تفضي إلى المنازعة في التسلم والتسليم فهذا يطالبه في قريب المدة وذاك في بعيدها وكل ما يفضي إلى المنازعة فيجب إغلاق بابه. ولأنه سيؤدي إلى عدم الوفاء بالعقود التي أمرنا بالوفاء بها حيث قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: الآية 1] .
وإذا لم يحدد أجلًا فسد البيع عند بعضهم وصح عند البعض إن كانت الجهالة يسيرة، وجاء في حاشية ابن عابدين (ولو باع مؤجلًا أي بلا بيان مدة بأن قال بعتك بدرهم مؤجل صرف قوله لشهر لأنه المعهود في الشرع في السلم واليمين. . . ويبطل الأجل بموت المديون) (2)
وإذن لابد لصحة بيع التقسيط من تحديد مدة الأقساط تحديدًا وافيًا.
__________
(1) انظر تفسير القرطبي: 3/377.
(2) حاشية ابن عابدين 4/531.(6/124)
ثانيًا: هل يمكن تقسيط الثمن؟
لم أعثر على بيان واضح في هذه المسألة إلا أن ابن عابدين يقول في حاشيته: " ومنها – أي جهالة الأجل – اشتراط أن يعطيه الثمن على التفاريق أو كل أسبوع البعض، فإن لم يشترط في البيع بل ذكر بعده لم يفسد وكان له أخذ الكل جملة (1)
فظاهر عبارة ابن عابدين هذه وهي من العبارات النادرة في هذه المسألة أن دفع الثمن على التفاريق (التقسيط) يصح إذا شرط في البيع أو بعده. والذي أراه أن هذه من الشروط والاتفاقات المباحة ويحكمها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ((المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا)) . ولا نرى في اتفاق المتبايعين على تفريق الثمن لآجال معدودة ومعلومة أي شبهة بل هو من التيسير الذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال ((رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)) . البخاري. وقال ((غفر الله لرجل كان قبلكم كان سهلًا إذا باع)) . الترمذي. وقال: ((إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء سمح القضاء)) . الترمذي والحاكم. وقال: ((إن الله أدخل الجنة رجلًا كان سهلًا مشتريًا وبائعًا وقاضيًا ومقتضيًا)) . النسائي.
وكل من المتعاقدين ملزم بالوفاء بما تعهد به كاملًا لأنه مأمور بذلك.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4/531(6/125)
ثالثًا: هل يمكن زيادة الثمن بسبب النسيئة في الأجل؟
وهو هل يمكن أن يكون للسلعة ثمنان: ثمن حالّ وثمن أكثر منه إذا اشترى بثمن مؤجل؟ وبعبارة أخرى: هل يجوز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من الثمن الحالّ؟
جاء في الموسوعة الفقهية: الاعتياض عن الأجل بالمال:
يرد الاعتياض عن الأجل بالمال في صور، منها ما يلي:
* الصورة الأولى:
صدور إيجاب مشتمل على صفقتين، إحداهما بالنقد، والأخرى بالنسيئة، مثل أن يقول بعتك هذا نقدًا بعشرة، والنسيئة بخمسة عشر.
يرى جمهور العلماء أن هذا البيع إذا صدر بهذه الصيغة لا يصح، ((لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة)) جاء في الشرح الكبير: (وكذلك فسّره مالك والثوري، وإسحاق. وهذا قول أكثر أهل العلم، لأنه لم يجزم له ببيع واحد، أشبه ما لو قال بعتك أحد هذين ولأن الثمن مجهول فلم يصح، كالبيع بالرقم المجهول) .
وقد روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا، فيذهب إلى أحدهما. فيحتمل أنه جرى بينهما بعدما يجري في العقد، فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا، فقال: خذه، أو قال: قد رضيت ونحو ذلك، فيكون عقدًا كافيًا، فيكون قولهم كقول الجمهور.
فعلى هذا: إن لم يوجد ما يدل على الإيجاب أو ما يقوم مقامه لم يصح لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكوم إيجابًا.
فهذا الخلاف الوارد في صحة هذا البيع مصدره الصيغة الصادرة مشتملة على صيغتين في آن واحد، فلم يجزم البائع ببيع واحد، ولأن الثمن مجهول هل هو عشرة أو خمسة عشر. وإذا كان الإيجاب غير جازم لا يصلح، ويكون عرضًا، فإذا قبل الموجه إليه العرض إحدى الصفقتين كان إيجابًا موجهًا إلى الطرف الأول فإن قبل تم العقد، وإلا لم يتم.(6/126)
الصورة الثانية:
وهي بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، يرى جمهور الفقهاء جواز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، وذلك لعموم الأدلة القاضية بجواز البيع. قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} . وهو عام في إباحة سائر البياعات إلا ما خص بدليل، ولا يوجد دليل يخصص هذا العموم.
* الصورة الثالثة:
وهي تأجيل الدين الحالّ في مقابل زيادة: وهذه الصورة تدخل في باب الربا (إذ الربا المحرم شرعًا شيئان: ربا النساء، وربا التفاضل. وغالب ما كانت العرب تفعله، من قولها للتغريم: أتقضي أم تربي؟ فكان الغريم يزيد في المال، ويصبر الطالب عليه، وهذا كله محرم باتفاق الأمة) . قال الجصاص: " معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضًا مؤجلًا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلًا من الأجل، فأبطله الله تعالى وحرمه، وقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} ، وقال تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} حظر أن يؤخذ للأجل عوض. ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالّة، فقال له أجلني وأزيدك فيها مائة درهم، ولا يجوز، لأن المائة عوض عن الأجل (1)
والذي أرجحه في هذه المسألة: أنه إذا عرف لدى المتبايعين ثمن للبيع حالّ وثمن له مؤجل هو أكثر من الثمن الحالّ ثم تراضيا على إحدى الحالتين والثمن المعين فيها جاز
وقد جاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية – طيب الله ثراه – أنه قد سئل عن شخص عنده صنف، دفع له فيه رجل ألفين ومائة بالوزن، ودفع له آخر ألفين وسبعمائة إلى أجل معلوم أثناء الحول فأجاب: " إن كان الذي يشتريها إلى أجل، يشتريها ليتجر فيها أو ينتفع بها جاز للبائع أن يبيعها إن شاء بالنقد إن شاء إلى أجل. وإن كان المشتري مقصده الدراهم، وهم يريد أن يبيعها إذا اشتراها ويأخذ الدراهم، فهذا يسمى (التورق) وهو مكروه في أظهر قولي العلماء " (2) -
وإذا تبايعا بثمن معين واتفقا عليه ثم طلب المشتري من البائع أن يقسط له الثمن بدون زيادة في السعر الذي اتفقا عليه جاز ويلحق هذا الاتفاق بالعقد الأصلي.
أما إذا انعقد البيع على ثمن حال ثم طلب المشتري تأجيله أو تقسيطه ووافق البائع على ذلك بشرط زيادة في السعر فإن تلك الزيادة تكون ربا وهي حرام ولا عبرة بتسمية الزيادة فائدة أو اسمًا آخر فأن العبرة بالمعاني لا بالمسميات.
__________
(1) الموسوعة الفقهية، الجزء الثاني- الصادرة من وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية: ص 83 – 84.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، رحمه الله تعالى، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصي النجدي الحنبلي رحمه الله، وساعده ابنه محمد وفقه الله: 29/502.(6/127)
رابعًا: ما الحكم إذا أخل المشتري بدفع الأقساط
بعد أن تسلم العين المباعة واستعملها أو استهلكها أو باعها
في حالة البيع بالتقسيط يجب على البائع تسليم المبيع ولا يطالب المشتري بتسليم الثمن
إلا عند حلول الأجل وذلك لرضى البائع بتأجيل الثمن، ولا يمنع من انتقال ملكية المبيع إلى المشتري كون الثمن مؤجلًا ولا يصح اشتراط عدم انتقال الملكية، وإذا اشترط البائع حق الفسخ لعدم الأداء في الموعد المحدد وهو ما يسمى " خيار النقد " أثبت له الحنفية ذلك واختلفت الروايات عن الإمام مالك رضي الله عنه، فقد جاء في المدونة تصحيح البيع وبطلان الشرط وروت كتب المالكية الأخرى عن الإمام مالك قولين آخرين: " صحة البيع والشرط، وفسخ البيع " (1)
وإذا تسلم المشتري السلعة ولم يدفع الأقساط أو أخل بدفعها فلا يخلو المشتري من أن يكون موسرًا أو معسرًا فإن كان موسرًا والثمن معه أجبر على تسليمه، فإن لم يكن معه نقدًا أو معه نقد لا يكفي حجر عليه في المبيع وسائر ماله حتى يسلم الثمن خوفًا من أن يتصرف في ماله تصرفًا يضر بالبائع، فإن لم يوجد لدى المشتري شئ فالبائع مخير بين أن يصبر إلى أن يوجد وبين فسخ العقد لأنه قد تعذر عليه الثمن فهو كالمفلس، وبفسخه العقد يجوز له أن يسترد السلعة ويطالب بالتعويض نظير استعمالها إن كانت قد استعملت.
وإن كان المشتري قد دفع بعض الأقساط ثم توقف عن الدفع فللبائع أن يثبت ذلك لدى السلطات القضائية ولها أن تجبر المشتري على دفع الباقي من الأقساط إن كان موسرًا أو الحجر على ممتلكاته حتى يدفع أو تباع لسداد الدين، وإن كان معسرًا بيع المبيع وقضى ما تبقى من أقساط وما فضل فهو للمشتري وإن أعوز ففي ذمته. . . هذا من الناحية القضائية.
ولا بد من تذكير البائع وهو الدائن هنا بتوجيه الله تعالى وهو من الأخلاق الإسلامية الكريمة، وذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} .
__________
(1) الشرح الصغير: 2/84، والدسوقي: 3/175، وفتح العلي المالك: 1/353.(6/128)
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: " وقال جماعة من أهل العلم: قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} عامة في جميع الناس، فكل من أعسر أنظر ". وهذا قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء. .
وقال ابن عباس وشريح: " ذلك في الربا خاصة، فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نظرة بل يؤدي إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يوفيه وهو قول إبراهيم ". واحتجوا بقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) .
وروى مسلم عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرًا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه)) وروي عن أبي قتادة أنه طلب غريمًا له فتوارى عنه ثم وجده فقال: إني معسر. فقال: آلله؟ قال: آلله. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه)) .
وليس للمشتري أن يبيع السلعة قبل تسلمها للنهي الوارد في ذلك، وإذا تسلمها فهلكت عنده فهي تهلك عليه ولا رجوع له على البائع وعليه سداد جميع الأقساط إلا أن يكون البائع هو الذي تسبب في هلاكها.
وأما إذا هلكت السلعة قبل تسليمها إلى المشتري فتهلك على البائع وعليه أداء مثلها أو إرجاع ما تسلمه من ثمن.
__________
(1) تفسير القرطبي: 3/371-372(6/129)
ملخص البحث
تناول البحث الحكم الأصلي للبيع وهو مشروعيته على سبيل الجواز، ولكن قد تعتريه أحكام أخرى، فيكون محظورًا إذا اشتمل على ما هو ممنوع بالنص فيقع باطلًا أو فاسدًا على الخلاف المعروف بين الجمهور والحنفية، وقد يكون الحكم الكراهة وهو ما فيه نص غير جازم ولا يجب فسخة، وحكمة مشروعية البيع ظاهرة، فهي الرفق بالعباد والتعاون على حصول معاشهم.
والسؤال عن بيع التقسيط يفترض صحة العقد باعتبار الصيغة والعاقدين ومحل العقد ولكن الخلاف في كيفية الوفاء بالثمن وبناء على ذلك تناول البحث الجوانب التالية.
* أولًا: هل يجوز البيع بالثمن المؤجل وهو ما يسمى البيع بالنسيئة؟
* ثانيا: هل يمكن تقسيط الثمن وكيف يكون التقسيط؟
* ثالثًا: هل يمكن زيادة الثمن عن الثمن المنجز؟ وهو هل يمكن زيادة الثمن بسبب النسيئة في الأجل؟ وهل في هذه الزيادة شبهة الربا أو أنه بيع العينة المنهي عنه؟
رابعًا: ما الحكم إذا أخل المشتري بدفع الأقساط؟ هل تسترد السلعة المباعة له أم يعامل باقي الثمن كدين عادي فيحجر عليه إذا كان موسرًا أو ينتظر إذا كان معسرًا؟
وخلص البحث إلى جواز البيع بالتقسيط والزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن المنجز إذا تراضيا على ذلك ابتداء، ويجب على المتبايعين أن يحددا مدى التأجيل والتفاريق التي تدفع بها الأقساط وأن هذا من التسهيل الذي ندب الشارع الكريم إليه وعلى المتعاقدين أن يفيا بالتزاماتهما وهما مأموران بذلك، وانتهى البحث بوصف الإجراءات التي تتخذ إذا أخل المشتري بالدفع وهي على عدة أحوال. ثم نصيحة الشارع الكريم للبائع نحو المشتري إذا كان معسرًا.
الدكتور محمد عطا السيد(6/130)
بيع التقسيط
إعداد
فضيلة الدكتور إبراهيم فاضل الدبور
الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:
من القضايا التي تواجه الإنسان على الدوام، المعاملات المالية، والبيوع من أكثر ميادين التعامل تداولًا إذ لا يستغني عنها الإنسان في أغلب حياته اليومية، لذا نراها قد حظيت باهتمام فقهائنا القدامى والمحدثين.
ومن البيوع التي تعامل بها الناس في الماضي والحاضر ما عرف ببيوع الآجال، وهي التي يكون فيها أحد العوضين مؤخرا عن مجلس العقد خروجًا عن الأول المقررة التي تفترض وجود البدلين عندما تتوجه إرادة طرفين لإبرام العقد، والبيوع المذكورة تيسر على الناس سبل التعامل فيما بينهم، والبيع بالتقسيط أحد تلك البيوع. وحرصًا من فقهاء أئمتنا الأعلام في مراعاة مصلحة الناس والتيسير عليهم، فقد تناولت كتبهم تلك البيوع بالبحث، وها أنا في بحثي هذا المتواضع أستعرض أقوال أئمتنا – رحمهم الله تعالى – بغية الوقوف على ما قالوه في هذه الصورة من صور التعامل المالي، مختارًا ما هو الأوجه دليلًا والأقوى حجة.
والله حسبي وهو نعم المولى ونعم الوكيل.
التقسيط لغة:
يطلق التقسيط في اللغة على معان منها:
(أ) التفريق وجعل الشيء أجزاء، يقال قسط الشيء، بمعنى فرقه وجعله أجزاء، والدين جعله أجزاء معلومة تؤدي في أوقات معينة (1)
(ب) الاقتسام بالسوية، يقول الليث: " تقسطوا الشيء بينهم أي اقتسموه بالسوية وفي العباب على القسط والعدل، وفي اللسان على العدل والسواء (2) .
(ج) التقتير، يقال: قسّط على عياله النفقة تقسيطًا إذا قترها عليهم، قال الطرماح:
" كفاه كف لا يرى سبيها
مقسطًا رهبة إعدامها
(3)
(د) والقسط الحصة والنصيب، يقال تقسطنا الشيء بيننا، أي أخذ كل حصته ونصيبه، ويقال وفاه قسطه أي نصيبه وحصته.
__________
(1) لسان العرب، لابن منظور الإفريقي – مادة قسط
(2) تاج العروس، لمرتضى الزبيدي – مادة قسط
(3) تاج العروس، لسان العرب، المعجم الوسيط.(6/131)
التقسيط في الاصطلاح الفقهي:
إن البيع بالتقسيط وصيغته المعهودة حاليًا من البيوع الحديثة، لذا لم يرد في كتب الفقهاء القدامى – رحمهم الله تعالى – تعريف نستطيع أن نحدد بموجبه هذا النوع من البيوع، لأن البيع كما ورد عندهم إما أن يكون حالًّا بمعنى تسليم الثمن في مجلس العقد أو مؤجلًا، بمعنى تسليمه في وقت لاحق يحدده المتعاقدان في العقد، سواء كان تسديد الثمن جملة واحدة أم على دفعات.
إلا أن بعض الفقهاء المحدثين قد أعطوا مفهومًا للتقسيط يمكن أن نعتبره بيانًا للمراد، جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام (التقسيط: تأجيل أداء الدين مفرقًا إلى أوقات معينة) (1)
وعرّفه الأستاذ منير القاضي بقوله: (الثمن المقسط هو: ما اشترط أداؤه أجزاء معلومة في أوقات معينة) (2) .
بيع التقسيط في القانون الوضعي:
عرف رجال القانون البيع بالتقسيط بعدة تعاريف منها: " أنه أحد ضروب البيع الائتماني الذي يشترط فيه أن يكون سداد الثمن على أجزاء متساوية ومنتظمة خلال فترة معقولة من الزمن " (3)
ومنها: " أنه العقد الذي يكون موضوعه الاستيلاء على شيء في مقابل دفع أقساط معينة في مدة معينة يصبح المشتري في نهايتها مالكًا للشيء (4)
صورة هذا البيع:
تتم صورة بيع التقسيط بالشكل التالي: يقصد المستهلك إلى صاحب متجر بقصد شراء حاجة ما فيخيره صاحب السلعة بثمنها إذا أراد أن يدفعه حالًّا وثمنها إذا أراد دفعه مجزءًا، وهو بطبيعة الحال أعلى من الثمن الحالّ، لأن البائع في هذه الحالة يحسب لتأخير الثمن حسابه، بمعنى أنه يزيد في ثمن السلعة مقابل تأجيل دفع الثمن، ودوافع ذلك معروفة، منها:
(أ) خوف البائع من إفلاس المشتري في المستقبل أو وفاته، وعندئذ يفوت عليه رأس المال، وخسارته في هذه الحالة محققة.
(ب) أن عدم دفع الثمن في الحال يفوت عليه استغلاله في أعماله التجارية مما يحرمه من فوائد ربح هذا الجزء من المال.
__________
(1) شرح مجلة الأحكام: 1/280
(2) شرح المجلة للأستاذ: منير القاضي 1/280
(3) البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية الأخرى للدكتور إبراهيم أبو الليل: ص 19 نقلًا عن حكم البيع بالتقسيط بحث للدكتور محمد عقله الإبراهيم والمنشور في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية التي تصدرها كلية الشريعة والقانون في جامعة الكويت العدد السابع السنة الرابعة.
(4) العقود المسماة شرح عقدي البيع والمقايضة للدكتور أنور سلطان: ص 28، نقلًا عن المصدر السابق أيضا.(6/132)
مظان مسألة بيع التقسيط في الفقه الإسلامي:
إن أصل مسألة بيع التقسيط يرد في كتب الفقه تحت عنوان (البيوع الفاسدة) أو (البيوع المنهي عنها) في كتب البيوع أو في باب بيوع الآجال، وقد استدل الفقهاء على فساد بعض البيوع التي تناولوها في كتبهم بما صح لديهم من الآثار الواردة بهذا الخصوص.
ومن أجل الوقوف على معرفة رأيهم في البيع، يجدر بنا أن نتلمس مظان بيع التقسيط في الأحاديث النبوية الشريفة التي لها صلة بهذا البيع، لنقف على الدليل الذي استندوا عليه في تحريمهم لمثل هذه البيوع، وما إذا كان هذا النوع من البيوع يدخل ضمن هذه الآثار أم لا؟
أولًا – النهي عن شرطين في بيع:
ومن الآثار الواردة عن النهي لهذا البيع حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك)) (1)
وقد اختلف شراح الحديث في صورة هذا البيع، فمنهم من قال: " هو أن يقول البائع للمشتري: بعتك هذا بألف إن كان نقدًا وبألفين إن كان نسيئة.
وقيل هو أن يقول بعتك هذا الثوب بكذا وعلي صباغته وخياطته، وقيل معنى الشرطين في بيع، هو أن يشترط حقوق البيع ويشترط شيئًا خارجًا منها، مثل أن يشترط البائع على المشتري لقاء بيعه المبيع أن يهبه شيئًا أو أن يشفع له إلى فلان، أو أن احتاج إلى بيعه لم يبع إلا منه ونحو ذلك، فهذان شرطان في صفقة واحدة.
والتفسير الأخير يبدو لي هو الصحيح لهذا البيع، لأنه عقد بيع شرط فيه شرطان (2)
__________
(1) أخرج الحديث أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وكذلك صححه ابن خزيمة والحاكم. انظر الروضة الندية شرح الدرر البهية لأبي الطيب صديق القنوجي البخاري: 1/100.
(2) انظر المصدر السابق أيضًا: 1/101، وسبل السلام شرح بلوغ المرام: 3/16(6/133)
ثانيًا – النهي عن بيعتين في بيعة:
ومن الآثار الواردة عن هذا البيع ما يلي:
(أ) ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) (1) وفي لفظ ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)) (2) وعن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)) قال سماك: هو الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنسأ بكذا وهو بنقد بكذا وكذا (3)
شرح الحديث: لقد فسر سماك راوي الحديث بما ورد في متن الحديث وقد وافقه على مثل ذلك الشافعي فقال: " بأن يقول بعتك بألف نقدًا أو ألفين إلى سنة فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا " (4) . فالمسألة مفروضة على أن المشتري قبل البيع على الإبهام، أما لو قال: قبلت بألف نقدًا أو بألفين بالنسيئة صح ذلك (5) .
ونقل صاحب الروضة الندية شرحًا مماثلًا عن بعض شراح الحديث حيث قال: " فسروا البيعتين في بيعة على وجهين، أحدهما: أن يقول بعتك هذا الثوب بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة إلى سنة فهو فاسد عند أكثر أهل العلم، فإذا باعه على أحد الأمرين في المجلس فهو صحيح لا خلاف فيه (6) وبهذا المعنى فسره كثير من شراح الحديث، منهم النسائي والبيهقي والمناوي أيضًا (7)
__________
(1) أخرج الحديث أبو داود. انظر نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني: 5/248
(2) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. المصدر السابق أيضًا.
(3) رواه أحمد. الشوكاني في المصدر السابق أيضًا
(4) مختصر المزني للإمام إبراهيم المزني الشافعي بهامش كتاب الأم: 2/204.
(5) نيل الأوطار: 5/249
(6) الروضة الندية شرح الدرر البهية: 2/101.
(7) فيض القدير شرح الجامع الصغير لعبد الرءوف المناوي: 6/308(6/134)
وقد فسر الشافعي المسألة بتفسير آخر، فقال: هو أن يقول: بعتك هذه الأرض بألف على أن تبيعني دارك بكذا (1) . ومثل هذا البيع فاسد أيضا لأنه جعل ثمن الأرض الفا وشرط بيع الدار وهذا شرط لا يلزم وإذا لم يلزم ذلك، بطل بعض الثمن فيصير ما بقي من المبيع في مقابلة الباقي مجهولًا وهذا غير جائز.
وقد حكى صاحب الروضة الندية عن بعض شراح الحديث شرحًا مماثلًا لما قاله الشافعي في تفسيره الآخر للرواية مدار البحث (2) .
إلا أن التفسير الأخير لحديث البيعتين في بيعة أمر لا يتفق مع منطوق رواية أبي هريرة الأولى، فإن قوله عليه الصلاة والسلام ((فله أوكسهما)) يدل كما قال الشوكاني: " على أنه باع الشيء الواحد بيعتين بيعة بأقل وبيعة بأكثر، وإنما يصلح تفسيرًا للرواية الأخرى من حديث أبي هريرة لا للأولى (3)
وقيل في تفسير البيعتين في بيعة (هو أن يسلف الرجل صاحبه دينارًا في قفيز حنطة إلى شهر، فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة، قال: " بعني القفيز الذي لك على إلى شهرين بقفيزين، فصار ذلك بيعتين في بيعة، لأن البيع الثاني قد دخل على الأول فيرد إليه أوكسهما وهو الأول " وقد أسند الشوكاني هذا التفسير لابن رسلان، وعقب على ذلك بقوله: إن هذا التفسير يتمشى مع ظاهر الحديث لأن الحكم للمشتري بالأوكس، يعني الأنقص والأقل، يستلزم صحة البيع به، أو يكون المتعاقدان قد دخلا في الربا المحرم إذا لم يأخذ المشتري وهو المسلف الأوكس بل أخذ الأكثر (4)
مما تقدم من تفسير لحديث البيعتين في بيعة، يتضح أن أكثر المعاني شيوعًا له، هو أن يذكر البائع للمشتري ثمنين أحدهما عاجل والآخر آجل أكثر منه مقدارًا، وهذه الصورة هي الأساس لبيع التقسيط.
__________
(1) انظر نيل الأوطار / 5/249، وسبل السلام: 3/17
(2) انظر: 2/101
(3) نيل الأوطار: 5/249
(4) المصدر نفسه أيضًا.(6/135)
تفسير الفقهاء لحديث البيعتين في بيعة:
بعد أن ذكرنا تفسير بعض شراح الحديث لمعنى بيعتين في بيعة، يجدر بنا أن نقف على وجهة نظر فقهائنا الأقدمين – رحمهم الله تعالى – في معنى الرواية مدار الكلام، وفيما إذا كانت تنطبق على مسألة البيع بالتقسيط. فأقول: " اتفق الفقهاء على تفسير هذا البيع الوارد في الحديث بما فسره بعض شراح الحديث، من أن صورته أن يقول البائع للطرف المقابل: أبيعك هذه السلعة بالثمن الحالّ بكذا أو بالنسيئة بكذا، جاء ذلك في العديد من كتب الفقه فقد ذكر الكاساني الحنفي من جملة البيوع الفاسدة ما إذا قال بعتك هذه الدابة بمائة درهم إلى سنة وبمائة وخمسين إلى سنتين، وذلك للجهالة في الثمن، وقيل هو الشرطان في بيع (1) . وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ الدردير المالكي ذكر ذلك عند كلامه عن البيوع الفاسدة حيث قال: وكبيعتين في بيعة، أي عقد واحد، وذلك بأن يبيع السلعة بإلزام بعشرة نقدًا أو أكثر لأجل، ويأخذها المشتري على السكوت ولم يعين أحد الأمرين ويختار بعد ذلك الشراء بعشرة نقدًا أو بأكثر لأجل، وإنما منع للجهل بالثمن حال البيع (2)
وبهذا المعنى فسرها الخطيب الشربيني الشافعي، فقد عد من البيوع المنهي عنها، بيعتين في بيعة، ومثل لها بما لو قال: بعتك هذا بألف نقدًا أو ألفين إلى سنة، وخير البائع المشتري، فهذا باطل للجهالة (3)
وحكى ابن قدامة الحنبلي مثل ذلك عن الحنابلة أيضًا، فقد ذكر في تفسير بيعتين في بيعة، وجهين، أحدهما، أن يقول الرجل لصاحبه: بعتك هذا الشيء بعشرة نقدًا أو بخمسة عشر نسيئة أو بعشرة مكسرة أو تسعة صحاحًا، ومثل هذا البيع باطل، لجهالة الثمن.
والوجه الآخر لصورة هذا البيع، أن يقول: بعتك هذه السلعة بكذا بشرط أن آخذ منك الثمن دنانير سعرها كذا أقل من سعرها الحقيقي، أو باعه بذهب على أن يأخذ عوضها دراهم بصرف يتفقان عليه في هذا العقد (4) .
وحكى ابن قدامة عن الثوري وإسحاق تفسير البيع المنهي عنه مدار البحث تفسيرًا مشابهًا لما ذكره أولًا (5)
وبهذا المعنى أيضًا فسره الظاهرية (6) . والإمامية (7) . والإباضية (8) والزيدية (9) .
__________
(1) انظر بدائع الصنائع: 6/3041، وفتح القدير لابن الهمام المطبوع مع الهداية: 5/84
(2) انظر الشرح الكبير: 3/58، وكذا حاشية الدسوقي على الشرح المذكور بنفس الموضع أيضًا.
(3) مغني المحتاج: 2/31، وانظر الروضة: 3/397
(4) انظر المغني: 4/177
(5) المصدر السابق أيضًا.
(6) المحلى لابن حزم الظاهري: 9/627
(7) المختصر النافع لأبي القاسم جعفر بن الحسن الحلي: ص146
(8) شرح النيل وشفاء العليل: 8/128
(9) البخر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار: 4/294(6/136)
علة النهي عن هذا البيع:
مما مضى يتبين لنا أن الفقهاء متفقون على أن علة النهي عن بيعتين في بيعة هو:
(أ) الجهالة بالثمن، وهذا يتحقق فيما إذا افترق المتعاقدان دون أن يحدد أحد البيعتين وثمن المبيع المتعاقد عليه، فأشبه في هذه الناحية البيع بالرقم المجهول.
(ب) عدم الجزم في بيع واحد، فأشبه ما لو قال: بعتك هذا أو هذا.
(ج) (ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم فلم يصح (1) . وصار بمثابة ما لو قال: بعتك أحد داري هاتين.
حكم البيع بهذه الصورة:
لقد تبين لنا من خلال تفسير الفقهاء لحديث بيعتين في بيعة – المنهي عنها – بطلان البيع بالصيغة المذكورة، أعني بها صورة عدم الجزم ببيع معين، وينفض المجلس دون أن يحدد المتعاقدان نوعًا معينًا منه.
وقد حكى ابن قدامة وغيره من الفقهاء اتفاق وجهة نظر الجمهور هذه، حيث قال من قال لغيره، بعتك هذا الثوب بعشرة نقدًا أو بخمسة عشر نسيئة، فالبيع باطل وهو قول الجمهور (2) وقد روي عن طاوس والحكم وحماد من فقهاء السلف أنهم أجازوا مثل هذه الصورة من البيع. إلا أن ابن قدامة نفسه وجه قولهم هذا بأنه يحمل على أنه قد جرى بين المتعاقدين ما يجري في العقد، فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا، فقال خذه أو قد رضيت ونحو ذلك، فيكون عقدًا كافيًا، أما إذا لم يصدر من المشتري ما يقوم مقام الإيجاب صراحة أو دلالة، فلا يصح العقد عندئذ، لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابًا (3)
وذهب الإباضية في رأي لهم إلى جواز ذلك أيضًا، فقد ذكر صاحب شرح النيل أن المختار منع البيع في الصورة مدار الكلام، وهو قول أبي الحسن، لأنه لم يقع عن ثمن معين ولا على أجل مقطوع به أو نقد أو عاجل مقطوع به، ثم أضاف قائلًا: وجوز البيع في هذه الصورة وفي غيرها من الصور الأخرى المشابهة لها مثل الجمع في عقد واحد بين شرط وبيع، واختار ذلك صاحب المنهاج (4)
وما ذهب إليه الجمهور هو المختار لما ذكروه من تدليل.
__________
(1) ابن قدامة في المغني: 4/177
(2) المغني: 4/177، وانظر الكاساني في البدائع: 6 / 3041، روضة الطالبين: 3/397، الشرح الكبير: 3/58، الروض النضير: 3/484.
(3) انظر المغني في المرجع والموضع السابقين
(4) انظر: 8/130(6/137)
حكم الزيادة في الثمن نظير الأجل:
ذكرنا قبل قليل رأي الفقهاء في مسألة بيعتين في بيعة الوارد النهي عنها في الحديث النبوي الشريف، ووقفنا على تفسير المحدثين والفقهاء لهذا البيع، ونريد أن نتعرف على رأيهم هنا في مسألة الزيادة في ثمن السلعة نظير تأخير الدين، وهي مسألة البيع بالتقسيط مدار البحث، وفي هذه الحالة نستبعد الصورة الأولى للبيع، وهي صورة التردد وعدم الجزم لإحدى البيعتين، حيث سنوضح هنا موقفهم فيما لو انصرفت إرادة المتعاقدين إلى بيع معين مما ورد في الإيجاب وقد اتفق على الزيادة لقاء تأخير الثمن سواء اتفق على دفعه مرة واحدة في المستقبل أو على دفعات، وقد تم ذلك بقبول الموجه إليه العرض إحدى الصفقتين، فيكون هذا بمثابة الإيجاب من المشتري، فإذا حصل القبول من البائع، هل يتم العقد عندئذ؟ وهل يصح الاعتياض عن الأجل بالمال؟
أقول: للفقهاء رأيان في هذه المسألة:
1- ذهب أصحاب الرأي الأول إلى القول: إن الزيادة في الثمن نظير الأجل، كالزيادة في الدين نظير الأجل، فكما أن الزيادة الأخيرة تعتبر ربا، كذلك الأولى.
هذه وجهة نظر زين العابدين علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى (1) وبهذا قال أبو بكر الجصاص من الحنفية أيضًا (2)
وقد استدل أصحاب هذا الرأي بأدلة من الكتاب والسنة والقياس والمعقول.
(أ) فمن الكتاب عموم قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] فالآية أفادت تحريم البيوع التي يؤخذ فيها زيادة مقابل الأجل لدخولها في عموم كلمة الربا، وهي تقيد الإباحة في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 29] .
فإن كل العقود الربوية مقيدة لهذه الإباحة.
وأضاف أصحاب هذا الرأي قائلين: لو قيل إن البيوع بأثمان مؤجلة داخلة في معنى قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، إذ هي بيع.
فالجواب على هذا: أنها تحتمل الاثنين، فكما أنها تحتمل أن تكون داخلة في عموم البيع، تحتمل أيضًا أن تكون داخلة في عموم الربا، وعند الاحتمال من غير ترجيح يقدم احتمال الحظر على احتمال الإباحة، وخصوصًا أن إحلال البيع ليس على عمومه، بل خرجت منه البيع الربوية، والبيع محل النزاع منها (3)
(ب) واستدلوا بالروايات التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في نهيه عن بيعتين في بيعة والتي فصلنا الكلام فيها مسبقًا.
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني: 5/250
(2) أحكام القرآن: 2/186، وقد نص الجصاص فيه على ما يلي: " ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالّة فقال له: أجلني وأزيدك فيها مائة درهم لا يجوز، لأن المائة عوض من الأجل كذلك الحط في معنى الزيادة إذ جعله عوضًا من الأجل، وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدال عن الآجال ".
(3) الإمام زيد للأستاذ محمد أبو زهرة: ص 290، حكم بيع التقسيط للدكتور محمد عقلة الإبراهيم ص 168.(6/138)
(ج) إن البيع مع زيادة في الثمن، يعتبر من قبيل بيع المضطر، وهو منهي عنه، ولا يصدق عليه قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
(د) إن هذه الزيادة بسبب الأجل، والزيادة لهذا السبب خالية عن العوض فتنطبق عليها كلمة الربا الذي يعني الزيادة بدون عوض، فتندرج تحت التحريم.
(هـ) قاس أصحاب هذا الرأي زيادة الثمن مقابل زيادة المدة، على إنقاص الدين عن المدين مقابل تعجيل الدفع، فلا فرق بين أن تقول سدد الدين أو نزد في نظر الأجل، وأن تبيع بزيادة في الثمن لأجل التأجيل، فالمعنى فيهما جميعًا أن الأجل له عوض وهو بمعنى الربا، قال الجصاص: " حظر أن يؤخذ للأجل عوض، فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة فوضع عنه على أن يعجله، فإنما جعل الحط بحذاء الأجل فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله تعالى على تحريمة (1)
وقد دلل الجصاص على تحريم أخذ العوض مقابل الأجل بما قاله أبو حنيفة فيمن دفع إلى خياط ثوبًا فقال له: إن خطته اليوم فلك دينار مثلًا وإن خطته غدًا فلك نصف دينار، أن الشرط الثاني باطل. فإن أجل خياطته لليوم الثاني، فله أجر مثله، لأنه جعل الحط بحذاء الأجل والعمل في الوقتين على صفة واحدة فلم يجزه، لأنه بمنزلة بيع الأجل وذلك غير جائز (2)
مما تقدم يتبين لنا أن عمدة أدلة القائلين بعدم جواز بيع التقسيط هو أن ذلك ضرب من الربا المحرم، ومستندهم الرئيسي في ذلك أن الزيادة في ثمن هي في مقابل الأجل، والأجل ليس بالشيء الذي يستحق عوضًا فتكون زيادة بلا عوض وهو عين الربا الذي نهى الشرع عنه وحرمه.
2- أجاز جمهور الفقهاء الزيادة في ثمن العرض مقابل تأجيل دفعة، فعلى هذا تصح على رأيهم صورة البيع مدار البحث - البيع بالتقسيط – وذلك عند انصراف إرادة المتعاقدين إلى صيغة معينة من البيعتين، وهي صيغة زيادة ثمن السلعة مقابل تأجيل دفع ثمنها، على أن يكون الدفع على وجبات يتفق عليها الطرفان عند إبرام العقد.
__________
(1) أحكام القرآن: 2/186
(2) المصدر السابق أيضًا(6/139)
هذا ما ذهب إليه المالكية، جاء في الشرح الكبير بعد ذكره لصورة البيعتين في بيعة وفسادها عند أخذ المشتري السلعة دون أن يعين إحدى البيعتين ويختار ذلك بعد انفضاض المجلس، قال الشيخ الدردير بعد هذا: فإن وقع العقد لا على الإلزام، بل أعطي الخيار للمشتري، وقال: اشتريت بكذا، فلا منع (1) . وقد عقب الشيخ العدوي على ما قاله الخرشي ببطلان البيع على وجه يتردد النظر فيه في مسألة بيعتين في بيعة، قال " احترز بذلك عن أن يقول البائع ذلك ويقول المشتري: اشتريت بكذا فإنه لا منع حينئذ. (2) . وهذا ما ذهب إليه الحنفية، فقد ذكر الكاساني أن العلة في تحريم بيعتين في بيعة، هي الجهالة في الثمن، فإذا علم ورضي به جاز البيع، لأن سبب الفساد قد زال في المجلس وله حكم حالة العقد، فأصبح كأنه معلوم عند العقد (3) وبجواز البيع في هذه الحالة قال الشافعية أيضًا،: نص على ذلك النووي في الروضة حيث قال: " لو قال: بعتك بألف نقدًا وبألفين نسيئة أو قال بعتك نصفه بألف ونصفه بألفين، فيصح العقد " (4) .
معنى هذا، أن المشتري رضي بإحدى صورتي البيع في المجلس، وانفض المجلس عن تراضٍ من المتعاقدين على نوع معين من البيع. وهذا ما صرح به الحنابلة في كتبهم، فقد نص الشيخ ابن النجار على ما يلي: " ولا بعشرة نقدًا أو عشرين نسيئة، إلا إن تفرقا فيهما على أحدهما " (5) .
وفي فتوى لابن تيمية – رحمه الله تعالى – أنه سئل عن رجل عنده فرس شراه بمائة وثمانين درهمًا، فطلبه منه إنسان بثلاثمائة درهم إلى مدة ثلاثة شهور، فهل يحل ذلك؟ فأجاب: " الحمد لله، إن كان الذي يشتريه لينتفع به أو يتجر به، فلا بأس في بيعه إلى أجل، لكن المحتاج لا يربح عليه الربح المعتاد، لا يزيد عليه لأجل الضرورة وأما إذا كان محتاجًا إلى دراهم، فاشتراه ليبيعه في الحال ويأخذ ثمنه، فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء" (6)
__________
(1) انظر: 3/58
(2) انظر حاشية الشيخ العدوي على شرح الخرشي لمختصر سيدي خليل: 5/73
(3) انظر البدائع: 6/3042.
(4) انظر: 3/396
(5) انظر منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات: 1/346
(6) انظر مجموعة فتاوى ابن تيمية: 29/501.(6/140)
وكذا أجاز الإمامية الزيادة في ثمن العرض مقابل تأجيل دفعه بشرط أن يكون الأجل محددًا، ذكر ذلك صاحب المراسم بقوله: " وما علق بأجلين، وهو أن يقول بعتك هذه السلعة إلى عشرة أيام بدرهم وإلى شهرين بدرهمين، باطل لا ينعقد، وما علق بأجل واحد صحيح، ويلزم الشرط الذي يشترط المتبايعان في النسيئة، حتى لا يكون ضمان المال مدة الأجل على المبتاع " (1) وهذه وجهة نظر الزيدية أيضًا، فقد حكى صاحب الروض النضير عن الإمام زيد، أن بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء جائز، بدليل أنه قد أثبت للمشتري الآخر الخيار في المرابحة فيمات لو اشترى رجل سلعة إلى أجل ثم باعها مرابحة، والمشتري لا يعلم أنه اشتراها إلى أجل ثم علم بعد ذلك، فله في هذه الحالة الخيار إن شاء أخذ وإن شاء رد، إذ لولا زيادة الثمن في شراء الأجل، لم يظهر لإثبات الخيار وجه (2)
وقد أكد صاحب الروضة الندية ذلك حيث قال: " إن بيع الشيء بأكثر من سعر يومه مؤجلًا ليس من الربا في ورد ولا صدر (لأن الربا زيادة أحد المتساويين على الآخر ولا تساوي بين الشيء وثمنه مع اختلاف جنسهما فلا يصح أن يكون تحريم هذه الصورة لكونها ربا " (3)
وبخصوص مسألة البيع بالتقسيط قال: لو تعاقد المتبايعان على أحد الأمرين – النقد أو النسيئة – في المجلس فهو صحيح لا خلاف فيه (4) . وهذه وجهة نظر الإباضية أيضًا، جاء في شرح النيل ما نصه: " وإن قطع المشتري للبائع بواحد مما ردد فيه البائع في حينه جاز " (5)
وقد دلل هؤلاء الفقهاء – رحمهم الله تعالى – على وجهة نظرهم هذه بما يلي:
1-إن صورة البيع مدار البحث داخلة في عموم كثير من الآيات الطريقة التي تقضي بجواز هذه البيوع، منها قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . وهو نص عام يدل على جواز البيوع بأجمعها إلا التي ورد النص بتحريمها، فإنها تصبح حرامًا بالنص مستثناة من العموم، ولم يرد نص يقضي بتحريم جعل ثمنين للسلعة ثمن معجل وثمن مؤجل، فيكون حلالًا أخذًا من عموم الآية (6) .
ومنها قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وإن من أعمال التجارة البيع بالنسيئة، ولا بد من أن تكون له ثمرة، وتلك الثمرة داخلة في باب التجارة، وليست داخلة في باب الربا، والرضا ثابت، لأن البيع بالمؤجل طريق من طرق ترويج التجارة، فهو إجابة لرغبة وليس اضطرارًا، إذ قصد البائع من هذه الزيادة تلافي ما قد يصيب الدين من آفات، كما أن المشتري قد تسلم العين دون أن يدفع ثمنًا مقابلها في الحال، فهو قد تسلم عينًا مغلة منتفعًا بها وهي موضع اتجار، فما يأخذه البائع من زيادة في الثمن بسبب التأجيل، إنما يأخذ ثمن غلة (7)
__________
(1) انظر: ص 174، والمراسم تأليف حمزة بن عبد العزيز الديليمي
(2) انظر: 3/525
(3) انظر: 2/101
(4) انظر: 2/101
(5) انظر: 8/129
(6) الشوكاني في نيل الأوطار: 5/173، الدكتور محمد عقلة في بحثه حكم البيع بالتقسيط ص 173
(7) الأستاذ عقلة في بحثه السابق أيضًا.(6/141)
2- واستدلوا ببعض الأحاديث والآثار المروية التي دلت على جواز جعل المدة عوضًا عن المال، وأن الزيادة في الثمن المؤجل جائزة، منها:
(أ) ما روي ((أن رسول الله صلى الله علية وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز جيشًا فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل)) (1) ، والدليل واضح هنا على جواز أخذ زيادة على الثمن نظير الأجل.
(ب) لقد سوغ الشارع صلى الله عليه وسلم جعل المدة عوضًا عن المال وذلك فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ((لما أمر بإخراج بني النضير جاء ناس منهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا: يا نبي الله إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل فقال عليه الصلاة والسلام: (ضعوا وتعجلوا)) (2)
يقول السيّاغي بعد ذكره لهذه الرواية: " لما كان الوضع لأجل التعجيل ثبت أنه في مقابل عدم استيفاء مدة الأجل، فيكون تأخير الأجل في مقابل الزيادة في المال مثله سواء لا بأس به " (3)
3-واستدل الجمهور بالمعقول أيضًا، حيث قالوا: إن الأصل في الأشياء والعقود والشروط الإباحة متى ما تمت برضا المتعاقدين الجائزي التصرف فيما تبايعا، وإلا ما ورد عن الشرع ما يبطله، ولما لم يرد دليل قطعي على تحريم البيع بالتقسيط، فيبقى على الأصل وهو الإباحة، ومن ادعى الحظر فعليه الدليل. بل قد ورد العكس من ذلك، فقد نص الشارع على الوفاء بالعهود والشروط والمواثيق، وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به، علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده، ومقصود العقد هو الوفاء به، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العقود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة (4)
4- ومن استدلالهم بالمعقول أيضًا، أن الزيادة لا تتعين عوضًا عن الزمان، بدليل أن بعض الناس قد يبيع سلعته بالأجل بأقل مما اشتراها به لقلة الطلب على البضاعة وللخوف من كسادها ورخصها، بل قد يضطر لبيعها أحيانًا بأقل من قيمتها الحقيقية بالآجل أو بالعاجل، فعلى هذا لا تتعين الزيادة للزمان، بل الزيادة في أكثر الأحيان غير متعنية (5)
5- وفوق ذلك أن العقود في الشريعة الإسلامية ينظر إليها غير موازنة بغيرها، فالعقد مع تأجيل الثمن عقد قائم بذاته ينظر إليه من حيث سلامة العقد وليس فيه أي شائبة للربا من غير نظر إلى غيره من العقود الأخرى.
وهذه النظرة تجعل العقد صحيحًا بذاته، وكون البيع معجلًا بعقد آخر بثمن أقل لا يؤثر في العقد الأول، لأنها عقدان متغايران يتميز كل واحد منهما عن صاحبه (6)
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والدارقطني.
(2) رواه الحاكم في المستدرك وابن ماجه. انظر الروض النضير: 3/527
(3) الروض النضير: 3/527
(4) مجموعة فتاوى ابن تيمية: 29/ 126
(5) الأستاذ أبو زهرة في مؤلفه الإمام زيد: ص 291
(6) المصدر السابق أيضًا(6/142)
مناقشة أدلة المانعين زيادة الثمن مقابل تأجيل دفعه:
أجاب الجمهور عن أدلة الفريق القائل: بعدم جواز زيادة ثمن السلعة مقابل تأجيله، وبالتالي يترتب على هذا القول، عدم جواز البيع بالتقسيط، بما يلي:
1-إن قولهم هذا البيع يعتبر من قبيل الربا للزيادة في الثمن، يجاب عليه: أن الشارع صلى الله عليه وسلم نص فيما يحرم من الربا على الأجناس الستة، فبعض الفقهاء اقتصر عليها، وبعضهم ألحق بها غيرها مما يظن أنها داخلة تحت عموم العلة، وهي محل خلاف بين الفقهاء. والمسألة محل النزاع خارجة عن المنصوصة وعما ألحق بها قياسًا، إذ هي مفروضة في مبيع اختلف فيه الجنس والتقدير، وجوازه لا ينبغي أن يخالف فيه أحد الفريقين (1)
ومن هنا جاء اعتراض بعض فقهاء الزيدية على الترجمة للمسألة مدار البحث، إذ يرى المعترض أن الترجمة الصحيحة للمسألة هي: " لا يجوز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء بما اختلفا جنسًا وتقديرًا ". لأن ما اتفق فيه العوضان جنسًا مع التقدير أو الطعم أو القوت على خلاف الفقهاء في موضوع العلة، يحرم فيه التفاضل والنساء، وما اختلفا فيه كذلك يجوز فيه التفاضل والنساء (2)
والمسألة مدار البحث من القسم الثاني وهو موضوع اتفاق.
2-أما الاحتجاج بآية الربا من حيث أنه لغةً الزيادة، والزيادة في الثمن لأجل النساء داخلة تحت هذا العموم فيسري عليها التحريم، فالجواب على هذا من عدة وجوه.
(أ) إن الزياة لا يكاد يخلو منها كل بيع، فالآية على هذا تصبح مجملة في تعيين الأنواع المحظورة، وقد بينتها السنة في الأشياء الستة المنصوصة، أو فيها وما ساواها في العلة، والمسألة محل النزاع خارجة عن كل منهما.
(ب) إن الزيادة المعتبرة ما كانت فرع الاشتراك في المزيد كالصاع بالصاعين، ولا يتحقق في مختلف الجنس والتقدير.
(ج) وأيضًا ليس للسعر استقرار كالتقدير بالكيل والوزن لما فيه من التفاوت بحسب الغلاء والرخص والرغبة وعدمها وداعي الحاجة وعدمه، فعلى هذا لا يصلح أصلًا ومناطًا يرجع إليه في تعليق الحكم به.
(د) إن الزيادة المحظورة في مقابلة المدة إنما منعها الشارع إذا كانت ابتداء كما كان عليه أمر الجاهلية في قولهم: (إما أن تقضي وإما أن تربي) . وأما إذا كانت تابعة للعقد كما في مسألتنا هذه فهو من البيوع المباحة ولو زاد على سعر يومه.
قال في المنار: " وليس هناك زيادة محققة إذ المجموع يقابل البدل الآخر وإنما جعل البدل أكثر لغرض هو تأخير الثمن، كما يفعل مثله لأي غرض من الأغراض العارضة ولا مساواة بينهما وبين ربا النسيئة التي استقل فيها رأس المال وانفصل عن الربا، ونظيره البيع بأقل من سعر سوقه، هل يقسم المبيع في ذلك إلى زيادة ومزيد عليه، ويقال: لم يقابل الزيادة شيء " (3)
__________
(1) الروض النضير: 3/526
(2) المصدر السابق أيضًا
(3) الروض النضير: 3/527(6/143)
3-أما الاحتجاج بقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} ، فيجاب عليه: أن الرضا في البيع مدار البحث أمر لا ينكر (وهو باعث عليه وبمثله لا يصير البائع مكرها وإلا لزم مثله في كل بيع وشراء) ، إذ لابد من حامل له كحاجة المشتري إلى المبيع والبائع إلى الثمن والفرق بين الباعث والمكره , أن الأول أمر متعلق بما يوجبه العقد من آثاره ,والثاني أمر متعلق بالعقد فقط إذ الإكراه إنما يتحقق على العقد , والإكراه معارض للباعث. فمتى غلبه صار مغيِّرا للاختيار فيكون البيع لا عن فلا حكم له (1) .
4- وأما استدلالهم بحديث النهي عن صفقتين في صفقة وتفسير سماك له بما يفيد منعه، فيجاب عنه: أن هذا الحديث يحتمل أكثر من تفسير، فكما يحتمل أن يكون المراد به أبيعك هذه السلعة بألف نقدًا، وبألفين نسيئة، يحتمل أن يراد به بعتك هذه الدابة على أن تبيعني عربتك بكذا مثلا أو أن يسلف دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فلما حلّ الأجل وطالبه بالحنطة قال بعني القفيز الذي لك عليّ إلى شهرين بقفيزين فصار بيعتين في بيعة، واحتمال الحديث لتفسير خارج عن محل النزاع يقدم في الاستدلال به على المتنازع فيه.
على أن غاية ما في الحديث من دلالة هو المنع من البيع إذا وقع على صورة أبيعك نقدًا بكذا ونسيئة بكذا، لا إذا تم البيع نسيئة من أول العقد وكان أكثر من سعر يومه، مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة ولا يدل الحديث على ذلك، فالدليل أخص من الدعوى.
ومن جهة أخرى، فالنهي في الحديث محلّه فيما إذا قبل المشتري على الإبهام دون أن يعين أحد الثمنين، أما لو قال قبلت بألف نقدًا أو بألفين نسيئة صح ذلك (2) .
أما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) . وأنه يفيد أن من باع بثمن مؤجل أكثر من الثمن الحالّ فعليه أن يأخذ بالأقل منهما، وإلا دخل في الربا المحرم، فجوابه: أن في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد، والمشهور عنه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (3)
ومن جهة أخرى، فإن ابن القيم قد فسر الحديث بأن يبيع الرجل السلعة بمائة مؤجلة ثم يشتريها منه بمائتين حالّة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما وهو من أعظم الذرائع إلى الربا. وأنه لا يعني النهي عن البيع بخمسين حالّة أو بمائة مؤجلة، فهي ليست قمارًا ولا جهالة ولا غررًا ولا شيئًا من المفاسد، فإن خُيِّر المشتري بين أي الثمنين شاء، وليس هذا بأبعد من تخييره بعد البيع بين الأخذ والإمضاء ثلاثة أيام (4)
__________
(1) المصدر السابق أيضًا
(2) الشوكاني في نيل الأوطار: 5/249
(3) انظر المصدر السابق أيضًا
(4) أعلام الموقعين: 2/149(6/144)
الرأي المختار:
بعد هذا العرض لرأي الفريقين في مسألة البيع بالتقسيط ومناقشة أدلة القائلين بعدم صحة هذا البيع، يترجح لنا رأي الجمهور القائلين بجوازه لقوة أدلتهم من جهة ولوجاهة رأيهم من جهة أخرى، إذ المصلحة تقضي بالأخذ برأيهم، فمن المعروف أن كثيرًا من الناس يتعذر عليه شراء بعض السلع لا سيما ذات الأسعار العالية إلا عن هذا الطريق، فلو أخذنا برأي القائلين بالمنع، لألحقنا الضرر بفئة كبيرة من المجتمع وهم أصحاب الدخل المحدود، وربما تكون هي الفئة الغالبة فيه، فمن الأولى أن نجيز مثل هذا التعامل دفعًا للحرج عنهم ولتذليل سبل العيش أمامهم. والله أعلم.
تحديد الأجل شرط لجواز البيع بالتقسيط:
إن القائلين بجواز البيع بالتقسيط من الفقهاء – رحمهم الله تعالى – اشترطوا لجوازه أن يكون دفع القسط محدد الوقت ومعلومًا عند المتعاقدين، لأن جهالة الوقت تفضي إلى المنازعة، فيفسد البيع. قال الكاساني: اشترط في البيع المؤجل الثمن، أن يكون الأجل فيه معلومًا، لأن جهالته تفسد البيع، سواء كانت الجهالة فاحشة كهبوب الريح ومطر السماء مثلًا، أو متقاربة كالحصاد والدياس وقدوم الحاجّ. وذكر، أن العقد لو تم بثمن دين إلى أجل مجهول جهالة متقاربة، ثم أبطل المشتري الأجل قبل محله وقبل أن يفسخ العقد بينهما لأجل الفساد جاز العقد عند أبي حنيفة والصاحبين، وعند زفر لا يجوز.
ولو مضى العاقدان في العقد ولم يبطل المشتري الأجل حتى حل وأخذ الناس في الحصاد ثم أبطله، لا يجوز العقد باتفاق أئمة المذهب.
ولو أن الجهالة في الأجل كانت فاحشة فأبطل المشتري الأجل قبل الافتراق من المجلس ونقد الثمن، جاز البيع عند الإمام وصاحبيه، وعند زفر لا يجوز، ولو افترق المتعاقدان قبل إبطال الأجل، لا يجوز باتفاق فقهاء المذهب (1)
وبفساد العقد عند جهالة موعد تسديد الثمن قال المالكية أيضًا، فقد عد الدردير من جملة البيوع الفاسدة ما لو اشترى شيئًا بنقد كذا وأجل ثمنه لحين ولادة الجنين الذي في بطن ناقته (2) . وهذه وجهة نظر الشافعية أيضًا (3) . وبه قال الحنابلة، ذكر ذلك ابن قدامة عند كلامه عن شرط الخيار إلى مدة مجهولة كقدوم زيد أو هبوب ريح ونحو ذلك (4) وتأجيل دفع الثمن لمثل ما ذكرنا يفسد العقد للجهالة أيضًا.
وحكى صاحب الروض النضير عن الزيدية مثل هذا الرأي، حيث نقل عن زيد بن على عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لا يجوز البيع إلى أجل لا يعرف " وقال في موضع آخر: لا يجوز البيع إلى الحصاد ولا إلى الدياس للعلة نفسها (5) . وإلى هذا ذهب الإمامية (6) والإباضية (7) . والظاهرية.
فعلى هذا يكون الاتفاق قد حصل بين القائلين بجواز البيع بالتقسيط بوجوب تحديد الأجل بوقت يتفق عليه الطرفان، وأن لا يكون الأجل مجهولًا كهبوب الريح ونزول المطر وما أشبه ذلك.
__________
(1) البدائع: 7/3092
(2) انظر الشرح الكبير: 3/57
(3) انظر روضة الطالبين: 3/396
(4) انظر المغني: 3/501
(5) انظر: 3/519
(6) الديلمي في المراسم: ص 174
(7) انظر شرح النيل: 9/45(6/145)
رأي القانون في البيع بالتقسيط:
وكما أجاز جمهور الفقهاء البيع بالتقسيط والزيادة في الثمن مقابل تأجيله، أجازه رجال القانون أيضًا.
فقد جاء في المادة (245) من مجلة الأحكام العدلية، أن البيع مع تأجيل الثمن وتقسيط صحيح (1)
وقد ذكر المرحوم منير القاضي في شرحه للمجلة أن الثمن الحالّ ما يجب أداؤه عقب إبرام العقد، والأصل في الثمن أن يكون حالًّا ولهذا لو أطلق العقد ولم يذكر فيه تعجيل الثمن أو تأجيله، يكون حالًّا إلا إذا كان العرف يقضي بخلاف ذلك فيصار إليه. والمؤجل (ما يتأخر وجوب أدائه زمنًا معينًا) . ولا يتأجل الثمن إلا إذا نص عليه في العقد أو بعده أو قضى العرف بذلك.
أما المقسّط فهو ما اتفق على أدائه بصورة دفعات في أوقات محدودة.
ولو اشترط البائع على المشتري عند العقد، أنه إذا تأخر عن دفع أي قسط، فإن الأقساط الأخرى تحل، صح الشرط، ووجب العمل به. وإذا لم يشترط ذلك وتأخر المشتري عن أداء قسط في موعده لاتحل بقية الأقساط.
وكذا أجاز المقنن العراقي تأجيل ثمن المبيع بشرط أن يكون الأجل معلومًا، كما أجاز للمتعاقدين أن يتفقا على تقسيطه بأقساط معلومة تدفع في مواعيد معينة، وأجاز الاشتراط في العقد على أن المشتري إذا أخل بالتزامه في تسديد أقساط الثمن في موعدها المحدد، فإنه ملزم بتسديد جميع الثمن، بذلك قضت الفقرة (1) من المادة (574) من القانون المدني. والتي نصت على ما يلي: (1- يصح البيع بثمن حالّ أو مؤجل إلى أجل معلوم، ويجوز اشتراط تقسيط الثمن إلى أقساط معلومة تدفع في مواعيد معينة، كما يجوز الاشتراط بأنه إن لم يوف القسط في ميعاده يتعجل كل الثمن) .
والمرحوم الأستاذ السنهوري قد وافق الجمهور أيضًا في المسألة مدار البحث فقد نص في الوسيط على ما يلي: (يقع كثيرًا أن يبيع شخص عينًا بثمن مقسط. . . وأكثر ما يقع ذلك في بيع السيارات والآلات الميكانيكية. . .وفي بيع المحلات التجارية والأراضي والدور. . . فيجمع إلى أصل الثمن فوائده، ويقسم المجموع أقساطًا على عدد الشهور أو السنين، إذا وفّاها المشتري جميعها خلصت له ملكية المبيع) (2)
أفاد النص المذكور جواز إضافة فوائد على الثمن الحال عند تأجيله، وتضاف الفوائد على أصل الثمن ويقسم المجموع أقساطًا على عدد الشهور أو السنين.
وإذا كانت الفوائد هي ما تستعمله القوانين الوضعية من اصطلاح للتعبير عن الفرق بين الثمن المعجل والمؤجل بسبب إقرارها لمبدأ الفائدة الربوية، فإن ما يقابل ذلك في اصطلاح الشرع هو زيادة الثمن بالنسيئة عنه في النقد مقابل الأجل. ومن هنا يتضح لنا أن القانون يوافق الشرع في أصل الفكرة وهي زيادة الثمن نظير الأجل، وإن كان الشرع لا يوافق القانون في التسمية والحكم (3) .
__________
(1) ومجلة الأحكام العدلية هي القانون المدني المعمول به سابقًا في بعض الأقطار الإسلامية.
(2) 4/172
(3) الأستاذ محمد عقلة في بحثه السابق حكم البيع بالتقسيط(6/146)
شروط صحة العقد بالأجل أو التقسيط في القانون:
حذا المقنن في المجلة حذو فقهاء المسلمين عند اشتراطه لصحة البيع بالأجل أو التقسيط تحديد مدة الأجل، وإذا أبرم العقد بدون ذكر مدة، ففي هذه الحالة تكون المدة شهرًا واحدًا، فتصبح مدة التأجيل بهذه الصورة معلومة. أما إذا ذكر للأجل مدة مجهولة، فالبيع فاسد، بذلك قضت المادة (249) من المجلة والتي نصت على ما يلي: (إذا باع نسيئة بدون بيان مدة تنصرف المدة إلى شهر واحد فقط) . وقد ذكر المرحوم منير القاضي عند شرحه لهذه المادة، أن الجهالة في الأجل على نوعين، يسيرة متقاربة، أو فاحشة متفاوتة، والمتقاربة على حد قوله، إن الأجل فيها معلوم ولكن تعيين حلوله فيها مجهول , أو بعبارة أخرى (أن لا يمكن حصول الأجل في أي زمن بعد العقد، بل له وقت محدود معلوم كالتأجيل إلى الحصاد) . فالحصاد لا يحصل في كل الأوقات بل في مدة من الزمن محدودة يتردد وقوعه بين أولها وآخرها. أما المتفاوتة فالأجل فيها مجهول، وبعبارة أخرى (ما يمكن حصوله في كل وقت بعد العقد) . وذلك كالتأجيل بهبوب الريح وأمطار السماء (1)
ويجنح الأستاذ إلى القول: إن الجهالة اليسيرة لا تفسد العقد بخلاف الفاحشة فإنها تفسده إلا إذا ألغي التأجيل بها في مجلس العقد وقبل أن يفترق المتعاقدان.
والأستاذ في رأيه هذا يخالف رأي جمهور الفقهاء الذين لم يفرقوا بين فساد العقد بالجهالة اليسيرة أو الفاحشة إذا ذكرت في صلب العقد كما تبين لنا ذلك من خلال ما حكيناه عنهم.
ويمضي المرحوم القاضي في قوله: إذا حصل التأجيل بعد العقد فإن كانت مدة دفع الثمن مجهولة جهالة يسيرة فلا يضر ويعتبر، أما لو كانت فاحشة، فلا يعتبر التأجيل ولا يختل العقد، والظاهر من إطلاق المجلة كما يقول الأستاذ الجري على هذا الرأي، حيث إن المادة (248) التي عالج المقنن فيها هذه المسألة لم تفصل، بل جاءت مطلقة حيث نصت على ما يلي: (تأجيل الثمن إلى مدة غير معينة كإمطار السماء يكون مفسدًا للبيع) .
__________
(1) انظر شرح المجلة للأستاذ القاضي 1/281(6/147)
وبخصوص بداية الأجل، فإن المدة تبتدئ من وقت تسليم المبيع إن لم يحدد لبدايتها أو نهايتها تاريخ معين كأن يقول إلى شهر أو سنة، وذلك بغية إعطاء المشتري الفرصة الكافية ليحصل على الفائدة المرجوة من التأجيل، وهو الانتفاع بالمبيع في مدة الأجل، فإن تأخر البائع عن تسليم المبيع طول المدة المذكورة لسبب ما فللمشتري حق التأجيل لمدة أخرى تبتدئ عقب التسليم.
أما لو تعذر التسليم بسبب من جهة المشتري كامتناعه من التسلم، فالمدة تحتسب عندئذ من وقت الامتناع دفعًا للضرر.
ولو أن المتعاقدين قد حددا للمدة بداية ونهاية، كأن يقول البائع لصاحبه: بعتك هذه العربة بألف دينار إلى شهر يبتدئ من كذا أو ينتهي بيوم كذا أو إلى عيد الفطر المقبل أو نحو ذلك، فمتى حلّ الأجل وجب أداء الثمن، سواء قبض المشتري المبيع أم لا، وسواء كان المتسبب في عدم القبض هو البائع أو هو المشتري، لأن المدة متى تعينت فليس له غيرها. والأجل يحلّ بأحد أمرين، إما بانتهاء المدة على الوجه المذكور أو بموت المشتري (1)
وحذا المقنن العراقي حذو المجلة عندما اعتبر ابتداء مدة الأجل والقسط في عقد البيع من وقت تسليم المبيع، وذلك بموجب الفقرة (2) من المادة (574) من القانون المدني التي نصت على ما يلي:
(2- ويعتبر ابتداء مدة الأجل والقسط المذكورين في عقد البيع من وقت تسليم المبيع ما لم يتفق على غير ذلك) .
وما جاء في المجلة والقانون المدني العراقي بخصوص تحديد مواعيد للأقساط معلومة لدى المتعاقدين وعند عدم دفع القسط في ميعاده، يجب تعجيل كل الثمن واعتبار ابتداء المدة من وقت تسليم المبيع، يتفق مع وجهة نظر الفقهاء، كما رأينا.
والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
__________
(1) انظر شرح المجلة أيضًا: 1/283.(6/148)
خلاصة البحث
التقسيط: بعني تأجيل أداء الدين مفرّقًا إلى أوقات معينة.
مظانّ مسألة بيع التقسيط في الفقه الإسلامي:
إن أصل مسألة بيع التقسيط يرد في كتب الفقه تحت عنوان (البيوع الفاسدة أو البيوع المنهي عنها، أو في باب بيوع الآجال) ، وقد استدل الفقهاء على فساد بعض البيوع بما صح لديهم من الآثار الواردة بهذا الخصوص.
ومن أجل الوقف على معرفة رأيهم في هذا البيع، يجدر بنا أن نتلمس مظانّ بيع التقسيط في الأحاديث النبوية الشريفة التي لها صلة بهذا البيع، لنقف على الدليل الذي استندوا عليه في تحريمهم لمثل هذه البيوع، وما إذا كان هذا النوع من البيوع يدخل ضمن هذه الآثار أم لا؟
أولًا – النهي عن شرطين في بيع: ومن الآثار الواردة عن النهي لهذا البيع حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك)) . وقد اختلف شرّاح الحديث في صورة هذا البيع، وقد اخترت التفسير الذي يعني: أن يشترط البائع حقوق البيع ويشترط شيئًا خارجًا منها، كأن يشترط لقاء المبيع أن يهبه شيئًا أو أن يشفع له إلى فلان، ونحو ذلك فهذان شرطان في صفقة واحدة.
ثانيًا – النهي عن بيعتين في بيعة: ومن الآثار الواردة عن النهي لهذا البيع حديث سماك الذي قال فيه: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، قال سماك: هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسأ بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا)) .
وقد فسر الشرّاح الحديث بتفاسير عديدة، وأوجه التفاسير عندي هو تفسير سماك راوي الحديث. وهذه الصورة هي الأساس لبيع التقسيط.(6/149)
تفسير الفقهاء لحديث البيعتين في بيعته:
اتفق الفقهاء على تفسير هذا البيع الوارد في الحديث بما فسره بعض شراح الحديث، من أن صورته أن يقول البائع للطرف المقابل: أبيعك هذه السلعة بالثمن الحالّ بكذا وبالنسيئة بكذا. وعلّة النهي عن هذا البيع: هي:
(أ) الجهالة بالثمن، وهذا يتحقق فيما إذا افترق المتعاقدان دون أن يحدد أحد البيعتين وثمن المبيع المتعاقد عليه، فأشبه من هذه الناحية البيع بالرقم المجهول.
(ب) عدم الجزم في بيع واحد، فأشبه ما لو قال: بعتك هذا أو هذا.
(ج) ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم.
وحكم البيع بالصيغة المذكورة، البطلان، أعني بها صورة عدم الجزم ببيع معين وينفض المجلس دون أن يحدد المتعاقدان نوعًا معينًا من البيع.
حكم الزيادة في الثمن نظير الأجل
لو انصرفت إرادة المتعاقدين إلى بيع معين مما ورد في الإيجاب، وقد اتفقا على الزيادة لقاء تأخير الثمن، سواء اتفق على دفعه مرة واحدة في المستقبل أو على دفعات، وقد تم ذلك بقبول الموجه إليه العرض إحدى الصفقتين، فيكون هذا بمثابة الإيجاب من المشتري فإذا اقترن ذلك بقبول البائع، فهل يتم العقد عندئذ وهل يصح الاعتياض عن الأجل بالمال؟
للفقهاء رأيان في المسألة:
1- ذهب أصحاب الرأي الأول إلى القول: إن الزيادة في الثمن نظير الأجل، كالزيادة في الدين نظير الأجل، فكما أن الزيادة الأخيرة تعتبر ربا كذلك الأولى. هذه وجهة نظر زين العابدين علي بن الحسين والهادوية والإمام يحيى وأبو بكر الجصاص
. وقد استدل أصحاب هذا الرأي بأدلة من الكتاب والسنة والقياس والمعقول.
(أ) فمن الكتاب عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، فالآية أفادت تحريم البيوع التي يؤخذ فيها زيادة مقابل الأجل، لدخولها في عموم كلمة الربا وهي تفيد الإباحة في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . فإن كل العقود الربوية مقيدة لهذه الإباحة.
(ب) واستدلوا بالروايات التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في نهيه عن بيعتين في بيعة والتي فصلنا الكلام فيها مسبقًا.
(ج) قاس أصحاب هذا الرأي زيادة الثمن مقابل زيادة المدة على إنقاص الدين عن المدين مقابل تعجيل الدفع فلا فرق بين أن تقول سدد الدين أو تزد في نظير للأجل وأن تبيع بزيادة في الثمن لأجل التأجيل، فالمعنى فيهما جميعًا أن الأجل له عوض، وهو بمعنى الربا.(6/150)
(د) أن هذه الزيادة بسبب الأجل، والزيادة لهذا السبب خالية عن العوض فتنطبق عليها كلمة الربا الذي يعني الزيادة بدون عوض فتندرج تحت التحريم.
الرأي الثاني، وهو رأي الجمهور، وقد أجازوا فيه الزيادة في ثمن العرض مقابل تأجيل دفعه، فعلى هذا تصح على رأيهم صورة البيع مدار البحث وذلك عند انصراف إرادة المتعاقدين إلى صيغة معينة من البيعتين وهي صيغة زيادة ثمن السلعة مقابل تأجيل دفع ثمنها على أن يكون الدفع على وجبات يتفق عليها الطرفان عند إبرام العقد، وهذه وجهة نظر المالكية والشافعية والحنفية والحنابلة والزيدية والإمامية والإباضية.
ومن أدلة الجمهور على جواز هذا البيع:
(أ) أن صورة البيع مدار البحث داخلة في عموم كثير من الآيات الكريمة التي تقضي بجواز هذه البيوع، منها قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . وقوله تعالى {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .
(ب) واستدلوا ببعض الأحاديث والآثار المروية التي دلت على جواز جعل المدة عوضًا عن المال وأن الزيادة في الثمن المؤجل جائزة. منها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز جيشًا فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل)) . ومنها، أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أمر بإخراج بني النضير، جاء ناس منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا نبي الله إنك أمرت بإخراجنا، ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((ضعوا وتعجلوا)) .
(ج) واستدلوا كذلك بالمعقول، حيث قالوا: إن الزيادة لا تتعين عوضًا عن الزمان بدليل أن بعض الناس قد يبيع سلعته بالأجل بأقل مما اشتراها به لقلة الطلب على البضاعة وللخوف من كسادها ورخصها.
وقالوا أيضًا: إن الأصل في الأشياء والعقود والشروط الإباحة متى تمت برضا المتعاقدين الجائزي التصرف فيما تبايعا إلا ما ورد عن الشرع ما يبطله، ولما لم يرد دليل قطعي على تحريم البيع بالتقسيط، فيبقى على الأصل وهو الإباحة، ومن ادعى الحظر فعلية الدليل.
وقد أجاب الجمهور على أدلة القائلين بعدم جواز الزيادة في الثمن مقابل الأجل بأجوبة مقنعة فصلتها في البحث، مما دعاني لترجيح مذهبهم.
وجوب تحديد الأجل عند البيع بالتقسيط:
حصل الاتفاق بين القائلين بجواز البيع بالتقسيط بوجوب تحديد الأجل بوقت يتفق عليه المتعاقدان وأن لا يكون الأجل مجهولًا كهبوب الريح ونزول المطر وما أشبه ذلك.
هذا وإن رجال القانون قد نحوا منحى جمهور الفقهاء عندما أجازوا البيع بالتقسيط والزيادة في الثمن مقابل تأجيله. والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو(6/151)
أهم مراجع البحث
بعد القرآن الكريم:
1-سنن أبي داود – للإمام سليمان بن الأشعث بن إسحاق الإزدي السجستاني، المتوفي سنة 275 هـ. طبع بمطبعة البابي الحلبي 1371 هـ – 1952 م.
2-سنن ابن ماجه – أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، المتوفى سنة 275 هـ.
3-نبيل الأوطار – للشوكاني محمد بن على بن محمد، المتوفى سنة 1250 هـ. مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثالثة 1380هـ 1961م.
4-بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع – لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكساني، المتوفي 587هـ , مطبعة الإمام بالقاهرة.
5-الدر المختار شرح تنوير الأبصار – للشيخ علاء الدين الحصكفي، المتوفى سنة 1088 هـ. مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، 1386 هـ – 1966 م.
6-رد المحتار على الدر المختار – للشيخ محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز الدمشقي، الشهير بابن عابدين، المتوفى سنة 1252 هـ. طبع مع الدر المختار.
7-المهذب – لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي الشيرازي، المتوفى سنة 476 هـ. مطبعة عيسى البابي الحلبي، بمصر.
8-مغني المحتاج إلى معاني ألفاظ المنهاج – للشيخ محمد بن أحمد الشربيني الخطيب، المتوفى سنة 977هـ. مطبعة مصطفى البابي الحلبي، سنة 1377 هـ – 1958 م.
9-شرح الخرشي على مختصر سيدي خليل – لأبي عبد الله محمد الخرشي، المتوفى سنة 1101هـ. المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق- مصر، الطبعة الثانية 1317 هـ، ومعه حاشية الشيخ العدوي.
10-الشرح الكبير – لأبي البركات أحمد بن محمد الشهير بالدردير، المتوفى سنة 1201 هـ. مطبعة عيسى البابي الحلبي.
11-حاشية الدسوقي – للشيخ محمد عرفة الدسوقي، والمطبوع مع الشرح الكبير.
12- المغني – لابن قدامة: أبي محمد عبد الله أحمد بن محمد بن قدامة، المتوفى سنة 620 هـ، على مختصر أبي القاسم عمر بن حسين بن عبد الله أحمد الخرقي المتوفى سنة 334 هـ. مطابع سجل العرب.
13- منتهى الإرادات – لابن النجار تقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي، المتوفى سنة 972 هـ. عالم الكتب.
14- الفتاوى الكبرى لابن تيمية – أحمد بن عبد الحليم أبي العباس تقي الدين بن تيمية، الإمام المتوفى سنة 728 هـ دار الكتب الحديثة، 14 شارع الجمهورية، مطبعة دار الجهاد، القاهرة 1385 هـ – 1965 م.(6/152)
15- مجموع الفتاوى – لابن تيمية أيضًا. الطبعة الأولى، مطابع الرياض – السعودية.
16- المحلي – للإمام ابن محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، المتوفى سنة 456 هـ. منشورات المكتب التجاري للطباعة والتوزيع – بيروت.
17- أحكام القرآن – لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص. تحقيق محمد الصادق قمحاوي، الناشر: دار المصحف، شركة مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد، القاهرة، الطبعة الثانية.
18- شرح النيل وشفاء العليل – للعلامة محمد بن يوسف أطفيش. مكتبة الإرشاد بجدة- المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية.
19- البحر الزخام الجامع لمذهب علماء الأمصار – للإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى، المتوفى 804 هـ. مطبعة السنة المحمدية بمصر، 1368 هـ – 1949 م.
20- لسان العرب – لأبي الفضل جمال الدين محمد مكرم بن منظور الإفريقي، المتوفي سنة 711 هـ. دار بيروت للطباعة.
21- شرح المجلة – للأستاذ منير القاضي. الطبعة الأولى مطبعة العاني ببغداد 1949 م.
22- الروض النضير شرح مجموع الفقة الكبير – للعلامة شرف الدين الحسين بن أحمد السياغي. مكتبة المؤيد بالطائف – السعودية، الطبعة الثانية 1968 م.
23- المراسم في الفقه الإمامي – تأليف حمزة بن عبد العزيز الديلمي. تحقيق محمود البستاني، دار الزهراء للطباعة والنشر – بيروت.
24- الروضة الندية شرح الدرر البهية – للعلامة أبي الطيب صديق بن حسن بن على الحسيني القنوجي البخاري – دار الندوة الجديدة بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1404هـ- 1984 م.
25- الإمام زيد – تأليف محمد أبو زهرة. دار الفكر العربي، شارع بور سعيد – القاهرة.
26- الوسيط – للأستاذ المرحوم السنهوري.
27- متن القانون المدني العراقي.
28- حكم بيع التقسيط في الشريعة والقانون بحث منشور في مجلة الشرعية والدراسات الإسلامية التي تصدر عن جامعة الكويت. تأليف الدكتور محمد عقلة الإبراهيم.(6/153)
البيع بالتقسيط: نظرات في التطبيق العملي
إعداد
فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس
الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
إن الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه، ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل. ونصلي ونسلم على رسله الكرام، وعلى أولهم، وخاتمهم المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن قرار المجمع الموقر في دورته الخامسة بجواز بيع المرابحة الذي تجريه المصارف الإسلامية بضوابط الشرعية يغنينا عن بحث جواز البيع بالتقسيط من حيث المبدأ ما دام مستوفيًا هذه الضوابط الشرعية.
والبحث الذي قدمته للدورة السابقة في بيع المرابحة كان تحت عنوان:
(نظرات في التطبيق العملي)
وكان من توصيات المجمع: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية، لوضع أصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق، وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء.
فرأيت أن أجعل هذا البحث مستمدًّا من هذه التوصية، فأنظر إلى الجانب العملي التطبيقي لبيع التقسيط بصفة عامة، ليضع المجمع الكريم الأصول التي جاء ذكرها في التوصية.
وقسمت البحث إلى خمسة فصول:
الأول: زيادة البيع الآجل عن الحال.
الثاني: التأخر في دفع الأقساط.
الثالث: ضع وتعجل.
الرابع: الاحتفاظ بملكية المبيع أو رهنه.
الخامس: أثر الموت في حلول الأجل.
ونسأل الله عز وجل أن يمدنا بعون منه، وأن يهدينا سواء السبيل، إنه نعم المولى ونعم النصير وهو المستعان.(6/154)
الفصل الأول
زيادة البيع الآجل عن الحال
ذكر النقد والنسيئة:
الشائع المنتشر في بيع التقسيط زيادة ثمن المبيع عن البيع الحالّ، وإذا لم يشر إلى البيع الحالّ، واتفق البيعان من البداية على بيع التقسيط بالضوابط الشرعية، فالبيع صحيح عند المذاهب الأربعة والجمهور. وقال زين العابدين على بن الحسين، والناصر والمنصور بالله، والهادوية، والإمام يحيى، يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء (1)
ولعل الصواب مع الجمهور، وما يأتي من الأدلة يبين الجواز ويمنع التحريم، وإن كان التاجر الذي ينزل بالنسيئة إلى سعر النقد يعتبر ذا فضل ومروءة، إذا كان مراعاة لحل المشتري.
والغالب في بيع التقسيط أن يذكر أيضًا سعر البيع نقدًا، فما الحكم هنا؟ روى أحمد، بسند رجاله ثقات، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال " ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)) .
قال سماك – راوي الحديث: هو الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنسأ بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا.
قال الشافعي وأحمد في تفسير هذا: بأن يقول بعتك بألف نقدًا أو ألفين إلى سنة، فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا. ونقل ابن الرفعة عن القاضي أن المسألة مفروضة على أنه قبل على الإبهام. أما لو قال: قبلت بألف نقدًا، أو بألفين بالنسيئة، صح ذلك (2) .
قال الخطابي وابن الأثير: لا يجوز أن يقول: بعتك هذا الثوب نقدًا بعشرة أو نسيئة بخمسة عشر، لأنه لا يدري أيهما الثمن الذي يختاره منهما فيقع به العقد، وإذا جهل الثمن بطل البيع.
وحكي عن طاوس أنه قال: لا بأس أن يقول له: بعتك هذا الثوب نقدًا بعشرة، وإلى شهرين بخمسة عشر، فيذهب به إلى إحداهما (3)
__________
(1) انظر نيل الأوطار: 5/172
(2) انظر ما سبق، وعون المعبود: 9/333
(3) انظر الموضع السابق من عون المعبود، والنهاية: 1/173.(6/155)
وما رواه عبد الرازق عن الثوري، يفسر ما رواه ابن أبي شيبة، عن يحيى بن زكريا، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) .
والحديث بإسناده رواه أبو داود عن ابن شيبة (1)
وفي الإسناد محمد بن عمرو بن علقمة، وقد تكلم فيه غير واحد. والمحفوظ هو لفظ: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)) . رواه أحمد، والنسائي، والترمذي وصححه، والشافعي، ومالك في بلاغاته (2) .
قال الخطابي بعد أن ذكر أن المشهور هو الرواية الأخيرة.
وأما رواية يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو على الوجه الذي ذكره أبو داود فيشبه أن يكون ذلك في حكومة في شيء بعينه، كأنه أسلفه دينارًا في قفيز بر إلى شهر، فلما حل الأجل، وطالبه بالبر، قال له: يعني القفيز الذي لك على بقفيزين إلى شهرين. فهذا بيع ثانٍ، وقد دخل على البيع الأول، فصار بيعتين في بيعة، فيردان إلى أوكسهما – أي أنقصهما – وهو الأصل. فإن تبايعا البيع الثاني قبل أن يتقابضا الأول كانا مربيين.
وبعد أن انتهى صاحب عون المعبود من شرح حديث أبي داود، ونقل كثيرًا من الأقوال، قال: وبهذا يعرف أن رواية يحيى بن زكريا فيها شذوذ كما لا يخفى (3)
والشوكاني بعد أن شرح الروايات التي ذكرت حت باب بيعتين في بيعة، قال: وقد جمعنا رسالة في هذه المسألة وسميناها " شفاء العلل في حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل ". والعلة في تحريم بيعتين في بيعة: عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين، والتعليق بالشرط المستقبل في صورة بيع هذا على أن ييع منه ذاك، ولزوم الربا في صورة القفيز الحنطة (4) .
__________
(1) انظر عون المعبود: 9/332، باب فيمن باع بيعتين في بيعة
(2) انظر نيل الأوطار: 5/171-172
(3) انظر عون المعبود: 9/332
(4) انظر نيل الأوطار: 5/172 –173(6/156)
ويؤخذ مما سبق أن المنع ليس زيادة الثمن في بيع التقسيط، وإنما في جهالة الثمن إذا لم يقع البيع باتا على النقد أو النسيئة، أما إذا اتفق البيعان على بيعة واحدة من البيعتين في مجلس العقد صح البيع.
ومما يؤيد ما سبق ما رواه عبد الرزاق في مصنفه (8/136) تحت باب البيع بالثمن إلى أجلين:
فروى عن الزهري، وطاوس وابن المسيب، أنهم قالوا: لا بأس بأن يقول: أبيعك هذا الثوب بعشرة إلى شهر، أو بعشرين إلى شهرين، فباعه على أحدهما قبل أن يفارقه، فلا بأس به. وروى مثله عن قتادة.
وروى عن الثوري قال: إذا قلت: أبيعك بالنقد إلى كذا، وبالنسيئة بكذا وكذا، فذهب به المشتري، فهو بالخيار في البيعين ما لم يكن وقع بيع على أحدهما. فإن وقع البيع هكذا فهذا مكروه وهو بيعتان في بيعة وهو مردود وهو الذي ينهى عنه فإن وجدت متاعك بعينه أخذته، وإن كان قد استهلك فلك أوكس الثمنين، وأبعد الأجلين.
وفي كتاب البيوع والأقضية من مصنف ابن أبي شيبة (6/119) جعل بابًا عنوانه: الرجل يشتري من الرجل المبيع فيقول: إن كان نسيئة فبكذا، وإن كان نقدًا فبكذا.
ومما رواه في هذا الباب:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا بأس أن يقول للسلعة: هي بنقد بكذا وبنسيئة بكذا، ولكن لا يفترقا إلا عن رضا، وعن شعبة قال: سألت الحكم وحمادًا عن الرجل يشتري من الرجل الشيء فيقول: إن كان بنقد فبكذا، وإن كان إلى أجل فبكذا، قال: " لا بأس إذا انصرف على أحدهما. قال شعبة: فذكرت ذلك للمغيرة، فقال: كان إبراهيم لا يرى بذلك بأسًا إذا تفرق على أحدهما.
تحديد الثمن وفوائد التقسيط:
من العقود التي اطلعت عليها وجدت البائع يذكر ثمن السلعة، ثم يذكر فوائد مدة التقسيط، فيقول مثلًا: ثمن السيارة خمسون ألفًا، يدفع عند التعاقد خمسة آلاف ويقسط الباقي على عشرة أشهر، وبعد هذا نجد عبارة: فوائد التأخير خمسة آلاف.
فيكون قيمة القسط الشهري خمسة آلاف.
وهذا يعني ربط الزيادة بالدين ومدته، ولذلك إذا رأى المشتري أن يعجل بأداء الدين تخصم منه الفوائد، ويدفع الباقي كأنه اشترى نقدًا من بدء التعاقد، وإذا أراد أن يدفع بعض الأقساط فقط قبل موعدها، تخصم فوائد هذه الأقساط، وإذا تأخر في دفع الأقساط – كلها أو بعضها – عن موعدها، تحسب فوائد تأخير إضافية تعادل سعر الفائدة السائد، وهكذا. وأعتقد أن التحريم هنا واضح جلي.
خصم البائع كمبيالات الأقساط المؤجلة لدى بنك ربوي:
يقصد بالخصم (1) (أو القطع) دفع البنك لقيمة الكمبيالة قبل ميعاد استحقاقها، بعد خصم مبلغ معين يمثل فائدة القيمة المذكورة عن المدة بين تاريخ الخصم وميعاد الاستحقاق، مضافًا إليها عمولة البنك ومصاريف التحصيل.
والخصم عقد قرض ربوي كما بينت بالتفصيل في البحث الذي قدمته للمؤتمر الثاني للمجمع، وفي أكثر من كتاب من كتبي.
وعند الشراء بالتقسيط قد يأخذ البائع من المشتري كمبيالات بقيمة الأقساط، وهي قابلة للتظهير، أي نقل الملكية، ثم يقوم بعملية (الخصم أو القطع) لدى بنك ربوي، فتصبح العلاقة بين المشتري وبين البنك، وهي علاقة مدين بدائن، ويخضع المدين هنا لسعر الفائدة الربوية التي يحددها البنك في ظل القانون الوضعي.
__________
(1) (1) من تعريفات الخصم ما يلي: (أ) إن الخصم اتفاق يعجل به الخاصم لطالب الخصم قيمة ورقة تجارية أو سند قابل للتداول أو مجرد حق آخر، مخصومًا منها مبلغ يتناسب مع المدة الباقية حتى استيفاء قيمة الحق عند حلول أجل الورقة أو السند أو الحق، وذلك في مقابل أن ينقل طالب الخصم إلى البنك هذا الحق على سبيل التمليك وأن يضمن له وفاءه عند حلول أجله. (ب) خصم السندات عقد يعجل المصرف بمقتضاه إلى حامل سند مالي على الغير لم يحل أجله دفع قيمته بعد اقتطاع الفائدة، على أن تنتقل ملكية السند إلى المصرف مقيدة بشرط استيفاء الدين عند حلول الأجل. (عمليات البنوك للدكتور علي جمال الدين – ص 496) . ويلاحظ في التعريفات وجود الفائدة نظير إقراض قيمة الورقة التجارية، فهي إذن قرض ربوي.(6/157)
العينة والتورق:
تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحيل الربوية، ومما قاله:
ومن ذرائع ذلك: " مسألة العينة " وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل، ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك. فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين: لأنها حيلة. وقد روى أحمد وأبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله: أرسل الله عليكم ذلًّا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)) . وإن لم يتواطآ فإنهما يبطلان البيع الثاني سدًّا للذريعة. ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ: ففيه روايتان عن أحمد، وهو أن يبيعه حالًّا، ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلًا. وأما مع التواطؤ فربا محتال عليه.
ولو كان مقصود المشتري الدرهم وابتاع السلعة إلى أجل لبيعها ويأخذ ثمنها. فهذا يسمى: (التورق) . ففي كراهته عن أحمد روايتان. والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك، فيما أظن: بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة، أو غرضه الانتفاع أو القنية، فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق.
ففي الجملة: أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعًا محكمًا، مراعون لمقصود الشريعة وأصولها، وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة، وتدل عليه معاني الكتاب والسنة. اهـ. (الفتاوى 29/30 –31) .
وقد فصل تلميذه العلامة ابن القيم القول في العينة والتورق وأثبت هنا من قاله بتمامه: قال عن العينة:
روى محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بمطين في كتاب البيوع له عن أنس أنه سئل عن العينة، فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله.
وروى أيضًا في كتابه عن ابن عباس قال: اتقوا هذه العينة، لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حريرة.(6/158)
وفي رواية أن رجلًا باع من رجل حريرة بمائة، ثم اشتراها بخمسين، فسئل ابن عباس عن ذلك، فقال دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة، وسئل ابن عباس عن العينة – يعني بيع الحريرة – فقال: " إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله، وروى ابن بطة بإسناده إلى الأوزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع)) ، يعنى العينة، وهذا المرسل صالح للاعتضاد به والاستشهاد، وإن لم يكن عليه وحده الاعتماد.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته: أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم، وامرأة أخرى، فقالت لها أم ولد زيد: إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة نسيئة واشتريته بستمائة نقدا فقالت: أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يتوب، بئسما شريت، وبئسما اشتريت. رواه الإمام أحمد وعمل به، وهذا حديث في شعبة، وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به، فمن جعل شعبة بينه وبين الله، فقد استوثق لدينه.
وأيضًا فهذه امرأة أبي إسحاق السبيعي – وهو أحد أئمة الإسلام الكبار – وهو أعلم بامرأته وبعدالتها، فلم يكن ليروي عنها سنة يحرم بها على الأمة وهي عنده غير ثقة ولا يتكلم فيها بكلمة، بل يحابيها في دين الله، هذا لا يظن بمن هو دون أبي إسحاق.
وأيضًا فإن هذه امرأة من التابعين قد دخلت على عائشة وسمعت منها وروت عنها، ولا يعرف أحد قدح فيها بكلمة، وأيضًا فإن الكذب والفسق لم يكن ظاهرًا في التابعين بحيث ترد به روايتهم.
وأيضًا فإن هذه المرأة معروفة، وسمها العالية، وهي جدة إسرائيل، كما رواه حرب من حديث إسرائيل: حدثني أبو إسحاق عن جدته (العالية) يعني جدة إسرائيل، فإنه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، والعالية امرأة أبي إسحاق، وجدة يونس وقد حملا عنها هذه السنة – وإسرائيل أعلم بجدته وأبو إسحاق أعلم بامرأته.
وأيضًا لم يعرف أحد قط من التابعين أنكر على العالية هذا الحديث ولا قدح فيها من أجله، ويستحيل في العادة أن تروي حديثًا باطلًا ويشتهر في الأمة ولا ينكره عليها منكر.
وأيضًا فلو لم يأت في هذه المسألة أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة تحريمها أعظم من تحريم الربا، فإنها ربا مستحل بأدنى الحيل.
وأيضًا فإن في الحديث قصة، وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلهم على أنه محفوظ، قال أبو إسحاق: حدثتني امرأتي العالية، قالت: دخلت على عائشة في نسوة فقالت ما حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم محبة فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء، وإنه أراد بيعها، فابتعتها منه بستمائة درهم نقدًا، فأقبلت عليها، وهي غضبى، فقالت بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب، وأفحمت صاحبتنا، فلم تتكلم طويلًا، ثم إنها سهل عليها فقالت: يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فتلت عليه: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [سورة البقرة: الآية 275] .
وأيضًا فهذا الحديث إذا انضم إلى تلك الأحاديث والآثار أفادت بمجموعها الظن الغالب إن لم تفد اليقين.
وأيضًا فإن آثار الصحابة كما تقدم موافقة لهذا الحديث، مشتقة منه، مفسرة له.(6/159)
وأيضًا فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكل الربا وموكله، وبالغت في تحريمه، وآذنت صاحبه بحرب من الله ورسوله، أن تبيحه بأدنى الحيل مع استواء المفسدة؟ ولولا أن عند أم المؤمنين رضي الله عنها علمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تستريب فيه ولا تشك بتحريم مسألة العينة لمات أقدمت على الحكم بإبطال جهاد رجل من الصحابة باجتهادها، لا سيما إن كانت قصدت أن العمل يبطل بالردة، واستحلال الربا ردة، ولكن عذر زيد أنه لم يعلم أن هذا محرم، كما عذر ابن عباس بإباحته بيع الدرهم بالدرهمين، وإن لم يكن قصدها هذا، بل قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد ويصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئًا، ولو كان هذا اجتهادًا منها لم تمنع زيدًا منه، ولم تحكم ببطلان جهاده، ولم تدعه إلى التوبة، فإن الاجتهاد لا يحرم الاجتهاد، ولا يحكم ببطلان عمل المسلم المجتهد بمخالفته لاجتهاد نظيره، والصحابة – ولا سيما أم المؤمنين – أعلم بالله ورسوله وأفقه في دينه من ذلك.
وأيضًا فإن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس أفتوا بتحريم مسألة العينة، وغلظوا فيها هذا التغليظ في أوقات ووقائع مختلفة، فلم يجئ عن واحد من الصحابة ولا التابعين الرخصة في ذلك، فيكون إجماعًا.
فإن قيل: فزيد بن أرقم قد خالف عائشة ومن ذكرتم، فغاية الأمر أنها مسألة ذات قولين للصحابة، وهي مما يسوغ فيها الاجتهاد.
قيل: لم يقل زيد قط إن هذا حلال، ولا أفتى بها يومًا ما، ومذهب الرجل لا يؤخذ من فعله، إذ لعله فعله ناسيًا أو ذاهلًا أو غير متأمل ولا ناظر أو متأولًا أو ذنبًا يستغفر الله منه ويتوب أو يصر عليه وله حسنات تقاومه، فلا يؤثر شيئًا، قال بعض السلف: العلم علم الرواية، يعني أن يقول: رأيت فلانًا يفعل كذا وكذا، إذ لعله قد فعله ساهيًا، وقال أياس بن معاوية: لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سله يصدقك، ولم يذكر عن زيد أنه أقام على هذه المسألة بعد إنكار عائشة، وكثيرًا ما يفعل الرجل الكبير الشيء مع مع ذهوله عما في ضمنه من مفسدة فإذا نبه انتبه، وإذا كان الفعل محتملًا لهذه الوجوه وغيرها لم يجز أن يقدم على الحكم، ولم يجز أن يقال: مذهب زيد بن أرقم جواز العينة، لا سيما وأم ولده قد دخلت على عائشة تستفتيها فأفتتها بأخذ رأس مالها، وهذا كله يدل على أنها لم يكونا جازمين بصحة العقد وجوازه، وأنه مما أباحه الله ورسوله.
وأيضًا فبيع العينة إنما يقع غالبًا من مضطر إليها، وإلا فالمستغني عنها لا يشغل ذمته بألف وخمسمائة في مقابلة ألف بلا ضرورة وحاجة تدعوا إلى ذلك وقد روى أبو داود من حديث علي: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك)) .(6/160)
وفي مسند الإمام أحمد عنه قال: ((سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤثر بذلك)) قال الله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [سورة البقرة: الآية 237] وينهر الأشرار، ويستذل الأخيار، ويبايع المضطرون، وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وعن بيع الغرر، وبيع الثمر قبل أن يطعم)) . .
وله شاهد من حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه سعيد، عن هشيم، عن كوثر بن حكيم، عن مكحول: بلغني عن حذيفة أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بعد زمانكم هذا زمانًا عضوضًا، يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤثر بذلك، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سورة سبأ: الآية 39] وينهر شرار خلق الله، يبايعون كل مضطر، ألا إن بيع المضطر حرام، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه، إن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكًا إلى هلاكه، وهذا من دلائل النبوة، فإن عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن بها عليه الموسر بالقرض حتى يربح عليه في المائة ما أحب. اهـ. هذا حديث ابن القيم عن العينة. وانتقل بعد هذا للحديث عن التورق فقال:
وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العينة، وإن باعها لغيره فهو التورق، وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا، والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون، وأخفها: التورق وقد كرهه عمر بن عبد العزيز، وقال: هو أخيه الربا.
وعن أحمد فيه روايتان، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر، وهذا من فقهه رضي الله عنه، قال: فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر، وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مرارًا وأنا حاضر، فلم يرخص فيها وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه. اهـ.
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله. (أعلام الموقعين: 3/215 – 220) ، وحديث ((إذا تبايعتم بالعينة …)) بين الشيخ أحمد شاكر صحة إسناده (1) .
وذكره البيهقي وقال: روي من وجهين ضعيفين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر، فتعقبه ابن التركماني بقوله: ذكره ابن القطان، من وجه صحيح عن عطاء، عن ابن عمر فقال:. . . (وذكر الحديث) . ثم قال بعد ذكر الحديث " " ثم صححه – أعني ابن القطان – وقال: هذا الإسناد كل رجاله ثقات " (2)
__________
(1) انظر المسند 7/27- حديث رقم 4825
(2) انظر السنن الكبرى للبيهقي: 5/316، وفي ذيله: الجوهر النقي لابن التركماني(6/161)
وقال العلامة المناوي بعد شرح الحديث الشريف:
وهذا دليل قوي لمن حرم العينة، ولذلك اختاره بعض الشافعية، وقال: أوصانا الشافعي باتباع الحديث إذا صح بخلاف مذهبه (1) . وأحب أن أشير هنا إلى مذهب الشافعية في تصحيح العقود:
فهم يقولون مثلًا: التدليس حرام، وإذا وقع البيع فالعقد صحيح، ويرون صحة بيع التلجئة، والسلاح في الفتنة، والعنب لمن يتخذه خمرًا، وزواج التحليل، وهكذا.
فهم لا يدخلون النيات في العقود، فما دام العقد قد استوفى الشكل الظاهري فهو صحيح، وإن قصد منه الحرام، أي أن آثار العقد تترتب عليه وإن كان حرامًا، وليس معنى هذا أنهم يحلون الحرام – وحاشاهم – ولكنهم يجعلون ما يتعلق بالنية عند الله عز وجل، ويحكمون على العقود بظاهرها.
ولعل هذا يوضح موقفهم من العينة، ومخالفتهم للجمهور.
__________
(1) انظر فيض القدير: 1/314(6/162)
الفصل الثاني
التأخر في دفع الأقساط
زيادة الدين:
من المعلوم أن من ربا الجاهلية ربا الديون الناشئة عن بيع آجل، فكان إذا حل الموعد، وعجز المشتري المدين عن أداء الدين، تطبق القاعدة الجاهلية المعروفة: " إما أن تقضي وإما أن تربي ". وهذه القاعدة الجاهلية نراها في عصرنا، حيث يطبقها البائعون الذين لا يلتزمون بأحكام الشريعة الإسلامية، وعادة يطبق سعر الفائدة الذي تأخذه البنوك الربوية.
وأمر هؤلاء معلوم، والتحريم واضح جلي، ولكن الذين يريدون تحكيم شرع الله عز وجل ماذا يفعلون؟
فمن المشكلات الكبرى التي تؤثر في مسيرة المصارف الإسلامية عدم التزام كثير من المدينين بدفع أقساط الديون في مواعيدها المتفق عليها، وقليل من هؤلاء ذو عسرة، وأكثرهم يماطلون مع القدرة على الأداء نظرًا لأن المصارف الإسلامية لا تأخذ فوائد التأخير التي يلتزم بها هؤلاء مع البنوك الربوية.
وكثير من المصارف لم تجد علاجًا لهذه المشكلة، ووجدت حلا جزئيًّا في اللجوء إلى المزيد من الضمانات، غير أن بعض المصارف لجأت إلى حلول أخرى نرجو أن يقول المجمع فيها رأيه، ونذكر منها ما يأتي:
(أ) عند عجز المدين (المشتري) عن الدفع، وعلم المصرف بهذا، رأى – تقديرًا لظروفه ورأفة به – أن يدخل مع هذا المدين في شركة بقيمة الدين! وربما كان هذا التصرف يتعارض مع قول الحق تبارك وتعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} .
(ب) ومن المصارف من لجأ إلى إعادة الاتفاق على نسبة الربح، بحيث تزيد هذه النسبة لصالح المصرف تبعًا للزمن الذي يتأجل إليه الدفع.
ولعل هذا مثل إعادة جدولة الديون الربوية، وربما كان فيه شبه من المبدأ الجاهلي: " إما تقضي وإما أن تربي ".
(ج) وبعض المصارف الإسلامية – وهي ليست قليلة – استحدثت إلزام المدين المماطل دفع تعويض عن الضرر الذي ألحقه بالمصرف نتيجة مماطلته، وحجز المال عن الاستثمار وتحقيق الربح.
ولعل هذا الموضوع يحتاج إلى وقفة، نبين فيها وجهة نظر القائلين بهذا الرأي، المدافعين عنه وأثر هذا في التطبيق العملي.(6/163)
هل للمصرف مطالبة المدين المماطل بالتعويض؟
رأى المجيزون أن الغني المماطل أوقع الضرر بالمصرف، فلولا مماطلته لضم هذا المال لباقي الأموال المستثمرة، ويمكن أن يقدر الضرر بمقدار الربح الذي حققه المصرف فعلًا في مدة المماطلة، ولذلك أجازوا للمصرف أخذ تعويض بمقدار نسبة الربح التي كان يمكن أن يحققها دين المماطل لو استثمره المصرف، فمتى تبين المصرف الإسلامي أن المدين المماطل مليء غني أضاف إلى دينه نسبة تعادل النسبة التي حققها خلال مدة بقاء الدين في ذمته.
وقد ناقشت بعض هؤلاء المجيزين، ووجدتهم يستدلون بثلاثة أحاديث شريفة، وبالمصلحة المرسلة التي يرون أنها تتفق مع مقاصد التشريع الإسلامي.
والأحاديث الثلاثة هي:
((-مطل الغني ظلم))
((-لي الواجد يحل عرضه وعقوبته))
3- ((لا ضرر ولا ضرار))
والحديث الأول متفق عليه.
قال ابن حجر في الفتح (4/466 – الباب الأول من كتاب الحوالة) : في الحديث الزجر عن المطل، واختلف هل يعد فعله عمدًا كبيرة أم لا؟ فالجمهور على أن فاعله يفسق، لكن هل يثبت فسقه بمطله مرة واحدة أم لا؟ قال النووي: مقتضى مذهبنا اشتراط التكرار، ورده السبكي في شرح المنهاج بأن مقتضى مذهبنا عدمه، واستدل بأن منع الحق بعد طلبه، وابتغاء العذر عن أدائه، كالغصب، والغصب كبيرة، وتسميته ظلمًا يشعر بكونه كبيرة، والكبيرة لا يشترط فيها التكرر، نعم لا يحكم عليه بذلك إلا بعد أن يظهر عدم عذره.
والحديث الثاني: ((لي الواجد. . .)) ذكره السيوطي وأشار إلى روايته، وهم: أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم. ورمز للحديث بالصحة.
وقال المناوي في فيض القدير (5/400) :
" عرضه بأن يقول له المدين: أنت ظالم، أنت مماطل، ونحوه مما ليس بقذف ولا فحش.
وعقوبته: بأن يعزره القاضي على الأداء بنحو ضرب أو حبس حتى يؤدي ".
ثم قال: " قال الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي، ولم يضعفه أبو داود ".
والحديث ذكره البخاري تعليقًا. قال في " باب لصاحب الحق مقال " من كتاب الاستقراض في صحيحه.(6/164)
ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لي الواجد يحل عقوبته وعرضه)) . قال سفيان: عرضه: يقول مطلتني وعقوبته: الحبس.
وفي تعليق التعليق لابن حجر (3/318 – 320) ذكر طرقه المختلفة الموصولة، وقال كما قال في الفتح: إسناده حسن.
والحديث الثالث: ((لا ضرر ولا ضرار)) :
ذكر السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 468) أن الحديث أخرجه مالك والشافعي مرسلًا، وأحمد وعبد الرزاق وابن ماجه والطبراني، وفيه جابر الجعفي، وابن أبي شيبة من وجه آخر أقوى عنه، والدارقطني من وجه ثالث.
وقال المناوي في فيض القدير (6/432) : الحديث حسنه النووي وقال: له طرق يقوي بعضها بعضًا، وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به.
والحديثان الأول والثاني ظاهران في ظلم الغني المماطل، واستحقاقه للعقاب، وهما مما يحتج به، والعقوبة هنا تعزيرية، وذهب الجمهور إلى أن العقوبة هنا هي الحبس، وإن جاز في التعزير غيره كالضرب والتوبيخ، وما دام الهدف من العقوبة التعزيرية الردع والزجر وأداء الحقوق، وليس في العقوبة هنا حد مقرر، فالأمر إذن فيه متسع أمام القاضي أو ولي الأمر، فقد يرى في التوبيخ الكفاية، وقد يرى ضرورة الضرب مع الحبس، والأمر لا يستدعي كبير خلاف ما دام الحكم يصدر من عادل غير محكم للهوى والتشهي.
والحديث الثالث ينهى عن الضرر، ومن القواعد الشرعية المعروفة أن الضرر يزال، والمصرف لحقه ضرر فيجب أن يزال.
ومن المعروف أن الدائن ليس له إلا دينه، سواء أخذه وقت استحقاقه، أم بعد مدة المطل، وما أجاز أحد من الفقهاء أن يدفع المدين قدرًا زائدًا عن الدين كعقوبة تعزيرية، ولو قيل يدفع مقابل الزمن فهذا هو عين الربا.
قال المجيزون: إن المصلحة تقتضي منع المماطل من استغلال أموال المسلمين ظلمًا وعدوانًا، وإذا كانت الفائدة الربوية تمنع المطل مع البنوك الربوية، فإن الإسلام لا يعجز عن أن يوجد حلًا لمشكلة المطل التي تعاني منها المصارف الإسلامية، وإذا كان الفقهاء السابقون رأوا أن تكون العقوبة الحبس، وهذا غير مطبق الآن، فعلى فقهاء العصر أن يجتهدوا لإيجاد الحل.(6/165)
ثم أضافوا: والقدر الذي نرى أن يتحمله المماطل هو ما يقابل الربح الفعلي للمصرف، فهذا ليس من باب الربا، ولكنه من باب منع الضرر الذي يلحق بالمصرف.
وربما كان من الصعب التفرقة بين ما ذهب إليه هؤلاء وبين الربا.
ويبقى هنا كذلك أن نسأل:
ما الهدف من العقوبة التعزيرية؟
ومن الذي يحدد هذه العقوبة؟
ومن الذي يأمر بإيقاعها؟ أو يقوم بتنفيذها؟
أفيمكن أن يكون شيء من هذا للمصرف؟
لو جاز أن يكون للمصرف استحداث عقوبة تعزيرية يوقعها بالعميل وهي تشتبه بالربا، إن لم تكن هي الربا بعينه، فمن باب أولى أن يكون له الحق في العقوبة التعزيرية المقررة كالحبس أو الضرب.
ونأتي إلى الجانب التطبيقي لنرى هل تحقق الهدف من هذه العقوبة؟
بعض المصارف رأت أن المتعاملين معها الذين لا يؤدون الأقساط في مواعيدها بلغوا من الكثرة حدًّا يصعب معه النظر في كل حالة، والتفرقة بين مطل الغني وعجز الفقير، كما توجد عوامل أخرى تزيد الأمر صعوبة، ولذلك عند تأخر أي مدين عن الأداء يضاف على دينه ما يقابل الربح الذي يعلنه المصرف في حينه، ولا يستطيع أي أحد أن يفرق بين هذا وبين الربا المحرم، وقد يقال إن هذا خطأ في التطبيق لا في الفتوى، ولكن على المفتي أن ينظر إلى ما يمكن تطبيقه.
وبعض المصارف الأخرى تمسكت بنص الفتوى، فكانت ترسل للعميل أولًا حتى تتأكد من المطل قبل إنزال العقوبة، ويلاحظ هنا أن الأرباح التي تحققها المصارف الإسلامية أقل من الفوائد الربوية في أوقات كثيرة، فالذين يستحلون هذه الفوائد استمروا في مطلهم غير عابئين بما يضيفه المصرف الإسلامي وبذلك تحولت العقوبة التعزيرية إلى زيادة ترتبط بربح المصرف والزمن، ورضي بهذا الطرفان!
فهل تحقق الهدف من العقوبة التعزيرية؟
أم تحولت العقوبة إلى نوع جديد من الربا؟
ويبقى هنا أيضًا أن نسأل:
إذا لم يكن هذا التصرف مشروعًا – وأظنه غير مشروع – فهل نجد عند مجمعكم الموقر حلًّا لمشكلة الأموال الضخمة التي يستحلها الأغنياء القادرون المماطلون؟
نرجو أن يتسع وقت المجمع لبحث هذا الموضوع.(6/166)
حلول الأقساط قبل موعدها:
المصارف الإسلامية التي لا تأخذ بالنظام السابق، حيث لم تجزه هيئات الرقابة الشرعية لديها، رأت أن اتخاذ الإجراءات ضد المدين المماطل يكلفها الكثير، فنصت في عقود البيع على أن المشتري إذا تأخر في دفع قسطين متتاليين فإن باقي الأقساط تحل فورًا، ويحق للمصرف المطالبة بجميع الأقساط، واتخاذ ما يراه لازمًا للوصل إلى حقه.
اللجوء إلى التحكيم
ورأت هذه المصارف كذلك أن تلجأ إلى التحكيم لرفع الضرر: فيختار المصرف حكمًا، ويختار المشتري حكمًا، ويختار الحكمان حكمًا ثالثًا، وينظر المحكمون في الموضوع من جميع جوانبه، ويكون حكمهم ملزمًا للطرفين غير قابل للنقض، سواء صدر بالإجماع أم بالأغلبية.
* * * *(6/167)
الفصل الثالث
ضع وتعجل
يلجأ بعض التجار إلى ما يعرف في الفقه الإسلامي باسم " ضع وتعجل " والمراد من " ضع وتعجل " التنازل عن جزء من الدين المؤجل، ودفع الجزء الباقي في الحال.
وروي أن ابن عباس سئل عن الرجل يكون له الحق على الرجل إلى أجل، فيقول: عجل لي وأضع عنك، فقال: لا بأس بذلك.
وروي أيضا أن ابن عباس قال: إنما الربا أًخِّر لي وأنا أزيدك، وليس عَجِّل لي واضع عنك (انظر مصنف عبد الرزاق 8/72) .
ويذكر أن الذين أجازوه كذلك هم:
النخعي: وهو من التابعين , توفي سنة 96هـ
وزفر: من أصحاب أبي حنيفة، توفي سنة 158 هـ.
وأبو ثور: من أصحاب الشافعي، وتفي سنة 240 هـ.
(انظر المغني 4/174، وبداية المجتهد 2/143، والأول ذكر النخعي وأبا ثور والآخر ذكر زفر، وراجع ترجمة الثلاثة في كتب الرجال) .
أما الذين لم يجيزوا " ضع وتعجل " فهم عامّة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، والأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء.
ومما رواه الحافظ عبد الرزاق (المتوفى سنة 211 هـ) في مصنفه تحت " باب الرجل يضع من حقه ويتعجل " ما يأتي:
أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب وابن عمر قالا: من كان له حق على رجل إلى أجل معلوم فتعجل بعضه وترك له بعضه فهو ربا قال معمر: ولا أعلم أحدًا قبلنا إلا وهو يكرهه.
أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن ابن ذكوان عن بسر بن سعيد عن أبي صالح مولى السفاح قال: بعت بزا إلى أجل، فعرض علي أصحابي أن يعجلوا لي، وأضع عنهم، فسألت زيد بن ثابت عن ذلك فقال: لا تأكله ولا تؤكله.
أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: أخبرني أبو المنهال عبد الرحمن بن مطعم قال: سألت ابن عمر عن رجل لي عليه حق إلى أجل، فقلت: عجل لي وأضع لك فنهاني عنه.
وقال: نهانا أمير المؤمنين أن نبيع العين بالدين.(6/168)
أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن قيس مولى ابن يامين، قال: سألت ابن عمر، فقلت: إنا نخرج بالتجارة إلى أرض البصرة وإلى الشام، فنبيع بنسيئة ثم نريد الخروج، فيقولون: ضعوا لنا وننقدكم، فقال: إن هذا يأمرني أن أفتيه أن يأكل الربا ويطعمه، وأخذ بعضد لي ثلاث مرات، فقلت: إنما استفتيك، قال: فلا.
أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت للشعبي: إن إبراهيم قال في الرجل يكون له الدين على الرجل فيضع له بعضًا ويعجل له بعضًا: أنه ليس به بأس وكرهه الحكم بن عتيبة، فقال الشعبي: أصاب الحكم وأخطأ إبراهيم (راجع المصنف 8 /71- 75) .
والإمام مالك – رضي الله عنه – تحدث عن هذا الموضوع في الموطأ فجعله تحت " باب ماجاء في الربا في الدين " ونقرأ في هذا الباب ما يأتي
حدثني يحيى عن مالك عن أبي الزناد، عن بسر بن سعيد، عن عبيد أبي صالح مولى السفاح، أنه قال: بعت بزا لي من أهل دار نخلة، إلى أجل، ثم أردت الخروج إلى الكوفة، فعرضوا علي أن أضع عنهم بعض الثمن وينقدوني، فسألت عن ذلك زيد بن ثابت فقال: لا آمرك أن تأكل هذا ولا توكله.
وحدثني عن مالك، عن عثمان بن حفص بن خلدة، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، أنه سئل عن الرجل يكون له الدين على الرجل إلى أجل فيضع عنه صاحب الحق ويعجله الآخر، فكره ذلك عبد الله بن عمر، ونهى عنه.
وحدثني مالك، عن زيد بن أسلم، أنه قال: كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل، فإذا حل الأجل، قال: أتقضي أم تربي؟ فإن قضى أخذ، وإلا زاده في حقه، وأخر عنه في الأجل.
قال مالك: والأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا، أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل، فيضع عنه الطالب ويعجله المطلوب، وذلك عندنا بمنزلة الذي يؤخر دينه بعد محله عن غريمه ويزيده الغريم في حقه، قال: فهذا الربا بعينه، لا شك فيه.
(راجع الباب في كتاب البيوع من الموطأ)
وابن رشد الحفيد يبين سبب الخلاف فيقول في بداية المجتهد (2/144) :
وعمدة من لم يجز " ضع وتعجل " أنه شبيه بالزيادة مع النظرة المجمع على تحريمها ووجه شبهه بها أنه جعل للزمان مقدارًا من الثمن بدلًا منه في الموضعين جميعًا وذلك أنه هناك لما زاد له في الزمان زاد له عوضه ثمنًا، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمنا وعمدة من أجازه ما روي عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير، جاءه ناس منهم، فقالوا: يا نبي الله: إنك أمرت بإخراجنا، ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضعوا وتعجلوا)) فسبب الخلاف معارضة قياس الشبه لهذا الحديث. 1 هـ.(6/169)
ولعل الصواب مع الذين لم يجيزوا " ضع وتعجل " للأسباب الآتية:
1- الحديث الذي استدل به – مع اشتهاره – غير ثابت قال الحافظ ابن كثير: روى البيهقي وغيره أنه كانت لهم – أي لنبي النضير – ديون مؤجلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضعوا وتعجلوا)) وفي صحته نظر، والله أعلم 0 البداية والنهاية 4/75) .
وفي سنن البيهقي (6/27) نجد " باب من عجل له أدنى من حقه قَبْل محله فقَبِلَه ووضع عنه طيبة به أنفسهما ".
وتحت الباب يذكر بسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحب أن يظله الله في ظله فلينظر معسرًا، أو ليضع عنه)) وحديثًا آخر: ((من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينظر معسرًا أو ليضع عنه)) .
ثم يذكر أن ابن عباس كان لا يرى بأسًا أن يقول: أعجل لك وتضع عني قال: وقد روي فيه حديث مسند في إسناده ضعف، وذكر هذا الحديث الضعيف.
وبعد هذا الباب السابق يأتي " باب لا خير في أن يعجله بشرط أن يضع عنه " (6/28) .
وتحت الباب ذكر عدة أخبار تتفق مع روايات عبد الرزاق التي أثبتناها من قبل.
2- لو صح الحديث يمكن أن يدل على حكم خاص لا يقبل التعميم، فالأمر هنا لليهود، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [سورة النساء: الآيتان 160-161] .
فيما يضعونه قد يكون من الربا، ومن أموال الناس التي أكلوها بالباطل، وهذا لا ينطبق على المسلمين.
3- ابن عباس – رضي الله عنهما – حبر الأمة وترجمان القرآن، ولكنه عندما يجتهد وينفرد بالرأي دون الصحابة الكرام، فقد لا نجد حرجًا في عدم الأخذ بهذا الرأي، ولذلك خالفه التابعون، والأئمة الأعلام.
4- قد لا نجد فرقًا بين أن يأخذ الدائن مائة لتأجيل ألف، وأن يعطي مائة لتعجيل ألف. والحالة الثانية في حقيقتها هي " ضع وتعجل " ولذلك كان قول الإمام مالك: " هذا الربا بعينه، لا شك فيه ".(6/170)
الفصل الرابع
الإحتفاظ بملكية المبيع أو رهنه
يلجأ بعض التجار ضمانًا لحقهم إلى الاحتفاظ بملكية المبيع إلى أن يتم دفع جميع الأقساط. وإذا كان من حق البائع أن يستوثق لحقه فيمكنه أن يلجأ لعقود الاستيثاق كالرهن والضمان، ولكن ليس من حقه أن يمنع أهم الآثار المترتبة على العقد.
وقد لا يلجأً البائع إلى الطريقة المباشرة للاحتفاظ بالمبيع، وإنما يلجأ إلى عقد آخر، وهو ما يسمى بالبيع التأجيري، أو الإجارة المنتهية بالتمليك.
وكل العقود التي رأيتها لا تخرج عن كونها حيلة للاحتفاظ بملكية المبيع.
فيما يسمى بالإيجار يتناسب مع ثمن المبيع لا أجرة العين المؤجرة.
والتزامات ما سمي بالمستأجر هي التزامات المشتري. . وهكذا.
أما اللجوء إلى الرهن، فهو يتنافى مع مقتضى العقد، غير أنه قد يكون ضروريًا، إذا لم يقدم المشتري للبائع ضمانات كافية.
ومما يقلل من أضرار الرهن في عصرنا عدم ضرورة حبس العين تحت يد المرتهن في كثير من الحالات، حيث تسلم العين للمشتري، ويكتفى بتسجيل أنها مرهونة مقابل مبلغ كذا للبائع وهذا التسجيل يمنع المشتري من التصرف في المبيع بأي عقد من العقود الناقلة للملكية، أو تعلق حق لأي أحد يتعارض مع حق البائع، حتى يفك الرهن.(6/171)
الفصل الخامس
أثر الموت في حلول الأجل
إذ مات البائع قبل استيفاء الثمن انتقلت الملكية للورثة، فإذا كان الثمن أقساطًا مؤجلة فليس للورثة المطالبة بها قبل موعدها.
ولكن إذا مات المشتري قبل أداء الأقساط، كلها أو بعضها، أفللبائع أن يطالب بحقه قبل توزيع التركة، أم توزع التركة على الورثة، ويكون الدين في ذمتهم، يؤدونه في موعده؟
إذا لم يوثق الورثة الدين برهن أو غيره فللبائع أن يطالب بدينه قبل توزيع التركة.
أما إذا وثقوه بما يضمن حق البائع، وأداء الأقساط في مواعيدها، فليس له أن يسقط حقهم في الأجل، وعلى الأخص أن الأجل له نصيب من الثمن كما رأينا، وهو المتبع عادة.
ولعل هذا أولى من الرأي الآخر الذي ذهب إليه بعض الفقهاء من حلول أجل الدين بموت المدين، وأخذ الدائن حقه قبل توزيع التركة.
والله تعالى أعلم بالصواب، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
" سبحان ربك رب العزة يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ".(6/172)
الخلاصة
يعتبر إقرار المجمع لبيع المرابحة للآمر، بالشراء بضوابطه الشرعية إقرارًا لبيع التقسيط، ولهذا كان البحث نظرات في التطبيق العملي.
والموضوعات التي تناولها البحث، رجاء أن يتخذ المجمع الموقر فيها قراره هي ما يأتي:
1- ذكر ثمن البيع نقدًا، وثمنه نسيئة.
2- تحديد الثمن وفوائد التقسيط.
3- خصم البائع كمبيالات الأقساط المؤجلة لدى بنك ربوي.
4- العينة.
5- التورق.
6- زيادة الدين عند التأخر في دفع الأقساط.
7- مطالبة البائع المدين المماطل بالتعويض.
8-حلول الأقساط قبل موعدها عند تأخر بعضها.
9- اللجوء إلى التحكيم لإزالة ضرر مطل المليء.
10- ضع وتعجل.
11- الاحتفاظ بملكية البيع.
12- رهن البيع.
13- أثر الموت في حلول الأجل.
الدكتور علي السالوس(6/173)
تقسيط الدين في الفقه الإسلامي
إعداد
فضيلة الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني
الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
لثبوت الدين في الذمة أسباب متعددة، وأكثرها اشتهارًا البيع والقرض، ومن ثبت في ذمته دين لزمه أداؤه لمستحقه (الدائن) .
وقد يكون أداء الدين حالًا وقد يكون مؤجلًا، والمؤجل قد يؤدى قسطًا واحدًا وقد يؤدى أقساطًا.
والذي نريد البحث فيه هنا هو أداء الدين تقسيطًا، وهذا يستدعي منا دراسة الأمور التالية:
1- تعريف التقسيط.
2- مشروعية التأجيل والتقسيط.
3- أحكام التقسيط.
4- مقابلة تأجيل الدين بزيادة فيه.
5- تعجيل أداء الدين مقابل إسقاط جزء منه.
وسوف أخصص لكل من هذه الأمور مبحثًا خاصًّا.(6/174)
المبحث الأول
تعريف التقسيط
التقسيط يقال له التنجيم أيضا.
ومعنى التنجيم في اللغة: أداء الدين نجومًا أي على دفعات.
ففي مختار الصحاح: النجم: الوقت المضروب، ومنه سمي المنجم. ويقال نجم المال تنجيمًا إذا أداه نجومًا (1) .
وفي مختار الصحاح أيضًا: القسط: الحصة والنصيب يقال تقسطنا الشيء بيننا (2) وهو يعني في موضوعنا جعل الدين حصصًا تدفع حصة حصة.
أما تعريفه في المصطلح الشرعي: فقد قالوا.
التنجيم: هو التأخير لأجل معلوم نجمًا أو نجمين (3) أو: هو المالك المؤجل بأجلين فصاعدًا (4) .
والتعريف الثاني أصدق وأدق في التعبير عن المراد بالتنجيم (التقسيط) لأنه أخرج الدين المؤجل ليدفع نجمًا واحدًا فهذا ليس مقسطًا، لأن الدين لكي يسمى مقسطًا ينبغي أن يطلب أداؤه في دفعتين فأكثر، وهذا كما هو ظاهر بخلاف التعريف الأول فهو شامل للدين المؤجل مطلقا سواء كان مطلوب الأداء دفعة واحدة أو دفعات.
والتعريف الأول تميز عن الثاني بتقييد الأجل بالمعلومية وهو شرط ضروري لدفع الجهالة عن المعاملة.
__________
(1) مختار الصحاح للرازي: ط2، ص 647.
(2) نفس المصدر: ص 539.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/346.
(4) كشاف القناع: 4/539(6/175)
المبحث الثاني
مشروعية تأجيل الدين وتقسيطه
إن تأجيل الدين مشروع وإن كان خلاف الأصل.
ومشروعيته ثبتت بالقرآن الكريم والسنة النبوية واتفاق الأمة.
ففي القرآن الكريم جاء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [سورة البقرة: الآية 282] (1) فالنص يصرح بجواز تأجيل الدين، ومقتضى تسمية الأجل معلوميته، أما الكتابة فقد حملت على الندب لا الوجوب.
ومن السنة النبوية المطهرة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعامًا وأجل الثمن)) (2) ، كما أن الأمة زاولت وما تزال تزاول هذه الصيغة من التعامل لا يعلم مخالف في هذا (3) .
وإذا ثبت جواز تأجيل الثمن ثبت جواز تأجيله ليدفع قسطًا واحدًا أو أقساطًا لأن الحالتين مشمولتان بالتأجيل.
وقد نصت مجلة الأحكام العدلية في المادة (245) على أن (البيع مع تأجيل الثمن وتقسيطه صحيح) .
وينبغي أن يلاحظ أن تأجيل الدين أو تقسيطه لا يثبت إلا بالنص عليه عن طريق الشرط في العقد أو بعده، لذا فإنه مع الإطلاق لا يثبت التأجيل إلا إذا كان العرف يقتضي التأجيل (مادة 251 مجلة الأحكام العدلية) .
على أنه ينبغي أن يعلم أن تأجيل الدين المتولد عن البيع حين يشترط في العقد أو بعده، فإنه لازم للبائع وليس له إلزام المشتري بأداء الدين قبل حلول موعد أدائه.
ويمكن أن يقال هذا في دين متولد عن ضمان المتلفات أو بدل الإيجار أو غيره (4) .
أما دين القرض فقد حصل خلاف بين العلماء في لزوم أجله إذا اشترط تأجيله، فالجمهور على أن دين القرض يثبت في الذمة ويكون تأجيله تبرعًا من المقرض فإذا اشترط الأجل فيه فإنه لا يلزم، ويجوز للمقرض أن يطالب بالقرض متى شاء.
أما الإمام مالك يوافقه الليث بن سعد فقد ذهبا إلى أن القرض يلزم إلى أجله إذا أجل، فلا يطالب المقرض المدين قبل حلول الأجل لأن المؤمنين عند شروطهم (5)
* * * *
__________
(1) انظر تفسير القرطبي: 3/377.
(2) انظر فتح الباري: 5/35، 143؛ صحيح مسلم: 3/1226.
(3) المغني والشرح الكبير: 4/49، 287.
(4) المغني والشرح الكبير: 4/354، ويبدو مما يذكره ابن قدامة أن بدل الإيجار وضمان المتلف والصداق وبدل الخلع اختلف الفقهاء في ثبوت الأجل فيها إذا أجلت. وقد نقل عن أبي حنيفة أنه يرى ثبوت الأجل في هذه الأمور، وصرح بأنه خلاف مذهب الحنابلة في عدم ثبوت الأجل.
(5) انظر: المهذب: 1/33، بدائع الصنائع: 7/396، المغني والشرح الكبير: 4/354، الخرشي: 5/232، حاشية الدسوقي: 3/226 وانظر الأشباه والنظائر للسيوطي، طبعة دار الكتب العلمية: ص 329.(6/176)
المبحث الثالث
أحكام التقسيط
يمكن إيجاز أحكام تقسيط الدين بناء على القول بلزوم الأجل في البيع اتفاقًا أو في غيره على الخلاف الذي ذكرناه بالنقاط الآتية (1) :
أولا: إذا اقترن التقسيط بالعقد أو اتفق عليه بعد العقد لزم بيان المدد الزمنية للأقساط، لأن إطلاقها جهالة تفضي إلى المنازعة، وهي جهالة مخلة بالعقد، ويلاحظ أنه إذا كان في البيع خيار، فإن حساب المدد الزمنية يبدأ حين سقوط الخيار، لأن الخيار مؤثر في لزوم البيع.
كما يلاحظ أنه لو امتنع البائع عن تسليم المبيع وتأخر تسليمه فإن حساب المدة يبدأ من حين تسليم المبيع وإلا فمن وقت الانعقاد.
ثانيا: إذا مات البائع، فإن الدين لا يحل على المشتري ويبقى حق المدين في دفع الأقساط على ما اتفق عليه، أما إذ مات المشتري فإن الدين المؤجل سواء كان مقسطًا أم لا يصبح حالًّا واجب الدفع من تركة المشتري لما عرف من أن تركة المشتري تنتقل بموته إلى الورثة، وهذا الانتقال لا يتم قبل وفاء ديون الميت وتنفيذ وصاياه.
ثالثًا: لا يجوز للمشتري الامتناع عن دفع الأقساط في مواعيدها المقررة فإن فعل ألزمه القاضي بالدفع إلا إذا كان المشتري معسرًا فإنه ينظر إلى الميسرة.
رابعًا: ينتهي زمن القسط بحلول الأجل المضروب لأدائه، فعلى المدين أداء كل قسط في أجله وليس له التمسك بالتأجيل إلا فيما لم يحل أجله من الأقساط.
خامسًا: لا يجوز بيع الدين بالدين كأن يبيع دينًا له (أي الدائن) على رجل من رجل آخر بالتأخير، وكذلك لا يجوز فسخ الدين بالدين مثل أن يدفع الغريم لصاحب الدين ثمرة يجنيها أو دارًا يسكنها لتأخر القبض في ذلك، وكذلك إن باع الدين من المدين بالتأخير وفي المسألة بعض خلاف (2) .
__________
(1) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 330، كتاب المعاملات الشرعية المالية للشيخ أحمد إبراهيم، ط. دار الأنصار بالقاهرة: ص 136- 137، وشرح مجلة الأحكام العدلية للمرحوم منير القاضي: 1/280 وما بعدها.
(2) انظر القوانين الفقهية لابن جزي: ص 249، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 330، فتح القدير: 5/379.(6/177)
المبحث الرابع
اقتران تأجيل الدين بزيادة فيه
إذا أدى المدين دينه فالأصل أن يؤديه بلا زيادة أو نقص.
أما إذا أدى زيادة طابت بها نفسه بدون اشتراط فلا غبار على صحة زيادته ويأخذها الدائن حلالًا، لأن ذلك من حسن القضاء الذي ندب إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((خياركم أحسنكم قضاء)) (1) ، وسواء كان الدين حالًّا أم مؤجلًا وهذا الذي قلنا هو محل اتفاق العلماء إذا كان الدين متولدًا عن بيع (2) .
أما لو اشترطت الزيادة في الدين مقابل تأجيله فإن له صورًا ثلاثًا:
الصورة الأولى: أن تشترط الزيادة بعد تمام العقد، كما لو باع شخص لآخر سلعة بألف ثم قال للمشتري: إن شئت أجلت لك الدين ويكون الدين ألفًا وخمسين وهذا التصرف باطل وهو ربا الجاهلية المحظور شرعًا.
الصورة الثانية: أن يقترن شرط الزيادة في العقد فيقول البائع: بعتك السلعة بألف نقدًا وإن شئت نسيئة بألف وخمسين، وهذه كالصورة التي قبلها إذ هو بيع اقترن بشرط فاسد، وهذا الشرط الفاسد متمثل في كونه (بيعتين في بيعة) وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقد فسر قوله صلى الله عليه وسلم ((بيعتين في بيعة)) (3) ، أو صفقتين في صفقة على عدة أوجه أشهرها قول البائع: بعتك نقدًا بعشرة ونسيئة بعشرين، هذا التفسير نقله ابن قدامة عن مالك والثوري وإسحاق وهو رأي الجمهور، وقرروا بطلان مثل هذا العقد، كما أنه تفسير منقول عن أبي عبيد القاسم بن سلام وهو تفسير سماك راوي الحديث (4) .
__________
(1) فتح الباري: 5/56- 59، صحيح مسلم: 3/1224.
(2) جاء في القوانين الفقهية، ص 249: (وإن قضى المدين أكثر من الدين، فإن كان من بيع جاز مطلقًا سواء كان الفضل صفة أم مقدارًا في الأجل أو قبله أو بعده إذا كان الفضل في إحدى الجهتين، ومنع إن دار من الطرفين لخروجه عن المعروف، وإن كان الدين من السلف: فإن كان بشرط أو وعد أو عادة منع مطلقا، وإن كان بغير شرط ولا وعد ولا عادة جاز اتفاقًا في الأفضل صفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم استلف بكرًا وقضى جملًا بكرًا خيارًا، واختلف في الأفضل مقدارًا: (ففي المدونة لا يجوز إلا في اليسير جدًا، وأجازة ابن حبيب مطلقًا) ، ومنع أحمد في رواية أخذ الزيادة وروي ذلك عن أبي بن كعب وابن عبيد وابن عمر، وأوجبوا على الدائن أن يأخذ مثل قرضه ولا يأخذ فضلًا لأنه يكون قرضًا جر منفعة، وهذا خلاف الجمهور (المغني والشرح 4/354) ورأي الجمهور هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وكون القرض يجر منفعة بدون اشتراط يتعارض مع باب المعروف والتبرع المندوب إليه شرعًا ولأن الربا لا يتحقق بلا شرط) والله أعلم
(3) حديث " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة " رواه أحمد والنسائي وصححه الترمذي وابن حبان، ولأبي داود من حديث أبي هريرة: " من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا " (سبل السلام: 3/16) .
(4) انظر: المغني والشرح الكبير: 4/490، القوانين الفقهية: ص 223، فتح القدير: 5/218، الخرشي: 72 -73 /5 الروضة الندية شرح الدرر البهية: 2/101.(6/178)
وعلة فساد هذا التصرف أنه تضمن جهالة فإنه مثل قوله: بعتك هذا أو هذا، أو مثل بيع أحد مثمونين بثمن واحد.
وهذا التفسير (لبيعتين في بيعة) نفاه السبكي عن الإمام الشافعي وأصحابه إذ يقول في فتاواه (1) : اعلم أن الشافعي والأصحاب تكلموا في بيعتين في بيعة مفسرين الحديث بتفسيرين:
أحدهما – أن يقول بعتك داري هذه بألف على أن تبيعني عبدك هذا بألف، إذا وجبت لك داري وجب لي عبدك.
الثاني – أن يقول بعتك بألف على أن تبيعني أو تشتري مني.
إلا أن الإمام النووي وكذلك البيضاوي قد فسرا بيعتين في بيعة بصورتين (2) .
الأولى - أن يقول بعتك بألف نقدا أو ألفين إلى سنة
الثانية - أن يقول بعتك ذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا وهذه الصورة كالتي قالها السبكي كما لا يخفى
وقد نقل الصنعاني الصورة الأولي قولًا للشافعي (3) .
وعند الحنفية – كما فسره المرغناني – أن صفقتين في صفقة: أن يتضمن العقد عقدين كاجتماع إجارة وبيع أو إعارة وبيع (4) وعند ابن الهمام أن كون الثمن على تقدير النقد ألفًا وعلى تقدير النسيئة ألفين ليس في معنى الربا (5) ، وقد سبق تعليل منع بيعتين في بيعة على تفسيرها: بعتك بالنقد بعشرة وبالنسيئة بعشرين، بناء على الجهالة لا على أنها ربا.
على أن كلام ابن الهمام ينبغي أن يفسر على التخيير لا على الجزم، أما أن يقترن بالعقد مثل هذا الشرط جزفًا فإنه الجهالة، ويمكن أن يقال بالربوية لأن العقد تضمن زيادة مشروطة لأحد المتعاوضين مقابل أجل الذي هو ربا الجاهلية.
__________
(1) انظر: فتاوى السبكي نشر مكتبة القدس بالقاهرة: 1/356.
(2) انظر: منهاج الطالبين بهامش مغني المحتاج: 2/31، الغاية القصوى في دراية الفتوى للبيضاوي: 1/469، تحقيق السيد علي محيي الدين القره داغي.
(3) سبل السلام: 3/16.
(4) الهداية وفتح القدير: 5/218.
(5) فتح القدير: 6/81، هكذا في الموسوعة الفقهية: 9/266.(6/179)
الصورة الثالثة: أن تشترط الزيادة في الدين مقابل تأجيله قبل العقد، كما لو قال البائع: أبيعك هذه السلعة نقدًا بمائة ونسيئة بمائة وعشرين، فيلاحظ أنه قد استخدم لفظ الفعل المضارع وهو يفيد التخيير لا الجزم، فإن اختار المشتري أحد الطريقين للشراء ووافقه البائع فإن البيع ينعقد على أحد الوجهين بالنقد أو بالنسيئة مع قرينة إرادة الحال لا الاستقبال.
وهذا الوجه صححه طاوس والحكم وحماد (1) ، وهو اختيار المالكية حسب شرح العدوي على الخرشي (2) ، وهو مقتضى توجيه الشافعية حسب ما صرح به السبكي من أن الشرط المبطل للتصرفات هو الشرط المقارن فلو تقدم لم يبطل (3) .
وخرج ابن قدامة وجهًا في الصحة (4) .
ويبدو لي أن هذه الصورة هي الشائعة في سوق التعامل اليوم، إذ أن المشتري مخير بين أمرين: إما أن يشترى بالنقد كذا، أو بالنسيئة بكذا ويتعاقد على هذا الأساس، وهذه الزيادة لا يبدو أنها تسبب جهالة أو أنها من الربا، لأنه جاز للمشتري أن يشتري نقدًا بثمن النسيئة، فلو كان ثمن النقد وثمن النسيئة مائة وعشرين فإنه يجوز للمشتري أن يشتري بمائة وعشرين نقدًا أو نسيئة.
فلما كان الأمر كذلك وأنه مبني على تخيير المشتري في المضي على أحد السبيلين في التعاقد – ولاشك أن للأجل اعتبارًا في تقدير الأثمان في نظر العلماء – لذلك فإن الجواز في هذه الصيغة يمكن المصير إليه والله أعلم.
على أن الإمام الأوزاعي يوافقه عطاء بن أبي رباح يذهبان إلى أنه إذا اقترن العقد بالنقد بعشرة وبالنسيئة بخمسة عشر فإنه صحيح على أن لا يفارقه قبل المباتّة باختيار إحدى البيعتين، فإن أخذ السلعة قبل المباتّة وقع البيع بأقل الثمنين لأبعد الأجلين (5) .
فيلاحظ أنه قد اعتبر من النقد الثمن ومن النسيئة الأجل فروعي جانب المشتري. لكن يمكن أن يقال إن الحكم بني على إيجاب وقبول غير متفقين، لأن الثمن تقرر من صيغة البيع نقدًا، والأجل تقرر من صيغة البيع نسيئة، وهذا لا يخلو من النظر والله أعلم.
__________
(1) المغني والشرح الكبير: 4/290.
(2) حاشية العدوي: 5/73.
(3) فتاوى السبكي: 1/350.
(4) وتخريجه جاء بناء على الإجارة حيث قال: وإن قال إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم فعن أحمد فيه روايتان: إحداهما – لا يصح وله أجر المثل وهو مذهب الجمهور. الثانية – يصح وهو قول الحارث العكلي وأبي يوسف ومحمد لأنه سمى لكل عمل عوضًا معلومًا. (المغني والشرح: 6/87) لكن ابن قدامه احتمل عدم صحة هذا الوجه للفرق حيث يمكن صحته بناء على كونه جعالة يحتمل فيها الجهالة بخلاف البيع 0 (المغنى والشرح: 4/290)
(5) انظر كتاب: فقه الإمام الأوزاعي للدكتور عبد الله محمد خليل الجبوري 2/88(6/180)
المبحث الخامس
تعجيل أداء الدين مقابل إسقاط جزء منه
إذا تقرر جواز تأجيل الدين أقساطًا أو قسطًا واحدًا فهل يجوز تعجيل قضاء الدين مقابل إسقاط بعضه فيقول المدين للدائن: ضع بعض دينك وتعجل الباقي، أو يقول الدائن للمدين: عجل لي بعضه وأضع عنك باقيه؟
هذه المسألة بحثها الفقهاء تحت قاعدة (ضع وتعجل) .
قال ابن جزي (1) (قاعدة – ضع وتعجل – حرام عند الأربعة بخلاف عن الشافعي وأجازها ابن عباس وزفر، وهي أن يكون له عليه دين لم يحل فيجعله قبل حلوله على أن ينقص منه، ومثل ذلك أن يعجل بعضه ويؤخر بعضه إلى أجل آخر، وأن يأخذ قبل الأجل بعضه عينًا وبعضه عرضًا، ويجوز ذلك كله بعد الأجل باتفاق، ويجوز أن يعطيه في دينه عرضًا قبل الأجل وإن كان يساوي أقل من دينه) .
والتحقيق أن في المسألة ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول – عدم جواز هذه المعاملة:
وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عبد الله وزيد بن ثابت والمقداد والحسن وسالم والحكم والشعبي وهشام بن عروة والثوري وابن عيينة وابن علية وإسحاق وهو رواية عن سعيد بن المسيب وإليه ذهب الأئمة الأربعة (2) لكن أشير هنا إلى أنه وإن نقلت بعض المراجع رأي الحنفية والشافعية على المنع مطلقًا إلا أن هذا لا يبدو مسلمًا فقد رأيت أن ابن جزي نقل عن الإمام زفر القول بالجواز، كما أن السبكي يقول: إني كلمت الحنفية – يعني في هذه المسألة – فرأيتهم مضطربين في تحرير مذهبهم وضبط ما يمتنع فيه مما لا يمتنع (3) .
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 217.
(2) المغني والشرح الكبير: 4/174- 175، الموطأ برواية محمد بن الحسن: ص 271، الزرقاني: 3/23، فتح العزيز هامش المجموع: 10/300، فقه سعيد بن المسيب: 3/31- 32 للدكتور هاشم جميل عبد الله
(3) فتاوى السبكي: 1/351، ويلاحظ أن للشافعي تفصيلًا فذكر رأيا منفردًا في المتن.(6/181)
أدلة هذا الفريق:
يدل على رأي الجمهور ما يأتي:
أولا: ما روي عن المقداد بن الأسود، قال: أسلفت رجلًا مائة دينار، ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: عجل لي تسعين دينارًا وأحط عشرة دنانير فقال: نعم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أكلت ربا المقداد وأطعمته)) ، قال السبكي رواه البيهقي بسند ضعيف (1) .
وقريب من ذلك عن المقداد جاء في الطبراني الكبير وفي سنده أبو المعارك قال في مجمع الزوائد 4/130 لا أعرف أبا المعارك وبقية رجال الحديث ثقات.
ثانيًا: سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن هذه المعاملة فكرهها ونهى عنها كما أنه قد نسب النهي لأبيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2) .
ثالثًا: روي في الموطأ النهي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه (3) .
فمن هذه الأدلة تلخص للجمهور أن تعجيل الأداء مقابل إسقاط جزء من الدين ربا، فكما تحرم الزيادة على مقدار الدين في مقابلة تأجيله، فكذلك يحرم النقص عنه مع تعجيله.
المذهب الثاني – الجواز مطلقًا:
وهو كما ذكر ابن جزي وغيره منقول عن ابن عباس وزفر كما أنه رواية عن سعيد بن المسيب وبه قال النخعي وأبو ثور (4) .
قال هؤلاء من يفعل ذلك فلا أكثر من أنه قد أخذ بعض حقه وترك بعضه وهذا جائز كما لو كان الدين حالًّا.
ويدعم مذهب هؤلاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير من المدينة جاءه أناس منهم فقالوا: يا رسول الله: إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ضعوا وتعجلوا)) قال السبكي ضعفه. البيهقي وقال الحاكم صحيح الإسناد (5) .
__________
(1) الفتاوي: 1/350.
(2) المرجع نفسه.
(3) المرجع نفسه
(4) المغني والشرح الكبير: 4/174، الزرقاني: 3/323، فقه سعيد بن المسيب: 3/33.
(5) الفتاوى: 1/351 وفي رواة الحديث مسلم بن خالد الزنجي قد اختلف في توثيقه مجمع الزوائد، وانظر الميزان: 3/165.(6/182)
المذهب الثالث – التفصيل بين المنع والجواز:
ذهب الشافعية كما حرره السبكي: إذا جرى تعجيل الدين مقابل إسقاط جزء منه بالشرط بطل، وإن لم يشترط بل عجل بغير شرط وأبرأ الآخر وطابت بذلك نفس كل منهما فهو جائز وهذا مذهبنا، والشرط المبطل هو المقارن فلو تقدم لم يبطل وهو مقتضى تصريح جميع الأصحاب.
والدليل كما يقول السبكي: أن فقهاء الشافعية حملوا اختلاف الآثار الواردة في ذلك حظرًا وجوازًا، فذهبوا إلى التفصيل المذكور.
وهذا الرأي يبدو لي هو الأقرب للقبول، لأن الشرط يجعل المعاملة محفوفة بشائبة الربا فلا سبيل إلى الجواز مطلقًا، فبقي الجواز مع عدم الشرط لأن النفوس قد تطيب بالتبرع والأعمال بالنيات فلماذا نمنع معروفًا يبدو للدائن فعله؟
والله أعلم.
محمد رضا عبد الجبار العاني(6/183)
مراجع البحث
1- القرآن الكريم.
2- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير.
3- المغني والشرح الكبير لابن قدامة المقدسي.
4- كشاف القناع للبهوتي.
5- القوانين الفقهية لابن جزي.
6- شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه.
7- فتح القدير / شرح الهداية.
8- فتاوى السبكي.
9- الروضة الندية شرح الدرر البهية.
10- مغني المحتاج للخطيب الشربيني.
11- الغاية القصوى في دراية الفتوى للبيضاوي.
12- فتح العزيز للرافعي بهامش المجموع.
13- الموطأ للإمام مالك.
14- سبل السلام للصنعاني.
15- فقه الإمام الأوزاعي للدكتور عبد الله الجبوري.
16- فقه سعيد بن المسيب للدكتور هاشم جميل عبد الله.
17- شرح مجلة الأحكام العدلية للمرحوم منير القاضي.
18- المعاملات الشرعية المالية للمرحوم أحمد إبراهيم بك.
19- الموسوعة الفقهية الكويتية.
20- مختار الصحاح للرازي.(6/184)
بيع التقسيط: تحليل فقهي واقتصادي
إعداد
سعادة الدكتور رفيق يونس المصري
الباحث بمركز الاقتصاد الإسلامي –جامعة الملك عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
فإن عهدي ببيع التقسيط (= بيع النسيئة) قديم نسبيًّا، إذ يعود إلى اثني عشر عامًا خلت، عرضت له أول مرة في كتابي " مصرف التنمية الإسلامي "، في طبعته الأولى 1397 هـ، ثم حاولت تنقيحه قليلًا في الطبعتين: الثانية عام 1401هـ، والثالثة عام 1407هـ.
ثم طفت قريبًا من الموضوع، في مقال لي بمجلة حضارة الإسلام السورية، عام 1398هـ.
ثم عدت إليه عام 1405هـ، في مجلة المال والاقتصاد الصادرة عن بنك فيصل الإسلامي السوداني بالخرطوم.
ثم عام 1405هـ ثانية في كتابي " الربا والحسم الزمني ".
ثم عام 1406هـ، في مجلة الأمة القطرية.
ثم عام 1409هـ، في مجلة الوعي الإسلامي الكويتية.
فمنذ عام 1397هـ وأنا أعود إلى بحثه، بين الحين والآخر، بالتنقيح والزيادة.
وأرجو أن لا يعدم القارئ فوائد إضافية لدى قراءة هذا البحث الجديد.
وإذا عرضت للقارئ الكريم أسئلة أو تساؤلات في موضع، فأرجو أن يصبر قليلًا حتى يجد جوابها في مواضع أخرى من هذا البحث، إن شاء الله.(6/185)
الفصل الأول
تعريف بيع التقسيط وأهمية بحثه
1-1 بيع التقسيط بيع مؤجل:
البيع في الفقه الإسلامي قد يكون معجل البَدَلَيْن (يدًا بيد) ، أو مؤجل البدلين (وهو من الكالئ بالكالئ) ، أو أحد بدليه معجلًا والآخر مؤجلًا، فإن عُجِّل الثمن وأُجِّل المبيع فهو بيع السَلَم (السلف) ، وإن عجل المبيع وأجل الثمن فهو بيع النسيئة.
وعلى هذا فإن البيوع المؤجلة تشتمل لفظًا على ما تأجل أحد بدليه أو كلاهما، وقد أجازت الشريعة تأجيل أحد البدلين إجازة صريحة، عندما أجازت الأحاديث النبوية الشريفة بيع السلم وبيع النسيئة.
وبيع التقسيط عبارة حادثة لمعاملة قديمة، فهو ليس إلا لونا من ألوان بيع النسيئة، إنه بيع يعجل فيه المبيع، ويتأجل الثمن، كله أو بعضه، على أقساط (= نجوم) معلومة، لآجال معلومة، وهذه الأقساط قد تكون منتظمة المدة، في كل سنة مثلًا قسط، أو غير ذلك، كما قد تكون متساوية المبلغ أو متزايدة أو متناقصة، وهذا معروف لدى المطلعين على طرق سداد الديون (= استهلاكها، إطفائها) .
والأقساط جمع قسط، والقسط في اللغة هو الحصة أو النصيب يقال: تقسطنا المال بيننا، أي أخذ كل منا نصيبه منه، والقسط أيضا: العدل يقال: أقسط الرجل فهو مقسط، أي عادل، ولعل بين المعنيين صلة، إذ النصيب يفترض فيه أن يكون عادلًا بوجه من الوجوه وإذا قال الفقهاء: إن للزمن قسطًا من الثمن، فإنما يعنون أن للزمن حصة عادلة من الثمن، ولكن الناس قد يجورون، فإذا جاروا فهو القسوط، ومنه القاسط: العادل عن العدل (الجائر) ، والمقسط: العادل (= مزيل الجور) الذي يزن بالقسطاس (= لغة في القسط، بمعنى الميزان) المستقيم.
هذا ولا يقصد ببيع التقسيط أن التقسيط هو المبيع، بل إن التقسيط هو طريقة البيع، أو بعبارة أدق: طريقة سداد ثمن البيع.(6/186)
1-2 أهمية بحث بيع التقسيط:
قد يتساءل البعض: ما فائدة النظر المجدد في بيع التقسيط، وقد عرفنا أنه ليس إلا ضربًا من ضروب بيع النسيئة، وهذا البيع جائز بنص الحديث النبوي؟
الواقع أن لهذا النظر المجدد: أهمية نظرية، وأخرى عملية.
1- الأهمية النظرية: تتمثل في أن بيع التقسيط ينطوي على تأجيل، كما ينطوي على زيادة في الثمن لأجل هذا التأجيل، وثمة بيوع نصت الأحاديث النبوية على حرمة الأجل فيها، كبيع الذهب بالذهب، أو الذهب بالفضة، أو القمح بالشعير، وثمة بيوع نصت الأحاديث النبوية على حرمة الزيادة (= الفضل) فيها للأجل، كبيع الذهب بالذهب، أو القمح بالقمح، فلابد إذن من بيان الفروق الدقيقة التي تفصل بين بيع يجوز فيه الأجل والزيادة للأجل، وبيع لا يجوز فيه أجل ولا زيادة.
وبعبارة أخرى فإن في بيع التقسيط نساء وفضلًا، وهذا قد يلتبس بربا النساء وربا الفضل المحرمين في بعض البيوع، وبعبارة ثالثة فإن نظرية الربا في الإسلام لا يتكامل فهمها إلا بفهم هذه البيوع المؤجلة وتفسيرها، إلى جانب فهم ربا القروض وربا البيوع.
هذا فضلًا عن فائدة نظرية أخرى، تضاف إلى ما تقدم، وهي الرغبة في التأكد من بيع التقسيط: هل يكون حكمه هو نفس حكم بيع النسيئة؟
2- الأهمية العملية: تتمثل في أن بيع التقسيط قد انتشر انتشارًا كبيرًا في معاملات الأفراد والأمم، بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما في مجال السلع المعمرة اللازمة للأسر والمنشآت، كالآلات والأدوات والتجهيزات والسيارات. . . فتشتري هذه المنشآت من مورديها بالتقسيط، وتبيع إلى زبائنها بالتقسيط، وربما لجأت إلى المصارف لتمويل هذه العمليات (بيوع التقسيط) .(6/187)
وقد ساعد على انتشار هذه البيوع أن البائع الذي يبيع بالتقسيط يمكنه أن يأخذ من المشتري ورقة تجارية (سندًا إذنيًا لأمر البائع، أو سفتجة، أي كمبيالة، مسحوبة على المشتري) أو عدة أوراق تجارية بعدد الأقساط المؤجلة، ثم يخصمها لدى المصرف، ليحصل على قيمتها الحالية، وهذا الخصم المصرفي عندنا من ربا النسيئة المحرم، وعليه فإن المؤسسات الائتمانية الحديثة قد كانت عاملًا مساعدًا على انتشار بيع التقسيط، من طريق قيامها بعمليات الخصم وعمليات أخرى كبطاقات الائتمان.
كذلك فإن المصارف الإسلامية الحديثة قد زاولت بيوع التقسيط، وساعدت على انتشاره، فهي تشتري السلعة بثمن معجل، وتعيد بيعها إلى العميل بثمن مقسط، وذلك من خلال ما سمي " ببيع المرابحة للآمر (أو للواعد) بالشراء "، فهو مرابحة من حيث إن المصرف يبيع السلعة لعميله بثمن الكلفة مضافًا إليه ربح معلوم للمصرف، وهذا هو معنى بيع المرابحة في الفقه الإسلامي باعتباره أحد أنواع بيوع الأمانة (المرابحة، التولية، الوضعية) ، وهو بيع تقسيط من حيث إن المصرف يقسط ثمن البيع على أقساط، وفيه أيضا زيادة على المرابحة والتقسيط، من حيث إن المصرف عند مباشرة العملية لا تكون السلعة لديه، بل يعد العميل بشرائها وإعادة بيعها إليه، والتوسع في الكلام عن بيع المرابحة المطبق في المصارف الإسلامية إنما يخرج عن نطاق هذا البحث، ويدخل في نطاق بحوث أخرى لي منشورة (انظر على سبيل المثال: ورقتي المقدمة للدورة الخامسة لمجلس المجمع الفقهي – جدة) .
1-3 أهمية بيع التقسيط في شركة الوجوه:
شركة الوجوه، في الفقه الإسلامي، هي شركة بين اثنين أو أكثر يشترون بالنسيئة أو بالتقسيط، ويبيعون بالنقد، وربما بالنسيئة والتقسيط أيضا، أي أن الشركة لا رأس مال لها، بل تعمل بأموال الغير (= الدائنين) ، ويقتسم الشركاء الأرباح بحسب ملكية (وضمان) كل منهم في المال المشترى، وقد فصلنا الكلام في شركة الوجوه في موضع آخر.
ويهمنا هنا أن شركة الوجوه الجائزة عند الحنفية والحنابلة، إنما تعتمد على بيع النسيئة أو التقسيط ولا سيما من حيث علاقة الشركة بمورديها، أي البائعين إليها.
1-4 هل عالج الفقهاء القدامى بيع التقسيط؟
تكلم الفقهاء عن بيع مؤجل الثمن، كما تكلموا عن تقسيط الثمن (المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة 14/291) ، ولكنهم لم يفردوا له كتابًا أو بابًا مستقلًا.
ووجدت في كتاب الأم 3/86 و 88 و 89 للإمام الشافعي كلامًا صريحًا عن تقسيط المبيع في البيع المؤجل المبيع (بيع السلم = بيع السلف) ، وقد أجازه بشرط معرفة حصة كل قسط من الثمن (المسلف) ، أي معرفة القيمة الحالية لكل قسط وهذا كما لو سلف مبلغًا محددًا في كمية محددة من الحنطة وكمية محددة من التمر، فلابد في كل حالة من معاجلة الأمر على أنها بيوع معلومة بأثمان معلومة، فاختلاف الأجل كاختلاف الصنف المبيع، فالأقساط حتى لو تساوت من حيث قيمتها الاسمية، فإنها تختلف في القيمة الحالية، فإن مائة صاع من القمح تقبض بعد شهر ليست مساوية لمائة صاع من القمح تقبض بعد شهرين.
وبالطبع فإن ما شرطه الشافعي في بيع السلم المقسط غير محتاج إليه في بيع النسيئة المقسط، ذلك لأن المبيع في بيع النسيئة يقبضه المشتري دفعة واحدة، أما في بيع السلم فيقبضه على دفعات متعددة، وقد اشترط الشافعي معرفة حصة كل دفعة من الثمن، خشية عدم قدرة البائع على تسليم دفعة أو أكثر من الدفعات، فيمكن عندئذ فسخها بحصتها من الثمن، دون أن تتأثر بذلك بقية الدفعات التي سلمت في الماضي أو ستسلم في المستقبل.(6/188)
الفصل الثاني
حكم بيع التقسيط وحكمته
2-1 بيع النسيئة جائز بالنص:
روى الشيخان وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعامًا (وفي رواية: شعيرًا) إلى أجل (وفي رواية: بنسيئة) ، ورهنه درعًا له من حديد البخاري 3/101 و186 ومسلم 4/123 واللفظ له.
وهذا البيع جائز، سواء كان مع اليهود أو مع المسلمين أو سواهم، فهو نظير بيع السلم (= بيع السلف) .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)) ، رواه البخاري 3/111 واللفظ له، ومسلم 4/124 وغيرهما.
وجواز بيع النسيئة (وهو بيع مؤجل الثمن) يعني جواز بيع التقسيط، لأن هذا البيع ليس إلا بيعًا مؤجل الثمن، غاية ما فيه أن ثمنه مقسط أقساطًا، لكل قسط منها أجل معلوم، ولا فرق في الحكم الشرعي بين ثمن مؤجل لأجل واحد وثمن مؤجل لآجال متعددة.
على أنه تجدر الإشارة إلى أن بيع النسيئة، وإن كانت هناك نصوص أجازته، إلا أنه ليست هناك نصوص أجازت فيه الزيادة لأجل التأجيل أو التقسيط، بل هذا يحتاج إلى استنتاج وإظهار، وهو ما سنقوم به في هذا البحث.
2-2 حكمة بيع التقسيط
في بيع التقسيط فائدة لكل من البائع والشاري:
1- فالبائع يزيد في مبيعاته، ويعدد من أساليبه التسويقية، فيبيع نقدًا وتقسيطًا، ويستفيد في حال التقسيط من زيادة الثمن لأجل التقسيط.
2- والمشتري يستطيع الحصول على السلعة، والاستمتاع باستهلاكها أو استعمالها، قبل أن يمكنه دخله أو ثروته من ذلك، وهو بدل من أن يدخر ثم يشتري بالنقد، فإنه يشتري بالتقسيط، فيتعجل السلعة ويسدد ثمنها نجوما (= أقساطًا) .
2-3 مخاطر التوسع في الاستدانة:
البيع بالتقسيط هو بيع بالدين، ولا ينبغي التوسع في الاستدانة، لأن الاستدانة، في حالة الشراء بالتقسيط، فيها زيادة في مقابل الأجل، أضف إلى ذلك أن حجم الدين يجب ألا يتجاوز قدرة المدين على السداد، والدين إذا كان " عامًا " (أي إذا كانت الحكومة هي المدينة) ، ولا سيما الطويل الأجل منه، يحمل الأجيال القادمة عبء الجيل الحالي، إذا كان ممولًا بأموال الزكاة أو غيرها من الموارد العامة، ففي مثل هذه الحالات يكون الدين همًّا بالليل ومذلةً بالنهار، كما ورد في بعض الآثار (كنز العمال 6/231 و232، أو همًّا في أوله وحربا (= إفلاسًا) في آخره (الموطأ 2/770) .
وإذا كان الدائن غير مسلم، مثل حالة البلدان الأجنبية الدائنة، ففي الدين من مخاطر سيطرة البلدان الدائنة، وتبعية البلدان المدينة، ما لم يعد يخفى على أحد في عصرنا هذا، ومحاولة استعباد المدين محاولات قديمة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه امرؤ مسلمًا، فرآه عاريًا، يأمر بلالًا رضي الله تعالى عنه بالاقتراض قال بلال: يأمرني فأنطلق فأستقرض، فاشتري له البردة، فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين، فقال: يا بلال، إن عندي سعة، فلا تستقرض من أحد إلا مني، ففعلت، فلما أن كان ذات يوم، توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار، فلما رآني قال: يا حبشي، قلت: يا لباه (= لبيك) ، فتجهمني، وقال لي قولًا غليظًا، وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قلت: قريب. قال: إنما بينك وبينه أربع، فآخذك بالذي عليك، فأردّك ترعى الغنم، كما كنت قبل ذلك! إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبشر فقد جاءك الله تعالى بقضائك. . .)) الحديث رواه أبو داود في باب الإمام يقبل هدايا المشركين (عون المعبود 8/306) .(6/189)
2-4 هل بيع التقسيط مستحب أم مباح؟
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثلاثة فيهن البركة: البيع إلى أجل. . .)) ، رواه ابن ماجه في السنن (في التجارات، باب الشركة 2/768) والسيوطي في الجامع الصغير 1/533.
لا شك أن البيع إلى أجل يكون مستحبًا، عندما يقصد به الإرفاق بالمشتري، فلا يزاد عليه في الثمن لأجل الأجل، إذا كان محتاجًا فقيرًا، أو يؤتمن على السداد، بدون أن يضيق عليه بطلب رهن أو كفالة مثلًا.
أما إذا كان البيع إلى أجل لا يقصد به الإرفاق، بل مجرد المعاوضة الكاملة، حيث يزاد في الثمن لأجل الأجل، أو تطلب كفالة أو رهن، أو يؤتمن فيه المليء فقط، فهذا البيع يكون مجرد مباح، والله أعلم.
2-5 هل بيع التقسيط عقد تبرع أم عقد معاوضة؟
العقود الثلاثة:
1- تبرع محض (= كامل) كالهبة والعارية والضمان.
2- معاوضة محضة (= كاملة) كالبيع والإجارة والشركة.
3- تبرع ومعاوضة معًا، كالقرض فهو معاوضة من حيث إنه يرد مثله، وتبرع من حيث إن فيه معنى الصدقة، فهو عقد معاوضة ناقصة يثاب فيه المقرض.
وبيع الأجل أو التقسيط إذا لم تكن فيه زيادة للأجل، كان كالقرض عقد معاوضة ناقصة، ويثاب فيه البائع على إحسانه.
وإذا كانت فيه زيادة للأجل، ولا إرفاق فيه، فهو عقد معاوضة كاملة.(6/190)
الفصل الثالث
آداب بيع التقسيط
3-1 من لا يبيع إلا بالتقسيط:
إن بعض العلماء لدى بحثهم في بيع العينة وصوره، ذكروا أن للعينة صورًا منها أن يكون عند الرجل المتاع، فلا يبيعه إلا نسيئة، ونص الإمام أحمد على كراهة ذلك، فقال: العينة أن يكون عنده المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باع بنسيئة ونقد فلا بأس.
وقال أيضا: أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة، فلا يبيع بنقد.
قال ابن عقيل: إنما كره ذلك لمضارعته الربا، فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة غالبا.
وعلله ابن تيمية بأنه يدخل في بيع المضطر، فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه، فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة، كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجرًا من التجار (تهذيب السنن لابن القيم بهامش عون المعبود 9/347، والمغني مع الشرح الكبير لابن القدامة 4/45) .
وتعليقًا على هذا أقول: إنه كان قصد التاجر من البيع بالنسيئة هو بيع العينة أو بيوع الآجال (أي الحيل الربوية) فلا أشك في أن هذا مكروه، بل حرام، ديانة وقضاء.
لكن إن كان التاجر يبيع بالأجل، دون أن يتخذ هذا ذريعة إلى بيوع الآجال (= العينة) ، أو إلى خصم الأوراق التجارية في المصارف وما شابهه، فهذا مباح حتى ولو لم يبع إلا بالأجل والتقسيط، وحتى لو قصد الزيادة لأجل الأجل، أي خلافًا لابن عقيل، وسواء كان الشاري غنيًا أو فقيرًا لكن لو خفف البائع عن الفقير في الثمن، فهذا مستحب يثاب عليه.
وربما يحسن حمل كلام العلماء على هذا المعنى الذي ذكرناه، لا سيما وأنه ذكر بمناسبة الكلام عن صور بيع العينة ولا يحسن تسمية بيع الأجل بيع العينة، لأن بيع الأجل جائز وبيع العينة حرام.(6/191)
3-2 من آداب الشراء بالتقسيط:
يجب على شخص، سواء كان طبيعيًّا أو معنويًّا، فردًا أو حكومة، وأن لا يشتري بالتقسيط إلا إذا كان عازمًا على السداد، وقادرًا عليه، بحيث يغلب على ظنه أن يتمكن من سداد كل قسط في ميعاده، من فائض دخله أو ثروته في ميعاد السداد فحكم الدين هنا كحكم القرض، وقد ذكر الفقهاء أن الإمام (= الدولة) عندما يقترض، فلابد أن يتوقع قدرته على الوفاء.
قال الجويني: " الذي يوضح المقصد أنه لو استقرض، لكان يؤدي ما اقترضه من مال فاضل مستغنى عنه في بيت المال " (الغياثي ص 276، وانظر أيضا ص 279) .
وقال الغزالي: " ولسنا ننكر جواز الاستقراض (. . .) إذا دعت المصلحة إليه، ولكن إذا كان الإمام لا يرتجي انصباب مال إلى بيت المال يزيد على مؤن العسكر (. . .) ، فعلى ماذا الاتكال في الاستقراض، مع خلو اليد في الحال، وانقطاع الأمل في المال؟ نعم لو كان له مال غائب، أو جهة معلومة تجري مجرى الكائن الموثوق به (. . .) " (شفاء الغليل 241- 242) .
وقال الشاطبي: " والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجى " (الاعتصام 2/122) . وقال ابن أبي موسى: " لا أحب أن يتحمل بأمانته ما ليس عنده، يعني ما لا يقدر على وفائه " (المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة 4/353) .
والعادة أن البائع لا يبيع بالتقسيط إلا بعد التحقق من قدرة الشاري على الوفاء بأقساط الدين في مواعيدها وربما أيد (= وثق) هذا الدين برهن، أو بكفالة.(6/192)
3-3 هل يجوز أن يشتري بالتقسيط مع قدرته على دفع الثمن في الحال؟
لا يجوز للمسلم أن يقترض مع عدم حاجته للقرض (كنز العمال 6/230) ، لأن القرض عقد إرفاق (= إحسان) ، لا يجوز أن يطلبه إلا من كان أهلًا لهذا الإرفاق، إذ فيه منة على المقترض.
أما الشراء بالتقسيط فيمكن أن يلجأ إليه حتى من كان قادرًا على سداد الثمن في الحال ذلك بأن المشتري قد يرغب في استخدام فائض ماله في وجوه استثمارية مختلفة وعقد الشراء الثمن في الحال ذلك بأن المشتري قد يرغب في استخدام فائض ماله في وجوه استثمارية مختلفة وعقد الشراء بالتقسيط ليس كعقد القرض، فهو عقد معاوضة كاملة ويعتاض فيه البائع وعن التأجيل، فليس فيه إذن إرفاق ولا منة.
3-4 هل يجوز أن يمنع بائع التقسيط المشتري من التصرف بالمبيع إلى حين استيفائه الثمن (الشرط المانع من التصرف) ؟
يرجع فيه إلى مبحث بيع التقسيط والبيع الإيجاري (5-2) .
3-5 هل يجوز أن يحتفظ بائع التقسيط بملكية المبيع إلى حين استيفائه تمام الثمن (شرط الاحتفاظ بالملكية) ؟
يرجع فيه أيضا إلى مبحث بيع التقسيط والبيع الإيجاري (5-2) .
3-6 كتابة الدين (= الأقساط) :
على المستدين أن يكتب وثيقة للدائن بأنه استدان منه كذا بتاريخ كذا، حتى يوم كذا فإن لم يفعل المستدين هذا طلبه الدائن.
وقد نظم الإمام الشافعي هذا المعنى، فقال:
أَنِلْنِي بِالَّذِي اسْتَقْرَضْتَ خَطًّا
وَأَشْهِِدْهُ مَعْشَرًا قَدْ عَايَنُوهُ
فَإِنَّ اللَّهَ خَلَّاقُ الْبَرَايَا
عَنَتْ لِجَلَالِ هَيْبَتِهِ الْوُجُوهُ
يَقُولُ: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
يشير به إلى الآية 282 من سورة البقرة، على سبيل التضمين في اصطلاح القدامى، والاقتباس في اصطلاح المتأخرين (البرهان للزركشي 1/483) .
هذا وإن الكتابة، والشهادة، والضمان، كله مما يفيد التوثيق.(6/193)
الفصل الرابع
الرقابة الاقتصادية والائتمانية على بيع التقسيط
4-1 بيع التقسيط هو أحد ضروب الائتمان المباشر:
الائتمان في عصرنا نوعان: ائتمان غير مباشر، وائتمان مباشر الائتمان غير المباشر تمارسه المصارف، فهي وسيط (بالمعنى الاقتصادي لا الحقوقي، إذ إن علاقتها بكل فريق من الفريقين علاقة مستقلة) بين المقرضين والمقترضين، إذ تقترض من "المودعين "، لتقرض المنتجين وسواهم، كما تخصم الأوراق التجارية التي تتولد من بيوع مؤجلة بين البائعين والشارين، أي تخصم دين البائع على الشاري، وتقرض البائع القيمة الحالية لهذا الدين.
أما الائتمان المباشر فهو الائتمان الذي ليس فيه وسيط مالي، كالمصرف، بل يجري بين طرفين، كالبائع الذي يبيع المشتري بالتقسيط، فبيع التقسيط هو إذن من الائتمان المباشر، إذ يأتمن فيه البائع المشتري على سداد الأقساط.
4-2 رقابة المصارف المركزية على بيع التقسيط:
من الوظائف المنوطة بالمصارف المركزية الحديثة وظيفة الرقابة على الائتمان، أي إدارته وتوجيهه ومحاولة التحكم به، وقد ذكرناه أن الائتمان يشمل بيع التقسيط.
ويمارس المصرف المركزي دوره في بيع التقسيط بثلاث وسائل (= أسلحة) :
1- وضع حد أدنى للدفعة المعجلة (quotite) .
2- وضع حد أقصى لمدة التقسيط.
3- التأثير في معدل زيادة الثمن لقاء الزمن.
ويتحدد الحد الأدنى للدفعة المعجلة، والحد الأقصى لمدة التقسيط، واتجاه التأثير في معدل زيادة الثمن، وفق مقتضيات السياسة الائتمانية فإذا أراد المصرف المركزي لعمليات البيع بالتقسيط أن تنبسط (= تتسع) ، فإنه يخفض الحد الأدنى للدفعة المعجلة، ويرفع الحد الأقصى لمدة التقسيط، ويؤثر على المعدل في اتجاه الانخفاض وعلى العكس من ذلك، إذا أراد لتلك العمليات أن تنقبض (= تضيق) ، فإنه يرفع الحد الأدنى، ويخفض الحد الأقصى، ويؤثر على المعدل في اتجاه الارتفاع.
وفي بعض البلدان، كفرنسا مثلًا، يخضع هذا المعدل لرقابة القانون، فإذا تجاوز المعدل القانوني للفائدة، اعتبر ربا محرمًا يعاقب عليه القانون، غير أن القانون قد سمح في حالة الائتمان التقسيطي الصغير، بتحصيل مصاريف سماها مصاريف ملف وإدارة لأن كلفة الائتمان الصغير تتجاوز السقوف القانونية للفائدة.(6/194)
4-3 المنشآت الائتمانية في نطاق بيع التقسيط:
بيع التقسيط يتحلل في حقيقته إلى وظيفتين اقتصاديتين: بيع معجل + قرض وقد يضطلع البائع نفسه بهاتين الوظيفتين، وقد ينشىء منشآت تابعة له، لكي تقدم القرض منفصلًا عن البيع، وقد يلجأً لهذا الغرض إلى المصارف، أو إلى منشآت مصرفية مختصة.
وعلى هذه الشاكلة، تطور الائتمان الذي يقدمه الموردون، منذ القديم، للصناع والتجار والمستهلكين، وفعلًا هناك في بعض البلدان، ومنها البلدان العربية والإسلامية، بائعون لا يبيعون بالتقسيط، بل على من أراد شراء سيارة، مثلًا، بالتقسيط، أن يتوجه إلى هذه المنشآت الائتمانية المختصة، فتشتري له السيارة من معرض بيع السيارات، أو من الوكالة، بالنقد، أي تدفع ثمنها نقدًا، وتسجل عليه ثمنها المؤجل، أو المقسط.
هذا ونتعجل الإشارة في هذا الموضوع، إلى أن الحكم الشرعي على بيع التقسيط بين بائع وشار، مختلف عنه بين بائع وشار ووسيط مالي، فالأول جائز شرعًا، والآخر غير جائز، لأن الوسيط يدفع مثلًا 60 ألف ريال (الثمن المعجل للسيارة) ، ويسترد من المشتري 70 ألف ريال (الثمن المقسط للسيارة) ، وهذا ربا نسيئة محرم، وسنزيده بيانًا في مباحث لاحقة من هذه الورقة.(6/195)
الفصل الخامس
تمييز بيع التقسيط عن بعض البيوع الأخرى المقاربة
(صور جديدة يمكن أن يلتبس بها بيع التقسيط أو تلتبس به)
5-1 بيع الأجل وبيوع الآجال:
بيوع الآجال هي أن يبيع الرجل سلعته بثمن مؤجل، ثم يشتريها بثمن أعلى إلى أجل أبعد، أو بثمن أقل إلى أجل أدنى، أو نقدًا ففي بيوع الآجل بيعتان كل منهما بثمن، فإن كانت البيعة الثانية مشروطة في الأولى فلا أحد من الفقهاء يجيزها وكذلك إن كانت نية المتبايعين التحايل على الربا، حيث إن البائع يثبت له في ذمة المشتري الثمن الموجل (الدين) ، ثم إذا ما استرد سلعته بثمن نقدي أقل، تكون السلعة قد عادت إليه، ويكون قد دفع إلى من كان مشتريًا في البيعة الأولى، وبائعًا في البيعة الثانية مبلغًا يعادل الثمن النقدي، ومحصلة هذا أن البائع أولًا (المشتري ثانيًا) قد أقرض المشتري أولًا (البائع ثانيًا) قرضًا بزيادة مقدارها الفرق بين الثمنين، فهو إذن قرض ربوي بالحيلة، ويسمى في الشرع " عينة ".
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة (…) سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) ، رواه أبو داود 3/274، وصححه الشيخ أحمد شاكر (مسند الإمام أحمد، ط أحمد شاكر 7/27) ، وقال ابن تيمية: إسناده جيد (الفتاوى 29/26- 30) .
فالعينة هنا بيع مقصوده السلف الربوي، أي هو من قبيل استحلال الربا بصورة البيع.
أما إذا وقعت البيعة الثانية من دون اشتراط في البيعة الأولى، فهذا جائز عند الشافعية والظاهرية، ممنوع عند جمهور الفقهاء، واحتج الشافعية بأن حمل الناس على التهم لا يجوز، وهم يرون أن مجرد إعادة بيع السلعة إلى بائعها قبل دفع الثمن ليس دليلا كافيًا على وجود النية الربوية عند المتبايعين.(6/196)
ولهذه البيوع صور عديدة جدًّا، لا سيما عند المالكية الذين ذكر بعضهم أنها بلغت ألف مسألة (الفروق للقرافي 2/32، وتهذيب الفروق بهامشه 2/42) .
انظر في بيوع الآجال أو بيع العينة: مقدمات ابن رشد، كتاب بيوع الآجال، ص524، والمدونة 4/118، وبداية المجتهد 2/106، وقوانين ابن جزي 284، والموافقات للشاطبي 4/198 و 199 و 3/304 – 305 و 328 و 220- 221 ـ والاعتصام 2/31، وبلغة السالك للصاوي 2/41 والأم للشافعي 3/68 و 78 (باب بيع الاجال) و 3/33 و 34، وروضة الطالبين للنووي 3/416 وحاشية ابن عابدين 4/279 و 244 والمحلى لابن حزم 9/47 وفتاوى ابن تيمية 29/26- 30، وتهذيب السنن 5/108، وأعلام الموقعين لابن القيم 3/166، والمغني لابن قدامة 4/195، وسبل السلام 3/42، ونيل الأوطار 5/234.
والمهم هنا أن نفرق بين بيع الأجل وبيوع الآجال، فبيع الأجل جائز بزيادة في الثمن للأجل عند جمهور الفقهاء، وبيوع الآجال غير جائزة عند جمهور الفقهاء، لا لأن الزيادة في الثمن للأجل لا تجوز، بل لأن هذه الزيادة لا يجوز اتخاذها ذريعة إلى بيع لا تراد بها السلع، ولا يراد بها حقيقة البيع، إنما يراد بها السلف الربوي، إذ تتقابل هذه البيوع وتتعاكس مختلفة في الأثمان والآجال، حتى تفرغ من محتواها، أي من مقصودها وربما سميت بيوع عينة، لأنها بيوع يراد بها العينة، أي السلف الربوي.
5-2 بيع الأجل والتورق:
التورق هو أن يشتري السلعة بثمن مؤجل، أو مقسط، ويبيعها لآخر بثمن معجل، ليحصل على الورق (= الدراهم، النقود) ، ليسد بها حاجته، والتورق هو ضرب من العينة (= بيوع الآجل) ، لكن أفردناه لأن بعض المعاصرين يرون جوازه بلا تفصيل ويعلمونه لتلاميذ المدارس في الكتب المدرسية.
ونحن نرى جوازه إن كان الغرض عند الشراء هو الانتفاع بالسلعة، أو الاتجار بها (فتاوى ابن تيمية 29/30و 442 و 446 و 496) .
وكذلك نرى أنه لا إثم على البائع، ولا على المشتري الثاني، إذا كانا غير عالمين بحاجة المتورق إلى المال.
أما المتورق فيحسن أن يلجأ أولا إلى طلب القرض، فإن لم يقرضه أحد تورق (لجأ إلى التورق) ، لكن المتورق قد يلجأ إلى التورق مباشرة إذا كان يخشى المنة، ويغلب ويغلب على ظنه أن أحدًا لن يقرضه بلا فائدة، فهنا قد يجوز التورق والله أعلم.
أما إذا كانت عملية التورق تتم بتواطؤ الأطراف الثلاثة، في صورة نظام كما هو واقع في عصرنا هذا، بحيث يشتري بثمن مؤجل ليبيع بثمن نقدي إلى منشأة تابعة للبائع الأول، فهذا لا يجيزه فقيه إلا من أهل الحيل، سئل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز عن التورق، فقال: هو آخية (أو أخيه) الربا (فتاوى ابن تيمية 29/431، وأعلام الموقعين لابن القيم 3/182) ، أي أصله أو الحبل أو السبب الموصل إليه والآخية (بتخفيف الياء أو بتشديدها) : عروة تثبت في أرض أو حائط، وتربط فيه الدابة والأخية (بوزن قضية) : الوسيلة، الصلة القوية (النهاية لابن الأثير، والمعجم الوسيط) .(6/197)
5-3 بيع التقسيط والبيع الإيجاري (= الإيجار المنتهي بالتمليك) :
قد يتفق اثنان على أن يؤجر أحدهما للآخر سلعة من السلع القابلة للإجارة: أرض، مبنى، سيارة، باخرة، طائرة، آلة … الخ، بحيث يسدد المستأجر أقساطًا إيجارية في مواعيد دورية منتظمة: كل شهر أو كل سنة أو غير ذلك، وبحيث إذا سدد من الأقساط المحددة عشرة أقساط مثلًا، تم نقل ملكية السعلة إلى المستأجر مع سداده القسط الأخير، وخلال مدة الإجارة قد توضع لوحة ظاهرة على الشيء المأجور، تبين أن هذا الشيء ملك لفلان المالك المؤجر.
وهذا ما يسمى " البيع الإيجاري " location – venteبالفرنسية، Hire purchase بالإنكليزية فهو إيجار ينتهي بالبيع (بالتمليك) ، ويلجأ إليه صاحب السلعة، بدل بيع التقسيط، رغبة منه في الاحتفاظ بملكية السلعة، خلال مدة تسديد الأقساط، فلا تنتقل ملكيتها إلى الطرف الآخر إلا بعد سداد الثمن المقسط كاملًا، فلو أفلس هذا لم تدخل السلعة في التفليسة، لكن ربما ادعى وكيل التفليسة أن البيع هو بيع تقسيط تحت ستار بيع إيجاري، ولو عقدت هذه المعاملة بيعًا بالتقسيط لانتقلت ملكية المبيع إلى المشتري بمجرد إبرام عقد البيع، فإذا أفلس كانت أملاكه، ومنها هذا المبيع، موضع قسمة بين الدائنين (= الغرماء) .
وهناك صورة قريبة من البيع الإيجاري، في القانون الوضعي، وهي أن يعقد الطرفان عقد إجارة، مع وعد بالبيع، في نهاية الإجارة، وقد يكون هذا الوعد ملزمًا للطرفين أو غير ملزم، أو ملزمًا للبائع دون المشتري، فإن كان الوعد غير ملزم لأي منهما، فلا بأس بالمعاملة شرعًا، إذ في نهاية الإجارة، يعقدان البيع، ويتراضيان على الثمن أما إن كان الوعد ملزمًا، فلا نرى جوازه، لأن الوعد الملزم في حكم العقد لابد فيه من أن يكون الثمن معلومًا، وكيف يتم التراضي على ثمن، سلعة لا يعرف حالها إلا في نهاية الإجارة؟ وربما يتم نقل ملكية السلعة بدون ثمن أي هبة، وظاهر أنها حيلة (فاجتماع الهبة مع البيع كاجتماع السلف مع البيع، كلاهما ممنوع في الشرع) ، وإلا فليس من المعقول أن يهبه هبة حقيقية، فليس ثمة من الهبة إلا صورتها، ومما يزيد الحيلة وضوحًا أن المؤجر يملك السلعة المأجورة، ولكنه يتنصل بكل طريق من تحمل مخاطر الملك وصيانته، فهو إذن ملك صوري، ليس الغرض منه إلا الضمان، أي ضمان بقاء السلعة في ملكه حتى سداد ثمنها كاملا ومما يزيد الحيلة وضوحا أيضا أن الأقساط المسددة تكون أقساطًا بيعية (أي أقساط سداد الثمن) ، لا أقساطًا إيجارية (أقساط سداد الأجرة) ، فالأولى أعلى من الثانية.(6/198)
والخلاصة فإن البيع الإيجاري، أو الإيجار مع الوعد الملزم بالبيع، حيلة حديثة على بيع التقسيط (والبيع من العقود الناقلة للملكية) ، يشبهها في الحكم بيع التقسيط مع عدم نقل ملكية المبيع إلا بعد سداد الأقساط جميعًا، وهذا ما يعرف في مباحث القانون الوضعي بشرط الاحتفاظ بالملكية، وقد أجازه القانون الروماني وبعض القوانين الحديثة العربية والأجنبية (د. إبراهيم دسوقي أبو الليل ص 90 و 148 و 189 و 270) .
والبيع الإيجاري من البيوع التي أقرتها بعض القوانين الوضعية كما ذكرنا، وليس له ذكر عند الفقهاء المسلمين السابقين، ويحاول بعض العلماء المعاصرين استباحته بحجج وحيل غير مقبولة فقهيًا وأصوليًا.
وقد رأى بعض الفقهاء المعاصرين أن البيع الإيجاري يستغني عنه شرعًا ببيع التقسيط، مع تقديم كفالة أو ضمان (رهن) ، ويمكن أن يكون رهنًا للمبيع نفسه، إذا كان الرهن غير مقبوض (رهن رسمي غير حيازي) في يد البائع المرتهن، وهذا ممكن اليوم في نطاق السلع التي ترهن بإشارة رهن في السجل الرسمي، كما هو واقع بالنسبة للمباني والسيارات وغيرها (أبو الليل ص 189) .
والحقيقة أن بيع التقسيط، مع رهن المبيع، لا يغني الباعة عن البيع الإيجاري، أي أن الأول ليس بديلًا كاملًا، له نفس الكفاءة بالنسبة للبائع، لأن أفضلية البائع المرتهن تتقدم عليها في المرتبة أفضلية أرباب حقوق الامتياز العامة، كالخزانة العامة التي تحظى بأفضلية مطلقة (أبو الليل ص 187 و 180) ، ولأن الرهن يتطلب إجراءات قانونية متعددة، كالتسجيل والتجديد وبيع المرهون.
ولئن جاز رهن المبيع نفسه، فقد يجوز أيضًا أن يتشرط بائع التقسيط على المشتري عدم التصرف بالمبيع إلى حين استيفاء الثمن، ويسجل هذا الشرط مع تسجيل عقد البيع، وهو ما يعرف في مباحث القانون الوضعي بالشرط المانع من التصرف (أبو الليل ص 10و 20و 22 و 259) فرهن المبيع نفسه ليس الغرض منه إلا منع المشتري من التصرف به إلى حين سداد الأقساط وفك الرهن.(6/199)
5-4 بيع التقسيط والتمويل الإيجاري:
التمويل الإيجاري (بالإنكليزية Leasing , وبالفرنسية Credit-bail)
صيغة تمويلية حديثة، ظهرت أو مرة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1953م، وفي فرنسا عام 1962م، واعترف بها القانون الفرنسي المؤرخ في 2 تموز (يوليو) 1966 م.
والتمويل الإيجاري هو كالبيع الإيجاري، إلا أن السلعة التي يراد تأجيرها لم تدخل بعد في ملك المؤجر، فهو يؤجرها قبل أن يشتريها، فهو إيجار قبل القبض (قارن في الشريعة: البيع قبل القبض) ، بل قبل الشراء.
والصورة القانونية لهذا التمويل الإيجاري هي أن يقدم أحد الطرفين وعدًا بالإجارة، ثم تعقد الإجارة بعد شراء السلعة التي يراد تأجيرها، ومع عقد الإجارة يكون هناك وعد ببيع السلعة إلى المستأجر في نهاية الإجارة، فإذن هناك وعدان، وقد يكون كل منهما ملزمًا أو غير ملزمًا، فإن كان الوعد في كل مرة غير ملزم، فلا بأس شرعًا، وإن كان الوعد ملزمًا فلا أرى الجواز، لأن الوعد الملزم، كما ذكرنا، في حكم العقد.
وعلى هذا فحكم التمويل الإيجاري عندي كحكم البيع الإيجاري، ويزيد عليه بأن، السلعة تؤجر قبل أن تشترى، وتباع بثمن محدد، أو بثمن السوق في نهاية الإجارة، وهذا كله لا يسلم جوازه، ولم يفلح مُفْتٍ في إثبات جوازه.
وللتمويل الإيجاري في البلدان الصناعية شركات متخصصة تقدم تسهيلاتها للمنشآت الصناعية بصورة خاصة، وتؤثر هذه الشركات هذه الصيغة على القرض (الربوي) الصريح، لأن المال الممول (السلعة المؤجرة) تكن في ملكها، ولا تندمج ضمن موجودات المنشأة الصناعية، ومع أن الشركة الممولة تعتبر مالكة للمأجور، إلا أنها تلقي على عاتق المستأجر كافة الأخطار التي يجب أن يتحملها المالك أصلًا، بما في ذلك أخطار العيوب التي قد توجد في السلعة المؤجرة، لدى تسلمها من الشركة الصانعة، وأخطار التأخر في تسلمها من هذه الشركة الصانعة، ذلك لأن القصد هو التمويل، وما الغرض من التأجير إلا المزيد من الضمانات للشركة الممولة.
5-5 بيع التقسيط وبيع المرابحة للآمر بالشراء:
بيع المرابحة للآمر بالشراء، المطبق اليوم في المصارف الإسلامية، صورته أن يتواعد العميل مع المصرف، بأن يشتري هذا الأخير سلعة موصوفة (يصفها العميل) بثمن معجل، ثم يبيعها إليه بثمن مؤجل أعلى، وهذه المواعدة ملزمة في بعض المصارف للطرفين: المصرف والعميل، وفي بعض المصارف الأخرى ملزمة للمصرف دون العميل وعندي أنها غير جائزة إلا بالخيار للطرفين، وقد فصلت هذا في بحوث مستقلة، منها بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي بجدة.
فبيع المرابحة، بمعناه المطبق في المصارف الإسلامية، يشتمل إذن على بيع معجل بين المصرف وبائع السلعة، وبيع مؤجل بين المصرف ومشتري السلعة، وجواز البيع المؤجل، بزيادة في الثمن لقاء الأجل، لا يرقى إليه شبهة، ولكنه لا يعني بالضرورة جواز بيع المرابحة هذا، ما لم تكن المواعدة فيه غير ملزمة لأي من الطرفين، كما بيَّنَّا.
* * *(6/200)
الفصل السادس
الأجل في بيع التقسيط
6-1 الاشتباه بالربا في بيع التقسيط:
في بيع التقسيط نساء وفضل، وكل منهما يعتبر ربا في بعض البيوع التي أتت على ذكرها بعض الأحاديث النبوية الشريفة.
فالذهب بالذهب (وكذلك القمح بالقمح) لا يجوز فيه النساء، فذهب معجل بذهب مؤجل مساو له فيه ربا، يسمى " ربا النساء ".
والذهب بالفضة (وكذلك القمح بالشعير) لا يجوز فيه النساء، وإن جاز فيه الفضل، فذهب معجل بفضة معجلة أكثر منه يجوز لاختلاف الصنفين، ولكن لا يجوز فيه النساء، إذ النساء فيه مظنة الزيادة في الفضل لأجل النساء، أو فيه بعبارة أخرى شبهة القرض الربوي، إذ يدفع المقرض دنانير ذهبية، ويسترد بعد أجل محدد دراهم فضية فيها زيادة تغطي فرق الصنفين (الذهب والفضة) ، وزيادة أخرى تغطي فرق الأجل (الفرق بين قيمة الآجل وقمة العاجل) .
وعليه فإن القمح بالذهب، في بيع التقسيط، فيه نساء وفضل، إذ يباع القمح بثمن مقسط يزيد على الثمن الحال، فلابد من إثبات جواز الفضل لأجل التقسيط، أما النساء في بيع التقسيط فهناك أحاديث صريحة بجوازه، ولكنها تحتاج إلى شرح، فلماذا جاز النساء في بيوع، ومنع في بيوع؟ هذا ما سنفعله في مواضع لاحقة من هذا البحث.
6-2 عنصر الأجل (= الزمن النساء) في بيع التقسيط:
في الشريعة الإسلامية، كما ذكرنا، بيوع لا يجوز فيها الأجل، مثل الذهب بالذهب، أو الذهب بالفضة (الصرف) ، أو القمح بالقمح، أو القمح بالشعير. . . الخ فهذه البيوع، لو جاز فيها الأجل، لزيد فيها في البدل المؤجل فصارت قرضا ربويًا، فذهب معجل بذهب مؤجل أكثر منه هو في حقيقته قرض ربوي ولذلك منع الشارع الحكيم هذه المعاملة، سواء سميت قرضًا أو بيعًا، وكذلك ذهب معجل بفضة مؤجلة، لابد أن يزاد فيها في الفضة لأجل التأجيل، فصارت كالقرض الربوي، يعقد بالذهب (بالدنانير) ويرد بالفضة (بالدراهم) .(6/201)
وعلى هذا فإن الأجل قد منع شرعًا في بعض البيوع، منعا لربا القرض، أو سدًّا لذريعته، وفيما عدا ذلك من البيوع، فإن الأجل جائز، ومنه جاز بيع النسيئة (قمح معجل بذهب مؤجل) وبيع السلم (ذهب معجل بقمح مؤجل) ، وجوازهما ثابت في السنة.
فالأصل أن الأجل جائز في البيوع، عدا بيوعًا مخصوصة فإذا كان البيع نقدًا بسلعة، أو سلعة بنقد، أو خدمة بنقد، أو نقدًا بخدمة، وسواء كانت تلك السلعة قيمية (أي تقبل الإجارة كالآلة أو السيارة) أو مثلية (أي تقبل القرض كالنقد والقمح) ، فلا يختلف أحد من الفقهاء على جواز الأجل في هذا البيع، ما دام البدل المؤجل يقبل أن يكون دينًا في الذمة، أي مالًا مثليًا موصوفًا (كالنقد أو القمح) كما ذكر الفقهاء في شروط بيع السلم.
هذا وإن الأجل في بيع التقسيط قد يكون قصيرًا (أقل من سنة) ، أو متوسطًا (من سنة إلى خمس سنوات) ، أو طويلًا (أكثر من خمس سنوات) ، وذلك بحسب المدة التي تتوزع فيها الأقساط.
6-3 التأجيل (أو التقسيط) رخصة:
بيع السلم، عند جمهور الفقهاء، رخصة مستثناة من بيع ما ليس عنده، وهو البيع المنهي عنه في السنة النبوية الشريفة، فإذن قد يجوز منصوصان، وأحدهما أصل (قاعدة) والآخر رخصة (استثناء) ولهذا لا أوافق ابن تيمية (مع تقديري العام لرسالته في القياس) وابن القيم على قولهما: " ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس " (رسالة القياس في فتاوى ابن تيمية 20/556، وأعلام الموقعين لابن القيم 1/335، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/147 و 152 و 161 و 174) .
كذلك التأجيل أو التقسيط رخصة، لأن في التأجيل غررًا، لكن يبدو أن هذا الغرر من الغرر اليسير المعفو عنه (= المغتفر) ، لا سيما وأن جواز التأجيل في البيع ثابت في النص.
فقد ذكر الإمام الشافعي أن السلم الحالّ أقل غررًا من السلم المؤجل، وقال: " الأعجل أخرج من معنى الغرر " (الأم 3/83 و 85 و 32) وهذا فقه عميق دقيق، ففي السلم المؤجل خطر انقطاع المُسْلَم فيه في الأجل، وخطر حوالة الأسواق (= تغيرات الأثمان) ، فالبدل المؤجل يقدر مقداره في ضوء ظروف واقعة ومتوقعة قد تتغير، فلا يتحقق التساوي بين البدل المعجل والبدل المؤجل، كما كان مقدرًا له، وهذا بخلاف ما لو كان البدلان معجلين في وقت واحد.(6/202)
قال الجوينى: " من دقيق ما يجري في هذا الفن، وهو العلق النفيس (أي الشيء الغالي المحبوب) في هذا القبيل أن الشافعي ألحق إثبات الخيار والأجل في بابا الرخص، من جهة أن قياس التقابل في المعاوضات أن يخرج العوض عن ملك أحد المتعاقدين حسب (لعله خطأ صوابه: وقت) دخول مقابله في ملكه فإذا حل أحد العوضين، وتأجل الثاني كان ذلك خارجًا عن هذا القانون (. . .) والتأجيل أثبت فسخة لمن لا يملك الثمن في الحال، رجاء أن يتحمله (= يحتال له ويطلبه) إلى منقرض الآجال " (البرهان 2/934 – 935) .
ومعرفة هذا مفيد في الاجتهاد، وبه يتأكد أن الغرر غرران: غرار كبير حرام، وغرر يسير مغفور.
6-4 سبب منع التأجيل (= النسا) في الأموال الربوية:
إن مبادلة كالذهب بالذهب. . . قد منع فيها النساء، لأن الفضل غير جائز فيها لأجل النساء، ولو جاز فيها النساء لاستتبع ذلك جواز الفضل، لكي تتحقق المعاوضة العادلة، ولو جاز هذا القرض الربوي، وهو ممنوع بنص القرآن والحديث، فذهب معجل بذهب مؤجل أكثر منه لا يجوز، سواء سمي هذا بيعًا أو قرضًا ربويًا لا فرق فالقرض الربوي ضرب من التجارة أو من المبايعة، ولكنها غير جائزة.
لكن علينا أن نلاحظ أن الذهب بالذهب. . . يجوز فيه النساء، إذا كان قرضًا، وعندئذ لا يجوز الفضل، لكي لا ينقلب القرض الحسن قرضًا ربويًا.
وأساس القرض مختلف عن أساس البيع، فالقرض أساسه الإحسان، والبيع أساسه العدل نعم في القرض الشرعي ربا نساء، ولكنه لصالح المقترض، فالقرض عقد إحسان أو إرفاق.
ولا نقول إن القرض جاز على خلاف القياس، بل نقول إن القرض أصل، والبيع أصل آخر مختلف عنه، وليس أحدهما أصلًا (قاعدة) والآخر رخصة (استثناء) ونوافق في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته النفسية عن القياس (انظر الفتاوى 20/514) .
6-5 التقسيط في بيع السلع القيمية والمثلية:
السلع القيمية هي السلع القابلة للإجارة كالدابة والسيارة والآلة، والسلع المثلية هي السلع القابلة للقرض كالنقود والقمح، والشعير والتمر والملح (مستحضرين في الذهن حديث الأصناف الستة المتعلقة بالربا) .
قد يخطر في البال التفريق بين السلع القيمية والسلع المثلية في بيع التقسيط، فيقال بجواز زيادة الثمن المؤجل في السلع القيمية، دون المثلية، لأن القيمية قابلة للإجارة (=الكراء) ، باعتبار الأجر جائزًا، خلافًا للربا، أي يجوز أجر الآلة والعقار والدابة، ولا يجوز أجر النقود والأطعمة، لأن هذه الأموال لا تؤجر.
على أنه، وإن كان جواز زيادة الثمن المؤجل أوضح في السلع القيمية منه في المثلية، إلا أنها جائزة فيهما، بلا تفريق بينهما في الحكم، وقد أثبتنا جوازه في السلع المثلية في موضع آخر من هذه الدراسة (المبحث 7-3) ، فصار جوازه في السلع القيمية أوضح، فلا فرق في الحكم بينهما إذن، أي أن هذا الفرق بين القيمي والمثلي غير مؤثر في حكم زيادة الثمن للأجل.(6/203)
الفصل السابع
الزيادة في الثمن لأجل التقسيط
7-1 الثمن في بيع التقسيط أعلى (منه في البيع الحال) :
الثمن في بيع التقسيط يزيد على الثمن في البيع الحالّ، وليس لدينا نص شرعي صريح بجواز هذه الزيادة.
والفقهاء مختلفون في أمر هذه الزيادة، ولكن جمهورهم على جوازها، وهم قد صرحوا بأن للزمن حصة (أو قسطًا) من الثمن، وذلك بمناسبة كلامهم عن زكاة الديون المؤجلة، أو بيع المرابحة، أو بيع السلم، أو بيعتين في بيعة، أو صفقتين في صفقة، أو بيوع الآجال (= بيع العينة) ويمكن القول بأن مظان كلام العلماء عن هذه الزيادة مظان حديثية (بيعتان في بيعة، صفقتان في صفقة، بيع وسلف، بيع وشرط، شرطان في بيع) ، ومظان فقهية (البيوع الفاسدة، أو المنهي عنها) .
انظر في الفقه الحنفي:
- المبسوط للسرخسي 12/111، 13/78، و 22/45.
- بدائع الصنائع للكاساني 5/ 224، و 5/224.
- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي 4/78.
- حاشية ابن عابدين 4 /158، و255 و 291، و 5/133، و141.
وفى الفقه الشافعي:
- الأم للإمام الشافعي 3/62 و 88.
- المجموع للنووي 6/22 و 13/6.
- مغني المحتاج للشربيني 2/78 و 79.
- تحفة المحتاج للهيتمي 4/432.
- حاشية الجمل على شرح المنهج 3/77 و 183.
وفي الفقه المالكي:
- المدونة 4/229.
- بلغة السالك للصاوي 2 /79.
- الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 3/163 و 165.
- الموافقات للشاطبي 4/41 و 42.
- حاشية الزرقاني على خليل 5/ 176.
- الخرشي على خليل 6/44.
- القوانين الفقهية لابن جزي ص 290.
- بداية المجتهد 2 /108.
-(6/204)
وفي الفقه الحنبلي:
- المغنى لابن قدامة 4/139.
- فتاوى ابن تيمية 29 /413 و 449 و 525.
وفي الفقه الزيدي:
- نيل الأوطار للشوكاني 5/171.
- الروض النضير للسياغي 3/526 – 527.
وفي الفقه الأباضي:
- شرح كتاب النيل لاطفيش 9/319 و 320.
وفي فقه المعتزلة:
- المغني للقاضي عبد الجبار 13 /535 – 537.
7-2 نماذج من عبارات الفقهاء في جواز زيادة الثمن في بيع النسيئة:
1- من الفقه الحنفي:
- " المؤجل أنقص في المالية من الحالّ " المبسوط 13 /78 و 125.
" التفاوت بين النقدين والنسبة (خطأ مطبعي صوابه: بين النقد والنسيئة) في المالية " المبسوط 12 /111.
" صاحب الشرع (. . .) اعتبر التفاوت بين النقد والنسيئة " المبسوط 12/186.
- " الثمن قد يزاد لمكان الأجل " بدائع الصنائع.
" لا مساواة بين النقد والنسيئة " لأن العين (= الحاضر) خير من الدين، والمعجل أكثر قيمة من المؤجل " بدائع الصنائع 5/187.
- " يزاد على الثمن لأجل الأجل " تبيين الحقائق 4 /78.
- " عن الثمن المؤجل أنقص في المالية من الحالّ، ولهذا حرم الشرع النساء في الأموال الربوية " تبين الحقائق 4/78.
- " من تتميم التماثل (بيد البدلين) المساواة في التقابض، فإن للحال مزية على المؤخر" شرح فتح القدر 7 /7.
- " يزاد في الثمن لأجله " حاشية ابن عابدين 5 /142.
-(6/205)
2- من الفقه الشافعي:
- " الطعام الذي إلى الأجل القريب أكثر قيمة من الطعام الذي إلى الأجل البعيد " الأم 3/62.
" مائة صاع أقرب أجلًا من مائة صاع أبعد أجلًا منها أكثر في القيمة " الأم 3 /88.
- " الخمسة نقدًا تساوي ستة نسيئة " الوجيز للغزالي 1/85، وانظر المجموع للنووي 6 /22.
- " الأجل يأخذ جزءًا من الثمن " المجموع للنووي 13 /6.
- " الأجل يقابله قسط من الثمن " مغني المحتاج 2/ 78.
- " الأجل يأخذ قسطا من الثمن " حاشية الجمل على شرح المنهج 3/77و183
3- من الفقه المالكي:
- " النساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة " الموافقات 4/ 41.
" الأجل في أحد العوضين لا يكون عادة إلا عند مقارنة الزيادة به في القيمة، إذ لا يسلم الحاضر في الغائب (= المؤجل) إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة، وهو الزيادة " الموافقات 4 /42.
- " جعل للزمان مقدارًا من الثمن " بداية المجتهد 2 /108.
- " لأن له، أي للأجل، حصة من الثمن " بلغة السالك 2 /79.
- " لأن له، أي للأجل، حصة من الثمن " ويختلف قربًا أو بعدًا " حاشية الزرقاني على خليل 5 /176.
- " لأن له (للأجل) حصة من الثمن " الدسوقي على الشرح الكبير 3 /165.
4- من الفقه الحنبلي:
- " الأجل يأخذ قسطًا من الثمن " فتاوى ابن تيمية 29 /499.
- " إذا تساوى النقد والنسيئة، فالنقد خير " الجواب الكافي لابن القيم ص 38.
5- من الفقه الزيدي:
- " يجوز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء " نيل الأوطار 5/172 بتصرف قليل.
- " بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء جائز " الروض النضير 3/526.
6- من الفقه الأباضي:
- " يلزم للأجل قسطًا من الثمن، فيزيد الثمن بالأجل وطوله، وينقص بعدم الأجل وبقصره " شرح كتاب النيل لأطفيش 9/319 و 320.
7- من فقه المعتزلة:
- " يلزم بتأخيره زيادة عوض " المغني للقاضي عبد الجبار 13 /535.
- " لا يجوز مع كمال العقل أن يؤخر حقه إلا لزيادة مع سلامة الحال، فيجب في تأخير العوض لزوم هذه الزيادة " نفسه 13/535.
" إذا أخره سنة وجب به من الزيادة مقدار ما بين الانتفاع به نقدًا وإلى سنة " نفسه 13/536.
" قد عملنا أن من له الحق على غيره تلحقه مضرة بتأخيره كما لو لحقه ذلك بإتلاف ثوبه " نفسه 13/ 536، وانظر 13/332 و 11/78.
7-3 الاستدلال على جواز الزيادة في الثمن لأجل التقسيط:
القرض (إن أجل) لا تجوز فيه عند أحد من الفقهاء الزيادة لأجل الأجل، أما البيع المؤجل فتجوز فيه الزيادة للأجل عند جمهور الفقهاء، وقد نقلنا عن عباراتهم ما يشفي غليل الباحث.
ولكننا مع ذلك لا نرى أن في عباراتهم إثباتًا كافيًا على جواز الزيادة المذكورة لاسيما وأن بعض القدامى والمعاصرين ينازعون في هذا الجواز، كما أن المسألة لا تخلو من التباس، فالزيادة لأجل الزمن هي ربا، فكيف جازت في البيع دون القرض؟
نريد هنا أن نثبت جوازها في البيع دون القرض، مبينين بعض الفروق بين البيع والقرض، مما جعل حكمهما مختلفا في هذه الزيادة.(6/206)
1- الأدلة النقلية:
1- قال تعالى على لسان عرب الجاهلية: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] ، أي فحرموا البيع مثل الربا، أو فأحلوا الربا مثل البيع.
ومن أدق ما نقل في احتجاجهم أنه إذا اشترى المشتري بـ 10 إلى شهر، ثم أجله البائع إلى شهر آخر بزيادة واحد فهذا كما لو باعه إلى شهرين بـ 11 (أحكام القرآن لابن العربي 1 /242، والاعتصام للشاطبي 2/47) .
فعاجلهم تعالى بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، أي البيع بـ 11 إلى شهرين جائز، والبيع بـ 10 إلى شهر جائز، ولكن تأجيله بعد ذلك بزيادة واحد إلى شهر آخر ربا غير جائز.
فالزيادة الأولى في البيع جائزة، سواء كانت ربحًا في بيع معجل، أو ربحًا إضافيًّا للتأجيل في بيع مؤجل (تنوير المقباس لابن عباس ص 32 من الطبعة المستقلة، أو 1/143 من الطبعة التي على هامش الدر المنثور للسيوطي، وقارن تفسير المنار 3/113 و 4/123، وفتواى محمد رشيد رضا 2/608، والربا لمحمد رشيد رضا ص 76) .
المهم هنا أن عرب الجاهلية أرادوا الاحتجاج بجواز الزيادة في الثمن المؤجل لاستباحة الزيادة في القرض المؤجل.
2- عن عالية بنت أنفع أنها سمعت عائشة، أو سمعت امرأة أبي السفر تروي عن عائشة أن امرأة سألتها عن بيع باعته من زيد بن أرقم بكذا وكذا إلى العطاء، ثم اشترته منه بأقل من ذلك نقدًا، فقالت عائشة بئس ما اشتريت وبئس ما ابتعت، أخبري زيد بن أرقم أن الله عز وجل قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يتوب (انظر الأم للشافعي 3/68، والمحلى لابن حزم 9/60، وبداية المجتهد 2/107) .
فهذا الخبر يدل على أن الثمن النقدي أقل من الثمن المؤجل، كما يدل على أن المعاملة غير جائزة، كما أفادت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها ولكن ما هو غير جائز، في هذا الخبر، ليس هو زيادة المؤجل على المعجل، إنما هو بيع الشيء، بثمن مؤجل، ثم شراؤه بثمن معجل أقل، فهذه حيلة ربوية، تسمى بيع العينة (= بيع الآجل) ، إذ يبدو أن الغرض هو القرض بربا يساوي الفرق بين الثمنين فزيادة الثمن المؤجل على المعجل جائزة، ولكن لا يجوز اتخاذها وسيلة للقرض الربوي، أي الوصول إلى القرض في صورة بيع، يجري مرتين، بصورة متعاكسة، بحيث يؤول في الحقيقة إلى قرض بالربا.
إن بيوع العينة (= بيوع الآجال) هذه مستندة إلى الحلال وصولًا إلى الحرام فالحلال هو جواز الزيادة في الثمن المؤجل، والحرام هو التحايل بهذه الواسطة للتوصل إلى مأرب ربوي غير مشروع.(6/207)
3- عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير، جاءه ناس منهم، فقالوا: يا نبي الله، إنك أمرت بإخراجنا، ولنا على الناس ديون لم تحلّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضعوا وتعجلوا)) . رواه الطبراني في الكبير، والحاكم في المستدرك 2/52 وقال: صحيح الإسناد وانظر سنن الدارقطني 3/246، ومجمع الزوائد للهيثمي 4/130، والمطالب العالية لابن حجر 1/411، وإغاثة اللهفان لابن القيم 3/12.
يبدو أن ديون بني النضير على الغير كانت ديونًا مؤجلة، قد زيد فيها للتأجيل، فعليهم إما أن ينتظروا الأجل فيحصلوا على ديونهم كاملة، أي بـ " قيمتها الاسمية " أو أن يتعجلوا هذه الديون ويحصلوا على " قيمتها الحالية "، بعد وضع جزء منها بمقدار الحطيطة المساوية لما كان قد زيد في الدين لأجل تأجيله.
وضَعْ (= حط) وتَعَجَّلْ هو نظير زِدْ وَتَأَجَّلْ، فكلاهما نقصان أو زيادة في مقابل الزمن ولا أرى أن ابن القيم قد افلح في التفرقة بينهما (إغاثة اللهفان 3/12) .
والوضع للتعجيل كالرفع للتأجيل، كلاهما موضع خلاف بين الفقهاء لكن في حين أن الثاني قد أجازه جمهور الفقهاء، يبدو أن الأول قد منعه جمهور الفقهاء، ولم يجزه إلا بعض الفقهاء، منهم ابن عباس وزيد بن ثابت من الصحابة، وزفر من فقهاء الأمصار، وإبراهيم النخعي، وطاوس، والزهري، وأبو ثور وعن الإمام أحمد فيه روايتان، اختار رواية الجواز شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وفيه قول عن الشافعي (انظر مصنف ابن أبي شيبة 7/28 – 29، وأحكام القرآن للجصاصى 1/467، والمبسوط للسرخسي 13/126، وبداية المجتهد 2/108، والاختيارات الفقهية لابن تيمية ص 134، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/11، وأعلام الموقعين له أيضا 3/371، وقارن " بحوث في الربا " لأبو زهرة 59- 60) .
وأجازه ابن عابدين في العقود الدرية 1/278، وفي الحاشية 5/160 و 7 /757 حيث قال:
" قوله: قضى المديون الدين المؤجل قبل الحلول، أو مات فحل بموته، فأخذ من تركته، لا يأخذ من المرابحة (أي زيادة الربح في مقابل الأجل) التي جرت بينهما إلا بقدر ما مضى من الأيام، وهو جواب المتأخرين، أفاد أن الدين إذا كان مؤجلًا، فقضاه المديون قبل حلول الأجل، يجبر الدائن على القبول كما في الخانية قوله: لا يأخذ من المرابحة. . . إلخ صورته: اشترى شيئا بعشرة نقدًا، وباعه لآخر بعشرين إلى أجل، هو عشرة أشهر، فإذا قضاه بعد تمام خمسة، أو مات بعدها، يأخذ خمسة ويترك خمسة ".
أقول: والظاهر أن مثله ما لو أقرضه وباعه سلعة بثمن معلوم، وأجل ذلك، فيحسب له من ثمن السلعة بقدر ما مضى فقط، تأمل.(6/208)
قوله: وعلله بالرفق للجانبين، " علله الحانوتي بالتباعد عن شبهة الربا، لأنها في باب الربا ملحقة بالحقيقة، ووجه أن الربح في مقابلة الأجل، لأن الأجل وإن لم يكن مالًا ولا يقابله شيء من الثمن، لكن اعتبروه مالًا في المرابحة، إذا ذكر الأجل بمقابلة زيادة الثمن، فلو أخذ كل الثمن قبل الحلول كان أخذه بلا عوض، والله سبحانه وتعالى أعلم ". 1هـ. (انظر أيضا الدرر المباحة للشيباني النحلاوي ص 53) .
وقد رغم ابن القيم، في أعلام الموقعين 3/371 وإغاثة اللهفان 2 /11، أن الحطيطة عكس الربا (انظر أيضا الإمام زيد لأبي زهرة ص 295) ، لا يعني بهذا أن الحطيطة للتعجيل هي عكس الربا للتأجيل، فلو كان هذا ما أراده لكان صوابًا، بل يعني أن الحطيطة عكس الربا في الحكم الشرعي، وهذا غير صحيح، فالحطيطة نقصان للتعجيل، والربا زيادة للتأجيل، فكلاهما إذا تغير مناسب في المبلغ لأجل الزمن، فحقيقتهما الربوية واحدة (المنتقى للباحي 5/65، وغيره) ولعل الذي دفعه إلى ما قال هو أن الربا، بنظره، كله حرام، وهو يرى أن ضع وتعجل ليس من الربا الحرام، وإني لا أخالفه في حكمه على ضع وتعجل، إنما أخالفه في تعليله، ويمكن أن يقال إن حكمه لا يعتد ما دام تعليله غير مقبول لكن يمكن أن يقال بالمقابل أيضا إن ابن القيم يدرك بالحدس أن ضع وتعجل جائز، ولا بد من تخليصه من الربا الحرام، وسنرى أنه لا حاجة إلى حجته، فإن الربا ربوان: حلال وحرام، كما سنرى.
وما ذكره ابن القيم لعله مقتبس من ابن عباس الذي قال: " إنما الربا أخر لي وأنا أزيدك، وليس عجل لي وأنا أضع عنك " (كنز العمال 2 /235 وانظر مصنف ابن أبي شيبه 7 /28) ومخالفتي لابن عباس هي نفس مخالفتي لابن القيم، وربما أمكن حمل كلام ابن عباس على الربا " الحرام ".
والخلاصة أنني أميل إلى جواز الربا للتأجيل، والحطيطة للتعجيل، بدون فرق بينهما في الحكم، ما دام هذا وذاك بين متبايعين، فإذا دخل بينهما ثالث (وسيط، كالمصرف) ، ليسدد الثمن النقدي للبائع، ويحتسب الثمن المؤجل في ذمة المشتري (وهو ما يسميه البعض اليوم: مرابحة للآمر بالشراء) لم يجز، لأن هذا الشخص الثالث (المصرف) قد دفع نقدًا ليسترد نقدًا أكثر منه، وهو ربا نسيئة محرم، هذا إذا كانت المرابحة ملزمة، أما إذا لم تكن ملزمة فلا بأس.
وكذلك لو دخل هذا الشخص الثالث، ليسدد عن المشتري الثمن الحالّ (= القيمة الحالية للثمن المؤجل) ، ويطالب هذا المشتري بالثمن المؤجل في تاريخ الاستحقاق (وهو ما يسمى اليوم: الخصم المصرفي، خصم الأوراق التجارية) لم يجز، لأن هذا الشخص الثالث (المصرف) قد دفع مبلغًا من النقود ليسترد مبلغًا أكبر منه، وهو ربا نسيئة محرم.(6/209)
2- الأدلة العقلية (الاستنباطية) :
يظن البعض أن الزيادة في الثمن الآجل هي من قبيل الربا " المحرم "، وما دام الأمر كذلك، فإننى سأستخلص لهم من حديث الربا نفسه ما لعله يقنعهم بأن هذه الزيادة، وإن كانت ربا، إلا أنها ليست محرمة، فهذا الدليل الذي سنسوقه لهم إذن ليس دليلًا عقليًا محضًا، إنما هو دليل عقلي معتمد على أساس نقلي ثابت صحيح.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد)) ، رواه مسلم في صحيحه (صحيح مسلم بشرح النووي 4/98) .
من هذا الحديث نستخلص الأحكام التالية:
1- الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو البر بالبر. . . الخ، يجب فيه التساوي في النوع (مثلًا بمثل) والقدر (سواء بسواء) والزمن (يدًا بيد) .
ويلاحظ أن من أن من مكملات التساوي في النوع والقدر التساوي في الزمن أيضا، قال في شرح فتح القدير 7/7: " من تتميم التماثل المساواة في التقابض، فإن للحال مزية على المؤخر ".
فلو تساوى العوضان في الجنس والنوع والقدر، ولم يتساويا كذلك في الزمن، بل أحدهما كان معجلًا والآخر مؤجلًا، أو أحدهما مؤجلًا إلى أجل قريب والآخر إلى أجل بعيد، لاختل أمر التساوي في هذه المعاوضة، ولكان هناك ربا يسميه الفقهاء " ربا نَساء "، بمعنى أن صاحب البدل المعجل فد أربى على صاحب البدل المؤجل، وهذا دليل شرعي على أن المعجل خير من المؤجل، إذا تساويا في كل الأمور، خلال الزمن.
2- الذهب بالفضة، أو القمح بالشعير. . . الخ، يجب فيه التساوي في الزمن (يدًا بيد) ، ولكن يجوز فيه عدم التساوي في الوزن أو في الكيل وإنما جاز فيه التفاضل لاختلاف الصنفين (= الجنسين) ولم يجز فيه النساء لشبهة القرض الربوي، إذ يمكن أن يفرض أحدهم دنانير ذهبية، ويسترد دراهم فضية، ويكون له فضل في المقدار مراعاة لاختلاف الصنفين، وفضل آخر مراعاة لاختلاف الزمنين، وهذا في الحقيقة يشبه قرضًا ربويًا عقد بنقد وسدد بنقد آخر.
ومن الأحاديث التي تجيز بيع النسيئة وبيع السلم، نستخلص أيضا أن:
3- الذهب بالقمح، أو الفضة بالشعير. . . الخ، يجوز فيه الفضل والنساء.(6/210)
وهكذا يلاحظ أن ربا الفضل وربا النساء كان محرمين في المبادلة الأولى (الذهب بالذهب. . .) ، وأن ربا النساء كان محرمًا في المبادلة الثانية (الذهب بالفضية. . .) أما في المبادلة الثالثة (الذهب بالقمح) فلم يعد شيء من هذا محرمًا، لا ربا فضل ولا ربا نساء، فيجوز في هذا النوع من المبادلات الفضل لاختلاف الصنفين، والفضل لاختلاف الزمنين، أي لأجل النساء، ولو لم يجز الفضل للنساء لحرم النساء ألا تذكر قول الزيلعي في تبيين الحقائق 4/78: " إن الثمن المؤجل أنقص في المالية من الحال، ولهذا حرم الشرع النساء في الأموال الربوية "، أي في مبادلة كالذهب بالذهب، أو القمح بالقمح، ذلك بأن النساء كما رأينا يخل بتساوي البدلين، والفضل في البدل المؤجل يعيد التساوي إلى البدلين.
وعليه، فإن القمح إذا بيع بالذهب نسيئة أو تقسيطًا، أمكن زيادة الثمن المؤجل أو المقسط على الثمن المعجل، من اجل تحقيق التساوي (العدل) في المعاوضة.
ومن هذا العرض، يمكن أن يلاحظ القارئ أن الربا ليس كله حرامًا، وسنفرد لهذا مبحثًا لمزيد من الإثبات.
7-4 استدلالات خاطئة على جواز الزيادة في الثمن لأجل التقسيط:
كما أن بعض العلماء استدل باستدلالات خاطئة لإثبات جواز الحطيطة للتعجيل، فإن بعضًا آخر قد استدل باستدلالات خاطئة لإثبات جواز الزيادة للتأجيل، وقد تعرضنا، في موضع آخر من هذه الدراسة، لتفنيد الاستدلالات الأولى، وسنتعرض هنا لتفنيد الاستدلالات الأخرى.
1- إن المشتري الذي يتسلم المبيع، قبل دفع ثمنه كاملًا، إنما يتسلم عينا مغلة ينتفع بها، وتصلح أن تكون موضع اتجار، وهذا بخلاف النقود، فإن من يتسلمها إنما يتسلم عينًا لا تختلف فيها الأثمان باختلاف الأزمان، لأنها هي مقياس القيم والأثمان، ولا تغل بنفسها، بل تغل بالاتجار (الإمام زيد لأبي زهرة ص 294) .
يعتمد صاحب هذه الحجة على ما هو معروف من التفرقة بين النقود التي تقدم قرضًا، والنقود التي تقدم قراضًا (= مضاربة) ، فلا تجوز شرعًا الفائدة على النقود المقرضة، لأنها لا تغل بنفسها، ويجوز شرعًا أن تشترك النقود بحصة من الربح الصافي، كما يحصل في القراض، ذلك بأن النقود في القراض تغل بمساعدة العمل، عمل المضارب، وهي معرضة لخطر الخسارة.(6/211)
وهذه الحجة، وإن بدت أنها صالحة في مجال المقارنة بين القرض والقراض، إلا أنها ليست صالحة في مجال المقارنة بين القرض والبيع بالأجل (أو بيع التقسيط) ذلك لأن المبيع في بيوع التقسيط قد يكون سلعة قيمية مغلة، كالآلة والدابة والعقار، وقد يكون سلعة مثلية ليس لها غلة، كالقمح والشعير والتمر والملح، وسواء كان المبيع سلعة قيمية أو مثلية، فإن الزيادة في الثمن المؤجل جائزة كما بينا (في المبحثين 6 –5و7 –3) ، وبهذا يتكشف ضعف هذه الحجة.
ويمكن أن نذكر دليلًا آخر على تهافت هذه الحجة، بالاستناد إلى بيع السلم، فبيع السلم هو ضرب من البيع المؤجل، حيث يعجل الثمن، ويؤجل المبيع أو يقسط، وفي هذا البيع، يتسلم البائع نقودًا، لا تغل على رأي هؤلاء العلماء، فيجب إذن أن لا يختلف الثمن في بيع السلم عن الثمن في البيع الحالّ، والحال أنه يختلف، فيكون في بيع السلم أقل منه في البيع الحالّ، لأنه يعجل ولا يؤجل، وعلى هذا يظهر بوضوح أن للزمن قيمة، في الشرع، سواء كان ذلك في النقود أو في السلع المثلية أو في السلع القيمية، وبهذا يتهاوى بناء الحجة المذكورة.
وثمة دليل ثالث على تهافت هذه الحجة، وهو أن النقود في الشرع قد تكون أحيانًا موضع اتجار، وذلك في الصرف، عندما يختلف النقدان، فالذهب بالفضة (أو الدنانير بالدراهم، أو الريال بالليرة) يمكن أن يؤدي إلى التفاضل، أي إلى الربح، وهو ربح العاملين بالصرافة (الصرافين) .
فنحن إذن في غنى عن مثل هذه الحجج، وقد أغنانا الله عنها بحجج قوية واضحة، ذكرناها في مواضع أخرى من هذه الدراسة.
2- الزيادة في الثمن المؤجل جائزة، لكن لا باعتبارها زيادة في مقابل الزمن (عوض عن الأجل) ، بدليل أن بعض الباعة قد يبيع بثمن آجل يقل عن الثمن العاجل، لحاجته إلى ترويج السلع وتصريفها، ولتوقعه الرخص في المستقبل (الإمام زيد لأبي زهرة ص 295) .
وهذه الحجة ضعيفة جدًّا، وصاحبها لا يعرف معنى التحليل العلمي الرشيد (ولا كيف تبنى الفروض والنظريات والقوانين العلمية) سواء كان هذا التحليل في ميدان الفقه أو في أي ميدان آخر من ميادين المعرفة والعلم، ونحن لا ننكر أن الزيادة في الثمن المؤجل قد تكون لاعتبارات أخرى غير الزمن، وسنفرد لهذا مبحثًا خاصًّا في هذه الدراسة، ولكن لا يمكن أن تكون هذه الاعتبارات – أي واحد من هذه الاعتبارات – التي ذكرها صاحب هذه الحجة، لا اعتبار إمكان أن يكون الثمن المؤجل أقل من المعجل، ولا اعتبار توقع الرخص في المستقبل.(6/212)
فإذا فرضنا أن البائع يبيع سلعة بثمن معجل واحد، وثمن مؤجل واحد (لسنة مثلًا) ، لكل المشترين، أي كان هناك ثمن سوق للمبيعات العاجلة، وثمن سوق للمبيعات الآجلة، فلا يمكن أن نتصور أن يكون ثمن المبيعات الآجل أقل من ثمن المبيعات العاجل، ما لم يكن البائع جاهلًا غير رشيد.
وإذا فرضنا أن هذا البائع نفسه، الذي يبيع بثمن السوق، ثمن سوق للعاجل، وثمن سوق للآجل، قد توقع هبوط أسعار سلعه في المستقبل، فإن هذا التوقع قد يؤثر على ثمن السوق في اتجاه الانخفاض، لاسيما إذا كانت الكميات المعروضة من السلعة كبيرة، لكن هذا الانخفاض سيصيب كلًّا من الثمن العاجل والثمن الآجل، وسيبقى الثمن العاجل أقل من الثمن الآجل.
ولئن سمعنا مثل هذه الحجج ممن يعرف الفقه دون الاقتصاد، فمن العجيب أن نسمعها أيضا، على سبيل الترداد، ممن يعرف الاقتصاد، ومن الأعجب أن نسمعها ممن يعرف الاقتصاد والفقه معًا.
ثم إن هذه الحجة تلغي جواز الزيادة في الثمن باعتبار الزمن، مع أن هذا هو موضع النقاش والبحث.
كما إنني أشك في أن يكون صاحب هذه الحجة فقيهًا مشاركًا، ذلك بأن الفقهاء يقولون أن للزمن حصة (أو قسطًا) من الثمن، ألا ترى هذه الكلمة " الزمن"؟ كما أن الفقيه الشوكاني صنف رسالة في الموضوع سمّاها " شفاء الغلل في حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل"؟
ترى أيهما أفقه وأيهما يعني ما يقول؟ الفقيه الشوكاني أم صاحب هذه الحجة؟
3- نعم بيع التقسيط تجوز فيه زيادة الثمن لأجل الأجل، لأنه عقد قائم بذاته، وإنما يأتي التشويش من مقارنته بعقود أخرى كالقرض، فلماذا نقارنه بالقرض؟ لماذا لا ننظر إلى كل عقد على حدة؟ فالقرض جائز، والزيادة فيه للأجل غير جائزة، وبيع الأجل جائز، والزيادة فيه للأجل جائزة، لم لا؟ (الإمام زيد لأبي زهرة ص 295) .
هذه الحجة لا يصلح أن يطلق عليها حجة، فهي تهرب من الحِجَاج وأصول المناظرة والاستدلال والحوار العلمي، ولا يمكن لباحث أن يستغني عن المقارنة بين العقود، والمقارنة بين الموجودات، وبين الظواهر، فهي السبيل إلى معرفة أوجه الخلاف والائتلاف، وهي السبيل إلى التأمل والاجتهاد والقياس والابتكار، وهي السبيل إلى مضاعفة معارفنا العلمية وتنميتها تنمية أسية (في صورة متوالية هندسية) إن الوصف في العلم هو الطريق الممهد للتعليل (التفسير، الشرح) فمن يقنع اليوم من العلماء بالقول بأن وظيفة العلم هي مجرد الوصف؟ إن كثيرًا من العلماء لم يعودوا يون الوصف علما، وما ذلك إلا براز أهمية التعليل، والتنبؤ، والتحكم بالمستقبل، في مسيرة العلم الحديث.
نعم قد يرتضي تلك الحجة من يرى أن الأمور كلها تعبدية، توقيفية، لا مجال للعقل البشري فيها هذا مع أن كل ما حولنا من ظواهر وإنما يشير إلى أن وراء هذه المظاهر كلها، حتى التعبدية منها، نظامًا وانسجامًا وكمالًا وجمالًا ومنطقًا واحدًا، هو الذي يحرك عقول العلماء، ويجعلهم يرون في كل شيء آية، تزيد العلماء خشية لله الواحد الأحد.(6/213)
7-5 مسوغات الزيادة في الثمن الآجل أو المقسط:
1- الزمن: ذكرنا في هذه الورقة أن الزيادة في الثمن الآجل أو المقسط قد تكون لموضع الأجل ألا تذكر قول الفقهاء: إن الزمن حصة من الثمن؟ وهذا أهم ما عُنينا بإثباته في هذه الدراسة.
2- المخاطرة: لكن قد يزاد في الثمن الآجل أو المقسط لأسباب أخرى مثل المخاطرة، وأعني بها مخاطرة التخلف أو التأخر عن السداد، أو مخاطرة توى (= هلاك) الدين، فقد يصير الدين تاويًا، بعبارة الفقهاء، أي معدومًا، بعبارة المعاصرين، وهناك مخاطرة أخرى، وهي مخاطرة تقلبات الأسعار، وهي مخاطرة ارتفاع الأسعار بالنسبة للبائع، وهبوط الأسعار بالنسبة للمشتري.
3- الخدمة: كما قد يزاد في الثمن المؤجل أو المقسط لأجل الخدمة (خدمة الدين) فالدين يحتاج إلى إثبات في دفاتر التاجر الدائن، ومحاسبة، ومتابعة، ومطالبة، وتذكير، واحتمال متابعة الكفيل، أو التنفيذ على الرهن (= الضمان) . . . الخ.
وعلى هذا فإن الثمن المؤجل أو المقسط يمكن أن ينطوي على زيادة لأجل الزمن، والمخاطرة، والخدمة، في صورة علاوة أو عمولة أو استرداد مصاريف (انظر تعليقي على كتاب " نحو نظام نقدي عادل " للدكتور محمد عمر شابرا ص 354) .
ولكن إذا استحق الدين، أو ثبت في الذمة، فلا يجوز أن يزاد فيه بعد ذلك لأي من هذه الأسباب الثلاثة.
7-6 جواز الزيادة في بيع السلم أيضا:
بيع السلم هو نظير بيع النسيئة ففي بيع السلم: الثمن معجل والمبيع مؤجل، وفي بيع النسيئة: المبيع معجل والثمن مؤجل.
ومن الجائز في بيع السلم أن يكون الثمن فيه أقل من ثمن البيع الحالّ، أي يخفض فيه الثمن لتعجيله، أو يزاد في المبيع لتأجيله.
وقد صرح الفقهاء، لدى كلامهم عن حكمة بيع السلم، أو عن الأدلة العقلية لجوازه، بأن البائع في بيع السلم يرتفق بتعجيل الثمن (لحاجته إلى المال) ، والمشتري يرتفق برخص الثمن.
انظر المبسوط للسرخسي 12/ 126 و 130، والأشباه والنظائر لابن نجيم 91- 92، والاختيار للموصلي 2 /47، والفتاوى لابن تيمية 20/529، وأعلام الموقعين لابن القيم 1 /400، وزاد المعاد له أيضًا 5 /814 – 815و 823، والمغني لابن قدامة 4/312، والأم للشافعي 3 /62 و 86، وكفاية الأخيار للحصني 1/488، وبداية المجتهد لابن رشد 2/153، والمغني للقاضي عبد الجبار 13/535 – 537.(6/214)
7-7 الزيادة للأجل جائزة في البيع والإجارة:
الإجارة ضرب من البيع، لأنها بيع المنفعة، بخلاف البيع، فإنه بيع الرقبة، التي تشمل المنفعة والتصرف.
وكما أن الثمن فيه لمكان التأجيل، فكذلك الكراء يجوز أن يزاد فيه المكان التأجيل فهذه الشقة السكنية أجرها السنوي 20 ألف ريال معجلة، أو 22 ألف ريال مؤجلة لسنة مثلًا، فللزمن حصة من الكراء، كما أن الزمن حصة من الثمن.
7-8 صور غير جائزة في بيع التقسيط:
1- إذا قال البائع: هذه السلعة بـ 1000 نقدًا، و1010 لشهر، و 1020 لشهرين. . . فهذا جائز إذا انعقد البيع على صورة محددة من هذه الصور، كأن يقول المشتري: اشتريت بـ 1020 لشهرين.
لكن لو قال البائع: هذه السلعة بـ 1000 نقدًا، و1010 لشهر، و 1020 لشهرين. . . فإذا سددت الثمن الآن فعليك 1000، وإذا سددت بعد شهر فعليك 1010، وإذا سددت بعد شهرين فعليك 1020، هذا غير جائز، فحقيقته: تقضي أم تربي؟ أو أنظرني أزدك.
2- إذا بيعت سلعة بـ 1010 لشهر، فلا يجوز قبل الأجل، أو بعده، أن تفسخ بـ 1020 لشهرين، لأن حقيقة هذا هو نفس ما ذكرناه آنفا.
ومثل هذا دقيق، ولا عجب فيه، لأنه واقع على الحد، وهو الحد ما بين البيع الحلال والربا الحرام.(6/215)
الفصل الثامن
رد على الشبهات (الآراء المخالفة)
سنثبت الشبهة (الرأي المخالف) أولا، ثم نجيب عنها:
1-الزيادة في الثمن المؤجل ربا، لأنها زيادة في نظير الأجل، وكل زيادة في نظير الأجل تعد ربا (الإمام زيد لأبي زهرة ص 293) .
إنى أعترف بأن هذه الزيادة ربا، ولكنها ليست ربا محرمًا، وقد أثبتنا ذلك في هذه الدراسة، بالاعتماد على حديث الربا نفسه، حديث الأصناف الستة.
2- الزيادة في الثمن المؤجل يحتمل أن تكون من المباح، كما يحتمل أن تكون من المحظور، وعند الاحتمال يقدم الحظر على الإباحة.
هذا صحيح إذا لم يكن الترجيح بين الإباحة والحظر، وقد أمكننا بحمد الله الترجيح بينهما بأدلة تبدو لنا كافية جدًّا، ونحن مطمئنون إليها، وواثقون منها إلى درجة تزيد على الظن الراجح، وتقارب اليقين.
3- احتج بعض المعاصرين لحرمة الزيادة في الثمن المؤجل بحديث رواه أو داود في السنن، كتاب البيوع: " من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا " (القول الفصل في بيع الأجل لعبد الرحمن عبد الخالق ص 43) .
على فرض صحة هذا الحديث، فإن المعنى محمول على بيوع الآجال (بيوع العينة) ، لا على بيوع الأجل، وذلك منعًا للتضارب بين السنن والآثار (ابن القيم في تهذيب السنن 5/148، وعون المعبود 9/343 – 344) .
وبيوع الآجال، كما ذكرنا، حيل ربوية تعتمد على جواز الفرق بين الثمن المعجل والمؤجل، ظاهرها البيع، وباطنها القرض الربوي، والسلعة تدخل ثم تخرج، وليست مرادة.
والدليل على أن المقصود بالحديث هو بيوع الآجال، هو أن البائع إذا قال: إن كان لسنة فبكذا (110 مثلًا) ، وإن كان نقدًا فبكذا (100 مثلًا) (مصنف ابن أبي شيبة 6 /119- 121) ، فهذا ليس من باب بيعتين في بيعة، إنما هو إيجاب ثمنين من أجل أن تنعقد بعد ذلك بيعة واحدة على أحد الثمنين: المؤجل أو المعجل (جامع الترمذي 3/524، ومصنف عبد الرزاق 8/138، والمهذب للشيرازي 1/355، وبداية المجتهد 2/115) .(6/216)
يدل على هذا المعنى أيضًا ما أثبتناه في موضع سابق من هذه الورقة، من جواز زيادة الثمن المؤجل على المعجل.
ويدل عليه أيضًا باتفاق جمهور الفقهاء على هذا الجواز، وقد نقلنا عددًا من عباراتهم ومن الخطأ أن يستنبط أحد المعنى المراد بالاعتماد على نص واحد، فإن جمع النصوص المتزاحمة والمتقاربة كتكرار التجارب والاختبارات في العلوم التجريبية، هو الذي يحق اطمئنان المجتهد أو الباحث، ويرفع درجة ثقته في نتائجه العلمية.
4- يرى البعض أن الزيادة في الثمن المؤجل مطابقة تمامًا للزيادة في القرض المؤجل، فإما أن كلتيهما حرام أو كلتيهما حلال وعلى هذا المعنى حمل بعض المفسرين قوله تعالى على لسان عرب الجاهلية: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] .
وما رآه هؤلاء ليس صحيحًا تمامًا، وإن كان يدق على كثير من العقول، ذلك بأن الربا في القرض مؤكد، في حين أنه في البيع احتمالي غير مؤكد، نعم قد يبيع البائع سلعة بثمن معجل قدره 100 ومؤجل لسنة قدره 110، مع أنه قد يكون في كلا الثمنين خسارة له، أي أن كلًّا من الثمنين أقل من الكلفة.
5- الزيادة في الثمن المؤجل تعتبر كحسم المصارف للسفاتج (= الكمبيالات) والسندات، أي كلاهما ربا نيسئة محرم (القول الفصل لعبد الخالق ص 34، و35، و 51) .
هذا غير مسَلَّم، لأن الزيادة الأولى زيادة في بيع، والثانية زيادة في قرض، الأولى تعتبر للنشاط التجاري البيعي المشروع، والثانية تعتبر منفصلة عن النشاط البيعي، وداخلة في النشاط الائتماني الربوي المستقل، ومعلوم في القواعد الفقهية الكلية أن الشيء قد يجوز تبعًا ولا يجوز منفردًا (المبسوط للسرخسي 11/179، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 135، ومجلة الأحكام العدلية المادة 54، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 /172) .
6- الأنشطة الربوية المحرمة هي من لوازم بيع الأجل (القول الفصل لعبد الخالق ص 51) .
هذا غير صحيح، لأنه من باب المغالاة في سد الذرائع، ولو كان صحيحًا لأمكن القول أيضا بأن صناعة الخمر هي من لوازم زراعة العنب، وكأن لا منفعة من العنب إلا الخمر.
وقد فرق الفقهاء تفريقًا حكيمًا ودقيقًا بين بيع الأجل فأجازوه، وبيع الآجال فحرموه، وتحايل البعض ببيع الأجل وصولًا لبيع الآجال لم يدفع الفقهاء إلى تحريم البيعين، فإنهم لو فعلوا ذلك لحرمت أنشطة تجارية كثيرة مفيدة، ولكان مثلهم مثل من حرّم على نفسه ركوب الطائرة خشية حادث لا يزيد احتمال وقوعه على مرة واحدة من كل ألف مرة!(6/217)
الفصل التاسع
التأخر في سداد الأقساط أو التخلف عنه
9-1 تأخر المشتري في سداد الأقساط:
قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغني ظلم)) رواه البخاري 3/155، ومسلم 4/72. . وغيرهما.
وقال أيضا: ((لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته)) ، قال سفيان: عرضه يقول: مطلتني، وعقوبته: الحبس، رواه البخاري 3 /155، وأحمد في المسند 4/222، وابن ماجه في السنن 2/811، والحاكم في المستدرك 4/102 وصححه.
لعل مسألة تأخر المشتري في السداد من أهم مسائل بيع التقسيط التي تستحق العرض على المجمع الفقهي، ليتخذ قراره فيها، ذلك لأن بيع التقسيط قد جاز فيه الأجل عند جميع الفقهاء، وجاز فيه زيادة الثمن عند جمهور الفقهاء، ولعل الجديد هنا هو التعليل والتفسير والإثبات، لمزيد من الاطمئنان.
أمّا التأخر في سداد الأقساط فلا نعلم عند الفقهاء السابقين أحدًا منهم أجاز فيه تغريم المتأخر بغرامة، أو معاقبته بعقوبة مالية، غير أن بعض العلماء المعاصرين قد ذهب إلى التفرقة بين المدين العاجز عن الدفع، والمدين الغني المماطل، واتفقوا على عدم جواز تغريم الأول، فهذا ربا نسيئة محرم بلا شك، واتفقوا على مبدأ التعويض المالي عن المماطلة، أو على مبدأ التغريم، واختلفوا قليلًا في طريقة تقديره (هل يقدر وفق ربح الدائن، أم وفق ربح المثل؟) ، كما اختلفوا: هل يجوز أن يكون هذا التعويض موضع اتفاق مسبق بين الدائن، والمدين، أم يجب أن يرجع فيه إلى القضاء عند وقوع المماطلة؟ (مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، المجلد 2، العدد 2، شتاء 1405 هـ، ص 89 و 154، والمجلد 3، العدد 1، صيف 1405 هـ، ص 101 و 111) .
المنقول عن الفقهاء القدامى، كما قلنا، هو عدم جواز ذلك كله، قال الجصاص في أحكام القرآن 1 /474: " المراد بالعقوبة هنا (أي في الحديث الشريف أعلاه) : الحبس، لأن أحدًا لا يوجب غيره " وقال أيضا: " لا تفاقهم على أنه لم يرد غيره ".(6/218)
9-2 المماطلة في سداد الأقساط: هل يجوز التفرقة في الحكم على المدين بين مدين اشترى سلعة مثلية ومدين اشترى سلعة قيمية؟
إذا كان المدين مقترضًا لنقود، أو مشتريًا لمال مثلي كالقمح والشعير والتمر والملح، فلا يمكن القول أبدًا بجواز مطالبته بالتعويض المالي عن المماطلة، لأن هذا التعويض يضاهي ربا النسيئة المحرم، الذي يأخذ صورة فوائد التأخير المعروفة في القوانين الوضعية الحديثة.
لكن قد يكون المدين مشتريًا لمال قيمي، كالدابة والسيارة والآلة، فإذا ماطل في السداد، برغم غناه، فهل يجوز القول هنا بمطالبته بتعويض مالي يقدر بمقدار أجرة المبيع عن مدة التأخر؟
ظاهر الأمر أن هذا، كغيره، لا يجوز، لأن المشتري قد انتقلت إليه ملكية السلعة، وصار مدينًا بمبلغ محدد من النقود، وهي مال مثلي، بمجرد شرائه السلعة، وذلك بغض النظر عن نوع هذه السلعة، أي لم يعد ثمة تأثير لكونها مثلية أو قيمية.
ومع ذلك فإني أترك مناقشتها للسادة أعضاء المجمع الموقرين، لاتخاذ قرار صريح فيها، والله الموفق.
9-3 إذا أفلس المشتري بالتقسيط:
كان الرومان إذا عجز المدين عن سداد الدين يسترقونه، وقد منع الإسلام هذا (انظر فتاوى ابن تيمية 29 /223) .
وإذا أفلس المدين، وبيعت أمواله لسداد ديونه، فلا يجوز التعدي على حوائجه الأصلية، إذ يترك له ما يسد مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه. . . إلى آخر ما هو مفصل في الفقه الإسلامي في مباحث الإفلاس.
وإذا أفلس المشتري، جاز للبائع أن يسترد المبيع، إذا كان لا يزال باقيًا عند المشتري بحاله، ولم يكن قد استوفى من ثمنه فإذا استوفى من ثمنه شيئًا، أو لم يبق المبيع بحاله، لم تكن للبائع أحقية على غيره من الغرماء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما رجل باع سلعة، فأدرك سلعته بعينها عند رجل، وقد أفلس، ولم يكن قبض من ثمنها شيئا، فهي له، وإن كان قبض من ثمنها شيئا فهو أسوة للغرماء)) رواه ابن ماجه 2/790 واللفظ له، وأحمد في المسند 2 /525، ومالك في الموطأ 2 /678، وأبو داود في السنن 3 /287 وانظر أيضا صحيح مسلم 4 /67، وسنن الترمذي 3/553، وسنن النسائي 7/311، وسنن أبي داود 3 /286، ومسند أحمد 2/228 و 247 و 249 و 258 و 347 و 410 و 5/10.(6/219)
الفصل العاشر
أربعة مبادئ مهمة كشف عنها بحث بيع التقسيط
إن بحث بيع التقسيط، مقارنًا بالقرض، قد كشف عن مبادئ مهمة، من الناحيتين النظرية والعملية، ولا سيما في هذا العصر، وهذه المبادئ مترادفة، أو متقاربة بحيث يؤدى بعضها إلى بعض:
10-1 مبدأ المعجل خير من المؤجل:
وقد عرفنا هذا من خلال حديث الأصناف الستة، أو من خلال مفهوم ربا النساء قال السرخسي في المبسوط 12/111: " والفضل ربا: يحتمل الفضل في القدر، ويحتمل الفضل في الحال، بأن يكون أحدهما نقدًا، والآخر نسيئة، وكل واحد منهما مراد باللفظ ".
فالفضل، أي الربا، يكون في القدر، أي في زيادة أحد البدلين على الآخر زيادة كمية (أو نوعية، لأن مآلهما كمي أيضا) ، كما يكون في الحلول، أي في زيادة أحد البدلين على الآخر زيادة زمنية (المعجل أربى من المؤجل) .
كما عرفنا هذا المبدأ من خلال ثواب القرض، أو من خلال جواز الزيادة في البيوع لأجل الأجل، وقد تأيد هذا المبدأ بنقول كثيرة من كلام الفقهاء، كما ذكرنا في هذا الموضع وسواه، بل وله ما يؤيده من القرآن، كما سنذكر.
10-2 مبدأ التفضيل الزمني:
فطر الناس على تفضيل الزمن الحاضر على المستقبل يقول الفاطر الخالق سبحانه وتعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) } [سورة القيامة: الآيتان 20-21] .
ولتحويل الناس عن تفضيل العاجلة إلى تفضيل الآخرة، زاد الله سبحانه، الحكيم العليم، في الآخرة، فجعلها خيرًا في النوع، وأدوم في الزمن قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) } [سورة الأعلى: الآيتان 16- 17] وهذا ما يعرف اليوم، في علم الإحصاء وغيره، بـ " التثقيل " (= الترجيح) ، أي زيادة الثقل (= الوزن) .(6/220)
قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) } [سورة الدَّهر (= الإنسان) : الآية 27] ، أي ثقل الله جزاء الآخرة، ثوابها وعقابها، فكان في ثواب المؤمنين زيادة عذاب للكافرين، وكان في عذاب الكافرين زيادة نعيم للمؤمنين فمن آمن بالآخرة تحول تفضيله في هذا الباب من العاجل إلى الآجل، ومن أنكر الآخرة بقي تفضيله للعاجل على الآجل، هذا هو الابتلاء فهؤلاء يقولون: (الدنيا نقد والآخرة نسيئة، والنقد أحسن من النسيئة) (كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم ص 38) ، أو يقولون: (ذرة – ولعلها: درة – منقودة ولا درة موعودة) (الجواب الكافي لابن القيم ص 38) ، أو: (عصفور باليد ولا عشرة على الشجرة) أو: (خير البر عاجله) .
وهكذا إذا كان هناك بدلان متساويان في كل شيء إلا في الزمن، أحدهما معجل والآخر مؤجل، آثر الناس بدل المعجل على المؤجل، أي: (إذا تساوى النقد والنسيئة، فالنقد خير) (الجواب الكافي ص 38) ذلك بأن البدل المعجل يسمح باستهلاك معجل، أو استثمار معجل، أو سداد دين حالّ، أو التوقي من مخاطرة عدم سداد البدل المؤجل، أو من مخاطرة تقلبات الأسعار وقيمة النقود.
فإذا ما أريد قلب هذا التفضيل إلى تفضل معاكس: تفضيل البدل الآجل على العاجل، أو المساواة بينهما على الأقل، زيد في البدل المؤجل مقدار مناسب، لتحقيق هذا القلب.
10-3 مبدأ قيمة الزمن:
وهذا تعبير آخر عن المبدأ السابق، فلولا أن للزمن قيمة مالية في الشرع، لما كان للقرض ثواب عند الله، ولما جازت الزيادة في البيوع بسبب الأجل، والبدل المؤجل في البيع سواء كان ثمنا (كما في بيع النسيئة أو التقسيط) ، أو مبيعًا (كما في بيع السلم) لا يجوز لصاحب الحق المطالبة بتسليمه قبل الأجل، لأن البدل المؤجل ترتبط قيمته بأجله، فقيمته هي كذا في أجل معين، وتنقص هذه القيمة إذا تقدم الأجل، وتزيد إذا تأخر (قارن الأم للشافعي 3/88) وهذا بخلاف القرض، يجب على المقترض وفاؤه إذا أيسر (= اغتنى) ، ولو كان مؤجلًا إلى أجل معين، لأن القرض فيه إحسان، أما البيع فإنه معاوضة، أي أن البيع زيد فيه للأجل، خلافًا للقرض فالعوض عن الأجل يقتضي الدفع في الأجل، لكن لا يقتضي العوض بالضرورة، كما في القرض لو أجل (قارن المغني لابن قدامة 4/357، والأم للشافعي 3/78، والمهذب للشيرازي 1/400، والموافقات للشاطبي 4/41) .
وبما أن للزمن قيمة، فإن مطل الغني ظلم، لأن المماطلة تعني رغبة المماطل في دفع نفس القيمة، ولكن بتاريخ لاحق.
إن مبدأ قيمة الزمن مهم اليوم في علوم الاقتصاد والإدارة والتخطيط ودراسات الجدوى وتقويم المشروعات وغالبًا ما يشار إليه بـ (القيمة الزمنية للنقود) (Time value of money)
والنقود في هذه العبارة ليس ذكرها إلا على سبيل التمثيل لسائر الأموال، ولا سيما المثلية منها.(6/221)
10-4 مبدأ الربا ربوان:
نقل العلماء عن بعض السلف قولهم: الربا ربوان: ربا حلال وربا حرام: وذلك بمناسبة تفسيرهم آية الروم 39، وكلامهم عن هبة الثواب، أي الهدية يهدي فيها المهدي يلتمس أكثر منها 0 تفسير الطبري 21/ 47، والقرطبي 14/36، والدر المنثور للسيوطي 5 /156، وتفسير الماودري 1/289 و 3/268، وفتح القدير للشوكاني 4/227، وتفسير الألوسي 3 /50) .
وعلى هذا فإنهم أدخلوا هدية الثواب تحت الربا الحلال ولكن هذا القول المأثور عن بعض السلف يصلح عندنا لتضمينه معاني أخرى.
فالربا، في تعريفه المختار عندنا، هو الزيادة (كمًّا أو نوعًا) في مقابل الزمن فإن كانت الزيادة مشروطة فالربا حرام، وإن كانت غير مشروطة فهي حلال.
وإن كانت مشروطة لصالح المقرض فهي حرام، وإن كانت مشروطة لصالح المقترض فهي حلال (شرط وفاء القرض بالنقصان، انظر المغني لابن قدامة 4/363) .
هذا في ربا النسيئة، أما في ربا الفضل، فنقول بأن ربا الفضل حرام في الذهب بالذهب (إذ يجب أن تتم المبادلة وزنًا بوزن كما في الحديث النبوي، انظر صحيح مسلم، كتاب المُساقاة، باب الربا 4/95) ، أو في القمح بالقمح (إذ يجب أن تتم المبادلة كيلا بكيل كما في الحديث النبوي، انظر مسند أحمد 2/232 " كيلا بكيل ووزنًا بوزن، والمحلى لابن حزم 8/480) .
وربا الفضل حلال في الذهب بالفضة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) رواه مسلم في صحيحه 4/98، أو قوله: " لا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا " رواه أبو داود في كتاب البيوع، باب الصرف 3/248.
وكذلك ربا الفضل حلال في الذهب بالقمح، وذلك لأجل اختلاف الصنفين (كما في الحالة السابقة) ، ولأجل التأجيل إذا أجل أحد البدلين، إذا التأجيل في أحدهما جائز (بخلاص الحالة السابقة) .
وكذلك في ربا النساء فربا النساء غير جائز في الذهب بالذهب، ولا في الذهب بالفضة، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((يدًا بيد)) ، وهذا معناه أن: (النساء ربا) .
ولكن ربا النساء جائز في الذهب بالقمح، إذا جاز التأجيل الذي دلت على جوازه أحاديث البيوع المؤجلة (النسيئة والسلم) .(6/222)
ومعلوم عند الفقهاء أن الربا ليس حرامًا في كل مال ومبادلة، وهم متفقون جميعًا على أن الربا محرم في بعض الأموال دون بعض وإن اختلفوا في العلة، فالظاهرية يقصرون التحريم على الأصناف الستة، والحنفية يرون التحريم فقط في الموزونات والمكيلات، والشافعية في الأثمان والأطعمة، والمالكية في الأثمان والأقوات المدخرة.
ولذلك نجد عددًا منهم، كالشافعية والظاهرية والحنابلة في رواية والقاضي وأصحابه وابن قدامة، أجازوا الحيوان بالحيوان متفاضلًا ونَساء (عون المعبود 9 /209) وممن أجازه علي ورافع بن خديج وابن عمر وسعيد بن المسيب وابن سيرين (في رواية) والزهري وإسحاق (شرح السنة للبغوي 8 /74، ومصنف عبد الرزاق 8/20) ، ونسبه النووي في المجموع 9/402 إلى جماهير العلماء.
والعرايا هي من الربا الجائز، وهي رخصة من المزابنة، والمزابنة ربا حرام والعرايا جمع عرية، وهي بيع التمر بالتمر جزافًا بكيل (لا كيلًا بكيل كما هو الأصل) ، أي بدون التحقق من التساوي، مع أن الأصل في الربا أن الجهل بالمماثلة كالعلم بالمفاضلة.
وقد صرح بعض العلماء بأن تحريم كل ربا إنما يؤدي إلى تحريم التجارات والأرباح، والتضييق على الأنشطة التجارية (المجموع للنووي 9/399 و 400 – 402) .
فالربا، كالاحتكار، لا يحرم في كل شيء وإننا نميل إلى التصريح بهذا، لأننا نكره الحيل والمواربة في الفقه والعلم، ونرتضي مذهب ابن تيمية وابن القيم في إبطال الحيل عمومًا (انظر إقامة الدليل على إبطال التحليل في الفتاوى الكبرى لابن تيمية، طبعة دار المعرفة 3/97 – 405، وأعلام الموقعين لابن القيم 3/131 – 415 و 4/3- 117) .(6/223)
10-5 حاجتنا العلمية والعملية إلى مفهوم " الربا الحلال ":
لقد أوضحنا في مبحث " الربا ربوان " كيف أن الربا لا يحرم كله، سواء كان ربا نسيئة، أو نساء، أو فضل، وإن الربا جائز في غير الأموال الربوية، كالحيوان بالحيوان عند جمهور العلماء، كما قال النووي.
ونسوق ههنا عبارات بعض العلماء:
قال ابن عباس: هما ربوان، أحدهما حلال، والآخر حرام (تفسير الماوردي 3/268) .
" تحريم بعض البيع، وإحلال بعض الربا " (تفسير الماوردي 1/289) .
" تحريم بعض البيوع، وإحلال بعض الربا " (تفسير الألوسي 3/50) .
" الظاهر عموم البيع والربا (. . .) إلا ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع، وإحلال بعض الربا " (تفسير الألوسي 3/50) .
" وهي من الربا الجائز " (حاشية الشرقاوي 2/38، والمنتقى للباجي 5/99) .
وهنا قد يسأل سائل: كيف تقول أنت وهؤلاء العلماء بأن الربا جائز، والله تعالى يقول: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] ؟ نجيب بأن الثابت عند المفسرين وعلماء الفقه والأصول أن ليس كل بيع حلالًا، ولا كل ربا حرامًا فقد حرمت السنة النبوية بعض البيوع، كبيع الذهب بالذهب مع الفضل، أو مع النساء، وبيع الذهب بالفضة مع النساء، وبيع الغرر، وبيع العينة، وبيع الطعام قبل قبضه، وبيع الحاضر للبادي. . . الخ (قارن الرسالة للشافعي ص 232، وتفسير الرازي 7/93) .
هذه هي عبارات العلماء في الربا الجائز وقد آن الأوان لنتساءل عن حاجتنا إليه.
مر معنا أن الحاجة متعينة إليه علميًّا، لتفسير جواز الزيادة في البدل المؤجل في البيع المؤجل، كالزيادة في الثمن في بيع الأجل أو بيع التقسيط.
وكذلك فإن حاجتنا متعينة إليه علميًّا وعمليًّا، في مجال دراسات الجدوى الاقتصادية وتقويم المشروعات، لأجل المفاضلة بين هذه المشروعات، حيث هناك أهمية كبيرة لإدخال البعد الزمني في معايير الجدوى والتقويم، ومراعاة أثر الزمن (= الوقت) على قيمة النقود والأموال، كما هو معروف عند أهل الاختصاص.
فالمشروعات أو الاستثمارات مختلفة التكاليف والمردودات والأزمان والمخاطر، فأرباح المشروعات تقدر على أزمان متلاحقة، أي ليست متساوية في الزمن، والربح في تاريخ وقوعه ربح، ولكن تقويمه في تاريخ لاحق هو، في العلم، ربا، وتقويمه في تاريخ سابق هو، في العلم، حطيطة (= وضيعة) ، والحاجة داعية إلى معرفة مجموع تدفقات (=تيارات) الأرباح في زمن واحد (التدفقات النقدية المخصومة، أو الميزانية الاقتصادية المخصومة) ، فلابد من تقويمها في زمن واحد، وعندئذ نحتاج إلى مفهوم الربا الحلال وغني عن البيان أن سعر الخصم يزيد بزيادة المخاطرة، وينقص بنقصانها.(6/224)
فإذا كان هناك مشروع يدر دفعة من الربح بعد 5 سنوات مقدارها 1000، ودفعة بعد 6 سنوات مقدارها 1000، ودفعة بعد 7 سنوات مقدارها 1000، فلا يمكن القول علميًّا بأن مجموع دفعات الأرباح هو: 1000 + 1000 + 1000 = 3000 ذلك بأن كل دفعة مختلفة في الزمن (= التاريخ) ، وقد قرر علماؤنا المسلمون أن الدفعة المعجلة أكبر من المؤجلة، إذا تساوتا في القيمة الاسمية.
ولو كان لجمع دفعات مختلفة في الآجال معنى، لكان في جمع وحدات البرتقال ووحدات الباذنجان ووحدات البطيخ معنى.
إننا عندما نجمع الكسور، نحتاج إلى توحيد مخارجها (= مقاماتها) ، فكذلك عند جمع مبالغ مؤرخة (= مختلفة التواريخ، أو الآجال) نحتاج إلى أساس لتوحيد قيمتها في زمن واحد، هو زمن اتخاذ القرار الإداري أو الاقتصادي، هذا الأساس هو ما نحتاج فيه إلى مفهوم الربا الحلال، مع ملاحظة أن الربا هو حلال في البيوع المؤجلة، وتقويم المشروعات، ولكنه حرام بالطبع في القروض وما قاربها.
والخلاصة فإن مفهوم الربا الحلال يشكل أداة مهمة من الأدوات التي يعتمد عليها اليوم في تقويم المشروعات من أجل المفاضلة بينها واختيار المشروع الأكفأ (= الأجدى) ، فلابد من عدم التردد في إظهار هذه الأداة، وهي متوافقة تمامًا مع روح الشرع ومقاصده ونصوصه، كما أثبتنا، والباحثون العلميون لا يهتمون بما قد يقع من تحريف المبطلين، أو تزييف الجاهلين، ولكنهم يحرصون بالتأكيد على أن يوضع كل شيء في موضعه، بدون تعَدٍّ ولا تجاوز ولا تقصير.
10-6 أهمية هذه المبادئ في إعادة صياغة المناهج والكتب الدراسية:
اطلعت على بعض المؤلفات في الاقتصاد، أوالاقتصاد الهندسي، أو الإدارة المالية، أو الرياضيات المالية والتجارية، في محاولة من مؤلفيها لإدخال بعض المضامين الإسلامية، على تفاوت بينهم في درجة الفاعلية والجدية فبعض هذه الإدخالات تزييني سطحي غير مؤثر في روح الكتاب ولا في سائر أجزائه، أي لا ينبني عليه أي تغيير حقيقي.
ولما كانت هذه المضامين ناقصة، أو مغلوطة، أو غير فاعلة، لذلك فإني أوصي القائمين على أمر مناهج الدراسة الجامعية والثانوية التجارية، لا سيما في المملكة العربية السعودية، كما أوصي المؤلفين، بإعادة النظر في مدخلاتهم الإسلامية، في ضوء النتائج التي توصلنا إليها في هذه الدراسة والدراسات السابقة، فيما يتعلق بنظرية الربا في الإسلام، وتوابعها المهمة في القروض والبيوع وتقويم المشروعات مع ما لهذا من تأثير علمي وعملي، في النظريات وفي التمرينات والمسائل والمناقشات، والله الموفق.(6/225)
الخاتمة
1- بيع التقسيط نوع من البيع المؤجل، يقسط فيه الثمن أقساطًا متعددة، كل قسط له أجل معلوم، وقد كثر انتشاره في عصرنا هذا.
2- لم يفرد الفقهاء القدامى كتابًا أو بابا لبيع التقسيط، لكنهم تكلموا عنه في ثنايا مباحثهم الفقهية.
3- بيع التقسيط فيه فائدة لكل من البائع والمشتري، فالبائع يزداد في الثمن، والمشترى يحصل على المبيع قبل تمكنه من دفع الثمن كاملًا، فهو بيع ائتماني (= تمويلي) ، والائتمان فيه هو من نوع الائتمان المباشر (لا وسيط فيه) .
4- يجب ألا يتجاوز المشتري قدرته على السداد في الآجال المضروبة للأقساط المختلفة، كي لا يعجز عن السداد، مع ما يؤدي إليه هذا من أوضاع غير مرغوب فيها، ولا سيما إذا كان الدائن غير مسلم.
5- يجب ألا يشتري بالتقسيط إلا من كان عازمًا على السداد، بالإضافة إلى كونه قادرًا عليه، وعلى البائع أن يتأكد من هذا، ما لم يقصد الإرفاق والمسامحة.
6- يقوم المصرف المركزي بالرقابة الائتمانية على بيع التقسيط، وتشمل هذه الرقابة الدفعة المعجلة، ومدة التقسيط، ومعدل زيادة الثمن لأجل التقسيط.
7- ساعد على انتشار بيع التقسيط قيام منشآت ائتمانية وسيطة تدفع القيمة نقدًا إلى البائع، وتقسطها على المشتري.
8- يجب التفريق بين بيوع التقسيط (= بيوع الأجل) وبيوع الآجال (= بيوع العينة) ، فالأولى جائزة والأخرى ممنوعة، لأنها حيل ربوية محرمة، فلا يجوز اتخاذ الأولى ذريعة إلى الأخرى.
9- لا يجوز اتخاذ بيع التقسيط ذريعة إلى التورق، ولا سيما إذا اتخذ هذا التورق شكل نظام معروف، بحيث يشتري المشتري بثمن مقسط، ليبيع، بثمن نقدي، ما اشتراه، إلى إحدى المنشآت التابعة للبائع.(6/226)
10- قد يتم التحايل على بيع التقسيط ببعض الحيل، مثل البيع الإيجاري (= الإيجار المنتهي بالتمليك) الذي يتحيل به البائع بغرض عدم نقل الملكية إلى المشتري إلا بعد سداد الأقساط كلها، أو مثل بيع التقسيط مع شرط الاحتفاظ بالملكية.
وربما يحظر في البال أن بيع التقسيط يغني عن البيع الإيجاري (وعن بيع التقسيط مع شرط الاحتفاظ بالملكية) حيث يمكن رهن المبيع نفسه رهنًا غير حيازي.
لكن هذا البديل بالنسبة للباعة لا يشكل بديلًا كاملًا، فالبيع الإيجاري، وشرط الاحتفاظ بالملكية، يقدمان لهم ميزات لا تتوافر في الرهن المذكور.
11- إذا جاز رهن المبيع نفسه، فمن الجائز كذلك أن يشترط البائع على المشتري في بيع التقسيط، عدم التصرف بالمبيع إلا بعد استيفاء الأقساط كلها.
12- ومن الحيل القريبة من البيع الإيجاري، ما يعرف اليوم بـ " التمويل الإيجاري "، وهو غير جائز أيضًا، لما ذكرناه في البيع الإيجاري، ولسبب آخر هو أن السلعة يؤجرها المؤجر قبل أن تدخل في ملكه (= إيجار قبل الشراء) .
وإذا أجريت هذه العمليات على أساس المواعدة، وكانت المواعدة ملزمة، فالحكم لا يتغير، لأن الوعد بالبيع، إذا كان هذا الوعد ملزمًا، فهو بيع.
وكذلك الحكم على بيع المرابحة للأمر بالشراء، إذا كانت المواعدة فيه ملزمة.
13- تأجيل الثمن جائز إذا كان المبيع ليس ثمنًا، فتبادل ثمن بثمن صرف لا يجوز فيه الأجل.
14- بيع التقسيط مباح إذا عقد بزيادة في الثمن (= معاوضة كاملة) ، ومستحب إذا عقد إرفاقًا بالمدين بدون زيادة عليه في الثمن للأجل (= معاوضة ناقصة) ، أو بدون طلب رهن أو كفالة.
15- إذا لم يبع إلا بالتقسيط فهذا جائز، ما دام البائع لا يتخذ هذا ذريعة إلى بيوع العينة، أي بيوع الأجال (= الحيل الربوية) .
16- بيع التقسيط قد يشتبه بالربا المحرم، لما فيه من نساء (= أجل) وفضل (= زيادة) ، وقد أزلنا هذا الاشتباه بأدلة متعددة تُراجع في مواضعها.
17- بيع التقسيط أثبتنا جوازه في السلع المثلية، فصار جوازه في السلع القيمية أولى.
18- الزيادة في بيع التقسيط لأجل النساء عند جمهور الفقهاء، وقد نقلنا عددًا من عباراتهم، مع بيان مصادرها من كتب الفقه على المذاهب المختلفة.
19- إننا نميل، مع بعض العلماء، إلى جواز الحطيطة للتعجيل، ميلنا، مع جمهور العلماء، إلى جواز الزيادة للتأجيل، ما دام هذا بين البائع والشاري، بدون وسيط بينهما، كالمصرف في خصم الأوراق التجارية، أو في المرابحة ذات المواعدة الملزمة.
20- دافعنا عن جواز الحطيطة للتعجيل بأدلة مختلفة عن أدلة ابن القيم، لما رأيناه من ضعف أدلته.(6/227)
21- وكذلك عرضنا لبعض الاستدلالات التي رأيناها خاطئة في إثبات جواز الزيادة في الثمن المقسط.
22- الزيادة في الثمن لأجل الزمن، كما ذكرنا، جائزة ولكن الزمن ليس إلا أحد مسوغات هذه الزيادة، فهناك مسوغان آخران: المخاطرة، والخدمة.
23- الزيادة لأجل الزمن تلحق البدل المؤجل في البيع: الثمن إذا كان البيع بيع نسيئة، والمبيع إذا كان البيع بيع سلم، وبيع السلم هو نظير بيع النسيئة.
24- ثمة صورة غير جائزة في بيع التقسيط، ذكرنا بعضها.
25- لم نكتف بإثبات جواز الزيادة في بيع التقسيط بالأدلة، بل قمنا أيضا بالرد على الآراء المخالفة، لأجل المزيد من الاطمئنان.
26- عرضنا لمسألة تأخر المشتري في سداد الأقساط، أولًا إذا كان هذا التأخر عن عجز، وثانيًا عن مماطلة ونقلنا آراء بعض العلماء المعاصرين في الحكم على المدين المماطل، دون أن نرتضي حكمهم.
27- بصدد الكلام عن المماطلة، تساءلنا عما إذا كان من الجائز التفرقة في الحكم بين مدين اشترى سلعة مثلية ومدين اشترى سلعة قيمية.
28- إذا أفلس المشتري بالتقسيط، فقد منع الإسلام استرقاقه بالدين، كما منع التضييق على حوائجه الأصلية (= حاجاته الأساسية) ، وأجاز للبائع استرداد المبيع، إذا كان هذا المبيع لا يزال بحاله عند المشتري، ولم يستوف البائع من ثمنه شيئا.
29- كشف لنا بحث بيع التقسيط عن أربعة مبادئ مهمة في العلوم الحديثة:
(1) مبدأ المعجل خير من المؤجل.
(2) مبدأ التفضيل الزمني.
(3) مبدأ القيمة المالية للزمن (= القيمة الزمنية للنقو) .
(4) مبدأ الربا ربوان: حرام وحلال.
وبيّنّا أدلة الربا الحلال وأهمية هذا المفهوم في كل من البيوع المؤجلة وتقويم المشروعات.
30- وأخيرا اتخذنا توصية بضرورة إعادة النظر في المناهج والكتب الدراسية المتعلقة بالموضوع، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور رفيق يونس المصري(6/228)
كتابات المؤلف السابقة في الموضوع
1- مصرف التنمية الإسلامي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1397هـ، ط3، 1407 هـ.
2- القرض حالّ أم مؤجل؟ الأجل والفائدة، مجلة حضارة الإسلام، دمشق، العدد 6، شعبان 1398 هـ.
3- الحسم الزمني في الإسلام، مجلة المال والاقتصاد، بنك فيصل الإسلامي السوداني، الخرطوم، العدد 2، 1405هـ.
4- الربا والحسم الزمني في الاقتصاد الإسلامي، دار حافظ، جدة، ط1، 1406هـ.
5- القول الفصل في بيع الأجل، مجلة الأمة، الدوحة، العدد 66، جمادى الآخرة 1406هـ.
6- البيع الآجل في الفقه الإسلامي، أدلته وأدلة الزيادة فيه للتأجيل والحطيطة للتعجيل، مجلة الوعي الإسلامي، الكويت، العدد 294، جمادى الآخرة 1409 هـ.(6/229)
المراجع
1- أحكام القرآن لابن العربي (-543هـ) ، بتحقيق محمد علي البجاوي، دار الفكر، بيروت، د. ت.
2- أحكام القرآن للجصاص (-370 هـ) ، دار الفكر، بيروت، د. ت.
3- الاختيار لتعليل المختار للموصلي (-683هـ) ، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
4- الاختيارات الفقهية لابن تيمية (-728هـ) ، جمع البعلي الدمشقي، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، د. ت.
5- الأشباه والنظائر لابن نجيم (-970هـ) ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400هـ =1980 م.
6- الاعتصام للشاطبي (-790هـ) ، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
7- أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم (-751هـ) ، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، ط2، 1397هـ = 1977م.
8- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم (-751هـ) ، بتحقيق محمد حامد الفقي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1357هـ = 1939 م.
9- الإمام زيد لمحمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، د. ت.
10- الأم للإمام الشافعي (-204هـ) ، طبعة الشعب، القاهرة، د. ت.
11- بحوث في الربا لمحمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، د. ت.
12- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني (-587هـ) ، شركة المطبوعات العلمية، القاهرة، د. ت.
13- بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد (-595هـ) ، دار الفكر، بيروت، د. ت.
14- البرهان في أصول الفقه للجويني (-478هـ) ، بتحقيق عبد العظيم الديب، دار الأنصار، القاهرة، ط2، 1400هـ.
15- بلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي (1241هـ) ، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1372هـ =1952 م.(6/230)
16- البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية الأخرى لإبراهيم دسوقي أبو الليل، جامعة الكويت، ط1، 1404هـ=1984م.
17- تبين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي (-743هـ) ، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت.
18- تحفة المحتاج بشرح المنهاج للهيتمي (-974هـ) ، طبعة مصطفى محمد، 1304هـ.
19- تفسير الألوسي (-1270هـ) : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.
20- تفسير الرازي (-606هـ) : التفسير الكبير، دار الكتب العلمية، طهران، ط2، د. ت.
21- تفسير السيوطي (-911هـ) : الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة، بيروت د. ت.
22- تفسير الشوكاني (-1250هـ) : فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، دار الفكر، بيروت، 1401هـ= 1981م.
23- تفسير الطبري (310هـ) : جامع البيان عن تأويل آي القرآن، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، ط3، 1388هـ=1968م.
24- تفسير القرطبي (-671هـ) : الجامع لأحكام القرآن، دار القلم، بيروت، 1386هـ = 1966 م.
25- تفسير المارودي (-450هـ) : النكت والعيون، بتحقيق خضر محمد خضر، ومراجعة عبد الستار أبو غدة، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، ط1، 1402 هـ=1982 م.
26- تفسير المنار لمحمد رشيد رضا (-1354هـ) ، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
27- تهذيب السنن لابن القيم (-751هـ) ، بهامش عون المعبود.
28- الجامع الصغير للسيوطي (-911هـ) ، دار الفكر، بيروت، ط1، 1401هـ=1981م.
29- حاشية ابن عابدين (-1252هـ) ، دار المعرفة، بيروت، ط، د. ت.
30- حاشية الجمل (-1204هـ) على شرح المنهج للأنصاري (-952هـ) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.
31- حاشية الخرشي (1101هـ) على خليل (-776هـ) ، بيروت، دار صادر، د. ت.(6/231)
32- حاشية الدسوقي (- 1230هـ) ، على الشرح الكبير للدردير (- 1201هـ) ، دار الفكر، بيروت، د. ت.
33- الدرر المباحة في الحظر والإباحة للشيباني النحلاوي.
34- الربا والمعاملات في الإسلام لمحمد رشيد رضا (- 1354هـ) ، تقديم محمد بهجة البيطار، مكتبة القاهرة، 1379هـ = 1960 هـ.
35- الروض النضير للسياغي (- 1221هـ) ، مكتبة المؤيد، الطائف، ط 2، 1388هـ = 1968 م.
36- روضة الطالبين للنووي (- 676هـ) ، المكتب الإسلامي، دمشق، 1388هـ.
37- زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم (- 751هـ) ، بتحقيق شعيب الأرناؤوط، بيروت، ط 3، 1402هـ = 1982م.
38- سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني (- 1182هـ) ، دار الحديث، القاهرة، د. ت.
39- سنن أبي داود (- 275هـ) ، بعناية محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النوبية، القاهرة، د. ت.
40- سنن الترمذي (- 279هـ) : الجامع الصحيح، بتحقيق أحمد محمد شاكر، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، ط 2 1398هـ = 1978م.
41- سنن الدارقطني (- 385 هـ) ، نشر عبد الله هاشم يماني المدني، المدينة المنورة، د. ت.
42- سنن النسائي (- 303هـ) ، بعناية عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 2 مصورة، 1406هـ = 1986م.
43- شرح الزرقاني (- 1099هـ) على مختصر خليل (- 776هـ) ، دار الفكر ن بيروت 1398هـ = 1978م.
44- شرح السنة للبغوي (- 516هـ) ، بتحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1390 = 1971 م.
45- شرح فتح القدير لابن الهمام (- 681هـ) ، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، د. ت.
46- شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل للغزالي (- 505 هـ) ، بتحقيق محمد الكبيسي، مطبعة الإرشاد، بغداد، د. ت.
47- صحيح البخاري (- 256هـ) ، دار الحديث، القاهرة، د. ت.
48- صحيح مسلم (- 261هـ) بشرح النووي (- 676هـ) ، طبعة الشعب، القاهرة، د. ت.(6/232)
49- العقود الدرية لابن عابدين (- 1252هـ) ، دار المعرفة، بيروت، ط 2، د. ت.
50-عون المعبود شرح سنن أبي داود (- 275هـ) للعظيم آبادي مع شرح ابن القيم (- 751هـ) ، دار الفكر، ط 3، 1399هـ = 1979م.
51-غياث الأمم في التياث الظلم (الغياثي) للجويني (- 478هـ) ، بتحقيق عبد العظم الديب، بدون ناشر ن ط 2، 1401 هـ.
52-فتاوى ابن تيمية (- 728 هـ) ، طبعة السعودية، ط 1، 1398هـ.
53- فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا (- 1354 هـ) ، جمع صلاح الدين المنجد ويوسف ق. خوري، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط 1، 1390هـ - 1970 م.
54-الفروق للقرافي (- 684هـ) ، عالم الكتب، بيروت، د. ت.
55- قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام (- 660هـ) ، بتحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، ط2، 1400 هـ = 1980 م.
56- قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية لابن جزي (- 741هـ) ، دار العلم للملايين، بيروت، 1979م.
57- القول الفصل في بيع الأجل لعبد الرحمن عبد الخالق، مكتبة ابن تيمية، الكويت، ط1، 1406هـ = 1985م.
58- كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم (- 751هـ) ، دار الندوة الجديدة، بيروت، ط3، 1400 هـ.
59- كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار للحصني (من علماء القرن التاسع الهجري) ، بعناية عبد الله إبراهيم الأنصاري، الدوحة، د. ت.
60- كنز العمال للهندي (- 975هـ) ، مؤسسة الرسالة ن بيروت، ط5، 1405هـ = 1985م.
61-المبسوط للسرخسي - 490هـ) ، دار المعرفة، بيروت، ط3، 1398 هـ = 1978م.
62- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي (- 807هـ) ، مكتبة القدسي، القاهرة، د. ت.
63- المجموع للنووي (- 676هـ) ، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، د. ت.
64- المحلى لابن حزم (- 456هـ) ، بتحقيق أحمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت، د. ت.
65- المدونة الكبرى للإمام مالك (- 179هـ) ، دار الفكر، بيروت، 1398هـ = 1978م.
66- المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم (- 405هـ 9، دار الفكر، بيروت، 1398هـ = 1978م.(6/233)
67- مسند الإمام أحمد (- 241هـ) ، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1398 هـ = 1978م.
68- مسند الإمام أحمد (- 241 هـ) ، بعناية أحمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1373هـ = 1954 م.
69-مصنف ابن أبي شيبة (- 235 هـ) ، بتحقيق عبد الخالق الأفغاني، الدار السلفية، بومباي، ط 2، 1399هـ = 1979م.
70- مصنف عبد الرزاق (- 211هـ) ، بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1403هـ = 1983 م.
71- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية لابن حجر العسقلاني (- 852 هـ) ، بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، بدون ناشر د. ت.
72-المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار المعتزلي (- 415هـ) ، ج13، بتحقيق أبو العلا عفيفي، ومراجعة إبراهيم مدكور، وإشراف طه حسين، وزارة الأوقاف والإرشاد القومي، القاهرة، 1382 هـ = 1962 م.
73- مغني المحتاج للخطيب الشربيني (من علماء القرن العاشر الهجري) ، مكتبة البابي، الحلبي، القاهرة، 1377 هـ = 1958 م.
74-المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة (-620هـ) ، دار الكتاب العربي، بيروت، 1392هـ = 1972م.
75- مقدمات ابن رشد (- 520هـ) ، دار صادر، بيروت، د. ت.
76-المنتقى شرح الموطأ للباجي 0- 494 هـ) ، دار الكتاب العربي، بيروت، 1332هـ.
77-الموافقات للشاطبي (- 790 هـ) ، بتعليق عبد الله دراز، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، د. ت.
78- موطأ الإمام مالك (- 179هـ) ، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت.
79- نحو نظام نقدي عادل: دراسة للنقود والمصارف والسياسة النقدية في ضوء الإسلام لمحمد عمر شابرا، ترجمة سيد محمد سكر، ومراجعة رفيق المصري، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هرندن، فرجينيا، ط 1 ـ 1408 هـ = 1987 م.
80-نيل الأوطار للشوكاني 0- 1250هـ) ، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة د. ت.
81- الوجيز للغزالي 0- 505هـ) ، دار المعرفة، بيروت، 1399هـ = 1979م.(6/234)
حكم زيادة السعر
في البيع بالنسيئة شرعًا
إعداد
فضيلة الدكتور نظام الدين عبد الحميد
الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
من المعاملات الجارية في الأسواق أن يبيع شخص سلعة من السلع نقدًا بالسعر السائد في السوق، ويبيعها بسعر أعلى من هذا السعر مقابل تأجيل استيفاء الثمن، وذلك كأن يبيع شخص حاجة بمائة دينار نقدًا، ويبيعها بمائة وعشرين دينارًا نسيئة لمدة أربعة أشهر – مثلًا – أو بعدد من الأقساط، أي أنه يستوفي عشرين دينارًا أزيد من السعر السائد وقت البيع بسبب الأجل، فهذا الزائد من المبلغ الذي يتقاضاه بسبب تأخير الاستيفاء أو هو حلال أم حرام فيه شبهة الربا؟
أرى هذا الموضوع جديرًا بالبحث، لذا بدا لي أن أتناوله بالدراسة وأستعرض آراء الفقهاء حوله، وألُمَّ بأدلتهم في فصل، ثم أعقبه بفصل أبدي فيه ما يعن لي من اتجاه وترجيح.
والله أسأل التوفيق إلى ما فيه الصواب.(6/235)
الفصل الأول
آراء الفقهاء
للفقهاء حول هذا الموضوع اتجاهان، اتجاه يرى جواز زيادة السعر في البيع بالنسيئة عن سعر البيع بالنقد، واتجاه يرى حرمة أخذ الزيادة، الاتجاه الأول هو اتجاه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، والاتجاه الثاني هو اتجاه بعض فقهاء السلف الآتي ذكرهم.
والجمهور الذين يرون جواز أخذ الزيادة بسبب تأخير استيفاء الثمن استدلوا بأدلة من الكتاب والسنة والعقل، ففي مجال الاستدلال بالكتاب استشهدوا بقوله تعالى:
1- {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] وقالوا: إنه سبحانه وتعالى ذكر البيع مطلقا غير مقيد، وهو بهذا الإطلاق يشمل البيع نقدًا والبيع نسيئة، فالبائع له أن يبيع بالنقد بسعر وبالنسيئة بسعر آخر أعلى، وهو في كلتا الحالتين بائع البيع الذي أحله الله، فالمحرم هو الربا، والبيع نسيئة بسعر أعلى من سعر البيع بالنقد ليس بربا (1) .
2- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 29] ، وقالوا: الآية تدل على أن الربح الحاصل من التجارة عن التراضي بين المتبايعين ربح حلال، والربح الزائد الناجم عن البيع بالنسيئة الذي يرضى به الطرفان ربح ناتج من التجارة عن تراضٍ.
فالحرام هو أكل أموال الناس بالحيلة والغش والتدليس والغصب وما إلى هذه الأمور من المحرمات، وزيادة السعر في البيع بالنسيئة لا تنضوي تحت وجه من هذه الأوجه المحرمة.
وفي مجال الاستدلال بالسنّة قالوا:
ورد عن داود بن صالح المدني عن أبيه قال سمعت أبا سعيد الخدري يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما البيع عن تراض)) (2) ، فالحديث يدل على أن البيع والشراء منوطان برضا المتبايعين، فإذا تم الرضا بينهما وتم الإيجاب والقبول يكون البيع صحيحًا ويترتب عليه آثاره، فالبائع والمشتري في البيع بالنسيئة إذا اتفقا على سعر معين ومدة معينة لإيفاء الثمن يكون العقد صحيحًا وإن كان بسعر أعلى من سعر البيع بالنقد.
__________
(1) شرح فتح القدير: 5/218
(2) راجع سنن ابن ماجه: 2/736، 737 جاء فيه نقلا عن مجمع الزوائد، أن إسناده صحيح ورجاله موثوقون، ورواه ابن حبان في صحيحه.(6/236)
هذا وقد ورد فيما يتعلق بالموضوع ثلاثة أحاديث هي مدار النقاش، واختلف العلماء في المراد بها، فلابد من استعراضها قبل بيان الأدلة العقلية، وقبل الخلوص إلى الفصل الثاني المعد للمناقشة والترجيح، وهذه الأحاديث هي:
(أ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيعتين في بيعة)) (1) .
(ب) عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)) (2) .
(ج) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا)) (3) .
فالحديث الأول ورد بشأنه عدة معان منها:
الأول: ورد عن الإمام الشافعي تفسيران: أحدهما: هو اشتراط بيع في بيع كأن يقول شخص لآخر بعتك هذا الفرس بألف دينار على أن تبيعني دارك بألفين، وثانيهما: هو كأن يقول بعتك هذا الشيء بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة (4) .
الثاني: قال ابن القيم في تهذيب السنن: هو أن يقول شخص لغيره بعتك هذه السلعة إلى سنة بمائة دينار على أن اشتريها منك بعد ذلك بثمانين دينارًا حالَّةً، وقال هذا هو معنى الحديث الوارد في البيعتين في بيعة، وهو الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((فله أوكسهما أو الربا)) فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي أو الثمن الأول فيكون أوكسهما، وهو قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها ولا يستحق إلا رأس ماله (5) .
__________
(1) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه راجع: نيل الأوطار 5/161 تحفة الأحوذي: 4/227.
(2) رواه أحمد، انظر نيل الأوطار: 5/161، ورواه البزاز في مسنده، انظر شرح فتح القدر: 5/218.
(3) رواه أبو داود، انظر عون المعبود: 9/332، نيل الأوطار: 5/161، التاج: 2/88.
(4) تكملة المجموع: 9/338
(5) عون المعبود: 9/334، الموسوعة الفقهية: 9/264، 265.(6/237)
الثالث: قال الخطابي هو أن يشتري شخص من آخر صاع حنطة بدينار سلمًا إلى شهر وعندما يحل الأجل يطالب البائع المشتري بالحنطة، فيقول له المشتري بعني الصاع الذي لك علي بصاعين إلى شهرين، فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فيردان إلى أوكسهما وهو الأول (1) .
الرابع: فسره سماك راوي حديث ابن مسعود بأن يبيع رجل سلعة من السلع نقدًا بكذا ونسيئة بأكثر من سعر النقد، وهذا التفسير هو ما جنح إليه بعض السلف، وإن بين المتبايعان أحد الثمنين قبل الافتراق، كأن يقول شخص لآخر بعتك هذا الشيء نقدًا بعشرين دينارًا ونسيئة لمدة أربعة أشهر بخمسة وعشرين دينارًا، فيقول المشتري قبلته نسيئة بخمسة وعشرين دينارًا.
وهؤلاء قالوا بحرمة الزيادة في البيع بالنسيئة عن سعر يومها، منهم زين العابدين علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى (2) ، وقال الصنعاني: علة النهي لزوم الربا عند من يمنع بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء (3) ، وقال الشيخ أمجد الزهاوي، رحمه الله: هو رأي بعض أهل الحديث، حيث يرون الزيادة اعتياضًا عن الأجل (4) .
الخامس: فسر أكثر العلماء الحديث بالتفسير السابق ولكن بافتراق المتبايعين على الإبهام بين السعرين، كأن يقول البائع بعتك هذه الحاجة نقدًا بألف دينار ونسيئة بألف ومائتي دينار لمدة سنة ويفترقان دون تحديد أحد البيعين وأحد السعرين، فهذا البيع فاسد عند جمهور الفقهاء لجهالة الثمن لا لحرمة البيع نسيئة بأعلى من سعر يومه، فقد نقل ابن الرفعة عن القاضي أن المسالة مفروضة على أن المشتري قبل على الإبهام، أما لو قال قبلت بألف نقدًا أو قال قبلت بألف ومائتين نسيئة صح البيع (5) .
وفيما يلي أقوال لقسم من فقهاء المذاهب الذين نحوا هذا المنحى في توجيه الحديث ورأوا أنه على تقدير افتراق المتبايعين على الإبهام، لا في عدم جواز زيادة السعر في البيع بالنسيئة عن سعر البيع بالنقد.
__________
(1) عون المعبود: 9/344.
(2) نيل الأوطار: 5/162.
(3) سبل السلام شرح بلوغ المرام: 3/20
(4) الفتاوى الزهاوية: 2/17، جمع الشيخ حسن العاني.
(5) نيل الأوطار: 5/162(6/238)
قال محمود بن أحمد العيني شارح الهداية في الفقه الحنفي، قال الترمذي من بعض أهل العلم، أن يقول الرجل أبيعك هذا الثوب نقدًا بعشرة ونسيئة وبعشرين ولا يفترقان على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على واحد منهما (1) .
قال الكاساني – وهو بصدد بيان البيوع الفاسدة – وكذا إذا قال: بعتك هذا الشيء بألف درهم إلى سنة أو بألف وخمسمائة درهم إلى سنتين لأن الثمن مجهول (2)
قال السرخسي، وإذا عقد العقد على أنه آجل كذا بكذا وبالنقد كذا بكذا فهو فاسد لم يعاطه على ثمن معلوم، وإن تراضيا بينهما وافترقا على ثمن معلوم فهو جائز (3) .
وقال الشيخ محمد عرفة المالكي: وكبيعتين في بيعة، أي أن يبيع السلعة بتًّا بعشرة نقدًا أو أكثر لأجَل، ويأخذ المشتري السلعة على السكوت ولم يعين أحد الأمرين ثم يختار أحدهما فهو ممنوع للجهل بالثمن حالَ البيع، فإن وقع البيع لا على الإلزام وإنما على الخيار فلا منع (4) .
وقال الشيخ عبد الرحمن الجزيري وهو يعبر عن رأي المالكية، ومنها – أي من البيوع الفاسدة – أن يبيع السلعة بيعًا باتًّا بعشرة نقدًا وبخمسة عشر لأجَل فيرضى المشتري ويأخذ السلعة في سكوت ثم يختار فإن البيع يقع فاسدًا ويسمى ذلك البيع (بيعتين في بيعة) . . وإنما منع للجهل بالثمن حالَ البيع (5) .
ومن مقررات الشافعية: قال الخطيب الشربيني: والثامن منها النهي عن بيعتين في بيعة، بأن يقول بعتك هذا بألف نقدًا أو ألفين إلى سنة فخذ بأيهما شئت أو شئت (أنا) وهو باطل للجهالة (6) .
وقال أبو إسحاق الشيرازي: ولا يجوز بيعتان في بيعة لما روى أبو هريرة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)) ، فيحتمل أن يكون المراد به أن يقول بعتك هذا بألف نقدًا أو بألفين نسيئة فلا يجوز للخبر ولأنه لم ينعقد على ثمن معلوم. وقال المرداوي من الحنابلة: وإن قال بعتك بعشرة نقدًا أو عشرين نسيئة لم يصح ما لم يتفرقا على أحدهما، وهو المذهب (7) .
__________
(1) البناية شرح الهداية: 6/431.
(2) بدائع الصنائع: 6/3041.
(3) المبسوط: 13/8.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لأحمد الدردير: 3/58.
(5) الفقه على المذاهب الأربعة: 2/243.
(6) مغني المحتاج: 2/31.
(7) المهذب: 1/267.(6/239)
وقال ابن قدامة: وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر، وهو أن يقول بعتك هذا بعشرة نقدًا وبخمسة عشر نسيئة، هكذا فسره مالك والثوري وإسحاق وهو باطل عند الجمهور، لأنه لم يجزم له ببيع واحد فأشبه ما لو قال: بعتك هذا وهذا ن ولأن الثمن مجهول (1) .
وقال صاحب التاج الشيخ منصور علي ناصف إن الحديث فيه للعلماء خلاف كثير. . ومنه أن يقول أبيعك هذا الثوب بعشرة نقدًا وبعشرين نسيئة ويفترقان بغير اختيار لإحدى البيعتين، وهذا باطل للجهل بما وقع عليه العقد، فإن اختار المشتري أحدهما صح على رأي الجمهور القائل بجواز البيع بأكثر من ثمن اليوم نظرًا للتأخير (2) .
أما ابن حزم الظاهري فيفسر الحديث بعده معانٍ منها البيع نسيئة بسعر أعلى من سعر النقد، ويرى حرمته إذا يقول ما نصه: لا يحل بيعان في بيعة مثل أبيعك سلعتي بدينارين على أن تعطيني بالدينارين كذا وكذا درهمًا. . ومثل أبيعك سلعتي هذه بدينارين نقدًا أو بثلاثة نسيئة. . . فهذا كله حرام مفسوخ أبدًا محكوم فيه بحكم الغصب، برهان ذلك ما رويناه من طريق ابن أصبغ. . . عن ابن عمر، قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)) .
أما الحديث الثاني الذي رواه ابن مسعود، وهو ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصفقتين في صفقة واحدة)) فقد فسره سماك – راوي الحديث – بما فسر به حديث النهي عن بيعتين في بيعة الذي مر معنا، أي أن يبيع رجل البيع فيقول هو بنسأ بكذا وهو بنقد بكذا وكذا، كما جاء في التفسير الملحق بنص الحديث الذي رواه الإمام أحمد كما تقدم (3) .
وفسره أبو عبيد القاسم بن سلام – أحد رواة الحديث – بأن يقول الرجل أبيعك نقدًا بكذا ونسيئة بكذا ويفترقان عليه – أي دون أن يفترقا على تحديد أي من السعرين (4) – وبهذا التفسير فسره شريك – أحد رواة الحديث أيضا – كما روى عنه أسود بن عامر (5) ، وهذا التفسير - هو تفسير أكثر العلماء لحديث النهي عن البيعتين في بيعة كما مر معنا.
__________
(1) المغني: 4/177.
(2) غاية المأمول شرح التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول بهامش التاج: 2/188، 189.
(3) راجع نص الحديث.
(4) شرح فتح القدير: 5/218.
(5) البناية شرح الهداية: 6/431.(6/240)
وفسره صاحب الهداية – من الحنفية – بما يكون فيه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، كأن يبيع شخص دارًا ويشترط أن يسكنها شهرًا أو أن يقرضه المشتري مقدارًا من المال لورود نهي خاص عن بعضها، وهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف – أي قرض- ولأنه لو كانت الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن – بأن يعتبر لمسمى ثمنًا بإزاء المبيع وبإزاء أجرة الخدمة والسكنى – يكون إجارة في بيع وإن كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع – ثم قال – وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة (1) .
وذهب ابن الهمام إلى أن معنى هذا الحديث أعم من معنى حديث النهي عن بيعتين في بيعة، هو يشمل كل عقدين جمع بينهما في عقد واحد، أما حديث البيعتين فهو في خصوص من الصفقات وهو البيع (2) .
أما الحديث الثالث الذي رواه أبو داود المروي عن أبي هريرة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) ، قال الخطابي في معناه: لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بظاهر الحديث، أو صحح البيع بأوكس الثمنين إلا شيئا يحكى عن الأوزاعي وهو مذهب فاسد لما يتضمنه هذا العقد من التغرير والجهل، وقال: الرواية على الوجه الذي ذكره أبو داود يشبه أن يكون ذلك في حكومة في شيء بعينه، كأن يسلف شخص غيره دينارًا في قفيز بر إلى شهر، فإذا طالبه الأول بالبر عند حلول الأجل قال له الثاني: بعني القفيز الذي لك علي بقفيزين إلى شهرين، فهذا بيع ثانٍ وقد دخل في البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيرد إلى أوكسهما أي أنقصهما وهو الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل أن يتبايعا البيع الأول كانا مربيَّيْن.
وقد نقل هذا التفسير الإمام ابن الأثير في النهاية وابن رسلان في شرح السنن (3) .
أما ابن القيم فقد فسر الحديث والحديث السابق بما فسر به الحديث الأول الذي تم إيضاحه في الفقرة الثانية عند عرضنا آراء العلماء في معنى الحديث.
وقال: الحديث منزل على العينة بعينها، وقال: قال شيخنا: - يعني ابن تيمية – لأنه بيعان في بيع واحد فأوكسهما الثمن الحالّ، وإن أخذ بالأكثر وهو المؤجل أخذ الربا (4) .
__________
(1) الهداية مع شرح فتح القدير: 5/217، 218.
(2) شرح فتح القدير: 5/218، الموسوعة الفقهية: 6/226، 272
(3) عون المعبود شرح سنن أبي داود: 9/332.
(4) المصدر السابق: 9/337.(6/241)
وأورد الشوكاني قول الخطابي الذي تقدم وعلق عليه وقال: ولا يخفى أن ما قاله – أي الأوزاعي – هو ظاهر الحديث لأن الحكم له بأوكس يستلزم صحة البيع به (1) ، ثم قال إن الحديث مستمسك القائلين بحرمة بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، ولكن في روايته مقال إذ في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد، إذا المشهور فيه هو الرواية الأخرى الخالية عن عبارة، فله أوكسهما أو الربا كما ذكر المنذري، وهو بهذه الرواية لا ممسك فيه على المدعى.
ثم قال: ولو سلمنا أن الرواية السابقة – رواية محمد بن عمرو بن علقمة – صالحة للاحتجاج لكان احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع فادحًا في الاستدلال بها على المتنازع فيه، لأن ابن رسلان فسره على الوجه الذي مر معنا، ومع ذلك فإن غاية ما فيها من الدلالة هو المنع من البيع إذا وقع البيع على صورة أن يقول البائع: هذه السلعة نقدًا بكذا ونسيئة بكذا، لا إذا قال من أول الأمر نسيئة بكذا فقط وكان أكثر من سعر يومه، مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة أيضا ولا يدل الحديث على ذلك (2) .
__________
(1) نيل الأوطار: 5/161، 162.
(2) نيل الأوطار: 5/161، 162.(6/242)
أما في مجال الاستدلال بالعقل فقيل:
1- إباحة بيع السلع نسيئة بسعر أعلى من سعر النقد تستدعيها الحاجة والمصلحة، ويقتضيها سير المعاملات في الأسواق، لأن البائع إن لم يملك البيع نسيئة بسعر أعلى من سعر النقد لا يبيع سلعة لمن يحتاجها نسيئة بسعر النقد، وهذا من شأنه حصول الركود في حركة البيع والشراء في الأسواق، وتعذر حصول صاحب الحاجة الذي لا يملك النقد دائما على حاجته، ويقع بذلك في حرج وضيق.
2- البائع إذ باع السلعة بالنقد فإن المبلغ الذي يقبضه يكون في حركة في الأسواق بالبيع والشراء، ويربح منه في كل صفقة مقدارًا معينًا من المال، أما إذا باعها بالنسيئة لمدة فإن مبلغ السلعة ينحبس خلال تلك المدة ولا يستفيد منه شيئا، ويحرم مما قد يأتيه من الربح فيما لو باع السلعة نقدًا وتاجر به، لذا فإن من حقه أن يحسب للأجل حسابه، فيزيد في السعر عند البيع بالنسيئة المقدار الذي يتفق عليه مع المشتري بعد ملاحظة مدة التأخير في استيفاء حقه.
3- يجوز للبائع أن يبيع سلعة بأكثر من سعر اليوم بالنقد، فلم لا يجوز أن يبيعها بأكثر من سعر اليوم نسيئة؟ فإن جاز هذا الأمر في حال البيع نقدًا جاز في حال البيع نسيئة بطريق الأولى.
4- السلعة لها منافع، وأسعارها تختلف باختلاف الأزمان والأوقات، فهي في زمن بسعر وفي زمن آخر بسعر، لذا من حق البائع أن يحتاط لنفسه ويبيع السلعة بالنسيئة بسعر أعلى من سعر النقد، إذ قد يرتفع سعرها في قابل الأيام، وحينما يحل موعد تسديد المبلغ الناشئ بذمة المشتري.(6/243)
الفصل الثاني
المناقشة والترجيح
بعد أن استعرضنا رأي الجمهور في جواز زيادة السعر في البيع بالنسيئة عن سعر البيع بالنقد، وأشرنا إلى رأي بعض علماء السلف الذين لهم رأي معاكس لرأي الجمهور حيث ذهبوا إلى عدم الجواز، أقول: يبدو لي رجاحة قول القائلين بعدم الجواز، وما يحملني على الحيدان عن رأي الجمهور أمور منها ما يتعلق بأدلة الجمهور ومنها ما هو أدلة مستفادة من السنة، ومنها ما هو أدلة عقلية وإليك ما أروم قوله من أدلة ونقاش.
1- إن الاستدلال بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} لا ينهض دليلًا لجواز زيادة السعر عن سعر اليوم في البيع بالنسيئة، لأن الآية جاءت لتقرير حلية البيع وعدم حرمته، وإباحة التجارة والكسب الحلال، والبيع هذا يلزم أن يكون خاليًا عن الاستغلال والجشع والطمع.
فالشخص الذي يشتري حاجة بالنسيئة بسعر أكثر من سعر النقد لو كان متمكنًا من شرائها بالنقد لما التمس باب النسيئة، ولوفر لنفسه ما يدفعه من الزيادة إلى البائع بسبب الأجل وتأخير دفع الثمن، أي أنه لو لم يكن مضطرًّا إلى شرائها بالنسيئة لما لجأ إلى هذا الوجه في الشراء وإنما اشتراها بالنقد.
والبائع عندما يبيع السلعة إلى طالبها بالنسيئة يدرك كل الإدراك حاجة الطالب إلى السلعة وعدم تمكنه من شرائها بالنقد وما لديه من دافع الاضطرار، فيعرض عليه الزيادة التي يرومها، وتزداد هذه الزيادة كلما بعد موعد الاستيفاء، أو زاد عدد الأقساط، لذا يحرم عليه هذه الزيادة التي تمليها حاجة واضطرار المشتري، إذ ورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤثر بذلك، قال تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ويبايع المضطرون، وقد ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك)) . (1) .
__________
(1) رواه أبو داود، انظر عون المعبود: 9/235، ورقم الحديث (3366) .(6/244)
ولفظ البيع هنا مثل لفظ الشراء من ألفاظ الأضداد، ويأتي أحدهما بمعنى الآخر (1) وبيع المضطر قد يكون في حال شرائه السلعة من غيره، وقد يكون في حال بيعه السلعة إلى غيره، فإذا احتاج إلى سلعة ولم يكن لديه من النقد ما يدفع به حاجته يدفعه الاضطرار إلى شرائه بالنسيئة بزيادة عن سعر النقد مقابل الأجل، وإذا احتاج إلى مبلغ من المال لتسديد دين وجب دفعه، أو لمعالجة مرض أصابه أو أصاب أحد أفراد أسرته، ولم يجد من يستدينه فإنه يلجأ بدافع الاضطرار إلى عرض سلعة يملكها للبيع، فيستغل شخص اضطراره فيشتريها منه بثمن أقل من قيمتها.
فبائع السلعة هنالك ومشتري السلعة هنا يشملان بالنهي الوارد في الحديث
أي على البائع أن لا يستغل حاجة المشتري فيأخذ أكثر عن سعر السوق بسبب الأجل , وعلى المشتري هنا أيضًا أن لا يستغل اضطرار البائع فيبخس بضاعته وينقص من قيمتها
والنهي هنا للحرمة لا للكراهة كما هو الأصل فيه، إذ لا ينصرف إلى الكراهة إلا بصارف، وليس هنا أي صارف.
ولا عبرة هنا برضا المشتري عندما يقبل الشراء نسيئة بسعر أكثر من سعر النقد، كما لا عبرة برضا البائع الذي يبيع سلعته بأقل من قيمتها بدافع الضرورة، لأنه في كلتا الحالتين رضا يفسده ما يتقلب فيه كل من المشتري والبائع من الحاجة والاضطرار المفسدين لإرادته إن لم يكونا سالبين لها.
ولا عبرة أيضا بالخلاف في حرمة بيع المضطر وما يترتب عليه من الزيادة في السعر أو النقص منه بدليلين، الأول وجود صريح النهي عنه – وهو كما قلنا للحرمة لا للكراهة لعدم وجود صارف عنه – والثاني هو اقترانه بالنهي عن بيع الغرر المتفق على حرمته، وبالنهي عن بيع الثمرة قبل أن تدرك، الذي قال بحرمته الفقهاء.
ومما يذكر أيضا أن ابن القيم قال: للعينة (2) صورة رابعة، وهي أخت صورها، وهي أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة.
وقال: وعلله شيخنا ابن تيمية رضي الله عنه بأنه يدخل في باب بيع المضطر، فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه، فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة (3) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) يأتينا معنى العينة
(3) عون المعبود: 9/347.(6/245)
وعليه إذا قلنا إن البيع بالنسيئة بزيادة السعر صورة من صور بيع العينة كان بيعًا مشوبًا بالربا يلزم على المسلم تجنبه، وإن قلنا إنه من بيع المضطر يلزم عدم الاقتراب منه وإلا كان واكسًا مخالطا رزقه بالحرام.
2- الاستدلال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} لجواز البيع بالنسيئة بسعر أكثر من سعر النقد هو أيضا غير وارد، إذا يقال هنا ما قلناه في الفقرة السابقة من الكلام، لا بل يمكن أن تنهض الآية حجة للقول بعدم الجواز، واعتبار الزيادة التي يتقاضاها البائع من المشتري داخلًا ضمن عموم النهي عن أكل الأموال بالباطل الوارد في الآية، لأن البيع إذا عد بيع عينة أو بيع اضطرار يكون بيعًا منهيًّا عنه، ويكون أخذ الزيادة بسبب الأجل أكلًا لأموال الناس بالباطل لا أكلًا من التجارة عن تراض.
فالتجارة عن تراض هي التقلب في الأسواق وشراء الحاجيات والبضائع وبيعها بالسعر السائد في الأسواق من غير احتيال أو غش أو تدليس أو خداع أو استغلال لحاجة البائع أو المشتري فالبيع بأكثر من سعر السوق إن كان دافعه اضطرار المشتري وحاجته لا يكون بيعًا عن تراض بالمعنى الحقيقي، وإنما هو بيع من البائع وشراء من المشتري يشوبهما الإكراه بسبب الاضطرار، لذا فإن البيع هنا يفقد المعنى الحقيقي للبيع عن تراض.
3- أما الحديث: " إنما البيع عن تراض " فيلزم أن نفهمه على أساس ما تقدم من التوجيه والإيضاح، وهذا الأساس هو الوجه الداعي لتحريم الاحتكار، وهو العلة لما ورد من التوعد بشأن المحتكرين، فالمحتكر الذي ينفرد بخزن البضاعة ويضع يده عليها ولا يبيعها إلا عندما يضطر أهل الحاجة لشرائها بالسعر الذي يفرضه يستغل حاجة أصحاب الحاجة، فرضا أصحاب الحاجة بشراء البضاعة منه بالسعر الذي يفرضه لا يحل له ما يقبضه زائدًا عن سعر البضاعة الحقيقي، إذ لا عبرة برضائهم لأن اضطرارهم الناجم عن موقف المحتكر يكرههم على الشراء بالسعر المفروض.(6/246)
4- وجدنا أن أكثر الفقهاء قالوا إن نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة هو بخصوص بيع البضاعة بقيمتين، إن كان نقدًا بسعر وإن كان نسيئة بسعر أعلى، ويأخذ المشتري البضاعة قبل الاتفاق على أحد السعرين، ويرون أن الحرمة الناشئة عن النهي ليس بسبب زيادة السعر في البيع بالنسيئة عن سعر البيع بالنقد، وإنما بسبب جهالة السعر.
وتوجيه الحديث على هذا النحو – كما يبدو لي – تحكم في معناه بما لا يدل عليه ظاهره، وتأويل بما لا يتحمله، فما الداعي إذن للانصراف عن المعنى الظاهر له؟ فظاهر الحديث، إذا قلنا إنه بخصوص البيع نقدًا بسعر ونسيئة بسعر – كما هو تفسير أكثر الفقهاء – يدل على النهي عن البيع بالنسيئة بسعر أعلى من سعر اليوم، ويدل على هذا المعنى دلالة ظاهرة حديث أبي هريرة المار معنا الذي نصه: " من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا: فهو يفيد أن البائع إذا باع حاجة نقدًا بسعر ونسيئة بسعر فله أوكس الثمنين من سعر البيع وسعر النسيئة، أي أقل الثمنين منهما، فإن أخذ أعلى السعرين يكون قد أربى وتحرم عليه الزيادة.
وما ذكره الشوكاني – كما مر معنا – بأن الحديث في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة قد تكلم فيه غير واحد (1) لا يوهن الحديث، فالذهبي قال محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني شيخ مشهور حسن الحديث مكثر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قد أخرج له الشيخان متابعة. . . وقال أبو حاتم الرازي، صالح الحديث، وقال النسائي لا بأس به (2) .
فالحديث إذن صالح للاستدلال به، وهو مفسر وموضح للحديث السابق، ويفيد – كما قلنا – أن البائع إن حدد للمشتري في البيع بالنقد سعرًا وللنسيئة سعرًا فليس له إلا أقل السعرين وإلا يكون قد أربى.
ويعضد هذا الحديث ويقويه ما رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث ابن مسعود موقوفًا بلفظ: " الصفقة في الصفقتين ربا " (3) كما روي عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحل صفقتان في صفقة)) (4) .
__________
(1) نيل الأوطار: 5/161.
(2) ميزان الاعتدال: 3/673.
(3) مجمع الزوائد: 4/84.
(4) المصدر السابق، نصب الراية 4/20.(6/247)
لذلك نجد الشوكاني نفسه يقول: وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ تِلْكَ الرواية التي تفرد بها ذلك الراوي صالحة للاحتجاج. . . على أن غاية ما فيها الدلالة على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصورة، وهي أن يقول نقدًا بكذا ونسيئة بكذا، لا إذا قال من أول الأمر نسيئة بكذا فقط وكان أكثر من سعر يومه، مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة أيضا (1) .
ونجد السماك راوي حديث ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)) ، يفسر الحديث ويقول، هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسأ بكذا وهو بنقد بكذا، وهو أحد تفسيري الشافعي فقال: بأن يقول بعتك بألف نقدًا أو ألفين إلى سنة فخذ بأيهما شئت وشئت أنا ويقول الشوكاني هنا: أما التفسير الذي ذكره أحمد عن سماك وذكره الشافعي ففيه مستمسك لمن قال يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء (2) .
وما نقله ابن الرفعة عن القاضي – وقد مر معنا – أن المسألة مفروضة على أنه قبل على الإبهام، أما لو قال قبلت بألف نقدًا أو ألفين بالنسيئة صح ذلك، فهو غير وارد كما يبدو لي لعدم وجود دليل على فرض المسألة على هذا الوجه في الحديث لا صراحة ولا دلالة، إذن فما الداعي إلى الإعراض عن ظاهر معنى الحديثين، واللجوء إلى التأويل بما هو بعيد عن الظاهر؟
وهذه الظاهر هو الذي حمل الإمام الأوزاعي ليصحح البيع بأوكس الثمنين في حال أخذ المشتري السلعة دون تحديد أحد الثمنين، ثمن السلعة نقدًا وثمنها نسيئة وهو ما قال به عطاء أيضا، لأن الحديث الثاني صريح في أن البائع له أوكس الثمنين (3) .
وقول الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بظاهر الحديث إلا ما حكي عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد، هو محل نظر لأن بعض فقهاء السلف قالوا بظاهر الحديث وحرموا البيع نسيئة بالزيادة عن سعر اليوم – كما مر معنا -.
ثم لماذا يكون القول بظاهر الحديث قولًا فاسدًا، والأصل في معاني العبارات ظاهرها، ولا مساغ للانصراف عنه بالتأويل لإسباغ معنى آخر عليها إلا لداع، ولا داعي هنا؟
__________
(1) نيل الأوطار: 5/162.
(2) المصدر السابق: 5/161، 162.
(3) فقه الإمام الأوزاعي: 2/188.(6/248)
لذا وجدنا الشوكاني يقول: وما قاله – أي الأوزاعي – هو ظاهر الحديث لأن الحكم له بأوكس يستلزم صحة البيع به كما مر معنا.
ومما يذكر هنا هو أن الأوزاعي عندما يخالف الجمهور في هذه الصورة، فهو يوافقهم في صورة اتجاههم بجواز زيادة السعر في البيع بالنسيئة على السعر في البيع بالنقد إن افترق المتبايعان على أحد السعرين، كأن يقول البائع: بعتك الشيء نقدًا بعشرة دراهم ونسيئة لمدة كذا بخمسة عشر درهمًا، فيقول المشتري: قبلته نسيئة بخمسة عشر درهما (1) .
وما أقوله هنا، هو أنه كان الجدير بالأوزاعي أن يقرر في هذه الحالة أيضًا أن البائع ليس له إلا أوكس الثمنين، لأن هذا هو ظاهر الحديث الذي صرفه في الصورة الأولى عن رأي الجمهور، إذ ليس فيه التفريق بين صورتي البيع – الافتراق دون تحديد أحد الثمنين والافتراق على تحدي أحدهما – فالبيع بيعان في الحالتين، وصريح النص يقرر أن البائع ليس له إلا أوكس الثمنين أو الربا، ولا اعتبار برضا المشتري بزيادة الثمن في البيع بالنسيئة، لأنه رضا يشوبه الإكراه المعنوي الناجم عما يتقلب فيه من حاجة واضطرار.
وبعد ملاحظة ما تقدم يمكن القول إن البائع إذا باع بنقد بكذا أو بنسيئة بأكثر منه مقابل الأجل لا يحل له أخذ الزيادة وإن تم الاتفاق على سعر النسيئة قبل الافتراق.
وكذلك الأمر إذا باع البائع الحاجة وقال ابتداءً إنها نسيئة بكذا، وكان السعر أكثر من سعر اليوم، وإن لم يذكر أنها بالنقد بكذا، لأن العبرة هنا بالنية والقصد لا بالعبارات والألفاظ فصورتا البيع من حيث المال شيء واحد وتؤديان إلى نتيجة واحدة، وهي زيادة السعر مقابل الأجل، فالبائع عندما يقول السلعة نسيئة بكذا دون أن يقول إنها بالنقد بكذا، يقدر في كلامه القول إنها بالنقد بكذا ما دام السعر أعلى من سعر النقد بسبب الأجل، لذا يكون الحديث منطبقًا عليه ويسري عليه حكمه.
6- أما الاستدلال للجواز بأن البائع بالنسيئة ينحبس ثمن بضاعته لدى المشتري لحين أدائه فيحرم بذلك من الاستفادة منه خلال مدة الأجل ولا يربح منه شيئا بعكس ما لو كان البيع بالنقد، فإن فائدته من المبلغ تتجدد وتزداد كلما اشترى به شيئا وباعه، لذا كان من حقه أن يزيد من قيمة البضاعة إن باعه نسيئة مقابل ما يفوته من الربح لو كان المبلغ تحت يده ويداوله بالبيع والشراء.
__________
(1) المصدر السابق.(6/249)
وهذه الحجة تبدو مقبولة في الظاهر ولكنها مرفوضة في الحقيقة لأنها لو كانت مقبولة للزم أن يجوز أخذ الزيادة عن مبلغ القرض عندما يقرض شخص غيره مبلغًا من المال لمدة معينة، لأن مبلغ القرض ينحبس أيضًا عند المقترض إلى حين الوفاء، ولا يستفيد المقرض منه شيئا، وأنه لولا هذه القرض لكان المبلغ في تداول بالتجارة ويدر ربحا، ولكن نجد أن الشارع ألغى هذه الفائدة وحرمها.
إذ ورد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أقرض – أي أحدكم – فلا يأخذ هدية)) (1) .
وورد أيضا عن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام، فقال لي: إنك بأرض فيها الربا فاشٍ، فإذا كان لك على رجل حق فأدَّى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا (2) .
7- الاحتجاج بالمصلحة والحاجة لإباحة ما نحن فيه من موضوع احتجاج ساقط عن الاعتبار، فالقائلون بإباحة الربا في المعاملات التجارية تمسكوا أيضا بذيل هذه الحجة الذي انقطع بهم إلى سحيق الهاوية.
فالمصلحة هنا من المصالح الملغية لا من المصالح المعتبرة كما هو الأمر في موضوع الربا، لأنها هنا وهنالك تؤدي إلى الاستغلال والجشع وتفاقم دوافع الطمع في النفوس، هذه الأمور المنهي عنها شرعًا بنصوص عدة.
لا بل يمكن القول إن المصلحة في خلاف هذا، أي إنها داعية للقول بعدم جواز البيع نسيئة بسعر أعلى من سعر البيع بالنقد منعًا لاستغلال حاجة أصحاب الحاجة والإثراء على حسابهم، وليس في هذا إضرار بسير حركة البيع والشراء في الأسواق، كما ليس فيه تعطيل لحاجيات أصحاب الحاجة الذين لا يملكون شراء حاجياتهم نقدًا، لأن التاجر إن وجد انغلاق باب البيع نسيئة بسعر أعلى من سعر النقد يدفعه واقع تجارته وما يرجوه من الربح أن يبيع سلعة نسيئة ونقدًا بسعر واحد، وأن يبيع بالنسيئة كما يبيع بالنقد، لأن البيع بالنسيئة فيه ربح مثلما هو الحال في البيع بالنقد، وكل ما يحصل هو تأخير استيفاء الثمن بعض الوقت في البيع بالنسيئة، ولو امتنع عن البيع بالنسيئة لفوت على نفسه من الربح مبلغًا لو نظر بعيدًا لوجده شيئًا كثيرًا على مدار الأيام.
__________
(1) رواه البخاري في تاريخه انظر نيل الأوطار: 5/245.
(2) رواه البخاري المصدر السابق(6/250)
فالتاجر الذكي هو الذي ينظر بعيدًا ولا يفوت على نفسه مثل هذا الربح، وكل ما يعمله هو أنه يحتاط فلا يبيع نسيئة إلا لمن يثق به، ويطمئن إلى صدقه في تعامله.
لذا نجد قسمًا كبيرًا من الباعة الذين ينظرون هذه النظرة البعيدة لا يتوانون عن البيع نسيئة بسعر النقد، ولا يعتمدون في توثيق ما يترتب على زبائنهم من الديون إلا على سجل بسيط يكتبون فيه اسم المدين ومقدار الدين المترتب عليه.
وثمة شيء آخر لابد من بيانه هو أن ديننا يأمرنا ببناء المجتمع على أساس من الحب والتآخي ومراعاة مصلحة الغير والأخذ بيد الضعيف وذوي الحاجة ومعاونتهم لا بناءً على الجشع والطمع وحب الذات، فأي مسلم هو هذا الذي يستغل حاجة صاحب الحاجة فيبيعه الشيء بأكثر من سعر السوق بسبب الأجل، فيزيد بذلك من حاجته ويرهق كاهله بعبء على عبء وثقل على ثقل؟ فأين التراحم الذي يأمرنا به ديننا؟ وأين يكون مكان هذا البائع من قوله صلى الله عليه وسلم ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) . (1)
8- أما القول بجواز زيادة السعر في البيع بالنسيئة قياسًا على جواز البيع بالنقد بأكثر من سعر اليوم فهو احتجاج واه، وذلك لأن المشتري بالنقد إما أن يعرف قيمة البضاعة في السوق أو لا يعرف، فإن كان يعرف ومع ذلك فإنه يشتريها من البائع بأكثر من سعر السوق مع وجود المجال لديه ليشتريها من غيره بسعر السوق، فهنا يعد البيع صحيحًا ويكون المشتري في حكم المتبرع بالزيادة التي يدفعها، أما إذا كان يجهل سعر السوق فالبيع يعتريه الغبن، والغبن لون من ألوان الغش، وهو حرام يجب على المسلم تجنبه.
__________
(1) صحيح مسلم: 4/1999، تحقيق فؤاد عبد الباقي.(6/251)
قال ابن العربي والقرطبي وآخرون، إن قوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [سورة التغابن: الآية 9] ، يدل على عدم جواز الغبن في المعاملات. . . إذا هو من باب الخداع المحرم شرعًا في كل ملة (1) .
والفقهاء قسموا الغبن إلى قسمين قسم منه يسير يتسامح فيه عند جمهورهم، وذهب بعضهم إلى عدم التسامح فيه مهما كان يسيرًا، فالمرداوي من الحنابلة يقول: وظاهر كلام الخرقي أن الخيار يثبت بمجرد الغبن وإن قل (2) ، وابن حزم الظاهري قليل الغبن ويسيره لديه سواء، إذ يرى عدم حِلّ بيع شيء بأكثر مما يساوي ولا شراءه بأقل مما يساوي (3) .
أما الغبن الفاحش، فذهب قسم من الحنفية وقسم من المالكية والحنابلة في اتجاه وبعض فقهاء الزيدية والشيعة الإمامية والظاهرية إلى رد العقود به إن كان المغبون جاهلًا بالغبن سواء رافق العقد تغرير أم لا (4)
وحدد قسم من الحنفية الغبن الفاحش بنصف العشر في العروض (5) أي بزيادة خمسة بالمائة من سعر السوق، وحدده قسم منهم بما لا يدخل تحت تقويم المقومين، وذلك كأن يبيع البائع حاجة بمائة دينار، فيقومها بعض المقومين بتسعين دينارًا وبعضهم بأربعة وتسعين دينارًا وبعضهم بسبعة وتسعين دينارًا (6) ، وحدد بعض المالكية والزيدية الغبن الفاحش بثلث العشر (7) .
__________
(1) مبدأ الرضا في العقود، للدكتور علي محيي الدين القره داغي: 2/736، وهو يشير إلى أحكام القرآن لابن العربي: 4/4، 18، تفسير القرطبي: 18/138.
(2) المصدر السابق: 2/740، وهو يشير إلى الإنصاف في مسائل الخلاف: 4/395.
(3) المصدر السابق، ويشير إلى المحلى: 9/454.
(4) المصدر السابق، ويشير إلى البحر الرائق 6/125، التاج والإكليل: 4/468، 469، الإنصاف في مسائل الخلاف: 4/369، نيل الأوطار: 6/330، مفتاح الكرامة: 4/570، المحلى، 9/454.
(5) مجلة الأحكام، المادة (165) .
(6) مبدأ الرضا في العقود: 2/738، وهو يشير إلى حاشية ابن عابدين: 5/143.
(7) المصدر السابق، وهو يشير إلى نيل الأوطار: 6/330 – ما ذكرناه حول الغبن ساقنا إليه الموضوع تبعًا، ومن أراد التفصيل فليراجع الجزء الثاني من كتاب مبدأ الرضا في العقود من صفحة 730 إلى 754.(6/252)
9- أما القول، إن أسعار السلع تختلف من وقت لآخر، والبائع نسيئة بسعر أعلى من سعر اليوم من حقه أن يحتاط لنفسه، إذ قد يرتفع سعر البضاعة المباعة نسيئة وقت حلول الوفاء بثمنها، فيبدو لي أيضًا أنه ليس فيه ممسك للقول بإباحة زيادة السعر في البيع بالنسيئة عن سعر البيع بالنقد.
نعم قد يرتفع سعر البضاعة المباعة نسيئة وقت حلول وقت دفع الثمن ارتفاعًا يزيد على السعر الذي تم به البيع، ولكن كما يمكن تصور هذا يمكن أيضا تصور عكسه، إذ قد يطرأ الهبوط على الأسعار، وينخفض سعر البضاعة بكثير عن سعر اليوم الذي تم فيه البيع، فكما يتصور ارتفاع الأسعار يمكن تصور انخفاضها أيضا، فلماذا يكون لدى البائع مجال الجشع الحامل له على تصور مصلحته وضمان ربحه الزائد فقط دون مصلحة المشتري؟ أيجوز له أن يصرفه الطمع عن ملاحظة ضيق ذات يد المشتري الذي يلجئه إلى الشراء بالنسيئة بسعر أعلى من سعر النقد، ويدفعه ليحمل نفسه عبئا ماليًّا أكثر مما عليه من عبء؟
10- البيع بالنسيئة له شبه قوي بالقرض، فالقرض هو تمليك الشيء على أن يرد بدله (1) فما يتم إقراضه يصبح دينًا في ذمة المقترض يلزم رد مثله أو بدله عندما يحل وقت لزوم الرد والبيع بالنسيئة هو تمليك البضاعة على أن يرد بدلها عند حلول الأجل المتفق عليه، أي أن البدل، وهو المبلغ المتفق عليه يصبح دينًا في ذمة المشتري وعليه أداؤه حين حلول الوقت المتفق على الأداء فيه.
ففي القرض لا يكون المقترض ملزمًا إلا بدفع مثل القرض دون الزيادة عليه، لأن الزيادة عليه تكون ربا يحرم أخذها، إذ أخرج البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفًا ما نصه: " كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا " ورواه في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفًا عليهم، ورواه الحرق بن أبي سلمة من حديث علي رضي الله عنه بلفظ ((إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة)) . (2) والحديث هذا وإن كان في سنده مقال فإن لم يصح لفظه فهو صحيح المعنى يعضده الحديث السابق، والحديثان اللذان مرَّا معنا في الفقرة السادسة.
__________
(1) شرح جلال الدين المحلي على منهاج الطالبين بهامش قليوبي وعميرة: 2/257.
(2) نيل الأوطار: 5/246.(6/253)
والبائع سلعة بالنسيئة ما قيمته مائة دينار بالنقد بمبلغ مقداره مائة وعشرون دينارًا أي بزيادة عشرين دينارًا عن القيمة الحقيقية للسلعة بسبب الأجل هو في حكم من أقرض مائة دينار بمائة وعشرين دينارًا بسبب الأجل.
وبتعبير آخر إن البائع بالنسيئة يملك المشتري البضاعة التي قيمتها مائة دينار بالنقد بمبلغ مائة وعشرين دينارًا بسبب الأجل، والنتيجة هي أنه ينشأ في ذمة المشتري قرض عبارة عن أصل القيمة الذي هو مائة دينار – الذي أصبح دينًا – مع نفع زيادة ناجم عن هذا القرض، الذي مبلغه عشرون دينارًا، فإنه لولا ترتب هذا الدين عن البضاعة التي قيمتها في الأصل مائة دينار لما انتفع البائع بعشرين دينارًا زيادة على أصل المائة كما هو الحال في القرض الذي يجر نفعًا.
وهذا مما يجب على المسلم تجنبه لأن فيه شبهة قوية من الربا، إذ للربا صور متعددة لا ينحصر فيما نص عليه صراحة، إذ يلحق به ما فيه شبهة منه وامتداد إليه بوجه من الوجوه ودلالة عليه.
فقد ورد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) (1) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم)) (2) .
وروي عنه أيضا أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الربا سبعون بابًا، والشرك مثل ذلك)) (3) .
__________
(1) رواه الخمسة، انظر التاج: 2/176.
(2) رواه الحاكم وصححه، انظر سبل السلام: 3/46، نيل الأوطار: 5/201.
(3) رواه البزار، قال الهيثمي رجاله رجال الصحاح، ورواه ابن ماجه باختصار، انظر مجمع الزوائد: 4/117.(6/254)
11- إن جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة يرون عدم جواز تعجيل الدين المؤجل مقابل التنازل عن بعضه (1) وذلك كأن يكون لرجل على غيره دين فيقول المدين له ضع عني بعضه حتى أعجل لك بقيته، وهو ما يعبر عنه بقاعدة (ضع وتعجل) (2) .
وقد روي أن رجلًا سأل ابن عمر فنهاه عنه، ولما سأله ثانية قال: إن هذا يريد أن أطعمه الربا (3) ، وروي عن زيد بن ثابت النهي عنه، قال الجصاص وهو قول عامة الفقهاء (4) .
والجمهور استدلوا على عدم الجواز بشيئين، أولهما أن ابن عمر سماه ربا، ومثل هذا لا يقال بالرأي، إذ لا أنه كان لديه دليل من الشرع على عدم الجواز، وثانيهما أن الزيادة المشروطة في قرض الجاهلية المحرمة كانت بدل الأجل، فأبطله الله تعالى وحرمه (5) أي يمتنع عن الأجل عوض وهنا عندما يتم الحط عن قسم من الدين مقابل الأجل الذي يتم تعجيله يتحقق معنى الربا المنصوص على تحريمه.
يقول المرغيناني وابن الهمام، التعجيل في مقابلة ما يتم حطه اعتياض عن الأجل وهو حرام (6) .
هذا ولا خلاف بين الفقهاء في عكس هذه الصورة، وهو عدم جواز الزيادة على الدين الحالّ مقابل تأجيله، وذلك كأن يحل موعد تسديد دين لشخص على آخر فيقول المدين أجلني مدة أربعة أشهر – مثلًا – أزيدك عشرة دنانير على المائة – قاعدة زد وتأجل – لأن العشرة هنا مقابل الأجل.
فإذا كان للأجل هذا الاعتبار، للتحريم فيما عرضناه من الصورتين فلم لا يكون له الاعتبار في المنع عند بيع شخص سلعة قيمتها ثمانون دينارًا نقدًا بثمن مقداره مائة دينار نسيئة لمدة خمسة أشهر – مثلًا – أليس الأجل هو السبب في هذه الزيادة؟ لا شك أن الجواب يكون بالإيجاب بدليل أن البائع يبيع السلعة نفسها إلى من يشتريها منه نقدًا بثمانين دينارًا لخلو بيعه من هذا الأجل.
__________
(1) شرح فتح 7/43، قوانين الأحكام الشرعية: 278، المغني: 4/39، الغاية القصوى في دراية الفتوى: 1/520، تحفة المحتاج مع حاشية الشراوني وابن القاسم: 5/192.
(2) قوانين الأحكام الشرعية: 278.
(3) شرح فتح القدير: 7/42.
(4) أحكام القرآن للجصاص: 1/467.
(5) المصدر السابق.
(6) الهداية مع شرح فتح القدير وشرح العناية: 7/42.(6/255)
12- ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى حرمة بيع العينة (1) وذهب الشافعية إلى كراهته (2) .
وورد بشأن العينة معان أشهرها أن يبيع الرجل سلعة نسيئة بسعر زائد ثم يشتريها من المشتري بسعر أقل (3) قال ابن عابدين، اختلف المشايخ في تفسير العينة التي ورد النهي عنها، قال بعضهم: هي أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر ويستقرضه عشرة دراهم – مثلًا – ولا يرغب هذا الآخر في الإقراض طمعًا في فضل لا يناله بالقرض، فيقول له أبيعك هذا الثوب إن شئت باثني عشر درهمًا، وقيمته في السوق عشرة، فيرضى طالب القرض ويأخذ الثوب ويبيعه بعشرة، فيحصل لرب الثوب درهمان زيادة على قيمة الثوب.
وقال بعضهم هو أن يدخل طالب القرض وصاحبه رجلًا ثالثًا بينهما، فيبيع الرجل الثوب إلى طالب القرض نسيئة باثني عشر درهمًا، وطالب القرض يأخذ الثوب ويبيعه إلى الرجل الثالث بعشرة دراهم، وهذا الأخير – الثالث – يبيعه إلى الأول بالمبلغ الذي اشتراه به، وهو عشرة دراهم، وهنا أيضا يترتب بذمه طالب القرض اثنا عشر درهمًا مقابل قيمة الثوب الذي هو عشرة دراهم، أي درهمان زيادة بسبب الأجل قال محمد بن حسن الشيباني: هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم اخترعه أكلة الربا (4) .
وهنا يظهر لنا ممسك آخر للقول بعدم جواز زيادة السعر في البيع بالنسيئة على القيمة الحقيقية للشيء، فالذي حرم المعاملة في الأمثلة السابقة التي هي صور من بيع العينة يرجع في الحقيقة إلى هذه الزيادة، زيادة السعر عن القيمة للشيء بسبب الأجل، بدليل أن البائع إذا باع حاجة بمبلغ إلى شخص ثم اشتراه منه بالمبلغ نفسه دون نقص كان البيع بيعًا طبيعيًّا خاليًا عن شائبة الربا.
فالزيادة في السعر في بيع حاجة بسبب النسيئة تؤول في النهاية إلى قرض قيمة تلك الحاجة بتلك الزيادة بسبب الأجل، وهو يكون في حكم النفع الذي يسببه القرض، والذي هو ممنوع شرعًا كما مر معنا.
__________
(1) نيل الأوطار: 5/220، الموسوعة الفقهية.
(2) مغنى المحتاج: 2/39.
(3) المصدر السابق.
(4) حاشية رد المحتار: 5/273(6/256)
13- البيع بالنسيئة له مردود عكسي لما هو المفروض بين المسلمين من المحبة والألفة والتعاون، إذ يؤدي في كثير من الحالات إلى الكراهة والتنافر والتباغض بينهم المحرمة بنصوص كثيرة من الكتاب والسنة.
إننا نجد في بعض الأحيان شخصًا يحتاج إلى مبلغ من المال لايفاء دين حالّ واجب الدفع، أو معالجة نفسه من داء مؤذٍ أو معالجة أحد أفراد أسرته ولا يجد من يستدينه لحين اليسار، فيضطر إلى شراء سلعة بالنسيئة ليبيعها ويستعين بثمنها فيما هو فيه من حاجة، فيعرض أمره على بائع يعرف اضطراره فيبيعه السلعة بسعر مرتفع ارتفاعًا طرديًّا مع مدة الأجل.
فهنا ماذا يكون انطباع المشتري عن البائع؟ وعلى أية نفسية تنطوي عليها جوانحه، ألا يمتد إلى مسالك قلبه دواعي الكره والبغض نحو هذا البائع الذي استغل حاجته فباعه السلعة بأكثر من سعر السوق مقابل الأجل، بدل مساعدته ومد يد العون إليه وإقراضه ما يحتاجه من المال، أو بيعه السلعة بسعر السوق إن لم تطاوعه نفسه في الإقراض؟
إنه قد تدعوه هذه الكراهة إلى إيذائه بالمماطلة في تسديد الدين عند حلول الأجل لما وجد منه من الأنانية والطمع والجشع وتناسي معاني الأخوة التي تفرض التراحم والتواد والتعاون بينه وبين بني دينه.
هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى إن هذا البيع يشجع بعض من ليس لديهم من الوازع الديني، ما يمنعهم من الطمع في أموال الناس وأكلها بالباطل فيلتمسون هذه الوسيلة في الشراء فيشترون الحاجيات بالنسيئة وهم يصممون ابتداء على عدم الوفاء بما يترتب في ذمتهم من المبالغ لصحابها، فيؤدي الأمر بالنتيجة إلى المنازعة والخصام والعداوة وعرض الأمر من الخصام على المحاكم، وإلى ما يستتبعه هذا العرض من المتاعب الخاصة بالإجراءات القضائية من إشغال القضاة والترافع الذي قد يحتاج إلى عدة من الجلسات.
وتدعوني المناسبة أن اذكر أنني أعرض شخصًا كان لديه محل لبيع السيارات، ساقه الطمع للبيع بالنسيئة بسعر يطرد ارتفاعه مع طول مدة الأجل في كل بيع، فتوجه إليه أصحاب النفوس المستحلة للحرام، والذين يبطنون غير ما يظهرون فاشتروا منه ما لديه من السيارات التي بلغت قيمتها عشرات الآلاف من الدنانير خلال فترة وجيزة، وكلما حل موعد دفع الأقساط ماطل المشترون وسوفوا وادعوا الخسارة، ولم ينل منهم البائع إلا إعراض الوجه والابتعاد عنه، وأصبح بعد أن كان يملك هذه العشرات من آلاف الدنانير صفر اليدين لا يدري كيف يؤمن عيش عائلته اليومي؟
أعتقد أن ما ذكرته في هذه الفقرة من حصول المتاعب والكراهة والخصام والمنازعة بين المتبايعين يمكن أن يكون ممسكًا آخر للقول بحرمة البيع بالنسيئة بسعر أعلى من سعر البيع بالنقد، إذ أننا كثيرًا ما نجد الفقهاء يقولون بتحريم أمر من الأمور لا لذاته، وإنما لما يترتب عليه من النتائج السيئة من المخاصمة والمنازعة، ويرون عدم جوازه سدًّا للذريعة، لأن فتحها يؤدي إلى الإخلال بنظام المجتمع في جانب من جوانبه، وحياة الأفراد في وجه من وجوهها.
الدكتور نظام الدين عبد الحميد(6/257)
المصادر والمراجع
1- القرآن الكريم.
2- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي الطبعة الأولى 1375هـ - 1956م.
3- البناية شرح الهداية، لمحمود بن أحمد العيني الطبعة الأولى – نشر دار الفكر.
4- أحكام القرآن، لأبي بكر الجصاص الطبعة المصورة على الطبعة الأولى.
5- التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، للشيخ منصور علي ناصف الطبعة الثانية.
6- الغاية القصوى في دراية الفتوى، لعبد الله بن عمر البيضاوي، الطبعة الأولى، تحقيق الدكتور علي محيي الدين القره داغي.
7- المبسوط، للسرخسي الطبعة الأولى، طبع مطبعة دار السعادة.
8- المحلى، لابن حزم طبع المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر.
9- المصباح المنير، للفيومي.
10- المغني، لابن قدامة تحقيق طه الزيني، الناشر مكتبة القاهرة 1389هـ - 1969م.
11- المنتقى، لسليمان الباجي الطبعة الأولى المصورة، مطبعة السعادة.
12- المهذب، لأبي إسحاق الشيرازي طبع مطبعة عيسى البابي الحلبي.
13- الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف في الكويت، الطبعة الأولى.
14- بدائع الصنائع، للكاساني طبع مطبعة الإمام بالقاهرة.
15- تحفة الأحوذي، للحافظ عبد الرحمن المباركفوري المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
16- تحفة المحتاج، لابن حجر الهيثمي، مع حاشية الشرواني وابن القاسم نشر دار صادر.
17- حاشية البجيرمي على منهج الطلاب، لسليمان بن عمر بن محمد البجيرمي طبعت سنة 1369 هـ - 1950م.
18- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لمحمد عرفة الدسوقي، والشرح لأحمد الدردير مطبعة الحلبي.(6/258)
19- حاشية رد المحتار، لابن عابدين الطبعة الثالثة، 1386 هـ- 1966 م، مطبعة الحلبي.
20- سبل السلام، للصنعاني نشر محمد علي صبيح.
21- شرح جلال الدين الملحي على منهاج الطالبين بهامش قليوبي وعميرة مطبعة دار إحياء الكتب العربية.
22- شرح الخرشي على مختصر سيدى خليل نشر دار صادر.
23- شرح فتح القدير، لابن الهمام الطبعة الأولى المصورة، سنة 1316 هـ.
24- عون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق العظيم آبادي – مع شرح ابن القيم الطبعة الثانية، 1388هـ - 1969 م.
25- فقه الإمام الأوزاعي، للدكتور عبد الله الجبوري الطبعة الأولى.
26- قوانين الأحكام الشرعية، لابن جزي طبعة دار العلم للملايين، سنة 1974 م.
27- كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، لعبد الرحمن الجزيري، الطبعة الرابعة.
28- مبدأ الرضا في العقود، للدكتور علي محيي الدين القره داغي، الطبعة الأولى.
29- مغني المحتاج، للخطيب الشربيني نشر المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.
30- المجموع، للإمام النووي طبع مطبعة التضامن بمصر.
31- مجمع الزوائد للهيثمي، لنور الدين بن أبي بكر الهيثمي الطبعة الثانية، نشر دار الكتاب العربي.
32- ميزان الاعتدال، للذهبي طبع مطبعة البابي الحلبي.
33- نصب الراية، للزيلعي نشر دار الكتاب العربي.
34- نهاية المحتاج، لمحمد بن أبي العباس الرملي طبع سنة 1375 هـ - 1956 م، مطبعة الحلبي.
35- نيل الأوطار، للشوكاني الطبعة الثالثة سنة 1380 هـ - 1961 م، مطبعة الحلبي.(6/259)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الرئيس:
في هذه الجلسة المسائية لدينا موضوع " بيع التقسيط " والعارض هو فضيلة الشيخ علي بن أحمد السالوس، والمقرر هو فضيلة الشيخ إبراهيم فاضل الدبو.
وقبل ذلك الشيخ وهبة الزحيلي لديه كلمة قصيرة.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
تفاديًا لما قد يترتب على بعض الفتاوى من إساءة استعمال الناس والعوام لها، وتمشيًّا مع ما التزمه هذا المجمع الكريم من البعد عن الربا وشبهاته والذرائع الموصلة إليه، والتزامًا بهذا الخط فإني أرجو أن لا ينص في شيء من قرارات هذه الدورة على إباحة شيء من الربا في حالات الضرورة، خلافًا لما كنت قلته هذا الصباح، وذلك تفاديًا للمشكلات، وليترك الأمر إلى كل مفت يعالج القضية بجزئياتها. . . دون تسفيه أو تخطئة لهذا الرأي في مذهب من المذاهب أو غير ذلك وبناء على هذا أرى أنه لا مانع من التأكيد على قرار المجمع في أن لا يكون مقابل الخدمات فيه شيء من التوسع حتى لا ينجر ذلك إلى الربا هذا شيء. وشيء آخر؛ هناك أمر خطير وهو أن فتوى صدرت للبنوك الإسلامية في اسطمبول، وبعض إخواننا هنا أفتوا بها وهو أن المدين المليء إذا لم يقم بتسديد ديونه لبنك إسلامي فللبنك أن يفرض عليه غرامات باسم غرامات المماطلة أخذًا بالحديث " مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته " وهنا أرجو أن تحذر البنوك الإسلامية من مثل هذه الفتوى التي كانت لأغلبية المشاركين هناك، فهي أخطر من مقابل الخدمات وتؤدي إلى الحكم بالربا الصريح باسم ما يسمى بالتعزير بالغرامات المالية.
شيء أخير: سمعنا صباحًا أن الاستصناع عقد غير ملزم عند الحنفية، وهذا صحيح في أصل المذهب، إلا أن ما أخذت به مجلة الأحكام العدلية – وهو رأي الصاحبين – " أن الاستصناع ملزم " وشكرًا.(6/260)
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحقيقة أن كلمة الدكتور وهبة أثارت في النفس أشياء، ولكن لابد أن ندخل في هذا الموضوع دون رجوع إلى الوراء ما دام المجمع الموقر قد بحث هذا الموضوع لأنني أخشى أن يكون ما يسمى بأجور خدمات يختلط مع الفوائد المركبة التي تأخذها البنوك العقارية في أكثر الدول الإسلامية فوائد مركبة وليست فوائد بسيطة.
ثم نشرع في موضوعنا، البيع بالتقسيط من حيث المبدأ، بعض الإخوة الباحثين تحدثوا عن مشروعيته واستدلوا عليها ولكن فتوى المجمع بإباحة بيع المرابحة للآمر بالشراء بضوابطه الشرعية – وهو بيع بالتقسيط – فيه إباحة لبيع التقسيط، ولذلك لا نريد الخوض في هذا الموضوع مرة أخرى ما دمنا قد بحثناه من قبل واصدر المجمع الموقر رأيه فيه، ولكن الأمور التي تعرض لها الإخوة الباحثون مع بحثي أيضا هي نقاط لها أهميتها وتحتاج إلى أن يقول المجمع الموقر رأيه فيها.
النقطة الأولى: زيادة البيع الآجل عن الحالّ: مبدأ الزيادة ذهب جمهور الفقهاء إلى جوازه، وذهب أيضا جمهور الباحثين إلى جوازه، لكن أحد الإخوة الباحثين رأى أن هذا غير جائز حتى ولو لم يذكر النقد،أي ولو لم يكن نقدًا بكذا ونسيئة بكذا وإنما باع بيعة واحدة دون ذكر النقد وكان هذا البيع الآجل أكثر من البيع الحالّ، قال الأخ الباحث: " هذا غير جائز شرعًا خلافًا للجمهور" هو نفسه قال: " خلافًا للجمهور " وأخذ يبين الأدلة التي ذهب إليها، ولكن الأبحاث الأخرى فيها رد على الأخ الكريم الباحث، لأن هناك من الآثار ما يبين جواز البيع الآجل بثمن أكثر من البيع الحالّ من حيث المبدأ أما إذا ذكر النقد والنسيئة، هو بنقد بكذا وبنسيئة بكذا، هنا الإشكال، أيجوز هذا أم لا يجوز؟ فبعض الأخبار تبين أن هذا غير جائز، لكن الأبحاث الموجودة، بعد البحث والتمحيص وجمع الأخبار، بينت في معظمها أن المراد هنا – هو بنقد بكذا ونسيئة بكذا – أن ينصرف المتبايعان دون تحديد بيعة واحدة، ثم هناك من الأخبار، ما يبين أنه إذا اتفق الاثنان على بيعة واحدة نقدًا، أو نسيئة إلى شهر أو إلى شهرين أو إلى سنة، وإذا وقع البيع باتًّا في مجلس العقد دون الانصراف فإن هذا البيع جائز، الأبحاث التي بين أيدينا بأدلتها تبين هذا، ما عدا البحث الذي انفرد ببيان عدم جواز أن يكون البيع الآجل أعلى ثمنًا من البيع الحالّّ.(6/261)
ومن النقاط التي أثيرت أن زيادة البيع الآجل عن البيع الحالّ قد تأخذ صورة ما وهي: أن يذكر أن الثمن هو كذا ويذكر في العقد أن فوائد التقسيط هي كذا، أي بدلًا من أن يقول: هي بنقد بخمسين، ونسيئة بستين، يقول: ثمنها خمسون وفوائد التقسيط عشرة إذا قلنا: هي بنقد بخمسين ونسيئة بستين، واستقر البيعان على ستين وقلنا: عند الجمهور هذا جائز، فإن القول بأنها بخمسين وفوائد التقسيط عشرة فإن هذا غير جائز، الفرق بين الصيغتين أنه في الصيغة الثانية حدد مبلغًا للزمن، ومعنى ذلك أن هذه الفوائد إذا تأخر فهي قابلة للزيادة وإذا تقدم فهي قابلة للنقصان، والثمن هو خمسون إذن لابد أن يكون الثمن محددًا، أما إذا ذكر النقد والفوائد فإن هذا، فيما نرى، غير جائز، والرأي للمجمع الموقر.
كذلك من النقاط التي أثيرت أن البيع بالتقسيط قد يتبعه كتابة الديون المقسطة في كمبيالات تخصم من بنك ربوي، وهذا يعني أن المشتري يخرج تعامله من التعامل مع البائع إلى التعامل مع البنك، فيصبح مع ذلك: الثمن والكمبيالات كلها يتعامل بها مع البنك، ولذلك إذا تأخر فهو ملتزم بدفع الفوائد التي ينص عليها القانون أيجوز هذا أم لا يجوز؟ لعله غير جائز.
كذلك من البيع بالتقسيط ما يتصل بالعينة، وهي معروفة بلا شك، والإخوة الباحثون الذين ذكروها بينوا عدم جوازها لأنها وسيلة للقرض الربوي، حيث إن البائع يبيع بالتقسيط بثمن أعلى ثم يشتري نقدًا بثمن أقل وهذا، للأسف، ينتشر في بعض البلاد، والإخوة الذين بحثوا الموضوع انتهوا في الغالب إلى أن هذا غير جائز، والواقع أن جمهور الفقهاء لا يجيزون هذا، والشافعية الذين أجازوه لم يجيزوه مع الإباحة، وإنما منهم من ذهب إلى الكراهة ومنهم من ذهب إلى التحريم إذا كان هناك اتفاق ومواطأة على التعامل الربوي، لأن الشافعية من منهجهم تصحيح العقود وإن كانت محرمة ما دامت قد استوفت الشروط، فيقولون مثلًا: التدليس حرام وإذا وقع البيع فالبيع صحيح، زواج التحليل حرام وإذا وقع فهو صحيح، بيع السلاح في الفتنة حرام وإذا وقع فالبيع صحيح، أي أنهم يرتبون الآثار على العقد بحسب الظواهر ويجعلون النيات يتعلق بها الحلال والحرام، فإذا كان العقد يؤدي إلى حرام فهو حرام، وإذا كان يؤدي إلى حلال فهو حلال، أما الظاهر فما دام العقد قد استوفى شروطه وأركانه فالعقد صحيح أي تنبني عليه آثاره بيع العنب لمن يتخذه خمرًا حرام لكنه عقد صحيح عند الشافعية لأنه قد يبيعه والآخر لا يصنع خمرًا، وهكذا.(6/262)
أما التورق، فالفقهاء مختلفون فيه، وكثير منهم يذهب إلى الكراهة، والذين أباحوه أباحوه للضرورة بالنسبة للمشتري – بقصد التورق – بالنسبة للبائع هو لم يدخل في عملية الشراء مرة أخرى لأنه باع وانتهى العقد، والمشتري هو الذي كان يريد السلعة وإنما يريد الورق ولذلك فهو الذي باعها لبائع آخر نرجو أن يقول أن يقول المجمع الكريم كلمته في التورق، لأنه من الأمور التي شاعت في عصرنا حتى كادت في بعض الحالات تحل محل الربا.
والتورق هو أن يشتري بالتقسيط – من البائع – بثمن أعلى، وهو لا يريد السلعة وليس تاجرًا وإنما يريد النقود، ثم يأخذ السلعة ويعرضها للبيع نقدًا فاشتراها بخمسين بالتقسيط على سنتين – مثلًا - وباعها نقدًا بثلاثين، وتسلم الثلاثين، فهو لا يريد السلعة وإنما النقود. هذا هو التورق، أما لو عاد فباعها للبائع الأول نفسه فذلك هو العينة، وقد نقل هنا كلام شيخ الإسلام وكلام ابن القيم رحمهما الله تعالى في التورق والتغليظ في هذا وبيان أن هذا غير جائز.
من القضايا التي أثيرت: التأخر في دفع الأقساط من المشتري، من المعلوم أنه كان من ربا الجاهلية وأنه كان من ربا الديون، وربا الديون إما أن يكون ناشئًا عن دين لبيع آجل أو أن يكون ناشئًا عن قرض، والناشئ عن بيع آجل إذا تأخر المشتري عن الدفع تأتي القاعدة الجاهلية "إما أن تقضي وإما أن تربي". فاللجوء لهذا في عصرنا هو عود لربا الجاهلية مثل فوائد القروض والبنوك سواء بسواء. فإذا قلنا بتحريم هذه فكذلك فوائد التقسيط، أي يقال له: إذا تأخرت تفرض عليك كذا فوائد قانونية، فهذا هو ربا الجاهلية، ولكن النقطة التي أشار إليها الأستاذ الفاضل الدكتور وهبة الزحيلي هي مبحوثه في هذا البحث، لأن أكثر الباحثين طلب من المجمع الموقر بأن يعطي هذه النقطة الهامة حقها وأن يقف عندها لأنها خرجت من النظرية إلى التطبيق، ومن الفتوى إلى العمل، ولذلك فهي تحتاج إلى وقفة حتى يقول المجمع الموقر رأيه فيها، وهى: المدين المماطل، فالمدين المعسر لا شيء عليه {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، فالمدين المعسر لا خلاف أنه لا يطالب بالدين إلا متى أصبح موسرًا إنما المشكلة التي صادفت البنوك الإسلامية هي أن المدين موسر ومماطل، ويتعامل مع البنوك الربوية ولا يتأخر يومًا لأن الفوائد تحسب، ويتعامل مع البنوك الإسلامية ويتأخر ولا يدفع لأن البنوك الإسلامية تعتبر الفوائد حرامًا وهي من الربا فلا تحسبها ولا تأخذها، ولذلك فهو يماطلها.(6/263)
وكان نتيجة لهذا تأخر مبالغ ضخمة وتعطلها عن الاستثمار، من هنا وجدنا بعض البنوك الإسلامية لجأت إلى أخذ المزيد من الضمانات لأنها لا تستطيع أن تزيد في الثمن، وبعض البنوك الأخرى استعملت فتوى صدرت واعتمدت ثلاثة أحاديث أساسًا: "مطل الغني ظلم"، " لَيُّ الواجد يُحِل عرضه وعقوبته"، " لا ضرر ولا ضرار"، فقالوا: "مطل الغي ظلم" هذا أمر واضح، فما دام قد ثبت أنه مدين مليء مماطل فهو ظالم ولا بد أن يمنع هذا الظلم. وَلَيُّ الواجد يحل عرضه بأن يُشهَّر به وبظلمه، وعقوبته بأن يحبس مثلًا، والعقوبة ما دامت تعزيرية يمكن أن تتغير من عصر إلى عصر و" لا ضرر ولا ضرار " قالوا: مادام ثبت أنه وقع على البنك الإسلامي ضرر فلا بد أن يزال هذا الضرر. وانتهى هؤلاء إلى أن المدين المماطل لا بد أن يثبت، أولًا، أنه مماطل وأنه مليء، فإذا ثبت ذلك فلا بد أن يزال الضرر عن البنك. كيف يزال الضرر؟ قالوا: بالعقوبة التعزيرية. وكيف تكون العقوبة التعزيرية؟ ومن الذى يملك هذه العقوبة التعزيرية؟ هل البنك الإسلامي يملك هذه العقوبة؟ وإذا ملك العقوبة التعزيرية وقلنا بجواز العقوبة التعزيرية بالمال، فمن باب أولى أن يملك أي عقوبة تعزيرية أخرى، بالضرب مثلًا؟ . ثم من الذي يقدر العقوبة التعزيرية؟ من الذي يوقعها؟ بعضهم قال: نحسب للبنك الإسلامي في هذه الفترة مكسبه، وهذا المال حجز، فلو أنه دخل في الاستثمار لكان الربح مثل هذا، ولذلك نقدر مثل هذا المبلغ. ووجدنا بعض البنوك الإسلامية تلجأ إلى هذا، تلجأ إلى التأكد من أن هذا المدين موسر، أولا، ثم بعد التأكد من ذلك والإرسال إليه، تبدأ في حساب الأرباح التي كانت ستحقق في هذه الفترة، فترة المماطلة، وتضيفها إلى ثمن. وبعض البنوك الأخرى تنظر: إذا كان البيع بيع مرابحة فإنها تضيف تبعًا للربح المتفق عليه، وإذا كنا قد لا نجيز هذا فهناك ما هو أشد، إذ أن بعض البنوك للأسف الشديد، نتيجة أن الأعداد كبيرة ولا تستطيع أن تتابع، تلقائيًّا من تأخر يضاف عليه الأرباح التي تحققت، فتضاف على المبالغ، والآخرون الذين ماطلوا، بما أن البنوك الإسلامية ربحها أقل من الفوائد الربوية في كثير من الحالات، كأنهم قنعوا بهذا ورضوا. وبناءً على ذلك فإن العقوبة التعزيرية لم يتحقق الهدف منها، إذ حتى لو فرضنا أنه أجيز العقوبة التعزيرية فلها هدف، والهدف هنا لم يتحقق. لذلك أرجو أن تناقش هذه النقطة باستفاضة، وأن ننظر إلى الحل ما دمنا نقول إن هذا غير جائز، - وأظنه غير جائز - فلا بد أن نبحث عن حلول أخرى حتى نقدم ذلك إلى البنوك الإسلامية.(6/264)
بعض البنوك الإسلامية لجأت إلى شيء آخر، وهي أنها تكتب في العقد بأن المشتري إذا تأخر في دفع قسط، وبعضها تكتب: إذا تأخر في دفع قسطين، فإن باقي الأقساط تحل قبل موعدها أهذا جائز أم غير جائز؟ نرجو أن يقول المجمع رأيه.
وبعض البنوك لجأت إلى التحكيم، أي أنها تذكر في العقد بأنه إذا تأخر وثبت أنه مدين مماطل فالبنك الإسلامي يختار محكمًا والمدين يختار محكمًا والمحكمان يختاران محكمًا ثالثًا والثلاثة ينظرون في القضية تبعًا لشريعة الله عز وجل.
من الأمور التي نوقشت أيضًا في الأبحاث المقدمة مسألة "ضع وتعجل" أي أن يقال للمدين ضع نسبة كذا من الدين وادفع قبل الموعد، أو أن يقول المدين للدائن: ضع نسبة كذا من دينك وتعجل وأنا أدفع لك قبل الموعد. أيجوز هذا أم لا يجوز؟ جمهور الفقهاء يقولون: إن هذا لا يجوز، ولكن هناك من يرى أن هذا جائز، وذكر في الأبحاث من الصحابة عبد الله بن عباس، وهناك أحد الإخوة الباحثين ذكر صحابيًّا آخر وهو زيد بن ثابت، ولكن هذا يحتاج إلى تثبت، ولكن جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة، وأحاديث على طبقة معينة من الصحابة والفقهاء ما وصلنا إلى ابن القيم بعد، ما أجازوا هذا، حجة الذين أجازوه هو ما ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لليهود عندما أراد إخراجهم وقالوا: لنا ديون لم يحل أجلها، فقال لهم: ((ضعوا وتعجلوا)) . هذا الحديث سنده غير صحيح، وأحد الإخوة الباحثين ذكر أنه جاء في سنن ابن ماجه وهذا أيضًا غير صحيح، وكثيرون تكلموا عن عدم صحة سند هذا الحديث وبينوه، وحتى لو صح هذا فهو حالة خاصة باليهود، ولكن وجدنا من الفقهاء من يقول بأنه إذا كان الدين من بيع روعي فيه الزمن – بيع مرابحة - وهو موجود عند الحنفية، وذكر في بعض الأبحاث، في هذه الحالة إذا تقدم الموعد وطالب صاحب الدين بدينه فلا بد أن يراعى هذا أيضًا، بحيث إنه إذا كان، مثلًا، أخذ 1 % شهريًا زيادة، وتقدم هذا خمسة أشهر فلا بد أن يرد هذا للمشتري ما دام قد أخذ هذا منه من قبل.(6/265)
من النقاط التي نوقشت أيضًا، الاحتفاظ بملكية المبيع. الكثير من الإخوة الباحثين ذكروا هنا صورة الإيجار المنتهي بالتمليك، وفيه أحيانًا يكون نفس التمليك مع البيع. فهل يجوز أن يبيع البائع ويحتفظ بملكية المبيع؟ وأول الآثار المترتبة على البيع انتقال الملكية، مسألة الرهن، نعم، يعني لو رهن المبيع – لأنه لم يقدم رهنًا آخر- فإن هذا الرهن يتنافى مع مقتضى العقد، ولكن إذا لم يقدم رهنًا آخر – ولا بد من ضمانات – فيمكن أن يرهن، وفرق بين الرهن وبين الاحتفاظ بالملكية، ومن النقاط التي عولجت في الأبحاث، أيضًا، أثر الموت في حلول الأجل: بعض الباحثين رأى أنه إذا مات المشتري فإن الدين يحل ويؤخذ قبل توزيع التركة، ولكن هناك رأي آخر في الأبحاث يقول بأن هذا الدين ليس قرضًا وإنما هو دين ناتج عن بيع آجل، وإذا كنا رأينا أن البيع الآجل يجوز فيه الزيادة في الثمن فمعنى هذا أن الدين لو أن المبيع كان في هذا الموعد ما كان بهذا الثمن. فهو حق للورثة، وحق البائع هو أن يضمن الدين، فإذا قدم الروثة رهنًا أو أي عقد من عقود الاستيثاق التي يقبلها البائع إلى أن يحل الدين، فهذا من حقهم. هذه النقطة خلافية ولكن لعل المجمع يقول رأيه فيها لأننا نرى، فعلًا، أن الأخذ برأي "الدين يحل بالموت" قد يكون فيه ظلم للورثة، لأن هذا الدين لشيء آجل لم يأت موعده وروعي في الأجل زيادة الثمن.
هذه هي أهم النقاط التي تناولها الإخوة الباحثون، ويبقى هنا رجاء للأخ الدكتور رفيق المصري، فإن بحثه القيم المستفيض، في ثناياه بعض عبارات فيها تجريح لبعض الأئمة والفقهاء، لذلك أرجو أن يعيد النظر في بحثه وأن يحذف هذه العبارات فمثلًا يقول في صفحة 35 من بحثه عن الشيخ أبو زهرة: "وهذه الحجة ضعيفة جدًّا، وصاحبها لا يعرف معنى التحليل العلمي الرشيد ولا كيف تبنى الفروض والنظريات والقوانين العلمية سواء كان هذا التحليل في ميدان الفقة أو في ميدان آخر من ميادين المعرفة والعلم". ويقول، أيضًا، عن الشيخ أبو زهرة رحمه الله: "ولئن سمعنا مثل هذه الحجج ممن يعرف الفقه دون الاقتصاد فمن العجب أن نسمعها أيضًا، على سبيل الترداد، ممن يعرف الاقتصاد، ومن الأعجب أن نسمعها ممن يعرف الاقتصاد والفقه معًا، كما أنني أشك في أن يكون صاحب هذه الحجة فقيهًا مشاركًا". كان، رحمه الله، فقيه العصر ولم يكن فقيهًا فقط. فأرجو من الأستاذ رفيق، مع تقديري لبحثه، أن يعيد النظر فيه ويحذف مثل هذه العبارات. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الرئيس:
شكرًا، أريد أن أسألكم سؤالًا، يا شيخ علي السالوس: إذا قال رب السلعة: هذه السلعة بمائة حاضرًا وبمائة وخمسين مؤجلًا، ثم تم العقد على البيع المؤجل في نفس المجلس، وعلى أجل محدد هذا جائز عند الجمهور على ما ذكرتم، هذه هي الصورة الجائزة.(6/266)
الدكتور علي أحمد السالوس:
نعم، عند الجمهور.
الرئيس:
فإذا قال: هي بمائة حاضرًا، وإن تأجل لمدة عام فهناك خمسون مقابل الأجل أنتم ذكرتم أنها لا تجوز أليس كذلك؟
الدكتور علي أحمد السالوس:
نعم.
الرئيس:
هل من فرق حقيقي بين الصورتين؟
الدكتور علي أحمد السالوس:
نعم، لأن الأول بيع باتّ، والثمن غير قابل للزيادة أو النقصان، والثاني ارتبط بالزمن فلو تأخر سنة لزاد خمسين. . .
الرئيس:
لا، هو بيع باتّ هو في نفس المجلس.
الدكتور علي أحمد السالوس:
الصورة التي ذكرتها ليست باتّة.
الرئيس:
لا، أنتم أطلقتم وما قيدتم، هو في نفس المجلس والأجل محدد والزيادة مبنية، لكن أنتم فرقتم بين أن يقول: بمائة عاجلًا، وبمائة وخمسين آجلًا؛ وبين أن يقول: هو بمائة عاجلًا، وإن أردت آجلًا فهو بزيادة خمسين، مقابل الأجل وهذا فرق صوري بين الصيغتين حسبما فهمت من كلامكم.
الدكتور علي أحمد السالوس:
الثمن خمسون وفوائد التأخير عشرة.
الرئيس:
نعم، وهي لمدة عام، ثم انفض المجلس وتفرق المتعاقدان وقد اتفقا على التأجيل ألا ترون جواز هذه الصورة؟(6/267)
الدكتور علي أحمد السالوس:
أرى عدم جوازها.
الرئيس:
إذن، فما هو الفرق الحقيقي بين الصورتين؟
الدكتور علي أحمد السالوس:
الفرق أن العشرة مرتبطة بالزمن، فإذا زاد الموعد عن سنة فمن حق البائع أن يأخذ زيادة، وفي الحالة الأولى لا يملك أن يأخذ زيادة.
الرئيس:
هي نفس الصورة: مائة وخمسون، فالخمسون مرتبطة بالزمن، وأنا أردت أن أثيرها، ونقاش المشائخ أمامها، السؤال الثاني: الخصم البنكي للكمبيالات أو القطع ألا ينضوي تحت " ضع وتعجل "؟
الدكتور علي أحمد السالوس:
لا ينضوي تحت " ضع وتعجل "، وقد بينت هذا بالتفضيل فعلًا: " ضع وتعجل " بين الدائن والمدين، والذي يضع هو الدائن، أما في الخصم فهو بين البنك وطالب الخصم ولا علاقة بينهما، فلما بدأت العلاقة أصبح البنك هو الدائن وطالب الخصم هو المدين، فالمدين هنا هو الذي يتحمل هذه الزيادة.
الرئيس:
لكن كل واحد من أطراف العقد منتفع.
الدكتور علي أحمد السالوس:
هذا لو كان بين محرر الكمبيالة والمستفيد منها، فلو كان بينهما لكان يمكن إدراجها ضمن " ضع وتعجل " ولكن البنك ليس طرفًا في الموضوع، ثم هنا البنك زاد مقابل الزمن ولم يضع لأن البنك ليس مدينًا لطالب الخصم بل هو دائن.
الرئيس:
لكن من هم المستفيدون من الخصم البنكي، ألا تنسحب الاستفادة على الأطراف الثلاثة؟
الدكتور علي أحمد السالوس:
الاستفادة للبنك.
الرئيس:
والطرفان ألا يستفيدان؟
الدكتور علي أحمد السالوس:
لا، لا: يستفيدان بالقبض.(6/268)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله.
تعجلت لأخذ الكلمة لا للمناقشة، ولكن لأنه حصل لي من متابعة كلمة الشيخ السالوس أن الصور المعروضة للنقاش سبع فإذا ما رأت الرئاسة أن تتفضل بتوزيع البحث لكل نقطة على حدة حتى نستطيع أن نخلص من كل نقطة على انفراد، لأنها نقط متمايزة وليست متحدة.
الرئيس:
ما تفضل به الشيخ المختار وجيه جدًّا وكان قد وقع في النفس، وهي نقاط مهمة لابد أن يبتّ فيها على التفضيل، سواء في هذه الدورة حسب الإمكان أو في دورات لاحقة.
الشيخ محمد المختار السلامي:
المواضيع هي: (1) زيادة البيع الآجل على البيع الحال مع التنصيص على الفوائد، (2) بيع العينة، (3) التورق، (4) الزيادة لعدم السداد عند البنوك، (5) التنصيص على أنه إذا حل الأجل لقسط ولم يدفع حلت بقية الأقساط، (6) ضع وتعجل، (7) الاحتفاظ بملكية المبيع، (8) تأثير الموت في حلول الدين فهي نقاط ثمانية حسبما قيدته، فإذا كانت هناك نقطة أخرى، فلنأخذها واحدة واحدة.
الرئيس:
هي ثلاث عشرة نقطة في بحث الشيخ السالوس.
الشيخ محمد المختار السلامي:
لأن القضايا المتفق عليها لم أجعلها محل خلاف، فمثلًا ذكر ثمن البيع نقدًا ونسيئة ليس محل خلاف، المهم هو أن توزع هذه النقاط، والشيخ السالوس بوصفه صاحب الدراسة أولى بذلك.
الرئيس:
المهم الآن أن نسير في خط واحد، ولنأخذ هذه القضايا الثلاث عشرة واحدة واحدة ونخصص لكل واحدة زمنًا معينًا فنأخذ النقطة الأولى وهي بيع التقسيط يعني إذا ذكر ثمن المبيع نقدًا وثمنه نسيئة، وهي وإن كان رأي الجمهور فيها واضحًا لكن لا مانع من أن نخصص لها ولو عشرين دقيقة.(6/269)
الدكتور عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم
مع شكري للشيخ السالوس على بحثه وعرضه ربما فاته أن يقرأ بحثي المتواضع الذي تقدمت به وفيه نقطة تجاوزها، وما أدري ما هو السبب في ذلك؟ وهي قضية استحسان فصل مجلس السوم عن مجلس الشراء، وهذا جعلته ضابطًا من باب تحري عدم الوقوع في الربا، ولو لم يره الجمهور، من باب التحوط لدين الله عز وجل، ولو كان الانصراف حكمًا أي أن المفارقة لم تكن بدنية وكانت حكمية في تغيير الحديث مثلًا فهذه نقطة أثرتها وما أدري ما هو القول في ذلك؟
الرئيس:
لكن الآية {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} لا أن يحرم البيع.
الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور:
يعني خروجًا من شبهة الربا.
الرئيس:
يخشى في الحالات أن يصل الناس إلى مقلوب الآية، وبحثكم قد أجاب عن هذه النقطة بعينها، فهل لأحد الحاضرين نقاش فيها؟(6/270)
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم
بالنسبة لجواز أن يكون ثمن البيع نقدًا زائدًا على الثمن نسيئة فهذا مذهب الجمهور فيه هو الراجح وليس فيه ملاحظة، ولكن البيع بالتقسيط – محل بحثنا – إنما نبحثه كبديل، تتخذه المصارف الإسلامية، عن المعاملات الربوية، وما أؤكده هو أنه ليس بديلًا مثاليًّا للمصارف الإسلامية، إنما البديل المثالي والحقيقي هو المشاركة والمضاربة، فالذي ينبغي التنبيه عليه في قرار المجمع أنه وإن كانت هذه المعاملة جائزة في نفسها، ولكن اتخاذها كبديل مستقل دون لجوء المصارف الإسلامية إلى المشاركة والمضاربة وتبني سائر معاملاتها على هذا الأساس، فإن هذا مما يبعد المصارف الإسلامية عن مقصدها الحقيقي وهو إحداث مشاركات ومضاربات من شأنها التأثير على توزيع الثروة العادل فينبغي، عندما تقول بجواز مثل هذا البيع، أن نؤكد على عدم اتخاذه بديلًا مستقلًا من طرف المصارف الإسلامية وإنما يتخذ كخطوة مرحلية.(6/271)
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم
النقطة الأولى غير واضحة في تحديد المطلوب وهي ذكر ثمن المبيع نقدًا وثمنه نسيئة وربما يكون من الأولى أن يصدر المجلس القرار في هذه النقطة بعد تحريرها هكذا: " الزيادة في الثمن المؤجل أو المقسط على الثمن الحال " لأن هذا هو الموضوع الذي نريد أن نصدر فيه الفتوى، أما لو تركناها بصيغتها الحالية فكيف نصدر فيها فتوى " ذكر ثمن المبيع نقدًا وثمنه نسيئة " يعني هل يجوز أو لا يجوز؟ وهي على تلك الصيغة تحتاج إلى تفصيل في جوازها من عدمه.
الرئيس:
هذا مقيد، وسيعرض – إن شاء الله – على لجنة الصياغة ولننتقل إلى نقطة " تحديد الثمن وفوائد التقسيط ".(6/272)
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
أعتقد أننا عندما نصحح موضوع التقسيط إذا كان باتًّا، فما ذكره الأستاذ السالوس في بحثه، في الصفحة الثالثة، تحت عنوان: " تحديد الثمن وفوائد التقسيط " من أن البعض يحدد فوائد التأخير، على النحو الذي ذكره، ثم عقب عليه بقوله: " وأعتقد أن التحريم هنا واضح جلي " أريد أن أقول: إننا انتهينا إلى أن هناك فرقًا بين السوم وبين العقد على ماذا وقع، فإذا كان المتعاقدان تعاقدا على الترديد، في نطاق هذه الصورة، فذاك هو الإشكال، لكن الظاهر والجاري أنهما يتعاقدان عقدًا باتًّا، فلا يمكننا حينئذ أن نحكم هنا بتحريم هذه الصورة، هناك عرض أمامه يقول: التأخير كذا في مقابلة كذا، لكن هذا العرض هو عرض في مرحلة المساومة وما يتم عليه العقد يتم على شق مقطوع باتّ في المجلس نفسه.(6/273)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أعتقد أنه لا فارق بين العقد الأول وبين العقد الثاني، وأن ما يتوهم من أن الزيادة إذا تأخر عن الأجل هذا أمر زائد، وإذا أدرنا التحوط فقط نقول: إنه يجوز أن يحدد الثمن حالًّا والزيادة لأجل الأجل، فنقول: بعته لك بمائة حالًّا ولستة أشهر بخمسين زائدة، لكن إذا مضت الستة أشهر ولم يقع الخلاص فلا يزيد الثمن، وإذا وقع الخلاص قبل الأجل فلا ينقص الثمن، فيصبح العقدان شيئا واحدًا أما الريبة التي وقعت فيه مما يتوقع من زيادة إذا زاد في الأجل أو تنقيص إذا وقع الخلاص قبل الأجل.(6/274)
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
تظهر ضرورة هذا التفريق، وفائدة منع هذه الصورة عندما تكون المدة أطول من سنة، ففي عقود بيع المساكن في كثير من الدول يقال: إن ثمن هذا البيت عشرة آلاف دينار حالًّا، وفوائد المبلغ مقسطة على عشر سنوات هي 10 % سنويًّا، فواضح أن العقلية التي تحسب هناك هي عقلية ربوية تهدف إلى بيان أن هذا المبلغ كأنه دين وقد رتبت عليه فوائد نتيجة تأخير هذا المبلغ؛ وتستعمل كلمة فوائد، ولذلك يحسن أن ينتهي العقد إلى سعر باتّ بين.
الرئيس:
لا نزاع في كون ما إذا لم ينته بسعر باتّ في نفس المجلس وبأجل باتّ فإنه ليس محل خلاف في الصورتين وهو لا يجوز.
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
لكن لابد من التنبيه لهذا.
الرئيس:
هو أصلًا، سينبه على الموضوع الأصل وهو بيع التقسيط الذي هو بيع الأجل.(6/275)
الدكتور درويش صديق جستنية:
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك صور في التعامل التطبيقي بين الناس، من بين هذه الصور أن يكون أطراف العقد ثلاثة: البائع والمشتري والوسيط المالي ففي بيع التقسيط للسلعة سعران: سعر حالّ نقدًا وسعر بالتقسيط محدد فيه الأجل والأقساط ولكن لا يتم التعاقد مباشرة مع البائع وإنما يكون الوسيط المالي موجودًا ويكون الدفع للوسيط المالي، وهذه الصورة معترف بها ومعمول بها وهي تحتوي على عقد قرض بين المشتري وبين الوسيط المالي، فلأجل هذا أرجو أن لا نطلق قضية " بيع التقسيط " قبل أن نحدد هذه الصور ونتخذ فيها قرارًا، لأن معظم البيوع في بعض السلع المعمرة، مثل السيارات، تتم بهذه الطريقة، فالبنك وارد وداخل في العملية وإن لم يظهر في الصورة بوضوح.
الرئيس:
على كل حال ستجعل لها الضمانات والشروط التي تكفل أن تكون بها في قالب الصورة الشرعية.
الشيخ محمد هشام البرهاني:
الصورة التي أراد الدكتور السالوس أن يجعلها من الربا أو من شبهة الربا، أنا أتفق معه في هذا الرأي.(6/276)
الشيخ عبد الكريم اللاحم:
بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظتى متجهة إلى بحث الأستاذ الفرفور، وقد جعل ضوابطًا، لم تذكر في العرض لبيع التأجيل والبحث يدور حول بيع التأجيل ولم يتعرض لبيع التقسيط بالتفصيل، وإن كان المقصود بالعنوان هو التقسيط، والتقسيط – طبعًا – لا يكون إلا ببيع الأجل، الملاحظة العامة على البحث هو أنه لم يستوف الموضوع فهو مقتضب لا يفي بالغرض المطلوب في هذه النقطة.
الملاحظة الأولى: تتعلق بالضابط الأول الذي قال فيه: أن يكون هناك فاصل بين مجلس السوم ومجلس العقد، وهذا نوقش وتم التوصل إلى أنه لا فرق بين أن يكون فيه فاصل أو ليس فيه فاصل لأن الحقيقة واحدة، ففي نظري أنه لا يختلف الواقع بين ما إذا تم العقد والاتفاق متصلًا بالعرض بين الثمن حالًّا والثمن مؤجلًا أو كان هناك فاصل مصطنع: سكوت أو انتقال، فلا فرق بين الصورتين في الحقيقة والواقع.
وكذلك لي ملاحظة حول الضابط الثالث: المؤيد الفقهي، والكتابة غير واضحة، فأنا أطلب ضبطها، ثم دخل في تفصيل هذا الضابط، وبقراءة ما كتبه يتبين أنه ليس ضابطًا للجواز أو المنع بل هو طريق لاستيفاء الأقساط التي حلت ولم تسدد وحالة العقد في هذه الصورة إذا حلّ بعض الأقساط ولم تسدد ما الإجراء لتسديدها؟ وهل يبقى العقد صحيحًا أو ينفسخ؟ وهذا هو الذي ذكر تحت هذا الضابط، فهو ضابط أو قاعدة لاستيفاء الأقساط التي حلت ولم تسدد وحالة العقد هل يستمر نافذًا أو ينفسخ ويكون البائع له حق فسخ العقد واسترجاع المبيع، وشكرًا.(6/277)
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أود أن أوضح صورة التقسيط التي يظهر لي أن الدكتور علي السالوس لم يجزها، وهي في الحقيقة صور يجري عليها العمل في أغلب الوكالات التجارية وخصوصًا السيارات، وقاعدة البيع بالتقسيط تكون على مرحلتين: المرحلة الأولى الثمن يبتّ به نقدًا ويصبح الثمن دينًا في ذمة المشتري، ثم بعد ذلك يضاف على ذمته الفوائد حسب الأجل المقرر بينهما، ويظهر لي أن هذه الصورة هي التي لم يجزها الدكتور علي السالوس أما بالنسبة إلى الكمبيالات فالحقيقة أنه عندما يخصمها البنك يأخذ فوائد على الخصم، ولكن عندما لا يدفع المدين الكمبيالة يرجع البنك بالطلب على الدائن، فأصبحت الكمبيالة هنا كأنها رهن، ولم تعد كأنها شراء للدين، كأنها رهن مقابل قرض بفائدة هاتان هما الصورتان اللتان أردت توضيحهما، وشكرًا.(6/278)
الدكتور عبد اللطيف جناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أود أن أعقب على عملية البيع بالتقسيط وتوجه أو اتجاه البنوك الإسلامية إليها، أردت أن أؤكد حقيقة بأن التنمية التي حصلت في بلاد الغرب ما حصلت إلا بالمشاركة، فتوجه البنوك الإسلامية لعمليات المشاركة في عصرنا الحاضر ضرورة من الضروريات حتى يكتفي المجامع المسلم اكتفاء ذاتيًّا.
النقطة الأخرى: بالنسبة إلى الغرامة: لا شك أن أي تاجر أو بنك يبيع بالتقسيط يتعرض لمخاطر ائتمانية، من هذه المخاطر ذهاب الربح، ومنها ذهاب جزء من رأس المال، وهو يحسب حساب هذه المخاطر عند إضافة الربح، فالربح يقصد منه تغطية المصاريف الإدارية ثم تغطية المخاطر المتوقعة وبالتالي تحقيق نسبة من الربح صافية للتاجر، ويجب أن يكون هذا الربح مرتبطًا بالتنمية حتى لا يقع في المحاذير التي وقع فيها المرابون.
مسألة الغرامة التي يسير بعض البنوك هي مسألة تحتاج إلى تمحيص شديد، لأنها أدت بنا إلى مسلك ربوي وإن كنا لا نقصد الربا، فقضية الغرامة أصبحت الآن مغذاة في الحاسب الآلي، فبمجرد ما يتأخر العميل تحسب عليه الفائدة، والتبس المفهوم لدى موظفي هذه البنوك: ما الفرق إذن بين الربا وبين الغرامة؟ الغرامة – في نظري – لا يجب أن يحكم فيها الخصم نفسه فيكون البنك هو الخصم والحكم، بل يحكم فيها قاضٍ متخصص أو جهة متخصصة.
قضية الكمبيالة: الكمبيالة هي ورق مالية بين طرفين ولكن خصمها لا يكون لدى الطرفين، خصمها يكون لدى طرف ثالث بعيد عن أطراف التعاقد، إذن هذا الطرف الثالث هو تاجر ديون أي يتاجر بالدين، وشكرًا.(6/279)
الدكتور عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم
ما تفضل به أخي مما أورده عليّ سأرد عليه الرد العلمي الموضوعي فقط، فالضوابط التي وضعتها إنما هي وجهة نظر لا ألزم بها أحدًا، وهذا جهد المقل، فبالنسبة إلى الضابط الأول وضعته استحسانا وتخلصا من شبهة الربا، ومع ذلك إن كان توجهكم إلى حذفه حذفناه.
والمسألة الثانية وهي معلومية الأجل، قال عنها زميلي: إنه لا شيء عليها، فهي شيء متفق عليه أما المؤيد الفقهي فقد جعلته ضابطًا لكي نفهم أن بيع التقسيط لا يقوم إلا إذا قامت هذه المسألة، بمعنى أن بيع التقسيط في هذا العصر إذا لم يعلم ما هي نهاية المشكلة فيما إذا أخل المشتري بأداء الثمن المؤجل لا يقام بيع التقسيط، يعني أن كل إنسان لا يقدم على بيع التقسيط أو إي نوع من البيوع إلا إذا علم مسبقًا كبائع ما هي النهاية وما هو الحل الفقهي فيما إذ أخل المشتري بالثمن، وإلا كان الموضوع ضائعًا بينهما – يعني إذا أخل أحدهما بالشرط فماذا يفعل الثاني؟ أتبقى المسألة معلقة؟ - أرى أن يكون هذا ضابطًا، فإن سميتموه ضابطًا فلا شيء في ذلك، وإن سميتموه نتيجة أو مخلصًا أو مخرجًا فكذلك لا شيء في ذلك، وليست المشكلة في الاصطلاحات وإنما في جوهر الفقه، ولا مشاحة في الاصطلاح.(6/280)
الرئيس:
هل بقي لأحد مناقشة في الموضوع الثاني " تحديد الثمن وفوائد التقسيط "، وهو ينسحب عليه ما ينسحب على الموضوع الأول من الحكم بقيوده أن لا ينفض المجلس إلا بأجل محدد وبعقد باتّ، سواء قال: مائة وخمسين أو أفرد المائة وأفرد الخمسين.
وتبقى قضية زيادة الدين عند التأخر في دفع الأقساط وهي ستأتي عند مناقشة النقطة السادسة.
القاضي محمد تقي العثماني:
عندما صرحوا بأن هذه العشرة هي فوائد التقسيط، فهذه الفائدة تزداد بزيادة المدة وتنتقص بنقصانها، فإذا كان هذا هو المراد فهذا غير جائز.
الرئيس:
ليس هذا هو المراد، فنحن سنجعل لها صياغة لا توحي بهذا الاسم، وهذا يعود إلى لجنة الصياغة، لكن من حيث مبدأ الحكم فالحكم هو هذا.
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
لأن هذا الأمر جرى عليه التعامل على نطاق واسع فلابد من التنبيه عليه بشكل واضح، فيجب أن نفرق بين حالتين، الذي يجري عليه العمل الآن، كما تفضل الدكتور درويش، أن طرفًا ثالثًا يقوم بعملية التمويل ويقال: إن فوائد هذا المبلغ هو كذا وكذا.
الرئيس:
الشيخ علي السالوس هو العارض وسيكون في لجنة الصياغة وهو الذي أثار الموضوع.(6/281)
الدكتور محمد عطا السيد:
من خلال البحث اتضح لي جليًّا أن جمهور الفقهاء ركزوا على الصيغة نفسها ومدى أهمية الصيغة، لأنهم ذكروا أن الإيجاب إذا صدر مشتملًا على السعرين في أن واحد فهذا لا يصح.
لذا أرى أن هذه مهمة جدًّا في بيع التقسيط، وعلينا أن نبين جليًّا كيفية ورود الصيغة التي يتم بها العقد، مثال ذلك: إذا كتب شخص إلى آخر كتابًا يتضمن عرضًا بسعرين العاجل والآجل في آنٍ واحد، فأنا أرى أن هذا لا يصلح أن يكون إيجابًا، وبعد أن يفهم الطرف الآخر، وهو الشخص القابل السعرين، يكون الذي يصدر منه بعد ذلك هو الإيجاب والجمهور نبه إلى هذه المسالة وقال: إن صدور الإيجاب مشتملًا على السعرين في آنٍ واحد لا يصح.
الرئيس:
هذا لا إشكال فيه.
الدكتور محمد عطا السيد:
لا، فيه إشكال، لأنه يجب أن يوضح، لأن هذه نقطة هامة في بيع التقسيط وهو تميزه عن سائر الأشياء، فكيف نتجاهل هذه المسألة؟!
الرئيس:
لم يقع تجاهلها، لكن لجنة الصياغة ستحدد الصيغة الجائزة لبيع الآجال في أي صورة من هذه الصور فننتقل إلى الموضوع الثالث: " خصم البائع كمبيالات الأقساط المؤجلة لدى بنك ربوي ".
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
في ظني أن هذه القضية ليست من صلب الموضوع، وقد عولجت في مواطن أخرى وكتب فيها، فليس من مستلزمات بيع التقسيط الحديث عن خصم الكمبيالات.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أدري لم انصرفت الأنظار عن الأبحاث الأخرى التي قدمت في هذا الخصوص؟ إن تلخيص دكتور السالوس لم يأت بالصورة التي كتبنا فيها هذا البحث، فهناك نقاط أساسية في الموضوع لم تبحث بشكل جيد، ولعلنا نأتي إلى بعض المسائل الجانبية في الموضوع، فلابد من مناقشة الموضوع الأساسي في بيع التقسيط ثم نذهب إلى الجزئيات الأخرى، وشكرًا.(6/282)
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
إن هذا البحث صحيح أن له علاقة بأصل الموضوع لكنه بحث قائم بنفسه، فمسألة شراء الدين مطروحة، هناك فكرة لدى بعض الفقهاء بأن شراء الدين بأقل منه جائز، شريطة أن يعود هذا المشتري على المدين بنفس ما دفع، وهذه أمور تحتاج إلى بحث مستقل، فأعتقد أننا لو حذفنا هذا الموضوع فإنه لا يؤثر على أصل البحث، فقضية خصم الكمبيالات ينبغي بحثها بدقة لأنها يجري التعامل بها ولها كثير من موارد التقسيم والاستدلال، فأرجو حذفها.
القاضي محمد تقي العثماني:
أؤيد هذا الاقتراح الذي تقدم به الزميلان العبادي والتسخيري، فموضوع خصم الكمبيالات مستقل ينبغى أن تكتب فيه أبحاث ويدرس في دورة قادمة، لأننا نحتاج إلى بديل، أيضا، لأن عملية خصم الكمبيالات من أهم العمليات الجارية في البنوك، فإذا قلنا: إنها غير جائزة، فلابد أن نأتي ببديل لها، فلذلك أرى دراسة هذا الموضوع في دورة قادمة، إن شاء الله.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:
لا داعي لتهويل الأمر حول هذا الموضوع، وإنما هو صورة مقابلة لصورة البيع بالتقسيط، وهو أن هناك أجلًا يدفع فيه دين في المستقبل ثم يؤخذ منه أقل، وهذه هي عملية خصم الكمبيالة، فالمستفيد واضح أنه بدلًا من أن يدفع بعد ثلاثة أشهر أو ستة أشهر ستمائة ريال، فإنه يدفعها الآن لصاحب الدين أربعمائة ريال، فهي مقابل عملية التقسيط تمامًا، معوضة على الزمن والأجل، وهذا ينطبق عليه تمامًا " وضع وتعجل " كما تفضلتم.
الدكتور رفيق يونس المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم
أود أن أوضح للأخ السالوس أني عندما تكلمت على الشيخ أبي زهرة لم اقصد تجريحه ما دامت الحجة التي ذكرها في كتابه ليست له وإنما هو ناقل، وليست هناك مواطن أخرى فيها تجريح كما يمكن أن توهم العبارة.
أما بالنسبة لموضوع خصم الكمبيالات فقد بينت في بحثي، كما بين الأستاذ الجناحي منذ قليل، أن الخصم يختلف عن " ضع وتعجل "، لأن " ضع وتعجل " بين طرفين وأما الخصم ففيه وسيط، وعندما يتدخل هذا الوسيط تصبح العملية أنه يقرض مبلغًا ويسترد زيادة عليه وتكون هذه الزيادة تعاقدية، وواضح لي أن هذا من ربا النسيئة، فإذا شئتم أن تبحثوا هذا الموضوع فلا حاجة للوقوف عنده طويلًا إلا من يرى خلاف ذلك، وشكرًا.(6/283)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أعتقد أن خصم البائع الكمبيالات و " ضع وتعجل " هما من مهيع واحد، باعتبار أن كليهما يبحث عن السيولة، وإن كانت الصورة فيها طرف ثالث، لكن ذلك لا يغير أصل الحكم ولذا أعتقد أنه لابد من ضمهما إلى بعضهما وإذا رأى المجمع أن يؤجل هذا للنظر وزيادة البحث والتأمل والتدقيق فهو أولى، وشكرًا.
الرئيس:
المهم لدينا هل التصور المصرفي للخصم البنكي للكمبيالات متوفر لدينا في هذه الدراسة أم لا؟ فإذا كان متوفرًا لدينا في هذه الدراسة أو بحكم معرفتنا الخارجية فينبغي أن ينهى الموضوع بما يتوصل إليه المجلس، وإذا كان التصور المصرفي قاصرًا فلا شك أنه ليس من المستحسن أن يبتّ في الموضوع إلا بعد استكمال التصور، أما التصور فهو جلي بحسب التعامل والدراسات حوله.
الشيخ محمد المختار السلامي:
ما قاله الشيخ العثماني من أنه لابد من إيجاد البديل والدراسة المتكاملة له وجه من النظر، لأن البائع يبحث عن السيولة المالية حتى يستطيع أن يحرك تجارته أو عمله، فما هو البديل عندما نقول له: لا يجوز لك " ضع وتعجل "؟ فالقضية تحتاج إلى أبحاث معمقة لابد من الوصول إليها.
الدكتور عبد اللطيف جناحي:
مسألة الكمبيالة، كما تجري الآن بين المصارف، هي - من وجه نظري - تجارة في الدين، بنك متخصص تأتي إليه ولديك أداة وفاء مالية، قد تكون الكمبيالة وقد يكون شيكًا متأخرًا، لها قيمة مالية وفاؤها بتاريخ معين، فالبنك يخصم لك هذه الكمبيالة أو هذا الشيك بمبلغ معين ناقصًا سعر الفائدة من تاريخ إيداعك الشيك عنده إلى تاريخ الاستحقاق، فسعر الفائدة فيه واضح، وأرى أن لا يتعجل مجمعكم الكريم بإصدار الفتوى، لأنها عملية خطيرة تنطوي على شبهات ربوية، فهي تحتاج إلى دراسة متأنية وهو ما عهد من مجمعكم في أخذه الأمور بالتأني حتى تخلص ذمة الناس مما هو غير مشروع، وشكرًا.
الدكتور علي أحمد السالوس:
الحقيقة هو أني لم أشرح هنا الخصم بالتفصيل، وإنما شرحته بالتفصيل في كتب أخرى، وبينت أنه ليس من باب " ضع وتعجل: في عدة صفحات، ولذلك أرى أن يرجأَ هذا لبحث مستقل فيما بعد، أما إذا كان المجمع سيصدر قراره فليسمح لي بان أشرح هذا بالتفصيل لأبين أنه لا علاقة بين خصم الكمبيالة وبين " ضع وتعجل ".
الرئيس:
إذا رأيتم أن يؤجل هذا الموضوع شريطة أن تستحضر فيه أبحاث من اقتصاديين متخصصين ويزود الفقهاء بها وعلى ضوئها يبتّ في الموضوع في الدورة القادمة إن شاء الله.(6/284)
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:
أظن أن المجمع بحث في إحدى دوراته المعاملات في المصارف، وكان من بينها هذا الموضوع " خصم الكمبيالات " وتوصلنا إلى أنه قرض بفائدة، فالبنك الذي يخصم الكمبيالة يدفع لصاحبها للمدين تسعين ليأخذ مائة من الدائن، وهذه لا تحتاج إلى بحث، في رأيي أن يصدر فيها قرار بالمنع ما دامت تمثل نوعًا من الفائدة والفوائد كلها ممنوعة.
الرئيس:
مسألة الخصم البنكي للكمبيالات لا شك – بالنسبة إلي – أنها داخلة في المنع وأنها قرض بفائدة، لكن هناك نقطتان:
1- جرى المجمع على أنه لابد من استكمال التصور لهذه المعاملة ولغيرها، وهذا لا يغير من الموضوع شيئًا.
2- لعل البحث يؤدي إلى إيجاد بديل، فإن فذاك وإلا فإن المجمع يقول كلمته.
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
أولا: أنا لا أفرق بين مسألة خصم الكمبيالة وبين القرض الربوي فهي لا تحتاج إلى بحث ولا إلى تأجيل.
ثانيا ً: بالنسبة للبيع بالنقد أو بالتقسيط على الصورة التي شرحتها إذا قبلت القاعدة بإثبات البيع نقدًا في ذمة المشتري ثم بيع الدين عليه بفائدة لأجل، فإنه ينسحب على هذا، حسب هذه القاعدة، بعد أن تحل الكمبيالات ولا يفي بالدين، فإنه يجب أن تسجل عليه الفوائد، أردت أن أبين هذا حتى تنتبه لجنة الصياغة إليه، وشكرًا.
الرئيس:
الواقع أن أصحاب الفضيلة المشائخ لم يقل أحد منهم بالجواز، وجل الذين تكلموا ذكروا المنع طردًا للقاعدة في هذه وأمثالها، وأغلبهم من أعضاء اللجنة التي شكلت لصياغة قرار موضوع التمويل نظرًا لارتباط التمويل مع بيع التقسيط في بعض صوره وهم المشائخ: تقي العثماني، والصديق الضرير، والمختار السلامي، والأستاذ رفيق المصري، والشيخ العاني، والشيخ الحميد، والشيخ السالوس، فإن رأيتم أن يترك الأمر إلى لجنة الصياغة هذه، فإن توصلت إلى ما يمكن أن يكون حلًّا مرضيًا فذاك ويعرض عليكم في الجلسة الختامية وإن توصلت إلى تأجيل البتّ لزيادة البحث فالأمر ميسور.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
أعتقد أنه يجب علينا أن لا نتعجل، فالموضوع مهم وله جوانب وله فروض مثل مسألة عودة المشتري. . فأرجو أن يؤجل هذا الموضوع دون إحالة على لجنة الصياغة حتى تستحضر الأبحاث والعقود التي يجري عليها التعامل البنكي في هذا الموضوع حتى ندرسها فلربما تبدو لنا مجالات فأرجو التأجيل إلى السنة القادمة حتى نأتي ونحن نملك التصور الكامل حول هذا الموضوع.(6/285)
الرئيس:
على كل لتأخذ لجنة الصياغة هذا في الاعتبار مع ما تتوصل إليه إن شاء الله تعالى.
ننتقل إلى النقطة الرابعة وهي مسألة العينة وهي من المسائل الفقهية المشتهرة، وليست محصورة في صورة واحدة بل هي ذات صور متعددة، سواء في المذهب الواحد أو بين المذاهب الفقهية المعتبرة، والخلاف في هذه الصور كثير والنزاع فيها قائم، وهي ليست من مسائل الفقه الخفية بل هي منتشرة في كتب أهل العلم فهل ترون من الضرورة البحث فيها؟
إذن – اعتبارا لرأي الحضور – ننتقل إلى المسألة الخامسة وهي مسألة " التورق " وأظن أن الموقف منها هو نفس الموقف من سابقتها بأن نتجاوزها.
الشيخ محمد المختار السلامي:
التورق الذي رآه الشيخ السالوس هو المحرم، وقدمه كقضية من قضايا البحث فلابد من النظر فيه.
الرئيس:
هذا رأي الشيخ السالوس وقد ذكر أنه، كذلك، رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، أما بالنسبة إليَّ فأنا أقول بأن الفتوى على خلاف ذلك لكن أقول بأن مسألة التورق ليست من القضايا الفقهية النازلة المستجدة بل هي مسألة فقهية مقتولة بحثًا ومتوفرة لأي طالب علم، فلا يحتاج إلى النظر فيها، فإن رأيتم بحثها فإني أقول بكل وضوح إنه لا يمكن أن نصدر فيها عن رأي باتّ إلا ببحث مستفيض أما بمجرد نقول من هنا وهناك فلا نستطيع البتّ فيها، لكن إذا رأيتم أنها تلحق بالعينة ويصرف النظر عن البت فيهاّ؟
الدكتور محمد عطا السيد:
أرى أنه لابد من الإشارة، لأن الصورتين، العينة والتورق، وردتا في مجال تبيين أن بيع التقسيط يجب أن يكون خاليا من مثل هذه الإجراءات، فلابد من الإشارة، حتى ولو لم ندخل في التفاصيل، إلى أن بيع التقسيط يجب أن لا تدخل فيه مثل هذه البيوع.
الرئيس:
أنت تعرف أن بيع التقسيط أو بيع الآجال ورد ضمن البيوع المنهي عنها، فهل معنى هذا أن نبحث كل البيوع المنهي عنها؟ هي قضايا عينية منها ما تمس الحاجة إليه ومنها ما يعتبر من النوازل المستجدة وهذه التي جرى عمل المجمع على البت فيها أما المسائل المنتشرة وكثر كلام أهل العلم فيها فلا فائدة من بحثها.(6/286)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بالنسبة لبيع العينة، فإن الإمام الشافعي، كما ذكر الشيخ السالوس، ينظر إلى العقد كما وقع وأن هناك بيعين وكل واحد منهما على انفراد جائز، وإن كان الشيخ السالوس يذهب إلى الحرمة فإني لم أفهم من كلام الشافعي – ولست متبحرًا في المذهب الشافعي – الحرمة، بل فهمت الجواز والصحة، أما بالنسبة إلى التورق فيذهب الشيخ السالولس إلى أنها حرام، وأنا لا اطمئن إلى الحرمة، فالشيخ السالوس له مذهب في المسألتين مسجل في بحثه، فهل يذهب هكذا؟
الرئيس:
الشيخ السالوس له مذاهب في هذه المسائل كلها.
الشيخ رجب بيوض التميمي:
بسم الله الرحمن الرحيم
خصم الكمبيالة عملية ربوية خالصة فأرى الانتهاء منها، وهي عملية شائعة في مجتمعنا الفاسد الذي وصل إليه التحلل، فلا ضرورة للبحث فيها ولا لإحالتها على لجنة الصياغة، وأرى عدم تأجيلها لأن البحث فيها عبارة عن بحث المعلوم والمتفق عليه.
الرئيس:
ننتقل إلى الفقرة السادسة وهي: " زيادة الدين عند التأخر في دفع الأقساط ".
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه القضية من القضايا التي بحثها المستشارون الشرعيون لبعض البنوك الإسلامية ولم تصدر فيها، لحد الآن، فتوى بالإجماع، ولكن صدر فيها بعض الفتاوى بالأغلبية اعتمادًا على قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَيُّ الواجد يُحِل عرضه وعقوبته)) و ((مطل الغني ظلم)) و ((لا ضرر ولا ضرار)) .(6/287)
الرئيس:
لعل السادس والسابع يجمعهما قول واحد لأن السابع هو: حلول الأقساط ومطالبة البائع المدين المماطل بالتعويض أحد المشائخ المعاصرين قام ببحث استفدنا منه كلمة وهي قوله: " لا أعلم من سبقني إليه " فهي كلمة استقرائية جيدة، ولكن جملة الفقهاء المعاصرين قابلوا هذه الفتيا بالرفض وبالرد سواء مشافهة أو كتابة حتى في نفس المجلة التي نشر فيها البحث وحتى عدد من الاقتصاديين أبطلوا هذه الفتيا وردوا عليها ورأوا أنها تعود بالنقض على قاعدة تحريم الربا في نفس أصل المعاملة، فإذا توفرت القناعة لديكم وليس هناك ما يقال في هذه النقطة فلننتقل إلى النقطة السابعة.
الشيخ محمد المختار السلامي:
الفتوى لم تصدر من واحد ولا من أكثر من واحد بل صدرت الفتوى من العديد وبعض البنوك تأخذ بهذا وتعمل به، فلابد من بحث وبيانها بما يكفي ويشفي وآخر ما أثيرت هذه القضية في ندوة مؤسسة البركة منذ أيام فقوله صلى الله عليه وسلم: ((لَيُّ الواجد يُحِل عرضه وعقوبته)) اعتمدوا عليه لأصل هذه القضية وكثير ممن لا دين لهم ولا ضمائر استساغوا أموال البنوك الإسلامية فوقع أصحاب هذه البنوك في مشكل وهو أنهم رغم الاحتياطات التي يتخذونها في تعاملهم مع العملاء يبقى قسم كبير منهم متلكئًا في الدفع مع أنه يرى وجوب المسارعة بدفع ما عليه للبنوك الربوية، فيترك البنوك الإسلامية بعمله هذا في مشكل مالي وفي سيولة منقوصة بدون مقابل ما دامت هذه البنوك لا توظف مقابلًا على هذا التأخير، فاعتمد بعض الفقهاء على قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَيُّ الواجد يُحِل عرضه وعقوبته)) وقرروا عقوبة مالية اختلفوا في تقديرها، واعتقد أن هذه الفتوى لا يمكن قبولها لأمرين:
أولًا: الحديث لا يدل على ما ذهبوا إليه، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)) الحق لا يسمى عقوبة، فلو كانت هذه الزيادة حقًّا فهي لا تدخل تحت الحديث لأنه ينص على العقوبة.
ثانيًا: جعل صاحب الحق هو ذاته الذي يتولى العقوبة أمر غير معهود في الشريعة، ولكن لابد من حماية أموال البنوك الإسلامية.
ولذلك كان القرار الذي توصلنا إليه في ندوة البركة هو أن هذه الزيادة تقرر ولكن لا لفائدة البنك وإنما لفائدة المصالح العامة، وهكذا تصبح هذه الزيادة عقوبة فعلًا لأنه لا يستفيد منه البنك ولا صاحب رأس المال وإنما تستفيد منها المجموعة العامة شأن العقوبات التي تسلط على الإنسان، والعقوبة المالية فيها خلاف، فهذا هو الحل الذي أعرضه على المجمع لينظر فيه، وشكرًا.(6/288)
الدكتور عبد اللطيف جناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة الغرامة، أو التعويض كما يسميها البعض، وطرحها الآن في هذه المرحلة من عمر البنوك الإسلامية، مسألة خطيرة جدًّا، لننظر كيف يمنح البنك القرض لإنسان ما؟ يمنحه بعد تحرٍّ يعرف به خلقيات هذا الشخص، ودراسة مستفيضة لميزانياته وأمواله، ثم يأخذ من الضمانات ما يستطيع الرجوع إليها عند الضرورة، فإذا تحرز البنك كل هذا التحرز واستوثق لنفسه بكل هذه الحقوق فأين يقع التعويض؟ ثم إننا إذا فتحنا هذا الباب نكون قد فتحنا باب الربا على مصراعيه، وهذا أمر خطير يجب أن لا نعرض إليه البنوك الإسلامية في هذه المرحلة، حتى لا تختلط الأمور لدى العامة من الناس.
المسألة أثيرت عدة مرات، ويقول البعض: إن البنوك الإسلامية تعرضت لها كثيرًا، وهذا ليس واقعًا ولا حقيقة فالبنوك التي تعرضت لها تعرضت لها بسوء الإدارة، وليس الموضوع أن المجتمع الذي يتعامل مع البنوك الإسلامية يريد أن ينهبها , لماذا نصور المجتمع المسلم هذا التصوير؟ فالبنوك تتحرز وتأخذ الحيطة والحذر، فإذا وقع وتأخر شخص فهذه طبيعة القروض فاعملوا حسابكم أيها القائمون على شئون البنوك الإسلامية ولا تجبروا علماءنا على أن يلووا عنق هذه الشريعة حتى يوافقوا هوى في نفوسكم، فالمسألة خطيرة وأرجو من المجمع الموقر أن يقف عندها كثيرًا قبل أن يصدر أي فتوى، كما أرجو من لجنة الصياغة عند استعراضها لهذه المسألة، واعتبارًا لكون الفتاوى التي يصدرها المجمع محترمة لها قيمتها لدى الجمهور، فأرجو أن تتعرض للمسألة بشرح واضح حتى لا تستغل فتاوى هذا المجمع استغلالًا غير مرغوب فيه، وشكرًا.(6/289)
الدكتور درويش صديق جستنية:
بسم الله الرحمن الرحيم
في البنوك الربوية يتم تحديد مدة القرض، ولكن في البنوك الإسلامية لا تستطيع تحديد مدة القرض، ولا بد من أن يكون هناك نوع من التعزير الحكومي، بحيث إن نتيجة هذا التعزير لا تذهب إلى المستفيد نفسه يعني لا تذهب إلى البنك، ولكن تعطى لمصلحة الحكومة كسائر العقوبات المسلطة على الإنسان نتيجة إخلاله بنظام معين، وفي هذه الحالة تضبط المسائل، لأن تركها بدون حل يفوت على البنوك مصالحها، وشكرًا.
الرئيس:
النبي صلى الله عليه وسلم ما تركها بلا حل بل قال: ((يحل عرضه وعقوبته)) وبذاك يكون أوجد لها حلًا. والعقوبة، مثل ما تفضل الشيخ المختار، ليست موكولة إلى نفس الدائن بل هي موكولة إلى القضاء الذي هو سلطة، والقضاء يجتهد في العقوبة فقد تكون بالتعويق أو بالحبس أو بغيره حسب ما يراه من ملابسات القضية وظروفها.
أما تخصيص عقوبة بعينها والحال أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق العقوبة، فهذا يحتاج إلى مزيد من البحث.
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم
نحن في بيت التمويل الكويتي لا نعمل بهذه الفتوى ونرفضها رفضًا تامًّا، لأن مثل هذه الفتاوى مما يعيبه الناس علينا ويتهمون البنوك الإسلامية بأنها تنهج، تقريبًا، نهج المصارف الربوية، وبالأخص عندما علمت بأن هذا الموضوع وضع له برنامج في الحاسوب، فسواء سميته تعويضًا أو عقوبة أو أي اسم آخر فلا يغير من حقيقته الربوية شيئا، ولهذا رفضناه في بيت التمويل الكويتي متمسكين بإحالة المماطل على القضاء والحكومة تنفذ عليه الحكم في أسرع وقت ممكن، وليس لنا – والحمد لله – مشاكل في هذا الموضوع طوال ثلاث عشرة سنة فهذه الفتوى تَجَنٍّ على البنوك الإسلامية وأنا أرفضها من موقع عملي بهذه البنوك فلذلك أؤكد توصيتي بأن مجمع الفقه الإسلامي يوصي البنوك الإسلامية بأن تجعل فقهاء لمراقبة الممارسات والمعاملات التي تقوم بها هذه البنوك حتى لا تنحرف وحتى يضعوا العلماء على علم بين بهذه الممارسات، وشكرًا.(6/290)
الرئيس:
على كل حال وجهة نظر الشيخ أحمد جيدة، وتقيد عند الأمانة العامة للمجمع.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه المسألة أخذ فيها القانون المدني الكويتي فيما يتعلق بالحكم على المدين المماطل الموسر بالتعويض وهو أولًا لا يصدر بمجرد اتفاق بين الدائن والمدين، وإنما يقع اللجوء في الغالب إلى القضاء الذي يحقق في المماطلة ثم يقضي بالتعويض المناسب، وفي كل حال إن المسألة ليست واردة على سبيل الإلزام إنما هي متروكة لنفسية الدائن والذي أريد أن أؤكد عليه أن في الفقه الإسلامي قاعدة التعزير والتعزير بالمال، والتعزير بالمال قال به كثير من الفقهاء، ومنذ أن صدر القانون الكويتي عندنا في هذا الموضوع كنت أجد في نفسي: هل التعزير المالي يصرف إلى الدائن أم يدخل خزينة الدولة؟ هذه هي المشكلة القائمة عندي وإن كنت لا أعارض في عقوبة المماطل الواجد بالحبس وبالتعزير المالي، وإنما المشكلة هل يصرف هذا المال للدائن أم لبيت المال. وقد عرضت لهذا في رسالتي عن " الحسبة ".
الدكتور رفيق يونس:
بسم الله الرحمن الرحيم
تبعًا لما قاله الأستاذان الجناحي وبازيع الياسين فإني أطالبهما، مع رجاء حار، أن ينشرا أو يوعزا إلى بعض الكاتبين والباحثين في المجلات التي تصدرها البنوك الإسلامية بالكتابة في هذا الموضوع لطمأنة الجمهور والباحثين، ولكي لا يمضي بعض المفتين في فتاوى عن حسن نية بغية إيجاد مخارج للبنوك الإسلامية، كما ألاحظ أن المجمع الموقر من بين الأوراق التي سلمنا إياها هذا الصباح وجدت من بينها قائمة مطولة بالموضوعات منها العقوبة بالمال، فأنا اقترح أن يضاف إلى هذا العنوان التنصيص على مسألة المدين المماطل لاتصالهما الوثيق لا سيما في ضوء ما أبداه الشيخ السلامي من عناصر في موضوع المدين المماطل والتي لم أكن قرأتها أو سمعتها من قبل، فأنا أرى أن ما أبداه الشيخ السلامي مشكورًا جدير بالمناقشة والضم إلى موضوع العقوبة بالمال، وشكرًا.(6/291)
الدكتور حمداني شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوعات التي أمامنا اليوم هي موضوعات المعاملات البنكية المألوفة على الساحة الإسلامية اليوم، والصور التي عرضت علينا كثير منها لا تعدو تحايلًا على تمريرات عملية لصور الربا المتبعة، فإذا نحن مكنّا الدائن من تحديد ربحه ومبلغ خسارته في بادئ الأمر وفي جلسة واحدة وفي تاريخ واحد، ويأخذ لنفسه ما يضمن له المستقبل، فلا يمكن بعد ذلك تبرير أية غرامة يفرضها على المدين نفسه، خصوصًا وأن المسألة ليست اجتهادية، فمطل الغني نُصَّ على عقوبته في بحوث الشريعة الإسلامية والفقه، فهناك الحبس وهناك التغريم ولكن لا لفائدة الجهة الدائنة، فهو من اختصاص ولي الأمر وعلى القاضي أن يحدده، والغرامة المأخوذة تذهب إلى بيت مال المسلمين، فإذا نحن تساهلنا في هذا الأمر فمعناه أننا نبيح العمليات الربوية لأن الدين عندما تتأخر الجهة المدينة في العمليات البنكية اليوم، تفرض عليها الفوائد، فهذا نوع من الربا واقتراحي أن تحيل الأمانة العامة للمجمع هذه القضية على السادة الفقهاء لدرسها والكتابة فيها وزيادة توضيحها.
الدكتور محمد عطا السيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
إن هذا الموضوع عندما عرض ذكر تحت عنوان " بيع التقسيط " ولم يقع التنصيص على أن المراد به بيع التقسيط عند البنوك ولذلك كنت أرى منذ البداية أن ينهج الاجتماع نهج بيان كل الأحكام المتعلقة ببيع التقسيط فينتفع التجار والبنوك والأفراد بذلك، فربط هذا الموضوع بالمعاملات البنكية فقط هو – في رأيي – تحديد لا معنى له، وفي مجال كلامنا عن بيع التقسيط نمثل بالآتي: شخص اشترى بالتقسيط وحصل الاتفاق على الأجل والأقساط وتم العقد، فهذا الشخص بعد تسلمه السلعة إما أن يمتنع عن الدفع من أول الأمر أو أنه دفع بعض الأقساط ثم توقف وفي كل هذه الأحوال ذكر الفقهاء أن هذا الأمر يعود إلى معاملة الدائن للمدين في النهاية وأبين الطرق في هذا: أنه إذا لم يدفع يعامل معاملة الدين العادي إذ ليس هناك فرق بين دين بيع التقسيط وبين الدين العادي، وإن كان موسرًا اتبعنا معه إجراء معينًا معروفًا مثل الحجز على أمواله، المهم أن نجعله يدفع، وأن نرد للدائن حقه، موضوع العقوبة يأتي في الأول، في البداية ومرادنا هو أن نبين للدائن كيف يسترد حقه الضائع قبل موضوع العقوبة.
فلذلك أرى أن نرجع إلى كلام سلفنا من الفقهاء في معاملاتهم لهذا الدين معاملة الدين العادي، فإن كان موسرًا اتُّبِعت معه كل الوسائل القضائية لاسترداد الدين منه، وإن كان معسرًا فيمهل كما قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وإن رأى الحاكم عدم إمهاله فذلك شيء آخر.
هناك شيء آخر، ماذا نفعل بالسلعة التي أخذها؟ وهي ما زالت موجودة هل نستردها منه أم لا؟ هذا، أيضا، مجال للبحث، وشكرًا.(6/292)
الشيخ عبد الله محفوظ بن بيه:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أود أولًا بالنسبة للعينة والتورق أن يحذفا من البحث.
الرئيس:
تم حذفهما.
الشيخ عبد الله محفوظ بن بيه:
أما بالنسبة لهذا الموضوع فإنا قد نعالجه معالجة قاسية إلى حد ما، فكأن البنوك الإسلامية قالت: " اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط " " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " أي أن البنوك الربوية كانت تأخذ الربا وتفرضه على من لم يسدد دينه فاجعلوا لنا ربا بشكل أو بآخر، هذا هو الظاهر وإلا فإنها ليست بحاجة إلى ذلك لو طبقت كثيرًا من الإجراءات.
أولًا: إن البنوك لم يدفعها أو يلزمها أحد بإعطاء الدين، فهي غير مجبرة على ذلك ويمكنها إذا أرادت أن تحتاط لنفسها أن لا تعطي دينًا لأحد، هذا بإمكانها.
ثانيًا: إذا داينت هذه البنوك فإن المدين إما أن يكون موسرًا أو معسرًا فالمعسر يمهل {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} على قراءة نافع حتى نسجلها قراءة مرة على الأقل، وإن كان موسرًا فعمر رضي الله عنه، حبس أسيفع جهينة قال: إن أسيفع جهينة أدان معرضًا، أي تحمل الدين وكان معرضًا عن قضائه، فالحبس هو عقوبة مهمة جدًّا، مالك رضي الله عنه كان ينكر العقوبة المالية ويقول: إنما أعرفه حبسًا أو ضربًا في بدنه وهناك تأليف لعل من اطلع عليه قليل وهو: " حادثة السؤال في نفي العقوبة بالمال " أظهر صاحبه أن الإجماع انعقد على أن هذه العقوبة نسخت وإذا لم تنسخ فيجوز العمل بها حيث انعدمت الأحكام الشرعية كما قال صاحب النوازل:
وجوزوا العقوبة المالية
إن عدمت أحكامنا الشرعية.(6/293)
أما إذا وجدت الأحكام الشرعية فلا يلجأ إلى هذه العقوبة المالية، تعويض الضرر أعتقد أنه مقصد نفاه الشارع بمعنى أن هذه المصلحة ليست مصلحة مرسلة، فالمناسب هنا ليس مرسلًا لأنه معتبر، فأهل الجاهلية يقولون: " إما أن تقضي أو تربي "، لماذا " تربي"؟ لتسد الضرر، أي: لتعوضه والنبي صلى الله عليه وسلم وضع ربا الجاهلية وهذا الوضع معناه أن هذا المناسب ليس مرسلًا فلا يجوز لأحد أن يقيس عليه لأن الشارع نص عليه ووضع ربا الجاهلية الذي كان يراد به تعويض الضرر، فالشارع قد وضع هذا التعويض وألغاه وأنا لا أجد نصًّا يجيز هذه المسألة من قريب أو بعيد هناك نص عند المالكية ضعيف في مسألة المطل: إذا ماطل المدين حتى تغيرت العملة، بانخفاض مثلًا، فهم يقولون: هو ماطل حتى تغيرت فيلزم بهذا وهو قول ضعيف وأوجه خطابي للشيخ الضرير راجيًا أن يتأمله: هذا نص ضعيف جدًّا ذكره صاحب المنهج في القواعد وشروحه وغيره من الشراح، يمكن أن نعاقب المدين بالتشهير به بأن ننشر في الصحافة أنه لم يف بما عليه من الديون، وهذا شيء عظيم جدًّا، فالعقوبة بالحبس واللوم ونزع العمامة تعتبر كلها تعزيرا عند المالكية وإذا لم يف بما عليه تسلط أي عقوبة تعزيرية، فطلب البنوك أن تعوض عن المطل بالمال ليس من باب العقوبة وإنما تريد أن تعوض بالمال ويكون لها أرباح وأن تسترسل في هذا العمل فأرجو أن لا يصدر مجمعنا فتوى بهذا الشأن، وإذا أردتم إصدار فتوى فيه فلابد من تشكيل لجنة لتدرس الموضوع دراسة مستوفاة، حتى لا تكون الفتوى من باب زلة العالم.(6/294)
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الموضوع – كما قال الأستاذ المختار – بحث في ندوات كثيرة واختلفت آراء الفقهاء فيه اختلافًا كبيرًا، ولعل بعضهم موجود معنا في هذا الاجتماع، وهذا يدل على أهمية الموضوع، وما قاله الأستاذ المختار في الندوة الأخيرة – ولم أحضرها – بأنهم أفتوا على أن المقصود العقوبة، وبنوها على دليل الحديث " لي الواجد ظلم "، لكن هناك اتجاه آخر على أن هذا ليس عقوبة ولا تعزيرًا وإنما هو تعويض عن ضرر مادي فِعْلِيّ أصاب البنك بسبب هذا التأخير، وسند هذا الاتجاه ((لا ضرر ولا ضرار)) و " الضرر يزال " ولا مانع من اجتماع الأمرين بالنسبة للمدين المماطل، فيعوض البنك ماديًّا ويعاقب المدين المماطل بالحبس أو الغرامة أو أية عقوبة يراها الحاكم، فالموضوع ليس بهذه السهولة فيما أعتقد ولذلك أقترح، كما قال بعض الإخوة، أن يعرض الموضوع بهذه الصيغة المكتوبة هنا: (مطالبة البائع المدين المماطل بالتعويض) فلا نقلب التعويض إلى (عقوبة) لأنه لا يطالب بعقوبة، والواقع أن الفتاوى التي صدرت، صدرت للبنوك فقط، وحاول الذين أصدروا هذه الفتوى وضع ضابط للتعويض كيف يتوصل إليه؟ وهذه كانت هي المشكلة في التنفيذ، أما من حيث مبدأ التعويض عن الضرر المادي الفعلي ففي رأيي أن هذا مبدأ مقرر في الفقه، فالمشكلة كانت في كيفية تطبيقه حتى إن بعض البنوك عجزت عن تطبيقه فلم يعمل بالفتوى، وبعضها استطاع أن يطبقه فاستمر، ومع ذلك فإن بعض المؤسسات التي ما زالت تطبقه وجدت أن التطبيق لا ينفعها في شيء، كما قال بعض الإخوة، لأنها بنت التعويض على الربح الذي تحقق لهذه المؤسسة في الفترة التي ماطل فيها المدين، فإذا تحقق ربح طالبته به وإذا لم يتحقق ربح لا تطالبه بشيء، وبعض المدينين الذين لا يتورعون استمرءوا هذا واستفادوا منه، فأخذوا يماطلون لأن أرباح البنوك الإسلامية أقل بكثير من الفائدة التي يدفعها إذا اقترض بالفائدة، والمطلوب إيجاد حل لهذه المشكلة، ولذلك أكرر اقتراحي بعدم البتّ في هذا الموضوع في هذه الدورة وإرجائه إلى الدورة القادمة لتقدم فيه بحوث وافية، وشكرًا.(6/295)
الرئيس:
هل سبق لكم البتّ في هذا الموضوع يا شيخ؟
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: من؟ أنا المقصود؟
نعم، سبق لي أن أصدرت فتوى في بنك البركة مقيدة بقيود كثيرة من ضمنها طريقة التطبيق، وعجز البنك عن تطبيقها فأوقفتها ومنعتهم من تنفيذها.
الرئيس:
جزاكم الله خيرًا.
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أحب أن أؤكد على ما اقترحه الأخوة السابقون من طلب عدم بتّ المجمع في هذه القضية في دورته الحالية وإرجائها لمزيد بحثها ومناقشتها إما في إطار هذا المجمع أو في إطار مجالس الفتوى الخاصة بالبنوك لأن هذه القضية تتعلق بالبنوك تعلقًا مباشرًا وليست لها صلة وثيقة بموضوعنا " بيع التقسيط "، والكلام الذي تفضل به الشيخ المختار حول الحل الذي توصلوا إليه في الجزائر ألاحظ أن بعض البنوك بدأت الآن تمارسه، ولذلك يحسن أن يترك الموضوع لمجاله ولا يتعرض له هنا.
الدكتور عبد اللطيف جناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الموضوع أثير عندما دخلت البنوك الإسلامية ميدان العمل، فالبنوك الإسلامية ليست بنوكًا تتعامل بالنقود أو بالديون كما هو شأن البنوك الربوية حسب تعريفها، ومن يتعامل بالنقود أو بالديون لابد أن يعوض إذا تأخر الدين، البنوك الإسلامية لا تتعامل بذلك إنما تتعامل ببضاعة، فحكمها إذا هو حكم التاجر، فإذا أبحتم للبنوك الإسلامية أن تأخذ التعويض فأبيحوا ذلك للتاجر أيضًا لأنه يبيع بالتقسيط حتى يأخذ التعويض، وهنا سوف نجد في الأمر التباسًا كبيرًا ن ثم عملية اللَّيُّ والمطل هذه عملية أخلاقية فليس من حقنا كأفراد أن نحكم عليها، إنما يحكم عليها قاض شرعي يقيس الضرر ويقيس المسئولية الأخلاقية وخروجها عن المجتمع ويعاقبه عليها.(6/296)
الدكتور عبد الكريم اللاحم:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أريد أن أكرر ما قيل، وإنما أضيف أن ما ورد في القرآن تحريم الربا وورد في السنة: ((مطل الغني ظلم)) ونصوص الشريعة لا تعارض بينها، فإن جازت العقوبة بالمال فإنها لا تجوز بالمال في هذه القضية لأنها ربا أو وسيلة إليه فيؤدي إلى تناقض نصوص الشريعة وتضاربها، وهذا غير صحيح، وشكرًا.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لنا في القانون المدني العراقي فصل أو بحث يتكلم عن الشرط الجزائي في القانون، بمعنى لو أراد أحد المتعاقدين أن يضع شرطًا جزائيًّا في صورة ما إذا أراد المتعاقد الآخر النكول عن البيع أو عن الشراء أو عن أي شيء آخر، فما أراه هو أن مسألة التعويض التي أثيرت الآن لها علاقة بالموضوع، فلو تكرمتم يا سيادة الرئيس وطلبتم البحث في هذه النقطة التي أثارها فقهاء القانون، وهي: ما موقف الشريعة من الشرط الجزائي فيما لو أراد أحد المتعاقدين وضع هذا الشرط عند العقد؟ وشكرًا.
الشيخ عبد الله محفوظ بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
أريد أن اذكر الأخ الضرير بأن هذه المسألة ألغاها الشارع بمعنى أن ديون العباس –رضي الله عنه – كان يريد أن يأخذها كاملة ولم يفرق الشارع ولم يستقص، وعدم الاستقصاء يدل على العموم فلم يقل له: هل إن ديونك على موسر أو على معدم بل إنه ألغى الربا في هذه الديون ورده على أصل ماله، فهذا المناسب إذا كان ملغى فإنه لا يمكن الاعتداد به، وشكرًا.
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
إن البحث قد بين معاقبة الماطل ولم يذكر المال لا من قريب ولا من بعيد، وهو شيء طيب، لأنه إذا قلنا: إنه يجب أن يدفع المال – وهذا لم يقل به، طبعًا، أحد – ندخل في باب الربا؛ وأن يتفلت هذا الظالم فهذا ظلم، فالقول بأن يدفع مالًا، إن وجد فيدفعه أو يدفع إلى خزينة الدولة لا إلى خزينة البنك، وشكرًا.(6/297)
الشيخ محمد علي عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
لي تدخلان، أولًا: مسألة المماطلة، لقد عبر كثير من المسئولين عن البنوك الإسلامية عن المشاكل الناجمة لمؤسساتهم من المماطلة، وهم جادون في البحث عن حل إسلامي يطبقونه إزاء المماطلين، ولكن مسألة جعل العقوبة بيد البنك خطيرة جدًّا لأن العقوبة لها شروط، وحتى لو قال البعض بفرض تعويض مالي فإن العقوبة حتى قضائيًّا تكون بالتعويض المالي، فالعقوبة لا تكون اقتصادية فقط بل مالية، فالذي أخذ مالًا أو بضاعة من البنك وكان معسرًا وطالبناه بإرجاع ما أخذ فإنه سيجد مشقة في ذلك ولذلك فإنه لا خوف سواء كان التعويض ماليًا أو كانت العقوبة جسدية.
ثانيا: عندما يتعلق الأمر ببضاعة فربما يطلب الحاكم من المدين ردها وهذا يمثل حلًّا إذا كانت البضاعة موجودة وإلا طولب بالتعويض عند التلف والتفويت وهذا ما يجب أن يبحثه المجمع الموقر، وشكرًا.
الشيخ أحمد بن حمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
إن تأخير البتّ في مثل هذه القضايا الظاهرة أمر لا داعي إليه فالله سبحانه وتعالى، عندما حرم الربا لم يفرق بين أن يكون المرابي فردًا أو مؤسسة أو دولة أو أي جهة أخرى، فالربا كما يحرم على الفرد فإنه يحرم على الدولة وعلى المؤسسة وعلى كل جهة تتعاطاه، والحرمة تعم الدفع والأخذ (لعن الله الربا آكله وموكله وكاتبه وشاهده) فالقضية ظاهرة والعبرة بالمسميات لا بالأسماء، فلا فرق بين أن نسمي هذا الذي يأخذه البنك تعويضًا أو عقوبة أو أي اسم آخر، إنما العبرة هي هل هذه الطريقة جائزة شرعًا؟ لا نجد ما يبررها شرعًا بجانب هذا إذا فتحنا هذا الباب فمعناه أننا فتحنا باب الربا على مصراعيه، وبما أن هذه البنوك إنما يراد بها تطهير الاقتصاد الإسلامي من رجس الربا فيجب أن تكون كل معاملاتها طاهرة نظيفة قائمة على أسس الشرع الإسلامي فأرجو البتّ في هذا الموضوع، وكل شيء إذا قلب نقص إلا الكلام إذا قلب زاد، وأرجو الإسراع بالبتّ، وشكرًا.
الرئيس:
قبل الانتقال إلى المسألة الثامنة، أرجو التعرف برفع الأيدي على الأساتذة الذين يرون منع التعويض لإحالة الموضوع إلى اللجنة لصياغة الموضوع على ضوء المناقشات التي تمت فيه والأمور الجانبية الأخرى.
إذن الأغلبية مع المنع.
ننتقل إلى الموضوع الثامن: " حلول الأقساط قبل موعدها عند تأخر بعضها ".(6/298)
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم
في عقود البيوع ينص بأن المشتري إذا تأخر في دفع قسط وفي بعض العقود: في دفع قسطين متتاليين، فإن باقي الأقساط تحل فورًا لماذا لجأت البنوك الإسلامية إلى هذا؟ لأنها عندما تريد مقاضاة المدين – وقد يكون مماطلًا – فإن إجراءات اللجوء إلى المحاكم تأخذ وقتًا طويلًا، لذلك رأوا أن يكون الإجراء واحدًا، مرة واحدة عوض أن يطالبوا المدين كل مرة بقسط أو بقسطين، فبعض البنوك جعلته قسطًا واحدًا، وبعضها جعلته قسطين متتالين، بحيث إنه إذا تأخر عن دفع قسطين متتاليين يشرع البنك في اتخاذ إجراءات المطالبة بالدين كله هذا هو الواقع، والرأي للمجمع الموقر.
الرئيس:
الملاحظ في بحثكم يا أستاذ سالوس، أنكم لم تكيفوا المسألة من الناحية الفقهية.
الدكتور محمد عطا السيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا نص في صلب العقد على أنه إذا أخل بدفع قسط فإن عليه أن يدفع كذا. . . وتستعجل بقية الأقساط، فإني أرى أن هذا يكون لازمًا، إذ لا شيء يمنع من هذا الشرط طالما اتفق عليه الطرفان، أما إذا لم ينص على ذلك في صلب العقد، وأخل بالقسط، فإن هذا، في رأيي، حالة شاذة وغير مقبولة، فالدائن إما أن يفسخ العقد أو يصبر على المدين أو يطالبه بالطرق الطبيعية، فأرى أن هذا الأمر إذا نُصَّ عليه فهو شرط مقبول والمسلمون عند شروطهم.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أعتقد أن هذا الشرط يعارضه قضية فقهية هي: العلم بالأجل إذ الأجل لابد أن يكون معلومًا من الطرفين لكن هل يجوز اشتراط مثل هذا الشرط؟ ما أذكره من كلام الفقهاء أنهم لا يجوزونه، ولكن وجدت لحافظ المذهب المالكي ابن رشد في كتابه " البيان والتحصيل " أنه يجيز مثل هذا الشرط، ولذلك أعتقد أن القضية يبتّ فيها باعتبار أن هذا الشرط لا يؤثر في الثمن ولا ينافي العقد وكل شرط كذلك شرط جائز، وشكرًا.(6/299)
الدكتور بشار عواد معروف:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأصل في البنوك الإسلامية أنها قائمة على أساس التجارة أي على أساس الربح والخسارة، فالذي تخطئ فيه البنوك أنها لم تقدر المسألة تقديرًا صحيحًا، قد تخسر أي لابد لها أن تخسر اتجاه البحوث في كثير من المسائل وكأن البنوك لابد أن تربح ولا يمكن أن تخسر في أية مسألة من المسائل، أرجو أن يعاد النظر في هذا وقد ذكر لنا الشيخ أحمد بازيع الياسين أنه لمدة ثلاث عشرة سنة بيت التمويل الكويتي الذي بلغ رصيده المتداول لديه أكثر من 3500 مليون دولار ما وقع عندهم مثل هذه الأمور إلا القليل أو ربما لا يوجد لماذا؟ هل لأن الإدارة تسير سيرًا صحيحًا في دراستها لكل وضع من الأوضاع؟ هذا ينبغي أن يدرس دراسة أساسية ويبقى إذا كان هو يربح 90 % من معاملاته فلماذا لا يخسر في بعض الأحيان نتيجة سوء تقديره أو لعدم معرفته بالشخص الذي تعاقد معه من كونه مماطلًا، والمفروض أن للبنك قسم دراسات وله دراية بمثل هذه المسائل، فينبغي إذن أن يتحمل جزءًا من هذه القضايا.
في قضية الجواز لاستحقاق كل الدين، قد يكون المدين معسرًا، فهل نعطي سلاحًا بيد البنك أو بيد أي شخص آخر لاستحقاق جميع الدين على مثل هذا المدين؟ فأنا أعتقد أن هذه المسألة ينبغي التريث فيها من هذا الوجه، وأن مثل هذه القضايا ينبغي أن تراعى فيها العقود الأصلية وأن يراعى فيها القضاء وأن يراعى فيها حسن الإسلام، لأن الأصل هو شركة وتجارة بين الإخوان إذا قامت على أساس إسلامي، وشكرًا.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا لا أرى مانعًا من اشتراط هذا الشرط، و ((المؤمنون عند شروطهم)) يشمل هذا المعنى، والشروط الباطلة لا تنطبق على مثل هذا الشرط، إلا أن هناك أمرًا يلوح في النفس وهو أن البنك بهذا الاشتراط سوف يضيف لنفسه إضافة في نظر العرف، هذه الإضافة هي إضافة مالية، ومعنى أننا منعنا عنه العقوبة المالية في الشق الأول، ونفسح له المجال هنا ليقوم بهذه العقوبة المالية في نظر العرف، فالعرف يرى أنها إضافة مالية، هذا شيء يثور في النفس رغم أنني مع صحة مثل هذا الاشتراط لأن الصفات التي إذا توفرت في الشرط أبطلته لا تنطبق على مثل هذا الشرط ولا يمكن أن نسمي هذا المعنى ربا، لكن هذه النقطة تبقى تلح في النفس وينبغي أن نجد لها حلًا.(6/300)
الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم
المسألة هي في المدين الموسر وليس في المعسر، لأن المدين المعسر، ولو أن بعض الزملاء أتوا به على سبيل الاستطراد، فإنه لا يدخل في هذا الموضوع لأن المعسر ليس له دواء إلا النظرة التي جاء بها القرآن الكريم، أما الموسر فإنه يجبر على أداء الثمن الحالّ في أقساطه، فإن فعل ذلك فبها ونعمت، وإن لم يفعل فهناك تياران: الجمهور والحنفية، فالجمهور قالوا: للبائع حق الفسخ إذا كان المشتري مفلسًا أو كان الثمن غائبًا عن البلد مسافة القصر، وذهب الحنفية إلى أنه ليس للبائع حق الفسخ، كل ما هنالك أنه له التقاضي للحصول على حقه، وفي هذه الحالة هو دائن كغيره من الدائنين، لكن يسقط الأجل وله المطالبة بكل الأقساط المتبقية من الثمن الحالّة، بلا اشتراط إذ هو حقه ومن مارس حقه هو في غني عن اشتراطه في أول الأمر، هذا عند الحنفية ما لم يشترط الدائن لنفسه خيار النقد، كأن يقول: إن لم تدفع الثمن في موعد كذا فلا بيع بيننا هذه مسألة ثانية وما تفضل به زميلي الأستاذ التسخيري وجيه لأن قضية الاشتراط، فيما لو جعلناه شرطًا، فإن السادة الحنابلة يفتحون الباب الوسيع أمام الشرط ما لم يُحِل حرامًا أو يحرم حلالًا، لكن إذا أخذنا بمذهب الحنفية فنحن في غنى عن الاشتراط وعن التعاقد بهذا الشكل شكل المشارطة، ما دام الأمر يتعلق بحق مشروع ورأي الحنفية وجيه.
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم
بالنسبة لموضوع حلول الأقساط قبل موعدها عند تأخر بعضها أرى أنه لا مانع منه، شرعًا، وقد ذكر الحنفية هذه المسألة بالذات وقالوا: إذا ماطل المدين في أداء بعض الأقساط فإن الدين المتبقي يصير حالًا، وهذا لا يخالف قاعدة من قواعد الشريعة (المسلمون عند شروطهم) ، وشكرًا.
الدكتور رفيق يونس المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم
أرى أن هذه المسألة بحاجة إلى دراسة أكثر استيفاء، ذلك أننا نحتاج إلى التمييز في حلول الأقساط، بين موسر ومعسر، وهل هذا المعسر عسره مؤقت أم دائم؟ وهل إذا كان معسرًا يجب علينا إنظاره أو يستحب لنا ذلك؟ وإذا كان معسرًا فالفرض أنه عندما أقرضناه كان موسرًا فهل نستمر على هذا الفرض أم نتجاوزه؟ ثم ما قيمة الدين إذا طالبناه بالأقساط الحالّة، هل نطالبه بقيمة الحلول أم بقيمة الأجل أي الدين الاسمي؟ فأنا أرى أن كثيرًا من المسائل ما زالت محتاجة إلى البحث المعمق والمناقشة، ولذا أقترح إرجاء الموضوع إلى دورة قادمة.(6/301)
الدكتور محمد سالم عبد الودود:
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة المماطلة في دفع الأقساط قريبة من الفلس، والمعروف في المذاهب المالكي أن الفلس كالموت يحلّ به ما هو مؤجل من الدين، لأن الذمة تصبح خربة فإذا أردتم القياس على الفلس فهذا أمر معروف يحل ما هو مؤجل من الدين لأنه إنما عامله ثقة بذمته وقد أصبحت ذمته لا ثقة فيها، فلا مانع من أن يحتاط لنفسه بأن يشترط حلول الأقساط عند عدم الوفاء إذا لم يكن هناك نص صريح يمنع هذا الشرط، وعندي ملاحظة تتعلق بأحد الكتب المالكية وهو حاشية الحطاب على مختصر خليل – في النسختين الأصلية والمصورة – ففيه أخطاء كثيرة يجب التنبه إليها عند الأخذ من هذا الكتاب، وشكرًا.
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأصل في العقود والشروط الصحة والجواز ما لم يرد نص أو قياس صحيح بالمنع وهذه القاعدة – فيما أذكر- قد أقرها المجمع، فهذا الشرط صحيح لأني لا أجد ما يمنعه من نص أو قياس سليم، وقد سمعنا بعض الآراء الفقهية التي تجيزه، وأحب أن أفرق بين أمرين أشار إليهما بعض الإخوة.
إن هذا التقسيط أو الأجل قد يكون في قرض وقد يكون في دين، أما إذا كان في القرض فمذهب الحنفية أن الأجل في القرض ليس ملزمًا، فله أن يرجع في أي وقت ويطالبه بالرد، على أساس أن القرض تبرع، وهو متبرع بالقرض وبالأجل، وإن كنت لا أري هذا الرأي، وأنا مع المالكية الذين يرون أن الأجل في القرض ملزم، لكن إذا وضع شرط، سواء كان التقسيط نتيجة قرض أو نتيجة بيع، فالشرط ملزم، وهذا هو المعمول به في البنوك، يوضع هذا الشرط في عقود البيع كلها: أنه إذا لم يف المدين بالأقساط وتأخر عن دفع أي قسط يحل الأجل، وواضح أن المقصود هنا هو المدين الموسر- لأن المدين المعسر له أحكامه فلا يدخل في هذا الحكم – ولا أرى في هذا مخالفة شرعية.
الرئيس:
ما رأيكم يا شيخ الصديق في الديون طويلة الآجال كعشرين أو ثلاثين عامًا؟
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:
هو على شرطه فما دام رضي بهذا وقبله فقد التزم به.(6/302)
الشيخ عبد الله محفوظ بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الشرط – من وجهة نظر أخرى – يؤدى إلى جهالة في الأجل، ونعرف أن الجهالة في الثمن والمثمن والأجل تؤدي إلى بطلان الشرط فهو في قوة قوله: أبيعك هذا على أن تقضيني بعد شهر أو بعد ثلاثة أشهر، على التردد، وهذا البيع، كما نعرف، لا يصح لوجود جهالة في الأجل، ويعتقد أن هذا ليس أمرًا كبيرًا بمعنى أنه يمكن أن يكون جائزًا على القول بجواز الشروط التي ليست بالغة الإغراق في الغرر، لأنهم أجازوا يسير الغرر إجماعًا للحاجة، لهذا فإني أوافق الذين طلبوا تأجيل هذا الموضوع لنطلع على أقوال العلماء فيها، كما أنني ألاحظ أنه لو باعه وهو مفلس فإن البيع لا ينفسخ ويبقى ساري المفعول، كما قال خليل:
وإن ساقيته أو أكريته فألفيته سارقًا، لم ينفسخ، وليتحفظ منه كبيعه ولم يعلم بفلسه، وأنا أرجو تأجيل هذا الموضوع، وشكرًا.
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
القول بأن هذا الشرط صحيح هناك ما يدعمه، ويبدو أن أساس ذلك الشرط الجزائي، وهو جدير بالوقوف عنده طويلًا، لكن ألاحظ أن العقد، بصفة عامة، يجب أن يكون أساسه العدل والتوازن في الحقوق التعاقدية، فالثمن هنا لوحظت فيه المدة في الأصل، وكثير من عقود البنوك الإسلامية صارت أشبه ما تكون بعقود إدعام، كما يقول القانونيون، من حيث إن رغبة الناس الصادقة في التوجه إلى المعاملات غير الربوية تجعل الإقبال شديدًا على هذه البنوك، لذلك تضاف في هذه العقود كثير من الشروط لصيانة حقوق البنك دون ملاحظة حقوق المتعاملين معه.
لذلك لابد في هذا المجال أن لا تطلق العبارة، فلابد أن يشار إلى أن يكون الأمر بدون إعسار، كما نبه الكثيرون، وبدون عذر، أيضًا، لأن قسطًا واحدًا يحل دينًا لعشرين عامًا، فالتخلف عن الدفع قد يكون لعذر كمرض أو حادث، فلابد أن يكون أساس عقودنا الإسلامية التوازن التعاقدي القائم على العدل، وموضوع الإعسار، ما دامت القضية لا تتعلق إلا بالموسر، يبعد عملية القياس على المفلس لأن الأمر هناك أمر إعسار وليس أمر يسار.(6/303)
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أريد أن أؤكد على التفرقة بين المعسر والمماطل وكذلك بين من له عذر ومن ليس له عذر، فالقضية ليست قضية مال فقط وإنما يجب مراعاة الظروف من جميع الجوانب كالأعذار والآجال، فأعتقد أنه يجب أن لا يوضع الشرط عامًّا بأنه يجوز للبنك أن يفعل كذا عند التأخر، ويصبح هذا الشرط قالبًا متجمدًا ينتج عن تطبيقه ضحايا لابد فيما إذا أصدر مجمعكم الموقر قرارًا أن يلاحظ فيه هذه الظروف بالتفصيل كالإعسار وما إليه.
الملاحظة الثانية: نظرًا لطول بحث الأخ الكريم فإنه لم يذكر التكييف الشرعي الذي يحتاج إلى بحث وهو ينطبق على قضية الأجل، وهل هو ملزم أم لا؟ كما أشار إلى ذلك الأستاذ الضرير، وأكثر الفقهاء يقولون: إن الأجل في القرض ليس ملزمًا، والمالكية هم الذين يقولون بالإلزام وأيدهم شيخ الإسلام ابن تيمية والذين يقولون بعدم إلزامه في القرض باعتباره تبرعًا {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، فما يترتب على القرض لا يكون ملزمًا ولكن هناك شروط يمكن أن تحل المشكلة من حيث إن هذا الشرط جرى به العرف وإنه لا يخالف مقتضى العقد وبالتالي لو شرط يمكن الإيفاء به لكن مع وضع هذه الضوابط التي ذكرها الإخوة وذكرت بعضها.
ملاحظة أخرى بخصوص الأحقية بالمال، فإن بعض الإخوة كيفوا المسألة على أساس أن هذا البنك يكون أولى بهذا المال، ففي اعتقادي أن هذه القضية التي أشار إليها الإخوة، تختلف تمامًا عما نحن فيه، إذ هذه المسألة في المفلس والمال العيني يكون موجودًا، أما القضية التي نحن فهي في الدين، ولم يقل أحد من العلماء بأن الإنسان يكون أحق بدينه حتى عند المفلس، بالإضافة إلى أن قضيتنا ليست قضية إفلاس بل قضية مماطلة من غني موسر ولذلك لابد ألا تتجه الأنظار نحو هذا التكييف الشرعي وهذا ما يجعل الموضوع في حاجة إلى مزيد البحث.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع، وإن كانت المداولات تؤدي إلى جواز هذا الشرط، لكنه بدا في هذه المناقشة أن هناك تفريقًا بين المعذور وغير المعذور وبين ديون طويلة الأجل وديون قصيرة الأجل كما تبين أن هذا الموضوع ليس له رصيد من البحث لدينا سواء من الوجهة البنكية المصرفية أو من حيث التكييف الفقهي والتخريج لها، فإن رأيتم أن تؤجل هذه المسألة إلى الدورة القادمة ويعد فيها بحث يضم هذه الأشياء المتناثرة ويمكن بذلك البتّ فيها فلتؤجل بناء على رغبتكم.
وبهذا ترفع الجلسة، ونستكمل بقية الموضوعات في الجلسة الصباحية القادمة ليوم السبت إن شاء الله تعالى.(6/304)
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم
إخواتي لاحظتم من خلال مناقشة هذا الموضوع والذي قبله أن نقاطًا كثيرة ما زالت محتاجة إلى زيادة الدرس، واقترح بعض الإخوان أن يقع بحثها في دورات قادمة، فبناء على تشكيل لجنة شعبة التخطيط التي اتفقتم عليها والتي يرأسها الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور، يمكنكم أن تتقدموا باقتراحاتكم إلى هذه اللجنة حول الموضوعات التي ترغبون تأخيرها، حتى تأخذ مكانها من القائمات المعروضة عليكم، وحتى ننظر في ترتيب هذه الموضوعات حسب أولوياتها ويحذف ما يكون من التكرار فيها، وشكرًا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله.
كان من المفروض أن نبدأ في هذه الجلسة موضوع حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة، لكن بقيت بقية من موضوع بيع التقسيط فلنقتطع بعض الوقت لاستكمال بحث الموضوعات الباقية بداية من التاسع وهو: " اللجوء إلى التحكيم لإزالة ضرر مطل الغني ".
الدكتور محمد عطا السيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
لست أرى الربط بين موضوع بيع التقسيط وهذه المسألة وأرى أن التحكيم يعم كل المسائل، ولا أرى ضرورة مناقشة هذه المسألة.
الرئيس:
هي مسألة إجرائية، وعلى فالرأي للمجلس، فهل ترون إبقاءها ومناقشتها؟ أمم ترون استبعادها؟ إذن ترون استبعادها.(6/305)
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
إنما مشكلتها إذا حكم المحكمون على المدين المماطل بالتعويض المالي، إذا غالبًا ما يحكم هكذا.
الرئيس:
نتائج الأحكام تعود إلى ذات المحكمين هل هم شرعيون أم غير شرعيين؟ وهو يعود إلى ذاتهم.
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
وهذا هو المقصود، أي المقصود أن يصلوا إلى حكم مالي عليه بقرار من لجنة التحكيم.
الرئيس:
في الواقع ما أنت عليهم بمسيطر، فطالما أن البنك قد يختار محكمين شرعيين أو يختار محكمين قانونيين، فجهة الاختيار التحكم فيها ليس إلى الفتيا.
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
يوضع في العقد نص يقول: في حالة عدم السداد يحال الأمر للتحكيم للحكم بكذا وكذا.
الرئيس:
تعرفون ما انتهى إليه المجلس بالأغلبية في خصوص العقوبة المالية.
المسألة العاشرة: " ضع وتعجل ".
الدكتور علي أحمد السالوس:
بالنسبة للنقطة السابقة أريد أن أشير إلى أن لجنة التحكيم لا تحكم بالتعويض المالي.
الرئيس:
قلنا إن الأمر إجرائي.
الدكتور علي أحمد السالوس:
مسألة: "ضع وتعجل " جمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، يرون عدم جوازها وابن عباس وبعض الفقهاء والتابعين يرون جوازه، وكثيرون يرون الجواز إذا لم يكن بشرط لأن الذين يمنعونه , يمنعونه إذا كان بشرط أي إذا اشترط بأنه إذا دفع قبل الموعد فإنه يخصم من المبلغ كذا مناسبًا للفترة الزمنية، فقالوا هنا: إذا كان بغير شرط فإنه جائز، أما إذا كان بشرط فإنه لا يجوز، هذا موجود في العقود، ففي بعضها يذكر: أنه إذا دفع قبل الموعد – أو يشترط الآخر أنه إذا دفع قبل الموعد – يخصم من المبلغ ما يوازي المدة الزمنية، وبهذا الشرط يرى الجمهور عدم الجواز.(6/306)
الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني:
بسم الله الرحمن الرحيم
رأي الجمهور على إطلاقه يمنع التبرع لأن من يريد أن يتنازل عن حقه في هذه المسألة فلا يمكن أن نمنعه إذا لم يكن في المسألة شائبة الربا فلو جاء شخص إلى مدينه قبل حلول أجل الدين قال: ادفع ما يمكنك دفعه الآن وأتنازل لك عن الباقي، فبأي وجه يمكننا منعه؟ كذلك الذين ذهبوا إلى المنع مطلقًا ليسوا على صواب، ولذلك يترجح رأي الشافعي ومن تبعه في أن المسألة إذا كانت مشروطة فإن الربا، هنا، واضح وهو كما قال: ارفع وتأجل، فيكون هذا كذاك، نفس العلة وهي مقابلة الزيادة أو النقص لأجل وهذا هو المحظور شرعًا أما إذا لم تكن المسألة مشروطة فإنها تأتي على صيغة التبرع وهو أمر مندوب إليه شرعًا، وشكرًا.
حجة الإسلام محمد على التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
بالنسبة إلى " ضع وتعجل " لا ريب أن أدلة حرمة الربا لا تشمل هذا المورد شمولًا بالنص، بحيث يدخل في منطوق أدلة حرمة الربا، الربا ينظر إلى الزيادة نتيجة التأجيل، فإذا أردنا أن تشتمل الأدلة هذا المورد يكون علينا أن نأتي بقياس، والقياس حتى لو قبلناه، ونحن لا نقبله، وهو قياس مع وجود الفارق، والفارق هنا واضح جدًّا فهناك زيادة تؤخذ نتيجة إمهال وهي، عادة، تضر بالضعفاء، ولعل الشارع ركز فيها على هذا الجانب، أما الوضعية هنا فهي تحصل نتيجة تمكن من الدفع العاجل، فلا يمكن قياس هذا المورد بذاك المورد.
في المرحلة التالية نجد أمامنا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لليهود: ((ضعوا وتعجلوا)) وهي طريقة يشرح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل شرعي لهؤلاء كيف يستوفون ديونهم بسرعة قبل جلائهم هذه الرواية مطلقة المدلول ولا يمكن أن نجعلها خاصة في مورد، وبالتالي تخصيص الدكتور الأخ السالوس بالمورد، أو حتى من يقول بأنهم كفار محاربون وأموالهم حلال بما فيها هذا المقدار، فإن هذا المعنى لا يفهم من الرواية، ما يفهم من الرواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمهم طريقة للخلاص من هذه الحالة في مقابل ذلك نجد الصحابة مختلفين، فحبر الأمة يخالف صحابيًّا آخر، وهنا أنبه إلى نقطة جاءت في بحث الدكتور السالوس وهي " أن الذين لا يجيزون ضع وتعجل هم عامة الصحابة" فهذا الاستقراء لا ادري كيف تم حتى نعرف عامة الصحابة والتابعين الذين لم يجيزوه؟! وعبارة معمر، الواردة هنا " ولا أعلم أحدًا قبلنا يكرهه "، لا تدل على عدم الجواز فبعد عدم دلالة القرآن الكريم على الحرمة وما ورد من الرواية بالجواز واختلاف أقوال الصحابة فإن الصواب أن يبقى هذا على الحلية ولا مانع منه، وهو، في الواقع، مجرد تبرع يتفق عليه للخلاص من الدين، وشكرًا.(6/307)
الدكتور عبد اللطيف جناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم
نحن في مرحلة أستطيع أن أقول إنها مرحلة انتقالية إلى تطبيق المعاملات الإسلامية في مصارفنا ومؤسساتنا الاستثمارية الأخرى وكثير من العاملين في مؤسساتنا الإسلامية سبق لهم أن تعاملوا بالمعاملات الربوية، وهنا يرد الالتباس وإذا أردنا أن نقر ((ضع وتعجل)) وهي مسألة جائزة فيجب أن يكون لها تفسير واضح، حتى لا نقع في خطأ ربوي، وهو الحسم، والحسم هو أن تذهب إلى الدائن فتطلب منه حط مبلغ عنك مقابل الزمن فبدل أن تدفع، مثلًا، عشرة واثنين مقابل زمن قادم، في العمليات الربوية، فإنك هنا تدفع ثمانية لأنك طرحت اثنين مقابل زمن قد أخذ عليك مبلغ مقابله فلو كانت العملية أننا أقرضنا شخصًا أو بعناه بالتقسيط على ثلاث سنوات، ثم جاء بعد سنة فإنما يحصل هو كالتالي: يضرب المبلغ في النسبة في الزمن ويطرحه، وهذه العملية هي عملية الربا في حد ذاتها فلذلك عندما نتحدث على مسألة " ضع وتعجل " وهي مسألة جائزة، يجب أن نكون دقيقين في تفسيرها، أي لا ننسب الخصم للزمن وبنسبة يكون هناك اتفاق على أننا نطرح مبلغًا معينا من الربح حسبما نتفق عليه، ولكن معادلة الربا لا نضعها في الموضوع حتى لا يلتبس الأمر بين الحسم وبين "ضع وتعجل "، لأن " ضع وتعجل " لا علاقة لها بمعادلة الربا فالاتفاق يكون بين الطرفين والزمن لا قيمة له فيه فيكون العرض هكذا: تريد مني ألفًا سأعطيك، مثلًا، ثمانمائة أو سبعمائة، ويكون الاتفاق على مبلغ معين لكن لا يكون على صورة أن تقول: مقابل السنتين الباقيتين من الأجل كم تطرح لي من الدين؟ هذه النقطة يجب مراعاتها عند الصياغة حتى يصاغ الموضوع بشكل خالٍ من الالتباس في فهم موضوع " ضع وتعجل "، وشكرًا.
الرئيس:
في خصوص النقطة التي أشار إليها الشيخ علي التسخيري وهي شكه في أن عدم جواز " ضع وتعجل " هو رأي عامة الصحابة فإن عددًا من الفقهاء وعددًا من المحدثين أشاروا إلى ذلك، وهذا لا ينفي أن يكون هناك من قال بخلافه من الصحابة أما حديث " ضع وتعجل " في شأن بني النضير فإن عددًا من الحفاظ يرون ضعفه.(6/308)
الدكتور وهبة مصطفي الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
المعروف أن ما تعلق بالربا ينبني إما على عقد أو اتفاق أو شرط، والشرط إما أن يكون مصرحًا به وإما أن يكون متعارفًا عليه، لأن قاعدة الفقهاء، كما هو معلوم لدى الجميع، " المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا "، وبناء على هذا فإني أرى أن هذه القاعدة، تمشيًا مع الأصول التي يقوم عليها تحريم الربا في الفقه الإسلامي، تدور في فلك الاتفاق أو الاشتراط المصرح به أو المتعارف عليه، وأما ما عدا ذلك فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سداد الدين قال: ((خيركم أحسنكم قضاء)) ، فإني أعتقد أنه في مجال التبرع يدخل تحت هذا الأمر النبوي المندوب إليه وهو أن الدائن قد يرى عجزًا في المدين فيعرض عليه حطيطة في هذا الدين ليحصل باقي الدين جله أو بعضه، فما المانع إذن من أن يكون هناك تبرع بالحط من الدين في سبيل الحصول على الباقي، وهو متفق مع الحديث الذي ذكرته، وأنا متفق مع أخي الدكتور العاني في أن مذهب الشافعية في هذا الموضوع هو أولى المذاهب من حيث العمل به فيه، وهو متفق مع مبادئ الشريعة وروحها وأصولها العامة.
الدكتور محمد نبيل غنايم:
بسم الله الرحمن الرحيم
أرجو العودة إلى مسألة حلول باقي الأقساط عند مماطلة المدين في دفع قسطين أو ثلاثة في البيع الآجل.
الرئيس:
لنبق في موضوع النقاش.
الدكتور محمد نبيل غنايم:
في خصوص " ضع وتعجل " هي مسألة مقبولة ولا بأس بها، وبخاصة أننا راعينا ذلك في البيع بالتقسيط فقد أعطينا زيادة مقابل الأجل، فإذا أصبح المدين قادرًا على سداد دينه فلا بأس من التنازل له عن بعض الأقساط مقابل التعجيل بالدفع، وهذا لا بأس به.(6/309)
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم
لي رد على أخي الدكتور علي السالوس الذي قال: بأنني لم أجد صحة لهذا أو لم أعثر عليها، فالواقع - كما ذكرتم - الرواية موجودة ولكن للفقهاء أو للمحدثين فيها كلام، هذا من ناحية، لأن هذه الرواية قد استدللت بها في بحثي واطلعت على رأي المحدثين فيها.
ثانيًا: أنا لا أرى مانعًا من الأخذ بهذه الرواية بمدلولها ومنطوقها بأنه لو أرادت الجهة الممولة أن تقول للمدين: لو أعطيتني المبلغ قبل حلول الأجل فلا مانع من أن أتنازل لك عن قسط من ديني، وهذا نوع من التبرع، لا أرى فيه بأسًا، وشكرًا.
الدكتور حسن عبد الله الأمين:
بسم الله الرحمن الرحيم
موضوع " ضع وتعجل " نظرة الجمهور إليه، كما عبر عنها المالكية، هي عبارة عن سلف بزيادة، إذا حينها يقول له: " ضع وتعجل " فكأنما أعطاه عن مائة له في ذمته خمسين، مثلًا، وأسقط عنه خمسين، عن طريق السلف والإقراض، وحينما يأتي الأجل لخلاص الدين تستوفى المسألة على هذا الأساس، وهذا يجعل القضية ربوية إذا نظرنا إليها هذا النظر، وهو نظر الجمهور ولكن النظر الآخر الذي يستند إلى الحديث، وإن كان هذا الحديث فيه قول، إلا أنه فعلا يتماشى مع واقع الحياة المعاشة، وهناك كثير من الديون التي يصعب على أصحابها الوفاء بها جملة واحدة ويلوح للدائنين أن قضاء بعضها أفضل لهم من الانتظار، وفي هذا نفع للمدين، وما دام يمكن الاستئناس بالحديث وإن كان فيه بعض الشيء وكذلك فيه مذهب فقهي هو مذهب الشافعية، فأرى أن يوافق المجمع على إجازة هذه المعاملة، وإن كان هذا خلاف رأي الجمهور.(6/310)
الدكتور رفيق يونس المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه المسألة الدقيقة في الفقه والاقتصاد ولعل مناقشة هذه المسألة، في نظري، قبل أن يناقش المجمع مسألة تفسير جواز الزيادة في البيع المؤجل هي مناقشة قبل الأوان، ولعل سبب ذلك أن الأخ الدكتور السالوس لدى عرضه وتلخيصه لبحوث بيع التقسيط كان مائلًا قليلًا إلى تلخيص ورقته دون استيعاب كل المسائل التي وردت في البحوث الأخرى، ومنها أن الموضوع متصل بشعب ثلاث: القرض، وبيع التقسيط، وبمسألة اقتصادية على غاية الأهمية هي تقويم المشروعات، وهذه المسألة الأخيرة قد يكون للمجمع عذر في عدم مناقشتها لأنها تحتاج إلى ندوة اقتصادية تدرسها قبل عرضها على المجمع، وأريد أن أبين نقطة مهمة جدًّا، أيضا، وهي أن الزيادة في مقابل الزمن ليست دائما ربا حرامًا، وقد أكثرت من النقول في بحثي في خصوص هذه النقطة من مختلف المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها من الزيدية والمعتزلة وغيرها، من الزيدية والمعتزلة وغيرها، وأرى أنه يجب أن تدرس هذه النقول دراسة وافية قبل التسرع في إصدار فتوى تحرم " ضع وتعجل ".
إن بيع الأجل الذي أجاز فيه جمهور الفقهاء الزيادة للتأجيل أي للزمن، فإذا اتفقنا مع الجمهور في إجازة هذا فمن المناسب أن نجيز " ضع وتعجل " طالما أن العلاقة ثنائية بين المتبايعين، وهناك فرق واضح في الحكم الشرعي بين " ضع وتعجل " في العلاقة الثنائية بين المتبايعين وبين الخصم المصرفي الذي يتخوف منه بعض الإخوة، فأنا لا أشك في أن الخصم المصرفي الذي يدخل فيه وسيط ثالث وهو المصرف، هذا الخصم المصرفي، هو من قبيل ربا النسيئة المحرم، ولكن " ضع وتعجل " بين المتبايعين إذا كنا قد أجزنا فيه عند البداية أن نزيد للتأجيل فمن المعقول جدًا أن نضع للتعجيل وإلا فإننا لا نستطيع أن نفسر تفسيرًا منسجمًا المسألتين مسألة الزيادة للتأجيل في البيوع ومسألة الحطيطة للتعجيل في البيوع، فأنا أقترح على المجمع أن ينظر في مسألة على غاية الأهمية فلا يكفينا أن نقول: إن الزيادة في البيع المؤجل جائزة، فحسب، بل يجب أن نفسر هذه الزيادة لماذا جازت؟ إنها جازت، في نظري، للزمن، فإذن يجب أن نتفق على هذا قبل أن نمضي في مسألة: ((ضع وتعجل)) .
إن الزيادة في مقابل الزمن، أقول: إنها ربا، ولكن ليس كل ربا حرامًا في الإسلام، وقد بينت هذا بوضوح في بحثي فأرجو منكم قبل النظر في موضوعنا أن نتفق على تفسير لجواز الزيادة في البيع المؤجل قبل الانتقال إلى هذه المسألة المهمة، وشكرًا.(6/311)
الرئيس:
ليس كل معاملة حرامًا أما ليس كل ربا حرامًا فما أدري به، يا حضرات المشايخ أنتم تعرفون أن بحث موضوع بيع التقسيط إنما ورد بسبب التعامل المعاصر في هذه القضية، وهذا الموضوع أحاطت به هذه النقاط الثلاث عشرة، منها ما هو من قبيل المستجدات التي بتَتُّم في عدد منها، ومنها ما هو مبحوث باستفاضة لدى الفقهاء المتقدمين مثل: العينة والتورق، ورأيتم رفع هاتين القضيتين نظرًا لانتشار البحث ومعرفة آراء أهل العلم فيهما.
يبقى موضوع " ضع وتعجل " هل ترون أن يبتّ فيه في هذه الدورة أو أن يرفع مثل التورق والعينة لالتحاقه بهما، أو أنه له أهمية ومساس كبير بهذه المعاملة، ونظرًا لكون مذهب الجمهور هو المنع فقد ترون أنه لابد من إعداد بحث أو بحوث متكاملة في هذا الموضوع، سواء من الوجهة الحديثية لأنه يستند إلى عدد من الأحاديث، أو من الوجهة الفقهية وتمحيص الأقوال، ويشار في القرار إلى تأجيله إلى الدورة القادمة.
إذن يؤجل حسب اقتراحكم النقطة الحادية عشرة.
الدكتور علي أحمد السالوس:
يلجأ البائعون إلى عقود الاستيثاق المختلفة ولكنا وجدنا بعضهم يلجأ إلى وسيلة أخرى وهي الاحتفاظ بملكية المبيع، ومعلوم أن أهم الآثار المترتبة على عقد البيع هو نقل الملكية، ولذلك فإن هذا الاحتفاظ يتعارض مع مقصد العقد أساسًا وقد وجدنا بعضهم لا يلجأ إلى الاحتفاظ بالملكية بطريقة مباشرة، وإنما يلجأ إلى عقد آخر وهو عقد الإيجار المنتهي بالتمليك أو التمليك التأجيري.
وفي هذا العقد نرى أن البيع هو الذي ينطبق على العقد وليس الإجارة، يعني، مثلًا، الأقساط تتناسب مع ثمن المبيع وليس مع الإجارة، ثم إن الالتزامات المترتبة على هذا العقد هي التزامات المشتري، لا المستأجر، فهو الضامن وهو الذي يتعهد بحفظ المبيع والتأمين عليه وهو الذي يقوم بإصلاح كل شيء نتيجة لنقل الملكية يترتب على ما سمي بالمستأجر، ولذلك أرجو هنا، ما دام المجمع قد اتخذ قرارًا في عقد التأجير المنتهي بالتمليك وقرر جواز هذا بشرط أن يتفق مع عقد الإيجار وما يترتب عليه، إنما كل العقود التي رأيتها، تخالف هذا.
لذلك أرى هنا أن يتخذ المجمع الموقر قرارًا بمنع الاحتفاظ بملكية المبيع، لأن هذا هو أهم الآثار المترتبة على عقد البيع، ويمكن للبائع أن يلجأ إلى عقود الاستيثاق الأخرى، وشكرًا.
الرئيس:
التعبير دقيق، يا شيخ علي، الاستيثاق أو تعويق ملكية المبيع.
الدكتور على أحمد السالوس:
" الاحتفاظ " لأنه يجعل الملكية كما هي للبائع فإذا ما انتهت المدة نقل الملكية بعد نهاية العقد.
الرئيس:
لكني أقول: إن المسألة ليست احتفاظًا إنما هي تعويق فقط أما الملكية فهي منتقلة.
الدكتور علي أحمد السالوس:
لا تنتقل الملكية أبدًا، فهي احتفاظ كامل.
الرئيس:
بل تنتقل في الأصل.
الدكتور علي أحمد السالوس:
في التطبيق العملي لا تنتقل أبدًا , يبقى الاحتفاظ الكامل بالملكية.
الرئيس:
هو الاحتفاظ في الحال الثانية أما في أصل الملكية فهي منتقلة نظرًا لقوة العقد.
الدكتور علي أحمد السالوس:
وفي الأصل أيضًا حتى في البيع لا ينقل الملكية، يعني يبيع مثلًا سيارة فتبقى الملكية للبائع حتى نهاية الأقساط.
الرئيس:
أنا معك في هذا لكن الملكية بقوة العقد، منتقلة شرعًا وهذا لا إشكال فيه.(6/312)
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما مسألة العقد وبقاء الملكية للبائع الأول فهي أمر لا يتصور إلا أن الواقع العملي هكذا ربما، هناك صورة الإيجار المنتهي بالتمليك ولها حالتان: تارة في نهاية كل قسط يكون هناك تمليك لحصة مشاعة بمقدار ذلك القسط، وتارة أخرى في نهاية الأقساط يتم التمليك، وصورة الإيجار المنتهي بالتمليك لم يشأ المجمع في العام الماضي أن يصدر رأيه فيها وأجل الأمر إلى وقت آخر، وإن كنت أرى أن هذا الشرط صحيح سواء كان شرط الفعل يعني شرط التمليك أو شرط النتيجة يعني شرط التملك في نهاية كل قسط، وعلى كل حال فرأي المجمع هو المقدم.
قضية بيعتين في بيعة كان هو المستند ورأينا أن هذه القضية لا تشكل مستندًا، أنبه هنا إلى أن هذه العملية ليست صورية، كما تفضل الأستاذ السالوس، وذلك بملاحظة أمرين أساسيين.
الأمر الأول أن الأقساط المأخوذة أو ما يسمى بالتزامات المستأجر المالية وغن كانت كالتزامات المشتري، إلا أن ذلك باعتبار الفرق بين هذا المستأجر وذلك المستأجر الذي يراد تمليكه، وهي ميزة ترفع قيمة الإجارة.
الأمر الثاني أن الالتزامات هنا ليست كاملة يعني التلف هنا من مال البائع، ولا يمكن تضمين المستأجر العين إذا تلفت بصورة طبيعية، وإذا لاحظنا هذا المعنى كان هناك فرق حقيقى بين هذه المعاملة وتلك المعاملة الربوية، ولا يمكن أن نجعلها معاملة صورية.
مسألة الرهن التي أشار إليها الأستاذ لا مانع منها – كما أرى – والأستاذ السالوس قال: الرهن يخالف مقتضى العقد، والصحيح خلاف ذلك إذا مقتضى العقد هو انتقال الملكية لكن تنتقل الملكية، هنا، لا بكل آثارها، ومن آثارها قدرة المالك أن يرهن هذا المعنى، ما أكثر الملكيات المحجور التصرف عنها مثل ملكية السفيه والصبي. . . إلخ فالملكية منتقلة، وهي مقتضى العقد والرهن لا يخالف مقتضى العقد وحينئذ فلا مانع من انتقال الملكية ولكن يكون البيت مرهونًا لدى البائع حتى يتم تسليم الأقساط.
هناك صورة ثالثة لا أرى فيها مانعًا وهي أن يشترط البائع منذ البدء أن يكون له حق خيار الفسخ بمقدار الحصة التي يتأخر عن دفعها المشتري، على الشيوع، ويشترط أيضا أن لا يكون للبائع خيار ما يسمى بتبعض الصفقة، يعني عندما يفسخ في جزء من هذه الصفقة يأتي خيار يسمى خيار تبعض الصفقة هو يشترط الخيار له ويتشرط إسقاط خيار تبعض الصفقة وحينئذ يحصل له ما يريد بشكل كامل ويضمن دفع الأقساط، وشكرًا.(6/313)
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
العبارة وهي: منع الاحتفاظ بملكية المبيع، أظن هناك عبارة فقهية في خيار الشرط تقول: " يوقف العقد في حق حكمه " ألا يمكن الاستفادة من هذه العبارة في هذا المجال.
الرئيس:
هو نفس العقود الموقوفة أو المعوقة، هذا نفس المعنى.
الشيخ عبد الله محفوظ بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
سبق أن وافق المجمع الموقر على عدة بدائل فيما يتعلق بالإيجار المنتهي بالتمليك في اجتماع الكويت منها: بيع بخيار طويل المدى مع الإجارة خصوصًا عند من يقول بأن الخيار يمكن أن يكون إلى أمد بعيد، هذه الصيغة يمكن أن تطبق هنا، وافق على بديل آخر وهو بيع الثنيا بمعنى أن البائع يستثني غلة المبيع مدة من الزمن، وهذا جائز في الدور والعقارات أي فيما لا يتغير، المدة اختلف العلماء فيها، خصوصًا المذهب المالكي، من عشر سنوات إلى سنة واحدة، هذا أيضًا يمكن أن يكون بديلًا فأرجو أن يراجع قرار المجمع فيما يتعلق بالإيجار المنتهي بالتمليك والذي قدمت فيه يحثًا صودق على أربع صور منه وبقيت صورتان لتنعقد لهما ندوة خاصة، وشكرًا.
الدكتور حسن عبد الله الأمين:
بسم الله الرحمن الرحيم
التعبير بملكية المبيع هو في الحقيقة تعبير مقصود به أن يظل المبيع مملوكًا للبائع إلى أن تستوفي كل الأقساط بدليل أنه إذا لم يتمكن المشتري من الوفاء بالأقساط فإن البائع يمكنه بيع هذا المشترى، وهذا العقد بهذه الصفة رضي به المشتري، فهو إذن عقد معلق وليس عقدًا باتًّا ناجزًا، ومن هنا يبدو لي أن هذا العقد غير منعقد وغير صحيح، وشكرًا.
الرئيس:
إن رأيتم أن تضاف إلى لجنة الصياغة مسألة الاحتفاظ بملكية المبيع ورهنه مع مراعاة ما جاء في قرار دورة الكويت فيما يتعلق بالإيجار المنتهي بالتمليك يكون مناسبًا إذن الموضوع الأخير: أثر الموت في حلول الأجل.(6/314)
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم
بالنسبة للبيع بالتقسيط إذا مات البائع انتقل الحق إلى الورثة، ولكن إذا مات المشتري فهل باقي الأقساط تؤدى في مواعيدها أم أنه تؤخذ من التركة أولًا قبل توزيعها؟ هنا وجدنا اتجاهين: اتجاهًا إلى أن هذه الأقساط – أو أي دين – يحل كله بموت المدين وتؤخذ هذه من التركة أولًا قبل توزيعها، واتجاهًا ثانيًا هذه تؤدى في مواعيدها ما دام البائع قد أخذ ما يضمن به حقه، ولعل هذا الرأي الثاني هو الأولى لأنه ما دام الأمر يرجع إلى الخوف من ضياع الحق بتوزيع التركة قبل استيفائه وما دام الورثة قدموا للدائن أو للبائع ما يضمن حقه بأي لون من ألوان الضمان فأعتقد انه ليس من العدل أن تتقدم كل الأقساط آجالها، وتدفع جملة قبل أوانها خاصة وأن هذه الأقساط هي ناتجة عن بيع روعيت فيه الزيادة في الثمن مقابل الأجل.
الشيخ عبد الله محفوظ بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت أود أن يعزو أخونا الدكتور السالوس هذا القول إلى قائله، من المعروف أن المدين إذا مات أو أفلس يحل الدين الذي عليه بموته أو فلسه، وإذا لم يصالح الورثة على شيء معين فلا يمكن أن يجبر الدائن على تأخير دينه، خصوصًا وأن البيع ليس خياريًا إذا الخيار هو الذي ينتقل إلى الورثة فإذا شاءوا ردوا، وإذا شاءوا أجازوا، وإذا اختلفوا في الرد والإجازة فهناك القياس وهناك الاستحسان عند المالكية، فما أدري من أين أخذ الدكتور السالوس هذا القول الذي يبقي المدين محتفظًا بذمته؟ لأننا إذا قلنا: عن هذا الدين ما زال مقسطًا على المدين الذي مات فكأن ذمة المدين لم تعد خرابًا، والحال أنها صارت فعلًا خرابًا بموت وأن كل الحقوق تحل في ذلك الوقت سواء منها الصداق المؤجل أو الدين المؤجل أو القرض إلى آخره.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا أضم صوتي إلى الأستاذ ابن بيه في التساؤل عن مصدر الرواية التي أوردها الدكتور السالوس والقائلة بأن الدين لا يحل بموت المدين إذ المعروف أن الدين يحل بموت المدين وهذا هو ظاهر الآية وظاهر ما اتفق عليه الفقهاء، إن المسألة ليست خيارًا من الخيارات – كما ذكر الأخ ابن بيه – حتى نقول بأن هناك من يقول بأن الخيارات تورث أو لا تورث فأرجو من الأستاذ السالوس إذا ذكر رأيا أن يذكر لنا مصدره حتى نتثبت منه وشكرًا.(6/315)
الشيخ عبد الكريم اللاحم:
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد أن: " نفس الشخص معلقة بدينه بعد وفاته حتى يقضى عنه " هذه ناحية، والناحية الثانية أنه لا خلاف فيما أعلم، أن حق الورثة بعد الديون، وإذا كان كذلك فإن الدين يحل بموت المدين ويجب قضاؤه حالًّا، لأن مقابل الدين في التركة ليس حقًّا للورثة بل هو حق للغريم فيجب قضاؤه، هذه الناحية، والناحية الأخرى حتى تتخلص ذمة الميت من دينه، وشكرًا.
الشيخ رجب بيوض التميمي:
بسم الله الرحمن الرحيم
من المعروف نصًّا، كما ورد في كتاب الله الكريم، أنه لا حق في تركة المتوفى للورثة إلا بعد الوصية وقضاء الدين ويمكن بعد ذلك توزيع التركة {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وما دام هناك نص لا خلاف فيه فلا مجال للاجتهاد في مورده.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
ما يذكره السادة الإخوة هو ما يشيع عن مذهب الحنفية بان الديون تحل بموت المدين، هذا هو الشائع في الأذهان، ولكن هناك آراء أخرى، كما ذكر الدكتور السالوس، تقول بأن الديون تبقى إلى نهاية آجالها، ويغلب على الظن أن هذا هو مذهب الشافعية، وهذه فسحة إذ لا يعني أن ذلك الدين لا يسدد، فالصحيح أنه: " لا تركة إلا بعد سداد الديون " ومعناه الديون الحالّة أما الديون المؤجلة فهذه فيها خلاف فعلًا في حلولها، ومذهب الشافعية، في ظني، لا يقول بحلول هذه الديون المؤجلة وتبقى، ولا يتنافى ذلك مع خراب ذمة المتوفى، فلا شك أن ذمة المتوفى انتهت بالموت، ولكن هناك بعض الآثار تظل باقية بعد موت الميت، حتى الشافعية بالذات يقولون في مثل هذه الأمور تبقى ذمة الميت بعد وفاته إلى أن تسدد هذه الديون المؤجلة.
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا أريد أن اضرب مثلًا: من اشترى عقارًا لمدة ثلاثين سنة ومات هذا المشتري بعد سنة أو سنتين، هل يطالب الورثة بأداء الديون كاملة؟ نفرق بين الدين الناشئ عن قرض أو مؤخر صداق أو غير ذلك وبين الديون المتصلة بشيء موجود، ولذلك كان سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((هل ترك قضاء)) ، فهنا ما دام لم يحل الموعد بعد وهذا الدين ناشئ عن بيع بالتقسيط ومراعى في الثمن الأجل فكيف نسقط حق الورثة في هذا التأجيل؟! وشكرًا.(6/316)
الدكتور أنس مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم
أضم رأيي إلى رأي الدكتور على السالوس، فإن من الظلم الفادح تطبيق قاعدة حلول الديون بموت المدين دون مراعاة لخصوصية ذلك الدين، فالقاعدة مسلمة ولكن تعلمون أن البيع إن كان نسيئة كعقار يباع مقسطًا ثمنه على خمس عشرة سنة فإن مجموع هذه الأقساط قد يتجاوز قيمة العقار عدة مرات – يعني يكون ثمنه المعجل – مثلًا – ألف وحدة، ويكون ثمنه المؤجل لمدة خمس عشرة سنة أكثر من الضعف مرات عديدة – فهل من العدل أن يطالب الورثة إذا مات مورثهم بأن يؤدوا قيمة العقار التي لوحظ فيها هذه الزيادة الكبيرة بسبب التأجيل، يؤدونها فورًا؟ هذا لا يمكن إلا أن يكون ظلمًا وأنا أقول: إن تطبيق فكرة مطالبتهم بالتعجيل يتم بالطريقة التالية: إما أن يحسب للزمن حصته من الثمن ويطالبون بأداء ما يتناسب مع المدة التي يؤدون عندها، وإما أن يؤخذ بمبدأ " ضع وتعجل " لأن هذه الصورة تشبه تمامًا الصورة التي وردت في الأثر وهي الاضطرار إلى تقاضي الدين في غير الوقت الذي اتفق في الأصل عليه، وفي هذه الحالة يكون تطبيق " ضع وتعجل " مناسبًا جدًّا لأن الموت ليس أمرًا إراديًا.
أمر آخر: ليس هناك أي إشكال في أن ذمة المدين قد انتهت بموته والورثة هم الذين سيؤدون الدين بعده ويقدمون الضمانات اللازمة، كما نصت على ذلك بعض المذاهب، فيصبح الورثة هم المسئولون في ذممهم عن أداء ما التزموا بأدائه، وتحررت تركة المدين من هذه المطالبة لأنهم ضمنوا وقدموا ما يقنع الدائن، وشكرًا.(6/317)
الدكتور محمد نبيل غنايم:
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك قاعدة شرعية تقول: " إن الغنم بالغرم " وهذا المتوفى قد اشترى بالأجل، وهذا الأجل منفعة وهي تنتقل إلى الورثة كما كانت حقًّا للمتوفى، هذا من ناحية، من ناحية أخرى النظر الآن اتجه إلى أن التركة موجودة وأن المدين له أموال ستنتقل إلى الورثة، وقد يكون المدين معسرًا حين الوفاة، فالأجل يراعى ويؤخذ به حتى يتمكن الورثة فيما بعد من سداد الدين، والرسول صلى الله عليه وسلم لما ألزم المرأة بالحج عن أمها قياسًا على الدين وقال لها: أرأيت إن كان عليها دين أكنت قاضيته؟ فيقاس هنا، أيضا، أن الورثة حتى ولو لم يكن لمورثهم مال فهم سيؤدون ذلك في حينه، فينتفعون بالأجل كما كان سينتفع به المتوفى لو طالت به الحياة.
الدكتور عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم
أؤيد الإخوة في الأخذ بوجهة النظر الثانية لا للتعليل الذي ذكره الأستاذ السالوس فقط، بل يضاف أن المدين لم يلجأ إلى الدين إلا لعدم قدرته على الدفع معجلًا وإن كان ينتظر أن يحصل له المال شيئًا فشيئًا ليسدد ما عليه من الدين، فإذا توفي فهل هناك مانع من انتقال ذمته إلى ورثته ونحن نستأنس بما ذكره الإخوة في موضوع: هل عليه دين؟ وبأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل دائمًا إذا مات الميت هل عليه دين؟ فإذا تكفل احدهم بسداد دينه صلى عليه، فمن هنا تأجل دفع هذا الدين، فاذا انتقلت ذمة المدين إلى الورثة ففي رأي هو جائز وأنه يمكن الأخذ به وأؤيد ما ذكره الأستاذ الزحيلي والأستاذ السالوس، وشكرًا.
الدكتور محمد سيد طنطاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا أؤيد ما قاله الأستاذ الخياط في أن المسألة ذات شقين: الشق الأول هو أن هناك ديون حالَّة، وهذه أشارت إليها آيات القرآن الكريم في أربعة مواضع بأنه لا تقسم التركة إلاَّ بعد سداد الديون أي الديون الحالّة، أما الدين المؤجل فللدائن أن يتخذ على الورثة من الضمانات ما يجعله مطمئنًا إلى سداد هذا الدين في موعده المحدد، ولا مانع من ذلك إطلاقًا، والمثال الذي ضربه أحد الإخوة بأنه قد يكون إنسان اشترى قطعة أرض من جهة حكومية مقسطة على عشرين أو ثلاثين سنة، ثم توفي، في هذه الحالة ربما يعجز الورثة عن سداد هذا المبلغ فللجهة الدائنة أن تتخذ على الورثة كافة الإجراءات التي تحمي حقوقها، ولا مانع من ذلك في تصوري، فهناك فرق بين الدين الحالّ وبين الدين المؤجل بالتقسيط، وشكرًا.(6/318)
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم:
إذا نظرنا إلى القواعد الفقهية المعروفة ولاسيما إلى قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فيبدو أن نأخذ بقول من يقول: إن الديون كلها تحل بموت المدين. ولكن الاتجاه الآخر الذي ذهب إليه الدكتور السالوس، وايده غير واحد من الإخوة، له وجه أيضًا، ولكنني أرى أن التحضير عندنا غير كافٍ للبتِّ في هذا الأمر، لأن الدكتور السالوس عندما تقدم بهذا الاقتراح لم يبين مأخذه ولم يتعرض لما قاله الفقهاء في هذا الصدد، وقد ذكر الأستاذ الزحيلي أن عند الشافعية قولًا يجيز تأجيل الدين في مثل هذا، ولكنه غير متأكد أيضًا، فأرى أننا لا يمكن أن نَبتَّ في هذا الموضوع إلاَّ بتحضير كافٍ والتعرض لكل مذاهب الفقهاء وكافة دلائلهم.
الشيخ عبد الله محفوظ بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
أستغرب كلام الإخوان، فنحن كمن يرى العين ويقتفي الأثر، فالأمور واضحة وهناك نصوص قرآنية، ثم نحن بعد ذلك نبحث عن شيء ليس موجودًا، والبعض يقول: نظن أن مذهب الشافعي كذا. في الحقيقة نود أن يؤكد هذا الظن، ويقدم لنا مذهب الشافعي، ثم هو يرى أنه خاص بمذهب أبي حنيفة وهو ليس خاصًّا بمذهب أبي حنيفة بل هو مذهب مالك وأحمد ومذهب الأئمة جميعًا أن الدين يحل بالموت، وكيف تجعلون الدين يحل بالفلس والمدين ما زال حيًّا لا يحق له أن يطلب نَظِرة من الدائنين؟ ومع ذلك لا تقولون إن الدين يحل بالموت.
هناك ما هو أغرب، البعض يقول: إذا كان أبوهم معسرًا فإنه يؤجل والحال أن المعسر لا شيء عليه، أما الورثة فقد قال بعضهم: " الغنم بالغرم ". فعلًا هو كذلك لأن الورثة إذا كان مورثهم مطالبًا بدين ولم يكن له مال فليس عليهم شيء، ثم إن المال لا ينتقل إلى الورثة إلا بعد أداء الدين فصاحب الدين يحل محل الميت والدين يحل بالموت – وهي هنا بالكسر فقط – هذه الديون الحالّة، القرآن الكريم قال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} قال بعضهم: هذا مقيد بالديون الحالّة هذا التقييد ليس معروفًا فالآية فيها إطلاق، إذن فالورثة لا حق لهم أصلًا إلا بعد قضاء الديون، والورثة ليسوا طرفًا فلو كان المورث معسرًا ما نابوا عنه في قضاء الدين، قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أصلي عليه)) منسوخ بالأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم مسئول عن دين الناس، فحينئذ لا الورثة ولا الإمام يمتنع من الصلاة عليه، إذن المفلس لا يستطيع أن يقول: أمهلوني. فكذلك صاحب هذا، وشكرًا.(6/319)
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
إنما الآراء التي تريد أن تميز بين هذا الدين وبين الديون الأخرى، وأحب أن أضيف نقطة جديدة زيادة على ما ذكر وأريد أن تؤخذ بالاعتبار وهي أن الجهة صاحبة الدين قابلة بذلك، يعني أن العقود التي باتت تنظم الآن في بيع مؤسسات الإسكان للشقق والأراضي تنص على أنه إذا توفي فإن الدين ينتقل إلى الورثة وفق الترتيب المتفق عليه سابقًا مع الضمانات المعتمدة، وخاصة أن عنصر الظلم هنا، لأنه غالبًا ما تمس هذه القطاعات المحتاجة في مجال السكن وأثاث المنازل وغيرها فإذا قلنا بأن الدين يحل، هذا يعني في الواقع أنه سينتهي الأمر إلى بيع بالمزاد العلني لهذه الأشياء بثمن أقل من ثمنها الحقيقي، خاصة وإننا أمام زيادة مقابل المدة، وبالتالي نقتل اقتصاديًا هؤلاء الورثة الذين قد يكونون أطفالًا صغارًا، وشكرًا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
تعلمون أن المسائل التي طرحت في هذا الموضوع هي ثلاث عشرة مسألة أحيل منها سبع مسائل إلى اللجنة منها ما بتَّ فيه بالمنع ومنها ما بتَّ فيه بالجواز ومنها ما بتَّ فيه بالجواز مع ضميمة النظر في قرار الإيجار المنتهي بالتمليك، وهناك بعض الموضوعات رفعت أما أثر الموت في حلول الأجل للديون فقد لا يساعدني حسن العبارة في التعبير عن مناقشاتكم الكريمة فإن هذه المناقشات مع جودتها مبنية على التفقه، أما أن يكون لدينا ورقة علم مفصلة فيها آراء الفقهاء ومظانها وأدلتها فأظن أننا متفقون على أنه ليس لدينا شيء من ذلك مع أن هذه المسألة لها أهمية ونظرًا لواقعها في العقود المجراة في الوقت الحاضر فإذا رأيتم أن تؤجل لمزيد الإعداد والبحث. . . إذن تؤجل.(6/320)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (53 /2/6)
بشأن
البيع بالتقسيط
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: " البيع بالتقسيط " واستماعه للمناقشات التي دارت حوله،
قرر:
1- تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحالّ كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقدًا وثمنه بالأقساط لمدد معلومة ولا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل فإن وقع البيع مع التردد بين النقد والتأجيل بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثمن واحد محدد فهو غير جائز شرعًا.
2- لا يجوز شرعًا في بيع الأجل التنصيص في العقد على فوائد التقسيط مفصولة عن الثمن الحالّ بحيث ترتبط بالأجل سواء اتفق العاقدان على نسبة الفائدة أم ربطاها بالفائدة السائدة.
3- إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط، لأن ذلك ربا محرم.
4- يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط ومع ذلك لا يجوز شرعًا اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الآداء.
5- يجوز شرعًا أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد.
6- لا حق للبائع في الاحتفاظ بملكية المبيع بعد البيع، ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة.
ويوصي:
بدراسة بعض المسائل المتصلة ببيع التقسيط للبتّ فيها إلى ما بعد إعداد دراسات وأبحاث كافية فيها، ومنها:
(أ) خصم البائع كمبيالات الأقساط المؤجلة لدى البنوك.
(ب) تعجيل الدين مقابل إسقاط بعضه وهي مسألة " ضع وتعجل ".
(ج) أثر الموت في حلول الأقساط المؤجلة.(6/321)
القبض
صوره، وبخاصة المستجدة منها وأحكامها
إعداد
فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذه أوراق في بحث من البحوث المهمة في العصر، ألا وهو " صور القبض وبخاصة المستجدة منها وأحكامها "، وهذه مسألة بحث فيها الفقهاء القدامى – رضي الله عنهم– حسب أعراف عصرهم، واليوم وجب علينا أن نرجع إلى ما كتبوا ونستلهم منه حلولاً لمشكلات عصرنا لا سيما في الوقائع التي لم تكن في زمانهم، ومنها صور القبض المستجدة وحكمها فهي من نوازل العصر تكلم فيها بعض الفقهاء المعاصرين – جزاهم الله خيراً – وبقي هنالك ما لم يبحث فأشرعت اليراع، وأعملت الفكر وجمعت ما يجب جمعه وبسطته، ثم عزوت كل قول لقائله، وتكلمت فيما لم يتكلم فيه بعد لعلي أوافق فيه للصواب.
وأقمت بحثي هذ1 على مدخل ومقصد واحد وخاتمة.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.(6/322)
مدخل إلى البحث
(أ) التعريف بالقبض في الفقه الإسلامي:
التسليم أو القبض معناه عند الحنفية: هو التخلية أو التخلي، وهو: (أن يخلي البائع بين المبيع وبين المشتري، برفع الحائل بينهما، على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه، فيجعل البائع مسلماً للمبيع، والمشتري قابضاً له) (1) وكذلك تسليم الثمن من المشتري إلى البائع.
(ب) طرق القبض في الفقه الإسلامي:
قال فقهاء الشريعة الإسلامية: القبض يتم بطرق:
1- أولها التخلية: وهي (أن يتمكن المشتري من المبيع بلا مانع " أي أن يكون مفرزاً " ولا حائل " أي في حضرة البائع " مع الإذن له بالقبض) .
وعلى هذا، فإن القبض عند الحنفية يكون بالتخلية، سواء أكان المبيع عقاراً أو منقولاً إلا المكيل والموزون فإن قبضه يكون باستيفاء قدره، أي بكيله أو وزنه، فالتخلية بين المشتري وبين المبيع قبض وإن لم يتم القبض حقيقة فإذا هلك يهلك على المشتري (2) وقال المالكية والشافعية: قبض العقار يكون بالتخلية بين المبيع وبين المشتري وتمكينه من التصرف فيه بتسليم المفاتيح إن وجدت، وقبض المنقول بحسب العرف الجاري بين الناس (3) ، وقال الحنابلة قبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلاً أو موزوناً فقبضه بكيله ووزنه، أي يجب الرجوع في القبض إلى العرف (4) .
2- الإتلاف: والتعييب مثله، فلو أتلف المشتري المبيع في يد البائع صار قابضاً للمبيع وتقرر عليه الثمن، وكذلك لو عيبه كأن يحدث المشتري في المبيع عيباً، وكذا لو أمر المشتري البائع بالإتلاف ففعل (5) .
__________
(1) البدائع: 5/244.
(2) الفوائد البهية: ص 63.
(3) رد المحتار: 4/44، والشرح الكبير للدردير: 3/145، والمجموع: 9/301 وما بعدها.
(4) المغني: 4/111 وما بعدها.
(5) البدائع: 5/244 وما بعدها.(6/323)
3- إيداع المبيع عند المشتري أو إعارته منه، وكذا لو أودع المشتري المبيع عند أجنبي أو أعاره وطلب من البائع تسليمه إليه يصير قابضاً، أما لو أودع المشتري من البائع أو أعاره له أو آجره لم يكن ذلك قبضا (1) .
4- اتباع الجاني بالجناية على المبيع عند الإمام أبي يوسف خلافاً للإمام محمد، فلو جنى أجنبي على المبيع فاختار المشتري اتباع الجاني بالضمان كان اختياره بمنزلة القبض عند أبي يوسف، حتى لو هلك المبيع يكون الهلاك على المشتري ويتقرر عليه الثمن ولا يبطل البيع، وقال محمد: لا يصير قابضاً ويبقى المبيع في ضمان البائع، ويؤمر بالتسليم إليه، ويكون الهلاك على البائع، ويبطل البيع ويسقط الثمن عن المشتري والأدلة تؤخذ من المطولات (2) .
5- القبض السابق: كل ما مر ذكره فيما إذا كان المبيع في يد البائع، فإن كان في يده المشتري بقبض سابق ثم باعه المالك له، فهل يعد قابضاً بمجرد الشراء، أو لا بد من تجديد القبض ليتم التسليم؟ قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من تفصيل في القبض وأقسامه لدى الفقهاء فلقد قسم الفقهاء القبض من حيث قوة أثره وضعفه إلى قسمين: قبض الضمان وقبض الأمانة (3) .
(أ) فقبض الضمان هو: (ما كان فيه القابض مسئولا عن المقبوض تجاه الغير فيضمنه إذا هلك عنده، ولو بآفة سماوية) ، كالمغصوب في يد الغاصب، والمبيع في يد المشتري.
(ب) وقبض الأمانة: هو (ما كان فيه القابض غير مسئول عن المقبوض إلا بالتعدي، أو التقصير في الحفظ) كالوديعة في يد المودَع عنده والعارية في يد المستعير، وعدّوا قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة بسبب الضمان المترتب، والأصل عند الفقهاء أن القبض السابق ينوب عن القبض اللازم في البيع إذا كانا متجانسين في الضمان وعدمه، أو كان السابق أقوى، بخلاف ما إذا كان أضعف، فقبض الضمان ينوب عن قبض الأمانة فلا ينوب إلا عن قبض الأمانة فقط، ولا ينوب عن قبض الضمان، لأن الأدنى لا يغني عن الأعلى (4) .
__________
(1) البدائع: 5/246.
(2) البدائع: 5/246 وما بعدها.
(3) عقد البيع للأستاذ الزرقا ص 87 وما بعدها، وفتح القدير 5/200، ورد المحتار 4/535.
(4) مجمع الضمانات للبغدادي ص 217.(6/324)
وتأسيساً على ذلك إذا كان الشيء المبيع موجوداً في يد المشتري قبل البيع، إما أن تكون يده يد ضمان أو يد أمانة.
(أ) فإذا كانت يد المشتري يد ضمان:
1- فإما أن تكون يد ضمان بنفسه، كيد الغاصب، فيصير المشتري قابضاً للمبيع بنفس العقد، ولا يحتاج إلى تجديد القبض، ويبرأ البائع من التزام التسليم، سواء أكان المبيع حاضراً في مجلس العقد أو غائبا.
2- أو تكون يد ضمان لغيره، كيد الرهن، بأن باع الراهن المرهون من المرتهن، فإنه لا يصير قابضاً، إلا أن يكون الرهن حاضراً في مجلس العقد، أو يذهب إلى حيث يوجد الرهن، ويتمكن من قبضه.
(ب) وإن كانت يد المشتري يد أمانة، كيد المستعير أو المودَع عنده، فلا يصير قابضاً، إلا أن يكون المبيع بحضرته، أو يذهب إليه، فيتمكن من قبضه بالتخلي لأن يد الأمانة ليست من جنس يد الضمان فلا يتناوبان (1) .
(ج) القبض وأثره في العقود في الفقه الإسلامي:
العقد في الشرع الإسلامي يتم وتثبت أحاكمه بمجرد الإيجاب والقبول.
لكن طائفة من العقود لا تعد تامة إلا إذا حصل تسليم العين التي هي موضوع العقد، ولا يكفي فيها الإيجاب والقبول، وتسمى هذه العقود بلغة الحقوق اليوم (العقود العينية) ، أي التي يتوقف فيها تمام الالتزام على تسليم العين وهي خمسة:
(الهبة، والإعارة، والإيداع، والقرض، والرهن) (2) .
__________
(1) البدائع: 5/248، وفتح القدير: 5/200، والفقه الإسلامي وأدلته: 4/418 وما بعدها.
(2) المدخل الفقهي العام: 1/327 وما بعدها.(6/325)
ويعلل الفقهاء اشتراط القبض لتمامها بأنها تبرع.
وعلى ذلك وضعت القاعدة القائلة (لا يتم التبرع إلا بالقبض) ، فالعقد اللفظي في هذه المواضيع يعد قبل القبض عديم الأثر.
على أنه يستثنى من ذلك (عقد الوصية) فهي هبة مضافة إلى ما بعد الموت، فبمجرد وفاة الموصي وقبول الموصى لها أو عدم رده بعد الوفاة تتم الوصية، ويصبح المال ملكاً له بلا حاجة إلى تسليم، لأن الشخص المنشئ للوصية لم يعد يتصور منه بعد الوفاة تسليم، فبنيت الوصية على التسامح والاستثناء من القواعد القياسية في كثير من أحكامها تسهيلاً لأعمال البر والخير، هذا إذا عددنا الوصية عقداً، فإن لم نعدها عقداً وهو ما يذهب إليه الآخرون من فقهاء الشريعة فلا ضرورة لاستثنائها من قاعدة القبض.
(د) شرط صحة القبض في عقد البيع:
يجب فيه تسليم المبيع خاليا غير مشغول بحق لغير المشتري، ويدخل في شغل المبيع بحق الغير المانع من صحة التسليم في نظر الفقهاء ما لو كانت الدار المبيعة مأجورة، لأنها عندئذ تحت سلطة المستأجر صاحب اليد المشروعة عليها، فلا يصح تسلم المشتري لها وإن كان بيعها صحيحاً، وليس للبائع مطالبة المشتري بالثمن لعدم تهيئة المبيع للقبض إلا إذا اشتراها المشتري على حالها واشترط البائع في العقد بقاء المستأجر لعجزه عن إخراجه مثلاً وقبل المشتري هذا الشرط، كان التسليم بالتخلية فقط لا بإخراج المستأجر (1) .
__________
(1) انظر المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقا: 1/655 وما بعدها.(6/326)
المقصد
نستطيع في هذا العصر في أواخر القرن الرابع عشر الهجري وأوائل الخامس عشر زيادة صورة من صور القبض في عقد البيع أصبحت الآن هي الصورة الأصل، وما عداها فرع عنها، وتلك الصورة هي صورة التسجيل العقاري في السجل العقاري في بلاد يوجد فيها سجل ونظام عقاريان.
يقول الأستاذ الجليل العلامة مصطفى أحمد الزرقا – حفظه الله – في المدخل الفقهي العام ما نصه [ج1، حاشية الصفحة 656، ف 345] :
(يجب الانتباه اليوم إلى أنه في البلاد التي يوجد بها سجل ونظام عقاريان بحيث تكون قيود السجل هي المعتبرة في ثبوت الحقوق العقارية وانتقالها كما في بلادنا يعتبر تسجيل بيع العقار في صحيفته من السجل العقاري في حكم التسليم الكافي، ولو كانت الدار مشغولة بأمتعة البائع أو بحقوق مستأجر، ذلك لأن قيد السجل عندئذ يغني عن التسليم الفعلي، ويقطع علاقة البائع فيصبح أجنبياً، وعلى هذا استقر اجتهاد محكمة التمييز السورية، وإذا ظل بائع العقار شاغلاً له بعد التسجيل وممتنعاً عن تفريغه وتسليمه تنزع يده عنه بقوة القضاء، كما لو شغله غصباً بلا حق بعد التسليم) .
وانظر الصفحة (261) من الجزء الأول أيضا وما قبلها، حيث قال في (ف 126) في آخرها:
(وذلك لأن نظام السجل العقاري أغنى عن قبض العقار المرهون بمجرد وضع إشارة الرهن عليه في صحيفته من السجل العقاري لمنع الراهن من التصرف فيه ببيع ونحوه مع بقاء العقار المرهون في يد مالكه الراهن كما في الإقليم السوري) ثم يقول – حفظه الله – في الحاشية: (وقد استقر أخيراً رأي محكمة التمييز السورية (محكمة النقض) واجتهادها على أن تسجيل العقد العقاري في السجل العقاري يعتبر تسليمًا قانونيًّا يقوم مقام التسليم الفعلي في نتائجه) قلت وهذا عند فقهاء الشريعة من المصالح المرسلة التي تحقق مصلحة عامة فاعتبرت عندهم وصار الحكم الشرعي في هذه المسألة هو الحكم القانوني ذاته.
أما التسجيل بكاتب العدل فليس له هذا الاختصاص ولا قوته فلا يأخذ حكمه ولا يكون وحده تسليمًا ولا قبضًا ما لم تصحبه التخلية المعتبرة أو إحدى صور القبض السابقة، بيد أنه يكون مثبتًا للعقد تجاه الغير بمنزلة الإشهاد فهو بينة وليس تسليمًا ولا قبضًا.
والله تعالى أعلم.
* * *(6/327)
خاتمة البحث
هذا ما توصلت إليه في هذا الشأن باذلًا الجهد كله في استنباط عويصات المسائل لا آلو جهدًا في تتبع العلة والحكمة، راجيًا الله تعالى أن أوفق للصواب فيما ذهبت إليه، وصدق الله تعالى إذ يقول:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت]
صدق الله العظيم
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور(6/328)
أبرز مصادر البحث ومراجعه
1- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الإمام الكاساني.
2- رد المحتار شرح الدر المختار، العلامة ابن عابدين.
3- الشرح الكبير على متن خليل، العلامة الدردير.
4- المجموع شرح المهذب، الإمام النووي.
5- المغني في فقه الحنابلة، الإمام ابن قدامة المقدسي.
6- مجمع الضمانات، العلامة ابن غانم البغدادي.
7- الفوائد البهية والقواعد الفقهية، الشيخ محمود حمزة.
8- المدخل الفقهي العام، الأستاذ الدكتور مصطفى أحمد الزرقا.
9- عقد البيع، الأستاذ الدكتور مصطفى أحمد الزرقا.
10-الفقه الإسلامي وأدلته، الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي.
11- الوسيط شرح القانون المدني، الدكتور عبد الرزاق السنهوري.(6/329)
القبض:
صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامها
إعداد
فضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير
عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. . وبعد:
فهذا بحث عن: (بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه) ، أقدمه لمجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة، استجابة لطلبه الكتابة في موضوع:
"القبض: صوره، وبخاصة المستحدثة منها، وأحكامها"
وقد رأيت أن اقصر بحثي في مسألة واحدة من مسائل الموضوع المطلوب الكتابة فيه، هي – في نظري – الصورة التي تحتاج إلى بيان حكم الشرع فيها؛ لأنها كثيرة الوقوع في المعاملات التجارية في وقتنا هذا.
وسأكتب هذا الموضوع في ثلاثة مباحث:
* المبحث الأول: النصوص الواردة في الموضوع وما يستفاد منها.
* المبحث الثاني: آراء الفقهاء في حكم بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه.
* المبحث الثالث: بعض الصور المستخدمة وحكمها.(6/330)
المبحث الأول
النصوص الواردة في الموضوع، وما يستفاد منها
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجل طعامًا حتى يستوفيه، قلت لابن عباس: كيف ذلك؟ قال: ذلك دراهم بدراهم، والطعام مرجأ (1)
2- عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يقبضه)) (2)
3- عن ابن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه)) (3)
4- عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اشترى طعامًا بكيل، أو وزن، فلا يبيعه حتى يقبضه)) (4)
5- مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال: كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (5)
6- عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اشترى طعامًا فلا يبيعه حتى يكتاله)) (6)
7- عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه)) (7)
__________
(1) رواه البخاري: صحيح 3/68، وفي رواية للبخاري أيضًا أن سفيان قال: الذي حفظناه من عمرو بن دينار سمع طاوسًا يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض. قال ابن عباس: ولا أحسب: كل شيء إلاَّ مثله. المصدر السابق، وانظر صحيح مسلم: 1/168، والترمذي: 3/586، وانظر أيضًا منتقى الأخبار مع نيل الأوطار: 5/256.
(2) رواه البخاري ومالك: صحيح البخاري: 3/68، والموطأ: 4/279، وانظر أيضًا منتقى الأخبار مع نيل الأوطار: 5/256
(3) رواه أبو داود والنسائي: سنن أبي داود: 3/381، وسنن النسائي 7/286
(4) رواه أحمد: مسند الإمام أحمد: 1/11.
(5) أخرجه مالك، وأحمد: الموطأ بهامش المنتقى: 1/283، والمسند: 4/56
(6) رواه مسلم: صحيح مسلم: 1/171، وانظر المنتقى مع نيل الأوطار: 5/256
(7) رواه مسلم، صحيح مسلم: 1/172، وانظر أيضًا المنتقى مع نيل الأوطار: 5/256(6/331)
8- عن ابن عمر قال: كانوا يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه (1)
9- عن حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله. إني أشتري بيوعًا فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: ((فإذا اشتريت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه)) (2)
10- عن ابن عمر قال: ابتعت زيتًا في السوق فلما استوجبته لنفسي لقيني رجل فأعطاني به ربحًا حسنًا فأردت أن اضرب على يده فاخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت، فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، ((فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)) . (3)
ما يستفاد من الأحاديث:
تدل هذه الأحاديث على نهي من اشترى طعامًا أن يبيعه قبل قبضه، سواء أكان الطعام معينًا، بأن اشتراه جزافًا، أم غير معين بأن اشتراه على الكيل أو الوزن، وذلك لأن بعض الأحاديث ذكر فيها الطعام مطلقًا، وهي أكثر الأحاديث، وكلها متفق على صحتها، وبعضها ذكر فيه مقيدًا بالجزاف، وهو حديث ابن عمر المتفق على صحته أيضا، وفي حديث آخر لابن عمر جاء الطعام مقيدًا بالكيل، وفي حديث له أيضًا جاء مقيدًا بالكيل والوزن، وهذان الحديثان مقبولان أيضًا، وإن كانا دون مرتبة الأحاديث المطلقة والمقيدة بالجزاف، فمن أجل هذا أخذنا بها جميعا.
__________
(1) رواه الجماعة إلاَّ الترمذي وابن ماجه: منتقى الأخبار: 5/265، والحديث في البخاري بلفظ: عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم: صحيح البخاري: 3/68، وفي مسلم بلفظ: سالم بن عبد الله أن أباه قال: قد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ابتاعوا الطعام جزافًا يضربون في أن يبيعوه في مكانهم، وذلك حتى يؤوه إلى رحالهم، قال ابن شهاب، وحدثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر: أن أباه كان يشتري الطعام جزافًا فيحمله إلى أهله، وفي رواية لمسلم عن سالم عن ابن عمر أنهم كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعامًا جزافًا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه، وفي رواية ثالثة له: عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه، قال وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه: صحيح مسلم: 1/170.
(2) رواه أحمد، وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير، المسند: 3/402، ومنتقى الأخبار: 5/256، وفيه "شيئًا" بدل "بيعًا" ونيل الأوطار: 5/256، وقال الشوكاني: في إسناد هذا الحديث العلاء بن خالد الواسطي، وقد اختلف فيه، فوثقه ابن حبان، وضعفه موسى بن إسماعيل. وقال ابن رشد: قال أبو عمر: حديث حكيم بن حزام رواه يحيى بن أبي كثير عن يوسف بن ماهك أن عبد الله بن عصمة حدثه أن حكيم بن حزام قال: ويوسف بن ماهك وعبد الله بن عصمة لا أعرف لهما جرحة إلاَّ أنه لم يرو عنهما إلاَّ رجل واحد فقط، وذلك في الحقيقة ليس يجرحه وإن كرهه جماعة من المحدثين، بداية المجتهد: 2/45 وقال ابن حزم عن عبد الله بن عصمة: متروك، ولكن ابن حزم روى هذا الحديث عن طريق آخر ليس فيه عبد الله بن عصمة وقال: إنه سند صحيح: المحلى: 8/519.
(3) رواه أبو داود، والدارقطني: سنن أبي داود: 3/383، ومنتقى الأخبار: 5/256، وأخرجه أيضًا الحاكم: نيل الأوطار: 5/256، وفي إسناد هذا الحديث أحمد بن خالد الوهبي، وقد قال فيه ابن حزم: إنه مجهول، المحلى: 8/523، ولكن الحاكم وابن حبان صححا هذا الحديث: نيل الأوطار: 5/256.(6/332)
هل النهي للتحريم أم للكراهة؟
النهي الوارد في الحديث للتحريم، لأن الأصل في صيغة النهي أن تكون للتحريم إلاَّ إذا وجدت قرينة تصرفها إلى الكراهة، وليست هنا قرينة صارفة عن التحريم، بل قد جاء في بعض الروايات الصحيحة ما يؤكد التحريم، وهو أن الناس كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعامًا جزافًا أن يبيعوه قبل تحويله من مكانه، والعقوبة بالضرب لا تكون إلاَّ على أمر محرم.
بيع الطعام قبل قبضه غير صحيح:
وإذا ثبت أن النهي للتحريم فإن بيع الطعام قبل قبضه يكون غير صحيح، وهذا هو ما جرى عليه العمل في عهد الصحابة، فقد كان عمر بن الخطاب ينهى عن بيع الطعام قبل قبضه ويرد البيع إذا وقع، ولا يكون الرد إلاَّ إذا كان البيع غير صحيح. فقد روى مالك عن نافع أن حكيم بن حزام ابتاع طعامًا أمر به عمر بن الخطاب للناس، فباع حكيم الطعام قبل أن يستوفيه، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فرده عليه، وقال: لا تبع طعامًا ابتعته حتى تستوفيه (1)
__________
(1) الموطأ: 4/284 – انظر كيف يصدر هذا من حكيم، مع أنه هو نفسه روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا اشتريت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه) هذا الخبر في نظري يقوي رأي القائلين بضعف الحديث المروي عن حكيم.(6/333)
وكذلك روي أن مروان بن الحكم أمر برد البيع في الصكوك التي بيعت قبل أن تستوفى بعد استنكار من زيد بن ثابت وأبي هريرة. فقد روى مالك في الموطأ أنه بلغه أن صكوكًا (1) ، خرجت للناس في زمان مروان بن الحكم من طعام الجار (2) ، فتبايع لناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت، ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على مروان بن الحكم فقالا: أتحل الربا يا مروان؟ فقال: أعوذ بالله، وما ذاك؟ فقال: هذه الصكوك تبايعها الناس، ثم باعوها قبل أن تستوفى، فبعث مروان بن الحكم الحرس يتبعونها ينزعونها من أيدي الناس، ويردونها إلى أهلها (3) .
وجاء مثل هذا الخبر في المعنى عن أبى هريرة (4) ، ولعله هو الصحابي الذي كان مع زيد بن ثابت، وأشار إليه مالك من غير ذكر اسمه.
ما المراد بالطعام؟ وما المراد بالقبض؟
وإذا كنا قد انتهينا إلى أن بيع الطعام قبل قبضه غير صحيح، فعلينا أن نحدد المراد بهاتين الكلمتين: الطعام والقبض.
__________
(1) الصكوك جمع صك، وهو الورقة المكتوبة بدين، والمراد بها هنا الورقة التي تخرج من ولى الأمر بالرزق لمستحقه، بأن يكتب فيها لفلان كذا وكذا من طعام أو غيره، ومن هذه الصكوك ما يكون بعمل كأرزاق القضاة والعمال، ومنها ما يكون بغير عمل كالعطاء لأهل الحاجة، والظاهر أن تلك الصكوك كانت من الطعام: النووي على مسلم: 10/171، والمنتقى على الموطأ: 4/185.
(2) الجار موضع بساحل البحر يجمع فيه الطعام، ثم يفرق على الناس بصكاك: الزرقاني على الموطأ: 3/288
(3) الموطأ بهامش المنتقى: 4/385
(4) النووي على مسلم: 10/171(6/334)
المراد بالطعام:
يرى بعض الفقهاء أن الطعام يطلق على القمح خاصة، ويؤيدون رأيهم بما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب) (1) . فإن ظاهر هذا الخبر أن الطعام غير الشعير وما ذكر بعده، وقد حكى الخطابي: أن المراد بالطعام هنا الحنطة أي القمح، وان الطعام اسم خاص للقمح، وقد كانت لفظة الطعام تستعمل في القمح عند الإطلاق، حتى إذا قيل: اذهب إلى سوق الطعام فهم منه سوق القمح (2)
ويرى آخرون أن الطعام لا يختص بالقمح، وإنما يشمل كل ما تعارف الناس على إطعامه، ويؤيدون رأيهم بما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري أيضًا، قال: كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعًا من طعام، وقال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر. فهذا نص في أن الطعام يطلق على غير القمح، فلعل أبا سعيد أجمل الطعام في الحديث الأول ثم فسره، أو أراد طعامًا آخر غير القمح، لأن القمح لم يكن قوتًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان في زمن معاوية (3)
والذي أرجحه أن الطعام في الحديث يشمل كل ما يطعم من قمح وشعير وسائر أنواع المطعومات، سواء كانت مأكولات كالتمر والفاكهة، أو كانت من الأدم كالزيت والعسل؛ لأنه يستعمل لغة في كل هذا. وإن كان العرب أطلقته على القمح أحيانًا، كما أطلقت المال على الإبل.
ولم أجد تعليلا مقبولا لقصره على القمح في هذا الحديث، وكون الطعام قد أطلق في بعض الأحاديث على القمح لا يعني أنه قد أصبح خاصًا به، لأنه أطلق في أحاديث أخرى على غير القمح أيضًا (4)
المراد بالقبض:
نهت بعض الأحاديث عن بيع الطعام قبل كيله أو وزنه، وهذا لا يكون إلاَّ فيما بيع على الكيل أو الوزن، ونهت بعضها عن بيعه قبل تحويله من مكانه، وخصصت بعضها هذا الحكم بالجزاف، في حين أن بعضًا آخر نهى عن بيع ما اشتري جزافًا من الطعام قبل أن يحوزه التجار إلى رحالهم، وجاء في بعض الأحاديث النهي عن بيع الطعام قبل الاستيفاء، وفي بعضها النهي قبل القبض من غير تقييد بهيئة خاصة للقبض أو الاستيفاء.
ونستطيع أن نأخذ من هذا أن القبض في المكيل والموزون ونحوهما يكون باستيفاء قدره، وان القبض في الجزاف يكون بتحويله إلى رحل المشتري، أو إلى أي مكان آخر غير المكان الذي بيع فيه، ولم تتعرض الأحاديث للقبض في غير الجزاف والمكيل والموزون، فيرجع فيه إلى العرف.
هل النهي خاص بالطعام؟
خصصت كل الأحاديث المتفق على صحتها النهي عن البيع قبل القبض بالطعام، وهذا يدل بمفهومه على إباحة بيع ما عدا الطعام قبل قبضه، لأن تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه دليل على مخالفة غيره له، وهذا رأي له وجاهته، ولكن مع هذا لا أرى الأخذ به، للأسباب الآتية:
1- علة النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، سواء كانت الربا أو الغرر، موجودة في بيع غير الطعام قبل قبضه فيجب أن يسوى بينهما في الحكم.
2- قول ابن عباس "ولا أحسب كل شيء إلاَّ مثله" يعني أن غير الطعام ينبغي أن يقاس على الطعام الثابت النهي عن بيعه قبل قبضه بالسنة، وهذا من تفقه ابن عباس، كما يقول ابن حجر (5) ، وابن عباس هو راوي الحديث وهو أعرف بمرماه.
3- حديث حكيم بن حزام الذي جاء فيه: ((إذا اشتريت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه)) وحديث زيد بن ثابت الذي ورد فيه النهي عن بيع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. فإن كلمة (بيع) و (السلع) عامة تشمل الطعام وغيره.
__________
(1) صحيح البخاري: 2/131
(2) فتح الباري: 3/291
(3) فتح الباري: 2/291، 292
(4) انظر، القاموس المحيط، وأساس البلاغة للزمخشري، والنهاية لابن الأثير
(5) فتح الباري: 4/278، المطبعة البهية(6/335)
وهذان الحديثان وإن كان في كل منهما مقال إلاَّ أن القياس الصحيح، وقول ابن عباس يقويان الأخذ بهما، ولا يصح تخصيصهما بمفهوم الحديث الخاص، لأن الطعام، كما يقول ابن القيم، وإن كان مشتقًا، فاللقبية أغلب عليه حيث لم يرد معنى يقتضي اختصاص النهي به دون سواه، كما لا يصح تقديم حديث النهي عن بيع الطعام على هذين الحديثين، لأنه لا تعارض بينهما، إذ لا مانع من ذكر الشيء بحكم، وذكر بعضه بذلك الحكم، فالعمل ممكن بكل هذه الأحاديث فوجب الأخذ بها كلها.
لهذا فإني أرى أن ذكر الطعام لم يقصد به التخصيص، وإنما خرج مخرج الغالب، لأنه أكثر ما يتعامل فيه الناس، فالنهي إذن يتناول الطعام وغيره، منقولًا كان أو عقارًا.
هل النهي عن البيع قبل القبض خاص فيما ملك بالشراء؟
كل الأحاديث تدل على أن النهي عن البيع قبل القبض هو فيما ملك بالشراء خاصة، ما عدا حديث ابن عباس فإنه لم يصرح فيه بذلك، ولكن تعليل ابن عباس للنهي يشير إشارة واضحة إلى أنه فيما ملك بالشراء، فإن قوله: (ذلك دراهم بدراهم والطعام مرجأ) يعني أن الشخص إذا دفع مائة درهم في طعام ثم باعه قبل أن يقبضه بمائة وعشرين درهمًا فكأنما باع مائة درهم بمائة وعشرين، وهذا واضح في بيع ما اشترى قبل قبضه، ولهذا فإنى أرى حمل حديث ابن عباس على سائر الأحاديث، فيكون المنهي عنه بالنص هو البيع قبل القبض فيما ملك بعقد البيع، وأما ما ملك بالعقود الأخرى أو ما ملك بغير عقد كالإرث فإن النص لا يتناوله، ولكن القياس يقضي بإلحاق ما تتحقق فيه العلة بالبيع، وإذا نظرنا إلى علة المنع، وهى الغرر أو الربا أو هما معًا، نجد أن العلتين تتحققان معًا فيما ملك بعقد البيع، وأن علة الربا مقصورة على البيع لا تتعداه لغيره من العقود، أما علة الغرر، فإنها تتحقق في كل أسباب الملك حتى الإرث، لأن المال الموروث إذا بيع قبل قبضه قد يهلك قبل القبض، فيعجز البائع عن التسليم، ولكن علة الغرر هذه أقوى فيما ملك بالبيع منها في غيره، لأن فيه غرر انفساخ العقد بهلاك المحل، كما يقول الحنفية، وغرر انفساخه بجحود البائع الأول واحتياله إذا رأى البائع الثاني ربح فيه ربحًا كثيرًا كما يقول ابن تيميه (1) ، ولهذا فإني أرى الوقوف عند النص فلا نمنع البيع قبل القبض إلاَّ فيما ملك بالشراء وحده، وذلك لضعف علة المنع فيما ملك بأسباب التملك الأخرى.
وننتقل بعد هذا إلى بيان ما قاله الفقهاء في هذا الموضوع:
__________
(1) انظر الكلام عن علة منع بيع الشيء المملوك قبل قبضه: ص 18(6/336)
المبحث الثاني
آراء الفقهاء في حكم بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه
يستحسن أن نبين أولًا المراد بالقبض عند الفقهاء ثم نذكر الحكم بعده:
المراد بالقبض:
في العقار: إذا كان محل العقد عقارًا فإن قبضه يكون بالتخلية بينه وبين من انتقل إليه الملك، بحيث يتمكن من الانتفاع به الانتفاع المطلوب عرفًاً، وهذا لا خلاف فيه لأنه هو الممكن (1)
في المنقول: أما إذا كان محل العقد مما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر، فقد اختلف الفقهاء في تحديد القبض بالنسبة له. فقال الحنفية: القبض في المنقول كالقبض في العقار يكون بالتخلية إلاَّ في المكيل والموزون ونحوهما، فإن قبضه يكون باستيفاء قدره (2) ، والمشهور عن المالكية أن المنقول إن كان جزافًا فقبضه بالتخلية (3) ، وإن كان مقدرًا فباستيفاء قدره، وإن كان حيونًا أو ثيابًا أو دراهم ونحوها فالمرجع فيه إلى العرف (4) .
وقال الشافعية: القبض في المنقول يرجع فيه إلى العرف، فما جرت العادة بنقله وتحويله من مكانه، كالأخشاب والحبوب فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به، وما جرت العادة بتناوله باليد كالدراهم والثوب والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول (5) .
__________
(1) ابن عادين: 4/226، والدسوقي على الشرح الكبير: 3/126، والبحر الزخار: 3/37، والمجموع شرح المهذب 9/283، والمغني: 4/111، والمحلى: 8/518.
(2) ابن عابدين: 4/226
(3) الرواية الأخرى أن الجزاف قبضه بنقله من مكانه
(4) الدسوقي على الشرح الكبير: 3/126، والمنتقى: 4/279-283.
(5) المجموع شر المهذب: 9/275، 276 و 283.(6/337)
وعند الحنابلة: قبض كل شيء بحسبه، فما ينقل ويحول إن كان جزافًا فقبضه بنقله، وإن كان مكيلًا فقبضه بكيله، وإن كان دراهم ونحوها فقبضه بتناوله باليد، وذلك لأن القبض ورد مطلقًا في الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف، والعرف جرى بقبض هذه الأشياء بهذه الصفة، وقد جاء في الحديث ما يدل على أن قبض الجزاف بنقله وتحويله من مكانه.
وروى أبو الخطاب عن أحمد: أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز، لأنه ما دام البائع قد خلى بين المشتري والمبيع من غير حائل، فإن المشتري يعتبر قابضًا للبيع كما في العقار (1) .
والقبض عند الشيعة الزيدية، والإمامية يكون بالتخلية فلا فرق عندهم بين العقار والمنقول، لأن الاستيلاء يحصل بالتخلية وفي مذهب الإمامية قول بأن القبض في القماش هو الإمساك باليد، وفي الحيوان هو نقله (2) .
ويفرق الظاهرية بين الطعام وغيره، والطعام عندهم هو القمح خاصة، فالقبض في غير الطعام يكون بأن يطلق البائع يد المبتاع عليه بألاَّ يحول بينه وبين ما اشتراه، أي بالتخلية. أما الطعام فلا يتم قبضه إلاَّ إذا نقل من مكانه الذي هو فيه إلى مكان آخر إن يبع جزافًا، وإلاَّ إذا كاله المبتاع إن بيع على الكيل (3)
والذي أرجحه من هذه الآراء أن المنقول إذا كان مقدرًا فقبضه يكون باستيفاء قدره، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، وإذا كان جزافًا فقبضه بنقله من مكانه، وهو مذهب الحنابلة ورواية عند المالكية، وفيما عدا الجزاف والمقدر يكون القبض ما يعتبره العرف قبضًا، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة وذلك عملًا بالأحاديث الصحيحة المصرحة بالأمر بالكيل فيما بيع بالكيل، والأحاديث المصرحة بالنهي عن بيع الجزاف حتى ينقل، وعملًا بالعرف فيما لم يرد فيه نص.
__________
(1) المحرر: 323، والمغنى: 4/111، 112، و 124
(2) البحر الزخار: 3/369، والمختصر النافع: 148
(3) المحلى: 8/518 و 521 و 523(6/338)
حكم بيع ما لم يقبض:
المجوزون:
ذهب بعض الفقهاء إلى أن القبض ليس شرطًا في صحة البيع فيجوز عندهم بيع كل شيء قبل قبضه، نقل هذا الرأي عن عطاء (1) ، وعثمان البتي (2) ، من غير استدلال عليه وللشيعة الإمامية قولان في بيع ما لم يقبض قول بالكراهة وحجته أن النهي الوارد في الأحاديث الصحيحة محمول على الكراهية، جمعًا بينها وبين ما دلّ على الجواز، وقول بالحرمة، وقد رجح الشيخ الحلي القول بالكراهة، وهذا نص عبارته: (ولا بأس ببيع ما لم يقبض، ويكره فيما يكال أو يوزن، وتتأكد الكراهية في الطعام، وقيل: يحرم) (3) . ورجح الشهيد الثاني القول بالحرمة وها هي عبارته: (والأقوى التحريم وفاقًا للشيخ رحمه الله في المبسوط مدعيًا الإجماع، والعلامة رحمه الله في التذكرة والإرشاد، لضعف روايات الجواز المقتضية لحمل النهي في الأخبار الصحيحة على غير ظاهره) (4) .
المانعون:
اتفق جمهور الفقهاء على أن هناك أشياء لا يجوز يبعها قبل قبضها، عملًا بالأحاديث الصحيحة المصرحة بالنهي عن بيع بعض الأشياء قبل قبضها، بل إن ابن المنذر قد حكى الإجماع على هذا، ولكن جمهور الفقهاء اختلفوا بعد ذلك في تحديد هذه الأشياء التي لا يجوز بيعها قبل قبضها، كما اختلفوا في هل هذا الحكم عام في كل أسباب التملك أم خاص ببعضها دون بعض؟ (5) .
وسنذكر فيما يلي آراءهم مفصلة في هذين الموضوعين:
__________
(1) المحلى: 8/520
(2) النووي على مسلم: 10/170، قال النووي: وهو قول شاذ، وقال ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة، والحجة المجمعة على الطعام، وأظنه لم يبلغه الحديث، ومثل هذا لا يلتفت إليه.
(3) المختصر النافع: 148
(4) الروضة البهية: 293، ولم اطلع على دليل الجواز الذي يشيرون إليه
(5) بداية المجتهد: 2/644، والمغني: 4/109(6/339)
ما يجوز بيع قبل قبضه وما لا يجوز:
لا يجوز عند الحنفية أن يبيع المشتري المنقول قبل القبض، لأن في هذا البيع غررًا، لأنه لا يدرى هل يبقى المبيع أم يهلك قبل القبض، فيبطل البيع الأول، فينفسخ الثاني، لأنه مبني على الأول، ولا فرق بين أن يبيعه من بائعه أو من غيره، لأن علة المنع تصدق على الحالين.
أما العقار (1) فيجوز بيعه قبل قبضه عند الشيخين استحسانًا؛ لأن تلف العقار غير محتمل فانتفى الغرر. وقال محمد، وزفر: لا يجوز بيعه قبل قبضه كالمنقول، لأن الحديث الوارد فيه النهي عن بيع ما لم يقبض لم يفرق بين العقار والمنقول، أما الشيخان فيريان أن النهي معلل بخشية هلاك المبيع قبل تسليمه، وهذا محتمل في المنقول دون العقار، لذا لو كان العقار يخشى هلاكه قبل القبض، بأن كان على شط النهر أو في موضع لا يؤمن أن تغلب عليه الرمال، فهو كالمنقول لا يجوز بيعه قبل قبضه عند الجميع (2) .
ويفرق المالكية بين الطعام وغيره، فغير الطعام يجوز بيعه قبل قبضه عقارًا كان أو منقولًا، مكيلًا أو غير مكيل، مستدلين بحديث: (من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه) ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم خص هذا الحكم بالطعام فدل ذلك على أن غير الطعام مخالف له، غير أنه إذا بيع على الكيل أو الوزن فلا يجوز للمشتري أن يبيعه قبل قبضه بثمن مؤجل، وذلك لأن ضمان المكيل والموزون من البائع حتى يستوفى، فإذا باعه للمشتري بثمن مؤجل قبل أن يستوفى كان ذلك من بيع الكالئ بالكالئ (3) .
أما الطعام (4) ، فإن بيع جزافًا يجوز للمشتري أن يبيعه قبل قبضه، أي قبل أن ينقله من مكانه، وذلك لأن الجزاف عندهم يدخل في ضمان المشتري بنفس العقد، لأن استفياءه يكون بتمام العقد، وقد روى الوقار، عن مالك: أنه لا يجوز بيع شيء من المطعومات، بيع على الكيل أو الوزن أو العدد أو على الجزاف، قبل قبضه، وحكى القاضي أبو محمد: أن مالكًا استحب أن يباع بعد نقله، ليخرج من الخلاف (5) . وإن لم يبع الطعام جزافًا بأن بيع مكايلة أو موازنة أو عدًّا فلا يجوز بيعه قبل قبضه، سواء أكان الطعام ربويًّا أم غير ربويّ على الأشهر، وروى ابن وهب عن مالك جواز بيع غير الربوي قبل قبضه (6) .
__________
(1) العقار عند الحنفية هو ما لا يمكن نقله من مكان لآخر، والمنقول ما يمكن نقله من مكان لآخر سواء بقي على حالته أو تغير فهو يشمل كل شيء غير الأرض. انظر: المدخل للفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور: 473، ط الأولى.
(2) الأصل لمحمد: 91، والبدائع: 5/180، وابن عابدين: 4/224
(3) القوانين الفقهية: 341، والمنتقى شرح الموطأ: 4/158 و 162 و 380، و 5/35
(4) والطعام عندهم يشمل كل ما تجب فيه الزكاة من الحبوب والأدم بجميع أنواعها. الموطأ: 4/289
(5) القوانين الفقهية: 249، وبداية المجتهد: 2/146، 147، والمنتقى: 4/283، 284
(6) القوانين الفقهية: 249، وبداية المجتهد: 2/144،145، والمنتقى: 4/279، 280، 289، وانظر فيه دليل كل من الروايتين.(6/340)
أما الشافعية فلا يجوز عندهم بيع أي مبيع قبل قبضه طعامًا أو غيره، منقولًا أو عقارًا، إلا بإذن البائع ولا بغير إذنه، لا بعد أداء الثمن ولا قبله، وذلك لحديث حكيم بن حزام، وحديث زيد بن ثابت (1) .
وأما الحنابلة فقد اختلفت الروايات في مذهبهم، فروي عنهم أن القبض شرط في المقدرات، فمن اشترى مكيلًا أو موزونًا، أو مزروعًا لم يجز تصرفه فيه قبل قبضه، سواء كان متعينًا كالصبرة أو غير متعين كقفيز منها.
أما غير المقدرات فيجوز تصرف المشتري فيها قبل قبضها على المشهور، وقال القاضي وأصحابه، إذا كان المقدر معينًا كالصبرة يبيعها من غير تسمية كيل، فإنه يجوز للمشتري التصرف فيها قبل قبضها، وقال ابن عبد البر: الأصح عن أحمد أن الذي يمنع من بيعه قبل قبضه هو الطعام وحده، معينًا أو غير معين، للأحاديث الدالة على ذلك وحكى أبو الخطاب عن أحمد: أن القبض شرط في كل مبيع، فلا يجوز بيع شيء قبل قبضه، واختار هذه الرواية ابن عقيل، لقول ابن عباس: "أرى كل شئ بمنزلة الطعام" (2)
والشيعة الزيدية كالشافعية لا يجوز عندهم بيع شيء قبل قبضه لحديث حكيم: "إذا ابتعت مبيعًا فلا تبعه حتى تستوفيه" وهو عام في جميع المبيعات (3) ، ومثلهم الظاهرية (4) .
وروي عن عثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، والحسن، والحكم، وحماد بن أبي سليمان، والأوزاعي، وإسحاق، وأبي ثور أن كل ما بيع على الكيل والوزن لا يجوز يبعه قبل قبضه (5) ، وروي عن عبد العزيز بن أبي سلمة، وابن حبيب، وربيعة، ويحيى بن سعيد: أن القبض شرط لصحة البيع في كل مكيل أو موزون أو معدود (6) ، وعن الثوري روايتان: رواية بأن القبض شرط في كل مبيع (7) ، وأخرى بأنه شرط في المطعومات خاصة سواء بيعت جزافًا أو بيعت على الكيل أو الوزن، أو العدد (8) .
وقد أيد ابن القيم رأي من يمنع بيع كل شيء قبل قبضه (9) .
وأنا أؤيده أيضًا، لأنه اقرب الآراء إلى ما يفهم من الأحاديث (10)
__________
(1) المجموع شرح المهذب: 9/264 و 271
(2) المغني: 4/107 – 111 و 113 و 124، والمحرر: 322
(3) البحر الزخار: 3/311
(4) المحلى: 8/518 – 519
(5) المغني: 4/107، وفيه أن إسحاق يمنع أيضًا بيع المعدود. والبحر الزخار: 3/211، وفيه أن سعيد بن المسيب يمنع أيضًا بيع المعدود والمزروع قبل قبضه، والمجموع شرح المهذب: 9/270، وفيه أن أبا ثور يمنعه في المأكول والمشروب، بداية المجتهد: 2/144، والمحلى: 8/520
(6) بداية المجتهد: 2/145، والمنتقى: 4/280.
(7) بداية المجتهد 2/144، والمنتقى 4/80
(8) المنتقى: 4/283
(9) بدائع الفوائد: 250، 251
(10) انظر: ص 9 و 10(6/341)
العقود التي يشترط قبض المحل فيها قبل بيعه
والعقود التي لا يشترط فيها ذلك:
القاعدة العامة في هذا عند الحنفية أن كل عوض ملك بعقد ينفسخ فيه العقد بهلاكه قبل القبض لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه كالمهر وبدل العتق، وبدل الصلح عن دم العمد، وفقه هذه القاعدة، أن الصحة هي الأصل في التصرفات الصادرة من الأهل في المحل، وإن الفساد هنا جاء من عارض غرر الانفساخ، وهو غير متوهم في التصرفات التي لا تحتمل الفسخ فبقيت على الأصل، ولهذا جاز بيع الميراث، والموصى به قبل القبض، أما الميراث فلأن معنى الغرر لا يتقرر فيه، ولأن الوارث خلف المورث، ولو كان المورث موجودًا لجاز تصرفه فيه، فكذلك خلفه، وأما الوصية فلأنها أخت الميراث (1)
والحنابلة يوافقون الحنفية في هذه القاعدة، قال ابن قدامة: وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه، كالأجرة وبدل الصلح إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه جاز التصرف فيه قبل قبضه، كعوض الخلع والعتق على مال وبدل الصلح عن دم العمد وأرش الجناية وقيمة المتلف (2) .
والشيعة الزيدية يتفقون مع الحنفية والحنابلة، فقد جاء في البحر الزخار: "كل ما يبطل العقد بتلفه حرم بيعه قبل قبضه، فخرج المهر وجعل الخلع والصلح على دم العمد" (3) .
__________
(1) البدائع: 5/181، وابن عابدين: 4/225
(2) المغني: 4/114
(3) البحر الزخار: 3/311 و 313، وفيه أن المؤيد لا يجوز يبع المهر وما بعده قبل قبضه وأنه لا فرق عنده بين ما ملك بعقد من هذه العقود، وما ملك بالبيع، فهو موافق لرأي المالكية(6/342)
ومذهب المالكية أن عقود المعاوضات التي يقصد بها المكايسة والمغابنة لا يجوز بيع ما ملكت به قبل قبضه. وتلك العقود هي البيع، والإجارة، والزواج بالنسبة للمهر، والصلح ونحو ذلك. . . وأن عقود المعاوضات التي لا يقصد منها المغابنة، وإنما تكون على جهة الرفق يجوز بيع ما ملكت به قبل قبضه، ويشمل هذا القسم القرض فقط، وأن عقود المعاوضات التي تتردد بين قصد المغابنة والرفق، وهي الشركة والتولية والإقالة، يجوز بيع ما ملكن به قبل قبضه إذا لم تدخل هذه العقود زيادة أو نقصان، وذلك للأثر الذي رواه مالك من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) إلاَّ ما كان من شركة، أو تولية، أو إقالة ولأن هذه العقود إذا لم تدخلها زيادة أو نقصان، فإنما يراد منها الرفق لا المغابنة، فانتفت العلة التي من أجلها منع بيع الطعام قبل استيفائه، وهي مشابهته للعينة (1)
وعند الشافعية لا يجوز بيع ما ملك بعقد من عقود المعاوضات قبل قبضه، وذلك كالمبيع، والأجرة، والعوض المصالح عليه عن المال، والصداق على الأصح، ومثله بدل الخلع، وبدل الصلح عن دم العمد (2) . فالشافعية يتفقون مع المالكية في منع بيع الصداق وما بعده، وإن كان تعليل الشيرازي للمنع يستلزم أن يكون رأيهم كرأي الحنفية، وذلك حيث يقول: "ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه كبيع الأعيان المملوكة بالبيع والإجارة والصداق وما أشبهها من المعاوضات قبل القبض. . . لأنه ربما هلك فانفسخ العقد" (3)
هذا بالنسبة لعقود المعاوضات، وأما ما ملك بعقد لا معاوضة فيه فيجوز عند جمهور الفقهاء بيعه قبل قبضه، وذلك كالوصية، وكذلك ما ملك بغير عقد كالإرث (4)
ويرى الظاهرية أن الطعام، والطعام عندهم هو القمح خاصة، لا يجوز بيعه قبل قبضه سواء أملك بعقد معاوضة كالشراء، أم بغير معاوضة كالهبة، أم بغير عقد كالميراث، وذلك لحديث ابن عباس: أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع حتى يقبض فهو الطعام، فهذا يدل على أن الطعام: بأي وجه ملك لا يجوز بيعه قبل قبضه، أما غير الطعام فلا يجوز بيعه قبل قبضه إذا ملك بالشراء خاصة، وذلك لحديث حكيم بن حزام: "إذا ابتعت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه"، فإنه يدل على أن المنهي عنه هو البيع فقط قبل القبض فيما ملك بالشراء فقط (5) .
__________
(1) بداية المجتهد: 2/146، والمنتقى: 4/280 – 282
(2) المجموع شرح المهذب: 9/266 و 267
(3) المهذب: 1/262
(4) البدائع: 5/181، المنتقى: 4/182، والمهذب: 1/362، والمغني: 4/115، قال ابن قدامة: "ولا اعلم فيه مخالفًا"، وسنرى خلاف الظاهرية فيه بعد هذا مباشرة
(5) المحلى لابن حزم: 8/518 و 519 و 521(6/343)
علة منع بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه:
يعلل الحنفية منع بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه بالغرر، جاء في تنوير الأبصار وشرحه: صح بيع عقار لا يخشى هلاكه قبل قبضه من بائعه لعدم الغرر لا بيع منقول، قال في الحاشية: أي غرر انفساخ العقد على تقدير الهلاك (1) ، ويقول الكاساني: "ومنها، أي من شروط الصحة، القبض في بيع المشترى المنقول فلا يصح بيعه قبل قبضه، ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه، لأنه إذا هلك المعقود عليه قبل القبض يبطل البيع الأول، فينفسخ الثاني، لأنه بناه على الأول، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر (2)
ويعلل المالكية منع بيع الطعام قبل قبضه بأنه قد يتخذ ذريعة للتوصل إلى الربا، فهو عندهم من باب سد الذرائع، وذلك كما يقول الباجي: إن صاحب العينة يريد أن يدفع دنانير في أكثر منها، فإذا علم بالمنع في ذلك توصل إليه بأن يذكر حنطة بدينار، ثم يبتاعه بنصف دينار دون استيفاء، ولا قصد لبيعه ولا لابتياعه، فلما كثر هذا وكانت الأقوات مما يتعامل بها في كثير من البلاد، ولاسيما في بلاد العرب، وكان ذلك مما يقصد لهذا المعنى كثيرًا، لمعرفة جميع الناس لثمنه وقيمته، منع ذلك فيها وشرط في صحة توالي البيع فيها القبض، لأن ذلك نهاية التبايع فيها وإتمام العقد ولزومه، ولم يشترط ذلك في سائر المبيعات، لأنه لم يتكرر تعامل أهل العينة بها، لأن ثمنها يخفى في الأغلب ويقل مشتريها (3) .
والشافعية يعللون المنع بالغرر كالحنفية، يقول الشيرازي: (ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه. . . لأنه ربما هلك فانفسخ العقد، وذلك غرر من غير حاجة) (4) .
__________
(1) ابن عابدين: 4/224
(2) البدائع: 5/180
(3) بداية المجتهد: 2/144، والمنتقى: 4/280
(4) المهذب: 1/262(6/344)
والحنابلة يتفقون مع الحنفية في أن علة منع بيع الشيء قبل قبضه هي غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه فيقول ابن قدامة: لكن ما يتوهم فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه لم يجز بناء عقد آخر عليه، تحرزًا من الغرر، وما لا يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع فجاز العقد عليه (1) .
والعلة عند الشيعة الزيدية هي ضعف الملك قبل القبض (2) .
ويعلل ابن تيمية المنع: بعدم القدرة على التسليم، لأن البائع الأول قد يسلم البائع الثاني المبيع، وقد لا يسلمه، لاسيما إذا رآه قد ربح، فيسعى في رد البيع إما بجحد، أو باحتيال في الفسخ.
وكل هذه العلل ترجع إلى علتين في الواقع:
إحداهما: الربا، وهو ما يراه المالكية، وقد ذهب إلى هذا من قبلهم ابن عباس حين قال: "ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ" (3)
كما ذهب إليه أبو هريرة، وزيد بن ثابت حين قالا لمروان: "أحللت بيع الربا" (4) .
وثانيهما: الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم، وهو رأي سائر الأئمة، غير أن عدم القدرة على التسليم، وهو رأي سائر الأئمة، غير أن عدم القدرة على التسليم سببها احتمال هلاك المحل عند الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وضعف الملك عند الزيدية، واحتمال عدم تسليم البائع الأول عند ابن تيمية، وكلتا العلتين متحققتان في عقد البيع.
ونضيف إلى هذا: أن في النهي عن بيع السلع قبل قبضها إيجاد فرص للعمل، وذلك لأن في بيع السلع قبل قبضها حرمانًا لعدد كبير من العمال الذين يقومون بالكيل والحمل، فإن التاجر يفضل أن يبيع السلعة وهي في مكانها ما دام يجد ربحا، ثم إنا لو أبحنا للتجار بيع السلع قبل قبضها، فإن أسعارها ترتفع وهي في مكانها فتعود الفائدة كلها إلى طبقة التجارة، ولا ينال العامل فائدة من هذه العمليات، في حين أنه يناله ضرر ارتفاع السعر، وفي هذا مصلحة للتاجر، وضرر للعامل، أما منع بيع السلع قبل قبضها فإن فيه مصلحة للعمال ولا ضرر فيه على التجار.
__________
(1) المغني: 4/114
(2) البحر الزخار: 3/312
(3) الاختبارات العلمية لابن تيمية مع الفتاوى
(4) انظر صفحة 6(6/345)
المبحث الثالث
بعض الصور المستحدثة وحكمها
أذكر في هذا المبحث بعض الصور الممارسة في بيع المرابحة للآمر بالشراء بالنسبة للقبض في بيع المطلوب منه السلعة لطالبها، لأن هذا البيع كثر استعماله في البنوك الإسلامية، وكثيرًا ما يدخله الفساد بسبب التساهل في قبض المطلوب منه السلعة من بائعها قبل أن يبيعها لطالبها.
السلعة المطلوبة في بيع المرابحة للآمر بالشراء قد تكون موجودة في السوق المحلي، فيأتي شخص ويطلب من البنك شراءها وبيعها له مرابحة، وقد يقدم طالب السلعة للبنك فاتورة مبدئية من مالك السلعة تعين فيها السلعة وثمنها، وقد ظهر لي من مراقبتي لأعمال البنوك في هذا البيع أن تطبيقه يتم في أربع صور، اثنتان منهما صحيحتان، واثنتان غير صحيحتين:
فالاثنتان الصحيحتان إحداهما أن يتسلم الموظف المسئول في البنك الفاتورة المبدئية ويذهب إلى مالك السلعة ويشتريها منه للبنك، وينقلها إلى مخازن البنك ثم يعرضها على طالبها، فإذا رغب في شرائها وقَّع معه عقد البيع.
فهذه الصورة لا شبهة في صحتها. والصورة الأخرى أن يتسلم الموظف الفاتورة ويذهب إلى مالكها ويشتريها منه للبنك، ولكنه بدلًا من أن ينقلها إلى مخازن البنك يطلب من البائع أن يتركها عنده إلى أن يرسل له من يتسلمها، فتكون السلعة بعد هذا أمانة عند البائع وتنقلب يده عليها من يد ضمان، بعد البيع وقبل التسليم، إلى يد أمانة، لأنه خلى بين المشتري والسلعة، فإن شاء تسلمها، ولكنه لم يشأ وتركها عند بائعها.
ثم يتصل الموظف بطالب السلعة، ويخبره بأنه اشترى السلعة وهي بمكان كذا، وقد يكون طالب السلعة مع الموظف، فيعرض عليه السلعة، فإذا رغب في شرائها وقع معه عقد البيع، وسلمه السلعة، أو أعطاه إذنًا بتسلمها.
فهذه الصورة شبيهة بالأولى، لأن بيع البنك السلعة لطالبها وقع بعدما تسلَّم موظف البنك السلعة من بائعها بالتخلية بين الموظف والسلعة بعد شرائها منه.(6/346)
والصورتان غير الصحيحتين، إحداهما أن يتسلم الموظف الفاتورة المبدئية من طالب الشراء، ويشتري السلعة للبنك حسب الفاتورة، وقد يكون هذا الشراء بالتلفون، ثم يبرم عقد البيع مع طالب السلعة، ويعطيه شيكًا بالمبلغ المبين في الفاتورة ليسلمه للبائع، ويتسلم منه السلعة.
هذه الصورة غير صحيحة لأن البنك، وإن كان قد تملك السلعة قبل أن يبيعها لطالبها، إلاَّ أنه لم يتسلمها، لا حقيقة ولا حكما، ولم تدخل في ضمانه.
والصورة الأخرى أن يتسلم الموظف الفاتورة المبدئية من طالب الشراء، ثم يبرم معه عقد البيع للسلعة المبينة في الفاتورة بربح 10 % مثلا، ويعطيه شيكًا بالثمن المبين في الفاتورة ليسلمه للبائع، ويتسلم منه السلعة.
هذه الصورة غير صحيحة قطعًا؛ لأن البنك باع السلعة قبل أن يتسلمها، بل قبل أن يتملكها، فهي عقد قرض بفائدة في صورة بيع.
ويجب على المسئولين في البنوك الإسلامية تحذير الموظفين من ممارسة هاتين الصورتين في بيع المرابحة للآمر بالشراء.
هذا ما يتعلق بالسلعة الموجودة في السوق المحلي، أما السلعة المطلوب استيرادها من بلد آخر فلها حكم مختلف، وسأذكر فيما يلي بالنسبة للسلع المستوردة عن طريق البيع البحري في صوره المعترف بها دوليًّا، والمقصود بالبيع البحري الذي يستلزم نقل البضاعة المبيعة عن طريق البحر، واهم صوره هي:
1- البيع مع شرط التسليم في ميناء الوصول:
وهذا الشرط يعني أن البائع ملزم بشحن البضاعة على السفينة التي يتفق عليها الطرفان، أو في الموعد الذي يتفقان عليه على أي سفينة يختارها البائع، ولا يتم تسليم البضاعة إلاَّ بعد وصول السفينة إلى الميناء المعنية، ويترتب على هذا الشرط أن البضاعة تكون في ضمان البائع إلى أن يتسلمها المشتري، فإذا هلكت في الطريق هلكت على البائع، ولا تدخل في ضمان المشتري إلاَّ بعد وصول السفينة إلى الميناء، وتسلمه البضاعة تسلمًا حقيقيًّا أو حكميًّا بأن يكون متمكنًا من التسلم، ولو لم يتسلم بالفعل.
في هذه الصورة من البيع لا يجوز لمشتري البضاعة أن يبيعها قبل أن تصل السفينة إلى الميناء، ويتم تسلمه البضاعة على النحو الذي ذكرته.(6/347)
2- البيع مع شرط التسليم في ميناء القيام:
في هذه الصورة من البيع يتم تسليم البضاعة للمشتري أو وكيله بعد أن ينقلها البائع إلى الميناء ويشحنها على السفينة التي يعنيها المشتري، وعلى المشتري أو وكيله إبرام عقد النقل مع السفينة ودفع المصاريف، وقد يتولى البائع إبرام عقد النقل بتوكيل من المشتري لحسابه أو بإتفاق في عقد البيع على أن يبرم البائع عقد النقل على السفينة التي يعنيها المشترى، ويدفع جميع المصاريف التي تكون جزءًا من ثمن الشراء.
وفي جميع هذه الحالات يكون المشتري متسلمًا للبضاعة في ميناء القيام، وتدخل في ضمانه، ويتحمل تبعة هلاكها في الطريق فيجوز له على هذا أن يبيعها وهي في الطريق على ظهر السفينة، ويكون البيع بعد تسلم المشتري سند الشحن من البائع الذي يصله عادة قبل وصول البضاعة ويتم البيع بينه وبين المشتري الجديد بتسلمه سند الشحن، لأن هذا السند يمثل البضاعة في العرف التجاري.
وينبغي أن يطبق على هذا النوع من البيع حكم بيع العين الغائبة؛ لأن البائع، وإن كان مالكًا للبضاعة وقابضًا لها، إلاَّ أن البضاعة ليست حاضرة، وسند الشحن فيه وصف للبضاعة المبيعة فيكون هذا البيع من قبيل بيع العين الغائبة على الصفة، وهو جائز عند جمهور الفقهاء، مع اختلافهم في لزومه وعدمه، والرأي المقبول عندي هو أن مشتري العين الغائبة على الصفة إذا وجدها متفقة مع الصفة لزمته، وإذا كانت مختلفة فله الخيار في إمضاء البيع وفسخه، وهذا هو رأي أكثر القائلين بجوز بيع العين الغائبة على الصفة (1)
وينبغي التنبيه أيضًا إلى أن جواز بيع البضاعة في الطريق بعد تسلم سند الشحن خاص بالمشتري الأول، أما المشتري الثاني فلا يجوز له بيع البضاعة التي اشتراها بناء على سند الشحن إلاَّ بعد وصول السفينة، وتسلم البضاعة؛ لأنه لو باعها في السفينة في الطريق يكون قد باع ما اشتراه قبل قبضه.
والله الموفق والهادي إلى الصواب.
__________
(1) انظر تفصيل هذا الموضوع في كتابي الغرر وأثره في العقود: ص 404 - 413(6/348)
ملخص البحث
وردت أحاديث صحيحة في هذا الموضوع تدل على نهي من اشترى طعامًا أن يبيعه قبل قبضه سواء أكان الطعام معينًا، بأن اشتراه جزافًا، أم غير معين بأن اشتراه على الكيل أو الوزن، والنهي الوارد في الحديث للتحريم فيكون بيع الطعام قبل قبضه غير صحيح، وهو ما جرى عليه العمل في عهد الصحابة.
والمراد بالطعام كل ما يطعم من قمح وشعير وسائر أنواع المطعومات سواء أكانت مأكولات أو كانت من الأدم.
والقبض يكون في المكيل والموزون ونحوهما باستيفاء قدره وفي الجزاف بتحويله إلى مكان آخر غير المكان الذي بيع فيه، وفي غيرها بحسب العرف.
والنهي ليس خاصًا بالطعام، وإنما يتناول الطعام وغيره، منقولا كان أو عقارا لحديث حكيم بن حزام: "إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه". وحديث زيد بن ثابت الذي ورد فيه النهي عن بيع السلع، حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، ويقول ابن عباس: ولا احسب كل شيء إلاَّ مثله، ولأن علة النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وهي الربا والغرر، متحققة في بيع غير الطعام قبل قبضه.
وكل الأحاديث تدل على أن النهي عن البيع قبل القبض هو فيما ملك بالشراء خاصة، ولهذا فإني أرى الوقوف عند نص هذه الأحاديث.
هذا ما فهمته من الأحاديث، أما آراء الفقهاء فتتلخص في الآتي:
اتفق جمهور الفقهاء على أن هناك أشياء لا يجوز بيعها قبل قبضها بل إن ابن المنذر حكى الإجماع على هذا، واختلف الجمهور بعد ذلك في تحديد هذه الأشياء.
كما اختلفوا في هل المنع عام في كل أسباب المتملك أم خاص ببعضها دون بعض؟(6/349)
فالحنفية لا يجوز عندهم أن يبيع المشتري المنقول قبل قبضه، أما العقار فيجوز بيعه قبل قبضه عند الشيخين استحسانًا، ولا يجوز عند محمد وزفر.
والمالكية يفرقون بين الطعام وغيره، فغير الطعام يجوز بيعه قبل قبضه عقارا كان أو منقولا، مكيلا أو غير مكيل، أما الطعام فإن بيع جزافًا يجوز للمشتري أن يبيعه قبل قبضه، وإن بيع مكايلة أو موازنة أو عدًا فلا يجوز بيعه قبل قبضه.
والشافعية لا يجوز عندهم بيع أي مبيع قبل قبضه، طعامًا أو غيره، منقولا أو عقارا
واختلفت الروايات في مذهب الحنابلة فروي عنهم أن القبض شرط في المقدرات، أما غير المقدرات فيجوز تصرف المشتري فيها قبل قبضها على المشهور، وقال ابن عبد البر: الأصح عن أحمد أن الذي يمنع من بيعه قبل قبضه هو الطعام وحده، وحكى أبو الخطاب عن أحمد: أن القبض شرط في مكان كل مبيع، واختار هذه الرواية ابن عقيل.
وأيد ابن القيم رأي من يمنع بيع كل شيء قبل قبضه.
واتفق الفقهاء على أن القبض في العقار يكون بالتخلية بينه وبين المشتري، واختلفوا في قبض المنقول، فقال الحنفية: القبض في المنقول كالقبض في العقار، يكون بالتخلية إلاَّ في المكيل والموزون ونحوهما، فإن قبضه يكون باستيفاء قدره، والمشهور عن المالكية أن المنقول إن كان جزافا فقبضه بالتخلية، وإن كان مقدرا فباستيفاء قدره، وإن كان حيوانا أو ثيابا أو دراهم ونحوها فالمرجع فيه إلى العرف.
وقال الشافعية القبض في المنقول يرجع فيه إلى العرف.
وعند الحنابلة قبض كل شيء بحسبه. . وروى أبو الخطاب عن أحمد أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز.
واتفق الأئمة الأربعة على أن كل ما ملك بعقد لا معاوضة فيه يجوز بيعه قبل قبضه، وذلك كالوصية، وكذلك ما ملك بغير عقد كالإرث.
أما ما ملك بعقد من عقود المعاوضات فالقاعدة العامة عند الحنفية والحنابلة "أن كل عوض ملك بعقد ينفسخ فيه العقد بهلاكه قبل القبض لا يجوز بيعه قبل قبضه" ومذهب الشافعية متفق مع هذه القاعدة.(6/350)
ومذهب المالكية أن عقود المعاوضات التي يقصد بها المكايسة والمغابنة لا يجوز بيع ما ملكت به قبل قبضه، وأن عقود المعاوضات التي لا يقصد منها المغابنة، وإنما تكون على جهة الرفق يجوز بيع ما ملكت به قبل قبضه، وأن عقود المعاوضات التي تتردد بين قصد المغابنة والرفق، وهي الشركة والتولية والإقالة، يجوز بيع ما ملكت به قبل قبضه، إذا لم تدخلها زيادة أو نقصان.
وعلة منع بيع الإنسان ما اشتراه قبل قبضه هي الربا عند المالكية، والغرر الناشئ عند عدم القدرة على التسليم عند الأئمة الثلاثة، لاحتمال هلاك المحل.
والصور المستحدثة في هذا الموضوع التي رأيت التنبيه إليها في هذا البحث تتصل ببيع المرابحة للآمر بالشراء، الذي كثر العمل به في البنوك الإسلامية، وكثيرًا ما يدخله الفساد بسبب تساهل المطلوب منه السلعة في قبضها من البائع، قبل بيعها لطالبها.
فمن الصور الفاسدة في هذا البيع أن يقدم طالب السلعة للبنك فاتورة مبدئية بما يطلب شراءه، فيشتري الموظف السلعة للبنك حسب الفاتورة، وغالبًا ما يتم هذا الشراء بالتلفون، ثم يبرم عقد البيع مع طالب السلعة ويعطيه شيكًا بالمبلغ المبين في الفاتورة ليسلمه للبائع، ويتسلم منه السلعة، قبل أن يتسلم هو السلعة أو يراها.
وقد يتساهل بعض الموظفين بأكثر من هذا فيبرم عقد البيع مع طالب الشراء بمجرد تقديمه للفاتورة المبدئية بربح 10 % مثلا، ويسلمه شيكًا بالثمن المبين في الفاتورة. فهذا عقد قرض بفائدة، وليس بيعًا.
ومن صور البيع الفاسدة بيع السلعة وهي في الطريق على ظهر السفينة، بناء على تسلم مستند الشحن، إذا كان البيع الأول تم بشرط التسليم في ميناء الوصول، فإن المشتري لا يجوز له أن يبيع السلعة قبل وصولها الميناء وتسلمها، ولو تسلم سند الشحن.
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير(6/351)
القبض:
أنواعه، وأحكامه في الفقه الإسلامى
إعداد
فضيلة الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني
الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف القبض:
القبض الأخذ قبض الشيء: أخذه. وصار الشيء في قبضتك وفي قبضتك أي: صار في ملكك وقبضه المال: أعطاه إياه (1) . هذا معنى القبض في اللغة.
أما تعريف القبض في الاصطلاح فيمكن القول أنه: حيازة الشيء حقيقة أو حكمًا.
فوضع اليد على الشيء حقيقة كأخذ الشيء وتسلمه، أما حيازة الشيء حكمًا فإنه التخلية بين مستحق الشيء وحقه، فإنه في حكم المقبوض وإن لم يقبض حقيقة.
الواقع أن القبض من المسائل المهمة بالنسبة للأموال. فهو تارة يكون صحيحًا وتارة غير صحيح هذا من جهة. ومنه جهة أخرى يكون للقبض تأثيره في انعقاد العقود وتمامها. ومن جهة ثالثة فإن صوره متعددة وقد اختلف فيها حسب طبيعة الأموال ذات العلاقة. ومن ثم فإن للقبض أثره في تقييد تصرفات المالكين في أملاكهم.
وقد عقدت للبحث في هذه الأمور أربعة مباحث:
__________
(1) مختار الصحاح للرازي: ط 2، ص 519(6/352)
المبحث الأول
القبض من حيث الصحة وعدمها
(1) .
القابض لمال غيره لا يخلو: إما أن يقبضه بإذن مالكه أو بغير إذنه. فإن قبض المرء أموال غيره بدون إذن المالك، فهذا القبض إما أن يكون مستندًا إلى إذن شرعي أو عرفي، أو لا يستند إلى مثل هذا الإذن.
فإذا كان القابض يستند إلى إذن شرعي فإن قبضه قبض صحيح لا يترتب عليه ضمان لمالكه الأصلي، كما هو حال ملتقط اللقطة، فإنه يقبض اللقطة بدون إذن مالكها لكنه مستند إلى إذن شرعي بأخذه اللقطة لحفظها فلا ضمان عليه ما لم يكن مقصده أخذ اللقطة لتملكها.
وقد يكون الإذن للقابض أموال غيره عرفيًا. مثاله من قبض أموال غيره لينقذها من التلف. فهذا القبض يكتسب الصحة فلا ضمان على القابض ما لم يقترن بالأخذ القصد السيئ.
أما إذا افتقر القبض إلى الإذن الشرعي أو العرفي، فإن مثل هذا القبض قبض المتعدي كالغاصب والسارق وأمثالهما، وفي هذه الحال وجب على الآخذ رد المال إلى مالكه مع تحمل مسئولية الضمان.
إن دوام القبض واستمراره بدون إذن له أحوال ثلاثة:
أولًا: امتناع من وجب عليه تسليم ما وجب تسليمه إلى مستحقه بدون وجه حق. ومثاله امتناع البائع عن تسليم المبيع للمشتري بلا مبرر شرعي، وحكم البائع الممتنع هنا حكم الغاصب فعليه تبعة الضمان.
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح النام للعز بن عبد السلام، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت: 2/71، القواعد في الفقه الإسلامي لابن رجب الحنبلى، ط. دار المعرفة – بيروت: قاعدة 43، ص 55 وما بعدها(6/353)
ثانيًا: استمرار المال المعقود عليه الذي وجب رده بسبب انتهاء العقد أو فسخه تحت يد من وجب عليه رده إلى مستحقه. مثاله بقاء العين المستأجرة تحت يد المستأجر مع أن مدة الإجارة قد انتهت. ومنه بقاء المبيع المعيب الموجب للفسخ تحت يد المشتري. ومثاله أيضا طلاق المرأة القابضة لصداقها قبل الدخول وجب عليها رد نصفه.
وفي وجود الضمان على أمثال هؤلاء خلاف بين العلماء.
ثالثا: حصول القبض بدون فعل القابض ومثاله: من مات مورثه وكان في يده لهذا المورث أموال مودعة أو أموال شركة أو مضاربة. ومنه أيضًا من ألقت الريح في بيته ثوبًا أو ألقى النهر في حوضه مالًا.
إن الإمساك في مثل هذه الأحوال يفتقر إلى إعلام المالك، لأن المالك لم يأتمن هؤلاء على حفظ الأموال وهذه الحكم على خلاف بين العلماء أيضا.
والقول بعدم ضمان هؤلاء أولى، إلا إذا قارن استدامة القبض ما يفيد توجه نيتهم إلى تملك أموال الغير.
أما إذا أخذ القابض أموال غيره بإذن المالك، فله نوعان:
النوع الأول: يفيد نقل ملكية المقبوض إلى القابض كقبض المشتري للمبيع وقبض الموهوب له الهبة.
النوع الثاني: لا يحصل بأخذ القابض ملك المال المقبوض وهو أقسام:
1- قسم يتم قبضه لمنفعة القابض كقبض المستعير العين المستعارة. فإذن المعير بالقبض متعلق بالانتفاع بالعين.
وضمان المستعير قد اختلف الفقهاء فيه فالشافعية والحنابلة على مشهور المذهبين يكون المستعير ضامنًا وعند الحنفية تقرر أمانة المستعير فلا يضمن إلا بالتعدي، والمالكية لهم تفصيل بين ما يمكن تغييبه فيضمن كالحلي وما لا يمكن تغييبه كالدواب فهو أمانة.
2- قسم يتم القبض فيه لمصلحة المالك لا القابض كالوديع فإنه أمين لا يضمن إلا بالتعدي.
3- قسم يتم القبض فيه لمنفعة القابض والمالك معًا وهو نوعان:
الأول: قبض على وجه الملك كالمقبوض بعقد فاسد. أو ما قبض على سوم الشراء. وفي ضمان القابض هنا خلاف العلماء.
الثاني: ما قبض لمصلحتهما لا على وجه التمليك. كما في المضاربة والشركة والوكالة. فالقابض أمين وفي أمانة قابض الرهن خلاف.
ويلاحظ أخيرًا أن هناك مقبوضات يجب تخليتها ولا مالك لها من الناس، مثاله صيد الحرم إذا قبضه المحرم.
كما أن هناك مقبوضات وهي لمالك غير معين كالزكاة الواجبة في العين يجب أن تدفع لمستحقها.
* * * *(6/354)
علاقة القبض بالعقد
(1)
للقبض علاقة وثيقة بالعقد وانعقاده. وله بهذا الاعتبار حالان:
الحال الأول: يكون القبض أثرًا من آثار العقد وواحدًا من موجباته. كما هو الحال في البيع اللازم والرهن اللازم والهبة اللازمة.
فإذا تم انعقاد هذه العقود وأمثالها وجب على البائع تسليم المبيع إلى المشتري ووجب على الواهب تسليم الهبة إلى الموهوب له.
ويلاحظ هنا أن العقد تم بإيجاب وقبول تولد عنهما التزام يوجب الإقباض.
الحال الثاني: يكون القبض من تمام العقد كقبض الثمن في السلم، والتقابض يدًا بيد في الأموال الربوية، فإذا تفرق العاقدان بدون القبض بطل العقد.
وهنا يلاحظ أن القبض لو تم قبل التفرق فإنه يستند إلى سبب صحيح وهو الإيجاب والقبول فالقبض شرط تمام لا انعقاد.
كما أن القبض معتبر في تمام عقود التبرعات كالهبة غير اللازمة والرهن والوقف والوصية والإعارة على خلاف بين العلماء.
يثور جدل بين الفقهاء حول القبض هنا. هل هو شرط لزوم العقد واستمراره أو أنه شرط انعقاد العقد وإنشائه؟
فمنهم من يرى أن القبض شرط لزوم العقد واستمراره وهو ليس ركنًا فيه، لأن العقد تراض في نظر الشرع وهو يتم بالإيجاب والقبول، لكنه عقد غير لازم يفتقر إلى القبض مع خلاف بين العلماء بين عقد وعقد.
__________
(1) قواعد ابن رجب: قاعدة 49، ص 71(6/355)
ومنهم من يرى أن القبض ركن في العقد لأنه تمام الرضا فلا ينعقد العقد ولا ينشأ إلا بحصول القبض، وعلى هذا فلا أثر للإيجاب والقبول في تكوين العقد.
لكن هذا الرأي محل نظر شديد، لأن المعنى الشرعي للعقد: ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه يظهر أثره الشرعي في محله.
وهذا المعنى للعقد يتحقق بالإيجاب والقبول.
كما يقال هنا إن العقود التي تضاف إلى المستقبل قد قال العلماء فيها إنها تنعقد حالا، أما التصرف فيكون حين تحقق ما أضيف إليه العقد من الزمن. فمن قال لآخر: أعرني سيارتك للغد فرضي فجاء الغد فأخذ المستعير السيارة فإنه آخذ مستندًا إلى سبب صحيح من الإيجاب والقبول، فكيف يقال إن القبض ركن في العقد؟ لأن الركن جزء من الماهية وليس كذلك القبض.
على أن الإمام مالك رحمه الله في مشهور مذهبه وسار عليه فقهاء مذهبه أن عقود التبرعات تلزم بالإيجاب والقبول وعلى المتبرع إقباض ما تبرع به – إلى المتبرع له – بناء على قاعدة مالك الشهيرة:
(من ألزم نفسه معروفا لزمه إلا من موت أو فلس) .
فالقبض ليس ركنًا في العقد كما أنه ليس شرط لزوم وتمام بل إنه أثر للعقد. وهذا هو الذي يبدو لي راجحًا والله أعلم.(6/356)
البيع والقبض
تقدم أن البيع من عقود المعارضات الناقلة للملكية. لكن ورود بعض الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع المبيع قبل قبضه أثارت كلامًا عند العلماء في مسألة استقرار الملكية المترتبة على عقد البيع.
ويشير ابن رجب إلى روايتين في مذهب الحنابلة بهذا الخصوص:
الرواية الأولى: أن البيع لا ينعقد فيما يعتبر فيه القبض كالمكيلات والموزونات فلا ينعقد البيع لا بالكيل أو الوزن إذا كان معلومًا، أما إذا كان صبرة وجب نقله، فعلى هذه الرواية لا ينتقل الملك ولا الضمان إلى المشتري بل هو ملك البائع وفي ضمانه.
وهذا منتقد حسب ما ذكرنا قبل قليل من أن مثل هذا القول يدخل في ماهية.
العقد (الإيجاب والقبول) ما ليس منه. فالكيل والوزن شرط لا ركن على الصحيح.
الرواية الثانية: أن البيع ينعقد وينقل الملك إلى المشتري بدون القبض، إلا أن ضمان التلف على البائع قبل القبض في المكيل والموزون المعلوم.
وهذه الرواية هي الراجحة وينبغي المصير في تقرر رأي المذهب إليها.
* * *(6/357)
المبحث الثالث
صور تحقق القبض
(1) .
لما كان للقبض أهمية في نقل الضمان واستقرار المالكية، فجدير بنا أن نقف عند الصور التي يتحقق بها حسب ما نظرها فقهاؤنا رحمهم الله. ومجمل هذه الصور أنها تخضع لعرف الناس وعاداتهم مع مستثنيات يرد ذكرها بإذن الله.
أولا – المناولة:
مناولة الشيء إلى مستحقه يعتبر إقباضًا له كالحلي والجواهر والأقلام والكتب وغير ذلك من السلع. وهذه الصورة أكثر أنواع القبض وأقواها.
ثانيًا – التخلية ورفع الحائل
إذا خلى البائع بين المشتري وبين المبيع على وجه يتمكن من قبضه من غير حائل وكذلك تسليم الثمن، فإن ذلك يعتبر قبضًا وينتقل الضمان معه والملك إلى المشتري وينبغي أن يقترن ذلك بثلاثة أمور:
الأول: أن يقول البائع خليت بينك وبين المبيع.
الثانى: أن يكون المبيع بحضرة المشتري على صفة يتأتى فيه القبض من غير مانع.
الثالث: أن يكون المبيع مفرزًا غير مشغول بحق غيره.
وعلى هذا فلو دفع المفاتيح للمشتري يعتبر قبضًا، وإن كانت مشغولة بمتاع البائع لم يكن قبضًا، وإن كان متاع غير البائع صح القبض وكان المتاع وديعة عند المشتري.
وإذا بيعت الدار غائبة فقال: سلمتك إياها، لا يصير قبضًا، وإذا كانت قريبة أي بحال يقدر المشتري على إغلاقها فإنه قبض على رأي. وفي رأي آخر التخلية قبض وإن كان المبيع ببعد عنهما.
وفي البيع الفاسد تكون التخلية قبضًا على بعض النقول. وفي نقول أخرى أن الأصح أن التخلية ليست قبضًا هذا مذهب الحنفية فلا فرق بين مكيل أو موزون وغيره.
__________
(1) انظر للحنفية: فتح القدير: 5 / 109 و 230 و 264، وانظر للمالكية: الخرشي وحاشية العدوي: 5/85 و 158 و 163، وانظر للشافعية: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 2/72، والغاية القصوي في دراية الفتوى للبيضاوي: 1/483 – 484، وللحنابلة: المغني والشرح الكبير: 4/220 قواعد ابن رجب: قاعدة 43، وقاعدة 51.(6/358)
أما مذهب المالكية:
فإن البيع إذا كان صحيحا، فإن الضمان يدخل في ضمان المشتري بمجرد العقد، فإذا كان المبيع حاضرًا وليس فيه حق توفيه من وكيل أو وزن أو عدد كحيوان وكتان فإن ضمانه ينتقل إلى المشتري بمجرد العقد. أما إذا كان فيه توفيه مما ذكر أو كان المبيع غائبًا، أو كانت السلعة محبوسة بسبب تأخر دفع ثمنها أو للإشهاد على حكم من أحكام البيع كتأجيل الثمن أو حلوله. ففي هذه الأحوال وأمثالها لا ينتقل الضمان إلى المشتري إلا بالقبض.
وبناء على ما تقدم فإن التخلية تكون تحصيلا لحاصل في غير المستثنيات.
لكنه يلاحظ أن التخلية كصورة للقبض إنما يظهر أثرها في العقد الفاسد، فإن الأرض وما اتصل بها من بناء أو شجر يدخل في ضمان المشتري في البيع الفاسد بمجرد التخلية بين المشتري وبين المبيع إذ أن العقد الفاسد لا يقوى على نقل الضمان بمجرد التخلية ولا يشترط هنا الإخلاء من أمتعة البائع. ثم إن من لوازم التخلية هنا – كما في الدار مثلا – إعطاء المفاتيح للمشتري، فلو مكن البائع المشتري من التصرف بأن فتح الأبواب ومكنه من السكنى ومنعه المفاتيح، فإن في كون ذلك قبضا نظرًا.
كما يلاحظ أن قبض المثليات في البيع الفاسد إنما يكون بالكيل ومثله.
ورأي المالكية في الشيء الغائب يشترى بناء على الصفة أو على رؤية سابقة متقدمة، فإن الضمان لا ينتقل إلى المشتري إلا بالقبض، وهذا في غير العقار. أما العقار فإنه يدخل في ضمان المشتري بمجرد العقد ما لم يوجد شرط يغيره.
كما أن بيع الثمار بدا صلاحها قبل طيبها يبقي الضمان في ذمة البائع إلى أن تطيب فينتقل الضمان إلى المشتري.(6/359)
ومذهب الشافعية:
أن ما لا يمكن نقله مثل العقار، فإن التخلية وتمكين القابض وإزالة يد المقبض يعتبر قبضًا.
أما ما جرت العادة بنقله فإنه ضربان:
الأول: ما استحق كليه أو وزنه من السلع، فإن قبضه بالكيل أو الوزن، ثم نقله بعد تقديره.
الثاني: ما جرت العادة بنقله دون كيل أو وزن كالأمتعة والأدوات، فإن قبضه يكون بنقله إلى مكان لا يختص ببائعه فلا تكفي فيه التخلية على الأصلح، فإن اختص بالبائع يطلب إذن المشتري ليكون الشيء بيد البائع بطريق الإعارة.
على أن مجرد التخلية في المنقول والمقدر ينقل الضمان إلى المشتري ولكنه لا يجوز للمشتري التصرف في المبيع قبل القبض بالتقدير والنقل.
وفي الثمار إذا بيعت بعد بدو صلاحها وينعها تكون التخلية قبضًا.
ويقبض الوالد لولده أو حفيده، ويقبضه من نفسه عن ولده لنفسه، ولو كان للمدين حق في يد الدائن فأمر المدين دائنه ليقبضه من يده لنفسه، فإن في وقوعه قبضًا خلافًا.
ولو كان المقبوض غائبًا فلابد أن يمضي زمان يمكن المضي اليه. ولو كان ما يستحق قبضه بيد القابض وهو غائب فلابد من مضي الزمان. وفي اشتراط رؤية الغائب خلاف، فإذا اشترطت الرؤية ففي اشتراط النقل لتحقق القبض خلاف.
أما الحنابلة:
فإن الروايات تعددت عندهم.
فعلى إحدى الروايات: أن التخلية إذا كان الشيء مميزًا معينًا ولو مشاعا يعتبر قبضًا على الصحيح. لأنه ليس على البائع إلا التمكين، أما القبض والنقل فإنه واجب المشتري فلو فرط المشتري في نقله سقط الضمان عن البائع.
ويقابل الصحيح طريقة أخرى في غير المعين في كون تخليته للمشتري قبض فلهم فيه روايتان.
وقيل إن الإمام أحمد رحمه الله فرق بين المبهم فجعل قبضه كيله. أما الصبرة فإن قبضها نقلها.
وهناك رواية أخرى اعتمدها الخرقي أن قبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلًا أو موزونًا فإن قبضه بكيله ووزنه.
وما عدا المكيلات والموزونات وما في حكمها، فإن الأعيان المتميزة تدخل في ضمان المشتري بالعقد على ظاهر المذهب.
ويلاحظ أن حكم الغائب كحكم الحاضر لا بد من قبضه لأن الغيبة مانعة من القبض أى أن التخلية لا تكفي في قبضه إلا في العقار.
وهناك رواية في المذهب أن القبض يشترط في جميع الأعيان فلا تكفي التخلية فلا ينتقل الضمان إلا بالقبض سواء كان مكيلًا أو موزونًا أو غيره.
والمنافع لا تدخل في ضمان المستأجر بدون قبض العين المستأجرة أو التمكين منه أو بتفويت المستأجر باختياره.
والوصية تملك بالقبول بدون القبض. أما الهبة والصدقة فعلى روايتين:
الأولى: أنها تجري مجرى البيع في كون التخلية فيها قبضًا.(6/360)
الثانية: لا بد من نقلها.
وسنرى في المبحث القادم أن مرد الخلاف الحاصل في بعض المسائل بين الفقهاء إنما مرده إلى اختلاف الأخبار والآثار.
وبعد الذي عرضناه من أقوال الفقهاء في صور تحقق القبض يتلخص لنا:
أولا: أن الحنفية اعتبروا التخلية قبضًا في العقار وغيره سواء كان مكيلا أم موزونًا، وهذا بخلاف غيرهم إذ أن الراجح في مذهب المالكية والشافعية والحنابلة أن المكيل والموزون وما في حكمهما لا يتم قبضة إلا بالوزن أو الكيل سواء كان حاضرا أم غائبًا. والحنفية لا يرون لزوم بيع الغائب بل يعطون الخيار للمشتري وبيع العقار الغائب لا يحتاج إلى القبض لنقل الضمان إلى المشتري بل يكفي العقد والتخلية هذا عند المالكية والحنابلة وهو كذلك عند الشافعية مع اشتراط مضي الزمن الكافي للقبض.
ثانيا: أما غير المكيلات والموزونات، فإن مذهب المالكية متوسع في وقوع الملكية وانتقال الضمان بمجرد العقد ويحظى هذا القول تأييدًا عند بعض الحنابلة.
ثالثا: بناء عليه فإن ما يجري في الأسواق من التخلية بين المشتري والسلع من غير المكيلات والموزونات وما في حكمها صحيح وهي في ضمان المشتري.
أما المكيلات والموزونات فإن قبضها تقيد بتقديرها عن طريق النصوص الواردة في سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
والتخلية حسب العرف سواء كانت بإذن شفهي أو بكلام مكتوب أو بكل ما تعارف الناس في انه تخلية.
وسيأتي مزيد كلام في المبحث القادم.
* * *(6/361)
المبحث الرابع
أثر القبض في تقييد تصرفات المالكين
تبرم العقود وتترتب عليها أحكامها. وقد يتأخر القبض عن وقت العقد وربما يرغب من وجب له القبض أن يتصرف في الشيء قبل قبضه. فهل له ذلك؟ وما هي التصرفات التي يمكن أن يجريها؟
إن التصرفات التي يجريها مستحق القبض على المقبوض قد تكون من نوع المعاوضات كالبيع والإجارة وقد تكون من التبرعات أو غيرها.
وقد اختلفت كلمة الفقهاء على النحو التالى:
أولا: مذهب الحنفية
(1)
يفرق الحنفية بين العقار بين المنقول.
فبيع العقار قبل قبضه أجازه أبو حنيفة وأبو يوسف. بناء على أنه بيع تحقق ركنه من أهله في محله ولا احتمال للغرر في العقار لأن هلاكه نادر.
وخالفهما محمد بن الحسن فذهب إلى عدم جواز بيعه قبل قبضه عملًا بإطلاق أحاديث المنع فلا فرق بين عقار وغيره. وهو مذهب زفر ورواية عن أبي يوسف.
أما المنقول فقد اتفق فقهاء المذهب على أن لا يجوز بيعه قبل قبضه لمنع النبي صلى الله عليه وسلم بين الطعام حتى يستوفي، ولأن ابن عباس رضي الله عنه قال: أحسب كل شيء مثل الطعام.
وقد تقرر في المذهب هنا أصل وهو:
أن كل عقد ينفسخ بهلاك العوض قبل القبض لم يجز التصرف في ذلك العوض قبل قبضه كالمبيع في البيع والأجرة إذا كانت عينًا في الإجارة وبدل الصلح عن الدين إذا كان عينًا فلا يجوز بيع شيء من ذلك ولا أن يشرك فيه غيره، أما ما لا ينفسخ بهلاك العوض فإن التصرف فيه قبل القبض جائز كالمهر إذا كان عينًا وبدل الخلع والعتق على مال وبدل الصلح عن دم العمد فكل ذلك إذا كان عينًا يجوز بيعه وهبته وإجازته قبل قبضه وسائر التصرفات.
على أن الإمام محمد بن الحسن يرى أن كل تصرف لا يتم إلا بالقبض كالهبة والصدقة والرهن والقرض فإنه يجوز إجراؤه في المبيع قبل القبض إذا سلطه البائع على قبضه فقبضه لأن تمام هذه التصرفات بالقبض والمانع قد زال بخلاف البيع والإجارة، فإنه لازم بنفسه.
وهذا الاتجاه عند محمد لا يلقى تأييدًا عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
ويلاحظ أن الحنفية يجيزون التصرف في الثمن قبل قبضه استبدالًا في غير الصرف والسلم.
__________
(1) انظر فتح القدير والعناية شرح الهداية: 5/264 – 265، بدائع الصنائع: 5/181(6/362)
ثانيا – مذهب المالكية
(1) :
يرى المالكية أن كل شيء يجوز بيعه قبل قبضه إلا الطعام وذلك بناء على أن العقد قد نقل الملك والضمان إلى مستحق القبض.
ولا خلاف في مذهب مالك في منع بيع الطعام قبل قبضه اذا كان ربويًّا موزونًا أو مكيلًا أو غيرهما. أما إذا لم يكن ربويًّا فعن مالك روايتان: إحداهما: المنع وهي الأشهر وبها – كما يقول ابن رشد – قال أحمد وأبو ثور إلا أنهما اشتراطا الكيل والوزن والرواية الأخرى عن مالك: الجواز.
كما يمنع بيع كل مأخوذ بالمعاوضة سواء كان طعامًا أو غيره قبل قبضه كالفواكه المأخوذة معاوضة، والمأخوذ صداقًا أو خلعًا فلا يجوز بيعه قبل قبضه. أما ما أخذ جزافًا فيجوز بيعه قبل قبضه إلا إذا كان ضمانه على البائع كلبن الشاة. ويلاحظ أن الطعام لو كان سبب استحقاقه صدقة أو قرضًا فإنه يجوز بيعه قبل قبضه، كذلك لو كان استحقاقه بالميراث أو الهبة. ويجوز الإقالة والتولية والشركة في المبيع قبل قبضه. وهذا خلاف ما يراه الحنفية والشافعية.
ثالثا – مذهب الشافعية، وبه قال الثوري
(2) .
يتشدد الشافعية في هذا الباب أكثر من غيرهم، فلا يجوز عندهم بيع المبيع قبل قبضه سواء كان منقولًا أم عقارًا وإن أذن البائع في قبض الثمن وذلك للخبر الذي استدل به الحنفية ولقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام ((لا تبيعن شيئًا قبل قبضه)) ، رواه البيهقي وقال حسن الإسناد متصل، ولأن الملك ضعيف قبل القبض بدليل انفساخ العقد بالتلف قبل القبض.
والأصح في المذهب أن بيع المبيع إلى بائعه هو ذات الحكم في بيعه لغيره إلا إذا كان بذات الثمن الذي باع به فيكون التصرف إقالة وهي صحيحة. ويقابل الأصح صحة البيع من البائع قبل القبض قياسًا على بيع المغصوب من الغاصب.
وعلى الأصح في المذهب لا يجوز إجارة المبيع ولا هبته ولا رهنه ولا جعله صداقًا ولا إقراضه ولا جعله عوضًا في نكاح قبل القبض.
ومقابل الأصح يجوز وفاقًا للمالكية.
أما التولية والشركة فلا يجوز إجراؤها على البيع قبل القبض، وفاقًا للحنفية وخلافًا للمالكية.
ولا يجوز في نظر الشافعية التصرف في الثمن قبل قبضه فحكمه حكم المبيع قبل قبضه:
ما ثبت تملكه بالميراث جاز بيعه قبل قبضه. كما أن المشاع إذا اشتراه مشتر وطلب قسمته قبل قبضه يجاب إليه.
__________
(1) الخرشي: 5/163- 164، بداية المجتهد: 2/108- 110، القوانين الفقهية: 221- 222، الفروق وتهذيبه الفرق: 198
(2) مغني المحتاج: 2/68، الغاية القصوى: 1/469، 483، بداية المجتهد: 2/108(6/363)
رابعا: مذهب الحنابلة
(1)
قال في المغني إن كل ما يحتاج إلى قبض إذا اشتراه لم يجز بيعه حتى يقبضه لقول النبى صلى الله عليه وسلم ((من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه)) متفق عليه. ولأنه من ضمان بائعة فلم يجز بيعه كالسلم.
أما إذا لم يحتج إلى قبض فإنه يجوز بيعه قبل قبضه في أظهر الروايتين.
ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والحكم وحماد والأوزاعي وإسحاق.
أما الرواية الأخرى فلا يجوز بيع شيء قبل قبضه وهي اختيار ابن عقيل.
ودليله أن العقد الأول لا يتم إلا بعد أن تستوفي أحكامه فلا يرد عليه عقد آخر قبل انبرامه. وبهذا قال ابن المسيب (فقه سعيد بن المسيب: 4/15) ، وهو مذهب الشافعية كما سبق.
وهناك روايات في المذهب متعددة أوردها ابن رجب منها أن الشيء إذا كان متعينًا جاز بيعه قبل قبضه. أما غير المتعين وهو المبهم فلا يجوز بيعه قبل قبضه. ولا يجوز ما منع بيعه قبل قبضه للبائع فهو كغيره لعموم الخبر.
ويذكر الحنابلة ضابطا كما هو عند الحنفية: فكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه كالذي ذكر في المكيلات والموزونات ومثله الأجرة وبدل الصلح إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود. أما ما لا ينفسخ العقد بهلاكه جاز التصرف فيه قبل قبضه كعوض الخلع والعتق على مال وبدل الصلح عن دم العمد وأرش الجناية وقيمة المتلفات.
وما امتنع بيعه تمنع الشركة فيه والتولية وكذلك حوالته وهذا وفاق الشافعي.
أما ما يجوز بيعه قبل قبضه فيجوز.
أما هبة المبيع ورهنه وإجارته قبل القبض فللحنابلة وجهان.
أما ثمن المبيع، فإن كان معينًا جاز التصرف فيه سواء كان المبيع مما يمنع بيعه قبل قبضه أم لا. وإن كان مبهمًا لم يجز التصرف فيه قبل تعيينه.
__________
(1) القواعد لابن رجب: ص 52، ص 78 وبعدها، المغني والشرح الكبير: 4/220- 223.(6/364)
خامسا – ذهب أبو عبيد بن سلام وإسحاق إلى أن كل شيء لا يكال ولا يوزن فلا بأس من بيعه قبل قبضه (1) وهو موافق لرواية عند الحنابلة وعليه بعض الإمامية (2) .
ودليل هذا الرأي أن الضمان لا ينتقل فيما يكال أو يوزن إلا بكيله أو وزنه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يضمن، وهذه رواية عن سعيد بن المسيب.
سادسا – وذهب ابن حبيب وعبد العزيز بن أبي سلمة وربيعة إلى أن كل شيء لا يكال ولا يوزن ولا يعد فيجوز بيعه قبل قبضه وهو كالرأى السابق مع إضافة المعدود (3) .
سابعا: نقل عن عثمان البتي أنه قال: لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه (4) وهو قول عطاء بن أبي رباح (5)
وقد رد ابن عبد البر هذا الرأي بالسنة والحجة والمجمعة على منع بيع الطعام قبل قبضه. وقال: أظن أنه لم يبلغهما الحديث.
إن سبب اختلاف الفقهاء على هذا الشكل سببه توارد الأحاديث الكثيرة بهذا الخصوص وهي في درجة الصحة سواء، إنما اختلفت الروايات في بعض ألفاظ اعتمدها كل فقيه لدعم مذهبه.
ولكن الذي يقال إن الأيسر من كل هذه المذاهب هو ما ذهب إليه فقهاء المذهب المالكي من أن كل شيء يمكن بيعه قبل قبضه ما عدا الطعام سواء كان مكيلًا أو موزونًا لو لم يكن – وذلك لتوافق الروايات واتفاق الفقهاء على منع بيعه قبل قبضه.
وغير الطعام يجوز بيعه قبل قبضه إن كان مقدرًا أو جزافًا.
فهذا الرأي يمكن المصير إليه مع تطور حركة البيع والشراء في أسواقنا وتنوع صور البيع وسرعتها يجعلنا نرجح هذا المذهب.
وعلى هذا المذهب تخرج صور القبض الدائرة في أسواقنا من حيث صحتها وعدمها توافقًا مع أحكام الفقه الإسلامي. والله أعلم.
وهو الهادي إلى سبيل الصواب والرشاد.
الدكتور محمد رضا عبد الجبار العافي
__________
(1) انظر بداية المجتهد: 2/108
(2) نفس المصدر
(3) المغنى: 4 / 220
(4) الزرقاني: 3/ 287، سبل السلام: 3/ 15
(5) القواعد والفوائد للعاملي: 2/ 263، أما الرأي الآخر فهو منع بيع الطعام قبل قبضه وهو كقول المالكية.(6/365)
مراجع البحث
1- بدائع الصنائع، للكاساني.
2- فتح القدير والعناية شرح الهداية
3- بداية المجتهد، لابن رشد.
4- الفروق وتهذيبه، للقرافي.
5- القوانين الفقهية، لابن جزي.
6- شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه.
7- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبد السلام.
8- العناية القصوى في دراية الفتوى للبيضاوي.
9- مغني المحتاج، للخطيب الشربينى.
10- المغني والشرح الكبير، لابن قدامة المقدسي.
11- القواعد الفقهية، لابن رجب الحنبلى.
12- القواعد والفوائد للعامرى.
13- سبل السلام، للصنعاني.
14- مختار الصحاح، للرازي.(6/366)
القبض:
صوره وبخاصة المستجدة منها، وأحكامها
إعداد
سعادة الدكتور عبد الله محمد عبد الله
مستشار محكمة الاستئناف العليا بالكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسوله محمد وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فهذه نظرات سريعة في " القبض، وصوره، وخاصة المستجدة منها، وأحكامها ". . وجعلت الكلام فيه على قسمين:
القسم الأول: وتناولت فيه التعريف لغة واصطلاحًا ثم بينت كيفية القبض وصورة واستعرضت مذاهب الفقهاء (الأحناف، المالكية، الشافعية، الحنابلة) ، ثم بينت أحكام القبض ومذاهب الفقهاء وأدلة كل مذهب في حكم التصرف قبل القبض وحكمته، وذكرت بالتفصيل ما يعتبر قبضًا وما لا يعتبر كذلك ثم بينت مكان القبض ومذاهب الأئمة فيه.
أما القسم الثاني: فقد جعلته لدراسة القبض في التقنينات الوضعية واقتصرت في الدراسة على القوانين المدنية الكويتى، المصرى، السوري، العراقي، اللبناني، الليبي. ثم بينت زمان التسليم ومكانه في هذه القوانين، ثم بينت أحكام القبض في العقود التجارية، وتناولت بالدارسة القبض في شركات المساهمة وبحثت القبض في العقود البحرية (الدولية) وتناولت بالدراسة بيوع الوصول وبيوع القيام، ثم قمت بمقارنة هذه العقود بالعقود في الفقه الإسلامي كبيع الأعيان الغائبة وبيوع الأعيان الموصوفة في الذمة، وختمت البحث بإجراء مقارنة بين هذه العقود في الفقه والقانون واستخلاص حكم القبض كنتيجة وثمرة لهذه المقارنة.(6/367)
القسم الأول
تعريف القبض:
تعريف القبض لغة: جاء في معجم مقاييس اللغة مادة قبض: أن القاف والباء والضاد أصل واحد يدل على شيء مأخوذ. تقول: قبضت الشيء من المال وغيره قبضًا.
وقال الزمخشري في الأساس: قبض المتاع وأقبضته إياه وقبضته. وتقابض المتبايعان، وقابضته مقابضة وأقبضته.
وفي الاصطلاح: عرفه صاحب البدائع بقوله: وأما تفسير التسليم والقبض، فالتسليم والقبض عندنا هو التخلية والتخلي، وهو أن يخلي البائع بين المبيع وبين المشتري برفع الحائل بينهما على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه، فيجعل البائع مسلمًا للمبيع والمشتري قابضًا له، وكذا تسليم الثمن من المشتري إلى البائع (1) .
ويزيد هذا المعنى توضيحًا فيقول: إن التسليم في اللغة عبارة عن جعله سالمًا خالصًا يقال: سلم فلا لفلان، أي: خلص له قال تعالى: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} ، أي: سالما خالصا لا يشركه فيه أحد فتسليم المبيع إلى المشتري هو جعل المبيع سالمًا للمشتري، أي: خالصًا بحيث لا ينازعه فيه غيره، وهذا يحصل بالتخلية، فكانت التخلية تسليما من البائع، والتخلي قبضا من المشتري وكذا هذا في تسليم الثمن إلى البائع، لأن التسليم واجب، ومن عليه الواجب لا بد وأن يكون له سبيل الخروج عن عهدة ما وجب عليه. والذي في وسعه هو التخلية ورفع الموانع، فأما الإقباض فليس في وسعه، لأن القبض بالبراجم فعل اختياري للقابض (2)
__________
(1) البدائع: 7 / 3248.
(2) بدائع الصنائع: 7 / 3248.(6/368)
كيفية القبض وصوره:
ينقل صاحب البدائع اتفاق أئمة الأحناف في أن أصل القبض يحصل بالتخلية في سائر الأموال إلا أنهم يختلفون في أنها هل هي قبض تام فيها، أم لا؟
ثم قال: وجملة الكلام فيه: أن المبيع لا يخلو إما أن يكون مما له مثل، وإما أن يكون مما لا مثل له.
فإن كان مما لا مثل له من المذروعات والمعدودات المتفاوتة فالتخلية فيها قبض تام بلا خلاف، حتى لو اشترى مذروعًا مذارعة، أو معدودًا معاددة، ووجدت التخلية يخرج عن ضمان البائع، ويجوز بيعه والانتفاع به قبل الذرع والعد بلا خلاف.
وإن كان مما له مثل، فإن باعة مجازفة فكذلك، لأنه لا يعتبر معرفة القدر في بيع المجازفة.
وإن باع مكايلة أو موازنة في المكيل والموزون، وخلي فلا خلاف في أن المبيع يخرج عن ضمان البائع، ويدخل في ضمان المشتري، حتى لو هلك بعد التخلية قبل الكيل والوزن يهلك على المشتري.
وكذا لا خلاف في أنه لا يجوز للمشتري بيعه والانتفاع به قبل الكيل والوزن.
وكذا لو أكتاله المشتري أو اتزنه من بائعه، ثم باعة مكايلة أو موازنة من غيره لم يحل للمشتري منه أن يبيعه أو ينتفع به حتى يكيله أو يزنه، ولا يكتفى باكتيال البائع أو اتزانه من بائعه وإن كان ذلك بحضرة هذا المشتري لما روي ((عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه صاعان؛ صاع البائع وصاع المشتري)) وروي أنه عليه الصلاة والسلام: ((نهى عن بيع الطعام حتى يكال)) .
حكم بيع المعدودات المتقاربة:
وأما المعدودات المتقاربة إذا بيعت عددا لا جزافًا فحكمها حكم المكيلات والموزنات عند أبى حنيفة حتى لا يجوز بيعها إلا بعد العد.
وعند أبي يوسف ومحمد حكمها حكم المذروعات فيجوز بيعها قبل العد.
وجه قولهما:
أن العددي ليس من أموال الربا كالذرع ولهذا لم تكن المساواة فيها شرطًا لجواز العقد كما لا تشترط في المذروعات فكان حكمه حكم المذروع.(6/369)
وجه قول أبي حنيفة:
أن القدر في المعدود معقود عليه كالقدر في المكيل والموزون. لأنه لو عده فوجده زائدًا لا تطيب الزيادة له بلا ثمن بل يردها أو يأخذها بثمنها، ولو وجده ناقصًا يرجع بقدر النقصان كما في المكيل والموزون، دل أن القدر فيه معقود عليه، واحتمال الزيادة والنقصان في عدد المبيع ثابت فلابد من معرفة المعقود عليه، وامتيازه من غيره، ولا يعرف قدره إلا بالعد فأشبه المكيل والموزون.
ولهذا كان العد فيه المكيل والموزون في ضمان العدوان إلا أنه لم يجز فيه الربا، لأن المساواة بين واحد وواحد في العد ثبتت باصطلاح الناس، وإهدارهم التفاوت بينهما في الصغر والكبر لكن ما ثبت باصطلاح الناس جاز أن يبطل باصطلاحهم، ولما تبايعا واحد باثنين فقد أهدرا اصطلاح الإهدار واعتبرا الكبر لأنها قصد البيع الصحيح ولا صحة إلا باعتبار الكبر وسقوط العد، فكان أحدهما من أحد الجانبين بمقابلة الكبير من الجانب الآخر فلا يتحقق الربا (1) .
أما هنا فلابد من اعتبار العد إذا بيع عدًّا واذا اعتبر العد لا يجوز التصرف فيه قبل القبض كما في المكيل والموزون بخلاف المذروع، فإن القدر فيه ليس بمعقود عليه، فكانت التخلية فيه قبضًا تامًّا فكان تصرفا في المبيع المنقول بعد القبض وأنه جائر (2) .
__________
(1) البدائع: 7 / 3248 – 3251
(2) البدائع: 7 / 3252. وهذا بيان للصطلحات: المثلي والقيمي والعدديات المتفاوتة والعدديات المتقاربة وغيرها كما جاء بمحلة الأحكام العدلية مرتبة حسب مواد المجلة. مادة 132 – المقدرات ما تتعين مقاديرها بالكيل أو الوزن أو العدد أو الذراع وهي شاملة للمكيلات، والموزونات والعدديات، والمذورعات. مادة 133 – الكيلي والمكيل هو ما يكال: كالحنطة والشعير. مادة 134 – الوزني والموزون هو ما يوزن: كالدبس والعسل والسكر. مادة 135 – العددي والمعدود وهو ما يعد: كالبيض والجوز والبطيخ. مادة 136- الذرعي والمذروع هو ما يقاس بالذراع. مادة 137 – المحدود هو العقار الذي يمكن تعيين حدود وأطرافه. مادة 138- المشاع ما يحتوي على حصص شائعة (ويشمل المثلي والقيمي والعرضي والنقدي) مادة 145 – المثلي ما يوجد مثله في السوق بدون تفاوت يعتد به. كالجوز والبيض والحنطة والشعير والجوخ والأواني المصنوعة في المعامل: أي أن المثلي يشترط وجود مثله في السوق لا في أيدي الناس فقط، ويشترك أن لا يكون متفاوتًا بالسعر كالكتب المطبوعة التي قل عددها وندر وجودها أو تعالت قيمتها فإنها تصير قيمية. مادة 146 – القيمي ما لا يوجد مثله في السوق أو يوجد لكن مع التفاوت المعتد به في القيمة كالعدديات المتفاوتة والحنطة المخلوطة بالشعير والأواني المصنوعة باليد المختلفة من حيث الصنعة والكتب الخطية والكتب المطبوعة إذا قل عددها وزادت قيمتها. مادة 147 – العدديات المتقاربة هي المعدودات التي لا يكون بين أفرادها وآحادها تفاوت في القيمة فجميعها من المثليات. مادة 148- العدديات المفاوتة هي المعدودات التي يكون بين أفرادها وآحادها تفاوت في القيمة فجميعها من القيميات.(6/370)
مذهب المالكية:
قالوا: إن قبض العقار يكون بالتخلية (1) واشترطوا في دار السكنى إخلاءها من أمتعه البائع، ولا يكتفي بالتخلية (2) أما غير العقار فمرجع القبض فيه إلى العرف وذلك مما ليس فيه حق توفية، أما ما فيه حق توفية، فإن كان مكيلًا أو موزونًا أو معدودًا أو مذروعًا فقبضه بالكيل أو الوزن أو العد أو الذرع.
وشرطوا في قبض المثلي تسليمه للمشتري وتفريغه في أوعيته (3) وإن كان منقولًا من عروض وأنعام فقبضه بالعرف الجاري بين الناس كاحتياز الثوب وتسليم مقود الدابة (4) وإن كان جزافا فقبضه نقله لحديث ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: كانوا يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه. وفي رواية " حتى يحولوه " (5) .
__________
(1) مواهب الجليل 4/477
(2) الشرح الكبير: 3/ 145
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 3/ 144:
(4) الشرح الكبير: 3/145.
(5) فتح الباري: 4/350، شرح النووي على مسلم(6/371)
مذهب الشافعية:
قال النووي: الرجوع في القبض إلى العرف وهو ثلاثة أقسام:
أحدها – العقار والثمر على الشجرة فقبضه بالتخلية.
الثاني- ما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيتان نحوها فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به سواء نقل إلى ملك المشتري أو موات أو شارع أو مسجد أو غيره.
وفي قول حكاه الخراسانيون أنه يكتفى فيه بالتخلية.
والثالث – ما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والمنديل والثوب والإناء الخفيف والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول بلا خلاف (1) .
ويقول البيضاوي: والمحكم فيه العرف. فقبض العقار بالتخلية والمنقول بالنقل على الأظهر إلى حيز لا يختص بالبائع، فإن اختص به فبإذنه ليكون إعارة مع التقدير إن بيع مقدرًا لأنه عليه الصلاة والسلام ((نهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري)) .
ومجرد التخلية في المنقول أو النقل في المقدر ينقل ضمان العقد ولا يجوز التصرف (2) .
وفصل الرافعي صور القبض فقال: القول الجملي فيه أن الرجوع فيما يكون قبضًا إلى العادة ويختلف باختلاف المال.
وتفصيله: أن المال إما أن يباع من غير اعتبار تقدير فيه، أو يباع معتبرًا فيه التقدير.
* الحالة الأولى: أن لا يعتبر فيه تقدير إما لعدم إمكانه أو مع الإمكان، فينظر إن كان المبيع مما لا ينقل كالدور والأراضي فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري، وتمكينه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه. ويشترط كونه فارغاًَ من أمتعة البائع، فلو باع دارًا فيها أمتعة للبائع توقف التسليم على تفريغها، وكذا لو باع سفينة مشحونة بأمتعة لكون البائع مستعملًا للمبيع منتفعًا به.
لو جمع البائع متاعه في بيت من الدار، وخلي بين المشتري وبين الدار حصل القبض فيما عدا ذلك البيت.
وإن كان المبيع من جملة المنقولات: فالمذهب المشهور وبه قال أحمد: إنه لا يكفي فيه التخلية بل لا بد من النقل والتحويل.
وقال مالك وأبو حنيفة: أنه يكفي التخلية كما في العقار. وعن رواية حرملة قول مثله.
وفيه وجه آخر أن التخلية كافية لنقل الضمان إلى المشتري وغير كافية للتسلط على التصرف، لأن البائع أتى بما عليه. والمقصر المشتري حيث لم ينقل فليثبت ما هو حق للبائع.
__________
(1) المجموع: 9 / 264.
(2) الغاية القصوى في دراية الفتوى: 1/483(6/372)
وجه ظاهر المذهب:
ما روي عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه.
وأيضا: فإن العادة في قبض المنقول النقل من موضعه، فإن كان دابة فيسوقها ويقودها.
وإن كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع كموات أو مسجد أو شارع أو في موضع يختص بالمشتري فالنقل من حيز إلى حيز كافٍّ.
وإن كان في دار البائع أو في بقعة مخصوصة به فالنقل من زاوية إلى زاوية أو من بيت من الدار إلى بيت آخر بدون إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف، ولكن يكفي لدخوله في ضمانه.
وإن نقل بإذنه حصل القبض، وكأنه استعار ما نقل اليه المال (1)
الحالة الثانية: أن يباع الشيء باعتبار تقدير فيه: كما إذا اشترى ثوبًا أو أرضًا مذارعة أو متاعًا موازنة أو صبرة حنطة مكايلة أو معدودًا بالعدد، فلا يكفي للقبض ما مر في الحالة الأولى بل لا بد مع ذلك من الذرع أو الوزن أو الكيل أو العدد (2) .
مذهب الحنابلة:
تضمنت مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد في المواد من (333) إلى (336) جملة من الأحكام المتعلقة بالقبض وكيفيته. فقد نصت المادة (333) على أن " قبض كل شيء بحسبه عرفًا، فقبض المنقول المبيع جزافًا يحصل بنقله، وقبض ما يتناول باليد بتناوله كالدراهم، وقبض الحيوان بتمشيته ".
ونصت المادة (334) على أن قبض الدار ونحوها بالتخلية، ولو كان فيها متاع البائع وبتسليم مفتاح الدار، أو فتح بابها للمشتري. ونصت المادة (335) على أن " قبض العقار والثمار على الأشجار وكل ما لا ينقل يحصل بالتخلية".
ونصت المادة (336) على أن " المبيع كيلًا أو وزنًا، أو ذراعًا، أو عدًّا يعتبر قي قبضه إجراء عمل الكيل أو الوزن أو الذرع أو العد بحضور المشتري أو نائبه، ويصح استنابة البائع المشتري في العمل المذكور".
وأورد صاحب المغني آراء الأئمة وأدلتهم في كيفية القبض وصوره وحكى رأيًا آخر للإمام أحمد غير الذي سبق عرضه وجملة ما قال: إن قبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلًا أو موزونًا بيع كيلًا أو وزنًا فقبضه بكيله ووزنه. وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: التخلية في ذلك قبض. وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى قال: إن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز، لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل، فكان قبضًا له كالعقار (3) .
__________
(1) فتح العزيز شرح الوجيز بذيل المجموع: 8 / 442 – 445.
(2) فتح العزيز شرح الوجيز: 8/448
(3) المغني: 4/101(6/373)
القبض في بيع الجزاف:
وإن بيع جزافًا فقبضه نقله، لأن ابن عمر قال: " كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعامًا جزافًا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه". وفي لفظ " كنا نبتاع الطعام جزافًا فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه ".
وفي لفظ: " كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله " رواه مسلم.
وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيما بيع كيلًا. وقد دل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم ((إذا سميت الكيل فكل)) رواه الأثرم.
القبض في المنقول:
وإن كان المبيع دراهم أو دنانير فقبضها باليد. وإن كان ثيابًا فقبضها نقلها. وإن كان حيوانًا فقبضه تمشيته من مكانه.
القبض في غير المنقول:
وإن كان مما لا ينقل ويحول فقبضه التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه. لأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق (1) .
أحكام القبض:
للقبض حكمان:
أحدهما: انتقال الضمان إلى المشتري، فالمبيع قبل القبض من ضمان البائع. فلو تلف المبيع بنفسه انفسخ العقد، لأن البائع التزم تسليمه في مقابلة الثمن، فإذا تعذر لزم سقوطه.
وعن مالك وأحمد فيما رواه ابن الصباغ أنه إذا لم يكن المبيع مكيلًا ولا موزونًا ولا معدودًا فهو من ضمان المشتري ومنهم من أطلق رواية الخلاف عنهما (2) .
الثاني: تسليط المشتري على التصرف فإنه عليه الصلاة والسلام " نهى عن بيع ما لم يقبض " وسببه ضعف الملك، وقيل: توالي الضمانين. وتفصيل هذه الأحكام سياتي بيانه في مواضعه إن شاء الله (3) .
__________
(1) المغني: 4/102
(2) فتح العزيز شرح الوجيز هامش المجموع: 8 / 397، 398، المغني: 4/ 97، 98، القوانين الفقهية: ص 164.
(3) بدائع الصنائع: 7/3250، الغاية القصوى في دراية الفتوى: 1/485، روضة الطالبين: 3/499، 506، كشاف القناع: 3/241، شرح مجلة الأحكام العدلية على المادة 369، الموسوعة الفقهية: 9/36(6/374)
التصرف في المبيع قبل القبض
وتحته مبحثان:
• المبحث الأول: حكمة النهي عن بيع المبيع قبل القبض.
• المبحث الثاني: حكم التصرف في المبيع قبل القبض.
المبحث الأول
حكمة النهي عن بيع المبيع قبل القبض
ذهب فريق من العلماء إلى أن النهي عن بيع المبيع قبل القبض تعبدي غير معقول المعني (1)
وذهب آخرون إلى أنه معقول المعنى ولهم في تبيان وجهات نظرهم ما يمكن إجماله في الآتى:
أولًا: فيه سد لباب الربا ويظهر ذلك في كلام ابن عباس – رضي الله عنهما – ردًّا على استفسار طاوس قال: قلت لابن عباس كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدراهم، والطعام مرجأ. ومعناه: أنه استفهم عن سبب هذا النهي فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدراهم.
وتوضيح ذلك: أن من اشترى طعامًا بمائة دينار مثلًا، ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارًا وقبضها، والطعام في يد البائع فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينار (2) .
وكذلك وجه من عمم النهي في سائر المبيعات ولم يقصره على الطعام بقول ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله (3) .
ولمسلم من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام.
قالوا: وهذا من تفقه ابن عباس، فأجروا المنع في كل أنواع المبيع وهو رأي طائفة من الأئمة على ما سيأتي تفصيلًا (4) .
ثانيا: وعلل آخرون الحرمة بأن غرض الشارع سهولة الوصول إلى الطعام ليتوصل إليه القوي والضعيف، ولو جاز البيع قبل القبض لربما أخفى إمكان شرائه من مالكه وبيعه خفية فلم يتوصل إليه الفقير وليظهر للفقراء فتقوى به قلوب الناس لا سيما في زمن الشدة، ولأجل نفع نحو الكيال والحمال منع الشارع بيع المبيع قبل القبض (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/3248، حاشية الدسوقي: 3/151، الفواكه الدواني: 2/117.
(2) فتح الباري: 5/252
(3) فتح الباري: 5/252.
(4) فتح الباري: 5/252، شرح النووي على مسلم: 10/168
(5) حاشية الدسوقي: 3/151، 152، الفواكه الدواني: 2/117.(6/375)
ثالثا: وعلل الأحناف الحرمة لمكان انعدام القبض على التمام بالكيل أو الوزن وذلك أنه كما لا يجوز التصرف في المبيع المنقول بدون قبضه أصلًا لا يجوز بدون قبضه بتمامه.
ووجهوا قولهم بأن الكيل والوزن في المكيل والموزون الذي بيع مكايلة وموازنة من تمام القبض، أن القدر في المكيل والموزون معقود عليه، لأنه لو كيل فازداد لا تطيب له الزيادة بل ترد أو يفرض لما ثمن، ولو نقص يطرح بحصته شيء بصحته شيء من الثمن، ولا يعرف القدر فيهما إلا بالكيل والوزن لا حتمال الزيادة والنقصان، فلا يتحقق قبض قدر المعقود عليه إلا بالكيل والوزن، فكان الكيل والوزن فيه من تمام القبض. ولا يجوز بيع المنقول قبل قبضه بتمامه كما لا يجوز قبل قبضه أصلا بخلاف المذروعات. لأن القدر فيها ليس معقودا عليه بل هو جار مجرى الوصف، والأوصاف لا تكون معقودا عليها، ولهذا سلمت الزيادة للمشتري بلا ثمن. وفي النقصان لا يسقط عنه شيء من الثمن فكانت التخلية فيها قبضا تامًّا فيكتفى بها في جواز التصرف قبل الذرع بخلاف المكيلات والموزونات. إلا أنه يخرج عن ضمان البائع بالتخلية نفسها لوجود القبض بأصله والخروج عن ضمان البائع يتعلق بأصل القبض لا بوصف الكمال، فأما جواز التصرف فيه فيستدعي قبضًا كاملًا لورود النهي عن بيع ما لم يقبض، والقبض المطلق هو القبض الكامل (1) .
رابعا: وعللوا أيضا بأن البيع قبل القبض على غرر انفساخ العقد الأول على تقدير هلاك المبيع في يد البائع، وإذا هلك المبيع قبل القبض ينفسخ العقد فتبين أنه باع ما لا يملك والغرر حرام غير جائز، ولم يفرقوا بين الطعام وغيره من المنقولات (2) .
وقال الشافعية: إن علة النهي لتوالي الضمانين ومعناه أن يكون المبيع مضمونًا في حالة واحدة لاثنين، وبيان ذلك أننا لو صححنا بيعه لكان مضمونًا للمشتري الأول على البائع الأول، والثاني على الثاني وسواء باعه المشتري للبائع أو لغيره. وقالت طائفة بجواز بيعه لبائعه تفريعًا على العلة الثانية وهي توالي الضمان فإنه لا يتوالى إذا كان المشتري هو البائع لأنه لا يصير في الحال مقبوضًا (3) .
وعلل الحنابلة على الرواية التي اختارها ابن عقيل بأنه لم يتم الملك عليه فلم يجز بيعه كما لو كان غير متعين، وكما لو كان مكيلًا أو موزونًا (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/3248
(2) الموسوعة الفقهية: 9/124
(3) المجموع: 9/266
(4) المغني: 4/221(6/376)
المبحث الثانى
في حكم التصرف في المبيع قبل القبض
وفيه مطلبان:
الأول: في مذاهب العلماء ,وأقوالهم في المسألة
الثاني: في بيان أدلة كل مذهب.
المطلب الأول
في بيان مذاهب العلماء وأقوالهم في المسألة
اختلفت العلماء في مسألة بيع المبيع قبل قبضه على أقوال:
الأول: المنع مطلقًا سواء كان طعامًا أو عقارًا أو منقولًا أو نقدًا أو غيره، وهو قول الشافعي وقول أبي يوسف الأول وقول محمد، ورواية عن أحمد.
الثانى: الجواز مطلقًا في كل مبيع وهو قول عثمان البتي.
الثالث: الجواز في العقار وما في معناه والمنع في غيره، وهو قول أبي حنيفة.
الرابع: لا يجوز في الطعام ويجوز فيما سواه وهو قول مالك ووافقه كثيرون قال ابن المنذر: وهو أصح المذاهب لحديث النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى.
الخامس: لا يجوز في المكيل والوزون ويجوز فيما سواهما. قال عثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق. ورواية المذهب عند الحنابلة أن المكيل والموزون والمعدود – وزاد في الإقناع – والمذروع فإنه لا يصح تصرف المشتري فيه قبل قبضه من بائعه. وأما ما عدا المكيل والموزون ونحوهما فيجوز التصرف فيه قبل قبضه (1) .
وقبل أن ننتقل إلى سوق الأدلة نشير إلى حكم بيع الجزاف:
ذكر صاحب فتح الباري عن مالك في المشهور عنه أنه أجاز بيع الجزاف قبل قبضه وبه قال الأوزاعي وإسحاق واحتج لهم بأن الجزاف مرئي فتكفي فيه التخليه.
وعن أحمد في بيع الجزاف قبل نقله ورايتان: قال ونقلها قبضها (2) .
والقول بحواز البيع قبل النقل اختيار القاضي من الحنابلة (3) .
__________
(1) شرح النووي على مسلم: 10/168- 170، عمدة القاري: 9/332، فتح البارى: 5/253، المجموع: 7/270، المتفقي: 4/280، المغني: 4/97، 98، كشاف القناع 3/241، اختلاف العلماء لأبي عبد الله بن نصر المروزى تحقيق السيد صبححي السامرائي: ص 247 – 249.
(2) فتح الباري: 5/254، المغني: 4/112
(3) المغني: 4/112، بداية المجتهد: 2/144، 145، 146(6/377)
المطلب الثاني
في بيان أدلة كل مذهب
أدلة المذهب الأول:
أستدل أصحاب هذا المذهب بالأحاديث التي نهت عن بيع المبيع قبل قبضه ونقله وتحويله عن المكان الذي بيع فيه. ومن هذه الأحاديث:
1- حديث: " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه " قال ابن عباس: وأحسب كل شئ مثله.
2- " من ابتاع طعامًا فلا بيعه حتى يقبضه " قال أبن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام.
3- وحديث: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله)) فقلت لابن عباس: لم؟ فقال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ؟
4- عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) .
5- وعنه أيضا قال: ((كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه)) .
فمن هذه الأحاديث أخذ من أطلق المنع في كل شيء سواء كان طعامًا أو عقارًا أو منقولًا أو نقدًا أو غيره (1)
__________
(1) شرح النووي على مسلم: 10/169، 170.(6/378)
أدلة المذهب الثاني:
وهذا المذهب نقله الأئمة عن عثمان البتي ولم يخل من تعليق عليه.
قال النووي: أما مذهب عثمان البتي فحكاه المازري والقاضي، ولم يحكه الأكثرون، بل نقلوا الإجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه، قالوا: وإنما الخلاف فيما سواء فهو شاذ متروك، والله أعلم (1) .
وقال الحافظ شهاب الدين ابن حجر: قال القرطبي: هذه الأحاديث حجة على عثمان البتي حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه. (2)
وقال ابن قدامة: ولم أعلم بين أهل العلم خلافًا إلا ما حكي عن البتي أنه قال: لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه.
وقال ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام وأظنه لم يبلغه هذا الحديث، ومثل هذا لا يلتفت اليه (3) .
ويؤخذ من هذا أن إسناد هذا القول إلى عثمان البتي صحيح أما استدلاله على مذهبه فلعل مستنده فيما ذهب إليه عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، فهو يفيد بعمومه جواز بيع المنقول وغير المنقول قبل القبض وبعده.
أدلة المذهب الثالث:
وهم الذين فرقوا بين المنقول والعقار.
قال في درر الحكام: والأظهر لقواعد الأصول ما ذكر في العناية وهو أن الأصل أن يكون بيع المنقول وغير المنقول قبل القبض جائزا لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} لكن خص منه الربا بدليل مستقل مقارن وهو قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} والعالم المخصوص يجوز تخصيصه بخبر الواحد وهو ما روي أنه صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع ما لم يقبض)) ثم لا يخلو، إما أن يكون معلولًا بغرر الانفساخ أو لا، فإن كان، يثبت المطلوب حيث لا يتناول العقار، وإن لم يكن وقع التعارض بينه وبين ما روي في السنن مسندًا إلى الأعرج عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع الغرر)) وبينه وبين أدلة الجواز تعارض وذلك يستلزم الترك وجعله معلولًا بذلك إعمال لثبوت التوفيق حينئذ والإعمال متعين لا محالة فيكون مختصًّا بعقد ينفسخ بهلاك العوض قبل القبض (4) .
__________
(1) شرح النووي على مسلم: 10/170
(2) فتح الباري: 5/253.
(3) المغني: 4/102
(4) درر الحكام شرح غرر الأحكام: 2/183.(6/379)
أدلة المذهب الرابع:
وهم الذين قصروا المنع على الطعام وهم المالكية.
وللإمام الباجي في المنتقي كلام فيه تفصيل نسوقه في فرعين:
الأول: في المبيع الذي لا يجوز بيعه قبل القبض.
والثاني: في بيان العقود التي لا يجوز أن يتوالى منها عقدان لا يتخللهما قبض.
الفرع الأول: في المبيع الذي لا يجوز بيعه قبل القبض.
قال الباجي: المبيع على ضربين: مطعوم، وغير مطعوم.
فالمطعوم على قسمين: قسم يجري فيه الربا، وقسم لا يجري فيه الربا.
فإما ما يجرى فيه الربا فلا خلاف على المذهب في أنه لا يجوز بيعه قبل استيفائه.
وأما ما لا يجرى فيه الربا فعن مالك في كل ذلك روايتان:
أحدهما: أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه وهو المشهور من المذهب.
والثانية: روى ابن وهب عن مالك أنه يجوز بيعه قبل قبضه.
وجه الرواية الأولى. ما احتج به من قول النبي صلى الله عليه وسلم ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) . وهذا يصح الاحتجاج به في هذا الحكم على قول من يمنع التخصيص بعرف اللغة.
وأما من رأى التخصيص بعرف اللغة فلا يُجَوِّز الاحتجاج بهذا الحديث على هذا الحكم، لأن لفظة الطعام إذا أطلقت فإنما يفهم منها بعرف الاستعمال الحنطة دون غيرها.
ولذلك لو قال رجل: مضيت إلى سوق الطعام لم يفهم منه إلا سوق الحنطة.
وأما من جهة القياس: فإن هذا مطعوم فلم يجز بيعه قبل قبضه الذي يجري فيه الربا.
ووجه الرواية الثانية: أنا ما لا يجوز فيه التفاضل نقدًا فإنه لا يحرم بيعه قبل قبضه كغير المطعوم.
وإذا قلنا بإجراء هذا الحكم في المقتات خاصة فلا فرق بينهما فإذا أجريناه في كل مطعوم فلا فرق بين هذا وبين حكم الربا. وهذا في المطعوم المقتات المكيل أو الموزون.(6/380)
وروى ابن القاسم عن مالك في المبسوط، وكذلك المعدود لا يجوز ذلك فيه حتى يقبضه.
وقد قال غيره من أصحابنا وهو المذهب.
وأن كان غير مطعون فمذهب مالك أنه لا مدخل لهذا الحكم في غير المطعوم ولا تعلق له به سواء كان مكيلًا أو موزونًا أو غير مكيل ولا موزون (1) .
الفرع الثاني: في بيان العقود التي لا يجوز أن يتوالى منها عقدان لا يتخللهما قبض.
قال: العقود على ضربين: معاوضة، وغير معاوضة.
فإما المعاوضة كالبيع وما في معناه من الإجارة، والمصالحة والمناكحة، والمخالعة كأرزاق القضاة والمؤذنين وأصحاب السوق، فإن هذا كله يؤخذ على وجه المعارضة، وهذا العقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم يختص بالمغابنة والمكايسة كالإجارة والبيع وما كان في حكمهما.
2- وقسم يصح أن يقع على وجه المغابنة، ويصح أن يقع على وجه الرفق كالإقالة والشركة والتولية.
3- وقسم لا يكون إلاَّ على وجه الرفق كالقرض.
فالقسم الأول لا خلاف أنه لا يجوز أن يتوالى منه عقدان من جنس واحد أو من جنسين مختلفين على معين أو ثابت في الذمة لا يتخللهما قبض. والأصل في ذلك الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى.
ومن جهة المعنى الوقاية من الربا ولئلا يتوصل أهل العينة بذلك إلى بيع دنانير بأكثر منها.
__________
(1) المنتقي: 4/279، 280، بداية المجتهد: 2/144، 145(6/381)
ووبيان ذلك أن صاحب العينة يريد أن يدفع دنانير في أكثر منها نقدًا أو إلى أجل، فإذا علم بالمنع في ذلك توصل إليه بأن يذكر حنطة بدينار ثم يبتاعه بنصف دينار دون استيفاء ولا قصد لبيعه ولا لابتياعه، فلما كثر هذا وكانت الأقوات مما يتعامل بها في كثير من البلاد ولا سيما بلاد العرب، وكان ذلك مما يقصد لهذا المعنى كثيرًا لمعرفة جميع الناس لثمنه وقيمته ووجود أكثر الناس له منع من ذلك فيها، وشرط في صحة توالي البيع فيها تخلل القبض والاستيفاء، لأن ذلك نهاية التبايع فيها وإتمام العقد ولزومه، ولم يشترط ذلك في سائر المبيعات لأنه لم يتكرر تعامل أهل العينة بها، لأن ثمنها يخفى في الأغلب ويقل مشتروها.
والقسم الثاني: وهو ما صح أن يقع من عقود المعاوضة على وجه الإِرفاق ووجه المغابنة كالإِقالة والشركة والتولية، فإن وقع على وجه الرفق فإنه يصح أن يلي البيع في الطعام قبل القبض.
ووجه وقوعه على الرفق، أن يكون على حسب ما وقع عليه البيع فيه، فإن تغير عنه لزيادة ثمن أو صفة أو نقص أو مخالفة في جنس ثمن أو أجل خرج عن وجه الرفق إلى البيع الذي لا يجوز.
والأصل في جواز ذلك إذا وقع على وجه الرفق ما رواه سحنون في المدونة عن ابن القاسم عن سليمان بن يسار عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه إلاَّ ما كان من شركة أو تولية أو إقالة)) .
ومن جهة المعنى: أن هذه عقود مبنية على المعروف والمواصلة دون المغابنة والمكايسة التي لمضارعتها منع بيع الطعام قبل استيفائه.
والقسم الثالث: وهو ما يختص بالرفق من عقود المعاوضة كالقرض، فإنه يجوز أن يتكرر على الطعام قبل قبضه، وأن يلي البيع ويليه البيع لا خلاف في ذلك.
والضرب الثاني: وهو ما كان غير معاوضة، وهو ما يلزم في الذمة من الطعام بغير عقد مثل أن يلزمها بالغصب والتعدي. فقيل إنه كالقرض يجوز بيعه قبل قبضه.
وحكى القاضي أبو محمد أنه كالبيع إن كان مثلًا لمتلف ولا يجوز بيعه قبل قبضه.
وأما ما كان من العقود ليس فيه معاوضة كالهبة والصدقة والعطية فلا بأس أن يتوالى على الطعام قبل قبضه لأنها ليست من عقود المعاوضة ولا يتصور فيها معنى العينة التي لها منع بيع الطعام قبل اسيتفائه (1) .
__________
(1) المنتقى: 4/280-282، بداية المجتهد: 2/143، 144.(6/382)
دليل المذهب الأخير:
ربط الخرقي في مختصره بين ما يجوز بيعه قبل قبضه وما لا يجوز وبين ما يحتاج إلى قبض ما لا يحتاج إلى قبض فقال: ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه. قال صاحب المغني: " قد ذكرنا الذي لا يحتاج إلى قبض والخلاف فيه" (1) . ثم بين ما يحتاج إلى قبض فقال: "وإذا وقع البيع على مكيل أو على موزون أو معدود فتلف قبل قبضه فهو من مال البائع" (2) . وقال في الإِقناع: (ومن اشترى شيئًا بكيل أو وزن أو عدٍّ أو ذرع ملكه بالعقد) . فألحق ما بيع مذارعة بالمكيل والموزون والمعدود (3) .
وقال صاحب المغني: ظاهر كلام الخرقي أن المكيل والموزون والمعدود لا يدخل في ضمان المشتري إلاّ بقبضه سواء كان متعينًا كالصبرة، أو غير متعين كقفيز منها، وهو ظاهر كلام أحمد، ونحوه قول إسحاق.
وروي عن عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد بن أبي سليمان: أن كل ما بيع على الكيل والوزن لا يجوز بيعه قبل قبضه، وما ليس بمكيل ولا موزون يجوز بيعه قبل قبضه (4) .
* * *
__________
(1) المغني: 4/102.
(2) المغني: 4/97.
(3) كشاف القناع: 3/241.
(4) المغني: 4/97.(6/383)
بيان ما يعتبر قبضًا وما لا يعتبر كذلك:
وتفصيل أقواله الأئمة فيه على الوجه التالي:
قال الأحناف: المبيع لا يخلو إما أن يكون في يد البائع، وإما أن يكون في يد المشتري.
فإذا كان في يد البائع فأتلفه المشتري صار قابضًا له، لأنه صار قابضًا بالتخلية فبالإِتلاف أولى، وكذلك كل تصرف نقص منه شيئًا، لأن التخلية تمكين من التصرف في المبيع، والإِتلاف تصرف فيه حقيقة، والتمكين من التصرف دون حقيقة التصرف، لأن هذه الأفعال في الدلالة على التمكين فوق التخلية، وكذلك لو فعل البائع شيئًا من ذلك بأمر المشتري، لأن فعله بأمر المشتري بمنزلة فعل المشتري نفسه.
ولو أعار المشتري المبيع للبائع أو أودعه أو آجره لم يكن شيء من ذلك قبضًا، لأن هذه التصرفات لم تصح من المشتري، لأن يد الحبس بطريقة الأصالة ثابتة للبائع فلا يتصور إثبات يد النيابة له بهذه التصرفات فلم تصح والتحقت بالعدم.
ولو أعاره أو أودعه أجنبيًا صار قابضًا لأن الإِعارة والإِيداع إياه صحيح فقد أثبت يد النيابة لغيره فصار قابضًا.
جناية الأجنبي:
ولو جنى أجنبي على المبيع فاختار المشتري اتباع الجاني بالضمان كان اختياره بمنزلة القبض عند أبي يوسف.
وعند محمد لا يكون. حتى لو توى الضمان على الجاني بأن مات مفلسًا كان التوى على المشتري ولا يبطل البيع عند أبي يوسف ويتقرر عليه الثمن، وعند محمد يبطل البيع والتوي (1) على البائع ويسقط الثمن عن المشتري (2) .
وكذا لو استبدل المشتري الضمان ليأخذ مكانه من الجاني شيئًا آخر جاز عند أبي يوسف.
وعند محمد لا يجوز، لأن هذا تصرف في المعقود عليه قبل القبض، لأن القيمة قائمة مقام العين المستهلكة، والتصرف في المعقود عليه قبل القبض لا يجوز لا من البائع ولا من غيره.
ولو أمر المشتري البائع أن يعمل في المبيع عملًا، فإن كان عملًا لا ينقصه كالقصارة والغسل بأجر أو بغير أجر لا يصير قابضًا، لأن التصرف الذي يوجب نقصان المحل مما يملكه البائع باليد الثابتة كما إذا نقله من مكان إلى مكان فكان الأمر به استيفاء لملك اليد فلا يصير به قابضًا، وتجب الأجرة على المشتري إن كان بأجر، لأن الإِجارة قد صحت، ولأن العمل على البائع ليس بواجب فجاز أن تقابله الأجرة.
وإن كان عملًا ينقصه يصير قابضًا، لأن تنقيصه إتلاف جزء منه وقد حصل بأمره فكان مضافًا إليه كأنه فعله بنفسه (3) .
__________
(1) التوى يقال: توِيَ المال هلك وذهب فهو تو وتاوٍ ومنه: "لا توى على مال أمرئ مسلم" أنيس الفقهاء للقونوي: ص 225.
(2) بدائع الصنائع: 7/3254.
(3) بدائع الصنائع: 7/3255.(6/384)
المبيع في يد المشتري:
وإذا كان المبيع في يد المشتري وقت البيع فهل يصير قابضًا للمبيع بنفس العقد أم يحتاج فيه إلى تجديد القبض؟
لا يخلو الحال من ثلاثة فروض:
إن كان مثل المستحق بالعقد ينوب منابه.
وإن لم يكن مثله:
فإن كان أقوى من المستحق ناب عنه.
وإن كان دونه لا ينوب، لأنه إذا كان مثله أمكن تحقيق التناوب، لأن المتماثلين ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه ويسد مسده.
وإن كان أقوى منه يوجد فيه المستحق وزيادة.
وإن كان دونه لا يوجد فيه إلاَّ بعض المستحق فلا ينوب عن كله (1) .
وبيان ذلك: أن المشتري قبل الشراء إما أن تكون يد ضمان وإما أن تكون يد أمانة.
فإن كانت يد ضمان: فإما أن تكون يد ضمان بنفسه، وإما أن تكون يد ضمان بغيره.
فإن كان يد ضمان بنفسه كيد الغاصب يصير المشتري قابضًا للمبيع بنفس العقد ولا يحتاج إلى تجديد القبض سواء كان حاضرًا أو غائبًا، لأن المغصوب مضمون بنفسه، والمبيع بعد القبض مضمون بنفسه فتجانس القبضان فناب أحدهما عن الآخر، لأن التجانس يقتضي التشابه، والمتشابهات ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه، ويسد مسده سواء كان المبيع حاضرًا أو غائبًا.
وإن كانت يده يد ضمان لغيره كيد الرهن بأن باع الراهن المرهون من المرتهن فإنه لا يصير قابضًا إلاَّ أن يكون الرهن حاضرًا، أو يذهب إلى حيث الرهن ويتمكن من قبضه، لأن المرهون ليس بمضمون بنفسه بل بغيره وهو الدين، والمبيع مضمون بنفسه فلم يتجانس القبضان فلم يتشابها فلا ينوب أحدهما عن الآخر، ولأن الرهن أمانة في الحقيقة فكان قبضه قبض أمانة، وإنما يسقط الدين بهلاكه لمعنى آخر لا لكونه مضمونًا، وإذا كان أمانة فقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الضمان كقبض العارية والوديعة.
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/757.(6/385)
وإن كانت يد المشتري يد أمانة كيد الوديعة والعارية لا يصير قابضًا إلاَّ أن يكون بحضرته أو يذهب إلى حيث يتمكن من قبضه بالتخلي لأن يد الأمانة ليست من جنس يد الضمان فلا يتناوبان (1) .
وقال المالكية: إن إتلاف المشتري لمبيع مقوم أو مثلي زمن ضمان البائع كالقبض فيلزمه الثمن (2) .
وقال في المنتقى: قبض المسلم إليه الطعام من نفسه فإذن المسلم لا يجوز أن يباع به، وكذلك قبض زوجته إلاَّ أن يكون ولده الكبير الذي قد بان الحيازة عنه فلا بأس بذلك (3) .
وقال أيضًا: لو استوفى كيلة منه ثم تركه عنده أو عند غيره جاز له أن يبيعه قبل أخذه منه.
وجه ذلك: أنه لو استوفاه وتركه عنده وديعة، واستيفاء من وهب أو تصدق به عليه أو قرضه يبيح له بيعه، لأنه قد حل محل من كان له (4) .
وقال ابن عبد السلام: إن من كان عنده طعام وديعة وشبهها فاشتراه من مالكه، فإنه لا يجوز له بيعه بالقبض السابق على الشراء لأنه قبض غير تام بدليل أن رب الطعام لو أراد إزالته من يده ومنعه من التصرف فيه كان له ذلك إلاَّ أن يكون ذلك القبض قويًّا كما في حق الوالد لولديه الصغيرين، فإنه إذا باع طعام أحدهما من الآخر وتولى البيع والشراء عليهما كان له أن يبيع ذلك الطعام على من اشتراه له قبل أن يقبضه ثانيًا وكذلك الوصي في يتيمه (5) ، ومثله الرهن (6) .
وقال الخرشي شارحًا لقول خليل: "وطعامًا كلته وصدّقك"وإن أسلمت إلى رجل في مدي حنطة إلى أجل، فلما حل أجله قلت له: كله في غرائرك، أو في ناحية بيتك، أو في غرائر دفعتها إليه فقال له بعد ذلك، قد كلته وضاع عندي، فقال مالك: لا يعجبني هذا – ابن يونس: يريد مالك، ولا يبيعه بذلك القبض. ابن القاسم: وأنا أراه ضامنًا للطعام إلاَّ أن تقوم بينه على كيله أو تصدقه أنت في الكيل، فيقبل قوله في الضياع، لأنه لما اكتاله صرت أنت قابضًا له (7) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 8/3258.
(2) الشرح الصغير: 3/203.
(3) المنتفى: 4/283.
(4) المنتقى: 4/282.
(5) شرح الخرشي على خليل: 5/164.
(6) حاشية العدوي على الخرشي: 5/164.
(7) شرح الخرشي على خليل: 5/168.(6/386)
مذهب الشافعية:
قالوا: المستحق للإِنسان عند غيره، عين، ودين.
والعين ضربان: أمانة، ومضمون.
الضرب الأول: الأمانات يجوز للمالك بيعها لتمام الملك وهي كالوديعة في يد المودع، ومال الشركة والقراض في يد الشريك والعامل، والمال في يد الوكيل في البيع ونحوه. وفي يد المرتهن بعد فكاك الرهن، وفي يد المستأجر بعد فراغ المدة، والمال في يده القيم بعد بلوغ الصبي رشدًا.
والضرب الثاني: المضمونات وهي نوعان:
الأول: المضمون بالقيمة ويسمي ضمان اليد فيصبح بيعه قبل القبض لتمام الملك فيه، ويدخل فيه ما صار مضمونًا بالقيمة لعقد مفسوخ وغيره.
ولو فسخ السلم لانقطاع المسلم فيه، فللمسلم بيع رأس المال قبل استرداده، وكذا للبائع بيع المبيع إذا فسخ بإفلاس المشتري ولم يسترده بعد.
ويجوز بيع المال في يد المستعير والمستام في يد المشتري والمتّهب في الشراء والهبة الفاسدين، ويجوز بيع المغصوب للغاصب (1) .
الثاني: المضمون بعوض في عقد معاوضة لا يصح بيعه قبل القبض لتوهم الانفساخ بتلفه. وذلك كالبيع والأجرة، والعوض المصالح عليه عن المال.
والدين في الذمة ثلاثة أضرب: مثمن، وثمن، وغيرهما.
الضرب الأول: المثمن وهو المسلم فيه فلا يجوز الاستبدال عنه، ولا بيعه، وهل تجوز الحوالة به؟ بأن يحيل المسلم إليه بحقه على من له عليه دين قرض أو إتلاف، أو الحوالة عليه، بأن يحيل المسلم من له دين قرض أو إتلاف، على المسلم إليه؟ .
فيه ثلاثة أوجه: أصحها لا، والثاني نعم، والثالث لا تجوز عليه، وتجوز به.
__________
(1) روضة الطالبين: 3/508، 509.(6/387)
الضرب الثاني: الثمن، فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة ففي الاستبدال عنها طريقان:
أحدهما: القطع بالجواز، قاله القاضي أبو حامد وابن القطان، وأشهرهما على قولين: أظهرهما وهو الجديد جوازه، والقديم منعه.
الضرب الثالث: ما ليس بثمن ولا مثمن كدين القرض والإِتلاف فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف، كما لو كان له في غيره مال بغصب أو عارية يجوز بيعه له (1) .
مذهب الحنابلة:
قالوا: إن كان لإِنسان في يد غيره وديعة أو عارية أو مضاربة أو جعله وكيلًا فيه جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره، لأنه عين مال مقدور على تسليمها لا يخشى انفساخ الملك فيها فجاز بيعها كالتي في يده.
وإن كان غصبًا جاز بيعه ممن هو في يده، لأنه مقبوض معه فأشبه بيع العارية ممن هي في يده.
وأما بيعه لغيره، فإن كان عاجزًا عن استنقاذه، أو ظن أنه عاجز لم يصح شراؤه، لأنه معجوز عن تسليمه إليه فأشبه بيع الآبق والشارد. وإن ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو في يده صح البيع لإِمكان قبضه، فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والإِمضاء، لأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه، ويثبت له الفسخ للعجز عن القبض فأشبه ما لو باعه فرسًا فشردت قبل تسليمها، أو غائبًا بالصفة فعجز عن تسليمه (2) .
* * *
__________
(1) روضة الطالبين: 3/512-514.
(2) المغني: 4/103، 104.(6/388)
مكان القبض وزمانه وبيان من تلزم نفقات المبيع:
الأصل أن يسلم المبيع في المكان الذي وجد فيه حين البيع، وإذا كان مكانه حين البيع غير معلوم فللمشتري خيار كشف الحال، وإذا اشترط تسليم المبيع في مكان معين يجب الوفاء بالشرط.
وقد نظمت مجلة الأحكام العدلية وفقًا للمذهب الحنفي هذه القواعد إذ جاءت نصوصها مبنية وموضوعة، هذه الأحكام في المواد (285) ، (286) ، (287) . حيث نصت المادة (285) على أن "مطلق العقد يقتضي تسليم المبيع في المحل الذي هو موجود فيه".
ونصت المادة (286) على أنه "إذا كان المشتري لا يعلم أن المبيع في أي محل وقت العقد وعلم به بعد ذلك كان مخيرًا إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمضاه وقبض المبيع حيث كان موجودًا".
ونصت المادة (287) على أنه "إذا بيع مال على أن يسلم في محل كذا لزم تسليمه في المحل المذكور".
كما جاءت المواد من 289 – 290 مبينة من تلزم النفقات فنصت على أن المصاريف المتعلقة بالثمن تلزم المشتري والمصاريف المتعلقة بتسليم المبيع تلزم على البائع وحده بخلاف الأشياء المبيعة جزافًا، فإن مؤنتها ومصاريفها على المشتري.
ونصت المادة (291) على أن "ما يباع محمولًا على الحيوان كالحطب والفحم والحنطة والتبن تكون أجرة نقله وإيصاله إلى بيت المشتري جارية على حساب عرف البلدة وعادتها".
وقالت المادة (292) إن "أجرة الكتابة والسندات والحجج وصكوك المبايعات تلزم المشتري لكن يلزم البائع تقرير البيع والإِشهاد عليه في المحكمة".(6/389)
أما في المذهب المالكي: فإنهم قالوا: الأحسن اشتراط مكان الدفع فإن لم يعينا في العقد مكانًا فمكان العقد، وإن عيناه تعين (1) .
وأما المبيع الغائب فقد قال الخرشي: قبض الغائب والخروج للإِتيان به على المشتري (2) .
كما نصوا في مبحث السلم على أنه يلزم المسلم قبوله لو دفعه المسلم إليه في غير الذي اشترط التسليم فيه أو محل العقد إذا لم يشترطا محلًا (3) .
وعند الشافعية: إن من شروط السلم بيان محل التسليم.
قال النووي: الشرط الرابع، بيان محل التسليم، وفي اشتراط بيان مكان تسليم المسلم فيه المؤجل اختلاف.
أحدها: فيه قولان مطلقًا.
والثاني: إن عقدا في موضع يصلح للتسليم لم يشترط التعيين وإلاَّ اشترط.
والثالث: إن كان لحمله مؤنة اشترط وإلاَّ فلا.
والرابع: إن لم يصلح الموضع اشترط وإلاَّ فقولان.
والخامس: إن لم يكن لحمله مؤنة لم يشترط وإلاَّ فقولان.
والسادس: إن لم يكن له مؤنة اشترط وإلاَّ فقولان.
ثم قال: وأما السلم الحال فلا يشترط فيه التعيين كالبيع، ويتعين موضع العقد للتسليم لكن لو عينا غيره جاز بخلاف البيع (4) .
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 178.
(2) شرح الخرشي: 5/36.
(3) الشرح الصغير: 3/286.
(4) روضة الطالبين: 4/13.(6/390)
وقال الشرقاوي: وحاصله أن الصور ثمانية، لأن السلم إما حالّ أو مؤجل، وعلى كل إما أن يكون لنقله مؤنة أو لا، وعلى كل إما أن يكون المحل صالحًا للتسليم أو لا، فأربعة في الحال، وأربعة في المؤجل.
يجب البيان في خمسة منها، ثلاثة في المؤجل وهي: ما إذا كان الموضع غير صالح للتسليم، سواء كان لنقله مؤنة أم لا، أو صالحًا له ولنقله مؤنة.
واثنتان في الحال وهما: ما إذا كان الموضع غير صالح للتسليم سواء كان لنقله مؤنة أم لا.
ولا يجب في ثلاثة: واحدة في المؤجل، وهي ما إذا كان الموضع صالحًا ولا مؤنة للنقل.
واثنتان في الحال وهما: ما إذا كان صالحًا سواء لنقله مؤنة أم لا (1) .
مذهب الحنابلة:
جاء في مجلة الأحكام الشرعية في المواد من (341 – 425) أحكام القبض والتسليم مكان ومؤنته.
فقد تحدثت المادة (341) أن مقتضى العقد تسليم المبيع في مكان العقد إذا كان محل إقامة. ولو شرط العاقد تسليم المبيع في مكان معين معلوم فمؤنة إيصاله إلى ذلك المكان على البائع.
ونصت المادة (419) فيما يتعلق بتسليم المسلم فيه أن لا يشترط في السلم ذكر مكان الوفاء، ويلزم وفاؤه مكان العقد إلاَّ إذا جرى العقد في مكان ليس محلًّا للتسليم فيشترط ذكره.
وفي كشاف القناع: ولا يشترط للسلم ذكر مكان الإِيفاء إلا أن يكون موضوع العقد لا يمكن الوفاء فيه كبرية وبحر ودار حرب، فيشترط ذكره لتعذر الوفاء في موضع العقد (2) .
* * * *
__________
(1) حاشية الشرقاوي على التحرير: 2/25.
(2) كشاف القناع: 3/206، 246-248.(6/391)
القسم الثاني
القبض في التقنينات الوضعية
نتناول في هذا القسم نتفًا من المسائل المتعلقة بالقبض في القوانين المدنية والتجارية والبيوع البحرية (الدولية) بإيجاز مع مقارنتها بأحكام الفقه الإِسلامي.
أولًا – القبض في القوانين المدنية:
من المقرر في القوانين المدنية أن الالتزام بتسليم المبيع هو التزام متفرع عن التزام بنقل الملكية، لأن المبيع قبل تسليمه يهلك على البائع. ومن هنا يجيء أن تبعة الهلاك تدور مع التسليم لا مع نقل الملكية (1) .
وتنص المادة (472) من القانون المدني الكويتي على أن التسليم يحصل بالتخلية بين المبيع والمشتري على وجه يتمكن به المشتري من حيازته والانتفاع به دون حائل ولو لم يقبضه بالفعل، ما دام البائع قد أعلمه بذلك (2) .
ونصت الفقرة الثانية من المادة (472 مدني كويتي) على أنه "يكون التسليم في كل شيء على النحو الذي يتفق مع طبيعته".
وتتفق هذه القوانين على أنه يجوز أن يتم التسليم بمجرد تراضي المتعاقدين إذا كان المبيع في حوزة المشتري عند البيع، أو اتفق على أن يستبقيه البائع في حوزته بعد البيع لسبب آخر غير الملك.
وقد أورد القانون اللبناني تفصيلًا لا مانع من ذكره فتقرر المادة (402) أن التسليم هو أن يضع البائع أو من يمثله الشيء المبيع تحت تصرف المشتري بحيث يستطيع أن يضع يده عليه وأن ينتفع به بدون مانع.
__________
(1) الوسيط للسنهوري: 4/556، 557.
(2) يقابله في التقنينات الأخرى المادة (435 من القانون المدني المصري، 403 مدني سوري، 538، 540 مدني عراقي، 424 مدني ليبي المادتين 402، 404 من قانون الموجبات والعقود اللباني) .(6/392)
وتبين المادة (403) الحالات المختلفة للمبيع وكيف يكون التسليم في كل حالة فتقول: يتم التسليم على الأوجه الآتية:
أولًا: إذا كان المبيع عقارًا فبالتخلي عنه، وبتسليم مفاتيحه عند الاقتضاء، بشرط ألا يلاقي المشتري إذ ذاك ما يحول دون وضع يده على المبيع.
ثانيًا: إذا كان المبيع من المنقولات فبالتسليم الفعلي أو بتسليم مفاتيح المباني أو الصناديق المحتوية على تلك المنقولات أو بأي وسيلة أخرى مقبولة عرفًا.
ثالثًا: يتم التسليم حتى بمجرد قبول المتعاقدين، إذا كان إحضار المبيع غير ممكن في ساعة البيع، أو كان المبيع موجودًا تحت يد المشتري لسبب آخر.
رابعًا: ويتم أيضًا بتحويل أو بتسليم شهادة الإِيداع أو سند الشحن أو وثيقة النقل إذا كان المبيع أشياء مودعة في المستودعات العامة.
وتنص المادة (404) على أن تسليم المبيعات غير المادية كحق المرور مثلًا، يكون بتسليم الأسناد التي تثبت وجود الحق أو بإجازة البائع للمشتري أن يستعمله بشرط ألا يحول حائل دون هذا الاستعمال، وإذا كان موضوع الحق غير مادي وكان استعماله يستوجب وضع اليد على شيء ما، فعلى البائع حينئذ أن يمكن المشتري من وضع يده على هذا الشيء بدون مانع.
القبض الحكمي:
من صوره ما نصت عليه المادة (540) من القانون المدني العراقي بأنه إذا أجر المشتري المبيع قبل قبضه إلى بائعه، أو باعه منه أو وهبه إياه أو رهنه له أو تصرف له فيه أي تصرف آخر يستلزم القبض اعتبر المشتري قابضًا للمبيع.
وإذا أجره قبل قبضه لغير البائع أو باعه أو وهبه أو رهنه أو تصرف فيه أي تصرف آخر يستلزم القبض، وقبضه العاقد قام هذا القبض مقام قبض المشتري.
وقد نص على أحكام القبض الحكمي القانون المدني الكويتي في المادة (473) ، والقانون المدني المصري في المادة (435) والقانون المدني العراقي في المادة (539) على أنه إذا كانت العين المبيعة موجودة تحت يد المشتري قبل البيع فاشتراها من المالك فلا حاجة إلى قبض جديد سواء كانت يد المشتري قبل البيع يد ضمان أو يد أمانة.(6/393)
ويوضح الأستاذ السنهوري أحكام كل قبض فيقول: التسليم الفعلي ينطوي على عنصرين:
أحدهما: وضع المبيع تحت تصرف المشتري بحيث يتمكن من حيازته حيازة يستطيع معها أن ينتفع به الانتفاع المقصود من غير أن يحول حائل دون ذلك.
والثاني: أن يعلم البائع المشتري بوضع المبيع تحت تصرفه على النحو المتقدم.
ثم يستعرض التطبيقات المختلفة فيما إذا كان المبيع عقارًا أو منقولًا أو حقًّا مجردًا بما لا يختلف عما انتظمته النصوص القانونية.
وأما التسليم الحكمي ويسمي التسليم المعنوي: وله صورتان:
إحداهما: أن يكون المبيع في حيازة المشتري قبل البيع بإجارة أو إعارة أو وديعة أو رهن حيازة أو نحو ذلك ثم يقع البيع فيكون المشتري حائزًا فعلًا للمبيع وقت صدور البيع ولا يحتاج إلى استيلاء مادي جديد ليتم التسليم، وإنما يحتاج إلى اتفاق مع البائع على أن يبقي المبيع في حيازته ولكن لا كمستأجر أو مستعير أو مودع عنده أو مرتهن بل كمالك له من طريق الشراء فتتغير نية المشتري في حيازته للمبيع، وإن كانت الحيازة المادية تبقى كما كانت.
والثانية: أن يبقى المبيع في حيازة البائع بعد البيع ولكن لا كمالك فقد خرج عن الملكية بعقد البيع، بل كمستأجر أو مستعير أو مودع عنده أو مرتهن رهن حيازة أو غير ذلك مما يترتب على عقد يتم بين المشتري والبائع بعد البيع ويستلزم نقل حيازة الشيء من المشتري إلى البائع، فبدلًا من أن يسلم البائع المبيع للمشتري بموجب عقد البيع ثم يعود إلى تسلمه من المشتري بموجب عقد الإِيجار أو أي عقد آخر يبقى المبيع في يد البائع بعد أن يتفق الطرفان على أن يعد هذا تسليمًا من البائع للمشتري ثم إعادة حيازته من المشتري للبائع بموجب العقد الجديد الذي تلا عقد البيع، ويصح أن يكون هذا العقد الجديد عقد بيع ثانٍ أو عقد هبة فيبيع المشتري الشيء للبائع بعد أن اشتراه منه أو يهبه إياه ومن ثم يبقى الشيء في حيازة البائع كمالك له ولكن بعقد جديد (1) .
__________
(1) الوسيط: 4/593، 594.(6/394)
زمان التسليم ومكانه:
تنص المادة (474) من القانون المدني الكويتي على أنه "إذا لم يحدد العقد وقتًا لتسليم المبيع، التزم البائع بتسليمه فور انعقاد العقد، وإذا اتفق على أن يتم التسليم في الوقت الذي يحدده المشتري التزم البائع بإجرائه فيه وذلك كله مع مراعاة المواعيد التي تستلزمها طبيعة المبيع أو يقضي بها العرف ".
ونصت المادة (475) على:
1- يتم تسليم المبيع في مكان وجوده وقت العقد ما لم يتفق على غير ذلك.
2- فإذا كان المبيع منقولًا ولم يعين مكان وجوده وجب تسليمه في موطن البائع.
ونصت المادة (476) على أنه "إذا التزم البائع بإرسال المبيع إلى مكان معين فلا يتم التسليم إلا بوصوله فيه ما لم يتفق على غير ذلك".
وهذه الأحكام تتفق جملة وتفصيلًا مع نصوص المواد (404) من القانون المدني السوري، والمادة (436) من القانون المدني المصري، والمادة (425) من القانون المدني الليبي، والمادة (416) من قانون الموجبات والعقود اللبناني.
وهذه الأحكام متطابقة مع ما سبق بيانه في المذاهب الفقهية الإِسلامية ولا تعارضها في شيء من كلياتها أو جزئياتها.
ثانيًا – القبض في العقود التجارية:
العقود التجارية نوعان:
عقود تتم داخل إقليم الدولة وهذه العقود تخضع في مجملها للأحكام العامة التي يخضع لها أي عقد طبقًا لنصوص وقواعد مبينة في القانون المدني، وهناك بيوع وعقود خاصة ينظمها القانون التجاري لما لها من أهمية خاصة في استقرار التعامل مثل: البيع بالمزاد للمنقولات المستعملة، والبيع بالمزاد للمنقولات الجديدة، والبيع بالتقسيط وأهمها في دنيا التعامل بيع الأوراق المالية. وقد نصت التشريعات المختلفة على طريقة نقل ملكية هذه الأوراق والأسهم فنصت من حيث التنظيم أن تتم بوساطة أحد السماسرة المقيدين بالبورصات ونصت من حيث نقل الملكية فيها على أن تثبت ملكية الأسهم بقيدها في دفاتر الشركة ويكون التنازل عن هذه الأسهم بكتابته في الدفاتر المذكورة القصد من ذلك حماية الشركة والغير من تعدد التصرفات التي قد تصدر من مالك السهم الاسمي لأكثر من متصرف إليه وما قد يترتب على ذلك من تزاحم بينهم، فجعل المناط في ثبوت الملكية أو التنازل عنها سواء في مواجهة الشركة أو الغير هو القيد في دفاتر الشركة، والغير هو كل متصرف إليه بادر باتخاذ إجراءات الشهر الواردة بها عن طريق قيد التصرف الصادر له كتابة في دفاتر الشركة، فلا تسري في مواجهة تصرفات المالك غير المقيدة ولو كانت سابقة على تصرفه (1) .
__________
(1) القانون التجاري للدكتور علي جمال الدين عوض: ص 56، 57، الأسهم وتداولها في الشركات المساهمة في القانون الكويتي للدكتور يعقوب يوسف صرخوه: ص 220.(6/395)
ويقرر الأستاذ السنهوري عن طريقة التسليم والقبض في هذه الأوراق بقوله: وفي الأسهم والكمبيالات والشيكات لحاملها يكون التسليم بالمناولة وفي السندات والشيكات الإِذنية يكون التسليم بالتظهير، وفي السندات الاسمية لا يتم التسليم إلا بعد القيد في دفاتر الشركة (1) .
ومن أهم الشركات في دنيا التعامل هي شركات المساهمة، وهذا النوع من الشركات الذي أخذ في الظهور والانتشار له أهمية بالغة في الميدان الاقتصادي والقيام بالمشروعات الهامة التي لا يستطيع الفرد القيام بها من جهة ومن جهة أخرى تمكين أرباب الأموال التي لا يستطيعون استثمارها بأنفسهم الاستعانة بتنميتها عن طريق الاكتتاب أو عن طريق التأسيس لمثل هذه الشركات.
وتصدر هذه الشركات ثلاثة أنواع من الأوراق المالية هي: (1) الأسهم، (2) السندات، (3) حصص التأسيس.
وهذه الأسهم إما أن تكون متساوية القيمة، وإما أن تمتاز ببعض الميزات كأن يكون لها نصيب أكبر من الربح أو تكون لها الأولوية في استرداد قيمة الأسهم عند القسمة، وأهم ما يختص السهم به كونه قابلًا للتداول بين الأفراد عن طريق البيع أو الهبة والوصية أو الإِرث، وقد تكون الأسهم نقدية وقد تكون عينية وقد تكون اسمية وهي التي تحمل اسم صاحبها، وقد تكون لحاملها وهي التي لا يذكر فيها اسم شخص بعينه وإنما تكون للحامل فيكون أي شخص يحمل هذا الصك هو المساهم في الشركة، وتكون سهمًا للأمر بمعنى أنه يكتب عليها عبارة " لأمر " وتتداول بطريق التظهير. وتختلف قيمة هذه الأسهم إلى اسمية وهي القيمة المبينة في السهم وقيمة الإِصدار وهي القيمة الصادر بها السهم عندما تريد الشركة زيادة رأسمالها، والقيمة الحقيقية والقيمة السوقية وهي قيمة السهم عند طرحه للبيع والشراء. وأما السندات وهي قريبة الشبه بالأسهم وتماثلها في كثير من الأحكام من حيث قبولها للتداول وكونها اسميه أو لحاملها فإذا طهرت من شبهة الربا كانت في جميع الأحكام كالأسهم كتحويل السندات إلى أسهم مثلًا (2) .
__________
(1) الوسيط: 4/592.
(2) الأسهم وتداولها في الشركات المساهمة: ص 190.(6/396)
وقد تعرض فقهاؤنا المعاصرون لحكم هذا النوع من الشركات وانقسموا إلى فريقين:
فريق يرى مشروعية شركة المساهمة وجوازها ويرى فيها أنها قريبة الشبه بشركة العنان التي هي مشاركة بين اثنين في المال والعمل (1) ويجوز أن يعمل أحدهما وقد تكون مركبة من شركة عنان ومضاربة.
ويذهب فريق آخر إلى مخالفتها لأحكام الشركات في الفقه الإِسلامي وقد أشرنا إلى طريقة تداول هذه الأسهم.
أما النوع الثاني من العقود التجارية وهي التي يطلق عليها العقود البحرية وقد يطلق عليها أيضًا العقود الدولية وهي التي يكون طرفاها من دولتين مختلفتين يتفقان على شراء بضاعة تنقل من بلد البائع إلى بلد المشتري مقابل ثمن يتم تسديده بطرق معينة (2) .
والتسليم في التجارة الدولية له أهمية قصوى لما للبيع التجاري ذاته من مفهوم خاص قوامه السرعة في إبرام العقد لمعاودة بيعه ثانية أو لتسليمها وتخزينها ثم إعادة بيعها في ظروف أفضل.
وإذا كان التسليم في البيوع بوجه عام هو دفع المبيع إلى المشتري ووضعه تحت تصرفه، أي: تمكينه من السيطرة عليه والانتفاع به، فإنه في التجارة الدولية يتطلب أمرًا زائدًا على هذا وهو نقل المستندات التي تمثل المبيع إلى المشتري، ولا يعتبر البائع قد نفذ التزامه كاملًا إلا إذا كانت المستندات المقدمة منه كاملة ومستوفية للبيانات فإذا لم يقدم المستندات أو قدمها ناقصة أمكن فسخ البيع كما يجوز للمشتري رفض دفع الثمن (3) .
ولهذا يعتبر سند الشحن في البيوع الدولية وإن كان لا ينقل السيطرة المادة على البضائع إلا أن من شأن هذا السند أن يجعل من نقل إليه السند صاحب الحق في طلب تسلم البضاعة عند الوصول والتصرف فيها أثناء الطريق، ويلتزم الربان بتسليم البضائع إلى الحامل القانوني لسند الشحن دون أن يكلف بالبحث عن صفته أو علاقته بالشاحن (4) .
__________
(1) المغني: 5/14.
(2) دراسة في قانون التجارة الدولية للدكتور ثروت حبيب: ص 15، القانون التجاري للدكتور علي جمال الدين عوض: ص 62، الوسيط شرح القانون البحري الكويتي: 1/443 للدكتور يعقوب يوسف صرخوه، البيوع البحرية للدكتور أحمد حسني: ص 17، التزامات المشتري في البيع الدولي للدكتور محمد محمد الخطيب.
(3) دراسة في قانون التجارة الدولية: ص 392، 393، القانون التجاري: ص 78، التزامات المشتري في البيوع الدولية: ص 202 وما بعدها.
(4) البيوع البحرية: ص 42، 43.(6/397)
أقسام البيوع البحرية أو الدولية:
تنقسم البيوع البحرية إلى مجموعتين:
الأولى: يتم التسليم فيها في ميناء الوصول وتسمى لذلك بيوع الوصول.
والثانية: يتم التسليم فيها في ميناء الشحن وهي بيوع القيام وهي أكثر شيوعًا (1) .
وأمثلة المجموعة الأولى:
(أ) البيع بسفينة معينة: وفي هذه الحالة يلتزم البائع بتسليم البضاعة إلى المشتري في ميناء الوصول ويعلنه باسم السفينة وبذلك يتم تخصيص البضاعة له.
(ب) البيع بسفينة غير معينة: وتعتبر في هذه الحالة البضاعة غير مخصصة على أي وجه قبل وصولها لميناء الوصول (2) .
وأما أمثلة المجموعة الثانية فهي:
(أ) البيع سيف أو كاف: وفيه يتحمل المشتري مخاطر الطريق ويتحمل البائع نفقات النقل والتأمين على البضاعة وينقل سند الشحن وبوليصة التأمين إلى المشتري.
(ب) البيع فوب: وهو يلقي على البائع مجرد التزام بتسليم البضاعة على السفينة التي استأجرها المشتري بمعرفته وتنقل المخاطر إلى المشتري من هذه اللحظة (3) .
__________
(1) دراسة في قانون التجارة الدولية: ص 392، 393، القانون التجاري: ص 78، التزامات المشتري في البيوع الدولية: ص 202 وما بعدها، البيوع البحرية: ص 42، 43.
(2) القانون التجاري: ص 67.
(3) البيوع البحرية: ص 17، 18، شرح القانون البحري الكويتي: 1/445، القانون التجاري: ص 63، 65.(6/398)
مقارنة بين هذه البيوع وبين عقود البيع الأخرى في القانون المدني والتجاري:
أولًا: تخضع هذه العقود للقواعد العامة بوجه عام وتخضع لذات الأحكام التي تقررها أحكام القانون المدني والتجاري وخاصة فيما يتعلق بالتزام البائع بتسليم بضائع مطابقة لما اتفق المتعاقدان عليه والتزام المشتري بدفع الثمن المتفق عليه. وتحقق أركان العقد من الرضا والمحل والسبب، وكذلك ينبغي تحقق شروط الانعقاد وشروط الصحة، ولا يختلف عن البيع العادي إلا في الطريقة التي يتم بها نقل البضاعة بحرًا.
ثانيًا: في بيوع الوصول يتحمل البائع مخاطر الهلاك حتى التسليم فإذا كان الهلاك كليًّا فسخ البيع، وإذا كان جزئيًّا فيؤدي إلى إنقاص الثمن بنسبة الهلاك، أما في بيوع القيام فإن المشتري هو الذي يتحمل المخاطر منذ شحنها على ظهر السفينة في ميناء القيام.
ثالثًا: في البيع سيف وفوب يتسلم المشتري كما سبق المبيع ويتحمل المخاطر منذ شحنه، ولما كان من بين ما تهدف إليه البيوع عند القيام هو تمكين المشتري من التعامل في البضائع أثناء فترة نقلها بطريق البحر وقبل أن يتسلمها ماديًّا فإن سند الشحن يقوم بدور أساسي في هذه المرحلة كأداة للتسليم، فإذا قام المشتري سيف أثناء الرحلة بإعادة بيعها طبقًا للشرط سيف، فإنه لا يستطيع أن يستبقي معه سند الشحن الذي سلمه له بائعه لأنه ملزم في هذه الحالة بالتسليم، ولما كان تسليم البضاعة ماديًّا غير ممكن لوجودها على السفينة الناقلة، فإن السبيل الوحيد للتسليم في هذه الحالة هو نقل سند الشحن إلى المشتري الثاني. فأما في بيع فوب فإن عقدي النقل والتأمين يعقدهما المشتري فيكون سندا الشحن والتأمين بحوزته بخلاف بيع سيف.
* * *(6/399)
مقارنة العقود البحرية بالعقود في الفقه الإسلامي:
العقود البحرية أو الدولية تتم بين المتعاقدين دون رؤية للمبيع وإنما تتم ببيان نوع البضاعة وصنفها وكميتها وعلاماتها وأرقامها بحيث يمكن تمييزها عن غيرها من البضائع ويشترط عند التسليم أن تكون البضاعة معينة بعلامة خارجية ظاهرة وتفرغ هذه البيانات في سند الشحن وأن تكون بيانات سند الشحن متطابقة مع البيانات الثابتة والمحددة في فواتير البيع، ونظرًا لانتشار وتوسع التبادل التجاري والاقتصادي بين دول العالم، ولما كان البيع هو الأداة القانونية الفعلية التي يتحقق بها هذا النشاط الاقتصادي فقد أخذ المعنيون بالتجارة الدولية بوضع عقود نموذجية تتضمن الشروط العامة للبيع وقواعد التسليم وتفتتح عادة هذه العقود بوضع بعض التعريفات المحددة للمصطلحات والتعبيرات التجارية التي يتكرر استخدامها بعد ذلك في بنود العقد وتحديد صنف البضاعة وبيانها من جهة ذكر صفاتها وخصائصها ودرجة جودتها، كما تتضمن المدد والآجال وما يتعلق بمهلة فحص البضاعة ومدة الأخطار عن عدم مطابقة البضاعة المسلمة للبضاعة المطلوبة وتحديد المدد الخاصة برفع الدعاوي والمطالبات وتشير أيضًا إلى صور الجزاء التي يتعين إعمالها في حالة مخالفة نصوص العقد وأحكامه، كما تتحدث عن ضمان العيب وخاصة بالنسبة للآلات والأدوات والسلع المصنوعة.
ونستطيع بعد هذا العرض الموجز للطريقة التي تتم بها هذه العقود أن نجري دراسة سريعة أيضًا في عرض بعض الملامح الأساسية للعقود المشابهة لها في الفقه الإِسلامي وذلك في مطلبين:
نخصص المطلب الأول في دراسة سريعة لأنواع العقود في الفقه الإِسلامي، ونخصص المطلب الثاني في مقارنة هذه العقود بالعقود الحديثة لاستخلاص أوجه الشبه بينها.
المطلب الأول
في أنواع العقود في الفقه الإِسلامي
البيع في الفقه الإِسلامي على ثلاث أضرب:
الأول: بيع عين حاضرة وهي المرئية الرؤية المعتبرة في صحة البيع وهذا جائز بلا خلاف إذا استجمع الشروط الأخرى.
الثاني: بيع عين غائبة سواء كانت غائبة عن مجلس العقد أو حاضرة فيه ولم يرها المتعاقدان أو أحدهما أو رأياها قبل، فإن لم تتغير عادة كأرض وثياب رأياها منذ نحو شهر أو احتمل تغيرها وعدمه صح أو غلب تغيرها كفاكهة لم يصح.
الثالث: بيع عين في الذمة ويشمل نوعين:
1- بيع عين موصوفة في الذمة.
2- عقد السلم.
قال شيخ الإِسلام زكريا الأنصاري عن بيع العين الموصوفة في الذمة: " والعين التي في الذمة يصح بيعها بذكرها مع جنسها وصفتها مع بقية الصفات التي تذكر في السلم، وعد هذا بيعًا لا سلمًا مع أن العين في الذمة اعتبارًا بلفظ البيع فلا يشترط فيه تسليم الثمن قبل التفرق إلا أن يكون ذلك في ربويين فيشترط فيه التقابض قبله كما في العين الحاضرة وهذا إذا لم يذكر بلفظ السلم، فإن ذكر كأن قال: بعتك كذا سلمًا كان سلمًا وعلى كون ذلك بيعًا يشترط تعيين أحد العوضين في المجلس وإلا يصير بيع دين بدين وهو باطل (1) ، ولكن لا يشترط قبضه في المجلس لأن التعيين بمنزلة القبض (2) بخلاف السلم، فإنه يشترط قبض رأس مال السلم في المجلس (3) .
مذاهب العلماء في حكم بيع العين الغائبة:
قال النووي: قد ذكرنا أن أصح القولين في مذهبنا بطلانه.
وقال ابن المنذر فيه ثلاثة مذاهب:
الأول: مذهب الشافعي أنه لا يصح.
الثاني: يصح البيع إذا وصفه وللمشتري الخيار إذا رآه سواء أكان على تلك الصفة أم لا، وهو قول الشعبي والحسن والنخعي والثوري وأبي حنيفة وغيره من أهل الرأي.
والثالث: يصح البيع وللمشتري الخيار إن كان على غير ما وصف وإلا فلا خيار، قاله ابن سيرين وأيوب ومالك وعبيد الله بن الحسن وأحمد وأبو ثور وابن نصر قال ابن المنذر وبه أقول (4) .
__________
(1) حاشية الشرقاوي على التحرير: 2/15-17.
(2) حاشية الشرقاوي على التحرير: 2/15-17.
(3) حاشية الشرقاوي على التحرير: 2/23.
(4) المجموع: 9/301.(6/400)
دليل القائلين بالصحة:
استدلوا بعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، وقالوا: الآية عامة فلا يخرج من هذا العموم إلا ما جاء بمنعه نص من كتاب أو سنة أو إجماع.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: ((من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه إن شاء أخذه وإن شاء تركه)) . وحديث أبي هريرة: ((من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه)) .
واستدلوا بالقياس أيضًا فقد قاسوه على النكاح، فإنه لا يشترط رؤية الزوجين بالإِجماع، وقياسًا على بيع الرمان والجوز واللوز، وقياسًا على ما لو رآه قبل العقد (1) .
تفصيل مذهب الشافعي في حكم بيع العين الغائبة:
في القديم يصح ويثبت له الخيار إذا رآه واستدل له لما روى ابن أبى مليكة "أن عثمان – رضي الله عنه – ابتاع من طلحة أرضًا بالمدينة ناقلة بأرض له بالكوفة، فقال عثمان بعتك ما لم أره، فقال طلحة إنما النظر إليَّ لأني ابتعت مُغيَّبًا وأنت قد رأيت ما ابتعت، فتحاكما إلى جبير بن مطعم فقضى على عثمان أن البيع جائز وأن النظر لطلحة لأنه ابتاع مُغَيَّبًا" (2) .
ولأنه عقد على عين فجاز مع الجهل بصفته كالنكاح.
وفي الجديد لا يصح: لحديث أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر)) ولأن في هذا البيع غررًا، ولأنه نوع بيع فلم يصح بالجهل بصفة المبيع كالسلم (3) .
وعلى القول القديم القائل بالصحة هل تفتقر صحة البيع إلى ذكر الصفات أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا يصح حتى تذكر جميع الصفات كالمسلم فيه.
والثاني: لا يصح حتى تذكر الصفات المقصودة.
الثالث: لا يفتقر إلى ذكر شيء من الصفات، لأن الاعتماد على الرؤية ويثبت الخيار إذا رآه فلا يحتاج إلى ذكر الصفات، فإن وصفه ثم وجده على خلاف ما وصف أو أعلى فيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له لأنه وجده على ما وصف فلم يكن له خيار كالمسلم فيه.
والثاني: له الخيار لأنه يعرف ببيع خيار الرؤية فلا يجوز أن يخلو من الخيار.
وقيل: الخيار على الفور وهو قول ابن أبي هريرة لأنه خيار تعلق بالرؤية فكان على الفور كخيار الرد بالعيب.
وقال أبو إسحاق: يتقدر الخيار بالمجلس، لأن العقد إنما يتم بالرؤية فيصير كأنه عقد عند الرؤية فيثبت له خيار المجلس (4) .
__________
(1) المجموع: 9/301.
(2) قوله ناقلة بأرض له بالكوفة أي: بادله بها ونقل كل واحد ملكه إلى موضع آخر (المجموع: 9/288) .
(3) المجموع: 9/288.
(4) المجموع:9/ 289(6/401)
المطلب الثاني
في مقارنة عقود البيع البحرية (الدولية) بعقود البيع في الفقه الإسلامي
مما سبق يظهر أن العقود المسماة بالعقود البحرية متفقة في جملتها مع أحكام بيع العين الغائبة وبيع الأعيان الموصوفة في الذمة فهي:
أولًا: استوفت الأركان والشرائط التي يتطلبها العقد.
ثانيًا: ذكرت فيها المسائل الجوهرية التي تعين محل العقد كبيان الجنس والنوع والقدر وكل العلامات المميزة للمبيع.
ثالثًا: الاتفاق على مكان التسليم ويستوي أن يكون التسليم في ميناء الشحن أو في ميناء الوصول.
رابعًا: يضم إلى ما ذكر أنه يمكن اعتبار تسليم سند الشحن بمثابة تمام القبض كالكيل والوزن في بيع المكيل والموزون عند الحنفية لأن المشتري قبل الحصول على سند الشحن لا يمكنه عملا التصرف في المبيع فكان تسليم سند الشحن من تمام التسليم والقبض.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على رسولنا محمد وعلى آله وأصحابه. . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله(6/402)
القبض:
صوره، وبخاصة المستجدة منها، وأحكامها
إعداد
فضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي
أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله
بكلية الشريعة – جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين. . وبعد:
فلا شك أن تكييف أوضاعنا – نحن المسلمين – على ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يتطلب جهودًا كبيرة من المخلصين والمجامع والمراكز العلمية للوصول إلى حلول إسلامية نابعة من معينها الصافي، ومتصفة بالاتزان والدراسة المتأنية دون التسرع والخضوع للضغوط، حيث أثبتت التجارب التي مرت بها البشرية عظمة الحلول الإِسلامية وما تحققها من مصالح بعيدة المدى، ولا سيما بعد فشل الأنظمة الوضعية البشرية التي نرى تخبطها خبط عشواء، ونرى تراجعها على كافة المستويات، وهذا ما يدفعنا إلى المزيد من الجهود للإسراع بالبديل الإِسلامي الكامل لكل النظريات المطروحة على الساحة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
وها نحن أولًا: نرى ثمار الجهود الجماعية المباركة – سواء كانت من خلال مجمع البحوث التابع للأزهر الشريف، أو من خلال مجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، أو لرابطة العالم الإِسلامي – حيث نراها قد تبنت البحث عن الحلول لجميع المشاكل المعاصرة، والمستجدات.
ومن هذه المستجدات كيفية القبض للصور الكثيرة للمعاملات التي ظهرت بسبب الاختراعات الحديثة، ولذلك كان اختياري لهذا الموضوع، وكان منهجي فيه هو الرجوع إلى المصادر المعتمدة حتى نستطيع تأصيل المسائل المستحدثة على ضوئها، ولذلك قمت بالبحث عن معاني القبض لغة واصطلاحًا، واختلاف الفقهاء في تعريفه ثم أدلة كل فريق مع المناقشة والترجيح، ثم ذكرت أنواع القبض، وما ذكره الفقهاء من صور كانت شائعة في عصرهم، ثم أتبعتها ببعض صور القبض في وقتنا المعاصر، ثم شرحت أركان القبض وشروطه بإيجاز وأثرت مدى احتمال اتحاد القابض، والمقبض، وكذلك شرحت بالتفصيل أثر القبض في العقود الصحيحة، والعقود الفاسدة، وتناولت موضوع مدى جواز البيع قبل القبض، كما ذكرت حكم المقبوض على سوم الشراء، أو النظر أو الرهن، ثم الخاتمة.
والله أسأل أن أكون قد وفقت فيما طرحته، وأن يجعل أعمالي كلها خالصة لوجهه الكريم.
* * * *(6/403)
القبض لغةً واصطلاحًا
القبض لغةً مصدر: قبضه يقبضه قبضًا، وهو خلاف البسط، وفي أسماء الله تعالى: "القابض" أي هو الذي يمسك الرزق وغيره من الأشياء عن العباد وبلطفه وحكمته، ويقبض الأرواح عند الممات، ويقال: قبض المريض إذا توفي، وإذا أشرف على الموت، والقبض بمعنى الأخذ فيقال: قبضت مالي قبضًا، أي أخذته (1) ، وقال ابن منظور: وأصله في جناح الطائر، قال الله تعالى {وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} [سورة الملك: الآية 19] .
وقبض الطائر جناحه: جمعه، وتقبضت الجلدة في النار: أي انزوت، والقُبْضة بالضم: ما قبضت عليه من شيء، يقال: أعطاه قُبضة من سويق أو تمر، أي كفًّا منه، وربما جاء بالفتح، ثم نقل عن الليث أن القبضة: ما أخذته بجمع كفك كله، فإذا كان بأصابعك فهي القبصة بالصاد، وقال ابن الأعرابي: القبض قبولك المتاع وإن لم تحوله، ثم قال ابن منظور: والقبض تحويلك المتاع إلى حيزك، والقبض: التناول للشيء بيدك ملامسة …، وصار الشيء في قبضي وقبضتي أي في ملكي (2) .
وخلاصة معانيه تدور حول: الإِمساك، وخلاف البسط، والموت، والأخذ، والجمع، وما أخذ باليد، وقبول المتاع وإن لم يحل إليه، وتحويل المتاع إلى الحيز، والتملك – ونحو ذلك.
وورد لفظ "قبض" ومشتقاته في القرآن الكريم تسع مرات منها قوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [سورة الفرقان: الآية 46] ، قال المفسرون: أي أخذنا الظل بطلوع الشمس، قبضًا يسيرًا أي سريعًا، أو سهلًا، أو خفيًّا (3) ومنها قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} (4) [سورة البقرة: الآية 245] ، ومعنى القبض هنا خلاف البسط بدليل المقابلة، أي: يضيق على قوم، ويوسع على آخرين، فقال بعض المفسرين أي يقبض ويبسط في الرزق، وهذا قول الحسن، وابن زيد، وقال الزجاج يقبض الصدقات ويبسط في الجزاء. (5) . وبالمعنى السابق جاء قوله تعالى: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [سورة التوبة: الآية 67] ، أي يمسكون أيديهم عن الإِنفاق في سبيل الله، أو عن كل خير، أو عن رفعها في الدعاء (6)
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، ولسان العرب: مادة "قبض".
(2) لسان العرب، ط دار المعارف: ص 3512 - 3514.
(3) تفسير الماوردي، ط. وزارة الأوقاف الكويتية: 3/158.
(4) راجع تفسير ابن عطية: 2/347، وتفسير الرازي: 6/268، وتفسير الماوردي: 1/262
(5) تفسير الماوردي: 1/262، والمصادر السابقة.
(6) تفسير الماوردي: 2/150 والمصادر السابقة.(6/404)
ومنها قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الزمر: الآية 67] ، أي في يده، وتحت قدرته (1) قال ثعلب: " هذا كما تقول: هذه الدار في قبضتي ويدي، أي في ملكي، قال: وليس بقوي " (2) وقوله تعالى: … {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة: الآية 283] .
وورد لفظ "قبض" ومشتقاته في السنة كثيرًا، وهي تدور حول معانيه اللغوية السابقة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((قبض الله عز وجل أرواحنا وقد ردّها إلينا)) . (3) أي أخذها، وروى البخاري تعليقًا بصيغة الجزم أن ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه (4) أي وضع كفه عليها، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((… ولم يكن قبض من ثمنها شيئًا فهي له)) (5) وغير ذلك كثير.
القبض في الاصطلاح:
إذا كان القبض في اللغة هو أخذ أي شيء، أو التمكن منه فإنه في الاصطلاح الفقهي أخص منه حيث هو مخصص بالمعقود عليه، لكنه ثار الخلاف بين الفقهاء في تحديد مفهومه تبعًا لوجهات نظرهم المختلفة في كيفية تمام القبض.
ثم إن أكثر الفقهاء لم يريدوا أن يضعوا تعريفًا جامعًا لجميع أقسام القبض، وإنما بينوه من خلال أنواعه، كما أنهم أرجعوا أمره كقاعدة أساسية إلى العرف، ولذلك ننقل نصوص الفقهاء بشيء من الإِيجاز للوصول إلى حقيقة القبض.
فعند الحنفية – كما يقول الكاساني -: "التسليم والقبض عندنا هو التخلية، والتخلي، وهو أن يخلي البائع بين المبيع وبين المشتري برفع الحائل بينهما على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه، فيجعل البائع مسلمًا للمبيع، والمشتري قابضًا له، وكذا تسليم الثمن من المشتري إلى البائع"، وذكر ابن عابدين أن من شروط التخلية التمكن من القبض بلا حائل، ولا مانع، ولكن صاحب "الأجناس" اشترط شرطًا ثالثًا، وهو أن يقول "خليت بينك وبين المبيع" (6) .
__________
(1) تفسير الرازي: 27/17، وتفسير الماوردي: 3/473.
(2) لسان العرب: ص 3513. ونحن حقًّا لسنا مع التأويل في مثل هذه الآيات، وإنما نثبت لله تعالى ما أثبته لذاته العلية مع التنزيه، وعدم التشبيه.
(3) مسند أحمد 4/91 عن ذي مخمر الحبشي.
(4) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب اللباس 10/349.
(5) رواه ابن ماجه، كتاب الأحكام: 2/790، الحديث 2359.
(6) بدائع الصنائع، ط. الإِمام بالقاهرة: 7/3248، ورد المحتار على الدر المختار، ط. دار إحياء التراث العربي: 4/42، والفتاوى الهندية، ط. دار إحياء التراث العربي: 3/15.(6/405)
وعند المالكية أن القبض هو التخلية من حيث المبدأ (1) .
وعند الشافعية – كما يقول الشيرازي -: "والقبض فيما ينقل النقل …؟ ، وفيما لا ينقل كالعقار والثمر قبل أوان الجذاذ التخلية …". ويقول النووي: "قال أصحابنا الرجوع في القبض إلى العرف، وهو ثلاثة أقسام: أحدها العقار والثمر على الشجرة، فقبضه بالتخلية، والثاني ما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب، والحيتان ونحوها، فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به سواء نقل إلى ملك المشتري، أو موات، أو شارع، أو مسجد، أو غيره، وفيه قول حكاه الخراسانيون: إنه يكفي فيه التخلية … والثالث ما يتناول باليد كالدراهم والدنانير، والمنديل والثوب والإِناء الخفيف، والكتاب ونحوها، فقبضه بالتناول بلا خلاف، صرح بذلك الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، والمحاملي، والماوردي، والشيرازي …" وغيرهم (2) .
وعند الحنابلة – كما يقول ابن قدامة -: "وقبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلًا، أو موزونًا بيع كيلًا، أو وزنًا في مقبضه بكيله، ووزنه، … وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى: أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التميز، لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل، فكان قبضًا له كالعقار" (3) .
ويقول ابن حزم الظاهري: " … وإنما على البائع أن لا يحول بين المشتري وبين قبض ما باع منه فقط، فإن فعل صار عاصيًا، وضمن ضمان الغصب فقط" (4) ، فعلى هذا فالقبض هو التخلية فقط.
__________
(1) يراجع: بداية المجتهد: 2/144، والفواكه الدواني، ط. الحلبي: 2/117، ويراجع: فتح الباري حيث أسند هذا الرأي إلى المالكية صراحة.
(2) المهذب مع شرحه المجموع: 9/275-276.
(3) المغني: 4/126.
(4) المحلى: 9/345(6/406)
وكذلك الأمر عند الإِمامية حيث إن القبض فيما لا ينقل كالعقار بالتخلية، وكذلك في غيره على الراجح عندهم (1) .
وعند الزيدية أن قبض غير المنقول بالتخلية اتفاقًا، وقبض المنقول به أيضًا عند جماعة منهم، وذهب بعضهم إلى أن قبضه بالنقل للتعارف بالتفرقة بينه وبين غير المنقول في القبض (2) .
ومن هذا العرض يتبين لنا أن اتجاهات الفقهاء تكاد تنحصر في اتجاهين:
اتجاه يرى عدم التفرقة بين جميع أنواع المعقود عليه حيث يتم قبضها بالتخلية فقط، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية وأحمد في رواية، وقول للشافعية حكاه الخراسانيون، والراجح عند الزيدية، والإِمامية، والظاهرية (3) وإليه مال البخاري وغيره (4) .
واتجاه آخر يرى التفرقة بين المنقول، وغيره، وأصحاب هذا الاتجاه وقعوا في خلاف طفيف بينهم، حيث يذهب بعضهم – وهم الشافعية – إلى أن أساس التفرقة هو كون الشيء منقولًا أو غير منقول، فالمنقول يتم قبضه بالنقل، وفي غيره التخلية.
في حين ذهب الحنابلة إلى اعتماد أساس آخر وهو كون الشيء مكيلًا أو موزونًا أو غيره، فما كان مكيلًا أو موزونًا فقبضه بكلية، أو وزنه وما كان غيرهما يكون قبضه بالتخلية (5) .
ومن هنا يتبين أن الجميع متفقون على أن القبض في العقار يكون بالتخلية فقط، وأما في غيره فيكون بالنقل، أو الكيل، أو الوزن أو التخلية، أو التناول …
__________
(1) المختصر النافع للحِلَّي، ط. أوقاف مصر: ص 148.
(2) البحر الزخار، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت: 4/369.
(3) المغني: 4/126، المحلى: 9/345، المختصر النافع للحِلَّي، ط. أوقاف مصر: ص 148، البحر الزخار، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت: 4/369.
(4) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ط. السلفية بالقاهرة: 4/334 - 335.
(5) المغني: 4/126، المحلى: 9/345، المختصر النافع للحِلَّي، ط. أوقاف مصر: ص 148، البحر الزخار، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت: 4/369، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ط. السلفية بالقاهرة: 4/334 – 335.(6/407)
الأدلة والمناقشة والترجيح:
استدل القائلون بالتفرقة في القبض بين ما يكال أو يوزن وبين غيره بالسنة والعرف.
أما السنة فقد ورد في ذلك عدة أحاديث:
1- منها ما رواه البخاري تعليقًا عن عثمان رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((إذا بعت فكل وإذا ابتعت فاكتل)) (1) ، وقد وصله الدارقطني، وله طريق أخرى أخرجها أحمد وابن ماجه، والبزار (2) .
2- ما رواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري)) (3) .
3- الأحاديث الواردة الدالة على أن القبض لا يتم فيما يباع بالجزاف إلا بالتحويل، فقد روى مسلم عن ابن عمر أنه قال: ((كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعامًا جزافًا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه)) ، وفي لفظ: ((كنا نبتاع الطعام جزافًا فبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه، قبل أن نبيعه)) ، وفي لفظ: ((كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله)) ، والرواية الأخيرة رواها البخاري بلفظ: ((… حتى يؤوه إلى رحالهم)) . (4) .
__________
(1) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع، ط. السلفية 4/343.
(2) مسند أحمد: 1/62، 75، وفتح الباري: 4/344.
(3) رواه ابن ماجه في سننه، كتاب التجارات: 2/750. في الزوائد: في إسناده أبو عبد الرحمن الأنصاري، وهو ضعيف.
(4) صحيح مسلم، البيوع: (3/1160 – 1162، وصحيح البخاري – مع الفتح: 4/350.(6/408)
4- ما رواه الحاكم بسنده، عن ابن عمر، ((عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تباع السلع حيث تشترى حتى يحوزها الذي اشتراها إلى رحلة وإن كان ليبعث رجالًا فيضربونا على ذلك)) ، وقال: حديث صحيح على شرح مسلم، ووافقه الذهبي. (1) ، وفي رواية أخرى له عن طريق ابن إسحاق: قال ابن عمر: "ابتعت زيتًا في السوق، فلما استوجبته لقيني رجلٌ، فأعطاني به ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يديه فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت إليه فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، ((فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)) . (2) .
وأما العرف فهو جارٍ على هذا التقسيم يقول ابن قدامة، لأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإِحراز والتفرق، والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا (3) واستدل القائلون بأن القبض هو التخلية في المنقول وغيره بالسنة والآثار:
أما السنة فمنها:
1- ما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني، فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر، ويردّه، ثم يتقدم فيزجره عمر ويردّه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: بعنيه، قال: هو لك يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعينه فباعه من رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت)) (4) .
وجه الاستدلال بهذا الحديث واضح حيث دخل الجمل في ملكية الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد العقد، مع أنه منقول، فلو كان النقل الفعلي شرطًا لأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم أولًا، ثم يهبه لابن عمر، وقد أشار ابن بطال وغيره أن الحديث حجة في أن البيع يتم بالعقد – مع شروطه – وأنه لا يحتاج إلى نقل المعقود عليه فعلًا، قال الحافظ ابن حجر: "وقد احتج به المالكية والحنفية في أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية، وإليه مال البخاري …" (5) .
2- ما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن جابر، قال: "… ثم قال – أي النبي صلى الله عليه وسلم – ((أتبيع جملك؟)) قلت: نعم. فاشتراه مني بأوقية، واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، … فجئنا إلى المسجد، فوجدته على باب المسجد، قال: الآن قدمت؟ قلت: نعم. قال: فدع جملك، فادخل، فصلَّ ركعتين، فدخلت فصليت، فأمر بلالًا أن يزن له أوقية … فانطلقت حتى وليت … ثم قال: خذ جملك، ولك ثمنه" (6) .
والحديث واضح في دلالته على أن البيع قد تم دون أن يتم تحويل الجمل – وهو من المنقولات – إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك ترجم له البخاري "باب … وإذا اشترى دابة، أو جملًا، وهو عليه، هل يكون ذلك قبضًا قبل أن ينزل؟ " وكذلك أورد بعض الحديث الأول تحته، وهذا مشعر بأن البخاري فهم من الحديثين أن القبض هو التخلية في المنقول وغيره (7) .
__________
(1) المستدرك، وبهامشه التخليص للذهبي، ط. دار المعرفة ببيروت: 2/39 - 40.
(2) المستدرك، وبهامشه التخليص للذهبي، ط. دار المعرفة ببيروت: 2/39 - 40.
(3) المغني لابن قدامة: 4/126، والمجموع: 9/283.
(4) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع: 4/334.
(5) فتح الباري: 4/335.
(6) صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع: 4/320، ومسلم، المساقاة: 3/1221.
(7) فتح الباري: 4/321 – 335.(6/409)
3- ما رواه البخاري وغيره عن عائشة في حديث الهجرة، وفيه أن أبا بكر قال: "إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما. قال: قد أخذتها بالثمن" (1) . قال الحافظ ابن حجر: " قال المهلب: وجه الاستدلال به أن قوله "أخذتها" لم يكن أخذًا باليد، ولا بحيازة شخصها، وإنما كان التزامًا منه لابتياعها بالثمن وإخراجها عن ملك أبي بكر …، وقال ابن المنير: مطابقة الحديث للترجمة من جهة أن البخاري أراد أن يحقق انتقال الضمان في الدابة ونحوها إلى المشتري بنفس العقد، فاستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((قد أخذتها بالثمن)) وقد علم أنه لم يقبضها بل أبقاها عند أبي بكر (2) .
وهذا في المنقولات التي هي محل الخلاف، فيكون القبض هو التخلية مطلقًا.
4- ما رواه الخمسة، والحاكم عن ابن عمر قال: كنا نبيع الإِبل بالنقيع – بالنون سوق المدينة، وبالباء مقبرتها – كنا نبيع بالذهب ونقضي الورق، ونبيع بالورق ونقضي الذهب، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ((لا بأس إذا كان بسعر يومه، إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)) (3) .
فالحديث دليل على أن القبض هو التخلية والتمكن من القبض، وليس النقل الفعلي، حيث إن ابن عمر كان يشتري من بائعه الذهب المستقر في ذمته بالفضة، مع أن بائعه لم يستلم بعد ذهبه الذي كان ثمنًا لإِبله، فهذا دليل على أن القبض هو التخلية والتمكن، وليس النقل الفعلي، ولكن العملية الثانية لما كانت من الربويات اشترط الرسول صلى الله عليه وسلم القبض الفوري في المجلس.
* * *
__________
(1) صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع: 4/351.
(2) فتح الباري: 4/351-352.
(3) الحديث حكم عليه الحاكم بأنه صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي: 2/44، ورواه أحمد: 2/33، 83، 84، 139، وابن ماجه: 2/760، وأبو داود – مع العون – البيوع: 9/203، والنسائي: 2/223 – 224، والترمذي مع التحفة: 4/443، والدارمي: 2/209، والطحاوي في مشكل الآثار: 2/69، وابن الجارود: 655، والدارقطني: 299، والبيهقي: 5/284، 315. وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل، ط. المكتب الإِسلامي: 5/174: ضعيف، ثم رجح وقفه، ولكن الحديث حكم عليه الحاكم بالصحة، ووافقه الذهبي، وذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوي: 29/510 أنه من السنة الثابتة.(6/410)
المناقشة والترجيح:
ويمكن أن نناقش أدلة الفريق الأول بما يأتي:
* أولًا: نناقش الاستدلال بالحديث الأول بما يأتي:
1- إنه ضعيف لا ينهض حجة، ولذلك ذكره البخاري تعليقًا بصيغة "ويذكر" دون الجزم، وقد وصله الدارقطني لكن في سنده منقذًا مولى ابن سراقة، وهو كما قال الحافظ "مجهول الحال" (1) ، وقال أيضًا: "لكن له طريق أخرى أخرجها أحمد وابن ماجه … وفيه ابن لهيعة ولكنه من قديم حديثه …" (2) ، ومن المعروف أن عبد الله بن لهيعة مختلف في الاحتجاج به، فكثير من النقاد لا يحتجون بحديثه مطلقًا، وبعضهم يقبله إذا كان قبل احتراق كتبه، قال البخاري عن الحميدي كان يحيى بن سعيد لا يراه شيئًا، وقال ابن المديني عن ابن مهدي: لا أحمل عنه قليلًا ولا كثيرًا، وعن أحمد: ما حديث ابن لهيعة بحجة، ونقل عنه: أنه وصفه بالضبط والإِتقان، وقال أحمد بن صالح: " ابن لهيعة صحيح الكتاب " وقال ابن خراش: كان يكتب حديثه، فلما احترقت كتبه كان من جاء بشيء قرأه عليه، حتى لو وضع أحد حديثًا وجاء به إليه قرأه عليه، قال الخطيب: فمن ثم كثرت المناكير في روايته لتساهله، وذكر ابن حبان أنه سبّر أخباره قبل حرق كتبه وبعده فوجدها لا تصلح، حيث في روايات المتقدمين عنه تدليس عن المتروكين، وفي رواية المتأخرين عنه مناكير فوجب ترك الاحتجاج بها (3) .
2- ولو سلم قبوله، فإنه لا يدل على المطلوب، وذلك لأنه لا يدل على أن القبض لا يتم في المكيل والموزون إلا بالكيل، وإنما يدل على وجوب الكيل والاكتيال مطلقًا، بل إن شراح الحديث فسروه بأنه أمر بالعدالة في الكيل والوزن، قال ابن القيم "والمعنى أنه إذا أعطى، أو أخذ لا يزيد، ولا ينقص أي لا لك، ولا عليك" (4) وقد فهم البخاري منه أن يدل على أن مؤنة الكيل على المعطي، ولذلك ترجم له: باب: الكيل على البائع والمعطي (5) ، وإذا لم يفسر هكذا فإن ظاهر الحديث يدل على وجوب الكيل في كل بيع، وهذا لم يقل به أحد – على ما نعلم – لجواز البيع جزافًا، وبالعدّ والوزن.
__________
(1) فتح الباري: 4/344.
(2) فتح الباري: 4/344.
(3) تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني، ط. دار صادر، بيروت: 5/374 - 379.
(4) فتح الباري: 4/345.
(5) صحيح البخاري – مع الفتح: 4/343.(6/411)
* ثانيًا: إن حديث ابن ماجه ضعيف، وذلك لأن في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو كما قال في الزوائد: ضعيف (1) ، وكان يحيى بن سعيد يضعفه، وأحمد يقول فيه: سيئ الحفظ مضطرب الحديث كان فقهه أحب إلينا من حديثه، وقال شعبة: ما رأيت أسوأ حفظًا من ابن أبي ليلى، وقال العجلي: كان فقهيًا صاحب سنة، جائز الحديث، وقال ابن معين: ليس بذاك، وقال أبو زرعة: ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: محله الصدق، كان سيئ الحفظ شغل بالقضاء فساء حفظه، لا يتهم بشيء من الكذب، إنما ينكر عليه كثرة الخطأ، يكتب حديثه، ولا يحتج به (2) .
فعلى ضوء ذلك لا يحتج بحديثه، ولا ينهض حجة في إثبات هذا الحكم. وبالإِضافة إلى ذلك فإن هذا الحديث في بيع الطعام قبل القبض، فلا يمكن تعميمه في جميع التصرفات، ولا في جميع أنواع المنقولات، فقد يكون النهي عن بيعه لخصوصية حيث إن البيع مبني على المساومة، وأن كلًا من العاقدين يريد الحصول على أحسن مكسب، فلو باعه قبل القبض وربح فيه فربما يفضي ذلك إلى أن يحاول البائع الوصول إلى الفسخ ولو ظلمًا، وإلى الخصام والنزاع، ولذلك قطع الشارع هذا الطريق، وسدَّ هذه الذريعة، ولذلك لا يقاس عليه غيره، ومن هنا أجازوا للمشترى إعتاقه قبل القبض (3) .
وكذلك إن للطعام خصوصية في نظر الشريعة، ولذلك منع من الاحتكار فيه دون غيره، وخصه مع النقود بأحكام لا تتوفر في غيرهما، ومن هنا فلا يقاس عليه غيره من المنقولات وغيرها (4) . ولذلك كله لم ينهض حجة على المطلوب فسقط الاستدلال به.
* ثالثًا: إن الأحاديث التي رواها مسلم خاصة بنهي البيع عن بيع الطعام الذي اشتري جزافًا قبل نقله وتحويله، فلا يعم ما هو قد اشتُري بالكيل والوزن، بدليل أن القائلين بالتفرقة بين المنقول وغيره في القبض يقولون: إن وزنه، أو كيله قبض حتى ولو كان في مكانه.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فالأحاديث كلها في بيع الطعام قبل القبض فلا يقاس على البيع غيره إلا بدليل معتبر، وكذلك لا يقاس على الطعام غيره لما ذكرنا آنفًا.
__________
(1) الزوائد، المطبوع مع سنن ابن ماجه، ط. عيسى الحلبي: 2/750.
(2) تهذيب التهذيب: 301-303.
(3) شرح سنن أبي داود لابن القيم، المطبوع بهامش عون المعبود، ط. المكتبة السلفية بالمدينة المنورة: 9/384.
(4) الفروق للقرافي، ط. دار المعرفة، بيروت: 3/281.(6/412)
* رابعًا: حديث الحاكم كما أوضحته الرواية الثابتة أيضًا في الطعام، بدليل أن المحتجين به أنفسهم لا يقولون بأن جميع السلع يتم القبض فيها بالتحويل إلى الرحال، بل إن الإِمام النووي صرَّح بأن "حوزه إلى الرحال ليس بشرط بالإِجماع "، ولذلك احتاج إلى التأويل بأن المراد به أصل النقل، "وأما التخصيص بالرحال فخرج على الغالب، ودل الإِجماع على أنه ليس بشرط في أصل النقل" (1) .
ولا شك أن هذا التأويل يجعل التمسك بظاهر النص ضعيفًا، ويفتح باب التأويل في معنى النقل أيضًا بأن يفسر التخصيص به على الغالب، أو من باب الإِرشاد والنصح دون الوجوب والإِلزام.
* خامسًا: إن جميع الأحاديث في النهي عن البيع قبل القبض، وليس في القبض نفسه، فلا تكون نصًّا في المطلوب.
وأما القول بأن العرف قاضٍ بهذه التفرقة بين المنقول وغيره، أو بين ما يكال ويوزن وبين غيره فغير مسلم على إطلاقه، بل فيه تفصيل، وهو أننا إذا قصدنا به العرف العام فلن يستقيم المعنى بدليل الخلاف الكبير بين الفقهاء، وكلهم يلتجئون إلى العرف، ولو أردنا به العرف الخاص فلا يكون عرف بلد حجة على عرف بلد آخر، ولا عرف زمن معيَّن على عرف زمن آخر، فقد ذكر ابن عابدين في رسالته الشهيرة في العرف أن الناس لو تعارفوا على بيع شيء بالوزن مع أنه كان النص الوارد فيه على أنه يباع بالكيل فإن هذا العرف الأخير مؤثر عند أبي يوسف، وذلك "لأن النص في ذلك الوقت إنما كان للعادة، فحيث كانت العلة للنص على الكيل في البعض والوزن في البعض هي العادة تكون العادة هي المنظور إليها فإذا تغيرت تغير الحكم، فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص، بل فيه اتباع النص، وظاهر كلام المحقق ابن الهمام ترجيح هذه الرواية، وعلى هذا فلو تعارف الناس بيع الدراهم بالدراهم، أو استقراضها بالعدد كما في زماننا لا يكون مخالفًا للنص …" (2) .
* * *
__________
(1) المجموع: 9/283.
(2) نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، المطبوع ضمن رسائل ابن عابدين، طبعة الآستانة: 2/118.(6/413)
ويمكن أن نناقش أدلة الرأي الثاني بما يأتي:
* أولًا: يمكن الجواب عن حديث ابن عمر في البكر الصعب بأنه يحتمل أن يكون ابن عمر كان وكيلًا في القبض قبل الهبة وهو اختيار البغوي (1) .
وأجاب بعضهم بأنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ساقه، أي ساق الجمل – بعد العقد … وسوقه قبض له، لأنه قبض كل شىء (2) .
ولا يخفي أن هذين الاحتمالين بعيدان جدًّا لا يمكنهما التأثير في ظاهر الحديث الدال على أن القبض يتم بمجرد التخلية والتمكُّن من القبض دون الحاجة إلى التحويل والحيازة الفعلية.
* ثانيًا: يمكن مناقشة حديث جابر بالاحتمالين السابقين، ولكن يجاب عنهما بالسابق.
* ثالثًا: يمكن مناقشة حديث عائشة بأنه لا يدل على أن القبض قد تم بل كل ما يدل عليه هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذها بالثمن، ولا يلزم منه تمام القبض.
* رابعًا: وأما حديث ابن عمر في بيع الذهب بالفضة في الذمة ففيه مقال حيث قال فيه الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر " (3) وسماك هذا قال فيه ابن حزم: "ضعيف يقبل التلقين، شهد عليه بذلك شعبة، وأنه كان يقول له: حدثك فلان عن فلان؟ فيقول: "نعم" (4) .
وقد تبع الشيخ الألباني ابن حزم وحكم بضعف الحديث، ورجح كونه موقوفًا وأتى لذلك ببعض شواهد حسنة تجعل هذا الأثر الموقوف قويًّا (5) .
ويمكن الإجابة على ذلك بأن الحديث قد حكم عليه الحاكم بالصحة وأنه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (6) ووصفه شيخ الإِسلام ابن تيمية بأنه من السنَّة الثابتة (7) .
__________
(1) فتح الباري: 4/335 - 336.
(2) فتح الباري: 4/335 - 336.
(3) سنن الترمذي – مع التحفة – البيوع: 4/442.
(4) المحلى: 9/566.
(5) إرواء الغليل: 5/173 - 175.
(6) المستدرك مع تلخيص الذهبي: 2/44.
(7) مجموع الفتاوى: 29/510.(6/414)
ومن جانب آخر أنهم ضعَّفوا الحديث بأمرين:
* أحدهما: أن في سنده سماك بن حرب وهو ضعيف، وهذا غير مسلم على إطلاقه، بل إن بعض النقاد وصفوه بأنه يمكن تلقينه، ولا سيما في أحاديثه عن طريق عكرمة، أما أحاديثه عن طريق سعيد بن جبير – مثل الحديث الذي معنا – وغيره فأكثر النقاد وثقوه، وحكموا له بالضبط، بل إن جماعة منهم قبلوا حديثه مطلقًا، وقال ابن عدي: وأحاديثه حسان، وهو صدوق، وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: سماك أصبح حديثًا من عبد الملك بن عمير، وقال ابن معين: ثقة وكان شعبة يضعفه، وقال العجلي بكري: جائز الحديث إلا أنه كان في حديث عكرمة ربما وصل الشيء، وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، وقال يعقوب: وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المثبتين، ومن سمع منه قديمًا مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه صحيح مستقيم، والذي قال ابن المبارك – من أنه ضعيف – إنما نرى أنه فيمن سمع منه بآخره، وربما هذا التقويم الأخير هو المعتمد، والجامع بين الأقوال المختلفة حوله، وهذا الحديث هو ما رواه عنه حماد، وهو من متقدمي الرواة عنه، وقد تابعه إسرائيل بن يونس، ومهما قلنا في هذا الحديث فإنه لا ينزل إلى درجة الحديث الحسن، وهو ينهض حجة، وكيف لا، وقد حكم بصحته بعض النقاد مثل الذهبي، والحاكم، كما سبق؟
* ثانيهما: أنه موقوف. ويمكن أن يناقش بأنه وإن كان موقوفًا لكنه في حكم المرفوع، ولا سيما من ابن عمر الذي كان شديد التمسك بالآثار، ولا يخوض في الرأي إلا نادرًا ولا سيما في مثل القضايا الربوية.
ومن جانب آخر إذا كان للحديث طريقان طريق مرفوع، وطريق موقوف، فالرفع هو المرجح، ولا سيما أن الأئمة الخمسة قد رفعوه (1) .
الترجيح:
الذي يظهر لنا رجحانه بعد هذه الأدلة والمناقشة أن القبض هو التخلية، والتمكن من التسلّم دون التسلّم الفعلي فيما عدا الطعام حيث تدل الأحاديث على أن له نوعًا من الخصوصية والعناية والاهتمام لم توجد لغيره، فبالتحقيق لا يمكن إهمال هذه الأحاديث الدالة على وجوب قبض الطعام وكيله، أو وزنه إذا كان قد بيع بالكيل أو الوزن، ووجوب نقله وتحويله إذا كان قد بيع جزافًا، وأما فيما سوى الطعام فالأدلة ظاهرة ومتعاضدة في أنه لا يحتاج إلى النقل والتحويل، فقد رأينا أحاديث صحيحة دلت على أن القبض في الإِبل – مثلًا – قد تم بمجرد العقد، حيث قام الرسول صلى الله عليه وسلم بهبتها بعد العقد مباشرة دون النقل والتحويل، ولذلك لا يقاس على الطعام غيره من المنقولات.
__________
(1) تهذيب التهذيب: 4/232 - 234.(6/415)
وفي جميع الأحوال لا يشترط أن يتسلم المشتري بالفعل المعقود عليه حتى في الطعام، حيث نرى أن البائع إذا كالَهُ له، أو وزنه له، أو حوله إليه، أو أودعه في سيارته، أو سفينته فإن القبض قد تم، وأما في غير الطعام فمجرد التخلية يكفي، وذلك لأننا لو اشترطنا – حتى في الطعام – التسلم الفعلي من المشتري فإنه قد يتعسف في استعمال حقه فلا يتسلمه، وقد أبرز الكاساني هذا المعنى بصورة رائعة فقال: "فأما الإِقباض فليس في وسعه – أي البائع–، لأن القبض بالبراجم (1) فعل اختياري للقابض، فلو تعلق وجوب التسليم به لتعذر عليه الوفاء بالواجب، وهذا لا يجوز" (2) .
ثم إن القبض لغة قد جاء بمعنى التمكين والتمكن دون التسلم الفعلي، ولا نجد دليلًا في الشرع على تقييده غير الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أو استيفائه، أو تحويله، وهذه الأحاديث – في الواقع – ليست شرحًا للقبض، ولا تقييدًا له، وإنما هي في عدم جواز البيع قبل القبض، لكنه مع ذلك يدل على نوع خصوصية الطعام، حيث يقول القرافي في الفرق بين الطعام وغيره في هذه المسألة: "إن الطعام أشرف من غيره لكونه سبب قيام البنية، وعماد الحياة فشدد الشرع على عادته في تكثير الشروط فيما عظم شرفه كاشتراط الولي والصداق في عقد النكاح دون عقد البيع " (3) .
وعلى ضوء ذلك تبقى القاعدة العامة هي أن القبض والتسليم هو التخلية والتمكن من التسلم وليس التسلم الفعلي باليد يقول الكاساني: ولنا أن التسليم في اللغة عبارة عن جعله سالمًا خالصًا، يقال: سلم فلان لفلان أي خلص له، وقال الله تعالى: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [سورة الزمر: الآية 229] . أي سالمًا خالصًا لا يشركه فيه أحد، فتسليم المبيع إلى المشتري، هو جعل المبيع سالمًا للمشتري، أي خالصًا بحيث لا ينازعه فيه غيره، وهذا يحصل بالتخلية، فكانت التخلية تسليمًا من البائع، والتخلي قبضًا من المشتري وكذا هذا في تسليم الثمن إلى البائع، لأن التسليم واجب، ومن عليه الواجب لا بد وأن يكون له سبيل الخروج عن عهدة ما وجب عليه، والذي في وسعه هو التخلية، ورفع الموانع" (4) .
فعلى ضوء ذلك إن جميع الأحكام المترتبة على القبض تترتب على التخلية والتمكن من القبض، لكنه لا يجوز بيع الطعام قبل استيفائه وتحويله أو كيله ووزنه، وبهذا يتم الجمع والتوافق بين جميع الأدلة، ويكون للعقد أيضًا أثره دون أن يلغى أي دليل، والقاعدة الأصولية تقضي بأن الجمع بين الأدلة أولى من إلغاء أحدها.
__________
(1) البراجم جمع برجمة، وهي رءوس السلاميات من ظهر الكف إذا قبض الشخص كفه نشزت وارتفعت، والسلامي هي عظام الأصابع وقال قطرب: هي عروق ظاهر الكف والقدم. يراجع: المصباح المنير 1/48، 307.
(2) بدائع الصنائع: 7/3248.
(3) الفروق، ط. دار المعرفة، ببيروت 3/281.
(4) بدائع الصنائع: 7/3249.(6/416)
التعريف المختار للقبض:
بعد هذا العرض لأقوال الفقهاء، وترجيح رأي القائلين: بأن القبض هو التخلية حسب العرف إلا في الطعام للأدلة الدالة عليه حيث لا يجوز بيعه إلا بعد كيله، أو وزنه، أو نقله وتحويله أو استيفائه، وذلك لأن "القبض" ورد في الشرع اعتباره، ولم يرد تفسيره فيه، وكذلك لا نجد له في اللغة معنى خاصًّا محددًا، بل وجدناه تدور معانيه حول: الأخذ والقبول للمتاع وإن لم يحول – كما قاله ابن الأعرابي – والتداول، والتمكن، والقدرة على الشيء كما سبق.
ومن هنا فالمرجع في ذلك إلى العرف، وعلى ضوء ذلك يمكن أن نقول في تعريفه المختار: هو: التخلية بين العاقد والمعقود عليه على وجه يتمكن من التسلم بلا مانع ولا حائل حسب العرف.
هذه هي حقيقة القبض في نظرنا لكن الدليل – كما قلنا – قام بخصوص الطعام فقيد جواز تصرف المشتري قبل تحويله ونقله إن كان قد بيع جزافًا، وقبل كيله أو وزنه إن كان قد بيع كيلًا أو وزنًا.
ما يشترط فيه القبض الفوري:
ثم إن كان العقد في الصرف (والنقود) فلا بد من القبض داخل المجلس، حيث إنه جامع المتفرقات.
ثم إن الجمهور – أي الحنفية، والشافعية، والحنابلة – لم يشترطوا الفورية في الصرف ما دام المجلس باقيًا (1) ، ولذلك كان بإمكان أحد العاقدين فيها أن سلم الثمن أو المثمن في آخر المجلس حتى ولو عقده في أول المجلس، حتى قال ابن قدامة وغيره: "ولو تماشيا مصطحبين إلى منزل أحدهما، أو إلى الصراف فتقابضا عنده جاز …"، لأنهما لم يفترقا قبل التقابض، فأشبه ما لو كانا في سفينة تسير بهما … وقد دل على ذلك حديث أبي برزة الأسلمي للذين مشيا في جانب العسكر، "وما أراكما افترقتما" (2) .
غير أن المالكية اشترطوا القبض الفوري في الربويات قال ابن رشد: ((إن تأخر القبض في المجلس بطل الصرف وإن لم يفترقا …)) وسبب الخلاف ترددهم في مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا هاء وهاء)) (3) وذلك أن هذا يختلف بالأقل والأكثر، فمن رأى أن هذا اللفظ صالح لمن لم يفترق من المجلس – أعني أنه يطلق عليه أنه باع ((هاء وهاء)) – قال: يجوز التأخير في المجلس، ومن رأى أن اللفظ لا يصح إلا إذا وقع القبض من المتصارفين على الفور قال: ((إن تأخر القبض عن العقد في المجلس بطل الصرف …)) (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 4/182، والغاية القصوى: 1/465، والروضة: 3/378، والمغني لابن قدامة: 4/59.
(2) المغني: 4/59-60.
(3) جزء من الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه – مع الفتح -: 4/379 –383، ومسلم: 3/1208.
(4) بداية المجتهد: 2/197، وبلغة السالك: 2/369، والموطأ: ص 393.(6/417)
والراجح هو رأي الجمهور، وذلك لما روى البخاري ومسلم بسندهما عن مالك بن أوس أنه التمس صرفًا بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا، حتى اصطرف مني، فأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله: " الذهب بالذهب إلا هاء وهاء …" (1) وجه الاستدلال أن عمر فسر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((إلا هاء وهاء)) بأن لا يتفرقا في المجلس، قال ابن الأثير: "هاء وهاء" هو أن يقول كل واحد من المتابعين: هاء فيعطيه ما في يده كالحديث الآخر: "يدًا بيد" يعني مقابضة في المجلس (2) . وذكر المزني أن حديث عمر هذا وإن كان يحتمل القبض الفوري والقبض في المجلس، لكن تفسيره من خلال قوله لمالك بن أوس: "لا تفارق حتى تعطيه ورقه أو ترد إليه ذهبه" يدل على أن المراد به التقابض في المجلس (3) .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((يدًا بيد)) (4) فلا يدل على اشتراط القبض الفوري بعد العقد مباشرة حتى وإن ظل المجلس قائمًا، وكذلك لا يدل على اشتراط القبض باليد، وإنما المقصود به أن يتم القبض الفعلي في المجلس، قال الخطابي في شرح هذه الأحاديث: "فيه بيان أن التقابض شرط في صحة البيع في كل ما يجري فيه الربا من ذهب وفضة وغيرهما من المطعوم وإن اختلف الجنسان"، وقال شراح الحديث: "يدًا بيد"، أي: حالًّا مقبوضًا في المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر (5) .
بل إن جماعة من شراح الحديث فسروا "يدًا بيد" أي: عينًا بعين، بدليل رواية لمسلم بلفظ "عينًا بعين" (6) بدل ذلك، أي لا يكون عينًا بدين أو دينًا بدين، لأن ذلك ربا.
__________
(1) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع: 4/377 ومسلم، المساقاة: 3/1209.
(2) فتح الباري: 4/380.
(3) مختصر المزني بهامش الأم: 2/138.
(4) روى مسلم في صحيحه: 3/1211، وغيره بلفظ "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلًا بمثل، يدًا بيد …".
(5) عون المعبود شرح سنن أبي داود: 9/199، وتكملة المجموع لابن السبكي: 10/96.
(6) صحيح مسلم، المساقاة: 3/1210.(6/418)
وقد حصر الحنفية اشتراط القبض في المجلس على الصرف فقط (والنقود) ، أما غيره من الربويات فلا يشترط فيه إلا التعيين في المجلس، جاء في الدر المختار: "والمعتبر تعيين الربوي في غير الصرف – ومنه مصوغ ذهب وفضة – بلا شرط تقابض، حتى لو باع بُرًّا ببُرٍّ بعينهما وتفرقا قبل القبض جاز" (1) ، قال ابن عابدين: "لأن غير الصرف يتعين بالتعيين، ويتمكن من التصرف فيه فلا يشترط قبضه، قياسًا على الثياب ونحوها، …، والتقابض قبل الافتراق بالأبدان ليس بشرط لجوازه إلا في الذهب، والفضة" (2) .
وأما الشافعية والحنابلة (3) فاشترطوا التقابض في المجلس في كل الربويات سواء بيعت بجنسها أم بغير جنسها، وأما المالكية فقط اشترطوا الفورية في جميع الربويات (4) .
ورأي الشافعية ومن معهم هو الراجح لورود أحاديث ثابتة متفق عليها تدل بوضوح على اشتراط كون البيع في الربويات "يدًا بيد" سواء كان في مختلفي الجنس، أو متفقيه (5) .
وأما غير الربويات (الصرف وغيره من المطعومات ونحوها) ، فلا يشترط فيه القبض الفوري، ولا القبض في المجلس (6) .
ويمكن تلخيص ما قلناه بأن العقود بالنسبة إلى التقابض على أربعة أقسام:
منها: ما يجب فيه التقابض قبل التفرق بالإِجماع، وهو الصرف.
ومنها: ما لا يجب بالإجماع كبيع المطعومات وغيرها من العروض بالنقدين الذهب والقضة.
ومنها: ما يشترط فيه التقابض عند الشافعي ومالك وأحمد خلافًا لأبي حنيفة وهو بيع الطعام بالطعام.
ومنها: ما يشترط فيه التقابض الفوري عند مالك، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، وأحمد (7) .
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 4/182-183.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 4/182-183.
(3) الروضة: 3/378، والغاية القصوى: 1/465، والمغني: 4/11.
(4) الموطأ: ص 401.
(5) انظر صحيح البخاري – مع الفتح -: 4/379-383، ومسلم: 3/1208-1212، والموطأ: ص 401، ومسند الشافعي: ص 48، وأحمد: 3/4، 5/49، والمستدرك: 2/43، والسنن الأربع وغيرها.
(6) الروضة: 3/378، والغاية القصوى: 1/465، والمغني: 4/11، الموطأ: ص 401، صحيح البخاري – مع الفتح -: 4/379-383، ومسلم: 3/1208-1212، والموطأ: ص 401، ومسند الشافعي: ص 48، وأحمد: 3/4، 5/49، والمستدرك: 2/43، والسنن الأربع وغيرها.
(7) تكملة المجموع لابن السبكي: 10/93.(6/419)
أنواع القبض، وصوره القديمة والمعاصرة:
لقد أفاض فقهاؤنا الكرام في ذكر أنواع القبض، وكيفية، والصور المتداولة في عصورهم، والمسائل الكثيرة التي لا تسمح طبيعة بحثنا بالخوض فيها، ولذلك نذكر أهمها، ثم نعقبها بذكر بعض الصور المعاصرة.
فقد قسَّم الكاساني الحنفي القبض إلى قبض تامٍّ، وقبض ناقص، حيث قال: "إن أصل القبض يحصل بالتخلية في سائر الأموال، واختلفوا في أنها: هل هي قبض تامٌّ فيها أم لا؟ (1) .
ومعنى كون التخلية قبضًا تامًّا أنه يترتب على التخلية جميع الأحكام المترتبة على العقد بالكامل من انتقال الضمان إلى المشتري، وجواز التصرف له في المبيع قبل نقله، أو كيله، أو وزنه، أو عدِّه.
ومعنى كون التخلية قبضًا ناقصًا أن المشتري لا يجوز له بيع المبيع قبل نقله، أو كيله، أو وزنه، وإن كانت التخلية تؤدي باتفاق الحنفية في الجميع إلى نقل الضمان من البائع إلى المشتري، ونحن نذكر هنا بإيجاز متى تكون التخلية قبضًا تامًّا، ومتى لا تكون كذلك:
1- التخلية قبض تامٌّ فيما يأتي:
(أ) في كل ما ليس له مثل من المذروعات، والمعدودات المتفاوتة، حيث التخلية فيه قبض تام بلا خلاف عند الحنفية، حتى لو اشترى مذروعًا مذارعة، أو معدودًا معاددة ووجدت التخلية يخرج عن ضمان البائع، ويجوز بيعه، والانتفاع به قبل الذرع والعدّ.
(ب) وفيما له مثل لكنه بيع مجازفة، لأنه لا يعتبر معرفة القدر في بيع المجازفة.
(ج) وفي المعدودات المتقاربة إذا بيعت عددًا لا جزافًا عند أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة تعتبر التخلية فيها قبضًا ناقصًا.
وجه قول أبي حنيفة أن القدر في المعدود معقود عليه كالقدر في المكيل والموزون، ولذلك لو عدَّه فوجده زائدًا لا تطيب له الزيادة بلا ثمن، بل يردها أو يأخذها بثمنها، ولو وجده ناقصًا يرجع بقدر النقصان كما في المكيل والموزون، وهذا دليل على أن المقدار معتبر في العقد، ولما كان احتمال الزيادة والنقصان في عدد المبيع ثابتًا فلا بد من معرفة قدر المعقود عليه، وامتيازه عن غيره، ولا يعرف قدره إلا بالعدّ، ولذلك لا يجوز بيعه قبل عدَّه (2) .
__________
(1) بدائع النصائع: 7/3250، وحاشية ابن عابدين: 4/43، والفتاوى الهندية: 3/16.
(2) البدائع: 7/3250.(6/420)
ووجهة نظر الصاحبين أن العددي ليس من أموال الربا كالمذروع، ولهذا لم تكن المساواة فيها شرطًا لجواز العقد، كما لا تشترط في المذروعات، فكان حكمه حكم المذروع (1) .
2- كون التخلية قبضًا ناقصًا فيما له مثل لكنه بيع مكايلة، أو موازنة في المكيل والموزون، حيث لا يجوز للمشتري أن يبيعه قبل الكيل والوزن، وكذا لو اكتاله المشتري، أو اتزنه من بائعه ثم باعه مكايلة أو موازنة من غيره لم يحل للمشترى منه أن يبيعه، أو ينتفع به حتى يكيله أو يزنه، ولا يكتفي باكتيال البائع أو اتزانه من بائعه وإن كان ذلك بحضرة هذا المشتري.
غير أن الحنفية اختلفوا في علة حرمة البيع قبل الكيل أو الوزن، فذهب بعضهم إلى أن العلة انعدام القبض بانعدام الكيل أو الوزن، وذهب آخرون بأن السبب هو وجود النص الدال على ذلك فقط، لأنه غير معقول المعنى مع حصول القبض بتمامه بالتخلية حيث إن معنى التسليم والتسلم يحصل بالتخلية، لأن المشترى يصير سالمًا خالصًا للمشتري على وجه يتهيأ له تقليبه، والتصرف فيه على حسب مشيئته وإرادته (2) .
غير أن الحنفية صرحوا بأنه لو كاله البائع، أو وزنه بحضرة المشتري كان ذلك كافيًا ولا يحتاج إلى إعادة الكيل، لأن المقصود يحصل بكيله مرة واحدة بحضرة المشتري (3) .
وبالإضافة إلى كون التخلية قبضًا فإن هناك أمورًا أخرى تعتبر بمثابة القبض من حيث الحكم عند الحنفية، وهي أن يكون المبيع لا يزال في يد البائع ولم يمكن من القبض أيضًا لكن المشتري يقوم بإتلافه، فيعتبر هذا الإِتلاف من قبله قبضًا، يقول الكاساني: لأن التخلية تمكين من التصرف في المبيع، والإِتلاف تصرف فيه حقيقة، والتمكين من التصرف دون حقيقة التصرف (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/3250 -3252.
(2) بدائع الصنائع: 7/3250 -3252.
(3) بدائع الصنائع: 7/3250 -3252.
(4) بدائع الصنائع: 7/3253.(6/421)
وكذلك يعتبر بمثابة القبض كل تصرف من قِبَل المشتري يؤدي إلى تعييب المعقود عليه، أو نقصه سواء بقطع جزء منه أو نحو ذلك، لأن هذه الأفعال تدل على التمكين أكثر من التخلية.
وكذلك لو فعل البائع، أو غيره ذلك بإذن المشتري، أو أمره. ويعتبر قبضًا ما إذا جنى شخص على المبيع فاختار المشتري اتباع الجاني بالضمان حيث يكون اختياره بمنزلة القبض عند أبي يوسف، وكذلك لو استبدل المشتري الضمان ليأخذ مكانه من الجاني شيئًا آخر عنده، وكذلك عند أبي يوسف إذا كان المبيع مصوغًا من فضة اشتراها بدينار مثلًا فاستهلك المصوغ أجنبي قبل القبض فاختار المشتري أن يتبع الجاني بالضمان، ونقد الدينار البائع فافترقا قبل قبض ضمان المستهلك لا يبطل الصرف بينهما عند أبي يوسف، لأن اختياره تضمين المستهلك بمنزلة القبض، وعند محمد يبطل الصرف لعدم القبض، وعلى هذا يخرج ما إذا أسلم في قفيز حنطة، فلما حل الأجل أمر رب السلم المسلم إليه أن يكيله في وعاء المسلم إليه أو دفع إليه وعاءه وأمره أن يكيله فيها ففعل فذلك قبض ما دام رب السلم حاضرًا، وإذا لم يكن حاضرًا فلا يصير قابضًا، لأن حقه في الدين وليس في العين (1) .
وذكر الحنفية مسائل جزئية وفرعية أخرى:
منها: ما لو باع قطنًا في فراش، أو حنطة في سنبل، وسلم كذلك فإن أمكن المشتري قبض القطن، أو الحنطة من غير فتق الفراش، أو دق السنبل صار قابضًا له لحصول معنى القبض، وهو التخلي والتمكن من التصرف، وإن لم يمكنه إلا بالفتق والدق لم يصر قابضًا له، لأنه لا يملك الفتق أو الدق، لأنه تصرف في ملك البائع، وهو لا يملك التصرف في ملكه فلم يحصل التمكن والتخلي فلا يصير قابضًا، ولذلك تقع أجرة الفتق والدق على البائع إذا كان المشتري لا يمكنه القبض إلا به.
ومنها: ما لو باع الثمرة على الشجرة وخلى بين المشتري وبينها صار قابضًا، لأنه يمكن الجذاذ من غير تصرف في ملك البائع فحصل التخلي بتسليم الشجر فكان قبضًا، ولذلك تقع أجرة الجذاذ على المشتري (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/3254، 3257.
(2) بدائع الصنائع: 7/3254، 3257.(6/422)
ومنها: لو باع رجل خلًّا في دَنٍّ – وعاء الخل – في بيت البائع فخلى بينه وبين المشتري فختم المشتري على الدَّنِّ وتركه في بيت البائع فهلك بعد ذلك فإنه يهلك من مال المشتري في قول محمد وعليه الفتوى، لأن القبض قد تمَّ (1) .
ومنها: إذا باع مكيلًا في بيت مكايلة، أو موزونًا موازنة، وقال خليت بينك وبينه، ودفع إليه المفتاح، ولم يكله ولم يزنه صار المشتري قابضًا، ولم لم يقل ذلك لا يكون قابضًا إلا بكيله، أو وزنه مرة أخرى (2) .
وهذا جمع طيب بين من اشترط من الحنفية أن يقول ذلك، وبين من لم يشترط ذلك منهم حيث حمل الاشتراط على ما إذا لم يتم الوزن، أو الكيل، في حين حمل عدمه على ما إذا تم الوزن، أو الكيل فعلًا.
ومنها: ما لو قال البائع للمشتري: خذ البضاعة فهو قبض إذا كان يصل إلى أخذه ويراه، كذا في الذخيرة (3) .
ومنها: ما لو اشترى ثوبًا، وأمره البائع بقبضه فلم يقبضه حتى غصبه إنسان، فإن كان حين أمره البائع بالقبض أمكنه أن يمد يده ويقبض من غير قيام صح التسليم، وإلا فلا. كذا في فتاوى قاضيخان (4) .
ومنها: ما إذا باع دارًا وسلمها إلى المشتري، وفيها متاع قليل للبائع لا يصح التسليم حتى يسلمها إليه فارغة، فإن أذن البائع للمشتري بقبض الدار والمتاع صح التسليم، لأن المتاع صار وديعة عند المشتري، وكذلك الأمر في الأرض التي فيها زرع للبائع.
وهناك تفصيلات كثيرة تعود في الواقع إلى العرف السائد في عصورهم.
__________
(1) الفتاوي الهندية: 3/16-17.
(2) الفتاوي الهندية: 3/16-17.
(3) الفتاوي الهندية: 3/16-17.
(4) بدائع الصنائع: 7/3254، 3257، الفتاوي الهندية: 3/16-17.(6/423)
المعقود عليه في يد المشتري:
وهذه المسائل كلها مترتبة على أن المعقود عليه في يد البائع، أما لو كان في يد المشتري وقت العقد فهل يصبح قابضًا بمجرد العقد، أم يحتاج فيه إلى تجديد القبض؟
يقول العلامة الكاساني: "فالأصل فيه أن الموجود وقت العقد إن كان مثل المستحق بالعقد ينوب منابه، وإن لم يكن مثله أمكن تحقيق التناوب، لأن المتماثلين غيران ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه ويسد مسدّه، وإن كان أقوى منه يوجد فيه المستحق وزيادة، وإن كان دونه لا يوجد فيه إلا بعض المستحق فلا ينوب عن كله".
ثم فصل ذلك في مسائل لخصها في أن يد المشتري قبل الشراء إما أن تكون يد ضمان، وإما أن تكون يد أمانة.
فإذا كانت يد المشتري قبل الشراء يد الضمان بنفسه مثل إن كان غاصبًا له ثم اشتراه منه فإنه يصير قابضًا للمبيع بالعقد نفسه، دون الحاجة إلى تجديد القبض: سواء أكان المبيع حاضرًا أو غائبًا، لأن المغصوب مضمون بنفسه، والمبيع بعد القبض مضمون بنفسه فتجانس القبضان، فناب أحدهما عن الأخر.
أما إذا كانت يده يد الضمان لغيره كيد المرتهن، مثل إن باع الراهن المرهون للمرتهن فإنه لا يصير قابضًا إلا أن يكون الرهن حاضرًا، أو يذهب إلى حيث الرهن ويتمكن من قبضه، لأن المرهون ليس مضمونًا بنفسه بل بغيره وهو الدين، والمبيع مضمون بنفسه فلم يتجانس القبضان فلم يتشابها فلا ينوب أحدهما عن الآخر، ولأن الرهن أمانة في الحقيقة فكان قبضه قبض أمانة، وإنما يسقط الدين بهلاكه لمعنى آخر، لا لكونه مضمونًا، وحينئذ لا يكون قبض الأمانة كافيًا في قبض الضمان الذي يتم بقبض المبيع بصفة البيع (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/ 3258.(6/424)
وأما إذا كانت يد المشتري قبل الشراء يد أمانة كيد الوديعة والعارية فلا يصير قابضًا إلا أن يكون بحضرته، أو يذهب إلى حيث يتمكن من قبضه بالتخلي، لأن يد الأمانة ليست من جنس يد الضمان فلا يتناوبان (1) .
ثم إن الحنفية أجمعوا – كما في الفتاوي الهندية – على أن التخلية في البيع الجائز الصحيح تكون قبضًا – على التفصيل السابق – لكنهم ثار بينهم خلاف في أنها هل هي قبض أم لا؟ على روايتين، والصحيح أنها قبض (2) .
وقد ذكر النووي أن الرجوع فيما يكون قبضًا إلى العادة، ويختلف بحسب اختلاف المال، وتفصيله أن المبيع نوعان:
* النوع الأول: ما لا يعتبر فيه تقدير إما لعدم إمكانه، وإما مع إمكانه فينظر: إن كان مما لا ينقل كالأرض والدور، فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري، وتمكينه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه، ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه، ويشترط كونه فارغًا من أمتعة البائع، فلو باع دارًا فيها أمتعة البائع توقف التسليم على تفريغها، وكذا لو باع سفينة مشحونة بالقماش.
أما لو جمع البائع متاعه في غرفة من المنزل، وخلى بينه وبين المشترى، فقد تم القبض فيما عدا تلك الغرفة.
وقد ذكر الشافعية أن في معنى الأرض الشجر الثابت، والثمرة المبيعة على الشجر قبل أوان الجذاذ.
وإن كان المبيع من المنقولات فالمذهب والمشهور أنه لا يكفي فيه التخلية، بل يشترط النقل والتحريك، وفي قول رواه حرملة: يكفي، وفي وجه: يكفي لنقل الضمان إلى المشتري، ولا يكفي لجواز تصرفه، ثم رجح النووي أنه لا يكفي استعمال الدابة، وركوبها بلا نقل (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/3258.
(2) الفتاوى الهنديّة: 3/16.
(3) الروضة: 3/515، والغاية القصوى: 1/483، والمجموع: 9/275-282.(6/425)
وإذا كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع كموات ومسجد، وشارع، أو في موضع يختص بالمشتري فالتحويل إلى مكان منه كافٍ.
وإن كان في بقعة مخصوصة بالبائع فالنقل من زاوية منه إلى زاوية، أو من غرفة من داره إلى غرفة أخرى بغير إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف، ويكفي لدخوله في ضمانه، وإن نقل بإذنه حصل القبض، وكأنه استعار ما نقل إليه.
ولو اشترى الدار مع أمتعة فيها صفقة واحدة فخلى البائع بينها وبينه حصل القبض في الدار، وأما الأمتعة ففيها وجهان، أصحهما: يشترط نقلها كما لو أفردت، والثاني يحصل فيها القبض تبعًا، وبه قطع الماوردي، وزاد فقال: لو اشترى صبرة ولم ينقلها حتى اشترى الأرض التي عليها الصبرة وخلى البائع بينه وبينها حصل القبض في الصبرة أيضًا.
ولو جاء البائع بالمبيع فقال المشتري: ضعه، فوضعه بين يديه حصل القبض، وإن وضعه بين يديه ولم يقل المشتري شيئًا، أو قال، لا أريده فوجهان: أحدهما يحصل به القبض، والثاني لا يحصل القبض، كما لا يحصل الإِيداع، وأصحهما: يحصل، لوجوب التسليم، كما لو وضع الغاصب المغصوب بين يدي المالك يبرأ من الضمان، فعلى هذا للمشتري التصرف فيه، ولو تلف فمن ضمانه.
ولو وضع المدين الدين بين يدي مستحقه ففي حصول التسليم خلاف مرتب على المبيع، بل هو أولى بعدم الحصول، لعدم تعين الدين فيه.
ولو دفع المشتري ظرفًا إلى البائع وقال: اجعل المبيع فيه ففعل لا يحصل التسليم، إذ لم يوجد من المشتري قبض، والظرف غير مضمون على البائع، لأنه استعمله في ملك المشتري بإذنه، وفي مثله في السلم يكون الظرف مضمونًا على المسلم إليه، لأنه استعمله في ملك نفسه، ولو قال للبائع: أعرني ظرفك، واجعل المبيع فيه ففعل لا يصير المشتري قابضًا.
* النوع الثاني: ما يعتبر فيه تقدير بأن اشترى ثوبًا، أو أرضًا مذارعة أو متاعًا موازنة، أو صبرة مكايلة، أو معدودًا بالعدد فلا يكفي للقبض ما سبق في النوع الأول، بل لا بد من ذلك من الذرع، أو الوزن، أو الكيل، أو العدّ.
وكذا لو أسلم في أصوع طعام، أو أرطال منه يشترط في قبضه الكيل والوزن.
ولو قبض جزافًا ما اشتراه مكايلة دخل المقبوض في ضمانه، وأما تصرفه فيه بالبيع ونحوه فإن باع الجميع لم يصح، لأنه قد يزيد على المستحق، أما لو باع ما تيقن أنه له ففيه خلاف رجح جمهور الشافعية عدم صحته.
وإذا باع ما اشتراه كيلًا بالوزن، أو وزنًا بالكيل فهو كقبضه جزافًا (1) .
__________
(1) الروضة: 3/514-518، الفتاوى الهنديّة: 3/16، الروضة: 3/515، والغاية القصوى: 1/483، والمجموع: 9/275-282.(6/426)
والخلاصة
أن الشافعية أيضًا متفقون مع غيرهم في أن المرجع في القبض إلى العرف ولكنهم مع ذلك وضعوا هذه الضوابط التي كانت محكومة بأعراف زمانهم، يقول الشيرازي: "إن القبض ورد به الشرع وأطلقه، فحمل على العرف، والعرف فيما ينقل النقل، وفيما لا ينقل التخلية " (1) . ولكن النووي عقب عليه بأن قبض الدراهم والدنانير (النقود) والمنديل والثوب والإِناء الخفيف، والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول بلا خلاف بين الشافعية (2) .
وذكر ابن قدامة أن قبض كل شيء في المذهب الحنبلي بحسبه، فإن كان مكيلًا أو موزونًا وقد بيع كيلًا أو وزنًا فقبضه بكيله ووزنه، وإن كان المبيع دراهم، أو دنانير فقبضها باليد، وإن كان ثيابًا فقبضها نقلها، وإن كان حيوانًا فقبضه تمشيته من مكانه، وإن كان مما لا ينقل ويحول فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري بدون حائل.
وقد علل ابن قدامة لذلك "بأن القبض مطلق في الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإِحراز والتفرق، والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا" (3) .
ونرى مثل هذا التعليل، والرجوع إلى العرف في أغلب الكتب الفقهية – إن لم يكن في جميعها – مما يدل على أن مسائل القبض محكمة بالعرف، وحينئذٍ يمكن حمل كثير من التفصيلات الفهقية على أعراف أزمنة الفقهاء وعوائدها (4) .
__________
(1) المهذب مع المجموع: 9/275.
(2) المهذب مع المجموع: 9/275 - 276.
(3) المغني 4/125-126.
(4) الروضة: 3/514-518، المهذب مع المجموع: 9/275 , 9/276، المغني 4/125-126.(6/427)
صُور القبض المعاصرة
قبل أن نخوض في تفصيلات هذه الصور المعاصرة للقبض يمكننا أن نضع لها ضابطة وهي أن مبنى القبض وأساس مسائله وصوره قائم على العرف، حيث إن الشرع أطلقه فيكون الرجوع فيه إلى العرف، ومن هنا فكل ما عدّه العرف قبضًا في أي عصر من العصور فهو قبض، ما دام لا يصطدم مع نص شرعي ثابت صريح، وكذلك لا يجب الالتزام بجزئيات القبض وصوره في عصر ما بالنسبة للعصر الذي يليه ما دام العرف قد تغير، لأن ما هو مبني على العرف يتغير بتغيره، يقول العلامة ابن القيم: "… فمهما تجدد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك، والمذكور في كتبك" ثم نقل عن المحققين من العلماء قولهم "فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين … وما جرت به العادة … واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفًا متبادرًا إلى الذهن من غير قرينة … حمل عليه … ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان" (1) .
وقد أكد على مثل ذلك العلامة ابن عابدين في رسالته القيمة فقال: "اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، فقالوا تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة … وقال في القنية: ليس للمفتي ولا للقاضين أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف" بل ذكر أن النص المبني على اعتبار عرف ما مثل النصوص الواردة في اعتبار الحنطة والشعير ونحوهما من المكيلات لا يدل على عدم جواز بيعها بالوزن إذا تغير العرف وأصبحت تباع بالوزن أيضًا "فالنص في ذلك الوقت إنما كان للعادة … فإذا تغيرت العادة تغير الحكم – أي هذا الحكم الجزئي – فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص، بل فيه اتباع النص" (2) .
__________
(1) نقلت ذلك مع طوله لأهميته ولا سيما في موضوعنا هنا. إعلام الموقعين عن رب العالمين، ط. عبد السلام شقرون بالقاهرة: 3/78.
(2) نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، ضمن رسائل ابن عابدين، ط. آستانة: 2/115-118.(6/428)
وهذه الضابطة تسهل كثيرًا من صور القبض المعاصرة ما دامت لا تتعارض مع نصوص الشريعة الثابتة الواضحة.
وعلى ضوء ذلك نقول: إن عملية القبض (التسلم والتسليم) في عصرنا الحاضر ليست في جميع صورها حديثة، بل إن كثيرًا من صورها لا تزال باقية، مثل قبض العقار سواء كان أرضًا أم بناء، وكذلك قبض الأشياء التي لا يمكن نقلها دون تغيير في شكلها كالمصانع فهذه الأمور لا يختلف فيها القبض في عصرنا عما كانت عليه في السابق، فيكون قبضها بالتخلية كما قال فقهاؤنا الكرام.
وأما المنقولات فهذه التي يمكن الاختلاف فيها حسب العصور والأزمان، حيث جدّت معاملات حديثة، وتطورت كيفية القبض، ولا سيما في نطاق السلع والنقود (الصرف) .
فعلى نطاق السلع الحاضرة أو التي رآها المشتري سابقًا يتم فيها القبض بعد العقد بمجرد التخلية ما عدا الطعام حيث لا يجوز بيعه إلا بعد نقله، أو كيله أو وزنه – كما سبق -، ويعتبر تسليم البضاعة وإدخالها في السفينة، أو الطيارة، أو السيارة بعد إرسال (بوليصة الشحن) تخلية وقبضًا.
وأما السلع الغائبة فإما أن يتم العقد فيها بين المستورد والمصدر مباشرة، وذلك بأن يبعث المستورد طلبًا بالبضاعة ومواصفاتها المطلوبة، ويوافق عليها المصدر، ثم يبعثها عن طريق البر، أو البحر، أو الجو، ففي هذه الحالة فإن العقد لا يلزم إلا بعد وصول البضاعة إلى المشتري ومطابقتها للمواصفات المذكورة في العقد، وحينئذ لا يتم القبض فيها إلا بعد وصولها والتأكد من التطابق (1) ، ولا يخفى أن رؤية الوكيل البضاعة مثل رؤية الموكل، ومن المعلوم فقهًا أن رؤية البعض قد تغنى عن رؤية الكل.
__________
(1) يراجع في أحكام البيع الغائب: المجموع للنووي: 9/288-307، وبدائع الصنائع: 6/3053، والفواكه الدواني: 2/154.(6/429)
وقد يتم العقد عن طريق البنوك من خلال الاعتمادات المستندية (CREDIT) ، وهي تعني توفير الضمان للبائع ليحصل على ثمن بضاعته، وللمشتري ليحصل على البضاعة التي تعاقد على شرائها، حيث يتعهد البنك فاتح الاعتماد بناء على طلب عميله وتعليماته: بأن يدفع الأمر المستفيد (البائع) مبلغًا معينًا من المال في غضون مدة محدودة، مقابل قيام المستفيد بإرسال البضاعة (موضوع البيع) أو نحوها، وتسليم مستندات معيّنة مطابقة للشروط المبينة في خطاب الاعتماد (1) .
والاعتماد نوعان: اعتماد استيراد يفتحه المستوردون لصالح المصدّرين الأجانب لاستيراد سلع أجنبية، واعماد تصدير لصالح المصدّرين المحليين لسلع محلية (2) .
والاعتماد المستندي إما أن يكون مغطي غطاء كليًّا، حيث يدفع طالب الاعتماد بتغطية مبلغه بالكامل للمصرف حتى يقوم المصرف بتسديد ثمن البضاعة بالكامل لدى وصول المستندات الخاصة بالبضاعة إليه، أما إذا كان مغطي غطاء جزئيًّا، فحينئذ يدفع المصرفي الباقي من ماله الخاص (3) .
فالعناصر المشتركة في الاعتماد المستندي هي:
1- المستورد الذي طلب فتح الاعتماد، ويتم بينه وبين البنك فاتح الاعتماد عقد تضمن النقاط التي يطلبها المستورد من المصدّر.
2- المصرف الذي فتح الاعتماد للمستورد بعد الموافقة على شروطه.
3- المصرف الذي يرسل إليه مبلغ الاعتماد، وهو إما أن يقوم بدور الوسيط بين المصرف الفاتح، وبين المصدّر دون أي التزام عليه، وإما أن يقوم بتبليغ الاعتماد إلى المستفيد، ويضيف إليه تعزيزه، وحينئذٍ يكفل دفع القيمة للمصدّر بشرط أن تكون هذه المستندات مطابقة لشروط الاعتماد.
__________
(1) إدارة الأعمال المصرفية للدكتور زياد رمضان، نشر الجامعة الأردنية 1977م ص 143، والمصارف الإِسلامية لنصر الدين فضل المولى، ط. دار العلم بالسعودية ص 167، والتجارة الدولية ودور الاعتمادات المستندية، ط. جدة 1402 هـ ص 15، ود. عبد الله عبد الرحيم: موقف الشريعة من المصاريف الإِسلامية المعاصرة، ط. المكتبة العصرية بصيدا، ص 299، ود. على السالوس: المعاملات المالية المعاصرة، ط. دار الفلاح، الكويت ص 120.
(2) إدارة الأعمال المصرفية للدكتور زياد رمضان، نشر الجامعة الأردنية 1977م ص 143، والمصارف الإِسلامية لنصر الدين فضل المولى، ط. دار العلم بالسعودية ص 167، والتجارة الدولية ودور الاعتمادات المستندية، ط. جدة 1402 هـ ص 15، ود. عبد الله عبد الرحيم: موقف الشريعة من المصاريف الإِسلامية المعاصرة، ط. المكتبة العصرية بصيدا، ص 299، ود. على السالوس: المعاملات المالية المعاصرة، ط. دار الفلاح، الكويت ص 120.
(3) إدارة الأعمال المصرفية للدكتور زياد رمضان، نشر الجامعة الأردنية 1977م ص 143، والمصارف الإِسلامية لنصر الدين فضل المولى، ط. دار العلم بالسعودية ص 167، والتجارة الدولية ودور الاعتمادات المستندية، ط. جدة 1402 هـ ص 15، ود. عبد الله عبد الرحيم: موقف الشريعة من المصاريف الإِسلامية المعاصرة، ط. المكتبة العصرية بصيدا، ص 299، ود. على السالوس: المعاملات المالية المعاصرة، ط. دار الفلاح، الكويت ص 120.(6/430)
4- المستفيد المصدّر.
والذي يهمنا في هذه القضية أن المصرف إذا دخل كوكيل فإن تسلمه البضاعة عن طريقه مصحوبة بكافة سندات الشحن يعتبر قبضًا، وهذه الحالة إنما تتم في الغالب حينما يكون الاعتماد المستندي مغطى غطاء كليًّا.
وكذلك يعتبر تسلمه البضاعة – مع توفر الشروط – قبضًا إذا دخل كشريك في الصفقة، وهذا يتم في الغالب عندما يكون الاعتماد المستندي مغطي غطاء جزئيًّا.
أما إذا دخل البنك كمرابح (بيع المرابحة) فحينئذٍ يكون قبضه للبضاعة قبضًا للبنك، ولا يتم القبض للعميل إلا إذا وصلت البضاعة إلى الميناء المطلوب، ويتم العقد بينهما، ثم يراها، ويخلي بينه وبينها حسب العرف التجاري، وحينئذ يتم القبض.
وأما القبض في النقود في عصرنا الحاضر فلا بد أن يتم فيه القبض في المجلس، لأن الإِجماع على ذلك قائم، يقول ابن المنذر: "وأجمعوا: أن المتصارفين إذا تفرقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد" (1) وقد ذكرنا أن الجمهور لم يشترطوا الفورية، بل قيدوا التقابض بالمجلس سواء طال أم قصر، في حين أن المالكية اشترطوا الفورية، وقد رجحنا مذهب الجمهور.
وإذا كان هذا محل إجماع لا ينبغي أن يمس، فإن العرف يمكن أن يتحكم في بعض صور القبض المعاصرة فيحكم عليها بالقبض ولذلك سنلقي بصيصًا من الضوء على كيفية الصرف في البنوك مع بيان حكم كل نوع منها.
فالبنوك (أو محلات الصرافة) إما أن تتعامل بالنقود مناجزة حالَّة حيث يدفع العميل النقود التي يريد بيعها، ويأخذ في مقابلها العملة التي يريدها، فهذا لا إشكال فيه ما دام التقابض قد تم في مجلس العقد حتى وإن طال المجلس – كما سبق -.
وإما أن تتعامل معه على غير هذه الصورة، وحينئذ تكون أمامنا الصور الآتية:
1- يدفع العميل للمصرف الإسلامي مبلغًا من النقود على أن يسجله في حسابه الجاري، أو الاستثماري (المضاربة، أو الشركة) فيقبله المصرف، وبذلك يصبح المصرف مدينًا في حالة تسجيله في حسابه الجاري، ومضاربًا، أو شريكًا في حالة المضاربة أو المشاركة.
__________
(1) الإِجماع لابن المنذر: تحقيق د. فؤاد عبد المنعم، ط. دار الدعوة ص 92، ويراجع تكملة المجموع لابن السبكي: 10/69، والمغني 4/177.(6/431)
2- يدفع العميل للمصرف مبلغًا من النقود (ريالات) على أن يسجله لحسابه الخاص بالدولار، فيتسلمه المصرف ويجري عملية التحويل مباشرة، ثم يدخل في حسابه الخاص ما يقابله من الدولارات، ويعطيه إيصالًا بذلك، فهذا أيضًا جائز، لأنه من قبيل المصارفة في الذمة التي أجازها جماعة من الفقهاء (1) ويدل على جوازه حديث ابن عمر الثابت حيث كان على ذمته دراهم، ويدفع دنانير، وبالعكس، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم بشرط أن يتم ذلك قبل التفرق – كما سبق -.
وقد أكد ذلك مؤتمر المصرف الإِِسلامي بدبي، حيث جاء في توصياته: "يرى الاستمرار في المعاملة الخاصة لبيع وشراء العملات، وذلك على الصورة الموضحة في بيان أعمال البنك، لأنها من قبيل المصارفة، وتطبق عليها أحكام الصرف المحدودة في فقه الشريعة الإِسلامية" (2) .
3- عملية التحويل سواء كانت للنقود مباشرة، أو عن طريق الشيكات.
فالأول: مثل أن يدفع العميل مبلغًا من النقود ليحولها المصرف بعملة البلد المحول إليه فيدخله في حساب المحول إليه أو يأخذه، فهذا أيضًا جائز، لأن أخذ العميل ورقة التحويل وتثبيت المقدر المحول بمثابة قبض، ثم قيام المصرف بتحويله إلى الآخر بمثابة السفتجة (3) ، وهي جائزة عند جماعة من الفقهاء (4) ، وكذلك يشتمل على المصارفة في الذمة إن حول عملة العميل مباشرة إلى العملة التي يريدها، وهي أيضًا جائزة، كما سبق.
والثاني: وهو عن طريق الشيكات – له عدة صور منها:
(أ) أن يتقدم العميل بشيك مسحوب على فرع البنك الذي يقوم بتحصيله، وفي هذه الحالة يقوم الفرع بعملية التسوية بين الساحب والمستفيد حيث ينقص من حساب الأول، ويضيف إلى حساب الثاني بقيمة الشيك، أو يسلمه القيمة نقدًا دون إضافتها في الحساب (5) .
__________
(1) المغني لابن قدامة: 4/53، وبداية المجتهد: 2/200، وحاشية ابن عابدين: 4/210، وتكملة المجموع لابن السبكي: 10/98.
(2) توصيات المؤتمر: ص 16.
(3) يقول النووي في تهذيب الأسماء واللغات، ط. دار الكتب العلمية ببيروت: 1/149، السفتجة لفظة أعجمية: كتاب يكتبه المستقرض للمقرض إلى نائبه ببلد آخر ليعطيه ما أقرضه.
(4) يراجع: الأم 3/30، والمغني لابن قدامة: 4/354، حث رجح القول بجوازها، لأنها مصلحة لهما من غير أن يؤدي إلى الضرر أحدهما، بالإضافة إلى أن الأصل الإِباحة.
(5) المصارف الإسلامية لنصر الدين ص 196.(6/432)
وهذا جائز لأن القبض قد تم بصورة صحيحة حيث تم التسلم والتسليم بين العميل والمصرف.
(ب) أن يتقدم العميل بشيك مسحوب على فرع آخر من فروع البنك، فيقوم هذا الفرع بتسوية علاقة المديونية القائمة بين الساحب والمستفيد بالطريقة السابقة نفسها.
وهذا أيضًا جائز، وذلك لأن الذمة المالية للبنك واحدة في كل فروعه، ومن هنا كان القبض قد تم بصورة مشروعة.
(ج) أن يتقدم العميل بشيك مسحوب على بنك آخر، فيقوم البنك بإيداع قيمة الشيك في حساب العميل، ثم يقوم بتحصيل قيمة الشيك من المصرف الآخر في غرفة المقاصّة، أو بالعكس، بحيث يطالبه المصرف الآخر إذا كان الشيك صادرًا منه (1)
وقد كيّف الباحثون المعاصرون عملية تحصيل الشيك على الوكالة حيث يقوم المستفيد بتوكيل المصرف المحصل في قبض الدين الذي حصل له بمقتضى الشيك، ومن هنا أجازوا للمصرف أن يأخذ الأجرة بناء على عقد الوكالة المستقل (2) .
وقد يقوم المصرف الذي تعامل معه العميل بتحويل المبلغ النقدي أو المسحوب بالشيك يحوله إلى مصرف آخر، أو شخص آخر في أي بلد، سواء كان عن طريق التحويلات الخطابية، أو عن طريق التلكس، أو البرق، أو التليفون، أو نحو ذلك، فهذه العمليات كُيِّفت على أساس (السفتجة) – كما سبق – حيث أجازها جماعة من الفقهاء (3) وقد يأخذ العميل مقابل نقوده شيكات مصرفية أو سياحية، فلا يخفى أن قبض الشيك المصرفي، أو السياحي بمثابة القبض. والله أعلم.
__________
(1) هذه الصور الثلاث تتعامل بها المصارف الإسلامية، نقلناها عن المصدر السابق، وأسندها إلى التعامل الجاري في مصر فيصل الإسلامي السوداني. ص 196-198.
(2) المصارف الإِسلامية للدكتور غريب الجمال، ط. مؤسسة الرسالة، ص 71-72، والمراجع السابقة،.
(3) موقف الشريعة من المصارف المعاصرة، المصارف الإِسلامية للدكتور غريب الجمال، ط. مؤسسة الرسالة ص 71-72، ص 336 …(6/433)
أركان القبض وشروطه:
لا يخفى أن القبض باعتباره تصرفًا من التصرفات فله أركانه وشروطه، ونحن في هذه العجالة نوجز القول فيها بقدر الإِمكان.
فأركانه هي القابض، والمقبض، والمقبوض، ويشترط في المتقابضَيْن ما يشترط في العاقدين من ثبوت الأهلية لهما، وفي جريان الخلاف بين الفقهاء في قبض الصبي المميز (1) ، والسفيه (2) .
ويؤكد ذلك ما ذكره علماء الشروط والوثائق من التأكيد على ثبوت الأهلية الكاملة للقابضَيْن، حيث نجد في وثائقهم: "أقرّ فلان في صحة بدنه وعقله، وجواز أمره طائعًا أنه قبض واستوفى من فلان كذا … " (3) .
ولكن هناك استثناءات حيث يتساهل في القبض مالا يتساهل في العقد، فعلى سبيل المثال إن العقد لا يصح ألبتة عند الشافعية من الصبي – سواء كان مميِّزًا أم غير مميز – في حين يصح منه القبض، يقول الزركشي: "تعتبر فيه – أي القبض والإِقباض – الأهلية إلا في صور:
منها: إذا قال مالك الوديعة سلمها لهذا الصبي ففعل برئ، كما لو قال: ألقها في البحر، وكذلك لو وكله في إقباض الزكاة لمعين …
ومنها: لو ثبت للسفيه دين فقبضه بإذن وليه فوجهان: رجح الحناطي الصحة …
ومنها: ما لو باع سلعته من رجل ثم جن المشتري فقبض البائع منه صح وإن قبض من مجنون قاله البغوي في التهذيب … " (4) .
__________
(1) حيث ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز تصرفات الصبي المميز وعقوده في الجملة وإن اختلفوا في التفصيلات، وذهب الشافعية والظاهرية، وأبو ثور إلى عدم صحة تصرفاته مطلقًا، يراجع في تفصيل ذلك: بدائع الصنائع: 6/2987، وفتح القدير: 7/310، والدسوقي: 3/294، وبداية المجتهد: 2/282، والإِنصاف: 5/518، والأم: 3/191، وفتح العزيز: 8/105، والغاية القصوى: 1/513، 2/697، والمحلى: 9/170.
(2) ذهب الجمهور إلى الحجر على السفيه، وبالتالي عدم صحة تصرفاته المالية، وذهب أبو حنيفة إلى عدم الحجر عليه إذا بلغ رشيدًا ثم عاوده السفه، أو بلغ عمره 25 سنة. يراجع في تفصيل ذلك: فتح القدير: 7/314، وبداية المجتهد 2/280، والروضة: 4/518، والمغني لابن قدامة: 4/518، والمحلى: 9/193، ومبدأ الرضا في العقود: 1/318.
(3) كتاب الشروط والوثائق لأبي نصر السمرقندي (ت 619هـ) ، تحقيق محمد جاسم الحديثي، ط. دار الحرية ببغداد ص 137-159.
(4) المنثور في القواعد للزركشي، ط. وزارة الأوقاف، تحقيق د. تيسير فايق 3/57.(6/434)
اتحاد القابض والمقبض:
ومما يتعلق بهذا الموضوع ما أثاره الفقهاء حول مدى إمكانية اتحاد القابض والمقبض، أو بعبارة أخرى هل يمكن أن يقوم بهذا الدور شخص واحد؟
الذي يفهم من نصوصهم أن الأصل هو اشتراط الاختلاف وعدم اتحادهما، ولكنه مع ذلك توجد عدة استثناءات في هذا الباب.
يقول الزركشي: - يمتنع – أي اتحاد القابض والمقبض – إلا في صور:
1- الوالد يتولى طرفي القبض في البيع وفي النكاح إذ أصدق في ذمته، أو في مال ولد ولده لبنت ابنه.
2- وفي صورة الخلع إذا خالعها على طعام في ذمتها بصفة السلم وأذن لها في صرفه لولده منها فصرفته له من غير توسط قبض صاحب المال، فإنها تبرأ إلا في احتمال لابن الصباغ من اتحاد القابض والمقبض.
3- ونقل الجوري – أي القاضي أبو الحسن الجوري – عن الشافعي: " أن الساعي يأخذ من نفسه لنفسه، وقد يستشكل ذلك لأن قسمة المال المشترك لا يستقل به أحد الشريكين حتى يحضر الآخر، أو يرفع الأمر إلى القاضي إلا أن يعتذر بأنه أمين من جهة الشرع ".
4- وكذلك من وجب عليه كفارة يمين فقال لغيره،: أطعم عني عشرة مساكين فأطعم يسقط الفرض عنه وإن كانت الهبة لا بد فيها من القبض ويجعل قبض المساكين كقبضه.
5- إذا وكل الموهوب له الغاصب، أو المستعير، أو المستأجر في قبض ما في يده من نفسه وقبل صح، وإذا مضت مدة يتأتى فيها القبض برئ الغاصب والمستعير من الضمان.
6- لو أجر دارًا بدراهم معلومة، ثم أذن المؤجر للمستأجر في صرفها في العمارة فإنه يجوز.
7- لو كان له في ذمة شخص مال فأذن له في إسلامه في كذا قال ابن سريج يصح والمذهب المنع … (1) .
وقد ذكر السيوطي السبب في أن الأصل عدم اتحاد القابض والمقبض وهو أنه إذا كان قابضًا لنفسه احتاط لها، وإذا كان مقبضًا وجب عليه وفاء الحق من غير زيادة، فلما تخالف الغرضان والطباع مجبولة على الأثرة وحب مصالح النفس … امتنع الجمع كقاعدة عامة (2) .
ثم ذكر مسائل أخرى خلافية منها: ما لو امتنع المشتري من قبض المبيع ناب عنه القاضي، فإن فقد، ففي وجه – أي للشافعية – أن البائع يقبض من نفسه للمشتري فيكون قابضًا ومقبضًا، فعلى ضوء هذا الوجه يصبح المعقود عليه بعد ذلك أمانة في يدي البائع، ولكن المشهور في المذهب أنه من ضمان البائع كما كان، فحينئذ لا يعتد بهذا القبض (3) .
__________
(1) المنشور في القواعد: 1/89-90، ويراجع الأشباه للسيوطي: ص 306.
(2) الأشباه: ص 306، وراجع: الغاية القصوى: 1/484.
(3) الأشباه: ص 306، وراجع: الغاية القصوى: 1/484.(6/435)
أثر القبض في العقود الصحيحة:
ليس العقود بالنسبة للقبض على سنن واحدة، فهناك بعض العقود يكون القبض شرطًا لصحتها، وبعضها يكون القبض شرطًا للزومها، ولاستقرارها، وبعضها يلزم ويستقر دون القبض، ولذلك نجد الفقهاء يقسمون العقود باعتبار اشتراط القبض إلى أربعة أقسام:
* القسم الأول: ما لا يشترط فيها القبض، لا في صحته، ولا في لزومه، ولا في استقراره مثل النكاح، والحوالة، والوكالة، والوصية، والجعالة.
* القسم الثاني: ما يشترط القبض في صحته مثل الصرف وبيع الأموال الربوية بعضها ببعض سواء كانا متحدي الجنس، أو مختلفين، وذلك للحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل ولا تشفوا بعضًا على بعض … ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) ، وفي حديث صحيح آخر: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء عينًا بعين، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) . (1) .
وقد توقف الظاهرية عند هذه الأنواع الستة ولم يقس عليها غيرها في حين ذهب جمهور الفقهاء إلى قياس بعض الأنواع عليها لكنهم اختلفوا في العلة الجامعة المؤثرة هل هي الطعم، أو الاقتيات، أو كون الشيء مكيلًا أو موزونًا … مع اتحاد الجنس؟ (2) .
فهذه الأنواع الستة وما يقاس عليها لا يجوز بيع بعضها ببعض – سواء كانا متحدين في الجنس، أو مختلفين – إلا مع قبض البدلين في المجلس، وإذا لم يتم القبض فقد بطل العقد أو فسد بالاتفاق (3) .
وكذلك يجب تسليم الثمن (رأس مال السلم) في مجلس العقد عند جمهور الفقهاء، خلافًا للمالكية حيث أجاز أكثرهم تأخيره إلى ثلاثة أيام ما دام لم يشترط في العقد، أما إذا اشترط التأخير في العقد فقد فسد العقد بالاتفاق (4)
* القسم الثالث: ما يشترط القبض في لزومه كالرهن والهبة عند جمهور الفقهاء.
__________
(1) وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا الموضوع فراجعها في صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع: 4/377 – 384، ومسلم، المساقاة: 3/1208- 1219، ومسند الشافعي: ص 48، وأحمد: 3/4، 5/49، والمستدرك: 2/43، وسنن أبي داود – مع العون -: 9/189، وابن ماجه: 2/757، والترمذي: 1/233، والنسائي: 7/240، والسنن الكبرى: 5/276.
(2) يراجع: فتح القدير: 5/274، وبدائع الصنائع: 7/3115، والبحر الرائق: 6/137، والدر المختار: 5/171، والدسوقي على الشرح الكبير: 3/47، وبداية المجتهد: 2/13، والروضة: 3/377، ونهاية المحتاج: 4/428، والمغني لابن قدامة: 4/3-8.
(3) يراجع: فتح القدير: 5/274، وبدائع الصنائع: 7/3115، والبحر الرائق: 6/137، والدر المختار: 5/171، والدسوقي على الشرح الكبير: 3/47، وبداية المجتهد: 2/13، والروضة: 3/377، ونهاية المحتاج: 4/428، والمغني لابن قدامة: 4/3-8.
(4) شرح الخرشي: 5/203، وبلغة السالك: 2/538، وتراجع حاشية ابن عابدين: 4/208، والغاية القصوى: 1/497، والمغني لابن قدامة: 4/328.(6/436)
أولًا – الرهن:
اختلف الفقهاء في أثر القبض في الرهن على أربعة آراء:
الرأي الأول: يرى أن الرهن لا يصح ولا يجوز إلا بالقبض. وهذا ما ذهب إليه الظاهرية حيث قال ابن حزم: " ولا يجوز الرهن إلا مقبوضًا في نفس العقد" (1) ، وبه قال زفر، وعلى هذا يكون القبض ركنًا (2) .
الرأي الثاني: يرى أن الرهن يتم ويلزم بمجرد العقد، ثم يجبر الراهن على الإِقباض إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة حتى يفلس الراهن، أو يمرض، أو يموت، وهذا ما ذهب إليه المالكية وأحمد في رواية، وعلى هذا فالقبض شرط للتمام فقط (3) .
الرأي الثالث: يرى أن الرهن ينعقد بالعقد، لكنه لا يصبح لازمًا إلا بالقبض، حيث يكون له حق الرجوع قبل القبض، وهذا رأي الحنفية – ما عدا زفر – والشافعية، والحنابلة على الراجح عندهم (4) .
الرأي الرابع: التفرقة بين ما كان مكيلًا أو موزونًا، وبين غيره، حيث ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أن ما كان مكيلًا أو موزونًا لا يلزم رهنه إلا بالقبض، وفيما عداهما روايتان: إحداهما لا يلزم إلا بالقبض، والأخرى: يلزم بمجرد العقد كالبيع.
وقد حرر ابن رشد النزاع في اللزوم وعدمه، حيث قال: "فأما القبض فاتفقوا بالجملة على أنه شرط في الرهن … واختلفوا هل هو شرط تمام أو شرط صحة؟ …" (5) .
__________
(1) المحلى لابن حزم ط. مكتبة الجمهورية العربية: 8/481.
(2) بدائع الصنائع، ط. زكريا علي يوسف: 8/3720.
(3) بداية المجتهد، ط. مصطفى الحلبي: 2/274، والمغني: 4/364.
(4) بدائع الصنائع: 8/3720، وحاشية ابن عابدين ط. دار إحياء التراث العربي: 5/308، والروضة: 4/65، وفتح العزيز: 10/62، حيث ذكر أنه ركن للزوم العقد.
(5) بداية المجتهد: 2/274.(6/437)
وقد استدل كل فريق على ما ذهب إليه بأدلة نوجز القول فيها، حيث استدل الرأي الأول على دعواه بأنَّ الله تعالى وصف الرهن بأنه مقبوض فقال تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة: الآية 283] . قال الجصاص (1) : وقوله تعالي: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يدل على الرهن لا يصح إلا مقبوضًا من وجهين:
أحدهما: أنه عطف على ما تقدم من قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ…} [سورة البقرة: الآية 282] . فلما كان استيفاء المذكور والصفة المشروطة للشهود واجبًا وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط له من الصفة، فلا يصح إلا عليها كما لا تصح شهادة الشهود إلا على الأوصاف المذكورة، إذ كان ابتداء الخطاب توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضي للإِيجاب، (أي بعبارة أخرى قياس القبض في الرهن على العدالة في الشهود) .
والوجه الثاني: أن حكم الرهن مأخوذ من الآية، والآية إنما أجازته بهذه الصفة فغير جائز إجازته على غيرها، إذ ليس ههنا أصل آخر يوجب جواز الرهن غير الآية ويدل على أنه لا يصح إلا مقبوضًا أنه معلوم أنه وثيقة للمرتهن بدينه، ولو صح غير مقبوض لبطل معنى الوثيقة، وكان بمنزلة سائر أموال الراهن التي لا وثيقة للمرتهن فيها، وإنما جعل وثيقة له ليكون محبوسًا في يده بدينه فيكون عند الموت والإِفلاس أحق به من سائر الغرماء، ومتى لم يكن في يده كان لغوًا لا معنى فيه، وهو وسائر الغرماء فيه سواء … (2) .
__________
(1) يفهم من كلامه هذا أنه يرى أن القبض شرط لصحة الرهن، في حين أن مذهب الحنفية ما عدا زفر على أنه شرط للزوم.
(2) أحكام القرآن للجصاص، ط. دار الفكر، بيروت: 1/523.(6/438)
ثم أضاف الجصاص توضيحًا وتنويرًا لرأيه فقال: "ألا ترى أن المبيع إنما يكون محبوسًا بالثمن ما دام في يد البائع؟ فإن هو سلمه إلى المشتري سقط حقه، وكان هو وسائر الغرماء سواء فيه" (1) بالإِضافة إلى قياسه على الهبة، لأنه عقد تبرع في الحال (2) .
واستدل الرأي الثاني بأن الإِيجاب والقبول يكفيان، إذ هما شطرا العقد وركناه الأساسيان، وإذا تما فقد انعقد الرهن ولزم لقوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: الآية 1] . ثم حينما ينعقد العقد يجبر الراهن على تسليم الرهن، حاله في ذلك حال بقية العقود التي تترتب عليها الآثار، فالبيع مثلًا يلزم بالإِيجاب والقبول، ثم يترتب عليه أثر من انتقال الملكية وتسليم الثمن والمثمن، وإذا امتنع العاقد عن تنفيذ ذلك فإنه يجبر عليه قضاء.
واستدل الرأي الثالث بالآية السابقة نفسها: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} حيث وصف الله تعالى الرهان بكونها مقبوضة، ومن هنا لا يجوز أن يلغي هذا الوصف بل لا بد من اعتباره شرطًا وليس ركنًا.
إذن فأصحاب هذا الرأي يحتاجون إلى الاستدلال على أمرين: الأمر الأول كونه شرطًا، والأمر الثاني: كونه ليس بركن.
أما الأمر الأول فيدل عليه وصف الله تعالى الرهان بأنها مقبوضة قال الكاساني: "وصف سبحانه وتعالى الرهن بكونه مقبوضًا فيقتضي أن يكون القبض فيه شرطًا صيانةً لخبره تعالى عن الخلف، ولأنه عقد تبرع للحال فلا يفيد الحكم بنفسه كسائر التبرعات" (3) .
وأما الأمر الثاني فيدل عليه أنه لو كان ركنًا لما كان هناك حاجة لذكر: "مقبوضة"، قال الكاساني: "ولو كان القبض ركنًا لصادر مذكورًا بذكر الرهن، فلم يكن لقوله تعالى عز شأنه: "مقبوضة" معنى، فدل ذكر القبض مقرونًا بذكر الرهن على أنه شرط وليس بركن" (4) ، وقاس ابن قدامة الرهن في ذلك على القرض حيث إنه لا يلزم إقباضه، ولا يجبر عليه بمجرد العقد (5) .
وأما الرأي الرابع فقد استند على التفرقة بين المنقول وغيره، حيث إن التوثقة في المنقول لا تتم إلا من خلال القبض على عكس العقار.
المناقشة والترجيح:
ويمكن أن يناقش القول الرابع بأن الآية الكريمة عامة في المنقول وغيره، ولم يرد في السنة الثابتة على تخصيصها بالمنقول، فعلى هذا فتخصيصها تحكم وترجيح بلا مرجح.
هذا من جانب، ومن جانب آخر أن العلامة ابن قدامة قد أوضح أن هذه التفرقة في المذهب الحنبلي غير صحيحة، بل المروي عن أحمد روايتان مطلقتان بخصوص لزوم الرهن بالعقد وحده أم مع القبض، وكذلك كلام الخرقي محمول على ذلك، لكن القاضي أبا يعلى حمل كلام الخرقي مع عمومه على الفرق بين المكيل والموزون، وبين غيرهما، حيث قال: " … وليس بصحيح، فإن كلام الخرقي مع عمومه قد أتبعه بما يدل على إرادة التعميم …" (6) .
بالإِضافة إلى أن هذه التفرقة التي ذكرها أصحاب هذا الرأي تعود في الواقع إلى طبيعة القبض في المنقول والعقار مع أن الخلاف في القبض مطلقًا هل هو شرط أم لا؟
ولذلك فهذا الرأي في الواقع ليس له دليل ينهض حجة، ولا مستند له وجاهته واعتباره.
ويمكن أن نناقش أدلة الرأي الأول بأن الآية وإن كانت قد وصفت الرهان بكونها مقبوضة لكنها لا تدل على جعل هذا الوصف ركنًا للرهن، بل لو كان القبض ركنًا له لكان جزءًا من ماهيته وحينئذ لما احتاج إلى الذكر، كما لا يحتاج لفظ البيع أن يوصف بالإِيجاب والقبول، ومن هنا فلا تدل الآية على أكثر من كون القبض مطلوبًا، وهذا يتحقق بجعل القبض شرطًا للزوم – كما هو رأي الجمهور – أو شرطًا للتمام ولكنه يجبر عليه – كما هو رأي المالكية -.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص، ط. دار الفكر، بيروت: 1/523.
(2) بدائع الصنائع: 8/3720.
(3) بدائع الصنائع: 8/3721.
(4) بدائع الصنائع: 8/3721.
(5) المغني: 4/364.
(6) المغني: 4/364.(6/439)
وأما قياس القبض في الرهن على العدالة في الشهادة فقياس مع الفارق من حيث الدلالة والماهية، وذلك لأن دلالة {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [سورة الطلاق: الآية 2] . على اشتراط العدالة واضحة من الآية، بل هي موجهة إلى وجود هذا الوصف، بل إنه بدونه لا تكون شهادة، لأن الغرض منها كشف الحقيقة، وبيان الصدق فيها، وذلك لا يتحقق إلا مع وجود العدالة، وأما الرهن فالآية الدالة على كونه مقبوضًا لا تدل على أن القبض ركن وجزء من ماهيته، كما أنه لا يفهم من طبيعته كونه مقبوضًا، ومن جانب آخر لا يستلزم من هذا الوصف في الآية كون القبض ركنًا، أو شرطًا للصحة، بدليل أن الآية نفسها قد علقت الرهن على السفر مع أن الرهن جائز في الحضر بالاتفاق ما عدا مجاهدًا (1) .
ويمكن أن نناقش الرأي الثاني، بأن ما نقوله مسلم لكن وصف الرهان بكونها مقبوضة في الآية الكريمة لو لم يدل على كون القبض شرطًا لأصبح بدون فائدة، وهذا لا يجوز في كلام رب العالمين.
ويرد على الرأي الثالث أنه لا يلزم من القول بعدم اشتراط القبض كون "مقبوضة" في الآية لغوًا بدون فائدة، إذ أن ذكره له فائدة عظيمة وهي أن الرهن لا يكتفي فيه بمجرد العقد بل لا بد من التسليم، ولذلك يجبر على ذلك، فلو لم تكن هذه الصفة لكان بالإِمكان الاكتفاء بالعقد اللفظي مع إبقاء المال المرهون في يد الراهن، وأيضًا إن قياس الرهن على الهبة قياس مع الفارق، لأنه في مقابل التزام مالي دونها بالإِضافة إلى الهبة أيضًا محل الخلاف.
وبعد هذه المناقشة فالذي يظهر لنا رجحانه هو ما ذهب إليه مالك وأحمد في رواية، ,ذلك لأن الآية الكريمة {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} لا تدل على التعمق على كون القبض ركنًا ولا شرطًا للصحة، وإنما تدل على اعتباره، وهذا يتحقق في جعل القبض شرطًا للتمام والاستقرار وليس للصحة واللزوم، إذ على ضوء اعتباره ركنًا يؤدي إلى إلغاء الإِيجاب والقبول الصادرين من الراهن والمرتهن ما دام لم يصحبه القبض، وكذلك لو جعلناه شرطًا للصحة، وأما على ضوء اعتباره شرطًا للزوم فإنه يؤدي إلى أن العاقدين لهما حق الرجوع قبل القبض، وعلى ضوء ذلك فلو قبض الراهن الدّين، وتم الإِيجاب والقبول للرهن، فإن بإمكانه أن لا يسلمه لأنه غير ملزم، وفي هذا إجحاف كبير بحق المرتهن في حين أنه على ضوء مذهب مالك يجبر على تسليمه فيكون فيه صون لكلام العاقل من اللغو والإِلغاء، فالذي يدعمه الدليل أن الإِنسان ملزم بالعقد الذي التزم به، ولا يحتاج بعد ذلك إلى شيء آخر من قبض ونحوه، لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ …} – كما سبق – بالإِضافة إلى أن السنة جعلت مخالفة الوعد – ناهيك عن العقد – من علامات النفاق (2) ، فالرهن عقد يترتب عليه التزامات في مقابل التزامات مالية فينبغي أن يلزم بمجرد الإِيجاب والقبول – مع بقية الشروط – كسائر العقود، وهناك تفاصيل حول قبض العدل، ورهن المشاع لا تسمح طبيعة البحث بالخوض فيها.
__________
(1) قال ابن المنذر في الإشراف: 1/69: " ولا نعلم أحدًا خالف ذلك في القديم والحديث إلا مجاهدًا فإنه قال: ليس الرهن إلا في السفر".
(2) روى البخاري في صحيحه، كتاب الإِيمان – مع الفتح -: 1/89، ومسلم في صحيحه، كتاب الإِيمان 1/78 بسندهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب … وإذا وعد أخلف …) .(6/440)
ثانيًا – الهبة (وسائر التبرعات) :
وقد ثار الخلاف في أثر القبض في الهبة، ونحوها على ثلاثة آراء:
الرأي الأول: هو أن القبض شرط للزوم الهبة، فلا تلزم إلا بالقبض، فعلى هذا يكون الموهوب قبل القبض على ملك الواهب، يتصرف فيه كيفما شاء وهذا رأي جمهور الفقهاء منهم الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، وهذا قول إبراهيم النخعي وسفيان الثوري والحسن بن صالح وعبيد الله بن الحسن، وهو مروي عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعليه إحدى الروايتين عن أحمد (3) ، فعلى ضوء ذلك فالواهب بالخيار قبل القبض، بل لا يصح قبضها إلا بإذنه، حتى لو قبضها بدون الإِذن لم يصح القبض.
الرأي الثاني: أن القبض يتم ويلزم بالإِيجاب والقبول، وإذا امتنع الواهب بعد ذلك فيجبر عليه، وهذا هو رأي مالك (4) ، والشافعي في القديم، وأبي ثور، والحسن البصري، وكذلك قال حماد بن أبي سليمان في هبة الرجل لزوجته: إذا علمت (5) غير أن الإِمام مالكًا قال: "فإن تأني الموهوب له عن طلب القبض حتى أفلس الواهب أو مرض بطلت الهبة …". قال ابن رشد: وله – أي لمالك – إذا باع تفصيلٌ: إن علم فتوانى لم يكن له إلا الثمن، وإن قام في الفور كان له الموهوب" (6) وفي الموطأ تفصيلٌ: حيث إذا أعطى أحدًا عطية لا يريد ثوابها فأشهد عليها فإنها ثابتة للذي أعطيها إلا أن يموت المعطي قبل قبضها …، وإن لم يرد ثوابها ثم مات المعطى فورثته بمنزلته، وإن مات المعطي قبل القبض فلا شيء له (7) .
الرأي الثالث: التفرقة بين ما يكال ويوزن حيث لا تلزم الهبة فيه إلا بالقبض، وبين غيره حيث تلزم بمجرد العقد، وهذا ما عليه أحمد في الرواية المشهورة عنه (8) ، ومن الجدير بالتنبيه عليه أن هذا الخلاف نفسه وارد في صدقة التطوع لكن ابن أبي ليلى فرق بينها وبين الهبة فقال: "تجوز الصدقة إذا أعلمت وإن لم تقبض، ولا تجوز الهبة ولا التخلي إلا مقبوضة" (9) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 8/3688.
(2) روضة الطالبين، والغاية القصوى.
(3) الإِشراف لابن المنذر، تحقيق محمد نجيب سراج الدين، ط. إدارة إحياء التراث بقطر: 1/389 – 390، والمغني: 5/649 - 653.
(4) الموطأ مع شرحه المنتقى: 6/94، وبداية المجتهد: 2/329، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/103 وذكر له تفصيلًا فليراجع.
(5) الإِشراف 1/389 – 390، وفتح الباري، ط. السلفية: 5/233.
(6) بداية المجتهد: 2/329.
(7) الموطأ، كتاب الأقضية: ص 469.
(8) المغني لابن قدامة: 5/649.
(9) بدائع الصنائع: 8/3688.(6/441)
الأدلة:
استدل أصحاب الرأي الأول بالإِجماع والآثار، والرأي، أما الإِجماع فهذا ما ادعاه ابن قدامة، حيث قال: "ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن ما قلناه مروي عن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما ولم يعرف لهما من الصحابة مخالف"، ومثله قال الكاساني (1) .
وأما الآثار فهي كثيرة، فقد قال المروزي: اتفق أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ: على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة" (2) .
وقد روى مالك، وعبد الرزاق، والبيهقي، وابن سعد بسندهم عن عائشة قالت: "لما حضرت أبا بكر الوفاة قال: أي بنية! ليس أحدٌ أحب إليّ غنًى منك ولا أعز عليّ فقرًا منك، وإني كنت قد نحلتك جداد عشرين وسقًا من أرضي التي بالغابة، وإنك لو كنت حزتيه كان لك، فإذ لم تفعلي فإنما هو للوارث، وإنما هو أخواك، وأختاك …" (3) .
ورووا أيضًا عن عمر بن الخطاب يقول: ما بال أقوام ينحلون أبناءهم، فإذا مات الابن قال الأب: مالي، وفي يدي، وإذا مات الأب قال: قد كنت نحلت ابني كذا وكذا. لا نحل إلا لمن حازه، وقبضه عن أبيه" (4) .
ورويا بسندهما عن عثمان قال: "نظرنا في هذا النحول: فرأينا أن أحق من يحوز على الصبي أبوه" (5) .
وروى عبد الرزاق عن شريح، وعطاء، وعمر بن عبد العزيز، وابن شبرمة، وعثمان البتي، أنهم كانوا لا يجيزون الهدية، ولا يجعلونها لازمة إلا بعد القبض (6) . وكذلك الصدقة حتى تقبض"، وروي مثله عن شريح، ومسروق، والشعبي: أنهم كانوا لا يجيزون الصدقة حتى تقبض – أي لا تلزم إلا بالقبض (7) .
فكل هذه الآثار تدل على أن السلف الصالح قد شاع بينهم هذا الحكم حتى أصبح مجمعًا عليه – كما قال ابن قدامة، والكاساني (8) .
__________
(1) المغني: 5/649، وبدائع الصنائع: 8/3688.
(2) المغني: 5/649، وبدائع الصنائع: 8/3688.
(3) الموطأ، كتاب الأقضية: ص 486، والمنصف بتحقيق الأعظمي: 9/101، والسنن الكبرى: 6/178، وطبقات ابن سعد: 3/194، وفتح الباري: 5/215.
(4) المنصف: 9/102، والسنن الكبرى: 6/170، والموطأ: ص 469.
(5) المصنف: 9/103، والسنن الكبرى: 6/170.
(6) المصنف: 9/103-104.
(7) المصنف: 9/121 - 122.
(8) المغني: 5/649، وبدائع الصنائع للكاساني: 8/3688.(6/442)
وأما الرأي والتعليل فهو ما عبر عنه الكاساني بقوله: ولأنها عقد تبرع فلو صحت بدون القبض لثبت للموهوب له ولاية مطالبة الواهب بالتسليم، فتصير عقد ضمان، وهذا تغيير المشروع" (1) .
واستدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والآثار والقياس:
أما السنة فهي الأحاديث الصحيحة الدالة على حرمة الرجوع عن الهبة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس لنا، مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه)) (2) ، وقوله: ((العائد في هبته كالعائد في قيئه)) . (3) ، وقد عقد البخاري له بابًا سماه: "باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته " (4) ، وعلق عليه الحافظ فقال: كذا بتّ الحكم في هذه المسألة لقوة الدليل عنده فيها" (5) ، ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث في الدلالة على حرمة الرجوع واضح، فكما أن القيء محرم، ولا يجوز أكله فكذلك الهبة، يقول الحافظ: "ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك، وأدل على التحريم بما لو قال مثلًا: "لا تعودوا في الهبة" (6) ، وهذه الأحاديث مطلقة ليس فيها ذكر القبض فتبقى على إطلاقها، وحينئذ تكون الهبة ملزمة بمجرد العقد دون الحاجة إلى القبض.
وأما الآثار في ذلك فواردة عن بعض الصحابة والتابعين، حيث روى عبد الرزاق بسنده عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما حيث كانا يجيزان الصدقة وإن لم تقبض، وكذلك روى مثله عن إبراهيم وسفيان (7) .
وأما القياس فهو قياس الهبة ونحوها من الصدقة على الوصية في أنها عقد تبرع بتمليك شيء مع أنها تفيد الملك قبل القبض وتلزم بعد الموت وإن لم يقبض الموصى به ما دام الإِيجاب والقبول قد صدرا من العاقدين (8) .
واستدل أصحاب الرأي الثالث بأن الهبة بلا شك من عقود التمليك وإن كانت بدون مقابل، ولذلك كان منها ما لا يلزم قبل القبض، ومنها ما يلزم قبله كالبيع حيث إن فيه ما لا يلزم قبل القبض وهو الصرف وبيع الربويا، ومنه ما يلزم قبله وهو ما عدا ذلك (9) .
واستدل ابن أبي ليلى ببعض الآثار الواردة عن بعض الصحابة مثل عمر، وعلي رضي الله عنهم حيث أجازوا الصدقة قبل القبض، ولم يجيزوا الهبة إلا مقبوضة (10) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 8/3688.
(2) صحيح البخاري – كتاب الهبة – مع الفتح: 5/234-235.
(3) صحيح البخاري – كتاب الهبة – مع الفتح: 5/234-235.
(4) صحيح البخاري – كتاب الهبة – مع الفتح: 5/234-235.
(5) فتح الباري: 5/235.
(6) فتح الباري: 5/235.
(7) المصنف: 9/122 – 123.
(8) يراجع: بدائع الصنائع: 8/3688.
(9) المغني لابن قدامة: 5/653.
(10) بدائع الصنائع: 8/3688، والمصنف لعبد الرزاق: 9/120، 122 - 123.(6/443)
المناقشة:
ويمكن أن يرد على ابن أبي ليلى من عدة وجوه:
الوجه الأول: إذا كان هناك بعض الآثار عن بعض الصحابة بهذه التفرقة بين الهبة والصدقة، فإن هناك آثارًا أخرى عن جماعة كثيرة منهم بعدمها، وإن الصدقة والهبة ونحوها لا تتم إلا بالقبض، وأقوال الصحابة لا يكون بعضها حجة على البعض ما دامت مختلفة.
الوجه الثاني: ما قاله الكاساني: "وما روي عن سيدنا عمر، وسيدنا علي رضي الله عنهما محمول على صدقة الأب على ابنه الصغير، وبه نقول، حيث لا حاجة هناك إلى القبض. حملناه على هذا توفيقًا بين الدلائل صيانة لها عن التناقض …" (1) ، ولا شك أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما.
الوجه الثالث: أن الصدقة لا تختلف عن الهبة، إذ أنها عقد تبرع فلا يفيد الحكم بنفسه كالهبة، يقول ابن قدامة: " إن الهبة والصدقة والهدية والعطية معانيها متقاربة، وكلها تمليك في الحياة بغير عوض، واسم العطية شامل لجميعها" (2) .
ويمكن أن نناقش أدلة الرأي الأول (الجمهور) بما يأتي:
أولًا: إن دعوى الإِجماع غير مسلمة وذلك بخلاف بعض الصحابة والتابعين، وبعض المذاهب في هذه المسألة، فقد ذهب إلى عدم حاجة الهبة والتبرعات إلى القبض الإِمام مالك والشافعي في القديم وأبو ثور والحسن البصري، وكذلك ذهب إلى لزوم الصدقة وإن لم تقبض. علي وابن مسعود، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، فكيف ينعقد الإِجماع مع خلاف هؤلاء الفقهاء؟!
ثانيًا: أما الآثار الواردة عن الصحابة فليست حجة ما دامت المسألة خلافية بينهم، فأقوال الصحابة والتابعين لا يكون بعضها حجة على الآخر، بل الحجة في كتاب الله، وسنة رسوله، والإِجماع.
ثالثًا: وأما ما ذكروه في الدليل العقلي فليس فيه حجة، إذ أنه على ضوء ما ذهب إليه مالك ومن معه يُمَلَّك الموهوب له ولاية المطالبة، وليس فيه تغيير للمشروع، إذ أن الواهب أصبح ملزمًا بالتزامه بمجرد صدور الإِيجاب منه، وقبول الآخر.
__________
(1) بدائع الصنائع: 8/3689.
(2) المغني: 5/649.(6/444)
ويمكن أن نناقش أدلة الرأي الثاني بما يأتي:
أولًا: إن الأحاديث التي ذكروها لا تدل على الدعوى المطلوبة، وذلك لأن محل النزاع في مدى لزوم الهبة قبل القبض في حين أن دلالة تلك الأحاديث ليست ظاهرة في حرمة الرجوع قبل القبض، بل سياقها يدل بوضوح على أنها في الرجوع بعد القبض، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((العائد في هبته كالعائد في قيئه)) ظاهر في أن المراد به الهبة بعد القبض، وذلك لأن التمثيل الذي ذكره يدل على ذلك، فالقيء سواء كان من إنسان أو من كلب قد خرج منه ووقع على الأرض – مثلًا – فالعودة إليه محرمة بالنسبة للإِنسان، وكذلك الحديث يدل على أن هذه البشاعة إنما تتحقق إذا رجع الواهب أو المتصدق بعد القبض، أما قبل القبض وإن كان مستنكرًا لكنه لا يصل إلى هذه الدرجة عرفًا وشرعًا.
ويدل على هذا الفهم أن الخلفاء الراشدين وأكثر الصحابة ذهبوا إلى أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فلو كان المراد بالحديث السابق الهبة قبل القبض لما قالوا مثل ذلك.
ومن جانب آخر إن الحديث السابق في بيان شناعة الرجوع عن الهبة والصدقة ذوقيًا وسلوكيًا، وذم ذلك وحرمته دينيًا، وفيما بينه وبين الله، ولا يستلزم من ذلك اللزوم القضائي، وبعبارة أخرى إن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن شناعة هذا العمل من خلال تلك الصورة المجسمة الخطيرة المقززة التي لا يرضى بها كل ذوق سليم، كل ذلك للزجر من الرجوع وبيان أن ذلك لا يتناسب مع أخلاق المؤمن وسموه وعزته وكرامته، لكنه لو رجع قبل القبض، أو بعد القبض عند بعض العلماء (1) لما ترتب عليه حكم قضائي ملزم.
__________
(1) فتح الباري: 5/235، 236.(6/445)
بالإِضافة إلى أن بعض العلماء قالوا: لا يفهم من الحديث السابق التحريم وإنما التغليظ في الكراهة، وذلك لأن التمثيل بالكلب الذي يعود إلى قيئه وهو غير مكلف يدل على عدم التحريم، غير أن هذا التأويل بعيد عن فهم الحديث، وغير مقبول، ولا يتفق مع بقية الأحاديث التي ورد التمثيل فيها بالعائد إلى قيئه، وهذا محرم بالإِجماع، بالإِضافة إلى أن عرف الشرع في مثل هذه الأشياء يريد به المبالغة في الزجر والشدة في التحريم، مثل قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ …} [سورة الحجرات: الآية 12] .
وكقوله صلى الله عليه وسلم: ((من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير)) (1) .
وأما الآثار فهي معارضة بالآثار الكثيرة الواردة بخلاف ذلك فلم تنهض حجة.
وأما قياس الهبة والصدقة على الوصية فقياس غير مستقيم من وجهين:
أحدهما: أن الوصية عقد تمليك بعد الموت وهما من عقود التمليك في الحياة.
ثانيهما: أن الوصية قبل موته غير ملزمة أيضًا إذ الموصي له حق الرجوع، ومن هنا كان قياسهم في هذه المسألة في جزء منها، وليس في جميعها، بل يمكن أن نقول: إن قياسهم الهبة على الوصية قياس مقلوب عليهم فيصبح دليلًا لنا وليس علينا، وذلك بأن نقول: إن الهبة مثل الوصية قبل الموت في عدم اللزوم، فالفقهاء متفقون على أن الموصي – وإن صدر منه الإِيجاب – له حق الرجوع، وإنما تلزم بالموت ثم القبول إن كانت لمعين لأن احتمال الرجوع قد انتهى بموته، وحان وقت القبول (2) .
ويمكن أن نناقش الرأي الثالث: بأن هذه التفرقة لا نجد لها دليلًا له وجاهته واعتباره، وما قالوه لا ينهض حجة، فقياس الهبة على البيع قياس مع الفارق فهو تمليك بعوض في حين أن الهبة تمليك بلا عوض، في حين أن الهبة تمليك بلا عوض، وأحكام الصرف لا تنطبق على الهبة، وإلاَّ لما انعقدت في الربويات إلا بالقبض مع أنها تنعقد فيها حتى عندهم، وإن كانت لا تلزم.
__________
(1) الحديث رواه مسلم، كتاب الشعر: 4/1770، وأحمد: 5/352، 357.
(2) مراتب الإِجماع: ص 112، والمغني: 6/133، 134.(6/446)
الترجيح:
الذي يظهر لنا رجحانه هو أن العطيات – أي الهبة والهدية، وصدقة التطوع – تنعقد بالإِيجاب والقبول، ولكنها لا تلزم قضاء إلا بالقبض – ما عدا هبة الوالد لولده حيث له الرجوع حتى بعد القبض عند جمهور الفقهاء - (1) .
ولكن إذا تم الإِيجاب والقبول بحيث قال الواهب، أو المصدق أعطيتك كذا فقال الآخر قبلت، فإن الواهب يجب عليه ديانة أن يفي بقوله وإلاَّ يأثم، وبعبارة أخرى يحرم عليه أن يخالف مقتضى عقده، أو وعده، للأحاديث الدالة على حرمة مخالفة الوعد، - ناهيك عن العقد– والأحاديث الدالة على حرمة الرجوع في الهبة ونحوها.
وهناك تفاصيل في شروط القبض، وكيفيته لا تسمح طبيعة البحث بالخوض فيها هنا (2) .
* القسم الرابع: ما يشترط القبض في استقراره.
ومعنى كون القبض شرطًا للاستقرار أن العقد يتم ويلزم بمجرد الإِيجاب والقبول – مع توفر الشروط المطلوبة – ولكنه يحتاج في استقراره إلى القبض، وبعبارة أخرى: إن ملكية العاقدين للمعقود عليه لا تستقر تمامًا إلا بالقبض، وهذا مثل البيع – في غير الربويات – والسلم بالنسبة للمسلم فيه، والإِجارة، والصداق، ونحوها (3) .
فعلى ضوء ذلك إذا تم البيع – مثلًا – ولم يتم القبض فإنه قد يترتب عليه عدة آثار من أهمها ما يأتي:
الأثر الأول: أن المبيع يكون على ضمان البائع عند جماعة من الفقهاء ما دام لم يقبض، فعلى هذا لو هلك يضمنه البائع، ويسترجع المشتري حينئذٍ ثمنه، وذهب بعض الفقهاء إلى التفرقة بين الطعام وغيره، بحيث إذا تلف الطعام المبيع قبل قبضه يكون من مال البائع، وأما غيره إذا تلف قبل القبض يكون من مال المشتري، ثم إذا كان التلف قبل القبض – فيما يشترط فيه القبض – بآفة سماوية بطل العقد، ورجع المشتري بالثمن، وإن تلف بفعل المشتري استقر الثمن عليه، وإن أتلفه أجنبي لم يبطل العقد، ويثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن وبين البقاء على العقد ومطالبة المتلف بالمثل إن كان مثليًا، وذهب فريق ثالث منهم (الظاهرية) إلى أن الضمان على المشتري مطلقًا (4) .
الأثر الثاني: اشتراط القبض قبل التصرف في المبيع ونحوه عند جماعة. وبعبارة أخرى عدم جواز بيع المبيع ونحوه قبل القبض يقول ابن رشد: "واختلف من هذه المسألة في ثلاثة مواضع: أحدها: فيما يشترط فيه القبض من المبيعات، والثاني في الاستفادات … والثالث في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلًا وجزافًا" (5) .
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة اختلافًا كبيرًا يمكن حصر اتجاهاتهم في ثلاثة اتجاهات عامة تتمثل في الرفض مطلقًا، والإِجازة مطلقًا، والتوسط القائم على التفصيل وهي:
الاتجاه الأول: يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقًا سواء أكان المعقود عليه طعامًا أم غيره، وسواء أكان مكيلًا أو موزونًا، أو عقارًا أو منقولًا.
__________
(1) فتح الباري: 5/211، مراتب الإِجماع: ص 112، والمغني: 6/133، 134.
(2) مراتب الإِجماع: ص 112، والمغني: 6/133، 134، فتح الباري: 5/211.
(3) المنثور في القواعد: 2/408، والأشباه للسيوطي: ص 305، 306.
(4) يراجع في تفصيل ذلك، وما دار فيه من خلاف: حاشية ابن عابدين: 4/42، ومختصر الطحاوي: ص 78، 79، وبداية المجتهد: 2/185، وحاشية الدسوقي: 3/70، والفواكه الدواني: 2/130، والروضة: 3/499، والغاية القصوى: 1/485، والمغني: 4/121، والمحلى: 9/343، ويراجع: المصنف لعبد الرزاق: 8/46.
(5) بداية المجتهد: 2/144، ولا تسمح طبيعة البحث في الخوض في كل تفاصيل هذه المسألة.(6/447)
وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه (1) ، وأحمد في رواية (2) ، ومحمد بن الحسن وزفر من الحنفية (3) ، والظاهرية (4) ، والزيدية (5) ، ورواية الإِمامية (6) ، والإِباضية في المشهور عنهم (7) ، وروي ذلك عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب في رواية عنه، وسفيان الثوري (8) .
الاتجاه الثاني: يرى جواز بيع المبيع وكل تصرف فيه مطلقًا، وهذا رأي عطاء بن أبي رباح، وعثمان البتي (9) ورأي للإِمامية (10) .
الاتجاه الثالث: يرى التوسط والتفصيل، وأصحاب هذا الاتجاه مختلفون فيما يجوز بيعه قبل القبض، وفيما لا يجوز.
فذهب أكثرهم إلى عدم جواز بيع الطعام قبل قبضه، وإلى جوازه في غيره وهذا رأي مالك في المشهور عنه (11) ، وأحمد في رواية عنه (12) ، واختيار أبي ثور، وابن المنذر (13) ، والإِمامية في وجه لهم (14) . (وفيه تفصيل في التوفية …) .
__________
(1) الأم: 3/60، وجاء في المهذب مع شرحه المجموع للنووي 9/264: "ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه كبيع الأعيان المملوكة بالبيع والإِجارة والصداق، وما أشبهها من المعاوضات قبل القبض.
(2) المغني لابن قدامة: 4/121، 123، وشرح ابن القيم على سنن أبي داود، المطبوع مع عون المعبود: ط. السلفية بالمدنية 9/353….
(3) بدائع الصنائع: 7/3100 حيث قال: "وعند محمد وزفر والشافعي لا يجوز قياسًا"، وحاشية ابن عابدين: 4/162، والمبسوط: 14/3، وفتح القدير: 7/22.
(4) المحلى لابن حزم: 9/592.
(5) البحر الزخار: 4/311.
(6) المختصر النافع للحلي: ط. وزارة الأوقاف بمصر، ص 148.
(7) شرح النيل: 8/59.
(8) المصنف: 8/38 – 44، حيث رواه عن جابر، وعن ابن عباس أنه قال: "فأحسب كل شيء بمنزلة الطعام"، وشرح معاني الآثار: 4/39، والمحلى: 9/594، والمغني: 4/121.
(9) المحلى: 8/597 , حيث أسند إلى عطاء قوله: " جائز بيع كل شيء قبل أن يقبض " والمغني:4/220 , أسند مثل هذا القول إلى عثمان البتي , وشرح ابن القيم , على سنن أبي داود:9/382.
(10) قال الحلي في المختصر النافع: ص 148: " ولا بأس ببيع ما لم يقبض، ويكره فيما يكال، أو يوزن …".
(11) المدونة: 9/90.
(12) المغني: 4/120، 121، ومجموع الفتاوى: 29/398، شرح ابن القيم على سنن أبي داود: 9/382.
(13) المختصر النافع: ص 148.
(14) المغني: 4/121، والمحلى: 9/596، والمجموع: 9/264، 265، والمنصف لعبد الرزاق: 8/43، حيث رواه عن ابن سيرين، وعن ابن المسيب، وابن شبرمة.(6/448)
وذهب فريق ثانٍ منهم إلى عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضهما، وإلى جوازه فيما عداهما، وهذا مروي عن عثمان بن عفان، وابن سيرين وابن المسيب والحسن والحكم وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي وربيعة والنخعي (1) .
وذهب فريق ثالث إلى إلحاق ما يباع بالوزن بالمكيل والموزون في عدم جواز بيعه قبل القبض، وهذا اتجاه أحمد في رواية وجماعة من أصحابه (2) وأبي حنيفة، واختاره جماعة من أصحابه ما دام يراعي فيه العدُّ (3) .
وذهب فريق رابع إلى إلحاق ما يباع بالذراع (المتر ونحوه) بالمكيل والموزون وهذا اتجاه أبي حنيفة إذا أفرد لكل ذراع ثمن (4) .
وذهب فريق خامس إلى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه إذا كان منقولًا، وجوازه إذا لم يكن منقولًا كالعقار، وهذا اتجاه جمهور الحنفية.
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن المنقول يشمل المكيل والموزون والمعدود، والمذروع (على تفصيل فيه) (5) .
وذهب فريق سادس إلى التفرقة في الطعام بين ما يباع بالكيل أو الوزن على التوفية، وبين ما يباع منه جزافًا، فمنع الأول قبل القبض، وأجاز الثاني، حيث ذهب أكثر أصحاب مالك إلى جواز بيع الطعام قبل قبضه ما دام قد اشتراه جزافًا، فيكون له الحق في البيع دون نقله عن موضعه، غير أنه قيده مالك بأن لا يكون في بيع العينة (6) ، وإذا كان بالعينة فلابد أن لا يكون بأكثر من ثمن المثل (7) .
وبعض العلماء جعلوا هذا المعيار عامًا فقالوا: كل ما بيع بالكيل، أو الوزن، أو العد، أو الذراع، لا يجوز بيعه قبل قبضه وكل ما بيع جزافًا يجوز سواء كان طعامًا أو غيره (8) .
__________
(1) المغني: 4/121، 123.
(2) بدائع الصنائع: 8/3251، وحاشية ابن عابدين: 4/162، 164، وتبيين الحقائق: 4/81، والمبسوط: 14/3، وفتح القدير: 7/22.
(3) بدائع الصنائع: 8/3251، وحاشية ابن عابدين: 4/162، 164، وتبيين الحقائق: 4/81، والمبسوط: 14/3، وفتح القدير: 7/22.
(4) بدائع الصنائع: 8/3251، وحاشية ابن عابدين: 4/162، 164، وتبيين الحقائق: 4/81، والمبسوط: 14/3، وفتح القدير: 7/22.
(5) بدائع الصنائع: 8/3251، وحاشية ابن عابدين: 4/162، 164، وتبيين الحقائق: 4/81، والمبسوط: 14/3، وفتح القدير: 7/22.
(6) العينة هي: أن يبيع رجل بضاعة لآخر بثمن، ثم يشتريها منه بثمن مؤجل أقل من الثمن الأول، فهذا حرام، لأنه وسيلة إلى الربا عن طريق التحايل. انظر مبدأ الرضا في العقود: ط. دار البشائر 2/1225.
(7) المدونة: 9/88، 89، وشرح الخرشي: 5/164.
(8) المجموع: 9/264، 271، المدونة: 9/88، 89، وشرح الخرشي: 5/164.(6/449)
الأدلة والترجيح (بإيجاز) :
من المعهود في البحث العلمي أن نذكر أدلة كل فريق ثم المناقشة ثم الترجيح، غير أن ذلك في هذه المسألة الفرعية يتطلب كتابة عشرات الصفحات وهذه لا تتفق مع طبيعة البحث، وحينئذٍ كنت بين أمرين، إما ترك الترجيح، أو استعراض الأدلة في بحث يكون أشبه بكتاب، فآثرت أن أذكر الراجح – في نظري – مع أدلته، والرد على أدلة المخالف بإيجاز.
والذي يظهر لي رجحانه هو أن منع التصرف في المبيع ونحوه قبل القبض محصور في الطعام، وأن العلة هي الطعام لا غير، وعلى هذا تدل الأحاديث الصحيحة، منها الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم بسندهما عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) ، وفي رواية لهما: ((… حتى يقبضه)) ، ورويا بسندهما أيضًا عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) . قال ابن عباس: " وأحسب كل شيء مثله"، ورويا عن ابن عمر، أنهم كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعامًا جزافًا، أن يبيعوه في مكانه، حتى يحولوه (1) ولا شك أن تخصيص الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه دليل على مخالفة غيره له.
والواقع أن قول ابن عباس: "وأحسب كل شيء مثله" اجتهاد محض منه لا يكون حجة على اجتهاد غيره، ولذلك أورده البخاري مع أنه ترجيح للباب "باب بيع الطعام قبل أن يقبض …" (2) بل إن بعض روايات الحديث جاءت بالحصر (3) .
وهذا الحصر على الطعام هو الذي يؤدي إلى الجمع بين الأدلة الواردة بهذا الشأن بحيث تحمل عليه الأحاديث الخاصة بالنهي عن البيع قبل القبض، وتحمل الأحاديث الواردة الدالة على جواز التصرف في المبيع ونحوه قبل القبض على غير الطعام، وهذا هو الذي سار عليه الإِمام البخاري حيث أورد: باب إذا اشترى متاعًا، أو دابة فوضعه عند البائع، أو مات قبل أن يقبض. وقال ابن عمر (رضي الله عنهما) : "ما أدركت الصفقة حيًّا مجموعًا فهو من المبتاع". ثم أورد حديث عائشة في قصة الهجرة، وفيها: "قال أبو بكر: يا رسول الله، إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما. قال: "قد أخذتها بالثمن" (4) .
__________
(1) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض 4/349، 350، ومسلم، البيوع: 3/1159، الحديث: 1525، 1526، 1527، 1528، 1529، وأحمد (1/56، 270، 2/22، 64، 3/392) .
(2) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض 4/349، 350، ومسلم، البيوع: 3/1159، الحديث: 1525، 1526، 1527، 1528، 1529، وأحمد (1/56، 270، 2/22، 64، 3/392) .
(3) صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع: 4/349، حيث روي عن ابن عباس يقول: (أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض) ، فهذا الحصر دليل على ما قلناه.
(4) صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع: 4/351.(6/450)
قال ابن المنير: "مطابقة الحديث للترجمة من جهة أن البخاري أراد أن يحقق انتقال الضمان في الدابة ونحوها إلى المشتري بنفس العقد، فاستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((قد أخذتها بالثمن)) وقد علم أنه لم يقبضها بل أبقاها عند أبي بكر، ومن المعلوم أنه ما كان ليبقيها في ضمان أبي بكر، لما يقتضيه مكارم أخلاقه حتى يكون الملك له، والضمان من غير قبض ثمن، ولا سيما في القصة ما يدل على إيثاره لمنفعة أبي بكر حيث أبى أن يأخذها إلا بالثمن (1) .
وأيضًا يدل على ذلك ما رواه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم عن ابن عمر، حيث يدل على أن ما يدرك العقد حيًّا مجموعًا – أي لم يتغير عن حالته – فهو من ضمان المشتري، وهذا رأي ابن عمر، قال الطحاوي: "ذهب ابن عمر إلى أن الصفقة إذا أدركت شيئًا حيًّا فهلك بعد ذلك عند البائع فهو من ضمان المشتري فدل على أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال …" (2) .
ومن الجدير بالإِشارة إلى أن أكثر القائلين بجعل التفرقة في البيع قبل القبض بين ما يكال، أو يوزن، وبين غيره أول كلامهم وحمل على الطعام وغيره، يقول ابن قدامة: "ويحتمل أنه أراد المكيل والموزون، والمعدود من الطعام الذي ورد النص بمنع بيعه"، ثم علق على هذا الحمل فقال: "وهذا أظهر دليلًا، وأحسن" (3) .
وقد استدل المخالف بأدلة لا يخلو جميعها إما من ضعف في سندها، أو أنها ليست نصًّا في دلالتها على منع المبيع غير الطعام، فمثلًا استدل القائلون بالمنع مطلقًا بالحديث الذي رواه أحمد والبيهقي عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا ابن أخي إذا ابتعت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه)) (4) ، فهذا الحديث لا ينهض حجة، لأن جميع طرقه لا تخلو من مقال وضعف (5) ولا سيما أن الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن ابن عباس قد رواه بطريق الحصر حيث يقول: "أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض" (6) ، فلو كان ابن عباس – وهو من هو – لو وصله خبر ثابت لما حصره هذا الحصر.
__________
(1) فتح الباري: 4/351، 352.
(2) صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع: 4/352، وذكر الحافظ أن هذا التعليق وصله الطحاوي والدارقطني.
(3) انظر: مسند أحمد: 3/402، والسنن الكبرى: 5/313.
(4) انظر: مسند أحمد: 3/402، والسنن الكبرى: 5/313.
(5) ونصب الراية: 3/32، والمحلى: 9/593، 594، وراجع: جوهر النقى على السنن الكبرى حيث حكم بضعفه 5/313، وقال: "كيف يكون حسنًا، وابن عصمة متروك … وفي الأحكام لعبد الحق: ضعيف".
(6) صحيح البخاري – مع الفتح – 4/349، ومسند الشافعي: 1252، والطحاوي: 2/218.(6/451)