الدكتور محمد عطا السيد:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك.
أود أن أقدم فأقول إن هذه المسألة – أيضًا – من المسائل التي تعاني منها كثير من شعوبنا الإسلامية، بالذات الشعوب ذات الاقتصاد الضعيف، فقد هيمن في هذه الشعوب فئة معينة من التجار ممن ينتسبون إلى التجارة وفرضوا أساليب معينة، وإجراءات معينة، واتجاهات معينة جعلت من أسعار البضائع – يعني – جعلت فيها غلاء سبب معاناة شديدة وحرجًا كبيرًا لهذه الشعوب، والذي يزور الآن كثيرًا من هذه البلاد الإسلامية يجد أن هذه الشعوب: توجد البضائع قي الأسواق، وبضائع أساسية وضرورية لقوتهم وقوت عيالهم يرونها بأعينهم ولا يستطيعون شراء هذه البضائع نسبة للغلاء المتفاحش الذي تباع به هذه السلع، ولذلك أرى – أسأل الله سبحانه وتعالى – أن يوفق هذا المجمع، أن يخرج أيضا بقرار حازم، وفقهي واضح للفئات الثلاثة، وهو ما يبين حدود وحقوق التجار وأيضًا حدود وحقوق التجار وأيضا حدود وحقوق ولاة الأمور في هذه المسألة، وكذلك أيضًا حقوق وحدود عامة المسلمين – فهذه المسألة – هذه المعاناة التي ذكرت ليس فقط هو أنهم يعانون في عدم شراء مستلزماتهم، ولكن تسببت في كثير جدًّا من المفاسد، بأن لجأ عدد كبير من هؤلاء إلى أن يستعملوا وسائل فاسدة لكي يزيدوا من دخولهم ويقابلوا هذا الغلاء، لأنهم وجدوا أنهم لا يستطيعون أن يعالجوا أطفالهم أو يشتروا لهم من المستلزمات الضرورية التي تكفل لهم العيش الصالح، ولذلك تسببت أيضا في مفاسد عديدة في مجتمعنا حتى يحصل الناس على ما يكفل لهم المعيشة لهم ولأطفالهم، فإذن هي مسألة مهمة، وأود – إن شاء الله – أن يوفق اللجنة والمجمع في الخروج فيها برأي واضح، كما ذكر فضيلة المقدم جزاه الله كل خير، أن هذه المسألة يدور فيها – في رأيي، وباختصار – أن الله سبحانه وتعالى كفل في هذه المسألة حقها، وهي حرية الرضا التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .(5/2346)
فهذا الحق كفله الله عز وجل في كتابه وهو الرضا لكل من يملك، من حقه إذا كان يملك سلعة ويريد أن يبيعها بمطلق رضاه، وله مطلق التصرف، وهذا ما كفلته الشريعة للمالك الحقيقي لأي سلعة، بينت السنة هذا الحق، عندما قال الناس للنبي صلى الله عليه وسلم غلا السعر يا رسول الله فسعر لنا، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر، وقال: ((إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد منكم يطالبني بمظلمة من دم ولا مال)) . والنبي صلى الله عليه وسلم هو أرأف الناس بالمسلمين، ولو كان هنالك أي حرج يشكو منه المسلمون، وكانت فيه وسيلة معينة لأن يحدد السعر لفعل، ولكنه بما أوتي من مجامع الكلم ذكر أن هذه مظلمة، وهي في الحقيقة مظلمة، لأنها تنفي حقًّا مؤكدًا في كتاب الله تعالى، وهي هذا الرضا الذي كفله الله تعالى للمتبايعين، لأنهما يملكان هذه السلعة من حقهما. النبي صلى الله عليه وسلم أكد أن هذه المسألة مظلمة وفي رأيي في كل العصور تظل مظلمة أن يتدخل الوالي لتحديد السعر، وقد أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، لكن هل وقف الشارع الكريم عند هذا الحد، وجلس يترك هذه الفئة تهيمن على الناس وتأكل أموالهم؟ أبدًا هنالك حديث مهم جدًّا أوردته في البحث وما أظن عددًا من البحوث الأخرى أورد هذا الحديث، وهو حديث صحيح بيَّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم - بينما رفض أن يحدد الأسعار، أو أن يأتي بهذه المظلمة، لكن بين فيه قاعدة مهمة جدًا – والحديث هو حديث صحيح رواه مسلم والبخاري وغيرهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يبع حاضر لباد، ودعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) فالمتأمل لهذا الحديث يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أكد فيه حرية التجارة، وحرية التجارة هذه من المسائل – اليوم – التي تعرف فيها الاتفاقيات والمبادلات بين الدول، وبين الأشخاص، وتراقب الدول بعضها بعضًا مراقبة شديدة، في مدى ما تكفله هذه الدولة من حرية وما تكفله لبضائعها، وما تكفله الدولة الأخرى، فأصبح هذا مبدأ هامًّا للنشاط التجاري الصحي بين الدول وبين الأفراد، وأكده النبي صلى الله عليه وسلم منذ زمن بعيد ورفض التسعير لأنه مظلمة ولكنه قال: ((لا يبع حاضر لباد)) ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه المسألة كما ذكر شراح الحديث ((لا يبع حاضر لباد)) هي أن يأتي البدوي بسلعة يريد التسارع في بيعها، مثل الخضار، اللحم، الفواكه، من هذه الأشياء يأتي بها، يريد أن يبيعها سريعًا ويرجع، فيأتي إليه الحضري ويقول له: دعني أغالي لك في بيعها، وكما ذكر ابن عباس في شرح هذا الحديث قال: أن يكون له سمسارًا، فقال: منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، لأن في ذلك إضرارًا بالغير، فإذن هذا الحديث فيه مبدأ مهم جدًّا في المسألة التي نناقشها الآن وهي أنه بينما أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن التسعير مظلمة وسلب الحق أكده الله عز وجل في كتابه الكريم، بين أن لولاة الأمور – وقد بدأ ذلك الفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولنا فيه أسوة – أن لهم التدخل بكل الوسائل الممكنة، وبكل الطرق الممكنة للحد من الغلاء، فتصرفه بأن منع أن لا يبيع حاضر لباد، هذا تصرف واضح، والحكمة منه واضحة، وإذن لولاة الأمور أن يقفوا ويمتنعوا عن هذه المظلمة، وهي في الحقيقة ليست مظلمة فقط، بل تكفل للناس حرية الرضا وحرية التجارة وحسن التعامل بين الناس، لكن في نفس الوقت للدولة إذا تحرت ووجدت أن هنالك أي عوامل أو أي عناصر أو أي مجموعة من الناس تعمل وتخطط أو تجهد لكي ترفع لأسعار وتغنى – كما هذه الفئة من الناس التي ذكرها فضيلة الشيخ المقدم – على الدولة أن تحاربها بكل الوسائل للدولة أن تسن من اللوائح ما يكفل سوقًا صالحة، ورخاء في الأسواق، وعلى الناس طاعة هذه الدولة في هذه المسألة، والمسائل التي – أيضا – تقوم بها الدولة هي على الدولة وعلى ولاة الأمور في الدول الإسلامية مهام عظيمة وهي توفير البضائع للناس، وهذه مسألة – طبعًا- حسب ما يفتح الله عز وجل إذا توفرت هذه البضائع صارت السوق سوقًا حرة وللناس حرية التعامل فيها وحرية والتداول، وكذلك في رأيي أن على الدولة الصالحة التي تقتدي أو تشعر بواجبها في هذا الدين أن تحيي ضمائر الناس بالتقوى، النبي صلى الله عليه وسلم مدح التاجر الصدوق الأمين، وقال: إنه مع النبيين والصديقين والشهداء، وبين الخيارات المختلفة حتى تكفل هذا الرضا، وهذا التسامح في البيع، فإذن الدولة يجب زيادة على ما يجب تكفله من وفرة البضائع حتى تحارب السوق السوداء وغيرها من الأشياء، وما تكفله الدولة أيضًا من إحياء الضمائر بالتقوى والعمل الصالح والنزاع بين الناس في هذه الأمور، أنا في رأيي هذه مهمة كبيرة جدًّا على ولاة الأمور، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحق في التدخل، وشكرًا.(5/2347)
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أنا في الحقيقة عندي بضعة نقاط وأرجو أن أدعو أيضًا إخواني الاقتصاديين الحاضرين لأن يتكلموا في هذا الموضوع، أحب أن أبدأ بالنقطة الأخيرة التي انتهى إليها الأخ الدكتور حمد عطا السيد، الحقيقة واضع المسلمين وواقع دولهم أن الدولة كانت المتسبب الأول والأكبر، وفي معظم الأحيان الوحيد في ما نسيمه من جشع التجار، واحتكار التجار، وانتفاعهم، والحقيقة أن الدولة هي المنتفعة أيضًا، الدولة بمعنى موظفيها، بمعنى من يتدخل، من يضع هذه اللوائح، من ينفذ هذه اللوائح، من يعطي التراخيص، ومن يمنع التراخيص، هي كانت المتسببة وهي المنتفعة وهؤلاء كما هو مألوف وملحوظ ومرئي هم شركاء ما يسمى بفئة التجار الجشعة، هذا واقع المسلمين، وهذا تدل عليه تجربة الدول الإسلامية والدول غير الإسلامية خلال نصف قرن من الزمان، ليست فئة التجار هي المشكلة بل أن تنظيمات الدولة وتراخيصها وفئة البيروقراطية التي في الدولة هي التي سببت وعملت وانتفعت من هذه التدخلات، التسعير: أظن ينبغي أن نميز تمييزًا مهمًّا بين تسعير على فرد كما ورد في المثال الذي " أعتق عبدًا له فيه شرك " هذا تسعير على فرد، والتسعير هنا بسعر المثل بسعر السوق بمعنى آخر، بالسعر الذي يتكون بحرية التداول بالسوق، وبين التسعير على الأمة كلها، التسعير على الأمة أمر يمنع السلع، يمنع تداولها، يمنع الإنتاج، يؤثر على كفاءة الإنتاج إلى حدود بعيدة، وهذا أمر مجرب، لا شك أن هناك بعض الظروف التي تقتضي نوعًا من تدخل الدولة، الظروف الاستثنائية، ظروف عدم وجود المواد أصلًا، عدم توفرها، ظروف بطبيعتها استثنائية جدًا، فإذا جعل من هذا الاستثناء القليل النادر، إذا جعل منه قاعدة أدى ذلك إلى هبوط عام في الاقتصاد وفي كفاءة الإنتاج وكفاءة التوزيع، وأدى إلى تسلط فئات هي أكثرها من الفئات التي تصنع هذه الأنظمة وتضع هذه اللوائح، بعض السلع بطبيعتها تتضمن معنى الاحتكار، سلعة لا تنتج إلا باستعمال أموال كبيرة ولا يمكن توزيعها بطريقة تنافسية، مثل الكهرباء مثلا، إنتاج الكهرباء، هذا قد يأتي به موضوع أن تحدد الدولة أو أن تشترك الدولة في تحديد نوع ما من الأسعار على الناس بحيث تتوازن مصالح المستهلك والمنتج، وحتى في هذه السلع يلاحظ أن تدخل الدولة بالتسعير يؤدي في معظم الأحيان إلى عدم موافقة المنتجين لهذه السلع للتطورات الفنية الحديثة، بأن يتخلف الإنتاج عندهم وأن تبقى طريقة الإنتاج بطرق قديمة غير متطورة، وهذا أيضًا أمر ينبغي أن يلحظ كثيرًا عند التسعير حتى في مثل هذه الأحوال، كنت أود أن يركز الموضوع على مسألة تحديد أرباح التجار التي أشار إليها الدكتور القرضاوي، وهي موضوع مختلف عن مسألة التسعير، أحب أن أستمع من السادة العلماء إلى رأي في ما هي العناصر التي يلحظها التاجر المسلم؟ الضمير المسلم، عندما يحدد سعره، عندما يحدد ربحه دون تدخل الدولة، دون أي شيء، ما هي العناصر؟ ما هي المؤثرات التي تجعله يقبل بربح ما ولا يقبل بربح آخر؟ وهل يختلف الإنسان المسلم في هذا عن غيره من غير المسلمين؟ وهل يؤثر الإسلام بأن يجعل في نفس الإنسان عناصر واتجاهات تؤثر وتحدد له منحاه في ما يقبله من ربح، وما لا يقبل به؟ هذا غير تدخل الدولة أيضًا في تحديد الأسعار وهي نقطة مهمة جدًّا في دراسة نفسية الإنسان المسلم مقارنة مع غيرها في سلوكه الاقتصادي أكتفي بهذا والحمد لله رب العالمين.(5/2348)
الشيخ محمد علي التسخيري:
شكرًا سيدي الرئيس.
أولًا: أود أن أشكر أستاذنا السيخ السلامي على هذا العرض الجيد الجامع فحياه الله، ولم يبقَ لي أي كلام يرتبط بمقالي، وإنما أردت أن أؤيد ما تفضل به الأخ الدكتور المتحدث قبلي الدكتور منذر، من أن الحكومات اليوم أحيانا يكون لها دورها المؤثر في رفع الأسعار، وفي إيجاد هذه الأزمات التي نلاحظها وأعتقد أن هناك عوامل في هذا المعنى منها وجود اتجاهات – واقعًا – اشتراكية جافة جدًّا حتى عند من ينتسبون إلى الإسلام ويؤمنون –واقعًا- بالإسلام ولكنهم متأثرون تماما بالتخطيط المركزي القوي، الحديدي للأسعار، فهؤلاء يتدخلون وفق هذه الاتجاهات، وبالتالي يخلقون نوعًا من التضييق لا مبرر له، وربما دلتنا التجارب الواقعة اليوم على أنهم إذا فسحوا المجال فإنهم يرفعون التضييق عن الشعب من جهة، ويرجع السعر إلى حالته الطبيعية من جهة أخرى هذه التجارب عشناها عملًا في كثير من التطبيقات، الشيء الآخر، هؤلاء يعمدون إلى رفع أسعار خدماتهم التي يقدمونها للشعب، أو الضرائب التي يأخذونها على التراخيص وأمثال ذلك، وهي بالتالي تعطي مبررًا طبيعيًّا لأصحاب السلع لرفع الأسعار، هذه الأمور يجب أن تلحظ عندما يريد ولي الأمر أن يتدخل لتحديد الأسعار فلعله هو أو عماله هم السبب في رفع هذه الأسعار، الشيء الآخر الذي أشير إليه أننا لو غضضنا النظر عن التطبيقات الحالية، ولي الأمر يستطيع – اليوم – من خلال تقديمه الخدمات والتسهيلات والعملة الصعبة وأمثال ذلك، وهذا ما أشار إليه أستاذنا السلامي أيضا، من خلال تقديم هذه الخدمات يستطيع أن يشترط على التجار أن يدخلوا في إطار التحديدات العامة للأسعار، والقوانين العامة للسوق، يعني يستطيع الاشتراط من خلال تقديمه لهذه الخدمات (الماء، والأمن وما إلى ذلك) كل هذه الأمور تقدم على شرط أن يلتزم التجار بما يحقق العدالة في السوق الإسلامية، لا أرى مانعًا بهذا الاشتراط، وشكرًا.(5/2349)
الدكتور يوسف محمود قاسم:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أقدم خالص شكري إلى فضيلة الأستاذ الشيخ المفتي محمد المختار السلامي، على هذا العرض الوافي بالنسبة للأبحاث، وبالنسبة لبحث فضيلته بالذات، الذي أشار فيه إلى آراء مجموعة كبيرة من السلف الصالح، ثم إلى بعض الآراء المعاصرة التي اختار هو ترجيحها، في الواقع من هذا العرض الذي سمعناه يبدو أن هنالك أصلًا قاعدة أصلية متفق عليها مسلمة في الكتاب والسنة وهو أن (التسعير حرام) " إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، وإني أرجو أن ألقى الله وليس لأحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال " فهو صلى الله عليه وسلم رفض أن يسعر؛ لأنه مظلمة، كما قرر ذلك علماء السنة، لكن وكما وضح العلامة ابن القيم أن هنالك استثناء، إذا تعنت التجار على أن يضروا بمصالح الناس وأن يرفعوا السعر عليهم ظلمًا وعدوانًا، فهنا يجوز لولي الأمر أن يتدخل لرفع الظلم، وعبارة ابن القيم: " يجوز بل يجب عليه لأن من اختصاصه ولاية المظالم، ورفع الظلم عن الناس " في الحقيقة أيضا، الدول المعاصرة في الدول النامية، الدولة النامية في الواقع هذه الدولة واقعة في ورطة، نتيجة عدم توضيح الأمور من الناحية الفقهية لها، لأننا كثيرًا ما قرأنا وسمعنا في الستينيات فتاوى كثيرة تبرر للدول المتسلطة أن تحدد السعر، والتسعير جائز، والتسعير والمصلحة، وهكذا، والكل يفتي، هذا أوقع الدولة الآن في ورطة لماذا؟ لأنه في الواقع التسعير من غير ضوابط يؤدي إلى ظلم ظاهر، كما أكد ذلك الحديث التسعير الذي تكلم عنه ابن القيم وابن تيميه وغيرهم، هو لرفع الظلم إذن تدخل استثنائي ولفترة محددة فيرفع الظلم، تتدخل الدولة لترفع الظلم عن الناس حتى يعود السعر إلى المجرى الطبيعي إلى العرض والطلب، ولذلك عبارة ابن القيم لا زالت في ذهني، أما إذا كان ارتفاع السعر راجعًا إلى قلة الشيء أو إلى كثرة الخلق، فهذا إلى الله، ولا يجوز التدخل، هذا مذهب ابن القيم، إذن القاعدة ما هي؟ القاعدة هي العرض والطلب، هذا هو الأساس متى يجوز التدخل استثناء؟ لرفع الظلم، على الدولة أن تتدخل لترفع الظلم، ثم ترفع يدها بعد ذلك عندما تعود الأسعار إلى مجراها إلى العرض والطلب، فضيلة الشيخ السلامي – جزاه الله خيرًا – أشار إلى عبارة، يقول: وعلى الدولة أن تعوض التجار من الخزانة العامة، هذه هي الكارثة الواقعة فيها كل الدول النامية الآن، موضوع الدعم، لِمَ الدعم؟ الدعم نتيجة عدم تبصير الدولة بأن التسعير حرام، فغالت مغالاة لا حد لها في التسعير، بطبيعة الحال يصرخ التجار، لأن التسعير يصادر كل أرباحهم، فتأتي الدولة سرًّا وتعوضهم الربح المعقول من خزينة الدولة، خزينة الدولة الآن تتحمل في سلعة واحدة في بعض الدول مليارين من أجل سلعة واحدة فيقول لك: الدعم ويأتي صندوق النقد الدولي ليتدخل، والدنيا تصرخ، والمشاكل التي لا حد لها، هذا من عدم ضبط قاعدة التسعير وبحمد الله حينما أثير هذا الموضوع أمام المجمع الموقر والذي له الكلمة العليا بين علماء المسلمين، والمسلمون ينتظرون كلمة الحق، التسعير حرام إلا إذا كان هنالك ظلم من التجار فتتدخل الدولة لرفع الظلم فقط، ثم ترفع يدها ليعود المجرى الطبيعي، مجرى العرض والطلب، وأكرر عبارة ابن القيم: " أما إذا كان ارتفاع السعر راجعًا إلى كثرة الخلق أو إلى قلة الشيء فهذا إلى الله " وشكرًا لكم. والسلام عليكم.(5/2350)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد في تعليق الأخ منذر قحف أنه يرى أن هذا الموضوع ما كان ينبغي أن يبسط على هذا النحو، وأن الذي كان يأمله هو أن يعرف هل الإسلام يحدد للمؤمن نفسية خاصة في تحديد أرباحه، أو لا؟ ولست أدري هل كان معنا الأستاذ منذر قحف من الأول أو لا؟ لكن هذا أول ما ابتدأت به حديثي، فقد قلت: إنني لم أجد أي نص، لا في القرآن ولا في السنة ولا في أقوال العلماء، يوجب على المؤمن أن لا يبيع إلا بربح محدد، بل الواقع الذي وجدناه في تعاليق الصحابة والتابعين، أنهم باعوا بخسارة، وباعوا بربح متوسط، وباعوا بربح يبلغ أضعاف الأضعاف فالقضية هي قضية سوق، ثم إن الإسلام يدخل في قلب المؤمن تارة فيجعله قنوعًا راضيًّا، وتارة يدخل قلب المؤمن ولكن لا يصل به إلى هذا الحد، فهي ليست قضية واجب، لكن هي قضية تأديب سلوك، ونحن هنا لا نبين – لسنا في مقام التبيين – القضايا السلوكية الخاصة التي يرغب فيها، ولكن في مقام الحقوق، فالموضوع يوضع لبيان ما يجب، وما يحرم، ومن باع ولو بأضعاف لا شيء عليه وشكرًا.
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
كنا ننتظر من سماحة العلامة أن يبدأ بعنوانين بارزين وهما: التسعير والاحتكار، كل منهما تسلط مرفوض مبدئيًّا، فالتسعير تسلط الحاكم على الفرد، والاحتكار تحكم الفرد في الجماعة كل منهما من حيث المبدأ مرفوض إلا للضرورة، ولكن ماذا نقول إذا اجتمع كل من التسعير والاحتكار في يد واحدة، كما عليه الأمر في كثير من دول ذات نظام معين في الحكم؟ فهي المحتكرة، وهي المسعرة، وهي المضيقة على عباد الله في كلا الأمرين، كما أن هنالك تسعيرًا فيه توسعة، وهذا واضح في دول معينة، عندما تسعر إنتاجًا معينًا للتشجيع وتسعر للمواطنين أسعارًا معينة لمحاصيلهم الزراعية، فهي تعطي ربما فوق ما يستحقون، بينما دول أخرى تظلمهم في كلا الأمرين، ومن هنا فالاحتكار بالجملة والتسعير للتضييق كلاهما قيد على الحرية، هذا من حيث المبدأ ولكن لهذا المبدأ استثناءات إذا خرج المواطن عن أخلاقيته تدخل الحاكم ليرده إلى صوابه، وشكرًا والسلام عليكم.(5/2351)
الدكتور محمد عمر الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
طبيعة السوق اختلفت اختلافًا كبيرًا وجوهريًّا عن طبيعة السوق في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت القوى تتوازن لتحقق السعر العادل بين أطراف المتعاملين في تلك السوق، أما وقد تغيرت تلك الآلية في هذه الأسواق الحاضرة، فيجب أن تتنزل الأحكام على قضايا الواقع ودراسة واقع هذه الأسواق، فالتعارض والتنافر بين مصالح الأفراد في هذه السوق، هذا التعرض هو الظاهرة السائدة في هذه الأسواق، ولا بد من تدخل فئة من الفئات المعنية بتحقيق هذا التعادل والتوازن، الدولة لا بد أن تتدخل في تلك الأحوال، وأقول ليست هذه أحوالًا استثنائية، وإنما ظاهرة الاحتكار في هذه الأسواق هي الظاهرة العامة، فلا توجد تلك الأسواق السائدة في العصور السابقة، أختلف مع زميلي الدكتور منذر في هذه القضية، فإذا كانت الدولة هي المسببة في إثارة هذا التعارض وهذا الارتفاع في هذه الأسواق، إلا أن الدولة أيضًا لها دور كبير جدًّا في القيام بالتوازن بين هذه المصالح، وأعتقد أن التدخل واجب لإقامة العدل بين أفراد المجتمع وشكرًا.(5/2352)
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم
أقدم الشكر الجزيل للشيخ المختار السلامي، على تلخيصه الجيد، واهتدائه إلى النقاط المهمة في كل بحث من البحوث التي أسند إليه تلخيصها.
والحقيقة أن الموضوع اليوم هو موضوع شامل، وحيوي لأنه يهم السوق الإسلامية، والمواطن الإسلامي، فتحديد أرباح التاجر تتمحور تحتها عدة محاور، البيع – كما نعلم – هو بيع مساومة أو مرابحة، والمرابحة خطيرة في عصرنا لأنها أصبحت هي البيع الذي يكاد يشمل جل الساحة الإسلامية، فلا بد من النظر الإسلامي إليه، ولا بد من تنبيه حتى إذا لم نقل التدخل المباشر، لا بد من يقظة أولي الأمر لتتبع حال السوق، والحال أن الذين يبيعون في الأسواق لم يتلقوا أثناء دراستهم الدراسات الكاملة التي تبين لهم الحلال والحرام في البيع، والتي تعرفهم على مواطن الغبن الفاحش المحرم في الشريعة، وتبين لهم المواد التي يحرم بيعها للمسلمين، وتبين لهم غير ذلك من الأشياء التي يجب أن يتجنبها المسلمون في سوقهم، ففي هذه الحالة، تدخل السلطة هنا لا يقول به باحث من الباحثين الزملاء الذين تكلموا في الموضوع والذين لخص الشيخ المختار كلامهم، لا في المرابحة، ولا في التسعير، ولا في تحريم الاحتكار ومراقبته ومنعه، لا نقول بأن يكون التدخل أعمى يوكل إلى سلطة ظالمة تربت في أحضان الغرب وسياسته، والتي تفرض على المسلمين ما درسته في الغرب، وما تلقته، وما ارتبطت به مصالحها فيه، ولكن نقول تدخل السلطة الشرعية المسلمة التي تريد أن تعيد للإسلام توازنه الذي كان يهدف إليه الرسول صلى الله عليه وسلم والذي قام به خلفاؤه من بعده، وأكرر هنا قضية عمر بن الخطاب مع حاطب بن أبي بلتعة، حيث قال له: " إما أن تبيع بمثل ما باعت به العير التي قدمت من الطائف، وإما أن تنتقل عن السوق "، ثم أكرر الحديث الذي قال: ((من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغلي عليهم، كان حقًّا على الله أن يقعده على عظم من النار)) حقيقة أنه بين الآية الكريمة: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، وما ورد في القرآن الكريم مما يؤكد أن القرآن يريد أن يعطي الحرية للمسلمين في تبايعهم وما ورد من أحاديث في ذلك، وبين اختلاط المسلمين بغيرهم، وبين احتكار التجار، وبين رغبتهم في الأرباح التي تستنزف كل طاقة المسلم، وبين حتى أولئك الذين يقدمون بتجارتهم من أجل أن يحطموا السوق حتى يتنحى عنه الناس، وهي ظاهرة ألح عليها الإمام مالك، كل هذه الأوضاع يجد فيها الحاكم سلطته ضيقة للتدخل، ولكن لا يمنع هذا أن يتدخل الحاكم لحماية المسلمين من استغلال التجار استغلالًا بشعًا، كما لا يمنع الحاكم من أن يتدخل، حتى لا تفرض على التجار قيود تمنعهم من استجلاب السلع إلى المسلمين، لهذا فأنا لا أريد أن أتدخل هنا لأسرد الحجج لأني أكون كجالب تمر لخيبر، ولكن أقول بأن البحوث هي بين أيديكم، وقد حللنا فيها أقوال العلماء، وأخذنا بأقوال الخلاف العالي أي المذاهب الأربعة، وحتى مذاهب الشيعة ولكن الشيء الذي ينبغي أن نخرج به أوضاعنا اليوم كمسلمين تفرض علينا فرضًا أن تتضافر جهود العلماء والحاكمين تنظم أحوال السوق لتصبح سوقًا إسلامية، وشكرًا لكم والسلام عليكم.(5/2353)
الدكتور يوسف القرضاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم
حينما تلقيت التكليف من الأمانة العامة للمجمع حول موضوع " تحديد أرباح التجار"، في الحقيقة كان الذي في ذهني أن الموضوع هو ليس موضوع " التسعير " وإلا طلب الحديث عن موضوع التسعير، ولذلك انصرف همي وذهني من أول الأمر إلى البحث عن هذا الموضوع – موضوع تحديد الربح _ وهو لم يحظَ بالبحث من قبل ذلك، وأحمد الله أنه بالبحث لم أجد من العلماء من حدد نسبة معينة إلا ما نقلته عن الزيلعي الحنفي من تفسيره وتعريفه للتعدي الفاحش في قول صاحب الهداية وغيره: " إذا تعدى أرباب الطعام تعديًّا فاحشا جاز للسلطان أو نائبه أن يتدخل للتسعير مشورة أهل الرأي والبصيرة "، فهو قال: إن التعدي الفاحش أن يبيع بضعف القيمة، ولكن لم أفهم ولم أعرف بالضبط ما الذي يريده من ضعف القيمة، هل قيمة المثل – وهذا يتعلق بموضوع الغبن وغيره – أو قيمة الثمن الذي اشترى به؟ هنا يدخل مسألة الربح، لم يحدد بالضبط، وكنت سمعت من بعض الإخوة أن المالكية يقولون أو قال بعضهم – بعضهم قال: إن هذا في حاشية الدسوقي، ولم أستطع أن أعثر على نص في هذا – إنهم يقولون بالثلث، بتحديد الربح بالثلث، وأنه يستحب أن لا يزيد على ذلك، ولعل الإخوة من علماء المذهب المالكي وهم متوافرون هنا أقدر على تحديد هذا الكلام ومصدره، ولكني – كما ذكر فضيلة الأخ الشيخ السلامي وقد أحسن في تلخيصه للبحوث – حفظه الله- وجدت في السنة المشرفة ما يدل على أن يكون الربح مائة في المائة كما في حديث عروة بن الجعد الباقي وهو في البخاري وعند أبي داوود والترمذي وعند الإمام أحمد، وهو الذي اشترى الشاتين بدينار حينما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارًا ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، ثم باع في الطريق إحداهما بدينار وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتك، قال: ((وصنعت كيف؟)) فحدثه الحديث، فقال: ((اللهم بارك له صفقة يمينه)) قالوا: فكان لو تاجر في التراب لربح فيه، وقال عن نفسه كنت أقف في كناسة الكوفة – سوق هناك – فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل إلى أهلي ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشاهد أنه ربح مائة في المائة في دقائق، يعني في مشوار واحد، وذكرت قصة الزبير والغابة، وكيف باعها عبد الله بن الزبير – وقد اشترى بمائة وسبعين ألفًا – بمليون وستمائة ألف، أي بحوالي تسعة أضعاف، فليس إذن هناك ما يدل على تحديد نسبة معينة للربح، لأننا لا نستطيع أن نأخذ من هذا حكمًا عامًا مطردًا، لأن هذه كما يقول الأصوليون: وقائع أعيان، وإنما تعطينا المبدأ، إنه ليس هناك تحريم لربح معين، ولكن كيف نحدد النسبة للربح لو أدرنا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعل هذا، كما أشرت إلى أن هناك اعتبارات عددية تتدخل في تحديد نسبة الربح، من يبيع حالًا غير من يبيع آجلاء، ومن يبيع قليلًا غير من يبيع كثيرًا، وصاحب رأس المال القليل التافه غير صاحب رأس المال الكبير، ومن يبيع سلعًا تتداول بسرعة بطبيعتها غير من يبيع السلع المعمرة كما يقولون أو يبيع أرضًا تبقى سنين حتى يبيعها التاجر المدير أو التاجر المتربص كما يعبر المذهب المالكي، هذه كلها تختلف، فلا يمكن تحديد ربح معين، ولكن هنا في الحقيقة الشيء المهم: أنه لو أن التاجر المسلم التزم بأحكام الإسلام وبتوجيهاته في البيع والشراء، فإنه لا يمكن في أغلب الأحوال إلا أن يربح قليلًا، لأن مسألة منع الاحتكار، ومنع الربا، ومنع التدليس، ومنع الحلف، وأن يجعل الله بضاعته أو ينفق سلعته بالحلف الكاذب، أو إذا باع مدح وإذا اشترى يذم، إلى آخره، كل هذه الأشياء حتى تزيين السلعة كما قال الإمام الغزالي بالكلام – وهذا يدخل فيه معظم الدعايات التجارية والإعلانات التجارية– فالتاجر لو التزم بهذه التعليمات كلها قلما يربح إلا القليل وخاصة من يبيع السلع اليومية والضرورية للناس، أما إذا اعتمد التلاعب وتدخل بعوامل مفتعلة وأصبح هناك احتكار، فلا بد من التسعير، لا ينبغي أن نصدر فتوى كما توجه بعض الإخوة أن التسعير حرام، لا، الأصل هو عدم التسعير، إنما إذا وجدت عوامل مختلفة كما توجد في كثير من بلاد المسلمين الآن، لا بد أن يسعر ولي الأمر حفظًا لمصالح عموم الناس، وبعض الإخوة بتباكون على التجار، والواقع أننا يجب أن نتباكى على المستهلكين، التجار يكسبون الملايين، ولكن الآن المستهلكون هم الضحية، ثم إن التسعير ليس على التجار فقط، التسعير على المنتجين أيضا، لأن الزارع والصانع وصاحب السلعة (منتج السلعة) يجب أن يسعر عليه، هنا شيء آخر – يعني الحقيقة أحببت تصحيح بعض الأشياء – كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة: " إما أن ترفع السعر أو ترفع من سوقنا "، وبعض الإخوة يرى أن عمر لا يمكن أن يقول هذا وأن الإنسان ممكن أن يتسامح ويبيع بأقل من السعر، ولكن هذا أحيانًا يكون خطرًا على المجموع، وهذه حيلة يفعلها بعض التجار الرأسماليين، وهي من صنع اليهود الآن قد يتدخل في السوق ويغرقه بسلعة معينة في أول الأمر ويبيع بأرخص ليضرب التجار الآخرين ويضرب السلعة، ثم يحتكر بعد ذلك، فأحيانًا إذا وجد هذا، هذا لا يكون لوجه الله ولا لوجه الناس إنما لوجه صاحبه ولمنفعته، وعمر كان خبيرًا وبصيرًا وملهمًا، فأراد أن يكون العدل هو الحاكم، كثير من الإخوة ينقلون عن ابن القيم كل الكلام الذي نقل عن ابن القيم، إن هذا لقلة الشيء أو لكثرة الخلق، وإنه إلزام بالعدل الذي ألزم الله الناس به، وإن التسعير منه ما هو ظلم ومنه ما ... كله كلام ابن تيمية، يعني ابن القيم نقل كلام شيخه – شيخ الإسلام ابن تيمية – في رسالة الحسبة، وأفرغه في الطرق الحكيمة، فمن العدل ومن الأمانة العلمية أن ينسب هذا إلى الإمام ابن تيمية، كذلك ما قاله الشوكاني في "نيل الأوطار " هو كلام الصنعاني في " سبل السلام " وهو سابق عليه فينبغي أن ينسب إليه. أكتفي بهذا القدر وشكرًا.(5/2354)
الدكتور عبد الله إبراهيم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شكرًا لفضيلة الرئيس.
أحب أن أشارك في هذا البحث، وخاصة استجابة لما أثاره أحد الخبراء وهو الدكتور منذر قحف، حول العناصر المعتبرة في تحديد السعر، لأني لم أسمع أحدًا من الحاضرين تناولها بالمناقشة أو بالتفصيل هنا، الواقع أن التاجر حينما يتاجر إنما يطلب الربح، فهو إذن إنما يبيع بسعر يتضمن قيمة التكلفة مضافًا إليها مبلغًا آخر كالربح، وقيمة التكلفة وما يعتبر من الأمور التي يضاف، هناك قيمة التكلفة، قد بينها وتناولها الفقهاء بالتفصيل، كذلك تناولها الباحثون المعاصرون، بينما مسألة الربح المضاف إلى قيمة التكلفة، لم يتناولها إلا قليل منهم كما استمعنا إلى فضيلة الدكتور القرضاوي قبل قليل، وقد ذكرت – أيضًا – هذه المسألة من حيث قلة تناول الباحثين لها في بحثي المطروح أمامكم في (التأجير المنتهي بالتمليك) وكذلك (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) فإنهم لم يتناولوا الربح المضاف إلى قيمة التكلفة إلا قليل منهم، لعلهم اكتفوا بذلك إلى معالجة سعر السوق، وبالنسبة للأمور المعتبرة في تحديد قيمة التكلفة كما قلت إنه قد تناولها الفقهاء من قبل بالتفصيل، فإنهم قد ذكروا أمورًا عديدة يمكن اعتبارها من تكاليف الإنتاج، فيوضع لكل منها قيمته فتجمع هذه القيم كلها لتكون قيمة التكلفة، وبعد ذلك يضاف إليها ربح معين لتكون سعر البيع أو قيمته، ومن الأمور المعتبرة بتحديد قيمة التكلفة – كما ذكر الفقهاء – ثمن الشراء الأول على حسب الاصطلاح الحالي، ومنها أيضا ثمن العلف إذا كان هناك حيوان، ومن ذلك أيضًا ثمن النقل إلى غير ذلك من الأمور المبسطة وإن كانوا يتكلمون في هذه المسألة بالمرابحة، إلا أن مسألة تحديد قيمة التكلفة واحدة، سواء كانت في المرابحة أو في البيوع العادية، هذا ما أرى أنه من العناصر المعتبرة في تحديد السعر استجابة لما أثاره الدكتور منذر، وأما بالنسبة للربح المضاف إلى قيمة التكلفة الذي يندر تناوله من العلماء إلا عدد قليل منهم، ومنهم فضيلة الشيخ الدكتور القرضاوي في بحثه المطروح أمامنا الآن، فإنه قد ذكر كما استمعنا لكلامه أنه يمكن أن يصل إلى مائة في المائة وأكثر منه، ومن العلماء أو الباحثين الذين تناولوا هذه المسألة – كما اطلعت – الدكتور شوقي إسماعيل شحاته، ومنهم أيضا الدكتور محمد عبد الحليم عمر في بحثيهما المقدمين إلى المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي المنعقد في الأردن في يونيو 1987 م، فإنهما مع ذلك لم يتناولا هذه المسألة بالتفصيل، مثلًا الدكتور شوقي شحاته فإنه ذكر بصفة عامة عندما ذكر في بحثه المقدم للمؤتمر المذكور – وهو مؤتمر يعقد بالتعاون باسم ندوة بين المجمع الملكي والبنك الإسلامي للتنمية بجدة – ذكر الدكتور شحاته عن الربحية أمرين:
أولا: ملاءمة الربحية لذات السلعة أو النشاط في ضوء أسعار السوق أو العمليات السابقة.
وثانيا: مدى الالتزام بالقرارات الخاصة بنسب تحديد نسب الربح، وقوانين الاستيراد، واللوائح التنفيذية.(5/2355)
هذا ما ذكره الدكتور شحاته حول الربح المضاف إلى قيمة التكلفة.
وأما ما تناوله الدكتور محمد عبد الحليم عمر، فقد تناوله بشيء من التفصيل، فإنه قال في بحثه حول عنصر الربح كأحد عناصر الثمن الثلاثة، الثمن الأساسي أو الأول ثم الربح، فقال: إن هذا العنصر هو المقصود بالعملية وقال: والعلم به ذكره بالعقد شرط من شروط المرابحة، وإن كان ذكر هذا في المرابحة ونحن في المسألة عامة في المرابحة وغيرها، وذكر عن بعض البنوك الإسلامية، فإن بعض البنوك تذكره، والبعض الآخر لا يذكره بل يذكر ثمنًا إجماليًّا متضمنا الربح دون إشارة إلى ذلك، فقال عن هذا: وهذا أمر يجب تعديله بضرورة ذكر الربح في عقد البيع حتى يحقق الشرط العيني بالربح كأحد شروط المرابحة، وقال: ولا يكتفي في ذلك بذكره في عقد الوعد، حتى ولو أشير صراحة في عقد البيع على هذه الحالة.
أولًا: لأن عقد الوعد لا ينعقد بيعًا.
وثانيا: لأنه ربما يتم تغيير الربح بين مرحلة المواعدة ومرحلة البيع، لأية ظروف، مثل صدور قوانين أو قرارات من الدولة تنظم ذلك، ثم تناول كيفية حساب الربح المضاف إلى قيمة التكلفة وذكر:
أولا: اختلاف البنوك الإسلامية في كيفية حسابه، فقال: يحسب الربح كنسبة مئوية من ثمن الشراء، وجميع المصروفات في بعض البنوك ومصروفات محددة في بنوك أخرى، ويلفت النظر بعد ذلك إلى أن نسبة الربح يجب أن تختلف بحسب نوع البضاعة وعدم السداد بما يؤثر على إجمالي الثمن الذي يزيد في البيع الآجل عنه بالبيع النقدي، مع ضرورة الإشارة إلى أن ذلك يجب أن يكون محددًا بصفة قاطعة عند إبرام عقد البيع، ولا يقال مثلا ً إن نسبة الربح لسلعة ما 5 % إذا كان السداد على شهرين، و7 % إذا كان السداد على أربعة شهور، وقال: فإذا كان يجوز أن يكون هذا واضحًا قبل التعاقد فإنه إذا تم العقد على نسبة 5 % مثلًا، والسداد في مدة شهرين ثم تأخر المشتري عن السداد في الموعد المحدد، ألا تزاد نسبة الربح مقابل الأجل في هذه المرة، بل يعالج الموقف بأخذ الإجراءات المقررة للتوقف عن الدفع على أن بعض البنوك تلتزم بتحديد الربح بالنسبة المقررة من الدولة عندما تحدد الدولة بقرارات نسب الربح لكل سلعة مستوردة أو محلية لكل من المستورد أو تاجر الجملة والتجزئة وذكر أن بعض البنوك تحدد الربح بنسب ثابتة على جميع أنواع السلع: 18 % مسترشدة في ذلك بسعر فائدها الربوي السائد في السوق، هذا بعض ما تناوله العلماء والباحثون المعاصرون في مسألة الربح المقدم أو المضاف إلى قيمة التكلفة، ونحن كما أرى أننا في بحث تحديد السعر لا بد أن نناقش ونتخذ قرارًا بالنسبة للربح المضاف إلى قيمة التكلفة هذه، وليس فقط بالنسبة لقيمة التكلفة، وشكرًا.(5/2356)
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:
الحقيقة في تحديد الأسعار تبرز سوق تسمى " السوق السوداء " وتختفي السلع، وتزيد المشاكل: تخفيض الأسعار والتأثير في تخفيض الأسعار ينتج بزيادة الإنتاج، وسوقنا في البلاد الإسلامية مع الأسف الشديد سوق تابعة للأسواق العالمية المحتكرة، وهناك موجود عصابات منتشرة في العالم تحتكر السلع، وتحد الأسعار لمصالحهم لتهديد الدول غير المنتجة، تهددهم سياسيًّا، وثقافيًّا، واجتماعيًّا، هناك عوامل أرغب في أن أبينها وألقي الضوء عليها، أيضا يتدخل في ارتفاع الأسعار، انخفاض العملة المحلية: انخفاض العملة المحلية أيضا أسبابها كثيرة وكلكم تعرفونها، ثم هناك سبب الاحتكار الناتج عن الجشع، ثم جمع السلطة مع التجارة، يعني لا يجوز أن يكون وزير تاجر أو أمير وتاجر، يعني لا يجوز الجمع بين الإمارة والتجارة، الأمر الثاني، عدم إعطاء رخص الاستيراد، ثم هنالك نقطة مهمة جدًا في الحقيقة وأنا أنادي من هذا المجمع المجتمع الإسلامي يجب عليه أن يكون مجتمعًا إنتاجيا، مع الأسف اليوم المجتمع الإسلامي مجتمع استهلاكي، فيجب أن يطالب في هذا جميع الأمة الإسلامية يجب عليها أن تتحول إلى أمة إنتاجية، البنوك الإسلامية ندعوها –الآن وبعد أن مضى على تأسيسها قرابة الخمسة عشر عامًا، أعتقد أنها نجحت في الخطوة الأولى، الخطوات التي يجب أن تتبع الخطوة الأولى، ونحن بدأنا فيها في بيت التمويل الكويتي – أن تسوق وتنسق بين البلاد العربية والإسلامية في منتجاتها الزراعية والصناعية لأن في التسويق والتنسيق في ما بين الدول العربية والبلاد الإسلامية في منتجاتها الزراعية والصناعية لأن في التسويق والتنسيق في ما بين الدول العربية والبلاد الإسلامية تأثيرًا بالغًا في تخفيض الأسعار، وتشغيل اليد العاملة الصانعة والزراعة، ونحن إن شاء الله قريبًا سوف نجتمع في جدة مع البنك الإسلامي للتنمية لتأسيس شركة في هذا الصدد هذا ما وددت أن أبينه في هذا المجال وشكرًا.(5/2357)
الشيخ علي المغربي:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله الصادق الأمين.
شكرًا سيدى الرئيس.
قد كان للحديث والبحث القيم الذي قدمه الأستاذ مختار السلامي، أثر مستوفٍ لجميع المسائل التي تتعلق بالبحث هذا، وتعرض فيه لقضية حرية البيع وهي الأصل، يعني أن التاجر يكون له الحرية المطلقة في أن يبيع بما شاء، ربح الكثير أو القليل، وهذا له الحق فيه، وعدم التدخل من طرف الحاكم، وذكر الأستاذ في الأخير تدخل الحاكم في التسعير، وذكر أن هناك أمما قوية، وأممًا ضعيفة وهو حق، فالأمم القوية لها نظامها ولها تراتيبها في أسواقها، والأمم الضعيفة هي دائما في حاجة إلى من يعيلها، وهي في حاجة أيضا إلى الأمم القوية لتكون لها سندًا في الغالب، ومن هنا أصبح تدخل الحكام في كثير من الحالات في بعض البلاد الإسلامية، وقد لا تكون جميعها، هناك قوي أن لم يكن كليًّا فهو في الغالب، وهذا التدخل قد يراد منه في أول الأمر أن المتدخل لتحديد السعر وتنظيم التجارة وتسييرها واستيرادها وتوزيعها قد يكون المراد منه إدخال كثرة البضاعة في السوق أو رخصها في السوق، ولكننا في كثير من الأحيان نجد القضية عكس هذين الأمرين، فكثيرًا ما يكون التدخل سببًا لفقدان السلعة، أو لزيادة قيمها في السوق، وهذا عائد إلى أن الذين يقومون بالمسئوليات هم الحكام، والحاكم أصلًا لا يجمع بين التجارة وبين الحكم، فإذا دخل الحاكم في التجارة فكثيرًا ما يكون سببًا لفسادها، وكثيرًا ما يكون هذا التدخل أيضا سببًا لفقدان السلعة سواء السلع المنتجة في البلاد أو السلع المستوردة، فالسلع المنتجة في البلاد كثيرًا ما يكون تحديد السعر لها سببًا لفقدها، لأن المنتج إذا رأى نفسه ينتج السلعة أو البضاعة أو إنتاج الفواكه أو الحبوب أو غيرها، ورأى نفسه إذا أراد البيع لا يبيع بما تكلفت عليه به السلع وتكلفت به عليه البضاعة، هناك يتأخر وربما ذلك التأخر يؤدي إلى نقصان السلعة في السوق، فيكون ذلك التحديد سببًا للضرر، هذه ناحية موجودة في كثير من البلدان، كذلك قضية تحديد الربح، قلنا هذا في السوق، الحقيقة هي أن التحديد هذا، تحديد ربح التاجر، وقد تعرض الأساتذة إلى أن هذا التحديد غير جائز لأنه لم يرد به نص في الشارع، وهذا صحيح، ولكن عندما ننظر إلى الذمم بين العصر القديم الذي كان في العهد الماضي عهد الصحابة وعهد السابقين الأولين وبين الذمم في العصر الحاضر، فهذه الذمم الموجودة الآن عند كثير من التجار أنهم لا يخافون الله، وإنما لا يريدون إلا شيئًا واحدًا وهو الربح الفاحش، والاستغلال الكثير في الأمم، فإذا كان المجمع ترك هذه القضية من دون أن يضع لها بحثًا، ومن دون أن يضع لها حلًا، فإن التاجر الذي يربح المرة والمرتين ضعف ما تكلفت عليه البضاعة، ونقول له: إن هذا حلال لك ومباح، لأن الشارع لم يضع لك حدا، فهو يقول: أنا أتصرف تصرفًا شرعيًّا مباحًا، لا حق لأحد أن يعارضني في هذا، ولهذا فالقضية هي قضية نظر إلى الضعفاء، إلى المستضعفين من أفراد الأمة، وإذا نظرنا إلى أن الربا حرمه الله؛ لأن فيه فائدة عن المال، وقد تكون قليلة، ولكن نظرًا إلى أنه أخذ شيئًا ليس من حقه ثم بعد ذلك نأتي إلى التاجر فنقول له: لك أن تربح الضعف أو الضعفين، وهو حلال لك، فهنا لا بد وأن ننظر أيضًا إلى قضية الأمة، خصوصًا الكثرة الكثيرة من أفراد الأمة هم في حاجة إلى العون، وفي حاجة إلى النظر إليهم في هذه القضية، ولهذا فإن القضية هذه نرجو من المجمع الموقر أن ينظر فيها، وكثير من التجار من لهم إيمان، يسألون هذا السؤال ويقولون، ما هو المقدار الذي يمكن لنا أن نقف عنده؟ هل هو الثلث، أو النصف، أو المقدار؟ أعطونا مقدارًا، ولكن المسئول غالبًا ما دام ليس هناك نص محدد، لا يستطيع أن يقول له: قف عند هذا المقدار، وإنما نقول له: كن مؤمنا صالحًا، والإسلام يقول: " لا ضرر ولا ضرار " فلا تضر نفسك، ولا تضر بغيرك وشكرًا لكم.(5/2358)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
عندي أمران أردت الحديث فيهما إتمامًا – هو طول البحث قد يتسبب عنه أن الإنسان يشرد ذهنه، وشرود الذهن هذا عارض لكل منا – فلما تحدثت عن الاحتكار والتسعير، قلت: إن الأصل في الاحتكار والتسعير هو التحريم ولكن قد يعرض لهما ما يوجب الاحتكار، وقد رأى بعض العلماء وجوب الاحتكار، كما إذا وردت سلع كثيرة من المنتجين، فلولا الاحتكار لها عزف الناس عن الإنتاج الوافر، فالاحتكار يكون ضمنيًّا لسلامة الاقتصاد، فجعل عالم لبنان فضيلة الشيخ خليل الميس: من أن الاحتكار والتسعير كلاهما ظلم، هذا كلام لا يصح على عمومه، ثم إنه ما جاء من كثرة ما دار على كثير من الألسنة: الدولة وهي المسئولة، واتهام الدول، نحن لسنا ضد الدول ولا مدافعين عن الدول ولكن الدول قد تكون لها من الظروف ما يفرض عليها، وواجبها أن تتدخل كلما كان في ذلك مصلحة للشعب، وإذا وقع الظلم في مرة من المرات أو الانحراف عن الحق، فليس معنى ذلك أن الدولة ليس لها أن تتدخل، وليس كل ما تتدخل فيه الدولة هو فساد، قضية ما جاء من أن الكلام هو لابن تيمية وليس لابن القيم، أنا قلت في كلامي بالضبط: الذي أفاض القول في التسعير هو شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقد قابلت بين كلاميهما، ثم نقلت كلام ابن القيم باعتبار أن ابن القيم إنما تتلمذ على ابن تيمية، ثم أضاف ما أضاف، وابن تيمية لم يرد كلامه هذا فقط في رسالته بل إنما أيضًا ورد في الفتاوى، فهو قد ورد في الفتاوى، وأما في رسالته في أحكام السوق ورد في كلام ابن القيم والذي نقلت منه هو كلام ابن القيم فلما نقلت ابن القيم كنت أمينًا عندما أسندت الكلام لابن القيم أما كلام الشوكاني فإني أشكر فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، وحكم باطلاعه أن أصله للصنعاني، ولكن أقول: أنا عشت مع كتاب الله والحمد لله أكثر من خمسة عشر سنه أدرسه، وفي تدريسي لكتاب الله كنت أجد دائما نفس الكلام منقولًا عمن سبق، هذا أجده في كتاب آخر بنفس اللفظ، فهل يستطيع الإنسان أن يعرف المنبع الأساسي؟ في الواقع أنا عجزت عن إدراك المنبع الأساسي، ولذلك أنسب دائما الكلام لصاحبه الذي نقلت عنه، إذا كان ثقة عندي مطمئنا بلغ من العلم درجة، الأمر الثالث: هو ما تفضل به فضيلة الشيخ على المغربي: أن تحديد السعر لم يرد بالنص ولكن الذمة اليوم خربت فإذا ترك التجار وما يشاؤون ... هذا ما بينته في كلامي، هذا متفقون عليه قدر ما هو متفق عليه، وقد بينت ما قاله ابن العربي وهو الأصل، وهذا كلام ابن العربي زاده بيانًا من عنده فشكرًا له، وأما أن يربح التاجر الضعف أو الضعفين: - اليوم بسرعة وهذا ما انتهيت إليه وأريد أن أؤكده لعله قد وقعت الغفلة عنه – الذي أريد أن أؤكده هو أن سرعة الانتقال وسهولة تحول السلعة من أمكنة إلى أمكنة وكثرة البشر الراغبين في التجارة، هو لا يجعل الحالة اليوم كحالتنا في القرون الماضية، وأنه إذا تركت الحرية للتجار للبيع، فإنه لا تغلي الأثمان، بل هي تنزل، لأن كل شخص يريد أن يشتري ويريد أن يربح ولو القليل، ويقع التنافس بين التجار وهنا يجعل الأرباح تنزل وشكرًا والسلام عليكم.(5/2359)
دكتور محمد عثمان شبير:
بسم الله الرحمن الرحيم
بالنسبة لموضوع تحديد أرباح التجار من الموضوعات التي التبس الأمر فيها على الباحثين، فبعضهم تناول الموضوع من حيث السياسة الإسلامية للسوق الإسلامي، فبين الآداب الإسلامية التي ينبغي أن يراعيها التاجر في تجارته، ونظرية العرض والطلب، وغير ذلك، وبعضهم تناول موضوع " التسعير " وبعضهم تناول موضوع " المرابحة " وهكذا، فلذلك ينبغي على المجمع الموقر قبل أن يكلف الباحثين بكتابة موضوع في الموضوعات أن يضع خطة عمل أو خطة بحث للموضوع فإذا كان الموضوع من الناحية الاقتصادية فينبغي أن يشترك في هذه الخطة باحث اقتصادي وباحث شرعي.
الرئيس:
أعطونا ذات الموضوع يا شيخ، أما توجيه المجمع فالمجمع هو أدرى بأموره، فقط أعطونا ذات الموضوع، عندكم شيء أعطونا إياه.
دكتور محمد عثمان شبير:
هذه بعض الملاحظات، الملاحظات التي تتعلق بالموضوع، بالنسبة للتسعير إذا أردنا بالتسعير أو إذا أردنا بأرباح التجار أو تحديد أرباح التجار التسعير، فإن هذه القضية فرع عن أصل، والأصل هو الذي تكلمنا عنه بالأمس وهو تطبيق الشريعة الإسلامية، فالمشاكل الاقتصادية التي يقع فيها المسلمون اليوم هي نتيجة الهيمنة الاقتصادية الغربية الرأسمالية على السوق الإسلامية العربية، فالتجار ليس لهم إلا أن يتبعوا تلك السياسة الرأسمالية، والسياسة الرأسمالية سياسة احتكارية تقوم على المنافسة غير الأخلاقية، وغير ذلك، ولذلك ليس للتاجر العربي أو المسلم إلا اتباع تلك السياسة والسير في ركاب هذه السياسة، فينبغي أن تكون دراسة الموضوع من الأصل ومن الأساس، والتسعير الذي تكلم عنه الفقهاء في زمانهم هو تسعير في مجتمع إسلامي، وفي دولة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية، وتطبق الآداب الإسلامية، والأحكام الشرعية والعقيدة الإسلامية، وغير ذلك، والتسعير عند فقهاء المسلمين معدود من السياسة الشرعية، فالسياسة الشرعية يختلف حكمها تبعًا لاختلاف الأزمان والأمكنة والأعصار، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمه أو منعه؛ لأن الوقت أو لأن الظرف في ذلك الوقت لا يقتضي وجوب التسعير، لكن في بعض الأوقات اقتضى وجوب التسعير، فلا مانع، فالتسعير ليس أصلًا عامًّا نقول فيه بالحرمة أو بالجواز، وإنما هو حكم يتغير بتغير الزمان والمكان، وإذا أردنا بتحديد أرباح التجار وضع سياسة اقتصادية يتبعها التاجر المسلم، فأقول: إن التاجر المسلم عمله في التجارة رسالة ودعوة كالمعلم في المدرسة وفي الجامعة، فالمعلم يلتزم بأخلاقيات الإسلام في عمله، والتاجر يلتزم بأخلاقيات الإسلام في تجارته، ولذلك كثير من الدول فتحت بالتجار ولم تفتح بالسيف فتحت بالأخلاقيات، وأخلاقيات التاجر المسلم كما هو معروف لديكم ولذلك إذا أردنا أن نضع قواعد تتعلق بأخلاقيات التاجر المسلم وما ينبغي أن يراعيه في هذا الموضوع فأرى أن يوسع هذا البحث، وأن يقارن بين المنافسة غير الأخلاقية الموجودة في المجتمع الحالي، ويبين زيفها، وعوارها، وغير ذلك، وأن يطرح الموضوع من باب أوسع، وسبحانك اللهمَّ وبحمدك.(5/2360)
الرئيس:
شكرًا، الوقت انتهى فهل ترون أن تختتم المناقشة؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين.
من مجموع الأبحاث والمداولات التي جرت يتبين أن الأصل الشرعي هو حرية التعامل في العرض والطلب، وينتج عن ذلك الأصل الشرعي وبدلالة النص، منع التسعير، وأنه لا يكون التدخل في التسعير إلا إذا توفرت المقتضيات الشرعية له، في أحوال: سمعتم التفصيل في بعضها، وقد ترون مناسبًا أن تتألف لجنة لهذا من أصحاب الفضيلة المشايخ: الشيخ المختار، الشيخ يوسف، الشيخ خليل، الأستاذ منذر، والمقرر الشيخ عطا.
مناسب؟
وبهذا ترفع الجلسة للاستراحة لربع ساعة، ثم نعود لبحث مسألة العرف.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(5/2361)
مناقشة القرار
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
قرار رقم (8)
بشأن
تحديد أرباح التجار
قرر:
أولًا: الأصل الذي تقرر النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارًا في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملًا بمطلق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلاَّ أن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ}
ثانيًا: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التاجر والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير.
ثالثا: أكدت الشريعة الإسلامية وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش، والخديعة، والتدليس والاستغفال، وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة.
رابعا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللًا واضحًا في السوق والأسعار ناشئًا عن عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذٍ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش.
الرئيس:
والله أعلم.
أبو غدة:
والله أعلم.(5/2362)
الرئيس:
ما شاء الله جزاكم الله كل خير، هل ترونه مناسبًا، نمشي؟
أبو غدة:
قرار رقم (8) .
الشيخ المختار السلامي:
فيه (ثالثًا: أكدت الشريعة الإسلامية وجوب) ، تمشي؟ أين الشيخ المختار (أكدت الشريعة الإسلامية وجوب سلامة) .
الرئيس:
(سلامة التعامل من أسباب الحرام) .
المختار السلامي:
لا. بمعنى أكدت بنفسها.. تصبح أفضل.
الرئيس:
أكدت وجوب، يعنى.
المختار السلامي:
نعم.
الأمين العام:
أكدت كذا.
المختار السلامي:
(أكدت الشريعة) قلت لك: تمشي، لكن.
الرئيس:
هو إذا أردتم إما عبارة ... ، أما العبارة المألوفة، فهو يعني ...
الشيخ المختار:
أكد على كذا أكثر ...
الرئيس:
تضافرت نصوص الشرع أو شيء من هذا القبيل، يعني....
الشيخ المختار أحمد السلامي:
نعم، لهذا أنا قلت لك عندي توقف بسيط لا مشكل.(5/2363)
الرئيس:
عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} لأنه قيل هنا: عملًا بمطلق قول الله تعالى، لو قيل: وما في معنى من نصوص الكتاب والسنة.
أبو غدة:
نقول: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب....
الرئيس:
إيه، نعم. تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل.
الرئيس:
كذا يا شيخ، (تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل) .
الشيخ إبراهيم:
سيدي. أنا عندي على هذه الصياغة ثلاث ملاحظات، الأول: في أولًا أنا اشعر أن هذا لا يتماشى مع موضع الاستدلال ويدخلنا في شبهة الموافقة على أن يفعل الناس في أموالهم ما يشاؤون. أن نفعل في أموالنا ما نشاء.
الرئيس:
في إطار أحكام الشريعة يا شيخ، السطر الثاني.
الشيخ إبراهيم:
ثانيًا: أن الاستدلال بالآية الكريمة إنما هو يؤكد أن {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلاَّ أن تَكُونَ تِجَارَةً} فالتجارة هنا جاء: {عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} ، فهي ليست الأصل بل هي استثناء ولا يتوسع فيه ولا يقاس عليه.
ثالثًا: أن في الفقرة الرابعة تعبير (ولي الأمر) ، وكان أولى أن يستعمل (أولو الأمر) ، وهو التعبير القرآني. هذه ملاحظات ثلاث لا بد أن أبديها. وشكرًا.
الرئيس:
على كل هل ترون هذا أو نمشي؟(5/2364)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (8)
بشأن
تحديد أرباح التجار
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي لمنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تحديد أرباح التجار) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولا: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحرارا في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملًا بمطلق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .
ثانيًا: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التجار والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير.
ثالثًا: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش، والخديعة، والتدليس، والاستغفال، وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة.
رابعًا: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللًا واضحًا في السوق والأسعار ناشئًا من عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذٍ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش.
والله اعلم.(5/2365)
العرف
إعداد
الشيخ خليل محيى الدين الميس
عضو المجمع
مفتي زحلة والبقاع الغربي – لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد المصطفى وعلى آله وصحبه. وبعد: فالعرف من مباحث الأصول والفقه، لذا عرض له كل من الأصوليين والفقهاء بوصفه دليلًا تناط به الأحكام الشرعية، ومسائل هذا الباب مبثوثة في كثير من أبواب الفقه وبخاصة في باب الإيمان والتي للعرف فيها مجال واسع وكذلك الشأن في أبواب النذور والمعاملات.
أما الأصوليون فقد عرض بعضهم لمبحث العرف تحت عنوان مستقل كالقرافي في تنقيح الفصول والفروق. وأما بقية الأصوليين فقد عرضوا لمسألة العرف تحت عنوان (ما يترك به الحقيقة) أو تخصيص العام وعدوا منها العرف وخرجوا عليها أحكام المسائل الفرعية.
ومن الحقائق المسلَّمة أن العرف لا يرتفع من المجتمع البشري مطلقًا، لأنه من صنعهم.. لذا كان متعددًا فمرة يكون عامًّا، ومرة يكون خاصًّا ومختلفًا باختلاف الأعصار والأمصار لذا تقرر أن نبقي على كل مِنَ المفتي والقاضي أن يكون محيطًا بعادات الناس وتقاليدهم لإناطة الحكم في بعض الوجوه بالعرف والعادة. وقد أفرد الفقهاء في السلف والخلف مصنفات ضمنوها آداب القاضي والمفتي يرسمون فيها المنهج لكل منهما وعرضوا من خلالها إلى أحكام العرف كما في تبصرة الحكام، لابن فرحون المالكي، وعين الحكام، للطرابلسي.. ومن كتب القواعد الفقهية: الفروق للقرافي، والأشباه والنظائر لكل من ابن نجيم الحنفي والإمام السيوطي الشافعي، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام.
وأما كتب الأصول فقد أفرده بالبحث القرافي في الفصول، وأبو إسحاق الشاطبي في كتابه الموافقات والاعتصام.
وممن أفرده بالبحث: العلامة ابن عابدين في رسالته نشر العرف. كما أفاض الزركشي الشافعي في تقسيمات العرف في كتابه المرسوم: (المنثور في القواعد) ومن المعاصرين الفضلاء من صنف رسائل علمية في موضوع العرف، كما سبق وعرض له بشيء من التفصيل العلامة الكوثري (رحمه الله) في مقالاته.(5/2366)
ويلاحظ أن آراء المتأخرين كانت متعارضة من حيث الظاهر في حكم العرف. فالعلامة أبو سنة لم يعتبره دليلًا آخذًا برأي العلامة الكوثري في المقالات.
ولكن الباحث مصطفى عبد الرحيم أبو عجيلة رجح اعتباره دليلًا شرعيًّا. واستدل لهذه الدعوة بأدلة نقلية وعقلية كما أورد في الشواهد المستفيضة في الفقه والأصول ما يؤيد صحة دعواه تلك.. لكن العلامة خاتمة المحققين ابن عابدين رحمه الله يميل إلى القول بحجية العرف حيث قال، من نظمه:
والعرف في الشرع له اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار
ولا غرو أن استمرار النظر في هذا الموضوع له ما يبرره؛ لأنه مسألة خلافية كما وأنها حياتية، والقوانين الوضعية لها اهتمام بارز به وعلى اختلافها، والعرف والعادات إلى اليوم تُعد في نظر الحقوقيين مصدرًا من أهم المصادر للقوانين الوضعية ذاتها، فيستمد منه واضعوها كثيرًا من الأحكام المتعارفة، ويبرزونها في صورة نصوص قانونية يزال بها الغموض والإبهام الذي لا يجليه العرف في بعض الحالات. هذا ومن الحكمة طرح الموضوع في المجمع.. لمزيد من الدراسة والبحث واستقصاء المذاهب والأدلة وترجيح ما ينبغي ترجيحه وتكون عليه الفتوى حسب الأصول.
العرف (لمحة تاريخية) :
جاء للإسلام وللعرب عادات وتقاليد ساروا عليها واحتكموا إليها مئات السنين: عادات اختلطت فيها بقية من الشرائع السابقة بقواعد أحكمتها تجاربهم، فيها الصالح والفاسد تنازعتها العقول والأهواء، فكانت الغلبة للعقل مرة، وللهوى مرات.
ولما جاء الإسلام – وهو دين الصلاح والإصلاح – أقر طائفة منها على ما كانت عليه، وألغى أخرى.. وأبقى على ثالثة وعدَّل رسمها.. كما ابتكر نظما لم يسبق لهم عهد بها.
فما ألغاه من عاداتهم وتقاليدهم: بيع المخاطرة والغرر، كبيع الملامسة والمنابذة وإلقاء الحصاة وغيرها.. وأقر من الزواج صنفًا وألغى سواه، فقد أخرج البخاري وأبو داود بسندهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: قالت: إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، فلما بعث الله محمدًا بالحق هدم نكاح الجاهلية إلاَّ نكاح الناس اليوم (1)
- أقر أصل الطلاق ونظم طريقته.
- وأبقى نظام القصاص في القتل العمد – بعد أن أذهب عنه عنت الجاهلية.
- وأقر الرق بشروط معروفة –..
__________
(1) نيل الأوطار: 6/135، باب: أنكحة الكفار.(5/2367)
وهكذا اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم العرف القائم عند بعثته، بيد أنه لم يغيره، لأنه مجرد أمر متعارف معمول به من قديم الزمن، وإلا لاعتبر كل ما تعارفوه. وبذلك كان موقف رسول الإسلام من أعراف العرب: إقرار وتنظيم، ووحي السماء ينزل عليه بقرآن وسنة.. وما أقره لم يبق على ما كان عليه عادة وعرفًا، بل أصبح تشريعًا إسلاميًّا واجب الاتباع، ودينًا يتعبد به (1)
الصحابة والعرف:
سار الصحابة رضوان الله عليهم، على هدي رسول الله بما كان عند العرب من عادات. فأقروا الصالح منها، وأهدروا فاسدها، وهذبوا ما احتاج إلى تهذيب بعد وزنها بميزان الشريعة وتقدير ما فيها من مصلحة.
أقر عمر تدوين الدواوين الذي كان معمولًا به عند فارس والروم، وأمر بضرب الدراهم وهو أول من ضربها في الإسلام سنة 18 هـ. وكذلك طبق نظام الخراج والجزية الذي كان يعمل به كسرى.
ومع إقرار الصحابة ما أقروه من عادتهم التي لا تتنافى مع مبادئ الإسلام رفضوا منها ما يخالف تعاليمه كعادات القوم في الأعياد وغيرها.
العرف عند التابعين:
أورد الإمام البخاري في صحيحه بابًا خاصًا بالعرف، ذكر تحته أحاديث تتضمن عمل التابعين بالعرف والعادة، منها: - إحالة شريح الغزَّالين على عرفهم، وجواز كراء الدواب على العرف. وقال البدر العيني: حاصل الكلام أن البخاري قصد بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف (2)
قال شريح القاضي: إن أناسا من الغزالين اختصموا إلى شريح في شيء كان بينهم، فقالوا: إن سنتنا بيننا كذا وكذا، فقال شريح سنتكم بينكم، يعني عادتكم وطريقتكم بينكم معتبرة (3)
__________
(1) شلبي، الفقه الإسلامي: ص 88.
(2) عمدة القاري: 12 /16.
(3) عمدة القاري: 12 /16.(5/2368)
وذكر أن الحسن البصري اكترى حمارًا فقال: بكم؟ قال صاحبه بدانقين، فركبه. ثم جاء مرة أخرى فقال: الحمار الحمار.. فركبه ولم يشارطه. قوله ولم يشارطه يعني الأجرة اعتمادًا على الأجرة المتقدمة المعتادة.
التقسيمات الحصرية للعرف
باستقراء المسائل المبنية على العرف ومواطن بحثه في الفقه والأصول نجد أن للعرف غير تقسيم وذلك لغير اعتبار، وتعدد منشأ هذا التقسيم.
1- ينقسم العرف إلى قولي وفعلي.
2- وينقسم إلى عام وخاص.
3- وينقسم كل العام والخاص إلى عرف مطلق للاسم وإلى عرف مقيد له.
4- وينقسم العرف القولي: إلى عرف عادي، وعرف شرعي وهو أحد تقسيمات العرف القولي.
5- وهنالك عرف اللفظ وعرف اللافظ.
6- وهنالك العرف الذي كان سائدًا قبل الإسلام وإبان نزول القرآن الكريم.
والعرف الطارئ بعد نزول القرآن الكريم وبأقسامه التي ذكرنا.
بيان أقسام العرف
1- العرف القولي: هو أن يتعارف الناس على إطلاق لفظ لمعنى بحيث إذا أطلق انصرف إليه من غير قرينة، ولا علاقة عقلية، ولا يتبادر عند سماعه إلاَّ ذاك المعنى (1)
وهذا يشمل الاتفاق على إرادة بعض المدلول، وإرادة غير المدلول.
فالأول: كإرادة بعض أفراد العام منه بعد أن كان دالًّا على كل أفراده.
أما إرادة بعض المدلول كالدراهم، الدرهم: بعد أن كان يطلق على كل أفراد الدرهم صار مقصورًا على النقد الغالب.
وأما إرادة غير المدلول: كالاتفاق على إرادة فرد معين من المطلق بعد أن كان دالًّا على فرد شائع والاتفاق على إرادة معنى آخر للمركب غير معناه الأصلي.
__________
(1) التقرير والتحبير: 1 /282..(5/2369)
- فمثال المطلق: لفظ المرأة في قول الموكل: وكَّلتك بتزويجي امرأة.
- فإن اللغة تطلقها على الأنثى من بنات آدم.
- والعرْف قيدها بالحرة كما هو رأي أبي يوسف ومحمد.
ومثال المركب: قول الحالف: لا يضع قدمه في دار فلان، وقول الحالف أيضًا: على المشي.
فإن العرف، استعمل الأول في دخول الدار على أي حال. واستعمل الثاني في إيجاب أحد النسكين الحج أو العمرة (1)
وهذه الأساليب الفنية في طرائق التعبير هي من صور المجاز في البيان. لأنها تقوم على أساس وجود القرينة أو العلاقة، وليست في شيء من العرف اللفظي الذي يعتبر كلغة وصفية خاصة تصبح معانيها حقائق عرفية تستفاد من مجرد اللفظ (2)
العرف العملي: هو اعتياد الناس على شيء من الأفعال العادية أو المعاملات المدنية.
والمراد بالمعاملات المدنية: التصرفات التي يقصد منها إنشاء الحقوق بين الناس، أو تصفيتها وإسقاطها، سواء كانت تلك التصرفات عقودًا أم غيرها، كالنكاح والبيع والإبراء، وكالغصب والقبض والأداء (ر. ف 413/حـ1) .
من أمثلة العرف في الأفعال: اعتياد الناس في بعض الأماكن أكل نوع خاص من اللحوم كالضأن والمعزى والبقر.
ومن أمثلتهم في المعاملات: اعتياد الناس تقسيط الأجور السنوية للعقارات إلى أقساط معدودة. وتعجيلهم في الأنكحة تعجيل جانب معين من المهور كالنصف والثلثين، وتأجيل الباقي إلى الطلاق أو ما بعد الوفاة (3)
وقسم ابن عابدين العرف باعتبار من يصدر عنه إلى: (عام) و (خاص) و (شرعي) .
__________
(1) أبو البقاء، الكليات: 3 /215؛ والتقرير والتحبير: 1 /282؛ وأبو سنة، العرف والعادة.
(2) الزرقاء، المدخل: 3 /846.
(3) الزرقاء، المدخل: 2 /847.(5/2370)
فالعرف العام: هو ما تعامله أهل البلاد الإسلامية سواء أكان قديمًا أي في عصر الرسالة والاجتهاد أو حديثًا أي في عصر التقليد.
مثاله: استعمال لفظ الطلاق في إزالة الزوجية، وتعارف أن دخول المساجد بالأحذية تحقير لها.
والعرف الخاص: هو ما لم يتعامله أهل البلاد جميعا، كتعامل أهل بلد أو حرفة أو دين.. كتعارف أهل العراق لفظ الدابة على الفرس. وكتعارف أهل بلخ وخوارزم جواز دفع الغزل إلى حائك لينسجه بذلة.
ومنه الاصطلاحات الفقهية وكذا اصطلاحات سائر العلوم كالرفع للنحاة، والفرق والجمع والنقض للنظار.
العرف الشرعي: وهو اللفظ الذي استعمله الشرع مريدًا منه يعني خاصًّا مثل المنقولات الشرعية كالصلاة: نقلت عن الدعاء إلى العبادة المخصوصة. والناقل في هذا القسم هو الشارع، وهكذا تركت معانيها اللغوية بمعانيها الشرعية (1)
الفرق بين العرف العام والعرف الخاص من حيث الحكم:
إن كلًّا من العرف العام والخاص: إنما يعتبر إذا كان شائعًا بين أهله يعرفه جميعهم.
1- العرف العام: يثبت به الحكم العام.
2- العرف الخاص: يثبت به الحكم الخاص.
وحكما لعرف يثبت على أهله عامًّا أو خاصًّا.
فالعرف العام في سائر البلاد: يثبت حكمه على سائر البلاد.
والعرف الخاص في بلدة واحدة: يثبت حكمه على تلك البلدة فقط. والحكم العام لا يثبت بالعرف خاصة إذا عارض النص الشرعي، فلا يترك به القياس ولا يخص به الأثر، بخلاف العرف العام.
العرف العادي – والعرف الاستعمالي:
المراد من الاستعمال: نقل اللفظ من موضوعه الأصلي إلى معناه المجازي شرعًا وغلبة استعماله فيه كالصلاة والزكاة حتى صار بمنزلة الحقيقية ويسمى إذ ذاك: حقيقة شرعية.
والمراد من العرف العادي: نقل اللفظ إلى معناه المجازي عرفًا واستفاضته فيه.
مثاله: وضع القدم في قوله: لا أضع قدمي في دار فلان ويسمى: حقيقة عرفية (2)
__________
(1) ابن عابدين، الرسائل: 2 /114؛ ورسم المفتي: 1 /47؛ وابن عابدين الرسائل: 2 /133..
(2) البزدوي، كشف الأسرار: 2 /95.(5/2371)
عرف اللفظ وعرف اللافظ
موضوع الكلام في اعتبار عرف اللفظ وعرف اللافظ.
1- هو في اللفظ العربي: يعتبر وضعه عند أهله.
2- أما الأعجمي: فيعتبر عرف اللافظ، إذ لا وضع هناك يحمل عليه.
ولهذا قال القفال الشاشي: فيما إذا حلف على البيت بالفارسية لا يحنث بيت الشعر وغيره إذا لم يثبت شمول اللفظ له في غرف الفارسية.
ومنع الإمام الفرق بينهما (1)
وفي تقسيمات العرف يقول صاحب المسودَّة:
العرف في اللغة ينقسم إلى عام وخاص: وكل منهما ينقسم إلى عرف مطلق للاسم، وعرف مقيّد له مثل عرف الفقهاء إذا قالوا (الولد) في باب الفرائض عنوا به الولد وولد الابن.
وإذا قالوه في باب النكاح عنوا به كل من ولده. وكذلك (المفرد والمركب) للنحاة في عدة مواضع، وكذلك لفظ (المحلل) للفقهاء في باب النكاح وباب السبق.
ويكون تخصيص العام بالعرف: تارةً من جهة المتكلم.. وتارة من جهة المتكلم فيه (2)
أوجه عرف الاستعمال
إنّ عرف الاستعمال يكون من ثلاثة أوجه:
أحدها، من جهة اللغة: نحو استعمالنا الدابة لذوات الأربع وما أشبه ذلك.
الثاني، من جهة الشرع: نحو استعمالنا الصلاة والصوم والحج والزكاة على حسب ما ورد به الشرع.
__________
(1) الزركشي: المنثور: 3 /388.
(2) المسودة: ص224..(5/2372)
الثالث: من جهة الصناعة: نحو استعمال أهل النظر متكلمًا في من يناظر في أصول الديانات.
واستعمال أهل الدواوين الزمّام في الكتاب الجامع لما يجمعه، واستعمال أهل الإبل الزمّام لخطام الناقة.
وغير ذلك مما لأهل كل صناعة عرف وعادة فيه. فيحمل لفظ كل طائفة على عرفها وعادتها (1)
فصل في بيان الأسماء العرفية
قال الباجي:
الأسماء العرفية: أن تكون اللفظة موضوعة لجنس في أصل اللغة ثم يغلب عليها عرف الاستعمال في نوع من ذلك الجنس.
مثاله: قولنا دابة: فهو اسم كان موضوعًا في الأصل لكل ما دب ودرج.
ثم غلب عليه الاستعمال لمطلق في البهيمة المخصوصة ذات الأربع.
وكذلك قولنا: صلاة، هي في أصل اللغة موضوعة في الدعاء، ثم استعملت في الشرع في الدعاء بقرائن ومعان مخصوصة.
وكذلك الصوم: هو الإمساك ثمَّ استعمل في إمساك عن معنى مخصوص في وقت مخصوص.
وكذلك الحج: هو القصد في أصل اللغة، ثم غلب عليه عرف الاستعمال بالقصد إلى موضع مخصوص في وقت مخصوص على وجه مخصوص.
وأما البيع: فإنه باقٍ على أصله ومستعمل على الوجه الذي وضع به. وكذلك الربا، إلاَّ أنه يدخل التخصيص على حسب ما يدخل ألفاظ العموم، ولم يستعمل في بعض ما يقع عليه في أصل اللغة دون بعض.
الحقيقة العرفية الشرعية والحقيقة اللغوية
من الثابت أن لكل تشريع عرفًا خاصًا في استعماله لكثير من الألفاظ يخالف به عن حقائقها اللغوية فيجب حمل تلك الألفاظ على معانيها العرفية في لسان الشرع. وهي التي تسمى (بالمصطلحات؛ فالصلاة والصوم والزكاة، والحج، والطلاق) مثلًا: ذات مفاهيم وحقائق شرعية قصدها المشرع كعرف خاص له في الاستعمال وجب أن تعرف هذه الألفاظ عند إطلاقها إلى تلك المعاني العرفية الشرعية تحقيقًا لمراد الشارع منها.
ومن ذلك اليمين الواردة في القرآن والسنة.
__________
(1) الباجي، أحكام الفصول: ص 286.(5/2373)
الأمثلة: قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [الآية 89 من سورة المائدة] ، فإنه مستعمل في معنى الحلف بالله تعالى في عرف الشرع لا الحلف بالطلاق، لأن الحلف بالطلاق لم يكن معودًا أثر نزول الآية الكريمة.
ومن شرط العرف المخصص أن يكون مقارنًا ولهذا فإن اللغو في الأيمان بالله غير مؤاخذ به دون الطلاق.
قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقًا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يحكم فيه بالعرف.
ومثاله: الحرز في السرقة، والتفرق في البيع، والقبض، ووقت الحيض وقدره.
ومرادهم: أنه يختلف حاله باختلاف الأحوال والأزمنة، ويختلف الحرز باختلاف عدل السلطان وجوره، وبحالة من الأمن والخوف (1)
أوجه استعمال العرف
للعرف استعمالات مختلفة كان في كل منها مبنى لحكم من أحكامها على نحو خاص يمكن إجمالها في الصور التالية:
1- استعماله بمنزلة الدليل على تشريع الحكم، أو الدليل المخصص للنص والمقيد له.
مثاله: الاستدلال على جواز المضاربة بالعرف، والاستدلال على جواز وقف المنقول – عند بعض الفقهاء – بالعرف.
والاستدلال على استصناع الحلي والأثاث وغيرهما بالعرف. واستدلال مالك على عدم جواز خيار الشرط بعرف أهل المدينة.
2- أن يكون استعمال العرف معيارًا يرجع إليه المفتي والقاضي في تطبيق الأحكام المطلقة.
بيان ذلك: أن الشريعة توجد بها أحكام مطلقة تختلف باختلاف عادات الناس ومصالحهم. والشارع إنما ينص على حكم شامل، والقضاة والمفتون يطبقونه بحسب العرف.
مثاله: عقوبة التعزير فقد أجملها الشارع، فقال الفقهاء: هي كل ما يحصل به التأديب والزجر، وهذا ما يختلف باختلاف الناس وعاداتهم وأحوالهم. ويردع الخسيس بما لا يردعه التغريم بالمال، وقد يكون الكيّ، وقد يكون النفي، والضرب هو العقاب الرادع.
ولهذا فوض الشارع تحديد العقاب إلى ولاة الأمر.
__________
(1) الزركشي، المنثور في القواعد: 2 /390.(5/2374)
الاستعمال الثالث: أن يقوم العرف مقام النطق بالأمر المتعارف في الدلالة على الإذن، أو المنع، أو الالتزام، أو الشهادة أمام القضاء أو غيرها.
بيانه: أن الأصل في التعبير عن المعاني التي تقوم بالنفس هو اللفظ لوفائه بتفهم الغرض من غير صعوبة، وقد يستغنى عن اللفظ بالعادات الجارية بين الناس الدالة على شيء من غير صعوبة، فهذه العادات تجري مجرى النطق بالعبارات الدالة على مضمونها في اعتبار الشارع، وهي القاعدة المشهورة بين الفقهاء: (المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا) فإن المرد بالشرط ما هو أعم من اللفظ الدال على الإذن، أو صيغة العقد، أو بيان النوع أو القدر في الأغراض الواقعة في العقود إلى غير ذلك.
فمثال العرف الدال على الإذن: إيداع المال عند إنسان فإنه يكون إذنا بدفع الوديعة إلى من جرت العادة بدفعها إليه كالزوجة والأولاد.
ومثال ما يدل على المنع: تسييج الأرض المملوكة فإنه يكون منعًا من استعمال الغير لها.
ومثال ما يدل على ذكر النوع بعد النص على الجنس: كاستئجار الدور والحوانيت بلا بيان ما يعمل فيها، فإنه يكون كالتصريح بالسكنى بالنسبة إلى الدول، وبالتجارة ونحوها بالنسبة إلى الحوانيت، لأن هذا هو المتعارف.
ومثال ما يكون كالتصريح بالقدر استئجار الظئر: بطعامها وكسوتها عند أبي حنيفة، ومالك: حيث يكون التصريح بالقدر الذي به الكفاية في عرف المتعاقدين.
ومثال ما يكون التصريح بالالتزام عقدًا أو بيعًا أو شرطًا، البيع بالمعاطاة: فإنها في العادة تكون دالة على الرضى من الجانبين، فتكون كالتصريح بالإيجاب والقبول.
من ذلك العرف الذي يبين للقاضي من يكون القول قوله من المتداعيين: كما إذا اختلف الزوجان في متاع البيت ولا بينة لواحد منهما، حيث يأخذ القاضي بقول كل واحد منهما فيما تعورف أن يكون له كالكتب وأدوات الزينة وغير ذلك.
الاستعمال الرابع: هو الاستعمال العرفي للألفاظ اللغوية، وهو العرف القولي. فكل متكلم يحمل كلامه على عرف، سواء كان ذلك في خطاب الشارع أم تصرفات الناس.(5/2375)
فلفظ الصلاة: تطلقه اللغة على الدعاء، ويطلقه الشارع على الأقوال والأفعال المخصوصة فقول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) يحمل على عرف الشرع لا على المعنى اللغوي.
وكذلك للعرف القولي أثره في جعل الكتابة صريحة، إذا غلب استعمال اللفظ في أحد المعنيين بعد أن كان محتملًا لها: كقول الرجل لزوجته: أنت بائن مني، أنت عليَّ حرام – إذا غلب استعماله في الطلاق فيقع الطلاق بهما بلا نية، وكذلك في قول وكيل المرأة: جوزتك فلانة بل زوجتك.. فإنه ينعقد العقد..
الاستعمال الخامس: أن يكون العرف الجاري بين الناس مرجحًا لبعض المذاهب الفقهية على بعض، بشرط أن يكون كل من المذاهب التي جرى بينها الترجيح له دليل مقبول إلا أن دليل أحد المذاهب أقوى فيترجح المرجوح بالعرف، لأنه إمارة على حاجة الناس، أما المذهب الباطل فلا يرجحه العرف بحال.
مثاله: ترجيح مذهب المالكية والحنابلة القائل: إن المفقود يحكم بموته بعد أربع سنين، لأن هذا المذهب هو الذي يتناسب وفساد الزمان وتداعي الأخلاق.
الاستعمال السادس: أن يكون العرف مفيدًا لتمويل الأشياء وتقومها بعد أن لم تكن كذلك.
مثاله: النحل والنبات الذي يثبت الطب فائدته، وفضلات الدواب التي اعتاد الناس تسميد الزروع بها، فإن اعتياد الناس تقوّم هذه الأشياء لحاجتهم إليها جعلتها أولًا تباع وتشترى بعد أن لم تكن كذلك.
الاستعمال السابع: تأثير العادة في الحكم الشرعي، لأن الظروف التي وجد فيها تغيرت يحتاج إلى احتياط أكثر، أو إلى تخفيف، وهذا يسمى بفساد الزمان.
مثاله: أن عدالة الشهود لا تثبت الآن إلا بالتزكية لفشو الكذب، وضعف الإيمان بعد أن كان يكتفي بمجرد إسلام الشاهد.
ومثاله: خروج النساء إلى المساجد، فإنه كان يسمح بها في الليل والنهار، لأن القلوب كانت محصنة بقوة التدين.
أما الآن فقد تغير حال النساء والرجال، قالت عائشة رضي الله عنها: لو يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل (1)
__________
(1) المدخل، أبو سنة: ص 180.(5/2376)
مستند العرف
ولابد للعرف من مستند يقره الشرع، وأغلب ما يكون العرف مستندًا إلى (مصلحة مرسلة مفيدة ومعقولة بذاتها) كانت هي السبب في انتشاره واضطراده، أو غلبته والنزول عند حكمه.
والمخصص في الواقع مستند العرف لا العرف ذاته.
وعليه يشترط أن تكون (المصلحة) معقولة في ذاتها والتي انعقد الإجماع السكوتي العرفي على شرعيتها.
هذا: والتخصيص ليس إلا إعمالًا للدليلين معًا، بما يحقق التوفيق ويزيل التعارض الظاهر بين النص العام والعرف القائم.
يقول ابن العربي: العادة دليل أصولي بنى الله عليها الأحكام وربط به الحلال والحرام (1)
من له حق الحكم أو الفتوى بالعرف
قال بعض العلماء والمحققين: لا بد للحاكم من فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفًا للواقع.
وكذا المفتي الذي يفتي بالعرف: لا بد له من معرفة الزمان وأحوال أهله ومعرفة أن هذا العرف خاص أو عام، وأنه مخالف للنص أو لا.
ولابد له من التخرج مع أستاذ ماهر، ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل، فإن المجتهد لا بد له من معرفة عادات الناس، فكذا المفتي.
وقالوا: لو أن الرجل حفظ جميع كتب أصحابنا لا بد أن يتلمذ للفتوى حتى يهتدي إليها، لأن كثيرًا من المسائل يجاب عنه على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة.
وقالوا: إن المفتي في الوقائع لا بد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس (2)
__________
(1) أحكام القرآن: 3 /1830.
(2) ابن عابدين، الرسائل: 3 /130.(5/2377)
ما يحكم به العرف
ما ورد به الشرع مطلقًاً ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة
قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة. يحكم في العرف.
مثاله: الحرز في السرقة، والتفرق في البيع والقبض، ووقت الحيض وقدره.
ومرادهم: أنه يختلف حاله باختلاف الأحوال والأزمنة، ويختلف الحرز باختلاف عدل السلطان وجوره، وبحالة الأمن والخوف.
وهذه الأشياء لا تكاد تنضبط، وكل موضع في كل شيء من ذلك يرجع فيه إلى أهل ناحيته.
فما عدوه حرزًا فالمال محرز، وما لا فلا.
أما كلام الأصوليين: فإنهم يقدمون العرف للعرف الشرعي، ثم العرفي، ثم اللغوي.
الجواب: إن كلام الأصوليين، إنما هو في الحقائق والأدلة التي تستنبط منها الأحكام فيقدم فيها الشرعي على العرفي. كبيع الهازل وطلاقه، فإنه نافذ، وإن كان أهل العرف لا ينفذونه.
ويقدم العرفي فيهما على اللغوي عند التقاضي، لأن العرف طارئ على اللغة فهو كالناسخ (1)
تغير العرف
قال ابن عابدين: فإن قلت: العرف يتغير مرة بعد مرة، فلو حدث عرف آخر جديد لم يقع في الزمان السابق، فهل يسوغ للمفتي مخالفة المنصوص واتباع العرف الحادث؟ قلت نعم، فإن المتأخرين خالفوا المنصوص في مسائل لم يخالفوه إلا لحدوث عرف بعد زمن الإمام.
من له حق النظر والفتوى في هذه المسائل ونظائره: فللمفتى اتباع عرفه الحادث في الألفاظ العرفية، وكذا في الأحكام التي بناها المجتهد على ما كان في عرف زمانه وتغير عرفه إلى عرف آخر اقتداء بهم، بعد أن يكون المفتي ممن له رأي ونظر صحيح ومعرفة بقواعد الشرع والشروط المرعية حتى يميز بين العرف الذي يجوز بناء الأحكام عليه، وبين غيره.
قلت: لأن الاستدلال بالعرف ضرب من الاجتهاد والاستنباط وإنزال الدليل منزلته بحيث لا يتقدم على غيره، ولا يقضي به على النص إنما يفسر به النص وذاك إنما هو من اختصاص الفقيه (2)
__________
(1) الزركشي. المنثور: 2 /391.
(2) ابن عابدين. الرسائل: 1 /45..(5/2378)
مخالفة العرف ظاهر الرواية
إذا كانت المسائل الفقهية ثابتة بضرب اجتهاد ورأي، وكثير منها ما بينه المجتهد على ما كان في عرف زمانه، - بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولًا – قالوا في شروط الاجتهاد أنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكيم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام.
ولهذا: ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذًا من قواعد مذهبه.
فمن ذلك: إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه لانقطاع عطايا المسلمين التي كانت في الصدر الأول، ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم.
وكذا أخذ الأجرة على الإمامة وآذان كذلك – مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف من عدم جواز الاستئجار، وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة ونحو ذلك.
ومن ذلك: قول الإمامين بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادات مع مخالفته لما نص عليه أبو حنيفة بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة، لأنه كان في الزمن الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وهما أدركا الزمن الذي فشي فيه الكذب.
وقد نص العلماء على أن هذا الاختلاف: اختلاف عصر وأوان لاختلاف حجة وبرهان.
ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب، من أن الضمان على المباشر دون المتسبب، ولكن أفتوا بضمانه زجرًا بسبب كثرة السعاة المفسرين.(5/2379)
وكذا قولهم: المختار في زماننا قول الإمامين في المزارعة والمعاملة والوقف لمكان الضرورة والبلوى ...
ودخول الحمام بلا بيان مدة المكث وقدر الماء ونحو ذلك من المسائل التي اختلف حكمها لاختلاف عادات أهل الزمان وأحوالهم، التي لا بد للمجتهد من معرفتها وهي كثيرة جدًا (1)
الاصطلاح الخاص هل يرفع الاصطلاح العام
ويعبر عنها بأنه: هل يجوز تغيير اللغة بالاصطلاح. وهل يجوز للمصطلحين نقل اللفظ عن معناه بالكلية. أو يشترط بقاء أصل المعنى، ولا يتصرف فيه بأكثر من تخصيصه فيه.
قولان للأصوليين وغيرهم، والمختار الثاني.
ومن فروعها: لو اتفق الزوجان على ألف واصطلحوا على أن يغيروا عن الألف في العلانية بألفين.
فالأظهر: وجوب ألفين لجريان اللفظ الصريح به.
والثاني: الواجب ألف عملًا باصطلاحهما.
قال الإمام: وعلى هذه القاعدة تجري الأحكام المتلقاة من الألفاظ.
فلو قال الزوج لزوجته: إذا قلت أنت طالق ثلاثًا، لم أرد به الطلاق، وإنما غرضي أن تقومي وتقعدي. أو أريد بالثلاث واحدة.
فالمذهب: أنه لا عبرة بذلك.
وقيل: الاعتبار بما توافق عليه. حكاه الرافعي في باب الصداق.
وذكر الإمام في باب الإقرار: أنه لو عمّ في ناحية استعمال الطلاق مخاطبته زوجته على معنى التخلص وحل الوثاق لم يقبل ذلك منه.
والعرف: إنما يعبر في إزالة الإيهام، لا في تغيير مقتضى الصرائح. اهـ (2)
مسألة: تعارض العرف العام والخاص:
إن كان الخصوص محصورًا لم يؤثر، مثاله: لو كان عادة امرأة الحيض أقل ما استقر من عادة النساء، ردت إلى الغالب في الأصح، وقيل تعتبر عادتها. وإن كان الخصوص غير محصور.
مثاله: لو جرت عادة قوم بحفظ زروعهم ليلًا ومواشيهم نهارًا، فهل ينزل ذلك منزلة العرف العام. في العكس وجهان أصحهما: نعم (3)
__________
(1) ابن عابدين. الرسائل: 2 /126 – 127.
(2) الزركشي. المنثور في القواعد: 1/180.
(3) الزركشي. المنثور في القواعد: 2 /389..(5/2380)
تعارض اللغة والعرف العام
قال الزركشي في المنثور: 2 /383:
وإذا تعارض اللغة والعرف العام: قال صاحب الكافي في كتاب الطلاق: إذا اجتمع في اليمين الحقيقة اللفظية، والدلالة العرفية، فأيهما أولى بالاعتبار، فيه وجهان:
أحدهما: وإليه ذهب القاضي حسين – الحقيقة اللفظية أولى، واللفظ متى كان مطلقًا وجب العمل بإطلاقه عملًا بالوضع اللغوي.
والثاني: - وإليه ذهب محيى السنة – الدلالة العرفية. لأن العرف محكم في التصرفات سيما في الأيمان.
قال: فلو دخل دار صديقه، فقدم إليه طعامًا فامتنع، فقال: إن لم تأكل فامرأتي طالق، فخرج ولم يأكل، ثم قدم اليوم الثاني فقدم إليه ذلك الطعام فأكل.
فعلى القول الأول: لا يحنث.
وعلى القول الثاني: يحنث.
قال المصنف: أقول: اللغة تارة يعم استعمالها في لسان العرب.
وتارة يخص استعمالها.
وتارة يقيد في إطلاقهم.
فإن عمت اللغة: قدمت على العرف، هذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله. كما نقله الرافعي في كتاب الأيمان: فيما لو حلف لا يأكل الروس.
قال في كتاب الطلاق: إن تطابق العرف والوضع فذاك.
وإن اختلفا، فكلام الأصحاب يميل إلى الوضع.
والإمام، والإمام الغزالي يريان اعتبار العرف.
وينبني على هذا قاعدة، وهي: إذا عارض اللغة المستعملة عرف خاص، هل يعتبر عرف اللفظ أو عرف اللافظ.
أو أن الاصطلاح العام، هل يرفع العام؟(5/2381)
ومن أمثلة هذا: ما لو حلف لا يشرب الماء أو ماء. حنث بالعذب والملح. وإنما حنث بالملح، وإن لم يعتد شربه اعتبارًا بالإطلاق والاستعمال اللغوي.
والضابط أنه: إن كان الخاص ليس له في اللغة وجه ألبتة، فالمعتبر اللغة.
وإن كان الخاص له فيه استعمال، ففيه خلاف في صور:
منها: لو حلف لا يدخل بيتًا أو لا يسكنه، فاسم البيت يقع على المبني بالطين، والحجر والمدر سُمِّي بيتًا لأنه يبات فيه، كما قاله الزجاج في تفسيره.
ثم إن كان الحالف بدويًّا حنث بكل منها. لأنه قد تظاهر فيه العرف واللغة، لأن الكل يسمونه بيتًا.
وإذا ثبت هذا العرف عندهم ثبت عند سائر الناس. لأنهم أهل اللسان فرده على التعميم عملًا باللغة المستعملة. وهذا أيضًا مما اتفقت عليه اللغة والشرع.
قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} [سورة النحل: الآية 80] .
وفي الحديث: ((لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخله الإسلام)) .
ومنها: حلف ألا يأكل الخبز حنث فيما يتخذ من الأرز، وإن كان الحالف من قوم لا يتعارفون أكل خبز الأرز، كما إذا كان بغير طبرستان. لأن خبز الأرز يطلق عليه هذا الاسم لغة في سائر البلاد.
وإن تخصصت اللغة في استعمالهم وهجر استعمال بعضها، فلا يستعمل إلا نادرًا، أو صارت نسيًا منسيًّا. فالمقدم العرف كما إذا حلف لا يأكل البيض فإنه يحمل على ما يزايل بائضة، أي: يفارقه في الحياة كبيض الدجاج والأوز والحمام والعصفور ولا يحنث ببيض السمك والجراد.
ومن هذا القسم لو قال: زوجتي طالق، لم تطلق زوجاته عملًا بالعرف.
وإن كان وضع اللغة يقتضي الطلاق، لأن الجنس إذا أضيف عم. ومنها: لو وصى للفقهاء فهل يدخل الخلافيون المناظرون.
ومنها: ويحتمل وجهين لتعارض العرف والحقيقة.(5/2382)
حكم تعارض العرف مع الشرع.
إذا تعارض عرف الاستعمال مع عرف الشرع، فهو نوعان:
النوع الأول: أن لا يتعلق بالعرف الشرعي حكم، فيقدم عليه عرف الاستعمال، كما قرره الصيدلاني في شرح المختصر.
مثاله:
1- حلف ألا يأكل لحمًا. فلا يحنث لحم السمك وإن سماه الله تعالى لحمًا.
2- أو حلف ألا يجلس على بساط، لا يحنث بالجلوس على الأرض، وإن سماها الله تعالى بساطًا.
3- ولو حلف لا يقعد في سراج، لم يحنث بالقعود في الشمس، وإن سماها الله تعالى سراجًا.
4- ولو حلف لا يضع يده على وتد فوضعها على جبل، لم يحنث، وإن سمى الله الجبال أوتادًا.
ووجه في الكل من وجهين:
أحدهما: أن أهل العرف لا يسمونها بذلك، فقدم عرف الاستعمال على عرف الشرع، لأنها فيه تسمية لم يتعلق بها تكليف.
والثاني: أن الإنسان إنما يؤاخذ بما نواه وفعله، قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [سورة المائدة: الآية 89] أي قصدتم. وعقد القلب قصده وتصميمه (1)
النوع الثاني: أن يتعلق بعرف الشرع حكم، فيقدم على عرف الاستعمال.
مثاله:
1- إذا حلف لا يصلي لم يحنث إلاَّ بذات الركوع والسجود دون التسبيح.
2- وكذا لو حلف لا يصوم، لا يحنث إلاَّ بالإمساك بالنية في زمن قابل للصوم، ولا يحنث بمطلق الإمساك، وإن كان صومًا لغة.
3- ولو حلف لا ينكح، فالنكاح حقيقة في العقد في الأصح، وفي العرف لا يعني به غير الوطء.
ومن ذلك: لو باع أو اشترى أو نكح أو راجع أو طلق هازلًا نفذت وصحت، وإن كان أهل العرف لا يعدونها بيعا وشراء ونكاحًا وطلاقًا.
__________
(1) الزركشي. المنثور: 2 /378.(5/2383)
لكن الشرع حكم عليها بالصحة، ففي الحديث: ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة)) (1)
ونبَّه النبي صلى الله عليه وسلم بالثلاث على ما في معناها وأولى منه كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [سورة التوبة: الآية 65] ، وقال سبحانه: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة: الآية 66] .
فمن تكلم بكلمة الكفر هازلًا ولم يقصد الكفر كفر.. (2)
ملاحظة: وقال الزركشي: قالوا في كتاب الإيمان: أنها تبنى أولًا على اللغة ثم على العرف.
وهذا مخالف لكلام الأصوليين: أنه يقدم العرف الشرعي، ثم الاستعمالي، ثم اللغوي. وكلام الأصوليين إنما هو في الحقائق والأدلة التي تستنبط منها الأحكام فيقدم فيها الشرعي على العرفي.
مثاله: بيع الهازل وطلاقه، فإنه نافذ وإن كان أهل العرف لا ينفذونه.
ويقدم العرفي فيهما على اللغوي عند التعارض، لأن العرف طارئ على اللغة فهو كالناسخ (3)
حجية العرف عند الأصوليين
قال علماء الأصول: تحت عنوان
فصل: في بيان ما تترك به الحقيقة.
وهي خمسة أنواع. وعدَّ منها:
دلالة الاستعمال عرفًا
بيانه: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال عرفًا، لأن الكلام موضوع للإفهام، والمطلوب به ما يسبق إليه الأوهام.
__________
(1) أخرجه الترمذي: 5 /156، 157؛ وأبو داود: 1 /507؛ والدارقطني: 3 /256؛ والحاكم المستدرك: 2 /197، 198..
(2) الزركشي: المنثور في القواعد: 2 /380 – 391.
(3) الزركشي: المنثور في القواعد: 2 /380 – 391.(5/2384)
فإذا تعارف الناس استعماله لشيء عينًا كان ذلك بحكم الاستعمال كالحقيقة فيه. لوجود إمارة الحقيقة وهي: المبادرة إلى الفهم.
وما سوى ذلك – لانعدام العرف – كالمهجور لا يتناوله إلاَّ بقرينة.
ومثل السرخسي لذلك: بالدرهم. فقال:
ألا ترى أن اسم الدرهم عند الإطلاق يتناول نقد البلد لوجود العرف الظاهر في التعامل به. ولا يتناول غيره إلاَّ بقرينة لترك التعامل به ظاهرًا في ذلك الموضع، وإن لم يكن بين النوعين فرق فيما وضع الاسم له حقيقة (1)
بيان هذا في اسم الصلاة: فإنها للدعاء حقيقة قال القائل: وصلى على دنها وارتسم.
والصلاة مجاز للعبادة المشروعة بأركانها: سميت به لأنها شرعت للذكر، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وفي الدعاء ذكر وإن كان يثوبه سؤال.
ثم عند الإطلاق – صلاة – ينصرف هذا اللفظ إلى العبادة المعلومة بأركانها سواء كان فيها دعاء أو لم يكن كصلاة الأخرس. وإنما تركت الحقيقة للاستعمال عرفًا.
وكذلك الحج: فإن اللفظ للقصد حقيقة، ثم سميت العبادة بها لما فيها من العزيمة والقصد للزيارة. فعند الإطلاق: الاسم يتناول العبادة للاستعمال عرفًا (2) .
وقال (عبد العزيز البخاري) ..، ومن العادة نقله إلى معناه المجازي عرفًا واستفاضته فيه كوضع القدم في قوله: لا أضع قدمي في دار فلان. ويسمى حقيقة عرفية.
ويجوز أن يكون الاستعمال راجعا إلى القول، يعني أنهم يطلقون في هذا اللفظ معناه المجازي في الشرع والعرف دون موضوعه الأصلي كالصلاة والدابة: فإنهما لا تستعملان في الشرع والعرف إلاَّ في الأركان المعهودة والفرس. إلى أن قال:
وإنما صار استعمال اللفظ في معناه المجازي واستفاضته فيه دلالة على ترك الحقيقة، لأن الكلام موضوع للإفهام، والمطلوب به ما يسبق إليه الأوهام، فإذا تعارف الناس استعماله لشيء عينًا كان بحكم الاستعمال كالحقيقة فيه وما سواه لعدم العرف كالمجاز لا يتناوله الكلام إلاَّ بقرينة.
وقال: الحقيقة تترك بالتعارف....
وقال: والحقيقة تترك بنية غيرها أو بالعرف (3)
__________
(1) السرخسي: 1 /2189؛ وكشف الأسرار على المنار: 1 /231.
(2) ابن أمير حج. التقرير والتحبير: 1 / 283؛ والسرخسي: 1/ 190
(3) كشف الأسرار: 2 /95، 96(5/2385)
وقال ابن الهمام معقبًا: إن فخر الإسلام أراد بما ذكر هذا المعنى، فهو مجاز لغوي مهجور الحقيقة، فصار حقيقة عرفية (1)
ثم فرع على هذا الأصل مسائل فقال: ومن التخصيص بالعادة:
1- فيمن نذر المشي إلى بيت الله: لزمه حجة أو عمرة والخيار إليه استحسانًا.
وفى القياس لا يلزمه شيء، لأن الإلزام بالنذر إنما يصح إذا كان من جنسه واجب عليه شرعًا، وليس من جنس المشي إلى بيت الله واجب عليه شرعًا فلا يصح التزامه بالنذر. ولكنا تركنا القياس بالعرف الظاهر بين الناس، أنهم يذكرون هذا اللفظ ويريدون به التزام النسك وتعارفوا ذلك، والعرف مختص بلفظ المشي المضاف إلى الكعبة أو إلى بيت الله الحرام أو إلى مكة فبقي وراءها على القياس (2)
2- مسألة: لو قال: لله على أن أضرب بثوبي حطيم الكعبة. فعليه أن يهديه استحسانًا وفي القياس لا شيء عليه: وجه القياس: لأن ما صرح به في كلامه لا يلزمه لأنه (ضرب الثوب) ليس بقربة فلأن لا يلزمه غيره أولى.
وجه الاستحسان: أنه إنما يراد بهذا اللفظ الإمراء به فصار عبارة عما يراد به عرفًا، فكأنه التزم أن يهديه (3)
3- حلف لا يأكل رأسًا: أنه يقع على المتعارف – رؤوس البقر والغنم – استحسانًا.. لأنا نعلم أنه إنما يراد به رأس كل شيء.. فإن رأس الجراد والعصفور لا يدخلان تحته وهو رأس حقيقية، فإذا علمنا أنه لم يرد به الحقيقة وجب اعتبار العرف وهو: الرأس ما يكبس في التنانير ويباع مشويًّا.
وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولًا: يدخل فيه رأس الإبل والبقر والغنم لما رأى من عادة أهل الكوفة أنهم يفعلون ذلك في هذه الرؤوس الثلاثة، ثم تركوا هذه العادة في الإبل فرجع وقال: يحنث في رأس البقر والغنم خاصة.
ثم إن أبا يوسف ومحمدًا رحمهما الله شاهدا عادة أهل بغداد وسائر البلدان أنهم لا يفعلون ذلك إلاَّ في رؤوس الغنم فقالا: لا يحنث إلاَّ في رأس الغنم فعلم:
- أن الاختلاف اختلاف عرف وزمان لا اختلاف حكم وبرهان.
- ثم قال: والعرف الظاهر أصل في مسائل الأيمان.
__________
(1) الكمال بن الهمام – تيسير التحرير.
(2) ابن أمير حاج التقرير والتحبير: 1 /283.
(3) أصول السرخسي: 1 /189.(5/2386)
وخرج على الأصل مسائل:
منها:
- لو حلف لا يأكل بيضًا فإنه يختص ببيض الإوز والدجاجة استحسانًا.
ومنها:
- لو حلف لا يأكل طبيخًا فهو على اللحم خاصة ما لم ينوِ غيره استحسانًا، وفي القياس يحنث في اللحم وغيره.. لكن الأخذ بالقياس ههنا يفحش فحملناه على أخص الخصوص وهو اللحم لأنه هو الذي يطبخ في العادات الظاهرة (1)
وقلنا: إن هذه العمومات خصصت بالعرف العادي لا بالعرف الاستعمالي: لأن لفظ الرأس كما يستعمل في رأس الغنم يستعمل في رأس العصفور والحمام وسائر الحيوانات على السواء، إلاَّ أن العادة في الأكل مختصة برأس الغنم.
- وكذا إطلاق لفظ البيض على بيض العصفور والحمام شائع كما شاع في بيض الدجاج والإوز لكن العادة الظاهرة في الأكل اختصت بأكل بيض الدجاج والإوز دون غيرهما.
وقال الكمال بن الهمام: كما يقدم المعنى الشرعي في خطاب أهل الشرع على المعنى اللغوي، كذا يقدم المعنى العرفي على اللغوي في لسان أهل العرف خاصًّا كان أو عامًّا.
وضرب لذلك مثلًا فقال: فلو حلف لا يأكل بيضًا كان المحمول عليه ذا القشر.. ولا يدخل فيه بيض السمك إلاَّ أن ينويه، ويدخل بيض النعام – فيحمل على ما ينطلق عليه اسم البيض ويؤكل عادة.. فعلم أن المراد دخوله فيما إذا كانت عرف خطاب الحالف بحسب معتادهم في الإطلاقات ما يعمّ بيض النعام.
وأما إذا كان العرف ما هو أخص من ذلك فلا يدخل فيه فيدور ذلك مع التعارف وهكذا في مسألة الطبيخ والشواء: فتركت الحقيقة وهي العموم بالعادة بخلاف ما تقدم؛ فإن الحقيقة تركت فيه بغلبة استعمال اللفظ في تلك المعاني كما بينا لا بالعادة لأن الناس كما اعتادوا فعل الصلاة اعتادوا الدعاء أيضًا (2)
العرف في أقوال الفقهاء
اتفقت كلمة الفقهاء على الاستدلال بالعرف إما باستنباط الأحكام بناء على العرف أو التصريح بحجة العرف سواء كان ذلك في كتب القواعد الفقهية أو من خلال عرض المسائل التي اعتمد في تخريجها على العرف. ومن ذلك قولهم.
اتباع العرف أمر مجمع عليه حكاه القرافي ونقله التسولي في (البهجة: 2 /89) ، وقال صاحب المغنى في مفهوم إحياء الموات – الإحياء ما تعارفه الناس إحياء: 2 /435، وقال التادي في هامش (البهجة: 2/94) : إذا جرى العرف بشيء صار هو الأصل، وقال صاحب المهذب في الإذن (إطلاق الإذن يحمل على العرف) ونقل التسولي في الالتزام في عقد النكاح يكون باللفظ والعادة. وقال ألفاظ الوقف تجري على العرف. (البهجة: 1 /230)
واعتبر القاضي حسين أن الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس التي يبنى عليها الفقه حكاه ابن حجر في (الفتح: 4 /406) ، هذا ومن المالكية محمد بن سحنون قال: أن كان للقوم عادة وعرف متقدم بينهم حملوا على عرفهم وعاداتهم. (ملتقى ابن عرفة: ص 370) .
وأما السرخسي الفقيه والأصولي الحنفي فذكر في غير موضع من المبسوط حجية العرف قال: الأيمان مبنية على العرف.. وتعامل الناس – من غير نكير منكر – أصل في الشرع، والتعيين في العرف كالتعيين بالنص، والثابت بالعرف كالثابت بالنص، جوزنا العقود بالعرف وإن كان القياس يأباه. (المبسوط: 3 /14) .
ويقول البدر العيني: العرف عند الفقهاء أمر معمول به. وقال: حمل الناس على أعرافهم ومقاصدهم واجب. (عمدة القاري: 12 /16) ، وقال الجصاص الحنفي اعتبار الوسع مبني على العادة. (الأحكام: 1 /479) ، بل ونقل عن ابن الهمام قوله: العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص. (الفتح: 7 /15) ، ويقول ابن العربي المالكي: العرف والعادة أصل من أصول الشريعة وقد جمع الأستاذ أبو عجيلة في كتابه العرف حكاية أقوال الفقهاء (فقهاء المذاهب) في (حجية العرف: ص 247 – 258) .
العرف المخصص للعام نوعان:
1- العرف القولي، أو العادة القولية.
2- العرف العملي، أو العادة الفعلية.
حجية كل من العرف القولي والعرف العملي في حاكميته على النص تقييدًا وتخصيصًا عند الأصوليين.
- لا نزاع بين الأصوليين أن العرف القولي يقضي على النص فيقيده إن كان مطلقًا
ويخصصه أن كان عامًا. ونص عليه الغزالي وصاحب المعتمد والآمدي ومن تبعه (3)
__________
(1) عبد العزيز البخاري: 2 /98؛ وأصول السرخسي: 1 /191؛ وكشف الأسرار على المنار: 1 /269؛ والتحرير: 2 /20.
(2) البزدوي، كشف الأسرار: 2 /99؛ وكشف الأسرار على المنار: 1 /271.
(3) نهاية السول: 2 /470.(5/2387)
واتفقوا كذلك على أن العرف العملي يقيد المطلق.
لكنهم اختلفوا في: تخصيص العام بالعرف العملي. والمراد به تعامل الناس ببعض أفراد العام.
فذهب الحنفية والمالكية: إلى أنه لا فرق بين العرف القولي والعرف العملي – فكلاهما يخصص العام.
وخالفهم في ذلك الشافعية، فذهبوا إلى أن العرف العملي لا يقوى على التخصيص وهنالك قاعدتان في هذا الصدد:
الأولى: إنه يجب إجراء الكلام على حقيقته المتبادرة ولا يحمل على المجاز إلاَّ بدليل
الثانية: العادة محكمة (1)
ومن هنا قرر الأصوليون أن مطلق الكلام فيما بين الناس ينصرف إلى المتعارف.
القائلون بحجية العرف:
قال صاحب الأشباه: واعلم أن اعتبار العرف والعادة يرجع إليه في مسائل كثيرة. حتى جعلوا ذلك أصلا (أي دليلًا) ، فقالوا في الأصول في باب ما يترك به الحقيقة.. تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة (2)
وفي القنية للزاهدى (685هـ) ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر المذهب ويتركا العرف.
قال ابن عابدين: والعرف في الشرع له اعتبار؛ لذا عليه الحكم قد يدار (3)
وفي شرح الأشباه للبيري: والثابت بالعرف كالثابت بالنص (4)
وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنص (5)
__________
(1) ابن عابدين، نشر العرف: 2 /116.
(2) ابن نجيم، الأشباه: ص 93.
(3) ابن نجيم، الأشباه: ص 93.
(4) ابن عادين، الرسائل: 1 /46.
(5) الحموي، غمز عيون الأبصار: 1/ 295.(5/2388)
وقال القرافي في التنقيح: وأما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها (1)
وقال ابن الفرس: فالعرف متردد بين أن يراد به أفعال الخير، وبين أن يراد به الأفعال الجارية بين الناس مما لا يرده الشرع، واللفظ مشترك بينهما.
ونقل ابن رحال قول ابن يونس: فالعرف فاصل يقضى به.
وقال أبو الحسن: والعرف عندنا دليل من أدلة الشرع، فيقيد المطلق ويخصص العام ويكون شاهدًا لمدعيه (2)
وقال الإسنوي: إن ما ليس ضابط في الشرع ولا في اللغة يرجع إلى العرف (3)
حجية العرف
يقول القرافي في مختصر التنقيح:
تنبيه: ينقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العادات، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع. وليس كذلك.
أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها (4)
وابن العربي في تفسير قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} يقول:
المسألة الرابعة في تقدير الإنفاق: قد بينا أنه ليس له تقدير شرعي وإنما أحاله الله سبحانه على العادة، وهي دليل أصولي بنى الله عليه الأحكام وربط به الحلال والحرام (5) والسرخسي من الحنفية يقول في المبسوط: إن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزع عن العادة الظاهرة حرجًا بينًا (6)
وقال أيضًاً في موضع آخر من مبسوطه: وأقرب ما قيل في حق المجتهد أن يكون قد حوى علم الكتاب ووجوه معانيه، وعلم السنة بطرقها ومنزلتها ووجوه معانيها. وأن يكون مصيبًا في القياس عالمًا بعرف الناس (7)
ثم عمم ابن عابدين ذلك حيث قال: ولهذا قالوا: من شروط الاجتهاد أنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس (8)
__________
(1) القرافي، تنقيح الفعول: ص 198.
(2) حاشية ابن رحال، على مبارة للعاصمية: 1 /191.
(3) التمهيد: ص 224.
(4) التنقيح: ص 76.
(5) أحكام القرآن: 2 /270.
(6) المبسوط: 13 /24.
(7) المبسوط: 16 /62.
(8) الرسائل: 2/ 125(5/2389)
أدلة القائلين بحجية العرف
استدل القائلون بحجية العرف من الكتاب والسنة.
1- أما الكتاب: فقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .
قال السيوطي في تفسير الآية: قال ابن الفرس: اقضِ بكل ما عرفته النفوس مما لا يردّه الشرع.
ثم عقَّب السيوطي قائلًا: وهذا أصل القاعدة الفقهية في اعتبار العرف، وتحتها مسائل لا تحصى.
واستدل بهذه الآية على حجية العرف غير واحد من فقهاء المذاهب وبخاصة المالكية منهم ابن يونس وأبو الحسن وابن الفاكهان والقاضي عبد الوهاب (1) وغيره خلق كثير.. وعلاء الدين الطرابلسي في معين الحكام – الباب الثامن والعشرون –.
كما استدل بهذه الآية القرافي في (الفروق) مرتين:
الأولى: في الفرق (190) وهو يتحدث عن اختلاف الزوجين في متاع البيت.
والثانية: في الفرق (231) وهو يتحدث عن الحيازة.
وقال ابن الكلبي: وقيل العرف الجاري بين الناس من العوائد واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد (2)
2- قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة: الآية 233] .
قال الرازي الجصاص: وقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} يدل على أن الواجب من النفقة، والكسوة هو على قدر حال الرجل في إعساره ويساره، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر أكثر مما يقدر عليه ويمكنه، ولا إلزام الموسر الشيء الطفيف.. إلى أن قال: فإذا اشترطت المرأة وطلبت من النفقة أكثر من المعتاد المتعارف لمثلها لم تعط. وكذلك إذا قصَّر الزوج عن مقدار نفقة مثلها في العرف والعادة لم يحل له ذلك واجبر على نفقة مثلها. واستطرد قائلًا.. واعتبار الوسع مبني على العادة. اهـ.
__________
(1) ابن رحال في الحاشية: 2/191-249.
(2) التسهيل: 2 /106.(5/2390)
وقال: إذ لا توصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلاَّ من جهة غالب الظن واكثر الرأي إذ كان ذلك معتبرًا بالعادة وكل ما كان مبنيًّا على العادة فسبيله الاجتهاد (1)
وقال ابن العربي: وحمل على العرف والعادة في مثل ذلك العمل، ولولا أنه معروف ما ادخله الله في المعروف (2)
وقال أبو حيان التوحيدي: ومعنى بالمعروف: ما جرى به العرف.
وقال ابن كثير: أي ما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن (3)
ومن الآيات الكريمة التي فيها تلميح بليغ إلى اعتبار العرف دليلًا قوله تعالى {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة: الآية 228] .
وقوله سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة النساء: الآية 19] .
قال القرطبي: العرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس (4)
وجه الاستدلال: أرشد الله تعالى الزوجين في عشرتهما وأداء حق كل منهما إلى الآخر إلى العرف المعتاد والعادة، الذي يرتضيه العقل، ويطمئن إليه القلب، ولا شك أن ذلك متغير حسب الاختلاف بين المناطق وأحوال الناس.
ومن هذا القبيل ما جاء في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [سورة المائدة: الآية 89] .
قال الإمام الطبري: وأول الأقوال في تأويل قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، عندنا قول من قال: أوسط ما تطعمون أهليكم في القلة والكثرة، وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم – في الكفارات كلها وردت بذلك، وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم – في كفارة الحلق من الأذى بفرق من طعام بين ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع (5)
__________
(1) أحكام القرآن: 1 /404.
(2) أحكام القرآن: ص 203.
(3) ابن كثير: 1 /305.
(4) تفسير القرطبي: 7 /346.
(5) جامع البيان: 10 /543.(5/2391)
وقال الإمام ابن تيمية: أمر الله تعالى بإطعام المساكين من أوسط ما يطعم الناس أهليهم.
وقد تنازع العلماء في ذلك، هل ذلك مقدَّر بالشرع أو يرجع فيه إلى العرف..، وتنازعوا كذلك في النفقة، نفقة الزوجة.
والراجح في هذا كله أن يرجع فيه إلى العرف، فيطعم كل قوم مما يطعمون أهليهم. ولما كان كعب بن عجرة ونحوه يقتاتون التمر، أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقًا من التمر بين ستة مساكين (1)
ومن شواهد القاعدة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [سورة النور: الآية 58] .
قال العلائي: فأمر الله بالاستئذان في هذه الأوقات التي جرت العادة فيها بالابتذال ووضع الثياب، فانبنى الحكم الشرعي على ما كانوا يعتادونه (2)
قال القرطبي: أدب الله تعالى عباده في هذه الآية: يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة، هي الأوقات التي تقضي عادة الناس الانكشاف (3) .
ومن السنَّة:
ومن الأدلة الواردة في السنَّة المطهرة على تحكيم العادة والعرف في بعض الأحكام قوله صلى الله عليه وسلم: ((الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة)) (4)
قال الإمام العلائي في قواعده: وجه الدلالة منه أن أهل المدينة لما كانوا أهل نخيل وزرع، فاعتبرت عادتهم في مقدار الكيل.
__________
(1) مجموعة الفتاوى: 26 /113 - 114.
(2) المجموع المذهب: ص 42، الوجه الثاني.
(3) تفسير القرطبي: 2 / 304
(4) رواه أبو داود، معالم السنن: 5 /12.(5/2392)
وأهل مكة كانوا أهل متاجر فاعتبرت عادتهم في الوزن (1)
والمراد بذلك فيما يتقدر شرعًا، كنصب الزكاة ومقدار الديات، وزكاة الفطر، والكفارات ونحو ذلك.
فهذا المبدأ عام قرره النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتداد بالعرف الجاري بين الناس.
وليس المراد بالحديث تعديل الموازين والأرطال والمكاييل وجعل عيارها أوزان أهل مكة ومكاييل أهل المدينة عند التنازع حكمًا بين الناس يحملون عليها إذا تداعوا إلى أن قال: فإذا جاء باب المعاملات حملنا العراقي على الصاع المتعارف المشهور عند أهل بلاده.
والحجازي على الصاع المعروف ببلاد الحجاز، وكذلك كل أهل بلد على عرف أهله (2)
قال العيني: كل شيء لم ينص عليه الشارع أنه كيلي أو وزني، فيعتبر في عادة أهل كل بلدة على ما بينهم من العرف فيه، لأن العرف جملة من القواعد الفقهية (3)
ومن السنة: قضاء النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه حرام بن محيصة، عن أبيه: أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته ((فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل))
وفي رواية: فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل (4)
__________
(1) المجموع المذهب: ص 42 الوجه الثاني.
(2) المعالم: 5 /15.
(3) عمدة القاري: 16 /102.
(4) سنن أبي داود بشرح عون المعبود: 9 /483.(5/2393)
قال الخطابي: ويشبه أن يكون إنما فرق بين الليل والنهار في هذا: لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار. ويوكلون بها الحفاظ والنواطير. ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرحونها بالنهار، ويردوها مع الليل إلى المراح. فمن خالف هذه العادة كان به خارجًا عن رسم الحفظ إلى حدود التقصير والتضييع، فكان كمن ألقى متاعه في طريق شارع، أو تركه في غير موضع حرز، فلا يكون على آخذه قطع (1)
ومن السنَّة أيضًا: أحوال النساء وعوارضهن. قال صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش: ((فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام)) وذلك لما شكت، إليه بأنها تستحاض حيضة كثيرة. وفيه تنبيه على الرجوع إلى الأمر الغالب والعادة.
قال الخطابي في المعالم: فردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها إلى العرف الظاهر والأمر الغالب من أحوال النساء، كما حمل أمرها في تحييضها كل شهر مرة واحدة على الغالب من عدتهن، ويدل على ذلك قوله: كما تحيض النساء ويطهرن ميقات حيضهن وطهرهن.
وهذا أصل في قياس أمر النساء بعضهن على بعض في باب الحيض والحمل والبلوغ وما أشبه هذا من أمورهن (2)
وفي ضوء هذه النصوص ونظائرها اهتدى الأئمة إلى وضع هذه القاعدة واحتكموا إليها في كثير من المسائل والقضايا، وهذا ما يرمز إليه قول الإمام القاضي شريح في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه للغزَّالين: (سنتكم بينكم) ، قال العيني في شرح البخاري: يعني عادتكم وطريقتكم بينكم معتبرة (3)
أدلة المجيزين لتخصيص العموم بالعادات
وعمدة من ذهب إلى أن العموم يخص بالعادات:
1- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس بلغتهم فيما عرفوا في تحاورهم.
وكذلك أمر الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل من الآية 44] .
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [سورة إبراهيم من الآية 4]
وجه الاستدلال: لو لم يكن خطاب الشرع منزلًا على مقتضى العادة خرج عن أن يكون مفهمًا وبطلت فائدة الرسالة، فلا بد من حمله على مقتضى العادة ليتحقق معنى الإفادة (4)
وقال أبو الوليد الباجي المالكي:
مسألة: يجوز تخصيص العموم بعادة المخاطبين: وبه قال ابن خويز منداد.
وجه هذا القول: أن اللفظ إذا ورد حمل على عرف التخاطب في الجهة التي ورد منها.
وقال القاضي أبو محمد: إن كان العرف من جهة الفعل لم يقع به التخصيص، مثل أن يقول: حرّمت عليكم اللحم، وعادتهم أكل لحم الضأن.
__________
(1) معالم السنن: 5 /202.
(2) جامع الترمذي: 2 /222 و 223؛ والمعالم: 1 /183.
(3) عمدة القاري: 12 /16.
(4) ابن برهان البغدادي. الوصول إلى الأصول: 1 /306.(5/2394)
وإن كان العرف من جهة التخاطب: وقع به التخصيص، مثل أن يقول: حرمت عليكم ركوب الدواب، فيختص بما يستعمل فيه هذا اللفظ دون ما وضع له (1)
قال القرافي (المالكي) :
تحت باب: في جمع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين.
في الأدلة: وعدَّ منها: العوائد. ثم قال:
العوائد، العادة: غلبة معنى من المعاني على الناس، وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم كالحاجة للغذاء والتنفس في الهواء.
وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود والعيوب.
وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالآذان للإسلام، والناقوس للنصارى.
حكمها: فهذه العادة يقضى بها عندنا – المالكية (2)
مذهب الحنابلة:
لا يجوز تخصيص العموم بالعادات عندنا.. وقال أبو الخطاب:
وهذا فيه تفصيل:
1- فإن العادات في الفعل – مثل أن يكون عادة الناس شرب بعض الدماء ثم تحرّم الدماء بكلام يعمها – فهذا الذي لا يجوز تخصيص العموم به.
2- وأما إن كانت العادة في استعمال العموم – مثل أن يحرم أكل الدواب، والدواب في اللغة اسم لكل ما دبَّ – ويكون عادة الناس تخصيص الدواب بالخيل مثلًا – فإنا نحمل الدواب على الخيل.
قال أبو الخطاب: وليس هذا بتخصيص على الحقيقة وإنما هو تخصيص بالنسبة إلى اللغة (3)
قال ابن القيم:
ومما تتغير به الفتوى لتغير العرف والعادة.
موجبات الأيمان، والإقرار، والنذور وغيرها..
__________
(1) الباجي أحكام الفصول: ص 269.
(2) القرافي. التنقيح: ص 448.
(3) المسودة: ص 124.(5/2395)
فمن ذلك: أن الحالف إذا حلف: لا ركبت دابة – وكان في بلد عرفهم في لفظ (الدابة) الحمار خاصة – اختصت يمينه به، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل.
وإن كان عرفهم في لفظ (الدابة) الفرس خاصة، حملت يمينه عليها دون الحمار. وكذلك إن كان الحالف ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب. كالأمراء ومن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب.
فيفتى في كل بلد بحسب عرف أهله، ويفتي كل أحد بحسب عادته.
وكذلك إذا حلف (لا أكلت رأسا) في بلد عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة. لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها.
وإن كان عادتهم أكل رؤوس السمك، حنث بأكل رؤوسها.
وكذلك إذا حلف (لا اشتريت كذا) ولا بعته ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها ونحو ذلك: وعادته أن لا يباشر ذلك بنفسه كالملوك وحنث قطعًا بالإذن والتوكيل فيه، فإنه نفس ما حلف عليه.
وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه كآحاد الناس، فإن قصد منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتوكيل.
وإن قصد عدم الفعل والمنع منه جملة حنث بالتوكيل. وإن أطلق اعتبر سبب اليمين.
وعلى هذا: إذا أقرَّ الملك أو أغنى أهل البلد لرجل بمال كثير، لم يقبل تفسير بالدرهم والرغيف ونحوه مما يتمول.
فإن أقرَّ به فقير يعدُّ عنده الدرهم والرغيف كثيرًا قبل منه (1)
أما العرف الخاص: قوليًّا كان أو عمليًّا.
فالمالكية: يجيزون تخصيص النص العام بالعرف الخاص.
أما الحنفية: فلا يرون ذلك في الراجح من مذهبهم.
والمدار في ذلك على تحقق مناط التخصيص، فحيثما تحقق المناط وجب القول بوجوب التخصيص، ولا فرق إذ ذاك بين عام وخاص أو قولي وعملي.
__________
(1) ابن القيم: إعلام الموقعين: 2 /62 و 33.(5/2396)
وأما مذهب الحنابلة: فقد نصَّ عليه صاحب المسودَّة، فقال:
وقال الغزالي في المستصفى:
الثامن عادة المخاطبين:
فإذا قال لجماعة من أمته: حرمت عليكم الطعام والشراب مثلًا، وكانت عادتهم تناولهم جنسًا من الطعام، فلا يقتصر النهي على معتادهم بل يدخل فيه لحم السمك والطير وما لا يعتاد في أرضهم.
وجه القول: لأن الحجة في لفظه وهو عام، وألفاظه غير مبنية على عادات الناس في معاملاتهم حتى يدخل فيه شرب البول وأكل التراب وابتلاع الحصاة والنواة.
وهذا بخلاف لفظ الدابة، فإنها تحمل على ذوات الأربع خاصة لعرف أهل اللسان في تخصيص اللفظ.
وأما أكل النواة والحصاة يسمى أكلًا في العادة، وإن كان لا يعتاد فعله، ففرق بين أن لا يعتاد الفعل وبين أن يعتاد إطلاق الاسم على الشيء.
وعلى الجملة: فعادة الناس تؤثر في تعريف مرادهم من ألفاظهم حتى إن الجالس على المائدة يطلب الماء يفهم منه العذب البارد، لكن لا تؤثر في خطاب الشارع إياهم (2 /111) .
استدل المانعون به من وجوه.
أولًا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث لتبديل العادات وتغييرها.
ولو خص العموم بالعادة الواردة بطلت فائدة الألفاظ الواردة على صاحب الشرع.
ثانيا: إن العادة فعل يصدر من المكلفين، وأفعال المكلفين ليست بحجة.
والعموم: قول الله تعالى وقول رسوله وهو حجة، فكيف تخص الحجة بما ليس بحجة.
والعموم: قول الله تعالى وقول رسوله وهو حجة، فكيف تخص الحجة بما ليس بحجة.
ثالثًا: أن العادة ليست بأمر مشروع، وقول صاحب الشرع يشرع من جهة الله تعالى فلا يجوز أن يترك الشرع الوارد لما ليس بشرع ثابت (1)
مذهب الشافعية في المسألة
قال الزركشي: والعرف الفعلي (العملي) غير معتبر في تخصيص الألفاظ، أما عن ابن برهان: العادات الراجعة إلى الأفعال فلا يجوز أن تكون مخصصة للألفاظ الشرعية.
__________
(1) ابن برهان البغدادي. الوصول إلى الأصول: 1 /306.(5/2397)
وجه القول: إن العمل ليس عرفًا للأقوال، فلا يكون له سلطان عليها. بل سلطانه على الأفعال.
أو نقول: إن ذلك يقضي إلى تقديمها على ألفاظ صاحب الشرع فلا بد أن يقضى على العادات بالألفاظ الشرعية.
بيان ذلك: إن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] ، لو كان مخصوصًا بغير الربا الذي اعتادوه فيما بينهم بطلت فائدة الآية.
إنما نزلت لصدهم عن العادة الذميمة ومنعهم منها. فأجرى ما كان اللفظ متناولًا له ودالًا عليه على ما كان شائعًا معتادًا، ولأن الحاجة إنما تدعو إلى بيان ما يتم به البلوى دون ما كان نادرًا، فهذا النوع من العادات لا يجوز أن يخصَّ به الألفاظ.
أما العرف القولي: فسلطانه على الأقوال لأنه عرف لها فيخصصها ولا سلطان له على الأفعال لأنه ليس عرفًا لها.
ثمرة الخلاف: لو حلف السلطان لا يلبس ثوبًا، أو لا يأكل خبزًا، فأكل خبز الشعير أو لبس الكرباس يحنث، وإن كانت عادته عدم تناوله.
وإن حلف هو أو غيره أن لا يأكل رؤوسا، فأكل رؤوس السمك لم يحنث، لأن العرف خصص الرءوس بذوات الأربع.
وفي هذا المقام لا بد من البناء على أصل وهو: أنه إذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب كل أمة بلغتهم وبما يتعارفونه جاز التخصيص بهذه الألفاظ لأنها أقرب إلى البيان.
وإن ثبت أنه يخاطب الناس باللغة الأصلية – دون العادة واللغة العرفية – فلا يجوز تخصيص ألفاظه صلى الله عليه وسلم بالعادة المطردة (1)
رأي الكوثري في حجية العرف
- وأما تحكيم العرف على النصوص فلم يقع من مسلم ولن يقع.
والتعامل بين المسلمين بالمعدنين المسكوكين – من غير وزن – إنما هو للعلم بوزنهما من قيام رقابة ساهرة عليه جد السهر وليس ذلك من تحكيم العرف من شيء (2) ، وقال: وأحكام الشرع هي: ما فهمه الصحابة والتابعون وتابعوهم من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم على موجب اللسان العربي المبين.
__________
(1) الزركشي. المنثور في القواعد: 2 /393؛ وابن برهان البغدادي. الوصول إلى الأصول: 1 /360.
(2) الكوثري. المقالات: ص 111.(5/2398)
وعمل الفقهاء إنما هو الفهم من الكتاب والسنة، وليس لأحد سوى صاحب الشرع دخل في التشريع مطلقًا.
وأما المتأخرون من الفقهاء فليس لهم إلا أن يتكلموا في نوازل جديدة لا أن يبدوا آراء في الشرع على خلاف ما فهمه من النصوص رجال الصدر الأول الذين هم أهل اللسان، المطلعون على لغة التخاطب بين الصحابة قبل أن يعتورها تغيير وتحرير، والمتلقون للعلم عن الذين شهدوا الوحي.
فما فهموه من الشرع فهو المفهوم.
وما أبعدوه عن أن يكون دليلًا بعيد أن يتمسك به.
وإنما يكون الكلام فيما لم يتكلموا فيه، أو اختلفوا في حكمه.
ثم يبدي تخوفه من هذا المسلك فيقول:
يأسف المسلم كل الأسف من وجود أناس في أزياء العلماء تحملهم شهوة الظهور على التظاهر بمظهر المستدرك على فقهاء الصدر الأول، وعلى محاولة ابتداع أساليب بها يحرفون الكلم عن مواضعه، ويجعلون الشرع الواضح الصريح الأحكام يتقلب مع الزمن وذلك لأجل التقرب إلى الذين لا يضمرون للإسلام خيرًا.
تراهم يقولون: عندنا العرف، وعندنا المصلحة بهما تتغير الأحكام ... يريدون بذلك أن يجعلوا شرع الله متقلبًا مع الزمن ومع الظروف.
إلى أن قال: وليس للعرف في الشرع إلا ما بينه علماء المذاهب في كتب القواعد وكتب الأصول والفروع.
من مثل: حمل الدرهم في العقود على المتعارف في البلد، وكذا الرطل، وكون المشروط عرفًا كالمشروط لفظًا، وزوال خيار الرؤية برؤية المشتري إحدى غرف الدار عندما كان العرف جاريًا بين الناس ببناء دورهم متساوية الغرف (1) .
وعدم زوال الخيار المذكور عند تغير (الغرف) العرف المذكور.
واعتبار اللفظ صريحًا في معنى تعورف فيه بخلاف ما إذا نقل إلى معنى آخر وتنسي المعنى الأول.
وحمل الطعام واللحم على البر ولحم الضأن في بلد تعورف تخصيصهما بهما إلى غير ذلك مما هو مفصل في التحقيق الباهر في شرح الأشباه والنظائر (لهبة الله التاجي) والمجموع المذهب في قواعد المذهب (للصلاح العلائي) وغيرهما من الكتب المؤلفة في قواعد المذاهب وهي الواسطة بين الفروع والأصول ...
__________
(1) الكوثري المقالات: ص 327.(5/2399)
وقال: وليس في شيء منها عد عرف طائفة شرعًا مشروعًا حتى يظن أن عمل أهل المدينة في عهد الفقهاء السبعة ليس بالعمل المتوارث طبقته عن طبقة عن النبي صلى الله عليه وسلم اغترارًا بتقولات بعض الماجنين. فليتقِ الله المرجفون في محاولاتهم تغيير الشرع باسم العرف (1) .
وقال في موضع آخر:
ليس العرف في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، [سورة الأعراف: الآية 199] بمعنى العادة الجارية هنا وهناك.
بل هو الحكم المعروف الذي لا ينكره الشرع، ولا يستقبحه العقل بل يقره الشرع ويستحسنه العقل.
يوصي الله سبحانه في الآية المذكورة بالتسامح مع الناس في المعاملة الشخصية معهم والمجاهرة بحكم الله في غير هوادة، وترك الالتفات إلى من يحاول إيصال الأذى في هذا السبيل.
فمن فسر العرف هنا بالعادة فقد فسر الرأي بدونه مدرك لا في الرواية ولا في الدراية وإنما عرف العرف بمعنى العادة بعد زمن الوحي، كما لا يجهل ذلك أهل العلم بأطوار اللغة (2) .
تخصيص العرف للقياس والأثر: لا يصلح العرف عند أهل العلم أن يكون للقياس أو الأثر إلا إذا كان عامًّا متوارثًا – فضلًا عن أن يكون قاضيًا على النص.
وأما الخاص فإنما يثبت به الحكم الخاص ما لم يخالف القياس والأثر فلا يصح أن يكون مخصصًا لهما.
شروط اعتبار العرف والعادة:
إن اعتبار العرف والعادة مشروط بشروط.
منها ما هو عام في جميع الاستعمالات، ومنها ما هو خاص ببعضها.
ويمكن إيجازها فيما يأتي:
الشرط الأول: أن يكون كل من العرف والعادة مطردًا أو غالبًا.
ومعنى الاطراد: أن يكون العرف شائعًا مستفيضًا بمعنى: أنه لا يختلف عند أحد من أهل العرف سواء أكان عامًا أم خاصًا.
ومعنى الغلبة: أن يكون العرف أكثريًّا بمعنى أنه لا يختلف إلا عند قلة من الناس وهذا لأن العرف بين الناس وتمكنه من نفوسهم بحيث ينسب إليهم جميعًا لا يتم إلا بالاطراد والغلبة وهو المراد، من قول الفقهاء (إن العبرة بالشائع لا بالنادر) ، أي المعتبر في العرف الذي هو مبنى الأحكام: الاعتياد الغالب الذي لا يتخلف إلا عند القليل، فالاعتياد المطرد أدخل في الاعتبار.
وهذا الشرط عام في جميع استعمالات العرف والعادة (3) .
__________
(1) الكوثري المقالات: ص:117، 188.
(2) ص 319.
(3) أبو سنة محاضرات. المدخل: ص 181.(5/2400)
اطراد العرف
مسألة: إذا اطرد العرف في ناحية هل يطرد في سائر النواحي.
مثاله: حلف لا يدخل بيتًا فدخل بيت الشعر حنث وإن كان قرويًّا.
وجهة: لأنه ثابت في عرف البادية.
وكذا: لو حلف لا يأكل الخبز، فأكل خبز الأرز – بغير طبرستان – حنث.
وقيل: إنما يحنث به بطبرستان لاعتيادهم أكله.
ولو حلف: لا يأكل الرؤوس – وعادة بلده بيع رؤوس الحيتان والصيود منفردة حنت بأكلها هناك وفي غيرها من البلاد وجهان: أصحهما الحنث (1) .
الشرط الثاني: أن يكون العرف عامًا في جميع بلاد الإسلام، وهو بالعرف الذي يكون دليلًا على الحكم - في الظاهر – كاشفًا على دليل حقيقي كالإجماع والمصلحة المرسلة.
كالعرف الذي أجاز الاستصناع، ووقف المنقول.
ذلك: لأن الإجماع لا يتم إلا من عادة المجتهدين في جميع البلاد.
- والمصلحة المرسلة خلاصتها: تأثير الحاجة العامة في التيسير.
- والعلة الضابطة لهذه الحاجة هو: العرف العام (2) .
الشرط الثالث: أن لا يكون العرف مخالفًا.
بأن تكون عادات الناس لا يعارضها حكم من الأحكام التي أفادته الأدلة فلو خالفها بطل اعتباره.
كتعارف الناس شرب الخمر، ولعب الميسر وكشف بعض العورة من البدع العرفية التي بعد الناس عن الإسلام (3) .
الشرط الرابع: أن يكون العرف الذي يحمل عليه صيغ المتصرفين وإعجابهم ونصوص الشارع موجودًا وقت ورودها.
__________
(1) الزركشي المنثور: 2 /389
(2) ابن عابدين: 2 /124.
(3) ابن عابدين الرسائل: 2 /116.(5/2401)
فخرج بهذا أمران:
الأول: ما إذا كان العرف طارئًا على التصرف أو النص وحادثًا بعدهما وإن قارن العمل بمقتضاهما.
الثاني: ما إذا كان العرف سابقًا على التصرف وتغير قبل إنشائه فإنه لا يحمل على كل منهما.
لو أن شخصًا وقف ضيعة على العلماء سنة ألف، وكان المتعارف من هذا اللفظ علماء الدين واللغة.
تم تعورف الآن هذا اللفظ فيما يشمل هؤلاء والعاملين في الكيمياء والطبيعة، وأريد توزيع الريع الآن ... فسر كتاب الوقف بالعرف الموجود وقت إنشاء الوقف لا بالعرف الحادث.
كذلك الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة تفسر بما كان عليه العرب في أقوالهم وأفعالهم وقت نزول الوحي لا بما استحدثه الفقهاء وعامة الناس من عرف جديد.
الشرط الخامس: أن يكون العرف ملزمًا:
أي يتحتم العمل بمقتضاه في نظر الناس، وهو خاص بالعرف المثبت لحق من الحقوق لقيامه مقام العقد أو الشرط.
مثاله: الهدايا في الأعياد والأعراس.
هل اعتاد الناس المكافأة عليها في مثل هذه المناسبات أو هي عادة بعض البلاد دون البعض.
يرجع إلى العرف في كل ذلك فمتى كان العرف المكافأة لزم ذلك في الفتيا والقضاء (1) .
__________
(1) أبو سنة، المدخل: ص 184.(5/2402)
أهم القواعد الفقهية في العرف وسلطانه
أثبت الفقهاء قواعد في العرف والعادة كانت أسسًا وضوابط لكثير من الأحكام الفرعية القائمة على العرف، وذكرت المجلة طائفة منها في المواد: 336 و 39 و 60 - 45.
ومن أهم هذه القواعد الفقهية المتعلقة بالعرف القواعد التالية:
1- العادة محكمة: المجلة 40.
2- الحقيقة تترك بدلالة العادة: م 40.
3- استعمال الناس حجة يجب العمل بها: م 37.
4- المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا: م 43.
5- التعيين بالعرف كالتعيين بالنص: م45.
6- لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان: م 39.
وقد خرج الفقهاء على هذه القواعد ما لا يحصى من فروع الأحكام وفي مختلف الأبواب الفقهية والمعاملات.
منها:
1- تقسيم مهر المرأة إلى معجل ومؤجل في الزواج، ومقدار كل منهما إذا لم يبين في عقد النكاح يرجع فيه إلى العرف.
2- تقسيم ثمن المبيع وأجرة المأجور إذا لم يصرح به العاقدان وكان فيه عرف جار في بلد العقد، يلزم فيه الطرفان بحكم العرف.
3- ما يعد في المبيع عيبًا مسوغًا لفسخ البيع أو لا يعد عيبًا إنما يحكم فيه العرف.
4- تجاوز المستأجر الحدود الجائزة له في استيفاء منفعة المأجور حتى يعتبر متعديًّا ضامنًا قيمته إذا تلف إنما ميزانه العرف.
5- كيفية حفظ الوديعة مما يعد به الوديع مقصرًا في حفظها فيضمن إن ضاعت أو غير مقصر فلا يضمن، إنما يعتبر أيضًا فيه العرف.
6- اختلاف المعلم مع التلميذ العامل في الصناعات أيهما يستحق على الآخر أجرًا يرجع فيه إلى عرف البلدة، المجلة (596) .
7- وكذا في باب (الإجارة) كل ما كان من توابع العمل ولم يشترط على الأجير يعتبر فيه عرف البلدة، المجلة (574) (1) .
__________
(1) الزرقاء المدخل: 2 /136.(5/2403)
فصل: في تنزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال منزلة صريح الأقوال في تخصيص العموم وتقييد المطلق وغيرهما وله أمثلة:
المثال الثالث: استصناع الصناع الذين جرت عادتهم بأن لا يعملوا إلا بالأجرة إذا استصنعهم مستصنع من غير تسمية كالدلال والحلاق والفاصد والحجام والنجار والحمال والقصار ...
فالأصح: أنهم يستحقون من الأجرة ما جرت به العادة.
لدلالة العرف على ذلك:
المثال التاسع: تقديم الضيفان إذا أكمل وضعه بين أيديهم ودخل الوقت الذي جرت به العادة بأكلهم فيه، فإنه يباح الإقدام عليه ... تنزيلا للدلالة العرفية منزلة الدلالة اللفظية.
ولا يجوز للأراذل أن يأكلوا مما بين أيدي الأماثل من الأطعمة النفسية المخصوصة بالأماثل، إذ لا دلالة عن ذلك بلفظ ولا عرف بل للعرف زاجر عن ذلك.
المثال العاشر: دخول الحمامات والقياصير والحانات إذا فتحت أبوابها في الأوقات التي جرت العادة في الارتفاق بها فيها، فإنه جائز إقامة للعرف المطرد مقام الإذن الصريح.
ولا يجوز لداخل الحمام أن يقيم فيه أكثر مما جرت به العادة، ولا أن يستعمل من الماء أكثر مما جرت به العادة؛ إذ ليس فيه إذن لفظي ولا عرفي..
المثال الحادي عشر: الدخول إلى دور القضاة والولاة في الأوقات التي جرت العادة بالدخول فيها بعد فتح أبوابها للحكومات والخصومات.
المثال الرابع عشر: التقاط كل مال حقير جرت العادة أن مالكه لا يعرج عليه ولا يلتفت إليه.
فإنه يجوز تملكه والارتقاق به لاطراد العادات ببذله:
المثال الخامس عشر: الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إذا كان السقي لا يضر بمالكها جائز، إقامة للإذن العرفي مقام الإذن اللفظي، فلو أورد ألفًا من الإبل إلى جدول ضعيف فيه ماء يسير، فلا أرى جواز ذلك على المعتاد؛ لأنه لا يقتضيه إذن لفظي ولا عرفي..
المثال السادس عشر: حمل الألفاظ الحقيقية العربية على مجازها كلفظ الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة ...
وحمل ألفاظ الأخبار على الإنشاء، واستعمال الماضي في ألفاظ المعاملات: كبعت وأجرت وضمنت ووكلت ووهبت وأقرضت وتصدقت..
وحمل المستقبل على إنشاء الشهادات كأشهد بكذا..
وكذلك الدعوى في قوله: أدعي عليه بكذا – لأن أشهد مردد بين الحال والاستقبال، وهو منصرف إلى الحال بعرف الاستعمال.(5/2404)
وكذلك قوله أنت حر وأنت طالق، وضعه أن يكون خبرًا عن أمر محقق ثابت من غير اللفظ.
فصار بالعرف إنشاء للحرية والطلاق ...
المثال الثامن عشر: وجوب الإثابة في سباب الأراذل للأماثل على العرف الغالب فيه.
المثال التاسع عشر: اندراج الأبنية والاستئجار في بيع الدار، وإن لم يصرح البائع بذلك بناء على العرف الغالب فيه.
المثال العشرون: دخول ثياب العبد والأمة في بيعها عند من رآه لاطراد العرف بذلك.
لمثال الحادي والعشرون: التوكيل في أداء الديون يجب على الوكيل الإشهاد على الأداء بحكم العرف.
المثال الثالث والعشرون: أذن الإمام للجلاد في جلد الحدود والتعزيرات فإنه يحمل على حزب بين حزبين لسقوط بين سقوطين في زمن بين زمانين.
وإذا أمر الإمام بالرجم تعين الرجم بالأحجار المعتادة فلا يجوز بالصخور ولا بالحصيات الصغار، ولا يجلد عريانًا، لأنه صار بعرف الاستعمال محمولًا على الحائل (1) .
وجهة نظر الشاطبي في تقسيم العرف والعادة
أقسام العرف:
قال الشاطبي: العوائد المستمرة ضربان:
أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها..
والثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.
وهذا القسم هو موضوع بحثنا ... وفيه، قال فيه الشاطبي: وقد تكون العوائد ثابتة، وقد تتبدل ومع ذلك فهي أسباب لأحكام تترتب عليها.
__________
(1) العز بن عبد السلام الأحكام: 2 /105 – 107.(5/2405)
إلى أن قال: والمتبدلة: منها ما يكون متبدلًا من حسن إلى قبح، وبالعكس، مثل كشف الرأس: فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد الشرقية، وغير قبيح في البلاد الغربية.
فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح بالعدالة.
ومنها ما يختلف في التعبير عند المقاصد: فتنصرف العبارة عن معنى إلى معنى عبارة أخرى.
إما بالنسبة إلى اختلاف الأمم كالعرب مع غيرهم.
أو بالنسبة إلى الأمة الواحدة، كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع في صنائعهم مع اصطلاح الجمهور.
أو بالنسبة إلى غلبة الاستعمال في بعض المعاني حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما، وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر أو كان مشتركًا فاختص، وما أشبه ذلك.
والحكم أيضًا يتنزل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من اعتاده فيه بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده وهذا المعنى يجري كثيرًا في الأيمان والعقود والطلاق كناية وتصريحًا.
ومنها ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوهما كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة، أو بالعكس، أو إلى أجل كذا دون غيره.
فالحكم أيضًا جار على ذلك حسبما هو مسطور في كتب الفقه.
وقال العز بن عبد السلام:
فصل: في حمل الألفاظ على ظنون مستفادة من العادات لمسيس الحاجة إلى ذلك، وله أمثلة:
أحدهما: زفاف العروس إلى زوجها مع كونه لا يعرفها، فإنه يجوز له وطؤها؛ لأن زفافها شاهد على أنها امرأته لبعد التدليس في ذلك في العادات.
المثال الثاني: الأكل من الهدي المنحور المشعر بالفلاة جائز على المختار لدلالة النحر والإشعار القائمين مقام صريح اللفظ على البذل والإطلاق.
المثال الثالث: الدخول إلى الأزقة والدروب المشتركة جائز للإذن العرفي المطرد فيه.(5/2406)
المثال الرابع: طرق باب الدار والإيقاد من السرج والمصابيح كل ذلك جائز للإذن العرفي.
المثال السادس: المعاطاة في المحقرات قائمة مقام الإيجاب والقبول لمن جلس في الأسواق للبيع والشراء، لأنها دالة على الرضى بالمعاوضة دلالة صريح الألفاظ.
المثال التاسع: الاعتماد في المعاملات والضيافات والتبرعات على بذلك الباذل، لأن دلالتها على ملكه واختصاصه ظاهرة في العرف المطرد.
المثال الحادي عشر: الاعتماد على قول المقومين العارفين بالصفات النفسية الموجبة لارتفاع القيمة، والصفات الخسيسة الموجبة لانحطاط القيمة لغلبة الإصابة على تقويمهم.
وكذلك الاعتماد على قول الخارصين لغلبة إصابتهم في ذلك، حتى لا يكادون يخطئون. اهـ باختصار قواعد الأحكام: 2 /138.
هل الخلاف في حجية العرف حقيقي أو ظاهري
من المسلم به بين المخالفين والموافقين أن هنالك تصرفات كثيرة للمكلفين للعرف فيها مدخل ... ولكن لا بد من التوسط ما بين التفريط والإفراط ... خاصة بالنسبة لنفاة حجية العرف فحيث نفوه دليلًا ... وصفوه كاشفًا للحكم لا مثبتًا له ... وهل القياس، وهو المصدر الرابع من مصادر التشريع المجمع عليها، إلا دليل كاشف على ما قال أهل العلم ... باعتبار أن الكتاب والسنة والإجماع مثبتة للأحكام ... وهي من المصادر الأصلية وما سواها من المصادر – أو الأدلة – هي مصادر تبعية.
والعرف مصدر من المصادر الاجتهادية ... ولا اجتهاد في مورد النص ... ولم يقل مثبتو حجية العرف بأن العرف يعارض النص بوجه من الوجوه.. وإن قالوا إنه مخصص بذلك يكون تابعا لا أصلا ...
ويقول صاحب المسودة: وتخصيص العموم بالعادة – بمعنى قصره على العمل المعتاد كثير المنفعة وكذا قصره على الأعيان التي كان الفعل معتادًا فيها زمن المتكلم (1) .
كلمة ختامية
المتتبع للمسائل التي بنيت على العرف – في الفقه والأصول – يتبين له أمور، وهي:
1- أن العرف يقوى على إنشاء أحكام الحوادث التي لا نص فيها.
2- يترك القياس بالعرف.
3- إذا تعارض العرف مع النص خصصه.
4- الأحكام المبنية على العرف تتغير تبعًا له.
5- أن منشأ دلالة العرف ليس مجرد كونه تعارفًا بل ما أنبأ عنه من المصلحة لذا قيل: العادة محكمة عامة كانت أو خاصة.
__________
(1) المسودة: ص 125.(5/2407)
وإذا كان العرف – يرجع في غالب صوره إلى المصلحة التي دعت إليها الحاجة فتكون مرتبته بين الأدلة مرتبة المصلحة.
ولا شك في أن هذه المصلحة التي دعت إليها الحاجة – عامة كانت أو خاصة – دليل من الأدلة التي يستند إليها في إثبات الأحكام، وهي ليست مجرد رأي، بل حجيتها ثابتة بالنصوص الكثيرة النافية للحرج والداعية إلى التيسير وعدم التعسير (1) .
وأن التخوف من اعتبار العرف دليلًا فإذا عارض النص نسخه، ولا نسخ بعد الرسالة بالإجماع. فالجواب إنما يصدق هذا إذا كانت المعارضة كلية، وذلك لم يقل به أحد ولكن ينحصر أثر العرف في المعارضة الجزئية، وهذه لا تلغي النص ولا تبطله، بل تخصصه ويبقى العمل بالنص فيما عدا موضع العرف، فلا يكون العمل به في هذه الحالة نسخًا.. وأقصى ما فيه أن يكون تخصيصًا ... والتخصيص للنص مشروع وباقٍ بعد عصر الرسالة، فكما كان التخصيص في عصر الوحي بالنص، يكون بعده بالقياس والمصلحة والاستحسان.. وهي أنواع من الاجتهاد المأذون فيها إلى قيام الساعة، وعندئذ يكون العرف المخصص عملًا مشروعًا، والعرف الناسخ غير مشروع فافترقا.
وما العرف المخصص إلا عملية استثناء بعض أفراد النص العام وإخراجها من حكمه، فيدخل تحت مبدأ الاستثناء المقرر صراحة في القرآن الكريم.
ونخلص مما تقدم إلى القول بأن العرف في تخصيصه لبعض النصوص أو تفسيره للبعض الآخر والاستناد إليه باعتباره قرينه مرجحة عند التنازع أو إنشائه لبعضها، حيث لا نص – في كل ذلك لم يقف العرف وراء أسوار النصوص بل دخلها، أو أدخلها ليعمل معها بقدر ما أعطي من سلطان.
فهو يعتبر بحق نافذة من نوافذ الفقه الإسلامي التي يطل منها على حياة الناس الواقعية، فيسلط عليها الأضواء لتنير الطريق للسائرين كي لا تلتوي بهم السبل عن الجادة، وليميز الخبيث من الطيب فإذا ما انكشفت الحقائق أقر منها النافع وألغي الفاسد الضار.
وكم من أصولي لم يقل بالعرف في أصوله ولكن على صعيد التطبيق لا يسعه إلا القول به، حتى قال ابن القيم في أمثال هؤلاء: (فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به) (2) .
أو مما قال القرطبي: ينكرونه لفظًا ويعملون به معنى، والصحيح أن الشريعة الإسلامية راعت العرف وجعلته أصلًا من أصولها – وكان أثر إقرار هذا المبدأ – اعتبار العرف – وغيره أن زخر الفقه الإسلامي على مر العصور بشتى الحلول لما استجد ويستجد من القضايا بين الناس.
وما من شك في أن العمل بالعرف أحد مظاهر السماحة والتيسير في هذه الشريعة الغراء، والتي قال فيها تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ... وقال صلى الله عليه وسلم: ((يسِّروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا)) .
والله من وراء القصد ...
الشيخ خليل محيي الدين الميس.
__________
(1) بتصرف من الفقه الإسلامي، لشلبي: ص 107، وما بعدها.
(2) إعلام الموقعين: 2 /414.(5/2408)
العرف
إعداد
الشيخ كمال الدين جعيط
خطة البحث
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حصرنا الموضوع في مقدمة وبحث وخاتمة:
أشرنا في المقدمة إلى مصادر الشريعة الأساسية المجمع عليها وما ألحق بها على خلاف فيه، وإلى مجموعة أخرى من المصادر اعتبرها جمهور العلماء مصادر متفرعة عن المصادر الأصلية كالاستحسان عن أبي حنيفة والمصالح المرسلة وسد الذرائع وعمل أهل المدينة عند مالك والاستصحاب عند الشافعي والإباحة الأصلية عند أحمد بن حنبل، ومن بين هذه المصادر العرف، فقد اعتمده الفقهاء بشروط اختلفوا فيها توسعة وتضييقًا، واعتمده رجال القانون حتى اعتدت الدول واعتبرته أصلًا ومرجعًا وأطلق بعضهم اعتباره وقدمه على النصوص اعتبارًا لسابقيته على الأديان، وهنا بينا الفرق بين العرف ... ونظر الشرع والعرف في نظر القانون فهو في نظر الشرع يكون العرف في كل العلاقات الاجتماعية الأسرية والمعاملات المالية قولية أو فعلية، وهو في نظر القانون علاقة قانونية قائمة بين الأشخاص والدول ودائرة معاملاتهم فلا دخل للعرف قانونًا في المجاملات كالهدايا وتبادل الزيارات، وقد تأثر بعض رجال القانون بالفقه الإسلامي بحمل حقيقته على ما حرره الفقهاء.
وقد أوضحنا في المقدمة أن للعرف مزايا كما له مساوئ فمن محاسنه أنه يصور العادات ويعبر عما ترتضيه الشعوب بما اصطبغت به نفوسهم وألفته قلوبهم، كما أن من مساويه كونه حجر عثر في وجوه المصلحين، إذ يجد رائد الاصطلاح من التعنت والممانعة فيما تعودت به نفوس الناس وإن كانت فاسدة منكرة.
وقد أشرنا في عجالة إلى باعث القوة فيه وهل هي ناشئة عن أحكام القضاء وهي نظرية بعض أهل القانون أو أن مستند قوته من الضرورات الاجتماعية إذ هي التي ترضي مصالحهم وتتجاوب مع غرائزهم وهي نظرية بعض أهل القانون الآخرين. أما عند علماء الشريعة فقوته مستمدة من المصلحة مما لا نص فيه إذ هي معتمد الأحكام الاجتهادية.(5/2409)
وقد أشرنا إلى أن بعض البلدان الإسلامية اعتمدت العرف بإطلاق كما اعتمده أهل الغرب ففي بعض المواد في القانون المصري تقليد للقانون الفرنسي بما انتقده العلامة السنهوري في كتابه الوسيط، وهنا أشرنا إلى أن الأردن اشترطت في قانونها أن يكون جاريًّا على مقتضى الفقه الإسلامي عند عدم النص وحيث أن القانون المدني الأردني مرتكز على الشريعة وأصولها ومستمد من قواعدها وآخذ بكل ما يتطلبه النمو الحضاري والتقدم البشري ونظم المعاملات حتى صار جامعًا بين أصالة الماضي وجدة الحاضر اقترحت جامعة الدول العربية على خبرائها أن يكون القانون الذي سيرفع إلى الأمانة العامة لوزراء العدل للدول العربية، وقد تابعه في ذكر القانون الذي سيرفع إلى الأمانة العامة لوزراء العدل للدول العربية، وقد تابعه في ذلك القانون المدنى الكويتي الذي ابتدئ العمل به في25 فبراير سنة 1981.
وينحصر موضوع البحث في عشر موضوعات:
الموضوع الأول: في ورود تكرر العرف والمعروف في القرآن والحديث، وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة وتقرب لله وإحسان إلى الناس، وقد قيد سبحانه طاعته وطاعة رسوله به فقال: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} ، تعدد ذكره في القرآن والحديث في صفة الأمة وحكومتها والأحوال الشخصية والمالية والآداب الإسلامية بما يجعلنا نجزم بأن المعروف هو المعهود بين الناس في معاملاتهم وعاداتهم وهو يختلف نوعًا وقدرًا وصفة باعتبارات مختلفة ويشمل كل معروف في الشرع في العادات والمعاملات ومن هنا كان ركنًا من أركان الدين وأصلًا من أصول الشريعة.
الموضوع الثانى: كون مرجع العبادات النصوص من الكتاب والسنة ومرجع العادات والمعاملات المعاني والمصالح، وقد تعرضنا هنا للمصالح المرسلة وأخذ المذاهب بها وفرقنا بينها وبين البدع بما أطال به الشاطبي في ذلك موفيًا بالغرض، وعلقنا على مبالغات الطوخي فيأخذه بالمصالح وتقديمه لها على النص والإجماع واعتماده في ذلك على حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) وتعليله له بأن العبادات حق الشارع وخاصة به فلا تعرف إلا منه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا بخلاف حقوق المكلفين فقد وضعت لصالح العباد.
وقد أبرزنا أن أدلة الأحكام الدنيوية فيما يعرض للناس كافة قد تثبت بنص محكم قطعي أو بنص صحيح بعمومه أو تعليله أو مفهومه أو بنص تكليفي ظني أو بنص غير وارد مورد التكليف أو بما سكت عنه الشرع وكان مرجعه العرف والمعروف مما تستقر به الأمور وتنتظم به الحياة.
الموضوع الثالث: موقف الإسلام من العادات والتقاليد وقد قسمناها إلى ثلاثة أقسام، أولًا ما أقره الإسلام هو صلاح. ثانيًا ما قيده بما هو في حاجة إلى الإصلاح. ثالثًا من أبطله مما كان فسادًا يشهد لذلك ما ورد في الآيات والأحاديث في رفع الحرج والمشقة والتيسير وعدم التعسير.(5/2410)
وقد تعرضنا لذلك بالشرح والبيان موضحين أن هذه الشريعة جاءت لتكون رحمةً لا لتكون نكاية ونقمة والإسلام ما جاء إلا لإصلاح ما فسد من أحوال الناس، فليس له غاية في هدم ما اعتاده الناس من العادات الصالحة التي تعارفوها قرنًا بعد قرن وجيلًا بعد جيل، وهنا تعرضنا لموقف الرسول والخلفاء الراشدين والصاحبة والتابعين والأئمة المجتهدين من عادات الناس وأعرافهم، فقد نظم الخلفاء الراشدون على هدى الكتاب العزيز والسنة النبوية والمقاصد الشرعية عادات البلدان التي فتحوها حتى دخلت هذه العادات في التشريع الإسلامي.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدون الدواوين وينظم الجيش ويقرر الخراج والجبايات، وقد أبقاها على ما كانت عليه بالفارسية في العراق والرومية في الشام ولم تدون بالعربية إلا في عهد عبد الملك بن مروان كما نص عليه ابن خلدون.
وزاد التابعون في الأخذ بالعرف وتحكيمه لكثرة الفتوحات وتوسع رقعة الإسلام واعتناق كثير من البلدان لهذا الدين ودخولها تحت لوائه، فأقر التابعون ما كان صالحًا من العادات وأبطلوا الفاسد وهذبوا ما كان فيه عوج، وأثروا بذلك الأحكام الفقهية.
ولم يبعد موقف أئمة المذاهب عن سابقيهم فقد اعتمد أبو حنيفة العرف حتى جرى على ألسنة الناس أن أكثر المذاهب اعتبارًا له واعتمادًا عليه، وألف ابن عابدين رسالة خاصة أسماها " نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف" وضمنها كثيرًا من الفروع الفقهية التي كان اختلاف الحنفية فيها لاختلاف أعراف البلدان الآخذة بالمذهب الحنفي ومثله الشافعي فقد تأثر بأعراف الناس وتجلى ذلك في اختلاف قوليه القديم والجديد والمذهب الحنبلي الذي اشتهر بالتمسك بالنصوص هو أيضًا حكم العرف في كثير من الفروع وقد نقلنا منها الكثير عن ابن قدامة وابن رجب وابن القيم وقد صرح هذا الأخير في إعلام الموقعين أن إهمال قصد المتكلم ونيته وعرفه جناية على الإنسان وعلى الشريعة ومثلهم الأوزاعي والشيعة فقد حكموا العرف في بعض القضايا.
أما المذهب المالكي فهو أكثر المذاهب اعتبارًا للعرف حتى جعله أصلًا من أصوله وهو عند المالكية من أعظم المرجحات قد استندوا إليه في معرفة أسباب الأحكام عند عدم النص واعتبروه اعتبار العلة مع المعلول ولم يلبسوه لباس الديمومة، إذ تتغير الأعراف والعوائد ويتغير الحكم بتغيرها، قال ابن العربي: "إن العادة دليل أصلي بنى الله عليه الأحكام وربط بها الحلال والحرام ".(5/2411)
الموضوع الرابع: في تقسيمات العرف، قسمناه إلى صحيح معتبر وفساد ملغى والصحيح إلى قولي وفعلي، وهنا تعرضنا لأنواع الحقائق وللفرق بين الحقيقة والمجاز كما تعرضنا لأنواع الوضع ثم قسمناه إلى عام وخاص، ونبهنا إلى التفرقة بين العرف اللغوي والاصطلاحي وإلى الشروط المستلزمة لاعتباره حتى تصبح له قوة الإلزام، كما نبهنا إلى تقديمه على الأصل والعادة لقصورهما عنه، كما ذكرنا اختلاف الفقهاء في اعتبار العادة قائمة مقام شاهد أو شاهدين، وذكرنا أمثلة كثيرة اختلف فيها الفقهاء لاختلافهم في العادة من أنها تقوم مقام الشاهد أو الشاهدين. ثم نبهنا إلى أن اطراد العرف غير عمومه كما نبهنا إلى ما زاده رجال القانون من الشروط لاعتبار العرف، وألمعنا إلى أن ما زيد من الشروط هو مأخوذ في مفهوم العرف الصحيح في الشرع.
الموضوع الخامس: في سلطان العرف وهو سلطان واسع في استنباط الأحكام وتجددها وتعديلها وتحديدها وتقييدها، وفي تقعيد القواعد وتقريرها، وقد كان سلطانه قبل الإسلام مطلقًا غير مقيد بقيد ولا مشروط بشرط، له حرمة وقداسة حيث هو جزء من كيان الأمة ومميز من مميزاتها، ولهذا راعت الشريعة عوائد الأمم ولم يتعرض التشريع إلى تعيين الأزياء والمساكن والمراكب فلا ندب لركوب الإبل ولا مانع من ركوب الحمير أو الحمل على البقر كما هو الشأن في الهند، ولم تلزم قومًا باتباع غيرهم في اتباع عاداتهم وتقاليدهم، بل تركت كل قوم على ما هم عليه مما لا يناقضها أو يخالف مبادئها، وذلك لمرونتها وعمومها وشمولها لكل أحوال البشر في كل العصور وهو معنى صلاحيتها لكل زمان ومكان، فهي بأصولها وكليتها قبالة للانطباق على مختلف أحوال العرف في الفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصينيين والأتراك وغيرهم من غير أن يجدوا في ذلك حرجًا ولا عسرًا في الإقلاع عما تركوه من قديم عاداتهم الفاسدة دون انسلاخ بالكلية عما اعتادوه وتعارفوه مما هو مقبول ذلك أن أحكام الشريعة غالبًا كليات مشتملة على حكم ومصالح تتفرع عنها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد تتلاءم مع كل عصر، وذلك من سماحة الإسلام إذ هي رحمة وليست بنكاية ولا نقمة كما قدمنا.
ومن سلطان العرف تخصيصه للعمومات وتقييده للمطلقات بحملهما على ما يقتضيه: وإن اختلفت المذاهب في ذلك إذ جعل بعضهم ذلك للعرف القولي دون الفعلي وعاكس بعضهم ذلك، وأطلق بعضهم فجعله لكل عرف ومنعه بعضهم مطلقًا ولكنه اعتمده في تقسيم الدليل الشرعي اللازم حمله على المعنى العرفي كما هو مذهب الجعفرية، وقد ذكرنا أمثلة كثيرة موضحة لهذا الاختلاف، ولفتنا النظر إلى أن الفقهاء أولوا عناية خاصة لما جرى به العرف والعمل وألفوا كتبًا في ذلك أوردنا منها جزئيات كثيرة وأجرينا مقارنة في كثير منها بين ما جرى به العمل في تونس وما جرى به العمل في فاس وقرطبة قصد التيقن من قوة العرف وسلطانه في إنشاء الأحكام وتأثيره في اختلاف الفقهاء والحكام وهنا نبهنا إلى ما يجب على الفقيه من اتصاله بالناس حتى يتعرف على عاداتهم وتقاليدهم ويقف على معاملاتهم، إذ بذلك يصادف الحق في أحكامه وفتاويه ويكون أرفق بالناس على ما تقتضيه قواعد الشريعة من التيسير، ولذلك قال القرافي " الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسف الصالحين ".(5/2412)
الموضوع السادس: في بيان أن الأحكام المبنية على العرف والعادة تتغير بتغير العادات والأحوال وهي قاعدة قررها علماء الاجتماع وتنبه إليها من قبل علماؤنا، يشهد لذلك كلام ابن خلدون في مقدمة كتابه العبر، وهذا ما جعل المتأخرين من الفقهاء يفتون في كثير من المسائل بخلاف ما أفتى به المتقدمون، وقد حصرنا دوافع هذا الاختلاف في ثلاث: تبدل الزمان وتباعد البلدان واختلاف الجهات والتقدم واختلاف الحضارات، وقد أوضحنا كل قسم بأمثلة تبرز مقام كل سبب من هذه الأسباب من عهد الرسول والصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى هذا الزمان، فقد ورد النهي عن التقاط ضالة الإبل، وأمر عثمان بالتقاطها وورد الحكم بقطع اليد في السرقة وأفتى عمر بعدم القطع في الغزو وفي السرقة من الغنيمة على تفصيل في ذلك، وورد الإعطاء من مال الزكاة للمؤلفة قلوبهم ومنع من ذلك عمر، وقد مثلنا لتغير الأحكام نتيجة تطور الحياة ووسائلها بمثل تسجيل العقارات والأراضي، إذ بها ينضبط الملك بطريقة لا يخشى معها ضياع حق أو تلاشيه. وأنهينا فوائد ذلك إلى اثني عشر فائدة. ومما اقتضاه التطور والتقدم في الحياة المدنية تسجيل عقود الزواج بدفاتر الحالة المدنية بالمجالس البلدية نظرًا لضعف الإيمان وخراب الذمم وانعدام تقوى الأزواج أحيانًا كثيرة في الزوجات والبنين، وقد ضربنا أمثلة كثيرة موضحة للمقام ولا شك أن التطور العالمي في مختلف الميادين التقنية والعلمية والتنمية الاقتصادية أوجب وضع قوانين مختلفة وتضمينات إدارية متعددة نتج عنها أوضاع وأشكال أوجب علاقة غيرت العادات وأوجبت نوعًا من الاعتراف ترتبت عليها أحكام كإلزام الحكومات لأفراد شعوبهم بجواز سفر للتمكن من الخروج والانتقال إلى الأقطار وإلزام الناس ببطاقة تعريف قومية تكشف عن هوية صاحبها وجبر السواق بحمل بطاقة جواز سياقة، كل هذه استلزمتها تطور المجتمعات وهي توجب على العلماء أن يبحثوا في كثير من الجزئيات التي اقتضتها الحضارة وتقدم الصناعة ووسائل المعيشة واتساع المدن وتكاثف السكان واجتماعهم بعمارات ذات شقق كثيرة وتشابك المصالح، كل هذا فرض تقاليد جديدة في الحياة وأعرافًا وعادات اقتضتها المصالح، كإنشاء المؤسسات الاجتماعية لحضانة الرضع ورياض الأطفال الذين تعمل أمهاتهم بالمعامل والإدارات وإنشاء دور الأيتام والعجز والمتخلفين ذهنيًّا والمعاقين وغيرها وغيرها. كل ذلك أدى إلى حياة جديدة وعادات مستحدثة استلزمت أحكامًا.
الموضوع السابع: منزلة العرف بين الأدلة، لقد اتفق الفقهاء على اعتبار العرف دليلًا من الأدلة التي انبنى عليه كثير من الأحكام عند عدم النص، كما انبنى عليه كثير من القواعد كقاعدة الثابت بالعرف كثابت النص، وقاعدة العادة محكمة، وقاعدة الممتنع عادةً كالممتنع حقيقة وقاعدة الحقيقة تترك بدلالة العرف، والعرف بين التجار كالمشروطة بينهم إلى غيرها من القواعد التي أحصيناها وكلها مرجعها إلى تقرير مصالح العباد في معاشهم وهو العدل والرحمة والمصلحة بحيث كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ومن الرحمة إلى النكاية ومن المصلحة إلى العبث ليست من الشريعة في شيء، لأن شريعة الله هي عدله بين عباده ورحمته بخلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم.(5/2413)
العرف يساعد كثيرًا في الاجتهاد لأن النصوص لا تستوعب جميع التفصيلات، فالعرف يعين على تفهم الوقائع وتطبيق الأحكام عليها سواء أكان ذلك في معاني الكلمات وعبارات الناس أو معاملاتهم وعقودهم.
والعرف يقتضى تأليف النفوس ويقوي الوحدة ويجمع كلمة الأمة ويربط بين الناس، ولذا كانت مخالفته هدمًا لهذه الآثار، وبهذا ندرك أن مرتبته تأتي بعد مرتبة الكتاب والسنة حيث هو راجع إلى المصلحة وليس بعد الكتاب والسنة إلا المصلحة، ولقد اعتبره العلامة محمد الطاهر بن عاشور مصدرًا فطريًّا ولهذا لم يكتفِ به في بناء الأحكام العملية عليه، بل انبنت عليه قواعد أصولية، فإن كثيرًا من الاستحسان ومن الاستصحاب ومن المصالح المرسلة كان منشؤها العرف والعادة، وقد قال ابن العربي: " يترك الدليل العام لسبب من أسباب أربعة، المصلحة ورفع الحرج والإجماع والعرف " وقد مثلنا بفروع كثيرة ترك فيها الدليل العام لهذه الأسباب ومعلوم أن المصلحة تبنى على اختلاف أوضاع الناس وأعرافهم وهذه المصلحة المبنية على العرف.
الموضوع الثامن: ارتباط العرف بالقرائن والأمارات، أن القرينة تقوى فتبلغ إلى درجة اليقين وتضعف فتنزل إلى مجرد الاحتمال، وهنا أوضحنا علاقة القضاء بقرائن الأحوال وقسمناها إلى قرائن عقلية وعرفية وإلى قرينة شرعية قانونية وقرائن قضائية، وما كان من القرائن أسبابًا في بعض الأحكام وما كان منها دليلًا في تمحيص الوقائع وإثباتها عند الحكام، وفصلنا القول في القرائن اليقينية من القرائن الظنية ونقلنا عن ابن فرحون أحكامًا انبنت على القرائن وقد أنهاها إلى خمسين مسألة، ثم أوضحنا على أساس اعتبار القرائن، قرر الفقهاء حلولًا كثيرة في شتى الحوادث كما اعتبروها من المرجحات الأولية التي يعتمدها القضاء. وتعرضنا بالمناسبة لمن يصلح للقضاء بين الناس وما يشترط فيه من الشروط التي من بينها معرفته للعرف الصحيح المعتبر من العرف الفاسد الملغى- كما تعرضنا إلى متى يجب اتباعه لمن سبقه ومتى له أن يخالفه، وتطرقنا هنا إلى الكلام على بعض ما جرى عند بعض القبائل البربرية بالمغرب الأقصى من تطرف وابتعاد في عقود الأنكحة ومن مغالاة في اليمين بتشريك أقارب المتهم في تأدية القسم وفي أخذ الولي صداق ابنته لنفسه، ولاحظنا اختلاف أنظار علماء المغرب على طرائق ثلاث منهم من حمل على هذه الأعراف البربرية واعتبرها مروقًا من الدين وواجب محاربتها والقضاء عليها، ومنهم من سايرها ورأى أن مصلحة القوم لا تتحقق إلا بها فحبذها وآثر العمل بها ودافع عنها، ومنهم من توسط فأخذ بما يوافق الشرع ولا يناقضه وأنكر ورد وحارب ما يخالفه؛ وهذا ما اختاره الدكتور عمر بن عبد الكريم الجبيدي، ولقد أصاب في اختياره لأن معيار الأخذ بالأعراف بربرية كانت أو رومية أو فارسية أو مصرية فرعونية هو معيار الشرع وميزانه فما وافق مقاصده ولم يتعارض مع نصوصه ومبادئه أخذناه واعتمدناه وما خالفهما نبذناه وطرحناه ذلك أن المصلحة لا تتحقق بالأحكام الجائرة فلا وجه لحرمان المرأة من ميراث أبيها ولا في تنزيل العقاب بغير الجاني ولا مصلحة في إفساد المال وإحراقه، والحق أن كل ما ناقض كلية من كليات الشريعة التي هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال هو مردود لأنه محض جور وفجور وفسوق وعصيان لا ينتج عنه إلا الخراب والدمار.(5/2414)
الموضوع التاسع: تحقيق معنى عمل أهل المدينة وما جرى به العمل في الأقطار ومعنى العادة والفرق بين هذه الثلاث وبيان علاقتها بالعرف، وقد نبهنا إلى خطأ بعض أهل الأصول في تخليطهم بين عمل أهل المدينة والإجماع، ثم قسمنا عمل أهل المدينة إلى ما يرجع إلى النقل المحض وما يرجع إلى الاجتهاد وأشرنا إلى مذاهب الأئمة في العمل به وأجريناه مجرى العرف، بل هو أقوى لأن مستنده فعل الرسول وتقريره وأهل المدينة أقرب عهد بالرسول وأصحابه، ثم نبهنا إلى الفرق بين عمل أهل المدينة والعرف، والفرق بينه وبين ما جرى به العمل، ثم أشرنا إلى أن العرف قد يوافق القول المشهور في المذهب، وقد يجري على القول الضعيف، ومنه ما جرى على نص فيه وما جرى على شبه دليل أو جرى على وفق دليل المخالف، وقد ضربنا أمثلة موضحة لكل هذه الأقسام والأنواع.
الموضوع العاشر: علاقة العرف بالحقوق، ذكرنا علاقته بالمال إذ العرف هو الذي يحدد ما هو مال مما ليس بمال، كما يحدد ما هو مقوم منه وما كان مثاليًّا، وهنا أشرنا إلى الفرق بين المال والملك، ثم أشرنا إلى أنواع الحقوق: حق الملك، وحق الانتفاع وحق الارتفاق ودور العرف فيها، كما تعرضنا إلى حق الشرب وحق المجرى وحق السير وحق المرور وحق الجوار، وأشرنا إلى حقوق الانتفاع وما كان ممنوعًا في الأصل ورخص فيه لرفع الحرج والمشقة، وأوردنا أمثلة بالعقود المستثناة من أصل ممنوح كالإجازة والمزارعة والمساقاة وتحكيم العرف فيها بين العامل وصاحب العقار. ثم أشرنا إلى حقوق الخيار وارتباط العرف بها، إذ هو الذي يحددها من مثل خيار الرؤية وخيار العيب وخيار النقد وخيار التعيين وخيار الكمية وخيار كشف الحال، وأوضحنا حقيقة كل منها ثم أشرنا إلى علاقة العرف بالعقوبات والتعزير كما أشرنا إلى الشهادة العرفية كشهادة اللفيف والصبيان، ثم نبهنا أخيرًا إلى أن مستند الحكم لا يخرج عن أن يكون يمينا أو إقرارًا أو إبراءً أو إسقاطًا أو التزامًا أو شهادةً. وأوضحنا أنه جرى العمل عندنا بتونس بتوجيه يمين التهمة عند وجود الخلطة.
ثم ختمنا الموضوع بالإشارة إلى العرف الدولي وفرقنا بين ما كان قانونًا دوليًّا وما كان عادة، فالأول يشكل مجرد سلوك اجتماعي بخلاف العرف الدولي، فهو يشكل قاعدة شرعية إلزامية بين الدول كمبدأ حرية الملاحة في المنطقة الدولية، فإنه ينشأ عن مخالفته وعدم احترامه جزاء ومطالبة بجبر الضرر تحكم به المحكمة الدولية المنتصبة بلاهاي.
أما الخاتمة: فقد أشرنا فيها إلى صلاحية التشريع الإسلامي لكل زمان ومكان في كل أمور الدين والدنيا حيث أصَّلت الشريعة كل الأحوال وقررت كل المقاصد وأوضحت كل المبادئ وتركت في الغالب التفاصيل والجزئيات للقائمين على تنفيذها ويستلهمون من روحها ويستنبطون من قواعدها وأصولها ما ليس في نصوصها مما تستلزمه المستحدثات وما يعرضه التقدم والحضارات، وهكذا كانت الشريعة صالحة لعلاج كل مشاكل الحياة وكانت مستغنية الاستغناء المطلق عن تحكيم القوانين الأجنبية الغربية بما فيها من مرونة، وبقابليتها للأعراف والعادات التي تتفق مع ملابسات الناس ومقتضيات الحضارة ولا تتعارض مع قواعدها ومقاصدها بهذا المنهج، وبهذه المرونة مدت الفقهاء والحكام بالأحكام المناسبة لعصورهم الملائمة لمقتضيات تصرفاتهم حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
ولعل فيما قدمنا عن العرف ومدلوله وعما انبثق عنه من قواعد وأحكام بما يتماشى ومصالح الأنام، وعن منزلته من بين الأدلة لها ما فيه كفاية لإنارة السبيل للعلماء والباحثين، ولعلَّ فيما أوضحت أكون قد شاركت قدر المستطاع في تجلية نظرية العرف وتوضيح آثاره في الشريعة والقانون بين الأفراد والجماعات والدول.
نسأل الله العلي القدير أن يرشد الأمة الإسلامية وحكوماتها إلى أن تعود إلى شريعتها وأحكام دينها فتستغنى بذلك عن القوانين الغربية الدخيلة، إذ في شريعتنا الكفاية إلى تحقيق كل غاية فهي شريعة الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها إلا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *(5/2415)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد السيد السند وعلى آله وصحابته وتابعيهم بإحسان على طول الأمد.
وبعد: فإن علماء الأمة أجمعوا على اعتبار الكتاب والسنة المصدرين الأساسيين للتشريع الإسلامي، كما اتفق جمهورهم على إلحاق الإجماع والقياس بهذين المصدرين، فكانت هذه الأربعة هي الأسس الأصلية للتشريع الإسلامي، ولقد اختلف المجتهدون في مجموعة أخرى اعتبرها جميعهم فرعية كالاستحسان عند أبي حنيفة والمصالح المرسلة وعمل أهل المدينة عند مالك، والاستصحاب عند الشافعي، والإباحة الأصلية عند ابن حنبل.
والعرف هو المصدر من المصادر الفرعية لاستقناء الأحكام واستنباطها ضمن شروط اختلف الفقهاء في بعضها توسعة وتضييقًا، ولقد اعتبره بعض الدول مصدرًا أساسيًّا في بناء الأحكام وتقنينها، وقدمته على الدين معتبرة أن العرف هو أقدم من الدين، وهو واضح خطؤه لأن الدين وحي من الله عز وجل، وهو الخالق لكل شيء، والدين أزلي والأعراف حادثة، ولا يشك عاقل في أن الحادث طارئ متأخر في الوجود بالإضافة إلى الدين.
ولما كان العرف هو عادة مستحكمة في الناس وسلوك معين في تنظيم ناحية من نواحي الحياة كان في نظر القانون مصدرًا لقاعدة قانونية أو هو القاعدة ذاتها، أما عند أهل الشريعة فاعتباره مقيد بعدم معارضته لنصوص الشريعة، وأن يكون مطردا غالبًا سابقًا أو مقارنًا على ما سيأتي بيانه في شروط الاعتداد به حيث يكون عرفًا صحيحًا، أما ما اختل منه بشرط أو أكثر، فهو عرف فاسد لا يعتمد عليه ولا يعول عليه في نظر أهل الشريعة.
لقد اعتبر علماء الشريعة العرف في كل شيء فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية الأسرية كالخطبة والزواج والهدايا، وفي الفراق والطلاق حسب العرف القولي، وفي المعاملات المالية ونحوها، بينما أهل القانون يقصرون العمل به على ما كان علاقة قانونية قائمة بين الأشخاص في دائرة معاملاتهم، أما ما يتعلق بالمجاملات والمظاهر كتبادل الهدايا والزيارات ونحوها، فلا يعتبرون العرف فيها غير أن المشرعين الفرنسيين تأثروا بالفقه الإسلامي وعلم الأصول فقيدوا العرف بالقيود التي قيده بها فقهاء الإسلام.(5/2416)
وللعرف مزايا كما له عيوب، فمن مزاياه ومحاسنه أنه يعبر تعبيرًا واضحًا عما يرتضيه الشعب وجمهوره، حيث هو يعطي صورة صحيحة عن عاداتهم وتقاليدهم في منهجهم في الحياة. وهو من جهة أخرى قابل للتطور ومواكب للتغييرات التي تحدث في المجتمعات بينما النصوص القانونية المكتوبة تجمد في كثير من الأحيان، فتحتاج إلى التعديل والتغيير والتبديل كلما دعت الحاجة إلى ذلك، ومن مساوئ العرف عند بعضهم أنه قد يقف حجر عثرة عن التقدم في وجوه رائدي الإصلاح خصوصًا إذا كانت الأعراف فاسدة وألفها الناس رغم فسادها، وقد استقر كثير من الأعراف الفاسدة عند جمهور المسلمين حتى فيما ينسب إلى الدين، وهو منها براء بحيث إذا قام المصلون بالدعوة إلى العودة إلى جوهر الدين في لبه وصفائه والتقيد بتعاليمه السامية ومقاصده الرائدة كانت هذه الأعراف حاجزة مانعة من قبول الإصلاح حيث يتركز المانعون للإصلاح على العرف، ويستندون إليه وبذلك يكون سدًّا منيعًا في وجه الإصلاح وهكذا يضطر الناس إلى ممارسة الازدواجية في مسالكهم، فهم من جهة متقيدون بهذه الأعراف، ومن أخرى يريدون التقدم والإصلاح وفق الآراء الجديدة والنظريات الصحيحة والنظم المتقدمة المستحدثة. وهكذا يضطر الناس إلى إظهار خلاف ما يبطنون ويعملون بغير ما يريدون.
والعرف في نظر الشريعة لا تكون له القوة الفعالة قوة الإلزام إلا إذا كان عرفًا صحيحًا مستندًا إلى أصل شرعي أو غير متعارض مع نص شرعى ومقصد من مقاصد الشريعة، وإذا كان كذلك فلا يكون مانعًا من التقدم كما ادعاه بعضهم، وإذا كان العرف صحيحًا وجب العمل به ووجب تحكميه وتطبيقه، وهو بهذا المعنى أشد من العادة؛ لأن العادة غير ملزمة. لذلك فلا تثبت الحقوق بمثل عادات التهادي والمناسبات والأعياد وما يبذله التجار لعملائهم من التسهيلات والهدايا لترغيبهم في الشراء، وما يجري بين الجيران على سبيل التسامح، فكل هذه الأمور لو ادعاها مدع أمام المحاكم لا تسمع دعواه، ولا يقضى له بها؛ لأنها وإن جرت بها العادة، فإنها لم تبلغ مبلغ العرف حتى تصير لها القوة الإلزامية التي له، وهل قوة العرف ناشئة من أحكام القضاء فلا اعتداد بها قبل تدخل القضاء وإقراره وقضائه بذلك العرف بحيث لا اعتداد به قبل القضاء به، وهذا ما ذهب إليه جماعة من أهل القانون وعلى رأسهم الحقوقي الفرنسي لامبير معتمدًا في ذلك على أن معظم العرف خرجه الكهنة والقضاة، وذهب آخرون إلى أن العرف تستند قوته الملزمة من الضرورات الاجتماعية لا من إرادة المشرع ولا من أحكام القضاء، وهذا أظهر النظريات باعتبار قوتها الحاجة الاجتماعية، واعتبار أن العرف يحكم العلاقات بين الناس في كثير من شؤونهم. ولكنه يرضي مصالحهم ويتجاوب مع غرائزهم، ونحن إذا نظرنا إلى الشريعة الإسلامية نراها لم تأخذ بأي النظريتين، وإنما اعتمدت العرف فيما لا نص فيه حيث لا مجال للاجتهاد مع النص، وقد كان اعتماد الشريعة الإسلامية على العرف ناشئًا من إقرار الأحوال المعتمدة في التشريع الإسلامي، وهي تأخذ به وتعتمد عليه في استنباط الأحكام الاجتهادية التي لا نص فيها، أو فيها نص ظني مطلق قابل للتقييد، أو عام قابل للتخصيص بالعرف.(5/2417)
إنه لمن الغريب أن كثيرًا من القوانين المدنية لبعض البلاد الإسلامية قد أخذت العرف، واعتبرته مصدرًا أصليًّا من مصادرها وقدمته على نصوص الشريعة، فإنا نجد في القانون المدني المصري والعراقي والسوري في كثير من مواده، قد جرى على ما هو ثابت في القانون الفرنسي بحيث قلدته تقيلدًا أعمى لما جاء فيه، والقانون الفرنسي يعتمد العرف بإطلاق، والقانون المصري، والعراقي، والسوري، وإن استمدت قانونها من الفقه الإسلامي في بعض أحكامها، إلا أنها كانت في مجموعها وغالبها أجنبية حيث هي مستنقاة من القانون الفرنسي، وهي تقدم العرف بإطلاق، وإن خالف النص وأول من تفطن لرتق الفتق وإصلاح الوضع المشرع الأردني، فرفض القانون المدني المأخوذ من القوانين الوضعية والتي فيها تقديم العرف على الشريعة، فوضعت قانونًا مدنيًّا مستمدًا من الشريعة الإسلامية واعتمدت العرف في مادته الثانية منه ونصها:
1- تسري نصوص هذا القانون على المسائل التي تتناولها هذه النصوص بألفاظها ومعانيها ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص.
2- فإذا لم تجد المحكمة نصًّا في هذا القانون حكمت بأحكام الفقه الإسلامي الأكثر موافقة لنصوص هذا القانون، فإن لم توجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية.
3- فإن لم توجد حكمت بمقتضى العرف، فإن لم توجد حكمت بمقتضى قواعد العدالة، ويشترط في العرف أن يكون عامًا وقديمًا ثابتًا مطردًا، ولا يتعارض مع أحكام القانون أو النظام العام أو الآداب، أما إذا كان العرف خاصًّا ببلد معين فيسري حكمه على ذلك البلد.
4- ويسترشد في ذلك كله بما أقره القضاء والفقه على أن لا يتعارض مع ما ذكره وكذلك القانون المدني التونسي، فقد نصت المادة 543، العادة والعرف لا يخالفان النص الصريح والمادة 544 من استند إلى عرف كان عليه إثباته ولا يحتج به إلا إذا كان عامًّا أو غالبًا غير مناف للنظام العمومي والأخلاق الحميدة. وقد جاءت نصوص كثيرة تتعلق بالالتزامات والعقود نصت موادها على الاعتماد فيها على العرف عند عدم النص إذ المادة 516 نصت على أن المعمول به عادة بمحل الكتب كالمشروط نصًّا، وكذلك ما هو في طبيعة الأمر المقصود، وكذلك نصت المادة 526 على ما يتعلق بالمكاييل والموازين والمقادير من أن مرجعها إلى العرف والعادة بالمكان، وقد ذكر العرف في أكثر من خمسة عشر مادة من مواد القانون التونسي.(5/2418)
وللعرف في القانون المدني دوران مهمان أولهما: أنه يرجع إليه في المسائل التي لا يجد القاضي نصا فيها من القانون المدني المستمد من الشريعة أو في الاجتهادات الفقهية المبثوثة في كتب الفقه. ثانيهما: الرجوع إليه بمقتضى الشريعة الإسلامية، وقد تقرر ذلك في القواعد الشرعية المعتبرة في مثل العرف كالنص ومثل استعمال الناس حجة والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا ومثل العادة محكمة وبهذا يظهر الدور الثاني للعرف في كونه مرجعًا مساعدًا في التشريع اعتمادًا على ما ذهب إليه جمهرة من الفقهاء من أن العرف يخصص العام ويقيد المطلق، ذلك أن الشارع إنما يخاطب الناس بما يفهمون وبما يتعارفون، وهذا هو العرف القولي ومثله العرف العملي عند جمهور الفقهاء وهذا هو سلطان العرف وتأثيره في استنباط الأحكام الشرعية عند عدم النص أو عدم المعارض لأنه لا قدرة له على إلغاء النص القانوني أو الشرعي سواء أكان عرفًا إيجابيًّا أو عرفًا سلبيًّا والإيجابي هو ما قدم على رضا الجماعة والضرورات الاجتماعية، ولو خالف التشريع، والعرف السلبي هو العرف الملغى بمقتضى عرف آخر، وليس للحجج التي يوردها أنصار مخالفي هذا الرأي مقتنع لأنها قائمة على أساس أن العرف أصدق تعبيرا من القانون عما في نفوس المجتمع، وأن المصلحة تقتضي الاستجابة للناس في اعتبار العرف وعدم إدخال الحرج والتضييق عليهم وذلك لأنهم أغفلوا منشأ العرف في المجتمعات السليمة، وهو إنما ينشأ من أصل مباح أو تجربة صادقة، كما غفلوا على المقياس الصحيح الذي به يؤخذ العرف أو يرد والذي يقع التمييز بين العرف الصحيح والفاسد، ولهذا لم يعتد بالأعراف التي كانت مخالفة للنصوص القانونية أو النصوص الشرعية من باب أول؛ لأن تشريعه وتشريع سماوي، وقواعده ثابتة ومسالكه سليمة، ولهذا نرى من القانونيين من مذهب إلى أن العرف لا يستطيع إلغاء نص قانوني ولاسيما القواعد الآمرة التي تتعلق بنظام المجتمع العام ومصالحه العليا.
وعلى أن العلامة الدكتور عبد الرزاق السنهوري، قد صرح بوضوح مثالب القانون المصري موضحًا أنه مأخوذ من القانون الفرنسي، فقد جاء في كتابه الوسيط في نظرية العقد ما يلي:
إنني جعلت الفقه والقضاء الفرنسيين هما من بين سائر النظم القانونية والأجنبية التي رجعت إليها لم أفعل ذلك دراية للقضاء الفرنسي، فهو القضاء الذي نزلنا ضيوفًا في ساحته الواسعة، ولكن آن للضيف أن يعود إلى بيته ويقول أيضًا: علينا أن نمصر الفقه فنجعله فقهًا مصريًّا خالصًا نرى فيه طابع قوميتنا، ونحس أثر عقليتنا، ففقهنا حتى اليوم لا يزال يحتله الأجنبي، والاحتلال هنا فرنسي وهو احتلال ليس بأخف وطأة ولا بأقل عنتًا من أي احتلال آخر، ويقول أيضا: لا يزال الفقه المصري يتلمس في الفقه الفرنسي الهادي، والمرشد لا يكاد يتزحزح من فقهه أو ينحرف من مسراه، فهو ظله اللاصق وتابعة الأمين، فإذا قدر لنا أن نستقل بفقهنا، وأن نفرغه في جو مصري يشب فيه على قدم مصرية، وينمو بمقومات ذاتية بقي علينا أن نخطو الخطوة الأخيرة، فنخرج من الدائرة القومية إلى الدائرة العالمية، ومن جملة قوله: يمكن القول إن تقنيننا المدني فيه نقص ثم فيه فضول هو غامض حيث يجب البيان، مقتضب حيث تجب الإفاضة، ثم هو يتوسل في التافه من الأمر فيعتني به عناية لا تتفق مع أهميته المحدودة يقلد التقنين الفرنسي تقليدًا أعمى فينقل كثيرًا من عيوبه، وهو به متناقض في نواح مختلفة ويضم إلى هذا التناقض أخطاء معيبة.(5/2419)
كانت هذه هي الدوافع التي دفعت الأردن لوضع مشروع قانون مدني أردني مستند في مأخذه من الفقه الإسلامي ومستند إلى الأحكام الشرعية الإسلامية غير مأخوذ من مشاريع أجنبية، كالقانون الفرنسي أو الإيطالي، أو غيرهما، بل هو مستمد من تراثنا وعقيدتنا وفقهنا وشريعتنا ولما في هذا القانون المدني الأردني من الميزات اتفقت جامعة الدول العربية على أن تجعله منطلق تقنين القانون لمجموعة الدول العربية وذلك لما تحض عليه من الأخذ بكل ما يتطلبه النمو الحضاري والتقدم البشري مركزًا على دعائم ثابته في تشريعاته، ينتظم المعاملات ويجمع بين أصالة الماضي وجدة الحاضر، ويرعى الاتجاهات المختلفة في الحفاظ على التراث الخالد الذي ساد البشرية قرونًا طويلة على اختلاف عقائد من خضعوا لأحكامه دون أن يروا فيه ما ينبوا عن حاجات المجتمع، ويبعد عن قواعد الحق والعدل والإنصاف، وذلك لأن القانون لا يبلغ القمة إلا إذ واصل بين الحاضر والماضي، وأنار السبيل للمستقبل وكان وسيلة للوصول إلى حفظ المجتمع وتثبيت دعائمه وتحقيق حياة يسودها العدل والنظام والاستقرار، ولا يخفى أن اتجاهات النظم القانونية في العالم لا تخرج عن أحد النظامين، النظام المادي والنظام الشخصي، والأول: يرعى الإرادة الظاهرة في العقد ويضع لذلك المقاييس المادية التي تحلل كثيرًا بالعرف الجاري. والثاني: وهو النظام الشخصي وينظر إلى الإرادة الباطنة دون الظاهرة، ولا يخفى أن النزعة المادية الموضوعية، أو الواقعية في القانون دليل على تقدمه، إذ يهدف بهذه النزعة إلى إثبات المعاملات واستقرارها، وهي نزعة الشريعة الإسلامية بوجه عام فهي وإن كانت العبرة فيهما بالمعاني لا بالألفاظ، لكن ليس ذلك على إبطال الدلالة الظاهرة ولهذا نرى حرص الفقهاء على تفسير معاني الألفاظ حسب قواعد اللغة وأصولها، وفرقوا بين الكنايات الظاهرة والكنايات الخفية، وبين ما كان صريحًا، وما كان ظاهرًا، وما كان مجملًا، وما ينوي فيه صاحبه مما لا ينوي فيه، وبين ما كان من ذلك في باب القضاء وما كان في باب الفتوى بحيث وقفوا عند الإرادة الظاهرة التي يكشف عنها اللفظ، كل ذلك حرصًا على ثبات التعامل واستقراره، كما أن هذه الشريعة الغراء راعت المألوف في التعامل والمتعارف بين الناس والمتبادر إلى الأذهان حسب العادات والتقاليد والاستعمال حيث كان ذلك هو المعيار الموضوعي الذي يبدو في أحكام العقود على اختلافها، وفي كثير من الأبواب والمسائل التي يلعب العرف دورًا عظيمًا في استنباط أحكامه على ما سيأتي بيانه.(5/2420)
العرف
المعروف في اللغة: ضد المنكر والعرف ضد النكر: يقال أولاه عرفًا أي معروفًا، والمعروف كالعرف وقوله تعالى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أي مصاحبًا معروفًا، قال الزجاج هنا يحسن من الأفعال وقوله تعالى: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [سورة الطلاق: الآية6] .
وقال {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [سورة المرسلات: الآية1] .
قيل الملائكة أرسلوا للمعروف والإحسان. والعرف والعارفة، والمعروف واحد، ضد النكر وهو كل ما تعرفه النفس من الخير، وتأنس به، وتطمئن إليه، وفي الحديث تكرر لفظ المعروف وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه الشرع من المحسنات، ونهى عنه من المقبحات، وهو من الصفات الغالبة أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه (1) .
وقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ، والمعروف الشيء المتعارف المألوف الذي لا ينكر فهو الشيء الحسن انتصب على أنه مصدر وصف لمصدر محذوف أي صاحبهما صحابا معروفا لأمثالهما، وفهم منه اجتناب ما ينكر في مصاحبتهما، فشمل ذلك معاملة الابن أبويه بالشكر، وشمل ذلك أن يدعو الوالد إلى ترك ما ينكره الله ولا يرضى به، ولذلك لا يطاعون إذا أمروا بمعصية، والأمر بمعاشرتهم بالمعروف شامل لحالة كون الأبوين مشركين، فإن على الابن معاشرتهما بالمعروف كالإحسان إليهما وصلتهما، وفي الحديث أن أسماء بنت أبي بكر قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي جاءت راغبة أفأصلها، فقال: ((نعم صلي أمك)) وكانت مشركة (وهي قتيلة بنت عبد العزى) ، وشمل المعروف ما هو لهما أن يفعلاه في أنفسهما وإن كان منكرًا للمسلم، فلذلك قال فقهاؤنا: إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر، لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر، فإن كان الفعل منكرًا في الدينين، فلا يحل للمسلم أن يشايع أحد أبويه عليه (2) .
__________
(1) لسان العرب لابن المنظور: 9 /239، وما بعدها
(2) التحرير والتنوير: 21 /161(5/2421)
والعرف والمعروف من أصول التشريع الإسلامي فقد قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [سورة الأعراف: الآية 199]
فالعرف اسم مرادف للمعروف من الأعمال، فهو الفعل الذي تعرفه النفوس أي لا تنكره إذا خليت وشأنها بدون غرض لها في ضده وقد دل على مرادفته للمعروف قول النابغة: فلا النكر معروف ولا العرف ضائع. فقابل النكر بالعرف. فالمعروف إذن هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرصي به لأن الشيء إذا كان معروفًا كان مألوفًا مقبولًا مرضيًّا به، وهو في الآية ما يقبل عند أهل العقول وفي الشرائع وهو الحق والصلاح لأن هذا مقبول عند انتفاء العوارض والمنكر ضده وهو مجاز في المكروه، والكره ملازم للإنكار لأن النكر في أصل اللسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة، وأريد به في الآية الباطل والفساد لأنهما من المكروه في الجبلية عند انتفاء العوارض (1) . والقول الجامع أن العرب تطلق المعروف على ضد المنكر وعلى ضد المجهول، والمنكر هو المستقبح عند الذي ينفرون منه لقبحه أو ضرره، أو يذمونه، ويذمون مرتكبيه، وسورة الأعراف مكية، وهي قد نزلت في أصول الدين وكليات الشريعة وآية: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} تثبت لنا أن العرف والمعروف أحد الأركان للآداب الدينية، ومما انبنى عليه التشريع الإسلامي اعتبار عادات الأمة الحسنة، وما تواطأت عليه من الأمور النافعة والأفعال الخيرة مما يحقق لها المصالح ويدرأ عنها المفاسد في مجاري العادات حتى إن كتاب الله عز وجل قد قيد طاعته وطاعة رسوله بالمعروف في عقد مبايعته للنساء حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} [سورة الممتحنة: الآية 12] .
ومعلوم أن عقد المبايعة أعظم العقود في الأمم والدول فتقيد طاعته صلى الله عليه وسلم فيه بالمعروف التزام، والمعروف من أعظم أركان الدين روى البخاري عن أم عطية، قالت: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا: ((أن لا تشركن بالله شيئًا)) ، وفي البخاري، عن ابن عباس، قال: شاهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الخطبة فنزل نبي الله، فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ} حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ: ((أنتن على ذلك)) فقالت امرأة منهن واحدة لم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله، قال: ((فتصدقن)) .
__________
(1) التحرير والتنوير: 4 /40(5/2422)
وأجرى هذه المبايعة على الرجال أيضا، فعن عبادة بن الصامت، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أتبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تزنوا ولا تسرقوا)) وقرأ آية النساء (أي النازلة بخطاب النساء في سورة الممتحنة) ((فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئًا فستره الله، فهو إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)) ، واستمر العمل بهذه المبايعة إلى يوم فتح مكة وقد أسلم أهلها رجالًا ونساء. وجلس ثاني يوم الفتح على الصفا يأخذ البيعة من الرجال على ما في هذه الآية، وجلس عمر بن الخطاب يأخذ البيعة على النساء على ذلك، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الطاعة في معروف)) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد، عن علي أي لا تجوز طاعة السلطان، أو نائبه في معصية، ولذا لما قام من أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية؟ ألم تعلموا أنه يجب عليكم طاعتي؟ فقالوا: نعم ,فقال: ائتوا بحطب وأوقدوه وادخلوا فيه، فلما تأججت النار، وصاروا يقربون منها صار بعضهم ينظر إلى بعض، ثم قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث لإنقاذ الناس من النار فكيف تأمرنا بالدخول فيها فخمدت النار وذهب غضب الأمير، فلما رجع أخبر النبي بذلك، فقال: ((لو دخولها ما خرجوا أحياء)) ، أي ماتوا فيها، وذكر الحديث ((إنما الطاعة في معروف)) (1) ولقد تكرر ذكر المعروف في السور المدنية، وكان أكثرها في بيان الأحكام الشرعية العملية وذلك في عشرات من الآيات بعضها في صفة الأمة الإسلامية، وحكومتها وأكثرها في الأحوال الشخصية والأحكام المالية، ومن الأول قوله تعالى في تعليل الإذن للمؤمنين بالقتال في سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) .
ومنه قوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) أي بما هو معروف في الشرع غير منكر، وينهون عما هو منكر في الدين غير معروف.
وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (4) .
__________
(1) حاشية الحنفي على الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير: 1 /320
(2) سورة الحج الآيات 39، و 40 ,و41
(3) سورة آل عمران: الآية 104
(4) سورة آل عمران: الآية 110(5/2423)
وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1)
وقد وصفهم الله تعالى بعد ذلك بقوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (2) ، أي القائمون بأمر الناس بما هو معروف والشريعة، والقائمون بإنكار كل فعل أنكره الشرع – فكل هذه الآيات أصول لا مندوحة للأمة من التزامها في آدابها وتشريعاتها.
ومن النوع الثاني، وهو ما ورد في الأحكام الفرعية العملية، ففي الحقوق الزوجية، كما في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} ، أي ما تعرفه العقول السليمة المجردة عن الانحياز إلى الأهواء والعادات الضالة، وذلك هو الحسن وما جاء به الشرع نصًا أو قياسًا واقتضته المقاصد الشرعية، والمصالح العامة التي ليس في الشرع ما يعراضها وتحتها تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة، وهي مجال للمجتهدين في مختلف العصور وتعدد الأقطار يشهد لذلك اختلاف الفقهاء في جبر البنت البكر من أبيها دون الابن مصداقًا لقوله وللرجال عليهن درجة. ومن منعها من التبرع بما زاد على الثلث إلا بإذن زوجها عملًا بقوله وللرجال عليهن درجة: إلى غير ذلك من الجزئيات، التي اختلفت فيها الأنظار بين المماثلة بين الذكر والأنثى وبين جعل درجة للرجل عليها وكل ينظر إلى أن ذلك من المعروف أو من المنكر، ففي هذه الآية الكريمة احتباك والتقدير: ولهن مثل ما على الرجال، مثل الذي للرجال عليهن، فحذف من الأول لدلالة الآخر وبالعكس، وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال وتشبيهه بما للرجال على النساء لأن حقوق الرجال على النساء مشهورة مسلمة من أقدم عصور البشر، أما حقوق النساء فلم تكن مما يلتفت إليه، أو كانت ولكنها متهاون بها وموكولة إلى مقدار حظوة المرأة عند الزوج، فلما جاء الإسلام أقامها وكانت هذه الآية أعظم ما أسست به، وكانت هذه الآية ركنًا من أركان حقوق الزوجية، بما يفضل الإسلام جميع الشرائع والقوانين والأديان في العدل والإنصاف، والمصلحة مما لم تنل النساء مثله في أمة من الأمم ومنها قوله تعالى في أحكام الطلاق: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3)
__________
(1) سورة التوبة: الآية 71.
(2) سورة التوبة: الآية 112
(3) سورة البقرة: الآية 229.(5/2424)
فقد روى مالك في جامع الطلاق من الموطأ، عن هشام بن عروة عن أبيه، أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته، ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها، ثم طلقها، ثم قال: والله لا آويك ولا تحلين أبدًا فأنزل الله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، فاستقبل الناس الطلاق جديدًا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق، وقد جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قول الله تعالى الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)) ، والمقصود من الجملة هو الإمساك أو التسريح المطلق قيد الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان إذ ما جاء للوصية والإرشاد في أثناء التشريع وإيماء إلى أنه الأهم المرغب فيه في نظر الشرع والإمساك بالمعروف أي على ما عرفه الناس في معاملاتهم من الحقوق التي قررها الإسلام أو قررتها العادات التي لا تنافي أحكام الإسلام وهو مناسب للإمساك إذ يشتمل على أحكام العصمة كلها من إحسان المعاشرة وغيرها؛ إذ المعروف أعم من الإحسان والتسريح بإحسان هو الفراق ومعروفه منحصر في الإحسان إلى المفارقة بالقول الحسن والبذل بالمتعة، كما قال تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} .
وقد كان الأزواج يظلمون المطلقات ويمتعوهن من حليهن ورياشهن ويكثرون الطعن فيهن (1) . ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة الطلاق: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (أي أمسكوهن بحسن معاشرة ورغبة فيهن من غير قصد إلى مضارة لهن) {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (2)
ومنها قوله تعالى في المطلقات الرجعيات: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (3) .
وهو شرط للنهي لأن الولي إذا علم عدم التراضي بين الزوجين ورأى أن المراجعة ستعود إلى دخل وفساد فله أن يمنع مولاته نصحًا لها وخوفًا عليها، ولا يحق له بحال إذا تراضى الزوجان بعود المعاشرة أن يمنعها إذ ليس هو بأدرى من ميلها لزوجها منها فهو على حد قولهم رضي الخصمان ولم يرض القاضي.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2 /403- 407
(2) سورة الطلاق: الآية 2.
(3) سورة البقرة: الآية 232(5/2425)
ومنها قوله تعالى في المطلقات: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (1) متاعًا بالمعروف وهو ما عرف في الشرع والعادة الموافقة له فالاعتبار في ذلك بحال الزوج وهي من الغنى فوق المتعة من الفقير إذ ليس الموسع وهو من اتسعت حاله كالمقل المقتر، وهو من عسرت حاله، فالمعروف ما تعورف في الشرع والعادة (2)
ومنها قوله تعالى في معاشرة الأزواج: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (3) .
والمعاشرة المخالطة مفاعلة من العشرة، والمعروف ضد المنكر وسمي الأمر المكره منكرًا لأن النفوس لا تأنس به، فكأنه مجهول عندها نكرة، إذ الشأن أن المجهول يكون مكروهًا، ثم أطلقوا اسم المنكر على المكروه وأطلقوا ضده على المحبوب لأنه تألفه النفوس والمعروف هنا ما حدده الشرع ووصفه العرف (4)
ومما جاء في العفو عن القصاص قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (5) .
فالاتساع مستعمل في القبول والإرضاء، أي فليرض بما بذل له من الصلح المتيسر وليؤدِّ باذل الصلح ما بذله دون مماطلة ولا نقص ومقصد الآية إبطال ما كان في الجاهلية من اعتبار أن أخذ الصلح في القتل العمد هو بيع لدم صاحبهم، قال مرة الفقعسي:
فلا تأخذوا عقلا من القوم إنني
أرى العار يبقى والمعاقل تذهب
فجاء القرآن وأطلق وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام وجعل التوافق في العقيدة أشد من التوافق في النسب ذلك أن التوافق في الدين آصرة نفسانية والتوافق في النسب آصرة جسدية، والروح كما هو معلوم أشرف من الجسد، وقوله تعالى {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وصف أي الرضا بما هو معروف تألفه النفوس وتستحسنه من كل ما تسر به النفوس ولا تشمئز منه ولا تنكره ومنها ما في الوصية للوالدين والأقربين، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (6)
__________
(1) سورة البقرة: الآية 236
(2) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، للشوكاني: 1 /226.
(3) سورة النساء: الآية 19
(4) التحرير والتنوير: 4 /286.
(5) سورة البقرة: الآية 178
(6) سورة البقرة: الآية 180(5/2426)
والمعنى: كتب عليكم ما هو معروف عندكم بالوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ما ألفته العقول ولم تنكره النفوس وهو الشيء المحبوب المرضي سمي معروفًا لكثرة تداوله والتأنس به حتى صار معروفًا بين الناس وهو العدل الذي لا يحصل منه تحاسد بين الأقارب ولا تباغض وتدابر، ومن المعروف في الوصية ألا تكون للإضرار بوارث أو زوج أو قريب وقد قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
وقد كانوا في الجاهلية يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض، وكان هذا مما يفضي إلى الإحن، الأمر الذي يتسبب في اختلال الحالة الاجتماعية بإلقاء العدواة بين الأقارب ومنها في أكل الموصى من مال اليتيم، فقد قال الله تعالى {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ، ففي قوله بالمعروف حوالة على ما يناسب حال الوصى ويتيمه بحسب الأزمان والأماكن، ولقد أرشد إلى ذلك حديث أبي دواد في سننه أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير وليس لي شيء، قال: ((كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل)) ، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت نزلت هذه الآية فيولي اليتيم إذا كان محتاجًا أن يأكل منه بالمعروف، ولهذا قالت المالكية: يأخذ الوصي بقدر أجرة مثله، وقد قال عمر رضي الله عنه: إني نزلت نفسي من مال الله منزلة الوصي من مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيت. قال عطاء وإبراهيم النخعي: لا قضاء عليه أن أيسر وهو مذهب الجمهور وروي عن ابن عباس من كان من الأوصياء غنيًّا فليستعفف بماله، ولا يتوسع بمال محجوره ومن كان فقيرًا فإنه يقتر على نفسه لئلا يمد يده إلى مال يتيمه، وقد استحسنه النحاس وعلي بن على الطبري المعروف مالكيًّا الطبري نسبة إلى طبرستان قرب الري (1) قال الإمام الشافعي: وجماع المعروف إتيان ذلك بما يحسن لك ثوابه، وكف المكروه (2) .
إننا بما نقلنا نرى أن المعروف في هذه الآيات المتعددة معتبر في هذه الأحكام المهمة كما ندرك أن المعروف فيها هو المعهود بين الناس في المعاملات وفي العادات، ومن المعلوم بالضرورة أن العادات والتقاليد تختلف باختلاف الشعوب والبيوت والبلاد، والأوقات، وأن تحديد الأحكام وتعيينها من دون مراعاة عرف الناس يكون مخالفًا لنص كتاب الله (3) ولشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من فقهاء الحديث أقوال حكيمة في المعروف فقد ذكر في أحكام الطلاق (4) وما ورد فيه من الآيات المقيدة للإمساك بالمعروف والتراضي بالمعروف والمعاشرة بالمعروف وفي أن لهن وعليهن بالمعروف ورزقهن وكسوتهن بالمعروف قال: هذا المعروف المذكور في القرآن هو الواجب العدل في جميع ما يتعلق بالنكاح من أمور النكاح وحقوق الزوجين.
__________
(1) التحرير والتنوير: 4 /245، إلكيما بهمزة مكسورة في أوله فكاف مكسورة معناه الكبير بالفارسية.
(2) أحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204هـ: 1 /203
(3) تفسير المنار، للشيخ رشيد رضا: 9 /534
(4) مجموع الفتاوي لابن تيمية: 34 /84 إلى 91(5/2427)
والمعروف هو الذي يعرفه الناس في حالهما نوعًا وقدرًا وصفة وهو يتنوع بتنوع حالهما من اليسار والإعسار، والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار، والمكان فيضعهما في كل بلد مما هو عادة أهل البلد وهو العرف بينهم وكذلك ما يجب عليه من المتعة والعشرة، فعليه أن يبيت عندها ويمسها بالمعروف، وكل هذا يختلف بحاله وحالها، كذلك النفقة تقدر بالمعروف فتنوع بتنوع حال الزوجين عند جمهور المسلمين وقد قال بعضهم هي مقدرة بالشرع نوهًا وقدرًا مدًّا من حنطة أو مدًّا ونصفًا، أو مدين قياسا على الإطعام والواجب في الكفارة على أصل القياس والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علمًا وعملًا قديمًا وحديثًا. فإن القرآن قد دل على ذلك وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لهند امرأة أبي سفيان، لما قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فأمرها أن تأخذ بالمعروف ولم يقدر لها نوعًا ولا قدرًا)) ، ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين لها القدر والنوع، كما بين فرائض الزكاة والديات. وفي صحيح مسلم ,عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته العظيمة بعرفات: ((لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) وكل ذلك يرجع للعرف والعادة، فإذا كان عادتهم أكل التمر والشعير أعطاها ذلك وإن كان أكل الخبز والإيدام أعطاها ذلك، وإن كان يطحن في الطاحون ويخبز في البيت، فعل ذلك، وإن كانت عادتهم يشتري الخبز من السوق فعل ذلك، كل ذلك على ما هو معروف عندهم، وكذلك القدر لا يتعين مقدار مطرد بل تتنوع حتى تتنوع المقادير- والمعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق، فإن العقد المطلق يرجع في موجبه إلى العرف، كما يوجب العقد المطلق في البيع النقد المعروف فإن شرط أحدهما على صاحبه شرطًا لا يحرم حلالا ولا يحلل حرامًا فالمسلمون عند شروطهم إذ موجبات العقود تتلقى من اللفظ تارة ومن العرف تارية أخرى لكن كلاهما مقيد بما لم يحرمه الله ورسوله.
واللفظ في العرف والمعروف عام، يشمل كل معروف في الشرع وفي العادات والمعاملات، فلا بد من الاعتماد على العرف والاعتداد به إذا لم يكن هناك نص من الشارع، أما إذا كان هناك نص صار هو نفسه من جملة المعروف الذي هو ضد المجهول كما يكون بالضرورة من المعروف الذي هو ضد المنكر.
والعقائد والعبادات مرجعها إلى النصوص من الكتاب والسنة فلا يجوز بحال من الأحوال إحداث عبادة جديدة أو الإتيان بها على غير الوجه الذي كان أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولا ينفع في ذلك اجتهاد ولا قياس ولا إجماع من بعد الرسول وأصحابه، كما لا ينفع فيها علل ولا نظريات حيث أن الله قد أكمل الدين، وقال سبحانه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)
__________
(1) سورة المائدة: الآية 3.(5/2428)
وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما سكت عنه، فهو معفو عنه فمن زاد على ذلك شيئًا كان مراغمًا لنص القرآن أو طاعنًا في بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو زاعمًا أنه هو أكمل منه علمًا بالدين، وقد قال مالك رضي الله عنه لمن أراد أن يحرم بالحج من المسجد النبوي: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة فقال الرجل وأي فتنة في هذا؟ إنما هي أميال أزيدها قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك قد سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .
ومن أجل كلامه رضي الله عنه في ذلك قوله من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين (2) / قال الشاطبي: ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن ظهرت لبادئ الرأي وقوفًا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه (3) ولم يلتفت رضي الله عنه في إزالة الأحداث ورفعها إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره حتى اشترط في رفعها النية، ولم يجعل غير الماء المطلق الذي لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه. وكذلك امتنع من إقامة التكبير والتسليم في القراءة بغير العربية، ولم يجعل غيرها يقوم مقامها في التحليل والتحريم والإجزاء، وكذلك منع من إخراج القيم في الزكاة واقتصر في الكفارات على مراعاة العدد وما أشبه ذلك ومسلكه في هذا كله دائر على ما حده الشرع دون ما يقتضيه معنى من المعاني مناسب، وذلك لقلة وجوده في التعبديات وندوره في الديانات وهو رضي الله عنه بخلافه في العادات الذي هو جار على المعنى المناسب، الظاهر للعقول فقد استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم معاني المصالح مع مراعاة مقصود الشارع وعدم مناقضة تلك المصلحة لأصل من أصوله التي قسمها العلماء إلى ثلاثة: مناسب علم اعتباره الشارع له، ومناسب علم إلغاؤه له ومناسب لم يعلم إلغاؤه ولا اعتباره، وهو الذي لم يشهد له أصل معين بالاعتبار بل أخذ من مقاصد الشريعة العامة وهو المسمى بالمصالح المرسلة (4) .
__________
(1) سورة النور: الآية 63
(2) الاعتصام ,للشاطبي: 1 /167- 2 /198
(3) الشاطبي: 3/ 300
(4) ارشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ,للشوكاني(5/2429)
وقد اشتهر انفراد المالكية به، قال الزركشي: وليس كذلك فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك، ولقد أطنب أبو إسحاق الشاطبي المتوفى سنة 790 هـ في بحث البدع والحث على التزام السنة من كتابه الاعتصام بما لم يسبق إلى مثله وفرق بين البدع والمصالح المرسلة تفرقة واضحة بينه، وأثبت فيها أن مالك بن أنس كان يقول بها على تشدده في نصرة السنة ومبالغته في مقابلة البدع حتى قال فيه أحمد بن حنبل إذا رأيت الرجل يبغض مالكًا فاعلم أنه مبتدع، وقال فيه عبد الرحمن بن مهدي: إذا رأيت الحجازي يحب مالكًا بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة، كما أنه ممن أطنب غاية الإطناب في بحث المصالح من المشارقة نجم الدين الطوبي الحنبلي المتوفى سنة 716 حتى بلغ به الأمر إلى أن قدم المصلحة على النص والإجماع، وقد ركز كلامه على حديث أبي سعيد الخدري: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، الذي رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مرسلًا، ورواه مالك كذلك مرسلًا، وقال: إنه يقتضي رعاية المصالح إثباتًا ونفيًا والمفاسد نفيا، ثم استدل على المسألة بعد أدلة من الكتاب والسنة تفصيلًا وإجمالًا وجعل مدار تعليل الأحكام الشرعية عليها ودعم ما ذهب إليه بالاستدلال بالنظر العقلي ولم يكتفِ بكل هذا حتى جعل رعاية المصالح مقدمًا على النص والإجماع عند التعارض فقال: وإن خالفها وجب تقديم رعاية المصالح عليها بطريق التخصيص والبيان لهما لا بطريق الافتيات عليهما والتعطيل لهما، ثم قال بعدها: واعلم أن هذه الطريقة التي قررناها مستفيدين لها من حديث ((لا ضرر ولا إضرار)) ثم قال: وليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام، ثم علل ذلك بأن العبادات وشبهما حق للشارع خاصة به، ولا يمكن معرفتها ومعرفة حقه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته، فيأتي بها العبد على ما رسم له، ولهذا لما تعبدت الفلاسفة بعقولهم ورفضوا الشرائع أسخطوا الله وضلوا وأضلوا، قال: وهذا بخلاف حقوق المكلفين، فإن أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم، فعلينا أن نأخذها من أدلته، فإذا رأينا الشرع متقاعدًا عن إفادتها علمنا أنا أحلنا فيتحصيلها على رعايتها (1)
ونحن إذا نظرنا الأمور الدنيوية من حيث الحلال والحرام ومن حيث القضاء والسياسة والآداب وجدناها تنقسم بحسب الأدلة إلى ستة أقسام:
الأول: ما فيه نص محكم قطعي الدلالة قطعي الثبوت، وهذا واجب العمل به ولا مجال للاجتهاد فيه ما لم يعارضه ما هو أرجح منه من النصوص الخاصة لموضعه أو العامة كنفي الحرج ونفي الضرر والضرار وكون الضرورات تبيح المحظورات كما قال تعالى {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (2)
__________
(1) رسالة نجم الدين الطوفي، المصلحة المرسلة.
(2) سورة الأنعام: الآية 119.(5/2430)
والإضطرار الوقوع في الضرورة ويغلب فعله البناء للمجهول وهي حالة توجب على الإنسان أن لا يقدم على المحرمات إذا كان رائمًا بذلك تناولها مع ضعف الاحتياج إليها، وتوجب عليه أن لا يحجم من تناولها إذا خشي أن يتناول ما في أيدي الناس بالغصب والسرقة ونحوها يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) أي غير باغ، ولا عاد على الناس ولا على أحكام الدين فهي تقدر بقدرها وتزول بزوال مقتضياتها.
القسم الثاني: ما دل عليه نص صحيح بعمومه أو تعليله أو مفهومه دلالة واضحة أجمع عليها أهل الصدر الأول، أو عمل بها جمهورهم وعرف شذوذ من خالفهم، فالواجب في هذا عين الواجب في الأول بشرطه عند من عرفه.
القسم الثالث: ما ورد فيه نص تكليفي ظني الدلالة، أو حديث لا هو واهٍ ولا هو صحيح، وقد اختلف فيه الصحابة أو من بعدهم من علماء السلف والأئمة المجتهدون للاختلاف في صحة روايته، أو للاختلاف في صراحة دلالته، فمثل هذا يعمل فيه كل مكلف حسب اجتهاده ويعذر فيه كل من خالفه فيها ظهر له أنه الحق وليس أن يعيب على أحد ولا له أن ينتقده كاختلاف السلف في بعض أحكام الطهارة والنجاسة، فلم يعب أحدهم مخالفه فيه ولم يمتنع من الصلاة معه لا إمامًا ولا مأمومًا، وكما فهم بعض الصحابة من آية البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (2)
وقد نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل متلفة للمال فنزلت الآية، قال في الكشاف: " فترك الخمر قوم وشربها آخرون حيث اختلف فهمهم في تحريمها وعدم تحريمها عمل كل ما ظهر له، ولم يعترض على غيره ومثله ما يستنبطه بعض العلماء من الكتاب والسنة في كل زمان، فمن ظهر له أن ذلك من الدين وأن كلام الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم دالة عليه عمل به، ومن لم يظهر له ذلك فلا يكلف تقليد من استنبطه، وقد نقل عن أشهر المجتهدين من الأئمة أنه لا يجوز لأحد أن يقلدهم وأن يأخذ بشيء من أقوالهم إلا إذا عرف مأخذه وظهر له صحته وترجح له دليله وعند ذلك يكون متبعًا لما أنزل الله لا لما رآه غيره، وبذلك لا يكون مخالفًا لقول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (3) .
__________
(1) سورة البقرة: 173.
(2) سورة البقرة: الآية 219.
(3) سورة الأعراف: الآية 3(5/2431)
وأما ما يتعلق بالأمور العامة من هذا القسم كالأحكام القضائية والسياسية، فينبغي أن ينظر أولو المر وأن يتشاوروا فيه من حيث تصحيح النقل، ومن حيث طريق الدلالة على الحكم، فإذا ظهر لهم ما يقتضي؛ إلحاقه بأحد الأقسام السابقة ألحقوه به فكان له حكمه وإلا كان كالمسكوت عنه.
القسم الرابع: ما ورد فيه نص غير وارد مورد التكليف كالأحاديث المتعلقة بالعادات من الأكل والشرب والطب ونحوها مما يسميه العلماء إرشادًا لا تشريعًا، وكذا ما كان من قبيل الفتاوي الشخصية فلم يعمل به الجمهور لعدم الأمر بتبليغه، فالأولى والأفضل للمسلم أن يعمل بها ما لم يمنعه من ذلك مانع من الشرع، والمصلحة أو المنفعة العامة أو الخاصة ذلك أن المبالغة في الاتباع حتى في العادات والتقاليد مما يقوي وحدة الأمة ويثبت الرابطة بين المسلمين ويقوي شوكتهم في أعين أعدائهم. نعم، لا ينبغي لحكام المسلمين في مثل هذا أن يجبروا أحدًا على الفعل أو الترك وإنما يحسن أن يكونوا قدوة صالحة في مثله.
القسم الخامس: ما سكت عنه الشرع فلم يرد عنه فيه ما يقتضي فعلًا، ولا ما يقتضي تركًا، وهذا هو الذي عفا الله عنه رحمة منه وتخفيفًا على عباده وليس لأحد أن يكلف أحدًا من عبيد الله يفعل شيئًا لم يأذن الله فيه وإن ما أمرنا الله به من طاعة الأمراء وأولي الأمر منا خاص بأمور الدنيا ومصالحها ومشروط بأن لا يكون في معصية الله كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان في الصحيحين وأبو دواد والنسائي عن على كرم الله وجهه: ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، إنما الطاعة في معروف أما أمر الدين فقد تم واكتمل، فليس لأولي الأمر من المسلمين سلطان على أحد في أمر الدين المحض لا بزيادة على مدلل النص ولا بنقصان منها قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1) .
ومن زاد أو نقص فقد جعل نفسه أو جعل شريكًا لله أو اتخذ ربًا من دون الله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (2) .
ولما كانت طاعة أولي الأمر خاصة بأمور الدنيا ومصالحها كان حتمًا تحكيم العرف والمعروف فيما لا نص فيه إذ لا يستقيم نظام الأمة إلا على أساس ثابت.
__________
(1) سورة الشورى: الآية 13.
(2) سورة الشورى: الآية 21(5/2432)
فإذا كانت فوضى غير مقيدة بأصول وأحكام وفضائل ثابتة، ولا بد من شيء ثابت لا تختلف فيه المصالح والمنافع، ولهذا جاء الشرع العزيز بالعرف والمعروف. ولو اختلف الناس فيما يعرفون وما ينكرون فالناس على عاداتهم وتقاليدهم، وقد أحسن الجصاص إذ عرف العرف فقال: هو ما يستحسن في العقل فعله، ولا تنكره العقول الصحيحة وقد ذهب جماعة إلى أنه العرف والعادة مترادفان، فالعرف عندهم هو العادة، وهي غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد، أو على بعضه وعرفها بعضهم بأنها الأمر المكرر من غير علاقة عقلية كتكرار حدوث الأثر مع المؤثر وتكرار المعلول عند وجود علته كسرعة البلوغ في البلاد الحارة وبطئه في البلاد الباردة، قال القرافي في تعريف العادة: إنها غلبة معنى من المعاني على الناس، وهو غير جامع لعدم اشتماله عادة الفرد، وقد عرفها بعضهم وقصرها على العادة العملية ولا وجه لما ذهب إليه لأن الفقهاء عمموا العادة في الأقوال والأعمال، وأدى تعريف لها ما عرف به ابن فرحون، حيث قال في تعريفها: غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد أو بعضها، وقد عرف العرف بما استمر الناس عليه على حكم العقول، وعادوا إليه مرة بعد مرة وبتعريفه للعادة وتعريفه للعرف ندرك أنهما مترادفان، وهذا يؤيده وجه نظر أغلب الفقهاء والأصوليين لكن منهم من فرق بينهما، وجعلوا العادة أعم من العرف باعتبار أنها جنس يندرج تحته أنواع كثيرة من جملتها العرف، إذ العادة تشمل ما كان ناشئًا عن عامل طبيعي أو عن عادة فردية شخصية، أو عن عادة عامة بين الجمهور، وهو العرف، فكل عرف عادة وليس كل عادة عرفًا، وذهب بعضهم إلى أن العادة تختص بالأفعال، والعرف بالأقوال وفيه متكلم.
أما أهل القانون، فيفرقون بين العرف والعادة بأمور أولها: أن أحكام العرف تلزم الطرفين ولو كانا جاهلين في حين أن العادة لا تلزمهما إلا إذا قصد الإحالة عليها صراحة أو دلالة. ثانيهما: أن من يريد التمسك بالعادة فعليه أن يثبتها بخلاف العرف فلا يحتاج للإثبات لأنه مفروض فرضا ولهذا يتعين على القاضي معرفة ذلك حتى يميز بين الطالب والمطلوب. ثالثها: أنه لا يعتد بحكم الحاكم إذا خالف العرف التي نصت عليها القوانين العرفية، واصطلحت على تسمية الركن المعنوي بالعرف، وبركن الاعتقاد بلزوم العادة وهو ما يميز العادات التي أصبحت عرفًا من العادات التي لم تبلغ هذه المرتبة وما تزال في طور الاستعمال المتوارث دون التزام (1) .
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام: 2 /759؛ مقاصد الشريعة، لعلال الفاسي: ص 152:(5/2433)
يقول الإمام الشاطبي: اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها كما في البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف، فسقوط التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب، وإنما وقع الاختلاف في العوائد أو في الشواهد ثم يقول في المسألة التالية العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية أي سواء كانت مقررة بالدليل شرعًا أمرًا ونهيًّا ,أو إذنًا أم لا، أما المقررة بالدليل فأمرها ظاهر، وأما غيرها فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك، ثم يقول بعد كلام ولما قطعنا بأن الشارع جاء باعتبار المصالح لزم القطع بأنه لا بد من اعتباره العوائد لأنه إذا كان التشريع على وزن واحد دل على جريان المصالح على ذلك لأن أصل التشريع سبب المصالح، وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع (1) ، وقد قسم الشاطبي العوائد إلى عوائد عامة، لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال، والثاني: العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال كهيئات اللباس والمسكن ونحوها. والأول: يقضي به على أهل الأعصار للقطع بأن مجاري سنة الله تعالى في خلقه على هذه السنن لا تتخلف بما يجري منها في الزمان الحاضر محكومًا به على الزمان الماضي والمستقبل أكانت العادة وجودية أو شرعية، والثاني: لا يصح أن يقضي به على ما تقدم حتى يقوم الدليل على الموافقة من الخارج فإذ ذاك يكون قضاء على ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة، وكذلك في المستقبل. والنوع الأول: راجع إلى عادة كلية أبدية وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق وهذه العادة معلومة. أما النوع الثاني: فعادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية، وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم وهذه لا يصح أن يحكم بها لاحتمال التبدل والتخلف بخلاف الأولى، وهذه القاعدة محتاج إليها في القضاء فيجب على القاضي أن يكون عالمًا بما كان عليه الأولون لتكون حجة للآخرين، وهذه القاعدة يستعملها الأصوليين في البناء عليها ورد القضاء بالعلمية إليها (2) .
ولشدة الارتباط بين العرف والعادة وتداخلهما جرت المالكية على الرأي الأول من أن العرف والعادة لفظان مترادفان (3) .
__________
(1) الموافقات للشاطبي: 2 /180-184.
(2) الموافقات، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبى: 2 /180- 184- 188
(3) انظر العيار: 3 /238-257؛ مقاصد الشريعة، لعلال الفاسي: ص 151(5/2434)
ولقد استدل العلماء على الاحتجاج بالعرف من السنة بما أخرجه الإمام أحمد ومسنده. قال: حدثنا عبد الله حدثني أبي، حدثنا أبو بكر، حدثنا عاصم، عن زيد بن حبيش ,عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دنيه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء (1) وجه الاستدلال أن ما رآه المسلمون مستحسنًا قد حكم بحسنة عند الله، فهو حق لا باطل فيه لأن الله لا يحكم بحسن ما هو باطل، فإذا كان العرف مما استحسنه المسلمون كان محكوما باعتباره، وقد انتقد هذا الدليل من حيث الثبوت والدلالة، أما من حيث الثبوت فقد نقل عن العلائي أنه لم يجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه، قال: وأخرجه أحمد في مسنده وصرح الزيلعي بأن الحديث غريب مرفوع (2)
وجزم ابن حزم بأن لا وجود للحديث في مسند صحيح، وإنما يعرف عن ابن مسعود (3) ، وذكر الشيخ عبد الحي الكتاني أن هذا الحديث لا يصلح مبينًا أن ابن نجيم أخطأ في نسبته لأحمد في مسنده وإنما هو في كتاب السنة له، كما نص عليه السخاوي في المقاصد ثانيًا أن سياق كلام ابن مسعود يفيد أن المراد بالمسلمين الصحابة والمجتهدين، فالمراد بالمسلمين في الحديث المجتهدون لا عموم الناس يشده لذلك فعل ما رآه في الحديث لأن الرأي في عرف الصحابة هو ما يراه القلب بعد فكر وتأمل واجتهاد لوجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات ويدخل في ذلك ما يستنبط بطريق القياس والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وهذا لا يمكن أن يكون إلا ممن بلغ درجة الاجتهاد وهو خواص الخواص وعلى تقدير أن " أل " في المسلمين للعموم، فهي تشمل جميع المسلمين أي المسلمين من أهل الحل والعقد إذ ما أجمعوا عليه يجب اتباعه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة ولا تجتمع على خطأ)) فقوله: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) بهذا المعنى، وهذا ما صرح به علماء الأصول كالآمدي وغيره (4) فقد قال الآمدي: وما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن إشارة إلى إجماع المسلمين، والإجماع حجة ولا يكون إلا عن دليل، وليس في الحديث دلالة على أن ما رآه آحاد المسلمين حسنًا، فهو حسن عند الله تعالى، ومثل هذا الكلام قال الشاطبي في كتابه الاعتصام على ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه إلى أن قال: وأما الدليل الثاني فلا حجة فيه من أوجه أحدها: أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسنًا، فهو حسن والأمة لا تجتمع على باطل فاجتماعهم على حسنه شرعًا، لأن الإجماع يتضمن دليلًا شرعيًّا، فالحديث دليل عليكم لا لكم، والثاني: أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع، والثالث: أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع، وأريد بعضهم فيلزم عليه استحسان العامة، وهو باطل بإجماع (5) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 1 / 379، ط. الميمنة.
(2) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 93؛ الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 63، نشر العرف في بناء الأحكام على العرف ,لابن عابدين ,مجموع رسائل ابن عابدين: 2 /115.
(3) الإحكام في أصول الأحكام: 2 /759؛ الزيلعي: 4 /133، وفي تمييز الطيب من الخبيث: ص141، لابن الديبع أن الحديث رواه أحمد في كتاب السنة مصرحًا بحسنه، وقال ابن الديبع: إن الحديث أخرجه البراز والطيالسي وأبو نعيم في الحلية في ترجمة أبن مسعود
(4) انظر الأحكام، لسيف الدين الآمدي: 3 /138
(5) الاعتصام، لابن إسحاق الشاطبي: 2 /130-131(5/2435)
وإذا أمعنا النظر في شريعتنا الغراء، وجدناها شريعة مستكملة الأحكام صالحة لكل زمان ومكان مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد في هذا العمران متسعة المجال صالحة لجميع الأقاليم والأجيال عقيدة حكم بصحتها العقل والنقل، وأن في اختلاف علمائها مما تختلف فيه الأقطار بما تقتضيه الأطوار في اختلاف الأمصار والأعصار لدليل على كمال توسعها وصلاحها، ومعلوم أن المأخذ متحد يعتمده كل معتمد فكالوادي إذا جرى إلى أراضٍ مختلفة فاختلف نباتها باختلاف جهاتها، فليس من اختلاف المياه، فالوارد من أواخر جداوله يستوي مع من ورد من منبعه ومصبه والماء واحد وإن اختلفت الموارد وهكذا شريعتنا، فهي متحدة الأصول وإن اختلفت في جزئياتها الفحول على أنها قد حافظت على ما لا يخالف أصولها من أحكام الشرائع السابقة حتى كان شرع من قبلنا شرعًا لنا ما لم يرد ناسخ، وصانت أيضًا ما لا ينقص أحكامها مما جرى به العرف والعوائد على أنه إن ذهبنا إلى أن آية الأعراف {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .
وحديث: ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن لا يقوم بهما الاستدلال صراحة بخصوصهما، فمن الآيات والأدلة ما يقوي جانبهما مما لا يترك مجالًا إلى اعتبار العمل والعرف وأنهما أصل من الأصول التي انبنت عليه كثير من الأحكام. فمن الآيات قوله تعالى فيما يجب للزوجات على الأزواج من النفقات: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) .
فقد قيدت الإنفاق بما تعارفه الناس واعتادوه، وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) .
فقد صرحت الآية بأن الكسوة والرزق والإنفاق مرجعه إلى ما اعتاده الناس، وقوله تعالى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (3) أي أمسكوهن بما عرف بين الناس من حسن المعاشرة من غير مضارة.
وقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي بعيشة حسنة رضية استقر عرف الناس عليها، وقوله تعالى في المطلقات: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} (4) وهو ما عرف في الشرع والعادة الموافقة له والاعتماد في ذلك على حال الزوج من الغنى والفقر والسعة والضيق، ومنها قوله تعالى في معاشرة الأزواج {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (5) .
__________
(1) سورة البقرة: الآية 228
(2) سورة البقرة: الآية 232
(3) سورة الطلاق: الآية 2
(4) سورة البقرة: الآية 236
(5) سورة النساء: الآية 19(5/2436)
فالمعروف هنا ما حدده الشرع ووصفه العرف وتألفه النفوس ولا تستنكره، ومنها قوله تعالى في العفو من القصاص {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (1) .
فاتباع بمعروف أي بما تألفه النفوس وتستحسنه في مجاري العادات ولا تشمئز منه وتستنكره، ومنها قوله تعالى: في الوصية للوالدين {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (2) ، أي بما ألفته العقول ولم تنكره النفوس وهو المحبوب المرضي سمي بذلك لكثرة تداوله بين الناس والتأنس به حتى صار معروفًا بين الناس معتادًا وهو العدل الذي لا يحصل منه تحاسد ولا تباغض بين الأقارب.
ومن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) .
والجلباب ثوب أصفر من الرداء وأكبر من الخمار والقناع تضعه المرأة على رأسها، فيتدلى جانباه على ذراعها وينسدل سائره على كتفيها وظهرها تلبسه المرأة عند الخروج، ولا شك أن لباسه يختلف باختلاف أحوال النساء التي تبينها العادات والتقاليد، وما استشهدنا به من الآيات أوردناها لتؤكد على أن معناها يدور كله على العرف الذي يقضي به في المعاملات والعادات ما لم تكن مخالفة لنص من نصوص الشريعة والله عز وجل إنما يخاطب عباده بما يفقهونه إما بطريق النص مما جاء في الكتاب والسنة وما لم يرد فيه نص فيجري على ما تعارفه الناس واعتادوه، وكل هذه الآيات لتعزز آية الأعراف التي استدل بها الفقهاء على اعتبار العرف وهي حجة على ما أنكر الاستدلال به.
وأما من السنة فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزام: ((لا تبع ما ليس عندك)) ، فلما قدم المدينة وجد الناس يتعاملون بالسلم، وهو بيع ما ليس عند الإنسان، فأقرهم عليه بعد أن نظمه لهم مراعيًا في ذلك العرف ورفع الحرج فقال صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس: ((من أسلف فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم)) ، والأصل أن لا يصح التعاقد على معدوم كبيع قبل ظهوره لاحتمال عدم نباته، ولا على ماله خطر العدم، أي احتمال عدم الوجود كبيع الحمل في بطن أمه وكبيع اللبن في الضرع لاحتمال عدمه بكونه انتفاخًا وكبيع اللؤلؤ في الصدف، ولهذا ورد النهي عن بيع حبل الحلبة وهي المضامين ما في أصلاب الإبل والملاقيح، وهو ما في بطون النوق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 178
(2) سورة البقرة الآية 180
(3) سورة الأحزاب: الآية 59(5/2437)
وقد استثنى الفقهاء من هذه القاعدة العامة في منبع التصرف بالمعدوم عقود السلم والإجارة والمساقاة والاستصناع مع عدم وجود المحل المعقود عليه حين إنشاء العقد استحسانًا ومراعاة للحاجة ورفعًا للحرج عن الناس لتعارفهم عليها وإقرار الشرع صحة السلم والإجارة والمساقاة نحوها، وإنما صحح الشرع بيع المعدوم وبعض المواضع وإن كان الأصل عدم ذلك، فذلك تخفيفًا ورفعًا للحرج واحتياج الناس لذلك، فلهذا أجاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه والحب بعد اشتداده والعقد في هذه الحالة ورد على الموجود المعدوم الذي لم يخلق بعد ومما يدل على اعتبار العرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: ((إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا لمعروف)) ، فقال العباس: إلا الإذخر وهو نبت طيب الرائحة، فإنه لا بد لهم منه فإنه للقبور والبيوت فقال صلى الله عليه وسلم: ((إلا الإذخر)) فاستثناؤه صلى الله عليه وسلم الإذخر ما هو إلا مراعاة لعادة ألفوها ويعسر عليهم ترك عادتهم فرخص لهم في ذلك دفعًا للحرج. ومما يدل على مراعاة عرف الناس وعادتهم ما اتخذه الشرع من وضع الدية على العاقلة واشتراط الكفاءة في الزواج وبنائه على العصبية ومثله الإرث ومنه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة: ((خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)) (1) ، أي حسب العادة والتقاليد كذلك ما في الصحيحين والموطأ من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لقد هممت أن أحرم الغيلة والرضاع لولا أن قومًا من فارس يفعلونها ولا تضر أطفالهم)) . ومن رحمة هذه الشريعة الغراء أن أبقت للأمم معتادها وأحوالها الخاصة بها إذا لم يكن فيها استرسال على فساد يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية وأيما دار، أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام)) ، وفي صحيح البخاري باب ما أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيع والإجارة والمكيال والوزن، وسنتهم على نياتهم ومذاهبهم المشورة، قال ابن حجر: مقصود البخاري بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف وأنه يقضي به على ظواهر الألفاظ حتى أنه لو وكل رجل غيره في بيع سلعة فباع بغير النقد الذي عرف الناس لم يجز، وكذا لو باع موزونًا أو مكيلًا بغير الكيل، أو الوزن المعتاد (2) .
ثم أضاف ابن حجر إن الرجوع إليه في كثير من الأشياء، كمقادير الأيام والحيض والطهر وأكثر مدة الحمل ومقدار سن اليأس، وإحياء الموات والإذن في الضيافة، ودخول بيت قريب، والأيمان، والوصايا، ومقادير المكائيل والموازين، فكل هذه المسائل مرجعها إلى العرف والعادة. وكل ما لم ينص الشارع عليه فيحمل على ما تعارفه الناس وتعامل به أهل تلك البلدة، قال ابن حجر: وهذا ما قصده البخاري من الترجمة، أي من إثبات الاعتماد على العرف والعادة (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: 7 / 65
(2) فتح الباري، شرح صحيح البخاري: 4 /276
(3) فتح الباري، شرح صحيح البخاري: 4 /277(5/2438)
وقال بدر الدين العيني في شرحه لهذا الباب: أي هذا باب يذكر من أجرى أمرها إلى الأمصار على ما يتعارفون بينهم أي على عرفهم وعوائدهم في أبواب البيوع والإجارات والمكيال، ثم قال: كل شيء لم ينص عليه الشارع أنه كيلي، أو وزني، يعمل في ذلك على ما تعارفه أهل تلك البلدة مثلا الأرز فإنه لم يأتِ فيه نص من الشارع أنه كيلي، أو وزني، فيعتبر في عادة أهل كل بلد على ما بينهم من العرف فيه فإنه في البلاد المصرية يكال، وفي البلاد الشامية يوزن ونحو ذلك من الأشياء لأن الرجوع إلى العرف جملة من القواعد الفقهية. وقوله: وسننهم عطف على ما يتعارفون بينهم، أي على طريقتهم الثابتة على حسب مقاصدهم وعاداتهم المشهورة وحاصل الكلام أن البخاري قصد بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف والعادة (1) .
ومما يدل على اعتبار العادة الحسنة ما أخرجه أبو داود في سننه من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال للسائب بن أبي السائب: ((كنت شريكي فنعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري)) (2) ، وفي رواية ((ولا تداريني ولا تماريني)) ، والمداراة الملاطفة، والمير الإيتاء بالميرة، وهو الطعام، وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها في الجاهلية تستأجر الرجال في مالها بشيء تجعله، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجدهم يسلفون في التمر السنة والسنتين، فقال الحديث المشهور الذي أخرجه البخاري: ((من أسلف فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم)) ، فلقد أبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من العادات مما كان عليه العرب في الجاهلية ومعاملاتهم وأحوالهم الشخصية، وأبقى حتى بعض الشعائر الدينية التي تتماشى مع الفطرة البشرية، والتي تسربت لهم من الديانة اليهودية أو النصرانية، ولم يبطل منها إلا ما كان فاسدًا كربا الفضل والنسيئة وبيوع الغرر والجهالة كبيع الملامسة والمنابذة والحصاة، وما نعت من أنكحتها ما كان فاسدًا، كنكاح الاستبضاع والبغاء والسفاح والمخادنة، ونحوها، وأبقت ما هو صلاح متعارف تألفه الطباع وتستحنه العقول النيرة وهو ما عليه الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها (3) .
وقد أبقى الإسلام ما كان عليه العرب في الجاهلية من حججهم واعتمادهم، أخرج البخاري عن عاصم بن سليمان، قال: سألت إنسانًا على الصفا والمروة، قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ونظام القسامة في الإسلام، هو الذي كان في الجاهلية، فقد روى مسلم، عن أبي سلمة وسليمان بن يسار، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمصار أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (4) .
__________
(1) عمدة القاري، في شرح صحيح البخاري: 12 /16
(2) سنن أبي داود.
(3) صحيح البخاري: 7 /15.
(4) صحيح مسلم: 4 /68.(5/2439)
وفي باب الصيام روى البخاري ومسلم، عن ابن عباس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ((ما هذا؟)) ، قالوا: هذا يوم صالح نجى الله تعالى موسى عليه السلام، وبني إسرائيل من عدوهم فصامه وأمر بصومه (1)
وكذلك كان الاعتكاف في الجاهلية من القربات، فجاء الإسلام به فقد أخرج البخاري ومسلم، عن ابن عمر أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال صلى الله عليه وسلم: ((فأوفِ بنذرك)) (2) ، إن ما نقلناه يعطينا صورة واضحة جلية وموقف الإسلام من العادات، وإنه ليتضح من ورائها أن الشرع أقر كثيرًا مما كان عليه الناس في العهد الجاهلي مما هو صلاح وقيد بعضها وهذبها بما هي في حاجة إليه، وأبطل منها ما كان فاسدًا فلم تهدم الشريعة كل ما كان متعارفًا عند العرب في الجاهلية، بل أقر ما كان مسايرًا لمبادئ الإسلام ومقاصده مهتمًا اهتمامًا عظيمًا بالعادات والتقاليد مراعيًا العرف الصالح فيما يشرع من أحكام حتى يتقبلها الناس بصدر رحب والإنسان ابن ما تعود. ومن مبادئ هذه الشريعة رفع الحرج، إذ هو أساس من أسسها الثلاث التي بنيت عليه، وهو رفع الحرج وقلة التكليف والتدريج في التشريع، ولقد أوضح العلامة المقدس المبرور محمد الطاهر بن عاشور هذا المعنى في كتابه مقاصد الشريعة، بعد ما بين أن ليست الشريعة بنكاية فذكر أن مقصد الشريعة من التشريع تغيير وتقرير، فبين أن للتشريع مقامين: الأول: تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها، وهذا المقام هو المشار إليه بقوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [سورة البقرة: الآية 257] .
وقوله: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة المائدة: الآية 16] .
والتغيير قد يكون إلى أشد رعيًا لصالح العباد، وقد يكون إلى تخفيف إبطالًا لغلوهم كتغيير اعتداد المرأة المتوفى عنها زوجها من تربص سنة إلى تربص أربعة أشهر وعشر وكتغيير الحداد بتهذيبه من لبس المرأة شر الثياب ومكثها في الحفس (بيت صغير) وعدم التنظيف والتطبيب مدة سنة، فأبدل ذلك بعدم لبسها للمصبوغ إلا الأسود وعدم التطيب والاكتحال مدة أربعة أشهر وعشر. أما المقام الثاني: فهو تقرير ما كانوا عليه في الجاهلية من الأحوال الصالحة التي اتبعها الناس والمعبر عنها بالمعروف، ولقد توارث الناس من القدم كثيرًا من المصالح التي كانت من نصائح الآباء والمعلمين والمربين والأنبياء والمرسلين والحكام العادلين حتى رسخت في النفوس واستحسنها العقول كإغاثة الملهوف ودفع الصائل وحراسة القبيلة والمدينة، والتجمع في الأعياد واتخاذ الزوجة وكفالة الصغار وغيرها، مما فيه صلاح البشر قديمًا وحديثًا، ثم إن التقرير لا يحتاج إلى القول إلا إذا كان عن سبب دعا إلى القول من إبطال وهم أو جواب سؤال أو تحريض على فعل وما عدا ذلك يعتبر سكوت الشارع تقريرًا لما عليه الناس ولذلك كانت الإباحة أكثر أحكام الشريعة لأن أنواع متعلقها لا تنحصر ومن رحمة الشريعة أنها أبقت للأمم معتادها وأحوالها الخاصة إذا لم يكن فيها استرسال على الفساد (3) ، وما جاء الإسلام إلا لإصلاح ما فسد من أحوال الناس، ولم يكن غايته هدم ما اعتاده الناس من العادات الصالحة التي تعارفوها قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل باحترام الشريعة للعرف، والعادة يكون قد شرعه للناس وأصبح مصدرًا من مصادر تشريعه.
__________
(1) صحيح البخاري: 8 /44.
(2) صحيح البخاري: 3 /48
(3) مقاصد الشريعة الإسلامية ص 102 – 104، ط. 1.(5/2440)
موقف الصحابة من العرف:
لقد أخذ به الصحابة وحكموه في كل ما لا يصادم نصًّا، ولا يتعارض مع مقصد من مقاصد الشريعة ومبادئها، ولقد أقرت الصحابة في فتوحاتهم لمصر، والشام، ورومان البربر أقروهم على عوائدهم الصالحة وألغوا ما كان فاسدًا، وقد أثبت التاريخ أن لهذه الأمم من العادات والتقاليد ما يمثل مظهرًا من مظاهر حياتهم فدخلت هذه الأعراف، والعادات والتقاليد وأصبحت من العادات الإسلامية كما أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد العربية، وأصبحت بعد ذلك من العادات الإسلامية المبنية على السنة النبوية، ولقد اهتدى الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون على عادات لم يعرفوها من قبل فنظموها على هدي الكتاب العزيز والسنة النبوية والمقاصد الإسلامية حتى دخلت في التشريع الإسلامي من إجماع المجتهدين أو من بقية الأدلة، كالاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وقد فعلوا ذلك تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا دوَّنَ عمر رضي الله عنه الدواوين، وهي عادة فارسية ونظَّم ديوان الجيش وقرَّر الخراج والجبايات، وأبقاها على ما كانت عليه قبل الإسلام بالفارسية في العراق، وبالرومية في الشام ولم يغير من ذلك شيئًا ولم يتغير ذلك إلا بعد ما جاءت دولة الأمويين وذلك في عهد عبد الملك بن مروان، واستحالت الخلافة إلى ملك، وانتقل القوم من غضاضه البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتاب والحسبان، فأمر عبد الملك بن سلمان بن سعد والي الأردن لعهده أنه ينقل ديوان الشام إلى العربية فأكمله لسنة من يوم ابتدائه، ووقف عليه سرحون كاتب عبد الملك فقال لكاتب الروم: اطلبوا العيش وغيره هذه الصناعة، فقد قطعها الله عليكم. أما ديوان العراق فأمر الحجاج كاتبه صالح بن عبد الرحمن، وكان يكتب بالعربية والفارسية، ولقن ذلك عن زيدان فروخ كاتب الحجاج قبله، ولما قتل زيدان في حرب عبد الرحمن بن الأشعث استخلف الحجاج صالحًا هذا مكانه، وأمره أن ينقل الديوان من الفارسية إلى العربية (1) .
__________
(1) المقدمة، لابن خلدون من كتاب العبر، وديوان المتبدأ والخبر في أيام العرب والعجم: 1 /205 – 206.(5/2441)
موقف التابعين من العرف:
ولقد توسع التابعون في الأخذ بالعرف وتحكيمه وبناء الأحكام عليه حيث وجدوا لأنفسهم في الاعتماد عليه سندا من عمل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، فلقد أدركوا في زمانهم أشياء لم تكن زمن الصحابة، واعترضتهم حوادث لم تحدث زمن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، حيث كثرت الفتوحات في عهدهم وتوسعت رقعة الإسلام ودخلت أقطار كثيرة تحت رايته. ودخل في دين الله كثير من الناس من بلدان متعددة وأقطار متباعدة لكل عادتهم وتقاليدهم وأعرافهم جعل التابعين يعيرون اهتمامًا زائدًا بما تعارفه الناس في أقطارهم، وجرت عليه عاداتهم، وقد بلغت الفتوحات الإسلامية إلى أقصى البلاد شرقًا وغربًا، وبلغت السلطة الإسلامية أوجها في اتساع رقعتها التي شملت أقطارًا كثيرة وبلدانًا متقاصية اختلفت قوانينها وأخلاقها وعاداتها، ولما نزل التابعون بهذه البلدان قضاة وحكامًا ومفتين وواجهوا هذه العادات على تباينها وجهلهم بها فكان لزامًا أن يعلموا بما تقتضيه قواعد الشريعة ومقاصدها حتى لا يعطوا هذه العادات أحكامها ويثبتوا ما هو صالح منها فيبقوه ويقروه، وما كان فيه عوج فيهذبوه، وما كان فسادًا فيبطله اقتداء بسيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه، لقد تأثر التابعون بالوسط الذي حلوا فيه ونظروا إلى عادات الناس التي كانت تكتفهم وتحيط بهم، وعلموا أن الأحكام التي أنزل الله إنما هي لمصالح عبادة إذ هو غني عن العالمين، وأدركوا المرونة التي في هذه الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتفهموا مدى تأثر الأحكام المبنية على العادات المتأصلة في الناس وتأثر المبيئات بها. فلو لم تجرِ الأحكام على مقتضاها مما لا تخالف نصًّا، ولا مبدأ من مباديها، ولا مقصدا لأصاب الناس الضيق والحرج ولصارت الشريعة معاكسة للغرض الذي بنيت عليه، وقد ذكرنا فيما سبق أنها بنيت على أسس ثلاث من بينها رفع الحرج، وهو مقصد قطعي من مقاصد الشريعة يثبت قطعية، ما ورد من الآيات القرآنية في إثبات التيسير وعدم التعسير كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) .
فهذا التأكيد الحاصل بقوله: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} بعد قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} ، قد جعل دلالة الآية قريب من النص، ويضم إليه قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2)
__________
(1) سورة البقرة: الآية 185
(2) سورة الحج: الآية 78.(5/2442)
وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (1)
وقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (2) .
وقوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (3)
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم ((بعثت بالحنيفية السمحة)) ، وقوله: ((عليكم من الأعمال ما تطيقون)) .
وفي المبسوط للسرخسي أن في النزع عن العادة الظاهرة حرجًا بينا ذكر هذا حين الكلام على أن الشرط في البيع على أوجه (4) .
وقد شاع على السنة العلماء الفقهاء أن المذهب الحنفي يعتبر من أكثر المذاهب الإسلامية اعتبارًا للعرف واعتمادا على العادات، يشهد لذلك الرسالة التي ألفها ابن عابدين نشر العرف في بيان بعض الأحكام على العرف، وذكر عدة مسائل مما تبين على العرف، مما اختلف فيه لاختلاف الأمصار ولاختلاف الأعراف في الأقطار بين الديار الشامية وغيرها، فذكر من مسائل الوقف واعتماد الخطوط والتوثيق وأحكام السياسة، وما يأخذونه من الغرامات وعشر الأراضي المستأجرة وبيع الثمار على الأشجار عند ظهور بعضها، كما ذكر مسائل في النكاح مما انبنى على العرف إلى غيرها من المسائل التي تبرز مدى اعتبار المذهب الحنفي للعرف. أما الإمام الشافعي فمن أبرز ما يظهر اعتماده على العرف ما نجده من الفرق بين أقواله القديمة وأقواله الجديدة بعدما نزل مصر، ولا شك للأعراف والعادات الأثر الفعال في هذا التجديد والتغيير، ولقد ذكر أبو علي الحسن بن محمد المردودي الشهير بقاضي حسين وهو من كبار فقهاء الشافعية أن مذهب الشافعي بني على قواعد خمس هي اليقين لا يرفع بالشك، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير، والأمور بمقاصدها، والعرف.
وقد صرح الرافعي من كبار أئمة الشافعية أن الأصح فيما جعل من كيل ووزن مراعاة العرف كما صرح بأن العادة تؤثر في المعاملات لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيها يروح في النفقة ولقد عقد السيوطي فصلا في كتابه الأشباه والنظائر فصل فيه القول وذكر فيه كثيرا من الفروع الفقهية التي بنيت في المذهب الشافعي على العرف والعادة، واستعرض أمثلة كثيرة أحال فيها فقهاء الشافعية على العرف كسن الحيض والبلوغ والإنزال وأقل مدة الحيض والنفاس والأفعال المنافية للصلاة التي تبطل بها والنجاسات المعفو عن قليلها والرد بالعيب وعمل الصناع واستئجار الدواب ودخول الحمام وغيرها من الأمثلة الكثيرة (5) .
__________
(1) سورة البقرة: الآية 286.
(2) سورة البقرة: الآية 187.
(3) سورة النساء: الآية 28.
(4) المبسوط، للسرخسي: 13/ 14، 15
(5) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 63(5/2443)
وفي كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج من الفروع الفقهية في المذهب الشافعى ما يوضح كثرة الفروع الفقهية التي بنيت على العرف ومذهب الشافعية (1) .
وحتى الحنابلة الذين عرف عنهم التشبث بالنصوص، فقد حكموا العرف في كثير من الفروع، وقد استدل ابن قدامه بالعرف في قضايا عديدة كتقدير النفقات الواردة في قوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} . قال ابن قدامة: وهذا قد أطعمهم من أوسط ما يطعم أهله، فوجب أن يجزئه، روى الإمام أحمد في كتاب التفسير بإسناده عن ابن عمر ليس أوسط ما تطعمون أهليكم، قال: الخبز واللبن، وفي رواية عنه الخبز والتمر، والخبز والزيت، والخبز والسمن، وقال أبو رزين: من أوسط ما تطعمون خبز وزيت، وقال الأسود بن يزيد: الخبز والتمر، ثم نقل عن ابن سيرين، قال: كانوا يقولون أفضله الخبز واللحم، وأوسطه الخبز والسمن، وأخسه الخبز والتمر (2) .
وذكر ابن رجب الحنبلي في قواعده القاعدة الثانية والعشرون بعد المائة إلى أن قال: ومنها لو استأجر أجيرًا يعمل له مدة معينة حمل على ما جرت العادة بالعمل فيه من الزمان دون غيره بغير خلاف، ومنها لو حلف لا يأكل من هذه الشجرة اختصت يمينه بما يؤكل منها عادة، وهو التمر دون ما لا يؤكل عادة كالورق والخشب (3) .
وقد بين ابن القيم الجوزية في كتابه إعلام الموقعين، أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي، وأن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأحوال، ولقد ندد ابن القيم بإهمال قصد المتكلم ونيته وعرفه، واعتبر أن ذلك جناية على الإنسان وعلى الشريعة (4) .
ومثل هؤلاء الأئمة الإمام الأوزاعي، اعتبر العرف مرجعًا لبناء الأحكام، فمن تتبع الفروع الفقهية لمذهبه يدرك أنه كان فيما يعتمد عليه من الأدلة المختلف فيها العرف فقد اعتمد عليه في مسألة أقل الحيض حيث لم يرد دليل على تقدير أقله لا شرعًا ولا لغة (5) ، بل حتى الشيعة حكموه في بعض القضايا، فقد نصوا على أن العرف يحتاج إليه وتقويم المسروق إن لم يكن من النقود فما رآه العرف يساوي ربع دينار، فما زاد يجب فيه القطع، وما لا فلا يكون معه القطع والمذهب الجعفري، وإن لم يعتبر العرف من الأدلة الشرعية لكنه اعتبره في تفسير الدليل اللازم حمله على المعنى العرفي وهم لم يختلفوا في الأخذ به، وإن اختلفوا في العدد الذي تحصل به العادة أهو اثنان أو ثلاثة (6)
__________
(1) نهاية المحتاج: 7 / 40 – 109 – 134 – 156- 176 – 190
(2) المغني، لابن قدامة: 8 /736 – 737
(3) القواعد، لابن رجب الحنبلي: ص 277
(4) إعلام الموقعين عن رب العالمين: 3 / إلى 50.
(5) الإمام الأوزاعي ومنهجه كما يبدو في فقهه: ص 327
(6) التشريع الجنائي الإسلامي: ص 124، و 309، و 310.(5/2444)
وقوله: إن هذا الدين يسر وليس بالعسر، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن: ((يسرا ولا تعسرا)) ، وقوله صلى الله عليه وسلم ((وإنما بعثتم مبشرين)) ، فمثل هذا الاستقراء يخول للباحث عن مقاصد الشريعة أن يقول: إن مقاصد الشريعة التيسير، لأن الأدلة المستنبطة في ذلك كلها عمومات متكررة وكلها قطعية النسبة إلى الشارع لأنها من القرآن وهو قطعي المتن ومثلها المقاصد الظنية القريبة من القطعي على ما قاله الشاطبي في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة (الدليل الظني) إما أن يرجع إلى أصل قطعي مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى فإن الضرر والضرار مثبوت منعه في الشريعة كلها في وقائع وجزئيات وقواعد كليات كقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [سورة البقرة: الآية 231] .
وقوله: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [سورة الطلاق: الآية 6] . وقوله {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [سورة البقرة: الآية 233]
ومنها النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض وعن الغصب والظلم، وكل ما هو في المعنى إضرار وضرار، ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل، أو النسل، أو المال، فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك (1) .
وبوجه عام، فالتابعون اتبعوا ما ترمي إليه الشريعة وتقصده من تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وجروا على ما تقتضيه الشريعة من رفع الحرج والتيسير وعدم التعسير الذي يستلزم اعتماد العادات والتقاليد التي لا تتضارب ومقاصد هذه الشريعة، وهكذا أصبح العرف في الفقه الإسلامي معتبرًا تبنى عليه الأحكام بل أصبح في نظر الفقهاء دليلًا شرعيًّا كافيا في ثبوت الأحكام الإلزامية إذا لم يكن دليل سوها.
موقف أئمة المذاهب من العادة والعرف
لقد تأثر أئمة المذاهب بما تأثر به من قبلهم من الصحابة والتابعين، فكان لوسطهم الذي عاشوا فيه تأثير عميق لا ستنباطهم للأحكام وارتباط واضح في تأثرهم بعادات مجتمعهم وتقاليده، وقد زاد المعنى وضوحا بالنسبة للفقهاء المقلدين، حيث كانوا أكثر تحكيمهًا للعرف والعادة ممن سبقهم لما شهدوا من الحوادث والنوازل الطارئة ما لم يشهده السابقون، فما من مذهب من المذاهب إلا وقد حكم العرف وجعله مصدرًا للتشريع، يقول القرافي: نقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العادات والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وليس كذلك أما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك (2) .
ويؤيد كلام القرافي النظر في كتب المذاهب الفقهية، فالحنفية اعتبروا العرف وجعلوه أصلًا من الأصول يرجع إليه عند فقد غيره، قال ابن نجيم: واعلم أن العادة والعرف يرجع إليه الفقه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، فقالوا في الأصول، في باب ما تترك به الحقيقة، تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة (3)
__________
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور: ص 40 – 42
(2) شرح تنقيح الفصول: ص 76
(3) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 93 (تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل) ط. الحبلي(5/2445)
وفي شرح الأشباه للبيري، قال المشرع: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي. وفي المبسوط الثابت بالعرف كالثابت بالنص ومن ابن عابدين والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار. قال ابن عابدين: لما شرحت أرجوزتي التي أسميتها عقود رسم المفتي ووصلت في شرحها إلى هذا البيت أردت إفراد الكلام على البيت برسالة مستقلة تظهر المقصود إلى العيان لأني لم أرَ من أعطى هذا المقام حقه ولا من بذلك له في البيان مستحقه. وسميت هذه الرسالة نشر العرف في بيان بعض الأحكام على العرف. ومما يوضح هذه الحقيقة فتوى محمد بن الحسن الشيباني في جواز بيع النحل ودود القز حيث وجد الناس يتعاملون بذلك بيعا وشراء، وكان يذهب إلى الصباغين يسأل عن معاملاتهم وما تعورف بينهم وما جرت عليه عاداتهم، ليلاحظ ذلك في فتاويه ومما يحدث بينهم. وقد ذهب أبو يوسف صاحب أبي حنيفة إلى أن الحكم الشرعي الذي يثبت بالنص بناء على عرف الناس يتغير بتغير العرف كوجوب المماثلة كيلًا في بيع القمح بالقمح، ولقد صحح الحنفية ما تعارف عليه الناس مما ورد النهي عنه كبيع وشرط فصححوا الشروط مبينين بأن النهي لم يكن إلا لأن الشرط في عقد البيع يفضي إلى النزاع غالبًا والعرف يقضي على هذا النزاع، ويقول شمس الأئمة السرخسي: أن الثابت بالعرف ثابت بدليل والرأي الذي يرى أن العرف يتحقق بتكرره مرتين يوافق مذهب المالكية في ثبوت العادة (1) .
والرأي الثاني أي من يرى أن العادة لا تثبت إلا بتكرر الأمر ثلاثًا يوافق ما ذهب إليه بعض الشافعية، وقد حكى جلال الدين السيوطي الخلاف بين فقهاء الشافعية في أن العادة تتحقق بتكرر الفعل مرتين أو ثلاث ورجح أبو حامد الغزالي من الشافعية القول الثاني (2) .
__________
(1) مواهب الجيل: إن واظب على ترك المسنون وعلى فعل المكروه فهو الذي يؤدب ويجرح ومن كان منه ذلك مرة لم يؤدب: 6 /320.
(2) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 64(5/2446)
ولقد أخرنا القول عن العرف عند المالكية لأن مالكًا رحمه الله اعتبره نوعًا من المصلحة وتوسعت المالكية في الأخذ به حتى جعلوه مخصصا لنصوص وقد فاق المذهب المالكي غيره من المذاهب في الاعتماد عليه والأخذ بمقتضاه واعتبره أصلًا من أصوله الفقهية، وقد ذكر الإمام الفقيه ابن رشد، عن شيخه ابن محمد صالح أنه قال: الأدلة التي بنى عليها الإمام مالك مذهبه ستة عشر، نص الكتاب، وظاهره وهو العموم، ودليل الكتاب وهو مفهوم المخالفة، ودليل الكتاب، وهو باب أحرى، وتنبيه الكتاب، وهو التنبيه على العلة كقوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} ، ومن السنة أيضًا مثل ذلك فهذه عشرة، والحادي عشر: الإجماع، والثاني عشر: الاستصحاب، والثالث عشر: عمل أهل المدينة والرابع عشر: قول الصحابي، والخامس عشر: الاستحسان، والسادس عشر: الحكم بالذرائع، واختلف قوله في السابع عشر وهو مراعاة الخلاف فمرة يراعيه ومرة لا يراعيه. من شرح التسولس على التحفة (1) . ولقد اعتبرت المالكية العرف نوعًا من المصلحة وتوسعوا فيه كثيرًا حتى خصصوا به بعض النصوص، قال القرافي في تنقيحه: والعوائد عندنا مخصصة للعموم إن قارنت الخطاب أو تقدمته وكل من له عرف وعادة في لفظ إنما يحمل لفظه على عرفه فإن قارنت العوائد نصًّا شرعيًّا خصصته وإن قارنت ألفاظ الإيمان والعقود خصصتها، إلا إذا دل دليل على أن العموم جاء لشمول تلك الألفاظ بالحكم كما في قوله صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، بعد تعودهم اشتراط الولاء لمن أعتق. ولقد فاق المذهب المالكي غيره من المذاهب في الاعتماد على العرف واعتباره أصلًا من الأصول الفقهية فيما لا يكون فيه نص قطعي واعتبروه ضربًا من ضروب المصلحة التي لا يمكن إغفالها يدل لذلك قول ابن العربي: إن العادة دليل أصلي بنى الله عليه الأحكام وربط به الحلال والحرام (2) . وفي قواعد المقري أصل مالك اعتماد العرف الخاص والعام (3) والعرف والعادة من الأدلة المشروعة في المذهب المالكي، قال ابن عاصم في منظومته الأصولية.
__________
(1) منهج التحقيق والتوضيح، لحل غوامض التنقيح: 1 /277
(2) أحكام القرآن لابن العربي:4/ 1842
(3) قواعد المقري: ص 164(5/2447)
والعرف ما يعرف بين الناس: ومثله العادة دون بأس ومقتضاهما معًا مشروع: في غير ما خالفه مشروع.
ومما خصصوا بالعرف قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (1) فقد ذكر القرطبي في المسألة الثالثة من تفسير الآية قال: اختلف الناس في الرضاع، هل هو حق للأم أم هو حق عليها، واللفظ محتمل لأنه لو أراد التصريح بكونه عليها لقال: وعلى الوالدات رضاع أولادهن، كما قال تعالى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ، ولكن هو عليها في حال الزوجية وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها أن لا ترضع وذلك كالشرط وعليها إن لم يقبل الولد غيرها واجب وهو عليها إذا عدم لاختصاصها به
وقد ذكر الونشريسي أن من أصول الشريعة عند مالك تنزيل العقود المطلقة على العوائد المتعارفة وهذا يتماشى مع ما كنا نقلناه عن المقري في قواعده من أن العادة عند مالك كالشرط تقيد المطلق، وتخصص العام ولقد رجحوا به الأقوال الضعيفة والشاذة، وهو عند المحققين من المالكية من أعظم المرجحات، وقد نقل الشيخ المهدي أن ابن عتاب، وابن رشد وابن سهل، وابن زرب، وابن العربي، واللخمي ونظراءهم لهم اختيارات وتصحيحات لبعض الروايات والأقوال عدلوا فيها عن المشهور وجرى فيها باختيارهم عمل الحكام تطبيقًا لقاعدة العادة محكمة ومثل ذلك الفتوى وذلك لما تقتضيه المصلحة وجرى به العرف (2) .
قال الأغلالي في منظومته: ورجحوا بالعرف وهو أقوى من سائر المرجحات (3) والأحكام تحرر مع العرف والعادة، قاله القرافي في قواعده وابن رشيد في رحلته وغيرهما من الشيوخ حتى إنه لا يعتبر من أحكام القضاة في هذا الزمان إلا ما وافق المشهور، أو الراجح، أو ما به العمل على ما ذكره الشيخ التاودي بن سودة المزي في شرحه على تحفة ابن عاصم (4) ، حيث يقول: وهو الحق الذي لا شك فيه، ونحوه قوله في أجوبته: وهو الحق المتعين الذي لا محيد فيه، ومثله للشيخ السنوسي، والعقباني، والبرزلي، وابن عرفة، وغيرهم نقل هذا الشيخ الرهوني في حاشيته على الزرقاني.
__________
(1) سورة البقرة: الآية 233
(2) حاشية المهدي على التحفة، للتاودي: 1 /69
(3) منظومة الأغلالي فيما تجب به الفتوى – مخطوط -
(4) شرح التاودي بحاشية المهدي 1 /68(5/2448)
الفرق بين القول الراجح والمشهور والشاذ:
والفرق بين القول الراجح والمشهور، أن الراجح ما قوي دليله والمشهور ما كثر قائله، وإذا تعارض الراجح والمشهور قدم الراجح ومقابل المشهور هو الشاذ، وقد ذكر الشيخ عبد القادر الفاسي أن القاضي إذا حكم بالشاذ لا يلتفت لحكمه ولا يعتد به وحمل حكمه على سبيل الغلط والجهالة معللًا ذلك بأنه لا يفعل ذلك إلا من كان له غرض فاسد من اتباع الهوى والميل إلى المحكوم له إلا إذا جرى به العمل فإن ما جرى به العمل مقدم على المشهور لأن وجوب العمل بالمشهور مقيد بما لم يجر عمل بمقابله، وإلا فهو المقدم وقد نظم ذلك أبو زيد الفاسي، فقال:
وما به العمل دون المشهور
مقدم في الأخذ غير مهجور
الفرق بين ما جرى به العمل وبين العرف:
معنى قولهم به العمل أو العمل به، معناه أن القول حكمت به الأئمة واستمر حكمهم به، أما جريان العرف بالشيء فمعناه عمل العامة من غير استناد لحكم من قول أو فعل ولقد اعترض الشيخ علي الأجهوري في باب الفلس على التاتائي إذا اقتضى كلامه أن رجحان العمل بالشيء هو جريان العرف به، قال العلامة السجستاني في نوازله: بعد أن وجه العمل في مسألة ذكرها، فإذا اتضح لك توجيه ما جرى به العمل لزم إجراء الأحكام عليه لأن مخالفة ما جرى فتنة وفساد كبير حتى قال بعض العلماء: إن خروج القاضي عن عمل بلده ريبة قادحة في حكمه فيجب حينئذ أن يقتصر من العمل على ما ثبت ويسلك المشهور فيما سواه (1) .
ولقد نبه الشيخ ميارة في شرحه على لامية الزقاق أنه لا بد لجريان العمل من أمور ثلاثة: أن يكون العمل صدر من العلماء المقتدي بهم، ثانيًا: أن يكون جاريًا على قوانين الشرع ولو كان شاذا. ثالثًا: أن يثبت بشهادة العدول المتثبتين.
ولقد راعوا عرف المتكلم في جميع الأحوال سواء تعلق الأمر بالأفعال الشرعية من معاملات وإقرارات أو الأفعال العادية من ألفاظ وغيرها من سائر التصرفات حتى قال القرافي في تنقيحه في الكلام على تخصيص العموم بالعادة، فكل من له عرف وعادة في لفظ، إنما يحمل لفظه في عرفه. فإن قارنت العوائد نصًا شرعيًّا خصصتهما وإن قارنت ألفاظ الأيمان والعقود خصصتهما إلا إذا دجل دليل على أن العموم جاء لشمول تلك الألفاظ بالحكم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل بعد تعودهم اشتراط الولاء لمن اعتق (2) .
__________
(1) حاشية الشيخ المهدي: 1 / 68
(2) التنقيح، للقرافي بحاشية ابن عاشور: ص 248.(5/2449)
ويقول المقري: كل متكلم له عرف فإن لفظه يحمل على عرفه في الشرعيات والمعاملات والإقرارات وسائر التصرفات (1) .ويقول أيضا: من تقررت له عادة عمل عليها (2) ولهذه الاعتبارات استحبوا في القاضي أن يكون بلديًا عالمًا بأعراف الناس مطلعًا على أحوال المتقاضين وعاداتهم حتى يقضي بين الناس طبقا لما جرت عليه عاداتهم وتصرفاتهم التي اعتادوها في حياتهم اليومية وفي أسواقهم ومجتمعاتهم، حتى يكون أقرب إلى الحق في أحكامه مطابقًا لمصلحتهم جاريًا على أعرافهم.
نقل الونشريسي في المعيار عن ابن منظور القيسي الإشبيلي قال ينبغى عندي للمشاور (أي المستشار) في المسألة أن يحضر عند ذلك أمورًا يبني عليها فتواه ويجعلها أصلًا يرجع إليه أبدًا فيما يستحضره في ذلك منها مراعاة العوائد في أحوال الناس وأقوالهم وأزمانهم لتجري الأحكام عليها من النصوص المنقولة عن الأئمة. ولهذه المراعاة جرى على ألسنة العلماء وكثير من المواضع المنقول فيها اختلافهم أن يقولوا هذا خلاف في حال لا في مقال، وقد نقل بعض الناس الإجماع على مراعاة ذلك، وأن الفتاوي تختلف عند اختلاف العوائد ولا يجوز طرحها مع اختلافها، ومنها مراعاة قول بعض أئمة السلف لو أدركت الناس إلى الكوعين وأنا أقرؤها إلى المرفقين لتوضأت إلى الكوعين. يشير بذلك إلى الحث على الاقتداء بمن تقدم في فعله وطريقته (3)
ولقد قيل للشيخ ابن عبد السلام قاضي الجماعة بتونس إن القوم امتنعوا من توليتك القضاء لأنك شديد في الحكم قال لهم: أنا أعرف العوائد وأمشيها (4) ولا شك أن القاضي كلما تمكن من معرفة عادة البلد الذي يحكمه كلما سهل عليه تطبيق الأحكام ويحق ما تعارفه الناس واعتادوه، لأن معرفته لعاداتهم وتقاليده يمكنه من معرفة مشاكلهم ودوافع نوازلها وهذا ما أوضحه الشاطبي في موافقاته من أن على القاضي أن يلاحظ العرف الجاري بين الناس وأن لا يجمد مع الروايات ويقطع النظر عن العادات؛ إذ أن الجمود على النصوص لا يليق بالقاضي وأن عليه أن يعتبر العوائد وإن ذلك من الضرورات (5) ذلك أن العرف والعادة أحد الدعائم الخمسة التي بني عليها الفقه والتي هي: اليقين لا يرفع بالشك، والضرر يزال، والأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والعرف فهو من الدعائم التي استندوا إليها في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإضافية كالصغر والكبر والكثرة والقلة في الأقوال والأفعال والصلاة، وثمن المثل في البيع والتعدي ومهر المثل والكفء في النكاح وتعيين الفروض من المؤونة والكسوة والسكن في النفقات كما استندوا إلى العرف في مقادير الحيض والطهر والصلاة والعدد وأقصى أمد الحمل في النسب واستندوا إليه في فهم الألفاظ في الأيمان والوقف والوصية والطلاق إلى غير ذلك (6) .
__________
(1) قواعد المقري، القاعدة: 459.
(2) قواعد المقري، القاعدة: 117
(3) المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل أفريقية والأندلس والمغرب، للعلامة الونشريسي: 8 / 287.
(4) شرح الزرقانية، لسيدي عمر الفاسي: ص 248.
(5) الموافقات، للشاطبي: 2 / 287
(6) شرح المنجور للمنهج المنتخب: ص 90(5/2450)
وبما نقلنا ندرك كيف توسع المذهب المالكي في الأخذ بالعرف واعتباره له أصلًا أصيلًا في بناء الأحكام عليه وتطبيقها على الحوادث والجزئيات كلما لم يوجد نص من الشارع، بل قد غالى بعضهم في اعتباره حتى قال: إن قطع العوائد المباحة قد يوقع في المحرمات سنن المهتدين: ص 48.
الأحكام تدور مع العوائد:
ولقد نبه العلماء الأجلاء إلى وجوب الاعتماد على العوائد عند عدم النقل والى وجوب أن تدور الأحكام مع العوائد وليس من المعقول أن يلبس العرف لباس الديمومة أو القداسة، بل الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها حيثما دارت وتبطل معها إذا بطلت، ذلك أن الأقضية والفتاوى تتبع العوائد حسب عرف ذلك الزمان والمكان وأهله قال القرافي: إن كل ما هو في الشريعة يتبع الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة والجمود على ما كان في الكتب ضلال وإضلال (1) ، وقد نظم الإغلالى هذه القاعدة فقال:
وكل ما يبنى على العرف يدور معه وجودًا وعدمًا دور البذور فما اقتضته عادة تجددت، تعين الحكم به إذا بدت، وفي لامية الزقاق: وكن ذا تأنٍّ عارفًا بعوائد وأحدث قضاء للبجود كما ترى. وفي قواعد المقري: كل حكم رتب على عادة فإنه ينتقل بانتقالها إجماعًا (2) ، فالمذهب المالكي توسع كثيرًا في الاعتماد عليه وبناء الأحكام حسب مقتضاه، بل هو أصل يرجع إليه الفقيه والقاضي والمفتي في معرفة الأحكام الشريعة التي لا نص فيها، بل هو طريق لمعرفة المدعي من المدعى عليه، فقد ذكر الشيخ الوالد رحمه الله محمد العزيز جعيط في كتابه الطريقة المرضية والإجراءات الشرعية وما جرى به العمل في الأقطار التونسية على مذهب السادة المالكية في الفصل الثالث في المدعي والمدعى عليه في التفرقة بينهما وتمييز المدعى من المدعى عليه إلى أن قال بعد كلام وأقربها أن المدعي من تجرد قوله من أصل أو عرف والمدعى عليه من أعضده، أحدهما، فإن شهد لأحدهما الأصل وللآخر العرف كان من شهد له العرف هو المدعى عليه، ثم قال ولدقة تحقيق المناطق وتطبيق القواعد جزئيتها صعب أمر القضاء وكان علم القضاء أخص من فقه القضاء، ولقد استعرض الفقهاء جملة من الأصول في بعض الأشياء واختلفت الفتاوى والأحكام لاختلاف الأعراف المبنية عليها وساق جملة مما ذكروه ومثل لها حتى تكسب الناظر بصيرة، فقال: قالوا: الأصل براءة الذمة قبل تحقق عمارتها، فإذا تحققت عمارتها فالأصل الاستصحاب، إن استصحاب تلك الحالة حتى يتحقق الرافع والأصل الصحة وزاعم المرض مدع خلاف الأصل فعلية البينة، لأنها مدعية خلاف الأصل والأصل عدم العداء، فلو ادعى على الطبيب العمد فيما زاد على المأذون فيه وادعى الطبيب الخطأ.
__________
(1) الأحكام، للعراقي: ص 27؛ والتبصرة: 2 /67
(2) القاعدة رقم 1037(5/2451)
فالقول قول الطبيب لأن الأصل الخطأ لا العمد قال خليل: والقول للسيد ونفي العمد، واضطرب قول سحنون في الزوج والسيد يفقأ عين زوجته أو عبده: فقالا فعل بنا ذلك عمدًا، وقال السيد والزوج أدبتهما فأخطأت، أنه لا شيء على السيد ولا على الزوج أدبتهما فأخطأت أنه لا شيء على السيد ولا على الزوج حتى يظهر العداء والقول قول السيد والزوج (1) ، واستظهر ابن رشد حمل أمر السيد على الخطأ إلا أن يعلم أنه قصد به التمثيل واستظهر عدم حمل الزوج على الخطأ إلا أن يعلم أنه قصد به التمثيل واستظهر عدم حمل الزوج على الخطاب مع زوجته وإنما يحمل على شبه العمد، ومعنى ذلك أن تكون الدية على الجاني ولو حمل على الخطأ لكانت على العاقلة ولو حمل على العمد لوجب القصاص – وزاد ابن رشد ولو طلبت المرأة فراقه وقالت: أخافه على نفسى طلقت عليه طلقة بائنة. اهـ -. والأصل فيمن ادعى عليه العلم بالشرع الجهل حتى يثبت العلم فإذا أقام الشريك على مشتري حصة شريكه بالشفعة بعد سنة مدعيًا عدم العلم بالبيع إلا وقت قيامه وادعى المشتري علمه بالبيع فالقول للشفيع بيمينه لأنه مدعى عليه، والأصل في الإنسان الفقر لسبقه، ولكن الناس محمولون على الملأ لغلبته وهذا من باب تعارض الأصل والغالب، ولهذا كان زاعم الإعسار وإن وافقه الأصل الذي هو الفقر مدعيًا فهو المطلوب بالبينة على الإعسار فلو ادعي على الزوجة الطالبة للنفقة أنها عالمة بعدمه توجهت عليها اليمين، والأصل في العقود الصحة فمن ادعى الفساد فهو المدعى عليه ويكون من قبيل ما تعارض فيه الأصل والغالب (2) .
ومن الفروع التي كان حكمها مبنيًّا على شهادة اعرف تمزيق رسم الدين أو قطع طرقه أو سطر بسملته فإنه يدل عادة على البراءة من الدين فلا يفيد المستظهر به شيئًا بخلاف محو ظاهر باطني به عقد ونحوه فإنه يستظهر على من قام به بيمين، بناء على عدم حصول عادة في هذه الصورة كحصولها فيما مر، وإنما ذلك ريبة وشبهة يجب رفعها باليمين كما ترفع ريبة التزوير فيمن قام بعقد ظهرت فيه تلك الريبة وشهدت بينه أن الشهادات التي فيه من وضع شهوده وشهدت أخرى أنها ليست من وضعهم وإنما هي مزورة عليهم فطلبت يمين القائم به لمكان البينة، والشهادة المثبتة هي المقدمة قاله الشيخ عظوم في الدكانة (3) .
__________
(1) من شرح المواق من كتابه تاج الإكليل لمختصر خليل بهامش مواهب الجليل، للحطاب 6 /335
(2) شرح المنجور على المنهج المنتخب: ص 119
(3) هو محمد بن أحمد بن عيسى بن فندار القيرواني المعروف عظوم من تلامذة البرزلي والرعيني وغيرهما من مؤلفاته: مواهب العرفان والمباني اليمينية ورعاية الأمانة والدكانة وكان حيا سنة 889(5/2452)
ومن الفروع التي وقع استناد القضاء فيها للعادة ما حكم به أحمد القلشاني قاضي الجماعة بتونس في ساقية أحدثت مدار بأبي عائشة واتصلت إلى شارع باب المنارة الذي تمر فيه فضلات مراحض دوره إلى أن تصل إلى الخندق المعد لذلك، وقد امتنع من الموافقة على أحداثها من تمر عليه وترافعا في ذلك فحكم بتمكين المحدث مما أحدثه بعد أن تذاكر في النازلة مع الشيخ عظوم فاستظهر الحكم بذلك معللًا بأن وضع الشوارع بتونس قد علم حين وضعها وتخطيط دورها عدم حفر آبار لفضلات أهلها، ووضعوا السواقي في شوارعهم لذلك، واستمروا على ذلك على تعدد الأزمنة والأعصر، وأهل كل زقاق قد دخلوا على ما وجدوا عليه من تقدمهم في ذلك والحادث عهده تبع لمن سبقه إلى زمن الواضع وعلى هذا مشت أحوالهم واستمرت قصودهم وأفعالهم وإذا دخل على ذلك المتقدم وجب إلحاق حكم الطارئ به إذ لا يملك الطارئ من الشارع إلا ما يملكه من خلفه هو فيه (1) .
ومن الفروع المبنية على العادة القضاء بشهادة الحيازة على الملك والحيازة لا تنقل الملك، ولكن تدل عليه وما ذكره القلشاني عن المازري من الشروط فمنشؤه تحقيق الحال التي تكون فيها الحيازة شاهدة للحاز بالملكية حيث ذكر لها شروطا سبعة هي وضع اليد على الشيء المجاز وأن ينسب إليه وأن يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه وأن تطول المدة وأن لا ينازع في تلك المدة وأن يكون المدعى للملكية على الحائز حاضرا عالمًا بالغًا رشيدا وأن لا يمنعه من القيام مانع، ولهذا لا تنفع الحيازة إلا مع ادعاء الحائز الملكية وجهل أصل مدخله أما إذا تحققنا أن مدخله كان بوجه لا يقتضي الملكية كالعارية والإسكان ونحوهما فلا تنفعه الحيازة ولو طالبت حيازته جدًا.
ولتحقيق حال الشهادة عرفًا للحائز قسم فقهاء المالكية الحائز إلى أجنبي وقريب غير شديد القرابة، وقريب جدا وإصهار وجعلوا مدة الحيازة في الأجنبي عشر سنين وفصلوا بين أن يكون شريكًا فاشترطوا فيه أن يكون التصرف يشمل الهدم والبناء الكثير والغرس في الدار والأرض والاستغلال في غيرهما واكتفوا في التصرف بمثل السكنى وزرع الأرض إذا كان غير شريك، وإذا كان قريبًا غير شديد القرابة كالإخوان والأعمام والأخوال وأبنائهم وفي معناهم الأصهار والموالي، فإذا كان التصرف ضعيفًا كسكنى الدار وزراعة الأرض وعمارة الحانوت فلا تقبل دعوى الحائز للملكية لما حاز إلا مع طول المدة جدًا وهو ما زاد على أربعين سنة إن لم تكن بينهم عداوة وإلا كفى في حيازتهم عشر سنين كالأبعدين وإذا كان التصرف قويًا جدًا كالتفويت بالبيع والهبة والصدقة لم تشترط مدة، بل السكوت يوجب انقطاع الحق بانقضاء المجلس وإذا كان الحائز قريبًا جدًا كالأب مع أبنه أو العكس فلا يعتبر التصرف بمثل السكنى والازدراع ويعتبر بمثل التفويت بالبيع ونحوه واختلف هل يجوز كل منهما على صاحبه بالهدم والبنيان والغرس على قولين: قيل لا يجوز عليه بذلك إن ادعاه ملكًا لنفسه قال عليه في حياته أو بعد وفاته وهو قول مالك وقيل يجوز إن طال الأمد جدًا إلى ما تهلك فيه البينات وينقطع فيه العلم وهو قول ابن رشد والاختلاف في مقدار المدة المؤثرة ونوع التصرف المعتبر باختلاف صفة الحائز ودرجة قرابته، لأن العادة قاضية بالتسامح مع الأقارب ووصل رحمهم بمثل سكنى الدار والزرع للأرض والاعتمار للحانوت بخلاف التصرف بما هو أقوى من ذلك ولو قال القائم على الحائز ما علمت حتى الآن فقيل: لا يقبل قوله، وهو ما أفتى به ابن عرفة وأبو مهدي عيسى الغبريني وبفتواهما جرى العمل على ما حكاه الرصاع ونقله عظوم في البرنامج، وقيل يقبل قوله بيمينه وهو قول ابن سهل وغيره، وبه أفتى الرزلي فأدخل مشقة عظيمة على أهل القيروان إذ كثير من الناس يزهد في عقود أشرية البائع فيقوم على المشتري بعد طول، ويقول لا علم عندي إلا الآن وربما يضيع عقد الأصل. وفي الوثائق المجوعة لو قال: علمت بحقي ولم أجد ما أقوم به إلا الآن، قال العبريني: يقبل قوله سواء كانت البينة استرعاء أو غيره، وقال ابن ناجى: الصواب عندي أنه لا يقبل منه، لأنه كالمعترف بأن لا حق له مدعٍ رفعه، وإذا كان لا يقبل قوله في عدم علمه بحقه بأحرى أن لا يقبل مع اعترافه بعلمه وادعائه أنه لم يجد ما يقوم به.
__________
(1) قال الشيخ عظوم في الدكانة، الورقة 48(5/2453)
وفي مطالبة الحائز بوجه ملكه ثلاثة أقوال، الأول يطالب إذا أثبت المدعي الملكية أو أقر لها بها قال ابن فرحون في التبصرة نقلا عن ابن رشد: الذي مضى عليه العمل فيما أدركنا، وبه أفتى شيوخنا فيما علمنا أن من ادعى عقارًا بيد غيره رغم أنه صار إليه فيمن ورثه عنه أن المطلوب لا يسأل عن شيء حتى يثبت الطالب موت مورثه الذي ادعى أنه ورث ذلك العقار عنه فإذا ثبت ذلك وقف المطلوب حينئذ على الإقرار والإنكار خاصة. ولمن يسأل من أين صار إليه فإن أنكر وقال: المال مالي والملك ملكي ودعواك فيه باطلة اكتفي منه بذلك ولم يلزمه أكثر من ذلك، وكلف الطالب إثبات المالك الذي زعم أنه ورثه وإثبات موته ووراثته له، فإن أثبت ذلك على ما يجب سئل المطلوب حينئذ من أين صار إليه وكلف الجواب عن ذلك، فإن ادعى أنه صار إليه من غير مورث الطالب الذي ثبت له الملك لم يلتفت إليه ولا ينفعه إثباته أن أثبته، وإن ادعى أنه صار إليه من قبل موروث الطالب بوجه ذكره، كلف إثبات ذلك، فإن أثبته وعجز الطالب عن الدفع في ذلك بطلت دعواه، وإن عجز عن إثبات ذلك قضي عليه للطالب، هذا مذهب ابن القاسم رواه عن مالك في المدينة – القول الثاني يطالب ببيان وجه الملك – الثالث لا يكلف ببيان وجه ملكه مطلقا وهذا ما اقتصر عليه ابن سلمون وغيره وجرى به عمل فاس وهو الموافق لما يفعله القضاة عندنا بتونس إذ أن المنكر دعوى القائم إذا أجاب بملكيته للمحوز وحيازته لذلك المدة القاطعة، يكلف المجيب بإثبات الحيازة التي ادعاها لأن في إثباتها اختصارًا لمسافة الخصام، لأن الحيازة متى ثبتت عجز القائم عن الطعن فيها، يحكم باستحقاق الحائز للمدعي فيه، وبطلان دعوى القائم، ولا فائدة في تكليف القائم بإثبات بينة لا تسمح لثبوت الحيازة، أما عجز المطلوب المجيب بالإنكار عن إثبات الحيازة التي يدعيها فيعجز ويطلب القائم بالبينة المثبتة للتملك ويجري بعد ذلك ما نقل عن ابن رشد.(5/2454)
أنواع العرف
ينقسم العرف إلى صحيح وفاسد، فالفاسد لا يقول به أحد ولا يعتمد عليه، والعرف الصحيح ينقسم إلى ما يتعلق بالألفاظ أو يتعلق بالأفعال فالمتعلق بالألفاظ هو ما تعارف الناس على استعماله بحيث إذا نطق الإنسان باللفظ انصرف أولًا إلى هذه الحقيقة العرفية وابتعد عن الحقيقة اللغوية حيث صار منقولًا من المعنى الذي وضع له لغة إلى المعنى الثاني المصطلح عليه عرفًا بحيث يصبح هذا المعنى الثاني هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق والتجرد عن القرائن.
ويتكون هذا العرف من اتفاق الناس على هجران المعنى الأصلي وينتقل إلى المعنى الذي ينصرف إليه اللفظ بكثرة الاستعمال الشائع بينهم من غير قرينة حتى إن هذا الاستعمال يعتبر وضعًا جديدًا، وحقيقة عرفية حيث هو مستعمل فيما وضع له في عرف التخاطب وهذا ما عناه القرافي في فروقه في الفرق الثامن والعشرين بين العرف القولي والفعلي حيث يقول: العرف القولي أن تكون عادة أهل العرف يستعملون اللفظ في معنى معين ولم يكن ذلك لغة ونحن نرى أن لفظ الدينار كان يطلق في الأصل على عملة ذهبية مسكوكة بقيمة معينة محددة ووزن معين (وهو 3.60 جرامات وقد حدده بنك فيصل الإسلامي في السودان 6.457 جراما وهو الوسط المعقول ولا فرق بين الدينار والمثقال لكن الحنابلة ترى أن الدينار أصغر من المثقال) لكن هذا اللفظ هو الدينار إذا أطلق اليوم فإنما ينصرف إلى العملة الرائجة في البلد مهما كان نوعها ومهما كانت قيمتها وهي اليوم أوراق نقدية بعيدة كل البعد عن حقيقة الدينار الذهبي الأصلي.
وهذا معنى حقيقة عرفية أي جعله كثرة الاستعمال إذا أطلق اللفظ لا ينصرف إلا إليه، أما العرف العملي فهو الفعل الذي استمر الناس عليه بحسب الفطرة أو الاختصاص كاختصاص الرجل بالسلاح والمرأة بأدوات الزينة ونحوها، ثم كل من العرف القولي والعملي منه ما كان صحيحًا مقبولًا ومنه ما كان فاسدا مردودًا فأهل العرف إذا استعملوا قولًا في معنى من المعاني واشتهر ذلك بينهم بحيث إذا ذكر لا ينصرف إلا للمعنى المتعارف لديهم ككثير من مصطلحات أهل الصناعات – ومن العرف القولي ما هو عام كإطلاق لفظ الدينار، فإنه لا ينصرف إلا للعملة المتداولة بيننا، وهذا المعنى هو المتبادر للأذهان- أما ما كان في الأصل مما هو نقد ذهبي مسكوك موزون بوزن خاص لهذا المعنى قد تنوسي بكثرة الاستعمال في المتداول بين العموم وقد مثل له القرافي في الفرق الثامن والعشرين بالدابة التي وضعت لغة لكل ما يدب على الأرض ووقع نقلها للحمار بكثرة الاستعمال حتى صارت حقيقة عرفية عامة وبلفظ الغائط للنجو، ثم جعله قسمين ما يكون في المفردات كالدابة وما يكون في المركبات وهو أدق في الفهم وأبعد عن التفطن وضابطها أن يكون شأن الوضع العرفي تركيب لفظ مع لفظ يشتهر في العرف تركيبة مع غيره ومثل له بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} وقوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} .(5/2455)
إذ التحليل والتحريم ينصبان على الأفعال لا على الذوات كالأكل وفي الميتة والدم ولحم الخنزير والشرب للخمر والاستمتاع للأمهات والبنات.
وخرج على هذا قوله صلى الله عليه وسلم ((ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)) ، ومعلوم أن الأعراض والأموال لا تحرم وإنما يحرم ما يضاف إليها كسفك الدماء وأكل الأموال وثلب الأعراض، وخرج على هذا جميع الأحكام التي أضيفت إلى الذوات أي كانت من باب المجاز العقلي وهو إسناد الفعل إلى غير من هو له يتول، قال: إن كثرة الاستعمال صيرته موضوعًا في العرف للتعبير عن تحريم الأفعال المضافة إلى هذه الذوات، ثم عطف على هذا القسم أفعالًا هي ليست بأحكام وإنما هي أخبار قد خصصها العرف كقولهم: أكلت رأسًا فقد صار لا يطلق إلا على رأس الأغنام وهو لغة يشمل كل رأس قال: ومن هذا القبيل ما اشتهر في مصر من قولهم: قتل زيد عمرًا يريدون ضربه، وفلان يعصر خمرًا وهي لا تعصر وإنما العنب الذي يعصر، فهذا ونحوه مجاز في التركيب بالنسبة للغة وحقيقة عرفية منقولة للمعنى الخاص بالعرف والعادة ومنه أيضًا طحن الدقيق وقتل فتيلًا، لأن المقتول لا يقتل المطحون لا يطحن إذ تحصيل الحاصل من المحال ولكنه كلام صحيح في العرف والعادة إذ لا يتصور إلا لقتل الحي وطحن الحب، وهذا ما يعبر عنه بالحقائق العرفية في المفردات والمركبات وبهذا يفرق بين المجاز في المفرد والمركب بين الحقيقة العرفية فيهما، ثم بين القرافي أن النقل العرفي مقدم على الموضوع اللغوي، لأنه نساخ له والناسخ مقدم على المنسوخ وهذا ما يعنونه قولهم: الحقائق العرفية مقدمة على الحقائق اللغوية.
ثم تكلم القرافي على العرف الفعلي مبينا أنه وضع اللفظ لمعنى يكثر استعمال أهل العرف لبعض أنواع ذلك المسمى دون بقية أنواعه كلفظ الثوب صادق على ما كان من الكتان أو القطن أو الحرير أو الوبر أو الشعر لكن أهل العرف استعملوه فيما كان من الأنواع الثلاثة الأول دون الأخيرين، فهذا عرف فعلي وكذلك لفظ الخبز يصدق لغة على خبز الفول والحمص والبر والشعير وغيرهما إلا أن العرف استعمله في البر لا غير من أغذيتهم فوقوع الفعل في نوع وانصراف المعنى إليه بخصوصه هو الحقيقة العرفية ولهذا قلنا ترك مباشرة المسميات لا يخل بالوضع اللغوي وغلبه استعمال لفظ المسمى في غيره ونقله يخل، وهذا هو تحرير العرف القولي وتحرير العرف الفعلي.(5/2456)
وأن العرف القولي يؤثر في اللفظ اللغوي تخصيصًا وتقييدًا وإبطالًا وأن العرف الفعلي لا يؤثر في اللفظ اللغوي تخصيصًا ولا تقييدًا ولا إبطالًا لعدم معارضة الفعل وعدمه للوضع اللغوي.. ومعارضة غلبة استعمال اللفظ في العرف للوضع اللغوي، وقد حكى جماعة من العلماء الإجماع في أن العرف الفعلي لا يؤثر في وضع اللفظ للجنس بخلاف العرف القولي، قال القرافي: ورأيت المازري في شرح البرهان نقل خلافًا في ذلك، قال القرافي: وفيه نظر والظاهر حصول الإجماع فيه، قال القرافي: ولم أر أحدًا جزم بحصول الخلاف فيه. وما ذكره بعضهم مما أوجب شكا وترددًا فهو على التأويل وأنه لا تناقض بين نقل الإجماع في المسألة وبين هذه المثل التي أدخلت الشك والتردد، ولقد أوضح الفرق بين العرف القولي والفعلي بأربعة مسائل؛ الأولى إذا فرضنا ملكا أعجمًا يتكلم بالعجمة وهو يعرف اللغة العربية غير أنه لا يتكلم بها لثقلها عليه فحلف لا يلبس ثوبًا ولا يأكل خبزًا وكان حلفه بهذه الألفاظ العربية التي تجري عادته باستعمالها وعادته في غذائه لا يأكل إلا خبز الشعير ولا يلبس إلا ثياب القطن، فإنا نخنثه بأي ثوب لبسه وبأي خبز أكله، سواء كان من معتاده في فعله أم لا وهذا إذا لم تجر له عادة باستعمال اللغة العربية لأنه لو كانت له عادته استعمال اللغة العربية لكان طوال أيامه يقول أكلت خبزًا أو ائتوني بخبز وعجلوا بالخبز والخبز على المائدة قليل ونحو ذلك ولا يريد في هذا المنطق كله إلا خبز الشعير الذي جرت عادته به فيصير له في لفظ الخبز عرف قولي ناسخ اللغة فلا نحنثه بغير خبز الشعير وكذلك القول في ثوب القطن بخلاف إذا كان لا ينطق بلفظ الخبز والثوب إلا على الندرة فإنه لا يكون له في اللفظ اللغوي عرف مخصص يقدم على اللغة فيحنث بعموم المسميات اللغوية من غير تخصيص ولا تقييد. اهـ.
وتعقبه ابن الشاط فوافق على تقرير القاعدة وخالفه في حكم المثال، وقال: لا تسلم تحنيثه، بل اقتصاره على أكل خبز الشعير ولبس ثياب القطن مقيد لمطلق اللفظ ويكون هذا من قبيل بساط الحال، إذ الأيمان إنما تعتبر بالنية، فإن لم تكن نية فببساط الحال، فإذا عندما حينئذ اعتبرت بالعرف، فإن لم يكن عرفًا فباللغة.
المسألة الثانية التي ذكرها القرافي: إذا حلف لا يأكل رؤوسًا يحنث بجميع الرؤوس عند ابن القاسم ولايحنث إلا برؤوس الغنم عند أشهب، والقولان مبنيان على أن أهل العرف قد نقلوا هذا اللفظ المركب أكلت رؤوسا لأكل رؤوس الأنعام دون غيرها بسبب كثرة الاستعمال لهذا المركب في هذا النوع خاصة دون بقية أنواع الرؤوس، فهذا مدرك أشهب فيقدم العرفي على الوضع اللغوي وابن القاسم يسلم استعمال أهل العرف لذلك، لكن لم يصل الاستعمال عنده إلى هذه الغاية الموجبة للنقل، فإن الغلبة قد تقصر عن النقل ألا ترى أن أهل العرف يستعلمون لفظ الأسد في الرجل الشجاع استعمالًا كثيرًا، ولم يصل ذلك إلى حد النقل، فإنه لا يفهم منه الرجل الشجاع إلا بقرينة، وضابط النقل أن يصير المنقول إليه هو المتبادر الأول من غير قرينة وغيره هو المفتقر إلى القرينة، فهذا هو مدرك القولين فاتفق أشهب وابن القاسم على أن النقل العرفي مقدم على اللغة إذا وجد واختلفا في وجوده هنا فالكلام بينهما فيتحقيق المناط.(5/2457)
المسألة الثالثة: إذا حلف بأيمان المسلمين تلزمه فحنث فمشهور فتاوى الأصحاب على أنه يلزمه كفارة يمين وعتق رقبة إن كان عنده وأن كثروا، وصوم شهرين متتابعين والمشي إلى بيت الله في حج أو عمرة وطلاق أمراه، واختلفوا هل هي واحد أو ثلاث والتصدق بثلث ماله ولم يلزموه اعتكاف عشرة أيام ولا المشي إلى مسجد الرسول ولا لبيت المقدس ولا الرباط في الثغور الإسلامية ولا تربية اليتامى ولا كسوة العرايا ولا إطعام الجياع ولا شيء من القربات غير ما تقدم ذكره، وسبب ذلك أنهم لاحظوا ما غلب الحلف به في العرف فيقدم على المسمى اللغوي ويختص حلفه بهذه المذكورات دون غيرها لأنها المشتهرة – ولفظ الحلف والأيمان إنما تستعمل فيها دون غيرها. وليس المدرك أن عادتهم يفعلون مسمياتها وإنما يصومون شهرين أو يحجون أو غير ذلك من الأفعال، بل لغلبة استعمال الألفاظ في هذه المعاني دون غيرها ولأجل ذلك صرحوا بأن من جرت عادته بالحلف بصوم لزمه صوم سنة، فجعلوا المدرك الحلف اللفظى دون العرف الفعلي، فهذا هو مدرك هذه المسألة على التحرير والتحقيق. قال القرافي وبناء على هذا لو اتفق في وقت آخر اشتهار حلفهم ونذرهم للاعتكاف والرباط وإطعام الجيعان وكسوة العريان دون ما تقدم لكان اللازم لهذا الحالف إذا حنث الاعتكاف وما ذكر معه دون ما هو مذكور قبله لأن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها وجودًا وعدمًا تدور كيف دارت وتبطل معها إذا بطلت كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات، فلو تغيرت العادة في النقد والسكة التي تحددت العادة بها دون ما قبلها، وكذلك إذا كان الشيء عيبا في الثياب في مادة رددنا به المبيع فإذا تغيرت العادة وصار ذلك المكروه محبوبًا موجبًا لزيادة الثمن لم ترد به، قال القرافي: وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه، نعم قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا؟ وعلى هذا القانون يجب أن تراعى الفتاوى، فمهما تجدد العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه وبين أنه لا يلزم العالم أن يجمد على المسطور في الكتب وأنه إذا جاءك ممن ليس من أهل البلد يستفتيك لا تفته على عرف بلدك، بل اسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك. والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح الذي يجب اتباعه والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، قال القرافي: وعلى هذا تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات فقد يصير ما كان صريحًا كناية وما كان كناية صريحًا مستغنيًا عن النية.(5/2458)
المسألة الرابعة: إذا قال أيمان البيعة تلزمني فتخرج ما يلزمه على هذه القاعدة وما جرت به العادة في الحلف عند الملوك المعاصرة إذا لم تكن له نية، فأي شي جرت به عادة ملوك الوقت في التحليف به وبيعتهم، واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفًا ومنقولًا متبادرًا للذهن من غير قرينة على القانون المتقدم حمل يمينه عليه، فإن لم يكن كذلك اعتبرت نيته أو بساط يمينه، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه (1) .
وتعقبه سراج الدين أبو القاسم قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط في حمل اليمين على العرف، ثم على النية، ثم على البساط، وقال فيه نظر لأنه لا يخلو أن يترتب على يمينه تلك حكم أو لا يترتب، فإن لم يترتب عليها حكم فالمعتبر النية، ثم السبب أو البساط، ثم العرف، ثم اللغة وإن ترتب عليها حكم فالمعتبر العرف، ثم اللغة لا غير، والله أعلم (2)
قال القرافي القاعدة أن كل متكلم له عرف في لفظه فإنما يحمل لفظه على عرفه، فإذا صدر اللفظ من حالف أو واقف أو موص أو مقر، فإنما يحمل لفظه على عرفه الذي عاد فيه التكلم به فهو خاصة أو أهل بلده عامة بناء على القاعدة أن من له عرف، فإنه يتبع في حقه وكذلك إذا اختلفت العوائد الناقلة للغة حمل لفظ أهل كل عادة على عادتهم دون عادة غيرهم – ثم قال: وإنما يحمل لفظ صاحب الشرعي على العرفي دون اللغوي إذا علم مقارنته تلك العادة لزمن الخطاب، أما لو تأخرت فلا، بل تتعين اللغة، فإن الصارف عنها منتف حالة التكلم، وكذلك القول في كل متكلم يشترط في حمل لفظه على العادة مقارنة تلك العادة كتلفظه. اهـ (3) .
ولما للعادة والعرف من أثر في الأحكام جاء في كتاب العمليات الفاسية في المقدمة من المعلوم عند الخاصة والجمهور أن أقوال المذهب منها المأخوذ به ومنها المهجور وأن جريان العمل بالقول موجب تقديمه على المشهور وجب أن يكون البحث عن القول المعمول به من أجل الأمور التي فيها مزيد الثواب وكثرة الجور وأن وجوده من أعظم الفوائد وتوقيف القضاء عليه يعدل الإتحاف بسني الفرائد وقد مكثت زمانًا أبحث عن ذلك جهدي وأستخرج من غضون الدفاتر ما قرب به عهدي كلما وجدت ذكر العمل بالقول في مسألة أصبتها قيدتها في صحف معدة لذلك وكتبتها ولم أزل على ذلك مدة مديدة حتى جمعت مسائل عديدة كانت الرغبة مني في جمعها شديدة، ثم صارت الحاجة إلى نظمها بعد الجمع أكيدة لكون النظم على صونها أعون وعلى دوائم حفظها أهون، ثم شرحها وزاد عليها قدر شطرها (4) .
__________
(1) الفروق للقرافي الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي والعرف الفعلي: 1 /217 – 225
(2) إدراك الشروق على أنواء الفروق بهامش الفروق: 1 /224
(3) المسألة الرابعة من الباب السابع من نفائس الأصول وشرح المحصول للقرافي خط: 1 /488.
(4) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد المشتهر بالعمليات الفاسية، لابن عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن عبد الجليل الفلالي السجلماسي، ط1 سنة 1290هـ(5/2459)
بين الحقيقة العرفية والمجاز:
إن العرف القولي هو في الحقيقة من قبيل المجاز اللغوي إذا احتاج فهم المعنى المقصود إلى قرينة أو علاقة عقلية، فإذا استغنى عن هذه الملاحظة وعلى هذه العلاقة العقلية بكثرة الاستعمال حتى صار يتبادر المعنى الثاني إلى الذهن وصار المعنى اللغوي كالمهجور كان ذلك من قبيل الحقيقة العرفية وإلا فهو مجاز لغوي أن كان في المفردات أو مجاز عقلي أن كان في المركبات فمن رأيته يجري وراء غيره وبيده عصا وهو يصيح لأقتلنك فلا شك إنه يفهم من هذه القرينة الحالية أن مراده الضرب المؤلم.
ولو وقفت أمام متعاقدين وسمعت أحدهما يقول وهبتك هذا الثوب بعشرة دنانير، فلا شك أنك تفهم من ذلك البيع لا الهبة ذلك أن الهبة تكون بغير مقابل فقوله بعشرة دنانير قرينة مانعة من حمل اللفظ على حقيقته وحمله على مجازه وهو البيع، وكما لو قال الحاكم حكمت المحكمة على فلان بكذا، فإن المحكمة وهي البناية لا تحكم، وإنما الذي يحكم هو الحاكم فنسبة الحكم إليها من باب إسناد الفعل إلى غير من هوله وذلك هو المجاز العقلي، ومثله فتح الأمير البلاد وإنما الفاتح جنده، فهذه الاستعمالات كلها من قبيل المجاز إذ هي قائمة على قرائن لفظية أو حالية مانعة من حمل اللفظ على ظاهره وليست من الحقائق العرفية في شيء.
أما العرف الفعلي وهو ما يعبر عنه بالعرف المعنوي فهو ما اعتاده الناس في حياتهم وتعودت به أنفسهم وقد عرفها القرافي في تنقيحه فقال: العادة غلبة معنى من المعاني على الذهن، وقد تعم جميع الأقاليم كحاجة الناس إلى الغذاء والتنفس في الهواء، وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود والعيوب وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالآذان للمسلمين والناقوس للنصارى فهذه العادة يقضي بها عندنا. اهـ (1)
ومن هذا الوادي اختلاف الزوجين في متاع البيت مما جرت العادة أن يملكه الزوج كالرمح والسيف قضي به له وما اختص بالزوجة كالفرش والوسائد وأدوات التجميل قضي به لها (2) .
__________
(1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد المشتهر بالعمليات الفاسية، لابن عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن عبد الجليل الفلالي السجلماسي، ط1 سنة 1290هـ.
(2) تبصرة القضاء والاخوان في وضع اليد وما يشهد له من البرهان، للشيخ حسن العدوي: 181(5/2460)
فالعرف العملي هو اعتياد الناس أفعالًا في حياتهم وجريان معاملاتهم المدنية عليها في حياتهم اليومية وتبادلهم المصالح وتصرفاتهم في عقودهم وبيوعاتهم وأنكحتهم ويدخل في ذلك عطلهم وأعيادهم وكل ما جرى عليه عملهم على حسب جهاتهم وعاداتهم فلو اعتادت جهة من الجهات أو البائع هو الذي يوصل البضاعة إلى بيت المشتري، كان ذلك على البائع، ولو أعتادوا أن الصداق يدفع شطرة عاجلًا وشطره آجلًا أو أن أجر العمال يدفع أقساطًا على رأس كل شهر، وكانت هذه العقود مطلقة قيدها العرف لأن المعروف كالمشروط وأعراف الناس العملية كثيرة لا تحصى والعمل فيها على ما جرى به العرف والعادة (1) .
وينقسم العرف القولي والعملي إلى عام وخاص.
فالعرف العام هو الذي يكون عامًا فاشيًا في جميع البلاد الإسلامية بين غالب الناس في أي أمر من الأمور وقد عرفه ابن عابدين بقوله: هو ما تعارفه عامة أهل البلد سواء كان قديمًا أو حديثا (2) ، وعرفه ابن فرحون بقوله غلبة معنى من المعاني على جميع البلاد (3) .
وهذا النوع من العرف ينتظم كثيرًا من الظواهر الاجتماعية المنتشرة في العالم كالاستصناع، فإن الناس محتاجون إليه في كل زمان لا يخلو يوم من التعامل به في كل مكان حتى أصبح جاريًا في كل الحاجيات كالبيع بالمعاطاة وتأجيل جانب من المهر ونكاح التعويض في بعض الجهات وتقسيم الصداق إلى معجل ومؤجل واعتبار الأدوات الضرورية للسيارات والدراجات، وكألفاظ تعارف الناس على أنها لإزالة العصمة في المنكوحات وتحديد الركاب في الطيارات واستهلاك الماء المجهول في الحمامات واعتبار وضع اليد دليلًا على الملكية في الحيازات إلى غيرها مما لا يحد ولا يحصى كثرة مما هو معلوم لدى الخاصة والعامة.
وبخلافه العرف الخاص، ببلد أو فرقة أو جماعة أو من فئة من أهل الاختصاصات، فهذا العرف متنوع متعدد لا تحصى صوره لأن مصالح الناس واحتياجاتهم وعلاقاتهم متجددة متنوعة حسب نوع الاختصاص، فللتجار أعرافهم وللمحامين أعرافهم وللأطباء أعرافهم وهكذا فيما هو عيب مما ليس بعيب عند التجار وتقدير الأجور عند المحامين والعدول وتعليقها على نجاح الأمور، ومعلوم توصيل الركاب ونقلهم من محطة إلى محطة ومن جهة إلى جهة وتعارف التقسيط في نوع من البيوع وتأجير الغرف في السناد وألفاظ الواقفين وعباراتهم والوصايا والأيمان وما إليها، كل هذا من قبيل العرف الخاص.
__________
(1) المدخل الفقهي العام: 2 /847
(2) نشر العرف، بناء بعض الأحكام على العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /139.
(3) التبصرة: 2 /57(5/2461)
وقد قسم محمد بن يحيى الولاتي الشنقيطي العرف إلى قسيمن الأول: عرف الشارع القولي كغلبة استعمال الصلاة في الأركان المخصوصة في العرف الشرعي، حيث نقل الشرع لفظ الصلاة من مطلق الدعاء إلى العبادة التي تفتتح بتكبيرة الإحرام وتختم بالسلام، وقد صار لفظ الصلاة إذا أطلق لا ينصرف إلا للمعنى الثاني وأصبح المعنى اللغوي مهجورًا.
القسم الثاني: عرف الشارع الفعلي كالأذان حيث صار علامة عرفية على دخول وقت الصلاة في عرف الشرع ذلك أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه، كما يقوله تقي الدين ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام شرح عمدة الحكام (1) ، ولا شك أن الشارع حينما يخاطب يتعين حمل كلامه على المعاني الشرعية إذ ذلك هو عرفه وإن كان قد مانع بعضهم في العرف الشرعي واعتبره داخلًا ضمن العرف الخاص لكن المحققين من الأصوليين أثبتوا الحقائق الشرعية، فقد نقل القرافي في تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الفصل السابع في الفرق بين الحقيقة والمجاز (2) : أن للحقيقة الشرعية تفسيرين، الأول: أن يقال إن حملة الشرع غلب استعمالهم للفظ الصلاة في الأفعال المخصوصة حتى بقي اللفظ لا يفهم منه إلا هذه العبادة المخصوصة وهذا لا نزاع فيه، والثاني: أن يقال أن صاحب الشرع وضع هذه الألفاظ لهذه العبادات وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال: قال القاضي أبو بكر الباقلاني لم يضع صاحب الشرع شيئًا، وإنما استعمل الألفاظ في مسمياتها اللغوية ودلت الأدلة على أن تلك المسميات اللغوية لا بد معها من قيود زائدة حتى تصير شرعية، وقالت المعتزلة: بل تجددت هذه العبادات كمولود جديد يتجدد فلا بد له من لفظ يدل عليه، وقال الإمام فخر الدين وطائفة معه ما استعمل في المسمى اللغوي ولا نقل، بل استعمل اللفظ في خصوص هذه العبادات على سبيل المجاز، لأن الدعاء الذي هو أصل الصلاة لغة جزء الصلاة الشرعية، لأن فيها دعاء الفاتحة ويبعد غاية البعد أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) أن يكون مراده الدعاء من حيث هو دعاء. وزاد في نفائس الأصول في شرح المحصول يبين أن الوضع له ثلاثة معان جعل اللفظ دليلًا على المعنى كتسمية الولد زيدًا ومنه تسمية اللغات ووضعها ويقال الوضع على غلبة الاستعمال للفظ في المعنى حتى يصير أشهر من غيره، وهذا هو وضع الحقائق الثلاث الشرعية كالصلاة للفعل المخصوص والعرفية العامة كالدابة للحمار والعرفية الخاصة كالجوهر والعرض عند المتكلمين، ويقال الوضع على مطلق الاستعمال ولو مرة واحدة وهو قولهم من شرط المجاز الوضع أي سمع منهم مرة واحدة التجوز لذلك النوع من المجاز ولم يسموا مطلق الاستعمال وضعًا إلا في هذا الوضع (3) ,
__________
(1) أحكام الأحكام: 1 /177
(2) تنقيح الفصول بهامش حاشية ابن عاشور: ص 46
(3) نفائس الأصول في شرح المحصول، للقرافي- خط: 1 /340(5/2462)
العرف المعتبر في اصطلاح الفقهاء:
إن العرف المعتبر في الاصطلاح هو ما استقر في النفوس من جهة العقل وتلقته الطباع السليمة بالقبول ولم يعارضه نص شرعي فخرج بقيد ما استقر في النفوس ما حصل ندرة ولم يجر في عادة الناس، فهذا لا يعد عرفًا، وبقيد من جهة العقول خرج ما استقر في النفوس من جهة الأهواء والميولات والشهوات فمن اعتاد شرب المسكرات واللعب بالأوراق وارتكاب أنواع الفجور والموبقات لا يعد ذلك من العرف في شيء، كذلك ما استقر في النفوس لسبب خاص كاللكنة الخاصة بسبب اختلاط العجم بالعرب وكتفاؤل قوم أو تطيرهم من بعض الأعمال لاقترانها مصادفة بنفع أو ضر كما تعارف ذلك عند العرب في الجاهلية فهذا لا يعد عرفًا أيضًا في الاصطلاح (1) وهذا التعريف يفارق التعريف اللغوي للعرف، لأنه في اللغة يطلق على كل ما تتابع الناس فيه بعضهم ببعض لا فرق بين أن يكون مصدره العقل أو الغريزة أو مجرد الصدفة والاتفاق. وأما القيد الأخير وهو أن لا يعارض بنص شرعي، فذلك لأن العقل يخطئ ويصيب وليس كل ما حسنه العقل هو حسن ولا كل ما قبحه العقل قبيح خلافًا للمعتزلة إذ الحسن عند أهل السنة ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع، ومسألة التحسين والتقبيح العقليين مسألة تداخلت فيها الأنظار واختلف فيها أهل المعرفة الذين إليهم يشار ومنهم من سلك فيها مسلك الإفراط ومنهم من اتبع طريق التفريط، وقد سلك الشيخ محمد جعيط مسلكًا وسطًا بين الطريقتين في رسالة ألفها سماها زبدة التحصيل والتنقيح في مسألة التحسين والتقبيح (2) .
ولكي يصبح للعرف قوة الالتزام والاعتبار اشترط الفقهاء شروطًا لا بد من توافرها فيه، إذ ليس كل عرف يصلح أن تبنى عليه الأحكام الشرعية كما قدمنا، وليس كل عرف لغوي دليلًا يرجع إليه الفقيه كلما أعوزه النص من الكتاب والسنة، وهذه الشروط هي أولًا الاطراد والغلبة ومعناه أن يكون العمل به جاريًا بين متعارفيه في جميع الحوادث، ولذلك قالوا: لا تعتبر العادة إلا إذا اطردت أو غلبت وانبنى على هذا الشرط أن لو باع أحد بنقود (بعشرين) ولم ينص على النقد، فإن العقد ينصرف إلى النقد المتعارف في ذلك البلد، فإذا تعدد النقد انصرف إلى الأغلب لأن الأغلب هو المتعارف فينصرف المطلق إليه ويلغي في هذه الحالة العرف المشترك ولا يعمل به ولا تبنى عليه الأحكام، جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي إنما تعتبر العادة إذا اطردت فإن اضطربت فلا، وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف، وكذلك لو غلبت المعاملة بجنس من العروض أو نوع منه انصرف الثمن إليه عند الإطلاق في الأصح (3) .
__________
(1) العرف والعادة، للشيخ أحمد فهمي أبي ستة: ص9
(2) ضمن هذه الرسالة حاشية المسماة منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح: 1 /313-348.
(3) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 65.(5/2463)
فإذا تساوت العادات أهملت ولا يعمل بواحدة منها فلو جرى ببلد أن الأب يجهز ابنته من ماله الخاص، كما جرت العادة بأن ما يجهز ابنته به يعتبر عارية وبعد أن زفت الزوجة بهذا الجهاز إلى بيت الزوجية اختلفا فادعى الأب أنها عارية، وادعى المنازع أنه تمليك والعادة في البلد واقعة بهما، ولم تكن بينة تثبت ما ادعاه أحدهما فلا يكون هذا العرف المشترك دليلًا ولا حجة لأحد الخصمين نظرًا لتعارضهما ولو أخذ بأحد العادتين لكان ترجيحًا بلا مجرح وهو تحكم (1) ، فلذا لا يبنى الحكم على هذا العرف ويرجع إلى الأصل، والأصل يشهد للأب لأنه المعطي وهو أدرى بحقيقة ما أعطاه، وإنما يقدم العرف على الأصل إذا تعارض الأصل والعرف، أما إذا سقط العرف لمعارضته بما يماثله رجعنا إلى الأصل، فكان الأب مدعى عليه لأن من شهد له أصل أو عرف كان مدعى عليه فإن شهد لأحدهما الأصل وللآخر العرف كان من شهد له العرف هو المدعى عليه ولدقة تحقيق المناط وتطبيق القواعد على جزئياتها صعب أمر القضاء، وكان علم القضاء أخص من فقه القضاء (2) وإنما قدم العرف على العادة لأنها قاصرة عن العرف إذ يلزم لقيامه توافر الركنين المادي والمعنوي في حين أن العادة يكفي فيها توفر الركن المادي والعادة وإن كانت معتبرة لكنها لم تصل إلى العرف الذي بلغ إلى درجة الإلزام والعادات لا تلزم الأفراد إلا إذا اتفقوا عليها وانصرفت إرادتهم إلى التقيد بها صراحة أو ضمنًا (3) .
وندرك أنه لا يلزم من العمل بالعرف المخالف للنص ترك النص؛ فالعمل بالمتعارضين أولى من ...
واختلف في العادة هل هي كشاهدين فلا يمين معها أو كشاهد يحتاج معها إلى يمين والمشهور توجيه اليمين إن كان للمدعى فيه نزاع غير من احتج بالعادة فتجب اليمين على المحتج بها، فإن لم يكن منازع فلا يمين قاله صاحب الدكانة عظوم وانتزعه من تعليل القرطبي (4) وابن عرفة عدم توجه اليمين على صاحب اللقطة بعدم منازع له فيها، قال الشيخ الوالد رحمه الله: وما ذكره عظوم غير مطرد ينتقض بمسألة ما إذا زوج ابنه البالغ وهو ساكت حتى إذا فرغ أنكر بحدثان ذلك، فإنه يستحلف أنه لم يرضَ فإن نكل لزمه النكاح وكان عليه نصف الصداق (5)
والخلاف في لزوم النكاح للناكل مبني على الخلاف في أن العادة هل هي كالشاهد أو كالشاهدين، فإن قلنا كالشاهدين لزم النكاح بنكوله وعليه نصف الصداق، وإن قلنا كالشاهد لم يلزمه وقد بسط المسألة شراح العمليات الفاسية عند قول الناظم ومن تحمل عن ابنه النكاح (6)
__________
(1) سلم الأصول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: ص 247
(2) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية، للشيخ محمد العزيز جعيط: ص 44
(3) مقاصد الشريعة الإسلامية، لعلال الفاسي: ص 153
(4) هو أحمد بن عمر الأنصاري الأندلسي القرطبي يعرف بابن المزين وممن أخذ عنه القرطبي صاحب التفسير والتذكرة.
(5) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية وما جرى به العمل في الأقطار التونسية على مذهب السادة المالكية: ص 51.
(6) العمليات الفاسية: 1 /11.(5/2464)
ولا يلزم من اطراد العرف أو غلبته أن يكون عامًا بين جميع الناس، لأن عموم العرف غير اطراده (1) ، فقد يكون العرف منتشرًا عامًا في جميع البلاد وقد يكون خاصًا ببلد معين أو خاصًا بأهل مهنة معينة أو أهل حرفة مخصوصة دون سواها فيكون معروفًا من جميع أهل تلك الحرفة غير مقتصر على عدد منهم وهذا ما يسمى بالعرف الخاص فهو عام بين أهل تلك الصناعة معروف لدى الأغلبية الساحقة من أهل تلك الصناعة كأهل التجارة أو الزراعة وأي مهنة من المهن ويطلق عليه عرف مهني أو طائفي أو إقليمي (2) ، والعرف أعم من أن يكون عامًا أو خاصًا فيشترط لاعتباره وتحكيمه في المعاملات المطلقة أن يكون في محيطه مطردًا أو غالبًا على أعمال أهله (3) .
وندرك من وراء ذلك أن المراد من العموم إنما هو عمومه في المكان الذي يقع فيه أو عمومه في الأشخاص الذي صدر عنهم العمل بمقتضاه كالعرف الصناعي والعرف المهني، فإن اختل هذا الشرط سقط عن الاعتبار فلا يكون ملزمًا وينزل عن درجة العرف الملزم إلى درجة العادة التي لا تلزم إلا إذا اشترطها المتعاقدان إذ لا تصلح أن يكون مستندًا أو دليلًا للرجوع إليها في تحديد الحقوق والواجبات المطلقة، كما فصلناه سابقًا، وقد قال القرافي في الأحكام: لا يكفي في الاشتهار كون المفتي يعتقد ذلك لأن ذلك نشأ من دراسة المذهب وقراءته والمناظرة عنه، بل الاشتهار أن يكون أهل ذلك لا يفهمون عند الإطلاق إلا ذلك المعنى (4) ولهذا اعتبرنا من شرط العادة أن تكون عرفًا الاطراد والغلبة فلا يكون عرفًا إذا كان لا يعرفه إلا الخواص من أهل المعرفة.
الشرط الثاني لاعتبار العرف دليلًا يصار إليه أن لا يكون مخالفا لنص شرعي إذ هو لا يقوى قوة النص وقد جاء في المبسوط كل عرف ورد النص بخلافه فهو غير معتبر (5) .
قال ابن عابدين في نشر العرف: لأن العرف قد يكون عن باطل بخلاف النص، كما قال ابن الهمام، وقد قال في الأشباه: العرف غير معتبر في المنصوص عليه، قال في الظهيرة من الصلاة وكان محمد بن الفضل يقول: السرة إلى موضع نبات الشعر من العانة ليس بعورة لتعامل العمال في الإبداء عن ذلك الموضع عند الاتزار وفي النزع عن العادة الظاهرة نوع حرج وهذا ضعيف وبعيد لأن التعامل بخلاف النص لا يعتبر. انتهى بلفظه (6) .
__________
(1) المدخل الفقهي العام: 2 /875
(2) المدخل للعلوم القانونية، لتوفيق فرج: ص 132
(3) المدخل الفقهي العام: 2 /875
(4) الأحكام في تمييز الفتاوى والأحكام: ص 71
(5) المبسوط، للسرخسي: 12 /196
(6) نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف – مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /115(5/2465)
وهذا يعني أنه إذا أثبت العرف حكمًا مخالفًا لما أثبته النص يعمل بالنص ويترك العرف المخالف ولا يعتد به، لأن النص أقوى من العرف ولا يترك الأقوى بالأضعف، فإذا كان العرف مخالفًا للنص من كل وجه حيث لو عمل به لزم منه ترك النص وعدم العمل به؛ مثل تعارف الناس كثيرًا من المحرمات شرعًا كتعاملهم بالربا واعتيادهم لعب القمار وتناول المسكرات وغير ذلك من كل المحرمات بالنص، فإن ما جرى به العرف واعتاده الناس لا ينقل الحكم الشرعي من الحرمة إلى الحلية، نعم إذا لم يكن العرف مخالفًا للنص من كل وجه ولا مبطلًا للحكم الذي أثبته النص، كما إذا كان النص الشرعي عامًا والعرف خاصًا كأن يخالفه في بعض أفراده، فإذا يعمل بهما ويكون العرف مخصصًا لذلك الحكم العام الذي ورد به النص وتخصيص العام وتقييد المطلق ليس نسخًا لحكم الأصل ومن أمثلة ذلك أن الفقهاء اشترطوا في محل العقد أن يكون المعقود عليه موجودًا وقت التعاقد، فقالوا بعدم صحة التعاقد على معدوم كبيع الزرع قبل ظهوره لاحتمال عدم نباته ولاحتمال عدم الوجود كبيع الحمل في بطن أمه وبيع اللبن في الضرع وبيع اللؤلؤ في الصدق أو العقد على مستحيل الوجود في المستقبل كالتعاقد مع طبيب على علاج مريض توفي، فهذه العقود كلها باطلة، وذلك لما ورد من نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة، والمضامين في أصلاب الإبل والملاقيح، ونهي ما في بطون النوق ونهيه عن بيع ما ليس عندك لأن البيع فيها وقت التعاقد معدوم وقد استثنى الفقهاء من هذه القاعدة العامة في منع التصرف بالمعدوم عقود السلم والإجارة والمساقاة والاستصناع مع عدم وجود المحل المعقود عليه حين إنشاء العقد، وذلك استحسانًا ومراعاة لحاجة الناس وتعارفهم على ذلك وإقرار الشرع لهذه العقود، فقد ثبت في السنة تشريع المساقاة والمزارعات والإجارات وقرر الاستصناع مع أنه مستثنى من بيع المعدوم، وندرك أنه لا يلزم من العمل بالعرف المخالف للنص ترك النص؛ فالعمل بالمتعارضين أولى من إلغاء أحدهما، فيبقى النص عاملًا في عمومه ومستثني منه ما وقع استثناؤه وذلك معنى تخصيص العام، أما إذا تعارض العرف مع النص من كل الوجوه تعين ترك العرف والعمل بالنص؛ لأن العرف لا يقوى على إلغاء النص وإهداره، ولهذا لما جاء الإسلام ألغى كثيرًا مما كان متعارفًا عند العرب وجرت عليه عاداتهم في حرمان النساء من الميراث واعتبار الظهار طلاقًا ونحوها مما جرت عليه عاداتهم في الجاهلية (1) .
وقد استثنى بعضهم العرف التجاري باعتبار أن العرف التجاري هو تقنين للعادات التي اصطلح عليها التجار فيما بينهم، ورد ذلك بأنه لا يخرجه عما تعارفه الناس فيلزم أن لا يتعارض مع النصوص الشرعية.
__________
(1) فلسفة التشريع، لصبحي محمصاني: ص 269، ومبادئ الثقافة الإسلامية، لفاروق النبهان: ص 272(5/2466)
وخلاصة القول: إن الأعراف المعتبرة هي التي توافق الدلة الأصولية المعتبرة، أما ما ورد على خلافها وجاء معاكسًا لمقاصد الشريعة وغاياتها فهو مردود لا يعتد به ولا يعوَّل عليه، وقد ذكر القرافي في تنقيحه في الفصل الثالث في مخصصات العام، قال: وعندنا العوائد مخصصة للعموم، قال الإمام: إن علم وجودها في زمن الخطاب وهو متجه، قال شيخنا محمد الطاهر بن عاشور: المراد بالعوائد العامة وهي ما غلب على الناس من قول أو فعل أو ترك وهي تخصص ما قارنته، فإن قارنت نصًّا شرعيًّا خصصته وإن قارنت ألفاظ الأيمان والعقود خصصتها ومثل للعمل بالنص والعرف معًا عند المالكية بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [سورة البقرة: الآية 233] .
فخصت المالكية ذوات القدر والشرف من عموم الوالدات وكذلك من كل رجلًا على أن يشتري له ثوبًا فاشترى له ما ليس من لباس أمثاله، فإنه لا يلزمه ما اشتراه (1) .
قال ابن عابدين: اعلم أن العرف نوعان خاص وعام، وكل منهما إما أن يوافق الدليل الشرعي والمنصوص عليه في كتب ظاهر الرواية أو لا، فإن وافقهما فلا كلام، وإلا فإما أن يخالف الدليل الشرعي أو المنصوص عليه في المذهب فنذكر ذلك في بابين: الباب الأول إذا خالف العرف الدليل الشرعي، فإن خالفه من كل جهة بأن لزم منه ترك النص فلا شك في رده كتعارف الناس كثيرًا من المحرمات من الربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب وغير ذلك مما ورد تحرميه نصًّا، وإن لم يخالفه من كل وجه بأن ورد الدليل عامًا والعرف خالفه في بعض أفراده أو كان الدليل قياسًا والعرف خاصًا، فإنه لا يعتبر وهو المذهب كما ذكره في الأشباه، حيث قال: فالحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص ولكن أفتى كثير من المشائخ باعتباره، وقال في الذخيرة البرهانية في الفصل الثامن من الإجارات فيما لو دفع إلى حائك غزلًا على أن ينسجه بالثلث، قال: ومشائخ بلخ كنصير بن يحيى ومحمد بن سلمة وغيرهما كانوا يجيزون هذه الإجارة في الثياب لتعامل أهل بلدهم والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الأثر، قال ابن عابدين: وتجويز هذه الإجارة في الثياب للتعامل بمعنى تخصيص النص الذي ورد في قفيز الطحان لأبي الحائك، إلا أن الحائك نظيره يكون واردًا فيه دلالة، فمتى تركنا العمل بدلالة هذا النص في قفيز الطحان كان تخصيصًا لا تركًا أصلًا وتخصيص النص بالتعامل جائز، ألا ترى أنا جوزنا الاستصناع للتعامل، والاستصناع بيع ما ليس عنده وإنه منهي عنه وتجويز الاستصناع بالتعامل تخصيص منا للنص الذي ورد في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان لا ترك للنص أصلًا، لأن عملنا بالنص في غير الاستصناع قالوا بخلاف ما لو تعامل أهل بلدة بقفيز الطحان، فإنه لا يجوز ولا تكون معاملتهم معتبرة؛ لأنا لو اعتبرنا معاملتهم كان تركًا للنص بالتعامل ولا يجوز ترك النص أصلًا وإنما يجوز تخصيصه.
__________
(1) التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح: 248(5/2467)
قال ابن عابدين: ولكن مشائخنا لم يجيزوا هذا التخصيص، لأن ذلك تعامل أهل بلدة واحدة، وتعامل أهل بلدة واحدة لا يخص الأثر لأن تعامل أهل بلدة إن اقتضى أن يجوز التخصيص فترك التعامل من أهل بلدة أخرى يمنع التخصيص فلا يثبت التخصيص بالشك، بخلاف التعامل في الاستصناع فإنه وجد في البلد كلها. وفي الأشباه والنظائر لابن نجيم: تنبيه هل يعتبر في بناء الأحكام العرف العام أو مطلق العرف ولو كان خاصًا؟ المذهب الأول قال في البزازية معزيًا إلى الإمام البخاري الذي ختم به الفقه: الحكم العام لا يثبت بالعرف الخاص وقيل يثبت. انتهى (1)
الشرط الثالث: عدم معارضة العرف بتصريح يخالفه، فإذا اشترط أحد المتعاقدين شرطًا يخالف ما جرى به العرف ولايتناقض العقد وجب العمل بمقتضاه لأن الناس على شروطهم ولا عبرة للعرف حينئذ، وإنما يعتد بالعرف ويرجع إليه عند الإطلاق فمثلًا جرى العرف أن مصاريف كتب العقد وتسجيله يكون على المشتري فلو اشترط المشتري على البائع أن تكون هذه المصاريف على البائع ورضي البائع بذلك فلا عمل على العرف لأن الناس على شروطهم إذا كان الشرط لم يحل حرامًا أو يحرم حلالًا، كما ورد ذلك في الحديث إذ العرف منزل منزلة الشرط الضمني ولا يقوى الشرط الضمني أمام الشرط الصحيح (2) ، ولأن المقرر عند الفقهاء أن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا فقد نزل العرف منزلة الشرط المصرح به، أي عند عدم وجوده، أما مع وجوده فلا يعتد به، إذ لا يعتمد على شرط ضمني مع شرط منصوص عليه، ثم سكوت المتعاقدين عن الأمر المتعارف وعدم اشتراطهم إياه صراحة يعتبر واقعًا منهم اعتمادًا على العرف، فإثبات الحكم المتعارف في هذه الحالة إنما هو من قبيل الدلالة فإذا صرح بخلافه بطلت هذه الدلالة ولا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح (3) .
وقد نقل في الأحكام عن العز بن عبد السلام الشافعي، قال: كل ما ثبت بالعرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد ويمكن الوفاء به صح، فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل ولا شرب ويقطع المنفعة للزمه ذلك، أما لو شرط عليه أن يعمل شهرًا في الليل والنهار، قال فالذي أراه بطلان هذه الإجارة لتعذر الوفاء بها فكان ذلك غررًا لا تمس الحاجة إليه وتنزل القرينة العرفية منزلة الشرط، فلو أن امرأة أقامت بينة عند التنازع في الجهاز على ما هو من خصائص الرجال أو أقام الرجل بينه على أن ما هو من خصائص النساء فإنه يقضي بما شهدت به البينة والشهادة إذ البينة تقدم على العرف، وهذا ما عناه العز بن عبد السلام حيث يقول: إن البينات أقوى من الظن المستفاد من هذه الجهات ومدرك هذا الشرط أن دلالة العرف أضعف من دلالة اللفظ يترجح عن المعارضة.
__________
(1) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص: 106
(2) فلفسة التشريع، لصبحي محمصاني: ص 268، وسلم الوصول لعلم الوصول، لعمر عبد الله: ص 244 – 245
(3) المدخل الفقهي العام: 2 /879(5/2468)
الشرط الرابع: للاعتماد على العرف أن يكون سابقًا للنص فلا عبرة بالعرف المتأخر عن النص، فإذا تأخر عن تاريخ العقد أو تاريخ التصرف فلا يمكن الاحتكام إلى العرف المتأخر، يقول القرافي: إنما يعتبر من العادات ما كان مقارنًا لها، فكذلك النصوص الشرعية لا يؤثر فيها إلا ما قارنها من العادات، وأما العوائد الطارئة بعد النطق فلا يقضى بها على النطق، فإن النطق سالم عن معارضتها فيحمل على اللغة ونظيره إذا وقع النقد في بيع فإن الثمن يحمل على العادة الحاضرة في النقد وما يطرأ بعد ذلك من العوائد في النقود لا عبرة به في هذا البيع المتقدم وكذلك النذر والإقرار والوصية إذا تأخرت العوائد عليها لا تعتبر وإنما يعتبر من العوائد ما كان مقارنًا لها، فكذلك نصوص الشريعة لا يؤثر في تخصيصها إلا ما قارنها من العوائد (1) فلو وقع الاتفاق على ثمن المبيع بدراهم أو دنانير في بلد قد اختلفت فيها النقود ولم يقع التنصيص على نوع النقد انصرف الثمن إلى النقد المعروف بين الجميع والذي هو فاش في البلد متدوال بين الجميع، ولا ينصرف أصلًا إلى ما طرأ بعد ذلك العقد من أصناف أو تغيير ولذا يتعين حمل ألفاظ الواقفين في أوقافهم وفي النصوص والوثائق في العقود والتصرفات، وما جاء فيها من قيود وإطلاقات يتعين فيها مراعاة العرف الذي كان زمن إنشائها، فإن لم يراع في فهمها وتفسيرها ما كان قائمًا من أعراف ساعة صدور العقود وإنشاء التصرفات وقعنا في الخطأ في فهم المعنى المراد ذلك أن كل متكلم إنما يتكلم بحسب عرفه ولا يقصد من كلامه إلا ما يتعارفه ولا يمكن حمل كلامه أصلًا على ما نشأ من الأعراف والعادات الحادثة لقاعدة أن العرف يعمل فيما يوجد بعده لا فيما وجد قبله (2) .
وهكذا النصوص التشريعية يجب أن تفهم بحسب مدلولاتها العرفية في عصر صدور النص فإن لم يكن عرف حملت على مدلولاتها اللغوية ولا يمكن حملها على ما نشأ بعد من العرف والعادة بعد صدورها ولا عبرة بتبدل مفاهيم الألفاظ في الأعراف الزمنية المتأخرة وإلا لم يستقر للنص التشريعى معنى فمثلًا أوجب الله صرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية التي جاءت في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة: الآية 60] .
__________
(1) تنقيح الفصول، للقرافي بهامش التوشيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح: ص 248
(2) تنقيح الفصول: ص 248، وسلم الوصول لعلم الوصول: ص 245(5/2469)
فالصنف السابع وهو سبيل الله هم الغزاة المجاهدون الذين لا حق لهم في ديوان الجند لأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [سورة الصف: الآية 4] .
وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة البقرة: الآية 190] .
فيدفع إليهم من مال الزكاة لإنجاز مهمتهم وعودتهم، ولو كانوا عند الجمهور أغنياء لأن في الجهاد مصلحة عامة أما من له شيء مقدر من الديوان فلا يعطي لأن من له رزق راتب يكفيه فهو مستغن به وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يعطي الغازي في سبيل الله إلا إذا كان فقيرًا أو مريدًا للحج، والحج عند الحنفية وبعض الحنابلة من السبيل، فيعطى مريد الحج من الزكاة لما روى أبو داود، عن ابن عباس أن رجلًا جعل ناقة في سبيل الله فأرادت امرأة الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ((اركبيها فإن الحج في سبيل الله)) ، فيأخذ مريد الحج من الزكاة إن كان فقيرًا ما يؤدي به فرض حج أو فرض عمرة لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض وأما التطوع فلا، والصنف الثامن ابن السبيل هو المسافر في طاعة غير معصية، وقد عجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة، وقد اتفق فقهاء المذاهب على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله في الآية كبناء المساجد والجسور والقناطير والساقيات وإصلاح الطرق وتكفين الموتى وقضاء الدين والتوسعة على الأضياف ونحوها من القرابات لكن فسر الكاساني في البدائع سبيل الله بجميع القرب، فيدخل عندئذ كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجًا لأن في سبيل الله عام في الملك فيشمل حينئذٍ عمارة المساجد ونحوها مما ذكر.
وفسر بعض الحنفية سبيل الله بطلب العلم ولو كان الطالب غنيًا قال أنس والحسن: ما أعطيت في الجسور والطرق فهي صدقة ماضية لكن قال مالك رحمه الله: سبيل الله كثيرة ولكني لا أعلم خلافًا في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو، فهو حينئذٍ حقيقة شرعية في الجهاد وإذا كان ذلك فلا يصح حمله على كل ما كان من قبيل القرب فحمله على كل قربة يخالف ما جرى عليه العرف عند نزول الآية فلذا لا يشمل كل القرب، وهو ما مال إليه بعض العلماء لأن النص يجب أن يحمل على معناه العرفي الأول الذي قال فيه مالك: لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله غير الغزو، وقد قال القرافي: دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة لأن العرف ناسخ للغة والناسخ مقدم على المنسوخ، فكما أن العقد يحمل الثمن فيه على النقود المعتادة ولا عبرة لما حدث بعد ذلك من العادات في التغيير في النقود، فكذلك نصوص الشريعة لا يؤثر فيها إلا ما قارنها من العادات (1) .
__________
(1) التنقيح، للقرافي: ص 249.(5/2470)
وما ذكرناه هو في العرف القولي أما العرف العملي فيعتبر في كل تصرف العرف الذي كان موجودًا عند التصرف دون الحادث بعده، فلو تغير عرف الناس فيما يعد عيبًا في المبيعات، أو فيما يدخل في البيع تبعًا للمبيع، أو في تقسيط أجرة العقارات المؤجرة أو في كون الخلاص بالشهر الشمسي لا القمري أو في أن المهر في النكاح معجلًا كله أو مؤجلًا بعضه، أو لا يحل باقية إلا بموت أحد الزوجين أو الفراق مثلًا فإن العرف الحادث بعد وقوع هذه العقود لا يسري على التصرفات السابقة ولا يغير شيئًا من أحكامها ولا من التزاماتها، وإنما تخضع تلك التصرفات والعقود جميعها إلى ما قارنها من العادات والتقاليد لا إلى ما حدث بعدها، أما التصرفات الجديدة الواقعة في ظل هذه العادات الجديدة فنها تكون خاضعة لها، حيث كانت مقارنة لها، أو العادات سابقة لها (1) .
هذه هي الشروط المعتبرة في العرف وتحكيمه في كل التصرفات والالتزامات بحيث يسقط عن الاعتبار إذا افتقد شرط من هذه الشروط وتنعدم صلوحيته في بناء الأحكام عليه عند علماء الشريعة.
أما أهل القانون من المعاصرين فزيادة على الشروط المتقدمة الذكر اشترطوا أن يكون العرف مطابقًا للنظام العام والآداب في المجتمعات، فإذا جرت عادة الناس على ما ينافي الأخلاق والنظام العام فإنه لا يعتد به، مثلًا مسألة الأخذ بالثأر في بعض الأقاليم فإن هذا وإن تتطبع به بعض الجهات فإنه لا ينشأ عنه عرف ملزم قانونًا؛ لأنه يتعارض مع قاعدة أساسية من القواعد التي تقوم عليه المجتمعات من أن الدولة هي التي تتولى القصاص من الأفراد وتقيم الحدود على المعتدين، ولا يجوز بحال لأحد أن يثأر لنفسه ويأخذ حقه بيده؛ لأن الدولة هي التي تقوم على حراسة الناس ومصالحهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وهي التي تنشر الأمن والأمان بين المواطنين، وإن مخالفة ذلك يستوجب العقاب ويعد الآخذ بثأر نفسه من المعتدين ويترتب على ذلك وجوب احترام القانون وأن كل من خالفه عرض نفسه للجزاء لأنه بعدم احترامه للقانون وبمخالفته لما يوجبه اعتبر من المعتدين. وقد جرى العرف بوجوب احترام القانون واستقر ذلك في نفوس الناس وأن القانون فوق الجميع حتى أصبح قاعدة مسلمًا بها مجمعًا عليها. ومن القديم عند شدة القوة الرومانية وعند تفرق الممالك بالاستقلالية، وقد أخذت كل دولة مأخذها بعد جميع شملها واختارت من الأحكام ما وافق عوائدها وأحوالها وجعلتها أساسًا لما وضعته، وهكذا صارت الأحكام الرومانية اصلًا أصيلًا لجميع القوانين الدولية في معظم الممالك الأوروبية ومدار جميعها على العدالة في الحكم والتحلي بالإنصاف ونشر الخصال الشريفة ودفع الأمة عن الرذائل.
* * *
__________
(1) المدخل الفقهي العام، للشيخ الزرقاء: 2 /878 –879(5/2471)
سلطان العرف
إن للعرف في نظر الشريعة الإسلامية قيمة كبرى في التشريع حيث يعد مستندًا لكثير من الأحكام العملية بين الناس في مجالات كثيرة في الحياة، كما أن للعرف سلطانًا واسعًا في استنباط الأحكام وتجددها أو تعديلها وتحديها وتقيدها وإطلاقها. ولقد كان للعرف اعتبار قبل الإسلام وكان أساسًا لكل مظهر من مظاهر الحياة وهذه فرنسا مثلًا أحكامها جارية حسب العوائد بحيث كل جهة من جهاتنا تجرى أحكامها على عوائدها، وتلك العوائد في الأصل ليست مكتتبة، ثم وقع كتاب كثيرًا منها وممن كتب بعض تلك العوائد الملك فيليب الرابع المتولي ملك فرنسا سنة 1285 ميلادية، ثم لما كانت الجهة الجنوبية من فرنسا قريبة من إيطاليا تداخلت فيهم الأحكام الرومانية حتى كانت أحكام فرنسا عند نهاية القرن الثامن عشر على قسمين: فالقسم الشمالي أحكامهم منوطة بالعوائد، والقسم الجنوبي أحكامهم مشتركة بين العوائد والأحكام الرومانية، لكن رئيس الطبقة الرابعة من ملوك فرنسا نابليون بونابرت كانت له عناية بضبط الأحكام قبل ولاية الإمبراطورية واختار لذلك خاصة رجال مملكته وترأس عليهم بنفسه في مجلس كتب الأحكام الذي تألف من أربعين شخصًا فضبطوا جميع ما وصلهم علمه من العوائد الجارية بالقسمين مما هو مكتتب أو غير مكتتب، وأخذوا من أحكام الرومان ما ناسب الحال عندهم وما جرى به العمل في جهاتهم وجمعوا من ذلك كله (كودنابليون) ، فأعلنه بفرنسا في مارس سنة 1804م أربعة وثمانمائة وألف عندما كان نابليون هو القنصل الأكبر النافذ الكلمة، وعلى إثر ذلك ولي الإمبراطورية في باريس في 16 مايو ووقعت في قانونه الزيادة مع التعديل سنة عشر ثم تعدل أيضا سنة 1812، ولم يزل العمل به جاريًا في المملكة الفرنسية وكان أمره منوطًا بمجلس الشورى الذي له النظر في معنى فصوله ولمجلس النواب والسناة حق تغيير الأحكام ووضع القوانين على حسب ما يقتضيه الحال وكلما اقتضى الحال تغيير شيء من فصوله غيروه على ترتيبهم ويعرف الآن باسم (كودسفيل) وهو القانون الجاري به العمل وينعتونه بالقانون المدني الفرنسي ومحتواه ألفان ومائتان وإحدى وثمانون مادة ترجع إلى ثلاثة أصول ذكرت في ثلاث مقالات.
المقالة الأولى في الكلام على الأشخاص – المقالة الثانية في الأملاك وما يعتريها من أحكام، والمقالة الثالثة في أنواع الطرق التي تفيد الملكية وقد ترجمه إلى العربية رفاعه بك ناظر قلم التحرير وعبد الله بك رئيس القلم وأحمد حلمي وعبد السلام أفندي وطبع في مطبعة بولاق سنة 1982 (1) .
__________
(1) مطلع الدراري بتوجيه النظر الشرعي على القانون العقاري: ص 91- 92، ط. المطبعة الرسمية التونسية سنة 1305 هـ(5/2472)
وكذلك كان العرف أساسًا لكل مظهر من مظاهر العرب في حياتهم من أمانة وأخلاق وتجارة ومعاملات، وقد دخلت بعض هذه العادات في التشريع الإسلامي من أبواب مختلفة كبناء بعض الأحاديث عليها أو سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم عن بعضها كما دخلت كذلك في باب إجماع المجتهدين وفي باب الأدلة الشريعة كالاستحسان والمصالح المرسلة ونحوها، ذلك أن التقاليد التي تعتادها كل أمة وتتخذها منهجا تسير عليه ومسلكًا متبعًا تصبح من ضروريات الحياة التي لا يمكن أن تستغنى عنها وتصبح بمرور الزمن بمثابة الدين حرمة وتقديسًا؛ لأن العمل بكثرة تكراره يصير جزءًا من كيان الإنسان لا يمكن أن ينفصل عنه ويتخلص منه وكما قيل: الإنسان ابن ما تعود ولا شك أن في نزع الناس عن عاداتهم حرجًا عظيما.
ولقد راعت الشريعة الإسلامية عوائد الأمم المختلفة وإن كان خلاف الأصل في التشريع الإلزامي والذي يسع ذلك إنما هو الإباحة حتى يتمتع كل فريق من الناس ببقاء عوائدهم، لكن الإباحة لما كان أصلها الدلالة على أن المباح ليس فيه مصلحة لازمة ولا مفسدة معتبرة لزم أن يراعى ذلك في العوائد فمتى اشتملت على مصلحة ضرورية أو حاجية للأمة كلها أو ظهرت فيها مفسدة معتبرة لأهلها لزم أن يصار بتلك العوائد إلى الانزواء تحت قواعد الشريعة العامة من وجوب أو تحريم، ولذا نرى التشريع لم يتعرض لتعيين الأزياء والمساكن والمراكب فلم يندب الناس إلى ركوب الإبل في الأسفار ولم يمنع أهل مصر والعراق من ركوب الحمير ولا أهل الهند والترك من حمل على البقر لذلك لم يحتج المسلمون إلى تطلب دليل على إباحة استعمال الجمل والدراجات والعربات والأرتال والطيارات والبواخر.
وكذلك لم يحتاجوا إلى تطلب الدليل على إباحة أصناف الطعام. التي لا تشتمل على أي شيء محرم الأكل بحيث لا يسأل عن ذلك إلا جاهل بالتركيب أو جاهل بكيفية التشريع. إنا نوقن أن عادات قوم ليس يحق لها بما هي عادات أن يحمل عليها قوم آخرون في التشريع ولا أن يحمل عليها أصحابها كذلك، نعم يراعي التشريع حمل أصحابها عليها ما داموا لم يغيروها لأن التزامهم إياها واطرادها فيهم يجعلها منزلة منزلة الشروط بينهم يحملون عليها في معاملاتهم إذا سكتوا عما يضادها وهذا ما تقتضيه الشريعة باعتبار عمومها وشمولها لكل البشر في كل العصور.(5/2473)
فمعنى صلاحيتها لكل زمان ومكان أنها قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر، وأما بمعنى أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلًا للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر، كما أن مكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا إحراجًا ولا عسرا في الإقلاع عما نزعوه من قديم عاداتهم الباطلة ومن دون أن يلجأوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العوائد المقبولة، وهذا هو معنى صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، أي باعتبار أن أحكامها كليات مشتملة على حكم ومصالح صالحة؛ لأن تتفرع عنها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد. وهذا معنى سماحة الشريعة ونفي الحرج عنها وكونها ليست نكاية للأمة وإنها شريعة عملية تسعى إلى تحصيل مقاصدها في عموم الأمة وفي خويصة الأفراد ولا يتم ذلك إلا بطريق التيسير وعدم التعسير (1) وفي نزع الناس عن عاداتهم حرج وأي حرج، وذلك لما للعادات من التغلغل في النفوس.
وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير قالت: ويحك وما يضرك، قال: يا أم المؤمنين أرني مصحفك، قالت: لم قال لَعَلِّي أُؤَلِّفُ القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: ما يضرك أيه قرأت قبل. إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا ولو نزل ولا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده قال فأخرجت له المصحف فأمليت عليه آي السورة (2) .
يحتمل أن يكون سؤال الرجل من الكفن خبر عن الكم أو الكيف أو النوع وكلمة ويحك للترحم وقولها: وما يضرك أي: أي شيء يضرك بعد موتك وسقوط التكليف عنك في أي كفن كفنت، وقوله: لعلي أؤلف القرآن عليه أي على القراءة التي بعث بها عثمان بعد للعواصم إذ كان القرآن على قراءة ابن مسعود في العراق، وكان تأليف مصحف العراقي مغايرًا لتأليف مصحف عثمان فلذلك جاء لعائشة وسأل الإملاء من مصحفها وقولها: أيه قرأت أي القرآن قرأت قبل قراءة السورة الأخرى من القرآن وقولها: إما نزل أول ما نزل منه من المفصل سمي مفصلًا لكثرة ما يقع فيها من فصول التسمية بين السور، وقد اختلف في أول المفصل: فقيل سورة ق، وقيل سورة محمد، وأول ما نزل إما (المدثر) وإما (اقرأ) ففي كل منهما ذكر الجنة والنار، ففي المدثر قوله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [سورة المدثر: الآية 26] .
__________
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية للعلامة محمد الطاهر بن عاشور: ص 88 – 100
(2) الحديث أخرجه مسلم في التفسير، وفضائل القرآن، عن يوسف بن سعيد بن مسلم(5/2474)
وقوله: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} ، وأما اقرأ فقوله تعالى: {كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، و {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ، وقوله: {إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} ، وقولها: حتى إذا ثاب، أي رجع نزل الحلال والحرام أشارت به إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل وأنه أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد والتبشير للمطيعين والإنذار للجاحدين الكافرين فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام ولهذا قالت: ولو نزل أول شيء ولا تشربوا الخمر إلى آخره وذلك لانطباع النفوس بالنفرة عن ترك المألوف وتعلقها بما تعودت به وتشبثها بما استأنست به (1) .
وتبدو هذه الظاهرة جلية واضحة لدى المسنين، فهم أكثر الناس تشبثًا بالقديم وتمسكًا بالعوائد والتقليد رافضين لكل جديد ولو بدا القديم غير صالح أو باطلًا.
ولا شك أن العرف تولده الحاجات التي تنقلب إلى عادات تكرر وتتجدد حتى تصبح نظامًا معتبرًا تنبني عليه الأحكام وتجري الفتوى على ما تقتضيه مما يعرض للناس في معاشهم ويكشف عن مقصودهم ونياتهم وعما اصطلحوا عليه في كلامهم.
ولهذا كان اعتبار العرف والاعتداد به مما يسهل مهمة القاضي في القيام بواجبه وتنكبه الحق والصواب في إصدار أحكامه، وأول ذلك أنه به يفرق بين المدعي والمدعى عليه، كما تقدم بيانه وإذا عرف المدعي من المدعى عليه لا يخطئ في من يطالب بالبينة ومن يطالب باليمين عند عجز المدعى عن إقامة البينة ولذا نجد الفقهاء، وأهل القانون متفقون على أن النصوص وحدها لا تغني عن العرف ذلك أن النصوص لا تستوعب جميع الجزئيات والتفاصيل لذا لم يكتف أهل الأصول بالنصوص بل اعتبروا أدلة أخرى كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والعادات وغيرها من القواعد والأدلة التي اعتمدها الفقهاء، ثم أن المصالح تختلف باختلاف الزمان والمكان والعوائد قد تتغير من بلد إلى بلد حتى استحسن بعضهم تعيين القضاة من أصل البلد لأنهم أعرف بعوائدها وتقاليدها وبذلك يبتعدون عن الوقوع في الخطأ في أحكامهم وقضائهم، وقلما خلا باب من أبواب الفقه من الاعتماد على العرف والعادات حتى في الجرائم والعقوبات جاء في التشريع الجنائي أن التعدي على الإنسان بالشتم والإهانة يعتبر من الكلام ما كان العرف يقضي بأنه شتم وتعد على كرامة الإنسان وتعتبر أن الإنسان مسؤول عن الترك والامتناع فيما يوجب العرف فيه العمل ويعتبر بهذا الترك جانبًا، كذلك تعتبر العادة في التعازير وهي تختلف باختلاف البلدان والعادات فما قد يباح في بلد ما قد يمنع في بلد آخر وما قد يعاقب عليه في جهة لسبب ما قد يعاقب عليه في آخر لوجه آخر، وقد يكون العرف حجة في جريمة من الجرائم، أو عقوبة من العقوبات (2) .
__________
(1) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري لبدر الدين محمود بن أحمد العيني: 20 /21-22
(2) التشريع الجنائي الإسلامي في المذاهب الخمسة مقارنًا بالقانون الوضعي للأستاذ عبد القادر عوده: ص 132(5/2475)
ولو نظرنا إلى العقوبة التعزيرية نرى أن الشرع لم يحدد مقدارها ولا نوعها وإنما فوض الأمر فيها للحكام حسب ما تقتضيه المصلحة في كل زمان وحسب ما يحقق الزجر بالنسبة للجناة وهي تقدر شرعًا بحسب العرف الذي يقتضي الكف عن المخالفة وسد الأقدام عليها في نظر العقلاء وعرفهم بحسب درجات الجرم حتى لا يكون أكثر مما يستدعيه الجرم المرتكب فيكون ظلمًا ولا أقل فيكون تهاونا بالحقوق، والقاعدة أن كل ما رتب عليه الشرع حكمًا ولم يحد فيه حدًا يرجع فيه العرف والتعزير لا يتقدر بقدر ويخير في العقوبات على قدر الجريمة وصاحبها، وهذا موكول لاجتهاد الإمام (1)
ولقد نص ابن فرحون في التبصرة نقلًا عن القرافي أن التعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار فرب تعزير في بلد آخر يكون إكرامًا في بلد كقطع الطيلسان (من لباس العجم) ، ليس تعزيرًا في بلاد الشام بل هو إكرام وككشف الرأس فليس هوانا عند الأندلسيين وهو هوان بمصر والعراق (2) .
ولا شك أن المجتهدين تأثروا ببيئاتهم وعاداتهم وتقاليدها وهناك من كان متأثرًا بالحضارة الفارسية وبعضهم الحاضرة الرومانية أو بالحضارة الفرعونية أو البربرية والتي كانت عليها عاداتهم وقوانينهم، وقد كان هذا من أعظم أسباب الاختلاف بين الفقهاء في استنباطهم للأحكام وليس معنى هذا أن العرف والظروف تتحكمان في النصوص الصريحة فيحمل المجتهد على القول بحكم غير الذي تعطيه النصوص وإنما معناه أن النصوص منها ما كان قواعده عامة يمكن تطبيقها حسب الظروف والأحوال ومنها ما هو معلل بمصالح خاصة تدور الأحكام وتتغير حسب هذه المصالح، وهكذا يظهر واضحا اختلاف المذاهب في الأحكام المستنبطة كالخلاف في كثير من الفروع بين المذهب الحنفي الذي نشأ بالعراق وبين المذهب المالكي الذي نشأ بالحجاز وأجلى من ذلك ما كان من الإمام الشافعي الذي أخذ فقهه عن الإمام مالك ثم انتقل إلى العراق وتأثر بالطريقتين، ثم لما قدم مصر واطلع على العادات المخالفة لما عرفه بالحجاز وبالعراق، وكان قد كتب مذهبًا بالعراق فلما قدم مصر واطلع على عاداتهم وتقاليدهم ورأى أحوالا غير أحوالهم دعاه ذلك إلى أن يعدل في كثير من اجتهاداته واستنباطه فكان في كثير من الفروع نرى له قولين قوله القديم وقوله الجديد بعد هجرته إلى مصر.
وقد ذكرنا فيما تقدم أن قوة العرف تظهر في تخصيص العام وتقييد المطلق فيحمل العام على ما يقتضيه العرف وبينا أن مالكا رحمه الله خصص قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [الآية 233 من سورة البقرة] فاستثنى الشريفة التي جرى العرف بأن أمثالها لا يرضعن وإن اختلفت المذاهب في تخصيص العام به، فبعضهم يعتبر ذلك في عرف القولي دون الفعلي وبعضهم لا يعتبر في تخصيص العام إلا العرف الفعلي وبعضهم لا يعتبر العرف من المخصصات أصلًا قولًا أو فعلًا كالمذهب الجعفري، وإنما يعتمدون على العرف في تقسيم الدليل الشرعي اللازم حمله على المعنى العرفي.
__________
(1) أحكام الأحكام، شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد: 4 /137.
(2) التبصرة، لابن فرحون: 2 /202(5/2476)
وكان المجتهدون تعرض لهم العادات المختلفات باختلاف الجهات فيطبقون عليها القواعد العامة ومنها (العادة محكمة) كاستئجار الكاتب في كون الحبر والأقلام عليه واستئجار الخياط في كون الخيط والإبرة عليه أو على المستأجر فالحكم تابع لعرف ذلك البلد وعلف الحيوان المستأجر، هل على ربه أو على المستأجر، وكاستئجار الظئر بطعامها وكسوتها، فإنه جائز للعرف وإن كان مجهولًا. فكان لزامًا على المجتهدين أن يراعوا عادات الناس وما جرى عليه عرفهم في مختلف الأقطار وأن يطبقوا القواعد العامة في ذلك وأن يقروا الأحكام على حسب العادات الصالحة ويبطلوا منها ما كان مناقضًا لأسس الشريعة ومقاصدها، فقد أخذ عمر رضي الله عنه بتدوين الدواوين وهي عادة فارسية.
وكم من فرع وارد في باب البيوعات والإجارات أخذوا به واعتمدوه في أحكامهم لما فيه من مصلحة واضحة، وحتى ما كان فيه نوع من العوج هذبوه وأقروه كوضع الخراج على الأرض، فإن ذلك كان معروفًا عند الفرس وقد قبله عمر رضي الله عنه ومعه الصحابة بعد أن عدل نظامه. وقد علق المهدي الوزاني بعد أن نقل قول مالك فيمن دفع إلى شهود كتابًا مطويًّا، وقال: اشهدوا عليَّ بما فيه، أو كتب الحاكم كتابًا إلى حاكم وختمه وأشهد الشهود به ولم يقرأه عليهم، فقال: الشهادة جائزة نقله عن الباجي، ثم نقل كلام الرهوني على قول المختصر، وأفاد أن أشهدهما أن ما فيه حكمه أو خطه كالإقرار، قال الرهوني: وكذلك شهادتهما به، وإن لم يشهدهما عند ابن القاسم وابن الماجشون، قال الشيخ المهدي: فإن هذا أمر قد تمالأت عليه العدول والقضاة وجرت به عادتهم في أزمان طويلة ودهور متوالية، وقد نص الأئمة على أن العادة تقوم مقام الإفصاح باللسان وتغني عما أغفل رسمه بالبنان كما في المعيار عن المعقاني، بل قدم ابن رشد ما شهدت به العادة بشرطيه على شهادة الشهود بكتبه على الطوع في كثير من الأحكام (1) .
وقد نبهنا إلى أنه إذا تعارض الأصل والعرف قدم العرف على الأصل لأنه أقوى بحيث لو شهد لأحد المتخاصمين الأصل وشهد للآخر العرف كان المدعى عليه من شهد له العرف، لأن العرف أقوى من الأصل، وقد نقلنا عن الشيخ الوالد رحمه الله أنه لدقة تحقيق المناط وتطبيق القواعد على جزئياتها صعب أمر القضاء، وكان علم القضاء أخص من فقه القضاء (2) .
__________
(1) حاشية المهدي الوزاني على تحفة الحكام: 1 /199
(2) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية: ص 44.(5/2477)
ولقد استند القضاء في كثير من الأحكام والفتيا وفي كثير من المسائل طبقا لما يقتضيه العرف كالتقادير في الصغر والكبر والكثرة والقلة في الأقوال والأفعال في الصلاة وفي ثمن المثل في البيع ومهر المثل والكفء في النكاح، كما أسند على العرف في تعيين العروض في المؤونة والكسوة والمسكن في النفقات، واستند إليه في مقادير الحيض والطهر في الصلاة والعدد وأقصى أمد الحمل في النسبة واستند إليه في فهم الألفاظ في الأيمان وفي الوقف وفي الوصية وفي الطلاق (1) ، والرهن والإجارة والقراض والمساقاة وغيرها (2) .
وقد أورد ابن فرحون أمثلة عديدة روعي فيها العرف والعادة (3) من ذلك اختلاف الزوجين في متاع البيت، وهما في العصمة أو بعد طلاق أو وفاة وكان التداعي بين الورثة أو مات أحدهما وكان التداعي بينه وبين ورثة الآخر، وأن الحكم في ذلك يقضي للمرأة بما يعرف للنساء، وللرجال بما يعرف للرجال طبقًا للعرف المتبع، وكذلك إذا اختلف المتبايعان في قبض السلعة أو الثمن، فالأصل بقاء الثمن بيد المبتاع وبقاء المبيع بيد البائع ولا ينتقل ذلك إلا ببينة أو عرف كالسلع التي جرت العادة أن المشتري يدفع ثمنها قبل أن يبين بها كاللحم والخضر والغلال ونحوها فيحكم ذلك بالعرف والعادة.
ومن ذلك الحكم بمقتضيات الألفاظ، يقول البائع: بعتك هذه الأرض بكذا ولم يزد على هذا، فإن هذا اللفظ يتناول ما هو متصل بالأرض كالبناء والشجر، وهذا بحكم العرف ولفظ الشجر والدار يشمل الثوابت والرفوف والسلم المستمر والأشجار التي في الدار لأن العرف قاضي بهذا (4)
ومن الفروع التي كان حكمها مبنيًّا على شهادة العرف تمزيق رسم الدين أو قطع طرفه أو سطر بسملته، فإنه يدل عادة على براءة من الدين فلا يقيد المستظهر به شيئًا، ومن الفروع التي استند القضاء فيها للعادة أحداث الساقية التي تمر فيها الفضلات التي تصل إلى الخندق، فمن امتنع من الموافقة على إحداثها ممن تمر عليه أجبر عليه لأن العادات قضت بذلك، ومن الفروع المبنية على العادة القضاء بشهادة الحيازة على الملك وهذا كله يشهد بأن العرف دعامة من الدعائم التي ارتكزت عليها أحكام القضاة وفتاوى الفقهاء (5)
__________
(1) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية: ص 52
(2) شرح لامية الزقاق، لعمر الفاسي: ص: 300
(3) التبصرة، لابن فرحون: 2 /67
(4) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، للقاضي ابن فرحون: 2 /60.
(5) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية: ص 46 – 52.(5/2478)
ولقد سُئِل مالك عن النكاح يلزمه أهل المرأة هدية العرس وجل الناس تعمل به حتى إنه لتكون الخصومة، أترى أن يقضى به؟ قال: إذا كان ذلك قد عرف من شأنهم وهو عملهم لم أرَ أن يطرح ذلك عنهم إلا أن يتقدم فيه السلطان لأني أراه أمرًا قد جروا عليه (1)
وقد ذكر القرافي أن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت كالنقود في المعاملات والعيوب والأعراض والمبيعات ونحو ذلك، ولو تغيرت العادة في النقدين والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها وكذلك إذا كان الشيء عيبا في الثياب في العادة رددنا به المبيع، فإذا تغيرت تلك العادة وصار ذلك المكروه محبوبا لزيادة الثمن لم يرد به. وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا اختلاف فيه، بل قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا (2) ، وكذلك نقل الونشريسي الإجماع على أن الفتاوي تختلف باختلاف العوائد (3) .
قال القرافي وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تحدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه، وافته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين (4) .
وفي جواب لابن منظور ورد فيه أن أحكام الأقضية والفتاوى تتبع عوائد الأزمان وعرف أهلها جاء ذلك في تحفة أكياس الناس في شرح عمل فاس (5) ، ولقد نظم ذلك صاحب العمل الفاسي، فقال: واعتبر الأعراف في الفتوى وفي الحكم لكن بانتفائها نفي. وقد نقل السجلسماسي في شرحه أن العقباني أثبت كثيرًا من مسائل الفقه أن الحكم فيها جرى على مقصود أهل العرف ولو كانت الألفاظ على خلافها (6) .
__________
(1) التبصرة: 2 /62.
(2) الفروق للقرافي، الفرق الثامن والعشرين: 1 /223 ط بولاق
(3) المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى إفريقية والإندلس والمغرب، لابن العباس أحمد الونشريسي: 8 /290
(4) الفروق للقرافي: 1 /224.
(5) تحفة أكياس الناس في شرح عمل فاس ط حجرية: 1 /48
(6) شرح العمل الفاسي لأبي عبد الله السجلسماسي ط حجرية: 1 /62(5/2479)
ذلك أن كلام الناس ينصرف إلى ما تعارفوه ولو خالف المعاني الحقيقية التي وضع لها اللفظ في أصل اللغة حيث إن العرف قد نقل هذه الألفاظ من أصل معانيها اللغوية إلى هذه المعاني العرفية بحيث لا يخطر ببال المتكلم المعنى الحقيقي اللغوي لغلبة اللفظ في الاستعمال إلى الحقيقة العرفية بحيث لو صرف كلام المتكلم إلى حقيقته اللغوية دون العرفية لأدى إلى إلزام المتكلم في عقوده وإقراراته وأيمانه وطلاقه وسائر تصرفاته القولية إلى ما لم يعنه ولم يخطر بباله وإلى ما لا يفهمه الناس من كلامه ولهذا المعنى قرر الفقهاء قاعدة، فقالوا: الحقيقة تترك بدلالة العادة، وقالوا أيضًا يحمل كلام الحالف والناذر والموصي والواقف وكل عاقد على لغته وعرفه وإن خالف لغة العرب والشارع، وقد نقل ابن عابدين عن القنية قال: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف (1) ، وجامع الفصولين مطلق الكلام فيما بين الناس ينصرف إلى المتعارف وفي فتاوي العلامة قاسم التحقيق أن لفظ الواقف والموصي والحالف والناذر وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها وافقت لغة العرب ولغة التاريخ (2) ، ولقد طبق الفقهاء أحكامًا كثيرة منها مثلًا لو حلف المرء لا يجلس على بساط فجلس على الأرض، أو حلف لا يجلس تحت سقف فجلس تحت السماء، أو لا يستضيء بسراج فاستضاء بالشمس، أو لا يأكل لحمًا فأكل سمكًا لم يحنث في كل ذلك. وإن سمى القرآن الأرض بساطًا إذ قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} (3) ، وقال: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (4) وقال: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} (5) .
فهذه الأسماء التي وردت في الكتاب وإن كانت هي الحقائق اللغوية، لكن غلب استعمالها في المحرف على المعاني المقصودة للمتكلم التي لا يخطر بباله حين أقسم لا يبيت تحت سقف أن السماء سقف أو أن الشمس سراج ولا الحيتان لحم، ولذا لم يلزم الناس الحنث بها وإن كانت ما أقسم يصدق عليها لغة، كذلك لو حلف الإنسان أن لا يضع قدمه في منزل فلان انصرفت يمينه إلى معنى مطلق الدخول الدار إذ هو المعنى العرفي الذي ينصرف إليه الذهن ويفهمه السامع فيحنث بدخوله ولو راكبًا ولو أدخل رجله من غير أن يدخل بدنه لا يحنث ومن هذا القبيل كذلك إطلاق الولد على الذكر دون الأنثى وإطلاق الناس اللحم على غير لحم السمك فلو أقسم لا يأكل لحمًا فأكل سمكًا لم يحنث للعرف كذلك لو أقسم لا يركب دابة وكان عرفهم أنها لا تطلق إلا على الحمار خاصة كمصر فركب فرسًا لا يحنث، وهكذا يتعين حمل اللفظ تنزيل الكلام على ما جرى بين الناس وتحديد ما يترتب على تصرفاتهم القولية من حقوق وواجبات حسب المعاني العرفية، وإن لغة العامة في كل مكان هي من هذا القبيل فيتعين حمل كلامهم على ما تعارف بينهم وكذلك العرف العملي أو الفعلي، فإن الفعال العادية والمعاملات المدنية لها السلطان المطلق في فرض الإحكام وتقييد آثار العقود والالتزامات على ما جرى بينهم وتعارفه خاصتهم وعامتهم في كل ما لا يخالف نصا من نصوص الشريعة (6) بل هذا العرف العملي هو نفسه يعتبر دليلًا شرعيًّا – حيث لا دليل سواه – ومرجعًا للأحكام.
__________
(1) رسالة نشر العرف مجموعة رسائل ابن عابدين 2 /115
(2) رسالة نشر العرف مجموعة رسائل ابن عابدين: 5 /133
(3) سورة نوح: الآية 19.
(4) سورة نوح: الآية 16.
(5) سورة النحل: الآية 14
(6) المدخل للفقه العام: 2/ 837.(5/2480)
والعرف العملي منه ما هو أفعال عادية شخصية ومنه ما كان معاملات مدنية وهو يثبت على أهله عاما كان أو خاصًا، فإن من ألف شيئًا وجرى عليه في حياته أصبح لما تعود عليه سلطان وتأثير في توجيه الأحكام التي تتصل بتلك الأفعال فمثلًا من وكل أحدا بشراء ثوب أو طعام فاشترى له ثوبًا مما لم يعتد لباسه كأن يكون لا يلبس إلا اللباس التقليدي فاشترى له فستانًا أو اشترى له لحم خنزير أو جمل وهو لم يعتد في حياته إلا أن يأكل لحم الضأن مثلًا، فإن هذا الشراء لا يسري على الموكل ولا يلزمه، بل يلتزمه الوكيل بخلاف ما إذا اشترى له ما كان معتاد لباسه ومعتاد طعامه فإنه يلزمه – ومن هذا القبيل نفقة الزوجة وهي تجب على زوجها وذلك بالقدر المتعارف المعتاد بين أمثالها وحسب حالهما.
ولا بد من مراعاة حال الغني والفقير والشرف والضعة، وليست حالة الوسط الذي يعيش فيه الأغنياء كحالة الوسط الذي يعيش فيه الفقراء، ولا عيشة الأشراف والأمراء كعيشة السوقة والضعفاء، ولهذا قال ابن العربي: إن المرأة الشريفة إذا امتنعت عن إرضاع ولدها فلا يلزمها ذلك نظرًا للعرف، قال ابن العربي (1) : وهو أمر كان في الجاهية في ذوي الحسب وجاء الإسلام عليه فلم يغيره وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء إلى المراضع إلى زمانه، فقال به: وإلى زماننا فحققناه شرعًا وفي المنتقى لو استأجر دابة ليحمل عليها إلى مكان يتعدى مكان الكراء وتجاوز مسافة الكراء، كأن يكتري دابة للركوب من مصر إلى برقة فيركبها إلى إفريقية، فهذا حكمه فيطول الإمساك وقربه مثل الزيادة على زمن الكراء إن ردها سالمة، فقد روى ابن حبيب عن مالك: أنه إذا لم يجاوز المد إلا باليسير الذي لا خيار لصاحبها فيه إذا سلمت فليس لصاحبها الإكراء ما زاد وإن زاد كثيرا فيه الأيام التي تتغير ومثلها سوقها من ربها إن ردها المعتدي سالمة على ما تقدم وإن عطبت في القليل أو الكثير فهو ضامن لها – إلى أن يقول، وأما التعدي في الحمل فعلى وجهين، أحدهما: الزيادة فيه من جنسه.
__________
(1) أحكام القرآن، لابن العربي: 1 / 87(5/2481)
والثاني: حمل غير ذلك الجنس، فما الزيادة فيه من جنسه ففي المدونة فيمن اكترى بعيرًا ليحمل عليه عشرة أقفزة، فحمل عليه أحد عشر قفيزًا فلا ضمان عليه في عطب البعير إذا كان الفقير يسيرا لا تعطب منه الدابة، فإن كانت الزيادة يعطب من مثلها فلصاحب الدابة الكراء وكراء الزيادة أو قيمة الدابة يوم التعدي دون الكراء فهو مخير في ذلك وإن كان لا يعطب من مثله تلك الزيادة فليس له إلا الكراء الأول وكراء ما تعدى فيه، وقال سحنون: إن زاد في الحل ولو رطلًا واحدًا ضمن. قال عبد الملك: والفرق بين هذا وبين الزيادة في المسافة أن مجاوزة المسافة تعد كله فلذلك ضمنها في قليله وكثيرة وزيادة الحمل إذا اجتمع فيه تعد وإذن، فإن كانت الزيادة يعطب من مثلها ضمن وإلا لم يضمن وأما إن حمل غير الجنس الذي اتفق معه فلا يخلو أن تكون مضرته كمضرة ما تكارى عليه أو أشد، فإن كانت مثل مضرته فلا ضمان عليه وأصل ذلك أن الحمل لا يتعين عند مالك إلا بجنس المضرة ولو اكترى رجل من حمال على حمل بعينه كان له أن يبدله بمثله مما مضرته مثل مضرته وليس له بدله بما هو أعظم مضرة منه، فالمراعى في ذلك ما يضغط بثقله جانبي الدابة ويضر بها، فإذا حمل ما هو أضر بها فعطبت الدابة فهو ضامن، وهذا في الأحمال، أما الراكب فقد يختلف حاله باختلاف أخلاق الناس مع تساوي أجسادهم فمنهم من فيه رفق وفيهم من فيه عنف، وقد قال مالك: لا يعجبني أن يكري الرجل دابة فيحمل عليها غيره، قال ابن القاسم: فإن حمل عليها من هو مثله في الثقل والحال والركوب لم يضمن وإن حمل عليها من هو أثقل منه أو غير مأمون فهو ضامن، قال ابن حبيب: ومعنى ذلك في الدابة معها صاحبها يتولى سوقها والحمل عليها والحط عنها فأما أن يسلمها إلى المكتري فله منعه من الكراء من غيره لاختلاف سوق الناس ورفقهم وحياطتهم وتضييعهم لها (1) .
ونستخلص من هذه الفروع الفقهية أنه ليس لحد الحق في أن يتجاوز حد المنفعة المتفق عليها الذي إن تجاوز اعتبر صرفا مضرا بغيره، ولذا إذا حصل منه ذلك كان عليه الضمان والمدارك في كل هذا مرجعه العرف والعادة وبما ذكرنا ندرك مدى تأثير العرف في الأمور العادية من أكل وشرب ولباس وركوب وانتفاع. وكيف أن العرف هو الذي يقيدها ويحدد التزاماتها وتخضع للعادة والعرف تصرفاتها وتجري الأحكام عند التنازع على وفق ما يقتضيه عرف كل بلد وعاداته.
__________
(1) المنتقى، لأبي الوليد الباجي: 5 /264 – 267.(5/2482)
أما عرف الناس في معاملاتهم المدنية، فلقد جاء في صحيح البخاري باب من إجراء الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة، قال العيني: فيعتبر في عادة أهل كل بلد على ما بينهم من العرف، فإنه في البلاد المصرية الأرز يكال وفي البلاد الشامية يوزن لأن الرجوع إلى العرف جملة من القواعد الفقهية قال: وقوله: وسننهم عطف على ما يتعارفون بينهم أي على طريقتهم الثابتة على حسب مقاصدهم وعاداتهم المشهورة، قال: وحاصل كلام البخاري قصد بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف والعادة، قال البخاري وقال شريح يعنى أبن الحارث الكندي القاضي في عهد الخليفة عمر بن الخطاب للغزالين سنتكم بينكم ربحًا يعني عاداتكم وطريقتكم بينكم معتبرة (1) .
وقد حمل الإمام السهيلي شرب النبي صلى الله عليه وسلم من إناء قوم دون استئذان في حديث الإسراء على العرف والعادة (2) ، حيث أن العرب في الجاهلية كان من عاداتهم والمعروف عندهم المطرد بينهم إباحة الرسل (اللبن) لابن السبيل فضلا عن شرب الماء حتى لو كسر أحد الزبناء إناء الشراب وأتلفه فلا يلزمه ضمان ما أتلف اعتمادا على العرف الجاري بين الناس حيث لم يتعمد تكسيره مع أن القاعدة من أتلف شيئًا ضمنه، ولقد جوز جماعة من الفقهاء أن يأكل الإنسان من ثمر البساتين المتروكة تحت الشجر بلا إذن صاحبها إذا كانت الثمرة مما يسرع إليها الفساد بناء على أن العرف قد جرى بذلك، ولقد قال أبو حنيفة ومحمد: لا قطع فيها يسرع إليه الفساد إذ بلغ الحد الذي يقطع في مثله كالتين والسفرجل والرطب ونحوها من الأطعمة الرطبة، وقالا: سواء أخذت من حرم أم لا لعدم قابلية الادخار لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا قطع في ثمر ولا كثر)) ، أخرجه مالك في الموطأ، قال الباجي: ولا قطع في الثمر المعلق، رواه القاضي أبو محمد وروى ابن المواز ذلك ما كان في الحوائط والبساتين فأما من سرق من ثمرة نخلة في دار رجل ومنزله فهذا يقطع إاذا بلغت قيمتها على الرجاء والخوف ربع دينار، فجعل للدار تأثيرًا في حرز مثل هذا ويكون صاحب الدار ساكنًا معها (3)
__________
(1) عمدة القاري شرح صحيح البخاري: 18 /16 ط المنيرية.
(2) الروض الأنف، لأبي القاسم عبد الرحمن الخثعمي السهيلي ط الجمالية بمصر: 1 /246.
(3) المنتقى لأبي الوليد الباجي: 7 / 182(5/2483)
وذلك لأن هذه الأشياء لا تعد مالا عادة إذا لم تكن في حرز وخطرها على الناس قليل وهي في ذاتها تفاهة ولأنها معرضة للهلاك أيضا، أما ما كان في حرز أو كان مما يبقى من سنة إلى سنة فيدخر كالجوز واللوز والتمر اليابس ونحوها، فإذا بلغ قيمته الحد الذي يقطع فيه يقع القطع (1) وعند أبي يوسف يجب القطع فيما لا يحتمل الادخار لأنه منتفع بها حقيقة والانتفاع بها مباح شرعًا، فكانت مالًا فيقطع فيها كسائر الأموال (2) وما ذهب إليه أبو يوسف هو ما جرى به العرف اليوم لأن هذه الفواكه أصبحت من الأموال المهمة وليست من التفاهة في شيء كما كان عليه عرف الناس في الماضي.
وقد ذكرنا أن العوائد كثيرا ما تتغير بتغير الزمان والمكان على أن المذاهب الثلاث المالكية والشافعية والحنابلة ترى القطع في كل متمول يجوز بيعه وأخذ العوض عنه لا فرق بين الطعام والثياب والحيوان والأحجار وغيرها لعموم قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [سورة المائدة: الآية 38] . نعم ذلك إذا اجتمعت فيه شروط السرقة كأن يكون في حرز مثله (3) .
وهذا لا يمنع اتفاق العملاء على عدم القطع في الأكل من الثمرة المعلقة على الشجر أو الحنطة في سنبلها إذا لم يكن في رجز مما جرى به عرف الناس لأن الشرع دل على اعتبار الحرز وليس له حد معلوم مقرر في الشرع، وإنما مرجعه إلى عرف الناس، وقد ذكر الشافعي أن حديث رافع (لا قطع في ثمر) خرج على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم إحراز حوائطها، فإذا أحرزت بالجدران أو الأسلاك الشائكة ونحوها كانت كغيرها، أن العرف والعادة ركن من أركان الشريعة عند مالك وأصحابه وبنوا على ذلك النيابة العرفية يلزم النائب والمنوب عنه في شراء شيء أو أداء خدمة وما إلى ذلك، وقد سئل أبو عبد الله النالي الغماري عن قوم عادتهم إذا نزل بهم ضيف استضافوه وقام اثنان أو ثلاثة من أهل القرية فاشتروا بهيمة وذبحوها وقدموا له الطعام تكريمًا له، فأجاب بأن الثمن يكون على جميع أهل القرية الحاضر والغائب، القوي والضعيف اعتبارًا لعرفهم وعادتهم. ومن هذا القبيل ما في الأرياف عند جز الضأن أن يجتمع أهل الحي لجزها بغير مقابل ويذبح لهم صاحب الماشية ويطعمهم، فهل يستحق أحدهم أجر؟ أفتى بعض مشائخنا بأنه لا يستحق مقابلًا لعمله ويعتبر منه ذلك تطوعًا عملًا بالعرف والعادة.
__________
(1) المبسوط للسرخسي 9 /153
(2) البدائع: 7 /69
(3) بداية المجتهد للحفيد ابن رشد: 2 /441، المذهب: 2 /277 المغني، لابن قدامة: 8 /260(5/2484)
وقد نقل المهدي الوزاني عن الفقيه ابن عرضون أن ابن أبي زيد القيرواني سئل عن رجل من قبيلة، اشترى فرسًا من ابن عمه هدية إلى رئيس القبيلة لينصرهم على من بغى عليهم وطلب البائع الثمن فأجابه المشتري بأنك تعلم أني ما اشتريته إلا على الجماعة، فقال البائع: ما بعته إلا منك وكان العرف عندهم أن ذلك يكون على جميع القبيلة فأجاب ابن أبي زيد إن كان العرف عندهم أن شراء مثل هذا على الجماعة وأن المتولي للشراء هو وكيل عرفًا فلا يلزمه غلا ما يلزمهم وإن لم يكن كذلك فالثمن على المتولي الشراء وكما أن الوكيل صراحة له الرجوع عليهم فكذلك الوكيل عرفا له الرجوع عليهم. ومن هذا القبيل إذا أجر كبير القرية غماما للصلاة والعادة أنه يعتبر وكيلا عن جميع أهل القرية فهو حين يتكلم يتكلم بلسان جميعهم إذ هو وكيلهم، فإنهم يطالبون بأداء حصتهم من أجرة الإمام أو المؤدب أو المعلم، فإن لم يكن لهم عادة بذلك فالأجرة على عاقدها. ولهذا نجد من المفتين من أفتى بعدم لزوم الإجارة لغير من عقدها وأفتى بعضهم بلزومها. والحق أن لا خلاف وإنما الخلاف في حال حيث إن المسألة تابعة للعرف والعادة فمن كانت عادتهم كذلك، لزمتهم الأجرة ووزعت عليهم، ومن لم تكن عادتهم كذلك لزمت الأجرة العاقد دون سواه. وفي حاشية المهدي الوزاني على شرح التاودي على لامية الزقاق: تنبيه من الوكالة العرفية تصرف الزوج في مال زوجته حتى يثبت التعدي وتصرف الأخ في الريع المشترك بينه وبين إخواته وقبض خراجه وتصيير ملازم سبيله وعلاجه فيصدق في دفعه لزوجته وأخته ما تصرف لهما فيه كتصديق الوكيل، لكن قال ابن عبد السلام: بناني هنا لا يحمل بيع الزوج أوصل زوجته على الوكالة العرفية إلا بعد ثبوت جريان عرف بلدهم، بذلك باعتبار عرف الأقدمين وليس العرف يقاس في هذا الزمان على اعتبار الوكالة العرفية فلا يعمل بها ولا يحكم بمقتضاها (1) .
وفي المذهب الحنفي تثبت الولاية على المال بالنسبة للصغير القاصر للأب ثم لوصية، ثم للجد، ثم وصي الجد، ثم القاضي، ثم وصي القاضي الذي عينه وهي في المذهب المالكي والحنبلي تكون أولا للأب ثم لوصي الأب، ثم للحكام ثم لمن يقيمه وليا عنه ولا ولاية للجد وغيره من القرابة (2) ، ومع هذا فقد سئل أبو إسحاق إبراهيم بن هلال السجلسماسي عن الجد، فقال: إن الجد، فقال: إن الجد وصية بالعادة في البلاد السوسية والولاية عند الشافعية هي للأب أولا، ثم للجد أبي الأب ثم لوصييهما، ثم القاضي (3)
ومن مفعول العادة عقود التعاطي التي أقرها فيها الفقهاء في انعقاد المعاوضات المالية بالقبض والدفع دون أيجاب وقبول باللفظ، وقامت المعاطاة مقام الصيغة اللفظية بالعرف ويظهر ذلك في المغازات الكبيرة اليوم أين نجد أسعار البضائع مرسومة فوقها، فهي معروفة القيمة محددة الثمن فيدفع الزبائن الثمن وتأخذ البضاعة المشتراة بلا إيجاب ولا قبول.
__________
(1) حاشية المهدي الوزاني على شرح التاودي على لامية الزقاق: ص 178
(2) الشرح الكبير للدردير: 3 /292 وغاية المنتهى: 2 /140
(3) نهاية المحتاج 3 /356.(5/2485)
ومن هذا القبيل أيضًا شراء الجرائد والمجلات الموجودة في دكاكين أصحابها، فإننا ندفع الثمن ونأخذ الجريدة من غير الكلام مع بائعها أكانت داخل الدكاكين أو خارجها، وكل ذلك مرجعه إلى العادات وما تعارفه الناس وجرى في حياتهم اليومية أن العهدة في كل ذلك مرجعها إلى العرف العام الذي يعتبر القبض بعد معرفة الثمن في قوة التعبير عن الإرادة بالإيجاب والقبول في عادة الناس ومنها أجرة السمسار وكتابة العقود ودفع معاليم النقل إذا سكت المتعاقدان فيه عن بيان ما يلتزم به كل منهما، فقد اعتبر الفقهاء في ذلك العرف ويلزمهما بما تعورف عليه، وهو في هذه الأمور جري العرف أن هذه المصاريف على المشتري ومن هذا القبيل ما جرى به العرف من أن حبل الدابة داخل ويستحقه المشتري بلا مقابل، وكذلك السلم المثبت في الدار ومفتاحها، وكذلك من اشتري سيارة فيدخل ما هو من مستتبعاتها كالرافع للعجلات والأدوات الضرورية التابعة لها، وكل هذا ونحوه بحكم العرف فيه، ومن هذا القبيل مسألة من أعطى ولده لصانع قصد تعليمه صنعة دون أن يشترط أحدهما أجرة على الآخر وبعد تعلم الصبي، أو طالب أحدهما الأجر من الآخر فإنه يرجع إلى ما جرى به العرف والعادة فإن شهد العرف للصانع حكم له بأجرة المثل لذلك التعليم وإن كانت الأجرة عادة للصبي لزم الصانع دفعها له، فإن جرى العرف أن لا أجرة لأحدهما على الآخر حتى ساعة تحصيل الصنعة وقص الشعر وإصلاحه فلا شيء لأحدهما على الآخر كما هو العمل في تونس.
ومما كان مرجعه إلى العرف تشوير الأب الغني ابنته بمثل نقد ابنته ذكر ابن غازي في شفاء الغليل عن فتوى الشيخ أبي محمد عبد الله العبدوسي أن الذي جرى به العمل في أغنياء الحاضرة إجبار الأب أن يجهز ابنته بمثل نقدها، فإذا نقدها الزوج عشرين جهزها الأب بأربعين؛ عشرين من نقدها وعشرين زيادة من عنده، وهذا إنما هو إذا فاتت بالدخول أما أن طلب الزوج هذا قبل الابتناء، فلا يجبر أب ويقال للزوج إما ترضى بأن يجهزها لك بنقدها خاصة وإلا فطلق ولا شيء عليك وبهذا القضاء وبه العمل (1) قال في العمليات العامة:
وعند فاس ذو الغنى يشور
بمثل نقد بنته ويجبر
أن وقع الدخول أما أن طلب
الزوج ذا قبل فلا يجبر الأب
وقيل للزوج تجهز إليك
بالنقد أو طلق ولا شيء عليك
__________
(1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد ص 32(5/2486)
ومما انبنى على العرف وجرى به العمل وجوزه الفقهاء لذلك خلو الحوانيت وأجرة الدلال والحمال ونحوهما من غير تسمية الأجرة بناء على أن الأجير يستحق من الأجرة ما جرت به العادة ومثلها أيضا تقسيم الأشياء ومعرفة المكيلات والموزونات والمزروعات، فهي تتوقف على العرف والعادة وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فإذا بيعت سلعة على أساس وزنها بالأرطال انصرف ذلك الرطل إلى المتعارف في محل التعاقد أو التسليم وفاقًا لنية المتعاقدين، وقد يختلف الرطل من مكان إلى مكان.
ومن مثل ما اتضح فيه العرف ما في المدونة أن ما يباع في الأسواق كاللحم والفواكه والخضر أو على النقد كالصرف، وقد انقلب به المبتاع فادعى البائع عدم دفع الثمن فالقول قول المشتري أنه قد دفعه مع يمينه لشهادة العادة له بصدقة، ومن شهد له أصل أو عرف، فهو مدعى عليه. قال الإمام المازري: وهذا لم يختلف فيه لاتضاح العادة الدالة عليه وذكر ابن رشد أنه لاختلاف وأن القول هنا قول المبتاع (1) قال أبو إسحاق التونسي: ما كان من الأشياء عادتها أن تقبض قبل دفع السلعة أو معها معًا، فإذا قبض المشتري السلعة كان القول قوله مع يمينه أنه دفع الثمن لدعواه العادة، وقال ابن محرز: إن لم ينقلب به وكان قائما مع بائعه، فقد اختلف في ذلك، فروى أشهب عن مالك إن القول قول رب الطعام مع يمينه، وقال ابن القاسم: القول قول المبتاع، قال ابن القاسم: وذلك إذا كانت عادة الناس في ذلك الشيء أخذ ثمنه قبل قبضه أو معه قال ابن محرز فقد نبه ابن القاسم على المعنى الذي ينبغي أن يعتمد عليه في هذا الأصل وهو العادة، فمن ادعى المعتاد كان القول قوله مع يمينه في جميع الأشياء المشتراة على اختلافها من دور وبناء وطعام وغير ذلك (2) .
وفي العمليات العامة: وفي اختلاف بائع ومشتر في الدفع، فالثانى بتعجيل جرى.
قال ابن عبد السلام: يؤخذ أخذا ظاهرًا يقرب من النص أن المشتري هو المبتدئ بدفع الثمن من قول المدونة في كتاب العيوب من اشترى عبدا فللبائع منعه من قبضه حتى يدفع إليه الثمن وعلى القول المعمول به جرى صاحب المختصر، بل نقل الأجهوري عن ابن رشد أن هذا الحكم متفق عليه في المذهب ولفظه قال ابن رشد: من حق البائع أن لا يدفع ما باع حتى يقبض ثمنه لأن ذلك في يده كالرهن بالثمن، فمن حقه أن لا يدفع إليه ما باع منه ولا يزنه له، ولا يكيله له إن كان مكيلا أو موزونًا حتى يقبض ثمنه، وهذا أمر متفق عليه في المذهب مختلف فيه في غيره (3) .
__________
(1) انظر تاريخ قضاة الأندلس للنبهاني: ص 150
(2) انظر تاريخ قضاة الأندلس للنبهاني: ص 150.
(3) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد، لعبد الجليل السجلسماسي: ص 153(5/2487)
ومن باع سلعة وادعى بعد طول أنه لم يقبض ثمنها وأنكر ذلك المبتاع، فالقول قوله بيمينه، وقد اختلف في حد الطول، قال الإمام المازري: الطول غير محدد ولا مقدر إلا بحسب ما تجري به العوائد في سائر الجهات.
ومن هذا أيضا اختلاف الكاري والمكتري في دفع الكراء، فالقول للمكتري: إذا أطال الأمد بعد انقضاء أمد الكراء حتى جاوز الحد الذي جرى العرف بتأخير الكراء إليه.
ومنه أيضا دعوى الزوج دفع الصداق إلى الزوجة فقد قال مالك وابن القاسم أن الزوج يصدق في دفع الصداق إذا اختلفا في ذلك بعد البناء ويحلف وبه الحكم. قال ابن الماجشون: إن كان قريبا وجاءت بلطخ حلف فإن طال فلا يمين عليه، وقال ابن وهب: عند قول ابن المواز إن قامت بحدثان الدخول فالقول قولها وإن طال الأمر فقوله وما ذكر من كون القول قول الزوج بعد البناء مقيد بقيود: منها أن يدعي الدفع قبل البناء وأن لا يقيد في رسم الصداق ما ينفي قبول قوله إلا ببينة، قال في المختصر: إن ادعى الدفع بعد البناء حلفت الزوجة أو من يلي أمرها وغرمه الزوج، قلت لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وقال أيضًا: إن عقد في الصداق بعد ذكر النقد أنه لا يبريه منه البناء بها ولا طول المقام معها فإنه حينئذ لا يقبل قوله في الدفع كسائر الديون (1) ويعطف عليه ما قالوه من أن رب الدين إذا حضر قسمة التركة ولم يطالب بدينه وسكت من غير عذر فلا شيء له، والأصل في كل ما نقلنا وشبهه شهادة العرف والعادة، ونلاحظ من ذلك ما للعرف من قوة واعتبار في إنشاء الأحكام وابتنائها عليه وبوساطة العرف ندرك ما أولاه الفقهاء من عناية واعتبار للعرف حتى ألفوا كتبًا ورسائل فيما جرى به العرف والعمل حسب الأقطار المختلفة فمثلًا اختلف الفقهاء هل يجوز للقاضي الإفتاء في الخصومة فقيل بالجواز وهو قول ابن عبد الحكم وقيل بالمنع، وقد جرى العمل بفاس بجواز الإفتاء للحكام وجرى العمل بعدم جواز الإفتاء للحكام بتونس عملًا بقول التحفة، ومنع الإفتاء للحكام، قال صاحب العمليات إن العمل على قول ابن الحكم في إفتاء القضاة شائع أي في فاس إلا أنهم ربما تجنبوا ما كان يرجع إليهم التحكيم فيه ملاحظة للقول الآخر (2) .
__________
(1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد، لعبد الجليل السجلسماسي: ص 60
(2) فتح الجليل: ص 404(5/2488)
كذلك اختلف الفقهاء في الترشيد والتسفيه فالذي جرى به العمل عند الموثقين من أهل فاس أنه لا يكفي فيه عدلان اثنان، وعليه درج ابن عاصم وتحفته ونقل عن أصبغ الاجتزاء برجلين مع الفشو وهو ما عليه العمل بتونس من قبول عدلين في التسفيه والترشيد والزيادة أفضل من هذا القبيل ما اختلف فيه الفقهاء من الشفعة فيما لا ينقسم كالحمام، ففي التوضيح عند قول أبي الحاجب، وفي غير المنقسم كالحمام ونحوه قولان قال ما نصه: يعني وفي الشفعة فيما لا يقبل القسم إلا بضرر قولان وهما لمالك وابن عبد السلام وفي المدونة ما يدل على كل واحد منهما وبعدم الشفعة قال ابن القاسم ومطرف وبالشفعة قال أشهب وابن الماجشون وأصبغ، قال صاحب الذخيرة: وعدم الشفعة هو المشهور قال صاحب المعين وبه القضاء وقد جرى عمل قرطبة بثبوت الشفعة وأفتوا به لما جمعهم القاضي المنذر بن سعيد، حيث جاءه خط أمير المؤمنين عبد الرحمن أن يحمله على قول مالك ويقضي له به فجمع القاضي منذر بن سعيد الفقهاء وشاورهم فقالوا: مالك يرى في الحمام الشفعة فقضى منذر بذلك وحكم له بها، قال ابن حارث: وأخبرني من أثق به أنه جرى العمل عند الشيوخ بإيجاب الشفعة في نحو الحمام ومن الأبرحة والآبار والعيون والشجرة الواحدة وشبه ذلك وقد جرى العمل بتونس بعدم الشفعة فيما لم ينقسم. ومثل هذا الخلاف الخلاف في كراء الدار بين رجلين كرى أحدهما نصيبه منها، فهل لشريكه أن يشفع ذلك من يد المكتري لأن الكراء بيع منفعة أو ليس له ذلك فيه قولان جرى القضاء بكل منهما، قال القلشاني في شرح الرسالة: اختلف في الشفعة في كراء الربع فقال ابن القاسم والمغيرة وعبد الملك بسقوط الشفعة وبه الحكم الآن بإفريقية على ما سمعت، وقال أشهب ومطرف وأصبع: فيه الشفعة، وروي عن ابن القاسم أيضا، والقولان لمالك وبالثاني الحكم بالمغرب والأندلس فيما سمعته وفي نوازل ابن هلال ما نصه مسألة جرى العرف بالشفعة في الكراء وبه أفتى ابن علال والتازغدري رحمهما الله تعالى، وجعلا المكتري كالشريك في الأصل وخالفهما القاضي عبد الرحيم اليزنانسني واقتصر في التحفة على أن الحكم فيه ينفي الشفعة فقال: والخلف في أكرية الرباح والدور، والحكم بالامتناع وعندنا في تونس لا شفعة في الكراء مطلقًا.
ومما وقع فيه الخلاف بين الفقهاء دعاء الأئمة عقب الصلوات المكتوبة، قال ابن ناجي في آخر كتاب الصلاة نص مالك على كراهة الدعاء لأئمة المساجد والجماعة عقب الصلوات المكتوبات جهرًا للحاضرين خوفًا من الرياء، والعمل عندنا بأفريقية على جواز ذلك لأنها بدعة مستحسنة لورود الدعاء من حيث الجملة ومع جري العادة ينتفى الرياء، وفي المعيار في فصل المستحسن من البدع وغيرها ما نصه قال ابن عرفة: عمل من يقتدى به في العلم والدين من الأئمة على الدعاء بأثر الذكر الوارد أثر تمام الفريضة وما سمعت من ينكره إلا جاهل غير مقتدى به وفي نوازل الصلاة منه من الأمور التي هي كالمعلوم بالضرورة استمرار عمل الأئمة في جميع الأقطار على الدعاء إدبار الصلوات في مساجد الجماعات واستصحاب الحال حجة واجتماع الناس عليه في المشارق والمغارب منذ الأزمنة المتقادمة من غير نكير إلى هذه المدة من الأدلة على جوازه واستحسان أخذ به وتأكده عند علماء الملة. اهـ. باختصار(5/2489)
قال ابن زرقون: ورد الخبر بمسح وجه باليدين عند انقضاء الدعاء واتصل به عمل الناس والعلماء وقال ابن رشد أنكر مالك مسح الوجه بالكفين لكونه لم يرد أثر وإنما أخذ من فعله عليه الصلاة والسلام للحديث الذي جاء عمر رضي الله عنه، قلت: بجواز مسح الوجه باليدين عند ختم الدعاء قال الأستاذ أبو سعيد بن لب وأبو عبد الله بن علاق وأبو القاسم بن سراج من متأخري أئمة غرناطة وابن عرفة والبرزلي والغبريني من أئمة تونس والسيد أبو يحيى الشريف وأبو الفضل العقباني من أئمة تلمسان وعليه مضى عمل أئمة فاس والمراد بالحديث الذي جاء عمر رضي الله عنه ما أخرجه الترمذي عنه ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه)) نقل ذلك المازري وغيره (1)
وبما ذكرنا ونقلنا ندرك ما للعرف من قوة واعتبار في إنشاء الأحكام وابتنائها وتأثير العرف على اختيارات الفقهاء واختلاف الأحكام باختلاف العادات حسب الجهات وهذا التأثير سيظل متجددًا ما دام في الناس أعراف وعادات وما يتجدد في الحياة باختلاف الحضارات وتبدل أساليب المعيشة وتطوره العلم وكثرة العمران ولا شك أن لدى العمال في مصانعهم أعرافًا ولدى المزارعين في حقولهم أعرافًا ولدى الحرفيين أعرافًا ولكل قطر أعرافًا، ولذا لا يمكن تجاهلها وغض النظر عنها، ولذا كان على الفقيه والمجتهد أن يكون متصلًا بالناس عارفًا بأحوالهم وتقاليدهم وعاداتهم حتى يكون حكمه صحيحًا وفتواه مقبولة وحتى يكون أميل إلى الرفق بالنس جاريًا على ما تقتضيه قواعد الشرع من رفع الحرج والتيسير وعدم التعسير.
__________
(1) فتح الجليل الصمد وشرح التكميل والمعتمد للسلجسماسي: ص 289 و 547 و 548(5/2490)
تغير الأحكام بتغير العادات والأحوال:
يقول العلامة ابن خلدون في مقدمة كتاب العبر: يحتاج صاحب هذا الفن (أي التاريخ) إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتفق منها والمختلف والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتى يكون مستوعبًا لأسباب كل حادث واقفا على أصول كل خبر وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحًا وإلا زيفة واستغنى عنه وما استكبر القدماء علم التاريخ إلا لذلك حتى انتحله الطبري والبخاري وابن إسحاق من قبلهما وأمثالهم من علماء الأمة، وقد ذهل الكثير عن هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة واستخف العوام ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله الخوض فيه والتطفل عليه فاختلط المرعي بالمهمل واللباب بالقشر والصادق بالكاذب وإلى الله عاقبة الأمور، ومن الخلط الخفي في التاريخ الذهول من تبدل الأحوال في الأمم والأجيال تبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وفوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال وكما يكون ذلك في الأشخاص، والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عبادة وقد كانت في العالم أمم الفرس الأولى والسريانيون والنبط والتبابعة وبنو إسرائيل والقبط وكانوا على أحوال خاصة بهم في دولهم وممالكهم وسياستهم وصنائعهم ولغاتهم واصطلاحاتهم وسائر مشاركاتهم مع أبناء جنسهم وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم ثم جاء بعدهم الفرس الثانية والروم والعرب فتبدلت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلى ما يجانسها أو يشابها وإلى ما يباينها أو يباعدها، ثم جاء الإسلام بدولة مضر فانقلبت تلك الأحوال أجمع انقلابة أخرى، وصارت إلى ما أكثره متعارف لهذا العهد يأخذه الخلف عن السلف، ثم درست دولة العرب وأيامهم وذهبت الأسلاف الذين تقيدوا عزهم ومهدوا ملكهم، وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل الترك بالمشرق والبربر بالمغرب، والفرنجة بالشمال، فذهبت بذهابهم وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل الترك بالمشرق، والبربر بالمغرب، والفرنجة بالشمال، فذهبت بذهابهم أمم وانقلبت أحوال وعوائد نسي شأنها وأغفل أمرها والسبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد أن عوائد كل تابعة لعوائد سلطانه إذا استولوا على الدولة والأمر فلا بد وأن يفرعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذوا الكثير منها، ولا يغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك فيقع في عوائد الدولة بغض المخالفة لعوائد الجيل الأول فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم وخرجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضًا بعض الشيء، وكانت للأولى أشد مخالفة، ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهى إلى المباينة بالجملة، فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة.(5/2491)
والقياس والمحاكمة للإنسان طبيعة معروفة ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول والغفلة عن قصده وتعوج به عن مرامه، فربما يسمع السامع كثيرًا من أخبار الماضين، ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينها كثيرًا فيقع في مهواة من الغلط، فمن هذا الباب ما نقله المؤرخون من أن التعليم في صدر الإسلام والدولتين لم يكن العلم صناعة إنما كان نقلًا لما سمع من الشارع وتعليمًا لما جهل من الدين على جهة البلاغ فكان أهل الأنساب والعصبية الذين قاموا بالملة هم الذين يعلمون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على معنى التبليغ الخبري لا على وجه التعليم الصناعي إذ هو كتابهم المنزل على الرسول منهم وبه هدايتهم والإسلام دينهم قاتلوا عليه وقتلوا واختصوا به من بين الأمم وشرفوا فيحرصون على تبليغ ذلك وتفهيمه للأمة لا تصدهم عنه لائمة الكبر ولا يزعهم عامل الأنفة ويشهد لذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم كبار أصحابه مع وجود العرب يعلمونهم حدود الإسلام، وما جاء به من شرائع الدين بعث في ذلك أصحابه العشرة فمن بعدهم، فلما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة حتى تناولتها الأمم البعيدة من أيدي أهلها، واستحالت بمرور الأيام أحوالها وكثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع وتلاحقها، فاحتاج ذلك لقانون يحفظه من الخطأ وصار العلم ملكة يحتاج إلى التعلم فأصبح من جملة الصنائع والحرف وانقلب حرفة للمعاش.
وقد بين الدكتور صبحي محمصاني قاعدة تغيير الأحكام بتغير العادات، أن هذه الحقيقة التي أدركها علماء الاجتماع والقانون كالعلامة منتسكنو وغيره، قد أدركها علماء الإسلام في القرن السابع الهجري الثالث عشر ميلادي، فلاحظها شهاب الدين القرافي وابن القيم الجوزية وأبو إسحاق الشاطبي، وقد قدمنا كلام ابن خلدون في ذلك، بل هي عند فقهاء المسلمين من البديهية التي لا جدال فيها ونوه بها في أواخر القرن التاسع عشر مفتي الديار المصرية الإمام عبده في مقاله اختلاف القوانين باختلاف الأمم (1) .
__________
(1) فلسفة التشريع في الإسلام ص221.(5/2492)
إننا ندرك مما نقلنا أن مصالح الناس تتغير وتتبدل حسب تبدل مظاهر المجتمع وتغيره كما أن أحكامها ومعاملاتها تابعة في تشريعها لمصالحها، فكان منطقيًّا أن تتبدل هذه الأحكام وفق هذه الأحكام وفق تبدل الزمان وتغير الأحوال، وهذه تتأثر بمظاهر المحيط والبيئة الاجتماعية. وأن كثيرًا من الفروع الفقهية ليختلف الحكم فيها باختلاف جلب المصلحة ودرء المفسدة وما يكون مصلحة في زمان قد يكون مفسدة في زمن آخر، وأن من الفقهاء من لم يقتصر في ترتيب الأحكام على خصوص المنصوص فإن لم يجد اجتهد وتأمل وفكر فيما هو أقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سواء أكان يتعرف ذلك أقرب من نص معين وهو المسمى بالقياس أم الأقرب للمقاصد العامة للشريعة وذلك هو المصلحة وعلى رأس من أخذ بالمصلحة عمر بن الخطاب، فأفتى وأفتى معه كثير من الصحابة بالمصلحة في ذاتها كحكيم بقتل الجماعة بالواحد وكتضمين الصناع، فقد قال علي كرم الله وجهه: لا يصلح الناس إلا ذاك.
وكان عمر رضي الله عنه في إدارة شؤون الدولة يجتهد عن طريق المصلحة فيما لا نص فيه، وقد جاء كتابه إلى أبي موسى الأشعري (الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة اعرف الأشياء والأمثال وقس الأمور عند ذلك) ، وكان له نوعان من الشورى: الشورى الخاصة والشورى العامة وشوراه الخاصة تكون لذوي الرأي من علية الصحابة من المهاجرين والأنصار السابقين وهؤلاء يستشيرهم في أمور الدولة التي يحتاج إلى أوجه النظر المختلفة، سواء أكانت من صغرى أمور الدولة أم كانت من كبراها. وأما الشورى العامة فإنها تكون لأهل المدينة أجمعين وفي الأمور الخطيرة من أمور الدولة أو التي تقرر قاعدة عامة تسير في مستقبل الأمة على أنها من القرارات الثابتة فإذا جد أمر من هذا النوع يجمع أهل المدينة في المسجد الجامع وإذا ضاق بهم جمعهم خارج المدينة وعرض عليهم الأمر الخطير ويتناقشوا فيه، ومن ذلك استشارتهم في أرض سواد العراق فقد كان من رأي الغزاة قسمتها بينهم، وكان من رأي عمر عدم قسمتها وأن تترك في أيدي أهلها الذين كانت أيديهم عليها، وقد تناقشوا فيها يومين أو ثلاثة وانتهى الأمر إلى موافقة عمر عندما ساق لهم قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [سورة الحشر: الآية 7] .(5/2493)
وقد أبطل الإسلام حصره في الأغنياء يتداولونه بينهم ولا ينال أهل الحاجة نصيبًا منه إذ من مقاصد شريعتنا الغراء أن يكون المال دولة بين الأمة الإسلامية على نظام محكم في انتقاله من كل مال لم يسبق عليه ملك لأحد مثل الموات والفيء واللقطات والركاز أو كان جزءًا معينًا مثل الزكاة والكفارات وتخميس المغانم والخراج والمواريث وعقود المعاملات التي بين جانبي مال وعمل، مثل القراض والمغارسة والمساقاة وفي الأموال التي يظفر بها الظافر بدون عمل وسعي مثل الفيء والركاز وما ألقاه البحر (1) .
كان عمر يجمع أهل المدينة ويستشيرهم في الأمور، وكان سكان المدينة في هذا يشبهون سكان أثينا في عهد بركليس إذ كان كل شخص من أهل هذه المدينة له رأي في شؤون الدولة وإن الرأي الذي يكون في اجتماع ويوافق عليه المجتمعون يكون أقوى من الرأي الذي يكون نتيجة دراسة للموضوع من كل نواحيه وجوانبه مع تبادل أوجه النظر المختلفة، ولهذا كان الرأي الجماعي وهو الذي تسير عليه مقتضيات شؤون الدولة وجاء من بعد الصحابة والتابعين من اعتبر الرأي الجماعي إجماعًا وعده مصدرًا رابعًا حتى صارت المصادر عنده الكتاب والسنة والإجماع والرأي، ومما لا شك أن القصد من الأحكام إقامة العدل ودرء المفسدة وجلب المصلحة فيصدر الحكم على وفق ما يحقق تلك المصلحة أو يدرأ تلك المفسدة ويكون علاجًا ناجعًا وتدبيرًا حكيمًا لبيئة معينة في زمن معين، ثم بعد جيل، أو أجيال، وتغير الأحوال لا يبقى صالحًا، ولا محققا للغرض المنشود بل ربما يفضي إلى عكس المطلوب لتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق، ولقد انتبه المتأخرون إلى هذه الحقيقة، ولاحظوها في كثير من المسائل وأفتوا في كثير منها بعكس ما أفتى به الأوائل معللين مخالفتهم لأئمتهم والسابقين من فقهاء مذهبهم باختلاف الزمان وفساد الأخلاق، وهم في الواقع غير مخالفين لهم، موضحين بأنه لو استمر بهم الحال ورأوا ما رأى المتأخرون لقالوا بمثل ما قالوا ولعدلوا عن كثير من الأقوال التي كانوا قد أفتوا بها في قديم الزمان (2) ويعبرون عن مخالفتهم لمن قبلهم بأنه اختلاف في حال وهؤلاء مجتهدو التخريج المنتسبون وهم الذين اختاروا ما قرره أئمتهم بالنسبة لأصول الاستنباط وخالفوهم في الفروع وإن انتهوا إلى نتائج مشابهة في الجملة إلى ما وصل إليه أئمتهم وهم في الغالب ممن يكون لهم صحبة ملازمة ومن هؤلاء في المذهب الحنفي خالد بن يوسف السمتي وهلال والحسن بن زياد اللؤلؤي، وفي المذهب الشافعي المزني، وفي المذهب المالكي عبد الرحمن بن القاسم وابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن حبيب وغيرهم، ولم يخل عصر في القرون الأولى التي تلت عصر الأئمة من هذا الصنف الذي يتقيد بالمنهاج ولا يتقيد بالفروع كالطحاوي والكرخي وأبي بكر الأصم، فالكرخي مثلًا خالف أبا حنيفة في الأخذ بالكفاءة في الزواج على الصغار والطحاوي كان يتبع المنهج الحنفي وأحيانًا يختار من المذهب الشافعي (3) .
__________
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور: ص 170
(2) المدخل الفقهي العام: 2 / 924
(3) كتاب صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، ط. دمشق ص 1380.(5/2494)
ويلي هذه الطبقة طبقة المجتهدين في المذهب واجتهادهم يكون في استنباط أحكام المسائل التي لم يرد فيها عن إمام المذهب رأي فيها واجتهادهم لا يكون في المسائل المنصوص عليها في المذهب إلا في دائرة معينة وهي التي يكون استنباط السابقين فيها مبنيًّا على العرف، أو على ملاحظة أمور من أمور العصر لا وجه لها إلا عرف المتأخرين بحيث لو رأى السابقون ما يرى الحاضرون لرجعوا عما قالوا ولقالوا في هذه وأشباهه إنه اختلاف زمان لا اختلاف دليل وبرهان، وخلاصة القول: إن اجتهاد هؤلاء ينحصر في أمرين: أولهما: استخلاص القواعد التي كان يلتزمها الأئمة السابقون وجمع الضوابط الفقهية التي تتكون من علل الأقيسة التي استخرجها الأئمة. ثانيهما: استنباط الأحكام التي حررت الفقه المذهبي ووضعت أسس الترجيح والموازنة بين الآراء لتصحيح بعضها وتضعيف غيرها وهي التي ميزت الكيان الفقهي لكل مذهب، ويلي هذه الطبقة المجتهدون المرجحون الذين لا يستنبطون أحكام المسائل ولكن يرجحون بين الآراء المروية بوسائل الترجيح التي ضبطها لهم علماء الطبقة السابقة فيرجح هؤلاء بعض الأقوال على بعض بقوة الدليل أو الصلاحية للتطبيق بموافقة أحوال العصر ونحو ذلك مما لا يعد استنباطًا جديدًا مستقلًا أو غير مستقل، وقد عد بعض الأصوليين هذه الطبقة والتي قبلها طبقة واحدة للفرق الدقيق بينهما، ولا يبعد أن نعدهما طبقة واحدة لأن الترجيح بين الآراء بمقتضى الأصول لا يقل وزنًا عن استنباط أحكام الفروع التي لم ترد فيها أحكام من الأئمة والنووي في مقدمة المجموع ذكرهما على أنهما طبقة واحدة وابن عابدين عدهما طبقتين (1) وجعل جملة الطبقات سبعة ذكرها في أول رسالته التي أسماها عقود رسم المفتي (2) .
وقد رأى الفقهاء أنه لا يصح وقف ما لا فائدة فيه أو مما لا منفعة منه فلا يصح وقف الكلب أو الخنزير والأسباع والبهائم وجوارح الطير التي لا تصلح للصيد وقد اشترط الحنفية أن يكون الموقوف مالًا متقومًا ومثله الوصية، فقد اشترطوا أن يكون متقومًا في عرف الشرع وأن يباح الانتفاع به شرعًا فلا تصح الوصية بنحو خمر وخنزير وكلب وسباع لا تصلح للصيد عند المالكية، وجازت الوصية عند الحنفية بالكلب المعلم والسباع التي تصلح للصيد لتقومها عندهم ولأنها مضمونة بالإتلاف ويجوز عندهم بيعها وهبتها وكذلك الشافعية والحنابلة تصح الوصية فيما نفعه مباح من غير المال ككلب صيد وكلب ماشية وكلب زرع وحرث ونحوها من السباع للصيد، لأن فيها نفعًا مباحًا وتقر اليد عليها (3) .
__________
(1) رسالة رسم المفتي، لابن عابدين: 1 /11، وهي مجموعة في ثلاث وأربعين صحيفة من مجموعة رسائل ابن عابدين.
(2) رسالة رسم المفتي، لابن عابدين: 1 /11، وهي مجموعة في ثلاث وأربعين صحيفة من مجموعة رسائل ابن عابدين. 1 /11و 12
(3) نيل الأوطار، للشوكاني: 6 /62(5/2495)
والمروي عن مالك رضي الله عنه أنه لا يرى اتخاذ الكلب لحراسة الدور ولما سئل مالك الصغير أعني عبد الله بن أبي زيد القيرواني عن شأن كلاب الحراسة أجاب بقوله لو أدرك مالك هذا الزمان لاتخذ أسدًا ضاريًا (1) ويؤخذ من ذلك تغير الأحكام التي لا نص فيها بتغير الأحوال والأزمان والناس فتدور الأحكام معها دورانها مع العلة وجودًا وعدمًا ولقد قال الإمام الحافظ ابن يوسف التميمي الصقلي لو أدرك الإمام وأصحابه مثل زماننا (وهو من أبناء القرن الخامس إذ توفي سنة 451هـ) هذا جعلوا الميراث لذوي الأرحام إذا انفردوا ولقالوا بالرد على ذوي السهام، وذوو الأرحام في اصطلاح الفرضيين هو كل قريب ليس صاحب فرض ولا عصبة كأولاد البنات وأولاد الأخوات وبنات الإخوة، والجد الرحمي وهو من يتصل إلى الميت بأم الجدة الرحمية، والخال والخالة ونحوهم من كل قريب ليس عصبة ولا صاحب فرض، واختلف الفقهاء في توريثهم على رأيين فأبو حنيفة وأحمد قالا بتوريثهم، وهو رأي عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم مستدلين بقوله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [سورة الأنفال: الآية 75] ، فيشمل كل الأقرباء أكانوا ذوي فروض أم عصبات أم لا ولحديث البخاري ومسلم ((ابن أخت القوم منهم)) ولقوله ((من ترك مالا فلورثته وأنا وارثه أعقل منه (أي أدفع عنه الدية) وأرثه والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه)) ، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وأعله البيهقي بالاضطراب (2) .
وذهب مالك والشافعي إلى عدم توريث ذوي الأرحام فإذا هلك هالك عن غير فرض ولا عصبة وله ذو رحم ردت التركة إلى بيت المال وهو رأي زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وأخذ به الأوزاعي وأبو ثور وداود وابن جرير الطبري واستدلوا بأن الله تعالى ذكر في آيات المواريث نصيب أصحاب الفروض والعصبات ولم يذكر لذوي الأرحام شيئًا ولو كان لهم حق لبينه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . [سورة مريم: الآية 64] .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أعطى لكل ذي حق حقه)) [رواه الترمذي وغيره] . وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة فقال: ((أخبرني جبريل أن لا شيء لهما)) رواه أبو داود في المراسيل وقيل في التوفيق بين هذا الحديث وما رواه المثبتون لذوي الرحم في الميراث أن نفي الميراث عن العمة والخالة كان قبل نزول آية الأنفال من قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [سورة الأنفال: الآية 75] أو أن العمة والخالة ليس لهما فرض مقدر وأنهم لا يرثون مع العصبة ولا مع ذي فرض يرد عليه، فإن الرد على ذوي الفروض مقدم على توريث ذوي الأرحام ولكنهم يرثون مع من لا يرد عليه وهما الزوجان والرد هو دفع ما فضل لأنه زيادة في الأنصبة ونقص في السهام فيرد ما فضل عن فرض ذوي الفروض النسبية عليهم بقدر سهامهم ولا يرد على الزوجين وارد عند الفرضيين هو دفع ما فضل من أصحاب الفروض النسبية إليهم بقدر حقوقهم عند عدم العصبة وللعلماء في الرد رأيان فريق يرى عدم الرد وإنما يكون الباقي من التركة بعد أخذ أصحاب الفروض فروضهم ولا عاصب للهالك يكون الباقي لبيت المال وهو مذهب زيد بن ثابت وبه أخذ مالك والشافعي ودليلهم أن الله قد بين نصيب كل وارث بالنص فلا يجوز الزيادة عليه بغير دليل.
__________
(1) حاشية المهدي الوزاني، ط حجرية: 20 /350
(2) حاشية(5/2496)
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا يستحق وارث أكثر من حقه)) ، ويرى جمهور من الصحابة والتابعين الرد على غير الزوجين وبه أخذ الحنفية والحنابلة، قال الغزالي والفتوى اليوم على الرد على غير الزوجين عند عدم المستحق لعدم بيت المال إذ الظلمة لا يصرفونه إلى مصرفه وهذا ما جعل ابن يونس يقول لو أدرك الإمام وأصحابه مثل زماننا هذا لجعلوا الميراث لذوي الأرحام إذا انفردوا ولقالوا بالرد على ذوي السهام (1)
لقد أجاد وأفاد ابن القيم الجوزية حين لاحظ أن تغير الفتوى واختلافها تتغير بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وذكر أن بسبب الجهل بهذه الحقيقة وقع غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يتنافى مع الشريعة التي هي في أعلى رتب المصالح موضحًا لذلك بتنزيل الشرط العرفي منزلة الشرط اللفظي كوجوب نقد البلد عند الإطلاق وكالسلامة من العيوب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلا لا شتراط السلامة من العيوب عرفا منزلة اشتراطها لفظًا وكوجوب الوفاء للمسلم فيه في مكان العقد وإن لم يشترطه لفظًا بناء على الشرط العرفي وكدفع الثوب لمن يغسله أو يخيطه أو العجين لمن يخبزه أو اللحم لمن يطبخه أو الحب لمن يطحنه أو مشاعًا لمن يحمله ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك فإنه يجب له أجرة المثل وإن لم يشترط معه ذلك لفظًا عند جمهور العلماء، بل حتى عند المنكرين لتنزيل الشرط العرفي منزلة الشرط اللفظي وكل هذا لأن المؤمنين والمؤمنات وبعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا جاز لأحدهم ضم اللفظة ورد الآبق وحفظ الضالة وله أن يحسب ما أنفقه عليها وينزل إنفاقه منزلة إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظًا لمال أخيه وإحسانًا إليه ولو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن إحسانه يذهب باطلًا في حكم الشرع لما أقدم على ذلك ولضاعت مصالح الناس ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضًا وتعطلت حقوق كثيرة وفسدت أموال عظيمة، ومعلوم أن شريعة من بهرت شريعته العقول وفاقت كل شريعة واشتملت على مصلحة وعطلت كل مفسدة تأبى ذلك كل الإباء (2) وهذا الذي لاحظه ابن القيم، قد أدركه كثير من الأئمة قبله فهذا مالك بن أنس يقول تحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا وكلمة عمر بن عبد العزيز في ذلك مشهورة تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ولما كانت الأحكام بالنسبة للمصالح كتعلق المسببات بأسبابها والمعلولات بعلاتها تعين أن تتغير الأحكام عند تغيراتها ومعلوم أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا فبوجودها يوجد وبانعدامها ينتهي، قال ابن عابدين: إن كثيرًا من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الأزمان بسبب فساد أهل الزمان أو عموم الضرورة من إفتاء المتأخرين بجواز الاستئجار على تعليم القرآن وعدم الاكتفاء بظاهر العدالة. إن ذلك مخالف لما نص عليه أبو حنيفة ومن ذلك تحقق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول الإمام بناء على ما كان في عصره أن غير السلطان لا يمكنه الإكراه، ثم كسر الفساد فصار يتحقق الإكراه من غيره، فقال محمد باعتباره وأفتى به المتأخرون ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب من أن الضمان على المباشر دون المتسبب ولكن أفتوا بضمانه زجرًا لفساد الزمان ومنه تضمين الأجير المشترك وقولهم إن الوصي ليس له المضاربة بمال اليتيم في زماننا وإفتاؤهم بتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف وعدم إجارته أكثر من سنة في الدور وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي مع مخالفته لأصل المذهب من عدم الضمان وعدم التقدير بمدة ومنعهم القاضي أن يقضي بعلمه وإفتاؤهم بمنع الزوج من السفر بزوجته وإن وافاها المعجل لفساد الزمان وعدم سماع قوله أنه استثنى بعد الحلف بطلاقها إلا ببينة مع أنه خلاف ظاهر الرواية وعللوه بفساد الزمن وعدم تصديقها بعد الدخول مما بانها لم تقبض ما اشترط لها تعجيله من المهر مع أنها منكرة للقبض وقاعدة المذهب أن القول للمنكر لكنها في العادة لا تسلم نفسها قبل قبضه وكذا قالوا في قوله كل حل علي حرام يقع به الطلاق للعرف عند مشائخ بلخ ولا يقع إلا بالبينة عند محمد وقال: أما عرف بلادنا يريدون به تحريم المرأة فيحمل عليه.
__________
(1) حاشية ابن الخياط على شرح الخرشي لفرئض خليل، ط عاطف بمصر ص 51
(2) إعلان الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية: 3/ 1(5/2497)
نقله العلامة قاسم ونقل عن مختارات النوازل أن عليه الفتوى لغلبة الاستعمال بالعرف إلى أن قال بعد أن عدد فروعًا كثيرًا فهذه كلها قد تغيرت أحكامها لتغير الزمان إما للضرورة وإما للعرف وإما لقرائن الأحوال وكل ذلك غير خارج عن المذهب، لأن صاحب المذهب لو كان في هذا الزمان لقال بها ولو حدث هذا التغير في زمانه لم ينص على خلافها، فللمفتي اتباع عرفه الحادث في الألفاظ العرفية وكذا في الأحكام التي بناها المجتهد على ما كان في عرف زمانه وتغير عرفه إلى عرف آخر اقتداء بهم بشرط أن يكون له من الرأي والنظر الصحيح والمعرفة بقواعد الشرع ما يميز بين العرف الذي يجوز بناء الأحكام عليه وبين غيره وقد شرط المتقدمون في المفتي الاجتهاد وهو مفقود فلا أقل من أن يكون عارفًا المسائل بشروطها وقيودها ومن معرفة عرف زمانه وأحوال أهله والتخرج في ذلك على أستاذ ماهر، وفي الغنيمة ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف وهو صريح في أن المفتي لا يفتي بخلاف عرف أهل زمانه (1)
وفي الأشباه في البزازية من أن المفتي يفتي بما يقع عنده من المصلحة علق عليه ابن عابدين في رد المحتار في باب القسامة فيما لو ادعى الولي على رجل من غير أهل المحلة وشهد اثنان منهم عليه لم تقبل عنده وقالا: تقبل إلى آخر (2) . ونقل السيد الحموي عن العلامة المقدسي أنه قال: توقفت عن الفتوى بقول الإمام ومنعت من إشاعته لما يترتب عليه من الضرر العام، فإن من عرفه من المتمردين يتجاسر على قتل النفس في المحلات الخالية من غير أهلها معتمدًا على عدم قبول شهادتهم عليه، قال ابن عابدين: ينبغي الفتوى على قولهما لا سيما والأحكام تختلف باختلاف الأيام، وفي باب ما يوجب القضاء والكفارة من كتاب الصوم عند قول الهداية: ولو أكل لحمًا بين أسنانه لم يفطر وإن كان كثيرًا يفطر وقال زفر: يفطر في الوجهين، فإذا كان ما بين الأسنان دون الحمصة فلا يفطر لأنه تابع لريقه وكذلك مضغ مثل سمسمة من خارج فمه حتى تلاشت ولم يجد لها طعمًا في حلقه فلا يفطر لعدم ابتلاع شيء، أما المالكية فترى أن وصول أي شيء إلى المعدة سواء أكان مائعًا أم غيره من فم أو أنف أو أذن أو عين أو إذا كان وصوله عمدًا أو خطأً أو سهوًا أو غلبه فإنه يفطر (3) .
وعند الشافعية لا يفطر بابتلاع ما بقي من الطعام بين الأسنان من غير قصد إن عجز عن تمييزه ومجه لأنه معذور فيه غير مقصر فإن قدر على تمييزه ومجه وابتلعه ولو قليلًا دون الحمصة، فإنه يفطر (4) .
__________
(1) شرح منظومة رسم المفتي للعلامة ابن عابدين. مجموع رسائل ابن عابدين: 1 /44و 45
(2) الدر المختار: 5 /618، ط1
(3) القوانين الفقهية، لابن جزي، ص 123. الشرح الكبير مع الدسوفي: 1 /523- 534
(4) المهذب: 1 /183-185(5/2498)
قال ابن عابدين والتحقيق أن المفتي في الوقائع لا بد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس وقد عرف أن الكفارة تفتقر إلى كمال جناية فينظر إلى صاحب الواقعة إن كان ممن يعاف طبعه ذلك أخذًا بقول أبي يوسف وإن كان ممن لا أثر لذلك عنده أخذ بقول زفر ويعمل بمثل ما عملوا من اعتبار تغير العرف وأحوال الناس وما هو الأرفق بالناس وما ظهر عليه التعامل وما قوي وجهه ولا يخلو الوجود من تمييز هذا حقيقة لا ظنًّا بنفسه ويرجع من لم يميز إلى من يميز لبراءة ذمته، قال ابن عابدين: فهذا كله صريح فيما قلنا من العمل بالعرف ما لم يخالف الشريعة كالمكسب والربا ونحو ذلك فلا بد للمفتي وللقاضي بل وللمجتهد من معرفة أحوال الناس وقد قالوا: ومن جهل بأهل زمانه فهو جاهل وقد قالوا: يفتى بقول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء لكون جرّب الوقائع وعرف أحوال الناس وفي البحر كان محمد يذهب إلى الصباغين ويسأل عن معاملاتهم وما يدبرونها فيما بينهم (1) .
ومما يوضح جليا اختلاف الحكم باختلاف الزمان لاختلاف الأحوال ما قرره الفقهاء الأوائل من عدم جواز أخذ الأجرة على الطاعات كقراءة القرآن والأذان والإمامة ونحوها من الطاعات فيؤذن الإنسان محتسبًا ولا يأخذ على الأذان والإقامة أجرًا باتفاق العلماء ولا يجوز أخذ الأجرة على ذلك عند الحنفية والحنابلة على ظاهر المذهب لأنه استئجار على الطاعة وقربة لفاعله والإنسان في تحصيل الطاعة عامل لنفسه فلا تجوز الإجارة عليه كالإمامة وغيرها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن أبي العاص ((واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على آذانه أجرًا)) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن وأجاز المالكية والشافعية في الأصح الاستئجار على الآذان لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الأجر عليه كسائر الأعمال.
__________
(1) رسم المفتي لابن عابدين من مجموع رسائله، 1 /45و 46(5/2499)
وأفتى متأخرو الحنفية وغيرهم بجواز أخذ الأجرة على القربات الدينية ضمانًا لتحصيلها بسبب انقطاع المكافآت المخصصة لأهل العلم من بيت المال كما أن الحنابلة قالوا: إن لم يوجد متطوع بالآذان والإقامة أعطى من يقوم بها من مال الفيء المعد للمصالح العامة وكذلك كرهوا أخذ أجرة على الغسل والتكفين والحمل والدفن وأجاز الحنفية أخذ الأجر على تلك الأمور، فالحمال والحفار كالعامل إن وجد غيره وإلا فإن لم يوجد غيره فلا يجوز أخذ الأجرة لتعينه عليه حيث صار واجبًا عينيًّا ولا يجوز أخذ الأجرة على الطاعة ولكن أجاز المتأخرون الأجرة على الطاعات للضرورة جاء في رسالة نشر العرف: اعلم أن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح النص وهي الفصل الأولى وإما أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد ورأي، وكثير منها ما يبينه المجتهد على ما كان في عرف زمانه. بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولًا ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد أنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام ولذا ترى مشائخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذا من قواعد مذهبه فمن ذلك إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه لانقطاع عطايا المعلمين التي كانت في الصدر الأول ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم وكذا على الإمامة والأذان كذلك مع أن هذا مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من عدم جواز الاستئجار وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن ونحو ذلك، ومن ذلك قول الإمامين بعد الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفته لما نص عليه أبو حنيفة بناء على ما كان في زمانه من غلبة العدالة، لأنه كان في الزمن الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية وهما أدركا الزمن الذي فشى فيه الكذب وقد نص العلماء على أن هذا الاختلاف اختلاف عصر وأوان لا اختلاف حجة وبرهان. ومن ذلك تحقق الإكراه من غير سلطان مع مخالفته لقول الإمام بناء على ما كان في زمنه من أن غير السلطان لا يمكنه الإكراه ثم كثر الفساد فصار يتحقق الإمام بناءً على ما كان في زمنه من أن غير السلطان لا يمكنه الإكراه، ثم كثر الفساد فصار يتحقق الإكراه من غيره فقال محمد رحمه الله باعتباره، وأفتى به المتأخرون لذلك، ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب من أن لا ضمان على المباشر دون المتسبب، ولكن أفتوا بضمانه زجرًا بسبب كثرة السعاة المفسدين، ومنها تضمين الأجير المشترك وقولهم إن الوصي ليس له المضاربة بمال اليتيم في زماننا وإفتاؤهم بتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف وبعدم إجارته أكثر من سنة في الدور وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي مع مخالفته لأصل المذهب من عدم الضمان وعدم التقدير بمدة (1) .
__________
(1) نشر العرف ببناء بعض الأحكام على العرف مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /125- وما بعدها.(5/2500)
ومن هذا القبيل أيضا ما قرره الفقهاء من عدم جواز استناد القاضي لعلمه في أحكامه بحيث يعتبر علمه بالقضية المتنازع فيها مستندًا لقضائه ويغني المدعي من إثبات البينة ويكون علمه مغنيًا عنها وكافيًا، وهذا التغير في الزمان وفساد الأخلاق وغلبة أخذ الرشاوى والفساد في القضاة فيما بعد، ولهذا أجمع المتأخرون بأنه لا يجوز له أن يستند إلى علمه في القضايا بل قضاؤه يجب أن يستند إلى وسائل الإثبات ولو كان مطلعًا على القضية عالمًا بجزئياتها، نعم للقاضي أن يستند إلى علمه من حيث عدالة الشهود وجرحهم فيحكم بشهادة من علم عدالته دون من يعلم جرحه وأما فيما عداه فقد شدد مالك استناده لعلمه وحكمه به ووجه استناده إلى علمه في العدل أو التجريح هو أنه لو لم يجز له ذلك إلا ببينة لاحتاج إلى تعديل البينة وتعديل معدلهم إلى ما لا نهاية له فاضطر إلى الحكم بعلمه في ذلك. قاله ابن يونس وحكاه عن ابن الماجشون، وقد وجهه بعضهم بشهرة حالة العدالة وحالة الجرح عند الناس فقل ما ينفرد القاضي بعلمهم ذلك دون غيره فترتفع المظنة عنه وتبعد التهمة عنه لاشتراك الناس معه في معرفة ما حكم به في حق المعدل أو المجرح من كلتا الحالتين، قاله الإمام المازري، وينبغي أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود ليحكم بشهادتهم لا بعمله ولا يجوز للقاضي أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء بأن أقر بين يديه طائعا (1) .
ودليل المالكية على الجواز ما أخرجه الستة وأحمد عن أم سلمة من قوله صلى الله عليه وسلم ((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخية شيئًا فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من النار)) فدل الحديث على أنه يقضي بما يسمع لا بما يعلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي: ((شاهداك أو يمينك ليس لك منه إلا ذلك)) ، رواه الشيخان وأحمد عن الأشعث بن قيس.
وقضت الحنفية في قضاء القاضي بعلم نفسه بالمعاينة أو بسماع الإقرار أو بشهادة الأحوال فإن قضي بعلم حدث له في زمن القضاء وفي مكانه بالحقوق المدنية كالإقرار بمال الرجل، أو بالحقوق الشخصية كطلاق رجل لامرأته أو في بعض الجرائم كقصف وقتل إنسان جاز قضاؤه ولا يجوز قضاؤه بعلم نفسه في الحدود الخالصة لوجه الله عز وجل وإلا أن في السرقة يقضي بالمال لا بالقطع لأنه يحتاط في الحدود مالا يحتاط في غيرها وليس من الاحتياط الاكتفاء بعلم نفسه.
__________
(1) الاتفاق والإحكام في شرح تحفة الحكام لمحمد بن أحمد ميارة الفاسي: 1 /29- 30(5/2501)
ثانيا: أن يقضي بعلم نفسه قبل أن يقلد منصب القضاء أو بعد أن قلده، ولكن قبل أن يصل إلى البلد الذي ولي قضاءه فهذا لا يجوز أن يستند إلى علمه عند أبي حنيفة أصلا وعند صاحبيه يجوز فيما سوى الحدود الخالصة لله عز وجل قياسًا على جواز قضائه فيما علمه زمن القضاء، ورد هذا القياس بالفرق بين الحالتين ذلك أن العلم المستفاد في زمن القضاء علم في وقت يكون القاضي فيه مكلفًا بالقضاء فأشبه البينة القائمة فيه، أما العلم الحاصل في غير زمن القضاء فلا يصلح لأنه ليس في معنى البينة فلم يجز القضاء به لأن البينة المعتبرة أن يسمع القاضي الشهود في ولايته، أما ما يعلمه قبل ولايته فهو بمنزلة ما يسمعه من الشهود قبل ولايته، وهو لا قيمة له فأبو حنيفة يرى أن ما كان من حقوق الله كالحدود الخالصة له، لا يحكم القاضي فيها بعلمه لن حقوقه سبحانه مبنية على المسامحة والمساهلة أما حقوق الناس مما علمه القاضي قبل ولايته لا يحكم به وما علمه في ولايته حكم به (1) .
والمعتمد عند المتأخرين من الحنفية والمفتى به عدم جواز استناد القاضي في قضائه لعلمه مطلقًا في هذا الزمان لفساد قضاة الزمان (2)
أما الشافعية، فالأظهر عندهم أن القاضي يقضي بعلمه قبل ولايته أو في أثنائها في محل ولايته أو غيرها سواء أكان في الواقعة بينه أم لا إلا في حدود الله تعالى وعلى هذا فيجوز للقاضي أن يقضي بعلمه في الأموال وفي القصاص وحد القذف على الأظهر لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان فقضاؤه بما يفيد القطع وهو عمله أولى، أما الحدود الخاصة لله تعالى كالزنا والسرقة والمحاربة وشرب المسكرات فلا يقضي بعلمه فيها، لأن الحدود تدرأ بالشبهات ولأنه يندب سترها لكن إن اعترف أحد بموجب الحد ومجلس الحكم قضى فيه بعلمه (3) لقوله صلى الله عليه وسلم: ((واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)) (4) وفي قصة العسيف (أى الأجير) الذي زنى بامرأة.
وعند الحنابلة ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها، قال ابن قدامة: وهذا قول شريح والشعبي ومالك وإسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن، وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية أخرى يجوز له ذلك، وهو قول أبي يوسف وأبي ثور والقول الثاني للشافعي واختيار المزني لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينا من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال لها: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) وهو حكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها ولأن الحاكم يحكم بالشاهدين لأنهما يغلبان على الظن، فما تحققه وقطع به كان أولى ولاية بحكم تعديل الشهود وجرحهم فكذلك في ثبوت الحق قياسًا عليه والظاهر من مذهب الحنابلة أن القاضي لا يستند إلى علمه في حكمه على أحد المتخاصمين لما ورد في الحديث السابق من قوله: ((ولعل بعضكم أن يكون ألحن من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه)) فدل على أنه يقضي بما يسمع لا بما يعلم ولقوله صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي: ((شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلا ذاك)) ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه تداعى عنده رجلان، فقال له أحدهما أنت شاهدي فقال إن شئتما شهدت ولم أحكم ولا أشهد ونحن وإن قلنا خلاف المذاهب الأربعة في استناد القاضي لعلمه في أحكامه، فقد نقلنا عن ابن عابدين اتفاق الفقهاء على عدم جواز استناد القاضي لعلمه في أحكامه معللًا ذلك بتغير الزمان وفساد الأخلاق وغلبة أخذ الرشاوى والفساد في القضاة فيما بعد، ولهذا أجمع المتأخرون على عدم جواز استناده لعلمه، فإن أراد أن يشهد بما في علمه فعليه أن يتخلى عن القضاء في القضية التي يعلمها (5) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي: 16 /93؛ البدائع: 7 /7؛ مختصر الطحاوي: ص 332
(2) الدر المختار ورد المحتار: 4 /369
(3) مغني المحتاج: 4 / 398
(4) أخرجه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
(5) المغني، لابن قدامة: 9 /18 و 19(5/2502)
وكم من حكم كان مستنده على أحوال الناس وأخلاقهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وتبدلت الأحوال بعد ذلك وتغيرت وفسدت الأخلاق خلال الحكم النبوي بحكم يتماشى وغرض الشارع في تحقيق جلب المصالح ودرء المفاسد وصيانة الحقوق وهذا مما سلكه الصحابة الكرام بعد عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن ذلك ما رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ضالة الإبل هل يلتقطها من وجدها لتعريفها وردها على صاحبها حين يظهر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التقاطها، وقال لمن سأل عنها: ((مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد المال وتأكل الشجر حتى يجدها ربها)) ، والحذاء الخف والسقاء الجوف، وسأله عن الشاة فقال خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب، وقد رجح الحنابلة أن كل حيوان يقوى على الامتناع من صغار السباع وورود الماء لا يجوز التقاطه ولا التعرض له سواء كان لكبر حجمه كالإبل والخيل والبقر أو لطيرانه كالطيور كلها أو لسرعته كالظباء والصيود أو بغابة كالكلاب والفهود وجاء عن عمر رضي الله عنه من أخذ ضالة فهو ضال أي مخطئ، وبهذا قال الشافعي والأوزاعي وأبو عبيد وقال مالك والليث في ضالة الإبل من وجدها في القرى عرفها ومن وجدها في الصحراء لا يقربها ورواه المزني عن الشافعي وكان الزهري يقول من وجد بدنة فليعرفها، فإن لم يجد صاحبها فلينجزها قبل أن تنقضي الأيام الثلاثة وقال أبو حنيفة ولفظ يباح التقاطها لأنها لقطة أشبهت الغنم والبقر كالشاة عند مالك وهو ملحق بالإبل عند جماعة.
وقد ظل حكم ضالة الإبل وتركها وعدم التقاطها إلى آخر عهد عمر بن الخطاب فلما جاء عهد عثمان بن عفان أمر رضي الله عنه بالتقاطها وبيعها على خلاف ما أفتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن ضالة الإبل وقال عثمان: فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها قال الباجي في المنتقى: فلما كان في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما ولم يؤمن عليهما لما كثر في المسلمين من لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم وكثر تعديهم عليها أباحوا أخذها لمن التقطها ورفعها إليهم ولم يروا ردها إلى موضعها، وقد كان عمر بن الخطاب أمر ثابت بن الضحاك بتعريفها ثم أباح له ردها إلى موضعها.(5/2503)
قال الباجي: وإنما اختلفت الأحكام في ذلك لاختلاف الأحوال، وقد قال مالك فيمن وجد بعير: فليأتِ به الإمام يبيعه يجعل ثمنه في بيت المال قال أشهب: إذا كان الإمام عدلا ومعنى ذلك أنه أمن عيها من التعدي فيها فيتركها في موضعها أفضل لأنه يؤمن عليها ضياعها من غير هذا الوجه، ويستغني عن الانفاق عليها والتمون لها وقصد صاحبها إلى ذلك الموضع وتتبع أثرها منه أيسر عليه من طلبها في الآفاق البعيدة، لأنه لا يدري من آواها قريب الدار وبعيدها، فإن خاف عليها متعديًا يتلف عينها؛ كأن أخذها ورفعها إلى الإمام ينظر فيها لصاحبها أفضل له وأمن عليه، والله أعلم وأحكم. وهذا معنى ما روي عن عمر بن عبد العزيز يحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور (1) فهذا وإن خالف أمر الرسول في الظاهر فهو موافق لمقصوده إذ لو بقي العمل على ما كان عليه في عهد الرسول لأدى ذلك إلى عكس مقصد الشارع وهو صيانة الأموال وحفظها من الهلاك والذوبان.
من هذا القبيل أيضًا نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة سننه، فقد ثبت عنه ((من كتب عني غير القرآن فليمحه)) واستمر الأمر بعدم كتابة الأحاديث بين الصحابة والتابعين يتناقلون السنة النبوية حفظًا وتلقينًا ودام ذلك إلى آخر القرن الأول من الهجرة وفي مطلع القرن الثاني انصرف العلماء إلى تدوين السنة النبوية لأنهم خافوا ضياعها بموت حفاظها وأدركوا أن سبب نهيه عليه السلام عن كتابة الأحاديث إنما هو خشية وقوع اللبس والاختلاط بين القرآن والسنة، فلما زال موجب هذا الاختلاط لم يبقَ مانع من كتابة الحديث، بل صار من الواجب تدوينه لحفظ السنة النبوية، ولقد نقلنا عن ابن عابدين أنه لا بد للحاكم من وفقه في أحكام الحوادث الكلية وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس حتى يميز بين الصادق والكاذب وبين المحق والمبطل وحتى يطابق بين هذا وذاك، كما أن المفتي لا بد له من معرفة عرف الناس وعاداتهم ومن معرفة الزمان وأهله ومعرفة ما إذا كان العرف عاما أو خاصًا حتى إن من جهل ذلك ولم يكن عالما بأحوال أهلها وعاداتهم وأعرافهم ومقتضيات ألفاظهم فهو جاهل (2) . ولهذا المعنى اشترط فقهاء المالكية أن يكون القاضي بلديا حيث الذي يعرف أحوال أهلها وعاداتهم وأعرافهم ومعاني من ألفاظهم في اصطلاحهم وعاداتهم قال الإمام محمد بن أحمد ميارة فيما يشترط في القضاء: تنبيه زاد ابن الحاجب في الشروط المستحبة كونه غنيًا لا دين عليه بلديًّا معروف النسب غير محدود، حليمًا مستشيرًا لا يبالي لومة لائم، سليمًا من بطانة السوء غير زائد في الدهاء.
__________
(1) المنتقى. شرح موطأ الإمام مالك، لأبي الوليد الباجي 6 /139، 140
(2) نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /128(5/2504)
قال ابن عبد السلام والظاهر الاكتفاء بالغنى عن عدم الدين واستحب كونه بلديًّا ليعرف الناس والشهود، والمقبولين من الشهود وغيرهم (1) فمعرفة عوائد القوم وعاداتهم يعين القاضي على أن يوفق إلى طرق الصواب. وقد أجريت الصدقات والأوقاف من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه منها صدقة عمر الذي أشار بها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك صدقة أبي طلحة الأنصاري فإنها كانت بإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك صدقة عثمان ببئر رومة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين)) فاشتراها عثمان رضي الله عنه وتصدق بها على المسلمين كذلك تصدق سعد بن عبادة بمخراف له عن أمه توفيت، فكانت هذه الصدقات أوقافًا ينتفع المسلمون بثمرتها على تفصيل شروطها فلا شبهة وإن مقاصد الشريعة إكثار هذه العقود، فلذا تعجب مالك رضي الله عنه من القاضي شريح في منفعة التحبيس وقال لما أخبر بمقالة شريح: (رحم الله شريحًا تكلم ببلاده ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه والتابعين بعدهم وما حبسوا من أموالهم وهذه صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع حوائط وينبغى للمرء أن لا يتكلم إلا بما أحاط به خبرًا (2) ، وفي شرح الزقاقية قيل لابن عبد السلام التونسي: إن هؤلاء القوم امتنعوا من توليتك القضاء لأنك شديد في الحكم فأجاب: أنا أعرف العوائد وأمشيها (3) ولهذا قال الصنهاجي في مواهب الخلاف: ينبغى للقاضي أن يكون عارفًا بعوائد أهل البلد الذي ولي به ليجزي الناس على عوائدهم وأعرافهم المنزلة منزلة الشرط المدخول عليه صريحًا (4) ، ولا شك أن الحكمة في معرفة أحوال الناس وأعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم تعين كثيرًا القاضي إلى بلوغ الهدف والصواب والأحكام بين أهل الخصام خصوصًا فيما لا نص فيه على أن القاضي بمعرفته لعادات وتقاليد القوم يتضح له ويميز بين المدعى عليه فينكب عن الخطأ في تكليف أحد المتخاصمين بغير ما عينه الشارع له، فإن المدعى عليه من عضده أصل أو عرف وأنه إن شهد لأحدهما الأصل وللآخر العرف كان من شهد له العرف هو المدعى عليه (5) قال القرافي في الفرق الستين والمائة، وقال مالك في المدونة إذا اختلف الزوجان قضي للمرأة بما هو شأن النساء وللرجال بما هو شأن الرجال وما يصلح لهما قضي به للرجل لأن البيت بيته في مجرى العادة وهو تحت يده فيقدم لأجل اليد ووافق مالكًا أبو حنيفة والفقهاء السبعة رضي الله عنهم أجمعين، وقال الشافعي: لا يقدم أحدهما على الآخر إلا بحجة ظاهرة كسائر المدعين وقياسًا على الصباغ والعطار إذا تداعيا آلة العطر أو الصبغ فإنه لا يقدم أحدهما على الآخر إلا بحجة ظاهرة وإن شهدت العادة بأن الآلة للعطار وآلة الصبغ للصباغ فكذلك ههنا، قال ابن يونس: إذا فرعنا على مذهب مالك يحلف من قضى له، وقال سحنون ما عرف لأحدهما لا يحلف، وقال ابن القاسم: ما كان شأن الرجال وشأن النساء قسم بينهما بعد يمينهما لاشتراكهما في اليد وما ولي الرجل شراءه من متاع البيت وشهدت له البينة أخذه بعد يمينه ما اشتراه إلا له وكذلك المرأة، فإن اختلفا في البيت نفسه فهو للرجل لأنه ملكه في غالب العادة ولأن يده عليه، قال ابن يونس: الذي يختص بالرجل نحو العمامة فالقول قوله فيه بغير يمين إلا أن تدعي المرأة إرثه فيحلف، قال ابن حبيب: ولا يكفي أحدهما أن يقول هذا لي لأنه متاع البيت حتى يقول: هذا ملكي قال عبد الحق: وتهذيب الطالب لو تنازعا في رداء، فقال: هو لها إلا الكتاب بأن قال: اشتريته، فقال: اصبغ له بقدر كتانة ولها بقدر عملها لأنه لو ادعاه صدق (6)
__________
(1) الإتقان والإحكام في شرح تحفة الأحكام، لميارة: 1 /13
(2) مقاصد الشريعة الإسلامية، للعلامة محمد الطاهر بن عاشور: ص 189، 190
(3) شرح الزقاقية، لعمر الفاسي: ص 248
(4) مواهب الخلاق على شرح التاودي، للامية الرقاق، للصنهاجي: 2 /243
(5) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية، لشيخ الإسلام محمد العزيز جعيط: ص 57
(6) الفروق للقرافي، الفرق بين المتداعين شيئا لا يقدم أحدهما على الآخر إلا بحجة ظاهرة وبين قاعدة المتداعين من الزوجين: 3/ 188، ط بولاق.(5/2505)
والعرف إذا تغير تغير الحكم بتغيره في كل ما كان مرجعه للعرف، فقد قال القرافي: إذا جاءك رجل من غير إقليمك لا تجره على عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أيا كانت إضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضي (1) ، وقد ذكر في الأحكام أن الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب مالك والشافعي وغيرهما المترتبة على العوائد والعرف اللذين كانا صالحين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام، إذا تغيرت تلك العوائد وصارت تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولًا فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في الكتب ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة، أو يقال: نحن مقلدون ومالنا شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد فنفتي بما في الكتب المنقولة من المجتهدين، قال القرافي: فالجواب أن جري هذه الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين بل كل ما في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة وليس ذلك تجديدًا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هي قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير اجتهاد، ألا ترى أنهم أجمعوا على أن المعاملات إذا أطلق فيها الثمن يحمل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقدًا معينًا حملنا الإطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عينًا من انتقلت العادة إليه وألغينا الأول لانتقال العادة عنه، وكذلك الإطلاق في الوصايا والأيمان وجميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد وكذلك الدعاوي إذا كان القول قول من ادعى شيئًا لأنه العادة ثم تغيرت العادة لم يبقَ القول قول مدعيه، بل انعكس الحال فيه ولا يشترط فيه تغير العادة، بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إلى بلد آخر عوائدهم على خلاف عادة البلد الذي كنا فيه أفتيناهم بعادة بلدهم ولم تعتبر عادة البلد الذي كنا فيه وكذلك إذا قدم أحد من بلد عادته مضادة للبلد الذي نحن فيه لم نفته إلا بعادة بلده.
تعارض العرف مع غيره من الأدلة:
لا يخلو الأمر من أن يعارض العرف نصًا من كتاب أو سنة أو أن يعارض دليلًا آخر من قياس واستحسان ومصلحة مرسلة والنص لا يخلو حالة من أن يكون خاصا أو عامًا، فإذا كان النص خاصًّا وكان العرف بخلافة فلا اعتداد لهذا العرف ولا اعتبار به، وقد كانت كثيرًا من العادات المتعارفة عند العرب قد أبطلها الشرع بورود النصوص بخلافها لذا أن من المتفق عليه أنه مهما كان العرف مخالفا للنص الوارد من الشرع عملنا بالنص وتركنا العرف المخالف. ذلك أن النص أقوى من العرف ولا يترك الأقوى بالأضعف، كما قال السرخسي في مبسوطه (2) ، وقد بسطنا فيه القول في ما تقدم ونقلنا كلام الإمام الشاطبي في ذلك موضحين أنه لو كنا نعتد بالعرف مع وجود النص من الكتاب والسنة لنقضنا الشريعة ولعطلنا العمل بها ولم يبق لها معنى كما قاله الشاطبي (3) .
__________
(1) الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي: ص 68؛ والتبصرة، لابن فرحون: 2 /69
(2) المبسوط: 12 /196
(3) الموافقات للشاطبي: 2 /283(5/2506)
فالعرف إذن لا يعمل به إلا في الحدود التي تركها الشرع للمكلفين في ميادين الأعمال والالتزامات دون الحالة التي تولى الشارع فيها بنفسه تحديد الأحكام فيها على سبيل الإلزام فلا اعتبار للعرف في مخالفته للنص، إلا أن النص الوارد إذا كان صدوره مبنيًا على العرف ومعللًا به، فإن هذا النص يكون قد لاحظ عرف الناس فيدور حنيئذ حكمه مع العرف ويتبدل بتبدله (1) مثاله الحديث المروي عن عبادة بن الصامت: الذهب بالذهب مثلًا بمثل، والفضة بالفضة مثلًا بمثل، والفضة بالفضة مثلًا بمثل، والتمر بالتمر مثلًا بمثل، والبر بالبر مثلًا بمثل، والملح بالملح مثلًا بمثل، والشعير بالشعير مثلًا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، رواه مسلم لقد اتفق العملاء على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد إلا سعيد بن جبير، فإنه قال: كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلًا كالحنطة والشعير والتمر والزبيب والذرة بالدخن لأنهما يتقارب نفعهما فجريا مجرى نوعي جنس واحد، واتفق الفقهاء على أن علة الذهب والفضة واحدة وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما فقيل: إن العلة في الذهب والفضة كونه موزون جنس وعلة الأعيان الأربعة مكيل جنس وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي فيجرى لا ربا في كل مكيل أو موزون من جنسه مطعومًا كان أو غير مطعوم كالحبوب والنورة والقطن والصوف والكتان والحناء والحديد والنحاس ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن فيجوز بيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل لأن العلة المساواة والمؤثر في تحقيقها الكيل والوزن والجنس، لأن الكيل والوزن يسوى بينهما صورة والجنس يسوى بينهما معنى، فكانا علة ولأنا وجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة، فإنه جائز إذا تساووا في الكيل وقيل: إن العلة في الأثمان الثمنية وفيما عداها الطعمية فيختص بالمطعومات ويخرج منه ما عداها وهو قول الشافعي، فالعلة الطعم والجنس الشرط والعلة في الذهب والفضة جوهرية الثمنية غالبًا فيختص بالذهب والفضة، ولما روى معمر بن عبد الله ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلًا بمثل)) رواه مسلم، ولأن الطعم وصف شرف إذ به قوام الأبدان والثمنية وصف شرف إذ بها قوام الأموال فيقتضى التعليل بهما ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلافها في الموزونات لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النسا (2) .
__________
(1) المدخل الفقهي العام: 2 /888
(2) المغني، لابن قدامة:4 / 1 وما بعدها(5/2507)
وعند مالك العلة هي مجموع الاقتياد والادخار فهذا هو علة المنع في الربوي، وهذا هو القدر المشترك بين الأنواع الأربعة الأخيرة المناسب للتحريم، وقد نبه صلى الله عليه وسلم بذكرها ليبقى للعلماء مجال في الاجتهاد ويكون داعيا لبحثهم الذي هو من أعظم القرب فجاء في الحديث ((لا تبيعوا الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إن كان يدًا بيد)) ولقد نبه صلى الله عليه وسلم بذكرها ونص على البر الذي هو قوت اليسر والشعير الذي هو قوت العسر لينبه بهما على الوسط كالأرز والدخن والذرة والسلت وذكر التمر لينبه به على المقتات المدخر الذي فيه ضرب من التفكه، كالزبيب والعسل والسكر وذكر الملح لينبه به على مصلح الأقوات، وإنما كان مجموع الاقتياد والادخار علة منع ربا التفاضل لأن ما اتصف به شرف مناسب أن لا يبدل كثيره بقليله الاقتياد والادخار علة منع ربا التفاضل لأن ما اتصف به شرف مناسب أن لا يبدل كثيرة بقليله صونًا للشرف عن الغبن وجاز التفاضل في الجنسين لمكان الحاجة في تحصيل المفقود وامتنع النساء في الطعام مطلقًا إظهارًا لشرفه على غيره وللمقتات منه شرف على غيره لعظم مصلحته فيزيد فيه شرط التماثل وهذا أيضًا سبب تحريم الربا في النقدين لأنهما رؤوس الأموال وقيم المتلفات فشرفا بذلك عن الغير وبهذا اتضح أن مسلك علة الربا المناسبة، وهي أن يكون في محل الحكم وصف يناسب ذلك الحكم وصف يناسب ذلك الحكم أي يتوقع من ترتيب الحكم عليه حصول مصلحة أو درء مفسدة فيكون اتحاد الجنس في ربا الفضل شرطًا في اعتبار العلة لا جزءا لها لعزوه عن المناسبة، ثم إن القدر المعهود في الشرع بكيل أو وزن المعتبر في الموزون وفي المكيل هو ما كان عليه عرف المسلمين في صدر الإسلام وذلك لما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة)) كما في جامع الأصول (1) .
وإن كان أبو يوسف رحمه الله تعالى يرى أن المقياس المعتبر في الأصناف الربوية هو المقياس العرفي الحاضر وكلامه جلي لأن المكيال والميزان مما يختلف باختلاف العرف وهو يتبدل بتدبل الزمان والمكان كما نص على ذلك الأستاذ الزرقاء (2) وربا الفضل يختص بالمقدرات المثيلة من مكيل أو موزون فقط، لا مزروع ولا معدود فليس في ذلك ربا، أما الأموال القيمية كأفراد الحيوانات والأراضي والدور والأشجار فلا يجرى فيها ربا الفضل لأنها ليست من المقدرات التي تجمع بين أفرادها وحدة مقياس ومقدار معين فيجوز إعطاء الكثير منها في مقابلة القليل من جنسه فيجوز بيع غنمة بغنمتين لأن ربا الفضل زيادة أحد المتجانسين على الآخر في المقدار والكمية والقيمية ليست من المقدرات (3) .
__________
(1) جامع الأصول: 1 /371
(2) المدخل الفقهي، للأستاذ الزرقاء: ص 514
(3) الدر المختار: 4 /185(5/2508)
وقد روى أبو داود والترمذي ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاع عبدًا بعبدين)) ، قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح وبناء على ما نقلنا فما كان كان وزنيًّا كالذهب والفضة، فالمعتبر فيه الوزن وما كان كيليًّا كالحنطة والشعير والملح والتمر، فالمعتبر فيه الكيل وهذا الحكم يقوم على أساس وجوب التساوي في الكميات المبدلة في الجنس الواحد ولا خلاف بين العلماء في أن التساوي يعتبر شرعًا بالمقياس العرفي في كل صنف، فما كان وزنيًّا عرفًا كالزبيب والسمن يجب تساوي الكميات فيه بالوزن وما كان كيليًّا يجب فيه التساوى بالكيل وإذا تبدل العرف في مقياس شيء وأصبح كليليًا مثلًا بعدما كان وزنيًّا أو أصبح وزنيًّا بعدما كان كيليًّا ككثير من الأشياء التي نتعامل بها في هذا الزمان فيتبدل المقياس الربوي فيه تبعًا للعرف وقد ورد النص في الأصناف الستة فهل يقتصر على ما ورد به النص وهو ما ذهب إليه أبو يوسف وما ذكر في الحديث إنما ذكر فيها ما كان مقياسًا متعارفًا على عهد الرسول بحيث لو كان العرف فيها على مقياس آخر لورد النص معتبرًا به.
ومن النصوص التي اعتبرها بعضهم مبنية على العرف ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها)) . أخرجه مسلم وأحمد وأرباب السنن عن ابن عباس وعن أبي هريرة رضي الله عنه، كما في البخاري وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن)) ، قالوا: يا رسول الله: كيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت)) وقد ذهب الحنفية إلى أن الأمر للوجوب فيجب على أبي البكر البالغة استئذانها في التزويج، فإذا زوجها من غير إذنها كان الزواج موقوفًا على إذنها، أما البكر غير البالغة فلا إرادة معتبرة لها، فلا يجب استئذانها إجماعًا وإلى وجوب الاستئذان ذهب الأوزاعي والثوري وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم ويؤيد ما ذهبوا ليه ما رواه ابن عباس: أن جارية بكرًا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق إلى أن الأمر هنا أمر ندب وإرشاد وأنه يجوز للأب أن يزوجها بغير استئذان والذي صرف الأمر عندهم عن الوجوب هو أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس فرق في الحكم بين الثيب والبكر فجعل الثيب أحق بنفسها ما اقتضى نفي ذلك عن البكر فيكون أحق بها منها، وعلى كل فقد اعتبر سكوت البكر إذنًا في تزويجها من رجل معين وبمهر معين، فكان سكوتها توكيلا وهو مبني على العرف والمعروف فيها من الخجل عن إظهار رغبتها في الزواج عند استنفار وليها لها في العادة قاضية بأن السكوت علامة الرضا.(5/2509)
فإذا ما تغيرت هذه العادة كما في هذا الزمان حيث أصبحت الفتاة لا تتحرج من إعلان رغبتها وأصبح لا فرق بين البكر وبين الثيب فهل عندئذ لا يكفي السكوت بل لا بد من صريح اللفظ وإبداء الرأي وقد مال إلى هذا بعض المجددين اعتبارًا لما عليه بنات اليوم وبالأخص اللاتي تخلقن بأخلاق الأجنبيات من الأوروبيات من أبناء المدن وعندي أن هذا ليس من باب تبدل العادات وإنما هو من فساد الأخلاق وانحلالها بدليل أن الأغلبية الساحقة من فتيات القرى والمداشر لم يتغيرن، وإنما هي فئة قليلة خرجت عن عادات بلادها وتقاليدها وانصهرت وتطبعت بأخلاق الأوروبيات وانحرافها، وإن أعظم مسؤول في هذا الانحلال هم الأولياء الذين لم يرعوا بناتهم ولم يوجهوهن توجيهًا إسلاميًّا يتماشى والفطرة البشرية، فالأسرة تتحمل القسط الأوفر من ذلك، ثم التوجيه المدرسي الذي لم يعر وزنًا للتربية الدينية الإسلامية وإلا فإن البكر في الأسر المحافظة الملتزمة مازالت محتشمة لا تجرؤ على معاكسة أبيها ومخالفة ما وافق هو عليه، لأنها تعلم علم اليقين أن الأب الصالح لا يختار لابنته إلا ما فيه صلاحها وسعادة مستقبلها. نعم من الآباء من لا خلاق لهم يجرون وراء المادة، فيدفعون بناتهن قربانًا لشهواتهم ونهمهم وحبهم للدرهم والدينار فجعلت غشاوة على قلوبهم حتى لا يدركوا إلا مصالحهم الخاصة وإن ذهبت بناتهم فداء، ولذا جعل الشرع الحق لمثل هؤلاء أن يعترضن على آبائهن عن سوء اختيارهم ولو أحسنت الآباء تربية الأبناء وقاموا بواجبهم نحوهم كما أمرت الشريعة لما انقلبت الأوضاع وفسدت الأخلاق وانحلت القيم، ولو فتحنا هذا الباب على مصراعيه من غير إمعان وتثبت لما يعتبر من تغير العادات وما لا يعتبر شرعًا لأدى ذلك إلى هدم الشريعة بالتأويل والتعليل لنصوصها وفي ذلك من الخطر على هذه الشريعة ما فيه وعلينا أن نتثبت فيما تدعو إليه الضرورة وتقتضيه تغير الأحوال بتغير الزمان وتغير المصالح والمفاسد أما العادات الجارية على حسب الهوى والتابعة للذات والشهوات فلو فتح هذا الباب لاستباح الناس كثيرًا من المحرمات واستحسنوا كثيرًا من الرذائل الموبقات، وذلك بدعوى الحداثة والتجدد، وقد جاء في حديث البخاري الذي أخرجه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذارعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم)) ، قلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى قال: ((فمن)) ، فأعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات في الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم وهذا واقع ملموس مشاهد كل يوم في غالب البلدان الإسلامية في ملوكها وعلمائها وقضاتها.
معارضة العرف للنص العام:
ذكرنا فيما تقدم معارضة العرف للنص الخاص وهنا سنبحث معارضته للنص العام وهذه المعارضة إما أن تكون مقارنة لورود النص أو متأخرة عنه، فإذا ورد النص مقارنا للعرف لو كان العرف سابقًا عن النص، فإن كان العرف لفظيًّا فقد اتفق الفقهاء على اعتباره ومعنى ذلك أن يحمل اللفظ الوارد على المعنى العرفي أي على المعنى المتبادر لأذهان الناس عملًا بقاعدة يحمل اللفظ على المعنى الحقيقي ما لم تقم قرينة توجب حمله على المعنى المجازي ذلك أن العرف اللفظي يصير المعنى المتعارف حقيقة عرفية ولا شك أن الحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة اللغوية والنقل العرفي يجعل اللفظ حقيقة عرفية بالوضع وغلبة الاستعمال والحقيقة العرفية هي التي انتقلت عن مسامها اللغوي إلى غيره للاستعمال العام بحيث هجر الأول، قال فخر الدين الرازي في المحصول: وذلك إما بتخصيص الاسم ببعض مسمياته كالدابة فإنها وضعت لغة لكل ما يدب كالإنسان فخصصها العرف العام بما له حافر وإما باشتهار المجاز بحيث يستنكر معه استعمال الحقيقة كإضافتهم الحرمة إلى الخمر، وهي في الحقيقة مضافة إلى الشرب أو بالاصطلاح الخاص، وهي الحقيقة العرفية الخاصة وهي ما لكل طائفة من العلماء من الاصطلاحات التي تخصهم كاصطلاح الفقهاء على القلب والنقض والجمع والفرق (1) وكاصطلاح النحاة على الرفع والنصب والجر والحقيقة الشرعية وهي اللفظ المستعمل المستفاد من الشارع وضعها كالصلاة للأفعال المخصوصة والزكاة للقدر المخرج والحرث والماشية والمال (2) .
__________
(1) القلب نقله النظار من معناه اللغوي إلى ربط خلاف ما قاله المستبدل بعلته للإلحاق بأصله ونقلوا النقض من معناه اللغوي إلى إبداء الوصف المدعى علته بدون الحكم، ونقلوا الجمع من معناه اللغوي للجمع بين الفرع والأصل في حكم بعلة مشتركة ونقلوا الفرق من معناه اللغوي لجعل خصوصية الأصل علة الحكم وجعل خصوصية الفرع مانعًا، انظر حاشية بخيت بأسفل شرح المنهاج 2 /151
(2) الإسنوي على المنهاج للبيضاوي بحاشية الشيخ بخيت: 2 /150 شرح القرافي على المحصول خط: 1 /337(5/2510)
قال القرافي: وفي نفاس الأصول في شرح المحصول الوضع له ثلاثة معان: جعل اللفظ دليلًا على المعنى كتسمية الولد زيدًا ومنه تسمية اللغات ووضعها، ويقال: الوضع على غلبة الاستعمال للفظ في المعنى حتى يصير أشهر من غيره وهذا هو وضع الحقائق الثلاث الشرعية كالصلاة للفعل المخصوص والعرفية العامة كالدابة للحمار والعرفية الخاصة كالجوهر والعرض عند المتكلمين، ويقال: الوضع على مطلق الاستعمال ولو مرة واحدة وهو قولهم من شرط المجاز الوضع أي سمع منهم مرة واحدة وهو قولهم من شرط المجاز الوضع أي يسمع منهم مرة واحدة التجوز لذلك النوع من المجاز، ولم يسموا مطلق الاستعمال وضعًا إلا في هذا الوضع (1) .
وقد ذكر القرافي في الفرق بين العرف القولي يقضي به على الألفاظ ويخصصها وبين العرف الفعلي لا يقضي به على الألفاظ ولا يخصصها وبين أن العرف القولي أن تكون عادة أهل العرف يستعملون اللفظ في معنى معين ولم يكن ذلك لغة وهو قسمان الأول: في المفردات نحو الدابة للحمار والغائط للنجور والراوية للمزادة ونحو ذلك، وثانيهما: في المركبات وهو أدقها على الفهم وأبعدها عن التفطن وضابطها أن يكون شأن الوضع العرفي تركيب لفظ مع لفظ يشتهر في العرف تركيبه مع غيره وله مثل أحدها نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [سورة النساء: الآية 23] .
وكقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [سورة المائدة: الآية 3] .
فإن التحريم والتحليل إنما تحسن إضافتها لغة للأفعال، دون الأعيان فذات الميتة لا يمكن في العرف أن يقال هي حرام، فيما هي ذات بل فعل يتعلق بها وهو المناسب لها كالأكل للميتة والدم ولحم الخنزير والشرب للخمر والاستمتاع للأمهات والبنات ومن ذكر معهن ومن هذا الوادي قوله صلى الله عليه وسلم ((ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)) ، والأعراض والأموال لا تحرم، بل أفعال تضاف إليها فيكون التقدير ألا وإن سفك دمائكم وأكل أموالكم وثلب أعراضكم عليكم حرام وعلى هذا المنوال جميع ما يرد من الأحكام كان أصله أن يضاف إلى الأفعال، فإذا ركب مع الذوات في العرف وما بقي يستعمل في العرف إلا مع الذوات فصار هذا التركيب الخاص وهو تركيب الحكم مع الذوات موضوعًا في العرف للتعبير به عن تحريم الأفعال المضافة لتلك الذوات وليس كل الأفعال، بل فعل خاص مناسب لتلك الذوات. ثانيها أفعال ليست بأحكام كقولهم في العرف أكلت رأسًا وأكل رأسًا فلا يكادون ينطقون بلفظ الأكل كيف كان، بل لا تصرف إلا لرؤوس الأغنام دون جميع الرؤوس بخلاف رأيت رأسًا، فإنه يحتمل جميع الرؤوس ومن هذا القبيل ما جرى في مصر من مثل قتل زيد عمرًا فهو في اللغة موضوع لإذهاب الروح وهو في مصر ينصرف عرفًا للضرب خاصة، فيقولون: قتله الأمير بالمقارع قتلًا جيدًا، ولا يريدون إلا ضربه فهو من باب المنقولات العرفية وهي الطارئة على اللغة ومن هذا الباب قولهم فلان يعصر الخمر وهي لا تعصر، بل صار هذا التركيب موضوعًا لعصر العنب.
__________
(1) نفائس الأصول في شرح المحصول للقرافي، خط:1 /340(5/2511)
ومقتضى اللغة أن لا يصح هذا الكلام إلا بمضاف محذوف تقديره فلان يعصر عنب الخرم، لكن أهل العرف لا يقصدون هذا المضاف بل يعبرون بهذا التركيب عن عنصر العنب كما يعبرون بتحريم الميتة عن تحريم أكلها، فهذا ونحوه مجاز في التركيب بالنسبة للغة حقيقة عرفية منقولة للمعنى الخاص بالعرف والعادة، ومن هذا الباب طحن دقيقًا وقتل قتيلًا لأن المقتول لا يقتل والمطحون لا يطحن، إذ تحصيل الحاصل من المحال ولكنه كلام صحيح في العرف والعادة، وهؤلاء لا يعرجون على هذه المضافات ولا ببالهم يخطر هذه المقدرات، بل صار هذا اللفظ المركب موضوعا لقتل الحي وطحن القمح، وهذا هو ما يعبر عنه بالحقائق العرفية في المفردات والمركبات وبهذا يفرق بين المجاز في المفرد والمركب، وبين الحقيقة العرفية فيهما فكل لفظ مفرد انتقل في العرف لغير مسماه وصار يفهم منه غير مسماه بغير قرينة، فهو حقيقة عرفية وكل لفظ أسند لغير من هو له من غير تأويل فهو منقول عرفي من المركبات والنقل العرفي مقدم على موضوع اللغة لأنه ناسخ للغة والناسخ يقدم على المنسوخ وهذا معنى قولنا إن الحقائق العرفية مقدمة على الحقائق اللغوية.
أما العرف الفعلي فمعناه أن يوضع اللفظ لمعنى يكثر استعمال أهل العرف لبعض أنواع ذلك المسمى دون بقية أنواعه كلفظ الثوب صادق لغة على ثياب الكتان والقطن والحرير والوبر والشعر، وأهل العرف إنما يستعملون من الثياب الثلاثة الأول دون الأخريين، فهذا عرف فعلي كذلك لفظ الخبز يصدق لغة على خبز الفول والحمص والبر وغير ذلك غير أن أهل العرف إنما يستعملونه في الأخير من أغذيتهم دون الأولين فوقوع الفعل في نوع دون نوع لا يخل بوضع اللفظ للجنس كله فإن ترك مسمى لفظ ولم يباشر لا يخل بوضع اللفظ له فلفظ الياقوت وضع لحجر بخصوصه، فإذا لم تباشره فإن ذلك لا يخل بوضع لفظ الياقوت (1) .
وإذا أدركنا الفرق بين العرف اللفظي والعرف العملي، أدركنا تأثير العرف اللفظي على المعاني وكيف أنه مقدم في الاستعمال على الحقائق اللغوية وعليه فألفاظ البيع والشراء والعقود كالإجارة والمساقاة والمغارسة ونحوها والصلاة والصيام وغيرها من العادات وعدة المرأة في الطلاق أو الوفاة ونحوها، فهذه كلها تحمل على المعاني العرفية والشرعية عند ورود النص بها، وإن اختلفت عن معانيها الوضعية في أصل اللغة، أما العرف العملي إذا ورد النص مخالفًا له فقد اختلف فيه هل يخصص به النص العام أم لا؟ وقد قال الشيخ عبد الله الشنقيطي في كتاب نشر العقود على مراقي السعود أن نصوص الشريعة لا يخصصها من العوائد إلا ما كان مقارنًا لها في الوجود عند النطق بها، أما الطارئة بعدها فلا تخصصها وإليه الإشارة بقوله.
__________
(1) الفروق، للقرافي الثامن والعشرين: 1 /217(5/2512)
والعرف حيث قارن الخطاب (1) وهذا لا خلاف فيه بينهم في العرف اللفظي، أما العرف العملي فقد اختلف فيه الجماعة فقال بعضهم: لا يخصص عموم النصوص ولا يقيد مطلقاتها، وذهب جمهور المحققين إلى أن العرف العملي القائم عند ورود النص يخصص النص العام ويقيد المطلق خلافًا لما ذهب إليه القرافي من أن العرف العملي لا يصلح للتخصيص ولا للتقييد وقد تبعه في ذلك الونشريسي حيث ذكر أن العادة الفعلية لا تخصص العام (2) .
وقد علق ابن الشاط قول القرافي، وقد حكى جماعة من العلماء الإجماع على أن العرف الفعلي لا يؤثر بخلاف العرف القولي، قال القرافي: ورأيت المازري في شرح البرهان حاول الإجماع في ذلك ونقل عن بعض الناس خلافًا في ذلك ونقل مثلًا عنه، وفي ذلك نظر فالظاهر حصول الإجماع فيه ولم أرَ أحدًا جزم بحصول الخلاف بل رأى كلامًا لبعض الناس أوجب شكًا وترددًا، وهو محتمل للتأويل فلا تناقض بين نقل الإجماع في المسألة وبين هذه المثل المشار إليها، ولقد وضح القرافي لما ذهب إليه من الفرق بين العرف القولي والعرف الفعلي بمسائل الأولى: إذا فرضنا أحدًا أعجميًّا يتكلم بالعجمة، وهو يعرف العربية، غير أنه لا يتكلم بها لثقلها عليه فحلف لا يلبس ثوبًا ولا يأكل خبزًا وكان حلفه بألفاظ العربية التي لم تجرِ هودته باستعمالها وكانت عادته في غذائيه لا يأكل إلا خبز الشعير، ولا يلبس إلا ثياب القطن، فإنا نحنثه بأي ثوب لبسه وبأي خبز أكله، سواء كان من عادته في فعله أم لا، وهذا إذا لم تجر له عادة باستعمال اللغة العربية لأنه لو كانت عادته استعمال اللغة العربية لكان طول أيامه يقول أكلت خبزًا وائتوني بخبز وعجلوا بالخبز والخبز على المائدة قليل ونحو ذلك ولا يريد في هذا النطق كله إلا خبز الشعير الذي جرت عادته به فيصير له في لفظ الخبز عرف قولي ناسخ للغة، فلا يحنث بغير خبز الشعير وكذلك القول في ثوب القطن بخلاف إذا كان لا ينطق بلفظ الخبز والثوب إلا على الندرة فإنه لا يكون له في اللفظ اللغوي عرف مخصص يقدم على اللغة فيحنث بعموم المسميات اللغوية من غير تخصيص ولا تقييد قال ابن الشاط: لا نسلم له تحنيثه بل لقائل أن يقول اقتصاره على أكل خبز الشعير ولبس ثياب القطن مقيد لمطلق لفظه ويكون حينئذٍ من قبيل بساط الحال فإن الأيمان إنما تعتبر بالنية، ثم ببساط الحال، فإذا عدما حينئذ يعتبر العرف، ثم اللغة أن عدم العرف وزاد القرافي في إقامة الحجة على أن العرف العملي لا يخصص ولا يقيد، وردها ابن الشاط بأن ذلك غير مسلم لقاعدة أن الاقتصار على بعض مسمى اللفظ في الاستعمال الفعلي من جنس البساط وذكر القرافي في المسألة الرابعة حمل اليمين على العرف ثم على النية، ثم على البساط قال ابن الشاط: وفيه نظر لأنه لا يخلو أن يترتب على يمينه تلك حكم أو لا يترتب، فإن لم يترتب عليها حكم، فالمعتبر النية، ثم السبب أو البساط، ثم العرف، ثم اللغة، وإن ترتب عليها حكم المعتبر، فالمعتبر العرف ثم اللغة لا غير.
__________
(1) نشر البنود على مراتب السعود: 2 /46
(2) المنهج الفائق، والمنهل الرائق، والمغني اللائق بآداب الموثق، وأحكام الوثائق، ط. حجرة(5/2513)
معارضة العرف الخاص للنص العام:
إذا كان هناك عرف خاص بجماعة دون جماعة أو بمكان دون مكان كعرف الصناع والتجار وبعض البلدان أو في بعض الصناعات، فالمعتمد أن هذا العرف لا يعتد به فلا يخصص النص الوارد ولو كان قائمًا عند ورود النص ذلك أنه إذا كان عرف بعض البلاد يقتضي التخصيص لذلك النص فعدمه لدى بقية الأماكن أو التجار والصناع لا يقتضيه ولا شك أن التخصيص لا يثبت بالشك.
هل يكون العرف العملي أي الفعلي مخصصا؟ اختلفت المالكية في ذلك فجمهور المحققين منهم ذهبوا إلى أن العرف العملي القائم وقت ورود النص يخصص النص العام ويقيد النص المطلق خلافًا لما ذهب إليه القرافي من أن العرف الفعلي العملي لا يصلح للتخصيص والتقييد، وقد نقلنا كلامه آنفًا (1) فلقد صرح القاضي أوب عبد الله المقري في قواعده بأن العادة كالشرط عند مالك تقيد المطلق وتخصص العام كما رد أبو عبد الله محمد بن غازي على القرافي فيما ذهب إليه موضحًا أن مسائل المدونة وغيرها دالة على تخصيص العام بالفعلي كما يخصصه العرف القولي كما نقل شمس الدين محمد بن عرفة الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير للدردير نقل عن ابن عبد السلام أن ظاهر مسائل الفقهاء اعتبار العرف مطلقًا قوليها كان أو فعليًّا، كما نقل الوانوغى عن أبي الوليد الباجي أنه صرح بأن العرف العملي يعتبر مخصصًا أيضا، قال الدسوقى، وهو رأي القلشاني: هذا كله فيما إذا كان العرف سابقًا أو مقارنًا للنص، أما العرف المتأخر الحادث بعد ورود النص فلا يعتد به ولا يعمل عليه ولا يصلح بحال أن يكون مخصصًا للنص الشرعي بالإجماع، ولا فرق بين أن يكون عرفًا عامًا أو عرفًا خاصًا قوليًّا أو فعليًا ذلك أن مفهوم النص قد حدد مراد الشارع وكان نافذ المفعول، فلو قلنا بتخصيص العرف له لكان ناسخًا لحكم النص ولا ينسخ النص بالعرف، إذ من شرط اعتبار العرف الذي تحمل عليه الألفاظ أن يكون موجودًا حال صدورها مخصصًا أو مقيدًا لا ناسخًا (2)
__________
(1) الفرق الثامن والعشرين: 1 /217، وما بعدها
(2) التنقيح: ص 194(5/2514)
معارضة العرف للنص الاجتهادي:
إذا كان الحكم مستفادًا بطريق القياس أو الاستحسان أو الاستصحاب. أو المصالح المرسلة من كل الأدلة الفرعية غير الكتاب والسنة والإجماع فإن العرف إذا عارض ذلك الحكم المستنبط من المجتهد يعتبر ويعتد به ومعنى ذلك أننا نأخذ بذلك العرف ونترك الحكم المعارض له الذي كان منشؤه القياس والاستحسان ونحوهما إذ العرف يرجح عليه عند التعرض وهذا هو الرأي الأرجح لدى الفقهاء، فالحكم الذي منشؤه القياس، فالعرف أولى منه، ولو كان عرفًا حادثًا، ولقد اعتبر الفقهاء هذا من قبيل الاستحسان، ذلك أن الاستحسان هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى أو هو تخصيص قياس بأقوى منه أو هو العدول إلى خلاف النظير لدليل أقوى منه أو هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس كدخول الحمام من غير تعيين زمن المكث ومقدار الماء المسكوب والأجرة وهذا كله خلاف الدليل لأن الدليل هو الذي أدى إلى وجوب تعيين المنفعة والأجرة في الإجارات وتعيين المبيع والثمن في المبيعات (1) وبما ذكرنا ندرك كيف أن العرف يترجح على القياس وهو يستند إلى نص تشريعي في الجملة باعتباره الأصل المقيس عليه فيترجح على الاستحسان والمصلحة المرسلة التي لا تستند إلى نص من باب أولى، ويتضح ذلك بضرب الأمثلة؛ القياس يقتضي أن الحاكم يستمع لكل دعوة ترفع إليه، ثم يقضي بين المدعي والمدعى عليه حسب ما يثبت لديه من الأدلة لكن ترك هذا القياس فيما إذا ادعت الزوجة المدخول بها أن زوجها لم يدفع إليها شيئًا من معجل الصداق وطلبت القضاء عليه بمهرها المعجل قالوا: لا تسمع دعواها هذه بل يردها القاضي دون أن يسأل عنها الزوج، وقد عللوا ذلك بالعرف والعادة ذلك أن عادة الناس قد اطردت بأن البنت لا تزف إلى بيت الزوجية ما لم يدفع الزوج المعجل من الصداق أو كل الصداق، فتكون دعواها حينئذ مما يكذبها العادة والعرف وظاهر العرف، وظاهر الحال وهو دعواها هذه الدعوى بعد الدخول والمكوث المدة في بيت الزوجية فلا تسمع دعواها، وقد نقل الشهاب القرافي أن الزوجة إذا ادعت بعد الدخول بها عدم قبض صداقها، فالقول للزوج مع أن الأصل القياسي عدم القبض (2) .
وإذا تعارض العرف والأصل كان من شهد له العرف هو المدعى عليه والأصل هنا براءة الذمة لكن بعد تحقق عمارتها يكون الأصل استصحاب الحالة التي هي عمارتها حتى يتحقق الرافع لعمارتها وقد سقنا فيما تقدم جملة من الأمثلة مما تعارض به الأصل كتعارض براءة الذمة وعمارتها بعد شغلها وتعارض الصحة والمرض وتعارض الخطأ والعمد وتعارض الجهل والعلم وتعارض الغنى والفقر وتعارض الصحة والفساد أو تعارض الأصل والعرف (3) .
__________
(1) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، ط: 2 /288
(2) شهاب الدين القرافي، الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص: 27.
(3) محمد العزيز جعيط الطريقة المرضية: ص 42، وما بعدها.(5/2515)
فالأصل والقياس يقتضي أن لا يدفع الدين لغير صاحبه ولا ينفذ قبضه على الدائن ما لم يكن للقابض نيابة عن الدائن من ولاية أو وكالة ولكن الفقهاء تركوا القياس في البنت البكر البالغ إذا قبض أبوها مهرها من زوجها حين زفافها، واعتبروا هذا القبض نافذًا عليها ومبرئًا لذمة الزوج وذلك للعرف والعادة لأنه إذا تعارض الأصل مع العرف قدم العرف على الأصل والقياس ومن هذا القبيل دعوى المرأة على زوجها بعد الخلوة بها وبعد مفارقته لها أنه وطئها وأنكر هو الوطء فالزوجة قد شهد لها العرف والزوج قد شهد له الأصل إذ الأصل براءة الذمة ولكن رجح العرف على الأصل عند التعارض ولذا اعتبرت الزوجة مدعي عليها وهو المدعي وكان عليه البينة لأن من شهد له الأصل كان مدعيًا ما لم يعارضه العرف فيكون مدعي عليه (1) ولكنهم استثنوا مسألة واحدة قدموا فيها الأصل على العرف وهي ما إذا ادعى رجل صالح مشهور بالتقى ومخافة الله على رجل فاسق لا يتقي الله ادعى الصالح دينًا على الفاسق فأنكره، فالأصل يشهد للفاسق إذ الأصل براءة الذمة والعرف أن الرجل الذي يخشى الله ويتقيه لا يكذب ولا يدعي ظلما وبهتانًا على أحد. والشأن من الرجل الذي اشتهر بالصلاح والتقوى مخافة الله أن العرف يشهد له، ومع ذلك حكموا بأنه مدعى عليه البينة وقد نظم هذه الصورة الصنهاجي فقال:
والأصل والغالب إن تعارضا
فقد الغالب فهو المرتضى
إلا في دعوى صالح على سواه
بالدين فالعكس جميعهم يراه
ثم الحكم إذا كان مستندًا إلى العرف فإن الحكم يتغير بتغير العرف لأن العرف ينزل منزلة العلة التي يدور الحكم معها وجودا وعدما، ولقد ذكر القرافي أن الإفتاء بالأحكام التي مستندها العرف والعادة يتغير الحكم بتغير العادة وليس ذلك إنشاء اجتهاد جديد ناقض لاجتهاد المجتهدين بل هو تطبيق لقاعدة أجمع عليها علماء الشريعة وجروا في فتواهم على تحقيقها وتطبيقها (2)
تعارض العرف مع اللغة:
اختلف الأصوليون في تقديم العرف على اللغة أو اللغة على العرف وقد مال القرافي وجماعة إلى تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية واعتبر الحقيقة العرفية ناسخة للحقيقة اللغوية، وقد نقلنا فيما تقدم كلامه في الفرق الثامن والعشرين، وقد صرح في الأحكام أنه ينبغي أن يعلم أن معنى العادة في اللفظ أن ينقل إطلاق لفظ واستعماله في معنى حتى يصير هو المتبادر من ذلك اللفظ عند الإطلاق مع أن اللغة لا تقتضيه، وهذا هو معنى العادة في اللفظ وهو الحقيقة العرفية وهو المجاز الراجح في الأغلب وهو معنى قول الفقهاء: أن العرف يقدم على اللغة عند التعارض، ثم أوضح أنه يتعين أن يدور لفظ الفتيا فيها مع اشتهارها في العرف وجودًا وعدمًا ففي أي شيء اشتهرت حملت عليه بغير نية وما لم يشتهر لم تحمل عليه إلا بنية (3) وقد مثل القرافي في تنقيحه لتقديم الحقيقة العرفية على اللغوية بقوله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور (4) قال: إن حملناه على اللغوي وهو الدعاء لزم أن يتقبل الله دعاء بغير طهارة ولم يقل به أحد فيحمل على الصلاة في العرف وهي العبادة المخصوصة فيستقيم (5) .
__________
(1) الصنهاجي، مواهب الخلاق على شرح التاودي للامية الرقاق: 1 /108
(2) الأحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام: ص 68.
(3) الأحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام: ص 69.
(4) رواه الجماعة إلا البخاري، عن ابن عمر
(5) تنقيح الفصول باختصار المحصول ص 114(5/2516)
وقد نقل الونشريسي، عن أبي الفضل قاسم العقباني وقد سئل عن مسألة وهي أن ابن رشد سُئِلَ عمن خالج امرأته على أن تتحمل بنفقة ابنه منها إلى الحلم، ثم راجعها بنكاح جديد هل تبقى عليها نفقه ابنها أم لا؟ وكيف لو طلقها ثانية هل تعود إلى نفقته أم لا؟ فأجاب إذا راجعها سقط عنها ما تحملت به ولا يعود عليها إن طلقها ثانية إلا أن تجدد له التحمل، قال بعض الشيوخ: هذه كمسألة المدونة إذا ملكها فلم تقض حتى طلقها ثلاثًا وواحدة ثم نكحها بعد زوج أو بعد عدتها من طلقة فلا قضاء لها لأن هذا ملك مستأنف، ثم قال هذا الشيخ: قلت والعلة الحقيقية أنها لما رضيت به ثانية فكأن الأول لم يكن بوجه فكذا هذه المسألة. قال: أشكل علي يا سيدي جواب ابن رشد سقوط النفقة عنها ومعاوضتها كانت صحيحة وترتبت النفقة في ذمتها ولا يسقط ما في الذمة إلا بالإبراء والإسقاط، وقد قالوا: إذا ماتت المرأة المتحملة بنفقه الولد في الخلع أخذ من تركتها وكذلك أشكل على التنظير المذكور، فالمراد من سيدي بيان ما يختار في المسألة وبيان وجه فقه ابن رشد ووجه التنظير المذكور بأتم بيان، فأجاب: الحمد لله اعلم – حفظك الله – أن كثيرًا من مسائل الفقه يجري الحكم فيها على مقصود أهل العرف وإن كانت الألفاظ تدل على خلاف ذلك ومسألة النفقة التي أشرت اليها وأجاب ابن رشد عنها فيها من هذا المعنى، وذلك أن القوام على المرأة وولدها حال كونها تحت الزوج هو الزوج لكن يسهل ذلك عليه، وهم في موضع واحد فإن وقع افتراق عسر على الزوج القيام بمئون متعددة قد علم هذا بشهادة العادة عند الفراق، فلذا ترى الرجل يرغب في صرف نفقة الولد إلى غيره وهذا المعنى يزول عند المراجعة بانضمام الزوجة وولدها إلى الزوج ولا ترى في العادة زوجة تكون مع زوجها، وهي تنفق له على ولده فلهذا نعلم أن مراجعته إياها أنه أسقط النفقة عنها ولا شك أنها لا تعود بعد الإسقاط وبمثل هذا العرف قضى الإمام فيمن التزمت في الخلع إجراء النفقة على الولد إلى بلوغ الحلم فمات الولد صغيرًا قال: ليس للأب ما بقي من المدة إلى الحلم وعلله بأنه أدرك الناس أنهم لا يظلمون ذلك فترك صريح الالتزام للعرف، والتنظير من الشيخ راجع للعرف أيضا فإن التمليك إذا كان توكيلًا فالشأن في الوكيل أن لا يعزل حتى يقضي ما وكل عليه أو يصرح بترك ذلك، لكن العرف عند بعض أهل العلم يقتضي الجواب في المجلس، ومن لم يجب عد تاركًا ولبعضهم حتى يوقف الحاكم المحكمة على الأخذ أو الرد لما عرض في المسألة أن العصمة لا تصح – وفيها إخبار – لغير الزوج (1) وما ذكره من أن كثيرًا من مسائل الفقه يجرى الحكم فيها على مقصود أهل العرف وإن كانت الألفاظ تدل على خلاف ذلك هو ما عبر عنه الشاطبي عندما أكد بأنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع الأميين وهم العرب الذي نزل القرآن بلسانهم فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه إلى غيره في فهم الشريعة، وإن لم يكن هناك عرف فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه، وهذا جار في المعاني والألفاظ والتراكيب وأساليب الكلام (2) .
__________
(1) الونشريسي المعيار المعرب، والجامع المغرب، عن فتاوي علماء أفريقية، والأندلس، والمغرب: 4 / 30 – 31
(2) الموافقات: 2 /80(5/2517)
وخالف المقري في قواعده رأي الجمهور وقال بتقديم اللغة على العرف مدعيًا أن ذلك مشهور مذهب مالك حيث قال في القاعدة أربع وستين ومائة من قواعده إن العرف لا يقدم على اللغة على مشهور مذهب مالك (1) ، ولكن تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية هو مذهب الجمهور كما ذكرنا، وهو مذهب الحنفية والشافعية أيضا، ففي الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي أن الأيمان، مبنية على العرف لا على الحقائق اللغوية، قال صرح الزيلعي وغيره بذلك وعليها فروع: منها لو حلف لا يأكل الخبز حنث بما يعتاده أهل بلده ففي القاهرة لا يحنث بخبز البر وفي طبرستان ينصرف إلى خبز الأرز، وفي زبيد إلى خبز الذرة والدخن، ولو أكل الحالف خلاف ما عنده من الخبز لم يحنث، ولا يحنث بأكل القطائف إلا بالنية ومنها الشواء والطبيخ على اللحم، فلا يحنث بالباذنجان والجزر المشوي ولا يحنث بالمزورة في البطيخ ولا بالأرز المطبوخ بالسمن بخلاف المطبوخ بالدهن ولا بقليه يابسه ومنها الرأس ما يباع في مصر، فلا يحنث إلا برأس الغنم، ومنها حلف لا يدخل بيتًا فدخل بيعة، أو كنيسة، أو بيت نار، أو الكعبة، لم يحنث (2) .
قال ابن عابدين: واعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة هكذا ذكر فخر الإسلام في شرح الأشباه للبيري قال في المشرع: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنص ونقل عن القنية: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف (3) هذا المذهب الحنفي، أما المذهب الشافعي فقد حكى الحافظ السيوطي اختلاف فقهاء الشافعية في نقل ترجيح القاضي الحسين الحقيقة العرفية، وخالفه أبو الحسن البغوي ومال إلى تقديم الدلالة العرفية على الحقيقة اللغوية، ثم نبه السيوطي إلى أن الخلاف في تقديم العرف أو اللغة إنما هو في العربي أما العجمي فيعتبر عرفه قطعًا إذ لا وضع يحمل عليه (4) .
__________
(1) قواعد المقري: ص 63
(2) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 87 – 88
(3) ابن عابدين رسالة نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف مجموعة الرسائل: 2 /115
(4) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 66.(5/2518)
بهذا ندرك أن مذهب الشافعية كالمالكية والحنفية في تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية ومثل ذلك المذهب الحنبلي فقد ذكر ابن قدامة أن الأسماء تنقسم إلى ستة أقسام، ماله مسمى واحد كالرجل والمرأة والإنسان، وهذا تنصرف اليمين إلى مسماه بغير خلاف، الثاني ما له موضوع شرعي وموضوع لغوي كالوضوء والطهارة والصلاة وتنصرف اليمين فيه عند الإطلاق إلى الموضوع الشرعي دون اللغوي، الثالث ما له موضوع لغوي حقيقي ومجازي لم يشتهر كالأسد والبحر فيمين الحالف تنصرف عند الإطلاق إلى الحقيقة دون المجاز، الرابع الأسماء العرفية وهي ما يشتهر مجازه حتى تصير الحقيقة مغمورة في العرف، وهذا على ضروب: أحدها: ما يغلب على الحقيقة بحيث لا يعلمها أكثر الناس كالرواية هي في العرف اسم المزادة، وفي الحقيقة اسم لما يستقي عليه من الحيوان، والظعينة في العرف المرأة وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها، والعذرة والغائط في العرف الفضلة المستقذرة وفي الحقيقة العذرة فناء الدار، ولذلك قال عليه السلام لقوم: ((ما لكم لا تنظفون عذراتكم)) ، يريد أفنيتكم والغائط المكان، وأشباهه تنصرف يمين الحالف إلى المجاز دون الحقيقة لأنه الذي يريده بيمينه ويفهم من كلامه فأشبه الحقيقة في غيره.
الضرب الثاني: أن يخص عرف الاستعمال بعض الحقيقة بالاسم وهذا يتنوع أنواعًا فمنه ما يشتهر التخصيص فيه كلفظ الدابة، وهو في الحقيقة اسم لكل ما يدب وفي العرف اسم للبغال والحمير والخيل، ولذلك لو وصى إنسان لرجل بدابة من دوابه كان له أحد هذه الثلاث، فالظاهر أن يمين الحالف تنصرف إلى العرف دون الحقيقة عند الإطلاق كالذي قبله ويحتمل أن يتناول يمينه الحقيقة بناء على قول من قال في الحالف على ترك أكل اللحم أن يمينه تتناول السمك، ومن هذا النوع إذا حلف لا يشم الريحان فإنه في العرف اسم مختص بالريحان الفارسي وهو في الحقيقة اسم لكل نبت أو زهر طيب الريح مثل الورد والبنفسج والنرجس ولا يحنث إلا بشم الريحان الفارسي، وهو مذهب الشافعي لأن الحالف لا يريد بيمينه في الظاهر سواه قاله القاضي، وقال أبو الخطاب: يحنث بشم ما يسمى حقيقة ريحانًا لأن الاسم يتناوله حقيقة ولا يحنث بشم الفاكهة وجهًا واحدًا لأنها لا تسمى ريحانًا حقيقة ولا عرفًا الضرب الثالث: أن يكون الاسم المحلوف عليه عامًا لكن أضعاف إليه فعلًا لم تجر العادة به إلا في بعضه أو اشتهر في البعض دون البعض، مثل أن يحلف أن لا يأكل رأسًا فإنه يحنث فأكل رأس كل حيوان من النعام والصيود والطيور والحيتان والجراد ذكره القاضي، وقال أبو الخطاب: لا يحنث إلا بأكل رؤوس بهيمة الأنعام دون غيرها إلا أن يكون في بلد تكثر فيه الصيود وتميز رؤوسها فيحنث بأكلها، وقال أبو حنيفة: لا يحنث بأكل روؤس الإبل لأن العادة لم تجر ببيعها مفردة، وقال صاحباه: لا يحنث إلا بأكل رؤوس الغنم لأنها التي تباع في الأسواق دون غيرها فيمينه تنصرف إليها ووجه الأول أن هذه رؤوس حقيقة وعرفًا مأكولة فحنث بأكلها، كما لو حلف لا يأكل لحمًا فأكل من لحم النعام والزرافة وما يندر وجوده وبيعه، من ذلك إذا حلف لا يأكل بيضًا حنث بأكل بيض كل حيوان سواء كثر وجوده كبيض الدجاج أو قل وجوده كبيض النعام، وبهذا قول الشافعي، وقال أصحاب الرأي: لا يحنث بأكل بيض النعام وقال أبو ثور: لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج وما يباع في السوق، وقال أبو الخطاب: لا يحنث إلا بأكل بيض يزايل بائضه في الحياة وهذا هو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وأكثر العلماء، وهو الصحيح لأن هذا لا يفهم من إطلاق اسم البيض ولا يذكر إلا مضافًا إلى بائضه، ولا يحنث بأكل شيء يسمى بيضا غير الحيوان، ولا بأكل شيء يسمى رأسًا غير رؤوس الحيوان لأن ذلك ليس برأس ولا بيض في الحقيقة (1) ، ولابن قدامة فيما بني من الأيمان عى اعرف من حلق أن لا يبيع ثوبه بعشرة مثلًا فباعه بها أو بأقل منها حنث وذلك بدلالة العرف.
__________
(1) المغني، لابن قدامة المقدسي على مختصر الخرقي: 8 / 812 إلى 816(5/2519)
وقد يكون العرف في زمان ثم ينعدم، ويزول فمثلًا ورد في المدونة أن القائل لا مرأته: أنت حرام، أو خلية، أو برية، أو وهبتك لأهلك، يلزمه الطلاق الثلاث في المدخول بها ولا تنفعه البينة في أنه أراد أقل من الثلاث، باعتبار الاستعمال في ذلك الزمان وأنها كنايات ظاهرة في الثلاث، فلا ينوي صاحبها ويقع الطلاق بناء على ما اشتهر من استعمال هذه الألفاظ في فك العصمة وإزالتها واشتهر كذلك في العدد الذي هو الثلاث، أما ما كان من الكنايات الخفية فإن الزوج ينوي في ذلك فمن قال لامرأته: هذه أختي ونوى أخته في الدين لم تحرم عليه بذلك ولا يعتبر مظاهرا لجريان اللفظ على لسانة اختيارًا، أما ما ظهر قصده بخلاف معناه اعتبر قصده، إذ الأمور بمقاصدها.
وهل الأيمان مبنية على العرف أو النية أو الصيغ اللفظية؟
تحرير هذا: أن الإيمان عند الحنفية مبنية على العرف والعادة لا على المقاصد والنيات لأن غرض الحالف هو المعهود المتعارف عنده ويتقيد بغرضه، هذا هو الغالب عندهم. وقد ثبت أن أيمان عندهم على الألفاظ لا الأغراض وقد ألف ابن عابدين رسالة أسماها رفع الانتقاض ودفع الاعتراض على قولهم الأيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض، ولقد بين فيها أن هذه القاعدة وقاعدة أن الأيمان مبنية على العرف، بين أن كلا من هاتين القاعدتين مقيدة بالأخرى فقولهم: الأيمان مبنية على العرف معناه العرف المستفاد من اللفظ لا الخارج عن اللفظ اللازم له وقولهم: الأيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض معناه الألفاظ العرفية، فإذا تعارض الوضع الأصلي للكلمة والوضع العرفي ترجح الوضع العرفي.
وقد أوضح تقييد كل من القاعدتين للأخرى، بأن ذلك ينتج صورًا أربعة لأنه إما أن يوجد حقيقة الفعل ويفوت الغرض، أو توجد صورة الفعل والغرض، أو يوجد الغرض فقط، ويفوت الفعل، أو لا يوجد شيء منهما والحنث إنما يتحقق في الوجه الأول فقط دون الثلاثة الباقية، مثال الأول الشراء بأحد عشر والمحلوف عليه بعشرة وغرض المشتري الحالف نقص الثمن عن الشعرة، فإذا اشترى بأحد عشر فقد اشترى بعشرة وزيادة ووجد الفعل المحلوف عليه وفات الغرض.(5/2520)
وهذا هو شرط الحنث المطلق المترتب عليه حكمه، فلذا قالوا: إنه يحنث ولا يقال: إن الشراء بعشرة معناه الحقيقي عقد الشراء بعشرة وعقد بأحد عشر غير العقد بعشرة فلم يوجد الفعل المحلوف عليه لأنا نقول: إن الشراء بعشرة له معنى حقيقي وهو ما ذكرته ومعنى مجازي وهو التزام العشرة بإزاء الثوب المبيع والمراد المشتري وهو المعنى المجازي بقرينة حالية وهي أن الحامل له على اليمين من جهة المعنى هو التزام الثمن، وذلك الثمن هو العشرة التي سماها والعشرة تطلق على العشرة المنفردة، وهي هذا الحكم المنفصل الذي هو آخر مراتب الآحاد وأول مراتب العشرات وتطلق على المقرونة أي العشرة التي قرنت غيرها من الأعداء ولما كان الغرض من المشتري نقص الثمن عن العشرة وعدم التزامها بإزاء المبيع علم أن مراده مطلق العشرة أي الشاملة للمفردة والمقرونة، فإذا اشترى بالمنفردة فلا كلام في أنه قد وجد الفعل وفات الغرض فيحنث وكذا لو اشترى بالمقرونة لأن غايته أنه وجدت العشرة التي امتنع من التزامها في الثمن ووجد معها زيادة وهي الدرهم الحادي عشر مثلًا وإذا وجد شرط الحنث ووجد معه زيادة فتلك الزيادة لا تمنع الحنث كما لو حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها ودخل دارًا أخرى فإنه يحنث وإن زاد على شرط الحنث مثال الوجه الثاني البيع بأحد عشر، فقد وجدت صورة الفعل المحلوف عليه وهو البيع بعشرة التي في ضمن الأحد عشر ووجد أيضا الغرض لأن غرض البائع الحالف الزيادة على العشرة، وقد وجدت فلا يحنث لأن شرط الحنث وجود الفعل مع فوت الغرض وهنا لم يفت الغرض، بل وجد على أن الفعل في الحقيقة لم يوجد أيضًا لأن مراد البائع في قوله لا بيعه بعشرة العشرة المفردة.
أما المقرونة بالزيادة، فإنه غير ممتنع عنها، بل هو طالب لها وهي غرضه فإذا باع بأحد عشر فقد وجد غرضه ولم يوجد الفعل المحلوف عليه حقيقة أي الذي أراد منع نفسه عنه، وإنما وجد صورة في ضمن الأحد عشر ولذا قيد الشرط بقوله: أما إذا وجد صورة الفعل وإلا فحقيقة الفعل لم توجد وكيف توجد حقيقة الفعل الذي هو شرط الحنث مع وجود الغرض الذي يحصل به البر وهما متناقضان، ومثال الوجه الثالث الشراء بتسعة في المسألة الثالثة من الأربعة المذكورة لأن المشتري الحالف مستنقص عن العشرة، فإذا اشترى بتسعة فقد وجد غرضه ولم يوجد الفعل المحلوف عليه أصلًا فيكون قد وجد شرط البر الكامل وفات شرط الحنث من كل وجه فلا حنث، مثال الوجه الرابع البيع بتسعة، فإذا حلف لا يبيع بعشر لم يوجد الفعل المحلوف عليه وهو العشرة ولا الغرض وهو الزيادة، بحيث فات الفعل لم يتحقق شرط الحنث الكامل وإن فات الغرض لأن فوت الغرض لا يوجب الحنث ما لم يوجد الفعل، لأن الحنث شرطه وجود الفعل المفوت للغرض كما مر بلا حنث (1) . هذا مذهب الحنفية، وقال الشافعية: الأيمان مبنية على الحقيقة اللغوية أي بحسب صيغة اللفظ لأن الحقيقة أحق بالإرادة والقصد إلا أن ينوي شيئًا فيعمل بنيته فلو حلف ألا يأكل رؤوسا فأكل رؤوس حيتان فمن راعى العرف، قال: لا يحنث ومن راعى دلالة اللغة، قال: يحنث وكذلك يحنث من حلف لا يأكل لحمًا فأكل شحمًا مراعاة لدلالة اللفظ وقال آخرون: لا يحنث، والمذهب الشافعي يتبع مقتضى اللغة عند ظهورها وشمولها ويتبع العرف إذا اشتهر واطرد.
__________
(1) ابن عابدين رسالة رفع الانتفاض ودفع الاعتراض على قولهم: الأيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض، الرسائل: 1 /292(5/2521)
أما مذهب مالك فالمعتبر في الأيمان التي لا يصدر فيها حكم قضائي على حالفها بموجبها النية، وكذلك النذور نية المستحلف في الدعاوى ونية الحالف في غيرها، فإن عدمت النية فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفظ وما قصد الناس من عرف أيمانهم، فإن عدم فدلالة اللغة، وقيل: لا يراعى إلا النية أو ظاهر اللفظ اللغوي، وقيل: يراعى النية وبسوط الحال أي السبب الحامل على اليمين أو المقام وقرينة السياق في اصطلاح علماء المعاني، ولا ينفع الاستثناء في النذر وينفع في المشيئة في الأيمان، أما الأيمان التي يقضي بها على صاحبها ففي مجال الاستفتاء تراعى الضوابط على ما سبق من الترتيب وفي مجال القضاء لا يراعى إلا اللفظ في اليمين إلا ما يؤيد ما ادعاه من النية قرينة الحال أو اعرف. قال الشاطبي: من مذهب مالك أن يترك الدليل للعرف ورد الأيمان إلى العرف مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه العرف كقوله: والله لا دخلت مع فلان بيتًا فهو يحنث بدخول كل موضع يسمى بيتا في اللغة والمسجد يسمى بيتًا فيحنث على ذلك إلا أن عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ عليه فخرج بالعرف عن مقتضى اللفظ فلا يحنث (1) .
أما الحنابلة فمرجع الأيمان إلى نية الحالف، فإن نوى بيمينه ما احتمله اللفظ انصرفت يمينه إليه لا فرق بين أن يكون ما نواه لظاهر اللفظ أم مخالفًا له لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) (2) فإن لم ينوِ شيئًا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها وأثارها لدلالة ذلك على النية، فلو حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، فإن كان سبب يمينه غيظًا من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منه عليه بها اختصت يمينه بها، وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقضي جفاءها ولا أثر للدار فيه تعلق بإيوائه معها في كل دار.
__________
(1) الشاطبي، الاعتصام: 2 / 121، ط مصطفى محمد – القاهرة.
(2) رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد رواه ثلاثون صحابيًّا، الأربعين النووية: ص 16، وشرح مسلم: 13/ 53(5/2522)
تعارض العرف مع الشهادة:
اختلف الفقهاء هل ينزل العرف منزلة شاهد واحد أو منزلة شاهدين إذا تعارضا بأن شهد العرف لشخص واحد، وشهد شاهد لشخص آخر فذهب الإمام البرزلي إلى أن العرف يعتبر كشاهد واحد فقط، وعلى هذا فمن شهد له العرف وجبت عليه اليمين لأن اليمين على المدعى عليه وهو من شهد له أصل أو عرف وما ذهب إليه البرزلي هو ما مال إليه جمهور الفقهاء وقيل: هو بمثابة الشاهدين وعندئذٍ لا تتوجه اليمين على من شهد له العرف (1)
وقد علق المهدي الوزاني على الخلاف في هذه المسالة، فقال: أما كون المتقرر من العادات بمنزلة شاهد واحد فقط لا شاهدين، فهو المعتمد، وقد رجح هذا الرأي الشيخ الزهوني، وفي العمليات نظم أبو زيد الفاسي هذا الخالف، فقال: والمتقرر من العادات كشاهد أو شاهدين، وذكر الوالد رحمه الله في الطريقة المرضية أنه اختلف في العادة هل هي كشاهدين فلا يمين معها أو كشاهد يحتاج معها إلى اليمين وبين أن المشهور توجيه اليمين إن كان للمدعى فيه نزاع غير من احتج بالعادة فتجب اليمين على المحتج بها، فإن لم يكن منازع فلا يمين نقل ذلك عن صاحب الدكانة الذي انتزعه من تعليل القرطبي وابن عرفه من عدم توجه اليمين على صاحب اللقطة لعدم منازع له فيها لكن ذكر الوالد أن ما ذكره عظوم غير مطرد ينتقض بمسألة ما إذا زوج ابنته البالغ وهو ساكت حتى إذا فرغ أنكر بحدثان ذلك، فإنه يستحلف أنه لم يرض، فإن نكل لزمه النكاح وكان عليه نصف الصداق، قال خليل: وحلف رشيد وأجنبي وامرأة أنكروا الرضا والأمر حضورًا ذكره ابن يونس وحكاه صاحب اللباب عن ابن القاسم. وقال أبو عبد الله: لا يلزمه شيء وعليه فاليمين استظهار فقط لعله يقرر وصوبه أبو عمران. وقد ذكر الونشريسي أن الخلاف في لزوم نكاح الناكل مبني على الخلاف في العادة هل هي كالشاهد أو كالشاهدين فإن قلنا كالشاهدين لزم النكاح بنكوله وعليه نصف الصداق، وإن قلنا كالشاهد لم يلزمه (2) .، وعلى الرغم من ذلك أن جمهور الفقهاء مالوا إلى اعتبار العرف كشاهد واحد.
__________
(1) عمر الفاسي منهاج الزقائية: ص 210.
(2) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية، لمحمد العزيز جعيط: ص 51(5/2523)
منزلة العرف بين الأدلة:
لقد استخرج أصحاب مالك الأصول والقواعد التي بنى عليها مذهبه من فروعه الفقهية التي قررها ودونوا هذه الأصول، فقالوا: كان مالك يأخذ بظاهر القرآن وبظاهر السنة وبمفهوم المخالفة وبفحوى الخطاب وبمراعاة الخلاف وليست هذه أقوالًا له مأثورة عنه وإنما هي مستخرجة من الفروع فهي إذن مجهود العلماء الذين اتبعوا مذهبه فعملهم كعمل علماء الحديث بصحيح البخاري، إذ لم يبين الشروط التي اشترطها وإنما ذلك عمل من أتى بعده من المحدثين، وليس هذا إن هذه القواعد والأصول قد خفيت عنه أو لم يوجد في كلامه ما يفيدها، فقد يصرح بأخذه بعمل أهل المدينة وبين البواعث التي أدت به إلى الأخذ به، كما صرح بذلك في الموطأ وقد صرح أيضا بما لا مجال للشك فيه بأنه أخذ بالقياس حتى قال ابن العربي في القبس إن مالكا قصد في الموطأ تبين أصول الفقه وفروعه (ص 7) وبين أيضا أن مالكا بنى موطأه على تمهيد الأصول للفروع ونبه فيه إلى معظم أصول الفقه التي ترجع إليها مسائله وفروعه، فالإمام لو لم يصرح بهذه القواعد بصريح العبادة، فقد كانت هذه بمثابة الأسس التي قامت عليها أقوال من أتى بعده وعليها استندوا في التخريج والاستنباط وقد اختلف المالكية في عد هذه الأصول التي بني عليها الفقه المالكي بعدها الشيخ محمد صالح الهسكوري صاحب التقييد على الرسالة أنها ستة عشر أصلًا وهي: نص الكتاب، وظاهره وهو العموم ودليله وهو مفهوم المخالفة، ومفهوم الموافقة، وتنبيه، وهو التنبيه على العلة، ومن السنة مثل ذلك، فهذه عشرة ثم الإجماع وعمل أهل المدينة وقول الصحابي والاستحسان وسد الذرائع، واختلف قوله في مراعاة الخلاف فمرة اعتبره ومرة ألغاه. قال أبو يحيى الغرناطي شارح التحفة وابن ناظمها في شأن مراعاة الخلاف ما نصه: مراعاة الخلاف لا يطردونه في جميع المواضع ثم مراعاة الخلاف إما أن تكون صحيحة وإما أن تكون غير صحيحة، فإن كانت صحيحة جارية على أصول الشريعة وجب اعتبارها على الإطلاق، وأما اعتبارها في بعض المسائل دون بعض، فذلك يفتقر إلى ضابط يعرف به الموضوع الذي يجب أو يجوز أن يراعى فيه الخلاف من الذي لا يراعى فيه، وقد أنهاها القرافي في تنقيح الفصول في الفصل الأول من الباب العشرين إلى تسعة عشر، قال: وذلك بالاستقراء وهي الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة والقياس، وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والاستصحاب والبراءة الأصلية والعوائد والاستقراء وسد الذرائع والاستدلال والاستحسان والأخذ بالأخف والعصمة وإجماع أهل الكوفة وإجماع العترة وإجماع الخلفاء الأربعة (1)
__________
(1) تنقيح الفصول بهامش حاشية منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح: 2 /208(5/2524)
واستقراء القرافي ناقص، بدليل أن بعض علماء الأصول زاد على التسعة عشر التي ذكرها إجماع المصرين البصرة والكوفة وإجماع الحرمين والعرف والتعامل والعمل بالظاهر والأظهر والأخذ بالاحتياط والقرعة ومذهب كبار التابعين والعمل بالأصل ومعقول النص وشهادة القلب وتحكيم الحال وعموم البلوى والعمل بالشبهين ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بأيسر ما قيل والأخذ بأكثر ما قيل وإجماع الصحابة وحدهم وقول الخلفاء الأربعة إذا اتفقوا وقول الصحابي إذا خالف القياس والرجوع إلى المنفعة والمضرة ذهابًا إلى أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع، والقول بالنصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وباعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام عند الطوفي وإجماع الأمم السالفة عند الإسفراييني والاقتران أي بين جملتين، فإنه يقتضي التسوية في الحكم بينهما عند المزني وأبي يوسف والاستدلال على انتفاء الشيء بانتفاء دليله عند الإسفراييني ومفهوم اللقب عند جماعة وحكم العقل عند المعتزلة والهاتف أي الصوت المعلوم صدقه والأوهام أي الإلقاء في القلب وشرع من قبلنا وإن كان مرجع الجميع إلى الأصلين الكتاب والسنة كما نقله الزركشي عن بعضهم.
وقد رد الشاطبي في موافقاته الأدلة الشرعية إلى ضربين ما يرجع إلى النقل المحض وما يرجع إلى الرأي المحض، وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعًا إلا إذا استند إلى النقل، فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة، وأما الثاني فالقياس والاستدلال ويلحق بكل منهما وجوه إما باتفاق وإما باختلاف، فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل به، ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا لأن ذلك كله وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا: إنها راجعة إلى أمر نظري وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية (1)
__________
(1) الموافقات للشاطبي: 3/ 19، ط بولاق المسألة الخامسة من كتاب الأدلة الشرعية.(5/2525)
ولقد صرح أبو بكر بن العربي في العارضة بأن العرف أحد القواعد العشر التي تركبت عليها أحكام المعاملات في المذهب المالكي وما ذهب إليه الشاطبي من التقسيم له وجه صحيح حيث عمل أهل المدينة وقول الصحابي وقد اعتمدها مالك، فذلك باعتبار أنهما من شعب السنة كما أن كلمة الرأي تشمل بعمومها المصالح المرسلة وسد الذريعة والعادات والاستحسان والاستصحاب لأن هذه من مشملات الرأي، وقد ذكر تاج الدين السبكي أن أصول مذهب مالك تزيد على الخمسمائة وهو في الواقع يشير إلى القواعد التي استخرجت من الفروع الفقهية في المذهب المالكي ولقد أنهاها القرافي في فروقه إلى خمسمائة وثمان وأربعين قاعدة وجمعها المقرئ في ترتيب الفروق في تسع وثلاثين ومائتين قاعدة وأنهاها في قواعده إلى مائتين وألف قاعدة، ولكن هذه القواعد في الحقيقة تفرعت عن تلك الأصول التي سبق ذكرها، ثم إن الإمام مالك رحمه الله لم ينص على هذه القواعد وإنما استنبطها أصحابه من فروعه الفقهية، وقد لاحظ الشيخ أبو زهرة في كتابه مالك أن مذهب الإمام أكثر المذاهب أصولًا حتى إن علماء الأصول من المالكية حاولوا الدفاع عن هذه الكثرة، قال أبو زهرة: وإن نوع الأصول التي يرد بها المذهب المالكي على غيره ومسلكه في الأصول التي اتفق فيها مع غيره يجعلانه أكثر مرونة وأقرب حيوية وأدنى إلى مصالح الناس وما يحسون وما يشعرون وبعبارة جامعة أقرب إلى الفطرة الإنسانية التي يشترك فيها الناس ولا يختلفون إلا قليلًا بحكم الإقليم والمنزع والعادات الموروثة (1)
__________
(1) أبو زهرة، مالك: ص 37، ط2.(5/2526)
أما توثيق هذه الأدلة في المذهب المالكي من حيث الاعتبار والحجية، فقد أوضحه القاضي أبو الفضل عياض في كتابه المدارك فذكر ترتيبه على ما يوجبه العقل ويشهد له الشرع تقديم كتاب الله تعالى على ترتيب وضوح أدلته من نصوصه، ثم ظواهره ثم مفهوماته، ثم كذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترتيب متواترها ومشهورها وآحادها ثم ترتيب نصوصها وظواهرها ومفهومها على ما تقدم في الكتاب، ثم الإجماع عند عدم الكتاب ومتواتر السنة وبعد ذلك عند عدم الأصول والقياس عليهما والاستنباط منهما إذ كتاب الله مقطوع به وكذلك ما تواتر من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكذلك النص المقطوع به بموجب تقديم ذلك كله، ثم الظواهر، ثم المفهوم منها لدخول الاحتمال في معناها، ثم أخبار الآحاد يجب العمل بها والرجوع إليها عند عدم الكتاب والتواتر، وهي مقدمة على القياس لإجماع الصحابة على الفصلين وتركهم نظر أنفسهم متى بلغهم خبر ثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم وامتثالهم مقتضاه دون خلاف منهم في ذلك، ثم القياس أخيرًا إذ إنما يلجأ إليه عند عدم هذه الأصول في النازلة فيستنبط من دليلها ويعتبر الأشباه منها على ما مضى عليه عمل الصحابة ومن بعدهم من السلف المرضيين وعلم من مذهبهم أجمعين وأنت إذا نظرت لأول وهلة منازع هؤلاء الأئمة وتقرير مآخذهم في الفقه والاجتهاد في الشرع وجدت مالكًا رحمه الله ناهجًا في هذه الأصول مناهجها مرتبًا لها مراتبها ومدارجها، مقدما كتاب الله ومرتبًا له على الآثار، ثم مقدمًا لما على القياس والاعتبار تاركًا منها لما لم يتحمله عنده الثقات العارفون بما تحموله أو ما وجد الجمهور والجم الغفير من أهل المدينة قد علموا بغيره وخالفوه ولا يلتفت إلى من تأول عليه بظنه في هذا الوجه سوء التأويل وقوله ما لا يقوله، بل ربما يصرح أنه من الأباطيل، ثم كان من وضوعه عن المشكلات وتحريه عن الكلام في المعوضات ما سلك به سبيل السلف الصالحين، وكان يرجح الاتباع ويكره الابتداع والخروج عن سن الماضين.
ثم سلك الشافعي سبيله وبسط مآخذه في الفقه وأصوله لكن خالفه في أشياء أداه إليها اجتهاده وثاقب فطنته ولم يخلصه من دركها عدم استقلاله بعلم الحديث والأثر وتزحزحه عن الانتهاء في معرفته، ثم ما جرى بينه وبين بعض المالكية بمصر وحمل عليه حتى تميز عنهم بعد أن كان معدودًا منهم وواحدًا من جملتهم، فبان بأصحابه وتلاميذه وصرح من حينئذٍ بالخلاف والرد على أكبر أساتذته.(5/2527)
وأما أبو حنيفة، فإنه قال بتقديم القياس والاعتبار على السنن والآثار بترك نصوص الأصول وتمسك بالمعقول وآثر الرأي والقياس والاستحسان، ثم قدم الاستحسان على القياس بأبعد ما شاء وحد بعضهم استحسانه أنه الميل إلى القول بغير حجة، وهذا هو الهوى المذموم والشهوة والحديث والبدعة حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرع في الدين ولهذا خالفه صاحباه محمد وأبو يوسف في نحو ثلث مذهبه إذ وجدوا السنن تخالفهم فيما تركه لما ذكرناه من قصد لتغليبه القياس وتقديمه أو لم تبلغه ولم يعرفه إذ لم يكن من مثقفي علومه وبه شنع المشنعون عليه وتهافت الجراء على ذم البرآء بالطعن إليه، ثم ما تمسك به من السنن فغير مجمع عليه وأحاديث ضعيفة متروكة، وبسبب هذا تحزبت طائفة أهل الحديث على أهل الرأى وأساءوا فيهم القول والرأي.
وأما أحمد وداود فإنهما سلكا اتباع الآثار ونكبا عن طريق الاعتبار لكن داود خالف ذلك فترك القياس جملة واحدة هو وأصحابه من القول بالظاهر ما خالف فيه أئمة الأمة فخانه التمسك بربع أدلة الشريعة.
وجعل أحمد الخبر الضعيف خيرًا من القياس وبديهية العقل تنكر هذا فلا خير في بناء على غير أساس وهذا اعتبار في التفضيل نبيل يدل المنصف على السالك منهم نهج السبيل هذا مأخذ الجميع في فقههم ونظرهم على ما في فهمهم (1) .
وكان مالك رحمه الله يرجح الاتباع ويكره الابتداع والخروج عن سنن الماضيين، هذه نتفة عما يتعلق بالأصول، أما ما يتعلق بالقواعد فقد قسمها المالكية إلى قسمين ما هي أصول لأمهات مسائل الخلاف وما هي أصول للمسائل، والقسم الأول هو مراد الإمام المقري في قواعده فقد ذكر أنه قصد إلى تمهيد ألف ومائتي قاعدة في الأصول القريبة لأمهات مسائل الخلاف وأضاف أنه يعني بالقاعدة كل كلي هو أخص من الأصول وسائر المعاني العقلية العامة وأعم من العقود وجملة الضوابط الفقهية الخاصة فهو لا يعني في قواعده القواعد الأصولية العامة ككون الكتاب والسنة والإجماع والقياس حجة أو كحجية المفهوم أو العموم وخبر الواحد أو ككون الأمر عند الإطلاق للوجوب والنهي للتحريم ولا قصد القواعد الفقهية الخاصة ككل ما لا يتغير لونه أو طعمه أو رائحته فهو طهور وكل حيتان البحر مباح في الأكل أو كل عبادة لا تصح إلا بنية، وإنما أراد ما توسط بين هذين مما هو أصل لأمهات المسائل فهو أخص من أصول العامة وأعم من الأحكام الجزئية الخاصة هذا هو غالب ما اشتمل عليه وإن كان قد تعرض لبعض قواعد أصولية وقواعد فقهية تكميلا للفائدة وما من مذهب من المذاهب إلا وله تأليف، وهذه القواعد كالأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي والأشباه والنظائر للسيوطي والقواعد لابن رجب الحنبلي، وكل مذهب من المذاهب له قواعد اختارها، واعتمد عليها في استنباط الأحكام، وقد حصر أبو عبد الله بن عمر الدبوسي السمرقندي الحنفي مذهب الحنفية في أربعة عشر قاعدة وأنهاها ابن نجيم إلى تسعة عشر قاعدة في الأشباه وجعل القاضي الحسين مبنى الفقه الشافعي على أربعة قواعد كما في فتح الباري (2) ، وأنهاها ابن رجب الحنبلي في قواعده إلى مائة وستين قاعدة وأردفها بفصل اشتمل على عشرين قاعدة ألحقها بالقواعد فيها اختلاف في المذهب الحنبلي ينبني على الاختلاف فيها فوائد متعددة (3) .
__________
(1) ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعركة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض: 1 / اليحصبي – وزارة الأوقاف بالمغرب
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر: 5 /276
(3) قواعد ابن رجب: ص 368(5/2528)
وأصحاب هذه المذاهب وإن ألفوا وقعدوا القواعد لكن مذهب الإمام مالك أغزر من بقية المذاهب في تقعيد القواعد والأصول كما أشرنا إليه وإذا كان بعض أهل العلم قد حصر قواعد المذهب في ست عشرة قاعدة أو سبع عشرة، كما نقل ذلك الفقيه ابن راشد عن شيخه أبي محمد صالح أن مالكًا بني مذهبه على ستة عشر والسابع عشر اختلفوا فيه وهو مراعاة الخلاف (1) ، لكن المحققين من علماء المالكية قالوا إن ذلك لا يمكن ضبطه وحصره، ولقد ذكر الشيخ أبو زهرة في كتابة مالك، قال: وقد اختبره (أى مذهبه) العلماء في عصور مختلفة فاتسع لمشاكلهم واختبره علماء القانون في عصرنا الحاضر فكان مسعفًا لهم في كل ما يحتاجون إليه من علاج لكثرة مجتهديه وكثرة أصوله ونوع الأصول التي أكثر منها وأنه أكثر المذاهب أصولًا (2) هذه هي أصول المالكية والأدلة التي جعلوها مصادر لبناء الأحكام ولسائل أن يسأل عن منزلة العرف من بين الأدلة.
منزلة العرف بين الأدلة:
إن فقهاء الشريعة على اختلاف مذاهبهم متفقون على اعتبار العرف بصفة عامة دليلًا من الأدلة التي انبنت عليه كثير من الأحكام الفقهية إذا أعوزهم النص من الكتاب والسنة.
وبنوا على ذلك مجموعة من القواعد: (1) كقاعدة الثابت بالعرف كالثابت بالنص (2) وقاعدة العادة محكمة (3) وقاعدة العادة كالشرع (4) وقاعدة الممتنع عادة كالممتنع حقيقة (5) وقاعدة الحقيقة تترك بدلالة العرف والعادة (6) والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (7) وقاعدة استعمال الناس حجة يجب العمل بها (8) وقاعدة العبرة للغالب الشائع لا للنادر (9) وقاعدة العرف بين التجار كالمشروط بينهم (10) وقاعدة إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت (11) وقاعدة الثابت بالعرف ثابت بالدليل الشرعي (12) وقاعدة لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان.
والمقصود بتغير الزمان تغير العادات والأحوال من زمن إلى زمان أو من مكان إلى مكان واستناد التغيير للزمان وللمكان مجاز لأن الزمن لا يتغير، وإنما الناس هم الذين يطرأ عليهم التغيير في أفكارهم وصفاتهم وعاداتهم وسلوكهم، مما يؤدى إلى وجود عرف عام أو خاص ويترتب عليه تبدل الأحكام المبنية على الأعراف والعادات من كل الأحكام الاجتهادية المستنبطة بالقياس أو المصلحة أو الاستحسان أو غيرها من الأدلة الفرعية، أما الأحكام الأساسية التي مصدرها النصوص من الأوامر والنواهي فلا تتبدل ولا تتغير فوجوب الصلاة والزكاة والجهاد وأداء الأمانة والصدق والإخلاص والقول والعمل وإباحة البيع والشراء والميراث وأنصبائه ونحوها كحرمة الزنا وشرب الخمر وأكل الميتة وشهادة الزور والفرار من المعركة فهذه كلها أحكام مستقرة لا يؤثر فيها تغيير الزمان ولا المكان ولا الأشخاص، أما ما كان منشأ بنائه على العادات أو على صحة أو فساد الأخلاق، فهذا هو الذي يختلف فيه أنظار الأئمة والمجتهدين من زمن إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن شخص إلى شخص، وقد قال مالك: تحدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا ذلك الأمر (3) .
__________
(1) منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح: 1 /177
(2) مالك لأبي زهرة: ص 376 ط 2.
(3) شرح الزرقاني على الموطأ 4 /204(5/2529)
وعن عمر بن عبد العزيز تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور، فالأحكام المعللة بعلة ظنية والأحكام الاجتهادية المأخوذة من الأدلة الظنية والمبنية على مصالح العباد في المعاش والمعاد والتي بنيت على العرف، فإنها تتغير بتغير العلة والمصلحة والعرف وذلك هو العدل والرحمة والمصلحة وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى النكاية وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة في شيء، لأن الشريعة كما يقول ابن القيم: عدل الله بين عباده ورحمته بخلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وهي نوره الذي أبصر به المبصرون (1) .
وإن كثيرًا من أعمال الناس وألفاظهم ومعاملاتهم وشؤون حياتهم تقوم على ما اعتادوه وتعارفوه، ذلك أن القواعد الشرعية المعتمدة على النصوص لا تستوعب جميع التفصيلات ولا المسائل المتجددة، وهي وإن كانت تتخذ أساسًا في نصها أو روحها للاجتهاد وبيان الأحكام، فإن العرف يساعد كثيرا في هذا الاجتهاد ويعين المجتهد على تفهم الواقع وتطبيق الحكم الشرعي عليها سواء أكان ذلك في معاني الكلمات وعبارات الناس أو في معاملاتهم وعقودهم حتى أصبح العرف الصحيح ذريعة إلى تبدل الأحكام وتغيرها باختلاف أعراف الناس في بيئتهم المختلفة وأماكنهم المتغايرة وهذا هو سبب تغير اجتهادات الإمام الشافعي في كثير من المسائل بين حكمه عليها حين كان في بلاد العراق وحكمه عليها حين انتقل إلى مصر حيث رأى تغير أعراف الناس وعاداتهم يعدل في اجتهاداته حتى صارت تعرف بالمذهب الجديد واجتهاداته بالعراق بالمذهب القديم وجميع الأئمة اعتبروا العرف الصحيح في الأحكام الشرعية ومالك كما قدمنا وأتباعه أقاموا للعرف وزنًا كبيرا وأخذوا به في كل ما لا نص فيه قطعي وتركوا القياس إذا خالف العرف، وقد قال القرطبي في باب الاستحسان: إن من ضروب الاستحسان ترك القياس لأجل العرف وجعلوه يخصص العام ويقيد المطلق، وقد صرح الزيلعي: أن العرف من أقوى الحجج في مشروعية المضاربة (2)
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية 3 / 3
(2) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 6 /29، ط الأميرية.(5/2530)
كما ذكر الشافعية في كثير من الأحكام تعليل مشروعيتها بجريان العادة والعرف بين الناس، مثل اعتبار الحب في غالب قوت البلد ودخول الحمام من غير تعيين مدة المكث ومقدار الأجرة بجريان العرف والتسامح في مثل هذا (1) .
وقد نقل الشيخ أو زهرة نصوصًا كثيرة من المذهب المالكي موضحا أنها كانت شهادة باعتبار العرف أصلًا من أصول الاستنباط وأنه كثيرًا ما يتفق مع المصلحة وإن المصلحة أصل بلا نزاع في مذهب مالك على أن العرف يقتضي تأليف النفوس لما يكون من أحكام تكون على مقتضاه ومخالفته تؤدي إلى الحرج والمشقة وهما مرفوعان في الشريعة كقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
والله من رحمته بعباده إنما يشرع ما يستسيغه الناس ويألفونه لا ما يكرهونه ويبغضونه إذ الشريعة ليست بنكاية كما قدمنا. ولأن العرف إذا لم يكن على رذيلة وهو العرف المحترم الصحيح يكون احترامه مقويًّا للوحدة دافعًا لاجتماع كلمة الأمة رابطًا بين الناس وإن مخالفته هدم لهذه المآثر وبناء على ما نقلنا ندرك أن مرتبة العرف تأتي مباشرة بعد مرتبة الكتاب والسنة حيث إنه يرجع إلى المصلحة وحيث هو راجع إلى المصلحة كان في مرتبتها إذ ليس بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا المصلحة، ولا شك أن الإجماع لم يراع فيه المجتهدون إلا المصلحة ومهما تحققت المصلحة سار الناس إليها ومهما استعصى الأمر على المجتهد وعدم النص من الكتاب والسنة ولاح له عرف صحيح إلا خذ به واعتمد عليه، لأن العمل به كفيل بتحقيق المصلحة، بوساطته يدرك المنفعة أو المفسدة فيقرر ما تقتضيه من مصلحة ويرفض ما فيه مفسدة، ولقد اعتبره العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور مصدرًا فطريًّا حيث يقول: ونحن إذا وجدنا النظر في المقصد العام من التشريع نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرفها واختلالها ولعل ما أفضى إلى خرق عظيم فيها يعد في الشرع محظورًا ممنوعًا وما أفضى إلى حفظ كيانها يعد واجبًا وما كان دون ذلك في الأمرين فهو منهي أو مطلوب في الجملة وما لا يمسها مباح، ثم إذا تعارضت مقتضيات الفطرة، ولم يمكن الجمع بينهما في العمل يصار إلى ترجيح أولاها وأبقاها على استقامة الفطرة، فلذلك كان قتل النفس أعظم بالإنسان بعد الشرك، وكان الترهيب منهيًّا عنه، وكان خصاء البشر من أعظم الجنايات، ولم يجز الانتفاع بالإنسان انتفاعًا يفيت عينه أو يعطلها كالتمثيل بالعبد بخلاف الانتفاع بالحيوان، وكان إتلاف الحيوان بغير أكله ممنوعًا ومن هنا تعلم أن القضاء بالعوائد يرجع إلى معنى الفطرة لأن شرط العادة التي يقضي بها أن لا تنافي الأحكام الشرعية فهي تدخل تحت حكم الإباحة وقد علمت أنها من الفطرة إما لأنها لا تنافيها وحينئذٍ فالحصول عليها مرغوب لفطرة الناس، وإما لأن الفطرة تناسبها وهو ظاهر (2) .
__________
(1) المحلى: 4 / 71
(2) مقاصد الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: ص 58، 60، ط دار النشر(5/2531)
وقد ظهر بما نقلنا أن العرف أصل ومصدر في الشريعة أصل لأن منه يأخذ الفقيه الحكم ويبنيه عليه فيكون أصلًا بهذا الاعتبار، وهو مصدر لأنه منه يأخذ الفقيه الحكم ويبينه عليه فيكون أصلا بهذا الاعتبار وهو مصدر لأنه منه يأخذ وهو بالنسبة للأصولي دليل لنه يرشده إلى الحكام نعم هو دليل ظني لا يرقى إلى الأدلة القطعية المأخوذة من الكتاب والسنة إذا كانت قضية الثبوت قطعية الدلالة فهو أقل منهما رتبة بهذا الاعتبار، هذه منزلة العرف بين الأدلة.
وكما أنبنى على العرف مجموعة من القواعد الفقهية، انبنى عليه أيضًا قواعد أصولية كالاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة، فإن بعض أنواع الاستحسان، كاستحسان الضرورة مبني على العرف، إذ القياس مثلًا يقتضي منع بين المعدوم وينبني عليه منع بين السلم والاستصناع ونحوها ولكنها جازت استحسانًا وهو مبني على العرف (1) ، ولذلك قالت الحنفية في تعريف الاستحسان: دليل ينقدح في عقل المجتهد يقتضي ترجيح قياس خفي على قياس جلي أي مقتضى الإباحة في مقابلة ما يقتضيه القياس من المنع والحظر ولذلك اعتبره الحنفية دليلا شرعيًّا، وقالوا: نأخذ بالاستحسان ما استقام، يعنون أن الاستحسان قياسي خفيت علته بالنسبة إلى قياس ظاهر متبادر (2)
والعلة كثيرًا ما تكون تعامل الناس وعرفهم في هذا التعامل وحاجتهم إليه، ومثل الحنفية المالكية في الاستحسان، إذ هو إيثار مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخيص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته وقد عرفه الشاطبي في موافقاته، فقال: الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي يقتضي النفع، قال ابن العربي في ترك الدليل العام: أسباب ترك الدليل أربعة: يترك الدليل للمصلحة، ويترك للتيسير ورفع الحرج، ويترك للإجماع، ويترك للعرف (3) . وهذا الأخير هو الاستحسان المبني على العرف ومن هنا جاء مثلًا تضمين الصناع في الأعيان بصنعتهم مع أن الأصل أن لا ضمان على مؤتمن ومن هنا أيضًا جاء عدم اعتبار الربا في القليل اليسير التافه كما هو كمبين في كتب الفقه ومما يؤثر عن الإمام مالك عن هذا الاستحسان أنه تسعة أعشار العلم (4) .
__________
(1) انظر بدائع الصنائع، للكساني: 1 /113
(2) أصول الفقه للخضري: 367.
(3) الاعتصام، للشاطبي: 2 /320
(4) الموافقات، للشاطبي: 4 /118(5/2532)
وقد قال بمثل هذا الاستحسان كثير من العلماء حتى من ورد عنهم القول بإنكار الاستحسان، ولقد ذكر الشوكاني عن بعض الأصوليين أنه العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، فقالوا: إن كانت العادة هي الثابتة في عصر النبوة، فقد ثبت بالسنة وإن كانت هي الثابتة في عصر الصحابة من غير إنكار فقد ثبت بالإجماع (1) ، وعلى هذا فهو حكم، قال على العادة والعرف.
كذلك الاستصحاب يعتمد في بعض أحكامه على العرف ومعناه استدامة ما كان ثابتًا، أو نفي ما كان منفيًّا أي: بقاء ما كان نفيًا وإثباتًا حتى يقوم الدليل على تغيير حالته (2) وهو اعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب ظن ثبوته في الحال أو الاستقبال كما هو عند القرافي (3) باعتبار ما كان عليه الأمر أو الحكم فيما مضى مستمرا إلى حال المتكلم يستمر العمل ما لم يصادم نصًا أو يقم دليل على عم اعتباره، والاستصحاب حجة عند المالكية والحنابلة وأكثر الشافعية والظاهرية عند عدم الدليل، وقال به أيضًا الحنفية إذا كان للدفع لا للرفع ويعبرون عنه باستصحاب الحال سواء كان عرفًا أو وصفًا مثبتًا للحكم مثل استصحاب اليقين في الطهارة (4) .
ومن هنا بنوا قاعدة أن اليقين لا يزول بالشك وما ثبت باليقين لا يزول إلا باليقين والأصل بقاء ما كان على ما كان مما تفرع عن ذلك من الفروع الفقهية في الطهارات والعبادات والطلاق إلى غيرها من المسائل (5) .
وكذلك المصالح المرسلة وهي التي لم يشهد لها من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وترجع إلى حفظ مقصود الشارع مما علم كونه مقصودًا بالكتاب والسنة والإجماع والمصلحة هي ما به قوام الحياة من المنافع ودفع المضار، وهي تؤخذ بالقياس عند الشافعي وبالقياس والاستحسان عند أبي حنيفة، أما مالك رحمه الله فيرى أن المصلحة أصل بذاتها وأن أحكام الشرع ما جاءت إلا لتحقيق مصلحة أو درء مفسدة، ولكنها قد تعرف بالنص الخاص، وقد تطلب من النص العام أي أن مرجعها إلى مجموعة من النصوص كما هو في قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار)) وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ومما تفرع عنها ضرب المتهم ليقر بالمسروق وزواج امرأة المفقود بعد أربعين سنة من انقطاع خبره لترجيح مصلحة الزوجة واعتداد المرأة المطلقة التي يمتد طهرها بثلاثة أشهر فوق مدة الحمل لئلا تتضرر بطول العدة (6) ومعلوم أن من أعظم ما يعين جهة النفع والضر العرف، فإن كانت جهة الضرر غالبة كانت مفسدة بالمعنى العرفي وإن كانت جهة النفع غالبة كانت مصلحة بالمعنى العرفي (7) ، والمصلحة المرسلة التي تبنى على اختلاف أوضاع الناس وأعرافهم وتقاليدهم وعاداتهم هي المصلحة المرسلة المبنية على العرف.
__________
(1) إرشاد الفحول، للشوكاني: ص 241
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم: 1 /264
(3) تنقيح الفصول، للقرافي: ص 199
(4) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني: ص 137
(5) انظر الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 57 – 63.
(6) الموافقات للشاطبي: 2 /16 وما بعدها، تفسير المنار: 7 / 194
(7) المدخل الفقهي، للأستاذ الزرقاء: 1 /95، ط 9(5/2533)
علاقة العرف وارتباطه بالقرائن:
القرائن جمع قرينة والمراد بها عند الفقهاء الإمارة الظاهرة تقارن الشيء الخفي، فتدل عليه، مأخوذة من المقارنة بمعنى الموافقة والمصاحبة وهي تتفاوت قوة وضعفًا، فقد ترتقي في القوة إلى درجة اليقين، وقد تضعف حتى تنزل دلالتها إلى درجة مجرد الاحتمال، ولقد عقد ابن فرحون في التبصرة بابًا في قضاء ما يظهر من قرائن الأحوال والأمارات، واستدل على اعتبارها من الكتاب والسنة وعمل السلف (1) فمن الكتاب قوله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} دل على السيما، المراد بها حال يظهر على الشخص كمثل، إذا رأيناه ميتًا في دار الإسلام وعليه زنار وهو غير مختون لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء وكذا قوله تعالى {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} .
وقال عبد المنعم بن الفرس: روي أن إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام لما أتوا بقميص يوسف إلى أبيهم يعقوب تأمله فلم يرَ فيه خرقًا ولا أثر ناب، فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليمًا يأكل يوسف ولا يخرق قميصه قال القرطبي في تفسيره، قال علماؤنا لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة صدقهم، قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها وهي سلامة القميص من التمزيق إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لا بس القميص ويسلم القميص، وأجمعوا على أن يعقوب عليه الصلاة والسلام استدل على كذبهم بصحة القميص، فاستدل الفقهاء بهذه الآية على أعمال الأمارات في مسائل كثيرة من الفقه، وقال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [سورة يوسف: الآيات 26 – 29] .
قال ابن الفرس هذه الآية يحتج بها من العلماء من يرى الحكم بالأمارات والعلامات فيما لا تحصره البينات (2) .
__________
(1) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لابن فرحون: 2 / 95، ط حلبي سنة 1302 هـ
(2) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لابن فرحون: 2 / 95، ط البهية مصر 1302 هـ(5/2534)
هذا من القرآن وأما من السنة النبوية فمنها أنه صلى الله عليه وسلم حكم بموجب اللوث في القسامة وجوز للمعدين أن يحلفوا خمسين يمينًا ويستحقوا دم القتيل في حديث حويصة ومحيصة، واللوث دليل على القتل، فإن قيل: أين اللوث أجيب؟ بأن الحديث فيه ذكر العداوة بينهم، وأنه قتل في بلدهم وليس فيها غير اليهود، قال المازري رحمه الله تعالى: وعندي أن الأظهر في الجواب أن القرائن تقوم مقام الشاهد، فقد يكون قد قام من القرائن ما دل على أن اليهود قتلوه ولكن جهلوا عين القاتل، ومثل هذا لا يبعد إثباته لوثًا، فلذلك جرى حكم القسامة فيه والله أعلم، ومنها ما ورد في الحديث الصحيح في قضية الأسرى من قريظة لما حكم فيهم سعد أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية، فكان بعضهم يدعي عدم البلوغ، فكان الصحابة يكشفون عن مؤتزريهم فيعلمون بذلك البالغ من غيره وهذا من الحكم بالأمارات ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها، وجهل وصفة لعفاصها ووكائها قائما مقام البينة ومنها حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده بالفاقة وجعلها دليلًا على ثبوت النسب وليس فيها إلا مجرد الأمارات والعلامات، ومنها أن ابني عفراء تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ((هل مسحتما سيفيكما؟)) ، قالا: لا، فقال صلى الله عليه وسلم ((أرياني سيفكيما)) فلما نظر فيهم قال لأحدهما: ((هذا قتله وقضى له بسلبه)) ، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر الزبير بعقوبة الذي اتهمه بإخفاء كنز ابن أبي الحقيق، فلما ادعى أن النفقه والحروب أذهبته قال صلى الله عليه وسلم: ((العهد قريب والمال كثير)) ومنها أنه صلى الله عليه وسلم فعل بالعرفيين ما فعل بناء على شاهد الحال ولم يطلب بينة بما فعلوا ولا وقف الأمر على إقرارهم (1) . .
وأما من فعل السلف فمنها حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابه معه متوافرون برجم المرأة إذا ظهر بها حمل ولا زوج لها، وقال بذلك مالك وأحمد بن حنبل اعتمادًا على القرينة الظاهرة، ومنها ما رواه ابن ماجة وغيره عن جابر بن عبد الله، قال: أردت السفر إلى خيبر، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا جئت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقًا، فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته)) (هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين) ، فأقام العلامة مقام الشهادة. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها)) فجعل صماتها قرينة على الرضا وتجوز الشهادة عليها بأنها رضيت، وهذا من أقوى الأدلة على حكم القرائن، ومنها حكم عمر بن الخطاب وابن مسعود وعثمان رضي الله عنهم ولا يعلم لهم مخالف بوجوب الحد على من وجد فيه رائحة الخمر أو قاءها اعتمادًا على القرينة الظاهرة وهو مذهب مالك رضي الله عنه (2) .
__________
(1) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لابن فرحون: 2 / 97، ط البهية مصر 1302 هـ
(2) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لابن فرحون: 2 / 97، ط البهية مصر 1302 هـ(5/2535)
والقرائن تنقسم إلى قسمين قرينة عقلية وقرينة عرفية، فالقرينة العقلية هي التي تكون النسبة بينها وبين مدلولها ثابتة يستنتجها العقل دائمًا كوجود المسروق بيد المتهم بالسرقة أو ببينة والعرفية هي التي تكون النسبة بينها وبين مدلولها قائمة على عرف وعادة تتبعها دلالتها وجودًا وعدمًا وتتبدل بتبدلها كشراء المسلم شاة قبيل عيد الأضحى، فإنها قرينة عرفية على قصد الأضحية وكشراء الصائغ حليًّا، فإنه قرينة على أنه اشتراه للتجارة ولولا عادة التضحية عند الأول والتجارة عند الثاني لما كان ذلك قرينة (1) .
وتنقسم القرائن باعتبار آخر إلى قرائن شرعية أو قانونية والى قرائن قضائية، فالقرائن الشرعية هي التي يعتمدها الشارع أسبابًا في بعض الأحكام، أما القرائن القضائية فهي التي يتخذها القاضي دليلا في تخصيص الوقائع وإثباتها ويعود إليه تقدير دلالتها، والنوع الأول أي القرائن الشرعية أو القانونية هي في الأغلب من نوع القرائن العقلية، لأن الشارع يبني عليها حكمًا ثابتًا فيجب أن يقام على نسبة ثابتة بين الدلالة ومدلولها، كما في حكم التقادم وطلاق الفرار، أما القرائن القضائية فقد تكون عقلية وقد تكون عرفية لأن القضاء يستأنس بجميع الأدلة ولو وقتية (2) .
وفقهاء الإسلام اعتبروا القرائن والعلامات من الأدلة المثبتة التي يعتمد عليها في القضاء ولكنهم اختلفوا هل القرينة وحدها كافية تشهد لمدعيها وتحط عنه اليمين أو لا بد له من أداء اليمين، وهذا بناء على أن العرف هل يقوم مقام شاهد واحد أو شاهدين، وقد نقلنا الخلاف في ذلك نقلناه عن الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية للشيخ الوالد رحمه الله حين كلامه على بيان المدعي من المدعى عليه، وقد قال المازري في الجواهر: الأظهر أن القرينة تقوم مقام الشاهد، والحق أن هذه القرائن إما أن تكون قطعية وإما أن تكون ظنية، فإن كانت قطعية كانت كافية قائمة مقام البينة، كما إذا رأينا رجلًا مذبوحًا في منزل والدم يسيل منه وليس في الدار أحد ورأينا رجلًا قد خرج من الدار مضطربًا في حالة منكرة، علمنا أنه الذي قتله، وكان لوثًا يوجب القسامة، والقود للقرينة الظاهرة، وهي المسألة الأربعين من المسائل التي ذكرها ابن فرحون في بيان عمل فقهاء الطوائف الأربعة بالحكم بالقرائن والأمارات ومثل لذلك بخمسين مسألة (3) .
__________
(1) انظر المدخل الفقهي العام، للأستاذ الزرقاء: 2/ 919، ط الفباء دمشق 1967 م.
(2) انظر المدخل الفقهي العام، للأستاذ الزرقاء: 2/ 919، ط الفباء دمشق 1976 م. 2 /923
(3) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لابن فرحون: 2 /93- 101(5/2536)
أما الحالة الثانية، فإن الفقهاء يعتمدونها دليلا أوليًّا يترجح بها قول المدعي مع يمينه إلى أن يثبت خلافها، وقد اتفق مالك وأبو حنيفة على اعتبار القرائن وخالف الشافعي في ذلك ظنًا منه أن في هذا مناقضة ومخالفة للحديث المشهور ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) (1)
ولقد أوضح محمد علي حسين أن لا مخالفة بين العمل بالقرائن وبين ما جاء في حديث ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) ذلك أن القاعدة أن المدعي من خلا قوله عن أصل أو عرف وأن المدعى عليه من عضده أصل أو عرف، فالمدعي الدين على غيره على خلاف الأصل، إذ الأصل براءة الذمة فالمطلوب من المنكر هو على وفق الأصل. والمدعى رد الوديعة وقد قبضها ببينه هو المدعي، لأن قوله على خلاف الظاهر والعرف بسبب أن الغالب أن من قبض ببينه أن لا يرد إلا بينه، والمدعي عدم القبض هو على وفق الظاهر والعرف يشهد له وهذه القاعدة تقتضي أن المرأة إذا ادعت قناعًا وشبهه مما هو يختص بالنساء كان قولها على وفق الظاهر، وقول الزوج على خلافه فكان مدعيًا وهي مدعيًا عليها، وقد نقلنا عن الطريقة المرضية للشيخ الوالد أن معرفة المدعي من المدعى عليه هو مناط التوتر ومحور النظر ومحل الاهتمام إذ بتمييز أحدهما عن الآخر يتنكب عن الخطأ في تكليف أحدهما بغير ما عينه الشرع له، وعليه فمخالفة الشافعي في الاعتماد على القرائن ودعوى أنها تعاكس ما ورد في الحديث من أن ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) لا يقوم حجة، بل وهي المعينة لمعرفة المدعي من المدعى عليه، كما ذكره الوالد رحمه الله في الطريقة المرضية وعلى أساس الاعتماد على القرائن العرفية، قرر الفقهاء حلولًا كثيرة في شتى الحوادث في اختلاف الزوجين في حال العصمة وبعد الفراق أو الموت وإجراء الحكم حسب القرائن والعادات وما يقتضيه العرف من اختصاص ذلك بالرجال أو النساء، أما ما كان مشتركًا يصلح لهما معًا كالدار يسكناها والماشية يتصرفان فيها، فيترجح قول الزوج لأنه صاحب اليد وهي قرينة على اعتبار الملك، فقال مالك: إذا اختلفا وهما زوجان أو عند الطلاق قضي للمرأة بما هو شأن النساء وللرجل بما هو شأن الرجل وما يصلح لهما قضي به للرجل لأن البيت بيته في العادة، فهو تحت يده فقدم لأجل اليد كما في التبصرة وكذا لو اختلف المتبايعان في قبض السلعة أو الثمن فالأصل بقاء الثمن بيد المبتاع وبقاء المبيع بيد البائع ولا ينتقل ذلك إلا ببينة أو عرف كالسلع التي جرت العادة أن المشتري يدفع ثمنها قبل أن يبين بها كاللحم والخضر ونحوها فيحكم في ذلك بالعرف والعادة ولو اختلف عطار ودباغ في العطر والجلد أو اختلف فقيه وحداد في نحو الجبة والكير كانت لهما عليه يد حكمية، أو تنازع رجل وامرأة رمحًا يتجاذبانه فالقول في هذا كله قول من شهد له العرف والعادة وقرائن الأحوال فالجبة للفقيه والكير للحداد والرمح للرجل وكل هذا مع اليمين (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الرهن والترمذي وابن ماجه في الأحكام.
(2) تبصرة الحكام: 2 / 66(5/2537)
وقد عقد ابن فرحون في تبصرته بابًا وهو السابع والخمسون في القضاء بالعرف والعادة، ونقل عن ابن يونس قال: إذا فرعنا على مذهب مالك فمن قضي له بشيء حلف عليه، قال الإمام سحنون: ما عرف بأحدهما لا يحلف عليه، قال ابن القاسم: فما ولي الرجل بشرائه من متاع النساء وشهدت به البينة أخذه بعد يمينه أنه ما اشتراه إلا له وكذلك المرأة ومن الشيوخ من نفى الخلاف عن ذلك، وقال: إذا ادعت المرأة شيئًا من متاع النساء وكذبها الرجل أو ادعى الرجل شيئا من متاع الرجال وكذبته المرأة فلا خلاف في تعلق اليمين في ذلك، وإنما الخلاف في وجوب اليمين إذا تنازع ورثة الزوجين أو تنازع ورثة أحدهما مع الآخر دون تحقيق الدعوى فيجري الخلاف على الخلاف في أيمان التهم وهذه طريقة ابن رشد والطريقة الأولى أسعد بنقل المتقدمين والذي قاله هذا الشيخ هو الذي تشهد له أصول المذهب، وقد ذكر في هذا الباب سبعة عشر فرعًا وتنبيهات ثلاث وقاعدة ومسائل تسع وكلها تحوم حول موضوع سلطان العرف والعادة حول القضاء والفتيا كما ذكر (1) .
وقد ذكر في الباب الخامس والعشرين بالقضاء بقول المدعي لرجحانه بالعوائد وقرائن الأحوال أو لاتصافه بالأمانة أو غير ذلك من وجوه الترجيح، وقد ذكر نبذة من مسائل هذا الباب فذكر منها قبول قول المرأة في الإصابة إذا خلا بها خلوة اهتداء ويحكم عليه بالصداق وإن كان منكرًا للوطء لأن الخلوة بها أول مرة يشهد العرف والعادة أن الرجل لا يفارق المرأة حتى يصل إليها وهل يلزمها يمين أم لا قولان، وفي خلوة الزيارة قولان، قيل: القول لها وهو الأشبه عند أبي زيد، وقيل: قول الزائر منهما وهو المشهور، وقيل: القول قول الثيب وينظر النساء للبكر.
المسألة الثانية: إذا أقر الوصي أنه قبض من الغرماء ما عليهم وضاع صدق وإن لم تقم بينة على الدفع لكونه قائما مقام الأب في الشفعة والأمانة.
المسالة الثالثة: إذا أقر الأب أنه قبض النقد من صداق ابنته من الزوج وادعى تلفه فالأب مصدق عند ابن القاسم وإن كان قبضه بغير معاينة البينة ويبرأ الزوج ويدخل بزوجته ويلزم الأب اليمين لحق الزوج في تجهيز زوجته به.
__________
(1) تبصرة الحكام: 2 /64 – 74.(5/2538)
المسألة الرابعة: إذا ادعى المعترض أنه وطئ زوجته، فالقول قوله مع يمينه، وقيل: بغير يمين، قاله مالك في الواضحة، وقيل: بنظر النساء البكر والأول هو المشهور.
المسألة الخامسة: يقبل قول الوصي فيما اتفق على اليتيم إذا أشبه قوله الصدق وقيل يقبل قوله فيما اتفق في عمارة ريعه وختانه إذا أشبه الصدق.
المسألة السادسة: يقبل قول الزوج أنه أنفق على زوجته إذا كان مقيمًا معها وادعت أنه لم ينفق عليها لشهادة العرف له.
المسألة الثامنة: يقبل قول المرأة أنها انقضت عدتها ولا يمين عليها إذا كان الزمن ممكنا وإن كان على خلاف عادتها.
المسألة التاسعة: إذا ادعت المرأة أن عدتها انقضت بسقط قبل قولها وإن كان ذلك بعد الطلاق بيوم ولا يمين عليها ولا يلتفت إلى تكذيب الجيران لها.
المسألة العاشرة: يقبل قول الأمة أن هذا الولد الذي معها ولدها فلا تجوز التفرقة بينهما في البيع ولا يعمل بقولها في الميراث فلو عتقا لم يتوارثا بدعواهما.
المسألة الحادية عشر: إذا خيف عرق المركب وطرح منه ما يرجى به سلامته فالقول قول المطروح متاعه فيما يشبهه وقال ابن القاسم هو مصدق مع يمينه في ثمن متاعه المطروح ما لم يأتِ بما يستنكرون: لا يمين عليه إلا أن يتهم فيحلف.
المسألة الثانية عشر: إذا ادعى المساقي أنه دفع لرب الحائط الجزء الذي ساقاه عليه وقال رب الحائط بعد فراغ المساقاة ولم يدفع العامل شيئًا فقال مالك: إن كان قد جدا الثمرة فلا شيء له وعلى العامل اليمين كان بقرب الجذاذ أو بعده. وكذا لو جذ بعضها رطبًا والباقي تمرًا فقال قبل جذاذ الثمرة لم يدفع لي شيئًا من الرطب ولا من ثمنه، فالعامل مصدق مع يمينه قال ابن يونس: لأن حقه في عين الثمرة لا في ذمة العامل لجريان العادة بدفع ذلك بغير إشهاد.
المسألة الثالثة عشر: من حاز شيئًا مدة لكون الحيازة فيها معتبرة والمدعي حاضرًا ساكت وليس له عذر في سكوته، ثم يقوم على الحائز ويدعي عليه فادعى الحائز الشراء كان القول قوله مع يمينه.
المسألة الرابعة عشر: وإذا ادعى المودع رد الوديعة فالقول قوله مع يمينه وهو مدع، وإنما ترجح قوله لأنه استأمنه والأمين مصدق.(5/2539)
المسألة الخامسة عشر: وكذلك لو ادعى البائع أنه باع بالدراهم وقال المشتري، بل بالسلعة فالقول قول البائع لقوة قرينة صدقه لأن الدراهم هي الأثمان وبها يقع البيع.
المسألة السادسة عشر: إذا باع السمسار سلعة فوجد المشتري بها عيبًا فسأل السمسار عن رب السلعة، فقال: لا أعرفه خلف أنه ما يعرفه.
المسألة السابعة عشر: إذا وضعت الجارية المستبرأة عند المشتري واستأمنه عليها البائع فقال بعد شهرين أو ثلاثة: لم تحض أو ماتت، صدق في ذلك وكان القول قوله.
المسألة الثامنة عشر: من دفع إلى رجل يخيطه له بلا أجرة والرجل ليس من الصناع الذين نصبوا أنفسهم للناس بالأجر فادعى ضياع الثوب من عنده، فلا ضمان عليه وعليه اليمين أنه ضاع من غير تفريط.
المسألة التاسعة عشر: إذا ادعى المضروب ذهاب سمعه أو جميع بصره فالقول قوله بعد الاختبار بما يكن ويصدق مع يمينه، لأنه لا يمكن التوصل إلى صدقه إلا من قوله.
المسألة العشرون: من ادعى أنه أمن رجلًا من أهل الحرب فإنه يقبل قوله وإن لم يكن له بينة على تأمينه، هذا قول ابن القاسم، وقال سحنون: لا يقبل إلا بينة.
المسألة الواحدة والعشرون: إذا ادعت المرأة الغريبة الطارئة من بلد بعيد أنه لا زوج لها فالقول قولها ويزوجها الحاكم إذا لم يطمع على الوقوف على حقيقة دعواها.
المسألة الثانية والعشرون: إذا ادعى المأمور أنه تصرف كما أمره الموكل فقال الموكل: لم تتصرف بعد، فالقول قول المأمور لأنه أمين.
المسألة الثالثة والعشرون: لو قال المأمور بعت السلعة بعين وقال الآمر أمرتك أن تبيعها بعرض، فالمأمور مصدق لأن من باع بعين فالأصل يعضده لأنها القيم التي يتبايع الناس بها غالبًا.
المسألة الرابعة والعشرون: وكذلك لو أمره الموكل ببيع سلعة أو شرائها وادعى المأمور أنه دفع ذلك إلى الأمر، فالقول قول المأمور وكذلك القول قول الوكيل في ضياع الثمن.
المسألة الخامسة والعشرون: إذا استأجر المستأجر، وادعى رد ما استأجره من العروض فهو مصدق لأن يده أمينة قبض ذلك ببينة أو بغير بينة رواه أصبع، عن ابن القاسم.
المسألة السادسة والعشرون: إذا ادعى الغاصب أنه غصب الثوب خلقًا وقال ربه: بل غصبه جديدًا فالقول قول الغاصب مع يمينه وإذا حلف أدى قيمته خلقًا.(5/2540)
الفصل الثاني: في تصديق المدعى عليه والروع إلى قوله، وذكر عدة مسائل، منها: إذا اختلف المبتاع والشفيع في مرور السنة وانقضائها بعد البيع ولا بينة فالشفيع مصدق مع يمينة، وهو مدعى عليه لأن الشفعة قد وجبت له، والمشتري مدعى لتاريخ يسقط ما ثبت له منها فلا يقبل قول البائع في ذلك.
المسألة الثانية: وكذا من اشترى أرضا فقبضها ثم قام عليه رجل يطلبها بالشفعة، فزعم المشترى أنه اشترى شيئا مقسومًا، وقال الشفيع: إنها لم تقسم، فالقول قوله لأنه مدعى عليه.
المسألة الثالثة: إذا وهب هبة مطلقة وادعى أنها للثواب، وقال الموهوب: لغير الثواب، حكم بالعرف مع اليمين فإن أشكل فالقول قول الواهب مع يمينه.
المسألة الرابعة: لو باع الوكيل السلعة وقال: بذلك أمرتني، وقال ربها: إنما أمرتك برهنها، فالقول قول رب السلعة فاتت أو لم تفت.
المسألة الخامسة: لو اشترى المأمور السلعة بعشرين فقال الآمر: ما أمرتك إلا بعشرة فالقول قوله مع يمينه ويغرم الوكيل العشرة لرب السلعة هذا هو المشهور.
المسألة السادسة: إذا اختلف الزوجان في عدد الصداق بعد البناء، فالقول قول الزوج مع يمينه، قال ابن القاسم: لأنها مكنته من نفسها فصارت مدعية عليه وهو مقر لها بدين، فالقول قوله مع يمينه، وإن نكَّل فالقول قولها مع يمينها هذا هو المشهور.
المسألة السابعة: إذا ادعت المرأة أن لزوجها جنونًا، وأنكره فالقول قوله وعليها البينة.
المسألة الثامنة: إذا ادعى المشتري الإقالة فأقر له البائع بذلك ورغم أنه أقاله على أن يرد عليه أقل من الثمن الذي دفع إليه فلا يقبل قوله إلا ببينة، وعلى المشتري اليمين أنه ما قاله إلا بمثل الثمن.
المسألة التاسعة: لو قال من بيده الدار أعرتني هذه الدار، وقال ربها: بل بعتكما، فالقول قول مدعي العارية مع يمينه.
المسألة العاشرة: إذا تداعى رجلان في عقد البيع هل كان ولم يكن فالقول قول المدعى عليه البيع أو الشراء ولا يمين على المدعى عليه إن كانت السلعة بيد صحابها.
المسألة الحادية عشر: إذا أشهد البائع بقبض الثمن، ثم قال: إنها فعلت ذلك ثقة للمبتاع لم يقبل منه المشتري مدعى عليه، فإن طلب يمين المبتاع على دفع الثمن لم يكن له ذلك، وقد ذكر ابن فرحون أنه استقصى مسائل هذا الباب وأفردها في تأليف اسماه ببروق الأنوار الموضحة لأنواع طرق الدعوى (1) .
__________
(1) تبصرة الأحكام في أصول الأقضية ومناهج الإحكام، لابن فرحون: 1 /252 إلى 255(5/2541)
وبما نقلنا نرى كيف أن الفقهاء اعتبروا سائر القرائن العرفية وجعلوها من المرجحات الأولية التي يعتمدها القضاء مع اليمين في بعضها ومع عدمها في بعضها حسب القوة الشبهة وضعفها بين المتخاصمين وبحسب اعتبار العرف هل يقوم مقام الشاهد أو مقام الشاهدين ولقد قال الإمام ابن العربي: على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت فيما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهو قوة التهمة ولا خلاف في الحكم بها.
شرط من يتولى القضاء بين الناس:
لقد نص الفقهاء على أن من شرط القاضي بل هو الشرط الأساسي العلم فلا يجوز تولية الجاهل بالأحكام الشرعية لأن القاضي بالشرع للأحكام بمقضتى الشرع موافقته ومن شأن من يكون كذلك أن يكون عالمًا لا جاهلًا حتى يدرك أسرار القضاء ولذلك اشترطوا فيه أن يكون جامعًا بين الفقه والحديث بل ذهب ابن الحاجب إلى اشتراط أن يكون مجتهدًا بحيث لا تجوز ولا تصح ولاية المقلد ولا تنفذ أحكامه (1) مع وجود المجتهد قال ابن الحاجب: فإن لم يوجد مجتهد فمقلد، وإذا كان بعض الفقهاء أجازوا ولاية المقلد فقد اشترطوا أن يختار من أعلم المقلدين، قال ابن عبد السلام: وينبغي أن يختار أعلم المقلدين وقد اعتبر القاضي ابن العربي، والقاضي عياض والإمام المازري العلم من الشروط الواجبة (2) .
ونقل ابن عبد البر أن الأئمة اشترطوا أن يكون القاضي عالمًا بالسنة والآثار وأحكام القرآن ووجوه الفقه واختلاف العلماء (3) وقد رد ابن رحال على ابن رشد فيما ذهب إليه من أن شرط العلم مستحب لا واجب بأن هذا قول شاذ بعيد عن الصواب إذ القاضي هو أحوج الناس إلى العلم (4) ولقد اشترط العلماء للأخذ بالعرف أن يكون عرفًا صحيحًا لا فاسدًا فإذا كان القاضي غير عالم بالأحكام الشرعية فكيف يستطيع أن يميز بين الصحيح والفاسد، ولذا كان العرف من حيث صلاحه للعمل به أو طرحه وفساده من مهمة الفقيه العالم بالأحكام المتمرس عليها، أما من جهلها فلا اعتداد بأحكامه ولا عبرة بعرفه لأن اتباع العادات والأعراف من غير دليل شرعي هو فساد في الدين وابتعاد عن شريعة رب العالمين إذ كثير من الأعراف ما كان مبنيا على الهوى، وإذا لم يكن القاضي من العلماء الأعلام القادرين على تمحيص الأعراف المقبولة من الأعراف المردودة كان غير صالح للقضاء على أن العرف يلجأ إليه عند عدم النص الصريح أو الضمني في القضية.
__________
(1) شرح ميارة للتحفة: 1 /10
(2) شرح ميارة للتحفة: 1 /10
(3) الكافي، لابن عبد البر.
(4) حاشية ابن رحال: 1/ 2، على هامش شرح ميارة، للتحفة(5/2542)
أما مع وجود النص فلا عبرة بالعرف كما قدمنها وإلا لزم نسخ الشريعة بالعادة، ولا قائل بذلك فالمرجع حينئذٍ إنما هو لقواعد الشرع، وقد أوجب الفقهاء على متولي الإفتاء والقضاء في المسائل الجاري بها العرف أن ينظر فيها، فإن كانت مما تكلم فيها الفقهاء قبله بما يخالف العرف الجاري فيها في زمانه نظر في مستند الفقهاء في كلامهم، فإن كان مستندهم دليلًا من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس حكم فيها وأفتى بما قرره الفقهاء قبله وألغى العرف؛ لأنه لا يعتد به عند مصادرة الدليل الشرعي، وإن كان معتمدهم في ذلك ما جرى به العرف عندهم قد تغيرت الأحوال وتبدلت العادات حكم بما عليه عرف ذلك البلد كما قدمنا ولا يعتبر ذلك من تبديل الأحكام ونسخها وإنما هو من ترتيب الحكم على العلة وجودًا وعدمًا والأعراف المعتبر هي التي توزن بميزان الشرع فما وافق فهو معتبر يؤخذ به كلما تحققت به المصلحة، أما ما كان مخالفًا للشرع فلا يعتبر ولا يؤخذ به بحال، هذا هو الرأي الذي تطمئن له النفوس وتقبله الشريعة.
أما ما ذهب إليه بعض علماء المغرب من الأخذ بما جرت عليه أعراف الناس بإطلاق كأعراف القبائل البربرية المغربية في عقود الأنكحة والمغالات في الأيمان وتشريك أقارب المتهم في تأدية القسم وأخذ الولي صداق البنت لنفسه ونحو ذلك، وقد اختلفت أنظار علماء المغرب في الأخذ بهذه الأعراف وافترقوا فرقًا ثلاثة، فمنهم: من حمل على هذه الأعراف واعتبرها مروقًا وخروجًا عن الدين يجب محاربتها والقضاء عليها ومنهم: من سايرها ورأى فيها تحقيق مصلحة القوم التي لا تتحق إلا بالأخذ بها فيحبذها وآثر العمل بها ودافع عنها، والفريق الثالث: وقف موقفًا وسطًا فأخذ بما يواق الشرع ولا ينقاصه، ورد وأنكر وحارب ما كان مخالفًا للشرع ومبادئه ومقاصده، وقد ذكر الدكتور عمر الجيدي في كتابه العرف والعمل في المذهب المالكي فبين أن المؤيدين لهذه الأعراف والأحكام والتنظيمات بالنسبة لأعراف سوس منهم الشيخ الحسن بن عثمان الجزولي، وابن غازي، وعمروبن أحمد بن زكرياء العقيلي، وقد أصدر هذا الأخير منشورًا يعد نموذجًا للأعراف التي في سوس ومثله الشيخ أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن عمرو بن طلحة التمنارتي، وعبد الله بن مبارك اللقاوي، ونقل عن أبي الحسن علي بن أحمد العمري في كتاب فتاوى الحاكم أن أول من أحدث الخلاف هذان العالمان السابقان وهما اللذان أمرا يكتبها في ألواح القبائل من هلالة وهشتوكة، وتابعهما أهل عصرهما وتلقوا ذلك بالقبول، وكذلك الفقيه عبد الله بن الحاج شعيب الهلالي له بحث في مسائل هذه الأنواع، ومثله الشيخ محمد البوعقيلي الهلالي، وهو الواضع للوح حصن زاوية سيدي يعقوب، وإن له كتابًا في الأعراف وكذلك أبو عيسى السكتاني الرجراجي صاحب النوازل، ومحمد بن سليمان الجزولي السملالي، ثم بيَّن أن مما أيدها من المحدثين المختار السنوسي الذي ذكر أن أهل سوسن أسسوا قواعد وحتموا اعتبارها وقوانين أيدوا بها أعمالها وإقرارها ورتبوا جنايات الأموال ومنها مثلًا، من تعرض لأحد ذهب لأسواقهم، أو مواسمهم أو حصونهم، أو تعرض لفقيه أو عالم أو طالب علم، ولو بسبب أو شتم، أو تعرض ليهودي في ملاحة أو في طريقه أو سرق، أو جنى جروحًا، أو سفك دمًا أو غير ذلك، وشددوا في ذلك وعينوا النفائس (أي أعضاء الجمعية في كل قبيلة) ، تجتمع في مدرستها عند وقوع تلك النوائب، وعلى هذا النمط بنيت أحوال السوس الأقصى كله من أوله إلى آخر، ثم نقل عن الأستاذ العثماني في كتابه ألواح جزولة قوله نظرة خاطفة على النظام القضائي العرفي في بعض القبائل البربرية توحي لنا، وكأننا أمام نظام قار لا يختلف في كثير من الأشياء عما ورد في الشرع يسايرها ولا ينقاضها بل يسير في اتجاهها ومقاصدها مع مراعاة ضروريات الحياة وتطورها، والسياسة الشرعية مبنية على المصالح المرسلة في المسائل التي تنبع فيها أعراف البلاد وعاداتهم وتقاليدهم.(5/2543)
الفريق الثاني: العملاء المعارضون من نفس القبائل التي كان يطبق فيها هذا العرف وهذا الفريق يندِّد بأصحابها والقائمين عليها، ومن هؤلاء عبد الله الهشتوكي، فهو يصفها بالضلال المبين وعبد الرحمن التمنارتي، فقد قال في شأنها إنها من باب التحكم إلى الطاغوت الذي أمرنا الله أن نكفر به، والشيخ محمد بن ناصر الدرعي الذي لما سئل عنها أجاب في حق أصحابها بأنهم عصاة ومنهم الشيخ عبد الرحمن الجزولي فقد علق على قولة عمر بن عبد العزيز تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، قال: هذا يستدل به أشياخ السوء من القبائل فيما أحدثوا أن من سل سيفه فضرب به لزمه كذا، ومن وضع يده على سيفه ولم يسله يلزمه كذا ومن لطم يلزمه كذا ومن شتم يلزمه كذا وعدد مجموعة، ثم قال: وكل ذلك بدعة أماتوا بها السنة ثم نقل أن الموقف هو الذي وقفه محمد بن عمر حيث ذهب إلى أن الضوابط التي اتفقت عليها الشيوخ والضمان ضلال مبين معللا بأن أحكام الشرع هي التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم وإن ترك الأحكام الشرعية واستنباط ضوابط وقوانين جديدة كفر صراح، وهذا هو نفس الرأي الذي ذهب إليه قاضي سوس عيسى بن عبد الرحمن، الذي قال في شأن الألواح: أنها ألواح شيطانية، وإنهم بذلك ينبذون الكتاب والسنة، ويحكمون بغير ما أنزل الله متحاكمين إلى الطاغوت.
الفريق الثالث: من توسط من العلماء في هذه الأعراف فقبلوا منها ما كان موافقًا للشرع ومقاصده ورفضوا ما كان مخالفًا معاكسًا، ونقل أن ممن أخذ هذا الموقف الشيخ عبد الواحد بن أحمد مفتي مراكش في زمنه ومحمد بن عمر والشيخ أحمد بابا التنكتي الذي أجاب عن سؤال يتعلق بهذه الأعراف خلاصته أن أهل الجبال والبادية يجتمعون عن آخرهم ويكونون منهم أهل الحل والعقد يسمونهم (انفلاس) ويتفقون على أن كل من قطع طريقًا ببلدهم يستردون منه ما سلب ويغرمونه إياها ويعاقبونه على فعلته بعقوبة مالية ويهدمون منزله ويذبحون بقره ويأكلونها ردعًا له، فإن لم يكن بيده شيء أخذوا قيمة ذلك من أقاربه وتأديتها ويعتبرون أن ذلك هو الإنصاف وأنهم لو تركوه لانعدم انتظام أمورهم وانعدام استقرارهم، وقد أجاب بما خلاصته أن الموضع الذي لا سلطان فيه أن اجتمعت جماعة المسلمين فيه على إقامة أحكام الله على وجه ما شرعه الله فإن حكمهم يقوم مقام حكم القاضي والسلطان، حيث لا سلطان ولاقاضي وأما فعلهم الضوابط والأحكام على مقتضى المصالح، فإن كانت جارية على وجه الشرع فليس بجعل بل إنفاد لأحكام الشرع، وإن كانت على خلافه فأمر حرام لا يجوز قطعًا، وأما استردادهم من قاطع الطريق ما أخذ من الموال فإن كانوا ليردوها إلى أصحابها فأمر حسن وإن كان ليأكلها فقبيح، وأما عقوبتهم للجاني بهدم داره وإتلاف ماله فالواجب على الجاني إن قطع الطريق أن يحارب فحكمه إنفاذ حكم المحارب فيه ولا تهدم داره ولا تتلف أمواله لأنها عقوبة بالمال وهي غير جائزة في المذهب والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (1)
__________
(1) سورة المائدة: الآية 33.(5/2544)
فقد اتفق العلماء على أن من قتل وأخذ المال وجب إقامة الحد عليه ولا يسقط العقاب بعفو ولي المقتول والمأخوذ منه المال خلافًا للقتل العادي (1) ثم اختلفوا في عقوبة قطع الطريق هل هذه العقوبات على التخيير أم هي مرتبة على قدر جناية المحارب فالحنفية والشافعية والحنابلة أن الحد على الترتيب وعلى قدر الجناية فإن أخاف الطريق دون أخذ للمال ولا قتل، فالحكم النفي والتعزيز، وإن أخذ المال فقط فقطع اليد والرجل من خلاف، وإن قتل ولم يأخذ المال فالقتل، وإن قتل وأخذ المال فالقتل والصلب، أما مالك فيرى أن الإمام مخير بين هذه العقوبات حسب ما يقتضيه الردع والمصلحة وسبب الخلاف يرجع إلى (أو) هل هي للتخيير أو هي للترتيب، وكل الوجوه فليس هناك من قال بهدم منزله وسلب أمواله وأكل بقره ونحو ذلك مما جرى به العرف في بعض القبائل المغربية، قال مؤلف الكتاب: ومازال سكان المغرب في الجنوب يستعملون النصاف يطبقونه على كل من ارتكب مخالفة أو خالف عهدًا وخاصة في مناطق بني ملال وغيرها من القبائل المجاورة قال الشيخ أحمد بابا: أما ما يتعلق بالإنصاف فهو ظلم وحرام وليس من أحكام الشرع بل هو ظلم وعدوان وطغيان ونعي على الذين يزعمون أن ذلك لرعي المصلحة مصرحًا بأن ذلك كذب وبهتان وإثم وخسران، وأن من اعتقد حلية ذلك ربما أفضى به إلى المروق من الدين ووصف تحليفهم المتهم خمسين يمينًا بأنه من تغيير الشرع، إذ ليس في الشرع تحليف بغير يمين واحدة إلا القسامة بخمسين وفي اللعان بأربعة مع التخميس باللعنة والغضب ورفض أن يكون في تركهم ذلك سبب للفوضى وعدم الأمن والاستقرار ووصفه بأنه كلام الجهال والغارقين في اتباع الهوى، وأوضح أن انتظام الكلمة واستقامة الأحوال إنما يكون باتباع الشرع في الأقوال والأفعال، ثم بين الدكتور عمر بن عبد الكريم الجبيدي أن الحق هذه الأعراف إن كانت من المسائل الضرورية لفقد تقرر لدى الفقهاء أن للضرورة أحكامًا فاتفاقهم على جماعة تعمل بضوابط تحقق المصلحة للناس تمنعهم من المحاربين والمتلصصين واسترداد ما أخذوه، فهذا لا يخالف الدين في شيء، وأما ما كان غير ذلك كمؤاخذة غير الجاني وتحليفه خمسين يمينًا يؤديها هو وأقاربه فهذا من قبيل المروق من الدين (2) ، قلت وهو حق لأن الله يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة فاطر: الآية 18] ، ولأن كل نفس بما كسبت رهينة ثم ما تقتضيه الضرورة يشهد له في الشرع الرخص الواقعة في الشريعة فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في جلب المصالح ودرء المفاسد على الخصوص وهذا من باب الاستحسان الذي قال فيه الإمام هو تسعة أعشار العلم والذي قد نشأ من أصل عظيم متين العرى وهو النظر في مآلات الأفعال الذي هو مجال للمجتهد صعب المورد وإن كان عذب المذاق محمود الغب يدل عليه أن التكاليف الشرعية شرعت لمصالح العباد، وهي إما أخروية فترجع إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم، وإما دنيوية، والأعمال عند التأمل مقدمات لنتائج المصالح لأنها أسباب لمسببات مقصودة للشارع والمسببات هي مآلات الأسباب فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب وهو لنظر في مآلات الأفعال الذي افتر عنه قاعدة الاستحسان وسد الذرائع وغيرها ومعلوم أن مقاصد الشريعة في الخلق التي يرجع تكاليفها إلى حفظها التي هي الضرورية والحاجية والتحسينية ومعناها الأخذ بمحاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسة التي تأنفها الأحكام الراجحة والتي يجمعها قسم مكارم الأخلاق ولاعتناء الشارع بهذه الثلاث جعل لها متممات ومكملات هي مثار التشديدات والترخيصات وما ذلك إلا لترد الأمة المصالح وتتجافى حمى المفاسد، وهذا هو السر الذي يرنو إليه التشريع فإن القصد منه إقامة مصالح الدين والدنيا على وجه لا يختل لها به نظام ولذا كان وضع الشريعة على ذلك الوجه أبديًّا وكليًّا وعامًّا وزادت عناية الله بهذه الشريعة الغراء فعصمها عن التغيير والتبديل كما أنبأ بذلك تصريحًا وتلويحًا فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: الآية 9] ، وقال: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ} .
__________
(1) بداية المجتهد: 2 /155، وحاشية الدسوقى: 4 /350، المهذب: 2 /284، المغني لابن قدامة: 8 /290
(2) العرف والعمل في المذهب المالكي، لعمر بن عبد الكريم الجبيدي: ص 253 - 295(5/2545)
والأعراف بربرية كانت أو غيرها فالميزان في الأخذ بها أو ردها إنما هو ميزان الشرع فما وافق منها اعتبرناه وما خالف رددناه والمصلحة لا تتحقق بالأحكام الجائرة المخالفة لمقاصد الشريعة وأي مصلحة في حرمان المرأة من ميراثها وأي مصلحة في تنزيل العقاب بغير من جنى، وأي مصلحة في إفساد المال؟ ولذا فكل ما يمس كلية من كليات الشريعة التي هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال فهو مردود لأنه محض فجور وفسوق ولا ينتج عنه إلا الخراب والدمار.
العلاقة بين العرف والعادة:
إذا كان مرجع العرف إلى فعل من الأفعال التي تميل إليه النفس ويتكرر فعله حتى يصبح عادة فإذا انتشرت هذه العادة أو العادات بين الناس وقلد بعضهم بعضا فيها أصبح ذلك الفعل عرفًا وبهذا ندرك أن العادة غير العرف وقد ذهب بعضهم إلى أنهما سواء ولقد فرق بعضهم بينهما. فقال: العادة ما كرر الإنسان فعله، فيما يختص بنفسه والعرف ما كرر الناس فعله وألفوه على ممر الأجيال، ولهذا نجد بعض علماء الأصول يعرف العادة بأنها الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية أي من قبيل الطبع والمعاودة في التعاطي حتى قيل: العادة طبيعة ثانية بينما المتكرر من علاقة عقلية يصبح من قبيل التلازم وكتكرار حدوث الأثر كلما حدث المؤثر هكذا في التقرير والتحبير (1) .
__________
(1) التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج، شرح التحرير، لابن الهمام: 2 /769(5/2546)
وفي رسالة نشر العرف لابن عابدين أن العادة مأخوذة من المعاودة فهي بتكرارها ومعاودتها مرة أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول متلفات بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية، فالعادة والعرف بمعنى واحد من حيث المصداق وإنما اختلفا من حيث المفهوم (1) ، وقد ينشأ العرف عن غير العادة وهناك من العلماء من يرى أن العادة أعم من العرف على اعتبار أنها جنس أعم يندرج تحتها أنواع منها العرف وذلك لأن العادة تشمل العادة الناشئة عن عامل طبيعي وعن العادات الفردية وعن العادات التي تعود عليها الجمهور والتي يعبر عنها بالعرف ولذلك قال بين العرف والعادة العموم والخصوص فكل عرف عادة وليست كل عادة عرفًا وإلى هذا المعنى ذهب الشاطبي في موافقاته فقال: العوائد أيضًا ضربان بالنسبة إلى وقوعها في الوجود، أحدهما: العوائد العامة التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال كالأكل والشرب والرفح والحزم واليقظة والميل إلى الملائم والنفور عن المنافر، والثاني العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال كهيآت اللباس والمسكن واللين في الشدة والشدة فيه والبطء والسرعة في الأمور والأناة والاستعجال وما كان نحو ذلك فأما الأول: فيقضي به على أهل الأعصار الخالية والقرون الماضية للقطع بأن مجاري سنة الله في خلقه على هذا السبيل لا تختلف عمومًا كما تقدم فيكون ما جرى منها في الزمان الحاضر عمومًا به على الزمان الماضي والمستقبل مطلقًا كانت العادة وجودية أو شرعية وأما الثاني: فلا يصح أن يقضي به على ما تقدم ألبتة حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج، فإذ ذاك يكون قضاء ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة وكذلك في المستقبل ويستوي في ذلك أيضًا الوجودية والشرعية، وإنما قلنا ذلك لأن الضرب الأول راجع إلى عادة كلية أبدية وضعت عليها الدنيا وإنما قامت مصالحها في الخلق حسبما بين ذلك الاستقراء وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهي العادة التي تقدم الدليل على أنها معلومة، وأما الضرب الثاني فراجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم (2) .
وذهب جماعة من العلماء إلى أنهما قسم واحد كالغزالي والجرجاني من المتقدمين وعبد الوهاب ومحمد المختار القاضي وعلي حيدر والشيخ محمد الخضر حسين من الإيثنونيين المتأخرين إذ يقول عبد الوهاب خلاف: العرف ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك ويسمى العادة (3) ويقول الدكتور القاضي: العرف والعادة مترادفان (4) .
ويقول علي حيدر شارح مجلة الأحكام: العرف بمعنى العادة (5) ونحن نميل إلى التفرقة بين العادة والعرف من حيث أن العادة تطلق على ما اعتاده الفرد أو بعض العباد في شؤون خاصة فإذا ما اعتاد فرد أن يستيقظ في وقت معين وأن يتناول فطور الصباح ويشرب القهوة أو يتناول فطور منتصف النهار أو يخرج للنادي، مرة فمرة فإن ذلك يصبح له عادة والجماعة التي تحتفل بعيد معين أو تقيم احتفالًا بمناسبة جز الغنم فإنها تعتبر عادة نعم، قد تتحول هذه العادة إلى عرف بالتكرار في بلد من البلدان فتصبح عرفا خاصا وقد يعم البلاد أو مجموعة أقطار فيصبح عرفا عاما ولكن لا تتحول العادة إذا بقيت عند فرد إلى عرف عام ما لم تنتقل إلى الجماعة والعادة ليس لها قوة الإلزام لأنه لا يتوفر لها التقدير المعنوي بخلاف العرف (6) .
__________
(1) رسالة نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، لابن عابدين: 2 /114
(2) الموفقات، للشاطبي: 2 /220، ط. صبيح مصر
(3) أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف: ص 9 – 10
(4) الرأي في الفقة الإسلامي: ص 235
(5) شرح مجلة الأحكام: 1 / 40، ط بيروت – كتاب الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، للشيخ محمد الخضر حسين التونسي نشر علي رضا التونس، ط بيروت: ص 33
(6) انظر أصول القانون، لحسن كيرة: ص 322، والوجيز في المدخل للقانون لشمس الدين الوكيل: ص 188(5/2547)
آراء الفقهاء وحكمهم في العرف:
أجمع الفقهاء على الأخذ بالعرف الذي أشار إليه النص أو بنى عليه كالذي ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين سألته امرأة أبي سفيان عن تقتير أبي سفيان فقال لها: ((خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف)) ، قال الحافظ ابن حجر: أن الشافعية إنما منعوا العمل بالعرف إذا عارضه نص شرعي أو لم يرشد إليه نص شرعي فكأنهم اشترطوا في الأخذ به أن يرشد إليه نص شرعى أو لا يعارضه، أما الفقه المالكي والحنفي فيأخذ بالعرف بل يعتبر أصلًا من الأصول الفقهية، كما قدمنا وذلك فيما لا نص قطعي فيه وكذلك الحنابلة تأخذ به إذا لم يتعارض مع نص من نصوص الشريعة فالأئمة الأربعة قائلة بهذا النوع من العرف (1) أما الشيعة فترى الأخذ بالعرف لكنهم لا يعتبرونه أصلًا بذاته في مقابل الأًول يقول السيد محمد تقي الدين الحكيم: أما ما يتصل بالمجال الأول (يعني ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نص فيه كالاستصناع وعقد الفضولي) ، فواضح رجوعه إلى السنة بإقرار لأن المدار في حجتيه هو إقرار الشارع له لبداهة أن العرف لا يكسبها قطها يجعل الحكم على وفقه فلا بد من رجوعه إلى حجة قطعية وليست هي إلا إقرار الشارع أو إمضاءه له والإمضاء إنما قال على أحكام عرفية خاصة لا على أصل العرف، فالشارع أمضى الاستصناع أو عقد الفضولي مثلا وهما حكمان عرفيان، ولم يمضِ جميع ما لدى العرف من أحكام، بل لم يمضِ أصل العرف كما يتوهم ليكون أصلًا في مقابل السنة لعدم الدليل على هذه التوسعة (2) .
النوع الثاني: يرى المالكية والحنفية الأخذ بالعرف الذي لم يثبت نهي عنه ولا إرشاد إليه ولا إيماء بالعمل به بنص ويعتبرون العرف أصلا مستقلًا يخصص العام ويقيد المطلق ويقدم على القياس (3)
النوع الثالث: رد العرف الفاسد وهو ما نص الشارع على إبطاله وتحرميه (4) وقد نقل الشيخ محمد الخضر حسين أن الشيخ الصالح سيدي إبراهيم الرياحي ذكر في بعض فتاويه أن العرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق وأما عرف يبطل الواجب ويبيح الحرام فلا يقول به أحد من أهل الإسلام (5) ولقد اهتم المالكية والأحناف اهتمامًا كبيرًا بالعرف إذ هو يتفق كثيرًا مع المصلحة، والمصلحة أصل من الأصول عند المالكية؛ ولأن العرف يأتلف مع النفوس، فإذا كانت الأحكام على مقتضاه تلقاه الناس بالقبول وكانت مخالفته تؤدي إلى الحرج والمشقة والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (6) .
والتشريع يوافق الفطرة ولا يخالفها فإذا كان العرف صحيحًا كان متفقًا مع الفطرة والله تعالى يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (7) .
__________
(1) انظر كتاب مالك، لأبي زهرة: ص 448
(2) الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الدين حكيم: ص 423.
(3) انظر كتاب مالك للشيخ أبن زهرة: ص 449.
(4) انظر كتاب مالك للشيخ أبن زهرة: ص 449.
(5) الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، للشيخ محمد الخضر حسين: ص 36
(6) سورة الحج: الآية 78
(7) سورة الروم: الآية 30(5/2548)
والفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق والتي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسدًا وعقلًا فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة الفعلية وهو المسمى علم الاستدلال بفساد الوضع وجزمنا بأن ما نبصره من الأشياء هو حقائق ثابته في الوجود ونفس الأمر فطرة عقلية وإنكار السوفسطائية ثبوت المحسوسات في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية (1) .
وقد بين أبو علي ابن سينا حقيقة الفطرة في كتاب النجاة فقال: ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو عاقل لكنه لم يسمع رأيًّا ولم يعتقد مذهبًا ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسية، ولكنه شاهد المحسوسات وأخذ منها الحالات ثم يعرض على مذهبه شيئًا ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة ووصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جارٍ على مقتضى الفطرة الفعلية وأما تشريعاته وتفاريعه فهي إما أمور فطرية أيضًا أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به وإما أن يكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته وقوانين المعاملات فيه راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة والوجدان في الإنسان القلبي لا يدخل تحت الفطرة منه إلا الحقائق والاعتبارات ولا يدخل فيه الأوهام والتخيلات لأنها ليست مما فطر العقل عليها. ولكن مما عرض للفطرة عروضًا كثيرًا حتى لازمت أصحاب الفطرة في غالب الأحوال فاشتبهت الفطريات وإنما كان عروضها للفطرة بسوء استعمال العقل وبسوء فهم الأسباب، ولذلك تجد العقلاء متفقين في الحقائق والاعتبارات ولا نجدهم متفقين في الوهميات والتخيلات، بل تجد سلطان هذين الأخيرين أشد مقدار شدة ضعف العقول، وتجد أهل العقول الراجحة في سلامة منهما، ويتفرع من هذا أن الشريعة الإسلامية داعية أهلها إلى تقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها، فالزواج والإرضاع من الفطرة وشواهده ظاهرة في الخلقة والتعاوض وآداب المعاشرة من الفطرة لأنهما اقتضاهما التعاون على البقاء وحفظ الأنفس والأنساب من الفطرة والحضارة الحقة من الفطرة لأنها من آثار حركة العقل الذي هو من الفطرة وأنواع المعارف الصالحة من الفطرة لأنها نشأت من تلاقح العقول وتفاوضها والمخترعات من الفطرة لأنها متولدة عن التفكير وفي الفطرة حسب ظهور ما تولد من الخلقة، وإذا أجلنا النظر والمقصد العام من التشريع نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها ولعل ما أفضى إلى فرق عظيم فيما يعد في الشرع محذورًا وممنوعًا وما أفضى إلى حفظ كيانها يعد واجبا وما كان دون ذلك من الأمرين فهو منهي أو مطلوب في الجملة (2) وما لا يمسها مباح ثم إذا تعارضت مقتضيات الفكرة ولم يمكن الجمع بينها في العمل يصار إلى ترجيح أولاها وإيفائها على استقامة الفطرة، فلذلك كان قتل النفس أعظم الذنوب بعد الشرك وكان الترهيب منهيًّا عنه وكان خصاء البشر من أعظم الجنايات ولم يجز الانتفاع بالإنسان انتفاعًا يفيت عينه أو يعطلها كالتمثيل بالعبد بخلاف الانتفاع بالحيوان وكان إتلاف الحيوان بغير أكله ممنوعًا، ومن هنا نعلم أن القضاء بالعوائد يرجع إلى معنى الفطرة لأن شرط العادة التي يقضي بها أن لا تنافي الأحكام الشرعية فهي تدخل تحت حكم الإباحة وقد علمنا أنها من الفطرة إما لأنها لا تنافيها وحينئذٍ فالحصول عليها مرغوب لفطرة الناس وإما لأن الفطرة تناسبها وهو ظاهر (3) .
__________
(1) التحرير والتنوير: 1 و 2 /90
(2) مقاصد الشريعة للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ص 56 – 60.
(3) مقاصد الشريعة، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور: 56 – 60(5/2549)
العمل والأسباب الداعية للأخذ به:
من المعلوم أن المدينة المنورة قد احتضنت نبي الرحمة وهادي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيها ظهرت الشريعة المحمدية وتكونت الدولة الإسلامية، وبها اجتمع الأنصار والمهاجرون الذين تلقوا هذه الشريعة وثبتوها ونقولها إلى التابعين وهم بدورهم نقولها إلى تابعي التابعين الذين كان من بينهم إمام دار الهجرة مالك بن أنس إمام الفقه والحديث والذي اشتهر بوقوفه موقفًا وسطًا بين النقل والرأي، فكان لا يهمل الرأي ولكنه يأخذ به فيما لم يرد فيه نص ثابت من حديث أو أثر وكان يتتبع آثار الرسول وآثار صحابته والتابعين وقد اعتبر عمل أهل المدينة وجعله أصلًا في بناء الفروع عليه وذلك للأسباب الآتية:
1- قرب أهل المدينة من واقع الوحي ومحافظتهم على ما سمعوه وما علموه وشاهدوه.
2- اعتقاده أن ما كان عليه أهل المدينة قد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.
3- أن الرسول لبث ثلاث عشرة سنة في المدينة يوحى إليه ويبني قواعد الأمة ويدير شؤونها دينًا ودنيا، عبادة ومعاملة فاعتبر مالك دينه كما اعتبر عمله.
4- متابعة الصحابة لما جاء هم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكوته وعمله.
5- اعتباره المدينة مركزًا لاجتماع كبار الصحابة وما اجتمع لهم من علم وعمل وسلوك بنبيهم صلى الله عليه وسلم.
6- الطريقة التي سلكها أبو بكر زمن خلافته من جمعه للصحابة فيما يعرض من المسائل وأخذه بفتاويهم واعتماده عليهم في العلم والعمل.
7- سلوك عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان نفس مسلك أبي بكر واقتداؤهما بالخليفة الأول.
8- انتهاج التابعين نفس المنهج والسير على منوال الصحابة ناظرين إلى الدين بمنظار سبقهم.(5/2550)
فالنص محفوظ في صدورهم والعمل شائع بين ظهرانيهم يشترك في ذلك صغيرهم وكبيرهم ويتناقله الأبناء عن الآباء كل هذه الأمور جعلت مالكًا يلاحظها ويعتد بها ويتخذها مطية للتشريع إذا لم يجد نصًّا يسير عليه أو وحده ولكنه لم يطمئن إليه حيث يرى أن تقديم الجم الغفير أولى أن يتبع وأن يقدم على خبر الآحاد إذ لا تصل روايته في القوة إلى ما أطبق عليه المجتمع المدنى بأسره فكان إذا اختلفت الآراء أو اختلفت الآثار وتعارضت النصوص اعتمد على ما كان عليه أهل المدينة.
وقد استدل مالك على تقديمه عمل أهل المدينة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما سار عليه الصحابة والتابعون من بعده كما فصل ذلك القاضي عياض (1) وكما استدل أصحابه على عمل أهل المدينة بأدلة من السنة والأثر والعقل فمن السنة شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة وأهلها وما ورد فيها من الفضائل ودعاؤه لها ومن ذلك ما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يصبر أحد على لأواء المدينة وشهدتها إلا كنت له شفيعًا - أو شهيدًا - يوم القيامة)) (2) وما رواه جابر بن عبد الله وأبو هريرة: ((إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها)) وروى بروايات مختلفة اللفظ متفقة المعنى وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال)) .
وقد نقل القاضي عياض في كتابه ترتيب المدارك مجموعة من الأحاديث تثبت فضل المدينة وأهلها عن مجموعة من الصحابة كزيد بن ثابت وسفيان بن زهير وأبي هريرة ومحمد بن مسلمة وأبي سعيد المقبري وعائشة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لينحازن الإسلام إلى المدينة كما يجوز السيل الدمن)) وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يأزر الإيمان إلى المدينة كما تأزر الحية إلى حجرها)) ، وقد فسر قاضي المدينة أبو مصعب الزهري هذا الحديث فقال: والله ما يأزر إلا إلى أهلها الذين يقومون به ويشرعون شرائعه ويعرفون تأويله ويقومون بأحكامه وما ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم للأرض والدور وما ذلك إلا مدحًا لأهلها وتنبيهًا إلى أن ذلك باقٍ فيهم زائل عن غيرهم حين يرفع العلم فيتخذ الناس رؤساء جهالا فيسألون فيقولون بغير علم فيضلون ويضلون وفسر الإمام مالك قوله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ بعودته إلى المدينة كما بدأ منها وقد أطال القاضي عياض في كتابه المدارك بما لا مزيد عليه.
__________
(1) المدارك للقاضي عياض: 1 /49
(2) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، لجلال الدين السيوطي، حلبي: 1 /83(5/2551)
أما دليل المالكية من الأثر فقد روى مالك عن أنس أن المدينة محفوفة بالشهداء وعلى أنقابها ملائكة يحرسونها لا يدخلها الدجال ولا الطاعون وهي دار الهجرة والسنة وبها خيار الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الله اختارها له وجعل بها قبره، وبها روضة من رياض الجنة، قال القاضي عياض: وهذا الكلام لا يقوله مالك من نفسه إذ لا يدرك بالقياس، وقد سأل جعفر بن محمد مالكًا عن اختياره السكنى بالمدينة وتركه الريف والخصب فقال: وكيف لا أختاره وما بالمدينة طريق إلا سلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام ينزل عليه من رب العالمين في أقل من ساعة وسأل أبو مصعب الزهري مالكًا عن لين قلوب أهل المدينة وقساوة قلوب أهل مكة، فقال لأن أهل مكة أخرجوا نبيهم وأهل المدينة آووه، وعن زيد بن ثابت إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه ويكتب إلى أهل المدينة يسألهم عما مضى لعله يعلم بما عندهم، وعن أبي بكر بن عمر وابن حزم: إذا وجدت أهل هذا البلد (يعني المدينة) أجمعوا على شيء فلا تشُكَنَّ أنه الحق وعن الشافعي إذا وجدت معتمدًا من أهل المدينة على شيء فليس فيها حيلة من صحتها، ومنها ما في رسالة مالك إلى الليث بن سعد فمما جاء فيها: إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال وحرم الحرام إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل ويأمرهم فيطيعونه ويبين لهم فيتبعونه حتى توفاه الله واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته، ثم قام من بعده من اتبع الناس له من أمته ممن ولي الأمر من بعده فما نزل بهم مما علموا أنفذوه وما لم يكن عندهم علم فيه سألوا عنه ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم، ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون ذلك السبيل ويتبعون تلك السنن فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرًا معمولًا به لم أرَ لأحد خلافه الذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها (1)
أما دليل المالكية من العقل فقد استدلوا، بأن العادة قاضية بعد اجتماع مثل هذه الكثرة من الموجودين في مهبط الوحي الواقفين على وجوه الأدلة والترجيح إلا عن راجح، وأن المدينة دار الهجرة وموضع قبره ومهبط وحيه ومستقر الإسلام ومجتمع الصحابة فلا يجوز أن يخرج الحق عن قول أهلها، وأن أهل المدينة شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل وكانوا أعرف بأحوال النبي من غيرهم فيبعد أن يخرج الحق عنهم، وأن رواية أهل المدينة مقدمة على رواية غيرهم فكان عملهم حجة على غيرهم، وقد رأى كثير من أهل العلم أن ما ورد من الأحاديث والآثار الواردة في فضل أهل المدينة لا تقوم دليلًا ولا تنهض حجة على قيام العمل والاستدلال به في الأحكام كما أنها لا تصح سندًا ودليلًا يرجع إليه واعتبروا عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار سواء سواء، وقد ردُّوا على كل دليل من الأدلة المتقدمة بخصوصه، وكل هذا مذكور في كتب الأصول التي ذكرت الأدلة وردودها.
__________
(1) المدارك: 1 /42، إعلام الموقعين: 3 /72.(5/2552)
أما بالنسبة للأدلة المأثورة فقد ردوها بأن اشتمال المدينة على صفات موجب للفضل لا يدل على انتفاء الفضيلة من غيرها ولا على صحة الاحتجاج بإجماع أهلها، لأن المعتبر في التشريع إنما هو العلم بالأحكام المستفادة من الاجتهاد وليس لفضل البقعة وطهارتها مدخل في ذلك، ونحن إذا نظرنا إلى الردود التي ذكروها نجدها تنصب على الإجماع وليس عمل أهل المدينة إجماعًا واعتماد مالك رحمه الله العمل نفسه لا الإجماع الذي هو المصدر الثالث في مصادر التشريع إذ هو بعد الكتاب والسنة، فقد روى عنه ابن أخته إسماعيل بن أويس، قال: ما رأيت الأمر عندنا فهو ما عمل به الناس عندنا وجرت به الأحكام وعرفه الجاهل والعالم وكذلك ما قلت فيه ببلدنا وما قال فيه بعض أهل العلم فهو شيء استحسنته ونظرت على مذهب من لاقيته حتى وقع ذلك موقع الحق أو قريبا منه حتى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم وإن لم أسمع ذلك بعينه، فنسبت الرأي إلى بعد الاجتهاد مع السنة، وما مضى عليه أهل العلم المقتدى بهم والأمر المعمول به عندنا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدين مع من لاقيته، فبذلك رأيهم ما خرجت إلى غيره (1)
ويظهر ما نقلنا أن مالكًا لم يقصد من عمل أهل المدينة الإجماع، وعمل أهل المدينة يؤيده اتباع السلف لأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلوكه فبالمدينة كانت آخر حياته وآخر أعماله ودعوى أن أصحاب رسول الله انتشروا في الأقطار وأن المدينة لم تجمع جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها فهذا مردود بما صرح به الإمام إذ قال مستفسرًا نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزوة كذا في نحو كذا وكذا ألفا من الصحابة مات بالمدينة منهم نحو عشرة آلاف وباقيهم تفرقوا في البلدان فأيهم أحرى أن يتبع ويؤخذ بقوله؟ من مات عندهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذي ذكرت أو من مات عندهم واحد أو اثنان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
على أن عمل أهل المدينة قد قال به من سبق مالكًا فهذا عمر بن الخطاب يقول أحرج بالله عز وجل على رجل روى حديثًا العمل على خلافه. وعن مالك: قد كان رجال من أهل العلم من التابعين يحدثون بالأحاديث وتبلغهم من غيرهم فيقولون: ما نجهل هذا ولكن مضى العمل على غيره.
وكان أبو بكر بن حزم إذا قضى قضاء قد جاء فيها الحديث مخالفًا للقضاء يعانيه أخوه عبد الله ويقول: ألم يأتِ في هذا الحديث كذا فيقول بلى فيقول له أخوه فمالك لا تقضي به فيقول: فأين الناس منه؟ يعني بذلك ما أجمع عليه من العمل بالمدينة يريد أن العمل به أقوى من الحديث.
__________
(1) المدارك: 2 /64، والديباج المذهب: ص 25، ط السعادة، والمعيار، للونشريسي: 10 /32.
(2) المدارك: 2 /64، والديباج المذهب: ص 25، ط السعادة، والمعيار، للونشريسي: 1 /32(5/2553)
ولقد قسم المالكية عمل أهل المدينة إلى قسمين ما كان طريقه النقل والحكاية وهو ما نقله الكافة عن الكافة عمل به عملًا لا يخفي متواترًا من زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتصلا به وهو إما نقل شرع من جهة النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل كالصاع والمد وكونه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ منهم مال الزكاة وكالأذان والإقامة والأوقاف والأحباس ونحوها فهذا النقل لهذه الأشياء مما علم ضرورة من أحواله وسيرته أو كان من إقراره لأصحابه لما يشاهده منهم ولم يثبت إنكاره، أو كتركه أخذ الزكاة من الخضراوات مع اطلاعه عليها ووجودها عندهم بكثرة، فهذا النوع حجة يلزم المصير إليه ويترك ما خالفه من خبر الواحد والقياس لأن هذا النقل محقق موجب للعلم القطعي فلا يترك بالنصوص الظنية وهذا ما رجع إليه أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة بعد مناظرته لمالك وربما هذا الذي قال فيه ابن العربي مهما اختلف الناس في إجماع أهل المدينة من طريق النظر فليس يقدر أحد على اعتراض ما يجتمعون على نقله من طريق الأثر (1) وهذا النوع هو الذي قال فيه القاضي عياض إن هذا النوع لم يخالفه من أهل المدينة إلا من لم يبلغه النقل (2) وحكى عنه القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي أن ليس فيه خلاف بين المالكية والذي وافق عليه كثير من أصحاب الشافعي وقد رد القاضي عياض على المخالفين لهذا النوع بأنه من قبيل الفساد وأنه لا يمكن مقارنته بعمل غيرهم إذ هذا النقل من العمل لا يوجد إلا عند أهل المدينة (3) .
القسم الثاني: ما كان من طريق الاجتهاد والاستدلال وهذا النوع قد اختلف فيه أهل المذهب فجمهورهم ذهب إلى أنه ليس بحجة ولا يرجح على غيره، بل فيهم من بنى أن مالكًا قال به ولا هو من مذهبه، وذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة ولكن فيه قوة الترجيح يرجح على اجتهاد غيرهم، وذهب آخرون إلى أن هذا النوع هو حجة أيضًا وحكوه عن مالك وأخذ به كثير من المغاربة والمشارقة ورأوه مقدمًا على خبر الواحد والقياس، والأول أرجح عند محققي المالكية، أما القاضي عياض فقد قسم عمل أهل المدينة مع خبر الآحاد فقال: إن كان مطابقا لها فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النقل أو ترجحها إن كان من طريق الاجتهاد. ولا خلاف في هذا فأما إذا كان مطابقًا لخبر ومعارضا لخبر آخر كان عمل أهل المدينة مرجحًا لخبرهم وهو أقوى ما يترجح به الأخبار إذا تعارضت وهذا هو مذهب أبي إسحاق الإسفرائيني ومن تابعة من المحققين من الأصوليين والفقهاء من المالكية وغيرهم صرح بذلك الغزالي (4)
__________
(1) القبس، لابن العربي مخطوط: ص 204
(2) المدارك: 1 /49
(3) المدارك: 1 /49
(4) المستفصى، للغزالي: 1 /214، تحقيق محمد مصطفى أبو العلا(5/2554)
وإن كان مخالفا للأخبار جملة فإن كان إجماعهم عن طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عند المالكية وعند المحققين من غيرهم، قال عياض: وما كان يتصور فيه خلاف، وعلى تقدير وجوده لا يلتفت إليه إذ لا يترك القطع واليقين لغلبة الظنون – أما إن كان إجماعهم عن اجتهاد قدم الخبر عليه عند الجمهور، وفيه خلاف بين المالكية – أما إذا لم يكن هناك عمل يخالفه النص أو يوافقه فحينئذٍ يجب الرجوع إلى خبر الواحد وقبوله سواء أكان هذا الخبر قد نقله المالكية أو غيرهم إذا صح ولم يعارض، فإن عورض بخبر آخر نقله غير أهل المدينة كان ما نقله أهل المدينة مرجحًا عند كثير من المحققين للمزية مشاهدتهم قرائن الأحوال وتصدرهم لنقل آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما وهم الكثرة والجم الغفير عن الجم الغفير.
هذا تفصيل ما جاء القاضي عياض ونفى أن يكون مالك قال غيره ورد على ما وزعمه الغزالي من أن مالكًا قال: لا يعتبر إلا إجماع أهل المدينة دون غيرهم، كما رد على من زعم أن مالك يرى إجماع الفقهاء السبعة بالمدينة وهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأبو بكر ابن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وخارجة بن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار، كما رد على من ذهب إلى أن المالكية لا يقبلون من الأخبار إلا ما صاحبه عمل أهل المدينة ووصف ذلك بالجهل والكذب وأنهم لم يفرقوا بين رد الخبر الذي في مقابل عملهم وبين ما لا يقبل منه إلا ما وافقه عملهم والذي ادعى ذلك هو ابن حزم، حيث قال: ذهب أصحاب مالك إلى أنه لا يجوز العمل بالخبر حتى يصحبه العمل وموضوع عمل أهل المدينة قد استعرضه الدكتور أحمد محمد نور سيف في كتابه عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين فبين أنواع العمل ومراتب هذه الأنواع ومصادر هذا العمل وحجية كل مصدر منها ونقل مراتب العمل عند أبي الفضل عياض وعند ابن تيمية وحجية كل مرتبة وعند ابن القيم وحجية كل مرتبة وأجرى مقارنة بين مناهج هؤلاء في مصدر العمل ومراتبه وحجيته ثم لخص مراتب العمل إلى أولًا: العمل النقلي وهو الشرع المبتدأ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم حجة عند مالك وعند الجمهور ويستقل بمعارضة السنن، ثانيًا: العمل الاستدلالي وهو قسمان، العمل القديم بالمدينة وهو نوعان، عمل من جهة الاستدلال لم يعتضد بشيء ولكنه لا يعارض السنة وهو حجة عند مالك وعند الجمهور كما حكى ذلك ابن تيميمة عن الشافعي وأحمد ورد فإن الترجيح لا يكون إلا في المرويات لا في الاجتهاد بلا ترجيح، الثانى: عمل من جهة الاستدلال لكنه اعتضد بسنن سواء عارض سننًا أخرى أم لم يعارض وهذا حجة عند مالك وعند الجمهور كما حكى ذلك ابن تيمية.(5/2555)
القسم الثانى: العمل المتأخر بالمدينة وهنا يتجه الخلاف أولا إلى التسليم به كمصدر من مصادر العمل ولم يذكره عياض في مصادر العمل، بل ظهر كلامه بنفيه أما ابن تيمية وابن القيم فيريان أن هناك عملا متأخرا وأنه ليس بحجة، وخلاصة القول أن عمل أهل المدينة طوال القرن الأول إلى عهد مالك بن أنس كان العمل مستمرًا في التابعين الآخذين عن الصحابة، فإن أبا الدرداء يجعل قوة العمل في الثلث الأول من القرن الأول، ثم ينهج نفس المنهج عمر بن عبد العزيز في آخر القرن في إبان ازدهار حلقة مالك وهذا معنى القضاء المستمر والعمل المطبق بقوة الدولة في القرن الأول والثاني ثم نجد مالكًا يتابع النظر نفسه طوال القرن الثاني، ثم إنه ليبتدع هذا المنهج ابتداعًا، بل سلك في ذلك مسلكًا قد سبقه إليه غيره من الصحابة والتابعين وأهل العلم وإنما اشتهر به مالك، لأنه ابتلي بكثرة الإفتاء وقد وجد في بعض ما أفتى به ما يخالف الخبر الذي رواه هو فنسب ذلك إليه وإن كان متبعًا ولم يكن مبتدعًا، ولقد أيد الأخذ بالعمل جمهرة من العلماء قديما وحديثًا، ورأوا أن مالكًا فتح بهذا المصدر بابًا جديدًا من أبواب الاستدلال واستنباط الأحكام فقد ذكر ابن تيمية أن سائر الأمصار كانوا مناقدين لعلم أهل المدينة لا يعدون أنفسهم أكفاءهم في العلم كأهل الشام ومصر وأن تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بين ولهذا ظهر مذهب أهل المدينة في هذه الأمصار، فإن أهل مصر صاروا نصرة لقول أهل المدينة يوضح ذلك أن العلم إما رواية وإما رأي وأن أهل المدينة أصح أهل المدن رواية ورأيًا وأما حديثهم فأصح الأحاديث وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث أحاديث أهل المدينة إذ كانوا يتوفرون على أسانيد متصلة وضبط الألفاظ، وأما الفقه والرأي فقد علم أن أهل المدينة لم يكن فيهم من ابتدع بدعة في أصول الدين مثل ما كان عليه الشأن في غيرها من الأمصار لقد كان المنصور والمهدي والرشيد من خلفاء دولة العباسيين يرجحون علماء الحجاز على علماء أهل العراق، كذلك بنو أمية يرجحون علماء أهل الحجاز على أهل الشام وما ذلك إلا لأن مالكًا كما يقول ابن تيمية: أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه وكان له من المكانة عند أهل الإسلام ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام، ولذلك قال الشافعي: ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صوابًا بعد كتاب الله من موطأ مالك وقال أحمد بن حنبل: إن عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى النقل حجة باتفاق المسلمين كما قال مالك لأبي يوسف لما سأله عن الصاع والمد وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم وذكروا له أن إسنادهم على أسلافهم أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون؟ قال: والله لا يكذبون، قال مالك فإني حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق فقال أبو يوسف رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت وهذه هي المرتبة الأولى، والمرتبة الثانية العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان، فهذا حجة عند مالك.(5/2556)
والمنصوص عن الشافعي، وعند أحمد ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها والمرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين وجعل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة ففيه نزاع مذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعملها ولأصحاب أحمد وجهان، فالقاضي أبو يعلى وابن عقيل لا يرجح، والثاني قول أبي الخطاب وغيره أنه يرجح به وهذا هو المنصوص عليه من كلامه ومن كلامه إذا رأى أهل المدينة حديثًا وعملوا به فهو الغاية وكان يفتى على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريرًا كثيرًا، وكان يدل المستفتي على مذهب أهل الحديث ومذهب أهل المدينة، قال ابن تيمية: فهذه مذاهب جمهور الآئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة. أما المرتبة الرابعة: وهو العمل المتأخر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعها أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي أحمد وأبي حنيفة وغيرهم وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه أصول الفقه وغيره، قال ابن تيمية: ولم أرَ في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجتمع عليه عندهم فهو يحكي مذهبهم وتارة يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يثير إلى الإجماع القديم وتارة لا يذكر، قال ابن تيمية: وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تتفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيا وأنه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة يكون حجة قوية، وتارة مرجحًا للدليل، إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين، وقد أطنب ابن تيمية في بيان ذلك أي أطنان (1)
ولما نقلنا نرى البخاري يستفتح الباب بحديث مالك وهو أظهر عند الخاصة والعامة من رجحان مذهب أهل المدينة على سائر الأمصار، أما ابن القيم فيذهب إلى أن عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار وإن من كانت السنة معهم فهم أهل العمل المتبع، وإن الحجة في اتباع السنة وإنه لا تترك سنة لعمل على خلافها وإن السنة هي المعيار على العمل ولا عكس وإن العصمة لا تثبت لمصر من الأمصار وأن لا تأثير للجهات والجدران والمساكن وإنما التأثير لأهلها وسكانها وإن الصحابة شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل وظفروا من العلم بما لا يظفر به غيرهم ممن بعدهم فهم المقدمون على من سواهم كما أنهم مقدمون في الفضل والدين وعملهم هو العمل الذي لا يخالف، وقد انتقل أكثرهم عن المدينة وتفرقوا في الأمصار، بل أكثر علمائهم صار إلى الكوفة والبصرة والشام مثل علي وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وعبادة وأبي الدرداء وعمرو بن العاص ومعاوية ويقول: فكيف يكون قول هؤلاء معتبرًا ما داموا في المدينة، فإذا لم يخرجوا وخالفوا غيرهم لم يكن عمل من خالفوه معتبرًا وإذا خرجوا وفارقوا جدران المدينة كان عمل من بقي فيها هو المعتبر، ثم يقسم عمل أهل المدينة إلى أقسام ثلاث: (1) - أن لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيرهم (2) - خالف فيه أهل المدينة وغيرهم وإن لم يعلم اختلافهم فيه، (3) - قسم فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسهم، ثم جعل الأول حجة يجب اتباعه والثاني والثالث لا دليل عليه (2)
ثمَّ بعد ذلك يقع فيما وقع فيه الغزالي إذ هو لا يلتزم هذا التقسيم في الطرق الحكيمة ويرى أن ما عليه أهل المدينة هو أصح وأصوب وأن قولهم هو الحق الذي يدين الله به ولا يعتقد سواه (3) وأنه من أشد المذاهب وأصحها. (4)
ولقد تعرضت كتب الأصول إلى مسألة عمل أهل المدينة وحجيته ومذاهب العلماء في ذلك، فالشافعي في كتابه الأم انتقده شديد الانتقاد ورأى أن الإجماع المعتبر إنما هو إجماع الأمة لا إجماع أهل بلد هو المدينة أو غيرها ومجمل رأيه ينصب على كون المالكية رووا الحديث ولم يعملوا به ويرى أن ذلك من باب التناقض وإلا فكيف يروون الحديث ولا يعملون به، وقد صح عندهم فيقول: قد خالفتم في القراءة في الصلاة كل ما رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبي بكر، ثم عمر، ثم ابن عمر، ثم عثمان ولم ترووا شيئًا يخالف ما خالفتم عن أحد من الناس علمته فأين العمل؟! خالفتم من جهتين: جهة التثقيل وجهة التخفيف، وقد خالفتم بعد النبي صلى الله عليه وسلم جميع ما رويتم عن الأئمة بالمدينة بلا رواية رويتموها عن أحد منهم، هذا مما يبين ضعف مذهبكم إذ رويتم هذا ثم خالفتموه، ولم يكن عندكم فيه حجة، فقد خالفتم الأئمة والعمل وإنه لا خلاف أشد خلافًا لأهل المدينة منكم، ثم خلافكم ما رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فرض طاعته وما رويتم من الأئمة الذين لا يجدون مثلهم فلو قال لكم قائل: أنتم أشد معاندة لأهل المدينة، وجد السبيل إلى أن يقول ذلك لكم على لسانكم لا تقدرون على دفعه عنكم ثم الحجة عليكم في خلافكم أعظم منها على غيركم لأنكم ادعيتم القيام بعملكم واتباعكم دون غيركم، ثم خالفتموهم بأكثر مما خالفه به من لم يدع من اتباعهم ما ادعيتم فلئن كان هذا خفي عليكم في أنفسكم إن فيكم لغفلة ما يجوز لكم معها أن تفتوا خلقًا والله المستعان وأراكم قد تكلفتم الفتيا وتطاولتم على غيركم ممن هو أقصد وأحسن مذهبًا منكم (5)
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية: 10 / 303 –340
(2) إعلام الموقعين: 2 /240، 241
(3) الطرق الحكمية والسياسة الشرعية، لابن القيم الجوزية طبع في مصر: ص 23
(4) الطرق الحكمية والسياسة الشرعية، لابن القيم الجوزية طبع في مصر: ص 104
(5) الأم، للإمام الشافعى: 7/188- 193.(5/2557)
وخلاصة القول أن الشافعي يرد عمل أهل المدينة لأمرين اثنين أولهما أن الأمر المجتمع عليه عنده ليس هو إجماع أهل المدينة، بل هو إجماع علماء الأمة في كل قطر وكل بلد، ثانيهما أن المسائل التي ادعى فيها الإجماع كان من أهل المدينة من هو مخالف فيها فضلًا عن مخالفة عامة البلدان الأخرى ولم يفرق الشافعي رحمه الله بين ما أجمع عليه أهل المدينة فيما كان منشؤه النقل والحكاية وما كان منشؤه الاجتهاد والرأي، ولذلك قال بعدم حجيته مطلقًا وهو بذلك خالف شيخه مالكا وشدد التكبير على أصحابه، ثم هو بعد هذا الموقف يقرر أن علماء المدينة إذا اجتمعوا على أمر كان ذلك الأمر موضع اتفاق العلماء في كل البلدان وهو من جهة أخرى ينظر إلى آراء أهل المدينة نظرة تقدير وإكبار وكان يوصي بالأخذ بأقوالهم، فقد جاء في مناقبه. روى البيهقي بإسناده عن يونس بن عبد الأعلى، قال: ناظرت الشافعي رضي الله عنه في شيء، فقال: والله ما أقول لك إلا نصحًا إذا وجدت أهل المدينة على شيء فلا يدخل في قلبك شك أنه الحق وكل ما جاءك ولم تجد له بالمدينة أصلًا وإن ضعف فلا تعبأ به ولا تلتفت إليه، فنحن نرى أن الشافعي يرى أن الأخذ برأي أهل المدينة هو الحق وأن كل قول ولو كان قويًّا ولم يكن له أصل بالمدينة لا يعبأ به، بل إنه يرى أنه إذا اجتمع أهل المدينة على أمر فلا بد أن يكون موضع اجتماع العلماء وكل بلد ومن أقواله: إن عمل أهل المدينة أحب إلى من القياس نقله عن القاضي عياض (1) ولما في كلام الشافعي من التضارب بالقول بعمل أهل المدينة أو برفضه، قال ابن العربي: وددنا أن الشافعي لم يتكلم في هذه المسألة، فكل مسألة له فيها أشكال (2) ولما في كلام الشافعي من التضارب بالقول بعمل أهل المدينة أو برفضه، قال ابن العربي: وددنا أن الشافعي لم يتكلم في هذه المسألة، فكل مسألة له فيها أشكال (3) ، ومن كبار الحنفية الإمام السرخسي فقد ذكر في أصوله أنه يرفض الأخذ بما جرى به عمل أهل المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصرح بأن هذا العمل إن كان من أهلها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا ينازع فيه أحد وإن كان المراد أهلها بإطلاق فيكل عصر، فهذا باطل لا يقول به أحد، بل إنه ليس في بقعة من البقاع اليوم في دار الإسلام قوم هم أقل علمًا وأظهر جهلًا وأبعد عن أسباب الخير من الذين هم بالمدينة، فكيف يستجاز القول بأنه لا إجماع في أحكام الدين إلا إجماعهم (4) .
كذلك تعرض الغزالي في المستصفى لمسألة عمل أهل المدينة وانتقده، فقال: مسألة، قال مالك: الحجة في إجماع أهل المدينة فقط، وقال قوم: المعتبر إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة، والمصرين الكوفة والبصرة وما أراد المحصلون بهذا إلا أن هذه البقع قد جمعت في زمن الصحابة أهل الحل والعقد.
__________
(1) المدارك، للقاضي عياض: 1 /58
(2) أحكام القرآن، لابن العربي: 8/ 2
(3) أحكام القرآن، لابن العربي: 8 /2
(4) أصول السرخسي: 1 /341(5/2558)
ثم انتقد مذهب مالك، فقال: فإن أراد مالك أن المدينة هي الجامعة لهم فمسلم له ذلك لو جمعت وعند ذلك لا يكون للمكان فيه تأثير وليس ذلك بمسلم، بل لم تجمع المدينة جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها، بل مازالوا متفرقين في الأسفار والغزوات والأمصار فلا وجه لكلام مالك إلا أن يقول عمل أهل المدينة حجة لأنهم الأكثرون، والعبرة بقول الأكثرين ,وقد أفسدناه أو يقول اتفاقهم في قول أو عمل أنهم استندوا إلى سماع قاطع، فإن الوحي الناسخ نزل فيهم فلا تشد عنهم مدارك الشريعة وهذا تحكم إذ لا يستحيل أن يسمع غيرهم حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أو في المدينة لكن يخرج منها قبل نقله، فالحجة في الإجماع ولا إجماع وقد تكلف لمالك تأويلات ومعاذير واستقصيناها في كتاب تهذيب الأصول (1) وربما احتجوا بثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهلها وذلك يدل على فضيلتهم وكثرة ثوابهم لسكانهم المدينة ولا يدل على تخصيص الإجماع بهم، ثم إن الغزالى في نفس الكتاب يقول: أن الخير إاذا كان على وفق عمل أهل المدينة فهو أقوى لأن ما رواه مالك حجة وإجماعًا أن لم يصح حجة فيصلح للترجيح لأن المدينة دار الهجرة ومهبط الوحي الناسخ فيبعد أن ينطوي عليهم، ثم إن ما قاله الإمام الغزالي في المستصفى يختلف عما قاله في المنخول، فقد ذكر في المنخول أن الإجماع الذي قصده مالك هو عمل الفقهاء السبعة، قال: صار مالك رضي الله عنه إلى أن الإجماع يحصل بقول الفقهاء السبعة وهم فقهاء المدينة ولا تبالي بخلاف غيرهم وقدم مذهبهم على النص (2) .
وكلام الغزالي ككلام الإمام الشافعي مضطرب فبعد أن أثبت أن لا وجه لكلام الإمام مالك عاد فأثبت أن الخبر إذا كان على وفق عمل أهل المدينة فهو أقوى. أما سيف الدين الآمدي فقد ذكر في الأحكام أن الأكثرين اتفقوا على أن إجماع أهل المدينة وحده لا يكون حجة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم خلافًا لمالك، فقال: هو حجة، ومن أصحابه من قال: إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيره ومنهم من قال: أراد به أن يكون إجماعهم أولى ولا تمتنع مخالفته، ومنهم من قال: أراد به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمختار مذهب الأكثرين ذلك أن الأدلة على كون الإجماع حجة متناولا لأهل المدينة والخارج من أهلها وبدونه لا يكونون كل الأمة ولا كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم حجة (3) .
ولقد كان أشد الناس انتقادًا لعمل أهل المدينة ابن حزم، حيث ذكر أن عمل أهل المدينة قبل مولد الإمام مالك بثلاث وعشرين سنة لم يجز إلا بالظلم والجور والفسق ولا وليهم إلا الفساق من عمال بني مروان، ثم عمال بني العباس، وقد ذكر ابن حزم تعدي العمال بالمدينة وفشو الشكوى في أيام الصحابة رضوان الله عليهم وأن لهذه الأسباب وغيرها يبطل قول من يدعي حجة بعمل أهل المدينة (4) ، وهو يرى أن اعتبار أهل المدينة حجة على غاية الفساد وإن من احتج به، وقال به اعتمد على أحاديث منها ما هي مكذوبة ومنها ما هو حسن وإن كل ما احتجوا به فيه نظر ولا حجة فيه وجعل مكة أفضل البلاد ولم يكن ذلك موجبا لاتباع أهلها ولا أن إجماعهم إجماع دون غيرهم ولا أنه حجة على غيرهم (5) .
__________
(1) المستصفي، للإمام الغزالي: 1 /187، ط المبطعة الأميرية: 1322هـ
(2) المنخول من تعليقات الأصول، لحجة الإسلام الغزالي تحقيق محمد حسن: ص 314
(3) الأحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين الآدمي. 1 / 349
(4) الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم ط القاهرة: 2 /854
(5) الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم ط القاهرة: 1 /552(5/2559)
ولقد تحامل ابن حزم على من يرى أن أهل المدينة كانوا أعلم بأحكام رسول الله صلى الله عيه وسلم من سواهم واتهمهم بالكذب والباطل. وإن الحق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم العالمون بأحكامه لا فرق بين من كان في المدينة أو في غيرها، واعتبر أن ادعاء أن أهل المدينة هم الذين شهدوا آخر حكمه عليه السلام وعلموا ما نسخ منها مما لم ينسخ اعتبر ذلك بأنه تمويه فاحش وكذلك ظاهر وأن الكل في ذلك سواء لا فرق بين المقيم بها والخارج منها، ثم يتعجب من التمويه بعمل أهل المدينة، ثم لا يحصلون إلا على رأي مالك وحده ولا يأخذونه بسواه، ثم يدعي أنهم أترك الناس لأقوال أهل المدينة عمل وابن عمر وعائشة وعثمان وسعيد بن المسيب وغيرهم، وأنهم تركوا عمل أهل المدينة في كثير من المسائل، ثم بعد ذلك تخلص إلى أن هذا لا يجوز تقليدًا لخطأ مالك في ذلك ويقول: لا سبيل إلى أن يوجد عمل أهل المدينة إذ لم يدع إجماع أهل المدينة إلا في نيف وأربعين مسألة، وفيها مع ذلك الخلاف، ولقد تتبع الأحاديث التي رواها المالكية ولم يعملوا بها وقدموا العمل عليها مع أنه رواها الإمام مالك في الموطأ فمن ذلك أنهم رووا أن آخر عمله صلى الله عليه وسلم كان الإفطار في رمضان في السفر والنهي عن صيامه، فقالوا: الصوم أفضل وكان آخر عمله صلى الله عليه وسلم أم بالناس جالسًا وهم أصحاء وراءه إما جلوس عند الظاهرية أو قيام عند غيرهم مع أنهم قالوا ببطلان الصلاة في ذلك، وكذلك ما ورى من أنه عليه السلام إذا اغتسل من الجنابة أفاض الماء على جسده، فقالوا بإبطال ذلك حتى يتدلك ورووا أنه كان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الصلاة إذا ركع وإذا وقع فقالوا: ليس عليه العمل كما رووا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أمَّ الناس فأتم أم القرآن، قال: ((آمين)) ، فقالوا: ليس عليه العمل إلى غير ذلك من الروايات التي رووها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعملوا بها وبهذا يبطل على رأيه من اتباع عمل أهل المدينة، ويثبت بذلك أنهم أترك الناس لعمل نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم لآخر عمله ولعمل الأئمة بعده وزاد فعدد على المالكية مخالفتهم لأبي بكر وعمر وعثمان وذكر أنهم رووا في الموطأ عن أبي بكر رضي الله عنه عشر قضايا خالفوه في ثمانية منها (1) ، رووا عن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالبقرة في ركعتين ووراءه الأنصار والمهاجرون من أهل المدينة، فقالوا: ليس عليه العمل فخالفوا بذلك عمل الخليفة الأول، ورووا عن عمر أنه قرأ في صلاة الصبح بسورة الحج وسورة يوسف ووراءه من أهل المدينة المهاجرون والأنصار، فقالوا: ليس عليه العمل.
__________
(1) الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم ط القاهرة: 1/222(5/2560)
كما رووا عنه أنه سجد في الحج سجدتين وقالوا: ليس عليه العمل ورووا عنه أنه لا حركة في سوقنا، فقالوا: لا بالحركة في السوق ورووا عن عثمان أنه كان يصلي الجمعة، ثم ينصرف وما للجدران ظل، فقالوا: ليس عليه العمل كما رووا عنه أنه كان يغطي وجهه وهو محرم، فقالوا: ليس عليه العمل ولا يغطي المحرم وجهه وهكذا يروى مخالفتهم لعائشة وابن عمر وسائر الصحابة بالمدينة دون استثناء كما خالفوا سائر فقهاء المدينة كسعيد بن المسيب وسلمان بن يسار وبمثل هذه المخالفات يسقط ابن حزم احتجاج المالكية بعمل أهل المدينة ويقول: فليس هناك عمل إلا النصوص ولا حجة في عمل أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) وابن حزم فيما ذهب إليه قد تبنى ما قاله الإمام الشافعي في الأم سواء أكان فيما احتج به أو الأسلوب الذي اتخذه في إسقاط حجج من قال بعمل أهل المدينة.
وخلاصة القول أن أسباب رد العمل لأهل المدينة يرجع إلى أمرين اثنين، أولاهما: ما حدث في المدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافٍ في نظرهم في رد عمل أهل المدينة وعدم الأخذ به كدليل من الأدلة الشرعية. الأمر الثاني: لأسباب الرد الأحاديث التي رواها مالك في الموطأ وهو لا يروي إلا الصحيح وهو إمام الحديث، ثم بعد ذلك لا يعمل بها فبالنسبة للأمر الأول يذكرون أن الأقوال تغيرت عما كان عليه زمن الصحابة والخلفاء الراشدين، وقد حدث من الفساد حتى في عصرهم ما أدخل كثيرًا من التبديل والتغيير حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم ما عرف شيئًا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة، قال الإمام الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم (2) .
وروي عن أم الدرداء، قالت: دخل أبو الدرداء وهو غضبان، فقلت: ما أغضبك، قال: والله ما أعرف فيهم شيئًا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعًا (3) وفي أشرف الطالب في أسنى المطالب لأحمد بن قنفذ قال أنس: يعني الصحابي الجليل خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن رجلًا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئًا، قال: ووضع يده على هذه ثم قال: إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله على ذلك لمن عاش في هذا النكر ولم يدرك ذلك السلف الصالح فرأى مبتدعًا يدعو إلى بدعة ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله من ذلك وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح يسأل عن سبيلهم ويقتفي آثارهم ويتبين سبيلهم ليعوض أجرًا عظيمًا.
__________
(1) المحلى: 1 /55
(2) الاعتصام بتحقيق محمد رشيد رضا: 1 / 26
(3) مسند الإمام أحمد: 6 /443(5/2561)
وهذه النقول وإن أثبتت التغير الذي حصل بالمدينة عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده وما حدث من فساد وما دخلها من تغيير وتبديل، فإنها ليست فيها حجة على إبطال عمل أهل المدينة بطلاق لأن الاختلاف فيما يرجع إلى الأحكام الشرعية لم يقع كثيرًا إلا في المسائل الاجتهادية كاختلاف اجتهاد بعض الخلفاء، واختلاف الخلفاء الراشدين هو من قبيل السنة لقوله عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي عضوا عيها بالنواجذ)) ثم إن مالكًا رحمه الله لا يعتمد العمل إذا كان مخالفًا للمروي الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يقول كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام صاحب هذا القبر، وهو أيضًا القائل: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا ما في رأيي فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة من ذلك فاتركوه (1) إلا أن الإمام رضي الله عنه يرى أن عمل أهل المدينة في مسألة اختلف فيها أو تضاربت الأدلة في شأنها يرجح الخلاف ويوجب اختيار القول بعملهم على غيره من المذاهب، على أن الإمام كان إمامًا في الحديث يعرف دواعى التجريح والترجيح وما كان من البدع المستحدثة مما هو من السنة المتبعة، وقد شهد في علمه وصلاحه ومعرفته بالسنة الجم الغفير مما لا يبقى معه شك أن يقول بعمل ويحتج به وهو بدعة من البدع معاكس لما جاءت به السنة وهو من أشد الناس عملا بالسنة ورفضًا للبدعة، أما ما ورد من الأحاديث المروية في الموطأ وغيره، ولم يأخذ بها مالك فلم يكن ذلك عن هوى وإنما كان عن معرفة وعلم ولا يكون إلا عن مستند صحيح ظهر له فهو الخبير بالصحيح من الحديث والسقيم، وهو حجة في هذا الباب وعالم أهل الحجاز ولم يبلغ أحد في زمانه مرتبته في العلم بالحديث والسنة والرجال، فكان من أشد الناس انتقادا لهم فلا يبلغ من الأحاديث إلا ما كان صحيحًا ولا ينقل إلا عن ثقة وفي المدارك للقاضي عياض من الأدلة على ذلك ما يشفي الغليل وكان من قول مالك رحمه الله ما رواه الناس مثل ما روينا فنحن وهم سواء ما خالفناهم فيه فنحن أعلم به منهم (2) .
قال ابن عبد البر ليس لأحد من علماء الأمة يثبت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرده دون ادعاء نسخ عليه يباشر مثله أو إجماع أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده ولو فعل ذلك لسقطت عدالته فضلا عن أن يتخذ إمامًا ولزمه إثم الفسق، قال هذا في الرد على الليث بن سعد فيما ادعاه من أن مالكًا خالف السنة في سبعين مسألة قال فيها برأيه (3) ، فنحن نرى الحافظ ابن عبد البر يستبعد صدور المخالفة من مالك للحديث الذي يرويه ثم يعمل بخلافه دون أن يكون له سند يعتمد عليه ويعول عليه من نسخ أو ترجيح.
__________
(1) ترتيب المدارك: 1 /45
(2) ترتيب المدارك: 1 /45
(3) جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، للحافظ ابن عبد البر: 2 /1002، ط المنيرية بمصر(5/2562)
على أن الإمام مالك لم يقل أصلًا بأن عمل أهل المدينة هو إجماع بمعنى الإجماع الذي هو المصدر الثالث من مصادر التشريع إذ تعابيره في الموطأ لا تخرج عن قوله: (هذا الأمر الذي أدركت عليه الناس وأهل العلم ببلدنا، أو الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا، أو الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، أو ما أعرف شيئًا مما أدركت عليه الناس أو السنة عندنا، أو وليس على هذا العمل عندنا، أو الأمر الذي سمعت من أهل العلم، أو السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أو السنة التي عندنا والتي لا شك فيها، أو قوله وليس العمل على هذا) هذه هي الصيغ التي استعملها مالك في موطئه قاصدًا بها عمل أهل المدينة، وكل هذه الصيغ العشر لا تفيد معنى الإجماع الذي هو المصدر الثالث بعد الكتاب والسنة، ولقد تكررت هذه الصيغ في الموطأ مائتين وثلاثة وثلاثين مرة ولا يفهم من جميعها إلا العمل، أي عمل الناس الذي كان أهل المدينة سائرين عليه في عصره وقبل عصره فهو حينئذٍ بهذه العبارات يصف عمل بلده وما اعتاده قومه وتعارف لديهم وساروا عليه ومالك رحمه الله يعلم علم اليقين أنه ليس كل من كان من أهل المدينة هو من العلماء المجتهدين من أهل الحل والعقد ولو كان المراد الإجماع، لما عد المالكية الإجماع مصدرا ثالثًا، ثم جعلوا عمل أهل المدينة مصدرًا قائمًا بنفسه إلى جانب الإجماع، وإلا لكان ذلك من ذكر الشيء الواحد مرتين نص على ذلك القرافي في تنقيحه والمقري في قواعده القاعدة 117 والقاعدة 459 والقاعدة 635، وكذلك الونشريسي في المعيار (1) ، فما ذكره مالك في عمل أهل المدينة هو بمثابة العرف الذي يوجد في أي مكان، ولذلك قال ابن خلدون: ولو ذكرت المسألة (يعني عمل أهل المدينة في باب فعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره أو مع الأدلة المختلف فيها مثل قول الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب) لكان أليق (2)
ويرد ابن خلدون على الذين فهموا أن مراده في ذلك الإجماع، فيقول: وظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره، لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم، بل هو شامل للأمة، والفرق بين الإجماع وبين عمل أهل المدينة أن الإجماع هو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد على أمر من الأمور بحيث لا يجوز مخالفته بحال من الأحوال بقطع النظر عن أن يكون عن دليل فعلي أو عقلي، أما إجماع أهل المدينة فهو اتفاقهم في فعل أو ترك مستندين فيه إلى مشاهدة من قبلهم فمالك يقول بهذا الاتفاق وما عليه أهل المدينة في عهده إذا تحقق في مسألة اختلف فيها أو تضاربت الأدلة في شأنها، فهذا العمل الذي عليه أهل المدينة يرفع الخلاف ويرجح ما هم عليه من غيرهم من المذاهب على أن مالكًا هو أكثر الناس تحرجا من البدع والشبهات وتمسكًا بما عليه الصحابة والتابعون، وإنما يرجح عمل أهل المدينة على غيرهم لأن أهلها أقرب إلى صفاء التشريع ونقاوته، وهم أبعد الناس عن أن يكونوا على ضلالة من أمرهم وهم أقرب عهد بالرسول وأصحابه وأتباعهم، وهذا شبيه بما كان عليه أبو يوسف صاحب أبي حنيفة حين كان يقدم العرف على الحديث ويقول: إن الحديث ليس إلا تأكيدًا أو إقرارًا للعرف الذي كان فيعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لو وجد عليه الصلاة والسلام هذا العرف قد تغير تغيرًا موافقًا لأصل الدين لأقره، ومثل هذا فعل الشافعي، فقد أخذ بكثير من عمل أهل مكة وكذلك ينقل عن أبي حنيفة في حكمه بعمل أهل العراق، نقل ذلك الشيخ الحجوي في كتابه الفكر السامي (3) وإذا كان هؤلاء الأئمة اعتبروا عرف هذه البلدان فعمل أهل المدينة أولى بالاعتبار، ثم إن العمل الذي كان بالمدينة شائعا على عهد مالك رضي الله عنه منه ما كان معمولا به على الدوام وهو الذي قال فيه ابن رشد في مقدماته وما استمر عليه العمل بالمدينة واتصل به فهو عنده أي مالك مقدم على أخبار الآحاد العدول، لأن المدينة دار النبي صلى الله عليه وسلم وبها توفي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المتوافرون فيستحيل أن يتصل العمل منهم في شيء على خلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد علموا النسخ فيه (4) .
__________
(1) المعيار للونشريسي: 2 /272
(2) مقدمة ابن خلدون: ص 445
(3) الفكر السامي، للشيخ الحجوي: 2 /167
(4) المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، لأبي الوليد ابن رشد ط بيروت 2 /565(5/2563)
وهذا النوع يجري مجرى العرف العام وفيه أيضًا ما هو معمول به ولكنه قليل وهو يجري مجرى العرف الخاص وما كان عامًا مستمرًا فهو الذي يأخذ به مالك ويقدمه على خبر الآحاد ومعلى القياس، وهذا الفعل الذي جرى عليه أهل المدينة لا يكون إلا لأمر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعه الصحابة فيه والتابعون من بعدهم أو يكون واقعًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرهم عليه واستمر الناس عليه زمن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم وهذا لا شك في صحة الاستدلال به والأخذ به والاعتماد عليه إذ لا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به، ولا شك أن ما داوم الناس عليه هو أولى من الأخذ بقول واحد، وهذا ما فعله مالك حيث قدم العمل على أخبار الآحاد حيث راعى العمل المستمر ورآه أقوى من أخبار الآحاد لأن خبر الآحاد لا يفيد إلا الظن والعمل المستمر الذي جرى من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة والتابعين الذين أدركهم مالك وراقب أعمالهم، ففي هذا من القوة ما ليس في قول الصحابي، ولذلك قدمه مالك على الأخبار الآحادية والقياس، يقول الشاطبي: ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله العمل مقدَّمًا على الأحاديث إذ كان، إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والآخر ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث لأن عمل أهل المدينة أثبت في الاتباع وأولى أن يرجع إليه وقد كان مالك يقول إذا جاءك مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء، فعليك بذلك، فإنه لو كان لذكر، لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم وكان إذا بلغه حديث لم يكن يرى الناس يعملون به، يقول: أحب الأحاديث إلي ما أجتمع الناس عليه، وهذا مما لم يجتمع الناس عليه، وإنما هو حديث من أحاديث الناس، ولهذا المعنى قال الشاطبي: لما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر كما اعتبر الاقتداء بالأفعال أقوى من الاقتداء بالأقوال (1) .
__________
(1) الموافقات، للشاطبي: 2 /10، 71(5/2564)
وفي كلام الشاطبي رد على ما ذهب إليه ابن رشد من أن الفعل لا يفيد التواتر إلا إذا اقترن بالقول ورد عليه أيضًا في قوله: إفادة الأفعال للتواتر عسير، بل لعله ممنوع (1) قال الشاطبي: وكل ما جاءك مخالفًا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه وهذا يرد ما صرح به الآمدي وغيره من اعتبار عمل أهل المدينة كعمل غيرهم لأن عملهم معزز بالمشاهدة والاتباع، ففي المدينة انتهاء الوحي وفيها انتهت الرسالة واستقرت، فكان أهلها أعلم بما كان عليه الرسول وصحبه ومن تبعهم إلى عصر مالك بن أنس ودعوى مخالفة مالك للحديث، فقد أبطلناه بأن مالكًا إذا ثبت الحديث عنه وصح لا يتركه بحال، وإن ثبت، ولكن بطريق الآحاد قدم عيه عمل أهل المدينة لأنه لا يعقل أن يعمل بقول الفرد الواحد ويترك الجم الغفير على أن ما اعتاده الناس لا يصرفون عنه إلا بدليل صريح قاطع، فإن لم يوجد، فإن الناس يتركون على ما هم عليه ما دام لم يخالف فعلهم دليلا شرعيًّا، وهذه قاعدة يقع تطبيقها في كل الجهات، وأولى أن يقع تطبيقها في كل الجهات، وأولى أن يقع تطبيقها في بلد أهلها هم أعرف الناس بالسنة النبوية ومقاصد الشريعة وأكثر الناس اقتفاء واقتداء لخطى رسول الله صلى عليه وسلم وأشد الناس اتباعًا وأبعدهم من الابتداع.
وإذا أوضحنا مقصد مالك في الأخذ بعمل أهل المدينة وأدركنا الغاية التي أرادها من أن عمل أهل المدينة هو العرف والعادة التي تسلسل العمل بها عبر الأجيال وتابع الناس عليها اتباعًا وتقليدًا لا اجتهادا حتى ينتهي إلى عصر الصحابة وزمنه صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إجماعا لأن الجماع لا يكون تبعيًا كما يقول ابن خلدون، وحيث ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر بعض الأعراف وأبقى عليها، ولم يمنع منها إلا ما صادم الشرع أو تعارض مع مبادئه وأصوله وأن كل المذاهب الرئيسية قد حكمت العرف واعتبرته في كثير من القضايا، ولم يقف ضد هذا المنزع إلا من لا يعتد برأية، وقد تقدم أن بينا أن مراعاة عادات الناس وأعرافها التي لا فساد فيها هي ضرب من ضروب المصلحة لا يصح أن يتركها عالم من العلماء المحققين، بل يجب الأخذ بها وأنه ليس لأحد أن يمنعهم من الأخذ بها إلا بنص يحرمها ويمنعها، وحيث لا نص فلا بد من مراعاة أعرافهم وعاداتهم إذ مخالفتهم تؤدي بهم إلى الحج والمشقة والله تعالى يقول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) .
__________
(1) بداية المجتهد لابن رشد: 1 /126
(2) سورة الحج: الآية 71(5/2565)
وإذ قيل يعتبر العمل والعرف مع وجود النص المخالف قلنا: إن النص إما أن يكون قطعيًّا أو ظنيًّا، فإن كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة فلا يقول أحد بخلافه لا مالك ولا غيره، وإن كان ظني الدلالة فقد نص العلماء على أن العرف العام يقدم على الدليل الظني كما أنهم نصوا على أن العرف العام يقيد المطلق ويخصص العام ويبين المجمل، وهذا هو دور العمل بإطلاق، وإذا كان هذا هو دور العرف، وهذا اعتباره في كل مكان، وفي كل زمان فعمل أهل المدينة أجدر بالاعتبار والاحترام لما قدمنا، ثم إن الإمام مالك رضي الله عنه كان على غاية من الانسجام مع البيئة التي عاش فيها وتأثر بها إذ لم يكن مقتصرًا على الحديث وأغلق باب الرأي والنظر في كل ما احتاج إليه متماشيا مع المنهج الاجتهادي الذي ربطه بمناهج الشريعة ومقاصدها ومن هنا كان رحمه الله حريصًا على الحرص على أن يربط النص الشرعي بالحياة العملية التي كانت قائمة بالمدينة فيقدر ما كان وقافًا عند النصوص في العبادات بقدر ما كان يراعي المصالح في المعاملات، وبذلك كان منسجما أخذًا بعين الاعتبار العمل القائم في المدينة معتبرًا أنه الصورة العملية التطبيقية للشريعة الإسلامية.
ولكن هنا لقائل أن يقول إذا اعتبرنا أن عمل أهل المدينة من قبيل العرف، كما قرره ابن خلدون أو هو بمثابته، فلم عد المالكية في الأصول التي انبنى عليها مذهبهم العرف مستقلا عن عمل أهل المدينة؟ فالجواب: أنا قدمنا الفرق في الخلاف بين الجماعة هي أن العرف والعمل هما لفظان مترادفان وهو ما ذهب إليه جماعة ومنهم من فرق بينهما بأن العمل إنما هو ممن يقتدي به من العلماء، أما العرف فهو فعل العامة مرة بعد مرة ولا يظهر كبير فرق بين ما جرى به العمل وبين العرف لأن ما تعارفه الناس بمعنى تعودوا عليه وعملوا به، ولذا نرى الكثير من العلماء من لا يفرق بينهما ويجعلهما شيئًا واحدًا وكثيرًا ما يكون العمل تابعا للعرف، قاله الشيخ الحجوي في الفكر السامي (1) ومثل بأدوات المنزل مبينًا أن منها ما يكون للزوجة حسب العوائد والأعراف ومنها ما يكون للزوج وأن كل بلد يحكم له بعرفه، وفي تحفة أكياس الناس في شرح عمل فاس أن غالب عمل فاس مبني على الأحكام العرفية كما يذكر أن عمل فاس غالبًا يتبع القول الموافق لأعراف الناس، والحق أن جريان العمل بالشيء ليس هو جريان العرف به إذ مراد العلماء بقولهم به العمل وعمل به، أن القول حكمت به الأئمة واستمر حكمهم به وجريان العرف بالشيء هو عمل العامة من غير استناد لحكم من قول أو فعل (2) .
__________
(1) الفكر السامي للحجوي الثعالبي: 4 /229، ط دائرة المعارف المغرب
(2) حاشية المهدي على شرح التاودي: 1 /432، ط حجرية.(5/2566)
وفرق بين عمل أهل المدينة وما جرى به العمل في الأقطار، فإن ما جرى به عمل أهل المدينة هو مستند لا محالة إلى النص أو فعل أو تقرير فهو اتباع الآثار السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ولذلك كان غير العرف وغير ما جرى به العمل بالأقطار المختلفة وإذا لم يقبل عمل أهل المدينة عند جميع المذاهب وهو مستند إلى الدليل في الجملة، فماذا يكون موقف من تشبث بالعمل المطلق أو الخاص فيما جرى في بقية الأقطار، ولهذا ذهب كثير من العلماء المتأخرين إلى عدم الاعتداد بما جرى به العمل في بلد من البلدان سواء قيل إن أصله راجع إلى الاقتداء فيه بقاض معين قد كانت له قدرة الترجيح والاستنباط أو هو راجع إلى عرف خاص إذ هو في الحالة الأولى يكون الترجيح قائمًا على شخص لا على دليل والحجة لا تقوم على الأشخاص وإنما تقوم على الدليل، وأما الحالة الثانية وهو ما كان منشؤه العرف الخاص في بلد من البلدان، فإنه لا يصح أن يَعُمَّ العرف الخاص ببلد من البلدان كل البلدان اللهمَّ إلا إذا كان عرفًا عامًّا استوجبته المصلحة. على أن العرف العام هو نفسه قد لا يلزم إذ هو يتغير بتغير المصلحة ويتجدد بتجددها فلا يمكن أن يستمر العمل المرتبط به بعد انتهاء مصلحته على أن العرف العام من شأنه أن يكون معروفًا لدى الجميع يستوي فيه العوام والعلماء على السواء وليس العمل كذلك إذ العمل من خصائص العلماء العارفين بأسرار الشريعة الكاشفين لأحكامها على أن العمل في الأقطار كثيرًا ما يختلف فمثلا جرى العمل في فاس بعدم الاكتفاء بعجلين في الترشيد والتسفيه نص على جريان العمل به غير واحد كابن فتوح والمتيطي وابن سلمون وغيرهم في حين أنه جرى العمل في تونس بالاكتفاء بقبول عدين في حالة التسفيه والترشيد لكن الزيادة أفضل وهو قول أصبغ (1)
وفي الشفعة في ما لا يقبل القسمة قولان لمالك، وبعدم الشفعة قال ابن القاسم ومطرف وبالشفعة قال أشهب وابن الماجشون، والقول بعدم الشفعة هو المشهور وبه القضاء وأفتى فقهاء قرطبة به، وقد رفع شفيع أمره إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن، وقال حكم علي بغير قول مالك فوضع بخط يده إلى القاضي أن يحمله على قول مالك ويقضي له به فجمع القاضي منذر بن سعيد الفقهاء وشاروهم، فقالوا: مالك يرى في الحمام الشفعة فقضى منذر بذلك وحكم له بها، وهكذا جرى العمل في الحمام والعيون والآبار والشجرة الواحدة وشبه ذلك جري العمل بقرطبة بالشفعة في ذلك والعمل عندنا في تونس على مذهب ابن القاسم لا شفعة فيما لم ينقسم، وكذلك الشفعة في الكراء كدار بين رجلين أكرى أحدهما نصيبه منها هل لشريكه أن يشفع ذلك من يد المكتري لأن الكراء بيع منفعة أو ليس له ذلك فيه قولان جرى القضاء بكل منهما فبالمغرب جرى القضاء بالشفعة وفي تونس جرى العمل بعدمها وكذلك جرى العمل بفاس بجواز الإفتاء للحكام، وهو قول ابن عبد الحكم فيجوز للقاضي الإفتاء في مسائل الخصام إذ هي المختلف فيها ومقابل الجواز فيها المنع والكراهة، وقد جرى العمل بمنع القاضي من الإفتاء في مسائل الخصام في تونس أما مسائل العبادات فبجواز الإفتاء فيها متفق عليه.
__________
(1) فتح الجليل في شرح التكميل والمعتد، لأبي عبد الله محمد السجلسماسي: 194.(5/2567)
ومن هنا ندرك أن العمل نفسه قد يتعدد تبعًا لاختلاف القضاة والمفتين واختلاف الجهات وعندئذٍ يحتاج إلى المقارنة والترجيح فيما بين هذا العمل وذلك وما هذا الاختلاف والعمل إلا لأن الفقهاء لم يضبطوا اتجاه العمل بمبدأ عام ومقياس ملزم للجميع يجب اعتباره، ولو نظرنا إلى ما جرى به العمل نرى منه ما كان وفق القول المشهور في المذهب ومنه ما جرى على القول الضعيف، ومنه ما جرى على خلاف النصوص ومنه ما جرى على ما لا نص فيه، ومنه ما جرى على شبه دليل ومنه ما جرى على وفق دليل المخالف، فمثال ما وافق القول المشهور العقوبة بالمال، فقد جرى العمل فيها بعدم الجواز وهو المشهور والقول الشاذ جوازه وبه أفتى جماعة من الفقهاء بالتعزير بأخذ المال لا يجوز في الراجح عند الأئمة لما فيه من تسليط الظلمة على أخذ مال الناس فيأكلونه (1) ، وقد أثبت ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن التعزير بالعقوبات المالية مشروع في مواضع خاصة من مذهب مالك في المشهور عنه ومذهب أحمد وأحد قولي الشافعي كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أمره بكسر ما لا قطع فيه من الثمر والكثر وأخذه شطر مال مانع الزكاة عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى، ومثل تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر ونحوه كثير، ومن قال إن العقوبة المالية منسوخة وأطلق ذلك فقد غلط في نقل مذاهب الأئمة (2) .
وقد قسم ابن تيمية العقوبة المالية إلى ثلاثة أقسام، إتلاف وتغيير وتمليك، فالأول إتلاف المنكرات من الأعيان والصفات تبعا لها كإتلاف الأصنام بتكسيرها وتحريقها وتحطيم آلات الملاهي عن أكثر الفقهاء وتحريق الحانوت الذي يباع فيه الخمر على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرهما عملًا بفعل عمر حيث حرق حانوت الخمار، ومثل إراقة عمر اللبن المخلوط بالماء للبيع وبه أفتى طائفة من الفقهاء، الثاني التغيير كتغيير الشيء مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن كسر العملة الجائزة بين المسلمين وتغيير كل ما كان من العين أو التأليف المحرم كتفكيك آلات الملاهي وتغيير الصورة المصورة، وأما التمليك بمثل ما روى أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن سرق من التمر المعلق قبل أن يؤويه إلى الحبرين أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين وفيمن سرق من الماشية قبل أن تؤوي إلى المراح أن عليه جلدات نكال وغرمه مرتين وكذلك قضاء عمر بن الخطاب في الضالة المكتومة أن يضعف غرمها على كاتمها، وقد أجاز المالكية العقوبة في المال إذا كانت جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه فيتصدق بالزعفران المغشوش على المساكين وإذا اشترى مسلم من نصراني خمرًا، فإنه يكسر على المسلم ويتصدق بالثمن تأديبا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه (3) .
__________
(1) البدائع 7/ 63، فتح القدير: 4 /212، حاشية ابن عابدين: 3 /195، المهذب: ص 288، المغني: 8 /244، الاعتصام للشاطبي تحقيق رشيد رضا: 2 /105
(2) راجع الحسبة في الإسلام لابن تيمية: ص 49 وما بعدها، إعلام الموقعين: 2 /98
(3) الاعتصام للشاطبي: 2 /106(5/2568)
ومثال ما خالف المشهور جريًا على القول الضعيف، وهذا النوع هو الغالب بيع المضغوط وبيع الثنيا وهو البيع بشرط وعند المالكية الاستثناء في البيع نحو أن يبيع الرجل شيئا ويستثنى بعضه فإن كان الذي استثناه معلومًا كأن يستثني شجرة معينة أو منزلًا من المنازل أو موضوعًا معلومًا من الأرض صح الاتفاق على البيع، وإن كان مجهولًا نحو أن يستثني شيئًا غير معلوم لم يصح البيع لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الثنيا في البيع إلا أن تعلم، فإن أسقط هذا الشرط عن المشتري جاز البيع (1) ومما خالف المشهور جريا على القول الضعيف صرف اليمين إلى الطلاق وتأبيد التحريم للهارب وتضمين الرعات وشهادة الابن مع أبيه والعمل بالخلطة والتحبيس على البنين دون البنات والخلع بالإنفاق على الولد بعد مدة الرضاع.
ومثال ما خالف العمل النصوص الصريحة ترك اللعان وهو مصرح به في القرآن والسنة والاعتداد بالأشهر للحائض بدل الإقراء وترك مراعاة القافة في تحديد النسب.
ومثال ما جرى العمل فيما لم يرد فيه نص كل المسائل المستحدثة كمسألة الخماس وغيرها من القضايا التي لم يرد فيها نص لا بالحلية ولا بالحرمة فيوجد له حكم بطريق القياس أو لأجل الضرورة أو تحقيق مصلحة أو درء مفسدة حتى يستطيع التشريع ملاحقة التطور.
ومثال ما جرى به العرف في قضية لم يرد فيها دليل صريح ولكن فيها شبهة؛ دليل مسألة الصفقة وأجرة الدلال، ومثال ما جرى به العمل على وفق دليل خارج المذهب شهادة اللفيف حيث هي توافق مذهب الأحناف الذي يعتبر الناس كلهم عدولًا وكذلك ترك القافة لأن الحنفية لا يقولون بها.
الدواعي والأسباب المؤدية إلى اختلاف الأعراف والعادات:
إن دواعي تغيير الأعراف كثيرة وأهم أسبابها هي: تغير الأوضاع وفساد الأخلاق وحدوث أنظمة وترتيبات جديدة تبعث على تغيير العادات،ولنوضح ذلك بمثال، فإنه بالمثال يتضح المقال، بمثال وجود الظروف التي تقتضي تغير الحكم الاجتهادي أو تأخير تنفيذه أو إسقاط أثره عن صاحبها، فمن ذلك ما رواه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو رواه عن بسر بن أرطأة، قال ابن العربي في شرحه لصحيح الترمذي: اختلف الناس في هذا الحديث على قولين، أحدهما: في رده لضعفه وحكموا بعموم القطع على كل سارق حيث كان البلاء والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم الأوزاعي لا يرون أن يقام الحد في الغزو وبحضرة العدو مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو، فإذا خرج الإمام من أرض الحرب ورجع إلى دار الإسلام أقام الحد على من أصابه، كذلك قال الأوزاعي قال ابن العربي: إنه لا يقطع يد من سرق في الغزو لأنه شريك بسهمه فيه وكذلك إن زنى لا يحد، وقال عبد الله في الذي سرق من الغنيمة ما يزيد عن ربع دينار على نصيبه قطع قاله الأوزاعي، قال ابن العربي: وهذا ما لا أعلم له أصلا في الشريعة، والحدود تقام على أهلها كان فيها ما كان ومثال هذه التقية لا تراعى في الآحاد، وإنما تراعى في العموم لما تبقى فيها من العصبية وتراقي الحال كما يقال في أحد التأويلات أن عليا إنما أخر القصاص عن قتلة عثمان طالبًا لوقت فيه الحال حتى يتمكن منهم دون عصبية. (2)
__________
(1) رواه النسائي والترمذي وصححه عن جابر، نيل الأوطار: 5 / 151
(2) صحيح الترمذي بشرح ابن العربي: 6 /231، 232.(5/2569)
وقد اعتبر جماعة الظرف وهو خشية أن يترتب على إقامة الحد ما هو أشد وأبغض إلى الله من تعطيله وتأخيره وهو لحوق صاحبه بالأعداء حمية وغضبًا، كما قال عمر وأبو الدرداء: ونص عليه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما فلا تقام الحدود في أرض العدو وقد أتى بسر بن أرطأة برجل من الغزاة وقد سرق مجنة، فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تقطع الأيدي في الغزو)) لقطعت يدك وقد روى سعيد بن منصور أن عمر كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين أحدًا وهو غاز يقطع الدرب قافلًا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار (1) . وقد ثبت أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه منع أن يقام الحد على الوليد بن عقبة وهو أمير في الغزو، وقال: أتحدون أميركم وقد دونوتم عدوكم فتطمعوا فيكم وإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لم يقم الحد على أبي محجن وقد شرب الخمر يوم القادسية قال ابن القيم: وليس في هذا ما يخالف نصًّا ولا قياسًا ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعًا ويدخل في هذا الباب ما فعله عمر رضي الله عنه حيث لم يعط المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة وحين أسقط الحد عمن سرق في عام المجاعة (2) .
أما فساد الزمان فالمقصود به فساد أهله وانحطاط أخلاقهم وانعدام الورع وضعف التقوى مما يؤدي إلى تغير الأحكام تبعًا لتغير الناس وفسادهم ومنعًا للفساد وسد الذرائع، وقد أصبح في استشارة عرفا يقتضي تغيير الحكم لأجله وقد حدث في عهد الصحابة وفي عهد من بعدهم. فمن ذلك ما رواه البخاري عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه، فقال: ((عرفها سنة ثم احفظ عفاصها ووكاءها، فإن جاء أحد يخبرك فيها وإلا فاستنفقها)) ، قال: يارسول الله: فضالة الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب)) ، قال: ضالة الإبل فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر)) .
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية: 3 /6
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم الجوزية: 3 /7- 9.(5/2570)
وفي رواية أخرى عنه: ((دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها)) (1) وقد روى مالك، عن ابن شهب أن ضوال الإبل كانت في زمن عمر إبلًا مرسلة تتناتج ولا يمسها أحد حتى جاء زمن عثمان بن عفان فأمر بمعرفتها وتعريفها، ثم تباع فإذا جاء صاحبها أعطى ثمنها وهذا على خلاف ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فعل ذلك عثمان إلا لفساد الناس وجرأتهم على تناول ضوال الإبل والاعتداء عليها، وقد فهم عثمان رضي الله عنه الغاية التي من أجلها أمر رسول الله بترك ضوال الإبل، وهو حفظها لصاحبها، فلما فسد حافظ رضي الله عنه على المقصد والمراد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان في الظاهر مخالفًا لكنه في الواقع موافق.
__________
(1) الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد في مسنده، ومالك في الموطأ، والوكاء الخيط الذي يشد به الوعاء والقصاص الوعاء الذي تكون فيه اللقطة من جلد وغيره.(5/2571)
ومما تغير الحكم فيه لتغير الزمان ما قضى به أبو حنيفة من تنفيذ من تصرفات المدين كالمصرف بالهبة والوقف وسائر وجوه التبرع ولو كانت ديونه مستغرقة أمواله كلها باعتبار أن الديون تتعلق بذمة المدين لا بأعيان أمواله التي تبقى حرة فينفذ فيها تصرفه، وهذا ما يقتضيه القياس والقواعد، ولكن لما فسد الناس وخربت ذممهم وكثر طمعهم وقل ورعهم، وصاروا يعمدون إلى تهريب أموالهم من وجه الدائنين عن طريق وقفها أو هبتها لمن يثقون به من أقربائهم وأصدقائهم أفتى المتأخرون من فقهاء المذهبين الحنفي والحنبلي بعدم نفاذ هذه التصرفات من المدين إلا فيما يزيد عن مقدار الديون التي عليه وبذلك وافقوا مذهب مالك والشافعي وقد اتفقت المذاهب بأن لا حجر قبل الحكم بتفليسه فإذا حكم بذلك وحجر عليه لم ينفذ تصرفه في شيء من ماله فإن تصرف بيع أو هبة أو وقف أو أصدق امرأة مالا له أن نحو ذلك لم يصح، وبهذا قال مالك والشافعي في قول، وقال في آخر: يقف تصرفه فإن كان فيما بقي من ماله وفاء الغرماء نفذ وإلا بطل، قال ابن قدامة: ولنا أنه محجور عليه بحكم الحاكم فلم يصح تصرف كالسفينة ولأن حقوق الغرماء تعلقت بأعيان ماله لا بذمته (1)
ومن هذا القبيل أيضًا أن الغاصب يضمن عين المغصوب إذا هلكت أو أصابها عيب ولا يضمن قيمة المنافع عند الحنفية لأن المنافع ليست متقومة في ذاتها وإنما تقوم بورود العقد عليها كعقد الإجارة وحيث لا عقد في العصب فلا ضمان لأنها لا مماثلة بينها وبين عين الغصب لبقاء الأعيان وذهاب المنفعة، وذهب الأئمة الثلاث إلى أن الغاصب يضمن أجرة المثل عن المال المغصوب وقد أفتى المتأخرون من فقهاء الحنفية بمثل ما أفتى به الأئمة الثلاث وذهبوا في ذلك فريقين: فريق يرى تضمن الغاصب أجرة المثل عن منافع المغصوب إذا كان مال وقف أو مال يتيم أو كان مالًا معدا للاستغلال أي الاستثمار، وهو وإن كان على خلاف القياس وذلك لفساد الناس وجرأتهم على الغصب (2) وفريق يرى أن تضمين منافع المغصوب مطلقًا في جميع الأموال لا في خصوص الوقف ومال اليتيم والمال المعد للاستغلال وذلك لازدياد الفساد وفقدان الوازع الديني (3) ، على أن المنافع عند غير الحنفية أموال متقومة كالأعيان ذلك أن الغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها كما قال عز الدين بن عبد السلام (4) ، والشافعية والحنابلة قالوا: تضمن منافع الأموال التي يستأجر المال من أجلها بالغصب أو التعدي سواء استوفى الغاصب المنافع أو تركها حتى ذهبت أي إنها تضمن بالتفويت أو بالفوات في يد عادية أي ضامنة معتدية (5) ، أما المالكية فقالوا: تضمن منافع الأموال من دور وأرض بالاستعمال فقط ولا تضمن في حالة الترك أي تضمن بالتفويت دون الفوات، وهذا إذا غصب ذات الشيء أما إذا غصب المنفعة فقط كأن يغلق الدار ويحبس الدابة فيضمنها بمجرد فواتها على صاحبها وإن لم يستعملها.
ومما تغير الحكم لفساد الناس طلاق الثلاث في كلمة واحدة، فقد كان طلقة واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، فلما رأى عمر فساد الناس وإكثارهم من الحلف بالطلاق وتتابعوا في ذلك واقعة لمن تلفظ به ثلاثًا في مرة واحدة رواه البخاري، وفي سنن أبي داود، عن طاوس أن رجلًا يقال له أبو الصهباء طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم، قال ابن القيم: والمقصود أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يخفف عليه أن هو هذا السنة وأنه توسعة من الله لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة، وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاعه دفعة واحة كاللعان فإنه لو قال أشهد بالله أربع شهادات أني لمن الصادقين اعتبرت مرة واحدة (6) ، وقد أخذت بعض البلدان الإسلامية اليوم بالرأي الأول في قوانين الأحوال الشخصية فلا توضع محاكمهم الطلاق الثلاث لمن تلفظ به وتوقعه واحدة وما ذلك إلا لكثرة الحلف بالطلاق وانتشار الفساد وتغير العرف.
ومما تغير الحكم فيه قضاء القاضي بعلمه فقد اتفق الحنفية على جواز أن يقضي القاضي بعلمه في واقعة شهدها بنفسه وإن ذلك يغني عن مطالبة الخصوم بالإثبات، قال ابن عابدين: القاضي يقضي بعلمه في حقوق العباد إذا علمها في بلده المخصص للقضاء فيه على قول الصاحبين والمختار اليوم أنه لا يقضي بعلمه للتهمة، وذلك استنادًا إلى ما فعله عمر رضي الله عنه، وذلك لفساد القضاة وغلبة الرشاوي وعدم اختيار القضاة بحسب الكفاءة والعفة والنزاهة، وإنما صار يوضع في هذا المنصب بحسب الشهرة والمحسوبية واستثنوا قضاءه بعلمه في أمور التعزير والطلاق والغصب فله أن يحول بين الرجل ومطلقته وأن يضع المال المغصوب عند أمين إلى حين الإثبات (7) .
__________
(1) المغني، لابن قدامة: 4 /439.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 5 /142، ط الأميرية.
(3) قواعد الأحكام لابن عبد السلام: 1 /152، وما بعدها
(4) انظر المدخل الفقهي، للزرقاء: 2 /914
(5) التفويت استيفاء المنفعة، كمطالعة الكتاب وركوب الدابة ولبس الثوب، والفوات هو ترك المنافع تضيع سدى وبدون استيفاء كإغلاق الدار دون إسكان أحد فيها، مغني المحتاج: 2 /286
(6) إعلام الموقعين عن رب العالمين: 1 /33
(7) حاشية ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار: 4 /391(5/2572)
ومما تأثرت الأحكام فيه لتغير الناس وأحوالهم ما لجأ الناس إليه اليوم نتيجة لتطور أساليب الحياة ووسائلها، من ذلك تسجيل قطع الأراضي لأصحابها بذكر أرقام القطع وأحواضها ورسم الخريطة وتحديد الحدود بالرسم العقاري الهندسي بحيث ينضبط معه الملك ضبطًا لا يخشى معه ضياع أي جزء منه ولا تلاشي حق من حقوقه، إن لتسجيل العقار فوائد كثيرة منها: أنه إذا سجل بدفتر خانة الأملاك العقارية يؤمن عليه من العوارض كالضياع ونحوه، ثانيًا بالتسجيل تتخلص ملكية العقار لمن سجل باسمه وينقطع عنه كل نزاع قديم أو ممكن الوقوع، ثالثا: تنضبط مساحة العقار ضبطا يؤمن معه الاستيلاء على أي جزء منه بسبب تحرير تحديده ومساحته وعمل المثال الهندسي الذي يقع التسجيل على طبقه، رابعًا: يؤمنه عليه من كل واضع يده بأي وجه ولا يخشى معه دعوى ما دام التسجيل باسم المالك الحقيقي، خامسًا: يضبط مساحته يعلم العاجرون مقادير ما لا يباشرونه من أملاكهم التي يستبيحها كل من يعلم حقيقتها. سادسا: حفظ جميع الحقوق المرتبة على العقار المسجل من رهن وإنزال ونحوها لمستحقيها عند عدم علمهم بانتقال الحق لهم. سابعًا: صيانة الملك المسجل للصبي والأرملة إذا مات أو فقد مورثهما، ولم يعلما بملكه، ثامنًا: حصول الثقة للمشترين والمرتهنين وغيرهم بتحقق التملك من غير تدليس. تاسعًا: تحقق أن الملك ليس مثقلًا بغير ما تضمنه الصك وبذلك يأمن أصحاب المثال في البيع والرهن وغيرهما. عاشرًا: سهولة التعامل بالملك المسجل للمالك بحيث إن حامل نسخة تسجيل ملكه يتصرف بسهولة على الوجه المأمون. الحادي عشر: توسعة طريق المعاملة بتكرر الرهون مع اختلاف الدائنين ما دامت قيمة الملك قابلة لذلك وربما ارتفع ثمن الملك المسجل عن غيره، إذ التجار والفلاحون وغيرهم يرغبون في الملك المسجل ويؤثرونه على ما ليس بمسجل لما ذكرنا ويكتفي في نقل الملكية بتغيير أسماء المالكين للقطع بالأرقام وتوقيع أصحاب الشأن والشهود خلافًا لما كان عليه الناس من قبل تحديد الحدود شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا بذكر أسماء المالكين والإشهاد على ذلك وذكر كمال عقل البائع والمشتري إلى آخر السلسلة المعروفة في العقود القديمة وعدالة الشهود وأهلية المتبايعين.
ومن هذا القبيل أن الأصل في النكاح أن ينعقد بالإيجاب والقبول ويتم بشهادة الشهود وفشوة من غير حاجة إلى تسجيل لكن لما فسد الناس وضعف الإيمان وخرجت الذمم وصار الزوج يترك الزوجة والأولاد، ولا يخشى الله فيهم أوجبت المحاكم تسجيل عقد النكاح في سجلات 0البلدية ويعطي الزوجان في ذلك وثيقة رسمية بحيث بدونها لا يعترف النكاح قانونيًّا وما هذا التغيير إلا لتغير أساليب الحياة وتغير أعراف الناس.(5/2573)
ومن هذا اكتفاء أبي حنيفة في عدالة الشهود بالعدالة الظاهرة فيما عدا الحدود والقصاص ولم ير وجوب تزكيتهم عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عدول بعضهم على بعض)) فلما رغب الفساد على الناس وقل الخير وفشا الكذب والبهتان وتجرأ الناس على شهادة الزور قال الإمامان محمد وأبو يوسف بضرورة تزكية جميع الشهود ولا يكتفي بالعدالة الظاهرة، والحق أن الخلاف بينهما خلال عصر وأوان وتغير زمان والفتوى اليوم على مذهب الإمامين ويتضح من هذه الأمثلة التي ضربنا أن الأحكام المبنية على الأعراف يمكن أن تتغير بتغير الأعراف، قال القرافي في الفروق: تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه (1) وقال أيضا: وعلى هذا القانون تراعى الفتاوي على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على السطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك من غير أهل إقليميك يستفيتك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين وسلف الماضين، ثم إن التطور العالمي في الميادين المختلفة كالتقنية العلمية والتنمية الاقتصادية وكذلك العلاقات بين الشعوب والدول ووجود المصانع الكبرى والشركات المتعددة واتساع التجارة وقيام الغرف التجارية والعلاقات المستجدة بين أصحاب العمل والعمال، كل ذلك اقتضى وضع قوانين مختلفة وتنظيمات إدارية متعددة أوجدت أوضاعًا وأشكالًا من العلاقات غيرت عادات كثيرة وأوجدت نوعًا من الأعراف العامة التي أثرت في الناس وغيرت كثيرًا من الأحكام فمن ذلك إلزام الناس جميعا بجواز السفر بحيث لا يستطيع أحد السفر إلى خارج بلاده وحدودها بدونه، ومن هذا إلزام الناس الرجال والنساء في ذلك سواء ببطاقة تعريفه وإلزام أصحاب السيارات بالبطاقة الرمادية التي تحمل رقم السيارة ونوعها ومالكها وإلزام كل سائق سيارة برخصة السياقة، ومن هذا أيضا ما صدر في هذه السنوات الأخيرة من وجوب التأمين ضد الغير أو تأمينًا شاملًا، وقد اقتضى هذا من العلماء أن يبحثوا في موضوع التأمين وهل يجوز أو لا يجوز والأصل فيه عدم الجواز لأنه أشبه ما يكون بالمغامرة والرهان، وهو ممنوع وقد جوزه بعض العلماء قياسا على عقد الموالاة أو الحراسة أو بيع الوفاء عند الحنفية اعتمادًا على العرف ونفي هؤلاء أن يكون فيه غرر أو جهالة مفضية إلى نزاع (2)
__________
(1) الفروق للقرافي: 1 /176
(2) انظر كتاب التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه، للأستاذ محمد الدسوقي نشرة المجلس الإسلامي الأعلى للشئون الإسلامية بمصر سنة 1967 في كتاب التأمين في الشريعة الإسلامية والقانون، للدكتور غريب الجمال – والتأمين، للأستاذ مصطفى الزرقاء، والتأمين البري، للبشير زهرة، دار بو سلامة للطباعة والنشر تونس(5/2574)
والتأمين حديث النشأة ظهر في القرن الرابع عشر الميلادي في إيطاليا في صورة التأمين البحري وهو نوعان تأمين تعاوني وتأمين بقسط ثابت، أما التأمين التعاوني فهو أن يتفق عدة أشخاص على أن يدفع كل منهم اشتراكًا معينًا لتعويض الأضرار التي قد تصيب أحدهم إذا تحقق خطر معين، وهو قليل التطبيق في الحياة العملية وأول من عمل به السودان على ما نعلم وتبعتها في ذلك الكويت واستصدرت قانونها المدني وبدأ العمل به في 25 فبراير سنة 1981 م، وجاء الباب الرابع منه في الكفالة والتأمين، والفصل الثاني منه وفيه ثمانٍ وثلاثين مادة تشمل حقيقة التأمين وإبرام عقده والتزامات المؤمن له والتزامات المؤمن في انتقال الحقوق والالتزامات الناشئة عن عقد التأمين وانقضاءها أما التأمين بقسط ثابت فهو أن يلتزم المؤمن له بدفع قسط محدد إلى المؤمن وهو شركة التأمين المكونة من أفراد مساهمين يتعهد بمقتضاها دفع أداء معين عند تحقق خطر معين وهذا النوع هو السائد في العالم الآن ويدفع العوض، أما إلى مستفيد معين أو إلى شخص المؤمن أو إلى ورثته فهو عقد معاوضة ملزم للطرفين والفرق بين النوعين أن الذي يتولى التأمين التعاوني ليس هيئة مستقلة عن المؤمن لهم ولا يسعى أعضاؤه إلى تحقيق ربح، وإنما يسعون إلى تخفيف الخسائر التي تلحق بعض الأعضاء، أما التأمين بالقسط الثابت فيتولاه الشركة المساهمة وتهدف إلى تحقيق الربح على حساب المشتركين المؤمن لهم وكون المؤمن له قد لا يأخذ شيئًا في غالب الأحيان لا يخرج التأمين عن كونه عقد معاوضة لأن من طبيعة العقد الاحتمالي ألا يحصل فيه أحد العاقدين على العوض أحيانًا، ولا شك في جواز التأمين التعاوني في الإسلام، لنه لا يدخل في عقود التبرعات فهو إذن من قبيل التعاون على البر لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس لتخفيف آثار المخاطر وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين أيا كان نوع الضرر ويدخل في ذلك الحوادث على الأشياء بسبب الحريق أو السرقة أو موت الحيوان أو ضد المسئولية من حوادث الطرقات أو حوادث العمل ويشمل حتى التأمين على الحياة عند بعضهم ويجوز أيضا للمؤمن له التأمين الإلزامي كالتأمين المفروض على السيارات ضد الغير كما تجوز التأمينات الاجتماعية ضد العجز والشيخوخة والمرض والتقاعد لأن كلها غايتها إعانة من تحل به مصيبة من هذه المصائب، ولا يقال كيف يكون إلزاميًّا لأنا نقول: كل من التزم شيئا من البر والمعروف لزمه.(5/2575)
أما التأمين بقسط ثابت، فقد أفتى ابن عابدين بحق التأمين البحري لضمان ما قد يهلك من البضائع المستوردة بطريق النقل البحري بالمراكب، فلا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من مال المؤمن للأسباب التالية: (1) أن هذا العقد هو التزام ما لا يلزم حيث انعدم السبب الشرعي للضمان إذ السبب الشرعي واحد من أربعة (1) (1) العدوان من قتل وهدم وإحراق ونحوها (2) تسبب الإتلاف كحفر بئر بدون ترخيص في الطريق العام (3) وضع اليد غير المؤمنة كالغصب والسرقة وبقاء البيع في يد البائع (4) والكفالة وليس المؤمن متعديا ولا متسببا في الإتلاف ولا واضع يد على المؤمن عليه وليس في التأمين مكفول معين وليس التأمين من باب تضمين الودائع، إذا كان يأخذ أجرًا على الوديعة لأن المال ليس في يد المؤمن بل في يد صاحبة وليس هو أيضا من قبيل تضمين التغرير لأن الغار لا بد أن يكون عالمًا بالخطر وأن يكون المغرور جاهلا به غير عالم، كما لا يصح اعتبار التأمين من شركة المضاربة لسببين أولها: أن الأقساط التي يدفعها المؤمن له تدخل في ملك شركة التأمين وهي مطلقة اليد تتصرف كيف شاءت وهي لا يرجع للمؤمن منها شيء أن لم يتعرض لحادث، ثانيهما: أن شرط حجة المضاربة أن يكون الربح بين صاحب المال والقائم بالعمل وأن يكون شائعًا بنسبة كربع أو ثلث ونحو ذلك.
كما أنه لا يصح اعتبار التأمين من قبيل الضمان أو الكفالة لأنه ليس واحدا من أسباب الضمان أربعة المتقدمة الذكر وعلى تقدير وجود المكفول كما في التأمين من حوادث الطرقات في السيارات فإن المكفول مجهول ولا تصح الكفالة في مجهول والخلاصة أن عقد التأمين المقسط هو من عقود الغرر أي من العقود الاحتمالية المترددة بين وجود العقود عليه وعدمه وفي الحديث ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)) ، والغرر عنصر لازم لعقد التأمين وهو غرر كثير وليس باليسير إذ من أركانه الخطر وهو حادث محتمل غير متوقف على إرادة العاقدين.
ولا يباح الغرر الكثير إلا عند الجهد والمشقة الفائقة والاضطرار، وهي الحالة التي يصل المرء فيها إلى حالة بحيث لو لم يتناول الممنوع لقرب من الهلاك ولكنه لا يهلك كما ذكر ذلك السيوطي (2) وقد تكون الحاجة عامة، وقد تكون خاصة، فالعامة ما تشتمل جميع الناس والحاجة الخاصة ما تكون خاصة بطائفة من الناس كأهل بلد أو حرفة أو مهنة، ومعنى كون الحاجة متعينة أن تسد جميع الطرق المشروعة للوصول للغرض سوى ذلك العقد الذي فيه الضرر ولو سلمنا بوجود حاجة عامة للتأمين في هذا الزمان فإن الحاجة إليه غير متعينة إذ يمكن تحقيق الهدف منه بطريق التأمين التعاوني القائم على التبرع وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس الذي يسعى إلى الربح وهي شركات التأمين فهذا يمنع في الإسلام لوجود طريق يبلغ إليه فإن لم توجد شركات الضمان التعاونية، فقد أفتى بعضهم بجواز التأمين الاضطراري الذي هو ثلث التأمين وهو ما كان لدفع ضرر الغير والذي أوجبته كثير من الحكومات الإسلامية حيث يرخص للسيارة تسير في الطريق من غير تأمين الثلث وبعض العلماء مانع في ذلك لأنه عقد معاوضة على مجهول وكله غرر، والغرر ممنوع.
__________
(1) رد المختار على الدار المختار: 3 / 273
(2) الاشباه والنظائر، للسيوطي: ص 77، القاعدة الرابعة(5/2576)
ومن هذا القبيل أيضا شركات المساهمة فقد منعها بعضهم وقال بتحريمها لأنها مناقضة لعقد الوكالة أو لأنه ليست عقدا أصلًا بين شخصين أو أكثر أو لأنها لا يوجد فيها الجهد البدني من المشتركين، ولكن بعض العلماء المحدثين أباحوها نتيجة التطور التجاري ولأنها تقوم في الواقع على التراضي وهو الأصل في العقود ومن جهة أخرى فقد توفرت شروط الشركات الإسلامية فيها ولقيامها على الربح وعلى الخسارة.
ولقد حدثت أعراف كثيرة نتيجة اختلاف وسائل الحياة ووجود المصانع الكبرى واكتشاف الآلات الحديثة وما وجد من وسائل الإعلام من مجلات وجرائد وإذاعة وتلفزة وربط العالم بما نشأ من أقمار صناعية وتنوع وسائل المعيشة من اختراع آلات كهربائية واتساع المدن واجتماع السكان في عمارات كبيرة وتشابك المصالح كل هذا أنشأ تقاليد جديدة في الحياة وأعرافًا وعادات اقتضتها المصالح المرسلة من ذلك مثلًا إنشاء مؤسسات اجتماعية لحضانة أطفال الأمهات اللواتي يعملن في المصانع والإدارات وإنشاء دور الرضيع ودور الأيتام والعجزة والمتخلفين ذهنيًّا والمعاقين، وقد أصبحت الحاجة ماسة إلى ذلك لتفرق العائلات واستقلال الزوجين عن السكنى مع الحماوين، وقد أصبحت الحاجة ماسة إلى العمل بها بحيث لا يمكن الانفكاك عنها ولو فتح الباب على مصراعيه لغلب على الناس استباحة ما لم يأذن الله ولعم الفساد كل البلاد.
ومن الأمثلة على استعمال المصالح المرسلة المبنية على العرف والتي عمل بها الفقهاء وذلك للحاجة الماسة الاستماع إلى شهادة التسامح في إثبات النسب والوفاة والدخول بالزوجات والوقف والولايات وغيرها، فكل هذا اكتفي فيه بشهادة السماع مع أن الأصل في الشهادة المعاينة بالذات للمشهود له أو عليه لا بالسماع، ومن هذا أيضا قبول شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال كالجرائم التي تقع بالحمامات وكشهادة القابلة على الولادة وتعيين الولد على النزاع (1)
القوانين العرفية ومدى ما يمكن الأخذ بها في أحكام القضاء:
إن العرف يجري في المعاملات والعبادات وفي مسائل ليست متمحضة للعبادات ولا للمعاملات وغالبه في النوع الأول ومما مثل به للعبادات قراءة الأحزاب جماعة والذكر في المساجد والقراءة على القبور والأضرحة وإعادة الصلاة جماعة في مسجد له إمام راتب وتثبث الأذان لصلاة الجمعة وتعيين ليلة القدر في السابع والعشرين من شهر رمضان ورفع اليدين في الدعاء، والمسح على الوجه بالكفين بعد الدعاء، ومن النوع الثالث مما لم تتمحض مسائله لا للعبادات ولا للمعاملات، زخرفة المساجد والأضرحة.
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار: 4 / 375(5/2577)
وغالب الأعراف في المعاملات إذ هي أوفق لجريان العمل والقضاء فيها بما يقتضيه العرف ويكون في الأحوال الشخصية والعقود المالية والشؤون العقارية، فمن الأول الاعتداد بالأشهر للمطلقة طلاقا رجعيًّا، أو طلاقا بائنًا وهي مدخولا بها فقد جرى العرف بأنها لا تحل للأزواج إلا بعد مضي ثلاثة أشهر من يوم طلاقها إذا ادعت انقضاء أقرائها فيها ولا تصدق في أقل من هذه المدة، ففي العمليات العامة قال سيدي علي الزقاق في عدة النساء التي جرى بها العمل بفاس وهي ذات قرؤ في اعتداد بأشهر، ومراده أنها تنتظر تمام الأشهر الثلاثة إن كملت الأقراء قبلها احتياطيًّا لا لأنها تعتد بالأشهر حقيقة تاركة الأقراء وقال سيدي محمد بن سعيد الزمور في شرحه على ابن الحاجب الذي سماه معتمد الناجب بعد نحو ما سبق، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: عادة النساء عندنا حيضة واحدة في الشهر، وقد قلت الأديان في الذكران فكيف النسوان فلا أرى أن تمكن المرأة المطلقة من التزويج إلا بعد ثلاثة أشهر من يوم الطلاق ولا تسأل عن الطلاق كان في أول الطهر أو في آخره.. اهـ.
وقال ابن ناجي عند قول المدونة: وإذا قال للمعتدة قد راجعتك فإجابته، قد انقضت عدتي فإن مضت مدة في مثلها تنقض صدقت بغير يمين، وإلا لم تصدق إن ادعت انقضاءها في مدة لا تنقضي فيها غالبا ولا نادرًا، لم تصدق اتفاقًا وإن ادعت ما تنقضي فيها غالبًا صدقت واختلف في النادر وفي مقدار ما تحل به على اثني عشر قولًا منها:
أولًا: لا يقبل قولها في أقل من تسعين يومًا وليس منصوصا للمتقدمين ولكن جرى به العمل عند شيوخنا بتونس، ثم ذكر قول ابن العربي (1) .
والأصل أن ذوات الحيض تعتد بالأقراء بصريح القرآن، قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (2)
فإذا رأت المرأة الحيضة الثالثة فقد خرجت من عدتها، والمشهور أنها تصدق فيما يشبه إلا أن العمل جرى بعدم تصديقها في أقل من ثلاثة أشهر (3) .
__________
(1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد للسجلسماسي، ط 1 تونس: 1 /83
(2) سورة البقرة: الآية 228.
(3) انظر شرح التاودي للامية الزقاق(5/2578)
ثانيا: جرى العمل بأن الغني يشور ابنته بقدر ما أعطاه الزوج من الصداق ويضيف الأب نفس المبلغ الذي دفعه الزوج بحيث لو أعطى خميس شاورها بمائة كان ولي الزوجة أبا أو وصيًّا، فلربما بمثل المبلغ والأصل عدم إلزام المرأة وأبيها جهازًا لأن الصداق إنما كان عوضًا عن البضع ولو كان عوضًا عن الجهاز وهو مجهول لكان فاسدًا فالبضع هو الأصل وما سواه تابع وفي العلميات العامة وعند فاس ذو الغنى يشور بمثل نقد ابنته ويجبر، إن وقع الدخول أما إن طلب الزوج ذا قبل فلا يجبر الأب، وقيل للزوج تجهز إليك بالنقد أو طلق، ولا شيء عليك، قال ابن غازي في شفاء الغليل ومن فتوى شيخ شيوخنا أبو محمد عبد الله العبدوسي الذي جرى به العمل في أغنياء الحاضرة إجبار الأب أن يجهز ابنته بمثل نقدها، وهذا إنما هو إذا فاتت بالدخول، وإما أن طلب الزوج هذا قبل الابتناء فلا يجبر الأب، ويقال للزوج: إما أن ترضى بأن يجهزها لك بنقدها خاصة وإلا فطلق ولا شيء عليك وبهذا القضاء والعمل. اهـ قال ابن غازي: وبه مضى الحكم في ابنة أحمد اللمتوني محتسب فاس في عصرنا هذا (1)
وهذا لا ينفي استحباب تجهيز الأب والوصي بشيء من مال الزوجة زيادة على نقدها، لأن ذلك من صالحها ومما يرغب الناس فيه لكن لا على طريق الإلزام.
ثالثا: الخلع بالإنفاق على الولد بعد أمد إرضاع، قال خليل: وجاز شرط نفقة ولدها مدة رضاعها، ومذهب المدونة سقوط ما زاد على الحولين وهذا هو المشهور، ولكن جرى العمل بقول المغيرة المخزومي والإمام أشهب وابن الماجشون وغيرهم، وبه قال سحنون وابن حبيب واللخمي وابن يونس بأن من خالع زوجته على إنفاق ولده بعد الحولين جاء في العمليات العامة وما تحملت به من نفقة أي فوق الرضاع يلزم المطلقة.
وإن بذاك أعسرت فينفق وبالسداد يرجع المطلق، وقد نبه على هذا العمل ابن سهل وابن فتوح والمتيطي وابن مغيث والفشتالي ومن لا يحصى، فإن أعدمت الأم في خلال المدة، فإن النفقة تعود على الأب، فإن أيسرت الأم فهل يتبعها أم لا؟ المشهور من المذهب أنه يتبعها بما أنفق على السداد لا على ما أنفق من ضيق أو سعة، قاله مالك وابن القاسم وبه القضاء، وحكى أصبغ عن ابن القاسم أنه لا يتبعها بشيء وذكر هذا القاضي الفشتالي وابن سلمون ونقله عنه الحطاب في تحرير الكلام (2)
__________
(1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد للسجلسماسي:1 /31 -32
(2) شرح العمل الفاسي للسجلسماسي: 1 /69(5/2579)
رابعا: ومنها النظر للعورة فالأصل فيه المنع إلا لضرورة كعيوب الفرج، والمشهور أن المرأة تصدق في داء فرجها وفي بكارتها فيما لو ادعى الزوج أن بفرجها عيبًا أو أنه وجدها ثيبًا، وهذا قول جمهور المالكية، وخالف في ذلك سحنون وأفتى بجواز النظر معللًا ذلك بقلة أمانة النساء وبقوله: جرى العمل عند متأخري الفقهاء فللقاضي أن يمكن من يوثق بخبرتهن من القوابل أن تنظر إلى المرأة للضرورة الداعية ولا تصدق الزوجة في نفيها لما يدعيه الزوج لأنها متهمة بالدفع عن نفسها، ومثل ذلك الزوج وللمتأخرين في ذلك فتاوى متعددة متضاربة، وفي العمليات: وجاز للنسوة للفرج النظر من النساء إن دعا له ضرر، وهذا كله في الزمن الماضي، أما اليوم فقد ارتفع الإشكال بالطبيب حيث أصبح كل من الزوجين يعرض على الطبيب في كل ما يتعلق بالعيوب والأمراض.
ومنها صرف اليمين إلى الطلاق في الحلف باللازمة أو الحرام إذ صار هذا اللفظ حقيقة عرفية على الطلاق وأوجب الفقهاء فيه طلقة رجعية ولولا العرف لما لزمه شيء أو للزمه كل شيء ففي تحفة الحكام: وكل من يمينه باللازمة له الثلاث في الأصح لازمة، وقيل: بل واحدة رجعية مع جهله وعقده للنية. وقيل: بل بائنة وقيل: بل جميع الأيمان وما به عمل. وقد روى ميارة عن ابن زرب أنه أفتى بطلقة بائنة ورده ابن سهل بأن الواحدة البائنة لا تكون إلا في الحكم وقيل: إن نوى عمومًا أو خصوصا لزمه ما نواه وإن نوى مسمى عرفًا عالمًا أن منه الطلاق وهو أكثر الواقع في زماننا فطلقة واحدة وإن نوى مطلق اليمين جاهلا مسماها عرفا احتمل السقوط وكفارة يمين، وقال ابن بشير: إن قصد التعميم بثلاث وإلا فواحدة، قال القرافي في هذا اليمين: إن الفقهاء لا حظوا فيها ما غلب الحلف به في العرف وما جعل يمينًا في العادة فألزموه إياه لأنه المسمى العرفي فيقدم على المسمى اللغوي. ونقل ابن عبد السلام عن بعض المفتين أنه إذا جاء من لا يعرف مدلول هذه الكلمة قال: لا شيء عليه، قال بعضهم: وهذه الطريقة أنسب وإن نوى شيئا لزمه ما نوى وإلا لزمه طلقة والكلام في المسألة طويل وملخصه أن المشهور في المذهب هو ما في المختصر والقول بالواحدة الرجعية قال به كثير (1) ، وفي تبصرة ابن فرحون إن جرى عرف في هذه اليمين يتبادر إلى الذهن من غير قرينة عمل عليها، وإلا فما قواه أو دل عليه بساط، وإلا فلا شيء عليه، قال الحسن بن رحال: وهو كلام حسن غاية وقد تحير فيها الولوع النهاية.
__________
(1) شرح ميارة على التحفة: 1 /243 وما بعدها(5/2580)
سادسا: هدايا الخطبة، لقد اختلفت المذاهب في الهدايا التي يقدمها الخطيب لمخطوبته إذا كان ما هداه قائما في يدها ولم يوجد مانع من استرجاعه كالخاتم والساعة ونحوها، فإنه يرتجعها وإذا كانت مما تستهلك فلا ترجع، والجعفرية قالوا باستردادها مطلقا ولو هلكت فيسترد قيمتها، وكذلك الشافعية يرون حق الرجوع في الهدية مطلقا سواء أكان العادل عن الخطبة الخاطب أو المخطوبة، أما المالكية فلهم في ذلك تفصيل مرجعه إلى العرف وهو منع الخاطب من استرداد ما أهداه إلى مخطوبته إن كان العدول منه، أما إذا كان العدول عن الخطبة من جانبها فله حق استرداد ما قدمه مما هو قائم بعينه واسترداد قيمته أو مثله إن هلك ما لم يكن مما يستهلك كالحلويات ونحوها، ويرجع ذلك كله إلى العرف والى عادات الناس وما لم يكن هناك شرط، وذلك لقاعدة أن المعروف عرفا كالمشروط شرطًا فإذا كان هناك عرف عام أو خاص في هذه الهدايا حكم العرف فيها، ولقد أقامت قوانين الأحوال الشخصية أحكامها في ذلك على ما جرى به للعمل في المذهب المالكي في كثير من الأمصار.
ومنها الكفاءة في الزواج روى الدارقطني أن عمر بن الخطاب قال: لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء، ولا شك أن اعتبار الكفاءة مكمل للمقصود من الزواج إذ به تنتظم مصالح الزوجين وتأسيس القربات، وقد ذهب جماعة إلى عدم اشتراط الكفاءة في الزواج إلا في الدين منهم الإمام الكرخي من الحنفية والحسن البصري وابن حزم ومستندهم حديث: الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إنما الفضل بالتقوى، كما يشهد لذلك أيضا قوله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات: الآية 13] .
ورد ذلك بأن التساوي راجعة إلى الحقوق والواجبات، أما في غيرها مما تقام على أعراف الناس وعاداتهم فلا شك أن الناس يتفاوتون فيها ويتفاضلون في الرزق والثروة والوظائف وغيرها، وقد قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [سورة النحل: الآية 71] .
وكذلك يتفاضلون في العلم، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وما زال الناس يتفاوتون في منازلهم الاجتماعية ومراكزهم الأدبية وهو مقتضى الفطرة الإنسانية وشريعة الله لا تصادم الفطرة والأعراف والعادات التي لا تخالف أصول الدين ومبادئه، ومذهب الجمهور أن الكفاءة شرط في لزوم الزواج لا شرط صحة فيه لمجموعة من الأدلة: منها حديث الترمذي والحاكم ثلاثة لا تؤخر، الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفوءًا. ثانيًا: ما رواه الدارقطني والبيهقي عن جابر بن عبد الله: لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء، وحديث الدارقطني عن عائشة وعمر: لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء (1)
__________
(1) نقل هذه الأحاديث الشوكاني في كتابة نيل الأوطار: 6 / 127(5/2581)
قال الشافعي: أصل الكفاءة في النكاح حديث بريرة، وقد خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لم يكن زوجها كفؤا لها بعد أن تحررت، وكان زوجها عبدًا، قال الكمال بن الهمام: هذه الأحاديث الضعيفة من طرق عديدة يقوي بعضها بعضا فتصبح حجة بالتظافر والشواهد وترتفع إلى مرتبة الحسن لحصول الظن بصحة المعنى وثبوته عنه صلى الله عليه وسلم وفي هذا كفاية (1) ومن المعقول وهو أن انتظام المصالح بين الزوجين لا يكون عادة إلا إذا كان هناك تكافؤ بينهما، لأن الشريفة تأبى العيش مع الخسيس فلا بد من اعتبار الكفاءة من جانب الرجل لا من جانب المرأة، لأن الزوج لا يتأثر بعدم كفاءتها عادة وللعادة والعرف سلطان أقوى وتأثير أكبر على الزوجة، فإذا لم يكن الزوج كفؤًا لها قل أن تستمر الرابطة الزوجية وتتفكك عرى المودة بينهما، ثم إن أولياءها يأنفون من مصاهرة من لا يناسبهم في دينهم وجاههم ونسبهم وحسبهم ويعيرون به فتختل روابط المصاهرة وتضعف فلا تتحقق أهداف الزواج الاجتماعية ولا الثمرات والغايات المقصودة منه، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة وهو المعمول به في أغلب البلاد الإسلامية، وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة والراجح عند الحنابلة والمعتمد عند المالكية والأظهر عند الشافعية على أن الكفاءة شرط لزوم الزواج وليست شرطًا في صحة النجاح فللأولياء حق الاعتراض وطلب فسخه فلا يسقط بالإسقاط ومرجع الكفاءة إلى ما تعارفه الناس من الصفات معظمة أو محقرة كالحرف الشريفة وغير الشريفة والنسب الشريف من غيره ولا سيما عند من يتباهون بالأنساب كالعرب والفرس، فالكفاءة في الدين والمال والنسب والحرفة والسلامة من العيوب وكلها يحتاج في طلب سببه إلى العرف والكفاءة عند الحنفية شرط لزوم في الجملة على ما في الدر المختار، لكن المفتى به عند المتأخرين أنها شرط لصحة الزواج في بعض الحالات وهي شرط لنفاذه في بعض الحالات وشرط لزوم في حالة أخرى وتكون شرط صحة بالنسبة للبالغة العاقلة إذا زوجت نفسها من غير كفء أو بغبن فاحش وكان لها ولي غاضب لم يرض بهذا الزواج قبل العقد. الحالة الثانية: أن يزوج غير الأصل أو غير الفرع من عديم الأهلية أو ناقصها فالزواج فاسد لأن ولاية غير الأصل والفرع منوط بالمصلحة ولا مصلحة بغير الكفء الحالة الثالثة: إذا زوج الأب أو الابن أي الأصل أو الفرع بسوء الاختيار عديم الأهلية أو ناقصها من غير كفء، أو بغبن فاحش لم يصح النكاح اتفاقًا.
__________
(1) فتح القدير: 2 / 417 وما بعدها.(5/2582)
العرف والمال:
المال شرعًا هو كل ما يمكن حيازته والانتفاع به على وجه معتاد أو هو اسم لما يباح الانتفاع به حقيقية وشرعًا (1) والمنافع تدخل في المذهب الشافعي والمالكي في تعريف المال بحيث ما لا يمكن حيازته لا يعتبر مالا ولو أمكن الانتفاع به كالهواء وضوء الشمس وحرارتها، وأما ما يمكن حيازته فيعد مالا كالحيوان في الفلاة، والسمك في الماء، والطير في الهواء.
والعرف هو الذي يحدد ما هو مال شرعًا وما ليس بمال واختلاف الفقهاء في ما هو مال مما ليس بمال مرجعه إلى الاجتهاد الذي تبناه العرف وهو عند الحنفية لا يكون المال إلا إذا كان مادة وقد وقع حوزه بدليل تعريفهم له بما يمكن ادخاره لوقت الحاجة وعليه فمنافع الأعيان كسكنى الدار وركوب الدابة أو السيارة أو الطيارة ولبس الثياب لا يعد مالا لعدم إمكان إحرازها ومثله أيضًا الحقوق كحق الحضانة وحق الولاية وحق التأليف وحق الاختراع وغيرها لا يعد مالا عند الحنفية وبقية المذاهب الثلاث تعتبر المنافع أموالًا إذ ليس من الواجب في المال إمكان إحرازه بنفسه، بل يكتفي بإمكان حيازته بحيازة أصله ولا شك أن المنافع تحاز مخالفًا ومصادرها إذ من استأجر بيتًا للسكنى وحازه ذاتًا يمنع غيره من الانتفاع به ما دام في حيازته وكرائه، كذلك من استأجر سيارة وقد حازها فهي له ما دامت في حيازته وليس لغيره الانتفاع بها.
وخلاصة القول أن المال عند الجمهور غير الحنفية هو كل ما له قيمة يلزم متلفه بضمانه، والحنفية تفرق بين المال والملك فالحقوق والمنافع أملاكا وليست بمال، وعند الجمهور هي مال لأنها هي المقصودة من العيان، ولولاها لما رغب الناس فيها ونتيجة هذا الخلاف أن الإجارة مثلا تنتهي بموت المستأجر عند الحنفية ولا تنتهي عند غيرهم حتى تنتهي مدتها، وكذلك الحقوق فإنها لا تورث عند الحنفية وتورث عند غيرهم، واعتبار المنافع أموالا أوجه وأظهر مما ذهب إليه الحنفية لأنه هو الذي يجارى عرف الناس ونظرتهم للمال.
__________
(1) بدائع الصنائع للكيساني: 6 / 294(5/2583)
ثم المال منه ما هو متقوم وهو ما كان في حيازة، وجاز الانتفاع به في حال الاختيار، ومنه ما هو غير متقوم وهو بخلافه كالمال المباح الذي لا مالك له بخصوصه كالسمك في البحر، والذهب في المنجم، والطير في الهواء، والنفط تحت الأرض، فهو مال غير متقوم في نظر الشرع لعدم الحيازة، ومثل الخمر والخنزير والميتة، فإنه لا يجوز الانتفاع به في نظر الشرع ولا يلجأ إليه إلا عند الاضطرار والفرق بينهما أن المتقوم يضمن بالتلف عند التعدي عليه، لأن له قيمته ويصلح أن يكون محلا للمعاوضة ويصح أن يوهب أو يوصي به أو يوقف ويصلح أن يكون محلا للمعاوضة ويصح أن يوهب أو يوصي به أو يوقف ويصح أن يكون ثمنا ومثمنًّا وكل هذه الأمور كان تحديدها على العرف في غالب الأحكام باستثناء ما جاءت النصوص على أنه مال مباح أو أنه لا يجوز الانتفاع به، فالفراشات والحشرات والأفاعي والهوام كانت من المال التافه الغير المقوم، وقد أصبحت اليوم لها قيمة لما يستخرج منها من الأدوية ونحوها، والعرف يتغير بتغير الزمان، فما كان تافها في زمان قد يتغير العرف ويصبح مالا معتبرًا في زمان وكثيرًا من الأشياء ما لم يكن مالا مقومًّا في غابر الأزمان، وقد أصبح اليوم مالا مقومًا ترتكز عليه ثروة البلاد فالسمك في المياه الإقليمية، والطيور التي تعيش في أجوائها، والحيوانات في أراضيها وغابتها والنفط في أعماق أرضها ومناجم الفوسفات والبوتاس والأملاح والذهب والفضة ومنتوجاتها الفلاحية، وهذه كلها مما هو ملك خاص أو عام أصبحت هذه ذات قيمة ضخمة، ولهذا تعد مالا متقومًا بحيث لو اعتدى أحد عليها أو نهب منها أو أتلف شيئا من ذلك غرمه وعزر علي تعديه وهذا الحكم يسري على تحديد القيمي والمثلي في الأموال فالقيمي ما تتفاوت آحاده تفاوتًا يعتد به أو لا تتفاوت، ولكن لا نظير له في الأسواق وتشمل الحيوانات والبناءات والأشجار وعروض التجارة المختلفة الجنس والعدديات المتفاوتات وما انقطع من الأسواق فلم يعد له مثيل، أما المثلي فما لا تتفاوت آحاده تفاوتًا يعتد به وله نظير في الأسواق ويشمل المكيلات والموزونات كالحبوب والألبان والمعدودات المتقاربة كالبيض وعروض التجارة المتحدة الجنس كالثلاجات والسيارات من صنف واحد (1) وتحديد كل ذلك ومرجعه إلى العرف القائم والواقع الموجود ولو اختلف العرف فيه لاختلف ما يندرج تحته المثلي أو القيمي.
حقوق الارتفاق:
الحق عرفه الأستاذ الزرقاء بأنه اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفًا والحقوق في الإسلام هي منح ألهية تستند إلى المصادر التي تستنبط منها الأحكام الشرعية ومنشأ الحق هو الله لا حاكم غيره ولا مشرع سواه والحق مقيد بما يفيد المجتمع ويمنع الضرر عن الآخرين وهو يسلتزم واجبين: واجب عام على الناس جميعًا وهو احترام حق الشخص وعدم التعدي عليه والتعرض له.
وواجب خاص على صاحب الحق بأن يستعمل حقه من غير أن يضر بالآخرين.
وينقسم الحق إلى ثلاثة أقسام: الأول: حق ملك الشيء وحق الانتفاع كالإجارة والوقف والإعارة والوصية وحق الارتفاق وهو ملك ناقص لأن صاحبه لا يملك التصرف المطلق وكثير من حقوق الانتفاع وحق الارتفاق أخذ العرف بعين الاعتبار في استنباط الأحكام الشريعة المتعلقة بها فإباحة الإجارة، وصحة الوقف في المنقولات، وكثير من أحكامها وحق الشرب والمجرى والمسيل والمرور وغيرها بنيت معظم أحكامهما على العرف وحق الارتفاق هو حق مقرر على عقار المنفعة عقار آخر مملوك للغير وهو حق دائم يبقى ما بقي العقار دون نظر إلى المالك ويدخل في ذلك حق الشرب وحق المجرى وحق المسيل وحق المرور وحق الجوار وحق العلو فحق الشرب هو النصيب المستحق من الماء لسقي الزرع والشجر أو نوبة الانتفاع بالماء لمدة معينة لسقي الأرض ويلحق به حق الشفعة وهو حق شرب الإنسان والدواب والاستعمال المنزلي، والماء بالنسبة لهذا الحق أربعة أنواع: (1) ماء الأنهاء العامة، فلكل واحد الحق في الانتفاع به لنفسه ودوابه وأراضيه بشرط عدم الإضرار بالغير لقوله عليه السلام: ((الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)) وحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) (2) وماء الجداول والأنهار الخاصة المملوكة لشخص، فلكل إنسان حق الشفعة منه لنفسه ودوابه، وليس لغير مالكه سقي أرضه إلا بإذن مالكه، (3) ماء العيون والآبار والحياض المملوكة لشخص وفيها حق الشفعة دون حق الشرب، فإن منعهم صاحبه أجبر على تمكينهم من الشفعة، (4) الماء المحرز في أوان خاصة كالجرار والصهاريج لا يثبت لأحد حق الانتفاع به بأي وجه من الوجوه إلا برضا صاحبه ولا يستحقه إلا المضطر الذي يخشى على نفسه وعليه دفع قيمته لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير (2) .
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين: 4 /155
(2) البدائع: 6 / 188 وما بعدها؛ تكملة فتح القدير: 8 /144، القوانين الفقهية، لابن جزي: ص 344؛ نهاية المحتاج: 4 /255؛ المغني لابن قدامة: 5 /531(5/2584)
والعرف في كل هذا هو الذي يوضح هذه الحقوق ويحددها ويرتب عليها ضمان التلف ثالثًا: حق المجرى ويراد به حق إجراء الماء من أرض إلى أرض أخرى لسقيها فليس لصاحب الأرض منع مرور الماء من هذا المجرى أو نقله لمكان آخر إلا برضا صاحب الحق وتعتمد أحكام حق المجرى على العرف في بيان الضرر الذي يصيب صاحب الأرض بسبب نزع جانبي المجرى وبيان مقدار التلف إذا أصيب به الزرع أو الأرض بسبب هذا النزح ويستتبع حق المجرى حق مرور الانتفاع لإصلاحه وكريه وإزالة ما يعوق سير الماء فيه، فالعرف في كل ذلك هو الذي يحدد مقدار المرور والحدود التي يمر منها، وقد جرى العرف على منع صاحب المجرى من الزراعة على ما فيه لصالحه وحق السيل وهو مجرى على سطح الأرض أو أنابيب تنشأ لتصريف المياه الزائدة على الحاجة حتى تصل إلى مصرف عام أو مستودع مياه كمصاريف الأراضي السقوية أو مياه الأمطار أو المياه المستعملة في المنازل والفرق بين المسيل والمجرى أن المجرى لقلب المياه الصالحة للأرض والمسيل لصرف المياه غير الصالحة عن الأراضي أو الدور والحكم فيها واحد وليس لأحد منعه، وقد كنا ضربنا مثالًا لذلك وقع بتونس. وحق المرور وهو حق صاحب عقار داخلي بالوصول إلى عقاره من طريق يمر فيه أكان عاما أم كان خاصًّا مملوكًا للغير والأول حق لكل الناس والثاني خاص حق لأهل أصحاب المكان من المرور فيه وفتح الأبواب والنوافذ عليه حسب ما يقتضيه العرف والعادة، وحق الجوار وهو نوعان علوي وجانبي وللأول حق التعلي على صاحب الأسفل، أي حق القرار على الطبقة السفلى وهو حق ثابت لازم لصاحب العلو ولا يزول بهدم العقار كله أو انهدام الأسفل وله ولورثته إعادة بنائه حين يريد وليس لأحدهما أن يتصرف بما يضر بصاحبه وإذا انهدم الأسفل وجب على صاحبه إعادة بنائه، فإن امتنع أجبر قضاء، فإن رفض كان لصاحب العلو البناء ويرجع على الآخر بالنفقات إذا فعل ذلك بإذن من الحاكم أو إذن صاحب الأسفل، فإن فعل بغير إذن رجع بقيمة البناء وقت تمامه لا بما أنفق وكل ما يتعلق بحل النوافذ والأبواب وأنواع التصرف مرجعه إلى العرف وما يعده العرف ضررًا مما لا يعد عرفا من الضرر، وحق الجار ينشأ من ملاحقة الحدود في الأرض والدار والطريق ونحوها، وقد جاء في القرآن المر بالإحسان إلى الجار، قال تعالى {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 36.(5/2585)
وفى الحديث: ((ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) وقال أيضًا ((لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره بوائقه)) ، وقال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) فللجار على جارة حقوق أخلاقية كثيرة كأمانته ونصرته في الحق وإقراضه وعيادته إذا مرض وإعارته الماعون، وله حقوق تتعلق بجوار الحدود فلا يضر به ضررًا فاحشًا كبناء جدار يحجب الضوء عنه ويمنع عنه الهواء أو يسد عليه النوافذ أو يحدث مصنعًا مزعجًا بآلاته وسط المنازل أو يهدم السور الذي بينهما. وقد ذهب أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأحمد إلى عدم تقيد المالك في انتفاعه بملكه لأجل مصلحة جاره لأن مقتضى الملك التام أن ينتفع المالك بملكه على الوجه الذي يريده وخالفهم مالك رحمه الله ومعه متأخرو الحنفية، فمنعوا الجار أن يتصرف في ملكه تصرفا يضر بجاره ضررا فاحشا، والمعتمد في ذلك حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) ولأن ما تعارف عليه الناس هو عدم تجاوز الملك المعتاد في التصرف وتحديد الضرر الفاحش من غير الفاحش مبناه عرف الناس، وإنا لندرك مما مر أن هذه الحقوق كلها تعتمد في الكثير من أحكامها على العرف أكان خاصًّا أو عامًا، قوليًّا أو فعليًّا، كما ندرك أن الشريعة الغراء اعتنت بمعتاد الناس فيما لا يخالف مقاصد الشريعة ويحقق المصالح ويدرأ المفاسد ويجلب التيسير ويرفع الحرج.
العقود التي بني الجواز عليها فيها على العرف: كثير من العقود شرعت على خلاف القياس وذلك دفعا للحرج وتسهيلا على الناس في معاشهم ومعاملاتهم، وقد سماها بعضهم ببيوع الاستحسان وهي العقود التي أبيحت للضرورة لتعارف الناس بها في معاملاتهم السلم والاستصناع وبيع الوفاء وعقد الإجارة والمزارعة والمساقاة، فبيع السلم الذي يتضمن تعجيل أحد الثمنين وتأجيل الآخر وهو عقد على خلاف القياس إذ هو بيع ما ليس عنده، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده ورخص في السلم لما وجد الناس يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث فقال: ((من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) ، وقد بني الجواز على ما تعارفه الناس وأحكام السلم التي استنبطها المجتهدون بني كثير منها على العرف، وقد اختلف في ألفاظه وفي شروطه وفي ضوابط ما يجوز السلم فيه وما لا يجوز مما يطول الكلام عليه.(5/2586)
وكذلك الاستصناع وهو عقد على المبيع في الذمة مطلوب عمله وهو عقد على معدم وعلى ما ليس عند الإنسان، فالقياس منعه ولكن الحاجة دعت إليه وقد تعارفه الناس وجرى عليه التعامل فنزل ما يستصنع منزلة الموجود لحاجة الناس إليه وهو في الواقع فيه معنى عقدي السلم والإجارة لأن السلم عقد على مبيع في الذمة وعلى استئجار للصناع وشراطهم العمل وما اشتمل على عقدين جائزين كان جائزًا، نص على ذلك الكاساني في بدائع الصنائع وما جرى به العرف في الاستصناع جاز وما لم يجرِ العرف فيه لم يجز، ويصح الاستصناع عند المالكية والشافعية والحنابلة على أساس عقد السلم وعرف الناس ويشترط فيه ما يشترط في السلم، ومن شروطه تسليم جميع الثمن في مجلس العقد ومن شروطه بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته لأنه مبيع ولا بد من أن يكون معلومًا والعلم يحصل بذلك، وأن يكون مما جرى فيه التعامل بين الناس كالأواني والأمتعة والأحذية والفرق بين الاستصناع والسلم أن الاستصناع وإن كان كالسلم في كونه بيع المعدوم للحاجة والتعامل بين الناس فإن هناك فرقًا منها أن المبيع في السلم دين تحملته الذمة من مكيل أو موزون أو معدود متقارب، أما البيع في الاستصناع فهو عين لا دين كاستصناع حذاء أو خياطة ثوب، ثانيا: عقد السلم لازم وعقد الاستصناع غير لازم، ثالثًا: من شرط السلم الأجل وليس كذلك الاستصناع عند أبي حنيفة، رابعا: يشترط في السلم قبض رأس مال السلم في مجلس العقد ولا يشترط قبضه في الاستصناع.
وبيع الوفاء ويختص بالعقار دون المنقول وهو من باب بيع وشرط وهو بيع المحتاج إلى النقود على أنه متى وفَّى بالعين استعاد العقار، ولقد تردد هذا العقد بين البيع والرهن وهو ممنوع عند المالكية لأنه من بيع الشيء المنهي عنه، ورأت الشافعية أن يصح العقد والشرط إن كان فيه مصلحة لأحد العاقدين كالخيار والأجل والرهن والكفالة ويبطل البيع إن كان الشرط منافيًا مقتضى العقد مثل أن لا يبيع المبيع ولا يهبه، وهذا لما ذهب إليه المالكية وذهبت الحنابلة إلى أنه لا يبطل البيع بشرط واحد فيه منفعة لأحد المتعاقدين ويبطل بشرطين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يحل سلف ولا بيع ولا شرطان في بيع ولا بيع ما ليس عندك)) رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وبناء على هذا أجمع العلماء على أنه لا يجوز اشتراط مع أحد المتعاقدين إذا عزم مشترط عليه فإن أسقط الشرط جاز البيع عند المالكية وامتنع عند الجمهور. وأجاز الحنفية بيع الوفاء قالوا: نلجأ إلى هذا النوع من البيع هروبًا من الربا واضطرارهم إلى الاستدانة وإحجام أصحاب الأموال عن الاقتراض الحسن فتعاملوا بذلك على نفع الدائن عن طريق لا ربا فيه، قال النسفي اتفق مشائخ زماننا (يعني فقهاء سمرقند في القرنين الخامس والسادس) ، على صحته بيعًا على ما كان عليه بعض السلف فجعلوه بيعًا جائرًا مفيدا بعض أحكامه وهو الانتفاع به، دون البعض، وهو البيع لحاجة الناس إليه وتعاملهم به فكل قاعدة قد تترك بالتعامل. وفي شرح الأشباه أن ما ثبت به عرف عام لا خاص فيكون هذا العرف مخصصًا لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، قال ابن عابدين في الدر المختار: إنه بيع يفيد الانتفاع به وعليه الفتوى، وقال جامع الفصولين: بيع الوفاء رهن في الحقيقة لا يملكه ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه وهو ضامن لما أكل من تمره، وأتلف من شجره واختار الزيلعي أن بيع الوفاء هو عقد قائم بنفسه له أحكام خاصة به للعرف وحاجة الناس (1) .
__________
(1) رد المحتار على الدار المختار: 4 / 257، جامع الفصولين والزيلعي على الكنز: 5 / 138(5/2587)
وقد قال ابن نجيم: إن بيع الوفاء صحيح لحاجة صحيح لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا فأهل بلخ اعتادوا الدين والإجارة وهي لا تصح في الكرام وأهل بخارى اعتادوا الإجارة الطويلة ولا يمكن في الأشجار، فاضضروا إلى بيعها وفاء وما ضاف على الناس أمر إلا واتسع حكمه وخلاصة القول؛ الحنفية أباحوا بيع الوفاء استنادًا إلى العرف العام الذي يقع به تخصيص النصوص الظنية ويقيد المطلقات.
عقود الانتفاع:
ومنها الإجارة وهي في الأصل لا تصح لأنها تمليك منفعة معدومة في العقد على المعدم منهي عنه، ولكن الشارع أجازها استحسانًا مبنيًّا على العرف لحاجة الناس إليها وقد تعارفوا العمل بها وقد أجيزت بالكتاب بقوله تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) .
وبالسنة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه)) ، رواهما البخاري، وانعقد الإجماع على جوازها، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يؤاجرون ويستأجرون وعرفهم قائم على ذلك فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اشترطوا فيها شروطًا وهي أن تكون المنفعة معلومة وكذلك الأجرة علمًا مزيلًا للجهالة الفاحشة قطعًا للمنازعة وأن تكون المنعة مما جرى العرف بمثلها فإذا كانت دابة مثلا لم يجز له أن يضر بها كأن يسير بها سيرًا حثيثًا عنيفًا، وإذا كانت دارًا لم يجز أن يباشر فيها أعمالًا توهن بناءها والمرجع في ذلك كله للعرف في الاستعمال لقاعدة المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.
ومنها المزراعة وهي عقد على الزرع ببعض الخارج بين المالك والمزارع وكذلك المساقاة وهما عقدان لم يجزها أبو حنيفة وأجاز الشافعية المساقاة والمزارعة تبعًا للمساقاة وأجازهما مالك بشروط منها: المساواة بين المالك والعامل في الربح وأجازهما الحنابلة والصاحبان لأبي حنيفة وعلى هذا ينفسخ العقد بموت صاحب الأرض أو العامل المزارع أو المساقي سواء قبل العمل والزراعة أو بعدها وسواء أكان الزرع أو الثمر قد آن حصاده وجنيه أم لا، ولكن إذا مات صاحب الأرض قبل نضج الزرع تترك الأرض بيد المزارع إلى الحصاد مراعاة لمصلحة الطرفين وإذا مات العامل فلورثته المضي في العمل إلى الحصاد، وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على نصف ما يخرج من تمر وزرع وأدنى درجات فعله عليه الصلاة والسلام الجواز وهي شريعة متوارثة لتعامل السلف والخلف على ذلك من غير إنكار أما أبو حنيفة فيرى فسادها ويستدل بما رواه رافع بن خديج، قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا نهانا إذا كان لأحدنا أرض أن نعطيها ببعض الخارج ثلثه أو نصفه، وقال عليه السلام: ((من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أخاه)) والفتوى على قول صاحبيه لحاجة الناس ولكن السلف تعاملوا بهما فصارت شريعة متوارثة وقضية متعارفة وفي الهداية بعد أن رد على من يجيز المزارعة، قال: والفتوى على قولهما لحاجة الناس إليها ولظهور تعامل الأئمة بها والقياس يترك بالتعامل بها في الاستصناع (2) .
__________
(1) سورة الطلاق: الآية 6.
(2) الهداية للمرغياني: 8/ 40، اللباب شرح الكتاب، للقدوري: ص 206(5/2588)
وقد بني الحكم الشرعي فيها على فعله صلى الله عليه وسلم فيخير واعتمد على تعامل الناس فيها وتعارفهم على ذلك فكانت إجازتهما بمقتضى النص الملاحظ فيه العف، ونجد في كثير من الأحكام المتعلقة بهما بأركانهما وشرائط صحتهما أو أنواع الفاسد منهما مبنية على العرف والتعامل، فمن ذلك ما نص عليه من أن كل ما كان من عمل المساقاة مما يحتاج إليه الشجر من السقي وإصلاح النهر والحفظ والتلقيح للنخل فعلى العامل لأنها من توابع المعقود عليه فيتناولها العقد، وكل ما كان من النفقة على الشجر والكرم والأرض من السماد وتقليب الأرض ونصب العرائش ونحو ذلك، فعلى صاحبها لأن العقد لم يتناوله ومبني ما يتناوله العقد لما ذكر وأنه من توابع العقد، كل ذلك مرجعه إلى ما جرى به العرف.
ومما كان مرجعه إلى العرف خيار الرؤية وخيار العيب فإن كثيرًا من الخيارات المقررة في الإسلام تعتمد على ما تعارفه الناس لا سيما التجار منهم كخيار الرؤية وخيار الشرط، وخيار العيب وخيار النقد، وخيار التعيين وخيار الكمية، وخيار كشف الحال، وحقيقة خيار الرؤية يثبت لمن اشترى شيئا ولم يره أن يفسخ العقد إذا رآه أو أن يمضيه وخيار الشرط أن يشرط الخيار لأحد المتعاقدين أو كليهما بفسخ العقد أو إمضائه إلى مدة معلومة وخيار العيب، وهو الخيار للمشتري أن يفسخ العقد أو يمضيه إذا ظهر في المبيع عيب قديم وخيار النقد هو ما إذا اتفقا على أن يؤدي المشتري الثمن في وقت كذا وإن لم يؤده فلا عقد بينهما صحَّ البيع وجاز فسخ العقد إذا لم يؤد الثمن، وخيار التعيين وهو حق المشتري في أن يأخذ أيًّا شاء من القيميات التي بين البائع أثمانها كلا على حدة وللبائع أن يبيعه ما يشاء أيضا وخيار الكمية كما لو اشترى شيئا بما في جيبه. أو محفظته من النقود دون بيان مقدارها، فإن للبائع الخيار عندما يعرف مقدارها وخيار كشف الحال ما في البيع بمكيال أو بوزن حجر لا يعرف مقداره بالوحدات الميزانية المعروفة، فإن للمشتري الخيار متى علم مقدار سعة المكيال أو وزن الحجر ويظهر هذا واضحًا في مشروعية خيار الشرط فقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط)) وإنما جاز استحسانًا ودليل جوازه أن حبان بن منفذ بن عمرو الأنصاري كان يغبن في البيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام)) ، والجواز إنما لاستحسان الضرورة ومبناه على العرف والحاجة، وقد اختلف في مدة خيار الشرط فأبو حنيفة تمسك بما ورد في النص لأن شرط الخيار يخالف مقتضى العقد الذي هو البت واللزوم، وإنما جاز مخالفته للقياس لما جاء في هذا الحديث فيقتصر على المدة المذكورة فيه وتنتفي الزيادة عليها، وقال الصاحبان بجواز الزيادة إذا سمى أحد المتعاقدين مدة معلومة، ولو لشهرين وأكثر لأن الخيار إنما شرع للتروي ليندفع الغبن، وقد تمس الحاجة إلى أكثر من ثلاثة أيام كالتأجيل في الثمن فإنه أيضًا جائز على خلاف القياس قصرت المدة أو طالت وبقبولها، قال أحمد بن حنبل واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم)) ، وقال مالك: إذا كان المبيع لا يبقى أكثر من يوم كبعض الأطعمة لا يزيد الخيار عن يوم وإن كان المبيع ثمينًا بحيث يعرف المشتري إن كانت المصلحة في أخذه أو تركه إلا في أكثر من ثلاثة أيام جاز أن يشترط أكثر لأنه شرع للحاجة وليس من يشتري دارًا، كمن يشتري الخضروات، وقال الشافعي بما قال به أبو حنيفة وأرجح الآراء عندي هو مذهب مالك لأنه هو الذي يتماشى مع ما تعارفه الناس، وتحمل النصوص المحددة بثلاثة أيام في قضية حبان على أن حاجته كانت ثلاثة أيام وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أجاز خيار الشرط إلى شهرين.(5/2589)
وكذلك خيال العيب تحديدًا يعد عيبًا، وما لا يعد عيبًا يعتمد على ما تعارفه الناس وأهل الاختصاص من التجار، وذلك أن مقتضى البيع يقتضي السلامة من العيوب وهو وصف مطلوب مقصود من المشتري ومرغوب عادة ومعلوم أن المطلوب عادة كالمشروط نصًّا وفي تفسير العيب الذي يوجب الخيار مما لا يوجبه اعتمد في ذلك على العرف بحيث إذا كان عرفًا يوجب نقصان الثمن في عادة التجار نقصًا فاحشًا يؤثر في الثمن فهو عيب وإن كان يسيرًا بحيث لا يؤثر في الثمن لا يعتبر عيبًا موجبًا، ولقد تقصى الفقهاء الأمثلة الكثيرة على ذلك معتمدين على العرف بين الناس وقد بسط القول فيها السرخسي في مبسوطه والكاساني في البدائع وكذلك كتب بقية المذاهب والقاعدة في ذلك كما قال صاحب الهداية: كل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب لأن الضرر بنقصان المالية وذلك بانتقاص القيمة والمرجع في معرفته عرف أهله (1) ، ولقد أكد الإمام أحمد بن حنبل على اعتبار العرف في بيان العيب حتى ذهب إلى أن ما يعده العرف عيبًا يعد عنده عيبًا يستوجب الخيار وإن لم تنقص به قيمة المبيع (2) ، ويستوي في ذلك العرف العام والخاص في تطبيق أحكام الخيارات في الشرط أو العيب أو غيرهما وفي خيار الرؤية يكتفي برؤية ما يفيد العلم بالمقصود عرفًا لتعذر رؤية الكل فإذا تشابهت الدور النموذجية أو عرف الدار يكتفي برؤية أحدها عرفًا أما إذا اختلفت فله أن يقف على كل بيت بخصوصه وكذلك يكتفي برؤية نموذج من معرفة أوصاف المبيع المستورد وكذلك في رؤية بعض ما لا تتفاوت أحاده كالكيلي والوزني والعدد المتقارب، ومن هذا أيضًا البيع على البرنامج والحاصل أن ما يفيد العلم بالمقصود مفوض إلى العرف.
ومما يرجع للعرف الوصية بالمنافع وهي تمليك المنفعة تمليكًا مضافًا إلى ما بعد الموت بطريق التبرع ويثبت للموصى له حق الانتفاع بالعين الموصى بمنفعتها بعد وفاة الموصي كأن يوصي بغلة بستان أو بحق سكنى، فهذه هي الوصية بالمنافع وأحكامها إنما تقام على العرف، فالعرف هو الذي يحدد الثمرة بالإطلاق على الموجود، وكذلك الغلة يحددها العرف بالإطلاق على ما يتجدد كل سنة ففي الثمرة لا تجدد وفي الوصية بالغلة يتجدد سنويًّا وفي الوصية بسكن الدار يحدد العرف جواز سكناها بنفسه أو معه عائلته وجواز إسكانها غيره بغير عوض لأن الإنسان له أن يملك مثل ما ملك لا أكثر، أما بعوض فلم يجز الشرع ذلك اعتمادًا على العرف وهو الفرق بين ملك المنفعة وملك الانتفاع، والعرف هو الذي يعين ما يجب على المنتفع من العناية بحفظ العين المنتفع بها وصيانتها من التلف والإنفاق عليها ودفع الرسوم عنها والضرائب وإن كانت شجرًا، فالعرف هو الذي يعين بما تتحقق العناية بها من سقاية وتقليم وكرب أرض، وهكذا بحسب ما جرى به العرف بين الناس وكان عليه التعامل.
__________
(1) الهداية:3 /27
(2) المغني، لابن قدامة: 4 /143.(5/2590)
ومما يرجع إلى العرف في العقوبات التعزير وهو التأديب على الذنوب التي لم تشرع فيها الحدود لقد تركت الشريعة الإسلامية أكثر الجرائم فلم تقدر لها عقوبات محددة بل تركت أمرها إلى أولي الأمر نظرًا لاختلاف الجرائم شدة وخفة بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات، وقد جاء في تعزير النساء ونشوزهن عن أزواجهن قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (1) .
فقد أمر الله بهجر الزوجة الناشز وضربها إذا لم ينفع معها الهجر ضربًا غير مؤذ وهذا الضرب والهجر مرجعه إلى العرف، وقد تكون التعازير نتيجة لاجتهادات الفقهاء والقضاة عند التضييق العملي، فقد ورد أن عليًّا جلا ونفى من البصرة إلى الكوفة أو منها إلى البصرة، وأن عمر نفى إلى البصرة وأن أبا حنيفة يرى قتل اللوطي، ويرى بعضهم حرقه بالنار ويرى بعضهم أن يلقى من أعلى مكان في المدينة (2) ، وهذه الاجتهادات وتطبيقات القضاة تعتمد على ما تعارفه الناس وعلى أحوالهم وعاداتهم وبيئاتهم ومعلوم أن موجبات التعزيز أمران: (1) المعاصي بترك الواجبات كالامتناع من الصلاة أو الفطر في رمضان أو الامتناع من أداء الزكاة أو بممارسة الفعل المحرم كالزور والغش وإتيان المرأة في حيضها أو التعامل بالربا أو اللعب بالقمار أو إزعاج الناس وإقلاق راحتهم بإلقاء القاذورات في طريقهم وإحداث أصوات مزعجة وقت راحتهم ودرء المفسدة وجلب المصلحة كتأديب الصبيان للتعدي على حقوق الناس وإجلاء أهل القاتل عن موطن إقامتهم عند حدوث جريمة قتل كل هذه الواجبات توضح جليًّا وتبين أن التعزيز موكول إلى العرف وأحوال الناس واختلافهم بحسب الزمان والمكان والبيئات.
__________
(1) سورة النساء: الآية 34.
(2) سبل السلام، للصنعاني:4 /54.(5/2591)
ولقد انبتت عقوبات قررها الولاة والقضاة لذنوب مستحدثة وقد قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وهذه كلها معتمدها العرف ومراعاة أحوال الجاني والمجني عليه ونوع الذنب المرتكب ومن هذا القبيل العزل من الوظيفة ومصادرة الأموال وهدم المواخير وإزالة آثار الجريمة وقتل الجاسوس وأخذ شطر مال مانع الزكاة عند بعضهم وسحب ترخيص جواز السياقة من سائقها لمخالفته لقوانين الطرقات وحجز رخصة الدكان من المحتكر وفرض الإقامة الجبرية والاعتقال في البيوت وأمثال هذه العقوبات ونحوها كلها اقتضتها تغير أحوال الناس واختلاف أعرافهم، ولهذا يجب أن تراعى في فرض العقوبات التعزيزية، وكلها مرجعها إلى ما يقتضيه العرف والعادة، وقد قال القرافي في فروقه: فرب تعزير في عصر يكون إكرامًا في عصر آخر ورب تعزير في بلد يكون إكرامًا في بلد آخر كقطع الطيلسان بمصر تعزير وفي الشام إكرام وكشف الرأس عند الأندلسي ليس هوانًا وبالعراق ومصر هوان (1) .
ومما يرجع فيه إلى العرف الدية وهي ما يعطى عوضًا عن النفس قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (2) .
وفي الحديث: ((وإن في النفس مائة من الإبل)) ، وانعقد الإجماع على وجوبها لصون النفس وخفض دمها من الهدر وهي تكون من الإبل مائة ومن الذهب ألف دينار ومن الفضة اثنا عشر ألف درهم أو عشرة آلاف درهم عند أبي حنيفة، وقد اختلف الفقهاء في جنس الدية هل يجب أن تكون من الإبل وحدها ولا تصح من غيرها أو كما تكون من الإبل تكون من الذهب والفضة بدلًا عن الإبل وتقدر الدية بحسب ثمن الإبل في زمن دفع الدية أو أن الذهب والفضة كالإبل أصول في جنس الدية وجميعها بدل القصاص وتظهر ثمرة الخلاف عند تسليم الدية فعلى القول الأول يصح تسليم أي شيء من الأجناس الثلاثة وليس لولي الدم أن يمتنع من ذلك، ويرى الشافعي أن له ذلك إذا أصر على تسليم الدية من الإبل، ومالك رحمه الله يرى أن الدية تؤدي من الإبل والذهب والفضة ويرى أن كل قوم يؤدون من غالب ما عندهم كما ورد في الموطأ ولا يقبل ممن عندهم الذهب إلا الذهب، وكل ذلك منشؤه عرف الناس وعاداتهم وأحوالهم في استعمال المال وعلى ما لأبي الوليد الباجي في المنتقى قال: وعندي أنه يجب أن ينظر إلى غالب استعمال الناس في البلاد فأي بلد غلب على أموال أهلها الذهب فهم أهل ذهب وأي بلد غلب على أموالهم الورق فهم أهل ورق وربما انتقلت الأموال فيجب أن تنتقل الأحكام، وقد أشار مالك إلى ذلك في قوله فمكة والمدينة اليوم أهل ذهب (3) .
__________
(1) الفروق للقرافي، الفرق 246، بين قاعدة الحدود وقاعدة التعزير وذكر عن ذلك وجوهًا عشرة.
(2) سورة النساء: الآية 92.
(3) المنتقى، لأبي الوليد الباجي: 7 /68-69.(5/2592)
وعلى ما نقلناه ندرك أن الدية إنما تكون مما تعارفه الناس وجرت به عاداتهم فالقرى تدفع الدية فيها بالإبل وفي غيرها بالذهب والفضة، ولا شك أن اليوم إنما تدفع بالعملة المستعملة في كل بلد وهو ما يقتضيه العرف والعادة والله أعلم.
ومما انبنى على العرف رد الشهادة للتهمة التي اقتضتها العادة ومن هذا الباب رد شهادة أحد الزوجين للآخر ورد شهادة الأجير لمستأجره، وقد اختلف الفقهاء في شهادة أحد الزوجين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك، والأوزاعي، والليث: لا تجوز شهادة واحد منهما للآخر، وقال الثوري: تجوز، وبه قال الشافعي ونظير شهادة أحد الزوجين شهادة الوالد للود والود للوالد، وذلك من وجوه أحدها تبسط كل واحد من الزوجين في مال صاحبه في العادة فما يثبته الزوج لزوجته بمثابة ما يثبته لنفسه كما لا فرق في مال الابن وكذلك شهادة الأجير غير جائزة استحسانًا وإن كان عدلًا.
هذا في الأجير الخاص، أما المشترك فتجوز، وقال مالك: لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره إلا أن يكون مبرزًا في العدالة وإن كان الأجير في عياله لم تجز شهادته له، وقال الثوري: شهادة الأجير جائزة إذا كان لا يجر إلى نفسه. وكذلك شهادة الخائن والخائنة وشهادة ذي العمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها على غيرهم والقانع هو التابع، وقد قرروا في ذلك قاعدة، فقالوا: كل شهادة ردت للتهمة لم تقبل أبدًا مثل شهادة الفاسق إذا ردت لفسقه، ولا شك أن التهمة تظهرها وتبرزها العادة والعرف، ولذلك قال تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [سورة البقرة: الآية 282] .
ومنها أيضًا الشهادة العرفية وهي شهادة عدد كثير من الناس لا تتوفر فيهم شروط العدالة المقررة بحيث يحصل العلم بها على وجه التواتر وتسمى شهادة اللفيف وهي على نوعين شهادة جماعة غير عدول على سبيل التواتر المفيد للعلم، وهذا خارج عن الشهادة العرفية، وقد وجد لدى الفقهاء المتقدمين، الثانية ما لا يحصل بخبرهم علم وهو الذي جرى به عمل المتأخرين وضلوا عليه لتعذر وجود العدول في كل وقت وفي كل نازلة فتضيع كثير من الحقوق واكتفوا برتبة هي دون الأولى للضرورة الداعية إلى ذلك حتى لا تهمل الحقوق، وجاء في العمليات العامة والعمل اليوم لأهل فاس على شهادة لفيف الناس.(5/2593)
كذلك تابعوا على استفصال البينات القاضي الفشتالي، قال القاضي المكناسي في الشهادات من كتاب المجالس: إن العمل الآن جرى بالحكم بشهادة غير العدول وقال في أول الكتاب ما نصه: والعمل الآن بإعادة الشهود شهادتهم عند القاضي بمحضر عدلين يسمعان منهم سواء كان المشهود عليه حين الأداء حاضرًا أو غائبا وهو المعبر عنه بالاستفصال، وقد أحدث العمل به القاضي الفشتالي المتوفى في عشرة الثمانين بعد التسعمائة، وأما قبل ذلك فلم يجر به العمل، وما جرى به العمل في استفسار الشهود مراعاة لمصلحة تحقق الشهادة لما فشا من قبح حال وحيلة. فإن مر نصف عام من الأداء ترك هذا الاستفهام لأن مضي هذه المدة مظنة نسيان الشهادة (1) ومستند العمل في هذه المسألة على الضرورة، ومنها شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح والقتل وكشاهدة النساء في المآتم والأعراس إذا لم يوجد غيرهم، وقد قال ابن أبي زيد أما إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول أقمنا أصلحهم وأقلهم فجورًا للشهادة عليهم ويلزم حلفه في القضاء لئلا تضيع المصالح، قال القرافي: ولا أظن أحدًا يخالف في هذا ولو أهدرت هذه الشهادة في الموضع الذي لا عدول فيه لما جاز للناس بيع ولا شراء ولا تم لهم عقد نكاح ولا غيرها من الأشياء التي تتوقف على الشهادة، وقد ذكر الشاطبي أن العدالة المعتبرة في كل زمان بأهله وإن اختلفوا في وجه الاتصاف بها، فإنما نقطع بأن عدالة الصحابة لا تساويها عدالة التابعين، وعدالة التابعين لا تساويها عدالة من يليهم وعدول كل زمان بحسبه، ولو لم نعتبر ذلك لم تكن إقامة ولاية تشترط فيها العدالة ولو فرض زمان انعدم منه العدول جملة ولم يكن بد من إقامة الأشبه فهو العدل في ذلك الزمان إذ ليس يجاز على قواعد الشرع تعطيل المراتب الدينية جملة لإفضاء ذلك إلى مفاسد عامة يتسع خرقها على الراقع ولا يلم شعثها، وهذا الأصل مستمد من قاعدة المصالح المرسلة (2) وشهادة اللفيف كان لا يعمل بها إلا في الأموال وكان المشهود له يحلف مع اللفيف، وبمرور الزمان لم يعد المشهود له مطالبا بأداء هذا اليمين، ثم استقر رأي الفقهاء فيما بعد إلى إسناد الأمر للقاضي يقبل هذه الشهادة بحسب ما يراه من الأحوال والظروف ولم يعد مقتصرًا على الأموال فحسب، بل أعملت شهادة اللفيف في النكاح والطلاق والرضاع والتسفيه والترشيد وغير ذلك، قال السجلماسي: وقد كان العمل باللفيف يختلف باختلاف الأماكن، ومما كان مرجعه للعرف الحكم لولي القتيل دون شاهد مع اليمين وذلك لاستغنائها بقرائن الأحوال، فإذا أثبت القتل بالبينة أو بالإقرار كان قرينة تشهد بصدق دعواه إن كان يملك مثل ما ادعاه عليهم من دراهم وغيرها من الأمتعة وهذا ما استحسنه مطرف وابن كنانة وأشهب وبه قال ابن حبيب وعليه العمل. وفي التبصرة: ويقبل قول المدعي لرجحانه بالعوائد وقرائن الأحوال أو لاتصافه بالأمانة أو غير ذلك من وجوه الترجيح والقرينة هنا كون المدعى عليهم من أهل العداء والظلم وقتلهم صاحب المال، وقد قال الفقهاء إن من عرف بالظلم والتعدي يتقلب الحكم ضده وهو مذهب يحيى بن يحيى ومستندهم في ذلك قوله تعالى {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3)
__________
(1) فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد المختصر بالعمليات الفاسية: 453 – 456
(2) تبصرة ابن فرحون: 1 /339
(3) سورة الشورى: الآية 42.(5/2594)
ومما جرى على العرف والعادة مسألة الخلطة بالأصل أن البينة على المدعي واليمين على ما أنكر إذا ثبت بين المدعي والمدعى عليه خطلة، وقد خالف فقهاء الأندلس والمغاربة مذهب مالك والمشهور من المذهب أن المدعى عليه إذا أنكر لا يمين عليه حتى تثبت الخلطة بين وبيه المدعي صرح بذلك ابن أبي زيد القيرواني، فقال: ولا يمين حتى تثبت الخلطة أو الظنة (1) ، ولكن العمل جرى بقول ابن نافع القائل لا أدري ما الخلطة ولا أراها ولا أقول بها، وأرى الأيمان واجبة للمسلمين عامة بعضهم على بعض لحديث البينة على المدعي واليمين على من أنكر، قال ابن رشد: مذهب مالك وكافة أصحابه الحكم بالخلطة وبقول ابن نافع قال الأندلسيون واستمر عليه العمل بأفريقية، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهما.
وذكر ابن عبد البر أن الأندلسيين لم يفصلوا بين الناس في توجيه اليمين، فقال: المعمول عندنا أن من عرف بمعاملة الناس مثل التجار فاليمين عليه لمن ادعى معاملته، ومن كان بخلافه مثل المرأة المستورة المحتجبة والرجل المستور المنقبض عن مداخلة المدعي وملابسته فلا يجب عليه اليمين إلا بالخلطة (2) وقد صوب التسولي رأي ابن عبد البر، فقال: إن هذا هو الصواب في هذا الزمان القليل الخير، ولقد شاهدنا غالب سفلة الناس يدعي بدعاوي على العموم بالخير والعدل مع بعده عنه وعدم مخالطة أمثاله وملابستهم وليس غرضه إلا الازدراء به وحط مرتبته حتى صار الدهلة يلقنون السفلة ذلك وربما ادعوا عليه بالتهمة بما فيه معرة كالسرقة والغصب ونحوهما لسماعهم أن يمين التهمة تتوجه مطلقًا على المشهور المعمول به فينبغي لمن راقب الله أن لا يمكنهم من تحليفه بما يدعى عليه من المعاملة في الغرض المذكور (3) .
__________
(1) شرح الزقاقية لعمر الفاسي: 2 /299
(2) حاشية الوزاني على شرح التاودي، للامية الزقاق: ص 230
(3) حاشية التسولي على شرح التاودي للامية الزقاق: 2 24، وشرح السجلسماسي: ص 490(5/2595)
وقد ذكر الوالد رحمه الله في البحث الرابع من الباب الثاني في مستند الحكم التي هي يمين أو إقرار وإبراء أو إسقاط أو التزام أو شهادة، فذكر في هذا البحث أقسام الأيمان الأربعة: يمين التهمة، ويمين القضاء ويمين الإنكار، ويمين متممة للنصاب، فذكر أن يمين التهمة تكون في الدعوى التي لا تتحقق على المدعى عليه، وتتوجه على المتهم وغيره على ما جرى به العمل بتونس على ما قاله ابن ناجي ونقله عظوم في البرنامج ونظمه صاحب العمل المطلق، فقال وبتوجه يمين التهمة، جرى القضاء من أهل أفريقية، أي مطلقًا وأنها لا تنقلب بقلب أو نكول من بها طلب، ثم نقل عن شارح العمليات قوله: وانظر هل ما ذكر من عمل أفريقية كان عامًّا عندهم حتى في التهمة التي في دعواها معرة أو خاصا بغيرها، ثم التهمة التي تلحق في دعواها معرة كالاتهام بالسرقة والغصب لا تلحق من لا تليق به ممن شهد فيه بالخير وإن التهمة في غير ذلك تلحق اليمين فيها جميع الناس برهم وفاجرهم على القول بإيجاب يمين التهمة، وهو المشهور في المذهب وبه القضاء وعليه العمل، ثم نقل عن عظوم في برنامجه في مبحث الصداق وتوجهها مشروط بشرطين: الأول ما قاله ابن ناجي أن التهمة إنما تتقرر بلفظ يقتضيها كقوله: أشك فيك أو أتهمك لقوله فيها: أخاف، الثاني ما قاله الشيخ أبو عبد الله المقري الجماعة بفاس صاحب القواعد في المسألة الثانية من القاعدة السابعة من قواعد الدعاوي والشهادات أن العدواة بين المتداعيين تمنع توجه يمين أحدهما في دعوى الآخر عليه، لنه يقصد إضراره بتوجيه اليمين عليه ونصه: إذا دفع الدعوى بعداوة المشهور أنه لا يحلف لأن الدعوة مقتضاها الإضرار بالتحليف، وقيل يحلف بطاهر الخبز ونحوه في تاسعة أعلام الرفاق للشيخ الجد رحمه الله، ثم ذكر الشيخ الوالد أن المتهم لا يحلف بما ضاع أو سرق حتى يحلف المدعي يمين الضياع أو السرقة، لقد ضاع الشيء الفلاني المدعى ضياعه وحينئذٍ يحلف المدعى عليه، هذا إذا أنكر المتهم أن يكون قد ضاع له شيء وإنما يريد أن يحرجه باليمين وبهذا كان يحكم أبو بكر بن زرب ويقول: إنها من دقيق المسائل، وقد نقله ابن فرحون في التبصرة في الباب الثامن والعشرين، وإذا نكل المتهم عن اليمين غرم بمجرد نكوله ولا يطلب المدعي بالحلف على ما ادعى هذا قول ابن الحكم وابن حبيب وهو الذي جرى به العمل، ونقل أبو عمر بن المكوى عن مالك: أن يمين التهمة لا ترد، فإن أبى المتهم ونكل عنها حبس أبدًا حتى يحلف، ذكره الونشريسي في أول نوازل الدعاوى من المعيار ولكون النكول عن يمين التعمة موجبا للغرم لم تتوجه يمين التهمة على الصغير ولا السفيه، أما الأول: فلرفع القلم عنه، وأما الثاني: فإنه لو أقر لم يلزمه ما أقر به لأنه محجور عليه في المال انظر حاشية مهدي على الزقاقية قبيل قولها كمن غاب والأقوال أربعة (1) والعلاقة بين ما جرى به العمل وبين العرف علاقة وثيقة بحيث لا يكاد يظهر فرق ملموس بينهما، إذ العمل ما هو إلا عرف في شكله المتطور وإن الفقهاء كثيرًا ما يذكرون العرف مصاحبًا للعمل ومرادفًا له.
__________
(1) الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية، للشيخ محمد العزيز جعيط: ص 86- 88(5/2596)
العرف الدولي:
لم يقتصر العرف في الاعتماد عليه وفي كونه مرجعًا يرجع إليه في الأحكام بين الأفراد والأشخاص، بل لعب دورًا كثيرًا من المجتمعات والدول، فقد كان العرف الدولي مصدرا أساسيًا من مصادر القانون الذي أثار إشكالات عديدة وقضايا كثيرة لم يكن لها أصل مدون في القانون ولا إجراءات مسطورة متبعة، وإنما كان المرجع في هذه القضايا السلوك المتبع والمنهج المطرد في مدة مديدة من الزمن أضفت على هذا السلوك اعتقادًا راسخًا جازمًا وفكرة قاطعة جعلت هذا السلوك قاعدة قانونية لعب هذا العرف في ظهور القانون الدولي دورًا كبيرا حتى أن المؤسسات الدولية المعروفة اليوم كانت في أول عهدها وبداية إنشائها مبادئ عرفية جرى عليها سلوك المعاملة بين الدول كقانون المعاهدات وقانون التجار والعلاقات الدبلوماسية، ثم لما تكاثر عدد الدول بعد المنخرطة أثر الحرب العالمية الثانية وتنوع انتماؤها الحضاري، واختلف منهجها السياسي أصبحت هذه الأعراف الدولية محل جدل وأخذ ورد ونقد خصوصًا من طرف الدول الاشتراكية ودول العالم الثالث، فظهرت المعاهدات وأمضيت الاتفاقات وتقلص دور الأعراف بهذه المعاهدات الممضاة والمحاورات والاتفاقات المدونات، لكن رغم كل هذا فما زال العرف يشكل أصلًا أساسيًّا من أصول القانون الدولي المعاصر، ولقد نصت المادة الثانية والثلاثين من اللائحة الأساسية لمحكمة العدل الدولي على العرف كأساس من الأسس الأصلية والاعتماد عليه يشهد لذلك عدم التفاضل بين العرف والمعاهدة من حيث اندراج القواعد القانونية إذ هما يشكلان مصدرين متساويين لا تفاضل بينهما بحيث يمكن لكل منهما أن ينسخ صاحبه، فيمكن للعرف أن ينسخ أصلًا مدونا ومعاهدة ممضاة بين دولتين، كما يمكن للمعاهدة أن تنسخ عرفا جرى بين الأمم.
وللعرف الدولي نزعتان مختلفتان جعل سلطة العرف إلزامية حسب إرادة الدول فهو إذن ملزم لأن الدول قررت ذلك بموجب اتفاق ضمني بينهما حول إلزاميته، لكن متى شاءت إحدى الدول أن تتحرر من هذا الالتزام كان لها ذلك حسبما تقتضيه نظرية الإرادة.
النزعة الثانية نزعة موضوعية ترجع إلزامية العرف إلى ذات القاعدة، فالعرف إذن قاعدة موضوعية لا تتوقف على إرادة الدول إذ هو ناشئ عن ضرورة الحياة المدنية منبعث من الحياة الاجتماعية وهي ضرورة منطقية.(5/2597)
وتتكون هذه القاعدة العرفية من عنصرين عنصر مادي وآخر معنوي فالعنصر المادي هو سلوك طريق واتباع منهج على نمط معين وتكرر ذلك بطريقة يجعل أهل الاختصاص في القانون الدولي يعتدون بهذا السلوك ويعتمدون على هذه الطريقة المتبعة المتكررة الملتزمة المتواصلة فيجعلونها قاعدة ملزمة، ولا ينحصر ذلك السلوك في عدد معين من التكرار أو في مدة مديدة من الزمن، فقد استقر فقه القضاء الدولي وخصوصا قضاء محكمة العدل الدولي على عدم اشتراط مرور مدة معينة أثر بروز هذا السلوك أو تلك الطريقة ليصبح عرفًا ملزمًا، بل إن المحكمة أقرت أن مرور مدة ولو قصيرة على مرور سلوك ما لا يشكل حاجزًا في اعتباره عرفا ملزما، نعم شرط اعتباره أن تتبعه الدول في هذه المدة ولا يحيد عنه خصوصًا الدول المعنية أكثر من غيرها، فلو اتبعت الدول السياحية في ميدان قانون البحار منهجا من المناهج ولازمته، ولم تتخلف عنه وتابعته بصفة منتظمة وطريقة متبعة متواترة أصبح عرفًا ملزمًا إذ نتج عن هذه المتابعة المنظمة قاعدة عرفية تعتمد عليها المحكمة وتبني على مقتضاها أحكامها، ولو لم يبلغ ذلك العمل المنظم إلى إجماع الدول عليه، هذا هو العنصر المادي أما العنصر المعنوي فهو الذي يرتقي بهذا المنهج والطريق المنتظم المتكرر إلى درجة العرف الملزم، وهذا الشعور الراسخ والاعتقاد الجازم، بأن هذا المسلك السائر والمنهج المتبع صار قاعدة شرعية ملزمة ينبني على مخالفة دولة من الدول له جزاء قانوني وبهذا الشعور يظهر الفرق بين ما كان عادة دولية وما كان عرفا دوليًّا فالعادة تشكل مجرد سلوك اجتماعي والعرف الدولي يشكل قاعدة شرعية إلزامية بين الدول، فمراسم استقبال رؤساء الدول أثناء الزيارات الرسمية كعزف النشيد الوطني للدولتين وتحية الشخصيات من طرف الجيش الوطني واستقباله للشخصيات الرسمية له وحضورهم بالمطار لاستقباله والسلام عليه، هذا مما جرت به العادة بين الدول، ولكن لا يترتب على مخالفته عقاب ولا عتاب ولو تقدمت إحدى الدول بقضية في ذلك لما قبل دعواها في حين أن مبدأ حرية الملاحة في المنطقة الدولية الذي صار عرفًا دوليًّا ينشأ عن مخالفته وعدم احترامه جزاء على ذلك ومطالبة بجبر الضرر والقانون الدولي وإن أخذ طريق التطور وقننت قواعده وأصوله، فما زال العرف يحتل الدور الرئيسي ويشكل المصدر القانوني الدولي الحديث، وقد شهد هذا العرف في بعض المجالات تطورًا مشهودًا، مثل قانون الفضاء وغيره.
***(5/2598)
خاتمة
إن من ألقى نظرة خاطفة على التشريع الإسلامي يلمس صلاحيته لكل زمان ومكان بما فيه من مرونة تكسبه تطورًا ونماء مدى الزمان من بداية عصر الرسالة والعصور اللاحقة له من عصر الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وإننا لنلاحظ البون الشاسع بين ما كان عليه التشريع في العصر الأول والحالات اتي استقر عليها بعد ذلك وما ذلك إلا لاختلاف الحياة التي كان يحياها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابه معه والحياة التي عاشها المسلمون من بعد، وقد امتدت رقعة الإسلام وشملها حكمه وامتد إليها سلطانه، فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم في شبه الجزيرة العربية، وكان المسلمون في ذلك الزمان قلة ولم تختلف عاداتهم وأعرفهم وتقاليدهم إلا ما كان من اختلاف يسير بين مكة والمدينة وقد لاحظه التشريع فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل بيئة ما يناسبها من الأحكام، فلم يكن أهل مكة يتعاملون بعقد السلم في حين أن أهل المدينة كما رواه الشيخان يتعاملون به، فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المعاملة مراعيًّا في ذلك عرفهم وعاداتهم وينتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وتفتح بلاد الروم وفارس ومصر وأفريقية وتظهر عادات وتقاليد جديدة وقوانين متنوعة قد كان لها أثر وأي أثر في اختلاف الرأي واختلاف التفكير والنظر، وقد طرأت حوادث ونوازل لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحتاج إلى تشريعات وأحكام وكان الحكام والمفتون مدعوين إلى استنباط أحكامها وإبراز تشريعاتها بما يوافق عادات الناس وأعرافهم التي تختلف باختلاف الأقليم والجهات بما يوافق مقاصد الشريعة ولا ينقاض أصولها وقواعدها، ذلك أن الشريعة الإسلامية كاملة عامة لكل أمور الدين والدنيا من عبادة ومعاملة وقد أصلت كل الأصول وقررت كل المقاصد وأوضحت كل المبادئ وتركت التفاصيل والجزئيات للقائمين على تنفيذ هذه الشريعة ويستلهمون من روحها ويستنبطون من قواعدها وأصولها ما ليس في نصوصها، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى ولهذه الحقيقة حين قال صلى الله عليه وسلم للصحابة: ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)) وفي قوله هذا إذن في الاجتهاد فيما يتصل بشئون الحياة والمعاملات التي تتجدد وتتكاثر وتتغير بحسب الزمان والمكان والتقدم والحضارة، لذا نرى الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم لم يقفوا من القضايا التي نزلت والأحداث التي حلت موقف العاجز المضطرب، بل اجتهدوا رأيهم وأعملوا فكرهم وأعطوا حكم كل قضية نزلت وحكم كل مسألة حلت من الحوادث والنوازل التي طرأت انطلاقًا من النصوص والقواعد والمقاصد.(5/2599)
وهذا هو المنهج الذي اتخذه فقهاء الإسلام من بعد، فهم ينظرون إلى النصوص بعقل مفتح ويتبعون عمل الصحابة أولا، وما أصله المجتهدون ثانيًا، وبذلك برهنوا على أن هذه الشريعة المحمدية بما تحتوي عليه من مبادئ وأصول وقواعد وحكم قابلة للتطبيق في كل عصر وفي كل مصر مستوعبة لكل ما يجدها ضامة لكل ما يحدث بما اشتملت عليه من مراعاة المصالح ودرء المفاسد فكانت بذلك صالحة لعلاج كل مشاكل الزمان وما يحل من الحوادث في كل آن بحيث لا يحتاج العالم الإسلامي إلى تحكيم القوانين الأجنبية وما سطرته وقررته القوانين الغربية، ولا شك أن من بين القواعد العامة التي انبت عليها الأحكام في القديم والحديث العرف الذي يتفق مع ملابسات الناس ومقتضيات الزمان ويمد الفقهاء والعلماء بالأحكام المناسبة لعصرهم والملائمة لمقاصد الناس وتصرفاتهم حسب ما تقتضيه الشريعة، وإن ما ذكرنا عن العرف هو دراسة توضح مدلوله وتبين قواعده وأصوله شاملة أن شاء الله لأنواعه وشروطه ومدى طموحيته في استنباط الأحكام والاعتداد به وحجيته والعلاقة بينه وبين غيره من المصادر ومنزلته بينها بالنظر إلى الاستنباط والتطبيق ومعارضته للنصوص وموافقته لها وفي سبيل هذه الحقيقة بينا حقيقة العرف لغة واصطلاحًا بطريقة توضح العلاقة بينه وبين العادة وبين ما جرى به العمل، وقد أشرنا إلى الأدلة الشرعية التي تثبت حجيته من الكتاب والسنة وفعل الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وأخذ كل الأئمة به والاعتماد عليه وحتى إذا ما كان هناك خلاف بين الأئمة، فليس في أصل اعتباره وإنما هو في مدى اعتباره توسعًا وتضييقًا، وقد بينا سلطان العرف في العهود القديمة وارتكاز القوانين عليه من عهد الرومان، ثم أوضحنا بناء القوانين الفرنسية عليه وما طرأ في ذلك من تغير، وأوضحنا نظر الشرع إليه من لدن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين في كل عصر ومصر وهو مازال معتبرا إلى الآن إذ هو منار للباحثين واستخراج الأحكام واستنباطها من أصولها وقواعدها، وقد قسمناه إلى عام وخاص باعتبار شموله ونصوصه وإلى ما كان يرجع إلى العرف القولي والعرف الفعلي العملي وإلى ما يوافق النصوص وإلى ما يعارضها وإلى ما يخالفها، وإلى ما يصلح أن يكون مخصصا للعام، ومقيدا للمطلق وإلى ما يجب إلغاؤه وما يجب اعتباره باعتبار ما يكون مناقضًا لما جاءت به الشريعة الإسلامية من أصول ومبادئ وما لا يكون مناقضا لذلك وكون الأول فاسدا يجب إلغاؤه، وكون الثاني صحيحا يجب اعتماده واعتباره، ثم فرقنا بين العرف وبين العادة وأوضحنا ذلك بما يكون للعرف من قوة الإلزام والنفوذ والاعتبار وأنه لا يكون بهذه المثابة إلا إذا توفرت فيه شروط بها يكون اعتباره وهي اطراده وغلبته وعدم مخالفته للنصوص والمقاصد وأثبتنا مظاهر عمومه في الحياة من حيث الدين والأخلاق والتجارة والمعاملات وأن الإسلام أقر ما هو صالح وعدل ما هو قابل للتعديل وأبطل ما كان فاسدًا، ثم أوضحنا أن العرف كالعلة في بناء الأحكام عليه وأن الحكم يدور معه وجودا وعدما حيث إن العادات تتغير وتتبدل وإن الأحكام تتغير بتغيرها وأوضحنا أن مرجع العرف إلى المصلحة وحيث كان راجعًا إليها كان في مرتبتها وليس بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا المصلحة ودرء المفسدة ولما تعرضنا لعلاقة العرف بالعمل تعرضنا بإسهاب إلى التعريف بعمل أهل المدينة ودليل حجيته ونظرة الفقهاء إليه ونبهنا إلى ما قصد إليه مالك من عمل أهل المدينة وقسمنا هذا العمل إلى درجات مختلفة.(5/2600)
ونقلنا في ذلك كلام المحققين لعمل المدينة، كما نبهنا إلى أن عمل أهل المدينة قد أخذ به قبل مالك الصحابة والتابعون وتابعوهم وأوضحنا الفرق بين عمل أهل المدينة وبين ما جرى به العمل في الأمصار وأن بينهما عمومًا وخصوصًا، ثم أشرنا إلى أن العلاقة بين العرف والعمل وثيقة جدا بحيث لا يكاد يظهر أي فرق وأن العمل ما هو إلا عرف في شكل متطور وأن العرف هو السبب في قيامه لذا كثيرًا ما يذكر الفقهاء العرف مصاحبًا للعمل ومرادفًا له، وقد أشرنا للعلاقة بين المصالح المرسلة والاستحسان والأعراف وما شرعه أولي الأمر من أحكام من خلال ما جرى به العمل على الرغم من المآخذ التي أخذت على هذا اللون من التشريع وأشرنا إلى أثر تغير الأحكام بتغير الزمان والدوافع والأسباب المؤدية إلى تغير الأعراف، كما أشرنا إلى القواعد الشرعية في العرف، ثم ختمنا الموضوع بأبحاث من الفقه وأصوله بنيت على العرف وترك فيها القياس استحسانا وذلك للتعامل المتعارف بين الناس وحاجتهم إلى هذا التعامل تحقيقًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة وأشرنا إلى أن العرف هو الذي يحدد ما يعد مالا وما لا يعد وما يكون مقوما وغير مقوم وأشرنا إلى حقوق الارتفاق وبينا أن مرجعها إلى العرف وأشرنا إلى بعض الأحكام للأحوال الشخصية وتأثير العرف فيها وإلى كثير من العقود المالية وبنائها على العرف وإن كانت مخالفة للقياس كبيع السلم والاستصناع وبيع الوفاء وغيرها وكالإجارة والمزارعة والمساقاة واعتبار العرف في الخيار والوصية والتقرير واختلاف الدية باختلاف الأعراف، وكذلك اعتباره في الشهادات والقضاء ونحو ذلك، وأوضحنا أن تحكيم العرف في كثير من القضايا أمر ضروري مفتقر إليه لا بين الأفراد والجماعات بل بين الدول والجهات، لذا ختمنا الموضوع بكلمة عن العرف الدولي وما استقر عليه قضاء محكمة العدل الدولي المنتصبة بلاهاي، ولعل في بيان ما وضحت وما مثلت أكون قد شاركت قدر الاستطاعة في تجلية نظرية العرف وتوضيح آثارها في التشريع الإسلامي ومدى تأثير الأعراف في تطور المجتمعات وأحكامها وقوانينها الإدارية وغيرها، وإنا لنأمل من الحكومات الإسلامية أن تعود إلى رشدها وسالف عهدها وأن تحكم شرع الله وتحتكم إليه وتستغني عن قوانين الغرب التي لا تراعي ما أحل الله وما حرم، فإن في التشريع الإسلامي ما فيه غنى عن كل القوانين إذ هو قانون الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون، نسأل الله التوفيق، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة.(5/2601)
المراجع
[أ]
1- أحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي بتعليق عبد الغني عبد الخالق، طبعة دار نشر الثقافة الإسلامية، الطبعة الأولى 1945م.
2- أحكام القرآن، لأبي بكر بن العربي، تحقيق علي البجاوي، طبعة حلبي.
3- الإحكام في أصول الأحكام، للحفاظ أبي محمد علي بن حزم، طبعة القاهرة.
4- أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الحنفي، طبعة المطبعة البهية مصر 1343 هـ.
5- إحكام الأحكام شرح عمدة الحكام، لابن دقيق العيد، طبعة دار الشعب، الطبعة الأولى.
6- الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي، الطبعة الأولى مطبعة محمد علي صبيح بميدان الأزهر بمصر 1347 هـ.
7- الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السيوطي، طبعة المكتبة الثقافية بيروت 1973
8- الإتقان في الأحكام شرح تحفة الحكام، لمحمد بن أحمد ميارة الفاسي وبهامشه حاشية ابن رحال، طبعة محمد أفندي مصر 1315هـ
9- الأحكام في تمييز الفتاوى عن الحكام، لشهاب الدين القرافي – طبعة الأنوار 1938م.
10- إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري، لأحمد بن محمد القسطلاني، طبعة دار صادر مصر عن طبعة بولاق.
11- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للعلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني، طبعة الطباعة المنيرية مصر.
12- الأشباه والنظائر، للسيوطي، طبعة البابي الحلبي بمصر.
13- الأشباه والنظائر، لزين العابدين بن إبراهيم بن نجيم، تحقيق وتعليق عبد العزيز محمد الوكيل مؤسسة حلب مصر 1968 م.
14- الأم، للإمام الشافعي، الطبعة أولى المطبعة الأميرية 1326 هـ.(5/2602)
15- الإمام الأوزاعي ومنهجه كما يبدو في فقه، لعبد الرزاق قاسم الصفار، طبعة بغداد (رسالة ما جستير) .
16-أصول السرخسي، لأبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت 1973.
17- أصول الفقه، لمحمد شلبي، الطبعة الأولى دار النهضة العربية 1974 م.
18- الإشراف، للقاضي عبد الوهاب، طبعة تونس.
19- علم أصول الفقه، للأستاذ عبد الوهاب خلاف، طبعة القاهرة.
20- أصول الفقه، للخضري طبعة مصر.
21- الأصول العامة للفقه المقارن، لمحمد تقي الدين الحكيم، طبعة أولى دار الأندلس.
22- أصول القانون حسن كيره، طبعة القاهرة.
23- إدراك الشروق على أنواء الفروق، لسراج الدين أبي القاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط بهامش الفروق، طبعة بولاق تونس 1304 هـ.
24- اختلاف أصول المذاهب، للقاضي النعمان بن محمد تحقيق مصطفى غالب دار الأندلس بيروت 1393هـ - 1973 م.
[ب]
25- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لأبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، ولما أتمه عرضه على صاحب التحفة فاستحسنه وزوجه ابنته، فقيل شرح تحفته وتزوج ابنته.
26- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لأبي الوليد ابن رشد الحفيد، طبعة الاستقامة بمصر 1938م.
27- البهجة في شرح التحفة، لأبي علي التسولي، طبعة المكتبة التجارية الكبرى.
[ت]
28- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض اليحصبي، طبعة وزارة الأوقاف بالمغرب.
29- تاج العروس، للمرتضى الزبيدي، طبعة المطبعة الخيرية بمصر 1306هـ.
30- تفسير المنار، للشيخ محمد رشيد رضا، الطبعة الأولى، مطبعة المنار مصر.
31- تفسير التحرير والتنوير، للعلامة محمد الطاهر بن عاشور، طبعة دار النشر تونس.
32- تاج الإكليل لشرح مختصر خليل بهامش مواهب الجليل، لمحمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري الشهير بالمواق، مطبعة السعادة مصر 1328 هـ
33- التعريفات، لأبي الحسن علي بن محمد الجرجاني، طبعة الدار التونسية للنشر 1971م.
34- التشريع الجنائي الإسلامي، لعبد القادر عودة، طبعة النعمان النجف 1975م.
35- تبصرة القضاة والإخوان في وضع اليد وما يشهد له من البرهان، لحسن العدوي.
36- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، للقاضي برهان الدين بن فرحون، طبعة الحبلي على هامش فتاوى عليش 1378 هـ.(5/2603)
37- التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه، لمحمد الدسوقي.
38- التأمين في الشريعة الإسلامية والقانون، للدكتور غريب الحمال.
39- التأمين لمصطفى الزرقاء.
40- التأمين البري، للبشير زهرة، طبعة دار بو سلامة تونس.
41- تنقيح الفصول، للقرافي.
42- التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح، للعلامة محمد الطاهر بن عاشور، طبعة تونس.
43- تحفة الأكياس في شرح عمل فاس، طبعة حجرية 1335هـ.
44- التقرير والتحبير، لابن أمير حاج، شرح التحرير، لابن الهمام.
45- تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك، لجلال الدين السيوطي، طبعة حلب.
46- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، طبعة الأميرية مصر.
47- تمييز الطيب من الخبيب فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث، لعبد الرحمن ابن الديب الشيباني، طبعة محمد صبيح 1347 هـ.
48- تاريخ قضاة الأندلس، لأبي الحسن النبهاني المالقي، طبعة المكتب التجاري بيروت.
49- تكملة فتح القدير.
[ج]
50- الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد القرطبي، طبعة دار الكتب المصرية 1966 م.
51- جامع البيان في تأويل آي القرآن، لأبي جعفر بن جرير الطبري، طبعة الميهمية بمصر.
52- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته، لابن عبد البر، طبعة المنيرية مصر.
[ح]
53- حاشية الحنفي على الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير.
54- حاشية ابن الخياط على شرح الخرشي، لفرائض خليل، طبعة عاطف بمصر.
55- حاشية البناني على المحلى على جمع الجوامع، طبعة دار إحياء الكتب العربية، للحلبي.
56- حاشية المهدي الوزاني على شرح التاودي بن سودة على تحفة ابن عاصم، طبعة حجرية 1310هـ.
57- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لشمس الدين محمد بن عرفه الدسوقي على شرح الدردير لمختصر خليل، طبعة الحلبي.
58- حاشية التسولي على شرح التاودي للامية الزقاق، طبعة حجرية.
59- حاشية الطالب ابن الحاج على شرح ميارة، للمشرد المعين، طبعة بولاق 1316 هـ.
60- حاشية ابن رحال على هامش شرح ميارة للتحفة، طبعة الشرفية مصر 1316هـ(5/2604)
61- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لبرهان الدين بن فرحون، طبعة السعادة بمصر 1329 هـ.
62- الدر المختار في شرح تنوير الأبصار في فقه مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان للإمام الحصكفي.
63- دور الأحكام شرح مجلة الأحكام، لعلي حيدر ترجمة فهمي الحسيني، منشورات مكتبة النهضة بيروت وبغداد.
64- الدكانة، لمحمد عظوم نسخة قلمية لم يطبع بعد.
[ر]
65- رسالة نجم الدين الطوجي، المصلحة المرسلة.
66- رسالة رسم المفتي، لابن عابدين مجموعة رسائل ابن عابدين.
67- الروض الأنف، لابن القاسم عبد الرحمن الخشمعي السهيلي، طبعة الجمالية مصر.
68- رفع الانتقاض ودفع الاعتراض على قولهم الأيمان مبنية على الألفاظ لا على الأغراض، لابن عابدين مجموعة الرسائل.
69- رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين، طبعة المطبعة الأميرية بالقاهرة بمصر.
70- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لشهاب الدين محمود الألوسي، طبعة الطباعة الميرية بمصر.
71- رفع الالتباس عن شركة الخماس، لابن رحال مخطوط.
72- الرأي في الفقه الإسلامي، للدكتور محمد محمد مختار القاضي، طبعة مطبعة بغداد.
[ز]
73- زبدة التحصيل والتنقيح في مسألة التحسين والتقبيح، للشيخ محمد جعيط مذكورة في حاشيته على التنقيح.
74- زاد المعاد في هدي خير العباد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للإمام ابن القيم الجوزية، طبعة المطبعة المصرية.
[س]
75- سنن أبي داود، طبعة المكتبة التجارية مصر.
76- سنن النسائي بشرح جلال الدين السيوطي وحاشية النووي، المطبعة المصرية بالأزهر.
77- سنن الدارمي، مطبعة الاعتدال بدمشق 1349 هـ
78- سنن ابن ماجه، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه 1374هـ - 1953 م.(5/2605)
79- سنن المهتدين، للمواق، طبعة حجرية.
80- سبل السلام للإمام إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني شرح بلوغ المرام من جميع أدلة الأحكام، للحافظ ابن حجر العسقلاني، طبعة مصطفى البابي الحلبي، المكتبة التجارية الكبرى مصر.
81- سلم الأصول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، طبعة مصر.
82- سلم الأصول لعلم الأصول، لعمر عبد الله، طبعة أولى دار المعارف 1956م.
[ش]
83- شرح تنقيح الفصول في الأصول، للقرافي بهامش التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح، مطبعة النهضة تونس.
84- شرح التنقيح، للقرافي بهامش منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح مطبعة النهضة تونس 1340 هـ - 1921م.
85- شرح العمل الفاسي، لابن عبد الله السجلسماسي، طبعة حجرية.
86- شرح الزقاقية، لعمر الفاسي، طبعة حجرية.
87- شرح ميارة على التحفة طبعة المطبعة الشرفية 1316 هـ
88- شرح الزرقاني على الموطأ المكتبة التجارية بمصر 1377 هـ - 1959م.
89- شرح المنجور لقواعد الزقاق، طبعة حجرية 1305هـ.
90- شرح الطالب في أسنى المطالب، لأحمد بن قنفذ.
91- شرح التاودي بحاشية المهدس، طبعة حجرية.
92- شرح الزرقاني على خليل.
93- الشرح الكبير، للدردير بحاشية الدسوقي.
94- شرح العضد على مختصر ابن الحاجب.
95- شرح الإسنوي على المنهاج، للبيضاوي بحاشية الشيخ بخيت.
96- شرح الزيلعي على الكنز.
97- شرح حدود ابن عرفة، للرصاع، طبعة تونس 1350 هـ.
98- شرح مجلة الإحكام، لعلي حيدر، طبعة بيروت.
99- الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، لمحمد الخضر حسين، طبعة بيروت.
[ص]
100- صحيح البخاري بشرح عمدة القاري، لبدر الدين أبي محمود بن أحمد العيني، طبعة الطباعة المنيرية.
101- صحيح مسلم بشرح النووي، طبعة أولى المطبعة المصرية بالأزهر 1347 هـ - 1929 م.(5/2606)
102 – صحيح مسلم بشرح إكمال المعلم، لمحمد بن خلفة القشتالي الآبي وشرح السنوسي الطبعة الأولى مطبعة السعادة مصر 1327 هـ.
103- صحيح الترمذي بشرح الإمام ابن العربي المالكي المطبعة المصرية بالأزهر سنة 1350 هـ - 1931 م.
[ط]
104- الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية وما جرى به العمل في الأقطار التونسية على مذهب السادة المالكية، لشيخ الإسلام محمد العزيز جعيط، طبعة الإدارة تونس.
105- الطرق الحكمية والسياسة الشرعية، لابن القيم الجوزية، طبعة مصر المؤسسة العربية للطباعة والنشر القاهرة 1380 هـ - 1961 م.
[ع]
106- عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين العيني.
107- علم أصول الفقه، للأستاذ عبد الوهاب خلاف، طبعة مصر القاهرة.
108- العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبو سنة، طبعة مطبعة الأزهر القاهرة 1949 م.
109- العمليات العامة، لأبي عبد الله محمد السجلسماسي، طبعة أولى مطبعة الدولة التونسية 1290 هـ.
110- العرف والعمل في المذهب المالكي للدكتور عمر بن عبد الكريم الحيدى، طبع بمطبعة إحياء التراث الإسلامى 1404هـ - 1984 م.
111- عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين، للدكتور أحمد محمد، طبعة دار الاعتصام، طبعة أولى 1347 هـ 1977م.
[ف]
112- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني اليماني الصنعاني، طبعة مصطفى البابي الحلبي مصر 1349 هـ.
113- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر، طبعة حلبي 1378 هـ 1959م.
114- الفروق، للقرافي، طبعة دار إحياء الكتب العربية القاهرة.
115- فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد، لعبد الجليل السجلسماسي.
116- فلسفة التشريع في الإسلام، لصبحي محمصاني، طبعة دار العلم للملايين بيروت 1975 م طبعة رابعة.
117- الفكر السامي، للعلامة الحجوي الثعالبي، طبعة إدارة المعارف بالرياض 1340 هـ كمل بفاس 1945م.
118- فتح القدير، لكمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام مع تكملة نتائج الأفكار في كشف الرموز، والأسرار، لقاضي زاده على الهداية شرح بداية المبتدئ، للمرغياني وبهامشه شرح العناية على الهداية، طبعة المكتبة الحمادية الكبرى بمصر 1356 هـ.(5/2607)
119- الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، طبعة دار الفكر 1404 هـ - 1984 م.
[ق]
120- قواعد المقري، لأبي عبد الله المقري التلمساني مخطوط.
121- القواعد، لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، والفقه الإسلامي، طبع مطبعة صدق الخيرة مصر طبعة أولى.
122- قواعد الحكام في مصالح الأنام، لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، طبعة المكتبة الحسينية مصر طبعة أولى.
123- القبس، لابن العربي مخطوط.
124- القوانين الفقهية، لابن جزي، طبعة منشورات الدار العربية للكتاب ليبيا تونس.
[ك]
125- الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي، طبعة مكتبة الرياض الحديثة الرياض.
126- كتاب مالك، للشيخ محمد أبو زهرة طبعة مصر.
127- كتاب صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، طبعة دمشق.
[ل]
128- لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين بن محمد بن منظور، طبعة دار الطباعة والنشر بيروت 1347 هـ 1955 م.
129- لباب التأويل في معاني التنزيل، لعلاء الدين البغدادي المعروف بالخازن، طبعة المطبعة الخيرية مصر.
130- لامية الزقاق منظومة.
131- لقط الدرر فيما به العمل من مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس، لمحمد السنوسي اشتمل على 4222 بيتًا في النوازل التونسية وضبط ما جرى به العمل في محكمتها الشرعية، طبعة المطبعة الدولية التونسية 1297 هـ.
[م]
132- المبسوط، لشمس الدين السرخسي، مطبعة السعادة بمصر.(5/2608)
133- الملل والنحل، لأبي الفتح محمد الشهرستاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، طبعة الحلبي 1381 هـ 1961.
134 – مقاصد الشريعة الإسلامية، لشيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور، طبعة الشركة التونسية للنشر 1366هـ - 1978 م.
135- مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، لعلال الفاسي، طبعة مكتبة الوحدة العربية الدار البيضاء.
136- مجالس العرفان ومواهب الرحمن، لمحمد العزيز جعيط الدار التونسية للنشر1972 م.
137- المدخل الفقهي العام، لمصطفى أحمد الزرقا، طبعة ألف باء دمشق 1967.
138- المدخل للعلوم القانونية، لتوفيق فرج، طبعة مصر.
139- الموافقات، للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي، طبعة تونس 1302 هـ.
140 – المعيار المغرب والجامع المعرب عن فتاوي أهل أفريقية والمغرب، طبعة 1315.هـ
141- المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي، طبعة مطبعة السعادة مصر 1331 هـ.
142 – الموطأ، للإمام مالك بن أنس، طبعة مطبعة البابي الحلبي 1339 هـ.
143 – مجموع الفتاوي، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية جمع عبد الرحيم بن محمد بن قاسم، طبعة مكتبة المعارف الرباط.
144- مسند الإمام أحمد بن حنبل، المطبعة الميمية.
145 – المقدمات المنهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، لأبي الوليد ابن رشد، طبعة دار صادر بيروت.
146- مقدمة ابن خلدون من كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، طبعة أولى مصر.
147- المغني، لابن قدامة المقدسي على مختصر الخرقي، طبعة دار المنار 1367 هـ.
148 – المدونة الكبرى، للإمام مالك برواية سحنون عن ابن القاسم، طبعة دار صادر بيروت.
149- مفتاح الأصول في علم الأصول للشريف التلمساني، طبعة تونس.
150- المنهج الفائق والمنهل الرائق والمغني اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق، طبعة حجرية 1228 هـ.
151 – المستصفى من علم الأصول، لحجة الإسلام الغزالي وبهامشه فواتح الرحموت، لعبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري شرح مسلم الثبوت، لابن عبد الشكور، الطبعة الأولى المطبعة الأميرية بمصر 1322 هـ.
152- المنخول من تعليقات الأصول، لحجة الإسلام الغزالي، تحقيق محمد حسن هيتو من غير تعيين مكان وبدون تاريخ مصر.
153- مواهب الجليل على شرح خليل، لمحمد الرعيني المعروف بالحطاب وبهامشه تاج الإكليل، للعبدري الشهير بالمواق، طبعة السعادة مصر.(5/2609)
154- منهج التحقيق والتوضيح لحل غوامض التنقيح، للشيخ محمد جعيط.
155- مبادئ الثقافة الإسلامية، لفاروق النبهان، طبعة دار البحوث العلمية الكويت 1374 هـ - 1974 م.
156- مطلع الدراري بتوجيه النظر الشرعي على القانون العقاري، لمحمد السنوسي، طبعة المطبعة الرسمية تونس.
157- المحلى، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، طبعة دار الطباعة المنيرية مصر.
158- المهذب، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الشيرازي، طبعة مصر.
[ن]
159 – نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، لمحمد علي الشوكاني، طبعة الطباعة المنيرية مصر 1344 هـ.
160- نهاية المحتاج لشرح المنهاج، لشمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي، مطبعة حلبي مصر 1386 هـ 1967 م.
161- نفائس الأصول في شرح المحصول، للقرافي مخطوط.
162- نظرية العرف، لعبد العزيز الخياط، طبع ونشر مكتبة الأقصى عمان 1397 هـ - 1977 م.
163- نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، لمحمد بن عابدين مجموع رسائل ابن عابدين جزئين في مجلد.
164- نشر البنود على مراقي السعود، لعبد الله الشنقيطي العلوي، طباعة المغرب.
165- نوازل الشريف العلوي، طبعة مطبعة حجرية 1315 هـ.
[و]
166- الوجيز، لحجة الإسلام الغزالي، طبعة مطبعة حوش قدم بالغورية 1313هـ
167 – الوجيز في المدخل للقانون، لشمس الدين الوكيل، طبعة القاهرة.
168 – الوسيط، لعبد الرزاق السنهوري، طبعة مصر.(5/2610)
نظرية العرف في الفقه الإسلامي
إعداد
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
الأستاذ بكلية الشريعة – جامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وبعد.
الأحكام الشرعية إنما تعرف بالأدلة التي أقامها الشارع لترشد المكلفين إليها وتدلهم عليها، وتسمى هذه الأدلة بأصول الأحكام أو المصادر الشرعية للأحكام.
وهذه الأدلة تقسم إلى تقسيمات باعتبارات مختلفة، أي بالنظر إلى الجهة التي ينظر منها إليها، ونذكر فيما يلي تقسيمين من هذه التقسيمات.
التقسيم الأول: من جهة مدى الاتفاق والاختلاف على هذه الأدلة، وهي بهذا الاعتبار ثلاثة أنواع:
النوع الأول: وهو محل اتفاق بين أئمة المسلمين، ويشمل هذا النوع القرآن والسنة.
النوع الثاني: وهو محل اتفاق جمهور المسلمين، وهو الإجماع والقياس. وقد خالف في الإجماع النظام من المعتزلة وبعض الخوارج، وخالف في القياس الإمامية والظاهرية.
النوع الثالث: وهو محل اختلاف بين العلماء، ويشمل هذا النوع العرف (1) والاستصحاب والاستحسان والمصالح المرسلة وشرع من قبلنا ومذهب الصحابي. فمن العلماء من اعتبر هذا النوع من مصادر التشريع، ومنهم من لم يعتبره.
التقسيم الثاني: الأدلة من حيث ردوعها إلى النقل أو الرأي تنقسم إلى قسمين: نقلية وعقلية.
__________
(1) العرف معتبر، إلا أن الاختلاف بين العلماء في اعتباره دليلًا مستقلًا أم لا، كما سيتضح لنا ذلك من خلال البحث إن شاء الله.(5/2611)
الأدلة النقلية: وهي الكتاب والسنة، ويلحق بهذا النوع الإجماع ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا على رأي من يأخذ بهذه الأدلة ويعتبرها مصادر للتشريع، وإنما اعتبر هذا النوع من الأدلة نقليًّا، لأنه راجع إلى التعبد بأمر منقول عن الشارع، لا نظر ولا رأي لأحد فيه.
الأدلة العقلية: وهي التي مرجعها النظر والرأي، وهذا النوع هو القياس، ويلحق به الاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب. وإنما كان هذا النوع عقليًّا، لأن مرده إلى النظر والرأي لا إلى أمر منقول عن الشارع (1) .
والقسمة التي ذكرناها، إنما هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، أما بالنسبة إلى الاستدلال بها على الحكم الشرعي، فكل نوع من النوعين مفتقر إلى الآخر، لأن الاستدلال بالمنقول عن الشارع لا بد فيه من النظر واستعمال العقل الذي هو آداة الفهم، كما أن الرأي لا يكون صحيحًا معتبرًا إلا إذا استند إلى النقل، لأن العقل المجرد لا دخل له في تشريع الأحكام (2) .
الكتاب هو مرجع الأدلة كلها:
قلنا قبل قليل بأن الأدلة على نوعين، نقلية وعقلية، وعند النظر نجد أن الأدلة محصورة في الكتاب والسنة، لأن الأدلة الثابتة لم تثبت بالعقل، وإنما تثبت بالكتاب والسنة، لأن مرجع الأحكام إليهما، وهما المستندان لها وذلك من جهتين:
الأولى: دلالتهما على الأحكام الجزئية الفرعية، كأحكام الزكاة والبيوع والعقوبات ونحوها.
والثانية: دلالتهما على القواعد والأصول التي تستند إليها الأحكام الجزئية الفرعية كدلالتهما على أن الإجماع حجة وأصل للأحكام، وكذا القياس، ونحو ذلك.
ثم إن مرجع السنة إلى الكتاب وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن العمل بالسنة والاعتماد عليها واستنباط الأحكام منها، قد دل عليه القرآن الكريم، حيث قرن الله تعالى طاعته بطاعة رسوله في أكثر من موضع من كتابه الكريم قال عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) .
وقد تكرر هذا الأمر منه سبحانه وتعالى في نصوص كثيرة من القرآن الكريم. وتكراره يدل على عموم طاعته سواء كان ما أتى به مما في الكتاب أو مما ليس فيه إلى نصوص أخرى تفيد هذا المعنى، مثل قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) . وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5) .
__________
(1) انظر الوجيز في أصول الفقه، لأستاذنا الدكتور عبد الكريم زيدان، مطبعة الدار العربية ببغداد: ص145
(2) انظر الوجيز في أصول الفقه، لأستاذنا الدكتور عبد الكريم زيدان، مطبعة الدار العربية ببغداد: ص145
(3) سورة النساء: الآية 59.
(4) سورة الحشر: الآية 7.
(5) سورة النور: الآية 63.(5/2612)
والوجه الثاني: أن السنة إنما جاءت لبيان الكتاب الكريم وشرح معانيه بدليل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (2) .
والتبليغ يشمل تبليغ الكتاب وبيان معانيه، فالسنة مبينة لكتاب الله وشارحة لمعاينه ومفصلة لمجمله.
وعلى هذا فالقرآن هو أصل الأصول ومصدر المصادر ومرجع الأدلة جميعًا.
ترتيب الأدلة:
بما أن القرآن الكريم هو مرجع الأدلة جميعًا ومصدر المصادر كما قلنا، فمن البديهي إذن أن يقدم عليها عند الرجوع إلى معرفة الحكم الشرعي، فإذا لم يوجد الحكم فيه، وجب الرجوع إلى السنة، لأنها على ما ذكرنا مبينة للكتاب وشارحة لمعانيه، فمن البديهي أن تأتي في المرتبة الثانية بعده، فإذا تعذر علينا الحصول على الحكم في السنة، لزم الرجوع إلى الإجماع، لأن مستند الإجماع نص من الكتاب أو السنة، فإن لم يكن إجماع في المسألة، وجب الرجوع إلى القياس.
فترتيب الأدلة في الرجوع إليها واستنباط الأحكام منها يكون على هذا النحو: الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء الذين ذهبوا إلى القول: بحجية الإجماع والقياس واعتبارهما مصدرين للأحكام الشرعية بالإضافة إلى الكتاب والسنة، وقد دل على هذا الترتيب آثار كثيرة، منها:
1- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ عندما أرسله إلى اليمن: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟)) قال: أقضي بكتاب الله، قال ((فإن لم تجد؟)) قال: أقضي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ((فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟)) قال: أجتهد برأي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره، وقال ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)) (3) .
__________
(1) سورة النحل: الآية 44.
(2) سورة المائدة: الآية 67.
(3) الأحكام السلطانية، للماوردي، ص58 دار الكتب العلمية.(5/2613)
ووجه الدلالة بهذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام أقره على الاجتهاد بالرأي إذا لم يجد الحكم في الكتاب والسنة، وما القياس إلا ضرب من ضروب الاجتهاد بالرأي.
2- عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر بن الخطاب يفعل ذلك أيضًا (1) .
3- قال عمر بن الخطاب لشريح قاضيه في الكوفه: اقضِ بكتاب الله، فإن لم تجد فبقضاء رسول الله، أي سنته، فإن لم تجد فاقض بما استبان لك من الأئمة المهتدين، فإن لم تجد فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح (2) . ومثل هذا كان يقول عبد الله بن مسعود (3) .
العرف:
معنى العرف: العرف بضم العين، هو في اللغة ضد النكر (4) يقال أولاه عرفًا، أي معروفًا، وورد أيضًا بمعنى المكان المرتفع، يقال عرف الجبل ونحوه (5) . وقد يطلق على عرف الفرس – وهو الشعر على محدب رقبة الفرس – لارتفاعها، ويقال مثل ذلك في عرف الديك أيضًا (6) .
ويأتي بمعنى الجود والتتابع، ومنه طار القطا عرفًا، أي بعضها خلف بعض، وهو بفتح العين بمعنى الريح طيبة كانت أم منتنة، ولكن أكثر استعماله في الطيبة (7) .
وهو عرفًا ما اعتاده الناس وألفوه سواء كان قولًا أو فعلًا. وهذا هو عين تعريفه في اصطلاح الفقهاء.
فقد حكى ابن عابدين عن بعض الأئمة تعريف العادة والعرف بأنه "ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول" (8) . وعرفه الأستاذ الزرقا بقوله: "وهو عادة جمهور قوم في قول أو فعل" (9) . وبمثل هذا عرفه الأستاذ زيدان أيضًا (10) .
__________
(1) انظر إعلام الموقعين: 1 /51.
(2) إعلام الموقعين أيضًا: 1 /171.
(3) إعلام الموقعين: 1 /52؛ وانظر الصنعاني في سبل السلام:4 /119.
(4) مختار الصحاح، مادة (عرف) .
(5) القاموس المحيط، كذا المعجم الوسيط، مادة (عرف) .
(6) مختار الصحاح، مادة (عرف) أيضًا.
(7) مختار الصحاح، مادة (عرف) أيضًا.
(8) رسالة نشر العرف: ص3.
(9) الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد: ص 557.
(10) الوجيز في أصول الفقه ص 253(5/2614)
العرف والعادة بمعنى واحد: إن العادة عند الفقهاء تعني العرف، فقولهم: هذا ثابت بالعرف والعادة لا يعني أن العادة عندهم غير العرف، وإنما هي نفسه، وقد ذكرت للتأكيد لا للتأسيس. قال ابن عابدين: "إن العادة مأخوذة من المعاودة، فهي بتكررها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول متلقاة بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية، فالعادة والعرف بمعنى واحد" (1) .
تقسيمات العرف: والعرف كما تبين لنا من تعريفه قد يكون قوليًّا أو عمليًّا وقد يكون عامًا أو خاصًا، وهو بجميع هذه الأنواع قد يكون صحيحًا أو فاسدًا.
وها أنا أوجز الكلام في كل قسم من التقسيمات المذكورة:
1- العرف العملي: وهو ما اعتاده الناس من أعمال سواء كان ذلك في معاملاتهم المالية أو عاداتهم الاجتماعية مثال الأولى: بيعهم بالتعاطي ودخول الحمامات العامة بدون تعيين مدة المكث فيها ولا مقدار الماء المستهلك وعقود الاستصناع. ومثال الثانية: تعارف الناس على أكل البر ولحم الضأن، واعتبار تقديم الطعام للضيف إذنًا له بالتناول ونحو ذلك.
2- العرف القولي: وهو ما تعارف عليه الناس في بعض ألفاظهم بأن يريدوا بها معنى معينًا غير المعنى الموضوع لها (2) . وذلك مثل لفظ دابة، فإنها وضعت في الأصل لكل ما يدب على الأرض ثم خصصت عرفًا بذات الأربع. ومثل تعارف الناس على أن لفظ اللحم يراد به غير السمك ونحو ذلك.
والعرف بنوعيه العملي والقولي قد يكون عامًا إذا شاع وفشا بين عامة الناس في البلاد الإسلامية. والخاص منه ما كان مخصوصًا ببلد دون آخر أو بأرباب مهنة دون غيرها ولكل قوم أن يصطلحوا على ما شاؤوا من غير ما هو محرم.
فمن العرف العملي الخاص في العراق تقسيم المهر إلى معجل ومؤجل. ومن العرف القولي العام إطلاق لفظ الدابة على ذوات الأربع ولا يطلقونها على الإنسان، وتعارفهم على استعمال لفظ الطلاق على إزالة الرابطة الزوجية.
__________
(1) رسالة نشر العرف: ص3.
(2) أستاذنا زيدان في المصدر السابق: ص253.(5/2615)
ومن العرف القولي الخاص، الألفاظ التي اصطلح عليها أهل كل علم من العلوم أو أصحاب الحرف والصناعات التي يقصدون عند إطلاقها لفظًا اصطلاحيًّا معينًا.
والعرف القولي الخاص، يخصص العرف العام باتفاق الحنفية والشافعية، فإذا أطلقت الدراهم أو الدنانير في بلد، فإنه يراد بها النقد الغالب في تلك البلد.
أما الفعلي الخاص، فإنه مخصص للعام منه عند الحنفية دون الشافعية، فإذا قال رجل لآخر: اشترِ لي طعامًا أو لحمًا، فإنه ينصرف إلى البر ولحم الضأن عملًا بالعرف العملي (1) .
العرف الصحيح: هو ما تعارف عليه الناس ولم يخالف نصًّا من نصوص الشريعة، أو ما يدل دليل على بطلانه أو فساده. وذلك كتعارف الناس على أن ما يقدمه الخاطب إلى مخطوبته من ثياب ونحوها يعتبر هدية ولا يدخل في المهر. وكتعارف الناس في العراق على أن المهر المؤجل لا تستحقه الزوجة إلا بفرقة من طلاق أو موت.
العرف الفاسد: بعد أن وضحنا العرف الصحيح، تبين لنا بوضوح العرف الفاسد، فهو كل ما خالف نصًّا من نصوص الشريعة أو قام الدليل على بطلانه، وذلك كتعامل الناس بالربا أو اعتيادهم لعب القمار، وذلك مثل عقود التأمين على الحياة والعقود الواقعة تحت الغرر.
حجية العرف: العرف معتبر في كثير من الأحكام الشرعية العملية بين الناس لما له من تأثير واسع في استنباط الأحكام والاجتهاد فيها، وذلك لأن كثيرًا من أعمال الناس وألفاظهم ومعاملاتهم وشؤون حياتهم تقوم على ما اعتادوه وتعارفوه، فلا بد من النظر إلى هذا المألوف المتعارف حين استخراج الحكم الشرعي للمسائل المتجددة أو المشكلات التي تنشأ بين الناس. والقواعد الشرعية المعتمدة على النصوص لا تستوعب جميع التفصيلات والمسائل المتجددة، وإنما تتخذ أساسًا في نصها أو روحها للاجتهاد وبيان الأحكام، والعرف يساعد في هذا الاجتهاد ويعين المجتهد على تفهم الواقعة وتطبيق الحكم الشرعي عليها، سواء أكان ذلك في معاني الكلمات وعبارات الناس أو في معاملاتهم وعقودهم، حتى أصبح العرف الصحيح ذريعة إلى تبدل الأحكام وتغيرها باختلاف أعراف الناس في بيئاتهم المختلفة وأماكنهم المتغايرة (2) . وهذا هو سر تغير اجتهادات الإمام الشافعي في مسائل كثيرة توصل إليها حين كان في بلاد العراق، فلما انتقل إلى مصر ورأى تغير أعراف الناس وعاداتهم، عدل عن كثير من أقواله في العراق، حتى صارت اجتهاداته الجديدة تعرف بالمذهب الجديد والتي عدل عنها بالمذهب القديم. والمالكية يقيمون للعرف وزنًا كبيرًا ويعتبرونه أصلًا من الأصول الفقهية فيما لا يكون فيه نص قطعي.
ويتركون القياس إذا خالف العرف، وقد ورد عن القرطبي في باب الاستحسان أن من ضروبه ترك القياس لأجل العرف وهو يخصص العام ويقيد المطلق عندهم، وقد ذكر أبو العباس القرافي بأن العوائد تعتبر من الأدلة على مشروعية التصرفات (3) .
__________
(1) ابن عابدية في رسالته نشر العرف: ص3.
(2) راجع نظرية العرف للدكتور عبد العزيز الخياط: ص39.
(3) راجع الفروق: 3 /288.(5/2616)
وذكر ابن نجيم الحنفي " بأن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في الفقة في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا " (1) وقد ورد على لسان ابن عابدين أيضا " بأن الثابت بالعرف كالثابت بالنص (2) ومن أقوالهم الدالة على حجية العرف " العادة محكمة ": " والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا " وأراد بعضهم الاستدلال بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} على حجية العرف وكونه دليلًا معتبرًا في الشرع، ولكن هذه الحجة ضعيفة، لأن العرف في الآية هو المعروف وهو ما عرف حسنه ووجب فعله، وهو كل ما أمرت به الشريعة.
واحتج البعض (3) بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) على حجية العرف، وهذا الاستدلال ضعيف، فقد قال غير واحد من العلماء إنه موقوف على ابن مسعود، ودلالته تشير إلى حجية الإجماع لا العرف (4) ، إلا إذا كان مستند الإجماع عرفًا صحيحًا فتكون دلالته هذا الأثر قاصرة على نوع من أنواع العرف لا على مطلق العرف.
والحق أن العرف معتبر في الشرع ويصح ابتناء الأحكام عليه، وهو في الحقيقة ليس بدليل مستقل ولكنه يرجع إلى أدلة الشريعة المعتبرة، والدليل على ذلك أمور عديدة منها:
أولًا: وجدنا الشارع الحكيم يراعي أعراف العرف الصالحة، من ذلك إقراره لنوع من التعامل المالي عندهم كالمضاربة والبيوع والإجارات الخالية من المفاسد (5) كما استثنى السلم من عموم نهيه عن بيع الإنسان ما ليس عنده، لجريان عرف أهل المدينة به ونهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرايا، وهي بيع الرطب على رؤوس النخل بمثله من التمر خرصًا، أي تخمينًا، لتعارف المجتمع هذا النوع من البيع وحاجته إليه فدلت هذه التصرفات من الشارع الحكيم على رعاية العرف الصالح الذي استقرت عليه معاملات الناس، أما العرف الفاسد، فقد أبطله وألغاه، كما فعل في كثير من عادات الجاهلية مثل التبني وعدم توريث النساء وغير ذلك.
__________
(1) الأشباه والنظائر: ص 93.
(2) انظر نشر العرف: ص4
(3) انظر بدائع الصنائع، للكاساني: 5 /223؛ وكذا المبسوط، للسرخسي: 12 /138.
(4) انظر الآمدي في الأحكام: 3 /112.
(5) أستاذنا زيدان في مؤلفه الوجيز في أصول الفقه: ص 225(5/2617)
ثانيا: إن العرف في حقيقته يرجع إلى دليل من أدلة الشرع المعتبرة كالإجماع والمصلحة المرسلة وسد الذرائع، فمن العرف الراجع إلى الإجماع، الاستصناع ودخول الحمامات، فقد جرى العرف بهما بلا إنكار فيكون من قبيل الإجماع، والإجماع معتبر.
ومن العرف ما يرجع إلى المصلحة المرسلة لأن العرف له سلطان على النفوس، فمراعاته من باب التسهيل عليهم ورفع الحرج عنهم ما دام العرف صالحًا لا فاسدًا، كما أن في تحويل الناس عما تعارفوا عليه وألفوه، فيه مشقة وحرج، والحرج مرفوع لأنه مفسدة، وقد أشار إلى هذا المعنى السرخسي في مبسوطه حيث يقول:" لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة حرجًا بينا " (1) .
ثالثا: احتجاج الفقهاء بالعرف في مختلف العصور واعتبارهم إياه في اجتهادهم، دليل على صحة اعتباره، لأن عملهم به ينزل منزلة الإجماع السكوتي فضلًا عن تصريح بعضهم به وسكوت الآخرين عنه، فيكون اعتباره ثابتًا بالإجماع (2) .
وسلطان العرف كبير على الأحكام يدخل فيه جميع أبواب الفقة سواء أكان ذلك في العبادات أو المعاملات أو السير أو الأحوال الشخصية يقول جلال الدين السيوطي الشافعي: " اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه في مسائل لا تعد كثيرة، فمن ذلك سن الحيض والبلوغ والإنزال وأقل الحيض والنفاس والطهر وغالبها وأكثرها ... والبناء على الصلاة في الجمع والخطبة والجمعة بين الإيجاب والقبول والسلام ورده، والتأخير المانع من الرد بالعيب، وفي الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إقامة له مقام الإذن اللفظي وتناول الثمار الساقطة وفي إحراز المال المسروق وفي المعاطاة على ما اختاره النووي وفي عمل الصناع على ما استحسنه الرافعي وفي وجوب السرج والإكساف في استئجار دابة الركوب، والحبر والخيط والكحل على من جرت العادة بكونها عليه ... إلخ (3) .
شروط اعتبار العرف كأصل من أصول الأحكام:
من أجل اعتبار العرف وبناء الأحكام عليه، يجب أن تتوفر فيه الشروط التالية:
أولًا: أن لا يكون مخالفًا للنص، بأن يكون عرفًا صحيحًا كما في الأمثلة التي ضربناها للعرف الصالح، قال ابن عابدين: " ولا اعتبار للعرف المخالف للنص، لأن العرف قد يكون على باطل بخلاف النص " (4) وقد مثل للعرف الفاسد بما اعتاده العمال من الكشف عن العانة عند الاتزار وفي النزع مما حدا ببعض العلماء إلى القول: بأن السرة إلى موضع نبات الشعر، معتمدًا على تعامل بعض العمال بذلك فرد رحمه الله على هذا الرأي بقوله: " هذا ضعيف وبعيد، لأن التعامل بخلاف النص لا يعتبر " (5) ومن هنا يظهر لنا فساد ما اعتادته كثير من النسوة من كشف شيء من أجسامهن كالساق وشعر الرأس والصدر والرقبة وما سوى ذلك من أجزاء الجسم الأخرى مما لا يجوز كشفه أمام الرجل الأجنبي لمخالفته النصوص الصريحة الناهية عن ذلك، قال الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} الآية (6) .
__________
(1) المبسوط: 13 /14.
(2) أستاذنا زيدان في المصدر السابق.
(3) انظر الأشباه والنظائر: ص99.
(4) انظر رسالته في العرف: ص4.
(5) انظر رسالته في العرف: ص4.
(6) [سورة النور: الآية 31] .(5/2618)
ومن الأعراف الفاسدة أيضا، تعارف الناس كثيرًا من المحرمات كالربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب وغير ذلك مما ورد تحريمه نصًّا.
ثانيا: أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا: ومعنى الاطراد أن تكون العادة كلية أي لا تتخلف، وقد يعبر عنها بالعموم، أي يكون العرف مستفيضًا شائعًا بين أهله معمولًا به من قبلهم، ومعنى الغلبة أن تكون أكثرية المعنى أنها لا تتخلف إلا قليلًا، والغلبة أو الاطراد إنما يعتبران إذا وجدا عند أهل العرف لا عند الفقهاء لاحتمال تغيرها من عصر إلى عصر (1) .
قال ابن نجيم: " إنما تعتبر العادة إذا طردت أو غلبت " (2) وقال السيوطي: " إنما تعتبر العادة إذا طردت فإن اضطربت فلا، وأن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف " (3) فقد قال الإمام الشافعي في باب الأصول والثمار: كل ما يتضح فيه اطراد العادة فهو المحكم بين الناس، ومضمره كالمذكور صريحًا أما لو تعارضت الظنون بعض التعارض في حكم العادة فيه، فهو مثار الخلاف (4)
وقد تفرع عن هذا الشرط عدة مسائل منها:
(أ) لو جرى عقد بين متبايعين بدراهم أو دنانير وكانا في بلد فيه عدة عملات مختلفة في المالية والزواج، انصرف البيع إلى الأغلب، لأنه هو المتعارف فنصرف المطلق إليه (5) ولو اضطربت العادة في البلد وجب بيان النقد عند البيع وإلا بطل العقد (6) .
(ب) ومنها استئجار الكاتب، فالحبر والأقلام عليه، وكذا الخيط والإبرة بالنسبة للخياط، عملًا بالعرف عند الأحناف وعند الشافعية فيه خلاف، الأصح كما ذكر الرافعي الرجوع فيه إلى العادة، فإن اضطربت وجب البيان وإلا بطلت الإجارة (7) .
__________
(1) أستاذنا زيدان في المصدر السابق: ص 257.
(2) انظر الأشباه والنظائر القاعدة السادسة: ص 94.
(3) الأشباه والنظائر: ص 101.
(4) الأشباه والنظائر: ص 101.
(5) ابن نجيم في الأشباه: ص 95.
(6) السيوطي في الأشباه: ص 101.
(7) السيوطي في الأشباه: ص 101.(5/2619)
ثالثًا: أن يكون العرف مقارنًا ولا يعتبر العرف المتأخر في التصرفات السابقة، فإذا طرأ عرف جديد بعد اعتبار العرف السائد عند صدور الفعل أو القول، فلا اعتبار بالعرف المتأخر وعلى هذا يجب تفسير حجج الأوقاف والوصايا والبيوع ووثائق الزواج وما يراد فيها من شروط واصطلاحات على عرف المتصرفين الذي كان موجودًا في زمانهم لا على عرف حادث بعدهم يقول ابن نجيم: " العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر، لذلك قالوا لا عبرة بالعرف الطارئ (1) .
رابعا: أن لا يوجد قول أو عمل يفيد عكس مضمونه، كما إذا كان العرف في السوق تقسيط الثمن واتفق العاقدان صراحة على الأداء، أو كان العرف يقضي بتحمل المشتري مصاريف تصدير البضاعة المشتراة واتفقا على أن تكون على البائع، أو كان العرف جاريًّا بتحمل المشتري مصاريف تسجيل العقار في الطابو واتفق الطرفان على جعلها على البائع، ففي هذه الحالة يحل ما اتفق عليه محل العرف والقاعدة هنا " ما يثبت بالعرف بدون ذكر لا يثبت إذا نص على خلافه (2) .
حكم العرف إذا تعارض مع دليل شرعي:
قد يختلف العرف مع الدليل الشرعي، والدليل إما أن يكون نصًّا من نصوص الشريعة وهي الكتاب والسنة، أو يكون قياسًا أو إجماعًا، وإما أن يخالف بعض الآراء الاجتهادية وهي الأحكام الشرعية الظنية المستنبطة من الأدلة الشرعية.
والحكم في مخالفة العرف الدليل الشرعي يختلف باختلاف الأدلة وباختلاف عموم النص وخصوصه، ويختلف بحسب المخالفة إن كانت من وجهه أو من بعض الوجوه.
يقول ابن عابدين: " إذا خالف العرف الدليل الشرعي، فإن خالف من كل وجه بأن لزم منه ترك النص فلا شك في رده كتعارف الناس كثيرًا من المحرمات من الربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب وغير ذلك مما ورد تحريمه نصًّا، وإن لم يخالفه من كل وجه بأن ورد الدليل عامًّا والعرف خالفه في بعض أفراده أو كان الدليل قياسًا، فإن العرف معتبر إن كان عامًّا، فإن العرف العام يصلح مخصصًا كما مر عن التحرير ويترك به القياس كما صرحوا به في مسألة الاستصناع ودخول الحمام والشرب من السقا وإن كان العرف خاصًّا فإنه لا يعتبر هو المذهب كما ذكره في الأشباه حيث قال: فالحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص، ولكن أفتى كثير من المشايخ باعتباره " (3) .
__________
(1) الأشباه والنظائر: ص 101.
(2) القواعد للعز بن عبد السلام: 2 /178.
(3) رسالته في العرف: ص 5.(5/2620)
ومن هنا تبين لنا أن مخالفة العرف للأدلة الشرعية تتنوع أنواعًا مختلفة بحسب الحالات التي تؤدي إلى النتائج المختلفة وذلك في أنواع ثلاثة:
1- النوع الأول: مخالفة العرف النص الشرعي من كل وجه.
2- النوع الثاني: مخالفة العرف من بعض الوجوه.
3- النوع الثالث: تعارض العرف والاجتهادات الفقهية للناس.
وها أنا أبين بإيجاز رأي الفقهاء في كل نوع من الأنواع الثلاثة.
أولًا – مخالفة العرف النص الشرعي من كل وجه:
إذا خالف العرف الشرع من كل وجه فلا يعتبر العرف مطلقًا، وذلك فيما إذا اصطدم العرف بنص تشريعي خاص من نصوص الكتاب أو السنة يأمر بخلاف ما جرى عليه العرف، فلا اعتبار للعرف في هذه الحالة، كالأحكام التي كانت متعارفة في الجاهلية وحرمها الإسلام لمصادمة تلك الأعراف لإدارة الشارع في موضوع أصبح المسلم مكلفًا بتطبيق النص والأخذ به، فلا يجوز إهماله وإعمال العرف (1) ومثال ذلك أيضًا: العقود التي نهى الإسلام عن إبرامها كالملامسة والمنابذة، وكذلك ما تعورف عليه في الجاهلية من الغزو واستباحة الحقوق ونكاح الشغار وإثبات ولد الزنا والتبني.
ولو عاود الناس المعاملة بها وأصبح عرفًا، فإنه لا يعتبر شرعًا وهو باطل.
استثناء من الحكم العام: ويستثنى من ذلك ما إذا كان النص حين نزوله أو حين صدوره عن المشرع مبنيًّا على عرف قائم ومعللًا به، فإن النص عندئذ يكون عرفيًّا فيدور مع العرف ويتبدل بتبدله، مثال ذلك: حديث الربا الوارد في الأصناف الستة، فإنه نص على أن الربا يحصل في مبادلة هذه الأصناف إذا لم يحصل التساوي فيما بينها، فإذا حصل، فلا ربا، فما هو مقياس التساوي؟
لقد ترك ذلك للعرف فما كان وزنيًّا كالذهب والفضة اعتبر فيه الوزن، وما كان كيليًّا كالحنطة والشعير والملح والتمر اعتبر فيه الكيل.
والملاحظ أن الحديث نص على التساوي الوزني في الذهب والفضة والتساوي الكيلي فيما عدها، غير أن العرف تبدل في هذه الأوزان، فأصبحت الحنطة والتمر والشعير والملح توزن وزنًا ولا تكال كيلًا، فأي العرفين يعتبر هنا؟ لقد أجاب ابن عابدين عن ذلك، فبعد أن ذكر رأي بعض فقهاء المذهب في عدم جواز بيع الحنطة بالحنطة إلا كيلًا والذهب بالذهب إلا وزنًا لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، أورد رأي أبي يوسف الذي يقضي بصحة بيع الحنطة بمثلها وزنًا والذهب بمثله كيلًا، فقد علل رحمه الله النص بالعادة، بمعنى أن الشارع عندما نص على بيع الحبوب كيلًا وعلى الذهب والفضة وزنًا لكونهما كانا في ذلك الوقت كذلك، فالنص جاء موافقًا للعادة، حتى لو كانت في ذلك الوقت وزن البر وكيل الذهب لورد النص على وفقها، فلما كانت العادة هي المنظورة إليها في الحكم المذكور، فإذا تغيرت تغير الحكم، فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص، بل فيه اتباع للنص (2) .
__________
(1) الأستاذ الخياط في نظرية العرف: ص 60
(2) انظر رسالته في العرف: ص 8.(5/2621)
ومن هذا القبيل أيضًا، اعتبار الصمت في استئذان الفتاة البكر في النكاح، فإن أساسه العرف القائم في ذلك الوقت، فالنص من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ((وإذنها صماتها)) قام على اعتبار العرف، واليوم تغير العرف في كثير من البلدان وأصبح لا يكفي فيه صمت الفتاة البكر إذ أنها بلغت من الجرأة حدًّا تعرب فيه عن رأيها لفظًا، فيعتبر إذنها كإذن الثيب ويؤخذ بالعرف، لأن أساس النص قام على اعتبار العرف، وقد تغير فيتغير بتغيره (1) .
ثانيا – مخالفة العرف النص من بعض الوجوه:
إذا عارض نصًّا تشريعيًّا عامًّا، أي لم يخالف النص من كل وجه، فلا يخلو العرف من أن يكون عامًّا أو خاصًّا، فإن كان عامًا، فالعرف العام يصلح مخصصًا ويترك به القياس كما في مسألة الاستصناع ودخول الحمام والشرب من السقا.
أما لو كان العرف خاصًّا فللفقهاء اتجاهان في اعتباره أو عدم اعتباره، قال ابن عابدين: " وإن كان العرف خاصًّا فإنه لا يعتبر، وهو المذهب كما ذكره في الأشباه حيث قال: فالحاصل أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص ولكن أفتى كثير من المشايخ باعتباره " (2) .
وقد تفرع عن هذا الخلاف عدة مسائل منها:
1- لو دفع رجل إلى حائك غزلًا أن ينسجه بالثلث فقد أجاز هذا النوع من الإجارة كثير من مشايخ بلخ لتعامل أهل بلدهم بذلك، والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الأثر،
وتجويز هذه الإجارة في الثياب للتعامل، بمعنى تخصيص النص الذي ورد في قفيز الطحان، لأن النص ورد فيه لا في الحائك، إلا أن الحائك نظيره فيكون واردًا فيه دلالة، فمتى تركنا العمل بدلالة هذا النص في الحائك وعملنا بالنص في قفير الطحان كان تخصيصًا لا تركًا أصلًا، وتخصيص النص بالتعامل جائز.
أما على رأي من لم يعتبر العرف الخاص، لم يجوز هذه الإجارة، " لأن ذلك تعامل أهل بلدة واحدة، وتعامل أهل بلدة واحدة لا يخص الأثر، لأن تعامل أهل بلدة إن اقتضى أن يجوز التخصيص فترك التعامل من أهل بلدة أخرى يمنع التخصيص، فلا يثبت التخصيص بالشك " (3) .
2- ومما تفرع عن الخلاف المذكور ما لو استقرض شخص ألف دينار من آخر واستأجر المستقرض المقرض لحفظ شيء، مما لا يستحق الاستئجار له كالساعة والمرآة والملعقة مثلًا، ببدل إيجار قدره مائة درهم في الشهر، وقيمة العين المذكورة لا تزيد على الأجر، ففي صحة الإجارة أو عدم صحتها ثلاثة أقوال: أحدها يقضي بصحة الإجارة بلا كراهة اعتبارًا لعرف خواص بخارى، والثاني الصحة مع الكراهة للاختلاف، والثالث، الفساد وهو الصواب كما ذكر ابن عابدين معللًا ذلك بقوله: " لأن الإجارة مشروعة على خلاف القياس، لأنها بيع المنافع المعدومة وقت العقد وإنما جازت بالتعارف العام لما فيها من احتياج عامة الناس إليها وقد تعارفوها سلفًا وخلفًا فجازت على خلاف القياس " (4) .
__________
(1) الأستاذ الخياط في نظرية العرف: ص 61.
(2) انظر رسالته في العرف: ص 5.
(3) انظر رسالته في العرف: ص 6.
(4) انظر رسالته في العرف: ص 7.(5/2622)
ثالثا – تعارض العرب والاجتهادات الفقهية:
لا تخلو المسائل الفقهية من أن تكون ثابتة بصريح النص أو أن تكون ثابتة بضرب من الاجتهاد والرأي.
فالأولى كانت مدار بحثنا عند كلامنا عن مخالفة العرف للنص الشرعي من كل وجه أو من بعض الوجوه، والثانية هي مدار كلامنا هنا فأقول: إن كثيرًا من المسائل الاجتهادية مبنية على عرف زمان المجتهد بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال المجتهد بخلاف ما قاله أولًا ولهذا قال العلماء من شروط الاجتهاد أنه لا بد للمجتهد من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام مختلف باختلاف الزمان وذلك بسبب تغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا، لأصاب الناس الحرج ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لأجل بقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام (1) .
ولذلك خالف مشايخ الحنفية ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذًا من قواعد مذهبه.
من ذلك:
(أ) إفتاء متأخري الحنفية بجواز الاستيجار على تعليم القرآن ونحوه بسبب انقطاع العطايا عن المعلمين التي كانت تنهال عليهم في الصدر الأول، ولو لم نحكم بجواز أخذ الأجرة على التعليم لأعرض الناس عن هذه المهنة بسبب انشغالهم في الكسب للحصول على لقمة العيش، وبذلك يضيع العلم والتعليم وكذا جواز أخذ الأجرة على الأذان والإمامة مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة والصاحبان من عدم جواز الاستيجار وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة وسائر العبادات الأخرى.
(ب) ومن ذلك أيضا تحقق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول أبي حنيفة بناء على ما كان في زمنه من أن الإكراه لا يقع إلا منه، وبفساد الزمان أصبح الإكراه يتحقق من غيره أيضًا، فقد قال محمد باعتباره، وأفتى به المتأخرون لهذا السبب.
(ج) ومن هذا القبيل قول أبي يوسف ومحمد بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفة هذا القول لما نص عليه أبو حنيفة بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة بسبب عيشه في ذلك العصر الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وهما أدركا الزمن الذي فشى فيه الكذب وقد نص العلماء على أن هذا الاختلاف اختلاف عصر وأوان لا اختلاف حجة وبرهان (2) .
__________
(1) ابن عابدين في المصدر السابق: ص18.
(2) ابن عابدين في رسالته العرف: ص 18 وما بعدها(5/2623)
أثر العرف في العقود:
بعد هذا العرض لموضوع العرف، أود أن أذكر بعض الفروع الفقهية المبنية على العرف، والتي أفتى الفقهاء بجواز تلك المسائل لتعامل الناس بها، فلو تغيرت العادة أو بطلت، فلا يجوز للفقيه في هذه الحالة الفتوى بها، ومن هنا يتبين لنا أهمية العرف وأثره على كثير من العقود، ومن هذه الفروع ما يلي:
1- لو اشترى رجل سلعة وقال له آخر أشركني معك أو قال له المشتري: أشركتك معي، فإن الشركة صحيحة في هذه الحالة، والسلعة مناصفة بين الاثنين (1) .
2- بيع الأرض يدخل فيه كل ما وجد في الأرض على سبيل البقاء والاستقراء، ولا يدخل في البيع الزرع إلا بالتسمية، لأنه وجد فيها على سبيل القطع (2) .
3- لو اشترى رجل ثمرة على رؤوس الشجر، فالرأي عند أبي حنيفة، أن المشتري يلزم بقطعها في الحال تفريغًا لملك البائع، وهذا فيما لو اشتراها مطلقًا أو بشرط القطع، فإن اشترط تركها على أصول الشجر، فسد البيع عنده (3) وقال المالكية: لا مانع من التبقية على الأصول للعادة (4) وهذا هو رأي الشافعية أيضًا، وبه قالت الإمامية (5) .
4- ومنها دخول العلو في بيع الدور والحوانيت وإن لم يتطرق إليه المتعاقدان في العقد بأن يذكرا الحقوق والمرافق التابعة للعقار، وذلك بناء على العرف الحادث (6) .
5- التوكيل في البيع المطلق، فإنه يتقيد بثمن المثل وغالب نقد البلد الذي جرى فيه العقد تنزيلًا للغلبة منزلة صريح اللفظ (7) .
6- حمل إجارة الدواب والعربات على السير المعتاد والمنازل المعتادة، وكذلك دخول حمل الأمتعة والبسط وأواني الطعام والشراب في الإجارة على الدواب إذا استؤجرت للركوب في الأسفار، لاطراد العرف (8) .
7- استصناع الصناع الذين جرت عادتهم بأنهم لا يعملون إلا بالأجرة كالدلال والحلاق والنجار والحمال، فيستحق هؤلاء الأجرة ما جرت به العادة، وإن لم يسمِّ لهم المستصنع الأجرة، لدلالة العرف على ذلك (9) .
__________
(1) انظر الفروق، للقرافي: 2 /283.
(2) انظر الفروق، للقرافي: 5 /102.
(3) انظر فتح القدير للكمال بن الهمام
(4) انظر الفروق: 2 /286.
(5) انظر قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام: 2 /105؛ القواعد والفوائد في الفقه والأصول، لابن عبد الله محمد بن مكي العاملي: 1 /148.
(6) ابن عابدين في رسالته العرف: ص 31.
(7) العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /107، والعاملي في المصدر السابق أيضًا.
(8) انظر قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام: 2 /109.
(9) انظر قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام: 2 /109.(5/2624)
8- قبول الهدايا من يد حاملها سواء كان صبيًّا مميزًا أو امرأة، للعادة (1) .
9- وفي ألفاظ الوقف والوصية، كما لو أوصى رجل لمسجد، فإن اللفظ ينصرف إلى عمارته للعرف، وكذا الوصية للعلماء والقراء، فإنها جائزة وإن لم ينص على أشخاص معينين، للعرف أيضا (2)
10- التقاط كل مال حقير جرت العادة أن مالكه لا يعرج عليه ولا يلتفت إليه، فإنه يجوز تملكه والارتفاق به لاطراد العادات ببذلة، مثال ذلك: ما يتساقط من ثمر النخيل والأشجار في الطرقات التي تكثر فيها البساتين في عصرنا الحاضر (3) .
11- البيع بالنموذج، بأن يعرض البائع سواء كان تاجرا أو مزارعا نموذجا من سلعته أو محصوله على التجار فيتعاقد معهم على كمية معينة من السلعة بثمن معين، فالعقد صحيح في مثل هذه الحالة، لتعارف الناس بذلك ولو تبين للمشتري عند استلام المبيع بأنه على غير الوصف الذي رآه، جاز له فسخ العقد.
12- ومنها بيع الثمار على الأشجار عند ظهور بعضها دون بعض، فقد أجاز البيع بعض فقهاء المسلمين، للعرف فيجعل الموجود أصلًا في هذا العقد وما يحدث بعد ذلك تبعا وقد تعامل الناس بيع ثمار الكرم بهذه الصفة ولهم في ذلك عادة ظاهرة وفي نزع الناس من عاداتهم حرج (4) .
13- ومنها اعتماد خط الإنسان واعتباره حجة على نفسه مثل ما يفعله التجار في المخاطبات التجارية فيما بينهم، وفي إلزام أنفسهم بتعهدات خطية، فإنها تصح، ويلزم المتعهد بما تعهد به في تلك المخاطبات.
وما قاله بعض فقهاء الحنفية من عدم الاعتماد على خط الإنسان والعمل به بناء على الأصل المنقول في المذهب، إنما قالوا ذلك قبل حدوث العرف كما ذكر ابن عابدين، ولما حدث العرف في الاعتماد على الخط والعمل به في مثل ما ذكرناه، أفتى به هؤلاء الفقهاء رحمهم الله تعالى (5) .
14- الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إذا كان السقي لا يضر بمالكها جائز إقامة للإذن العرفي مقام الإذن اللفظي (6) .
15- إزفاف العروس إلى زوجها مع كونه لا يعرفها فإنه يحل له وطؤها، لأن زفافها شاهد على أنها امرأته لبعد التدليس في مثل هذه الأمور عادة (7) .
16- البيع بالمعاطاة، فإنه يقوم مقام الإيجاب والقبول لمن جلس في الأسواق للبيع والشراء، لأنها دالة على الرضا بالمعاوضة دلالة صريح الألفاظ (8) .
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
__________
(1) انظر القواعد والفوائد، للعاملي: 1 /147.
(2) انظر القواعد والفوائد، للعاملي: 1 /147.
(3) العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /113.
(4) ابن عابدين في رسالته نشر العرف: ص 37.
(5) ابن عابدين في رسالته نشر العرف: ص 42.
(6) العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /113.
(7) العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /113.
(8) العز بن عبد السلام في القواعد: 2 /113.(5/2625)
أهم مصادر البحث
بعد القرآن الكريم:
1- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، دار الكتب العلمية، بيروت.
2- الفروق، للإمام أبي العباس الصنهاجي المشهور بالقرافي وبهامشه تهذيب الفروق والقواعد السنية، دار المعرفة.
3- نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، رسالة لابن عابدين مطبوعة مع مجموعة من الرسائل والمعروفة برسائل ابن عابدين.
4- القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربية، لأبي عبد الله محمد بن مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول، القسم الأول تحقيق الدكتور عبد الهادي الحكيم والمطبوع بالنجف.
5- الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، لأبن نجيم، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل، مؤسسة الحلبي للنشر والتوزيع بالقاهرة 1387هـ ـ 1968 م.
6- الأشباه والنظائر في القواعد وفروع فقه الشافعية، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة.
7- فتح القدير، للكمال بن الهمام، المطبعة الميمنية بمصر.
8- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية، مطبعة السعادة بمصر سنة الطبع 1955م.
9- الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، مؤسسة الحلبي بالقاهرة سنة الطبع 1967م.
10- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني، مطبعة الجمالية بمصر سنة الطبع 1910م.
11- الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، للدكتور مصطفى الزرقاء، مطبعة الجامعة، دمشق.
12- المبسوط، لشمس الآئمة السرخسي، مطبعة السعادة بمصر سنة الطبع 1324 هـ.
13- نظرية العرف، للدكتور عبد العزيز الخياط، مكتبة الأقصى عمان.
14- الوجيز في أصول الفقه، للدكتور عبد الكريم زيدان، الدار العربية بغداد.
15- المختار من صحاح اللغة، محيى الدين عبد الحميد، الاستقامة 1934 م.
16- العرف في الفقه الإسلامي، للدكتور محمد سعود المعيني، بحث منشور في مجلة كلية التربية جامعة البصرة العدد السادس.
17- الأحكام السلطانية والولايات الدينية، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي المتوفى 450 هـ، دار الكتب العلمية بيروت.(5/2626)
العرف
إعداد
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
ذهب كثير من العلماء إلى أن العرف هو العادة وأنهما لفظان مترادفان معناهما واحد والعرف والعادة هو ما يغلب على الناس من قول أو فعل أو ترك، والعرف كما يذكر الأصوليون ينقسم إلى أقسام عدة هي:
العرف اللفظي أو القولي:
وهو أن يتعارف قوم إطلاق اللفظ على معنى غير المعنى الموضوع له أصلًا بحيث يتبادر إلى الأفهام ذلك المعنى عند النطق به من غير قرينة تبين ذلك (1) ومثال العرف القولي من باب الوقف قول الفقهاء في حبس يقول صاحبه (وهو حبس على ولدي) ، أنه يدخل فيه البنات إذا كان لفظ الولد يطلق على الذكر والأنثى في عرف بلد الواقف أو لم يكن هناك عرف، أما إذا كان عرفهم إطلاقه على الذكر فقط فإنه يختص بالذكور ولا يدخل فيه الإناث وإن كان معنى الولد لغة يعم الصنفين.
ويراعى العرف القولي وإن لم يوافق لغة العرب أو ما جاء في لسان الشارع، ومثال ذلك تعارف الناس في التفرقة بين اللحم والسمك فمن حلف ألا يأكل لحمًا، فأكل سمكًا لا يحنث حيث أن السمك لا يسمى في العرف لحمًا، وإن سمي به في قوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} (2) .
ويعتد بالعرف القولي متى كان عامًّا لبلد أو قوم، وتحمل عليه ألفاظ المتكلمين من أهل تلك البلد بإطلاق سواء في ذلك العقود والالتزامات والأيمان والنذور، أما إذا كان العرف خاصًّا بالمتكلم دون قومه حمل لفظه عند المالكية على عرفه الخاص في الأيمان والنذور والطلاق، أما العقود والالتزامات العامة فإنما يرجع فيها إلى العرف العام أو الوضع اللغوي أن لم يكن هناك عرف عام.
__________
(1) انظر الموافقات، للشاطبي: 2 /284.
(2) [سورة فاطر: الآية 12] .(5/2627)
العرف العملي:
وهو ما اعتاد الناس فعله في معاملاتهم وتصرفاتهم ومثال ذلك الزوجان يختلفان في المهر بعد البناء فيدعي الزوج أنه دفعه لها وتنكر الزوجة ذلك، فقد قال الإمام مالك رحمه الله: إن القول للزوج لأن العرف بالمدينة كان جاريًّا بدفع المهر قبل الدخول، وتطرد هذه القاعدة في كل بلد له مثل عرف أهل المدينة وكذلك عند المالكية من حاز عقارًا عشر سنين، ثم قام شخص يدعي استحقاق ذلك العقار دون تقديم حجة مقنعة على سكوته طيلة تلك المدة كغيابه أو عدم علمه فإنه لا ينتفع بالبينة التي تثبت له أصل الملك وذلك لأن العرف قد جرى بعدم سكوت شخص على ملكية آخر لأرض يملكها هو وكذلك فيما إذا سكتا عن تسمية المهر وكانت هناك عادة جارية بقدر الصداق فإنه يحكم بهذا القدر.
العرف الفعلي الخاص بفرد:
حكى فيه شهاب الدين القرافي الإجماع على عدم الاعتداد به وأنكر عليه بعض الفقهاء المالكية حكاية الإجماع هذه، وأوردوا أنه يمكن الاعتداد بالعرف الفعلي الخاص وساقوا لذلك مثلًا فيما إذا وكل أحد الناس آخرًا في شراء ثوب له، فاشترى له ما لا يناسب عادته، فإن الوكيل ملزم بما اشترى وليس الموكل.
العرف الجاري بالترك:
ومثال هذا هو تسامح الناس في ثمار الغصن الخارج عن حدود البساتين، فمن وجد شيئا من مثل هذا الثمر جاز له أكله دون توقف على إذن صاحب البستان وذلك لأن أصحاب البساتين يتسامحون في مثله ولا يتعرضون لمن يلتقطه.
حجية العرف:
لم نجد فيما ساقه الفقهاء من أدلة الحجية العرف دليلًا قويًّا من كتاب أو سنة كما لم نجد في نفس الوقت أي دليل ضد الأخذ بالعرف الصحيح الذي لا يتنافى مع الشريعة ... بل هناك مزايا عدة في الأخذ بالعرف الصحيح لتسهيل مجرى العدالة والوصول إلى الحكم العادل بين الناس، ولذلك اعتبر الفقهاء على اختلاف مذاهبهم العرف وجعلوه أصلًا ينبني عليه شطر عظيم من أحكام الفقه (1) .
__________
(1) الشيخ أبو سنة، العرف والعادة: ص 23(5/2628)
ويقول الشيخ أبو زهرة: والفقه المالكي كالفقه الحنفي يأخذ بالعرف ويعتبره أصلًا من الأصول الفقهية فيما لا يكون فيه نص قطعي بل إنه أوغل في احترام العرف أكثر من المذهب الحنفي لأن المصالح المرسلة من دعامة الفقه المالكي في الاستدلال، ولا شك أن مراعاة العرف الذي لا فساد فيه ضرب من ضروب المصلحة لا يصح أن يتركه الفقيه بل يجب الأخذ به ولقد وجدنا المالكية يتركون القياس إذا خالفه العرف، وكذلك ورد عن القرطبي في باب الاستحسان أن من ضروبه ترك القياس لأجل العرف بل إن العرف يخصص العام ويقيد المطلق، عند المالكية (1) .
وقال العز بن عبد السلام الشافعي: (قاعدة الإيمان البناء على العرف إذا لم يضطرب، فإن اضطراب فالرجوع إلى اللغة) ، وقال: قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقًا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف (2) .
ولا شك أن السؤال المهم الذي يطرح نفسه الآن لتقدير المجمع، هو كيفية الأخذ بالعرف واعتباره حكما صالحًا والعرف ينقسم في هذا الشأن إلى ثلاثة أقسام.
1- ما يقوم الدليل الخاص على اعتباره كمراعاة الكفاءة في النكاح ووضع الدية على العاقلة في القتل الخطأ، والتحقيق أن الشريعة العادلة لا تجعل نفس العادة قانونًا إلا أن تكون العادة معقولة صالحة.
2- ما يقوم الدليل على نفيه كعادة الجاهلية في التبرج وطوافهم بالبيت عراة ومناصرة الأخ لأخيه وإن كان ظالما.
3- ما لم يقم الدليل الخاص على اعتباره أو نفيه، وهذا موضع نظر المجتهدين، فيذهب كثير منهم إلى مراعاته ويجعلونه أصلا من أصول الشريعة ليبنون عليه فتاوى وأحكاما، وأكثر ما تجد هذه الفتاوى في كتب المالكية والحنفية والحنابلة. وفي مراعاة مثل هذه الأعراف تسهيل على المسلمين فيما لا يتعارض مع الشريعة وتمكينهم من تكييف معاملاتهم وأوضاعهم بما يتناسب وبيئتهم من غير تعارض مع الشرع.
وهناك مسائل فقهية كثيرة بنيت على الاحتجاج بالعرف ومن ذلك تجويز المذاهب الأربعة لبيع المعاطاة، وقد جوزوه استنادًا على العرف لأن الشارع لم يوضح كيفية معينة للإيجاب والقبول بل ترك هذا كله للعرف، وحينئذ فإن المبيع يكون صحيحا بالمعاطاة. وكذلك تحديد الحرز في السرقة وهو بالجملة كل شيء جرت العادة بحفظ الشيء المسروق فيه. ومن هذه الحالات يتضح مدى أهمية العرف وصلته القوية بالشريعة الغراء.
__________
(1) الشيخ أبو زهرة، الإمام مالك: ص 253.
(2) نشر العرف: ص 3(5/2629)
والسؤال الآن: هل يراعى العرف الفاسد كما إذا جرى عرف الناس ببعض العقود الفاسدة مثلًا؟
ذهب كثير من الفقهاء إلى عدم مراعاة العرف الفاسد، وهو ما أرى الأخذ به لأن في مراعاة العرف الفاسد إقرارًا للناس على ما هم عليه من جهل بالفقه أو من عدم التقيد بالشريعة في معاملاتهم. وفي عدم الأخذ بالعرف الفاسد تطهير للمعاملات من سيء الأفهام وخروج بالناس إلى سعة الشريعة وتهذيبها ورحمتها وتوطينهم عليها. قال العلامة أبو عبد الله بن شعيب أحد علماء تونس في القرن الثامن: (وغلبة الفساد إنما هي من إهمال حملة الشريعة ولو أنهم نقضوا عقود الفساد لم يستمر الناس على الفساد) ، وقال الأستاذ الشيخ إبراهيم الرياض التونسي في إحدى فتاويه: (والعرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق، وأما عرف يبطل الواجب ويبيح الحرام فلا يقول به أحد من أهل الإسلام) .
ومراعاة العرف تقتضي تغير الأحكام ودورانها مع اعتراف الناس متى ما تكرر العرف وشاع واطرد العمل به وكان عاما، ولم يعطل أو يعارض حكمًا ثابتًا بنص أو أصلا قطعيًّا من أصول الشريعة. ولقد عقد ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين فصلا بعنوان: تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وساق أمثلة كثيرة على ذلك، ثم قال في نهاية الفصل بعد تقريره مذهب المالكية بالقول بالعرف: (وهذا محض الفقه من أفتى بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم، وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما يكونا على أديان الناس وأبدانهم، والله المستعان) .
ولا يعد اختلاف الأحكام باختلاف العادات اختلافا في أصل خطاب الشارع، بل معنى هذا الاختلاف أن العادات إذا اختلفت اقتضت كل عادة حكمًا يلائمها، فالواقعة إذا صحبتها عادة، اقتضت حكما غير الحكم الذي تقتضيه عندما تقترن بغيرها من العادات. ولهذا السبب ترى فقهاء المذاهب لا يأخذون بفتاوى أئتمهم القائمة على رعاية العرف متى تحققوا أن العرف قد تغير وأن الواقعة أصبحت تستحق حكما آخر غير ما قرره الأئمة من قبل. وقد عدل عدد من فقهاء المالكية في فتاويهم عن المشهور في المذهب وبنوها على العرف. قال شهاب الدين القرافي في قواعده: (إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك فلا تجبره على عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أيًّا كانت إضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضيين) .(5/2630)
وكذلك ترى فقهاء الحنفية يخالفون ما نص عليه أبو حنيفة في مسائل بناها على عرف كان جاريا في زمنه، وقالوا في وجه هذه المخالفة: إن أبا حنيفة لو كان في زمنهم لما وسعه إلا أن يفتي بما أفتوا به ولم يعدوا التصرف في الأحكام القائمة على العرف خروجا عن المذهب، وإنما هو الأخذ بأصل إمامهم الذي يقتضى الرجوع إلى العرف في الأحكام.
وقد يذكر بعض الفقهاء العرف في سياق الاستدلال على جواز أمر ويريدون ما كان جاريا في عهد النبوة أو بين أهل العلم، وليس الدليل في الحقيقة نفس العرف وإنما هو إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أو الإجماع الذي لا ينعقد إلا عن دليل. ومثال هذا أن الإمام مالكًا خص قوله تعالى:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [سورة البقرة: الآية 233] ، بغير ذوات الأقدار والشرف، وقال: إنه لا يجب على الشريفة إرضاع ولدها لأن العادة جارية بذلك، ولا يريد الإمام أن مجرد جريان العرف يسوغ هذا التخصص، وإنما أراد جريان العرف مع عدم إنكار أهل العلم من السلف فيرجع إلى الاستدلال بالإجماع. وقال بعض أهل العلم: عدم إرضاع الشريفة ولدها عادة عربية واستمر الأمر فيها بعد الإسلام إلى زمن مالك رضي الله عنه، ومن هذا القبيل اكتفاؤهم في صحة البيع بالمعاطاة مستندين إلى العادة، وقالوا إن استمرار هذه العادة يشهد بصحة نقلها خلفًا عن سلف ويغلب على الظن أنها كانت جارية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) وقد نبه إلى ذلك أيضًا ابن السبكي رحمه الله، فقال في جمع الجوامع: (والأصح أن العادة بترك بعض الأمور تخصص إن أقرها النبي صلى الله عليه وسلم أو الإجماع) .
والذي نريد تقريره أخيرًا هو أن العرف أصل من الأصول التي يستند إليها في الوصول إلى الفتوى بالشروط والمواصفات المذكورة أعلاه وبمثل هذا الأصل يعلم أن الشريعة الإسلامية ملائمة لكل زمان ومكان، وليست كما يزعم الجهلاء أنها ضيقة المجال، فلا تفي بأحكام الحوادث، أو أنها قديمة العهد فلا تحفظ مصالح ما تجدد من الأزمان.
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد.
__________
(1) انظر البحر المحيط، لللزركشي(5/2631)
العرف بين الفقه والتطبيق
إعداد
د. عمر سليمان الأشقر
المدرس بقسم الفقه المقارن والسياسة الشرعية
بكلية الشريعة والدراسات الإِسلامية
جامعة الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة بين يدي البحث
الحمد لله الذي هدانا بفضله إلى دينه الخاتم، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد خاتم أنبيائه ورسله الذي حمل الرسالة، وبلغ الأمانة، وعَرَّف بالحق، وأنار الدرب، وعلى آله وصحبه منارات الهدى ومصابيح الدجى، وعلى من اتبع هديه، وسار على دربه، وبعد:
فإنَّ علماء الشريعة مطالبون بإعطاء موضوع هذا البحث حقَّه من الدراسة في مجالسهم ومجامعهم، وقد أحسن مجمع الفقه الإِسلامي عندما اختار هذا الموضوع ليكون واحدًا من الموضوعات التي تطرح للبحث في دورة المجلس هذه.
وأرى أنَّه لا يحسن بعلماء المجمع الكرام أن يخوضوا في جزئيات مسائل العرف مما قتله علماؤنا بحثًا في مدوناتهم ومؤلفاتهم، فذاك أمر قد فرغ منه أهل الفقه والعلم والبحث فيه لن يأتي بجديد، ولن يعالج مشكلًا.
والذي أرى أنَّه يحسن بنا في هذه الدورة بحثه في موضوع العرف أمران:
الأول: تغيير الأحكام التي تقوم على العرف، وإلى أيَّ مدى يراعي الفقهاء فيما يصدرونه من أحكام وفتاوى عرف الناس وعوائدهم.
وقد وجدت جمعًا من الفقهاء الثاقبي النظر على مختلف المذاهب والعصور يَضِجُّون بالشكوى من كثير من معاصريهم من أهل الفقه الذين جمدوا فيما يصدرونه من فتاوى وأحكام على ما أصدره سلفهم، على الرغم من تغيُّر عرف الناس وعوائدهم في المسائل المبنية على العرف.
إنَّ الجمود على أحكام وفتاوى السابقين في المسائل التي مَدْركها العرف أوقع الناس في حرج شديد، وضيق أكيد، جعل الفقهاء الأعلام في كل عصر ومصر يشنون حملات شديدة في دروسهم ومؤلفاتهم على أولئك الذين أوقعوا المسلمين في هذا الحرج، ونسبوا للشريعة أحكامًا تتصف بالقسوة والجمود والظلم، وحَرِيُّ بهذا المجمع الكريم أن يلفت أنظار الباحثين والدارسين والمفتين والقضاة في العالم الإِسلامي كي يتنبهوا إلى هذا الموضوع ويعطوه حقه من الرَّعاية والاهتمام، وفق الضوابط الشروط التي وضعها علماؤنا وفقهاؤنا في هذا الأمر.(5/2632)
والأمر الثاني: الذي يحسن أن تتجه أنظار فقهاء المجمع إليه هو مكانة العرف من التشريع الإسلامي، ذلك أن المسلمين اليوم ظلموا شريعتهم كثيرًا عندما قدموا عليها في أغلب أقطارهم القوانين الوضعية والأعراف والعوائد التي تسود في مجتمعاتهم، وهذا ظلم كبير لهذه الشريعة المباركة التي يجب أن يكون لها الصدارة والهيمنة على كل الشرائع والمبادئ والنظم والقوانين، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تقضي الشريعة عن الحكم وتحصر في نطاق ضيق.
لقد جاءت الشريعة الإسلامية لتحكم وتسود، وعندما حققت هذا غيرت أعراف البشر الظاملة وعوائدهم الخاطئة، والتي كانت بمثابة قيود وأغلال تقعد بهم عن تحقيق الغاية التي خلقوا من أجلها وتوقعهم في عنت وبلاء لا يستطيعون التخلص من إساره، لا لشيء إلا لأنه تراث الآباء والأجداد، لقد قومت الشريعة الأعراف البشرية، والعوائد الإنسانية ووضعتها في مكانها الذي ينبغي أن توضع فيه ولم تجعل لهذه الأعراف أي دور إذا هي صادمت نصًّا من نصوص الشريعة، وألزمت البشر بتغيير عرفهم وعاداتهم بما يتفق ويوائم هذه الشريعة.
وقد فقه علماؤنا وعوامنا هذه الحقيقة، ووعوها جيدًا، وصاغوا حياتهم ومجتمعاتهم وفقهًا، ونص الأصلويون والفقهاء والمفسرون والمحدثون على أن العرف لا قيمة له، بل يجب تغييره إذا خالف النص الشرعي، وعندما بحث الأصوليون في مصادر التشريع الإسلامي جعلوا العرف في ذيل البحث، بل إن الأصوليين يرون أن العرف ليس مصدرًا مستقلًا من مصادر الفقه اٍلاسلامي.
ولذا فإن جناية المتنفذين في عالمنا الإسلامي كانت كبيرة وعظيمة حينما صاغوا قوانين وضعية ألغوا بها دور الشريعة الإسلامية، وحكموا هذه القوانين في رقاب السملمين، وزادوا الأمر سوءًا عندما جعلوا العرف المصدر الاحتياطي الأول الذي يرجع إليه القاضي في حكمه إذا لم يجد في القانون نصًّا يحكمه في الدعوى التي ترفع إليه، ثم تأتي بعد ذلك الشريعة الإسلامية في المرتبة الثالثة، وبعضهم يجعلها في المرتبة الرابعة، وآخرون لا يذكرونها، ولا يجعلون لها دورًا في قوانينهم ولا في تشريعاتهم.
لقد أثار بعض رجال القانون عواصف شديدة على بعض أهل الغيرة الإسلامية الذين طالبوا بأن تقدم الشريعة على العرف في قوانين المسلمين في ديار المسلمين، وكتب هؤلاء في الصحف والمجلات وتكلموا في المجامع والندوات وأرعدوا وأزبدوا، كل ذلك لأن بعض الذين يهمهم أمر هذا الدين نادى وطالب بتقديم الشريعة على العرف، وحاول أن يستصدر قانونًا يحقق هذا المطلب.
وعلى الرغم من ذلك فإني لا أرى فائدة من البحث في هذا الموضوع، لأن إيماني بشريعتي وديني يأبى علي كل الإباء أن أرتضي جعل الشريعة الإسلامية في المرتبة التالية للقوانين الوضعية، ولا يشرَّف ديني وشريعتي أن تقدَّم هذه الشريعة على العرف إذا كانت مسبوقة بالقانون الوضعي.(5/2633)
إنَّ على أعضاء هذا المجمع الكريم أن يرفعوا عقيرتهم منادين بغير وجل كي يعود الأمر إلى نصابه، ويعطي القوس باريها، فالشريعة الإِسلامية تأبى كلَّ الإِباء أن يُقَدَّم عليها عرف البشر فضلًا عن قوانين البشر، ورضا علماء المسلمين وحكامهم ومحكوميهم بذلك خيانة لله وللرسول ولهذا الدين.
وهذا البحث الذي أقدَّمه في هذه الدورة من دورات مجمع الفقه الإِسلامي عني بالتركيز على هاتين القضيتين:
الأولى: مسألة جمود كثير من فقهاء المسلمين على الأحكام والفتاوى التي أصدرها السابقون، وكان مدركها العرف، على الرغم من تغير عرف الناس فيها.
والثانية: تقديم عرف الناس وعوائدهم على الشريعة الإِسلامية. وقد تم هذا البحث في مقدمة وثلاثة فصول:
تناولت في المقدمة: تعريف العرف في اصطلاح الفقهاء والقانونيين كما وضحت الفرق بين العرف والعادة عند الفقهاء والقانونيين، وما يترتب على هذا الفرق عند من يقول به.
الفصل الأول: مخصص للحديث عن العرف والشريعة، بينت فيه مكانة العرف عند الأمم الماضية، وكيف كان العرف صادًّا للناس عن اتباع الحق؟ وبينت عيوب العرف وآفاته، وكيف أقصت الشريعة الإِسلامية العرف عندما حكمت ديار المسلمين؟ وكيف أعاد المسلمون العرف إلى الصدارة وقَدَّموه على الشريعة، وفي هذا رِدَّة جاهلية وتأخر وجمود.
والفصل الثاني: يبحث في حجية العرف، وهذا الفصل يتبين به قارئه الموضع الذي يجب أن يضع فيه العرف، وقد بينت فيه موقف الفقهاء من الاحتجاج بالعرف، والأدلة على اعتبار العرف كما ذكرت رتبة العرف من التشريع وبينت أقسامه وأوردت بعض الأمثلة لأحكام بنيت على العرف.
الفصل الثالث: في تغير الأحكام والفتاوى بتغير العرف أوردت في هذا الفصل الأسباب التي تدعو إلى تغير العرف والعوائد، وبينت فيه أيضًا وجوب تغير الأحكام والفتاوى إذا تغير العرف الذي بنيت عليه تلك الفتاوى والأحكام، وختمت هذا الفصل بإيراد بعض الأمثلة التي تغيرت أحكامها أو بطلت بسبب تغير عرف الناس فيها.
آمل أن أكون قد وفيت هذا الموضوع حقه، ومن الله أسأل المثوبة وإليه أتوجه بالحمد والثناء ومنه أسأل العصمة من الزلل في القول والعمل إنه نعم المولى والمجيب.(5/2634)
المقدمة
تعريف وبيان
المبحث الأول
تعريف العُرْف في اللغة
مدار العُرْف في لغة العرب على أمرين كما يقول اللغوي ابن فارس في معجمه: "تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والسكون والطمأنينة".
يقول ابن فارس في تعريف العُرْف: "العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدلُّ أحدهما على تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والآخر يدلُّ على السكون والطمأنينة.
فالأول: " العُرْف" عُرْف الفرس، وسمي بذلك لتتابع الشعر، ويقال: جاء القطا عُرْفًا عُرْفًا، أي بعضها خلف بعض.
والأصل الآخر: "المعرفة والعِرْفان"، تقول: عَرَف فلان فلانًا عِرْفانًا ومعرفة، وهذا أمر معروف، وهذا يدلُّ على ما قلناه من سكونه إليه، لأنَّ من أنكر شيئًا توخى منه ونبأ عنه، والعُرْفُ: المعروف، سُمَّي بذلك لأنَّ النفوس تسكن إليه.
أبى الله إلا عدله ووفاءه
فلا الشكر مَعْروف ولا العُرْف
ضائع (1) .
والعُرْف والعَارفة والمعروف – في لغة العرب – واحد كما يقول أبو منصور الأزهري: "وهو كل ما تعرفه النفس من الخير وتَبْسَأ به، وتطمئن إليه" (2) .
وفَسرَّ الراغب الأصفهاني العُرْف: "بالمعروف من الإِحسان" (3) ، وهذا هو معنى العرف في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (4) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس: 4 /281.
(2) تهذيب اللغة، لأبي منصور أحمد الأزهري: 2 /344.
(3) المفردات، للراغب الأصفهاني: ص 333.
(4) سورة الأعراف: الآية 199.(5/2635)
ويقول الفيروز آبادي: " العُرْف اسم لكل فعل يعرف بالشرع والعقل حسنه. والعرف: المعروف من الإِحسان" (1) .
وقال ابن الأثير: "المعروف: اسم جامع لكلَّ ما عُرِفَ من طاعة الله والتقرب إليه والإِحسان إلى الناس، وكلّ ما نَدَب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه" (2) .
المبحث الثاني
تعريف العُرْف في اصطلاح الفقهاء والقانونيين
نقل ابن عابدين عن النسفي الفقيه الحنفي أنَّه عرَّف العُرْف في كتابه "المستصفى" بقوله: "العادة والعُرْف ما استقرَّ في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول " (3) .
وفي هذا التعريف نقص – كما يقول الدكتور عبد العزيز الخياط – لأنَّ التعريف ردَّ العرف إلى قبول الطباع السليمة، واعتمد على شهادة العقول، وفي إِطلاق قبول الطبائع لأمر ما ليصبح متعارفًا عليه نظر، إذ ليس كلُّ ما قبلته الطبائع يعدُّ عرفًا، وفي تحديد "السليمة" نظر أيضًا، إذ أنَّه يحتاج إلى جهة تميز بين السليم فيها وغير السليم، والحسن والقبيح، ولا جهة تعين ذلك إِلا الشرع أو العقل عند من يقول بتحسين ما يحسنه وتقبيح ما يقبحه، والعقل يتفاوت عند الناس، ومدى الإِدراك يتأثر بحسب الأزمنة والأمكنة، فتختلف الأعراف عندئذٍ، فلم يبق إِلا تحديد الشرع، وإِذا جعلنا الشرع محدَّدًا فيكون مقتصرًا على العرف الصحيح، فلا يشمل الأعراف الفاسدة، لأنَّ الشرع قبحها، ولا تقبلها الطباع والعقول السليمة" (4) .
والتعريف المُرْتَضَى للعرف ما عَرَّفه به الشيخ عبد الوهاب خلاف، فإنَّه قال في تعريفه: "هو ما تعارفه الناس، وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك" (5) .
وقريب من هذا التعريف تعريف الدكتور عبد العزيز الخياط، فإنَّه قال في تعريفه: " العرف ما اعتاده الناس، وساروا عليه في شؤون حياتهم" (6) .
__________
(1) بصائر ذوي التمييز: 4 /57.
(2) النهاية، لابن الأثير: 3 /216.
(3) نشر العرف، لابن عابدين؛ مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /112- وعزو هذا التعريف إلى مستصفى النسفي هو الحق، وقد وهم كثير من الباحثين في هذا الموضوع فعزوه إلى مستصفى الغزالي.
(4) نظرية العرف، للدكتور عبد العزيز الخياط: ص 24.
(5) علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف: ص 99.
(6) نظرية العرف: ص 24.(5/2636)
وللعرف عند علماء القانون تعريفات متقاربة، فقد عرَّفه الدكتور سعد عصفور بقوله: "هو مجموعة القواعد التي تنشأ من درج الناس عليها، يتوارثونها جيلًا عن جيل، والتي لها جزاء قانوني كالقانون المسنون سواء بسواء" (1) .
وعرَّفه الدكتور عبد المنعم فرج الصَدَّة بأنَّه "اعتياد الناس على سلوك معين في ناحية من نواحي حياتهم الاجتماعية بحيث تنشأ منه قاعدة يسود الاعتقاد بأنها ملزمة". وقد يطلقون مصطلح "العرف على القواعد القانونية ذاتها التي تنشأ من اعتياد الناس على مثل هذا السلوك (2) .
وعرَّفه الدكتور حسن كيره بأنَّه "إطراد التقليد على اتباع سنَّة معيَّنة في العمل مع الاعتقاد في إلزام هذه السنَّة لقاعدة قانونية، أو هو تواتر العمل بقاعدة معيَّنة تواترًا تمليه العقيدة في ضرورة اتباع هذه القاعدة، وقد يقصد باصطلاح العرف فضلًا عن ذلك الدَّلالة على القاعدة أو السنَّة التي تحمل العقيدة في إلزامها على اطراد اتباعها في العمل" (3) .
والقانونيون – في تعريفهم للعرف – يحرصون على أن يضَّم التعريف ركني العرف، وهما الركن المادي والركن المعنوي.
ويتمثل الركن لمادي في اعتياد الناس على سلوك معين، ومن هنا اشترطوا في العادة حتى يصبح عرفًا أن تكون عامَّة ومطردة وثابتة وقديمة. وسيأتي بيان هذا في شروط العرف.
ويريدون بالركن المعنوي تولد الاعتقاد لدى الناس بأنَّ هذه العادة ملزمة باعتبارها قاعدة قانونية لها جزاء مادي توقعه السلطة العامة جبرًا على من يخالفها شأنها في ذلك شأن القاعدة القانونية سواء بسواء (4) .
والفقهاء يتفقون مع الباحثين على كثير من الشروط التي اشترطوها في العادة كما سيأتي تفصيل ذلك في شروط العرف.
أما الشرط المعنوي وهو وجود الاعتقاد لدى الناس بأنَّ هذه العادة ملزمة باعتبارها قاعدة قانونية لها جزاء مادي توقعه السلطة العامَّة – فإنَّ هذا الشرط محل نظر لأمور:
__________
(1) القانون الدستوري، للدكتور سعد العصفور: ص 82.
(2) أصول القانون، للدكتور عبد المنعم الصدَّة: ص 122.
(3) أصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 332.
(4) راجع في هذا القانون الدستوري، لسعد العصفور: ص 80؛ وأصول القانون، للدكتور عبد المنعم الصدَّة: ص 126؛ وأصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 333.(5/2637)
الأول: صعوبة التحقيق من وجود هذا الركن في واقع الأمور، فالذي يراه ويشاهده القاضي والحاكم هو اعتياد الناس لأمر ما، أما أنهم اعتقدوا لزوم تلك العادة فهذا أمر التحقق منه في غاية الصعوبة.
الثاني: الملاحظ أن الناس يساقون إلى الالتزام بالعادة من غير تفكير ولا اعتقاد، وإنَّما بحكم الإلف الذي يصل إلى درجة التقديس، وكثير من الناس لا يفكر بالجزاء القانوني الذي يوقع على من خالف العادة، وكلُّ الذي يلاقيه المخالف للعادة هو استغراب المجتمع واستجهانه لمخالفة المخالف، ولذا فإنَّنا نجد الفقهاء ينصُّون على أن من حقّ المتعاقِدَيْن أو أحدهما النصُّ على مخالفة العرف وعدم اعتباره.
الثالث: أن الفقه الإِسلاميَّ يخالف القانون في عدم وجود جزاء مادي دنيوي يجب على السلطة العامة إِيقاعه في جميع الأحكام التي عن الشرع.
وهذا فَرْقُ جوهريُّ بين الفقه والقانون ذلك أن الفقه أوسع دائرة من القانون، فالفقه إلى جانب احتوائه على كلَّ فروع القانون الوضعي: الدستوري، والإِداري، والمالي، والجنائي، والدولي، والخاص بفروعه يضم أبوابًا ليس لها مكان في القانون الوضعي.
فباب العبادات وهو باب كبير في الفقه الإِسلامي لا وجود له في القانون الوضعي، وهذا الباب يبحث في الوضوء والغسل والتيمم والحيض والنفاس وإزالة النجاسة والصلاة والزكاة، والصيام والحجّ والعمرة والأيمان والنذور والأطعمة والأشربة والصيد والذبائح.
وكثير من أحكام هذه الأبواب متروك الالتزام بها إلى المسلم لا تستطيع الدولة الإِسلامية أن تتدخل في أمره فيها كالأيمان والنذور والأطعمة والصيد والذبائح (1) . والعرف يعمل في الدائرة نفسها التي تعمل فيها الأحكام الشرعية على النحو الذي سيأتي تفصيله.
المبحث الثالث
الفرق بين العرف والعادة
عَرَّف الراغب في "مفرداته" العادة بأنَّها "اسم لتكرير الفعل والانفعال، حتى يصير ذلك سهلًا تعاطيه كالطبع، ولذلك قيل: العادة طبيعة ثانية (2) .
وعرَّفها ابن منظور "بالدَيْدَن يعاد إليه، وجمعها عاد وعادات ... وتعَّود الشيء وعاده وعاوده معاودة وعوادًا واعتاده واستعاده وأعاده أي صار له عادة" (3) .
__________
(1) راجع في هذا المبحث كتابنا "تاريخ الفقه الإِسلامي": ص 20، 35.
(2) المفردات، للراغب الأصفهاني: ص 352.
(3) لسان العرب: 2 /90.(5/2638)
والعادة في الاصطلاح: "الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية" (1) .
وقد شرح ابن عابدين هذا التعريف الذي نقله عن "شرح التحرير" لابن الهمام، فقال: "العادة مأخوذة من المعاودة، فهي بتكرارها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرَّة في النفوس والعقول متلقاة بالقبول من غير علاقة ولا قرينة، حتى صارت حقيقة عرفية" (2)
ويرى الأستاذ مصطفى الزرقا "أنَّ العادة أعمُّ من العرف، لأنَّ العادة تشمل العادة الناشئة عن عامل طبيعي، والعادة الفردية، وعادة الجمهور التي هي العرف" (3) .
فتكون النسبة بين العادة والعرف – كما يقول الأستاذ الزرقا – "العموم والخصوص المطلق، لأنَّ العادة أعمُّ مطلقًا وأبدًّا، والعرف أخصّ إذ هو عادة مقيَّدة، فكلُّ عرف هو عادة، وليست كلُّ عادة عرفًا، لأنَّ العادة قد تكون فرديَّة أو مشتركة (4) .
ويرى كثير من الفقهاء أن العادة والعرف معناهما واحد، يدلُّ على هذا التعريف الذي تناقله العلماء عن النسفيَّ حيث عرفهما تعريفًا واحدًا.
وقال ابن عابدين بعد شرحه للعادة الذي نقلناه عنه فيما سبق "العادة والعرف بمعنى واحد من حيث الماصدق، وإن اختلفا من حيث المفهوم" (5) .
ومن تأمل في مباحث الفقهاء وجد أنَّهم يستعملون العادة والعرف استعمالًا واحدًا لا يفرَّقون بينهما، وعلى كلًٍّ "فالمسألة اصطلاحية، ولا مشاحَّة في الاصطلاح".
والذي يميَّز العرف عن العادة عند علماء القانون أن العرف يجتمع له ركناه: المادي والمعنوي، أما العادة فلا يتوفَّر لها سوى الركن المادي، فالعرف تثبت له قوَّة الإِلزام باعتباره قاعدة قانونية، بينما تفتقر العادة إلى هذه القوة (6) .
__________
(1) نشر العرف، لابن عابدين، مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /112.
(2) نشر العرف، لابن عابدين، مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /112.
(3) المدخل إلى الفقه الإِسلامي، للأستاذ مصطفى الزرقا: 2 /481.
(4) المدخل إلى الفقه الإِسلامي، للأستاذ مصطفى الزرقا: 2 /481.
(5) نشر العرف، مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /112.
(6) راجع: أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة: ص 129؛ وأصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 337.(5/2639)
وبنى الباحثون في القانون على هذه التفرقة بين العادة والعرف عِدَّة أمور:
1- وجوب تطبيق القاضي للعرف من تلقاء نفسه في الدعوى المرفوعة أمامه، لأن العرف عند رجال القانون – كما سبق بيانه – قاعدة قانونية ملزمة.
ولا يتوقف تطبيق العرف على طلب الخصوم، أما العادة الاتفاقية فتعتبر شرطًا من شروط العقد.
2- لا يطلب من الخصم إثبات العرف، بل هذا واجب على القاضي حيث يلزمه الإحاطة بالقانون، وهذا يجعل القضاة ملزمين بالتعرف على أعراف الناس للحكم بها عند الفصل بين الخصوم، أما العادة الاتفاقية فلا يلزم إحاطة القاضي بها.
3- يطبق العرف مع علم الخصوم به أو عدم علمهم به إذا لا يجوز الاعتذار بجهل القانون، أما العادة فلا تطبق إلا إذا انصرفت إرادة المتعاقدين إلى الأخذ بها، وهذا يقضي بعلم المتعقادين بها، ومع جهلهما أو أحدهما بها فلا تطبق عليهما.
4- يخضع العرف لرقابة محكمة النقض، لأن وظيفة هذه المحكمة مراقبة القوانين، أما العادة فهي من قبيل الواقع، الذي يكون التقدير فيها للقاضي، فلا يخضع القاضي فيه لرقابة محكمة النقض (1)
وأرى أن هذا التفريق بين العرف والعادة غير سديد لأمور:
الأول: أن اشتراط وجود الركن المعنوي لا نوافق عليه، وهو مناط التفريق بين العادة والعرف عند القانونيين، وقد سبق بحث هذه النقطة.
الثاني: أن التفريق بين العادة والعرف على هذا النحو الذي قال به القانونيون يوقع القضاة والحكام في حرج شديد، فالحاكم وإن أمكنه التفريق بين العرف والعادة في بعض الأحيان إلا أن هذا غير ممكن دائمًا وأبدًا.
ولك أن تتأمل في الأمثلة التي مثلوا بها للعادة الاتفاقية فمن الأمثلة التي يضربونها في هذا المجال ما يجري بين تجار الفاكهة في مصر عند البيع بسعر مائة حبة، ومن احتساب المائة وعشرة أو المائة وعشرين إلى غير ذلك بحسب نوع المبيع واختلاف المناطق وما تجري به العادة في بعض المحلات العامة كالفنادق والمطاعم والمقاهي من قيام العملاء بدفع هبة بنسبة معينة من قيمة الحساب إلى القائمين بالخدمة في هذه المحال، وما تجري به العادة من أنه إذا اشترك شخصان فقدم أحدهما رأس مال، وتعهد الثاني بإدارة الأعمال فإن توزيع الأرباح بينهما يكون بنسبة الثلثين للشريك الذي قدم رأس المال وبنسبة الثلث للشريك الذي قام بإدارة الأعمال (2)
__________
(1) أصول القانون للدكتور، عبد المنعم فرج الصدة: ص 132
(2) أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدة ص 130(5/2640)
ما الفرق بين هذه الأمثلة التي يعدُّونها من قبيل القاعدة القانونية وبين تلك الأمثلة التي عَدُّوها من قبيل العرف؟
ومن أمثلتهم فيه افتراض التضامن بين المدينين فيكون للدائن في المعاملات التجارية مطالبة أيّ واحد من المدينين بكلَّ الدين.
ومن أمثلته في القانون المدني المصري أن أثاث المنزل يعتبر ملكًا للزوجة لأنَّ العرف جرى هناك بأنَّ الزوجة هي التي تؤثث منزل الزوجية (1) .
لو طولب رجالُ القانون بتحديد الفرق بين ما جعلوه عرفًا من الأمثلة وبين ما جعلوه عادة اتفا قية لعسر عليهم الأمر، فإنْ قالوا: إن مسائل العرف ذاعت وشاعت في كلّ البلاد. فالجواب أن هذا من شروط الركن المادي لا المعنوي. وإن قالوا: إن هذه من القواعد التي جعل لها القانون جزاء وألزم بها فالجواب في هذه الحال: أن الذي رفع الأمر إلى درجة الإِلزام ووضع عليه الجزاء هو القانون لا العرف.
إِن نظر الفقهاء أدقّ في هذه المسألة لأنَّهم لم يشترطوا وراء الركن المادي أيَّ شرط حتى تصبح العادة عرفًا.
__________
(1) راجع: أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة: ص 129؛ وأصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 337(5/2641)
الفصل الأول
مناقضة العرف والعوائد للشريعة الإِسلامية
المبحث الأول
سلطان العرف على الأمم والشعوب
للعرف سلطان كبير على الأفراد والمجتمعات الإِنسانية عبر العصور، وقد تحدَّث الشيخ أحمد فهمي أبو سنّة عن سلطان العرف وتأثيره، فقال: "مجموعة المصطلحات والتقاليد التي تعتادها كلُّ أمة وتتخذها منهاجًا للسير عليها لها في نفوس الأفراد احترام عظيم، بل لها عليهم السلطان القويُّ، حتى إنهم ليعدُّونها من ضروريات الحياة التي لا يُستَغْنَى عنها، ومن المفاخر التي يُعْتَزُّ بها، وقد ترتفع قداستها عند بعضهم إلى مرتبة الدَّين، فيرون أنفسهم ملزمين باعتناقها والجري على سُنَنِها، ويرون الخروج عليها إثمًا عظيمًا يستجلب الاستياء، ويدعو إلى الثورة " (1) . وقد عَلَّل الشيخ فهمي هذا بما توصل إليه علماء النفس من أن العمل بكثرة تكراره تتكيف به الأعصاب والأعضاء، فيأخذ مكانه من النفوس كالسيل بقوة انحداره يحتفر طريقه في الجبل، فكما أنَّه يصعب تحويله عن طريقه، فكذلك العرف يرسخ في النفوس بحيث يعسر زحزحتها عنه وبخاصة إذا اقتضته الحاجة (2) .
ولما كان للعرف هذا السلطان وتلك المكانة، فإِنَّ أعراف الأمم والشعوب كانت هي الدساتير والقوانين التي تحكم تلك الأمم والشعوب.
يقول الدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة: "العرف أول مصدر رسميّ للقانون ظهر في تاريخ المجتمع البشري … ولذلك كان له الشأن الأول في المجتمعات القديمة" (3) .
ويقول الدكتور إسماعيل مرزة: لا نزاع في أن العرف كان مصدرًا رسميًّا، بل المصدر الرسميّ الوحيد للقانون في المجتمعات السياسية الأولى (4) ، ذلك لأنَّ العرف يعدُّ من الناحية التاريخية أسبق من القانون المعروف، لذلك كانت الدساتير تقوم على العرف بصورة رئيسية، ولم تدوَّن إلاَّ بعد الثورتين: الأمريكية والفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر.
__________
(1) العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبي سنَّة: ص 16.
(2) العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبي سنَّة: ص 16.
(3) أصول القانون لعبد المنعم فرج الصدَّة: 123.
(4) هذا الذي يردّده القانونيون من كون العرف هو أول مصدر رسمي للقانون في تاريخ المجتمع البشري غير صحيح، والحقُّ أن الشرائع التي جاءت من عند الله هي القانون الأول الذي حكم البشر.(5/2642)
ففيما يخصُّ الحضارات القديمة جِدًّا كان العرف مصدرًا رسميًّا لـ "نواظم" المجتمعات السياسيَّة الأولى، وقد حافظ العرف على هذا المصدر الممتاز حتى في أغلب الحضارات الأحدث عهدًا من تلك المجتمعات السياسية، ففي الحضارات القديمة استحال العرف الذي كان سائدًا بين سكان ما بين الرافدين القدماء إلى شرائع قانونية مدوَّنة، ونشير مثلًا إلى قانون "بلاما" وقانون "لبت عشتار" وقانون" حمورابي" المشهور.
هذه القوانين وغيرها أحالت الأعراف التي كانت سائدة خلال هذه الحضارات القديمة إلى قواعد قانونية نافذة.
كذلك الحال بالنسبة إلى القانون الهندي المعروف بقانون "مانو" كما أن أحكام القانون المدني الروماني تجد أساسها في قواعد عرفيَّة مستقرَّة دونت على – الألواح الاثني عشر – بناء على نجاح كفاح طبقة "العوام" وانتصارهم ضدّ احتكار "الأشراف" للأحكام القانونية.
وقد بقيت "الألواح" نافذة المفعول نحو ألف سنة، ولم تلغ صراحة إلاَّ بتشريع مجاميع "جوستينيان" (1)
ولا يزال للعرف في بعض الدول المقام الأسمى "فالقانون الإِنجليزي كان مجموعة من العادات التي تخضع لها القبائل الأنجلو سكسونية، ثمَّ اقترنت بعادات القبائل النورماندية التي فتحت الجزيرة الإِنجليزية في القرن الحادي عشر، ولما تطورت المدنية الإِنجليزية صار القضاء مصدرًا رسميًّا للقانون إلى جانب العرف، ثمَّ قام التشريع مصدرًا آخر، فأصبح هو والقضاء المصدرين الرسميين في القانون الإِنجليزي في الوقت الحاضر".
والقانون الفرنسي القديم بدأ عرفًا، ثم امتزج به القانون الروماني بعد الفتح الروماني، ثم وُجِد قانون الكنيسة، وبعد ذلك انقسمت فرنسا إلى قسمين: القسم الشمالي يطبق العرف، والقسم الجنوبي يطبق القانون الروماني، ولما قويت الملكية في فرنسا جمعت قواعد العرف، وقام إلى جانبها التشريع مصدرًا رسميًّا للقانون، وصار التشريع يقوى حتى صدرت تقنينات نابليون، فأصبح هو المصدر الرسميُّ في القانون الفرنسي (2)
__________
(1) القانون الدستوري للدكتور إسماعيل مرزه: ص 78.
(2) أصول القانون لعبد المنعم فرج الصدَّة: ص 123.(5/2643)
المبحث الثاني
دور العرف في الصدَّ عن شريعة الله
رأينا في المبحث السابق كيف كانت أعراف الأمم مقدَّسة عندها تقديسًا جعلها بمثابة القوانين والدساتير التي لا يخالفها مخالف ولا ينازعها منازع.
ولذا، فإنَّ هذه الأعراف والعوائد أصبحت جدارًا صلبًا يقف في وجه الشرائع المنزلة من عند الله، وكان الصراع يدور عبر التاريخ بين الشرائع الإِلهيَّة وحملتها من الرُّسل والأنبياء وأتباعهم، وبين الأعراف والعادات وسدنتها من الزعماء والرؤساء الذين يزعمون أن تراث الآباء والأجداد هو المقدَّس والمصان، ويأبون أن يمسَّه أيُّ تغيير أو تبديل.
لقد كانت الأعراف والعادات التي اختطها البشر، وتلقاها اللاحقون عن السابقين دينًا يتبع، وشرعة لا تخالف، وميراثًا يحرص عليه حرصًا عظيمًا يصلُ إلى درجة أن تسفك في سبيل الحفاظ عليه الدماء، وتزهق النفوس وتهدر الأموال، وهذا ديدن البشرية عبر تاريخها الطويل {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (1) .
والمراد بالأمَّة التي وجدوا آباءهم عليها: الطريقة التي سلكوها والعادات والأعراف التي اعتادوها.
هكذا يرفضون الحقَّ من غير دليل ولا بيَّنة ولا برهان، وكلُّ ما في الأمر أن الآباء والأجداد كانوا على ذلك المنهج: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (2) .
وهذه الأعراف والعادات يصنعها في كثير من الأحيان الطواغيت والظلمة المتنفذون في أقوامهم، ويجرون التعامل بها بما لديهم من النفوذ والسلطان {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (3) .
والمراد بالشركاء أولئك الزعماء والقادة ورجال الفكر الذين يقولون القول فيصبح طريقة متبعة، فيكونون بذلك مشرَّعين يشرعون من الدَّين ما لم يأذن به الله {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (4) .
__________
(1) سورة الزخرف: الآيات 22-25.
(2) سورة البقرة: الآية 170.
(3) سورة الأنعام: الآية 137.
(4) سورة الشورى: الآية 21.(5/2644)
وكان من هؤلاء عمرو بن عامر الخزاعي، فإنَّه كان زعيمًا مطاعًا في قومه، وهو أول من غيَّر دين العرب، ففي صحيح البخاريَّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((أنَّ أول من سيَّبَ السيوب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجرُّ أمعاءه في النَّار)) . وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يَجْرُّ قُصبَهُ في النار، كان أول من سيَّب السيوب)) . وقد أنكر القرآن ما شرعه هذا الزعيم وجعله عرفًا يُتَّبع وعادة محكَّمة فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (1) .
وما أنكر الحقُّ تحريمه في هذه الآية أمور معروفة عند أهل الجاهلية، فالبحيرة الناقة تُبْحَرُ أذنها أي تشقُّ، ثم ترسل، فلا يركبها أحد، يفعلون بها ذلك إذا ولدت خمس بطون. والسائبة أن تسيَّب الناقة وتجعل كالبحيرة في عدم الانتفاع بها، يفعل بها صاحبها ذلك في حال وقوع أمر نذره كان يحب وقوعه. والوصيلة كانت العرب إذا ولدت الناقة أنثى لهم، وإذا ولدت ذكرًا فلآلهتهم، وإذا ولدتهما قالوا: وَصَلْت أخاها، فيحرم ذبحها. والحام: الفحل، يحمل من ظهره عشرة أبطن، فيحرم ذبحه وظهره، ولا يمنع من مرعى ولا ماء.
وقد أقام نوح في قومه ألف سنة إلاَّ خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، وأخيرًا دعا الله أن لا يُبْقي منهم صغيرًا ولا كبيرًا: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (2) .
وإبراهيم حاول أن يستثير التفكير في قومه الضالين، ليتركوا معبوداتهم التي لا تملك شيئًا من خصائص الألوهية {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (3) .
وفي خاتمة المطاف جاء الرسول الخاتم صلوات الله وسلامه عليه بالحق الأبلج، والملة السمحاء، والشريعة الغراء، فنابذه العرب العداء، ورموه عن قوس واحدة، وعذبوا صحبه وآذوه وحاصروه وتأمروا عليه لسفك دمه، وأرسلوا الجيوش الجرارة لقتاله، فقتلوا من صحبه وقتل منهم، كلُّ ذلك حفاظًا على ما ألفوه واعتادوه {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (4) .
ولكن العرب بعد جهد شديد أبصروا الحق، وأقلعوا عما اعتادوه. وتعارفوا عليه من عادات وأعراف جاهلية، وعلت كلمة الله، واستنار الناس بنور الحقَّ، وجاهد العربُ الأممَ الأخرى حتى أخرجوهم عن عاداتهم وأعرافهم وتراثهم الضالة، وهدوهم كما اهتدوا، ولم تزل الشريعة الإِسلامية في دار الإسلام هي الشريعة التي تهيمن على الحياة، وتصنع الأعراف، ويجري عليها الأمر في المحاكم والقضاء.
__________
(1) سورة المائدة: الآية 103.
(2) سورة نوح: الآيتان 26، 27.
(3) سورة الشعراء: الآيات 72-74.
(4) سورة ص: الآيات 1-7.(5/2645)
المبحث الثالث
عدم صلاحية العرف ليكون قانونًا ودستورًا
عندما يوازن علماء القانون بين العرف والقانون، فإنَّ مقارنتهم تتجه إلى العرف الذي كان يشكَّل قانونًا غير مكتوب يحكم الأوضاع في أمة من الأمم، وهم في هذه الموازنة يرجَّحون جانب العرف؛ لأنَّ العرف يتكون مما جرى عليه الناس في معاملاتهم الاقتصادية وأحوالهم الاجتماعية، ومن ثمَّ تتميز قواعده بأنَّها تعبر أصدق تعبير عما يرتضيه أفراد المجتمع في تنظيم علاقاتهم، فتكون بحكم نشأتها على هذا النحو ملائمة للظروف الاجتماعية كما تؤدي هذه الطريقة ذاتها في نشوء القواعد العرفية إلى تطورها بتطور الظروف في المجتمع فتظلُّ على وجه الدوام ملائمة لهذه الظروف.
أما القوانين المكتوبة، فإنَّه يؤخذ عليها أن قواعدها تأتي غير ملائمة لظروف المجتمع، وإذا جاءت ملائمة لهذه الظروف حين وضعها، فإنَّ صبَّها في نصوص مكتوبة يضفي عليها من الجمود ما يقف عن مسايرة التطور، وقد يقعد عن تعديلها على النحو الذي يستجيب لمقتضيات هذا التطور (1) .
هذه هي المزيَّة التي يذكرونها للعرف في مقابل القوانين المكتوبة، ولكنَّهم يعدَّدُون للقوانين كثيرًا من المزايا تجعلهم يرجَّحون جانب القانون على العرف ومن هذه المزايا:
أولًا: أن القوانين يمكن سنُّها بسهولة لمواجهة الأوضاع الجديدة في المجتمعات كما يمكن المسارعة إلى تعديلها كي تساير التطور في الحياة الاجتماعية. أما العرف، فإنَّه أداة بطيئة في تكوين القاعدة القانونية بحيث يقصر عن تزويد الجماعة في العصر الحديث بما تحتاج إليه من قواعد لمواجهة حاجاتنا المتجدَّدة بالسرعة الواجبة.
ثانيًا: تمتاز القوانين المكتوبة بأنَّها توضع في نصوص مصاغة صياغة محكمة تساعد الأفراد على معرفة حقوقهم وواجباتهم، أما العرف، فإنَّ قواعده تتكون تدريجيًّا كما ينقصها الوضوح والتحديد، ولذلك قد يصعب التثبت من وجود القاعدة أو التحقق من مضمونها.
__________
(1) أصول القانون لعبد المنعم فرج الصدَّة: ص 124.(5/2646)
ثالثًا: القانون الواحد في الدولة الواحدة أداة لتوحيد نظام الدولة، إذ أن قواعده تنفذ في أقاليم الدولة، فتكون عاملًا على تحقيق الوحدة، بينما العرف أكثره مَحَليٌّ ولذلك فهو يؤدي إلى تعدد النظم في الدولة الواحدة الأمر الذي يفكَّك وحدتها ويعرقل تقدمها.
رابعًا: ويرى رجال القانون أن القانون المدوَّن يصلح أداة لتطوير المجتمع حيث يمكَّن من إدخال النظم والأخذ بالمبادئ التي ينادي بها المصلحون أو يقتبسونها من خارج بيئتهم، أما العرف، فإنَّه يمثل نزعة المحافظة على القديم بما ينطوي عليه من حبَّ التقاليد والحرص على المألوف بحيث لا يكون التخلص منه أمرًا يسيرًا، ولذلك فهو لا يتيح الفرصة للأخذ بالأفكار الجديدة التي يرى فيها المصلحون خيرًا للجماعة إلاَّ بعد زمن طويل (1) .
وعلماء الشريعة يأبون أن يقارنوا بين القانون الوضعي والعرف البشري، وذلك لأنَّهم يرفضون رفضًا قاطعًا أن تكون لهذه القوانين والأعراف الصدارة على الشريعة الإِسلامية.
إنَّنا لا ننظر إلى هذه الموازنة بين العرف والقانون الوضعي نظرة رضى، ونرى أن القانون الوضعي والعرف البشري وجهان لعملة واحدة، فالعرف ثمرة عادات الناس في معاملاتهم وأحوالهم الاجتماعية، والقوانين ثمرة جهود المفكرين الذين خبَّروا أحوال الناس ومشكلاتهم، فوضعوا لهم من القوانين ما يظنون أن فيه صلاحهم، وبهذا يظهر أن كلا السبيلين مصدره البشر، ولا وجه لمقارنة نتاج البشر بالشريعة الإِلهية المنزلة من الحكيم الحميد.
إنَّ القوانين البشرية والأعراف البشرية تتصف بالظلم والجهالة والقصور التي يتصف بها البشر، لأنَّها ناتجة عنهم، والشريعة الإِلهية تتصف بالعدل والكمال، لأنَّها من عند الله العادل الكامل الحكيم.
__________
(1) راجع في هذا الموضوع: أصول القانون لعبد المنعم فرج الصدَّة: ص 125.(5/2647)
وقد لا نختلف مع علماء القانون الوضعي في أن القانون الوضعي أفضل من العرف البشري، ولكننا نضع القانون الوضعي والعرف البشري في كفة واحدة في مقابل الشريعة.
إنَّ القوانين البشرية في كثير من الأحيان ظالمة قاسية توضع لمصلحة فريق من الناس ضدَّ بقية فئات المجتمعات، والأعراف قد تقوم على جهالات وضلالات موروثة يشقى بها المجتمع، وليس فيها منتفع كاسترقاق المدين المعسر عند الرومان وفي جاهلية العرب، وكوأد البنات والسائبة في الجاهلية، وكدفن الزوجة حيَّة مع زوجها إذا مات عند الهنود الوثنيين، وكدفن نفائس الأموال مع أصحابها عند قدماء المصريين (1) .
الأعراف والعوائد البشرية تقف – في كثير من الأحيان – حاجزًا أمام دعاة الإِصلاح في مختلف العصور، فترى دعاة الحقَّ مظلومين منبوذين لدعوتهم الناس إلى الرجوع إلى الدَّين الحقَّ الذي أنزله الله تبارك وتعالى، ومطالبتهم الناس بترك ما هم عليه مما يخالف شريعة الإسلام وآداب الإِسلام.
ولذلك فإنَّ الإسلام يأبى كلَّ الإِباء أن يكون العرف هو القاضي والحاكم بين الناس، كما يأبى أن يترك هذه المهمة لرجال من البشر يضعون للناس الشرائع والقوانين، ولذا فإنَّ الشريعة الإِسلامية عندما حكمت أقصت العرف وحصرته في دائرة ضيقة، وإبقاء الشريعة الإِسلامية للعرف في الدائرة التي حدَّدتها يمثل واحدًا من أسرار خلود الشريعة واستمرار صلاحيتها لكلَّ زمان ومكان، ذلك أن الشريعة لم تقع في الخطأ الذي وقع فيه رجال القانون عندما تبنوا أحكامًا متغيرة، فجعلوها ثابتة دائمة، ومن ذلك المسائل التي تركتها الشريعة للعرف مقرة تغيرها بتغير الزمان والمكان.
وإذا أمعن الباحث النظر في مزايا العرف التي دونها رجال القانون، فإنَّه يجدها وهمًا، فكثير من الأعراف التي تسيطر على المجتمعات إنَّما سادت فيها بقوة الحاكم وسلطانه، فلما طال الأمد عَضَّوا عليها بالنواجذ، واتخذوها شِرْعة ومنهاجًا، وكثير من الأعراف التي يعدُّها الناس من محاسن العرف هي في الحقيقة أغلال وقيود.
إن العوائد والأعراف تمثل نهجًا يختلط فيه الصواب بالخطأ، والحقُّ بالباطل، وهي تحتاج إلى تقويم وتهذيب، مثلها في ذلك مثل القوانين الوضعية والشريعة الإلهية هي الصالحة لتحقيق الخير الخاص من الشوائب.
__________
(1) المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى الزرقا، ص: 835.(5/2648)
المبحث الرابع
إقصاء الشريعة للعرف وحصره في دائرة ضيقة
عندما انتصر الإِسلام، وحكمت شريعته الديار التي رضي أهله بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، أقصت الشريعة الإِسلامية أعراف تلك الأمم عن الصدارة، وحصرت تلك الأعراف في دائرة ضيقة، وهذا مقتضى كون الشريعة الإِسلامية مهيمنة على كلَّ الشرائع والقوانين والأعراف.
وقد أكثر القرآن من التأكيد على وجوب تفرد هذه الشريعة المباركة بالحكم، وعدم جواز تقديم شيء عليها، لا قول حاكم، ولا حكم قاضٍ، ولا اجتهاد مفتٍ أو عالم، ولا عادة قوم ولا عرف أمة أو شعب {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) .
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (2) .
وقد وعى علماؤنا الذين بحثوا في العرف ما علَّمهم الله إيَّاه، فإنَّهم نصُّوا على أن العرف الذي يصادم النصوص الشرعية عرف فاسد يجب رفضه، ولا يجوز الأخذ به بحال الأحوال.
وقد تحدَّث الشاطبي عن العوائد التي أمر بها الشارع أمر إيجاب أو أمر استحباب أو نهى عنها نهي تحريم أو كراهة، وبيَّن أنَّه لا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها، فلا يصحُّ أن ينقلب الحسن فيها قبيحًا، ولا القبيح حسنًا، حتى يقال مثلًا: "إنَّ كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنُجِزْه أو غير ذلك. إذ لو صحَّ مثل هذا لكان نسخًا للأَحكام المستقرَّة المستمرَّة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل" (3) .
وقول ابن عابدين مبينًا عدم اعتبار العرف إذا خالف النصَّ الشرعيَّ من الكتاب والسنة: "ولا اعتبار للعرف المخالف للنصّ، لأنَّ العرف قد يكون على باطل بخلاف النصّ كما قاله ابن الهمام " (4) .
ويقول ابن نجيم: "وإنَّما العرف غير المعتبر في المنصوص عليه. قال في "الظهيرية" من الصلاة: وكان محمد بن الفضل يقول: الصرَّة إلى موضع نبات الشعر من العانة ليست من العورة لتعامل العمال في الإِبداء عن ذلك الموضع عند الاتزار، وفي النزع عن العادة الظاهر نوع حرج، وهذا ضعيف وبعيد، لأنَّ التعامل بخلاف النصّ لا يعتبر" (5) .
__________
(1) سورة النساء: الآية 65.
(2) سورة النور: الآية 51.
(3) الموافقات: 2 /209.
(4) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /113.
(5) الأشباه والنظائر: ص 94.(5/2649)
المبحث الخامس
تقديم الأعراف البشرية على الشريعة الإِسلامية
استمرَّت الشريعة الإِسلاميَّة حاكمة للديار الإِسلامية أكثر من ألف وثلاثمائة عام، ثمَّ جاء الذين رضعوا ثقافة الغرب وتغذَّوا بلبانه الذين غزا الفكرُ الغربيُّ عقولَهم، وأشربت قلوبُهم حبَّ ما جاءهم من عنده ولو كان سمًّا زعافًا، جاء هؤلاء لِيُقْصوا الشريعة الإِسلامية المباركة، ويُحِلُّوا القوانين الوضعية محلّها، ثم جعلوا العرف المصدر الاحتياطي الأول، وقدَّموا رتبته على مبادئ الشريعة مما يدلُّ على مدى هوان الشريعة الإِسلامية على هؤلاء الذين هم من جلدتنا ويتكلَّمون بألسنتنا، ولكنَّهم كانوا أشدَّ خطرًا علينا من أعتى أعدائنا.
عندما أرادت مصر أن تضع قانونًا مدنيًّا في عام 1936م لتطبقه في عام 1949م جعلت المادَّةُ الثانية فيه الشريعةَ الإِسلامية نكرة، وجاء نصُّ المادة هكذا: "تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها وفحواها.
فإذا لم يوجد نصٌّ تشريعى يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
ويستلهم في ذلك الأحكام التي أقرَّها القضاء والفقه مصريًّا كان أو أجنبيًّا، وكذلك يستلهم مبادئ الشريعة الإِسلامية (1) .
أين موقع الشريعة؟ وأين مكانها؟ هل أبقى واضع هذه المادة لهما شيئًا؟
كأني به إنَّما وضع اسمها خجلًا وتعذُّرًا، ولولا ذلك لما تفضَّل بذكره، وعندما هاج المسلمون في ذلك الوقت وثاروا على هذا الوضع المشين، وكتب من كتب وخطب من خطب عدلت هذه المادة لتحلَّ مبادئ الشريعة بعد العرف، وأصبحت المادة هكذا: " تُسرى النصوص التشريعية التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها، فإذا لم يوجد نصٌّ تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإِسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون" (2) .
لقد قدَّم واضع القانون مبادئ الشريعة على مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، ولكنَّه قدَّم عليها القانون الوضعي الذي صاغه البشر، كما قدَّم عليها أعراف البشر، وجعلها مصدرًا احتياطيًّا تاليا للعرف فإلى الله المشتكى.
وسارت القوانين المدنية في أكثر البلاد الإِسلامية على النحو الذي سار عليه القانون المدني المصري.
* * *
__________
(1) القانون المدني الأعمال التحضيرية: 1 /182.
(2) القانون المدني الأعمال التحضيرية: 1 /190.(5/2650)
الفصل الثاني
حجية العرف
المبحث الأول
نطاق العرف ومجاله
رأينا فيم سبق كيف كانت عوائد البشر تشكَّل إطارًا يحكم المجتمعات الإِنسانية، وكيف نُصَّبت تلك العوائد جدارًا صلبًا يقف في وجه الشرائع التي ينزلها الله على عباده عبر رسله ومن خلال كتبه، ورأينا كيف قلّصت الشريعة سلطان العرف ودائرته عندما كانت هي الحاكمة في الديار الإِسلامية، فأبطلت العوائد المنحرفة الضالَّة، وقوَّمت الأعراف الخاطئة، وأقرَّت من العوائد والأعراف ما كان حقًّا وصوابًا.
ويمكننا أن نحدَّد الدائرة التي أذنت الشريعة الإِسلامية للمسلمين أن يرجعوا فيها إلى العرف في المجالين التاليين:
الأول: تفسير النصوص التي وردت مطلقة ولم يرد في الشرع ولا في اللغة ما يفسَّرها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا: "كل اسم ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف" (1) .
ويقول السيوطي: "قال الفقهاء: ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له فيه، ولا في الذمَّة يُرْجع فيه إلى العرف" (2) .
وقال الزركشي: "العادة تُحَكَّم فيما لا ضبط له شرعًا" (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأسماء التي علَّق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة منها ما يعرف حدُّه ومسمَّاه بالشرع، فقد بينه الله ورسوله كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحجَّ والإِيمان والإسلام والكفر والنفاق.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام: 7 /40.
(2) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 98.
(3) المنثور في القواعد، للزركشي: ص 356.(5/2651)
ومنه ما يعرف حدُّه باللغة كالشمس والقمر والسماء والأرض والبحر والبر.
ومنه ما يرجع حدُّه إلى عادة الناس وعرفهم، فيتنوع بحسب عادتهم كاسم البيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدَّها الشارع بحدّ، ولا لها حدّ واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة، بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس (1) .
الثاني: الأحكام التي لم تأمر بها الشريعة ولم تنه عنها، وهذا النوع ليس للشريعة غرض في فعلها على نحو معيَّن، وإنَّما المراد فعلها على أي وجه كان هذا الفعل، وهذا يختلف باختلاف عوائد الناس وعرفهم.
أما مجال العرف عند الأمم التي لا تحكَّم الشريعة الإِسلامية، فقد سبق القول بأنَّ العرف كان بمثابة القانون والدستور عند الأمم قبل تدوين قوانينها، فلما دونت القوانين بقى العرف مصدرًا رسميًّا للقواعد القانونية في مختلف فروع القانون، كما جعل العرف مصدرًا احتياطيًّا في كثير من القوانين يلجأ إليه القاضي في المسائل التي لا يجد فيها نصًّا في القانون.
ومن هنا، فإِن القانونيين يصرَّحون بأنَّ العرف لا يستطيع إِلغاء أو مخالفة نصوص القانون الآمرة، ولكنهم أعطوه الحقَّ في مخالفة النصوص المفسَّرة أو المكملة لإِرادة المتعاقدين دون إلغائها.
وقد سبق القول بأنَّ الشريعة الإِسلامية تأبى كلَّ الإِباء بأن تُسَاوى بقوانين البشر وعرفهم فضلًا عن أن تقدم عليها هذه القوانين والأعراف.
المبحث الثاني
موقف العلماء من الاحتجاج بالعرف
لا خلاف بين أهل العلم من الأصوليين والفقهاء والمفسَّرين والمحدَّثين في اعتبار العرف في المجالين الذين سبق تحديدهما. يقول الشيخ أحمد فهمي أبو سنَّة: "اعتبر الفقهاء – على اختلاف مذاهبهم – العرف، وجعلوه أصلًا ينبني عليه شَطْرٌ عظيم من أحكام الفقه" (2) .
وفي اعتبار الشرع للعرف يقول ابن عادين في أرجوزة له:
والعرف في الشرع له اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار (3) .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام. 19/ 235
(2) العرف والعادة، لأحمد فهمي أبو سنَّة: ص 33
(3) نشر العرف: راجع مجموعة رسائل ابن عابدين: 2/112.(5/2652)
ويقول أيضًا: "اعتبار العادة والعرف رُجِع إليه في مسائل كثيرة، حتى جعلوا ذلك أصلًا فقالوا في الأصول في باب "ما تترك به الحقيقة: " تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة، هكذا ذكر فَخر الإِسلام، وفي "شرح في الأشباه" للبيرمي، قال: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي. وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنصّ " (1) .
وقال القرافي: "كلُّ من له عرف سيحمل كلامه على عرفه" (2) .
وقد بوَّب البخاريُّ في "جامعه الصحيح" للعرف الصحيح الذي أقرته الشريعة، فقال: "باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإِجارة والمكيال والميزان، وسننهم على نيَّاتهم ومذاهبهم المشهورة " (3) .
وأورد تحت هذا الباب قول شُرَيْحَ للغَزَّاليِن: "سُنَّتَكُم بينكم". ومراده أن الذي يحكمهم هو ما تعارفوا عليه، وأصبح لهم سنَّةً وطريقة، وأورد تحت هذا الباب اكتراء "الحسن البصري من عبد الله بن مِرْداس حمارًا، فقال له الحسن: بكم؟ قال: بدانقين. فركبه ثمَّ جاء مرة أخرى، فقال: الحمارَ الحمارَ، فركبه ولم يشارطه، فبعث إليه بنصف درهم". فالحسن لم يشارطه في المرة الثانية، بل اكتفى بالاتفاق الأول، وإن كان زاده دانقًا من عنده تفضلًا. وأورد البخاريُّ تحت هذا الباب حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها: "قالت هند أمُّ معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أبا سفيان رجل شحيح، فهل على أن آخذ من ماله سرًّا؟ قال: ((خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف)) (4) .
وأورد حديث عائشة أنَّها فسَّرت قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (5) . قالت "أُنْزِلت في والي اليتيم الذي يقيم عليه، ويصلح في ماله إن كان فقيرًا أكل منه بالمعروف" (6) .
قال ابن حجر في شرحه لترجمة الباب: "قال ابن المنير: مقصوده بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف، وأنَّه يُقْضى به على ظواهر الألفاظ، ولو أن رجلًا وكَّل رجلًا في بيع سلعة فباعها بغير نقد البلد الذي عرف الناس لم يجز، وكذا لو باع موزونًا أو مكيلًا بغير الوزن أو الكيل المعتاد".
__________
(1) نشر العرف: راجع مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 /113. وانظر الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 93
(2) الفروق، للقرافي: 1 /76.
(3) صحيح البخاري: انظر فتح الباري: 4 /405.
(4) صحيح البخاري: انظر فتح الباري: 4 /405.
(5) سورة النساء: الآية 6.
(6) صحيح البخاري: فتح الباري: 4 /405.(5/2653)
ونقل عن القاضي حسين من الشافعية: "أنَّ الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس الذي يبنى عليها الفقه. فمنها: الرجوع إلى العرف في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإِضافية، كصغر ضبة الفضة وكبرها، وغالب الكثافة في اللحية ونادرها، وقرب منزل وبعده، وكثرة فعل أو قلته في الصلاة … وثمن مثل، ومهر المثل، وكفء نكاح، ومؤنة نفقة وكسوة وسكنى، وما يليق بحال الشخص من ذلك. ومنها: الرجوع إليه في المقادير كالحيض والطهر، وأكثر مدة الحمل وسن اليأس. ومنها: الرجوع إليه في فعل غير منضبط يترتب عليه الأحكام كإِحياء الموات، والإِذن في الضيافة، ودخول بيت قريب، وتبسط مع صديق، وما يعدُّ قبضًا وإِيداعًا وهديَّة وغصبًا وحفظ وديعة انتفاعًا بعارية. ومنها: الرجوع إليه في أمر مخصوص كألفاظ الأيمان، وفي الوقف والوصيَّة والتفويض ومقادير المكاييل والموازين والنفوذ وغير ذلك (1) .
المبحث الثالث
الأدلَّة على اعتبار العرف
سبق أن بيَّنا أن أهل العلم على اختلاف مذاهبهم أصدروا كثيرًا من الأحكام والفتاوى بناء على ما تعارف أهل عصرهم عليه.
وقد استدلَّوا على اعتبار القدر الذي حدَّدناه في العرف بأدلة منها:
1- النصوص المطلقة التي وردت في الكتاب والسنة، وترك تفسيرها وتحديدها إلى عرف أهل كل عصر وبلد، وسيأتي ذكر أمثلة كثيرة لهذا النوع من العرف.
2- واستدلُّوا بقاعدة رفع الحرج، ووجه الاستدلال أن ثبات العوائد على حكم واحد على الرغم من تغيُّرها وتبدُّلها يوقع الناس في حرج شديد، وضيق أكيد، ويخرج الأحكام التي تنسب إلى الشريعة عن جادَّة العدل والرحمة التي تتصف بهما الشريعة إلى الظلم والقسوة اللذين برأ الله شريعته من الاتصاف بهما.
يقول الشاطبي في هذا المعنى: " العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعًا، كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية، أي سواء كانت مقررة بالدليل شرعًا أو أمرًا أو إذنًا أم لا؟ " (2) . ويقول مبينًا وجه ضرورتها: "لو لم تعتبر العوائد لأدَّى إلى تكليف ما لا يطاق، وهو غير جائز أو غير واقع" (3) .
__________
(1) فتح الباري: 4 /406.
(2) الموافقات: 2 /211.
(3) الموافقات: 2 /212.(5/2654)
ويقول ابن عابدين مبيَّنًا الآثار السيئة المترتبة على عدم اعتبار العرف وعدم مراعاة تغيُّرها من قبل العلماء والقضاة والمفتين: "كثير من الأحكام تختلف باختلاف عادات الزمان لتغيّر عرف أهله أو لحدوث ضرورة فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقَّة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتمّ نظام وأحسن إِحكام" (1) .
واستدل كثير من الباحثين في العرف والعوائد على حجيتها بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (2) .
ولا يتم الاستدلال بهذه الآية إلاَّ بناء على القول بأنَّ المراد بالعرف فيها المعنى الاصطلاحي، وقد بَيَّنتُ فيما سبق أن المراد بالعرف في الآية العرف المعني الذي قال فيه ابن الأثير: "هو اسم جامع لكلَّ ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإِحسان إلى الناس، وكلّ ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه" (3) .
واستدلَّ آخرون على حجيَّة العرف بحديث رفعوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) .
وهذا الحديث لا يصحُّ رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. قال السيوطيُّ بعد أن ساق الحديث في "أشباهه": "قال العلائيُّ: ولم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال. وإِنَّما هو من قول عبد الله بن مسعود أخرجه أحمد في مسنده" (4) .
وقد أكد العجلونيُّ عدم صحة رفع الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقل عن الحافظ ابن عبد الهادي أن إِسناد المرفوع إسنادٌ ساقط، ونبَّه العجلونيُّ أيضًا إلى أمرين:
الأول: أن الحديث رُوي بإسناد حسن إلى ابن مسعود موقوفًا عليه.
والثاني: أن الحديث الموقوف رواه أحمد في كتاب "السنَّة" لا في "المسند" كما عزاه إليه بعض أهل العلم.
__________
(1) نشر العرف: (انظر مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /123.
(2) سورة الأعراف: الآية 199.
(3) النهاية، لابن الأثير: 3 /216.
(4) الأشباه والنظائر: ص 89.(5/2655)
وذكر العجلونيُّ أيضًا أنَّه أخرجه البزَّار والطيالسيُّ والطبرانيُّ وأبو نعيم والبيهقيُّ في "الاعتقاد" عن ابن مسعود (1) .
هذه هي الأدلة التي استدلَّ بها الفقهاء على حجيَّة العرف في الدائرة التي يجوز أن يستند فيها إلى العرف والعوائد.
أما العرف عند القانونيين فإنَّهم اختلفوا في مصدر قوته، ففريق منهم يرى أن أساس قوته الملزمة هو رضا واضع القانون عنه وقيامه على تطبيقه، فيعتبر بذلك إرادة ضمنية له كما يعتبر التشريع إرادة صريحة.
وهذا الاتجاه يعتبر القانون وليد إرادة الدولة بحيث لا يتصوَّر وجود قانون دون الاستناد إلى هذه الإِرادة.
ويكفي للرد على هذا الاتجاه أن العرف كان أسبق في الوجود من القانون المدوَّن ممَّا يدل على أنَّه مصدرٌ مستقلٌ عن القانون لا يحتاج إلى صدور قانون به.
وذهب فريق وهم القائلون بالمذهب التاريخي إلى إِسناد قوة إلزام العرف إلى "الضمير الجماعي" وهذا الضمير يحلُّ عندهم محلَّ إرادة مصدر القانون.
ويرى فريق ثالث أن أساس قوة العرف هو قضاء المحاكم بتطبيقه لا من باب إلزام العرف من تلقاء نفسه، ويرى "لامبير" القانوني الفرنسيّ أن العرف لم يَخْرج من العادات الشعبية، وإنَّما خرج من أحكام الكهنة والقضاة الذين كانوا يستمدُّون سلَطَتهم في القضاء من صفتهم الدينية نظرًا لاختلاط القانون بالدَّين حينئذ، ولم يتغيَّر الحال بعد ذلك، لأنَّ القضاة أصبحوا يستمدّون سلطتهم في القضاء من الدولة لا من الدين.
ويرى القانونيون في هذا العصر أن قوة العرف مستمدَّة من الضرورة الاجتماعية التي تفرضه وتحتَّم وجوده حين لا يوجد قانون مدوَّن كما في الجماعات البدائية أو حين يكون القانون المدوَّن ناقصًا كما في الجماعات الحديثة (2) .
ونحن في هذا ليس لنا غرض في مناقشة هذه النظريات والموازنة بينها، بل نرى أن القانونيين أخطأوا ليس في نظرتهم إلى مصدر قوَّة العرف فحسب، بل في نظرتهم إلى أساس قوة القانون، ففلاسفة اليونان يجعلون الحاكم أو السلطان هو صاحب الحقَّ في سنَّ القوانين، والعلماء الغربيون جعلوا ذلك حقًّا من حقوق المجالس التشريعية المسمَّاة بالبرلمان أو مجلس الأمة.
__________
(1) كشف الخفاء ومزيل الإِلباس، للعجلوني: 2 /185.
(2) راجع أصول القانون، للدكتور حسن كيره: ص 346 – 354.(5/2656)
ونحن نرفض ذلك كلَّه ونقول: إن حقَّ التشريع لله وحده، ولا يجوز لغيره إصدار القوانين والتشريعات إلاَّ في الدائرة التي تتركها الشريعة للفقهاء والعلماء وولاة الأمر، وبذلك يظهر أن بحث القانونيين في أساس قوة العرف كبحثهم في أساس قوة القانون كلاهما على غير أساس (1) .
المبحث الرابع
العرف ليس دليلًا مستقلًّا من أدلَّة الأحكام
عندما يدقَّقُ الباحث النظر في مباحث الأصوليين والفقهاء يعلم يقينًا أن العرف ليس دليلًا مستقلاًّ من أدلَّة الفقه الإِسلامي، وقد خَلْص إلى هذه النتيجة عالمان معاصران أطالا البحث في العرف واستقصيا فيه.
يقول الشيخ أحمد أبو سنَّة في رسالة ألَّفها في هذا الموضوع: "فتمَّ بهذا أن العرف مطلقًا لا يمكن أن يجعل مقياسًا للخير، كما لا يمكن أن يتخذه الفقيه دليلًا على قواعد صالحة لتنظيم روابط الناس ما لم يؤيده أصل من أصول الفقه " (2) . ونقل الشيخ أبو سنَّة أقوال بعض الفقهاء التي قد يفهم منها أن العرف دليل بنفسه، ثم قال: "إنَّ العرف في هذه النصوص ليس دليلًا على الحقيقة، وإنَّما هو دليل ظاهر فقط، وبانضمام النظر يرى دائمًا مردودًا إلى دليل آخر من الأدلَّة الصحيحة " (3) .
وتوصَّل إلى هذه النتيجة الدكتور السيد صالح عوض في بحثه القيَّم المعنون: "بأثر العرف في التشريع الإِسلامي "، فقد جاء في خاتمة بحثه قوله: "في الحديث عن مدى اعتبار العرف في التشريع تبيّن لنا أن العرف ليس مصدرًا من مصادر التشريع، ولا دليلًا بالمعنى الذي تطلق عليه كلمة مصدر أو دليل" (4) .
وقال مثل ذلك الشيخ عبد الوهاب خلاَّف، فقد جاء في بحثه عن العرف: "والعرف عند التحقيق ليس دليلًا شرعيًّا مستقلًا" (5) .
__________
(1) راجع في هذا كتابنا: الشريعة الإلهية: ص 164.
(2) العرف والعادة، لأحمد أبي سنَّة: ص 32.
(3) العرف والعادة، لأحمد أبي سنَّة: ص 32.
(4) أثر العرف، لسيد صالح عوض: ص 617.
(5) علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف: ص 91.(5/2657)
المبحث الخامس
الشروط التي يجب توفرها في العرف الذي يحتجُّ به
اشترط علماؤنا في العرف الذي يعتبر شرعًا عدَّة شروط:
الأول: أن لا يخالف العرف الشريعة، فإن خالف العرف نصًّا شرعيًّا أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنَّه عرف باطل.
فالعرف الذي يُحلُّ الحرام، ويحرَّم الحلال، ويناقض الشريعة لا يجوز أن يصير العباد إليه، وهو ليس من المعروف، بل من المنكر الذي تجب محاربته مثل ما اعتاده الناس من أكل الربا والتبرج ومنكرات الأفراح والمآتم وعقود المقامرة وحرمان النساء من الإِرث في بعض البلاد وأخذ الرشوة ولبس الرجال الذهب والحرير.
وقد سبق الحديث عن هذا النوع من العرف وهو الذي يسمَّيه الفقهاء بالعرف الفاسد أو العرف الباطل.
الثاني: أن يكون العرف مطّردًا أو غالبًا، ومعنى اطراده أن يكون العمل بالعرف مستمرًا في جميع الحوادث، لا يتخلف في واحدة منها، أو يكون غالبًا في أكثر الحوادث.
يقول السيوطيُّ: إنَّما تعتبر العادة إذا اطَّردت، فإن اضطربت فلا، وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف (1) .
وعزا السيوطيّ إلى إمام الحرمين قوله في باب الأصول والثمار: كلُّ ما يتَّضح فيه اطراد العادة فهو المحكم، ومُضْمَرُه كالمذكور صريحًا" (2) .
وقال ابن نجيم: "إنَّما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت، ولذا قالوا في البيع: لو باع بدراهم أو دنانير وكانا في بلد اختلفت فيه النقود مع الاختلاف في المالية والرواج انصرف البيع إلى الأغلب. قال في الهداية: "لأنَّه هو المتعارف، فينصرف المطلق إليه".
ومنها لو باع التاجر في السوق شيئًا بثمن ولم يصرَّحا بحلول ولا تأجيل، وكان المتعارف فيما بينهم أن البائع يأخذ كلَّ جمعة قدرًا معلومًا انصرف إليه بلا بيان.
قالوا: لأنَّ المعروف كالمشروط" (3) .
__________
(1) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 92.
(2) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 92.
(3) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 92.(5/2658)
الثالث: أن يكون العرف المراد العمل به والسير وفقه موجودًا عند إنشاء التصرف. ومن هنا قال السيوطي: "العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنَّما هو المقارن السابق دون المتأخر (1) .
وقال ابن نجيم: العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنَّما هو المقارن السابق دون المتأخر، ولذا قالوا: لا عبرة بالعرف الطارئ (2) .
الرابع: أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه فلو صرَّحا بخلافه فلا حكم للعرف، فإذا كان العرف جاريًا على أن يدفع المستأجر الأجرة مقدمًا في أول كلَّ شهر فاتفقا على دفع أجرة المنزل في آخر الشهر جاز.
وفي هذا يقول العزُّ بن عبد السلام: "كلُّ ما يثبت في العرف إذا صرَّح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد صحَّ.
فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل وشرب لزمه ذلك، ولو شرط عليه أن لا يصلي الرواتب، وأن يقتصر في الفرائض على الأركان صحَّ، ووجب الوفاء بذلك، لأنَّ تلك الأوقات إنمَّا خرجت عن الاستحقاق بالعرف القائم مقام الشروط، فإذا صرَّح بخلاف ذلك مما يجوَّزه الشرع ويمكن الوفاء به جاز" (3) .
والباحثون في القانون الذين يفرَّقون بين العادة والعرف يشترطون في الركن المادي وهو العادة عدة شروط (4) .
وهم يوافقون الفقهاء في اشتراط كون العادة عامَّة مطردة وقديمة، ويعنون بالقديمة أن يكون مضى على نشوئها مدة طويلة تدلُّ على رسوخ أثرها في النفوس وقيام عرف مستقرًّ على أساسها، والفقهاء لم يبحثوا في قِدَم العادة، وكلُّ ما اشترطوه هو وجود العرف عند إنشاء التصرف، والشرطان مؤداهما واحد.
ويشترط الفقهاء عدم تصريح المتعاقدين بخلاف العرف، فلو صرَّحا فلا حكم للعرف، والقانونيون يرون أن العرف ملزم لا يجوز للمتعاقدين مخالفته، لأنَّه بمثابة القاعدة القانونية، ولا شكَّ أن نظر الفقهاء أدقُّ وأهدى، فإنَّ الإِلزام به إنما يكون عندما يحصل الخلاف، ولا اتفاق عندئذٍ لا يكون أمامنا إلاَّ عرف الناس المماثل للقضية المطروحة، فإذا صرَّحا بخلافه فلا شك في عدم المصير إليه.
__________
(1) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 96.
(2) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 101.
(3) قواعد الأحكام للعزَّ بن عبد السلام: 2 /186.
(4) انظر هذه الشروط في كتاب أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة: ص 127؛ وأصول القانون، للدكتور حسن كيرة: ص 334.(5/2659)
والفقهاء يصرَّحون ببطلان العرف الذي يخالف نصًّا من نصوص الشريعة، والقانونيون يرون بطلان العرف إذا خالف قاعدة نصَّ عليها القانون، وقد بينا الظلم الكبير الذي وقع على الشريعة بسب إِقصائها وتحكيم القوانين الوضعية في رقاب المسلمين.
واشترط القانونيين عدم مخالفة العادة للنظام العام أو لآداب المجتمع، ولا حاجة بالفقهاء للنصَّ على هذا الشرط، لأنه داخل في شرطهم الكبير، وهو عدم مخالفة العرف للشريعة، والشريعة تضمُّ الأحكام الأخلاقية والآداب الاجتماعية التي يجب الالتزام بها، كما تضمُّ الأحكام العملية، والأحكام الاعتقادية.
المبحث السادس
أقسام العرف وأمثلته
قَسَّم الفقهاء العرف إلى عرف قوليّ وعرف عمليّ من جهة، وعرف عامّ وعرف خاصّ من جهة أخرى، وأطالوا في التمثيل للمسائل التي تبنى على العرف، وسنورد في هذا البحث ثلاثة مطالب لتجلية هذه المسائل الثلاث.
المطلب الأول
العرف القولي والعرف العملي
العرف القولي أو اللفظي هو الذي يسمَّيه الأصوليون بالحقيقة العرفية، ويسمَّيه بعض الفقهاء بالعادة في اللفظ، وقد عرَّفه ابن عابدين، بقوله: "العرف القولي: هو أن يتعارف قوم إِطلاق اللفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه إلاَّ ذلك المعنى" (1) .
وعرَّفه القرافي بقوله: "العادة في اللفظ: أن يغلب إِطلاق لفظ أو استعماله في معنى حتى يصير هو المتبادر من ذلك اللفظ عند الإِطلاق مع أن اللغة لا تقتضيه، فهذا هو معنى العادة في اللفظ، وهو الحقيقة العرفيَّة، وهو المجاز الراجح في الأغلب، وهو معنى كلام الفقهاء أن العرف يُقَدَّم على اللغة عند التعارض، وكلُّ ما يأتي من هذه العبارات" (2) .
__________
(1) تنبيه الرقود على أحكام النقود، لابن عابدين: ص 36. وهذا التعريف عزاه ابن عابدين، لابن أمير حاج.
(2) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي: ص 234.(5/2660)
وقال فيه شيخ الإِسلام: " الحقيقة العرفيَّة: هي ما صار اللفظ دالاَّ فيها على المعنى بالعرف لا باللغة، وذلك المعنى يكون تارة أعمّ من اللغوي، وتارة أخصّ، وتارة مباينًا له.
فالأول: مثل لفظ (الرقبة) ، و (الرأس) ، كان يستعمل في العضو المخصوص، ثمَّ صار يستعمل في جميع البدن (1) .
والثاني: أن يوضع الاسم لمعنى عامّ، ثم يُخَصص عرفُ الاستعمال من أهل اللغة ذلك الاسم ببعض مسمياته، كاختصاص اسم الدابّة بذوات الأربع مع أن الوضع لكلَّ ما يدبَّ، واختصاص اسم المتكلم بالعالم بعلم الكلام مع أن كلّ قائل ومتلفظ متكلم، كاختصاص اسم الفقيه ببعض العلماء وبعض المتعلمين مع أن الوضع عامّ. قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (2) . وقال" {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (3) .وقال عزَّ وجلَّ: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (4)
والثالث: أن يصير الاسم شائعًا في غير ما وضع له أولًا بل فيما هو مجاز فيه، كالغائط المطمئن من الأرض، والعذرة البناء الذي يستتر به، وتقضى الحاجة من ورائه، فصار أصل الوضع منسيًّا والمجاز معروفًا سابقًا إلى الفهم بعرف الاستعمال" (5) .
ومثَّل شيخ الإسلام للثالث بلفظ "الغائط" و "المزادة". و "الظعينة" و "الراوية". فإنَّ الغائط في اللغة هو المكان المطمئنُّ من الأرض، فلمَّا كانوا ينتابونه لقضاء حوائجهم سَمُّوا ما يخرج من الإِنسان باسم محله. والظعينة اسم الدابَّة، ثمَّ سَمُّوا المرأة التي تركبها باسمها، ونظائر ذلك (6) .
ومن أمثلة العرف القولي إطلاق النّاس الولد على الذكر دون الأنثى، ومع أن الشريعة تطلقه على الذكر والأنثى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (7) .
والعرف العملي ما جرى عليه عمل الناس وتعارفوه في معاملاتهم وتصرفاتهم، فمن ذلك اعتياد الناس أجرة معينة لبعض الأعمال، مثل ما تعارف عليه أصحاب سيَّارات الأجرة والنقل من أجرة معيَّنة عند نقل الركاب من مكان إلى مكان، ومثل تعارف الناس على البيع بالمعاطاة من غير إِيجاب وقبول عند شراء حوائجهم من أسواقهم وحوانيتهم.
__________
(1) مجموع الفتاوى شيخ الإِسلام: 7 /96.
(2) سورة البقرة: الآية 31.
(3) سورة الرحمن: الآيتان 3، و4.
(4) سورة النساء: الآية 78.
(5) المستصفى، للغزالي: 1 /325.
(6) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام: 7 /97. وانظر: المطلع على أبواب المقنع: ص 391.
(7) سورة النساء: الآية 11.(5/2661)
وتعارفهم على أن من ينقل الركاب يكتفي بالأجرة ولا يطلب قيمة ما تستهلكه السيارة من وقود وزيوت.
وتعارفهم في كثير من الصناعات على عدم دفع شيء غير الأجرة، فلا يدفعون للخياط قيمة ما يستهلكه من خيوط وإِبر، ولا يدفعون إلى القصَّار والبنَّاء قيمة ما يستهلك من أخشاب وأدوات.
ومن ذلك ما تعارف عليه أصحاب الشركات على أن العامل يستحقُّ يوم عطلة من عمله كلَّ أسبوع، كما يستحقُّ إِجازة سنويَّة لها عدد محدَّد من الأيام.
وجرت العادة في بعض البلاد على إِعادة ظرف الهدية إلى المُهْدي، وجرت العادة في بلاد أخرى على عدم ردَّها، وكلُّ قوم يتعاملون وفق عرف أهل بلادهم.
المطلب الثاني
العرف العام والعرف الخاص
ويُقْسَمُ العرف إلى عام وخاص:
فالعرف العامُّ هو الذي يكون فاشيًا في جميع البلاد بين جميع الناس في أمر من الأمور. ومن العرف العامَّ ما يكون عالميًّا كتعارف الناس على تسمية أيام الأسبوع، وكاتفاقهم على بداية الأشهر والسنوات، واتفاقهم على عدد أيام السنة ونحو ذلك.
ومن العرف العامَّ ما يكون شائعًا عند جميع المسلمين، كلفظ (دابُّة) ، فإن وضع هذه الكلمة بأصل اللغة كلَّ ما يدبُّ على الأرض من ذي حافر وغيره، ثمَّ هُجر الوضع الأول، وصارت في العرف حقيقة للفرس، ولكلّ ذات حافر.
ومن العرف العامَّ كلُّ ما شاع استعماله في غير موضعه اللغويّ كالغائط والعذرة والراوية، فإنَّ حقيقة الغائط المطمئنُّ من الأرض، والعذرة فناء الدار، والراوية الجمل الذي يستقى عليه الماء (1) ، وقد سبق بيان هذا.
والعرف الخاص هو الذي يختصُّ ببلد أو فئة أو طائفة من الناس، مثل عرف النحاة في إطلاق اسم الفاعل على كل اسم مرفوع تقدَّمه فعل ودلَّ على فعل الفعل، وتعارف بعض البلاد على دفع الأجرة في أول العام، وآخرون في آخر العام، ونحو ذلك.
__________
(1) راجع شرح الكوكب المنير، لابن النجار: 1 /150.(5/2662)
المطلب الثالث
أمثلة للعرف والعوائد الصحيحة
جاءت كثير من النصوص الشرعية في كثير من الأحكام مطلقة، وتركت الشريعة التفصيل فيها للعرف واجتهاد الفقهاء تبعًا لتغيَّر الظروف والأحوال والأماكن والأزمان.
1- فمن ذلك تقدير النفقة الواجبة على الزوج نحو مطلقته المنصوص عليها في قوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (1) .
فهذا التقدير متروك إلى أعراف الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ولم تحدّ الشريعة فيه حدًّا يُنْتَهى إِليه.
2- ومِثْل ذلك يقال في تقدير النفقة المنصوص عليها في قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) .
قال العزُّ بن عبد السلام: "السكنى وماعون الدار يرجع فيها إلى العرف من غير تقدير، والغالب أن ما رُدَّ في الشرع إلى المعروف أنَّه غير مقدَّر، وأنَّه يرجع فيه إلى ما عرف الشرع أو إلى ما يتعارفه الناس (3)
3- ومثل ذلك يقال في تقدير المسافة في السفر الذي يجوز فيه قصر الصلاة وجمعها، فإنَّ مناط الحكم فيهما "السفر" أما تحديد السَّفر فيختلف من زمان إلى زمان.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "عَلَّق الله ورسوله القصر والفطر بمسمَّى السفر، ولم يَحُدَّه، ولا فرَّق بين طويل وقصير، ولو كان للسفر مسافة محدَّدة لبينه الله ورسوله، ولا له في اللغة مسافة محدودة، فكلُّ ما يسميه أهل اللغة سفرًا فإنه يجوز فيه القصر والفطر، كما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة.
وقد أطال شيخ الإسلام في بيان اختلاف العلماء في هذه المسألة، وذِكْرِ أدلتهم ومناقشتها، وإيراد الأدلة التي ترجَّح أن المرجع في تحديد السفر هو العرف (4) .
4- وأرجع شيخ الإسلام تفسير الخُفَّ الذي جاءت الأحاديث بإِجازة المسح عليه إلى العرف، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أمر أمته بالمسح على الخفين، ولم يقيد ذلك بكون الخفّ يثبت بنفسه أولا يثبت بنفسه، وسليمًا من الخرق والفتق أو غير سليم، فما كان يسمى خفًّا ولبسه الناس ومشوا فيه مسحوا عليه المسح الذي أذن الله فيه ورسوله، وكلُّ ما كان بمعناه مسح عليه، فليس لكونه يسمَّى خفًا معنى مؤثر، بل الحكم يتعلق بما يُلْبَس ويُمْشى فيه (5) .
__________
(1) سورة الطلاق: الآية 7.
(2) سورة البقرة: الآية 233.
(3) قواعد الأحكام: 1 /71.
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19 /243، 24 /40.
(5) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام: 19 /242.(5/2663)
5- وجعل الحقُّ – تبارك وتعالى – كفارة من حنث بيمينه إِطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم الحانث أهله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} (1) .
وألزم من قتل صيدًا وهو محرم بالتكفير عن فعله، وأحد الكفَّارات المخيَّر بينها إِطعام مساكين: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} (2) .
والذي يظاهر من أهله ولا يجد رقبة يعتقها، ولا يستطيع صيام شهرين متتابعين، فيجب عليه {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (3) .
ومقدار الإِطعام الذي يكفي الفقير، ومقدار الوسط من طعام كلَّ شخص يُرْجع فيه كلَّه إلى عرف الناس في مختلف البلاد والأزمنة فقوم طعامهم الأرز، وآخرون التمر، وقوم السمك، وقوم ينوعون الطعام، وكلُّ يخرج من أوسط ما جرت عادته بأكله يقول ابن تيمية: "وكل يطعمون من أوسط ما يأكلون، كفاية غيره" (4) .
6- اتفق أهل العلم على أن السارق لا تقطع يده إلا إذا سرق المال من حِرْزِ مثله، وأرجعوا معرفة الحرز الذي تحفظ فيه الأموال إلى عادات الناس وأعرافهم، يقول ابن قدامة: "والحرز ما عُدَّ حرزًا في العرف، فإنه لما ثبت اعتباره في الشرع من غير تنصيص على بيانه علم أنَّه رَدَّ ذلك إلى أهل العرف لأنَّه لا طريق إلى معرفته من جهته، فيرجع إليه". والحِرْزُ عند الناس يختلف باختلاف الأموال كما هو مشاهد معروف، فحِرْز البهائم الحظائر، وحِرْز الأقمشة البيوت والمتاجر، وحِرْز الذهب والفضة الخزائن المحفوظة في جوف الدار أو بيوت الأموال.
يقول العزّ بن عبد السلام: "حمل الودائع والأمانات على حِرْز المثل، فلا تحفظ الجواهر والذهب والفضة بإِحراز الثياب والأحطاب تنزيلًا للعرف منزلة تصريحه بحفظها في حرز مثلها" (5) .
__________
(1) سورة المائدة: الآية 89.
(2) سورة المائدة: الآية 95.
(3) سورة المجادلة: الآية 4.
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19 /252.
(5) قواعد الأحكام: 2 /127.(5/2664)
ومن الأعراف الصحيحة التي أقرتها الشريعة الإِسلامية مراعاة ما عليه أهل كلَّ بلد في ألفاظهم وموازينهم ومكاييلهم، ومن أمثلة ذلك:
1- إذا حلف شخص فقال: "لا ركبت دابَّة، وكان في بلد عرفُهم في لفظ الدابَّة الحمار خاصة اختصت يمينه به، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل.
وإن كان في عرفهم لفظ الدابَّة الفرس خاصة حملت يمينه عليها دون الحمار، وكذلك إن كان الحالف ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب كالأمراء ومن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب، فيُفْتَى في كلَّ بلد بحسب عرف أهله، ويُفْتَى كلُّ أحد بحسب عادته (1) .
2- إذا حلف شخص لا اشتريت كذا، ولا بعته، ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها، ونحو ذلك، وعادته ألا يباشر ذلك بنفسه كالملوك حنث قطعًا بالإِذن والتوكيل فيه، فإنَّه نفس ما حلف عليه (2) .
3- إذا حلف حالف: لا أكلت رأسًا في بلد عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها، وإن كان عادتهم أكل رؤوس السمك حنث بأكل رؤوسها (3) .
4- إذا حلف شخص بألا يأكل ميتة فأكل سمكًا فإنَّه لا يحنث كما صححه الرافعيُّ وعلله بالعرف. ولو حلف لا يأكل دمًا لا يحنث بأكل الكبد والطحال (4) .
5- وإذا حلف إِنسان أن لا يضع قدمه في دار فلان، فدخل الدار راكبًا أو محمولًا على الأكتاف حنث، لأنَّ المعنى العرفيَّ لوضع القدم في الدار يعني الدخول فيها على أي صورة كان، وليس المراد منه مجرد وضع القدم.
6- إذا وكَّل رجلٌ آخر في البيع، ولم يقيده بشيء فإنَّ الموكَّل يتقيد بثمن المثل وغالب نقد البلد تنزيلًا للغلبة منزلة صريح اللفظ، كأنه قال للوكيل: بع هذا بثمن مثله من نقد هذا البلد.
فإذا باع الوكيل الدار التي تساوي عشرات الألوف من الدنانير ببضعة دنانير فعند أهل العرف أن هذا لا يقبل، لأنَّ قول الموكَّل لوكيله: بع داري يجب حمله على ثمن مثلها (5) .
__________
(1) إعلام الموقعين: 3 /64.
(2) إعلام الموقعين: 3 /65.
(3) إعلام الموقعين: 3 /65.
(4) التمهيد: ص 234.
(5) هذا المثال والأمثلة التي بعدها مستفادة من أمثلة كثيرة ذكرها العزُّ بن عبد السلام في قواعد الأحكاك: 2 /126، ولكن بشيء من التصرف والاختصار.(5/2665)
7- إِذا وكَّل الرجل الشريف الفاضل الغنيُّ شخصًا بتزويج ابنته، فزوَّجها من فاسق مشوَّه الخَلْق على نصف درهم، فإنَّ أهل العرف يقطعون بعدم الجواز، لأنَّ الإِذن المطلق في مثل هذا يحمل على الكفء ومهر المثل.
8- إذا وكَّل غيره في إجارة داره سنة، وأَجرة مثلها ألف، فأجَّرها بنصف دينار لا يصحّ، لأنَّ العرف يلزم بتأجيرها بأجرة المثل.
9- إذا طلب شخص من صانع أن يصنع له شيئًا، فإنَّه يجب أن يصنع هذا الشيء على النحو المتعارف عليه، فإن صنع الخياط الثوب على طريقة مخالفة لثياب أهل البلد أو خاط الثوب بخيوط رديئة لم تجرِِ العادة أن يخاط بها فلا يقبل منه.
10- استحقاق الصنّاع الأجرة التي جرت العادة بها إذا لم يتفق معهم من عملوا له على أجرة معينة كالحلاَّق والنجَّار والحمَّال والقصَّار.
11- جواز دخول الحمامات والفنادق التي جرت العادة بدخولها من غير إذن، إقامةً للعرف المَّطرد مقام الإِذن الصريح ولا يجوز لداخل الحمام أن يقيم فيه أكثر مما جرت به العادة، وكذلك لا يجوز له أن يستعمل من الماء أكثر مما جرت العادة باستعماله.
12- إذا باع دارًا فيدخل في المبيع الأبنية والأشجار التابعة لها بناء على أن هذا عرف الناس في بيوعهم.
13- إذا باع سيارة فإنَّه يدخل في البيع الإِطار الاحتياطي، وعدة إصلاحها والرافعة التي ترفع بها عند تبديل الإِطار لجريان العرف بذلك.(5/2666)
الفصل الثالث
تغير الأحكام والفتاوى بتغير العرف والعوائد
المبحث الأول
وجوب تَغَيُّر الأحكام والفتاوى بتغيُّر العرف والعوائد
بنى كثر من أهل العلم الأحكام التي أصدروها في عصرهم على العوائد والأعراف التي كانت سائدة في تلك العصور، فإذا تغيَّرت تلك العوائد، وصارت العوائد تدلُّ على ضدَّ ما كانت عليه أولًا، فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء؟ ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجدَّدة؟ أو يقال: نحن مقلَّدون، وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟
أورد هذا السؤال القرافي في كتاب "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" (1) . ثمَّ أجاب عنه قائلًا: "إنَّ إِجراء الأحكام التي مُدْرَكُها العوائد، مع تغيّر تلك العوائد خلاف الإِجماع، وجهالة في الدَّين، بل كلُّ ما هو في الشريعة يتبع العوائد: يتغيّر فيه عند تغيّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة" (2) .
وذكر القرافي في ردَّه: "أنَّ الفقهاء أجمعوا على أن المعاملات إذا أُطْلِق فيها الثمن يحمل على غالب النقود، فإذا كانت العادة نقدًا معيَّنًا حملنا الإِطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عَيَّنا ما انتقلت العادة إليه، وألغينا الأول لانتقال العادة عنه.
وكذلك الإِطلاق في الوصايا والأيمان وجميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد، إذا تغيَّرت العادة تغيَّرت الأحكام في تلك الأبواب، وكذلك الدعاوى إذا كان القول قول من ادَّعى شيئًا لأنَّه عادة، ثم تغيَّرت العادة لم يبقَ القول قول مُدَّعيه، بل انعكس الحال فيه (3) .
__________
(1) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 231.
(2) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 231.
(3) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 231.(5/2667)
ويرى القرافي أنَّه لا يشترط تغيّر العادة في البدل الواحد، بل إذا انتقل العالم من بلد إلى أخرى وجب عليه مراعاة البلد الذي انتقل إليه، وفي هذا يقول: "ولا يشترط تغير العادة، بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إلى بلد آخر عوائدهم على خلاف عادة البلد الذي كنَّا فيه أفتيناهم بعادة بلدهم، ولو تعتبر عادة البلد الذي كنا فيه، وكذلك إذا قدم علينا أحد من بلد عادته مضادَّة للبلد الذي نحن فيه لم نفته إلاَّ بعادة بلده دون عادة بلدنا " (1) .
ومَثَّل لهذه الأحكام المتغيَّرة بما رُوِىِ عن الإِمام مالك – رحمه الله تعالى – أنَّه إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول أن القول قول الزوج مع أن الأصل عدم القبض.
قال القاضي إِسماعيل: "هذه كانت عادتهم بالمدينة أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها، واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فالقول قول المرأة مع يمينها لأجل اختلاف العوائد" (2) .
ومن الذين تعرَّضوا لهذه المسألة ابن القيم – رحمه الله تعالى – فإنَّه عقد في كتابه "إعلام الموقَّعين" فصلًا كبيرًا لتغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيَّات والعوائد.
وقرَّر في هذا الفصل أن الجمود على الأحكام التي أصدرها أهل العلم في الماضي وفقًا للعرف والعادة السائدة في أيامهم أوقع الناس في الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، كما نسب إلى الشريعة الإِسلامية المباركة السمحة الظلم والقسوة، وكلُّ هذا بسبب الجمود على الأحكام مع تغيَّر العوائد والأعراف التي بنيت عليها تلك الأحكام، وفي هذا يقول: "هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به" (3) .
ثم استطرد لبيان خصائص الشريعة الإِسلامية، وكيف أن الجمود الذي أشار إليه أفقد هذه الشريعة خصائصها، استمع إليه يقول: "إنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلُّها، ورحمة كلُّها، ومصالح كلُّها، وحكمة كلُّها. فكلُّ مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإِن أدْخِلت فيها بالتأويل.
__________
(1) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 233.
(2) الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 233.
(3) أعلام الموقعين: 3 /5.(5/2668)
فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلُّه في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسول صلى الله عليه وسلم أتمُّ دلالة وأصدقها. وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي اهتدى المهتدون به، وشفاؤه التام الذي به دواء كلَّ عليل، وطريقة المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرّة العيون، وحياة القلوب، ولذَّة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكلُّ خير في الوجود فإنَّما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكلُّ نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا، وطوي العالم وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطيَّ العالم رَفَع الله ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدَّنيا والآخرة (1) .
وإنِّما أطال الشيخ رحمه الله في بيان خصائص الشريعة ليبيَّن عظم جناية الذين جمدوا على الأحكام التي أصدرها الفقهاء السابقون مع تغيّر العوائد والأعراف التي بنيت عليها تلك الأحكام، وقد أطال الشيخ في شرح ذلك كله وضرب له الأمثلة.
وطالب الشيخ ابن القيم الجوزية – رحمه الله تعالى – المفتي والعالم بمراعاة العرف دائمًا اعتبارًا وإسقاطًا، وحذَّر من الجمود على المنقول في الكتب، ودعا إلى التعرف على عرف السائلين، وعوائد الذين يُفْتَى لهم في الدين، وفي هذا يقول: مهما تجدَّد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك (2) .
وعقَّب على هذا قائلًا: "فهذا هو الحقُّ الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين" (3) .
وهاجم الشيخ بقوة أولئك الذين يفتون الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم، وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم (4) .
ومن فعل ذلك فقد ضلَّ وأضلَّ وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبَّبَ الناس كلَّهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتب الطبّ على أبدانهم.
__________
(1) إعلام الموقعين: 3 /5.
(2) أعلام الموقعين: 3 /99.
(3) إعلام الموقعين: 3 /99.
(4) إعلام الموقعين: 3 /100.(5/2669)
بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل، أضرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم (1) .
وألَّّف ابن عابدين – رحمه الله تعالى – رسالة في العرف صرح فيها مرارًا بوجوب مراعاة عرف الناس وعوائدهم من قبل المفتين والفقهاء والحكام، ولام الذين جمدوا على الأحكام التي أصدرها سلفهم إذا كانت مبنية على عوائد زالت وعرف تغير.
وأنا أنقل في هذا المبحث بعض نصوص كلامه:
قال رحمه الله تعالى: "قال في القنية": ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف، ونقل المسألة عنه في "خزانة الروايات" كما ذكره البيرمي في "شرح الأشباه" (2) .
وقال: "ليس للمفتي الجمود على المنقول في كتب ظاهر الرواية من غير مراعاة الزمان وأهله، وألاّ يُضيَّع حقوقًا كثيرة، ويكون ضرره أعظم من نفعه" (3) .
وقال: "النقول ونحوها دالّة على اعتبار العرف الخاص، وإن خالف المنصوص عليه في كتب المذهب ما لم يخالف النصَّ الشرعيَّ" (4) .
وقال: "العرف يَثْبُتُ على أهله عامًّا أو خاصًَّا، فالعرف العامُّ في سائر البلاد يَثْبُتُ حكمه على أهل سائر البلاد، والخاصُّ في بلدة واحدة يَثْبُتُ حكمه على تلك البلدة فقط" (5) .
وقال أيضًا: "المفتي لا بدَّ له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال الناس" (6) .
وقال: "من لم يكن عالمًا بأهل زمانه فهو جاهل" (7) .
وقال: "اعلم أن المتأخرين الذين خالفوا المنصوص في كتب المذهب في المسائل السابقة لم يخالفون إلاَّ لتغيّر الزمان والعرف، وعلمهم أن صاحب المذهب لو كان في زمنهم لقال بما قالوه" (8) .
ونقل عن بعض علماء الحنفية قوله: من لم يكن عالمًا بأهل زمانه فهو جاهل" (9) .
__________
(1) إعلام الموقعين: 3 /100.
(2) نشر العرف) مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2/ 113.
(3) نشر العرف مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /129.
(4) نشر العرف) مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /131.
(5) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /130.
(6) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /127.
(7) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /128.
(8) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /126.
(9) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /128.(5/2670)
وقال: "كثير من المسائل الفقهية الثابتة بضرب اجتهاد ورأي يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولًا، ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد: إنه لا بدّ فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغيّر عرف أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا للزم منه المشقَّة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتمَّ نظام وأحسن إِحكام، ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نصَّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنّه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذًا من قواعد مذهبه " (1) .
ويذكر ابن عابدين أن الإِمام صاحب أبي حنيفة كان يذهب إلى الصباغين ويسأل عن معاملتهم وما يديرونه فيما بينهم (2) .
وأحبُّ أن أختم هذه النقول القيَّمة من كلام ابن عابدين بهذا النقل الذي يبين أهمية معرفة الحكام والمفتين بأعراف الناس وعاداتهم، يقول رحمه الله في ذلك: "قال بعض العلماء المحقَّقين: لا بدَّ للحاكم من فقه في أحكام الحوادث الكلَّية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميز به بين الصادق والكاذب والمحقَّ والمبطل، ثمَّ يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالف الواقع.
والمفتي الذي يفتي بالعرف لا بدَّ له من معرفة الزمان وأحوال أهله ومعرفة أن هذا العرف خاصٌّ أو عامٌّ، وأنه مخالف للنصَّ أولًا، ولا بدَّ له من التخرُّج على أستاذ ماهر، ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل، فإنَّ المجتهد لا بدَّ له من معرفة عادات الناس، فكذا المفتي، ولذا قال في آخر "منية المفتي": لو أن رجلًا حفظ جميع كتب أصحابنا لا بدَّ أن يتتلمذ للفتوى حتى يهتدي إليها، لأنَّ كثيرًا من المسائل يجاب عنها على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة" (3) .
المبحث الثانى
أسباب تغيّر العرف
العادات التي تختلف أحكامها هي العوائد المتغيَّرة المتبدَّلة التي لم يرد دليل شرعي بإثباتها أو نفيها، لأنَّ الشارع ليس له غرض في إِجرائها على سَنَن معيَّن، فكيفما وقعت فإنَّ غرض الشارع يتحقق بهذا الوقوع. وتغيّر العرف والعوائد يعود إلى أمور كثيرة منها:
__________
(1) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /123.
(2) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /128.
(3) نشر العرف (مجموعة رسائل ابن عابدين) : 2 /127.(5/2671)
1- اختلاف الناس في منازعهم ومشاربهم وأمزجتهم، وهذا الاختلاف سَيُحْدِثُ حتمًا اختلاف الناس في الأحكام والتصرفات، ولذا فقد يُقبَّحُ بعضُ الناس فعلًا يراه الآخرون حسنًا وجميلًا، وقد يحسَّنون فعلًا يراه غيرهم قبيحًا، فمن ذلك غطاء الرأس يراه كثير من المسلمين من لوازم المروءة، وتركه يخلُّ بها، بينما يرى آخرون كشف الرأس حسنًا لا بأس فيه (1) ، وجرت العادة في بعض ديار المسلمين أن يَدْخُل الزوج على زوجه في بيت والدها، وفي ديار أخرى يرون هذا قبيحًا.
2- اختلاف طبيعة الأرض والمناخ، فالبلاد تختلف وعورة وسهولة وبرودة وحرارة، ولهذا الاختلاف أثر كبير في اختلاف عادات الناس في لباسهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم.
3- اختلافٌ خارج عن إِرادة المكلَّفين كاختلاف الناس في سِنَّ البلوغ واختلاف النساء في: سِنَّ الحيض، ومقدار الحيض والنفاس، ومقدار الطهر بين الحيضتين، واختلافهنَّ في السنَّ الذي يكون فيه اليأس من المحيض.
4- تأثير الحكّام والمفكَّرين والعلماء في أممهم، فكثير من الأعراف والعوائد تتغيَّر بسبب ما يصدرونه من قوانين وتوجيهات، واعتبر بهذا بحال المسلمين في واقعهم المعاصر، فإنَّ كثيرًا من العادات في اللباس والتصرفات تغيَّرت تغيرًا كلَّيًّا بسبب ما صدر من قوانين، وبسب الآراء والنظريات التي ناقشت ما كان عليه الناس في عرفهم وعوائدهم.
5- اختلاط الناس بعضهم ببعض، وتسلط بعضهم على بعض، فالناس يتأثر بعضهم ببعض، ويأخذ بعضهم عادات بعض، وخاصة في حال غلبة قوم على قوم، وقبيل على قبيل، فإنَّ المغلوب يتشرب عادات الوافد الغالب، ويترك عادته، ومن نظر في حال المسلمين اليوم علم إلى أي مدى أثَّر فينا الكفار الذين احتلوا ديارنا وتقلَّدوا أمورنا.
6- اختلاف الناس في التعبير عن مقاصدهم، ومن هنا اختلفت اللغات، فالشيء الواحد له في كلَّ أمَّة اسم يخصُّه غير الاسم الذي تطلقه عليه بقية الأمم، وقد تتفق الألفاظ عند الأمم، ولكنْ تختلف في المعاني المرادة بتلك الألفاظ، وفي الأمة الواحدة ذات اللغة الواحدة تختلف المعاني المرادة من ألفاظ بعينها، فطائفة تطلقه على معنى، وأخرى تطلقه على معنى مغاير، ويكثر هذا عند أرباب الصنائع، والشارع يُمْضي ألفاظ الناس على المعاني التي يقصدونها في أيمانهم وبيعهم وشرائهم وزواجهم وطلاقهم وعقودهم.
__________
(1) انظر الموافقات: 2 /209.(5/2672)
المبحث الثالث
أمثلة لأحكام نصَّ الفقهاء
على تغيُّر الحكم لتغير عادة الناس فيها
قال القرافي: "سأسرد أحكامًا نصَّ الأصحاب على أن المُدْرَكَ فيها العادة، وأنَّ مستند الفتيا بها إنَّما هو العادة والواقع اليوم خلافه، فيتعيَّن الحكم على ما تقتضيه العادة المتجدَّدة.
الحكم الأول: بعض ألفاظ المرابحة، وهو قول البائع: بعتك بوضيعة العشر أحد عشر، أو بوضيعة العشرة عشرين.
قال الأصحاب: هذا اللفظ يقتضي عادة أن يُأْخَذَ لكلَّ عشرة عشرة، ويحطُّ نصف الثمن في اللفظ الآخر، ويُلْزِمون ذلك المتعاقدين من الجانبين بمجرد هذا اللفظ لأنَّه عادة " (1) .
قال القرافي بعد سياقه لهذا المثال: "وهذه عادة قد بطلت، ولم يبق هذا اللفظ يفهم منه اليوم هذا المعنى ألبتة، بل أكثر الفقهاء، لا يفهمه فضلًا عن العامة، لأنَّه لا عادة فيه، ولا يُفْهَمُ منه ثمنٌ معيَّن باعتبار اللغة أيضًا.
فينبغي إِذا وقع هذا العقد بين العامة في المعاملات أن يكون العقد باطلًا، فإِنَّه ليس عادتهم استعماله ألبته، لأنَّا طوال عمرنا لم نسمعه إلاَّ في كتب الفقه، أمَّا في المعاملات فلا، وإِِذا لم يكن الثمن معلومًا بالعادة ولا باللغة كان العقد باطلًا (2) .
الحكم الثاني: في المرابحة إِذا قال: بعتك بما قامت علي. قالوا: يصحُّ البيع، ويكون للبائع مع الثمن ما بذله من أجرة القِصَارة والكِمَادة (3) ، والطرازة والخياطة والصبغ ونحو ذلك مما له عين قائمة، ويستحقُّ له حصته من الربح إن سمَّى لكلَّ عشرة ربحًا.
وما ليس له عين قائمة إلاَّ أنَّه يؤثر في السوق زيادة رغبة فيه وتنمية للثمن فإنَّه يستحقُّه، ولا يستحقُّ له حصة من الربح، نحو كراء الحمولات في النَّقل للبلدان ونحوه، وما لا يؤثر في السوق فلا يستحقُّه، ولا يكون له ربح، كأجرة الطيّ والشدّ، وكراء البيت، ونفقة البائع على نفسه.
قال القرافي معقَِّبًا على هذه المسألة: "وهذا التفصيل لا يفيده قوله: بما قامت على لغة، بل يصحُّ هذا البيع بهذه العبارة إِذا كان هذا اللفظ يقتضيه عادة، فيصير الثمن معلومًا، فيصحُّ البيع، أما اليوم فلا يفهم هذا في العادة، ولا يتعامل الناس في أسواقهم بهذه العبارة، فلا عادة حينئذٍ، فهذا الثمن مجهول، فلا يُفْتى بما في الكتب من صحته وتفاصيله لانتقال العادة" (4) .
__________
(1) الإِحكام في تمييز الفتوى عن الأحكام، للقرافي: ص 234.
(2) الإِحكام في تمييز الفتوى عن الأحكام، للقرافي:2/ 235.
(3) الكمادة: دقُّ الثوب.
(4) الكمادة: دقُّ الثوب: 2 /236.(5/2673)
الحكم الثالث: "ما وقع في (المدونة) إذا قال لامرأته: أنت علي حرام أو خَلِيَّة أو بَرِيَّة أو وهبتك لأهلك، يلزمه الطلاق الثلاث في المدخول بها، ولا تنفعه النيَّة أنَّه أراد أقلّ من الثلاث".
قال القرافي في هذا المثال: "وهذا بناء على أن هذا اللفظ في عرف الاستعمال اشتهر في إزالة العصمة، واشتهر في العدد الذي هو الثلاث، وأنَّه اشتهر في الإِنشاء المعيَّن، وانتقل عما هو عليه من الإِخبار عن أنَّها حرام، لأنَّه لو بقي على ما يدلُّ عليه لغة لكان كذبًا بالضرورة، لأنَّها حلال له إِجماعًا، فالإِخبار عنها بأنَّها حرام كذب بالضرورة.
وليس مدلول هذا اللفظ لغة إلاَّ الإِخبار عن أنَّها مُحَرَّمة عليه، وأنَّ التحريم قد دخل في الوجود قبل نطقه بهذه الصيغة، وهذا كذب قطعًا، فلا بدَّ حينئذ أن يقال: إِنَّها انتقلت في العرف لثلاثة أمور: إِزالة العصمة، والعدد الثلاث، والإِنشاء، فإنَّ ألفاظ الطلاق إن لم تكن إنشاء أو يراد بها الإِنشاء لا تزيل عصمة ألبتَّةَ.
وملاحظة هذه القاعدة هي سبب الخلاف بين الخلف والسلف في هذه المسألة".
وبعد سياق القرافي لهذا المثال قرَّر "أنَّ الناس في عصره لا يستعملون الصيغ المتقدمة فيما كانت تستعمل في الماضي، وأنَّه تمضي الأعمار ولا يُسْمع أحدٌ يقول لامرأته إِذا أراد طلاقها: أنت خَلِيَّةٌ، ولا وهبتك لأهلك، ولا يَسْمَعُ أحدٌ أحدًا يستعمل هذه الألفاظ في إزالة عصمة ولا في عدد طلاقات، فالعرف حينئذٍ في هذه الألفاظ لهذه المعاني التي قرَّرها مالك في (المدونَّة) بالضرورة. ولا يَدَّعي أنَّها مدلول اللفظ لغة إلاَّ من لا يَدْري اللغة، وإذا لم تفِ هذه الألفاظ هذه المعاني لغة ولا عرفًا ولا نيَّة ولا بساطًا فهذه الأحكام حينئذ بلا سند والفتيا بغير مستند باطلة إِجماعًا وحرام على قائلها ومعتقدها.
نعم، لفظ الحرام في عرفنا اليوم لإِزالة العصمة خاصة دون عدد، وهي مشتهرة في ذلك بخلاف ما ذُكِر معها من الألفاظ، ومقتضى هذا أن يُفْتَى بطلقة رجعية ليس إلاَّّ" (1) .
وأفتى متأخرو الحنفية في مسائل كثيرة بخلاف ما أفتى فيه سلفهم بسبب تغيّر العرف، فمن ذلك إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه، لانقطاع عطايا المعلَّمين التي كانت في الصدر الأول.
__________
(1) الكمادة: دقُّ الثوب: ص 237.(5/2674)
ولو اشتغل المعلَّمون بالتعليم بالأجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم، ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين، فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم، وكذا على الإِمامة، والأذان كذلك، مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من عدم جواز الاستئجار وأخذ الأجرة عليه، كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن ونحو ذلك (1) .
ومن ذلك قول الإِمامين بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفته لما نصَّ عليه أبو حنيفة بناءً على ما كان في زمنه من غلبة العدالة، لأنَّه كان في الزمن الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيريَّة، وهما أدركا الزمن الذي فشى فيه الكذب، وقد نصَّ العلماء على أن هذا الاختلاف اختلاف عصر لا اختلاف حُجَّةٍ وبرهان.
ومن ذلك تحقق الإِكراه من غير السلطان مع مخالفة قول الإِمام بناء على ما كان في زمنه من أن غير السلطان لا يمكنه الإِكراه، ثم كثر الفساد، فصار يتحقق الإِكراه من غيره، فقال محمد باعتباره، وأفتى به المتأخرون.
ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب في أن الضمان على المباشر دون المتسبب، ولكن أفتوا بضمانه زجرًا بسبب كثرة السعاة المفسدين.
ومن ذلك مسائل كثيرة: كتضمين الأجير المشترك، وقولهم: أن الوصيَّ له المضاربة بمال اليتيم في زماننا، وإفتائهم بتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف، وبعدم إِجارته أكثر من سنة في الدور، وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي، مع مخالفته لأصل المذهب من عدم الضمان وعدم التقدير بمدَّة.
ومن ذلك منع النساء عما كنَّ عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من حضور المساجد لصلاة الجماعة.
وإفتائهم بمنع الزوج من السفر بزوجته وإن أوفاها المعجَّل لفساد الزمان (2) .
د. عمر سليمان الأشقر
__________
(1) نَشْر العرف لابن عابدين (انظر مجموعة رسائله) : 2 /123. وفي جعل هذه المسألة من اختلاف العرف نظر عندي، لأنَّ التحريم الذي قال به المتقدَّمون ليس مبنيًّا على العرف، بل على نصوص كثيرة دلَّت على هذا من الكتاب والسنَّة، والذين جَوَّزوا أخذ الأجرة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إنَّما جوزوه لأدلَّةٍ صحَّت عندهم، فلا يجوز أن يقال: إن العرف تغيَّر في هذه المسألة، وليست هذه المسألة من المسائل المبنيَّة على العرف، والأصحُّ أن يقال: إن تغيُّر الحكم فيها تغير اجتهاد.
(2) نَشْر العرف لابن عابدين (انظر مجموعة رسائله) : 2 /123. وفي جعل هذه المسألة من اختلاف العرف نظر عندي، لأنَّ التحريم الذي قال به المتقدَّمون ليس مبنيًّا على العرف، بل على نصوص كثيرة دلَّت على هذا من الكتاب والسنَّة، والذين جَوَّزوا أخذ الأجرة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إنَّما جوزوه لأدلَّةٍ صحَّت عندهم، فلا يجوز أن يقال: إن العرف تغيَّر في هذه المسألة، وليست هذه المسألة من المسائل المبنيَّة على العرف، والأصحُّ أن يقال: إن تغيُّر الحكم فيها تغير اجتهاد: 2/124. وقد ذكر مسائل كثيرة غير المسائل التي نقلناها عنه، وفي أثناء بعض هذه المسائل على العرف نظر.(5/2675)
المراجع
مُرتبة على حروف المعجم
1- أثر العرف في التشريع الإِسلامي، للدكتور السيد صالح عوض، طبعة دار الاتحاد الجامعي مصر.
2- الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقرافي، مكتب المطبوعات الإِسلامية، حلب، سوريا، 1387 هـ - 1967 م.
3- الأشباه والنظائر، لابن نجيم، مؤسسة الحلبي وشركاه، 1387 هـ - 1968 م.
4- الأشباه والنظائر، للسيوطي، مكتب ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1378 هـ - 1959 م.
5- أصول القانون، للدكتور حسن كيره، دار المعارف، مصر، الثانية 1959م.
6- أصول القانون، للدكتور عبد المنعم فرج الصدَّة، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1965م.
7- أعلام الموقعين، لابن القيم، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1389 هـ - 1969م.
8- بصائر ذوي التمييز، للفيروزآبادي، نشره المجلس الأعلى للشؤون الإِسلامية، القاهرة، 1393 هـ - 1973 م.
9- تاريخ الفقه الإِسلامي، للمؤلف، مكتبة الفلاح، الكويت، الأولى 1402 هـ - 1982م.
10- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، للأسنوي، تحقيق وتعليق الدكتور محمد حسن هيتو، طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت، الثانية 1401 هـ - 1981م.
11- تهذيب اللغة، لأحمد الأزهري: الدار المصريَّة للتأليف، القاهرة.
12- شرح رسالة تنبيه الرقود على أحكام النقود، لابن عابدين، لمحمد سلامة جبر، مطابع القبض التجارية، الكويت.
13- شرح الكوكب المنير، لابن النجار الحنبلي، مركز البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز، جدة 1400 هـ - 1980م.
14- الشريعة الإِلهية، للمؤلف، دار الدعوة، الكويت، الثانية 1406 هـ - 1986 م.
15- صحيح البخاري، اعتمدت على متن فتح الباري، طبعة المكتبة السلفية، القاهرة، الأولى 1380 هـ.(5/2676)
16- العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبو سنَّة، مطبعة الأزهر، القاهرة.
17- علم أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف، دار القلم، الكويت، التاسعة 1390 هـ-1970م.
18- فتح الباري شرح صحيح البخاري، طبعة المكتبة السلفية، القاهرة، الأولى 1380 هـ.
19- القانون الدستوري، للدكتور سعد العصفور، دار المعارف، مصر، الأولى 1954م.
20- القانون المدني: مجموعة الأعمال التحضيرية، دار الكتاب العربي، القاهرة.
21- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعزَّ بن عبد السلام، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1388 هـ - 1968 م.
22- كشف الخفا ومزيل الإِلباس عمَّا يدور من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الثالثة 1352 هـ.
23- لسان العرب، لابن منظور، ترتيب يوسف خياط ونديم مرعشلي، طبعة دار لسان العرب، بيروت.
24- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، نشر حكومة السعودية، الطبعة الأولى.
25- المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى أحمد الزرقا، مطبعة جامعة دمشق، الطبعة السابعة 1383 هـ - 1963 م.
26- المستصفى، للغزالي، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر 1322 هـ
27- معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، طبعة الحلبي، القاهرة.
28- المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة.
29- المنثور في القواعد، للزركشي، نشر وزارة الأوقاف، الكويت، الأولى 1402 هـ - 1982م.
30- الموافقات، للشاطبي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح، القاهرة.
31- نشر العرف، لابن عابدين، منشور في مجموعة رسائل ابن عابدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
32- نظرية العرف، للدكتور عبد العزيز خيَّاط، مكتب الأقصى، عمان 1397 هـ-1977م.
33- النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، المكتبة العلمية، بيروت.(5/2677)
العرف (بحث فقهي مقارن)
إعداد
الدكتور محمد جبر الألفي
كلية الحقوق – جامعة الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
1- شاع في أقوال الفقهاء، من مختلف المذاهب الإسلامية، أن العادة محكمة وأن استعمال الناس حجة يجب العمل بها، وأن الحقيقة تترك بدلالة العادة والعرف، وأن العرف في الشرع له اعتبار، وأن التعيين بالعرف كالتعيين بالنص، وأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، حتى صارت هذه العبارات وما يماثلها أساسًا لقواعد فقهية استقرت في الفقه الإسلامي وفي تشريعات العديد من الدول الإسلامية، وتأكد بمقتضاها ما للعرف من دور متميز في إنشاء الأحكام وتعديلها وتفسيرها.
2- فلما نهضت حركة " التقنين " في البلاد العربية والإسلامية لزم بيان المصادر الرسمية التي ينبغي على القاضي أن يلجأ إليها ليستمد أحكامه منها. واحتل العرف مكان الصدارة، بعد النص، في بعض هذه التقنينات، ووضعه بعضها الآخر في المرتبة الثالثة من المصادر الرسمية، بحيث لا يحكم القاضي بمقتضاه إلا عند سكون النص القانوني عن تقرير حكم يفصل في النزاع، وعدم استطاعة القاضي استنباط هذا الحكم من مبادئ الشريعة الإسلامية. واعتبر هؤلاء وأولئك أنهم بذلك يتبعون النهج الإسلامي القويم.
3- من أجل ذلك كانت أهمية هذا البحث لتحديد معنى العرف، وتعيين أركانه، والكشف عن أساس قوته الملزمة، وبيان الوظيفة التي يمكن أن يؤديها في مجال التشريع. وهذا يقتضي أن نتبع في دراسة العرف المنهج التالي:
الفصل الأول: معنى العرف وبيان أركانه.
الفصل الثاني: القوة الملزمة للعرف.
الفصل الثالث: دور العرف في التشريع.
الفصل الرابع: التطور التشريعي للعرف.(5/2678)
الفصل الأول
معنى العرف وبيان أركانه
4- اختلف العلماء في تحديد معنى العرف، ونتيجة لهذا الاختلاف تقاربت مع العرف بعض المصطلحات أو تباعدت. واشترط البعض لاعتبار العرف أوصافًا تؤكد قيامه وتعين درجة إلزامه. وهذا ما نعالجه في مبحثين:
نخصص أولهما لبيان معنى العرف، والتفرقة بينه وبين ما قد يشتبه به.
ونستعرض في الآخر أركان العرف وشروط كل ركن.
المبحث الأول
تحديد معنى العرف وتمييزه من الألفاظ ذات الصلة
أولًا – تحديد معنى العرف:
5- معنى العرف في اللغة:
أورد علماء اللغة للعرف عدة معان (1) ، منها: كل مرتفع، كعرف الديك والرمل والجبل. ومنها: ما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم. والعرف أيضًا اسم من الاعتراف، يقال: له علي ألف عرفًا. ويطلق العرف كذلك على كل معروف، وهو ما تعرفه النفس من الخير وتطمئن إليه، كما في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} (2) .
__________
(1) الأزهري، الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، تحقيق محمد الألفي، الكويت 1979 م، 109. ابن منظور، لسان العرب، بيروت 1955 /1956 /، 11 /144 وما بعدها. الجوهري، تاج اللغة وصحاح العربية، الطبعة الأولى: 4 /1402 – 1403. الزبيدي، تاج العروس، طبعة بيروت 1966 م: 6 /193. الفيروز آبادي؛ القاموس المحيط، 1373هـ: 3 /178 – 179. الفيومي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير المعجم الوسيط، القاهرة، 1950م:2 /53-54 مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، القاهرة 1961م: 2 /601.
(2) [سورة الأعراف: الآية 199] .(5/2679)
ومن معاني العرف: تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، كعرف الفرس، سمي بذلك لتتابع الشعر، ومنه قولهم: طار القطا عرفًا عرفًا، أي متتابعة. ومن هذه المعاني يتضح أن مادة (عرف) " يغلب ورودها فيما ارتفع من المحسات وكرم من المعاني، والمعنى الأخير منها يشعر بمتابعة البعض للبعض " (1) .
6- معنى العرف في الاصطلاح:
ذكر " الجرجاني " في " التعريفات "، أن: " العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول " (2) ، وما ذكره الفقهاء والأصوليون من تحديد لمعنى العرف يدور حول هذا التعريف، فقد عرفه " النسفي " في " المستصفى " بقوله: " ... العرف ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول " (3) ، أي أن العرف " هو الأمر الذي اطمأنت إليه النفوس وعرفته، وتحقق في قرارتها وألفته مستندة في ذلك إلى استحسان العقل، ولم ينكره أصحاب الذوق السليم في الجماعة " (4) وعرفه " علي حيدر " في " درر الحكام " بقوله: " الأمر الذي يتقرر في النفوس، ويكون مقبولًا عند ذوي الطباع السليمة بتكراره المرة بعد المرة " (5) وقريب من هذا التعريف الذي ذكره " مصطفى أحمد الزرقاء " في " شرح القواعد الفقهية " (6) أما عبد الوهاب خلاف فقد عرفه بقوله: " ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك " (7) وهكذا يتحقق الارتباط بين المعنى اللغوي للعرف ومعناه في الاصطلاح.
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب، نفس الموضع المتقدم.
(2) الجرجاني، التعريفات، بيروت 1983 /: ص 149.
(3) النفسي، المستصفى، مخطوط، أورده: أحمد فهمي أبو سنة في: العرف والعادة في رأي الفقهاء، للأزهر 1947 م، ص: 8. وذكره " البيري " في شرحه للأشباه والنظائر، نقلًا عن المستصفى، " عمر عبد الله، العرف في الفقه الإسلامي، مجلة الحقوق، الإسكندرية يناير / مارس 1951 م: ص2" وأورده، نقلًا عن المستصفى المخطوط لحافظ الدين النسفي، السيد صالح عوض في: أثر العرف في التشريع الإسلامي، القاهرة 1981م: ص 50 هكذا: " العادة والعرف: ما استقر في النفوس، وتلقته الطباع السليمة بالقبول " وقد أورد عدد من الباحثين هذا التعريف، وعزوه إلى الإمام الغزالي في المستصفى: 2 /138، انظر على سبيل المثال: عبد العزيز الخياط، نظرية العرف، عمان 1977 م: ص 23 عجيل النشمي، المستشرقون ومصادر التشريع الإسلامي، الكويت 1984م: ص 193 محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام، الكويت 1974 م: ص 246.
(4) أحمد فهمي أبو سنةالنفسي، المستصفى، مخطوط، أورده: أحمد فهمي أبو سنة في: العرف والعادة في رأي الفقهاء، للأزهر 1947 م، ص: 8. وذكره " البيري " في شرحه للأشباه والنظائر، نقلًا عن المستصفى، " عمر عبد الله، العرف في الفقه الإسلامي، مجلة الحقوق، الإسكندرية يناير / مارس 1951 م: ص2" وأورده، نقلًا عن المستصفى المخطوط لحافظ الدين النسفي، السيد صالح عوض في: أثر العرف في التشريع الإسلامي، القاهرة 1981م: ص 50 هكذا: " العادة والعرف: ما استقر في النفوس، وتلقته الطباع السليمة بالقبول " وقد أورد عدد من الباحثين هذا التعريف، وعزوه إلى الإمام الغزالي في المستصفى: 2 /138، انظر على سبيل المثال: عبد العزيز الخياط، نظرية العرف، عمان 1977 م: ص 23 عجيل النشمي، المستشرقون ومصادر التشريع الإسلامي، الكويت 1984م: ص 193 محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام، الكويت 1974 م:، ص 8.
(5) علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، بيروت / بغداد، د. ت: 1 /40.
(6) مصطفى أحمد الزرقاء، شرح القواعد الفقهية، بيروت 1983م: ص165.
(7) عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، الكويت 1970 م: ص 89.(5/2680)
ثانيا – تمييز العرف عما قد يشتبه به:
7- العرف والعادة:
أقرب المعاني شبهًا بالعرف: العادة.
والعادة في اللغة: الاستمرار على الشيء، سميت بذلك لأن صاحبها يعاودها، أي: يرجع إليها مرة بعد أخرى (1) ووجه الشبه: أن من معاني العرف: تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض.
أما في الاصطلاح، فللعلماء في تعريفها مسلكان: يقضي أولهما بعدم التفريق بين العادة والعرف في المعنى. ويقضي الآخر بانفراد كل منهما بمعنى.
(أ) ففي " المستصفى "، للنسفي: " العادة والعرف: ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول (2) وبمثل هذا قال عدد من الباحثين (3) .
(ب) والذين سلكوا المسلك الآخر لم يتفقوا على معيار للتفرقة بين العادة والعرف فبينما يرى بعضهم أن العادة هي العرف العملي، وأن العرف هو القولي (4) ، يرى آخرون أن العادة – عند إطلاقها – لا تشمل إلا بالفعل، وإن العرف – عند إطلاقه – يشمل الفعل والقول (5) ويبدو من كلام " الشاطبي " أنه فرق بين العادة والعرف على أساس أن العادة كلية أبدية " العوائد العامة "، وأن العرف راجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية " وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم " (6) ، ويميل بعض الباحثين إلى التفرقة بين العرف والعادة على أساس أن العادة أمر فردي، وأن العرف عادة جماعية (7) .
__________
(1) الفيومي، المصباح المنير: 2 /88. المعجم الوسيط: 2 /641.
(2) انظر فيما سبق: فقرة 6، هامش 5.
(3) علي حيدر، درر الحكام: " والعرف بمعنى العادة " وهو ما يفهم من كلام: أحمد فهمي أبو سنة في: العرف والعادة وأخذ بهذا الاتجاه: عبد الوهاب خلاف " العرف هو ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، ويسمى العادة وفي لسان الشرعيين: لا فرق بين العرف والعادة " وهو ما اختاره: محمد سلام مدكور في المرجع السابق ذكره. وكذلك: عمر عبد الله في المقال المشار إليه ص 3: " فلا تفيد كلمة العادة معنى غير معنى العرف " وهو أيضا ما اختاره السيد صالح عوض في المرجع المتقدم: ص 61.
(4) الكمال بن الهمام التحرير، وشرحه: تيسير التحرير، لمير بادشاه محمد أمين، طبعة الحلبي 1350هـ: 1 /317 وكذلك: التقرير والتحبير، لابن أمير حاج، القاهرة 1316هـ: 1 /282 أحمد الزرقاء، شرح القواعد الفقهية: ص 165، " العادة: هي الاستمرار على شيء مقبول للطبع السليم، والمعاودة إليه مرة بعد أخرى وهي المرادة بالعرف العملي ".
(5) السيد صالح عوض، الكمال بن الهمام التحرير، وشرحه: تيسير التحرير، لمير بادشاه محمد أمين، طبعة الحلبي 1350هـ: 1 /317 وكذلك: التقرير والتحبير، لابن أمير حاج، القاهرة 1316هـ: 1 /282 أحمد الزرقاء، شرح القواعد الفقهية: ص 165، " العادة: هي الاستمرار على شيء مقبول للطبع السليم، والمعاودة إليه مرة بعد أخرى وهي المرادة بالعرف العملي ": ص 61 والمراجع التي أشار إليها.
(6) الشاطبي، الموافقات، القاهرة 1341هـ: 2 /298.
(7) محمد مصطفى شلبي، أصول الفقه الإسلامي، بيروت 1986م: 1 /313 منصور محمد الشيخ أصول الأحكام، طبعة الجامعة الإسلامية / ليبيا: ص 200.(5/2681)
8- ويبدو أن من جمع في المعنى بين العادة والعرف، لاحظ أن العادة قبل أن تستقر في العمل وتطمئن إليها النفوس، لا يعول عليها أصولي أو فقيه في مجال الأحكام الشرعية، فإذا ما توافر لها من الشروط ما يضعها موضع الاعتبار فإنها تسمى عرفًا، ولا ضير في استصحاب الإطلاق الأصلي " عادة " ما دام المراد منه قد وضح.
وأما من فرق في المعنى بين العادة والعرف، فقد لاحظ استعمال بعض الفقهاء لكل من اللفظين في معنى يستقل به، ولا يبعد أن تكون هذه التفرقة راجعة إلى اختلاف المعنى تبعًا لاختلاف الزمان أو المكان. ويساعد على هذا التوجيه ما قد يستشف من أقوال المحققين.
ففي " التعريفات " يقول الشريف الجرجاني: " العرف: ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول، وهو حجة أيضًا، لكنه أسرع إلى الفهم وكذا العادة: وهي ما استمر الناس عليه على حكم العقول، وعاودوا إليه مرة بعد أخرى " (1) والذي يلفت الانتباه في هذا التعريف أن " الجرجاني " لم يعول على العادة المجردة التي وردت في كلام بعض الأصوليين (2) ، وإنما اعتمد العادة المستمرة التي بنيت على حكم العقول، ثم فرق بينها وبين العرف من حيث إن العرف عادة مستقرة بشهادة العقول التقت عليها الطباع السليمة من غير نكير.
وفي رسالة " نشر العرف " يقدم ابن عابدين فصل الخطاب في المسألة بهذه العبارة الدقيقة: " العادة مأخوذة من المعاودة، فهي بتكررها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول، متلقاة بالقبول من غير علاقة ولا قرينة، حتى صارت حقيقة عرفية فالعادة والعرف بمعنى واحد من حيث الماصدق، وإن اختلفا في المفهوم (3) و"الماصدق " عند المناطقة: الأفراد التي يتحقق فيها المعنى الكلي، فكأن العرف عادة توافر لها الاستقرار في النفوس والعقول، وتلقتها الجماعة بالقبول، فلا بأس من أن يطلق الفقهاء على هذه العادة اسم العرف أو أن يبقوا على اللفظ الأصلي " العادة " ما دام مرادهم منها قد بان.
__________
(1) الجرجاني، التعريفات: ص 149.
(2) ابن أمير حاج، التقرير والتحبير: 1 /282: " العادة: الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية ".
(3) ابن عابدين، مجموعة رسائل، دار سعادت 1425هـ: 2 /125.(5/2682)
9- العرف والعمل:
ذكر " السلجماسي " (1) ، في تعليقه على " العمل الفاسي " (2) : أن بعض العلماء وخص منهم ابن فرحون (3) ، ويعتبر العرف والعمل أمرًا واحدًا، ثم انتقد هذا الرأي مبينًا أن العلماء حين يقولون: هذا هو العمل، أو: على هذا جرى العمل، فإنما يعنون أن هذا الحكم قال به الفقهاء، ثم استقرت عليه أحكام القضاء وحين يقولون هذا هو المتعارف، أو: بهذا جرت العادة، فإنما يعنون أن هذا هو ما جرى عليه العمل عند عامة الناس، من غير أن يستند إلى رأي فقهي أو أن يطابق أحكام القضاء (4) .
ويبدو أن الذين لم يفرقوا بين العرف والعمل لاحظوا أن جريان أحكام القضاء، في مسألة معينة، على تحكيم العرف في النزاع، يعتبر بمثابة " العرف العملي " الذي اعتبره الفقهاء، وبنوا عليه كثيرًا من الأحكام فقد نقل عن ابن فرحون قوله:" سئل مالك عن الناكح: هل يلزمه لأهل المرأة هدية العرس، وجل الناس تعمل به عندنا حتى إنه لتكون فيه الخصومة، أترى أن يقضي به؟ قال: إذا كان قد عرف من شأنهم، وهو عملهم، لم أر أن يطرح عنهم إلا أن يتقدم فيه للسلطان، لأني أراه أمرًا قد جروا عليه " (5) .
ومع ذلك فالتفرقة واردة، ذلك أن مصطلح " عمل " الذي شاع في الفقه المالكي وخصه فقهاء الأندلس والمغرب بمؤلفات قيمة (6) ، يرجع في أصله إلى " عمل أهل المدينة " الذي رأى الإمام مالك أنه يحقق الإجماع، فقدمه على أخبار الآحاد وعلى القياس (7) .
__________
(1) السلجماسي، حاشية على: العمل الفاسي، طبع حجر، فاس 1291هـ، ملزمة 17ص1.
(2) العمل الفاسي: تأليف عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي، المتوفى سنة 1096هـ، 1685م قام بشرحه والتعليق عليه عدد من العلماء، منهم: أبو سعيد عثمان العميري، من علماء القرن الثاني عشر الهجري، وكذلك: أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم السلجماسي، المتوفى سنة 1214هـ وترجمه إلى الفرنسية: " L. Milliot " انظر: الحجوى، الفكر السامي، الرباط / فاس 1340هـ: 4 /226 وما بعدها
(3) برهان الدين إبراهيم، من أشهر علماء الأصول والفقه في المذهب المالكي، توفي سنة 769هـ ومن كتبه: تبصرة الحكام أصول الأقضية ومناهج الأحكام.
(4) Louis milliot; Introdcution a l’etude du droit musulma, Paris 1953, p. 174 – 175
(5) ابن فرحون، تبصرة الحكام، القاهرة 1302 هـ: 2 /67.
(6) أضف إلى كتب " العمل " التي أشرنا إليها في هـ 21: الباجي، فصول الأحكام وبيان ما مضى عليه العمل عند الفقهاء والحكام، تحقيق: محمد أبو الأجفان، تونس 1985م عبد الصمد كنون، جنى زهر الآس شرح عمل فاس، مصر د. ت.
(7) علي حسن عبد القادر، نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي، القاهرة 1956م: ص225.(5/2683)
فلما استقر المذهب المالكي في " القيروان "، كان جل اعتماد العلماء على ما نقل إليهم من فتاوى الفقهاء وأحكام القضاة وفي " فاس " نظر الفقهاء بعين الاحترام إلى ما كان يصدره قضاة الأندلس من أحكام، ولما استقل المغرب بعد ذلك صار له قضاؤه المستقل الذي يعتبر مصدر " العمل الفاسي " لقد واجه هذا القضاء حالات كثيرة، للفقهاء في حكمها أقوال متضاربة، فكان القاضي يختار من بينها ما يتواءم مع العرف، حتى لو خالف القول المشهور في المذهب، وذلك رعاية للمصلحة بجلب منفعة أو دفع مضرة، والتزم القضاة اللاحقون هذا المنهج العملي، طالما بقيت المصلحة قائمة، فإذا انقضت المصلحة لم يعد هناك مبرر للعمل بالقول المرجوح، وبنى القاضي حكمه على القول المشهور في المذهب، وقد أيد هذا المسلك القضائي عدد من الفقهاء: كابن عتاب، وابن رشد، وابن سهل، وابن زرب، واللخمي (1) .
والخلاصة أن " العمل " يتطلب وجود رأي فقهي يستند إليه، ولو كان مرجوحًا، وهذا ما يفرق بينه وبين العرف، فهو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول.
10- العرف والإجماع:
يرى بعض الباحثين أن العرف إجماع، لأنه اتفاق طائفة من الأمة أو جميعها على أمر (2) وحاول بعض آخر رد العرف إلى الإجماع العملي، بناء على القول بتجزئ الاجتهاد وعدم خلو العصر عن المجتهدين، أو رده إلى دلالة الإجماع متى تحققت علته فيما جرى به تعامل الناس (3) .
ويبدو أن هذه الآراء تجد سندًا فيما نص عليه بعض الفقهاء عند تحرير علة تحريم الربا: " ... وما لم ينص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو محمول على عادات الناس في الأسواق، لأن العادة دالة على الجواز فيما وقعت عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) ومن ذلك دخول الحمام وشرب ماء السقاء، لأن العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص " (4) ، وفيما ذكره بعضهم عند تعريف العرف العام وأنه: " ما تعارفه المسلمون من عهد الصحابة إلى زماننا، وأقره المجتهدون وعملوا به بناء على التعارف العام، وإن خالف القياس ولم يرد به النص ولا قام عليه دليل، فهذا أخذ به الفقهاء وأثبتوا به الأحكام الشرعية، وقد قالوا: إن العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص " (5) .
__________
(1) ةilliot; Op.cit.، p. 171 –172 et les references citees
(2) أورده: عبد العزيز الخياط في: نظرية العرف: ص 31.
(3) أحمد فهمي أبو سنة، أورده: عبد العزيز الخياط في: نظرية العرف: ص 31: ص 32-36.
(4) ابن الهمام، فتح القدير، بولاق مصر 1315هـ: 6 /282.
(5) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 1 /186.(5/2684)
ومع ذلك فالفرق لا يزال قائما بين العرف والإجماع من عدة وجوه، منها (1) :
(أ) أن الإجماع لا يكون إلا من المجتهدين في عصر من العصور، أما العرف فإنه يصدر عن عامة الناس وخاصتهم، ولا يشترط اجتماعهم عليه.
(ب) وأن الإجماع يتحقق بمجرد اتفاق المجتهدين على أمر دون حاجة إلى تكراره، أما العرف فلا ينشأ إلا إذا تكرر فعله حتى يستقر في النفوس وتطمئن إليه القلوب.
(ج) وأن الإجماع لا بد له من مستند، نص أو قياس، وقد يكون كل منهما خفيًّا (2) ، أما محل العرف فلا نص فيه ولا قياس.
المبحث الثاني
أركان العرف
11- عرضنا فيما تقدم مختلف التعريفات التي وضعها الأصوليون والفقهاء لتحديد معنى العرف المعتبر في الأحكام الشرعية (3) ، ووجدنا أن الجامع لهذه التعريفات أنه: أمر استقرت عليه النفوس، مستندة في ذلك إلى استحسان العقل، وتلقته الطباع السليمة في الجماعة بالقبول لتكراره المرة بعد المرة وانطلاقًا من هذا المعنى يمكن أن نستخلص ركنين لا يقوم العرف بدونهما: أحدهما خارجي (مادي) ، والآخر داخلي (نفسي) .
أولا – الركن المادي:
12- يتمثل الركن المادي للعرف في مسلك عام تكرر على نمط واحد فترة من الزمن تكفي ليتحقق له معنى الثبات والاطراد (4) ومن هنا وجب في السلوك المكون للركن المادي للعرف ثلاث صفات: العموم، والقدم، والثبات.
13- (أ) العموم:
تنصرف صفة العموم إلى المسلك الذي تكرر مرة بعد أخرى، بحيث يسود تطبيقه الوسط الذي نشأ فيه، مع مراعاة جميع الأفراد الذين يعنيهم هذا المسلك، وإلى هذا يشير الشاطبي بقوله: " إن العلم المحكوم به على العادات إنما هو في كليات الوجود، لا في جزئياته " (5) ويعبر بعض العلماء عن صفة العموم بـ " الاشتهار "، كما جاء في قول القرافي: " ... الاشتهار أن يكون أهل العرف لا يفهمون عند الإطلاق إلا ذلك المعنى، لا من لفظ الفقهاء، بل من استعمالهم لذلك اللفظ في ذلك المعنى، فهذا هو الاشتهار المعتبر لنقل اللفظ من اللغة إلى العرف " (6) .
__________
(1) محمد مصطفى شلبي، ابن عابدين، مجموعة رسائل: 1 /186: ص 316-317.
(2) ابن السبكي، جمع الجوامع، وشرحه لجلال الدين المحلى، وحاشية البناني، وتقرير الشربيني، القاهرة 1356هـ: 2 /195.
(3) فيما سبق، فقرة 6.
(4) اطرد الشيء اطرادًا: تبع بعضه بعضًا وجرى تقول: اطرد الأمر، أي استقام، والأنهار تطرد، أي تجري (مختار الصحاح، للرازي) .
(5) الشاطبي، الموافقات: 2 /282.
(6) القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام، الطبعة الأولى: ص 71.(5/2685)
ويقابل صفة العموم ما يطلق عليه الفقهاء وصف " الاشتراط "، فالمسلك المشترك: هو الذي لا يسود الوسط الذي نشأ به، وإنما تساوى العمل به وتركه، فهذا المسلك المشترك " لا يبنى عليه الحكم للتردد في أن المتكلم قصد هذا المعنى أو المعنى الآخر، فلا يتقيد أحد المعنيين لتعارضهما بتحقيق الاشتراك " (1) ونفس الحكم ينطبق على المسلك الذي انفرد به بعض أفراد الجماعة التي يعينها هذا العرف، فقد ذكر ابن عابدين، في معرض تعليقه على الخلاف بين الفقهاء في اعتبار بعض العادات، ".... أن هذا العرف لم يشتهر في بلدة، بل تعارفه بعض أهل بخارى دون عامتهم، ولا يثبت التعارف بذلك " (2) .
14- ولا تعني صفة العموم ضرورة تكرار المسلك أو اعتياد القيام به من كل أفراد الجماعة، فهذا أمر لا يتحقق إلا في الجماعات قليلة العدد، أما الجماعات التي اتسعت وتنوعت عناصرها فيندر أن يتكون فيها عرف عام، ولهذا يكفي أن يقتصر الاعتياد على أبناء بلدة معينة أو أفراد طائفة محدودة، ما دام الاعتياد قد وقع من عدد غير محدود من أشخاص غير معينين بذواتهم، وهذا ما يعرف بالعرف المحلي، أو العرف المهني، أو العرف الإداري، أو العرف الدولي.
15- وبناء على ذلك قسم العلماء العرف إلى عام وخاص.
- فالعرف العام: هو " ما غلب على الناس من قول أو فعل أو ترك " (3) ومثلوا لذلك بعقد الاستصناع "، فإنه عقد على شيء مستقبل، وإنه لا يجوز بناء على القياس، غير أن التعامل العام به من غير جعله مقدمًا على القياس (4) .
- والعرف الخاص: هو ما غلب على أهل إقليم معين أو طائفة محددة أو على علاقات من نوع خاص (5) ، متعارف التجار على ما يعد عيبًا وما لا يعد كذلك (6) .
وقد أشار القرافي إلى هذا التقسيم بقوله: " ... وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم، كالحاجة للغذاء والتنفس في الهواء، وقد تكون خاصة ببعض الفرق، كالأذان للإسلام والناقوس للنصارى، فهذه يقضى بها عندنا " (7) .
__________
(1) ابن عابدين، المرجع المتقدم: 2 /132.
(2) ابن عابدين، نفس المرجع: 2 /116.
(3) محمد الطاهر بن عاشور، حاشية على شرح تنقيح الفصول: 1 /248، مشار إليه في: أثر العرف، للسيد صالح عوض: ص 139.
(4) ابن عابدين، محمد الطاهر بن عاشور، حاشية على شرح تنقيح الفصول: 1 /248، مشار إليه في: أثر العرف، للسيد صالح عوض: ص 139: 2 /114.
(5) محمد مصطفى شلبي، نفس المرجع المتقدم: ص 315.
(6) عبد العزيز الخياط، نظرية العرف: ص33.
(7) القرافي، شرح التنقيح، طبعة الخيرية: ص 200.(5/2686)
16- (ب) القدم:
لكي يتكون الاعتياد، يلزم أن تكون العادة قد نشأت منذ زمن بعيد، يدل على أنها تأصلت في نفوس الأفراد، وليست مجرد تجربة قد تبقى أو تزول وقدم العرف مسألة تقديرية تختلف باختلاف الأحوال، سواء في ذلك العرف العام أو الخاص، " وهذا هو ما عليه جمهور الفقهاء " (1) ، وخالف بعضهم، فاعتبر أن العرف لا يكون حجة شرعية إلا إذا جرى العمل به من عهد الصحابة حتى زماننا دون أن ينكره المجتهدون (2) ، وقد تعقب العلماء هذا الرأي بالنقد أو بالتأويل (3) .
17- (ج) الثبات أو الاطراد:
يجب أن يكون التكرار في المسلك موحدًا، بمعنى أن يجري على نمط واحد لا يتخلله، مع بقاء الظروف عينها، اتباع مسلك مختلف (4) ولعل هذا هو المراد من قول الفقهاء: قاعدة الأيمان، البناء فيها على العرف إذا لم يضطرب، فإن اضطرب فالرجوع إلى اللغة (5) على أن هذا الشرط لا يعني أن يكون اتحاد المسلك مطلقًا، فشذوذ بعض أفراد الجماعة لا ينفي وحدة النمط، ولهذا شاع في أقوال الفقهاء: العبرة للغالب الشائع، لا للقليل النادر (6) .
ثانيا – الركن النفسي:
18- لا يرقى الركن المادي إلى مرتبة العرف إلا إذا صاحبه شعور داخلي يؤدي بأفراد الجماعة إلى الاعتقاد بان هذا المسلك أصبح واجب الاتباع، سواء أكان مرد هذا الاعتقاد إلى أنهم يعتبرون هذا المسلك يطابق العدل ويلائم حاجات الجماعة (7) ، أم كان مرده إلى اعتقادهم بأنه يمثل قاعدة ملزمة ينبغي إطاعتها (8) وهذا واضح من تعريف العرف الذي تبنى عليه الأحكام بأنه: " ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، وهو حجة " (9) فاستقرار العرف في النفوس يدل على أنه أصبح مسلكًا واجب الاتباع، قد قبلت الطباع السليمة لأفراد المجتمع الالتزام به شرعًا.
لم ينص العلماء صراحة على هذا الركن النفسي، ولكنا استنبطناه من تعريفهم للعرف والعادة الملزمة. وقد اشترط بعض الباحثين أن يكون العرف ملزمًا، بمعنى أنه يتحتم العمل بمقتضاه في نظر الناس، لأن قواعد الفقه المحكمة لا تأبى اشتراطه، وفيه من النصوص ما يشير إليه " لكن ليس ذلك في كل عرف، بل يمكن ضبطه على وجه التقريب في العرف الذي يتضمن الحق على وجه الإلزام أما غيره فلا يشترط فيه، كالعرف الذي يتضمن الإذن، والعرف الذي يفيد وجوب السؤال عن حال الشيء عند شرائه، لغلبة التعامل بالمحرم " (10) .
* * *
__________
(1) السيد صالح عوض، نفس المرجع: ص 138 وانظر: رسائل ابن عابدين: 2 /51.
(2) علي حيدر، درر الحكام، تعليقًا على المادة 36 من المجلة.
(3) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 2 /122-123.
(4) عبد الحي حجازى، المدخل لدراسة العلوم القانونية – 1- القانون، الكويت 1972 م: ص 28.
(5) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، طبعة الاستقامة، مصر: 2 /126 وانظرا: ابن نجيم، الأشباه والنظائر، القاهرة 1968 م: ص 48 السيوطي، الأشباه والنظائر، القاهرة 1959 م: ص 92- 93.
(6) ابن نجيم والسيوطي، الموضعين السابقين. الشاطبي، الموافقات 2 /282، " إذا كانت العوائد معتبرة شرعا، فلا يقدح في اعتبارها انحرافها ما بقيت عادة على الجملة " وانظر: أحمد الزرقاء، العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، طبعة الاستقامة، مصر: 2 /126 وانظرا: ابن نجيم، الأشباه والنظائر، القاهرة 1968 م: ص 48 السيوطي، الأشباه والنظائر، القاهرة 1959 م: ص 92- 93: ص 181-182.
(7) عبد الحي حجازي، ابن نجيم والسيوطي، الموضعين السابقين. الشاطبي، الموافقات 2/282، " إذا كانت العوائد معتبرة شرعا، فلا يقدح في اعتبارها انحرافها ما بقيت عادة على الجملة " وانظر: أحمد الزرقاء، العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، طبعة الاستقامة، مصر: 2/126 وانظرا: ابن نجيم، الأشباه والنظائر، القاهرة 1968 م: ص 48 السيوطي، الأشباه والنظائر، القاهرة 1959 م: ص 92- 93: ص 181-182: ص 449، والمراجع المشار إليها في هـ 3.
(8) عبد الحي حجازي، نفس المرجع، مع هامش 4.
(9) انظر فيما سبق: فقرة 8.
(10) أحمد فهمي أبو سنة، المرجع السابق: ص 66-67 وقارن: السيد صالح عوض، أثر العرف: ص 228-231.(5/2687)
الفصل الثاني
القوة الملزمة للعرف
19- تقتضي دراسة القوة الملزمة للعرف أن نبحث أولًا حجية العرف ومنزلته بين أدلة التشريع، ثم نستعرض بعد ذلك الآراء المختلفة التي قيل بها لتحديد الأساس الذي قامت عليه هذه القوة الملزمة، وهذا نعالجه في مبحثين:
المبحث الأول: حجية العرف ومنزلته بين أدلة التشريع.
المبحث الثاني: أساس القوة الملزمة للعرف.
المبحث الأول
حجية العرف ومنزلته بين أدلة التشريع
أولا – حجية العرف:
20- كلما يجري الحديث عن حجية العرف، يرد إلى الذهن قول العلامة ابن عابدين في منظومة "عقود رسم المفتي ":
والعرف في الشرع له اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار (1) .
فعلى الرغم من أن ابن عابدين من فقهاء المذهب الحنفي، إلا أنه يعبر بقوله هذا عن حجية العرف واعتباره في كافة المذاهب، وهذا ما أشار إليه القرافي بقوله: أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها (2) وعندما ذكر القرطبي: أن الشافعية أنكروا العمل بالعرف لفظًا وعملوا به معنى، رد عليه ابن حجر بقوله: إن الشافعية إنما أنكروا العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي أو لم يرشد النص الشرعي إليه (3) وهو ما أكده السيوطي بقوله: اعلم أن اعتبار العادة والعرف في الشرع رجع إليه في الفقه مسائل لا تعد كثرة (4) وعند الحنابلة: لا يجوز للحاكم ولا لغيره أن يساعد من ادعى حقا يشهد الحس والعادة والعرف أنه ليس له (5) وبناء على ذلك تقرر في التشريع والفتوى والقضاء أن " العادة محكمة " (6) ، وأن " استعمال الناس حجة يجب العمل بها " (7) وأن " الممتنع عادة كالممتنع حقيقة " (8) ، وأن " الحقيقة تترك بدلالة العادة " (9) ، وأن " المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا " (10) ، وأن " المعروف بين التجار كالمشروط بينهم " (11) ، وأن " التعيين بالعرف كالتعيين بالنص " (12) .
__________
(1) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 1 /44.
(2) القرافي، شرح تنقيح الفصول: ص 194.
(3) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، طبعة الحلبي: 9 /420.
(4) السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 90.
(5) ابن قيم الجوزية، إغاثة اللهفان، القاهرة 1939م: 2 /55.
(6) المادة 36 من المجلة، وانظر في شرحها: أحمد الزرقا، المرجع السابق: ص 165- 168.
(7) المادة 37 من المجلة، وانظر في شرحها: أحمد الزرقاء، المرجع السابق: ص 169.
(8) م 38 مجلة، وانظر: أحمد الزرقاء، نفس المرجع: ص 171-172.
(9) م 40 مجلة، وانظر: أحمد الزرقاء: ص 177.
(10) م 43 مجلة، وانظر: أحمد الزرقاء: ص 183-184.
(11) م 44 مجلة، الزرقاء: ص 185 – 186.
(12) م 45 مجلة، الزرقاء: ص 178.(5/2688)
21- ولئن كان الفقه الإسلامي في جملته، قد اعتبر العرف حجة وبنى عليه كثيرًا من الأحكام، إلا أن البعض لا يثبت هذه الحجية لكافة أنواع العرف، بل يقصرها على العرف العام دون العرف الخاص (1) ولقد قدمنا أن جمهور الشافعية لا يعتبرون العرف إذا عارضه النص الشرعي أو لم يرشد النص الشرعي إليه (2) ، بينما يرى غيرهم أن العرف أصل قائم بذاته إذا لم يثبت نهي عنه ولا إرشاد إليه (3) ، ويكاد الفقهاء يتفقون على اعتبار العرف القولي حجة، إلا من شذ في بعض الفروع (4) ، ويمكن أن يقال مثل ذلك في العرف العملي (5) .
ثانيا – منزلة العرف بين أدلة التشريع:
22- جمهور الأصوليين على أن الدليل:
ما يستدل بالنظر الصحيح فيه على حكم شرعي عمل على سبيل القطع، أو الظن، وبعضهم قصره على ما يستفاد منه حكم شرعي عملي على سبيل القطع، وأما ما يستفاد منه حكم شرعي على سبيل الظن، فهو أمارة لا دليل " وأدلة الحكام، وأصول الأحكام، والمصادر التشريعية للأحكام، ألفاظ مترادفة، معناها واحد " (6) .
__________
(1) انظر في هذا الرأي والرد عليه: ابن عابدين، المرجع السابق: 2 /114 وما بعدها وكذلك: أحمد فهمي أبو سنة، نفس المرجع، ص 58-61.
(2) ابن حجر، فتح الباري: 9 /420.
(3) محمد أبو زهرة، مالك، القاهرة 1946 م: ص449.
(4) أحمد فهمي أبو سنة، العرف والعادة: ص54.
(5) ابن نجيم، الأشابه والنظائر: ص 50 السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 90 محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد في الإسلام: ص248.
(6) عبد الوهاب خلاف، أصول الفقه: ص 20.(5/2689)
ولقد اتفقت كلمة جمهور العلماء، من مختلف المذاهب، على أن أدلة الأحكام أربعة: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس على هذا الترتيب وهناك أدلة أخرى، اختلف في الاستدلال بها على الحكم الشرعي، أشهرها: الاستحسان، والاستصحاب، والاستصلاح، والعرف، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا (1) .
ومهما يكن من أمر، فللعلماء في تحديد طبيعة العرف مسلكان: يعتبر أولهما العرف دليلًا مستقلا يمكن أن تستفاد منه أحكام شرعية، أما الآخر فلا يعترف بهذا الاستقلال، وإنما يرد الأحكام التي بنيت على العرف إلى دليل آخر ثبت لديه.
23- المسلك الأول: العرف دليل مستقل.
يرى أصحاب هذا المسلك أن العرف، إذا استوفى شروطه، دليل قائم بذاته إلى جانب الأدلة الشرعية فقد قال القرافي: إن أدلة الأحكام تسعة عشر، وعد منها العوائد (2) . وجاء في أحكام القرآن لابن العربي: أن العادة دليل أصولي بنى الله تعالى عليه الأحكام، وربط به الحلال والحرام (3) وفي المبسوط: " وهذا الأصل معروف: أما تعارفه الناس، وليس في عينه نص يبطله، فهو جائز " (4) ، وفي موضع آخر منه: " وتعامل الناس من غير نكير، أصل من الأصول كبير " (5) وأورد ابن عابدين ما جاء في البحر، نقلا عن الكافي: " والأحكام تبتنى على العرف، فيعتبر في كل إقليم وفي كل عصر عرف أهله " (6) ولقد صرح بعض أصحاب هذا المسلك بأن العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص (7) ، ونتيجة لذلك نصوا على أن: التعامل حجة، يترك به القياس، ويخص به الأثر (8) .
24- المسلك الثاني: رد العرف إلى دليل شرعي:
سلك هذا المسلك أغلب الأصوليين والفقهاء، فلم يجعلوا العرف – مع اعتباره في التشريع – دليلًا مستقلًّا، وإنما ردوه إلى دليل شرعي آخر، كالإجماع، أو الاستحسان أو الاستصلاح.
__________
(1) عبد الوهاب خلاف، أصول الفقه: ص 21- 22.
(2) القرافي، تنقيح الفصول: ص 189.
(3) ابن العربي، أحكام القرآن، طبعة الحلبي: 2 /270.
(4) السرخسي، المبسوط، طبعة السعادة 1324 هـ: 12 /45.
(5) السرخسي، نفس المرجع: 12 /138.
(6) ابن عابدين مجموعة رسائل: 2 /130.
(7) الكمال بن الهمام، فتح القدير: 6 /282.
(8) ابن عابدين، نفس المرجع: 1 /47 و2 /114 وممن اعتبر العرف مصدرًا يستقل بالتشريع: محمد سلام مدكور، مناهج الاجتهاد: ص 249 هـ 1 وعبد العزيز الخياط، نظرية العرف: ص 43 وعمر عبد الله، العرف في الفقه الإسلامي: ص 14-15.(5/2690)
25- رد العرف إلى الإجماع (1) :
ذكر المحقق " ابن الهمام ": أن جواز الاستصناع جاء استحسانا بالتعامل الراجع إلى الإجماع العلمي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا بلا نكير، والتعامل بهذه الصفة مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) (2) فقد رد العرف إلى الإجماع، وبناه على الحديث الذي اعتبره الأصوليون دليلًا على حجيته (3) ومثله ما أورده ابن السبكي من أن العادة إذا ثبتت في عهده صلى الله عليه وسلم أو بعده بلا نكير، فقد ثبتت بالسنة أو بالإجماع، وإلا فهي مردودة قطعًا (4) ومعروف أن الإمام مالكًا اتخذ عمل أهل المدينة أصلا تبنى عليه الأحكام، لأنه كان يعتبره إجماعًا يقدمه على خبر الواحد وعلى القياس (5) وقد روي أنه، لما اجتمع بأبي يوسف ومحمد بن الحسن في المدينة، وقد سئل عن مقدار الصاع والمد، طلب إلى الحاضرين مجلسه أن يعرضوا ما عندهم من هذه المكاييل التي توارثوا العمل بها من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أترى هؤلاء يجمعون على باطل؟ (6) .
26- رد العرف إلى الاستحسان (7) :
من التعريفات التي وضعها الأحناف للاستحسان أنه: ترك القياس إلى ما هو أولى منه، وهو على وجهين: أحدهما: أن يكون فرع يتجاذبه أصلان، يأخذ الشبه من كل واحد منهما، فيجب إلحاقه بأحدهما دون الآخر، لدلالة توجبه والوجه الآخر: تخصيص الحكم مع وجود العلة، وذلك قد يكون بالنص أو الأثر أو الإجماع أو بقياس آخر أو بعمل الناس (8) مثال ذلك: جواز وقف المنقول كالكتب وغيرها، فالقياس أن يقتصر في الموقف على ما يكون مؤبدًا والاستحسان جواز وقف المنقول، مع أنه عرضه للهلاك، للعرف.
ومن تعريفات المالكية للاستحسان أنه: تخصيص الدليل العام بالعرف لمصلحة الناس مثال ذلك: استحسان دخول الحمام من غير تقرير زمان المكث وقدر الماء، مع أن الدليل يمنعه، لأنه يحتمل الغرر المنهي عنه في الحديث (9) .
27- رد العرف إلى المصلحة (10) :
أكثر العلماء يردون العرف إلى المصالح المرسلة، أي تلك التي لم يقم دليل اعتبارها أو إلغائها، وإنما بني الحكم فيها على ما في الشريعة من قواعد عامة، توجب تحقيق المصالح ودرء المفاسد (11) فقد جاء في التنقيح: أن دفع المشقة عن النفوس مصلحة ولو أدت إلى خلاف القواعد (12) ويقول الشاطبي: لما قطعنا بأن الشارع جاء باعتبار المصالح، لزم القطع بأنه لا بد من اعتبار العوائد، لأنه إذا كان التشريع على وزان واحد، دل على جريان المصالح على ذلك، لأن أصل التشريع سبب المصالح، والتشريع دائم، فالمصالح كذلك، وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع (13) ويشيع في أقوال الأحناف: أن في نزع الناس عن عاداتهم حرجًا (14) ، وإن في الخروج عن العادة حرجا بينا (15) وكثير من الباحثين المعاصرين يردون الأحكام التي بنيت على العرف إلى دليل الاستصلاح (16) .
__________
(1) الغزالي، المستصفى، القاهرة 1294 هـ، 1 /173 وما بعدها.
(2) ابن عابدين، مجموعة الرسائل، 1 /186.
(3) الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة 1347هـ، 1 /376.
(4) ابن السبكي، جمع الجوامع: 2 /360.
(5) على حسن عبد القادر، المرجع السابق: ص 255.
(6) انظر: السيد صالح عوض، أثر العرف: ص 188 والمراجع التي أشار إليها.
(7) الغزالي، المستصفى: 1 /274.
(8) محمد مصطفى شلبي، أصول الفقه الإسلامي: ص 263 والمراجع التي اعتمد عليه، وانظر: ابن الحاجب، منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل، القاهرة 1293هـ: 2 /282: " العدول إلى خلاف النظير بدليل أقوى منه، كدخول الحمام من غير تقييد بزمان مكث ولا مقدار ماء، لدليل العرف ".
(9) الشاطبي، الاعتصام: 2 /324، العطار، حاشية على جمع الجوامع: 2 /295.
(10) الغزالي، المستصفي: 1 /286- 287، 2 /306.
(11) محمد معروف الدواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه، دمشق 1955 م: ص 274 وما بعدها.
(12) القرافي، تنقيح الفصول: ص 169 وما بعدها
(13) الشاطبي، الموافقات: 2 /286 وما بعدها.
(14) ابن عابدين، مجموعة الرسائل: 2 /138.
(15) ابن عابدين، نفس المرجع: 2 /139.
(16) انظر على سبيل المثال: أحمد فهمي أبو سنة، المرجع السابق: ص 36-38 السيد صالح عوض، المرجع المتقدم، ص 239 عبد الوهاب خلاف، نفس المرجع: ص 91 عجيل النشمي، نفس المرجع: ص 197 محمد أبو زهرة، مالك: ص 454 محمد مصطفى شلبي، أصول الفقه، ص 323 منصور الشيخ، أصول الأحكام، ص 203.(5/2691)
المبحث الثاني
أساس القوة الملزمة للعرف
28- جرت عادة الأصوليين والفقهاء، عندما يلاحظون أمرًا يمكن اعتباره حكمًا أو يستفاد منه الحكم، أن يتلمسوا له الأدلة النقلية والعقلية التي تطمئن قلوبهم إلى الاعتماد عليه في التشريع، وبناء على ذلك أوردوا لإثبات حجية العرف، أدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع، غير أن تحليل هذه الأدلة قد يجعلها لا تصلح لإثبات الدعوى من أجل ذلك ينبغي عرض المسألة بطريقة مختلفة، فنقول: مال الدليل على حجية العرف؟ أو بعبارة أخرى: ما أساس القوة الملزمة للعرف؟ أهو العقل الذي شهد بصلاحية الأحكام التي بنيت عليه، حتى استقرت عليها الجماعة، أم أن الشرع وحده هو أساس إلزامية العرف؟
قبل الإجابة عن هذا التساؤل، ينبغي أن نلفت النظر إلى أنه لا خلاف بين علماء المسلمين في أن مصدر الأحكام الشرعية هو الله تعالى، وإنما يدور الخلاف بينهم فيما يعرف به حكم الله، هل يمكن للعقل أن يستقل بهذه المعرفة؟ أو أن طريقها إلينا الوحي وحده؟ للعلماء في ذلك اتجاهات ثلاثة: اتجاه الأشاعرة، اتجاه المعتزلة، واتجاه الماتريدية.
29- أولًا – اتجاه الأشاعرة:
يرى أبو الحسن الأشعري وأتباعه: أن العقل لا يمكن أن يستقل بمعرفة الأحكام الشرعية، لاختلاف العقول في الحكم على الفعل بالتحسين والتقبيح، وإذن يكون معيار حسن الأفعال وقبحها هو الشرع المنقول إلينا بواسطة رسل الله (1) .
وانطلاقا من هذا المبدأ استند بعض الأصوليين والفقهاء، لبيان أساس القوة الملزمة للعرف، إلى قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (2) ويقول القرافي: " ... كل ما شهدت به العادة قضي به، لظاهر هذه الآية، إلا أن يكون هناك بينة " (3) ونقل السيوطي في الإكليل عن ابن الفرس أن معنى قوله تعالى {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} ": اقضِ بكل ما عرفته النفوس، ولا يرده الشرع، وهذا أصل القاعدة الشرعية في اعتبار العرف (4) ، واستدل بعضهم على إلزامية العرف بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (5) .
__________
(1) عبد العزيز البخاري، كشف الأسرار شرح المنار، للتنسفي، القاهرة 1316هـ: 1 /66 وما بعدها الكمال بن أبي شريف، المسامرة في شرح المسايرة، للكمال بن الهمام، القاهرة 1347هـ: 2 /42 وما بعدها.
(2) [سورة الأعراف: الآية 199] .
(3) القرافي، الفروق، القاهرة 1344 هـ: 3 /194.
(4) السيد صالح عوض، أثر العرف في التشريع الإسلامي: ص 171.
(5) [سورة النساء: الآية 115] .(5/2692)
وجه الاستدلال: أن الله تعالى أوعد بالعقاب والعذاب من يتبع غير طريق المؤمنين، وهذا دليل على أن اتباع سبيل المؤمنين واجب، فالعادة التي استحسنوها معتبرة شرعًا، ويجب العمل بها (1) وقد شاع في كتب الأصول والفقه، عند ذكر أدلة اعتبار العرف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) (2) ، غير أن المحققين اعترضوا على نسبة هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنه من قول عبد الله بن مسعود، موقوفًا عليه، رواه أحمد والبزار والطبراني والطيالسي وغيرهم (3) ونحن نعتقد أن هذا القول من عبد الله بن مسعود مما لا يدرك بالرأي والعقل، ولم يعرف له مخالف من الصحابة، وقد شاع لدى العلماء من مختلف المذاهب، وهو يؤدي معنى الآية السابقة: " ومن يشاقق الرسول ... " إلخ، ووردت أحاديث أخرى تعضده مثل: ((لا تجتمع أمتي على الضلالة)) و ((اتبعوا السواد الأعظم)) وغير ذلك (4) ، فالظاهر من حال ابن مسعود أنه قال ذلك سماعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
30- ثانيا – اتجاه المعتزلة:
يرى واصل بن عطاء وأتباعه أن العقل يمكن أن يستقل بمعرفة الأحكام الشرعية، لأن أفعال المكلفين إن كانت تحمل نفعًا حكم العقل بحسنها، وإن كانت تؤدي إلى ضرر حكم العقل بقبحها، والله سبحانه يكلف الناس بفعل ما فيه نفعهم، وبترك ما فيه ضررهم فالعقل السليم إذا رأى حسن فعل، علم أنه مأمور به، فيكون الطلب الشرعي ثابتًا له ثبوتًا ملازمًا لصفة الحسن وإذا رأى قبح فعل، علم أنه منهي عنه، ويستحق فاعله العقاب ولو لم يرد الشارع به (5) .
وانطلاقًا من هذا المبدأ، جاء في المعتمد: " وأما التوصل إلى الأحكام الشرعية، فهو أن المجتهد، إذا أراد معرفة حكم الحادثة، فيجب أن ينظر ما حكمها في العقل، ثم ينظر: هل يجوز أن يتغير حكم الله فيها؟ وهل في أدلة الشرع ما يقتضي تقدم ذلك الحكم أم لا؟ فإن لم يجد ما ينقله عن العقل، قضى به والشرط في ذلك: هو علمه بأنه لو كانت المصلحة قد تغيرت مما يقتضيه العقل، لما جاز ألا يدلنا الله تعالى على ذلك فإن وجد في الشرع ما يدل على نقله، قضى بانتقاله، لأن العقول إنما دلت على تلك الأحكام بشرط ألا ينقلنا عنها دليل شرعي (6) ومقتضى هذا النص أن العقل كاف في اعتبار الأعراف والعادات الحسنة، وأنها تنتج أحكامًا شرعية ملزمة ومثل ذلك ما قاله " المظفر " من أنه: إذا حكم العقل بحسن شيء أو قبحه، بأن تطابقت آراء العقلاء جميعًا على حسن شيء، لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع، أو على قبحه، لما فيه من الإخلال بذلك، فلا بد أن يحكم الشارع بحكمهم (7) .
__________
(1) السيد صالح عوض، نفس المرجع: ص 175 والمراجع التي أشار إليها.
(2) انظر على سبيل المثال: ابن نجيم، الأشباه والنظائر: ص 46 السرخسي، المبسوط: 12 /45 السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 88 الكاساني، بدائع الصنائع: 5 /223 الكمال بن الهمام، فتح القدير: 6 /281.
(3) ابن نجيم، نفس الموضع السابق الزيلعي، نصب الراية لأحاديث الهداية، القاهرة 1357هـ: 4 /133 السخاوي، المقاصد الحسنة، القاهرة 1375هـ: ص 367 السيوطي، الأشباه والنظائر: ص 88.
(4) انظر في هذه الأحاديث ورواتها ودرجتها: السخاوي، المقاصد الحسنة: ص 460.
(5) البخاري، كشف الأسرار: 1 /66 وما بعدها.
(6) أبو الحسين البصري، المعتمد في أصول الفقه، دمشق 1965 م: 2 /908.
(7) محمد رضا المظفر، أصول الفقه، النجف د. ت: 2 /237.(5/2693)
31- ثالثًا- اتجاه الماتريدية:
توسط أبو منصور الماتريدي وأتباعه بين اتجاه الأشاعرة واتجاه المعتزلة فاتفقوا مع الأشاعرة في أن حكم الله لا يعرف إلا بواسطة رسله، وخالفوهم فيما رأوه من أن حسن الأفعال وقبحها شرعيان لا عقليان واتفقوا مع المعتزلة في أن حسن الأفعال وقبحها مما تدركه العقول بناء على ما فيها من نفع أو ضرر، وخالفوهم فيما رأوه من أن حكم الله لا بد أن يكون على وفق حكم العقل (1) وفي هذا المعنى يقول صاحب التوضيح: " عند المعتزلة: العقل حاكم بالحسن والقبح موجب للعلم بهما وعندنا: الحاكم بهما هو الله تعالى، والعقل آلة للعلم بهما، فيخلق الله العلم عقيب نظر العقل نظرًا صحيحا " (2) وبناء على هذا المبدأ توسع الأحناف في القول بالاستحسان وتنوعت صوره عندهم، وقد سبق أن ذكرنا أن كثيرًا منهم ردوا أحكام العرف والعادة إلى " الاستحسان " فيكون أساس القوة الملزمة للعرف عندهم: العقل والشرع معا (3) .
__________
(1) الكمال ابن أبي شريف، المسامرة: 2 /42 وما بعدها.
(2) التفتازاني، التلويح على التوضيح، القاهرة 1367 هـ: 1 /190.
(3) انظر فيما سبق: فقرة 26 ابن عابدين، مجموعة رسائل: 2 /138 – 139.(5/2694)
الفصل الثالث
دور العرف في التشريع
32- بعد استقراء عدد لا بأس به من الحالات التي بنى الفقهاء أحكامها على العادات والأعراف، تبين لنا أن العرف يؤدي وظائف متنوعة في مجال التشريع، فقد يستقل بإنشاء بعض الأحكام الفقهية، وقد يقوم بدور مساعد للتشريع بأن يخصص العام أو يفصل المجمل أو يبين المراد وقد يخالف العرف نصا شرعيًّا أو حكمًا اجتهاديا، فيقبل العلماء ما جاء به بعد تأويل النص الشرعي أو تغيير الحكم الاجتهادي، إذا دعت الضرورة.
وقد استقر في الفقه أنه: " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان " فلما تتبعنا الكثير من هذه الأحكام التي تغيرت، وجدنا أنها لم تتغير لحجة أو برهان، وإنما لأنها كانت مبنية على أعراف تغيرت بتغير الزمان أو المكان.
وبسط هذه المسائل يقتضي تقسيم الفصل إلى مبحثين:
نخصص أولهما لبيان وظائف العرف.
ونحدد في الآخر معنى تغير الأحكام بتغير الأزمان.(5/2695)
المبحث الأول
وظائف العرف
33- يقوم العرف بأداء عدة وظائف تشريعية، فهناك العرف المكمل المساعد للتشريع والعرف المخالف للتشريع.
34- أولًا – العرف المكمل للتشريع:
هو العرف الذي يلجأ إليه القاضي أو المفتي لتنظيم حالة لم يرد بشأنها حكم شرعي، وهو على هذا النحو يكون أصلًا أو دليلًا مستقلًا، يمكن الاعتماد عليه في إنشاء حكم جديد.
مثال ذلك: وقف المنقول، فإن القياس يقضي بعدم جوازه عند الأحناف لأنهم يشترطون التأبيد في صحة الوقف، والعقار وحده هو الذي يقبل التأبيد ويدوم الانتفاع به ما دامت رقبته وقد تمسك الإمام أبو حنيفة بهذا الأصل، فلم يجز وقف المنقول مطلقًا، سواء أكان وقفه قصدًا واستقلالًا، أم كان وقفه تبعًا للعقار الموقوف (1) ولكن أبا يوسف أجاز وقف المنقول، خلافًا للقياس، وذلك في حالتين، أولاهما: وقف المنقول تبعا لعقار موقوف، والأخرى: وقف المنقول قصدًا إذا ورد نص بوقفه، كالسلاح والكراع، أو إذا جرى التعامل بوقفه، لإمكان الانتفاع به مع بقاء عينه، كالمصاحف وثياب الجنازة، وفيما سبق سوى ذلك لا يصح الوقف وقال محمد بن الحسن: يصح وقف كل منقول، قصدًا أو تبعًا، يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه أو لا، إذا جرى التعامل بوقفه (2) وفي هذا يقول السرخسي: الجواب الصحيح: أن ما جرى العرف بين الناس بالوقف فيه من المنقولات يجوز، باعتبار العرف، كثياب الجنازة وما يحتاج إليه من القدور والأواني في غسل الميت، وهذا الأصل معروف: أن ما تعارفه الناس، وليس في عينه نص يبطله، فهو جائز، وبهذا الطريق جوزنا الاستصناع فيما فيه تعامل، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) (3) .
__________
(1) الكمال ابن الهمام، فتح القدير: 5 /429.
(2) ابن الهمام، نفس المرجع: 5 /430.
(3) السرخسي، المبسوط: 12 /45.(5/2696)
35- ولا يدخل في هذا النوع ما عرف من العادات زمن التشريع ولم يد عنه نهي، فإنه قد يكون مصدرًا تاريخيًا للحكم، أما أصله الشرعي فهو السنة التقريرية التي تقرر بها جواز الفعل مثال ذلك: عقد السلم، وهو: تسليم عوض حاضر في عوض موصوف في الذمة إلى أجل مسمى، ولهذا يطلقون عليه: بيع العاجل بالآجل (1) روى البخاري ومسلم حديث ابن عباس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: ((من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) (2) وقد علق السرخسي على هذا الحديث بقوله: " فقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أصل العقد وبين شرائطه، فذلك دليل جواز العقد وإنما يقبل السلم في العادة بما ليس بموجود في ملكه، والقياس يأبى جوازه، لأنه بيع المعدوم وبيع ما هو موجود مملوك للعاقد باطل، فبيع المعدوم أولى بالبطلان ولكنا تركنا القياس بالكتاب والسنة " (3) ، وقد ذكر الفقهاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (4) وفي حديث عائشة: أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم ... قالت: فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم (5) .
36- ثانيًا – العرف المساعد للتشريع:
وهو ما أحال عليه التشريع إما البيان مضمون حكم شرعي ثبت أصله بالنص، وإما للاستعانة به في إرادة المكلف بالحكم.
(أ) فالعرف المبين لمضمون حكم شرعي ثبت أصله بالنص ورد كثيرًا في القرآن الكريم والسنة النبوية، مثال ذلك قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (6) .
فقد ذكر العلماء أن هذا النص أثبت حكمًا شرعيًّا، هو وجوب النفقة على الزوج، ثم أحال إلى العرف لبيان مضمون هذه النفقة وتحديد مقدارها وأسباب سقوطها (7) ومثله ما روي من أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) (8) ، فقد نص الفقهاء على أن هذا الحديث يدل على " اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي " (9) .
__________
(1) ابن الهمام، فتح القدير: 6 /207- 208.
(2) محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، الكويت 977: ص 392.
(3) السرخسي، المبسوط: 12 /124.
(4) ابن حزم، المحلى، القاهرة 1352 هـ: 11 /90 وما بعدها ابن قدامة المغني: 8 /484 وما بعدها.
(5) انظر الحديث في: الشوكاني، نيل الأوطار، القاهرة د. ت: 6 /156.
(6) [صورة البقرة: الآية 233] .
(7) ابن قدامة، المغني: 9 /232 ابن الهمام، فتح القدير: 4 /195 ابن العربي، أحكام القرآن: 2 /270
(8) محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان: ص 429.
(9) النووي، شرح صحيح مسلم، القاهرة 1347 هـ: 2 /7-8 ابن حجر، فتح الباري: 4 /321 و 9 /420 وما بعدهما.(5/2697)
37- (ب) وأما العرف الذي يستعان به في تفسير إرادة المكلف، فإنه أكثر من أن يحصى، وقد خصه العز بن عبد السلام بفصل كامل في كتابه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تحت عنوان: " فصل في تنزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال منزلة صريح الأقوال في تخصيص العام وتقييد المطلق وغيرها "، وأورد في ذلك ثلاثة وعشرين مسألة (1) وجاء في المستصفى: ".. وعلى الجملة، فعادة الناس تؤثر في تعريف مرادهم من ألفاظهم " (2) ونقل ابن عابدين عن فتاوى العلامة قاسم: " التحقيق أن لفظ الواقف والموصي والحالف والنادز وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، وافقت لغة العرب ولغة الشارع أو لا " (3) وذكر القرافي عند تعليقه على معاني بعض ألفاظ الطلاق: إياك أن تقول: إنا لا نفهم منه إلا الطلاق الثلاث، لأن مالكا رحمه الله قاله أو لأنه مسطور في كتب الفقه، لأن ذلك غلط بل لا بد أن يكون ذلك الفهم حاصلًا لك من جهة الاستعمال والعادة، كما يحصل لسائر العوام، كما في لفظ الدابة والبحر والراوية فالفقيه والعامة في هذه الألفاظ سواء في الفهم، لا يسبق إلى أفهامهم إلا المعاني المنقولة إليها، فهذا هو الضابط، لا فهم ذلك من كتب الفقه، فإن النقل إنما يحصل باستعمال الناس، لا بتسطير ذلك في الكتب، بل المسطر في الكتب تابع لاستعمال الناس (4) وأورد ابن القيم مسائل متعددة يمكن الاستعانة فيها بالأعراف والعادات لتفسير الإدارة، ثم ختمها بقوله: " وأضعاف أضعاف هذه المسائل، مما جرى العمل فيه على العرف والعادة، ونزل ذلك منزلة النطق الصريح، اكتفاء بشاهد الحال عن صريح المقال " (5) .
38- ثالثا – العرف المخالف للتشريع:
قد توجد أعراف وعادات محلية تخالف النصوص الشرعية أو الأحكام الفقهية الاجتهادية، ذلك أن الشرع الإسلامي نظام عالمي خالد، لا يقتصر على بيئة دون أخرى ولا يطبق في زمان دون غيره، ومع مرور الزمن، وما يحيط بكل بيئة من ظروف خاصة، وبعد تطور المعاملات واقتباس بعض أحكامها من قواعد قانونية أجنبية، وبناء على حملات منظمة تساندها جهات معينة تدعو إلى إحياء العادات المحلية القديمة، ظهرت أعراف مختلفة تتعارض في قليل أو كثير مع النصوص الشرعية أو الأحكام المستقرة، وقد واجه الفقه الإسلامي هذه الأعراف، وأصدر حكمه لها أو عليها مبينا " حيثيات " أحكامه بما يدعو إلى الإعجاب برحيب صدره وسعة أفقه ودقته البالغة في تحليل المسائل ومجابهة الحوادث وجملة القول في ذلك أن الفقهاء يفرقون بين حالتين: حالة مخالفة العرف لنص شرعي، وحالة مخالفته لحكم فقهي اجتهادي.
__________
(1) عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام: 2 /126.
(2) الغزالي، المستصفى: 2 /111.
(3) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 1 /48.
(4) القرافي، الإحكام: ص 70- 71، والفروق: 1 /40.
(5) ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، القاهرة 1953 م: ص 18-24.(5/2698)
39- (أ) مخالفة العرف لنص شرعي:
إذا قام عرف يخالف نصًّا من الكتاب أو السنة، فإما أن تكون هذه المخالفة من كل وجه، بحيث لا يمكن التوفيق بينهما، وإما أن تكون المخالفة ناجمة عن تنظيم العرف لمراكز معينة على نحو يختلف عن التنظيم الذي بنى على النص، بحيث يمكن التوفيق بينهما على نحو أو آخر.
40- فإذا كانت مخالفة العرف للنص كاملة، ولا يمكن التوفيق بينهما بأي حال، عمل بالنص ولا اعتبار للعرف وفي هذا يقول ابن الهمام:".. النص أقوى من العرف، لأن العرف جاز أن يكون على باطل، كتعارف أهل زماننا في إخراج الشموع والسرج إلى المقابر ليالي العيد، والنص بعد ثبوته لا يحتمل أن يكون على باطل ولأن حجية العرف على الذين تعارفوه والتزموه فقط، والنص حجة على الكل فهو أقوى ولأن العرف صار حجة بالنص، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن)) (1) وقد سبق أن أوردنا قول ابن حجر: " إن الشافعية إنما أنكروا العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي.. " (2) وفي رسالة نشر العرف: " إذ خالف العرف الدليل الشرعي، فإن خالفه من كل وجه بأن لزم منه ترك النص، فلا شك في رده، كتعارف الناس كثيرًا من المحرمات من الربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب وغير ذلك مما ورد تحريمه نصا " (3) .
41- أما إذا أمكن التوفيق بين النص والعرف، بأن كان النص عامًّا والعرف يخصصه، أو كان النص مطلقًا والعرف يخصصه، أو كان النص مطلقًا والعرف يقيده، فإن أكثر الفقهاء على اعتبار العرف، لأنه لا يلزم من اعتباره ترك النص، بل يعمل بهما جميعًا مثال ذلك: ما روى عن الإمام مالك من تخصيص عموم قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (4) بما قضى به العرف والعادة من أن الشريفة لا يجب عليها رضاع (5) ومثله ما روي من ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط)) ، فقد ذكر الفقهاء أن هذا الحديث معلل بوقوع النزاع المخرج للعقد عن المقصود به، وهو قطع المنازعة، والشرط الذي جرى به التعامل يفض النزاع، فيكون موافقًا لمعنى الحديث، وفي هذا تقييد للنص المطلق بالعرف، جاء في المبسوط: ".. وإن كان شرطًا لا يقتضيه العقد، وفيه عرف ظاهر، فذلك جائز أيضًا، كما لو اشترى بغلًا وشراكًا بشرط أن يحذوه البائع، لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة حرجًا بينا " (6) .
__________
(1) الكمال بن الهمام، فتح القدير: 6 /157.
(2) ابن حجر، فتح الباري: 9 /420.
(3) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 2 /114.
(4) [سورة البقرة: الآية 233] .
(5) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، القاهرة د. ت: 2 /46 الدسوقي، حاشية على الشرح الكبير، القاهرة د. ت 2 /143.
(6) السرخسي، المبسوط: 13 /14 الشيرازي، المهذب: 1/399، القاهرة 1959 م: 1 /268 الحطاب، مواهب الجليل، القاهرة 1329هـ: 4 /273 ابن قدامة المغني: 4 /290 – 291.(5/2699)
42- (ب) مخالفة العرف لحكم اجتهادي:
إذا تكون عرف يخالف بعض الأحكام الفقهية، التي استنبطها المجتهدون من الأدلة الشرعية، فإن الفقهاء يكادون يتفقون على أن يعمل بالعرف؛ لأنه أقوى من القياس، فالعرف قاض عليه (1) لأن العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص (2) ، وسائر الأدلة تأتي بعد القياس في المرتبة، لاختلاف الأصوليين في اعتبارها.
وقد تعرض العلامة ابن عابدين لهذا الموضوع بالتفصيل، فذكر أن مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا أخذا من قواعد مذهبه ثم أورد في ذلك عدة مسائل، منها: " إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه، ولانقطاع عطايا المعلمين التي كانت في الصدر الأول، ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجره يلزم ضياعهم وضياع عيالهم، ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم، وكذا على الإمامة والأذان كذلك، مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، من عدم جواز الاستئجار وأخذ الأجرة عليه، كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن ونحو ذلك (3) ونجد مثل ذلك كثيرًا في كتب المذاهب الفقهية الأخرى (4) .
* * *
المبحث الثاني
تغير الأحكام بتغير الأزمان
43- من القواعد الفقهية التي استقرت في التشريع الإسلامي، قاعدة: " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان " (5) ذلك أن الأصول المتفق عليها تقضي بأن التشريع لا يكون عادلًا إلا إذا كانت أحكامه تلائم من شرع لهم بمراعاة أعرافهم وظروف بيئتهم، وأن التشريع الذي تلائم أحكامه قومًا قد لا يلائم أحوال قوم آخرين، بل أن أحكام التشريع الواحد قد تلائم الأمة في وقت ولا تلائمها في وقت غيره (6) وتطبيقًا لهذه الأصول فإنه يجوز أن تتغير الأحكام التي روعي فيها العرف والعادة، ليحل محلها أحكام جديدة يراعى فيها ما يستجد من أعراف وعادات (7) ، بما يدفع الحرج ويرفع الضرر ويحقق مصالح العباد.
__________
(1) ابن عابدين، مجموعة رسائل: 2 /119.
(2) ابن الهمام، فتح القدير: 6 /282.
(3) ابن عابدين، نفس المرجع: 2 /123- 126.
(4) الدردير، الشرح الكبير: 4 /21 الشيرازي، المهذب: 1 /399 ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين: 3 /4.
(5) الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، بولاق مصر 1313هـ: 5 /125 القرافي، الفروق: 1 /176 ابن حجر، فتح الباري، 4 /321 ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 /1 وما بعدها وانظر: المادة 39 من مجلة الأحكام العدلية وشروحها.
(6) عبد الوهاب خلاف، الحلقة الأولى من: علم أصول الفقه، القاهرة 1364 هـ: ص 123 محمد معروف الدواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه، دمشق 1955م: ص 291.
(7) أحمد الزرقاء، شرح القواعد الفقهية: ص 173 وما بعدها.(5/2700)
وقد استند بعض من لا حظ لهم من فقه الشريعة الإسلامية على هذه القاعدة للمطالبة بتغيير كثير من الأحكام الشرعية، بدعوى أنها لم تعد تصلح لهذا الزمان (1) وهذا يقتضي أن نبين أولًا: مضمون هذه القاعدة ثم نورد بعض تطبيقاتها بما يناسب هذا البحث، حتى نستطيع تحديد طبيعة هذا التغيير.
44- أولا: مضمون القاعدة:
لا ينبغي أن يفهم من هذه القاعدة إمكان تبدل الأحكام بصفة مطلقة، ذلك أن الأحكام في الشرع الإسلامي على ضربين:
(أ) حكم قطعي بني على صريح النص من الكتاب أو السنة أو على الإجماع ومثل هذا الحكم لا يجري عليه تغيير، لأن تغييره يعد نسخًا لحكم شرعي ثابت، وإنه لا يجوز بعد انقضاء عصر الوحي، مهما تغيرت الأزمنة والأمكنة وضروب الاجتهاد " كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد مخالف لما وضع عليه " (2) .
(ب) حكم ظني تقرر بناء على الاجتهاد في فهم النص، أو على مراعاة عرف صحيح قائم، وهذا هو الذي يمكن أن يتطرق إليه التبديل، لاختلاف مناهج المجتهدين، أو لتغير الأعراف تبعًا لتغير الأزمان والأماكن وظروف البيئة وفي هذا يقول ابن عابدين: " اعلم أن المتأخرين الذين خالفوا المنصوص في كتب المذهب في المسائل السابقة، لم يخالفوه إلا لتغير الزمان والعرف، وعلمهم أن صاحب المذهب لو كان في زمنهم لقال بما قالوه، مما يستخرج به الحق من ظالم أو يدفع دعوى متعنت ونحوه بعدم سماع دعواه أو بحبسه أو نحوه " (3) ومثله ما ذكره القرافي من أن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت، كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك.. وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه.. وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد من العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك.. فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين (4) وقد عقب ابن القيم على كلام القرافي هذا بقوله: وهذا محصن الفقه، فمن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب، على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم، بما في كتاب من كتب الطب (5) .
__________
(1) أشار إلى ذلك: يوسف القرضاوي في: شريعة الإسلام خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، بيروت 1397هـ: ص 133.
(2) ابن القيم، إغاثة اللهفان: 1 /346 وما بعدها.
(3) ابن عابدين، مجموعة الرسائل: 2 /126.
(4) القرافي، الفروق: 1 /176- 177.
(5) ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 /66.(5/2701)
45- ثانيا – بعض تطبيقات القاعدة:
(أ) يقول الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) ، ثم يقول: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2) .
وهذا يدل على أن الطلاق يقع مرة فمرة، وللزوج بعد كل من المرتين أن يراجع زوجته فإن طلقها الثالثة لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره فإذا قال الرجل لزوجته: " أنت طالق ثلاثًا " كان مرتكبًا لإثم بلغ مداه أن أغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: ((أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟)) ولكن هذه الصيغة لم يكن يقع بها، في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، إلا طلقة واحدة رجعية فلما تتابع الناس (3) بعد ذلك في الطلاق، قال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟! فأمضاه عليهم، وألزمهم الثلاث، وقد تابع عمر في هذا كثير من الصحابة، وجمهور التابعين، وأئمة المذاهب الأربعة (4) غير أن بعض الصحابة والتابعين وأصحاب المذاهب الأخرى وعدد من الفقهاء ظلوا على ما كان عليه الأمر من قبل، فلم يوقعوا بلفظ الثلاث إلا طلقة رجعية، وهذا هو السائد اليوم في قوانين الأحول الشخصية (5) وأيا ما كان الأمر، فلا خلاف في أن هنا تغير " تبعا لتبدل العادات، سواء ذهبنا إلى أن الحكم بإيقاع الثلاث مطابقة لعادة الناس في قصودهم وطوايهم أو من باب السياسة الشرعية عقوبة لهم على تعاطي المحرم (6) .
(ب) روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البر بالبر كيلًا بكيل مثلًا بمثل)) وكذلك الشعير والتمر والملح، أما الذهب والفضة فقال فيمها: ((وزنًا بوزن)) وتأسيسا على هذا الحديث قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، إن كل شيء نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم التفاضل فيه كيلًا فهو مكيل أبدًا، وإن ترك الناس الكيل فيه، مثل الحنطة والشعير والتمر والملح، وكل ما نص على تحريم التفاضل فيه وزنا فهو موزن أبدًا، وإن ترك الناس الوزن فيه، مثل الذهب والفضة أما أبو يوسف، فقد رأى أن النص على بيع الحنطة كيلًا وبيع الذهب وزنًا، ما جاء إلا بناء على العرف، وبيعت الحنطة وزنًا إن وجب العمل بالعرف الجديد (7) " وعلى هذا فلو تعارف الناس بيع الدراهم بالدراهم أو استقراضها بالعدد – كما في زماننا – لا يكون مخالفًاٍ للنص فالله تعالى يجزي الإمام أبا يوسف عن أهل هذا الزمان خير الجزاء، فلقد سد عنهم بابًا عظيما من الربا " (8) .
__________
(1) [سورة البقرة: الآية 229] .
(2) [سورة البقرة: الآية 230] .
(3) تتابع في الشر: تهافت وأسرع إليه.
(4) يراجع الموضوع بتمامه في: ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 /42 وما بعدها.
(5) أحمد الغندور، الأحوال الشخصية في التشريع الإسلامي، الكويت 1982م: ص 444- 447.
(6) أحمد فهمي أبو سنة، العرف والعادة: ص 85-86.
(7) ابن الهمام، فتح القدير: 6 /157-158.
(8) ابن عابدين، مجموعة الرسائل: 2 /116.(5/2702)
(ج) كتب الفقه من مختلف المذاهب مليئة بالمسائل التي بنى المجتهدون الأوائل حكمها على الأعراف والعادات التي سادت زمانهم وبيئتهم، فلما تغيرت هذه الأعراف والعادات، أفتى المتأخرون بخلاف المنصوص عليه في المذهب وصرحوا بأن هذا: اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان فمن ذلك: إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه، وبعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة، وبتحقق الإكراه من غير السلطان وبتضمين الأجير المشترك، وبمنع الوصي من المضاربة بمال اليتيم، وبتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف، وبعدم إجارته أكثر من سنة في الدور وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي، وبسقوط الشفعة إذا أخر طلب التملك شهرًا، وبعدم سماع الدعوى ممن سكت بعد إطلاعه على بيع جاره أو قريبه دارًا مثلًا، وغير ذلك (1) .
46- ثالثا: طبيعة هذا التغيير:
سبق أن ذكرنا أن تغير الأحكام بتغير الأزمان لا يعد نسخًا لحكم ثابت، وإنما هو استصحاب قاعدة " اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد (2) ، ومقتضى تلك القاعدة: " أن أمر الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة (3) والواقع " أن للواقعة الواحدة – ذات الأحوال المختلفة – حكمين أو أحكامًا ثابتة، لكل حكم تطبيق في ظرفه الذي يختص به " (4) ، ولعل هذا هو ما أشر إليه الشاطبي بقوله: " ... وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها " (5) وهو ما دعا ابن القيم لأن يجعل عنوان هذا الموضوع: " فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد " (6) .
من أجل ذلك اشترط بعض المحققين في القاضي أن يكون له فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفًا للواقع وكذا المفتي الذي يفتي بالعرف لا بد له من معرفة الزمان وأحوال أهله، ومعرفة أن هذا العرف خاص أو عام، وأنه مخالف للنص أولا، ولا بد له من التخرج على أستاذ ماهر، ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل (7) .
* * *
__________
(1) ابن عابدين، نفس المرجع: ص 124-125.
(2) القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 67-68.
(3) القرافي، نفس الموضع المذكور.
(4) أحمد فهمي أبو سنة، العرف والعادة: ص 89 علي الخفيف، محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء.
(5) الشاطبي، الموافقات: 2 /286.
(6) ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 /27.
(7) ابن عابدين، المرجع السابق: 2 /127.(5/2703)
الفصل الرابع
التطور التشريعي للعرف
ـــ
47- ظل العرف الصحيح الذي استوفى أركانه يؤدي وظائفه في تكميل التشريع ومعاونته على مدى القرون في جميع بلاد الإسلام، فنهض به المجتهدون في فترة الازدهار الفقهي، وتابعهم في ذلك من أتي بعدهم من الفقهاء والعلماء، وحكم بمقتضاه القضاة، كما أفتى بتغيره المفتون عندما كانوا يلاحظون تغير الظروف وأفسحت له كتب الفقه من متخلف المذاهب وفي جميع العصور مكانًا رحبا في كل باب من أبوابها، حتى أخذ مكانه الرسمي بين نصوص التشريع في مجلة الأحكام العدلية، التي كانت تطبق في كثير من بلدان العالم الإسلامي.
فلما كان القرن الماضي شهد العرف انحرافًا عن مساره الشرعي، يمكن رده إلى عاملين: يتمثل الأول منهما في إحياء العادات والأعراف المحلية بغض النظر عن موافقتها أو مخالفتها للأحكام الشرعية ويرجع الآخر إلى انتشار حركات التقنين في تشريعات الدول الإسلامية، وتأثرها بالفكر القانوني الغربي وإذن ينقسم هذا الفصل إلى مبحثين.
المبحث الأول: إحياء الأعراف المحلية.
والمبحث الثاني: انتشار حركة التقنين.
* * *
المبحث الأول
إحياء الأعراف المحلية
48- ساعد على إحياء الأعراف والعادات المحلية في البلاد الإسلامية أمران: خلو بعض الأقاليم النائية من التنظيمات القضائية، والاستعمار الغربي لمعظم بلاد الإسلام.
49- أولا: خلو بعض الأقاليم النائية من التنظيم القضائي:
كان ضعف السلطة المركزية في بعض الأقاليم الإسلامية، وبعد هذه الأقاليم عن مراكز الثقافة والعلوم الشرعية، من العوامل التي مهدت لقيام قضاء قبلي، يتوارثه الأبناء عن آبائهم، فيفصلون فيما يعرض عليهم من نزاع وفق الأعراف السائدة في القبيلة والظروف المحيطة بالبيئة ومع مرور الزمن استقرت هذه الأحكام، وقام بتطبيقها أناس لا حظ لهم من العلم والمعرفة، فكان أكثر الأحكام يتنافى مع مبادئ الشريعة الإسلامية.(5/2704)
وقد استمر هذا الوضع إلى عهد قريب، لدى قبائل شمالي إفريقيا، ولدى القبائل المصرية التي تقيم في الصحراء الغربية، ولدى العشائر المختلفة في السودان والصومال وجزر القمر وغيرها، وينطبق نفس الحكم على القبائل التي تسكن الأماكن النائية في شبه الجزيرة العربية والشام والعراق وتركيا وإيران، ولا يختلف الوضع لدى الطوائف الإسلامية في شبه القارة الهندية وجزر الهند الشرقية. ولا يتسع المجال لعرض شيء من هذه العادات وبيان صلتها بالفقه الإسلامى، فقد تناولها بالشرح والتحليل عدد من الباحثين (1) .
50- ثانيا: الاستعمار الغربي في بلاد الإسلام:
لم يعد خافيًّا على أحد أن استعمار دول الغرب للبلاد الإسلامية صاحبه منهج علمي شامل هدفه تغيير الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وكان التشريع الإسلامي يشكل العقبة الكؤود في سبيل هذا التغيير، لذا وجه الاستعمار كل أجهزته لإحياء العادات المحلية، حتى تكون عونًا له على إضعاف الشريعة الإسلامية وإقصائها عن الحياة العملية، ومن ثم يجد الطريق ممهدا لتطبيق ما جاء به من قوانين (2)
51- (أ) ففي شبه القارة الهندية:
استعان الإنجليز بالعادات القديمة التي كانت مجموعة في قانون مانو، لسن ما احتاجوا إلى سنه من تشريع (3) بعد ما ظلت في طي النسيان قرابة سبعة قرون، كان نظام الحياة كله في هذه البلاد يجري خلالها على أحكام الفقه الإسلامي (4) كتب "Lokhanwalla " في دائرة المعارف الإسلامية: " بقيام الحكم البريطاني للهند، حل النظام القانوني الإنجليزي محل إجراءات التقاضي الإسلامية، كما حل محل أصول الشريعة الإسلامية إلى حد كبير، وكذلك ألبست العادات ثوب الصحة القانونية على أساس من الإنصاف والعدل وسلامة الضمير.. وقد سلم في رأي " كرامت علي " المناهض لـ" سادات على " بأن الشريعة الإسلامية عدلتها العادة المرعية في البلد الذي يأخذ بها..
__________
(1) محمد الألفي، توحيد التشريعات المدنية في بلدان مجلس التعاون لدول الخليج العربية، مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، مجموعة البحوث والدراسات التي قدمت في ندوة: توحيد تشريعات القانون الخاص، الكويت 1988 م: ص 419 وما بعدها. عبد الجليل الطاهر، البدو والعشائر في البلاد العربية القاهرة 1955 م. فريق المزهر آل فرعون، القضاء العشائري، بغداد: 1941م دائرة المعارف الإسلامية: المجلد 15، ص 454 – 470 والمراجع الواردة به: - Meek ; Land law and custom in the colonies، London 1949. - Milliot ; Introduction a I`etude du droit musulman، Paris 1953. pp.156-178. Van Vallenhover ; Le decouverte du droit indonesien, Paris 1933
(2) أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، بيروت 1969 م.
(3) عبد السلام الترمانيني، الوسيط في تاريخ القانون والنظم القانونية، الكويت 1982 م: ص 75.
(4) أبو الأعلى المودودي، عبد السلام الترمانيني، الوسيط في تاريخ القانون والنظم القانونية، الكويت 1982 م: ص 75: ص 138 – 139 وص 194 – 195.(5/2705)
وقد لوحظ اختلاف الوصية بحسب العرف عن الشريعة الإسلامية أيضًا في بعض أجزاء البنجاب.. ولا تعترف الشريعة الإسلامية بالتبني، على أن طغى العرف على هذا التحريم.. ويطبق حكم الشريعة الإسلامية في الشفعة على تفاوت في ضوء ما جرى به العرف وقد رفضت محاكم مدارس الأخذ به لأنه في رأيها مناف للعدل والإنصاف وسلامة الضمير.. وبتقسيم الهند يمكن أن نذهب إلى أن العادات سوف لا يكون لها منذ الآن أية حجة شرعية في الباكستان، ومع ذلك فإن هذا القول لا يصدق بيقين على الهند. وعلى أن العادة، سواء اكتسبت حجة شرعية أو لم تكتسب، فإنه سوف يكون من المستحيل أن نقتلع أثرها الراسخ في النفوس لعدة أجيال قادمة (1)
52 – (ب) شمالي إفريقية:
يعترف "Bousquet" بأن شمالي إفريقيا، الذي كان أهله يتحدثون بلهجات بربرية قبل قدوم العرب، قد اصطبغ منذ قدومهم بصبغة عربية وإسلامية متأصلة (2) فلما أخضع الفرنسيون هذه القبائل، في سنة 1857 هـ، استماتوا في سبيل الوقوف على أعراف وعادات " القبائل الكبرى " و" الريف " و " الأطلس المغربي "، التي لم تكن مقبولة لدى الحكومات الإسلامية في تلك المناطق. وكانت أول عقبة واجهتهم: أن اللغة البربرية لغة حديث وتخاطب، وليست لغة كتابة فاستعاضوا عنها مؤقتًا باللغة العربية. وقد قام علماء فرنسيون بإجراء تحقيقات مع الشيوخ والقرويين، بواسطة بعض الموظفين الرسميين، لمعرفة ما انتقل إليهم من العادات الموروثة، ثم جمعوها في ثلاثة مجلدات، أضفوا عليها صبغة فنية وقانونية، مما جعل المحاكم تلتزم بتطبيقها (3) وإلى جانب ذلك قام فرق من العلماء على رأسه "Hanoteau" و "Letourneux" بترجمة عدة وثائق عرفية، محررة باللغة العربية، لتكون أحد عوامل الانفصال لدى القبائل (4) ، إلى جانب اللغة الفرنسية التي بذلوا جهدًا شاقًا في سبيل تعليمهم إياها، وغرسها في نفوس وعقول أبنائهم.
53- (ج) جزر الهند الشرقية:
تشمل كلمة " أدت "، التي سادت جميع المناطق في جزر الهند الشرقية، كل ما يدخل في باب العرف والشعائر والمعاملات (5) ولما احتل الهولنديون هذه الجزر، عمدوا إلى إحياء العادات الأندونيسية القديمة وتجميعها في قانون أطلق عليه اسم "Adatrecht"، وأجبروا طلاب كلية الحقوق في "Batavia" على دراسته منذ سنة 1910 م. وإلى جانب ذلك قام "Snouch-Hurgronje" و "Van Vollenhoven" بتجميع محاضر جلسات لجنة التحقيق عن الأعراف والعادات بماليزيا في أربعة وثلاثين مجلدًا (6) وقد قام جدل لم ينقطع حول قيمة " قانون العادات " وصلته بالشريعة، أدى بأتباع الأحزاب القومية المتطرفين إلى رفض الشريعة الإسلامية وقانون العادة جميعًا، والمطالبة بتطبيق القانون الهولندي. فاتخذ المستعمرون من هذا الموقف الجديد ذريعة لصبغ قانون الأحوال الشخصية في أندونيسيا بالصبغة الغربية، ولكن مشروعاته لم توضع موضع التنفيذ ومع ذلك، فإن بعض عناصر القانون الغربي تسللت إلى الحياة الأندونيسية نتيجة للمشروعات الحديثة، تمهيدًا لوضع لائحة موحدة " تجمع جمعًا طريفًا بين عناصر من القانون الغربي والشريعة الإسلامية وقانون العادة " على حد تعبير "Prins" (7)
* * *
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية: مجلد 15، ص 461 – 465.
(2) دائرة المعارف الإسلامية: مجلد 15، ص 461 – 465: مجلد 15، ص 458.
(3) –La Kabylie et les Coutumes Kabyles. Paris 1872.
(4) – L.Mittiot ; Op. eit. pp. 158-167.
(5) برنز، مقال بدائرة المعارف الإسلامية: مجلد 15، ص 465.
(6) – Milliot ; Op. cit، p. 157.
(7) برنز، المقال السابق: ص 465 – 470 والمراجع التي أشار إليها فيه.(5/2706)
المبحث الثاني
التقنيات الحديثة والعرف
ــــ
54- التقنين مصطلح يقصد به واحد من أمرين:
1- العمل التشريعي الرسمي المتعلق بجمع القواعد القانونية الخاصة بفرع متجانس من فروع القانون، في مجموعة واحدة، بعد ترتيبها وترقيمها وإزالة ما قد يعتريها من تعارض.
2- المجموعة الرسمية ذاتها، التي تضم فرعًا متكاملًا من فروع القانون (1)
ولما انتشرت حركة التقنين في أوروبا، خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بعد نجاح مجموعات " نابليون" أصدرت الدولة العثمانية عدة قوانين تجمع بين الشريعة الإسلامية والعرف المحلي والقانون الفرنسي. وكان أهم هذه القوانين: مجلة الأحكام العدلية، التي تم إنجازها عام 1293 هـ 1876 م على غرار التقنيات الحديثة، مع استمدادها من الفقه الحنفي، والأخذ بعين الاعتبار قبول المسائل المبينة على العرف والعادة (2) وبعد ذلك توالى صدور التقنينات في الدول الإسلامية لتنظيم كافة العلاقات القانونية ومرفق القضاء. ونتيجة لهذه التقنيات، جعل المشرع نصوص القانون المصدر الرسمي الأول، لأنها تضمنت ما أمكن الوقوف عليه وتنظيمه من أحكام، سواء أكان مصدرها التاريخي أحكامًا فقهية، أم كان هذا المصدر أعرافًا وعادات، أم كان غير ذلك.
55- أما العرف، كمصدر رسمي، فقد وضعته بعض التقنيات في المركز الثاني، بحيث يلجأ إليه القاضي عندما لا يجد نصًّا تشريعيًّا يمكن تطبيقه على النزاع المطروح أمامه (3) وجعله البعض الآخر في المركز الثالث، بعد نصوص ومبادئ الشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامي (4)
56- وأيا ما كان مركز العرف من مصادر التشريع، فهناك شرط أساسي لا بد من توافره لاعتبار العرف مصدرًا، وهو: مخالفته للنظام العام المطبق في البلاد، أو لحسن الآداب السائدة فيها وقد نصت بعض القوانين صراحة على هذا الشرط (5) ولكن غالبيتها لا يشير إليه، لأنه أصبح أمرًا معروفًا لا جدال فيه فقد جاء في المذاكرة الإيضاحية للقانون المدني الكويتي بمناسبة تعليقها على المادة الأولي: " وغني عن البيان أن العرف المعتبر هنا هو ذاك الذي لا يخالف النظام العام أو حسن الآداب فالعادات التي تتنافى مع الأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية التي تقوم عليها الجماعة لا ترقي أبدًا إلى مرتبة العرف، وإن طال عليها الأمد وفي بلد – كالكويت – يدين بالإسلام بنص الدستور، لا يمكن أن يعتبر عرفًا كل ما يخالف أصلا من أصول الإسلام أو حكمًا من أحكامه الأساسية الثابتة.
__________
(1) إبراهيم أبو الليل ومحمد الألفي، المدخل إلى نظرية القانون ونظرية الحق، الكويت 1986 م: ص 87.
(2) إبراهيم أبو الليل ومحمد الألفي، المدخل إلى نظرية القانون ونظرية الحق، الكويت 1986 م: ص 87: ص 89.
(3) انظر على سبيل المثال: القانون المدني المصري المادة:1 /2. والعراقي المادة: 1 /2. والكويتي المادة: 1 /2.
(4) انظر على سبيل المثال: القانون المدني السوري، المادة 1 /2. والليبي المادة 1 /2. والجزائري المادة 1 /2 والأردني المادة: 2/2.
(5) المادة الأولى من قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة.(5/2707)
خاتمة
57- حاولت في هذا البحث أن ألم بموضوع العرف بطريقة موجزة وأن أبعد عن التفصيل والجدل والخلاف ما أمكن، حرصًا على موضوعية البحث، وتجنبًا لتشعبه والإطالة فيه.
وقد خطر ببالي أن أجعل البحث في قسمين: أخصص أولهما لدراسة العرف في الشرع الإسلامي، وأستعرض في الآخر تطور العرف في الفكر القانوني منذ العصر الروماني حتى الوقت الراهن، غير أني لاحظت أن البحث مقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي، وقد يكون فيما أفعل تزيد غير مطلوب.
وقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الشرع الإسلامي يحمل في طياته بذور نمائه، فأحكامه يمكن أن تتسع لمواجهة الأوضاع المستجدة دون أن تفقد خصائصها المميزة، مما يؤكد صحة القضية القائلة إن التشريع الإسلامي صالح لكل زمان ومكان.
والآن، وقد عرفنا أن أعداء الإسلام يتخذون من الأعراف القومية والعادات المحلية في البلاد الإسلامية منفذًا يلجؤون منه لهدم الإسلام من الداخل، يجدر أن نكون على حذر في التعامل مع العادات والأعراف التي تسود مجتمعنا الإسلامي، وأن نضعها في حجمها الشرعي الصحيح.
أما أولئك الذين جربوا دهاءهم في بلاد الإسلام، ثم رجعوا بخفي حنين، فإليهم أسوق قول رب العزة: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1) .
الدكتور محمد جبر الألفي.
__________
(1) [سورة التوبة: الآيتان 32 و 33] .(5/2708)
العرف في الفقه الإسلامي
إعداد
الدكتور إبراهيم كافي دونمز
أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله
بكليات الإلهيات بجامعة مرمرة
استانبول - تركيا
لقد نشر الباب الأول من هذا البحث بعنوان: " نظرة جديدة إلى مكانة مفهوم العرف والعادة في الفقه الإسلامي "، في" مجلة العلوم الإسلامية "، تصدرها جامعة الأمير عبد القادر، للعلوم الإسلامية بقسنطينة (الجزائر) ، السنة: الأولى، العدد: الأول، قسنطينة، إبريل 1986 م.
خطة البحث
العرف
في الفقه الإسلامي
تمهيد
الباب الأول
مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي
1- بصورة عامة
1-1 مكانة العرف والعادة في التشريع الإسلامى بصفة عامة.
1-2 نظرة عامة إلى مكانه العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي.
2- دور العرف والعادة في مختلف مجالات الفقه الإسلامي.
2-1 دور العرف والعادة في منهجية القانون
2-1-1في الاجتهاد البياني
(أ) في التفسير اللفظي
(أ) دور العرف القولي
(ب) دور العرف العملي
(ب) في التفسير بالمعنى
(أ) في التفسير المقرر.
(ب) في التفسير الضيق.
(ج) في التفسير الواسع.
2-1-2 في الاجتهاد القياسي.
2-1-3 في الاجتهاد الاستصلاحي.
2-2 دور العرف والعادة في تطبيق القانون.
2-2-1 في تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف.
2-2-2 في حالات وجود سلطة التقدير للحاكم.
2-2-3 في تفسير التصرفات القانونية.
2-3 دور العرف والعادة في مجال قانون المرافعات (تقدير أدلة الطرفين) .(5/2709)
الباب الثاني:
نظرة تحليلية إلى محاولات نظرية للعرف في الفقه الإسلامي.
1- بصفة عامة.
2- المادة والعرف في اللغة والاصطلاح.
2-1 المادة اصطلاحًا.
2-2 العرف لغة واصطلاحًا.
2-3 النسبة بين العادة والعرف
3- أنواع العرف والعادة.
3-1 أنواع العرف من حيث اعتباره الشرعي.
3-1-1 العرف الصحيح
3-1-2 العرف الفاسد.
3-2 أنواع العرف من حيث المحيط الذي فشا فيه.
3-2-1 العرف العام.
3-2-2 العرف الخاص.
3-3 أنواع العرف من حيث ماهيته.
3-3-1 العرف اللفظي أو القولي.
3-3-2 العرف العملي أو الفعلي.
4- الأدلة التي يعتمد عليها لإثبات أن العرف والعادة أصل من أصول التشريع الإسلامي
4-1 الأدلة الخاصة.
4-1-1 الكتاب.
4-1-2 السنة النبوية
4-2 الأدلة العامة
5- أركان العرف وشروط اعتباره.
5-1 أركان العرف.
5-1-1 الركن المادي: الاطراد أو الغلبة.
5-1-2 الركن المعنوي: الاستقرار في النفوس
5-2 شروط اعتبار العرف
5-2-1 أن لا يكون العرف طارئًا
5-2-2 أن لا يوجد تصريح بخلاف العرف
5-2-3 أن لا يكون العرف مخالفًا للنص ومبادئ الشريعة
6- التقييم العام للعرف
6-1 مفهوم " المصدر " من ناحية منهجية الحقوق الإسلامية وتقييم العرف
6-1-1 مفهوم " الدليل " في أدب الفقه الإسلامي
6-1-2 تحليل لعدم تناول الأصوليين للعرف بين المصادر في مقابل الأهمية التي حظى بها العرف في فروع الفقه
6-2 مفهوم " المصدر " من ناحية فلسفة الحقوق الإسلامية وتقييم العرف
6-3 نظام أعمال الأدلة الشرعية في الفقه الإسلامي ومكانة العرف فيه الخاتمة(5/2710)
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
مما لا ريب فيه أن الحركات الاعتيادية تلعب دورًا هامًّا في حياة كل فرد فالإنسان يسلك بنفس السلوك في نفس الأوضاع وهذه الحركات التي تظهر كتفاعلات نمطية تكتسب بمرور الزمن طابع " الاعتياد " وبذلك يسهل الإنسان عيشه إلى حد ما ويتخلص من صعوبة الاختيار واتخاذ القرار على أن يعين سلوكه لكل وضع في كل مرة، كما يسري نفس الشيء في شأن الحركات الاعتيادية الاجتماعية أيضًا.
فالعادات الاجتماعية عبارة عن قواعد السلوك الاجتماعي التي تتكون عن تلك التصرفات الاعتيادية الاجتماعية والتي تتبدل حسب تبدل الأفراد والأزمان والأمكنة.
ومما لا شك فيه أن هنالك تشابهًا كبيرًا بين القواعد القانونية وقواعد العادات الاجتماعية، وهذه القواعد هي التي تنظم حياة الإنسان تنظيمًا إلزاميًّا في المجتمع والحق أن كون العادة قاعدة إلزامية لما يجب أن يكون (doit eire) ، هو الخاصية التي تميزها عن الحركات الاعتيادية الاجتماعية الأخرى. لأن العادة تقضي وتحتم تحقيق استمرارية الأمور في المستقبل أيضًا كما جرت في الماضي، بينما الحركات الاعتيادية الاجتماعية لا تتضمن فكرة الإلزام.
وكما أن هنالك تشابهًا كبيرًا بين القواعد القانونية وبين قواعد العادات الاجتماعية من حيث كونهما ذات الطابع (beteronime) ، (يتلقى من الخارج القوانين التي تسيره) أي من حيث اصطباغهما بالصبغة الجماعية لا الفردية فقط في تناولهما الأمور، فإن هنالك تشابها بينهما أيضًا في هذا المضمار من حيث المحتوى وفي الحقيقة أن محتويات هذه القواعد لا تستقر دائما من حيث المضمون وإنما يمكن أن يطرأ عليهما التغير والتبدل بصفة مستمرة، فإننا نشاهد اليوم كثيرًا من قواعد العادات الاجتماعية قد أصبحت قواعد قانونية بحتة كما نشاهد العكس مثلًا، فإن كثيرًا من القواعد القانونية التي تصادفنا اليوم على صعيد القانون الدولي كانت عبارة عن قواعد العادات من قبل.(5/2711)
وعلى الرغم من وجود شبه كبير بين القواعد القانونية وقواعد العادات الاجتماعية فإن هنالك مواطن اختلاف وافتراق هامة بينهما لأننا نرى أن قواعد العادات الاجتماعية التي تستهدف تسهيل الحياة الاجتماعية وتذليل الصعوبات بالنسبة للأفراد والمجتمعات لم تكن تستند تمام الاستناد إلى العقل وإنما يتحكم فيها مصدر الصدفة، بينما القواعد القانونية تأتي للحفاظ على النظام الاجتماعي في المجتمعات، ومن هذه الحيثية فهي تحظى أهمية كبيرة ومن هذه الأهمية تأخذ القواعد القانونية صفتها الاستقلالية في الوجود والاستمرارية دون أن تراعي رضا وموافقة أتباعها بحيث أنها لا يمكن أن تلغي فاعليتها لمجرد وجود مخالفة ضدها أما قواعد العادات الاجتماعية فهي على العكس من ذلك، لأنها قواعد اتفاقية (conventionnelle) ، بمعنى أنها لا يمكن أن تأخذ صفة استقلالية في الوجود إلا مع موافقة أتباعها ومعتنقيها لتوقف تأثيرها الفعلي على إرادة واستجابة العاملين بها والمتمسكين بأحكامها والحاصل أن القواعد القانونية ومنها قواعد العرف تمتاز عن قواعد العادات الاجتماعية بتضمنها الصفة الإلزامية " القاطعة " (apodictique) ، لما يجب أن يكون (devoir etre) ، بينما قواعد العادات الاجتماعية لا تتضمن إلا صفة إلزامية " غير قاطعة " (Problematique) ، لما يجب أن يكون.
ومن البداهة هنا أن تكون علاقة متينة بين قواعد العادات والقواعد القانونية لكون كل واحدة منهما تنحو منحى اجتماعيًّا وتستهدف تنظيم الحياة الاجتماعية، وبما أن كل قاعدة اجتماعية يمكن لها أن تكتسي النمط القانوني، فمن الممكن جدًّا أن تتشكل وتتكون قواعد العرف من العادات الاجتماعية وهكذا فإن مجموع القواعد العرفية التي تعمل عمل القاعدة القانونية وتنجز مهمتها وذلك بصفة منفصلة عن القانون المكتوب (droit ecrit) ، تشكل القانون العرفي (droit coutumier) وهذه القواعد تتميز عن القواعد القانونية المكتوبة في كونها لم تكن قواعد بيانية مكتوبة معبرًا عنها من طرف مرجع من مراجع السلطة التشريعية، وإنما هي حصيلة قناعة تجلت في ضمير الجماهير، ولذا يطلق على العرف اسم " القانون التلقائي " (droit spontane) .
إلا أنه يجب أن لا يخلط هنا بين القواعد العرفية التي تلعب دور مصدر القانون بشكل مباشر وبين قواعد العادات الاجتماعية لأن العرف يتميز أساسا بما يلحقه من صفة ملزمة ناتجة من الاعتقاد في إلزامه نفس إلزام القواعد القانونية " الشعور القانوني " (opinio necessitates) ، أي من الاعتقاد في وجود جزاء أو إجبار عام أو جماعي ذي طابع قانوني يكفل احترامه، وعلى هذا النحو يتميز " العرف " عن مجرد " العادة " ويتميز عن قواعد العرف حتى العادات الاجتماعية التي لها مكانة هامة في العلاقات القانونية والتي لم تصل في إلزاميتها إلى درجة العرف. ويسمى هذا النوع من العادات الاجتماعية " العادة الاتفاقية " (usage conventionnel) ، وتترتب على هذه التفرقة نتائج من عدة وجوه.(5/2712)
وقد يقع خلط أحيانًا بين " العرف " و" العادة " سواء في اللغة العربية أو اللغة التركية وقد ساعد على هذا الخلط أن الشارع نفسه استعمل أحيانا لفظ العادة بمعنى العرف الملزم، واستعمل أحيانًا أخرى لفظ العرف بمعنى العادة التي لم ترق بعد مرتبة العرف ولكن التعبير الصحيح الذي يجمع عليه الفقه (doctrine) أن لفظ العرف يطلق على القاعدة القانونية الملزمة وأن لفظ العادة يطلق على القاعدة التي لم ترق إلى مرتبة العرف لافتقارها إلى عنصر الإلزام في الدرجة التي يتضمنها العرف، أما في اللغات الغربية، فإن اصطلاحات (usage) في الفرنسية والإنجليزية و (bung) في الألمانية التي تستعمل في معنى العادة و (droit coutumier) في الفرنسية، و (costum law) في الإنجليزية (Gewobnbeitsrecht) في الألمانية التي تستعمل في معنى مجموع القواعد العرفية تشكل حاجزًا أمام ذلك الخلط.
إن العرف الذي له مكانة خاصة ومتميزة في الفقه الإنجليزي – وإن لم يكن يحتفظ بتلك الأهمية السابقة نفسها في الوقت الحاضر – والذي يشكل مصدرًا للقانون في الدرجة الثانية بعد التشريع في أغلب القوانين الحديثة بصفة عامة، قد ميز عن العادات كما أشرنا إليه بصورة موجزة في ما سبق ووضعت نظرية مستقلة خاصة بالعرف وأثناء تناول نظرية العرف نوقشت بصورة معمقة عدة قضايا منها قضية منشأ القواعد العرفية وقضية أساس القوة الملزمة للعرف، ولكننا هنا لن نتطرق إلى هذه الآراء بل سنكتفي بالإشارة – في الباب الثاني من هذا البحث – إلى أهم نقاط تلك النظرية لما احتاج الأمر إلى ذلك (1)
* * *
__________
(1) انظر في هذا الموضوع: حجازي (عبد الحي) ، المدخل لدراسة العلوم القانونية، الكويت 1972 م، 1 /440 وما بعدها، فرج الصدة (عبد المنعم) ، أصول القانون، بيروت، 1979م، ص 140 وما بعدها، كيرة (حسن) ، المدخل إلى القانون، إسكندرية، 1974م، ص 272 وما بعدها ARAL (Vecdi) , Hukuk ve Hukuk Bilimi Uzerine، Istambul 1975, p84. وما بعدها. LE BRUN، La Coutume، les sources, son Autorite son Autorite en Droit prive (these) ، Sean 1932 ; PACHE (Andre) ، La coutume et les usages dans le Droit Prive Positif. Lausanne 1938(5/2713)
الباب الأول
مكانة مفهوم " العرف والعادة "
في أدب الفقه الإسلامي
1-بصورة عامة:
1-1 مكانة العرف والعادة في التشريع الإسلامى بصفة عامة:
إن الإسلام أولى اهتمامًا متزايدًا لمنهج التدرج في ميدان التشريع كما اهتم أشد الاهتمام في تطبيق هذا المنهج بكل دقة للوصول إلى الهدف المنشود ويفهم ذلك بكل وضوح من حديث عائشة رضي الله عنها (1) .
وإن منهج التدرج في التشريع يفيد مراعاة موازنة التأثير والتأثر وعدم التشدد عندما يؤتى بأحكام تقتضي ترك الأمور المعتادة المألوفة التي تركت آثارًا عميقة في الحياة الفردية والاجتماعية، كما يفيد ذلك أيضا عندما توضع أحكام تكليفية إيجابية جديدة ومع ذلك فإن المرحلة النهائية لمنهج التدرج تتجلى في وضع الحكم المطلوب تأسيسه بدون انتقاص أو تنازل عن المبدأ.
وبهذه الصورة والكيفية تكون السلسلة التشريعية في الإسلام حائزة على طابع يراعي هذه الموازنة بدقة وحساسية (2) لأن الإسلام استطاع أن يزيل من المحيط الذي واجهه في أول الأمر أمورًا اعتيادية كثيرة كانت لها آثار عميقة في الحياة الفردية والاجتماعية، بمنهج التدرج في التشريع مذيبًا ردود الفعل التي كان يمكن أن تؤثر في السلطة التشريعية كما تمكن في نفس الوقت من وضع القواعد التي يريد وضعها بصفة نهائية ولا شك أن تلك التأثيرات العميقة التي أشرنا إليها آنفًا قد نتجت ونشأت بصفة عامة عن الأعراف والعادات المتبعة آنذاك إذن، يمكن أن نقول إن التشريع الإسلامي لم يكن بعيدًا عن الاهتمام إزاء تأثيرات الأعراف والعادات في الحياة الاجتماعية للأفراد والمجتمعات.
__________
(1) البخاري، الجامع الصحيح، فضائل القرآن: ص 6. " ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا "، ولو نزل لا تزنوا لقالوا " لا ندع الزنا أبدًا.
(2) انظر لأمثلة متعلقة بتطبيق منهج التدرج في التشريع الإسلامي: بهنسي (أحمد فتحي) ، السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية، مطابع دار الشروق (بيروت والقاهرة) ، 1983م، ص 29-50(5/2714)
كما أشرنا سابقًا فإن الليونة التي نشاهدها أثناء التشريع التدريجى لم تكن تشكل المرحلة النهائية من الأمر بينما مفهوم " التقرير " الذي نتناوله الآن سوف يطالعنا بنتائج أكثر حسمًا ووضوحًا في هذا الميدان: إن السنة التي تشكل المصدر الثاني في التشريع الإسلامي بعد القرآن لم تكن عبارة عن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وتصرفاته وأفعاله، وإنما تتضمن تقريراته صلى الله عليه وسلم أيضًا وهذه التقريرات هي الأمور الاجتماعية الواقعية – ومنها الأعراف والعادات – التي كانت موجودة من قبل في المجتمع فأقرها الرسول صلى الله عليه وسلم، واستصوب ديمومتها واستمراريتها (1) والحق أنه يمكن أن نأتي بأمثلة كثيرة وقائمة طويلة للأعراف والعادات التي كانت موجودة قبل الإسلام في المجتمع العربي فقبلها الإسلام ورضي باستمراريتها ولم يرفضها في ميدان التشريع (2) فمن الممكن أن نذكر كمثال حي عقدي المضاربة والسلم لتلك العادات التي كانت موجودة في البيئة التي عاش فيها النبي صلى الله عليه وسلم والتي أقرها الإسلام (3) إذن، نستطيع أن نقول أن التشريع الإسلامي لم يكتف فقط بعدم مواجهة الوقائع الاجتماعية التي لم تضاد الإسلام، وإنما عمل أيضًا من أجل إكسابها مشروعية في الحياة العملية (4) .
وبما أننا سنتناول في الباب الثاني موقف مذاهب الفقه الإسلامي إزاء العرف والعادة وأدلة من يعتبرها مصدرًا من مصادر التشريع في الفقه الإسلامي، نكتفي هنا بالقول إن المبادئ العامة للتشريع الإسلامي وكذا الحلول والنتائج الفقهية التي توصل إليها فقهاء الإسلام الذين يعملون في إطار تلك المبادئ، تعكس نظرة إيجابية للأعراف والعادات التي هي عبارة عن قواعد السلوك الاجتماعي، ما دامت لا تتعارض والمبادئ الإسلامية والحق أنه يمكن لنا أن نلاحظ في المؤلفات الفقهية الإسلامية عبارات تفيد أن في نزع الناس عن عاداتهم حرجًا عظيما (5) ، دون أن تقابل باعتراض وكذلك، أئمة المذاهب الفقهية، فإنهم – ولو لم يعبروا نظريا عن قيمة الأعراف والعادات في التشريع الإسلامي – إلا أنه لا يمكن أن نتصور بأنهم استغنوا تمام الاستغناء في حلولهم الفقهية عن أعراف وعادات البيئات التي عاشوا فيها، بل على العكس من ذلك، فإننا عندما نلقى نظرة على التاريخ الفقه الإسلامي نرى أن المسائل المستحدثة في العراق الذي تسود فيه العادات الفارسية والنبطية تعرض على أبي حنيفة وأمثاله، وأن المسائل المستحدثة في الشام الذي تسود فيها العادات القديمة من قبطية وبزنطية ونحوها تعرض على الشافعي والليث بن سعد وأمثالهما وأن هؤلاء الأئمة كانوا يبذلون قصارى جهدهم للتوصل إلى الحلول الحقوقية مراعين في تلك العادات والتقاليد (6) .
__________
(1) HAMIDULLH) Muhammed) , “La philosophie juridique chez les Musulmans”، Annales de la Faculte de Droit distambul. 1968,29-32,p140.
(2) HAMIDULLH) Muhammed) , Joufersanslar) Orfve Adet) محاضرات (العرف والعادة) في كلية العلوم الإسلامية بأرضروم (تركيا) مترجمة إلى اللغة التركية) مترجم: (Aksu, Zahir) ، ص 5 انظر أيضا عنوان: " السنن التي كانت الجاهلية سنتها بأبقى الإسلام بعضها وأسقط بعضها " من " كتاب المحبر " لمحمد حبيب (المتوفى سنة 245هـ) ، تصحيح: إيلزه ليحتن شتيتر ومحمد حميد الله حيد آباد الدكن "، 1942م، ص 309 وما بعدها.
(3) الزيلعي، تبين الحقائق شرح كنز الدقائق مصر، 1315هـ، 5 /52، 53.
(4) نفس المكان من المحاضرات المذكورة HAMIDULLAH.
(5) انظر مثلًا ابن عابدين، رسالة نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف (في مجموعة الرسائل) ، استانبول، 1325هـ، 2 /113-118، ولعبارة قريبة منها، انظر: السرخسي، المبسوط، مصر 1331هـ، 13 /14، 15.
(6) أحمد أمين، ضحى الإسلام، القاهرة، 1952م، 2 /164.(5/2715)
1-2- نظرة عامة إلى مكانة العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي:
إن الكتب التي تعنى بتاريخ التشريع الإسلامي تتناول بصفة عامة موضوع التشريع حسب الأدوار التاريخية ونحن – وإن لم يكن ذكر تلك الأدوار على حدة أمرًا ضروريًّا – يمكن لنا أن نستدل من هذه المشاهدة العامة بسهولة أن التشريع الإسلامي مر بأدوار لها خاصيات مختلفة (وهذا الاستدلال له أهمية من حيث موضوعنا) .
إننا نرى أن المسائل الحقوقية على الرغم من إيجاد حلول لها في إطار المبادئ الإسلامية قبل تدوين الفقه أيضا (أي في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين) ، لم تظهر آنذاك الحقوق الإسلامية كعلم مستقل وبالتالي لم تتضح قواعد هذا العلم تمام الوضوح مثلا، فإننا – بالرغم من مشاهدتنا التأثير القوي للأعراف والعادات في النتائج الحقوقية التي توصل إليها في هذا الدور – نلاحظ أنه لم تظهر في الوجود كمصطلح مستقل كما لم تأخذ مكانها بشكل واضح بين قواعد الاستنباط.
أما في دور التدوين فإن الأسس التي استند إليها الاجتهاد قد أصبحت واضحة وأن الاصطلاحات الحقوقية قد اكتسبت أهمية كبرى في تحليل المسائل بشكل تدريجي، والخلاصة أن الفقه الإسلامي قد نمى واكتمل بصفة تدريجية وأصبح علمًا مستقلًا بحيث ارتكز إلى قواعده الواضحة في بذل جهود ومساعي علمية قيمة (1) (وبعبارة واضحة يمكن القول إن تدوين علم أصول الفقه كان متأخرًا زمنيًّا عن تدوين الفقه) (2) لهذا، يجب أن نتحرى بصفة عامة المعلومات الواضحة المتعلقة بمناهج الحقوق الإسلامية واصطلاحاتها في النتائج والثمرات التي توصل إليها من خلال المساعي القيمة التي بذلت في ذلك الدور غير أن الوضعية تكون مختلفة من جهة موضوعنا لأن دور العرف والعادة – على الرغم من ظهوره في الفقه الإسلامي بشكل أوضح وأدق من ذي قبل – إلا أن ما يلفت النظر هو كونهما لم يأخذا مكانتهما بين المصادر الحقوقية بشكل قطعي وواضح، كما لم تتحدد حدود مفهوم العرف والعادة في ميدان التشريع بشكل بين وجلي.
__________
(1) انظر في موضوع ظهور أصول الفقه على الساحة كنظام علمي ومسيرة تطوره في هذا الصدد، مثلا: ابن خلدون، المقدمة، بيروت، بدون تاريخ. ص 453- 455، المراغي (عبد الله) ، الفتح المبين في طبقات الأصوليين بيروت 1974 م. ص 15-21 بلتاجي (محمد) ، مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري، الرياض، 1977م. 1 /11 – 15؛ شعبان (زكي الدين9، أصول الفقه الإسلامي، قاريونس 1979م. ص15 وما بعدها؛ صالح (محمد أديب) ، تفسير النصوص في الفقه الإسلامي بدون مكان وتاريخ، 1 /90-96.
(2) ابن عاشور (محمد طاهر) ، مقاصد الشريعة الإسلامية، تونس، 1978م، ص 6.(5/2716)
وفي الحقيقة أن أول تعريف للعرف والعادة أمكن التوصل إليه في أدب الفقه الإسلامي هو ما ظهر في الكتاب المسمى " المستصفى " المتعلق بفروع الفقه للفقيه الحنفي أبي بركات حافظ الدين النسفي المتوفي سنة 710 /1310 (1) ونحن في صدد البحث والدراسة عن الأمور المتعلقة بالعرف والعادة في الفقه الإسلامي، نرى إلزامًا علينا أن نتطرق إلى نقطة تتعلق بتعريف العرف والعادة ألا وهي إقدام أساتذة كرام اشتهروا بآثارهم القيمة في العالم الإسلامي أمثال الشيخ محمد أبي زهرة رحمه الله (2) ، والشيخ مصطفى أحمد الزرقاء (3) والدكتور محمد سلام مدكور (4) والدكتور عبد العزيز الخياط (5) إلى إسناد تعريف للعرف والعادة إلى الغزالي قائلين أثناء نقلهم له " إن الغزالي عرف العرف والعادة في كتابه المستصفى كما يلي ... " إلا أنه تبين لنا من خلال تحقيقاتنا في هذا الميدان أن سبب هذا الالتباس، قد نتج عن اتباعهم بالفقيه الحنفي ابن عابدين الذي ألف رسالة مستقلة في العرف والعادة عندما كان يعرف العرف والعادة بتعريف الإمام النسفي قائلا: " وفي شرح الأشباه للبيري عن المستصفى.. " دون أن يصرح اسم المؤلف ويرجع المؤلف إلى صاحبه الحقيقى (6) ، مع أن المراد من كتاب المستصفى هنا لم يكن المستصفى الشهير الذي ألفه الإمام الغزالي وإنما هو الكتاب المسمى بالمستصفى أيضا والذي ألف من طرف الفقيه الحنفي الإمام النسفي المشار إليه آنفًا.
وتتجلى لنا أهمية تطرقنا إلى هذه النقطة من جهتين: الأولى: ثبوت أن أول تعريف للعرف والعادة – أمكن التوصل إليه – لم يكن منشؤه الغزالي (المتوفى سنة 505 /1111) ، وإنما كان قد صدر ذلك عن الإمام النسفي الذي عاش متأخرًا عن الغزالي بقرنين من الزمن أما الجهة الثانية: - وهي الأهم بالنسبة لنا - كون هذا التعريف الخاص بالعرف والعادة لم يرد في كتاب من كتب علم الأصول وإنما ورد في كتاب من الكتب التي تهتم بالفروع الفقهية (7) لأن تناول العرف بتعريف مستقل – وإن كان يشكل مقدمة لنظرية خاصة بالعرف – فإن الأمر الأهم من حيث أخذه مكانته الخاصة بين الأدلة الشرعية وحصوله على نظرية مستقلة هو دخوله أو عدم دخوله في أدب علم أصول الفقه.
__________
(1) أبو سنة (أحمد فهمي) ، العرف والعادة في رأي الفقهاء، مصر، 1948م، ص8.
(2) في كتابه " مالك "، مصر، 1952م، ص420.
(3) في كتابه " الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد – المدخل الفقهي العام " دمشق، 1964م، 2 /838 هامش رقم 2 و 2 /840هامش رقم1.
(4) في كتابه " المدخل للفقه الإسلامي "، القاهرة، 1969م، ص228.
(5) في كتابه " نظريه العرف "، عمان، 1977 م، ص23.
(6) ابن عابدين، رسالة العرف المذكورة، 2 /112.
(7) ولا يجب من إفادتنا هنا عدم استعمال لفظي " العرف " و " العادة " وعدم وجود أي توضيح في هذا الموضوع في المؤلفات السابقة حتى إننا نعثر على عبارة قريبة جدًا من تعريف النسفي للعرف عند الجصاص (المتوفى سنة 370هـ /980م) ، وذلك أثناء تناوله لفظ " المعروف " الذي يستعمل أيضا في معنى " العرف "، انظر " أحكام القرآن " له استانبول، 1335 هـ، 3 /38 ومن المفيد أن نبين هنا أن هذين اللفظين وخاصة لفظة " العادة " قد استعملا غالبا في كتب الأصول بمعنى القوانين التجريبية أو المسلمات العقلية، انظر على سبيل المثال: الجويني (إمام الحرمين) ، البرهان في أصول الفقه، تحقيق: عبد العظيم الديب، دوسة، 1399هـ، 2 /767، الغزالي، المستصفى من علم الأصول، مصر، 1324هـ، 1 /45، 176، 177، البخاري (عبد العزيز) ، كشف أسرار شرح أصول البزدوي، استانبول، 1308هـ، 3 /259؛ الشيرازي، الوصول إلى مسائل الأصول، تحقيق: عبد المجيد تركي، الجزائر، 1979م، 2 /241، 242.(5/2717)
عندما نلقي نظرة عامة إلى الخطوط العامة لمبادئ المذاهب الاجتهادية يمكن أن نتوقع كنتيجة طبيعية أخذ العرف مكانًا متميزًا وخاصا في الفقه الحنفي، ومع ذلك فإننا لا نكاد نشاهد حتى في كتب أصول الفقه الحنفية خطوات جريئة لبيان موقف واضح وصريح تجاه العرف والعادة ويمكن أن نشير كمثال لذلك التردد الذي نجده عند الجصاص (م. سنة 370 /980) إزاء العرف في كتابه الذي يعتبر كأول كتاب وصل إلينا في ميدان علم أصول الفقه من بين الكتب الحنفية (1) : نراه عندما يعرف الاستحسان في هذا الكتاب – عارضًا الاستحسان بشكليه – يبين إمكانية تحقق الشكل الثاني) تخصيص الحكم مع وجود (العلة بواحد من أسباب خمسة ومنها " عمل الناس "، ولكنه مع ذلك لا يجعل عمل الناس سببًا مستقلًا للاستحسان أثناء تفريقه أقسام الاستحسان عن بعضها البعض كل على حدة وإن كان لا يهمل دور عمل الناس عند إيراده أمثلة لكل من أقسام الاستحسان (2) أما الأصوليون الذين جاؤوا من بعده، فنراهم لا يستسيغون جعل نمط خاص للاستحسان بسبب العرف (3) ، إزاء هذا التحاشي الملحوظ في كتب أصول الفقه، فإننا نشاهد بكل سهولة توضيحات متعددة في كتب الفروع حول تحقق الاستحسان بسبب العرف (4) حتى أنَّ المؤلف نفسه في الوقت الذي يجعل العرف سببًا للاستحسان في كتابه المتعلق بالفروع يحتزر عن ذكر ذلك في كتابه الخاص بعلم أصول الفقه (5) وإلى جانب ذلك، يجدر بنا أن نلفت النظر إلى أننا لا نكاد نعثر على عناوين مستقلة في كتب علم الأصول لتناول العرف سواء بصفة إيجابية أو سلبية بينما نجد عناوين سلبية لبعض الأدلة الأخرى التي اختلف في اعتبارها الأصوليون مثل الاستحسان والاستصلاح (6) .
__________
(1) فعلى الرغم من أن أول كتاب وصل إلينا باسم " الأصول " في الفقه الحنفي هو كتاب الكرخي (المتوفى سنة 340هـ /951م) المسمى " بالأصول التي عليها مدار فروع الحنفية "، لم يكن في الحقيقة كتابًا يتعلق بأصول الفقه – على خلاف ما ظنه بعض الكاتبين – وإنما هو رسالة صغيرة تضم 39 قاعدة عامة سائدة في الفقه الحنفي (مطبوع في مصر مع " تأسيس النظر " للبوس) أما " أصول الشاشي " (م. 344هـ) فلا يتناول إلا الأدلة الأربعة (بيروت 1982م) بما أن الطبعة المحققة لكتاب الجصاص لم تكن في متناول يدنا أثناء القيام بإعداد البحث اعتمدنا على النسخة المخطوطة له يقول محقق الكتاب الدكتور عجيل جاسم النشمي بشأن أصول الجصاص: " بل يكاد يكون أول كتاب في أصول فقه الأحناف يصل إلينا في شكل كتاب متكامل منسق مترابط ": 1 /4 (الكويت، 1985م)
(2) الجصاص، أصول الفقه، مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 129، ق. 294/ ب – 298/ ب.
(3) انظر على سبيل المثال: الدبوسي تقويم الأدلة، مخطوط بمكتبة سليمانية باستانبول (قسم لعله لي) رقم 690. ق. 225/ب. وما بعدها؛ البزدوي، كنز الوصول إلى معرفة الأصول، استانبول، 1308هـ، 4 /5/ 6؛ السرخسي، أصول السرخسي، تحقيق: أبو الوفاء الأفغاني، بيروت، 1973، 2 /202، 203 هذا لا يعني أن كتب الأصول كلها لا يستعمل فيها أبدًا تعبير " الاستحسان لسبب العرف "، انظر مثلًا: الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو، دمشق، 1980م، ص 373؛ الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة، 1967م، 4 /136؛ الشاطبي، المرافقات في أصول الشريعة، مصر، بدون تاريخ (بتعلقيات الشيخ عبد الله دراز) ، 4 /207، 208.
(4) انظر مثلًا: السرخسي، المبسوط، 12 /46، 159؛ الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع بيروت، 1974 م (بالأوفست) ، 7 /395.
(5) انظر السرخسي، المبسوط، 12 /159 و " أصول السرخسي "، له، 2 /202، 203.
(6) انظر مثلًا: الغزالي، المستصفى: 1 / 245 – 315؛ الآمدي، الأحكام: 4 / 121 – 140.(5/2718)
والخلاصة أنه مقابل إعطاء أهمية كبيرة لقاعدة " العرف يترك به القياس (1) في كتب الفروع فإننا يمكن أن نسجل أن العرف لم يتناول أثناء التحقيقات الأصولية، إلا في مؤلفات الأدوار الأخيرة وذلك كدليل تال فقط، فضلا عن حيازته مكانًا مستقلًا بين المصادر. ولا شك أن هذه الوضعية تمكننا من القول بوجود ثنائية (dualite) في أدب الحقوق الإسلامية من حيث تناول العرف (2) .
أما العبارات الواردة في كتب الفروع حول العرف والعادة – فبسبب عدم إخضاع مفهوم " العرف والعادة " لخطوط معينة ومحددة – كانت أحيانًا سببًا لاتخاذ فكرة غير صحيحة لتبيين وتوضيح مكانة العرف والعادة في الحقوق الإسلامية وفي الحقيقة إننا نشاهد حتى في البحوث المستقلة التي لجئ إليها من أجل بيان مكانة العرف والعادة في الفقه الإسلامي، بعض الأمور التي كان يجب تناولها في إطار القواعد اللغوية أو في المفاهيم التي تتعلق بتطبيق القانون (مثل " العدالة " (equite) وسلطة التقدير للحاكم) ، وكذلك بعض المسائل التي تدخل في إطار قانون المرافعات واردة في إطار مفهوم " العرف والعادة ".
والحال أنه إذا ألقينا نظرة في إطار أصول الفقه الإسلامي إلى مكانة العرف بخطوطه العامة نجده قد شكل مادة أساسية للأحكام الاجتهادية، ولكنه مع ذلك لم يتمكن قط من الارتفاع إلى درجة المصدر الشكلي (source formelle) وبعبارة أخرى، على الرغم من رجحان تأثير العرف على المجتهد في استنباط الحكم بعد الكتاب والسنة والإجماع النقلي في المسألة التي يوجد فيها العرف إلا أنه لم يأخذ مكانته بين المصادر الشكلية وكذلك بين سلسلة المراتب للأدلة الشرعية، وإنما لعب دوره في تثبيت الحكم بواسطة مفاهيم أخرى وبخاصة منها الاستحسان والاستصلاح (3) وسنقف عند أسباب هذه الحالة في الباب الثاني من هذا البحث.
__________
(1) انظر مثلًا: ابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، القاهرة، 1334هـ، 6 /185؛ ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /114؛ علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، استانبول، 1330هـ، 1 /93، 94؛ أبو سنة، العرف والعادة، ص 101.
(2) ولسنا نقصد من الثنائية هنا الثنائية التي تطرق إليها المستشرق شاخت الذي يقول: " بهذا المعنى فإن العادة لا يمكن أن تكون معتبرة في نظر الكتب الفقهية إلا في الميادين التي أشارت إليها الشريعة إشارة صريحة ولكن على الرغم من ذلك، فإن العادة نراها تطغى على القواعد الشرعية في كل مكان، ومن هذه الحيثية فإن الأهمية التي أعطيت لها في كتب الفقه لم تكن تتماشى مع المكانة الممتازة التي أحرزتها في تاريخ " الشريعة الإسلامية ") CHACHT (Joseph) ، Encyclopedie de l Isiam “Sanda” لأن ثنائيته هذه تقودنا إلى تقسيم " القانون العرفي " و" القانون الشرعي " في تاريخ الدول الإسلامية من حيث التطبيقات القانونية إذن، فإن هذا الاتجاه لم يكن يتصل ببحثنا هذا وإنما هو قضية راجعة إلى تحقيق التطبيقات القانونية ويمكن أن يكون موضوع بحث خاص لتاريخ التشريع الإسلامي أما مرادنا نحن من الثنائية هنا، فيتجلى في الثنائية الملحوظة في كتب الأصول وكتب فروع الفقه من حيث تناول العرف كدليل من أدلة الأحكام.
(3) قارن: أبو سنة، العرف والعادة، ص 32؛ خلاف (عبد الوهاب) ، أصول الفقه، نشر دار القلم (كويت، بيروت) ، 1972، ص 91، نفس المؤلف، مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، مصر، 1955 م، ص 123، 124 دواليبي (محمد معروف) ، المدخل إلى علم أصول الفقه، بيروت، 1965 م، ص 30، 31.(5/2719)
وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أنه – مع قبولنا لوجود فروق واضحة بين " العرف " وبين " الإجماع " (1) المتفق على اعتباره لدى جميع الأصوليين – يمكن أن نشاهد تداخلًا وتعاضدًا بين دليل " الإجماع السكوتي " الذي يحظى بأهمية كبيرة خاصة عند الحنفيين وبين دليل " العرف العام (2) في بعض الحالات، وخاصة عند التوصل إلى أحكام الإباحة في إطار صيغة " من غير نكير " (3) .
والخلاصة أن أمورًا كثيرة في أدب الفقه الإسلامي كان يتوقع الباحث المتعود على مفاهيم النظريات الحديثة أن تتعرض لها في إطار خاصيات اللغة قد تصورت ضمن مفهوم العرف والعادة كما تناولت العادات الاتفاقية والقواعد العرفية التي تلعب دور " القاعدة القانونية " (4) دون تمييز بينهما وبعبارة أخرى، فقد تطرقوا إلى العرف والعادة باعتبار تأثيرهما بصفة مباشرة أو غير مباشرة على النتيجة القانونية التي ستطبق على الواقعة القانونية دون أي اهتمام بالاتجاه إلى وضع نظرية للعرف أو بيان للدور الذي يلعبه العرف والعادة (ككونهما يلعبان دور تكميل الفراغات القانونية أو تفسير النصوص أو إنارة الطريق للقاضي عند استعماله سلطة التقدير أو تفسيره التصرفات القانونية) .
فنحن في بحثنا هذا لن نتناول العرف كقاعدة قانونية فحسب، وإنما سنتطرق إلى العرف والعادة) دون تفريق بينهما باعتبار المضمون) من حيث مكانتهما في أدب الفقه الإسلامي غير أننا سنعمل من أجل توضيح أدوارهما المختلفة الطابع كما سنسعى بعد ذلك (في الباب الثاني من هذا البحث) في ضوء هذه التحاليل لإجراء بحث نقدي للمحاولات المستجدة لتطوير نظرية مستقلة للعرف في الفقه الإسلامي يجب أن ننبه هنا إلى أن الأمثلة في بحثنا هذا قد ضربت لتكون نماذج لاقتراحاتنا المتعلقة بتناول أدوار العرف والعادة المختلفة الطابع؛ لهذا ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار دائمًا وجود احتمال تقييم تلك الأمثلة بصورة مختلفة عند المذاهب الحقوقية الأخرى سواء من حيث النتائج أو الاستدلال.
__________
(1) انظر في الفروق بين الإجماع والعرف: خلاف، مصادر، ص 124؛ مذكور (محمد سلام) المدخل للفقه الإسلامي ص 229؛ خياط (عبد العزيز) ، نظرية العرف، ص 31، 32.
(2) انظر مثلًا: ابن همام، فتح القدير شرح الهداية، مصر، 1306هـ، 6 /157؛ سيد نسيب، أسس الفقه الحنفي (باللغة العثمانية) ، استانبول، 1337- 1339هـ؛ عبد الله (عمر) ، العرف، ص 6 (نقلًا عن " شفاء العليل في حكم الوصية، لابن عابدين، ص 136) أبو زهرة (محمد) ، أصول الفقه، مصر، 1973م، ص 274.
(3) انظر: البخاري، كشف الأسرار: 3 /228؛ الزيلعي، تبيين الحقائق: 6 /29 سنعود إلى هذه النقطة بمناسبة أخرى.
(4) ولا يجب أن يفهم من عبارتنا هذه وجود حقوق العرف المستقلة بين مصادر الفقه الإسلامي لأننا كنا قد بينا آنفًا عدم تمكن العرف من الارتفاع إلى درجة " المصدر الشكلي " بين المصادر في الفقه الإسلامي.(5/2720)
2- دور العرف والعادة في مختلف مجالات الفقه الإسلامي:
عندما نتمكن من التمييز بين موقف المجتهد الذي يستنبط الأحكام مباشرة من النصوص وبين موقف السلطات التنفيذية التي تضع هذه الأحكام حيز التطبيق، نستطيع آنذاك أن نتوصل إلى إدراك المكانة التي يحرزها العرف في الحقوق الإسلامية بشكل أوضح وأصح.
لهذا، فإننا سنحاول أن نفرق في بحثنا هذا بين دور العرف في منهجية القانون (methodologie du droit) وبين دوره الذي يتجلى أثناء وضع القانون في حيز التطبيق ولا نقصد من هذا التقسيم أن السلطة التي تختص بتنفيذ الأحكام تكون بعيدة في جميع الأحوال عن دائرة الاجتهاد من حيث الأهلية والكفاءة، وإنما قد يكون المقام المختص بتطبيق الأحكام جامعًا بين أهلية الاجتهاد وسلطة التنفيذ، وفي هذه الحالة يعتبر مستنبطًا للحكم الذي سيطبق على الحادثة مباشرة من جهة، ومنفذًا له من جهة أخرى.(5/2721)
2-1- دور العرف والعادة في منهجية القانون:
إن المنهج الذي يجب أن يتبع في حل مسألة حقوقية قد أصبح معلومًا في بيانات معاذ بن جبل الموجزة التي أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم (1) وعليه، إذا وجد في الكتاب أو السنة نص خاص يستطيع أن يتناول في حكمه القضية القانونية التي يتحرى فيها الحكم طبق هذا النص، أما إذا لم يوجد لجئ إلى الاجتهاد فيها ولكن المقصود من " الاجتهاد " هنا هو الاجتهاد في المفهوم الضيق لأن وجود نص خاص يستطيع أن يتناول في حكمه القضية الحقوقية لا يعني أنه لم يدع مجالًا لاختلاف الآراء أبدًا؛ بل على العكس من ذلك، يمكن أن يجب تناول هذا النص والتفكير فيه لفهم مقصود الشارع منه تارة في إطار ألفاظه وتارة في إطار معاني ألفاظه، فالنشاطات البيانية هذه التي تنصب على الألفاظ والمعاني تسمى " بالاجتهاد البياني " إذن، فإن " الاجتهاد " في مفهومه الواسع يتضمن نشاطات تفسير النصوص أي الاجتهاد البياني أيضا (2) أما الاجتهاد في مفهومه الضيق (الذي يلجأ إليه في حالة عدم وجود نص يستطيع أن يتناول في حكمه القضية القانونية) له نوعان رئيسيان:
فالنوع الأول عبارة عن تحديد " العلل الموجبة للأحكام " في كل حكم " بصورة خاصة "، ليتخذ منها مقياس من مقاييس الحكم فيما يراد إضافته على النصوص بطريق القياس، ويطلق عليه اسم " الاجتهاد القياسي ".
والنوع الثاني هو تحديد " روح الشريعة بصورة عامة " ليتخذ منها أصل من أصول التشريع للحكم في كل حادث جديد استنادًا إلى المصالح المرسلة، ويسمى هذا النوع " بالاجتهاد الاستصلاحي " (3) .
ففي حالة وجود نص خاص يمكن تطبيقه بشكل مباشر على المسألة الحقوقية لا يمكن أن يلعب العرف والعادة أي دور من الأدوار مثلًا لا يمكن أن يتوصل إلى حكم جديد بأي نوع من أنواع العرف في مسألة التبني المعتبر عادة عند العرب كالبنوة الحقيقية بعد أن ألغي هذا الحكم بنص قرآني صريح.
والآن سنلقي نظرة إلى أدوار العرف والعادة في الحالات الأخرى المتقدمة (في الأنواع الثلاثة للاجتهاد) .
2-1-1 في الاجتهاد البياني:
(أ) في التفسير اللفظي:
على الرغم من فسح المكان للآراء الخاصة بموضوع " التخصيص بالعرف القولي " و"التخصيص بالعرف العملي " في بحوث أصول الفقه، فإنه في حقيقة الأمر يمكن القول بأن الخصائص اللغوية قد تنوولت هناك في إطار مفهوم العرف والعادة وسنشير إلى هذين الدورين للعرف والعادة بإيجاز شديد فيما يلي:
أ- دور العرف القولي:
إن التخصيص بالعرف القولي هو قصر العام على بعض أفراده بموجب " مفهوم القول "، لا بموجب " مفهوم التعامل "، وذلك مثل الدراهم في مكان ما حيث تطلق وتقال ولا يفهم منها في العرف القولي إلا النوع المتعارف عليه في ذلك المكان، والمراد من العرف القولي في تخصيص النص هو العرف البياني الخاص الذي يوجه الاستعمال في عصر نزول القرآن وورود السنة، أي ما كان يفهمه المسلمون، وما يحيط بالاستعمال في شئون تقييده، لأنها تقيد القول، وتجعله في دائرته هنالك اتفاق بين علماء الأصول وعلماء اللغة في دور العرف القولي في تقييد المطلق وتخصيص العام (4) .
__________
(1) انظر لمتن هذا الحديث ولنقده: أبو داود، السنن، أقضية: 11؛ الترمذي، السنن، أحكام: 3؛ ابن حنبل، مسند: 5 /236 – 242؛ السرخسي، أصول: 2 /107؛ ابن حزم، ملخص أبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل، دمشق، 1960 م، ص 14،15؛ الشوكاني، إرشاد الفحول، مصر، 1937، ص 202.
(2) الغزالي، المستصفى: 2 /229؛ البخاري، كشف الأسرار: 3 /268.
(3) الدوالبي، أصول الفقه، ص 133 – 136، 381 – 382، 434؛ انظر لتسمية " الاجتهاد القياسي "؛الغزالي، المستصفى: 2 /233
(4) ابن عبد الشكور، مسلم الثبوت؛ والأنصاري، فواتح الرحموت، مصر 1324 هـ، 2 /345؛ الدواليبي، أصول الفقه، ص 235، 236؛ أبو سنة، العرف والعادة، ص 91.(5/2722)
ب- دور العرف العملي:
أما التخصيص بالعرف العملي هو قصر العام على بعض أفراده بموجب " تعامل الناس " ببعض أفراده لا بموجب " مفهومه القولي " فلو كان من عادة المخاطبين في المكان الذي جاء فيه النص تناول طعام خاص كالبر مثلًا وورد الخطاب بتحريم الطعام كقوله: " حرمت عليكم الطعام " فقد انصرف التحريم عند من قال بتخصيص العام بالعرف العملي إلى ذلك النوع من الطعام فقط، رغم أن له مفهومًا عامًا لديهم ويدل على البر وغيره كما يوجد اتفاق بين علماء الأصول في تقييد المطلق بالعرف العملي غير أنهم اختلفوا حول دوره في تخصيص العام، وقد اشتد الخلاف خاصة بين الحنفية والشافعية، فذهب الحنفيون إلى تخصيص العام بالعرف العملي بينما الشافعية يخالفونهم في ذلك والرأي الغالب عند المالكية يوافق تمام الموافقة لرأي الأحناف إلا أن القرافي من المالكية والزيلعي من الحنفية لا يذهبان إلى رأي مذهبهما في هذه المسألة والأستاذ أبو سنة، بعد أن تعرض لهذا الخلاف بصورة واسعة يبين ترجيحه الشخصي في اتجاه الرأي الحنفي (1) .
(ب) في التفسير بالمعني:
كما هو معلوم فإنه يتم تفسير القانون سواء عن طريق بحثه من ناحية اللفظ أو بحثه من ناحية الروح (المعنى) ، وفي نهاية هذا التفسير إذا ما تساوت النتيجة التي تم الحصول عليها مع المفهوم الذي تم استخراجه من لفظ القانون، يقال لهذا التفسير " التفسير المقرر " أو " التفسير البياني " (interpretation declarative) ، أما إذا كان يختلف عن المفهوم المستخرج من لفظ القانون كان هذا التفسير تفسيرًا يحدث في اللفظ تغييرًا، وهذا التفسير يمكن أن يكون في اتجاهين:
إما أن يوسع ما تم فهمه من اللفظ فيطلق عليه " التفسير الواسع " (interpretation extensive) .
وإما أن يضيف ما تم فهمه من اللفظ فيطلق عليه " التفسير الضيق " (interpretation restrictive) .
أ – في التفسير المقرر:
هنا نجد تطابقًا بين النتيجة المستحصلة من التفسير بالمعنى الذي يأخذ العرف والعادة في الاعتبار وبين النتيجة الحاصلة من تفسير لفظ النص ويسمى هذا التفسير الذي يأخذ العرف بعين الاعتبار في النظريات الحقوقية المعاصرة " بالتفسير التعاملي " كما يسمى العرف الذي أخذ بعين الاعتبار " العرف المؤيد " (la coutume confirmatoire) يمكن توضيح هذا النوع من التفسير بالمثال التالي:
يرى أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني جواز بيع أراضي مكة – وهذا إحدى الروايتين من أبي حنيفة أيضا – مستندين إلى ما جاء من النبي صلى الله عليه وسلم ((هل ترك لنا عقيل من ربع)) ، فالنتيجة الحاصلة من التفسير اللفظي لهذا الحديث قد أيدت بالتعامل وقيل: " وقد تعارف الناس بيع أراضيها والدور التي فيها من غير نكير وهو من أقوى الحجج " (2) ويظهر أن هذا النوع من العرف يرجع في حقيقته إلى مفهوم " السنة التقريرية " (3) .
__________
(1) الغزالي، المستصفي، 2 /111، 112؛ نفس المكان من " مسلم الثبوت " و" فواتح الرحموت "؛ الدوالبي، أصول الفقه، ص 234، 235؛ أبو سنة، العرف والعادة، ص 91 – 94، 124 – 125.
(2) الزيلعي، تبيين الحقائق، 6 /29 ونلاحظ دورًا للعرف يشبه بذلك الدور في مبحث ترجيح الأخبار: فالغزالي يذكر كسبب من أسباب الترجيح بين الخبرين أن تعمل الأمة بموجب أحد الخبرين، انظر: المستصفى: 2 /396.
(3) انظر عنوان: " دور العرف والعادة " في الاجتهاد القياسي " من هذا البحث.(5/2723)
ب- في التفسير الضيق:
المقصود هنا، هو تخصيص العام بالمصلحة التي تتجلى في دائرة العرف والعادة فمثلًا، إن المعنى المفهوم من لفظ الآية الكريمة التي تقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (1) ، يتجه نحو تكليف الأمهات بإرضاع أولادهن دون تفريق بينهم غير أن الإمام مالك يقول: " إذا كانت المرأة شريفة القدر لا يلزمها إرضاع ولدها إن كان يقبل ثدي غيرها للمصلحة العرفية في ذلك حيث جرى العرف لدى أمثالهن على أن تستأجر لأولادهن المراضع " (2) .
ويجدر بنا أن نسترعي الانتباه هنا أنه لا يكون دور العرف في تأييد المعنى الناتج عن لفظ النص وكذلك في تخصيص النص العام (سواء في التفسير اللفظي أو في التفسير بالمعنى) بيت القصيد إلا إذا كان ذلك العرف مقارنًا لورود النص المبحوث فيه، أما إذا كان العرف حادثًا بعد ذلك النص، فإن هذا العرف لا يعتبر ولا يصلح مخصصًا للنص التشريعي باتفاق الفقهاء ولو كان عرفًا عامًّا لأن التخصيص تفسير لمراد الشارع من نصه منذ صدوره عنه، فلا يمكن أن يعتبر النص العام النافذ على عمومه مخصصًّا منذ صدوره بعرف سيحدث فيما بعد، وربما لا يحدث، كما أشار إلى ذلك الأستاذ الجليل مصطفى أحمد الزرقاء (3) ونحن نشاركه الرأي فيما اعترض على كلام ابن عابدين الذي قال: " ... لأن العرف العام يصلح مخصصا للنص " بدون تمييز في هذا الضابط بين العرف القائم عند وردود النص، والحادث بعده (4) ومع وجود أحكام فقهية تدفع الباحث في الوهلة الأولى إلى نتيجة أن العرف الحادث أيضا يلعب دور تخصيص النص العام، فإنه يجب تحقيق القضية في تلك المواطن بدقة والحقيقة أن النصوص في مثل هذه الحالات مخصصة بعللها؛ أما دور العرف الطارئ عبارة عن تسجيل انتفاء تلك العلل إذن، فإنه يتم أولا في مثل هذه الحالات تفسير غائي (interpretation teleogique) - وذلك بتثبيث علة الحكم المصرحة من طرف النص وإما باستنباطها من طرف المجتهد – وبعد ذلك، فلو تثبت الفقيه من انتفاء العلة بدلالة العرف، حكم بأن الحكم انتفى في دائرة حدود انتفاء العلة وفقًا للقاعدة الأصولية التي تقول: " إن الحكم يدور مع علته وينتفي مع عدمه " (5) .
__________
(1) [سورة البقرة: الآية 233] .
(2) الزرقاء (مصطفى أحمد) المدخل الفقهي العام (نقلًا عن " أحكام القرآن " لابن العربي) : 2/ 894.
(3) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /902، سنتناول حالة الاصطدام بين العرف والنص في الباب الثاني.
(4) ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /114، 122، 123.
(5) السرخسي، أصول: 2/ 182.(5/2724)
مثلًا، في عقود المعاوضات، مع عدم صحة شرط لا يقتضيه العقد عند الأحناف الذين أخذوا في ذلك بظاهر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ((قد نهى عن بيع وشرط)) ، فإنه يمكن قبول صحة مثل هذا الشرط عندما يصبح عرفًا لأن علة الحكم القائل بعدم جواز مثل هذا الشرط كانت من أجل إزالة النزاع بين المتعاقدين، فبوجود العرف تكون العلة منتفية (1) بالوفاء أيضًا، يستند في الأصل إلى شرط فاسد ولذا كان هذا النوع من البيوع ممنوعًا قبل أن يصبح عرفًا إلا أنه لما أصبح عرفًا جوزه الفقهاء نتيجة انتفاء العلة المشار إليها آنفًا (2) .
ج- في التفسير الواسع:
من الطبيعي أن يكون كل مادة من مواد القانون في إطار اللغة التي يوضع فيها الحكم المراد تفسيره وفي المتن الذي يتضمن على خاصيات هذه اللغة فتارة تكون ألفاظ هذا المتن مبنية على عادات البيئة التي جاء فيها الخطاب وفي مثل هذه الحالات يجب أن لا يفهم القصد من الحكم من المفهوم الذي استحصل من الألفاظ، وإنما عن طريق العادات التي كانت سببًا في احتواء المتن لهذه الألفاظ.
وكمثال لهذا النوع من التفسير في الحقوق الإسلامية نريد أن نشير هنا إلى الحديث الذي أحرز مكانًا في أدب الفقه الحنفي والذي اشتهر باسم " النص المبتنى على العرف " وهذا الحديث الذي يعرف أيضا بحديث " الربا " يشير إلى أربع مواد (الحنطة والشعير والتمر، والملح) ، مبينا ضرورة التبادل فيها بالكيل كما يشير إلى مادتين أخريين (الذهب والفضة) مبينًا ضرورة التبادل فيهما بالوزن وفي الحقيقة أن أكثر الفقهاء الأحناف قد فسروا الحديث بهذا المعنى، ذاهبين في ذلك إلى إضافة الحكم بشكل مطلق للفظي " الكيل " و"الوزن " اللذين وردا في الحديث؛ فعلى هذا الرأي لا يجوز التبادل في المواد الأربعة المذكورة إلا بالكيل كما لا يجوز التبادل في المادتين الأخريين إلا بالوزن غير أن الإمام أبا يوسف في أثناء تناوله لهذا الحديث وتفسيره له لم يكتف بالتفسير اللفظي المجرد وإنما ذهب إلى كون هذه الألفاظ مبنية على عادات ذلك الوقت تماشيًّا مع قاعدة " النص المبتنى على العرف " متوسعًا بذلك في تفسير الحديث وفي الحقيقة عندما ننظر إلى الحديث بدقة يمكن التوصل إلى أن الحكم المستهدف فيه لم يكن يتعلق بضرورة التبادل " بالوزن " أو " الكيل " وإنما هو عدم وجود التفاضل في التبادل ومنع الربح غير المشروع (3) :
__________
(1) البابرتي، العناية شرح الهداية، مصر، 1306هـ، 6 /76؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2/ 901.
(2) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /901، 902 هذا من ناحية انتفاء النزاع بين الطرفين أما موافقة البيع بالوفاء لمبادئ وقواعد الفقه الإسلامي من كل الجهات أو عدم موافقته لها فقضية أخرى يمكن أن يناقش فيها.
(3) مع أن السرخسي – وهو واحد من أصحاب الرأي المشار إليه آنفًا – يبين أن " المراد في ذلك الحديث المماثلة من حيث القدر" (المبسوط: 12/ 111) ، فإنه يصل أيضًا من خلال ألفاظ الحديث إلى نتيجة تعين النمط في التبادل باستصواب الرسول صلى الله عليه وسلم استنادًا إلى مفهوم، " التقرير " كما يفهم هذا من عبارته التالية: " والأصل أن ما عرف كونه مكيلًا على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم فهو مكيل أبدًا وإن اعتاد الناس بيعه وزنًا وما عرف كونه موزونًا في ذلك الوقت فهو موزون أبدًا، وما لم يعلم كيف كان يعتبر فيه عرف الناس في كل موضع إن تعارفوا فبه الكيل والوزن جميعًا فهو مكيل وموزون، وعن أبي يوسف أن المعتبر في جميع الأشياء العرف لأنه إنما كان مكيلًا في ذلك الوقت أو موزونًا في ذلك الوقت باعتبار العرف لا بنص فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنا نقول تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم على ما تعارفوه في ذلك الشيء بمنزلة النص منه فلا يتغير بالعرف لأن العرف لا يعارض النص، المبسوط 12 /142.(5/2725)
أما سبب استعمال لفظي الكيل والوزن فلم يكن إلا تأثرًا بالعادة الجارية آنذاك (1) .
وهكذا فقد استحسن اجتهاد أبي يوسف هذا من طرف كثير من الفقهاء المتأخرين وأصبح موضوع مدح وثناء (2) كما يلاحظ تأثير اجتهاد أبي يوسف هذا في مسائل مشابهة لها صلة بالعرف (3) .
ونلاحظ أيضا نفس الوضعية إزاء الحديث الذي يقول: ((الوزن وزن أهل مكة والكيل كيل أهل المدينة)) وقد انتقد الخطابي انتقادًا شديدًا الذين اعتبروا وزن أهل مكة وكيل أهل المدينة مقياسين غير متغيرين، وجمدوا روح مضمون الحديث في دائرة الألفاظ (4) ولا شك أن المعلومات المتعلقة بالوضع الاقتصادي والمالي لمكة والمدينة والتفسيرات التي تمت مع أخذ الاعتبار لتلك الأوضاع الاقتصادية والمالية تنور لنا الطريق في فهم مثل هذه الأحاديث (5) .
2-1-2 في الاجتهاد القياسي:
إن دور العرف والعادة في هذا النوع من الاجتهاد يكون في أكثر الأحوال في طابع غير إيجابي (6) لأنه يكون مانعًا لتعدي حكم الأصل إلى الفرع، ولأنه يتجلى كتسجيل لانتفاء المشابهة والمساواة بين الأصل والفرع من ناحية علة الحكم.
__________
(1) انظر: الجصاص، أصول الفقه، مخطوط، ق 276 /ب؛ ابن همام، فتح القدير: 6 /157؛ يقول إسماعيل حقي إيزميرلي في هذا الصدد: " إن أبا يوسف لا يفضل العرف على النص وإنما يفهم النص بمساعدة العرف " في مقاله: " أسس الإجماع والقياس والاستحسان " (باللغة العثمانية) ، جريدة " سبيل الرشاد " المجلد: 12، العدد: 295، ص 154 انظر للروايات الأخرى لهذا الحديث التي تلقي ضوءًا على الحكم المقصود وضعه، ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، مصر، 1975م، 2 /141 وما بعدها.
(2) انظر ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /116؛ رشيد باشا، روح المجلة (باللغة العثمانية) ، استانبول، 1326هـ، 1 /123.
(3) انظر: البابرتي، العناية: 6 /157.
(4) انظر: الخطابي، معالم السنن (شرح سنن أبي داود) ، حلب، 1934م، 3 /60-64.
(5) انظر: المعلومات التي تلقي ضوءًا على الموضوع: الكتاني (محمد عبد الحي) ، التراتيب الإدارية، رباط، 1346هـ، 1 /411- 415؛ الشريف (أحمد إبراهيم) ، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول القاهرة1965 م، ص 374، 375.
(6) إلا أنه ينبغي أن يلاحظ أن السلبية هنا لم تكن تتعلق بالحكم الذي توصل إليه وإنما هي متعلقة بطابع دور العرف.(5/2726)
مثلًا كان أبو حنيفة لا يجوز بيع النحل ودود القز، لأنه كان لا يعتبرهما "مالًا " قياسًا على سائر هوام الأرض كالوزغ والضفادع وكانت العلة في عدم اعتبار مثل هذه الأشياء موضوع عقد هي عدم إمكان الاستفادة منها وبالتالي تضرر أحد المتعاقدين وربح الآخر بطريقة غير مشروعة إلا أن محمد بن الحسن الشيباني لاحظ إمكان الاستفادة منهما واعتبرهما " مالًا " نظرًا لتعامل الناس وجعلها موضوع عقد للبيع والشراء (1) .
والحري بنا أن نبين هنا أن اعتبار بعض العقود كالاستصناع مثلًا في ميدان الاجتهاد قد نتج عن تطبيق منهج ترك القياس بسبب العرف الذي يسمي ذلك عند الحنفية استحسانًا (2) . وعندما يقومون بإيضاح هذا الموضوع يصيرون إلى وضع قاعدة " أن العرف والتعامل يعتبران كدليل لترك القياس وتخصيص النص" (3) . والحال أن هذا النوع من التصريحات وإن كان يشعر بتقدم العرف كمصدر على القياس فإن ذلك يكون مخالفا بالبداهة لترتيب الأدلة في كتب أصول الفقه. ولذا بدل أن يصار إلى إمكان تقديم العرف على جميع أنواع القياس تمسكًا بشكل مطلق بمثل هذه التصريحات فإنه يستحسن التوجه إلى تثبيت معاني مفهوم " القياس" وبالأخص عند الأحناف وفي الحقيقة لما نمعن النظر في الموضوع بدقة نجد أن رجحانية العرف على القياس المتكلم عنها سابقًا لا تتحقق بصفة عامة في إطار " القياس الأصولي " (القياس القانوني gesetresanalogie) وإنما تتحقق في إطار القياس بمعنى " القاعدة العامة " (القياس الحقوقي rechanalogie) أو في إطار مقتضى الدليل العام (4) . أما لو نمعن النظر في البحث عن العامل الحقيقي الدافع إلي وضع مثل هذه القاعدة (أي " أن العرف يترك به القياس ويخصص به العام إذا كان ظنيًّا ") نلاحظ أنهم يقصدون هنا التعامل الجاري منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير والذي يرجع في حقيقته إلي مفهوم الإجماع (5) . وبديهي أن هذا النوع من الإجماع راجع في حقيقته إلى مفهوم " السنة " إذن، في مثل هذه الحالات (كما كان في تجويز عقد الاستصناع) يكون مصير الاستدلال إلى احتمالين:
__________
(1) الموصلي، الاختيار لتعليل المختار: 2 /25؛ أبو سنة، العرف والعادة، ص 103.
(2) انظر: النسفي (أبو البركات حافظ الدين) ، منار الأنوار، استنانبول، 1308هـ، ص 285؛ ابن نجيم، البحر الرائق: 6 /185.
(3) أبو سنة، العرف والعادة، ص 27، 28-101.
(4) شلبي (مصطفى) ، تعليل الأحكام، مصر، 1947م، ص 337 وما بعدها مع أن كلمة " القياس " قد استعملت في كتب الأصول في معنى " القياس الأصولي" غالبا، فإنه يشاهد في عبارات كثيرة أنها قد استعملت أيضا في معنى " القاعدة العامة "، انظر على سبيل المثال: الجصاص، أصول الفقه (مخطوط) ، ق 271/ب، 272/أ: الدبوس، تقويم الأدلة (مخطوط) ، ق 119/أ، 119/ب، 220 /أ، 226/أ؛ البزدوي الأصول: 3 /249؛ السرخسي، أصول: 2 /155 انظر في: "rechsanalogie"، " gesetranalogie" GENY (Francois) ، Methode d,interpretation et sources en Droit prive prive positif، Paris 1954، 1 /105 et s. 11 /131.
(5) انظر: السرخسي، أصول: 2 /203؛ الغزالي، المنخول: ص 376؛ الآمدي، الأحكام: 4 /138؛ أبو زهرة، أصول الفقه، ص 274.(5/2727)
الأول: أن يذكر الفقيه سنة قولية أو فعلية متعلقة بالقضية الحقوقية، فدور العرف هنا عبارة عن تأييد المعنى من اللفظ كما بينا ذلك تحت عنوان " التفسير بالمعنى ".
والثاني: أن يستند الفقيه في استدلاله إلى مجرد التعامل المذكور. ففي هذه الحالة لا يكون المقصود إلا سنة تقريرية أي تعاملًا استصوب النبي صلى الله عليه وسلم ديمومته.
2-1-3 في الاجتهاد الاستصلاحي:
كما سبق أن بينَّا تحت عنوان " مكانة العرف والعادة في التشريع الإسلامي بصفة عامة "، فإن المبادئ العامة للتشريع الإسلامي تقف إزاء العرف – فيما أصبح مألوفًا بين الناس وفي التصرفات التي تركت أثرها العميق في الحياة الاجتماعية – موقفًا إيجابيًّا ما لم يكن مخالفًا لها ومغايرًا لروحها.
وخاصة عندما نأخذ بعين الاعتبار أن الأصوليين يرون بصورة عامة أن حوادث الحياة لا حدود لها، أما النصوص محدودة وكذلك أنهم يتبنون مبدأ عدم ترك أية حادثة حقوقية قط دون حكم (1) .، نجد ميدان الاستفادة من العرف بشكل أوسع في مجال الاجتهاد الاستصلاحي. وبعبارة أخرى، فإن العرف الذي لم يدخل في إطار مفهوم " العرف الفاسد " له مكانة هامة في هذا النوع من الاجتهاد الذي يستند إلى المصالح المرسلة. لأنه يعتبر من الظواهر الرئيسية التي تعطينا أوثق المعلومات حول مصالح الناس (2) .
2-2 دور العرف والعادة في تطبيق القانون:
إن مفهوم " تطبيق القانون " يعني بشكل موجز ومختصر كيفية إقدام القاضي على تناول القواعد القانونية للتطبيق (3) .
__________
(1) الجصاص، أصول الفقه (مخطوط) ، ق. 261/1؛ الجويني، البرهان: 2 /743؛ البخاري، كشف الأسرار: 3 /271؛ ابن رشد، بداية المجتهد، القاهرة، 1952م، 1 /3.
(2) انظر: السرخسي، المبسوط: 12 /45.
(3) يجب التنبه إلى أن المقصود من "القانون" هنا هو القانون بالمعنى العام droit (وهو مجموعة القواعد الملزمة التي تحكم سلوك الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع) ، وليس بالمعنى الخاص Ioi انظر: فرج الصدة، أصول القانون: ص 12. وينبغي أيضًا التفريق هنا بين مفهوم، تطبيق القانون، وبين مفهوم، التطبيقات القانونية.(5/2728)
كما سبق أن أشير فإن تاريخ التشريع الإسلامي قد مر على أدوار لها مميزات خاصة. وهكذا، فإن فقهاء الإسلام الذين جاؤوا عقب أدوار الاجتهاد لما لم ينطلقوا في تحليلاتهم الفقهية من منطلق الاجتهاد أي أنهم لم يتوصلوا إلى الحلول الفقهية عن طريق استخراج الأحكام من نصوصها بالاجتهاد، وإنما توصلوا إليها بتطبيق الأحكام الفقهية الموروثة عن المجتهدين السابقين، وبعبارة أخرى لما شكلت المذاهب الحقوقية المتكونة آنذاك: مصدرًا شكليًّا (formellesource) للحقوق (1) . فإن العرف أخذ مكانته في الحياة الحقوقية بشكل أشمل وأوضح. لأن الأعراف قد تبدلت بتبدل الأزمان كما أصبحت أحكام كثيرة كانت تستند إلى العرف بعيدة عن الإقناع وأداء المطلوب أثناء تطبيق الحقوق.
إن تطبيق القانون – كما بينا سابقًا – يكون بيت القصيد في الأصل سواء بالنسبة إلى أدوار الاجتهاد أو غيرها. ولكنه، - لما تطرقنا إلى أدوار العرف والعادة أثناء عملية الاجتهاد تحت عنوان " دور العرف والعادة في منهجية القانون " – فإن ما سنتناوله الآن تحت عنوان (دور العرف) في تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف يتعلق بشكل أزيد بالأدوار التي تلت أدوار الاجتهاد؛ أما مضمون العنوانين الآخرين فيتعلق سواء بأدوار الاجتهاد أو الأدوار التي تلتها.
2-2-1 في تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف:
إذا أمكن الإدراك باختلاف فهم النصوص لاختلاف الزمن عند استنادها إلى العرف، أدركنا بسهولة بأن الأحكام المستحصلة عن طريق الاجتهاد يمكن أن يطرأ عليها التغير مع مرور الزمن حالة استنادها إلى العرف، كما يمكن فهم دور العرف في تعيين نتيجة هذا التغير؛ لأن أثر العرف فيما توصل إليه المجتهدون من الأحكام حقيقة لا تنكر (2) . وحتى لسبب ترجيح رأي المجتهد الذي يكون مطلعًا على أعراف وتقاليد زمانه بصورة يقينية، نرى فقهاء المذهب الحنفي يرجِّحون في الأحكام المتعلقة بالقضاء مذهب أبي يوسف لما له من تجربة كبيرة واطلاع واسع في حوادث الحياة وفي ميدان العرف والعادة (3) . كما روي عن محمد بن الحسن الشيباني أيضًا بأنه كان يلجأ تارة إلى أصحاب الحرف لأخذ المعلومات عنهم فيما يتعلق بتعاملهم ونوعية تعاقدهم بينهم (4) .
وبناء على ذلك، فإن البقاء متجمدًا بصفة مستمرة على ما نقل من المجتهدين السابقين، يكون – بدون شك – عبارة عن الانحراف عن أسس الإسلام وعن عدم المعرفة بمقاصد المجتهدين (5) . ولذا، فإن المحققين من الفقهاء المتأخرين الذين أدركوا إمكان حصول نتائج مغايرة لأسس الإسلام وأهدافه السامية من تطبيق الأحكام المستندة إلى العرف بعينها فضلًا عن كونها مقنعة، أولوا أهمية خاصة لهذا الموضوع.
__________
(1) ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /128؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 104.
(2) ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /128؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 31.
(3) نفس المكان من الرسالة المذكورة لابن عابدين.
(4) نفس المكان من الرسالة المذكورة لابن عابدين؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 104.
(5) القرافي، أنوار البروق في أنوار الفروق، مصر 1347 هـ، 1 /175-177.(5/2729)
فالقرافي مثلًا، يصرح بأن الإفتاء بالأحكام المستندة إلى العوائد بعد تغير ما مخالف للإجماع ويوصف ذلك بأنه " جهالة في الدين " ممن يقولون: " إننا مقلدون، ليس لنا إلا أن نفتي بما في الكتب من الأحكام المنقولة عن المجتهدين " وبين أن تغيير هذه الأنواع من الأحكام بشكل يوافق للعوائد المستجدة لم يكن إنشاء اجتهاد مناقض لاجتهادات المجتهدين، بل على العكس فهو عمل بقاعدة أجمع على وجودها في الفقه الإسلامي جميع المجتهدين كما أجمعوا على ضرورة السير في ظلها (1) .
وكذلك، فإن ابن عابدين الذي أشار بشكل مفصل إلى أهمية العرف في بناء الأحكام وضرورة رعاية المجتهد للتغيرات الطارئة على الأحكام بالتغيرات الطارئة على الأعراف مع تبدل الأزمان والأحوال في المحيط والمجتمع، أعطى أمثلة عديدة في هذا الميدان، وجعل هذه النقطة سببًا دافعًا إلى تأليف رسالته المتعلقة بالعرف (2) .
إننا نوافق الأستاذ الزرقاء مبدئيًّا في ما ذهب إليه – بعد أن تطرق إلى قضية " تبدل الأحكام بتبدل الأزمان " بشكل واسع – من عدم صحة اعتبار هذا الموضوع من صميم نظرية العرف، بل، ضرورة تناولها في إطار نظرية المصالح المرسلة (3) . إلا أننا في هذا الباب لا نتناول العرف كنظرية وإنما من أجل بيان دوره ومكانته في أدب الفقه الإسلامي، ولذا أحسسنا بالحاجة إلى الإشارة إلى دور العرف في تبدل وتغير الأحكام الاجتهادية. في الحقيقة أن التغير الملحوظ في الأحكام بتغير الأزمان لا يمكن إرجاعه كليًّا إلى تغير العرف، وإن كان تأثير التغيرات في العرف في هذا الميدان لا يمكن إنكاره أيضًا.
سنعطي مثالًا لهذا النوع من أدوار العرف قضية قبض المهر: إن القاعدة الفقهية تقضي بأن الحاكم يجب عليه أن يستمع إلى كل دعوى ترفع إليه يقضي للمدعي أو عليه بحسب ما يثبت لديه، ولكن الفقهاء اعتبروا أن تزف الزوجة قرينة على قبضها – على الأقل جزءًا من – معجل مهرها استنادًا إلى العادة المطردة في ذلك، وحكموا بعدم استماع القاضي دعواها وبردها دون أن يسأل عنها الزوج إذا ادعت أن زوجها لم يدفع إليها شيئا من معدل مهرها. لأن دعواها هذه تعتبر مما يكذبه ظاهر الحال بعد الدخول إذا أخذت بعين الاعتبار العادة القائمة في ذلك فلا تسمع (4) . إلا أن تلك العادة قد طرأ عليها التغيير بمرور الزمن وأصبحت كثير من النساء قد يزففن دون قبض شيء من الصداق تيسيرًا على الزوج وذهب الفقهاء المتأخرون إلى تغير هذا الحكم المستند إلى العادة، كما أيده الشاطبي بقوله: " وكذلك الحكم بعد الدخول بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناء على العادة، وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضًا بناء على نسخ تلك العادة، ليس باختلاف في حكم (5) . وكذلك يقول القرافي بعد الإشارة إلى العادة القائمة في عصر مالك: " واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فيصبح القول قول المرأة مع يمينها في عدم القبض لاختلاف العوائد (6) .
__________
(1) القرافي، الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، باب، 1967م، في جواب السؤال: 39 ص 231. انظر التعبيرات القريبة منها: الطرابلسي، معين الحكام، مصر، 1357هـ، ص 152-160.
(2) ابن عابدين، رسالة العرف السابقة، 2 /123-126.
(3) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /319 - 335.
(4) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /210، نقلًا عن ابن عابدين، رد المحتار: 3 /183؛ وتنقيح الفتاوي الحامدية له أيضًا: 1 /20.
(5) الشاطبي، المرافقات: 2 /286. ويلاحظ هنا أن الشاطبي بنصه يكتبه، ليس باختلاف في الحكم، ومعنى: ليس باختلاف في الخطاب، وذلك في إطار المفاهيم الأصولية، أما الحكم في معنى النتيجة القانونية التي ستطبق على الواقعة القانونية، فالشاطبي أيضًا يشير إلى تغيره لكلمته هذه، ولذلك ذكرناه في صدد التأييد.
(6) القرافي، الأحكام، في جواب السؤال: 39.(5/2730)
2-2-2- في حالات وجود سلطة التقدير للحاكم:
لم تكن القواعد القانونية دائمًا في مستوى واحد من حيث إفادتها القطعية ففي بعض الحالات من أجل توفير السهولة في التطبيق أو من أجل ملاحظات العدالة (quite) وما شابهها، أعطيت للقاضي سلطة التقدير ويقال في نظم الحقوق المكتوبة لهذه المواقف " الفراغات الداخلية " (luchan intra legem) ، فالحاكم يقوم بملء هذه الفراغات اعتمادًا على السلطة التي منحها له القانون وفي إطار حدودها فقد أعطيت سلطة التقدير للحاكم تارة في الواقعة القانونية وتارة في النتيجة، منحها له القانون وفي إطار حدودها القانونية وتارة أخرى في كلتيهما (1) .
ومن الممكن في الفقه الإسلامي أيضًا أن يكون المجتهد قد وجد نفسه في نفس الموقف تجاه النص وكذلك القاضي تجاه تطبيق الحكم المستنبط من النصوص.
أما العرف والعادة فدورهما في الحالات التي تتاح فيها فرصة استعماله سلطة التقدير عبارة عن إنارة الطريق له أثناء استعماله لهذه السلطة وبعبارة أخرى، فإنهما يلعبان دورًا مساعدًا في هذا الميدان. ونحن سنكتفي هنا بإعطاء بعض الأمثلة لبيان دور العرف والعادة في المواقف الثلاثة المذكورة:
مثلًا، إن القرآن الكريم اشترط العدالة في الشهود (2) . فهذه هي النتيجة القانونية المبينة بالنص وبناء على هذا، تقبل شهادة من يتصف بالعدالة وترد شهادة من لم يتصف بها. غير أن تقدير أنواع الأفعال التي تطيح من قيمة الفرد في المجتمع والخصوصات التي تزيل وصف العدالة يكون راجعًا إلى الحاكم، أي أن سلطة تثبيت الواقعة القانونية متروكة له. فأعراف وتقاليد المجتمع وكذلك الملاحظات العامة المنبثقة منه تضيء الطريق للحاكم أثناء استعماله لهذه السلطة (3) ، كما يبين ذلك جيدًا المثال الذي أورده الشاطبي (4) .
__________
(1) DESCHENAUX (Henri) , Traite de Droit civil. Suise Fribourg, 1962, p.92 ets.
(2) سورة الطلاق: الآية 2
(3) أبو سنة، العرف والعادة: ص 46. ويجدر الإشارة إلى أنه لا يعترف بدور العرف والعادة في تثبيت اتصاف أو عدم اتصاف الرواة بوصف العدالة) وله إطار خاص في علم مصطلح الحديث) في رواية أخبار الآحاد، انظر: صديق حسن خان، حصول المأمول من علم الأصول، استانبول، 1296 هـ، ص 57، 58
(4) انظر: الشاطبي، الموافقات: 2 /284(5/2731)
وكذلك، فإن القرآن الكريم لم يبين مقدار النفقة التي تعطى بصفة إجبارية للأزواج من طرف الزوج، بل اكتفى بالحكم على تعيين ذلك المقدار في دائرة " المعارف " (1) . حيث أرجع أكثر الفقهاء تعيين مقدار إلى العرف والعادة (2) .
وكذلك أيضا قبول حق خيار المجلس لكل من المتبايعين ما لم يتفرقا استنادًا إلى الحديث المعروف، كما ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي حيث قبل خيار المجلس قبل افتراق المتعاقدين، أما بعد ذلك فلم يقبله. وهذه هي النتيجة القانونية فالحاكم سيستفيد من العرف والعادة لتثبيت الواقعة القانونية (أي لتثبيت حصول الافتراق أو عدم حصوله) (3) .
ويمكننا أن نعطي مثالا للموقف الثاني أي ترك تعيين النتيجة القانونية لتقدير الحاكم بعد تحديد الواقعة القانونية، ترك بعض العقوبات التعزيرية لتقدير الحاكم بعد أن عينت الجرائم التي تقتضيها.
أما موقف تعيين الواقعة القانونية من جهة وتعيين النتيجة القانونية من جهة أخرى، فإنه من الممكن أن نذكر كمثال له حالات ترك تعيين الجرائم التعزيرية من جهة وتعيين العقوبات التعزيرية من جهة أخرى مفوضة لآراء الحكام فالحاكم سيستفيد من الأعراف والعادات عند استعمال سلطة التقدير في مثل هذه الحالات ففي جريمة التعدي على الكرامة بالشتم والإهانة مثلًا، إنما يعتبر من الكلام جرمًا يستحق قائله العقوبة التعزيرية ما يكون في عرف الناس شتمًا وإهانة والعقوبة التعزيرية نفسها أيضًا، إنما تكون شرعًا بالقدر الذي يعتبر كافيًا للقمع في نظر العقلاء وعرفهم بحسب درجة الجرم (4) .
__________
(1) سورة البقرة: الآية 233. فلمثل هذه الحالات يستعمل الجصاص مصطلح " الاستحسان " إلا أن المقصود من هذا الاستحسان عنده هو الاستحسان المتفق عليه لدى الجميع لا المختلف فيه، انظر: أصول الفقه له، (مخطوط) ق. 294/أ، 294/ب؛ انظر أيضًا: السرخسي، أصول: 2 /200، 207؛ الآمدي، الأحكام: 4 /136؛ البخاري، كشف الأسرار: 4 /13. ويمكن أن نقول في هذا الموضوع: إذا فهمت كلمة " المعروف " هنا وفي الأماكن المماثلة بمعنى "العرف والعادة " يكون النص ذاته قد أحال الحكم على العرف والعادة مباشرة، أما لو فهمت بمعنى " المقاييس المعقولة حسب الحال والشرائط " فعند ذلك تكون سلطة التقدير للحاكم بيت القصيد وفي هذه الحالة يكون العرف قد لعب دورًا في إنارة الطريق للحاكم أثناء استعمال سلطة التقدير
(2) أبو سنة، العرف والعادة: ص 47
(3) أبو سنة، العرف والعادة: ص 47
(4) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /848؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 45(5/2732)
2-2-3 في تفسير التصرفات القانونية:
من المعروف أن التصرفات القانونية (وبالتالي التعبير عن الإرادة عند القيام بتلك التصرفات) تشكل سببًا هامًّا سواء لكسب الحقوق أو انقضائها (1) فنحن هنا سنعمل من أجل الإشارة إلى دور العرف والعادة في تفسير التعبير عن الإرادة بشكل موجز.
إذا كانت الألفاظ قد استعملت في غير معانيها الحقيقية بموجب العرف القائم في ذلك ينصرف الكلام إلى المعاني المقصودة بالعرف حين التكلم وإن خالفت المعاني الحقيقية التي وضع لها اللفظ في أصل اللغة فلو صرف كلام المتكلم إلى حقيقته اللغوية دون العرفية التي هي معناه في عرف المتكلم لترتب عليه إلزام المتكلم في تصرفاته القولية بما لا يعنيه هو ولا يفهمه الناس من كلامه (2) ، وعن هذا أثبت الفقهاء القاعدة القائلة " الحقيقة تترك بدلالة العادة " والتي احتلت مكانًا بين القواعد الكلية في مجلة الأحكام العدلية (3) ولهذا النوع من العرف (العرف اللفظي) أهمية كبيرة في المسائل المتعلقة بالتصرفات القولية مثل الإقرار والطلاق والوقف ونحوها (4) .
هذا في حالة ما إذا كان التعبير عن الإرادة بعبارة مصرحة، أما إذا كان التعبير عن الإرادة بصورة ضمنية فدور العرف (العرف العملي) يتجلى في تفسيره أكثر وضوحًا وفي إمكان الباحث أن يجد عبارات كثيرة مثل (الشرط العرفي كالشرط اللفظي) و " المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا " و " التعيين بالعرف كالتعيين بالنص " و " العادة محكمة " مع أمثلة عديدة لهذا النوع من أدوار العرف في المؤلفات الفقهية الإسلامية (5) وتسمى هذه العادات في النظريات القانونية الحديثة " العادات الاتفاقية " فمثلا إن كيفية دفع أجرة المأجور يتبع فيها شرط العاقدين، ولكنهما إذا لم يشترطا شيئا كان كيفية الدفع عندئذٍ تخضع للعرف في التعجيل أو التأجيل أو التقسيط (6) .
ويجدر بنا أن ننبه إلى أن معظم العبارات الواردة في المواطن التي يعلم فيها الكاتبون من أجل إبراز أهمية العرف والعادة في الفقه الإسلامي لا تتعلق إلا بدور العادات في إنارة الطريق أمام من يقوم بتفسير التصرفات القانونية، وبالتالي إلى أن سهمًا هامًّا من المكانة التي يحرزها العرف في أدب الفقه الإسلامي راجع إلى هذا النوع من العرف.
__________
(1) انظر مثلًا: عبد الباقي (عبد الفتاح) ، نظرية الحق، القاهرة، 1965 م، ص 255 وما بعدها؛ فرج الصدة، أصول القانون: ص 548 وما بعدها.
(2) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /849
(3) المادة: 40.
(4) انظر في هذا الموضوع: السرخسي، أصول: 1 /90؛ ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، بيروت 1973، 3 /46؛ ابن نجيم الأشباه والنظائر، استانبول، 1290هـ، 1 /130؛ وشروح المجلة تحت المادة: 40
(5) انظر: ابن سلمون، العقد المنظم للحكام، القاهرة، 1301 هـ، 1 /33، 34، والمواد: 36، 37، 43، 44، 45 من مجلة الأحكام العدلية.
(6) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /864 انظر لأمثلة عديدة في هذا الموضوع: ابن فرحون، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، القاهرة 1301 هـ، 2 /63، ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /139؛ كوزل حصارى، منافع الدقائق شرح مجامع الحقائق، استانبول، 1308هـ، ص 324 وشروح المجلة تحت المواد المذكورة في الهامش السابق.(5/2733)
2- 3 دور العرف والعادة في مجال قانون المرافعات (في تقدير أدلة الطرفين:
يلاحظ الباحث أن سهمًا هامًّا آخر من المكانة التي يحرزها العرف في أدب الفقه الإسلامي يتعلق بدور العادات أثناء تقدير وتقويم القاضي أدلة الطرفين المتنازعين والحقيقة أن كثيرًا من المواطن التي يصار فيها إلى استعمال اصطلاح " تحكيم العادة " لا تتعلق إلا بمضامين مفاهيم " تحكيم الحال أو ظاهر الحال " و " القرينة " ونحوهما.
كما يمكن أن نذكر بأن الفقهاء كانوا قد اعتبروا أن زف المرأة قرينة على قبضها –على الأقل – بعض صداقها مستندين إلى العادة القائمة في ذلك، فإنه يمكن للباحث أن يجد في كثير من مسائل " القول لمن؟ " قد استند الفقهاء إلى العرف في الترجيح القضائي بين مزاعم المتداعين، فعلى سبيل المثال فإن الزوجين إذا اختلفا في بعض أمتعة البيت أنها ملك الرجل أو المرأة ولا بينة لأحدهما يترجح قول الرجل بيمينه فيما يستعمله الرجال عادة ويترجح كذلك قول المرأة فيما يستعمله النساء، وذلك بقرينة عادة الاستعمال وعرفه (1) .
__________
(1) انظر: ابن فرحون، تبصرة الحكام: 2 /63، 64؛ طرابلسي، معين الحكام: ص 161؛ ابن عابدين، رسالة العرف السابقة: 2 /133؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /865، 916(5/2734)
الباب الثاني
نظرة تحليلية إلى محاولات تطوير نظرية للعرف
في الفقه الإسلامي
بصفة عامة:
حاولنا في الباب الأول من هذا البحث تعيين مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي وتبين لنا من خلال دراستنا أن الأصوليين لم يتناولوا العرف والعادة كدليل شرعي أثناء دراستهم للأدلة الشرعية (1) ، وبالتالي لم نعثر على محاولة لوضع نظرية للعرف بين الأعمال العلمية للفقهاء المسلمين حتى العصور الأخيرة بغض النظر عما ورد في بعض كتب القواعد من المعلومات حول العرف والعادة.
ومع ذلك فإننا – إذا اعتبرنا مختلف أدوار العرف – نجده يحظى بأهمية كبيرة في كتب فروع الفقه وخاصة نلاحظ أن للعرف تأثيرًا هامًّا في حلول كثيرة مما توصل إليها الفقهاء ولو لم يعبروا نظريًّا عن هذه الأهمية فلذا شعر عدد من العلماء في الأدوار الأخيرة وخاصة في عصرنا الحاضر أمثال العلامة ابن عابدين، والشيخ أبي سنة، والشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، والأستاذ عمر عبد الله، والدكتور عبد العزيز الخياط، والدكتور عبد الرحمن الصابوني (2) والدكتور الجيدي، والدكتور محمد شنار، شعروا بحاجة إلى تطوير نظرية للعرف في الفقه الإسلامي ويلاحظ أن بعض هؤلاء المؤلفين ينطلقون من منطلق الدراسات الغربية ولو قسميًّا.
__________
(1) ليس من السهل أن لا يستغرب كلام الدكتور الجيدي، إذ يقول: " وإذا كان هناك خلافًا بين الأصوليين فليس في أصل اعتبار العرف وإنما في مدى التوسع في الأخذ به أو التضييق " (العرف والعمل في المذهب المالكي ومفهومهما لدى علماء المغرب الرباط، 1984 م، ص 90) ، وذلك بعد دراسته الواسعة للعرف " كمصدر للتشريع" – مقارنًا بين المذاهب – في رسالته الدكتوراه
(2) مع أننا اطلعنا على اسم كتاب في هذا الموضوع للدكتور عبد الرحمن الصابوني وهو " العرف والعادة وأثرهما في التشريع الإسلامي " (القاهرة، 1961 م) ، فإننا لم نعثر عليه رغم بحثنا الطويل عنه وكذلك عثرنا على وعد لتناول العرف تحت عنوان " العرف كمصدر للتشريع في التشريع الإسلامي والقانون الوضعي " في كتاب " المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي " (دمشق، 1985م ص 584، هامش رقم 1 و 587 هامش رقم 1) ، للدكتور فتحي الدريني إلا أنه لم يمكن لنا أن نتأكد من ظهور المجلد الثاني لهذا الكتاب والجدير بالذكر أن المؤلف يتناول موضوع العرف باختصار شديد بمناسبة " أدلة التخصيص ومنها العرف ".(5/2735)
بيد أن العرف، نظرًا لاحتلاله مكانًا خاصًّا بين المصادر الشكلية للحقوق في الفقه الغربي، لا يشعر المؤلفون بحاجة إلى مناقشات واسعة حول وصف المصدرية للعرف، بل يتطرقون إلى مسائل فلسفية مثل منشأ القواعد العرفية وقوتها الإلزامية ويبحثون في أركان العرف وشروط اعتباره انطلاقًا من كون العرف مصدرًا من مصادر الحقوق وبطبيعة الحال، فإن العرف الذي يتسم بسمة القاعدة القانونية يشكل المحور الأساسي في هذه النظرية وإلى جانب ذلك تم تناول الموضوعات الجانبية لتلك النظرية مما لم يرتقِ إلى هذه المرتبة من العادات الاتفاقية والعادات التي تلعب الدور المساعد لتفسير القانون أو أحال عليها القانون في بعض المسائل.
أما في الفقه الإسلامي، فيبدو لنا أن عدم اعتبار العرف فيه مصدرًا مستقلًّا بصورة صريحة يشكل العامل الأساسي الذي يتعسر معه وضع نظرية خاصة به، فالمؤلفون الذين أشرنا إليهم آنفًا رغم علو قدرهم واستفادتنا منهم كثيرًا (ولا سيما الشيخين الجليلين أبي سنة والزرقاء) ، تناولوا العرف في أغلب الأحيان دون أن ينتبهوا إلى هذه النقطة وما للعرف من أدوار مختلفة، فلم يحالفهم الحظ في عرض فكرة واضحة عن مكانة العرف وأدواره المختلفة في الفقه الإسلامي.
وبما أننا بينَّا مكانة مفهوم العرف والعادة في أدب الفقه الإسلامي ومختلف أدوار العرف في الباب الأول من هذا البحث سنكتفي بتحليل عناصر هذه النظرية وبتقييم عام للعرف في هذا الباب.
2- العادة والعرف في اللغة والاصطلاح:
2-1- العادة لغة واصطلاحًا:
العادة في اللغة اسم من أصل العود ويفيد تكرير الفعل والانفعال والمعاودة عليه –دون بذل جهد خاص – حتى يصير تعاطيه سهلًا كالطبع، ولذلك قيل: " إن العادة طبيعة ثانية (1) .
أما في الاصطلاح فقد عرفها ابن أمير الحاج بأنها " الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية " (2) فهذا التعريف يعطي مفهومًا شاملًا واسع الحدود للعادة في الاصطلاح، لأن لفظ " الأمر " هنا يشمل كل حادث يتكرر ولبيان هذا الشمول يمكن الإشارة إلى الحالات التالية كما ورد في كتابي كل من الشيخ أبي سنة والشيخ الزرقاء (3) .
__________
(1) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة 1366هـ - 1369 هـ، مادة: العود ": 4 /182؛ الأصبهاني، المفردات في غريب القرآن، مصر، 1324هـ، نفس المادة ص 358؛ ابن منظور لسان العرب، بيروت، 1955م – 1956م، 3 /315- 323
(2) ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير شرح التحرير لابن همام، بولاق، 1316هـ - 1337 هـ، 1 /282.
(3) أبو سنة، العرف والعادة: ص 10-11، الزرقاء، المدخل الفقهي، دمشق، 1968م، 2 /839- 840 تجب الإشارة إلى أن إحالاتنا على كتاب الزرقاء في هذا الباب من بحثنا ستكون على أساس الطبعة المذكورة هنا وذلك خلافًا لما جرينا عليه في الباب الأول، انظر: الهامش رقم 14 من الباب الأول لهذا البحث) .(5/2736)
(أ) ما يعتاده الفرد من الناس في شؤونه الخاصة: كعادته في نومه وأكله وحديثه.
(ب) ما يعتاده الجماعات والجماهير، مما ينشأ في الأصل عن اتجاه عقلي وتفكيره حسنًا كان أم قبيحًا. ويمكن قبول هذا النوع من العادة مرادفًا للعرف الذي سيأتي بيانه.
(ج) كل حالة متكررة – بصفة عامة – سواء أكانت:
أ- ناشئة عن سبب طبيعي، كإسراع بلوغ الأشخاص ونضج الثمار في الأقاليم الحارة وإبطائه في الباردة، وكثرة الأمطار في بعض الأقاليم صيفا، وفي بعضها شتاءً بحسب الموقع الجغرافي والعوامل الطبيعية.
ب- أو ناشئة الأهواء والشهوات وفساد الأخلاق، كالتقاعس عن فعل الخيرات، وتفشي الكذب والفسق والظلم.
ج- أو ناشئة عن حادث خاص، كالتغير في اللغة الناشئ من اختلاط الأقوام بعضهم مع البعض.
كما يلاحظ فإن تعريف ابن أمير الحاج يهدف إلى أن يتناول في شموله جميع الحالات المتكررة سواء أكانت متعلقة بالإنسان أم لا، وسواء أكانت ناشئة عن اتجاه عقلي وتفكير أم لا ونشاهد أن الشاطبي أيضا يسلك نفس الطريقة في فهم اصطلاح العادة وأنه يقسم العادات إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة (1) أما السيد الشريف الجرجاني فهو يقصر معنى العادة على الحالات التي يشكل موضوعها سلوك الإنسان والتي تستند أصلًا إلى المحاكمة العقلية فيعرفها بقوله: " ما استمر الناس عليه على حكم المعقول – في مكان آخر العقول – وعادوا إليه مرة بعد أخرى (2) إلا أن المفهوم الأول للعادة يعكس بصورة أنسب استعمالها) وكذلك استعمال العرف في كثير من الأحيان على أن يكون مرادفًا للعادة في كتب أصول الفقه (3) ، وإن كان المفهوم الثاني للعادة يمتاز بخاصية تناوله لها كقاعدة من قواعد السلوك الاجتماعي.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات: 2 /279 وما بعدها.
(2) الجرجاني (سيد شريف) ، التعريفات مع المتممات، استانبول 1275هـ، ص 60
(3) انظر: الهامش رقم 18 من الباب الأول(5/2737)
2-2- العرف لغة واصطلاحًا:
يطلق العرف لغة على الشيء المعروف المألوف المستحسن، وهناك معانٍ كثيرة للعرف منها: ضد النكر (كل ما تعرفه النفس من الخير وتأنس به وتطمئن إليه) ، كل عالٍ مرتفع (ومن ثم أطلقوا على أوائل الرياح وأعاليها " أعرافًا ") ، الجود، شعر عنق الفرس، عرف الديك، موج البحر، اسم من الاعتراف (يقال: له علي ألف عرفًا أي اعترافًا) يفيد لفظ العرف التتابع أيضا، يقال مثلًا: طار القطا عرفًا أي طار بعضها خلف بعض (1) .
أما في اصطلاح الفقهاء فالأمر الملاحظ في هذا الموضوع هو أنهم استعملوا العرف على مدى عصور طويلة دون تحديد مفهومه بتعريف اصطلاحي وأن أول تعريف للعرف، والعادة أمكن التوصل إليه في أدب الفقه الإسلامي هو ما جاء في كتاب المستصفى المتعلق بفروع الفقه للفقيه الحنفي أبي بركات حافظ الدين النسفي (م 710 /1310) ، وذلك على خلاف ما ذكره عدد كبير من الباحثين الأجلاء أمثال المرحوم الشيخ أبي زهرة، والأساتذة محمد سلام مدكور – رحمه الله – ومصطفى أحمد الزرقاء، وعبد العزيز الخياط ووهبة الزحيلي – حفظهم الله – من أن هذا التعريف مقتبس من كتاب المستصفى، للغزالي كما أشرنا إلى ذلك في الباب الأول (2) ، فالتعريف الذي أتى به النسفي للعرف ونقله عنه الكثيرون كما يلي: " ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول " (3) ويعثر على نفس التعريف تقريبا عند الجرجاني إذ يقول: " العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبائع بالقبول " (4) هناك ملاحظات حول هذا التعريف مثل كونه ناقصًا لأنه يرد العرف إلى قبول الطباع ويعتمد على شهادة العقول بينما لا يمكن أن يعد كل ما قبلته الطباع عرفًا كما يحتاج إلى جهة تمييز بين السليم منها وغير السليم (5) ولهذا يجب أن يزاد في التعريف عنصر جوهري وهو عدم مخالفته للنص الشرعي (6) .
__________
(1) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة " العرف "، 4 /281؛ ابن منظور، لسان العرب، نفس المادة: 9 /237- 241؛ الفيروز آبادى، القاموس المحيط، نفس المادة:3 /173، 174
(2) انظر الهوامش: رقم 13، 14، 15، 16 من الباب الأول، انظر أيضًا: الزحيلي (وهبة) ، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي، دمشق، 1981م – 1982م الجزء الأول (المصادر الاجتهادية) ، ص 379
(3) اعتمدنا في بحثنا هذا على تثبيت لأبي سنة من أن أول تعريف وصل إلينا للعرف هو للنسفي، وبنينا تقويماتنا للموضوع على هذا الأساس، علمًا بأننا أشرنا إلى وجود بعض التوضيحات للعرف وتعريف له قريب من تعريف النسفي، في كتب الأقدمين انظر: الباب الأول، الهامش رقم 18.
(4) الجرجاني، التعريفات، ص 60.
(5) انظر مع الرد عليها: أبو سنه، العرف والعادة: ص 8، 9.
(6) الجيدي، العرف والعمل: ص 33، 34.(5/2738)
ولم يجد الأستاذ الزرقاء هذا التعريف وكذلك التعاريف الأخرى المأثورة واضحة ولا وافية (1) ، وقال إنه يحتاج إلى شرح طويل، ثم وضع تعريفا جديدًا مصرحًا بأنه مستوحى من التعريف والشرائط التي ذكرها الفقهاء والأصوليون وهو: " عادة جمهور قوم في قول أو فعل " وفي صدد التوضيحات التحليلية لهذا التعريف يبين أن العرف نوع من العادة وأن تحقق العرف يعتمد على نصاب عددي من الناس لا بد منه (محتزرًا عن العادة الفردية أو العادة المشتركة – وهي التي تساوي معتادوها وغيرهم عددًا -) وأن العرف ينقسم إلى لفظي وعملي وأن العادة لا تسمى عرفًا إلا في الأمور المنبعثة عن التفكير والاختبار لأن عادة الجماعة من الناس في قول أو فعل لا تكون إلا عن عقل واختيار وإلا كانت حادثًا طبيعيًّا مثل إسراع بلوغ الأشخاص في الأقاليم الحارة وبطئه في الأقاليم الباردة (2) .
إلا أننا نلاحظ أن تعريف النسفي أفضل من ناحية تحديد معنى العرف حيث يتضمن كلًّا من الركنين المادي والمعنوي – كما سنرى ذلك في أركان العرف -.
2-3- النسبة بين العادة والعرف:
كما أشرنا آنفًا يرى الأستاذ الزرقاء أن العادة أعم من العرف لأنها تشمل العادة الناشئة عن عامل طبيعي، والعادة الفردية، وعادة الجمهور التي هي العرف؛ فتكون النسبة بين العادة والعرف – في نظره – هي العموم والخصوص (3) ويوافق هذا الرأي آراء عدد كبير من الفقهاء أمثال القرافي (664 / 1284) (4) ، وابن فرحون (799 /1397) (5) ، والطرابلسي (841 /1473) (6) ، وابن أمير الحاج (879 /1474) (7) في هذه المسألة.
ومن جهة أخرى ذهب بعض العلماء أمثال فخر الإسلام البزدوي (482 /1089) ، وابن الهمام (861 /1457) (8) ، وكامل ميراث (9) إلى أن النسبة بين العادة والعرف هي العموم والخصوص المطلق ولكن العرف هو الأعم على خلاف الرأي الأول.
هناك رأي آخر يقول: إن العادة تختص بالأفعال والعرف بالأقوال (10) ، إلا أن كلًّا من لفظي العرف والعادة يستعمل أحدهما بدلًا من الآخر في غالب الأحيان أي أنهما بمعنى واحد دون تفرقة بينهما (11) .
مع أنه يمكن الذهاب إلى تفريق بين هذين اللفظين، انطلاقًا من معانيهما اللغوية مثل القول بأن العرف يسوده طابع العلم والمعرفة والفهم، وبأن العادة تسودها أوصاف العمل والحركة والحادثة (12) ، ومثل القول بأن العرف يعكس " الشعور المشترك للمجتمع "، فإن شيوع استعمال أحدهما مكان الآخر يستسيغ اعتبارهما مفهومين مترادفين (13) .
__________
(1) الزرقاء، المدخل الفقهي: 1 /131 هامش رقم 1.
(2) المرجع نفسه: 2 /840- 843.
(3) الزرقاء، المرجع نفسه: 2 /843، 844.
(4) القرافي، شرح تنقيح الفصول في الأصول، مصر، 1306هـ، ص 200.
(5) ابن فرحون، تبصرة الحكام: 2 /57.
(6) الطرابلسي، معين الحكام: ص 125.
(7) ابن أمير الحاج، التقرير والتحبير: 1 /282.
(8) أبو سنة، العرف والعادة: ص 11، 13.
(9) ترجمة تجريد الصريح: MIRAS (Kamil) , Sahih- I Fuhari Muhtasari Tercrid – I Sarih Tercumesi، Ankara، 1956, 5/117 N1
(10) الزبيدي (السيد محمد مرتضى) ، تاج العروس، مصر، 1306 هـ، 2 /439، نقلًا عن صاحب: التلويح "
(11) رشيد باشا، روح المجلة: 1 /118؛ أبو زهرة، مالك: ص 420 وأبو حنيفة ص 350 هامش 1.
(12) (فلسفة التشريع الإسلامي / مقدمة على ترجمة أصول الفقه لخلاف) ATAY (Huseyin) ، Iislam Hukukunaa orf، Izmir, p 106- 107 (محمد شنار، العرف في الفقه الإسلامي)
(13) LEVY (Reuben) ، The Social Structure of Idlam, Cambridge، 1957, p248, ,N1.(5/2739)
وخلاصة القول، فإن لفظي العرف والعادة ثم استعمالها في أدب الفقه الإسلامي كمفهومين لم تعين بشكل واضح وجلي حدودهما في ميدان التشريع ومترادفين غالبًا كما أشرنا إلى ذلك في الباب الأول وسنعود إلى تحليل وتقويم الموضوع فيما بعد.
هذا وقد ورد استعمال لفظي " السنة " و" الشرعة " في معنى العادة في صدر الإسلام (1) .
أما فقهاء القانون بين " العرف " الذي يلعب دور مصدر من مصادر الحقوق مباشرة أي دور القاعدة القانونية وبين " العادة " التي لم تصل في إلزاميتها إلى درجة العرف (العادة الاتفاقية (usage conventionnel) بفروق، منها:
(أ) أن العرف يلزم الطرفين ولو كانا يجهلانه بخلاف العادة فإنها لا تلزمها إلا إذا قصدا الإحالة عليها صراحة أو دلالة.
(ب) من يريد التمسك بالعادة فعليه أن يثبتها، أما العرف فلا محل لإثباته لأن معرفة العرف كمعرفة القانون المفروض من مهمة الحاكم.
(ج) للحكام أن يراعي العرف رأسًا، بخلاف العادة فإنه يجب على صاحب القضية أن يتمسك بها.
(د) أن العرف يجب على الحاكم مراعاته حتما، وإلا تعرض حكمه لرقابة من طرف سلطة أعلى منه، بخلاف العادة التي لا تخرج عن أن تكون واقعة يكيف الحاكم معها، ولا تثير لديه أكبر اهتمام (2) .
إلا أننا لا نتناول العرف في بحثنا هذا كقاعدة قانونية فحسب، وإنما نتطرق إلى العرف والعادة من حيث مكانتها في أدب الفقه الإسلامي دون تفريق بينها باعتبار المضمون مبدئيًّا كما أشرنا إلى ذلك في الباب الأول أيضا (القسم الأخير من 1-2) .
__________
(1) العيني (بدر الدين) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، مصر ,1348هـ: 12/16SCHACHT (joseph) ، ‘Sharia “، Encyclopedie De L Islam، Leyde (hollande) ، 1934، IV/335.
(2) انظر المراجع المذكورة في الهامش رقم 1، من الباب الأول وأيضًا الجيدي، العرف والعمل، ص 38.(5/2740)
3- أنواع العرف والعادة:
يمكن تقسيم العرف إلى عدة أقسام باعتبارات مختلفة هذه هي أهم تلك التقاسيم:
1- من حيث اعتباره الشرعي وعدم اعتباره:
(أ) العرف الصحيح.
(ب) العرف الفاسد.
2- من حيث المحيط الذي فشا فيه:
(أ) العرف العام.
(ب) العرف الخاص.
3- من حيث ماهيته:
(أ) العرف اللفظي.
(ب) العرف العملي.
وقبل الشروع في بيان أنواع العرف يجدر بنا أن نشير إلى أن العرف يشمل المواقف السلبية، كما يشمل المواقف الإيجابية ويمكن أن نعطي مثالًا للمواقف السلبية عرف الناس في تسامحهم فيما يقع خارج البساتين مثلًا من ثمار الأغصان التي تتدلى خارج حدودها، فيجوز التقاطها دون إذن مالكها ولا يعتبر ذلك افتئاتًا على مبدأ حرمة الأموال (1) .
3-1- أنواع العرف من حيث اعتباره الشرعي:
3-1-1- العرف الصحيح:
العرف الصحيح هو العرف الذي لا يكون فيه تعطيل لنص ثابت أو لأصل قطعي في الشريعة، فهذا النوع معتبر في نظر الشرع وله سلطان محترم.
3-1-2- العرف الفاسد:
العرف الفاسد هو العرف الذي يكون فيه تعطيل لنص ثابت أو لأصل قطعي في الشريعة فإن كان العرف مناقضًا لما جاءت به الشريعة من أصول ومبادئ ولأحكامها الثابتة التي لا تتغير لم يكن عندئذٍ له اعتبار شرعي لأن نص الشارع مقدم على العرف (2) .
إلا أن أحوال تعارض العرف مع الأدلة الأخرى تختلف، ولا يترتب على العرف أحيانا التعطيل المذكور بل يكون العرف مما يمكن تنزيل النص الشرعي عليه أو التوفيق بينهما، فللتمييز بين حالة وحالة يجب النظر التفصيلي الذي تختلف فيه النتائج بحسب موقف العرف من الأدلة الأخرى وسنعود إلى هذا الموضوع تحت عنوان " شروط اعتبار العرف " وسنحيل القارئ على ما ورد من بيان وتفصيل لبعض المسائل في الباب الأول.
__________
(1) رشيد باشا، روح المجلة: 1 /126؛ الدريني، المناهج الأصولية: ص 579، 580 هامش 1.
(2) السرخسي، المبسوط: 12 /196؛ النسفي، المستصفى، مخطوط، ق 215 /ب.(5/2741)
3-2- أنواع العرف من حيث المحيط الذي فشا فيه:
3-2-1- العرف العام:
هو ما تعارفه عامة أهل البلاد سواء كان قديمًا أو حديثًا أي سواء كان في عهد الرسالة وعهود الاجتهاد أو في عهود التقليد (1) ، وينتظم هذا النوع كثيرًا من الظواهر الاجتماعية الفاشية في جميع البلاد بين جميع الناس مما لها مساس بالأحكام الفقهية فعلى سبيل المثال يمكن ذكر عقد الاستصناع وبيع المعاطاة، وتأجيل جانب من مهور النساء.
والدور المعترف به للعرف العام يتمثل في عبارة الفقهاء التالية: العرف العام يثبت به الحكم العام (2)
3-2-2- العرف الخاص:
هو الذي لا يكون فاشيًّا في جميع البلاد بين جميع الناس بل يكون مخصوصًا بقطر أو مكان دون آخر، أو بفئة من الناس دون أخرى، فأشكال وبيئات هذا النوع كثيرة لا تحصى، لأنه التعامل الجاري بين أرباب حرفة معينة أو صنعة معينة على أن يكون مصطلحات هذه الفئة أو ذلك الفن داخلة فيه يعتبر كلها من قبيل العرف الخاص مثل عرف التجار فيما يعد عيبًا، وما لا يعد كذلك والألفاظ التي اصطلح عليها المحامون أو أصحاب حرفة الخياطة وتعارف أهل بلد معين بالنسبة لألفاظ الوقف والوصايا والأيمان.
أما دور العرف الخاص فيتجلى في إفادة الحكم بين متعارفيه فقط لا بين عامة أهل البلاد فبعبارة الفقهاء: العرف الخاص يثبت به الحكم الخاص (3) .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الألفاظ التي تم استعمالها من طرف الشارع في معانٍ خاصة نحو الصلاة والزكاة أيضًا من قبيل العرف الخاص مثل مصطلحات أهل حرفة معينة.
وكلتا الفئتين تدخلان في نوع العرف اللفظي باعتبار الماهية كما سنرى قريبًا ولكن الفقهاء لا يزالون يعتادون إطلاق اسم " العرف الشرعي " على تلك الألفاظ بناء على شرفها وأهميتها (4) ورغم ما قد يكون هناك من حسن التنويه به إلا أن هذا لا يكون مسوغًا لإضافة هذا القسم نوعًا مستقلًا (5) .
3-3 أنواع العرف من حيث ماهيته:
3-3-1-العرف اللفظي أو القولي:
هو ما تعارف عليه الناس في بعض ألفاظهم أو تراكيبهم في معنى معين غير المعنى الموضوع لها لغة بحيث يصبح ذاك المعنى هو المفهوم المتبادر منها إلى أذهانهم عند الإطلاق بلا قرينة ولا علاقة عقلية كتعارفهم إطلاق لفظ " الولد " على الذكر دون الأنثى وإطلاق لفظ "الدراهم " على النقود الرائجة في البلد مهما كان نوعها وقيمتها حتى الورق النقدي في يومنا مع أن الدراهم في الأصل نقد فضي مسكوك بوزن معين وقيمة محددة، وإطلاق لفظ " البيت" على الغرفة في بعض البلدان وعلى الدار بجملتها في البعض الآخر.
__________
(1) أبو سنة، العرف والعادة: ص 19
(2) ابن عابدين، نشر العرف (في مجموعة الرسائل) : 2 /132؛ علي حيدر، درر الحكام: 1 /94.
(3) الحموي، غمز عيون البصائر: 1 /134؛ علي حيدر، درر الحكام: 1 /94.
(4) رشيد باشا، روح المجلة: 1 /119؛ الدريني، علي حيدر، المرجع السابق: 1 /94
(5) الخياط، نظرية العرف، ص 34.(5/2742)
والذي يجب التنبه إليه هنا هو أنه إذا احتاج فهم المعنى المقصود إلى قرينة أو علاقة عقلية لم يكن ذلك عرفًا بل هو من قبيل المجاز (1) وكثيرًا ما يكون أصل الألفاظ العرفية مجازات لغوية لا يفهم منها المراد إلا بقرينة ثم يتكرر استعمالها فتصير مجازات مشهورة، ثم يزداد شيوع الاستعمال حتى يفهم منها المراد من غير قرينة، وتهجر معانيها الأصلية حتى لا تفهم منها إلا بالقرينة، عندئذٍ ينعكس الأمر: فما كان مجازًا لغويًّا يصبح حقيقة عرفية وما كان حقيقة لغوية يصبح مجازًا عرفيًّا (2) .
ومع أن الأستاذ أبا سنة يرى إمكانية استخراج نوع آخر للعرف من عبارات الفقهاء ويقسم العرف إلى " مقرر للمعنى اللغوي "، و" قاض عليه:، فإنه يبدو لنا أن اعتباره في إطار العرف اللفظي يكون أنسب وأفضل لأن المقرر ما طابق معناه المعنى اللغوي، والقاضي ما غيره بتخصيص أو تقييد أو إبطال (3) ، وهذا كما هو بين لا يتجاوز نطاق العرف اللفظي.
وهذا النوع من العرف له أدوار مختلفة، منها " دوره في الاجتهاد البياني / التفسير اللفظي (تخصيص العام وتقييد المطلق) ودوره في تطبيق القانون / في حالات وجود سلطة التقدير للحاكم / وفي تفسير التصرفات القانونية، كما بيناها في الباب الأول (2-1-1؛ 2-2-2؛ 2-2-3) (4) ، والجدير بالإضافة هنا هو دور هذا النوع من العرف في تعيين الأحكام الشرعية التي تترتب على أقوال المكلفين، وبخاصة في مباحث اليمين، وألفاظ الطلاق، فهذا الدور تتجلى أهميته في أمور الفتوى خاصة.
3-3-2- العرف العملي أو الفعلي:
هو ما اعتاده الناس من أعمال ما يتعلق بشئون حياتهم وتبادل مصالحهم وتصرفاتهم فمن أمثلة العرف في الأفعال العادية مما لا يقوم على تبادل المصالح وإنشاء الحقوق: اعتياد الناس في بعض الأماكن أكل نوع خاص من اللحوم كالضأن والبقر، أو استعمال نوع من الملابس والأدوات ونحو ذلك ومن أمثلته في المعاملات المدنية أي في التصرفات التي يقصد منها إنشاء الحقوق بين الناس أو تصفيتها أو إسقاطها سواء أكانت تلك التصرفات عقودًا أم غيرها: اعتياد الناس في اكتفائهم أو عدم اكتفائهم برؤية البيت من الخارج (في موضوع خيار الرؤية) (5) ، وتعاملهم في وقف الأشياء المنقولة (6) ، وتعارفهم على أن وضع اليد الطويلة على عقار دون سند شرعي أو ولاية دليل الملك (مسألة الحيازة) (7) واعتيادهم في بيع بعض الأشياء الثقيلة مثل الحطب والفحم أن تكون على البائع حمولتها إلى بيت المشتري (8) .
__________
(1) القرافي، الفروق، الفرق: 28، 1 /171؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /845 مع أمثلة " القرينة " و " العلاقة العقلية ".
(2) انظر: القرافي، الفروق، الفرق:133، 3 /85؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /834، 835 مع الأمثلة
(3) أبو سنة: العرف والعادة، ص20 ,21
(4) انظر أيضا: القرافي، الفروق، الفرق: 2، 1 /39 فما بعدها، والفرق: 28، 1 /171- 178.
(5) النسفي، المستصفى، مخطوط، ق 208 / ب، انظر لأمثلة أخرى: 200/ب، 201 / أ، 230 / ب، 259 / أويقول النسفي كقاعدة: " ويحمل العقد على ما هو المعتاد " 234/ ب.
(6) السرخسي، المبسوط: 12 /45.
(7) الدريني، المناهج الأصولية، ص 759 هامش 1
(8) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /846، 847؛ انظر: لأمثلة عديدة مما يتعلق بدور العرف العملي في تفسير العقود، القرافي، الفروق، الفرق: 199، 3 /283- 288.(5/2743)
وكما يتبين من خلال الأمثلة لكل من الصورتين – (أ) الأفعال العادية؛ (ب) المعاملات المدنية – فإن الصورة الأولى لا تدخل في الحقيقة في إطار القواعد العرفية، بل يكون لها دور في التفسير، وذلك إما في تفسير النصوص وإما في تفسير التعبيرات عن الإرادة (ينظر لأمثلة تصوير هذا الدور، الباب الأول 2-1-1 (أ) . (ب) ؛ 2-2-3) أما الصورة الثانية فهي تلك التي تشكل العمود الفقري في نظرية العرف التي تهدف أول ما تهدف إلى تناول العرف كمصدر من مصادر الحقوق وسنقف عند أهمية هذا النوع (العرف العملي) على أن يكون محددًا بالصورة الثانية أثناء تقويمنا العام للعرف وسنحاول القيام بتحليل عدم احتلاله مكانًا خاصًّا بين مصادر التشريع الإسلامي.
4- الأدلة التي يعتمد عليها لإثبات أن العرف والعادة أصل من أصول التشريع الإسلامي:
بما أننا سنتعرض لموقف مذاهب الفقه الإسلامي إزاء العرف والعادة أثناء تقويمنا العام للعرف، نكتفي هنا بذكر الأدلة الخاصة التي اعتمد عليها بعض العلماء لإثبات حجية العرف، وكذلك الأدلة العامة التي يمكن التعويل عليها في هذا الصدد.
4-1- الأدلة الخاصة:
4-1-1 الكتاب:
ورد في القرآن الكريم لفظ العرف مرتين: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1) , {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} (2) .
__________
(1) [سورة الأعراف: الآية 199] .
(2) [سورة المرسلات: الآية 1] .(5/2744)
ذكر فريق من الفقهاء الآية الأولى حين استنادهم إلى العرف والعادة في بعض المسائل الفرعية وعلى رأسهم القرافي وابن قيم الجوزية والطرابلسي (1) .
ومع أن هناك أقوالًا كثيرة حول المراد بالعرف في الآية مثل:
- أن المقصود منه شرائع الأنبياء السابقين ما لم يحدث إليه نسخًا.
- أن المراد منه العوائد الجارية في الأمصار الجامعة ما لم يخالف قاطعًا محكمًا.
- إن الآية نزلت في أخلاق الناس.
- أنه يعبر عن الفضائل الإنسانية (2) .
فإن آراء أغلبية العلماء تنصب على أن الآية لا تدل على حجية العرف بالذات بل المقصود هنا هو المعروف، وأما المعروف فهو اسم جامع لكل ما هو من الدين سواء عرف حسنه بالعقل أو لم يعرف الأمن الشرع (3) .
ونرى لزامًا علينا أن نشير إلى أن الدكتور الجيدي لم يلتزم المبدأ الذي حث الباحثين على التزامه – وهو مبدأ الاهتمام البالغ في نسبة القول إلى صاحبه ولو أدى ذلك إلى الإفراط في جلب النصوص (4) حيث قال: " وقد بنى (يعني القرافي) استدلاله هذا على أن المراد بالعرف في الآية عادات الناس وما جرى تعاملهم به، فحيث أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالأمر، دل على اعتباره في الشرع، وإلا لما كان للأمر به فائدة " (5) ، بيد أن هذا التعليق على الاستدلال القرافي يمكن اعتباره من قبيل حمل ما لم يقل به عليه، لأن القرافي لا يقول في هذا المضمار إلا الكلام التالي (بعد ذكر الآية) : " فكل ما شهد به العادة قضى به لظاهر هذه الآية إلا أن يكون هناك بينة " (6) والنقطة الهامة هنا هي أن القرافي لا يستند إلى هذه الآية إلا في مقام الاستفادة من العادة كوسيلة لإثبات واقعة مادية لا في مقام الاعتماد عليه كمصدر للتشريع بينما الدكتور الجيدي يتمسك بهذا الدليل في الباب الذي عنونه " العرف كمصدر للتشريع " والحقيقة أن التعليق المذكور عبارة عما ورد في كتاب الأستاذ أبي سنة من بيان حول الاستدلال بالآية المذكورة حيث يقول – بعد ذكر عبارات كل من ابن عابدين والقرافي والطرابلسي -: " أقول " وهذا الاستدلال مبني على أن المراد ... " دون أن ينسب تفسيره الشخصي إلى أحد (7) .
__________
(1) القرافي، الفروق، الفرق: 160، 3 /149؛ ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق: محمد حامد الفقي، بيروت، 1953م، ص 97؛ طرابلسي، معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، بولاق، 1300 هـ، ص 125.
(2) انظر لأصحاب الآراء ومصادرها: الجيدي، العرف والعمل، ص 54.
(3) انظر: الجصاص، أحكام القرآن: 3 /37؛ ابن الأثير النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي – محمود محمد الطناحي، مصر، 1963/، 3 /216؛ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم،مصر، 1300هـ، ث / 280، 281، صديق حسن خان، فتح البيان في مقاصد القرآن، بولاق، 1300 هـ - 1301هـ، 3 /433؛ مناقشة الموضوع بصورة واسعة: أبو سنة، العرف والعادة: ص 24، 25.
(4) الجيدي، العرف والعمل: ص 521.
(5) نفس الكتاب ص 53.
(6) القرافي، الفروق: 3 /149.
(7) أبو سنة، العرف والعادة، ص 23(5/2745)
ونجد في كتاب الأستاذ الزرقاء تقويمًا قيمًا في مسألة الاستدلال بهذه الآية على العرف حيث يقول: " ولا يخفى أن العرف في هذه الآية واقع على معناه اللغوي وهو الأمر المستحسن المألوف، لا على معناه الاصطلاحي الفقهي ولكن توجيه هذا الاستدلال هو أن العرف في الآية وإن لم يكن مرادًا به المعنى الاصطلاحي، قد يستأنس به في تأييد اعتبار العرف بمعناه الاصطلاحي، لأن عرف الناس في أعمالهم ومعاملاتهم هو ما استحسنوه وألفته عقولهم والغالب أن عرف القوم دليل على حاجتهم إلى الأمر المتعارف فاعتباره يكون من الأمور المستحسنة (1) .
أما الآية الثانية التي تضم لفظ العرف فلا يعول عليها في صدر الاستدلال بحجية العرف (2) وإن كان هناك من يسعى إلى البحث عن علاقة الآية بالعرف انطلاقًا من معنى المعروف (3) .
وإلى جانب هذا اللفظ ذكر في القرآن الكريم لفظ " المعروف " ثمان وثلاثين مرة (4) ومع أن المعروف يفيد معنى " العرف، فإن استعماله في القرآن الكريم في أغلب الأحيان ورد في المعنى اللغوي وهو – كما سبق – اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس (5) في معنى " النصفة " (6) ، ففي هذه الحالة يكون للعرف دور مساعد لتعيين ما هو موافق للنصفة كما بينا ذلك في الباب الأول (2-2-2، انظر أيضًا: الهامش رقم 76) .
4-1-2 - السنة النبوية:
استدل عدد من العلماء ممن يستند إلى العرف والعادة أثناء استخراج أو بيان بعض الأحكام الفرعية استدلوا بالحديث الآتي على حجية العرف: " ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن " فهذا الحديث الذي اعتمد عليه العلماء الأحناف وغيرهم لإثبات حجية العرف (7) ، لم يسلم من المناقشة سواء من ناحية رفعه أو من ناحية دلالته على المطلوب.
__________
(1) الزرقاء، المدخل الفقهي: 1 /133.
(2) الأصبهاني، المفردات: 335؛ ابن منظور، لسان العرب: 9 /239
(3) " والمرسلات عرفا": يعني الملائكة أرسلوا للمعروف والإحسان والعرف ضد النكر، وقيل: أراد أنها أرسلت متتابعة كعرف الفرس ابن الأثير، النهاية: 3 /217؛ الآلوسي، روح المعاني، بولاق 1301هـ، 9 /257.
(4) عبد الباقي (محمد فؤاد) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، مادة " عرف " (سوى " معروفة ") .
(5) ابن الأثير، النهاية: 3 /216؛ ابن منظور، لسان العرب: 9 /239، 240.
(6) نفس المصدرين السابقين
(7) السرخسي، المبسوط: 12 /45؛ النسفي، المستصصفى، مخطوط، ق 235/ ب؛ ابن الهمام، فتح القدير: 7 /157؛ ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية: ص 97؛ السيوطي، الأشباه والنظائر، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، بيروت، 1987م؛ ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /127.(5/2746)
أما من حيث رفعه فقد " قال العلائي: لم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه أخرجه الإمام أحمد في مسنده " (1) وإلى نفس النتيجة توصل علماء آخرون أمثال السخاوي والزيلعي (2) ، على أن السرخسي ذكر هذا الحديث أثناء تناوله لأدلة حجية الإجماع من السنة بشكل يعطي انطباعًا أنه يعتبره حديثًا مرفوعًا (3) ، وحتى أن الشيخ المرحوم أبا زهرة صرح بأنه روي مرفوعًا (4) .
ويرى الأستاذ الزرقاء أن القاعدة التي تقضي بأن الخبر الموقوف إذا تضمن معنى تشريعيًّا يعتبر كالخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم يرى أن هذه القاعدة تزيل نقطة الطعن لهذا الحديث من ناحية الرفع (5) إلا أن الشيخ أبا سنة يقول ردًّا على مثل هذه الفكرة بالنسبة إلى هذا الحديث، " ولكنا نقول في الجواب عنه: إنه على فرض أنه في حكم المرفوع فإن دلالته على المطلوب لم تتم كما يأتي (6) .
ومن جهة أخرى، لا يعد الغزالي هذا الحديث صالحًا لإثبات أصل من الأصول نظرًا لكونه من أخبار الآحاد (7) .
وهنا نود الإشارة إلى دليل آخر من السنة يستدل به الدكتور عبد القادر شنار على حجية العرف في الفقه الإسلامي، كما ورد في كلامه: " أن الفقهاء المسلمين لا يزالون يعتبرون العرف سواء كان عرف العرب أو أعراف وعادات البلدان المفتوحة من لدن عهد الصحابة عملًا بالحديث النبوي الذي جاء فيه: يعمل في الإسلام بفضائل الجاهلية " ونعتقد أن المؤلف يناقض نفسه بنفسه لأنه يقول في الهامش: " لم يكن لنا العثور على هذا الحديث في المصادر التي في متناول يدنا مع أن الدكتور محمد حميد الله يذكره مرات عديدة " (8) ولو كان الفقهاء يعتبرون هذا الحديث في مشروعية العرف لذكروه في المصادر وطالما لم يذكر فيها فلا يمكن إيضاح حجية العرف به عند الفقهاء وبالإضافة إلى ذلك إننا إذا نظرنا إلى مسند أحمد بن حنبل الذي يعتمد عليه الدكتور محمد حميد الله في نقله هذا الحديث نجد فيه – كما أشار إليه الدكتور شنار أيضًا – بعض الروايات المشتملة على عبارات التقدير والإقرار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب سائب بن عبد الله شريكه في عهد الجاهلية وذلك يوم فتح مكة إذن، فلا ينبغي حمل بعض المزايا والمحاسن الخلقية التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، على العرف والعادة مباشرة ويؤكد ذلك ما ورد في الحديث: ((مرحبا يا أخي وشريكي كان لا يدارى ولا يمارى يا سائب قد كنت تعمل أعمالًا في الجاهلية لا تقبل منك وهي اليوم تقبل منك وكان ذا سلف وصلة)) (9) .
__________
(1) ابن عابدين، نشر العرف: 2 /115؛ " ... فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ " أحمد بن حنبل، المسند مصر، 1313 هـ، 1 /379.
(2) الزيلعي، نصب الراية: 4 /133، 134؛ ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /126
(3) السرخسي، الأصول: 1 /299.
(4) أبو زهرة، أبو حنيفة، ص 351 هامش 1.
(5) الزرقاء، المدخل الفقهي: 1 /134 هامش 1.
(6) أبو سنة، العرف والعادة: ص 25.
(7) الغزالي، المستصفى: 1 /278 يجب الانتباه هنا إلى أن الغزالي لم يذكر هذا الحديث بصدد " العرف " وإنما عند تناول دليل " الاستحسان ".
(8) (القياس والاستحسان والاستصلاح) : SEKER (Abulkadir) ، Kiyas-Istislah، ve Istislah، Ankara, 1974,p44.
(9) أحمد بن حنبل، المسند: 33 /425.(5/2747)
هناك حديث آخر اعتاد المؤلفون الإشارة لإثبات حجية العرف وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان التي اشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخل زوجها وسألته عن حكم أخذها من مال زوجها خفية، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) (1) إلا أنه بدل أن يفسر لفظ " المعروف " هنا وفي الأماكن مثله بأنه العرف والعادة مباشرة، ينبغي المصير إلى فهمه بأنه بمعنى " في إطار الحدود المعقولة والمناسبة " ومن البديهي أن يكون للعرف والعادة دور مساعد في مثل هذه الحالات (2) .
والجدير بالذكر أن البخاري خصص بابًا في صحيحه للأمور المتعارفة بين الناس وعنونه " باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن وسنتهم على نيتهم ومذاهبهم المشهورة " (3) ، ويقول العيني في تعليقه على هذا الباب: " حاصل الكلام أن البخاري قصد بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف العادة " (4) .
4-2- الأدلة العامة:
إذا محص الباحث النظر في مبادئ التشريع الإسلامي ومسيرة تطوره في وضع أحكامه يستطيع أن يقوم بتثبيت مقطعين رئيسيين في موضوع العرف:
* المقطع الأول: مراعاة التشريع الإسلامي للعرف والعادة وذلك لأن دراسة استقرائية للمناهج التشريعية التي سلكها الإسلام وموقفه من العرف والعادة في التشريع تمكن الباحث من البت في أن الإسلام راعى أعراف وعادات البيئة التي ظهر فيها وحتى إنه لم يقف عند عدم مجابهة الوقائع الاجتماعية التي لا تتنافى مع مبادئه فحسب، بل أسبغ عليها أيضا الصفة الشرعية كما سبق الإشارة إليه في الباب الأول (انظر: 1-1) ، إلا أن هناك ظاهرة أخرى يمكن أن تؤدي بالباحث إلى تردد في قبول ذلك وهي أن التشريع الإسلامي ألغى كثيرًا من العادات أو عدلها بشكل يتناسب مع مبادئه وهذا الموقف السلبي مع أنه لا يظهر إلا في حالات خاصة من معارضة تلك العادات للمبادئ الإسلامية فثمة دليل أقوى للاقتناع بمراعاة الإسلام للعرف والعادة وهو صلاح الإسلام لكل زمان ومكان، وهذا ما تدل عليه النصوص القطعية منها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (5) , {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (6) ومن خلال هذه الخاصية للإسلام نتوصل بالبداهة إلى نتيجة أن الإسلام دين الإنسانية جمعاء مهما اختلفت عاداتها عن بعضها البعض وما من شك في أن البشرية بأسرها لا يمكن توحيدها في نمط واحد من الحياة كما أن الإسلام لا يدعو إلى ذلك ولا يستهدفه فضلًا عن تباينه مع المبادئ الإسلامية السمحة وحيلولته دون التقدم والرقي وبعبارة أخرى، فإن وجود اختلاف في بعض العادات غير المنافية للأسس الإسلامية في الجغرافية الإسلامية نتيجة طبيعية لا يمكن الاحتراز عنها طالما الإسلام يخاطب الناس جميعًا في كل زمان (7) .
__________
(1) العيني، عمدة القاري، مصر، 1348 هـ، 12 /16- 17، الشوكاني، نيل الأوطار، مصر، 1357 هـ، 7 /131؛ أبو زهرة، مالك: ص 421.
(2) انظر الباب الأول: 2-2-2 وخاصة الهامش رقم 76.
(3) البخاري، الجامع الصحيح، البيوع، ص 95.
(4) العيني، عمدة القارى: 12 /16.
(5) [سورة سبأ: الآية 28] .
(6) [سورة الأحزاب: الآية 40] .
(7) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، القاهرة، بدون تاريخ (تاريخ صبح الجزء الثاني 1401 هـ) ، 1 /320؛ المحمصاني، فلسفة التشريع: ص 221.(5/2748)
وهنا نود أن نقتبس باختصار من العلامة الطاهر بن عاشور بعض ما ذكره في هذا الباب بناء على أهميته في تسليط الأضواء على الحقائق الكامنة فيه:
" فعموم الشريعة سائر البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون، وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان ولم يبينوا كيفية هذه الصلاحية وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين.
الكيفية الأولى: إن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر.
الكيفية الثانية: أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلًا للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا حرجًا ولا عسرًا في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة ومن دون أن يلجؤوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العوائد المقبولة.
فلا يجدر بحال أن يكون معنى صلاحية التشريع للبشر أن الناس يحملون على اتباع أحوال أمة خاصة مثل أحوال العرب في زمان والتشريع ولا على اتباع تفريعات الأحكام وجزئيات الأقضية المراعى فيها صلاح خاص لمن كان التشريع بين ظهرانيهم سواء لاءم ذلك أحوال بقية الأمم والعصور أم لم يلائم فتكون صلاحيتها مشوبة بحرج ومخالفة ما لا يستطيع الناس الانقطاع عنه، ويعلل معنى الصلوحية بأن يعمل الناس بها في كل عصر فلا يهلكوا ولا يعنتوا، إذ لو كان هذا هو معنى صلوحية الشريعة لكل زمان ومكان لما كان هذا من مزايا شريعة الإسلام وخصائصها إذ لا نجد في شريعة من الشرائع المتبعة أحكامًا لو حمل الناس عليها لهلكوا أو صاروا فوضى إذن يكون في مستطاع أهل كل شريعة أن ينتحلوا شريعتهم وصف الدوام.
فتعين أن يكون معنى صلوحية شريعة الإسلام لكل زمان أن تكون أحكامها كليات ومعاني مشتملة على حكم ومصالح صالحة لأن تتفرع منها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد، ولذلك كانت أصول التشريع الإسلامي تتجنب التفريع والتحديد " (1) .
" قد يستكن في معتقد كثير من العلماء قبل الفحص والتغوص في تصرفات التشريع أن الشريعة إنما جاءت لتغيير أحوال الناس، والتحقيق أن للتشريع مقامين:
__________
(1) الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، ص 92-93.(5/2749)
المقام الأول: تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها.
المقام الثاني: تقرير أحوال صالحة قد اتبعها الناس وهي الأحوال المعبر عنها بالمعروف في قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} والتقرير لا يحتاج إلى القول فقد علمت أن الاحتياج إلى القول فيه لا يكون إلا عن سبب دعا إلى القول من إبطال وهم أو جواب سؤال، أو تحريض على التناول، وفيما عدا تلك الأسباب ونحوه يعتبر سكوت الشارع تقريرًا لما عليه الناس، فلذلك كانت الإباحة أكثر أحكام الشريعة لأن أنواع متعلقاتها لا تنحصر وقد تواتر هذا المعنى تواترًا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته.
ولا يستثنى من دلالة السكوت على التقرير إلا الأحوال التي دل العقل على إلحاقها بأصول لها حكم غير الإباحة وهي دلالة القياس بمراتبها.
وليس مرادنا بالتغيير أحوال العرب خاصة ولا بالتقدير تقرير أحوالهم كذلك بل مرادنا تغيير أحوال البشر وتقرير أحوالهم سواء كانوا العرب أم غيرهم وذلك أن جماعات البشر كانوا غير خالين من أحوال صالحة هي بقايا الشرائع أو النصائح أو اتفاق العقول السليمة " (1) .
* المقطع الثاني: عدم إمكانية القول بأن نصوص القرآن والسنة تعترف صراحة بكون العرف مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي مباشرة والمناقشات التي وردت في هذا المضمار حول الآيات والأحاديث التي يستدل بها على حجية العرف ينبغي مراجعتها للتثبت من ذلك حتى أن هذه المناقشات لم تحظَ باهتمام العلماء إلا في عصور متأخرة وكاد الأصوليون أن لا يولوا أي اهتمام لموضوع العرف بين الأدلة الشرعية (انظر: الباب الأول، 1-2) .
ورغم أن هذا المقطع يبدو للوهلة الولى منافيًّا للأول وليس الأمر كذلك بل هو مكمل له لأن الغاية المتوخاة من مراعاة العرف في التشريع الإسلامي ليست إضفاء قدسية للعرف واعتباره مصدرًا يسيطر على قيمة الذاتية وإنما هي قضاء حاجات الناس وتطبيق مبدأ "اليسر".
فالإسلام الذي تميز بطابعه الانقلابي (2) وأنه الدين الأخير للبشرية كان عليه أن يتخذ موقفًا سلبيًّا من الأعراف والعادات المتنافية مع ما أشرنا إليه سابقًا من روح تشريعية له ولو اعتبر التشريع الإسلامي العرف مصدرًا تشريعيًّا بصورة مباشرة لأدى ذلك إلى إفساح المجال للطعن فيه بتناقضه الذاتي فمثل هذا الاعتبار في عهد تبليغ النصوص لا يتفق مع الهدف المنشود لها، أما بالنسبة للعهود المتعاقبة فكان من البديهي أن يراعى العرف مثل مراعاته في عهد تبليغ النصوص وفق سير الأحداث ومجراها الطبيعي حيث إن المسلمين مطالبون بحل ما سيستجد لهم من وقائع ومسائل وفق النصوص الشرعية وروحها ومن الملاحظ أن هذه الخاصية للتشريع الإسلامي برزت بشكل واضح في اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك طريقهم في فهم النصوص وتقييمها (3) .
__________
(1) نفس المرجع: ص 102- 104.
(2) انظر مثلًا: [سورة البقرة: الآية 170] ؛ و [سورة المائدة: الآية 104] ، و [سورة هود: الآية 88] .
(3) الدواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 81، 124، 125.(5/2750)
والواقع أن العرف احتل مكانًا مرموقًا بين اجتهادات الصحابة وتطبيقات الخلفاء الراشدين والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها أن الخليفة عمر بن الخطاب أمر الموظفين المحليين في إيران بإبقاء القوانين السابقة فيما يخص الموارد الزراعية سارية المفعول دون تغيير يذكر (1) وكذلك أن الخليفة نفسه لجأ إلى مبدأ التعامل بالمثل فيما يتعلق بالمكوس الجمركية التي يتم تحصيلها من التجار الأجانب (2) وجدير بنا أن نشير إلى أننا نجد تصريحًا خاصًّا بوجوب مراعاة العرف في عهد الصحابة رضي الله عنهم، وذلك في القضية التالية المعروضة على القاضي شريح: " أن ناسًا من الغزالين اختصموا إلى شريح في شيء كان بينهم فقالوا: إن سنتنا بيننا كذا وكذا، فقال سنتكم بينكم " (3) .
ونعتقد أن عبارة الدكتور زيدان التالية تلقي الأضواء على مسألة دليل العرف حيث يقول: " وأساس اعتبار العرف دلالة القرآن والسنة أما دلالة القرآن فنجدها في قاعدة رفع الحرج عن الناس، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج: الآية 78] ولا شك أن في نزع الناس عما ألفوه بلا مبرر نوعًا من الحرج عليهم، وأما دلالة السنة فتظهر في إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لأعراف الجاهلية الصحيحة " (4) .
أما مسألة تأثر الفقه الإسلامي بأحكام نظم الحقوق الأخرى وكذلك علاقة الأحكام التقريرية في الإسلام بشرائع من قبلنا فلا نتطرق إليها لبقائها خارج نطاق موضوعنا أساسًا (5) .
ومهما يكن من أمر، فإننا من خلال دراستنا للأدلة العامة نتوصل إلى نتيجة أن العرف يحتل مكانًا مرموقًا في الفقه الإسلامي وفق إرادة الشارع وإن كان الشارع لم يحل عليه بصراحة (6) .
__________
(1) HAMIDULLAH (Muhammed) , “Nouvelle etude des sources du droit musulman”, dans Proceeding of International Congress of Orientalists, Istanbul, 1954.) ترجمته إلى اللغة التركية) : Islam Tetkikleri Enstitasu Dergisi, I, 1954. المترجم: (Bulent DAVRAK) . P64.
(2) Turnagil (Ahmed Resid) , Islamiyet ye killetler hukuku Istanbul, 1972, p 124, HAMIDULLAH.) الإسلام والقانون الدولي) ص 64، المقال المذكور.
(3) العيني، عمدة القاري: 12 /16.
(4) زيدان (عبد الكريم) ، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، بيروت، 1988 م، ص 25 ويؤيد ذلك ما ورد في استدلالات الفقهاء على أهمية العرف في الشريعة الإسلامية، انظر مثلًا: السرخسي، المبسوط: 12 /46، 197، 13 /14، 15.
(5) انظر: أبو سنة، العرف والعادة: ص 82؛ الجيدي، العرف والعمل: ص64 – 67؛ hamidullah، "la philosophie juridique chez les musulmana" p146 hamidullah. Influence of roman law on muslim law" islam Tetkikleri enstitusu dergisi, iv, 1-2 istanbul, 1975.
(6) إشارة قسمية إلى نفس الفكرة: SCHACHT (Joseph) , "Sharia ", Encyclopedie de L" Islam, 4 /335(5/2751)
5- أركان العرف وشروط اعتباره:
ليس من البعيد أن تتكون في مجتمع ما أعراف وعادات لا تتفق والنظام الحقوقي السائد في ذلك المجتمع فلهذا ينبغي – في نظرنا – التمييز بين شروط الوجود للعرف أو شروط تحققه وبين شروط اعتباره وإذا اعتبرنا تعريف كل من مفهومي" الركن " و" الشرط " يمكن أن نطلق على الفئة الأولى من الشروط " أركانًا " وعلى الفئة الثانية منها " شروط الصحة " وبما أن القانون يعتبر العرف بصراحة مصدرًا من المصادر الشكلية في الفقه الوضعي في أغلب الأحيان نجد القانونيين ممن يتعرض لموضوع العرف يقفون عند أركان (أو عناصر) العرف بالدرجة الأولى ولا يهتمون بشروط الاعتبار (الصحة) للعرف إلا في الدرجة الثانية أو في إطار دراسة الأركان بينما يلاحظ أن المؤلفين في مجال الفقه الإسلامي يتناولون الأركان وشروط الصحة كلها تحت عناوين مثل " شروط العمل بالعرف " أو "شروط اعتبار العرف " وغيرها والمنهج الصحيح – في رأينا – هو التمييز بين هاتين الفئتين من الشرط.
5-1 أركان العرف:
رأينا في ما سبق أن الفقهاء المسلمين لم يتناولوا العرف كقاعدة قانونية وكمصدر من المصادر الشكلية للحقوق وأن تصريحاتهم المتعلقة بالعرف والعادة تشملهما معًا سواء كانا لفظين أو عمليين بينما المؤلفون في مجال القانون يتعرضون للعرف من زاوية أنه مصدر من مصادر الحقوق ولهذا نجدهم يقيدون أنفسهم بنطاق السلوك فقط، ويدرسون عناصر العرف من هذا المنظار أما المؤلفون المعاصرون في مجال الفقه الإسلامي – حين تطرقهم إلى شرائط العرف – فيتقيدون بمسائل العرف العملي تارة، ويخوضون في مسائل العرف القولي أيضًا تارة أخرى ومع ذلك فالملاحظ أن العرف العملي هو السائد في بحوثهم لشرائط العرف.
ونحن لا نرى بأسا في تناول أركان العرف وفقًا للتعريف التالي: " العرف هو اعتياد الناس على سلوك معين في ناحية من نواحي حياتهم الاجتماعية بحيث تنشأ منه قاعدة يسود الاعتقاد بأنها ملزمة " (1) واضعين نصب أعيننا أن تعريف النسفي للعرف أيضا يتركز على أساس " السلوك " (2) .
__________
(1) فرج الصدة، أصول القانون: ص 140، 141، 144.
(2) مع أن لفظ "ما " يشمل القول والفعل، فإن عناصر التعريف الأخرى تجعله متركزًا على "السلوك"، كما يؤيد هذا المعنى ما ورد في كلام النسفي أثناء ذكره الأصول، إذ يقول: " تعامل الناس "، المستصفى، مخطوط، ق 5/ أ.(5/2752)
ويتضح من التعريف السابق أن العرف يقوم على ركنين: ركن مادي، وهو اعتياد الناس على سلوك معين. وركن معنوي، وهو اعتقاد الناس بأن القاعدة التي نشأت من هذا السلوك قاعدة ملزمة.
5-1-1- الركن المادي: الاطراد أو الغلبة (1) :
يجب أن يكون العمل بالعرف مستمرًا في جميع الحوادث أو في أكثرها إذا كانت العادة جارية في مكان ما بصفة مستمرة فهذه تسمى مطردة وإذا كانت لا تختلف إلا في حالات نادرة تسمى غالبة (2) لأن ذلك هو أمارة فعلية المبني على الحاجة الماسة إليه، في حل مشكلات الناس وتحقيق مصالحهم، واستقامة أمرهم، الأمر الذي استدعى المجتهد إلى مراعاته (3) .
يقول الأستاذ الزرقاء أثناء ذكر شرائط اعتبار العرف: " فاشتراط الاطراد أو الغلبة في العرف معناه اشتراط الأغلبية العملية فيه لأجل اعتباره حاكمًا في الحوادث، أما الأغلبية العددية بمعنى أن يكون العرف جاريًّا بين جميع القوم أو أكثرهم فهي ليست من قبيل الشرائط، بل هو ركن في تكوين لا يتحقق معناه دونها، وهو النصاب العددي الذي تقدم بيانه لتحقق معنى العرف لأن العادة الفردية لا تصبح عرفًا إلا إذا اعتمدها أكثر القوم في بيئتها إذن العرف هو عادة الجمهور " (4) .
مع أن هذا التفريق يبدو وجيهًا للوهلة الأولى إلا أننا لا نوافقه عليه بالكلية، لأنه إذا تحققت الأغلبية العددية في جميع الحوادث أو أكثرها فتتحقق الأغلبية العملية أيضًا، أما إذا لم تتحقق إلا في حوادث نادرة فلا يمكن اعتبار قيام العرف وتوافر أركانه بمجرد وجود هذه الأغلبية العددية في حادثة أو حوادث معينة.
__________
(1) مرغناني، الهداية: 5 /469؛ ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /128؛ مجلة الأحكام العدلية، المادة 41.
(2) عاطف بك، مجلة أحكام عدلية شرحي) شرح المجلة باللغة العثمانية) قسم القواعد الكلية، استانبول 1339هـ، ص 50.
(3) الدريني، المناهج الأصولية، ص 587
(4) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /874، 875(5/2753)
والحقيقة أن لزوم اطراد العرف أو أغلبيته في أكثر الحوادث تكمن في كلمة " الاعتياد " (أو " العادة " " كما قال الأستاذ الزرقاء) الواردة في تعريف العرف والتي ينبني عليها وجوده ويؤكد ذلك ما قاله الأستاذ الزرقاء في مكان آخر: " يقول الفقهاء في بعض المواطن: إن العادة تتحقق بتكرر الفعل مرتين أو ثلاثًا، لأنها مأخوذة من العود أو المعاودة ولا يخفى أن مرادهم بذلك عادة الفرد أما عادة الجماعة التي هي بمعنى عرف للجمهور، فلا ينطبق عليها هذا الحد، لأن العادة لا تشيع وتنتشر بين الجماهير إلا بعد أن تتكرر بين الناس مرات لا تحصى) (1) أما إن كان الأستاذ الجليل يقصد بهذا التفريق اعتبار العرف ملزمًا بين جميع القوم أو أكثرهم، فإننا سنتناول هذه الناحية تحت عنوان: " الركن المعنوي للعرف "، وبناء على ذلك ينبغي اعتبار الاطراد أو الغلبة ركنًا من أركان العرف لا شرطًا من شرائطه.
وليس بالإمكان تحديد الحيز الزمني لتكون هذا الركن، أي التطبيق المطرد أو الغالب للعرف ومع أن صاوا باشا يشترط استمرار العمل بالعرف طوال ثلاثة أجيال على الأقل (2) .
هناك آراء حول العدد الذي تحصل به العادة لا نرى مبررًا لذكرها، انظر: الجيدي، العرف والعمل: ص 82.
فإنه من البديهي أن هذا لا يتعين إلا حسب نوعية العرف وظروف تكونه، وبخاصة حسب درجة الانتشار لوسائل المواصلات في مكان العرف.
ويطلق على هذا الركن في النظريات القانونية الحديثة العنصر الخارجي أو المادي أو الموضوعي (element objectif, element materiel) للعرف والجدير بالإشارة أن القانون التجاري الكويتي (المادة 159) أخذ المادتين 41 و42 من مجلة الأحكام العدلية بنفس العبارات، وقال: " إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت والعبرة للغالب لا للنادر " (3) .
__________
(1) المرجع نفسه 2 /839، 840 هامش 1
(2) SAVAPASA, Islam Hukuk Nazariyati ½ pti Hakkinda Bir Etudترجمه من الفرنسية إلى التركية (دراسة حول نظريات الفقه الإسلامي) : Baha ARIKAN, Ankara, 1955, 2/57.
(3) ينظر للخواص التي يجب توافرها في هذا العنصر: الحجازي، المدخل لدراسة العلوم القانونية: ص 447- 449.(5/2754)
5-1-2- الركن المعنوي: الاستقرار في النفوس:
لا نكاد نعثر دراسة لهذا العنصر الداخلي، أو النفسي أو الشعور القانوني (opinio necessitates، element psychologique) في الأبحاث العلمية الحديثة التي تهدف إلى تطوير نظرية للعرف في الفقه الإسلامي، بينما النظريات القانونية تولي له أقصى الأهمية والسر في ذلك – حسب ما يبدو لنا – أن القانونيين – كما سبق أن بينا – ينظرون إلى العرف من ناحية القيمة القانونية له أي من ناحية تكوينه قاعدة قانونية أو عدم تكوينه لها وبالإضافة إلى ذلك لا يرون بأسًا في أخذ القاعدة القانونية صفة الإلزامية من الإرادة البشرية، بل إن القواعد القانونية كلها – سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة – تستقي في الفقه الوضعي وجودها واستمراريتها من العقل والإرادة البشرية (1) .
ومع هذا كله لا نرى مانعًا من القول بضرورة تواجد هذا العنصر المعنوي للعرف في الفقه الإسلامي أيضا، حتى إننا نعتقد أن وجود واجب للاقتناع والقبول بأن العرف قد تكون، والحقيقة أن الوقوف عند أهمية الركن المعنوي للعرف في الفقه الإسلامي أمر لم نقترحه من عند أنفسنا وإنما هو موجود في عبارات الفقهاء وتفكيرهم وأدل شيء على ذلك هو تعريف النسفي الذي تلقاه العلماء بالقبول منذ القديم، إذا يقول: " ما استقر في النفوس ... " فهذا إن دل على شيء إنما يدل على العنصر المعنوي للعرف (2) وحتى يمكن القول بأن صاحب التعريف استغنى عن ذكر العنصر المادي صراحة لأن العنصر المادي مندمج في العنصر المعنوي، إذ لا يمكن تكون العنصر المعنوي إلا بتكون العنصر المادي ولتبيين هذه الناحية نود اقتباس النص التالي: " ويتكون هذا الاعتقاد تدريجيًّا، حتى يأتي الوقت الذي يصبح فيه أمرًا محققًا، ولذلك فإنه في مرحلة هذا التكوين قد يختلف الشراح والمحاكم في أن عادة معينة قد أصبحت عرفًا، كما أن البعض قد يراها مجرد عادة لا ترقى إلى مرتبة العرف، ثم يعود بعد ذلك فيعتبرها عرفًا، فإذا جاء الوقت الذي يسود الاعتقاد فيه بأن هذه العادة أصبحت ملزمة، صارت عرفًا لا سبيل إلى الجدل فيه، فالذي يميز العرف عن العادة بالمعنى الذي قدمناه هو هذا الركن المعنوي فطالما لم يقم في ذهن الناس اعتقاد بأن عادة معينة أصبحت ملزمة، فإن هذه العادة لا تعتبر عرفًا، أي لا تكون قانونًا ملزمًا " (3) .
__________
(1) SAVORY.R.M، Introduction To Islamic Civilisation، Sydney، 1980 ,p54
(2) ويؤيد ذلك ما ورد في كلام الشيخ أبي سنة: " فقد رأينا أن العرف جرى في الأقوال والأفعال التعاملية والخلقية، وعرفنا قبل ذلك أن كيانه يقوم على استقرار الأمر في النفوس وقبول الطباع السليمة له متى توفر ذلك، فقد وجدت حقيقة العرف، وإن كان اعتباره عند الفقهاء مشروطًا بشروط وراء هذا "، (العرف والعادة: ص 9) وإن كان الشيخ أبو سنة لا يتناول هذه الناحية تحت عنوان الركن أو الأركان.
(3) فرج الصدة، أصول القانون: ص 147.(5/2755)
أما ما يتبادر إلى الأذهان من أن الركن المعنوي يعكس الإرادة البشرية في التشريع فذلك أمر لم يهمله النسفي في تعريفه السابق للعرف إلا أن الموضوع يحتاج إلى شيء من التفصيل وإلى الاطلاع على ما ورد من مناقشات حول هذه الناحية في النظريات الحديثة ونذكر خلاصة ذلك فيما يلي: " مقتضى النظرية التقليدية هو أن العنصر المادي لا يكفي وحده لإنشاء القاعدة العرفية وأنه يجب أن يضاف إلى العنصر المادي عنصر آخر نفسي هو ما يسمى الشعور القانوني (opinio necessitates) ، ويقصد الشراح بهذه العبارة أحد معنيين:
(أ) فإما أن يكون المقصود بها هو أن الأفراد يعتقدون أن المبدأ الذي يسيرون على مقتضاه يطابق العدل والملاءمات الاجتماعية، ولذا يجب أن ينزل منزلة القانون.
(ب) وإما أن يكون معناها هو اعتقادهم أن المبدأ الذي يأتمرون به هو قانون بالفعل أي قاعدة ملزمة ولذا وجبت إطاعتها ومعظم الشراح على هذا المعنى وعلى أساس هذا العنصر يتميز العرف من سائر أنواع السلوك الأخرى، الفردية والاجتماعية، التي مع استقرارها في الجماعة، لا تعد قواعد قانونية عرفية بسبب أنه ينقصها عنصر الإحساس بإلزاميتها من الناحية القانونية ومن هنا عد العنصر الداخلي هو العنصر المميز والجوهري في العرف باعتباره مصدرًا للقانون، حتى لقد اعتبر العنصر الخارجي – في نظرية قديمة كانت تجعل الشعور القانوني عند الجماعة هو أساس كل قانون - هو الوسيلة التي يظهر بها العنصر الداخلي (الشعور القانوني) ، أي إن الشعور القانوني في العرف كإرادة المشرع في التشريع، فكما أن إرادة المشرع لا تسري في حق المخاطبين بها إلا بالنشر، فكذلك الشعور القانوني لا يلزم الأفراد إلا إذا ظهر إلى الحيز الخارجي عن طريق ممارسة فعلية من جانب الأفراد " (1) .
ونحن نرى – تاركين تفاصيل هذه المناقشات والاعتراضات الموجهة إلى العنصر المعنوي إلى جانب – أن العنصر المعنوي إذا تم تفسيره بالمعنى الثاني من المعنيين السابقين لا يتلاءم والتفكير الإسلامي؛ لأن الشارع في الإسلام هو الله تعالى، وتأخذ الأحكام قوتها الإلزامية من إرادته عز وجل، وبينما لا نعثر على إحالة صريحة على حجية العرف في عبارات الشارع التي تعكس إرادته، وإنما نجده يحيل المسلمين على فكرة العدل والمصالح إذن لا يصطدم العنصر المعنوي مع أسس التفكير الإسلامي إذا فسر بالمعنى الأول، وكما نرى في تعريف النسفي قيدًا لا يترك العنصر المعنوي للعرف على إطلاقه، حيث يقول " ... وتلقته الطباع السليمة بالقبول " وهذا – فيما يبدو لنا – تعبير عن اشتراط الشرط الأساسي للعرف أو لاعتباره وهو أن لا يكون مخالفًا للنص الشرعي ومبادئ التشريع الإسلامي مخالفة صريحة لأنه لا يمكن التصور أن الطباع السليمة في مجتمع يدين بالإسلام ويتمسك بمبادئه تتلقى العرف المخالف للنصوص صراحة بالقبول وإلا خرجت عن كونها سليمة (2) أضف إلى ذلك أن كل عرف تم تكونه ليس معتبر في الفقه الإسلامي، بل هناك شروط لاعتباره.
__________
(1) الحجازي، المدخل لدراسة العلوم القانونية: ص 449- 450.
(2) يقول النسفي: " والطبع مؤيد بالشرع "، المستصفى، مخطوط، ق 115 /ب، 194 / ب.(5/2756)
والحقيقة أن هذا التوضيح الأخير كان من الواجب أن يحتل مكانه تحت عنوان " شروط اعتبار العرف / عدم مخالفته للنص " حسب التخطيط العلمي، إلا أننا اضطررنا إلى الإتيان به لنبين مكانة العنصر المعنوي في تفكير وعبارات الفقهاء المسلمين وننبه إلى المعنى الذي يستندون إليه في هذا الموضوع.
5-2- شروط اعتبار العرف:
هناك شروط يجب توفرها لاعتبار العرف في الشريعة الإسلامية إلى جانب ركنيه المادي والمعنوي، وهي ما يلي:
5-2-1- أن لا يكون العرف طارئًا:
والمراد من هذا الشرط أن يكون العرف مقارنًا لزمن الشيء الذي يحمل على العرف وليس حادثًا وما من شك في أن لهذا الشرط أهميته ولا سيما في تفسير النصوص وتفسير التصرفات القانونية (انظر لأمثلة دور العرف في تفسير النصوص الباب الأول 2-1-1، ودور العرف في تفسير التصرفات القانونية 2-2-3) .
ومقتضى هذا الشرط أن العرف اللفظي أو العملي الذي يعول عليه لفهم النص يجب أن يكون موجودًا في وقت نزوله ووروده دون الحادث بعده، وكذلك العرف الذي يراد تحكيمه في تعيين حكم التصرف القانوني يجب أن يكون موجودًا عند التصرف دون ما يحدث بعده (1) على أنه ليس كل عرف طارئ غير معتبر، فالقاعدة ليست على عمومها (2) .
فمثلًا يشير الزركشي إلى قضية البطالة في المدارس الموقوفة ويقول: " فقد اشتهر في هذه الأعصار ترك الدروس في الأشهر الثلاثة فكل مدرسة وقفت بعد ذلك ولم يتعرض واقفها لذلك ينزل لفظه على العادة وأما الموقوف قبل هذه العادة أو ما شك فيه هل هو قبلها فلا ينزل على العرف الطارئ " ويلاحظ أنه يربط القضية في آخر المطاف بكون العرف عامًّا أو خاصًّا (3) .
__________
(1) ابن نجيم، الأشباه والنظائر: 1 /133؛ أبو سنة، العرف والعادة: ص 65؛ دواليبي، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 236، 237؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /876 – 879.
(2) الدريني، المناهج الأصولية: ص 587.
(3) الزركشي (بدر الدين بن محمود بن بهادر) ، المنثور في القواعد، تحقيق: تيسير فائق أحمد محمود، الكويت، 1982 /، 2 /394، 395.(5/2757)
5-2-2- أن لا يوجد تصريح بخلاف العرف:
إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تحكيم العرف في تفسير العقود في تفسير العقود وتنزيل الأمر المعروف منزلة المشروط (" المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا "، المجلة، المادة 43، 44) ، يعود إلى فكرة سكوت المتعاقدين عن الأمر المتعارف اعتمادًا على العرف الجاري، يتبين لنا بجلاء أن العرف في هذه الحالات من قبيل الدلالة فإذا صرح المتعاقدان بخلاف العرف بطلت هذه الدلالة لأن القاعدة المقررة تقول: " لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح " (المجلة، المادة 13) (1) .
وهنا نود أن نسترعي الانتباه إلى أن القواعد مثل " التعيين بالعرف كالتعيين بالنص " مما اعتمد عليه بعض الباحثين بصدد إثبات سلطان العرف في الفقه الإسلامي تنص في حقيقة الأمر على أهمية الإرادة المصرح بها إلى جانب التنوية بدور العرف في تفسير العلاقات القانونية إذا لم يوجد تصريح في القضية المعروضة لأن " النص " هنا يستعمل في المعنى "التصريح "وليس في معنى " النص الشرعي " (2) وذلك بخلاف " النص " الوارد في عبارات تتناول مسألة معارضة العرف مع النص (3) .
5-2-3- أن لا يكون العرف مخالفًا للنص ومبادئ الشريعة:
إذا وضع الباحث نصب عينيه أن الشريعة الإسلامية تمتاز بخاصية كونها إلهية المنشأ لا يحتاج إلى توسيع النقاش فيما يخص حالة اصطدام العرف مع النصوص وروحها، وليس ذلك نابعًا عن احترام فكرة سلسلة المراتب للأدلة أي كون النص أقوى من العرف فحسب، بل ليتحاشى الفقيه من أن ينقض نفسه بنفسه أيضًا بينما نرى المؤلفين في الفقه الوضعي يتوسعون في مناقشة قضية اصطدام العرف مع القانون (4) ، وإن كان القانون أقوى من العرف حسب ترتيب المصادر، وذلك لأن القانون عندهم يستقي قوته الإلزامية أيضا من الإرادة البشرية.
__________
(1) علي حيدر، درر الحكام: 1 /93؛ الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /879، 880.
(2) انظر مثلًا: السرخسي، المبسوط: 12 /160.
(3) انظر مثلا: السرخسي، المبسوط: 12 /196.
(4) نشاهد أن الخلاف يتعرض لمسألة اعتبار العرف المخالف لأصل من الأصول، ويشترط لاعتباره أن يكون قد نشأة عن الضرورة ويقول بأنه يجب المصير إلى الاستثناء من الأصل وذلك بجعل الضرورة علة الاستثناء خلاف (عبد الوهاب) ، مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، مصر، 1955م، ص 125.(5/2758)
وبدون إسهاب في القول نود أن ننبه إلى أهمية التفريق بين مخالفة العرف للنص من كل الوجوه وبين حالة اصطدام العرف مع النص في الظاهر، ففي الحالة الثانية يجب التثبت من الأمر في أن الاصطدام هل هو حقيقي أم ظاهري فقط؟
ويلاحظ أن الأستاذ الزرقاء يتناول الموضوع في إطار الخطة الآتية:
1- حالة اصطدام العرف بنص تشريعي خاص:
حكمها: النص الخاص الآمر هو المعتبر المحترم ولو صادمه عرف عام الاستثناء من ذلك حالة واحدة: النص العرفي، أي ما إذا كان النص نفسه حين صدوره عن الشارع مبنيًّا على عرف قائم ومعلل به.
2- حالة تعارض العرف مع نص تشريعي عام:
(1) العرف المقارن لورود النص العام المعارض له:
أ- العرف اللفظي: الاتفاق في تخصيص النص بالعرف.
ب- العرف العملي:
أأ – العرف المقارن العام: في الاجتهاد الحنفي يكون العرف مخصصًّا للنص.
ب ب - العرف المقارن الخاص: الراجح من الآراء في الاجتهاد الحنفي لا يعترف للعرف بقوة تخصيص النص والاجتهاد المالكي في التحقيق يقبل تخصيص النص بالعرف.
(2) العرف الحادث بعد النص العام المعارض له: لا يجوز تخصيص النص بالعرف سواء كان لفظيّا أو عمليًّا.
ملاحظة: العرف الذي تزول به علة النص المعارض يعتبر ولو كان حادثًا.
3- حالة تعارض العرف والاجتهاد:
حكمها: العرف يترك به الاجتهاد القياسي والاستصلاحي (1) .
أما نحن فقد أوردنا أمثلة هذه الأحوال في الباب الأول من هذا البحث (انظر: 2-1، 2-2-1) ولا داعي للتكرار والجدير بالذكر أن المناهج كلها التي يعول عليها للتمييز بين حالة وحالة أخرى أثناء تناول موضوع مخالفة العرف للنص تدور في الحقيقة حول محور واحد: وهو بذل الجهد بغية البحث عن إرادة الشارع في القضية التي فيها العرف والتحري عن موقف العرف من الغاية المتوخاة للشارع في تلك القضية.
__________
(1) الزرقاء، المدخل الفقهي: 2 /882- 917.(5/2759)
وهذا يؤدي بنا إلى القول بأهمية العنصر الغائي بين العناصر التي يعول عليها في عملية التفسير وأهمية التفسير الغائي (interpretation teleologique) (1) .
ونرى لزامًا علينا أن نشير هنا إلى عدم مشاركتنا بالإطلاق للأستاذ الجليل الزرقاء في رأيه في موضوع حالة تعارض العرف مع الاجتهاد المستند إلى القياس النظري، إذا يقول: " الأحكام الاجتهادية التي يثبتها الفقهاء المجتهدون استنباطًا وتخريجًا عند عدم النص الشرعي عليها: إما أن تكون ثابتة بطريق القياس النظري على حكم أوجبه الشارع بالنص، لاتحاد العلة بين الحكم المقيس عليه والمقيس؛ وإما أن تكون ثابتة بطريق الاستحسان أو الاستصلاح عندما لا يوجد حكم مشابه منصوص يقاس عليه والاجتهادات الإسلامية تكاد تكون متفقة على أن الحكم القياسي يترك للعرف ولو كان عرفًا حادثًا، لأن المفروض عندئذ أن هذا العرف لا يعارضه نص خاص ولا عام معارضة مباشرة والعرف غالبًا دليل الحاجة، فهو أقوى من القياس، فيترجح عليه عند التعارض (نقلًا عن نشر العرف لابن عابدين) ، بل لقد ذكر العلامة المحقق ابن الهمام في شرح الهداية أن العرف بمنزلة الإجماع شرعًا عند عدم النص (نقلًا عن فتح القدير) ومن المعلوم أن ترجيح العرف على القياس يعتبر عند الحنفية والمالكية من قبيل الاستحسان الذي تترك فيه الدلائل القياسية لأدلة أخرى منها العرف " (2) .
__________
(1) بحثنا بعنوان " مقارنة بين موقف المجتهد تجاه النصوص في الفقه الإسلامي وبين موقف القاضي تجاه القانون في نظم الحقوق الحديثة " ألقي في الملتقي السابع عشر للفكر الإسلامي، قسنطينة (الجزائر) ، 1983م انظر أيضًا: محمد شريف أحمد، نظرية تفسير النصوص المدنية / دراسة مقارنة بين الفقهين المدني والإسلامي، بغداد، 1979م، ص 82- 98؛ محمد صبري سعدي، تفسير النصوص في القانون والشريعة الإسلامية، وهران (الجزائر) ، 1984 م، ص 208- 218، 551- 561 ونحبِّذ رأي الدكتور الديني حيث يقول: " المخصص في الواقع مستند العرف، لا العرف ذاته " (المناهج الأصولية: ص 584) ، ونجده مؤكدًا لما أشرنا إليه وإن كان هذا الرأي قد حدد نفسه بقضية التخصيص.
(2) الرزقاء، المدخل الفقهي: 2 /913، 914.(5/2760)
لأننا ذكرنا ضرورة التمييز بين المعاني المختلفة لمفهوم " القياس " وبالأخص عند الأحناف من جهة، وتناول المؤلفين الأحناف في إطار مفهوم " العرف " التعامل الجاري منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير والذي يرجع في حقيقته إلى مفهوم الإجماع أو السنة من جهة أخرى ولا نستطيع القول بأن العرف يترك به القياس حسب معناه المعروف في علم أصول الفقه إلا إذا أمكن التثبت من أن العرف يدل على انتفاء علة ذلك القياس، كما أشرنا إلى هذا سابقًا (انظر: 2-1-2 الباب الأول) .
فجهة مشاركتنا لرأي الأستاذ الزرقاء أن الحكم القياسي يمكن تركه للعرف إذا تبين زوال علة الحكم، ففي هذه الحالة لا يعتبر أن العرف دليل يقدم على القياس (1) ، أما جهة مخالفتنا له فهي أن العبارات الواردة في كتب الأحناف مثل: " العرف يترك به القياس " أو " إن العرف بمنزلة الإجماع شرعًا عند عدم النص " لا ينبغي تفسيرها بصورة مطلقة بل يجب التنبه إلى معنى كل من مفهومي " القياس " و " العرف " في تلك الحالات.
ولعل رأي الأستاذ هذا نابع عن عدم احتفاله بالتمييز بين المعاني المختلفة لمفهوم القياس، كما أنه تناول هذا المفهوم مقتصرًا على معناه المعروف في أصول الفقه أثناء توضيحه الاستحسان أيضًا (2) .
6- التقييم العام للعرف:
6-1- مفهوم " المصدر " من ناحية منهجية الحقوق الإسلامية وتقييم العرف:
6-1-1- مفهوم " الدليل " في أدب الفقه الإسلامي:
إن أكثر الاصطلاحات استعمالًا للتعبير عن مفهوم المصدر في أدب الفقه الإسلامي هو اصطلاح " الدليل " ولذا يتم تناول مصادر التشريع الإسلامي إجمالًا تحت عنوان " الأدلة الشرعية " وقد أورد المؤلفون تعاريف مختلفة لتعيين مضمون هذا الاصطلاح، ولكن الشيء الذي يهمنا هنا هو ثبوت أن المعنى المقصود من اصطلاح الدليل في أصول الفقه أعم بكثير من معنى المصدر الحقوقي (3) .
__________
(1) سنشير إلى أهمية هذا التمييز تحت عنوان 6-1-2، من الناحية المنهجية.
(2) الزرقاء، المدخل الفقهي: 1 /77- 89، 135.
(3) انظر على سبيل المثال: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة 1967 م، 1 /11-14، البخاري (عبد العزيز) ، كشف الأسرار، استانبول، 1308هـ، 1 /255 انظر: لتعريف " الدليل " عند أهل الكلام والمنطق والفقه وأصول الفقه، ولتحاليل ومناقشات واسعة حول معناه: البرزنجي (عبد اللطيف) ، التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية، بغداد، 1977 م، 1 /175- 204.(5/2761)
أما الاصطلاحات الرئيسية الأخرى المستعملة للتعبير عن معنى المصدر الحقوقي فهي " الأصل " و" الحجة " و" المدرك " و " جهة العلم " (1) .
وبما أن " الدليل " يستخدم في معنى أعم من معنى " المصدر الحقوقي " نصادف بعض المؤلفين ممن أوصلوا تعداد الأدلة الشرعية إلى أربعة عشر (2) ، أو ثمانية عشر (3) ، أو تسعة عشر (4) ، أو واحد وعشرين (5) ، وحتى ستة وثلاثين (6) دليلًا، في الوقت الذي تذكر فيه كتب الأصول عددًا أقل بكثير من ذلك عند تناول نظرية المصادر ومع ذلك، لا يمكننا اعتبار كل واحد من الأدلة الشرعية المذكورة فيها " مصدرًا ".
وفي الحقيقة أن الأدلة التي تشتمل على حلول جاهزة للمسائل الفقهية من القرآن والسنة والإجماع والعرف وقول الصحابي وشرع من قبلنا يمكن أن نصفها بأنها " مصادر " باعتبار ماهيتها، ولكن المفاهيم مثل القياس والاستحسان والاستصلاح فهي " مناهج " استنباط الحكم من المصادر، أما مثل سد الذرائع وعموم البلوى وبراءة الذمة فلا يتعدى حدود " المبادئ الحقوقية.
ونشاهد أن الغزالي يعتبر الأدلة الثلاثة الأولى (الكتاب والسنة والإجماع) التي ذكرناها بين المصادر باعتبار ماهيتها مصادر التشريع الإسلامي من ناحية الحجية أيضًا (7) ومع أنه يقول في كثير من الأماكن أن عدد المصادر أربعة – دون تمييز بين تعابير " الأصول " و " المدارك " و " أدلة الأحكام " (8) ، إلا أنه يصرح عند تناوله مصادر الحكم في المعنى الحقيقي " المثمر " بأنها عبارة عن الأصول الثلاثة (9) وأن تسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تحوز (10) .
__________
(1) انظر مثلًا: الشافعي، الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مصر، 1940م، ص 43، 120، 1468، 1814؛ الدبوسي، تقويم الأدلة، مخطوط، مكتبة السليمانية (قسم بغدادلي وهبي) رقم 350، ق 5/أ، 5/ب؛ أبو الوليد الباجي، كتاب المنهاج في ترتيب الحجاج، تحقيق: عبد المجيد تركي، باريس، 1978م، ص 15؛ الجويني، البرهان: 1 /185؛ الغزالي، المستصفى: 1 /216، 278، 2 /350.
(2) يفيد المؤلف في بداية ونهاية مقاله أن الباحث يلاحظ عشرة مصادر أخرى سوى الأدلة الأربعة
(3) القرافي، الفروق: 1 /128 الفرق: 26 (يعد القرافي هنا ثمانية عشر دليلًا ويقول إنها "نحو عشرين " أما في " التنقيح " فيقول إنها تسعة عشر، ويلاحظ أن بعض الأدلة التي ذكرها في الفروق يختلف عما ذكره في التنقيه مختصر تنقيح الفصول، في مجموعة المتون الأصولية، دمشق، د. ت، ص 73- 76) .
(4) الطوفي (نجم الدين) ، رسالة في المصالح المرسلة، بيروت، 1324 هـ، ص 39 – 43.
(5) إيزميرلي (إسماعيل حقي) ، علم الخلاف (باللغة العثمانية) – تقسيم الخادمي – استانبول، 1330هـ، ص 190، 191.
(6) تقسيم إيزميرلي في المرجع نفسه، ص 191.
(7) الغزالي، المستصفى: 1 /100.
(8) الغزالي، المستصفى: 1 /100، 2 /392؛ (أدلة الأحكام) ، 1 /315، 316 (الأصول) : 2 /350 (المدرك) .
(9) نفس المصدر: 1 /7.
(10) الغزالي، المستصفى: 1 /100(5/2762)
والجدير بالذكر أن الغزالي يلجأ إلى استخدام تعبير " أصول الأدلة " (1) بين حين وآخر فهذا تعبير جيد من ناحية تحديد الشمول لمفهوم الدليل وإخراجه عددًا كبيرًا من الأدلة المستخدمة في الفقه سواء كانت مناهج للاستنباط أو مبادئ حقوقية من مضمونه وكذلك تعبير أصول الأدلة يعبر عن المصادر التي تشكل أصول تلك الأدلة وقبل تناول أصول الأدلة على حدة يشير الغزالي إلى أن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى إذا اعتبرنا السبب الملزم للأحكام، وأما إذا اعتبرنا المظهر لهذه الأحكام فهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم (2) .
أما القياس فهو دليل يعترف الغزالي بحجيته ويدافع عنه دفاعًا حارًّا، ولكنه لا يذكره في نظرية المصادر، لأنه يراه منهجًا من مناهج استنباط الأحكام فيحله بين طرق استثمار الأحكام ومما يلفت النظر أن الغزالي قد انتبه إلى الفرق بين تفسير النصوص وبين القياس، وتناول القياس تحت عنوان مستقل غير العنوانين المتعلقين بتفسير النصوص.
فهذا كله يتعلق بمفهوم المصادر الشكلية في الفقه الإسلامي بالنسبة إلى من يتمتع بأهلية الاجتهاد وبعبارة أخرى فإنه إذا سُئِلَ " في أي مصدر يبحث المجتهد عن حل للقضية المعروضة عليه؟ " فالجواب هو ما ذكرناه آنفا من القرآن والسنة والإجماع، أما بالنسبة لمن أتى بعد أدوار الاجتهاد سواء كان قاضيا أو مفتيًا فالمصادر الشكلية له هي من حيث المبدأ اجتهادات المذهب (doctrine) (3) ، والقوانين التي أصدرتها الدولة في بعض المجالات.
6-1-2- تحليل لعدم تناول الأصوليين للعرف بين المصادر في مقابل الأهمية التي حظي بها العرف في فروع الفقه:
ومن المعلوم أنه لم يصل إلينا من أئمة المذاهب – ما عدا الإمام الشافعي رحمه الله - (4) بيان بتأليف خاص للأصول والمناهج التي سلكوها في استنباط الأحكام، وأنها دونت بعدهم بطريقة استقراء الأحكام الفرعية في مذاهبهم والاستناد إلى بعض الروايات عنهم حول هذه الأصول والمناهج.
__________
(1) الغزالي، المستصفى: 1 /100، 245.
(2) الغزالي، المستصفى: 1 /100
(3) CHEHATA (Chafik) ، Etudes De Droit Musulman، paris، 1971, p34.
(4) لا يتحدث الشافعي عن العرف في أصوله (الرسالة) أما مسألة إعراضه عن مذهبه القديم لاطلاعه في مصر على عوائد غير العوائد التي كان يعرفها في الحجاز والعراق (عمر عبد الله، العرف: ص 33؛ خلاف، أصول الفقه: ص 238) ففيها نظر يقول الشيخ أبو سنة في هذا الموضوع: " ونحن لا نشك في أن الشافعي رضي الله عنه يقول بأنواع العرف الأربعة كما تقدم الاستشهاد لها بمثل من فقهه، ولكن جعل العرف من أسباب العدول عن مذهبه القديم محل نظر فقد تتبعت كثيرًا من الفروع التي اختلف فيها المذهبان القديم والجديد، فوجدت مداركها كلها حديثية أو اجتهادية ولا أثر للعرف فيها...... وسألت كذلك من أثق به من حضرات علماء الشافعية فأنكروا هذا الكلام، وأيًّا ما كان فهذه مسألة تاريخية فصل القول فيها يتوقف على استقرار الأحكام التي اختلف فيها المذهبان " (العرف والعادة: ص 79، 80) ويرى المحمصاني أن التعديلات التي أجراها الإمام الشافعي في مذهبه بمصر كانت بسبب ظروف اجتماعية تختلف من بلد إلى آخر، فلسفة التشريع: ص 182.(5/2763)
ولم ينقل إلينا من أئمة المذاهب ما يعبر نظريًّا عن موقفهم إزاء العرف سوى بعض العبارات المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – مما تشير إلى مراعاته بتعامل أهل بلده في استنباط الأحكام وكذلك بعض التعليقات حول عبارات الإمام مالك – رحمه الله – فيما يتعلق " بعمل أهل المدينة " (1) .
ومع هذا يكاد يتفق المؤلفون على أن دراسة الأحكام التي توصل إليها أئمة المذاهب تبرهن على أنهم ليسوا بعيدين عن مراعاة العرف، بل وقفوا موقفا إيجابيًّا إزاءه ما لم يصطدم مع النصوص ومبادئ التشريع الإسلامي (2) .
إلا أن موقفهم هذا لم يتبلور في كتب الأصول، بل برز في كتب الفروع فقط، وذلك حمل الباحث على القول بأن هناك ثنائية في أدب الفقه الإسلامي من جهة تناول الفقهاء للعرف كما بينا في الباب الأول، وقد أشرنا هناك أن قصدنا منها ليس الثنائية الملحوظة من ناحية الفقه النظري والتطبيقات القانونية في تاريخ التشريع للمسلمين (3)
لا يمكن اعتبار عدم اهتمام الأصوليين بمفهوم العرف بالسلب أو الإيجاب أثناء دراستهم للأدلة الشرعية من قبيل الصدفة (4) ، إذا وضعنا نصب أعيننا أنهم جعلوا بعض المفاهيم الأخرى موضوع تحاليل دقيقة ومناقشات واسعة مثل القياس والاستحسان ويجب الانتباه أيضًا في هذا المضمار أن الفقهاء – بغض النظر عن كتب القواعد للعلماء المتأخرين– حين استدلالهم على حجية العرف ببعض الأدلة مثل حديث: ((ما رآه المسلمون حسنًا ... )) ، لا يتناولون العرف كدليل أصولي أي مصدر من مصادر التشريع وإنما يستندون إلى تلك الأدلة بمناسبة توضيح بعض الأحكام الفرعية (والتنبيه إلى هذه الناحية بصفة خاصة لا يخلو من فائدة نظرًا لعدم إشارة الباحثين المعاصرين إليها أثناء ذكرهم أدلة حجية العرف) .
__________
(1) انظر لبعض الروايات عن أبي حنيفة: أبو زهرة، أبو حنيفة، مصر 1955 م: ص 309؛ لعمل أهل المدينة: القاضي عياض، ترتيب المدارك، بيروت، 1967م، 1 /66 – 74؛ لتقويم العمل بأنه العرف: الجيدي، العرف والعمل: ص 335، 393-395 خاصة.
(2) القرافي، مختصر تنقيح الفصول: ص 76؛ ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، مصر: 1955 م، 2 /393، 3 /89؛ أبو زهرة، مالك، مصر، 1963 م، 1964 م: ص 421؛ الجيدي، العرف والعمل: ص 77 فما بعدها.
(3) انظر لملاحظة Joseph SHACT وتعليقنا: الباب الأول، الهامش 26 ويلاحظ أنR.LEVY في مادة " ruf " (العرف) و COLDZIHER I. في مادة " Ada" (العادة) أيضا يتناولان الموضوع بشكل أزيد من ناحية التطبيقات القانونية في تاريخ التشريع للمسلمين، انظر: Encyclopedie De L" Islam، Leyde (Hollande) , 1934، I/124،,IV/1087.
(4) نلاحظ أن السرخسي يجعل العرف سببًا للاستحسان في كتابه المتعلق بالفروع وذلك على خلاف موقفه في كتابه المتعلق بالأصول، المبسوط: 12 /59؛ الأصول: 2 /202، 203 وكذلك نجد النسفي يذكر تعامل الناس بين الأدلة الشرعية في كتابه الخاص بالفروع ولا يذكره بينها في كتابه المتعلق بالأصول، المستصفى، مخطوط: ق 5/أ؛ المنار في الأصول، استانبول، 1329 هـ، ص 2 انظر لحالة استثنائية في هذا الموضوع، الهامش 144 من هذا الباب.(5/2764)
أما بخصوص الكشف عن سرِّ الثنائية الملحوظة في موضوع العرف في أدب الفقه الإسلامي، فلتحليل مفهوم المصدر أهمية كبيرة في نظرنا والحقيقة أن الباحث لا يستنكر هذه الثنائية في موضوع العرف في أدب الفقه الإسلامي إذا أخذ بعين الاعتبار ما بيناه في المصادر الشكلية بالنسبة إلى كل من المجتهد وفقيه الأدوار التي تلت أدوار الاجتهاد، لأن كتب الفروع تنظر إلى العرف من زاوية الإفتاء أو القضاء بغض النظر عن صلاحية الاجتهاد لمن يتولى ذلك، وهذا ما يجعل أصحاب هذه الكتب يهتمون اهتمامًا بالغًا بالعرف الذي ينتظم عددًا كبيرًا من المسائل الفرعية وكما هو معلوم فإن علم الفروع له صلة وثيقة بواقع الحياة.
وفي مقابل ذلك تهتم كتب الأصول بالمصادر من زاوية الاجتهاد، فمن الطبيعي أن لا يحتل العرف فيها مكانًا خاصًّا، وذلك لأن عدم تناول مفهوم المصدر مرادفًا لمفهوم " الدليل " (بمعناه الواسع) يدلنا – كما أشار إليه الغزالي رحمه الله وغيره من العلماء – على أن المصادر من حيث ماهيتها من جهة والاعتراف بحجيتها من جهة أخرى في الفقه الإسلامي تقتصر على مصدرين وهما الكتاب والسنة (1) وليس هناك مصدر آخر له مثل هذه الخاصية سواهما، لأننا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن كلًًّا من قول الصحابي وشرع من قبلنا يؤول إلى الكتاب والسنة، نجد أن الخاصية المشتركة بين ما سوى هذه الأدلة هي كونها متعلقة " بالكيفية " دون " الماهية " ما عدا العرف، أي أنها لا تجيب على سؤال " من أين يؤخذ الحل الفقهي "؟ بل على سؤال " كيف يتم استنباط الحل من المصادر الأصلية؟ " فهذا ما يتبين لنا بجلاء إذا قمنا بدراسة الحجج التي يعول عليها لإثبات حجية تلك الأدلة الشرعية مثل القياس والاستحسان، فالآيات والأحاديث التي يستدل بها على حجيتها لا تحيل المجتهد على مصادر جديدة في الحقيقة، بل تنطوي على فكرة أساسية تدعم الأصولي في اختياره المنهج الواجب اتباعه لاستنباط حلول مناسبة لقضايا جديدة من المصادر الأصلية فعلى سبيل المثال، أن آية {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر: 2] تنطوي على فكرة " تسوية الحالات المماثلة في النتائج "، والمجتهد الذي يأخذ بالقياس مستدلًّا بهذه الآية الكريمة على حجيته يبرهن بذلك على صحة منهجه في الاستنباط دون أن يثبت مصدرًا جديدًا.
__________
(1) بما أن الإجماع يعترف بوقوعه من طرف الجميع ينحصر في الإجماعات التي لها مستند في النصوص، يمكن أن نعتبر هنا أن الإجماع في نهاية أمره إلى القرآن والسنة(5/2765)
أما العرف فهو مصدر باعتبار ماهيته كما أسلفنا، ولكن اعتراف النصوص بحجيته قضية تحتاج إلى شيء من التفصيل: فالباحث يجد في القرآن والسنة أدلة عديدة تدل على مراعاة العرف واستنباط الأحكام دلالة تكون لدى المجتهد أساسًا فكريًّا وتنير السبيل أمامه (انظر: 4، وخاصة 4-2 من الباب الثاني) وفي الوقت نفسه لا يمكن القول بأن النصوص تحيل المجتهد على العرف فيما لا نص فيه مباشرة، ومن ثم لا يمكن القول بكونه مصدرًا يعترف بحجيته في الشريعة الإسلامية وإذا أمعن الباحث النظر في القضية يجد في هذا الموقف أمرًا طبيعيًّا، لأن الاعتراف بمصدرية العرف لا يتفق وأسس التفكير الإسلامي وبنية فلسفة الحقوق الإسلامية وتسبب أيضًا بعض المشاكل من ناحية منهجية الحقوق (سنلقي فيما بعد نظرة عابرة على القضية من ناحية فلسفة الحقوق) .
أما من ناحية منهجية الحقوق فما يجب الانتباه إليه هو أن العرف إذا تم الاعتراف بمصدريته في الشرع فليس للمجتهد إلا القيام بتثبيت وجوده وعدم مخالفته للنصوص صراحة، ثم يكون العرف ملزمًا من الجهة الشرعية، ويسد ذلك إلى حد كبير على المجتهد إمكانية الاجتهاد من أجل التوصل إلى الحال الأنسب وإلا وقف مع روح الشريعة الإسلامية في القضية المعروضة عليه والتفكير في المقاصد العامة والخاصة للنصوص مما يمكن إيجاد رابطة بينه وبين تلك القضية بينما إذا كان العرف يلعب دوره كحجر أساسي في مناهج الاستنباط مثل الاستحسان والاستصلاح أمكن للمجتهد أن يقدم على العرف ما يجب مراعاته بالدرجة الأولى لتحقيق مقاصد الشريعة من مبادئ وإن كان العرف الوارد في القضية المعينة لا يصطدم صراحة مع النصوص.
وفي الحالة التالية تبرز بوضوح أكثر أهمية عدم الاعتراف بمصدرية العرف من ناحية منهجية القانون: في نظم الحقوق المكتوبة إذا كان العرف معترفًا به كمصدر مستقل بعد القانون، لا يمكن التحدث عن عملية ملء " فراغ قانوني " من طرف القاضي في حالة ما إذا وجد عرف القضية المعروضة ولم يوجد نص قانوني يتناول في حكمه تلك القضية، ولا يستطيع القاضي في هذه الحالة مراجعة القياس الذي هو منهج من مناهج ملء الفراغ القانوني، أما إذا لم يعتبر العرف مصدرًا مستقلًا في الحالة ذاتها يجب أن يتولى القاضي ملء هذا الفراغ ويتمتع بإمكانية مراجعة مناهج ملء الفراغ القانوني ومنها القياس فيتبين من خلال هذه المقارنة أن عدم اعتبار العرف مصدرًا مستقلًّا في الفقه الإسلامي مكن القياس من الحفاظ على قيمته المنهجية وقد أشرنا إلى أن القياس الوارد في " العرف يترك به القياس " ليس المقصود منه غالبًا معناه الأصولي (القياس القانوني gesetsesanalogie) ، وإنما القاعدة العامة (القياس الحقوقي rechtsanalogie) وكذلك المقصود من " العرف " فيه هو الإجماع السكوتي أو السنة التقريرية بالنسبة لبعض المسائل (1) .
__________
(1) انظر: الباب الأول 2-1-2 والهامش 56، 57(5/2766)
6-2- مفهوم " المصدر " من ناحية فلسفة الحقوق الإسلامية وتقييم العرف:
المقصود من مفهوم المصدر من ناحية فلسفة الحقوق هو المصدر بمعنى منشأ الحقوق، ومما أجمع عليه الفقهاء المسلمون – وبينهم المعتزلة أيضًا – أن الحقوق الإسلامية بهذا المعنى إلهية تعتمد على الوحي، وأن سلطة إنشاء الحكم ليست لأحد إلا لله وأن العقل ليس له استقلال في هذا المعنى هذه الناحية هي المتفق عليها بين علماء المسلمين. إلا أنهم اختلفوا في مسألتين:
الأولى: هل أحكام الله لا تعرف إلا بواسطة رسله، أو يمكن للعقل أن يستقل بإدراكها وعلى أي أساس يكون هذا؟
والثانية: وإذا أمكن للعقل أن يدرك حكم الله دون وساطة الرسول، فهل يكون هذا الإدراك مناط التكليف وما يترتب عليه من ثواب وعقاب في الآجل ومدح وذم في العاجل؟
والمناقشات حول هاتين المسألتين أدت إلى قيام نظرية عرفت بين العلماء المسلمين بنظرية " الحسن والقبح " (1) .
ونحن نكتفي – دون أن نتطرق إلى تفاصيل هذه النظرية – بلغت النظر إلى أن الأحكام التي أمكن التوصل إليها بمجرد العقل لا تعتبر ملزمة عند العلماء المسلمين – إلا لقليل منهم – وإن كان الفقهاء الذين تبنوا رأي الماتريدية ومن وافقهم يتوسعون في الاجتهاد بالرأي أكثر الآخرين (2) وهذا يعني أن اعتبار العرف مصدرًا مستقلًّا في الفقه الإسلامي لا يتفق والمبدأ الفلسفي للفقهاء (3) .
__________
(1) انظر الخلاصة مركزة في الموضوع اعتمادًا على كشف الأسرار للنسفي وحاشية قمر الأقمار للكنوي والمسامرة في شرح المسايرة لابن همام: الدواليبي، المدخل إلى علم أصوله الفقه، ص 170، 173 (في الهامش) .
(2) الدواليبي، الكتاب المذكور، ص 174.
(3) أبو سنة، العرف والعادة، ص 30، 31. ZIADEH (Farhat j.) ، " Urf and law in Islam"، The World Of Islam Studies in honour of P.k.Hltti، London, 1959، p 62..(5/2767)
هذا وإن الدكتور محمد حميد الله يركز على ملاحظة هامة فيما يقوله في فلسفة الحقوق الإسلامية: " ومما لا شك فيه أن المؤمن يطيع ما أمره الله به ورسوله طوعًا، أما ما يتعلق بآراء الفقهاء الذين لم تثبت لهم العصمة مثل الرسول، فهناك اعتباران في نفاذها في المجتمع، فالاعتبار الأول هو أن الفقهاء مكلفون باستنباط الأحكام بطريق القياس على معطيات القرآن والسنة، فبهذه الطريقة يمتزج الحكم المستنبط بمصدره الأصلي الذي استنبط منه والثاني أنه قبل كل شيء يفرض أن لا يكون الفقيه راسخًا في العلم فقط، بل يجب أن يكون مع رسوخه في العلم ورعًا ومتحليًّا بأخلاق حسنة " (1) .
وفي هذا المعنى يقول سافوري: " القانون في نظر المسلم جزء متمم لدينه ... وكذلك القانون في نظره أمر الله المعتمد على الوحي مثل القرآن " (2) .
ويجدر بنا الإشارة إلى ناحية أخرى تتعلق بالمبدأ الفلسفي وتعين الباحث في الكشف عن سر الثنائية الملحوظة في موضوع العرف في أدب الفقه الإسلامي وهي مسألة مضامين الفقه الإسلامي، والواقع أن الفقه الإسلامي لا ينظم علاقات الإنسان ببني الإنسان فحسب كما يفعله الفقه البشري، بل يتعدى ذلك إلى تنظيم علاقاته مع خالقه أيضًا حتى أن جميع الأحكام في الفقه الإسلامي المتعلقة بتصرفات الإنسان بما فيها علاقاته مع أبناء جنسه تصطبغ بصبغة إلهية الأمر الذي يحمل الفقيه على النظر في القضايا لا من زاوية النتائج الدنيوية لها فقط، بل زاوية نتائجها الأخروية أيضا وبالتالي فإن مسألة الجواز وعدم الجواز وما يتعلق بالعبادات وما للأحكام من جهتين ديانية وقضائية تشكل مجالًا فسيحًا في الدراسات الفقهية وتوسع نطاقها ونتيجة لذلك نجد كتب الفروع في الفقه الإسلامي تعتمد على العرف في مسائل كثيرة من فروع لا يتطرق إليها الفقه الوضعي في قليل أو كثير مثل ألفاظ اليمين والطلاق.
__________
(1) HAMIDULLAH ," Philosophie juridique chez les musulmans"، p140, 141.
(2) SAVORY, lntroduction To Islamic Civilisation، p54.(5/2768)
6-3- نظام إعمال الأدلة الشرعية في الفقه الإسلامي ومكانة العرف فيه، وأخيرًا: نود أن نشير إلى بعض المقاطع التي لها أهمية من ناحية تقييم مكانه العرف في الفقه الإسلامي:
أولا: كان العرف مصدر تنظيم لكل المجالات الاجتماعية عند العرب قبل الإسلام، أما بعدة فقد أهميته السابقة، لأن الإسلام جاء بالقرآن والسنة كمصادر أصلية للتشريع (1) وذلك ما يلاحظ في نظم الحقوق الحديثة أيضًا حيث إن العرف أصيب بالوهن بعد قيام حركات التدوين فيها حتى يمكن القول بأن العرف لم يعد يحتل مكانته السابقة في الفقه الإنكليزي اليوم.
ثانيا: إن العقل بمعنى " النفي الأصلي "أو " العدم الأصلي " الذي يذكره الغزالي بين أدلة الأحكام والذي يقول فيه: " إن تسميته أصلا من أصول الأدلة تجوز " لا يمكن إنكار أهميته من ناحية نظام إعمال الأدلة، أي أن الاستصحاب في معناه الضيق يغني الفقيه من البحث عن الدليل في الجزئيات كلها وبعبارة أخرى فإنه لا يمكن التحدث عن وجود حكم يأتي بتكليف (الوجوب، الندب، الحرمة، الكراهة (أو مؤيده شرعية) مثل الفساد أو البطلان أو العقوبة أو الضمان) في الفقه الإسلامي إلا بالاستناد إلى النصوص الخاصة (أي بالاجتهاد البياني أو القياسي) أو إلى روح النصوص (أي بالاجتهاد الاستصلاحي) كما أسلفنا إذًا فالمجال واسع لمواكبة العرف لمتطلبات الحياة لأن الأصل هو الإباحة في الأشياء وبراءة الذمة، ما لم يعول في الحكم المخالف لذلك على النصوص إما مباشرة وإما برابطة خاصة – وهي العلة ومنهج ربطها يسمى قياسًا – أو عامة – وهي مبادئ الشريعة ومنهج ربطها يسمى استصلاحًا.
ثالثًا: يتبين ما سبق أن العمل بالعرف في تشريع الإباحة لا يقتضي دليلًا خاصًا، لكونه من مقتضيات مبدأ النفي الأصلي، وإنما تمس الحاجة إلى دليل خاص في التشريع الإلزامي ولتوضيح ذلك نقتبس من العلامة الطاهر ابن عاشور ما يقول فيه:
" ولهذه الحكمة الخصوصية جعل الله هذه الشريعة مبنية على اعتبار الحكم والعلل التي هي من مدركات العقول لا تختلف باختلاف الأمم والعوائد ".
إذن فمراعاة عوائد الأمم المختلفة هو خلاف الأصل في التشريع الإلزامي وإنما يسعه تشريع الإباحة حتى يتمتع كل فريق من الناس ببقاء عوائدهم.
__________
(1) المحمصاني، فلسفة التشريع: ص 182.(5/2769)
لكن الإباحة لما كان أصلها الدلالة على أن المباح ليس فيه مصلحة لازمة ولا مفسدة لزم أن يراعى ذلك في العوائد فمتى اشتملت على مصلحة ضرورية أو حاجية للأمة كلها أو ظهرت فيها مفسدة معتبرة لأهلها لزم أن يصارَ بتلك العوائد إلى الانزواء تحت القواعد التشريعية العامة من وجوب أو تحريم ولهذا نرى التشريع لم يتعرض لتعيين الأزياء والمساكن والمراكب فلم يندب الناس إلى ركوب الإبل في الإسفار ولم يمنع أهل مصر والعراق من ركوب الحمير ولا أهل الهند والترك من الحمل على البقر، لذلك لم يحتج المسلمون إلى تطلب دليل على إباحة استعمال العجل والعربات والأرتال، وكذلك أصناف المطاعم التي لا تشتمل على شيء محرم الأكل بحيث لا يسأل عن ذلك إلا من جاهل بالتركيب أو جاهل بكيفية التشريع.
فنحن نوقن أن عادات قوم لا يحمل عليها قوم آخرون في التشريع ولا أن يحمل عليها أصحابها كذلك، نعم يراعي التشريع حمل أصحابها عليها ما داموا لم يغيروها، لأن التزامهم إياها واطرادها فيهم يجعلها منزلة منزلة الشروط بينهم يحملون عليها في معاملتهم إذا سكتوا عما يضادها " (1) .
ففي التشريع الإلزامي لا يعتبر العرف مصدرًا بصورة مباشرة وإنما يلعب دوره عن طريق منهج الاستصلاح وفي بعض الأحيان عن طريق منهج القياس كما بينا في الباب الأول، ولعل الأستاذ أبا سنة يقصد هذا المعنى، إذ يرى من الضروري رد العرف إلى واحد من الأصول الشرعية مثل المصلحة المرسلة، وأصل المنافع والمضار ودلالة الإجماع للتعويل عليه (2) .
رابعا: يشاهد أن العرف يلعب دوره أيضا عن طريق منهج الاستحسان الذي يتسم بطابع سلبي فتزول به شدة وقسوة القياس أي القاعدة العامة التي يرى المجتهد عدم انطباقها على بعض المسائل من خلال اختبار الصحة المنطقية أو الصحة الأخلاقية أو الصحة الاجتماعية والثقافية للحقوق.
* * *
__________
(1) الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 89-91.
(2) أبو سنة، العرف والعادة ص 32 – 43.(5/2770)
الخاتمة
من خلال دراستنا للعرف في الفقه الإسلامي نخلص إلى ما يلي:
1- لا يمكن إنكار ما للعرف من تأثير عميق على الفرد والمجتمع كما لا يمكن القول بأن التشريع الإسلامي أهمل هذا التأثير له ولم يحتفل به.
2- ويمكن البت – بعد تمحيص النظر في النصوص – في أن العرف يجب مراعاته في استنباط الأحكام وتطبيقها ولكن لا يبدو أن هناك إمكانية القول بأن النصوص اعتبرت العرف مصدرًا مستقلا لأن إثبات أصل من الأصول (المصادر) يقتضي الدليل القطعي كما نبه إلى ذلك الغزالي بمناسبة تقويم حجية دليل آخر.
أما الأدلة المذكورة بصدد إثبات حجية العرف فهي ظنية كما بينا ذلك في مكانه والجدير بالذكر هنا أننا إذا نظرنا إلى ما يستند إليه كثير من الباحثين بقولهم: " يستدل العالم الفلاني بالآية الفلانية أو الحديث الفلاني على حجية العرف " نلاحظ أن هذا العالم لا يتناول موضوع حجية العرف مستقلا، بل يتحدث عن حجيته بمناسبة حكم فرعي لتدعيم النتيجة التي توصل إليها والتي لها صلة بالعرف.
إلا أنه إذا وضعنا نصب أعيننا أن الدليل الأقوى في نظر العلماء بين الأدلة التي يستدل بها على حجية الإجماع هو ما جاء في عدد كبير من الأحاديث المروية بطريق الآحاد من الدلالة على معنى مشترك مفاده عدم اتفاق الأمة الإسلامية على الضلالة وضرورة ملازمة الجماعة (أي هو المتواتر المعنوي) فالقيام بمثل هذا الاستدلال بشأن العرف لا غبار عليه ولكن النتيجة النهائية لهذا الاستدلال – بحسب ما يبدو لنا – لا تمكننا من قبول العرف مصدرًا مستقلا (1) .
__________
(1) يقول أبو سنة: " فهذا شهاب الدين القرافي يعتد العوائد من أدلة حجية الأحكام " (العرف والعادة ص 28) وبعد دراسة أدلة حجية العرف يخلص إلى أن الفقيه لا يمكن أن يتخذه دليلًا ما لم يؤيده أصل من أصول الفقه (ص 32) ثم يقول: " إن المراد من جعل العوائد دليلًا في كلام القرافي أنها طريق للقاضي إلى الفصل في الدعوى (ص 32) . ونجد ZIADEH أنه يصرح – مستندا إلى كتاب أبي سنة ص 32 – بأن القرافي عد العوائد بين مصادر الفقه واعتبرها مصدرًا محددًا (“ Urf and law in Islam ”,p64) ”a definite soure” والحقيقة أن القرافي يمتاز بتفريقه المعاني المختلفة لمفهوم " الدليل " عن بعضها البعض؛ إذ يقسم الأدلة إلى ثلاثة أقسام: أدلة مشروعيَّة الأحكام، وأدلة وقوع الأحكام، والحجاج وعند تناوله أدلة مشروعية الأحكام لا يعد إلا ثمانية عشر دليلا ولا يذكر بينها العرف أو العوائد مع أنه يقول " وهي نحو عشرين " الفروق: 1 /128 الفرق: 26 أما في كتابه المتعلق بالأصول فيقول في الباب الذي عنونه " في جميع أدلة المجتهدين ": "وهي تسعة عشر "، ويذكر بينها " العادات " (تنقيح: ص 74؛ " العوائد " في شرحه: ص 200) ثم يقول: " ينقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العادات والمصلحة المرسلة وسد الذرائع وليس كذلك. أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها " (ص 76، وشرحه: 200) . بالرغم من أن هذا التصريح يمكن اعتباره استثناء لعدم تناول الأصوليين العرف فإنه ليس تناول العرف ودراسته كدليل مستقل في حقيقة الأمر، وإنما عبارة عن ذكره بين مناهج التشريع ومبادئه، علمًا بأن القرافي لا يذكره في الفروق بالرغم من عده ثمانية عشر دليلًا فيه أما عبارة " العرف مشترك " الواردة في كتاب القرافي وكذلك النسفي (المستصفى، مخطوط، مكتبة سليمانية (استانبول) قسم فاتح، رقم 1846، ق 132/ أ) فيبدو أنها تعود في آخر المطاف إلى التنويه بدور العرف في تفسير النصوص والتصرفات القانونية ونتوصل من خلال ذلك إلى أن القرافي لا يعتبر العرف دليلًا في معنى " المصدر الحقوقي "، مع اهتمامه الكبير به سواء في استنباط الأحكام أو في أمور الفتوى والقضاء فمع أننا نشارك رأي الأستاذ أبي سنة في هذه المسألة مبدئيًّا، إلا أننا لا نحبذ حمل كلام القرافي على أن العوائد طريق للقاضي إلى الفصل في الدعوى فقط، لأنه يذكرها بين " أدلة المجتهدين ".(5/2771)
وإنما يمكن القول بأن النقطة المشتركة للأدلة الخاصة والعامة التي تناولناها من قبل هي " ضرورة مراعاة العرف " في الشريعة الإسلامية، أما اعتبار العرف مصدرًا مستقلًّا فلا يتفق والبنية المنهجية والفلسفية للفقه الإسلامي ولو عنيت مرتبته بين سلسلة المراتب للأدلة وحدد بقيد عدم مخالفته للنص.
3- قمنا بتثبيت ظاهرة هامة بالنسبة لمكانة العرف في أدب الفقه الإسلامي، وهي أن كتب الأصول مع أنها تولي كبير أهمية لمناقشة الأدلة الشرعية سواء كانت معترفًا بحجيتها أو غير معترف بها لا تهتم بالعرف سلبًا ولا إيجابًا وفي مقابل ذلك يلاحظ أن العرف احتل في كتب فروع الفقه مكانًا ليس متوازيًا مع وضعه في كتب الأصول حتى أن بعض المؤلفين يجعل العرف سببًا للاستحسان في كتابه المتعلق بالفروع ويحترز عن ذلك في كتابه الخاص بعلم أصول الفقه وكذلك البعض منهم يذكر تعامل الناس بين أصول الشرع في كتابه المتعلق بالفروع بيد أنه لا يتحدث عنه في مكانه أي أثناء تناوله لأصول الشرع في كتابه المتعلق بأصول الفقه (وقد أتيحت لنا فرصة التنبيه إلى خطأ قد يشوش فكر الباحث في تقييم العرف، وهذا الخطأ الذي شاع في كتب عدد من العلماء الأجلاء نسبة تعريف للعرف إلى الغزالي مستندًا إلى كتابه المستصفى من علم الأصول) .
وهنا ينبغي الأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر كل من كتب الأصول والفروع – بالإضافة إلى ما لفتنا النظر إليه من البنية المنهجية والفلسفية للفقه الإسلامي – لتثبيت عوامل هذه الظاهرة ونحن حاولنا جهدنا لتسليط الأضواء على هذه الناحية بلفت النظر إلى ضرورة تناول مفهوم " المصدر الشكلي " بالتفريق بين أدوار الاجتهاد وبين الأدوار التي تلت عهد تكون المذاهب.
وإلى جانب ذلك ذكرنا أن العرف الذي ينوه بمكانته في فروع الفقه ليس في أغلب الأحيان في معنى العرف الذي يلعب دور القاعدة القانونية، بل هو العرف الذي يراعى في تفسير النصوص والعرف المتعلق في نهاية أمره بقواعد اللغة (ولا سيما العرف المفسر لعبارات اليمين) والعرف الذي يساعد الحاكم في تقدير أدلة الطرفين أثناء القضاء.
4- وبطريقة الإشارة إلى نظام إعمال الأدلة الشرعية في الفقه الإسلامي أوضحنا أن مبدأ مراعاة العرف يلعب دوره غالبًا بشكل طبيعي ودون الحاجة إلى التعبير عنه نظريًّا، وأنه يجري مهمته عن طريق مناهج الاستحسان والاستصلاح خاصة في حالات تضمن الحكم تكليفا شرعيًّا أو مؤيدة شرعية أو التي تقتضي الاستثناء من القاعدة العامة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور إبراهيم كافي دونمز.(5/2772)
العرف بين الفقه والتطبيق
إعداد
محمود شمام
الرئيس الشرفي لمحكمة التعقيب
الأستاذ المحاضر بالجامعة الزيتونية
عضو المجلس الإسلامي الأعلى
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .
مقدمة
يسعدني ويشرفني أن أشارك في هَذه الدورة المباركة، للمجمع الفقهي الإسلامي المنعقدة بهذا البلد الإِسلامي العربي الكريم المضياف.
واخترت الحديث عن الموضوع اقترحه على المجمع، له أهمية قصوى في حياة الناس ومعاشهم، وله صلة وثيقة ومتينة بما يسن من تقنين يضبط تلكم الحياة ويحدد معالمها، ويحمي المعاملات بين الأفراد والمجموعات.
فالعرف يفزع إليه القاضي كلما فقد النص أو احتاج إلى شرح غموض بنص بين يديه في موضوع معين إذ العادة محكمة لإثبات حكم شرعي وشرح مقاصد الأطراف وتفسير العقود والاتفاقات وإزاحة الغموض عنها وإنارة السبيل أمام القاضي والمتقاضي.
والعادة تعتبر من الأدلة الشرعية، فقد وضعت قواعد شرعية تشير إلى استعمالها بصفة أدلة لإِثبات المسائل الفقهية ضرورة، أن العادة طبيعة ثانية وهي محكمة بين الناس أي أن العادة عامة كانت أو خاصة تجعل حكمًا لإِثبات حكم شرعي وإقرار على ما يحدث وينزل من قضايا، وهي حكم لإِزالة لبس وغموض غشي اتفاق بعض الأفراد.
والعادة لها تأثير على النفس، إذ متى رسخت العادة وتكررت ألفتها النفوس وخضعت لتقاليدها وأحكامها وليس من الميسور نزع الناس عن عاداتهم وما ألفوه في حياتهم.
فالعادة والعرف لهما أهمية كبرى في مد نطاق الأحكام الشرعية والتوسع فيها بجعلها تطابق الأزمنة المختلفة على حساب احتياجات العصر ومتطلباته ومخترعاته ومحدثاته، وما يجد كل يوم من جديد.
ومن مبادئ الشريعة الإِسلامية السمحة ومن مقاصدها أن الأمر إذا ضاق اتسع لأن المشقة تجلب التيسير.(5/2773)
ولذا فإنه باختلاف الأزمان والمدن والشعوب يمكن أن تتبدل المسائل التي تبنى على العرف، والفقه الإِسلامي كان له القدح المعلى في هذا الميدان بما خطه من أحكام وقره من قواعد ظهرت نتائجها عند التطبيق والعمل والتنفيذ.
والعرف في الشرع له اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار
العرف لغة:
العرف له عدة مفاهيم لغوية. جاء في المصباح: أمرت بالعرف أي المعروف وهو الخير والرفق والإِحسان.
وجاء في لسان العرب، لابن منظور: العرف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإِحسان إلى الناس.
العرف اصطلاحًا:
هو ما اعتاده الناس وألفوه من قول أو فعل، إذا تكرر من بعد أخرى حتى تمكن أثره في نفوسهم واطمأنت إليه قلوبهم وطباعهم وتلقوه بالقبول.
قال في المستصفى (1) : العرف هو ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السلمية بالقبول.
__________
(1) ذكر المرحوم أبو زهرة في كتابه: مالك: ص 555 في التعليق أسفل الصفحة: قال الغزالي في المستصفى العرف والعادة ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطابع السليمة بالقبول. كما ذكر ذلك الأستاذ مصطفى الزرقاء في كتابه المدخل الفقهي العام: 2 /841 طبعة عاشرة في الهامش: قال الغزالي في المستصفى إلخ ... أما ابن عابدين في رسالة نشر العرف المنشورة ضمن رسائله: 2 /114، فإنه ذكر التعريف ناسبًا إيَّاه إلى المستصفى دون ذكر الغزالي، فظن من نقل عنه ممن ذكرنا وغيرهم أنه كتاب المستصفى للغزالي مع أنه لا وجود لهذا التعريف به. وابن عابدين يقصد المستصفى شرح الفقه النافع في الفروع، لأبي البركات عبد الله النسفي صاحب العقائد والتفسير المسميين باسمه والمتوفى سنة 710 /1310، ترجمته في كتاب الفتح المبين في طبقات الأصوليين، للشيخ المراغي: 2 /108. وقد لفت الانتباه إلى ذلك د. محمد بن إبراهيم في أطروحته عن الاجتهاد – لا زالت مخطوطة -.(5/2774)
وجاء في رسالة نشر العرف، لابن عابدين الحنفي ضمن رسائله: 2 /11، وما بعدها:
والعادة مأخوذة من المعاودة، فهي بمعاودتها صارت معروفة مستقرة في النفوس. فالعادة والعرف معنى واحد من حيث المصداق وإن اختلفا من حيث المفهوم. ومن هذا يتبين أن عادة الجماعة وعرفها بمعنى واحد في نظر فقهاء الشريعة أو على الأقل مؤداهما واحد وإن اختلفا من حيث مفهوم اللفظ.
وجاء في كتاب التعريفات تعريف، لأبي الحسن على بن محمد بن على الجرجاني الحنفي المتوفى سنة 816 هـ، قوله:
" هو ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطباع بالقبول". يقول عز الدين بن عبد السلام الشافعي الفقيه الملقب بسلطان العلماء في كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام:
" أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإِجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح ".
وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها، فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته ومن أراد أن يعرف المناسبات والمصالح والمفاسد راجحها ومرجوحها، فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده، ولم يقفهم على مصلحته ومفسدته.
حجية العرف:
لا خلاف تقريبًا بين الفقهاء في اعتماد العرف لاستمداد بعض الأحكام وترتيب القضاء عليه، وإن اختلفوا في التفاصيل والجزئيات والفروع وحتى الأمثلة أحيانًا.
ودليل الأخذ بذلك من القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [سورة الأعراف: الآية 199] .
والعرف هو المعروف الجميل المستحسن من الأقوال والأفعال. وقوله سبحانه وتعالى
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الحجرة: الآية 77] .
وذلك لأن الاعتماد على العرف طريق من طرق التوسم والتثبت والتفكير لاستنباط الأحكام لما يحدث من قضايا لا تشملها النصوص.
ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة النساء: الآية 6] . ففيه إحالة على ما جرى به العرف وسار الناس عليه في شأن أجرة الولي في مال اليتيم.(5/2775)
وقد عقد الإِمام البخاري بابًا في صحيحه تحت عنوان: باب في من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيع والإِجارة والكيل والوزن وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة.
ونقل عن شريح القاضي أنه كان يقول: سنتكم بينكم. وفي قضاء الرسول لامرأة جاءته تشتكي شُحَّ زوجها في النفقة عليها وعلى أولادها، وهو ثري لكنه بخيل، فقال لها عليه الصلاة والسلام:
((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) . أي أنه أحالها على ما جرى به العرف في هذا الشأن. وقد اعتمد الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم كثيرًا من أعراف الجاهلية الحسنة واتبعه أصحابه في ذلك والتابعون، واستمر العمل بذلك عند فقهاء الأمصار.
فالحنفية: يقولون التعيين بالعرف كالتعيين بالشرط والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا واستعمال الناس حجة يجب العمل بها ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان (1) .
يقول سهل بن مزاج في بيان الأصول التي بنى عليها أبو حنيفة استنباطه: " كلام أبي حنيفة أخذ بالثقة وفرار من القبح والنظر في معاملات الناس، وما استقاموا عليه وصلحت عليه أمورهم يمضي الأمور على القياس فإذا قبح القياس يمضيها على الاستحسان ما دام يمضي له فإذا لم يمضِ له رجع إلى ما يتعامل به الناس وهو العرف".
وأما المالكية: فهم يعتبرون العرف لاستنباط الأحكام عليه. يقول مالك. رضي الله عنه: "وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أثر معمول به فيه" (2) .قاله في تعليقه على حديث خيار المجلس وتخريجه له في الموطَّأ لأن العمل في المدينة جرى على خلافه، وهو يوضح موقف أنه لو وجد حدًّا متعارفًا بين أهل المدينة في ذلك لقال به.
ويروي عنه أيضًا أنه يخصص العام بالعرف في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [سورة البقرة: الآية 233] .
فيقول هو خاص بغير ذوات الأقدار والشرف ولا يجب على الشريفة إرضاع ولدها لأن العادة جرت بذلك. وهو يستند هنا إلى العرف مع عدم وجود الإِنكار.
قال ابن السُّبكي في جمع الجوامع: " والأصح أن العادة بترك بعض الأمور تخصيص إن أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم أو الإِجماع ومن هذا القبيل اكتفاؤهم في صحة البيع بالمعاطاة دون صيغة للإِيجاب والقبول " (3) .
__________
(1) انظر الأشباه والنظائر، لابن نجيم، ومثلها للسيوطي.
(2) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، للسيوطي: 2 /79، ط. دار الفكر.
(3) كتاب الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، للشيخ الخضر بن الحسين: ص 38؛ وكتاب أصول النظام الاجتماعي، لشيخنا محمد الطاهر ابن عاشور.(5/2776)
والحنابلة: لم يأخذوا بالعرف نظريًّا لتمسُّكهم بالنَّص واعتمد بعضهم العرف في حالات خاصة.
يقول الإِمام ابن تيمية في شأن الأسماء:
"ومنها ما يرجع حده إلى الناس وعرفهم، فيتنوع بحسب العادة والعرف كاسم البيع والنكاح والقبض والدراهم والدينار، ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدها الشارع بحد ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس" (1) .
ويقول ابن القيم في إعلام الموقعين:
" لا يجوز للمفتي أن يفتي في الإِقرار والأيمان والنذور والوصايا، وغيرها مما يتعلق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عرف أهلها والمتكلمين بها فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه وإن كان مخالفًا لحقائقها الأصلية فلفظ الدينار اسم لثمانية دراهم وعند طائفة أخرى اسم لاثني عشر درهمًا وكذلك في ألفاظ الطلاق" (2) .
الشافعية: يعتمد فقهاء الشافعية العرف ويعملون به رغم عدم أخذ الشافعي به.
والإمام عز الدين بن عبد السلام يقرر في كتاب قواعد الأحكام: 2 /186:
إن كل ما يثبت في العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد صح، فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل ولا شرب لزمه ذلك ولو شرط عليه أن لا يصلي الرواتب أي النوافل وأن يقتصر في الفرائض على الأركان وجب الوفاء بذلك لأن تلك الأوقات إنما خرجت عن الاستحقاق بالعرف القائم مقام الشرط، فإذا صرح بخلاف ذلك مما يجوزه الشرع ويمكن الوفاء به جاز.
يقول المرحوم محمد أبو زهرة في كتابه: مالك (3) .
"ويظهر أن الشافعية أيضًا يحترمون العرف إذا لم يكن نص، فإن العرف يغلب في حكمه لأن الناس خاضعون له فعلًا بحكم الألف والاعتياد وليس لأحد أن يمنعهم في الأخذ به إلا بنص محرم فحيث لا محرم فلا بد من الأخذ به".
__________
(1) الفتاوي: 19 /236.
(2) إعلام الموقعين: 4 /289. تحقيق عبد الرحمن الوكيل وشمس الدين محمد
(3) ص 353. توفي أبو زهرة رحمه الله في 19 ربيع الأول سنة 1394 هـ الملاقي 12 أبريل 1974م.(5/2777)
ولقد وجدنا ابن حجر – وهو شافعي – يقرر أن العرف يعمل به إذا لم يكن في العمل به مخالفة لنص.
وذلك لأن القرطبي قال في قوله صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي سفيان: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) : في هذا الحديث اعتبار العرف في الشرعيات خلافًا للشافعية فرد الحافظ ابن حجر هذا الاستدلال بأن الشافعية إنما منعوا العمل بالعرف إذا عارضه النص الشرعي ولم يرشد إليه فكان لهذا يومئ من جهة أن الشافعية يأخذون بالعرف أحيانًا.
الشيعة الإِمامية: العرف تأكيد لحكم العقل أو أنه من أدلة الإِجماع، يقول الشيخ محمد جواد مغنية (1) ، وهو فقيه شافعي:
يصح بيع المعاطاة ويحتج له قائلًا: إن المأخوذ بالمعاطاة يطلق عليه اسم بيع عرفًا ولغة وإذا صدق اسم البيع على المعاطاة شملها جميع ما دل على الصحة من الآيات والروايات مثل قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} و {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون عند شروطهم)) .
والخلاصة: هو اتفاق كلمة الأئمة على اعتبار العرف والنظر إليه عند حدوث القضايا ونزول المشاكل وطرحها من أصحابها للحلول. وعلى هذا كانت الفتوى من الأئمة الفقهاء.
فالقرافي يقرر في كتابه الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 231، تحقيق الشيخ أبي غدة:
"إن استمرار الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإِجماع وجهالة في الدين بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة الجديدة وليس هذا تجديدًا للاجتهاد من المقلِّدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد.
وابن القيم في أعلام الموقعين (2) ، يقول في شأن العرف: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف مالا سبيل إليه ما نعلم أن الشريعة التي هي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها".
__________
(1) كتاب فقه الإِمام جعفر الصادق: 3 /28. دار العلم للملايين. بيروت.
(2) 3 /5. طبع دار الكتب الحديثة مصر 1389 هـ/1969م. تحقيق الوكيل(5/2778)
ويقول شيخنا الأستاذ الإِمام محمد الطاهر ابن عاشور برد الله ثراه وجعل الجنة مأواه (1) :
ومن معنى حمل القبيلة على عوائدها في التشريع إذا روعي في تلك العوائد شيء يقتضي الإِيجاب والتحريم، يتضح لنا حيرة وإشكال عظيم يعرض للعلماء في فهم كثير من نهي الشريعة عن أشياء لا نجد فيها وجه مفسدة بحال مثل تحريم وصل الشعر للمرأة وتفليج الأسنان والوشم في حديث ابن مسعود: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلات والمستوصلات والواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله.
فإن الفهم يكاد يضل في هذا إذ يرى ذلك صنفًا من أصناف التزيين المأذون في جنسه للمرأة فيتعجب من النهي الغليظ عنه.
ووجه عندي الذي لم أرني اهتدي إليه أن تلك الأحوال كانت في العرب أمارات رقة حصانة المرأة، فالنهي عنها نهي عن الباعث عليها أو عن التعرض لهتك العرض بسببها، فهذا شرع روعيت فيه عادة العرب اهـ.
أي أن الشارع نهى عن أشياء واعتبرها مفسدة نظرًا لما جرى عليه عرف العرب فيها لا بالنظر لها في ذاتها إذ لا قبح فيها ذاتيًّا فقبحها حف بها من العرف وهو يتغير ولو تغير لتغير الحكم تبعًا لذلك.
وهذا شيخنا علامة عصره مفتي الديار التونسية المرحوم محمد الهادي بن القاضي يقول في دراسة له (2) :
" ما من شك أن النصوص التشريعية في جميع الشرائع الدينية والوضعية غير محيطة بمختلف الحوادث والقضايا التي تحدث في المجتمعات البشرية المتجددة والمتحركة دومًا بحسب تجديد الحاجيات نتيجة حتمية لتغير ظروف الحياة العامة بسبب ما يجد من مخترعات حديثة وأساليب متنوعة في مختلف نواحي علاقات التعايش سواء بين الأفراد أو الجماعات أو الأمم.
والنصوص التشريعية مرنة تكتسي صبغة العموم والإِجمال في الأغلب الأعم وهي قابلة للتفسير والتأويل بأوجه متعددة حتى كانت مثار اختلاف الفقهاء المجتهدين والشراح والمفسرين وكانوا محتاجين دومًا في تفسيرها للرجوع إلى عناصر أخرى يستعينون بها على فهم المراد وتحديده كالرجوع إلى عمل الصحابة وعلى الأخص المضطلعين بالحكم والإِفتاء منهم وعلى الخصوص أهل المدينة.
__________
(1) مقاصد الشريعة الإِسلامية: ص 95.
(2) نشرت بمجلة القضاء والتشريع عدد 1 ص 22 جمادى الآخر جانفي 1378 هـ / 1959 م(5/2779)
حتى يقول:
وقد ذهب أكثر الأئمة من فقهاء المذاهب الإِسلامية إلى اعتبار العرف وبناء الأحكام عليه.
مبدأ اعتبار العرف: فيما يتعلق بالحقوق والمعاملات لا بما يعود للأخلاق والآداب أو السلوك الاجتماعي.
المبدأ العام يقول: "إن للعادة تأثيرًا على التشريع".
ولتكريس هذا المبدأ للتطبيق نصت بعض القوانين فيما سنته أو أرشدت إليه على اعتبار العرف فيما يوضع من أحكام بطريق الاجتهاد والاستنباط والقياس والتفسير لبعض النصوص وإزاحة ما علق بها من غموض.
فالعرف له علاقة وطيدة ومتينة بالاجتهاد وليس معنى ذلك أن الاجتهاد مع وجود النص أو في مواجهته بادعاء تغير العادات والأعراف وحدوث القضايا ونزولها تبعًا لذلك، فهذا لم يقل به أحد ولم يأتِ به أي مذهب من المذاهب.
وقد اعتبر كل الفقهاء تقريبًا العرف بقيوده وشروطه، وذلك لأن الشارع الحكيم أقر بعض الأمور التي تعارفها العرب في جاهليتهم بعد أن هذبها ونظمها كالبيع والرهن والإجارة والقسامة وبعض الأمور في الزواج كالكفاءة وكفرض الدية على العاقلة.
ولقد لعبت الأعراف دورًا كبيرًا وأقرتها الشعوب واحتكموا إليها قبل تدوين القوانين لأن العرف يعبر تعبيرًا صحيحًا عن إرادة الأمة والمجتمع وإذا استقر التعامل به وجبت مراعاته حفظًا لاستقرار المعاملات شريطة عدم مصادمته للنص خاصة وإن القضاء يسهل أمره إذا كانت أحكامه مطابقة لما عرفه وألفه الناس وتعودوا عليه.
وقد قال بعضهم قديمًا: إن الشريعة غير المدونة هي التي تستحسنها العادة وتقرها.
وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" (1) .أي ما رآه واستحسنه المسلمون في العادات والأعراف الحسنة فهو مقبول عند الله يعمل به وتصدر الأحكام طبق ما جرى به.
شروط العرف:
متى توفر للعادة عنصراها المادي والمعنوي النفسي الشعوري ومتى اطرد العمل بها واستحسنها الناس وألفوها حتى صارت تنظم شؤون حياتهم ومتى أصبح كل مخالف لها خارجًا عن الجماعة تحولت العادة عندئذٍ إلى عرف متبع تطبقه الجماعة ويرضخ له القانون ويقرأ حسابه ولا يقع التهاون بشأنه، لكن كل ذلك تحت قيود وشروط.
1- أن يكون العرف عامًّا في قطر أو بلد أو جهة من الجهات.
وهذا أمر موضوعي يخضع – الآن – لفحص وإثبات محكمة الموضوع ولا يخضع لرقابة محكمة التعقيب أي النقض والإِبرام. وعمومه هذا يدل بصفة واضحة على أنه مقبول عند الناس ويستحسنونه لأن العادة إذا عمت كان ذلك دليلًا على تماشيها غالبًا مع الذوق الحسن والطبع السليم.
2- أن يكون العرف هذا قديمًا قد تكرر العمل به وألفه الناس وتعودوا عليه وعلموا به واستساغوه وحملوا بذلك القضاء على اعتباره.
يقول ابن نجيم في الأشباه والنظائر:
" يجب أن تكون العادة من الأمور المتكررة الشائعة". وتقول المادة 41 والمادة 42 من مجلة الأحكام العدلية:
" إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت ".
" العبرة للغالب الشائع لا للنادر ".
3- لا عبرة إلاَّ بالعرف السابق عن تاريخ المعاملة أو المقارن لها دون المتأخر عنها (2) .
4- أن يكون العرف ملزمًا، وهذا شرط مهم يميز العرف من العادة أي أن يقوم في ذهن الناس وجوب اتباع ذلك وأن مخالفته يترتب عنها الجزاء باعتبار أنه يمكن المطالبة طبقه.
5- العرف لا يقف في وجه النص. جاء في كتاب المنافع شرح المجامع، ص 324:
" إن العرف إنما يكون حجة إذا لم يخالف نص الفقهاء".
__________
(1) أخرجه الإِمام أحمد في مسند موقوفًا على ابن مسعود، ولم يرو مرفوعًا في كتب الحديث. رسالة نشر العرف لابن عابدين ضمن رسائله: 2 /115. وذكر الآمدي في الأحكام: 1 /112 أنه حديث. وجاء في شرح الحموي على الأشباه: 1 /127. وفي شرح المجامع: ص 308 أنه قول عبد الله بن مسعود حسبما ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة والعلائي وغيرهما. والموقوف معتبر عند الفقهاء لأن الصحابي لا يقول برأيه
(2) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 40؛ والأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 68.(5/2780)
ويستثني الإِمام أبو يوسف النص المبني على العرف العام. والقانون يشترط أن يكون العرف مخالفًا للقانون أو للآداب أو النظام العام.
فالعرف المعتبر حينئذٍ هو الموافق لمقاصد الشريعة وللأدلة الأصولية المعتبرة، أما ما جاء على خلاف ذلك وابتعد عن روح الشريعة وحكمتها ونصوصها فهو مردود لا يقبل ولا يطبق ولا يقضى به.
يقول علامة تونس وفقيهها ومفتيها الشيخ إبراهيم الرياحي:
والعرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق، وأما عرف يبطل الواجب أو يبيح الحرام فلا يقول به أحد من أهل الإسلام (1) .
أنواع العرف:
هناك عرف نهى عنه الشارع وألغاه، وهناك عرف أقره وأذن فيه. وهناك قسم ثالث لم يلغه الشارع ولم يعتبره بدليل خاص وهذا محط الاجتهاد ومرجع فقه القضاء ومناط البحث والدرس.
وهو عام وخاص:
فالعام هو ما تعارفه أهل البلاد عامتهم وخاصتهم في زمن من الأزمنة.
والخاص هو ما تعارفه أهل مدينة دون أخرى. ومن المعروف أن الحكم الشامل لا يثبت بالعرف الخاص.
ثم إن العرف لفظي وفعلي؛ فالعادة اللفظية أن ينقل اللفظ ويصبح استعماله في معنى آخر هو الغالب والمتبادر منه عند الإِطلاق وهي الحقيقة العرفية المقدمة على الحقيقة اللغوية مراعاة للعرف العام، وهذا هو مفهوم قولة الفقهاء: "إن العرف يقدم على اللغة عند التعارض".
وقد عرف ابن عابدين في رسالة نشر العرف هذا النوع بقوله: "تعارف قوم إطلاق لفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه غيره" (2) .
وأما العادة الفعلية فهي أن يتعارف الناس التعامل على وجه من الأوجه لغرض معين أو لمصلحة بذاتها وهو مباح إذ لا نهي عنه. ومنه ما ذكروه في جواز انتفاع المستأجر بمصعد وضعه المالك لمنزل ذي شقق عديدة ولم يكن منصوصًّا عليه في عقد الإِجارة فجريان العرف به كاف في ثبوت حق المستأجر.
__________
(1) أصول النظام الاجتماعي، للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور.
(2) رسائل ابن عابدين: 2 /114، رسالة نشر العرف في بناء الأحكام على العرف.(5/2781)
الفرق بين العادة والعرف:
ما نشأ عن تصرف شخصي أو عن عوامل طبيعية أو غير ذلك من العوامل هو عادة.
فإذا استأنس الفرد ثم الجماعة بذلك ومالوا إليه وكرروه وألفوه وارتضوه تكون عندئذٍ العرف فهو عادة الجماعة وعنوان الرضا عن تصرف معروف. ورجال القانون يفرقون بين العادة والعرف، بأن الأولى غير ملزمة بذاتها إلاَّ إذا وقع الاتفاق عليها وهي مرجع لتفسير إرادة الطرفين وتعرية نيتهما الغامضة. بخلاف العرف فهو ملزم ذاتيًّا والمحكمة تقضي به بخلاف مجرد العادة فلا بد من التمسك بهما وإثباتها ثم إن محكمة التعقيب – النقض والإِبرام- تراقب قاضي الموضوع في شأن العرف وحسن تطبيقه بخلاف العادة إذا استأنس بها قاضي الموضوع فهي تدخل تحت سبر الوقائع وفحصها ويرجع ذلك لاجتهاد قاضي الموضوع الذي لا يدخل تحت رقابة محكمة النقض.
ولذا فمن واجب القاضي فحص الأمر لتحقيق الفرق الدقيق بين مجرد العادة والعرف ليكون قضاؤه سليمًا لا يناله النقد ولا النقض.
أمثلة العرف:
عقد القرافي في كتابه الفروق فصلًا قيمًا في بيان أثر العرف في العقود التي تتأثر به.
فعقد الشركة إن كان مطلقًا انصرف إلى المناصفة، والعقد على الأرض يدخل فيه الشجر والبناء، والعقد على البناء تدخل في الأرض، والعقد على الدار يشمل الأبواب والسلالم والرفوف، وعقد المرابحة يدخل في أصل الثمن أجرة الخياطة والتطريز وكل تحسين.. والعقد على الشجرة كما يشمل الأرض يشمل الثمرة التي تؤبر (1) .
والقرافي يذكر في كتابه الإِحكام في تمييز الفتوى من الأحكام في الجواب عن السؤال التاسع والثلاثين ما ملخصه:
"إن كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد في تمييز الفتوى من الأحكام في الجواب عن السؤال التاسع والثلاثين ما ملخصه:
"إن كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة، ثم ذكر على سبيل المثال أحكامًا نص على أن المدرك فيها العادة وأنه يتعين تغير الحكم على ما تقتضيه العادة المتجددة ومنها ما سبيله اللفظ ومنها ما سبيله في الفعل.
فأما الأول وهي العادة اللفظية فهو أن ينقل اللفظ ويصير استعماله في معنى آخر هو الغالب والمتبادر منه عند الإِطلاق وهي الحقيقة العرفية فيقدم على الحقيقة اللغوية مراعاة للعرف العام وهي معنى قول الفقهاء: إن العرف يقدم على اللغة عند التعارض. وأما الثاني وهي العادة الفعلية فهي أن يتعارف الناس التعامل على وجه من الأوجه لغرض ومصلحة فيكون سبيله الإِباحة حيث لا نهي".
__________
(1) الفروق، للقرافي: 3 /287؛ مالك، لأبي زهرة: ص 355.(5/2782)
ثم ذكر أمثلة توضح هذا المبدأ فمن ذلك أن الوكيل يتصرف في الأمر الذي وكل عليه لفائدة موكله، فإذا أوكله على أن يشتري له ثوبًا فاشترى له ثوبًا لم يعتد لبسه كان تصرفه مردودًا عليه.
ذكر شيخنا العلامة المرحوم محمد الهادي ابن القاضي أن الغيبة وإن كانت من الكبائر فإنها لا تقدح في الشهادة لأنها غلبت على الناس، فالشرع يأذن بإلغائها في إسقاط الشهادة خشية ضياع الحقوق.
ويقول رحمه الله في محاضرة له ألقاها على منبر ودادية القضاة:
"وأذكر هنا قصة لطيفة كنت سمعتها من المنعم المبرور العلامة النظار الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر سابقًا أنه لما كان قاضيًا بمدينة بنزرت جاءته رسالة من المحكمة الشرعية العليا بتونس بأن يقبل التجريح في شهود وثيقة تجرح بعضهم بأنه يؤخر الصلاة عن وقتها. قال رحمه الله: فالتقيت بأستاذنا الشيخ محمد النجار المفتي وعضو المحكمة العليا فقال لي: إن تأخير الصلاة عن وقتها كالغيبة لا يجرح به في الشهود لأنه صادر غالبًا في الناس". اهـ.
ومن الأمثلة التي اعتبرت مثالًا للعرف المنظور إليه موضوع خلو الحوانيت، فإن المالك لا يملك إخراج المستأجر منها ولا إجارتها لغيره بدون مقابل (1) .
ومن هذه الأمثلة ما تحدثنا عنه في دراستنا حول الأصل التجاري في بعض الأنظمة وقيام هذا الحق على العرف.
والأمثلة كثيرة يصعب حصرها خاصة في نطاق دراسة أريد لها أن تكون مختصرة موجزة.
ففي الأيمان والنذور يقع الرجوع إلى العرف، وكذلك في الوقف الذي يلعب فيه العرف دورًا مهمًّا.
__________
(1) شرح الحموي على الأشباه والنظائر، لابن نجيم، وفتاوى محمد بن بلال الحنفي والشيخ المفتي أبو السعود وناصر الدين اللقاني. وهذا ما أقره المجمع في دورته السابقة.(5/2783)
وفي شؤون الأسرة "الحالة الشخصية" للعرف دور مميز ففي القيروان مثلًا جرى العرف أن تشترط الزوجة على زوجها أن لا يتزوج عليها وأن يجعل لها حق طلاقها إن خالف هذا الشرط – انظر رسالة التمليك لعظوم بمكتبه الجامعة الزيتونية.
وفي النفقة والمهر والسكنى واللباس للعرف دور كذلك. قال خليل: "يجب للزوجة قوت وأدام وكسوة ومسكن بالعادة بقدر وسعه وحالها والبلد والسعر".
وقال ابن عاصم:
وكل ما يرجع للافتراض
موكول إلى اجتهاد القاضي
بحسب القوت والأعيان
والسعر والزمان والمكان
ونجد العرف له دور كذلك في المعاملات المالية من بيع وشراء وكراء وإجارة.
ومن ذلك بيع المعاطاة الذي يقول من يجيزه إن الله أحل البيع ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف، ولم ينقل عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا عن أصحابه مع كثرة وقوع البيع بينهم استعمال الإِيجاب والقبول، ولو استعملوا ذلك في بيوعاتهم لنقل لنا ذلك نقلًا شائعًا لأن البيع مما تعم به البلوى، فلو اشترط له الإِيجاب والقبول لبينه صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًّا ولم يخف حكمه. والعرف له دخل كبير في الخصومة والقضاء.
وقال ابن عاصم:
فالمدعي في قوله مجرد
من أصل أو عرف بصدق يشهد
والمدعى عليه من قد عضدا
مقاله عرف أو أصل شهدا
العرف في الاصطلاح القانوني وفي التطبيق:
كانت للعادات أهمية كبرى، ثم تناقصت حتى حل محلها التقنين لكن القانون المبني عليها لم يتلاشَ حتى الآن.
فالقانون المبني على العادات والأعراف يسمى قانون العرف، وأما القانون المبني على التشريع والذي مصدره السلطة البشرية فيسمى القانون المكتوب أو القانون المدون.
والعرف عبارة عن عادة أو سنة معينة، فإن صاحبها الاعتقاد باللزوم فهي عرف تام وهو حينئذٍ عبارة عن قاعدة قانونية غير مكتوبة ولا مدونة.
ويستمد هذا العرف إلزامه من تلقاء نفسه باعتباره مصدرًا من مصادر القاعدة القانونية ولذا فهو يلزم الأفراد لذاته دون أن يتوقف هذا اللزوم على إرادتهم وقبولهم بشرط أن يكون عامًّا.(5/2784)
أما إذا لم يكن مع العادة ركن الاعتقاد باللزوم فهي حينئذ العادة الاتفاقية وقد تكون خاصة بمجموعة ما. وهي قواعد تعارف الناس على اتباعها في معاملاتهم فأصبحت صالحة لتفسير نية المتعاقدين عند الخلاف دون أن تكون بذاتها ملزمة إلاَّ إذا اتفق عليها الطرفان.
والفرق بين العادة الاتفاقية والعرف زيادة عما ذكر هو أن العرف وهو قاعدة قانونية يمكن أن يكون آمرًا ومقررًا أي مكملًا ومفسرًا بخلاف العادة الاتفاقية التي يمكن الرجوع إليها عند تفسير الاتفاقات وشرحها من طرف المحاكم وهي واجبة التطبيق إذا نص القانون على ذلك.
ثم إن العرف باعتباره قاعدة قانونية لا يعذر أحدٌ بجهله والحاكم يطبقه من تلقاء نفسه ولو لم يتمسك به أحد الطرفين، بخلاف العادة الاتفاقية فإن إثباتها على من يدعيها وعليه إثبات شمولها وعمومها ودوام استعمالها.
والعرف الذي يكون القاعدة والمعتبر كمصدر من مصادر القانون لا بد أن يكون قديمًا مضى على تواتر استعماله أمد طويل حتى استقر العمل به وأن يكون ثابتًا وقع استعماله باطراد، وللحاكم أمر تقدير القدم والثبوت، والاستمرار في الاستعمال.
ثم إن العرف يشترط فيه أن لا يتعارض مع القانون المكتوب، فإن خالف نصًّا صريحًا من القانون فهو ملغى لا يقضى به.
ولا بد أن يكون العرف عامًّا ملزمًا، أما إذا كان خاصًّا بجهة دون أخرى أو كان مبنيًّا على التسامح والتساهل فهو خارج عن موضوع العرف المكون للقاعدة القانونية.
ونحن نعلم أنه توجد في بعض الجهات دون الأخرى أعراف ملزمة تعتمدها المحاكم كهدايا الختان والأعراس والمآتم.
وهي وإن كانت خاصة بجهة دون أخرى إلاَّ أنها عمت جهتها واستقرت بين الناس وتقادم عهدها ووصفت باللزوم، ولذا فقد توفرت فيها الشروط، والمحاكم وحدها مؤهلة لفحص ذلك والتطبيق.
* * *(5/2785)
مظاهر تطبيق أحكام العرف
في القانون
جاءت غالب القوانين الوضعية المدنية والتجارية ناصة على اتباع العادات والأعراف.
فالقانون المصري جاءت مادته الأولى قائلة:
"تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في ألفاظها أو في فحواها".
فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، حكم القاضي بمقتضى العرف. فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإِسلامية، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
وجاء في المذكرة التمهيدية للمشروع:
"العرف هو المصدر الشعبي الأصيل الذي يتصل اتصالًا مباشرًا بالجماعة، ويعتبر وسيلتها الفطرية لتنظيم تفاصيل المعاملات ومقومات المعايير التي يعجز التشريع عن تناولها بسبب تشعبها أو استعصائها على النص. ولذلك ظل المصدر وسيظل إلى جانب التشريع مصدرًا تكميليًّا خصبًا لا يقف إنتاجه عند حدود المعاملات التجارية بل يتناول المعاملات التي تسري في شأنها قواعد القانون المدني وسائر فروع القانون الخاص والعام على السواء.
والقانون المصري يقول في مادته 164:
" العادة محكمة عامة كانت أو خاصة " كما يقول في المادة (165) :
" إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت والعبرة للغالب الشائع لا للنادر ".
وجاءت عدة مواد في القانون المدني المصري تشير إلى العرف وتنبه القاضي إلى اتباعه.
فالمادة (150) تقول: إذا كان هناك محل لتفسير العقد وجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين وفقًا للعرف الجاري في المعاملات.(5/2786)
والمادة (148) تقول: لا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد فيه ولكن يتناول أيضًا ما هو من مستلزماته وفقًا للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام.
والمادة (433) تقول: إذا عين في العقد مقدار البيع كان البائع مسؤولًا عن نقص هذا المقدار بحسب ما يقضي به العرف.
والمادة (448) تقول: لا يضمن البائع عيبًا جرى العرف على التسامح فيه.
أما القانون السوري: فقد جاءت مادته الأولى هو الآخر قائلة:
تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها.
فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإِسلامية، فإذا لم توجد فبمقتضى العرف، وإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
وتلاحظون التشابه بين القانون السوري والمصري في هذه المادة غير أن السوري أحسن لمّا قدم مبادئ الشريعة الإِسلامية على العرف.
والقانون السوري يتضمن في مواد الإِشارة إلى العرف وإلى الأخذ به لترجيح كفة الخلاف في حالات معينة.
والقانون العراقي: جاءت مادته الأولى قائلة:
" تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها.
فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، حكمت المحكمة بمقتضى العرف فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإِسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون دون التقيد بمذهب معين، فإذا لم توجد فبمقتضى قواعد العدالة. وتسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي أقرها القضاء والفقه في العراق، ثم في البلاد الأخرى التي تتقارب قوانينها مع القوانين العراقية".
وقد تضمنت بعض مواده الأخرى التركيز على العادة والعرف. فالمادة (164) تقول: " العادة محكمة عامة كانت أو خاصة. واستعمال الناس حجة يجب العمل بها ".
والمادة (165) تقول: " إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت والعبرة للغالب الشائع لا للنادر ".
والمادة (163) تقول: " المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص والمعروف بين التجار كالمشروط بينهم ".(5/2787)
النظام الإنجليزي: بدأت الشريعة الإنجليزية كالرومانية عادات متأصلة في القبائل الأنجلو سكسونية، وهي القبائل التي كانت تسكن الجزيرة من قديم، ثم اقترنت في القرن الحادي عشر بعادات القبائل النورماندية التي فتحت الجزيرة الإنجليزية في ذلك الحين، ولما تطورت المدنية الإنجليزية وتقدمت، وأصبح المجتمع في حاجة إلى مصدر رسمي للقانون قام قضاء المحاكم وأصبحت الأحكام القضائية تقر قواعد العرف وتطبقها تطبيقًا مستفيضًا وتتكرر الأحكام فتتأكد المبادئ القانونية بتكررها إلى أن صار القضاء هو المصدر الرسمي للقانون في الشريعة الإنجليزية وقام مقام العرف (1) .
والقانون الفرنسي: شمل التقنين المدني الفرنسي 36 قانونًا كان العمل جاريًا بها إذ بدأ هذا القانون عرفًا ينظم الروابط الاجتماعية، وامتزج القانون الروماني بالعادات، ثم وجد القانون الكنسي وكان القسم الشمالي يطبق العرف والقسم الجنوبي يطبق القانون الروماني.
وقد جمعت الملوكية بفرنسا قواعد العرف واعتبرت مصدرًا رسميًّا للقانون حتى جاءت مجموعة نابليون وسميت المجموعة المدنية.
وقد نص القانون المدني على العرف في المادة (590) وما بعدها.
__________
(1) المدخل لدراسة القانون، للسنهوري وأبي شنب: ص 44.(5/2788)
مظاهر تطبيق أحكام العرف
في القانون التونسي
علمنا بأن أحكام العرف معتمدة في القوانين المدنية الوضعية المعمول بها وأردنا هنا أن نبرز مظاهر تطبيق ذلك حتى تتجلى الصورة ويتضح الحال.
ونقتصر على إبراز مظاهر تطبيق تلك الأحكام بصورة جلية في المدونة المدنية التونسية الموضوعة منذ قرن ونيف بإشراف لجنة من الفقهاء العلماء الزيتونيين وكذلك على الإِشارة إلى ما جاءت به المجلة التجارية التونسية، وفي ذكر ذلك تقريب لما جاءت به بقية القوانين العربية الأخرى المضارعة والمماثلة والنابعة من معين واحد والصابة في مصب واحد.
1- تأثير العرف على نتائج العقود وآثارها:
جاءت المادة (243) من المدونة المدنية قائلة:
"يجب الوفاء بالالتزامات مع تمام الأمانة ولا يلزم ما صرح به فقط بل يلزم كل ما ترتب على الالتزام من حيث القانون أو العرف أو الإِنصاف حسب طبيعته".
والمادة (246) تقول: ليس لأحد أن يقوم بحق ناتج من الالتزام ما لم يثبت أنه قد وفى من جهته أو عرض أن يوفي بما أوجبه عليه ذلك الالتزام بمقتضى شروطه أو بمقتضى القانون والعرف.
وجاءت المادة (247) ناصة: إذا كان الالتزام من الطرفين فلأحدهما أن يمتنع من إتمام ما عليه حتى يتمم الآخر ما يقابل ذلك من العقد إلا إذا اقتضى العقد أو العرف تعجيل أحد الطرفين بما عليه.
2- تأثير العرف على الوفاء بالعقود:
المادة (254) : لا تبرأ ذمة المدين إلا بتسليمه ما التزم به في العقد قدرًا وصفة ولا يسوغ له أن يلزم الدائن بقبول شيء آخر عوضًا عنه ولا بكيفية غير الكيفية المقررة في العقد أو التي جرى بها العرف.(5/2789)
3- تفسير العقود بالعرف:
المادة (516) : "المعمول به عادة بمحل الكتب كالمشروط نصًّا وكذلك ما هو من طبيعة الأمر المقصود".
المادة (526) : "ما ذكر على وجه التقريب من عد أو كيل أو وزن أو غيرهما، من المقادير كنحو كذا أو زهاء كذا، عبارة عن القدر المتسامح فيه عرفًا أو عادة بالمكان".
والقانون بعد أن سمح بالمادة (514) بتأويل العقد المبرم بين الطرفين، جاء مبينًا الأسس التي يعتمدها القاضي عند التأويل والتفسير فقال:
المادة (532) : "نص القانون لا يحتمل إلا المعنى الذي تقتضيه عبارته بحسب وضع اللغة وعرف الاستعمال ومراد وضع القانون".
4- شروط الأخذ بالعرف:
"العادة والعرف لا يخالفان النص الصريح". وهذا تطبيق للقاعدة القانونية العامة في عدم السماح بمعارضة العادة والعرف للنص القانوني المكتوب لكن وفي نفس الوقت إقرار للعمل بالعادة والعرف عند فقد النص مع توفير الشروط طبعًا.
المادة (544) : "من استند على عرف كان عليه إثباته ولا يحتاج به إلا إذا كان عامًا أو غالبًا غير مناف للنظام العمومي والأخلاق الحميدة".
وبصرف النظر عن حمل عبء الإِثبات على المتمسك بالعرف فإن هذه المادة جاءت جامعة وبينت القاعدة الأساسية في القانون المدني لاعتماد العرف وبيان شروطه.
5- تأثير العرف في أحكام البيع:
بين القانون أحكام التسليم في البيع وجعل ذلك يحصل بكيفيات مختلفة في العقار بالتخلي عنه وفي الربع بإخلائه وبين أنه في المنقولات حسب المادة (593) :
"في المنقولات بالمناولة من يدٍ إلى يد أو بتسليم مفتاح المحل أو الصندوق الموضوعة فيه أو بأي وجه جرت به العادة والعرف في التسليم" ثم بين بالمادة (597) : أجل التسليم عند عدم الاتفاق عليه وأنه يتبع العرف فقال: "التسليم يكون أثر العقد مع المهلة التي يقتضيها نوع المبيع أو العرف".
وأشار في المادة (603) إلى المصاريف فقال: "جميع مصاريف تسليم المبيع كأجرة كيله ووزنه وعده وقيسه على البائع وإذا كان المبيع حقًّا مجردًا كان على البائع أيضًا مصاريف الرسوم اللازمة لإِثبات ذلك الحق أو إحالته كل ذلك ما لم يكن هناك اتفاق أو عرف يخالفه".(5/2790)
وانتقل بعد ذلك يبين على من تحمل أجرة الوسيط السمسار في عقود البيع فقال:
المادة (604) : إذا تم البيع بواسطة السمسار فإن أجرته تكون على البائع إلا إذا كان في عرف البلاد أو في اتفاق الفريقين ما يخالف ذلك.
وشرح المقنن أن مصاريف العقد من نقل وأجرة عدول وغيرها تعتمد هي الأخرى عرف البلاد فقال:
المادة (605) : على المشتري مصاريف نقل المبيع من محل تسليمه ومصاريف قبوله وأداء ثمنه مع الصرف وأجر العدول عن كتب رسم الشراء والتأجير والتسجيل ولف البضائع ووسقها ونقلها وتشمل مصاريف القبول معاليم القمرق والمكس والمراكز المتوسطة أثناء النقل وعند وصلها للمكان المقصود كل ذلك ما لم يكن في العقد أو العرف ما يخالفه.(5/2791)
ثم يتعرض المقنن إلى شرح التوابع للمبيع وتسليمها فيقول:
المادة (610) : "لزوم تسليم المبيع يتضمن تسليم توابعه والتبعية إما بحسب العرف أو بمقتضى اشتراط المتعاقدين. وإذا لم يكن في ذلك شرط أو عرف فالعمل على مقتضى القواعد التالية".
ثم يشرح قضية أخرى هي حصول زيادة أو نقص في المبيع فيقول:
المادة (620) : إذا كان المبيع جزافًا أو عينًا معينة وبين في العقد قدره كيلًا أو عدًّا أو وزنًا فليس للبائع أن يطلب الزيادة في الثمن إذا ظهر أن المبيع زائد في قدره عن القدر المسمى في العقد ولا للمشتري أن يطلب التنقيص في الثمن إذا ظهر أن المبيع بعكس ذلك إلا إذا كان الفرق زيادة أو نقصًا مما يبلغ نصف العشر، وهذا الشرط يعمل به أن لم يكن منافيًا للعرف ولم يحصل تراضٍ بين البائع والمشتري على خلافه.
ثم يفصل النزاع في شأن وزن الظرف الحاوي للبضاعة اعتمادًا على العرف فيقول:
المادة (628) : "وفي جميع الأحوال المقررة سابقًا يلزم اعتبار وزن الظرف فارغًا مع مراعاة ما يغتفر فيه العرف التجاري إلا إذا وجد بين المتعاقدين شرط يقضي بخلاف ذلك".
وفي باب ضمان عيوب المبيع وواجبات البائع تقول:
المادة (647) : البائع يضمن للمشتري سلامة المبيع من العيوب التي تنقص من قيمته نقصًا محسوسًا أو نصيره غير صالح لاستعماله فيما أعد له بحسب نوعه أو بمقتضى العقد. والعيوب التي لا تنقص قيمته أو الانتفاع به إلا ما لا بال له لا ضمان فيها على البائع وكذلك العيوب المغتفرة بحسب العادة والعرف.
ثم يتعرض المقنن إلى العيب الخفي وهل يضمنه البائع حسب العرف فيقول:
المادة (648) : "لكن إذا كان المبيع مما لا يمكن الاطلاع على حقيقة حاله إلا بتغيير في ذاته كالثمار في قشرها فإن البائع لا يضمن العيب الخفي إلا إذا التزم بذلك في العقد أو كان ضمانه واجبًا بمقتضى عرف المحل.
وفي الرد من أجل العيب يلعب العرف دوره ويؤثر فالمادة (655) تقول: إذا وجب الرد لثبوت العيب أو لفوات الوصف كان للمشتري أن يطلب فسخ البيع ورد الثمن فإن اختار عدم رد المبيع فلا حق له في تنقيص الثمن، وإنما يكون له الحق في طلب تعويض الخسارة في الصور الآتية:
أولها: إذا كان البائع عالمًا بعيوب المبيع أو بعدم وجود الوصف الموعود به ولم يشترط البراءة منه والبائع محمول على العلم بذلك إن كان تاجرًا أو صانعًا وباع شيئًا من متعلقات تجارته أو صناعته.
ثانيها: إذا صرح بعدم وجود العيب في المبيع إلا إذا كان ذلك العيب لم يظهر إلا بعد البيع أو كان البائع معتقدًا سلامته.
ثالثها: إذا كان المبيع خاليًا عن الوصف الذي اشترط فيه صراحة أو الذي يوجب عرف التجارة وجوده فيه.
وأوجب القانون اتباع العرف في أداء الثمن فقال:
المادة (677) : إذا جرى العرف في محل بأداء الثمن مؤجلًا أو منجمًا حمل المتعاقدان على اتباع العرف ما لم يصرحا بخلافه في العقد.
وفي شأن تاريخ ومكان تسليم المبيع يتداخل العرف، فالمادة (679) تقول:
على المشتري أن يتسلم المبيع في التاريخ والمكان المتفق عليهما في العقد فإن كان العقد عاريًا عن شرط في ذلك ولم تكن فيه عادة فعلى المشتري أن يتسلم المبيع في الحال مع مراعاة ما يغتفر في ذلك طبيعة. وهو في باب بيع السلم الواقع إبطاله الآن يقول بالمادة (714) : إذا لم يعين المتعاقدان أجلًا لتسليم المبيع حملًا على أنهما اعتمدا عرف البلد.
والعرف يتداخل لفسخ عقدة البيع إذا ماطل المشتري في دفع الثمن وتأخر عن تسليمه وهو هنا يقوم مقام الاتفاق بين الطرفين على ذلك وهذا ما جاء به القانون.
المادة (680) : إذا اشترط فسخ العقد بمجرد عدم أداء الثمن أو كان العرف كذلك فالعقد مفسوخ بمجرد عدم دفع الثمن في الأجل المعين.(5/2792)
وقد أبرز حكم قضائي صادر عن أعلى المحاكم أهمية دور العرف في هذه الناحية.
فقد جاء القرار التعقيبي عدد (12) المؤرخ في (23) جويلية 1929، المنشور بمجلة القضاء والتشريع عدد (9 – 10) ، لعام 1960، (ص 27) قائلًا:
اقتضى الفصل (680) من المجلة المدنية أن العقد لا يفسخ قانونًا بمجرد عدم دفع الثمن في الأجل المتفق عليه إلا إذا نص على الفسخ المذكور بالعقد أو أن ذلك يتضح جليًّا من عادة المكان وأن العرف بتونس يقتضي أن البيوعات المتعلقة بالحبوب لا تفسخ عادة لعدم أداء المشتري الثمن وذلك بقطع النظر عما إذا اشترط أن الثمن المذكور يدفع معجلًا أو مؤجلًا أو أنه وقع دفع عربون أم لا وأن البائع لا يتفصى من التزامه ولا تعتبر العقدة مفسوخة إلا إذا وجه للمشتري مكتوبًا مضمون الوصول يقتضي إلزامه بالتنفيذ مع التنصيص بأنه حاضر من طرفه لتنفيذ ما التزم به. انتهى.
فالعرف هنا يعطل محاولة البائع التفصي من التزامه ويمنع إقدامه على المطالبة بالفسخ لمجرد التأخر.
وفي شأن بيع الأشجار فإنه يشمل الأرض الثابتة وما فيها من ثمرة لم تعقد فإن عقدت فهي للبائع إلا أن يشترطها المبتاع؛ المادة (618) من المدونة المدنية.
فهذه المادة تنص على أن الثمرة الناضجة هي للبائع المالك إلا إذا اشترطها المشتري منه لنفسه أي المالك الجديد.
ولم تنص هذه المادة على أنه (أو كان عرف يقتضي خلاف ذلك) .
وقد حدث خلاف ين شخصين احتج المشتري بأن العرف بجهته يقتضي أن الثمرة الناضجة تكون للمشتري أي أن الثمرة مطلقًا عقدت أم لا هي للمشتري خلاف القانون حسب النص في المادة (618) السابق ذكرها.
فقالت محكمة التعقيب – النقض والإِبرام – في قراراها (1365) المؤرخ في 17 ديسمبر 1931م إن العادة والعرف لا يخالفان النص الصريح طبق أحكام الفصل 543، ولذا لا حق للمشتري في التمسك بالعرف لأنه مخالف لأحكام الفصل (618) الذي ينص على أن الثمرة الناضجة للبائع إلا إذا اشترطها المشتري وهذا لم يحصل الفصل (618) لم يستثن العرف حتى يمكن الاحتجاج (1) .
ولم تقدر محكمة التعقيب أن العرف يخصص العام وتمسكت بحرفية النص.
وفي شأن بيع الخيار سوغت المادة (700) ذلك لأجل يتفق عليه وهي بيع موقوف لكن إذا لم يصرح الطرفان بأجل الخيار، فالعرف يعينه حسب التصريح التالي:
المادة 702: إذا لم يكن في العقد أجل للخيار حمل ذلك على الأجل المعتبر قانونًا أو عرفًا.
6- تأثير العرف في أحكام الكراء – كراء اِلأشياء – مصاريف التسليم:
المادة (741) : "مصاريف التسليم على المكري ومصاريف رسم الكراء على الفريقين كل يؤدي أجر نسخته، ونقل المأجور وتسلمه على المكتري كل ذلك ما لم يكن في العقد أو العرف ما ينافيه".
__________
(1) نشر هذا القرار بمجلة القضاء والتشريع عدد 9 – 10 لسنة 1960م.(5/2793)
وفي شأن إصلاح المكري تقول المادة (742) : " … وفي كراء الربع تكون مصاريف الإِصلاحات الجزئية على المكتري حسب عرف المكان".
وتقول المادة (743) : بعدها: "إن الإِصلاحات الجزئية تلزم المكتري إذا جرى بها العرف".
وفي شأن جهر الآبار وتنظيفها وكذلك مجارى المياه والموازيب جاءت المادة (745) قائلة:
المادة (745) : تنظيف الآبار والمراحيض والموازيب ومجاري المياه على المكري ما لم يكن ذلك مخالفا للعرف.
والمادة (784) : تنص على أن مصاريف إرجاع المأجور تلزم المستأجر ما لم يوجد في العقد أو العرف ما يخالف ذلك.
وفي شأن الضرائب والأداءات جاءت المادة (746) بحملها على المؤجر ما لم يكن ذلك مخالفًا للعرف.
وفي ضمان العيوب جاءت المادة 758 ناصة بأنه لا ضمان على المكري للعيوب التي يتسامح فيها عرفًا.
وفي تاريخ الأداء إذا لم يعين فالمادة (768) تقول:
"على المكتري أداء الكراء في الأجل المعين في العقد وإلاَّ فالمعتبر عرف المكان".
وفي التمكين من المكري تنص المادة (771) على الظروف التي يقتضيها العرف.
وتنص المادة (775) على أن المكتري الثاني مطلوب للمكري بقدر ما عليه للمكتري الأول وقت إنذاره بأن لا يدفع للأول ولا يقام له ما دفعه معجلًا إلاَّ كان التعجيل عرف المكان.(5/2794)
وفي شأن تعيين مدة الكراء إذا لم يتفق عليها الطرفان تقول المادة (792) :
"إذا لم تعين مدة الكراء حملت على أنها هي التي وقع عليها التسعير إلاَّ إذا كان في العرف ما يخالف ذلك".
وهو في المادة (793) يجعل العرف هو الذي يعين المدة المناسبة لإِخلاء المكري عند فسخ الكراء.
وأخيرًا في شأن المكري إذا لم يكن في الكراء كتب ثابت التاريخ جاء للممالك الجديد أن يخرج المكتري من المحل بعد أن يضرب له أجلًا حسب العرف. المادة (799) .
كراء الأراضي الفلاحية:
جاءت المادة (812) ناصة على أن جميع الأشغال اللازمة للانتفاع بالبناءات بالأراضي الفلاحية لا تكون على المكتري إلاَّ بشرط أو عرف، وجاءت المادة (823) قائلة:
ليس للمكتري – الخارج – أن يتصرف في الأرض بما يكون منقصًا أو مؤخرًا لانتفاع من يستغلها بعده فلا يجوز له حرثها مدة شهرين قبل انقضاء مدته وعليه أن يبيح لمن سيستغلها بعده الشروع في الخدمات الابتدائية في وقتها بعد اجتناء المتحصل كل ذلك إذا كان غير مخالف لعرف المكان. والقانون يحدد علاقة المكتري الجديد بالقديم في شأن الأرض الفلاحية وتوابعها طبق عرف المحل فيقول:
المادة (824) : على المكتري الخارج أن يتخلى للذي يخلفه قبل دخوله بمدة مناسبة عن ما يلزمه من مساكن وغيرها مما يساعده على خدمة الفلاحة في العام القابل، وكذلك يجب على المكتري الجديد أن يتخلى للمكتري الخارج عن قدر ما يحتاجه من مساكن وغيرها لوضع نتائج الفلاحة وفي كلا الحالتين يتبع عرف المحل.
وفي المادة (825) يحدد واجب المكتري الخارج فيقول:
المادة (825) : من اكترى أرضًا وكان بها تبن وعلف وسماد لزمه أن يترك فيها عند انقضاء كرائه مثل القدر الذي تسلمه وليس له أن يعتذر بطروء أمر سماوي كما للمكري أن يحجز من الأصناف المذكورة ما يكون كافيًا له بسعر الوقت ولو لم يدخل عليها المكتري كل ذلك ما لم يخالفه عرف المكان.
ومراجعة بسيطة لكل هذه النصوص في شأن كراء الأراضي الفلاحية وعلاقة الأطراف بها توضح مدى امتداد كل هذه الأحكام ومعانيها في أعماق الفقه الإِسلامي.(5/2795)
7- العرف والإِجارة على الخدمات أو الصنع:
حدد القانون شروط إجارة الآدمي لنفسه بما يحفظ كرامته ويصون إنسانيته وجعل العرف حكمًا في ذلك.
المادة (832) : "ليس لأحد أن يؤجر نفسه من غيره إلاَّ لمدة معلومة وعلى عمل معلوم أو خدمة معينة شرطًا أو عرفًا وإلاَّ فالعقد باطل".
وإذا لم يحصل الاتفاق مقدمًا على أصل الأجر فالقانون يوجب ذلك إذا كان العمل مما لم تجر العادة بإتمامه مجانًا. المادة (837) .
فالعرف هنا هو الفيصل بين الأطراف والقاضي مقيد به في قضائه عند حدوث النزاع ورفع الخصومة إليه وهو يعتمد في تقدير الأجرة حسب العرف الجاري بالبلد ورأي أهل الخبرة. المادة (838) .
ومن يؤدي أجر الأجير يعتمد القاضي في ذلك على الاتفاق إن وجد وإلاَّ التجأ إلى العرف. المادة (839) .
وإذا لم تعين مدة الإِجارة أو نوعها، فالإِجارة تفسخ بطلب من هذا أو ذاك طبق العرف أي الأجل الذي تعارفه الناس وساروا عليه. المادة (861) .
والقانون يحفظ للطرفين حقهما بوضعه علامة تنير الطريق حسب عرف المكان فيقول:
المادة (862) : إجراء الخدمة وخدام المساكن وخدم المحلات العمومية والصناع والمباشرون لخدمة التجارة بالحوانيت والمخازن تكون خدمتهم في الخمسة عشر يومًا الأولى على وجه التجربة والاختبار بحيث يجوز لكل من المتعاقدين فسخ الاتفاق في أثنائها بدون غرم وإنما يلزم أجر الأجير عما خدمه، والإِعلام قبل الخروج كل ذلك ما لم يخالف اتفاق الطرفين أو عرف المكان.
ولا ينسى القانون الاهتمام بحصول خلل في الوفاء وحدوث خسارة فيقول في:
المادة (865) : … وعلى الحاكم أن ينظر في وجود الخسارة وأهمية الضرر بحسب نوع الخدمة وظروف الحال وعرف المكان.
وإذا استأجر أحدهم شخصًا لصنع شيء فهل عليه إحضار الآلات اللازمة لذلك؟ القانون يجعل العادة محكمة فيقول في المادة:
المادة (868) : على أجير الصنع الآلات والأدوات اللازمة للصنع الذي استؤجر عليه ما لم يكن ذلك مخالفًا للعرف.(5/2796)
8- العرف في نقل الأشياء:
جاءت المادة (901) قائلة: نقل الأشياء في المدة التي عينها المتعاقدان أو عرف التجارة.
9- العرف والوديعة:
الوديعة شيء منقول يتسلمه شخص من آخر بمقتضى عقد ليحفظه ويرده بعينه. المادة (995) .
فهل يستحق المستودع أجرًا عن هذا العمل والحفظ.
تقول المادة (1002) : "في شأن الوديعة أن لا يؤدى عليها أجر إلاَّ إذا اشترطه المستودع أو العرف".
فالعرف محكم هنا والاعتماد عليه واجب من طرف المحاكم، وهذا ما أيدته المادة (1028) في نفس المدونة. وكذلك المادة (1037) .
10- العارية والعرف:
استعارة الشيء تارة تكون لاستعماله وتارة تكون لاستهلاكه فالأولى العارية والثانية القرض.
فإذا استعار أحدهم شيئًا على وجه العارية فمتى يرده؟
تجيب عن ذلك المادة (1066) قائلة: إذا لم يعين أجل لرد العارية كان للمستعير أن لا يردها إلاَّ بعد انتفاعه بها حسب الاتفاق أو العرف.
فإذا استعار أحدهم مثردًا آنية كبيرة يوضع بها الطعام عند اجتماع بمناسبة موت، فإنه يرده بمجرد انتهاء مراسم الاحتفال بالموت.
وإذا استعار أحد مائدة لضيوف الزفاف فلا يمكن أن يطالب بإرجاعها قبل انتهاء المأدبة.
11- آثار العرف في أحكام الوكالة:
الوكيل يستحق أجرة بالاتفاق فإذا لم يوجد اتفاق فيستحق الأجرة "إذا جرت العادة بالمكان بإعطاء أجرة في مثل ما وكل فيه الوكيل". المادة (1114) من المدونة المدنية.
وما هو موضوع التوكيل الخاص وما هي مشمولاته؟ تجيب عن ذلك المادة (1117) : التوكيل الخاص هو الذي يتعلق بنازلة أو نوازل مخصوصة أو الذي يقتصر على مأمورية مخصوصة، فلا يباشر الوكيل في ذلك إلاَّ النوازل أو الأعمال المعينة له مع ما يتعلق بها تعلقًا ضروريًّا بحسب العادة.(5/2797)
ثم ما هو التوكيل العام وما هي حدوده التي يقف عندها وهل للعرف دخل في ذلك؟
تقول المادة (1119) : "التوكيل العام هو إطلاق يد الوكيل في جميع أمور موكله أو التفويض له في أمر خاص. وله بمقتضى هذا التوكيل أن يفعل ما كان في مصلحة الموكل بحسب نوع النازلة وعرف التجارة".
والقانون يجعل العرف حكمًا في أجل قيام الوكيل بواجب إعلام موكله تقول المادة (1135) :
"إذا أتم الوكيل ما وكل عليه لزمه المبادرة بإعلام موكله بما فعله تفصيلًا حتى يمكن للموكل الاطلاع التام على فعله. وإذا تأخر الموكل عن الجواب بعدم بلوغ الخبر إليه تأخرًا زائدًا عما يقتضيه حال النازلة أو العرف فهو محمول على الموافقة ولو تجاوز الوكيل حدود وكالته".
أما فيما يتعلق بواجب الموكل نحو وكيله فالعرف له دخل أيضًا. تقول المادة (1141) :
"على الموكل أن يمد موكله بالدراهم وغيرها مما يحتاج إليه لإتمام وكالته إلاَّ إذا اقتضى الاتفاق أو العادة خلافه".
وفي شأن أجر الوكيل يتداخل العرف أيضًا حسب المادة (1143) "لا يستحق الوكيل الأجر إذا لم يتحقق ما وكل عليه إلاَّ إذا اقتضى خلاف هذه الصورة عرف التجارة أو عادة المكان".
وإذا لم يقع الاتفاق على أجرة الوكيل عينه العرف.
تقول المادة (1144) :
"إذا لم يعين الأجر كان تعيينه بمقتضى عادة المكان الذي باشر فيه الوكيل وكالته".
وإذا تجاوز الوكيل حدود وكالته، فذلك لا يلزم موكله إلاَّ إذا كان مما يتسامح فيه في التجارة أو في عرف المكان مكان العقد. المادة (1155) .
وإذا تنازع الوكيل مع موكله وفسخ أحدهما الوكالة وحصلت خسارة، فالقانون يحكم عرف المكان. المادة (1171) .(5/2798)
12- وللعرف داخل في أحكام الشركات:
كشركة القراض الفصول: (1200) وما بعدها والشركة بوجه عام الفصل (1293) ، وشركة الخماس المادة (1381) وهي مواد لها مساس بالقانون التجاري.
13- العرف في أحكام المساقاة:
عرفت المادة (1395) المساقاة بقولها:
" المساقاة عقد تكليف شخص لآخر بتعاطي ما يلزم لخدمة شجر قد بلغ الإِطعام أو زرع قد ظهر إلى وقت اقتطاف الغلة أو جمع الصابة بجزء معين من ثمره – أي من نتاجه – والمباشر للخدمة يسمى العامل".
فما هو هذا الجزء الراجع للعامل؟ للعرف دخل في تعيينه وتحديده حسب المادة (1400) ونصها:
"إذا خلا العقد من بيان حصة العامل حمل المتعاقدان على ما جرى به عرف المكان
المغارسة والعرف:
جاءت المادة (1416) بتعريف المغارسة قائلة:
"إذا كان موضوع الشركة أشجارًا مثمرة أو نحوها من ذوات الدخل وتكلف الشريك العامل بغرسها في أرض شريكه على أن يكون له مناب شائع في الأرض والأشجار عند بلوغها إلى حد ملعوم أو حد الأثمار سمي العقد عقد مغارسة.
فإذا أطعم الشجر وجاء إبان القسمة واتضح أن الطرفين غفلا عن تحديد مناب العامل فالعرف هو الحكم وعليه يجري العمل المادة (1421) .
وهكذا وبعد هذه البسطة حول المواد القانونية المدنية التي أبرزت دور العرف – تطبيقيًّا – في حياة الناس الاجتماعية والتنظيمية وتعاملهم في حياتهم اليومية أبرزت دور العرف كمادة قانونية أقرها المقننون وخططوا لها ونظموا سيرها وهذَّبوا من أمرها.
وهي مواد تعم أوجه الحياة العملية المدنية العاملة وتغطي الساحة الاجتماعية للتعامل بين الناس.
بعد ذلك يمكن لنا أن نلاحظ امتداد جذور تلك المواد في حضارتنا الإِسلامية وتقاليدنا العربية وأنها مقتبسة في الغالب من الفقه الإِسلامي الذي كان المصدر الأول لما سنن وقنن في هذا الصدد.
ويمكن أن يلاحظ الدارس المقارن وجه الشبه وعاملات الاقتباس في أجلى صورها.
ولولا خشية الطول والملل لأبرزنا صورًا منها نضربها مثلًا تؤيد ذلك. ولربما فعلنا في وقت آجر إحقاقًا للحق وإظهارً للصدق.(5/2799)
المجلة التجارية:
نجد أن العادة والعرف لها أهمية كبرى في المسائل التجارية ضرورة أن مرد القانون التجاري إلى العادة والعرف.
وقد أشارت المجلة التجارية التونسية بالرجوع إلى العرف التجاري في كثير من موادها.
منها المادة (597) ونصها: "جميع العقود التجارية خاضعة لأحكام هذا القانون، وإذا لم يوجد به نص فتكون خاضعة لمجلة الالتزامات والعقود وإلاَّ كانت متماشية مع أصول العرف التجارية".
والمادة (620) تقول: "إذا لم يكن هناك اتفاق أو عرف كانت أجرة السمسار على من كلفه".
والمادة (621) جاءت ناصة: "إذا لم يتعين مقدار أجرة السمسار اتفاقًا أو عرفًا عين المجلس حسبما يراه أهل الخبرة …" إلخ.
أما في ميدان الأسرة فمجلة الأحوال الشخصية زاخرة بالمواد المشيرة إلى العرف وتطبيقه.
وإتمامًا للفائدة نذكر كلمة حول الفرع الثاني للعرف وهو:
فقه القضاء وأحكام المحاكم
فالقضاء هو مجموع أحكام المحاكم القضائية الصادرة فيما يعرض عليها من خلافات ومنازعات.
والفرق بين أحكام المحاكم وأراء الفقهاء هو أن مهمة الفقهاء وشراح القانون تفسير القانون ذاته والنص الموجود. وإذا طرأت حالة لم يكن لها نص فالفقهاء يجتهدون في استنباط حكمها قياسًا على القواعد القانونية الموضوعة لأمثالها.
وأما أحكام المحاكم فهي تفحص الوقائع المعروضة عليها وتسير النصوص وتبحث خلالها عن المنطبق على ما بين يديها من أقضية ليكون القضاء والحكم يعتمد أساسًا صحيحًا من القانون المكتوب.
فإذا لم يكن هناك نص ولم تجد المحكمة قانونًا واضحًا ينطبق على القضية المطروحة عليها فلها حينئذ حرية الاستنباط للقاعدة التي يمكن تطبيقها في نطاق روح القانون العامة واعتمادًا على الأسس القانونية والمبادئ والقواعد المعتمدة من المقنن.
فالقضاء قد لا يعتبر مصدرًا رسميًّا للقاعدة القانونية إذا ما اقتصر دوره على تفسير القاعدة القانونية بإزالة الغموض عنها وإزاحة اللبس عن الاتفاق في حدود أحكام الفصل (513) وما بعده من المدونة المدنية التونسية في تفسير النص.(5/2800)
فإذا لجأ إلى التفسير بمفهومه الواسع، فإنه يكون الحل ويبتدعه ويكون بذلك قاعدة قانونية قابلة للتطبيق والاتباع.
ومن هنا فإنه يمكن أن يكون لفقه القضاء دور هام يجعله في منزلة مصادر القانون لكن في زاوية ضيقة جدًّا (1) .
وإذا تواردت الأحكام القضائية وتكررت مع تعدد المحاكم في مادة معينة وموضوع بذاته، فإنها تسمو إلى مرتبة القواعد القانونية.
ويحدث كثيرًا أن يضغط القضاء باتجاهاته المتعددة المتكررة في فقد مادة ما كانت مضادة لما يحدث بصفة عامة من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية فيضطر المقنن تحت وطأة وفرة هذه الأحكام وتكاثفها وتعدد مصادرها إلى تناول النص بالتغيير والتنقيح والشرح.
ولا يفهم من وضوح قوة الأحكام ونفاذ مفعولها أنها بالغة قوة القانون نفسه.
ومحكمة التعقيب – النقض والإبرام – خول لها القانون قوة إلزامية في فصل قضية معينة لكن لا على معنى إبدال أو تغيير النص القانوني أو الانحراف به عن معناه الواضح الصريح فهي تحاول توحيد الآراء والمفاهيم بين دوائرها طبق أحكام الفصل 192 منها.
هذا ما أمكن اختصاره في هذا الموضوع ولا أحسب أني أطلت ومعذرة إن أنا فعلت وصفحًا وعفوًا إن أخطأت أو قصرت، ونرجو من الله التوفيق والغفران وحسن العاقبة والسلام.
محمد شمام
عفي عنه.
__________
(1) انظر شرح القانون المدني: د. محمد كامل مرسي:(5/2801)
العرف ودوره في عملية الاستنباط
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريفه:
ذكروا للعرف تعريفات نذكر منها:
ما ذكره الجرجاني من أنه (ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبائع بالقبول) .
وعرفه الأستاذ علي حيدر من شرح المجلة بأنه (الأمر الذي يتقرر بالنفوس ويكون مقبولًا عند ذوي الطباع السليمة بتكراره المرة بعد المرة) .
وحكى ابن عابدين الحنفي عن المستصفى أن العادة والعرف هي (ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول) .
وغيرها إلا أنها تعاريف مبتلاة ببعض الإشكالات.
ولعل أقرب التعاريف ما ذكره الأستاذ عبد الوهاب خلاف من أنه (ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك) ثم قال: ويسمى العادة.
ولا داعى للدخول في النقض والإبرام لأنها تعاريف لفظية.
ويفترق العرف عن الإجماع بأن الإجماع يعني الاتفاق السائد بينما يكفي في العرف سلوك الأكثرية وسيرة المجتمع.
تقسيماته:
أولًا: قسم تارة إلى العرف العام والعرف الخاص.
أما العرف العام فيراد منه ما يشترك فيه غالبية البشر دون ملاحظة زمان أو مكان أو ثقافة أو مستوى يقرب بذلك من (بناء العقلاء) .
ويمكننا أن نمثل له بالأمثلة التالية:
(أ) بناؤهم على رجوع الجاهل للعالم.
(ب) بناؤهم على عدم نقض اليقين بالشك.
(ج) شيوع بعض الألفاظ بينهم إلى الحد الذي يقدم هذه العادة على المعنى الحقيقي للفظ - كما يقول ابن عابدين. (1) ويؤكد ذلك أيضا الشيخ الطوسي. (2) .
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين ص: 113.
(2) عدة الأصول: ج1 ص170.(5/2802)
ويرى مؤلف كتاب (نظرية العرف) أن كثيرًا من الظواهر الاجتماعية المنتشرة في العالم تنظم في هذا القسم. (1) .
العرف الخاص:
وهو العرف المخصوص بحدود زمانية أو مكانية أو ثقافية معينة وتدخل هنا بعض المعاملات المتداولة في بعض الأعراف، وكذلك الألفاظ الخاصة بالبلدان، والعادات المحلية.
ثانيًا: قسموه إلى العرف القولي والعرف العملي:
أما القولي فيعطي الألفاظ عند العرف معان خاصة كإطلاق لفظ الولد عند بعضهم على خصوص الذكر، وأما العملي فهو ما يمارسونه بشكل عرفي وقد مثل له في (الأصول العامة) بشيوع البيوع المعاطاتية في بعض البيئات. (2) .
ثالثًا: قسموا العرف إلى الصحيح والفاسد:
أما الصحيح: فهو ما ينطبق والموازين الشرعية كتعارفهم على تقديم بعض المهر.
وأما الفاسد: فهو خلاف ذلك كتعارفهم على لعب القمار وشرب المسكرات وشيوع القوانين الوضعية.
مجالات العرف:
ذكروا للعرف مجالات أربعة هي:
أولًا: ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نص فيه مثل عقد الاستصناع ويتم الاستكشاف من خلال الامتداد بهذا العرف إلى زمان المعصوم عليه السلام وإثبات إقراره لهذا العرف ويصبح بذلك سُنَّة عبر هذا الإقرار.
ثانيًا: ما يرجع فيه لتشخيص بعض المفاهيم التي أوكل الشارع أمر تحديدها للعرف كلفظ (الإناء) و (الصعيد) و (القرء) مما أخذ موضوعًا في لسان الأدلة.
وهذا الباب مهم جدًّا يكشف عن جانب من المرونة في الإسلام فمثلًا نجد أن مفاهيم (الغنى) و (الإسراف) و (التبذير) ترتبت عليها أحكام، ولكنها تختلف باختلاف الأزمة والأمكنة مما يجعلها ملائمة لتطورات المجتمع وتعقيداته وإمكاناته.
وهكذا بالنسبة لمفاهيم أخرى كمفهوم (في سبيل الله) في مجال مصاريف الزكاة و (القوة) وغير ذلك.
__________
(1) نظرية العرف: ص33.
(2) الأصول العامة؛ محمد نقي الحكيم: ص142(5/2803)
ثالثًا: ما يرجع فيه لاستكشاف مرادات المتكلمين عندما يطلقون الألفاظ ويدخل في هذا القسم ما يرجع للدلالات الالتزامية إذا كان منشأ الدلالة الملازمة العرفية كحكم الشارع مثلًا بطهارة الخمر إذا انقلب إلى خل الملازم عرفًا للحكم بطهارة جميع أطراف إنائه.
رابعًا: ما يستكشف به ما يمكن الاحتجاج به وهو بناء العرف العام على الأخذ بالظواهر أو الأخذ بقول الثقة أي ما يستكشف به الحجة الأصولية.
ويختلف هذا القسم الرابع عن القسم الأول بأن هذا يشير إلى الأصول المستكشفة بينما يركز الأول على الفروع الفقهية ويمكن جمعها تحت عنوان واحد فيقال ما يستكشف به الحجة أو الحكم الفرعي.
هل العرف أصل قائم برأسه؟
إذا استعرضنا مجالات العرف الماضية وجدنا أنه لا يشكل أصلًا قائما برأسه في قبال الأصول الفهية الأخرى.
فالمجالان الأول والرابع يرجعان إلى السنة عبر اعتمادهما على الإقرار والإمضاء الشرعي والسنة قامت على معقد العرف (أي الحجة أو الحكم) ولم تقم على العرف نفسه حتى نقول بحجية كل ما قام العرف عليه، وأما المجالان الآخران فهما يشخصان صغيرات السنة.
ولكن يبدو من البعض اعتبار العرف دليلًا مستقلًا برأسه.
قال ابن عابدين: واعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا فقالوا في الأصول في باب ما نترك به الحقيقة، تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة هكذا، ذكر فخر الإسلام انتهى كلام الأشباه وفي شرح الأشباه للبيري قال في المشرع: الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وفي المبسوط: الثابت بالعرف كالثابت بالنص. (1) .
ولا يمكن الشك في عدم صحة كونه أصلًا مستقلًا في الكشف عن واقع التشريع الإسلامي، لأن العرف يخطئ بلا شك ولا يعرف الكثير من المصالح والمفاسد الواقعية فليس له حجية مستقلة وإنما هو كما مر يكشف عن السنة إذا امتد إلى عصر المعصوم ولم يتم ردع عنه – وبتعبير آخر يبقى العرف دليلًا ظنيًّا وكاشفًا ناقصًا إلا أن يتم تتميم كشفه وسد نقصه بدليل آخر.
والذي أعتقده أن مصطلح (الأصل) يستعمل استعمالات متنوعة وربما كان المراد هنا أن العرف قد يكون مرجعًا يحتاج إليه للوصول إلى الحكم لا أن يراد به كونه أصلًا في قبال أصول الفقه الأخرى، والشاهد على ذلك ما عبروا عنه بقولهم: (تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعبادة) وهم بذلك يشيرون إلى مجال استكشاف مراد المتكلمين.
__________
(1) رسائل ابن عابدين: 2 /113.(5/2804)
الأدلة على حجية العرف:
والمقصود بها الأدلة على اعتباره أصلًا بذاته وهي متعددة:
منها: ما استدل به بعض العلماء – كما ذكر ابن عادبين – من قوله سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [سورة الأعراف: الآية 199] ، باعتبار أن المراد بالعرف هو عادات الناس وممارستهم.
إلا أن الآية كما هو ظاهر تشير إلى ما ارتكزت عليه النفوس والعقول من تصورات عن العدالة، وما عاد معروفًا لدى الجميع بالحسن وهو بعيد عن مسائل الأعراف حتى لو كانت عامة وأكثر التصاقًا بمسألة الفطرة المرتكزة في جميع النفوس، ولا أقل من الاحتمال فيبطل الاستدلال، وربما يؤيد هذا الاحتمال برواية صحيح البخاري عن عبد الله بن الزبير في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} قال: " ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس ".
ومنها: رواية عبد الله بن مسعود ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) وقد استدل به السرخسي في المبسوط وابن الهمام وقد أشكل على الرواية بأنها مقطوعة يحتمل أن تكون كلامًا، لابن مسعود لا رواية عن النبي صلى الله علية وسلم، وهذا ما أكده ابن عابدين حين نقل قول العلاء إذ قال: لم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه أخرجه الإمام. أحمد في مسنده. (1) .
على أن الاستدلال هنا أضيق من المدعى فما أكثر الأعراف غير المعللة بالحسن ومع ذلك فالحديث يشير إلى صغريات حكم العقل أو الإجماع.
ومنها: قولهم أن الشارع راعى الكثير من أعراف العرب واعتبر الإمام مالك عمل أهل المدينة إجماعًا كافيًا ودليلًا شرعيًّا عند عدم النص.
والحقيقة أن ذلك لتوافق تلك الأعراف مع تعاليم الشارع وكشفها عنها لا غير لا لأنها مراجع أصلية يرجع إليها كمقررة للحكم الشرعي.
ولم أجد أدلة قوية أخرى يعتمد عليها في البين.
وخلاصة البحث:
إن العرف ليس أصلًا من أصول الفقه وإنما يرجع إليه في بعض المجالات للكشف عن السنة أو تشخيص المرادات.
الشيخ محمد علي التسخيري.
__________
(1) رسائل ابن عابدين2 /113.(5/2805)
العرف
إعداد
الدكتور أبو بكر دوكوري
بسم الله الرحمن الرحيم
مباحث العرف:
تشتمل هذه المباحث على الموضوعات التالية:
1- تعريف العرف – الفرق بين العرف والعادة – الفرق بين العرف والإجماع.
2- تقسيمات العرف.
3- حجية العرف ومذاهب العلماء في اعتباره.
4- شروط اعتبار العرف وتحكيمه.
العرف في الفقه: من عرف الشيء إذا علمه فهو عارف به وعريف وتدور مادة عرف على معان كثيرة جدًّا.
أما العرف بضم العين فراء ساكنة فيطلق في اللغة على عدة معان كذلك منها: الجود واسم ما تبذله وتعطيه. وكذلك يطلق على موج البحر وعلى ما تعرفه النفس وتطمئن إليه، قال في اللسان " والعرف والعارفة والمعروف ضد المنكر وهو كل ما تعرفه النفس من الخير وتبسأ به وتطمئن إليه". (1) ، ولعل هذا المعنى للعرف هو الذي يتناسب مع معناه الاصلاحي.
أما العرف في اصطلاح الفقهاء فقد عرفوه بتعريفات متقاربة فقال بعضهم: "هو ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول. وهذا التعريف اختاره الجرجاني. (2) ،
أما أبو زهرة فقد عرف العرف بأنه: ما اعتاده الناس من معاملات واستقامت عليه أمورهم. (3) . وعرفه الشيخ خلاف، فقال: هو ما تعارف عليه الناس وصار عندهم شائعًا سواء كان في جميع البلدان أو بعضها قولًا كان أو فعلًا. (4) .
__________
(1) راجع القاموس المحيط: 3/ 183؛ ولسان العرب المحيط: 2 /747.
(2) راجع التعريفات: ص130.
(3) أصول الفقه، لأبي زهرة: ص216.
(4) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه: ص145.(5/2806)
الفرق بين العرف والعادة:
من العلماء من لم يفرق بين العرف والعادة، بل اعتبرهما مترادفين، قال ابن عابدين: "العادة والعرف بمعنى واحد". وقال خلاف: "والعرف والعادة في لسان الشرعيين لفظان مترادفان معناهما واحد".
كما ورد من عطف أحدهما على الآخر كقول بعض الفقهاء هذا الحكم ثابت بدلالة العرف والعادة، إنما هو من باب تعاطف المترادفات لإفادة التأكيد إذ لا تفيد كلمة العادة معنى غير معنى العرف وممن ذهب إلى هذا الجرجاني. (1) .
ومن العلماء من خص العرف بالقول، والعادة بالفعل نسبه بعضهم إلى البخاري في كشف الأسرار. (2) .
ومن العلماء من يرى أن الصلة بين العرف والعادة هي العموم والخصوص المطلق بمعنى أن العادة أعم مطلقًا من العرف إذ كل عرف عادة وليس كل عادة عرفًا. (3) .
الفرق بين العرف والإجماع:
هناك شبه بين الإجماع والعرف وخاصة العرف العام، لذلك دأب بعض العلماء على ذكر فوارق بينهما من ذلك:
أولًا: إن العرف يكفي في إثباته توافق غالب الناس على قول أو فعل بما فيهم العامة والخاصة. والإجماع لا يكون إلا من مجتهدي الأمة.
ثانيًا: إن العرف لا يقدح فيه مخالفة البعض إذا اتفق عليه غالب الناس، أما الإجماع فإنه لا يتحقق إلا باتفاق جميع المجتهدين.
ثالثًا: إن الحكم الثابت بالإجماع كالحكم الثابت بالنص، بل أقوى منه فلا مجال لتغييره، أما المستند إلى العرف فيتغير بتغير العرف.
رابعًا: إن العرف قد يكون فاسدًا وذلك إذا خالف نصًّا شرعيًّا أو غير ذلك مما يجعله غير معتبر بخلاف الإجماع، فإنه لا يكون فاسدًا بأي حال من الأحوال لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة. (4) .
__________
(1) انظر: التعريفات: ص 130؛ ومصادر التشريع: ص145؛ وأصول مذهب الإمام أحمد: ص522.
(2) أصول مذهب الإمام أحمد: ص522 نقلًا عن كشف الأسرار.
(3) راجع رسالة العرف والعادة للأستاذ أبو سنة: ص13؛ والمدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى الزرقاء:2 /241.
(4) مصادر التشريع فيما لا نص فيه: ص146؛ وأصول مذهب الإمام أحمد: ص524.(5/2807)
تقسيمات العرف:
للعرف أقسام باعتبارات مختلفة:
ينقسم العرف – قسمة أولى – إلى عرف قولي وعرف عملي، فالعرف القولي هو أن يتفق أهل العرف على أن يراد من اللفظ غير معناه الأصلي الذي وضع له اللفظ في اللغة بحيث يتبادر إلى الذهن ذلك المعنى عند سماعه، مثال ذلك: تعارف الناس على إطلاق لفظ الولد على الذكر دون الأنثى مع أنه لغة يشمل الاثنين بشهادة الآية القرآنية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} . (1) .
وكتعارفهم على إطلاق لفظ اللحم على غير السمك مع أنه موضوع لما يشمل السمك أيضًا، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} . (2) .
والعرف العملي: هو ما جرى عليه الناس وتعارفوه في معاملاتهم وتصرفاتهم كتعارف الناس على البيع بالتعاطي دون صيغة لفظية لعقد البيع وتعارفهم على أن ما يدفعه الرجل لخطيبته يعتبر هدية لا يدخل في نطاق المهر.
وينقسم العرف بنوعيه القولي والفعلي – قسمةً ثانية – إلى عرف عام وعرف خاص.
فالعرف العام: هو ما تعارف عليه أهل البلاد جميعًا كتعارفهم على الاستصناع واستعمال لفظ الطلاق في إنهاء رابطة الزوجية. وهذا النوع من العرف يترك به القياس عند الحنفية ويخص به العام.
والعرف الخاص: هو ما تعارف عليه أهل بلد معين أو طائفة معينة من الناس كتعارف التجار على إثبات الديون في دفاتر خاصة من غير إشهاد عليها واعتبار هذا حجة فيما بينهم، وهذا النوع من العرف ليس له قوة النوع الأول.
وينقسم العرف باعتبار أنواعه المتقدمة – قسمة ثالثة – إلى عرف فاسد وعرف صحيح. فالعرف الفاسد ما كان مخالفًا لأدلة الشرع وأحكامه الثابتة التي لا تتغير كتعارف الناس على شرب الخمور والتعامل بالربا ولعب القمار وخروج المرأة إلى الأماكن العامة بدون حجاب وغير ذلك من الأمور التي حرمتها الشريعة لما يترتب عليها من المفاسد الدينية والاجتماعية. فمثل هذا العرف لا يعتد به ولا تبنى على مثله الأحكام لأن اعتباره إهمال لنصوص قاطعة واتباع للهوى وإبطال للشرائع ما جاءت لتقرير المفاسد، وإن تكاثر الآخذين بها يدعو إلى مقاوتها لا إلى الإقرار بها.
__________
(1) سورة النساء: الآية 11.
(2) سورة النحل: الآية 14.(5/2808)
وأما العرف الصحيح فهو مالم يعارض نصوص الشرع أو ما يشهد له الشرع بالاعتبار في الجملة، فمثل هذا العرف يعتبر ويعتد به في الاستنباط وتشريع الأحكام إذ عدم اعتباره وعدم الاعتداد به يوقع الناس في الضيق والحرج ويجعل الشريعة في روحها مجافية للغرض الذي جاءت به من أجله. (1) .
حجية العرف ومذاهب العلماء في اعتباره:
اشتهر المذهبان الحنفي والمالكي في القول باعتباره حجة، وأنه أصل من الأصول التي يستند إليها في الأحكام، قال أبو زهرة: هذا أصل أخذ به الحنفية والمالكية في غير موضع النص. (2) . ولكن عند التحقيق يتبين أن جميع الفقهاء يعملون بالعرف في هذه الحالة وفي ذلك يقول القرافي: "أما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها". (3) .
ومما يؤيد كلام القرافي هذا ما ذكره في شرح مقدمة المجموع: أن سبب تغير مذهب الإمام الشافعي بعد انتقاله إلى مصر يرجع إلى اختلاف الأعراف بين العراق ومصر فخالف بعض آرائه في العراق المبنية على العرف حين وجد عرف أهل مصر يخالف عرف أهل العراق. (4) . فهذا تصريح من علماء الشافعية على أن الإمام قد حكم بالعرف في بعض المسائل الفقهية.
وفيما يتعلق بالمذهب الحنبلي: فننقل ما قاله الدكتور عبد الله التركي في كتابه القيم "أصول مذهب الإمام أحمد " " الحنابلة كغيرهم من أصحاب المذاهب يلاحظون العرف في كثير من فتاواهم وأحكامهم وخاصة في باب المعاملات لأنهم يتوسعون فيها ويعتبرون المعاني والمقاصد ولا يقطعون عند الألفاظ فقط، وفي صيغ العقود ينظرون كثيرًا إلى ما تعارف عليه الناس، وفي الشروط في المعاملات والأنكحة يعتبرون المشروط عرفًا كالمشروط شرعًا لذلك يجرون العرف مجرى النطق". (5) .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين: " وقد أجرى العرف مجرى النطق في أكثر من مائة موضع" وذكر عدة أمثلة على ذلك. (6) .
__________
(1) راجع الأشياء والنظائر، للسيوطي: ص93؛ والموافقات، للشاطبي: 2 /283 ومابعدها.
(2) راجع أصول الفقه، لأبي زهرة: ص216
(3) راجع الفروق: 1/ 76.
(4) راجع مقدمة شرح المجموع، للنووي: ص67.
(5) راجع أصول مذهب الإمام أحمد: ص533.
(6) راجع إعلام الموقعين: 2 /392 - 394.(5/2809)
ومما تقدم يتبين أن الفقهاء قديمًا وحديثًا باختلاف مذاهبهم قد أخذوا بالعرف واعتبروه دليلًا يبنى عليه كثير من الأحكام ومرجعًا في تفسير النصوص وبيان ما ترمي إليه.
يقول ابن العربي عند تفسير قول الله تعالى: ٍ {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} . (1) : العادة دليل أصولي بنى الله عليه الأحكام وربط به الحلال والحرام. (2) .
ومن تتبع كتب القواعد الفقهية يجد كثيرًا من الشواهد على مراعاة عرف الناس وعاداتهم في الأحكام الشرعية حتى أصبح من القواعد المقررة: " المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا " و" العادة محكمة " و " الثابت بالعرف كالثابت بالنص ".
فهذه العبارات وأمثالها لا تدع مجالًا للشك في أن العرف يرجع إليه حيث لا نص، بل ويرجع إليه في تطبيق النص وفهمه.
ومن تتبع كتب الفروع يجد الكثير من الأحكام والفتاوى مبنيًّا على العرف والعادة.
أدلة اعتبار العرف:
الفقهاء في اعتبارهم للعرف استدلوا على أمرين:
الأول: التأسي بالشارع الحكيم إذا أقر الكثير من أعراف العرب وعاداتهم قبل الإسلام بعد أن نظمها لهم كما هو الحال بالنسبة إلى بعض العقود كالبيع والإجارة والمضاربة وفرض الدية على العاقلة ولم يلغِ من ذلك إلا الفاسد الضار الذي لا يصلح للبقاء كالربا والميسر والتبني وحرمان النساء من الميراث ووأد البنات.
الثاني: بعض النصوص من الكتاب والسنة رأى فيها بعض العلماء دلالة على حجية العرف، من ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود من أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن)) . (3) ، فقد استدل بهذا الحديث كل من الإمام السرخسي والكساني وابن همام من الأحناف، وكذلك السيوطي من الشافعية وغيرهم على حجية العرف فإن هذا الأثر يدل بعبارته ومرماه على أن الأمر الذي يجري عرف المسلمين على اعتباره من الأمور الحسنة يكون عند الله أمرًا حسنًا لأن مخالفة العرف الذي يعده الناس حسنًا يكون فيه حرج وضيق ولقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . (4) .
__________
(1) سورة الطلاق: الآية7.
(2) راجع أحكام القرآن: 4 /183.
(3) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده والراجح وقفه على ابن مسعود، كما صرح بذلك كل من الأئمة السخاوي والعلائي والزيلعي، راجع نصب الراية: 4 /133، 134؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص99.
(4) سورة الحج: الآية 78.(5/2810)
وذكر ابن عابدين أن بعض العلماء استدل على اعتبار العرف بقول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} . (1) ، فقال: كل ما شهدت به العادة قضي به لظاهر هذه الآية. (2) .
وبعد أن تقرر اعتبار العرف في الشريعة الإسلامية وأنه دليل يرجع إليه الفقيه إذا أعوزه دليل آخر أرجح منه بقي أن نعلم أن لهذا العرف الذي يقول به الفقهاء شروطًا لا بد من توفرها:
أولًا: أن يكون العرف غالبًا مطردًا وفي هذا يقول ابن نجيم: "إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت"، ولذا قال الفقهاء في البيع لو باع بدراهم أو دنانير وكانا في بلد اختلفت فيه النقود مع الاختلاف في المالية والرواج انصرف البيع إلى الأغلب لأنه المتعارف فينصرف المطلق إليه.
قال السيوطي: "إنما تعتبر العادة إذا اطردت، فإن اضطربت فلا ومن هنا جاءت القاعدة الفقهية: "العبرة بالغالب الشائع لا بالنادر". (3) .
ثانيًا: ألا يخالف العرف نصًّا من نصوص الشرع أو قاعدة من قواعده المقررة وفي هذا يقول الإمام السرخسي: "وكل عرف ورد النص بخلافه فهو غير معتبر". (4) . والمخالفة القادحة في العرف هي ما إذا كان في العمل به إبطال للنص من كل وجه وبالكلية. أما إذا لم يكن كذلك كما إذا كان النص عامًّا وكان هناك عرف يخالفه في بعض أفراده إنه يعمل بهما معًا ويكون العرف في هذه الحالة مخصصًا للنص لا مبطلًا له ولذلك جوز الفقهاء الاستصناع لتعارف الناس عليه وتعاملهم به مع أن النص ورد بالنهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده وهو صادق على الاستصناع فعمل بمقتضى النص في غير الاستصناع وعمل بالعرف في الاستصناع.
ثالثًا: ألا يكون هناك اتفاق بين المتعاقدين على استبعاد العرف:
إذا صرح المتعاقدان أو اتفقا على استبعاد ما يتعارف عليه الناس في بعض المعاملات نفذ الاتفاق وأهمل العرف. فمثلًا لو كان هناك عرف على أن تكون مصاريف تسجيل العقد أو نفقات شحن البضاعة على المشتري واتفق العاقدان على أن يكون ذلك على البائع عمل بهذا الاتفاق بالإجماع ولا عبرة بالعرف.
__________
(1) سورة الأعراف: الآية 199.
(2) راجع أصول الأحكام: ص141.
(3) الأشباه والنظائر، للسيوطى: ص92.
(4) راجع المبسوط: 12 /196.(5/2811)
يقول العز بن عبد السلام: "كل ما يثبت في العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد صح". (1) .
رابعًا: أن يكون العرف الذي تحمل عليه الصيغ والنصوص والتصرفات موجودًا وقت ورودها فلا عبرة بالعرف المتأخر الطارئ على التصرف أو النص.
يقول السيوطي: "العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن أو السابق دون المتأخر". (2) .
ويقول الشاطبي في الموافقات: "إن العوائد تختلف باختلاف الأعصار والأمصار لا يصح، أن يقضى بها على قوم حتى يعرف أنها عادتهم ويثبت ذلك، فلا يقضى على من مضى بعادة ثبتت متأخرة". (3) .
خامسًا: أن يكون العرف عامًّا لا خاصًّا، وهذا الشرط محل اختلاف بين الفقهاء.
قال السيوطي: "العادة المطردة في ناحية هل تنزل عادتهم منزلة الشرط فيه صور منها: لو جرت عادة قوم بقطع الحصرم قبل النضج فهل تنزل عادتهم منزلة الشرط حتى يصح بيعه من غير شرط القطع؟ وجهان أصحهما: لا، وقال القفال: نعم". (4) .
واشتراط العموم في العرف هو مذهب جمهور الحنفية والشافعية به صرح القرافي من المالكية وابن حجر الهيثمي. (5) .
سادسًا: أن يكون العرف ملزمًا. أي يتحتم العمل بمقتضاه في نظر الناس وهذا الشرط زاده بعضهم فاعتبر أن العرف المعتبر يختص بالعرف المثبت لحق من الحقوق لقيامه مقام الشرط أو العقد ومثلوا له بالهدايا في الأعياد والأعراس والمناسبات المختلفة إذا كان هناك عرف واعتياد في المكافأة عليها لزم ذلك في الفتيا والقضاء. (6) .
سابعًا: هناك شرط آخر ذكره ابن عابدين في رسالة العرف وهذا الشرط يتعلق بمن يحكم بالعرف أو يفتي به، وفي ذلك يقول: "وكذلك المفتي الذي يفتي بالعرف لا بد له من معرفة الزمان وأحوال أهله ومعرفة أن هذا العرف خاص أو عام وأنه مخالف للنص أولًا ولا بد له من التخرج على أستاذ ماهر ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل". (7) .
__________
(1) راجع قواعد الأحكام: 2 /158.
(2) راجع الأشباه والنظائر: ص106.
(3) راجع الموافقات: 2 /220.
(4) راجع الأشباه والنظائر: ص103.
(5) راجع المصدرالسابق والفتاوى الكبرى: 4 /57.
(6) راجع أصول الأحكام: ص139.
(7) راجع أصول الفقه، لأبي زهرة: ص219 نقلًا عن ابن عابدين.(5/2812)
وبعد أن عرفنا العرف وآراء العلماء في اعتباره بقي أن نعرف أن الحكم المبني على العرف يتغير تبعًا لتغير الأصل الذي بني عليه.
وفي هذا يقول القرافي: " الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك. فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها إلى أن يقول: " وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المركبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه ". (1) .
وتبعًا لذلك، فالمجتهد يغير رأيه في المسألة الواحدة لتغير العرف الذي بني عليه الحكم، كما حدث للإمام الشافعي رحمه الله تعالى بعد انتقاله من العراق إلى مصر.
وقد يخالف فقهاء المذهب الواحد صاحب المذهب في أحكام بنيت على العرف بعد أن اختلف وتغير كما حدث بالنسبة للإمام أبي حنيفة وصاحبيه محمد بن الحسن وأبي يوسف، فقد خالفاه في كثير من الأحكام نتيجة لهذه القاعدة.
ومن أمثلة ذلك اختلف الإمام وصاحباه فيما لو غصب شخص ثوبًا وصبغه بلون أسود، فقد اعتبره أبو حنيفة نقصانًا في قيمته، وقال الصاحبان: إنه زيادة. ومرجع هذا الاختلاف العرف. حيث كان فتوى الإمام أبو حنيفة في زمن الأمويين وكانوا يكرهون لبس السواد فكان مذمومًا وكانت فتوى الصاحبين على عهد العباسيين وكان شعارهم السواد فكان ممدوحًا. (2) .
ومن أمثلة مخالفة المتأخرين للمتقدمين في بعض الأحكام الفقهية نتيجة لتغير العرف أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، فقد كان القدامى يحرمونه لأنه طاعة وعبادة، وهذا الحكم كان مناسبًا للزمان الذي صدر فيه هذا الحكم إذ كان لمعلمي القرآن الكريم رواتب من بيت مال المسلمين ولكن بعد أن تغير هذا العرف وانقطع ما كان مخصصا لهم في بيت المال أفتوا بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والإمامة والأذان.
وقد عقد ابن القيم – رحمه الله – فصلًا في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وبين في مطلع هذا الفصل أن الشريعة مبنية على مصالح العباد، فما كان من مصلحة فهي محصلة له وما كان من مفسدة فهي نافية له وأنها كلها عدل ورحمة. ثم ضرب أمثلة كثيرة على تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وأفاض في ذلك كثيرًا.
الدكتور أبو بكر دوكوري.
__________
(1) راجع الفروق: 1/176.
(2) راجع أصول الأحكام: ص 143 نقلًا عن مجمع الضمانات.(5/2813)
منزلة العرف في التشريع الإسلامي
إعداد
الشيخ محمد عبده عمر
باحث علمي
في المركز اليمني للأبحاث والثقافة
بوزارة الإعلام والثقافة – عدن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وسلم.
وبعد:
فهذا بحث في موضوع: "العرف" مقدم إلى الدورة الخامسة. لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الذي سيعقد بدولة الكويت الشقيق. من 10-15 ديسمبر 1988م. بقلم محمد عبده عمر: عضو المجمع.
وقد وضعت خطة البحث كالآتي:
1- الفصل الأول: تعريف: العرف في الاصطلاح اللغوي والفقهي.
2- الفصل الثاني: منزلة العرف في التشريع الإسلامي.
3- الفصل الثالث: دور العرف في الفقه الإسلامي والشروط التي قيد بها الفقهاء.
4- الفصل الرابع: النظرة الفقهية بين الفقهاء للعرف اللفظي والعملي بين المذاهب.
وقبل الدخول في صلب البحث ننقل بعض العبارات الفقهية لكبار العلماء المجتهدين نصًّا:
قال الشهاب القرافي في كتاب الفروق 28 – المسألة الثالثة / 177، ما نصه: "الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين" ويقول ابن القيم رحمه الله في فصل تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة في أعلى رتب المصالح لا تأتي به. فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة ومصالح كلها وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسد وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل". إعلام الموقعين: 1/ 936؛ المدخل، للزرقاء.(5/2814)
الفصل الأول
تعريف: العرف في الاصطلاح اللغوي والفقهي
العرف لغة:
هو التتابع الذي ينشأ من العادة التي تستقر في نفس الشخص من تكرار أمر معين من الأمور، تعارف الناس هذه العادة وقلدوها وتكررت محاكاتهم لها في مكان معين أو بين طائفة معينة أو أبناء مهنة معينة صارت هذه العادة عرفًا أي استقر عليها العمل جيلًا بعد جيل، وكما يجري العرف اللغوي في الأفعال يجري بالأقوال أيضًا، فالإنسان بطبيعته مضطر إلى التفاهم مع من يعيش بينهم ولا بد من التعبير بها حتى تصبح لغة عامة بينهم، ثم بتوسع الصناعات والعلوم يصبح التعبير باللغة العامية الأصلية في هذه الصناعات والعلوم. ولهذا السبب نجد أهل الحرف أو العلوم يلجؤون إلى استعمال لغة وألفاظ خاصة بهم يصطلحون عليها بطريق الابتداء أو بطريقة التداول المتكرر للدلالة على معان وأشياء تفهم بسهولة من هذه الألفاظ الاصطلاحية التي لا يقوم مقامها في الدلالة إلا شرح طويل، ولا بد من التعبير بالألفاظ التي هي أصوات اعتاد الناس التعبير بها، وغالبًا ما يكون أصل الألفاظ العرفية مجازات لغوية لا يفهم المراد منها إلا بقرينة، ثم يتكرر استعمالها فتصير مجازات مشهورة ومنتشرة بين الناس ثم يزداد شيوع الاستعمال حتى يفهم منها المراد بدون قرينة وبنفس الوقت تهجر معانيها الحقيقية.
نخلص مما تقدم: بأن العرف في الحقيقة اللغوية عادة الجماعة المتكررة في فعل أو قول من غير علاقة أو رابطة ذهنية مسبقة (1) .
أما في الاصطلاح الفقهي:
فقد عرفه الفقهاء بأنه عادة جمهور قوم في قول أو عمل: ثم توسعوا في تعريفهم للعرف، فقالوا: إن العادات التي تنتشر في البلاد وبين الناس أو بين أصناف مخصوصة من الناس لا تنشأ عن سبب واحد ولكن معظم هذه العادات إنما تنشأ عن الحاجة التي تعرض للناس لظروف خاصة بهم تدعوهم إلى عمل خاص فيما بينهم فيتكرر العمل حتى يصبح عرفًا، ومعلوم بأن للعادات والأعراف سلطانًا قويًّا على النفوس وتحكم العقول فمتى رسخت هذه العادة اعتبرت من ضروريات الحياة.
__________
(1) انظر محمد زكريا البرديسي. أصول الفقه: ص329؛ الزرقا، المدخل: ص849؛ محمد موسى، المدخل: ص192-195(5/2815)
ومن هنا قال بعض علماء النفس إن الأمر بكثرة تكراره تألفه الأعصاب والأعضاء ولا سيما إذا اقتضته الحاجة حتى يكون طبيعة ثانية للإنسان. وهنا نجد التطابق بين نظرة علماء النفس والسادة الفقهاء، الذين يقولون: بأن نزع الناس عن عاداتهم حرجًا عظيمًا. ويعنون بذلك: العادات التي لا تعارض كتابًا ولا سنة ولا مصلحة عامة للمجتمع أما العادات التي تتعارض مع الكتاب والسنة أو مع المبادئ الشرعية العامة أو دليل من أدلتها فإنه لا عبرة لها إلا أن فقهاء الإسلام يرشدون بعدم أخذ الناس بغير الوسائل التربوية التي جاء بها الإسلام، والأخذ بالأسلوب التدريجي لتحويلهم عن مفاسد عاداتهم وأعرافهم. وفي هذا المعنى جاء قول السيدة عائشة رضي الله عنها واصفًا سياسة التشريع الإسلامي: إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة فيها ذكر الجنة والنار ولو نزل لا تشربوا الخمر ولا تزنوا لقالوا: لا ندع الخمر ولا الزنى ولكن نزلت سورة فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى رشدهم نزل بعد ذلك الحلال والحرام. ولما كانت العادة وليدة الحاجة، والحاجة تختلف باختلاف في البيئة والمكان والزمان انقسم العرف في اصطلاح الفقهاء إلى عرف عام وإلى عرف خاص تبعًا لمدى انتشاره بين الناس سواء من حيث الوسط الاجتماعي أو من حيث المكان يقول الفقهاء: إن العرف يجري بين الناس في أعمال معينة وألفاظ وتراكيب لغوية معينة في معنى معين. ومن هنا كان العرف في اصطلاح الفقهاء عرفًا عمليًّا وعرفًا لفظيًّا أو قوليًّا وهو – أي العرف – تابع للعادة وناشئ عنها والعادة قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة فيأتي العرف حسنًا أو قبيحًا لذلك، ونخلص مما تقدم إلى أن العرف في اصطلاح الفقهاء: هو ما اعتاده الناس وألفوه وساروا عليه في أمورهم فعلًا كان أو قولًا دون أن يعارض كتابًا ولا سنة. وواضح من هذه الخلاصة بأن العرف في اصطلاح الفقهاء يختلف عن الإجماع وعن الاستحسان والاستصحاب للأصل.
* * *(5/2816)
الفصل الثاني
منزلة العرف في التشريع الإسلامي
لما كانت الشريعة الإسلامية لها مقاصد معينة شرعت وأنزلت من أجلها: وهو جلب المنافع للناس ودفع الضرر عنهم كان الشارع الحكيم هو وحده الذي يحدد معيار النفع والضرر أو الصلاح والفساد، ومن ثم فإن فقهاء التشريع الإسلامي أجمعوا على أن العرف الصحيح الذي يحتج به هو العرف الذي يتفق ومقاصد الشريعة ولا يخالف الشريعة ولا يخالف دليلًا أو أصلًا شرعيًّا. كما وضعوا له شروطًا أخرى سنعرض لها في مواضعها من هذا البحث إن شاء الله. أما مستند العرف فقد استدل الفقهاء على أنه مصدر من مصادر التشريع الإسلامي بأدلة منها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الآية 87 من سورة الحج] .
فالآية الكريمة في رأي الفقهاء تشير إلى أن المشرع إذا لم يراعِ عند تشريع الأحكام ما تعوده الناس وعرفته العقول الناضجة والفطر السليمة مما لا يعارض كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا، أو وضع الناس في الضيق والمشقة والحرج. ومن هنا فإن اعتبار العرف مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامى راجع إلى أصل رفع الحرج الثابت بالآية الكريمة. أما السنة فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)) (1) ، فالحديث يدل على أن الأمر الذي يجري عليه المسلمون يعتبر من الأمور الحسنة عند الله يرجع إليه ويعمل به.
واتفق فقهاء التشريع الإسلامي على أن العرف مستند عظيم لكثير من الأحكام الفقهية العملية بين الناس في شتى شعب الفقه وأبوابه، وأن العرف في نظر الشريعة الإسلامية له سلطان واسع المدى في توليد الأحكام وتجديدها وتعديلها وتحديدها وإطلاقها وتقييدها لأن العرف وليد الحاجة المتجددة والمتطورة حتى يكون العرف بطبيعته نظامًا حاكمًا تدور به وعليه عجلة المعاملات بين الناس ويكشف عن معاني كلامهم ومراميه ويرسم حدود الحقوق والالتزامات، ويوضح محجة القضاء، ويثري كثيرًا من النصوص التفصيلية في الأحكام التشريعية والالتزامات اعتمادًا على ما هو معروف ومألوف في شتى الوقائع والأقضية كما يغني نصوص التشريع والتقنين التي لا تستوعب جميع الوقائع التفصيلية الواقعة والمحتملة، خاصة وإن كثيرًا من الأحكام الفقهية مبني على العرف ويتبدل فيه الحكم بتبدل العرف بحيث لا يمكن بدون العرف ترتيب حكم ثابت فيه.
__________
(1) انظر الاعتصام، للشاطبي: 2 /99، ومابعدها(5/2817)
والمتتبع لكتب الفقه الإسلامي قلما يجد بابًا من أبواب الفقه لا يكون فيه للعرف مدخلًا أساسيًّا في أحكامه حتى فقه الجرائم والجنايات، ومعلوم بأن الأحكام الاجتهادية التي يقف عليها الفقهاء المجتهدون استنباطًا وتخريجًا عند عدم النص الشرعي، إما أن تكون ثابتة بطريق القياس النظري على حكم أوجبه الشارع بالنص لاتحاد العلة بين الحكم المقيس عليه والمقيس، وإما أن تكون ثابتة بطريق الاستحسان أو الاصطلاح عندما لا يوجد حكم مشابه منصوص يقاس عليه كما أن الاجتهادات الإسلامية تكاد تكون متفقة على أن الحكم القياسي يترك للعرف ولو كان عرفًا حادثًا لأن المفروض عندئذٍ أن هذا العرف لا يعارضه نص خاص ولا عام معارضة مباشرة. والعرف في نظر الفقهاء دليل الحاجة فهو أقوى من القياس فيترجح عليه عند التعارض. ومعلوم بأن ترجيح العرف على القياس يعتبر عند الحنفية والمالكية من قبيل الاستحسان الذي تترك فيه الدلائل القياسية لأدلة أخرى منها العرف، وإذا كان العرف يترجح عند السادة فقهاء الأحناف والمالكية على القياس الذي يستند إلى نص تشريعي غير مباشر فهذا يدل دلالة واضحة على أن العرف يترجح أيضًا على الاستصلاح الذي لا يستند إلى نص بل مجرد المصلحة الزمنية التي هي عرضة للتبدل بحسب اختلاف الأزمنة وما يجد فيها من أوضاع ومقتضيات. ومن هنا نص الفقهاء على أن نصوص التشريع تنبئ بأن العرف في ميدان الأفعال والمعاملات له السلطان المطلق والسيادة التامة في فرض الأحكام وتقييدها وتحديد آثار العقود والالتزامات على وفق المتعارف عليه في كل موطن لا يعارض فيه العرف نصًّا تشريعيًّا. فالعرف عندئذٍ يعتبر مرجعًا ومنبعًا خصبًا للأحكام. ونخلص مما تقدم بأن العرف الصحيح يعتبر مصدرًا أساسيًّا من المصادر التبعية للتشريع الإسلامي وينبوعًا لمعرفة القرائن العرفية ومسائل تغير الزمان الذي تتبدل فيه الأحكام بحسب الأحوال والأخلاق العامة وأن العرف مقدم على القياس المستند إلى الشبه الذاتي في العلل بين الأحكام المنصوص عليها والأحكام المقيسة ويتضح لنا أيضًا بأن الأحكام القياسية تتبدل بتبدل العرف عندما تكون علة القياس نفسها مبنية على العرف فعندئذٍ يكون هذا التبدل في الحكم تبعًا لتبدل العرف ليس خروجًا على القياس بل تمشيًّا معه.(5/2818)
الفصل الثالث
دور العرف في الفقه الإسلامي
والشروط التي قيده بها الفقهاء
مما لا شك فيه بين فقهاء التشريع الإسلامي، بأن العرف قد قام بدور هام في تفسير ألفاظ الأحكام وإنشاء أحكام جديدة وتعديل أحكام قائمة. ومن هنا قال علماء الأصول بأن ما اعتاده الناس وتعارفوا عليه ولم يكن معارضًا لكتاب ولا سنة تجب مراعاته عند التشريع وعلى المجتهد أن يجعله نصب عينيه وعلى القاضي أن يفطن إليه ويبني قضاءه عليه لأن القرآن والسنة المطهرة قد راعيا الصحيح من عرف الناس، فأقرا الكثير من الأمور التي تعارف عليها الناس قبل الإسلام بعد أن هذبها وأدخل عليها بعض الإصلاحات، ففرض الدية على العاقلة وبنى الإرث على القرابة حتى صار العرف الصحيح الذي يتفق مع مقاصد الشريعة أصل من الأصول التي اعتمد عليها الفقهاء على اختلاف مذاهبهم في الفتاوى والأحكام، حتى جرى عرفًا على ألسنتهم وفي مؤلفاتهم قولهم: المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. وقولهم: العرف عادة محكمة ونحن إذا استقصينا مذاهب الأئمة المجتهدين نجد أن فيها الكثير من الأحكام التي روعي فيها العرف الصحيح، فهذا المذهب المالكي نجده من خلال فقه المذهب يبني الكثير من أحكام على عمل أهل المدينة، وهذا هو رأي الإمام مالك رأي عنه ورأي أتباع المذهب من بعده، وليس لهم مستند غير العرف الذي ساروا عليه وألفوه أهل المدينة بعد عصر النبوة. كما نجد الإمام الشافعي رضي الله عنه يغير بعض الأحكام التي كان قد قال بها وذهب إليها عندما كان في بغداد بعد أن استقر به المقام في مصر وذلك بناء على اختلاف العرف في البلدين، كما نجد الأحناف يراعون العرف في كثير من الأحكام ففي المذهب نجد بأنه إذا اختلف المتداعيان ولا بينة لأحدهما، فالقول عندهم يكون لمن يشهد له العرف وإذا اختلف الزوجان على المقدم والمؤخر من الصداق (1) فالحكم عندهم للعرف.
وفي المذهب أيضًا أن من حلف ألا يأكل لحمًا فأكل سمكًا لا يحنث بناء على العرف بل نجد الحنفية يختلفون على أنفسهم في حكم المسألة الواحدة تبعًا لاختلاف العرف؛ فقد روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال: لا يتحقق الإكراه إلا من السلطان بينما يرى الصاحبان أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني بأن الإكراه كما يتحقق من السلطان يتحقق من غيره.
__________
(1) انظر الأشباه والنظائر، لابن نجيم آخر كتاب القضاء، المراجع السابقة؛ الزرقاء: ص853 - 868(5/2819)
وهذا الخلاف العرفي عندهم مبني على تباين العرف في العصرين، ففي عصر أبي حنيفة لم تكن القدرة والمنعة إلا السلطان وفي عصر الصاحبين صار كل ظالم قادر على إيقاع ما هدد به من الأذى والمكروه. ومن ذلك ما عرف من اتفاق علماء الحنفية القدامى من عدم جواز أخذ الأجرة على الإمام في الصلاة وعلى الأذان، لأن الأذان عبادة وطاعة لا يجوز أخذ الأجرة عليه وهذا الحكم من عدم أخذ الأجرة على الإمامة في الصلاة مبني على العرف؛ إذ كان العرف يقضي بأخذ الأئمة في الصلاة هبات من الملوك والحكام فلما انقطعت تلك الهبات من بيت المال وتغير الحال أباح المتأخرون من الحنفية أخذ الأجرة على الطاعات ومنها الإمامة في الصلاة والأذان وتعليم القرآن فنجد أن تغاير الحكم بين العلماء القدامى والمتأخرين منشؤه اختلاف في العرف في زمانهما والمتتبع لفتاوى الفقهاء وأحكامهم يجسد البعض منهم من يخصص النص أو القاعدة الفقهية العامة بالعرف، ومن هذا الباب أجازوا الاستصناع لجريان العرف به وإن كان مخالفًا للقواعد العامة التي تقضي بوجود المعقود عليه مخصصين هذه القاعدة العامة بالعرف، وقد أجاز الحنفية بيع مكيف الهواء بشرط تعهد البائع بإصلاحه مدة معينة مع أن هذا مخالف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن البيع وشرط، وذلك منهم تخصيصًا للنص بالعرف. وذلك أن العرف قد جرى على اعتبار ذلك: أي ذلك الشرط في العقود والتصرفات.
وقد جاء كثير من أحكام النصوص الشرعية يدعم العرف في كيفية طرق التعامل الذي تقتضيه طبيعة المجتمع الإنساني منتقيًا لأكمل ما كان موجودًا منها في تحقيق الغرض المقصود منه. ومن المسلم به بأنه قد كان للأمة العربية التي نزل عليها القرآن وظهر فيها التشريع الإسلامي أعرافًا يحكمون بها ويسيرون عليها كما كانت لهم ضوابط يرجعون إليها في خصوماتهم وقضائهم، فجاء الإسلام فهذب فيها وعدل وألغى وبدل. وليس في ذلك ما يضر بالتشريع الإسلامي واستقلاله في التشريع خاصة إذا علمنا بأن الإسلام دين يراد به تدبير مصالح العباد وتحقيق العدالة وحفظ الحقوق ولم يأتِ ليهدر كل ما كان عليه الناس ليؤسس على أنقاضه بناءً جديدًا لا صلة له بفطرة البشر وما تقتضيه سنن الاجتماع، وإنما كان ينظر إليها من جهة ما فيها من مصالح ومضار، فما كان منها صالحًا أبقاه وأقره، وما كان منها ضارًا مفسدًا للمال أو للاجتماع نهى عنه وحرمه، وما احتاج منها إلى التنقيح والتهذيب أدخل عليه من التهذيب ما جعله صالحًا كفيلًا بصلاح الناس، وقد يقر الشيء نظرًا للتعامل الشائع ويشرع من جانب آخر ما يوحي بإنهائه أو بعدم الرغبة فيه، وذلك كما صنع في الرق الذي لم يأتِ به الإسلام بل كان عرفًا متعارفًا عليه قبل مجيء الإسلام وحث على العتق وتحرير العبيد وطلب في مواضع كثيرة تكفير الذنوب والخطايا بالعتق مثل أحكام كفارة اليمين والقتل الخطأ والإفطار في رمضان والظهار، ورتب عليه في ذاته درجات عظيمة من المثوبة عند الله وأباح أيضًا قتل الأسرى جريًا على قاعدة المعاملة بالمثل، ولكن لم يجعل التشريع الدائم، وإنما جعل التشريع الدائم فيها المن والفداء، ومثال ما ألغاه من الأعراف الفاسدة كنظام التبني الذي كان متعارفًا عليه بالجاهلية.(5/2820)
ومن المقرر في فقه الشرعية أن لتغيير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيرًا كبيرًا في كثير من الأحكام الاجتهادية التي تنظم ما أوجبه الشرع من تحقيق إقامة العدل بين الناس وجلب المصالح لهم ودرء المفاسد عنهم، وبالتالي فإن هذه الأحكام الاجتهادية ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة فكم من حكم اجتهادي كان تدبيرًا وعلاجًا ناجعًا لبيئة في زمن معين فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق، ومن هنا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير المسائل بعكس ما أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهائهم، وصرح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان وفساد الأخلاق فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين من فقهاء مذاهبهم، بل لو وجد الأئمة الأولون في عصر المتأخرين ورأوا اختلاف الزمان والأخلاق لعدلوا إلى ما قاله المتأخرون.
إن مما تقدم بيانه من الاعتبار الشرعي للعرف وماله من سلطان في ميدان الأحكام العملية بين الناس توليدًا وتحديدًا مشروطًا بشرائط يجب توافرها في العرف لكي يكون له هذا السلطان، وتلك الشرائط التي يذكرها الفقهاء والأصوليون في مناسباتها المختلفة هى:
(1) أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا. (2) أن يكون العرف مقارنًا أو سابقًا. (3) أن لا يخالف دليلًا أو أصلًا من أدلة وأصول الشريعة الإسلامية. ويقصد بالمراد العرف: بأن يكون جريان العمل به حاصلًا في أكثر الحوادث وغالبًا في معاملات الناس ويستوي في ذلك أن يكن العرف خاصًّا ببلد معين أو أبناء مهنة معينة أو يكون عامًا منتشرًا بين جميع الناس في سائر البلاد الإسلامية. ويقصد بكون العرف مقارنًا أو سابقًا: أن يكون العرف الذي يحكم الواقعة موجودًا وقت وجودها حتى يصبح حملها عليه، وعلى ذلك فلا عبرة بالعرف الطارئ ويستوي في ذلك العرف اللفظي والعرف العملي سواء كان عرفًا خاصًّا أم عامًّا..(5/2821)
الفصل الرابع
النظرة الفقهية بين الفقهاء
للعرف اللفظي والعرف العملي بين المذاهب
لقد نظر الفقهاء والأصوليون إلى العرف اللفظي نظرة اعتبار فقهية، وأن معنى لفظ المتكلم ينصرف إلى المعاني المقصودة بالعرف حين التكلم وإن خالفت المعنى الحقيقي لها في اللغة والمعنى الاصطلاحي لها في الفقه، فإن الحقيقة تترك للدلالة على العادة وهذا ما قرره ابن عابدين: 2 /133. من الرسالة حيث قال: يحمل كلام الحالف والناذر والموصي والواقف وكل عاقد على لغته وعرفه وإن خالفت لغة العرب ولغة الشارع وينبني على ذلك أن ما تعارف عليه العوام من أساليب تفيد معنى العقد أو تعليقه أو تنجيزه أو معنى الإذن أو الإجارة إلخ.
يعتبر هو المعنى المقصود ولو خالف المعنى اللغوي في الفصحى وبطبيعة الحال يختلف معنى اللفظ في اللغة العامية من مكانٍ إلى آخر فتكون العبرة في كل مكان يعرفه في التخاطب والعبرة في المعنى العرفي بالمعنى الموجود وقت صدور التصرف القانوني وعلى ذلك فالألفاظ التي تصدر عن التصرف في التصرفات القانونية سواء كانت تتم بإرادة منفردة كالوصية أم بإرادتين كعقود المعارضة. فإنها تحمل على المعنى العرفي لهذه الألفاظ وتفسر النصوص والتصرفات التي تمت في ظل العرف القديم على المعنى القديم. أما التصرفات التي تتم في ظل المعنى العرفي الجديد فإن ألفاظهما تفسر في ضوئه، وهذا ما عبر عنه ابن نجيم في الأشباه والنظائر 1 /122. بقوله: العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر ولذلك قالوا لا عبرة بالعرف الطارئ. وبالمثل يجب أن تفهم النصوص التشريعية بحسب تداولها اللغوي والعرفي وقت صدور النص ولا عبرة بتبدل مفاهيم الألفاظ نتيجة لعرف متأخر ولذا قال القرافي: إن دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة لأن العرف ناسخ للغة والناسخ مقدم على المنسوخ فكما أن عقد البيع يحمل فيه الثمن على النقود المعتادة ولا عبرة في عقد البيع لتبدل العادات بعده في النقود. وكذلك نصوص الشريعة لا يؤثر فيها إلا ما قارنه من العادات.
والحال كذلك في النظرة الفقهية للأعراف العملية فما يعد عيبًا في البيع وما يعتبر من توابعه … إلخ. يرجع فيه إلى العرف الجاري وقد صدور البيع لأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطا ولا عبرة بما يحدث من تغيير في العرف في وقت لاحق، وهذه القاعدة عبر عنها الفقهاء في كتبهم بصيغ مختلفة منها قولهم الثابت بالعرف كالثابت بالنص ونحو ذلك. غير أنه يجب التنبيه هنا على القاعدة القائلة والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (1) .
__________
(1) الشرح على ابن نجيم 1 /474، 4 /358، 482(5/2822)
ذلك أن المتتبع لكتب الفروع الفقهية يجد أن الفقهاء قد وضعوا قيدًا هامًّا هو أن لا يصدر عن المتعاقدين تصريح بخلاف العرف، فإن صدر هذا التصريح وجب العمل به وترك العرف. وعللوا ذلك. بأن تطبيق ما يجري عليه العرف يرجع إلى أن سكوت المتعاقدين عن ذكره صراحة إنما حدث اعتمادًا على مقصودهما وبطلت القرائن الأخرى المخالفات للعرف. ويكون العرف هنا من قبيل الدلالة فإذا أصدر تعبير صحيح عن المتعاقدين أو أحدهما دل ذل على مقصودهما أيضًا وبطلت دلالة العرف لأن القواعد المقررة عند الفقهاء أنه لا عبرة للدلالة في مقابل التصريح، ولذلك قالوا بأن كل ما يثبت بالعرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد ويمكن الوفاء به صح.
فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل وشرب ويقطع المنفعة لزمه ذلك.
وقد نص الشرط الثالث من الشروط المتقدم ذكرها: بأن لا يخالف العرف دليلًا أو أصلًا شرعيًّا. ومخالفة العرف للدليل أو أصل شرعي تظهر في حالات ثلاث: 1- مخالفة نص خاص في الكتاب أو السنة. 2- مخالفة نص عام. 3-مخالفة حكم بني على الاجتهاد: القياس: الاستحسان. المصالح المرسلة … إلخ.
1- مخالفة العرف لنص تشريعي خاص:
حرم الشارع بعض صور المعاملات التي جرى عليها العرف في العصر الجاهلي وخص هذه التصرفات بنصوص وردت بخصوصها. ومن أمثلة ذلك تحريم التبني: بيع المنابذة والملامسة وإلقاء الحجر. وتحريم استرقاق المدين ومنع زواج الشغار … إلخ. والقاعدة الفقهية أنه لا عبرة بمثل هذا العرف ولو كان عرفًا عامًّا لأنه يخالف مقاصد الشريعة.
وبالتالى فإن نهي الشارع عن هذه الأعراف يعتبر دليلًا على أنها ضارة للمجتمع ولا تحقق له نفعًا، ولو تمخضت في التطبيق العملي عن فائدة محققة لبعض أفراد المجتمع لأن إرادة الشارع وحده هي المعيار الذي يحدد ما يجلب النفع وما يدفع عنهم الضرر، وقد أفصح الشارع الحكيم عن إرادته بالنهي عن هذه التصرفات ومنعها، وقد استثنى الفقهاء من هذه القاعدة حالة ما إذا كان النص نفسه حين صدوره عن الشارع قد بني على عرف قائم ومعللًا به فإن النص عندئذٍ يكون عرفيًّا أو غير عرفي فيدور حكمه مع العرف ويتبدل بتبدله، وهنا تختلف وجهات النظر في كون النص الخاص عرفيًّا أو غير عرفي ومن ثم يختلف الرأى في أثر العرف الطارئ.
2- مخالفة العرف لنص تشريعي عام:
وهي الحالة التي يكون فيها موضوع العرف المخالف عبارة عن بعض عموم النص ولم يرد النص خصيصًّا بشأن هذا البعض، وهنا تجب التفرقة بين العرف المقارن والعرف الطارئ، كما أن العرف المقارن عند الإطلاق يتناول العرف القائم عند ورود النص، ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن النص التشريعي الذي يطلق عليه علماء الأصول: النص التشريعي العام: هو الذي يفسر في ضوء العرف اللفظي المقارن له ما لم تقم قرينة عكسية فإذا كان اللفظ الذي استعمله الشارع أوسع دلالة في اللغة من المعنى العرفي له حمل اللفظ على المعنى العرفي لأن العرف اللفظي العام هو لغة التخاطب فيعتبر المعنى العرفي هو المعنى الحقيقي للفظ، وذلك ما لم تقم قرينته على أن الشارع أراد بلفظه حدودًا أوسع من المعنى العرفي. ومن أمثلة ذلك ألفاظ البيع والإيجار … إلخ فهي في الحقيقة تحمل على معناها العرفي.(5/2823)