إذن هنا النقود مردها إلى الاصطلاح، ليس لها حد شرعي وإنما ما اصطلح الناس على أنه نقود، والنقود تعرف تعريفًا وظيفيًّا لا وصفيًّا، فلا يقال النقود من الذهب ولا النقود من الفضة ولا النقود ما كان لونه كذا أو شكله كذا، وإنما كما قلنا التعريف تعريف وظيفي.
إذن موضوعنا فيه بيان من السنة، وفيه فتوى صاحبي، وموضوعنا يمكن أن يدخل من باب دلالة الدلالة في حديث الأصناف الستة، وفي حديث الدينار وفي حديث الدرهم.
نرى هنا من يقول: لأن الفلوس استعملت في عصر التشريع ولم تأخذ حكم الذهب والفضة، ثم هذا القائل يقول أيضًا: نلحق النقود الورقية بالفلوس. أمر عجيب! الفلوس كانت في عصر التشريع نعم ولم تلحق بالذهب والفضة، نعم هذا صحيح ولكن ما معنى هذا؟ الفلوس في عصر التشريع كانت ليست من وعاء الزكاة، ما كانت تزكى. أفنقول في يومنا، النقود الورقية نلحقها بالفلوس نلحقها بالفلوس في عصر التشريع فلا تزكى؟ ! أحكام النقود لا نأتي فيها إلى حكم ونترك باقي الأحكام، أحكام النقود لا بد أن ننظر إليها متكاملة، الأحكام الخاصة بالنقدين. فإذا قلنا بأن النقود الورقية لا تلحق بالذهب ولا تلحق بالفضة وإنما تلحق بالفلوس في عصر التشريع وبعد عصر التشريع،إذن نقول هنا: إذن لا زكاة. ونرى باحثًا أيضًا يقول: يجوز الفلس بالفلسين، نقدًا ونساء عند أكثر أهل العلم. ثم يقول أيضًا نلحق النقود الورقية بالفلوس، أمر خطير للغاية، الفلس بالفلسين نقدًا ونساء ونلحق النقود الورقية؟ ولذلك أنتهي إلى النتيجة الخطيرة أنه يجوز، ألف دينار اليوم أو ألف جنيه اليوم بألف ومائتين بعد سنة! فأين الربا إذن إذا اعتبرنا أن هذه النقود الورقية ليست أموالًا ربوية لأن الأموال الربوية مثلية؟ يعني إذا قلنا بأنها قيمية فليست أموالًا ربوية، لأن الأموال الربوية مثلية، فإذا قلنا هذه ليست مثلية وإنما هي قيمية ونأخذ بالقيمة ويجوز الزيادة يدًا بيد ٍ، ونساء، إذن أي صور الربا تكون في عصرنا؟ معنى ذلك أنه لا ربا في عصرنا، كل الربا في عصرنا حلال، لأن مشكلة الربا في عصرنا ليست في زيادة قمح بقمح ولا شعير بشعير، وإنما مشكلة الربا في عصرنا في النقود الورقية. فإن قلنا: بأن النقود الورقية، لأن النقود الورقية تلحق بالفلوس وأن أكثر أهل العلم يرون جواز الفلس بالفلسين نقدًا ونساء، إذن ننتهي إلى أننا نقول: نحل الربا في النقود الورقية، لأن النقود الورقية ليست من الأموال الربوية. ثم أنلحق بالأصل أم بالفرع؟ هل نلحق النقود بأصل متفق عليه وبنص وبحكم منصوص عليه، أم بفرع؟ كيف يأتي هذا؟ . من الناحية الفقهية الأصولية النقود الورقية تلحق بماذا؟ ثم إن الفلوس كانت في المحقرات، كانت كما بين فضيلة الشيخ تقي الدين حفظه الله، كانت مثل الفكة وهي ما تسمى في عصرنا بالنقود المساعدة كأجزاء الدينار والريال وهكذا. إنما لم تكن هي النقود. وفي عصرنا الآن لا يوجد إلا هذه النقود،أفنصبح في عصر بغير نقود؟ لو قلنا بالقيمة إذا أصبحنا في عصر بغير نقود.(5/1816)
ولذلك أرى فعلًا أن هذا الموضوع خطير للغاية، لو أننا لا قدر الله أقررنا الأخذ بالقيمة، إذن يترتب على هذا محاذير كثيرة،
أولها: أنه لا زكاة في النقود الورقية. ولذلك بعض الباحثين عندما أراد أن لا يتناقض مع نفسه قال: أيضًا يمكن أن تكون الزكاة بالنسبة للصرافين وغيرهم الذين يتاجرون في النقود الورقية. ومعنى ذلك أن من عنده مليارات ولا يتاجر فيها فلا تجب فيها الزكاة، لأنها ليست عروض تجارة وليست من النقدين، ليست من الذهب وليست من الفضة. الذهب نفسه: نحن في عصرنا نعرف أن شركات أفلست وبعض الشركات خسرت عشرات الملايين بسبب انخفاض قيمة الذهب، عندما انخفضت قيمة الذهب فجأة، شركات أفلست وبعض الشركات – فعلًا – خسرت عشرات الملايين. معنى هذا أن الذهب انخفض، أما النقود الورقية ارتفعت، انخفاض الذهب معناه أن النقود الورقية ارتفعت. إذن في هذه الحالة لو أن أحدًا اقترض ذهبًا أو فضة، ماذا يؤدي؟ لو أن الذهب كان بألف فأصبح بخمسمائة هل نطالبه بضعف الذهب؟ بماذا نطالبه؟ وإذا قلنا لا، الذهب المثل، ولِمَ في النقود الورقية لا نقول المثل؟ إذن لو أخذنا بالقيمة، زكاة النقدين تنتهي.
ثم فتوى المجتمع السابقة بأن النقود الورقية نقد قائم بذاته له ما للذهب والفضة من الأحكام يلغى، الذي أقره المجمع هنا وأقرته المجامع الأخرى وأقر واستقر خلال ربع قرن هذا يلغي. ثم الحساب الجاري في البنك، كيف إذن يؤدى بمثله؟ معنى ذلك أننا علينا أن نلزم البنوك بأنها تؤدي زيادة عن المثل، القيمة، ثم يخرج من هذا إلى عدالة البنوك الربوية وظلم البنوك الإسلامية. لو أقررنا القيمة فالبنوك الربوية عادلة، والبنوك الإسلامية ظالمة، لِمَ؟ البنوك الربوية عادلة لأنها تقول بأنها تدفع شيئًا تعويضًا عن التضخم، فهي تحاول أن تدفع. والبنوك الإسلامية تكون ظالمة، لِمَ.؟ لأنها تحسب رأس مال المضاربة بالمثل لا بالقيمة. نعطيها النقود الآن وتأتي في العام القادم فتقول الألف زاد عشرة، زاد مائة. أي ألف؟ لو نظرنا إلى القيمة فالألف أصبحت قيمته الآن سبعمائة أو ثمانمائة، إذن مفروض أنه كعامل مضاربة ألا يأخذ إلا بعد سلامة رأس المال. فالبنوك الإسلامية أرباحها لا تساوي التضخم. إذن هي تأخذ من رأس المال وهذا مرفوض شرعًا، لأن المضارب لا يأخذ إلا بعد سلامة رأس المال. ومعنى ذلك فتوى المجمع السابقة الخاصة بالبنوك التي تتعامل بالفوائد وبالبنوك الإسلامية، هذه الفتوى أيضًا يجب أن تنقض وأن نخرج للناس قانونًا جديدًا بأن هذه البنوك الربوية لا نسميها ربوية، أنه حتى نفس الأوراق النقدية ليست من الربا.
إذن الأمر لا شك خطير للغاية، ويجب أن نتريث فيه قبل أن نقدم عليه وأن ننظر إلى هذه المحاذير.(5/1817)
بعض الأخوة قال: ننظر إذا كانت الزيادة فاحشة فهي التي لا تقبل،أما إذا كانت الزيادة ليست فاحشة فمثل الغرر اليسير، فليكن مثلا في الثلث. والواقع أعجب أن مالكيًّا يقول هذا وهو متمسك بمالكيته، لأن الإمام مالكا نفسه قال عندما سئل: لو أن المثل كان بمائة فأصبح بمئتين، فماذا يؤدي؟ قال: يؤدي المثل والصاوي يقول: فالواجب قضاء المثل، أي ولو كان مائة بدرهم ثم صارت ألفا بدرهم أو بالعكس. وننظر هنا إلى العبارة في وقت وجود النقود الذهبية والنقود الفضية، لو كان المثل بمائة فصار ألفا أو العكس، يعني التضخم ألف، من مائة إلى ألف أو العكس، قال: لما وجب إلا المثل. فعلى أي أساس نقول إذن بأننا ننظر إلى الزيادة أو النقصان في النقود، هل هذا النقصان غرر يسير أم غرر فاحش؟ لا أريد أن أضيف بالنسبة إلى الجهالة ما ذكره الإخوة الأجلاء، ولكن أقول هنا بأن الذي أثر على هذه الأبحاث في الآونة الأخيرة هو ما حدث لليرة اللبنانية في أيامنا ومثل هذا يمكن أن ينظر إليه نظرة خاصة.
مسألة الكساد والانقطاع التي عالجها الأئمة من قبل أن ينظر هنا حتى في تعريف النقود. أي شيء يكون مقياسًا للقيمة ووسيلة للتبادل ويحظى بالقبول العام. قد نجد نقودًا – الآن – لا تحظى بالقبول العام. قد نجد في الدولة ذاتها نقودها لا يقبلها الناس ويتعاملون وهم في نفس الدولة بنقود أخرى. هذه قضية فرعية يمكن أن تبحث كقضية فرعية،أما أن نأتي بحكم عام على النقود الورقية ونقول ليست نقودًا ولا تلحق بالذهب ولا تلحق بالفضة، فهذا أمر خطير أردت أن أشير إليه. والله أعلم بالصواب. والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.(5/1818)
الدكتور محمد سليمان الأشقر:
بسم الله الرحمن الرحيم.
كان في تقديري – الترتيب الطبيعي – أن تكون كلمتي قبل كلمة الشيخ على السالوس لأجل أن يرد على كلامي، لأنه هو في الحقيقة يرد على كلامي وأنا قلت ما قلته في بحثي المقدم للندوة السابقة للمجمع، ولم أتمكن من الحضور لعرضه. وقلت في بحثي أن هذا رأي مقدم لمجرد استكمال الآراء وطرح البحث، ولعله تخرج من المجمع فتوى تتوسط بين الآراء وتأخذ من كل رأي بنوع من الاعتبار حتى نتلافى الأخطار الواردة من الجهتين:الجهة التي أخذ بها الشيخ السالوس، وبين الأضرار أي تنبني على القول بعدم ربوية الفلوس، وأيضًا الأخطار التي تنبني بعدم ربوية الأوراق النقدية. والقول بربوية الأوراق النقدية، كذلك فيها أخطار هائلة جدًّا وكل منا الآن يحس بها.
فإذن ليس قولي بعدم ربوية الأوراق النقدية ليس قولًا نهائيًّا ولا أفتيت به ولا دعوت الناس إلى الأخذ به وقلت في بحثي أنه لا يحل لأحد أن يأخذ بهذا القول ما لم يقره المجمع. وللأسف،إن بعض الإخوة سرب إلى بعض الصحف في بيروت، صحفية تدعي أنها محترمة مجلة وتتبع جهة محترمة ومع ذلك لم تبال بأن تنشر هذا البحث قبل موعده وتحذف منه التحفظات التي فيه للأسف.
أولًا: أعتب أيضًا على الأخ الشيخ تقي الدين العثماني أنه ما ذكر هذا القول أصلًا في الأقوال الخمسة أي سردها بالأمس. أنا لي قول ذكره، وهذا قول آخر أيضًا مطروح للبحث، فكانت الأقوال ستة في الحقيقة وهو القول بعدم ربوية الفلوس. تئول الأقوال الستة في نظري إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: بأن الأوراق النقدية أصناف روبية كالذهب والفضة تمامًا وتأخذ أحكامها من جميع النواحي، ولا يجوز الزيادة ولا التعويض ولا أي شيء، وتعامل كالذهب والفضة مئة بالمائة.
القول الثاني: إن هذه الأصناف ربوية ولكنها يمكن التعويض فيها بطريق من الطرق التي ذكرت بالأمس، منها اعتبار سلة الأسعار أو التوكيل إلى جهة، أو بالذهب كما ذهب غليه بعض الأخوان، يعين تقديرها بالذهب ارتفاعًا وانخفاضًا، أو الطريقة التي أشرت إليه في القول الذي ذكره عني الأستاذ تقي الدين أمس، وهو أن تتولى جهة حكومية تحديد الارتفاع أو الانخفاض في التضخم حتى يكون السداد على أساس ذلك، وتكفل العدالة للمقرض والمستقرض أخذًا بقوله تبارك وتعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} .(5/1819)
القول الجديد الذي لم يذكر بالأمس: وهو في الحقيقة مطروح في نادي العلماء في العالم الإسلامي هو أن النقود الورقية غير ربوية. وأعرف والشيخ علي يعرف والإخوان جميعًا أو أكثرهم أن الشيخ حسن أيوب كان هذا رأيه، وكان يدافع عنه، وكتاب فيه ورد عليه الشيخ عل السالوس، ولا أدري لِمَ لَمْ يتيسر حضوره في مثل هذا البحث الذي ينبغي أن يطرح من جميع النواحي ويستقصي البحث فيه ليكون الاجتهاد سليمًا ومستوفيًّا ومنظورًا فيه إلى الأقوال المطروحة. وكذلك فيما أتذكر إن لم أكن واهمًا عليه الشيخ عبد المنعم النمر، أظن أنه قال بشيء من هذا. فالقول مطروح في النادي العلمي الإسلامي بمعناه الواسع وليس قولًا مجهولًا، وليس قولًا يستحى من ذكره إن كان الشيخ تقي الدين استحى أن يذكره أو رآه ليس بالقدر الذي يمكن أن يذكر. وقد يكون عذره أنه ما رآه، لأنه في تضاعيف البحث. فهذا القول الذي هو عدم ربوية الفلوس منظور فيه إلى أن عدم ربوية الأوراق النقدية، أقصد إلى أن النصوص الواردة حددت الأصناف الستة تحديدًا لا يمكن لأحد من أهل العلم أن ينقضه، لأنه ثابت بالإجماع وبالأحاديث الصحيحة أن الأصناف الستة ربوية، وأنها لم تتعرض للأوراق النقدية، سكتت عنها.فإذا قلنا بأنها ربوية مئة بالمائة قطعًا فهذا فيه نظر، لأنها إنما ألحقت الأوراق النقدية في هذه المسألة بالذهب والفضة إلحاقًا، أي على طريق القياس، وليس هو على سبيل مفهوم الموافقة كما قال الشيخ علي السالوس، لأن مفهوم الموافقة يقتضي التوافق من جميع النواحي وعدم وجود فروق بين الملحق والملحق به، فيكون قياسًا جليًّا ويكون بدرجة النص. لكن لا شك أن بين الذهب والفضة وبين الأوراق النقدية فروق شاسعة وكبيرة كما لا يخفى أن الإلحاق يكون بعلة وهذه العلة التي ثبتت في الربويات الستة، العلماء اختلفوا فيها اختلافًا كبيرًا، ولا يخفى ذلك , يعني هي من أكثر المسائل الخلافية في الفقه الإسلامي علة الربا كما لا يخفى هل هي الطعم، هل هي الوزن أو الوكيل أو الاقتيات أو غير ذلك، هذه علل مختلفة. كل مذهب من المذاهب الأربعة ذهب إلى وجهة نظر وقد تكون هناك آراء في الفقه الإسلامي سوى هذا فلم يتفقوا على علة معينة، ولا شك أن هذا العلل غير متوفرة كلها في الأوراق النقدية حتى نقول إنها ملحقة إلحاقًا قطعيًّا أو إلحاقًا يجزم به، وأنه لا يكون ظنيًّا، بل هو إلحاق ظني بلا شك في ذلك لأنها علة ظنية، وهذا أمر مجزوم به ولا يخفى. وأيضًا الذهب والفضة كنقود تتأدى بهما، أو إذا ألحقنا النقود الورقية بالذهب والفضة، فإنما نلحقها إذا توافرت على القول بأن العلة هي النقدية في الذهب والفضة. فالنقود لها أربع وظائف:
الوظيفة الأولى: هي وسيط للتبادل.(5/1820)
الرئيس:
أخ محمد، الوقت ما بقي منه إلا عشرون دقيقة فلو تكرمت بالاختصار.
الدكتور محمد سليمان الأشقر:
الأخطار بربوية النقود الورقية واضحة جدًّا. أثبت أن الذهب والفضة من عهد النبوة إلى هذا الوقت لم تتغير قيمتها، قوتها الشرائية ثابتة من عهد النبوة إلى الآن 1400 سنة. أنا أقول بهذا. أنا أثبته بدليل لم تتغير حقيقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي رجلًا دينارًا – هناك بعض المناقشين تدخلوا ولم أفهم كلامهم -.
سأبين الخطر في الاستمرار على هذا القول دون تعديل. أنا أقبل التعديل الثاني، وقلت في بحثي إنني أقبل التعديل الثاني التعويض بالقيمة التي يضمن بها الإنسان أنه حصل على حقه. أقبل بهذا القول، لكن أعرض هذا ليكون أساسًا. في عهد الني صلى الله عليه وسلم أعطى رجلًا دينارًا ليشتري شاة، فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار، الآن الدينار الذهبي الإسلامي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يساوي سبعة عشر دينارًا كويتيًا تقريبًا، سبعة عشر دينارًا تشتري شاة، الإبل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، عشرة دنانير ذهبية تأتي بجمل أو بعير الآن يساوي هذه القيمة. القيمة لم تختلف من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن. القوة الشرائية للذهب ثابتة، وهذا معنى قول العلماء " الذهب نقد خلقة ". وأما النقود الورقية، ففي ستين سنة فقط منذ أن دخلت البلاد الإسلامي إلى الآن، في النقد التركي كمثال أضربه كانت الليرة الذهبية تساوي ليرة ورقية،الآن حوالي خمسين ألف ليرة ورقية تركية تساوي ليرة تركيبة ذهبية. خمسين ألف من ستين سنة. معناه كل سنة ألف مرة يسقط. نقود المسلمين والمتمسكين بالإسلام الآن تتهاوى قيمتها وتآكل في البنوك الأجنبية، وتكسب البنوك الأجنبية أصولًا وتثبت أصولًا وتبني أصولًا، ثم تعيد إلينا ورقًا خاليًا. وشكرًا.(5/1821)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
إن قضية تغير العملة وآثار ذلك وأحكامه، أريد أن نقرر فيها قواعد:
القاعدة الأولى: أنها قضية اجتهادية، فالحق فيها ظن لا يقين. ولذلك يعذر بكل من رأى رأيًا وهو مأجور.
الأمر الثاني: هو أن كثيرًا مما كنت أريد أن أتحدث به، تفضل به الشيخ السالوس فلا أعيد.
الأمر الثالث الذي أردت أن أضيفه: هو أن التصور للعملة في عهدنا هو أمر ضروري. كانت العملة ذهبًا وفضة، وكان للذهب قيمته الخلقية كما هو معلوم. أما اليوم أصبحت العملة هي عبارة عن ناتج مقابلة بين استهلاك الأمة وبين إنتاجها، فما تنتجه الأمة وما لها من ثروات يقابله استهلاك الأمة. فإذا فاق الاستهلاك القدرة على الإنتاج وعلى إضافة الخيرات تضخمت الأموال وسقطت العملة أو نقصت حسب ذلك. وهذه المعادلة التي هي معادلة ثابتة لم تختل إلا في الولايات المتحدة الأمريكية نظرًا لأن الولايات المتحدة الأمريكية عقب الحرب العالمية الأولى انكمشت على نفسها ولم تستفد من نصرها، أما بعد الحرب العالمية الثانية فأرادت أن تستفيد بكل ما جاءها من نصر عقب الحرب العالمية الثانية، وبذلك جعلت ورقتها الدولار هي العملة التي تقوم بها كل العملات، وأصبحت تطبع في الأوراق بدون حساب وتستفيد من ذلك إلى أن بدت من أواخر الستينات إلى السبعينات للعالم هذه النواحي السلبية وقام العالم يطالب بتصحيح الأوضاع ولم يستطيع بعد ذلك. فالذي يهمنا هنا هو أنه عندما نقول أن العملة الورقية نقصت قيمتها أو زادت قيمتها، فذلك حاصل عن إنتاج قومي عام. وعندنا الناس أرباب القضية المبحوث فيها منهم دائن ومدين، فالدائن أعطى مالًا له قيمته. والحجة الكبرى التي يعتمدها من يقول بأن من أعطى قيمة مالية يجب أن ترجع له وأن ترد نفس القيمة المالية، التي هي من قبل المدين، حجته الظاهرة هي العدالة.(5/1822)
هذا رجل أعطاك مائة ليرة تساوي عشرة كيلو من اللحم لا بد أن ترد له عشرة كيلو من اللحم أو ما يساويها، وهذا خطأ، لماذا؟ وذلك لأنه عندما تنقص القيمة إنما هي تنقص نقصًا عامًّا على الجميع، بمعنى أن الأمة كلها القوي فيها والضعيف، اختزل من قيمته، من قيمة العملة التي يملكها ذلك المقدار، فإذا حَصَّنَّا الدائن وأعطيناه الحق في أن يسترد القيمة يوم أعطى المال، فمعنى ذلك أننا قد أعطينا قوة للقوي وزدنا ضعف الضعيف، وجعلنا الخسارة يتحملها الضعيف وهو المدين، وجعلنا الدائن دائمًا هو في الصف القوى، فتقوية الدائن على المدين هذه هي الثغرة التي هي موجودة في المعادلة عند من يقول إنه يرغب العدالة،ولكنها عدالة زائفة وليست حقيقية، بل العدالة حقيقة أن تبقى النقود. من أعطى مئة يأخذ مئة ويخسر في ذلك الضعيف والقوي على حد سواء، وكل على حسب قدرته.
هذا وأود تأكيد ما ذكره الدكتور السالوس من أن الحديث هو " كنت أبيع الإبل بالنقيع "، والنقيع هو الحمى الذي كانت تجمع فيه إبل الصدقة، وليس البقيع الذي كان مقبرة للمسلمين بجانب المدينة.
ثم إن ما جاء في الأمس من كلام فضيلة الشيخ الصديق الضرير من أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ونحو ذلك، هو من العام المراد به الخاص، فهذا ليس من العام المراد به الخاص. فالعام المراد به الخاص هو غير هذا، ومثاله قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، عندما فسروها بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتعبير بكلمة عامة عن الخاص، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو من العام المراد به الخاص. أما. أما {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، فهو عام قد خص وفرق بينهما كبير. فأردت تأكيد هذا. وشكرًا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/1823)
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الكلام عن تغير قيمة العملة يدعونا لمعرفة حكم العملة الورقية كما ذكر الإخوة الأفضل. وأظن بأن المجمع الموقر وغيره من المجامع الفقهية قد أكد على أن العملة الورقية تقوم الآن مقام الذهب والفضة، ولا يمكن أن نعتبرها كالفلوس التي تكلم عنها فقهاؤنا الأقدمون رحمهم الله تعالى، لما بينها وبين الفلوس من تفاوت. فالفلوس أعدت لشراء المحقرات كما ورد ذلك في تعبير الفقهاء، في حين أن العملة الورقية الآن هي الأثمان الرائجة في الأسواق. فإذا عرفنا بأنها تقوم مقام الذهب والفضة تبين لنا ما يأتي:
أولًا: إن الديون تؤدى بمثلها لا بقيمتها، أي عملًا بسعر صرف يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين، عملًا بالأحاديث الواردة بهذا الشأن ومن ذلك حديث ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما -.
ثانيًا: ما احتج به بعض الباحثين بقول أبي يوسف رحمه الله في الفلوس الكاسدة غير وارد كما ذكرت آنفًا، لأن هناك فرقًا بينها وبين العملة اليوم، وأود أن أبين بأن الخلاف بين أبي يوسف وبين غيره من فقهاء الحنفية رحمهم الله تعالى إنما هو في الكساد لا في الرخص. فها هو الطحاوي - رحمه الله - تعالى ينقل عن ابن شابي قوله: وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت، فعليه مثل ما قبض من العدد.
ثالثًا: حكى ابن عابدين عن بعض كتب المذهب ما هو أولى بالاحتجاج في هذا الموضوع. فقد نقل عن بعض كتب المذهب ما يلي: رجل اشترى ثوبًا بدراهم نقد البلدة فلم ينقدها حتى تغيرت فهذا على وجهين، إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلًا فسد البيع لأنه هلك الثمن، وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لا يفسد، لأنه لم يهلك وليس له إلا ذلك. وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها فعليه قيمتها في آخر يوم انقطع من الذهب والفضة وهو المختار.
وأود أن أقول لأخي الشيخ علي القره داغي بأن مطلق الثمنية هو العلة في تحريم الزيادة في الأثمان، وهذا هو رأي أكثر الفقهاء رحمهم الله تعالى، وليس الوزن بل هو قول للحنفية وعندما اعترض عليهم كيف تجيزون السلم بها في أشياء الموزونة مثل الزعفراني وغيره؟ أجابوا عن ذلك بأن الوزن يختلف في كل منهما، فالذهب والفضة توزن بالصنجات، والزعفران وغيره يوزن بالأواني.
لذلك أني أرى وأذهب إلى ما ذهب إليه الإخوة الأفاضل من أن العملة الورقية تقوم الآن مقام الذهب والفضة وبالتالي ينبغي ألا ننجر إلى تغيير قيمة العملة لما ذكر البعض الآخر. وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/1824)
الدكتور عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وبعد:
فيبدو أن القائلين بالقيمة قد هضم حقهم إلى حد كبير سواء في بيان وجهة نظرهم بالأمس أو في إبداء حججهم وإعطاء الفرص الكاملة. فضيلة الشيخ تقي الدين حفظه الله بالأمس نسب إلى القول بالقيمة مطلقًا، وأنا لم أقل بالقيمة مطلقًا في بحثي ولا أظن الزملاء قالوا بذلك كلهم. كما أن بعض الإخوة خرج عن الموضوع وخرج عن محل النزاع، وادعى بأننا لو أخذنا بالقول بالقيمة نبطل فتاوانا السابقة، وبين الموضوعين فارق كبير جدًا. الآراء التي لخصها فضيلة الشيخ تقي الدين واعتبر رأي القائلين بالمثل رأيًا واحدًا، وبقية الآراء عدها خمسة، وهي في الحقيقة لا تخرج عن رأيين قول بالقيمة، وقول بالمثل. لكن هناك تفصيل في كلا الرأيين. كما أن فضيلة الشيخ تقي الدين ذكر أن القائلين بالقيمة من الأبحاث هما أنا والدكتور عبد اللطيف الفرفور بينما يبدو لي أن هناك ستة أبحاث يقول أصحابها بالقيمة، أذكر منهم الدكتور نزيه والدكتور ابن بيه على ما أظن، وكذلك الدكتور القرضاوي والدكتور على القره داغي والشيخ محمد الأشقر أيضًا ربما غيرهم. كما أن العرض اقتصر على وجهة نظر واحدة، هذا من حيث إطار الموضوع.
أما الموضوع فكثير من الزملاء الذين تكملوا فيه صوروا موضوع القول بالقيمة كأنه قول شاذ، وأنه لا قائل به وأنه أمر مستحدث. والحقيقة أن القول بالقيمة جملة في هذا الموضوع كل المذاهب قالت به، في حالة الكساد قال به الحنابلة والمالكية في مقابل المشهور وأبو يوسف ومحمد. وفي حال الانقطاع قال به جمهور الفقهاء والمالكية والشافعية والحنابلة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف، والفتوى عليه عند الحنفية. وليس معنى هذا أن هناك تطابقًا بين القول بحالتي الكساد والانقطاع وحالة الرخص والغلاء وبينما فارق كبير، لكن قصدي أن أقول إنه قدرك مشترك بالتقدير برد القيمة. جمهور الفقهاء في حالة الرخص والغلاء كما علمنا يقولون إنه يرد ذات النقد الثابت في الذمة،ورأي آخر وهو كما أشار الشيخ تقي الدين وغيره هو رأي الإمام أبي يوسف. البعض حاول أن يشكك في قول أبي يوسف هذا القول ليس قولًا مغمورًا، هو القول المفتى به عند الحنفية. وهذه الواقعة لم تكن في حالات العملة البسيطة كما ذكر البعض بالفلوس، وإنما كان حالات كوارث اقتصادية نزلت بالعالم الإسلامي تكررت حوالي سبع مرات في القرون من القرن الخامس حتى القرن الحادي عشر. فيمكن القول بالقيمة قولًا مغمورًا، أو قولًا ضعيفًا عند الحنفية خاصة بل هو القول المفتى به. وهذا ثابت بنصوصهم ولا نذكرها. ثم إننا حينما نأخذ بقول أبي يوسف ونعمل به قيدناه بقيود. القيد الأول وهو ما ذكره الرهوني بأن يكثر الغلاء جدا ويكون الغلاء فاحشًا. وتعليله بهذا تعليل معقول، لأن التغير الفاحش يدخل على الدافع، سواء كان في القرض أو في بيع الأجل الظلم. ولذلك يقول الرهوني: إن البائع إنما بذل سلعته في مقابلة منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينفع به.(5/1825)
وهذا كلام سليم كذلك الظلم يترتب حتى في القروض. ولو قلنا إنه يعطى المثل لربما سد باب التيسير على الناس، فيحجم الناس عن إعطاء القروض. ثم إننا نقيده أيضًا بقيد وهو أن الذي يقرر حالة الغلاء ليس الأفراد فيما بينهم وإنما هي الدولة، لأنها حالة اقتصادية نادرة الحدوث، فينبغي أن تكون بيد الدولة، وهي التي تقرر إن كان هناك تغير فاحش، أم لا، وتقدر نسبة التغير كما هو معمول به في الدول. وفي حالة التضخم الدولة هي التي تقدر هذا التضخم. وبذلك لا يكون الأمر فوضى كما قد يتصور البعض.
الزميل على القرة داغي بالأمس ذكر عشر حجج قوية في إسناد هذا الرأي ولا أعيدها حفاظًا على الوقت. وإنما إضافة إلى ما ذكر: إن هذا الرأي له نظائر وتسنده قواعد شرعية معتبرة فنظائره: الفقهاء تكلموا في بيع الفلوس إذا حصل تخالف وفسخ وهي تالفة فقالوا: تجب القيمة. واعتبروا القيمة يوم التلف، على خلاف وتفصيل بينهم. كذلك تكلموا عن استعارة الفلوس، ففي تلقيها حال الاستعارة قال بعضهم بالقيمة يوم التلف. وأيضًا قالوا: لو أخذت الفلوس على جهة السوم فتلفت ففيها القيمة يوم القبض أو يوم التلف على خلاف بينهم. أما القواعد التي تندرج تحتها هذه المسألة فهي قواعد كثيرة وبيان الصلة بينها وبين كل قاعدة يطول. هذه القواعد كقاعدة الضرورة والضرر لا يزال بالضرر، والضرورة تقدر بقدرها، والحاجة تنزل منزلة الضرورة، والميسور لا يسقط بالمعسور، والمشقة تجلب التيسير، ورفع الحرج، وغير ذلك وبسط هذا كما قلت يطول. أقول قولي هذا واستغفر الله.(5/1826)
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
عودًا على بدء ما ذكرناه في العام الماضي: إن القضاء اليوم في لبنان أمام مشكلة حيث إذا طلقت امرأة تزوجت منذ عشر سنوات وكان مؤخر صداقها عشرة آلاف ليرة لبنانية نرى القاضي يفرض نفقة ثلاثة أشهر أكثر من مؤخر صداقها نفقة العدة أكثر من مؤخر صداقها، ومؤخر صداقها يكفيها فقط لتستأجر سيارة وتحضر أمام مجلس القضاء لتسمع الحكم وتعود إلى بيتها بمؤخر صداقها. هذه حالة تحصل في لبنان.
أمر آخر: في الحقيقة المشكلة ليست فردية. البنوك في لبنان شبه متوقفة عن وفاء الديون للعملة لأنها تراجعت ثلاثمائة مرة. وفعلا تحولت العملة إلى فلوس.
أمر آخر: إن المشكلة باعتبارها قائمة في لبنان تتوقف جميع القضايا العالقة في المحاكم على قرار مجلسكم الكريم، لأنهم لم يتوصلوا إلى حل. والآن ينتظرون من مجمع الفقه الإسلامي، ماذا سيقول حتى يحقوا الحق.
أمر آخر: في الحقيقة كل من تكلم – وجزاه الله خيرًا – تكلم عن نصف الآية ووقف أمام النصف الثاني. قال تعالى – والكل يعلم – {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} ووقف، نعم وقف {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} . الحقيقة الآية ذكرت أمرين: رفع الظلم عن المدين، ورفع الظلم عن الدائن. صحيح إننا بتأخر قيمة العملة أنصفنا كما قالوا المدين بالعملة الضعيفة ولكننا ظلمنا الدائن، والآية الكريمة ذكرت هذه المعادلة {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} .
أمام كل هذه الاجتهادات يخطر في البال أمر وهو – الكل يعلم – أن الماء إذا تنجس – ماء البئر– قال الفقهاء ينزح كذا، وينزح كذا، وينزح كذا وطهر، كما قالوا استحسانًا لا قياسًا. والقياس: أن الماء لا يزال نجسا , لو أردنا تطهيره لاستأصلناه. فإذا لم يفن الماء ولم تزل النجاسة بالكلية. الحقيقة أمام كل ما تقدم كنا أمام الفلوس هي فكة وأصبحنا أمام عملة قائمة بذاتها، وثروات قائمة بذاتها. فلذلك لو تحول الدين إلى ذهب أظننا لا نكون ظلمنا ولا ظلمنا، وفي ذلك مندوحة. والله أعلم والسلام عليكم.(5/1827)
الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أحب أن أعقب أولًا على اقتراح بعض الإخوان في اعتبار العملات الأجنبية كالدولار مثلًا مقياسًا وأقول: الذين رأوا هذا الرأي لم ينظروا إلى آثاره السياسية والاجتماعية ومخاطره حين نجعل العملة الأجنبية أساسًا كأننا أقررنا بمجمعنا الكبير الكريم أن ننافس العملة الوطنية. وفي هذا خطورة على اقتصادنا وخطورة على مجتمعاتنا. أحب أن أبين نقطة وهي: كان ينبغي أن نفكر كمجمع في إيجاد الدينار الإسلامي أو الدينار العربي كخطوة أولى حتى نستطيع أن نقاوم ما استطعنا سياسيات التغيير المفاجئة التي يفرضها التقسيم السياسي والضعف الاقتصادي ولو جعلنا مثل هذه الوحدة لحللنا كثيرًا من هذه المشاكل.
الأمر الآخر: هو أن هذه الأمور في الغالب مستجدة لم تكن في عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الأئمة السابقين بسبب هذا التواصل وهذه الحركة والتطور الاجتماعي والاقتصادي في العالم. ولذلك ينبغي أن نعالجها بصبر وأناة. وقد وجدت في بعض الجوانب عند رجال القانون معالجة فيها كثير من العدالة في أمور تشبه ما نحن بصدده، مثلًا، عندما يطلب من متعهد وينزل عليه عطاء بأن يقدم لجهة من الجهات آلات أو أطعمة أو بضائع ثم تهبط الأسعار أو تغلو غلوًّا فاحشًا فينزل رجال القانون على نظرية الظروف الطارئة. ونظرية الظروف الطارئة. ونظرية الظروف الطارئة فيها من العدالة ما فيها، لأن الدولة هنا تنظر إلى المجتمع كله نظرة شمولية وتقسم الخسارة على الطرفين، على الدائن وعلى المستدين، أو على المتعهد وعلى صاحب العمل. وذلك تحقيقًا لشيء من العدالة. إنه أمر نزل بالأمة فينبغي أن يتحمله الطرفان.وقد يعطي هذا الرأي شيئًا مع ما تفضل به فضيلة الشيخ مفتي تونس وهو أن المصيبة حين تنزل عل الأمة كلها ينبغي أن تحملها الأمة كلها. فإذا حملناها للمدين وحده فلم ننصف، أما إذا حملناها للجهتين فيكون شيئًا من العدالة.
والأمر الآخر الذي أحب أن أقوله حين لا ترتبط الأحكام الشرعية بمقاصد الشريعة نقع في أخطاء فاحشة. فالإسلام عندما حرم الربا بالذهب والفضة لأنها كانت هي العملة المتداولة، وعندما تصبح العملة الورقية هي المتداولة فالثمنية بها، نشتري بها الذهب ونشتري بها الفضة. فإذا اعتبرنا قيمتها فقط فنكون قد ابتعدنا عن فقه الشريعة وربط الأحكام بمقاصدها ووقعنا في محظور ترك الزكاة وهدم أركان الدين وإحلال الربا إلى غير ذلك. ولكن نظرية الظروف الطارئة التي تجعل الحاكم في مثل هذه الأمور ينظر نظرة شمولية ليتحمل الدائن والمدين مثل هذا الفرق الشاسع يحقق شيئًا من العدالة. وشكرًا للإخوة.(5/1828)
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد.
الحقيقة كنت أود أن أذكر بعض النقاط التي قد تؤثر على مجرى المناقشة بحيث تستبعد بعض الأمور التي لا علاقة كثيرة لها.
أولًا: التضخم في عرف الاقتصاديين أن تغير سعر العملة هو ارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات وليس واحدة منها أو بعضها،ويعبر عنه بشيئين إما الارتفاع العام للأسعار، أسعار كل شيء ترتفع، على العموم بنفس النسبة أو – وهو الكلام المماثل – انخفاض قيمة العملة بالنسبة لجميع هذه الأسعار.
ثانيًا: التضخم حصل في الماضي مرات كثيرة، بمعنى أنه ليس السبب الوحيد للتضخم هو العملة الورقية، فقد حصل بالعملات المعدنية، ولكن حصوله بالعملات الورقية المعاصرة أكثر بكثير لسهولة إنتاج العملات الورقية لأنها لا تتضمن كلفة تقريبًا لمنتجها، الدولة.
ثالثًا: التضخم يؤثر ليس فقط على بعض الناس، لا يؤثر على كل الناس في الحقيقة ولا يؤثر على كل الناس بالتساوي، التضخم يؤثر على زمرة من الناس أو على زمرة من الحقوق والثروات والدخول هي تلك فقط التي تحدد أو تحسب بوحدات نقدية. فإن هناك كثيرًا من الثروات كما هو واضح لا تحسب بوحدات نقدية وكثيرًا من الحقوق لا تحسب بوحدات نقدية وكذلك من الدخول ما لا يحسب بوحدات نقدية. فهذه لا تؤثر عليها، وبالتالي التأثير على الناس ليس متساويًا فيؤثر على بعضهم أكثر من تأثيره على غيرهم.
نقطة أخرى أيضًا: حصل كلام عن الظلم والعدالة بين البنوك الربوية وغيرها، الحقيقة الكلام، يعني يصعب قبوله، لأنه حصل تاريخيًا وفي العشرين سنة الأخيرة في دول كثيرة أن كان معدل الفائدة – سعر الفائدة الربوية – أقل من معدل ارتفاع الأسعار وبالتالي البنوك الربوية فعلًا دفعت أقل من أو أعادت لأصحاب الودائع عندها أقل من ودائعهم الأصلية بالقيمة الحقيقية. وأما بالنسبة للبنوك الإسلامية فالأصل أنها تحسب الربح على أساس استثماراتها. والربح يتضمن ارتفاع الأسعار، فما استثمرته بسعر اشترته بسعر عندما باعته، باعته بسعر يتضمن في العادة التضخم. فمقدار الظلم هنا أقل بكثير من البنوك الربوية، بل إنه أنحى إلى العدالة، لأن البيع بسعر حقيقي والشراء بسعر حقيقي والتضخم حصل بين البيع والشراء. فما حسب من قيمة اسمية لأصل المبلغ، لأصل الاستثمار الذي وضع البنك الإسلامي أضيف إليه نسبة من الأرباح أكثر. وهذا واضح من الأمثلة الفعلية للبنوك الإسلامية في تركيا، البنكان الإسلاميان، في تركيا، يعين معلوم من حساباتهما.(5/1829)
نقطة أخرى: لو تصورنا إنسانًا تبين الفرق بين تأثير ارتفاع الأسعار، تأثير التضخم – لو تصورنا إنسانًا عليه دين وعزل جزءًا من نقوده لوفاء هذا الدين، عليه دين ألف ليرة، فعزل جزءًا لوفاء هذا الدين ألف ليرة، ثم قلنا بالدفع بالقيمة، ماذا يحصل لهذا الإنسان الذي عزل هذا الجزء، ألف ليرة وضعها في صندوقه من أجل دفع ذلك الدين؟ لن تكفي لدفع هذا الدين وهذا أمر بديهي.
نقطة أخرى أيضًا:صار حديث عن ارتباط التضخم بالربا وإن الربا سبب للتضخم. الحقيقة لا يوجد أي دليل إحصائي أو علمي على هذا. هناك آثار متبادلة بين التضخم والربا، نسبة الربا ولكن لا يود دليل على أيها يؤثر على الآخر. يمكن نظريًا أن يقال إنه الربا لأنه يفصل بين عمليات التمويل بصيغها النقدية عن الواقع الحقيقي عن مقدار السلعة والخدمات في المجتمع، فيمكن بالتالي أن تتزايد الديون من الناحية النقدية بسبب وجود الربا دون أن تتزايد بنفس النسبة كمية السلع والخدمات المتداولة. فهذا يمكن أن يكون نظريًا دون إثبات إحصائي يمكن أن يكون سببًا في زيادة التضخم. الحقيقة الكلام هنا أكثر عن التضخم المفرط وليس كل تضخم، بتعريف الاقتصاديين كل ارتفاع في الأسعار عام يعتبر تضخمًا أو هو انخفاض في قيمة العملة ولكن ما يتحدث عنه هو الارتفاع المفرط وليس الارتفاع بمعنى ما يعتبره الاقتصاديون ضررًا وأذى، والارتفاع المفرط وليس كل ارتفاع ولو كان صغيرًا.
نقطة أخرى أيضًا: ينبغي أن نميز وهذا أمر ضروري، الحقيقة بين تعريف التضخم أو ارتفاع الأسعار بالمعنى الذي ذكرت وبين اختلاف سعر العملة المحلية بالنسبة لبعض أو كل أسعار العملات الأخرى من الدول الأخرى؛ هذا ليس تضخمًا هذا تغير في سعر القطع الأجنبي وليس تضخمًا. هناك ترابط وتأثيرات متبادلة بين الأسعار المحلية ارتفاعًا وانخفاضًا، وبين سعر التبادل بين العملة المحلية والعملات الأخرى. التبادل بطريقتين، يعني مؤثر على العملة المحلية وتأثيرات من العملة المحلية على السوق، على سعرها الخارجي. ولكن هذا غير التضخم، هذا أمر آخر ومقياسه بالعملات الأجنبية. التضخم لا يقاس بالعملات الأجنبية بل يقاس بالأسعار المحلية.(5/1830)
ثلاث نقاط أريد أن أطرحها لعلها يصدر بها رأي أو يفكر بها بشكل موضوعي. إذا قلنا بأنه لا بد من القيمة في قضية التضخم من اعتبار القيمة، فمن الذي يعوض أصحاب الحقوق والثروات والدخول التي تتأثر بسبب التضخم؟ هل الدولة التي صنعت التضخم؟ أم المدينون وأناس آخرون؟ وإذا عوض المدينون، فالمدينون لا يستطيعون أن يعوضوا كل من طرأت عليه خسارة، فالذي يملك مثلًا ثروته بصيغة نقود في جيبه أو صندوقه، من الذي سيعوض على هذا الإنسان نتيجة لتغير قيمة ثروته بسبب التضخم؟ هذا أمر ينبغي أن ينظر في الحقيقة. والدولة هي المتسببة الآن بالتضخم على العموم.
نقطة ثانية: لو أن العقود حصلت تراضيًا بمجموعة أو بوحدة غير موجودة واقعيًا ولكنها نظريًا، فقلنا إن القرض يقع مثلًا: كيلو من القمح وثلاثة كيلو من التمر وأربعة كيلو من سلعة أخرى وغير ذلك،فجمعنا عشر سلع مثلًا أو مجموعة من السلع أو من العملات أيضًا وقلنا بأن هذا المجموعة بوحدات ثابتة منها مجموعها يشكل وحدة حسابية واحدة. فلو حصل القرض يوم القرض بعدد من وحدات هذه الوحدة الحسابية ثم تم القبض للقرض بما يعادله من أي عملة أو من أي سلعة من هذه السلع العشر مثلًا، فهل يجوز مثل هذا؟ وأن يتم عند الدفع حساب نفس عدد الوحدات الحسابية التي أقرضت أو التي كانت موضوع الدين وعند السداد يكون بنفس العدد ولكن بأي سلعة أو بأي عملة من العملات التي تشكل هذه السلة؟ هذه نقطة.
نقطة ثانية: هل للدولة أن تفرض سداد الديون بهذه الطريقة؟ وهل يمكن أن يكون هذا من باب حسن الأداء الذي تقرضه الدولة؟ ولو فعلته الدولة فهل هذا يلزم ديانة أم أنه لا يجوز ديانة؟ كما لو غيرت الدولة كما حصل في بعض الدول طريقة توزيع الميراث بأن ساوت بين المرأة والرجل، فلا يجوز للأخ أن يأخذ أو الأخت ما ليس لها.
النقطة الأخيرة: هي كأنها عود على بدء، يعني أرجو أن ينظر بأنه هل يجوز للدولة أصلًا أن تصدر من النقود الورقية ما يؤدي إلى التضخم؟ أم أن ذلك بنفسه من الأمور غير المقبولة؟ والحمد لله رب العالمين.(5/1831)
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أولًا رأيي في هذا الموضوع هو متفق مع رأي مقدم الموضوع وهو أنه لا يجوز ربط الديون مهما كان مصدرها سواء كان مصدرها قرضًا أو بيعا، لا يجوز ربطها بمستوى الأسعار، لأن في هذا شبهة الربا. وقد تحدث عنه كثير من الإخوان. ولحديث ابن عمر الذي تناوله أيضًا بعض الإخوان، وفيه غرر أيضًا وهذا لم يتطرق إليه أحد، فيه غرر في حالة البيع بأجل. لأن المشتري لا يدري ما هو الثمن الذي سيدفعه لو أن شخصًا اشترى سلعة قبل عشر سنوات مثلًا في السودان بعشرة جنيهات إلى أجل عشر سنوات فيطالب الآن بمئات الجنيهات، ولاتفاق المتقدمين من الفقهاء على وجوب قضاء الدين بمثله، وأقول وأؤكد اتفاق المتقدمين جميعًا بما فيهم فقهاء المالكية وبما فيهم الرهوني وأحب أن أؤكد على هذه النقطة وقد كتبت عنها في بحثي رادًّا على الذين يقولون بأن الرهوني في حديثه عن الغبن اليسير والغبن الفاحش اعتبر القيمة في حالة الغبن الفاحش، وهذا غير صحيح بالنسبة لمذهب المالكية بعامة وبالنسبة للرهوني خاصة أيضا. ليس عند الرهوني قول بهذا , وليس في مذهب المالكية قول يخالفه، إنه لا خلاف بينهم في رد المثل، ما نقل عن الرهوني هذا جاء في بطلان الفلوس، وأحد الإخوان قرأ علينا عبارة ترد علي، العبارة التي قرأها ههنا الرهوني يقول: بذل سلعته فيما ينتفع به فلا يعطي ما لا ينتفع به. فهل إذا كان هناك غبن فاحش وأعطى ينتفع؟ الكلام دقيق العبارة: هذه تصدق في حالة البطلان وهي المجال الذي كان يتحدث عنه الرهوني. فالأئمة الأربعة متفقون على هذا الرأي. ثم إن ربط الديون بمستوى الأسعار فيه قلب للأوضاع بتقويم الأثمان بالسلع، وهذا هو الاتجاه الاقتصادي الحديث لكنه خطأ من أصله. الأثمان هي التي يقاس بها ولا تقاس على غيرها، وهذا هو ما قرره فقهاؤنا منهم الغزالي وابن تيمية وابن القيم، وكلهم قرروا هذا وقالوا إن الأثمان هي المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال ولا يقوم هو بغيره، إذ يصير سلعة كبقية السلع، وهذه هي مصيبتنا الآن حين جعلنا النقود سلعًا، فالخطأ في أصل الاقتصاد الحاضر هذا هو الذي جاءنا بالبلوى، ثم إنه ليست هناك حاجة إلى ربط الديون بمستوى الأسعار لأن عندنا في المعاملات الشرعية ما يغني عن كل هذا. فمثلًا في القرض نحن نأخذ الأحوال الحاضرة الآن مع ما فيها من سوء.(5/1832)
القرض الأصل فيه أن يكون لنفع المقترض في الدنيا ونفع المقرض في الآخرة، لا ينتظر منه ربحًا، لكن مع ذلك العلاج سهل، مثلًا في السودان الشخص الذي يريد أن يقرض آخر ولا يريد أن يتعرض لمخاطر التضخم يستطيع أن يقرض من أول الأمر بالدولار أو بأي عملة يراها تكون ثابتة فيتفادى ضرر التضخم، في حالة القروض الاستثمارية، أيضًا الحل موجود وهو التعامل بالصيغ الإسلامية وليس بالقرض. البنوك الربوية تعطي قرضًا ولذلك تنتظر أن تأخذ ما يقابل التضخم. البنوك الإسلامية لا تعطي قرضًا وإنما تدخل شريكًا مع من يريد أن يستثمر مالًا، أو تعطيه له مضاربة. وهذا أكثر فائدة له وللمجتمع. لأن الشخص الذي يأخذ من البنك الربوي مائة جنية ليتاجر بها، البنك يأخذ منه عشرة في مائة ربحًا،مضطر لأن يبيع السلعة التي اشتراها بمائة بأن يبيعها بمائة وخمسة عشر، لكي يربح خمسة في المائة. أما الذي يشارك في البنك الإسلامي فإنه يستطيع أن يبيع السلعة التي اشتراها بمائة وعشرة فقط، ويربح هو خمسة والبنك خمسة، فهذا أفضل للمجتمع من طريقتهم الربوية. كذلك في حالة البيع المؤجل، البديل موجود، والبيع المؤجل، يجوز أن يكون بأكثر من الثمن، يستطيع البائع أن يعمل حساب التضخم في المستقبل. ومع كل هذا، فإن ربط الدينون بمستوى الأسعار لا يحل مشكلة التضخم كما اعترف بذلك الاقتصاديون أنفسهم.
بقيت نقطة أو نقطتان أريد أن أشير إليهما: بعض الإخوة المتحدثين تحدثوا عن النقود الورقية وهل هي أموال ربوية أو ليست أموالًا ربوية، وربطوا هذا بالقرض، وأود أن أقول إن القرض لا يشرط فيه أن تكون الأموال ربوية، لا يجوز في حالة القروض أن يدفع الإنسان زيادة عما دفع، أن يدفع المقترض زيادة عما اقترض سواء كانت هذه الأموال ربوية أو غير ربوية حتى لو اقترض حجارة لا يستطيع أن يرد أكثر منها، هذا اعتبار الأموال ربوية أو غير ربوية هذا في ربا البيوع فقط، وليس في ربا الديون، ربا الديون كلها لا يشترط فيها أن يكون المال ربويًا.(5/1833)
نقطة الآخرة: وهي ردي على الأستاذ الفاضل الشيخ المختار، صحيح أنني قلت بالأمس أن الآيات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فكلمة التجارة والبيع والعقود هذه من قبيل العام الذي أريد به الخاص وليست - وإن كنت لم أقل هذا ولكني أقوله الآن - ليست من قبيل العام الذي دخله التخصيص كما يقول الشيخ المختار، لأن الفرق بين العام الذي أريد به الخاص هو الذي جاء من أول الأمر مرادًا به، ليس مرادًا به العام، وهذا موجود وكثير وكل هذه الألفاظ " التجارة " البيع، العقود ". هي من هذا القبيل. أما العام الذي خصص فهو عام ورد عامًا ووقع العمل به عامًا، ثم جاء دليل التخصيص فيما بعد. فمسألتنا هذه كلمة عقود وربا وتجارة هي في نظري من العام الذي أريد به الخاص من أول الأمر حتى بدليل في الآية الأولى، دليل التخصيص معها مقارنًا لها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . فهل كل تجارة عن تراض ولو كان فيها أكل مال بالباطل؟ لا. هل كان عقد قي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . كل عقد يجب الوفاء به ولو كان مخالفًا لأحكام الشرع؟ قطعًا لا. وهذه موجودة قبل نزل الآية، بعد تحريم بعض العقود. فالآيات هذه كلها في رأيي هي من العام الذي أريد به الخاص.
الرئيس:
نظرًا لأن المناقشات أخذت من الوقت الكثير، فأقترح أن تؤلف لجنة لصياغة القرار من الشيخ تقي، الشيخ الضرير، الشيخ البسام، الشيخ السالوس، الشيخ عجيل النشمي، الشيخ نزيه حماد، الشيخ ابن بيه، والمقرر الشيخ محمد الأشقر.
ترون هذا مناسبًا. وبه ترفع الجلسة لمدة خمس عشرة دقيقة فقط. وشكرًا.(5/1834)
مناقشة القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
قرار رقم (4)
بشأن
قيمة العملة
بعد اطلاعه – أي مجلس المجمع – على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تغير قيمة العملة) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبعد الاطلاع على المجمع رقم (9) في الدورة الثالثة بأن العملاء الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها.
قرر ما يلي:
لا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة كان مصدرها بمستوى الأسعار بأن يشترط العاقدان في العقد المنشئ للدين كالبيع والقرض وغيرهما ربط العملة التي وقع بها البيع أو القرض بسلعة أو مجموعة من السلع أو عملة أخرى معينة أو مجموعة من العملات بحيث يلتزم المدين بأن يوفي للدائن قيمة هذه السلعة أو هذه العملة الأخرى وقت حلول الأجل بالعملة التي وقع بها البيع أو القرض.
التسخيري:
سيدي الرئيس: كيف يكون المعنى؟
البسام:
العبارة هذه ما هي صحيحة أبدًا..
التسخيري:
كيف يكون المعني؟ ...(5/1835)
الرئيس:
والله أنا في الحقيقة ...
البسام:
ما تصلح العبارة ربط الديون الثابتة بالذمة؟ بيع الدين بدين؟ هذا ما يصلح.
التسخيري:
سيدي الرئيس:
الآن أنا أبيع سلعة بما حاضر أو أبيعها بقيمتها وأضع في عهدة الطرف الآخر فيمتها بالعملة، ما المانع من ذلك؟ من الأول أنا أضع في ... أبيعها بهذه القيمة من العملة الأخرى، ما المانع من ذك؟
الرئيس:
الحقيقة الذي لدي: طالما قال إن العنوان هو (تغير قيمة العملة) : القرار لماذا لا يأتي في هذه العبارة حتى يكون فيه ربط بين الحكم وعنوان الموضوع الفقهي الذي درس ... ؟
التسخيري:
لا يؤثر تغير العملة على الديون الثابتة في الذمة.
الرئيس:
هنا مكتوب (لا يجوز ربط الديون الثابتة) .
البسام:
(الثابتة في الذمة) قد تثبت في الذمة نحن نريد أن ننشئ دينًا جديدًا، أود أن أتعاقد مع واحد لا يصح بأن أشترط عليه أن يوفيني بالعملة الفلانية.
أبو غدة:
حتى الدين القديم أيضًا.
البسام:
أي شيء ثبت في الذمة، ومستقر في الذمة، هذا معناه لو بيعت عليه بعملة أخرى: معناه بيع دين بدين، هذه معروفة عند العلماء كلهم (لا يجوز) .
أبو غدة:
ولذلك لا يجوز.
البسام:
العبارة تحتاج إلى تعديل.(5/1836)
الدكتور عجيل النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أيًّا ما كان الصيغة التي سينتهي إيه، فإن كانت في منع صورة مطروحة وهو إعطاء القيمة عند التغير فأنا بودي أن أسجل رأيي في هذا الموضوع، فالمقترض في قرارتنا أنها تحل مشكلة قائمة في ذات الموضوع المسئول عنه، وهذا القرار لا يحل مشكلة ولكنه يعقد المشكلة، وليس السكوت عن هذا كتما للعلم ذلك أن الناس لا يتعاملون ...
أقول إن السكوت عن هذه المسألة ليس كتمًا للعلم، ذلك أن الناس لا يتعاملون في هذه النازلة الواقعة حاليًا بدفع القيمة حتى يقال: إن دفع القيمة حرام غير جائز،هذا من جانب، ومن جانب آخر: فإن المسألة ليست صورة التحريم فيها قطعية بوجود الربا ما علل الزملاء في حيثيات هذه الفتوى، ولو كان كذلك ما اختلف الرأي فيها البتة، فالقول بالحرمة أو المنع – في تقديري – فيه شائبة عدم الحرمة أو المنع، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من أن يسأل المسلم عن قضية فتحرم من اجل مسألته، فموضوعنا هذا أولى بالسكوت من إصدار هذه الفتوى، لهذا أدعو المجمع إلى التريث وعدم الاستعجال في هذه القضية بمبرر وضغط أننا أجلنا هذا الموضوع من جلسة سابقة، هذا الموضوع لو عقدت له جلسات متوالية فإنه يستحق أن تعقد له هذه الجلسات، فرجائي أن نتريث في إصدار هذا الحكم خصوصًا وأن هذه القضية ليست فردية وإنما هي على مستوى الدول الإسلامية كلها.
أقول فقط كلمتي وهي هذا التحفظ، فإن رأيتم اتخاذ القرار فأرجو تسجيل تحفظي وشكرًا.
الرئيس:
شكرًا، في الواقع أنتم تعلمون أنه في أثناء المداولات وأثناء البحوث تبين أن العدد الكبير من البحوث ومن مناقشات المشايخ علي التوجه إلى المثل، لكن أنا أقول إن الفقرة هذه النتيجة القرار، تحتاج إلى أن تصدر بالحكم ذاته وهو حالة الجواز ثم تبين حالة عدم الجواز، فإن رأيتم أن تصدر المادة القرار بما يلي، قرر ما يلي:
(العبرة بوفاء الديون بعملة ما هي المثل لا القيمة) .
ثم بعد ذلك يأتي:
المثل حتى نصرح ولا نقول القيمة.(5/1837)
الأمين العام:
يعني أنا إذا كان علي دين والدين عشرة آلاف دينار – مثلًا – وعملة الدينار ذهبت، أو الليرة اللبنانية راحت كلها. (فالذي يضمن ديني) العملة الثانية وهي الدولار. هذا فيه حفاظ على الدين.
الرئيس:
أنا أقصد من وراء هذا أن نقرر الحكم أولًا – لحظة يا شيخ أنا أتكلم وأعطيك الكلمة – أنا أقول القصد من هذا أن نقرر الحكم أولًا ثم بعد ذلك نأتي إلى حالة عدم الجواز.
الدكتور الصديق الضرير:
يعني يمكن أن تكون العبارة بهذه الكيفية (الديون توفى بمثلها أو بأمثالها فلا يجوز ربطها بمستوى الأسعار إلى آخره) .
الرئيس:
هذا هو قصدي.
الدكتور عبد اللطيف الفرفور:
لسنا مختلفين علي الصياغة، نحن مختلفون على المبدأ، وإنني في هذه الجلسة أرفع احتجاجي إلى الترافع وأقول: أنتم مسئولون كلكم أمام الله عز وجل بضمائركم، بدينكم عن هذا الفقه، عن هذا الإسلام، أنا داينتك – مثلًا – من عشر سنوات ألف ورقة سوري كانت توازي ربع كيلو ذهبًا، تعطيني الآن ألف ورقة سوري لا توازي غرامين من الذهب، هل هذا دين الإسلام؟ هل هذا هو الذي يرضي الله؟ لا تفعلوا شيئًا تتراجعون عنه أما الناس وأما الله.
الرئيس:
يا شيخ عبد اللطيف ...
الفرفور:
يا شيخنا اسمعني. أنا سكت كثيرًا، والآن أريد أن أتكلم بالحق ولو أني تكلمت شيئا من الغضب إنما هو غضب لله وليس لذاتي.
الرئيس:
جزاك الله خيرًا، هذا طيب ...
الفرفور:
نحن مختلفون علي المبدأ. فهذا المبدأ: يجب إما أن يكون رأي الأكثرية وإما أن يكون الرأي الأقلية، فإن كان رأي الأكثرية فاطرحوه على التصويت، وإن كان رأي الأقلية فاكتبوا التحفظ.
الرئيس:
هو هذا. هذا هو يا شيخ.(5/1838)
الشيخ عبد الله البسام:
أرى أن مثل ما ذكر هنا، وأنا أقول إن هذه الأشياء التي صارت في سوريا أو في لبنان أو في غيرها، هذه أشياء فردية لا يصح أبدًا أن نبني عليها حكمًا. وهذه يمكن أن تدخل في وضع الجوائح، الإسلام ما تركها ما أهملها يا شيخ عبد اللطيف.
الرئيس:
أنا مع تقدير لكلام فضيلتكم لكلام الشيخ عبد اللطيف، أنا أحب أن تأخذوا بالاعتبار على أننا لسنا بحاجة إلى التوسع في المناقشات في هذه الأمور لأن هذا أمر قد فرغ منه، لكن نحن نقول: أمامنا هذا القرار، هل هو بحاجة إلى تعديل؟ فإذا انتهينا إلى الشيء الذي سنصوت عليه، فليتحفظ المتحفظ ويقدم تحفظه، وإذا أقرت صيغة انتهى الأمر، سواء على رأي الشيخ عبد اللطيف أو على رأي الإخوان أو كذا، ما فيها شيء، لكن أنا أقول: ما رأيكم فيما اقترحه الشيخ محمد الصديق الضرير أن يقال: "العبرة بوفاء الديون بعملة ما: هي المثل " ولا يجوز ربط الديون إلى آخره ...
دكتور عمر جاه:
هذا جيد يا فضيلة الشيخ.
الشيخ التسخيري:
رجاء ما اقترحه جيد، لكن هذه العبارة متهافتة، أنتم تقولون (ديون ثابتة في ذمة) ثم تقولون (بأن يشترط العاقدان في العقد المنشئ للدين) يعني الآن يراد ...
الرئيس:
يا شيخ لو تفضلتم الشيخ عبد الستار عنده ما قد يكون يلبي الرغبات ...
دكتور الصديق الضرير:
حذفت الثابتة في الذمة.
الرئيس:
اسمع يا شيخ الصديق.(5/1839)
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
قرر ما يلي:
العبرة في وفاء الديون بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًّا كان مصدرها بمستوى الأسعار بحيث تراعى قيمة العملة في حال تغير القيمة بدلًا من مراعاة ...
الرئيس:
مهلًا يا شيخ: بحيث ...
دكتور أبو غدة:
بحيث تراعى قيمة العملة في حالة تغيرها بدلًا من مراعاة مثل العملة التي ثبت في ذمة المدين.
الشيخ التسخيري:
هذا لا بأس به.
أبو غدة:
ولا يصح أن يشترط العاقدان في العقد المنشئ للدين كالبيع والقرض وغيرهما ربط العملة التي وقع بها البيع أو القرض بعملة أخرى معينة أو مجموعة من العملات بحيث يلتزم المدين بأن يوفي للدائن وقت حلول الأجل قيمة العملة التي وقع بها البيع أو القرض بدلًا من مثلها.
الشيخ التسخيري:
سيدي الرئيس لي مناقشة في الحكم نفسه، أرجو أن. (لا يصح أن يشترط العاقدان في العقد المنشئ) ، عندما أريد أن أنشئ دينًا أنا أسلمه مائة ريال سعودي وأقول أقرضك فيمتها، الآن أقرضك قيمتها، ما المانع في ذلك؟ الآن أوكلك في تبديلها وأقرضك ما بدلته، ما المانع في ذلك؟ لماذا تمنع شيئًا واضح الحكم؟
مناقش:
أنا أثني علي مقترح زميلنا الأستاذ الدكتور عجيل على تأجيل هذا الموضوع لخطورته.
الشيخ خليل الميس:
سيدي الرئيس، ذكرنا لكن أن هنالك مليارات الليرات اللبنانية مجمدة الآن في بنوكنا الناس لا يوفونها لهبوط العملة، ثانيًا: والبنوك لا تقل أن تأخذ بالعملة أبدًا، والناس كلهم يتصالحون في الديون ولا يأخذون الأرقام، ثالثًا: بلغنا أن في أواخر الدولة العثمانية تغيرت قيمة العملة فتدخلت الدولة وسعرت لأصحاب العملة الورقية قيمتها في الذهب، ثم هنا قضيتان: قضية مطروحة وهي الديون الناشئة ماذا نفعل؟ وقضية أخرى أظن لن تدخل معنا أصلًا في المناقشات: وهو كيف ننشئ دينًا جديدًا الآن؟ . إذن القضية خطيرة جدًا وليست نظرية، مليارات الليرات وهي بصراحة للدول العربية، الدول العربية لها في هذا مصلحة، لا نقول هنا لأنها عربية أو غير عربية، لأن العملة في لبنان هبطت، والذين خسروا تسعون بالمئة منهم مسلمون لأن الآخرين احتفظوا بالدولار من أول الحرب وكانوا يعرفون نتيجة العملة. فلذلك نرجو أن نتريث كثيرًا لأن الأمر خطير جدًا وينتظرون فتواكم لحل مشاكلهم. وشكرًا.(5/1840)
الشيخ سيد طنطاوي:
في الحقيقة أنا أرى بالنسبة للفقرة الأولي الحكم فيها واضح جدًا، هو الكلام في الفقرات التي تلي الفقرة الأولى، لكن أنا شخصيًا أرى بأن مسألة العبرة بدفع الديون بالمثل مسألة واضحة جدًا فقط في الكلام الذي يأتي بعد ذلك هو ...
الرئيس:
المهم إذا أقر القرار، الباقي يمشي، يتيسر.
الشيخ تقي الدين العثماني:
شكرًا سيدي الرئيس.
أقترح أن نفصل قضية الليرة اللبنانية من قضية إقرار المبدأ، فالمبدأ هو الأداء بالمثل، نقره، أما القضية اللبنانية فهي غير عادية استثنائية يمكن أن تبحث في جلسة قادمة.
الرئيس:
الليرة اللبنانية والسورية.
الشيخ تقي الدين العثماني:
والسورية، فهل نستطيع أن نلحقها بالكساد أو الانقطاع؟ أو نجد لها حلًا آخر؟ يبحث في جلسة قادمة ممكن أن نؤجل هذه المسألة إلى جلسة قادمة كما تفضلتم.
الرئيس:
طيب ما هي الصياغة التي تقترحونها؟ الصياغة التي ذكرناها مناسبة؟
تقي العثماني:
نعم.
الرئيس:
مهلًا يا شيخ. (العبرة بوفاء الديون بعملة ما: هي المثل لا القيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيا كان مصدرها بمستوى الأسعار) .
تقي الدين العثماني:
يكفي هذا.(5/1841)
الدكتور طه العلواني:
لو سمحتم، بالنسبة لتراضي العاقدين عند إنشاء عقد الدين، هل هناك مانع شرعي من أن يتفقا علي أن يكون الوفاء بالقيمة؟ يعني لو أن العاقدين تعاقدًا عند إبرام الدين علي أن يكون الرد بالقيمة؟
الدكتور محمد الصديق الضرير:
أولا: نحن ما دمنا قد اتفقنا على أن قضاء الديون يكون بالمثل فالنتيجة الطبيعية هي أنه لا يجوز ربطها ... هذه نتيجة طبيعية ...
الرئيس:
يا مشايخ، مهلًا يا شيخ.
الصديق الضرير:
الاقتراح أو الحل الذي اقترحه الشيخ التسخيري غير مقبول، لأن القصد يكون مجهولًا، لو قال أقرضتك قيمتها، قيمتها من أي شيء؟ مم؟ إذا كان من الدولارات يأتي بدولارات فورًا ويقرضها.
البسام:
كلام الشيخ التسخيري وكلام الشيخ طه هذا مقبول وصحيح ولكن هذه مصارفة. أنا جئت مثلًا معي ريالات سعودية أريد أن أربطها بدولار، أنا لما اتفقت معك صارفتك بمعين في الذمة. هذه ما فيها شيء جائزة هذه جائزة ولكن على أساس أنها مصارفة ... هذه مصارفة.
الدكتور طه العلواني:
إذا كانت جائزة سيادة الرئيس يمكن أن تسمح لي فأقترح صيغة: الصيغة تكون هكذا: (العبرة بوفاء الديون بعملة ما هي بالمثل لا بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها إلا إذا تعاقد العاقدان ... )
أبو غدة:
لا ... أبدًا لا يجوز.
الرئيس:
لا يا شيخ: يا مشايخ، على كل: العبارة التي الآن اتُّجِهَ لها سنصوت عليها بعد أن تسمعوها.
قرر ما يلي:
(العبرة في وفاء الديون بعملة ما، هي بالمثل لا بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًا كان مصدرها بمستوى الأسعار) الذي يرى هذا يرفع يده.(5/1842)
الأمين العام:
لا يجوز أن نقف عند هذا لأن هذا لا يحل المشكلة.
الرئيس:
لا. يحل يا شيخ. الذي يرى هذا يرفع يده.
أبو غدة:
(يعد الأيدي المرفوعة) : واحد وعشرون.
الرئيس:
واحد وعشرون.
مناقش:
إن الاستثناء الذي ذكره الشيخ تقي.
الرئيس:
المهم انتهينا والسلام.
الشيخ عبد الله:
الاستثناء الذي ذكره الشيخ تقي لو نضيف إلا في حالة الضرورة.
الرئيس:
المهم انتهينا وجزاك الله خيرًا يا شيخ عبد الله ودعونا ننتهي، المهم العبارة: (العبرة) أقرأها تمامًا يا شيخ.
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
قرر ما يلي:
العبرة في وفاء الديون بعملة ما ...
الرئيس:
الوفاء في الديون الثابتة بعملة ما.
أبو غدة:
العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما.(5/1843)
الشيخ المختار:
معروف نحن نتحدث عن الديون الخيالية؟ أم نتحدث عن الديون الثابتة؟
مناقش:
هذه أكبر خسارة يقع فيها المجمع.
أبو غدة:
العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل.
الرئيس:
لا بالقيمة.
أبو غدة:
(وليس) أحسن ... وليس بالقيمة.
الرئيس:
لا بالقيمة يا شيخ.
الشيخ المختار:
لا: هنا زائدة ...
العبرة بوفاء الديون هي بالمثل.
أبو غدة:
لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون.
الدكتور طه العلواني:
سيادة الرئيس هذا موضوع آخر (فلا يجوز ربطها) هذا يتعلق بموضوع آخر غير الموضوع الأول.
الرئيس:
لا: هو امتداد له ... أبدًا ... هو امتداد يا شيخ (فلا يجوز) .
أبو غدة:
ربط الديون الثابتة في الذمة.
الرئيس:
أيًا كان مصدرها بمستوى الأسعار ... الذي بعده.(5/1844)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ,الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (4) بشأن
تغيُّر قيمة العملة
إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1998م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تغير قيمة العملة) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (9) في الدورة الثالثة بأن العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمينة كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما.
قرر ما يلي:
- العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًا كان مصدرها بمستوى الأسعار.
والله أعلم.(5/1845)
بيع الاسم التجاري
إعداد
الدكتور عجيل جاسم النشمي
جامعة الكويت – كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3) .
أما بعد:
فإن بيع الاسم التجاري من القضايا التي استجد التعامل بها والتعارف عليها. مما استلزم تنظيمها ووضع الضوابط لها منعًا للنزاع أو تقليلًا له.
ولما كانت هذه المسألة قد نشأت ضمن تعامل المجتمعات المعاصرة، فقد كانت مسئولية تنظيمها راجعة إلى نظم وقوانين البلاد التي نشأت فيها. فنظمها القانون التجاري في البلاد الأوروبية منذ مطلع القرن التاسع عشر. ثم انتقل التعامل بالاسم التجاري والرخصة التجارية إلى بعض البلاد الإسلامية في أوائل القرن العشرين على شكل عرف تجاري استلزم التنظيم ووضع الضوابط، وفي غيبة الشريعة الإسلامية استوردت هذه الدول القوانين الغربية لتنظيم ما يتعلق بهذا الموضوع من أحوال وأحكام.
__________
(1) [سورة آل عمران: الآية 102] .
(2) [سورة النساء: الآية 1] .
(3) [سورة الأحزاب: الآية 70] .(5/1846)
ولما عم عرف التعامل بذلك وشاع في كثير من البلاد الإسلامية، وكانت الشريعة الإسلامية قد نحيت من حياة المجتمع الإسلامي جملة، ولم يجد الناس منظمًا سوى القوانين الوضعية استوردوا ضمن ما استوردوه تنظيم مسألة الاسم التجاري، والعلامات التجارية وما إلى ذلك.
ثم وقع مؤخرًا السؤال عن حكم الشريعة الإسلامية في هذه المسألة، فكان لا بد والحال هذه أن يبين الفقهاء المسلمون حكم هذا لمسألة حتى يطمئن المتعاملون إلى سلامة تصرفاتهم وشرعيتها، ولكي تجد الدول الإسلامية التشريع البديل لهذه المسألة وفق أحكام الشريعة الإسلامية.
ولا يخفى أن الشريعة الإسلامية لا يند عن أصولها وقواعدها أمر يتعلق بأفعال المكلفين ينشأ من تعاملهم داخل المجتمع الإسلامي، فكل حادث لا بد له من حكم شرعي من الوجوب أو الندب أو الحرمة أو الكراهة أو الإباحة.
وإن الكشف عن الحكم الشرعي في هذه المسألة يستدعي الوقوف على حقيقة موضوعه من جوانبه المختلفة، حتى يمكن تصوره، ثم معرفته، ثم ترتيب الوصف أو الحكم الشرعي له.
ولما كان موضوع "الاسم التجاري" موضوعًا قد نظمته القوانين الوضعية، وجرى تعامل الناس فيه على وفق هذه القوانين، فإنه من اللازم الوقوف على نظر القانون الوضعي في هذا الموضوع وما إليه مما هو من بابه وحكمه. حتى نستوضح الواقعة المسئول عنها والمطلوب الحكم فيها، من جوانبها كلها سواء في تكييف المسألة أو الأحكام المقررة فيها من وجهة نظر القانون.
ثم نعرض ذلك كله على الفقه الإسلامي ليقرر حكمه في أصل الموضوع وآثاره وأحكامه وهذا يستلزم أن نعرض للمواضيع الرئيسية التالية
الفصل الأول: نتناول فيه الكلام على "المحل التجاري" باعتبار أن الاسم التجاري عنصر من عناصره. ثم نعرف الاسم التجاري ونستقصي ما يتعلق به من أحكام في القانون.
الفصل الثاني: نتكلم فيه عن الحق في القانون من حيث تعريفه وأقسامه.
الفصل الثالث: نتكلم فيه عن الملكية الصناعية والتجارية وحق المنفعة والفرق بين الشيء والمال.
الفصل الرابع: ونعقده للكلام على الحق في الفقه الإسلامي من حيث تعريفه وأقسامه، ثم نختتم الفصل بالكلام على الحقوق المعنوية.
الفصل الخامس: ونتكلم فيه عن المال ومعنى المالية والتقوم.
الفصل السادس: نتكلم فيه عن المنفعة فنعرفها ونبين الفرق بينها وبين الانتفاع، ثم أدلة الجمهور على أن المنفعة مال، وكذا أدلة المخالفين ثم نتكلم على غصب المنفعة والمذاهب فيها. ثم نقارن بين المال والمنفعة وأسباب ملك المنفعة، وتوريث المنفعة، ونختم هذا الفصل بالكلام على حقوق الارتفاق.
الفصل السابع: ونتناول الكلام فيه عن البيع من حيث تعريفه وشروطه.
الفصل الثامن: ونتكلم فيه عن الملك فنعرفه ونبين الفرق بينه وبين المنفعة والاختصاص والإباحة.
الفصل التاسع: ونختم فيه البحث بالكلام على التكييف الشرعي للاسم التجاري وهو ثمرة البحث.(5/1847)
الفصل الأول
المحل التجاري
مبحث
تعريف المحل التجاري وعناصره
تمهيد:
كان حق الملكية في القوانين الوضعية قاصرًا عل الحقوق المادية أي الحقوق التي تردد على أشياء مادية (1) ولم تكن هذه القوانين تعترف بغير الحق المادي، وبعد فترة من تطورها عرفت ما يسمي بحق الملكية غير المادية، أو بمعنى أدق الحقوق التي ترد على أشياء غير مادية، كحق الملكية الأدبية، ويقصد به الإنتاج الذهني للإنسان، وحق الملكية الفنية، ويقصد به الإنتاج الإبداعي الفني، وحق الملكية الصناعية ويقصد به الإنتاج الصناعي المبتكر، وحق الملكية التجارية، ويقصد به الإنتاج التجاري وما يلحق به من حقوق راجعة إليه وهو موضوع بحثنا.
والاسم التجاري مصطلح يدخل ضمن ما يسمى عند القانونيين بـ"المحل التجاري" (2) . ويراد منه: مجموع ما يخصص لعمل تجاري من أموال مادية ومعنوية.
وحق التاجر الذي يرد على المحل التجاري بذاته أو ما نتج عنه وارتبط به يسمى "الملكية التجارية". ويشمل ذلك سمعة المحل، واشتهاره، وجودة سلعته.
والاسم التجاري أحد أهم عناصر المحل التجاري، فالكشف عن حقيقته – في هذه الحال – يستلزم الوقوف على معنى المحل التجاري، وطبيعته، مع شرح معاني العناصر الأخرى المكونة للمحل التجاري بغرض أن يعرف معنى وموقع الاسم التجاري من هذه العناصر.
__________
(1) يقول الأستاذ السنهوري مخطئًا القول بتعبير الحقوق المادية أو غير المادية: "يقال في بعض الأحيان إن الحق إما مادي أو غير مادي، وهذا القول لا أساس له، ذلك لأن الحق يكون دائمًا غير مادي، والمادي هو الشيء محل الحق. أما الحق فهو معنوي"، وينسب الخلط بين الحق ومحله إلى القانون الروماني. وهذا قول صحيح، ولا يخفي أن الفقه الإسلامي يفرق بين الحق ومحله. ينظر قول السنهوري في كتابه الوسيط شرح القانون المدني، للدكتور عبد الرزاق السنهوري 8/274 الطبعة الثانية، دار النهضة العربية 1964بمصر.
(2) فكرة"المحل التجاري" بمفهومها الحالي لم تظهر إلى حيز الوجود إلا في أواخر القرن التاسع عشر. انظر: القانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس ص 442، طبع دار الحيامي بمصر.(5/1848)
تعريف المحل التجاري:
هو منقول معنوي قوامه الاتصال بالعملاء الذين اعتادوا التردد على المتجر نتيجة اتحاد عناصر الاستغلال التجاري (1) . أو هو "مجموع أموال مادية ومعنوية تخصص لمزاولة مهنة تجارية " (2) ..
فالعناصر المعنوية للمحل هي: الاتصال بالعملاء، والسمعة والشهرة التجارية، والعلامات التجارية، والسمة، والاسم التجاري، والعنوان التجاري، والحق في إجارة المكان، وبراءات الاختراع، والرسوم والنماذج الصناعية، والرخص والإجازات.
وأما العناصر المادية فهي الآلات والبضائع.
ولا شك أن قيمة المحل التجاري إنما هي بتوافر العناصر المعنوية فيثبت المحل التجاري ويستمر نتيجة تردد العملاء عليه، وتزداد أهميته أو تقل من هذه الناحية فلا وجود للمحل التجاري دون وجود العملاء: "فالاتصال بالعملاء هو المصدر المنشئ لملكية المحل التجاري، ومتى وجد العملاء نشأت للتاجر ملكية معنوية يطلق عليها المحل التجاري" (3) .
__________
(1) التشريع الصناعي، للدكتور محمد حسني عباس ص293، دار النهضة العربية 1967م بمصر.
(2) مبادئ القانون التجاري، للدكتور مصطفى كمال طه 1/403، الطبعة الأولى دار المعارف 1962 بمصر.
(3) التشريع الصناعى، ص 304.(5/1849)
الطبيعة القانونية للمحال التجارية:
اختلفت آراء رجال القانون حول طبيعة المحل التجاري.
فذهب البعض: إلى أن المحل التجاري هو مجموع قانوني أو ذمة مالية مخصصة.
وذهب البعض منهم: إلى القول بنظرية المجموع الواقعي ويعني بها: وجود رابطة فعلية أو واقعية بين مختلف عناصر المحل التجاري، وبهذا المجموع يكون المحل التجاري محلًا للتصرفات القانونية من بيع وغيره. فالتصرف فيه يرد على مجموع هذه العناصر.
وذهب آخرون: إلى القول بنظرية "الملكية المعنوية" وهو أن التاجر له حق ملكية معنوية أي ترد على أشياء غير مادية، وهي التي يطلق عليها "الملكية التجارية" (1) .
عناصر المحل التجاري:
ذكرنا آنفًا أن المحل التجاري يتكون من عناصر معنوية وعناصر مادية، والعناصر الأهم هي العناصر المعنوية فقد يتصور المحل التجاري دون العناصر المادية في الجملة كمكتب سمسرة مثلًا، لكن لا يوجد المحل التجاري بمفهومه الذي ذكرنا دون توافر العناصر المعنوية.
والذي يخص موضوعنا ها هنا هو بيان العناصر المعنوية، وصولًا إلى مرادنا من تحرير معنى الاسم التجاري وما يدخل في دائرته ومعناه من مصطلحات أخرى فتتناول أهم هذه العناصر فيما يلي:
الاسم التجاري والسمعة التجارية:
الاسم التجاري: هو تسمية يستخدمها التاجر علامة تميز منشأته التجارية عن نظائرها. وليعرف المتعاملون معه نوعًا خاصًا من السلع وحسن المعاملة والخدمة.
السمعة التجارية: هي الشهرة والذكر الحسن الذي اكتسبه المحل من خلال قدرة التاجر على اجتذاب العملاء.
ولهذا، فإن هناك ارتباطًا بين الاسم التجاري والسمعة التجارية، فمتى اكتسب المحل سمعة تجارية، فإن السمعة التجارية تلازم الاسم التجاري للمتجر، فيختلط بأذهان العملاء الاسم التجاري بذات المحل التجاري، كما يختلط تمامًا اسم الشخص بذات الشخص لدى الناس، وتبعًا لهذه الصلة الوثيقة بين المحل التجاري والاسم التجاري، تزداد قيمة الاسم التجاري كلما ازدادت السمعة التجارية للمتجر، كما أن المصادر والأسباب التي تنشأ عنها السمعة التجارية مثل: موقع المحل، وجودة المنتجات أو الخدمات وحسن المعاملة هي نفس الأسباب التي تنشأ وتزداد بها قيمة الاسم التجاري (2) .
__________
(1) مبادئ القانون التجاري ص 411 وما بعدها، والتشريع الصناعي ص 306 وما بعدها. وانظر استيفاء الموضوع في: القانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس ص 479 وما بعدها.
(2) التشريع الصناعي ص 165، ومبادئ القانون التجاري، للدكتور مصطفى طه 1/469؛ والقانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس ص 453.(5/1850)
وظائف الاسم التجاري:
1- قد يستعمل الاسم التجاري لتمييز المنشأة التجارية بوضعه على لافتة المحل التجاري واستعمال الاسم التجاري في هذه الحال هو "العنوان التجاري" فيكون حينئذ للاسم التجاري هذه الوظيفة.
2- ويستعمل الاسم التجاري للدلالة على المنشأة التجارية بوضعه على الأوراق، والأدوات الخاصة بالمتجر.
3- وقد يستعمل التاجر الاسم التجاري علامة تجارية أو صناعية لتمييز منتجات المتجر أو المصنع، وبذلك تستعمل نفس العبارة التي يتكون منها الاسم التجاري استعمالًا مزدوجًا.
4- وقد يستعمل الاسم التجاري للتوقيع على التعهدات التجارية (1) .
الاسم التجاري والعلامة التجارية:
تجب التفرقة بين الاسم التجاري والعلامة التجارية، فالعلامة التجارية: هي كل شارة مميزة تستخدم لتمييز البضائع للدلالة على مصدرها، أو نوعها، أو مرتبتها، أو ضمانها، أو طريقة تحضيرها، أما الاسم التجاري فهو الاسم الذي يستخدمه التاجر الفرد، أو الشركة التجارية لتمييز المنشأة التجارية التي يباشر استغلالها.
فالعلامة التجارية تستخدم لتمييز المنتجات، أما الاسم التجاري فإنه اسم يميز المنشأة التجارية ذاتها عن نظائرها.
وقد يستخدم التاجر الاسم التجاري للمنشأة في تكوين العلامة التجارية التي يضعها على المنتجات، وبذلك يقوم الاسم التجاري بوظيفة في تكوين العلامة التجارية (2) .
الاسم التجاري والاسم المدني واسم الشركة:
يختلف الاسم المدني عن الاسم التجاري من حيث إن الاسم المدني هو خصيصة مميزة لشخصية الفرد، فهو حق غير مادي، ولذا لا يعد من الأموال غير قابل حينئذ للتعامل.
وقد يتخذ التاجر من اسمه اسمًا تجاريًا، وينبغي ها هنا التفرقة بين اسم التاجر بصفته دالًا عليه، واسمه بصفته دالًا على الاسم التجاري، وبالتالي التفرقة بين حق التاجر في الحالين. فإذا بيع المحل التجاري انتقل حق الاستئثار باستعمال الاسم التجاري. وهذا لا يعني انتقال الاسم المدني من حيث التوقيع به وما إليه من خصوصيات التاجر البائع مثلًا.
ومن هنا يتضح الفارق بين الاسم التجاري واسم الشركة، فاسم الشركة إحدى خصائص الشخصية الاعتبارية للشركة.
"ويقع الخلط عادة بين الاسم التجاري الذي يميز به الشركة محلاتها التجارية، وبين اسم الشركة، لأن نفس العبارة التي يتكون منها اسم الشركة تستعمل عادة اسمًا تجاريًا، لذلك يتعين الفصل بين الاسم التجاري فهو مال قابل للتعامل، وبين اسم الشركة فهو اسم شخص وغير قابل للتعامل" (3) .
التصرف في الاسم التجاري:
اتجه القانون إلى منع التصرف في الاسم التجاري تصرفًا مستقلًا عن التصرف في المحل التجاري المخصص له (4) .
ويهدف القانون من ذلك إلى حماية الجمهور من التضلل، لئلا يظن عند البيع أن المحل الجديد هو ذات المحل الأول.
الطبيعة القانونية للاسم التجاري:
يعتبر الاسم التجاري حقًّا للتاجر من حيث إنه يعطي التاجر حق الاستعمال والاستئثار لتمييز منشأته، ويمنع الآخرين من تقليده، أو تزييفه، أو الاعتداء عليه بأية صورة كانت، تمامًا كالحق العيني غاية ما هنالك أنه لا يرد على شيء مادي.
والاسم التجاري في ذات الوقت يعتبر من المنقولات المعنوية وأحد أهم عناصر المحل التجاري.
وأما عن كيفية قياس قيمة الاسم التجاري: فإنه يقاس "بمقدار ما يحققه التاجر من أرباح نتيجة استغلال المحل التجاري، ذلك أن الاسم التجاري هو العلامة المميزة للمحل ووسيلة اتصال العملاء بالمتجر" (5) . وقد يكون الاسم التجاري واجبًا إذا كان القانون يلزم به.
__________
(1) انظر للتفصيل: التشريع الصناعى 166 وما بعدها
(2) التشريع الصناعي، ص 168؛ ومبادئ القانون التجاري 1/470.
(3) التشريع الصناعي، ص 171.
(4) مبادئ القانون التجاري 1/475، ولا يخفي هنا أن التصرف في الاسم التجاري في البيع مثلًا غير التصرف في المحل باعتبار قيمة موقعه وهو المسمى بالخلو وهو: المبلغ المدفوع ثمنًا لموقع عقار مباع أو مؤجر. لكنهما يجتمعان في أن كلا منهما بيع منفعة.
(5) التشريع الصناعي، ص 172.(5/1851)
مستند الاسم التجاري:
يستند الاسم التجاري من حيث نشأته إلى العرف التجاري.
والعرف عامة: هو القواعد التي تنشأ من درج الناس عليها، يتوارثونها جيلًا عن جيل. والتي لها جزاء قانوني كالقانون المسنون سواء بسواء (1) .
والعرف في القانون هو المصدر الثاني بعد النص القانوني يرجع إليه القاضي عند عدم النص في الواقعة.
والقانون التجاري بصفة خاصة مبني في أغلب مسائله على العرف، حيث يبدأ أولًا في مرحلة ما يسمى بـ "العادة الاتفاقية" وهي الشروط التي إذا تكررت بين الأفراد، وتواتر استعمالها في العقود أصبحت معروفة ضمنًا دون حاجة إلى ذكرها. ثم تتحول هذه العادة الاتفاقية إلى عرف ملزم ما دام الناس يتوارثون ذلك، فترتقي العادة إلى أن تصبح عرفًا مستندًا إلى إرادة الجماعة فتصبح قاعدة قانونية عرفية. ثم تتحول القواعد العرفية إلى نصوص قانونية.
فالعرف التجاري: "عبارة عن مجموع ما تعارف عليه التجار فيما بينهم على وفق طريقة معينة، وبشروط معينة قد تكتب أحيانًا، وتصبح مع مرور الأيام مفترضة ضمن التعامل، وفي العقود بينهم دون حاجة إلى النص عليها، وتتواتر الأحكام القضائية على افتراض وجودها، وعندئذ يقال: إنها قد أصبحت عرفًا" (2) . ثم يأتي القانون التجاري فيقنن هذه الأعراف بشروطها وينظمها، وتصبح بعد ذلك ملزمة كالنص القانوني.
وإذا اجتمع العرف الخاص والعام، يقدم العرف الخاص، ويقصد بالعرف الخاص ما تعارف عليه التجار في جهة معينة من البلد، وأما العرف العام فيقصد به ما تعارف عليه التجار في البلاد بأجمعها (3) .
__________
(1) القانون التجاري، للدكتور محمد حسني عباس ص 53، دار النهضة العربية 1966م بمصر
(2) الموجز في شرح قانون التجارة الكويتي، للدكتور عزيز العكيلي – الطبعة الأولى 1398 هـ = 1978م الكويت – عن كتاب الموجز في القانون التجاري، للدكتور محسن شفيق ص 21.
(3) الموجز في شرح قانون التجارة الكويتي ص 20.(5/1852)
العلامة التجارية والصناعية:
هي رمز يتخذه التاجر أو الصانع شعارًا لمنتجاته، أو بضائعه تمييزًا لها عن غيرها، ويقصد تيسير التعرف على مصدرها، وهي من أهم الوسائل التي يتبعها التاجر أو الصانع لتعريف العميل بسلعته وخدماته. وهذا يدفعه إلى تحسين منتجاته ليضمن إقبالًا جيدًا.
ولقد ترتب على انتشار المنتجات الكثيرة وشدة التنافس الاهتمام بالعلامة التجارية للحفاظ على التميز المطلوب، حتى غدا لها قيمة ذاتية.
أشكال العلامات التجارية والصناعية:
قد تأخذ العلامة التجارية والصناعية أشكالًا متعددة مختلفة كالأسماء المتخذة شكلًا مميزًا، والكلمات والإمضاءات والحروف والأرقام والرسوم والرموز، وعنوانات المحال والدمغات والأختام والتصاوير، والنقوش البارزة، وأي علامات أخرى أو أي مجموع منها يستخدم أو يراد به أن يستخدم إما في تمييز منتجات عمل صناعي، أو أية بضاعة، أو للدلالة على مصدر المنتجات أو البضائع أو نوعها، أو مرتبتها أو ضمانها، أو للدلالة على تأدية خدمة من الخدمات (1) .
ويتضح من تعريف العلامات التجارية والصناعية وأشكاله، وظيفة هذه العلامات فهي وسيلة لتيسير تعرف المستهلك على البضائع، وهي في ذات الوقت وسيلة دعائية لضمان العملاء وجودة المنتجات.
العلامة التجارية والاسم التجاري:
تختلف العلامة التجارية عن الاسم التجاري من حيث إن "العلامة التجارية شارة مميزة للمنتجات، بينما الاسم التجاري تسمية للمنشأة التجارية، وقد تشتق العلامة التجارية من الاسم التجاري، أو من العنوان التجاري، ويحميها القانون بوصفها علامة تجارية متى اتخذت علامة مميزة للمنتجات" (2) .
ولكن ينبغي القول هنا أنه رغم وجود الفوارق بين العلامة التجارية، والاسم التجاري، والعنوان التجاري، إلا أن بينها تشابهًا من حيث طبيعة كل باعتبار أنها علامات مميزة لها ارتباط وثيق بالمحل التجاري. ولذلك أوجبت القوانين "عدم التصرف في العلامة التجارية أو الاسم التجاري تصرفًا مستقلا عن المتجر بقصد تنظيم المنافسة بين المنتجين وحماية المستهلك" (3) .
وبالنظر إلى هذا التداخل بين الاسم التجاري وهو الأصل، وبين العلامة التجارية، والعنوان التجاري، وكذلك السمة التجارية، فإننا سنستخدم الاسم التجاري بالمعنى الأعم الشامل لغيره فيما هو من طبيعته، فما يجري عليه يجري على غيره جملة.
التصرف بالعلامة التجارية:
لا تعتبر العلامة التجارية مالًا مستقلًا بذاته، بل هي تابعة لملكية المحل، فلا تنتقل ملكية العلامة مستقلة في أي تصرف كرهن وبيع وما إليه.
ذلك أن العلامة التجارية قد يكون لها اعتبار هام إذا كانت العلامة هي التي تجذب عملاء المحل، وتميزه عن غيره. فتكون – والحال هذه – من مستلزمات المحل التجاري. وعلى ذلك فالأصل أن العلامة التجارية تابعة للمحل التجاري فيما يجري عليه من تصرفات، لكن "يجوز لأطراف العقد الاتفاق على خلاف هذا المبدأ، فيجوز الاتفاق في عقد بيع المتجر على أن البيع لا يشتمل العلامات التجارية" (4) .
وهذا لا يعني أنه يجوز التصرف بالعلامة التجارية منفردة، لكن يجوز أن تستخدم هذه العلامة لمنشأة جديدة أخرى.
ومبدأ منع التصرف في العلامة التجارية مستقلة عن المحل، مختلف فيه عند القانونيين، ومختلف في تطبيقه بين الدول.
ويرى بعض المانعين من التصرف في العلامة التجارية مستقلة عن المحل أن هذا المبدأ يسري "على رهن العلامة والحجز عليها، ولكن يجوز تقرير حق انتفاع على العلامة مستقلة عن المتجر" (5) ، وهذا يعني أن المراد بالمنع القانوني هو منع التصرفات الناقلة للملكية. أما غير الناقلة لها فيجوز.
__________
(1) مبادئ القانون التجاري، للدكتور مصطفى كمال طه 1/456.
(2) التشريع الصناعي، ص 199.
(3) التشريع الصناعي، ص 200.
(4) التشريع الصناعي، ص 233.
(5) التشريع الصناعي ص 238؛ ومبادئ القانون التجاري، للدكتور مصطفى طه 1/462.(5/1853)
رخصة المحل:
وهي التي تجيز استغلال المحل فيما خصص له. وهي عنصر أساسي قد تكون له قيمة كبيرة تبعًا لأهمية المحل من حيث نوع تجارته، وموقعه، وما إلى ذلك، وتعتبر عنصرًا من عناصر المحل التجاري. إلا إذا استبعدها الطرفان أو إذا كانت الرخصة ذات صبغة شخصية إذا روعي في منحها صفات معينة (1) .
العنوان التجاري:
هو تسمية مبتكرة أو رمز يختاره التاجر كشعار خارجي لتمييز محله التجاري عن نظائره، واجتذاب العملاء (2) .
السمعة التجارية:
وهي تسمية مبتكرة تدخل عادة في الاسم التجاري قصد الدعاية، ولفت أنظار المستهلكين. والشركات المساهمة عادة تتخذ لها سمة تجارية، لأن ذكر غرض الشركة صناعيًا، أو زراعيًا، أو غير ذلك لا يكفي لتمييزها عن غيرها من الشركات المماثلة، فيقال مثلًا: "شركة صناعة الأنابيب (المتانة) .
الاتصال بالعملاء:
وهم الأشخاص الذين اعتادوا على الشراء من المحل، ولذا كان هذا من عناصر المحل الجوهرية.
وقد يختلط هذا العنصر بعنصر السمعة التجارية إلى حد كبير.
ويعتبر الاتصال بالعملاء والسمعة التجارية من أهم العناصر التي يتكون منها المحل التجاري "حتى إن من الفقهاء من يعتبر هذا العنصر كافيًا بذاته لوجود المحل التجاري بصرف النظر عن وجود عناصر أخرى" (3) .
ويلحظ بعد هذا: أن العقار ليس داخلًا في عناصر المحل التجاري على الراجح، "لأن المحل مال منقول فلا يسوغ إدخال العقار عنصرًا فيه إلا إذا تقرر أن العقار يتحول إلى مال منقول أو يصبح منقولًا بالتخصيص (4) .
__________
(1) القانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس ص 461؛ ومبادئ القانون التجاري 1/408.
(2) مبادئ القانون التجاري، للدكتور مصطفى طه 1/408, 476
(3) القانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس ص 451.
(4) القانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس ص 466(5/1854)
الفصل الثاني
الحق في القانون
المبحث الأول
تعريف الحق
تمهيد:
سبقت الإشارة إلى أن القانون يعتبر الاسم التجاري من جملة الحقوق، وأن هذه هي طبيعته، ولذا رتب القانون عليه ما يترتب على سائر الحقوق في الجملة وأعطى التاجر حق الملك والاستئثار به، ومنع الغير من الاعتداء على هذه الملكية بأي صورة من صور الاعتداء.
ولما كان ذلك كذلك، لزم أن نعرف الحق وأقسامه وشيئًا من متعلقاته، ولنعرف موقع الاسم التجاري من هذه الحقوق، كيما تصح المناظرة بعد ذلك عند عرض الاسم التجاري على أصول وقواعد الفقه الإسلامي، ووزنه بميزانه.
تعريف الحق: تباينت تعاريف القانونيين للحق تبعًا لمدارسهم التاريخية والموضوعية.
فعرفه بعضهم بأنه: قدرة أو سلطة إرادية، يخولها القانون شخص معين (1) .
وعرفه بعضهم بأنه: "ثبوت قيمة معينة لشخص بمقتضى القانون"، فيكون لهذا الشخص أن يمارس سلطات معينة يكفلها له القانون، بغية تحقيق مصلحة جديرة بالرعاية (2) . وعرفه السنهوري بخصوص المعاملات بأنه: "مصلحة ذات قيمة مالية يقرها القانون للفرد" (3) . وعرفه مطلقًا فقال بأنه: "مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون "، فلا يدخل إذن لا الحقوق العامة ولا الحقوق المتعلقة بالأحوال الشخصية؛ لأنها وإن كانت حقوقًا، فليست ذات قيمة مالية. وعلى ذلك فالتعريف يشمل الحقوق الشخصية والعينية (4) .
ومراد الذين عرَّفوا الحق بأنه مصلحة – وهو تعريف بالموضوع – يقتضي أن كل منفعة حق؛ لأن المصلحة هي المنفعة التي تتوجه إرادة صاحبها إلى تحقيقها بحماية وإقرار القانون، سواء أكانت منفعة مادية أم معنوية.
وعرَّفه آخرون بأنه: "استئثار شخص بمزية يقررها القانون له، ويخوله بموجبها أن يتصرف في قيمة معينة باعتبارها مملوكة أو مستحقة له" (5) .
__________
(1) الملكية في الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد السلام العبادي: 1/103، طبع وزارة الأوقاف عمان الطبعة الأولى 1394 هـ - 1974م. الأردن. عن محاضرات في النظرية العامة للحق الشيخ أحمد أبو سنة، ونظرية الحق، للدكتور جميل الشرقاوي: ص 12-27، وغيرهما.
(2) حق الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص4، الطبعة الثالثة، مطبعة مصطفى الحلبي 1967م بمصر.
(3) الوسيط، للدكتور عبد الرزاق السنهوري: 1/103، وانظر اختلافهم في تعاريف الحق في كتاب الحق، ومدى سلطان الدولة، للدكتور فتحي الدريني: ص 61؛ والملكية، للدكتور عبد السلام العبادي: ص 103.
(4) مصادر الحق في الفقه الإسلامي، للدكتور عبد الرزاق السنهوري: 1/5، مطبعة دار المعارف 1967م بمصر.
(5) الملكية، للدكتور عبد السلام العبادي: 1/105، عن نظرية الحق، للدكتور جميل الشرقاوي: ص 26.(5/1855)
المبحث الثاني
أقسام الحق
يقسم رجال القانون الحقوق إلى عدة أقسام:
- حقوق سياسية ومدنية:
فالحقوق السياسية: هي الحقوق المتقررة للأفراد باعتبار دورهم في النظام السياسي في الدولة. كحق الانتخاب والترشيح.
والحقوق المدنية: هي المصالح المتقررة للأفراد بصفة مباشرة.
- وهذه الحقوق تنقسم بدورها إلى: حقوق عامة وحقوق خاصة.
- والحقوق العامة: هي المتعلقة بكرامة الإنسان وسلامة جسده وحرمة مسكنه وحقه في التملك والتنقل وما إلى غير ذلك.
وأما الحقوق الخاصة: فهي التي تنشأ نتيجة العلاقات والروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع.
- وهذه تنقسم إلى: حقوق الأسرة وهذه تنظمها قوانين الأحوال الشخصية.
- والحقوق المالية: وهي التي يمكن تقويم محل الحق فيها بالنقود. وقد قسمت هذه الحقوق إلى: حقوق عينية، وحقوق شخصية، وحقوق معنوية أو ذهنية.
- والحق العيني: هو سلطة لشخص تنصب مباشرة على شيء مادي معين، كحق الملكية، ومن ثم يستطيع صاحبه أن يباشره دون واسطة شخص آخر. فهذا الحق ينطوي على عنصرين: صاحب الحق ومحل الحق.
والحق الشخصي أو الالتزام: فهو حق يتمثل في رابطة قانونية بين شخصين بمقتضاها يقوم أحدهما وهو المدين قبل الآخر وهو الدائن بأداء مالي معين. كحق مشتري العقار قبل الذي يلتزم بنقل الملكية، وحق المستأجر قبل المؤجر الذي يلتزم بالتمكين من الانتفاع بالعين المؤجرة (1) .
وهذه التفرقة بين الحق العيني والحق الشخصي تفرقة أساسية في القانون المدني. والحق والحق المعنوي: سلطة لشخص على شيء غير مادي، كالأفكار والمخترعات فهي سلطة على شيء معنوي غير مادي يكون ثمرة فكر صاحب الحق أو نشاطه.
- وتقسيم الحقوق العينية إلى: حقوق عينية أصلية، وحقوق عينية تبعية.
فالحقوق العينية الأصلية: هي التي تقوم بذاتها مستقلة بحيث لا تستند في جودها إلى حق آخر تتبعه، وهي تشمل: حق الملكية، والحقوق المتفرعة عن الملكية، وحق الانتفاع، وحق الاستعمال، وحق السكنى، وحق الحكر، وحقوق الارتفاق.
أما الحقوق العينية التبعية فهي: التي لا توجد مستقلة، وإنما تكون تابعة لحق شخصي تضمن الوفاء به، وهي تشمل الرهن الرسمي، والرهن الحيازي، وحق الاختصاص، وحق الامتياز (2) .
ويعنينا ههنا التركيز على الحق المعنوي لصلة موضوع الاسم التجاري به، فيناسبه مزيد بيان وتوضيح.
__________
(1) انظر: نقد هذا التعريف في مصادر الالتزام في قانون التجارة الكويتي مقارنًا بالفقه الإسلامي، وأحكام المجلة، للدكتور عبد الفتاح عبد الباقي: 1/4 وما بعدها. وانظر تقسيم الحقوق أيضًا في الوسيط للسنهوري: 8/8.
(2) حق الملكية، للدكتور عبد المعنم الصده: ص 4 وما بعدها.(5/1856)
الفصل الثالث
الحقوق المعنوية
المبحث الأول
تعريف الحقوق المعنوية وطبيعتها
تعريف الحق المعنوي - كما سبق القول – حق يرد على شيء غير مادي، سواء أكان نتاجًا ذهنيًا كحق المؤلف في المصنفات العملية أو الأجنبية، أم في المخترعات الصناعية. أم كان ثمرة لنشاط يجلب له العملاء، أي أن الحق يرد ها هنا على قيمة من القيم، كحق التاجر في الاسم التجاري، والعلامة التجارية، ويترتب على هذا حق احتكار واستغلال هذه الثمرة أو هذا النشاط أو النتاج.
ويقول الدكتور السنهوري: "إن أكثر الحقوق المعنوية حقوق ذهنية، والحقوق الذهنية حق المؤلف وهو ما اصطلح على تسميته بالملكية الأدبية والفنيّة، والحقوق المتعلقة بالرسالة وهي ما اصطلح على تسميتها بملكية الرسائل، وحق المخترع وهو ما اصطلح على تسميته بالملكية الصناعية.
والحقوق التي ترد على ما يتكون منه المتجر والتي اصطلح على تسميتها هي وسندات التداول التجارية بالملكية التجارية. ويجمع ما بين هذه الحقوق جميعًا أنها حقوق ذهنية (1) .
__________
(1) الوسيط، للسنهوري: 8/276(5/1857)
طبيعة الحقوق المعنوية:
اختلف رجال القانون في تكييف الحقوق المعنوية، وتوزعت أقوالهم في ذلك إلى مذاهب متعددة.
فذهب بعضهم إلى أن الحق المعنوي لا يعتبر نوعًا من أنواع الحقوق بالإضافة إلى الحقين الآخرين وهما: الحق العيني، والحق الشخصي، بل هو حق داخل ضمن الحقوق العينية ذلك أن الحق العيني يشمل الشيء ماديًا كان أو معنويًا. ثم اختلفوا حول طبيعة هذا الحق المعنوي، هل هو حق ملكية أم لا؟
وأطلق على هذه الحقوق عدة تسميات: فأطلق عليها اسم "الملكية الأدبية والفنية والصناعية" باعتبار أن حق الشخص على إنتاجه الذهني حق الملكية.
وقد نوقش هذا الرأي من ناحية أن الحقوق المعنوية، يرد الحق فيها على شيء غير مادي. أي لا يدخل في عالم الحسيات، ولا يدرك إلا بالفكر المجرد، فهو حتمًا يختلف عن الشيء المادي الذي يدرك بالحس. ومن جانب آخر فإن "المادة تؤتي ثمارها بالاستحواذ عليها، والاستئثار بها أما الفكر فعلى النقيض من ذلك، يؤتي ثماره بالانتشار لا بالاستئثار. فطبيعة الملكية تتنافى مع طبيعة الفكر من ناحيتين: الأولى: أن الفكر لصيق بالشخصية. والثانية: أن الفكر حياته في انتشاره لا في الاستئثار به، ونخلص من ذلك إلى أن حق المؤلف أو المخترع ليس حق ملكية، بل هو حق عيني أصلي، يستقل عن حق الملكية بمقوماته الخاصة، وترجع هذه المقومات إلى أنه يقع على شيء غير مادي" (1) .
ومن ناحية أخرى: فإن حق الملكية حق مؤبد، في حين أن الحق المعنوي حق مؤقت بطبيعته وذهب آخرون إلى إطلاق عنوان " الحقوق الذهنية " على هذه الحقوق تحاشيًا للملاحظات التي أبديت لمفارقة حق الملكية عن الملكية المعنوية.
وقد ورد هذا بأن "هناك إلى جانب الأشياء المادية التي ترد عليها الملكية العادية أشياء غير مادية للتملك بحيث إن الحقوق التي ترد عليها لا تعدو أن تكون صورًا خاصة للملكية يمكن أن يقال عنها أنها ملكية غير عادية" (2) .
وذهب آخرون إلى إطلاق عنوان "الحقوق التي ترد على أموال غير مادية". وقد رد هذا: "بأنه لم يعن ببيان الخصائص الأساسية لهذه الحقوق في المجال المالي لإظهار الفارق بينها وبين الحقوق العينية والشخصية، إذ أن تلك الحقوق كما هو الشأن في الأموال المادية، يمكن الانتفاع بها والتصرف فيها بمقتضى عقد" (3) .
وذهب آخرون إلى إطلاق عبارة"الحقوق المتعلقة بالعملاء"، وذلك نظرًا إلى موضوع هذه الحقوق وهو الأشياء التي من إبداع الذهن أو القيمة التجارية، وأن هذين الأمرين تتحدد قيمتهما جميعًا بحسب ما يجتذب إليها من العملاء.
وقد أخذ على هذا الإطلاق، أنه قد يصدق على الحقوق التي ترد على قيم تجارية، كالاسم التجاري مثلًا، لكنه لا يصدق على حقوق المؤلفين بذات الدرجة، لأنها قد تكون إنتاجًا ذهنيًا مستقلًا كحق المؤلف الأدبي المتميز عن الحق المالي.
ورجح آخرون أن طبيعة الحق المعنوي أنه "صورة خاصة من الملكية" باعتبار أن عناصر الملكية موجودة في هذا النوع من الحقوق، "فلا مفر من التسليم بأننا بصدد حق ملكية، وكل ما هنالك أن الملكية هنا تعتبر صورة خاصة للملكية، حيث إنها ترد على شيء غير مادي. ومقتضى هذا الفارق أن تختص الملكية المعنوية بأحكام تختلف عن أحكام الملكية العادية، ولا يقدح في هذا النظر أن يقال: إن الحق المعنوي في أغلب صوره ليس مؤبدًا، لأن التأييد ليس خاصة جوهرية لحق الملكية" (4) .
__________
(1) الوسيط، للسنهوري: 8/279.
(2) حق الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 295.
(3) حق الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 295.
(4) حق الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 297؛ والوسيط: 8/281.(5/1858)
المبحث الثاني
حقوق الملكية الصناعية (الابتكار والاسم التجاري)
تعريف حقوق الملكية الصناعية: هي حقوق استئثار صناعي، أي هي حقوق تخول صاحبها أن يستأثر قبل الكافة باستغلال ابتكار جديد أو استغلال علامة مميزة.
وتهدف حقوق الملكية الصناعية إلى الاتصال بالعملاء عن طريق استئثار المنتج باستغلال ابتكار جديد، أو تمييز منتجٍ له، أو متجره بعلامات مميزة.
وعلى هذا "فتشمل حقوق الملكية الصناعية براءات الاختراع والعلامات التجارية المميزة والرسوم والنماذج الصناعية" (1) .
فحقوق الملكية الصناعية نوعان رئيسيان:
حقوق الاختراع والابتكار؛ وحقوق العلامات التجارية والرسوم.
أولا – حق الاختراع والابتكار:
وهو الحق فيما يسمي "براءة الاختراع وهي من أقدم إسناد الملكية الصناعية" (2) . وهي جهد ذهني أدى إلى إيجاد شيء أو نظرية لم يكن معروفًا. واصطلح على تسمية ذلك حقوق الملكية الفنية والأدبية، وهذه الحقوق تنشأ في البيئة العلمية والأدبية والفنية. وقد يمتد استغلال تلك الحقوق إلى البيئة التجارية.
وحقوق الملكية الصناعية التي تقوم على ابتكارات جديدة قد تتعلق بابتكار من حيث موضوع المنتجات. وهي براءة الاختراع، وقد تتعلق بابتكار جديد من حيث شكل المنتجات، وتلك هي الرسوم والنماذج الصناعية.
وعلى هذا فموضوع الحق في براءة الاختراع غير موضوع الحق في حق الرسوم، والنماذج الصناعية. فالحق في الأول: ينصب على ابتكار جديد من حيث الموضوع، فيستأثر صاحبه برخصة صناعية جديدة فيحتكر إنتاجًا صناعيًا جديدًا.
وأما في الثاني: فعنصر الابتكار يرد على الشكل الذي تصب فيه المنتجات كرقم أولون مبتكر في ثوب، أو زخرفة أو نماذج جديدة لتصميم سيارة وما إلى ذلك من المظاهر الخارجية.
__________
(1) القانون التجاري، علي حسن يونس: ص 457.
(2) الوجيز في الملكية الصناعية والتجارية، للدكتور صلاح الدين الناهي: ص 60، الطبعة الأولى دار الفرقان 1403 هـ - 1983م الأردن.(5/1859)
ثانيًا – العلامات التجارية والرسوم:
حق الملكية الصناعية والتجارية يتضمن حق المنتج في احتكار استعمال علامة تميز منتجاته، أو تميز متجره أو تميز بلد الإنتاج. فحق المنتج في احتكار علامة تميز منتجاته عن مثيلاتها هو الحق في العلامات التجارية والصناعية، وحق المنتج في احتكار علامة تميز المصنع أو المتجر هو الحق في الاسم التجاري.
أما الرسوم والنماذج الصناعية: فيقصد بها تلك اللمسات الفنية، والرسوم والألوان والشكل المنتج، والتي من شأنها أن تستجلب نظر واهتمام العملاء، وحرصهم بعد ذلك على هذا النوع من البضاعة.
وهي بهذه الصفة تجمع بين أمرين: النموذج الصناعي: وهي هذه الرسوم والنماذج أو القوالب الصناعية التي تتميز بها هذه البضاعة، والنموذج الفني وهي الناحية الجمالية والذوقية التي تحملها وتمثلها هذه الرسوم والأرقام وما إلى ذلك.
والرسوم والنماذج الصناعية ترتبط بمظهر المنتج الخارجي، ولا علاقة لها بموضوع المنتج. ومن هنا يتضح الفرق بين الابتكار والرسوم أو النماذج الصناعية. فالابتكار هو اكتشاف منتج جديد على غير سابق مثيل، بينما إخراج هذا المنتج بشكل وطابع وتصميم فني وجمالي هو النموذج الصناعي.
ولهذا فقد يكون الارتباط بين الابتكار أو الاختراع، وبين الرسوم والنماذج الصناعية وثيقًا لا يمكن فك الارتباط بينهما فيكون الحق في الرسوم والنماذج تابعًا لحق الاختراع لأنه الأصل.
وقد لا يكون بينهما مثل هذا الترابط، فيكون لكل منهما صفته وما يتبعها من حقوق (1) .
__________
(1) التشريع الصناعي: ص 136 وما بعدها؛ والوجيز في الملكية الصناعية والتجارية، للدكتور صلاح الدين الناهي: ص 211 بتصرف.(5/1860)
التكييف القانوني لحقوق الملكية الصناعية:
جرى الفقه القانوني على تقسيم الحقوق المالية – كما سبقت الإشارة – إلى حقوق عينية وحقوق شخصية، والحق العيني أرادوا منه: سلطة مباشرة لشخص معين , والحق الشخصي: هو رابطة قانونية بين شخصين. أحدهما دائن والآخر مدين، ولقد اتجه الفقه بادئ الأمر إلى إدخال هذه الحقوق في دائرة الحقوق العينية، لما لمسوه من تشابه بين حق الملكية وحق الملكية الصناعية من حيث إن كلًّا منهما يعطي صاحبه سلطة احتكار واستغلال الشيء موضوع الحق (1) .
لكنهم رأوا فيما بعد ذلك أن هذا التشابه لا يكفي في إلحاق الحقوق الصناعية بالحق العيني، ذلك أن الحق العيني سلطة لصاحب الحق على شيء معين بذاته، أما حقوق الملكية الصناعية كبراءة الاختراع فيرد على شيء غير مادي له قيمة اقتصادية، أما ملكيته للآلة فهي حق ملكية على شيء مادي.
وهذا فارق جوهري بين طبيعة كل من الحقين، ومتى اختلف الموضوع بين أمرين لم يعد من اللائق الجمع بينهما في طبيعة واحدة. ومن جانب آخر ذهب فقهاء القانون إلى أن حقوق الملكية الصناعية تختلف عن الحقوق الشخصية: باعتبارها تمثل علاقة أو رابطة قانونية بين دائن ومدين بينما حقوق الملكية الصناعية تمثل سلطة استئثار باستغلال ابتكار جديد أو علامة مميزة.
ونظرًا لهذا الاختلاف بين حق الملكية الصناعية من حيث طبيعتها وبين الحقوق العينية والحقوق الشخصية ناسب إضافة قسم ثالث يمكن أن يندرج تحته حق الملكية الصناعية وحق الملكية الأدبية والفنية واصطلح على تسميته "حقوق الملكية المعنوية" – كما سبقت الإشارة-.
ولكن وجد أنه حتى هذه التسمية فيها قصور عن التعبير عن طبيعة هذه الحقوق من حيث إن حق الملكية يتضمن عناصر ثلاثة: هي الاستعمال والاستغلال والتصرف. وهذه لا تتوافر جميعها في حقوق الملكية الصناعية، فالحق في براءة الاختراع لا يتضمن عنصر الاستعمال لأنه غير مادي حتى يمكن استعماله لخاصة نفسه.
ومن ناحية ثانية وجد أن الحق في براءة الاختراع، والحق في الرسوم والنماذج الصناعية وحقوق الملكية الأدبية والفنية كلها حقوق مؤقتة.
ولذا رأى بعض القانونيين وضع اصطلاح آخر لهذ الحقوق سمي "الحقوق الخاصة بالإنتاج الذهني" باعتبار أن جوهر وموضوع هذه الحقوق هو الابتكار الذهني.
وقد رد هذا الرأي أيضًا لأنه لا يطابق الواقع في كل الحالات، فإن الابتكار ليس هو العنصر الجوهري في العلامات المميزة التي تكون محلًا للحق في العلامة التجارية أو الصناعية أو الاسم التجاري، بل إن جوهر الحق هنا إنما يدور حول مجرد "العلامة المميزة" للمتجر أو المنتجات.
ورأى آخرون أن حقوق الملكية الصناعية ما دامت استئثار صاحب الحق باستغلال حقه قبل العملاء والاتصال بهم، فهذا موضوع هذه الحقوق، ولذا أطلقوا على هذه الحقوق "حقوق الاتصال بالعملاء".
وقد رد هذا الرأي أيضًا في تكييف هذه الحقوق بأن "حقوق الاتصال بالعملاء" هو عنصر من عناصر المتجر، وأن هذا الاصطلاح يقتصر على حقوق الملكية الصناعية دون حقوق الملكية الأدبية والفنية فهو اصطلاح قاصر (2) .
ويرى البعض أن التكييف القانوني الصحيح لهذه الحقوق هي: " أنها من قبيل: الحقوق التي ترد على أشياء غير مادية " (3) . وقد أخذ على هذا الاتجاه أنه لم يعن ببيان الخصائص الأساسية لهذه الحقوق في المجال المالي لإظهار الفارق بينها وبين الحقوق العينية والشخصية.
وعلى هذا فالحقوق المعنوية مهما اختلف في طبيعتها إلا أن عناصرها التي لا خلاف في وجودها في هذه الحقوق ثلاثة يشير مجموعها إلى أن هذه الحقوق هي حقوق ملكية خاصة لأنها ترد على شيء غير مادي.
وهذه العناصر الثلاثة هي:
الأول: أنها ترد على شيء معنوي أو غير مادي.
والثاني: أن هذا الشيء يكون ثمرة لعمل صاحب الحق الذهني أو لنشاطه، فهو إما أن يكون نتاجًا ذهنيًا أو قيمة من القيم التجارية، والثالث: أنها تخول صاحبها احتكار واستغلال ذلك النتاج أو هذه القيمة سواء بالانتفاع أو بالتصرف (4) .
__________
(1) التشريع الصناعي، للدكتور محمد حسني عباس: ص 13 وما بعدها؛ وحق الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 294؛ والوجيز في الملكية الصناعية والتجارية، للدكتور صلاح الدين الناهي: ص 17.
(2) التشريع الصناعي: ص 17 وما بعدها؛ والملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 295. بتصرف.
(3) الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 296؛ والتشريع الصناعي: ص 22.
(4) الملكية، للدكتور عبد المنعم الصده: ص 297.(5/1861)
المبحث الثالث
حق المنفعة
يعتبر موضوع "المنفعة" موضوعًا وثيق الصلة بموضوع الاسم التجاري وما في حكمه، بل هو صلب الموضوع، ذلك أنه إذا ثبت أن الاسم التجاري منفعة، فسينطبق عليه أحكام "حق المنفعة" ومن هنا لزم معرفة المنفعة بتحرير معناها كحق وبيان أحوالها وأحكامها.
تعريف حق المنفعة:
حق المنفعة هو حق استغلال أشياء يملكها شخص آخر، كما يستغلها المالك نفسه، لكن بشرط المحافظة على كيانها، ويعرف أيضًا بأنه: الحق العيني في الانتفاع بشيء مملوك للغير، بشرط الاحتفاظ بذات الشيء لرده إلى صاحبه عند نهاية حق الانتفاع، الذي يجب أن ينتهي حتمًا بموت المنتفع (1) .
ويترتب على حق المنفعة أمور:
أولًا: أنه حق عيني، ولذلك عالجه القانون ضمن الحقوق المتفرعة عن حق الملكية، ويترتب على اعتباره حقًا عينيًا جواز الاحتجاج به على الناس كافة (2) .
وثانيًا: أنه حق ينتهي بموت المنتفع، فإذا مات المنتفع يرجع حق الانتفاع إلى مالك الرقبة، فإن حدد حق المنفعة بأجل، انتهى حق المنفعة بانتهاء الأجل. فإن مات المنتفع قبل انقضاء الأجل فإن حق المنفعة ينتهي بالرغم من عدم انقضاء الأجل.
وثالثًا: أنه حق يقع على شيء غير قابل للاستهلاك؛ لأن الشيء محل الانتفاع يجب رده إلى المالك عند انتهاء حق الانتفاع.
__________
(1) الوسيط للسنهوري: ص 9/1201.
(2) ورغم أن حق المنفعة كحق الإيجار حق في الانتفاع إلا أنه بينهما الفروق التالية: أولًا: أن المنتفع له حق عيني يقع مباشرة على الشيء المنتفع به ولا يتوسط بينهما مالك الشيء، ويترتب على ذلك أن المالك ليس ملزمًا قبل المنتفع بتمكينه من الانتفاع، بل إن كل ما عليه هو ألا يتعرض للمنتفع في مباشرته لحقه. أما حق المستأجر فإنه حق ينصب في ذمة المؤجر، ولهذا يتوجب على الأخير (أي المؤجر) ، أن يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة. ثانيًا: لما كان حق المنفعة عينيًا لذلك فهو يعتبر حجة على الناس كافة. في حين أن حق المستأجر لا يكون حجة إلا على المؤجر وخلفه العام لأنه حق شخصي. ثالثًا: أن حق المنفعة قد يكون عقاريًا أو منقولًا بحسب العين التي ينصب عليها هذا الحق. وإذا كان عقاريًا جاز للمنتفع رهنه تأمينًا. في حين أن حق المستأجر لا يجوز رهنه رهنًا تأمينًا، ولو كانت العين المؤجرة عقارًا؛ لأن هذا الحق شخصي ولا يعتبر مالًا عقاريًا بل مالًا منقولًا. انظر محاضرات في الحقوق العينية الأصلية، للدكتور سعيد عبد الكريم مبارك: ص 270، طبع دار الطباعة الحديثة 1969م-1970م البصرة.(5/1862)
أسباب كسب حق المنفعة:
يكسب حق المنفعة بالعقد والوصية والتقادم. فالعقد يعتبر سببًا لكسب حق المنفعة. ويلزم تجديد مدة حق المنفعة في العقد، فإن لم تجدد عد مقررًا مدى حياة المنتفع، وهو ينتهي على كل حال بموت المنتفع حتى قبل انقضاء المدة المحددة له.
والوصية: ويكون كسب حق المنفعة بطريق الوصية، بأن يوصي مالك العين بالرقبة لشخص معين، فيبقى حق الانتفاع للورثة.
وأما التقادم: فيصلح أن يكون سببًا لكسب حق المنفعة لأنه في حكم الحيازة الواردة على حق المنفعة دون العين، فإذا كانت الحيازة منصبة على العين فإنها تكون في هذه الحالة سببًا لكسب ملكية العين بما فيها حق المنفعة (1)
حقوق المنتفع:
تتلخص حقوق المنتفع في الآتي:
1- حق الاستعمال: ويشمل حينئذ الشيء المنتفع به وتوابعه. كالأرض المنتفع بها مع حقوق الارتفاق.
2- حق الاستغلال: وهو الحصول على ثمار الشيء وغلته مدة انتفاعه به.
3- حق التصرف: فللمنتفع أن يتصرف في حقه بمقابل أو بدون مقابل، فله أن ينقل حقه إلى الغير بالبيع أو التنازل، وله أن يؤجر العين محل الانتفاع (2)
__________
(1) ورغم أن حق المنفعة كحق الإيجار حق في الانتفاع إلا أنه بينهما الفروق التالية: أولًا: أن المنتفع له حق عيني يقع مباشرة على الشيء المنتفع به ولا يتوسط بينهما مالك الشيء، ويترتب على ذلك أن المالك ليس ملزمًا قبل المنتفع بتمكينه من الانتفاع، بل إن كل ما عليه هو ألا يتعرض للمنتفع في مباشرته لحقه. أما حق المستأجر فإنه حق ينصب في ذمة المؤجر، ولهذا يتوجب على الأخير (أي المؤجر) ، أن يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة. ثانيًا: لما كان حق المنفعة عينيًا لذلك فهو يعتبر حجة على الناس كافة. في حين أن حق المستأجر لا يكون حجة إلا على المؤجر وخلفه العام لأنه حق شخصي. ثالثًا: أن حق المنفعة قد يكون عقاريًا أو منقولًا بحسب العين التي ينصب عليها هذا الحق. وإذا كان عقاريًا جاز للمنتفع رهنه تأمينًا. في حين أن حق المستأجر لا يجوز رهنه رهنًا تأمينًا، ولو كانت العين المؤجرة عقارًا؛ لأن هذا الحق شخصي ولا يعتبر مالًا عقاريًا بل مالًا منقولًا. انظر محاضرات في الحقوق العينية الأصلية، للدكتور سعيد عبد الكريم مبارك: ص 270، طبع دار الطباعة الحديثة 1969م-1970م البصرة. ص 270 -274 وحق الملكية للدكتور عبد المنعم الصده:ص796 بتصرف
(2) محاضرات في الحقوق العينية الأصلية، للدكتور سعيد عبد الكريم مبارك: ص 275 بتصرف(5/1863)
المبحث الرابع
المال والشيء
المال: هو الحق ذو القيمة سواء أكان عينيًا، أم شخصيًا، أم حقًا من حقوق الملكية الأدبية والفنية والصناعية.
والشيء هو محل الحق سواء أكان ماديًا، أم غير مادي (1) .
فالشيء محل الحق – والحال هذه – متنوع كالحقوق العينية الأصلية والتبعية، والحقوق الشخصية وحقوق الملكية الأدبية والفنية، والصناعية والتجارية.
وقد قسم القانونيون الأشياء إلى: أشياء قابلة للتعامل، وأشياء غير قابلة للتعامل. وهذا القسم الأخير، وإن سمي شيئًا إلا أنه لا تترتب عليه حقوق مالية. ويتنوع الشيء غير القابل للتعامل إلى نوعين:
الأول: الأشياء الخارجية عن التعامل بطبيعتها، وهي التي لا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها، فيمكن أن ينتفع بها كل الناس، من غير أن يحول انتفاع بعضهم دون انتفاع بعضهم الآخر، كالهواء وماء البحر.
والثاني: الأشياء الخارجة عن التعامل بحكم القانون، وذلك إما لأغراض صحية، أو اجتماعية كالمنع من التعامل بالمحظور من الحشيش والأفيون، وإما لتعلق المنافع المشتركة لجميع الناس ببعض الأشياء، كالمنع من التعامل بالأموال العامة، كالطرق والحدائق (2) .
__________
(1) الوسيط، للسنهوري: 8/8.
(2) الملكية، للدكتور عبد السلام العبادي: 1/194، عن الأعمال التحضيرية، للدكتور عبد الرزاق السنهوري: 1/460.(5/1864)
الفصل الرابع
الحق في الفقه الإسلامي
تمهيد:
هذا هو القسم الثاني في الموضوع، وهو الجانب الشرعي منه بعد أن اتضح موضوع الاسم التجاري وما في حكمه من جميع جوانبه القانونية حتى أصبح تكييفه ووزنه بميزان الشرع أمرًا صحيحًا علميًا لابتنائه على تصور قانوني شامل لموضوعه ما دام المطلوب بيان الحكم الشرعي لما عليه الاسم التجاري في القانون الوضعي.
المبحث الأول
تعريف الحق
تعريف الحق لغة: ذكر اللغويون للحق معاني كثيرة أخصها أنه: خلاف للباطل، والموجود الثابت، يقال: حققت الأمر أحقه إذا أوجبته أو جعلته ثابتًا أو تيقنته (1) .
وفي الاصطلاح: عرفه عبد العزيز البخاري بما لا يخرج عن المعنى اللغوي، فقال: "الموجود من كل وجه الذي لا ريب فيه في وجوده، ومنه السحر حق والعين حق أي موجود بأثره"، ثم قال: "وحق العبد ما يتعلق به مصلحة خاصة" (2) .
وقال الدسوقي: "الحق جنس يتناول المال وغيره" (3) .
وعرفه القاضي حسين بقوله: "الحق: اختصاص مظهر فيما يقصد له شرعًا" (4) .
وعرفه الشيخ علي الخفيف بأنه: "ما ثبت لإنسان بمقتضى الشرع من أجل صالحه" (5) .
وعرفه الشيخ مصطفى الزرقا بأنه: "اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفًا" (6) . وهذه التعاريف تلتقي في بيان حقيقة الحق، غاية ما هنالك أن بعضها راعى موضوع الحق وأنه مصلحة، وبعضها راعى صاحب المصلحة من حيث اختصاصه وتصرفه بموضوع الحق.
والذي نراه في تعريفه أنه: "مصلحة شرعية تُخَوِّل صاحبها الاختصاص أو ترتيب التكليف". والرضى بهذا التعريف لما تضمنه لموضوع الحق وهو المصلحة، وما يترتب على ذلك من علاقة أو اختصاص لصاحب المصلحة فردًا كان أو جماعة تخوله سلطة ومنعًا للغير من الاعتداء على هذا الحق سواء أكان سلطة أو ولاية على شخص أو على شيء أو هي تكليف من الله على عباده أو فيما بين العباد أنفسهم.
__________
(1) لسان العرب، لابن المنظور؛ والمصباح المنير، مادة: حق
(2) كشف الأسرار عن أصول البرزدوي للإمام عبد العزيز البخاري: 4/134، طبعة 1394 هـ - 1974م بمصر – والبحر الرائق، شرح كنز الدقائق، للإمام زين الدين بن نجيم: 6/148، الطبعة الثانية بمصر.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/457.
(4) الملكية في الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد السلام العبادي: ص 96، عن كتاب طريقة الخلاف بين الشافعية والحنفية، للقاضي أبي علي الحسين بن محمد المروزي، مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 1523. وقال الدكتور عبد السلام عن هذا التعريف: إن له وزنه وقيمته العلمية من عدة نواح: الأولى: أنه عرف الحق بأنه اختصاص، وهو تعريف يبرز ماهية الحق بشكل يميزه عن غيره، الثانية: أن تعريف الحق بأنه اختصاص يتفق مع آخر ما وصل إليه البحث القانوني. الثالثة: أن وصف هذا الاختصاص بأنه "مظهر ... " يبين أن طبيعة هذا الاختصاص تقوم على وجود آثار وثمار يختص بها صاحب الحق دون غيره في الأشياء التي شرع الحق فيها، وهي قد تكون مادية أو معنوية. الرابعة: أنه تعريف أحد فقهاء القرن الخامس الهجري مما يدل على أن فقهاء الشريعة القدامى عرفوا الحق تعريفًا صحيحًا.
(5) أحكام المعاملات الشرعية، للدكتور علي الخفيف: ص 28. الطبعة الثانية 1363هـ- 1944م بمصر.
(6) المدخل إلى نظرية الالتزام العامة، للشيخ مصطفى الزرقا:2/11، الطبعة الثالثة مطبعة الجامعة 1377 هـ - 1958م دمشق.(5/1865)
المبحث الثاني
أقسام الحقوق عند الأصوليين والفقهاء
قسم الأصوليون الحقوق بالنظر إلى مستحقها إلى أقسام:
أولها: حق الله، وهو: "ما يتعلق به النفع العام لجميع العالم، فلا يختص به واحد دون واحد"، وإضافته إلى الله تعالى لتعظيم خطره وشمول نفعه لا للملك والاختصاص لاستواء العالم فيه، ولا للنفع والضرر لتعاليه.
ثانيها: حق العبد: "ما يتعلق به مصلحة خاصة" كحرمة مال الغير، ولهذا ويباح ماله بإباحة المالك، ولا يباح الزنا بإباحة المرأة.
ثالثها: اجتماع الحقين، فقد يجتمع الحقان، وحق الله غالب، وقد يجتمعان وحق العبد هو الغالب (1) .
ويرى الإمام القرافي وغيره – وهو الصواب – أن حق العبد متضمن في حق الله، لأن الحقوق جميعًا مرجعها إلى الله تبارك وتعالى، فيقول: "ما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى". فيوجد حق الله تعالى دون حق العبد، ولا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله (2) . أي فبينهما عموم وخصوص مطلق. ثم بيَّن علامة التفريق بين الحقين، بقوله: "وإنما يعرف ذلك بصحة الإسقاط، فكل ما للعبد إسقاطه فهو الذي نعني به حق العبد (3) .
وقال الشاطبي: "إنَّ كل حكم شرعي ليس بخال عن حق الله تعالى وهو جهة التعبد ... فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردًا، فليس كذلك بإطلاق، بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية" (4) .
__________
(1) شرح المنار وحواشيه من علم الأصول، للإمام عبد العزيز بن ملك على متن المنار، للإمام عبد الله حافظ الدين النسفي وعليه حاشيتا الإمامين: عزمي زاده وابن الحلبي: ص 886، طبع دار سعادة 1315هـ استانبول. والبحر الرائق؛ شرح كنز الدقائق للإمام زين الدين بن نجيم: 6 / 148، الطبعة الثانية:0 وكشف الأسرار، للبرزدوي: 4 / 134. وحقوق الله تعالى ثمانية أنواع: عبادات خالصة كالإيمان وفروعه، وعقوبات كاملة كالحدود، وعقوبات قاصرة مثل حرمان الميراث، وحقوق دائرة بين العبادة والعقوبة كالكفارات، وعبادة فيها معنى المؤنة كصدقة الفطر، ومؤنة فيها معنى العبادة كالعشر، ومؤنة فيها معنى العقوبة كالخراج، وحق قائم بنفسه كخمس الغنائم والمعادن. انظر: المرجع ذاته.
(2) الفروق، للإمام شهاب الدين القرافي: 1/141، مطبعة دار إحياء الكتب العربية الطبعة الأولى 1346 هـ بمصر.
(3) الفروق، للإمام شهاب الدين القرافي: 1/141، مطبعة دار إحياء الكتب العربية الطبعة الأولى 1346 هـ بمصر.
(4) الموافقات في أصول الأحكام، للإمام أبي إسحاق إبراهيم اللخمي الشاطبي: 2/333، مطبعة المدني بمصر.(5/1866)
وعلى هذا ينقسم الحق بالنظر إلى التكاليف الشرعية أقسامًا:
أولهما: ما كان حق الله تعالى فيه خالصًا كالإيمان.
وثانيهما: ما كان حق العبد فيه خالصًا كالديون.
وثالثها: ما اجتمع فيه الحقان، وحق الله غالب كحد القذف.
ورابعها: ما اجتمع فيه الحقان، وحق العبد غالب كالقصاص (1) .
ويقسم الفقهاء الحقوق باعتبار مضمونها: إلى حقوق مالية، وحقوق غير مالية. فالحقوق المالية: هي المتعلقة بالأموال ومنافعها، وهذه تشمل الحقوق الواردة على الأعيان والمنافع والديون.
والحق قد يكون حقًا ماليًا شخصيًا إذا كان حقًا شرعيًا لشخص على آخر، كحق المشتري في تسلم المبيع، وحق البائع في تسلم الثمن.
وقد يكون الحق ماليًا عينيًا إذا كان حقًا شرعيًا لشخص على شيء، "فإذا اغتصب شخص شيئًا من آخر، فإن حق المغصوب منه المتعلق بهذا الشيء حق عيني، أما حق المغصوب منه قِبَلَ الغاصب في أن يرد الشيء المغصوب، فهو حق شخصي" (2) .
__________
(1) المنار وشروحه: 886، والفروق: 1/140، و141 مع مراعاة أن الفقهاء مختلفون في تغليب أي الحقين في بعض الفروع. كما في حد القذف.
(2) الشريعة الإسلامية تاريخها ونظرية الملكية والعقود، للدكتور بدران أبو العينين بدران: ص 301 نشر مؤسسة شباب الجامعة بمصر(5/1867)
والحقوق غير المالية: هي التي لا تعلق لها بالمال كحق ولي المقتول في القصاص والعفو. وهذا التقسيم مأخوذ من جملة تقسيمات الفقهاء للحقوق. وقد قسم ابن رجب: الحقوق إلى خمسة أنواع:
أحدها: حق ملك، كحق السيد في مال المكاتب.
والثاني: حق تملك، كحق الأب في مال والده.
والثالث: حق الانتفاع، كوضع الجار خشبه على جدار جاره إذا لم يضره به.
والرابع: حق الاختصاص: وهو عبارة عما يختص بالانتفاع به، كمرافق الأسواق المتسعة التي يجوز البيع والشراء فيها، كالدكاكين المباحة ونحوها، فالسابق إليها أحق بها.
والخامس: حق التعلق لاستيفاء الحق، كتعلق حق المرتهن بالرهن، وتعلق حق الغرماء بالتركة (1) .
وقال ابن قدامة: "الحقوق على ضربين: أحدهما: ما هو حق لآدمي، والثاني: ما هو حق لله تعالى.
فحق الآدمي ينقسم قسمين:
أحدهما: ما هو مال أو المقصود منه المال.
الثاني: ما ليس بمال ولا المقصود منه المال، وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين، كالقصاص وحد القذف والنكاح والطلاق ...
والضرب الثاني: حقوق الله تعالى، وهي نوعان:
أحدهما: الحدود.
الثاني: الحقوق كدعوى الساعي الزكاة على رب المال، وأن الحول قد تم وكمل النصاب (2) .
__________
(1) القواعد في الفقه الإسلامي، للإمام عبد الرحمن بن رجب الحنبلي: ص 1200، القاعدة الخامسة والثمانون بتصرف الطبعة الأولى 1392 هـ - 1973م بمصر.
(2) المغني: 10/213، و214.(5/1868)
ويقسم الفقهاء الحقوق إلى حق مجرد وحق غير مجرد أو متقرر، فالحق المجرد: ما كان غير متقرر في محله أي لم يقم بمحل ولم يتقرر في ذات، كحق الشفعة، فإنه نوع من الولاية أعطيت للشفيع في أن يتملك العقار بعد أن يتملكه المشتري، ومثله حق المرور بالنسبة للطريق ...
وغير المجرد: هو مالَهُ تعلق بمحله تعلق استقرار، بمعنى أن لتعلقه أثرًا أو حكمًا قائمًا يزول بالتنازل عنه، وذلك كحق القصاص، فإنه يتعلق برقبة القاتل ودمه، ومع قيامه يكون غير معصوم بالنسبة لولي القصاص، ولكن بالتنازل عنه يصير معصوم الدم (1) .
والحقوق المجردة عند الحنفية لا يجوز الاعتياض عنها، ولذا قالوا: لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة عن الملك كحق الشفعة، وقال في البدائع الحقوق المفردة لا تحتمل التمليك. ولا يجوز الصلح عنها، وأضاف ابن عابدين قوله، وكذا لا تضمن بالإتلاف. قال في شرح الزيادات للسرخسي: وإتلاف مجرد الحق لا يوجب الضمان، وعلل لذلك بأن الاعتياض عن مجرد الحق باطل إلا إذا فوت حقًا مؤكدًا. فإنه يلحق بتفويت حقيقة الملك في حق الضمان. وهذا القيد يقرب مذهب الحنفية هنا إلى رأي من قال بجواز الاعتياض دون تفصيل بين الحقوق.
وألحق الزيلعي وابن نجيم بعدم جواز الاعتياض عن حق الشفعة، الاعتياض عن الوظائف في الأوقاف واستثنى من قاعدة عدم جواز الاعتياض عن الحقوق المجردة حق القصاص، وملك النكاح، وحق الرق، فإنه يجوز الاعتياض عنها.
وتنازع الحنفية في عدم قبول الاعتياض عن الوظائف، نظرًا لاعتبار كثير منهم للعرف الخاص، وهذا منه، وعليه أفتوا بجواز النزول عن الوظائف بمال (2) .
وهذا يشير إلى أن ما كان عرفًا عامًا، أو كان عرفًا خاصًا يتضمن منفعة مشروعة فإنه يجوز الاعتياض عنه بالمال. ومن جنس ما استثنى حقوق الارتفاق كحق العلو والشرب والمسيل – كما سيأتي بيانه -.
__________
(1) أحكام المعاملات، للشيخ علي الخفيف: ص 29 بتصرف. وقد قسم الشيخ مصطفى الزرقا الحقوق العينية في الفقه الإسلامي وما أسماه بالحقوق شبه العينية بناء على التمييز بين الحق العيني والشخصي – كما سيأتي الإشارة إليه – إلى أنواع: حق الملكية وحق الانتفاع، وحقوق الارتفاق، وحق الارتهان، وحق الاحتباس، وحق الرقبة، وحقوق القرار على الأوقاف. انظر: مصادر الالتزام: 2/38 وما بعدها.
(2) حاشية رد المحتار على الدر المختار، وشرح تنوير الأبصار، للعلامة محمد أمين الشهير بابن عابدين: 4/518، و519 بتصرف – الطبعة الثانية مصطفى الحلبي: 1386هـ - 1966م بمصر.(5/1869)
المبحث الثالث
الحق الشخصي والعيني في الفقه الإسلامي
تقسيم الفقهاء:
لم يقسم الفقهاء المسلمون الحقوق قسمة القانون الروماني والقوانين الغربية إلى حق شخصي وحق عيني، واستعاضوا عن ذلك بتقسيم آخر. ولذلك لا تظهر التفرقة بين الحق الشخصي والعيني في الفقه الإسلامي.
يقول الدكتور السنهوري: "إن التفرقة بينهما لا تظهر في الفقه الإسلامي، وإنما يتكلم الفقهاء عن التمييز بين الدَّين والعين، وهو غير التمييز بين الحق الشخصي والحق العيني، فالدَّين ليس كل الحق الشخصي، بل هو صورة من صوره والعين تستغرق الحق العيني وبعضًا من الحق الشخصي هو الالتزام بالعين، ومن ثم فالدين أضيق من الحق الشخصي، والعين أوسع من الحق العيني.
ثم قال: ولا حاجة إطلاقًا للقول بأن الفقه الإسلامي يعرف التمييز بين الحق الشخصي والحق العيني، بل يجب على النقيض من ذلك إبراز أن التمييز بين الدين والعين وهو التمييز الذي يعرفه الفقه الإسلامي هو غير التمييز بين الحق الشخصي والحق العيني في الفقه الغربي المشتق من القانون الروماني فلكل فقه صناعته التي يتميز بها (1) .
ويقول الدكتور عبد الفتاح عبد الباقي: "إن الفقه الإسلامي لا يعرف تقسيم الحقوق المالية إلى حقوق عينية، وحقوق شخصية أو التزامات، أو هو على الأقل لا يعرف هذا التقسيم بالمفهوم والأبعاد التي يتضمنها هذا التقسيم عند المعاصرين من رجال القانون، وغني عن البيان أنه لا يوجد في ذلك أي تقليل من شأن الفقه الإسلامي، أو تفضيل للفقه الغربي عليه، فلكل نظام فنه وأساليب صناعته، وطرق صياغته" (2) .
__________
(1) مصادر الحق، للسنهوري: 1/18-19، وبعد عبارته تلك قال: "وفي هذا دليل واضح على أن الفقه الإسلامي لا تربطه بالقانون الروماني صلة".
(2) مصادر الالتزام، للدكتور عبد الفتاح عبد الباقي: 1/18.(5/1870)
وقال الأستاذ الزرقا: إن الفقهاء المسلمين لم يصوغوا نظرية ممهدة مستقلة للتمييز بين الحق الشخصي والحق العيني، وهذا راجع إلى اختلاف مبني الترتيب والصياغة بين الفقه الإسلامي، والفقه الأجنبي (1) .
ثم قال: "والواقع أنه فقهاءنا قد ميزوا بين الحقين في جميع المسائل التي يقتضي هذا التمييز فيها اختلاف الأحكام ... " (2) .
وقال الشيخ علي الخفيف بعد تقسيم الحق عند القانونيين: "إن الفقه الإسلامي لا يتنكر لهذه القسمة، وإن لم يولِها عناية أوجبت الإشارة إليها منه ... وإذا كان الفقه الإسلامي لم يُشِرْ إلى هذه الأنواع ولم يعرض لهذه القسمة فإنه عرف هذه الأنواع بأسماء أخرى" (3) .
ويقول الشيخ أبو سنة بعد ذكر أقسام الحقوق في القانون: "والشريعة لا تعارض في هذا الاصطلاح، لأنه مجرد تنظيم ما دام يفصل في كل حق بحكم الله. غير أن الأقسام التي ذكرها علماء الشريعة مبنية على اختلاف الخصائص والأحكام الشرعية لكل قسم، وهي وافية بالأغراض القضائية والديانية" (4) .
وذكر الشيخ أبو سنة أن الفقه الإسلامي حين قسم الحقوق إلى حقوق متعلقة بالعين وحقوق ثابتة في الذمة اعتبرها حقوقًا مالية أحيانًا وغير مالية أحيانًا أخرى.
فالحق قد يكون ماليًا أو غير مالي، كحق الأب في الولاية على أولاده، وحق الأم في حضانة طفلها، فهما حقان غير ماليين وما متعلقان بالعين، وحق الله تعالى في وجوب الصلاة على المكلف حق غير مالي وهو ثابت في الذمة (5) .
وعلى هذا يمكن القول: إن الفقه الإسلامي لم يجد حاجة إلى تقسيم الحقوق إلى حق شخصي وحق عيني، واستعاض عن هذا التقسيم بتقسيم الحقوق إلى حق متعلق بالعين، وهو المسمى الحق العيني، وحق متعلق بالذمة وهو المسمى بالدين، وإن كلام الفقهاء في العين والدين يختلف عن كلام القانونيين في الحق الشخصي والحق العيني. وإن مرادهم بالعين ما هو أوسع من مراد القانون من الحق العيني، "فهي تشمل الحق العيني وبعضًا من الحقوق الشخصية، وهي الالتزام بالعين، مثل الالتزام بتسليم عين معينة وحفظها، وهذا راجع إلى أن العين محلها كل حق ذات محددة، سواء أكان ذلك لتمليكها، أم تمليك منفعتها، أم تسليمها أم حفظها.
وأما الدين: فهو كل حق محله مبلغ من النقود أو جملة من الأشياء المثلية، فهو أضيق من مفهوم الحق الشخصي الذي هو رابطة بين شخصين تُخَوِّلُ أحدهما مطالبة الآخر بالقيام بعمل، أو الامتناع عن عمل، أو إعطاء شيء مثليًا كان أم غير مثلي، فالدين في الفقه الإسلامي صورة من صور الحق الشخصي (6) .
__________
(1) المدخل إلى نظرية الالتزام، للشيخ مصطفى الزرقا: 2/34-35.
(2) المدخل إلى نظرية الالتزام، للشيخ مصطفى الزرقا: 2/34-35.
(3) الملكية في الشريعة الإسلامية: 1/13-14.
(4) الملكية، للدكتور عبد السلام العبادي: ص 117، عن النظريات العامة، للشيخ أحمد أبو سنة: ص 77.
(5) الملكية، للدكتور عبد السلام العبادي: ص 117، عن النظريات العامة، للشيخ أحمد أبو سنة: ص 73.
(6) بين الشريعة والقانون الروماني، د. صوفي أبو طالب: ص 163 وما بعدها. طبع مكتبة نهضة مصر.(5/1871)
المبحث الرابع
الحقوق المعنوية
لم يكن القانون الوضعي يعرف الحقوق المعنوية – كما سبق البيان – وإنما هي حقوق من نتاج التطور الحضاري خصوصًا في المجال الثقافي والصناعي.
وقد رأينا كيف أن القانونيين قد اختلفوا في تحديد طبيعة الحقوق المعنوية. فقد اعتبرها البعض من الحقوق العينية اعتبار أن الحقوق العينية تشمل ما كان ماديًا أو معنويًا، واختلفوا بعد ذلك في اعتبار هذا الحق من حقوق الملكية فيسري عليه ما يسري على حق الملكية أم أن طبيعته تجعله حق ملكية خاصا.
وذهب بعضهم إلى أن الحقوق المعنوية حق عيني أصلي مستقل عن حق الملكية لما له من مواصفات وطبيعة تختلف عن طبيعة حق الملكية.
والفقه الإسلامي لم يعرف هذا النوع من الحقوق المسماة بـ"الحقوق المعنوية" و"الحقوق الأدبية والصناعية والتجارية" (1) .
إذا لم يكن له وقائع أحوال تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي في مسائله، أو أصل موضوعه. ولكن الفقه الإسلامي بأصوله وقواعده ومقاصده يستوعب هذا النوع من الحقوق.
وجهة استيعاب الفقه لهذه الحقوق المعنوية راجع إلى نظرة الفقه الإسلامي إلى معنى المال والحق والملك. فقد تبين أن المال شمل معظم الحقوق، وأن كل ما يجري فيه الملك فهو مال، والحقوق مما يجري فيها الملك فهي أموال باستثناء ما لا يقبل التبعيض، فهذه الحقوق المعنوية سواء أكانت حقوقًا أدبيةً أو فنيةً أو حقوقًا صناعيةً أو تجارية فإنها مال في مفهوم الفقهاء وخاصة المالكية الذين يرون أن المال: "كل ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك"، كما يرون أن الحقوق كلها أموال إذ الحق "جنس يتناول المال وغيره كالخيار والفقه والقصاص والولاء والولاية ... (2) . فيشمل المال حينئذ الأعيان والمنافع والحقوق.
وليس في الفقه الإسلامي ما يمنع من اعتبار هذه الحقوق من الحقوق العينية، لأن "الحق العيني في الفقه الإسلامي لا يشترط فيه أن يكون محله عينًا مادية، بل يجوز أن يكون منفعة أو معنى، إذ المنظور في الحق العيني هو العلاقة المباشرة التي يقرها الشرع بين صاحب الحق ومحله، خلافًا لما استقر عليه الفقه الوضعي: من اشتراط كون محل الحق ماديًّا حتى يعتبر عينيًا، وبذلك يشمل الحق العيني في الشريعة الحقوق المالية وغير المالية" (3) ، وجمهور الفقهاء يرون – كما سيأتي البيان – أن الملك علاقة اختصاص مقرة من الشارع تنشأ بين المالك ومحل الملك. ومحل الملك أعم من أن يكون ماديًا أو غير مادي، فيصح – والحال هذه – أن نعتبر الحقوق المعنوية مالًا، فيكون الحق المعنوي من مشتملات المال، فيصح أن يكون محلًا مادامت علاقة الاختصاص قائمة وهو منتفع به شرعًا إذ الانتفاع من كل شيء حسب طبيعته، والناس يعتبرون فيه القيمة. فقد تكاملت له عناصر الملك.
__________
(1) يرجح الشيخ مصطفى الزرقا، تسميتها "حقوق الابتكار" لأن اسم "الحقوق الأدبية" ضيق لا يتلاءم مع كثير من أفراد هذا النوع، كالاختصاص بالعلامات الفارقة التجارية، والأدوات الصناعية المبتكرة، وعناوين المحال التجارية، مما لا صلة له بالأدب، والنتاج الفكرى، أما اسم "حق الابتكار" فيشمل الحقوق الأدبية كحق المؤلف في استغلال كتابه، والصحفي في امتياز صحيفته، والفنان في أثره الفني من الفنون الجميلة، كما يشمل الحقوق الصناعية والتجارية مما يسمونه اليوم "الملكية الصناعية" كحق مخترع الآلة، ومبتدع العلامة الفارقة التي نالت الثقة، ومبتكر العنوان التجاري الذي أحرز الشهرة. انظر: المدخل إلى نظرية الالتزام: 2/26. وقد يقال في هذا الرأي: بأنه أخص من الدعوى فإن عبارة "حق الابتكار" توحي بتخصيص هذه الحقوق فيما هو ابتكار وإبداع فحسب في حين أن الحق ههنا قد يترتب ولا ابتكار فيه يذكر. سواء أكان في الأدبيات أو الأسماء التجارية، أو العملات التجارية أو الصناعية.
(2) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير: 4/457.
(3) حق الابتكار في الفقه الإسلامي المقارن، للدكتور فتحي الدريني: ص 79.(5/1872)
ومن ناحية أخرى فإن "الاستئثار المقصود في الملك في الفقه الإسلامي، ليس معناه احتواء الشيء من قبل المالك، إنما معناه أن يختص به دون غيره، فلا يعترضه في التصرف فيه أحد ... والشريعة أيضًا لا تشترط التأبيد لتحقيق معنى الملك، بل إن طبيعة ملك المنفعة مثلًا تقتضي أن يكون مؤقتًا، كما في ملك منفعة العين المستأجرة" (1) .
وعدم اشتراط الشريعة التأبيد لتحقيق الملك، يجعل دخول الحقوق المعنوية وقبولها في إطار الشريعة وقواعدها ومقاصدها دخولًا طبيعيًا لا حرج فيه، بخلاف الحرج الواقع في القانون (2) .
__________
(1) الملكية، للدكتور عبد السلام العبادي: ص 198.
(2) يقول الدكتور السنهوري مبينًا منافاة الحقوق المعنوية لحق الملكية من حيث طبيعة كل: في معرض كلامه عن حق المؤلف باعتباره حقًا معنويًا: "تتنافى طبيعة الملكية مع طبيعة الفكر من ناحيتين: " (الناحية الأولى) : أن الفكر لصيق بالشخصية بل هو جزء منها، ومن ثم فقد وجب تقييد نتاج الفكر بهذا الاعتبار الأساسي، فيوجد إلى جانب الحق المالي للمؤلف الحق الأدبي. وهذا الحق من شأنه أن يمكن المؤلف، - حتى بعد أن يبيع حقه المالي للناشر – أن يعيد النظر في فكره. وقد يبدو له أن يسترد من التداول ما سبق نشره، بل وله أن يتلفه بعد أن يعوض الناشر – وبذلك يستطيع أن يرجع بإرادته وحده فيما سبق له إجراؤه من التصرف. أما من يتصرف في شيء مادي تصرفًا باتًا، فليس له بإرادته وحده أن يرجع هذا التصرف، ولوفي مقابل تعويض. (والناحية الثانية) أن الفكر حياته في انتشاره لا في الاستئثار به، وإذا كان صاحب الفكر هو الذي ابتدع نتاج فكره، فالإنسانية شريكة له من وجهين. وجه تقتضي به المصلحة العامة، إذ لا تتقدم الإنسانية إلا بفضل انتشار الفكر. ووجه آخر يرجع إلى أن صاحب الفكر مدين على نحو ما للإنسانية، ففكره ليس إلا حلقة في سلسلة، تسبقها حلقات وتتلوها حلقات. فهو إذا كان قد أعان من لحقه، فقد استعان بمن سبقه. ومقتضى ذلك ألا يكون حق المؤلف أو المخترع حقًا مؤبدًا كما هو شأن الملكية المادية. وإذا كانت الملكية المادية لا تستعصي على التأبيد بل هي تقتضيه، فإن الحق في نتاج الفكر لا يجوز أن يكون مؤبدًا بل لا بد فيه من التوقيت". من أجل ذلك يجب أن ننفي عن حق المؤلف أو المخترع صفة الملكية، فالملكية حق استئثار مؤبد، في حين أن حق المؤلف أو المخترع حق استغلال مؤقت. ثم يبدي رأيه في طبيعة هذه الحقوق، فيقول: ويخلص من ذلك أن حق المؤلف أو المخترع ليس حق ملكية، بل هو حق عيني أصلي يستقل عن حق الملكية بمقوماته الخاصة، وترجع هذه المقومات إلى أنه يقع على شيء غير مادي. انظر: الوسيط: 8/279-281.(5/1873)
الفصل الخامس
المال
إن الوقوف على معرفة المال وكذا المنفعة من وجهة الفقه الإسلامي يعتبر مدخلًا طبيعيًا وتمهيدًا علميًا سليمًا لترتيب الحكم الشرعي للاسم التجاري. فالمال والمنفعة لهما مفهوم وحقيقة شرعية وللفقهاء فيهما دراسات ومباحث استقر رأيهم فيها واتضح. لذا يرِدُ ههنا مدى انطباق معنى المال والمنفعة على الاسم التجاري. حتى يمكن إلحاق الحكم والآثار منهما إليه، أو لا يمكن. وقد عرفنا طبيعة المال والمنفعة في القانون، والمطلوب هنا الوقوف على معناهما في الفقه الإسلامي؛ لنتوصل به إلى معرفة مدى قرب أو بعد الاسم التجاري منهما تمهيدًا لإلحاق الوصف أو الحكم الشرعي به وهو مطلوب البحث.
مبحث
تعريف المال
اتفق الفقهاء على أن الأعيان أموال متى أمكن حيازتها، وتملكها، والانتفاع بها على وجه ما، كما اتفقوا على أن الحقوق المجردة وهي التي لا تدرج بالحس، ولا تعلق لها بالمال، كحق الحضانة والولايات والوظيفة ليست مالًا.
واختلفوا في الحقوق المتعلقة بالمال والمنافع.
تعريف المال لغة: هو "كل ما ملكته من جميع الأشياء" (1) . وهذا الإطلاق في اللغة يشمل كل ما يتملكه الإنسان، سواء أكان شيئًا ماديًا أم منفعة وينبغي أن يمل أيضًا الحق، وإن كان أمرًا معنويًا إلا أنه يملك سواءً أطلق على عين أو منفعة أو مباح.
تعريف المال اصطلاحًا: اتفق جمهور الفقهاء على مفهوم المال من حيث الجملة وإن اختلفت عباراتهم في تعريف وبيان حقيقته.
فاعتبروا "كل ما فيه نفع مالًا"، وما لا نفع فيه فليس بمال، فلا تجوز المعاوضة به" (2) .
وعرفه المالكية كما قال الشاطبي بأنه: "ما يقع عليه الملك، ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه ((3) ، ولذا اشترط المالكية في المبيع النفع وعبروا عنه "بالانتفاع" (4) فاعتبروا من شروط المبيع "النفع".
وعرفه الشافعية – بما نسبة السيوطي للشافعي – في قوله: (لا يقع اسم المال إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه) (5) .
__________
(1) لسان العرب مادة: "مول".
(2) حاشيتي الإمامين شهاب الدين القليوبي وعميرة على منهاج الطالبين، للإمام محيي الدين النووي بشرح العلامة جلال الدين المحلي: 1/157 طبع دار إحياء الكتب العربية بمصر.
(3) الموافقات، للإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي: 2/17، الطبعة الثانية 1395 هـ = 1975م.)
(4) حاشية العلامة محمد عرفة الدسوقي على الشرح الكبير، للإمام أحمد الدردير: 3/10، طبع دار إحياء الكتب العربية بمصر
(5) الأشباه والنظائر في قواعد فروع فقه الشافعية، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: ص 237، الطبعة الأخيرة مطبعة مصطفى الحلبي 1378 هـ = 1959م بمصر.(5/1874)
وعرفه الحنابلة في معرض كلامهم عن شروط المبيع فقالوا: (هو ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة) (1) . وعرفوه أيضًا بأنه: (ما يباح نفعه مطلقًا، أي في كل الأحوال، أو يباح اقتناؤه بلا حاجة) (2) .
وعلى تعريفهم هذا يخرج ما لا نفع فيه أصلًا كالحشرات، وما فيه منفعة محرمة كالخمر، وما فيه منفعة مباحة للحاجة كالكلب، وما فيه منفعة مباحة للضرورة كالميتة (3) .
أما الحنفية فوقع الخلاف في تعريف المال بينهم وبين الجمهور من جهة، وفيما بين المتقدمين منهم والمتأخرين من جهة ثانية، فعرف المتقدمون المال بما يفيد أنه (كل ما يمكن حيازته وإحرازه والانتفاع به في العادة) (4) . فمدار كون الشيء مالًا إمكان حيازته والانتفاع به في حكم العادة، وإن لم يكن محرزًا ومنتفعًا به فعلًا. وما لا يمكن حيازته كالعفة والشجاعة والذكاء فلا يعد مالًا، وكذا ما لا ينتفع به في حكم العرف والعادة، كقطرة من ماء وحبة شعير، فإنه لا يعد مالًا وإن أحرز.
ومراد الحنفية بالانتفاع في العادة، أن الشارع يجيز الانتفاع في حال الاختيار، أما إذا كان الانتفاع بالشيء في حال الاضطرار فلا يدخل حينئذٍ في حكم المنتفع به في العادة.
فالخمر كانت حرامًا إلا أنها مال لجواز أن ينتفع بها بوجه ما حال الاختيار، فالخمر وكذا الخنزير مال متقوم في حق الذميين – على خلاف وتفصيل عند الفقهاء – لكن الميتة والدم المسفوح ليسا بمال، لأن الشارع لم يجوز الانتفاع بهما بحال حال الاختيار (5) .
ويقول السرخسي: (المال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به ولكن باعتبار صفة التمول والإحراز) (6) .
ويقول صاحب الدرر: (والمال ما يميل إليه الطبع ويجري فيه البذل والمنع) أو (هو موجود يميل إليه الطبع ... ) (7) .
وقال ابن عابدين: (المال عين يمكن إحرازها وإمساكها) (8) . وفي مجمع الأنهر: المال (عين يجري فيه التنافس والابتذال) (9) .أي بذل العوض.
وعرفه سعد الدين التفتازاني بأنه: (ما يميل إليه الطبع ويدخر لوقت الحاجة، أو ما خلق لصالح الآدمي ويجري فيه الشح والضنة) (10) .
وقال الشيخ أبو زهرة: (أحسن تعريف في نظري ما نقله صاحب البحر عن الحاوي وهو أن المال اسم لغير الآدمي خلق لصالح الآدمي، وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار) (11) .
وأما متأخروا الحنفية فقد عرفوا المال فقالوا: (يطلق المال على القيمة، وهي ما يدخل تحت تقويم مقوم من الدراهم والدنانير) (12) .
فشمل هذا التعريف الأعيان والمنافع والحقوق، فمناط المالية عندهم هو القيمة التي تقدر بالنقد، فكل ما له قيمة هو مال؛ لأن كل ما فيه قيمة هو منفعة، والناس لا يتعارفون على تقويم ما ليس فيه منفعة، إذ لا يجري التعامل فيها أصلًا.
__________
(1) الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل للإمام شرف الدين المقدسي: 2/59 المطبعة المصرية بالأزهر.
(2) شرح منتهى الإرادات، للإمام منصور بن يونس البهوتي: 2/142 نشر عالم الفكر بيروت.
(3) الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل للإمام شرف الدين المقدسي: 2/59 المطبعة المصرية بالأزهر. شرح منتهى الإرادات، للإمام منصور بن يونس البهوتي: 2/142 نشر عالم الفكر بيروت.
(4) أحكام المعاملات للشيخ على الخفيف ص 26؛ الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد موسى، الطبعة الأولى 1372 هـ = 1952م.
(5) وعند الفقهاء خلاف في جواز الانتفاع ببعض أعضاء الميتة كالعظم والصوف قالوا في الجواز: لإمكان تطهرها. وذهب آخرون إلى أن الميتة نجسة لا يطهر شيء منها.
(6) المبسوط، للإمام شمس الدين السرخسي: 11/79، الطبعة الأولى، مطبعة السعادة بمصر.
(7) حاشية ابن عابدين: 5/10-51.
(8) حاشية ابن عابدين: 5/52.
(9) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر:2/3، الطبعة الأميرة بمصر.
(10) التلويح على التوضيح شرح التنقيح لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود، والشرح لسعد الدين التفتازاني: 2/230.
(11) الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد أبو زهرة: ص 52، دار الفكر العربي بمصر.
(12) حاشية ابن عابدين: 1/11.(5/1875)
المالية والتقوُّم:
وقد بين ابن عابدين معنى المالية والتقوم، فقال: والمالية تثبت بتمويل الناس كافة أو بعضهم. والتقوم يثبت بها وبإباحة الانتفاع به شرعًا، فما يباح بلا تمول لا يكون مالًا، كحبة حنطة، وما يتمول بلا إباحة انتفاع لا يكون متقومًا كالخمر، وإذا عدم الأمران لم يثبت واحد منهما، كالدم، ثم قال: (وحاصله أن المال أعم من المتقوم؛ لأن المال ما يمكن ادخاره ولو غير مباح كالخمر، والمتقوم ما يمكن ادخاره مع الإباحة، فالخمر مال متقوم، فلذا فسد البيع بجعلها ثمنًا، وإنما لم ينعقد أصلًا بجعلها مبيعًا، لأن الثمن غير مقصود، بل وسيلة إلى المقصود، إذ الانتفاع بالأعيان لا بالأثمان ولهذا اشترط وجود المبيع دون الثمن. فبهذا الاعتبار صار الثمن من جملة الشروط بمنزلة آلات الصناع) (1) . وعرف سعد الدين التفتازاني التقوم فقال: (المتقوم ما يجب إبقاؤه بعينه أو بمثله أو بقيمته، ثم قال عن الخمر: والخمر واجب اجتنابها بالنص لعدم تقومها، لكنها تصلح للثمن، لأنها مال) (2) . وهذا متسق مع تعريفه للمال السابق.
ونقل السيوطي أن للمتمول ضابطين:
أحدهما: أن كل ما يقدر له أثر في النفع فهو متمول، وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع فهو لقلته خارج عما يتمول.
الثاني: أن المتمول هو الذي يعرض له قيمة عند غلاء الأسعار، والخارج عن التمول: هو الذي لا يعرض فيه ذلك
تعليق: الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 326. ويقسم الفقهاء المال إلى أقسام عدة أهمها: أولًا: ينقسم بحسب الضمان وعدمه إلى: مال متقوم، ومال غير متقوم. فالمتقوم: ما يباح الانتفاع به في حال السعة والاختيار، وهو الذي له قيمة في نظر الشارع، ويشترط فيه أن يكون قد حيز بالفعل، كالدور والنقود المملوكة. وغير المتقوم: ما لا يباح الانتفاع به في حالة الاختيار، ولم يحز بالفعل، أو حيز ولكن حرم الشارع الانتفاع به. وهو بهذا يشمل مثل المعادن والسمك قبل حيازته كما يشمل ما حيز فعلًا وحرم الانتفاع به في حالة السعة والاختيار، كالخمر بالنسبة للمسلم، فإنه لا يجوز الانتفاع به إلا في حال الضرورة. أما بالنسبة لغير المسلم، فإنه يعتبر مالًا متقومًا عند الحنفية خلافًا للجمهور. ويترتب على هذا التقسيم أمور أهمها:
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 5/51.
(2) التلويح على التوضيح: 2/230.(5/1876)
1- أن المال المتقوم يضمن متلفه عند تعديه عليه. وغير المتقوم لا ضمان على متلفه، ولذا لو أتلف مسلم خمرًا لمسلم لم يضمن شيئًا؛ لأنه غير متقوم في حق المسلم. ولو أنه أتلفه لذمي ضمن له قيمته عند الحنفية، لأنه مال متقوم في حقه.
2- المال المتقوم يصلح أن يكون محلًا لمعاوضة مالية كالبيع، والهبة وما إلى ذلك من التصرفات وغير المتقوم لا يصلح أن يكون مبيعًا، وإذا بيع كان العقد باطلًا، كما لا يصح أن يكون ثمنًا، وإذا جعل ثمنًا كان العقد فاسدًا عند الحنفية، وعلى ذلك لا يصح بيع الخمر من مسلم، ويصح من ذمي لمثله، ولا يصح بيع الأموال المباحة ولا هبتها ولا الوصية بها لعدم توقيمها.
ثانيًا: ينقسم المال باعتبار الثابت وعدمه إلى عقار ومنقول: فالعقار: هو كل ما لا يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر، وهو خاص بالأرض عند الحنفية سواء كانت الأرض مبنية أو مجردة عن البناء. وقال الإمام مالك: العقار هو ما لا يمكن نقله بدون أن تتغير صورته، فيدخل فيه عنده البناء والأشجار، وكلُّ ما وضع على الأرض على سبيل القرار كالآلات الرافعة المثبتة. والمنقول: هو ما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر سواء تغيرت صورته بالنقل أو لا، وسواءً انتقل بنفسه أو بوساطة غيره، فيدخل فيه البناء والشجر لإمكان نقله بدون أن تتغير صورته.
ثالثًا: ينقسم المال من حيث التماثل وعدمه إلى مثلي وقيمي، وهو تقسيم للمنقول. فالمثلي: هو ما لا تتفاوت آحاده تفاوتًا يعتد به، وله نظير في المحال التجارية. ويشمل الأنواع التالية: المكيلات كالبر، والموزونات المتحدة في النوع، والعدديات التي تتقارب آحادها كالبيض والجوز ... والقيمي: هو ما تتفاوت آحاده تفاوتًا يعتد به، أو لا تتفاوت ولكن لا نظير له في المحال التجارية. ويشمل الأنواع الستة الآتية: وهي الحيوانات ولو كانت متحدة الجنس، والبناء، والأِشجار، وعروض التجارة المختلفة الجنس، والعدديات المتفاوتة تفاوتًا يعتد به كالبطيخ والمثليات التي لا نظير لها في المحال التجارية بأن انقطعت من الأسواق وتعذر الحصول عليها. يراجع تفصيل ذلك في أحكام المعاملات، للشيخ علي الخفيف: ص 32؛ والمعاملات الشرعية، للشيخ أحمد إبراهيم: ص 4 وما بعدها. الطبعة الثانية – لجنة التأليف والترجمة 1363 هـ = 1944م بمصر؛ والمعاملات في الشريعة الإسلامية، للشيخ أحمد أبو الفتوح: 1/27؛ والشريعة الإسلامية، للدكتور بدران أبو العينين: ص 287، نشر مؤسسة شباب الجامعة بمصر.
وفي مجلة الأحكام العدلية: المال المتقوم يستعمل في معنيين: الأول بمعنى ما يباح الانتفاع به، والثاني بمعنى المال المحرز، فالسمك في البحر غير متقوم، وإذا اصطيد صار متقومًا بالأحراز (1) .
ويفهم من كلام الفقهاء في المالية والتقوم، أنهما مترابطان ترابطًا قد ينفك من جهة بإطلاق. فكل ما هو متقوم فيه مالية، لكن ليس كل ما فيه مالية متقومًا، وذلك إذا لم يكن المال محترمًا شرعًا، فما لا يحترمه الشارع ويعتبره فلا قيمة له.
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية: مادة 127، الطبعة الخامسة 1388 هـ = 1986م.(5/1877)
المال والاسم التجاري:
وإذا علم هذا فإن الاسم التجاري عند التحقيق هو مال على مفهوم الجمهور ومتأخري الحنفية. فمن حيث اشتراط النفع في المال، فإن الاسم التجاري يتضمن نفعًا ومصلحته خاصة لمالكه – ومصلحة عامة لأفراد المجتمع. وهو وإن كان حقًا معنويًّا إلا أن فائدته الخاصة مادية، وكذا العامة أيضًا.
ومن جانب آخر فإن المالك يمكنه التصرف فيه ما دام مالًا ونفعًا، والحيازة لا يشترط لتحققها أن يكون محلها ماديًا. والاسم التجاري وإن لم يمكن استيفاؤه بذاته لأنه لا يدرك بالحس إلا أن أثره ومنفعته وقيمته يمكن إدراكها وإنما تستوفى المنافع بملك الأعيان.
ومن حيث اشتراط القيمة، فإن الاسم التجاري قد تعارف الناس على أنه له قيمة يعتاض عنها بما يقابلها من نقد، فيمكن تقويمه كما تقوم الأعيان. ولو اعتدى عليه أجنبي بالتزييف والتقليد فإنه يعرض نفسه للمساءلة والضمان.
ومن جانب آخر إذا اعتبرنا الحقوق أموالًا – كما رأينا تصريح المالكية في ذلك – سواء أكانت مالية أم غير مالية فلا تردد في اعتبار الاسم التجاري مالًا، لأنه حق مالي متقرر كما سبق البيان، فيجري فيه الملك، وكل ما يجري فيه الملك هو مال ما لم يكن من الحقوق التي لا تقبل التجزيء كولاية النكاح والوظيفة وحق الحضانة وحق التطليق (1) .وسيأتي لذلك مزيد بيان عند الكلام على التكييف الشرعي للاسم التجاري.
__________
(1) حاشية الدسوقي: 4/407.(5/1878)
الفصل السادس
المنفعة
المبحث الأول
تعريف وأدلة اعتبارها مالًا أو عدم اعتبارها
تعريف المنفعة:
هي في اللغة اسم ما انتفع به، يقال: نفعه بكذا فانتفع به (1) .
وفي الاصطلاح: كل ما يقوم بالأعيان من أعراض، وما ينتج عنها من غلة كسكن الدار وأجرتها وثمرة البستان ولبن الدابة (2) .
وملك المنفعة قد يكون بملك العين، وقد يكون ملك المنفعة دون العين، كالإجارة والإعارة والوصية بالمنفعة والوقف، وقد يكون الملك للانتفاع لا للمنفعة – على ما سيأتي بيانه عند الكلام على "الملك" ولقد انبنى على خلاف الفقهاء في معنى المال وتعريفه الخلاف في المنفعة من حيث: حقيقتها وما إذا كانت تندرج تحت مسمى المال، فتملك كما يملك المال، ويجري عليها ما يجري عليه من التصرفات. وإن الوقوف على حقيقة المنفعة والخلاف فيها بين الفقهاء، يخدم موضوع الاسم التجاري، بل هو صلب موضوعه، كما سيتبين:
ملك المنفعة وحق الانتفاع:
قد يظن أن ملك المنفعة وحق الانتفاع شيء واحد، وهما مختلفان. فجمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة يفرقون بينهما: قال القرافي: تمليك الانتفاع نريد به أن يباشر هو بنفسه فقط، وتمليك المنفعة هو أعم وأشمل، فيباشر بنفسه، ويُمكََّنُ غيره من الانتفاع بعوض كالإجارة، وبغير عوض كالعارية.
ومثَّل لملك الانتفاع بسكن المدارس والرباط والمجالس في الجوامع والمساجد والأسواق ونحو ذلك، فله أن ينتفع بنفسه فقط، ولو حاول أن يؤاجر بيت المدرسة أو يسكن غيره، أو يعارض عليه بطريق من طرق المعاوضات امتنع ذلك.
ومثَّل لملك المنفعة بمن استأجر دارًا أو استعارها، فله أن يؤاجرها من غيره أو يسكنه بغير عوض، ويتصرف في هذه المنفعة تصرف الملاك في أملاكهم على جَرْي العادة على الوجه الذي ملكه، فهو تمليك مطلق في زمن خاص حسبما تناوله عقد الإجارة، أو شهدت به العادة في العارية. ثم قال: "ويكون تمليك هذه المنفعة كتمليك الرقاب" (3) ، وبمثل هذه التفرقة قال العدوي المالكي:
"مالك الانتفاع ينتفع بنفسه، ولا يؤجَّر ولا يهب ولا يعير، ومالك المنفعة له تلك الثلاثة مع انتفاعه بنفسه" (4) .
__________
(1) لسان العرب، لابن منظور، مادة: نفع.
(2) الميراث والوصية، للشيخ محمد زكريا البرديسي: ص 117، طبع الدار القومية للطباعة والنشر 1383 هـ - 1964م بمصر.
(3) الفروق، للإمام شهاب الدين القرافي: 1/232، الطبعة الأولى دار إحياء الكتب العربية 1346 هـ بمصر، والأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 143.
(4) حاشية العدوي على الخرشي: 7/79، وللفرق بينهما إشارة في حاشية عميرة: 3/18، 92.(5/1879)
ويفهم من كلام الفقهاء هذا التفرقة بين المنفعة والانتفاع من حيث المنشأ والمفهوم والآثار، وخلاصة ما قيل في الفرق بينهما وجهان:
الأول: أن سبب حق الانتفاع أعم من سبب ملك المنفعة، لأنه كما يثبت ببعض العقود كالإجارة والإعارة مثلًا، كذلك يثبت بالإباحة الأصلية كالانتفاع من الطرف العاقد والمساجد ومواقع النسك، ويثبت أيضًا بالإذن من مالك خاص، كما لو أباح شخص لآخر أكل طعام مملوك له، أو استعمال بعض ما يملك.
أما المنفعة فلا تملك إلا بأسباب خاصة، هي: الإجارة والإعارة والوصية بالمنفعة والوقف. وعلى ذلك، فكل من يملك المنفعة يسوغ له الانتفاع، ولا عكس، فليس كل من له الانتفاع يملك المنفعة، كما في الإباحة مثلًا.
الثاني: أن الانتفاع المحض حق ضعيف بالنسبة لملك المنفعة، لأن صاحب المنفعة يملكها ويتصرف فيها تصرف الملاك في الحدود الشرعية، بخلاف حق الانتفاع المجرد، لأن رخصته لا يتجاوز شخص المنتفع (1) .
وعلى هذا فإن ملك المنفعة أعم وأقوى من حق الانتفاع، فمن ملك شيئًا تصرف فيه لخاصته نفسه، أو تصرف فيه لغيره بأي صورة من صور التصرف، ومن له حق الانتفاع لا يحق له التصرف فيه لغيره.
أما الحنفية فلا تظهر لهم تفرقة بين المنفعة وحق الانتفاع.
__________
(1) الموسوعة الفقهية: 6/299، مصطلح "انتفاع" مطبعة الموسوعة الفقهية 1405 هـ - 1985م دولة الكويت.(5/1880)
أدلة الجمهور في اعتبار المنفعة مالًا:
استدل الجمهور على مذهبهم في اعتبار المنفعة مالًا بأدلة:
الأول – أن المنافع كالأعيان:
قاس الجمهور المنافع على الأعيان بجامع أن كُلًّا منهما مال، فيجب الضمان كما في الغصب والإتلاف.
وبيان ذلك: "أن المال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به مما هو عندنا، والمنافع منا أو من غيرنا بهذه الصفة، وإنما تعرف مالية الشيء بالتمول، والناس يعتادون تمول المنفعة بالتجارة فيها، فإن أعظم الناس تجارة الباعة، ورأس مالهم المنفعة، ومنه يتبين أن المنافع في المالية مثل الأعيان" (1) .
وقال المالكية: "المنافع متمولة يعاوض عليها" (2) ، " والقياس أن تجري المنافع والأعيان مجرى واحدًا" (3) .
ومن جانب آخر فإن المنفعة تصلح أن تكون صداقًا، وهذا دليل اعتبارها مالًا؛ لأن صحة الصداق أن يكون المسمى مالًا. ويجوز أخذ العوض عنها في الإجارة، وكذا منافع الحر مال يضمن بالإتلاف إلا أنه إذا حبس حرًا مجرد الحبس لا يضمن منافعه، لأنه لم يوجد من الحابس إتلاف منافعه، ولا إثبات يده عليه، بل منافع المحبوس في يده (4) .
ويتبين أيضًا مثلية المنافع للأعيان بجامع المالية في كل في العقد الفاسد لأن الضمان بالعقد الفاسد يتقدر بالمثل شرعًا كما بالإتلاف، وهذا بخلاف رائحة المسك، فإن من اشتم مسك غيره لا يضمن شيئًا؛ لأن الرائحة ليست بمنفعة، ولكنها بخار يفوح من العين كدخان الحطب، ولهذا لا يملك بعقد الإجارة، حتى لو استأجر مسكًا ليشمه لا يجوز، ولا يضمن بالعقد أيضًا صحيحًا كان أو فاسدًا (5) .
__________
(1) نهاية المحتاج: 5/169؛ والمبسوط: 11/78؛ والبدائع: 7/146، وقد استدل السرخسي لمذهب الشافعية وهو مذهب الجمهور بأدلة وتفصيل لم نعثر على مثله في كتب الشافعية.
(2) حاشية الدسوقي: 3/442.
(3) بداية المجتهد، للإمام محمد بن أحمد رشد القرطبي: 2/322، الطبعة الثانية، مطبعة مصطفى الحلبي 1370 هـ - 1950م بمصر.
(4) نهاية المحتاج: 5/169؛ والمبسوط: 11/78؛ والبدائع: 7/146.
(5) المبسوط: 11/79، وقد رد السرخسي على هذا بتفصيل في الموضوع المذكور فليراجع.(5/1881)
الثانى – أن المنفعة متقومة:
قال الجمهور: إن المنفعة متقومة، وكل متقوم فهو مضمون بقيمته، بل إن المنفعة تقوَّم بها الأعيان، "فيستحيل أن لا تكون متقومة بنفسها، ولأنها تملك بالعقد، ويضمن به صحيحًا كان العقد أو فاسدًا، وإنما يملك بالعقد ما هو متقوم، فيضمن بالإتلاف وإن لم يكن مالًا كالنفوس والأبضاع " (1) .
الثالث: أن الطبع يمثل إليها، ويسعى في ابتغائها وطلبها، وتنفق في سبيلها الأموال، ويقدم في سبيلها نفيس الأشياء ورخيصها.
وأن المصلحة في التحقيق تقوم بمنافع الأشياء لا بذواتها، فالذوات لا تصير أموالًا إلا بمنافعها، فلا تقدم إلا بمقدار ما فيها من منفعة، إذ كل شيء لا منفعة فيه لا يكون مالًا.
الرابع: أن العرف العام في الأسواق والمعاملات المالية يجعل المنافع غرضًا ماليًا ومتجرًا يتجر فيه.
الخامس: أن الشارع اعتبر المنافع أموالًا، لأنه أجاز أن تكون مهرًا في الزواج، ولا يكون مهرًا في الزواج إلا المال، قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} .
السادس: أن العقد قد ورد على المنافع فتكون مضمونة به حينئذ سواء أكان العقد صحيحًا أم فاسدًا، وضمانها دليل على أنها تكون مالًا بالعقد عليها. ولو لم تكن أموالًا في ذاتها ما قبلها العقد مالًا، لأن العقود لا تقلب حقائق الأشياء، بل تقرر خواصها (2) .
__________
(1) المبسوط: 11/78.
(2) الأدلة من الثالث حتى السادس مختصرة من الملكية، ونظرية العقد، للشيخ محمد أبو زهرة: ص 57.(5/1882)
أدلة الحنفية:
وقد استدل الحنفية لمذهبهم بأدلة عديدة، سنذكر أهمها مع مناقشتنا لما يمكن أن يتوجه للدليل من إيراد:
أولًا – أن المنفعة ليست مالًا متقومًا:
قال الحنفية: إن المنفعة ليست بمال متقوم، لذا لا تضمن بالإتلاف كالخمر والميتة، وبيان ذلك: أن صفة المالية للشيء إنما تثبت بالتمول والتمول صيانة الشيء وادِّخاره لوقت الحاجة، والمنافع لا تبقى وقتين، ولكنها أعراض كما تخرج من حيز العدم إلى حيز الوجود تتلاشى، فلا يتصور فيها التمول، وعلل لذلك، بأن المتقوم لا يسبق الوجود فإن المعدوم لا يوصف بأنه متقوم، إذ المعدوم ليس بشيء.
وبعد الوجود التقوم لا يسبق الإحراز، والإحراز بعد الوجود لا يتحقق فيما لا يبقى وقتين، فكيف يكون متقومًا. وعلى هذا قالوا: "الإتلاف لا يتصور في المنفعة" (1) .
وقال صدر الشريعة: " لا تضمن المنافع بالمال المتقوم، لأنها غير متقومة، إذ لا تقوم بلا إحراز، ولا إحراز بلا بقاء، ولا بقاء للأعراض" (2) .
وقد يرد على كلام السرخسي وصدر الشريعة: بأن المنفعة متمول، ودليل تمولها اعتياد الناس واعتبارهم لها في تجاراتهم ومعايشهم.
والمنفعة باقية ما بقيت العين، وتجددها مستمر لبقاء العين، وأيضًا فإن الإتلاف متصور في المنافع، وقد أقر بذلك الحنفية أنفسهم في قولهم: "إن إتلاف المنافع لا يضمن ما لم يكن بعقد أو شبهة عقد" (3) . وعدم ضمانها عندهم لا لعدم تصورها وإنما لإهمالها، وكلامهم في فروع المسألة دليل على اعتبار وجودها.
__________
(1) المبسوط: 11/79؛ والبدائع: 7/146.
(2) التنقيح وشروحه: 2/98.
(3) المبسوط: 11/79؛ والبدائع: 7/146.(5/1883)
ثانيًا – أن المنفعة لا تماثل العين:
قال السرخسي: "لئن سلمنا أن المنفعة مال متقوم، فهو دون الأعيان في المالية، وضمان العدوان مقدر بالمثل بالنص. ألا ترى أن المال لا يضمن بالنسبة والدين لا يضمن بالعين؛ لأنه فوقه فكذلك المنفعة لا تضمن بالعين؟
ثم فصل دليله فقال: إن المنفعة عرض يقوم بالعين، والعين جوهر يقوم به العرض، ولا يخفى على أحد التفاوت بينهما، والمنافع لا تبقى وقتين والعين تبقى أوقاتًا وبين ما يبقى وما لا يبقى تفاوت عظيم، والعين لا تضمن بالمنفعة قط، ومن ضرورة كون الشيء مثلًا لغيره أن يكون ذلك الغير مثلًا له أيضًا، والمنفعة لا تضمن بالمنفعة عند الإتلاف، والمماثلة بين المنفعة والمنفعة أظهر من المماثلة بين العين والمنفعة. وبهذا فارق ضمان العقد فإنه غير مبنى على المماثلة باعتبار الأصل. بل على المراضاة وكيف ينبني على المماثلة والمقصود بالعقد طلب الربح (1) .
وقد يرد على السرخسي بأنه لا يلزم من كون المنفعة دون الأعيان وأنها ليست مثلًا لها، وأنها عرض من أن تكون مالًا ومتقومة، ثم إنَّ محل النزاع ليس في مماثلتها للأعيان أو عدمه، وإنما هو في ماليتها وتقومها.
وأيضًا لا يسلم للسرخسي أن المنافع دون الأعيان مطلقًا، إذ الأعيان تقوّم بالمنفعة، وإنما يتوصل بالأعيان إلى المنافع، فالمقصود منافع الأعيان لا ذاتها.
ثم أراد أن يرتب الظلم عند عدم إسقاط التفاوت بين العين والمنفعة.
ففال السرخسي في معرض الكلام على الغصب: "ضمان العقد مشروع وفي المشروع يعتبر الوسع والإمكان، ولهذا يجب الضمان باعتبار التراضي فاسدًا كان العقد أو جائزًا فيسقط اعتبار التفاوت الذي ليس فيوسعنا الاحتزار عنه في ضمان العقد. فأما الإتلاف فمحظور غير مشروع وضمانه مقدر بالمثل بالنص فلا يجوز إيجاب الزيادة على قدر المتلف بسبب الإتلاف (2) .
ويتبادر إلى الذهن اعتراض على كلام السرخسي هذا، وقد ذكر السرخسي نفسه. فإن قيل يسقط اعتبار هذا التفاوت لدفع الظلم والزجر عن إتلاف منافع أموال الناس ولأن المتلف عليه مظلوم يسقط حقه إذا اعتبر هذا التفاوت، ومراعاة جانب المظلوم أولى من مراعاة جانب الظالم. مع أن هذا التفاوت بزيادة وصف لو لم نعتبره سقط به حق المتلف عن الصفة ولو اعتبرناه أسقطنا حق المتلف عليه عن أصل المالية وإذا لم يكن بد من إهدار أحدهما فإهدار الصفة أولى من إهدار الأصل (3) .
__________
(1) المبسوط: 11/8.
(2) المبسوط: 11/78.
(3) المبسوط: 11/78.(5/1884)
ثم رد السرخسي على هذا الإيراد – ولم يوفق في رأينا في هذا الرد – حين قال: قد أوجبنا للزجر التعزيز والحبس، فأما وجوب الضمان للجبران فيتقدر بالمثل على وجه لا يجوز الزيادة عليه. والظالم لا يظلم بل ينتصف منه مع قيام حرمة مال، ولو أوجبنا عليه زيادة على ما أتلف كان ذلك ظلمًا مضافًا إلى الشرع، لأن الموجب هو الشرع وذلك لا يجوز، وإذا لم يوجب الضمان لتعذُّر إيجاب المثل كان ذلك لضرورة ثابتة في حقنا وهو أنا لا نقدر على القضاء بالمثل وذلك مستقيم مع أن حق المظلوم لا يهدر بل يتأخر إلى الآخرة. ولو أوجبنا الزيادة صارت تلك الزيادة هدرًا في حق المتلف فيبطل حقه عنه أصلًا فكان ما قلناه من اعتبار المماثلة والكف عن القضاء بالضمان بدون اعتبار المماثلة أعدل من هذا الوجه (1) .
وقد يرد على كلام السرخسي: بأنه لا يكفي في تحقيق العدل الزجر والعزيز مادام الغاصب قد استفاد يقينًا بغير وجه حق من منفعة مملوكة للغير ويمكن تقديرها بمال، فيؤخذ منه بقدر ما أخذ، ثم إنَّ ما يؤخذ منه ليس انتهاكًا لحرمة ماله، إذ لم يؤخذ منه زيادة على ما أخذ، وليس في هذا ظلم على الغاصب، بل خلافه هو ظلم على المالك لا ينبغي نسبته إلى الشرع، وما دام القضاء بأجر المثل أو غيره، مقدورًا غير معسور فإنه لا يسقط حفظًا للحقوق.
__________
(1) المبسوط: 11/78.(5/1885)
ثالثًا – أن المنفعة قبل كسبها معدومة والمعدوم ليس مالًا:
قال السرخسي: "إن الإتلاف لا يحل المعدوم، وبعد الوجود لا يبقى لحله فعل الإتلاف"، فكأنه يرى أن المنفعة معدومة غير موجودة فلا يمكن أن يوجد السبب، ولذا قال: "وإثبات الحكم بدون تحقيق السبب لا يجوز" (1) .
ولما كان الحنفية قد اشترطوا لجواز المنفعة أن تكون بعقد، وهذا في حد ذاته استشكال وجيه على رأيهم. قال السرخسي محاولًا رفع هذا الإشكال: "بالعقد يثبت للمنفعة حكم الإحراز والتقوم شرعًا، بخلاف القياس، وكان ذلك باعتبار إقامة العين المنتفع به مقام المنفعة لأجل الضرورة والحاجة، ولا تتحقق مثل هذه الحاجة في العدوان فتبقى الحقيقة معتبرة، وباعتبارها ينعدم التقوم والإتلاف " (2) .
وقد يقال للحنفية أنكم قلتم بخلاف ذلك في الصداق واستئجار الولي، فاعتبرتموه ولا عدوان فيه.
وقد رد السرخسي هذا بقوله: "في الصداق واستئجار الولي إما يظهر حكم الإحراز والتقوم بالعقد للحاجة، والمال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به، ولكن باعتبار صفة التمول والإحراز " (3) .
وقد يقال له: إننا لا نسلم أن المال معتبر بالتمويل والإحراز فحسب بل هو أعم ليشمل ما يمكن إحرازه كالمنفعة.
__________
(1) المبسوط: 11/78.
(2) المبسوط: 11/78.
(3) المبسوط: 11/78.(5/1886)
المبحث الثاني
غصب المنفعة
مذهب الجمهور:
ذهب جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة – تبعًا لرأيهم في اعتبار المنفعة مالًا – إلى أن غصب المنافع يوجب الضمان على الغاصب سواء استعمل المغصوب، أو منع استعماله، أو أتلفه أو أتلف المنفعة على تفصيل يظهر من استعراض مذاهبهم:
* ذهب المالكية: إلى أن الغاصب يضمن الشيء المغصوب بمجرد الاستيلاء.
قال عبد السميع الآبي: (وضمن الغاصب الشيء بمجرد الاستيلاء عليه وحوزه، ولو تلف بسماوي، أو جناية غيره) (1) .
وبناءً على هذا الضمان فإن منافع المغصوب المستعمل تكون ملكًا للمالك.
قال في الجواهر: " (وللمالك غلة مغصوب مستعمل من رقيق ودابة ودار وغيرها، سواء استعمله الغاصب أو أكراه على المشهور) (2) .
فإن كان المستفيد من المنفعة غير الغاصب، فإن المالك مخير بأخذ قيمة المنفعة من أيهما شاء، قال في المواهب: (من غصب منفعة دار أو استأجر منه رجل تلك المنفعة، فلربها أخذ المنفعة من الغاصب أو من المستأجر، عالمًا كان أو جاهلًا، كما لو غصب طعامًا وباعه واستهلكه المشتري، فلرب الطعام أن يضمن من شاء منهما) .
لكن عند المالكية لو قصد الغاصب باستيلائه على الشيء استيفاء المنفعة لا تمَلُّكَ الذات، فتلف الذات المستوفى منها منفعتها فلا يضمن المعتدي وعلى ذلك "فمن سكن دارًا غاصبًا للسكن فانهدمت من غير فعله فلا يضمن إلا قيمة السكن، إلا أن تنهدم من فعله" (3) .
* ومذهب الشافعية: ضمان منفعة الدار والعبد ونحوههما من كل منفعة يستأجر عليها بالتفويت بالاستعمال، والتفويت عندهم يكون بضياع المنفعة من غير انتفاع، كإغلاق الدار في يد عادية. لمن كان من أهل الضمان.
قالوا: إن غصب منفعة تستباح بالإجارة، فأقام في يده مدة لمثلها أجر ضمن الأجرة.
أما غصب منفعة البضع فإنها لا تضمن عندهم إلا بتفويت الوطء لا فواته.
فيضمن حينئذ بمهر المثل – على تفصيل في ذلك – وعلة عدم الضمان بالفوات هو انتفاء ثبوت اليد على البضع. ومثل هذا في الأصح من مذهبهم: منفعة بدن الحر فإنها لا تضمن إلا بالتفويت دون الفوات، تبعًا لقاعدة: أن الحر لا يدخل تحت اليد (4) .
__________
(1) جواهر الإكليل، شرح مختصر خليل، للإمام صالح عبد السميع الآبي: 2/148، الطبعة الثانية مطبعة مصطفى الحلبي 1366 هـ - 1947م بمصر.
(2) جواهر الإكليل، شرح مختصر خليل، للإمام صالح عبد السميع الآبي: 2/148، الطبعة الثانية مطبعة مصطفى الحلبي 1366 هـ - 1947م بمصر. ومواهب الجليل: 5/274. وقد ذهب ابن القاسم إلى التفريق بين ضمان منافع الدور والأرضين وبين منافع الحيوان. مع اتفاق المالكية جميعًا على عدم ضمان المنافع غير المستوفاة. انظر: مواهب الجليل: 5/285.
(3) جواهر الإكليل: 2/151
(4) نهاية المحتاج: 5/169؛ والمجموع شرح المهذب، للإمام أبي زكريا النووي: 14/59. بتصرف يسير – مطبعة الإمام بمصر.(5/1887)
* ومذهب الحنابلة: الغاصب أجرة المغصوب مدة بقائه بيده إذا كانت للشيء المغصوب منفعة تصح إجارتها، ويوجبون حينئذ أجرة المثل مدة مقامة في يده، سواء استوفى المنافع أو ترك
+ها تذهب.
فإن تلف المغصوب ضمنه الغاصب، أو من تلف بيده المثلي بمثله، فإن أعوز المثل فقيمة مثله يوم إعوازه (1) . "وما ليس بمال لا يغصب كغصب الحر، فلا يضمن بالغصب، وإنما يضمن بالإتلاف. فإن استعمل حرًا مكرهًا لزمه أجر مثله، وإن حبسه مدة لمثلها أجر ففي وجوب أجرها قولان، ولو منعه العمل من غير حبس لم يضمن منافعه" (2) .
وقال المرداوي: "وإن كان للمغصوب أجرة فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامة في يده، يعني إذا كانت تصح إجارته، ثم قال: منافع المقبوض بالعقد الفاسد كمنافع المغصوب تضمن بالفوات والتفويت" (3) .
وأما عند الحنفية، فقالوا في ضمان منافع المغصوب: "ومنافع الغصب غير مضمونة استوفاها أو عطلها، أو استغل" وعللوا لذلك – بما سبقت الإشارة – بعدم ورود الغصب عليها، ولأن لا مماثلة بينها وبين الأعيان، وهي لا تبقى زمانين، ولأنها غير متقومة (4) .
والمتأخرون فرقوا بين المعد للاستغلال ومال اليتيم والوقف وبين غيرها فأوجبوا الضمان فيها دون سواها.
وفيما يلي تفصيل رأيهم: قال السرخسي: لو غصب عبدًا أو دابة فآجره وأصاب من غلته، فالغلة للغاصب، لأن وجوبها بعقده؛ ولأن المنافع لا تتقوم إلا بالعقد، والعاقد هو الغاصب، فإذا هو الذي جعل منافع العبد بعقده مالًا فكان بدله له.
وقد يقال هنا: ولم لا يكون لصاحب العبد؟ فيجاب بأنه كان في ضمان غيره.
قال السرخسي: وفي هذا إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((الخراج بالضمان)) (5) .
فحين كان في ضمان الغاصب فهو الذي التزم تسليمه بالعقد دون المالك فكان الأجر له دون المالك، ويؤمر أن يتصدق بها لأنها حصلت له بكسب خبيث (6) .
__________
(1) نيل المآرب: 1/446.
(2) المغني: 5/448.
(3) الإنصاف في الراجح من الخلاف: 6/201.
(4) الاختيار لتعليل المختار، للعلامة عبد الله بن محمود الموصلي: 2/3، الطبعة الثالثة 1395 هـ - 1975م بمصر.
(5) الخراج: ما يحصل من غلة العين المبتاعة. والحديث أدرجه أبو داود، انظر: عون المعبود، شرح سنن أبي داود، للحافظ ابن قيم الجوزية: 9/415، باب رقم 38، الطبعة الثانية 1388 هـ - 1969 م المدينة المنورة. وأخرجه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود، وابن حبان، والحاكم، وابن القطان، وضعفه البخاري وأبو داود. انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامعة الترمذي، للحافظ محمد المباركفوري: 4/507. الطبعة الثانية دار الاتحاد العربي للطباعة 1385 هـ - 1965 م بمصر، وانظر أيضًا: النسائي، كتاب البيوع، باب رقم 53، وابن ماجه كتاب التجارات، رقم 43؛ ومسند أحمد: 6/49، 208، 237.
(6) المبسوط: 11/77.(5/1888)
وينبني على عدم اعتبار المنافع أموالًا عند الحنفية أنه ليس على الغاصب في سكنى الدار وركوب الدابة أجر. وعللوا لذلك:
بأن الغاصب كان ضامنًا، ومعنى هذا أن ضمان العين باعتبار صفة المالية والتقوم، والمالية والتقوم في العين باعتبار منافعه، ولهذا تختلف قيمة العين باختلاف منفعته، فإذا اعتبرت المنفعة لإيجاب ضمان العين لا يمكن اعتبارها لإيجاب ضمانها مقصودًا. وقد قاس الحنفية ههنا المنفعة على الكسب، وينطبق على الكسب عندهم حكم حديث ((الخراج بالضمان)) فكذلك المنفعة.
لكن هذا مما لا يقول به أبو حنفية وأبو يوسف، "فإن الساكن غير ضامن للدار عندهما" (1) .
ولا يخفى أن صدر الاحتجاج والتعليل الذي ذكره السرخسي يمكن أن يكون حجة على مسلك الحنفية في المنفعة لا لهم، ولعل ذلك دعا السرخسي للقول: " والأصح بناء هذه المسألة على الأصل المتقدم ويعني به قوله: إن المنافع زوائد تحدث في العين شيئًا فشيئًا، وزوائد المغصوب لا يكون مضمونًا على الغاصب، فكذلك المنفعة" (2) .
وأما اعتبار العلة في الخراج، هي الضمان وهو فهم الإمام أبي حنيفة من الحديث لذا قال: "إن الغاصب لا يضمن منافع المغصوب".
فقد ناقش السيوطي هذا الاحتجاج: فقال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بذلك في ضمان الملك، وجعل الخراج لمن هو مالكه إذا تلف تلف على ملكه، وهو المشتري، والغاصب لا يملك المغصوب)) (3) .
وقال السيوطي أيضًا: "بأن الخراج، هو المنافع، جعلها لمن عليه الضمان، ولا خلاف أن الغاصب لا يملك المغصوب. بل إذا أتلفها فالخلاف في ضمانها عليه، فلا يتناول موضوع الخلاف" (4) .
وعلل الكاساني لعدم الضمان في غصب العبد أو الدابة بأنه "لم يوجد تفويت يد المالك عن المنافع؛ لأنها أعراض تحدث شيئًا فشيئًا على حسب حدوث الزمان، فالمنفعة الحادثة على يد الغاصب لم تكن موجودة في يد المالك فلم يوجد تفويت يد المالك عنها، فلم يوجد الغصب " (5) .
ولكن يشكل على رأي الحنفية هذا ما ينبغي أن يتخرج على أصلهم، فيما إذا غصب دارًا أو عقارًا فانهدم شيء من البناء، فإنه لا ضمان عليه؛ لأن الغصب لا يتم إلا بالنقل والتحويل، فإن كان مما لا ينقل كالدور والعقار لم يصح غصبه، ولم يضمن، استدلالًا: بأن غير المنقول مختص بالمنع دون التصرف، فصار كحبس الإنسان عن ملكه، لا يكون موجبًا لغصب ماله، ولأن المسروق لا يكون مسروقًا إلا بالنقل عن الحرز فكذا المغصوب (6) . جاء في الدُّرِ وشرحه قوله: "والغصب إنما يتحقق فيما ينتقل، فلو أخذ عقارًا وهلك في يده بآفة سماوية لم يضمن" (7) .
__________
(1) المبسوط: 11/78.
(2) المبسوط: 11/78.
(3) الأشباه والنظائر: ص 136.
(4) الأشباه والنظائر: ص 136
(5) البدائع: 7/145.
(6) المجموع: 14/64.
(7) الدر المختار، شرح تنوير الأبصار على هامش حاشية ابن عابدين: 5/118.(5/1889)
وقد اختلف رأي الحنفية في ذلك، قال السرخسي: لا ضمان عليه في قول أبي حنيفة، وأبى يوسف الآخر، وعند محمد وفي قول أبي يوسف الأول يضمن، وهو قول الشافعي، أما الشافعي فقد سار على أصله في تحديد الغصب بأنه إثبات اليد على مال الغير بغير إذن مالكه، وهذا يوجد في العقار كما يوجد في المنقول، وأما محمد فقد سار على أصله في حد الغصب: أنه إزالة يد المالك عن ماله، والفعل في المال ليس بشرط، وقد وجد تفويت يد المالك عن العقار، لأن ذلك عبارة عن إخراج المال من أن يكون منتفعًا به في حق المالك، أو إعجاز المالك عن الانتفاع به، وهذا كما يوجد في المنقول يوجد في العقار، فيتحقق الغصب ... وأما أبو حنيفة وأبو يوسف فسارا على أصلهما: أن الغصب إزالة يد المالك عن ماله بفعل في المال، ولو يوجد في العقار.
والدليل على أن هذا شرط تحقيق الغصب الاستدلال بضمان الغصب، فإن أَخْذَ الضمان من الغاصب تفويت يده عنه بفعل في الضمان، فيستدعي وجود مثله منه في المغصوب، ليكون اعتداء بالمثل وعلى أنهما إن سلَّما تحقق الغصب في العقار، فالأصل في الغصب أن لا يكون سببًا لوجوب الضمان، لأن أخذ الضمان من الغاصب ماله عليه (1) .
لكن العقار يضمن عندهم في الأصح في حالات ثلاث في البيع والتسليم والحجور. قال في الدر المختار وشرحه: "والأصح أن العقار يضمن بالبيع والتسليم وكذلك بالحجور إذا كان العقار وديعة" (2) .
واستثنى الحنفية من قاعدتهم في الغصب ثلاثة أمور؛ فقالوا بوجوب الضمان فيها ويكون بأجر المثل، وهذا اختيار المتأخرين منهم وهذه الثلاثة هي:
أولًا: إذا كان المغصوب وقفًا للسكن أو للاستغلال أو لغيرهما كالمسجد.
ثانيًا: إذا كان المغصوب مال يتيم.
قال في البزازية: "والفتوى في غصب دور الوقف وعقاره على الضمان كما في منافعه، وكذا اليتيم، والإمام ظهير الدين أفتى بأجر المثل في الوقف لا في اليتيم، ومن المشايخ من قال: إذا كان ضمانُ النقصان خيرًا لليتيم من أجر المثل يلزم على الغاصب، وإلا أجرَ المثل" (3) .
وقال ابن عابدين في شأن اليتيم: "لا تردد في مال اليتيم، لأن منافعه تضمن بالغصب" (4) .
ثالثًا: "إذا كان البناء معدًا للاستغلال بأن بناه صاحبه لذلك أو اشتراه لذلك. ويشترط عندهم علم المستعمل بكونه معدًا حتى يجب الأجر، وأن لا يكون المستعمل مشهورًا بالغصب " (5) .
__________
(1) انظر تفصيله في البدائع: 7/146، 147.
(2) الدار المختار وشرحه: 5/119.
(3) الفتاوى البزازية، للإمام محمد بن محمد البزاز بهامش كتاب الفتاوى الهندية: 5/403، الطبعة الثانية الأميرية 1310 هـ بمصر، وحاشية ابن عابدين: 6/206.
(4) حاشية ابن عابدين: 5/118.
(5) حاشية ابن عابدين: 5/118.131، 132، بتصرف.1(5/1890)
مبنى الخلاف بين الجمهور والحنفية:
إن مبنى الخلاف في غصب المنفعة يرجع عند التحقيق إلى الخلاف في مفهوم المنفعة. وفي مفهوم الغصب، والثاني هو الذي يعنينا بيانه ههنا.
* فالجمهور يرون أن الغصب هو: "الاستيلاء على حق الغير عدوانًا"، وكما قال الماوردي: هو منع الإنسان من ملكه والتصرف فيه بغير استحقاق فيكمل الغصب بالمنع والتصرف، فإن منع ولم يتصرف كان تعديًّا، وتعلق به ضمان، لأنه تعدٍّ على المالك دون الملك، وإن تصرف ولم يمنع كان تعديًّا، وتعلق به ضمان، لأنه تعد على الملك دون المالك، فإذا جمع بين المنع والتصرف تم الغصب، ولزم الضمان سواء نقل المغصوب عن محله أم لا (1) .
* وعند الحنفية هو: "أخذ مال متقوم محتوم من يد مالكه بلا إذنه لا خفية" (2) . فلا يتم الغصب عند أبي حنيفة إلا بالنقل والتحويل – كما سبقت الإشارة – فإن كان مما لا ينتقل كالدور والعقار لم يصح غصبه، ولم يضمن، وكذا المنفعة ليست مالًا متقومًا حتى يمكن نقلها.
ويفهم من قيد الحنفية في تعريف الغصب في قولهم: "من يد مالكه بلا إذنه". "أن إزالة يد المالك معتبرة في الغصب، وتبعًا لتعريف الشافعية إزالة يد العدوان".
"وعلى هذا فإن ثمرة الخلاف تظهر في زوائد المغصوب كولد المغصوبة وثمرة البستان فإنها ليست بمضمونة عند الحنفية لعدم إزالة اليد، وعند الشافعية مضمونة لإثبات اليد، فالمعتبر في الغصب عند الحنفية إزالة اليد المحقة وإثبات اليد المبطلة، وعند الشافعية المعتبر إثبات اليد المبطلة" (3) .
وعلى هذا فإن مفهوم الغصب أعم وأشمل عند الجمهور عنه عند الحنفية، ومقتضى تعريف الجمهور شموله"سائر الحقوق والاختصاصات" (4) ، والمنفعة عند الجمهور مال لا يجوز الاعتداء عليه فبغصبها يتقرر الضمان.
__________
(1) نهاية المحتاج: 5/142؛ وحاشية الدسوقي: 3/442؛ وجواهر الإكليل: 2/148؛ ومواهب الجليل: 5/274؛ والمغني: 5/374.
(2) درر الحكام في شرح غرر الأحكام، للإمام محمد بن فراموز الشهير بمنلا خسرو: 2/262، طبع نور عثمانية 1970م استانبول.
(3) درر الحكام: 2/262.
(4) نهاية المحتاج: 5/142.(5/1891)
المبحث الثالث
المال والمنفعة
الجمهور والحنفية: يعلم من تعاريف الجمهور السابقة للمال أنه يشمل الأعيان والمنافع والحقوق، والمالكية اعتبروا كل ما يمكن أن يجري فيه الملك مالًا يستوي في ذلك الأعيان والمنافع والحقوق التي تقبل التجزيء – كما سبق الإشارة -.
والشافعية والحنابلة يوافقون في هذا الشمول، ويوافقونهم جملة فيما ينبني عليه من فروع.
وإنما اعتبر الجمهور المنافع أعيانًا، لأنهم لم يشترطوا في المال أن يكون محازًا بذاته بل يكفي إمكان حيازته، وحيازة المنافع إنما يكون بحيازة أصولها، إذ الأعيان مقصودة لمنافعها.
وأما الحنفية فيعلم من تعاريفهم للمال أن المنفعة ليست مالًا؛ لأنهم اشترطوا في المال أن يكون موجودًا ممكن الادخار، فتخرج المنفعة حينئذ من مسمى المال فهي ملك لا مال كما صرح ابن عابدين نقلًا عن صاحب التلويح، قال: "والتحقيق أن المنفعة ملك لا مال؛ لأن الملك ما من شأنه أن يُتصرف فيه بوصف الاختصاص، والمال ما من شأنه أن يُدخر للانتفاع وقت الحاجة" (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين: ص 51، 205.(5/1892)
المبحث الرابع
أسباب ملك والمنفعة
يستفاد ملك المنفعة بأسباب أربعة: الوصية والإجارة والإعارة والوقف.
أولًا – الوصية:
اتفق الفقهاء الأربعة على جواز الوصية بالمنافع، وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة والظاهرية ببطلان الوصية بالمنافع.
قال ابن رشد: "اختلفوا في المنافع، فقال جمهور فقهاء الأمصار: ذلك جائز ". وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأهل الظاهر: الوصية بالمنافع باطلة، ثم ذكر مبنى الخلاف في أن عمدة الجمهور: أن المنافع في معنى الأمول، وإن لم تكن مالًا عند الحنفية إلا أنه يجوز تمليك المنفعة في حال الحياة بطريق الإجارة والإعارة فيكون جائزًا الوصية بها.
وعمدة الطائفة الثانية: أن المنافع منتقلة إلى ملك الوارث؛ لأن الميت لا ملك له فلا تصح له وصية بما يوجد في ملك غيره، فالمنافع معدومة ولا تصح الوصية بمعدوم، وإلى هذا القول ذهب أبو عمر بن عبد البر " (1) .
مذاهب الفقهاء:
ذهب الحنفية إلى جواز الوصية بالمنفعة، وتنتهي بموت الموصى له، ثم تنتقل إلى ورثة الموصي، وقد بنى الحنفية رأيهم في المنفعة ههنا على أصلهم من أن ملك المنفعة ثبت مؤقتًا لا مطلقًا، وعليه فصلوا: فإن كانت الوصية مؤقتة إلى مدة تنتهي بانتهاء المدة، ويعود ملك المنفعة إلى الموصى له بالرقبة إن كان قد أوصى بالرقبة إلى إنسان آخر، وإن لم يكن قد أوصى بالرقبة إلى آخر يعود إلى ورثة الموصى.
وإن كانت مطلقة تثبت إلى وقت موت الموصى له بالمنفعة، ثم ينتقل إلى الموصى له بالرقبة إن كان هنا موصى له بالرقبة، وإن لم يكن ينتقل إلى ورثة الموصي.
جاء في الدر وحاشيته: "صحت الوصية بخدمة عبده وسكنى داره مدة معلومة وأبدًا، ويكون محبوسًا على ملك الميت في حق المنفعة. كما في الوقف حيث يستوفى منافع الوقف على حكم ملك الواقف، فإن خرجت رقبة العبد والدار في الوصية بالخدمة والسكنى، سلمت إلى الموصى له، وإلا تقسم الدار أثلاثًا (2) .
ثم قال: "وبموت الموصى له في حياة الموصي بطلت الوصية، وبعد موته يعود خدمة العبد وسكنى الدار إلى ورثة الموصي بحكم الملك، ولا يعود إلى ورثة الموصى له" (3) .
__________
(1) بداية المجتهد: 2/333؛ والمغني، والشرح الكبير: 6/127.
(2) حاشية ابن عابدين: 5/443، بتصرف؛ والبدائع: 10/4961، مطبعة الإمام.
(3) حاشية ابن عابدين: 5/442، بتصرف؛ والبدائع: 10/4961، مطبعة الإمام. أما بالنسبة لتصرف الموصى له فيقول ابن عابدين: "وليس للموصى له الخدمة والسكن أن يؤجر العبد أو الدار، لأن المنفعة ليست بمال، إنما صح للمالك أن يؤجر ببدل لأنه ملكها تبعًا لملك العين، والمستأجر إنما ملك أن يؤجر مع أنه لا يملك إلا المنفعة، لأنه لما ملكها بعقد معاوضة كانت مالًا بخلاف ملكها بعقد تبرع. فعلى أصل الحنفية إذا ملكها بعوض كان مملكًا أكثر مما ملكه وهو لا يجوز. انظر حاشية ابن عابدين: 5/443.(5/1893)
* وذهب المالكية: إلى جواز الوصية بالمنفعة، فإذا أوصى لشخص معين بمنفعة شيء معين مدة معينة، كأن يوصي بخدمة عبده فلان، أو سكن داره المعينة بالإشارة أو الوصف، أو بركوب دابته الفلانية لزيد مدة سنة مثلًا، وحمل الثلث قيمة ذلك تعين تسليم الموصى به (1) . وقالوا أيضًا: إذا أوصى بخدمة عبد من عبيده لفلان ولم يحددها بزمن، بل حددها بحياة العبد أو أطلق، فإنه يخدمه طول حياته، وإن مات الموصى له فإن ورثته يرثونها بعده؛ لأن الموصي لما لم يحددها علم أنه أراد خدمته حياة العبد (2) .
* وقال صالح الآبي: وإن أوصى لشخص بمنافع عبد معين، ولم يقيد بحياة الموصى له، فلوارثه خدمة العبد ما بقي حيًا، وإن حدد الموصي المنافع الموصي بها بزمن كشهر أو سنة، فالموصى له كالمستأجر في ملك المنفعة في تلك المدة، وجواز إجارته فيها لغيره، وانتقالها لوارثه إن مات قبل تمامها. فإن قتل العبد الموصى بخدمته عمدًا عدوانًا من عبد أو ذمي فللوارث للموصي القصاص أو القيمة (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير: 4/445.
(2) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير: 4/448.
(3) جواهر الإكليل: 2/324.(5/1894)
* وقال الشافعية: بصحة الوصية بمنافع نحو عبد ودار وغلة، ويملك الموصى له بالمنفعة، وكذا بالغلة إن قامت قرينة على أن المراد بها مطلق المنفعة، أو أطرد العرف بذلك فيما يظهر، وتوجيههم لهذا القول راجع إلى أن الوصية ليست إباحة عندهم ولا عارية للزومها بالقبول، ومن ثم جاز له أن يسافر بها عند الأمن، ويد يد أمانة (1) .
* وقال الحنابلة: إن أوصى بخدمة عبد صح، سواء وصى بذلك لمدة معلومة أو للأبد ويعتبر خروج المنفعة من ثلث المال، فإن لم تخرج من الثلث أجيز منها بقدر الثلث. فإن أريد تقويمها، فإن كانت الوصية مقيدة بمدة قوم الموصى بمنفعته مسلوب المنفعة تلك المدة، ثم يقوَّم بمنفعته في تلك المدة فينظر كم قيمتها.
وإن كانت الوصية مطلقة في الزمان كله فقد قيل: تقوَّم الرقبة بمنفعته جميعًا، ويعتبر خروجهما من الثلث، لأنه عبدًا لا منفعة له لا قيمة له غالبًا، وقيل: تقوَّم الرقبة على الورثة، والمنفعة على الموصى له (2) . ويفهم من كلام الفقهاء في الوصية بالمنافع أنها على صور أو أنواع متعددة.
فإما أن تكون الوصية مقيدة بمدة محدَّدة، وإما أن تكون مؤبدة، وإما أن تكون مطلقة عن التقيد بمدة، ولكل حكمه مع اختلاف بين الفقهاء في هذه الصور، ينظر تفصيله في أبواب الوصية من كتب الفقه.
__________
(1) نهاية المحتاج: 6/83؛ وحاشية قليوبي وعميرة: 3/84.
(2) المغني، والشرح الكبير: 6/478.(5/1895)
ثانيًا – الإجارة:
عقد الإجارة هو عقد على منفعة كما يعرفه الفقهاء "عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض" (1) .
والمنفعة من أركان عقد الإجارة عند الجمهور، وهي محل الإجارة عند الحنفية والحنابلة (2) . وعند المالكية والشافعية محل الإجارة منافع أعيان، أو منافع مضمونة في ذمة المؤجر (3) .
واشترط الفقهاء لانعقاد الإجارة على المنفعة شروطًا:
أولًا: أن تقع الإجارة على المنفعة لا على العين.
ثانيًا: أن تكون المنفعة متقومة ومعلومة علمًا ينفي الجهالة.
ثالثًا: أن تكون المنفعة مباحة لا معصية ولا طاعة مطلوب أداؤها.
رابعًا: أن تكون المنفعة مقدورًا على استيفائها.
وأما تحديد المنفعة: فقد اعتبر جمهور الفقهاء العرف في تعيين ما تقع عليه الإجارة من منفعة وقد تتعين بتحديد مدة الإجارة أو تحديد العمل ذاته أو العمل والمدة معًا (4) .
وتنفسخ الإجارة عند الفقهاء بانتهاء مدة الإجارة أو بهلاك العين المؤجرة أو بالإقالة. واختلفوا في انقضائها بموت أحد العاقدين، فذهب الجمهور إلى أن الإجارة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين؛ لأنها عقد لازم (5) .
وذهب الحنفية إلى أن الإجارة تنفسخ "بموت أحد العاقدين لو عقدها لنفسه كما تنفسخ بموت أحد المستأجرين أو المؤجرين في حصته فقط (6) .
وعند الشافعية: تنفسخ بموت المؤجر في إجارة الوقف، جاء في شرح المحلى على المنهاج: "ولا تنفسخ الإجارة بموت العاقدين أو أحدهما، ويخلف المستأجر وارثه في استيفاء المنفعة، ولا تنفسخ بموت مُتَوَلِّي الوقف إلا في صورة ما إذا آجر البطن الأول من الموقوف عليهم الوقف مدة، ومات قبل تمامها فالأصح انفساخها" (7) .
__________
(1) المبسوط: 15/74؛ والمغني: ص 316؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/2؛ وحاشية قليوبي وعميرة: 3/67.
(2) البدائع: 5/2557؛ والمغني: 6/3.
(3) حاشية الدسوقي والشرح الكبير: 4/33؛ وحاشية قليوبي وعميرة: 3/68.
(4) الفتاوى الهندية: 4/411؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/12، 23؛ والمغني: 5/324؛ والمهذب: 1/396.
(5) حاشية الدسوقي والشرح الكبير: 4/32؛ وحاشية قليوبي وعميرة: 3/84؛ ونهاية المحتاج: 5/314؛ والمغني: 5/431.
(6) البدائع: 4/200؛ وشرح الدرر: 2/299.
(7) المحلى على المنهاج بشرح قليوبي وعميرة: 3/84.(5/1896)
ثالثًا – العارية:
إذا كانت المنفعة بسبب العارية فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن العارية – إضافة إلى أنها لا تورث – لا يجوز للمستعير أن يؤجر المستعار للغير خلافًا للمالكية.
قال في الاختيار: "وللمستعير أن يعيرها إن لم يختلف باختلاف المستعملين، وليس له إجارتها، فإن آجرها فهلكت ضمن " (1) .
وقال السيوطي: لا يجوز للمستعير أن يؤجر للغير، بل يستوفي المنفعة بنفسه أو وكيله، فإن أعاره فللمالك أن يرجع عليه بأجر المثل (2) . ثم قال: "كل من مالك المنفعة فله الإجارة والإعارة. ومن ملك الانتفاع فليس له الإجارة قطعًا، ولا الإعارة في الأصح " (3) .
وعلق ابن نجيم على عبارة السيوطي، فقال: وهذا يتخرج على قول الكرخي من أن الإعارة إباحة المنافع لا تملكيها، ثم قال: والمذهب عندنا أنها تمليك المنافع بغير عوض، فهي كالإجارة تمليك المنافع. وإنما لا يملك المستعير الإجارة لأنه ملك المنفعة بغير عوض فلا يملك أن يملكه ما بعوض، ولأنه لو ملك الإجارة لملك أكثر مما ملك ... (4) .
وقال ابن رجب: "المستعير لا يملك نقل حقه من الانتفاع " (5) .
وعللوا لذلك بأن العارية إباحة انتفاع فلا تنتقل إلى الغير، وهي عقد غير لازم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين، أو جنونه، أو إغمائه (6) .
وقال المالكية: "يصح ويندب إعارة شخص رشيد مالك للمنفعة وإن كان مستعيرًا" (7) .
وقال أيضًا: "يصح أن يعير مالك المنفعة (المستعير) عينًا لأجل استيفاء منفعتها، ومحل الصحة ما لم يمنعه المالك" (8) .
رابعًا – الوقف:
إذا وقف شخص عينًا فإن الذي يُمَلَّكُ هو المنفعة ويكون ذلك بالاستغلال أو الاستعمال. وإن نص في الوقف على أحد الأمرين، فلا ينتفع إلا بما نص عليه نظرًا لشرط الواقف لأنه كنص الشارع.
والفقهاء مختلفون في ملك المنفعة والانتفاع.
فالمالكية قالوا في الوقف إذا كان على سكنى الدار: "وإذا وقف وقفًا على أن يُسْكَنَ أو على السكنى، ولم يزد على ذلك، فظاهر اللفظ يقتضي أن الواقف إنما يُمَلِّكُ الموقوف عليه الانتفاع بالسكن دون المنفعة، فليس له أن يؤجره غيره، ولا يُسِكنَه" (9) .
وإن كانت الصيغة محتملة لتمليك الانتفاع أو تمليك المنفعة بأن قال: "ينتفع بالعين الموقوفة بجميع أنواع الانتفاع، فهذا تصريح بتمليك المنفعة، أو يحصل من القرائن ما يقوم مقام هذا التصريح ... فإنا نقضي بمقتضى تلك القرائن ... " (10) .
وذهب الشافعي وأحمد إلى أن المنتفع يملك في الوقف – كما في الوصية – المنفعة لا حق الانتفاع إلا إذا نص على أن المراد حق الانتفاع، أو دلت القرائن على ذلك" (11) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار: 3/56.
(2) نهاية المحتاج: 5/118.
(3) الأشباه والنظائر: ص 326.
(4) الأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 353.
(5) القواعد، لابن رجب: ص 211.
(6) القواعد، لابن رجب: 5/130؛ والمغني: 6/361؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص 143.
(7) جواهر الإكليل: 2/145.
(8) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/433، 434.
(9) الفروق، للقرافي الفرق الثلاثون.
(10) الفروق، للقرافي الفرق الثلاثون.
(11) مغني المحتاج، للإمام محمد الخطيب الشربيني على متن منهاج الطالبين، للإمام يحيى بن شرف النووي: 2/389، مطبعة الاستقامة 1374 هـ - 1955م بمصر.(5/1897)
المبحث الخامس
توريث المنفعة
مذهب الفقهاء:
تكلم الفقهاء عن حكم توريث المنفعة، يجوز أن تنتقل منفعة العين إلى ورثة المستفيد واتفق رأي جمهورهم في بعض الصور واختلف في بعضها الآخر، تبعًا لموضوعها، فإن المنفعة قد تكون عن إجارة أو وصية أو عارية وهذه أهم صورها.
فإن كانت المنفعة بعقد إجارة أو وصية: فقد ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز توريثها قياسًا على الأعيان؛ ولأن الإجارة لا تنفسخ "بموت العاقدين أو أحدهما للزومها كالبيع، فتبقى العين بعد موت المكرى عند المكتري أو وارثه ليستوفي منها المنفعة " (1) . فيحل الوارث محل المورث إلى أن تنتهي المدة المحددة. أو أن تنفسخ الإجارة لسبب آخر، والوصية بالمنفعة كذلك لا تنتهي بموت الموصى له، لأنها تمليك، فتنتقل إلى ورثة الموصي المدة الباقية (2) .
أما الحنفية فعلى أصلهم في أن المنفعة ليست مالًا فإن المنفعة أو حق الانتفاع لا يورث لأنه لا بقاء للمنفعة عندهم، ونقلها من شخص إلى آخر يستلزم بقاءها، والمعدوم لا ينتقل فلا يملك. فتنتهي المنفعة بموت مالكها.
واستثنوا من توريث المنفعة حقوق الارتفاق لحق المرور والشرب والمسيل والتعلي. فإنها تورث عندهم. وعللوا ذلك: بأن حقوق الارتفاق حقوق مالية فيجري فيها الإرث كسائر الأموال (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج: 5/314؛ والمغني: 6/42.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/445؛ ونهاية المحتاج: 6/83؛ والمغني: 6/478.
(3) مجمع الأنهر: 3/567.(5/1898)
المبحث السادس
حقوق الارتفاق
حق الارتفاق: هو "حق مقرر على عقار لمنفعة عقار لشخص آخر" (1) ، "مالكه غير مالك العقار الأول" (2) .
أو هو "حق الانتفاع العيني الثابت لعقار على عقار آخر بقطع النظر عن شخص المالك" (3) . وذلك كحق المرور إلى أرض من طريق هو جزء من أرض مملوكة للغير، وكذا حق الشرب والمجرى والمسيل وحق التعلي. فهذه الحقوق تعتبر عند الجمهور مالًا، فيجوز بيعها، وهبتها، وتورث. وذلك على أصلهم في معنى الأموال.
وذهب الحنفية إلى أن هذه الحقوق ليست أموالًا فلا يجوز بيعها أو هبتها مستقلة عما هي تابعة له من أرض أو غيرها.
قال ابن عابدين: "حق التعلي ليس بمال؛ لأن المال عين يمكن إحرازها وإمساكها، ولا هو حق متعلق بالمال، بل هو حق متعلق بالهواء، وليس الهواء مالًا يباع، والمبيع لا بد أن يكون أحدهما" (4) ، ومع أن الحنفية منعوا بيعها مستقلة إلا أنهم أجازوا بيعها تبعًا لما تتعلق به من أموال، كبيع الأرض مع ما عليها من حقوق مسيل أو شرب أو مرور.
قال الكاساني: "ولو باع الأرض مع الشرب جاز تبعًا للأرض، ويجوز أن يجعل الشيء تبعًا لغيره، وإن كان لا يجعله مقصودًا بنفسه" (5) .
وقد اعتبر الحنفية هذه الحقوق مالية، وإن كانت ليست أموالًا في ذاتها، قال الكاساني: "الشرب ليس بعين مال بل هو حق مالي" (6) . وعلى هذا فكل حق تعلق بمال يجوز بيعه أو هبته تبعًا لهذا المال.
__________
(1) مرشد الحيران: مادة 37.
(2) الملكية ونظرية العقد، للشيخ محمد أبو زهرة: ص 86.
(3) الأموال ونظرية العقد: ص 171. وعرفه المالكية بأنه: إعطاء منافع تتعلق بالعقار. انظر البهجة في شرح التحفة، للإمام أبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي وهامشه، للإمام محمد التاودي: 2/251، الطبعة الثانية مطبعة مصطفى الحلبي 1370 هـ - 1951م بمصر.
(4) شرح فتح القدير للإمام كمال الدين بن الهام على الهداية، للمرغنانى: 5/204، المطبعة التجارية بمصر.
(5) البدائع: 6/89؛ للإمام علاء الدين بن مسعود الكاساني، مطبعة الجمالية بمصر 1328 هـ - 1910م.
(6) البدائع: 6/190؛ للإمام علاء الدين بن مسعود الكاساني، مطبعة الجمالية بمصر 1328 هـ - 1910م.(5/1899)
الفصل السابع
البيع
مبحث
في تعريف البيع وشروطه
تعريف البيع لغة:
مبادلة مال بمال، أو مطلق المبادلة، أي سواء كان في مال أو غيره (1) .
تعريف البيع اصطلاحًا:
عرفه الحنفية: بأنه مبادلة مال بمال، بالتراضي (2) ، وعرفه منلا خسرو من الحنفية بأنه: مبادلة مال بمال بطريق الاكتساب أي التجارة، فخرج به المبادلة بطريق التبرع أو الهبة بشرط العوض، ولم يقل على سبيل التراضي، ليتناول بيع المكره، فإنه بيع منعقد وإن لم يلزم (3) . وعرفه الموصلي بتعريف أجمع وأحق فقال: هو مبادلة المال المتقوم بالمال المتقوم تمليكًا وتملكًا، ثم قال: فإن وجد تمليك المال بالمنافع فهو إجارة أو نكاح (4) .
وعرف المالكية بأنه: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة، ذو مكايسة أحد عوضية غير ذهب ولا فضة معين غير العين فيه (5) . فقوله: (على غير) ، أي على ذوات غير منافع. و (غير تمتع) ، أي انتفاع بلذة، فتخرج الإجارة والكراء والنكاح و (ذو مكايسة) وهي المغالبة وخرج بها هبة الثواب، وقوله: (أحد عوضيه غير ذهب ولا فضة) خرج به الصرف والمراطلة فإنه ليس أحد العوضين فيهما غير ذهب ولا فضة بل العوضان ذهب أو فضة في المراطلة، أو أحدهما ذهب والآخر فضة في الصرف. وقوله: (معين غير العين فيه) خرج السلم، فإن غير العين فيه ليس معينًا، بل في الذمة، والمراد بالعين ما ليس في الذمة فيشمل الغائب، فبيع الغائب ليس سلمًا (6) .
وعرفه الشافعية بما عرفه القيلوبي وهو أفضل تعاريفهم: "عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد لا على وجه القربة". فخرج بقوله: (عقد) المعاطاة، وبـ (المعاوضة) نحو الهدية، وبـ (المالية) نحو النكاح، وبـ (إفادة ملك عين) الإجارة، و (بغير وجه القربة القرض) . والمراد بالمنفعة في هذا التعريف بيع نحو حق الممر، وأما التقييد بالتأبيد فلإخراج الإجارة (7) .
وعرفه الحنابلة بأنه: "مبادلة عين مالية أو منفعة مباحة مطلقًا بأحدهما. أو بمال في الذمة للتملك على التأبيد غير ربا وقرض" (8) .
فقولهم: (مبادلة عين مالية) مرادهم كل جسم أبيح نفعه واقتناؤه مطلقًا فخرج الخنزير والخمر والميتة النجسة ... وقولهم: (منفعة مباحة مطلقًا) ، أي لا تختص إباحتها بحال دون آخر، كممر دار أو بقعة تحفر بئرًا. وقولهم: (بأحدهما) أي عين مالية أو منفعة مباحة مطلقًا، نحو بيع كتاب بكتاب أو بممر في دار أو العكس.
وقولهم: (أو بمال في الذمة) ، أي مبادلة عين مالية أو منفعة مباحة مطلقًا بمال في الذمة من نقد وغيره. وقولهم: (للتملك) احتراز عن الإعارة. وقولهم (على التأبيد) أي بأن لم تقيد مبادلة المنفعة بمدة أو عمل فتخرج الإجارة (9) .
__________
(1) لسان العرب مادة: بيع، والاختيار لتعليل المختار: 2/3.
(2) فتح القدير: 5/455.
(3) درر الحكام في شرح غرر الأحكام: 2/142.
(4) الاختيار: 2/3.
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/2 والفواكه الدواني للشيخ أحمد غنيم النفراوي شرح رسالة أبي محمد القيرواني: 2/109 – الطبعة الثالثة – مطبعة مصطفى الحلبي 1374 هـ - 1955م بمصر.
(6) حاشية الدسوقي في الشرح الكبير: 3/3 و4.
(7) حاشية قليوبي: 2/152.
(8) شرح منتهى الإرادات: 2/140.
(9) شرح منتهى الإرادات: 2/140.(5/1900)
شروط البيع:
اشترط الفقهاء لصحة البيع شروطًا منها ما يتعلق بالصيغة، ومنها ما يتعلق بالمتعاقدين، ومنها ما يتعلق بالمعقود عليه ثمنًا كان أو مثمنًا. وهذا الأخير هو محل اهتمامنا ههنا.
فقد اتفق الفقهاء وفي الجملة على اعتبار الشروط التالية في المعقود عليه سواء كان ثمنًا أو مثمنًا: فاشترطوا:
1- أن يكون المبيع طاهرًا، فلا يصح بيع نجس لا يمكن تطهيره سواء كان مبيعًا أو ثمنًا ونص على ذلك المالكية والشافعية.
2- وأن يكون المبيع مالًا منتفعًا به انتفاعًا شرعيًا. وما لا نفع فيه فليس بمال فلا يصح. فلا يصح بيع الحشرات التي لا نفع فيها، كما لا يصح بيع ما فيه منفعة محرمة كالخمر. واشترطوا في المبيع أن يكون مالًا متقومًا شرعًا، فلا ينعقد بيع الخمر ونحوه كما لا ينعقد بيع اليسير من المال، كحبة من حنطة؛ لأنها ليست مالًا متقومًا، وهذا الشرط متفق عليه.
3- وأن يكون مملوكًا للبائع ملكًا تامًا وقت البيع، وهو شرط انعقاد عند الحنفية، ونص على هذا الشرط الحنفية والشافعية والحنابلة. واستثني من ذلك السلم.
4- وأن يكون مقدورًا على تسليمه، وهو شرط انعقاد عند الحنفية، فلا يصح بيع السمك في الماء أو الطير في الهواء، كما لا ينعقد بيع المغصوب لعدم القدرة على تسليمه وهذا الشرط متفق عليه.
5- وأن يكون المبيع معلومًا لكل من العاقدين علمًا يمنع المنازعة والخلاف وهو شرط صحة عند الحنفية، فلا يصح بيع مجهول جهالة تفضي إلى منازعة كبيع شاة من قطيع. وهذا الشرط متفق عليه.
وقد اشترط الحنفية شرطًا آخر وهو أن يكون المبيع مما يتعلق به الملك فلا ينعقد بيع العشب المباح ولو نبت في أرض مملوكة.
وفي هذه الشروط تفصيل ينظر في مظانه (1) .
__________
(1) انظر التفصيل: فتح القدير: 1/50؛ وحاشية ابن عابدين: 4/6 والاختيار: 2/5 وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/10 و15 و157 وجواهر الإكليل: 2/4؛ والمجموع: 9/157؛ وحاشية قليوبي وعميرة: 2/57 و157 و160 و180 وشرح منتهى الإرادات: 2/142 و145 والمغني: 4/276 والموسوعة الفقهية مصطلح بيع فقرة 27، طبع الكويت؛ والفقه على المذاهب الأربعة: 2/163.(5/1901)
الفصل الثامن
المُلك
المبحث الأول
تعريف الملك
تعريف الملك في اللغة:
قال ابن سيدة: المَلْك والمُلْك والمِلْك احتواءُ الشيء والقدرة على الاستبداد به (1) والمالكية هي العلاقة بين المال والإنسان، بالنظر إلى الإنسان، والمملوكية هي العلاقة بينهما لكن بالنظر إلى المال.
تعريف الملك اصطلاحًا:
تعدد تعاريف الفقهاء له (2) .
فعرفه ابن السبكي بقوله: هو حكم شرعي يقدر في عين أو منفعة، يقتضي تمكن من ينسب إليه من انتفاعه، والعوض عنه من حيث هو كذلك (3) .
وعرفه القرافي بقوله: هو حكم شرعي يقدر في العين أو المنفعة، يقتضي تمكن من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك، والعوض عنه من حيث هو كذلك (4)
وعرفه قاسم بن عبد الله بن الشاط بقوله: هو تمكن الإنسان شرعًا بنفسه أو بنيابة من الانتفاع بالعين أو المنفعة، ومن أخذ العوض، وتمكنه من الانتفاع خاصة (5) .
وعرفه صدر الشريعة بأنه: (اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقًا لتصرفه فيه وحاجزًا عن تصرف الغير) (6) .
وقال الغزي من الحنفية: (الملك عبارة عن المطلق الحاجز) (7) .
وعرفه الكمال بن الهمام بقوله: (هو قدرة يثبتها الشرع ابتداءً على التصرف) (8) .
وعرفه أكمل الدين البابرتي بأنه (القدرة على التصرف في المحل شرعًا) (9) .
قال ابن نجيم: وينبغي أن يقال: إلا لمانع، وهذا القيد لازم، لأنه قد يكون الشخص مالكًا ولا قدرة له على التصرف، كالمحجور عليه. والمبيع المنقول مملوك للمشتري ولا قدرة له على بيعه قبل قبضه. وعرفه الحاوي القدسي بأنه: الاختصاص الحاجز، وأنه حكم الاستيلاء؛ لأنه به يثبت لا غير، إذ المملوك لا يملك كالمكسور لا ينكسر؛ لأن اجتماع الملكية في محل واحد محال فلا بد أن يكون المحل الذي ثبت الملك فيه خاليًا عن الملك، والخالي عن الملك هو المباح، والمثبت للملك في المال المباح الاستيلاء لا غير (10) .
وعرفه الزركشي بقوله: (هو القدرة على التصرفات التي لا تتعلق بها تبعة ولا غرامة دينار ولا آخرة. وقيل هو معنى مقدر في المحل يعتمد المكنة من التصرف على وجه ينفي التبعة والغرامة) (11) .
وعرفه سعد الدين التفتازاني بقوله: (الملك: ما من شأنه أن يتصرف فيه بوصف الاختصاص) . (12) .
__________
(1) لسان العرب مادة: ملك.
(2) المبسوط: 13/122 و 4/116؛ الأشباه والنظائر لابن السبكي: ص 141؛ التلويح والتوضيح: 2/94، و98.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 316.
(4) الفروق: 3/208 وقد اعترض على هذا التعريف ابن نجيم فليراجع في الموضوع المذكور.
(5) الفروق: 3/209 وقد اعترض على هذا التعريف ابن نجيم فليراجع في الموضوع المذكور.
(6) شرح الوقاية في مسائل الهداية: 2/196.
(7) حاشية الغزي على التلويح شرح التوضيح: 1/210.
(8) فتح القدير: 5/74.
(9) هامش فتح القدير: 5/73.
(10) الأشباه والنظائر، لابن نجيم ص 346.
(11) المنثور في القواعد، للإمام بدر الدين بن بهار الزركشي: 3/223، تحقيق د. تيسير فائق – الطبعة الأولى مطبعة الفليج 1402هـ - 1982م الكويت.
(12) التلويح: 2/98؛ وحاشية ابن عابدين: 4/502 – الطبعة الثانية – مطبعة مصطفى الحلبي.(5/1902)
وعرفه ابن تيمية بأنه (القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة بمنزلة القدرة الحسية) (1) .
وقد جمع الأستاذ مصطفى الزرقا بين هذه التعارف بتعريف جامع مانع وهو المختار بقوله: الملك: هو اختصاص حاجز شرعًا يسوغ صاحبه التصرف إلا لمانع (2) . وعرفه الشيخ محمد أبو زهرة بأنه: (اختصاص بالأشياء، الحاجز للغير عنها شرعًا الذي تكون القدرة على التصرف في الأشياء ابتداءً إلا لمانع يتعلق بأهلية الشخص) (3) .
ومن تعاريف الفقهاء السابقة يتضح الفرق بين الملك والمال، فالملك أعم من المال بشموله للمال والمنفعة (4) . حتى على تعريف الحنفية للملك، ولكن لا يلزم عندهم من كون المنفعة قسيمة للمال أن تكون مالًا. فقالوا: (إن المنفعة ملك لا مال) . وذلك راجع إلى كون المنفعة يمكن التصرف فيها بوصف الاختصاص فساغ أن تكون مملوكة، لكن لما لم يكن ادخارها لحين الحاجة فارقت المال، لأن من شأنه عندهم أن يدخر للانتفاع به وقت الحاجة.
أما الجمهور فلم يفرقوا هذه التفرقة، بل صرحوا كما في تعريف ابن السبكي والقرافي، بأن الملك يتناول العين والمنفعة. والتعريف المختار حينئذٍ يتناول الأعيان والمنافع والديون. فيكون الملك والحال هذه ليس أمرًا ماديًا له وجود في الخارج، بل هو حق يرد على الأعيان والمنافع والديون، أو هو علاقة تنشأ بين المالك والشيء المملوك فتكون العلاقة المالكية. ويترتب على هذه العلاقة أن يكتسب صاحب الملك حق التصرف ما لم يمنعه مانع من كونه ناقص الأهلية. أو كان المال مشتركًا أو مرهونًا أو غير ذلك، فالمنع هنا عن التصرف فحسب، وهذا لا ينافي الملكية لأنه منع عارض.
ويلاحظ عند التدقيق أن اختلاف تعاريف الفقهاء للملك يرجع إلى اختلافهم في جهة النظر إلى الملك باعتبارات مختلفة، فمنهم من ينظر إلى كون الملك أمرًا شرعيًا اعتبره الشارع ومنع من الاعتداء عليه. ومنهم من نظر إلى تعريف الملك باعتبار العلاقة والرابطة بين صاحب الملك والشيء أو المال المملوك.
ولعل أقرب هذه التعاريف إلى بيان حقيقة الملك وعناصره تعريف الإمام صدر الشريعة، لولا طوله فنختار عليه تعريف الأستاذ مصطفى الزرقا وهو أن الملك: (اختصاص حاجز شرعًا يسوغ صاحبه التصرف إلا لمانع) (5) .
وتَوَصُّلًا إلى ما يساعد على تحديد ملكية الاسم التجاري ومعرفة طبيعته يحتاج إلى معرفة علاقة الملك بغيره فنتناول المفردات التالية:
الملك والمنفعة، والملك والاختصاص، والملك والإباحة.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: 29/178، الطبعة الأولى 1383هـ، مطابع الرياض. وقد فرق القرافي بين الملك والتصرف فقال: إن الملك عام يترتب على أسباب مختلفة: البيع، والهبة، والصدقة، والإرث، وغير ذلك فهو غيرها، ولا يمكن أن يقال: هو التصرف؛ لأن المحجور عليه يملك ولا يتصرف، فهو حينئذٍ غير التصرف، فالتصرف والملك كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه، فقد يوجد التصرف بدون الملك، كالوصي، والوكيل، والحاكم، وغيرهم يتصرفون ولا ملك لهم، ويوجد الملك بدون التصرف. كالصبيان، والمجانين، وغيرهم، يملكون ولا يتصرفون. ويجتمع الملك والتصرف في حق البالغين الراشدين النافذين للكلمة الكاملين الأوصاف، وهذا هو حقيقة الأعم من وجه والأخص من وجه أن يجتمعا في صورة وينفرد كل واحد منهما بنفسه في صورة كالحيوان والأبيض. انظر الفروق: 3/208.
(2) المدخل الفقهي العام، للشيخ مصطفى الزرقا: 1/257.
(3) الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد أبو زهرة: ص 61.
(4) حاشية قليوبي وعميرة: 3/247.
(5) والملك في القانون كما عرفه السنهوري: (أن حق ملكية الشيء هو حق الاستئثار باستعماله وباستغلاله وبالتصرف فيه على وجه دائم وكل ذلك في حدود القانون) . الوسيط: 8/493.(5/1903)
المبحث الثاني
الملك والمنفعة والاختصاص والإباحة
(أ) الملك والمنفعة:
العلاقة بين الملك والمنفعة علاقة من حيث المحل، وقد اصطلح الفقهاء على تقسيم الملكية من حيث المحل إلى ملكية تامة، وملكية ناقصة (1) .
والملكية التامة: هي ملكية العين والمنفعة، فيتمتع المالك حينئذٍ بجميع الحقوق والتصرفات التي يمكنه الشارع منها، فيتصرف في العين والمنفعة.
وفي مرشد الحيران: (الملك التام من شأنه أن يتصرف به المالك تصرفًا مطلقًا فيما يملكه، عينًا ومنفعة واستغلالًا، فينتفع بالعين المملوكة وبغلَّتها وثمارها ونتاجها، ويتصرف في عينها بجميع التصرفات الجائزة) (2) .
والملكية الناقصة: هي ملكية المنفعة دون العين. أو العين دون المنفعة. وعلى هذا فالملكية التامة نوع واحد هو ملكية العين والمنفعة.
وأما الملكية الناقصة فهي على أنواع: ملكية العين فقط، أو المنفعة فقط، أو الدين. على البيان التالي:
أما ملك العين والمنفعة: فهذا هو الأصل في الممتلكات على جهة العموم فيما يملك بسببه كالبيع والهبة. قال ابن رجب في هذا النوع: هو (عامة الأملاك الواردة على الأعيان المملوكة بالأسباب المقتضية لها) (3) .
وأما ملك العين: ويتحقق عند تملك الرقبة دون المنفعة، فتكون الرقبة مملوكة لشخص والعين لآخر. فلا يحق حينئذٍ لمالك العين أن يتصرف في المنفعة أو ينتفع بها، كما لا يجوز أن يتسبب في الإضرار بمالك المنفعة بتصرف في العين تصرفًا ضارًّا. ومثل له ابن رجب والسيوطي وغيرهما: (بالعبد الموصي بمنفعة أبدًا رقبته ملك للوارث) (4) ، (أو بالوصية بالمنافع لواحد وبالرقبة لآخر) (5) .
وأما ملك المنفعة: ويتحقق عند تملك الإنسان حق الانتفاع كاستئجار دار للسكنى، قال ابن رجب: (ملك المنفعة بدون عين له ضربان: أحدهما ملك مؤبد ويندرج تحته صور عدة، منها: الوصية بالمنافع كما سبق، وهذه الصور تشمل جميع أنواعها إلا منفعة البضع ففيه خلاف، ومنها الوقف) . والضرب الثاني ملك غير مؤبد ومن هذا النوع الإجارة ومنافع المبيع المستثناة في العقد مدة معلومة، ومنه ما هو غير موقت لكنه غير لازم كالعارية على وجه، وإقطاع الاستغلال.
__________
(1) حاشية قليوبي وعميرة: 3/247.
(2) مرشد الحيران مادة: 11.
(3) القواعد، لابن رجب ص 208، القاعدة السادسة والثمانون؛ والأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 326.
(4) الأشباه والنظائر، للسيوطي: 326.
(5) القواعد، لابن رجب: ص 209؛ ومرشد الحيران مادة 18.(5/1904)
وأما ملك الانتفاع المجرد: فهو أن يملك الانتفاع دون المنفعة، وله صور منها: ملك المستعير، فإنه يملك الانتفاع لا المنفعة: ومنها المنتفع يملك جاره من وضع خشبة وممر في دار ونحو … (1) .
وقال السيوطي: (كل من ملك المنفعة فله الإجارة والإعارة، ومن ملك الانتفاع فليس له الإجارة قطعًا، ولا الإعارة في الأصح) (2) .
وأما ملك الدين: بأن يكون لشخص دين في ذمة آخر بسبب ما (كثمن مبيع على مشتريه، وبدل قرض على مقترضه، وقيمة مال متلف على من أتلفه ونحو ذلك، ولا يسمى دينًا إلا إذا كان المبلغ التزامًا في الذمة) (3) ، وعلى هذا فالوديعة إذا كانت نقودًا مثلًا هي من قبيل ملك العين لأنها أمانة، ولو تصرف بها عُدَّ غاصبًا فيضمن؛ لأن مبلغ الوديعة أصبح دينًا في ذمته.
والجمهور على رأيهم في مضمون المال فيعتبرون الديون أموالًا لعدم اشتراطهم كون المال عينًا يمكن إحرازها – كما سبقت الإشارة – والحنفية كما هو أصل مذهبهم في مضمون المال لم يعتبروا الديون أموالًا حقيقة بحيث يتصور قبضها فقالوا: (الدين مال حكمًا لا حقيقةً، ولذا كانت البراءة منه تصح بلا قبول لعدم المالية الحقيقية) (4) ، (فهم يعتبرون الدين مالًا حكمًا لا حقيقةً، لكونه معدومًا، وإنما جعل مالًا لحاجة الناس إليه في المعاملات، فهو ليس بشيء حقيقة، ولكنه وصف حكمي يلحق بالأموال باعتبار أنه يصير مالًا بالقبض) (5) .
لكن الراجح عند جمهورهم كما هو اتفاق الفقهاء: على أن الديون محل للملك وخالف في ذلك بعض الحنفية، وقالوا: إنها لا تملك، لأنها وصف شرعي. وفي حاشية ابن عابدين: (والحق ما ذكروا من ملكه) . وكذلك في فتح القدير (6) .
__________
(1) القواعد، لابن رجب: ص 209؛ والأشباه والنظائر للسيوطي: ص326
(2) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص326.
(3) المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى الزرقا: 1/275.
(4) فتح القدير: 5/250.
(5) الملكية في الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد السلام العبادي: 1/186.
(6) حاشية ابن عابدين 4/299؛ وفتح القدير: 5/3، أفاد ذلك الدكتور عبد السلام العبادي في كتابه الملكية: 1/186.(5/1905)
أسباب الملك الناقص:
يثبت ملك المنفعة دون العين بأسباب متعددة:
1- الإجارة: فيملك المستأجر منفعة العين خلال مدة الإجارة، وله استيفاء المنفعة المقررة بنفسه. كما أن له أن ينقلها إلى غيره كأن يملكها لآخر بعوض أو بغير عوض بشرط ألا تختلف المنفعة باختلاف المستفيدين، فإن اختلفت احتاج إلى إذن المؤجر.
2- الإعارة: مذهب الحنفية – عدا الكرخي – ومذهب المالكية – وهو وجه للحنابلة – أن الإعارة تفيد تمليك المنفعة؛ لأن المعير سلط المستعير على تحصيل المنافع، وصرفها إلى نفسه على وجه زالت يده عنها، والتسليط على هذا الوجه يكون تمليكًا لا إباحة، كما في الأعيان. وعرفت بأنها: تمليك المنفعة بلا عوض (1) . ومذهب الشافعية والحنابلة والكرخي من الحنفية: أنها تفيد إباحة المنفعة؛ وذلك لجواز العقد من غير أجل، ولو كان تمليك المنفعة لما جاز من غير أجل بالإجارة. والإعارة تصح بلفظ الإباحة أيضًا. والتمليك لا ينعقد بلفظ الإباحة وعرفت بأنها: إباحة الانتفاع بملك الغير (2) .
3- الوصية: تملك منافع الأعيان بالوصية، ويجوز للموصى له أن يستوفي المنفعة بنفسه، أو يملكها غيره إذا لم تكن الوصية مفيدة.
4- الوقف: وتملك منافع الأعيان بالوقف لشخص أو مجموعة من الأشخاص، وتستوفي المنفعة بالنفس أو بالغير حسب شروط الواقف.
__________
(1) الموسوعة الفقهية مصطلح (إعارة) : 5/188، مطبعة الموسوعة الفقهية 1405 هـ - 1984م الكويت. وانظر: مجمع الأنهر: 3/452؛ والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 353؛ وحاشية الدسوقي والشرح الكبير: 3/433؛ والفروق للقرافي: 1/193؛ والمغني: 5/227.
(2) الموسوعة الفقهية: 5/188، وانظر حاشية قليوبي وعميرة: 3/17؛ وكشاف القناع: 2/334؛ والاختيار: 3/55.(5/1906)
(ب) الملك والاختصاص:
ينبغي التفرقة بين الملك والاختصاص كما فرق جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة.
* فالاختصاص عند الجمهور: هو حق التصرف الناقص، ويكون للمنافع. فالمالكية حصروا الاختصاص بالمنافع، كإقطاع الإمام أرضًا من موات والسبق إلى المباحات، ومقاعد الأسواق والمساجد وما إلى ذلك (1) .
* وقال الشافعية: (إن الملك يتعلق بالأعيان والمنافع، والاختصاص إنما يكون في المنافع، وقالوا: إن الاختصاص أوسع، ولهذا شواهد منها: أنه يثبت فيها لا يملك من النجاسات كالكلب، والزيت النجس، وجلد الميتة، ونحوه، ومنها: من قعد بنحو مسجد أو شارع، فإنه لا يزعج عنه) (2)
* وذكر العز بن عبد السلام: أن (الاختصاص بالمنافع على أنواع وعد منها: الاختصاص بإحياء الموات بالتحجر والإقطاع، والاختصاص بالسبق إلى المباحات والاختصاص بالسبق إلى مقاعد الأسواق، والمساجد، والربط، والمدارس، ومواقع النسك) (3) .
* قال الحنابلة: إن حق الاختصاص هو عبارة عما يختص مستحقه بالانتفاع به، ولا يملك أحد مزاحمته فيه، وهو غير قابل للشمول – أي شمول كل صور الانتفاع – والمعاوضات، ويدخل تحت ذلك صور – عدّوا منها: الكلب المباح اقتناؤه كالمعلم لمن يصطاد فيه، ومنها: الأدهان المتنجسة المنتفع بها بالإيقاد، وغيره على القول بالجواز، فأما نجسة العين كدهن الميتة، فالمنصوص أنه لا يجوز الانتفاع به، ومنها مرافق الأملاك كالطريق والأفنية، ومسيل الماء ونحوها، هل هي مملوكة، أو ثبت فيها حق الاختصاص؟ وفي المسألة وجهان:
أحدهما: ثبوت حق الاختصاص فيها من غير ملك.
والثاني: الملك، ومنها الإقطاع وهو ضربان، إقطاع إرفاق كإقطاع مقاعد السوق ورحاب المساجد، فهذه يجوز للإمام إقطاعها ولا يملكها المقطع، وإقطاع موات من الأرض لمن يحييها، ولا يملكه بل يصير أحق به (4) .
__________
(1) حاشية الدسوقي: 4/68.
(2) قواعد الزركشي: 3/234، وحاشية قليوبي وعميرة: 3/160؛ ونهاية المحتاج: 5/145 وراجع كلام الشافعية في بيع الاختصاص في حاشية قليوبي وعميرة: 3/92 و3/180 وعدم جريان الهبة فيه 3/110.
(3) قواعد الأحكام: 2/86.
(4) القواعد، لابن رجب ص 204 بتصرف يسير؛ والمغني: 6/166؛ وشرح منتهى الإرادات 2/327.(5/1907)
* وأما الحنفية: فإنهم يعبرون عن (الاختصاص) بـ (الحق) أو (الاستحقاق) لكن مفهومه واحد عندهم كما هو عند الجمهور، والاختلاف في الفروع. ولا مشاحة في الاصطلاح. يقول الكاساني: (لو حجر الأرض لا يملكها بالإجماع، لأن الموات يملك بالإحياء، ولكن صار أحق بها من غيره حتى لم يكن لغيره أن يزعجه. لأنه سبقت يده إليه، وإذا نزل بأرض مباحة أو رباط، صار أحق بها، ولم يكن لمن يجيء بعده أن يزعجه عنها) (1) .
وعلى هذا فيختلف الملك عن الاختصاص من حيث الموضوع ومن حيث ما يترتب على كل منهما من آثار.
فالملك موضوعه ومحله كل ما أجاز الشارع الانتفاع به، ويترتب عليه حق الملك التام وحرية التصرف الكاملة.
وأما الاختصاص فموضوعه ومحله المنافع أو المرافق العامة كالأسواق والطرق والأراضي الموات التي يقوم الشخص بتحديدها ووضع العلامات عليها، ومحله أيضًا ما حرمه الشارع ابتداء، وأجاز الانتفاع به في ظروف وحدود معينة كالانتفاع بجلد الميتة وكلب الصيد والحراسة – على خلاف بين الفقهاء في هذه الفروع.
5- الملك والإباحة: عرف الجرجاني الإباحة بأنها: الإذن بإتيان الفعل كيف شاء الفاعل في حدود الإذن (2) .
وعرفها الزركشي بأنها: تسليط من المالك على استهلاك عين أو منفعة ولا تمليك فيها (3) . وعرفها الشيخ علي الخفيف بأنها: حق يُثْْبِتُ للإنسان أثرًا لإذنه بأن ينتفع (4) .
والإباحة قد تكون خاصة بأن يأذن المالك بالانتفاع من العين سواء كان مالكًا للعين أو المنفعة. إما باستهلاكها، كأن يأذن له أن يأكل طعامه أو أن يأذن له بمنفعة العين، كأن يأذن له أن يستخدم دابته.
ويترتب على الإباحة جواز التصرف بالعين أو المنفعة في حدود الإذن، دون أن يتعدى الجواز إلى التصرف بالانتفاع إلى العين تصرفًا مشعرًا بالملكية كأن يبيع أو يهب أو يؤجر. ولا يجوز الانتفاع لغير المأذون له، كما لا يجوز له أن يَكِلَ أو ينيب آخر، بل ينتفع بنفسه.
وقد تكون الإباحة عامة وتكون حينئذٍ من الشارع إما للانتفاع كما في استخدام الطرق العامة والمصالح العامة. وإما للتمليك كإباحة الصيد وإحياء الموات.
وعلى هذا فإن الأثر المترتب على الإباحة يختلف فيما إذا كان الإذن من الشارع أو من العباد، فإذن الشارع يفيد الملك أو الاختصاص.
وإذن العباد فيه الخلاف بين الفقهاء، هل تناول المباح على ملك المبيح أو على ملك المباح له، وهل يرتفع الضمان مطلقًا. وخلافهم أيضًا في حكم المباح المستهلك، وفي المال المنثور على وجه الإباحة.
والذي نميل إليه أن الإباحة لا تفيد في ذاتها تمليكًا، وإنما هي طريق إليه، والذي يملك تمليك المباح صاحبه مالك العين أو المنفعة ومجرد الإذن له ليس تمليكًا. (ولكنه بانتفاعه واستيفائه ما أذن فيه يتملك ما استوفاه، فالضيف يتملك الطعام بوضعه في فيه، ومن نثرت عليهم النقود في الأفراح والمحافل – حسبما جرت العادة – يملكونها بالتقاطها) (5) .
__________
(1) البدائع: 6/195، كما استخدم الكاساني لفظ: (الاختصاص) في استدلاله على اعتبار الكلب مالًا، فقال: (والدليل على أنه منتفع به حقيقة مباح الانتفاع به شرعًا) ، والدليل على أنه مباح الانتفاع به شرعًا على الإطلاق أن الانتفاع به بجهة الحراسة والاصطياد مطلق شرعًا.. لأن شرعه يقع سببًا ووسيلة للاختصاص القاطع للمنازعة (البدائع: 6/3006، طبع مطبعة الإمام) .
(2) التعريفات 2، بتصرف للإمام الشريف على بن محمد الجرجاني، الطبعة الأولى 1403 هـ 1983م بيروت.
(3) قواعد الزركشي: 1/73.
(4) أحكام المعاملات، للشيخ علي الخفيف: ص 42.
(5) أحكام المعاملات، للشيخ علي الخفيف: ص 44، وتراجع المسألة وتفصيل خلاف الفقهاء في كتاب: "الإباحة عند الأصوليين والفقهاء" للدكتور محمد سلام مدكور ص 253 وما بعدها، الطبعة الثانية المطبعة العالمية 1965م بمصر.(5/1908)
الفصل التاسع
التكييف الشرعي للاسم التجاري
إن معرفة طبيعة الاسم التجاري هي أساس الحكم الشرعي ومبناه ومبرره وكلما تحددت صفة وطبيعة الموضوع أمكن إلحاق الحكم الشرعي المناسب له.
ولقد عرفت مفاصل الاسم التجاري – وما في حكمه – على وجه التفصيل، وجرى بحث الموضوع في الأطر التي تحكمه، أو التي يدخل هو مفرد في موضوعها، سواء في ذلك الجانب القانوني باعتباره المنظم للواقعة، أو الفقه الإسلامي باعتباره الجهة المطلوب منها الحكم الشرعي ليكون البديل المشروع في الواقعة محل البحث.
وسوف نوضح طبيعة الاسم التجاري في أمرين يئول إليهما غيرهما، وينبني الحكم الشرعي على وفقهما:
الأول: هو إثبات أن الاسم التجاري في مفهوم الفقه الإسلامي يعتبر حقًا.
والثاني: أنه يعتبر منفعة.
الأول: الاسم التجاري حق:
يفهم من تعريف الاسم التجاري – السابق – من أنه "الاسم الذي ارتضى التاجر التعامل بوساطته ليميز منشأته عن نظائرها"، أنه في حقيقته عبارة عن علاقة تنشأ بين هذا الاسم التجاري المتضمن لسلع معينة وبين الجمهور، جسد هذه العلاقة جهد التاجر واجتهاده في تمييز سلعته وتجويدها بحيث اكتسب الاسم التجاري سمعة وشهرة جعل الإقبال عليه كبيرًا وتعارف جمهور الناس أو جمهور منه على صلاحيته، وجودة ما يشير إليه هذا الاسم دون غيره.
ولا ريب أن صاحب الاسم التجاري لم يكتف بإطلاق اسم مجرد لسلعته أو بضائعه، وإنما ضمن هذا الاسم صفات ميزته عن غيره من الأسماء والسلع، ولا يتحقق ذلك إلا بنوع إتقان يعرف به، ويتفرد عما سواه، أو ينافس به غيره من الأسماء الجيدة السمعة، ولولا ذلك الإتقان ما كان لهذا الاسم مزية على غيره، ولكان اسمًا مجردًا لا قيمة له، فلا سمعة وشهرة حقيقية يخشى عليها حتى تطلب حمايتها. بل إن الاسم التجاري رديء السمعة يهبط بسعر السلعة عند إرادة بيعه وقد يكون ذلك سببًا في خسارة كبيرة. ولذلك يعمد راغب الشراء في اتخاذ اسم تجاري جديد، وفي هذا إشارة إلى أن الاسم التجاري طيب السمعة له قيمة ذاتية.
ومن جانب آخر فإن التاجر الذي نجح في إيجاد اسم تجاري له سمعة وشهرة قد بذل جهدًا ذهنيًا وأموالًا ووقتًا ليس بالقليل حتى بنى هذا الاسم، وأنزله منزلة مقبولة لدى الكافة أو جمهور الناس.(5/1909)
ولا شك أن جهده هذا قد ساعده فيه استشاريون ومختصون ليضمن أحسن المواصفات لسلعه، وأفضل طرق ترويج هذه السلع وتسويقها، وهذا لا ريب كلفه أموالًا طائلة أخصها وأهمها ما بذله من دعاية لازمة لترويج الاسم التجاري.
وقد أصبحت الدعاية اليوم من مستلزمات العمل الناجح لتزاحم الأصناف المتماثلة والمتشابهة إلى حد كبير يكاد يصل حد التطابق في المواصفات.
فما لم يصاحب الاسم التجاري بيان وترغيب بأساليب متعددة، فإن السلع الجيدة تبور وتضيع قيمتها في غمرة الدعايات المؤازرة لأسماء تجارية أخرى مشابهة، أو قد تقل عنها جودة.
فالدعاية للاسم التجاري ضرورية لإيجاد السمعة والشهرة، ولحماية هذه السمعة بعد تحققها، ولذا فإن التاجر محتاج إلى الاستمرار في الدعاية والإعلان بين الفينة والأخرى كي يأمن استمرار اسمه التجاري في الأذهان حيًا ومرغوبًا، بعيدًا عن المنافسة التي قد تستبدل به غيره.
ولا ريب أن هذا بذل مادي ضخم، موضوعه وسببه الاسم التجاري، أو بمعنى أصح موضوعه السمعة والشهرة التي يمثل الاسم التجاري وعاءها وعنوانها.
ولا يخفى أن الدعاية والإعلان لا تعني بالضرورة واقعًا حقيقيًا يمثل الاسم التجاري بالمواصفات التي تحملها عنه هذه الدعاية، فقد تكون دعاوى ليس لها في الواقع وجود، وهذا غش وتدليس لا ينفي المصلحة ولا يرفعها، ولكنه يشوب هذه المصلحة بنوع غش وخداع ينبغي كشفه، وحماية أصحاب المصالح المشروعة الجادين في أسمائهم التجارية منه، وحماية جمهور الناس من مثل هذه الدعايات الموهمة غير الواقع.
وعلى كل الأحوال فإن العرف الجاري والتجربة المتكررة بين الناس تجعل للاسم التجاري الذي يعبر عن واقع وحقيقة إذا صحبته دعاية كافية رجحانًا على الاسم التجاري الذي يعبر عن زيف وخداع، وإن ضخمت دعايته فالبقاء للأصلح في أسواق الناس.
فالاسم التجاري – والحال هذه – له واقع ملموس، كما أن له قيمة ذاتية مستقلة عن السلع التي يمثلها ويحتويها.
وإلى جانب ذلك فإن للاسم التجاري أيضًا أهدافًا وأغراضًا يحققها، أخصها وأهمها أنه يحفظ السلع من التقليد والتزييف، ويوجد ارتباطًا وصلة وانطباعًا معينًا بينه وبين الجمهور، هذا الارتباط الذي ينتج ما نسميه السمعة والشهرة التجارية.
ولا شك البتة أن هذه السمعة في حقيقتها وواقعها مصلحة فعلية بالنسبة للتاجر من جانب، ولعامة الناس المتعاملين من جانب آخر.
فأما مصلحة التاجر: فإنه قد بذل من جهده وفكره وأمواله الشيء الكثير في سبيل هذا الاسم ليضمن لبضائعه رواجًا وسمعة ونجاحًا، فمن مصلحته الخاصة أن يتحقق له ذلك، وبالتالي فمن مصلحته أو من حقه أن يحمي جهده وفكره وأمواله، أو بمعنى آخر أن تحفظ قيمة اسمه التجاري، فلا يتعرض للتقليد أو التزييف، كما تحفظ سمعته من التشويه.
والمصلحة ههنا هي عنوان الحق والدالة عليه، أو هي في الحقيقة الحق ذاته.(5/1910)
وأما مصلحة العامة: فإن من مصلحة أفراد المجتمع عامة ومن حقهم أن يحصلوا على البضائع التي تحمل مواصفات جيدة يحتاجونها ويرغبون فيها. فمن حقهم – والحال هذه – أن يُحمى هذا الاسم التجاري المرغوب دفعًا للغش والتزييف، وهذا كله مرجعه عند التحقيق إلى مصلحة المجتمع ذاته، إذ من المصلحة الاجتماعية أن تخلو أسواق الناس من السلع الرديئة والمغشوشة، وتسوده السلع الجيدة، ويُمَكَّن أفراده من الحصول على البضائع ذات السمعة والشهرة التي تعبر حقيقة عن الجودة والصلاحية.
ومن هذه الناحية يجب على الدولة أن تقر هذا الواقع وتحميه، فهو يمثل مصلحة اجتماعية عامة، ولا يكون لها ذلك إلا بحماية مصلحة التاجر صاحب الاسم التجاري المقبول، فهو السبب الفعلي في وجود هذه المصلحة، وهو بالتالي المُمَكَّن شرعًا من التصرف، فهو في كل ذلك صاحب حق ولا شك.
فإذا كان هذا كله من شأن الاسم التجاري. فإنه لا ريب يعتبر في قواعد الشرع ومقاصده حقًا شرعيًا تجب حمايته، ومنع الاعتداء عليه، وترتيب الآثار الشرعية لصاحبه كاملة شأنه شأن الأعيان المملوكة.
وقد أثبتنا سابقًا أن الحقوق أموال وهي من هذا الجانب يجري فيها الملك والاختصاص ما دام محلها مالًا أو له تعلق بالمال وكان قابلًا للتجزيء.
فالاسم التجاري من هذا الوجه مال يجري فيه الاختصاص والملك.(5/1911)
الثاني – الاسم التجاري منفعة:
تبين من تفصيل الموضوع سابقًا بما لا مجال للتردد فيه أن للاسم التجاري منفعة يشكل الاسم التجاري عنوانها ووعاءها، وتنسب المنافع حينئذ للاسم التجاري، وهذه المنافع أشبه بمنافع الأعيان ولكنها منافع إيجابية نامية، وقد تستمر في نموها وتوسيع رصيد عملائها، وقد يضمر ذلك تبعًا لعوامل خارجية وذاتية: من قوة الدعاية لها، وتطوير سلعتها، وإجادة تصنيعها وإتقانها، وتحسين الخدمات المقدمة، وما إلى ذلك.
فنمو منافع الاسم التجاري يعتمد على مدى الجهد الذهني المبتكر، والجهد المالي، والنشاط العملي المبذول. وكلما كانت الجهود المبذولة مركزة وفعالة كلما كان ثبات الاسم التجاري ورسوخه ونماؤه وانتشاره كبيرًا. ولذا فإن مجال التنافس فيه كبير في سبيل تقديم الأفضل في جانبي الإبداع الفكري والحضاري.
وهذا يشير إلى حقيقة أن الاسم التجاري إنما هو منفعة في مفهوم الفقه الإسلامي فيسري عليه ما يسري على منافع الأعيان سواء بسواء.
لكن مع ملاحظة أن منافع الأعيان محدودة ثابتة مرتبطة بأعيانها لا تستوفي دونها. في حين أن منافع الاسم التجاري منفصلة عن مصدرها وهو صاحب إنتاجها وإبداعها بدلالة تصور إمكان بيع الاسم التجاري منفردًا عما يمثله من بضائع، وقد يستخدم لترويج نوع آخر من السلع وينفصل عن صاحبه ومبدعه لينتقل إلى آخر ويرتبط به.(5/1912)
ومن جانب آخر: فإن الاسم التجاري بما له من شهرة وسمعة لا يمثل في حقيقته المادة المصنعة أي لا يمثل محل الاتجار وعينه، فهذه المادة المصنعة هي بمثابة مصدر هذه الشهرة ومنبعها، ولا يبعد القول بأن الشهر والسمعة ثمرة هذه العين، وهي ثمرة غير محسوسة، أو بمعنى أصح منفعة غير محسوسة. وتأخذ هذه الثمرة قيمتها باعتبار مواصفات متميزة ومميزة لهذه العين عن غيرها.
وعلى هذا فإن الاسم التجاري صفة معنوية مستقلة نتجت عن عين هي مادة تجارية بذل التاجر في سبيل إتقانها وتسويقها جهده فكريًا وماديًا، فهي والحال هذه ثمرة منفصلة ومستقلة عن مصدرها استقلالًا ماديًا، وهي وإن كانت ثمرة ومنفعة، إلا أنها تختلف عن منافع الأعيان التابعة والمرتبطة بمثل العقارات والمنقولات، من حيث إنّ مصدر منافع الأعيان، هي ذات الأعيان فحسب، في حين أن مصدر منافع الاسم التجاري الجهد الذهني والمادي المبذول في هذه الأعيان.
ولما كان الاسم التجاري مصدره الجهد الذهني والمادي المنسوب لصاحبه، كان وجوده نسبيًا في السلع من النوع الواحد، وكان ذلك أدعى للتنافس والإبداع، مما يكسب الاسم التجاري المتميز شهرة وسمعة حقيقية. وهذا مما يحقق مقاصد الشارع في توفير الأصلح لمعايش الناس، وهذه مصلحة معتبرة شرعًا، فإذا تعارف الناس وتوافقوا على تفضيل اسم تجاري على آخر، كان هذا بمثابة مصلحة مستندها العرف.
ولما كانت المصلحة منفعة – كما قررنا سابقًا – والمنفعة مال متقوم على رأي جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة ومتأخري الحنفية، وهي كذلك أموال متقومة على رأي متقدمي الحنفية إذا ورد العقد عليها تحقيقًا لمصلحة الناس، فإذا كان ذلك كذلك فيمكن القول إن الاسم التجاري يعتبر مالًا في الفقه الإسلامي لا ريب.
وإذا كان الاسم التجاري منفعة ومالًا متقومًا صلح أن يكون محلًا للملك. لأن الناس تعارفوا على تموله وتقويمه واعتباره حتى جرى العرف بالاعتياض عنه بمقياس مدى ما فيه من منفعة متحصلة من استخدام مصدره.
فعين الاسم التجاري ليس مقصودًا لذاته بقدر ما هو مقصود من تحصيل منافعه كما قال العز بن عبد السلام: "إن المنافع هي المقصود الأظهر من جميع الأموال" (1) ، إذ لا يمكن أن تحاز المنافع إلا بطريق حيازة أعيانها، وما دام العرف قد جرى بين الناس بالاعتياض عن الاسم التجاري فهو – والحال هذه – يمثل قيمة مادية، لأن الناس لا يعتاضون ما لا قيمة له، وما له قيمة هو مال؛ لأنه كما قال الشافعي – وسبقت الإشارة إليه -: "لا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه، وإن قلت، وما لا يطرحه الناس" (2) ، فما يتموله الناس ولا يطرحونه فهذا منهم دليل على ماليته ومنفعته، ولذا رأينا قولهم: "إن مالا منفعة فيه ليس بمال فلا يقابل به" (3) . فكل ما فيه منفعة فيه قيمة، وبقدر المنفعة تكون القيمة أي المالية، فالمنفعة مناط القيمة، سواء في ذلك الأعيان أو المنافع أو الأمور المعنوية.
__________
(1) قواعد الأحكام: 2/17.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 327.
(3) حاشية قليوبي وعميرة: 1/157.(5/1913)
ومن جانب آخر فإن الجمهور كما رأينا يرى أن الملك علاقة معتبرة شرعًا بين المالك والمملوك وهذه العلاقة علاقة اختصاص، أو هو صفة شرعية يمنحها الشارع من يستحقها. والمال وصف شرعي كما قال الشاطبي: "المال ما يقع عليه الملك، ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه" (1) .
فالمال هاهنا وصف شرعي، أو اعتبار من الشارع بوجود هذه العلاقة، وما تستتبعه من حق التصرف ومنع الغير من الاعتداء عليه.
ويترتب على ذلك أن هذا الاعتبار الشرعي له دور في مالية الشيء، بل لولاه ما اعتبر الشيء مالًا، فكل ما يعتبره الشارع من هذا الوجه هو مال سواء أكان عينًا أم منفعة أم حقًا (2) .
فمدار المالية على المنفعة عند فقهائنا لا على كون الشيء من الأعيان، قال البهوتي: "إن المال ما فيه منفعة مباحة " (3) .
فقد يكون عينًا لا منفعة فيه فليس هو بمال حينئذ، وقد يكون غير عين تصحبه منفعة فيعتبر مالًا، إذا كانت المنفعة محترمة شرعًا، ومتقومة عرفًا، ويمكن إحرازها، ولا يحتم الفقهاء في تحقق ملك المنفعة ملك العين، وإنما يعتبرون إمكان الحيازة كافيًا في تحقق الملك.
فإذا جرى الملك في الأعيان أو المنافع اعتبر المحل مالًا: "فإن جريان الملك في الأعيان يستلزم ماليتها ما دام الانتفاع به مباحًا شرعًا. وجريان الملك في المنافع يستلزم ماليتها شرعًا أيضًا على الراجح في الفقه الإسلامي المقارن والمعاوضة أساسها الملك " (4) ، وهي جارية عرفًا في الاسم التجاري وما في حكمه كالابتكار الذهني، وقد بين الشيخ علي الخفيف صفة المالية ومناطها، فقال: "ومن الفقهاء من صرح بأن (المالية) ليست إلا صفة للأشياء، بناء على تمول الناس، واتخاذهم إياها مالًا، ومحلًا لتعاملهم، ولذلك لا يكون إلا إذا دعتهم حاجتهم إلى ذلك، فمالت إليه طباعهم، وكان في الإمكان التسلط عليه، والاستئثار به، ومنعه من الناس، وليس يلزم لذلك أن يكون مادة مدخرة لوقت الحاجة، بل يكفي أن يكون الحصول عليها ميسورًا عند الحاجة إليها غير متعذر، وذلك متحقق في المنافع، فإذا ما تحقق ذلك فيها، عدت من الأموال، بناء على عرف الناس وتعاملهم" (5) ، "فالمنفعة تعتبر أساسًا للقيمة والمالية، ولو كانت ترفيهية يسيرة الشأن، كما في تغريد بلبل أو تصويت ببغاء" (6) .
وعلى هذا كله يمكن القول مع الاطمئنان: أن الاسم التجاري منفعة ومال من جانب وهو حق في ذات الوقت من جانب آخر، ولما كانت الحقوق أموالًا يجري فيها الاختصاص والملك ما دام محلها مالًا، أو له تعلق بالمال، ويقبل التجزيء، فإن الاسم التجاري من هذا الوجه مال ومنفعة وحق.
__________
(1) الموافقات: 2/17.
(2) الحقوق أموال عند المالكية، انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/457، وسيأتي لذلك ذكر لاحقًا.
(3) الإقناع: 2/59.
(4) حق الابتكار، الدكتور فتحي الدريني: ص 30.
(5) الملكية: 1/13.
(6) حق الابتكار، الدكتور فتحي الدريني: ص 33(5/1914)
التصرف بالاسم التجاري:
إن التصرف بالاسم التجاري – وما في حكمه – ينبني على الكلام في التكييف الفقهي الشرعي له، وقد استقر الرأي واطمأنت النفس تمامًا إلى القول بأن: الاسم التجاري حق ومنفعة ومال يجري فيه الملك … وما دام ذلك كذلك فإن الأصل أن تسري فيه، وتجري عليه جميع التصرفات الجارية في الأعيان.
لكن لما كان موضوع الاسم التجاري والحكم الشرعي فيه مستجدًا، احتاج توثيق الحكم فيه إلى أمرين: تأصيله وتكييفه أو بيان طبيعته من جهة، وإثبات إمكان تطبيق هذا التأصيل على فروع المسألة من جهة أخرى، فإذا التقيا وتضافرا تأكد الاطمئنان في سلامة الحكم في أصل المسألة. ومن هنا كانت الحاجة إلى بيان مدى قبول الاسم التجاري لإجراء التصرفات عليه. بعد أن عرفنا تكييفه أمرًا ملحًا.
فبناء على التكييف السابق نستطيع القول: إن جمهور الفقهاء على جواز بيع الاسم التجاري، وإجراء التصرفات عليه بمثل ما تجري على الأعيان سواء بسواء مع ملاحظة أمرين:
الأول: اختلاف طبيعة الأعيان عن المنافع والحقوق.
الثاني: أن يكون الاسم التجاري يعبر عن واقع حقيقي لا صوري، خاليًا عن الكذب والتزييف.
وبيان ذلك يتضح في جانبين أساسين يجمعان شتات الموضوع ويسوغان القول بجواز إجراء التصرفات على الاسم التجاري.
وهذا الجانبان هما: كون الاسم التجاري حقًا، وكونه مالًا.(5/1915)
الجانب الأول - الاسم التجاري حق:
فقد أثبتنا فيما سبق أن الاسم التجاري في حقيقته مصلحة وحق، وقد رأينا اتجاه جمهور الفقهاء إلى اعتبار العلاقة الاختصاصية المباشرة بين التاجر والاسم التجاري بحيث يكون مسئولًا مسئولية كاملة عن هذا الاسم التجاري تجاه الآخرين، وفي ذات الوقت يمتنع على الآخرين الاعتداء على هذا الاسم، حتى يكون الاعتداء عليه اعتداء على حق مالي متقرر ما دام الاسم التجاري يمثل منفعة ذات قيمة في عرف الناس، والعلاقة إذا كانت على هذا الوجه تكون في فقه الشرع علاقة حق عيني، فيكون الاسم التجاري حقًا عينيًا وماليًا إذ الحقوق أموال كما نص عليه المالكية سواء أكانت مالية أو غير مالية (1) مع استثناء الحقوق التي لا تقبل التجزيء – كما سبق التنويه -.
الجانب الثاني - الاسم التجاري مال:
إن الاسم التجاري مال لما فيه من منفعة كبرى، هي أهم منافع المتجر، بل إن المتجر دون هذا الاسم والشهرة والسمعة التي تجلب الجمهور لا معنى له، ولا قيمة تجارية حقيقية فيه.
ولقد ثبتت هذه المنفعة وتأكدت من تعارف الناس والتجار منهم على سبيل الخصوص على اعتبار القيمة والمنفعة في هذا الاسم التجاري، فقبلوا التعارض فيه. والمعاوضة أساس الملك، والملك مال عند المالكية، ونظرًا لما فيه من قيمة فهو مال عند الشافعية والحنابلة – كما سبق بيانه -.
وبالنظر إلى كل من هذين الجانبين سواء كانا مجتمعين أو منفردين تصلح كلها أن تكون محلًا للملك فيجري فيها – في خصوص الاسم التجاري – جريانه في غيرها من الأعيان، فالملك يتحقق دون نظر إلى كون محله عينًا أو منفعة أو أمرًا معنويًا ما دام بالإمكان حيازته واستيفاؤه أو الاختصاص به إذ الاختصاص يقوم مقام الحيازة فيما لا تقبل طبيعته الحيازة المادية كالديون. وإذا كان ذلك كذلك فإن الاسم التجاري يجري فيه الملك والاختصاص فيجوز التصرف فيه بالبيع والهبة والوصية وما إلى ذلك. كما يجري فيه الإرث ويلزم، كما يلزم ضمانه عند التلف، وفي الجملة يجزي فيه ما يجزي في الأعيان، إذ حاله من حالها فحكمه حكمها. مع مراعاة طبيعة كل منهما.
هذا هو الحكم في أصل الموضوع، أما فروعه وتطبيقاته فينبغي أن يراعى فيها ما يشترط لصحة التصرف فيها من شروط.
فيراعى في بيع الاسم التجاري أن لا يترتب على هذا البيع غرر من شأنه إبطال العقد وإفساده فبيع الاسم التجاري يلزمه بيع مضمونه فيما يدل عليه من جودة وإتقان ومواصفات للسلع المشمولة في وعائه. فإن انفصلت الجودة والإتقان عن ذات الاسم التجاري كان ذلك تدليسًا وغشًا لا يوقعه من توهم الجودة، ولما يوقعه من تغرير وتدليس للناس في إقبالهم على ذات السلع بناء على معهودهم في هذا الاسم التجاري الذي يستوعبها. فإن البيع في هذه الحال عقد باطل لما فيه من غرر في المثمن وهو الاسم التجاري.
أما إذا انتقل الاسم التجاري مع ما يدل عليه من جودة بضائعه وثبات صفاته المعهودة لدى المتعاملين معه، فإن تغير صاحب الاسم التجاري لا يغير من الأمر شيئًا فقد انفصل الاسم بمزاياه وشهرته إلى غيره، فلا يترتب على هذا تدليس أو تغرير. يستوي في ذلك أن يكون محل البيع الاسم التجاري وما يستوعبه من سلع وملحقاتها، أو بيع الاسم التجاري منفردًا مع اشتراط أن ينشئ المشتري مضمونًا جديدًا من السلع لهذا الاسم بذات المواصفات والجودة المعهودة من ذي قبل. فإن لم يكن ذلك فيجب أن يعلن التاجر أو الجهة المسئولة للناس كافة: أن الاسم التجاري المعهود لم يعد يمثل ما كان داخلًا في مشتملاته ووعائه، وأن المشتملات قد تغيرت من حيث المواصفات والأنواع. فإن فعل ذلك ارتفع اللبس والغرر.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/457.(5/1916)
شبهة وردها:
قد يقال: إنه ما دام الاسم التجاري كما تقرر هو حق عيني مالي متقرر، فينبغي ليصح أن يُمَكَّن صاحبه من سلطات الملك الثلاث وهي: الاستعمال والاستغلال والتصرف.
ولا شك أن الاسم التجاري لا يمكن لصاحبه من أن يستعمله استعمالًا شخصيًا، فإذا تخلف عنصر من عناصر سلطة الملك، فلا يصح اعتباره محلًا للملك.
فيرد على هذا: بأن "الملك في جوهره علاقة اختصاصية، أو حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة كما يقول الإمام القرافي في فروقه، والإمام السيوطي في نظائره، ذلك هو مناط الملك، وأما السلطات فآثار الملك لا عينه، والشأن في الملك أن تكون له هذه الآثار، لكن ثبوت هذه الآثار جميعها ليس مناطًا لثبوت الملك نفسه، فالملك يثبت بإحداها ما دام قد تحقق مناطه وهو الاختصاص. ألا ترى إلى حق المرور، هو حق متقرر لمنفعة عقار على عقار آخر، يثبت لصاحبه سلطة الاستعمال فقط دون الاستغلال؟ والموقوف عليهم للسكنى يثبت لهم حق الاستعمال كذلك دون الاستغلال؟ وهذا لا ينفي أن يكون لهم حق في ملك المنفعة على هذا الوجه " (1) .
"فلا أثر إذن لتخلف ثمرة من ثمرات الملك على ثبوت معنى الملك نفسه، فإذا كان الشأن في الملك أن تثبت سلطاته الثلاث جميعًا، لكن ذلك ليس من مستلزماته" (2) ، وعلى هذا فلا ريب أن الاسم التجاري يثبت فيه حق الملك فيما له من سمعة وشهرة وقيمة وإن تخلف أحد سلطات الملك فيه ما دام تخلفها راجعًا إلى طبيعتها، وهذا لا يهدم الملك ولا ينقصه.
الدكتور عجيل جاسم النشمي
__________
(1) حق الابتكار، للدكتور فتحي الدريني: ص 48، وقد ساق ذلك في معرض كلامه على "حق الابتكار"، وحق الابتكار قسيم الاسم التجاري في مقسم الحقوق المعنوية، فما يجري على حق الابتكار من حيث الجملة يجري على الاسم التجاري من حيث طبيعة كل منهما. وقد أفدت منه في هذا الجانب، فلينظر المرجع المذكور: ص 41-48.
(2) الملكية، للشيخ علي الخفيف: 1/99، عن المرجع السابق ذكره.(5/1917)
المراجع
مُرتبة على حروف المعجم
1- الإباحة عند الأصوليين والفقهاء، للدكتور محمد سلام مدكور – الطبعة الثانية – المطبعة العالمية – 1965م بمصر.
2- الاختيار لتعليل المختار، للإمام عبد الله الموصلي – الطبعة الثالثة – 1395 هـ - 1975م بمصر.
3- أحكام المعاملات الشرعية، للشيخ علي الخفيف – الطبعة الثانية 1363 هـ - 1944م بمصر.
4- الأشباه والنظائر في قواعد فروع الشافعية، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي – الطبعة الأخيرة – مطبعة مصطفى الحلبي 1378 هـ - 1959م بمصر.
5- الأشباه والنظائر لابن نجيم
6- الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، للإمام شرف الدين المقدسي – المطبعة المصرية بالأزهر.
7- الأموال ونظرية العقد، للدكتور محمد موسى – الطبعة الأولى 1372 هـ - 1990م.
8- الإنصاف في الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للعلامة علاء الدين علي بن سليمان المرداوي – الطبعة الأولى – مطبعة السنة المحمدية 1376 هـ - 1956م.
9- البحر الرائق شرح كنز الدقائق، للإمام زين الدين بن نجيم – الطبعة الثانية بمصر.
10- بدائع الصنائع، للإمام علاء الدين زين الدين بن مسعود الكاساني – مطبعة الجمالية 1328 هـ 1910م بمصر.
11- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، للإمام محمد بن أحمد بن رشد القرطبي – الطبعة الثانية – مطبعة مصطفى الحلبي 1370 هـ - 1951م بمصر.
12- البهجة شرح التحفة، للإمام أبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي – الطبعة الثانية – مطبعة مصطفى الحلبي 1370 هـ - 1951م بمصر.
13- بين الشريعة والقانون الروماني، للدكتور صوفي أبو طالب – طبع مكتبة نهضة مصر.
14- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للحافظ المباركفوري – الطبعة الثانية، دار الاتحاد العربي للطباعة 1385 هـ - 1965م بمصر.(5/1918)
15-تحفة المحتاج بشرح المنهاج، للإمام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي بحاشية الشيخ عبد الحميد الشرواني والشيخ أحمد بن قاسم العبادي – طبع بولاق بمصر.
16- التشريع الصناعي، للدكتور محمد حسني عباس – دار النهضة العربية 1967 م بمصر.
17- التعريفات، للإمام الشريف علي بن محمد محمد الجرحاني – الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983م بيروت.
18- التلويح على التوضيح شرح التنقيح، للإمام صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود، والشرح للإمام سعد الدين التفتازاني.
19- جواهر الإكليل شرح مختصر الإمام خليل، للشيخ صالح عبد السميع الآبي – الطبعة الثانية – مصطفى الحلبي 1366 هـ -1947م بمصر.
20- حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، للعلامة محمد أمين الشهير بابن عابدين – الطبعة الخامسة – مصطفى الحلبي 1386 هـ -1966م بمصر.
21- حاشية العلامة محمد عرفة الدسوقي على الشرح الكبير، للإمام أحمد الدردير – طبع دار إحياء الكتب العربية بمصر.
22- حاشية العدوي على شرح عبد الباقي الزرقاني لمتن خليل – الطبعة الأولى – المطبعة الأميرية بولاق 1306 بمصر.
23- حاشية الإمامين شهاب الدين القليوبي وعميرة على منهاج الطالبين، للإمام محيي الدين النووي بشرح العلامة جلال الدين المحَلَّي – طبع دار إحياء الكتب العربية بمصر.
24- حق الابتكار في الفقه الإسلامي المقارن، للدكتور فتحي الدريني، طبع مؤسسة الرسالة – الطبعة الثالثة 1404 هـ - 1984 م بيروت.
25- حق الملكية، للدكتور عبد المنعم فرج الصده – الطبعة الثالثة – مطبعة مصطفى الحلبي 1967م بمصر.
26- درر الحكام شرح غرر الأحكام، للعلامة منلا خسرو وبهامشه حاشية العلامة الشرنبلالي.
27- رد المحتار على الدر المختار، للعلامة محمد أمين المعروف بابن عابدين طبع الأميرية 1323 هـ بمصر.
28- شرح فتح القدير، للإمام كمال الدين بن الهمام على الهداية، للمرغناني – المطبعة التجارية بمصر.(5/1919)
29- شرح المنار وحواشيه من علم الأصول، للإمام عبد العزيز بن ملك على متن المنار، للإمام عبد الله حافظ الدين النسفي وعليه حاشيتا الإمامين عزمي زاده وابن الحلبي – طبع دار سعادة 1315 هـ استانبول.
30- شرح منتهى الإرادات، للإمام منصور بن يونس البهوتي – نشر عالم الفكر.
31- الشريعة الإسلامية تاريخها ونظرية الملكية والعقود، للدكتور بدران أبو العينين بدران – نشر مؤسسة شباب الجامعة بمصر.
32- عون المعبود شرح سنن أبي داود، للحافظ ابن قيم الجوزية – الطبعة الثانية 1388 هـ - 1969 م المدينة المنورة.
33- الفتاوى البزازية، للإمام محمد بن محمد البزاز بهامش الفتاوى الهندية – الطبعة الثانية الأميرية 1310 هـ بمصر.
34- فتاوى شيخ الإمام أحمد بن تيمية – الطبعة الأولى – مطابع الرياض 1383 هـ الرياض.
35- الفروق، للإمام شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي – مطبعة إحياء الكتب العربية – الطبعة الأولى 1346 هـ بمصر.
36- الفقه على المذاهب الأربعة، للشيخ عبد الرحمن الجزيري – الطبعة السادس بمصر.
37- الفواكه الدواني، للشيخ أحمد غنيم النفراوي شرح رسالة أبي محمد القيرواني – الطبعة الثالثة – مصطفى الحلبي 1374 هـ - 1955 م بمصر.
38- القانون التجاري، للدكتور علي حسن يونس.
39- القانون التجاري، للدكتور محمد حسني عباس – دار النهضة العربية 1966م مصر.
40- قواعد الأحكام، للإمام العز بن عبد السلام.
41- القواعد في الفقه الإسلامي، للإمام عبد الرحمن بن رجب الحنبلي – الطبعة الأولى 1392 هـ 1973م بمصر.
42- كشف الأسرار عن أصول البزدوي، للإمام عبد العزيز البخاري.
43- لسان العرب، لابن منظور.
44- مبادئ القانون التجاري، للدكتور مصطفى كمال طه – الطبعة الأولى – دار المعارف 1962م بمصر.
45- المبسوط للإمام شمس الدين السرخسي – الطبعة الأولى – مطبعة السعادة بمصر.
46- مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر – الطبعة الأميرية بمصر.
47- المجموع شرح المهذب، لأبي زكريا النووي – مطبعة الإمام بمصر.
48- مجلة الأحكام العدلية – الطبعة الخامسة 1388 هـ - 1968 م.
49- محاضرات في الحقوق العينية الأصلية، للدكتور سعيد عبد الكريم مبارك – دار الطباعة الحديثة 1970م البصرة.
50- المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي، للشيخ مصطفى أحمد الزرقا – الطبعة الثالثة – مطبعة الجامعة 1377 هـ - 1958م دمشق.
51- مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان، للعلامة محمد قدري باشا – الطبعة الأولى 1338 هـ بمصر.
52- مصادر الالتزام في قانون التجارة الكويتي مقارنًا بالفقه الإسلامي والمجلة، للدكتور عبد الفتاح عبد الباقي.
53- مصادر الحق في الفقه الإسلامي، للدكتور عبد الرزاق السنهوري – مطبعة دار المعارف 1967م بمصر.
54- المصباح المنير، للعلامة الرافعي.
55- مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، للعلامة مصطفى السيوطي الرحيباني – منشورات المكتب الإسلامي – بيروت.
56- المعاملات الشرعية، للشيخ أحمد أبو الفتوح.
57- المعاملات الشرعية، للشيخ أحمد إبراهيم – الطبعة الثانية – لجنة التأليف والترجمة 1363 هـ - 1944 بمصر.
58- مغني المحتاج، للإمام الخطيب الشربيني على متن منهاج الطالبين، للإمام محيي الدين حيي بن شرف النووي – مطبعة الاستقامة 1374 هـ - 1955 م بمصر.
59- المغني، لابن قدامة المقدسي – طبع سجل العرب 1389 هـ - 1969م وطبع المنار 1347 هـ بمصر.(5/1920)
60- الملكية في الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد السلام داود العبادي – طبع وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – الطبعة الأولى 1394 هـ - 1974م الأردن.
61- الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد أبو زهرة – دار الفكر العربي بمصر.
62- المنثور في القواعد، للإمام بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي – تحقيق د. تيسير فائق- الطبعة الأولى – مطبعة الفليج 1402 هـ 1982م الكويت.
63- الموجز في شرح قانون التجارة الكويتي، للدكتور عبد العزيز العكيلي – الطبعة الأولى 1398 هـ -1978 م الكويت.
64- الموافقات في أصول الأحكام، للإمام أبي إسحاق إبراهيم اللخمي الشاطبي – مطبعة المدني – الطبعة الثانية 1395 هـ - 1975م بمصر.
65- الموسوعة الفقهية – مطبعة الموسوعة الفقهية – دولة الكويت.
66- الميراث والوصية، للشيخ محمد زكريا البرديسي – طبع الدار القومية للطباعة والنشر 1383 هـ - 1964 م بمصر.
67- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، للإمام محمد بن أبي العباس الرملي – نشر المكتب الإسلامية بمصر.
68- نيل المآرب بشرح دليل الطالب، للشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني، تحقيق الدكتور محمد الأشقر – الطبعة الأولى نشر مكتبة الفلاح 1403 هـ - 1983 م الكويت.
69- الوجيز في الملكية الصناعية والتجارية، للدكتور صلاح الدين الناهي – الطبعة الأولى – دار الفرقان 1409 هـ - 1984م الأردن.
70-الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور عبد الرزاق السنهوري – الطبعة الثانية دار النهضة العربية 1964م بمصر.(5/1921)
بيع الحقوق المجردة
إعداد
الشيخ محمد تقي العثماني
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين ورحمة العالمين، وعلى آله وأصحابه الذين رفعوا معالم الدين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد ظهرت اليوم أنواع من الحقوق الشخصية التي ليست أعيانًا في نفسها، ولكن شاع تداولها في الأسواق عن طريق البيع، وقد أقرت القوانين الوضعية بجواز بعضها، ومنعت من تداول بعضها، ولكن الأسواق مكتثة بمثل هذه المعاملات. وهي على سبيل المثال: خلو الدور والحوانيت، وحق استعمال اسم تجاري مخصوص أو علامة تجارية خاصة (Trade Mark) أو الترخيص التجاري (License) وما يسمى في اللغة المعاصرة: حقوق الملكية الذهنية، أو الأدبية والفنية (Intellectual Property) مثل حق التأليف والنشر، وحق الابتكار، وحق الرسام في لوحاته المبتكرة.
وجميع هذه الحقوق تعتبر في العرف التجاري المعاصر مملوكة تجري عليها أحكام الأموال والأملاك الشخصية، فإنها تباع وتشترى، وتؤجر وتوهب وتورث، شأن الأعيان والأموال المادية سواء بسواء.
فالمسألة المطروحة أمامنا: هل يجوز في الشريعة الإسلامية أن تعتبر هذه الحقوق أموالًا يصح بيعها وشراؤها، أو الاعتياض عنها بصورة من الصور المشروعة، أم لا يجوز ذلك؟
ولم تكن المسألة في عهد الفقهاء القدامى بهذا الشكل الواسع، فمن الطبيعي أن لا يوجد في كتبهم جواب خاص عن جزئياتها الموجودة في عصرنا، غير أنهم تحدثوا عن كثير من الحقوق ومسألة الاعتياض عنها حسب ما كان موجودًا أو متصورًا في عصرهم، فمنهم من منع الاعتياض عن الحقوق المجردة، ومنهم من أجاز بعض الأنواع منها. ولو استقصينا ما كتبه الفقهاء في هذا الباب لوجدنا أن أنواع الحقوق كثيرة، وعبارات الفقهاء فيها مختلفة، ولم أظفر بعد بكلمة جامعة تشمل جميع أنواع الحقوق، ويوضح الضابط الذي يمكن أن تبنى عليه المسائل في الموضوع، فنحتاج أن نستخرج الضوابط في هذا الباب من دلائل القرآن والسنة، والجزئيات المبعثرة في كتب الفقه التي يمكن أن تصير نظائر لما نحن بصدده، ونسأل الله تعالى أن يسدد خطانا ويشرح صدورنا بما فيه حق وصواب حسب ما يرضاه سبحانه وتعالى، وهو الموفق والمعين.(5/1922)
والذي يتحصل من استقراء الحقوق التي تحدث الفقهاء عن الاعتياض عنها، أنها تنقسم إلى نوعين:
1- الحقوق الشرعية، وهي التي ثبتت من قبل الشارع، ولا مدخل في ثبوتها للقياس.
2- الحقوق العرفية، وهي التي ثبتت بحكم العرف، وأقره الشرع. ثم كل واحد من هذين النوعين ينقسم إلى قسمين:
الأول: الحقوق التي شرعت لدفع الضرر عن أصحابها.
الثاني: الحقوق التي شرعت أصالة.
والحقوق الثابتة أصالة تنقسم إلى أقسام:
1- الحقوق التي هي عبارة عن منافع مؤبدة في ذوات الأشياء، مثل حق المرور وحق الشرب، وحق التسييل وغيره.
2- الحقوق التي تثبت بسبق يد الرجل إلى شيء مباح، وتسمى حق الأسبقية أو حق الاختصاص.
3- الحقوق التي هي عبارة عن حق إحداث عقد مع آخر أو إبقائه، مثل حق استئجار الأرض، أو الدار، أو الحانوت، أو حق البقاء في وظيفة من وظائف الوقف.
ثم إن الاعتياض عن الحقوق يمكن بطريقين:
الأول: الاعتياض عن طريق البيع،وحقيقته نقل ما كان يملكه البائع إلى المشتري بجميع مقتضيات النقل.
الثاني: الاعتياض عن طريق الصلح والتنازل، وحقيقته أن التنازل يسقط حقه، ولكن لا ينتقل الحق إلى المنزول له بمجرد نزوله، ولكن يزول مزاحمة النازل بمقابلة المنزول له.
وقد ذكر الإمام القرافي رحمه الله الفرق بين الطريقين، حيث قال:
" اعلم أن الحقوق والأملاك ينقسم التصرف فيها إلى نقل وإسقاط، فالنقل ينقسم إلى ما هو بعوض في الأعيان، كالبيع والقرض … وإلى ما هو بغير عوض كالهدايا والوصايا … فإن ذلك كله نقل ملك في أعيان بغير عوض.
وأما الإسقاط فهو إما بعوض كالخلع، والعفو على مال … فجميع هذه الصور يسقط فيها الثابت، ولا ينتقل إلى الباذل ما كان يملكه المبذول له من العصمة وبيع العبد ونحوهما " (1) .
فنريد أولًا أن مذكر هذه الأنواع من الحقوق التي ذكرها الفقهاء في كتبهم، ونتكلم على كل منها على حدة، بذكر ما قال فيه الفقهاء رحمهم الله تعالى، فنستخلص من كلامهم ما يدلنا على الحكم الشرعي في هذه الحقوق التي شاع تداولها بين الناس، والتي نريد أن نعرف حكم الاعتياض عنها والله سبحانه وتعالى هو الموفق والمعين.
__________
(1) الفروق للقرافي: 3/110، - الفرق التاسع والسبعون -.(5/1923)
الحقوق الشرعية:
والذي نقصد باصطلاح " الحقوق الشرعية " أنها حقوق ثبتت من قبل الشارع، ولا مدخل فيها للقياس، بمعنى أنها لم تثبت لأصحابها إلا بنص جلي أو خفي من قبل الشارع، ولولا ذلك النص ما ثبتت. مثل حق الشفعة، وحق الولاء، وحق الوراثة، وحق النسب، وحق القصاص، وحق التمتع بالزوجة، وحق الطلاق، وحق الحضانة والولاية، وحق المرأة في قسم زوجها لها.
وإن هذه الحقوق على قسمين:
الأول: حقوق ليست ثابتة أصالة، وإنما أثبتها الشارع لدفع الضرر عن أصحابها ونستطيع أن نسميها " الحقوق الضرورية ".
الثاني: حقوق ثبتت لأصحابها أصالة، لا على وجه دفع الضرر، ونستطيع أن نسميها: " الحقوق الأصلية ".
الحقوق الضرورية:
فأما القسم الأول من هذه الحقوق وهي الحقوق الضرورية، فمثاله حق الشفعة، فإنه ليس حقا ثابتًا بالأصالة، لأن الأصل أن المتبايعين إذا عقدا بيعًا عن تراض منهما، فلا حق للثالث أن يتدخل بينهما، ولكن الشريعة إنما أثبتت حق الشفعة للشريك والخليط والجار لدفع الضرر عنهم. وكذلك حق المرأة في قسم زوجها لها، إنما شرع لدفع الضرر عنها، وإلا فالزوج له الخيار في أن يتمتع بزوجته ويبيت عندها متى شاء. ويدخل فيه حق الحضانة، وولاية اليتيم، وخيار المخيرة.
وحكم هذا النوع من الحقوق أنه لا يجوز الاعتياض عنها، لا عن طريق البيع، ولا عن طريق الصلح والتنازل بمال.
والدليل عليه عقلا: أن الحق لم يكن ثابتًا لصاحبه أصالة، وإنما ثبت له لدفع الضرر عنه، فإن رضي بإعطائه لغيره، أو تنازل عنه لآخر، ظهر أنه لا ضرر له عند عدمه، فيرجع الأمر إلى الأصل، وهو عدم ثبوت الحق له، فلا يجوز له أن يطالب على ذلك بعوض، كالشفعة إذا تنازل عنها الشفيع، ظهر أنه لا ضرر له في البيع الذي كان سببًا لثبوت حقه فانتفى حقه في نقض ذلك البيع، ولا يجوز إذن أن يأخذ على ذلك مالًا.
وكذلك حق القسم للمرأة كان لدفع الضرر عنها، فلما تنازلت عنه ظهر أنها لا تتضرر بترك القسم، فلا يجوز لها أخذ العوض على هذا التنازل. ومثله المرأة المخيرة من قبل زوجها بقوله " اختاري " لها الخيار في فسخ نكاحها منه دفعًا للضرر عنها، فلو قالت: أختار زوجي وأبطل هذا الخيار بمال يعطيني، ظهر أنه لا ضرر لها في بقائها مع زوجها، فلا تستحق أخذ العوض على ذلك. وكذلك زوجة العنين لها أن تفسخ نكاحها من زوجها العنين لدفع الضررعن نفسها فإن رضيت البقاء معه بمال، ظهر أنها لا تتضرر ببقاء النكاح، فلا يجوز أخذ العوض.(5/1924)
الحقوق الأصلية:
وأما النوع الثاني من الحقوق الشرعية، فهي الحقوق التي ثبتت لأصحابها أصالة، لا على وجه دفع الضرر فقط، ومثل حق القصاص، وحق تمتع الزوج بزوجته بقاء نكاحها معه، وحق الإرث، وما إلى ذلك.
وحكم هذا النوع من الحقوق أنه لا يجوز الاعتياض عنها بطريق البيع، بأن ينتقل به الحق إلى المشتري، فيستحق به ما كان يستحقه البائع، فلا يجوز لولي قتيل أن يبيع حق الاقتصاص إلى رجل آخر، بأن يستحق ذلك الرجل استيفاء القصاص بدله، وكذلك لا يجوز لرجل أن يبيع حق تمتعه بالزوجة إلى غيره ليتمتع هو بها، ولا يجوز لوارث أن يبيع حق إرثه إلى رجل آخر، بحيث يرث هو عوضًا عن الوارث الحقيقي. لأن هذه لحقوق إنما أثبتها الشارع لرجل مخصوص بصفة مخصوصة، مهما تنتفِ هذه الصفة تنعدم الحقوق، فحق القصاص إنما أثبته الشارع لولي المقتول بصفة كونه وليًا له، فإذا انتفت الولاية انتفى الحق.
وبعبارة أخرى، إن هذه الحقوق لا تقبل الانتقال من واحد إلى آخر شرعًا، فلا تباع ولا توهب، ولا تورث، ووراثة حق القصاص ليس وراثة حقيقة، وإنما هو حق يثبت للوارث أصالة عند عدم الولي الأقرب، لا من حيث إنه ينتقل من الولي الأقرب إلى وارثه.
فبما أن الشريعة لا تأذن بنقل هذه الحقوق من واحد إلى آخر، فلا يجوز الاعتياض عنها بطريق البيع والمبادلة، ومأخذ هذا الحكم حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته)) (1) .
ولكن هذه الحقوق يجوز الاعتياض عنها بطريق الصلح والتنازل بمال، بمعنى أن المستحق في هذه الحقوق يمسك عن استعمال حقه بمال يطالب به من يتضرر باستعمال ذلك الحق. مثل ولي القتيل إذا استحق القصاص، فإنه يباح له أن يصالح القاتل على مال، وإن هذا المال بدل لإمساك صاحب الحق عن استيفاء حقه، وإنما يبذله القاتل دفعًا لضرر الموت عن نفسه، وهذا جائز بنص القرآن والسنة وبإجماع أهل العلم.
وكذلك الزوج له الحق في أن يتمتع بزوجته ببقاء نكاحها معه، ولكنه يمسك عن استعمال هذا الحق بمال تفتدي به المرأة، وهو الخلع والطلاق على مال، وذلك جائز بنص القرآن، وعلى ذلك انعقد الإجماع.
وإن هذا الفرق بين الحقوق الضرورية والحقوق الأصلية قد ذكره البيري من الفقهاء الحنفية في شرحه على الأشباه والنظائر (2) وحكاه ابن عابدين رحمه الله ولخصه بقوله:
" وحاصله أن ثبوت حق الشفعة للشفيع، وحق القسم للزوجة، وكذلك حق الخيار في النكاح للمخيرة إنما هو لدفع الضرر عن الشفيع والمرأة، وما ثبت لذلك لا يصح الصلح عنه، لأن صاحب الحق لما رضي علم أنه لا يتضرر بذلك، فلا يستحق شيئًا. أما حق الموصى له بالخدمة، فليس كذلك، بل ثبت له على وجه البر والصلة، فيكون ثابتًا له أصالة، فيصح الصلح عنه إذا نزل عنه لغيره، ومثله ما مر عن الأشباه من حق القصاص والنكاح والرق، حيث صح الاعتياض عنه، لأنه ثابت لصاحبه أصالة، لا على وجه دفع الضرر عن صاحبه " (3) .
ولكن جواز هذا الاعتياض على وجه الصلح إنما يجوز إذا كان هناك حق ثابت قائم كما في حق القصاص وحق بقاء النكاح والرق. أما إذا كان حقا متوقعًا في المستقبل، غير ثابت في الحال، فإن ذلك لا يجوز الاعتياض عنه، لا عن طريق البيع، ولا عن طريق الصلح. وذلك مثل حق الوراثة في حياة المورث، لا يجوز التنازل عنه بمال، لأن حق الوراثة في حياة المورث ليس حقًا ثابتًا، بل هو حق متوقع يحتمل الثبوت وعدمه، وإنما يتقرر بموت المورث، وكذلك حق الولاء في حياة المولي حق غير متقرر، وإنما يتأكد بموته فلا يصح التنازل عنه.
وأما بعد موت المورث أو الولي، فإن ذلك الحق ينتقل إلى ملك مادي في تركته، فيصح بيعه أو التنازل عنه بطريق التخارج بشروطه المعروفة.
__________
(1) أخرجه البخاري في العتق، باب بيع الولاء وهبته، وفي الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه، وأخرجه مسلم في العتق، باب بيع الولاء وهبته. وهذا لفظ مسلم.
(2) شرح الأشباه والنظائر، للبيري (مخطوط) : ص 62، و63.
(3) رد المحتار، لابن عابدين: 4/16.(5/1925)
الحقوق العرفية:
والنوع الثاني من الحقوق نستطيع أن نسميها بالحقوق العرفية. ونقصد بذلك الحقوق المشروعة التي ثبتت لأصحابها بحكم العرف والعادة، وإنها حقوق مشروعة من حيث إن الشريعة الإسلامية أقرتها عن طريق إقرارها للعرف والتعامل، ولكن مأخذها الأصيل هو العرف دون الشرع، وذلك مثل حق المرور في الطريق وحق الشرب، وحق التسييل وما إلى ذلك.
وإن هذه الحقوق العرفية تنقسم إلى أقسام:
1- حق الانتفاع بذوات الأشياء:
وإن هذا القسم من الحقوق عبارة عن الاستفادة بالمنافع المتعلقة بذوات الأعيان المادية، فإن كان هذا الانتفاع لمدة معلومة فإن الاعتياض عنه مشروع بطريق الإجارة، وتجري عليها أحكامها، مثل الانتفاع بسكنى الدار لمدة معينة، يجوز للمالك الاعتياض عنه بأن يؤجرها لشخص لمدة معلومة بأجرة معلومة.
وأما إذا كان المالك ينقل هذه المنفعة إلى آخر على سبيل التأبيد، فإنه بيع لتلك المنفعة، وذكره الفقهاء الحنفية باسم بيع الحقوق المجردة أيضًا. وقد اختلفت أنظار الفقهاء في جواز هذا البيع، فمنهم من أجازه مطلقًا، ومنهم من منعه مطلقًا، ومنهم من أجازه في بعض الحقوق، ومنعه فبعضها، ونريد أولًا أن نذكر الصور التي ذكرها الفقهاء لهذا القسم من الحقوق، واحدة بعد أخرى، مع ما قال فيها الفقهاء، ثم نصل إلى القول الفصل في الباب إن شاء الله تعالى، والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب.
والصور التي ذكرها الفقهاء من هذا القسم هي: حق المرور، حق التعلي، حق التسييل، حق الشرب، حق وضع الخشب على الجدار، وحق فتح الباب. فالمشهور عند الحنفية أن هذه الحقوق حقوق مجردة لا يجوز بيعها، والمعروف في كتب الأئمة الثلاثة جواز الاعتياض عن أكثر هذه الحقوق.
وعمدة الخلاف في هذا الباب تعريف البيع، فمن عرف البيع بمبادلة المال بالمال وخص المال بالأعيان، منع بيع الحقوق المجردة، لأنها ليست أعيانًا، ومن عمم تعريف البيع بما يشمل المنافع أجاز بيعها.
فأما الشافعية فتعريف البيع عندهم شامل لبيع المنفعة على سبيل التأبيد، فقد عرفه ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى بقوله:
عقد يتضمن مقابلة مال بمال بشرطه الآتي لاستفادة ملك عين أو منفعة مؤبدة ".
وقال الشرواني تحته:
" قوله (مؤبدة) كحق الممر إذا عقد عليه بلفظ البيع " (1) .
وقال الشربيني الخطيب رحمه الله:
" وحدَّه بعضهم بأنه عقد معاوضة مالية يفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد، فدخل بيع حق الممر ونحوه، وخرجت الإجارة بقيد التأقيت فإنها ليست بيعًا " (2) .
وقال ابن القاسم الغزي في شرحه على متن أبي شجاع:
" فأحسن ما قيل في تعريفه أنه تمليك عين مالية بمعاوضة بإذن شرعي، أو تمليك منفعة مباحة على التأبيد بثمن مالي ... ودخل في منفعة تمليك حق البناء ".
وقال الباجوري تحته:
" قوله ودخل في منفعة إلخ، إنما قال: دخل إلخ، لأن المنفعة تشتمل حق الممر، ووضع الأخشاب على الجدار ... ولابد من تقدير مضاف في كلامه بأن يقال: ودخل في تمليك منفعة، ليناسب قوله (تمليك حق البناء) . وصورة ذلك أن يقول له: بعتك حق البناء على هذا السطح مثلًا بكذا، والمراد بالحق الاستحقاق " (3) .
ولخصه الشاطري في الياقوت بقوله:
" البيع لغةً: مقابلة شيء بشيء، وشرعًا: عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين، أو منفعة على التأبيد، كما في بيع حق الممر، ووضع الأخشاب على الجدار، وحق البناء على السطح " (4) .
__________
(1) حواشي الشرواني على تحفة المحتاج: 4/215، وبمثله عرف الرملي في نهاية المحتاج: 3/361.
(2) مغني المحتاج، للشربيني: 2/3.
(3) حاشية الباجوري على شرح الغزي: 1/340.
(4) الياقوت النفيس في مذهب ابن إدريس: ص74، وراجع أيضًا الغاية القصوى للبيضاوي: 1/1460، وفتح الجواد على متن الإرشاد لابن حجر: 1/373.(5/1926)
فظهر بهذه النصوص الفقهية أن المنفعة المباحة المؤبدة مال عند الشافعية يجوز بيعه وشراؤه، وكذلك الأمر عند الحنابلة فتعريف البيع عندهم على ما ذكره البهوتي، أنه:
" مبادلة عين مالية ... أو منفعة مباحة مطلقًا، بأن لا تختص إباحتها بحال دون آخر كممر دار أو بقعة تحفر بئرًا، بأحدهما، أي عين مالية أو منفعة مباحة مطلقًا ... فيشمل نحو بيع كتاب بكتاب أو بممر دار، أو بيع نحو ممر في دار بكتاب، أو ممر في دار أخرى " (1) .
وقال المرداوي رحمه الله في الإنصاف بعد ما ذكر عدة تعريفات للبيع، واعترض على أكثرها:
" وقال في الوجيز: هو عبارة عن تمليك عين مالية، أو منفعة مباحة على التأبيد بعوض مالي ". ويرد عليه أيضًا: الربا والقرض، وبالجملة: قل أن يسلم حد. قلت: لو قيل: " هو مبادلة عين أو منفعة مباحة مطلقًا، بأحدهما كذلك على التأبيد فيهما، بغير ربا ولا قرض "، لسلم (2) .
وجاء في كشاف القناع للبهوتي:
(ويصح أن يشتري ممرًا في ملك غيره دارًا كان أو غيرها وأن يشتري موضعًا في حائط يفتحه بابًا وأن يشتري بقعة في أرض يحفرها بئرًا، بشرط كون ذلك معلومًا، لأن ذلك نفع مقصود، فجاز بيعه كالدور ويصح أيضًا أن يشتري علو بيت يبني عليه بنيانًا موصوفًا، أو ليضع عليه خشبًا موصوفًا، لأنه ملك البائع، فجاز بيعه كالأرض، معنى " موصوفًا " أي معلومًا ... وكذا لو كان البيت الذي اشترى علوه غير مبني إذا وصف العلو والسفل ليكون معلومًا، وإنما صح لأنه ملك للبائع، فكان له الاعتياض عنه ويصح فعل ذلك أي ما ذكر من اتخاذ ممر في ملك غيره، أو موضوع في حائطه يفتحه بابًا، أو بقعة في أرضه يحفرها بئرًا، أو علو بيت يبني عليه بنيانًا، أو يضع عليه خشبًا معلومين صلحًا أبدًا أي مؤبدًا، وهو في معنى البيع ... ومتى زال البنيان أو الخشب (فله إعادته) لأنه استحق إبقاءه بعوض (سواء زال لسقوطه) أي سقوط البنيان أو الخشب (أو) زال (لسقوط الحائط) الذي استأجره لذلك أو زال لغير ذلك كهدمه إياه ... وله أي لرب البيت الصلح على زواله أي إزالة العلو عن بيته أو الصلح بعد انهدامه على عدم عوده سواء كان ما صالحه به مثل العوض الذي صولح به على وضعه أو أقل أو أكثر، لأن هذا عوض عن المنفعة المستحقة له، فيصح بما اتفقا عليه) (3) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات: 2/140، ومثله في كشاف القناع: 3/135.
(2) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي: 4/260.
(3) كشاف القناع للبهوتي: 3/391، و 392، طبع مكة المكرمة 1394هـ.(5/1927)
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" ولا يجوز أن يبني دكانًا، ولا يخرج روشنًا ولا ساباطًا على درب غير نافذ إلا بإذن أهله ... وإن صالح أهل الدرب من ذلك على عوض معلوم جاز. وقال القاضي وأصحاب الشافعي: لايجوز، لأنه بيع للهواء دون القرار، ولنا أنه يبني فيه بإذنهم، فجاز، كما لو أذنوا له بغير عوض، ولأنه ملك لهم، فجاز لهم أخذ عوضه كالقرار.
إذا ثبت هذا، فإنما يجوز بشرط كون ما يخرجه معلوم المقدار في الخروج والعلو. وهكذا الحكم فيما إذا أخرجه إلى ملك إنسان معين لا يجوز بغير إذنه، ويجوز بإذنه بعوض وبغيره إذا كان معلوم المقدار " (1) .
وقال أيضًا:
" ولا يجوز أن يفتح في حائط المشترك طاقًا ولا بابًا إلا بإذن شريكه، لأن ذلك انتفاع بملك غيره، وتصرف فيه بما يضر به، ولا يجوز أن يغرز فيه وتدًا، ولا يحدث عليه حائطًا، ولا يستره، ولا يتصرف فيه نوع تصرف، لأنه تصرف في الحائط بما يضر به، فلم يجز كنقضه، ولا يجوز له فعل شيء من ذلك في حائط جاره بطريق الأولى، لأنه إذا لم يجز فيما فيه حق، ففيما لا حق له فيه أولى، وإن صالحه عن ذلك بعوض جاز" (2) .
وقال أيضًا:
" ولا يجوز أن يحفر في الطريق النافذة بئرًا لنفسه، سواء جعلها لماء المطر أو ليستخرج منها ما ينتفع به ولا غير ذلك ... ولو صالح أهل الدرب عن ذلك بعوض جاز. (3) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير، لابن قدامة: 5/35.
(2) المغني، لابن قدامة: 5/36.
(3) المغنى، لابن قدامة: 5/35.(5/1928)
وأما المالكية، فالتعريف المشهور للبيع عندهم، ماينسب إلى ابن عرفة، وهو مايلي: " عقد معاوضة على غير منافع، ولا متعة لذة " (1) .
فتخرج الإجارة والكراء لكونهما عقدًا على منافع، ويخرج النكاح لأنه عقد على متعة لذة، وظاهر هذا التعريف أن البيع يقتصر عندهم على الأعيان المادية، ولا يقع على المنافع والحقوق.
ولكن يوجد عندهم – على الرغم من ذلك – جواز بعض البيوع التي ترجع إلى بيع الحقوق والمنافع، فيجوز عندهم بيع حق التعلي، وحق غرز الخشب على الجدار. يقول الدردير رحمه الله في شرحه الكبير.
" (وجاز) بيع (هواء) بالمد، أي فضاء، (فوق هواء) بأن يقول شخص لصاحب أرض: بعني عشرة أذرع مثلًا ما تبينه بأرضك (إن وصف البناء) الأسفل والأعلى لفظًا أو عادة، لخروج من الجهالة والغرر، ويملك الأعلى جميع الهواء الذي فوق بناء الأسفل، ولكن ليس له أن يبني ما دخل عليه إلا برضا الأسفل ... (و) جاز عقد على (غرز جذع) أي جنسيه فيشمل المتعدد (في حائط) لآخر بيعًا أو إجارة. وخرق موضوع الجذع على المشتري أو المكتري " (2) .
وقال الحطاب بعد ذكر هذه المسألة:
" ولا يجوز لمبتاع الهواء بيع ما على سقفه إلا بإذن البائع لأن الثقل على حائطه ... ويفهم منه أنه ملك ما فوق بنائه من الهواء، إلا أنه لا يتصرف فيه لحق البائع في الثقل " (3) .
وزاد المواق رحمه الله:
" يجوز في قول مالك شراء طريق في دار رجل، وموضع جذوع من حائط يحملها عليه إذا وصفها " (4) .
__________
(1) الدسوقى على الشرح الكبير، للدردير: 3/2؛ والزرقاني على مختصر خليل: 3/12؛ والخرشي على مختصر خليل: 5/14؛ ومواهب الجليل، للحطاب: 4/225؛ ومنح الجليل، للشيخ محمد عليش: 2/465.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير: 3/14؛ والمسألة في شروح خليل وحواشيه وفي المدونة: 10/51.
(3) مواهب الجليل: 4/276.
(4) التاج والإكليل للمواق، بهامش الحطاب: 4/275، وراجع المدونة: 10/50.(5/1929)
ويظهر من مدونة الإمام مالك أنه يجوز عندهم بيع الشرب أيضًا، وجاء في المدونة الكبرى: " قلت: فإن بعت حظي. بعت شرب يوم، أيجوز هذا أم لا؟ قال: مالك: هو جائز. قلت: فإن بعت حظي بعت أصله من الشرب، وإنما لي فيه يوم من اثني عشر يومًا، أيجوز في قول مالك؟ قال: نعم، قلت: فإن لم أبع أصله، ولكن جعلت أبيع منه السقي، إذا جاء يومي بعت ما صار لي من الماء ممن يسقى به، أيجوز هذا في قول مالك، قال: نعم " (1) .
فالظاهر من هذه النصوص أن المالكية يجوز عندهم بيع هذه الحقوق، ولا يمكن أن تحمل هذه النصوص على بيع الأعيان التي تتعلق بها هذه الحقوق، لأن بيع الحظ من الشرب قد أفرد في هذه المسألة عن بيع الماء، وحكم بجواز كل منهما على حدة، وبيع الحظ من الشرب ليس إلا حقًا مجردًا. ولأن بيع الهواء بمجرده لا يجوز عندهم، إلا إذا كان لغرض البناء، لما جاء في المدونة الكبرى:
" قلت: أرأيت إن باع عشرة أذرع من فوق عشرة أذرع من هواء هو له، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا يجوز هذا عندي، ولم أسمع من مالك فيه شيئًا، إلا أن يشترط له بناء يبنيه؛ لأن يبني هذا فوقه، فلا بأس بذلك " (2) .
ثم إن الزرقاني رحمه الله ذكر بيع المنفعة من جملة أقسام البيوع، حيث قال:
" البيوع جمع بيع، وجمع لاختلاف أنواعه، كبيع العين، وبيع الدين، وبيع المنفعة " (3) .
فالذي يظهر من مجموع هذه النصوص أن المنافع التي أخرجها ابن عرفة من تعريف البيع، هي المنافع المؤقتة التي يقع عليها عقد الإجارة أو الكراء. أما المنافع المؤبدة فيجوز بيعها عند المالكية أيضًا، والله سبحانه أعلم.
__________
(1) المدونة الكبرى: 10/121.
(2) المدونة الكبرى: 5/1.
(3) شرح الزرقاني على الموطأ: 3/250.(5/1930)
مذهب الحنفية:
وأما الحنفية، فتعريف البيع المشهور عندهم: " مبادلة المال بالمال " (1) . وعرفه بعض العلماء بقولهم: " مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب " (2) ، ولكن المراد من الشيء المرغوب عندهم هو المال، فإن الكاساني الذي عرف البيع بهذا، ذكر في موضع آخر أن البيع مبادلة المال بالمال (3) . وكذلك صاحب الدر المختار قد صرح في شرح ملتقى الأبحر أن المراد من الشيء المرغوب هو المال.
وأما تعريف المال، فقد اضطربت فيه عبارات القوم، فقال ابن عابدين:
" المراد بالمال ما يميل إليه الطبع، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم، والتقوم يثبت بها، وبإباحة الانتفاع به شرعًا " (4) .
وحكى بعد ذلك عن الحاوي القدسي:
" المال اسم لغير الآدمي خلق لمصالح الآدمي، وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار " (5) .
وليس في أحد من هذين التعريفيين ما يقصر المال على الأعيان، ويخرج الحقوق أو المنافع المؤبدة من تعريفه صراحة ولكن عرفه علاء الدين الحصكفي رحمه الله، صاحب الدر المختار، في شرحه على ملتقى الأبحر بما يقصره على الأعيان، فقال:
" والمراد بالمال عين يجري فيه التنافس والابتذال " (6) .
وإن هذا التصريح في تعريف المال بكونه من الأعيان، وإن كان لا يوجد عند غيره بهذا الوضوح، ولكن الذي يستنبط من كلام الفقهاء المتأخرين من الحنفية وتعريفاتهم أنه ملحوظ عندهم في تعريف المال. ولذا فإن الأستاذ مصطفى الزرقاء انتقد هذه التعريفات، واستبدل بها تعريفًا آخر، وهو:
" المال: هو كل عين ذات قيمة مادية بين الناس " (7) .
ومقتضى هذين التعريفين أن المال مقصور على الأعيان المادية، فلا يشمل المنافع والحقوق المجردة، ولذلك صرح الفقهاء الحنفية بعدم جواز بيع المنافع والحقوق المجردة، وقد صرحوا بأن بيع حق التعلي لا يجوز. قال الكاساني:
" سفل وعلو بين رجلين انهدما، فباع صاحب العلو علوه لم يجز، لأن الهواء ليس بمال " (8) .
وقال صاحب الهداية:
"لأن حق التعلي ليس بمال، لأن المال ما يمكن إحرازه" (9) .
وكذلك حق التسييل، قد صرح فقهاء الحنفية بعدم جوازه، ولم أر أحدًا منهم حكم بجواز حق التعلي، وحق التسييل (10) .
ولكن أجاز بعضهم بيع حق المرور وحق الشرب، ولنبين ما ذكره الحنفية في هذا الصدد.
__________
(1) البحر الرائق: 5/256؛ وفتح القدير: 5/73؛ ومجمع الأنهر: 2/3؛ وشرح المجلة، لخالد الأتاسي: 1/5، رقم المادة: 105.
(2) بدائع الصنائع: 5/133؛ والدر المختار: 4/4.
(3) بدائع الصنائع: 5/140، شرائط صحة البيع.
(4) رد المختار: 4/3.
(5) المرجع السابق؛ والبحر الرائق: 5/257.
(6) الدر المنتقى، بهامش مجمع الأنهر: 2/3.
(7) حكاه عنه أخونا الدكتور وهبه الزحيلي في " الفقه الإسلامي وأدلته ": 4/345.
(8) بدائع الصنائع: 5/145.
(9) فتح القدير:5/204
(10) راجع رد المحتار: 4/132؛ وشرح المجلة للأتاسي: 1/117.(5/1931)
بيع حق المرور عند الحنفية:
للحنفية في بيع حق المرور روايتان: إحداهما رواية الزيادات، وهي عدم جواز، والأخرى رواية كتاب القسمة، وهي الجواز. قال صاحب الهداية:
" (وبيع الطريق وهبته جائز، وبيع مسيل الماء وهبته باطل) والمسألة تحتمل وجهتين: بيع رقبة الطريق والمسيل، وبيع حق المرور والتسييل، فإن كان الأول فوجه الفرق بين المسألتين أن الطريق معلوم، لأن له طولًا وعرضًا معلومًا وأما المسيل فمجهول، لأنه لا يدرى قدر ما يشغله من الماء. وإن كان الثاني، ففي بيع حق المرور روايتان، ووجه الفرق على إحداهما بينه وبين حق المسيل أن حق المرور معلوم، لتعلقه بمحل معلوم، وهو الطريق. أما المسيل على السطح فهو نظير حق التعلي، وعلى الأرض مجهولة لجهالة محله، ووجه الفرق بين حق المرور وحق التعلي على إحدى الروايتين أن حق التعلي يتعلق بعين، وهو البناء، فأشبه المنافع. أما حق المرور يتعلق بعين تبقى، وهو الأرض، فأشبه الأعيان " (1) .
واعترض ابن همام على هذا الفرق بأن البيع كما يرد على عين تبقى، ربما يرد على عين لا تبقى، فلا يظهر الفرق بين الأعيان الباقية وغير الباقية. وبيَّن وجهًا آخر للفرق، وهو:
" أن حق المرور حق يتعلق برقبة الأرض، وهي مال هو عين، فما يتعلق به يكون له حكم العين. أما حق التعلي فحق يتعلق بالهواء، وهو ليس بعين مال " (2) .
ثم ذكر أن الفقيه أبا الليث صحح رواية الزيادات، وهي عدم الجواز لأن بيع الحقوق المجردة لا يجوز. لكن ذكر في الدر المختار أن رواية الجواز أخذ بها عامة المشايخ. وقال ابن عابدين تحته:
" قوله: وبه أخذ عامة المشايخ "، قال السائحاني: " وهو الصحيح وعليه الفتوى، (مضمرات) . والفرق بينه وبين حق التعلي حيث لا يجوز، هو أن حق المرور حق يتعلق برقبة الأرض، وهي مال هو عين، فما يتعلق به له حكم العين، أما حق التعلي فمتعلق بالهواء، وهو ليس بعين مال " (3) .
وبه يظهر أن المختار عند المتأخرين من الحنفية جواز بيع حق المرور، لكونه حقًّا يتعلق بالعين فأخذ حكم العين في جواز البيع. وكان ينبغي على هذا الأصل أن يجوز بيع حق التسييل على الأرض أيضًا، لكونه حقًا يتعلق بعين، وهي الأرض، غير أنهم منعوه لجهالة محل التسييل، لا لكونه حقًا مجردًا، كما يظهر من تعليل صاحب الهداية، ومقتضى هذا التعليل أن يجوز هذا البيع أيضًا إذا ارتفعت الجهالة بتعيين محل التسييل بأن لا يتجاوز الماء ذلك المحل.
__________
(1) فتح القدير: 5/205، و206.
(2) المرجع السابق: 5/206.
(3) رد المحتار: 4/132.(5/1932)
بيع حق الشرب:
واختلفت أقوال الفقهاء في بيع حق الشرب أيضًا، فظاهر الرواية في مذهب الأحناف أنه لا يجوز بيع الشرب، ثم جوزه كثير من المشايخ بناء على العرف والمذكور في رد المحتار وغيره أن الفتوى على عدم الجواز، ولكن الذي يظهر بالنظر الدقيق أن الذين منعوا من جواز هذا البيع، مع جريان العرف بذلك، إنما منعوه للغرر والجهالة، لا لكونه ليس مالًا يقول الإمام السرخسي رحمه الله تعالى:
" بيع الشرب فاسد، فإنه من حقوق المبيع بمنزلة الأوصاف، فلا يفرد بالبيع ثم هو مجهول في نفسه غير مقدور التسليم، لأن البائع لا يدري أيجري الماء أم لا؟ وليس في وسعه إجراؤه. قال " وكان شيخنا الإمام يحكي عن أستاذه أنه كان يفتي بجواز بيع الشرب بدون الأرض، ويقول: فيه عرف ظاهر في ديارنا بنَسَف، فإنهم يبيعون الماء " فللعرف الظاهر كان يفتي بجوازه، ولكن العرف إنما يعتبر فيما لا نص بخلافه، والنهي عن بيع الغرر نص بخلاف هذا العرف، فلا يعتبر " (1) .
فعلل السرخسي رحمه الله عدم الجواز بأمرين: أنه من حقوق المبيع، فلا يفرد بالبيع، والثاني: أن فيه غررًا وجهالة. ولما استدل المجوزون بالعرف الظاهر عارضه بالأمر الثاني فحسب، وذكر أن العرف لا يصلح أن يجوز به الغرر المنهي عنه بالنص، ولم يقل إن العرف لا يصلح أن يجوز به بيع الحقوق. وقد صرح بذلك ابن همام رحمه الله حيث قال:
" ثم بتقدير أنه حظ من الماء فهو مجهول المقدار، فلا يجوز بيعه، وهذا وجه منع مشايخ بخارى بيعه مفردًا " (2) .
وعبارة البابرتي أصرح، حيث يقول:
" وإنما لم يجز بيع الشرب وحده في ظاهر الرواية للجهالة، لا باعتبار أنه ليس بمال " (3) .
ثم إن السرخسي رحمه الله ذكر هذه المسألة مرة أخرى في كتاب المزارعة بأبسط مما ههنا، وذكر في الأخير قول المشايخ المتأخرين الذين أجازوا بيع الشرب للعرف، ولم ينتقد قولهم بشيء، فقال:
" وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله أفتى أن يبيع الشرب وإن لم يكن معه أرض للعادة الظاهرة فيه في بعض البلدان، وهذه عادة معروفة بنسف، قالوا: المأجور الاستصناع للتعامل وإن كان القياس يأباه، فكذلك بيع الشرب بدون الأرض " (4) .
__________
(1) مبسوط السرخسي:14/135، و136.
(2) فتح القدير: 5/205.
(3) العناية بهامش الفتح: 5/204.
(4) مبسوط السرخسي: 23/171.(5/1933)
وما قاله الحنفية في بيع الشرب يتحصل منه في مسألة بيع الحقوق عين ما تحصل من مسألة بيع حق المرور وحق التسييل، وذلك أن الحق إن كان متعلقًا بعين من الأعيان يجوز بيعه إذا لم يكن هناك مانع آخر كالجهالة والغرر وغيرهما.
ثم ذكر بعض المتأخرين من الحنفية أن الحقوق التي لا يجوز بيعها، مثل حق التعلي وحق التسييل، وحق الشرب، إنما لا يجوز الاعتياض عنها بطريق البيع، ولكن يجوز الاعتياض عنها بطريق الصلح، يقول العلامة خالد الأتاسي رحمه الله بعد ذكر مسألة النزول عن الوظائف بمال:
" أقول: وعلى ما ذكروه من جواز الاعتياض عن الحقوق المجردة بمال ينبغي أن يجوز الاعتياض عن حق التعلي، وعن حق الشرب، وعن حق المسيل بمال، لأن هذه الحقوق لم تثبت لأصحابها لأجل دفع الضرر عنهم، بل ثبتت لهم ابتداء بحق شرعي. فصاحب حق العلو إذا انهدم علوه، قالوا: إن له حق إعادته كما كان جبرًا عن صاحب السفل. فإذا نزل عنه لغيره بمال معلوم ينبغي أن يجوز ذلك على وجه الفراغ والصلح، لا على وجه البيع، كما جاز النزول عن الوظائف ونحوها، لا سيما إذا كان صاحب حق العلو فقيرًا قد عجز عن إعادة علوه، فلو لم يجز ذلك له على الوجه الذي ذكرناه، يتضرر. فليتأمل وليحمد، والله سبحانه أعلم " (1) .
فهذا محصل ما وجدته من كلام الحنفية في مسألة بيع المنافع والحقوق المتعلقة بالأعيان.
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي: 2/121، قبيل المادة 217.(5/1934)
خلاصة حكم هذا النوع من الحقوق:
ومن المناسب قبل أن نتقدم أن نحرر ما تحصل مما سبق من النصوص الفقهية، وهي أمور:
1- إن تعريف البيع أمر اختلف فه الفقهاء، فالشافعية والحنابلة لا يشترطون في المبيع أن يكون عينًا، بل يجوزون بيع المنافع المؤبدة. وكذلك يظهر من بعض فروع المالكية.
2- إن الحنفية وإن اشترطوا في البيع أن يكون المبيع عينًا، ولكنهم أجازوا بيع حق المرور، وعللوا ذلك بأنه حق يتعلق بعين، فأخذ حكمه في جواز البيع.
3- ويظهر من ذلك أن الحقوق المتعلقة بالأعيان حكمها عند الحنفية حكم الأعيان، فيجوز بيعها ما لم يكن هناك مانع آخر من البيع، مثل الغرر أو الجهالة.
4- إن الحقوق التي لا تتعلق بالأعيان، مثل حق التعلي، لا يجوز بيعها عند الحنفية، ولكن يجوز الاعتياض عنها بطريق الصلح على ما ذكره بعضهم.
وفي ضوء هذه النقاط الأربعة نستطيع أن نقول: إن بيع هذا النوع من الحقوق العرفية، وهو حق الانتفاع بالأعيان جائز عند الأئمة الثلاثة الحجازيين، وإنما منه الحنفية، فقالوا: لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة، ولكن هذا الحكم عندهم ليس بهذا العموم الذي يتوهم من لفظه، بل استثنى منه الفقهاء بعض الحقوق التي تتعلق بالأعيان. وإن للعرف مجالًا في إدراج بعض الأشياء في الأموال، فإن المالية كما يقول ابن عابدين رحمه الله، تثبت بتمول الناس. فلو كانت بعض الحقوق تعتبر في العرف أموالًا متقومة، وتعامل بها الناس تعامل الأموال، ينبغي أن يجوز بيعها عندهم أيضًا بشروط آتية:
1- أن يكون الحق ثابتًا في الحال، لا متوقعًا في المستقبل.
2- أن يكون الحق ثابتًا لصاحبه أصالة، لا لدفع الضرر عنه فقط.
3- أن يكون الحق قابلا للانتقال من واحد إلى آخر.
4- أن يكون الحق منضبطًا بالضبط، ولا يستلزم غررًا أو جهالة.
5- أن يكون في عرف التجار يسلك به مسلك الأعيان والأموال في تداولها.(5/1935)
حق الأسبقية:
والنوع الثاني من الحقوق العرفية نستطيع أن نلقبه بحق الأسبقية، وهو عبارة عن حق التملك أو الاختصاص الذي يحصل للإنسان بسبب سبق يده إلى شيء مباح، مثل حق التملك بإحياء الأرض.
وقد ذكر بعض الفقهاء الشافعية والحنابلة مسألة بيع هذا الحق. وقد أجمع الفقهاء على أن الأرض الموات لا يملكها الإنسان إلا بإحيائها. وأما التحجير، فلا يثبت به حق التملك بالإحياء، فمن حجر أرضًا فإنه أحق بإحيائها، وقد اختلف الفقهاء الشافعية في أنه يجوز له بيع هذا الحق، أو لا يجوز. وجاء في نهاية المحتاج للرملي:
" ومن شرع في عمل إحياء ولم يتمه، كحفر الأساس أو علم على بقعة بنصب أحجار، أو غرز خشبًا، أو جمع ترابًا، أو خط خطوطًا، فمتحجر عليه، أي مانع لغيره منه بما فعله، بشرط كونه بقدر كفايته وقادرًا على عمارته حالًا، وحينئذ هو أحق به من غيره اختصاصًا لا ملكًا ... لكن الأصح أنه لا يصح بيعه ولا هبته، كما قاله الماوردي، خلافًا للدارمي، لما مر من أنه غير مالك، وحق التملك لا يباع كحق الشفعة. والثاني: يصح بيعه، وكأنه باع حق الاختصاص " (1) .
وجاء في المجموع شرح المهذب:
" وإن تحجر رجل مواتًا، وهو أن يشرع في إحيائه ولم يتمم، صار أحق به من غيره ... وإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به ... وإن مات انتقل ذلك إلى وارثه، لأنه حق تملك ثبت له، فانتقل إلى وارثه كالشفعة. وإن باعه ففيه وجهان: أحدهما، وهو قول أبي إسحاق، أنه يصح، لأنه صار أحق به فملك بيعه، والثاني: أنه لايصح، وهو المذهب، لأنه لم يملك بعد، فلم يملك بيعه كالشفيع قبل الأخذ " (2) .
وقد ذكر الخطيب الشربيني رحمه الله أن أبا إسحاق حينما أجاز بيع هذا الحق علله بكونه بيع حق الاختصاص، كبيع علو البيت للبناء والسكنى دون أسفله (3) .
وكذلك ذكر الفقهاء الحنابلة في هذه المسألة قولين: أحدهما الجواز، والثاني عدمه. يقول الموفق ابن قدامة رحمه الله:
ومن تحجر مواتًا وشرع في إحيائه ولم يتم، فهو أحق به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به)) ، رواه أبو داود. فإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به، لأن صاحب الحق آثره به، فإن مات انتقل إلى وارثه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك حقًا أو مالًا فهو لورثته)) ، وإن باعه لم يصح، لأنه لم يملكه، فلم يصح بيعه كحق الشفعة، ويحتمل جواز بيعه، لأنه صار أحق به " (4) .
وقال المرداوي:
" ومن تحجر مواتًا لم يملكه ... وهو أحق به، ووارثه بعده ومن ينقله إليه بلا نزاع، وليس له بيعه. هو المذهب، وعليه الأصحاب، وجزم به في الوجيز وغيره، وقدمه في المغني، والشرح، وشرح الحاثي، وابن منجا، والفروع، والفائق وغيرهم ".
وقيل يجوز له بيعه، وهو احتمال لأبي الخطاب، وأطلقهما في المحرر، والرعايتين، والحاوي الصغير " (5) .
والراجح في كلا المذهبين أنه لا يجوز بيع هذا الحق، ولكن ذكر البهوتي رحمه الله من الحنابلة أن عدم الجواز إنما هو في البيع، ولكن يجوز الاعتياض عنه بطريق التنازل والصلح.
يقول البهوتي رحمه الله:
" وليس له أي لمن قلنا إنه أحق بشيء من ذلك السابق (بيعه) لأنه لم يملكه كحق الشفعة قبل الأخذ، وكمن سبق إلى مباح. لكن النزول عنه بعوض لا على وجه البيع جائز، كما ذكره ابن نصر الله قياسًا على الخلع " (6) .
ومن حق الأسبقية ما ذكره الفقهاء من أن من سبق إلى مكان في المسجد فهو أحق بذلك المكان، وله أن يؤثر به غيره، ولكن لايجوز أن يبيع هذا الحق، نعم: ذكر البهوتي أنه يجوز له التنازل عنه بعوض (7) .
ولم أر في كتب الحنفية والمالكية من تعرض لمسألة بيع حق الأسبقية، وقد ذكروا أن التحجير يثبت به الأحقية في إحياء الأرض وتملكها، ولكن لم أجد بيع هذا الحق عندهم، وقياس قولهم إنه لا يجوز عندهم أيضًا إلا أن يكون بطريق التنازل.
فخلاصة الحكم في بيع حق الأسبقية أنه وإن كان بعض الفقهاء يجوزون هذا البيع، ولكن معظمهم على عدم جوازه، ولكن يجوز عندهم النزول عنه بمال على وجه الصلح والله سبحانه أعلم.
__________
(1) نهاية المحتاج، للرملي: 5/336؛ ومثله في زاد المحتاج، للكوهجي: 2/404؛ وتحفة المحتاج مع الشرواني: 6/213.
(2) تكملة المجموع شرح المهذب، للمطيعي: 14/471.
(3) راجع مغني المحتاج: 2/367.
(4) الكافي، لابن قدامة: 2/439.
(5) الإنصاف، للمرداوي: 6/373، و374.
(6) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي: 2/464.
(7) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي: 2/464.(5/1936)
حق العقد:
والنوع الثالث من هذه الحقوق ما نستطيع أن نسميه " بحق العقد " ونقصد بذلك حق إنشاء عقد مع آخر أو إبقائه، مثل خلو الدور والحوانيت، فإنه حق لإنشاء عقد الإجارة مع صاحب الدار أو الحانوت أو إبقائه، ومثل حق الوظائف السلطانية أو الوقفية، فإنه حق لإبقاء عقد الإجارة مع الحكومة أو ناظر الوقف. وقد تحدث الفقهاء عن مسألة الاعتياض عن هذين الحقين، ونذكر فيما يلي خلاصة ما قاله الفقهاء في هذا الباب، والله سبحانه هو الموفق.
مسألة النزول عن الوظائف بمال:
إذا كانت لرجل وظيفة قائمة في الوقف يحصل منها على راتب، كإمام المسجد أو المؤذن أو موظف آخر، وكانت هذه الوظيفة دائمة بحكم شرائط الوقف مثلًا، فإن الموظف يملك حق البقاء على هذه والوظيفة وإبقاء عقد إجارته طول حياته، وقد تحدث الفقهاء عن الاعتياض عن هذا الحق. فأما الاعتياض عنه بطريق البيع فلم يجوزه أحد.
وأما الاعتياض عنه بطريق التنازل والصلح، فقد اختلفت فيه أقوال الفقهاء. فمنهم من منعه بحجة أنه حق مجرد لا يجوز الاعتياض عنه، ومنهم من أجازه.
أما الحنفية، فقد صرحت جماعة من متأخريهم بجواز النزول عن الوظائف بمال. جاء في الدر المحتار:
وفي الأشباه: " لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة كحق الشفعة، على هذا لا يجوز الاعتياض عن الوظائف بالأوقاف ". وفيها في آخر بحث تعارض العرف مع اللغة: " المذهب عدم اعتبار العرف الخاص. لكن أفتى كثير باعتباره، وعليه فيفتي بجواز النزول عن الوظائف بمال ".
وأطال ابن عابدين تحته في تحقيق المسألة، وحقق أن جوازه ليس مبنيًا على العرف الخاص، وإنما هو مبني على نظائر فقهية. أما قياسه على حق الشفعة فقياس مع الفارق، وهو ما قدمنا في أوائل البحث عن البيري وغيره من أن حق الشفعة إنما شرع لدفع الضرر، والحقوق المشروعة لدفع الضرر لا يجوز الاعتياض عنها. أما حق الوظيفة فحق ثبت لصاحبه أصالة، فلا يحرم الاعتياض عنه، كما في حق القصاص وغيره. وعلى هذا الأساس ذكر ابن عابدين رحمه الله أن عدم جواز الاعتياض عن الحق ليس على إطلاقه، ثم ختم كلامه بقوله:
" ورأيت بخط بعض العلماء عن المفتي أبي السعود أنه أفتى بجواز أخذ العوض في حق القرار والتصرف وعدم الرجوع. وبالجملة فالمسألة ظنية، والنظائر المتشابهة للبحث فيها مجال، وإن كان الأظهر فيه ما قلنا، فالأولى ما قاله في البحر من أنه ينبغي الإبراء العام بعده " (1) .
__________
(1) رد المحتار: 4/520.(5/1937)
وكذلك الشافعية، أفتى المتأخرون منهم بجواز النزول عن الوظائف بمال، يقول العلامة الرملي رحمه الله تعالى:
" وأفتى الوالد رحمه الله تعالى بحل النزول عن الوظائف بالمال، أي لأنه من أقسام الجعالة فيستحقه النازل ويسقط حقه " (1) .
وأقره الشبراملسي في حاشيته، بل فرَّع عليه جواز النزول عن الجوامك بمال أيضًا (2) ، ولكنه ذكر أن هذا الحكم إنما يجري في وظائف الأوقاف الدائمة. وأما الوظائف الحكومية التي لا دوام فيها، فلا يجوز الاعتياض عنها، يقول الشبراملسي:
" وأما المناصب الديوانية، كالكتبة الذين يقررون من جهة الباشا فيها، فالظاهر أنهم إنما يتصرفون فيها بالنيابة عن صاحب الدولة، في ضبط ما يتعلق به من المصالح فهو مخير بين إبقائهم وعزلهم ولو بلا حجة فليس لهم يد حقيقة على شيء ينزلون عنه، بل متى عزلوا أنفسهم انعزلوا، وإذا أسقطوا حقهم عن شيء لغيرهم، فليس لهم العود إلا بتولية جديدة ممن له الولاية، ولا يجوز لهم أخذ عوض على نزولهم " (3) .
وكذلك يبدو الحكم في مذهب الحنابلة، فإنهم ذكروا أن من حاز وظيفة في الوقف صار أحق بها، ويجوز له أن ينزل عنها لغيره، ولا يجوز له بيع هذا الحق (4) ولكن ذكر البهوتي أنه يجوز النزول عنها بعوض لا على وجه البيع، يقول البهوتي بعد ذكر عدة مسائل من هذا القبيل.
" (وليس له) ، أي لمن قلنا إنه أحق بشيء من ذلك السابق (بيعه) ، لأنه لم يملكه كحق الشفعة قبل الأخذ، وكمن سبق إلى مباح، لكن النزول عنه بعوض على وجه البيع جائزة، كما ذكره ابن نصر الله قياسًا على الخلع " (5)
أما المالكية، فلم أجد عندهم في تتبعى القاصر شيئًا صريحًا في باب النزول عن الوظائف، ولكنهم يجيزون بيع الجامكية " (6) ، فربما يقاس عليه النزول عن الوظائف، والله سبحانه أعلم.
وربما يستدل على جواز النزول عن الوظائف بمال بنزول سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه، فإنه صالحه على مال. ويقول العلامة بدر الدين العيني رحمه الله تحت هذا الحديث:
" وفيه جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحًا للمسلمين، جواز أخذ المال على ذلك وإعطائه بعد استيفاء شرائطه بأن يكون المنزول له أولى من النازل، وأن يكون المبذول من مال الباذل " (7) .
والذى يتلخص من كلام الفقهاء في هذا الباب أن بيع حق الوظيفة لا يجوز عندهم، ولكنه يجوز عند جمهور الفقهاء المتأخرين أن يتنازل صاحب الوظيفة عن حقه، ويأخذ على ذلك مالًا من الذي تنازل في حقه.
__________
(1) نهاية المحتاج: 5/478.
(2) جمع الجامكية، وهي مبلغ معلوم يقرر لرجل كعطاء من بيت المال، ولا يجوز بيعه عند الحنفية لكونه بيع الدَّين من غير من عليه الدَّين، وراجع له رد المحتار.
(3) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج: 6/478.
(4) الإنصاف للمرداوي: 6/376؛ وكشاف القناع: 4/216،
(5) شرح منتهى الإرادات: 2/464.
(6) مواهب الجليل للحطاب: 4/224
(7) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، أبواب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن ابني هذا السيد: 24/208، من طبع المنيرية.(5/1938)
ثم اختلف الفقهاء: هل يتعين المنزول له للوظيفة بعد ما تنازل عنه الأول، فقالت جماعة: لا يتعين المنزول له، بل للناظر الخيار في تعيينه أو تعيين غيره، ولو لم يعينه الناظر، فإن المنزول له لا يسترد من النازل ما أعطاه، لأن النازل فعل ما في استطاعته، وهو النزول، فاستحق المال. وهذا ما صرح به الرملي والشبراملسي من الشافعية (1) ، والحموي وأبو السعود من الحنفية (2) .
ولكن قال ابن عابدين رحمه الله:
" ثم إذا فرغ عنه لغيره، ولم يوجهه السلطان للمفروغ له، بل أبقاه على الفارغ أو وجهه لغيرهما، فينبغي أن يثبت الرجوع للمفروغ له على الفارغ ببذل الفراغ، لأنه لم يرض بدفعه إلا بمقابلة ثبوت ذلك الحق له، لا بمجرد الفراغ وإن حصل لغيره. وبهذا أفتى في الإسماعيلية والحامدية وغيرهما، خلافًا لما أفتى به بعضهم من عدم الرجوع، لأن الفارغ فعل ما في وسعة وقدرته، إذا لا يخفى أنه غير مقصود من الطرفين، ولا سيما إذا أبقى السلطان والقاضي التيمار أو الوظيفة على الفارغ، فإنه يلزم اجتماع العوضين في تصرفه، وهو خلاف قواعد الشرع فافهم " (3) .
والذي يظهر لهذا العبد الضعيف – عفا الله عنه – أن جواز الرجوع ظاهر فيما إذا أبقى السلطان والقاضي التيمار أو الوظيفة على الفارغ، لما ذكر ابن عابدين رحمه الله من أن ذلك يستلزم اجتماع العوضين في تصرفه، لأنه إنما استحق المال عوضًا عن النزول والفراغ، ولا يتأتى ذلك إلا بأن يحصل الفراغ فعلًا، ولم يحصل، فلم يستحق المال، ووجب عليه أن يرد ما أخذ.
أما إذا أمضى القاضي أو الناظر نزوله، وفرغ عن وظيفته فعلًا، ولكن القاضي أو الناظر لم يقرر المنزول في مكانه، بل قرر رجلًا ثالثًا، فالقواعد تقتضي أن لا يستحق المنزول له الرجوع على النازل. وذلك لأن الفقهاء لم يجوزوا الاعتياض عن حق الوظيفة عن طريق البيع، وإنما جوزوه عن طريق الصلح والتنازل. ولا فرق بين بيع الحق والتنازل عنه بمال، إلا أن البيع ينقل إلى المشتري ما كان يملكه البائع، والتنازل لا ينقل الملك إلى المنزول له، وإنما يسقط النازل حقه، وليست فائدته في حق المنزول له إلا لزوال المزاحمة من قبل النازل.
__________
(1) راجع نهاية المحتاج وحاشيته: 6/478.
(2) شرح الأشباه والنظائر، للحموي: 1/139.
(3) رد المحتار، لابن عابدين: 2/1110.(5/1939)
وقد تحدث الإمام القرافي عن الفرق بين قاعدة النقل وقاعدة الإسقاط بوضوح، قال رحمه الله تعالى:
" اعلم أن الحقوق والأملاك ينقسم التصرف فيها إلى نقل وإسقاط، فالنقل ينقسم إلى ما هو بعوض في الأعيان، كالبيع والقرض؛ وإلى ما هو المنافع، كالإجارة والمساقاة والمزارعة والقراض والجعالة؛ وإلى ما هو بغير عوض، كالهدايا والوصايا والعمرى والوقف والهبات والصدقات والكفارات والزكاة والمسروق من أموال الكفار والغنيمة في الجهاد، فإن ذلك كله نقل ملك في أعيان بغير عوض.
وأما الإسقاط فهو إما بعوض كالخلع، والعفو على مال والكتابة وبيع العبد من نفسه والصلح على الدَّين والتعزيز، فجميع هذه الصور يسقط فيها الثابت، ولا ينتقل إلى الباذل ما كان يملكه المبذول له من العصمة وبيع العبد ونحوهما " (1) .
ولما ثبت عن الفقهاء أنهم إنما جوزوا الاعتياض عن حق الوظيفة على وجه النزول والإسقاط، لا على وجه البيع والنقل، وكما تقدم عن شرح منتهى الإرادات للبهوتي، فلابد أن يلاحظ الفرق بين البيع والإسقاط، وذلك بما قلنا من أن النازل يستحق العوض بمجرد نزوله، ولا ينتقل به الحق إلى المنزول له. والله سبحانه أعلم بالصواب.
__________
(1) الفروق للقرافي: 2/110، الفرق التاسع والسبعون.(5/1940)
خلو الدور والحوانيت:
ومن هذا النوع ما راج في كثير من البلدان من بيع خلو الدور والحوانيت. والخلو (1) عبارة عن حق القرار في دار أو حانوت، فربما يؤجر صاحب البناء بناءه لمدة طويلة، فيأخذ من المستأجر مبلغًا مقطوعًا عند عقد الإجارة زيادة على أجرته الشهرية أو السنوية، وبدفع هذا المبلغ يستحق المستأجر أن يبقى على إجارته مدة طويلة. ثم ربما ينقل المستأجر حقه هذا إلى غيره، فيأخذ منه مبلغًا يستحق به عقد الإجارة مع صاحب البناء، وإذا أراد المالك استرداد بنائه من المستأجر لزمه أن يؤدي إليه مبلغًا يتراضى عليه الطرفان. وإن هذه المبالغ كلها تسمى "خلو" أو "جلسة" في شتى البلاد العربية، و"بكرى" و"سلامي" في ديارنا.
وأصل الحكم في هذا الخلو عدم الجواز، لكونه رشوة أو عوضًا عن حق مجرد. ولكن أفتى بعض الفقهاء بجوازه. وأول من عرف بتجويز الخلو العلامة ناصر الدين اللقاني رحمه الله تعالى، من علماء المالكية في القرن العاشر، ثم تبعه جماعة. قال ابن عابدين رحمه الله:
" وقد اشتهر نسبه مسألة الخلو إلى مذهب الإمام مالك، والحال أنه ليس فيه نص عنه، ولا عن أحد من أصحابه، حتى قال البدر القرافي من المالكية: إنه لم يقع في كلام الفقهاء التعرض لهذه المسألة، وإنما فيها فتيا للعلامة ناصر الدين اللقاني المالكي، بناها على العرف وخرجها عليه، وهو من أهل الترجيح، فيعتبر تخريجه وإن نُوزع فيه، وقد انتشر فتياه في المشارق والمغارب وتلقاها علماء عصره بالقبول " (2) .
وأما الحنفية، فقد استدل بعضهم على جواز الخلو بمسألة في الفتاوى الخانية، وهي:
" رجل باع سكنى له في حانوت لغيره، فأخبر المشتري أن أجرة الحانوت كذا، فظهر أنها أكثر من ذلك، قالوا: ليس له أن يرد السكنى بهذا العيب ".
فزعم المستدلون أن المراد بالسكنى في هذه المسألة هو عين الخلو، ولكن حقق الشرنبلالي أن المراد بالسكنى عين مركبة في الحانوت، وهى غير الخلو، فلا يصحح أن يستدل به على جواز الخلو عند الحنفية، فشراء السكنى شراء للعين لا للخلو. ثم ذكر ابن عابدين رحمه الله عن الفتاوى الخيرية أنه قضى مالكي بلزوم الخلو صح ولزم. وقال في نهاية البحث:
" وممن أفتى بلزوم الخلو الذي يكون بمقابلة دراهم يدفعها للمتولي أو المالك العلامة المحقق عبد الرحمن أفندي العمادي صاحب هدية ابن العماد، وقال: فلا يملك صاحب الحانوت إخراجه وإجارتها لغيره، ما لم يدفع له المبلغ المرقوم، فيفتى بجواز ذلك للضرورة ".
__________
(1) الخلو كلمة مولدة لم أجدها بهذا المعنى في المعاجم المعروفة، حتى في المعاجم الحديثة التي تعنى ببيان الاستعمالات الجديدة للكلمات القديمة، ولم أطلع على ضبطها الدقيق، ولكن المعروف " الخلو " بضم الخاء واللام وتشديد الواو، ويحتمل أن يكون "الخلو" بكسر الخاء وإسكان اللام وتخفيف الواو، بمعنى المكان الخالي، والله أعلم.
(2) رد المحتار: 4/521، كتاب البيوع، مطلب في خلو الحوانيت.(5/1941)
وقد يفهم من كلام ابن عابدين رحمه الله أنه مائل إلى جواز هذا الخلو المتعارف في عصرنا، ولكن الذي ظهر لي بعد مراجعة كتب المالكية الذين ينسب إليهم جواز الخلو، أن ما أفتوا بجوازه ليس هو الخلو المتعارف في عصرنا، والذي هو عبارة عن حق الاستئجار المجرد، بدون أن يكون للمستأجر في الدار أو الحانوت عين قائمة. ولم أر عندهم جواز ذلك، بل وجدت خلافه. وإنما الخلو الذي أجاز المالكية أخذ العوض عنه له صور أخرى، للمستأجر في جميعها أعيان قائمة مستقلة في الدار أو الحانوت. وأنقل ههنا نصين من فقهاء المالكية، يتضح بهما الموضوع كل الوضوح. قال العدوي في شرحه على الخرشي:
" اعلم أن الخلو يصور بصور: منها أن يكون الوقف آيلًا للخراب، فيكريه ناظر الوقف لمن يعمره، بحيث يصير الحانوت مثلا يكرى بثلاثين نصف فضة، ويجعل عليه لجهة الوقف خمسة عشر، فصارت المنفعة مشتركة بينهما، فما قابل الدراهم المصروفة من المنفعة هو الخلو، فيتعلق به البيع والوقف والإرث والهبة وغير ذلك ويقضي منه الدين وغير ذلك، ولا يسوغ للناظر إخراجه من الحانوت ولو وقع عقد الإيجار على سنين معينة كتسعين سنة، ولكن شرط ذلك أن لا يكون ريع يعمر به.
الثانية: أن يكون لمسجد مثلًا حوانيت موقوفة عليه، واحتاج المسجد للتكميل أو العمارة، ويكون الدكان يكرى مثلًا الشهر بثلاثين صفًّا، ولا يكون هناك ريع يكمل به المسجد أو يعمره به، فيعمد الناظر إلى الساكن في الحوانيت فيأخذ منه قدرًا من المال يعمر به المسجد، ويجعل عليه خمسة عشر مثلًا في كل شهر. والحاصل أن منفعة الحانوت المذكورة شركة بين صاحب الخلو والوقف بحسب ما يتفق عليه صاحب الخلو والناظر على وجه المصلحة، كما يؤخذ مما أفتى به الناصر كما أفاده (عج) .
الثالثة: أن تكون أرض مجلسة، فيستأجرها من الناظر ويبني فيها دارًا مثلًا، على أن عليه في كل شهر لجهة الوقف ثلاثين نصف فضة، ولكن الدار تكرى بستين نصف فضة مثلًا، فالمنفعة التي تقابل الثلاثين الأخرى، يقال لها (خلو) (1) .
وكذلك الشيخ محمد أحمد عليش رحمه الله، نقل فتوى العلامة ناصر اللقانى، ثم ذكر صور الخلو المختلفة، وهى عين ما حكيناه عن العدوي، ثم ذكر فصلا في شروط صحة الخلو، وقال فيه:
فصل في شروط صحة الخلو. منها أن تكون الدراهم المرفوعة عائدة على جهة الوقف يصرفها في مصالحه، فما يفعل الآن من صرف الناظر الدراهم في مصالح نفسه بحيث لا يعود على الوقف منها شيء فهو غير صحيح، ويرجع دافع الدراهم بها على الناظر.
ومنها أن لا يكون للوقف ريع يعمر به، فإن كان له ريع يفي بعمارته مثل أوقاف الملوك، فلا يصح فيه خلو، ويرجع دافع الدراهم بها على الناظر. منها ثبوت الصرف في منافع الوقف بالوجه الشرعي ... وفائدة الخلو أنه يصير كالملك ويجري عليه البيع والإجارة والهبة والرهن ووفاء الدين والإرث كما يؤخذ من فتوى الناصر اللقاني " (2) .
__________
(1) حاشية العدوي على الخرشي: 7/79.
(2) فتح العلي المالك، للشيخ محمد عليش: 2/251.(5/1942)
فاتضح بهذه النصوص الفقهية أن الخلو الذي أفتى به العلامة اللقاني، وأقره كثير من علماء المالكية، بمعزل بعيد عن هذا الخلو المتعارف في عصرنا، فإن الخلو الذي أجازه يحدث بعمارة يحدثها المستأجر في الوقف، ويصير به شريكًا في منفعة الحانوت بقدر ما صرفه فيه، فينتقص له إكراء الحانوت بقدرها،ويصير له حق القرار فيه، فإذا باعه من آخر فإنه ليس بيعًا لحق مجرد، وإنما هو بيع لمنفعة متعلقة بأعيان في الحانوت، وهذه المنفعة مملوكة له، وإنما أجازه المالكية لضرورة عمارة الوقف،ولذلك اشترطوا أن لا يكون للوقف ريع يعمر به، فإن كان له ريع لم يجز هذا العقد.
ولا شك أن بعض المالكية حكموا بجواز مثل هذا الخلو في أراض مملوكة غير موقوفة أيضًا، ولكن بشرط أن يكون المستأجر بنى فيها بناء، أو أحدث أعيانًا مستقلة أخرى، وهي التي تسمى "الجدك". يقول الشيخ محمد عليش رحمه الله:
" ثم إن الخلو ربما يقاس عليه الجدك المتعارف في حوانيت مصر، فإن قال قائل: الخلو إنما هو في الوقف لمصلحة، وهكذا يكون في الملك، قيل له: إذا صح في وقف فالملك أولى، لأن المالك يفعل في ملكه ما يشاء. نعم: بعض الجدكات بناء أو إصلاح أخشاب في الحانوت مثلًا بإذن، وهذا قياسه على الخلو ظاهر ... وبعض الجدكات وضع أمور مستقلة في المكان غير مستمرة فيه، كما يقع في الحمامات وحوانيت القهوة بمصر، فهذه بعيدة عن الخلوات، فالظاهر أن للمالك إخراجها " (1) .
فتبين بهذا أن المالكية لا يقولون بجواز هذا الخلو المتعارف في عصرنا، الذي لا يكون معه شيء من البناء أو الأعيان الثابتة في الدار أو الحانوت، ويئول الأمر إلى ماحكيناه في أول البحث عن الشرنبلالي أن بيع مجرد الخلو لا يجوز، وإنما يجوز إذا كان معه عين مركبة في الحانوت، الذي يعبر عنه بالسكنى تارة، وبالجدك أخرى. والحاصل ما ذكره العلامة ابن عابدين رحمه الله في تنقيح الحامدية حيث قال بعد ذكر السكنى.
" وهو غير الخلو الذي هو عبارة عن القدمية ووضع اليد، خلافًا لمن زعم أنه هو، واستدل بذلك على جواز بيع الخلو، فإنه استدلال فاسد، لما علمت من أن السكنى أعيان قائمة مملوكة، كما أوضحه العلامة الشرنبلالي في رسالة خاصة، لكن إذا كان هذا الجدك المسمى بالسكنى قائمًا في أرض وقف فهو من قبيل مسألة البناء أو الغرس في الأرض المحتكرة، لصاحبه الاستبقاء بأجرة مثل الأرض، حيث لا ضرر على الوقف، وإن أبى الناظر، نظرًا للجانبين على ما مشى عليه في متن التنوير ... ولا ينافيه ما في التجنيس من أن لصاحب الحانوت أن يكلفه رفعه، لأن ذلك في الحانوت الملك، بقرينة ما في الفصولين: والفرق أن المالك قد يمتنع صاحبه عن إيجاره، ويريد أن يسكنه بنفسه، أو بيعه، أو يعطله، بخلاف الموقوف المعد للإيجار، فإنه ليس للناظر إلا أن يؤجره، فإيجاره من ذي اليد بأجرة مثله أولى من إيجاره من أجنبي لما فيه من النظر للوقف ولذي اليد " (2) .
__________
(1) المرجع نفسه: 2/252.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية، لابن عابدين: 2/200.(5/1943)
بديل الخلو المتعارف:
تحقق مما ذكرنا أن بدل الخلو المتعارف الذي يأخذه المؤجر من مستأجره لا يجوز، ولا ينطبق هذا المبلغ المأخوذ على قاعدة من القواعد الشرعية، وليس ذلك إلا رشوة حرامًا.
نعم: يمكن تعديل النظام الرائج للخلو إلى ما يلي:
1- يجوز للمؤجر أن يأخذ من المستأجر مقدارًا مقطوعًا من المال، يعتبر كأجرة مقدمة لسنين معلومة، وهذا بالإضافة إلى الأجرة السنوية أو الشهرية. وتجري على هذا المبلغ المأخوذ أحكام الأجرة بأسرها، فلو انفسخت الإجارة قبل أمدها المتفق عليه لسبب من الأسباب، وجب على المالك أن يرد على المستأجر مبلغًا يقع مقابل المدة الباقية من الإجارة.
2- إذا كانت الإجارة لمدة معلومة استحق المستأجر البقاء عليها إلى تلك المدة، فلو أراد رجل آخر أن يتنازل المستأجر عن حقه، ويصير هو المستأجر بدله، يجوز للمستأجر الأول أن يطالب بعوض، ويكون ذلك نزولًا عن حق الاستئجار بعوض، ويجوز ذلك قياسًا على النزول عن الوظائف بمال. ولكن يشترط لذلك أن تكون الإجارة الأصلية إلى مدة معلومة كعشر سنين مثلًا، ويتنازل المستأجر في أثنائها.
3- إذا كانت الإجارة لمدة معلومة، لا يجوز للمؤجر أن يفسخها إلا بمبرر شرعي، فإن أراد أن يفسخها دون مبرر شرعي، جاز للمستأجر أن يطالبه بعوض، ويكون ذلك نزولًا عن حقه بعوض، وهذا بالإضافة إلى ما يستحقه من استرداد جزء باقٍ من المبلغ المقطوع الذي دفعه المستأجر كأجرة مقدمة في بداية العقد.
وهذا هو الذي قرره مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته الرابعة المنعقدة في سنة 1408هـ.(5/1944)
خلاصة الحكم في الاعتياض عن الحقوق:
إلى هنا قد ذكرت ما ظفرت به من الأنواع المختلفة للحقوق التي تحدث الفقهاء عنها وعن عقد المعاوضة عليها. ويتحصل من مجموع ما سبق من أبحاث الفقهاء القواعد التالية:
1- إن الحقوق التي شرعت لدفع الضرر، لا على وجه الأصالة، لا يجوز الاعتياض عنها بصورة من الصور، لا عن طريق البيع ولا عن طريق الصلح والتنازل، مثل حق الشفعة، وحق القسم للمرأة، وخيار المخيرة.
2- إن الحقوق التي ليست ثابتة الآن، وإنما هي متوقعة في المستقبل، لا يجوز الاعتياض عنها بصورة من الصور، كحق الوراثة في حياة المورث، وحق الولاء في حياة المولي.
3- إن الحقوق الشرعية التي ثبتت لأصحابها أصالة، ولكنها لا تقبل الانتقال من واحد إلى آخر، لا يجوز الاعتياض عنها عن طريق البيع، ولكن يجوز عن طريق الصلح والتنازل بمال، مثل حق القصاص، وحق الزوج في بقاء نكاحه مع زوجته، (يجوز الصلح عنه بالخلع والطلاق على مال) .
4- وإن الحقوق العرفية التي هي عبارة عن منافع دائمة من مرافق الأعيان، مثل حق المرور في الطريق، وحق الشرب والتسييل وغيره، يجوز بيعها عند الشافعية والحنابلة مطلقًا، وكذلك يبدو من بعض فروع المالكية. والقول المختار عند المتأخرين من الحنفية أن ما كان من هذه الحقوق متعلقًا بالأعيان الثابتة، فهو مال حكمًا، يجوز بيعه وشراؤه، مثل حق المرور، وحق الشرب، وحق التسييل، بشرط أن لا يكون هناك مانع آخر من جواز البيع، كالغرر والجهالة. ولا يجوز بيع حق التعلي عندهم، لأنه ليس متعلقًا بعين ثابتة. ولكنه يجوز التنازل عنه بمال عن طريق الصلح، كما صرح به الأتاسي.
5- إن للعرف مجالًا في إدراج بعض الحقوق في الأموال، فإن المالية تثبت بتمول الناس، كما يقول ابن عابدين رحمه الله.
6- إن حق الأسبقية، مثل حق الإحياء بعد التحجير، لا يجوز بيعه في القول المختار عند الشافعية والحنابلة، ولكنه يجوز عندهم النزول عنه بمال.
7- المختار عند الحنفية أن حق الوظيفة، وإن كان لا يجوز بيعه، ولكن يجوز النزول عنه بمال، وكذلك حق استئجار الدار أو الحانوت، لا يجوز بيعه، ولكن يجوز التنازل عنه بعوض مالي.
وبعد هذا التنقيح نرجع إلى الحقوق المعاصرة التي شاع تداولها اليوم، والتي نقصد بهذا البحث تحقيق حكمها، والله سبحانه هو الموفق للصواب.(5/1945)
بيع الاسم التجاري والعلامة التجارية:
نشأت مسألة الاسم التجاري والعلامة التجارية منذ أن ازدادت التجارات حجمًا وضخامة، وصار التاجر الواحد أو الشركة الواحدة ينتج ويصدر أمواله الضخمة إلى عدد كبير من الناس والبلاد، وتنوعت المنتجات من جنس واحد باختلاف أوصافها، وصارت هذه الأوصاف تعرف باسم المنتج. فكلما رأى المستهلك أن البضاعة أنتجتها الشركة الفلانية التي عرفت بسمعتها الحسنة في السوق، اشتراها بمجرد سماع الشركة، أو وجود علامتها التجارية على وجه البضاعة.
وهكذا صار الاسم التجاري أو العلامة التجارية سببًا لكثرة إقبال المشترين على المنتجات وقلته، فصار الاسم التجاري أو العلامة التجارية لهما قيمة في أنظار التجار، فكل اسم حاز سمعة بين الناس يمثل كثرة رغبة المشترين بضاعة واردة في السوق بذلك الاسم، ويسبب كثرة الأرباح لتاجر يرد السوق بذلك الاسم.
ولما ظهر أن بعض الناس شرعوا يستعملون أسماء المنتجين الذين لهم شهرة حسنة فيما بين المستهلكين لتروج بضاعتهم بهذا الاسم، وخيف التباس الأمر على عامة الناس، ظهرت قوانين من قبل الحكومات لتسجيل الأسماء التجارية والعلامات التجارية عند الحكومة، ومنع التجار من استعمال الأسماء والعلامات التي سجلها غيرهم.
فصارت هذه الأسماء والعلامات بعد التسجيل لها قيمة مادية في عرف التجار. وشرع التجار يبيعون هذه الأسماء ويشترونها بأثمان غالية وأموال طائلة، لما يرجون من شهرتها كثرة إقبال الناس ورغبتهم في شراء ما ينتجونه.
فالسؤال الآن: هل يجوز بيع الاسم التجاري؟ أو العلامة التجارية؟ وظاهر أن الاسم أو العلامة ليس عينًا ماديًا، وإنما هو عبارة عن حق استعمال هذا الاسم أو العلامة، وهذا الحق ثبت لصاحبه أصالة بحكم الأسبقية والتسجيل الحكومي، وهو حق ثابت في الحال، وليس متوقعًا في المستقبل، وهو حق يقبل الانتقال إلى آخر، ولكنه ليس حقًا ثابتًا في عين قائمة فعلى ضوء القواعد التي استخلصناها من كلام الفقهاء، ينبغي أن يجوز الاعتياض عنه على طريق التنازل، دون البيع لأنه ليس حقًا ثابتًا، أو منفعة مستقرة في عين قائمة.
وبهذا أفتى شيخ مشايخنا العلامة أشرف علي التهاوني رحمه الله، وقاسه على مسألة النزول عن الوظائف بمال، وحكى فيه عبارة ابن عابدين رحمه الله التي نقلناها في مسألة النزول عن الوظائف، ثم قال:
"اوركار خانه كابهي مشابه حق وظائف كي بي. كه ثابت على وجه الأصالة بي، نه كه دفع ضرر كيلى، اور دونون بالفعل أمور إضافية سي يى، اور مستقبل ميى دونون ذريعة يي تحصيل مال كي، يس إس بناير إس كي عوض جيني ميى كنجائش معلوم هوتى هي، كولينى والى كيلئى خلاف تقوى هي، مكر ضرورت مين سي إس كي بهى اجازت هو جائيكى " (1) .
" وإن اسم المصنع مشابه لحق الوظائف في أنه ثابت على وجه الأصالة، دون دفع الضرر، وكلاهما أمور إضافية بالفعل، وكلاهما ذريعة لتحصيل المال في المستقبل، فيبدو أن في تعويضه سعة، وإن كان ذلك خلاف التقوى للآخذ، ولكن يؤذن له أيضًا عند الضرورة ".
__________
(1) حوادث الفتاوى، للشيخ أشرف علي التهانوي: 4/71، وإن هذه الفتوى غير موجودة في مجموعة فتاواه المطبوعة باسم "إمداد الفتاوى" في ست مجلدات.(5/1946)
ويبدو لهذا العبد الضعيف، عفا الله عنه أن حق الاسم التجاري والعلامات التجارية وإن كان في الأصل حقًا مجردًا غير ثابت في عين قائمة، ولكنه بعد التسجيل الحكومي الذي يتطلب جهدًا كبيرًا، وبذل أمور جمة، والذي تحصل له بعد ذلك صفة قانونية تمثلها شهادات مكتوبة بيد الحامل، وفي دفاتر الحكومة، أشبه الحق المستقر في العين، والتحق في عرف التجار بالأعيان، فينبغي أن يجوز الاعتياض عنه على وجه البيع أيضًا، ولا شك أن للعرف مجالًا في إدراج بعض الأشياء في الأعيان، لأن المالية، كما يقول ابن عابدين رحمه الله، تثبت بتمول الناس. وهذا مثل القوة الكهربائية أو الغاز التي لم تكن في الأزمان السالفة تعد من الأموال والأعيان المتقومة، لأنها ليست عينًا قائمة بذاته، ولم يكن إحرازها في الوسعة البشرية، ولكنها صارت الآن من أعز الأموال المتقومة التي لا شبهة في جواز بيعها وشرائها، وذلك لنفعها البالغ، ولإمكان إحرازها، ولتعارف الناس بماليتها وتقومها.
فكذلك الاسم التجاري أو العلامة التجارية أصبحت بعد التسجيل الحكومي ذات قيمة بالغة في عرف التجار، ويصدق عليها أنها تحرز بإحراز شهادتها المكتوبة من قبل الحكومة، وإحراز كل شيء بما يلائمه، ويصدق عليها أيضًا أنها تدخر لوقت الحاجة، فالعناصر اللازمة التي تمنح الشيء صفة المالية متوفرة فيها، سوى أنها ليست عينًا قائمة بنفسها، فيبدو أنه لا مانع شرعًا من أن يسلك بها مسلك الأموال في جواز بيعها وشرائها. وذلك بشرطين:
الأول: أن يكون الاسم أو العلامة مسجلة عند الحكومة بصفة قانونية، لأن ما ليس بمسجل لا يعد مالًا في عرف التجار.
والثانى: أن لا يستلزم هذا البيع الالتباس أو الخديعة في حق المستهلكين، وذلك بأن يقع الإعلان من قبل المشتري أن منتج هذه البضاعة غير المنتج السابق، وإنما يستعمل هذا الاسم أو العلامة بعد شرائهما بنية أنه سيحاول بقدر الإمكان أن يكون إنتاجه بمستوى الإنتاج السابق أو أحسن منه.
وأما بغير هذا الإعلان، فإن انتقال الاسم أو العلامة التجارية إلى منتج آخر سبب اللبس والخديعة للمستهلكين، واللبس والخديعة حرام لا يجوز بحال. والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/1947)
الترخيص التجاري:
وماقلنا في حكم الاسم التجاري والعلامة التجارية من جواز الاعتياض عنهما يصدق على الترخيص التجاري. وحقيقة هذا الترخيص أن معظم الحكومات اليوم لا تسمح بإيراد البضاعة من الخارج أو إصدارها إليه إلا برخصة تمنحها الحكومة، والذي يظهر أن هذا النوع من الحجر على التجار، ولا تستحسنه الشريعة الإسلامية إلا بضرورة ملحة. ولكن الواقع في معظم البلاد هكذا. فالسؤال الذي ينشأ في الظروف الحاضرة: هل يجوز لحامل رخصة الإيراد أو الإصدار أن يبيع هذه الرخصة إلى تاجر آخر؟ والواقع في هذه الرخصة أنها ليست عينًا مادية، ولكنها عبارة عن حق بيع البضاعة في الخارج أو شرائها منه، فيتأتى فيه ما ذكرنا في الاسم التجاري من أن هذا الحق ثابت أصالة فيجوز النزول عنه بمال، وبما أن الحصول على هذه الرخصة من الحكومة يتطلب كلا من الجهد والوقت والمال، ويمنح حاملها صفة قانونية تمثلها الشهادات المكتوبة، ويستحق بها التاجر تسهيلات توفرها الحكومة لحاملها، وصارت هذه الرخصة في عرف التجار ذات قيمة كبيرة يسلك بها مسلك الأموال، فلا يبعد أن تلتحق بالأعيان في جواز بيعها وشرائها، ولكن كل ذلك إنما يتأتى إذا كان في الحكومة قانون يسمح بنقل هذه الرخصة إلى رجل آخر، أما إذا كانت الرخصة باسم رجل مخصوص أو شركة مخصوصة، ولا يسمح القانون بنقلها إلى رجل آخر أو شركة أخرى، فلا شبهة في عدم جواز بيعها، لأن بيعه يؤدي حينئذ إلى الكذب والخديعة، فإن مشتري الرخصة يستعملها باسم البائع، ولا باسم نفسه، فلا يحل ذلك إلا بأن يوكل حامل الرخصة بالبيع والشراء.(5/1948)
حق الابتكار وحق الطباعة:
إن حق الابتكار حق يحصل بحكم العرف والقانون لمن ابتكر مخترعًا جديدًا أو شكلًا جديدًا لشيء. والمراد من حق الابتكار أن هذا الرجل ينفرد بحق إنتاج ما ابتكره وعرضه للتجارة. ثم ربما يبيع هذا الحق إلى غيره، فيتصرف فيه تصرف المبتكر الأول من إنتاجه للتجارة. وكذلك من صنف كتابًا أو ألفه فله حق طباعة ذلك الكتاب ونشره والحصول على أرباح التجارة. وربما يبيع هذا الحق إلى غيره، فيستحق بذلك ما كان يستحقه المؤلف من طباعته ونشره. فالسؤال: هل يجوز بيع حق الابتكار أو حق الطباعة والتأليف أم لا يجوز؟ وقد اختلفت في هذه المسألة آراء الفقهاء والمعاصرين، فمنهم من جوز ذلك، ومنهم من منع.
والمسألة. الأساسية في هذا الصدد: هل حق الابتكار أو حق الطباعة حق معترف به شرعًا؟ والجواب على هذا السؤال أن من سبق إلى ابتكار شيء جديد سواء كان ماديًا أو معنويًا، فلا شك أنه أحق من غيره بإنتاجه لانتفاعه بنفسه، وإخراجه إلى السوق من أجل اكتساب الأرباح، وذلك لما روى أبو داود عن أسمر بن مضرس رضي الله عنه قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فقال: ((من سبق إلى ما لم يسبقه مسلم فهو له)) (1) .
وإن كان العلامة المناوي رحمه الله رجح أن هذا الحديث وارد في سياق إحياء الموات، ولكنه نقل عن بعض العلماء أنه يشمل كل عين وبئر ومعدن، ومن سبق لشيء منها فهي له (2) ، ولا شك أن العبرة لعموم اللفظ لا الخصوص السبب.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الخراج قبيل إحياء الموات. وسكت عليه هو والمنذري:4/264، رقم 2947.
(2) فيض القدير: 6/138.(5/1949)
ولما ثبت أن حق الابتكار حق تقره الشريعة الإسلامية بفضل أسبقية إلى ابتكار ذلك الشيء، فينطبق عليه ما ذكرنا في حق الأسبقية من أحكام، وحققنا هنا أن بعض الشافعية والحنابلة أجازوا بيع هذا الحق، ولكن المختار عندهم عدم جواز البيع، ولكن يجوز عندهم النزول عنه بمال، ونقلنا نص البهوتي عن " شرح منتهى الإرادات " في جواز النزول عن حق التحجير وحق الجلوس في المسجد، وما إلى ذلك من حقوق الأسبقية والاختصاص، ومقتضى ذلك أن يجوز النزول عن حق الابتكار أو حق الطباعة لرجل آخر بعوض يأخذه النازل، ولكن هذا إنما يأتي في أصل حق الابتكار وحق الطباعة، أما إذا قرن هذا الحق بالتسجيل الحكومي الذي يبذل المبتكر من أجله جهده وماله ووقته والذي يعطي هذا الحق مكانة قانونية تمثلها شهادة مكتوبة بيد المبتكر وفي دفاتر الحكومة، وصارت تعتبر في عرف التجار مالًا متقومًا فلا يبعد أن يصير هذا الحق المسجل ملحقًا بالأعيان والأموال بحكم هذا العرف السائر، وقد أسلفنا أن للعرف مجالًا في إدراج بعض الأشياء في حكم الأموال والأعيان، لأن المالية كما حكينا عن ابن عابدين رحمه الله تثبت بتمول الناس، وإن هذا الحق بعد التسجيل يحرز إحراز الأعيان، ويدخر لوقت الحاجة ادخار الأموال، وليس في اعتبار هذا العرف مخالفة لأي نص شرعي من الكتاب أو السنة، وغايته أن يكون مخالفًا للقياس، والقياس يترك للعرف، كما تقرر في موضعه.
ونظرًا إلى هذه النواحي أفتى جمع العلماء المعاصرين بجواز بيع حق، أذكر منهم من علماء القارة الهندية: مولانا الشيخ فتح محمد اللكنوي رحمه الله (تلميذ الإمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله) (1) والعلامة الشيخ المفتي محمد كفاية الله (2) والعلامة الشيخ نظام الدين، مفتي دار العلوم بديوبند (3) وفضيلة الشيخ المفتي عبد الرحيم اللاجبوري (4) .
وأما المانعون فتمسكوا أولًا بأن حق الابتكار حق، وليس عينًا ولا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة، ولكن يتضح مما سبق من كلام الفقهاء أن عدم جواز الاعتياض عن الحقوق ليس على إطلاقه. بل فيه تفصيل بسطناه عند الكلام على شتى أنواع الحقوق وتمسكوا ثانيًا بأن من باع كتابًا إلى آخر، فقد ملك المشتري ذلك الكتاب بجميع أجزائه، ويجوز للمشتري أن يتصرف فيه كيف شاء، فيجوز له أن يقوم بطباعته، وليس للبائع أن يحجر عليه في هذا الصدد.
ولكن ممكن الجواب عنه بأن التصرف في الشيء شيء، وإنتاج مثله شيء آخر، وإن الذي يملكه المشتري بشراء الكتاب هو الأول، فيجوز له أن يتصرف في الكتاب بما شاء قراءة وانتفاعا، وبيعا، وإعارة، وهبة وما إلى ذلك من التصرفات الأخرى، وأما طباعة مثل هذا الكتاب، فليس من منافع المبيع، يستلزم ملكه ملكًا لحق الطباعة، وهذا مثل الفلوس المسكوكة من قبل الحكومة، إذا اشتراها رجل جاز له أن يتصرف فيها ما شاء من بيع وهبة وعارية واستبدال، وما إلى ذلك من التصرفات الفردية، ولكن لا يجوز له بحكم هذا الشراء أن يسك فلوسًا أخرى على منواله، فظهر بهذا أن ملك الشيء لا يستلزم حق المالك في إنتاج مثله.
وتمسكوا ثالثًا بأن الذي ينتج هذا الشيء المبتكر أو يطبع ذلك الكتاب المؤلف، فإنه لا يسبب خسارة للمنتج أو المؤلف، وغاية ما في الباب أنه يقلل من ربح المنتج أو المؤلف، وقلة الربح شيء، والخسارة شيء آخر.
__________
(1) عطر الهداية: ص 192 إلى 194.
(2) عطر الهداية: ص 192 إلى 194.
(3) نظام الفتاوى: ص 128 إلى 133.
(4) فتاوى رحيمية: 3/142.(5/1950)
ويمكن الجواب هذا بأن قلة الربح وإن لم يكن خسارة، ولكنه ضرر، وبين الخسارة والضرر فرق واضح، ولا شك أن الذي تحمل المتاعب والمشاق الجسيمة والفكرية وبذل الأموال الجمة والأوقاف الغالية في إيجاد شيء أو تأليف كتاب، وسهر من أجل ذلك ليالي، وتنازل عن الراحة، أحق بالاسترباح بما ابتكره من الرجل الذي اشتراه بمال بسيط في لحظة واحدة، ثم جعل يسد السوق أمام المبتكر الأول.
وربما يقال: إن الاعتراف بحق الطباعة لفرد واحد يسبب كتمانًا للعلم، ولكن كتمان العلم إنما يكون إذا منع المؤلف الناس من الاستفادة بما ألفه قراءةً وتبليغًا، ولكن الذي يحتفظ بحق الطباعة لا يمنع أحدًا من قراءة الكتاب ولا دراسته ولا تعليمه ولا تبليغ ما فيه، حتى إنه لا يمنع من بيعه والتجارة فيه، ولكنه يمنع من أن يطبعه الآخر بغير إذن منه، ليكسب بذلك الأرباح، فليس ذلك من كتمان العلم في شيء.
والدليل الأخير للمانعين هو: أن الاحتفاظ بحقوق الطباعة يضيق دائرة انتشار الكتاب، ولو كان لكل أحد حق في طبع الكتاب ونشره، لكان انتشاره أوسع، وإفادته أعم وأشمل.
وهذا أمر واقع لا مجال لإنكاره، ولكن الدليل ينقلب إذا نظرنا من ناحية أخرى، وهي أن المبتكرين لو منعوا حق أسبقيتهم بالاسترباح مما ابتكروه لفشلت هممهم عن اقتحام المشاريع الكبيرة من أجل الاختراعات الجديدة حينما يرون أن ذلك لا يدر إلا ربحًا بسيطًا، وإن مثل هذه الأمور التي تحتمل وجهين لا تفصل القضايا الفقهية ما دام الشيء ليس فيه محظور شرعي، فإن جميع المباحات فيها ما يضر وينفع. والله سبحانه وتعالى أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الشيخ محمد تقي العثماني(5/1951)
بيع الاسم التجاري والترخيص
إعداد
الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي
رئيس قسم الشريعة الإسلامية بجامعة الإمارات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فقد أقرت القوانين الوضعية الحديثة مايسمى بحق الملكية الأدبية والفنية والصناعية، مثل حقوق التأليف، وحق الرسام في لوحاته المبتكرة، وبراءة الاختراع، والعلامات التجارية الفارقة، والاسم التجاري والترخيص.
فلا يجوز لأحد المساس بهذا الحق أو الاعتداء عليه، ويجوز لصاحبه أن يتنازل عنه في مقابل عوض مالي أو نقدي، بسبب الشهرة التي أحدثها صاحبه في محل الحق، وحق الرواج في الأسواق للأشياء التي تحمل اسمه، بناءً على ترخيص من الدولة، وحمايةً منه لهذه الحقوق.
والسؤال الآن، هل يجوز بيع هذا الحق؟ وخصوصًا بيع الاسم التجاري والترخيص الممنوح من الدولة بإقامة مصنع أو فتح متجر مثلًا.
يمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلال ما أبانه فقهاؤنا في تعريف المال والملك، وضوابط التمول، والاعتياض عن الحق.
للفقهاء في هذا اتجاهان: الأول لمتقدمي الحنفية،والثاني لمتأخري الحنفية وجمهور الفقهاء.
أما الاتجاه الأول لمتقدمي الحنفية: فهو أن الشيء لايعد مالًا إلا بتوافر عنصرين فيه، وهما: إمكان الحيازة والإحراز، وإمكان الانتفاع به أو عرفًا، فلا يعد مالًا ما لا يمكن حيازته وإحرازه كالأمور المعنوية كالعلم والصحة والشرف، وكذا كل ما لا يمكن الانتفاع به إما لضرره وفساده كلحم الميتة والطعام المسموم أو الفاسد، وإما لتفاهته كحبة حنطة أو قطرة ماء، وهذا يعني أن المال عند هؤلاء يقتصر على ما له صفة مادية محسوسة، أما المنافع والحقوق فليست أموالًا وإنما هي ملك، لا مال؛ لعدم إمكان حيازتها بذاتها، وإذا وجدت فلا بقاء ولا استمرار لها؛ لأنها معنوية، وتنتهي شيئًا فشيئًا تدريجيًا إذا لم تستوف المنفعة مع مرور الزمان المتجدد.(5/1952)
ويمكن أخذ العوض عن المنفعة إذا ورد العقد عليها، كعقد الإيجار،وأما الحقوق المجردة كحق الشفعة، وحق الحضانة والولاية والوكالة وحق المدعي في تحليف خصمه اليمين،وحق المرأة في قسم زوجها لها كما يقسم لضرتها، فلا يجوز الاعتياض عنها (1) ، لأنها حقوق أثبتها الشرع لأصحابها لدفع الضرر عنهم، وماثبت لدفع الضرر لايصح الصلح عليه أو التنازل عنه بعوض.
وهناك حقوق ثبتت لأصحابها أصالة لا على وجه رفع الضرر، كحق ولي المقتول بالقصاص من القاتل، وحق الزوج في بقاء عقد الزواج قائمًا أي استمرار الزوجية، وهذه الحقوق يجوز أخذ البدل عنها والمعاوضة عليها بالمال، فيجوز لولي الدم (المقتول) أن يعفو عن حقه بالقصاص مقابل مال من القاتل، وللزوج أن يأخذ من زوجته مالًا (عوض الخلع) ، مقابل التنازل عن حقه في فسخ الزواج. ومن هذه الحقوق حقوق الارتفاق، كحق التعلي وحق الشرب وحق المسيل، يجوز المعاوضة عنها؛ لأنها ثبتت لأصحابها ابتداءً بحق شرعي، ولتعارف الناس التنازل عنها بالمال (2) . وحق الملكية الأدبية والفنية والصناعية ومنه بيع الاسم التجاري والترخيص من هذا النوع الثاني؛ لأن هذا الحق يثبت لصاحبه دفعًا للضرر عنه فقط، وإنما ثبت له ابتداء، فلم توجد الشهرة التجارية ورواج السلعة إلا بجهد صاحب الاسم التجاري وتعبه وعنائه وإتقانه العمل، فصار حقه أصيلًا ملازمًا له، يجوز له الاعتياض عنه بالمال، وبخاصة أن الاعتياض عن حقه بالمال أصبح عرفًا عامًا مقررًا، وممنوحًا من قوانين الدول المعاصرة، ثم إن الاسم التجاري والترخيص عنصر من عناصر المحل التجاري.
كما أن الترخيص ذا قيمة مالية في عرف الناس، إذ لا يمكن الحصول عليه إلا بجهود متواصلة وكبيرة، وبعد دفع رسوم كثيرة للدولة، فصار ملكًا لمن منح له الترخيص وكل ما يجري فيه الملك يجري فيه المعاوضة فيما عدا الحقوق المقررة في النوع الأول عند الحنفية.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 4/3؛ والبحر الرائق: 2/227؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم، باب الملك: ص 346.
(2) شرح المجلة (م 36-37) .(5/1953)
أما متأخرو الحنفية: فلم يجعلوا إمكان الحيازة والإحراز أو العينية المادية من مقومات المال، جاء في الدر المنتقى شرح الملتقى في تعريف المال: " ويطلق المال على القيمة، وهي ما يدخل تحت تقويم مقوم من الدراهم والدنانير " (1) . وهذا يدل على أن كل ما له قيمة بين الناس فهو مال شرعًا؛ لأن القيمة المالية تتضمن وتستلزم المنفعة، ولا يتعارف الناس تقويم ما ليس له منفعة، ولا يجري فيه التعامل. ثم إن متأخري الحنفية أفتوا بضمان منافع المغصوب في ثلاثة أشياء، منها المال المعد للاستغلال. والشيئان الآخران: المال الموقوف ومال اليتيم.
وأما الاتجاه الثاني لجمهور الفقهاء (من المالكية والشافعية والحنابلة) (2) ، فيلتقي مع رأي متأخري الحنفية، فهم يعرفون المال بأنه: كل ما له قيمة مالية عرفًا يلزم متلفه بضمانه. وهذا يلتقي مع القوانين الوضعية في تعريف المال، ويشمل الأعيان والمنافع وسائر الأمور المعنوية كالحقوق من كل ما يدخل تحت الملك؛ لأن الحقوق كلها تقوم على أساس الملك، إذ الحق جوهره الاختصاص، والاختصاص جوهر الملك وحقيقته، وإلا لما كانت حقوقًا، بل مجرد إباحات، وإذا كانت الحقوق من قبيل الملك فالحقوق أموال، إذ المال مرادف للملك في رأي الفقهاء الذين عرفوا الملك: بأنه اختصاص حاجز شرعًا يخول صاحبه التصرف فيه إلا لمانع.
وحق الملكية يمنح صاحبه سلطات أو صلاحيات ثلاثًا هي الاستعمال والاستغلال والتصرف، وبتعبير فقهائنا: " التمكين من الانتفاع ". والتصرف يجيز التنازل عن محل الحق بعوض أو بغير عوض. وهذا يعني أن المعوضة أثر الملك وثمرته، وأن لصاحبه عليه حقًا عينيًا بدليل اعتراف القوانين به، وعرف الناس عليه.
والعرف الحالي هو الذي جعل للاسم التجاري والترخيص صفة المالية، ومستند هذا العرف الاستصلاح أو المصلحة المرسلة المتعلقة بالحقوق الخاصة والعامة، ولا يتعارض هذا العرف مع نص شرعي، وإنما يتعارض عند متقدمي الحنفية مع القياس، والقياس يترك بالعرف العام باتفاق العلماء.
والعلاقة بين الاسم التجاري والترخيص وبين صاحبه علاقة اختصاصية ومباشرة، كسائر الحقوق الأدبية، فهو إذا حق عيني لا شخصي، كأي حق ملكية آخر، والحق العيني كما هو معروف: سلطة مباشرة بين شخص وشيء معين بذاته.
والخلاصة: أن بيع الاسم التجاري والترخيص في الأعراف السائدة اليوم أمر جائز فقهًا؛ لأنه أصبح مالًا، وذا قيمة مالية، ودلالة تجارية معينة، يحقق رواج الشيء الذي يحمل الاسم التجاري، والذي منح صاحبه ترخيصًا بممارسة العمل، وهو مملوك لصاحبه، والملك يفيد الاختصاص أو الاستبداد أو التمكن من الانتفاع بالشيء المملوك، والعلاقة بين الشخص واسمه التجاري علاقة حق عيني، إذ هي علاقة اختصاصية ومباشرة، ومستند كون الاسم التجاري متمولًا هو العرف المستند إلى مصلحة معتبرة شرعية تتضمن جلب المنفعة ودفع المضرة. ولا يصادم ذلك نصًا شرعيًا. وهذا ينطبق على كل " إنتاج فكري " أدبي أو فني أو صناعي، لما له من قيمة مالية بين الناس عرفًا، وخصائص الملك شرعًا تثبت فيه وهي الاختصاص الذي هو جوهر حق الملكية، والمنع، أي منع الغير من الاعتداء عليه إلا بإذن صاحبه، وجريان التعامل فيه، والمعاوضة عنه عرفًا.
الدكتور وهبة الزحيلي
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 4/11.
(2) الموافقات: 2/17؛ والفروق: 3/208؛ وبداية المجتهد: 2/240؛ والشرح الكبير للدردير: 4/257؛ والأشباه والنظائر للسيوطي: ص258؛ والمغني مع الشرح الكبير 5/439؛ والإقناع: 2/59.(5/1954)
الحقوق المعنوية:
حق الإبداع العلمي وحق الاسم التجاري
طبيعتهما وحكم شرائهما
إعداد
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
أستاذ بكلية الشريعة – جامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن هذا الموضوع يتناول بعض الاختصاصات الحاجزة التي تدخل في مضمون الحق لنتبين طبيعة الحق فيها: أهو حق معنوي مجرد لا ينحط على عين مادية ولا يسري ضمن - أو إلى - منفعة مالية متقومة؟ أم هو حق مالي متقرر، يتعلق بمنافع مالية متقومة؟ ثم لنتبين على ضوء ذلك حكم بيع هذه الحقوق وشرائها، وما يترتب على ذلك.
وقد تناولت في هذا البحث حقين من هذه الحقوق:
أولهما: حق الابتكار أو الإبداع العلمي (التأليف) .
ثانيهما: حق الاسم التجاري.
وأعني بالاسم التجاري الشعار الذي يتخذ عنوانًا لبضاعة ما ذات صناعة متميزة، وهو ما يطلق عليه " الماركة " كما أعني به أيضًا، الاسم الذي يتخذ لقبًا علي محل تجاري بقطع النظر عما فيه من الأصناف.
ويدور الحديث في بحثنا هذا إذن، عن معنى الحق وطبيعته في كل من هذه الحقوق الثلاثة (إذا اعتبرنا الاسم التجاري نوعين) ، ثم عن حكم شراء هذه الحقوق والاعتياض عنها ما يترتب على ذلك.
والله ولي الهداية والتوفيق.(5/1955)
مقدمة
الحقوق المعنوية
بدأنا بحثنا بهذا العنوان التمهيدي، انسجامًا مع أصل العنوان المقترح للبحث، والذي يهمنا بيانه، هو الاطلاع على مدى علاقة " الحقوق المعنوية " بحق الابتكار، وما يسمى بالاسم التجاري ونحوه.. حتى إذا تبين أن هذه الحقوق الجزئية التي قد ينظر إليها من حيث هي منافع متقومة، داخلة تحت هذا العنوان: " الحقوق المعنوية " أدخلناها تحت سلطان الأحكام المترتبة عليه، تلك الأحكام المعروفة والمفصلة في أماكنها من كتب الفقه.
أما إن رأينا أن هذه الحقوق الجزئية التي نريد الحديث عنها، بمعزل عن مضمون هذا العنوان، فلا مناص عندئذ من إبعاده عن خطة البحث، حتى لا نقع في أي متاهة أو لبس.
كلمة " الحقوق المعنوية " يراد بها في المصطلح الفقهي ما يقابل الحقوق المالية سواء منها ما يتعلق بالأعيان المتقومة أو بالمنافع العارضة.. كحق البائع في الثمن وحق المشتري في المبيع، وحق الشفيع في الشفعة، وكحقوق الارتفاع وحق المستأجر في السكنى (1)
فكل حق لم يتعلق بمال عيني ولا بشيء من منافعه العارضة، فهو حق معنوي.. مثل حق القصاص وحق رفع الدعاوى وحق الطلاق والولاية، وسائر الحقوق المتعلقة بالكرامة الإنسانية وعموم ما يدخل في معني " العرض " (2) .
ذلك لأن الاختصاص الذي يقضي به الشارع لصاحب هذا الحق، أمر تقديري لا ينحط على عين مادية، ولا يسري ضمن منفعة متقومة، فكان هذا الاختصاص من جراء ذلك (وهو معنى الحق في الجملة) شيئًا معنويًا أو متعلقًا بأمر معنوي.
ولا يغير من واقع هذا الاصطلاح ومعناه، إمكان الاستعاضة عن بعض الحقوق المعنوية بالمال، كالقصاص مثلًا، ذلك لأن مشروعية الاستعاضة فيه ليست آتية من كون ذلك الحق متقومًا بذاته، بل بموجب نص من الشارع في ذلك الحق بعينه، بحيث لو لم ينص الشارع على مشروعية الدية، لما ظهر أي جسر بينه وبين القصاص يتمثل في المنفعة المتقومة.
على أن حديثنا لن يتناول شيئًا مما يدخل تحت اسم الاستعاضة عن الحق المعنوي بالمعني الفقهي المحدد، وإنما يتناول البحث في مدى سريان معني المال ضمن حقوق معينة، قضى العرف التجاري بها أو بكثير منها اليوم حتى إذا علمنا أنها تنطوي شرعًا، وبحد ذاتها، على قيمة مالية ثابتة، بنينا على ذلك الأحكام الملائمة، من إمكان البيع والرهن والإيجار وعقد الشركات، والحوالة بها وعليها ونحو ذلك.
ونظرًا إلى هذا كله، فإن بوسعنا أن نقرر بأن " الحقوق المعنوية " لا علاقة لها بكل من حق الابتكار والاسم التجاري. وستزداد هذه الحقيقة وضوحًا خلال دراستنا لكل من هذين الحقين وما يتعلق بكل منهما، لا سيما عصرنا هذا.
__________
(1) وبذلك تشمل كلمة الحقوق المالية ما يتعلق بالأعيان التي يمكن حيازتها، وهو المعني بالمال في اصطلاح الحنفية، وما يتعلق بالمنافع، وهو داخل في معنى المال عند غيرهم من جمهور الفقهاء.
(2) انظر أقسام الحق وأنواع الاختصاصات في كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعزبن عبد السلام: 2 / 573.(5/1956)
حق الابتكار أو الإبداع
لعل هذا الاصطلاح فيه من الاتساع ما يشمل سائر الصور والجزئيات المطروحة في هذا البحث من حق التأليف وإبداع الصنعة ومدلول " الماركة " وعموم ما يسمى اليوم بالاسم التجاري.
ذلك لأن مصدر الحق في هذه الصورة الجزئية وأمثالها، هو الجهد الإبداعي الذي استقل به شخص دون غيره، أو أشخاص محددون. سواء تعلق هذا الحق بمعان ومدركات ذهنية مجردة، أو تعلق بمصنوع مادي أورث اهتمامًا وفائدة للآخرين.
غير أن حديثنا تحت هذا العنوان الجزئي إنما يتناول التأليف دون غيره من المبتكرات الأخرى، وهي كثيرة ومتنوعة.
والمفروض أن المراد بالتأليف في هذا المقام، ما ينطوي على عمل إبداعي أيًا كانت درجته من الأهمية. فأما التأليف الذي يطلق في بعض الأحيان، تبعًا، علي عملية نقل مجردة، أو تجميع عار عن أي تركيب إبداعي يبرز فائدة جديدة لم تكن معروفة ولا واضحة، فهو وإن اندرج تبعًا تحت اسم التأليف، لا يمكن أن يدخل في معني الإبداع أو الابتكار الذي هو مناط ما سننتهي إليه من الأحكام.
إذا تحدد المضمون المراد من هذا العنوان، فلنبدأ بعرض السؤال التالي:
هل الجهد الفكري في التأليف، يورث صاحبه – في ميزان الشرع – أي اختصاص حاجز يتضمن معنى الحق؟ (1) .
والجواب نعم، بل لا نعلم في هذا القدر أي خلاف.. ومن أبرز ما يدل على ذلك ما هو ثابت من حرمة انتحال الرجل قولًا لغيره، أو إسناده إلى غير من صدر عنه بل كانت الشريعة الإسلامية قاضية ولا تزال بنسبة الكلمة والفكرة إلى صاحبها.. لينال هو دون غيره أجر ما قد تنطوي عليه من خير، ويتحمل وزر ما قد تجره من شر.
بل وقد ذهب الإمام أحمد في تحديد هذا الاختصاص وتفسيره مذهبًا جعله يمنع من الإقدام علي الاستفادة بالنقل والكتابة عن مقال أو مؤلف عرف صاحبه، إلا بعد الاستئذان منه.
فقد روى الغزالي أن الإمام أحمد سئل عمن سقطت منه ورقة كتب فيها أحاديث أو نحوها، أيجوز لمن وجدها أن يكتب منها ثم يردها؟ فقال: لا، بل يستأذن، ثم يكتب (2) .
__________
(1) عرف صاحب كشف الأسرار الحق الخاص بأنه: موجود من كل وجه تتعلق به مصلحة خاصة عائدة لمن ينسب إليه. وهذا التعريف ينطوي على الاختصاص الحاجز كما هو واضح. (كشف الأسرار على أصول البزدوي: 4 / 134 و 135) .
(2) الإحياء، للإمام الغزالي: 1 / 96 طبعة مصطفى محمد.(5/1957)
وسواء أكان مصدر هذا الحكم أخلاقيًا مجردًا يتعلق بآداب التعامل والسلوك، أو اقتصاديًا يتمثل في منفعة مالية متقومة، فإنه في كل الأحوال ينطوي على اختصاص ما، يعطي صاحبه حق التسلط على ما اختص به، وذلك هو معنى الحق.
إذن، فالتأليف يورث صاحبه حقًا يتعلق بمحله الذي هو ثمرة جهده الفكري أو العلمي.
ولكن ما هي طبيعة هذا الحق؟ أهو حق مادي مالي، أم هو حق معنوي خال عن شوائب النفع المادي أو المالي؟
ونقول في الجوانب:
في العصور الغابرة، حيث كانت الإبداعات الفكرية والعلمية تنشأ داخل أفكار أصحابها، ثم لا تستقر إلا بكتابتها على أيدي النساخ الذين كانوا يبذلون جهودًا شاقة في عملية النسخ والكتابة: لم يكن يتجلى لهذا الحق أي معنى أو قيمة، أكثر من مجرد اختصاص نسبة، تكسب صاحبها، كما أوضحنا، المثوبة والثناء، فيما هو مقبول ومستحسن، وتعرضه للقدح والعقاب فيما هو مرفوض ومستهجن.
أما القيمة المالية، فلم يكن ليبدو شيء منها، منوطًا بتلك الإبداعات العلمية. من حيث هي إبداع علمي، أي بقطع النظر عن أعطيات الحكام والأمراء ونحوهم.. ومن ثم لم تطرح فكرة الحق المالي في التأليف في أي من تلك العهود الغابرة، وربما لم تكن تخطر من أحدهم على بال وعلى هذا فبوسعنا أن نقول: إن هذا الحق كان حينئذ حقًا معنويًا.
ولكن، فما السبب في ذلك؟
إن السبب يتمثل فيما يلي:
إن القيمة المالية في الشيء إنما يبرزها، بل يوجدها، العرف الاجتماعي، سواء أعرفنا المال بأنه كل ما يمكن حيازته مما يمكن الانتفاع به كما هو رأي الحنفية، أو عرفناه بأنه مطلق ما كانت له قيمة يعتد بها عرفًا كما هو رأي الجمهور.
ذلك لأن إقبال الناس على الشيء بالاستفادة منه أو إعراضهم عنه، هو الذي يلعب الدور في إعطاء ذلك الشيء أو عدم إعطائه القيمة ...
ومن أبرز الأمثلة على ذلك دود القز. فقد مر عهد طويل في بعض البلاد، والناس لا يرون لدود القز أي جدوى، إذا لم يكونوا يقبلون عليه بأي محاولة استفادة، إما لجهلهم بما فيه من المزية المعروفة، وإما لجهلهم بسبل الوصول إلى هذه المزية فيه.. ومن ثم فلم يكن التعامل به مشروعًا، حتى إذا تبدلت الأحوال وتنبه الناس إلى ما فيه من مزية، وتمرسوا بسبل استخراج الحرير منه، تغير الحكم فأصبح التعامل به مشروعًا، بل أصبح مصدرًا من مصادر الثروة والتجارة (1) .
__________
(1) انظر ما كتبه الإمام النووي موسعًا في أثر العرف في المنافع والأموال، وحكم بيع دود القز. في المجموع: 9 / 227 و240 وما بعد. وانظر مجموعة رسائل ابن عابدين: 2 / 125.(5/1958)
ولم يكن في مألوف الناس وعرفهم السائد أن جهدًا فكريًا أو عمليًا ظهر من خلال كتابة مرقومة على صفحات، يقوم بأي قيمة مالية، ما عدا قيمة الورق والحبر والجهد الذي بذله الناسخ في الكتابة.
نعم، ربما كان ينظر إليه من خلال قيمة معنوية قد تكون أهم وأخطر، كخدمة الدين وإزالة كثير من الغواشي التي قد تغشي عليه، وكاللذة التي يجدها القارئ في الاطلاع على حقيقة علمية كانت محجوبة أو غائبة، أو في حل مشكلة فكرية مستحكمة.
والمفروض أن فائدة عظيمة كهذه يتسابق إليها الناس ويتنافسون عليها، من شأنها أن تتحول إلى قيمة مالية ومنفعة متقومة، بمقتضى ما يفرزه قانون العرض والطلب.
غير أن الذي كان يحول دون ذلك أن هذه الفائدة – على الرغم من أهميتها – كانت تستهلك في جهد الناسخ وعمله الصبور الدائب، وذلك نظرًا لما كانت الكتابة تتطلبه من صبر وجهد آنذاك.
وهكذا، فإن الكتاب مهما عظمت الفائدته المعنوية ومهما كان محل رغبة عالية من جماهير الناس، فإن القيمة المالية التي يمكن أن تقدر تلك الفائدة بها، تذوب وتختفي إزاء قيمة الجهد الكبير الذي كان النساخ يبذلونه في سبيل رصد هذه الفائدة وتسجيلا، بحيث تبدو قيمة النسخ مساوية أو أغلى من قيمة المضمون العلمي أو الفكري للكتاب.
ولمزيد من الإيضاح نقول: إن جهد الناسخ لكتاب ما عندما يقدر بعشرة دنانير مثلا، فإن القيمة الاسمية له لن تزيد في السوق على هذا المبلغ. ذلك لأن الناسخ هو الذي يقرر الثمن، وإنما الثمن من وجهة نظره قيمة جهده اليدوي وتكاليف الكتابة، إن كان من وجهة نظر المشتري قيمة ما يتضمنه الكتاب من علم وإبداع فكري إذ هو لا ينظر إلى الجهد الكتابي – مستقلًا – بأي اعتبار ذاتي! ...
ويمكن أن يقال عندئذ إن هذا المؤلف له قيمة مالية في نظر القراء المقبلين عليه، ولكن يجب أن لا يغيب عن البال أن هذه القيمة استهلكت داخل القيمة التي اقتضاها جهد الكتابة وتكاليفه. وهكذا فإن المؤلف لم يكن يخطر بباله قط أن يجعل من أعماله العلمية مصدر رزق، لأن وصولها إلى أعين القراء وأفكارهم كان يتطلب دائمًا جهدًا أغلى أو مساويًا لقيمة أعماله العلمية تلك.
ولهذه المسألة نظير معروف في حياتنا اليوم، وهو أننا كثيرًا ما نتأكد من وجود معادن ثمينة داخل بقعة ما من الأرض التي في جوزتنا. غير أن السعي إلى استخراج هذه المعادن وتصفيتها يتطلب من الجهد والتكاليف ما قد يربو ثمنه على القيمة تلك المعادن، ووجوه الاستفاده منها.. لا ريب أن قيمة تلك المعادن تضمحل وتذوب إزاء الجهود والصعوبات التي تقف في طريق استخراجها. وعندئذ يصح أن يقال إن هذه المعادن لا تنطوي – حكمًا – علي أي قيمة مالية حية.(5/1959)
أما اليوم، وقد ظهرت الآلات الطباعة التي تقذف الواحدة منها عشرات النسخ من الكتاب في الدقيقة الواحدة، فقد اختلفت موازين الأمر!..
إن إخراج النسخة الواحدة مطبوعة مجلدة جاهزة للقراءة، لم يعد يكلف إلا مبلغًا زهيدًا من المال، هو في مجموعة قيمة الورق والغلاف ونفقات الآلة، يتبين لك ذلك عندما تقسم مجموع النفقات على عشرين ألف نسخة مثلًا.. وأمام ضمور كلفة استخراج النسخة الواحدة تبرز قيمة المضمون العلمي له، تلك القيمة التي ظلت خفية أو ضامرة ضمن ضخامة القيمة التي كان يستحقها إخراج النسخة الواحدة منه.
وهذا هو السبب في تسابق الناشرين وأصحاب المطابع إلى طبع آلاف النسخ من مؤلف أو ابتكار علمي، يشعرون أن له قيمة مالية، وراء تكاليف الطباعة والإخراج. فقد تحولت عملية الإنفاق على ذلك إلى أداة اقتناص لقيمة مالية، كان يعوزها أن تحبس في وعاء صالح، ليتسنى بذلك بيعها وتسليمها لآلاف الراغبين.
ولكن فمن الذي يستحق هذه القيمة المالية التي برزت لمضمون هذا الكتاب، بفضل ظهور وسائل الطباعة الحديثة؟
والجواب المضمون العلمي للكتاب إذا كان حقًا لمؤلفه الذي أبدعه، كما سبق أن أوضحنا، طبقًا للأدلة التي لا خلاف فيها، فلا ريب أن كل ما قد يبرز فيه من قيمة مالية، لا بد أن يكون عائدًا بالضرورة لصاحب الحق بذاته.
غير أن الذي يقوم بدور الطباعة والإخراج، يستحق على ذلك أجره كاملًا غير منقوص. ويعود الأمر ليشبه، مرة ثانية، تلك الأرض الغنية بالمعادن، عندما قامت الوسائل الحديثة باستخلاصها وتحضيرها، ومن ثم أبرزت القيمة الذاتية لها.. إذا لما هبطت قيمة تلك التكاليف والجهود هبوطًا كبيرًا، صعدت من خلال ذلك قيمة تلك المعادن وأمكن التعامل بها على هذا الأساس.(5/1960)
ولكن كيف يمكن للمؤلف صاحب هذا الحق، أن يستوفي من الناس قيمته وعلى أي أساس؟
ومن الواضح أن الجواب على هذا السؤال يتوقف على الجواب عن سؤال أسبق منه، وهو: كيف يتسنى للراغب في الاستفادة من هذا الإبداع العلمي أن يستوفي لنفسه الفائدة منه؟
والجواب أن إمكان هذا الاستيفاء متوقف على إمكان تسليم المؤلف ابتكاراته العلمية هذه للآخرين.. وإنما سبيل ذلك تسجيلها عن طريق الطباعة والنشر. فبذلك يمكن التسليم، ويمكن للآخرين أن يستوفوا الفائدة التي هي مناط القيمة المالية.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن الحكم الذي يتكفل باستيفاء كل من الطرفين للقيمة التي يطمح إليها، إنما هو البيع. ويتسنى تكييف هذا الحكم بإحدى طريقتين:
الأولى: اعتبار الطابع أو الناشر هو المشتري لحق الابتكار، ثم إنه يبيعه للناس بدوره في وعائه المادي الذي هو الكتاب، ولكن لا بد أن يكون عقد الشراء بين المؤلف والناشر واقعًا على وعاء مادي يتمثل في النسخة المخطوطة التي يتقدم بها المؤلف، على أن يصحب ذلك اشتراط رفع المؤلف يده عن حقه هذا كليًا، أو جزئيًا، أي إلى أمد محدود.
الثانية: اعتبار المستهلكين " آحاد الناس " هم المشترين من المؤلف، ولكن عن طريق الطابع أن الناشر. وإنما يستحق كل منهما عندئذ الأجر المتفق عليه من المؤلف. أي إن الطابع أو الناشر في هذه الحالة مجرد وسيط بين البائع والمشتري.(5/1961)
غير أن العقدة التي تخضع للمناقشة والبحث هي الوجه الشرعي الذي يمكن أن يجاب به على السؤال التالي:
ألم يصبح المشتري، أيًا كان، للكتاب، مالكًا له؟ ومن ثم ألم يعد من حقه أن يتصرف بكاتبه هذا كما يشاء؟ كأن يصور منه آلاف النسخ ثم يبيعها للناس كما يشاء؟
لكي نتصور الجواب العلمي عن هذا السؤال، ينبغي أن نتذكر أن عقد البيع كان ينبغي أن يقع على المنفعة العلمية المقدرة التي ابتكرها المؤلف، إذ هي المقصود دون غيرها. غير أن المنفعة لما لم يمكن تسليمها، ومن ثمن لم يمكن استيفاؤها، إلا ضمن وعاء مادي يتمثل في كتاب، فقد كان لا بد أن يقع عقد البيع على هذا الوعاء. وإذن فلا شك أن قدرًا محددًا من تلك المنفعة العلمية تم بيعه تبعًا للوعاء الذي هو مناط العقد. وهذا القدر المحدد يحدده فعلًا الوعاء المادي المتمثل في عدد النسخ التي يتم الاتفاق على طبعها إن تصورنا أن الناشر هو المشتري، أو في عدد النسخ التي تم الاتفاق على شرائها إن فرضنا أنه المستهلك.
ويترتب على هذا التصور أن الناشر لا يملك حق طبع عدد أكثر مما تم الاتفاق عليه. كما أن المستهلك أيضًا لا يملك – اعتمادًا على امتلاكه للكتاب – أن يطبع أي عدد منه قل أو كثر، لأن كلًا من الناشر والمستهلك إنما يستلُّ بهذا العمل الذي يقدم عليه من حوزة المؤلف حقًا متقومًا منسوبًا إليه خارج حدود الوعاء الذي وقع البيع عليه. ومن ثم فهو تصرف غير شرعي.
غير أن هذا الكلام يناقش من بعض الناس بحجة ما هو مقرر من أن المالك يحق له أن يتصرف بملكه كما يشاء، ما لم يكن في تصرفه إضرار بالآخرين، على ما هو معروف من النهي عن التعسف في استعمال الحق. ثم يقولون: إن استنساخ مالك الكتاب نسخًا أخرى منه عن طريق الكتابة أو الطباعة، إنما هو تصرف بملكه، وليس فيه أي تعسف أو إضرار بالآخرين، فيما قد يتصوره هؤلاء المناقشون.
والجواب عن هذا الوهم أن عقد الشراء لم يقع على جوهر الحق الذي هو في الأصل ملك المؤلف، وإنما وقع العقد على كتاب.. وهو ما نعبر عنه بالوعاء المادي الذي يحوي صورة عن ذلك الحق المتقوم. إذن فالمشتري قد امتلك الوعاء المادي أصالة، وما قد تضمنه تبعًا، وبناء على ذلك، فهو لا يستطيع أن يزعم أنه بهذا الشراء قد انتزع حق تلك الأفكار من مبدعها الذي لا تزال تنسب إليه شرعًا، وأنه قد جعل نفسه بذلك المالك لهذا الحق من حيث هو، بدلًا من المؤلف أو المبتكر.
وإذا كان هذا الكلام محل اتفاق، وأعتقد أنه كذلك، فلا ريب أن استباحة مشتري الكتاب تصوير آلاف أخرى منه واستقلاله ببيعها والحصول على أرباحها، إنما هي ثمرة نقيض هذا الكلام المتفق عليه. إذ إن هذا العلم لا يعدو أن يكون اقتناصًا لحق تم الاتفاق على أنه لا يزال منسوبًا إلى صاحبه المؤلف أو المبتكر، ومن ثم فهو لا يزال مالكًا لأي فائدة مادية تتفرع عنه، ولا يعدو أن يكون اعتصابا أو سرقة لحق مالي متقوم من صاحبه.
فقد تبين إذن، أن مالك الكتاب بالهبة أو الشراء أو نحوهما، إنما يحق له أن يتصرف بالعين المادية التي اشتراها، إذ هي التي وقع عليها العقد، كما أنه يملك أن يعبر عن الأفكار التي في الكتاب وأن يناقشها ويرفضها أو يرويها، ولكن على أن لا ينتحلها لنفسه، كما مر بيانه والدليل عليه، بل يغزوها إلى من لا تزال حقه المنسوب إليه. ثم إنه لا يملك من باب أولى – كما هو واضح – أن يبيع هذا الحق المنسوب إلى غيره ويستقل هو بثمنه، اعتمادًا على مجرد أنه قد امتلك نسخة من كتاب تحوي صورة لهذا الحق. لا شك أن هذه النسخة تغدو عندئذ في يده أشبه بكوة فتحت في جدار لتتسرب اليد الأجنبية منها إلى الداخل، ثم لتقتنص كل ما قد يوجد فيه بدون حق.(5/1962)
حق الاسم التجاري
ما المراد بالاسم التجاري؟
الاسم التجاري اصطلاح يمكن أن يستعمل في التعبير عن أحد المضامين الثلاثة التالية:
الأول: الشعار التجاري للسلعة، وهو ما قد يسمى اليوم بـ " الماركة " المسجلة. إذ يصح هذا الشعار تعبيرًا عن الصنف المتميز عن غيره في كثير من الخصائص والسمات.
الثاني: الاسم الذي إذ غدا عنوانًا على محل تجاري نال شهرة مع الزمن، بحيث تتجسد هذه الشهرة في الاسم المعلن عليه. وقد يكون هذا الاسم هو اسم التاجر ذاته أو لقبه، وقد يكون اسمًا أو وصفًا اصطلاحيًا لقَّب به المحل، وربما أطلقت على هذا المضمون الثاني كلمة " الشهرة التجارية".
الثالث: الوصف الذي يتمتع به المحل التجاري بحد ذاته، أي من حيث إنه موقع ومكان، لا من حيث الجهد أو الشهرة التي نسجها لها عمل صاحب المحل.
فأما الحديث عن هذا المضمون الثالث، فليس داخلًا فيما نحن بصدده، بل هو راجع إلى ما يسمى اليوم بالفراغ أو الخلو وهو اصطلاح على المال الذي يدفع علاوة على قيمة العقار أو أجرته، مقابل ما يمتاز به من أهمية ذاتية أو موقع تجاري.
وأما المضمون الأول والثاني، فهما اللذان يمكن أن يرادا بالاسم التجاري في هذا البحث وإذن فإن ما يتناوله حديثنا هو:
بيان حكم الشريعة الإسلامية في بيع التاجر الشعار التجاري الذي كان قد اتخذه عنوانًا لسلعة تجارية له حتى عرفت به، أو بيع التاجر للاسم الذي اتخذه عنوانًا ولقبًا لمحله التجاري الذي عرف واشتهر به.(5/1963)
ويقتضي بلوغ معرفة هذا الحكم أن نقطع إليه المراحل التي تتمثل في بيان المسائل التالية:
المسألة الأولى: هل الاسم التجاري ينطوي على حق يعطي صاحبه مزية الاختصاص؟
المسألة الثانية: هل يستتبع هذا الحق – على فرض وجوده – منفعة قيمية أو ثمرة مالية تنفصل عن الشخص صاحب الحق وتتمثل في عين مستقلة عنه، بحيث يصبح هذا الحق حقًا ماليًا متقررًا، لا حقًّا مجردًا؟
المسألة الثالثة: على اقتراض وجود هذه المنفعة المالية، هل يدخل هذا الحق بذلك في المملكات، بحيث تسري عليه أحكامها من حق التصرف بها والمعاوضة عنها؟
المسألة الرابعة: إذا ثبت دخول هذه المنفعة في حكم الممتلكات، فهل ثمة ما يمنع من بيعها أو شرائها، بحيث يسبب البطلان أو الحرمة، وما هو هذا السبب؟(5/1964)
المسألة الأولى - هل الاسم التجاري ينطوي على حق شرعي؟
ونحن نعني الآن بالاسم التجاري الشعار الذي يتخذ اسمًا لنوع البضاعة. أما اسم الملح التجاري فنذكره فيما بعد.
ولعل أخصر وأجمع تعريف للحق ما ذكره الأستاذ الجليل مصطفى الزرقاء في كتابه المدخل الفقهي مستخلصًا من عدة تعاريف ذكرها الفقهاء، وهو:
" اختصاص حاجز شرعًا يسوغ صاحبه التصرف إلا لمانع " (1) .
إلا أن الأستاذ الزرقاء ساق هذا العريف وارتضاه للملك لا للحق. ونحن نرى أن تعريف الحق الذي هو أعم من الملك داخل فيه، وهو " اختصاص حاجز شرعًا " إذ الحق بمعناه العام ما أورث صاحبه الاختصاص، بقطع النظر عن تسويغه التصرف به والاعتياض عنه أو عدم تسويغه ذلك. فيشمل هذا التعريف العام حقوق الله وحقوق العباد والحقوق المعنوية والمالية والعقدية ... إلخ.
إذا علمنا هذا، فهل ينطبق تعريف الحق على العلاقة السارية ما بين التاجر والشعار الذي اتخذه عنوانًا على بضاعته. أي هل للتاجر أن يستأثر بهذه العلاقة من دون الناس، باسم الشرع وحكمه، بحيث لا يجوز شرعًا أن ينسب غيره هذا الشعار إلى بضاعته على نحو ما هو مقرر من نسبة حق التأليف إلى صاحبه؟
تتوقف معرفة الإجابة عن هذا السؤال على إدراك المغزى الذي يعبر عنه الشعار التجاري الدارج إن هذا الشعار أو الاسم لا يراد من إطلاقه أكثر من التعريف بالبضاعة التي انفرد صاحبها بصنعها أو ابتكارها، وإخراجها على الوجه المتميز الذي أتيح له وحده، اقتراضًا، أن يخرجها فيه. ولما كان من حق صاحب هذه الصنعة المتقنة أن يحيط صنعته بذاتية مستقلة تحجزها عن الضياع والالتباس، فقد كان أيسر سبيل إلى هذا الحجز والتمييز أن يَسِمَهَا بشعار خاص يكسبها الذاتية المستقلة بين السلع والبضائع الأخرى.
__________
(1) المدخل الفقهي العام: 1 / 241؛ وانظر المدخل إلى نظرية الالتزام، للأستاذ الزرقا أيضًا: 2 / 39.(5/1965)
ومن هنا يتبين أن العلاقة القائمة بين تلك الصنعة المتميزة واسمها الذي اختير لها، إنما هي في الحقيقة تحصين للعلاقة القائمة فعلًا بين تلك البضاعة والصانع أو التاجر الذي استقل بإبداعها أو بإخراجها بصفاتها المتميزة.
وهذه العلاقة في الحقيقة من نوع العلاقة التي بين المؤلف والأفكار العلمية التي استقل بإبداعها، على نحو ما سبق بيانه. فكما أن نسبة تلك الأفكار إلى صاحبها حق شرعي لا يجوز إنكاره ولا التطاول عليه، فكذلك ثمرة الجهد العضلي أو الصناعي حق شرعي لصاحبه لا يجوز إنكاره أو العدوان عليه. إلا أن المؤلفات العلمية تكون محصنة في العادة ضد أي انتحال، بكتابة أسماء مؤلفيها عليها. في حين أن البضائع المصنعة تنقطع نسبتها إلى المعمل الذي تم تصنيعها فيه، بمجرد طرحها في السوق فكان الشعار التجاري أو " الماركة " المسجلة عليها كالبديل عن ذكر اسم المؤلف وتسجيه على الكتاب.
ونظرًا إلى الاسم التجاري كان رمزًا لهذا الحق الذي يعود إلى صاحب الصنعة والإبداع، فقد اقتضى العرف التجاري أن يكون الشعار الذي يعتمده لبضاعته حقًا مكتسبًا له، لا مجال للازدواج أو التنافس فيه، لا مجرد تسمية وتعريف لذات السلعة من حيث هي عين مادي. وقد علمنا آنفًا أن الحق كما يتعلق بالأعيان المادية من سلع وغيرها، على وجه التملك والاختصاص، فهو يتعلق أيضًا بالجهد المعنوي والطاقة الإبداعية التي تتعلق بالأفكار أو الصناعات.
وتعود فائدة هذا الاختصاص إلى جهتين اثنتين:
الجهة الأولى: التاجر، وتتمثل الفائدة التي ينالها في مزيد من الإقبال إلى بضاعته ومن نتائج ذلك تحقق المزيد من أرباحه وفاعليته التجارية.
الجهة الثانية: المستفيد أو المستهلك، وتتمثل فائدته في تيسير الطريق أمامه إلى الوصول لما قد يبحث عنه من الجودة والإتقان. ولا شك أننا نقرض في هذا كله الصدق في مساعي التاجر وجهوده ودعوى سعيه إلى الإتقان.
وإذا كان هذا هو العرف التجاري السائد، فإن ذلك يكون بدوره مصدرًا لثبوت معنى الحق الشرعي الذي عرفه صاحب كشف الأسرار بأنه " موجود من كل وجه تتعلق به مصلحة خاصة عائدة لمن ينسب إليه " (1) ، وقد علمنا فيما مضى أن العرف مرجع أساسي في تثبيت الحقوق الشرعية.
وبناء على ذلك نقول: إن الاسم التجاري حق تتعلق به مصلحة خاصة عائدة لصاحب السلعة ومن ثم فهو يعطي صاحبه مزية الحصر والاختصاص.
__________
(1) كشف الأسرار على أصول البزدوي: 4 / 134، و 135.(5/1966)
المسألة الثانية – هل ينطوي هذا الحق على منفعة قيمية أو ثمرة مالية؟ :
وبتعبير آخر: أيعد حق الاسم التجاري – بعد ثبوته – من الحقوق المالية المتقررة، أم من الحقوق المجردة غير المالية؟
ونقول في الجواب: لا ريب أن مصدر هذا الحق هو الجهد الذهني مضافًا إليه النشاط الحركي والعضلي، وهو شيء ثابت ومستقر في كيان صاحب الحق ذاته؛ غير أن لهذا الجهد الذهني ثمارًا تنفصل عنه لتستقر في سلعة أو بضاعة منفصلة عنه، بحيث يمكن استيفاؤها والانتفاع بها وتقديرها. وبذلك تصح هذه الثمار ذات كيان ووجود مستقل، وأثر ظاهر في المصلحة العامة. ومن ثم نشأت عنها قيمتها المالية التي أخضعتها لقانون التداول (1) .
وكما أن السلع والبضائع تعد بحد ذاتها أموالًا متقومة خاضعة للمعاوضة والتداول، فإن الأجهزة والأدوات التي تستخدم في إنتاجها تعد هي الأخرى أموالًا متقومة.
وإذا ثبت هذا، فلا فرق بين أن تكون هذه الأجهزة والأدوات وسائل وأسبابًا مادية، وأن تكون جهودًا وابتكارات ذهنية، أي فكما تكون الأجهزة المادية ملكًا لأصحابها فكذلك جهودهم الفكرية وطاقتهم الإبداعية، ينبغي أن تكون هي أيضًا ملكًا لأصحابها، على نحو ما مر بيانه في مسألة حق التأليف؛ ونظرًا إلى أن هذه الطاقات الإبداعية أمور معنوية بحد ذاتها، فقد اقتضت الضرورة إحرازها وحصرها عن طريق تحصينها في الاسم التجاري.
وهكذا يتضح أن حق الاسم التجاري كناية عن السياج الذي يحصر سائر الفوائد المالية والاعتبارية التي جاءت ثمرة المزايا التي استقل بها التاجر في بضاعته، عن طريق ما بذل من الجهد الفكري والنشاط الحركي، كي لا تتبدد أو تتحول إلى غيره.
أي أن الاسم التجاري عنوان على السر الذي تمتاز بها به بضاعة ما، إذ يعطيها ذلك مزيدًا من القيمة ويضمن مزيدًا من الإقبال عليها والرغبة فيها. فهو في الحقيقة كناية عن منفعة مالية متقومة، داخلة تحت سلطان المعاوضة وخاضعة لقانون الاختصاص.
__________
(1) انظر " حق الابتكار في الفقه الإسلامي "، للدكتور فتحي الدريني وفئة من العلماء: ص 60، و61.(5/1967)
المسألة الثالثة: هل يدخل إذن هذا الحق في دائرة الممتلكات بحيث تسري عليه أحكامها؟
إذا كان تعريف الملك: " الاختصاص الذي يسوغ صاحبه حق التصرف إلا لمانع" كما سبق أن أوضحنا، فلا شك أنه ينطبق على حق الاسم التجاري.
فقد علمنا أنه اختصاص حاجز ... ثم علمنا أنه تعبير عن ثمرة جهد فكري ونشاط حركي، يتمثل في صنعة مبتكرة أو درجة ممتازة من الإتقان ثم علمنا أنها ثمرة مالية متقومة، هو وليها، وهو صاحب الاختصاص فيها ونظرًا إلى أنها منفصلة عن كيانه الإنساني متمثلة في قيمة متداولة، فله عليها سلطان التصرف عن طريق السلعة التي تلبس بها هذا الحق وتمثل فيها معنى الابتكار أو الإتقان وهذا هو تحليل معنى الملك وواقعه.
وينبغي أن نعيد هنا إلى الذهن الفرق بين الحق في هذه المسألة وهو أمر معنوي نعبر عنه بالإتقان أو الابتكار وبين جوهر السلعة ذاتها التي هي مظهر لذلك الحق.
إننا إذ نقرر أن هذا الحق مالي متقرر، وأنه بذلك داخل في الممتلكات، فإنا لا نعني بالممتلكات هنا السلعة ذاتها، فإن امتلاك صاحبها لها أمر بدهي ليس محل بحث. وإنما نعني بالمملوك هنا هذه الصفحة المعنوية التي نسميها الابتكار أو الإتقان.
صحيح أن حق التصرف إنما ينصب على العين المادية،ولكن سبب ذلك أن المنفعة التي هي الأساس وهي مصدر التقوم والتمويل لا يمكن أن تقوم بنفسها ومن ثم فلا يمكن استيفاؤها، إلا عن طريق العين القائمة بها ومن هنا كان لا بد من حيازتها عند امتلاك منفعتها (1) .
فمن هنا، نقول: إن التاجر يملك العين بالحيازة أو الصنعة. ثم يملك المنفعة المالية الإضافية التي نتكلم عنها بما بذله من جهد الإتقان أو الابتكار. وكل منهما مستقل – في الاعتبار – عن الآخر.
__________
(1) انظر كشاف القناع: 3 / 308 و 309.(5/1968)
المسألة الرابعة – هل ثمة ما يمنع من شراء الاسم التجاري من صاحبه؟
وهذه المسألة هي لب هذا الموضوع الثاني ومحوره. وقبل أن نجيب عنها ينبغي أن نعود إلى تحرير المعنى المراد، فنقول:
لقد تبين مما قلناه في المسائل السابقة أن الاسم التجاري كناية عما يفترض اتصاف السلعة به من مزايا الجودة والإتقان التي قد لا توجد في أمثالها. وعلى هذا فالمراد بشراء الاسم التجاري شراء هذه المزايا مجسدة ومحددة في مظهر ذلك الشعار الدال عليه، بحيث تتحول هذه المزايا فتصبح من صفات بضاعة التاجر المشتري، ولولا هذا الهدف لما كان لهذا التبايع أي معني.
فهل يصح هذا العقد؟
هناك طريقتان يعرفهما التجار لعملية شراء الاسم التجاري.
الطريقة الأولى: تتم في الغالب بين شركة عربية وأخرى أجنبية، تشتري الأولى من الثانية الاسم التجاري لبضاعة ما. ويتضمن عقد الشراء هذا، تكفل الطرف البائع بتقديم خبراء ومهندسين في تصنيع البضاعة المعروفة بذلك الاسم والكشف عن مصدر المزايا التي فيها، حيث يقوم هؤلاء الخبراء بدور التدريب والإرشاد، لتصنيع البضاعة على مستوى الجودة والمزايا التي ارتبطت مع الزمن بذلك الشعار أو الاسم. كما يلتزم الطرف البائع الاستمرار في التدريبات والقيام بالتجارب العلمية، ريثما تترسخ لدى الطرف المشتري عوامل الإتقان ذاتها.
إن عملية الشراء في هذه الحالة، إنما تنصب في الحقيقة على نقل الخبرة وشرائها، وإنما يدخل الاسم الجاري في الصفقة تباعًا. فمن الطبيعي لمن يشتري خبرة في صناعة سلعة ما أن ينال معها أطرها ومظاهرها المادية، وفي مقدمتها شعارها العالمي المسجل. ولست أرى أي إشكال في مثل هذا العقد، فهو عقد سائغ صحيح، سواء صيغ صياغة بيع وشراء أو صياغة جعالة أو استئجار.
أما صيغة الشراء، فلما علمنا من أن حق التاجر في الاسم التجاري ظل لحقه في الخبرة المنفصلة عن ذاته وكيانه والمتجلية في العين المادية المتقومة، وهو حق مالي خاضع للتصرف به والاعتياض عنه، وإنما سبيل نقل هذا الحق واستيفائه نقل الخبرة بالتعليم والتدريب مقابل ثمن يتفق عليه، وإنما ينتقل الاسم التجاري تبعًا لانتقال الخبرة، نظرًا لما هو قائم بينهما من التلازم المستمر. ثم إن هذا الاسم التجاري، شأنه كشأن الكتاب، ليس إلا وعاء لتحصين تلك الخبرة وحصرها لمستحقها الجديد.(5/1969)
وأما صيغة الاستئجار فالشأن فيه كأي عقد استئجار على التعليم من العلوم الدينية أو الدنيوية، بأجر معين. وإنما يملك المتعلم الصنعة التي تعلمها تحت سلطان هذا الاستئجار الشرعي.
أما نقل الاسم التجاري في هذه الحالة، فينبغي أن يكون خاضعًا للاتفاق الذي يتم بين الطرفين إذ الاستئجار عقد على منفعة لا على عين، والمنفعة هنا يمكن انفكاكها عن العين، إذ هي لا تعدو أن تكون تعليمًا أو تدريبًا على عمل. ولكن إذا تم الاتفاق على تنازل صاحب الحق عن الاسم التجاري للطرف الآخر، ضمن عقد الاستئجار أو ضمن اتفاق مستقل، فلا أرى ما يمنع من ذلك.
الطريقة الثانية: ما يجري عادة بين بعض التجار أو الشركات التجارية، من شراء الاسم التجارية للسلعة دون أي التزام من البائع بتقديم خبرة أو الكشف عن أسرار الصنعة. وإنما يكون هذا الشراء تنازل البائع عن الاسم الذي كان مسجلًا لسلعته والذي كان من حقه هو، بحيث يتمكن المشتري من جعله شعارًا لسلعته المشابهة، وتكون الفائدة المرجوة للمشتري من ذلك رواج سلعة تحت هذا الاسم، إذ كان الاسم التجاري الذي اشتراه ذا شهرة وثقة في الوسط التجاري أو لدى عامة الناس. فما حكم هذا العقد؟
من الثابت يقينًا أن هذا الشراء لا يتحقق له أي مضمون. ذلك لأن المزايا التي عرفت بها السلعة والتي هي المضمون المراد من الشعار الجاري، ستظل ثابتة للسلعة الأصلية ذاتها، وستظل وثيقة الارتباط بها، مهما انفصل عنها اسمها أو شعارها التجاري ليلتصق بسلعة أخرى مشابهة. إذ إن هذه المزايا إنما هي ثمرة جهود صاحبها ونشاطه الفكري أو الصناعي الممتاز، فهي متعلقة به من حيث الجهد، متجلية في صناعته من حيث الصورة والمظهر. وهيهات أن تنفك هذه العلاقة عنه وعنها مهما باع أو تصرف في رمزها التجاري.
كل ما يمكن أن يحدثه نقل هذا الرمز التجاري من تاجر إلى آخر، بعقد كهذا، هو التغرير والتدليس! ... أي إن هذا العقد منطو على غرر بالغ فيما يتعلق بالصلة بين المشتري والبائع، ومنطو على التدليس والخداع فيما يتعلق بالصلة ما بين المشتري وعامة الناس الذين سيتحولون إليه، بحثًا عن الجودة التي آل إليه شعارها.
والقاسم المشترك في التعريفات المتعددة والمتنوعة للغرر أنه كل عقد لا يوثق بحصول العوض فيه (1) وتعبير آخر: هو ما شك في حصول أحد عوضيه أو المقصود منه غالبًا (2) ، وهو منطبق على موضوع بحثنا هذا بهذه الطريقة الثانية كما ترى.
والمعروف أن مرد الغرر إلى الجهالة بأحد طرفي العقد: الثمن أو المثمن. والجهالة تتفاوت في درجات كثيرة حصرها الإمام القرافي في سبع درجات. ومن المتفق عليه أن أفحشها وأخطرها ما يسمى بالغرر في الوجود والغرر في الحصول. وأشدهما الغرر في الوجود. ويمثلون له بالبعير الشارد الذي يشك في وجوده، ويليه الغرر في الحصول، ويمثلون له ببيع الطير في الهواء والسمك في الماء، أي في الماء غير المحصور في الأحواض ونحوها.
ولا نعلم خلافًا في بطلان العقد المنطوي على أي من هذين الغررين (3) .
__________
(1) انظر حاشية قليوبي وعميرة على المحلى على شرح المنهاج: 2 / 58.
(2) مواهب الجليل: 4 / 362.
(3) انظر الفرق، للقرافي: 3 / 25؛ وبدائع الصنائع: 5 / 157 و 163.(5/1970)
ومن الثابت يقينًا أن شراء الاسم التجاري على هذه الطريقة الثانية، إن خلا من الغرر في الوجود فإنه لا يخلو من الغرر في الحصول. بل إن احتمال عدم الحصول هنا أقوى بكثير من احتمال الحصول. إذا من الواضح هنا لكل من المتعاقدين أن الذي سيناله المشتري هو الشعار والاسم المجرد. أما الجودة التي تكونت منها قيمة ذلك الشعار، فهي باقية في تضاعيف جهود البائع وخبرته، هذا إن استمر في إنتاج تلك السلعة، وهي منتهية وآيلة إلى زوال إن توقف صاحبها عن مواصلة العمل والانتاج. ومن ثم فإن الغرر هنا أقرب إلى الغرر الوجودي منه إلى الغرر الحصولي.
ولا وجه للقول بأن الحق المتعلق بالاسم التجاري، حق مستقل بذاته وأنه من الحقوق المجردة، كحق الشورى والوظيفة والمنصب والولاية، وأن العرف قد جرى بالتنازل عنه على عوض، فأصبح كالتنازل بعوض عن الوظائف والمناصب المستحقة، وهو شيء أجازه وسوغه كثير من الفقهاء، ومنهم متأخرو الأحناف (1) .
نقول: لا وجه لهذا القول، لأن الاسم التجاري لا وجود له، أو لا معنى لوجوده بمعزل عن الشهرة التي اكتسبتها السلعة المقرونة به. وإنما نالت السلعة الشهرة بالجودة والإتقان، فغدا شعارها من طول الاقتران بها بمثابة الظل الملازم لها والمعبر عنها. فهو إذن ليس حقًا مجردًا، بل هو حق مالي متقرر، ولكنه يتمثل في القيمة التي تقابل الجودة أو تقابل حق الابتكار.
ونحن هنا لا نسقط عن الاعتبار احتمال أن تكون الجودة وهمية نسجتها في الأذهان الدعاية المجردة ومن ثم تكون قيمتها أيضًا وهمية مجردة ... ولكنا لسنا مخولين هنا أن نبني الأحكام الفقهية على ظنون سيئة قائمة على احتمالات خفية من هذا القبيل. بل القاعدة الفقهية العامة تلزمنا ببناء الأحكام على الظواهر، مع إحالة البواطن إلى الله عز وجل.
إذن، فإن بوسعنا أن ننتهي إلى شراء الاسم التجاري المتمثل فيما يسمى اليوم " الماركة المسجلة" بهذه الطريقة الثانية التي أوضحناها، عقد باطل، لا يوجد أي وجه لصحته، بسبب أنه مغرق في الغرر بأنواعه.
هذا إلى جانب أنه ذريعة جلية وغالبة إلى التلبيس والخداع في المعاوضات الجارية. فإن التاجر الواثق من جودة بضاعته أغني ما يكون عن أن يغطيها بشعار ينسج لها الشهرة من جهود غيره ولولا أن بضاعته يعوزها البرهان على الجودة والإتقان، لما سعى إلى القفز بها على صعيد الشهرة، اعتمادًا على مثل هذا الشعار.
والذرائع التي يغلب أن يتسبب عنا الضرر بالصالح العام أو المعارض لحكم شرعي ثابت، محل اتفاق من الفقهاء وعلماء الأصول على حرمتها ووجوب سدها (2) .
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين: 4 / 14، و 15.
(2) الفروق للقرافي: 2 / 32 و 33؛ و" سد الذرائع في الشريعة الإسلامية "، للأستاذ هشام البرهاني: ص 615؛ وضوابط المصلحة، لكاتب هذا البحث: ص 273.(5/1971)
الاسم التجاري بمعنى اللقب المعلن على المحل التجاري:
بقي أن نتكلم على اللقب الذي يطلق على محل تجاري، أيجوز شراؤه، وهل يكون هو الآخر مناط حق لمالك المحل؟
ومن المعلوم أن عوامل شهرة متجر ما كثيرًا ما تتمركز في الاسم المعروف لمحله، بحيث يستقل هذا الاسم في كثير من الأحيان بجذب المستهلكين، ويحملهم على تقديم الثقة المطلقة بصاحبه.
ومما لا ريب فيه أن هذا الاسم يشكل بذلك حقًا ماليًا لصاحبه، فله أن يستأثر به من دون الناس لا من حيث إن التاجر سبق الآخرين في اختيار هذا الاسم، فكان له أولوية السبق إليه والاختصاص به، كما قد فهمه بعض الباحثين، ذلك لأنه لا تزاحم في اختيار اسم واحد لأكثر من مسمى. بل من الممكن أن يستوعب الاسم الواحد مسميات شتى، بخلاف السبق إلى الأماكن وإحراز الأموال المباحة، فإن التزاحم فيها قائم، والحل أن يستقر الحق للسابق.
وإنما تتكون علاقة الاختصاص بين اللقب التجاري للمحل وبين صاحبه، من الدلالة التي يحملها ذلك اللقب على ما يمتاز به ذلك المحل من خصائص ومزايا يفترض أنها قد لا توجد في غيره.
إذ من الواضح أن أي شهرة تجارية ينالها محل تجاري ما، إنما تنصب وتتمركز في اسم ذلك المحل ومن هنا تنشأ شرعية اختصاص الاسم به أو بصاحبه بتعبير أصح.
ومن ثم يدخل استلاب هذا الاسم في معنى الغصب والعدوان، ذلك لأن الاستلاب لم يكن في الحقيقة لاسم مجرد يحمل دلالة لغوية على معنى ... وإنما هو استلاب لرصيد شهرة يفترض أنها تكونت من مجموعة مزايا وصفات تجارية حميدة لصاحب المحل، وحملت في داخلها من جراء ذلك بذور نفع مادي لصاحب ذلك الرصيد. فهو في الحقيقة عدوان على الوعاء الذي حوى بذور نفع مادي مستمر لا على اسم من حيث هو اسم ذو دلالة لغوية مجردة.
وهذا يعني أن الحق الكامن في لقب المحل التجاري حق مالي متقرر، يتعلق بمنفعة مالية متقومة. والشأن فيه كالشأن في المنفعة المالية الثابتة في الاسم التجاري للبضاعة، طبقًا لما أوضحناه.
ولكن هل يصح شراء اللقب المعلن على المحل التجاري؟
يرد في الجواب عن هذا السؤال الكلام ذاته الذي قلناه في شراء الاسم التجاري للبضاعة فهو شراء لما لا سبيل للحصول عليه. ومن ثم فهو عقد يتضمن غررًا وجوديًا أو حصوليًا. وقد أوضحنا أن مثل هذا العقد باطل بالاتفاق. هذا عدا أنه يستلزم انتشار الغرر والتلبيس على عامة الناس من المتسهلكين، إذ يخدعهم العنوان قبل أن يفاجأوا بأنه عنوان قديم ولكن على بضاعة وصناعة أخرى حديثة.(5/1972)
ولا بد أن نلفت النظر إلى أن موضوع البحث محصور فيما درج عليه عرف كثير من التجار المحدثين الذين لم تتحقق لهم شهرة كافية، من الإقدام على شراء أسماء ذائعة لمحال تجارية مشهورة، كي يغطوا أنفسهم تحتها؛ ومعنى هذا أن اللقب الذي يتم شراؤه يبقى كما هو دون أي تعديل أو تقييد أو بيان لصاحب المحل الجديد؛ ذلك لأن أي تعديل فيه يذهب بجدوى عملية الشراء كلها.
إن من الواضح أن شراء هذا اللقب على هذا النحو ينطوي على غرر وتدليس واضحين. ومن ثم فإن القواعد الفقهية تقتضي بطلان هذا العقد.
ولكن ينبغي أن يقال إن عملية الشراء هذه تصبح نافذة، فيما إذا أمكن أن تكون تعبيرًا عن عملية نقل للخبرة والمزايا التجارية إلى المحل الجديد أو الإدارة الجدية، إن العقد عندئذ يصبح نافذًا دون أن يكون ثمة ما يمنع من صحته، سواء كان التكييف الفقهي لذلك شراء للخبرة والمزايا الخاصة، أو استئجارًا على عملية تدريب وتعليم.
ويتحصل مما قلناه أن لقب المحل التجاري، عندما لا يكون أكثر من عنوان تقليدي على المحل للدلالة عليه، أي لم يتحول بعد إلى وعاء يحمل مزاياه وشهرته، فإنه لا يشكل عندئذ أي حق لصاحب المحل لا حقًا ماليًا متقررًا ولا حقًا شخصيًا مجردًا. وقد علمنا أن اختيار اسم ما لشيء، لا يجري فيه تزاحم ولا تنطبق عليه قاعدة؛ من سبق إلى مباح فهو أحق به.
وبناء على ذلك فإن لمن شاء أن يختار أي اسم رآه لمحل تجاري اسمًا لمحله هو أيضًا، أو اسمًا لأي شيء في حوزته، ما دام أنه لم يتحول إلى وعاء شهرة، ولم يصبح دالًا على مزايا وصفات معينة قد يختص بها ذلك المحل وحده.
ولكن الأمر يختلف عندما تتجسد شهرة المحل بسبب مزاياه التي اختص بها، في الاسم الذي عرف به. إذا يغدو أخذ هذا الاسم عندئذ مضارة واضحة لا يقرها العدل، ومن ثم لا يقرها الشرع.
وشراء هذا الاسم صحيح، إذا تحقق فيه شرط الإقباض، ولما كان محط العقد في حقيقته على مصدر الشهرة الذي هو الجودة والإتقان لا على مجرد لوحة كتب عليها اسم، فإن عملية الإقباض يجب أن تتجه إلى هذه الجودة وأسرارها، لا إلى عنوانها الكلامي المجرد.
فإن لم يتحقق هذا الإقباض فالعقد غرر وتلبيس، غرر بين المتبايعين، وتلبيس على الناس والمستهلكين، فهو لذلك عقد باطل.
والله تعالى أعلم بالصواب،والحمد لله رب العالمين.
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي(5/1973)
بيع الأصل التجاري وحكمه
في الشريعة الإسلامية
إعداد
الشيخ مصطفى كمال التارزي
أستاذ بالجامعة الزيتونية
بسم الله الرحمن الرحيم
الأصل التجاري: هو مجموع أموال مادية ومعنوية تخصص لمزاولة مهنة تجارية (1) وهو المعروف عند رجال القانون في مصر بالمحل التجاري (2) .
أما الملكية التجارية: فهي ما للتاجر من حق المحل التجاري (3) وهي الاستقرار بالمحل التجاري بعد انتهاء المدة وحماية حقوق التاجر المادية والمعنوية التي تقررت له عليه.
فبعد أن كان حق الملكية مقتصرًا على الأشياء المادية امتد إلى الأشياء المعنوية واعتبر القانون الوضعي أن لكل إنسان حق التصرف في نتاج عمله وحمايته مهما كان نوع العمل وانبثق عن هذا المبدأ حق الملكية الأدبية لحماية الإنتاج الذهني وحق الملكية الفنية لحماية الإنتاج الفني وحق الملكية الصناعية لحماية الاهتراء وحق الملكية التجارية لحماية مجهود التاجر في تكوين الحرفاء والسمعة التجارية وترويج التجارة (4) .
وفكرة الملكية التجارية والمحل التجاري بمفهوميهما الجديدين فكرة أقرتها القوانين الأوروبية في القرن التاسع عشر وتبنتها في هذا القرن بعض الدول الإسلامية في قوانينها التجارية، فقد أقرها التشريع التونسي مثلًا في أكتوبر 1926م (5) ، كما أقرها التشريع المصري سنة 1940م (6) .
__________
(1) الدكتور مصطفى كمال طه، القانون التجاري 1/751.
(2) الملكية التجارية: رشيد الصباغ ص 8.
(3) الدكتور مصطفى كمال طه، القانون التجاري 1/751.
(4) الملكية التجارية: رشيد الصباغ ص 8.
(5) الملكية التجارية، رشيد الصباغ: ص 11.
(6) القانون التجاري، مصطفى كمال طه: 1/752.(5/1974)
أنواع الملكية:
والملك في الفقه الإسلامي ينقسم حسب وروده على العين أو المنفعة إلى أنواع:
1- ملك عين ومنفعة: وهي الأملاك الواردة على الأعيان.
2- ملك عين بدون منفعة: كالوصية بالرقبة لجهة وبالمنفعة لأخرى.
3- ملك منفعة بدون عين: وهو على نوعين: ملك مؤبد كالوصية بالمنافع: وملك غير مؤبد ومنه الإجارة (1) .
كما ذكر الفقهاء أن من خصائص الملك: أن العين لا تقبل التوقيت أما ملكية المنفعة فالأصل فيها التوقيت ومثلوا لها بالإجارة والإعارة (2) .
واعتبر الفقهاء الإجارة من أسباب الملك الناقص، لأن المستأجر مالك لمنفعة العين الموجودة خلال مدة الإجارة فقط، ولهذا اقتضت القواعد العامة الضابطة للإجارة أن هذا العقد ينتهي بمجرد انتهاء المدة المشروطة بين المتعاقدين، وعلى المستأجر أن يتخلى عن العين المؤجرة لانقضاء حقه فيها ولا حق له في البقاء في المحل إلا بعقد جديد وهو نتيجة لحق المالك في العقار وتطبيق للشروط التي تضمنها عقد الإجارة.
ولكن ظروفًا خاصة وأسبابًا جديدة قد طرأت في بعض المجتمعات وبخاصة في المدن الكبرى استوجبت إدخال بعض التعديلات في القواعد العامة وإصدار أحكام جديدة مناسبة لها وأمكن بها ضمان حقوق الطرفين المؤجر والمستأجر.
أهم الأسباب الطارئة:
1- تزايد عدد السكان وبروز ظاهرة النزوح إلى المدن.
2- توفير مواطن الشغل فيها أكثر من غيرها.
3- تخلف حركة البناء فيها عن تلبية الطلب المتزايد على المحلات التجارية.
4- اشتداد المنافسة في اقتناء المحلات.
5- ارتفاع أسعار الكراء أضعافًا مضاعفة.
6- بروز فكرة أصحاب اكتساح القوي للضعيف.
7- تردد أصحاب الأملاك في التزاماتهم للمستأجرين بالمدد التي يرغبون فيها.
8- خوف المستأجرين من ضياع حقوقهم أمام تكالب الراغبين في محلات تجاراتهم وتقديم عروض مشطة في ذلك (3) .
الأصل التجاري:
زد على ذلك أن مفهوم الملكية الذي كان مقصورا على الأشياء المادية والذي امتد في هذا الزمان إلى الأشياء المعنوية وظهر به حق الملكية الصناعية والأدبية والفنية والتجارية قد اكتسب به المستأجر الذي كان لا يملك إلا حق الانتفاع بمقتضى عقد الإيجار حقا جديدا بموجب الملكية التجارية، وهو مسمى الأصل التجاري أو المحل التجاري أقرته القوانين التجارية المصرية وفتاوى شرعية كثيرة من جهات متعددة من العالم الإسلامي، وهذا الحق يمكنه من البقاء في متجره رغم إرادة المالك، بل مكنه كذلك من التصرف في هذا الحق وبيعه.
__________
(1) الأشباه والنظائر: ص 351.
(2) المدخل الفقهي العام ص272 و 273، للدكتور مصطفى الزرقاء.
(3) الملكية التجارية، رشيد الصباغ: ص 8.(5/1975)
عناصر الأصل التجاري:
الأصل التجاري يتكون من جملة عناصر مادية ومعنوية:
فالعناصر المادية هي:
1- البضائع: وهي المنقولات المعدة للبيع سواء كانت مصنوعة أو مواد أولية معدة للتصنيع.
2- المعدات أو المهمات: وهي المنقولات التي تستعمل في استغلال المحل من الآلات التي تستعمل في صنع المنتجات وإصلاحها وسيارات النقل والمكاتب والمقاعد والخزائن والآلات الكاتبة.
أما العناصر المعنوية فهي:
1- الاتصال بالحرفاء: وهم مجموع الأشخاص الذين يعتادون التعامل مع التاجر ومستوى العملاء (الحرفاء) وعددهم وهو يمثل جانبًا كبيرًا من قيمته، إذ كثرة الحرفاء ناتجة غالبًا عن جهد يبذله المستأجر في حسن المعاملة، وتفهم حاجة الحرفاء.
2- السمعة التجارية: اشتهار المحل بجودة منتجاته مما يسكبه شهرة بين الجمهور.
3- الاسم التجاري / هذا الاسم الذي يستخدمه التاجر فردًا كان أو شركة في مزاولة تجارته لتمييز محله التجاري من نظائره فالأمر يقتضي إحاطته بضمانات تكفل حمايته ومنع الغير من استعماله منعًا من وقوع الالتباس الذي ينتج عنه تذليل الجمهور والإضرار بسمعة التاجر.
4- العنوان الجاري: وهو رمز يختاره التاجر كشعر خارجي لتمييز المنتجات فيه تجارته.
5- الحق في الإجارة: في الحالات التي يكون فيها التاجر مستأجرا للمحل الذي يزاول فيه تجارته.
6- حق الملكية الصناعية: وهو ما يهم براءات الاختراع والرسوم والنماذج الصناعية والعلامات التجارية والاسم التجاري.
7- الرخص والإجازات: ما تصدره الإدارة العامة من حق استغلال مقهى أو مشروب أو تبغ: وتعد هذه الرخص والإجازات عنصرًا من عناصر المحل التجاري (1) .
وهذه هي جملة العناصر المكونة للأصل التجاري عادة ولكن العناصر الأساسية للمحل التجاري لا يتعين أن تكون جميعها، فالعنوان التجاري والاسم التجاري والحق في الإجارة والاتصال بالعملاء (الحرفاء) والسمعة التجارية قد تكفي لتكوين محل تجارى على أنه من النادر أن تجتمع هذه العناصر كلها في محل تجاري معين، فأهمية هذه العناصر تختلف باختلاف طبيعة الاستغلال فقد تعد الحقوق الفنية في مؤسسة نشر هي العنصر الهام في الأصل التجاري، كما يكون المهم في مشروع صناعي هي المهمات والآلات (2) .
وأهم هذه العناصر في الاعتبار هي الحق في العملاء (الحرفاء) والسمعة التجارية، لأن المحل التجاري لا يمكن أن يكون قابلًا للحياة بدون اتصال بالعملاء أو سمعة تجارية.
وعلى كل فلا أستطيع أن أبين كل التفاصيل الواردة في هذا الموضوع إذ أفردت له تأليف متعددة تدرس في كليات الحقوق والتجارة من الجهة القانونية ولكن أردت أن أبرز الجوانب التي يتكون منها الأصل التجاري في العصر الحديث حتى يتضح للجميع ما هو المراد بالأصل التجاري الذي قصدنا أن نبين حكمه من الوجهة الفقهية الشرعية.
__________
(1) القانون التجاري، مصطفى كمال طه: 1/753، 754 وما بعدها 763.
(2) القانون التجاري، مصطفى كمال طه: 1/753، 754 وما بعدها 763.(5/1976)
الإجارة في الشريعة الإسلامية:
إن القاعدة العامة الضابطة للإجارة في الشريعة لا تحتلف عن مفهوم الإجارة العام الذي يقتضي بأن ينتهي العقد بانتهاء المدة المشروطة بين المتعاقدين، وعلى المستأجر أن يتخل عن العين المؤجرة لانقضاء حقه فيها ولا حق له في البقاء في المحل إلا بعقد جديد.
ولأجل ذلك فلا يجوز للمستأجر بعد انتهاء المدة أن يتصرف في العقار بأي وجه من الوجوه وما يأخذه من مال بعقد أو بغيره لا يحل له شرعًا.
أما ما يأخذه المستأجر مقابل تنازله عن اختصاصه بمنفعة العقار المؤجر لشخص آخر يحل محله قبل انتهاء المدة فهو جائز شرعًا؛ لأنه في حقيقته بيع للمدة الباقية من المنفعة المستحقة بعقد الإجارة وقد أجاز هذا البيع الشيخ عليش في فتواه حيث إنه قال:
الذي يدور عليه الجواب في ذلك أن الساكن الذي أخذ الخلو إن كان يملك منفعة الحانوت مدة فأسكنها غيره وأخذ على ذلك مالًا، فإن كان الآخذ بيده إجارة صحيحة من الناظر أو الوكيل بشروطها فهو سائغ له الأخذ على تلك المنفعة التي يملكها (1) ، والعين ليست مملوكة بالإجارة كالمبيع لأن المعقود عليه هو المنفعة وبه قال مالك وأبو حنيفة (2) .
أما إذا أراد المستأجر الاستقرار بالمحل فله أمران؛ إما أن يجدد عقد الإجارة عند انتهاء المدة، وإما أن يدفع للمالك أو ناظر الوقف عوضًا معجلًا ويلتزم له بمقدار كراء سنوي أو شهري مقابل استمراره بالمحل ويتصرف بعد ذلك في منفعته بشتى وجوه التصرف من كراء وهبة وإعارة، ونحو ذلك فلا يبقى لصاحب الحانوت أو الدار من منفعتهما إلا بمقدار ذلك الكراء السنوي أو الشهري وما زاد على ذلك فهو ملك لدافع العوض فيكون المستأجر قد اشترى حق الاستمرار في المحل من المالك، وهو مسمى بيع الخلو عند من أجاز هذا النوع من البيع، ومن أنواع الخلو الذي يثبت فيه للمستأجر حق الاستمرار.
خلو المفتاح بتونس: وهو المعروف بمصر بخلو الحوانيت وهو عبارة عن أن يتسلم الإنسان من مالك أو ناظر وقف عقارًا على أن يدفع له مقدارًا من المال معجلًا، ويكون ما صرفه خلوا له ويلتزم به بقدر من الكراء سنوي أو شهري ويتصرف به بعد ذلك في منفعته بشتى وجوه التصرف من كراء وهبة وإعارة، لأنه أصبح شريكًا لصاحب الرقبة في المنفعة ويبقى لصاحب الحانوت الكراء السنوي أو الشهري، وما زاد فهو مالك لدافع العوض ويجري العرف باستحقاق المستأجر حق القرار أبدًا ولو لم ينص في العقد على المدة وهذا جاز به العرف في بعض البلدان الإسلامية كتونس ومصر والمغرب الأقصى.
__________
(1) فتح العلي المالك، الشيخ محمد عليش: 2/146 طبعة بولاق 1301هـ.
(2) روضة الطالب، للإمام النووي: 5/208.(5/1977)
وهذا النوع من التعامل أقره متأخرو المالكية وأفتى به الشيخ ناصر الدين اللقاني على مانقله الشيخ عليش في فتاويه ونصها: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في خلوات الحوانيت التي صارت عرفًا بين الناس في هذه البلدة وغيرها، وبذل الناس في ذلك مالًا كثيرًا حتى وصل الحانوت في بعض الأسواق أربعمائة دينار ذهبًا، فهل إذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه يوفى ذلك من خلو حانوته؟ فأجاب: " نعم، إذا مات شخص وله وارث شرعي يستحق خلو حانوته عملًا بما عليه الناس. وإذا مات من لا وارث له يستحق ذلك بيت المال، وإذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه، فإنه يوفى من خلو حانوته والله سبحانه أعلم بذلك " (1) ، ولم تكن إباحة حق الخلو خاصة بالمذهب المالكي، فقد قال الحموي في شرح الأشباه والنظائر: " وقد اشتهرت نسبة مسألة الخلو إلى مذهب عالم المدينة مالك بن أنس والحال أنه ليس فيها نص عنه ولا عن أحد من أصحابه حتى قال البدر العراقي: إنه لم يقع في كلام الفقهاء التعرض لمسألة الخلو فيما أعلم، وإنما فيها فتيا للعلامة ناصر الدين اللقاني المالكي بناها على العرف وخرجها عليه وهو من أهل التخريج فيعتبر تخريجه وإن نوزع فيه وقد اشتهرت فتياه في المشارق والمغارب وتلقاها علماء عصر بالقبول وهبت عليها نسميات الصبا والقبول " (2) .
ويقول الشيخ ابن عابدين: نقلًا من فتاوى العلامة عبد الرحمن العبادي " ولكن لا ينبغي أن يفتى باعتبار العرف مطلقًا خوفًا من أن ينفتح باب القياس عليه في كثير من المنكرات والبدع، نعم يفتى به فيما دعت إليه الحاجة وجرت به في المدد المديدة العادة وتعارفه الأعيان بلا نكير كالخلو المتعارف في الحوانيت، وهو أن يجعل الواقف أو المتولي أو المالك على الحانوت قدرًا معينًا يؤخذ من الساكن ويعطيه به تمسكًا شرعيًا، فلا يملك صاحب الحانوت بعد ذلك إخراج الساكن الذي ثبت له الخلو ولا إجارتها لغيره مالم يدفع له المبلغ المرقوم فيفتى بجواز ذلك قياسًا على بيع الوفاء الذي تعارفه المتأخرون احتيالًا عن الربا "، ثم قال: " في مجموع النوازل: اتفق مشايخنا في هذا الزمان على صحته بيعًا لاضطرار الناس إلى ذلك، ومن القواعد الكلية: إذا ضاق الأمر اتسع حكمه فيندرج تحتها أمثال ذلك مما دعت إليه الضرورة " (3) .
وموضوع الأصل التجاري أو المحل الجاري الذي هو موضوع بحثنا وصدرت فيه قوانين وضعية ضبطت عناصره وحدوده ليس بالموضوع الجديد على المجتمعات الإسلامية لأنه موضوع بحث كذلك عند علماء الفقه بحثًا مستفيضًا بغير هذه المصطلحات الجديدة.
فالقانون الوضعي أمام رغبة مالك العقار الذي يطالب بحرية التصرف والانتفاع بعقاره حسب البنود التي وقع الاتفاق عليها في العقد الذي يوجب انتهاء تصرف المستأجر بانتهاء المدة وبموجب ذلك فلا حق له في البقاء في المحل في أي حال من الأحوال.
وبين رغبة المستأجر الذي استكملت عنده عناصر الأصل التجاري الأصلية المادية والمعنوية والذي يدعي أن إخراجه من المحل عند انتهاء المدة يلحق به ضررًا فادحًا لأن المحل الذي استأجره جهزه تجهيزًا يتناسب مع سمعته وطاقة استيعابه وهذا التجهيز لا يصلح لغير هذا المحل وأنه من ناحية أخرى أكسب المحل شيئًا جديدًا له قيمة تجارية معتبرة تفوت بفوات هذا المحل، وهي السمعة التجارية والاسم التجاري والملكية الصناعية والرخص والإجازات وأن خروجه يضيع عليه كل هذه الحقوق التي اكستبها بعد جهود وأتعاب ونفقات باهظة زيادة على ما يعتبره رجال القانون التجاري من أن استقرار التاجر في عمله ضمان لحلقات النمو التجاري في البلاد وأن إخراجه تفويت لهذه المصلحة العامة.
__________
(1) فتاوى الشيخ عليش فتح العلي المالك: 2/166.
(2) الأشباه والنظائر: ص 197 لابن نجيم.
(3) 4/17 من خاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين.(5/1978)
وأمام هذا النزاع القديم بين الملكية العقارية والملكية التجارية حاول القانون الوضعي إيجاد حلول وسط تضمن التوازن وعدم الإجحاف بأي جانب حتى يتحقق التعايش والتكافل بين كل القطاعات، فقد مكن من جهة المستأجر من الاستقرار في المحل ضمانًا لبقاء الأصل التجاري واكتمال حقه في الملكية التجارية (1) .
ومكن المالك من جهة أخرى من عقاره بعد تعويض الخسائر كافة التي تنجر للمستأجر من إنهاء العقد وهو إخلاء العقار ويسمى هذا عندهم بغرامة الحرمان تفاديًا من إجبار المالك على قبول الإجارة المؤبدة رغم إرادته إذا تحقق الأصل التجاري للمستأجر لأن البقاء يتعارض مع حق الملكية العقارية الذي يفرض عليه قيدًا لا يتحمله.
وإذا امتنع المالك من دفع الغرامة مكن المستأجر من الاستمرار في المحل كما مكن من بيع الأصل التجاري.
والواقع أنه ليس في هذا القانون الوضعي الجديد شيء زائد عما هو معروف عند بعض فقهاء الشريعة الإسلامية سوى غرامة الحرمان، وإلا فإن مسألة استمرارية المستأجر في المحل بدون عوض وبدون إذن المالك بحثت بحثًا مستفيضًا في كتب الفقه وصدرت فيها فتاوى بالجواز من بعض العلماء.
واصطلح أهل المغرب على تسمية هذا النوع من العقود التي تثبت للمستأجر حق التبقية (الجلسة) وهي عقد كراء على شرك متعارف " والشرط هو التبقية وهي كراء الجلوس والإقامة بدكانه على الدوام والاستمرار ويوضح الشيح التماق (2) المصلحة في إجازة الجلسة في كتابه إزالة الدلسة عن وجه الجلسة: بأن العقد في مصلحة الوقف حتى يعمر في وقت الرواج والكساد فيستفيد الواقف ويطمئن المكتري على نفسه ولا يتعرض للخروج إن غلا السوق وارتفعت الأكرية حتى أصبحت الحوانيت لا تعرف إلا بإضافتها إلى معمرها وتصير له يد فيها يقدم بها على غيره فإذا بدا له الخروج منها تخلى عنها لغيره وأخذ منه بدلًا على ذلك وليس لصاحب المحل إلا الكراء أو أجر المثل.
__________
(1) الملكية التجارية، رشيد الصباغ ص9.
(2) هو الشيخ العالم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن التماق الغرناطي الفاسي، المتوفى سنة 1151هـ، وهو صاحب رسالة إزالة الدلسة عن وجه الجلسة وهي مخطوطة ضمن مجموع للعالم الشيخ محمد المنوني بالمغرب.(5/1979)
أما أهل تونس فقد اصطلحوا على تسمية هذا النوع من العقود المؤبدة بالنصبة أو الراغلة أو العدة، ويذكر الشيخ محمد السنوسي في كتابه مطلع الدراري (1) سبب نشوء خلو النصبة أن " الأصل فيه أن الغرباء الوافدين على البلاد كانوا إذا اكترى أحدهم حانوتًا بغير عمارة وأنفق عليها ما يحتاجه من الخزائن وآلة الصناعة والموازين وأراد المالك أو ناظر الأوقاف إخراجه بعد انقضاء أمد الكراء شكا من خسارة ما استكمل به عمارة المحل، وحيث إن المالكين وناظري الأوقاف لم يجعلوا لحوانيتهم ما يلزم للصناعة المعد لها الحانوت مع كونهم أكروه لإقامة تلك الصنائع وتحمل المكترون وحدهم مصاريف ذلك وقع الحكم بأن المكتري إذا كان على تلك الصفة ووضع ما يلزم من العمارة بإذن المالك فلا يصح إخراجه إلا أن يقبل المالك تلك الموضوعات بدون خسارة وإلا فيبقى المكتري بكرائه متمتعًا بخلوه.
ولما عجز المالكون عن تعويض مصاريف الموضوعات اضطروا لإيفائهم فتصرف المكترون بأنفسهم وأكروا لغيرهم وباعوا مكانهم على أن لا يأخذ المالك إلا مقدار الكراء وما زاد عليه يبقى لمستأجر العمارة " (2) .
وما قيل في النصبة يقال في الكدك وهو ما يزيده المستأجر في الحوانيت بماله سواء كان مثبتًا كالبناء أو غير مثبت كالرفوف وآلات الصناعة، ويقال كذلك في الكردار وهي الزيادة في المزارع كالسواقي والقناطر والمباني التي للزارع وحكم كل من الكدك والكردار أنهما مملوكان لصاحبهما أي المستأجر ويثبتان له حق القرار، فلا يجوز انتزاع العين المستأجرة منه وتأجيرها لغيره بعد انتهاء المدة ما دام يدفع أجر المثل، يقول الشيخ التماق في حكم الجلسة في كتابه المتقدم الذكر مصرحًا بإباحته وبأنه ليس في ذلك ما يقتضي المنع والتحريم إذا اعتبر بيع الجلسة من قبيل العرف المصطلح عليه بالمغرب " والأمر إذا اتخذه عرفًا وعادة أهل المروءات والجمهور من الناس لا ينبغي أن يكون حرامًا والعرف في الجلسة من هذا النوع سيما وقد أطبق على هذا العرف أهل العلم والدين من قضاة ومفتين ومدرسين وغيرهم وعلى هذا لم يبق إلا التسليم بجوازها وحليتها " (3) .
__________
(1) كتاب جليل للشيخ العلامة محمد السنوسي سماه كتاب مطلع الدراري بتوجيه النظر الشرعي على القانون العقاري فيه مقارنة قيمة بين القانون العقاري الوضعى والفقه الإسلامي.
(2) مطلع الدراري: ص 162.
(3) العرف والعمل في المذهب المالكي، لمؤلفه الدكتور عمر الحيدي: ص 47.(5/1980)
وقد اعتبر الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة جواز إبقاء المستأجر من الضرورة العامة المؤقتة " وذلك أن يعرض الأضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها تستدعي الإقدام على الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي، من سلامة الأمة وإبقاء قوتها أو نحو ذلك.. ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة. وأنها تقتضي تغييرًا للأحكام الشرعية المقررة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة ".
ومن أمثلة هذه الرخصة الكراء المؤبد الذي جرت فتوى علماء الأندلس كابن سراج وابن منظور في أواخر القرن التاسع في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع لما تحتاجه الأرض من قوة الخدمة ووفرة المصاريف لطول تبويرها.
وزهدوا في كرائها للغرس والبناء لقصر المدة التي تكترى أرض الوقف لها ولإباية الباني أو الغارس أن يبني أو يغرس، ثم يقلع ما أحدثه في الأرض فأفتى ابن سراج وابن منظور بكرائها على التأبيد ورأيا أن التأبيد لا ضرر فيه لأنها باقية غير زائلة (1) .
ثم تبعهما على ذلك أهل مصر في القرن العاشر بفتوى ناصر الدين اللقاني في أحكام الوقف، وجرى العمل بذلك في المغرب في فاس وتونس في العقد المسمى في تونس بالنصبة والخلو وفي فاس بالجلسة والجزاء.
ومنها فتوى علماء بخارى من الحنفية ببيع الوفاء في الكروم لحاجة غارسيها إلى النفقات عليها قبل إثمارها كل سنة فاحتاجوا إلى اقتراض ما ينفقونه عليها (2) .
وإذا كانت المصلحة أو الضرورة أو الرخصة هي التي من أجلها مكن المستأجر من التمتع بحق التبقية في الماضي، ومن أجل ذلك صدرت فتاوى في تغليب العرف الخاص على العرف العام وحرمان المالك من التصرف في عقاره بموجب انتهاء مدة العقد، فإن هذه المصلحة أو الضرورة أو الرخصة تبدو أقوى وأظهر في هذا الزمان بعد أن أصبح المستأجر مقيدًا غالبًا في كل الخطوات التي يخطوها بإجراءات معينة كما هو ملزم بالتحصيل على رخصة أو رخص تمكنه من ترويج تجارته أو صنعته والرضوخ إلى إجراءات إدارية قد تكون معقدة وتتطلب مددًا متباينة يبذل في سبيلها جهدًا كبيرًا زيادة عما يبذله من مال لتجهيز المحل التجاري بطريقة فنية وإبرازه بمظهر جذاب يغري الحرفاء وتهيئة كل المعدات اللازمة لضمان تجارة رابحة.
وعلى كل فقوانين الملكية التجارية التونسية وإن استمدت بعض أحكامها من القوانين الوضعية الغربية، فإن جانبًا كبيرًا منها كان يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها وأصبحت الملكية التجارية بمفهومها العام تمثل عرفًا خاصًا في تونس وغيرها من البلاد الإسلامية التي وضعت قوانين تجارية ضبطت فيها أصول التعامل في الأصل التجاري، لا سيما وأن ما أثبتته القوانين الجاري بها العمل في تونس أو في بعض بلدان العالم الإسلامي من اعتبار الأصل التجاري موجبًا لاستمرارية التاجر في المحل لا يختلف في موضوعه أو نتيجته عما جرى به العمل في السابق بناء على فتاوى صادرة من علماء أجلاء، وما أقره بعض علماء الإسلام من تمكين المالك في هذه الصورة إذا لم يرض بالأجر المنصوص عليه في العقد هو ما أقره القانون الحديث من تمكين المالك من المطالبة بتعديل حق الكراء إلى أجر المثل، واشترط العلامة بدر الدين القرافي في رسالته الدرة المنيفة أن المستأجر لا يتمتع بحق الخلو إلا إذا كان مالكًا لمنفعة الحانوت مدة، وأما إذا لم يكن مالكًا للمنفعة بإجارة فلا عبرة بذلك الخلو (3) ، وهذا من الشروط التي يقرها قانون الملكية التجارية في ثبوت الأصل التجاري.
__________
(1) ذكرت فتواها في المعيار للنونشريسي.
(2) مقاصد الشريعة، الطاهر بن عاشور: ص 134.
(3) الدرة المنيفة في الفراغ عن الوظيفة نشرت في مجلة الحياة الثقافية التونسية عدد 14 – 15 سنة 1981م.(5/1981)
حكم الأصل التجاري:
وبناء على كل ما تقدم يمكن أن نقول إن ثبوت الأصل التجاري يمكن المستأجر من الاستقرار في المحل رغم إرادة المالك اعتبارًا للمصلحة أو الرخصة أو الضرورة.
مع العلم أن رأي فقهاء المسلمين في هذه القضية وأمثالها ليس متحدًا، فإذا تعرضنا في بحثنا هذا إلى من أجاز إبقاء المستأجر في المحل نظرًا لما ترتب له من حقوق في الزيادات المادية والمعنوية التي قام بها في المحل التجاري ...
فليس معنى ذلك أن القول بالجواز هو المشهور، بل هو تخريج لمعاملات المسلمين على ما جرى عليه العرف الخاص في بعض البلدان الإسلامية بفتاوى من علماء أجلاء من المغرب والمشرق.
المانعون للعمل بالأعراف الخاصة:
أما المانعون لهذا النوع من المعاملة، فإنهم يقررون بأنه لا حق للمستأجر في البقاء في المحل بعد انتهاء المدة إلا برضا المالك، بل إن منهم من يشجب الاستناد إلى الأعراف الخاصة التي تخالف القواعد الشرعية ويندد بأصحابها. والقائمين عليها، بل يعتبرها بعضهم من التحاكم إلى الطاغوت الذي أمرنا أن نكفر به (1) .
ويقررون أن أموال بدل الخلوات لا تحل لأصحابها، وأن أكلها حرام، إذ هو ناشئ عن الإضرار بالأوقاف وأصحاب العقارات.
وأن الذين يتعاملون بالأعراف الخاصة المخالفة لقواعد الشريعة الإسلامية ولما تعورف عند فقهاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم هو خروج عن الجادة.
وأن الشيخ ميارة من علماء المغرب، لما سئل عن الجلسة المتعارفة في المغرب قال: " أما مسألة الجلسة فلم أقف على نص فيها ولا أظنه يوجد لأنها محض اصطلاح من المتأخرين ولأنها اشتملت على أمور مخالفة للشريعة الإسلامية ".
وبمثل هذا أجاب الشيخ عبد الواحد بن عاشر، إذ صرح بأن مسألة الجلسة التي حدثت لا أصل لها في الشرع.
وأشار الجلالي إلى أن الجلسة " أحدثها أهل الغصوبات من أنواع الجور وقد وقع التشكي بظلمها أيام حياة العلماء حفاظ المذهب، كالحميدي والسراج، ووقع الاهتمام بقطعها فلم الجور معينًا ولا ناصرًا من أهل الدولة، وتعصب أصحابها بذوي الجور والظلم، وبقي أمرها كذلك إلى أن قدم السلطان أحمد المنصور فرفع إليه أمرها فقطعها، واستبد أرباب الأصول بمنفعة رباعهم واضمحل ذلك الباطل وهكذا كان الحال عام 1013هـ ".
وعلى نفس الرأي عبر المسناوي فقد جاء في كلامه " وبالجملة فأمر الجلسة مما غص به الناس قديمًا وحديثًا لتحكم العوائد على القواعد وغلبة العامة على الخاصة مع الجهل منهم " (2) .
وذكر الشيخ محمد السنوسي الحفيد أن محمد باي بتونس حاول إبطال العمل بالنصبات بعاصمة تونس استنادًا لكلام أبي الفداء الشيخ إسماعيل التميمي، فلم يتيسر ذلك له لما يطرأ على ذلك من ضرر كبير على مالكي النصبات، وهم جم غفير (3) .
إن من أجازها من علماء الحنفية قاسها على من أجاز بيع الوفاء أو عدها من باب جواز تقليد آراء المذاهب تحقيقًا للرخصة والضرورة، وهم يقررون أن حكم الزيادة التي أحدثها المستأجر في المحل:
إن كانت برضا المالك مما لا يجوز قلعه فله الرجوع على المالك بما بذل من مال.
وإذا كانت الزيادة مما تنقل أو تحول فله أخذ ما أضافه أو مطالبة المالك بدفع قيمة ما أضاف والمالك مخير.
يقول الشيخ عليش في فتاويه (4) : " فإن أذن المالك للساكن في وضع شيء من خشبه أو نحوه كان باقيًا على ملك الساكن وللمالك إخراجه ويأخذ قيمته أو شيئه بعد إخراجه ".
أما إذا كانت الزيادة التي قام بها المستأجر بلا إذن المالك فلا رجوع عليه بشيء ويخير صاحب العقار بين أن يدفع له ما زاد أو قيمته مقلوعًا، يقول الشيخ عليش: " أما العمارة بلا إذن المالك فلا يحاسب بها وله أخذ عين شيئه أو قيمته بعد قلعه " (5) .
وبهذا يتبين أن لا حق للمستأجر في جميع الحالات من البقاء في المحل، ويرى بعض العلماء أن العمل بهذه الأحكام العرفية هو الذي شجع التجار على الاستقرار بالمحلات بعد انقضاء الأجل ولو لم تكن هناك ضرورة ملحة ونفر أصحاب رؤوس الأموال من التمادي في البناء.
ولو أخذت الدولة على عاتقها تكوين الأسواق أو شجعت رؤوس الأموال على بناء محلات تفي بحاجة التجار لانحل المشكل من الأساس.
والحل السريع في هذا الموضوع، هو أن يقع التعاقد على مدة يراها المستأجر كافية للتحصيل على الرخص اللازمة لجبر المصاريف الكافية لإعداد المحل التجاري مع ما يؤمله من أرباح بالتراضي مع المالك ولو طالت المدة، وإذا انتهى لأمد المتفق عليه استرجع المالك عقاره أو جدد الكراء.
__________
(1) عمر بن عبد الكريم الحيدي: العرف والعمل في المذهب المالكي: ص 256.
(2) عمر بن عبد الكريم الحيدي: ص 471.
(3) محمد السنوسي الحفيد، مطلع الدراري ص: 158.
(4) الشيخ عليش، فتح العلي المالك: 2/146.
(5) الشيخ عليش، فتح العلي المالك: 2/146.(5/1982)
الأصل التجاري بين الجواز والمنع:
إن المانعين للعمل بالأعراف الخاصة إنما منعوها لأنها لا تقوم في الغالب على دعائم الدين ولاتستند إلى نصوص واضحة معترف بها بين عامة الفقهاء، بل تقوم على خرافات وأباطيل، وأن الإسلام لما جاء أقر كثيرًا من أعراف الجاهلية ورفض ما كان رجسًا من عمل الشيطان، وهذا القدر هو محل اتفاق بين علماء المسلمين. ويبدو أن رفض عدد كبير من العلماء للفتاوى التي جوزت بيع الخلو وأقرت المستأجر في مقر عمله بعد انقضاء مدة الإجارة هو تغافل عن قيمة هؤلاء العلماء الذين بلغ عددهم منهم مرتبة الاجتهاد وجميعهم يعلم أنه لا يجوز في مجال القضاء والفتيا اعتماد أعراف تخالف أصلًا من أصول الشريعة كما لا يجوز اعتماد عرف يبطل واجبًا أو يبيح حرامًا، ونسوا أن المفتي أو القاضي أو العالم كثيرًا ما يعتمد قواعد أخرى كالتي تقرر وأن الضروريات تبيح المحظورات وأن الضرورة تقدر بقدرها وإذا ضاق الأمر اتسع حكمه وأن العادة محكمة.
وقد تقدم لنا أثناء البحث أن الشيخ الطاهر بن عاشور وغيره ممن تقدم ذكرهم أجازوا أنواع الخلوات اعتمادًا على الضرورة أو الرخصة أو غير ذلك.
ومسألة تخلي المستأجر عن الخلو ببدل وثبوت حق البقاء له في العقار بدون إذن المالك لو صدرت فيها فتوى واحدة في عصر من العصور في بلد واحد من بلاد الإسلام، لقلنا: إنه يجوز لهؤلاء أن يقولوا إن هذه المسألة وليدة عرف خاص لا يعتد به في الفقه عامة. ولكن الواقع أن هذه المسألة انقلبت إلى حاجة اجتماعية عاشت أربعة قرون أو خمسة، وتناولها بالدرس عدد كبير من العلماء من جهات متعددة من العالم الإسلامي – غير الشيخ القاني الذي اعتمدت فتواه – ولقيت القبول من أهل الذكر أمثال الشيخ شهاب الدين القرافي والعلامة الشيخ الأجهوري، والشيخ سالم السنهوري، والشيخ عليش، والشيخ باش مفتي إسماعيل التميمي، والشيخ باش مفتي إبراهيم الرياحي، وشيخ الإسلام محمد بيرم الرابع، والشيخ باش مفتي الشاذلي بن صالح، والشيخ أحمد الغرقاوي المصري، والشيخ محمد المهدى الوزاني فلجميع هؤلاء وغيرهم فتاوى مدونة في كتب الفقه مع بيان طرق الاستنباط وهي كلها لاتبقي حجة للمانعين للعمل بالعرف الخاص ولاتدع لهم مجالًا لإنكار هذا النوع من الاجتهاد الذي حظى من العلماء بالقبول وتلقته الأمة الإسلامية بالتأييد والارتياح.
واعتقادي أنه لا يمكن أن ينظر إلى موضوع الأصل التجاري بمنظار ضيق على أنه لا يزيد على أن يكون عقد كراء عقار تجري عليه أحكام الإجارة العامة ككل عقار من العقارات بدون أن ينظر إلى ما يحيط بهذا العقد من اعتبارات خاصة لايصح أن يتغافل عنها أهل الإدراك والذكر، لأن المستأجر قد ينفق على بعض المحلات أكثر من قيمة المحل في تهيئة كمالات قد لانعطيها القيمة التي تستحقها، ولكنها على كل حال باهظة الثمن وهي التأثيث والزينة والتنسيق والأضواء ووسائل الدعاية ووسائل الراحة، وكل ذلك لجلب الحرفاء وكسب السمعة التجارية ومنافسة بقية التجار، ولا يؤمل عادة أن يكون للمحل مردود كامل إلا بعد مضي ست أو سبع سنوات.
فإخراج المكتري من المحل عند انتهاء مدة الكراء وهي سنتان في المحلات التجارية وهو لم يتحصل بعد على السمعة التي يعمل لتحقيقها، ولم يتمكن من إرجاع ريع المصاريف التي قام بها عادة، فإخراجه بدون اعتبار الأصل التجاري معناه إفلاسه وتحطيم كل ما شرع في بنائه وإفلاس المصارف التجارية التي تقوم وراء التجار.
وإذا لم تظهر المصلحة بصفة جلية في منح صاحب الجلسة أو النصبة أو الحانوت حق البقاء عند العلماء الرافضين العمل بالعرف الخاص، فهل يترددون في إعطاء صاحب الأصل التجاري هذا الحق الذي مكن منه مقابل الجهود الكبيرة التي بذلها للتحصيل على الرخص والمصاريف الباهظة التي أنفقها في تحقيق عناصر الأصل التجاري، والتي بدونها لا يستطيع أن يحقق المتجر المناسب، ولا التغلب على منافسيه، ولأن في منعه من التمتع بحق الأصل التجاري إضرارًا به، بل هو في عرف التجارة إلقاء به إلى التهلكة. مع أن الرافضين العمل بالعرف الخاص يعتبرون من القواعد الشرعية المعترف بها بين الجميع أن الضرر يزال؟.
ومن جانب آخر، فإن عقد الإجارة هذا وإن لم ينص فيه على التبقية فهي معتبرة لأنها مفهومة ضمنا من المتعاقدين استنادا للعرف السائد بين التجار والذي أقرته القوانين التجارية.
وفي اعتقادي أننا لو نتمكن من تمديد مدة العقد إلى أجل لا يتغير فيه المحل غالبًا ويتمكن فيه المستأجر من تعويض مصاريفه لكنا أقرب إلى التوفيق بين من يرفض ومن يجيز، لا سيما وأن تحديد مدة الإجازة مبينة على اجتهادات وأعراف والإمام مالك يجيز كراء المسيل إلى سنين كثيرة أو إلى الأبد..
وهذا رأي اتجه إليه رجال القانون في تونس أخيرًا وقدموا فيه لائحة قانون للمصادقة عليها.(5/1983)
غرامة الحرمان:
لقد تقدم لنا أن قلنا أن القانون التجاري أثبت أن صاحب الأصل التجاري إذا كان مستأجرًا للعقار الذي أعده للتجارة يثبت له حق البقاء في المحل، وهذا الحكم يوافق ما ذهب إليه الفقهاء من حق إبقاء التاجر في المحل وتمكينه من بيع خلو النصبة والجلسة والحوانيت وغيرها اعتمادًا على العرف، وفي كل هذه الحالات لا أمل للمالك في التحصيل على عقاره إلا بالتراضي مع المستأجر فإذا لم يرض المستأجر لا يمكن المالك من عقاره.
ولكن القانون التجاري المعاصر أعطى جديدًا للمالك في استرجاع العقار رغم إرادة المستأجر، وذلك بعد أن يدفع المالك غرامة حرمان المستأجر عن حقوقه المادية والمعنوية التي يقدرها أهل الذكر في ميدان التجارة. وهذه الغرامة تمثل مجموع ما أنفقه التاجر على المحل وتعويض ما اكتسبه من حقوق الرخص والإجازات مع أن ضمان المالك للتاجر فيما زاده في المحل تقره القواعد الفقهية وتحديده موضوع اجتهادي.
ويمكن المالك بعد دفع الغرامة من أصله الذي كان محرومًا منه بدون توقف على رضا المستأجر، وفي نظري أن الغرامة بإعطاء هذا الحق الجديد للمال كانت أخف وطأة على المالك من أن يحرم من عقاره إلى الأبد.(5/1984)
تطور الأصل التجاري:
اعتاد الناس في المعاملات التجارية على أن المستأجر هو الذي يثبت له حق الخلو وهو الذي يثبت له الأصل التجاري وهو الذي يتمسك بالمحل بموجب هذا الأصل ولا يبقى للمالك إلا أجرة الكراء ويعطى التاجر حق التصرف في منفعة العقار أو إجارته أو رهنه أو بيعه وغير ذلك ...
أما إذا كان التاجر مالكًا لمحله فيثبت له كذلك الأصل التجاري إذا توافرت عناصره، كما يملك بيع خلو عقاره المعد للتجارة، كما جرت العادة أن المالك يكتفي بإجارة المحل، والتاجر هو الذي يتمسك بهذه الحقوق، وأمام القوانين التي صدرت وضمنت بصفة واضحة حقوق التاجر التجأ المالك إلى بيع محله المعد للتجارة وهو المسمى في تونس (بالهبوط) (1) .
وقد عرف عند الفقهاء بأنه بيع جزء من المنفعة مجردًا وهو جائز: قال الشيخ عليش في فتاويه إن الخلو إذا صح في الوقف ففي الملك أولى لأن المالك يجعل في ملكه ما يشاء. (2) .
ولقد عبر الفقهاء عن كل هذه البيوع بالخلو، أما رجال القانون فلا يطلقون الأصل التجاري إلا على ما توافرت عناصره.
كما التجأ بعض أصحاب العقارات إلى طريقة أخرى وهي مطالبة المستأجر بجعل توثقة مالية معتبرة تحت يد المالك تضاهي قيمة خلو هذا المحل ترجع إلى صاحبها عند تسليم المحل بانتهاء مدة العقد وهذه طريقة أخرى يتخلص بها المالك من تمسك التاجر بالمحل، أو من دفع غرامة الحرمان.
وهذا كله استمرار للصراع والتنازع بين المالك والمستأجر في ضمان أكثر ما يمكن من المنافع أو دفع أكثر ما يمكن من الأضرار.
والله أعلم.
الشيخ مصطفى كمال التارزي
__________
(1) يسميه رجال القانون في تونس: " الخلو " ويعبر عنه القانون الفرنسى "Pas-De-Porte"، وهو غير الأصل التجاري المعروف عند رجال القانون بـ " الخلو " أيضًا، والذي يعرف عند رجال القانون الفرنسي باسم "Fonds De Commerce".
(2) الشيخ عليش، فتح العلي المالك: 2/16.(5/1985)
الأصل التجاري
إعداد
الدكتور – محمود شمام
الرئيس الشرفي لمحكمة التعقيب
الأستاذ المحاضر بالجامعة الزيتونية
عضو المجلس الإسلامي الأعلى
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحابه والتابعين.
الأصل التجاري
في الدورة الرابعة للمجمع الفقهي الإسلامي صدر القرار رقم 7 في شأن الاسم التجاري، والترخيص بتأجيل النظر فيه إلى الدورة الخامسة.
وجاء في المذكرة الموجهة إلينا من الأمانة العامة الإشارة إلى إدراج هذا الموضوع تحت عنوان عام يشمل الحقوق كافة مع إمكانية التركيز على فقرة بعينها من مشمولات العنوان العام.
وتبعا لذلك ونظرا لما درجت عليه غالب البلاد الإسلامية والعربية في شأن محلات التجارة بها من نظام خاص بطرح مشكلة التصرف في المحلات المستأجرة وحقوق التبقية بها رغم إرادة المالك ورغم العقد والشروط.
واستجابة للرغبة الملحة في كشف الغطاء عن هذا الموضوع وإجلاء أثره وبيان فروعه فقد خصصت دراستي هذه المختصرة لجانب واضح مستقل يشمله العنوان العام وهو فرع من فروعه، وفي شرحه وإيضاحه وبيان حقيقته إمكان لتصور صحيح، ثم للحكم طبق أصول ديننا الحنيف ومقاصد شريعتنا الإسلامية السمحة.
متى ظهرت فكرة الملكية التجارية؟
تتفق كل القوانين المدنية على أن الإيجار لأي محل ينتهي بمجرد انتهاء مدته الاتفاقية المعينة في العقد من طرفيه.
يقول الفصل 791 من المدونة التونسية: " ينتهي الكراء بمجرد انتهاء مدته المشروطة بين المتعاقدين وبدون احتياج إلى تنبيه من أحدهما على الأخر ".
وهذه القاعدة هي نتيجة حتمية لاحترام حق الملكية واحترام حرية التعاقد، فالمالك حر في كراء عقاره لمن شاء وبأي ثمن أراد ولأية مدة يوافق عليها وتنال رضاه وهو حر في استرجاع محله عند انتهاء المدة المتفق عليها وهو حر في استعماله لفائدته الخاصة أو بإيجاره للغير وهو غير مكلف وغير مطالب برعاية مصالح المستأجر الخارج وما قد يلحقه من ضرر وخسارة بسبب تركه للمكري وخروجه منه.
ثم إنه حر في تجديد الإيجار لهذا المكتري الخارج وإعادة التعاقد معه بمعين جديد ومدة أخرى معينة ومحددة ينتهي الإيجار بانتهائها.
كل ذلك لأن حرية الملكية الفردية وواجب الوفاء بالعقود واحترام الشروط من المبادئ الأساسية والأخلاقية التي يجب احترامها والوقوف عند حدودها.(5/1986)
ونظرا لتفاقم الأزمة المتعلقة بالمحلات وتبلور حق الملكية التجارية لحماية مجهود التاجر الذي استأجر محلا وأعطاه من ماله وعرق جبينه ومجهوده الشيء الكثير فأنشأ به أشياء مادية كالأثاث والمواعين والموازين والثلاجات والمقاعد وكون به أمورا معنوية كالدعاية والإشهار وجلب الحرفاء وترسيخ اللون التجاري المميز والسمعة الطيبة الحسنة.
وما كونه التاجر هكذا وصرفه من أموال ومجهودات لا يمكن هدره والقضاء عليه بمجرد انتهاء مدة الإيجار الاتفاقي وإصرار المالك على التمسك بحقه كاملا اعتمادا على أنما يتفق عليه الطرفان يقوم مقام القانون بينهما ويجب الوفاء به وتنفيذه.
ولزم حينئذ حماية للتاجر وحفظا لما كونه إصدار قانون يحميه ويقيه ويحفظ عليه حقوقه بأن يخول له حق البقاء بالمحل والتصرف فيه مقابل كراء مناسب اتفاقي أو معين من طرف القاضي خاصة، وإن غالب التجار لا يملكون المحلات التي يمارسون بها تجارتهم، بل يستأجرونها من مالكيها ويضعون بها بضاعتهم ولوازم عملهم التجاري، والتاجر يفضل أن يضم رأس ماله في شراء البضائع وإعداد محل تجارية إعدادا لائقا على أن يشتري العقار بما يملك من مال.
وقد عرف التاريخ القديم كثيرا من الشعوب اشتهرت بالتجارة بحرية وبرية فكانوا وسطاء بين الشرق والغرب لنقل البضائع والاتجار فيها.
ومن بين هذه الشعوب الفينيقيون واليونانيون والقرطاجنيون وأهل رودس والإسكندرية ومرسيليا.
وقد تأثرت القوانين بذلك كما فعل حمورابي في القانون المعروف باسمه والذي وضعه سنة 2083 قبل الميلاد.
وأما الرومان فلم يكترثوا بأمور التجارة لأنهم ينظرون إليها نظرة احتقار، ومع ذلك فقد توجد عندهم بعض القوانين المتعلقة بالتجارة بأنواعها كافة على نطاق واسع وقد اتصلوا بالأمم المجاورة وتكونت عندهم أعراف تجارية خاصة كانت بمثابة القانون.
يقول الأستاذ رزق الله أنطاكي في كتابة " الحقوق التجارية البرية ".
" والتجارة لم تتقدم تقدما محسوسا إلا مع الحروب الصليبية التي أفادت في توسيع وتوحيد العلاقات التجارية بين الشرق والغرب خاصة بين سكان المدن الإيطالية كالبندقية وجنوه وفلورانس والبلاد العربية، فنشأت عن هذه العلاقات قواعد اعتبرت سنة لمحترفي التجارة ودخلت فيما بعد في تشريع معظم الدول.
ومما تجدر ملاحظته شبه احتكار الأعمال التجارية في القرون الوسطى من قبل اليهود لاعتبارات شتي أهمها محاربة تعاليم الكنيسة المسيحية لهذه الأعمال لما تضمنته من فكرة الربح الزائد الشبيه بالربا وحرمان اليهود من تملك غير المنقول ومن تسلم الوظائف العامة ".
(انتهى) .(5/1987)
والبلاد التونسية مارست في أوائل القرن الثاني عشر الهجري نوعا من هذا التصرف الجبري المعبر عنه بوجوب تجديد الكراء أو حتى التبقية في محلات التجارة وذلك من خلال ما عرف بخلو النصبة التي يتحدث عنها ويصفها العالم الفقيه الشيخ محمد السنوسي الحفيد قائلا (1) .
" وأما خلو النصبة فهو ملك الخلو بوضع الآلة والموازين والطواحين مما تم به عمارة الربع وتبقى به يد المكتري بالكراء الدائم.
والأصل فيه أن غرباء الوافدين على البلاد كانوا إذا اكترى أحدهم حانوتا بغير عمارة وأنفق عليه ما يحتاجه من الخزائن وآلة الصناعة والموازين وأراد المالك أو ناظر الوقف إخراجه بعد انقضاء أمد الكراء تشكي من خسارة ما استكمل به عمارة المحل، حيث إن المالكين وناظري الأوقاف لم يجعلوا لحوانيتهم ما يلزم للصناعة المعد لها الحانوت مع كونهم أكروه لإقامة تلك الصنائع وتحمل المكترون مصاريف ذلك، ووقع الحكم بأن المكتري إذا كان على تلك الصفة ووضع ما يلزم للعمارة بإذن المالك فلا يصح إخراجه إلا أن يقبل المالك بتلك الموضوعات بدون خسارة وإلا فيبقى المكتري بكرائه متمتعا بخلوه، وبما يجحف بالمالكين من تعويض مصاريف الموضوعات اضطروا لإبقائهم فتصرف المكترون بأنفسهم وأكروا لغيرهم وباعوا مكانهم على أن لا يأخذ المالك إلا مقدار الكراء وما زاد عليه يبقى لصاحب العمارة.
وتسمى هذه العمارة في مثل حوانيت العطارين بتونس - نصبة – وفي مثل حوانيت السوقة من باعة الزيت والخبز والصابون – راغلة – وفي مثل الطواحين – عدة -.
وبتطاول الأعصار وارتفاع الأسعار جرى عمل البلاد على ذلك وتقررت به أملاك لها بال في سائر أنحاء البلاد حيث تعتبر فيها التبقية.
__________
(1) كتاب مطالع الدارري بتوجيه النظر الشرعي على القانون العقاري: ص 162. طبع المطبعة التونسية الرسمية. سنة 1305 هـ(5/1988)
وقد كان بعض الحكام التونسيين من ذوى الفتوى أراد إلزام المتملكين بالنصبة أن يؤدوا كراء المثل بعد تغير الأعصار وارتفاع الأسعار ومس الدولة من ذلك نصب بشغب المتملكين للنصبة ملكا دخلوا عليه وعلى بقائه على حالته، ودفعوا فيه أموالا على نسبة ذلك. وافضى الحال إلى أخذ المسألة بطريق سياسي ودخلت للمجالس العدلية مدة انتصابها بتونس وصدر حكم المجلس الأكبر بإبقاء المالكين على ما ملكوا نظرا لكونهم في الحالة الراهنة اشتروا النصبة بمال لا يدفع مثله في مثلها لو كانت خارج المحل وغاية ما بقى للمالكين الأصليين هو أن بعضهم ينتظرون خروج النصبة من الحانوت حتى ينتهزوا فرصة طلب رفع اليد عن خالص ملكهم ".انتهى.
وقد عالج المقنن التونسي هذه الحالة وتعرض لها منذ قرن بالمادة 991 من المدونة المدنية فقال:
" النصبة حق الاستقرار بدكان ونحوه مما هو معد لصناعة أو تجارة يلتزم المكتري بأن تؤدي للمالك في مقابلته كراء معينا لا يتغير ويستقر هذا الحق للمكتري بإدخال الألة ومواعين خدمته للمحل ويدوم ما دامت تلك الأدوات والمواعين ".
لكن لشدة هذا الحق وقسوته فقد جعله القانون قاصرا على العقود السابقة والإيجارات المتقدمة عنه وحذفه وأبطله فيما يعقد بعدها فقال في المادة 994.
" الفصول السابقة لا تنطبق إلا على النصب المتقدم تاريخها على عام 1280هـ/1863م ".
ومن هنا يمكن أن نقول أن خلو النصبة هي عين الأصل التجاري الذي مارسته فيما بعد البلاد الأوروبية وضبطته بقوانينها وعنها أخذنا ما وضعناه من قوانين حاليا في هذا الموضوع.
وذلك لأن شذاذا من طائفة معروفة بالتجارة نزحت إلى تكلم البلاد الأوروبية والأمريكية وعمرت محلات تجارتها بالمواعين والآلات والدعايات وهي لا تملك العقارات، وإنما تصرفت فيها على وجه الكراء فسعت إلى وضع قوانين تحمي أعمالها وتكون لها حقوقا تقف في وجه المالكين من سكان البلاد وتحد من تصرفهم المطلق في منافع أملاكهم.
وحينئذ فالمشكل الذي يطرح نفسه للنقد والفحص والدرس ثم الحل هو أن ما عبر عنه بخلو النصبة قديما – وجرى به العمل مدة ما بتونس وبعد حذفه وإلغائه رجع العمل به تحت عنوان الأصل التجاري – هل هو حلال يستقيم أمره ويتماشى مع قواعد الشرع العزيز ومقاصده السامية؟
وهل يمكن للمستأجر الذي التزم بأن يبارح المحل في تاريخ معين أن يتمسك اعتمادا على القانون بحق التجديد والتمديد الوجوبي ويبقى بالمكري رغم إرادة المالك الذي عاقده وعاهده واتفق معه على شروط التزم كل منهما بالوفاء بها والوقوف عند حدها.
مع العلم بأن القوانين الوضعية المعمول بها في غالب البلاد تلغي كل شرط مخالف وتمكن صاحب الأصل التجاري من حق البقاء والتبقية بالمكرى وتخضع الطرفين المتعاقدين إلى العمل بما جاء به وحدده القانون في هذا الشأن عوضا عما اتفقا عليه والتزما به من شروط وآجال.
ومن الأفضل حينئذ إعطاء بسطة وجيزة تشرح الموضوع كما نسقه ووضعه المقننون حتى نتصوره تصورا واضحا ثم نحكم عليه بعد ذلك، والحكم على الشيء فرع عن تصوره.(5/1989)
ما هو الأصل التجاري؟
الأصل التجاري هو أداة عمل التجار مثلما أن الآلات أداة عمل المصانع.
وهو من الماديات الملموسة المحسوسة تكون ووجد وتطور مع الزمن ليصبح فكرة قانونية موضوعية تبلورت فيها وجود العناصر المعنوية وضخامة أمرها وأهميتها.
فالسمعة التجارية والحرفاء هما جوهر فكرة الأصل التجاري وأهم أركانه ومقوماته ومميزاته.
وكل عنصر من العناصر المادية أو المعنوية المختلفة التي يتركب منها الأصل التجاري له قيمته الذاتية.
وعند اجتماع العناصر كافة وتألفها، فإنه تتألف وتتكون منها مجموعة موحدة متجانسة هي الأصل التجاري الذي تفوق قيمته الاقتصادية مجموعة القيم الذاتية للعناصر المختلفة.
ولذا، فهو ينعت بأنه مجموعة من الأموال المنقولة المادية والمعنوية تألفت ورتبت بقصد استغلال مشروع تجاري.
والأصل التجاري وحدة قائمة بذاتها لها كيان مستقل عن المقومات التي تتكون منها عناصره.
وهو لا يكون إلا مع توفر الصفة التجارية للنشاط المباشر كما أن صفة التاجر لا تكتسب إلا مع ممارسة النشاط التجاري على وجه الاحتراف.(5/1990)
يقول بعض شراح القانون في الموضوع (1) .
" والمحل التجاري هو المجموعة القانونية لمقومات متجر أو مصنع، وهذه المقومات منها ما هو غير مادي ومنها ما هو مادي، والمقومات المادية هي:
العنوان والاسم التجاري والحق في الإجارة والاتصال بالعملاء والسمعة التجارية والرخص وبراءات الاختراع والعلامات التجارية والرسوم والنماذج الصناعية، وعلى وجه العموم كافة حقوق الملكية الصناعية والأدبية والفنية المرتبطة بالمحل التجاري.
والمقومات المادية هي المهمات والبضائع، ويقصد بالمهمات الأثاث التجاري والآلات وجميع المنقولات المادية التي تستعمل في استغلال المحل.
ويقصد بالبضائع جميع المنقولات المادية المعدة للبيع.
وفكرة اعتبار المحل التجاري مجموعة أو وحدة قائمة بذاتها لها كيان مستقل عن المقومات التي يتكون منها إنما هي فكرة حديثة أوحت بها الحاجة إلى إيجاد الوسيلة التشريعية التي يمكن بها أن يكون المحل التجاري بجميع مقوماته محلا للتصرفات القانونية كالبيع والرهن ".انتهى.
هذا وقد سبق التشيع الفرنسي بقية التشريعات الأوروبية في التكييف الحديث لفكرة الأصل التجاري وهو – تقريبا – أول تنظيم قانوني شامل لأهم العمليات التي ترد على الأصل التجاري (2) .
فالقانون الفرنسي المؤرخ في 17 مارس 1909 م الذي أدخلت عليه عدة تعديلات ومنه استمد المقنن التونسي أحكام الملكية التجارية 26 أكتوبر 1926 م وعدة قوانين أخرى، آخرها قانون ماي 1977 م، وقد نص فصلاه الأول والثاني على اكتساب المستأجر لحق تجديد الإيجار وجوبا بشرط وجود عقدة كراء واستعمال المكري في استغلال أصل تجاري وتواصل هذا الاستغلال مدة عامين اثنين بدون انقطاع.
__________
(1) د. علي حسن يونس: في كتابه المحل التجاري: ص 341
(2) أول قانون أصدره المقنن الفرنسي هو القانون الصادر في 28 فيفري 1872 م الذي فرض ضريبة على بيع المحال التجارية. كذلك صدر قانون غرة مارس 1898 م، وقد أضاف إلى المادة 2075 من القانون المدني فقرة جديدة توجب أن يقيد رهن المحل التجاري في سجل عمومي. ثم صدر قانون 17مارس 1909م الذي وقع تنقيحه عدة مرات. وقد تأثر المقنن المصري بذلك فأصدر القانون رقم 1940 م الذي تكلم على بيع المحل التجاري ورهنه وذكر العناصر التي تدخل في تكوين المحل التجاري.(5/1991)
طبيعة الأصل التجاري
بما أن الفكرة نشأت عن التعامل بين التجار فمختلف العناصر التي من شأنها جلب الحرفاء يجب تجميعها للحصول على قيمة تفوق مجموع القيم الذاتية لكل عنصر من العناصر على حدة، ورغم ذلك لا يتكون من هذا المجموع وحدة قانونية قائمة الذات لأن المقنن لم يعدد العناصر ولم يحصها، ولأن مالك الأصل غير ملزم بالإبقاء على وحدة العناصر المتركبة منها فله أن يفرقها عن بعضها بعضا وأن يبيع كل عنصر على حدة لأشخاص متباينين ومختلفين.
وعليه يجب بيان أن تكون مجموعة من العناصر المختلفة المادية المعنوية يمكن أن يشكل شيئا معينا قائما بذاته.
ومجرد كون هذه العناصر يجمع بينها عمل مشترك هو الاستغلال التجاري، وغاية معينة هي تكوين حرفاء دائمين وجلب الوفرة الوافرة منهم لا يكفي في حد ذاته لاستخلاص الطبيعة القانونية لهذا المجموع الواحد الذي هو المحل التجاري أو الأصل التجاري.
وقد اختلفت الآراء وتباينت النظريات بحثا عن التكييف القانوني، فانقسم أصحاب الرأي إلى قسمين اثنين: قسم يهتم باجتماع العناصر المتألف منها الأصل التجاري ويعتبره مجموعا واحدا، والقسم الآخر يعتمد طبيعة العناصر المتكون منها الأصل التجاري لاعتباره حق ملكية معنوية ومنقولة.
ونفس القسم الأول ينقسم على نفسه إلى فرعين: أحدهما يرى في الأصل التجاري مجموعا قانونيا تتكون منه ذمة مالية مخصصة للاستغلال التجاري ومنفصلة عن ذمة التاجر صاحب الأصل التجاري، ولا وجود لشخصية قانونية يقوم عليا هذا المجموع القانوني، واجتماع العناصر المتباينة لهدف واحد يكون في حد ذاته وفي داخله ذمة مالية باعتبار التخصيص الموحد.
ويترتب على ذلك أن مالك الأصل التجاري مخصص لدفع ما عليه من الديون بحيث إن أصحاب هذه الديون يقدمون على الدائنين الشخصيين للتاجر صاحب الأصل التجاري.
لكن هذه النظرية منتقدة لأنها عمليا وتطبيقا تتعارض مع بعض المبادئ الأساسية، ومن ذلك أن إحالة الأصل التجاري لا تقتضي حتما إحالة الحقوق والديون، كما أن انتقال ملكية الأصل التجاري بسبب الإرث تكون صبرة واحدة من مجموع المخلف من التركة.
وإذا كان الأصل التجاري مكونا في نطاق شركة، فإنه يصبح من مقومات الذمة المالية للشركة.(5/1992)
والمدونة المدنية التونسية بفصلها 1623، جعلت للمدين دفعة واحدة فمكسبه ضمان لغرمائه ليتحاصصوا ثمنها مع اعتبار الأسباب القانونية في تقديم بعضهم على بعض.
أما الفرع الثاني، فهو يعتبر الأصل التجاري مجموعا واقعيا من الأموال، أي وجود تلاحم وتآلف فعليين بين عناصر يشد بعضها بعضا رباط اقتصادي ناتج عن الهدف المشترك. وكل عنصر يحتفظ بذاتيته ولا يندمج في ذمة مالية خاصة وبذلك تستبعد فكرة الحقوق والديون الخاصة بالأصل التجاري وضمانها يكون عاما متفقا مع نظرية المادة 1623 السابق ذكرها، أي أن مكاسب المدين ضمان لغرمائه ليتحاصصوا ثمنها بينهم مع اعتبار الأسباب القانونية في تقدم بعضهم على بعض.
كما أن مشتري الًاصل التجاري لا ينتفع بما للأصل التجاري من ديون على الغير ولا يتحمل بما عليه من الديون.
وإذا اعتبرنا أن العناصر يمكن تفكيكها وبيعها على انفراد حسب إرادة مالك الأصل التجاري، فلا وجه حينئذ لمإذا لا يكون الأصل التجاري موضوع عمليات قانونية على أساس نظرية الفرع الثاني.
أما القسم الثاني الذي يعتمد طبيعة العناصر المتكون منها الأصل التجاري لاعتباره حق ملكية معنوية من طبيعة منقولة فهو يقرر:
تستعمل كلمة: ملكية الأصل التجاري، للدلالة على ما اكسبه التاجر من حق على التجارة التي يمارسها أي النشاط الذي يقوم به في ميدان التجارة إذ لا يكون هناك أصل تجاري إلا مع ممارسة الأعمال التجارية.
فإذا كان هناك حق ملكية، فلها طبيعة خاصة لأنها نتيجة نشاط أِشبه ما يكون بالابتكار الذهني والإبداع الفني كالاختراع تماما.(5/1993)
وهذا النشاط الخلاق الذي يبذله التاجر ويجتهد في وضع أسسه يفضي إلى تكوين مختلف عناصر الاستغلال التجاري، ثم ربطها ببعضها وتكوين لحملة جامعة بينها تدفع إلى الأنصار في ذاتية أو مجموعة قائمة الذات.
وهذه الخصائص تكسب الأصل التجاري طبيعة معنوية شبيهة بالملكية الأدبية والفنية أو ببراءات الاختراع التي لا ترتكز على أساس مادي وهي ثمرة نشاط ذهني فكري يوجهه العقل والإلهام والعطاء الفطري.
فإذا استغلت هذه الخصائص أصبحت لها قيمة رائجة ورابحة بفضل ما لها من قدرة على جلب الحرفاء والإبقاء عليهم ودفعهم إلى الشراء والتعامل شأنها في ذلك شأن الأصل التجاري مع فارق، وهي أن هذا يتكون من مجموع عناصر تتضافر قدراتها على جلب الحرفاء وشدهم برباط أخلاقي رفيع إلى المتجر والمقصود به والتزود بما يقدمه من بضاعة، واجتناب غيره من المتاجر حتى ولو كانت تقدم بضاعة أفضل منه.
ومثل جميع الملكيات المعنوية، فإن الأصل التجاري لا يختص بصورة عامة جميلة بالحق في الحرفاء، ولكن يشمل مجموعة من مختلف الحقوق ألف بينها التاجر الذي كونها وأنشأها واحتفظ بها بفضل ممارسة واستغلال تجاري يقوم على أسس متينة صحيحة باعتبار أن الأصل التجاري هو ملكية معنوية متفقة مع الطبيعة المعنوية للعناصر الجوهرية التي يتأتى مها وتتركب من مجموعها دعائمه وأسسه.
وهذه الملكية المعنوية ينبغي اعتبارها من طبيعة منقولة وبالتالي فإن الأصل التجاري يخضع للنظام القانوني الخاص بالأموال المنقولة. فإذا أوصى شخص بكل أمواله المنقولة فإن الأصل التجاري يدخل في الوصية ويحسب في الثلث من المخلف.
ولما كان هذا المنقول معنويا فإن قاعدة الحيازة سند الملكية لا تنطبق عليه لأنها تتعلق بالمنقولات المادية.
وكذلك إذا حصل بيع الأصل التجاري مرتين لشخصين على التعاقب فإن حيازته لا تصلح للاحتجاج بنقل الملكية وربما كانت الأفضلية لصاحب العقد الأسبق تاريخا ثابتا.(5/1994)
عناصر الأصل التجاري
يتركب الأصل التجاري من عدة عناصر مادية وأخرى معنوية تختلف كما وكيفا لطبيعة أهميتها وتأثيرها على جلب الحرفاء ودفعهم للشراء والاقتناء باستعمال طرق مختلفة مركزة على حسن المعاملات ورفعة الاستقبال، الأمر الذي تتكون معه السمعة التجارية للمحل التجاري.
وقد جاء القانون التونسي، وهو لا يختلف عن غيره من القوانين ناصا على عناصر الأصل التجاري المعنوية والمادية، وهي الحرفاء والسمعة التجارية وعنوان المحل والاسم التجاري والحق في الإجارة، وحقوق الملكية الصناعية، وحقوق الملكية الأدبية، والفنية.
الحرفاء والسمعة التجارية:
عنصر الاتصال بالحرفاء عنصر جوهري يتوقف على وجوده أو زواله وجود الأصل التجاري.
فعنصر الحرفاء أو ما يطلق عليه السمعة التجارية لا يعتبر جزءا من الأصل التجاري، بل كاد أن يكون هو الأصل التجاري نفسه.
فالمتجر والأصل يضمحل إذا كانت مجموعة الأمور تشتمل على عناصر مادية ومعنوية مهما كثرت عددا وقيمة إذا لم تتضمن عنصر الاتصال بالحرفاء وشدهم إلى المحل وإنشاء السمعة التجارية لدى العملاء.
وعنصر الحرفاء أو العملاء، هو استقرار بعض الناس وارتباطهم في معاملاتهم مع تاجر معين، لما تبعثه صفاته الشخصية ومعاملاته الذاتية من ثقة واطمئنان وشعور بالفرح.
أما السمعة التجارية، فهي صفة ملتصقة بذات المتجر الذي قد يكتسب سمعة تجارية حسنة وجالبة ومغرية بسبب موقعه مثلا أو بسبب ما يوفره لقصاده من إمكانيات. ولقد جمع المقنن التونسي العبارتين في فقرة واحدة ملاحظا بذلك الرابطة الوثيقة بين الأمرين.
وفعلا فإنه يصعب من الجهة القانونية فصلهما عن بعضهما لأنهما يتضمنان مجموع الحرفاء الدائمين والعابرين ومواصفات المحل ومميزاته، كل ذلك يقدر بالإضافة إلى رقم الأعمال وتقدم إحالته عند البيع.
فهذا العنصر يمكن أن يعبر عنه بالحق في الحرفاء، وهؤلاء غير ملزمين طبعا بالتعامل مع محل تجاري بعينه ولا يكون تاجر حق على أي حريف في التعامل معه. ولكن ما نشأ من ترابط واستمرار التردد على المحل للشراء والاقتناء والتعود تلقائيا على ذلك التعامل جعل كل ذلك عنصرا مهما عند البيع والإحالة والتقدير، ودفع بالمقنن لحماية هذا العنصر حماية قانونية نظرا لتأثره الكبير من الناحية الاقتصادية على التجارة والتجار وحسن المعاملة بين التاجر والحريف وارتباط كل واحد بصاحبه بل وحتى على استقرار الأسعار وجودة السلع وإتقان الصناعة.
وكل سعي للانحراف بالحريف عن مساره الطبيعي ومحاولة جلبه إلى محل آخر غير المحل الذي تعود عليه وتحويله عنه قد يكون مزاحمة غير مشروعة ومحرمة وقد يترتب عن ذلك التعويض طبق أحكام القانون المدني.(5/1995)
الحق في الإجارة:
هذا العنصر الذي دفع بنا إلى دراسة هذا الموضوع بكامله موضوع الأصل التجاري أو المحل التجاري، ومحاولة إماطة اللثام عنه وشرحه حتى يمكن الحكم عليه في ضوء معطيات واضحة وجلية.
إن التاجر الذي يملك الأصل التجاري، إما أن يكون مالكا للمحل الذي يتعاطى به تجارته ويدعو إليه الحرفاء ويسعى لجلبهم للشراء من عنده في ذلك المحل، إما أن يكون يتعاطى تجارته في غير دكان ولا عقار، ولا إشكال في الصورتين لأنهما خارجتان عن موضوعنا.
وإما أن يكون قد استأجر محلا لتعاطي التجارة به من مالك أجنبي عنه بموجب عقد كراء لمدة معينة وبشروط متفق عليها مقدما.
وعقد الإيجار يحدد الطرفان مدته ابتداء وانتهاء حسب كتب الاتفاق.
تقول المادة 791 من القانون المدني التونسي:
" ينتهي الكراء بمجرد انتهاء مدته المشروطة بين المتعاقدين ".
إلا أن قانون الملك التجاري التونسي جاء مخصصا لأحكام القانون المدني العام في شأن إيجار المحلات التجارية وتمديد مدة هذا الإيجار وتجددها بشروط وقيود عينها ألغت إرادة الطرفين وجعلت اشتراط خروج المستأجر عند انتهاء المدة شرطا لا به يعمل ولا عليه يعول ولا ينفذ.
فقد جعل القانون أن بيع المحل التجاري أو إحالته يشمل وجوبا الإيجار كعنصر من العناصر رضي بذلك المالك أم أبى. أحب أم كره وجعل أن تمديد مدة الإيجار موكول للقضاء بعد الاختبار بوساطة أهل المعرفة وبشروط معينة لتقدير المعين المناسب.
والمالك إذا أصر على رفض تمديد الإيجار فالقانون يوجب عليه دفع غرامة باهظة، فقد تفوق ثمن العقار نفسه.
وهذه الغرامة تعرف بغرامة الحرمان يقع تقديرها بإجراءات خاصة لا فائدة من التبسط في شأنها هنا.
وما يوجد بالقانون التونسي – الذي جعلناه مثلا – له نظير في القوانين الأخرى المعمول بها الآن والتي وضعت لحماية حقوق التجار وصونها.
وما يوجد بهذه القوانين جاء متحديا لاحترام الشروط وواجب الوفاء بالعقود.(5/1996)
الخلاصة
والخلاصة بعد هذه البسطة التي قدمناها يمكن لنا استخلاص ما يلي:
1- وجود حق لصاحب العقار يقابله حق لمن استأجر منه محله بعنوان الاتجار فيه ثم وجود عقد يحدد علاقة الطرفين ويضع لها شروطا.
2- وجود إشكال حول إنهاء مدة العقد بإرادة الطرفين نظرا لأن المستأجر أدخل على المحل عناصر جديدة بحكم عرف تجارته ودواعي عمله ودافع المزاحمة التجارية وعوامل الربح.
وقد تكونت عادات وأعراف في هذا الموضوع، كان من الواجب احترامها والالتفات إليها عند تحديد علاقة الطرفين واجتناب خسارة أي واحد منهما.
واتضح أن بعض فقهائنا استند إلى العرف في جواز الإبقاء على المستأجر بمحل التجارة الذي كونه رغم انتهاء المدة باعتبار أن المتعاقدين دخلا على هذا التمديد بحكم العرف الجاري به العمل.
3- لكن بقيت مشكلة أخرى، وهي إذا ألغى الطرفان صراحة ما اقتضاه العرف وجاءت به العادة وعينا لأنفسهما أجلا لانتهاء الإجارة واتفقا على إنهاء العقد بالخلو له وخرج المستأجر من المحل وتسليمه إلى صاحبه.
فالقاعدة الفقهية تجعل الناس عند شروطهم، ولا يوجد فقيه واحد يخالف في ذلك، ولا يوجد فقيه يقول بأن العرف يبطل الشرط الصريح، فالعرف لا يعمل إلا إذا حمل الطرفان على أنهما اتبعاه وارتضياه وإلا فلا عمل له.
والقوانين الوضعية تجعل هذا الشرط لاغيا لا نفاذ له، وتحكم بحق البقاء للمستأجر بالمحل رغم وجود الشرط.
4- وعليه فالمقترح هو ما يلي:
(أ) إعمال العرف التجاري، وتنفيذ القانون عند عدم وجود شرط صريح فاسخ ينهي ويجبر التاجر على مبارحة المكري.
(ب) السماح لصاحب العقار بأن يجهزه ويعده، كما يجب للتجارة، ثم يؤجر الأصل التجاري لأية مدة يتفق عليها مع المستأجر وبأي معين يحدداه وعند انتهاء المدة يكون المالك مخيرا بين تجديد العقد أو إنهائه.
والقانون مع سماحة بكراء الأصل التجاري، فإنه لا يسمح بذلك إلا بعد تكونه ومضي مدة معينة على ذلك.
(ج) السماح للطرفين بالإجارة لمدة معينة ينتهي العقد بانتهائها، ويبارح المستأجر المكون دون أخذ أية غرامة، ولو كان هو الذي أعد المحل للتجارة وهيأه وجهزه لذلك.
لكن على شرط أن تكون مدة العقد طويلة بحيث يمكن للمستأجر أن يستغل ما أنفقه في التجهيز والدعاية وجلب الحرفاء، واستفاد من رأس ماله الذي قدمه ويستحب أن لا تقل المدة عن عشرة أعوام مثلا، ومعلوم أن دفع المضرة يسمح بمثل هذه الشروط.
هذه بسطة في هذا الموضوع المعقد.
ومعذرة عن الحرج الذي قد تلحقه بالمطالع هذه اللغة القانونية الجافة وصعوبة أدائها للمقصود.
وفقنا الله لما فيه الصواب والسلام عليكم.
الدكتور محمود شمام(5/1997)
الحقوق المعنوية
بيع الاسم التجاري والترخيص
إعداد
الدكتور عبد الحليم محمود الجندي
والشيخ عبد العزيز محمد عيسى
بسم الله الرحمن الرحيم
- 1 -
المقدمة:
التجارة في جملة أمرها تداول الأموال أو الأشياء بقصد الربح، حيث يوجد المتعاقدان في مجلس العقد، أو يوجد المبيع في " حانوت " التاجر، أو في " السوق " حيث "تساق" العروض والسلع. والفقه الإسلامي حريص على التزام التجار جادة الدين في التعامل التجاري لما يكتنفه من سرعة التراضي أو فورية الأداء مع خلق التاجر واقتداره على ترويج السلعة أو تزيينها ليقبل عليها المشترون، ومنهم من قد ينخدع أو تخفي عليه العيوب. ويروى عن الإمام محمد بن الحسن قوله: (على كل تاجر يحتاط لدينه أن يستصحب فقيها يشاوره في معاملاته) . وعن الإمام أبي الليث قوله: (لا يحل للرجل أن يشتغل بالبيع والشراء ما لم يحفظ كتاب البيوع) (1) . وكان الإمام أبو حنيفة ينهى العامل في حانوته عن أن يزين السلعة بأقواله.
ولئن كانت الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات عناصر النشاط الاقتصادي في العالم المعاصر، فإن التجارة ترد على جميع هذه العناصر في عصرنا الحاضر، ومواردها في ازدياد، قدر ما يسبغ الله على عباده من نعم ظاهرة وباطنة وأموال مستحدثة مثل " الحقوق المعنوية " أو الفكرية أو الخدمات التي لا يقف تقديرها عند حد وتتجاوز تجاراتها القارات. ومن الشركات التجارية ما تمتد فروعها إلى دول العالم إلا قليلا … وينطبق على نشاطها قوانين التجارة.
وخلعت القوانين وصف "التاجر" على من يتخذ التجارة "حرفة"، كما اعتبرت " العمل التجاري " كل عمل يتم لمزاولة حرفة تجارية، لتتيح سرعة المبادلات وحرية النشاط التجاري واليسر في أدائه واقتضائه، وتتابعت الاتفاقيات الدولية منذ أواخر القرن التاسع عشر للميلاد لتجعل العالم سوقا تجاريا واحدة تسري عليها أحكامها لحماية الحقوق على مستوى العالم (مثل اتفاقيات بيرن لحماية الملكية الفنية، واتفاقية باريس لحماية الملكية الصناعية والتجارية، واتفاقية وارسو للنقل الجوي) .
وحظى " المتجر " بحظ وافر من عناية واضعي القوانين ورجال الفقه المحلي والعالمي وأحكام القضاء، وتجلى في صدده إقرار الفكر المعاصر بما سبق به الفقه الإسلامي من إقرار الملكية الفنية.
وأصبح المتجر يتكون من " مجموع حقوق معنوية " وإن كان معها عناصر مادية تدخل في " ملكية التاجر". وجرى العرف العالمي على التسليم " بماليتها "، ولم يبلغ الفقه هذا الطور إلا بعد تاريخ طويل شغل الفقه الإسلامي أغلب أطواره.
وقد بينا في مقال سابق للمجلة، الحق المعنوي في الملكية الأدبية لحقوق التأليف ونشأتها وتطورها حتى العصور الحديثة، فنحيل عليه، ونخص الحقوق المعنوية التجارية فيما عدا الحقوق الأدبية كما يلي:
__________
(1) شرح القانون التجاري في القانون المصري والشريعة الإسلامية: د. محمد بك صالح. مطبعة جامعة فؤاد الأول، القاهرة 1368هـ – 1949م، ص 24.(5/1998)
- 2-
كان الإغريق شعبا من التجار آل إلينا من أنباء متاجرهم مرافعة أعظم خطبائهم (ديموستين) في قضية غش في بيع " محل تجاري " للعطور، وفي قضية أخرى لقاصر ورث " محلا تجاريا " عن أبيه، وثالثة لدائن له تأمينات على " محل تجاري ".
ومن الحماية التجارية نظم الإغريق بيع المتجر ورهنه (1) .
ولم يحتفل الرومان بالتجارة احتفال غيرهم من الأمم، لكن العرب كانوا تجارا. فالتاريخ يحدثنا على لسان المؤرخ الروماني سترابون (ولد سنة 58 قبل الميلاد) أن من القوافل التجارية العربية ما بلغت عدة عيره ألفا وخمسمائة، ومن القوافل ما كان يتجه إلى اليمن لتبلغ التجارة غرضها في الحبشة، وأخرى إلى فارس في الشرق، وغيرها إلى الروم في الشمال. كما يتحدث تاريخ العرب قبل الإسلام عن تجاراتهم الداخلية في أسواق " دومة الجندل " (وهي ملتقى طرق شبه الجزيرة من مكة إلى الشمال والشرق والجنوب) " وهجر "، تتخصص في بيع اللؤلؤ والسلع إلى فارس والهند، يديرها أمراء البحرين وسوق " عمان " وسوق " دبي ". واستمر ذلك النشاط في العرب بعد أن أشرقت شمس الإسلام.
فمن عظماء الصحابة من اشتغل بالتجارة، ومن أئمة الفقه من كانت التجارة حرفة له ومن كان لحانوته مكانة في التاريخ، فالإمام أبو حنيفة (150هـ) كان من كبار تجار الكوفة ودكانه في دار الصحابي الجليل عمرو بن حريث. والإمام مالك كان يعيش من مضاربة بمال له. وكذلك عاش شيخ هذين الإمامين
__________
(1) المحل التجاري، بحث للدكتور محسن شفيق، بمجلة القانون والاقتصاد (جامعة القاهرة، السنة العاشرة، 1970 م، العددان الثالث والرابع وما بعدهما)(5/1999)
: الإمام جعفر الصادق.
ومن الفقهاء، من برزت من أسمائهم أوصاف الصناعة والتجارة: كالجصاص، والخصاف، والقفال، والكرابيس (بيع الثياب الخام) ، والبقالي، والنعالي، والحلواني، والعطار، والتمار، والصيدلاني (بيع العطر) . ومنهم الصيرفي، ومنهم بائع اللؤلؤ.
ولم يعرف للمتجر شخصية معنوية، فالحقوق المعنوية برزت للوجود في الفقه الإسلامي ابتداء من " الوقف " وملكية " المنافع ". وفي القرن الثاني للهجرة تقررت الملكية الأدبية في الفقه المالكي في صدد " المجموعة الفقهية " المسماة بالأسدية وهي أساس " المدونة " وكان تقريرها بفتوى عبد الرحمن بن القاسم وفقهه، عن مالك، أساس ما ورد بالأسدية وبالمدونة. ثم تقررت في الفقه الإسلامي نظرية الحقوق المجردة أو المعنوية كما سنرى فيما بعد.
وكان للتجارة الخارجية شأنها منذ قامت الدولة الإسلامية، وفرض أمير المؤمنين (عمر) المكوس عليها مثلما كانت الروم تفرض المكوس على تجارة العرب. وفي القرنين السادس والسابع (الثاني عشر الميلادي والثالث عشر الميلادي) ، ازدهرت التجارة الخارجية بين أمم المشرق الإسلامي والأمم الغربية عن طريق البندقية وجنوه (في إيطاليا) مع قيام أوروبا بالحروب الصليبية في مصر والشام، إذ المسلمون لا يعتبرون محاربا لهم إلا من حمل السلاح عليهم.
وفي إبان هذه التجارة انتقلت إلى لغات أوروبا حتى اليوم التعبيرات العربية عن الملاحة والتجارة وما تزال متداولة في لغات العالم بعد أن كشف الأوروبيون العالم الجديد بينما كانوا يبحثون عن طريق إلى الهند ليبعدوا من طريق المسلمين , وفي ذلك العهد نشأت قواعد وأعراف تجارية بين شاطئي البحر المتوسط، دونها الفرنسيون وجمعوها في عصر لويس الرابع عشر (1643م – 1715 م) ، وعملوا بها حتى صدرت مجموعة القوانين الفرنسية، ومنها قانون التجارة الفرنسي في سنة 1807 م (1) .
ولما صدر القانون المدني المصري في سنة 1883م أقرَّ الملكية الصناعية (2) ، وكرر الإقرار بذلك القانون المدني الصادر سنة 1948م (3) ، واستمر القضاء في حماية الحقوق المعنوية واطردت أحكامه في ذلك الباب.
__________
(1) ليون كان ورينو: القانون التجاري، طبعة باريس 1894م، ص 5 وما بعدها.
(2) مادة (12) : (يكون الحكم فيما يتعلق بحقوق المؤلف في مؤلفاته وحقوق الصانع في ملكية مصنوعاته على حسب القانون المخصوص في ذلك) .
(3) مادة (86) : (الحقوق التي ترد على شيء غير مادي تنظمها قوانين خاصة)(5/2000)
- 3 –
الحقوق المعنوية (البراءة – التصريح)
والفقه الإسلامي في مجموعة يقوم " المنافع " بمال، ولم تعد " ماليتها " محل جدال. ومن الحقوق العينية: الحقوق الفكرية على الرأي الراجح كحق التأليف والصناعة، فإنها أموال ذات مميزات خاصة ولها قيمة في العرف، وقد اختص بها صاحبها دون غيره (1) .
وأصبح فقهاء الحنفية يذهبون إلى ذلك كما يظهر من الدر المختار، ص 13، حيث قوله عن بعض الحقوق المعنوية في (بيع البراءات التي يكتبها الديوان على العمال: لا يصح، بخلاف حظوظ الأئمة) . وقول رد المحتار: (…. قوله بيع حظوظ الأئمة …. بيع حظ بمعنى النصيب المرتب له من الموقف، أي فإنه يجوز بيعه …..) .
وجاء في ص 5 قوله: (وعليه فيفتى بجواز النزول عن الوظائف بمال) (2) .
قال العلامة العيني في فتاواه: ليس للنزول شيء يعتمد عليه، ولكن العلماء والحكام مشوا ذلك للضرورة واشترطوا إمضاء الناظر لئلا يقع فيه نزاع. اهـ. ملخصا من حاشية الأشباه للسيد أبو السعود.
وذكر الحموي أن العيني ذكر في شرح نظم درر البحار في باب القسم بين الزوجات أنه سمع من بعض شيوخه الكبار أنه يمكن أن يحكم بصحة النزول عن الوظائف الدينية قياسا على ترك المرأة قسمها لصاحبتها لأن هذا مجرد إسقاط اهـ.
وقلت: وقدمنا عن البحر أن للمتولي عزل نفسه عند القاضي وأن من العزل الفراغ لغيره عن وظيفة النظر أو غيره وأنه لا ينعزل بمجرد عزل نفسه، خلافا للعلامة قاسم. بل لا بد من تقرير القاضي المفروغ له، لو أهلا، وأنه لا يلزم القاضي تقريره، ولو أهلا، وأنه جرى العرف بالفراغ بالدراهم، ولا يخفى ما فيه فينبغي الإبراء العام بعده. اهـ. أي لما فيه من شبهة الاعتياض عن مجرد الحق وقد مر أنه لا يجوز. وليس فيما ذكر عن العيني جوازه.
قال الحموي: وقد استخرج شيخ مشايخنا نور الدين علي المقدسي صحة الاعتياض عن ذلك في شرحه على نظم الكنز من فرع في مبسوط السرخسي، وهو أن العبد الموصى برقبته لشخص وبخدمته لآخر، لو قطع طرفه أو شج " موضحة "، فأدى الأرش، فإن كانت الجناية تنقص بخدمته يشتري عبدا آخر يخدمه أو يضم إليه ثمن العبد فيشتري به عبدا يقوم مقام الأول. فإن اختلفا في بيعه لم يبع، وإن اصطلحا على قسمة الأرش بينهما نصفين فلهما ذلك. ولا يكون ما يستوفيه الموصى له بالخدمة من الأرش بدل الخدمة؛ لأنه لا يملك الاعتياض عنها ولكنه إسقاط لحقه به كما لو صالح موصى له بالرقبة على مال دفعه للموصى له بالخدمة ليسلم العبد له. اهـ.
__________
(1) بحث في نظرية الحق، للدكتور أحمد فهمي أبو سنة: كتاب (الفقه الإسلامي أساس التشريع) ، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، مطبوعات لجنة تجلية مبادئ الشريعة الإسلامية
(2) رد المحتار على الدر المختار: ابن عابدين. الجزء الرابع، الطبعة الثالثة بالمطبعة الأميرية، بولاق – مصر.(5/2001)
قال: فربما يشهد هذا للنزول عن الوظائف. قال الحموي: فليحفظ هذا، فإنه نفيس جدا. اهـ.
وذكر نحوه البيري عند قول الأشباه: ينبغي أنه لو نزل وقبض المبلغ ثم أراد الرجوع عليه لا يملك ذلك.
واستطرد في الاحتجاج لرأيه حتى قال، ص 16: (وبه اندفع ما ذكره بعض محشي الأشباه من أن المال الذي يأخذه النازل عن الوظيفة رشوة، وهي حرام بالنص. والعرف لا يعارض النص …. واستدل بعضهم للجواز بنزول سيدنا الحسن ابن سيدنا علي رضي الله تعالى عنه عن الخلافة لمعاوية على عوض. وهو ظاهر أيضًا ….) .
واستطرد فقال: (قول ويلزم خلو الحوانيت) . (عبارة الأشباه أقول على اعتباره، أي اعتبار العرف الخاص ينبغي أن يفتي بأن ما يقع في بعض أسواق القاهرة من خلو الحوانيت لازم. ويصير الخلو في الحانوت حقا له. فلا يملك صاحب الحانوت إخراجه منها ولا إجارتها لغيره ….) .
وإجازة العرف: التنازل بمال مشروطة بأن يكون العرف عاما، مستطردا أو غالبا، قائما عند إنشاء التصرف، لا يعارضه تصريح بخلافة، ولا يخالف نصا شرعيا من كتاب أو سنة، ويشهد للعرف قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) ، وابن نجيم يقول في الأشباه والنظائر: (وإنما العرف غير معتبر في المنصوص عليه) بين العاقدين، إذ ليس لهم أن يخالفوه (1) .
وليست الوظائف ملكا للموظفين ليتنازلوا عنها، ولا هي كذلك للدولة، بل هي بعض وسائل من سلطانها تهيؤها للموظفين ليقوموا بخدمتها، وهي بالنسبة لهم أدنى إلى الترخيص منها إلى الملك. والتصريح لهم بالنزول عنها لقاء مال ليس إلا تصريحا بالنزول عن حق معنوي، وإقرار القاضي يدل على أن الحق المعنوي مقيد بقيود من طبيعة ذلك الحق في حالة تنازل الناظر. ولذلك وجب إقرار القاضي لمن ولاه الإمام وظيفته، ويجب التزام طبيعة الوظيفة عند الاتفاق على ولاية الغير لها، ومثل ذلك كل تصريح يصدر عن السلطة يجب التزام شروطه، ومنها جواز النزول للغير أو عدم جوازه.
ولا يعتبر العرف ضرورة وإنما هو كالنص في إباحة العمل القانوني. بل هو – في القانون التجاري – يخصص العام، والقياس على تصرف الإمام الحسن لمعاوية رضي الله عنهما، غير صحيح. فالصحيح في تصرفه أن الذين بايعوه أقروا عمله ضمنا فكانت ولاية معاوية ببيعه مفروضة.
__________
(1) أثر العرف في التشريع الإسلامي: رسالة د. السيد صالح عوض، عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، ص 189 وما بعدها(5/2002)
- 4 –
مضت قرون على العصر الذي تحدث فيه ابن عابدين عن الفقه الإسلامي، ثم رأينا بعض الوظائف العامة تباع في فرنسا، وبإقرار الملك (1) في مقابل مبلغ محدد تتلقاه خزائنه، بل أصبحت هذا الوظائف محلا للتوارث ابتداء من القرن الميلادي السادس عشر (العاشر الهجري) . وتفاقم الأمر في عصور الملكية (عصر لويس الرابع عشر الملك الشمس 1643م – 1715 م) ، وازدهرت في ظلال هذا النظام بعض الأسر التي توارثت ولاية القضاء فحفظت له استقلاله.
والتاريخ يروي أن وظيفة النائب العام بيعت وفق ذلك النظام ذات يوم بمبلغ مليون ومائتي ألف ليرة! ويروى السخرية التي واجه بها قائلها لويس الرابع عشر نفسه: (مولاي كلما أنشأت وظيفة خلق الله غبيا يشتريها) .
وفي سنة 1789 م ألغت الثورة الفرنسية هذا النظام وقررت التعويض عن إلغائه. ولما استؤنف النظام الملكي في فرنسا أعادت نظام بيع الوظائف معدلا في بعض المرافق ابتداء من سنة 1816م، ولم يكن من بينها القضاء. وأصبحت الجبايات التي تجبي منها توزع على عمال المرفق أو تنفق على حاجاته، وإذا ألغت الحكومة الوظيفة عوض المرفق صاحبها أو ورثته.
__________
(1) بلا نيول: القانون المدني. جزء أول، طبعة 1928 م، فقرة (2529) ، ص 838 وما بعدها(5/2003)
- 5 –
ومن الحقوق المعنوية حقوق المخترعين كان لها نظام خاص أحكمته التشريعات الحديثة، فالشارع الفرنسي يحمي حقوق صاحب الاختراع مددا محدودة إذا سجل الاختراع لقاء رسوم يدفعها فيبقى احتكاره لاختراعه تلك المدة، وحذا القانون المصري حذو الفرنسيين في ذلك.
وبهذا يظهر أن حماية الحق المعنوي في الاختراعات أقل منه في المؤلفات، فحق التأليف إحدى حريات المؤلف. أما حق المخترع فأقرب إلى أن يكون أحد ممتلكاته وإن شاركه عصره في الوصول إليه، فلقد يحدث أن يفكر غيره في بعضه أو في مثله كله، والتاريخ يحفظ أن (جراهام بل) و (جراي) تقدما لتسجيل اختراعهما للهاتف (التلفون) في يوم واحد، بينهما ساعتان من النهار!
ومن الشواهد المعاصرة على إقرار الحقوق المعنوية والملكية الصناعية في الإسلام قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي (من دورته الأولى لعام 1398 هـ إلى الثامنة عام 1405هـ) ، بتاريخ السبت 28 ربيع الآخرة 1400 هـ الموافق 19 يناير سنة 1985م، وفيه:
(كل أداة حديثة وصل إليها الإنسان بما علمه الله وسخر له من وسائل إذا كانت تخدم غرضًا شرعيًا أو واجبًا من واجبات الإسلام وتحقق فيما لا يتحقق من دونها تصبح مطلوبة بقدر درجة الأمر الذي تخدمه وتحققه من المطالب الشرعية وفقًا للقاعدة الأصولية المعروفة، وهي أن ما يتوقف عليه الواجب فهو واجب) .
ولا جرم أن الإقرار بالحقوق المعنوية واحتكار الاختراعات لمدة بعض هذه الوسائل.(5/2004)
- 6 –
بيع المتجر
في السنة التاسعة للثورة الفرنسية أصدرت محكمة استئناف باريس حكمًا بأن (بيع المتجر – fond de commerce) ، يشمل (الملكية المادية لمعدات المحل، والملكية المعنوية وهي الشهرة وثقة الجمهور) . وأطرد بذلك القضاء دون أن يعضده تشريع حتى صدر قانون من قوانين الضرائب سنة 1872 م بفرض ضريبة تمغة على بيع " المتجر " فنص على شمول الضريبة للعناصر التالية (المادة المعدة للاستغلال، وسمعة المحل، ودرجة إقبال الزبن " العملاء ") ، ومنذئذ استقر في الفقه والقضاء أن المتجر يتألف من تلك العناصر، وأن للمعنوي منها قيمة معنوية، وأنه " منقول معنوي "، ولو كان حقًا على عقار كالإجارة، وأن المتجر بتمامه " منقول معنوية " يتألف من كتلة الأموال المعنوية والمادية (السلع) (1)
وفي سنة 1898 م اضطر المشرع الفرنسي لتعديل المادة (2075) في القانوني المدني الفرنسي ليجيز رهن " المتجر " دون نقل حيازته للمرتهن – كالمنقول المادي – وفي سنة 1909م صدر قانون ببيع المتجر ورهنه على الأساس ذاته.
وعلى غرار القانون الفرنسي صدر القانون المصري رقم (11) لسنة 1940 م الخاص ببيع المتجر ورهنه. وأعقبته في المنهج ذاته نصوص قانون التجارة الكويتي.
ومع ذكر القانون المصري للمقومات التي يشملها البيع إن سكت العقد عن ذكر المقومات، فإنه اقتصر على ذكر بعض ما تعارف عليه منها الفقه والقضاء دون أن يحصرها أو يعرف المتجر ذاته، حتى لا يسد الطريق أمام المستحدث من مقومات معنوية يستجدها النشاط الاقتصادي، والمتجر من أعظم أوعية المستحدثات فيه، إن في داخل الدولة وإن في خارجها.
والنشاط الاقتصادي لم يعد محليًا بل أمسى عالميًا تضع حدوده المعاهدات وتعديلاتها، ومنها اتفاقية باريس سنة 1883 م، ومدريد سنة 1891 م، ولندن سنة 1934 م، ولاهاي سنة 1938 م. وقد انضمت مصر لهذه الاتفاقيات بقانون سنة 1950 م. وهذه المعاهدات تتجه إلى التنسيق بين أوضاع النظام العام الذي ينظم التجارة العالمية وطريقة ذلك بالتنسيق بين وسائل حماية مقومات " المتجر " في الخارج مثل حمايتها في الداخل.
ومن أجل ذلك نصت اتفاقية باريس منذ سنة 1883 م على أن يتمتع رعايا كل دولة في كل الدول الأخرى بكل المزايا المقررة في دولة عضو فيها، أو التي ستقرر، شرط اتباع الإجراءات المقررة فيها، والاتفاقيتان الأخريان تكفلان حماية العلامات والبراءات وما يتدرج في ذلك كافة.
وكذلك أطلقت الاتفاقية الحماية لكل ما يمكن إدخاله تحت أبواب السلع زراعية أو صناعية أو تجارية أو أداء خدمات، حيث يقول:
(تؤخذ عبارة " الملكية الصناعية " بأوسع معانيها، فلا يقتصر تطبيقها على الصناعات والتجارة " بالمعنى الدقيق " بل تشمل الشؤون المتعلقة بالصناعة الزراعية والاستخراجية وجميع " المنتجات " المصنوعة أو الطبيعية....) .
__________
(1) محمد بك صالح: شرح القانون التجاري في القانون المصري والشريعة الإسلامية، ص 158 وما بعدها؛ د. علي يونس، الملكية الصناعية، ص 74 وما بعدها.(5/2005)
- 7 -
مقومات المتجر
تتراءى مقومات المتجر في نشاطه العادي: ذلك أن كل عمل متصل باسمه أو بخدمته عمل تجاري بالتبعية، كبناء التاجر عقارا ليكون محلا له، وإلحاق المنقولات على وجه التخصيص بعقار المتجر، فيعتبر عندئذ عقارا بالتخصيص لخدمة المتجر ويلتحق بموجوداته، وإذا بيع العقار مع المتجر، كان جزءا من البيع تسرى عليه أحكامه وإن لزمه التسجيل لنقل الملكية إذا أوجبت القوانين التسجيل لنقل الملكية.
أولا – الاسم التجاري اسم المتجر:
وهو ليس اسما شخصيا، فالمتجر ليس شخصا، ولذلك يباع اسم المتجر ويرهن على نقيض اسم الإنسان.
وقد بدأ المشروع بالاسم التجاري في القانون رقم (11) لسنة 1940 م الخاص ببيع المحل التجاري أو رهنه، فنص في المادة الرابعة على أنه: (إذا لم يبين ما يتناوله الامتياز لم يقع إلا على عنوان المحل التجاري واسمه، والحق في الإجارة، والاتصال بالعملاء، والسمعة التجارية) .
فالاسم علم على المتجر. وهو الذي يقيد في السجل التجاري وفقا للقانون ليحميه قانون تسجيل الأسماء بالعقوبات، وقد يدخله صاحب المتجر في العلامة التجارية فتتقرر له الحماية المقررة لها.(5/2006)
- 8 –
1- ويظهر من نص المادة (4) من القانون رقم (11) لسنة 1940م، أن المقومات التي يتكون منها المتجر منفصلة عن بعضها، وأن كلا منها منقول معنوي يمكن بيعه أو رهنه مستقلا أو مع غيره.
2- ويظهر أيضًا أن ثمة مقومات أخرى ليست أقل أهمية مما ذكر، ومنها العلامة التجارية والترخيص والبراءات والنماذج وغيرها مما يحميه القانون الخاص بذلك.
3- وأن المنقولات والسلع الموجودة في المحل ليست عنصرا مستقرا في المصنع والمتجر …. فهي تنتج أو تستحضر لتباع أو تستخدم، وقد لا توجد بالمتجر سلع ومع ذلك يباع كاملا، ومثل ذلك محال الوكالة بالعمولة أو السمسرة أو محال أداء الخدمات أو شركاتها. فالشركات التجارية متاجر كبيرة. حتى متاجر بيع أشياء بذاتها قد تباع وترهن دون الأشياء فالعقد يرد على المقومات المعنوية التي ترد فيه.
4- وأن التعاقد قد يرد على المقومات المذكورة في المادة وقد لا يرد عليها كاملة، أو يرد على بعضها وقد يستثنى منها بعضها.(5/2007)
- 9 –
ثانيا – المقومات الأخرى:
(أ) من الملاحظ أن التصرف في المتجر ينصب على ما هو طبيعي لاستقلاله، مثل ذلك أن بيع المطعم يشمل بيع الاسم التجاري والحق في الإجارة (من أجل صقعه) ، وأدوات المحل والطعام القائم، كما يشمل بيع المصنع الاسم التجاري وحق الإجارة والآلات والرخص والبراءات والنماذج.
(ب) أما حقوق المتجر لدى الغير أو ديونه فلا تدخل في التصرف وفق القانون المصري. والقوانين العالمية في ذلك ضربان: ضرب يدخلها كالقانون الفرنسي. وآخر لا يدخلها. والمرجع في ذلك كله إلى نصوص التعاقد.
(ج) وإذا اشتمل العقد على نص يتعلق بأشخاص العاملين، كالممثلين في المسرح أو الرؤساء الذين يشتهر من أجلهم المطعم، فهؤلاء تبقى لهم الخيرة في أن يعملوا أو لا يعملوا طبقا للعقد، فهذه حرية العامل، فإذا قبلوا التزموا.
(د) وإذا تم التصرف في مقوم من المقومات على استقلال كان التصرف شاملا لما لا يصلح هذا المقوم إلا به، فإذا بيعت السمعة التجارية شملت المتجر، وإذا بيع حق الإجارة شمل المتجر إذا ظهر أن سمعة المحل مرتبطة بمكان وجوده، كأن يكون على شاطئ يتميز به أو في جوار نابه الذكر.
ذلك أن الطابع المعنوي القائم على الاستغلال هو الذي يحكم في القانون التجاري والمتجر كبرى مؤسساته.(5/2008)
- 10 –
العلامة التجارية
1- وليس الصقع (لحق الإجارة أو العقار المخصص لها) ولا السمعة التجارية التي يشتهر المحل بها هي في الأغلب أهم المقومات، فالعلامة التجارية إذا خص بها التاجر بضاعته تزاحمهما وقد تزاحمهما لارتباطها بالمنتج ذاته مثلما يرتبط باسم المتجر بذات التاجر. ومن مكانه العلامة التجارية وأثرها في الأسواق عامة وخطرها على الناس كافة، مصريين وغير مصريين، إذا قلدت أو زروت أو استعملت علامة الغير بالغش، أصدرت مصر قانون حماية العلامات الصناعية، فنص القانون (57) لسنة 1939 م على أن لكل مصري أو غير مصري في مصر ولكل مصلحة حق المطالبة بما تقرره المعاهدات الدولية من حماية للملكية الصناعية … وقررت ذلك قبل أن تنضم للمعاهدات المشار إليها ببضعة عشر عاما.
2- والعلامة الصناعية شارة على المنتج عندما يضع، أما العلامة التجارية فشارة يطبعها التاجر إذ يبيع ذلك المنتج لتشهد لسلعته لدى الجمهور على مزاياها، ولتحمي السلع من أن يقلدها غيره أو يُزَوِّر علامتها أو يستعمل غيرها في محلها. والقوانين تحمي العلامتين إذا اجتمعتا لدى علامة التاجر. وقد تكون العلامة صورة عظيم من العظماء أو هلالا أو مئذنة أو رمزا أو رسما أو حرفا أو غير ذلك وإنما يمتنع وضع علامات الدولة أو الصليب الأحمر أو العلامات الموهمة.
3- ومن أهمية العلامة (الماركة) للمتجر نص القانون على أنه لا يجوز نقل ملكية العلامة أو رهنها إلا مع المحل التجاري أو مع مشروع الاستغلال الذي تستخدم لتمييز منتجاته.
ومن أهميتها كذلك في حياة التاجر أجاز نقل ملكية المتجر مع النص على الاحتفاظ بالعلامة للبائع فقد يعود إلى التجارة من بعد فيستعملها لنفسه.
ولمن شاء أن يستعمل ما شاء من علامات على تجارته ومن شروطها أن تكون ظاهرة على المنتجات وأن تكون وقت استعمالها طريفة تستلفت النظر، لا مبتذلة شائعة، أو مستعملة.(5/2009)
- 11 –
والقانون يوجب تسجيل العلامات في الداخل لتبدأ حمايتها بقانون العقوبات من تاريخ القيد ونشره مثلما صنع في قيد الأسماء.
وكذلك توجب اتفاقية باريس تسجيل العلامات في دولتها لتنعم العلامة بحماية قوانين سائر الدول المنضمة للاتفاقية وبهذا تصبح التجارة آمنة حيث توجد قوانين تسبغ عليها الأمان، ومع ذلك فالعلامة والاسم محميان بالقانون المدني العام من دون تسجيل بدعوى المنافسة غير المشروعة أو بها وبقانون العقوبات (1) .
ولا يحمي القانون الاسم أو العلامة إذا هجر التاجر اسمه التجاري أو تخلى عن علامته، فالأسماء والعلامات تسقط بالترك، وتكتسب بالاستعمال. وهما إذا كانا ملكا لأول من يستعملهما في الناس، فإن بقاء الملك يستوجب الحفاظ عليه وظهور ذلك. وإذا اختلف أصحاب اسمين وعلامتين تدخل القضاء بينهما بالتعويض أو التصحيح، فقد يأمر بحذف شيء أو إضافة بيان أو بالمصادرة إذا اقتضى الأمر ذلك.
ومما تقدم يتبين أن تقوم مقومات المتجر يتجارى مع نشاطه وأهمية كل منها في تحقيق غرض التاجر وأن أولوية كل منها لا تتبع ترتيبا محددا، وإنما يحدد ترتيبها أثرها في نجاحه، وقد تكون للعلامة الصدارة على الاسم أو السمعة في سوق دون أخرى أو دون دولة وقد تكون القدرة على اجتذاب العملاء هي الأسبق أو يكون الصقع هو الأهم. وللقضاء في ذلك سلطة تقدير الواقع في كل حالة.
- 12 –
ويجب لبيع المتجر في بعض الدول – كمصر – عقد رسمي أو عرفي مقرون بالتصديق على التوقيع كما يحتفظ البائع بامتيازه على مقومات المتجر المعنوية، وكما يقيد في السجلات ليحتفظ به قبل الغير. ولكن الرسمية أو التصديق ليسا شرط انعقاد فالعقد من دونهما صحيح يجوز إثباته طبقا للقواعد العامة، ويحدث آثاره كاملة.
وبالله التوفيق
الدكتور عبد الحليم محمود الجندي
والشيخ عبد العزيز محمد عيسى
__________
(1) د. محمد حسني عباس (جامعة عين شمس) : الملكية الصناعية والتجارية. ص 314 وما بعدها(5/2010)
الفقه الإسلامي والحقوق المعنوية
إعداد
الدكتور عبد السلام داود العبادي
ممثل المملكة الأردنية الهاشمية في المجمع
ونائب رئيس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اقتدى به إلى يوم الدين … أما بعد.
فإن الحقوق المالية المعنوية من القضايا المستجدة التي برزت بشكل واضح نتيجة تطور الحياة المدنية والاقتصادية والثقافية والعلمية … فكثرت الأمور المعنوية ذات القيمة المالية التي بات موضوع اختصاص أصحابها ومدى سلطاتهم عليها محل بحث ومناقشة … وقد انتهت كثير من القوانين الوضعية على اختلاف بينها إلى تقرير هذا الاختصاص وتحديد سلطان أصحابها عليها …. وقد أوجب ذلك ضرورات تشجيع النشاط الإنساني المبدع بكل صوره وحماية مكتسباته، ومنع صور التلاعب والتحايل والاستغلال لجهود الآخرين وأي إثراء غير مشروع على حسابهم.
وقد درس فقهاء الشريعة الإسلامية المحدثون هذا الموضوع، وبينوا استيعاب قواعد الفقه الإسلامي له، وأوضحوا حرص الشريعة على حماية هذه الحقوق وتنظيم أوضاعها بما يكفل تحقيق المصالح المشروعة وصيانة قواعد العدالة وحماية مسيرة التقدم الإنساني من كل مظاهر الاستغلال والتلاعب.
وأعرض فيما يلي للمقصود بالحقوق المعنوية، ثم أبين موقف القوانين الوضعية منها … وبعد ذلك أعرض لموقف الفقه الإسلامي منها مبينا القواعد الشرعية التي تحميها وتصونها وتنظم أمورها.(5/2011)
أولا: المقصود بالحقوق المعنوية:
يستعمل القانونيون اصطلاحات متعددة في وصف الاختصاصات التي تقوم للأشخاص على الأشياء المعنوية ذات القيمة المالية بحيث يخولهم ذلك سلطات معينة عليها …..وبعض الاصطلاحات شامل لكل أنواعها أو لكثير منها، وبعضها يطلق على نوع منها دون غيره، ومن هذه الاصطلاحات: الحقوق المعنوية، الحقوق الذهنية، الحقوق الأدبية، الحقوق الفكرية، حقوق الابتكار، الملكية الأدبية والفنية والصناعية، الاسم التجاري، حق الاختراع، حقوق التأليف.
وقد عرف القانونيون الحق المعنوي بأنه سلطة لشخص على شيء غير مادي هو ثمرة فكره أو خياله أو نشاطه كحق المؤلف في مؤلفاته العلمية وحق الفنان في مبتكراته الفنية وحق المخترع في مخترعاته وحق التاجر في الاسم التجاري والعلامة التجارية وثقة العملاء (1) .
والحق المعنوي نوع من أنواع الحق المالي، وهو الحق الذي يمكن تقويمه بالمال فهو يخول صاحبه قيمة مادية تقدر بالمال أو النقود والحق في نظر فقهاء الشريعة: اختصاص ثابت في الشرع يقتضي سلطة أو تكليفا لله على عباده أو لشخص على غيره (2) .
ويطلق فقهاء الشريعة لفظ الحقوق المالية على كل حق هو مال، أو المقصود منه المال، مثل حق الملك، وحق التملك وحق الانتفاع (3) . لذا فإن قواعد الفقه الإسلامي تغطي هذا النوع من الحقوق كما سنرى تفصيلا فيما بعد.
ويتجه الأستاذ مصطفى الزرقا في كتابه المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي إلى ترجيح تسمية هذا النوع من الحقوق بحقوق الابتكار، لأن اسم الحقوق الأدبية – أحد التسميات المشهورة لهذا النوع من الحقوق كما بين – ضيق لا يتلاءم مع كثير من أفراد هذا النوع كالاختصاص بالعلامات الفارقة التجارية والأدوات الصناعية المبتكرة، وعناوين المحال التجارية مما لا صلة له بالأدب والنتاج الفكري (أما اسم حق الابتكار فيشمل الحقوق الأدبية كحق المؤلف في استغلال كتابه، والصحفي في امتياز صحيفته، والفنان في أثره الفني من الفنون الجميلة كما يشمل الحقوق الصناعية والتجارية مما يسمونه اليوم بالملكية الصناعية كحق مخترع الآلة ومبتدع العلامة الفارقة التي نالت الثقة، ومبتكر العنوان التجاري) (4) .
__________
(1) الملكية في قوانين البلاد العربية، د. عبد النعم فرج الصدة: 1/9
(2) انظر: مباحث هذا التعريف وشرحه في: الملكية في الشريعة الإسلامية، د. عبد السلام عبادي: 1/93 وما بعدها
(3) انظر: الملكية في الشريعة الإسلامية، د. العبادي: 1/107-111
(4) نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي: ص 26(5/2012)
ثانيا – موقف القوانين الوضعية من هذه الحقوق:
اتفق القانونيون على اعتبار الحقوق المعنوية من الحقوق المالية التي يقسمونها إلى حقوق عينية وحقوق شخصية ولكنهم مختلفون بعد ذلك … هل تعتبر هذه الحقوق من الحقوق المالية العينية أم أنها حقوق مالية مستقلة بالإضافة إلى الحقوق العينية والشخصية، فذهب بعض القانونيين إلى أن الحقوق المالية تقسم إلى: حقوق عينية، وحقوق شخصية، وحقوق معنوية، فالحق المعنوي قسم للحق العيني والحق الشخصي. وكان ذلك نتيجة أن معنى الحق العيني عندهم عبارة عن سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين. وهذا الشيء المعين لا بد أن يكون شيئا ماديا متعينا بذاته في الوجود الخارجي، فتنصب سلطة صاحب الحق عليه مباشرة.
ولما ظهرت الحقوق المعنوية، نتيجة لتطور الحياة، وأقرتها القوانين العصرية اعتبرها هؤلاء القانونيون نوعا مستقلا من أنواع الحقوق المالية لما تتصف به من خصائص تميزها عن الحقوق العينية والشخصية نتجت من كون محلها غير مادي (1) .
وذهب قانونيون آخرون إلى أن الحق المعنوي لا يعتبر نوعا من أنواع الحق المالي بالإضافة إلى الحق العيني والحق الشخصي إنما هو حق من الحقوق العينية، وإن الشيء الذي تنصب عليه السلطة في الحق العيني أعم من أن يكون ماديا أو معنويا.
ثم إن هؤلاء اختلفوا فيما بينهم حول طبيعة هذا الحق المعنوي، بعد أن قرروا أنه عبارة عن حق عيني.
فمنهم من اعتبر الحق المعنوي حق ملكية أو نوعا خاصا من الملكية (2) ، لذلك فهم يطلقون على هذا الحق تسمية: الملكية الأدبية والفنية والصناعية.
ومنهم من اعتبره حقا عينيا أصليا مستقلا عن حق الملكية بمقوماته الخاصة (3) .
وقد احتج المانعون أن يكون الحق المعنوي حق ملكية، بأن حق الملكية ينصب على شيء ويخول صاحبه سلطة استعمال الشيء واستغلاله والتصرف فيه، والاستعمال لا يتصور بالنسبة للحق المعنوي، لأن الاستفادة منه لا تكون إلا باستغلاله والتصرف فيه، فلا يمكن أن يستفاد منه إذا قصر صاحبه استعماله على نفسه، فعنصر الاستعمال الذي هو أقوى عناصر الملكية غير موجود في هذا الحق، لذلك يسميه بعض القانونيين بأنه حق احتكار الاستغلال، وليس حق ملكية.
كما أن حق الملكية بطبيعته حق مؤبد، في حين أن هذا الحق بطبيعته حق مؤقت (4) .
وقد أجاب الآخرون عن هذه الحجج بأنها لا تمنع من أن يكون الحق المعنوي نوعا خاصا من الملكية، وذلك أن الحق المعنوي يتفق مع الملكية العادية في نواح، ويختلف عنها في أخرى، فهو عبارة عن سلطة تنصب على الشيء المعنوي مباشرة دون وساطة وتخول صاحبه حق الاستغلال والتصرف، في حين أنه، بحكم طبيعته، وهو كونه يقع على شيء غير مادي، لا يقبل الاستئثار، ولا يصح أن يكون مؤبدا (5) .
وقد كان القانون المدني المصري القديم الصادر سنة 1883م يتضمن في المادة (12) منه: أن الحكم فيما يتعلق بحقوق المؤلف في ملكية مؤلفاته وحقوق الصانع في ملكية مصنوعاته يكون حسب القانون الخاص بذلك …. مما يدل على أن القانون القديم يذهب إلى اعتبار هذه الحقوق ملكية، ولكن لم يصدر القانون الخاص الموعود حتى صدور القانون الجديد سنة 1948م، الذي أشار في المادة (86) منه إلى أن تنظيم هذه الحقوق متروك لقانون خاص يصدر به. ولكنه لم يسم هذه الحقوق بالملكية، كما فعل القانون السابق، بل سماها الحقوق التي ترد على شيء غير مادي مما يدل على أن القانون المصري لم يرد الخوض في الخلاف حول طبيعة هذه الحقوق، وحسمه بشكل ما (6) .
يقول الأستاذ عطا الله إسماعيل: (ويتضح مما ذكر عن مختلف النظريات في شأن هذا الحق أن جوهره ما زال موضع التقصي والبحث ….) ، ثم يقول: (وحسنا فعل المشرع المصري إذ لم يتقيد بنظرية بعينها فيما وضع من حلول لمختلف الفروض والمسائل التي عرض لها في تقنينه لحقوق التأليف) (7) .
__________
(1) انظر: نظرية الحق، د. محمد سامي مذكور: ص 31-32
(2) محاضرات في النظرية العامة للحق، د. إسماعيل غانم: ص 74، وحق الملكية، د. الصدة ص 281 - 282
(3) الوسيط، للسنهوري: 8/280 – 281، وانظر: هناك عرضا تفصيليا لهذه الآراء، ومن قال بها من الشراح المصريين والأجانب.
(4) محاضرات في النظرية العامة للحق، د. إسماعيل غانم: ص 82، فهذه الحقوق وإن ظلت لصحابها طول حياته، لكنها لا تبقى لورثته إلا لوقت محدد يتفاوت تحديده في القوانين المختلفة، وهي في القانون المصري خمسون سنة من وفاة المؤلف، بعد مضيها يصير الإنتاج الذهني نهبا لكل من يريد الاستفادة منه وكما يريد. انظر نظرية الحق، د. الشرقاوي: ص 58
(5) الملكية في القوانين العربية، د. الصدة: 1/9، وحق الملكية، د. الصدة: ص 280-282
(6) انظر نظرية الحق، د. الشرقاوي: ص 59-61
(7) القانون والعلوم السياسية، الحلقة الدراسية الأولى: ص 72(5/2013)
ثالثا: موقف الفقه الإسلامي من الحقوق المعنوية:
أما الأمر في الفقه الإسلامي فيختلف، ذلك أن دائرة الملك في الشريعة أوسع منها في القانون، فلا تشترط الشريعة أن يكون محل الملك شيئا ماديا معينا بذاته في الوجود الخارجي، إنما هو كل ما يدخل في معنى المال من أعيان ومنافع على الراجح من أقوال الفقهاء، والذي معياره أن يكون له قيمة بين الناس، ويباح الانتفاع به شرعا وهو ما تقرر وفق اصطلاح جمهور الفقهاء كما سنرى.
وعلى ذلك … فمحل الحق المعنوي والذي سماه القانون بالشيء غير المادي، داخل في مسمى المال في الشريعة، ذلك أن له قيمة بين الناس، ويباح الانتفاع به شرعا … بحسب طبيعته، فإذا قام الاختصاص به تكون حقيقة الملك قد وجدت (1) .
كما أن الاستئثار المقصود في الملك في الفقه الإسلامي، ليس معناه احتواء الشيء من قبل المالك، إنما معناه أن يختص به دون غيره … فلا يعترضه في التصرف فيه أحد. والتصرف يكون في الأِشياء حسب طبيعتها، لذلك يختلف مدى التصرف في أنواع الملك في الشريعة من نوع إلى أخر.
والشريعة، أيضا، لا تشترط التأبيد لتحقق معنى الملك … بل إن طبيعة ملك المنفعة مثلا، تقتضي أن يكون مؤقتا … كما في ملك منفعة العين المستأجرة، وملك منفعة العين الموصى بمنفعتها دون رقبتها (2) .
فإذا كان لا بد أن يتأقت الحق المعنوي بمدة معينة بحجة أن صاحب الحق المعنوي قد استفاد من جهد غيره، فهو ليس جهدا خالصا له، كما أن جهده ضروري لتقدم البشرية ورقيها، ومقتضى ذلك ألا يكون حقه حقا مؤبدا (3) …. فإن هذا التأقيت لا يخرجه عن دائرة الملك في الشريعة.
ويبدو أن هذه الحقوق لم تقم في المجتمع الإسلامي رغم نشاط حركة التأليف – مثلا – فيه من القديم، لأن الإسلام يدعو إلى كل ما فيه نفع للأمة، بل إن ما لا تستغني عنه الأمة يعتبر من فروض الكفاية التي تأثم الأمة جميعا بتركها، كما أن العلم، وخاصة العلم الشرعي، لا يحل كتمه ….فالتأليف مثلا كان عبارة عن شعور بالواجب ورغبة في الثواب والأجر، بل كان المؤلف يحرص على نشره بكافة الطرق، لأن في ذلك مزيدا من الأجر والثواب. وعليه لم تبرز فكرة استحقاق الشخص لما ينتجه من أشياء غير مادية. وإن كانوا حريصين على نسبة الآراء إلى أصحابها.
ولكن إذا تصرف الناس عن إنتاج ما هو نافع من الأشياء غير المادية، وأخذ بعض الناس يستغلون ما ينتجه غيرهم من هذه الأمور …. ما يؤدي إلى الإضرار بهم، ومن ثم امتناعهم عن إنتاج ونشر مثل هذه الأمور، فإنه يمكن أن توضع القواعد التي تكفل تنظيم هذا الأمر بالشكل الذي تتحقق به مصلحة الأمة.
ولما كانت الأشياء غير المادية تدخل في مسمى المال في الشريعة، لأن لها قيمة بين الناس ومباح الانتفاع بها شرعا، وقد قام الاختصاص بها، فعلى هذا الأساس يمكن أن تنظم باعتبارها نوعا من أنواع الملك.
وقد اهتم بعض القانونيين بالحقوق المعنوية في الشريعة، وحاولوا تلمس أسس حمايتها وتنظيمها فيها …. يقول الدكتور محمد صادق فهمي: " ونعتقد أن الروح التي تهيمن على التشريع الإسلامي تأبى إلا أن تعترف بحقوق المؤلفين، لأن التشريع يأبى على الشخص أن يضر بغيره، كما أن اغتيال مؤلف إن هو إلا سلوك إجرامي تأباه الشريعة الإسلامية، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) ما يكفي لحماية حقوق المؤلفين (4) .
وواضح أن فيما عرضناه بيانا شافيا للأسس التي يمكن أن نعتمد عليها بسهولة لحماية هذه الحقوق وتنظيمها.
ولنزيد هذا الأمر إيضاحا لا بد من التعرف بإيجاز بحقيقة كل من المال والملك في الفقه الإسلامي.
__________
(1) وهذا يدل على أن مسمى المال في الشريعة الإسلامية يسع الأشياء غير المادية التي ينتفع بها انتفاعا مشروعا، ذلك أن محل الملك في الحق المعنوي عند التدقيق ليس المنفعة، إنما هو شيء غير مادي تحصل منه منافع لصاحبه
(2) إلا أنه قد يكون لملك المنفعة، في بعض أنواع الملك، شكل التأبيد، كما يظهر في حقوق الإرتفاق، فإن المنفعة تملك لمالك العقار المرتفق ما دام مالكا له
(3) انظر الوسيط: 8/279-280
(4) القانون والعلوم السياسية، الحلقة الدراسية الأولى: ص 12(5/2014)
1- حقيقة المال في الفقه الإسلامي:
الذي يؤخذ من المعاجم والقواميس اللغوية، أن المال في اللغة العربية يطلق على كل ما تملكه الإنسان وحازه بالفعل، من كل شيء، سواء أكان عينا أم منفعة … أما ما لم يتملكه الإنسان ولم يدخل في حيازته بالفعل، فلا يعد مالا في اللغة كالطير في الهواء والسمك في الماء، والأشجار في الغابات.
ففي القاموس المحيط: " المال ما ملكته من كل شيء " (1) وفي لسان العرب: " المال – معروف – ما ملكته من جميع الأشياء " (2) .
والمال في الإصطلاح لم يرد له تعريف عن الشارع يحدد معناه تحديدا دقيقا، بل ترك لما يتعارف الناس عليه منه.. فالعربي الذي نزل القرآن بلغته حينما يسمع لفظة المال يفهم المراد منها، كما يفهم ما يراد بلفظ السماء والأرض (3) ….. ولذلك نجد بعض أصحاب المعاجم اللغوية يقولون: " المال معروف " (4) ، فالكتاب الكريم، والسنة الشريفة جاءت فيهما كلمة المال مرات كثيرة (5) .، وترك للناس فهمها بما يعرفون ويألفون … ولم يحدد الشارع له حقيقة اصطلاحية بحيث إذا أطلق تبادرت إلى الأذهان، كما هو الحال في الصلاة والصيام … فإذا قرأ العربي أو سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) ، فهم المراد من المال بالطريقة التي يفهم بها كلمة العرض، وكلمة النفس، من غير رجوع إلى اصطلاح خاص (6) .
وعندما قامت المذاهب الفقهية، واستعمل لفظ المال مرادا به معان اصطلاحية، انشغل الفقهاء بوضع تعاريف له … وقد اختلفت تعريفاتهم على ضوء اختلافهم في المعاني الاصطلاحية المرادة منه، وقد قام بهذا الصدد اصطلاحان رئيسان هما: اصطلاح الحنفية، واصطلاح الجمهور.
__________
(1) القاموس المحيط:4/52
(2) لسان العرب: 11/632
(3) يقول ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر: 4/373، المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق عند العرب على الإبل، لأنها كانت أكثر أموالهم
(4) انظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: 2/288
(5) ورد ذكر المال في القرآن الكريم في أكثر من تسعين أية، وفي أحاديث نبوية أكثر من أن تحصى
(6) انظر: الملكية ونظرية العقد، أبو زهرة: ص 44، والأموال، محمد يوسف موسى: ص 161والحديث أخرجه مسلم وأحمد وابن ماجة وغيرهم ومختصر صحيح مسلم، المنذزي 2/233 سنن ابن ماجة 2/1298هـ والفتح الكبير 3/316(5/2015)
(أ) اصطلاح الحنفية:
عرف فقهاء المذهب الحنفي المال بتعريفات كثيرة، مختلفة في ألفاظها، متقاربة في مفهومها ومعناها، والاختلاف بينها ليس ناشئا عن اختلاف في فهم حقيقة المال في المذهب الحنفي، بل هو اختلاف في العبارات، ومدى دقتها في بيان اصطلاح الحنفية في معنى المال (1) .
وفقهاء الحنفية يوجبون لتحقيق مالية الشيء اجتماع أمرين:
أولهما: أن يكون شيئا ماديا يمكن إحرازه وحيازته، فيخرجون عن معنى المالية كل ما لا يتحقق فيه هذا الشرط كالمنافع والديون والحقوق المحضة مثل حق التعلي، وحق الأخذ بالشفعة، وحق الشرب والمسيل (2) ، كما يخرجون منه أمثال حرارة الشمس وضوء القمر، وكل الأمور المعنوية كالشرف والصحة.
ومن هنا يظهر أن فقهاء الحنفية لا يشترطون أن يكون الشيء مملوكا بالفعل ليعتبر مالا، كما هو مقرر في اللغة، إنما يكتفون بإمكان تملكه، فالصيد في الفلاة، وكذلك الطير في السماء يعتبر عندهم مالا، لإمكان إحرازه وتملكه.
ثانيهما: أن يكون الشيء منتفعا به انتفاعا معتادا، فلحم الميتة والطعام الفاسد ليسا بمال لأنهما لا ينتفع بهما أصلا، وحبة القمح وقطرة الماء ليستا بمال، لأنهما لا ينتفع بهما انتفاعا معتادا …. فهذه الأمور لا تعد مالا، وإن أمكن حيازتها، وذلك لعدم تحقق العنصر الثاني من عناصر المالية.
والمراد بالانتفاع، الانتفاع المشروع في حال السعة والاختيار دون حال الضرورة، فجواز الانتفاع بلحم الميتة في حال الضرورة لا يجعل منه مالا، فيقتصر على جواز الانتفاع ولا حاجة للقول بالمالية، لأن الضرورة تقدر بقدرها.
وليس المقصود بالانتفاع هنا، انتفاع الناس كافة، بل يكفي فيه انتفاع بعضهم فلا تزول مالية الشيء إلا إذا ترك الناس كلهم تموله، لم تكن له منفعة أصلا، أما إذا ترك بعض الناس تموله وبقي منتفعا به عند بعضهم، فلا تزول ماليته، كالملابس القديمة التي يستعملها بعض الناس دون بعضهم الآخر (3) .
وواضح أن هذين العنصرين قد نص عليهما بوضوح في تعريف من عرف المال من فقهاء الحنفية، بأنه: ما يمكن حيازته، وإحرازه، والانتفاع به انتفاعا معتادا (4) .
وقد عرف بعض الفقهاء المال باصطلاح الحنفية بأنه: كل عين ذات قيمة مادية بين الناس، فصاحبه نظر فيه إلى أن اعتياد تمول عين، وصيانتها، والانتفاع بها يستلزم القيمة إذ لا يعتاد الناس هذا في الشيء …. بحيث يحمى تارة ويبذل أخرى إلا لمنفعة مادية أو معنوية يقدرونها فيه، فتتجه إلية الرغبات. والرغبات يبذل في سبيل تحقيقها والحصول عليها أعواض مادية … لذلك استغنى عن النص في التعريف على الانتفاع المعتاد، ووضع بدله أن تكون العين ذات قيمة مادية بين الناس، مشيرا إلى أن هذه القيمة هي القيمة بالمعنى الاقتصادي العام، والتي خرج بها ما لا قيمة له من الأعيان بين الناس إما لحرمته على جميع الناس كالميتة، أو لتفاهته كحبة القمح (5) .
__________
(1) انظر في استعراض هذه التعاريف ومناقشتها، الملكية في الشريعة الإسلامية، د. عبد السلام العبادي: 1/172، وما بعدها
(2) انظر التفصيل: الملكية، د. العبادي 1/186-189، وفي حاشية ابن عابدين: 5/52، حق التعلي ليس بمال، لأن المال عين يمكن إحرازها وإمساكها
(3) المدخل – عيسوي: ص 304، والمدخل – شلبي: ص 286
(4) ذكر الشيخ الخفيف إنه إذا وسعنا معنى الحيازة والإحراز، فجعلناه أعم من أن يكون مباشرة أو بالواسطة، كان التعريف شاملا للمنافع، لأنها ممكنة الحيازة بإحراز أصلها، وكذلك ينتفع بها، أحكام المعاملات: ص 27
(5) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي، الأستاذ مصطفى الزرقاء: ص 135-136(5/2016)
(ب) اصطلاح الجمهور:
أصطلح جمهور الفقهاء على معنى معين للمال هو أوسع من اصطلاح الحنفية (1) . والناظر في تعاريف الجمهور ونصوصهم الفقهية، بهذا الصدد، يستطيع أن يستخلص أن أساس المالية في نظرهم هو:
1- أن يكون الشيء له قيمة بين الناس.
2- أن تكون هذه القيمة ناتجة من أنه ينتفع به انتفاعا مشروعا، فلا قيمة في نظر الشريعة لأية منفعة اعتبرتها غير مشروعة.
وعلى هذا الأساس يمكننا تعريف المال في اصطلاح الجمهور بأنه: " ما كان له قيمة مادية بين الناس، وجاز شرعا الانتفاع به في حال السعة والاختيار ".
وفيما يلي شرح لألفاظ هذا التعريف:
ما: جنس يشمل أي شيء سواء أكان عينا أم منفعة، وسواء أكان شيئا ماديا أم معنويا، له قيمة مادية بين الناس: قيد لإخراج الأعيان والمنافع التي لا قيمة لها بين الناس لتفاهتها كحبة قمح أو قطرة ماء، وكمنفعة شم تفاحة ….
وجاز الانتفاع به شرعا: قيد لإخراج الأعيان والمنافع التي لها قيمة بين الناس، ولكن الشريعة أهدرت قيمتها، ومنعت الانتفاع بها، كالخمر والخنزير ولحم الميتة، ومنفعة آلات اللهو المحرمة.
في حال السعة والاختيار: قيد جيء به لبيان أن المراد بالانتفاع الانتفاع المشروع في حال السعة والاختيار، دون حال الضرورة فجواز الانتفاع بلحم الميتة، أو الخمر أو غيرها من الأعيان المحرمة، لا يجعلها مالا في نظر الشريعة، فيقتصر الأمر على جواز الانتفاع، فلا تصبح هذه الأعيان أموالا، لأن الضرورة تقدر بقدرها.
والواقع أن مسلك الجمهور أولى بالأخذ والاعتبار …. ذلك أن عدم اعتبار المنافع أموالا محل نقد شديد، وهو ما بيناه تفصيلا في كتاب الملكية … كما أن هذا المسلك في بنائه مالية الشيء على كونه منتفعا به انتفاعا مشروعا، وله قيمة بين الناس يسمح بتوسيع دائرة الأموال في هذا العنصر لتشمل أشياء لم تكن معروفة فيما سبق ما دام قد تحقق فيها أساس المالية، وذلك مثل الأشياء المعنوية فيما يعرف بالحقوق الذهنية وحقوق الابتكار، ويمكن أن يقال مثل هذا الكلام في الدم البشري الذي يؤخذ من الإنسان ليحتفظ به – في بنوك الدم – من أجل الانتفاع به انتفاعا مشروعا في العمليات الجراحية، ويكون له قيمة بين الناس. وكذلك الجراثيم التي يتم تصنيعها في معامل الأدوية إلى أمصال لمقاومة الأمراض … وغيرها.
__________
(1) انظر: في تعاريف مختارة للجمهور، والملكية في الشريعة الإسلامية، د. عبد السلام العبادي ص 176 وما بعدها(5/2017)
2- حقيقة الملك في الفقه الإسلامي:
ذكرت قواميس اللغة أن معنى الملك: احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به والتصرف بانفراد (1) .
أما في الاصطلاح فقد تعددت تعاريف العلماء له، أذكر منها:
1- تعريف صدر الشريعة عبيد الله بن سعود بأنه: (اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقا لتصرفه فيه وحاجزا عن تصرف الغير) (2) .
2- تعريف القرافي بأنه: (إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بتلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض منها من حيث هي كذلك) (3) .
3- تعريف القاضي حسين بأنه: (اختصاص يقتضي إطلاق الانتفاع والتصرف) (4) .
4- تعريف ابن تيمية بأنه: (القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة) (5) .
وقد كنت قدمت دراسة مستقضية عن حقيقة الملك في الشريعة الإسلامية استعرضت فيها هذه التعاريف وغيرها وناقشتها، وانتهيت إلى أن تعريف الملك حتى يكون جامعا مانعا لا بد أن تبرز فيها الأمور التالية:
1- أن الملك اختصاص أو علاقة يختص بها الإنسان بشيء.
2- أن موضوع هذا الاختصاص القدرة على الانتفاع والتصرف بهذا الشيء.
3- أن هذا الانتفاع والتصرف قد يمنع منهما كما في المحجورين للصغر أو الجنون.
4- أن هذا الانتفاع والتصرف قد يتم أصالة أو وكالة، ويهمنا هنا ما يتم أصالة.
5- وكل هذا مقررة أحكامه في الشرع جملة وتفصيلا.
وعلى ذلك فقد عرفت الملك بأنه: (اختصاص إنسان بشيء يخوله شرعا الانتفاع والتصرف فيه وحدة ابتداء إلا لمانع) (6) .
__________
(1) القاموس المحيط: 3/320-321، والمصباح المنير: 2/279
(2) شرح الوقاية في مسائل الهداية: 2/196
(3) الفروق: 3/216
(4) طريقة الخلاف، القاضي حسين مخطوط: ص 134
(5) القواعد النورانية الفقهية، ابن تيمية: ص 218
(6) انظر: الملكية في الشريعة الإسلامية، العبادي: 1/128- 152(5/2018)
الخلاصة
ويعد هذا البيان الموجز لحقيقة كل من المال والملك في الفقه الإسلامي يظهر لنا جليا انطباق حقيقة كل منهما على هذا النوع من الحقوق. المال وفق ما استقر من اصطلاح لجمهور الفقهاء، والملك وفق ما اتفق عليه الفقهاء … وإن هذا التخريج الفقهي مضطرد لا إشكال عليه ولا مانع منه …. بل إن قواعد الشريعة ومبادئها العامة تؤكد هذا وتؤيده … ذلك أن محور هذه الحقوق أمران:
الأول: الحق في الاحتفاظ بنسبة محل هذا الحق لصاحبه … وهو جانب معنوي بحت ….فإن الأمانة والصدق يقتضيان نسبة كل لصاحبه، والشريعة تبني على تقرير هذه النسبة أشياء كثيرة منها الحساب والأجر والثواب، والتحري والدقة والتثبت وبخاصة في المجالات العلمية بخصوص تفسير القرآن الكريم ونقل الحديث النبوي وشرحه وفي الشهادة وإثبات الحقوق وغيرها.
الثاني: الحق في الاختصاص بالمنفعة المالية التي تعود على صاحبه من استغلاله أو نشره ضمن ما هو مقرر شرعا وقانونا.
والشريعة وإن كانت تدعو إلى تعميم المنفعة ونشر ما فيه مصالح الناس وخيرهم لكن ذلك في نظرها لا يبرر الاعتداء على حقوقهم فيما هو نافع ومفيد … بل إن تعميم المنفعة بما يبتكره الأفراد له قواعده وأصوله ومن أهم هذه القواعد التي تحقق المصلحة وتمنع الضرر الاعتراف بهذه الحقوق وتنظيم نشرها والاستفادة منها بأحكام تنسجم مع طبيعتها وظروف التعامل معها، وقد استقرت الأعراف الإنسانية في كثير من الدول على ذلك، والمالية يقررها العرف، ما دام الأمر غير ممنوع في الشرع ... وإن تطور الحياة الإنسانية يملى بذلك حماية لهذا التصور ودفعا لمزيد من العطاء والبذل.
وقد يقال إن من أبرز الحقوق المعنوية حقوق التأليف، وقد وجد التأليف في وقت مبكر في التاريخ الإسلامي، فلمإذا لم يقل فقهاؤنا السابقون بمالية هذه الحقوق وجواز بيعها؟.والجواب على هذا يعود بالإضافة لما سبقت الإشارة إليه إلى أن جهود النساخ للكتب قبل اختراع الطباعة كان يقضي على جهد المؤلفين وبخاصة مع حرص المؤلفين على نشر العلم وكسب الأجر.
وهكذا يتبين لنا أن الشريعة الإسلامية تعترف بالحقوق المعنوية وتدعو إلى تنظيم كل ما يتعلق بها وبخاصة في مجال استغلالها والتصرف بأحكام تفصيلية تحقق المصالح المشروعة لأصحابها وللمجتمع، وهو ما قد يختلف من حق إلى آخر ومما يترك للدراسات الخاصة بكل حق على حدة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور عبد السلام داود العبادي(5/2019)
حول الحقوق المعنوية وإمكان بيعها
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
نجد من الضروري قبل البت في هذا الموضوع أن نتحدث – بشيء من الإسهاب – حول الحق في الإٍسلام لأن ذلك يلقي أضواء نافعة على الموقف في مسألتنا (بيع الحقوق المعنوية) .
الحق في اللغة هو الثبوت ولذا يطلق على الباري جل وعلا، فهو تعالى الحق المطلق،
ويطلق على الخبر المطابق للواقع.
والكون كله يقوم بالحق أي بمقتضى الرحمة الإلهية، والحاجة الواقعية له. وعلى غرار هذا المعنى الواقعي انتزع مفهوم اعتباري وثبوت اعتباري وذلك لتنظيم العلاقات الاجتماعية ويمكن القول بأن الحق يجب أن يمتلك بعدين:
(أ) النشوء من حالة واقعية (تركيب تكويني، مصلحة واقعية) .
(ب) اعتبار شرعي أو عقلاني.
وهنا بحث مفصل عن مناشيء الحق الواقعية يرجعها إلى الفطرة من جهة والمصالح الاجتماعية الواقعية للإنسان وعن معايير تشخيص كون الحق واقعيا وإنسانيا واجتماعيا، وعن أصول الحق الإنسانية لا داعي للتعرض لها هنا.(5/2020)
أما مناشئ الحق الفقهية فيمكننا أن نقرر باختصار، أن المناشيء التي تقررها الشريعة للحق متعددة وأهمها:
1- العقد كالبيع.
2- الإرادة المنفردة كالوصية إن لم نقل بلزوم القبول فيها.
3- العمل غير الشرعي كأنماط الجنايات.
4- الشريعة مباشرة كحقوق النفقة والقسمة والتحجير وأمثالها.
5- القانون الصادر من قبل الحاكم الشرعي وفق المصلحة العامة.
6- العرف.
ولكن يتوضح المقصود نقول إن هذا المناشيء وغيرها (كالإثراء بدون سبب مثلا حيث يثبت حق لمن عمر بيتا آيلا للسقوط على أصحابه لا بقصد التبرع – لو قلنا بثبوت الحق بذلك) ، تصدر من الشريعة نفسها فهي تارة تتدخل مباشرة لتقرير الحق، وأخرى تجعل الحق متوقفا على منشأ معين، ولكن الأمر الذي يجب التركيز عليه هو الحق العرفي.
فلو تعارف الناس على حق ما فهل يمكن تصحيحه كحق شرعي مقرر عبر عمومات شرعية.
ولن نبحث الآن في الموضوع وإنما نتركه لبحث ما هو الأصل عند الاختلاف في الحق ولكننا نشير إلى أن الحقوق العرفية على نوعين:
الأول: ما يمتد بشكل طبيعي إلى حياة المعصوم عليه السلام، ولا نجده ينهى عنه من جهة فيكون مقررا من قبله. وتشمله من جهة أخرى عمومات (أوفوا بالعقود) أو (المؤمنون عند شروطهم) ، لو قلنا بشمولها للمرتكزات العرفية بين الناس ولم نقصرها على الشروط ضمن العقد، و (أحل الله البيع) ، وأمثال ذلك، فهذا لا كلام فيه.
الثاني: ما تعورف عليه في العصور المتأخرة، وهو الذي يجب التركيز عليه إذ لا معنى للاستدلال بالتقرير عليه ويبقى البحث عن شمول العمومات له، وهو ما سيأتي إن شاء الله تعالى.(5/2021)
الحكم والحق:
الحكم هو الجعل التكليفي أو الوضعي ويتعلق بفعل الإنسان منعا أو رخصة أو ترتيب أثر وهو لا يسقط بالإسقاط ولا معنى لنقله، فأمره بيد الشارع، نعم يستطيع المكلف أن يخرج عن موضوع الحكم فيسقط الحكم حينئذ بهذا الخروج بالإسقاط كما هو واضح.
أما الحق فيطلق تارة في قبال الملك وأخرى بما يرادفه وهو بمعنييه سلطنة مجعولة للإنسان من حيث هو على غيره ولو بالاعتبار من مال أو شخص أوهما معا.
واعتبر أحيانا مرتبة ضعيفة من الملكية.
وله طرفان. ذو السلطنة والمسلط عليه، وقد يكون مستقلا بنفسه كحق التحجير، وقد يتقوم بغيره كحق المجني عليه على الجاني، وحق القصاص.
وقد يتحد ذو السلطنة والمسلط عليه كملكية النفس (والفرق اعتباري) ، في قوله تعالى حكاية عن موسى: {إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي}
الحق والملكية والسلطنة:
اختلفت المواقف حول العلاقة بين هذه المصطلحات فنقل عن بعض العلماء أنه كان يقول بوحدتها، وعن عدة من المحققين أن الحق مرتبة ضعيفة من الملكية وله ما هية منفصلة عنها.
وذكر السيد الطباطبائي في تعليقته على كتاب (المكاسب) ، للشيخ العلامة الأنصاري أن الحق نوع من السلطنة والملكية.
وذكر المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني، أن الحق يختلف باختلاف الموارد ولذا تختلف آثاره فحق الولاية والوصاية والتولية المعتبر فيه، هو نفس الولاية والوصاية وإضافة الحق إليها إضافة بيانية. وحق التحجير عبارة عن كون صاحبه أولى بالأرض وحق القصاص والشفعة والخيار عبارة عن السلطنة.
وركز الإمام الخميني على كون الحق واحدا في الجميع مستشهدا بالارتكاز العرفي واعتبر الحق غير الملك والسلطنة، ذلك أن الحق قد يصدق في مورد لا تصدق فيه السلطنة والملك كحق السبق إلى الوقف، وحق التحجير، ولو انتقل حق التحجير بالإرث إلى طفل فإنه لن تكون هناك ملكية ولا سلطنة، كما أن السلطنة قد تعتبر وليس هناك حق أو ملك كالسلطنة على النفس.
ويفرق المرحوم آية الله الصدر بينها أيضا.
والظاهر أن الملكية تعني الحق المطلق للسلطنة إلا في موارد التحديد الشرعي فكأنها سلطنة نشأت مطلقة.
أما الحق فبطبيعته نشأ محدودا وهذا ما يفسر قول المحقق الأصفهاني الأنف.
ثم أنه لوحظت في الحق جهتان (من له ومن عليه) في الغالب، وليست الملكية كذلك ومن هنا ندرك أن نزاعهم في الأرض المحياة في محله. حيث دار النزاع عما تؤدي إليه أدلة الإحياء وهل هو الملكية أو الحق الخاص؟
فمن قال بأنه حق ذكر أن الأرض تبقى على ملكية الإمام وإن اكتسب الفرد فيها حقا يستطيع معه استثمارها ومنع غيره منها ما دام قائما بها، ولكن هذا لا يمنع الإمام من فرض الطسق عليه، وهو رأي الشيخ الطوسي والسيد بحر العلوم، وتؤيده نصوص منها قول الإمام (عليه السلام) : " من أحيا أرضا، من المؤمنين فهي له وعليه طسقها ".
ويميل السيد الصدر لهذا الرأي لأن التعارض المستحكم بين الطائفتين من النصوص الدالة على ذلك يحل بالرجوع إلى كتاب الله حيث جعل طريق نقل الملكية (التجارة) . ولم يذكر الإحياء فلا مناص من جعله مؤديا للاختصاص فقط والتفصيل في الأمر يذكر في محله.(5/2022)
المصاديق المشتبهة بين الحق والحكم:
هناك مصاديق مشتبهة بين كونها حقوقها أو أحكاما.
من قبيل حق الرجوع في المطلقة الرجعية، إذ قال المحقق القمي ومن تأخر عنه إنه حق لا يجوز الصلح عليه، وقال آخرون إنه حكم باعتبار بقاء العلقة الزوجية بضعف وتزلزل، فهو من قبيل جواز الرجوع في الأحكام الجائزة، أما إذا لم نقل ببقاء العلقة الزوجية كان حقا وهو خلاف ظاهر قوله تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}
وهناك موارد مختلفة أخرى كثيرة من قبيل:
الاختلاف في الخيارات وهل هي حقوق. والأولوية بالسبق إلى الأوقاف فهل هي حكم بتحريم مزاحمة السابقين، أم هي حق، وكذلك جواز الصلح على حق إقامة الدعوى، وحق اليمين، وحق الغيبة وغيرها، وكذلك في النفقات يوجد خلاف بل وتمييز بين نفقة الزوجة لإطلاق الحق عليها في النصوص ونفقة الأقارب.(5/2023)
الاستعمالات العامة والفرق بين الحق والحكم:
إن كلا من الحق والحكم قد يستعمل استعمالات فيشمل أحدهما الآخر، فالحق يعني الثبوت وربما أريد به ثبوت الاعتبار فيشمل الحكم، وربما عني بالحكم الحكم الوضعي وآثاره، فشمل الحق.
أما لو جعلنا أحدهما في قبال الآخر فإننا نلاحظ:
أولا: أن مفهوم الحق من المفاهيم ذات الإضافة فهو لأحد على أحد ويضاف إلى الشيء.
أما مفهوم الحكم فهو مفهوم نفسي لا نسبة فيه إلا للفاعل.
ثانيا: أنه أخذ في الحق وجود سلطنة لصاحبه على ما عداه بعكس الحكم.
ثالثا: أن الحكم لا يقبل الإسقاط والنقل والانتقال بعكس الحق في كثير من مصاديقه.
ثبوت الحق دون الملكية بالمعنى المطلق:
كثيرا ما يثبت الحق دون الملكية بالمعنىالمطلق:
فهناك حق الاختصاص في الموارد التي لا مالية فها شرعا أو عرفا كاقتناء الأعيان النجسة، فيوجد فيها حق إما للحيازة أو لامتلاك الأصل، كما لو مات الحيوان المملوك، وربما كان ثبوت هذا الحق باعتبار ما هناك من منافع متبقية.
وهناك حق التحجير وهو عمل مُقَدميّ لتشخيص المساحة التي يراد إحياؤها، ويتم بالنسبة للأرض بتحجيرها وللبئر بحفرها (قبل الوصول للمعدن) ، والقناة قبل وصلها بالنهر، ويعتبر في هذا الحق ما يمكنه إحياؤه إذ جاء في تذكره الفقهاء: 2/420، (ولا ينبغي أن يزيد المحجر على قدر كفايته ويضيق على الناس، ولا أن يحجر ما يمكنه القيام بعمارته، فإن فعل ألزمه الحاكم بالعمارة، والتخلي عن الزيادة، فيسلمها إلى من يقوم بعمارتها) ، وهذا الحق ينتقل بالإرث واختلف في إمكان نقله بالبيع.(5/2024)
الإسقاط والنقل والانتقال:
تختلف الحقوق – بما هي – من حيث القبول للإسقاط والنقل والانتقال.
فمنها: ما لا يجوز فيها أي من ذلك كحق الولاية وحق الأبوة وحق استمتاع الزوج، وحق الجار وحق المؤمن.
ومنها: ما يجوز فيه كل ذلك – على المشهور – كحق الخيار والقصاص والرهانة والتحجير والشرط المطلق.
ومنها: ما يسقط بالإسقاط ولا ينتقل كحق الغيبة، والإيذاء بالضرب والشتم – إن كان من الحقوق – لأنه يجب يه الاستحلال فقط.
ومنها: ما يسقط بالإسقاط وينتقل بالإرث – على قول – ولا ينقل بالنوافل، كحق الشفعة للشريك.
ومنها: ما ينقل مجانا لا بعوض كحق القسم بين الزوجات، لو قلنا بعدم إمكان مقابلته بعوض.
وهناك اختلاف شديد حول كون بعضها حقوقا أصلا وحول آثارها من الإسقاط والنقل والانتقال.
منشأ الاختلاف:
ذكر أن منشأ الاختلاف يتلخص في كون الموجب للحق علة تامة، وحينئذ لا تنفك عن المعلول بسقوط أو نقل كولاية الأب أو يكون كالمقتضي فيمكن فيه التخلف.
والواقع أن الأمر راجع لكيفية الاستفادة من النصوص الشرعية التي تقرر الحق، ونوع الارتكاز العرفي له إن كان عرفيا ممضي من قبل الشارع.(5/2025)
ما هو الأصل في البين:
ذكر الإمام الخميني والسيد بحر العلوم في (بلغة الفقيه) ، أنه لا أصل معين في البين ولذلك يجب الرجوع إلى الأصول العملية عند التردد بين الحقية والحكمية.
ومقتضى الأصول العملية نفي الآثار الشرعية لانتقال الملكية وذلك لأنها مبتنية على التيقن بكونها حقوقا.
أما عند الشك في قابلية الحق للإسقاط والنقل فيقال:
إن الحقوق كما مر قد تذكرها النصوص مباشرة وقد تستقى من العرف، أما الحقوق من النوع الأول فيتبع فيها النص الذي يذكرها وعند الشك لا مجال إلا للرجوع للأصول العملية، وقد رأينا أنها تقتضي عدم ترتيب الآثار الشرعية لأن الموضوع يجب تحققه أولا والتأكد عن كونه مؤديا للأثر الشرعي.
وأما الحقوق من النوع الثاني وهي ما يمكن تسميته بالحقوق العرفية فنقول فيها:
إن الحقوق العرفية تارة تكون سيرة عقلائية ممتدة إلى عصر المعصوم، فإذا لم يرد فيها نهي اطمأننا إلى كونها مقرة شرعا، بالإضافة إلى شمول العمومات لها قطعا، وأخرى تكون أعرافا مخترعة بعد عصر المعصوم وهذه بدورها يمكن تقسيمها إلى حقوق عرفية نجد لها ما يشابهها من الشرع وأخرى لا مشابه لها، كما يمكن تقسيمها إلى أعراف لها سابقة مضادة لها وأخرى مخترعة تماما.
والقاعدة في كل هذه الموارد ملاحظة مدى انطباق الخطابات العامة من قبيل (أوفوا بالعقود) ، وقد فسرت بالعهود وهي تشمل العهود والعقود العرفية ولا تنحصر بخصوص العقود في عصر المعصوم، وإنما تتجاوزها إلى كل ما يمكن أن يدعى لدى العرف عقدا وعهدا ومن هنا فتح الفقهاء بابا للعقود الجديدة، ولم يدعوا الأمر ينحصر بالعقود المتعارفة في صدر الإسلام وبذلك صححوا عقود العمل، والتقاعد، والتامين وغيرها.
وعندما يعود العقد متعارفا يصدق عليه العموم مهما كانت سابقته، فإذا كان له مشابه شرعي كان أقرب للدخول في موضوعات العمومات الشرعية، وهذا المعنى سوف نتعرض إليه عند تطبيق هذا المعنى على الحقوق المعنوية فإن لها ما يشابهما من العقود الشرعية.(5/2026)
هل يقبل الحق العوضية والمعوضية أم لا؟
ربما نجد من يرفض أن يكون الحق عوضا أو معوضا في عملية البيع باعتبار أن البيع يعرف بأنه (عملية تمليك للعوضين) ، وهو تعريف لا يأتي بالنسبة للحقوق لأنها غير الملك والسلطنة.
إلا أن الحقيقة هي أن الحقوق هي مراتب ضعيفة من الملكية كما قلنا، ومن جهة أخرى نقول بأنه لا يعتبر التمليك في ماهية البيع فالوقوف العام في بعض الحالات يباع إلا أنه ثمنه لا يدخل في ملك أحد وكذلك في بيع الغلات الزكوية – على قول – فإنه رغم عدم وجود التملك يصدق البيع بلا ريب.
وإذا أمكن أن يكون الشيء عوضا أمكن أن يكون معوضا ولا معنى للتفصيل بينهما.
ثم أنه هل يصح أخذ العوض في قبال الإسقاط ويصدق معه البيع؟
الظاهر أنه لا إشكال في جعل الإسقاط بالمعنى المصدري عوضا بل معوضا بمعنى جعل عمل صاحب الحق ملكا للطرف الأخر على عهدته، كجعل الخياطة والكتابة بالمعنى المصدري على عهدة الخياط والكاتب.
ويمكن أن نؤيد هذا المعنى بملاحظة مسألة إسقاط الشرط بعوض، وربما يمكن القول بأن يجعل نفس السقوط عوضا أو معوضا لأنه يكفي في طرف العوض كل ما يصلح للعوضية، وإن لم يكن هناك نقل – كما يقول الإمام – فإنه لا إشكال في صحة أن يؤجر الشخص عمل شخص آخر ليعمل عملا لشخص ثالث أو لكنس المسجد حيث لا ينتقل العمل للمستأجر.
ومهما كان الأمر فإن هناك أسلوبا آخر للتعويض هو أسلوب (الصلح) ، بناء على كون الصلح ممكنا إجراؤه في كل مجال ولا يختص بحالات الخلاف – وهو ما نقوله به -.(5/2027)
بيع الحقوق المعنوية:
والأسئلة التي تطرح في البين هنا يمكن تلخيصها بما يلي:
1- هل هي حقوق شرعية أو عرفيه أم لا؟
2- هل هناك فرق بين هذه الحقوق أم لا؟
3- هل يمكن تصحيح بيعها بالعناوين الأولية للأحكام أم نحن بحاجة للجوء للعناوين الاستثنائية أي العناوين الثانوية أو العناوين الولائية؟
فلنلاحظ الجواب على هذه الأسئلة على ضوء ما تقدم:
هل الحقوق المعنوية المعروفة اليوم هي حقوق مشمولة للعمومات أم لا؟
هناك رأيان متعاكسان في البين:
أحدهما: وهو الرأي النافي يؤكد على عدم كونه حقا مشمولا للعمومات باعتبار أن العرف لا يراه حالة طبيعية وحقا صحيحا، وإنما يراه أسلوبا من أساليب الاحتكار الذي لا مسوغ له، وبالعكس فإن العرف درج – بتأثير من إمكاناته الفطرية – على التقليد – وملاحظة ما انتهى إليه الآخرون، ثم العمل على تقليده وبالتالي العمل على تطويره، وهذه حالة عامة سارية في شتى المجالات الإنسانية وبها تتكامل شخصية الإنسان الحضارية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشخص إذا ملك الكتاب أو الآلة المخترعة كان له الحق في التصرف فيها بما يشاء بمقتضى السلطنة التي حصلت له وإن منعه من استعمال هذا الحق لا مجوز له شرعا.
وإذا استعرضنا كل منابع الحق التي أشرنا لها فيما سبق نجد أنه لا يأتي أي منها في هذا المورد ولذا فلا معنى للقول بوجود هذه الحقوق.
والرأي الأخر: - وهو الرأي المثبت – يؤكد من جهته أن هذه الأمور أصبحت حقوقا عرفية معترفا بها بين الشعوب والدول، وقام لها نظام ثابت معترف به رسميا بل وعاد إنكارها أمرا مستغربا – أما ادعاء كونها أعرافا جديدة فلا يضر بكونها مصاديق جديدة للعهود والشروط الشرعية والعمومات الواردة فيها، وفي لزوم الوفاء بها.
ويؤيد هذا الجانب رأيه بذكر أمثلة من الحقوق الشبيهة بالحقوق المعنوية من قبيل حقوق المؤمن، وحقوق الجوار وأمثالها، بل ربما يمكن القول بأن الحقوق في أغلبها حقوق معنوية بمعنى أنها ترجع إلى شخصية صاحب الحق وكرامته وامتيازاته وتوابعه والحقوق التي نبحث عنها داخلة في هذا الباب، فحق التأليف يعني أن يتمتع الإنسان بسلطة على ما أنتجه، حق العلامة التجارية، يعني أن تتمتع الشركة بسلطة على تلك العلامة التي خدمتها وقوتها، فهي بالتالي من توابع الملكية والسلطنة، تماما كما يقال من أن الإنسان يملك نتيجة عمله باعتبارها امتدادا لشخصيته.(5/2028)
وعلى أي حال، فإن قلنا بتحقق هذه المصداقية جاءت تلك العمومات الأنفة وإلا كان علينا أن نبحث عن سبيل آخر لتقرير الموقف النهائي وهذا ما يدعونا للجوء للعناوين الاستثنائية.
هل هناك فرق بين هذه الحقوق؟
الظاهر أنه لا فرق بين هذه الحقوق فكلها أمور مخترعة لا سابقة لها عرفا وليس بينها ما يميزها من بعضها من هذا الجانب، ولذا فإن النزاع يأتي فيها جميعا على حد سواء.
هل يمكن التصحيح بالعناوين الأولية أم أن علينا اللجوء للعناوين الاستثنائية؟
قلنا سابقا إن تصحيحها وفقا للعناوين الأولية للأحكام متوقف على مصداقيتها لعنوان (الحق العرفي) ، مما يؤهلها للدخول كموضوعات للعمومات الشرعية وهو ما رأينا فيه من اختلاف.
ومن هنا فنحن نعتقد ولو على سبيل الاحتياط باللجوء إلى العناوين الاستثنائية وهي العناوين الثانوية، والعناوين الحكومية الولائية.
أما بالنسبة للعناوين الثانوية فيمكن أن يقال إنه في الموارد التي تنقض فيها هذه الحقوق يحدث ضرر نوعي بلا ريب، مما يجعل المورد من موارد وقاعدة (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) ، الأمر الذي لا يسمح بهذا النقض.
ويمكن لأحد أن يناقش في هذا بالقول بأن المورد قد يكون من موارد منع الاستغلال والاحتكار والربح الكثير لا غير وحينئذ فلا ملزم لعدم القيام به.
ومن هنا فأسلم الطرق هو سبيل العنوان الحكومي.
ذلك أن ولي الأمر بعد أن يلحظ المصلحة الاجتماعية في حماية حقوق التأليف والاختراع والعلائم التجارية وأمثال ذلك، ويرى غلبتها على المصالح الناتجة من عدم وجود هذه الحقوق، فإنه يحكم بشرعيتها ويعمم حكمه على الجميع، ويصدر بشكل قانون مصوب من المجالس التقنينية ولا ريب في نفوذ حكمه في مثل هذه الموارد على مختلف الآراء في مدى صلاحية الحاكم الشرعي في تعميم أحكامه الولائية ونفوذها.
والله أعلم.
الشيخ محمد علي التسخيري(5/2029)
بيع الاسم التجاري والترخيص
إعداد
الدكتور حسن عبد الله الأمين
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
جرى العرف التجاري ببيع الشهرة التجارية – الاسم التجاري – وتضمنت ذلك نصوص القانون المدني الوضعي، وأصبح عرفا يسنده التشريع القانوني واكتسب وضعا مستقرا ضمن الأنشطة التجارية والاقتصادية فعلام تم ذلك؟ وهل يتفق ذلك مع الأحكام المتعلقة بأركان البيع وشروط صحته في الفقه التشريعي والقانوني؟
ومن جهة أخرى وفي ضوء التوجه الإسلامي المعاصر والتلمس والبحث المطرد لإضفاء الصفة الإسلامية على أنشطة الحياة الاقتصادية والمالية والتجارية وإجرائها وفق أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها، فقد انبثق السؤال التالي: هل تقبل قواعد الشريعة الإسلامية وأحكامها هذا النوع من النشاط التجاري؟ وهل بيع الاسم التجاري بناء على شهرته منفردا، أو مع المحل التجاري يصح في الفقه والشريعة الإسلامية كما صح عرفا وقانونا؟ باعتبار أن ذلك أمر واقع أنتجته الحياة المعاصرة وتعقيداتها المختلفة، وأصبح ذا أثر اقتصادي له وزنه في المحيط التجاري، ولم يعد من الممكن إغفاله واطراحه جانبا من دائرة الدراسة والبحث، خاصة وأن هناك كثيرا من العاملين في الحقل التجاري قد طرحوا تساؤلاتهم عنه وعن مدى مشروعيته لأهميته الاقتصادية في مجال نشاطاتهم التجارية. أما مجمع الفقه الإسلامي بجدة، والذي اهتم بها غاية الاهتمام ووضعها ضمن برامج بحوثه المستقبلية توطئة لإصدار قراراته بشأنها.
ولهذه الأهمية للموضوع، واهتمام مجمع الفقه الإسلامي بجدة به، وبناء على رغبة كريمة من فضيلة الأمين العام للمجمع، رأيت أن أقوم بدراسته وبحثه من الوجهتين القانونية والشرعية في ضوء قواعد الفقه الإسلامي المرنة وأحكام الشريعة الإسلامية السمحاء خدمة لهذا القطاع الاقتصادي العام – القطاع التجاري – بصفة خاصة وخدمة لعامة المسلمين الذين يهمهم بيان الوجه الشرعي في كل ما تجرى به حياتهم ويتناوله نشاطهم.
ومما يلحق بيع الاسم التجاري، بيع الترخيص أيضا، وهو أمر ذو أهمية لأنه تفشى بين الناس خاصة في الدول والأقطار التي تقيد عمليات الإيراد والتصدير للبضائع والمصنوعات، فهل يصح بيعه ممن حصل عليه من الجهات المختصة بإصداره لشخص أو جهة ثانية، وما هي علاقة صاحب الترخيص بالجهة المرخصة؟ والشخص أو الجهة المستفيدة منه في النهاية؟ وفي الصفحات التالية نناقش هذه القضايا ونثبت ما يتمخض عنها من نتائج، ونسأل الله التوفيق والسداد.(5/2030)
معنى الاسم التجاري
الاسم التجاري يطلق ويراد به أحد أمرين:
أولا: يطلق الاسم التجاري ويراد به الاسم المتخذ أمارة على منتوجات صناعية معينة – وهو ما يعرف (بالماركة المسجلة) .
ثانيا: يطلق الاسم التجاري على اللقب المخصص لمحل تجاري اكتسب شهرة بهذا اللقب.
وقد نص القانون على الاسم التجاري بالمعنى الأول، المعروف (بالماركة المسجلة) ووضح معالمه كما بين شروط اعتباره وحماية حرمته.
جاء في الوسيط للسنهوري: إن العلامات التجارية هي " الأسماء المتخذة شكلا مميزا، والكلمات والإمضاءات والحروف والأرقام والرسوم وعنوانات المحال والدمغات والأختام والتصاوير، والنقوش البارزة وأي علامات أخرى أو أي مجموع منها يستخدم أو يراد به أن يستخدم إما في تمييز منتجات عمل صناعي … أو أية بضاعة، أو للدلالة على مصدر المنتجات أو البضائع أو نوعها، أو مرتبتها أو ضمانها.
فالعلامة التجارية إذن تميز المنتجات والبضائع بحيث يكون معروفا في الأسواق أن البضائع التي تحمل هذه العلامة هي بضاعة معينة فلا تختلط بغيرها من البضائع ويستطيع طالب هذه البضاعة بالذات أن يطمئن إذا ما وجد العلامة موضوعة على البضاعة التي تتعامل بها.
هذا وعرفت المادة الأولى من نظام المعاملات التجارية السعودية العلامة التجارية بالأتي:
مادة (1) تعتبر علامة تجارية في تطبيق أحكام هذا النظام الأسماء المتخذة شكلا مميزا والإمضاءات والكلمات والحروف والأرقام والرسوم والرموز والأختام والنقوش البارزة، وأية إشارة أخرى أو أي مجموع منها، تكون صالحة لتمييز منتجات صناعية، أو تجارية أو حرفية، أو زراعية … إلخ، كما نصت المادتان (3) و (25) من هذا النظام على تنظيم تسجيل الاسم التجاري بهذا المعنى وإثبات ملكيته لصاحبه وحمايته.
أما الاسم التجاري بالمعنى الثاني – الخاص بالقلب المخصص لمحل تجاري اكتسب شهرة بهذا اللقب، فقد جاءت الإشارة إليه (بعنوانات المحال) كما في النص المنقول عن السنهوري أنفا وهو أمر شائع ومعروف في العرف التجاري.
الاسم التجاري والحقوق المعنوية، والمالية:
بعد تحديد معنى الاسم التجاري في العرف والقانون ننتقل إلى بيان موقعه من الحقوق المعنوية والمالية، وقد عرفنا فيما تقدم معنى الاسم التجاري بنوعيه، الماركة المسجلة، واللقب المخصص للمحل التجاري الذي اكتسب شهرة بهذا اللقب، وبقي أن نعلم ما هو موقف هذا الاسم التجاري من الحقوق المعنوية، والحقوق المالية، لا شك أن الاسم التجاري بكلا المعنيين ثمرة لجهد صاحبه الفكري والمادي ومعنى ذلك أن يختص به صاحبه دون غيره، وهو حق يعترف به القانون. بل ويحميه كما جاء في المادة (25) من نظام العلامات التجارية الفارقة السعودي لسنة 1409هـ.
وقبل أن نصل لمعرفة هذا الموقف لا بد أن نعرف ما هو الحق كما عرفنا ما هو الاسم التجاري.(5/2031)
الحق المجرد والشيء والمال في العرف والقانون
يفرق القانون بين المال والشيء المطلق، فالمال في العرف القانوني هو الحق ذو القيمة المالية، أيا كان ذلك الحق، سواء أكان عينيا أم شخصيا أم حقا من حقوق الملكية الأدبية والفنية والصناعية.
أما الشيء سواء كان ماديا أم غير مادي، فهو محل ذلك الحق (1) .، والحقوق المالية التي يكون الشيء محلا لها كثيرة التنوع: منها الحقوق العينية الأصلية والتبعية، ومنها الحقوق الشخصية، كحق المشتري في تسلم المبيع، ومنها الحقوق التي تقع على شيء غير مادي، كحقوق المؤلف فيما يسمى بالحقوق المادية والأدبية والفنية، والحقوق التي تسمى بالملكية الصناعية والملكية التجارية (2) .
والحق يكون دائما غير مادي، المادي هو الشيء محل الحق، أما الحق فهو معنوي – أي يقوم في الفكر مجردا غير محسوس – فحق الملكية معنوي يقع على شيء مادي وكذلك الحقوق العينية الأخرى أصلية كانت أم تبعية، كحق الانتفاع وحق الارتفاق وحق الرهن وحق الامتياز والحقوق الشخصية جميعها – سواء أكان محلها نقل حق عيني، أو كان عملا، أو امتناعا عن عمل- معنوية لا مادية وإن كانت تتعلق بأشياء مادية (3) .
وهنا نلاحظ أن العرف القانوني يجعل الحقوق نوعين: حقوقا مجردة وحقوقا متعلقة بالمال، وهذه الأخيرة قد تقع على شيء مادي كالحقوق العينية الأصلية والتبعية، والحقوق الشخصية كحق المشتري في تسليم المبيع، وقد تقع على شيء غير مادي – كالحقوق المادية والأدبية والفنية للمؤلفين، والحقوق التي تسمى بالملكية الصناعية وبالملكية التجارية – تسميته بالعلامات التجارية فما هي إذن العلامات التجارية؟
__________
(1) بتصرف من مجموعة الأعمال التحضيرية للسنهوري: 1/457
(2) الوسيط للسنهوري: 8/8
(3) المرجع السابق فقرة 164، ص 274(5/2032)
الاسم التجاري والحق
فالعلامات المشار إليها جميعها فيما سبق ومنها الأسماء المتخذة شكلا مميزا بحيث تكون صالحة لتمييز منتجات صناعية أو تجارية – وهي ما يطلق عليه الماركة المسجلة أو الاسم التجاري، وكذلك اللقب المخصص لمحل تجاري اكتسب شهرة بهذا اللقب، وهو ما يطلق عليه الاسم التجاري، عرفا وقانونا أيضا، وهي والحال هذه قابلة للتصرف فيها ونقلها كليا أو جزئيا من أصحابها لاخرين بكل طرق التصرف الناقل للملكية وكذلك رهنها. وقد نصت المادة (33) من نظام العلامات التجارية السعودي على التصرف بنقل الملكية والرهن فقالت: (يجوز أن تنتقل ملكية العلامة التجارية إلى الآخرين بأية واقعة أو تصرف ناقل للملكية، ويشترط في التصرف أن يكون كتابة، وألا يكون الغرض منه تضليل الجمهور، وخاصة بالنسبة لطبيعة أو مصدر المنتجات أو الخدمات أو مميزاتها أو أدائها) .
كما نصت على ذلك المادة 21 من اللائحة التنفيذية لنظام العلامات التجارية السعودي حيث قالت: (يجوز التصرف في العلامات بأي تصرف ناقل للملكية، كما يجوز رهنها، وذلك وفقا للقواعد المحددة نظاما، على أن يتم إشهار هذه التصرفات والتأشير بها في السجل وفقا للإجراءات والأوضاع المبينة في المواد التالية) ، وقد نظمت المواد من 22-26 كيفية هذه الإجراءات. كما نصت المادة (37) من نظام العلامات التجارية على جواز التصرفات الأخرى، فقالت: (يجوز لمالك العلامة أن يرخص لأي شخص طبيعي أو معنوي باستعمالها عن كل أو بعض المنتجات أو الخدمات المسجلة عنها العلامة ويكون لمالك العلامة الحق في أن يرخص لأشخاص آخرين باستعمال نفس العلامة، كما يكون له أن يستعملها بنفسه ما لم يتفق على غير ذلك ولا يجوز أن تزيد مدة الترخيص عن مدة حماية العلامة.
ومن مواد لائحة نظام العلامات التجارية السعودي نتبين أن هناك عدة حالات للتصرف في العلامات التجارية:
1- الحالة الأولى: التصرف بالتنازل الكامل عن العلامة التجارية للغير بطريق البيع أو الهبة.
2- الحالة الثانية: التفويض للغير باستعمال العلامة التجارية بعوض أو بدونه مع الاحتفاظ بملكية العلامة التجارية لاستعمالها من المالك بنفسه أو تفويض آخرين باستعمالها أيضا، ويعتبر التصرف من هذا النوع من قبيل الإجارة المؤقتة أو الدائمة.
3- الحالة الثالثة: التصرف فيها كأداة توثيق بالرهن لدى الغير.
وهذه الأحوال الثلاثة جائزة بنصوص القوانين والأنظمة، ومطبقة في واقع التعامل التجاري العالمي باعتبار ذلك تصرفا في حقوق مالية بصرف النظر عن كونها متعلقة بشيء مادي أو معنوي لأن الحق المالي لا يشترط فيه قانونا كما سبق بيانه أن يكون عينا أو منفعة متعلقة بالعين، وإنما يصح اعتبار بناء على مجرى العرف به، سواء أكان ماديا أو معنويا مجردا.
وهذا الحق المالي يقبل التصرف فيه ونقله للآخرين بعوض أو بغيره وسواء أسمينا هذا العوض في مقابل نقل هذا الحق ثمنا لمبيع أو جعلا أو أجرة، لا فرق بين ذلك، وما دام العرف قد أضفى على هذا الحق صفة المالية، فقد أصبح محلا صحيحا للعقد، ينتقل به من شخص لأخر بعوض أو بدونه وتجرى عليه أركان وشروط صحة العقد كأي شيء مبيع أو مستأجر – في القانون إذا توافر فيه الرضا بين الطرفين – لأن العقد شريعة المتعاقدين قانونا.(5/2033)
الحق في الفقة الإسلامي
الذي دعانا للكلام والإطالة عن الاسم التجاري في العرف والقانون هو نشأته في حضنهما واكتسابه الثبات والاستقرار من خلالهما، فكان ذلك مدخلا لتصوره والوقوف على أوضاعه المختلفة ليكون ذلك منطلقا لفهمه وإدراكه في صورته ووضعه الحقيقي، وبالتالي يسهل علينا عرضه على قواعد ومفهومات الفقه الإسلامي، ومن ثم الوصول إلى حكمه الشرعي، من حيث البيع والتصرف به بعوض مالي.
وقد علمنا مما تقدم عرضه أن الاسم التجاري يعتبر حقا يختص به صاحبه لأنه ثمرة جهده ونتاج فكره، وهو كغيره من الحقوق المعنوية حق مالي عرفا وقانونا يملك صاحبه الاستعاضة عنه بالمال، كما يملك التصرف فيه التصرفات الناقلة للملكية كالهبة وغيرها.
وننتقل الآن لنبحث هذا الحق المتقرر عرفا وقانونا في الفقه الإسلامي لنرى ما يحكم به عليه وهو مقصود هذا البحث.
1- الحق المجرد والحق المتعلق بالمال:
الحقوق في الفقه الإسلامي كما في القانون نوعان حقوق مجردة وحقوق متعلقة بالمال، جاء في حاشية رد المحتار لابن عابدين وفي الأشباه: لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة كحق الشفعة ولا الصلح بما مع المخيرة لتختاره، وكذا لو صالح إحدى زوجتيه بمال لتترك نوبتها لم يلزم ولا شيء لها (1) .
وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير: (قوله حق) هذا جنس يتناول المال وغيره كالخيار والشفعة والقصاص والولاء والولاية (2) .
أما الحق المتعلق بالمال، فهو ما يمثل منفعة في العرف العام مطلقا، أو في العرف الخاص، ولم يخالف نصا، لأنه لا يصلح ناسخا للنص ولا مقيدا له، وإلا (بأن لم يخالف نصا) فقد اعتبروه في مواضع كثيرة، منها: مسائل الإيمان، وكل عاقد وواقف، وحالف، يحمل كلامه على عرفه. وأفاد ما مر أن العرف العام يصلح مقيدا (للنص) (3) .
ومعنى ذلك أن الحق إذا مثل منفعة في عرف الناس العام أو الخاص الذي لا يعارض أو يخالف نصا فهو مال، يصلح الاستيعاض عنه بالمال، لأنه في هذه الحالة يمثل منفعة مشروعة.
ولعل النص التالي للسرخسي في المبسوط يجلي هذه القضية بطريقة أوضح. قال: (إن المال هو اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به مما هو عندنا والمنافع منا أو من غيرنا بهذه الصفة، وإنما تعرف مالية الشيء بالتمول، والناس يعتادون تمول المنفعة بالتجارة فيها، فإن أعظم الناس تجارة الباعة، ورأس مالهم المنفعة …. والمنفعة تصلح أن تكون صداقا، وشرط صحة التسمية، أن يكون المسمى مالا) (4) .
__________
(1) حاشية رد المحتار لابن عابدين 4/ 518
(2) 4/ 457
(3) رد المختار، مرجع سابق 4/ 519
(4) المبسوط للسرخسي 11/ 78(5/2034)
بيع الاسم التجاري في ضوء ما تقدم
بعد أن عرفنا معنى الحق في القانون والفقه يجمل بنا أن نوضح معنى البيع والمبيع في ضوء بيان معنى الحق آنف الذكر ومن ثم ندلف إلى بيان ما إذا كان الاسم التجاري يمكن أن يصبح مما يصح بيعه كما في القانون أم لا، وهذا يقتضينا أن نستعرض معنى البيع والمبيع في مذاهب الفقه الإسلامي المعتبرة، لنخلص من ذلك إلى النتيجة المرتجاة والتي يقررها الفقه الإسلامي، فما هو معنى البيع وما معنى المبيع في الفقه الإسلامي؟.
أولا: معنى البيع عند المالكية،
جاء في الشرح الكبير للدردير (البيع: كما يقول ابن عرفة: هو عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة، فتخرج الإجارة والكراء والنكاح، وتدخل هبة الثواب والصرف والمراطلة والسلم) وعلق الدسوقي في حاشيته على قول الدردير (على غير منافع) بقوله: أي على ذوات غير منافع وركز صاحب جواهر الإكليل على إبراز كون البيع يقع على ذوات فقال: (البيع هو إخراج ذات عن الملك بعوض، والشراء إدخالها في الملك) .
وهذه التعريفات الثلاثة للبيع منقولة عن فقهاء المالكية ونلاحظ منها أنه من اللازم في المبيع أن يكون ذاتا معينة، ولا يصح أن يكون منفعة فقط هذا مع اعتبارهم المنافع بأنها أموال يصح أخذ العوض في مقابلها – ولكن لا يطلقون البيع على هذه المعاملة.
* الحنفية:
والحنفية يتفقون مع المالكية في أن يكون المبيع عينا – أي ذاتا لها وجود في الخارج، بل إنهم لا يعتبرون المنافع أموالا بذاتها، جاء في حاشية ابن عابدين (وركن البيع مبادلة المال بالمال) وفي تنوير الأبصار (وبطل بيع ما ليس بمال) ، وعن تعريف المال قال ابن عابدين: (وقدمنا في أول البيوع تعريف المال بما يميل إليه الطبع ويمكن إدخاره لوقت الحاجة وإنه خرج بالإدخار المنفعة فهي ملك لا مال) ، وفي مكان آخر قال: (والتحقيق أن المنفعة ملك لا مال لأن الملك ما من شأنه أن ينصرف فيه بوصف الاختصاص) (1) .
__________
(1) حاشية رد المحتار، لابن عابدين: 4/ 50، و 51(5/2035)
* الشافعية:
ولكن الشافعية توسعوا في معنى البيع بما يشمل المؤبدة، كحق المرور المقرر على أرض الغير، فاعتبروا ذلك بيعا رغم أنه منفعة، قال الخطيب الشربيني في تعريف البيع: (وحده بعضهم بأنه عقد معاوضة مالية يفيد ملك العين أو منفعة على التأبيد. فيدخل بيع حق المرور ونحوه وخرجت الإجارة بقيد التأقيت فإنها ليست بيعا) .
ولعل السبب في اشتراط أن يكون المبيع ذاتا معينة هو أن البيع يفيد دوام ملك العوض المتمثل في المبيع، ولا كذلك الإجارة التي من طبيعتها التأقيت، ولذلك أجاز الشافعية إطلاق لفظ البيع على المنفعة المؤبدة، كما في بيع حق المرور على أرض الغير، لمصلحة أرض أخرى.
ولكن عند التأمل يبدو للناظر أن المقابل المدفوع في حق المرور المقرر لمصلحة عقار آخر يصعب اعتباره ثمنا حتى تكون هذه المعاملة بيعا، لأنه مقابل الانتفاع بذات لا يمكن التصرف فيها تصرفا ناقلا للملكية، كما هو شأن المبيع وإنما يشبه إلى حد كبير الأجرة المقررة للانتفاع بالمرور على أرض الغير فيدل على ذلك أن هذا المقابل كما يمكن تحديده منذ البداية ودفعه مرة واحدة أو مقسطا، يمكن أيضًا تحديده في فترات متتابعة بنفس المقادير السابقة أو بخلافها، مما يؤكد شبهه بالأجرة، لذلك يصعب في نظري قبوله ثمنا في بيع، وإن جرى التجاوز بإطلاق لفظ البيع عليه في عبارات بعض الفقهاء.
ومن تعريفات الفقهاء للبيع المنقولة عنهم في النماذج السابقة، نلاحظ أيضًا أنهم يشترطون لإطلاق لفظ البيع أن يكون العوض ماليا، ولذلك لم يطلقوا على عقد النكاح لفظ البيع مع توفر شرط أن المعقود عليه ذاتا معينة تستوفى منها منفعة غير مالية.
المبيع:
ما هو المبيع؟ المبيع هو المحل في عقد البيع – أي الشيء الذي يقع عليه التعاقد وليس هو ركنا هاما من أركان عقد البيع فحسب وإنما هو المقصود الأساسي في هذا العقد، يقول الكاساني في بيان مكانة المبيع وأهميته في عقد البيع: إن الثمن غير مقصود في عقد البيع بل وسيلة إلى المقصود، إذ الانتفاع بالأعيان لا بالأثمان، ولهذا اشترط وجود المبيع دون الثمن، فبهذا الاعتبار صار الثمن من جملة الشروط بمنزلة آلات الصناع، ومن هذا قال في البحر: ثم اعلم أن البيع وإن كان مبناه على البدلين، لكن الأصل فيه المبيع دون الثمن، ولذا تشترط القدرة على المبيع دون الثمن وينفسخ بهلاك المبيع دون الثمن (1) .
ومن تعريفات الفقهاء المتقدمة للمبيع، نلاحظ أنهم يشترطون فيه: أن يكون عينا معينة (ذاتا) وهذا واضح وصريح عند المالكية والأحناف، ولكن ما نقلناه عن الخطيب الشربيني يفيد أن الشافعية يعتبرون بيع حق المرور من نوع بيع المنفعة – المؤبدة – وهي غير ذات معينة، لكن أن الشافعية يعتبرون بيع حق المرور من نوع بيع المنفعة – المؤبدة – وهي غير ذات معينة، لكن لما كان حقا مؤبدا صار في نظرهم أشبه ببيع العين الدائم، والحنابلة أوضح من الشافعية في اعتبار بيع المنفعة وعدم التقيد بكون المبيع ذاتا معينة، فقد جاء في كشاف القناع قوله تنبيه: ظاهر كلامه هنا كغيره، أن النفع لا يصح بيعه.
مع أنه ذكر في حد البيع صحته فكان ينبغي أن يقال هنا: كون المبيع مالا أو نفعا مباحا مطلقا، أو يعرف المال- بما يشمل الأعيان والمنافع (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 5/ 501 و 502
(2) المبسوط، للسرخسي: 11/ 78(5/2036)
2- المال والمالية:
لاحظنا أن الفقهاء يذهبون إلى أن يكون المبيع شيئا ماديا، وإن كان هناك بعض التعبيرات التي وردت لدى بعض فقهاء الشافعية والحنابلة لا تتمسك بهذا الشرط وإنما تكتفي بأن يكون المبيع شيئا مؤيدا كما جاء التعبير عنه بحق المرور لدى الشافعية، أو نفعا مباحثا مطلقا كما ورد التعبير عنه عند الحنابلة.
ومما تقدم في القانون والفقه الإسلامي تبين لنا أن الحق ذو القيمة المالية في العرف العام أو الخاص الذي لا يعارض نصا شرعيا، يصلح لأخذ العوض عنه لأنه يمثل منفعة مشروعة، كما يوضح ذلك النص السابق وسواء اعتبرنا ذلك العوض ثمنا في بيع أو أجرة في إجارة أم غير ذلك، ولا يمنع من ذلك في حالة اعتباره بيعا أنه لم يقع على عين أو ذات لها وجود في الخارج كما تشترط ذلك بعض المذاهب الفقهية، لأننا وجدنا الشافعية يتساهلون في هذا الشرط ولا يتمسك به الحنابلة.
ومع ذلك فهذا الشرط ليس منصوصا ولا مبنيا على قاعدة عامة فيما يبدو لنا، وربما كان مصدره الواقع والمشاهدة وقد جرى العرف العام العالمي وليس الخاص فحسب ببيع الاسم التجاري، والعرف العام يقيد النص كما مر ولا نص هنا ولا قاعدة عامة يتعارض معها هذا العرف العام.
ومن جهة أخرى فيمكن اعتبار ذلك معاملة حديثة اقتضتها ظروف العصر وتمثل عقدا جديدا، وليس بالضرورة أن يكون داخلا في العقود المسماة والمعروفة كعقد البيع، لأن هناك اتجاها للكثير من الفقهاء بصحة إنشاء عقود غير العقود المعروفة.(5/2037)
بيع المحل مع الاسم التجاري
انتهينا فيما مر إلى جواز بيع الاسم التجاري منفردا ويبدو لنا أن بيعه مع المحل يجوز من باب أولى، لأن المحل يمثل عينا تقبل البيع أو الإجارة مستقلا أو منفردا، وضمه للاسم في البيع لا يغير من قابليته للبيع بل إن ضمه هذا ربما يمثل أرضيه صالحة لتعضيد بيع الاسم التجاري أكثر مما لو كان منفردا وعلى هذا فكلما يصح بيع الاسم التجاري منفردا يصح بيعه مع المحل، وربما كان ذلك من باب أولى.
الإعلان وبيع الاسم التجاري:
لجواز بيع العلامة التجارية – الاسم التجاري – اشترط القانون في التصرف الناقل للملكية أن يكون كتابة، وألا يكون الغرض منه تضليل الجمهور، وخاصة بالنسبة لطبيعة أو مصدر المنتجات والخدمات أو مميزاتها أو أدائها مادة 33، من نظام العلامات التجارية السعودي، وهذا قيد هام جدا يتفق مع توجه الفقه الإسلامي لسلامة هذا التصرف حتى لا يكون مجال استغلال لمبدأ جواز التصرف الناقل للملكية بعوض، ينفذ من خلاله إلى خداع الجمهور بالغش والتدليس عليه، وحتى لا يصبح بيع الاسم التجاري أشبه بالإعلان لصالح المنتفع الجديد به.
فقد عيب على الإعلان التجاري أنه يمثل خداعا للمشتري بخلق الانطباع النفسي لديه بتميز الشيء المعلن عنه على غيره، وإقناعه باختياره وشرائه دون غيره، بالرغم من أن ذلك ربما يخالف الحقيقة كلها أو بعضها، الأمر الذي دعا أغلب علماء القانون بوصفه بإثم ومجافاة الأخلاق.
وبهذا القيد أو الشرط الوارد في القانون يؤمن بيع الاسم التجاري من أن يصبح في المال أشبه بالإعلان التجاري ويتفادى مثالبه.(5/2038)
بيع الترخيص:
مما يلحق أو يرتبط بالاسم التجاري الترخيص الذي يكون في الغالب تجاريا، وقد يكون لأمر آخر يتعلق بالصناعة أو الزراعة، فقد غدا هو الآخر من الأمور التي يجري بيعها في أواسط بعض رجال الأعمال التجارية، والأفراد الذين ينتفعون منه، وخاصة بين مواطني الأقطار التي تفيد فيها تجارة الصادر والوارد نتيجة للتعقيدات الاقتصادية المعاصرة، وقد اقتضى ذلك أن يبحث وضعه من وجهة النظر الشرعية الإسلامية مثلما جرى في أمر بيع الاسم التجاري، ومن هنا كان اهتمام مجمع الفقه الإٍسلامي به ودرجة مع بيع الاسم التجاري في ورقة واحدة – فما هو (الترخيص) وما هي وجهة نظر الشريعة الإسلامية في بيعه أو نقله للآخرين بعوض؟
معنى الترخيص:
لم يرد تفسير أو توضيح لمعنى الترخيص المطلوب دراسته وبيان الوجه الشرعي في بيعه في ورقة الموضوعات المطلوب دراستها وبحثها والتي أعدت من قبل المجمع، كما أني لم أقف على تعريف له من جهة علمية، ولكن من الممكن لنا أن نقول إن (الترخيص) هو (إذن تمنحه جهة مختصة بإصداره لفرد أو جماعة للانتفاع بمقتضاه) .
أنواعه:
يبدو لنا أن الترخيص على نوعين نوع تجاري يتعلق بإذن كتابي لإقامة منشأة صناعية أو زراعية من جهة تملك إصدار هذا الحق.
والنوع الثاني: هو إذن كتابي أيضًا من جهة مختصة إلى شخص أو مجموعة أشخاص بتصدير منتجات محلية صناعية أو زراعية أو غيرها، أو استيراد بضائع أو منتجات زراعية أو صناعية من جهات خارجية.
والنوع الأول: لا يجري بيعه مباشرة في المعتاد، ما لم يتم الشروع في إقامة البنيات الأساسية للمنشأة أو يكتمل إنشاؤها. وحينئذ إن جرى بيع فإنما يكون ذلك على عين المنشأة، وليس على مجرد الترخيص، ومن ثم فلا يدخل هذا النوع من التراخيص فيما نحن بصدده.
أما النوع الثاني: وهو الترخيص التجاري البحت المتعلق بالتصدير أو الاستيراد للبضائع والمنتجات فهو الذي يلزم بحث بيعه وبيان الوجه الشرعي فيه.(5/2039)
طبيعة الترخيص:
فما هي طبيعة هذا النوع الأخير من التراخيص، النوع التجاري؟. يبدو أنه من المتفق عليه أن هذا النوع من التراخيص لا يتعلق بعين محددة قابلة لنقل ملكيتها مقابل عوض، آيا كان ذلك العوض وإنما هو أمر غير ذلك تماما.
وننتقل فنسأل مرة أخرى: هل هو منفعة عين قائمة فيصح نقلها والتصرف فيها، التصرف المشروع على رأي الجمهور؟. والإجابة على ذلك بالنفي فليس الترخيص منفعة قائمة بعين أو ذات محددة وإذن فما هي طبيعته؟
الذي يظهر لنا أن الترخيص التجاري هو من نوع حقوق الانتفاع، لأنه إذن بالانتفاع، وهذه هي طبيعة الرخصة في الفقه الإسلامي – والرخصة إباحة، فهل يصح أخذ عوض عنها بطريق البيع أو الجعالة أو الإجارة مثلا؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال، واستكمالا للبحث عن تحديد طبيعة الترخيص لا بد أن نشير إلى أن الترخيص في حد ذاته رجوع بالأمور إلى وضعها الطبيعي، ذلك أن الأصل أن يكون لكل فرد أو جماعة الحق في أن تمارس العمليات التجارية تصديرا أو استيرادا دون قيود أو موانع، ولكن تعقيدات الحياة الاقتصادية المعاصرة كما أشرت سابقا هي التي اقتضت وضع القيود على حرية ممارسة عمليات التجارة تصديرا واستيراد، فنشأت التراخيص لهذه الممارسة بناء على توفر ظروف وشروط معينة تتعلق بالجهة المرخص لها.
العلاقة بين مانح الترخيص والمرخص له:
ومعنى ذلك أن بيع الترخيص قد يؤدي إلى خلل بتوفر الظروف والشروط الممنوح بها الترخيص أصلا، وإلا لحصل عليه هذا المشتري من الجهة المرخصة دون مقابل، فهل هذا الخلل في العلاقة بين الجهة المانحة للترخيص وبين الممنوح له يعد أمرا محظورا ويترتب عليه حكم شرعي على هذه العلاقة، الشيء المؤكد أن ذلك لا يصح نظاما وقانونا، ولكنه من حيث الصحة أو البطلان الشرعيين، فإنه راجع إلى تدبيرات نظامية تستهدف تحقيق المصلحة العامة وهي أمور نسبية غير مقطوع بها فلا يترتب عليها أثر شرعي فيما يبدو لنا.
العلاقة بين صاحبي الترخيص والمنقول إليه:
أما من ناحية العلاقة بين بائع الترخيص ومشتريه فهذه هي التي يلزم البحث فيها شرعا للوقوف على الحكم الشرعي فيها، لأنها علاقة معاوضة مالية، فهل تصح هذه المعاملة شرعا بين بائع الترخيص التجاري ومشتريه؟
لقد ذكرنا فيما مضي أن بيع الترخيص لا يمثل معاملة تقع على عين مالية ولا على منفعة متعلقة بالعين، ولكنها نوع من حق الانتفاع، ولكن وجدنا العرف قد جرى باعتبارها وأصبحت ممارستها شائعة بين الناس، ومعنى ذلك أن العرف قد جعلها منفعة معتبرة بعد أن كانت حق انتفاع فقط، والعرف حكم في مالية الأشياء، وهي كما هو مشاهد قد أصبحت تمثل منفعة ومصلحة حقيقية عرفا وليست موهومة كما يبدو.
حكم بيع الترخيص:
وبما أن الترخيص حق خاص بصاحبه، وأن الحق ذا القيمة المالية عرفا يصلح لأخذ العوض عنه، لأنه منفعة مشروعة ولا يتعارض مع نص شرعي كما جاء في هذا البحث فإني أرى صحة بيع أو نقل ملكية الترخيص – باعتباره حقا خاصا بصاحبه – بعوض أيا كان ذلك العوض، أو بدونه.
والله أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل
الدكتور حسن عبد الله الأمين(5/2040)
مناقشة البحوث
الحقوق المعنية: بيع الاسم التجاري والترخيص
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الموضوع الذي لدينا هو موضوع الحقوق المعنوية ومنه بيع الاسم التجاري والترخيص، وبعث لكم فيه عدة أبحاث وسبق أن عرض في الدورة الرابعة، وأجل لبحث إطاره العام وهو موضوع الحقوق المعنوية، ثم يأتي بيان الحكم في قضاياه التفصيلية كبيع الاسم التجاري والترخيص. والعارض هو فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي، والمقرر هو الشيخ حسن عبد الله الأمين.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد الله، وأصلى وأسلم على سيدنا رسول الله، وبعد.
في هذا الموضوع عشرة بحوث كاملة كاملة، والتزاما مع توجيهات مقام الرئاسة أوجز البحوث التسعة قبل بحثي إنجازا سريعا، ثم أوجز الكلام عن بحثي أيضًا تكملة للموضوع.
فأول هذه البحوث، ولم أرتبها إلا ترتيبا بالصدفة: بحث أخينا الدكتور سعيد رمضان البوطي، الذي لم يتمكن من الحضور، أبان فيه أن الحقوق الأدبية مصطلح يشمل حق الإبداع أو الابتكار وحق التاجر في الاسم التجاري، ثم أوضح أن حق المؤلف المبتكر حق خاص به عملا بالعرف، لا يجوز للآخرين سلبه أو اغتصابه وسرقته، فيكون الاعتداء عليه سرقة لحق متقوم من صاحبه، وأوضح أيضًا في الموضوع الذي هو محل البحث أن للتاجر الحق الخاص في الاسم التجاري وأن له الحق في منافعه المالية وفي دائرة الممتلكات، كما أجاز أيضًا شراء الاسم التجاري بين شركة عربية وأجنبية، واعتبر ذلك شراء للخبرة ومنها الاسم التجاري، أما ما يتعلق بالتنازل عن الاسم التجاري، بين تاجر وآخر، فإنه منع ذلك بسبب وجود الغرر والتدليس، الغرر في المحل والغرر في الأوصاف. الغرر في المحل والغرر في الحصول، كما أن فيه تدليسا وغشا للناس، وأدى وجود التغرير أو الغرر والتدليس إلى قوله بأن هذا التنازل عن الاسم التجاري بين تاجر وآخر يعد باطلا، والحقيقة أريد أن أنبه هنا أن علماء القانون من بداية الأمر لا يتصورون تنازلا عن الاسم التجاري وحده بقطع النظر عن المحل التجاري، فعادة الأصل التجاري يشمل المحل ويشمل الاسم ويشمل الأدوات ويشمل المقومات وكل شيء في هذا المحل، حتى القانونيين لم يقولوا بالتنازل عن الاسم التجاري وحده، ومن هنا نريد أن نثبت في الحكم على الموضوع وألا نكون ملكيين أكثر من ملك. لذلك كان هذا البحث محل تقدير في ضمن هذه الحدود المتعامل بها عرفًا. هذا هو البحث الأول.
والبحث الثاني: للشيخ مصطفى كمال التارزي، أبان فيه جواز التنازل عن الاسم التجاري والترخيص، لأنه تنازل عن الاختصاص أو الخلو والتنازل عن الاختصاص أجازه المالكية والحنفية في مجال الإجارات، وأفاد بقوله: ولكن الواقع أن هذه المسألة انقلبت إلى حاجة اجتماعية، مؤكدًا أنه لا مانع من جواز التنازل عن الاسم التجاري بعوض ما دام أصبح ذلك من الحوائج الاجتماعية المتعارف عليها والمعمول بها في الأسواق.(5/2041)
البحث الثالث: بحث الدكتور حسن الأمين، بعد أن عرف البيع والمبيع والمال والحقوق المجردة وبيع العلامة التجارية ذكر أن المالكية والحنفية يشترطون أن يكون المبيع ذاتًا معينة لا منفعة، وأن الشافعية أجازوا بيع المنفعة المؤبدة كحق الشرب، لكن الذي اعتمد عليه اعتمادًا شاملًا هو رأي الحنابلة الذين أجازوا بيع العين والمنفعة معًا، بعد هذا البيان الذي أوضحه الأخ الدكتور الأمين انتهى إلى أن الحق الأدبي أو المعنوي يشمل كل حقوق ما يسمى في القوانين التجارية الحالية حق الملكية الأدبية والفنية والصناعية والتجارية، ومنها العلامات الفارقة أو الماركات والاسم التجاري والترخيص، واعتبر أن هذا الحق ذو قيمة مالية عرفًا يصلح أخذ العوض عنه، وبناء على هذا فهو أيضًا مؤيد للبحثين السابقين بجواز بيع الاسم التجاري منفردًا، وبيعه مع المحل التجاري، ولكني نبهت منذ البداية إلى أن المعمول به هو أن الاسم التجاري لا يباع وحده منعزلًا عن المحل.
البحث الرابع: بحث الدكتور محمود شمام، أوضح أن الاسم التجاري هو خلو الوصية، أي حق الاستقرار بدكان ونحوه، وخلو الوصية هو ملك الخلو بوضع الآلة من الموازين والطواحين مما تم به عمارة الربع، وهذا الحق – طبعًا الدكتور تونسي متأثر بمذهبه – أوضح أنه يجوز التنازل عنه، وأيد ذلك بما قررته المدونة التونسية، لأن الأصل التجاري الشامل للسمعة التجارية والخصائص التي يتمتع بها أصبح لها قيمة رائجة ورابحة بفضل ما لها من قدرة على جلب الحرفاء، يظهر المقصود به العملاء، والإبقاء عليهم ودفعهم إلى الشراء ومستندهم في ذلك – يعني في جواز التنازل عن هذا الاسم – هو عرف الناس الجاري به العمل ورأي المالكية في جواز التنازل عن الاسم التجاري واضح بطريق الإجارة.
البحث الخامس: بحث الشيخ محمد تقي العثماني، بحث فيه شيء من الإيضاح النسبي، قسم الحقوق إلى حقوق شرعية وعرفية وأبان أن كل نوع من هذه الحقوق قسمان: حقوق شرعت لدفع الضرر عن أصحابها، وحقوق شرعت أصالة، وأوضح بكل دقة آراء المذاهب الأربعة في جواز التنازل عن أغلب الحقوق، وانتهى إلى بيت القصيد إلى أنه يجوز الاعتياض عن الاسم التجاري والعلامة التجارية في المذهب الحنفي من طريق التنازل دون البيع، لأنه ليس حقًّا ثابتًا أو منفعة مستقرة في عين قائمة، ثم رجح الشيخ أيضًا بالرغم من حنفيته أنه يجوز الاعتياض عن الاسم التجاري على وجه البيع أيضًا، فهو قرر المذهب أولًا، ثم رجح أنه مع ذلك يجوز المعاوضة عن الاسم التجاري بطريق البيع، لأن الحصول على الرخصة في زمننا يتطلب جهدًا كبيرًا ورسومًا باهظة وبذل أموال جمة، فصار الاسم التجاري ذا قيمة بالغة في عرف التجار.
البحث السادس: بحث مشترك بين الدكتور عبد الحميد الجندي والشيخ عبد العزيز عيسى، أبانا فيه صراحة جواز التنازل عن الحقوق المعنوية كلها، وقالا: والفقه الإسلامي في مجموعه يقوم المنافع بمال ولم تعد ماليتها محل جدل، ومن الحقوق العينية الحقوق الفكرية على الرأي الراجح كحق التأليف والصناعة، فإنها ذات مميزات خاصة ولها قيمة في العرف.
البحث السابع: بحث الشيخ علي التسخيري، أبان فيه أنه يجوز التنازل عن الحقوق، وأجاز التعويض عن الحقوق المعنوية ولكن بطريق الصلح، بناء على كون الصلح ممكنًا في كل حال ولا يختص بحالات الخلاف على حد تعبيره، وهو ما قال به، ورفض أن يطبق على هذا التنازل وسيلة عقد البيع لأنه عملية تمليك للعوضين، أي البيع، وهو لا يتأتى بالنسبة للحقوق، لأنها غير الملك والسلطنة، ولا شك وإن قلنا أن التنازل يتم عن طريق الصلح فمن المعروف أن الصلح من عقود المعاوضات فهو لا يختلف في النتيجة عن عقد البيع، سواء قلنا بالتنازل عن طريق البيع أو عن طريق الصلح، الصلح هو عقد معاوضة وخصوصًا إذا كان صلحًا عن إقرار فيطبق على جانبيه أحكام عقود المعاوضات.(5/2042)
البحث الثامن: وهو بحث الدكتور عبد السلام العبادي، أوضح فيه أن الشريعة الإسلامية تعترف بالحقوق المعنوية، لأن الشريعة لا تشترط أن يكون محل الملك شيئًا ماديًّا معنويًّا بذاته، أو معنويًّا بذاته في الوجود الخارجي، إنما يشمل كل ما يدخل في معنى المال من أعيان ومنافع على الراجح من أقوال الفقهاء، ولأن محور هذه الحقوق – كما قال – أمران، الأول: الحق في الاحتفاظ بنسبة محل هذا الحق لصاحبه، والأمر الثاني: الحق في الاختصاص بالمنفعة المالية الذي يعود على صاحبه من استغلاله أو نشره ضمن ما هو مقرر شرعًا وقانونًا. وكلا الأمرين يدلان على مالية الحقوق المعنوية أو الأدبية.
البحث التاسع، وهو أشمل هذه البحوث وأوسعها: بحث الدكتور عجيل جاسم النشمي، من تسعين صفحة - عدا المراجع - وفصول تسعة، استعرض فيه آراء القانونيين في المحل التجاري وعناصره، والحق في القانون وأقسامه وفي الفقه الإسلامي، وأبان معنى المال والمالية والتقوم، ومعنى المنفعة والفرق بينها وبين الانتفاع، وانتهى إلى أن المنفعة مال وأوضح مبدأ بيع المنافع، وانتهى إلى الموضوع الذي نحن بصدده إلى أن الاسم التجاري حق ومنفعة ومال يجري فيه الملك وتجري عليه جميع التصرفات الجارية في الأعيان، وقرر أن جمهور الفقهاء على جواز بيع الاسم التجاري وإجراء التصرفات عليه، بمثل ما تجري في الأعيان سواء بسواء، بشرط أن يكون الاسم التجاري يعبر عن واقع حقيقي لا صوري، خاليًا من الكذب والتزييف، وذلك لأن الاسم التجاري حق ومصلحة ومال، أما كونه حقًّا فيمنع الاعتداء عليه، والاعتداء عليه اعتداء على حق مالي مقرر، أما كونه مالًا فلما فيه من منفعة كبرى هي أهم منافع المتجر، بل إن المتجر دون هذا الاسم والشهرة والسمعة التي تجلب الجمهور لا معنى له ولا قيمة تجارية حقيقية فيه.(5/2043)
هذه هي البحوث التسعة، وهي كما لاحظتم بالإضافة إلى ما أقرره في بحثي كلها مجمعة وربما كان هذا من حسن حظي، أن كل البحوث في الموضوع الذي أوجز الكلام فيه مجمعة على جواز بيع الاسم التجاري والترخيص، وهذا ما لم يحظ به موضوع آخر لشدة الخلاف بين أطراف المعارضة والمؤيدين، ونسأل الله أن يوفق الجميع لما يحقق الخير لسمعة هذا المجمع ورسالته وألا نكون متشددين بكامل التشدد ولا متسامحين كامل التسامح، وإلا لو كنا متشددين في الحقيقة لما كان هناك داع لوجودنا، فمجمعنا الهدف منه إيجاد الحلول للمشكلات المعاصرة، والتفتح على معطيات الحياة الحاضرة والتجاوب مع مقتضيات الضرورة والحاجة الملحة، وإلا لو كنا ننقل الآراء دون أن نحاول الترجيح بينها وبما يحقق المصلحة - صحيح أن ناحية الورع والاحتياط تقضي بالإفتاء بالرأي الراجح أو رأي الجمهور - لكن أيضًا لنا رسالة ومهمة، وهو أن نعالج مشكلات طارئة وإلا إذا رددنا ما في الكتب فأظن أن مهمتنا تنتهي.
بحثي أيضًا في الحقيقة لا يعارض البحوث السابقة، وقد أبنت فيه أن فقهاء الحنفية سواء المتقدمين منهم أو المتأخرين يجيزون التنازل عن الاسم التجاري والترخيص وهو داخل تحت الحقوق التي تثبت لأصحابها أصالة لا على وجه رفع الضرر، كحق ولي المقتول بالقصاص وحق الزوج في أخذ العوض من زوجته عن طريق الخلع، فهذا أيضًا حق الملكية الأدبية والفنية والصناعية والتجارية، ومنه بيع الاسم التجاري، يعتبر من هذه الفئة من الحقوق، وبالتالي لأن هذا الحق لم يثبت لصاحبه دفعًا للضرر عنه فقط كما يتبادر لأول وهلة وإنما ثبت له ابتداء، فلم توجد الشهرة التجارية ورواج السلعة إلا بجهد صاحب الاسم التجاري وتعبه وعنائه وإتقانه العمل، فصار حقه أصيلًا ملازما له، يجوز له الاعتياض عنه بالمال وبخاصة أن الاعتياض عن حقه بالمال أصبح عرفًا عامًّا مقررًا في الأوساط الإسلامية والعربية المختلفة وممنوحًا، وهذا الحق ممنوح أيضًا من قبل الدولة ممثلة بجميع قوانينها التجارية المعاصرة، المعمول بها في مختلف الدول العربية والإسلامية. ثم أيضًا يعد الاسم التجاري عنصرًا أساسيًّا من عناصر المحل التجاري، كما أن الترخيص أصبح ذا قيمة مالية في عرف الناس، إذ لا يمكن الحصول عليه إلا بجهود متواصلة، وتوضع العقبات الكثيرة في متابعة إما وزارة الصناعة أو وزارة التجارة أو الغرفة التجارية في بعض البلدان، وتأشيرات الأمن وغيرها، يعني دون ذلك خرط القتاد، وقد تشدد الأمور على الوافدين أحيانًا أشد من الموطنين في دول البترول مثلًا. فكل هذا يجعل الحصول على الترخيص وفتح المحل التجاري وإيداع الكفالات صعبًا، فلا بد من كفيل مواطن للوافد، وكل هذا يجعل الحصول على هذه الرخصة عسيرًا ويبذل فيه صاحبه أموالًا، ويعطل وقتًا ويتابع الشهرين والثلاثة، وأحيانًا قد يمتد الأمر إلى ستة أشهر إذا كان المراد بفتح المحل يؤدي إلى نشاط وترويج صناعة معينة، فالدولة لا تتسرع عادة في مثل هذه المشاريع الضخمة، وإنما تعرضها على مؤسساتها القانونية ومجالسها البرلمانية وغير ذلك، فيأخذ الأمر وقتًا طويلًا، لهذا إذا حصل على الترخيص في النهاية أصبح ملكًا له وكل ما يجري الملك فيه تجري المعاوضة فيه، فيما عدا الحقوق المقررة عند الحنفية في النوع الأول مما يعد حقوقًا مجردة كحق الشفعة وحق الحضانة والولاية والوكالة وحق المدعي في تحليف خصمه، وحق المرأة في قسم زوجها لها كما يقسم لضرتها، كل هذه الأمور لا تجوز المعاوضة عنها لأنها شرعت لرفع الضرر، وما شرعه الإسلام لرفع الضرر أيضًا كحق الخيار، لا أن يكون سبيلًا إلى أخذ المعاوضة عنه.(5/2044)
فنظرة الشريعة في هذا كما صورها الحنفية نظرة رحمة ونظرة إنقاذ ونظرة تسامح، لهذا كله فإن مثل هذه الحقوق لا تجوز المعاوضة عنها: لكن يجوز فيما نحن بصدده حتى على رأي متقدمي الحنفية، أما متأخرو الحنفية الذين لم يجعلوا من مقومات المالية إمكان الحيازة والإحراز أو العينية المادية وإنما أطلقوا المال على كل ما له قيمة مالية يدخل تحت تقويم المقومين من الناس، في الحقيقة بناء على هذا الاتجاه لمتأخري الحنفية أصبح كل ما له قيمة بين الناس يعد مالًا شرعًا، لأن القيمة المالية تتضمن وتستلزم المنفعة ولم يتعارف الناس على تقويم ما ليس له منفعة ولا يجري فيه التعامل، ثم أيضًا يؤكد هذا، أن متأخري الحنفية أفتوا بضمان المنافع في ثلاثة أمور، - منافع المغصوب في ثلاثة أمور - منها: المال المعد للاستغلال، والمال الموقوف، ومال اليتيم.
ويلتقي جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة من رأي متأخري الحنفية، فهم يعرفون المال بأنه: كل ما له قيمة مالية عرفًا يلزم متلفه بضمانه، وهذا يشمل الأعيان والمنافع وسائر الأمور المعنوية، كالحقوق من كل ما يدخل تحت الملك، لأن الحقوق تقوم على أساس الملك، وإذا كانت الحقوق من قبيل الملك، فالحقوق أموال.
وحق الملكية لدى الجميع يمنح صاحبه سلطات ثلاثًا: حق الاستعمال، وحق الاستغلال أي الاستثمار - ومنه التنازل عنه والمعاوضة عنه - وحق التصرف فيه. كل هذه سلطات الحق الثلاث المعروفة ويعد تملك هذه الأشياء من الملكيات التامة، ويؤيد كل هذا أيضًا ما أبانه أصحاب البحوث الأخرى من أن حق الملكية الأدبية والحقوق المعنوية أصبحت في عرف الناس وتعاملهم ذات قيمة مالية، ثم بينت مستند هذا العرف من الناحية الأصولية، ومستنده هو الاستصلاح أو المصلحة المرسلة المتعلقة بالحقوق الخاصة والعامة، علمًا بأن هذه المصلحة لا تتعارض مع نص شرعي وإنما تتعارض عند متقدمي الحنفية مع القياس، والقياس يدرك بالعرف العام في رأي أغلب الفقهاء، أو باتفاقهم، ثم إن العلاقة التجارية بين مالك هذا المحل وبين الاسم التجاري والترخيص أبنت فيها - ما لم أجد ذلك في الأبحاث الأخرى - أبنت أن هذا الحق يعد حقًّا عينيًّا، لا حقًّا شخصيًّا، والحق العيني كما يعرفه القانونيون هو سلطة مباشرة بين مالك شيء وشيء معين بذاته، وأما الحق الشخصي فهو علاقة قائمة بين شخصين أحدهما مكلف بعمل والآخر بالامتناع عن عمل، يعني العلاقة كالعلاقة القائمة بين الدائن والمدين.(5/2045)
والخلاصة أن بيع الاسم التجاري والترخيص في الأعراف السائدة اليوم أمر جائز فقهًا، لأنه أصبح مالًا، وذا قيمة مالية، ودلالة تجارية معينة، يحقق رواج الشيء الذي يحمل الاسم التجاري، والذي منح صاحبه ترخيصًا بممارسة العمل، وهو مملوك لصاحبه، والملك يفيد الاختصاص أو الاستبداد أو التمكن من الانتفاع بالشيء المملوك والعلاقة بين الشخص واسمه التجاري علاقة حق عيني، إذ هي علاقة اختصاصية ومباشرة، ومستند كون الاسم التجاري متمولًا هو العرف المستند إلى مصلحة معتبرة شرعية تتضمن جلب المنفعة ودفع المضرة، ولا يصادم ذلك نصًّا شرعيًّا. وهذا ينطبق على كل " إنتاج فكري " أدبي كحق المؤلف في تأليفه، أو فني كالرسامين وغير ذلك والمبدعين في حقل الرسوم، أو صناعي كالمسجلات في اختراعات وبراءات الاختراعات الصناعية، لما لكل ذلك من قيمة مالية بين الناس عرفًا، وخصائص الملك شرعًا تثبت فيه وهي الاختصاص الذي هو جوهر حق الملكية، والمنع أي منع الغير من الاعتداء عليه إلا بإذن صاحبه، وجريان التعامل فيه، والمعاوضة عنه عرفًا.
تبين كما سمعتم أن البحوث العشرة من بعض الفوارق الجزئية تقر من حيث المبدأ وتجمع على جواز التنازل عن الاسم التجاري والترخيص، ويمكن أن يعدى هذا إلى كل ما هو معروف في عالمنا الحاضر من الحقوق المعنوية والأدبية والفنية والصناعية. والسلام عليكم.(5/2046)
الرئيس:
وعليكم السلام. الشيخ وهبة، ألا يضاف في مسألة بيع الاسم التجاري والترخيص: (المحترم شرعًا) ؟
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:
طبعًا، هذا مفروغ منه لأن المال لا يسمى مالًا إلا إذا كان متقومًا شرعًا والمتقوم هو المحترم.
الرئيس:
هكذا حتى يكون فيه التحوط
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي.
ما فيه مانع
الرئيس:
لأنه قد يكون الاسم التجاري يعني الترخيص لأشياء محرمة إلى آخره.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:
نعم ….. نعم.(5/2047)
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لا أريد أن أكرر ما تفضل به أخي الباحث العلامة الشيخ وهبة، وإنما أشير فقط لما يمكن أن يفيدنا في مسير البحث، هناك بحوث مفيدة جدًّا للفقهاء حول الفرق بين الحق والحكم، وبين الحق والملكية والسلطنة، وأن الحق مما قد يقبل الإسقاط، وأقول قد يقبل الإسقاط والنقل والانتقال بعكس الحكم فلا يقبل ذلك، اللهم إلا أن يخرج الإنسان عن موضوع الحكم، وبحث حول الحق والملكية والسلطنة بهذا البحث مهم جدًّا ومؤثر في النتيجة.
الذي انتهيت إليه في بحث هو أن الحق سلطنة تنشأ يعني تولد محدودة، وأن الملكية سلطنة تولد مطلقة وتقيدها الحدود الشرعية، ومن هنا فأعتبر الخلاف الجاري بين العلماء حول ما تنتجه عملية الإحياء " إحياء الموات " - وهل هو الملكية الخاصة أو الحق الخاص؟ - بحثًا مهما وفي محله، فهناك فروق بين هذا المعنى، وهذه إشارات ربما تنفع في مسير البحث.
أيضًا هناك الكثير من المصاديق المشتبهة أنها من الحق أو من الحكم، مسألة حق الرجوع في العدة، الكثيرون قالوا: إنها حق، والكثيرون قالوا: إنها حكم تكليفي وجواز الرجوع فقط، والخيارات أيضًا اختلفوا في كونها أحكامًا أو حقوقًا، حتى حق السبق للوقف اختلفوا فيه، هل هو في الواقع حق أم أنه حرمة لمزاحمة السابق لهذا الحق؟ ثم هناك بحوث مهمة حول قبول الحقوق للإسقاط والنقل والانتقال، أقولها بشكل مفهرس، هذا المعنى، منشأ هذا القبول وعدم القبول كون العلة الموجبة للحق علة تامة، وحينئذ لا يقبل الانفكاك كحق ولاية ولي الأمر مثلًا، أو حق الأبوة، إذا قلنا إنه يدخل في هذا المعنى لا يمكن التنازل عنه.(5/2048)
حق الحرية للإنسان لا يمكن التنازل عنه ويجعل نفسه عبدًا مثلًا، أو إن موجب الحق هو مقتضاه وحينئذ يمكن الانفكاك، طبعًا هذا المعنى يستفاد من الدليل الذي طرح هذا الحق وشرع هذا الحق، نوع الاستفادة يختلف من دليل إلى آخر وعند الشك في القابلية، الأصل هو عدم ترتب الآثار الشرعية، عندما نشك في قابلية هذا المعنى أو قابلية الحق للسقوط وعدمه، أو للنقل والانتقال وعدمه، الأصل هو عدم ترتب الآثار الشرعية للنقل، لأن الحكم يجب أن نتأكد من موضوعه أولًا حتى يترتب الحكم عليه، أما الحقوق العرفية الممضاة، أعتقد أن علينا أن نلاحظ مدى انطباق الأدلة العامة على هذه الحقوق، أدلة {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} { ... تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} البيع، وما إلى ذلك. مدى انطباق هذه الأدلة على هذه الموضوعات، هنا ينفتح باب للبحث عن قبول الحقوق العوضية، باب واسع باعتبار أنهم عرفوا البيع بأنه عملية تمليك العوضين، كيف يمكن أن يكون الحق عوضًا؟ لا أريد أن أدخل في هذا البحث، رجحت في نهاية بحثي الصلح، خروجًا عن خلاف من خالف وإن كنت أوافق حتى على بيع الحقوق التي تقبل في نفسها هذا البيع، الحقوق المعنوية أمور مقبولة عرفًا أو لا؟ هذا بحث، عندما أقول عرفًا أنا أريد أن أؤكد وشيخنا التميمي كان يقول: العرف عندك سيد الأدلة – أنا لا اعتبر العرف دليلًا مطلقًا – العرف ليس دليلًا أبدًا، العرف يحقق مصداقًا وسوف ندخل في بحث العرف إن شاء الله، يحقق موضوع الدليل، موضوع النص، هو الذي يحقق لي المراد من عملية الإتلاف، إذا فرضنا أن هناك نصًّا يركز على الإتلاف كموضوع للضمان، هو الذي يقول تحقق الإتلاف أم لا، هو يحقق لي الموضوع فقط وليس دليلًا بنفسه قائمًا كما سوف نتحدث عنه إن شاء الله.
فأقول الحقوق المعنوية: هل هي حقوق يقبلها العرف ثم يمضيها الشرع أم هي أصلًا ليست حقوقًا في نظر العرف؟ هناك رأيان، الرأيان متصارعان وبشكل عملي الآن قائم في هذا المعنى، هناك رأي يرى أن الحقوق المعنوية – في الواقع – أمور يرفضها العرف وخلاف الطبيعة العربية، العرف يقوم على التقليد، الحضارة الإنسانية إنما سارت لتقليد الآخرين لأعمال ابتكرها الآخرون. العرف يقوم على التقليد وعلى عدم القول بحقوق من ابتكر شيئًا أو ألف شيئًا وما إلى ذلك، وطبيعة مسيرتنا إذن قائمة، كان الرجل يؤلف كتابًا والآخرون يستنسخون هذا الكتاب دونما استجازة منه بشكل طبيعي.
الرأي الثاني يؤكد أن العرف رغم أنه لم يكن سابقًا قد وافق على مثل هذه الحقائق لكنه اليوم قبل ذلك، وما دام أنه قد قبل فاعتبر هذه الأمور من لواحق الملكية ووسع في السلطنة والملكية إلى لواحقها وتوابعها أن حينئذ يمكننا أن نطبق العموميات الأخرى على هذه الحقوق، والحقيقة رغم أن الدكتور الأستاذ وهبة جعلني من الموافقين على بيع الحقوق المعنوية، أنا وافقت على الصلح على الحقوق عمومًا، الحقوق التي تثبت أنها حقوق والتي تقبل في نفسها ذلك، أما بيع الحقوق المعنوية أو الصلح عليها فقد توقفت في ذلك؛ لوجود هذين الرأيين وأوكلت الأمر احتياطًا إلى الحاكم الشرعي الذي يرى المصلحة، إذا رأى المصلحة ملزمة في هذه الأمور لتنظيم الأمور ولعدم الاعتداء أو لما تقتضيه – طبعًا – طبيعة الإدارة العامة والسير المتوازن للمجتمع، فإذا قرر ذلك فهو في محله، وإلا فقد توقفت حتى في مسألة الضرر، الضرر الذي يدعى هنا ضرر في مقابله، يعني إذا ادعي ضرر المؤلف في تأليفه يدعى ضرر اجتماعي أكبر في احتكار المؤلف لكتابه وفي احتكار المبتكر لما ابتكره، وما إلى ذلك، فحتى قاعدة الضرر لا يمكنها أن تبرر لنا القول بهذا وحينئذ فقد أوكلت هذا المعنى إلى الحاكم الشرعي طبقًا لما يراه من مصلحة بعد الشورى. وشكرًا.(5/2049)
الرئيس:
قبل أن أعطي الكلمة للشيخ مصطفى، في الواقع هناك مسألة بسيطة وإن كان يراد بحث بيع الحقوق المعنوية من حيث الأصل، هل يجوز بيع الحقوق المعنوية كالاسم التجاري والترخيص، أو لا يجوز؟ فهذا شيء، أما إذا أردنا الدخول في التفاصيل والقضايا التي تنطلق من الحقوق المعنوية كحق التأليف، كالترخيص، كالاسم التجاري وغيرها من الحقوق المعنوية، فلا شك أن في بعض هذه المفردات أحكامًا تنفرد بها عن بعضها، فحقوق التأليف لها أحكام في داخلها تنفرد عن المبدأ العام للحقوق المعنوية، هذا الذي يظهر لي وأحب أن أطرح الشيء هذا لإثارته ومعرفة توجهات المشايخ حول هذا الشيء، وأنه فرق بين ما المبدأ، الأصل أو العام؟ وفرق بين القضايا الأعيان التي تدخل في هذا كحق التأليف وبيع الاسم التجاري والترخيص وما جرى مجرى ذلك.(5/2050)
الشيخ مصطفى كمال التارزي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
سيدي الرئيس، أشكر فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي على الجهد الذي تكبده في تلخيص كل البحوث المعروضة في بيع الاسم التجاري أو الأصل التجاري، كما أشكره على الإشارة إلى أن الاسم التجاري قليلًا ما يباع بمفرده؛ لأنه ضمن الأصل التجاري أو المحل التجاري، وعلماء القانون بينوا أن المحل التجاري أو الأصل التجاري وهو مرتبط بفروع سبعة من جملتها الاسم التجاري.
أريد أن أتعرض إلى شيء هو أن الشيخ وهبة الزحيلي بين، أني بينت المذهب الحنفي والمذهب المالكي في من أباح من هؤلاء العلماء قضية بيع الأصل التجاري مع أني ذكرت أيضًا عددًا كبيرًا من العلماء ممن منعوا، وعنونت هذا الموضوع بعنوان خاص " المانعون العمل بالأعراف الخاصة والذين لا يجيزون هذا البيع "، وذكرت أسماءهم وحججهم في هذا الموضوع وهو مبين بين أيديكم. ثم في النهاية نسب إلى أني أنا ممن أقر مبدأ بيع الأصل التجاري أو مبدأ الاسم التجاري، في الواقع العبارات التي كتبتها هي في اعتقادي أنه لا يمكن أن ينظر إلى موضوع الأصل التجاري بمنظار ضيق على أنه لا يزيد على أن يكون عقد كراء عقاري تجري عليه أحكام الإجارة العامة ككل عقار من العقارات بدون أن ينظر إلى ما يحيط بهذا العقد من اعتبارات خاصة لا يصح أن يتغافل عنها أهل الإدراك؛ وذكر لأن المستأجر قد ينفق على بعض المحلات أكثر من قيمة المحل في تهيئة كماليات قد لا نعطيها القيمة التي تستحقها، ولكنها على كل حال باهظة الثمن وهي التأثيث والزينة والتزويق والأضواء ووسائل الدعاية ووسائل الراحة، كل ذلك لجذب الحرفاء وكسب السمعة التجارية ومنافسة بقية التجار ولو أنه عادة لا يكون للمحل مردود كامل إلا بعد مضي ست أو سبع سنوات، فأنا عندي اقتراح: هو أن لا أجيز البيع ولكني ما زلت أطالب بأن يبقى عقد الكراء على أصله وألا يباع الأصل التجاري لكن يمدد في مدة الكراء؛ لأنه في القانون التونسي الآن، القانون التجاري يبيح للمؤجر أن يكون مالكًا للأصل التجاري بعد مضي سنتين، في الواقع هذا إجحاف بحق المستأجر الذي دفع الكراء، والذي دفع بعد ذلك نفقات باهظة جدًّا لجعل هذا المحل صالحًا للبيع والشراء، ثم للتحصيل على الرخص وقد تطول هذه الرخص، يكتري الإنسان المحل للتجارة ويبقى مغلقًا إلى أن تصل إليه الرخص بفتح المحل، وبعض الأشياء التي لا بد من إحضاراها، فإذا ذهبنا إلى ما يذهب إليه بمعنى أن نقول القاعدة في الإجارة إنه بانتهاء المدة لا بد أن يرجع المحل، هذا فيه خسارة، لكن لو مددنا في هذه المدة وقلنا: إن الكراء عوضٌ عن أن يكون لمدة سنتين يكون لمدة ست سنوات أو ثماني سنوات، في هذه المدة يستطيع الذي استأجر المحل أن يسترجع الكراء وأن يسترجع النفقات وأن يكون أرباحًا، وهذه هي فكرتي في الموضوع ولم أكن ممن يدعو إلى أن قضية بيع الأصل التجاري هي جائزة؛ لأن قضية الكراء يمكن أن تحل محل هذا الموضوع. وشكرًا.(5/2051)
الرئيس:
الشيء المهم الذي ذكره الشيخ مصطفى أنه يعني بيان وجهة نظر المانعين.
الدكتور إبراهيم كافي دونمز:
بسم الله الرحمن الرحيم.
السيد الرئيس المحترم والعلماء الأفاضل، ليس لي بحث مقدم في هذا الموضوع، ولذا سيكون تدخلي عبارة عن استرعاء الانتباه إلى بعض النقاط الواردة في بحث الأستاذ الفاضل محمد سعيد رمضان البوطي، مع أن الأستاذ الفاضل الدكتور وهبة الزحيلي قام بتلخيص البحوث المقدمة بشكل رائع، وأشكره على ذلك، فإن هناك نقاطًا لفتت نظري يجب الانتباه إليها في بحث الدكتور سعيد رمضان البوطي المحترم.
* النقطة الأولى: تتعلق بمسألة اصطلاحية، يقول الدكتور البوطي: كلمة الحقوق المعنوية يراد بها في المصطلح الفقهي ما يقابل الحقوق المالية سواء منها ما يتعلق بالأعيان المتقومة أو المنافع العارضة كحق … إلخ، ثم يقول: فكل حق لم يتعلق بمال عيني ولا بشيء من المنافع العارضة فهو حق معنوي، مثل حق القصاص وحق رفع الدعاوى وحق الطلاق والولاية … إلخ. وفي الأخير يقول: ونظرًا إلى هذا كله فإنه يؤسفنا أن نقرر بأن الحقوق المعنوية لا علاقة لها بكل من حق الابتكار والاسم التجاري وستزداد هذه الحقيقة وضوحًا خلال دراستنا لكل من هذين الحقين وما يتعلق بكل منهما ….. إلخ.
طبعًا: الأستاذ البوطي ينبه إلى ضرورة التفريق بين مصطلحي الحقوق المعنوية والحقوق المالية، وأردت أن أسترعي الانتباه إلى هذه النقطة، ولا شك أن مجمعكم الموقر هو الذي يقدر ويقرر درجة أهمية هذه المسألة، يعني مسألة الاصطلاح مع أن الدكتور وهبة الزحيلي نبهنا إلى ضرورة التمييز بين الحقوق الشخصية والحقوق العينية.
* النقطة الثانية: بيع وشراء الاسم التجاري، الدكتور البوطي يقول: هناك طريقتان يعرفهما التجار لعملية شراء الاسم التجاري. الطريقة الأولى: تتم في الغالب بين شركة عربية. وأخرى أجنبية، تشتري الأولى من الثانية الاسم التجاري لبضاعة ما، ويتضمن عقد الشراء هذا تكفل الطرف البائع بتقديم خبراء ومهندسين في تصنيع البضاعة المعروفة بذلك الاسم والكشف عن مصدر المزايا التي فيها … إلخ. وفي آخر هذا البحث يجوز الدكتور البوطي هذا الشكل أو هذه الطريقة من بيع الاسم التجاري، ولكن الطريقة الثانية: ما يجري عادة بين بعض التجار والشركات التجارية من شراء الاسم التجاري للسلعة دون أي التزام من البائع بتقديم خبرات أو الكشف عن أسرار الصنعة … الخ. وفي النتيجة يتوصل الدكتور البوطي إلى نتيجة أن هذا الشكل لا يجوز، وهذا الشكل عبارة عن الغرر والتدليس، ويقول: إذن فإنه يؤسفنا أن ننتهي إلى القرار بأن شراء الاسم التجاري المتمثل فيما يسمى اليوم الماركة المسجلة بهذه الطريقة الثانية التي أوضحناها، عقد باطل لا يوجد أي وجه لصحته بسبب أنه وفرة في الغرر بأنواعه.
* وبالنقطة الثالثة: التي تتعلق بالأساس والاسم التجاري بمعنى اللقب المعلق على المحل التجاري، وفي هذه المسألة أيضًا يتوصل الدكتور البوطي إلى نتيجة أن هذا الشكل أيضًا عبارة عن الغرر ولا يجوز أبدًا بشكل من الأشكال. وأحببت أن أسترعي انتباهكم إلى هذه النقاط ولا شك أن مجمعكم الموقر هو الذي يقرر. وشكرًا … والسلام عليكم.(5/2052)
الدكتور محمد عبد الغفار الشريف:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أحب أن أشير إلى ملاحظة واحدة، وهي أن نفرق بين بيع الاسم التجاري والرخصة التجارية، يعني بالنسبة للرخصة التجارية قد لا تكون حقًّا معنويًّا مائة في المائة، بل هي أشبه ما يكون بما قاله علماء الحنفية أو أكثرهم من جواز بيع حق الوظيفة؛ لأنه إذا – مثلًا الحاكم أو السلطان – أجاز لأحد أو أعطاه حقًّا في وظيفة معينة يمكن أن يبيع هذه الوظيفة عند الحنفية، وكذلك هنا فيه تشابه لأن هذا الحق له قيمة معروفة في السوق أيضًا، فرخصة البقالة قيمتها كذا، ورخصة المصنع كذا، بينما الاسم التجاري قد يدخل في تقويمه غرر، يعني قد يكون كبيرًا أو صغيرًا، يعني حسب ما ترونه فيم جمعكم الموقر. وجزاكم الله خيرًا.(5/2053)
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
الواقع لم أقرأ كل الأبحاث، وإن كان تفضل الأستاذ الدكتور وعرض علينا هذه الأبحاث بشكل عام ولكن لي ملاحظات قليلة.
مسألة أن الاسم التجاري لا ينفصل عن المحل التجاري، أعتقد كما ظهر من بحث الأستاذ الدكتور البوطي والذي أشار إليه الأستاذ إبراهيم أنه يمكن أن ينفصل الاسم التجاري عن المحل التجاري، مثل الماركة، فهل يمكن أن ينفصل عن المحل وهل الماركة تباع أم لا؟ ثم السجل التجاري المتصل بالمحل يباع أم لا؟
فلنفرق بين هذا وذاك ويمكن أن ينضم الاثنان، الماركة إذا بيعت كحق وقلنا: إنها متقومة بمال، إذا بيعت كحق هذا قد يكون صحيحًا وقد يكون باطلًا. قد يكون صحيحًا لو أن من اشترى فعلًا سينتج مثل الإنتاج الذي يحمل هذه الماركة، إنما إذا كان لا ينتج مثل هذا الإنتاج، فهذا غش وتدليس، فكيف يجوز أن يباع؟ كذلك بالنسبة لترخيص المحل، إذا كان المحل أخذ اسمًا تجاريًّا وسمعة معينة؛ لأنه يقدم أشياء معينة، بدقة معينة، وتعود الناس على هذا، ثم صاحبه الذي جعل هذه الخبرة باعه لغيره، وغيره لم يقم بما كان يقوم به الأول، أيضًا هذه يؤدي إلى الغش والتدليس والغرر، لذلك لا نقول بأن البيع على إطلاقه، وإنما لا بد أن نفرق بين بيع اسم تجاري أو سجل تجاري بكل خبرته وبكل ما ينتجه وبأسرار الصناعة إذا كانت أسرار صناعة، كما يحدث مثلًا بالنسبة للسيارات أو الأودية أو غير هذا، وبين أن يستغل هذا الاسم لخداع الآخرين بأنه سيقدم مثل ما قدم الصاحب الأول.
أمر آخر، ما ذكره فضيلة الأستاذ وهبة، من فتح المحل قد يحتاج إلى كفيل، وهذه نقطة الحقيقة أرجو أن نتنبه لها؛ لأن هذا أمر قائم، إن المحل التجاري قد يحتاج إلى كفيل، والكفيل هذا الذي يأتي باسمه المحل، ليس له خبرة سابقة ولا اسم مشهور سابق ولا أي شيء، والكفيل نفسه لم يفعل شيئًا سوى أنه أخذ اسمه حتى يسمح لغيره بأن يفتح هذا المحل، أفيجوز لهذا الذي أخذ اسمه في الكفالة أيجوز له أن يبيع هذا أو أن يؤجره؟ إن هذا أمر واقع، والمسلمون ينتظرون فتوى المجمع؛ لأن هذا كثيرًا ما نسأل عنه، السجل التجاري باسم فلان وهذا الكفيل يأخذ كذا، أيجوز هذا أم لا يجوز؟ عندنا فتوى سابقة من المجمع، فقد أردت أن أشير إلى هذا وشكرًا.(5/2054)
الدكتور إبراهيم بشير الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحقيقة بقراءة البحوث: إن هناك أربعة آراء وليس مجرد رأيين، والنقطة الأساسية في البحوث أنها جميعًا لا يقول أحد منها بالنظر في العرف الخاص.
فالرأي الأول: يرى أن هذا من أساليب الاحتكار وأنه لا مسوغ له، وبالعكس إن العرف درج على التقليد كما أشار الشيخ علي التسخيري.
الرأي الآخر: يرى أن هذا العرف من الممكن أن يترك لأولي الأمر أن ينظروا فيه بإقراره أو بمنعه.
الرأي الثاني: يرى أنه يمكن بيع الاسم التجاري أو المحل التجاري أيضًا ولكن بشروط معينة، وهو أن يتضمن مضمونا من جودة وإتقان ومواصفات للسلع المشمولة في وعائه، كما قال الدكتور عجيل النشمي، وكذلك الأستاذ سعيد البوطي أيضًا، تضمن عقد الشراء، وتكفل الطرف البائع بتقديم الخبراء والمهندسين وتصنيع البضاعة المعروفة بذلك الاسم، أما إن لم يكن ذلك فهذا نوع من التدليس ونوع من التغرير بالناس.
الرأي الرابع: الذي بدا كأنه هو الذي خلاصة هذه البحوث كما قدمه الدكتور وهبة الزحيلي أنه جائز، هكذا على إطلاقه.
إذن هذه القضية أعود لكي ننظر فيها باعتبارها عرفًا خاصًّا، والذين أفتوا فيها في السابق نظروا فيها في أمور ليست هي القضية المطروحة على المسلمين في عالم اليوم، المطروح على المسلمين في عالم اليوم، أن هناك احتكارًا للمعرفة العلمية أو " النوهاو " اتخذ له الغرب وسيلة باحتكار العلامات التجارية تريد ماركس (TRADE MARKS) وبراءات الاختراع (الباترنس Patrense) والأمر جوهري بالنسبة للعالم الإسلامي؛ لأنه قضية نقل المعرفة ومحاربة هذا الاحتكار في نقل المعرفة.
فالأولى: إذا لم نمل للرأي الأول وهو الذي يقول: إن هذا احتكار ولا يجوز حمايته، فعلى الأقل نميل إلى الرأي الثاني الذي أوضحه الدكتور البوطي والدكتور عجيل النشمي، أنه أن يكون هناك تكفل بنقل الخبرة وتقديم الخبراء ونقل المعرفة وأسرار المعرفة حتى يمكن التعامل في الاسم التجاري، إن لم يكن ذلك يعني الأمر يصبح في الحقيقة نوعًا من وضع المسلمين في حالة تسهل أن تباع لهم أسماء لا مضمون لها ولا خبرة وراءها ولا أسرار لها، وتسهل للجهات المسيطرة على المعرفة التكنولوجية في عالم اليوم من احتكارها وحماية هذا الاحتكار.
هذه النقاط التي وددت أن ينظر إليها، يعني أن هناك رأيا يقول: إنه على الأقل أو من الممكن الدمج بين الآراء الثلاثة الأولى وهي أن هذا الاحتكار للمعرفة لا بد أن ينظر فيه أولو الأمر من المسلمين ولا يجاز على إطلاقه بل ينظر فيه أن يكون بمضمون نقل الخبرة والمعرفة وإفادة العالم الإسلامي منه، فإن كان كذلك صح التصالح فيه من هذه الجهات، إنما أن يطلق الأمر على إطلاقه وينظر إليه كأنه أمر محلي فليس ذلك هو موضع البحث، وأعتقد أن بحث الدكتور البوطي في هذا الجانب وبحث الدكتور عجيل النشمي في هذا الجانب وبحث الشيخ علي التسخيري: حقيقة يضعون الصورة متكاملة بشكل آخر أمام الإخوة والسادة الأعضاء في هذا المجمع لكي يتدبروا في الأمر، هناك احتكار للمعرفة في عالم اليوم، هناك خطر يتهدد العالم الإسلامي باستمرار احتكار هذه المعرفة، فإذا أردنا أن ننظر وأن ننزل الأعراف الخاصة فيجب أن ننظر أنه في عالم اليوم هذا العرف الخاص وضعته جهات معينة تحتكر المعرفة، فعلى العالم الإسلامي – في أقل أموره إن سمح بالبيع والتعامل في هذه الأمور – أن يشترطها بخبرتها وتدريبها ومهندسيها وعلمائها الذين يساعدون على انتقال هذه المعرفة وأن يكون لأولي الأمر ألا يصدروا هذه القوانين إلا بعد أن يتأكدوا من أنها تحمي حقوق المسلمين.
هذا ما أردت أن أقوله وأذكر نفسي به والإخوة الأعضاء. وشكرًا.(5/2055)
الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرًا سيدي الرئيس، الحقيقة أن أكثر البحوث التي اطلعت عليها ودققت فيها والذي وصلني هو بحث الدكتور البوطي، وهذا البحث الحقيقة لا يخلو من دقة فقهية عميقة حينما أبرز الحق كحق مجرد عن كل المعاني الأخرى، وهو الذي يطرح: هل يمكن أن يتنازل عنه أم لا؟ فيقول: إن حق المخترع وحق المؤلف قد اكتسبه من هذه الصنعة التي أوجدها أو الأمر الذي اخترعه أو الفكرة التي ألفها. فهل يمكن نزعها منه؟ هل يمكن أن تنزع؟ يتوصل إلى أنه لا يمكن أن تنزع؛ لأن هذه الفكرة طالما هو الذي ابتدأ بإصدارها فلا يمكن أن يتجرد عنها مهما انتقلت إلى غيره ستبقى باسمه، وكذلك بالنسبة للاختراع، وهذا في الحقيقة فكر دقيق، وقد توصل إلى أنه لا يمكن بيعه، وحكم على العقد بالبطلان، ولكن في الواقع يمكن لنا أن نخرج من هذا البطلان بتعريف المال عند الإمام الشافعي رحمه الله، فإنه يقول: لا يقع اسم المال إلا على ما له قيمة يباع بها، وتلزم متلفه وإن قلت، وما لا يطرحه الناس مثل الفلس وما أشبه ذلك، فإذا رجعنا إلى لفظ ما في اصطلاح الأصوليين فإنها من ألفاظ العموم، وهي تشمل الأعيان، المنافع والحقوق، وأي شيء يمكن أن يعاوض بقيمة، أو له قيمة في الواقع يباع بها، فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا الحق يمكن أن يباع وفق هذا النظر الشافعي، ثم قد وضعوا أيضًا لتمول الشيء – الشافعية أقصد – من ضوابطهم في تمول الشيء أن كل ما يقدر له أثر في النفع فهو متمول، وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع فهو لقلته خارج عما يتمول.
ثم لي ملاحظة على تخريج الحق على المنافع، الواقع أن المنفعة شيء آخر، المنفعة مال في نظر جماهير الفقهاء ما عدا الحنفية فإنهم نظروا إليها بمنظار آخر.
ملاحظة على الدكتور الزحيلي حفظه الله، يقول: إن الحق المعنوي حق عيني والواقع أن أهل القانون الذي أثاروا المسألة وسموه بالحق المعنوي لم يسموه بالعيني، وإنما جعلوه صنفًا آخر ليس من الحقوق الشخصية، وليس من الحقوق العينية، بل أعطوه اعتبارًا خاصًّا بالنظر لطبيعته. وشكرًا.(5/2056)
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرًا سيدي الرئيس، عندي ملاحظتان:
الأولى: أن الموضوع لما طرح في هذا المجمع في البداية كان يختص بالاسم التجاري ثم في الدورة السابقة عدلناها إلى الحقوق المعنوية ليكون البحث بصفة عامة، وما تفضل به الدكتور وهبة حفظه الله يختص بالاسم التجاري، فلو كان القرار الصادر من المجمع باسم الحقوق المعنوية، فكما رأينا من بعض الإخوة أنهم قد ضمنوا هذه الحقوق مسألة الخلو، ومسألة الخلو قد فرغ منها في الدورة السابقة وقد ذكرت في بحثي أيضًا أنه لا يجوز بيعه عندي، وكما قصدنا به قرار المجمع أيضًا في الدورة السابقة.
فالذي ينبغي إذا تحدثنا عن الحقوق المعنوية أن تحدث عنها بدقة لئلا يفهم منها أن مثل مسألة الخلو داخل فيها.
الملاحظة الثانية: سبقني بها الدكتور السالوس حفظه الله: أن معظم البحوث التي قدمت لم تقل بجواز بيع الاسم التجاري إطلاقًا، وإنما قيدته بشروط.
وكذلك أنا في بحثي قد ذكرت أن بيع الاسم التجاري يمكن أن يجوز بشرطين:
الأول: أن يكون الاسم أو العلامة مسجلة عند الحكومة بصفة قانونية؛ لأن ما ليس بمسجل لا يعد مالًا في عرف التجار.
والثاني: ألا يستلزم هذا البيع الالتباس أو الخديعة في حق المستهلكين، وذلك إما بأن تقدم الخبرة مع الاسم التجاري إلى المشتري وإما بأن يقع الإعلام من قبل المشتري أن منتج هذه البضاعة غير المنتج السابق، وأما بغير هذا الإعلان وبغير تقديم الخبرة فإن انتقال الاسم أو العلامة إلى منتج آخر يسبب اللبس والخديعة للمستهلكين وذلك لا يجوز بحال.
فأرجو التنبه لهذا في حين إصدار القرار. والسلام عليكم ورحمة الله.(5/2057)
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظات قصيرة جدًّا أبتدئها بملاحظة عامة، هو أنه من حسن الحظ أن الاجتهاد بالأمس كان اجتهاد عالم واحد؛ إذ لم يثبت تاريخيًّا أن علماء المسلمين اجتمعوا أو جلهم في مختلف المذاهب من أجل اتخاذ اجتهاد في نازلة حدثت مشاكلها للأمة نتيجة التطور المطرد، ومع ذلك فقد بقي الاجتهاد من المصادر المسلم بها لدى علماء المسلمين من مختلف المذاهب، فهذه واقعة لا أظن أن أحدًا يجادل فيها؛ ولذا يكون أفضل اجتهاد – في نظري – يمكن أن يترك للأجيال، أجيال المسلمين، أو يمكن أن يعتمد عليه الحاضرون هو اجتهاد يصدر عن مثل هذا الجمع الذي استقطب كثيرًا من علماء المسلمين من مختلف مذاهبهم، ومن هنا فمسؤولية علماء هذا المجمع ليست في تلخيص النظريات وتجميع أقوال الفقهاء، وإنما هي في إيجاد القواعد الجديدة للمشاكل المتجددة.
ومن هنا فإرجاء المواضيع أو تركها للخلاف أو التعصب فيها للآراء التفسيرية أو الاجتهادية، تكون تقصيرًا في الأحوال التي لم تستند أحكامها الماضية على نص صريح من الكتاب أو السنة، وقد سمعت من بعض الباحثين أنه يقترح ترك تقرير بيع أو عدم بيع الحقوق التجارية إلى الحاكم والحاكم لا يمكن أن يستند إلا على فتوى العلماء، والعلماء في أي قطر من الأقطار الإسلامية لا يمكن أن يجدوا فتوى استقطبت كل النظريات الفقهية، وراعت المصالح العامة للمسلمين أكثر من هذا الذي يمكن أن نخرج به من هذا المجمع الموقر.
هذه ملاحظة عامة: أسوقها لأقول بأنني أتفق مع الأستاذ الباحث وهبة الزحيلي، فيما قاله وما لخصه من فتاوى الإخوة الذين تكلموا في الموضوع أو الذين كتبوا عنه، إلا أنني أريد أن أبين أن الحقوق حسب تعريف القوانين الوضعية انقسمت إلى ثلاثة: حق عيني، وهو الذي يبيح سلطة لمالكه تخوله سلطة التصرف والاستغلال والتفويض، والسلطة الشخصية هي التي يعبر عنها بالالتزام بين شخصين أحدهما دائن، والآخر مدين. والسلطة الثالثة هي التي نتكلم عنها وهي الحقوق المعنوية، لقد بقيت هذه الحقوق مثار جدل عند علماء الغرب، ربطوها بالناحية الدينية تارة وجعلوها من الأشياء التي لا يباح التعامل فيها، غير أنها بعد مرور الزمن وبعد تراكم الأوضاع التجارية وغيرها وجدوا أن عدم تقويمها ماديًّا يضر بالناس، فقوموها بحسب المنفعة التي تجرها على صاحبها، ومن هنا أصبح تقويمها جائزًا؛ لذا فإن بيع الحق التجاري سواء تعلق بملك أو تعلق بعقد إيجار يكون في نظرنا لا يصطدم مع نص في الشريعة الإسلامية على مختلف أقوال المذاهب حسب ما أعلم في رأيي المتواضع، وإذا كان هناك قول ضعيف، فينبغي للمجمع أن يستخرج النظرية ويقرر بيع هذه الحقوق حتى لا يخرج التجار وحتى لا يخرج المتعاملون في هذا الشيء عن الإسلام، لا أقول عن الإسلام كعقيدة ولكن عن أحكام الإسلام في هذه القضية ويلتجئوا إلى تنظيمها وفق القوانين الغربية ونحن باستطاعتنا أن نستخرج لهم اجتهادًا مرتكزا على عدم تصادم بيعها مع الكتاب والسنة وشكرًا.(5/2058)
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعاملين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أشكر الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي على بحثه وعلى تلخيصه القيم، ولي هنا حقيقة من الناحية الشكلية ملاحظة أو طلب نتيجة لما عرضه الأستاذ الفاضل الدكتور وهبة الزحيلي، ومع كل ما قدمه لم يكن ما عرضه معبرًا عن آمال بقية الإخوة الزملاء الذين قدموا هذه الأبحاث حيث وصلت الآراء إلى أربعة آراء، مع أن فضيلته قال: إنه لا يوجد إلا رأي واحد وقد فرحنا لذلك كثيرًا، ومن هنا
أقترح وأعرض هذا الاقتراح على السيد الرئيس، أن يعطي وقتًا محدودًا لكل صاحب بحث خاصة إذا كان له رأي خاص، وحتى يتاح له المجال فيما يريد أن يعرضه على ذلك، ولا نكتفي بالعارض حتى وإن كان لخص، نحن اعترضنا على الإخوة الفضلاء سابقًا بأنهم لم يعرضوا ما لدى غيرهم، وها هو أستاذنا الفاضل أتى بالتلخيص ومع ذلك لم يرض الجميع ولا البعض، هذا اقتراح أو طلب – يعني – من فضيلتكم. هذا جانب
الجانب الثاني: في هذه المسألة أرى ألا يلاحظ فيها الجانب المادي فقط – وأن يلاحظ فيها – وأن يدرس هذا الموضوع من جميع جوانبه، جوانبه السياسية وجوانبه الأخلاقية وجوانبه النفعية المادية، فنحن في مثل هذه الأمور ولا سيما في القضية التي تثار الآن وهي الحقوق الخاصة بالتأليف والابتكار والاسم التجاري، أمام مجتمع إسلامي مظلوم كما يقول الجارودي: قد أخذ الاستعمار كل حقوقه وبنى على ما لديه حضارته، فما حضارة الغرب إلا بناية عبارة عما أخذه الغرب أو الشرق من هذه الدول الإسلامية، فمن هنا حقيقة فرضوا علينا من منطلق القوة والغلبة أمورًا كثيرة، فلو احتجنا إلى أن نفتح حتى شركة لصناعة بيبسي كولا لا بد أن نأخذ هذا الاسم بعدة آلاف من الدنانير أو الدولارات كما قال الأستاذ الفاضل الدكتور إبراهيم، دون أن يكون وراء هذا الحق أية منفعة فلا بد من إعادة النظر على ضوء هذه المقتضيات كلها، لأن إسلامنا حقيقة إسلام شامل وينظر إلى هذه الجوانب، وأنا لا أريد تغمط كذلك حقوق المؤلفين، أيضًا لا بد أن تراعى ولا سيما إذا كانت هذه الحقوق قد أصبحت كتابًا أو أصبحت مؤلفات، حينئذ يكون الحق قد تعلق بشيء مادي أو بشيء لم يكن معنويًّا.
فمن هنا لا بد أن ننظر إلى هذه المسألة نظرة عميقة من جميع جوانبها من السياسة العليا ومن ناحية رعاية المصالح ومن حقوق الأفراد، وما جرى علينا من ظلم من قبل الغرب. هذه الملاحظة وربما تكون ملاحظة معنوية.
هناك أيضًا ملاحظة شكلية على أستاذنا الفاضل الدكتور وهبة الزحيلي، وهو أن فضيلته قال: إن حقوق الملكية ثلاثة: الاستعمال، الاستغلال، والتصرف، في حين أن التصرف في نظري يشمل الاستعمال والاستغلال، فالتصرف حقيقة لفظ شامل للاستعمال والاستغلال، ولذلك كان سلفنا الصالح وكان العلماء الصالحون يقولون: إن هناك ملكية الرقبة وملكية الانتفاع، فأعتقد أن هذا التعبير أولى وأجدر من هذا التعبير المطول مع أن هذا التعبير – أيضًا – لا يحقق الرغبة.
أيضًا لي ملاحظة على أخي الكريم الأستاذ العاني أنه أسند إلى القانونيين رأيا لم يقولوه حسب علمي، والأستاذ الدكتور عبد الستار وهناك قانونيون كذلك يعرفون أن القانونيين متفقون على أن الحقوق نوعان: الحق العيني، والحق الشخصي، أما أستاذنا الدكتور السنهوري هو الذي ذكر بأن في الإسلام حقًّا بين حق العين وحق الدين، عندنا في المصطلح الإسلامي عندنا حق الدين وحق العين، ولكن أوجد الأستاذ السنهوري حقًّا بين الدين والعين، وطبعًا هذه وجهة النظر التي وصل إليها الأستاذ السنهوري لم يرض بها الكثير منهم الأستاذ الزرقا ومنهم كثيرون، فهذا ما أردت الإشارة إليه والله سبحانه وتعالى أعلم. والسلام عليكم ورحمة الله.(5/2059)
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا سيدي الرئيس، الحمد لله، هناك نوع من الاتفاق بشكل إجمالي ولكن هناك بعض النقاط.
الرئيس:
هناك نوع من الاختلاف يا شيخ.
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
قلت بشكل إجمالي: هناك اختلاف في الحدود والتقييدات. بالنسبة للشيخ البوطي حفظه الله أينما كان، هو أجاز هذا المعنى " بيع الاسم التجاري " بشرط نقل الخبرات، وهذا الشرط لكي يرفع الغرر المدعى والتدليس الذي سوف يحصل بعد ذلك، أعتقد كقاعدة عامة إذا كان هناك عقد يلازم كل أفراده الغرر أو أكثرية أفراده الغرر يمكننا أن نرفض هذا العقد، أما إذا كان الغرر في بعض أفراده حينئذ يجاز ذلك العقد ويقيد الجواز بعدم الغرر، بالنسبة لما اقترحه الأستاذ الدكتور البوطي في الواقع يرفع الغرر بلا ريب، ولكن هذا لا يعني بأننا لو افترضنا عقد بيع ليس فيه نقل خبرات فيجب أن يكون هذا البيع غرريًّا، لا يمكننا أن نفترض شركة تشتري اسمًا تجاريًّا لبضاعتها وبضاعتها بنفس المستوى الذي تحمله بضاعة الاسم التجاري، ولكنها غير معروفة الاسم، فيمكن أن تستفيد من هذا الاسم، تشتري وهي تحمل نفس الخصائص، هنا لا يوجد غرر ولا تدليس ولا أي شيء آخر. ونؤيد هنا موضوع نقل الخبرات.
فإذن إذا أردنا أن نجيز هذا المعنى نجيز ونقول شريطة أن يكون هناك ما يرفع التدليس أو الغرر وما إلى ذلك.
شيء آخر، ومع سماحة أخي الشيخ العثماني، الشيخ العثماني اشترط مسألة التسجيل لدى الحكومة، وقال: لولا ذلك لم يعتبر التجار الأمر مالًا، ما أكثر العلامات والأسماء التي لم تسجل لدى الحكومة لكنها اشتهرت بين الناس والناس يقبلون عليها دون تسجيل، فإذا افترضنا وقوع ذلك حتى لو لم يسجل هذا المعرض لدى الحكومة يكفي أن يحمل ذلك المعنى نوعًا من المالية، والتسجيل لدى الحكومة لا أراه ضروريًّا، ثم إن أخي – الذي لا أركز على اسمه مع الأسف – تفضل بأنه كيف يمكن لمجمع علمي أن يحيل القضية إلى ولي الأمر أو إلى الحكومات، وكأن ذلك نوعًا من الخروج عن احترام المجمع العلمي؟ المسألة مسألة إفتاء من العلماء بإيكال هذا المعنى إلى الحاكم الشرعي، يعني المسألة مسألة إفتاء علمي لإيكال هذا الأمر إلى السياسة الشرعية التي يقوم بها الحاكم الشرعي وليس فيه أي إنقاص من قدر المجمع العلمي.
نقطة أخيرة أشير إليها وأرجو أن يركز عليها الإخوة، مسألة أن هذا العمل ما دام صدر مني فلي الحق فيه – هذا إذا أردنا أن نطور – إذن نقول لك قارئ للقرآن إذا تلا تلاوة جيدة أن يشترط على من استمع هذه التلاوة شيئًا ما باعتبار القراءة في قبالها استماع، لا نستطيع أن نعمم هذا المعنى نطرحه كمبدأ عام، كل ما يصدر مني ابتكارًا والقراءة، - قراءة القرآن الكريم أحيانًا تكون أروع ابتكار – هذا أمر مشكوك فيه شرعًا أن يقال: كل ما يصدر مني ابتكارًا فلي الحق فيه، ويمكننا أن نمشي حتى نصل إلى مستوى الابتكار أيضًا، ومستوى التأليف أيضًا ونشكك في كون وجود حق عرفي في البيع وشكرًا.(5/2060)
الشيخ توفيق الواعي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
في الحقيقة أحببت أن أبين نقاطًا معدودة، وأن هذا البيع لا بد أن يكون له ضوابط معينة حتى لا تدخل فيه الحيلة أو الاستغلال والغرر والخداع والتدليس. فإن كان هذا البيع سيكون فيه سر صنعة وجهد وتعب وعمل، فلا بأس إن كان بيع الشهرة والدعاية التي انفق فيها جهدًا أو مالًا حتى صار هذا الاسم، وأخذ الناس السلعة ووجدوها جيدة وكان له في ذلك جهد فلا بأس، أما إن كان هناك شيء، من أن يبيع جاهًا وفرصًا، وأن يكون هذا البيع أو أن يكون هذا الجاه مخصوصًا به هو، فيجب أن تكون فرص متاحة للجميع، تكون الفرصة متاحة للجميع حتى لا يكون هناك استغلال أو تكون هناك أمور من هذه الاستغلالات التي نراها وتبتعد عن النواحي الخلقية.
فيجب ألا يقتصر الأمر على الحل أو الحرمة أو الجواز بدون أن يكون هناك ضوابط ضابطة لهذه الأمور، حتى لا يدخل فيها الاستغلال ويدخل فيها الغش ويدخل فيها التدليس، وهذه الضوابط يجب أن توضع لكل أمر بحسبه حتى لا تكون ضوابط هشة ينفذ منها إلى ما يريده أصحاب الحيل.
وأما عن بيع الاختراع فلا بد أن يكون له ضوابط لأن العلم عندنا مشاع، والعلم عندنا لا يكتم، لكن إذا كان هناك إنفاق في سبيل هذا الاختراع من المال ومن الجهد ومن كذا ومن كذا، فإنه يقدر بهذا القدر الذي أنفق فيه والذي كان في سبيل إظهاره، ولكن أن تترك هذه الأمور مشاعة وبدون ضوابط، فهذا أمر لا يجب أن يكون من مجمع علمي يقرر شيئًا للمسلمين ويضبطه ويخرجه للناس. وشكرًا.(5/2061)
الدكتور درويش جستينية:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في الحقيقة لفت نظري موضوع " الغرر " في مسألة بيع الحق أو الاسم التجاري هناك نقطتان أود أن أذكرهما، وهما:
* النقطة الأولى: هناك حق في الاسم التجاري، أو حق معنوي، وهناك أيضًا حقوق أخرى تتعلق بمسائل فيها نوع من الاختراع أو حق التركيب في مواد معينة، وهناك حقوق الترخيص، يعني المسألة فيها أكثر من حق واحد، فيما يتعلق بالغرر في بيع الاسم التجاري أعتقد أن ما ذهب إليه الإخوان عكسه هو الصحيح من الناحية الاقتصادية لو تصورنا أن شركات كبيرة تنتج سلعة معينة بمواصفات محترمة في بلدها، سواء كانت في بلاد إسلامية أو أجنبية، ويريد تاجر في دولة أخرى أن يستعمل نفس الماركة التجارية أو تركيبها، من يبيعه هذا الحق؟ هي الشركة التي ملكت هذا الحق في بلادها والتي تصنع هذا، فهي لا تريد أن تنزل بمواصفاتها في دولة أخرى، فهي أول من يحمي هذا الحق، فلا يكون هناك غرر، بل الغرر أن نترك هذه المسألة دون تحديد، بحيث يستطيع من يفكر أن يأخذ هذا الاسم بدون أي ارتباطات خارجية أن يفعل ما يشاء بالإضرار بالمستهلكين، فهنا فيه فائدة في عملية بيع هذا الحق من هذه الناحية لأن هذه الشركة تحرص على سمعتها الدولية وبالتالي من مصلحة المستهلك أن يكون هناك نوع من الارتباط بهذا الحق.
* والشيء الآخر، أن كل دولة لديها إدارة خاصة بالمواصفات والمقاييس والمعايير لكل سلعة سواء تنتج محليًّا أو تنتج في الخراج وتورد إلى الدولة. وفي هذه الحالة أصبح من حق الحكومة أن تسجل أو تقبل تسجيل علامة قابلة للبيع في بلادها أم لا، وهذا التنظيم معمول به وقائم حقيقة في البلاد الإسلامية مجموعها، معظمها عندها إدارات للمقاييس والمعايير.
فهنا أرى أن بيع الحق أو الاسم التجاري الذي تم تطويره وأخذ سنوات عديدة – حتى إن الإنسان استطاع بالدعاية والجهد الخاص أن يبنيه – أن لا يترك هباء وسدى، يأتي أي إنسان ويأخذه ويسيء استخدامه لمجرد أن العملية متروكة. شكرًا جزيلًا، والسلام عليكم.(5/2062)
الشيخ علي المغربي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرًا سيادة الرئيس، سمعنا من التقارير والبحوث التي قدمت حول قضية بيع الاسم التجاري أن الأغلبية الساحقة من الباحثين قرروا الجواز، جواز بيع الاسم التجاري نظرًا لما يقوم به التاجر من أعمال في متجره، غير أن هناك مشاكل كثيرًا ما تحدث بين المالك وبين التاجر، نرجو أن ننظر إلى هذه المشاكل، ولعل مجمعنا الموقر ينظر إليها بعين الاعتبار فكثيرًا ما تكون هناك شروط مسبقة يوم عقد الكراء بين المالك وبين التاجر، ولكن تلك الشروط قد تكون تحدد المدة التي يبقى فيها التاجر في محل التجارة، غير أن القوانين الجاري بها العمل في كثير من البلدان الإسلامية، تبعًا لبلدان غربية، لا تعطي الحق لصاحب الملك أن يخرج التاجر من محل تجارته، بل يبقى له الحق في البقاء، وكذلك في البيع بعد ذلك، مع أن الإسلام يقول دائمًا: القاعدة ((المسلمون على شروطهم)) ولكن تلك الشروط التي تحدد المدة لا تعتبر، وهنا يحدث ضرر كبير للمالك حتى إذا طلب إخلاء محله ليستغله بنفسه، فإن القانون وإن أعطاه الحق، لكنه يعطيه له بعد أن يقوم ذلك الملك وحق التاجر وما يقوم به في تجارته، وقد تفوق القيمة التي يعطيها القانون للتاجر عن قيمة الملك نفسه لو بيع، ومن هنا جاء ضرر كبير، نرى أنه في بعض الأحيان وبالأخص في الأملاك التي اكتريت قديمًا قد يبقى التاجر في الملك عشرين سنة ولكن عندما يقوم ما أخذه لإخلاء الملك يفوق قيمة ما دفعه طوال تلك المدة، ولهذا فهذه القضية فيها ضرر على المالك كثير، نرجو أن ينظر بعين الاعتبار إلى الشروط التي تقع بين المالك وبين المكتري " التاجر ".
ناحية ثانية، الإخوان تكلموا على القضية التي تكلم عليها الأستاذ البوطي وهي بيع الاسم التجاري فقط، ومن دون أن يكون هناك محل تجاري وهو ما يعبر عنه بالماركة المسجلة فقط، وذكر الأستاذ البوطي أن القضية فيها غرر، وكثير من الإخوان ذكروا أيضًا مسألة الغرر، ولكن لو نظرنا إلى الحقيقة، إن هناك عقدًا وهناك ما يؤول إليه العقد من غرر أو عدم الغرر، فإنه عندما يقع العقد، العقد لا يشترط فيه غرر، فمن أول مرة العقود جائزة بين البائع والمشتري، وقد تكون العلامة المسجلة لها قيمتها واعتبارها في الأسواق العالمية، فهو عندما يبيع تلك العلامة المسجلة لا يشترط عليه أنه يغش أو أنه يخدع أو أنه يوقع الناس في الغش، وإنما إذا وقع الغش بعد ذلك فهذا أمر موكول للغيب وموكول لصاحبه، ولهذا فلسنا من أول مرة نقول: إن هذا العقد ممنوع ما دامت ليس فيه شروط تمنع العقد. وشكرًا.(5/2063)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
سعادة الرئيس، سمعنا بالأمس كلمات مهمة تتحدث عن القيم الإسلامية وعن حق المسلمين وواجب المسلمين في أن تكون قوانينهم مستمدة من الخلق الإسلامي، عندما كنا نتحدث عن قضية الأمر بالشراء، أين هذه القيم اليوم ونحن نتحدث عن الحقوق المعنوية؟ هذه الحقوق في الأصل يجب أن تكون مشاعة بين الناس وأن تكون نوعًا من الإحسان، نحن نعرف أن القرض لا تجوز الزيادة فيه لأنه من الإحسان، ونعرف في الضمان أنه لا يجوز أن يأخذ الضامن مالًا بسبب أن الضمان من الإحسان، ونعرف أيضًا أن الجاه لا يجوز أخذ شيء عليه عند الجمهور، لأن ثمن الجاه هو من السحت، أين هذه المبادئ مما نبحث فيه الآن؟ وخصوصًا مسألة أخرى أردت أن أثيرها بهذه المناسبة وهي من هذه الحقوق ما يسمى بحقوق الطبع المحفوظة للمؤلف، وقد يكون الكتاب كتابًا إسلاميًّا يتضمن فقهًا أو يتضمن تفسيرًا لكتاب الله، أي حق لهذا المؤلف في حبس بهذا الكتاب؟ رحم الله مالكًا لو بعث اليوم وقيل له:حقوق طبعك محفوظة على الموطأ، وأحمد لو قيل له:حقوق طبعك محفوظة على المسند، لأنكر ذلك إنكارًا شديدًا وقال: أي حق لي على هذا الكتاب؟؟ إن ما ألفته للمسلمين. هذه قضية في غاية الأهمية، استوردناها من الغرب وأخذناها على علاتها بدون تمحيص وبدون أي وازع، أي أزمة ضمير؟ فيجب علينا أن نأخذ منها موقفًا – لأنها تعني ربما بعض الإخوان الذين يوجودون معنا في هذه القاعة – قد يجوز أن أكتب كتابًا بيدي بذلت فيه جهدًا وأن أبيعه لشخص بسبب الجهد الذي بذلته في كتابة الكتاب، أما أن أبقي حقًّا لي على هذا الكتاب وهو يتضمن علومًا شرعية يجب بثها للناس ويجب إعطاؤها لمن يستحقها فهذا ما لا أرى له سندًا، وكأنه قريب أعاذنا الله سبحانه وتعالى من قوله جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}
هذه المسألة في الحقيقة تحز في نفسي وأنا شخصيًّا أود أن أجد مبيحًا لها أود أن أجد ذلك، ربما أستفيد، أأكتم شيئًا – لا أدري – أستفيد منه، فإذا كان لدى الإخوان ما يبيح هذا فسأكون شاكرًا لهم على تقديمه.
مسألة أخرى هي مسألة الاسم التجاري، أعتقد أن من الأفضل ومن الأحوط أن نلزم بائع هذا الاسم أن يبيع معه شيئًا متمولًا ولو قل حتى لا يبيع شيئًا مجردًا، وهذه هي القيم التي كنا نتحدث عنها بالأمس، يجب أن نتحدث عنها اليوم أيضًا، هذه ملاحظة عابرة وشكرًا والسلام عليكم.
الرئيس:
ترفع الجلسة لأداء صلاة الظهر ثم نعود إن شاء الله تعالى.(5/2064)
[بعد الصلاة]
الرئيس:
نستأنف الجلسة.
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد.
الحقيقة نقطة واحدة أردت أن ألفت إليه اهتمام الأنظار لعلها تكون في موطن البحث عند الوصول إلى موقف في هذا الموضوع، وهو الدور الكبير الذي كان لحماية الحقوق المعنوية في تطور الصناعة والزراعة والحياة الاقتصادية كلها. في الغرب حماية هذه الحقوق كانت من أهم ما أدى إلى بذل أموال كثيرة في البحث العلمي في الاختراع والابتكار، وهذه الحماية أدت إلى اختراعات كثيرة وتحسينات كثيرة في الحياة الاقتصادية بعمومها، بل إنها أهم ما هو مسؤول عن التطور الاقتصادي الكبير الذي عرفه الغرب، هذا أمر يختلف عن كتمان العلم، القضية هي الحق باستغلال النتائج المادية لما حصل عليه الإنسان أو لما حصله إنسان، وليست كتمان علم أو عدم كتمانه، العلم سائد، لكن هل من حق أي إنسان أن يستغل ماديًّا ما حصله آخر بجهده وعمله وماله الذي بذله؟ القضية هي هكذا، حماية هذا الحق من الاستغلال والحمد لله رب العالمين.
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرا سماحة الرئيس. وفي الواقع تعليقي يشتمل على ثلاث نقاط، وهي نقاط بسيطة.
المسألة الأولى: فيما يتعلق بالإحراج الذي ألاحظه على إخواني عارضي البحوث، فهو حينما يجتهد، ويجتهد ما وسعه الاجتهاد في إبراز بحوث إخوانه، هو في الواقع يجد ملاحظات أو انتقادات من الباحثين أنفسهم، في أن كل واحد منهم يقول: ما أعطيت بحثي حقه أو كذا، فأنا اقترح، أو في الواقع على كل حال أؤكد على ما جاء في اللائحة من أن يكون في ختام كل بحث خلاصة مختصرة جدًّا لبحث الباحث، فينقلها العارض نقلًا حتى لا يقع في إحراج مع إخوانه، هذه ملاحظة أرجو من سماحة الرئيس ومن الأمانة العامة التكرم بالتأكيد عليها.
المسألة الثانية: ذكر فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه جزاه الله خيرًا أن القيم الأخلاقية والقيم المعتبرة ينبغي أن يكون لها مجال، وينبغي أن يكون لها اعتبار، وهذه حقيقة، وصحيح أن هذا ينبغي أن يكون، لكن إذا لم يوجد فماذا نقول؟ المسألة الآن مسائل هي في الواقع على كل حال ما جاز فيه المعاوضات أو التبرعات يجوز فيه كذلك المعاوضات التي هي في الواقع عن طريق البيع والشراء، في الواقع لا شك أن الاسم التجاري أو أي حق من الحقوق المكتسبة عن طريق الجهد سواء كان ذلك آل إلى طريق التملك أو آل إلى طريق الاختصاص لا شك أن صاحبه بذل في سبيله الشيء الكثير من المال حتى صار حقًّا معتبرًا ومطمعًا ورغبة للغير في تملكه أو الاختصاص به.
المسألة الثالثة: يظهر لي أنه لا مانع من البيع أو التنازل أو المناقلة أو الصلح على هذا الحق، لكن بشرط ألا يترتب على هذا مخالفة لتوجيهات ولي الأمر سواء كان ذلك تنظيمًا أو تقريرًا أو نحو ذلك. الأمر الثاني، ألا يترتب عليه تغرير للأمة: وألا يترتب عليه انتقال هذه السمعة الكريمة لهذا الاسم الكريم إلى من ليس له أهل فتقع الأمة ويقع الناس في إحراج وفي تغرير وفي انقياد إلى من ليس له أهل. الأمر الثالث، ألا يترتب عليه أمور محظورة كتحليل حرام أو إهدار مصلحة من المصالح. هذا ما أحببت التعليق عليه. وشكرًا.(5/2065)
الرئيس:
شكرًا، في الواقع أنا أرجو من أصحاب الفضيلة الباحثين وفي نفس الوقت من أمانة المجمع ملاحظة أن أي بحث لابد له من خلاصة مختصرة في حدود صفحة أو صفحة ونصف على الأكثر، والأمانة بوسعها أن تكتب إلى صاحب البحث إذا لم يلخصه أن تعيد له صورة من بحثه ليلخصه، حتى تكون ملخصات البحوث موجودة بين أيدينا نستريح من عناء قراءة بعض المشايخ لصفحات معدودة مطولة من بحثوهم، لأن الذي اعتاد في العلم على أنه لا يقرأ لا يفهم كثيرًا من القراءة، أما في المناقشة فيستطيع أن يلتقط مدارك الأحكام ومنازع الخلاف يستطيع أن يدركها أكثر، أما أن يقرأ علينا عشر صفحات وخمس صفحات أو يلخص بعض الإخوان البحوث في ظرف عشر دقائق وفي ظرف ساعة هذا يعني أظنه إلى الارتجال أقرب، ثم إن صاحب البحث هو أدرى ببحثه وبالنقاط المهمة فيه وبالخلاصة التي ينبغي أن تكون، فنرجو التزام بالشيء هذا، ونسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق.(5/2066)
الدكتور عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
سأتكلم في أمرين باختصار:
الأمر الأول: الشبهة التي أثارها فضيلة الشيخ ابن بيه، فأقول: نحن لا نتكلم عن الجاه وأحكامه في الفقه الإسلامي، وإنما نتكلم عن أمر هو الاسم التجاري باعتباره أصبح حقًّا ومنفعة ومالًا والذي رأيناه من خلال تفصيل هذا الموضوع وبيان تكييفه الفقهي أن مقتضى كلام الفقهاء جميعًا هو أنه يدخل في الحقوق وفي الأموال على تفصيل في حكم الحقوق والأموال حيث التصرفات.
الأمر الثاني الذي أود أن أوضحه باختصار أيضًا، أن الذي توصلت إليه – كزيادة بيان لما عرضه الزميل الدكتور وهبة الزحيلي – أن الاسم التجاري حق ومنفقة ومال، وبالتالي يجري عليه الملك فتجري عليه التصرفات، هذه هي النتيجة التي توصلت إليها، لكن هناك بعض القيود على إباحة التصرف فرأيت أن بيع الاسم التجاري ينبغي ألا يترتب عليه غرر من شأنه إبطال العقد وإفساده، فبيع الاسم التجاري يلزمه بيع مضمونه فيما يدل عليه من جودة وإتقان مواصفات للسلع المشمولة في وعاء هذا الاسم التجاري، فأبني على ذلك أنه إذ انفصلت الجودة والإتقان عن ذات الاسم التجاري، كان ذلك تدليسًا وغشًّا لما يوقعه من توهم الجودة في سلعة ليست هي كذلك، ثم رأيت أنه إذا انتقل الاسم التجاري مع ما يدل عليه من جودة بضائعه وثبات صفاته المعهودة لدى المتعاملين معه، - الشيء الذي أضيفه هنا ولم يذكر – فإن تغير صاحب الاسم التجاري لا يغير من الأمر شيئًا في هذه الحالة، فقد انفصل الاسم بمزاياه وشهرته إلى غيره، فلا يترتب على هذا تدليس أو تغرير، يستوي في ذلك - وهذا ربما اختلف فيه مع الدكتور البوطي - يستوى في ذلك أن يكون محل البيع " الاسم التجاري " وما يستوعبه من سلع وملحقات، أو بيع الاسم التجاري منفردًا مع اشتراط أن ينشئ المشتري مضمومنًا جديدًا، هذا الشرط الجديد هو أن ينشئ المشتري مضمومنًا جديدًا من السلع لهذا الاسم بذات المواصفات والجودة المعهودة، فإن لم يكن ذلك فيجب أن يعلن التاجر أو الجهة المسؤولة للكافة، أن الاسم التجارية المعهود لم يعد يمثل ما كان داخلًا في مشتملاته ووعائه، وأن المشتملات قد تغيرت من حيث المواصفات والأنواع، فإن فعل ذلك ارتفع اللبس والغرر، فالجواز ليس مطلقًا وإنما هو مقيد بهذه القيود التي ذكرتها والله أعلم.(5/2067)
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
استطرادًا لموضوع حقوق التأليف، نرجو أن يعالج مجلسنا الكريم قضية ربما نعيشها في لبنان وهي تراثنا الإسلامي، حق من؟ إن عشرات دور النشر إنما أقامت مجدها على تراثنا الإسلامي، وكل مؤلف له حقوقه، فهذا التراث هو حق من؟ الذي يصدر والذي يطبع، ألا ينبغي أن يصدر شيء ما, فتوى ما، قرار ما؟ إن للأمة حقًّا في هذا وينبغي أن تطالب دور النشر بمثل هذا الحق، لأننا نرى - لا أقول سرقة إن صح هذا التعبير - كم من الدور أصحابها كانوا لا يعنون شيئًا وأصبحوا قد جمعوا الملايين من الدولارات من وراء تصوير تراثنا الإسلامي الذي صار مشاعًا والناس تدفع ثمن هذا الكتاب وكأن لا حقوق للمؤلف، فهل ينبغي أن يبقى هذا الأمر هكذا أم لا؟ وشكرًا.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
لما استمعت إلى فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه في تدخله وجدت نفسي ملزمًا بأن أعلق على ما جاء في كلامه، إنه ذكر ثلاثة أشياء: القرض والضمان والجاه، ولا يوجد غيرها في الفقه الإسلامي، ثلاثة تمنع أن تُرى إلا لله: القرض والضمان والجاه. معروفة هذه ثلاثة وليس لها رابع، وهذا مرتبط بالأخلاق - للإنسان أن يتنازل - ولكن لا يمكن أن يكون حقًّا واجبًا على كل شخص فمن أراد أن يتنازل عن حقوقه له ذلك، والذي أريد أن أبينه في هذا المجمع هو أن - أو أذكر به وكلكم تعلمونه - أن الكتاب بعد أن كان عبارة عن خط على ورق أو على رق أصبح هناك طباعة، والطباعة معناها أن طابع الكتاب يربح في الكتاب ويأتي الناشر فيربح من الكتاب، ثم يأتي الذي يبيع الكتاب صاحب المكتبة ويربح في الكتاب 30 % مثلًا، فهذه هي المراحل التي يمر بها الكتاب، والكتاب لا يمكن أن يوجد إلا بها. وقيمة الكتاب التي من أجلها دفع المشتري، ليست في الورق ولا في أي شيء إلا فيما يحويه، فعندما نجعل الأصل لاغيًا لا قيمة له، وأن البقية لها قيمتها أظن أن هذا غير صحيح، وأنه قلب للأوضاع، وأنه إرادة تسليط الأحكام كما كان الأمر يوم كان الكتاب نسخة واحدة على حالة جديدة لا تتفق مع الماضي. هذه واحدة.
الأمر الثاني: وهو أن الدكتور عبد الله بن بيه يقول: لو كان مالك وحقوق مالك في التأليف وحقوق أبي حنيفة وحقوق الشافعي في الأم إلى آخره: أعتقد أن مالكًا رضي الله تعالى عنه وبقية الأئمة رضي الله عنهم ما كان واحد منهم يتصدى للتدريس ويأخذ راتبًا، فما كانت رواتب لهم، فهل معنى هذا أن الجماعة اليوم وهم المدرسون عندما يأخذون رواتب أنهم انفصلوا عن هدي الإسلام؟ أعتقد أن القضية يجب أن لا تطرح على هذا النحو، وأن المؤلف له حق في تأليفه باعتبار أنه قد أسهم في إيجاد شيء له قيمة والقيمة الحقيقية هي له، هذا ما أردت أن أقوله. وشكرًا.(5/2068)
الشيخ محمد سالم بن عبد الودود:
بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرًا سيدي الرئيس، الحقيقة أنا ما أدركت إلا آخر كلام الأخ المختار السلامي ولعله كان يعبر عما كان يختلج في ذهني، هذه الأمور التي ليست لها قيمة مادية بالأصل وإنما تكتسبها بالتعارف، يكثر في المذهب المالكي جواز التعامل عليه لكن لا يسمونه بالبيع بالمعنى الأخص وإنما يدخل في البيع بالمعنى الأعم ويسمونه في الكثير التنازل بعوض، كشراء ليلة الضرة منها ولا نزول عن الوظائف بعوض وقول المساوم لتجار السلعة أو لبعضهم: كف عني ولك دينار، إلى آخره، مسائل كثيرة من هذا النوع موجودة في المذهب المالكي، وأما ما يتعلق بالحقوق - حقوق التأليف هذه وحقوق المؤلفين - فهذه تقرب من أخذ الأجر على التحديث، وهذا معروف أن الإمام أحمد وإسحاق والرازي لم يجيزوا هذا، جرحوا به من يأخذ عليه أجرًا، ولكن بعض الباحثين من الفقهاء وفقهاء الحديث أخذ الأجر كأبي نعيم الفضل بن دكيم، والذي استقر عليه الرأي هو أن الشخص إذا تفرغ للتحديث أو التأليف جاز له أن يأخذ أجرًا على ذلك حتى يكسب رزقه وقوت عياله، والذي يؤخذ من الدولة يسمى باصطلاح فقهاء المذهب المالكي رزقًا ولا يسمى أجرًا، ولذلك يجوز، وهذا ركز عليه القرافي في فروقه، الفرق بين الإجارة والأرزاق، وفي أخذ المحدث على تحديثه أجرًا يقول الحافظ زين الدين العراقي عبد الرحيم بن حسين في ألفية المصطلح:
ومن روى بأجرة لم يقبل به
إسحاق والرازي وابن حنبل
وهو شبيه أجرة القرآن
يخرم من مروءة الإنسان
لكن أبو نعيم الفضل أخذ وغيره ترخصًا
فإن بذل شغلًا به الكسب أجز
قال: أفتى به الشيخ وأبو إسحاق، حاصل ما كنت أريد أن أقوله إن هذا النوع من التعامل موجود في الفقه المالكي، ويدخلونه في المعاوضة بالمعنى الأوسع لا في بيع المكايسة بالمعنى الأخص، وأن الحقوق: حقوق التأليف واحتكارها بالمعنى المادي البحت يجافي أخلاق المسلمين، وأن الذي يأخذ عوضًا عن انتفاع الناس بتأليفه إذا احتاج إلى ذلك لا يبعد عن أخذ المحدث أجرًا على تحديثه وشكرًا.
الرئيس:
شكرًا، ربما أن المناقشات بدأت تأخذ شكلًا فرعيًّا، يعني نكون عكسنا القضية التي من أجلها أجلت الجلسة الدورة الماضية، لأنه في الدورة الماضية عرض الاسم التجاري والترخيص وأجلت حتى يبحث الموضوع من أصله بالحقوق المعنوية، فإن رأيتم أن يكون التركيز في بقية المداولات على الأصل وهو الوعاء العام لهذه القضايا من حقوق التأليف والترخيص وغيرها؟!(5/2069)
الدكتور محيي الدين قادي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
شكرًا لكم سيادة الرئيس على تمكيني من الكلمة، كثر الحديث في هذه المسألة وأرى أن كثرة الحديث جاءت من نواحي أهمها: أن هذه الحقوق المعنوية وبخاصة الاسم التجاري والترخيص التجاري والمحل التجاري هي مصطلحات معناها مستورد من القانون الوضعي، وأريد بحثها في الفقه الإسلامي، والتصور لها - كما يبدو - ليس واضحًا، يعني كل الوضوح لأن الأمر يقتضي رجل قانون يوضح هذه المصطلحات، لكن كما قال العلامة الوزير: يعني هي الحقوق المعنوية بصورة عامة، وهي مبسوطة في كتب المالكية بما فيه ربما الإضاءة والنور الذي يلقى على هذه المسائل، ومن ذلك ما نقله الدسوقي في شرحه على العاصمية حيث نقل فرعين من فروع المالكية.
الفرع الأول: من له بركة ماء بها ما يصطاد، قال: فله الحق في أن يبيع حق الصيد لآخر، لا يبيعه الأسماك ولا يبيعه الماء وإنما يبيعه حق الصيد، انتفاع الصيد - ولا أقول منفعة هنا - أن يبيع حق الانتفاع.
الفرع الثاني: هو أنه قال: في حق من له مكان قد شغله مدة من الزمن، يعني أنه يكتسب حقًّا ويستطيع أن يبيعه، كذلك نلاحظ أنه فيما روي عن مالك أن حق المسيل يمكن أن يكرى كراء مؤبدًا، ويمكن أن يورث كذلك نجد فروعًا كثيرة ولا أريد عرضها كلها، لكن بالنسبة إلى حق التأليف وهي قضية فرعية، بالنسبة إلى قضية التأليف يمكن أن تقنن على حسب ما قيل في الإمامة، وما قيل في تعليم الفقه، وما قيل في رواية الحديث - وقد تعرض لها العلامة الوزير - كما قلت - وما قيل في غير ذلك من الأشياء، فالفقه المالكي يقيد المسألة بمن تعينت فيه، وبمن لم تتعين، من تعينت فيه لا يجوز له أخذ الأجرة لأنه يصبح في حقها فرض عين، ومن لم تتعين فيه يجوز له أخذ الأجرة عليها، وبذلك عمل العلامة ابن عرفة حيث أخذ الأجرة على إمامة جامع الأعظم بتونس " جامع الزيتونة "، يعني لأنها لم تتعين فيه، فهنالك من يصلح للإمامة سواه، إلى غير ذلك من الفروع التي تبسط، ونحن قصدنا بهذا أننا أمام مشاكل، لكن بقيت قضية واحدة وهي الماركة المسجلة التي سميت بالماركة المسجلة أو الاسم التجاري، في باب السمسرة، عند كلامهم عن السمسار أحفوه بضوابط منها ألا يكذب وألا يزيف ونحن نرى في هذه الماركة المسجلة أو الاسم التجاري أنها تخرج عناوين وتعاونها على ذلك وسائل الإعلام ويدخلها الكذب ويدخلها الزيف ويدخلها ما ينافي الخلق الإسلامي الكريم. ومن هنا يأتي المنع لهذه القضية ولا يجوز أن نتسامح فيها بناء على ما نراه ونشاهده، إن كان هذا صوابًا فمن فضل الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. وشكرًا.(5/2070)
الدكتور محمد عمر الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نبحث عن موضوع التكييف الشرعي بالنسبة لمحل البيع، هل هو الاسم فقط؟ اسم الشهرة غير متصل أو مقارن به نوع من الخبرة والمعارف التي يجب أن تنقل مع البيع، هناك بعض الصور التي يمكن أن نتصور فيها البيع المجرد للاسم، والمشتري لا يشتري أي شيء مصاحبًا به معرفة أو خبرة وإنما الاسم فقط، ونحن نعرف أن الإعلام وتكرير الإعلان قد يخلق شهرة معينة وقد يشتري الشخص هذا الاسم وينتج سلعة بعيدة كل البعد عن المنتج الأصلي، فيشتري الاسم فقط، فأرى في هذا النوع من البيع أنه بيع صورته صورة بيع جاه فقط وليس بيعًا بالنسبة لتجربة أو خبرة منقولة أو معارف، والله أعلم.(5/2071)
الشيخ زكي الدين محمد قاسم:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا لكم سيدي الرئيس لإتاحة هذه الفرصة الكريمة للتحدث في هذا المجمع العظيم، وفيما علمته من مدار المناقشات، ولا شك أن السادة الباحثين والعارضين أقدر على تكييف الموضوع من حيث الوجهة الشرعية، وإن كان لا بد للمناقشات من إثراء للموضوع يضفي جوانب متعددة تحدد معالم لا بد منها عند اتخاذ القرار أو إصدار الفتوى، وفي ظني أن الموضوع فيما يتعلق بالحقوق يتشعب إلى جوانب متعددة، من هذه الحقوق ما لا يقبل النقل ولا البيع، وهو ما يجري للأسف الشديد في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية على صورة غير مشروعة من الناحية الشرعية، ولا من الناحية القانونية، كمثل حق النسب، وهو أن يبيع شخص ما اسمه لشخص آخر ليستفيد بهذا النسب لمبررات معينة قد يراها في ذاته أنها مسوغ لهذا التصرف، ومن هذه الحقوق أيضًا، حقوق الجنسية كأن يشتري شخص ما حق النسبة إلى جنسية معينة ليستفيد من هذه النسبة، ومنها أيضًا ما يجري في مجال التأليف بالذات، كأن يؤلف شخص ما كتابًا أو رسالة، ثم ينسبها إلى شخص آخر ليستفيد بها، أو ليجتر من ورائها شيئًا آخر، كشهادة أو مسوغ آخر من المسوغات المادية، فهذه ولا شك من الحقوق التي لا تقبل النقل، لأنها تعتبر من التزوير في الحقائق، لكن يأتي في هذا المجال أيضًا ما يمكن أن يكون طريقة الاستفادة المادية، لو أن مؤلفًا ما ألف كتابًا وجاء شخص ما ونقل عن المؤلف من كتابه ما نقل، ما كان في ذلك مانع ولا يجوز لأحد أن يمنعه لكن أن يسرق كتابه فينشره ويستفيد به ويتاجر فيه، فأظن أن هذه من الحقوق التي ينبغي أن تحفظ بمقومات العصر، وبمقتضى ما جرى عليه العرف، يأتي إلى جانب ذلك حقوق أخرى ترتبط بجودة المنتج ودقة الصناعة، عندما تباع هذه الحقوق في ظني أنه لا باس من بيع هذا الحق مشترط فيه شروط الجودة، وشروط المتانة التي في هذه الصناعة أو هذا المنتج الذي يباع لكن يأتي إلى جانب هذا نوع آخر من الحقوق ما يتعلق بجانب الشهرة، وهذا ما يتعلق بالعلامة التجارية ونحوها، فلا بأس من بيعها إذا ما اتخذت فيها الضمانات التي تحمي من الغش والغرر.
بقى نوع آخر في نظري من هذه الحقوق، وهو ما يعتبر كمسوغ قانوني فقط، كمثل بيع السجل التجاري، وهو أمر لا يبذل فيه البائع شيئًا أكثر مما نسميه بحقوق الوفاء وبحقوق المروءة، ولكن قوانين المجتمعات الإسلامية الآن تسمح أن تحظر إنسان ما هذا الحق، أو تعسر عليه الوصول إلى الحق، ولعلنا سمعنا من المناقشات الكثيرة من يجيزه ومن يمنعه، فلا بد له من الشروط التي تحمي في هذه الحالة المقومات الخلقية في المجتمع الإسلامي وقيمه، بالإضافة إلى تيسير حقوق المتعاملين وتيسير معاشهم. والله أعلم.(5/2072)
الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم
حين سمعت فضيلة الأخ الشيخ عبد الله بن بيه أثر فِيَّ كلامه لأنه قاله بإخلاص وتجرد وحرارة، ولكن كاد هذا ينسيني الأمر فقهًا، فلا شك أنه من الأولى والأورع والأفضل ألا يأخذ الإنسان أي مقابل بالنسبة لحقوق التأليف، ولكن هذا شيء - مرتبة الفضل شيء ومرتبة العدل شيء آخر - صحيح أن أئمتنا السابقين ما كانوا ليجيزوا مثل هذا أو بعضهم لأنهم اختلفوا في كثير من الأمور أيضًا، يعني بعضهم قبل جوائز السلطان وبعضهم لم يقبل، وبعضهم عاش حياة مرفهة وبعضهم عاش حياة خشنة، فهم يتفاوتون في هذا الأمر كذلك، ولكن نحن الآن في وضع مغاير للوضع السابق، الآن الأمر لم تعد عملية الكتاب مجرد تأليف - شخص يؤلف كتابًا - إنما هي صناعة يشترك فيها كما قال فضيلة الشيخ المختار - المؤلف والناشر والطابع والموزع، ومن هنا يعني أنا أوافق الحقيقة وقد سبقني الإخوة بقياس هذا الأمر على ما اختلف فيه من قضية الأذان والإمامة والخطابة والوعظ والتدليس فهذه قد اختلف فيها من قليل وكثير ممن منعوها قديمًا أجازوها في العصور المتأخرة منهم الحنفية، فأئمة المذهب ومشايخه السابقون منعوها ثم جاء المتأخرون فأجازوها حفظًا لمصلحة المسلمين، وهذه شبيهة بها، هي أشبه شيء بها تمامًا، وكما قال الإخوة: إننا نحن الآن نعمل في الجامعات ونعلم أبناء المسلمين العلوم الشرعي ونتقاضى على ذلك رواتب وأجورًا فهذه من هذه، وأذكر ههنا كلمة للإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة، حينما اتخذ في بيته - كان في الأطراف على ما يبدو - كلبًا للحراسة، فقيل له: أتتخذ كلبًا وقد كرهه مالك؟ فقال: لو كان مالك في زماننا لاتخذ أسدًا ضاريًا، فنحن في زمن غير زمن مالك رضي الله عنه، وغير زمن ابن حنبل، والذين قالوا: كيف تأخذون حقوق التأليف وذهبوا وأخذو كتبنا وربحوا فيها واستفادوا منها، لو كانوا يوزعونها مجانًا فهذا معقول؟ وأنا فعلًا إذا كان هناك جمعية خيرية أو إنسان يريد أن يتبرع بطبع كتاب ونشره، فأرى أنه لا يجوز لإنسان أن يأخذ حقًّا عليه في هذه الحالة، أما وقد دخل دائرة التجارة فهنا للمؤلف حق، خصوصًا أن كثيرا من الناس يعيشون على مثل هذا الأمر، يعني ليس كل الناس موظفين، هناك أناس يعيشون للعلم، وهو يتعيش مما يرد عليه من تأليف كتبه، لأن الكتاب هو نتيجة جهد مختزن لعدة سنين، فهذا الجهد يأخذ عليه مقابلًا وهو من العدل، هو تشجيع لأهل العلم أن يبذلوا، والإنسان قد يتكلف في التأليف، التأليف ليس مجرد فكرة تخطر، قد يتكلف في هذا أنه يكون مكتبة تتكلف كذا، وأن يكون له سكرتارية، أن يطبع هذا على الآلة الكاتبة، كل هذه تتكلف تكاليف، أليس من حقه أن يأخذ مقابلًا على ذلك؟ كان الأقدمون يمكن أن يقدم الكتاب للأمير أو السلطان فيعطيه وزنه ذهبًا أو نحو ذلك، فالآن الأمور تغيرت، صحيح أن الذي يجب أن نقف ضده ونحذر منه هو الاستغلال لهذه المؤلفات، هناك المذكرات الجامعية للطلاب بأضعاف قيمتها مستغلين حاجتهم إلى ذلك باسم حقوق التأليف. مثل هذا ينبغي أن يمنع ويحرم، أما إذا كان أمر التأليف على ما هو عليه وعلى ما جرى عليه، يعني علماء عصر من غير نكير كما يقول علماؤنا، يعني هذا أمر جرى عليه الجميع تقريبًا، لا أكاد أجد من يقول لا آخذ شيئًا جرى عليه هذا دون نكير فأصبح عرفًا عامًّا.
ولذلك هذه القضية الحقيقة أنها من القضايا التي تثار دائمًا باسم من سئل عن علم فكتمه وإلى آخره، ولكن ليس هذا من كتمان العلم ولا من السؤال لأنه ليس هناك من يسأل فيمنع الجواب. وشكرًا.(5/2073)
الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا أيها السيد الرئيس، يبدو لي - بعد تقديري للعرض وللبحوث والمناقشات ولأصحابها الأفاضل - أن المسألة ذات تأسيس ثم ذات تفريغ، أما التأسيس فهو أننا نعيش اليوم في عصر غير العصور المتقدمة، في عصر صار فيه طباعة، وصار فيه نشر، وصار فيه توزيع، وصار فيه أمور تجارية وسجلات وماركات، هذا شيء لم يكن من قبل، فهذه نوازل ووقائع، ولم تكن في عهد أئمتنا السابقين رضي الله عنهم، فيجب أن نبحث فيها من جديد لا باس أن نقيس، لا بأس أن نستحسن، ولكن لا بد أن نوجد حكمًا جديدًا على ضوء الأحاديث الجديدة والإسلام بفقهه العظيم عظيم كما تعلمون أيها السادة وسط المثالية والواقعية، فلا هو واقعي كل الواقعية يتناسى المثالية، ولا هو مثالي يتحاشى الواقعية، وهذه ميزته الأولى بل خصيصته الأولى، بهذا التوازن وهذا الاعتدال ينبغي أن نفكر نحن في هذه الأمور فنفرعها إلى فرعين اثنين: فرع يختص بالأمور التجارية كالماركات والسجل التجاري وما شابه ذلك، والذي يبدو لي من معاشرتي للتجار، وكان أبو حنيفة تاجرًا وكان يدخل الأسواق، لذلك عظم فقه الماركات والسجلات التجارية والأسماء، هذه الأشياء التي نذكرها نحن الآن إنما هي ذرائع فساد، وتؤدي دائمًا إلى فساد إلا ما رحم ربك، فكم من إنسان جاهل استأجر شهادة صيدلاني، وهو لا يعرف أن يضرب حقنة في وريد، أو في عرق أو في عضل، فأمات الناس، وكم من إنسان اشترى ماركة جيدة فأفسدها، بهذا: أرى أن يكون الأصل في هذا المنع سدًا للذريعة، ولكن لا بأس أن نكون أيضًا واقعيين، فأرى أن تتكرم الأمانة العامة والرئاسة الرشيدة بالنسبة للأمور التجارية لتخصص لها مستشارين من الفقهاء الأجلاء من التجار ومن رجال القانون، أن يكون مثلًا فقيهان وأن يكون تاجران ومحاميان، إذا رأى ذلك أولو الأمر منا، جزاهم الله كل خير فيبيحوا بالضوابط والشروط ما لا يوصل إلى ذريعة فساد، هذه ناحية، أما أن نعمل نحن في الفقه والتجارة والصناعة والزراعة والصيدلة وكل شيء فلا ندعي أننا نفهم كل شيء، نحن نفهم بالفقه فقط وأصوله، ورحم الله امرءًا عرف قدره فوقف عنده ولم يتعده.
الناحية الثانية: هي قضية حقوق التأليف، حقوق التأليف لا شك أنها أمر جديد كل الجدة، ولم يكن من قبل، أنا أفهم أن التأليف مباح فيها إذا أخذ إنسان - كما تفضل بعض الأستاذة - فكرة أو أفكارًا، أو لمعت في نفسه خواطر لمعت في رأس غيره، أو استفاد حكمة أو مثلًا، أما قضية الكتابات تأليفًا وطباعة نشرًا وتوزيعًا فهذا شيء جديد، ويقاس على ما تفضل به الإخوة، يمكن قياسه على أخذ الأجر ولكن، لي هنا رأي هو أن علماء الدين الإسلامي وأنا خادمهم يجب أن يكونوا فوق الناس، أن يكونوا في مثالياتهم، في تضحيتهم، ما الفرق بين عالم الدين ورجل القانون إذا كان عالم الدين يشفط من حقوق التأليف ما يشفطه رجل القانون بل يزيد؟ إنني أمشي في خطة - واعذروني إذا تكلمت بشفط بالعامية يعني لتدركوا مدى اللهف لا سيما من كبار الأساتذة المشهورين لا مثلي المغمورين - لذلك أرى أن علماء الدين لا يجوز أن يتقاضوا على كتبهم الإسلامية شيئًا إلا هدايا، ليكونوا قدوة حسنة للناس أما إذا كتبوا في العربية، أو كتبوا في الشعر، أو كتبوا في التراجم والأعلام، أو كتبوا في أمر دنيوي، فلا مانع أن يماكسو ويبيعوا دنيا بدنيا، أما أن يبيعوا دينًا بدنيا فلا، هذا رأيي ولا ألزم به أحدًا وإني ولله الحمد ماض عليه وشكرًا.
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا في الحقيقة أحب أن أركز على الاسم التجاري والشهرة، وهما في الحقيقة نقطتان، شهرة مجردة، وشهرة مضاف إليها عمل وخبرة - ما في حاجة ثالثة - الشهرة المجردة أنا في رأيي لا تباع، لأنه يدخل فيها الغرر والجهالة والوهم وربما التدليس، أما الشهرة المضاف إليها عمل وإدارة فهذه تقدر بقدرها، عندي بالنسبة لتغير أوراق النقدية أرجو أن تأذنوا لي - الورقة التي عندي - أسلمها للجنة، فيها رأيي وشكرًا.(5/2074)
الرئيس:
شكرًا، انتهى طلب الكلمات:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من واقع البحوث والمداولات يتضح أن كثيرًا من المداولات أخذت شكلًا غير شكل البحوث، لأن البحوث كانت في الاسم التجاري والترخيص، وكان عدد منها في الوعاء العام لها وهو الحقوق المعنوية، التي يدخل فيها كذلك حقوق التأليف وما جرى مجرى ذلك، ونظرًا لوجود نوع من التفاوت في وجهات النظر، وفي الآراء التي بدت حول هذه المسائل، سواء كان على سبيل التأصيل لها، أو على سبيل مفرداتها، فقد ترون مناسبًا أن تؤلف لجنة لها تجمع الاتجاهات المختلفة بها، بالمقرر الشيخ حسن الأمين، وعضوية كل من أصحاب الفضيلة المشايخ: الشيخ وهبة، الشيخ تقي العثماني، والشيخ عجيل، والشيخ مصطفى التارزي، والأستاذ منذر، هذا ناسب؟ شكرًا.
يبقى بعد هذا: اللجنة العامة للصياغة، والتي تتألف من المقرر العام الشيخ
عبد الستار ومن المقررين: الأستاذ: حسن علي الشاذلي، ومحمد رضا عبد الجبار العاني، سامي حمود، محمد سليمان الأشقر، حسن عبد الله الأمين، عبد الله محمد عبد الله، عبد الله بن منيع، محمد عطا السيد، عمر سليمان الأشقر، مصطفى الغزالي، والمطلوب أن يكون الاجتماع في هذا المساء اليوم في الساعة الثامنة والنصف إن شاء الله تعالى في قاعة الروضة في مدخل هذا الفندق وشكرًا، وبه ترفع الجلسة وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(5/2075)
مناقشة القرار
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
قرار رقم (5)
بشأن
الحقوق المعنوية
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الحقوق المعنوية) ، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله قرر:
أولا: الحقوق المعنوية والاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية وحق الترخيص وحق التأليف هي ملك خاص لأصحابها وقد أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس بها وعنيت القوانين بتنظيمها وبيان طرق التصرف فيها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعا.
ثانيا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العلامة التجارة أو العنوان التجاري ونقله بعوض مالي إذا انتفى التغرير أو التدليس أو الغش باعتبار أن الاسم التجاري أصبح حقا ماليا في النظر الشرعي.
ثالثا: للترخيص التجاري صورتان، إحداهما: أن يباع مع المحل التجاري كجزء منه، فهذا جائز شرعا بالشروط المعتبرة في العقود إذا لم يعارض ما يقرره ولي الأمر لمصلحة معتبرة شرعا، الصورة الثانية: بيع الترخيص وحده دون المحل التجاري وفي هذه الصورة حالتان:
الحالة الأولى: بيع الترخيص مع بقائه باسم البائع، فهذا في الحقيقة ليس بيعا بل هو بمعنى الكفالة، وهي كفالة البائع للمشتري دون أن يشارك البائع بمال أو عمل فلا يصح أخذ العوض مقابل ذلك التنازل عن الترخيص لمزاولة المهنة لأن الأصل في الكفالة أنها تبرع ومعروف، لا يجوز أخذ العوض عنها، ومنع البيع لا يستلزم منع الشراء ممن دفعته الحاجة إلى ذلك.(5/2076)
الحالة الثانية: التنازل عن الترخيص لممارسة المتنازل له مهنة معينة وذلك دون مقابل أو بمقابل مكافئ لعمل معين يؤديه المتنازل للتمكين من تلك الممارسة فهذا جائز شرعا ما لم يعارض ما يقرره أو جائز ما لم يقرره ولي الأمر لمصلحة معتبرة شرعا (حتى لا تكرر شرعا) .
رابعا: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها أو تصرف الغير فيها تصرفا ينتقص من الحقوق المالية لأصحابها الذين يتمسكون بهذه الحقوق.
الدكتور عجيل النشمي:
نقطة نظام لو سمحت ….
الرئيس:
تفضل يا شيخ عجيل ….
الشيخ عجيل:
بسم الله الرحمن الرحيم.
نقطة نظام على هذا القرار: باعتباري أحد أعضاء اللجنة التي صاغت وسجلت تحفظي، اعتراضي في نقطة النظام على فقرة ثالثا وما يليها مما يتعلق بالرخصة وحق التأليف والاختراع: فإن مجمعنا الكريم ما عودنا أن يسلك في قراراته هذا الاتجاه، ذلك أن موضوع (الرخصة) ، وموضوع (التأليف) ، و (الاختراع) ، لم يكتب فيه كتابة وافية. هذا أولا، الشيء الثاني: كل البحوث التي كتبت إنما كتبت في الاسم التجاري وجاءت نبذة مقدمة بسيطة في بحثين أو بحث واحد للشيخ البوطي في موضوع (الاختراع) ، الشيء الثالث: أن الصور التي ذكرت هنا تفصيليا لم ترد - الأخ الرئيس كن معي في هذه النقطة - الصور التفصيلية التي ذكرت هنا لم ترد لا في البحوث، ولا في المداولات، فهي في حكم إفتاءات من اللجنة، وأعتقد أن هذه نقطة نظام تجعلنا نتحفظ تحفظا شديدا على هذا القرار. وشكرا.
الرئيس:
شكرا، اقرأ القرار من أولا يا شيخ. الفقرة الأولى، قرر أولا.
أبو غدة:
قرر:(5/2077)
أولا: الحقوق المعنوية.
الرئيس:
نحن نأخذها فقرة فقرة ونستوقف.
أبو غدة:
الحقوق المعنوية والاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية وحق الترخيص.
البسام:
عند هذا الكلام من الحقوق المعنوية: الحقوق المعنوية، هذه كلمة عامة جدا جدا تشمل حتى حقوق: حد القذف والولايات على النكاح والوظائف، والأشياء وكذا، ونحن نتكلم عن أشياء مالية …. نحن نتكلم عن أشياء مالية.
الرئيس:
يا شيخ لو أضفنا وقلنا: من الحقوق المعنوية من الاسم التجاري والعنوان التجاري إلى آخره.
الدكتور طه العلواني:
ربما الاعتبارية تزيل الإشكال يا شيخ.
الرئيس:
عفوا: لو أضفنا (من) بعد الحقوق المعنوية حتى ما عادت تنصرف لغير هذه الأشياء المذكورة بعدها.
دكتور طه العلواني:
أو الاعتبارية بدل المعنوية.
البسام:
يعني يجوز مثلا أن يتنازل عن ولاية النكاح؟ ولاية النكاح يجوز أن يتنازل عنها ويبيعها وهي مخصوصة بشخصه؟
الرئيس:
لماذا لا نبدأ فنحذف العبارة كلها (الحقوق المعنوية) ؟ نقول:
أولا: الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية، إلى آخره.(5/2078)
الشيخ رجب التميمي:
الاسم التجاري حق معنوي لصاحبه، هذا الاسم التجاري إنما حصل عليه صاحبه بالخبرة والعمل وبذل الجهد، فإذا ما بيع هذا الاسم من صاحبه لغيره، قد يكون الشخص الآخر غير أهل للتعامل بهذا الاسم التجاري، الاسم التجاري حق معنوي لكن هذا الحق المعنوي لا يجوز أن ينتقل من شخص له اسمه المعروف في السوق لشخص مجهول غير أهل للسير بهذه الصفة، وبذلك فإني أرى أن الاسم التجاري المعنوي، ليس من ملك لصاحبه لكن بيعه فيه ضرر للمصلحة العامة، بيع الاسم التجاري من صاحبه لغيره ضرر وفيه غش وتزوير، لأننا نقول للمجتمع إن هذا الاسم الذي اكتسب صفة خاصة يباع لشخص ويثق الناس بهذا الاسم، مع أن البيع للجهة التي تشتريه قد لا تحافظ عليه، وفي هذا غش وتزوير وبيع لشيء معنوي انتقل من شخص له الصفة إلى شخص دفع مالًا لكنه لا يستطيع أن يحافظ على الصفة المعنوية للاسم التجاري الذي بيع له من غيره، ولذلك فإني أرى أن الحقوق المعنوية التي وردت في هذا القرار يجب أن تمحص تمحيصا دقيقا فيه ضبط حتى تظهر في هذا القرار قيمة الشيء المعنوي الذي سيباع، وهل هذه القيمة المعنوية التي سيدفع ثمنها لها فائدة للمجتمع للمصالح العامة؟ أم هي أشياء فقط تؤول من صاحبها لغيره وهو المستفيد والمصلحة العامة غير مستفيدة؟
الدكتور عجيل النشمي:
أقول عرفا ولائحيا لا بد أن يجاب على نقطة النظام قبل أن ندخل في التفاصيل.
الرئيس:
لا: سنقول إذا وصلنا إليها، نحن الآن سنبدأ بالفقرة الأولى فإذا وصلنا إليها نبحثها إن شاء الله.
البسام:
سماحة الرئيس: قوله: " وعنيت القوانين بتنظيمها، أنا أرى يعني كأننا نستعد أو نتكئ أو نستدل بالقوانين الوضعية على ما نحن فيه، هذه إشارة، وأرى أن هذه الكلمة لا معنى لها، نستأنس بالقوانين الوضعية؟
الرئيس:
أصلا هي لا تؤدي إلى حكم شرعي. كلمة (وعنيت القوانين) أقول ليست من لازم الحكم الشرعي.
البسام:
لكن كأننا (مستأنسون) .
الرئيس:
لا، أقول: طالما أنها ليست من لازم الحكم الشرعي فلا داعي لوجودها. ما في ضرورة لوجودها.
الضرير:
وصلنا إلى ثانيا.
الرئيس:
لا، لا، نحن ما زلنا في أولا. هل نحذف كلمة الحقوق المعنوية؟ وتبدأ العبارة (الاسم) . طيب اقرأ أولا يا شيخ.(5/2079)
دكتور أبو غدة:
أولا: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، وحق الترخيص، وحق التأليف، هي ملك خاص لأصحابها وقد أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتمدة لتمول الناس بها وعنيت القوانين بتنظيمها وبيان طرق التصرف فيها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعا.
ثانيا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العلامة التجارية أو العنوان التجاري، ونقله بعوض مالي إذا انتفى التغرير أو التدليس أو الغش باعتبار أن الاسم التجاري أصبح حقا ماليا في النظر الشرعي.
الشيخ التسخيري:
قبل أن ندخل في ثانيا يا سيدي الرئيس:
الشيخ المختار:
ثانيا أنا عندي فيها شيء. (ونقل ذلك) : لأننا تحدثنا عن الاسم التجاري والعلامة التجارية والعنوان التجاري (ونقله ايش يكون؟) إما نقلها … أو نقل ذلك.
أبو غدة:
ونقلها ….
الشيخ التسخيري:
سيدي الرئيس. أعتقد العبارة الأولى يعني أولا، هي ملك خاص لأصحابها بعد أن أصبح لها في العرف المعاصر قيمة، وعبارة (عنيت القوانين) تحذف.
الرئيس:
مهلا. (وقد أصبح لها في العرف المعاصر هي ملك خاص لأصحابها) .
التسخيري:
بعد أن أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية.
الرئيس:
بعد أن أصبح لها في العرف قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها.
التسخيري:
لأنها سابقا ما كانت كذلك.(5/2080)
الرئيس:
كلمة (وعنيت) تحذف
التسخيري:
(وعنيت) تحذف وهذه الحقوق يعتد بها شرعا.
الرئيس:
اقرأ أولا يا شيخ.
أبو غدة:
أولا: الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية وحق الترخيص وحق التأليف هي ملك خاص لأصحابها بعد أن أصبح لها في العرف المعاصر قيمة معتبرة لتمول الناس.
الشيخ المختار:
إذن قد أصبح …
أبو غدة:
لتمول الناس لها.
الرئيس:
بعد أن أصبح لها، إذ أصبح لها، مناسب، (إذ أصبح لها في العرف المعاصر) .
أبو غدة:
هي ملك خاص لأصحابها إذ أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها.
الشيخ المختار:
لتمول أو يتمول؟ هي لكمالة المعنى: يتمول. هناك خطأ مطبعي.
الرئيس:
ماذا فيها: "لتمول الناس بها"؟
التسخيري:
معتبرة كاف.
الرئيس:
لكن إذا بقيت ماذا فيها؟ زيادة وإيضاح. ما فيها شيء.
أبو غدة:
وهذه الحقوق يعتد بها شرعا.(5/2081)
الرئيس:
طيب، المادة هذه موافقون عليها؟ موافقون؟ من الذي له ملاحظة؟
الدكتور عجيل النشمي:
لي ملاحظة عليها، ملاحظة فقط.
الرئيس:
الشيخ عجيل؟ تحفظ يعني؟
دكتور عجيل النشمي:
أي نعم، هو تحفظ يعني عبارة حق الترخيص وحق التأليف.
الرئيس:
نرجع لها.
دكتور عجيل النشمي:
مرتبطة بما يلي إن شاء الله، (ثم) علميا العبارة ليست صحيحة، لا يقال حق الترخيص ملك خاص.
الرئيس:
هل - يا مشايخ - هل يقال هي ملك خاص أو يقال حق خاص لأصحابها؟
مناقش:
الترخيص والتأليف …
الرئيس:
يقال الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والترخيص والتأليف هي حقوق لأصحابها.
أبو غدة:
تكون هي أملاكا خاصة.
الرئيس:
هي حقوق خاصة لأن العبارة الجارية حقوق.
مناقش:
تحتل العبارة حينئذ لأننا نقول: هي حقوق خاصة لأصحابها إذ أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية.
التسخيري:
سيدي الرئيس لأن هناك فرقا بين ….
الرئيس:
لا لا، هناك نقطة: أنتم في آخر ما قلتم (وهذه الحقوق يعتد بها شرعا) فأنا أقول: لو قيل مثلا الصياغة كالآتي: " الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والترخيص والتأليف هي حقوق خاصة لأصحابها وهذه الحقوق معتد بها شرعا ".
أبو غدة:
صحيح …. صحيح.
التسخيري:
صحيح لأن هناك فرقا بين الملكية والحق.
الشيخ المختار:
التأليف هو حق لأصحابه.
الرئيس:
نعم: " هي حقوق خاصة لأصحابها ".
الأمين العام:
التأليف ملك وليس حقا.
الشيخ المختار:
حق … التأليف حق لصاحبه.
مناقش:
والترخيص لا يقال حق الترخيص. الترخيص يعطى، ولا يقال له حق.
الشيخ التسخيري:
وليس ملكا، ملك ماذا؟ الملك شيء آخر. هناك فرق بين الملكية والحق.
مناقش:
الملك نتيجة.
مناقش آخر:
لا تنسجم العبارة حينئذ.
مناقش:
سيادة الرئيس: نستطيع أن نقول كما هو وارد في القوانين (الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية وحق الترخيص وحق التأليف هي حقوق أدبية لأصحابها لها قيمة مالية معتبرة عرفا) .
الرئيس:
الذي ترون فيه البركة، لكن أنا في نظري يبقى على هذا (هي حقوق لأصحابها وهذه الحقوق معتد بها شرعا) وانتهينا. فقط جوامع الكلم أحسن.(5/2082)
دكتور الصديق الضرير:
يا سيدي الرئيس، هل هي حقوق مالية أو لا؟ نحن سنرتب عليها فيما بعد البيع فأنا رأيي أن يكون بعد حق التأليف (هي حق خاص لأصحابها لها في العرف المعاصر قيمة مالية) بدل إذ … ما في تعليل (هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة وهذه الحقوق يعتد بها شرعا) ، نريد أن نثبت لها القيمة حتى يجوز بيعها.
الرئيس:
هذا طيب. مناسب هذا يا مشايخ؟
أبو غدة:
مناسب … مناسب.
الأمين العام:
إذن أعطنا الصيغة.
الرئيس:
الصيغة (الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والترخيص والتأليف هي حقوق مالية لأصحابها - هي حقوق خاصة لأصحابها - أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس بها وهذه الحقوق معتد بها شرعا) .
الأمين العام:
إذن نبقيها: (لتمول الناس بها) ؟
الرئيس:
نعم … موجودة.
الدكتور طه العلواني:
لا داعي لها (لتمول الناس) معتبرة فقط.
الرئيس:
تحذف؟
أبو غدة:
لا …. والله مفيدة.
الشيخ رجب التميمي:
…. ذلك أن الشخص صاحب العلامة التجارية أو الاسم التجاري قد يمر على موته مائة عام واسمه يستعمل في السوق ويباع ويشترى.
الرئيس:
يا شيخ رجب أنتم أبديتم الشيء هذا، ما دمتم أبديتموه كفى، نحن سمعنا كلامكم، أقول سمعنا كلامكم لكن المشايخ مجمعون على ما هو موجود هنا والذي له تحفظ يعطينا إياه تفضل اقرأ يا شيخ.
أبو غدة:
ثانيًا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العلامة التجارية أو العنوان التجاري ونقلها بعوض مالي إذا انتفى التغرير أو التدليس.
الرئيس:
ونقله. يعني نقل أي واحد من هذه الأنواع. لا (ونقله بعوض مالي) يعني نقل الاسم التجاري، نقل العلامة، نقل كذا بعوض مالي.
الشيخ خليل الميس:
ونقل أي منها.
أبو غدة:
ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى التغرير أو التدليس أو الغش باعتبار أن الاسم التجاري أصبح حقًّا.
الشيخ المختار:
باعتبار أن ذلك.
أبو غدة:
باعتبار أن ذلك أصبح حقًّا ماليًّا في النظر الشرعي
الرئيس:
(أصبح حقًّا ماليًّا) يكفي. يعني أنها اجتهاد. يعني اتركوها …. الله يعفو.
الدكتور الضرير:
هذا نتيجة طبيعية لأنها أصبحت حقًّا ماليًّا ما دام قلنا في أولًا، لكن ملاحظاتي (يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العلامة التجارية) ، الأولى هنا أن يقال (في الاسم التجاري) تأتي بعده (أو العنوان التجاري) حسب الترتيب السابق هذه حاجة شكلية (أو العلامة التجارية ونقله بعوض مالي) . هنا نقول (إذا انتفى التغرير أو التدليس أو الغش) العطف بالواو هنا وليس بـ (أو)
الرئيس:
هذا صحيح إذا انتفى (التغرير والتدليس والغش) .
الضرير:
نعم.
الرئيس:
تحذف الهمزة. لا تهمزوها(5/2083)
الضرير:
ثم كلمة (التغرير) هنا ما المراد بها؟ هو في عرف المحدثين تعني (التدليس) ولعل المراد هنا (الغرر) ، إذا انتفى الغرر والتدليس لتحصل المغايرة والغش بدل التغرير.
الشيخ التسخيري:
ليس المراد الغرر في العقد، التغرير
دكتور الضرير:
إذا كان المراد التغرير فلا داعي له لأن التغرير هو التدليس وإن كان من الناحية اللغوية كلمة (التغرير) غير سليمة لا تعني التدليس لكن المراد الغرر يكون له معنى آخر.
الرئيس:
التدليس يشمل التغرير … يشمل التغرير.
دكتور الضرير:
لكن الشيء يبدو لي مما قرأته من المقدم في هذه المسألة، وهو استعمل كلمة (التغرير) بمعنى الغرر، يريد منها الغرر.
مناقش:
لكن الغرر لا علاقة له هنا.
دكتور الضرير:
هو المصدر تغرير مصدر من غرر بنفسه إذا أوقعها في الغرر، وغر غيره غرورا إذا دلس عليه وغشه.
مناقش:
سيادة الرئيس الفقرة الثانية لماذا لا ترتبط بالفقرة الأولى؟
دكتور الضرير:
فإما أن نضع كلمة الغرر بدل التغرير أو نحذفها.
مناقش:
فيجوز التصرف فيها، وتنتهي
التسخيري:
مسألة الحق غير التصرف
مناقش:
لحقوق مالية.
الرئيس:
يعني تربط بالأولى.
مناقش:
طبعًا …. ما النتيجة التي …
التسخيري:
سيدي الرئيس.
هناك حقوق لا يجوز التصرف بها يا سيادة الرئيس ولذلك فلتبق مستقلة، يعني ذلك أمر وهذا أمر آخر. هناك حق المؤمن، حق الجار لا يمكن التصرف فيهما.(5/2084)
الرئيس:
هو - سلمك الله - الفقرة الأولى أثبتت التكييف الشرعي، أثبتت التكييف، أما الفقرة الثانية فهي أثبتت الحكم، لأنها تناولت الاسم التجاري، والعنوان التجاري والعلامة التجارية والترخيص يأتي، والتأليف يأتي. . .
الأمين العام:
إذن الغرر وإلا التغرير وإلا …؟
الرئيس:
لا: الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقًّا ماليًّا. فقط
أبو غدة:
ثالثًا: للترخيص التجاري صورتان: إحداهما أن يباع مع المحل التجاري كجزء منه فهذا جائز شرعًا بالشروط المعتبرة في العقود إذا لم يعارض ما يقرره ولي الأمر لمصلحة معتبرة شرعًا.
الرئيس:
يكفي. ما رأيكم؟ الشيخ عجيل لا شك متحفظ، الشيخ عجيل هو متحفظ ويرى ألا تبتوا بهذا لأن هذا الموضوع لم تحصل مداولة فيه - ولا البحوث فيه - في أثناء الجلسة، والشيخ عبد اللطيف معه والشيخ خليل والشيخ إبراهيم. يا شيخ أحمد يعني إذن تحذف كلمة: الترخيص والتأليف من الفقرة الأولى؟ .
التسخيري:
يحذف من أولًا … من أولًا يحذف.
الرئيس:
الترخيص والتأليف؟
التسخيري:
لا … الترخيص، التأليف دعوه، حق الترخيص احذفوه حتى لا … ونحذف ثالثا.
الرئيس:
طيب … إذا رأيتم يحذف؟
مناقش:
الواقع المقصود كما فهمته من الأستاذ عجيل هو أننا لم نناقش الصور المختلفة للترخيص، أما بيع الترخيص كحق مالي فهذا مما قررناه في الفقرة الأولى، وأما الصور المختلفة للترخيص ما بحثناها ولا درسناها.
الرئيس:
أنا أقول طالما أن الرجوع إلى الحق خير - طالما أننا نحن اتخذنا قاعدة أن لا نبت بحكم بمسألة إلا بعد أن نستوعبها بقدر الإمكان والوسع - فإذا رأيتم أن الفقرة الأولى أولًا: (الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف) يعني وحق التأليف، وتحذف كلمة الترخيص، ثم ثالثًا تحذف. ترون هذا مناسبًا؟
مناقش:
مناسب ….. نعم.
الرئيس:
الذين يرون حذفه يرفعون أيديهم، انتهى يحذف … يحذف الترخيص من أولا.
الدكتور طه العلواني:
يعني يؤجل أو بالمرة …؟(5/2085)
الرئيس:
لا، يؤجل، يؤجل فقط المهم أن يحذف الحكم من القرار هذا، وثالثا هذه كلها تحذف، يبقى على عبارة في أولا هل هي مناسبة؟ (الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف كذا) … الشيخ أحمد؟ …. الشيخ الخليلي؟
مناقش:
حق التأليف يحذف ما استوعب بحثا.
الرئيس:
نعم؟
مناقش:
حتى يستوعب بحثا.
الرئيس:
أكثر مناقشات الإخوان عليها، لا لا، بحثت يا شيخ وأمرها الحمد لله واضح.
مناقش:
بحثت ولكن ما استقر رأي عليها.
الرئيس:
لا، أنا أذكر تماما وأنتم تذكرون على أنها بحثت وجاءت مداولة فيها ولا أعرف فيها رأيا معارضا إلا الشيخ عبد الله بن بيه، قال من باب الورع أو شيء من هذا القبيل.
مناقش:
طيب وهذا بجانب الشيخ عبد الله بن بيه … هذا بجانبه.
الرئيس:
جزاك الله خيرا، أنا لي بحث وأنا بجانب ابن بيه، ولكن الحقيقة يعني أصبح الآن: النقطة مهمة ولا أحب أن افتح باب النقاش، أصبحت المؤلفات الآن بعد ما حصلت مسألة لبنان، أصبحت جوادا رابحا لغير المسلمين يطبعونها ويوصرونها ويربحون بها أموالا طائلة، فالآن مؤلفات المسلمين ما سلمت وعليها حقوق التأليف محفوظة، فكيف إذا أفلتنا؟ فهذه نقطة مهمة، وأنا لا أكتمكم أن دارا من دور النشر لغير مسلم أصبحت الآن عملاقا في المال بسبب تصوير هذا الكتب، والحمد لله: يعني الواقع الآن يثبت على أن قضية الاحتفاظ بحقوق التأليف ليست معوقا عن العلم ولا عن طلب العلم ولا عن انتشار الكتب، هذا شيء أصبح يقينيا، فإذن الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف. فقط أنا قصدي هل العبارة مناسبة كذا (والتأليف) ؟ .
مناقش:
حق التأليف.
الرئيس:
طيب، رابعا الذي هو ثالثا.
الأمين العام:
لا … لا …. ثالثا ألغيناها.
الرئيس:
نعم كلها.
أبو غدة:
رابعا صارت ثالثا.
ثالثا: حقوق التأليف والاختراع والابتكار مصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها أو تصرف الغير فيها تصرفا ينتقص من الحقوق المالية لأصحابها الذين يتمسكون بهذه الحقوق.
الرئيس:
هذه عندي فيها وقفة، هل يجوز أن يتصرف الغير فيها تصرفا ينقص من حقوقها الأدبية؟
الشيخ التسخيري:
أصلا هذه العبارة لا داعي لنا فيها.
الرئيس:
فأنا إذا رأيتم أن تكون (حقوق التأليف والاختراع والابتكار مصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها أو تصرف الغير) فقط، وانتهينا.
الشيخ التسخيري:
هذا أمر قلناه في أولا سابقا، قلنا إنها حقوق بعد، واضح المعنى أنها تصير حقوقا، حقوق التأليف طرحناه في أولا، إذا أردنا فلنضف حقوق الاختراع هنا في أولا وتنتهي المسألة، لماذا نفرد لها مادة مستقلة؟ لا: هناك ذكرنا التأليف وحق الابتكار، وتتنهي المسألة.
مناقش:
لا، ولكن ما ذكر فيما قبله حكم بيع الحقوق، بيع حق الاختراع …..
الرئيس:
يا مشايخ يكون في أولا في آخرها لما قلنا (وهذه الحقوق يعتد بها شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها) وتنتهي.
دكتور الضرير:
نحن نريد أن نبين حكم التصرف فيه بالمعاوضات.
مناقش:
يضاف إليها حق التأليف.
دكتور الضرير:
ما ورد.
الشيخ التسخيري:
هذا في ثانيا.(5/2086)
الشيخ المختار:
سيدي الرئيس القضية: يمكن الاستعاضة بما تفضلتم به، لكن لا بد من التنصيص على هذه الحقوق … فهذا أمر جديد.
الرئيس:
فأما أنا أرى الفقرة جميلة جدا التي هي ثالثا.
الشيخ المختار:
لكن …. " ولا يجوز الاعتداء عليها أو التصرف فيها بغير إذن صاحبها " أزيلوا كلمة (الغير) لأن كلمة (الغير) فيها خلاف كبير.
الرئيس:
هكذا يكفي … وتنتهي.
الشيخ المختار:
أي نعم: " أو التصرف فيها بغير إذن صاحبها ".
الرئيس:
أو التصرف فيها بغير إذن صاحبها. لكن الحقيقة ما معناها؟ هو التصرف بغير إذن أليس اعتداء؟
الأمين العام:
هو اعتداء.
الرئيس:
هي …لا داعي له (ولا يجوز الاعتداء عليها) وانتهينا.
مناقش:
ولكن لم يذكر فيه حكم بيع هذا الحق.
الرئيس:
نعم.
مناقش:
لم يذكر هنا حكم بيع هذا الحق والاعتياض عنه والتنازل عنه بعوض.
التسخيري:
ثانيا … ثانيا مولانا … يجوز التصرف.
مناقش:
لا … لا … ما جاء هناك حق البيع.
التسخيري:
نقلها بعوض مالي … يجوز التصرف … ثانيا: يجوز التصرف.
الشيخ المختار:
إذن ماذا صنعتم بالاختراع؟
الأمين العام:
والابتكار …. مصونة شرعا.
يجوز بيعها ولا يجوز الاعتداء عليها … لا بد من قضية. كيف يستطيع …؟
الشيخ التسخيري:
سيدي الرئيس: يضاف إلى أولا حقوق الابتكار.
الرئيس:
هذا واضح.
التسخيري:
ويضاف: ولا يجوز الاعتداء عليها.
الرئيس:
مهلا (الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف والابتكار) هكذا؟
التسخيري:
هذا صحيح … وأما النقل بعوض فقد ذكر في ثانيا.
مناقش:
لا، هنا حق الاسم التجاري مشروط بانتفاء الغرر والتدليس ولا علاقة بالغرر والتدليس مع بيع حق التأليف.(5/2087)
الرئيس:
على كل في الواقع الذي يظهر في: ثالثا بقاؤها بعد حذف عجزها الأخير، ما فيه محظور ثالثا: " حقوق التأليف والاختراع والابتكار مصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها " فقط وانتهينا.
مناقش:
ويجوز بيعها ….
الرئيس:
نعم؟
مناقش:
ويجوز الاعتياض عنها أو التنازل عنها بعوض.
الرئيس:
طالما نحن قررنا في أولا يا شيخ التقعيد العام …
مناقش:
لا يعني لا بد من النص عليه.
مناقش:
سيادة الرئيس فلا يجوز الاعتداء عليها وليس (ولا يجوز الاعتداء عليها) .
الرئيس:
ماذا؟؟
مناقش:
فلا يجوز الاعتداء عليها.
الرئيس:
نعم صحيح.
مناقش:
من الغير.
الأمين العام:
هذه نزيدها في ثانيا … هي ألصق بالموضوع.
الرئيس:
وهذه الحقوق يعتد بها شرعا.
الأمين العام:
لا، يجوز التصرف في الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية ونقلها بعوض مالي، ننحن قلناها، ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر.
أبو غدة:
فقط ويلزم أن نضيف فيها التأليف والابتكار.
الأمين العام:
نعم … أضفها … أضفها.
الشيخ التسخيري:
يضاف في أولا وثانيا وتنتهي المسألة، يعني ما الداعي لإفراد مادة مستقلة لحق الابتكار؟ أضيفوا الابتكار إلى أولا وثانيا، تتحقق الأحقية ويتحقق عنصر النقل.
الرئيس:
ونحذف ثالثا؟
الشيخ التسخيري:
ونحذف ثالثا.(5/2088)
الأمين العام:
نعود نقرأ أولا وثانيا.
الرئيس:
اقرأ أولا.
أبو غدة:
أولا: الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف والاختراع والابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها وهذه الحقوق يعتد بها شرعا.
ثانيا: يجوز ….
الرئيس:
لا: وهذه الحقوق يعتد بها شرعا، ولا يجوز الاعتداء عليها.
أبو غدة:
فلا يجوز الاعتداء ….
الرئيس:
فلا يجوز الاعتداء عليها.
أبو غدة:
فلا يجوز الاعتداء.
الشيخ المختار:
يا سيدي من فضلك الكل على نسق واحد. ثانيا: يجوز التصرف في الاسم التجاري والعنوان التجاري. ثالثا: يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار وهي مصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها إلا بإذن صاحبها …أو الـ ….
الرئيس:
أنا أقول لو يقال هنا في ثانيا ….
الشيخ المختار:
أنا أحب أن تسمح، للواقع بأنها واقعة جديدة لا بد من النص عليها واضحة في فقرة كما تحدثنا عن الاسم التجاري، الاسم التجاري تحدثنا عنه في فقرة خاصة، حقوق التأليف التي بالغنا في الحديث عنها لا بد من أن تستقل بفقرة.
الرئيس:
هي استقلت الآن. هي مستقلة ستأتي … اقرأ ثانيا.
أبو غدة:
يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقا ماليا في النظر الشرعي.
الأمين العام:
لماذا في النظر الشرعي؟
الرئيس:
لا … لا داعي لها … أصبح هو الحل.
الشيخ المختار:
هنا ثالثا يجوز التصرف في حقوق التأليف.
أبو غدة:
ثالثا: يجوز التصرف …
الرئيس:
لا، حقوق التأليف والاختراع ….
أبو غدة:
حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعا فلا يجوز الاعتداء عليها أو التصرف فيها بغير إذن أصحابها.
الرئيس:
فقط … انتهينا … مناسب.
مناقش:
يا سماحة الرئيس: أسأل عن التصرف ولا يجوز تصرف الغير فيها، فمثل شرح الكتاب شرح التأليف أو التعليق عليه أو عمل حاشية له أليس هذا من التصرف؟ هل كل ذلك يحجر إلا بعوض مالي؟
الشيخ المختار:
إلا بإذن صاحبه قلنا، وليس بعوض مالي.(5/2089)
الرئيس:
يا شيخ هي قضية يعني حتى قضية الترجمة، مسألة الترجمة يخصونها بحكم، لأنها أصبحت كعمل جديد.
الأمين العام:
وهذا يخضع للتعاقد بين صاحب الأصل والمترجم.
التسخيري:
فإن المترجمون عليهم أن يشتروا هذا الحق وهذا أمر غير متعارف عليه، الآن المترجمون لا يستجيبون.
الأمين العام:
الإذن في الترجمة موجود سيدي.
التسخيري:
موجود لكن عادة ما يتعارض، وهو ماض.
الأمين العام:
قد يكون بمال وقد لا يكون بمال.
التسخيري:
إذن يجب علينا أن نذهب للغربيين لنترجم كتبهم ونأخذ منهم إجازة ونعطيهم فلوسا لأنهم لهم الحق.
دكتور طه العلواني:
لأنهم يقاضون عليه ….
الرئيس:
نحذف التأليف: هل يتأتى إضافة حق التأليف في ثانيا؟
الدكتور طه العلواني:
يمكن وينهي الإشكالات.
الرئيس:
التأليف والابتكار هل يضاف في ثانيا؟
دكتور طه العلواني:
يمكن إضافتهما.
الشيخ المختار:
أنا دائما ألح على أن يكون في فترة خاصة للتوازي ولأنه حق جديد، حق ما وقع التعود عليه من قبل فلا يدمج هكذا بدون أن ينظر إليه نظرة خاصة واضحة في فقرة كما تحدثنا عن الحق.
الرئيس:
وأنا أقول إذا رأيتم أن تكون العبارة كالآتي:
ثالثا: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعا فلا يجوز الاعتداء عليها ونقف.
دكتور الضرير:
السكوت هنا عن حكم بيعها قد يفهم منه أنه لا يجوز بيعها والاتجاه على أن بيعها جائز، وخاصة نحن نصصنا على بعض الحقوق بأنه يجوز بيعها، فإذا سكتنا عن جواز البيع في حق التأليف والاختراع لا يفهم منه، وأنا رأيي أنه يمكن أن تدمج كلها وتكون فقرتين فقط، الفقرة الأولى ذكرنا فيها كل هذه الحقوق، الفقرة الثانية نبدأها بـ: يجوز التصرف في الحقوق المذكورة في أولا ونقلها بعوض مالي ويشترط في نقل - التي نريد فيها الشروط هذه - الاسم التجاري والعلامة التجارية والعنوان التجاري أن ينتفي الغرر والتدليس والغش.
الرئيس:
طيب ….(5/2090)
الشيخ المختار:
عندي اقتراح تسمعونه أيضًا: يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع - وإذا قلنا التصرف معناه بالهبة وبالصدقة وبالبيع وبالتنازل تصرف بالكامل - يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع والابتكار المصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها وانتهينا " فلا يجوز الاعتداء عليها، أو ولا يجوز الاعتداء عليها ".
الرئيس:
يعني حقوق الابتكار تجوز وقفيتها يا شيخ؟
المختار:
نعم سيدي؟
الرئيس:
حقوق الابتكار تجوز وقفيتها؟
المختار:
نعم؟
الرئيس:
مهلا يا شيخ: إذا قلنا التصرف: فمثلا حقوق الابتكار أو الاختراع هل تجوز وقفيتها والوصية بها؟
المختار:
قطعا.
الرئيس:
ووقفيتها تصح؟
المختار السلامي.
قطعا، وقعت الوقفية في الخلو وهو حق اعتباري وكانت سوق كاملة في مصر في القرن الحادي عشر كلها موقوفة خلوا.
الرئيس:
الآن النقطة يعني المسألة مهمة في حقوق التأليف، وهي لم يتعرض لها بالأمس، قضية ما أطبقت عليه القوانين من التحديد بثلاثين سنة أو بأربعين سنة أو بخمسين سنة أو بسبعين سنة، النقطة هذه لم تناقش في الواقع.
الشيخ المختار:
لم نتفق على أن ما كان قانونا هو إحقاق للحق، هل يسقط الحق بمرور الزمن ثلاثين سنة؟ هذا رأي القانونيين.
الرئيس:
ما قصدوا قضية التقادم ومرور الزمن.
الشيخ المختار:
هذه قضية قانونية وما هي بحكم إسلامي.
الرئيس:
أنا عارف أنا أعرف، لكنها ما نوقشت.. ما مدى ملائمتها للحكم الشرعي؟ ما نوقشت إطلاقا.
الشيخ المختار:
ما تحدثنا عنها.
الرئيس:
نعم؟
الشيخ المختار:
نحن ما تحدثنا هنا على أنه ينتهي حق التأليف أو حق الابتكار في أمد معين بل قلنا: يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع والابتكار المصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها إلا بإذن صاحبها، أو لا يجوز الاعتداء عليها.
الرئيس:
هل ترون حذف ما يتعلق بالتأليف؟
دكتور عجيل النشمي:
الحقيقة لم يستوف: يعني من قراءتي للبحوث حق التأليف لم يستوف.
الرئيس:
هو لم يستوف: أنا معك لم يستوف في البحوث، استوفي في المناقشة والمناقشة استهلكت أكثر ما في الموضوع، استهلكت حقوق التأليف، لكن أقول: مسألة حقوق التأليف أصبحت - والله أعلم - أمرا بحكم المفروغ منه. أصبحت يا شيخ حقا عينيا لا يتجادل فيه اثنان.
أبو غدة:
والله فيه جدل، فيه جدل.
الرئيس:
جدل ضئيل.
الأمين العام:
يا سيدي القضية هي إثبات هذا الحق فقط، ولا نبحث قضية اقتضاء الحق بعد خمسين سنة، هذا لم يبحث حقيقة لكن إثبات الحق بحث.
الرئيس:
المهم السؤال الآتي، هل ترون أن نحذفه مع الترخيص أو يبقى؟ فقط.
مناقش:
يبقى.
الرئيس:
يبقى، من الذي يقول يبقى يرفع يده؟ انتهى، طيب الذين يقولون يبقى يصوغون العبارة.
دكتور عجيل النشمي:
الذين قالوا يبقى كم عددهم؟(5/2091)
الشيخ التسخيري:
هذه عبارة الشيخ الضرير - ما دام يبقى - جيدة.
عبارة الشيخ الضرير تؤخذ من جديد وتدرج، شيء جيد هذه العبارة يعني تجمع الاثنين في فقرتين.
الأمين العام:
أنا إذا سمحتم مادام الاتفاق بصورة عامة وفي الغالب قد حصل حول جمع ما يتعلق بحقوق التأليف وما يتعلق بالاسم التجاري والعلامة، وأن فضيلة الشيخ قد أعد صيغة فليتفضل بتقديمها إلينا لعرضها عليكم. أعطنا الصيغة التي تقترحونها.
دكتور الضرير:
طيب أنا ما أعددتها لكن هذا المعنى، فسوف تكون عبارة عن فقرتين فقط تبدأ بـ (يجوز التصرف في الحقوق المذكورة في أولا) .
الشيخ المختار:
يلزم أن نسمع الفقرة كاملة.
الأمين العام:
يا سيدي نكتبها وبعد ذلك نناقشها، تفضل يا سيدي.(5/2092)
دكتور الضرير:
يجوز التصرف في الحقوق المذكورة في أولا ونقلها بعوض مالي. إلى هنا، ويشترط في نقل الاسم التجاري أو في الاعتياض عن الاسم التجاري أو العلامة التجارية أو العنوان التجاري - نعكس - أن ينتفي الغرر والتدليس والغش باعتبار - هذه حاجة تقدم أولا - باعتبار أن هذه الحقوق أصبحت حقوقا مالية في النظر الشرعي تأتي أولا: أقراها مرة أخرى: (يجوز التصرف في الحقوق المذكورة في أولا ونقلها بعوض مالي باعتبار أن هذه الحقوق أصبحت حقوقا مالية في النظر الشرعي ويشترط في الاعتياض عن الاسم التجاري والعنوان التجاري أو العلامة التجارية أن ينتفي الغرر والتدليس والغش) .
الأمين العام:
والبقية؟
دكتور الضرير:
إلى هنا … ثم قالوا: لا يأتي فيها الغرر والتدليس والغش.
الأمين العام:
طيب ولكن عندنا …
دكتور الضرير:
بالنسبة لحق التأليف.
الأمين العام:
طيب طيب، إذن ممكن نستأذن من المشايخ في استملاء هذا النص حتى نقرأه ويكون واضحا نكتبه يا سيدي من فضلك (يجوز التصرف في الحقوق المذكورة في أولا ونقلها بعوض مالي ويشترط في الاسم التجاري …) .
دكتور الضرير:
إذن انتفى … نضيف بعد، لأن هذه الحقوق أصبحت حقوقا مالية في النظر الشرعي هذه تكون مقدما ويأتي بعدها (ويشترط) .
الأمين العام:
طيب إذن الدكتور تفضل …اقرأ.
أبو غدة:
يجوز التصرف في الحقوق المذكورة في الفقرة الأولى ونقلها بعوض مالي باعتبارها أصبحت حقوقا مالية في النظر الشرعي.
الشيخ المختار:
ونقلها - من فضلك - ونقلها بغير حق مالي، بغير عوض مالي ما هو حكمه؟
أبو غدة:
ونقلها مجانا أو بعوض مالي.
الشيخ المختار:
وإذا نقلت بالهبة لا تنقل؟
أبو غدة:
مجانا أو بعوض مالي. ونقلها بعوض أو بدونه.
الشيخ المختار:
وأكثر دلالة من هذه العبارة …(5/2093)
دكتور الضرير:
تنقل بالهبة وبالوصية وبكل التصرفات الناقلة للملكية، لكن المقصود النص هذا بالذات هو …
المختار:
نقول التصرف يؤدي …. وما أدري ما الموجب لهذا التحوير والتحوير المرتجل؟
الرئيس:
يا مشايخ لعل اقتراح الشيخ الضرير يحل الموضوع.
المختار:
ما حل يا سيدي: (يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقلها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقا ماليا في النظر الشرعي) انتهى أخذ الحق التجاري كامل حقه ثم ننتقل إلى حقوق التأليف فنقول ثالثا: يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع والابتكار المصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها، وانتهينا، والكلام واضح وانتهينا منه، وقد استوفى كل المعاني التي تحدثنا عنها في هذه الجلسة.
مناقش:
سيادة الرئيس أعود إلى مقترحي الأول، إذا كنا نريد أن تكون الصياغة علمية، الفقرة الثانية والأولى ندمجهما لأنه المهم أعطينا الصفة المالية لهذه الحقوق فينتج عنها أنه يجوز التصرف فيها. وتنتهي المشكلة: الفقرة الأولى والثانية عبارة عن سطرين أو سطر ونصف. حقوق، والأولى لا يقال الحقوق الخاصة لأن في القانون حقوقا خاصة لها مدلولات معينة، حقوق طبيعية وحقوق خاصة مدنية حق شخصي وعيني وحق أدبي، يلزم أن نقول: حقوق خاصة أدبية لها قيمة مالية في عرفنا المعاصر فيجوز التصرف فيها.
المختار:
في فقرتي …اقرأ الفقرة كما هي … اقرأ الفقرة أولا.
أبو غدة:
ثالثا: يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار المصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها.
الرئيس:
الذي يوافق يرفع يده على هذه الصيغة …. الشيخ الصديق؟
الشيخ المختار:
يا شيخ أنت لست بموافق؟
الرئيس:
ماذا؟
الشيخ الصديق:
لا، لا تعد، الأكثيرة ما فيه إشكال.
أبو غدة:
حذفنا التصرف.
الرئيس:
لا لا، صدر العبارة - يجوز تصرف الغير وإلا منه - صحيح كلام الشيخ البرهاني وارد يعني يجوز تصرف الغير؟
أبو غدة:
إذن دعنا نؤخر ونقول: حقوق التأليف والاختراع.
الرئيس:
العبارة التي اقترحتموها (يجوز التصرف في حقوق التأليف) يعني يجوز تصرف الغير؟
الشيخ المختار:
التصرف معناه التصرف بالبيع والشراء.
الرئيس:
نعم، لكن هل يجوز تصرف الغير؟ أو تصرف صاحبها؟
أبو غدة:
هكذا تصير ونقول: حقوق التأليف والاختراع.
مناقش:
حقوق لأصحابها.
أبو غدة:
مصونة شرعا ويجوز تصرف أصحابها فيها ولا يجوز الاعتداء عليها.
الشيخ المختار:
يجوز التصرف في حقوق التأليف والاختراع والابتكار المصونة شرعا لأصحابها ولا يجوز الاعتداء عليها.
الرئيس:
شوفوا العبارة يا مشايخ (حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعا لأصحابها حق التصرف فيها ولا يجوز الاعتداء عليها) .(5/2094)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (5)
بشأن
الحقوق المعنوية
إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الحقوق المعنوية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولًا: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها. وهذه الحقوق يعتد بها شرعًا فلا يجوز الاعتداء عليها.
ثانيًا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك اصبح حقًا ماليًا.
ثالثًا: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعًا ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها.
والله أعلم.(5/2095)
التأجير المنتهي بالتمليك
والصور المشروعة فيه
إعداد
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة وتمهيد:
الحمدُ للهِ وصلى الله وسلم على محمد عبد الله ورسوله.. أما بعد.
فقد خلق الله الإنسان وسنَّ له سبيل الهداية والرشاد، فلم يتركه يضرب في الأرض على غير هدى وإنما رسم له معالم الطريق التي توصله إلى السعادة في الدنيا والآخرة، وفطره على خلتين هما العجز والحاجة، فاضطر تحت وطأتهما إلى الانضمام إلى غيره والتعاون مع بني جنسه حتى يتم العمران وتقوم الحضارات ويتحقق الاستخلاف الذي أراده سبحانه، وقد مهد لذلك بتحقيق هذه الركائز الثلاثة:
الأولى: وجود المادة ويقصد بها جميع الموارد الطبيعية التي أوجدها الله سبحانه، كما قال: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} . [الآية 10 من سورة فصلت] .
الثانية: تطويع هذه المادة واستصلاحها لتكون مهيئة ونافعة فكان ذلك بتزويد الإنسان بالفكر واليدين وعن طريقهما يترقى في فنون الصناعات سواء منها ما كان خاصا بعمل الفكر أو بعمل اليد أو كان مشتركًا بينهما.
الثالثة: الشريعة المهيمنة الضابطة المنظمة لأنه لو ترك الناس وشأنهم لتنازعت بهم الأهواء وتباينت المصالح وشاعت الفوضى، كما قال سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} . [الآية 71 من سورة المؤمنون] .
وقد تمكن الإنسان في ظل هذه الركائز من تحقيق معنى الاستخلاف الذي هو تنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي كما قال سبحانه: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [الآية 61 من سورة هود] .
وعن هذه الخلافة والاستخلاف قال سبحانه: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} . [الآية 129 من سورة الأعراف] .(5/2096)
وبيَّن سبحانه أن الغاية من قبل ومن بعد هي عبادة الله والوقوف على شرائعه وهديه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . [الآية 56 من سورة الذاريات] .
ولقد استطاع الإنسان بالميزات التي خصه الباري بها أن يكون غير محدود الاستعداد ولا محدود الرغائب ولا محدود العلم ولا محدود العمل، فهو على ضعف أفراده يتصرف بمجموعه في الكون تصرفًا لا حد له بإذن الله وتصريفه، وكما أعطاه الله تعالى هذه المواهب والأحكام الطبيعية ليظهر بها أسرار خليقته، وملكه الأرض وسخر له عوالمها وأعطاه أحكامًا وشرائع حد فيها لأعماله وأخلاقه حدًّا يحول دون بغي أفراده وطوائفه بعضهم على بعض.
وظهرت آثار الإنسان في هذه الخلافة على الأرض في المعدن والنبات وفي البر والبحر والهواء، فهو يتفنن ويبتدع ويكتشف ويخترع ويَجِد ويعمل حتى غير شكل الأرض، فجعل الحزن سهلًا والماحل خصبًا والخراب عمرانًا والبراري بحارًا أو خلجانًا، وولد بالتلقيح أزواجًا من النبات لم تكن، وتصرف في أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية والتغذية والتوليد.
فمن حكمة الله أن جعل الإنسان بهذه المواهب خليفته في الأرض يقيم سننه ويظهر عجائب صنعه وأسرار خليقته وبدائع حكمه ومنافع أحكامه.
وقد قال بعض العلماء: إن من لم يصلح لخلافة الله تعالى ولا لعبادته ولا لاستعمار أرضه فالبهيمة خير منه.
وإذا كان نفع العباد ودرء الضرر عنهم من أهم المقاصد التي استهدفت الشرائع الإلهية تحقيقه، فإن الشريعة الإسلامية لها الهيمنة الكاملة والقول الفصل في ذلك كله، فإن جلب المصالح ودرء المفاسد هما اللذان تدور عليهما أحكامه كما يقرر ذلك الشاطبي بقوله: (إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا واعتمدنا في ذلك على استقراء الأحكام الشرعية) ، وإن المصالح التي استهدفت الشريعة الغراء المحافظة عليها هي الكليات الخمس التي لا يمكن لأية حضارة إلا أن تأخذ بها، وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وكانت وسيلة المحافظة عليها حسب الأهمية والخطورة، فكانت المحافظة على الضروريات التي يتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية في المقام الأول، ثم تأتي المرتبة الثانية وهي الحاجيات التي هي تؤدي إلى رفع الحرج ودفع المشاق أقرب بحيث يقع الناس عند فقدها في ضيق لا تختل معها أمورهم، ثم تأتي مرتبة التحسينات وهي بمنزلة المحاسن للعادات.(5/2097)
ووجدنا من علماء الشريعة في كل فن من الفنون من كرس عنايته لتلمس مقاصد الإسلام والوقوف على أسرار التشريع واستنباط الأحكام ومعرفة العلل وحصر الكليات واستقراء الجزئيات لبناء النظريات العلمية القائمة على الفهم الصائب واجتهاد السوي. ووضعوا فيها المؤلفات الخاصة التي ضمنوها ملك الأسرار، وأماطوا بها اللثام عن وجوه المحاسن في التكاليف. ومن لطائف ما نبهنا إليه أبو عبد الله البخاري في كتابه محاسن الإسلام عن البيع والإيجار ما نلخصه في هذه السطور، قال رحمه الله: (البيع معاوضة مال بمال وهو أليق بأحوال الخلق إذ المعطي والآخذ محتاج واللائق بمال المحتاج أن يتصرف على حسب حاجته، فلا يليق به الإعطاء بلا عوض، إنما يليق هذا بمن يكون الغنى له وهو الله، فالمعاوضة أحسن وجوه المعاملة، فإنه فيه صيانة أخيه عن أعباء منته، والإعطاء بلا عوض إدخال حر مثله تحت رق إحسانه، فالبيع اشتمل على مصلحة، وهي أن من احتاج إلى شيء ربما احتاج إلى الأسفار والقوافل وتحمَّل الأخطار ومتى وجده بالبيع قريبًا منه سقط عنه مؤونة الأسفار، وحصل على ما يريد بأهون طريق) .
ولكن ليس كل إنسان بقادر على تملك ما يحتاجه أو ليس دائمًا يرغب في تملك ما يحتاجه، وإن كان قادرًا على تملكه فكانت الحكمة في شرعة الإيجار.
فمصلحة الآجر الحصول على المال مع بقاء العين على ملكه، والمستأجر مصلحته بالوصول إلى المقصود من غير أن يتحمل ما هو فوق طاقته، ولعل هذا هو أهم ما يميز عقد البيع عن عقد الإيجار، ففي عقد الإجارات يبقى الملك لصاحبه مع انتفاع الغير به، أما في عقد البيع فإن الملكية تنتقل إلى الآخر، ويتمحض حقه في البدل وهو الثمن. ولهذا عبر الفقهاء عن ذلك بقولهم: إن البياعات شرعت على حظ الأغنياء، والإجارات شرعت على حظ الفقراء.
فإذا تقرر هذا فإننا سنتناول الموضوع من زوايا ثلاث وهي:
الأولى: حكمه من حيث الوجهة الشرعية وآراء الأئمة والفقهاء.
الثانية: من حيث القانون باعتباره المرجع النهائي عند اختلاف المتعاقدين ومقارنته بآراء الفقهاء.
الثالثة: من حيث الآثار العملية والنتائج المادية المترتبة على هذا النوع من التعامل سواءً أكانوا مستهلكين أم تجارًا.(5/2098)
التأجير المنتهي بالتمليك من حيث نظر الفقهاء
نتناول الموضوع في ظل هذه النظرية من وجهات ثلاث هي:
أولًا: من وجهة أن الاعتبار في العقود هل هو بظواهرها أم بمعانيها.
ثانيًا: من وجهة اشتمال العقد على شرط وأثره عليه.
ثالثًا: من وجهة نظرية الحيل في الفقه الإسلامي ومدى جواز الأخذ بها.
أولًا- التأجير المنتهي بالتمليك من وجهة النظر الأولى:
وهي هل العبرة في العقود بظواهرها أم بمعانيها. هذه القاعدة بحثها فقهاء الأحناف في الأشباه والنظائر لابن نجيم. وأخذت بها مجلة الأحكام العدلية. وبحثها الإمامان النووي والسيوطي الشافعي في المجموع والأشباه والنظائر وغيرهما وبحثها من أئمة الحنابلة ابن رجب في القواعد وابن القيم في إعلام الموقعين. واختلفت آراؤهم، فمنهم من غلب جانب اللفظ على المعنى، فيأخذ بظاهر اللفظ تاركًا المعنى، وقصد المتعاقدين، ومنهم من غلب جانب المعنى وقصد المتعاقدين على ظواهر الألفاظ ومع هذا، فإنهم لا يهملون جانب اللفظ متى أمكن الجمع بينه وبين المعنى جاء في شرح المجلة لمحمد سعيد المحاسني عند كلامه على المادة الثالثة من المجلة: (إن أي عقد من العقود- سواء كان للمعاوضة- أولًا إنما تتعلق به الأحكام باعتبار ما قصد العاقدان من معناه الذي اتفقا على إيجاده بذلك العقد وإيضاح ذلك أن كلًا من المفردات والجمل الموضوعة لها معانٍ حقيقية تدل عليها بالوضع وتدل أيضًا على معانٍ مجازية لها علاقة بالمعاني الحقيقية، فإن قصد معنى المفردات والجمل الوضعية يكون قد اتحدَّ المعنى الوضعي مع قصد المتعاقدين. وإن قصدت غير معانيها الحقيقية فالأحكام تترتب على تلك العقود باعتبار تلك المعاني المقصودة ولو لم تكن حقيقية. ودليل هذه القاعدة الإجماع المنعقد من سائر البشر؛ لأن المتعاقدين يستخرجان نتائج عقدهما إما عن طريق الحقيقة وإما عن طريق لمجاز؛ فالمتكلم بصيغ العقود، إما أن يقصد التكلم بها أولًا فإن لم يقصد كالمكره والنائم والمجنون والسكران فلا يترتب عليها حكم، وإن قصد التكلم بها وهو يعلم معناها ومدلولها والقصد منها ترتبت أحكامها في حقه ولزمته، وإن لم يقصد معناها ولا غيره يكون هازلًا، وإن قصد غير معناها، فإن قصد ما يجوز له قصده كأن يقصد بقوله هي طالق من زوج كان قبله لا تلزمه أحكام الطلاق ديانة، أما قضاء فإن وجدت قرينة تدل على صدقه صدق وإلا فلا، وإن قصد بها ما لا يجوز قصده من المعاني المحظورة في الشر0ع فلا يعتبر ذلك القصد لأنه ممنوع بذاته، والتوسل به بالألفاظ الموضوعة لمعانٍ مشروعة لا يبطل كونه محظورًا) .(5/2099)
وقبل المحاسني بسط الإمام ابن القيم تلك العبارات في مؤلفه (أعلام الموقعين: 3/33) بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
صورة مسألة التأجير المنتهي بالتمليك:
وصورة المسألة هو أن يتفق المستهلك مع التاجر على شراء سلعة بثمن محدد يتفقان على تقسيطه على أقساط شهرية، وقد يمتد أمد السداد سنتين أو ثلاثًا أو أكثر ويلبسان هذا العقد ثوب الإيجار، وربما نصا في العقد على أنه بعد انتهاء تلك المدة يملك المستأجر العين محل العقد، فقصد المتعاقدين هو البيع لا الإجارة وإلى هذا أشار الإمام النووي في المجموع ذاكرًا الرأيين وأدلة كل رأي، وهذا نص عبارته: (قال المتولي لو قال وهبت لك هذا بألف أو هذا لك هبة بألف فقبل، هل ينعقد هذا العقد؟ فيه خلاف مبني على قاعدة وهي أن الاعتبار في العقود بظواهرها أم بمعانيها؟ وفيه وجهان:
أحدهما: الاعتبار بظواهرها، لأن هذه الصيغ موضوعة لإفادة المعاني وتفهيم المراد منها عند إطلاقها فلا تترك ظواهرها، ولهذا لو استعمل لفظ الطلاق وأراد به الظهار أو عكسه تعلق باللفظ دون المعنى، ولأن اعتبار المعنى يؤدي إلى ترك اللفظ، ولأنا أجمعنا على ألفاظ اللغة فلا يعدل بها عما وضعت له في اللغة، فيطلق اللفظ لغة على ما وضع له، فكذا ألفاظ العقود، ولأن العقود تفسر باقتران شرط مفسر ففسادها بتغيير مقتضاها أولى.
والوجه الثاني: أن الاعتبار بمعانيها لأن الأصل في الأمر الوجوب، فإذا تعذر حمله عليه حملناه على الاستحباب، وأصل النهي التحريم فإذا تعذر حمله عليه حملناه على الاستحباب، وأصل النهي التحريم فإذا تعذر حمله عليه حملناه على كراهة التنزيه، وكذا هنا إذا تعذر حمل اللفظ على مقتضاه يحمل على معناه، ولأن لفظ العقد إذا أمكن حمله على وجه صحيح لا يجوز تعطيله، ولهذا لو باعه بعشرة دراهم وفي البلد نقود أحدها غالب حملناه على الغالب طلبًا للصحة. قال المتولي: ويتفرع على هذه القاعدة مسائل، منها:
المسألة الأولى: وهي إذا قال وهبته لك بألف، فإن اعتبرنا المعنى انعقد بيعًا، وإن اعتبرنا اللفظ فسد العقد، فإذا حصل المال في يده كان مقبوضًا بحكم عقد فاسد.
المسألة الثانية: لو قال بعتكه ولم يذكر ثمنًا، فإن اعتبرنا المعنى انعقد هبة وإلا فهو بيع فاسد.
المسألة الثالثة: لو قال أسلمت هذا الدينار أو دينارًا في هذا الثوب، فإن اعتبرنا المعنى انعقد بيع عيني وإلا فهو سلم فاسد.(5/2100)
وقد خصص الإمام ابن القيم مساحة كبيرة في الجزء الثالث من كتابه أعلام الموقعين لبحث مسألة العلاقة بين اللفظ والمعنى ومتى يحمل كلام المتعاقدين على واحد منهما، وبعد أن استرسل في بيان ذلك بين محل النزاع بين العلماء، فقال في (ص121) : (وإنما النزاع في الحمل على الظاهر حكمًا بعد ظهور مراد المتكلم والفاعل بخلاف ما أظهره، فهذا هو الذي وقع فيه النزاع وهو: هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود وإن ظهرت المقاصد والنيات بخلافها أم للمقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها؟ وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن المقصود في العقود معتبرة وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده وفي حله وفي حرمته، بل أبلغ من ذلك وهي أنها تؤثر في العقد الذي ليس بعقد تحليلًا وتحريمًا فيما هو حلال تارة وحرام تارة باختلاف النية والقصد كما يصير صحيحًا تارة وفاسدًا تارة باختلافها. وهذا كالذبح، فإن الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل ويحرم إذا ذبح لغير الله، وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم فيحرم عليه ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم، فكذلك الرجل يشتري الجارية فينوي أن تكون لموكله فتحرم على المشتري وينوي أنها له فتحل له وصورة العقد واحدة، وإنما اختلفت النية والقصد) .
وهكذا يسترسل في سوق الأمثلة والتطبيق إلى أن قال: (فالنية روح العمل ولبه وقوامه، وهو تابع لها، يصح بصحتها ويفسد بفسادها. والنبي (صلى الله عليه وسلم) قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) ، فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية وبهذا لا يكون عمل إلا بنية، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا ولا يعصمه من ذلك صورة البيع، وإن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللًا، ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح؛ لأنه قد نوى ذلك، وإنما لامرئ ما نوى فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان والثانية معلومة بالنص) .
ويقرر ابن رجب في القاعدة الثامنة والثلاثين: (فيما إذا وصل بألفاظ العقود ما يخرجها عن موضوعها فهل يفسد العقد، بذلك أو يجعل كناية عما يمكن صحته على ذلك الوجه فيه خلاف: يلتفت إلى أن المغلب هل هو اللفظ أو المعنى) .(5/2101)
وصرح ابن نجيم في (الأشباه والنظائر: ص207) أن الاعتبار للمعنى لا للألفاظ كما أورد القاعدة السيوطي في (الأشباه والنظائر: ص166) ، فقال: القاعدة الخامسة: (هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها) وساق عدة أمثلة منها قوله في (ص167) : لو عقد الإجارة بلفظ البيع، فقال: بعتك منفعة هذه الدار شهرًا فالأصح لا ينعقد نظرًا إلى اللفظ، وقيل: ينعقد نظرًا إلى المعنى. أما مجلة الأحكام العدلية، فقد أدخلت هذه المادة ضمن موادها المائة الواردة في مقدمتها ونصها: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني ولذا يجري حكم الرهن في البيع بالوفاء) .
ومن هذا العرض يظهر أن بعض المذاهب يجعل العبرة للمعاني وهم الأحناف، كما ذكر ابن نجيم والمجلة ومنهم من يجعل التغليب للفظ على المعنى وهم الشافعية، وأما الحنابلة، فإن الذي يفهم من قواعد ابن رجب جريان الخلف في المذهب، أما ابن القيم، فإنه يقطع بأن العبرة للقصد، أما المالكية فإن ابن القيم نقل عنهم في الجزء الثالث من (أعلام الموقعين: ص212) بأن القصود عندهم في العقود معتبرة.
ثانيًا: التأجير المنتهي بالتمليك من وجهة النظر الثانية وهي اشتمال العقد على شرط:
أما من حيث النظر إلى الشروط على اعتبار أن أصل العقد بمقتضى هذا النظر مبناه أن الطرفين تعاقدا أصلًا على عقد البيع بالتقسيط مشروطًا بعدم انتقال الملك للمشتري إلا بعد سداد جميع الأقساط. وهو ما يعبر عنه في القانون بالشرط الواقف ونظيره في الفقه الإسلامي العقد المعلق على الشرط طبقًا لنص المادة 82 من مجلة الأحكام العدلية: (المعلق بالشرط يجب ثبوته عند ثبوت الشرط أو جعل العقد مفسوخًا إذا لم يقم المشتري بسداد كامل الثمن المتفق على دفعه أقساطًا، وهو ما يعبر عنه بالشرط الفاسخ في القانون ونظيره في الفقه الإسلامي خيار النقد) .
وللشروط أهمية في دنيا التعامل إذ قلما تخلو المعاملات منها خاصة في ميدان التجارة والصناعة، ولشدة حرص أرباب الأموال على حفظ حقوقهم قبل المتعاملين معهم، فلم يجدوا في عقود التوثيق من كتابة وشهادة وضمان ما يكفي لاطمئنانهم وحماية حقوهم، فلجأوا إلى الشروط يستوثقون بها في معاملاتهم.(5/2102)
وقد فطن واضعوا مجلة الأحكام العدلية إلى أهمية الشروط في دائرة التعامل فضمنوه تقريرهم المرفوع إلى الصدر الأعظم في غرة محرم سنة 1386 هـ ونصه: (ثم إن الأخذ والعطاء الجاري في زماننا أكثره مربوط بالشروط، وهذا مذهب الحنفية. إن الشروط الواقعة في جانب العقد أكثرها مفسد للعقد، ومن ثم كان أهم المباحث في كتاب البيوع فصل البيع بالشرط) ، ثم أورد خلاصة لنظرية الشروط في المذاهب الفقهية وآراء الأئمة ما نكتفي بإيراد هذه العبارات التي تلقي ضوءًا على هذه النظرية، وذلك لاستخلاص وجهة النظر في المسألة المطروحة من واقع ذلك النظر الفقهي، قالوا: (إن أقوال أكثر المجتهدين في حكم البيع بالشرط يخالف بعضها بعضًا، ففي مذهب المالكية إذا كانت المدة جزئية، وفي مذهب الحنابلة على الإطلاق يكون للبائع وحده أن يشرط لنفسه منفعة مخصوصة في البيع … أما ابن أبي ليلى وابن شبرمة ممن عاصروا الإمام الأعظم رضي الله عنهم وانقرضت أتباعهم، فكل منهما رأى في هذا الشأن رأيا يخالف رأي الآخر، فابن أبي ليلى يرى أن البيع إذا دخله شرط أي شرط كان فقد فسد البيع والشرط كلاهما، وعند ابن شبرمة الشرط والبيع جائزان على الإطلاق، فمذهب ابن أبي ليلى يرى مباينًا لحديث ((المسلمون عند شروطهم)) ، ومذهب ابن شبرمة موافق لهذا الحديث موافقة تامة، لكن المتبايعين ربما يشرطان أي شرط كان جائزًا أو غير جائز قابل الإجراء أو غير قابل، ومن الأمور المسلمة عند الفقهاء أن رعاية الشرط إنما تكون بقدر الإمكان، فمسألة رعاية الشرط قاعدة تقبل التخصيص والاستثناء، وبعد أن ساقوا رأي الأحناف في الشروط قالوا إنهم اتخذوا طريقًا وسطًا ومن ثم جوزوا البيع مع الشرط المتعارف على الإطلاق؛ لأن العرف والعادة قاطعان للمنازعة، وإن ما مست الحاجة إليه في تيسير المعاملات يختار لها قول ابن شبرمة.
ثالثًا: التأجير المنتهي بالتمليك من وجهة النظر الأخيرة:
أما بالنسبة للنظر إلى المسألة باعتبارها قصد الطرفين، هو التبايع لا الإيجار، وإنما اتخذ الإيجار وسيلة يتوصل بها البائع إلى صون حقه في العين حتى لا يتصرف فيها المشتري للغير أو يتمكن دائنوه الآخرون من التنفيذ على هذه العين محل التعاقد، فالحيلة كما عرفها ابن نجيم في الأشباه وابن القيم في أعلام الموقعين بأنها نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال إلى حال، ثم غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول غرضه بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة.
وقد بسط ابن القيم في الحيل وأنواعها، وذكر أنها تتوارد عليها الأحكام الخمسة، فإن مباشرة الأسباب الواجبة حيلة على حصول مسبباتها، فالأكل والشرب واللبس والسفر الواجب حيلة على المقصود منه، والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومباحها كلها حيلة على حصول المقصود عليه، والأسباب المحرمة كلها حيلة على حصول مقاصدها منها.
فالحيلة جنس تحته التوصل إلى فعل الواجب أو ترك المحرم، وتخليص الحق، ونصر المظلوم، وقهر الظالم، وعقوبة المعتدي، وتحته التوصل إلى استحلال المحرم، وإبطال الحقوق وإسقاط الواجبات.(5/2103)
ولكن غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء على النوع المذموم، كما جاء في الحديث: ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)) ، وقسم الحيل إلى قسمين رئيسين:
أحدهما: أن تكون الحيلة في ذاتها حرامًا لكونها كذبًا وزورًا، وحرامًا من جهة المقصود بها وهو إبطال حق وإثبات باطل. (346) وقسم هذا القسم إلى ثلاثة أقسام:
(أ) أن تكون الحيلة محرمة ويقصد بها المحرم.
(ب) أن تكون مباحة في نفسها، ويقصد بها المحرم فيصير حرامًا كالسفر لقطع الطريق وقتل النفس المعصومة.
(ج) أن تكون الطريق لم توضع للإفضاء إلى المحرم، وإنما وضعت مفضية إلى المشروع كالإقرار والبيع والنكاح والهبة ونحو ذلك، فيتخذها المتحيل سلمًا وطريقًا إلى الحرام. وقال: هو أهم الأقسام وبه ينحصر الكلام.
وثانيهما: أن يقصد بالحيلة أخذا حق أو دفع باطل، وهو على ثلاثة أقسام:
(أ) أن يكون الطريق محرمًا في نفسه، وإن كان المقصود به حقًا مثل أن يكون له على رجل حق فيجحده، ولا بينة له فيقيم صاحبه شاهدي زور يشهدان به ولا يعلمان ثبوت ذلك الحق ومثل أن يطلق الرجل امرأته ثلاثًا ويجحد الطلاق ولا بينة لها، فيقيم شاهدين يشهدان أنه طلقها ولم يسمعا الطلاق منه. ومثل أن يكون عليه لرجل دين، وله عنده وديعة فيجحد الوديعة فيجحد هو الدين أو بالعكس، ويحلف ما له عندي حق أو ما أودعني شيئًا … فهذا يأثم على الوسيلة دون المقصود.
(ب) أن يكون الطريق مشروعًا وما يقضي إليه مشروع، وهذه هي الأسباب التي نصبها الشارع مفضية إلى مسبباتها كالبيع والإجارة.
(ج) أن يحتال على التوصل إلى الحق أو على دفع الظلم بطريق مباحة لم توضع موصلة إلى ذلك، بل وضعت لغيره فيتخذ هو طريقًا إلى هذا المقصود الصحيح وله أمثلة:
المثال الأول: إذا استأجر منه دارًا مدة سنتين بأجرة معلومة فخاف أن يغدر به المكرى في آخر المدة، ويتسبب إلى فسخ الإجارة بأن يظهر أنه لم تكن له ولاية الإيجار وأن المؤجر ملك لابنه أو امرأته، أو أنه كان مؤجرًا قبل إيجاره، ويبين أن المقبوض أجرة المثل لما استوفاه من المدة وينتزع المؤجر له منه، فالحيلة في التخلص من هذه الحيلة أن يضمنه المستأجر درك العين المؤجرة له أو لغيره، فإذا استحقت أو ظهرت الإجارة فاسدة رجع عليه بما قبضه منه.
المثال الثاني: أن يخاف رب الدار غيبة المستأجر ويحتاج إلى داره، فلا يسلمها أهله إليه، فالحيلة في التخلص من ذلك أن يؤجرها ربها من امرأة المستأجر ويضمن الزوج أن ترد إليه المرأة الدار وتفرغها متى انقضت المدة أو تضمن المرأة ذلك إذا استأجر الزوج.
المثال الثالث: أن يأذن رب الدار للمستأجر أن يكون في الدار ما يحتاج إليه أو يعلف الدابة بقدر حاجتها، وخاف أن لا يحتسب له ذلك من الأجرة، فالحيلة في اعتداده به عليه أن يقدر ما تحتاج إليه الدابة أو الدار، ويسمى له قدرًا معلوما ويحسبه من الأجرة ويشهد على المؤجر أنه قد وكله في صرف ذلك القدر فيما تحتاج إليه الدار أو الدابة.
أما وقد انتهينا من بسط الموضوع من الوجهة الشرعية من حيث النظريات الثلاث فنشرع في بيان حكم المسألة من وجهة النظر القانونية:(5/2104)
نظر القانون إلى التأجير المنتهي بالتمليك
يطلق القانونيون على التأجير المنتهي بالتمليك اسم الإيجار الساتر للبيع أو في إيجار المقترن بوعد البيع ويعدونه مرحلة تالية لصورة البيع بالتقسيط تدرج إلى صورة الإيجار الساتر للبيع، ثم تدرج إلى صورة ثالثة هي الإيجار المقترن بوعد بالبيع.
والغاية التي يهدف البائع إليها من وراء ذلك هو أولًا أن يأمن من تصرف المشتري بالمبيع، أنه لو تصرف في الصورتين السابقتين لكان مبددًا باعتباره مستأجرًا لا مالكًا ولا مشتريًا.
وأما الأمر الثاني فهو أن يأمن مزاحمة الدائنين الآخرين في حالة إفلاس المشتري لأنه لو أفلس، وهو لا يزال مستأجرًا فإن البائع لا يزال مالكًا للمبيع فيستطيع أن يسترده.
الصورة الأولى في القانون أن يتفق المتعاقدان على وصف عقد البيع بأنه إيجار ويصفان أقساط الثمن بأنها أجرة، ويتفقان على أنه إذا وفَّى المشتري بهذه الأقساط انقلب الإيجار بيعًا وانتقلت ملكية المبيع إلى المشتري.
الصورة الثانية: وفي هذه الصورة لا يتحدث العاقدان عن البيع أصلًا في عقد الإيجار، ولكنه مقترن بوعد بالبيع إذا أبدى المستأجر رغبته في الشراء خلال مدة الإيجار، وهذه الصورة تحتها فرضان:
أولهما: أن يكون المتعاقدان يريدان في الحقيقة بيعي بالتقسيط منذ البداية ويعد البائع المشتري البيع على شرط وفاء المستأجر بأقساط الإيجار في مواعيدها، وأن يجعل الثمن في حالة ظهور رغبة المستأجر في الشراء هو أقساط الإيجار، وقد يضاف إليها مبلغ رمزي في هذا الغرض يكون العقد بيعًا بالتقسيط لا إيجارًا.
الثاني: أن يعقد المتعاقدان إيجارًا جديًّا يقترن به وعد البيع ولكن بثمن جدي مستقل عن أقساط الأجرة ويتناسب هذا الثمن مع قيمة العقد، وتكون الأقساط المدفوعة هي أقساط الأجرة، وليس بأقساط الثمن وفي هذه الحالة يكون العقد السابق إيجارًا لا بيعًا بالتقسيط.
وقد نص القانون المدني المصري الجديد في المادة 430 فقرة 4 على أنه تسري أحكام الفقرات الثلاث السابقة ولو سمى المتعاقدان البيع إيجارًا.(5/2105)
أما القانون المدني الكويتي فإنه لم يرد فيه نص خاص ولكن يفهم من المادتين193، و194 في شأن تفسير العقد وتحديد مضمونه أن العبرة بالنية المشتركة للمتعاقدين من مجموع وقائعه وظروف إبرامه دون الوقوف عند مجرد معاني ألفاظه وعباراته.
مقارنة بين النظريتين الفقهية والقانونية:
يظهر مما سبق أن القانون من الرأي الراجح في مذهب الأحناف الذي يغلب الإرادة الباطنة على الإرادة الظاهرة أو الصيغة التي يتعامل المتعاقدان بها.
الآثار العملية والنتائج المترتبة على هذا النوع من التعامل
بينَّا فيما سبق، قصد التاجر من التعامل بهذا النوع من المعاملات هو الحصول على قدر أكبر من الحماية والاستيثاق، فلم يعد كافيًا في نظره ما يخوله القانون من ضروب عقود الاستيثاق سوى منها تلك التي تتعلق بتوثيق العقد وإثباته عن طريق الكتابة أو الشهادة أو تلك العقود التي توفر الضمان للدائن كعقود الرهن والكفالة أو تلك التي تتعلق بالتنفيذ على أموال المدين أو شخصه عن طريق بيع أمواله أو تهديده بالحبس، فلجأ إلى هذا الأسلوب الذي لم يعد أيضًا كافيًا لاطمئنان التاجر إذ هو أيضًا يخضع لجملة عوامل عند نشوب الخلاف بين المتعاملين، فهو يخضع أولًا للقانون الذي نشأ في ظله العقد، فقد ذهبت بعض القوانين إلى النص صراحة على جعل مثل هذا العقد صورة من صور البيع بالتقسيط وبالتالي جريان أحكام البيع على هذا النوع من العقود. وتركت بعضها الآخر الرأي للقضاء عن طريق التفسير والتكييف مع تغليب جانب القصد والنية على ظواهر الألفاظ في العقود، ثم إنه فرض تغليب ظاهر اللفظ على النية المشتركة فإنه عند هلاك المبيع يكون الهلاك على ضمان البائع إذا لم يكن للمستأجرين تسبب في عطب المبيع.
من هذا كله نرى أن يكون التعاقد من أول الأمر مبناه الوضوح والصدق، إذ هو أقرب إلى الحق وأدنى إلى ما يهدف إليه الإسلام في ميدان التعامل.
والله ولي التوفيق.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله.(5/2106)
الإيجار المنتهي بالتمليك
إعداد
الدكتور حسن علي الشاذلي
أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن
كلية الشريعة والقانون – جامعة الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن نهج نهجهم بإحسان إلى يوم الدين.
أولًا – تقديم
لقد منَّ الله تعالى على الأمة الإسلامية بأفضال كثيرة ومنح عظيمة، فقد مَنَّ عليها بنعمة التوحيد…
ومنَّ عليها برسالة محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وسيد ولد آدم أجمعين…
ومنَّ عليها بشريعته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، لأنها تنزيل من حكيم حميد…
ومنَّ عليها بأن جعل شريعته محيطة وشاملة لكل ما يسعد خلق الله أجمعين…
قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، [سورة الأنعام: الآية 38] .
وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، [سورة النحل: الآية 89] .
ومنَّ عليها بأن نظم لها أمور دينها وأمور دنياها، بأن شرع لها ما يصلح عقيدتها، وما ينمي ويرقق أخلاقها، وما ينظم مسيرة حياتها بإرساء الأحكام العقائدية والأخلاقية والعلمية (الفقهية) .
ومنَّ عليها بأن حدد لها المرجع الذي ترجع إليه في استقاء هذه الأحكام ومعرفتها…
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، [سورة النساء: الآية 59] .(5/2107)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا كتاب الله وسنتي)) .
ومنَّ عليها بأن جعل هذه الشريعة هي خاتمة الشرائع، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم المرسلين، وأنها تحكم أمور الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومنَّ عليها بأن فتح باب الاجتهاد لعلماء هذه الأمة وصفوتها الذين وهبوا أنفسهم ووجهوا عقولهم وأفكارهم إلى خدمة هذه الشريعة والامتثال لأوامرها فتسلحوا بالإيمان، وعرفوا حقه، وتسلحوا بمعرفة ما في كتاب الله تعالى، وما في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فانبثقت عن هذه المعرفة اجتهاداتهم التي غمرت أمة الإسلام منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم حتى الآن، ما قصر عهد من عهودها، ولا نكص عالم من علمائها، وما أغلق باب للرحمة فتحه الله تعالى، وطبقه رسوله صلى الله عليه وسلم، وسار على هديه صحابته من بعده رضوان الله عليهم، ثم تابعوهم وأتباع تابعيهم … وهكذا إلى يومنا هذا …
ومنَّ عليها بأن ظلت رايات الاجتهاد مرفوعة، والقواد الأعلام المجتهدون يتلقفونها جيلًا بعد جيل، وعصرًا بعد عصر بأمانة وإخلاص، وحكمة وروية، ونظر ثاقب وشمول واعٍ … فما من عصر إلا وتناديك أعلامه، وما من جيل إلا وتهتف بك أقلامه وكتبه وآثاره … وما من معرفة في شرع الله تعالى إلا وذخرت تحت ظل إيمانهم العميق وأينعت تحت ظل فهمهم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم … وصدق الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، [الآية 9 من سورة الحجر] .
ومنَّ عليها بأن جعل عوادي الزمن، وضربات الأعداء، وكيد الكافرين يرتد مندحرًا ويتحطم موليا على صخرة الإيمان بالله تعالى والعمل بكتابه، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فشلت كل غايات الغزاة، واندحرت كل غارات الأعداء على مر التاريخ، وظل الإسلام-دين الحق- دين الدنيا ودين الآخرة يمتد بنوره المبين، وعقيدته الحقة الخالصة وشريعته السمحه الشاملة المستوعبة.
ومنَّ الله عليها بأن جعل من أبنائها، ورجالاتها من يضيئون الطريق دائمًا وسط ما قد يكون من ظلام حل بجانب من جوانب الأمور، وغطى بعض التصرفات في حقل من الحقول، فكان منهم من ثابر على إزاحة كل ظل دخيل على عقيدة الإسلام وشريعته، وإزالة كل تصرف لا ينبع من معين الإسلام الصافي، ولا يمتد نسبه إلى أصول هذا الدين الحنيف، في كل مجال من مجالات العلم والمعرفة. وفي كل بلد من بلاده وفي كل عصر من عصوره.(5/2108)
ومنَّ عليها بأن جعل أمة الإسلام تبحث دائمًا وأبدًا عما يحل ويحرم، وتبحث دائمًا وأبدًا عن حكم الإسلام في كل أمورها، من خلال الإطار الذي قدمه الإسلام، وطبقًا للمنهج الذي وضعه وأقره، مؤمنة بأن ما حرم فالمصلحة في تحريمه لكل الناس، وما أحل فالمصلحة في حله لكل الخلق، وما تشابه وأشكل فالمصلحة أيضًا في تركه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما – صحيح مسلم، واللفظ له. (5/ 50-51) 596، المختصر.
ومنَّ عليها بهذه الصحوة الشاملة بعد الغفوة العارضة، والتي كان من ثمراتها تدفق المؤتمرات والندوات بغية البحث والدراسة، والتنقيب والاهتداء إلى الحكم الشرعي في أمورها الاقتصادية، ومعاملاتها المالية …
ومن هذه المؤتمرات مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الذي عقد عدة موضوعات يحتاج المجتمع الإسلامي إلى بيان موقف الفقه الإسلامي من التعامل بها وهي غاية كريمة، وهدف كبير، ومبادرة مأجورة بإذن الله تعالى وتوفيقه.
ولئن كان لنا من جهد نقدمه في هذا البحث (الإيجار المنتهي بالتمليك) فهو جهد المقل، وهو محاولة نرجو الله تعالى أن تكون مصحوبة بالاهتداء إلى الصواب، ومقرونة بالتوفيق إلى ما فيه رضا الله تعالى، ومشمولة بالعفو والمغفرة منه عز شأنه إذا جانبنا الصواب.
{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . [الآية 286 من سورة البقرة] .(5/2109)
ثانيًا_ موضوع البحث
(التأجير المنتهي بالتمليك والصور المشروعة فيه) .
دراسة لإحدى وسائل التمويل المتاحة عن طريق تمليك المنفعة، ثم تمليك العين نفسها في آخر المدة، وشرعية ذلك. وحل ما هناك من تداخل بين طبيعة عقدي الإجارة، ثم البيع والوسيلة الصحيحة للارتباط بين هذين العقدين.
وهو موضوع دقيق تناوله فقهاء القانون – منذ عرفت صيغة (البيع الإيجاري) سنة 1846م حتى الآن- بالدراسة والبحث، وتناولوا صوره مبينين آراءهم في تكييف هذا العقد على ضوء ما اتفق عليه أطراف التعاقد، وما احتوته صيغته من شروط، وما أحاط به من قرائن.
ونجد لزامًا على الباحث في هذا الموضوع أن يعرض صور هذا التعاقد التي توافرت لديه حتى الآن، ومن واقع ما عرضه رجال القانون الوضعي عند شرحهم لأحكام البيوع الائتمانية، وما نصت عليه القوانين الوضعية في هذا الشأن بإيجاز بالغ، تمهيد لتناول الموضوع على ضوء أحكام الفقه الإسلامي، وقواعده …(5/2110)
صور (الإيجار المنتهي بالتمليك) في الفقه الوضعي:
(أ) للإيجار المنتهي بالتمليك عدة صور تدور حول ما اتفق عليه المتعاقدان، وما أراداه بهذا التعاقد، من إجارة أو بيع، أو إجارة ووعد بالبيع، وما حدداه أجرة في الإجارة، وثمنًا في البيع … والوقت الذي تنتقل فيه الملكية … ونأخذ هذه الصورة من واقع ما تناوله فقهاء القانون (1) .
ونوضح فيما يلي بعض هذه الصور:
الصورة الأولى: أن يصاغ العقد على أنه عقد إجارة ينتهي بتمليك الشيء المؤجر- إذا رغب المستأجر في ذلك- مقابل ثمن يتمثل في المبالغ التي دفعت فعلًا كأقساط إيجار لهذا الشيء المؤجر خلال المدة المحددة، ويصبح المستأجر مالكًا (أي مشتريا) للشيء المؤجر تلقائيًّا بمجرد سداد القسط الأخير، دون حاجة إلى إبرام عقد جديد.
ويمكن أن نتصور صياغة هذا العقد على الوضع التالي:
أجرتك هذه السلعة بأجرة في كل شهر –أو عام- هي كذا لمدة خمس سنوات مثلًا، على أنك إذ وفيت بهذه الأقساط جميعها في السنوات الخمس كان الشيء المؤجر ملك لك مقابل ما دفعته من أقساط الأجرة في هذه السنوات – وقال الآخر: قبلت.
__________
(1) وقد تناوله فقهاء القانون تحت مسميات (الإيجار الساتر للبيع) أو (البيع الإيجاري) أو (الإيجار المملك) وهي ترجمة الاصطلاح الفرنسي (Locatio-Verte) لهذا النوع من التعاقد أو الإيجار المقترن بوعد بالبيع في بعض صوره، وذلك عند شرحهم لما نص عليه بشأن هذا التعاقد في القانون: المدني المصري م430، والمدني السوري م398، والليبي م419، والعراقي 534، والكويتي المادة 140 من قانون التجارة، أما الأردني فالمادة 487 لم تصرح بحكم البيع الإيجاري … المراجع القانونية: 1- البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية الأخرى للدكتور إبراهيم دسوقي أبو الليل، وقد أفاض في تحليل صور هذا التعاقد (مطبوعات جامعة الكويت سنة 1984م) ص303. 2- الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور عبد الرازق أحمد السنهوري، (المجلد الأول) البيع 4/177، مطابع دار النشر للجامعات المصرية. 3- شرح عقد البيع للدكتور سليمان مرقس ص80، الناشر عالم الكتب سنة 1980م. 4- شرح أحكام عقد البيع للدكتور محمد لبيب شنب والدكتور مجدي صبحي ص16، دار النهضة العربية. 5- عقد البيع للدكتور عبد العزيز عامر ص11، الناشر دار النهضة العربية. - شرح العقود المدنية البيع والمقايضة للدكتور جميل الشرقاوي ص19، الناشر دار النهضة العربية. - شرح عقد الإيجار للدكتور سليمان مرقس ص 74، طبعة سنة 1984م.(5/2111)
الصورة الثانية: (أن يصاغ العقد على أنه عقد إجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة في مقابل أجرة محددة في مدة محددة للإجارة على أن يكون للمستأجر الحق في تملك العين المؤجرة في نهاية مدة الإجارة مقابل دفع مبلغ هو كذا.
ويمكن أن نتصور صيغة هذا العقد على النحو التالي:
(أجرتك هذه السلعة لمدة كذا بأجرة هي كذا –على أنك إذا وفيت بسداد هذه الأقساط خلال هذه المدة بعتك هذه السلعة –إذا رغبت في ذلك بثمن هو كذا، ويقول الآخر: قبلت".
وهذه الصورة يمكن تفريغها إلى صورتين: إحداهما يكون الثمن فيها المحدد لبيع السلعة ثمنًا رمزيًّا، والثانية: يكون ثمنًا حقيقيًّا.
الصورة الثالثة: أن يصاغ العقد على أنه عقد إجارة طبقًا للصورة الثانية إلا أنه في نهاية مدة الإجارة يكون للمستأجر الحق في ثلاثة أمور:
الأول: تملك هذه الأعيان المؤجرة مقابل ثمن يراعى في تحديده المبالغ التي سبق له دفعها كأقساط إيجار، وهذا الثمن محدد عند بداية التعاقد، أو بأسعار السوق عند نهاية العقد.
الثاني: مد مدة الإجارة لفترة –أو لفترات- أخرى.
الثالث: إعادة الأعيان المؤجرة إلى المؤسسة المالكة والمؤجرة لها.
وهذا النوع من التعاقد هو تطور حديث الإيجار المنتهي بالتمليك، وهو ما يسمى بعقد (الليزنج Leasing) أو (عقد تمويل المشروعات) ومن خلاله يمكن أن يوكل المصرف العميل في شراء هذه السلعة من الجهة المسجلة لها طبقًا للمواصفات المتفق عليها – كمًّا وكيفًا وسعرًا. (1)
(ب) التحليل والدراسة لما يؤدي إليه (الإيجار المنتهي بالتمليك) من خلال هذه الصور:
إن المتتبع لهذا النوع من التعاقد – من واقع صوره التي تناولها فقهاء القانون الوضعي - يجد أنه أمام عدة أمور يجب أن نبينها، ثم نتبعها ببيان أحكامها في الفقه الإسلامي.
أولها: أن السلعة التي يجري بشأنها هذا الاتفاق هل هي موجودة في ملك المصرف (أي المؤجر أو البائع) وقت إبرام هذا العقد، أو ليست ملكه؟ بل إنه سيشتريها فيما بعد، ثم تتتابع أحكام هذا الاتفاق وآثاره، حينئذ يكون قد باع أو أجّر شيئًا غير مملوك له وقت إبرام العقد.
الثاني: أن هذه السلعة إذا كانت مملوكة للبائع أو المؤجر هل قبضها ممن اشتراها منه أو لم يقبضها؟.
__________
(1) البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية الأخرى للدكتور أبو الليل – مرجع سابق.(5/2112)
الثالث: أن العقد الذي يجريه المتعاقدان (عقد إجارة) في بدايته، يتفقان على أنه في نهايته –أي في نهاية المدة التي حددها الطرفان نهاية لعقد الإجارة –يصبح عقد بيع (أي عقد تمليك للعين مع منفعتها) أي أنه بدأ بتمليك المنفعة بعوض (روعي في تقديره ما يؤول إليه هذا العقد) ثم انتهى بتمليك العين ومنفعتها … كما رأينا في بعض الصور المتقدمة.
الرابع: أن تمليك العين ومنفعتها (في نهاية مدة الإجارة المحددة) في صور هذا العقد هي عقد بيع –حدد للشيء المبيع فيه ثمنا معينا، وجاء ذلك على عدة صور:
الصورة الأولى: أن يكون ثمن المبيع هو الأقساط الإيجارية المتفق على سدادها خلال المدة المحددة للإجارة، دون أن يدفع المستأجر (المشتري) شيئًا آخر، وتنتقل الملكية تلقائيًّا بسداد آخر قسط من هذه الأقساط.
وبناءً على هذا يكون ثمن الشيء المبيع دفع مقدمًا على أقساط هي هذه الأقساط الإيجارية المتفق عليها …
وفي الصورة الثانية: يحدد الطرفان في هذا الاتفاق ثمنًا رمزيًّا للشيء المؤجر يدفعه المستأجر في نهاية المدة المتفق على أنها مدة الإجارة، فإذا دفعه كان الشيء المؤجر ملكًا له.
وإنما كان هذا الثمن رمزيًّا، لأنه روعي عند الاتفاق على الأقساط الإيجارية أنها تعادل في مجموعها ثمن السلعة الحقيقي مع ما أضيف إليه من ربح …
وإنما وضع هذا الثمن الرمزي بغية تحقيق هدفين:
أولهما: إظهار الاتفاق بأنه في البداية كان عقد إجارة. ثانيهما: أنه في النهاية عقد بيع، ولما كان لكل عقد خصائصه وأحكامه وآثاره، وهما يريدانه في صورة إجارة في أول الأمر ضمان لحقوق المؤجر التي يريدها من وراء شراء هذه السلعة لمصلحة المستأجر …. ويريدانها بيع في نهاية الأمر، لأن المستأجر يكون في حاجة إليها، وأن المؤجر استوفى حقه وتحقق مقصده، إذ ليس هدفه اقتناء هذه السلعة، وإنما هدفه تنمية أمواله بصورة تضمن له حقوقه …
ولا شك أن هذه الصورة في ظاهرها – عقد إجارة ابتداء، وعقد بيع انتهاء – أي أن هذا الاتفاق احتوى على عقدين: (عقد ناجز هو عقد الإجارة –اقترن به شرط فاسخ يبدأ بعده عقد البيع. وعقد معلق على شرط، وهو عقد البيع … وإنما كان معلقًا على شرط، لأن التصور لهذه الصورة هو أن يقول:
(أجرتك هذه السلعة بأجره هي كذا، ولمدة هي كذا، على أنك إذا سددت هذه الأقساط الإيجارية حتى نهاية المدة (المحددة) بعتك هذه السلعة بثمن هو كذا، وهو المبلغ الرمزي الذي سبق الإشارة إليه) . (1)
وهذا الأمر يستدعي نظره في الفقه الإسلامي البحث عن حكم تعليق عقد البيع على شرط.
__________
(1) وهذا البيع لا يعتبر عقدًا مضافًا، لأن الإضافة إلى زمن معين اقترن بها هنا استمراره في السداد أو عدم استمراره في هذه المدة فإن استمر في السداد حتى نهاية المدة باعه، وإن لم يستمر … لم يبعه، ومن ثم فهو تعليق على شرط، وليس إضافة إلى أجل.(5/2113)
وفي الصورة الثالثة: يحدد الطرفان في هذا الاتفاق ثمنًا حقيقيًّا لهذه السلعة المؤجرة، إذا دفعه المستأجر في نهاية المدة المتفق على أنها مدة الإجارة كان الشيء المؤجر ملك له.
وهذه الصورة تجمع أيضًا بين عقدين:
1- عقد إجارة، وهو عقد ناجز – اقترن به شرط فاسخ يبدأ بعده عقد البيع.
2- عقد بيع، وهو عقد معلق على شرط –كما سبق إيضاحه-.
ولكنها تختلف عن الصورة السابقة (الثانية) في أن الثمن المحدد للشيء المبيع (والذي كان مؤجرًا) يعادل قيمة الثمن الحقيقي لهذه السلعة، بعكس الصورة السابقة، إذ هو ثمن رمزي، وقد أثر بدوره على الأقساط الإيجارية إذ جعلها مرتفعة ارتفاعًا كبيرًا عن أجرة المثل …
وفي هذه الصورة فإن عقد الإجارة المتفق عليه تطبق أحكامه على الفترة المحددة للإجارة، وبنهايتها يصبح الشيء المؤجر مبيعًا إذا ما دفع ثمنه المحدد له … بناء على هذا الاتفاق …
وما قلناه آنفًا من أن تعليق عقد البيع على شرط يحتاج إلى بحثه في الفقه الإسلامي لمعرفة جوازه أو عدم جوازه نقوله هنا بجانب ما يحتاجه الأمر من إيضاح.
وفي الصورة الرابعة: قد يتم الاتفاق على إجارة السلعة، مع وعد بالبيع في نهاية المدة إذا تم السداد حتى نهاية المدة: سواء كان ذلك في مقابل مبلغ يدفعه بعد انتهاء عقد الإجارة –رمزيًّا أو حقيقيًّا- وسداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق على سدادها خلال هذه المدة، أو كانت هذه الأقساط الإيجارية هي ثمن السلعة ولم يتفق على دفع شيء آخر، لا رمزيًّا ولا حقيقيًّا.
وفي هذه الصورة يكون الوعد ناشئًا من الصيغة نفسها … بأن وعده بالبيع في نهاية المدة، والآخر قبل هذا الوعد، أو بأن وعده بالبيع في نهاية المدة – بوعد منفرد لم يقترن بوعد من الطرف الآخر بالشراء.
وبناءً على ذلك تكون الإجارة منعقدة فورًا، وأما الوعد بالبيع فيبحث هل هو ملزم أو غير ملزم في الفقه الإسلامي؟
وهذه الصور جميعها تستدعي أن نتناولها بالحث والدراسة في الفقه الإسلامي على النهج التالي:
1- بيان حكم بيع ما ليس مملوكًا للبائع وقت البيع.
2- بيان حكم بيع الشيء قبل قبضه.
3- بيان حكم اشتراط عقد في عقد.
4- بيان حكم اشتراط شرط أو أكثر في عقد من عقود المعاوضات المالية.
5- تكييف عقد (الإيجار المنتهي بالتمليك) في الفقه الإسلامي.
الصورة الأولى: إجارة تنتهي بالتمليك دون دفع ثمن سوى الأقساط الإيجارية.
الصورة الثانية: (اقتران الإجارة ببيع الشيء المؤجر بثمن رمزي) .
حكم تعليق عقود المعاوضات المالية على شرط.
الصورة الثالثة: اقتران الإجارة ببيع الشيء المؤجر بثمن حقيقي.
الصورة الرابعة: اقتران الإجارة بوعد بالبيع.
الوعد وأثره في الفقه الإسلامي.
الوعد من الجانبين (المؤجر والمستأجر) .
الوعد من المالك (المؤجر) فقط.
الوعد من المستأجر فقط.
الصورة الخامسة: اقتران الإجارة بوعد البيع، أو مد مدة الإجارة، أو انتهاء الإجارة ورد العين المستأجرة إلى المالك في نهاية مدة الإجارة.
وفيما يلي نتائج هذه الدراسة:(5/2114)
المبحث الأول
حكم بيع شيئ غير مملوك لبائعه وقت التعاقد
إذا كان عقد البيع أو الإجارة الذي عقد بين المصرف والعميل قد ورد على عين غير مملوكة للمصرف وقت التعاقد، فإنه يكون حينئذ بيعًا أو إجارة لسلعة غير مملوكة للبائع أو للمؤجر …
وذلك لأن المصرف حينما يتفق مع العميل على هذه الإجارة المنتهية بالتمليك قد لا تكون السلعة مملوكة للمصرف، فإذا كانت السلعة أو العين سيتم شراؤها بعد هذا الاتفاق، ثم بعد ذلك تبدأ الإجارة أو البيع، فحين انعقاد عقد البيع أو الإجارة لا تكون هناك سلعة مملوكة له تباع أو تؤجر.
وبيع شيء غير مملوك للبائع وقت التعاقد لا يصح، وكذا إجارته … لأن من شروط صحة البيع وجود المبيع في ملك البائع وقت البيع، ومن شروط صحة الإجارة وجود العين المؤجرة في ملك المؤجر أيضًا وقت الإجارة …
وذلك استناد إلى الأحاديث الصحيحة …
فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام: ((نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخَّص في السلم)) . (1) .
وروي عن حكيم بن حزام، قال: قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق، فقال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (2) ,رواه الخمسة (أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه) ، قال الصنعاني: (فدل على أنه لا يحل بيع الشيء قبل أن يملكه) .
__________
(1) السلم: هو بيع آجل موصوف في الذمة بعاجل، وقد رخص فيه بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم) رواه الجماعة، وهو حجة في السلم في منقطع الجنس حالة العقد … يراجع (باب السلم) في كتب الفقه وكتب الحديث …
(2) قال الترمذي: حديث حسن صحيح(5/2115)
وروي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده – عن أبي داود والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك)) (1) ، أي ما ليس ملكك وقدرتك.
جاء في نيل الأوطار: 5 /155، في شرحه لـ ((لا تبع ما ليس عندك)) : قال البغوي: النهي في هذا الحديث عن بيع الأعيان التي لا يملكها. أما بيع موصوف في ذمته فيجوز فيه السلم بشروطه، فلو باع شيئًا موصوفًا في ذمته عام الوجود عن المحل المشروط في البيع جاز، وإن لم يكن المبيع موجودًا في ملكه حالة العقد كالسلم.
قال: وفي معنى ((ما ليس عندك)) في الفساد بيع الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه إلى محله …
ثم قال الشوكاني: (وظاهر النهي تحريم بيع ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلًا تحت مقدرته، وقد استثنى من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم، وكذلك إذا كان المبيع في ذمة المشتري إذ هو كالحاضر المقبوض) .
وقال الصنعاني في سبله: 2/334، دل حديث حكيم بن حزام على أنه لا يحل بيع الشيء قبل أن يملكه –كما ذكرنا آنفًا-.
النتيجة:
ومن هذا يتبين لنا أنه لا يصح أن يبيع الإنسان شيئًا لا يدخل في ملكه وقدرته وقت التعاقد. وهذا يوضح لنا أنه إذا باع المصرف شيئًا للعميل، وكان هذا الشيء غير داخل في ملك المصرف، أو غير مملوك له، كان بيعه غير صحيح استنادًا إلى هذه الأحاديث الصحيحة، وهذا الحكم متفق عليه، واستثنى السلم إذا توافرت شروط صحته، والموضوع الذي معنا ليس من السلم…
وكذلك لا يجوز إجارة عين غير مملوكة للمؤجر، وذلك لأن الإجارة تمليك لمنافع العين بعوض، وهذا التمليك يستدعي أن تكون العين مملوكة لمن يملك منفعتها بعوض، فإذا كان مالك لها صح تأجيرها، أي بيع منفعتها، وإلا لم يصح له تأجيرها، فحكمها حكم البيع (2) .
__________
(1) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وأخرجه الحاكم في علوم الحديث من رواية أبي حنيفة، عن عمرو المذكور بلفظ: نهي عن بيع وشرط، ومن هذا الوجه الذي أخرجه الحاكم، أخرجه الطبراني في الأوسط وهو غريب. وقد رواه جماعة واستغربه النووي. سبل السلام: 2/334.
(2) الحنفية: (قال شمس الأئمة السرخسي إنما يشترط الملك والوجود للقدرة على التسليم، وهذا لا يتحقق في المنافع، لأنها عرض لا تبقى زمانين، فلا معنى للاشتراط، فأقمنا العين المنتفع بها مقام المنفعة في حق إضافة العقد إليها ليترتب القبول على الإيجاب …، ويبدأ بتسليم المعقود عليه ليتمكن من الانتفاع …) الاختيار: 1/222. الشافعية: جاء في مغني المحتاج: 2/222: (ويشترط في المنفعة كون المؤجر قادرًا على تسليمها حسًّا أو شرعًا ليتمكن المستأجر منها، والقدرة على التسليم تشمل ملك الأصل، وملك المنفعة) . الحنابلة: جاء في كشاف القناع: 2 /11 في شروط صحة عقد البيع الشرط الرابع أن يكون المبيع مملوكًا لبائعه –وقت التعاقد، وكذا الثمن- ملكًا تامًّا لقوله عليه السلام، لحكيم بن حزام: (لاتبع ما ليس عندك) رواه ابن ماجه والترمذي وصححه. أو مأذونًا له في بيعه وقت إيجاب وقبول … (ولا يصح بيع شيء معين لا يملكه ليشتريه ويسلمه، لحديث حكيم السابق، بل يصح بيع موصوف مما يكفي في السلم غير معين، ولو لم يجد في مثله بشرط قبضه – أي الموصوف، أو قبض ثمنه – في مجلس العقد، وإلا لم يصح لأنه بيع الدين بالدين. والشرط الخامس أن يكون المبيع ومثله الثمن مقدورًا على تسليمه حال العقد، لأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم، والمعدوم لا يصح بيعه، فكذا ما أشبهه. الزيدية: جاء في شرح الأزهار: 3/247:) وحقيقة أجرة المنافع: عقد على تحصيل منفعة معلومة في عين موجودة معلومة بأجرة معلومة … فمن شروط صحتها تعيين العين المؤجرة كالمبيع … وكون المؤجر مالكًا للشيء المؤجر أو وليًّا من قبل المالك له) . الإمامية: جاء في المختصر النافع: ص176: (ويشترط لصحة الإجارة … وأن تكون المنفعة مملوكة للمؤجر، أو لمن يؤجر عنه…) .(5/2116)
المبحث الثاني
حكم بيع الشيء قبل قبضه
اختلف العلماء في حكم بيع الشيء قبل قبضه إلى عدة آراء، نظرًا لأن الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الشيء قبل قبضه بعضها أطلق الحكم في كل مبيع، وبعضها صرح بالطعام، وبعضها بالمكيل والموزون … وأرى أن أورد بعضًا من هذه الأحاديث، ثم أتبعها ببيان رأي الفقهاء، ثم الترجيح فالنتيجة…
أول- الأحاديث التي وردت في هذا الموضوع:
(أ) الأحاديث التي ورد فيها النهي عن بيع الطعام قبل قبضه جزافًا أو غير جزاف:
1- روي عن جابر، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه)) رواه أحمد ومسلم.
2- وروي عن أبي هريرة أنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشترى الطعام، ثم يباع حتى يستوفى)) رواه أحمد ومسلم، ولمسلم بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من اشترى طعامًا فلا يبيعه حتى يكتاله)) .
3- وروي عن ابن عمر، قال: ((كانوا يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه)) رواه الجماعة (البخاري ومسلم وأحمد، وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه) ، وفي لفظ في الصحيحين (البخاري ومسلم) ((حتى يحولوه)) .
4- وللجماعة إلا الترمذي: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه)) .
5- ولأحمد: ((من اشترى طعامًا بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه)) .
6- ولأبي داود والنسائي: ((نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيل حتى يستوفيه)) .
7- وروي عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) . قال ابن عباس: ((ولا أحسب كل شيء إلا مثله)) رواه الجماعة إلا الترمذي.
8- وفي لفظ الصحيحين: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله)) .(5/2117)
(ب) الأحاديث التي عمت جميع السلع:
9- روي عن حكيم بن حزام، قال: قلت يا رسول الله: إني أشتري بيوعًا فما يحل لي منها، وما يحرم عليَّ؟ قال: ((إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه)) . رواه أحمد.
10- وعن زيد بن ثابت، أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)) رواه أبو داود والدارقطني.
ثانيا: وعلى ضوء ما نصت عليه هذه الأحاديث يمكننا أن نعرض آراء الفقهاء في بيع الشيء قبل قبضه:
- إذا كان سلعة مطلقًا.
- إذا كان طعامًا مطلقًا.
- إذا كان طعامًا مكيلًا أو موزونًا.
- إذا كان مكيلًا أو موزونًا –أو معدودًا- طعامًا أو غيره.
- إذا كان منقولًا، أو عقارًا.
- إذا كان جزافًا (أي لا يعلم قدره على التفصيل) .
الرأي الأول- القبض شرط في كل مبيع مطلقًا: وهو رأي الشافعية ومحمد بن الحسن من الحنفية، وبه قال الثوري، وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس، والأحاديث التي تؤيده، هي: حديث حكيم بن حزام (9) ، وحديث زيد بن ثابت (10) ، وحديث ابن عباس (7) ، وقد تقدم نص هذه الأحاديث.
وأيضًا فإن بيع الشيء قبل قبضه هو بيع ما لم يضمن، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) ، وهذا مع باب بيع ما لم يضمن، وهذا مبني على أن الشافعية يرون أن القبض شرط في دخول المبيع في ضمان المشتري …، كما أن بيع ما لم يقبض يتطرق منه إلى الربا أو الغرر.
الرأي الثاني – القبض شرط في الطعام فقط، ربويًّا أو غير ربوي: وأدلته الأحاديث التي صرحت بالطعان (حديث جابر (1) ، وحديث أبي هريرة (2) ، وحديث ابن عمر (3) ، ورواياته (4، 5، 6) ، وحديث ابن عباس (7) .
وبناء على هذا الرأي يصح بيع كل سلعة –غير الطعام، ولو كانت عقارًا قبل قبضها.
الرأي الثالث – القبض شرط في الطعام الربوي فقط: وهو رأي مالك (المشهور عنه) ، أي الطعام الذي تتوافر فيه علة الربا، وهي: (الاقتيات والادخار) .(5/2118)
وبناء على هذا الرأي يصح بيع كل سلعة – غير الطعام الربوي- ولو كانت عقارًا قبل قبضها …
الرأي الرابع- القبض شرط في الطعام المكيل والموزون، وأما ما لا يكال ولا يوزن منه فلا بأس ببيعه قبل قبضهن وكذا العقار. ويمكن أن يستدل لهذا الرأي بالأحاديث التي ورد فيها ذكر الطعام المكيل أو الموزون، وهي في روايات حديث عبد الله بن عمر (9، 10) ، وقد تقدم نصها.
وأن هؤلاء الفقهاء اتفقوا على أن المكيل والموزون لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يضمن.
الرأي الخامس – القبض شرط في كل ما يكال ويوزن طعامًا أو غيره، وأما غير ذلك، فالقبض ليس شرطًا فيه: وهو قول أبي عبيد وإسحاق وأدلتهم هي أدلة الرأي الرابع، مع أعمال الأحاديث الواردة في عموم السلع ما كان طعامًا أو غيره.
الرأي السادس- القبض شرط في كل ما يكال وما يوزن، وكذا ما يعد (المعدود) ، وما يذرع- قياسًا على المكيل والموزون- طعامًا أو غيره، أي أنه يجري في المثليات وكذا المزروعات- لا في القيميات: وبه قال ابن حبيب من المالكية وعبد العزيز بن أبي سلمة، وربيعة، والحنابلة، فهؤلاء الفقهاء يتفقون مع أصحاب الرأي الخامس في المكيل والموزون، ويستدلون بأدلتهم إلا أنهم يقيسون على المكيل والموزون المعدود والمزروع.
(وكأنهم يعملون الأحاديث جميعها ما ورد منها في الطعام، وما ورد في كل شيء، وما ورد في المكيل والموزون، باعتبار أن الكيل أو الوزن قيد إطلاق الأحاديث التي عمت المكيل والموزون وغيرهما من القيميات، إلا أن المعدود والمزروع يأخذ حكم المكيل والموزون لأنهم جميع مثليات فما اختص به أحدهما من حكم يسري على الآخرين) .
الرأي السابع –القبض شرط فيما ينقل ويحول (المنقول) ، وليس شرطًًا في كل ما لا يقل ولا يحول كالدور والعقار: وهو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف وذلك لأن ما لا ينقل ولا يحول القبض فيه عندهم بالتخلية.
فلا يجوز بيع المنقول قبل قبضه ويجوز بيع العقار قبل قبضه عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، لأن المبيع هو العرصة (1) ، وهي مأمونة الهلاك غالبًا، فلا يتعلق بها غرر الانفساخ، حتى لو كانت على شاطيء بحر، أو كان المبيع علوا لا يجوز بيعه قبل القبض، والمراد بالحديث النقلي، لأن القبض الحقيقي إنما يتصور فيه، وعملًا بدلائل الجواز …
__________
(1) جاء في كشاف القناع: 2/79 ولم يصح من المشتري تصرفه فيما اشتراه بكيل أو وزن أو عد أو زرع قبل قبضه، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه متفق عليه. وكان الطعام يومئذ مستعمل غالب فيما يكال ويوزن وقيس عليها المعدود والمزروع لاحتياجهما لحق توفية، ولا يصح التصرف فيه ببيع ولا إجارة ولا هبة ولو بلا عوض ولا رهن ولو بعد قبض ثمنه. جاء في مختار الصحاح: العرصة- بفتح العين وسكون الراء وفتح الصاد- بوزن الضربة – كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء، والجمع العِراص-بكسر العين- والعَرَصَات بفتح العين والراء والصاد(5/2119)
الرأي الثامن –القبض ليس شرطًا في بيع أي شيء، سواء كان طعام أو غير طعام، مثليًّا أو غير مثلي، منقولًا أو عقارًا: وهو رأي عثمان البتي، وهو رأي مردود، لأن الأحاديث الصحيحة تنقض هذا الرأي، فهو رأي في مقابل النص (ولا اجتهاد مع نص) ، ولعله لم تبلغه هذه الأحاديث، وقد روي عن أبي حنيفة- ومثله جميع الفقهاء- وقوله: (ليس لأحد أن يقول برأيه مع نص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله، أو إجماع الأمة) .
وقد ثبت النص، فلا محيص من الأخذ به.
بيع الجزاف: وقبل أن نبين الراجح من هذه الآراء نورد فيما يلي آراء الفقهاء فيما إذا بيع الشيء جزاف (وهو ما لم يعلم قدره على التفصيل) قبل قبضه:
يرى الإمام مالك، أنه يجوز بيع الطعام –إذا بيع جزافًا- قبل قبضه- وأما غير الجزاف فلا يجوز- وبه قال الأوزاعي وإسحاق.
واحتجوا بأن الجزاف يرى، فيكفي فيه التخلية، والاستقباض إنما يكون شرط في المكيل والموزون بدليل الأحاديث التي صرحت بذلك، ومنها حديث ابن عمر فيما رواه أحمد: (من اشترى طعام بكيل أو وزن فلا يبيعه حتى يقبضه) (وتقدم رقم9) .
وما رواه الدارقطني من حديث جابر ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري)) ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة، قال في الفتح بإسناد حسن.
قالوا وفي ذلك دليل على أن القبض إنما يكون شرطًا في المكيل والموزون دون الجزاف.
ويرى جمهور الفقهاء، أنه لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه جزافًا كان أو غيره وهو رأي الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
واحتجوا بما يأتي:
1- إطلاق أحاديث الباب، والتي أوردناها فيما تقدم فلم تفصل في الحكم بين الجزاف وغيره.(5/2120)
2- وخصوص حديث ابن عمر (سبق نصه تحت رقم3 من الأحاديث) وفيه (أنهم كانوا يتباعون جزافًا بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه) .
3- وحديث حكيم بن حزام (سبق تحت رقم9) ، لأنه يعم كل مبيع.
كما أجابوا عن الحديثين اللذين استدل بهما أصحاب الرأي الأول، وهما حديث ابن عمر، وحديث جابر بأن التنصيص على كون الطعام المنهي عن بيعه مكيلًا أو موزونًا لا يستلزم عدم ثبوت الحكم في غيره.
نعم لو لم يوجد في الباب إلا الأحاديث التي فيها إطلاق لفظ الطعام لأمكن أن يقال: إنه يحمل المطلق على المقيد بالكيل والوزن، وأما بعد التصريح بالنهي عن بيع الجزاف قبل قبضه، كما في حديث ابن عمر، فيتحتم المصير إلى أن حكم الطعام متحد من غير فرق بين الجزاف وغيره.
الترجيح:
والراجح هو اشتراط قبض المبيع قبل بيعه- سواء كان – طعامًا أو غير طعام- مثليًّا أو قيميًّا، ربويًّا أو غير ربوي، منقولًا أو عقارًا.
وذلك لأن الأحاديث الواردة جاء بعضها عام في كل السلع مثل حديث حكيم بن حزام (رقم9 المتقدم) ، وحديث زيد بن ثابت (رقم10 المتقدم) ، وما صرحت به بعض الأحاديث من ذكر الطعام، لا يدل على نفي الحكم عما عدا الطعام، فهو بعض أفراد العام الوارد في الأحاديث الأخرى، فهو تقرير لنفس الحكم الثابت فيها، نص عليه عناية به، ولعل ذلك لأن أكثر البيوع تكون في هذا المجال …
كذلك فإن التصريح بالمكيل والموزون لا يدل على نفي الحكم عما عداهما، فهو ذكر لبعض أفراد ما أفادته الأحاديث التي أثبتت أنه يشترط القبض في بيع ما اشتراه الإنسان…
فهو ذكر لبعض أفراد العام، وذكر بعض أفراده في بعض الأحاديث لا ينفي الحكم عما عداه لأنه ثابت بالأحاديث التي أفادت عموم الحكم، وهو أنه يشترط قبض المبيع قبل بيعه.
وقد فهم هذا ابن عباس رضي الله عنه، فقال: بعد أن روي حديث: ((من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه، ولا أحسب كل شيء إلا مثله)) .
وأيضًا فإنه قد علل النهي عن بيع الشيء قبل قبضه بجانب ثبوت ذلك في الأحاديث بما أخرجه البخاري عن طاوس، قال: قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: (دراهم بدراهم، والطعام مرجأ) .(5/2121)
استفهم طاوس من ابن عباس عن سبب النهي فأجابه بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض، وتأخر المبيع في يد البائع، فكأنه باع دراهم بدراهم.
ويبين ذلك ما أخرجه مسلم عن ابن عباس، أنه قال –لما سأله طاوس-: (ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام مرجأ) ، وذلك لأنه إذا اشترى طعام بمائة دينار، ودفعها للبائع، ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين –مثلًا- فكأنه اشترى بذهبه ذهبًا أكثر منه.
يقول الشوكاني: وهذا التعليل أجود ما علل به، لأن الصحابة أعرف بما قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويرى الفقهاء أن هذا الحكم – الذي ورد في عقد البيع – يقاس عليه باقي عقود المعاوضات المالية الأخرى (البيوع والإجارات) ، وهو الرأي الذي أرجحه، لأن ضوابط هذه العقود وأسسها متوافقة- أو أنها في معنى البيع المنهي عنه فتأخذ حكمه.
كيفية قبض المبيع:
المبيع إما عقار أو منقول:
أما العقار- وما في حكمه وهو كل شيء يؤمن فيه الهلاك غالبًا، كما صرح الحنفية في تعليلهم له- وهو الأرض والنخل والضياع، والأبنية، وكذا السفن الكبيرة، كما صرح الشافعية ويمكن أن يقاس على ذلك ما في حكمها من الأموال التي يؤمن فيها الهلاك غالبًا، فإن العقار وما في حكمه اتفق الفقهاء على أن قبضه يكون بالتخلية بين البائع والمشتري بحيث يتمكن من الانتفاع به، والتصرف فيه.
وأما المنقول- وهو كل ما عدا العقار، وما في حكمه- مما ينقل ويحول- فقد اختلف في كيفية قبضه:
فيفرق بعض الفقهاء بين المكيل والموزون والمعدود والمزروع وبين غيرها من باقي المنقولات.
أما المكيل والموزون والمعدود، فقبضه يكون بكيله أو وزنه أو عد لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل)) رواه أحمد عن عثمان رضي الله عنه، وفي الصحيحين: ((ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله)) ، ومثل المكيل والموزون، المعدود والمزروع لأنها مثليات وهو رأي الشافعية والحنابلة.
وأما غير المكيل والموزون والمعدود والمزروع فقبضه يكون حسبما يقضي به العرف - كما صرح المالكية والحنابلة (1) .
__________
(1) كشاف القناع: 2 /83.(5/2122)
ويرى الحنفية والشافعية أن قبض المنقول مطلقًا تحويله من مكان إلى مكان، لما روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ((كنا نشتري الطعام جزافًا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه)) وقيس بالطعام غيره، ويكفي في قبض الثوب ونحوه مما يتناول باليد التناول، فإن جرى البيع بموضع لا يختص بالبائع كفى نقله إلى حيز … كما صرح الشافعية – والحنابلة.
النتيجة:
من هذا المبحث يتضح لنا أنه إذا باع المشتري السلعة التي اشتراها قبل أن يقبضها –على الوجه الذي بيَّناه- كان البيع غير صحيح، لأنه بيع منهي عنه بصريح الأحاديث النبوية، ومثل البيع غيره من عقود المعاوضات المالية، ومنها الإجارة، فلو أنه أجَّر شيئًا اشتراه قبل أن يقبضه كانت إجارته غير صحيحة أيضًا.
وهذا النوع من التصرف المعروضة صورته إذا كان بيعًا أو إجارة لسلعة لم يتم شراؤها، أو تم شراؤها ولم يتم قبضها (1) على الوجه المتقدم كان غير صحيح، أما إذا كانت السلعة قد اشتراها المصرف وقبضها ثم باعها للعميل أو أجَّرها … فإن البيع أو الإجارة يكون صحيحًا ما لم يقترن بشرط يؤدي إلى عدم صحته أو يعلق على شرط غير صحيح … وهذا ما سنبحثه في الفقرات التالية.
__________
(1) ويستثنى من ذلك ما إذا كانت السلعة تحت يد (العميل) المشتري من (المصرف) البائع فإنها تكون في حكم المبيع الحاضر المقبوض … (الشوكاني كما ذكرنا آنفًا …) .(5/2123)
المبحث الثالث
حكم اشتراط عقد في عقد في الفقه الإسلامي
إذا كانت السلعة المتعاقد عليها مملوكة للمصرف (المؤجر أو البائع) ومقبوضة على الوجه الذي بيناه في المبحث السابق، فإن هذا الاتفاق الذي معنا، وهو (الإيجار المنتهي بالتمليك) قد يؤدي في بعض صوره إلى اجتماع عقدين في عقدن أو صفقتين في صفقة، ونظرًا إلى أن الفقهاء قد اختلفوا في صحة العقد الذي يؤدي إلى ذلك، فإننا نبين رأيهم، ثم نرجح ما نرى رجحانه:
حكم اشتراط عقد في عقد، أو اجتماع عقدين في عقد:
لقد اختلف الفقهاء في حكم اشتراط عقد في عقد اختلافًا كبيرًا، ومرجع هذا الاختلاف هو تفسير لبعض الأحاديث الواردة في هذا الموضوع، أو التي يوحي ظاهرها بأنها واردة في بيان حكمه، وأورد فيما يلي بإيجاز خلاصة الرأيين:
أولًا: يرى جمهور الفقهاء (الحنفية والشافعية والظاهرية والزيدية) عدم جواز اشتراط عقد في عقد، كما يرى المالكية (غير أشهب) والحنابلة ذلك إلا أنهم يجيزون اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة –أي اجتماعهما في عقد واحد.
ثانيًا: يرى أشهب من علماء المالكية، والإمامية جواز اشتراط عقد في عقد ما دام ذلك يحقق غرضًا مشروعًا وكذلك يرى ابن تيمية جواز اشتراط عقد جديد يتعلق بالمعقود عليه يحقق هذا الغرض.
كما يرى المالكية والشافعية والحنابلة، جواز اجتماع عقد البيع من عقد الإجارة لتوافق أحكام البيع مع أحكام الإجارة في الأركان والشروط غالب.
ونورد هنا بعض النصوص الفقهية في هذا:
(أ) جاء في (الشرح الكبير، للدسوقي 4/5) :
(ولا تفسد الإجارة مع بيع صفقة واحدة، ولا يفسد البيع أيضًا، لعدم منافاتهما، سواء كانت الإجازة في نفس المبيع كشرائه ثوبًا بدراهم معلومة – على أن يخيطه البائع- بعضها في مقابلة الثوب- وذلك بيع- وبعضها في مقابلة الخياطة- وذلك إجارة-، أو جلدًا على أن يخرزه نعالًا أو غيرها، أو في غير المبيع كشرائه ثوبًا بدراهم معلومة على أن ينسج له آخر، ويشترط في الصورة الأولى (وهي ما إذا كانت الإجارة في نفس المبيع) شروعه في العمل، كالخياطة والخرز، وضرب أجل الإجارة، ومعرفة خروجه (على أي وجه كان من كونه رديئًا أو جيدًا، بأن كان الرجل متقنًا في صنعته فيخرج جيدا، أولا فيخرج رديئًا) . عين عامله أم لا، أو إمكان إعادته (أي أو لم يعرف وجه خروجه لكن يمكن إعادته) كالنحاس على أن يصنعه قدحًا، فإن انتفى الأمران (أي معرفة وجه خروجه وإمكان إعادته إن لم يعجبه) كالزيتون على أن يعصره فلا يجوز، وأما إن كانت الإجارة في غير نفس المبيع فتجوز من غير شرط.(5/2124)
(ولا يجوز اجتماع عقد البيع مع عقد الشركة والصرف والجعل والنكاح والمساقاة والقراض، خلافًا لأشهب حيث قال بجواز اجتماع هذه العقود مع عقد البيع) . (الشرح الكبير: 4/5؛ والشرح الصغير: 2/235؛ والإتقان والأحكام، لابن ميارة الفاسي؛ شرح تحفة الأحكام لابن عاصم: 1/282 والبهجة شرح التحفه، لأبي الحسن التسولي: 2/10) .
(ب) ما جاء عند الشافعية حول اجتماع عقدين في عقد في صفقة واحدة:
أجاز الشافعية اجتماع عقدين مختلفي الحكم كالإجارة والبيع أو السلم هو صفقة واحدة جاء في (مغني المحتاج: 2/41) : (ولو جمع في صفقة مختلفي الحكم كإجارة وبيع، كأن يقول: أجرتك داري شهرًا، وبعتك ثوبي هذا بدينار، أو إجارة وسلم كأن يقول: أجرتك داري شهرًا، وبعتك صاع قمح في ذمتي سلمًا بكذا- صحا في الأظهر، ويوزع المسمى على قيمتهما، أي قيمة المؤجر من حيث الأجرة، وقيمة المبيع أو المسلم فيه.
- ووجه الاختلاف بين البيع والإجارة اشتراط قبض العوض في المجلس في السلم دونها.
- والرأي الثاني: يبطلان، لأنه قد يعرض لاختلاف حكمها باختلاف أسباب الفسخ والانفساخ ما يقتضي فسخ أحدهما، فيحتاج إلى التوزيع، ويلزم الجهل عند العقد بما يخص كلًّا منهما من العوض، وذلك محذور.
- وأجاب الأول بأنه لا محذور في ذلك، ألا ترى أنه يجوز بيع ثوب وشفعة من دار في صفقة، وإن اختلفا في حكم الشفعة واحتيج إلى التوزيع بسببها.
- ويؤخذ مما مثل به أن محل الخلاف أن يكون العقدان لازمين، فلو جمع بين لازم وجائز كبيع وجعالة لم يصح قطعًا. كما ذكره الرافعي في المسابقة. أو كان العقدان جائزين كشركة وقراض صح قطع، لأن العقود الجائزة بابها واسع.
- وإنما قال مختلفي الحكم، ولم يقل عقدين مختلفي الحكم –كما عبر به في المحرر- ليشمل بيع عبدين بشرط الخيار في أحدهما أكثر من الآخر، فإنه على القولين مع أن الحكم مختلف والعقد واحد …) .
واضح من هذا النص الفقهي أن الشافعية يقولون أن اجتماع عقدين في صفقة واحدة، بشرط أن يكونا مختلفي الحكم كإجارة وبيع، أو إجارة وسلم.. يصحان في الأظهر ويوزع المسمى على قيمتها …(5/2125)
فهل اجتماع عقد إجارة على عين مع عقد بيع على هذه العين الواحدة المؤجرة بعد انتهاء مدة الإجارة يصح قياسًا على ذلك، أم لا يصح لأن الصورة التي ذكرها المذهب هنا هي إجارة باتة ناجزة، وبيع بات ناجز ليس معلقًا على شرط أو مضافًا إلى أجل على محلين مختلفين، ومن ثم فلا يصح القياس على ذلك وهو رأي المذهب؛ لأن هذه العقود لا تقبل عندهم التعليق على شرط ولا الإضافة إلى أجل.
ولنا أن نقول: إن السلعة هنا مقبوضة في يد المستأجر- تحت ظل عقد الإجارة وملك المستأجر منفعتها- فإذا ما علق بيعها له على انتهاء عقد الإجارة كان مقتضى القول بصحة هذا البيع أن ينضم حق التصرف في هذه العين المؤجرة (المبيعة) إلى حق المنفعة التي ملكها المستأجر (المشتري) ، وبذلك يكون المعلق فيها –هو حق التصرف- لأن صيغة العقد واحدة جمعت بين إجارة وبيع- إجارة ملك بها أحد شقي الملكية، وبيع بعد الإجارة ملك به الشق الآخر… فلا يكون تعليقًا للعقد وإنما هو تعليق لحق التصرف إلى ما بعد انتهاء عقد الإجارة … والله أعلم. كما في حديث جابر وما صرح به الحنابلة في رأي لهم.
جاء في (الروض المربع: 2/169) : (أو جمع بين بيع وصرف، أو إجارة، أو خلع أو نكاح بعوض واحد صح البيع وما جمع إليه، ويقسط العوض على المبيع وما جمع إليه بالقيم، ومثله كشاف القناع: 2/29، ومنتهى الإرادات: ص17) .
(ج) وأجاز الإمامية اشتراط عقد في عقد:
وقد أوردوا عدة أمثلة لذلك فقالوا: إن الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا ينافي مقتضى العقد، ولا يكون له تعلق بمصلحة المتعاقدين من حيث كونهما متعاقدين، (كاشتراط منفعة البائع كخياطة الثوب وصياغة الفضة، أو اشتراط عقد في عقد كأن يبيعه شيئًا بشرط أن يشتري منهن أو يبيعه شيئا آخر، أو يزوجه، أو يسلفه، أو يقرضه، أو يستقرض منه، أو يؤجره، أو يستأجر منه، أو يشترط ما بنى على التغلب والسراية كشرط عتق العبد، فهذه الشروط كلها سائغة) .(5/2126)
ومنها أيضًا: (ما إذا باعه شيئًا بشرط أن يبيعه لفلان..) جاز ذلك. وهذا النوع من الشرط قالوا عنه:
(أ) أنه شرط لا يقتضيه العقد، لأنه لا يجب بنفس العقد، وليس مما رتبه الشارع على العقد.
(ب) وأنه شرط لا يتعلق بمصلحة المتعاقدين من حيث كونهما متعاقدين، فلا تعلق له بالعقد، ولا محل العقد - ثمنًا كان أو مثمنًا- وإنما هو اشتراط أمر خارج عن العقد، أو أحد العوضين.
(ج) وأنه شرط لا ينافي مقتضى العقد، لأنه لا تعارض بينه وبين ما يرتبه الشارع على العقد من أحكام وآثار.
(د) وأنه شرط لا يخالف الكتاب والسنة أي أنه (سائغ) .
(هـ) وأنه شرط مقدور عليه.
(و) وأنه شرط يقتضي حصول تصرف في المستقبل، كان هذا التصرف عملًا من الأعمال في محل العقد أو في غيره، أو كان عقدًا آخر.
(ز) وأنه شرط يحقق منفعة.
(ح) وأنه يصح لأي من المتعاقدين اشتراط هذا النوع من الشرط على الآخر.
النتيجة:
أرى أنه لا مانع من اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة سواء أكان العقدان واردين على محل واحد – كما هو الحال في الصور التي معنا- أو كانا واردين على محلين مختلفين، طالما توافرت أركان كل عقد منهما وشروط صحته.
وأما حديث (النهي عن بيعتين في بيعة) وعن (صفقتين في صفقة) ، فقد فسره بعض العلماء بأن المراد به (النهي عن إيجاب البيع في سلعة بثمنين مختلفين إلى أجلين..، أو إيجاب البيع في سلعتين بثمنين مختلفين، ثم يقبل الطرف الآخر، ثم يفترقان على هذا دون تحديد لثمن معين، وأجل معين، أو سلعة معينة) (1) . فهذان الحديثان يتعلقان بصيغة العقد، إذ إنه بهذه الصيغة لا ينعقد العقد، لأنه لم يحدد ثمن معين، وأجل معين عند قوله قبلت- أو سلعة معينة- لأن من شروط صحة الصيغة أن يصدر القبول على وفق الإيجاب، والإيجاب هنا ليس باتًّا في صفقة واحدة، وإنما هو متردد بين بيعتين، أو صفقتين…، فيلزم لصحة البيع أن يقول المشتري قبلت في كذا بكذا، وحينئذ يكون قبوله إيجابًا جديدًا يلزم لكي يتم البيع به أن يقول الآخر قبلت، وتكون الصيغة الأولى استدعاء للبيع وليست إيجابًا للبيع…
__________
(1) فسره بهذا سماك راوي الحديث، والشوكاني، والشافعي، وأبو عبيد بن القاسم والمالكية والحنابلة، والزيدية والإباضية في أحد التفسيرين. وأما التفسير الآخر للحديث عندهم فهو عام يشمل كل شرط يؤدي إلى اجتماع عقد في عقد، أو اجتماع عقد البيع مع عقد آخر، وقد رجحت في كتابي (الشروط في العقد) الرأي الأول ص499-548، إلا أني رجحت أنه لا يصح اجتماع سلف وبيع- لصحة الحديث الوارد في ذلك.(5/2127)
وإذا رجحنا صحة اشتراط عقد في عقد، فإنه من الضروري لصحة كل من هذين العقدين أن يكون كل عقد منهما مستوفيًا أركانه وشروط صحته.
سواء من حيث الصيغة الدالة على الرضا …
أو من حيث أهلية المتعاقدين..
أو من حيث المعقود عليه – ثمنًا مثمنًا أو أجرة ومنفعة- وتحديدهما تحديدًا نافيا لكل جهالة أو غرر.
أو من حيث ما اقترن به من أوصاف- كالأجل- أو الشرط.
فإذا توافر ذلك كله بأن كان المؤجر أو المبيع مملوكًا مقبوضًا، وكان الاتفاق يقضي أو يؤدي إلى اجتماع عقدي الإجارة والبيع في عقد واحد، فإنا نقول بصحته إذا توافرت شروط صحة كل منهما، ولم يقترن بما يؤدي إلى بطلانه من شرط باطل، أو غرر …
وهنا أيضًا يجب أن نبين حكم اشتراط بعض الشروط في هذا العقد، وحكم هذا العقد مع هذه الشروط صحيحها وفاسدها، إذ أن الفقه الإسلامي له رأي في الشروط التي تقترن بالعقد- حقيقتها – وعددها- وأثرها.
ونرى أن نوضح هذا الرأي في المبحث التالي:(5/2128)
المبحث الرابع
حكم اشتراط شرط أو أكثر في عقود المعاوضات المالية
أوضحنا آنفًا أن هذا العقد قد تم على سلعة مملوكة مقبوضة للمصرف وهو عقد إجارة … اشترط فيه بعض الشروط مثل:
- أن يتحمل المستأجر لهذه السلعة نفقات الصيانة والحفظ والتأمين.
- وألا يتصرف المؤجر في هذه السلعة طوال مدة الإجارة المتفق عليها … بأي تصرف يضر بمصلحة المستأجر، أو يخرج السلعة من تحت يده.
- وأن يبيع المؤجر الشيء المؤجر إلى المستأجر إذا وفى بالأقساط المتفق عليها في المدة المحددة لهذه الإجارة..
- أو أن يجعل المؤجر للمستأجر الحق في أن يتملك الشيء المؤجر في مقابل ثمن معين، أو مد مدة الإجارة، أو ورد الشيء إلى المؤجر في نهاية مدة الإجارة. إذا رغب في ذلك.
كل هذه الشروط أو بعضها إذا اشترطت في عقد الإجارة - على القول بأن العقد هو عقد إجارة- هل يكون عقد الإجارة صحيحًا؟
وللإجابة على ذلك نوجز آراء الفقهاء في حكم اشتراط شرط أو أكثر في عقد من عقود المعاوضات المالية:
(أ) حكم اقتران عقود المعاوضة بشرط واحد:
إن بيان آراء الفقهاء في حكم اشتراط شرط في عقود المعاوضات المالية لا يمكن أن تحتويه هذه العجالة التي نوضح فيها حكم الشروط المقترنة بعقد الإيجار المنتهي بالتمليك، ولكن يكفي أن ننص على أن الراجح في هذا هو:
أن الشرط الذي يقتضيه العقد- كاشتراط تسليك الشيء المؤجر أو المبيع- وتسليم الأجرة أو الثمن- أو الشرط الذي يؤكد مقتضاه- كاشتراط الرهن أو الكفيل أو الحوالة أو الشهادة - أو الشرط الذي يحقق منفعة لأي من المتعاقدين- كل ذلك يكون شرطًا صحيحًا يلزم الوفاء به..(5/2129)
أما الشروط التي تخالف الشرع فهي باطلة ولا تصح ومنها:
- كل شرط يناقض المقصود الأصلي من العقد- فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشرط فيه ما ينافي هذا المقصود، فقد جمع بين المتناقضين، بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء، ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق.
- وكل شرط يؤدي إلى مخالفة نص شرعي من كتاب أو سنة.
- وكل شرط مستحيل- أي يستحيل الوفاء به-.
وكل شرط يؤدي إلى محظور شرعي.
- وكل شرط يؤدي إلى غرر.
والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبان.
فإذا عرضنا الشروط المشترطة في عقد الإجارة على ما رجحنا الأخذ به لتبين لنا أنها شروط لا تناقض المقصود الأصلي من عقد الإجارة - إذ المقصود الأصلي من هذا العقد هو انتفاع المستأجر بالعين المؤجرة طوال فترة الإجارة المتفق عليها …، وليس في هذه الشروط ما يناقض ذلك.
إلا أنه إذا كانت الشروط تفرغ العقد من مضمونه الأصلي الذي شرع له، فإنها حينئذ تكون باطلة، كما سبق أن ذكرنا.
(ب) حكم اشتراط أكثر من شرط في عقود المعاوضات المالية:
1- تناول الفقهاء بالبيان أيضًا حكم اشتراط شرطين في البيع، وذلك لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((النهي عن شرطين في بيع)) وقد سبق نص الحديث، وهو ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) (1) ، وهو حديث حسن صحيح وروي عن ابن عمر رضي الله عنه مثله (2) .
2- آراء الفقهاء في مدلول (النهي عن شرطين في بيع) .
__________
(1) رواه الخمسة وصححه الترمذي، وابن خزيمة والحاكم.
(2) رواه الخمسة إلا ابن ماجه، قال الترمذي: حديث حسن صحيح(5/2130)
فسر الفقهاء هذا الحديث بتفسيرات ثلاثة:
التفسير الأول: وهو (التردد بين النقد والنسيئة في صيغة واحدة) :
كأن يقول بعتك بكذا نقدًا، وبكذا نسيئة- فيقبل الآخر- على الإبهام. أي لم يحدد أي الصفقتين قبل- نقل ابن الرفعة عن القاضي ذلك.
وهذا التفسير للحديث عليه جمهور من الفقهاء (الحنفية والمالكية والزيدية، والإباضية، والبغوي والخطابي..) .
وبناءً على هذا التفسير يكون هذا الحديث متفقًا في تفسيره مع تفسير حديث النهي عن بيعتين في بيعة، ويكون الحديثان بعيدين عن اشتراط شرط في العقد، وإنما يرجعان إلى صيغة العقد، وما احتوت عليه في إفادتها ودلالتها وتعبيرها عن الرضا بعقد معين، أو عدم إفادتها ذلك..، فهو أمر يتصل بالبحث في صيغة العقد وليس في الشروط المقترنة به.
التفسير الثاني: وهو اشتراط عقد في عقد:
كما لو قال: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعني تلك السلعة بكذا، أو باعه هذه السلعة على أن يبيعه بالثمن أشياء أخرى: (ووجهه أن كلًّا من المتعاقدين يصبح طالبًا لسلعة الآخر، فكان كل منهما قد اشترط على الآخر بيعًا) .
وقد فسره بذلك الزيدية، والإباضية، وواضح أن هذا التفسير بعيد عن ظاهر الحديث، فإن هذا البيع قد اقترن بشرط واحد، وهو أن يبيعه كذا بكذا، وليس فيه شرطان، وإنما يوجد العقد، ويوجد شرط فيه، فالأول يطالب بمقتضى العقد، والثاني بمقتضى الشرط، فلا يوجد شرطان في العقد.
التفسير الثالث: اشتراط شرطين فاسدين في العقد:
صرح بهذا التفسير الحنابلة، والأرجح عندهم أن اشتراط شرطين فاسدين يبطل العقد، أما اشتراط شرطين صحيحين أو أكثر فإنه يصح ويصح العقد.
قال ابن قدامة (مسألة) قال: ويبطل البيع إذا كان فيه شرطان، ولا يبطله شرط واحد، ثبت عن أحمد رحمه الله أنه قال: (الشرط الواحد لا بأس به، إنما نهى عن الشرطين في البيع، ذهب أحمد إلى ما روى عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك …)) قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: (إن هؤلاء يكرهون الشرط في البيع، فنفض يده، وقال: الشرط الواحد لا بأس به في البيع، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين في بيع، وحديث جابر رضي الله عنه يدل على إباحة الشرط حين باعه جمله وشرط ظهره إلى المدينة.(5/2131)
تفسير الشرطين المنهي عنهما وحكم اشتراطهما- عند الحنابلة-:
اختلف في تفسير الشرطين المنهي عنهما- عند الحنابلة- نظرًا لاختلاف ما روي عن الإمام أحمد، والأرجح في المذهب أن الشرطين المنهي عنهما، هما الشرطان الفاسدان، أي ما كنا منافيين لمقتضى العقد. أما الشروط الصحيحة التي تكون من مقتضى العقد، أو من مصلحته، أو فيها منفعة ولا تخالف الشرع، فإن اشتراط شرطين أو أكثر منها صحيح لا يفسد العقد، لأنه لما كانت هذه الشروط لا تؤثر في صحة العقد وهي منفردة فيلزم ألا تؤثر فيه وهي مجتمعة.
وبناء على هذا التفسير يفسد العقد إذا اشترط فيه شرطان فاسدان، ولا يفسد إذا كان الشرطان صحيحين، ويكون الفرق بين اشتراط شرط فاسد واحد، واشتراط شرطين فاسدين هو عدم فساد العقد في الأول – مع فساد الشرط - وفساد العقد في الثاني.. مع شروطه.
أما الرأي المرجوح في مذهب الحنابلة فهو ما قاله القاضي في المحرر: (من أن ظاهر كلام أحمد أنه متى شرط في العقد شرطين بطل، سواء كانا صحيحين أو فاسدين، لمصلحة العقد، أو لغير مصلحته، أخذ من ظاهر الحديث وعملًا بعمومه) . إلا أن ابن قدامة رد عليه بقوله: (وقول القاضي أن النهي يبقي على عمومه في كل شرطين بعيد أيضًا، فإن شرط ما يقتضيه العقد لا يؤثر فيه بغير خلاف، وشرط ما هو من مصلحة العقد كالأجل والخيار والرهن والضمين..، وشرط صفة في المبيع كالكتابة والصناعة، فيه مصلحة العقد فلا ينبغي أن تؤثر في بطلانه قلت أو كثرت، ولم يذكر أحمد في هذه المسألة شيئًا من هذا القسم، فالظاهر أنه غير مراد له) .
وبناءً على هذا التفسير لحديث النهي عن شرطين في بيع، يكون المراد بالشرطين المنهي عن اشتراطهما في البيع الشرطين الفاسدين فأكثر، فاشتراط مثل هذه الشروط يفسد العقد. أما الشروط الصحيحة- شرطًا واحدًا أو أكثر- فإنها تصح ويصح العقد معها.
وهذا ما أرجحه في تفسير حديث النهي عن شرطين في بيع (1) .
النتيجة:
وإذا قلنا بصحة اشتراط شرط أو أكثر في عقد الإجارة، أو غيره من عقود المعاوضات، فهل يمكن تحت ظل هذه الشروط وعلى ضوء ما تفصح عنه أن يكيف عقد الإجارة بأنه عقد بيع، أو العكس..، أو بعبارة أخرى: هل يمكن أن نكيف العقد طبقًا لما توحي به صيغته وما اقترن بها من شروط، وإن كان ما نطلق به المتعاقدان أو صرح به يدل على غير ذلك.
وهنا في (الإيجار المنتهي بالتمليك) يوجد صور لا يتأتى فيها اختلاف في التكييف، وهي صورة ما إذا كان للمبيع ثمن معقول في نهاية مدة عقد الإجارة، حدده المتعاقدان أو أحالاه إلى سعر السوق في هذا الوقت..
أما إذا لم يكن هناك ثمن سوى الأقساط الإيجارية التي تم دفعها خلال المدة المحددة للإجارة، فإنه يمكن النظر حينئذ في هذه الصورة، هل تكيف على أنها عقد بيع فيجب أن تتوافر فيه عند التعاقد أركانه وشروطه، أو تكيف على أنها عقد إجارة، اقترن به عقد هبة بالعين المؤجرة إذا تم سداد الأقساط الإيجارية، ونبحث ذلك فيما يلى..
__________
(1) وقد تناولت وجه الترجيح بإفاضة في (نظرية الشرط) ، للباحث: ص531.(5/2132)
المبحث الخامس
تكييف عقد الإيجار المنتهي بالتمليك، في الفقه الإسلامي.
وبعد أن بيَّنا أنه يصح التعاقد على عين معينة مملوكة للمؤجر أو للبائع، مقبوضة، (على الوجه الذي رجحنا الأخذ به) وأنه لا مانع من أن يحتوي عقد واحد على عقدين من عقود المعاوضات المالية، وبخاصة البيع والإجارة، وأنه يجوز أن يقترن العقد بشرط أو أكثر يقتضيه العقد، أو يؤكد مقتضاه، أو يحقق مصلحة مشروعة لأي من المتعاقدين، ولا ينافي المقصود الأصلي من العقد، ولا يخالف نصًّا في الكتاب أو السنة ولا يؤدي إلى الوقوع في محظور، أو غرر، أو أن الشرط يكون أمرًا مستحيلًا.
يلزمنا أن نتوقف هنا لبيان التكييف الفقهي لصور عقد (الإيجار المنتهي بالتمليك) على ضوء ما وضع فيه من شروط ونتناول كل صورة على حدة، مع بيان حكمها في الفقه الإسلامي:
الصورة الأولى: وقد سبق بيانها:
وفيها تنتقل الملكية إلى المستأجر بمجرد سداد القسط الإيجاري الأخير- تلقائيًّا- ودون حاجة إلى إبرام عقد جديد- ودون ثمن، سوى ما فعه من المبالغ التي تم سدادها كأقساط إيجارية لهذه السلعة المؤجرة خلال المدة المحددة، والتي هي في الحقيقة ثمن هذه السلعة.
وفي هذه الصورة يتضح لنا:
- إنه وإن صيغ العقد على أنه إجارة في بدايته، وأنه بيع في نهايته وذلك للانتفاع بخصائص عقد الإجارة في المدة المحددة، ثم الانتفاع بخصائص عقد البيع في النهاية- إلا أن هذه الصياغة لا يمكن اعتمادها بهذه الصورة لأمور متعددة منها:
أن كل مبيع لا بُدَّ له من ثمن، وهنا لا يوجد ثمن وقت تمام البيع- أي في نهاية مدة الإجارة - إذ أن ما دفع كان أجرة.
إن الأجرة المقدرة لسلعة في المدة المحددة ليست أجرة المثل، بل روعي فيها أنها هي ثمن السلعة مع إضافة ما قد يكون من ربح متفق عليه.(5/2133)
إن إرادة المتعاقدين متجهة- دون ما شك- إلى بيع هذه السلعة وليس إجارتها، وقد دفع إلى ذلك خوف البائع (المؤجر) من عدم الحصول على ضمان السلعة إذا كان الثمن مؤجلًا أو منجمًا لأي سبب كان … لأن البيع يترتب عليه نقل الملكية إلى المشتري (المستأجر) حال، ورغبة المشتري- الذي لا توجد لديه إمكانات شرائها بالنقد- في الحصول على هذه السلعة والانتفاع بها، (أو عدم تجميد أمواله في سلعة واحدة كي يتمكن من تحريك أمواله في مجالات متعددة …) مع عدم حاجة البائع غالبًا إلى اقتناء هذه السلعة، إذ هو إنما يلبي حاجة المشتري (المستأجر) بالضوابط والقيود التي وضعاها والصياغة التي صاغها بها العقد.
أمام هذه الجوانب المتعددة لهذه الصورة كيفها فقهاء القانون بأنها بيع بالتقسيط، ولم يعتدوا بعقد الإجارة الذي صرح به العاقدان نظرًا للقرائن التي تظهر أنه عقد بيع، وإنما ظهر في صورة عقد إجارة في بدايته للانتفاع بخصائص العقدين كما بينا آنف.
تكييفها في الفقه الإسلامي
ونحن في رحاب الفقه الإسلامي هل يمكن أن نكيفها بذلك؟
للإجابة على ذلك نقول عن الذي يقف أمام هذا التكييف هو أن عقد الإجارة عقد صريح ناجز، لأن صيغته وهي (أجرت – واستأجرت) دالة على الإجارة قطعًا، وإن الشروط التي صاحبت هذا العقد واقترنت به يجب بحثها هل هي شروط صحيحة أو غير صحيحة؟ فإن كانت صحيحة وجب الوفاء بها، وإن لم تكن صحيحة بطلت (وبطل العقد أو فسد أو صح على الخلاف فيها وفي طبيعتها) ، وهذه الشروط لا يمكن أن يقال أنها حولت العقد من إجارة إلى بيع، لأنهما أراداه الآن إجارة، لا بيعًا، فكان القول بذلك عكس إرادتهما الظاهرة والمعلنة.
وأما تمليك الشيء المؤجر الذي علق على سداد جميع هذه الأقساط الإيجارية، فهل يمكن أن يكون بيعًا معلقًا والثمن فيه هو هذه الأقساط التي قام المستأجر بسدادها؟ أن الذي يحول دون ذلك هو أن هذه الأقساط دفعت على أنها أجرة للعين المؤجرة، فكيف تتحول إلى ثمن للعين المؤجرة في نهاية المدة.
والمعلوم أن الثمن يكون حالًا أو مؤجلًا عند تمام عقد البيع، وما أخذ هنا تحت ظل عقد الإجارة هو ثمن هذه المنفعة التي استوفاها المستأجر، فكان تكييفها في ظل العقد الذي أوجبها أنها أجرة، فتحويلها بعد ذلك إلى ثمن للعين المؤجرة بعقد لاحق لا يتمشى ولا يسير مع القواعد التي تحدد لكل عقد أحكامه وآثاره فور انعقاده صحيحًا منتجًا واجب الوفاء بما يقضي به، إذًا تكييف هذه الصورة بأنها عقد بيع بثمن مقسط تكتنفه في الفقه الإسلامي صعوبات كثيرة تحول دون القول بذلك.(5/2134)
وإزاء ذلك يمكن أن نتساءل هل يوافق الفقه الإسلامي على إجراء عقد بيع مع اشتراط عدم نقل الملكية (عدم التصرف في البيع) إلا بعد سداد جميع الثمن المؤجل، باعتبار أن هذه الصورة قد تحقق الهدف المقصود من (الإيجار المنتهي بتمليك) وهو اطمئنان البائع إلى الوصول إلى حقه قبل إباحة التصرف للمشتري في الشيء المبيع فإن لم يوف انفسخ العقد؟
للإجابة على ذلك نقول:
إن بعض الفقهاء أجازوا ذلك ألا وهو (بيع شيء مع اشتراط منع المشتري من التصرف في العين المبيعه بأي نوع من أنواع التصرفات- معاوضة أو تبرعًا- حتى يؤدي المشتري الثمن كاملًا، وإلا انفسخ العقد.
فقد نص المالكية على أنه يجوز أن يبيع المالك السلعة بشرط ألا يتصرف فيها المشتري ببيع ولا هبة ولا عتق حتى يعطي الثمن، فهذا بمنزلة الرهن وكان الثمن مؤجل) (1) .وأيضًا يصح بناء على رأي ابن شبرمة، وكذلك رأي ابن تيمية، ورأي الإمامية، الذين يجيزون اشتراط كل ما لا يخالف الكتاب والسنة، ولا يناقض المقصود الأصلي من العقد… (وقد سبق أن وضحنا ذلك) .
وبناءً على هذا الرأي الذي أرجح الأخذ به أرى أنه يمكن أن يصاغ بديل ل عقد الإيجار المنتهي بالتمليك، وهو عقد بيع يشترط فيه عدم تصرف المشتري في الشيء المبيع بأي نوع من أنواع التصرف - معاوضة أو تبرعًا- إلا بعد سداد جميع الثمن، وإلا انفسخ العقد.
وما يدفع من أقساط إيجارية- تكون أقساط ثمن السلعة المنجمة، فإذا وفى بها أصبح له حق التصرف فيها، وإذا لم يوف كان للمشتري الحق في أخذ السلعة منه، وأما ما دفع من أقساط خلال المدة السابقة على امتناعه عن الوفاء بباقي الأقساط المحددة، فهذه يمكن معالجتها على أساس خصم القيمة الإيجارية الحقيقية من هذه الأقساط التي دفعها خلال هذه المدة، مع إضافة تعويض ملائم عن الأضرار التي لحقت بالبائع نتيجة هذا الإخلال كشرط جزائي (2) .
__________
(1) نظرية الشرط، للمؤلف: ص217، وص365.
(2) الشرط الجزائي يمكن القول بصحته على أساس ما ورد في بعض المذاهب الفقهية فإن الشرط الجزائي إذا لم يكن محله مبلغ من النقود يصرح بصحته بعض الفقهاء، ومنهم المالكية وكذلك القائلون بصحة كل شرط حلال لا يحرم حلال، ولا يحل حرام، وهم ابن تيمية وابن القيم والشيعة الإمامية (راجع نظرية الشرط، للمؤلف: ص624) .(5/2135)
وهنا يثور تساؤل آخر وهو:
هل يمكن أن يعتبر تمليك العين في نهاية المدة (في هذه الصورة) هبة للشخص الذي أدى الأقساط الإيجارية المحددة خلال المدة المتفق عليها؟
قد أورد الفقهاء في باب الهبة: (هبة الثواب) . وأجازوها ولكنهم أعطوها حكم البيع:
ومن أقوالهم ما أورده الحطاب (1) حيث قال: إذا قال (وإن أعطيتني … دارك … فقد التزمت لك بكذا، أو فلك علي كذا ... فهذا من باب هبة الثواب، وقد صرحوا بأنه إذا سمى فيها الثواب أنها جائزة، ولم يوجد في ذلك خلافًا، وأنها حينئذٍ بيع من البيوع، فيشترط في كل من الملتزم به والملتزم عليه ما يشترط في الثمن والمثمون من انتفاء الجهل والغرر – إلا ما يجوز في هبة الثواب- ويشترط فيه أيضًا كون كل منهما طاهرًا منتفعًا به، مقدورًا على تسليمه … وأن يكون كل من الملتزم والملتزم له مميزًا، ويشترط في لزوم ذلك أن يكون طائعًا رشيدًا) .
ومثله ما أورده الموصلي (2) والهبة بشرط العوض يراعى فيها حكم الهبة قبل القبض، فلا يصح المشاع، وحكم البيع بعده، رعاية للفظ والمعنى، (… ولا يصح الرجوع إلا بتراضيهما أو حكم الحاكم …) .
ومثله أورده الشربيني (3) حيث قال: (ولو وهب شخصًا شيئًا بثواب معلوم عليه، كوهبتك هذا على أن تثيبني كذا، فالأظهر صحة هذا العقد، نظرًا للمعنى، فإنه معاوضة بمال معلوم، فصح كما لو قال بعتك - والثاني بطلانه نظرًا إلى اللفظ لتناقضه، فإن لفظ الهبة يقتضي التبرع- ويكون بيع على الصحيح نظرًا إلى المعنى، فعلى هذا تثبت فيه أحكام البيع …) .
ومثله أورده البهوتي (4) حيث قال: (وإن شرط العاقد في الهبة عوضًا معلومًا، فهي بيع لأنه تمليك بعوض معلوم … فتثبت أحكامه …) .
وهنا يثور تساؤل آخر: هو هل يجوز أن يجعل عقد الهبة معلقًا على شرط هو سداد جميع الأقساط التي اتفق على دفعها خلال هذه المدة؟
أي أن تكون الهبة معلقة على شرط هو (سداد جميع الأقساط الإيجارية خلال المدة المحددة، وعدم الإخلال بما اشترط عليه فيها) وتكون الصيغة هي "إذا سددت إلى الأقساط المتفق عليها خلال هذه المدة (المتفق عليها) وهبتك هذه السلعة وقبل الطرف الآخر" فيكون عقد الهبة عقدًا معلقًا على شرط، يجري عليه ما يجري على العقود المعلقة على شرط في الفقه الإسلامي.
وللإجابة على ذلك أقول: إن تعليق الهبة على شرط في الفقه الإسلامي اختلف فيه الفقهاء إلى رأيين:
الرأي الأول (5) يرى عدم صحة تعليقها على الشرط (وهو رأي الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية) .
وذلك لأن عقود التمليكات تثبت آثارها في الحال، فتعليقها على الشرط ينافي ما يقتضيه العقد، فلا يصح لما فيه من معنى القمار، والهبة عقد من هذه العقود، إذ هي تقتضي التمليك في الحال، ولم تبنِ على التغلب والسراية، والتعليق ينافي هذا، لأنه يعلق التمليك على حدوث أمر محتمل الوقوع في المستقبل، فالأمر المعلق عليه قد يحدث وقد لا يحدث، وهذا ينافي كون هذه العقود تقتضي التمليك في الحال فضلًا عما يترتب عليه من غرر.
الرأي الثاني: يرى جواز تعليقها على الشرط، (وهو قول في مذهب الحنفية) أجاز تعليقها على الشرط الملائم أو المتعارف، وهو رأي المالكية (6) ، والظاهر في مذهب الإباضية.
وقد رجحت في (نظرية الشرط) هذا الرأي لما يأتي:
1- أن المتبرع متفضل، والمتفضل يقبل تبرعه على الصورة التي أرادها ما دام لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا لقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، [الآية 91 من سورة التوبة] .
2- أنه روي عن أم كلثوم بنت أبي سلمة قالت: ((لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال لها: إني قد أهديت للنجاشي حلة، وأواقي من مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة، فإن ردت عليَّ فهي لكِ، قالت: وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت هديته، فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة)) رواه أحمد … وهو حديث لا يقل مرتبة عن الحسن، لأن رجاله رجال الصحيح ,وقد علم من بعض روايات الحديث ما يفيد أن الذي علق رسول الله صلى الله عليه وسلم إعطاءه لأم سلمة هو الحلة، وقد أعطاها لها حينما تحقق الشرط، وهو رد الهدية بعد موت النجاشي (7) .
وأيضًا يثور تساءل آخر وأخير، وهو هل يجوز أن يعد المؤجر المستأجر بأن يهبه السلعة في نهاية المدة التي حددت لعقد الإجارة، وبعد سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق عليها خلال هذه المدة؟
__________
(1) الالتزامات، للحطاب: ص 211.
(2) الاختيار، للموصلي: 2/116.
(3) مغني المحتاج: 2/404.
(4) الروض المربع: ص241.
(5) مغني المحتاج: 2/369؛ كشاف القناع: 2/274؛ التاج المذهب: 2/30
(6) الالتزامات، للحطاب: 1/180؛ وشرح النيل: 6/10؛ يراجع نظرية الشرط في الفقه الإسلامي: ص135.
(7) تحقيق ذلك والإفاضة فيه مبين بـ (نظرية الشرط) للمؤلف.(5/2136)
وللإجابة عن ذلك أقول: إن للفقهاء رأيين في كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم، فيرى جمهور الفقهاء أنه غير ملزم، ويرى المالكية في أحد أقوالهم، وابن شبرمة أنه ملزم، وسيأتي بيان ذلك في نهاية البحث، وقد رجحت الأخذ بالرأي المشهور في مذهب المالكية، وهو أن الوعد يكون ملزمًا إذا دخل الموعود بسبب هذه العدة في شيء) وهو قول مالك وابن القاسم وقول سحنون.
وإذا قلنا بجواز أن يعده بهبة السلعة في نهاية المدة على الوجه الذي ذكرناه، وبالشروط التي اتفق عليها، ويكون الوعد ملزمًا بالوفاء بوعده عند تحقق الشرط، فإن ظروفًا كثيرة تحتاج إلى نظر.
منها أن الإجارة المدفوعة ليست في حقيقة الأمر ثمنًا للمنفعة، ينطبق عليها أجرة المثل إذا حدث خلل في عقد الإجارة وإنما هي أقساط ثمن السلعة، حيث قسط ثمنها على هذه المدة المتفق عليها، وهي قطعًا تكون مرتفعة أو منخفضة، بمقدار قصر المدة أو طولها وعادة ما تكون المدة قصيرة- فإذا حدث الخلل المشار إليه، أو العجز عن الوفاء، فإن المستأجر يكون مظلومًا بدفعه ما زاد عن أجرة المثل، وما يدفع زيادة عن ذلك هل يعادل تعويض المؤجر عن الأضرار التي لحقت به، مع مراعاة أن تقدير الضرر، ثم التعويض عنه، لا يمكن أن يكون مقدمًا على وقوعه، وتبين أبعاده، كل ذلك يحتاج إلى مزيد نظر.
الصورة الثانية- (حدد فيها ثمن رمزي للمبيع بيع إيجاري) :
وقد سبق إيضاحها (ص8) وهي نفس الصورة السابقة إلا أنه قد حدد هنا في هذه الصورة ثمن رمزي للسلعة المؤجرة يدفعه المستأجر إذا رغب في شرائها بعد انتهاء سداد الأقساط الإيجارية المتفق عليها.
ومن الواضح في هذه الصورة أن هذا العقد قد احتوى على:
1- عقد إجارة - ناجز- حددت فيه الأجرة، ومدة الإجارة - فإذا انتهت المدة انفسخ عقد الإجارة - أو إذا امتنع عن سداد الأقساط الإيجارية المتفق عليها-.
2- عقد بيع - يتم في نهاية مدة الإجارة - إذا رغب المستأجر في ذلك- ودفع الثمن الذي اتفقا عليه- (الثمن الرمزي) .
هذا العقد (البيع) عقد معلق على شرط، وهو سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق على سدادها خلال مدة محددة.
وهذا البيع حدد فيه ثمن معين (رمزي) للسلعة.(5/2137)
رأي الفقه الإسلامي:
لكن نبين رأي الفقه الإسلامي في تكييف مثل هذا العقد، فإنه يلزمنا أن نوضح ثلاثة أمور:
أولها: هل يصح في الفقه الإسلامي اجتماع عقدين في عقد؟
ولقد أجبنا على ذلك فيما مضى، وبينا أنه جائز - على ما رجحنا الأخذ به في ذلك.
الثاني: هل يصح تعليق عقد البيع على شرط؟ - وهذا نحتاج إلى إيضاحه-.
والثالث: هل يصح أن يكون ثمن المبيع رمزيًّا، وذلك لأنه قد روعي أن ما اتفق على أنه أقساط إيجارية، هو في حقيقته جزء من ثمن هذه السلعة.
حكم تعليق عقود المعاوضات على شرط
يرى جمهور الفقهاء (الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية، والإباضية) أنه لا يصح تعليق عقود المعاوضات المالية على شرط مطلق، وقد أفاضوا في ذكر الأدلة المانعة من صحة تعليق هذه العقود، والتي منها (أنها عقود تمليكات، وهذه تثبت آثارها في الحال، فتعليقها ينافي ما يقتضيه العقد، فلا يصح، لما فيه من معنى القمار … أو المخاطرة … حيث يتردد العقد بين الوجود إذ تحقق الشرط، أو العدم إذا لم يتحقق الشرط … - أو أنها مثل بيع الملامسة أو المنابذة، وهما منهي عنهما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رأي مرجوح عند الحنابلة – حكته كتب المذهب رأيًّا للإمام أحمد – أنه يجوز تعليق عقود المعاوضات المالية على شرط، فقال ابن تيمية: (وذكرنا عن أحمد نفسه جواز تعليق البيع بشرط، ولم أجد عنه ولا عن أصحابه نص بخلاف ذلك، بل ذكر من ذكر من المتأخرين أن هذا لا يجوز..) .
ثم أخذ يفند رأي المانعين، مرجِّحًا هذا الرأي (1) وقد تناولت ذلك في كتابي (نظرية الشرط) ورجحت صحة تعليق عقود المعاوضات على شرط ملائم للعقد يحقق غرض مشروع، وأن ذلك يرتكز على الآيات والأحاديث التي تأمر بالوفاء بالعقود والعهود، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [أول سورة المائدة] ، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الآية 34 من سورة الإسراء] ، وغيرها كثير- وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق أربع …)) وعد منها ((وإذا وعد أخلف)) –نص الحديث ص48- وإن التعليق لا يؤدي إلى غرر أو مخاطرة أو أكل أموال الناس بالباطل، وأنه ليس من قبيل بيع الملامسة أو المنابذة المنهي عنهما.
__________
(1) نظرية الشرط، للمؤلف: ص132.(5/2138)
وبناء على هذا الرأي يمكن القول بأن تعليق عقد البيع على شرط ملائم له ويحقق غرضًا مشروعًا جائزًا، ويصح هذا التعليق ما دام الطرفان قد اتفقا عليه وصدرت الصيغة باتة في مدلوها (أجرتك هذه السلعة بأجرة هي كذا، على أنك إذا سددت الأجرة بانتظام حتى نهاية سنة كذا أو شهر كذا بعتك هذه السلعة المؤجرة بثمن هو كذا، ويقول الآخر: قبلت ذلك) فيجتمع عقدان: عقد إجارة ناجز- وعقد بيع معلق على شرط هو (الانتظام في سداد الأجرة وهي كذا في مدة هي كذا) وهو تعليق وليس إضافة إلى أجل، لأن الأجل المتفق عليه قد وضع في قالب شرط وهي سداد الأجرة في خلال هذه المدة.
هل يصح أن يكون ثمن المبيع رمزيًّا؟
أولًا: أن ثمن المبيع في الفقه الإسلامي لا بد أن يكون مقاربًا لقيمة السلعة الحقيقي، وذلك لأن البيع هو معاوضة مال بمال، ومعاوضة المال بالمال معناها أن يأخذ البائع من المشتري عوض هذه السلعة وهو الثمن- أو بلفظ آخر- قيمتها، أو ما يقارب ذلك في الأسواق- وأن يأخذ المشتري السلعة من البائع عوض ما دفعه من ثمن - أو ما يقارب ذلك- حيث يغتفر في الفقه الإسلامي التفاوت اليسير، ولكن المطلوب هو تحقيق العدل بين العوضين، والعدل أن تكون السلعة معادلة للثمن الذي حدد لها، وأن يكون الثمن معادلًا للسلعة التي عينت له.
يقول ابن رشد في تحقيق هذا المعنى وتحريره:
(إن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة جعل الدينار والدرهم لتقويمها –أعني تقديرها- ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات- أعني غير الموزونة والمكيلة- العدل فيها إنما هو في وجود النسبة- أعني أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه نسبة قيمة الشيء الآخر إلى جنسه، مثال ذلك أن العدل إذا باع إنسان فرس بثياب هو أن تكون نسبة قيمة ذلك الفرس إلى الأفراس هي نسبة قيمة ذلك الثوب إلى الثياب، فإن كان ذلك الفرس قيمته خمسون فيجب أن تكون تلك الثياب قيمتها خمسون، فليكن مثلًا الذي يساوي هذا القدر عددها هو عشرة أثواب، فإذًا اختلاف هذه المبيعات بعضها ببعض في العدد واجب في المعاملة العدلة، أعني أن يكون عديل فرس عشرة أثواب في المثل) .(5/2139)
ويقول الغزالي عند الحديث عن بيع التعاطي (للبائع أن يتملك الثمن الذي قبضه إن ساوى قيمة ما دفعه، لأنه مستحق ظفر بمثل حقه) .
ويدل على هذا أيضًا:
ما شرع من خيارات – فإنها أجيزت للاطمئنان على أنه لم يحدث غبن ولا ظلم في ميزان العدل الواجب تطبيقه في المعاوضات.
فخيار الشرط، وخيار الرؤية، وخيار العيب، وغير ذلك من الخيارات التي وضعها المشرع الحكيم لنا أمارة على أنه يجب أن يكون العدل أساسًا في انتقال الأموال معاوضة بجانب ما قرره من ضرورة وقوع التراضي على نقلها من ذمة إلى ذمة …
ولا يأتي في هذه الصورة البحث حول أن المتعاقدين لهما الحرية التامة في أن يحددا الثمن الذي يريانه، وإن كان قليلًا جدًّا، لأن اقتران عقد الإجارة - مع تحديد الأجرة المرتفعة كثيرًا عن أجرة المثل خلال المدة التي اشترط استمرار الإجارة فيها بهذه الأجرة- بعقد البيع في نهاية هذه المدة وبعد سداد هذه الأقساط الإيجارية – وجعل ثمن المبيع رمزيًّا يفصح بصورة واضحة عن أن المقصود هو عقد بيع من أول الأمر، وليس عقد إجارة ثم عقد بيع، وأن كل ما دفع هو لثمن الرمزي المشار إليه-.
وقد يؤيد هذا أن العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، ويقول الفقهاء تطبيقًا لهذه القاعدة: (إن الكفالة بشرط براءة الأصل حوالة، والحوالة بشرط عدم براءة الأصل كفالة، ولو قال: أعتق عبدك عني بألف كان بيعًا للمعنى … وينعقد البيع بلفظ الهبة مع ذكر البدل … وتنعقد الإجارة بلفظ الهبة والتمليك … (1) كما في الخانية، وينعقد السلم بلفظ لبيع كعكسه) … ولو شرط رب المال للمضارب كل الربح كان المال قرضًا، ولو شرط لرب المال كان بضاعة.
__________
(1) الأشباه، لابن نجيم: ص207.(5/2140)
وبناءً على هذا لا يعتبر الثمن الرمزي- الذي حدده المتعاقدان في هذه الصورة التي معنا – ثمنًا حقيقيًّا للسلعة- حتى يمكن القول بأنه قد اجتمع في هذا العقد عقدان: عقد إجارة - وعقد بيع - ولكن هذا الثمن الرمزي هو جزء من الثمن وباقي الثمن هو ما يدفعه أو دفعه المستأجر (المشتري) من أقساط ظهرت في صورة أجرة عن كل فترة من الفترات المحددة لانتهاء عقد الإجارة. ولذلك كيَّفه فقهاء القانون الوضعي بأنه عقد بيع بثمن مقسط، إلا أن تكييفه بذلك في الفقه الإسلامي يحول دونه صراحة الصيغة في أنه عقد إجارة، أريدت أحكامه وآثاره خلال هذه المدة ولم يرد عقد البيع بآثاره وأحكامه إلا بعد انتهاء مدة الإجارة والقيام بالالتزامات التي أوجبها العقد ومنها دفع جميع الأقساط الإيجارية.
لذلك فإن هذا العقد يمكن أن يصاغ بديل له على الوجه الذي بيناه في الصورة المتقدمة وهي (عقد بيع يشترط فيه عدم التصرف في المبيع بأي نوع من أنواع التصرفات- معاوضة أو تبرعًا- حتى يتم سداد جميع الأقساط (الثمن) على الوجه المتفق عليه) .
الصورة الثالثة- حدد فيها ثمنًا حقيقيًّا للمبيع بيعًا إيجاريًّا:
وقد سبق إيضاحها، وهي نفس الصورة الثانية إلا أنه قد حدد هنا- في هذه الصورة – ثمن حقيقي للسلعة المؤجرة يدفعه المستأجر- إذا رغب في شرائها- بعد انتهاء سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق عليها. وصيغتها:
(أجرتك هذه السلعة بأجرة هي كذا لمدة هي كذا، على أنك إذا سددت جميع هذه الأقساط الإيجارية خلال هذه المدة بعتك هذه السلعة بثمن هو كذا … ويقول الآخر: قبلت الإيجار على هذا …) .
تكييف هذا العقد:
هذا العقد أيضًا هو عقد احتوى على عقد الإجارة، وعقد البيع. على النهج الذي سبق إيضاحه في الصورة الثانية فهو عقد إجارة ناجز مقترن بشرط فاسخ … وعقد بيع معلق على شرط هو سداد هذه الأقساط الإيجارية خلال المدة المحددة لعقد الإجارة.
وهذا البيع قد حدد فيه ثمن حقيقي للمبيع يدفعه المستأجر (المشتري) بعد انتهاء مدة الإجارة، وبذلك تصبح السلعة المؤجرة (مبيعة) ومملوكة للمستأجر (المشتري) منفعة وذاتًا، وله عليها حق المالك على ملكه من الانتفاع بها والتصرف فيها بالتصرفات المشروعة عند سداد هذا الثمن المتفق عليه.(5/2141)
أما اجتماع عقدين عقد البيع على هذا الشرط يمكن القول بجوازه –كما أشرنا آنفًا-.
وأما تكييف هذا الاتفاق فلا شك أنه هنا يعتبر في بدايته عقد إجازة تترتب عليه كل أحكام هذا العقد وآثاره التي قررها الشرع الحكيم.
وأنه بعد انتهاء عقد الإجارة يبدأ عقد البيع المعلق على تحقق الشرط الذي اقترن بعقد الإجارة، وهو هنا في هذه الصورة لا يحتاج إلى صيغة جديدة ما دام قد تم بقوله (بعت) ، وقول الآخر: (قبلت) وما في معناهما مما يدل على الجزم، ولم يرد في الصيغة ما يدل على أنه وعد بالبيع أو وعد بالشراء أو وعد بهما من الطرفين.
وهذه الصورة يمكن بناء على ذلك القول بصحتها في الفقه الإسلامي.
جاء في كشاف القناع 2/29: (فإن قال بعتك داري هذه وأجرتكها شهرًا بألف فالكل باطل، لأن من ملك الرقبة ملك المنافع، فلا يصح أن يؤاجر منفعة ملكها عليه) .
قلت: وللصحة وجه بأن تكون مستثناة من البيع. قاله الشيخ التقي في شرح المحرر.
الصورة الرابعة – اقتران الإجارة بوعد بالبيع:
الصورتان السابقتان كانت الصيغة فيهما تحتوي على صيغة بيع بات، (بعت واشتريت) ولكن قد تقترن الإجارة بوعد بالبيع أو بالشراء، أو وعد بهما من الطرفين (وعد تبادلي) .
وصيغتها:
(أجرتك هذه السلعة بأجرة هي كذا لمدة هي كذا، على أنك إذا سددت جميع هذه الأقساط الإيجارية خلال هذه المدة أبيعك أو سأبيعك، أو أعدك ببيعها لك بثمن هو كذا إذا رغبت …
وقال الآخر قبلت) .
والذي يختلف معنا هنا عما سبق إيضاحه، هو أنه قد اقترن في هذه الصورة مع عقد الإجارة وعد بالبيع، أو الشراء أو وعد بهما من الطرفين …
ونظرًا لأن الفقهاء قد اختلفوا في آثار الوعد، هل هو ملزم أو غير ملزم؟ فإننا نوضح آراءهم فيما يلي:(5/2142)
الوعد وأثره (1)
اختلف الفقهاء في كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم إلى رأيين؟:
الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء (الحنفية، والشافعية والحنابلة، والظاهرية وجمهور من الصحابة والتابعين) أن الوعد غير ملزم قضاء في جميع الأحوال، وإن كان مأمورًا بالوفاء به ديانة، لأنه تفضل وإحسان، ويقول الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، [الآية 91 من سورة التوبة] .
• الرأي الثاني: وهو رأي المالكية، ولهم في إلزام الوعد وعدم إلزامه أقوال أربعة؟
القول الأول: أن الوعد يكون ملزمًا إذا دخل الموعود بسبب هذه العدة في شيء، وهو قول مالك وابن القاسم وقول سحنون (وهذا هو المشهور) .
القول الثاني: أن الوعد يكون ملزمًا إذا كان على سبب، وإن لم يدخل الموعود فيه فعلًا، وإذا لم يكن على سبب فلا يكون ملزمًا- وهو قول لمالك، وأصبغ من علماء المالكية.
القول الثالث: لا يقضي بالعدة مطلقًا على أية حال وهو الرأي الأول الذي ذكرناه آنفًا، وهو من سماع أشهب من علماء المالكية.
القول الرابع: قال بعض المالكية يقضي بالوعد مطلقًا، وإلى هذا ذهب ابن شبرمة (2) ,وصححه القرافي في فروقه: 4/24.
وذكر الحطاب أن القولين الأخيرين ضعيفان جدًّا عند المالكية.
وقد استدل من قال بالقضاء بالعدة مطلقًا (أي أنها ملزمة) بقول الله تبارك وتعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، [الآية 3 من سورة الصف] .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) ، رواه مسلم من طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
__________
(1) العدة والوعد- هو إخبار عن إنشاء المخبر معروفًا في المستقبل. والالتزام هو إلزام الشخص نفسه شيئًا من المعروف مطلقًا، أو معلقًا على شيء. ويعرف الفرق بين الالتزام والوعد بما يفهم من سياق الكلام، وقرائن الأحوال، فحيث دل الكلام على الالتزام أو على الوعد حمل على ذلك، فصيغة الفعل الماضي تدل على الالتزام وإنقاذ ما التزم به، والظاهر في صيغة المضارع أنها تدل على (الوعد) إلا أنه إذا وجدت قرينة على أنها للالتزام كانت للالتزام، وإذا لم توجد قرينة كانت وعد، لا التزامًا. الالتزامات، للحطاب: ص 61 ,164.
(2) أورده المحلى لابن حزم: 8/28(5/2143)
وروي عن أبي هريرة بلفظ: ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) ، رواه مسلم أيضًا.
النتيجة:
إن الذي يرجح لدينا هو الرأي الأول الذي يقضي بأن الوعد ملزم إذا دخل الموعود بسبب العدة في شيء، ومن ثم فإنه يقضي به أو يجب الوفاء به قضاء وديانة، للأدلة التي استدل بها من الكتاب والسنة. والله أعلم.
وبناء على هذا الرأي يكون الوعد الصادر من المالك (المؤجر) ببيع هذه السلعة (المؤجرة) للمستأجر- إذا رغب في ذلك، ودفع ثمنًا لها هو كذا- يكون وعدًا ملزمًا للمالك (المؤجر) ببيعها للمستأجر لها، بعد تحقق الشرط، وهو استيفاء جميع الأقساط الإيجارية (المتفق عليها) وإبداء رغبته في شرائها وتقديم الثمن الذي اتفق عليه.
وهنا تحتاج إلى صيغة جديدة في هذا الوقت الذي تحقق فيه كل ذلك من شرط، وإبداء رغبة، وتقديم الثمن المحدد.
وهذا إذا كان الوعد صادر من المالك.
أما إذا كان قد صدر منهما بأن وعد المالك (المؤجر) ببيع السلعة للمستأجر ووعد المستأجر المالك (المؤجر) بشراء هذه السلعة إذا تحقق الشرط وهو الوفاء بكل الأقساط الإيجارية المتفق عليها خلال المدة المحددة، وحدد الثمن.
فحينئذٍ يكون كل منهما ملزمًا بإجراء هذا البيع على الوضع الذي اتفق عليه.
ولا بد من صيغة جديدة هنا أيضًا، لأن العقد لا ينعقد في الفقه الإسلامي إلا بصيغة باتة دالة على أنه أراد البيع في الحال، والآخر أراد الشراء في الحال، ولذلك كانت صيغة الماضي أوكد صيغة في الدلالة على إرادة العقد في الحال- ومثلها الجملة الاسمية-، أما صيغة المضارع المترددة بين الحال والاستقبال فتحتاج إلى قرينة تخلصها للحال فقط، وإلا كانت استدعاء للعقد، وتمهيد له، أو وعدًا- كما أنها لا تصلح إطلاقًا لإبرام العقد إذا اقترن بالمضارع السين وسوف، لأنها تمحضت للاستقبال، ونحن نريد البيع في الحال. فلا تصلح لإبرام العقد بها.(5/2144)
والصيغة التي معنا هي وعد بالبيع ووعد بالشراء فلا بد لإتمام هذا البيع من صيغة لعقد البيع تصدر عند الانتهاء من تحقيق الشرط المعلق عليه الوعد بالبيع وذلك لعدم وجود صيغة له من قبل، وإنما الموجود هو وعد به فقط…
وأرى أنه عند اقتران عقد الإجارة بوعد بعقد البيع يجب التفرقة بين الوعد الملزم للمشتري بالشراء، والوعد الملزم للبائع بالبيع، أو الملزم لهما؟.
فإنه في حالة ما إذا كان الوعد (تبادليًّا) ملزمًا لهما بإجراء عقد البيع، فإنه في هذه الحالة يجب أن نعود إلى معرفة هل الثمن حقيقي أو رمزي، ومن ثم نقضي بأن العقد بيع وليس إيجار مقترنًا بوعد بالبيع، لأنه ما دام كل منهما قد ألزم بإجراء البيع بمقتضى هذا الوعد، فيكون مثله كمثل ما إذا كان قد اقترن عقد الإجارة بعقد بيع معلق على شرط وهو سداد الأقساط الإيجارية في المدة المحددة، ومن ثم فما قلناه هناك على هذا العقد نقوله هنا.
وأما إذا كان الوعد صادرًا من المستأجر بشراء هذه السلعة المؤجرة له بعد سداد هذه الأقساط الإيجارية في المدة المحددة بعد دفع ثمن معين، ولم يصدر وعد من المؤجر (المالك) ببيعها له (وعد من أحد الطرفين دون الآخر) فمقتضى هذا الوعد أن يكون المالك (المؤجر) مخير في نهاية المدة بين أن يطالبه بالشراء أو لا يطالبه، فالنظر إلى الثمن في هذه الحالة والبحث في أنه صوري أو حقيقي لا يؤثر في أن العقد هو عقد إيجار مقترن بوعد انتهاء الإجارة ولا شك أن الثمن- في الوعد بالبيع- إذا كان رمزيًّا فإن المؤجر (المالك) لا يفكر غالبًا- إن لم نقل قطعًا- في مطالبة المستأجر بالوفاء بوعده (بالشراء) ، لأن الثمن الحقيقي أربح له، والناس يحرصون غالبًا على ما فيه نفعهم.
ومن هنا كانت القرينة دالة على أنهما أرادا الإجارة.
وإن كان الثمن حقيقيًّا، فحينئذ يكون عقد إجارة أيضًا، مدفوعًا بوعد بعقد بيع، والثمن حقيقي فلا أثر له على عقد الإجارة.
أما إذا كان الوعد صادرًا فقط من المؤجر ببيع السلعة المؤجرة بثمن، فإنه يبحث في الثمن المحدد لها أيضا، فإن كان الثمن رمزيًّا، فحينئذٍ سيطالب المستأجر المؤجر ببيع السلعة له قطعًا وفاءً بوعده، لأن ترك ذلك لا يقع فيه إلا من سفه تصرفه وقصر نظره …، ومن ثم نلزم المؤجر ببيعها له بهذا الثمن. وأرى أن هذه الصورة تأخذ حكم اقتران الإجارة بعقد بيع بثمن رمزي- وقد سبق بيانه.
وإن كان الثمن حقيقيًّا – أو بسعر السوق - فحينئذٍ تأخذ هذه الصورة حكم اقتران عقد الإجارة بعقد بيع بثمن حقيقي- وقد سبق بيانه.(5/2145)
الصورة الخامسة- اقتران عقد الإجارة بوعد من المؤجر للمستأجر بعد انتهاء مدة الإجارة:
(بأن يبيع له السلعة المؤجرة له بثمن – محدد أو حسب سعر السوق - أو مدة الإجارة لمدة أخرى، أو إعادة العين المؤجرة إلى المالك- أي أن المستأجر يكون بالخيار بين هذه الأمور الثلاثة، أيها يختار يجاب له) (1) .
ولقد بين فقهاء القانون أن هذا العقد يحتوي على:
1- عقد توريد: طرفاه: الشركة المنتجة للسلعة (المورد) وشركة الليزنج المشترية لهذه السلعة منها التي تصبح مالكة لها.
2- عقد التأجير: طرفاه: العميل (المستأجر) لهذه السلعة، والمالك: وهو شركة الليزنج.
3- وعد من مؤسسة الليزنج للعميل (المستأجر) بأنه في نهاية مدة الإجارة يكون له الحق في اختيار واحد من ثلاثة أمور:
- شراء السلعة بثمن يراعى في تحديده المبالغ التي سبق أن دفعها أقساط إيجارية.
- مد مدة الإجارة لفترة أو فترات أخرى.
- إعادة السلعة (المؤجرة) إلى مالكها (مؤسسة الليزنج) .
ويلاحظ أنه في هذا العقد تكون مدة الإجارة طويلة نسبي حتى تتمكن المؤسسة المالية من حصولها على المبالغ التي أنفقتها على التمويل.
__________
(1) وهي صورة متطورة للإيجار المنتهي بالتمليك أطلق عليها فقهاء القانون عقد الليزنج (Leasing) ويعرب (عقد تمويل المشروعات) أو (عقد التمويل الائتماني) ، لأن هذا العقد يظهر كوسيلة لتمويل التجهيزات التي تحتاجها المشروعات الصناعية والتجارية، دون أن تجمد رأس مالها أو جزء منه. راجع (البيع بالتقسيط، والبيوع الائتمانية الأخرى) ، للدكتور إبراهيم دسوقي أبو الليل: ص31، 317.(5/2146)
كما أن ثمن المبيع في نهاية المدة- إذا اختار المستأجر الشراء - يمكن أن يحدد في بداية عقد الإجارة أو بأسعار السوق السائدة عند نهاية العقد - مع مراعاة القيمة الاستردادية للشيء المؤجر.
كما يلاحظ أن مؤسسة الليزنج قد توكل العميل في شراء الأشياء التي يرغب في استئجارها من الشركة الموردة طبقًا للمواصفات التي تم الاتفاق عليها نوعًا وكمًّا وصفة.
كما يلاحظ أن مؤسسة الليزنج تظل مالكة للسلعة المؤجرة، وأن المستأجر يلتزم بعدم التصرف فيها كما يتحمل أيضًا بموجب هذا العقد، تكاليف الصيانة والإصلاح والتأمين وغيرها.
النظر في هذا العقد على ضوء قواعد الفقه الإسلامي:
هذا العقد تصاحبه الأمور التالية:
أولًا: أنه تعاقد على سلعة غير مملوكة للمؤسسة التي تؤجرها للعميل- وقت التعاقد-.
وقد سبق أن بينا أن هذا التصرف لا يصح في الفقه الإسلامي، ومن ثم يجب أن تكون السلعة مملوكة للمؤسسة وقت إبرام عقد التأجير مع العميل، ومقبوضة على الوجه الذي رجحنا الأخذ به.
ثانيا: أن هذا العقد قد اشتمل على أكثر من عقد بصورته التي بينها فقهاء القانون.
وعد بالتأجير- عقد توكيل- عقد توريد - عقد تأجير- وعد بالبيع أو مد مدة الإجارة … ثم عقد بيع - أو إجارة أخرى … في النهاية.
أو بالاختصار (وعد بالتأجير - عقد إجارة - وعد بالبيع أو مد مدة الإجارة …، ثم عقد بيع، أو إجارة أخرى بمقتضى هذا الوعد) .
وإن اجتماع مثل هذه العقود وهذه الوعود قد تؤثر على الوفاء بمتطلبات أو موجبات هذه التصرفات التي اتفق عليها. ولكن إذا أخذنا برأي الفقه الإسلامي في أن تكون السلعة مملوكة مقبوضة للمؤسسة وقت التعاقد فإننا بذلك نطوي ونختصر بعض من التصرفات التي تجتمع في هذا العقد حسب صورته القانونية، وهي: (عقد التوكيل، وعقد التوريد، والوعد بالإجارة …) .
ونصبح حينئذٍ أمام عقد إجارة مقترنة بوعد بالبيع بثمن محدد أو حسب سعر السوق، أو مد مدة الإجارة، أو إعادة السلعة إلى المؤسسة على الوجه الذي بيناه آنفًا.
وبناءً على ذلك لا يكون هناك محظور في هذا التصرف لأنه يتساوى مع صورة الإجارة المقترنة بوعد بالبيع بثمن حقيقي …، بل إنها هنا تكون أكثر مرونة بالنسبة للمستأجر، إذ تعطيه الحق في اختيار واحد من أمور ثلاثة بعد انتهاء مدة الإجارة:
(شراء السلعة … مد مدة الإجارة … إعادة السلعة إلى المال (المؤسسة) .
ومن ثم فلا مانع من صحة هذه الصورة إذا ما تم تملك السلعة (المراد تأجيرها) للمؤسسة قبل إبرام هذا العقد، وقبضها على الوجه الذي سبق أن رجحنا الأخذ به في موضعه من البحث.(5/2147)
النتائج
ونجعل هذه النتائج في قسمين:
القسم الأول
القواعد العامة التي تحكم مسيرة هذا النوع من التعاقد:
أولًا: أنه يجب أن تكون السلعة المتفق على إجارتها أو بيعها مملوكة للمؤجر أو للبائع وقت التعاقد.
ثانيًا: أنه يجب أن تكون مقبوضة- ويكفي في مثل هذه السلع التي تأخذ حكم العقار في % % % كونها يؤمن فيها الهلاك غالبًا- أن يكون قبضها بالتخلية بين المبيع والمشتري بحيث يتمكن من الانتفاع به والتصرف فيه.
ثالثًا: أنه يجوز أن يجتمع عقد الإجارة مع عقد البيع على رأي المالكية والحنابلة والشافعية (إذا كانا صفقة واحدة) وابن تيمية والإمامية وحينئذٍ يراعى تطبيق أحكام كل عقد عليه.
رابعًا: أنه يجوز اشتراط شرط صحيح أو أكثر في العقد، والشرط الصحيح هو الذي يحقق مصلحة العقد أو مصلحة المتعاقدين، وألا يناقض المقصود الأصلي من العقد، ولا يخالف نص شرعيًّا من كتاب أو سنة، ولا يؤدي إلى محظور شرعي، ولا إلى غرر، ولا إلى ما يستحيل الوفاء به.
خامسًا: أنه يجوز تعليق عقود المعاوضات المالية على شرط ملائم للعقد أخذًا برأي للإمام أحمد، وابن تيمية وعقود التبرعات أخذًا برأي المالكية وبعض الحنفية: إذا كان الشرط ملائم (متعارف) ، …
سادسًا: أن الوعد بالبيع أو الإجارة أو غيرهما من العقود والتصرفات يكون ملزمًا لمن صدر منه، إذا كان الموعود قد دخل بسبب هذا الوعد في شيء، أخذ بالرأي المشهور عند المالكية.(5/2148)
القسم الثاني
ما نرجح الأخذ به في صورة الإيجار المنتهي بالتمليك:
الصورة الأولى: (إجارة تنتهي بالتمليك دون ثمن للسعة عند تملكها سوى الأقساط الإيجارية) .
وأرى أنه يمكن أن يؤخذ بصورة بديلة لها تحقق الغرض المطلوب، وهي أن يعقد العقد بيع بشرط ألا يتصرف المشتري بأي تصرف ناقل للملكية- معاوضة أو تبرع- حتى يتم سداد جميع الثمن المؤجل.
أو أن تشتمل صيغة الإجارة على هبة السلعة بعد انتهاء مدة الإجارة وسداد الأجرة المتفق عليها، ويقبل الطرف الآخر، فتكون هبة معلقة على شرط- على القول بجواز تعليقها- أو أن يعد المالك المستأجر بأن يهبه السلعة بعد انتهاء مدة الإجارة وسداد الأقساط الإيجارية المستحقة –على القول بأن الوعد ملزم-.
الصورة الثانية: (اقتران الإجارة ببيع الشيء المؤجر بثمن رمزي بعد الانتهاء من سداد الأقساط الإيجارية) ويمكن أيضا أن يوضع لها الصورة البديلة للصورة الأولى.
الصورة الثالثة: اقتران الإجارة ببيع الشيء المؤجر بثمن حقيقي بعد الانتهاء من سداد جميع الأقساط الإيجارية في المدة المحددة لها.
وهذه الصورة أرجح القول بصحتها.
الصورة الرابعة: اقتران الإجارة بوعد البيع … فإن كان الوعد صادرًا من الجانبين أخذت هذه الصورة حكم الصورة الثانية، إذا حدد للمبيع ثمن رمزي وحكم الصورة الثالثة إذا حدد للبيع ثمن حقيقي.
وإن كان الوعد صادرًا من المستأجر فقط- دون المؤجر- بشراء السلعة بثمن معين رمزي أو حقيقي فإنني أرى أن عقد الإجارة صحيح، وأن الوعد ملزم للمستأجر بالشراء إذا رغب المؤجر، والبحث في الثمن هنا- رمزيًّا أو حقيقيًّا لا يؤثر على ذلك كما أوضحنا في موطنه- لأن الخيار للمالك وهو أدرى بما ينفعه.
وإن كان الوعد صادر من المؤجر ببيع السلعة المؤجرة للمستأجر بثمن محدد، فإن كان الثمن رمزيًّا، فإن هذه الصورة تأخذ حكم اقتران الإجارة بعقد بيع بثمن رمزي- المبينة آنفًا.(5/2149)
وإن كان الثمن حقيقيًّا- أو بسعر السوق - فإنها تأخذ حكم اقتران الإجارة بعقد بيع بثمن حقيقي في الصورة المبينة آنفًا.
الصورة الخامسة: اقتران الإجارة بوعد من المؤجر للمستأجر ببيع السلعة المؤجرة له بعد انتهاء مدة الإجارة أو مد مدة الإجارة لفترة أخرى أو إعادة العين إلى مالكها.
هذه الصورة أرجح القول بصحتها.
هذا وفي كل الصيغ التي تحتوي على وعد بالبيع أو الشراء أو بهما معًا، لا بد من صيغة جديدة عند انتهاء مدة الإجارة المتفق عليها؛ لأن الوعد لا يصلح أن يكون إيجابًا أو قبولًًا، بل لا بد من صيغة جازمة للعقد الموعود به.
فإذا تخلف الشخص عن إبرام العقد باشره القاضي، أنه ملزم بمقتضى وعده.
وختامًا: أرجو الله تعالى أن تكون هذه الدراسة مشمولة برضا الله تعالى وأن يغفر لنا ما قد نكون وقعنا فيه من زلل أو خطأ أو قصور، ونسأله جل شأنه أن يعيننا جميعًا على ما حملنا، وأن يلهمنا الصواب … إنه نعم المسؤول ونعم المجيب، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن نهج نهجهم بإحسان إلى يوم الدين.
أ. د حسن علي الشاذلي.(5/2150)
الإيجار الذي ينتهي بالتمليك
إعداد
الشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه
أستاذ بكلية الآداب
بجامعة الملك عبد العزيز – بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يخلق ما يشاء ويختار، يتصرف في خلقه بغالبات الأقدار بدون وزير ولا معين ولا مستشار، ألزم بشريعته تنفيذًا لحكمته في الابتلاء والاختيار، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المختار وعلى آله وصحبه الأخيار.
وبعد فهذا بحث يتعلق بإيجار البيع وبيع الإيجار، مسألة عمت بها البلوى في الأقطار، فراجعت هذه المسألة على اشتغال وركوب أسفار، إلا أني سلكت في البحث عنها الأنجاد والأغوار قصد إخراجها عن قاعدة الغرر والخطار، ونفي الضرر والضرار عن طريق إجارة مع بيع بخيار، أو وعد لاحق ببيع أو هبة بعد تمام عقد الإيجار، على صعوبة في الإيراد ووعورة في الإصدار، آثرت في بحثي هذا الاختصار ومحاولة القرب من أقوال ذوي الاستبصار معترف بالقصور عن شأو الاجتهاد والاختيار.
سائل الله جل وعلا وهو الكريم الغفار أن يوفقنا فيما أردنا ويسلمنا من العثار، وهو حسبنا ونعم الوكيل.(5/2151)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه وأزواجه أجمعين، وبعد:
استجابة لطلب الأمين العام لمجمع الفقه أردت أن أقدم بحثا مختصرا حول ما يسمى بالإيجار الذي ينتهي بالتمليك، وهو العنوان الذي اقترحه فضيلته لهذا البحث، وهذا الموضوع كما يستشف من العنوان هو موضوع جديد وعقد حديث نشأ وترعرع في ظل القانون الوضعي، ومن المعلوم أن سنة التطور في هذا الزمان قد جرت، بأن أقطارنا الإسلامية أصبحت تستورد السلع المصنوعة من العالم الآخر، وقد تستورد معها التكنولوجيا لتصنيع هذه السلع محليا وهو أمر مرغوب فيه، إلا أنها قد تستورد مع هذه السلع أحيانا كثيرة الأنظمة وطرق التعامل والتبادل ووسائل التقاضي والتراضي حيث تكون إرادة الطرفين قانونا للعقد ورضاؤهما أساس الحكم الذي تصدر عنه القوانين والذي يرجع إليه القضاة دون نظر إلى أصول خلقية، وقواعد ضابطة لا يمكن الخروج عنها، فحادوا بذلك عن الصراط المستقيم واختلت لديهم موازين العدل التي لا تقوم إلا على الأنظمة الإلهية التي لا يطمع في الاستلهام بمنهجها والاقتباس من نورها إلا من سلك سبيل سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وأخذ من الكتاب والسنة بقسط وافر، وأقام ميزان على هديهما عن طريق القياس الصحيح طبقا لأصوله ومقاييسه التي وضعها وتواضع عليها سلف هذه الأمة، وهناك شرط آخر يغفله الكثيرون ألا وهو أن يكون القائس عامل بما علم متبع للسنة النبوية إذ لا يقوم على هذا الميزان من حاد عن السبل وجارت به الطرق وارتضى دينا غير دين الإسلام، وقانونا يخالف شريعة سيد الأنام، فعميت عليه الأنباء، ولعبت بعقله الأهواء، لهذا فإن مسألتنا من هذه المسائل الموجودة في غير بيئة هذا الميزان وليس معنى هذا أن نرفضها سلفا ونصدف عن جوهرها ونتخذه صدفا قبل أن نعرضه على ميزان الصدق الذي أشرنا إليه آنفًا، وعليه فسنفصل البحث فيها أولا إلى مقدمة في تعريف هذا العقد تعريف يشمل الجنس والفصل والخاصة وتكييفه من الناحية القانونية معتمدين في هذا على نقل أهل هذا الفن تاركين لهم الكلمة في تعريفه وتكييفه وتصنيفه، ثم نصنف بحثنا في مسائل تنبني على الفروض المختلفة تبين وجهة النظر الفقهية باختصار غير متوسعين في غرض القضية، ثم نختم بخاتمة نقترح فيها ما يمكن أن يكون بديلا أو أن يكون صيغة مقبولة من الناحية الشرعية.(5/2152)
مقدمة في تكييف العقد
(الإيجار الذي ينتهي بالتمليك) :
أحد الأسماء الذي أطلقه المترجمون والقانونيون العرب على العقد المعروف في القانون الفرنسي باسم Vente Location، ومعناها الحرفي-كما هو واضح- إيجار بيعي لأنه اسم مركب من كلمتين، وقد تطور هذا العقد وتعددت الأسماء طبقا لهذا التطور، فقد كان أولا يعرف باسم البيع بالتقسيط والاحتفاظ بالملكية حتى استيفاء الثمن Vente Atem? Cement، ثم تطور إلى إيجار ساتر للبيع، ثم تطور إلى ما سموه بالإيجار المقترن بوعد بالبيع، وهذه الأسماء التي كان موضوعها في الأصل متحد، إلا أنها ليست اعتباطي وليست من باب المترادفات التي لا تخدم أي غرض، بل تعدد الأسماء كما يشير إليه القانوني السنهوري في شرحه للقانون المدني ناشئ عن تدرج نظرة المشرع لهذا العقد في محاولة لترجمة الهدف الذي يرمي إليه، والمصلحة التي يحرص على حمايتها وهي مصلحة البائع كما هو واضح فهو يرمي إلى الاستيثاق من أن المشتري سيفي بالثمن كاملا في الوقت المحدد. وفي مقابل ذلك يشترط البائع أن تبقى ملكيته قائمة بشكل ما حتى وفاء المشتري بالتزامه بحيث يكون له الحق أولًا: في منع المشتري من تفويت الذات موضع العقد، ثانيا: أن يكون له الحق في استرجاع الذات عند عدم الوفاء في الوقت المحدد، ثالثا: أن يكون له الحق في الحصول على مقابل انتفاع المشتري بالذات في حالة عدم البيع، ونقتطف المقتطفات التالية بنصها من كتاب السنهوري الوسيط: ص173، 182.
البيع بالتقسيط مع الاحتفاظ بالملكية
حتى استيفاء الثمن، أو الإيجار الساتر للبيع
النصوص القانونية:
تنص المادة (430) من التقنين المدني على ما يأتي:
1- إذا كان البيع مؤجل الثمن، جاز للبائع أن يشترط أن يكون نقل الملكية إلى المشتري موقوف على استيفاء الثمن كله ولو تم تسليم المبيع.
2- فإذا كان الثمن يدفع أقساطا، جاز للمتعاقدين أن يتفقا على أن يستبقي البائع جزءا منه تعويضا له عن فسخ البيع إذا لم توفَّ جميع الأقساط، ومع ذلك يجوز للقاضي تبعا للظروف أن يخفض التعويض المتفق عليه وفقا للفقرة الثانية من المادة (224) .(5/2153)
3- فإذا ما وفيت الأقساط جميعا، فإن انتقال الملكية إلى المشتري يعتبر مستندا إلى وقت البيع.
4- وتسري أحكام الفقرات الثلاث السابقة ولو سمى المتعاقدان البيع إيجارا.
وأول صورة لهذا البيع كانت هي البيع بالتقسيط، ثم تدرج التعامل من هذه الصورة إلى صورة الإيجار الساتر للبيع، وهو الآن في سبيله إلى التدرج نحو صورة ثالثة في الإيجار المقترن بوعد بالبيع. ونستعرض هذه الصور الثلاث التي وقف منها التقنين المدني الجديد عند الصورتين الأوليين لأنهما هما الصورتان، الأكثر انتشار.
البيع بالتقسيط:
عرضت الفقرات الثلاث الأولى من المادة (430) مدني، كما رأينا، لحالة البيع بالتقسيط فإذا باع تاجر عين سيارة أو آلة كاتبة أو راديو أو غير ذلك بثمن مؤجل واجب الدفع في ميعاد معين، أو بثمن مقسط أقساط متساوية على النحو الذي قدمناه، واشترط البائع على المشتري أن يكون البيع معلقا على شرط واقف هو وفاء المشتري بالثمن المؤجل في الميعاد المحدد، أو وفاؤه بالأقساط جميعا في المواعيد المتفق عليها، فإن البيع بهذا الشرط يكون صحيحا. ويجب إعمال الشرط حتى لو سلم البائع المبيع للمشتري قبل استيفاء الثمن أو قبل استيفاء أي قسط من أقساطه.
في هذه الحالة تنتقل ملكية المبيع معلقة على شرط واقف إلى المشتري، ويستبقي البائع ملكية المبيع معلقة على شرط فاسخ. وكل من الشرط الواقف والشرط الفاسخ هنا حادث واحد، هو أن يوفي المشتري بالثمن أو بأقساطه في الميعاد المحدد. فإذا فعل تحقق الشرط الواقف وانتقلت الملكية باتة بأثر رجعي إلى المشتري، وتحقق في الوقت ذاته الشرط الفاسخ وزالت الملكية عن البائع بأثر رجعي أيضا، ومن ذلك نرى أن البيع بالتقسيط هو صورة معكوسة لبيع الوفاء، إذ في بيع الوفاء يكون البائع هو المالك تحت شرط واقف والمشتري مالك تحت شرط فاسخ.
وقبل تحقق الشرط يكون المشتري، كما قدمنا مالكا للمبيع تحت شرط واقف. ولا يمنع من وقف ملكيته أن يكون قد تسلم المبيع، فالذي انتقل إليه بالتسليم هو حيازة المبيع، أما الملكية فانتقلت إليه بالبيع موقوفة. ولكن ذلك لا يمنع المشتري من أن يتصرف في هذه الملكية الموقوفة، ويكون تصرفه هو أيضا معلقا على شرط واقف، وإذا كان المبيع منقولا – كما هو الغالب- وتصرف فيه المشتري تصرفا باتًّا لمشتر حسن النية لا يعلم أن ملكية المشتري معلقة على شرط واقف، فقد تملكه المشتري من المشترى تملكا باتًّا بموجب الحيازة. ولا يعتبر المشتري في هذه الحالة مبددًا، فالتبديد يقتضي قيام عقد معين بالإيجار أو العارية أو الوديعة أو الرهن – وليس البيع بالتقسيط من بين هذه العقود. ولو أفلس المشتري، والشرط لا يزال معلقا، كان الباقي من الثمن دين في التفليسة ولا يستطيع البائع من جهة أخرى أن يسترد المبيع من التفليسة.(5/2154)
فهذان أمران يجريان على غير ما يشتهي البائع: عدم اعتبار المشتري مبددا إذا تصرف في المبيع، وعدم استطاعة البائع استرداد المبيع عينًا من التفليسة.
وإذا تحقق الشرط، ووفى المشتري بالثمن، فقد صار مالك للمبيع هو وثمراته منذ البداية وزال عن البائع ملكيته للمبيع بأثر رجعي. أما إذا تخلف الشرط، وتأخر المشتري عن دفع الثمن، فإن ملكية المشتري التي كانت معلقة على شرط واقف تزول بأثر رجعي لعدم تحقق الشرط، وتعود الملكية باتة إلى البائع منذ البداية إذ أن البيع يعتبر كأن لم يكن. ولا يحتاج البائع في ذلك إلى حكم بزوال البيع، فإن تخلف الشرط الواقف وحده كاف في ذلك وفقًا للقواعد المقررة في الشرط. وللبائع في هذه الحالة أن يطالب المشتري بتعويض، ويغلب أن يكون قد اشترط في عقد البيع أن يكون التعويض هو احتفاظه بكل أو بعض الأقساط التي يكون قد استوفاها، ويعتبر هذا الشرط شرطًا جزائيًّا تسري عليه أحكام الشرط الجزائي، وأهم هذه الأحكام- وهو ما تشير إليه الفقرة الثانية من المادة (430) مدني- أنه يجوز للقاضي تخفيضه إذا كان مبالغًا فيه. ويكون مبالغ فيه إذا كان المشتري قد وفى عددًا كبيرًا من الأقساط بحيث يكون احتفاظ البائع بها يزيد كثيرا على الضرر الذي لحقه من جراء عدم استيفائه الباقي من الثمن. ففي هذه الحالة يحكم القاضي بإرجاع بعض هذه الأقساط إلى المشتري، ويحتفظ البائع من الأقساط التي استوفاها بما يكفي لتعويضه.(5/2155)
الإيجار الساتر للبيع:
وحتى يتجنب البائع المحظورين اللذين أشرنا إليهما- عدم اعتبار المشتري مبددًا إذا تصرف في المبيع قبل الوفاء بالثمن، وعدم استطاعة البائع استرداد العين من تفليسة المشتري، يعمد في كثير من الأحيان أن يخفي البيع بالتقسيط تحت ستار عقد الإيجار، فيسمى البيع إيجارًا، وغرضه من ذلك ألا تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري بمجرد العقد، حتى هذه الملكية المعلقة على شرط واقف والتي كانت هي المانعة من اعتبار المشتري مبددًا ومن استرداد البائع للمبيع من التفليسة، فيصف المتعاقدان العقد بأنه إيجار، ويصفان أقساط الثمن بأنها هي الأجرة مقسطة ثم يتفقان على أنه إذا وفَّى المشتري بهذه الأقساط انقلب الإيجار بيعًا وانتقلت ملكية البيع باتة إلى المشتري، وحتى يحكما ستر البائع يتفقان في بعض الحالات على أن يزيد الثمن قليلًا على مجموع الأقساط فتكون الأقساط التي يدفعها المشتري هي أقساط الأجرة لا أقساط الثمن، فإذا وفاها جميعًا ووفى فوق ذلك مبلغا إضافيًّا يمثل الثمن انقلب الإيجار بيعا باتًّا.
ويحسب البائع بذلك أنه قد حصن نفسه: فهو أولًا وصف البيع بأنه إيجار، وسلم العين للمشتري على اعتبار أنه مستأجر، فإذا تصرف المشتري فيها وهو لا يزال مستأجرًا أي قبل الوفاء بالثمن، فقد ارتكب جريمة التبديد ومن ضمن عقودها الإيجار. وهو ثانيًا قد أمن شر إفلاس المشتري، إذ لو أفلس وهو لا يزال مستأجرًا، فإن البائع لا يزال مالكًا للمبيع ملكية باتة فيستطيع أن يسترده من تفليسة المشتري.
ولكن بالرغم من تذرع المتعاقدين بعقد الإيجار يستران به البيع، فإن الغرض الذي يرميان إلى تحقيقه واضح، فقد قصدا أن يكون الإيجار عقدًا صوريًّا يستر العقد الحقيقي وهو البيع بالتقسيط، والمبلغ الإضافي الذي جعله المتعاقدان ثمنًا ليس إلا ثمن رمزي والثمن الحقيقي إنما هو هذه الأقساط التي يسميانها أجرة. ومن ثم قضت الفقرة الرابعة من المادة (430) مدني، بأن أحكام البيع بالتقسيط تسري على العقد، ولو سمى المتعاقدان البيع إيجارًا، ويترتب على ذلك أن الإيجار الساتر للبيع يعتبر بيعًا محضًا، وتسري عليه أحكام البيع بالتقسيط التي تقدم ذكرها. وأهمها أن تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري معلقة على شرط إلى آخره.(5/2156)
وبعد أن رأينا تكييف المسألة من الناحية القانونية والفروض التي افترضها القانونيون والعروض التي أرسوها عليها، يجدر بنا أن نفصل الموضوع إلى عدة مسائل طبقًا للمقدمة التي كرسناها للتكييف القانوني لهذا العقد.
المسألة الأولى:
المسألة الأولى: بيع بالتقسيط لا تنتقل فيه الملكية إلا بعد الوفاء بالأقساط:
هذه المسألة مسألة مختلف فيها لوجود شرط غير ملائم للعقد، لأن الأصل في البيع أن يكون باتًّا، فتعليق البيع على هذا الشرط لا يوافق عليه أكثر العلماء لأنه منافٍ لتمام الملكية التي ينبني عليها البيع وفيه جهالة بالمال، وهو يتخرج على الخلاف في الشروط، فيكون فيه ثلاثة أقوال: قول ببطلان البيع والشرط، وقول بصحة البيع وبطلان الشرط، وقول بصحة البيع وصحة الشرط، وهذه القوال كما هو معروف مبنية على اختلاف مواقف العلماء من أحاديث الشروط المعروفة، وهي:
أولًا: حديث جابر المتفق عليه وفيه ((اشترى مني النبي (صلى الله عليه وسلم) بعيرًا واشترط ظهره إلى المدينة)) وهو حديث صحيح أدعي فيه الاضطراب، وهو غير مؤثر هنا لأنه يشترط لتأثير الاضطراب تكافؤ سندي الطرق المختلفة، أما إذا لم تتكافأ فيسار إلى الترجيح كما حققه العلامة ابن دقيق العيد.
ثانيا: حديث بريرة وهو متفق عليه أيضًا كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مائة شرط.
ثالثًا: حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه، قال: ((نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة)) ، قال أحدهما (أي الراويين) بيع السنين هو المعاومة، وعن الثنيا ورخص في العرايا
رابعا: حديث أبي داود، عن أبي هريرة (بعد سنده) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) .
خامسا: الحديث الذي أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي والحاكم وابن خزيمة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا بيع ما ليس عندك)) .
سادسا: الحديث الذي رواه أبو حنيفة في مسنده بالسند السابق. ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط)) ، أخرجه الطبراني في الأوسط بصيغة ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، البيع باطل والشرط باطل)) .(5/2157)
ولاختلاف العلماء في كيفية الأخذ بهذه الأحاديث نشأ الخلاف في مسألة الشروط فمنهم من أخذ ببعضها ومنهم من أول الجمع بينها، فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى بطلان البيع والشرط، وأجاز ابن شبرمة البيع والشرط جميعًا، وأجاز ابن أبي ليلى البيع والشرط، وأجاز أحمد الشرط الواحد. هذه مذاهبهم باختصار شديد. أما مالك ففصل تفصيلًا وحاول الجمع بين الأخبار، ذكرها ابن رشد في البيان والتحصيل وذكر بعضها حفيده في بداية المجتهد مؤداه أن الشرط الذي لا يناقض المقصود من العقد لا يبطله إلا أنه مرة يكون مكروهًا، ومرة يكون جائزا ً، والشرط الذي يناقض المقصود تارة يلغيه دون العقد وتارة يلغي العقد والشرط، وذلك بحسب مناقضة الشرط للعقد فمرة يناقض أصل العقد مناقضة تامة وتارة يناقض حكمًا من أحكام العقد أو شرطًا من شروطه لا يدخل في ماهيته فلا يكون مبطلًا للعقد. وتفاصيل ذلك معروفة سترى بعضها في كلامنا على هذه المسألة وهي المعروفة عند المالكية بمسألة البيع على أنه إن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع، والمشهور في مذهب مالك إلغاء الشرط وصحة العقد، قال خليل في مختصره في سرد نظائر يصح فيها العقد ويبطل الشرط (كمشترط زكاة ما لم يطب وإن لا عهدة ولا مواضعة، أو لا جائحة أو إن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع) ، ففي هذه المسائل يصح العقد ويبطل الشرط، إلا أن مسألتنا هي المسألة الأخيرة أي إن لم يأت بالثمن لكذا فلا بيع فيها ثلاثة أقوال عن مالك متخرجة على قاعدة الشروط السالفة الذكر نقلها خليل في توضيحه عن ابن لبابة قائلًا: ذكر ابن لبابة عن مالك في هذه المسألة ثلاثة أقوال: صحة البيع وبطلان الشرط وصحتهما وفسخ البيع، ولكن المدونة التي اتبعها المصنف في المختصر اقتصرت على الأول وهو بطلان الشرط وصحة البيع، ونصها في آخر البيوع الفاسدة (ومن اشترى سلعة على أنه إأن لم ينقد ثمنها إلى ثلاثة أيام) ، وفي موضع آخر إلى عشرة أيام فلا بيع بينهما لا يعجبني أن يعقد على هذا فإن نزل ذلك صح البيع وبطل الشرط وغرم الثمن. انتهى. راجع الدسوقي في حاشيته على الدردير الجزء الثالث: ص175، 176.(5/2158)
وذكر الحطاب في التزاماته في هذه المسألة سبعة أقوال: حصلها من كلام المدونة وشروحها كشرح الشيخ أبي إسحاق التونسي، وابن يونس، واللخمي، والرجراجي، وفي كلام ابن بشير وصاحب التوضيح وابن عرفة وغيرهم، أعرضنا عن هذه النقول لطولها واقتصرنا على الأقوال الثلاثة السالفة الذكر لانبنائها على قاعدة الشروط- راجع ص366 من تحريم الكلام في مسائل الالتزام.
إلا أن خليل في باب النكاح مشى على شطر آخر من قاعدة الشروط، فحكم بفسخ العقد قبل الدخول فقال في سرد النظائر التي يكون الشرط فيها موجبًا لفسخ النكاح قبل الدخول: (وقبل الدخول وجوبًا في ألا تأتيه إلا نهارًا أو بخيار لأحدهما أو غيره على إن لم يأت بالصداق لكذا فلا نكاح وجاء به، وما فسد لصداقه أو على شرط يناقض كأن لا يقسم لها أو يؤثر عليها أو ألغى) ، ذكرنا نص خليل على طوله لأنه يشير إلى نوعين من الشروط: شروط لا تلائم العقد لأن الحكم يوجب خلافها وهي المشار إليها في الفقرات الأولى، وشروط تناقض العقد وهي المشار إليها في الفقرة الأخيرة ليتضح الأمر لا بد من الإشارة إلى القاعدة التي أصلوها، والتي تفرق بين الشرط الذي يوجب الحكم خلافه إلا أنه لا يناقض العقد مشيرة إلى الخلاف في هذا النوع من الشروط بخلاف ما يناقض العقد أن يهدم ركن من ماهيته، فإنه إما أن يبطل العقد أو يلغى دونه وإلى هذه القاعدة أشار الزقاق في المنهج بقوله:
هل شرط ما لا يقتضي الفساد
إن خالف الحكم اعتبارا فادا
كرجعة نفي رجوع واعتصار
ونفيه ضمان رهن ومعار
ونفيه وشهروا لا في الذي
خالف سنة العقود فاحتذي
كمودع ضمن واكتراء
وشبه دين وابن زرب رائي
خلا تبرع بعيد العقد
وألزم القراض بعد القيد
به ولابن بشر التزامه
تلميذه نصره حسامه
وغيره أنكره ومنعا
ولكلا الرأيين مبنًا سمعا(5/2159)
أشار المنهج إلى جملة من المسائل، وذكر قول ابن زرب في أن لقيد اللاحق بالعقد لا يبطله كتطوع عامل القراض بضمانه وكذلك ابن بشر شيخ بن عتاب، وصحح تلميذه في مال القاصر يدفعه الوصي قراضًا بجزء من الربح، ويتطوع العامل بضمان المال وغرمه إذا تلف قائلًا أن ذلك شرط جائز وخالفه غيره لمخالفة ذلك لسنة هذه العقود انظر المنثور في شرحه على الزقاق: ص87، و88 مخطوطات الشنقيطي.
إلا أن مسألتنا هذه لا تقتصر على كونها بيع لا يتم نقل الملكية فيه إلا باستيفاء الثمن ليكون داخلا في الخلاف المشار إليه، فهو زيادة على ذلك بيع يتضمن غرر ويخالف سنة العقد في كل وجه، لأن المشتري إذا دفع الأقساط ولم يأتِ بآخر قسط منها ضاع عليه ما أدى وضاعت عليه السلعة محل البيع، ومعلوم أن البيع الفاسد يفوز فيه المشتري بالغلة في مقابل ضمان، فلو فسخ العقد كان للبائع أن يستزيد بالأقساط التي حصل عليها في مقابل الاستغلال؛لأن الغلة في مقابل الضمان كما ورد في الحديث الذي أصبح بعد قاعدة (الخرج بالضمان) ، فقد أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والإمام أحمد. قال في المنهج الخرج لضمان أصل قد ورد في مستحق شفعة بيع فسد … إلخ.
فهذه المسألة الأولى أو الفرض الأول لا يمكن أن تصح بوجه من الوجوه والأهداف التي يحددها القانون لا يوصل إليها ومنها استرداد السلعة عند فلس المشتري ألا يخالفه للحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني، ورواه مالك عن الزهري، وهو (أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل أفلس ولم يكن قد قبض من ثمنها شيئًا فهي له، وإن كان قد قبض من ثمنها شيئًا فهو أسوة الغرماء) .(5/2160)
المسألة الثانية:
أما المسألة الثانية، وهي عقد إيجار ساتر للبيع، وهذه الصورة كما تبدو إنما هي بيع سمي إيجارًا لئلا تترتب عليه آثار البيع، فمن جهة البائع هو يحتفظ بملكيته، ومن جهة المشتري فهو لا يستطيع التصرف، فكأنه إيجار بهذا المعنى لتلبية مطلب البائع، إلا أنه بيع من حيث أن الأقساط إذا وفّى بها نشأت عن الوفاء بها نقل الملكية بأثر رجعي، وهو من آثار البيع وليس من آثار الإجارة نقل ملكية الذات فهذا العقد بهذه الخصائص هو عقد غرر ومجازفة، لأن المشتري قد يعسر في آخر قسط، وقد دفع أقساط لا تناسب الإجارة لأنها تتجاوز قيمة المنافع وهي في الأصل قيمة للرقبة، فقد خسر الثمن والمثمون اللذين ربحهما البائع، ويكون بذلك البائع قد حصل على العوض والمعوض خلافًا للقاعدة الشرعية المشهورة التي ذكرها المقري وغيره، فقال القاضي أبو عبد الله المقري: (قاعدة الأصل ألا يجتمع العوضان لشخص واحد لأنه بمعنى العبث وأكل أموال الناس بالباطل) ، قال في المنهج في سرد نظائر من القواعد التي تعتبر أصول:
والإذن للعداء وألا يجمع
الشخص بين عوضين فاسمعا
وليس كل عقد يتردد صاحبه في نتيجته ممنوع، بل هناك من العقود ما تحصل مصلحته عاجلًا كالبيع والإجارة والهبة، كما يقول المقري، وهناك مالا تحصل مصلحته عاجل كالقراض لأن المقصود الربح، وقد لا يحصل فيضيع تعب العامل، بل قد يضيع رأس المال، وهذا جائز نفي للضرر عن المتعاقدين. (انظر المنثور: ص135 و 136) .
ومن المسائل التي أجازوا فيها الغرر مع التردد في مآل الأمر مسألة بيع كتابة المكاتب، والمشتري لا يدري هل يفي المكاتب بما عليه فيحصل على دراهم أو لا يحصل عليها فيحصل على عبد، ولكن لما كان البائع قد أحل المشتري محله، فهو أي البائع مهما كانت النتيجة لا يحصل على أكثر من الثمن الذي دفعه له المشتري سلفًا، أجازوا هذه المعاملة استحسانًا مخالفة للقياس. قال ابن رشد في البيان والتحصيل: 18/83، قال: (حدثني ابن القاسم، عن مالك، عن ربيعة بن عبد الرحمن، أنه كره أن تباع كتابة المكاتب، ويقول هو خطار أن عجز كان عبدًا له وإن أدى أربعة آلاف درهم) ، قال محمد بن رشد: (الغرر في هذا بين كما قال وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، إلا أن مالكًا وأصحابه أجازوا ذلك استحسانًا واتباعا على غير قياس، وله وجه، وهو أن المشتري للكتابة يحل فيها محل سيده والذي كاتبه في الغرر، لأنه إذا كاتبه لا يدرى هل يؤدي ما كاتبه عليه أو يعجز فيرجع رقيقًا له، وذلك جائز بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [الآية 33 من سورة النور] ، وقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : ((المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من مكاتبته)) . هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ، وهو في سنن أبي داود والترمذي ولكن قضيتنا هذه لا يدري المشتري فيها هل يعجز، فيكون قد دفع أكثر الثمن وخسر المثمن، أما البائع فهو دائمًا بأفضل الخيارين، فهذا خطار وغرر شديد يجعل هذه المسألة أيضًا تدخل في العقود الممنوعة.(5/2161)
قال الحطاب في التزاماته (ما يؤول إلى الإخلال بشرط من الشروط المشترطة في صحة البيع) كشرط ما يؤدي إلى جهل وغرر في العقد، في الثمن أو في المثمن أو إلى الوقوع في ربا الفضل، أو في ربا النساء كشرط مشورة شخص بعيد أو شرط الخيار إلى مدة مجهولة أو إلى مدة زائدة عما قرره الشرع في السلعة المبيعة، أو شرط تأجيل الثمن إلى أجل مجهول، أو شرط زيادة شيء مجهول في الثمن، أو في المثمون، فهذا النوع يوجب فسخ البيع على كل حال فاتت السلعة أو لم تفت ولا خيار لأحد المتبايعين في إمضائه، فإن كانت السلعة المبيعة قائمة ردت بعينها وإن فاتت ردت قيمتها بالغة ما بلغت، ويستثنى من هذا النوع مسألة وهي البيع بشرط أن يسلف المشتري البائع أو العكس، فإنه لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى الجهل بالثمن، فإن وقع ذلك فالمشهور أنه يفسخ ما دام مشترط السلف متمسكًا به، فإن أسقط مشترط السلف شرطه صح البيع، وسواء أخذ مشترط السلف سلفه وغاب عليه أم لا على المشهور. وقال سحنون: (إنما يصح إسقاط مشترط إذا لم يأخذ مشترط السلف ما اشترطه) ، وأما إن أخذه وغاب عليه فلا بد من فسخ ذلك ورد السلعة؛ لأنه قد تم ما أراده من السلف، وهذا إذا كانت السلعة قائمة بيد المشتري، فأما إن فاتت فلا يفيد الإسقاط؛ لأن القيمة قد وجبت عليه حينئذ، فلا بد من فسخه فإن كان السلف من البائع فله الأقل من الثمن أو القيمة يوم القبض ورد عليه السلف، هذا مذهب المدونة وهو المشهور وقاله المازري وظاهر إطلاق ابن الحاجب وغيره لأنه لا فرق بين أن يكون الإقساط قبل فوات السلعة أو بعد فواته.(5/2162)
المسألة الثالثة:
أما المسألة الثالثة، وهي الإجارة مع وعد بالتمليك بهبة أو بيع فهي مسألة يجب أن ينظر إليها من عدة وجوه أولها: هل هذه الإجارة إجارة جادة بمعنى أن الأقساط المدفوعة تناسب قدر الإيجار فتكون إجارة حقيقية مصحوبة بوعد، ثانيًا: وهل الوعد حصل في صلب العقد بحيث يؤثر على الثمن أو كان تطوعًا بعد العقد، وهل كان وعدًا بالهبة أو وعدًا بالبيع؟ كل هذه الأوجه تترتب عليها أحكام تخص كلًّا منها فلنبدأ بأقرب هذه الأوجه للصحة والقبول وهو أن يكون الطرفان قد عقدا بينهما إجارة وبعد العقد وعد البائع المشتري بأن يهبه تلك العين إذا هو وفّى بأقساط الإيجار في وقته المحدد برغبته في الوفاء، فهذه الصورة تعتبر وعدًا بهبة، وهو وعد ملزم على أصل مالك في الوعد المعلق على سبب على ما استظهره بعض الشيوخ من الخلاف في مسألة الإلزام بالوعد، فمعلوم أن مذهب مالك فيه أربعة أقوال فيما يتعلق بالإلزام بالوعد، القول الأول: أن الوعد لا يلزم به شيء، وأن الوفاء به إنما هو من مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، وهذا موافق للمذاهب الأخرى، (راجع المغني لابن قدامة في مسألة تعليق الهبة: 5/658) ، والقول الثاني: عن مالك، هو معلوم هو لزوم الوعد الواقع مطلقًا، وهو كما رأيت مخالف للمذاهب الأخرى، وقول بالتفصيل عن مالك بين الوعد الواقع على سبب فيلزم، وقول رابع هو المشهور أنه إذا أدخل الموعود به في ورطة فإنه يلزم، وقد أجمل صاحب المنهج هذه الأقوال الأربعة بقوله:
هل يلزم الوفاء بالوعد نعم
أولا نعم لسبب وإن لزم(5/2163)
فالمسألة هنا تدخل في قاعدة أن من التزم شيئًا بسبب عمل الملتزم له الإتيان بما يلزمه إذا كان الملتزم- بكسر الزاي- يعلم بوجوب ذلك العمل على الملتزم له بدون مقابل، وأسسوا على ذلك كما قال الحطاب في التزاماته: ص 189، نقلًا عن ابن رشد في البيان والتحصيل، بعد أن نقل عدم لزوم الوعد على الواجب على الملتزم له- بفتح الزاي- قائلًا ما نصه: (قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم في رواية ابن جعفر الدمياطي عنه وذلك إذا لم تعلم (أي زوجته أنه كان يلزمه أن يأذن لها (أي في الحج) ، وأما إذا علمت، فذلك لازم لها لأنها أعطته مالها طيبة بذلك نفسها، وقوله هذا مفسر لهذه الرواية وأطال الكلام في هذه المسألة إلى أن قال الحطاب: تنبيه: فعلى ما قاله ابن رشد إذا كان الملتزم يعلم أن ذلك الفعل يجب على الملتزم له، ثم علق الالتزام عليه فإنه يلزمه ويحمل على أنه أراد ترغيبه في الإتيان بذلك الفعل كقوله إن صليت الظهر اليوم فلك عندي كذا وكذا. والله أعلم.
وذكر كثيرًا من المسائل من هذا النوع من أعطى لزوجته دارًا على أن تسلم، ومن ذلك أيضًا من يقول لعبده إن تركت شرب الخمر أو الزنا، فأنت حر فهذا لازم.
أما الوعد بالهبة في صلب العقد إذا كان من شأنه أن يؤثر على الثمن، فهذا لا يجوز وهو من باب الجعل والجعل لا يجوز جمعه مع الإجارة فكأنه قال له: إن فعلت كذا فلك كذا، قال خليل في الإجارة (وفسدت إن انتفى عرف تعجيل معين كمع جعل) . قال الزرقاني لتنافي الأحكام فيهما، فهذا الوعد بالهبة كما ترى فهو جهة جعل لا يجوز جمعه مع الإجارة ومن جهة أخرى قد يؤثر في الثمن أي في قدر الإيجار فلا يدري ما أعطى مقابل الوعد بالهبة أي هي هبة ثواب، وما أعطى مقابل الإيجار حقيقة.
والوعد بالهبة في صلب العقد بالإجارة أو بالمساقاة أو غيرهما، لا يوجد فيه نص صريح ما عرف عن مالك وابن القاسم وسحنون من وجوب الوفاء بالوعد إذا أدخل الموعود في ورطة، إلا أنهم إنما افترضوا هذه المسألة في عقود أخرى كالخلع قال خليل (وبالوعد أن ورطها) .
أما في عقد البيع مثلًا، فظاهر كلام مالك يدل على المنع إذا كان الأمر معلقًا على شيء لا يدري هل يقع أم لا؟(5/2164)
قال الحطاب في التزاماته: (قال في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من جامع البيوع: سمعت مالكًا يقول لا أحب البيع على أنه إذا وجد ثمنًا قضاه وإن هلك ولا شيء عنده لا شيء عليه. قال ابن القاسم: فإن وقع هذا الشرط وفات لزم المشتري قيمتها يوم قبضها. قال محمد بن رشد: هذا الشرط من الشروط التي يفسد بها البيع لأنه غرر فالحكم فيه الفسخ مع قيام السلعة شاءً أو أبيًّا، ويصبح في فواتها بالقيمة بالغة ما بلغت، وهو ظاهر قول ابن القاسم وتفسير لقول مالك؛ إذ قد يقول كثيرًا فيما يجب فيه الفسخ لا أحب هذا، أو أكرهه أو شبهه من الألفاظ فيكتفي بذلك من قوله.
ونقله في النوادر وزاد فيه: قال ابن القاسم: هذا حرام ويرد فإن فات فعليه قيمتها يوم قبضها.
أما الوعد بالبيع فهو مؤثر على الثمن ومخل بهن وسبب للجهالة وأكثر افتراضات نصوص المذهب وشروحه إنما هي في إيجاب الوفاء بالوعد في مسائل التبرعات كالهبة لأنها تملك بالقول عند مالك، وهذا من أسرار مذهب مالك في مسألة الوعد، وكذلك الصدقة والعتق والطلاق. أما البيع فإنه لا ينعقد إلا بالصيغ المشار إليها بقول خليل، ينعقد البيع بما يدل على الرضا إلى آخره، فالتزامه بالوعد إلزام بالبيع والنظر في العقود غالب إلى المآل كما أشار إليه الزرقاني في مسائل الثنيا. وعليه فهذه الصيغة تعتبر تلفيقية في غاية الضعف.
أما الوعد بالبيع بعد عقد الإجارة فيخرج على المسألة المشهورة عند المالكية، وهي إذا قال البائع للمشتري بعد عقد البيع إذا أنا أتيتك بالثمن رددت إلى المبيع، فقبل المشتري بذلك، فإن ذلك يلزمه، قال الحطاب في التزاماته.
مسألة:
قال في معين الحكام، ويجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد العقد بأنه إن جاء بالثمن إلى أجل كذا فالمبيع له، ويلزم المشتري متى جاءه بالثمن في خلال الأجل، أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه، ولا يكون للمشتري تفويت في خلال الأجل فإن فعل ببيع أو هبة أو شبه ذلك نقض أن أراده البائع ورد إليه، وإن لم يأتِ بالثمن إلا بعد انقضاء الأجل فلا سبيل له إليه، وإن لم يضربا لذلك أجلًا فللبائع أخذه متى جاءه بالثمن في قرب الزمان أو بعده ما لم يفوته المبتاع،فإن فوته فلا سبيل له إليه، فإن قام عليه حين أراده التفويت فله منعه بالسطان إذا كان ماله حاضرا فإن باعه بعد منع السلطان له رد البيع وإن باعه قبل أن يمنعه السلطان نفذ بيعه.
ويتخرج أيضًا قاعدة الشروط اللاحقة لا يبطل بها العقد، كما نقلناه عن ابن زرب من المالكية وابن بشر وتلميذه ابن عتاب.(5/2165)
خلاصة القول: إن هذا العقد المسمى بالإيجار الذي ينتهي بالتمليك في شكله القانوني والعرفي الحالي لا يشبه العقود الجائزة ولا يمكن أن يكون جائزًا على بعض أقوال العلماء إلا إذا أخذ إحدى الصيغ الخمسة التالية:
أولًا: أن يكون إيجارًا حقيقيًّا ومعه بيع خيار عند من يجيز الخيار المؤجل إلى أجل طويل كالإمام أحمد ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف وابن المنذر، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبي ثور يشترط أن تكون المدة معلومة محدودة، واجتماع البيع مع الإجارة جائز في عقد واحد بشرط أن يكون لكل منهما موضوع خاص به في رأي كثير من العلماء، كالشافعية والحنابلة والمالكية، قال خليل عاطفًا عطف مغايرة: (كمع جعل لا بيع) ، قال الزرقاني بعقد واحد فلا يفسد كاشترائه ثوبًا بدراهم معلومة على أن يخيطه البائع. وإننا فرقنا بين هذا وبين الوعد المؤثر بالثمن بالجهالة؛ لأنه هنا إجارة حقيقية وبيع بالخيار، بشرط أن يعقدا على ثمن خاص للبيع يشبه مثله.
ثانيا: وعد ببيع لاحق بعد الإيجار، وقد علمت تخريجه على مسألة الإقالة السابقة، وهذه الصيغة ضعيفة لا تجد سندًا إلا في أصل وجوب الوفاء بالوعد، وهو في البيوع غير مفرع عليه في المذهب كما أسلفنا، إلا أنها لما كانت بعد العقد كانت أخف من شرط البيع الواقع في العقد فأمكن تخريجه على الوعد الواقع على سبب وقد تقدم ما فيه.
ثالثًا: وهو أن يبيعه بشرط ألا يمضي البيع إلا بدفع الثمن وهذه ليست من باب البيع، فيكون البيع معلقًا على دفع آخر الثمن، وحسبما يفيده الزرقاني عن ابن الحسن على المدونة، هذه الصيغة جائزة معمول بها وسلمه البناني مع كلمة (ألا يمضي) بدل من كلمة (أن لا ينعقد) فتكون الذات كالمحبوسة للثمن أو للإشهاد. كما أشار إليه خليل بقوله (وضمن بالقبض إلا المحبوسة للثمن أو للإشهاد فكالرهن) .
فالبيع منعقد غير نافذ، فإذا دفع بعض الثمن وأراد البائع استرجاع السلعة يرد ما أخذ من الثمن.(5/2166)
وصورة رابعة: وهي أن يبيعه بيعًا باتًّا على أن لا يتصرف له في المبيع حتى يفي بالثمن فيلزمه الوفاء بذلك، وتصير كالمرهونة فلا يتصرف فيها، وهي مستثناة من قول خليل: (وكبيع وشرط يناقض المقصود (قال الدردير: (كأن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع أولا يجلب أو لا يتخذها أم ولد) .
ونقل عليش في شرحه ما يلي: في سماع عن ابن زياد، سئل مالك –رضي الله عنه- عمن باع عبدًا أو غيره وشرطه على المبتاع أن لا يبيعهن ولا يهبه، ولا يعتقه حتى يعطيه ثمنه فلا بأس بهذا لأنه بمنزلة الرهن إذا كان إعطاء الثمن لأجل مسمى.
خامسًا: وعد بهبة لاحق بعقد الإيجار جار على سبب، وهذا أجدر هذه الأوجه بالجواز وأولاها بالصواب، وهذا ما نراه في هذه المسألة باختصار، نسأل الله السلامة من العثار، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه.(5/2167)
الإجارة بشرط التمليك - والوفاء بالوعد
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل الدخول في مسألة مشروعية مثل هذا العقد نجد من الضروري ملاحظة طبيعة عقد الإجارة وامتلاك تصور عن قاعدة ((المؤمنون عند شروطهم)) وحكم الوعد الابتدائي تمهيدا للوصول إلى الرأي المختار في الموضوع.
حول عقد الإجارة:
عرف عقد الإجارة بأنه (تمليك عمل أو منفعة بعوض) أو (تمليك منفعة عمل أو عين بعوض) ، والإجارة لذلك شاملة لعقود كثيرة كعقود إجراء المشاريع (المقاولات) وعقود استخدام الموظفين، والخدمات الطبية والترفيهية والحمل والنقل وغيرها.
وربما جعلت الإجارة أحد الأركان للحياة الاقتصادية في النصوص الإسلامية، فقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: (إن معايش الخلق خمسة: الإمارة والعمارة والتجارة والإجارة والصدقات، ولو كان الرجل منا يضطر إلى أن يكون بنَّاءً لنفسه أو نجارًا أو صانعًا في شيء من جميع الصنائع لنفسه ويتولى جميع ما يحتاج إليه من إصلاح الثياب وما يحتاج إليه من الملك، فمن دونه فما استقامت أحوال العالم بتلك ولا اتسعوا له ولعجزوا عنه، ولكنه أتقن تدبيره لمخالفته بين هممهم وكلما يطلب مما تنصرف إليه همته مما يقوم به بعضهم لبعض) (1) .
وتمتاز الإجارة على البيع أنها تمليك منفعة وهو تمليك عيني، كما تمتاز على عقود المزارعة والمساقاة والمضاربة بعموميتها أولاً وهي عقود لها موارد خاصة وبأنها عقد تبادلي معلوم العوض دونها، كما تمتاز على الجعالة بعموميتها أيضًا في حين تختص الجعالة بالمنافع ولا تشمل الأدوات، وكذلك تفترقان في مسألة اللزوم لأن الإجارة عقد لازم دون الجعالة وهناك بحوث مفصلة عن أقسامها وشرائطها بالنسبة للمتعاقدين والعوضين وأحكام الإجارة وإمكان شرط الضمان فيها أو عدمه، والإجارات المحرمة ولكننا نكتفي بما أشرنا إليه.
__________
(1) وسائل الشيعة، ج13، كتاب المزارعة، باب2، حديث 10(5/2168)
قاعدة ((المؤمنون عند شروطهم)) :
وهي قاعدة ثابتة بأدلة كثيرة:
فقد جاء في كتاب (دعائم الإسلام) عنه (صلى الله عليه وسلم) قوله: ((المسلمون عند شروطهم إلا كل شرط خالف كتاب الله)) .
وفي كتاب غوالي اللآلي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ((المؤمنون عند شروطهم)) .
وفي صحيح البخاري وغيره من الصحاح: ((والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرَّمَ حلالًا)) .
وكذلك جاءت روايات عن أهل البيت بهذا المضمون.
منها ما روي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له ولا يجوز على الذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم مما وافق كتاب الله عز وجل.
فالروايات بملاحظة كثرتها وعمل المسلمين بها في غاية الوثوق ودلالتهما أيضاً واضحة تماماً وهي – على سبيل الإجمال – تلزم كل مسلم بالثبوت عند التزاماته، والمراد من الثبوت ترتيب الأثر على الشرط.
ولما كان الشرط هو الإلزام والالتزام صح أن يطلق على الأحكام الإلزامية أنها شروط الله، ولذلك أطلق (صلى الله عليه وسلم) الشرط على كون الولاء للمعتق لا للبائع في قصة شراء السيدة عائشة لبريرة حين قال: ((إن شرط الله أحق وأوثق)) ، ولكن المعني به في هذه القاعدة هو الالتزام والوفاء به.
والمراد من القاعدة حكم وضعي كمفاد قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، وهو ثبوت ما التزم به واستقراره عليه ولا يقتصر المفاد على الإلزام التكليفي فقط.
ثم إن هنا بحثاً عن شمول مفهوم القاعدة للشروط والوعود الابتدائية وعدمه نؤجله إلى موضعه من هذا المقال.
وننتقل إلى بيان شرائط صحة الشروط الواقعة ضمن العقود وهي أمور:
1- أن يكون مقدوراً.
2- أن يكون له غرض معتد عقلائي.
3- أن لا يكون مخالفاً للكتاب والسنة أي يحل حراماً أو يحرم حلالاً.
والضابط أن لا يكون نافيًّا لما أثبته الشارع أو مثبتًا لما نفاه، فلو شرط ارتكاب محرم أو ترك واجب خالف الكتاب والسنة قطعاً. بخلاف ما لو شرط عليه فعل مباح (بالمعنى الأعم) .(5/2169)
وفي موضوع الشرط الذي يحرم حلالاً وقع الاختلاف والبحث، فإن دائرة المباحات هي التي تشملها الشروط فتلزم بها، فأين إذن مجال (تحريم الحلال) ، وقد قيل في ذلك إنه إذا اشترط ترك نوع من المباح لا فرد مصداق من مصاديقه، وذلك بشكل دائم فهو يؤدي لشرط ترك الطبيعة المباحة من الحكم وهو مخالف للحكم المباح ويحوله إلى حكم محرم باعتبار أن الحرمة تتعلق بطبيعة العمل في جميع الأزمان.
وربما أمكن القول بأن هناك أموراً أصرَّ الشارع على إباحتها كالتمتع بالزوجات وأصل الزواج والطلاق والحرية نفسها، فلا يجوز إلغاؤها عبر شرط متضمن في عقد. وما ذكروه من مجال لتحريم الحلال يدخل كمصداق من مصاديق هذه القاعدة.
4- أن لا يكون الشرط منافيًّا لمقتضى العقد فلا معنى لاشتراط عدم التملك من قبل البائع في عقد البيع لأنه خلاف مقتضى العقد.
بل أن لا يكون الشرط منافيًّا للأثر الرئيس للعقد كاشتراط عدم الاستمتاع بالزوجة، وربما كاشتراط عدم بيع السلعة مطلقاً مرة أخرى من قبل البائع الأول، وكذلك أن لا يتنافى مع الأثر الشرعي المجعول للعقد كاشتراط الضمان في عقد الإجارة رغم أن أثرها الشرعي هو عدم الضمان – كما يدعى-.
5- أن لا يكون الشرط مجهولاً في معاملة تضر الجهالة بها، كالبيع دون الصلح وربما يقال بهذا الشرط في مطلق المعاملات بناء على تعميم النهي لكل المعاملات باعتباره أنه (صلى الله عليه وسلم) نهى عن مطلق الضرر، وهذا أمر لم يثبت.
6- أن لا يستلزم الشرط المحال كقوله: بعتك شريطة أن يكون مبيعًا مني بنحو شرط النتيجة.
7- التنجيز- على قول.
وهناك شروط أخرى ربما اعتبرها البعض إلا أن العمدة هو ما ذكرناه، ثم إن الشروط على ثلاثة أقسام:
شرط الصفة، وشرط الغاية، وشرط الفعل.
فإذا كان الاشتراط يتعلق بصفة في المبيع مثلاً كان شرط صفة.
وإذا كان الاشتراط يتعلق بنتيجة العقود والإيقاعات كاشتراط الملكية أو اشتراط كون الزوجة مطلقة سمي هذا شرط نتيجة أو شرط غلبة.
وهنا يقع الكلام في إمكان وقوع هذا الشرط شرعًا وعدم ذلك.(5/2170)
وهذه الأمور قد تكون لها أسباب خاصة في نظر العرف، وقد أمضاها الشارع والكلام هنا في إمكان حصولها بالشرط، وقد تكون أسبابها مفتوحة في نظر العرف بشكل يسع الاشتراط، أي أن يكون الاشتراط سببًا لحصولها.
ولا ريب في أنها إذا كانت لا تحصل إلا بأسبابها الخاصة لم تقبل باشتراطها بالعقد بنحو شرط النتيجة، وإن كانت تقبل الانفتاح على مثل الاشتراط فلا مانع من كونها بهذا النحو.
والكلام في الموارد المشكوكة في دخولها في أي من القسمين، فهل يمكن التمسك بعموم ((المؤمنون عند شروطهم)) ، أو عموم {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} بناء على كون الشرط جزءًا للعقد
الظاهر أنه من التمسك بالعمومات في الشبهات المصداقية وهو باطل، وما قيل من أننا نحقق مصداقية هذه الموارد لتلك العمومات بعد إجراء استصحاب عدم كون الشرط مخالفاً لكتاب الله أمر غير صحيح لأن مثل هذا الاستصحاب إما لا يجري إذا كان بالمعنى النعتي لعدم الحالة السابقة، أو يجري ولكنه من الأصل المثبت وليس الاستصحاب حجة فيه.
وعلى أي حال، فإن قاعدة الاشتراط ((المؤمنون عند شروطهم)) ، لا تثبت لنا أن هذه النتيجة مشروعة الحصول بسبب الاشتراط، وإنما غاية ما تؤكده هو أن الشرط صالح لأن تنشأ به المضامين المشروعة في نفسها. وهناك محاولات جرت لحل هذا الإشكال.
أما شرط الفعل فالمراد به تعلق الشرط بفعل اختياري مقدور للمكلف جامع للشرائط السابقة، وقد اختلفوا حينئذٍ في وجوب إتيانه بالفعل أو قدرته على التخلف وثبوت الخيار للمشروط له تبعًا لذلك.
قيل هنا بأن معنى الثبوت عند الشرط هو وجوب العمل وِفق الالتزامات كما أن وجود فعل الأمر في بعض الروايات يؤكد ذلك من قبيل قول الإمام (عليه السلام) في رواية إسحاق بن عمار (من شرط لامرأته شرطًا فليفِ لها به) والأمر ظاهر في الوجوب.
وقد عبر المرحوم المرزا النائيني عن ذلك بأن وجوب الوفاء بالشرط تكليفًا لم ينكره أحد، وإنما الخلاف والبحث في أمر آخر وهو أنه هل الشرط يوجب ويثبت حقًّا للمشروط له على المشروط عليه كي يكون وجوب الوفاء من آثار ذلك الحق أم لا يوجب ذلك، بل أثر الشرط وفائدته هو قلب العقد اللازم جائزًا وذلك لإناطة اللزوم بالوفاء بالشرط وإيجاد الفعل الملتزم به، فإن لم يفِ به فلا لزوم، وهذا ما ذهب إليه الشهيد (قد) .(5/2171)
وعلى أي حال فالظاهر هو لزوم الوفاء بهذا الشرط وإمكان الإجبار عليه من قِبل الدولة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ينافي هذا إمكان الإسقاط من قبل من له الحق، فإن الإجبار هي الحالة الطبيعية، أما التنازل عن الحق فهو ينفي موضوع الإجبار.
وهناك أحكام أخرى للشرط لا نرى فعلاً ضرورة للتعرض لها.
حكم الوعد الابتدائي:
هناك حالات متصورة للوعد تتلخص بما يلي:
أولاً: الوعد العادي الذي يعد به المسلم المسلم الآخر.
ثانياً: الوعد الذي يعقده على نفسه ويلتزم به بقوة دون أن يترتب على نقضه أثر.
ثالثاً: هذا الوعد مع ترتب أثر من نوع ما على نقضه.
رابعاً: الوعد المعطى كشرط ضمن عقد من العقود.
فهل الوعد في كل هذه الحالات ملزم أو يختص الإلزام ببعضها دون الآخر؟
ما يمكن أن يطرح هنا من أدلة هو:
أولاً: أدلة الوفاء بالوعد وهي كثيرة واضحة ولا داعي لذكرها إلا أنه يقال في قبالها: إن اللزوم فيها أخلاقي محض وليس فيها إلزام تكليفي أو وضعي.
ثانيًا: قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} بناء على تفسير العقود بالعهود إلا أن الظاهر فيها أنها تركز على العهود العقدية أو العهود التي فيها التزامات قوية، فلا تشمل النوع الأول قطعًا كما تشمل النوع الرابع الممضى شرعًا وعرفًا قطعًا وفي شمولها للنوعين الوسطيين كلام.
وقد قيل إن العقد عهد موثق- كما حكي عن الكشاف- ورأى آخرون أن التوثيق ليس من جملة معناه فيكفي الربط بأي نحو كان. وفسروا العقد بالمعنى الاستعاري بأنه مطلق المعاملة بلحاظ الربط الاعتباري المتبادل.
وقد يشكل على عموم آية الوفاء بالعقود بأن المراد منها العقود المعهودة آنذاك وليس كل عقد أو عهد إلا أن الإشكال في غير محله لعموم اللفظ وليس هناك ما يصلح للقرينة الصارفة عن العموم ويتوضح العموم بملاحظة طبيعة الخطاب القرآني الشامل للبشرية.(5/2172)
الظاهر من الآية الشمول للنوعين الوسطيين وإن ادعي الإجماع على خروجهما من دائرة شمول الآية باعتبار عدم الإلزام الشرعي فيهما، ولما كان خروج هذه الأنواع الثلاثة يعني تخصيص الأكثر وهو مستهجن عرفًا، فإن ذلك يوضح أن الآية لم تشمل من الأول إلا النوع الرابع، ولكن قد يقال في قبال ذلك أننا لو سلمنا الإجماع المدعى لا نسلم بأن خروج الكثير من أفراد قاعدة ما مع بقاء كثير من الأفراد أمر مستهجن لغويًّا. ولذلك نبقى مع هذا الظهور. ومثل هذا الإجماع لم يثبت لدينا.
ثالثًا: قاعدة المؤمنون عند شروطهم.
وقد فسرت الشروط هنا بالوعود والعهود، ولما كانت الكلمة هنا مطلقة غير مقيدة أمكننا تعميمها لكل الأنواع ولا أقل من شمولها لما عدا الأول باعتبار أن الشرط أيضًا فيه صفة التوثيق.
وقد ادعي أن لفظ الشرط نفسه يستدعي اقترانه بعقد ومعاملة أو أمر آخر لأن المشارطة هي المقارنة، ولأنه لو شمل كل هذه الأنواع لاستلزم تخصيص الأكثر بعد الإجماع القائم على عدم وجوب الالتزام بالشروط غير الواردة ضمن العقود، وتخصيص الأكثر مستهجن.
ولكننا قلنا إن مثل هذا التخصيص-لو تم- مع بقاء كثير من الأفراد تحت العام ليس مستهجنًا على أننا يجب أن نحقق معقد الإجماع المدعى وهل هو النوع الأول أم يشمل كل وعد وشرط لا يقترن بعقد؟ ولا دليل على هذا الشمول ولا أقل من الشك والاقتصار على القدر المتيقن، هذا بالإضافة لعدم تأكدنا من تحقق هذا الإجماع خصوصًا إذا لاحظنا مخالفة للبعض له وخصوصًا بالنسبة للنوع الثالث.
ويشهد لعموم معنى الشرط ما رأيناه من استعماله في كل عهد حتى في عهد الله حيث سمي حكم الله بالشرط، وسمي الخيار شرطًا كما في قول الإمام (الشرط في الحيوان ثلاثة أيام) (1) ، وقوله في رواية منصور بن يونس: (فليفِ للمرأة بشرطها) (2) ، وأطلق الشرط على النذر أو العهد.
__________
(1) وسائل الشيعة، كتاب التجارة، الباب الرابع من أبواب الخيار.
(2) وسائل الشيعة، كتاب النكاح، الباب 20 من أبواب المهور(5/2173)
إلا أن الإنصاف أن معقد الإجماع يتناول النوع الثاني أيضًا فالعرف يعهده وعدًا ابتدائيًّا لا فرق بينه وبين أي وعد آخر إلا بشيء من التوثيق في حين يرى النوع الثالث عهدًا وشرطًا كاملًا، ومن هنا نقول بلزوم الوفاء به ولو على سبيل الاحتياط- إلا أن يكون شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا.
الإجارة بشرط التمليك:
يمكن تصوير العملية – على ضوء الواقع القائم- بصورتين:
الأولى: أن تقوم شركة أو بنك ببناء مساكن ثم تأجيرها للأفراد بشرط أن يملكوها بعد دفع مبالغ الإجارة في المدة المعينة.
الثانية: أن يقوم الأشخاص المحتاجون لإكمال بناء بيوتهم مثلاً ببيعها للبنك، ثم يقوم البنك بتأجيرها لهم إلى مدة معينة شريطة أن يملكوها بعد انتهاء مدة الإيجار.
والصورة الأولى مؤداها عقد واحد للإيجار متضمن لشرط التمليك في حين تؤدي الصورة الثانية إلى ما يلي:
1- بيع الفرد بيته للبنك.
2- وعد الفرد للبنك بأنه سيستأجر البيت طبق المبلغ والمدة المعينة بشرط التمليك.
3- وعد البنك للفرد بأنه سيؤجر البيت طبق المبلغ والمدة المعينة بشرط التمليك.
4- تأجير البنك للشخص إلى مدة معينة بمبلغ معين شريطة التمليك عند انتهاء المدة.
والصورة الأولى كما هو واضح أقل إشكالًا من الصورة الثانية- وهي المتداولة – وسوف نبحثها أولًا ثم نبحث الأخرى.
وهي لأول وهلة لا يبدو فيها إشكال إلا أن الكلام فيها في مجالين:
الأول: كيف يتم اشتراط التمليك وهل ذلك بنحو شرط لفعل (التمليك) أو هو بنحو شرط النتيجة (التملك) .
الثاني: هذه المعاملة هل تدخل تحت عنوان عقدين في صفقة أم لا؟ وما حكمها لو كانت كذلك؟
أما للبحث الأول فقد ذكرنا من قبل شرائط صحة الشرط ونحن نرى أنها متوفرة هنا جميعًا ولا مانع من اشتراط التمليك سواء كان ذلك بنحو شرط النتيجة أو شرط الفعل. فإذا كان الاشتراط بنحو شرط النتيجة من باب أن التمليك وإن كانت له أسباب خاصة في نظر الشارع إلا أنه من المتعارف بشكل واسع أن يحصل من خلال الاشتراط ضمن عقد، بل أن العرف يرى حصوله بالمعاطاة الخالية من أي صيغة، وهذا عرف ممضى من قبل الشارع وليس التمليك كالطلاق والعتق وأمثالهما مما يحتاج إلى صيغة خاصة.(5/2174)
أما لو شك أحد في قبول مسألة التمليك لمثل هذا التسبيب وعدمه، فلا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وتصحيح هذا الاشتراط وحينئذٍ فليس هنا إلا الرجوع لاشتراط الفعل، واشتراط الفعل أي قيام المالك بالتمليك مما لا إشكال فيه إلا ما مرَّ من الخلاف في كون هذا الاشتراط موجبًا للزوم الوفاء بالشرط أو أنه يؤدي فقط إلى حصول الخيار للمشروط له عند عدم وفاء الملتزم بالشرط به، وقد اخترنا وجوب الوفاء تبعًا لظاهر النصوص وحينئذٍ يضمن المشروط له قيام البنك بتمليكه عند انتهاء مدة الإيجار، ولو امتنع أجبره الحاكم الشرعي على ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما البحث الثاني، فنقول فيه:
أولًا: لم تثبت لدينا النصوص المانعة عن اجتماع عقدين في صفقة واحدة كما لم نتأكد من أن المراد منها ما هو؟
ثانيًا: أن المورد لا يدخل تحت العنوان الآنف باعتبار أنه عقد واحد لا غير وإلا كانت أغلب العقود المتضمنة لشروط ما من هذا القبيل باطلة.
هذا كله بالنسبة للصورة الأولى.
أما بالنسبة للصورة الثانية فإن فيها البحوث التالية:
أولًا: بحوث الصورة الأولى.
ثانيًا: بحث حول مسألة الإلزام بالوعد.
ثالثًا: بحث حول ما إذا كانت المسألة تدخل ملاكًا تحت عنوان إيجاب البيع قبل استيجابه.
رابعًا: بحث حول ما إذا كانت العملية كلها غطاء لعملية ربوية.
أما بحوث الصورة الأولى فقد ذكرناها والكلام واحد في الصورتين.
وأما مسألة الإلزام بالوعد، فإنه لا ريب في دخول المورد في النوع الثالث من الوعود أي في الوعد الموثق مع ترتب أثر ما على نقضه، كما يمكن دخوله في النوع الرابع وهو الوعد المعطى كشرط ضمن عقد من العقود.(5/2175)
فحتى لو كان مجرد وعد من قبل البنك مقارن لشراء البيت من الفرد، فإنه كما قررنا من قبل ملزم باعتبار شمول عمومات الوفاء له لأنه يترتب عليه أثر ولا إجماع متيقن يشمله ولو كان مشترطًا في البيع كان ملزمًا بلا ريب أيضًا إلا أنه يرد فيهما الإشكال الثالث الآنف وهو إيجاب البيع قبل استجابة ذلك أن البنك لم يملك البيت بعد وحينئذٍ فلا يمكنه أن يعد مطلقًا أو ضمن عقد وعدًا لازمًا بالإيجار بشرط التمليك، كما لا يمكن للفرد أيضاً أن يعد بالاستيجار بنفس الشرط وعداً ملزماً.
فقد روى محمد بن الحسن بإسناده إلى يحيي بن الحجاج قال: (سألت أبا عبد الله - يعني الصادق (عليه السلام) عن رجل قال لي: اشتر هذا الثوب وهذه الدابة وبعنيها أربحك فيها كذا وكذا: قال لا بأس بذلك: اشترها ولا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها) ، وبمعنى الرواية روايات أخرى تؤكد على ضرورة عدم الإلزام لكي يصح البيع.
وهي تدل على ما ذكرناه شريطة أن نعمم موردها وهو البيع إلى العقود الأخرى وحينئذٍ فيجب حذف عنصر الإلزام في البين والاعتماد على ما هو المتعارف من جريان المعاملة بشكل طبيعي والتزام طرفيها بالاستمرار فيها إلى النهاية، أما البحث الرابع والأخير، فقد يقال فيه:
إن هذه العملية المطولة هي في الواقع غطاء لعملية ربوية لا غير.
أما بلحاظ الصغرى باعتبار أن المراد الجدي للمتعاملين بتحكيم الارتكاز العرفي هو القرض الربوي وليس هذا التطويل إلا تغييرًا للألفاظ رعاية للشرع.
أو بلحاظ الكبرى باعتبار أن العرف يوسع دائرة القرض- بلحاظ الارتكاز العرفي لتشمل هذه المعاملة المطولة.
والحقيقة أن المراد الجدي تارة يراد منه- كما يقول السيد الصدر- الغرض الشخصي للمتعاملين وهذا لا أثر له- وأخرى يراد منه المراد المنشأ بشكل جدي في المعاملة فهو أمر سهل المؤونة والاعتبار خصوصًا في هذه المعاملة.
وأما الكبرى (باعتبار أن العرف يرى القرض عملية تبديل للحال المثلي الخارجي بمثله في الذمة وأن ما جرى هنا لا يخرج عن هذا الإطار) ، فنقول فيها أن الفهم العرفي بعد أن يلحظ:
أولاً: ما قلناه من عدم الإلزام بالوعد في هذه المعاملة لإخراجها من تحت إيجاب البيع قبل استيجابه.
ثانياً: أن أحكام الملكية وتلفها تترتب للبنك وعليه أثناء مدة الإيجار فلو تلف البيت تلف من مال البنك وأمثال ذلك.
نعم بعد أن يلحظ ذلك لا يشك في كون المعاملة غير داخلة تحت عنوان القرض حتى بعد توسيعه المدعى.
وعليه فلا يرد الإشكال الآنف (إشكال التغطية لمعاملة ربوية) والنتيجة التي نخرج بها تتلخص بما يلي:
إن الإيجار بشرط التمليك عملية جائزة شريطة أن لا يكون هناك إلزام بالربط بين المعاملتين وترتب أحكام كل حالة بشكل كامل.
والله أعلم.
الشيخ محمد علي التسخيري.(5/2176)
التأجير المنتهي بالتمليك
إعداد
الدكتور عبد الله إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
1- مقدمة:
من وسائل التمويل الخاص لمساعدة ذوي الدخل المحدود من أفراد المجتمع للحصول على حاجة من حاجاتها الأساسية كالمسكن والسيارة وأدوات الزراعة ومكائن الصناعة هو التأجير المنتهي بالتمليك.
وقد مارسته البنوك الربوية طبقًا لنظامها القائم على الفائدة الربوية. فلا تخرج هذه المعاملة عن دائرة القروض الربوية وإن كان التمويل يتم باسم التأجير، وانتهى الأمر بعد انتهاء المدة المتفق عليها، وتم فيها دفع الأقساط الشهرية وهي تمثل القرض المقدم للعميل مع فائدته المقررة، انتهى الأمر بعد ذلك إلى انتقال ملك السلعة أوتوماتيكيًّا إلى العميل وما عليه إلا أن يستحصل من البنك الممول شهادة بإتمامه دفع جميع الأقساط المطلوبة منه ويذهب بها إلى الجهة الخاصة لإبطال حق طلب البنك على السلعة بختم رسمي وتوقيع من المسؤول المختص بالمصلحة المعينة لذلك من قبل الحكومة.
قلنا آنفًا: إن هذه العملية لا تخرج عن دائرة القروض الربوية وذلك لأن البنك الذي يقوم بتمويل شراء حاجة العميل من سيارة ونحوها- كما هو معروف- إنما يقدم له قرضاً بفائدة معينة في السنة مضروبة في عدد السنوات المتفق عليه بين الطرفين يدفع العميل خلال أشهرها جملة القرض بفائدته المذكورة على أقساط معينة.
2- تطبيق العملية بما يتفق والشريعة الإسلامية:
فقد أخذ البنك الإسلامي للتنمية بجدة هذه المعاملة وجعلها بيعًا تأجيرياً، وتتضمن العملية الإجارة ثم البيع منا تبين من الاستفسارات التي وجهها البنك إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية.(5/2177)
وقد ناقش المجمع هذه المسألة وانتهت المناقشات إلى قبول هذه العملية على أن تتضمن الإجارة على وعد بالبيع من قبل البنك صاحب السلعة المؤجر ووعد بالشراء من قبل العميل المستأجر.
وقرر المجمع أن هذا الوعد مقبول شرعًا وذلك في دورته الثالثة المنعقدة بعمان، المملكة الأردنية الهاشمية.
3- جوانب تستحق المناقشة:
على أن الموضوع وإن كان قد سبق اتخاذ قرارات بشأنه إلا أنه لا يزال في حاجة إلى استمرار المناقشة في شأنه في جانب أو جوانب لم يسبق بحثها ولا مناقشتها ولا اتخاذ القرار بشأنها من قبل، من بينها صورة الممارسة بالكيفية التي لا شبهة فيها بالعملية الربوية (القرض الربوي) وكون الوعد المقترن بالعقد على هو من قبيل الشروط المنافية لمقتضى العقد أم لا؟
وهناك نقطة أخرى مهمة يجب ألا يترك الموضوع دون مناقشتها والبت في شأنها ألا وهي مسألة تحديد مقدار الربح، أن العملية ستنتهي بتمليك المستأجر للسلعة المؤجرة له. وهذا التمليك إنما يكون عن طريق الهبة الموعود بها أو البيع الموعود به أيضًا. وعلى أي تقدير فإن المؤجر صاحب السلعة لا يتنازل عن بضاعته دون أن يحصل على الربح المناسب. فحينما يؤجر فلا يؤجرها بالإيجار المجرد مثل أي إجارة عادية بل لا بد أنه يضع ثمن الإيجار بما يتضمن قيمة التكلفة مضافاً إليه الربح ليتسنى له التنازل عن بضاعته بعد انتهاء المدة وإتمام دفع الأقساط بدون أن يخسر. فإنه هنا- وخاصة البنوك وأمثالها- إنما يتاجر وليس يقدم تبرعًا أو مساعدة من أجل الخير والبر، بل تجارة يقبض من ورائها الربح بأعلى مقدار ممكن.
الجانب الأول:
قد ذكرت من قبل أن صورة الممارسة لدى البنوك الربوية لا تخرج في الواقع عن دائرة القروض الربوية فعليه يجب علينا أن نقدم صورة جديدة للممارسة والتطبيق يصح أن تكون بديلة ومنزهة عن أية شبهة بالربا ويقتنع المسلم وهو يدخل في المعاملة ويثق بأنه قد تخلص من الربا وتحر من الظلم الذي طالما يبحث عن منفذ للخروج منه.
وهذه الصورة كما يتراءى لي يجب أن تتكون من العناصر الآتية:
1- أن يتم العقد على عقد الإجارة العادية.
2- أن تكون مدة الإجارة محددة ومعلومة.
3- أن يكون ثمن الإيجار مناسبًا للسلعة (سكن أو سيارة أو ماكينة زراعية أو صناعية مثلًا) طبقًا لنظام العرض والطلب في المكان والزمان اللذين تم فيهما العقد ومناسبًا لحجمها ودرجة المنفعة التي يمكن الانتفاع منها.(5/2178)
4- أن يتحمل الطرفان تبعات ومسؤوليات تخص كلاً منهما كما هو مقرر في بابه.
5- أن يقترن بالعقد وعد بالهبة أو بالبيع بعد انتهاء مدة الإجارة بالثمن المناسب لذلك كله أيضًا ووعد بالشراء.
6- في حالة البيع يتفق الطرفان على اعتبار الإيجار المدفوع في المدة التي انتهت أو جزء معين منه قسمًا من قيمة البيع، سواء كان هذا مبنيًّا على وعد سابق يشتمل عليه الوعد بالبيع أو مبنيًّا على اتفاق جديد بينهما تم بعد المساومة الحرة بينهما.
7- أن يعقد عقد جديد للبيع مستقل عن عقد الإجارة ويكون هذا العقد بعد انتهاء مدة الإجارة وبعد الاتفاق على ثمن البيع، وكيفية دفعه عاجلًا أو آجلًا في أقساط، ومدة التقسيط.
8- أن تحدد مدة معلومة جديدة لدفع القيمة أو بقية القيمة المتفق عليها بين الطرفين وعلى أقساط أخرى.
9- يكون لأحد الطرفين الحق في عدم تنفيذ الوعد بالبيع أو بالشراء بموافقة الآخر، لأنهما كانا متواعدين على ذلك، والمسلمون على شروطهم ما لم تحل حراماً أو تحرم حلالاً.
10- تسجل السلعة باسم المشتري كما يسجل حق الطلب على السلعة للبائع على أنها رهن للدين (القيمة أو بقية القيمة المتفق على أنها رهن للدين، القيمة أو بقية القيمة المتفق على دفعها في أقساط في مدة محددة معلومة) .
11- في حالة الوعد بالهبة بعد انتهاء مدة الإجارة تنتقل ملكية السلعة بعقد جديد للهبة. تلك هي الصورة للممارسة والتطبيق التي ظهر لي أنها تنقذ الطرفين من الظلم والاستبداد الذين اقترن بهما نظام التأجير الربوي المطبق في البنوك الربوية. وبهذا نطبق المبدأ الإسلامي (لا تظلمون ولا تظلمون) .
الجانب الثاني:
وهذا الجانب يتعلق بالوعد بالهبة أو بالبيع المقترن بعقد الإجارة في الصورة المقترحة للتطبيق كبديلة للصورة المطبقة في نظام التأجير الربوي لدى البنوك الربوية، هل هو من قبيل الشروط المقترنة بالعقود أي عقد إجارة بشرط الهبة وعقد إجارة بشرط البيع؟(5/2179)
وفي حالة اعتباره بمنزلة الشرط المقترن بالعقد هل هو من قبيل الشروط المنافية لمقتضى العقود فيفسد العقد أو يبطل هو في نفسه فقط دون أي مساس بالعقد بأي خلل؟ على خلاف بين الفقهاء في المذاهب المختلفة في ذلك ولكل وجهته وأدلته، وموقفي بالنسبة لهذا الخلاف أني أميل إلى الثاني، أخذًا بما يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها في قضية بريرة المشهورة في باب البيوع في كتب الحديث، حيث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يحكم بفساد عقد بيع بريرة وإن اقترن به شرط باطل، وهو أن يكون ولاؤها لسيدها الذي باعها لعائشة. وإنما أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) عائشة رضي الله عنها أن تستمر في عقدها وشرائها دون مبالاة بالشرط المذكور، وأعلن الرسول (صلى الله عليه وسلم) في استنكار لهذا الشرط الباطل لأنه ليس في كتاب الله وكل شرط ليس في كتاب الله (أي مخالف لما قرره الله وهو المخالف المنافي لمقتضى العقد) فهو باطل ولو كان مائة شرط. وشرط الله أحق وقضاؤه أوثق. والشرط الصحيح المقبول والذي هو كتاب الله بالنسبة لهذه القضية هو ((إنما الولاء لمن أعتق)) .
ومهما كان الأمر وعلى أن هذا الوعد بالهبة أو بالبيع المقترن بعقد الإجارة في مسألتنا هذه – كما هو ظاهر من قبيل الشروط المقترنة بالعقود إلا أنه ليس من قبيل الشروط المنافية لمقتضى العقد فلا يأتي هنا الخلاف في بطلان العقد وفساده ولا بطلان الشرط أو فساده في نفسه، بل هو من قبيل الشروط الجائزة المقبولة (وعد مقبول شرعًا) ولكلا الطرفين الحق في عدم تنفيذه لأنه وعد في المعاوضات. وبهذا أكتفي دون الإطالة في هذا الجانب، خاصة، وقد قرر مجمعنا في دورته الثالثة المنعقدة بعمان، الأردن بقبوله واعتباره وعدًا مقبولًا.(5/2180)
الجانب الثالث:
وهذا يتعلق بمسألة تحديد الربح فإن المؤجر كما قلت آنفًا (بنكًا كان أو مؤسسة من مؤسسات التمويل العامة أو الخاصة) لا يقوم بالتأجير إجارة عادية وبالإيجار المجرد، بل إنه لا بد يضع ويحدد ثمن الإيجار بما يتضمن قيمة التكلفة مضافًا إليها الربح ليتسنى له التنازل بسهولة عن بضاعة بعد انتهاء مدة الإجارة وإتمام رفع الأقساط بدون أية خسارة تنزل وهو يتاجر ببضاعته بهذه الكيفية.
وبهذا أصبح الأمر واضحًا أمامنا أنه في حالة البيع يكون هناك ثمن الإيجار مضافًا إليه جزء من قيمة البيع الموعود به. وفي حالة الهبة يكون هناك ثمن الإيجار مضافًا إليه مقدار زائد عليه في مقابل الهبة الموعود بها.
ففي الحالة الأولى سيصبح الأمر بمنزلة اجتماع بين عقدي الإجارة والبيع وإن لم يتم البيع بعد. ومعلوم أن اجتماعهما لا يجوز لأنهما من العقود المتبانية وإن كانا من النوع الواحد حيث أن الإجارة نوع من البيوع لأن فيهما بيعًا. ففي البيع بيع أعيان وفي الإجارة بيع منافع. ولهما أثر واحد يتفقان فيه وهو انتقال ملكية العقود عليه بصفة التأبيد للطرف الآخر.
وتباينهما يأتي من حيث أن البيع يقصد به العين ومنفعتها معًا. بينما الإجارة يقصد بها منفعة العين فقط وملكية العين في الإجارة لا تزال لصاحبها وعليه تبعات ومسؤوليات خاصة تجاه العين حتى تبقى صالحة للانتفاع بها لا يجوز وليس من العدل أن تلقى على عاتق المستأجر، إلى آخر ما هنالك من فوارق بينهما معروفة مفصلة في بابها وليس هنا محل تفصيلها.
4- تساؤل وحل للمسألة:
وإذا كان الأمر كما وضحت فهنا يقفز أمامي تساؤل وهو هل يجوز إضافة مقدار معين إلى ثمن الإيجار في مقابل البيع الموعود به وإن كان المشتري قد وعد بالشراء؟ إلى جانب أن الواضح للجميع أن الغرض من تقديم هذه الخدمة هو مساعدة ذوي الدخل المحدود للحصول على حاجة من حاجاتهم الأساسية؟
والحق أني أميل إلى أنه من الإنصاف بل من العدل أيضًا وللطرفين معًا لا للطرف الواحد فقط هو ألا يسمح بهذه الإضافة، خاصة أن هذا الوعد- كما هو اتجاه الأكثر- غير ملزم.
وإذا كان هذا هو المأخوذ به في حالة البيع فكذلك يجب أن يكون في حالة الهبة.(5/2181)
وبقي الأمر بعد ذلك بالنسبة لموقف المؤجر هل يرضى بذلك وهو- كما هو معروف- ليس يتبرع ولكن يتاجر، وكل ما يهدف إليه الحصول على الربح بأعلى قدر ممكن؟
فهنا أميل إلى أن يسمح للطرفين بالاتفاق على أن يضع المستأجر قدرًا معينًا مستقلًا عن ثمن الإيجار، في حساب الودائع الاستثمارية في البنك الإسلامي كضمان للبائع يستفيد منه ومن أرباحه المتجمعة في آخر المدة بمجرد أن تم عقد البيع على أنه جزء من القيمة أو بقية القيمة ويتسلمه كله عاجلاً ويتسلم بقية القيمة في أقساط في خلال المدة المتفق عليها بين الطرفين، وفي حالة الهبة أميل إلى ألا يكون هناك أية إضافة على ثمن الإيجار وأميل إلى أن يكون هناك وعد بالبيع فقط، ولا يكون وعد بالهبة إلا ممن أراد أن يتبرع خالصًا لوجه الله لا تحايلًا إلى تحليل الربا أو إلى ارتكاب شبهة الربا باسم الهبة ثم يضع في مقابلها، وهي في مرحلة الوعد بها، مقدارًا معيناً زائداً على ثمن الإيجار على اعتبار أن الجميع هو ثمن الإيجار مع أن ثمن الإيجار المناسب العادل أقل من ذلك.
وبهذا- كما ظهر لي- نطهر العملية- عملية التأجير المنتهي بالتمليك - من أية شبهة بالربا ونطبق في آنٍ واحد المبدأ القرآني العادل المنصف (لا تظلمون ولا تظلمون) والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الدكتور عبد الله إبراهيم.(5/2182)
الوثائق
توصيات وفتاوي
الندوة الفقهية الأولى
لبيت التمويل الكويتي
المنعقدة في الكويت
7 – 11 رجب 1407 هـ
7 – 11 آذار (مارس) 1987 م
مع نبذة عن وقائع الندوة
وقائمة بالأساتذة المشاركين فيها
بسم الله الرحمن الرحيم
أولًا- الفتاوي والتوصيات الفقهية
بشأن خيار الشرط وتطبيقه في معاملات المصارف الإسلامية
1- أحكام مختارة في خيار الشرط:
(أ) خيار الشريط حق يثبت باشتراط المتعاقدين لهما أو لأحدهما أو لغيرهما، يخول من يشترط له إمضاء العقد أو فسخه خلال مدة معلومة.
(ب) اشتراط الخير كما يكون عند التعاقد يكون بعده باتفاق العاقدين.
(ج) يتم اشتراط الخيار بكل ما يدل عليه.
(د) يمكن اشتراط الخيار في جميع العقود اللازمة القابلة للفسخ مما لا يشترط القبض لصحته، فيمكن اشتراطه في البيع والإجارة مثلاً، ولا يسوغ اشتراطه في الصرف والسلم وبيع المال الربوي بجنسه.
(هـ) لا يجب تسليم البدلين (المبيع أو الثمن) في عقد البيع بشرط الخيار، ولكن يجوز قيام أحد العاقدين أو كليهما بالتسليم طواعية لا سيما بهدف التجربة والاختبار.
(ز) نماء المبيع في مدة الخيار يتوقف فيه إلى إمضاء البيع أو فسخه، فإن أمضي كان النماء للمشتري (المصرف) وإن فسخ كان للبائع.
(ح) إذا كان الخيار للمشتري وحده (المصرف) فإن تصرفاته، من بيع وإجارة ونحو ذلك، تصرفات صحيحة ناقلة للملك مسقطة للخيار ولو لم يسبق ذلك التصرف قبض المصرف الإسلامي للسلعة ما لم تكن قوتًا.
(ط) يسقط الخيار ويصبح العقد باتاًّ بمجرد انقضاء مدة الخيار إذا لم يصدر من المشتري (المصرف) فسخ العقد أو التصرف في السلعة.(5/2183)
(ي) لا يشترط قيام المشتري (المصرف) بإعلام البائع بإبرامه للعقد أو فسخه له، لأن البائع بموافقته على جعل الخيار للمشتري خوله صلاحية اختيار الإمضاء أو الفسخ خلال المدة المعينة.
(ك) يضمن المشتري (المصرف) المبيع إذا قبضه وتلف مدة الخيار.
2- تقديم صورتين لخيار الشرط للمارسة:
يمكن تطبيق إحدى الصورتين التاليتين:
الأولى – بناء على رغبة ووعد بالشراء:
(أ) يتلقى المصرف الإسلامي رغبة من عميله مع وعد بالشراء، وهو وإن كان لا يبالي –في الواقع- بمصير هذا الوعد، فإن من الضروري الإبقاء على جدية الوعد، تفاديًا للدخول في الصفقة بدءًا ثم إلغائها انتهاء، مما إذا تكرر يخل بسمعة المصرف كمستورد.
(ب) يشتري المصرف السلعة الموعود بشرائها مع اشتراط الخيار له (حق الفسخ) خلال مدة معلومة تكفي عادة للتوثق من تصميم الواعد على الشراء وصدور إرادته بذلك.
(ج) يطالب المصرف الواعد بتنفيذ وعده بالشراء، فإذا اشترى السلعة باعه المصرف إياها، وبمجرد موافقته على البيع يسقط الخيار.
الثانية- المبادرة لتوفير سلع مرغوبة في السوق:
(أ) يشتري المصرف الإسلامي سلعة من الأسواق المحلية أو العالية مع اشتراطه الخيار (حق الفسخ) خلال مدة معلومة تكفي عادة للتوثق من وجود راغبين يبرم معهم عقودًا على تلك الصفقة.
(ب) يحق للمشتري (المصرف) أن يبرم عقودًا على تلك الصفقة مع الراغبين في شرائها وبمجرد إتمام العقد ينتهي الخيار.
ثانيا- الفتاوي والتوصيات الفقهية
بشأن (التأمين وإعادة التأمين)
1- ضرورة التعاون بين مؤسسات التأمين الإسلامية القائمة، ودعمها والحث على التعامل معها.
2- بذل الجهد لإنشاء مؤسسات تأمين إسلامية تفي بحاجة السوق الإسلامية في مجالات التأمين أو إعادته.
3- دعوة المصارف والمؤسسات الإسلامية إلى التعاون والإسهام في هذه المؤسسات ودعمها انطلاقًا من رسالتها الإسلامية.(5/2184)
4- حث مؤسسات التأمين الإسلامية على أن تكون إعادة التأمين منها لدى المؤسسات الإسلامية لإعادة التأمين ما أمكن ذلك.
5- تأكيد ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي بجدة من عدم إباحة التأمين التجاري بصورته الحالية، وأن البديل المشروع المتفق على جوازه هو التأمين التعاوني.
6- ضرورة تكوين لجنة فقهية- بمعرفة بيت التمويل الكويتي، أو غيره- للقيام بوضع صيغة نموذجية لكل من عقد تأسيس ونظام أساسي ووثيقة تأمين، لمؤسسة تأمين إسلامية ومؤسسة إعادة تأمين إسلامية وعرض ذلك على أول ندوة لاحقة.
ثالثاً- الفتاوي والتوصيات الفقهية
بشأن المخارج الشرعية (الحيل الجائزة)
1- المخارج الشرعية: كل ما يحصل به التخلص من المآثم والحرام، والخروج إلى الحلال.
2- تبين من الأبحاث التي اشتملت عليها الندوة في موضوع (المخارج الشرعية) ما بذله فقهاء المسلمين من جهود كبيرة في التأليف في هذا الموضوع، بقصد التيسير على المسلمين في معاملاتهم. والذين يوردون مخارج شرعية في أمر ما يقتربون أو يبتعدون من إصابة الحق بمقدار أخذهم وتقيدهم بالضوابط الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة.
3- إن من المتفق عليه أن الشرعية الإسلامية منهج حياة للناس في كل زمان ومكان، فكان لزامًا على كل باحث أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة ليتوصل عن طريق الأدلة والقواعد والمقاصد إلى الأحكام الشرعية، وينبغي أن يستفيد من المخارج الشرعية، ولا سيما في التطبيقات العملية في المصارف الإسلامية مع مراعاة الضوابط والمناهج التي سلكها الأئمة الأعلام الذين كتبوا في ذلك.
4- إن المخارج أو الحيل في مجال المعاملات وغيرها تنقسم إلى نوعين: مخارج شرعية (مقبولة) ، ومخارج غير شرعية (مردودة) .
فالأخيرة- وهي الباطلة الذميمة المنهي عنها هي ما هدم أصلاً شرعيًّا، أو ناقض مصلحة شرعية معتبرة، بحيث تكون وسيلة إلى العبث بمقاصد الشارع من إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات، وقلب الحق باطلاً والباطل حقًّا.(5/2185)
وأما المخارج المقبولة شرعًا فهي التي لم تهدم أصلاً شرعيًّا ولم تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها ويترتب على سلوكها تحقيق مقاصد الشرع، من فعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، وإحياء الحقوق ونصر المظلوم، والانتصاف من الظالم.
5- ينبغي الحذر من التوسع في استخدام باب المخارج حتى لا يكون ذريعة لاستحلال الحرام أو ترك الواجب. ولا بد أن يعتمد من هيئات الفتوى والرقابة الشرعية أي مخرج يلجأ إليه في أي تطبيق لدى المصارف الإسلامية.
رابعًا – الفتاوي والتوصيات الفقهية
بشأن (خطابات الضمان المصرفية)
1- الأجر الذي يأخذه المصرف الإسلامي عن إصدار خطابات الضمان يكون مقابل الأعمال التي يقوم بها المصرف لإصدار الخطاب وليس مقابل الضمان الذي يوفره هذا الخطاب لعميل المصرف.
2- الأعمال التي يقوم بها المصرف عند إصدار خطابات الضمان منها ما هو عام يتكرر في كل خطاب، ومنها أعمال إضافية يقوم بها المصرف في بعض حالات إصدار خطابات الضمان وتختلف أنواع الضمانات وأحكامها على النحو المبين فيما يلي:
3- خطابات الضمان للأنشطة غير التجارية:
مثل خطابات الضمان المطلوب تقديمها من الطلاب لبعض المعاهد العلمية، أو خطابات الضمان لنوادي السيارات بمناسبة مغادرتها البلاد، أو الخطابات المقدمة لوزارة المواصلات لتركيب هاتف مثلاً، ويقوم المصرف بالنسبة لها بالأعمال الموضحة في (خطابات الضمان الابتدائية) الآتي بيانها. وينبغي للمصرف في مثل هذه الحالات أن يأخذ أقل أجر ممكن لمقابلة التكلفة. ويفضل عمل ذلك مجانًا من قبيل البر.
4- (خطابات الضمان الابتدائية) المطلوبة للتقدم لبعض العطاءات:
للمصرف أن يستوفي أجرًا مقابل الأعمال التالية:
(أ) دراسة حالة العميل المالية وسمعته وإمكاناته.
(ب) الجهد والوقت اللذين يبذلهما الموظفون الذين بناط بهم إعداد الخطاب وإجراء القيود الحسابية وما يستهلك من الأوراق والآلات.
(ج) مراجعة الخطاب من مدققي الحسابات والتوقيع باعتماده من المسؤولين.(5/2186)
(د) متابعة الخطاب مع الجهة المستفيدة إلى حين انتهاء مدته أو إعادته، وإجراء القيود اللازمة في هذا الشأن.
5- (خطابات الضمان النهائية) المطلوبة لضمان حسن التنفيذ أو الدفعات المقدمة:
يستحق المصرف الأجر على الأعمال السابقة في (خطابات الضمان الابتدائية) بالإضافة إلى أجر عن الأعمال التالية:
(أ) دراسة العطاء من جانب الجهات الفنية للاطمئنان إلى مناسبة الأسعار التي تحقق لطالب الخطاب نسبة معقولة من الربح.
(ب) دراسة حالة ومركز المستفيد من خطاب الضمان.
(ج) إجراء حوالة حق وإعلانها للجهة المحال عليها إذا دعت الحاجة إلى الحوالة.
(د) تحصيل الدفعات مقابل المستخلصات التي يتم صرفها من الجهة صاحبة العمل.
(هـ) متابعة تنفيذ عقد المقاولة في مختلف مراحله مع الجهة المستفيدة من خطابات الضمان حتى إعادة الخطابات إلى مصدرها.
6- تمديد خطاب الضمان:
في حالة تمديد خطاب الضمان يقوم المصرف بالاتصال بالمستفيد من الخطاب ودراسة أسباب التمديد وتحرير خطاب بالتمديد يمر بالمراحل المشار إليها في (خطابات الضمان الابتدائية) وفي هذه الحالة يستوفي المصرف أجرًا بتناسب وجهده فيما قام به من أعمال.
خامسًا – الفتاوي والتوصيات الفقهية
بشأن (الأوراق النقدية وعلاقتها بالذهب)
1- تأكيد ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي بجدة من أن هذه الأوراق قامت مقام الذهب والفضة في التعامل بيعًا وشراء وإبراء وإصداقًا، وبها تقدر الثروات وتدفع المرتبات. ولذا تأخذ كل أحكام الذهب والفضة ولا سيما وجوب التناجز في مبادلة بعضها ببعض، وتحريم النساء (التأخير) فيها.
2- كل عملة من العملات جنس قائم بذاته.. فلا يجوز ربا الفضل فيها عند العقد أو في نهايته، سواء كانت معدنًا أو ورقًا إذا بيعت بمثلها، أما إذا بيعت عملة بعملة أخرى فلا يشترط في ذلك إلا التقابض.
3- لا يجوز بيع الذهب بالعملات الورقية، ولا شراء الذهب بها، إلا يدًّا بيد.(5/2187)
سادسًا- الفتاوي والتوصيات الفقهية
بشأن (التأجير المنتهي بالتمليك)
إذا وقع التعاقد بين مالك ومستأجر على أن ينتفع المستأجر بمحل العقد بأجرة محددة بأقساط موزعة على مدد معلومة، على أن ينتهي هذا العقد بملك المستأجر للمحل، فإن هذا العقد يصح إذا روعي فيه ما يأتي:
(أ) ضبط مدة الإجارة، وتطبيق أحكامها طيلة تلك المدة.
(ب) تحديد مبلغ كل قسط من أقساط الأجرة.
(ج) نقل الملكية إلى المستأجر في نهاية المدة بواسطة هبتها إليه، تنفيذًا لوعد سابق بذلك بين المالك والمستأجر.
هذا.. والندوة تؤكد ما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي في هذا الموضوع ضمن (استفسارات البنك الإسلامي للتنمية) .
قائمة مرتبة ألفبائيًّا بالأستاذة المشاركين في الندوة الفقهية
لبيت التمويل الكويتي 7-11 (رجب، ومارس) 1407 هـ – 1987م(5/2188)
الاسم الوظيفة الأصلية والمهمة المصرفية إن وجدت العنوان البريدي والهواتف
الشيخ إبراهيم فاضل الدبو أستاذ مساعد في كلية الشريعة كلية الشريعة. بغداد - باب المعظم، الجمهورية العراقية
الشيخ إبراهيم محمد آل محمود قاضٍ بالمحكمة الشرعية الكبرى- عضو بهيئة الرقابة الشرعية لبنك البحرين الإسلامي وشركة البحرين الإسلامية للاستثمار وزارة العدل والشئون الإسلامية المنامة – دولة البحرين
السيد أحمد بزيع الياسين رئيس مجلس إدارة بيت التمويل الكويتي بيت التمويل الكويتي – الكويت
الشيخ بدر المتولي عبد الباسط هيئة الفتوى والرقابة الشرعية- بيت التمويل الكويتي بيت التمويل الكويتي
الشيخ جاسم محمد مهلهل الياسين عضو الهيئة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف بيان- الكويت ص. ب: 66520- الرمز البريدي: 4375
د. حسن عبد الله الأمين المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية صندوق بريد رقم 5925 جدة- جدة - المملكة العربية السعودية
د. حسن علي الشاذلي أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن كلية الشريعة والقانون- جامعة الأزهر- القاهرة- جمهورية مصر العربية
د. خالد عبد الله المذكور مدرس بكلية الشريعة- هيئة الفتوى والرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي
كلية الشريعة – جامعة الكويت
د. الصديق محمد الأمين الضرير أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الخرطوم كلية القانون – رئيس هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني والمستشار الشرعي لبنك البركة السوداني وعضو هيئة الرقابة الشرعية لدار المال الإسلامي جامعة الخرطوم - كلية القانون السودان: 70268- 225379
الشيخ عبد الحميد عبد الحليم محمد السائح رئيس المجلس الوطني الفلسطيني- المستشار الشرعي للبنك الإسلامي الأردني للتنمية والاستثمار عمان - جبل الزبيدة- ص. ب: 910244- هاتف المنزل: 618813- هاتف المكتب: 679891- تلكس الأقصى: 21411.
د. عبد الستار أبو غدة خبير ومقرر الموسوعة الفقهية- هيئة الفتوى والرقابة الشرعية ببيت التمويل الكويتي ص. ب. 3719 الصفاة: 13038 كويت - ت. عمل: 2468113 تلفاكس: 2468249- منزل: 5714288- تلكس: 44735 أوقاف
السيد عبد العزيز أبو الخير مدير مصرف فيصل الإسلامي - بالبحرين المنامة ص. ب 20493- ت: 275040- تلكس: 9270/ 9411مكاتب سمو الأمير محمد الفيصل الخاصة.
السيد عبد الله أحمد عبد الرحيم مدير عام شركة البحرين الإسلامية للاستثمار صندوق بريد رقم 5571 البحرين - هاتف رقم 271296
د. عبد الله محمد عبد الله مستشار بمحكمة الاستئناف العليا- الكويت وزارة العدل – محكمة الاستئناف العليا – دولة الكويت
السيد عبد اللطيف عبد الرحيم جناحي العضو المنتدب لبنك البحرين
د. عبد المنعم أحمد النمر وزير أوقاف سابق- وعضو مجمع البحوث مجلس الشورى 40 شارع صالح حقي الحي الثاني مصر الجديدة منزل: 2453197- 2441468
د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان أستاذ الفقه المقارن بقسم الدراسات العليا الشرعية- كلية الشريعة- جامعة أم القرى- المملكة العربية السعودية صندوق بريد رقم 496 مكة المكرمة تليفون رقم 5561169- 5584300
د. أحمد السالوس كلية الشريعة – جامعة قطر صندوق بريد رقم 2713 الدوحة - قطر
د. عجيل جاسم النشمي أستاذ مساعد بكلية الشريعة- جامعة الكويت جامعة الكويت- كلية الشريعة
د. عمر سليمان الأشقر أستاذ في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية- جامعة الكويت الكويت - حولي. ص. ب: 6609- الرمز البريدي: 32041- هاتف رقم 2640800
السيد فيصل عبد العزيز الزامل مساعد المدير العام لشؤون التخطيط والمتابعة ورئيس تحرير مجلة النور بيت التمويل الكويتي
السيد قاسم محمد قاسم مدير عام مصرف قطر الإسلامي صندوق بريد رقم 559 الدوحة - قطر
د. محمد الحبيب بن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي- جدة المملكة العربية السعودية صندوق بريد 13719 جدة- الرمز البريدي: 21414 مكتب: 6674488 جدة
الشيخ محمد عبد الحكيم زهير مراقب شرعي بنك دبي الإسلامي ورئيس بحوث الاقتصاد الإسلامي دبي- صندوق بريد رقم 1080 دبرة- تليفون رقم 214888 دبي- دبرة
د. محمد فوزي فيض الله أستاذ بكلية الشريعة بجامعة الكويت- عضو الهيئة العامة للفتوى بالأوقاف كلية الشريعة- جامعة الكويت
الشيخ محمد المختار السلامي مفتي الجمهورية التونسية الوزارة الأولى- ساحة القصبة تونس- أو 23 بهج محمود الماطري تونس المكتب: 263939- هاتف المنزل: 286135
د. يوسف محمود قاسم أستاذ ورئيس قسم الشريعة الإسلامية كلية الحقوق- جامعة القاهرة الجيزة- جمهورية مصر العربية(5/2189)
مطبوعات
بيت التمويل الكويتي
أولاً- سلسلة (الفتاوي) :
1- الفتاوي الشرعية في المسائل الاقتصادية جزء1.
2- الفتاوي الشرعية في المسائل الاقتصادية جزء 2.
ثانيًا- سلسلة (في ميدان الشريعة) :
1- بيع المرابحة.
2- بيع الأجل.
3- الفوائد الربوية.
ثالثاً- سلسلة المؤتمرات والندوات:
1- أعمال مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني.
رابعًا- مطبوعات أخرى:
1- النظام الأساسي.
2- العقود.
3- شروط الحسابات.
قيد الطبع
- أعمال الندوة الفقهية الأولى.(5/2190)
مناقشة البحوث
التأجير المنتهي بالتمليك
الرئيس:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الموضوع الذي لدينا في هذه الجلسة الصباحية – المباركة بمشيئة الله تعالى- هو (الإيجار المنتهي بالتمليك) ، وقد جرى فيه عدد من البحوث وزرعت على أصحاب الفضيلة أعضاء وخبراء وباحثي هذا المجمع، والعارض هو فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه، والمقرر وهو الشيخ عبد الله محمد.
فالشيخ عبد الله بن بيه: تفضل.
الشيخ عبد الله بن بيه:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
سيدي الرئيس: إن هذا الموضوع، وهو موضوع الإيجار المنتهي بالتمليك، قدمت فيه ثلاثة بحوث، بعضها قديم وبعدها حديث، وقد كتب فيه سعادة الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي، وسعادة الدكتور عبد الله محمد عبد الله، وعبد الله العارض، وليس فيما كتبوا كبير تناقض أو تعارض، بل أفكارهم يكمل بعضها بعضًا، وتتماثل بعض الصور، وتختلف بسبب فهم خاص وتقدير في الموضوع يراه أحد الباحثين بينما لا يرى الآخر الإلحاح عليه، وبعد اجتماع بأصحاب البحوث، رأينا أن يقدم العارض بحثه وأن يكمل الباحثان بما تيسر لهما هذا البحث الذي أقدمه لأنه من المجدي أن يستمع مجلسكم الموقر إلى الآراء الفقهية التي وردت في هذه البحوث، وهذا البحث سيكون خلاصة قصيرة، أدخل عليه من التغيير والتحويل ما جعله موافقًا، أو قريبًا من الموافقة لبحوث الإخوان بعد مراجعة معهم وبعد تراجع وتفاوض مع أخي العلامة محمد سالم، فقد أحدثت تغييرًا في الفقرات الأخيرة، فيه نوع من التسهيل ونوع من التخفيف، بعد تشديد في بادئ الأمر والرجوع إلى الحق أولى من التمادي على الباطل.
الحمد لله الذي يخلق ما يشاء ويختار، يتصرف في خلقه بغالبات الأقدار، بدون وزير ولا معين ولا مستشار، ألزم بشريعته تنفيذًا لحكمته في الابتلاء والاختبار، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المختار وعلى آله وصحبه الأخيار.(5/2191)
وبعد: فهذا بحث يتعلق بإيجار البيع وبيع الإيجار، مسألة عمت بها البلوى في سائر الأقطار، فراجعة هذه المسألة على اشتغال وركوب أسفار، إلا أني سلكت في البحث عنها الأنجاد والأغوار، قصد إخارجها عن قاعدة الغرر والخطار، ونفي الضرر والضرار، عن طريق إجارة مع بيع بخيار، أو بيع لاحق ببيع أو هبة بعد تمام عقد الإيجار، على صعوبة في الإيراد ووعورة في الإصدار، آثرت في بحث هذا الاختصار ومحاولة القرب من أقوال ذوي الاستبصار، معترفًا بالقصور عن شأو الاجتهاد والاختيار.
سائلًا الله جل وعلا وهو الكريم الغفار أن يوفقنا فيما أردنا ويسلمنا من العثار وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وهذا البحث وهذا الموضوع: كما يتبين من العنوان هو موضوع جديد، وعقد حديث نشأ وترعرع في ظل القانون الوضعي، ومن المعلوم أن سنة التطور في هذا الزمان قد جرت بأن أقطارنا الإسلامية أصبحت تستورد السلع المصنوعة من العالم الآخر، وقد تستورد معها التكنولوجيا لتصنع هذه السلع محليًّا وهو أمر مرغوب فيه، إلا أنها قد تستورد مع هذه السلع أحيانًا كثيرة الأنظمة وطرق التعامل والتبادل ووسائل التقاضي والتراضي، حيث تكون إرادة الطرفين قانونًا للعقد، ورضاؤهما أساسًا للحكم الذي تصدر عنه القوانين، والذي يرجع إليه القضاة دون النظر إلى أصول خلقية، وقواعد ضابطة لا يمكن الخروج عنها، فحادوا بذلك عن الصراط المستقيم، واختلت لديهم موازين العدل التي لا تقوم إلا على الأنظمة الإلهية، التي لا يطمع في الاستلهام بمنهجها والاقتباس من نورها إلا من سلك سبيل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذ من الكتاب والسنة بقسط وافر، وأقام ميزانا على هديهما عن طريق القياس الصحيح، طبقًا لأصوله ومقاييسه التي وضعها وتواضع عليها سلف هذه الأمة، وهناك شرط آخر يغفله الكثيرون، ألا وهو أن يكون القائس عاملًا بما علم متبعًا للسنة النبوية، ولا يقوم على هذا الميزان من حاد عن السبل وجارت به الطرق وارتضى دينًا غير دين الإسلام، وقانونًا يخالف شريعة سيد الأنام، فعميت عليه الأنباء، ولعبت بعقله الأهواء، لهذا فإن مسألتنا من هذه المسائل الموجودة في غير بيئة هذا الميزان، وليس معنى هذا أن نرفضها سلفا ونصدف عن جوهرها ونتخذه صدفًا، قبل أن نعرضه على ميزان الصدق الذي أشرنا إًليه آنفًا، وعليه فسنفصل البحث فيها أولًا إلى مقدمة في تعريف العقد تعريفًا يشمل الجنس والفصل والخاصةـ وتكييفه من الناحية القانونية معتمدين في هذا على نقل أهل هذا الفن تاركين لهم الكلمة في تعريفه وتكييفه وتصنيفه، ثم نصنف بحثنا في مسائل تنبني على الفروض المختلفة تبين وجهة النظر الفقية باختصار غير متوسعين في عرض القضية، ثم نختم بخاتمة نقترح فيها ما يمكن أن يكون بديلًا أو أن يكون صيغة مقبولة.(5/2192)
(الإيجار الذي ينتهي بالتمليك) :
أحد الأسماء الذي أطلقه المترجمون والقانونيون العرب على العقد المعروف في القانون الفرنسي Vente Location ومعناها الحرفي كما هو واضح إيجار بيعي لأنه اسم مركب من كلمتين، وقد تطور هذا العقد وتعددت الأسماء طبقًا لهذا التطور، فقد كان أولًا يعرف باسم البيع بالتقسيط مع الاحتفاظ بالملكية حتى استيفاء الثمن ثم تطور إلى إيجار ساتر للبيع، ثم تطور إلى ما سموه بالإيجار المقترن بوعد بالبيع، وهذه الأسماء التي كان موضوعها في الأصل متحدًا، إلا أن الأسماء ليست اعتباطية، وليست من باب المترادفات التي لا تخدم أي غرض، بل تعدد الأسماء كما يشير إليه القانوني السنهوري، في شرحه للقانون المدني، ناشئ عن تدرج نظرة المشرع لهذا العقد، في محاولة لترجمة هدف المشرع – يعني في اصطلاح أهل القانون – أما المشرع والشارع في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم يطلق عليه الشارع، لأنه يبلِّغ عن الله جل وعلا – لترجمة الهدف الذي يرمي إليه، والمصلحة التي يحرص على حمايتها، وهي مصلحة البائع، كما هو واضح، فهو يرمي إلى الاستيثاق من أن المشتري سيفي بالثمن كاملًا في الوقت المحدد، وفي مقابل ذلك يشترط البائع أن تبقى ملكيته قائمة بشكل ما حتى وفاء المشتري بالتزامه، بحيث يكون له الحق أولًا في منع المشتري من تفويت الذات موضوع العقد، ثانيًا أن يكون له الحق في استرجاع الذات عند عدم الوفاء في الوقت المحدد.
الرئيس:
يا شيخ عبد الله، أحب أن تعرف – تفضل – أن الوقت عشرون دقيقة، وأننا نريد الموضوع ذاته، أما المقدمات هذه معلومة لدينا لأن بحثكم بين يدي الإخوان، نريد فقط ذات الموضوع.
الشيخ عبد الله بن بيه:
البحث يبدو ليس موزعًا بالقدر الذي فيه الكفاية.
الرئيس:
لا، موزع. أبدًا، موزع على الإخوان، بل وزع عليهم مرتين بعض الإخوان.
الشيخ عبد الله بن بيه:
حور تحويرًا كبيرًا.
المهم أعفيك من المقدمة. هذه المقدمة الصغيرة لا بد منها.(5/2193)
وثالثًا: أن يكون له الحق في الحصول على مقابل انتفاع المشتري بالذات في حالة عدم البيع ونقتطف المقتطفات التالية نصها من السنهوري، هذه المقتصفات أعفيك منها.
هذه المسائل الفقهية:
المسألة الأولى: بيع بالتقسيط لا تنتقل فيه الملكية إلا بعد الوفاء بالأقساط، هذه المسألة مسألة مختلف فيها لوجود شرط غير ملائم للعقد، لأن الأصل في البيع أن يكون باتًّا، فتعليق البيع على هذا الشرط لا يوافق عليه أكثر العلماء، لأنه منافٍ لتمام الملكية التي ينبني عليها البيع، وفيه جهالة بالمال وهو يتخرج على الخلاف في الشروط، فتكون فيه ثلاثة أقوال: قول ببطلان البيع والشرط، وقول بصحة البيع وبطلان الشرط، وقول بصحة البيع وصحة الشرط، وهذه الأقوال كما هو معروف مبنية على اختلاف مواقف العلماء من أحاديث الشروط المعروفة: حديث جابر، حديث بريرة، حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه مرة أخرى، حديث أبي هريرة: ((من باع بيعتين …)) ، الحديث الذي أخرجه الخمسة وفيه: ((لايحل سلف وبيع…)) ، الحديث الذي رواه أبو حنيفة في مسنده ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط)) ، ورواه الطبراني مع زيادة: ((البيع باطل والشرط باطل)) .
ولاختلاف العلماء في كيفية الأخذ بهذه الأحاديث نشأ الخلاف في مسألة الشروط، فمنهم من أخذ ببعضها، ومنهم من حاول الجمع بينها، فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى بطلان البيع والشرط، وأجاز ابن شبرمة البيع والشرط جميعًا، وأجاز ابن أبي ليلي البيع والشرط، وأجاز أحمد الشرط الواعد، هذه مذاهب باختصار شديد، أما مالك ففصل تفصيلًا وحاول الجمع بين الأخبار، ذكر ذلك ابن رشد في البيان والتحصيل، وذكر بعضه حفيده في بداية المجتهد، مؤداه أن الشرط الذي لا يناقض المقصود من العقد لا يبطله، إلا أنه مرة يكون مكروهًا ومرة يكون جائزًا، والشرط الذي يناقض المقصود تارة يلغيه دون العقد، وتارة يلغي العقد والشرط، وذلك بحسب مناقضة الشرط للعقد، فمرة يناقض أصل العقد مناقضة تامة، وتارة يناقض حكمًا من أحكام العقد أو شرطًا من شروطه لا يدخل في ماهيته، فلا يكون مبطلصا للعقد، وتفاصيل ذلك معروفة سترى بعضها في كلامنا على هذه المسألة وهي المعروفة عند المالكية بمسألة البيع على أنه إن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع، والمشهور في مذهب مالك إلغاء الشرط وصحة العقد، قال خليل في مختصره في سرد النظائر يصح فيه العقد ويبطل الشرط (كمشترط زكاة ما لم يطب وأن لا عهدة ولا مواضعة أو لا جائحة أو إن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع) ففي هذه المسائل يصح العقد ويبطل الشرط، إلا أن مسألتنا هي المسألة الأخيرة، وإن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع، فيها ثلاثة أقوال عن مالك، متخرجة على قاعدة الشروط السالفة الذكر، التي نقلها خليل في توضيحه عن ابن لبابة قائلًا: ذكر ابن لبابة عن مالك في هذه المسألة ثلاثة أقوال، إلى آخر الأقوال، وذكر الحطاب في التزاماته في هذه المسألة سبعة أقوال حصلها من كلام المدونة وشروحها … إلا أن خليلًا في باب النكاح مشى على شطر آخر من قاعدة الشروط فحكم بفسخ العقد قبل الدخول، فقال في سرد النظائر، التي يكون الشرط فيها موجبًا لفسخ النكاح قبل الدخول: (وقبل الدخول وجوبًا على ألا تأتية إلا نهارًا وبخيار لأحدهما أو غيره وعلى أن لم يأتِ بالصداق لكذا فلا نكاح، وجاء به، وما فسد لصداقة أو على شرط يناقض، كأن لا يقسم لها أو يؤثر عليها أو ألغي) ذكر نص خليل على طوله، لأنه يشير إلى نوعين من الشروط: شروط لا تلائم العقد لأن الحكم يوجب خلافها، وهي المشار إليها في الفقرات الأولى، وشروط تناقض العقد وهي المشار إليها في الفقرة الأخيرة، ليتضح الأمر لا بد من الإشارة إلى القاعدة التي أصلوها، والتي تفرق بين الشرط الذي يوجب الحكم خلافه، إلا أنه لا ينقاض العقد، مشيرة إلى الخلاف في هذا النوع من الشروط، بخلاف ما يناقض العقد، بأن يهدم ركنًا من ماهيته، فإنه إما أن يبطل العقد أو يلغى دونه، وإلى هذه القاعدة أشار الزقاق في المنهج بقوله:
هل الشرط ما لا يقتضي الفسادا
إن خالف الحكم اعتبارًا فادا
إلى آخر كلام الزقاق.(5/2194)
إلا أن مسألتنا هذه لا تقتصر على كونها بيعًا لا يتم نقل الملكية فيه إلا باستيفاء الثمن ليكون داخلًا في الخلاف المشار إليه، فهي – زيادة على ذلك – بيع يتضمن غررًا ويخالف سنة العقد غي كل وجه، لأن المشتري إذا دفع الأقساط ولم يأت بآخر قسط منها ضاع عليه ما أدى وضاعت عليه السلعة محل البيع، ومعلوم أن البيع الفاسد يفوت فيه المشتري بالغلة في مقابل الضمان، فلو وثق العقد كان على البائع أن يرد الأقساط التي حصل عليها في مقابل الاستغلال، لأن الغلة في مقابل الضمان، كما ورد في الحديث الصحيح الذي أصبح فيما بعد قاعدة ((الخراج بالضمان)) أخرجه أبو دواد والترمذي والنسائي والإمام أحمد. قال في المنهج: ((الخراج بالضمان)) أصل قد ورد في مستحق شفعة بيع فسد.
الخرج بالضمان أصل قد ورد
في مستحق شفعه بيع فسد
فهذه المسألة الأولى أو الفرض الأول لا يمكن أن تصح بوجه من الوجوه، يعني لا تصح بالوضع القانوني، أما إذا حورناها إلى صيغة أخرى كما سنرى في الصيغ التي اقترحها في الخلاصة فيمكن أن تصح، إلا بمخالفة الحديث الذي رواه أبو دواد وابن ماجه والدارقطني ورواه مالك عن الزهري وهو ((أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل أفلس ولم يكن قد قبض من ثمنها شيئًا فهي له وإن كان قد قبض من ثمنها شيئًا فهو أسوة الغرماء)) .
المسألة الثانية: وهي عقد إيجار ساتر للبيع وهذه الصورة كما يبدو إنما هي بيع مع إيجار – سمي إيجارًا – لئلا تترتب عليه أثار البيع، فمن جهته البائع يحتفظ بملكيته ومن جهة المشتري فهو لا يستطيع التصرف، فكأنه إيجار بهذا المعنى لتلبية مطلب البائع، إلا أنه بيع من حيث أن الأقساط إذا وفَّى بها نشأ عن الوفاء بها نقل الملكية بأثر رجعي، وهو من آثار البيع وليس من لآثار الإجارة نقل ملكية الذات فهذا العقد بهذه الخصائص هو عقد غرر ومجازفة، لأن المشتري قد يعسر في آخر قسط وقد دفع أقساطًا لا تناسب الإجارة، لأنها تتجاوز قيمة المنافع، وهي في الأصل قيمة للرقبة، فقد خسر الثمن والثمون اللذين ربحهما البائع، ويكون بذلك البائع قد حصل على العوض والمعوض خلافًا للقاعدة الشرعية المشهورة التي ذكرها المقري وغيره، فقال أبو عبد الله المقري: (قاعدة الأصل ألا يجتمع العوضان لشخص واحد، لأنه بمعنى البعث وأمل أموال الناس بالباطل) ، قالوا في المنهج في سرد النظائر من القواعد التي تعتبر أصولًا.
والإذن لا العَدا وألا يجمعا
لشخص بين العوضين فاسمعا(5/2195)
وليس كل عقد يتردد، ومن المسائل التي أجازوا فيها الغرر، أعفيكم أيضًا من هذا.
المسألة الثالثة: وهي الإجارة مع وعد بالتمليك بهبة أو بيع، وهي مسألة يجب أن ينظر إليها من عدة وجوه، أولها: هل هذه الإجارة إجارة جادة؟ بمعنى أن الأقساط المدفوعة تناسب قدر الإيجار فتكون إجارة حقيقية مصحوبة بوعد، ثانيًا: هل الوعد حصل في صلب العقد بحيث يؤثر على الثمن أو كان تطوعًا بعد العقد؟ وهل كان وعدًا بالهبة أو وعدًا بالبيع؟ كل هذه الأوجه تترتب عليها أحكام تخص كلًّا منها فنلبدأ بأقرب هذه الأوجه للصحة والقبول، وهو أن يكون الطرفان قد عقدا بيعهما إجارة – أرجوكم أن تصحِّحوا، فيه بعض الخطأ – وبعد العقد وعد البائع المشتري بأن يهبه تلك العين، إذ هو وفَّى بأقساط الإيجار في وقته المحدد يرغبه في الوفاء، فهذه الصورة تعتبر وعدًا بهبة، وهو وعد ملزم على أصل مالك في الوعد المعلق على سبب على ما استظهره بعض الشيوخ من الخلاف في مسألة الإلزام بالوعد، فمعلوم أن مذهب مالك فيه أربعة أقوال فيما يتعلق بالإلزام بالوعد، القول الأول: أن الوعد لا يلزم به شيء وأن الوفاء به إنما هو من مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال وهذا موافق للمذاهب الأخرى، (راجع المغني لابن قدامة) ، والقول الثاني: عن مالك هو لزوم الوعد مطلقًا، وهو كما رأيت مخالف للمذاهب الأخرى، وقول بالتفصيل: عن مالك بالوعد الواقع على سبب فيلزم، وقول رابع: وهو المشهور أنه إذا أدخل الموعود في ورطة فإنه يلزم، وقد أجمل صاحب المنهج هذه الأقوال الأربعة بقوله:
هل يلزم الوفاء بالوعد نعم
أولًا نعم لسب وإن لزم(5/2196)
فالمسألة هنا تدخل في قاعدة أن من التزم شيئًا بسبب عمل يجب على الملتزم له الإتيان به يلزمه إذا كان الملتزم بكسر الزاي يعلم بوجوب ذلك العمل على الملتزم له بدون مقابل، وأسوأ على ذلك كما قال الخطاب في التزاماته. النقل الذي أمامكم يمكن أن تراجعوه.
أفترض أنكم قرأتم كلام الحطاب في مسألة الزوجة التي تلتزم لزوجها إذا أذن لها بالحج.
تنبيه: فعلى ما قاله ابن رشد إذا كان الملتزم يعلم أن ذلك الفعل يجب على المتلزم له ثم علَّق الالتزام عليه فإنه يلزمه، ويحمل على أنه أراد ترغيبه في الإتيان بذلك الفعل، كقوله إن صليت الظهر اليوم فلك عندي كذا وكذا. والله أعلم.
وذكر كثيرًا من المسائل من هذا النوع. أما الوعد بالهبة في صلب العقد إذا كان من شأنه أن يؤثر على الثمن فهذا لا يجوز وهو من باب الجعل، والجعل لا يجوز جمعه مع الإجارة، فكأنه قال له: أن فعلت كذا فلك كذا، قال خليل في الإجارة: (وفسدت أن انتفى عرف تعجيل معين كمع جعل) قال الزرقاني لتنافي الأحكام فيهما، فهذا الوعد بالهبة كما ترى فهو من جهة جعل لا يجوز جمعه مع الإجارة، ومن جهة أخرى قد يؤثر في الثمن، أي في قدر الإيجار فلا يدري ما أعطى مقابل الوعد بالهبة، وهي هبة ثواب، وما أعطى مقابل الإيجار حقيقة.
والوعد بالهبة في صلب العقد بالإجارة أو بالمساقاة أو غيرها، لا يوجد فيه نص صريح مع ما عرف عن مالك وابن القاسم وسحنون من وجوب الوفاء بالوعد إذا أدخل الموعود في ورطة، إلا أنهم إنما افترضوا هذه المسألة في عقود أخرى كالخلع، قال خليل (أو الوعد إن ورطها) .(5/2197)
أما في عقد البيع مثلًا فظاهر كلام مالك يدل على المنع إذا كان الأمر معلقًا على شيء لا يدري هل يقع أولًا.
قال الحطاب في التزاماته: (قال في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من جامع البيوع: سمعت مالكًا يقول: لا أحب البيع على أنه إذا وجد شيئًا قضاه وإن هلك ولا شيء عنده فلا شي عليه) . قال ابن القاسم: فإن وقع هذا الشرط وفات لزم المشتري قيمتها يوم قبضها. قال محمد بن رشد: هذا الشرط من الشروط التي يفسد بها البيع لأنه غرر، فالحكم فيه الفسخ مع قيام السلعة شاءً أو أبياًًّ ويصح في فواتها بالقيمة بالغة ما بلغت، وهو ظاهر قول ابن القاسم وتفسيره لقول مالك، وقد يقول كثيرًا فيما يجب فيه الفسخ لا أحب هذا، أو أكرهه أو شبهه من الألفاظ فيكتفي بذلك من قوله، ونقله في النوادر وزاد فيه، قال ابن القاسم: هذا حرام ويرد فإن فات فعليه قيمتها يوم قبضها.
أما الوعد بالبيع فهو مؤثر على الثمن ومخل به، وسبب للجهالة، وأكثر التزامات نصوص المذهب وشروحه إنما هي في إيجاب الوعد في مسائل التبرعات كالهبة لأنها تملك بالقول عند مالك، وهذا من أسرار مذهب مالك في مسألة الوعد، وكذلك الصدقة والعتق والطلاق، أما البيع فإنه لا ينعقد إلا بالصيغ المشار إليها بقول خليل، ينعقد البيع بما يدل على الرضا إلى آخره، فالتزامه بالواعد إلزام بالبيع والنظر في العقود غالبًا إلى المال كما أشار إليه الزرقاني في مسائل الثنيا، وعليه فهذه الصيغة تعتبر تلفيقية في غاية الضعف.
أما الوعد بالبيع بعد عقد الإجارة فيخرج على المسألة المشهورة عند المالكية وهي إذا قال البائع للمشتري بعد عقد البيع: إذا أنا أتيتك بالثمن رددت إلي المبيع، فقبل المشتري بذلك، فإن ذلك يلزمه، قال الحطاب في التزاماته مسألة.(5/2198)
قال في معين الحكام: ويجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد العقد بأنه إن جاء بالثمن إلى أجل كذا فالمبيع له ويلزمه المشتري متى جاءه بالثمن في خلال الأجل، أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه، ولا يكون للمشتري تفويت في خلال الأجل، فإن فعل ببيع أو هبة أو شبه ذلك نقض إن أراده البائع ورد إليه وإن لم يأتِ بالثمن الأعلى إلا بعد انقضاء الأجل فلا سبيل له إليه، وإن لم يضربا لذلك أجلًا فللبائع أخذه متى جاءه بالثمن في قرب الزمان أو بعده ما لم يفوته المبتاع فإن فوته فلا سبيل إليه، فإن قام عليه حين أراد التفويت فله منعه بالسلطان إذا كان ما له حاضرًا، فإن باعه يعد منع السلطان له رد البيع وإن باعه قبل أن يمنعه السلطان نفذ بيعه.
وتتخرج أيضًا قاعدة الشروط اللاحقة لا يبطل بها العقد، كما نقلنا عن ابن زرب من المالكية وابن بشر وتلميذه ابن عتاب.
خلاصة القول:
(وهنا انتبهوا لأن الذي أقرأه ليس مكتوبًا عندكم)
إن هذا العقد المسمى بالإيجار الذي ينتهي بالتمليك في شكله القانوني والعرفي الحالي لا يشبه العقود الجائزة ولا يمكن أن يكون جائزًا على بعض أقوال العلماء إلا إذا أخذ إحدى الصيغ الخمس التالية:
أولًا: أن يكون إيجارًا حقيقيًّا ومعه بيع خيار عند من يجيز الخيار المؤجل إلى أجل طويل كالإمام أحمد ومحمد بن الحسن وأبي يوسف وابن المنذر وابن أبي ليلي وإسحاق وأبي ثور، يشترط أن تكون المدة محدودة، واجتماع البيع مع الإجارة جائز في عقد واحد بشرط أن يكون لكل منهما موضوع خاص به في رأي كثير من العلماء كالشافعية والحنابلة والمالكية، قال خليل عاطفًا عطف مغايرة (كمع جعل لا بيع) ، قال الزرقاني، بعقد واحد، فلا يفسد كاشترائه ثوبًا بدارهم معلومة على أن يخيطه البائع. وإننا فرقنا بين هذا وبين الوعد المؤثر في الثمن للجهالة لأنه هنا إجارة حقيقية وبيع بالخيار بشرط أن يعقدا على ثمن خاص للبيع يشبه مثله، كما يمكن أن يبت البيع من غير تعليق، - وهذه صورة زائدة – بحيث لا يقع القبض إلا بعد زمن لا تتغير فيه السلعة كما يمكن أن يكون البيع باتًّا مع تأخير القبض في أمد لا يتجاوز سنتين على قول ابن حبيب في الدار المبيعة مع استثناء السكنى، ذكر ذلك شروح عند قول خليل في باب الإجارة وبيع دار لتقبض بعد عام أو أرض لعشر – أي بعد عشر سنوات – يجوز البيع فيما لا يتغير بشرط ألا يقبض إلا متأخرًا.(5/2199)
المسألة الثانية: وعد ببيع لاحق بعد الإيجار، وقد علمت تخريجه على مسألة الإقالة السابقة وهذه الصيغة ضعيفة لا تجد سندًا إلا في أصل وجوب الوفاء بالوعد، وهو في البيوع غير مفرع عليه في المذهب كما أسلفنا، إلا أنها لما كانت بعد العقد كانت أخف من شرط البيع الواقع في العقد، فأمكن تخريجه على الوعد الواقع على سبب وقد تقدم ما فيه.
ثالثًا: وهو أن يبيعه بشرط ألا يمضي البيع إلا بدفع الثمن، وهذه ليست من باب البيع، على إن لم يأتِ بثمن النكاية فلا بيع، هذا بيع انعقد إلا أنه لا يمضي. وهناك فرق بين الانعقاد والمضي نبه عليه البناني، ألا يمضي البيع إلا بدفع الثمن فيكون المبيع معلقًا على دفع آخر الثمن. وحسب ما يفيده الزرقاني عن أبي الحسن على المدونة هذه الصيغة جائزة معمول بها وسلمه البناني ومع كلمة (ألا يمضي) بدلًا من (ألا ينعقد) ، فتكون الذات كالمحبوسة للثمن أو للإشهاد، كما أشار إليه خليل بقوله (وضمن بالقبض إلا المحوبسة للثمن أو للإشهاد كالرهن. فالبيع منعقد غير نافذ – أرجو أن تضربوا على كل ما تضمنته هذه المسألة الثالثة وأن تضعوا مكانه ما أقوله الآن فالبيع منعقد غير نافذ – فإذا دفع بعض الثمن وأراد البائع استرجاع السلعة رد ما أخذه.
صورة رابعة: وهي أن يبيعه بيعًا باتًّا على أن لا يتصرف في المبيع حتى يفي بالثمن فيلزمه الوفاء بذلك، وتصير كالمرهونة فلا يتصرف فيها إلا إذا وفي بالثمن وهي مستثناة من قول خليل: (وكبيع وشرط يناقض المقصود كأن لا بيع ".) قال الدردير: كأن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع أولا يهب أو لا يتخذها أم ولد) .
وفي سماع علي بن زياد، سئل مالك – رضي الله عنه – عمن باع عبدًا أو غيره وشرطه على المبتاع أن لا يبيعه، ولا يهبه، ولا يعتقه، حتى يعطيه ثمنه قال: لا بأس بهذا، لأنه بمنزلة الرهن إذا كان إعطاء الثمن لأجل مسمى.
هذه صيغة أخرى جديدة – الصيغة الخامسة والأخيرة.
وعد بهبة لاحق بعقد الإيجار جار على سبب، وهذا أجدر هذه الأوجه بالجواز وأولاها بالصواب، وهذا ما نراه في هذه المسألة. والله أعلم.
كلمة أخيرة: السمة المشتركة بين هذه البحوث هي أنها لا تجيز هذا العقد في بنيته، ومع نيته، لا بد من تغيير البنية وتغيير النية، حتى يجوز هذا العقد. إذا كان في بنيته يرد الأقساط، فلا شيء للمشتري، يكون المشتري دائمًا هو الطرف الأضعف، والبائع هو الطرف الأقوى، الذي يأخذ كل شيء ثمنه مذهبًا. وشكرًا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(5/2200)
الدكتور حسن علي الشاذلي:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا الموضوع الذي أحاط به الأخ الشيخ عبد الله إحاطة طيبة، وددت أن أضع التصور بشيء من التفصيل الموجز في النقاط التالية:
أولًا: من ناحية الصور التي احتوى عليها القانون، ثم بعد ذلك أفضل الحديث عنها في الفقه الإسلامي ما أمكن وما لم يمكن منها.
أما النقطة الأولى، فباستقصاء الصور وجدناها صورًا متعددة، أول صورة منها هي أن يعقد عقد إيجار على أنه في نهاية المدة وبعد سداد الأقساط المحددة تكون السلعة ملكًا لهذا الشخص، هذه صورة.
الصورة الثانية: أن يعقد عقد إجارة على أنه بعد نهاية المدة وسداد هذه الأقساط يكون هناك ثمن للسلعة إما رمزي وإما حقيقي. وبذلك تكون ثلاث صور.
ثم بعد ذلك صور أخرى، أن يعده – في الصورة المتقدمة – ببيع السلعة بعد انتهاء عقد الإيجار أن يبيعه هذه السلعة، فإذا وعده بالبيع، هذا الوعد إما أن يكون أيضًا البيع له ثمن رمزي أو ثمن حقيقي، وعد من جهة واحدة أو وعد من طرفين. ثم بعد ذلك آخر الصور، هي صورة يعقد فيها عقد إجارة ثم بعد نهاية المدة – وعادة ما تكون طويلة – يخيره بين ثلاثة أمور، الأمر الأول: هو أن يمد مدة الإجارة والخيار هنا للشخص المستأجر، وإما أن يأخذ السلعة بيعًا وهنا لازم يكون الثمن بثمن السوق في هذا الوقت أو ثمن مقدر فيه ما مضى على السلعة من زمن وما انتفع به فيها في خلال هذه المدة، أو بأن يردَّ السلعة إلى صاحبها. هذه هي الصور التي وجدت في القانون، حينما عرضناها على الفقه الإسلامي تبين ما يأتي:
أولًا: إن الفقه الإسلامي يرفض أن يتم التعاقد على سلعة غير مملوكة للشخص الذي يبيع أو يؤجر. وهذا أمر منتهى منه عرضناه في البحث، ثم بعد ذلك.
ثانيًا: لا بد من أن تكون هذه السلعة مقبوضة تحت يده حتى يمكن أن يتصرف فيها، وهذا ما رجحته في البحث.
ثالثًا: عرضت قضية اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة، وهذا الموضوع شائك ودقيق بالنسبة لأن جمهور الفقهاء يجعلون أن اشتراط عقد في عقد هو المنهي عنه بحكم النهي عن بيعتين في بيعة. وإن كان الفقهاء قد أجازوا، اجتماع – بعض الفقهاء – أجاز اجتماع عقد مع عقد صفقة واحدة. وبعضهم أجاز اشتراط عقد في عقد.(5/2201)
رابعًا: عرضت أيضًا لاجتماع كثير من الشروط في هذا العقد بالذات ضمانًا لحق المؤسسة التي تعطي هذه العين. فهل اجتماع أكثر من شرط في هذا العقد لا يصح بناء على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ينهى عن بيع وسلف وعن شرطين في عقد. رجحت ما ذهب إليه الحنابلة من أن المقصود بالشرطين هنا الشرطان الفاسدان. ثم بعد ذلك بدأت أعرض الصور، الصورة الأولى في القانون وهي إيجار ينتهي بالتمليك بمجرد الانتهاء من سداد هذه الأقساط. هذه الصورة- كما هو واضح لنا- تكتنفها عدة أمور. أولًا: هي إجارة لفظًا، ولفظ صريح وفي نهايتها بيع، والبيع الذي في نهايتها بمجرد الانتهاء من الأقساط. فماذا نصنع؟ بهذه الكيفية لا تصير هذه الصورة ولكن يمكن أن تحور ضمانًا لحق المؤسسة وأيضًا لنمكن الشخص المنتفع من أن ينتفع بهذه السلعة. وبناء على ذلك عرضت حلولًا. أما الحل الأول هو ما أشار إليه الأخ الزميل الأستاذ عبد الله، وهو أن يبيعه هذه السلعة على ألا يتصرف فيها لا ببيع ولا بشراء ولا تبرع، ولا، ولا، من كل التصرفات إلا بعد نهاية الثمن. وحينئذٍ لا تكون الصيغة هنا لا تكون الصيغة هنا لا تكون صورة عقد إجارة وإنما عقد بيع، وهذا البيع تحفظنا فيه أو حبسنا فيه السلعة عن الخروج من تحت يد المستأجر وجعلناها لازالت في يد المالك، وبالتالي في نهاية المدة إذا تم سداد الأقساط جميعها ينطلق حق الملكية ليضاف إلى حق المنفعة الذي هو موجود عند المستأجرت وبذلك يتم هذا العقد، وهناك حل ثانٍ: وهو إذا ما جعلنا البيع الذي في النهاية جعلناه هبة، وإذا جلعناه هبة إما أن يكون ذلك شرطًا في العقد، إذا كان حينئذٍ شرط في العقد فيؤدي إلى أن يكون اجتماع عقد الإجارة مع عقد الهبة على أنه أدى هذه الأقساط كانت له هبة، يبقى تعليقًا، علقنا عقد الهبة على سداد هذه الأقساط، وتعليق عقود التمليكات في الفقه الإسلامي ممنوع، ولكن يوجد بالنسبة لعقد الهبة بالذات، يوجد خلاف للمالكية، رأيان في عقود التبرعات أنه يمكن تعليقها على الشرط، وإذا أمكن تعليق عقد الهبة على الشرط، حينئذٍ يصاغ العقد على أنه عقد إجارة وأنه في نهاية المدة، تكون هذه العين هبة لهذا الشخص. إذن هذا من حيث أننا نحن جعلنا عقدًا بالهبة معلقًا، نقطة أخرى ممكن أن نعده بأنه عند سداد الأقساط تكون العين هبة له، وحينئذٍ نرجع إلى رأي المالكية في القول بالإلزام في عقد الهبة ويحل لنا المشكل، وبناء على ذلك تكون هناك في الصورة الأولي ثلاثة حلول كما رأينا فيها، الصورة الثانية، وهي أن يحدد إما ثمنًا رمزيًا أو ثمنًا حقيقيًّا. الصورة نفس الأولى بس غاية ما هنالك وضع في الصيغة ثمن رمزي وفي الصورة الثانية ثمن حقيقي. أما من حيث الثمن الرمزي ممكن في الفقه الإسلامي للإنسان يعني هناك خلاف بين الفقهاء، هل يجوز أن يبيع الإنسان ملكه ولو بقليل من المال لا يتعادل مع السلعة؟ أو أنه لا بد له من معيار؟ هناك خلاف فقهي. إذا أخذنا بأن للإنسان أن يتصرف كما يشاء في سلعته، حينئذٍ يمكن أن يطبق على هذه الصورة ما طبق على الصورة الماضية، وبالتالي الصورة الثانية التي فيها ثمن حقيقي يصبح أمام عقد اجتمع فيه عقد إجارة مع عقد بيع وهذا عقد البيع محدد فيه ثمن السلعة. وهذا سوف يخضع للكلام حول اجتماع عقدين في عقد كما سبق وأن أشرت، أما الصورة التي تلي هذا، فهي أن يعده بالبيع، أن يعد أحد الطرفين الآخر – واحدا منهما –مثلًا المستأجر يعد بالشراء، والآخر يعد بالبيع إما وعدًا منفردًا وإما متلازمان. فإذا كان الوعد منفردًا وعد بالبيع فهنا أتساءل على رأي من قال من المالكية: إن هذا ينحصر في التبرعات حول الوعد الملزم، وإن كنت أبديت وجهة نظري أنه إذا جاز أن يلزم في التبرعات وهي مال يخرج لا إلى بدل فلأن نجيزه في المعارضات وهو مال يخرج إلى بدل يكون بالأول. ولعلي أستفيد من علماء المالكية في هذا الجانب. فإذا قلنا: إنه ملزم أو على القول بأنه يجري في المعاوضات والتبرعات إذا قلنا ذلك، إذن نحن لازم ما قلناه في الوعد هنا أو نقوله في الوعد هنا، ويصبح بناء على ذلك العقد يسير بهذه الكيفية. الصورة الأخيرة وهي صورة ما إذا كان عقد إجارة وفي نهايته يخير المستأجر بين ثلاثة أمور: الأمر الأول: مد مدة الإجارة، الأمر الثاني: أن يبيعه السلعة بثمن يراعى فيه ما استهلك في خلال هذه المدة من الاستعمال أو كذا، أو كذا، أو بسعر السوق. والأمر الثالث أنه هو يرد السلعة إليه، وهذه الصورة واضح منها أنه أيضًا وعد بأن أعطى هذا الشخص الخيار في أن يختار ما يشاء ولا ضير في ذلك. وهذا ما أردت أن ألخصه بإيجاز وهو موجود بين حضراتكم في المبحث المقدم، علمًا بأن ما عرضته هنا هو عبارة عن رأي والرأي يؤخذ منه أو يرد. ونرجو أن يوفقنا الله إلى ما فيه الخير. وشكرًا.(5/2202)
الشيخ عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم: سيادة الرئيس. تبين أن هناك بحوثًا لم توزع إلا الآن، ولهذا لم نقرأها ولم يتم تلخيصها.
بقيت مسألة أخرى كنت فيما مضى في جلسة سابقة تكلمت في مذهب المالكية عن مسألة العدة مع حضور أئمة هذا المذهب من المشرق والمغرب، ولكني لم أكن في الواقع – يعنى – متجرئًا على حضراتهم في التعرض لمذهب درسناه من حيث المقارنة وفي كتب أحاديث الأحكام وآيات الأحكام، ولكن الإنسان قد ينقل ثم يفوته شيء في النقل. وتصحيحًا للوضع أريد أن أبين أن الصحيح في مذهب الإمام مالك أن العدة في التبرعات تدور بين أقوال أربعة بل خمسة، فقائل بلزوم الوعد مطلقًا، وقائل بعدم اللزوم، وقائل باللزوم إذا كان على سبب، والرأي الرابع يقول: إذا دخل في السبب، وقال ابن العربي في الأحكام عند الكلام على قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، أن الوعد بالتبرعات يكون لازمًا إلا لعذر، أما في المعاوضات فيدور حكمه بين ثلاثة أحكام، بين الجواز وبين الحرمة وبين الكراهة، كما في بيع الطعام قبل قبضه وبيع الصور والصرف. واطلعت في كتاب (تحرير الكلام في مصادر الالتزام) في مسائل الالتزام والفرق بين الالتزام وبين العدة، والكتاب الآن بين يدي شيخنا الجليل الشيخ الضرير، ونص في هذا الكتاب أيضًا: (إذا وعد ولي المرأة على تزويج ابنته فإنه يجبر على تزويجها إلا إذا زوجها بآخر) هذا كلامه، هذا كلام الحطاب في تحليل الكلام، وأتى لنا بصورة في مسألة البيع والشراء، لن أتعرض لها اختصارًا للوقت. ثم أدخل في الموضوع (موضوع التأجير المنتهي بالتمليك) ، الذي يبدو لأول نظرة أن هذا العقد يعتبر عقدًا جديدًا الآن، ولكن المتأمل والقارئ لكتب الفقه يجد أن هذه الصورة لها نظائر ولها أشباه في كتب الفقه، ولها حلول، فذكروا – مثلًا – إذا أجر الإنسان شيئًا لآخر ثم أراد بيعه. فهذه الصورة منصوص على حكمها، واختلف العلماء في صحة البيع في هذه الحالة، فبين قائل بالجواز وهم الحنابلة وقول الشافعية، ومن قائل بالمنع، وأما الأحناف فقالوا: إن البيع موقوف، فإن أجازه المستأجر مضى، وإن منعه رد. فهذه صورة ولكن ليست مطلوبة أو ليست مطروحة في هذا الموضوع لأن الذين يتكلمون عن التأجير المنتهي بالتمليك يقصدون شيئًا آخر، يريد إنشاء البيع بداية ولكنه يأتي بضمانات لنفسه، يريد أن يضمن حقه في المستقبل من أن يتصرف المستأجر أو المشتري بهذه العين لغيره أو يزاحمه عند إفلاسه دائنون آخرون. فيلبس البيع ثوب الإجارة، وحتى يضمن حق الطرف الآخر يعده بالبيع أو يعده بالهبة عند نهاية الأجرة، وقد يأتيان بشروط منها أنه إذا لم يوفِ بقسط انتهى البيع أو استرد المبيع. فهذه شروط لها حلول بسيطة سهلة، إنما هذا النوع من التعاقد أيضًا له في الفقه حل، أنا عرضت لهذا الموضوع في المرة السابقة أو في الجزء الأول من البحث، بأن ناقشت هذا الموضوع من ثلاث جهات: من جهة العبرة باللفظ أو المعنى، ومن جهة الشروط، ومن جهة الحيل. فمن جهة اللفظ والمعنى هناك فريقان أو اتجاهان في الفقه الإسلامي؛ اتجاه يغلب المعنى على اللفظ طبقًا للقاعدة الفقهية المعروفة (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني) ، فيعتبر العقد عقد بيع منذ البداية، وتجري أحكام عقد البيع على هذا النوع من التعاقد، فإذا كان هناك تضمن شرطًا فاسدًا، فهناك من الفقهاء من قال إن الشرط الفاسد يلغى ويصح العقد. ففي هذه الحالة نكون أمام عقد بيع ونجري أحكام عقد البيع. هذه الصورة لها حل آخر أو نظرة أخرى من جهة أخرى. هذا الحل أخذت به القوانين العربية والإسلامية، كثير من الدول أخذت بأن العبرة للفظ وأجرت على الإيجار الساتر للبيع عقد البيع، بيع بالتقسيط. وهذه سائر الأحكام منذ البداية وانتهت من مشكلة الحيلة أو التحايل أو التلاعب، من هذه القوانين قانون مصر المعمول به الآن، القانون المدني المصري والقانون التجاري الكويتي والقانون المدني الكويتي أيضًا، فهذه القوانين قضت على فكرة التأجير المنتهي بالتمليك، واعتبرت العقد منذ البداية عقد بيع. هنا مسألة فقهية في الواقع أريد أن أعرضها باختصار، اسمحوا لي يا سيادة الرئيس لو قرأت سطورًا قليلة في مسألة الاختلاف الفقهي. المعروف أن أي مسألة تعددت فيها الأراء الفقهية أصبحت مسألة خلافية، والمسألة الخلافية تنتهي إذا اتصل بها حكم الحاكم أو أمر السلطان، فهنا القوانين التي جعلت هذا النوع من التعاقد عقد بيع، هذا ينهي المشكلة ويعتبر المسألة منتهية، والرأي الراجح فيها هو الرأي الذي نصت عليه هذه القوانين، ولهذا ذكروا أن القضاء يتقيد ويتخصص بصوره خمس، بالزمان والمكان وببعض الخصومات وباستثناء بعض الأشخاص والعمل بقول مجتهد في المسائل الخلافية، وكانت مجلة الأحكام العدلية تنص على هذه الأحكام في المادة (1801) ، ويقول الشيخ علي حيدر في شرحه لهذه المادة: إن من الواجب العمل بأمر إمام المسلمين بالعمل بأحد القولين في المسائل المجتهد فيها. وتكلم ابن نجيم عند المادة – الكلام على المادة الخامسة – في قولِه: تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، ويختصر قول البشتاوي في كتابه (جواهر الروايات ودور الدرايات في الدعاوى والبينات) قوله: وحاصل ما ذكره علماؤنا أن كل مسألة اختلف فيها الفقهاء فإنها تصير محل اجتهاد. فإذا قضى قاضٍ أو أمر سلطان بقول ارتفع الخلاف، وهذا إذا لم يخالف الكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع أو يكون قولًا لا دليل عليه، فإن خالف واحدًا منها لا ينفذ لكونه ليس في محل الاجتهاد الصحيح وهو خلاف لا اختلاف.(5/2203)
وهذا الموقف وقفه ولاة قرطبة في قضائهم فكانوا يلزمون القضاة العمل بمذهب ابن القاسم. قال الشاطبي: ومن هنا شرطوا في الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد. وحين فقد لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب فلان ما وجده – يعني مذهب ابن القاسم – ثم بمذهب فلان. فانضبطت الأحكام، وبذلك ارتفعت المفاسد المتوقعة، فهذه القوانين في الواقع في كثير من حالاتها تجهز على الخلافات وعلى التلاعب في الأسواق وبين المتعاملين. أما الرأي الذي يقول: العبرة بالألفاظ. هو في اتجاه أيضًا له أنصاره في مختلف المذاهب، في المذهب الحنفي والشافعي، ويراجع في المذهب الشافعي وكذلك في المذهبين المالكي والحنبلي. فالذي يأخذ بالألفاظ وصيغ الألفاظ، العلماء الأحناف وجدوا حلًّا لهذه المعضلة، لهذه المشكلة. المشكلة حلت في زمنهم وهي أشبه بمشاكل الكساد الاقتصادي أو البوار الاقتصادي التي تحل بين حين وآخر في العالم الإسلامي ومختلف أنحاء العالم. فعندما هبط الكساد في سمرقند، وحلت بالناس كوارث اقتصادية، وأفلس كثير من التجار، لجأوا إلى بيع الوفاء وبيع الاستقلال. واختلف الرأي الفقهي عند أئمة المذهب الحنفي وذلك بالنسبة إلى تغليب اللفظ أو المعنى. فمن غلَّب المعنى اعتبر هذا البيع رهنًا منذ البداية وأجرى عليه كل أحكام الرهن، ومن نظر إلى اللفظ قال: لا، إننا نستعمل عقد بيع. فهذا البائع والمشتري يبيع أنه باع داره لهذا، وهو المدين غالبًا يبيع داره لدائنه، بدون ذكر شروط في هذا العقد، فيصبح العقد عقد بيع صحيح. ثم يلحق هذا العقد بعقد آخر، بشرط أنه متى أتى بالثمن أقاله من العقد. فهنا اشترطوا الإقالة أو الفسخ، ثم ألزموا الناس بالمواعدة، وقالوا: إن هذه المواعدة نقضي بلزومها لحاجة الناس، وبذلك قضوا على كثير من المفاسد وكثير من الأضرار التي حلت بهم. وأكتفي بهذا القدر وشكرًا.
الرئيس:
شكرًا. قبل أن أعطي الكلمة للشيخ علي، ما ذكر في بعض الولاة على أنه ألا يقضي إلا بقول ابن القاسم ما وجده، فأنا أذكر تعليقات لبعض المالكية ولغيرهم والشيخ الأمير رحمه الله تعالى صاحب (أضواء البيان) ذكر جملة منها في مذكرة له قدمت لهيئة كبار العلماء في عام 1393هـ. وكانت النقود المعلقة من بعض المالكية ومن غيرهم على هذه يقولون: يا ليته قال: إلا الدليل ما وجده.
تفضل يا شيخ علي.(5/2204)
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
بكل اختصار هناك مقدمتان أطرحهما أولًا، ثم أتحدث عن موضوع بحثنا وأعطي الرأي فيه. وأسأل الله فيه الصواب.
أعتقد أننا يجب أن نلحظ أولًا ما طرحه العلماء من بحوث حول قاعدة ((المؤمنون عند شروطهم إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرم حلالًا)) ، هذه القاعدة ثابتة بلا ريب يستفاد من القادة ليس الحكم التكليفي أي الالتزام التكليفي بالشرط ضمن العقد وإنما الحكم الوضعي أيضًا.
وكذلك من ظهور ألفاظ دليل القاعدة يستفاد الشمول، فلا يختص بالشروط الواردة ضمن عقد، لأن النص هنا عام عند شروطهم، ويمكن أن يقول أحد بشمول الشروط للوعود الابتدائية الموثقة، لا الوعود العادية، وإنما الوعود الموثقة التي تعطى ابتداء يمكن أن يستدل للزومها بقاعدة (المؤمنون عند شروطهم) والشرط هو التزام مهما كان الشيء الآخر، ذكرت شروطًا لصحته الشرط في العقد. شروط كثيرة كالمقدورية، الغرض المعتد به، عدم المخالفة للكتاب والسنة بتحليل حرام أو تحريم حلال. وهنا بحث مفيد وشريف جدًّا ما معناه تحريم الحلال وكل اشتراط فيه تحريم لحلال. الرأي الذي انتهيت إليه هو أن تحريم الحلال يتحقق عندما يحرم جنس الحلال وبشكل دائم. عندما يحرم جنس الحلال، بحيث ينقطع أمام الطرف الآخر الإتيان بهذا الحلال دائمًا، هذا أمر يخالف مقصد الشريعة في حلِّيَّةِ هذا الموضوع ولذلك يبطل مثل هذا الشرط. أيضًا، ذكروا بالنسبة لصحة الشرط ألا ينافي مقتضى العقد، وذكروا أيضًا ألا يكون فيه جهالة. وهناك قول عند الإمامية باشتراط التنجيز وعدم التعليق، وقول آخر بعدمه، على أي حال هناك شروط ذكرت لقاعدة ((المؤمنون عند شروطهم)) حتى يمكن القبول بالشرط. هذا شيء. الشيء الآخر، كيفية الاشتراط ذكرت لها صورًا ثلاثة. يعنى، تارة يشترط الإنسان صفة في مورد العقد، وأخرى يشترط ما يسميه بعض الفقهاء بنتيجة العقد، بنتيجة الفعل، وأخرى يشترط الفعل. واضح، اشتراط الصفة واضح، اشتراط نتيجة الفعل. مثلًا في عقد إجارة وكما في موردنا نحن أؤجر له الدار شريطة أن يكون مالكًا بشكل طبيعي، يعنى يملك النتيجة في النهاية بنحو المصدر نتيجة الفعل أن يكون مالكًا عند انتهاء آخر قسط. هذا شرط النتيجة. وهناك شرط فعل شريطة أن يملكه في انتهاء آخر قسط. يقوم هو بإنشاء السبب وتحقيق التمليك. بالنسبة لشرط النتيجة يتوقف صحة هذا الشرط لدى العلماء على كون الأسباب التي تحقق هذه النتيجة أسبابًا غير منحصر بها. يعني النتيجة يمكن تحقيقها بهذه الأسباب وبأسباب عرفية أخرى كمسألة الملكية. الملكية تتحقق تارة بألفاظ العقد، وقد تتحقق بالمعاطاة بلا ألفاظ، ومن جملة ما يحققها بشكل عرفي ممضي من قبل الشارع الاشتراط ضمن عقد، وحينئذٍ تحل مشكلتنا إذا قبلنا باشتراط النتيجة، ولا يتوقف هذا المعنى على مسائل الوفاء بالوعد وأمثال ذلك. بعد اتضاح هاتين المقدمتين: أرى أن عقد الإيجار بشرط التمليك سواء كان بنحو شرط النتيجة أو شرط الفعل صحيح، فإن كان بنحو شرط النتيجة قلنا: إن العرف يقبل أن يكون سبب التملك هو هذا الاشتراط في هذا العقد. وهذه عملية جارية لدى العرف إلى زمان الشارع، ولا نرى نهيًا عنها فهو ممضي. أما شرط الفعل فواضح الصحة ولا مانع من ذلك أن يشترط عليه القيام بالتمليك بعد انتهاء الإجارة. هناك صورة ذكرتها في بحثي وهي آخر كلامي، هذه الصورة هي المتعارفة أحيانًا إما لدى البنوك أو بشكل عادي أن يأتي صاحب بيت إلى البنك ويطلب من البنك أن يشتري منه بيته ثم يؤجره عليه بشرط التمليك، هذه الصورة إذا أريدت دراستها يأتي فيها البحث السابق في مسألة الأمر بالشراء في بيع المرابحة وأمثال ذلك، والبحوث هناك مرت على السادة الكرام ولا تخفى. حياكم الله وشكرًا.(5/2205)
الدكتور سامي حسن حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم
بالنسبة لهذا الموضوع: الواقع أريد أن أوضح بعض النقاط التطبيقية فيما يجري عليه العمل، لتكون الصورة واضحة بأمانة العلم أمام الأخوة أعضاء المجمع، ففي بيع الإيجار المنتهي بالتملك أو بالبيع، المأجور أحيانًا في الصورة التطبيقية لا يكون مما ينتفع بعينة كوحدة. فالإجارة هي بدل منفعة في دار أو سفينة مثلًا، ولكن أحيانًا يتم التعاقد على مأجور، حديد تسليح يدخل في منبى، أو محرك كجزء من طائرة نفاثة، فمثل هذه الأجزاء التي لا ينتفع بعينها كوحدة منفصلة، أرجو أن يكون واضحًا أنها لا تصلح أن تكون محلًا للتعاقد في إجارة تنتهي بالتمليك.
ثم بالنسبة للأجرة التي هي بدل المنفعة، الأصل في الأجرة أنها الأجرة التي تعادل بدل المثل، ولكن الواقع لأن النية متجهة إلى البيع فتكون الأجرة أعلى بكثير من بدل البيع، فهي تصبح جزءًا من الثمن وتسمى أجرة، الشيء يأخذ حكمه المخالف هنا عندما يتم الفسخ، حيث يعتبر ما دفع كله إيجارًا مع أنه حقيقة جزء من الثمن، ولذلك عند الفسخ يحسب أو يخصم من هذه الأجرة – يعني ينص على ذلك – جزء من بدل الانتفاع والجزء الباقي يجب أن يعاد لصاحبه وإلا يكون أكلاً للمال بالباطل.
استكمالًا للنقاط التي كنت أتحدث فيها من الصور التطبيقية فيما اطّلعت عليه في بعض الأعمال لدى بعض البنوك الإسلامية دون تسمية، بالنسبة لهذا النوع من البيوع (الإيجار المنتهي بالتمليك) فأقول وصلنا إلى النقطة الثالثة: التي هي تأتي إلى شروط يتخلص فيها المؤجر رغم أنه مالك من تبعات الملك، فهناك حالات يلغى فيها تبعة هلاك المأجور التي هي في ملك المؤجر على المستأجر، وكذلك الضرائب المفروضة على الأملاك مما يتحمله صاحب الملك عادة، تنتقل تبعاتها بكاملها على عاتق المستأجر، ويقال: إن هذه من جملة الشروط. فأرجو أن تكون هذه واردة في التمحيص لتتضح حقيقة الصورة الشرعية التي يطمئن إليها مجمعكم الموقر، كذلك عند فسخ العقد، هناك نوع من الشروط التي تصادر حقوق المستأجر مصادرة كاملة، فرغم أنه يدفع الأجرة أعلى من بدل المثل، وهي تتضمن بدل الانتفاع جزئيًّا وجزءًا من الثمن الذي سيؤول إليه الملك بعد ذلك من أجله، إلا أنه ينص على خسارته لجميع ما دفع، باعتبار ذلك أحيانًا شرطًا جزائيًّا، أو باعتباره من المصادرة، الصورة الوحيدة المريحة التي اطلعت عليها في التطبيق في أحد البنوك الإسلامية، وأعرضها للاعتبار، هو أن المستأجر يعتبر مستأجرًا مع وعد قائم بالتمليك التدريجي، بحيث إنه في كل سنة يتملك بمقدار ما دفع، مقدار الأجرة بعد أن يخصم منها بدل الانتفاع، فيكون المتبقي جزءًا من الثمن، ويأخذ حصصًا شائعة في الملك بمقدار هذا الثمن المدفوع، بحيث أنه إذا فسخ العقد في أي مرحلة من المراحل، فيكون له فيه ملك بمقدار الجزء الذي دفعه، وتصفى الحقوق على هذا الأساس، أما بالنسبة لتبعات الملك من هلاك وضرائب وصيانة، فإنها تكون بنسبة الملك في الوقت الذي تقع فيه هذه التبعة، وهذه هي الصورة التي أقدر – والله أعلم – بأنها أقرب إلى تطبيق صور العقد الإسلامي والتعاقد الشرعي، وأشكركم.(5/2206)
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد رئيس الجلسة المحترمة أساتذتى الأفاضل:
الذي يظهر لي والله أعلم في هذه المسألة مسألة (الإيجار المنتهي بالتمليك) في شكله القانوني والعرف الحالي لا يشبه العقود الجائزة، لأنه من المعلوم لدى العلماء أن الإجارة تعني تمليك المنفعة، في حين أن البيع يعني تمليك العين والمنفعة، واشتراط التمليك في مثل هذا العقد ينافي مقتضاه، وفي هذه الحالة أرى بطلان الشرط وصحة العقد، ويمكن أن نستعيض عن هذه الصورة من البيع بصور متعددة، أذكر منها اثنين على سبيل المثال لا الحصر. أن يكون بيعًا بالتقسيط بأن ينفق المالك مع الطرف الآخر على بيع العقار بالأقساط، وفي حالة عجز المستأجر عن دفع الأقساط يكون ما دفعه عوضًا عن المدة التي انتفع بها بشرط أن تكون تلك الأقساط متناسبة مع بدل الإيجار السنوي لهذا العقار. وفي هذه الحالة ينبغي تعديل صورة العقد من إيجار إلى بيع، ثانيًا، أن يعقد الطرفان عقد إجارة على هذا العقار، ثم يعد صاحب العقار المستأجر بعقد لاحق بأن يهبه العقار المذكور. ويلزم الواعد بالوفاء بوعده على رأي من يرى ذلك، في هذه الحالة لا يجوز للمستأجر أن ينقل ملكية العقار عنه إلى جهة أخرى إلا بعد تسديد جميع الثمن. والله أعلم، وشكرًا.(5/2207)
الدكتور إبراهيم كافي دونمز:
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله تعالى على نعمه الفاضلة وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بعد أداء شكر الواجب للباحثين على بحوثهم القيمة، أود أن أشير إلى أننى لم أقدم بحثًا خاصًا في هذا الموضوع، ولذا ستكون ملاحظاتي منصبة على المنهج الذي يجب اتباعه – في رأيي المتواضع – في تناول هذا الموضوع أكثر من أن تكون متعلقة بمضمون الموضوع. في رأيي المتواضع، ينبغي للعلماء بدل أن يتطرقوا إلى مسائل جزئية وموضوعات جانبية، ينبغى لهم أن يتناولوا هذا الموضوع انطلاقًا من القيام بتثبيت موقف الفقه الإسلامي إزاء تقسيم العقود إلى العقود المسماه وإلى العقود غير المسماه. كما هو معلوم فإن القانون الروماني كان يولي اهتمامًا كبيرًا وأهمية قصوى لهذا التقسيم، لأن هذا القانون كان يتسم بالسمة الشكلية. أما اليوم في الغرب، هذا الموقف قد ترك ولم يبق أي أهمية كبيرة لهذا التقسيم، ويمكن للطرفين إحداث عقد جديد بشرط ألا يخالف النظام العام والآداب العامة. أما في الفقه الإسلامي فيكاد يتفق علماؤنا المعاصرون على أن الفقه الإسلامي لا يولي اهتمامًا كبيرًا لهذا التقسيم، العقود المسماه وغير المسماه. ويمكن إحداث عقد جديد لا يحتل مكانًا في الكتب الفقهية، بيد أن الفقه الإسلامي يختلف عن الفقه الغربي في نقطة واحدة، وهي أن التحديدات والتقييدات هي أكثر من الفقه الغربي، لأن هناك نواهي تتعلق بالربا والغرر والجهالة، إذن العمل الذي يجب القيام به هو البحث عن وجود أو عدم وجود مخالفة هذا العقد وأمثاله. ليس عقد الإيجار المنتهي بالتمليك فقط، العقد وأمثاله. هل العقد يتضمن عناصر تخالف مباديء الشريعة الإسلامية أم لا يتضمن؟ لا شك أن العلماء لا يمكن أن يستغنوا عن اجتهادات أئمتنا السابقين. ويجب علينا مراجعتهم، ولكن هذا لا يمنعهم عن البحث عن الحلول المناسبة للحوادث الجديدة. كما أشار الأستاذ العارض، فإن هذا العقد لا تنطبق عليه الأحكام التي توجد في كتب الفقه الإسلامي تمام الانطباق، إذن هذا يمكن أن يعتبر عقدًا جديدًا، ويمكن أن يوجد بعض الأشباه والنظائر كما أشار إليه أستاذنا، ولكن يبدو أن هذا العقد لا يوجد مثله ولا تنطبق عليه الأحكام كلها الموجودة في الكتب الفقهية، إذن يجب فحص أركان هذا العقد وأمثاله مع أن هناك خلافًا في مصطلح الركن بين الأحناف وغيرهم، بغض النظر عن هذا الخلاف، لا بد أن ينظر إلى الصيغة والعاقدين ومحل العقد وموضوع العقد، يمكن أن يوجد هناك ملاحظات متعلقة بالصيغة والعاقدين لا يهم كثيرًا، محل العقد كذا. موضوع العقد، أي الغاية النوعية من العقد، هذه النقطة لازم أن يوقف عندها بجدية. هناك أثار ومؤلفات كثيرة، تدرس فيها نظرة الفقه الإسلامي إلى مبادئ الالتزام والموجبات، مثل نظرية الأجل، نظرية الشرط، الشكل، الربا، الغرر ……… الخ. إذن في نظري المتواضع، المهم فحص هذه الأركان، هل فيها خلل من ناحية المبادئ الشرعية؟ كما أشار إلى قسم منها فضيلة الدكتور سامي حمود؟ وأعتقد أن هذا العقد ليس العقد الوحيد الذي جاء أمام المجمع الموقر، والذي لم يحتل مكانًا خاصًا في الكتب الفقهية، ولم يظل عقدًا وحيدًا ينصف بهذه الصفة. إذن المنطلق دائمًا لازم يكون ذلك المنطلق الذي أشرت إليه، وأخيرًا أود الإشارة إلى نقطة وردت في كلام بعض الباحثين، وكذلك في كلام سيادة الرئيس المحترم – يوم الأحد – وهي قياس عقد النكاح على عقد البيع وأمثاله، والسيد الرئيس وجه سؤالًا إلى الأستاذ الفاضل القرضاوي – يوم الأحد – وحاول أن يقوم بالمقارنة، أو القياس، بين عقد النكاح وعقد البيع في مسألة الوعد، والوعد – طبعًا – متعلق بموضوعنا أيضًا، بينما الرئيس المحترم، لم يسمح لباحث – يوم السبت – أن يقوم بالقياس بين مسؤولية الدولة في مجال الفلاحة وفي مجال التربية والأسرة، إذن عقد النكاح له خاصية تتميز عن العقود الأخرى، ونحن نفتخر بأن الفقه الإسلامي هو متقدم جدًّا في إعطاء وتحقيق الحقوق الإنسانية، بينما اليوم حتى في الفقه الغربي الذي لم يعترف بهذه الحقوق على مر العصور، في الفقه الغربي يميز بين عقد في مجال الأسرة وفي عقد مجال الالتزامات، والفقه الإسلامي يمتاز بخاصية التمييز بين الولايةعلى النفس والولاية على المال، هذه نقطة هامة جدًا. والنقطة الأخيرة، القرآن الكريم هو الذي يصف بعقد النكاح ميثاقًا غليظًا، إذن عقد النكاح يترتب عليه نتائج وعقد البيع وأمثاله يترتب عليها أحكام مالية غير الأحكام التي تترتب على عقد البيع، لا شك أن هناك نقاطًا مشتركة بين جميع العقود، ولكن من ناحية النتائج لازم التمييز بين هذين العقدين. أشكركم على حسن انتباهكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/2208)
الدكتور طه جابر العلواني:
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك صورة متعامل بها أشار إليها ربما الدكتور عبد الله من الباحثين، وودت عرضها قد تكون مما ييسر على المجمع الموقر، أن يصل إلى تصور في المسألة، هذه الصورة التي جرى العمل بها في بعض البلدان، أن يكون العقد عقد بيع بالتقسيط، وتقدر الأقساط بقدر الإيجار الذي يستحقه المبنى المباع، ويمكن المشتري فيه من المنفعة. فإذا استمر في استعمال العين والانتفاع بها ودفع الأقساط حتى تسديد الثمن المقدر للبيع، أصبح ملكًا خالصًا تتعلق به سائر التصرفات، وإن عجز خلال الفترة لعدة أقساط – تقيد في بعض العقود بقسطين وفي بعضها بثلاثة أو أكثر أو أقل بحسب التفاهم – يعود المبيع إلى المالك من غير إضرار بأي من الطرفين، فالمالك مضمون حقه والعين التي باع والمبتاع غير متضرر لأن الأقساط التي قد دفعها هي بمثابة الإيجار، لا تزيد عنه كثيرًا. فكأنه بيع فيه شرط بعدم التصرف في المبيع، بأكثر من حق الانتفاع به إلا بعد فترة معلومة، أو تسديد الثمن المقسط، وإذا أراد أي من الطرفين نقض هذا العقد، فهناك شروط أخرى ملحقة تضمن لكل من العاقدين حقهما، ربما تكون هذه الصورة إذا أخذت من الصورة التي يمكن للأخوة الفقهاء النظر فيها والحصول على مخرج شرعي فيها إن شاء الله.(5/2209)
الدكتور محمد سيد طنطاوى:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الحقيقية الذي نعلمه جميعًا أن شريعة الإسلام مبنية على التيسير وعلى رفع الحرج.
وبناء على هذه القاعدة التي نعلمها جميعًا، أرى أن مسالة التأجير المنتهي بالتمليك، من المسائل التي يجب أن ننظر إليها من زاوية الحكمة، التي من أجلها نؤيد هذا اللون من العقود، في تصوري أن بعض الحكومات لجأت إلى هذا اللون من العقود حماية للعين أو للعقار أو ما إلى ذلك، عندنا على سبيل المثال في مصر، بعض الشركات تشتري سيارات ثم تؤجرها لبعض السائقين، والحكمة من ذلك الاستفادة – طبعًا – المادية، ولكن لكي تحافظ على السيارة مثلًا تعقد مع السائقين عقدًا بأنه بعد عشرين سنة أو بعد ثلاثين سنة، تصبح هه السيارة ملكًا لهذا السائق مثلًا، تبين أن مثل هذا العقد يجعل السائق يحافظ على هذه السيارة، لأنه سيرى أنه بعد مدة معينة ستصبح ملكًا له، هذه الملكية تدفعه إلى أن يصونها، إلى أن يحافظ عليها. الدولة كذلك رأت بأن عندما تؤجر للأفراد المساكن التي بنتها، رأت أن كثيرًا من الأفراد لا يحافظون على هذه المساكن. فلجأت إلى لون من المحافظة على هذه العين، أو على تلك المساكن بأن تقول لهم: ادفعوا الإيجار لمدة قد تصل إلى عشرين سنة أوثلاثين سنة، أو إألى أكثر أو إلى أقل برضا الطرفين وباختيارهما، وتصبح هذه المساكن ملكًا لكم، وفي هذه الحالة يبدأ السكان يحافظون على تلك العين المؤجرة، أكثر من محافظتهم على شعورهم بأنهم أجراء، فعندما ننظر إلى عقد كهذا، وننظر إلى الحكمة التي من أجلها شرع، يجب علينا عندما تتوافر فيه الشروط، القواعد الشرعية ((والمؤمنون عند شروطهم)) يجب علينا أن نوسِّع دائرته وأن نشجعها مادامت لا تؤدى إلى ضرر لا بالمصلحة العامة ولا بالأفراد، أنا في تصوري أنَّ أمثال هذه العقود أو أمثال هذه المعاملات التي تنتهي بالتمليك، لا شيء فيها إطلاقًا مادام هناك رضا بين الطرفين، ومادام هناك لا توجد فيها شروط تتنافى مع القواعد الشرعية التي أحلها الله سبحانه وتعالى، ومادامت الحكمة منها المحافظة على العين أو على العقار أو على أي شيىء، نعتبر أن المحافظة عليه يعود بالمنفعة العامة على الأفراد وعلى الجماعات وعلى الأمة كلها. وشكرًا.(5/2210)
الشيخ عبد الله بن بيه:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
سيدي الرئيس: يبدو لي أنه من المستحسن، أن تحدد نقاط الاتفاق بين الباحثين التي يمكن أن يتفق عليها المجمع، ونقاط الاختلاف ليرى المجمع فيها رأيه. هذا يدعوني إلى إبراز جملة من النقاط بصفة مبسطة، وغير مفرعة ولا مشذبة تشذيبًا قانونيًّا كبيرًا، هذه النقاط: أولًا: متفق عليها الوعد بالهبة اللاحق، وعد بهبة لاحق مبني على سبب وعلى التزام، يبدو أن هذه الصيغة هي أسهل الصيغ وأقربها للقبول وهي مقبولة من الباحثين جميعًا، الصيغة الثانية: إجارة مع بيع لاحق بخيار يحدد له ثمن معين، بشرط أن تكون الأقساط مناسبة للإجارة. هذه أيضًا صيغة ينبغى أن يتفق عليها لما ذكرت، وإن كان بعض الباحثين لم يتعرض لها لما ذكرته عن الإمام أحمد وغيره، من جواز البيع بالخيار إلى أمد قد يكون بعيدًا إلا أنه محدود، هذه الصيغة ينبغي أن يتفق عليها أيضًا. الصيغة الثالثة: بيع بات يمنع فيه البائع من التصرف في السلعة حتى يقضي الثمن. وهذه الصورة قد ذكرنا قول مالك فيها والرواية التي رويت عن مالك في هذه المسألة، وقال فيها مالك لا بأس بذلك، لأنها بمنزلة الرهن. لم يقل لأنها رهن؛ لأن الرهن يكون بيد البائع، ولكنه قال لأنهما بمنزلة الرهن، ففي هذه الصيغة البيع بات، ولا يجوز للبائع أن يطلب فسخ البيع، إذا لم يفِ المبتاع، ولكنه يجوز له أن يطلب الوفاء، وأن يلزم المبتاع بالوفاء، ولكنه من جهة أخرى يلزمه بعدم التصرف في العين، في هذه الصيغة لا يسترجع البائع مطلقاَ شيئًا من الأقساط، وإنما عليه أن ينتظر كبقية الغرماء أن يفي المشتري بما يجب عليه وله رهن هو أن هذه العين لا يجوز للمشتري أن يبدد حسب العبارات القانونية، أو أن يفوت حسب العبارات الفقهية - هذه الصيغة أيضًا صيغة متفق عليها، مع أن النتائج قد يختلف فيها، الصيغة الرابعة: بيع منعقد غير ماض – أي غير نافذ – حتى يأتي المشتري بالثمن، وهي تختلف عن التي قبلها، فإن البائع إذا لم يوفِ المشتري بما تعهد به يجوز له أن يفسخ البيع، وهذه الصورة أيضًا مروية عن مالك، وقد ذكرنا أدلتها عن أبي الحسن في المدونة وغيره، والبناني سلمها للزرقاني، وقال إنها معمول بها، فهذه الصيغة تختلف عن التي قبلها بأن البائع يملك استرجاع العين، ولكنه إذا استرجع العين في النتائج قد يوجد خلاف أيضًا، فالذي عندي أنه إذا استرجع العين، يجب أن يرد إلى المشتري الأقساط التي أخذها، لأن ذلك في مقابل الضمان، لأن انتفاعه بالعين كان في مقابل الضمان، هذه العين هي محبوسة للثمن وانتفاعه بها كان في مقابل الضمان، كما ورد في الحديث الصحيح وهو الخراج بالضمان وسببه أن رجلًا باع عبدًا لآخر بيعًا فاسدًا، فلما حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يرد العبد لصاحبه، قال له: فليرد إليَّ الغلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا الخراج بالضمان)) ، أي الغلة ليست لك، أن هذه الغلة في مقابل الضمان الذي كان على المشتري اشتراءً فاسدًا، الضمان الذي كان يتحمله، فالخراج وهو الغلة في مقابل هذا الضمان، هذه النتيجة قد لا يتفق الباحثان معي فيها، ولكني على كل حال أرى أنها نتيجة مقبولة، إذن هذه الصيغ الأربع هي صيغ متفق عليها، أما الصور المختلف فيها فهي الوعد بالهبة في صلب العقد. الوعد بالهبة في صلب العقد في الحقيقة الذي ظهر لي ولا أقول أستظهر لأن الاستظهار نحن في المالكية نقول وبظهور لابن رشد كذلك كما يقول خليل، الاستظهار يدل على أن شخصًا بلغ درجة من درجات الترجيح في المذهب، فالذي يظهر من النصوص التي عرضتها أن هذه الصورة غير جائزة، لأنها تؤثر على الثمن. لأن هذا الوعد بالهبة في صلب العقد يؤثر على الثمن. فلا ندري الذي أعطى مقابل الإجارة ولا الذي أعطى مقابل الوعد بالهبة. وقد ذكرت بعض المسائل التي تشبه هذه المسألة والتي منعها المالكية، وإن كانت صيغة اعترف بأنه بالإمكان تخريجها بمشقة على بعض العقود أو على صفقتين في صفقة. الصيغة الثانية التي تختلف فيها أيضًا إلى حد ما هي الوعد بالبيع في صلب العقد. الوعد ليس ملزمًا في المعاوضات حسب ما ذكرته، لا أقول حسب رأيي، ولكن حسب رأيي العلماء الذي أشرنا إليه، فهذه صيغة مختلف فيها أيضًا. أخيرًا اعتقد أن الباحثين أو الباحِثَيْنِ يتفقان معي على أن البائع لا يجوز أن يفوز بالأقساط وأن يفوز بعين السلعة، لأنه من اجتماع العوض والمعوض، وهذا لا يجوز شرعًا، وشكرًا.(5/2211)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
الإيجار الذي ينتهي بالتمليك، هو صيغة لا بد أن ننظر في المقوم أو الغاية الأساسية أو ما يمكن أن نعتمد عليه في إخراج الحكم الشرعي. القضية الأولى في نظري هو أنه: هل المخارج الشرعية أو ما يعبر عنه بالحيل أو الخروج من المضائق هو أمر مقبول أم لا؟ فإذا اتفقنا على أنه يمكن وأنا نأخذ بهذه المخارج حتى نيسر على الناس حياتهم فإنه يقع النظر في هذا. وإن قلنا إنه لا بد أن ننظر إلى المعاني والمباني فكل هذه العقود ترد. فهي عقود جديدة نتجت عن التطور الاقتصادي، وزاد هذا التطور مضيًّا ما تقوم به البنوك الإسلامية من طرق الاستثمار في العالم الإسلامي، فالإيجار المنتهي بالتمليك قصد البنك، وقصد المتعامل معه. القصد هو البيع، فلو طبقنا أحكام البيع على هذا فإننا لا نجد مخرجًا، فوجد الفقهاء في البنوك الإسلامية من جملة المخارج الإيجار المنتهي بالتلمليك، هذا الإيجار المنتهي بالتمليك يعطي للبنك ضمانات في بقاء العين تابعة له لا يتصرف فيها المستأجر بالتفويت، ومن ناحية أخرى فإن المستأجر يطمئن إلى أنه عند نهاية المدة تنقلب تلك العين ملكًا له، بل الأكثر من هذا هو أن المؤجر – أي المالك –لا يريد بحال من الأحوال أن تعود له العين المملوكة في بعض الصور له، وهذا كما يقع بين بنك التنمية الإسلامي وبين الدول التي يؤجرها معدات تركز في معامل تكون قد استهلك كثير من أجزائها ومن صلاحيتها، وتفكيك تلك المعدات وإرجاعها إلى البنك يكلف البنك أكثر من قيمتها. فالنظر إذن لا بد أن يكون على أساس إيجاد مخارج تتناسب مع الوضع الاقتصادي الذي عليه العالم الإسلامي. من هذه المخارج الإيجار المنتهي بالتمليك، كيف نتصوره؟ تصوره البعض على هذه النحاة من أنه بيع وأنه إجارة في آنٍ واحد. وجعله بيعًا وإجارة في أن واحد هو غير سليم، ذلك أن ضمان العين أو ما يترتب على ملك العين لا يجوز أن يتحمله المستأجر، فإصلاح العين لبقاء الإيجار مثلًا، هو لا يصح أن يكون على المستأجر وإنما هو على المالك، فلا بد من التفرقة بينهما. الأحكام مختلفة كثيرًا بين واجبات المالك وبين واجبات المستأجر، ولهذا ما جاء من سؤال الأخ سامي حمود عن الشروط التي تتحول من موجبات الملكية إلى المكتري هي شروط غير مقبولة، ولا بد أن يبقى المالك مالكًا يتحمل كل ما يترتب على الملك مما بينه الفقهاء، وأن يكون المستأجر مستأجرًا يتحمل كل ما يترتب على الإيجار فِقْهًا. فهذه هي إذن عندما نجعل المالك مالكًا والمستأجر مستأجرًا إلى نهاية العقد. كيف يستطيع المستأجر أن يعود له الملك وأن يصبح الملك ملكًا له؟ إذا قلنا ذلك بثمن فهذا ما لا أستطيع أن أقول إنه حلال، لأن وضع المبيع بعد عشرين سنة أو بعد عشر سنوات ومواصفاته وحالته هي تختلف اختلافًا جدًّا من عشرة إلى خمسين في المائة. فقد تستهلك العين بالاستعمال في المدة فتصبح في نهاية مدة الأجل لا تساوي إلا خمسة في المائة أو عشرة في المائة من قيمة رأس المال. وتارة لا تستهلك استهلاكًا كبيرًا، فإذا بقيمتها خمسون أو ستون في المائة، كذلك نوعية الاستعمال والمحافظة على المعدات هي تختلف من شخص إلى آخر، ومن مؤسسة إلى مؤسسة أخرى، فلذلك لا يجوز أن يحدد ثمن للمثمن غير معلوم، فعلم العوضين هو شرط أساسي. ولذلك لا يوجد في نظري إلا مخرج واحد، وهو أن يعده بالهبة في نهاية عقد الإجارة، فإذا انتهت الإجارة إلى أجلها، عندها تنتهي القضية وتصبح ملكًا للمستأجر، بقي أمر، وهو ما تفضل به سيادة مفتي الجمهورية المصرية في إيجار السيارات، إيجار السيارات أمرها بسيط نظرًا لأن الملك يبقى ويستطيع أن يبيعها بالأقساط، والملك هو يبقى في بطاقة الملكية لا يجوز له أن يبيعها ولا أن يهبها، معروف هذا، والمسألة لا تستحق أن تكون كراء بالإيجار وإنما هو بيع مقسط من الأول، وهي ملك له، يحافظ عليها من أول الأمر ولا تنتهي رفع الحصانة عليها إلا عندما يتم الأقساط بتمامها وكمالها. فهذا ما اعتقده، وشكرًا.(5/2212)
الشيخ محمد علي عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا سيادة الرئيس
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
في الحقيقة مسألة الإيجار المنتهي بالتمليك هي مسألة كثر انتشارها في هذا العصر قد نجد في عامة الناس معوزين، أو بعض الموظفين الذين تعتبر شهريتهم يومية قليلة، لا تسمح لهم بالحصول على مساكن أو منازل. فوجد هذا الحل مساعدتهم من ناحية، وقامت الحكومات بتشجيع هذا. وبالتالي كان التأجير المنتهي بالتمليك الحل الوحيد لهؤلاء الناس للاقتناء والحصول على العقارات، والمشكل في الحقيقة يتعقد في صورة إذا ما كان البائع والمكتري لم يصل إلى حل يؤخر من قيمة الإيجار، أو بالأحرى إذا ما كان الشخص الكاري، لا يقدر على دفع بقية المال بصورة كاملة بطلب من الكاري. ونعرف أن الالتزامات الأصل هو أن يكون الالتزام شريعة الطرفين. فإذا كان هذا الشخص لا يقدر تلقائيًّا أو لأسباب معينة طارئة لدفع أقساطه في هذا الكراء، هل يمكن أن نجبر هذا الشخص على الدفع؟ أو نطلب من المالك أن يصبر؟ ونحن نعلم أن ديننا الحنيف دين كريم وهو دين يسر. أو يكون السبب في عدم إتمام هذا الاتفاق وهو ناتج عن عمل من صاحب المحل، يقول صاحب المحل إن هذا الشخص الآن لا يساعدني، وجدت أحسن منك أفضل أن أعطيه ما كان قد قررت أو جعلته خاصًا لي. هنا يقع نوع من الغيرة، وبالتالي المشكل المعروض علينا هو في هذا الحل فقط. في صورة عدم إتمام هذا الالتزام في صورة عدم انتهاء هذا العقد لمن يقع السبب. وأرى حسب عقود الالتزامات ألا نحكم مسبقًا بعدم العمل بهذا العمل بهذا النوع من العقود، لأنه كما قلت أولًا: إن العالم أو الفقير المحتاج بشدة إلى مثل هذا الإيجار المنتهي بالتمليك، وإذا كان قام المجمع الآن بإخراج فتوى لمساعدة كل ضعفاء العالم نستطيع أن نقول هو الأحرى ما نرويه فيه ولهذا أرجو من الجميع أن يقر بمثل هذا، وأعرف أن هنالك شروط العقد، وهناك شروط الإيجار، ولكن هذا النوع من المعاملات قد فرضته وهو موجود الآن ولا نستطيع أن نقوم نحن بمفردنا بالحكم بعدمها. وشكرًا.(5/2213)
الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني:
بسم الله الرحمن الرحيم
لي وجهة نظر، أرجو أن يتدارسها المؤتمر إذا بدا له ذلك، ومعلوم أن الأعيان تتكون من الرقبة والمنفعة. وفصل المنفعة عن العين وارد في الفقه ويمكن. وهذا في الوصايا في المنافع وفي الوقف. من هنا يمكن القول إنه يمكن أن نبيع المنفعة ابتداء بثمن قد يكون موازيًّا لسعر المنفعة مع الرقبة، لما قاله العلماء بإجماعهم أن الأصل في الأعيان منافعها. وأن الأعيان على الحقيقة هي ملك الله. فبيع المنافع في حقيقته بيع لكل العين بمنفعتها. ولكي نخلص إلى الصورة التي تراها المصارف أن المشتري للمنافع هنا يتصرف في منافعه كمالك. أما العين فهي باقية على ملك المالك، ثم يثبت إلحاق العين بالمنفعة بعد سداد ثمن المنفعة على أقساط تحدد لها مدة، إذا انتهى من الدفع ألحقت الرقبة بمنافعها. وبذلك نكون قد وصلنا إلى المبتغى، وفي نظري أن هذه الصورة يمكن أن تنجينا من كل الذي قيل من الشروط، ومن مخالفة مقتضى العقود. فإذا بدا للمؤتمر أن يتدارس هذه المسألة، فليكن ذلك وإن شاء الله يتوصل إلى نتيجة وشكرًا.
الدكتور محمد عمر الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا العقد هو من العقود المستحدثة الجديدة، وهو عقد مركب شكلًا لا قصدًا من إجارة وبيع، والقصد الحقيقي هو البيع، فالمشتري والبائع يقصدان من هذا العقد البيع في نهاية الأمر وليس الإجارة فهو عقد مركب – في نفس الوقت – من بيع وإجارة. الأقساط التي تدفع تختلط فيها القيمة الإيجارية مع قيمة البيع، وتعرف في الأصل القيمة الأساسية للإجارة أو القيمة الحقيقية للبيع. ثم إن القسط الأخير كما فهم أنه لا يصح إطلاقًا أن تحدد قيمة البيع قبل أن يعرف الثمن الحقيقي أو قبل التقويم الحقيقي، ففي نهاية العقد لا يتم تقويم للممتلكات هذه لأجل أن يتم البيع. فهذا الاختلاط بين القيمة الإيجارية وبين القيمة الحقيقية للبيع يثير بعض النقاط التي يجب على المؤتمر والمجمع أن ينظر إليها. وشكرًا.(5/2214)
الدكتور حسن علي الشاذلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الحقيقة أنا أريد أن أتعرض إلى نقطة وهي مسألة الشروط التي تقترن بالعقد، وحدث فيها الكلام حول الحديث الشريف: (( ((المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) )) . وأنه قد يكون الحلال والحرام باعتبار أن العقد نفسه يرد على الشرط فيحرمه أو يجيزه. الواقع أن الفقهاء ومنهم الإمام ابن تيمية بيَّن أن ما يراد بالحلال أو الحرام هو ما كان حرامًا في ذاته أو حلالًا في ذاته قبل ورود العقد، ومن ثم حينئذٍ إذا كان حرامًا في ذاته لا يصح أن نحلله أو العكس. ومن ثم انحصرت دائرة الشروط التي يمكن أن نقول إنها تبطل العقد، في الشرط الذي ينافي المقصود الأصلي من العقد. كبيع ويشترط فيه ألا يملك، أو نكاح وفيه طلاق أو ما إلى ذلك من الشروط التي تنافي المقصود الأصلي من العقد، وأيضًا الشرط الذي يخالف نصًّا عن الشارع، فإذا ورد نص عن الشارع فلا يجوز اشتراط ما يخالف هذا النص، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. ثالثًا: تكرر الشروط الفاسدة – كما رجحت – وهو إذا كان هناك أكثر من شرط فاسد يؤدي إلى إبطال العقد. لكن إذا كان هناك شرط فاسد واحد، فيمكن أن يبطل الشرط ويصح العقد، ومن ثم فما قاله الدكتور سامي بعد ذلك من مسألة الشروط. أولًا: غير وراد علينا في هذا الموضوع – الإيجار المنتهي بالتمليك – أن تكون السلعة نفسها قد استهلكت، دخلت في مباني، إسمنت بني به، حديد دخل في…، لا. نحن نريدها سلعة منفصلة، يمكن أن يستولي عليها المالك في اللحظة التي يختل فيها التوازن بين المؤجر والمستأجر ثانيًا: الأجرة كونها أكثر من ثمن المثل، في الصورة التي اقترحها من قبل، قلت إنها تعود إلى ثمن المثل، وحينئذ فإذا ما انتقض نعود إلى ثمن المثل، وما زاد عن ذلك حينئذٍ ليس من حق المالك، كونه يتخلص من التبعات بشروط أو بأخرى، أو بشروط، أو ما إلى ذلك، هذه الشروط إن كانت – والله – مما لا يتناقض مقتضى العقد فحينئذ نجيزها، وإن كانت تناقض حينئذٍ نرفضها والعقد يسير سليمًا في ذاته. الاقتراح بأن يكون هناك وعد بالتمليك التدريجي، والله أنا هذه أخشى منها، يعني لي خشية من التجزئة، وقد لا يقدم صاحب السلعة على مثل ذلك، الذي هو المؤسسة، يعني هل تقدم على أنه يتحول المستأجر إلى أن يملك جزءًا من السلعة؟ وقد يؤدي هذا إلى إحجام صاحب الملك عن الإقدام على ذلك، أما موضوع البيع بالتقسيط، فهذا أمره معروف يعني خارج عن دائرتنا، فهو بيع وهو بالتقسيط، وهذا أشير إليه في أثناء الأبحاث، وشكرًا.(5/2215)
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم
الهدف من أو الدافع إلى هذه المعاملة: هو أن أحد الطرفين يريد أن يمتلك السلعة ولا يريد الإجارة، هذا هو هدفه الأساسي وغرضه، هو التملك وليس الإجارة. ولكنه لا يملك الثمن ليدفعه في الحال. فماذا يفعل؟ أمامه طريقان، أن يشتري السلعة بالتقسيط وهذا واضح، ولكن قد لا يرغب – صاحب السلعة – في أن تخرج السلعة من ملكه، إذا باعها بالتقسيط فقد خرجت من ملكه من أول الأمر، ودخلت في ملك الطرف الآخر، وله أن يتصرف فيها كما يشاء. وقد عرض حل لهذه الحالة من ضمن الحلول التي ذكرها الشيخ بن بيه، والتي هي بيع بات يمنع فيه المشتري من التصرف، وخرجه على مذهب المالكية، وهذه الصيغة معمول بها في بعض البنوك، لكن لا عن طريق اشتراط عدم التصرف، وإنما عن طريق تسجيل –وهذا في الغالب يكون رد في المساكن أو في العربات مثلًا – تسجيل المسكن تسجيله باسم البائع ضمانًا للسداد. وهذا تسجيل يمنع المشتري من التصرف، لا يستطيع أن يتصرف إلا بإذن ممن سجل العقار باسمه أو لمن سجلت العربة باسمه، وهذا معمول به في كثير من البنوك، وهو يغني عن اشتراط التصرف، الذي قد يكون فيه شيء من المخالفة في بعض المذاهب. أيضًا قد يكون المشتري هو الذي لا يريد أن تدخل السلعة في ملكه، ولذلك لا يشتريها بالأقساط وإنما يلجأ إلى التأجير، هنا لكي يتفادى غرامات وضرائب قد تترتب على انتقال الملكية له إذا اشترى بالتقسيط، وهذا يزيد من عبء الثمن عليه، هو سوف يدفع الأقساط وهو لم يمتلك السلعة ملكًا كاملًا ويدفع ما يترتب عليه من مطالبات تطلبها منه الدولة، فيلجأ إلى الإجارة المنتهية بالتمليك، والشيخ ابن بيه عرض عدة حلول أو صور، قال إن بعضها جائز وبعضها غير جائز، والشيخ المختار اقتصر على صيغة واحدة، هي الوعد بالهبة في صلب العقد، الوعد بالهبة في صلب العقد، هذا هو تعبير الشيخ ابن بيه وقال إنه غير جائز، حسب ما فهمت أن الشيخ المختار يقول إنه جائز وأنا معه في هذا، وأظن أن هنالك فتوى- فيما أذكر- صدرت من بعض العلماء للبنك الإسلامي للتنمية. الصورة التي ذكرها الشيخ ابن بيه منها وعد بهبة لاحقة، هذا غير عملي، هي حصلت الإجارة ولن يدخل معه، مثلًا إذا كان البنك يود أن يتعامل الشخص المستأجر هذا لن يدخل إلا إذا ضمن أنها ستوهب له. فكون الهبة لاحقة لا يمكن تطبيقه، أما الصورة الثانية وهي الإجارة من بيع لاحق بخيار، ويبدو أنه أيضًا يريد هنا أن يقول ما موجود في صلب العقد. يعني حصلت الإجارة مجردة، ثم بعد سنة أو سنتين أعطى صاحبة السلعة. المستأجر أعطاه الخيار، هذا أيضًا غير عملي، وإنما العملي هو أن يكون في نفس العقد في عقد الإجارة، ومعها البيع على أن يكون للمستأجر الخيار يشتري من السلعة كما شاء وحيث ما شاء، وهذه هي الصورة التي ذكرها الدكتور سامي وهي معمول بها أيضًا في بعض البنوك، ويطلقون عليها اسم (الإجارة والاقتناء) . المستأجر هذا يدفع جزءًا كإجارة وجزءًا قد يتفق عليه من أول الأمر، على أنه من الثمن وبقدر ما دفع يتملك، وينبغى أيضًا أن تنقص الأجرة تدريجيًّا، لأن هذا المستأجر سيمتلك في كل سنة جزءًا من العقار الذي استأجره، ويبقى الباقى على ملك صحابه فيكون هو المستأجر، وهذه الصورة لا أرى بها بأسًا، أما فسخ البيع إذا لم يفِ بالثمن بالصورة التي ذكرها الشيخ بن بيه، فلا أظن أن مالك العقار سيرضى بها، وستشجع المستأجرين على استغلال الأملاك، أجرت المنزل ودفعت الأجرة عشر سنوات ثم توقفت، فقال لي الشيخ بن بيه: افسخ البيع، ورد أجرة العشر سنوات التي أخذتها وخذ أرضك، من يقبل بهذا؟ لا يمكن أن يطبق هذا، ولذلك أرى أن الصور الممكن الأخذ بها هي الوعد بالهبة في صلب العقد، أو الصور الأخرى التي ذكرتها، وهي المعمول بها في بعض البنوك، هو بأن الإجارة مع إعطاء المستأجر الحق في أن يشتري من الشيء المستأجر ما يريد وشكرًا.(5/2216)
الشيخ عبد الله بن منيع:
في الواقع لقد سمعت كثيرًا من تعليق الإخوان وكانت تعليقات مختلفة، وسبب الاختلاف فيها هو أن الصورة لا تزال غامضة، فلو أن أحدًا من إخواننا صورها التصوير الجيد لأمكن أن يتجه إليها الحكم الواضح، وبصفتي أحد أعضاء هيئة الرقابة في بعض المصارف الإسلامية، ففي الواقع هذه المعاملة نحن في الواقع لنا فيها معاناة ويمكن، وعلى كل حال، أرجو أن يسعفني اللسان بتصويرها، التصوير الذي يمكن أن تتضح به الصورة ويتضح به الحكم هو في الواقع التأجير المنتهي بالتمليك يفهم من عنوانه: والطريق المتبع هو أن يتفق المصرف مع طالب العين سواء كانت عقارًا أو كانت تجهيز مصنع، أو تجهيز مزرعة، أو أي شيء من الأشياء التي لها في الواقع قيمة اقتصادية، يحصل الاتفاق بين البنك أو بين المصرف الإسلامي وبين العميل، على أن يهيئ له هذه البضاعة، أو هذه السلعة، ثم يؤجرها له على اعتبار أن المصرف هو مالكها، يؤجرها له مدة معينة وقد تكون وقد لا تكون معينة. هذه المدة حينما يقوم بالتأجير فيها، أو حينما يقوم بتأجير هذه الاشياء لها هي في الواقع يتفق معه على أساس أن الأجرة هي كذا وكذا من المبلغ، ومتى وجدت عنده القدرة على شراء هذه العين أو شراء بعضها سواء كان هذا البعض قليلًا أو كثيرًا فله وعد بذلك، وتكون القيمة من واقع تكاليف هذه السلعة، يحسم منها ما أخذه أجرة لسنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، هذا نوع، نوع ثان، هو ممكن في الواقع على كل حال أن نعرف بأنه قد يكون هناك اتفاق فيما بينهما على أساس أن تكون الأجرة أو الإيجار المنتهي بالتمليك لمدة عشر سنوات، كل سنة يمتلك عشرة في المائة قبلًا، ومعروف قيمة ما يمتلكه في السنة الأولى، أو السنة الثانية أو السنة الثالثة، وهكذا معه رأس المال محسوم منه الإيجار للسنوات التي أخذها المصرف، وقد تكون المسألة مفتوحة للعميل، على أساس متى وجدت القدرة عنده على الامتلاك، في الواقع البنك لديه الاستعداد في أن يبيعه ما يقدر على شرائه من هذه الحصص، هذه في الواقع نوع، نوع ثانٍ هو في الواقع أن يشترك العميل مع البنك، ليس للعميل قدرة على الشراء أو على تملك هذه السلعة التملك الكامل، فيأتي البنك أو المصرف ويمول هذه السلعة بالتمويل الكامل ثم بعد هذا يأخذ العميل أو يعطيه العميل حصته بقدر قدرته، ممكن أن يكون عشرة في المائة، خمسًا وعشرين في المائة، عشرين في المائة، على قدر قدرته، فيكون العميل مالكًا لهذه السلعة بقدر حصته، ويكون المصرف مالكًا للسلعة بقدر ماله من حصة، يأتي التأجير تأجيرها على العميل، ما يؤجر المصرف على العميل إلا ما يملكه المصرف، نفترض أنه يملك خمسًا وسبعين في المائة، إذن لو قلنا أنه يؤجر هذه السلعة بمائة ألف معنى ذلك ليس للبنك أو للمصرف الإسلامي إلا خمسا وسبعين في المائة من هذه الأجرة، وهكذا يستمر كما وجدت في الصورة الأولى، أعتقد في الواقع أن هذا هو غالب ما عليه البنوك الإسلامية فيما يتعلق بالتأجير المنتهي بالتمليك، وإذا نظرنا إلى التكييف الفقهي لهذه العملية وجدنا أنه في الواقع يشتمل على تأجير ووعد بالبيع، تأجير حال لبضاعة قائمة بذاتها معروفة سلمت بيد العميل وفي نفس الأمر كذلك وعد ببيع لبضاعة يملكها المصرف، أعتقد هذا في الواقع تصويرها وطالما أن البضاعة مملوكة للمصرف، وهو في الواقع يريد أن يؤجرها، أو يريد أن يبيعها، فله حرية ذلك ولا يرد عليه ما يقال بأن في هذا بيعتين في بيعة أو أنه باع مالا يملك، أو ما أورد على ما يتعلق بالمرابحة فيما قبل أن يمتلكها البنك وشكرًا.(5/2217)
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
في الحقيقة، التأجير المنتهي بالتمليك عندما يقرأ الإنسان هذا العنوان يجد فيه قلقًا لغويًّا: ومدار بحث فقهي، العين المؤجرة لا نستطيع أن نقول العين الفلانية إنما هناك أنواع كثيرة. هناك الطائرة، السيارة، الباخرة، العقار، القطاع، الأرض البور، الأرض الزراعية، مولدات الكهرباء، الدواب، الأنعام، الأثاث، وكل نوع من هذه الأنواع له خصوصية، فما أظن أننا نستطيع أن نأتي بحكم عام على هذه الأنواع المتعددة المختلفة في خصوصياتها، الذي ترتاح له النفس وتطمئن أن يكون إيجارًا منفصلًا بعقد، وبعد ذلك للمالك أن يبيع، أن يهب أن يجدد الإجارة مرة ثانية. إذا قلنا نجري عقد الإيجار للمحافظة على العين الحقيقية الذي لا يحافظ على العين وهو يملكها في البيع، وهو مدين في ثمنها، لا يحافظ عليها وهو مستأجر لها. فعلى البنك أن يختار من يبيع عليه، وأن يختار من يؤجر عليه، يجب أن يؤجر على الشخصية المحترمة التي تلتزم في الأمانة وتلتزم في الأداء سواء كان مستأجرًا أو كان مشتريًّا. هذا ما وردت بيانه. وشكرًا.
الشيخ محمد عبد الغفار الشريف:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر جميع من تقدمني من المشايخ الفضلاء، لكن وإن كان ما تفضل به البعض منهم بأن نعتبر هذا العقد عقد إيجار متضمنًا لوعد الهبة، كأحسن حل هو يمكن أن يكون أحسن حل، لكن يرد عليه إشكال، أن هذا الوعد بالهبة غير لازم، لا يلزم البنك وممكن أن يتحلل منه في أي وقت شاء، فإذن يكون المستأجر قد دخل على غرر، بحيث أنه قدم في النهاية هذا الإنسان يتحلل من وعده ولا يهبه هذه العين التي اتفقوا على هبتها له، ثم يفضي إلى التنازع، ولايحق في أي حال لا يحق لهذا المستأجر، أن يقاضي هذا الإنسان الذي وعده بالهبة، لأن الهبة بذاتها ليست لازمة إن لم تقبض، فكيف بالوعد؟ جزاكم الله خير.(5/2218)
الدكتور درويش جستنية:
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الحقيقة أريد في الموضوع هنا أنه ينبغى فيه أن نفرق بين نوعين من السلع التي يمكن أن تباع، نوع تتجه أسعاره وأثمانه إلى الانخفاض بالاستعمال، وعرفًا دائمًا الآلات في المصانع والسيارات وكثير من الأشياء كلما زادت فترة الاستعمال كلما انخفض الثمن، فهذا نوع من السلع، وهناك نوع آخر، تتحسن قيمته بزيادة الاستعمال، كما في العقارات والأشياء المماثلة، فهنا ينبغي أن نفرق بين أنواع السلع، وقبل أن ندخل في هذه التفرقة بين أنواع السلع نقول: لو كانت هذه السلع التي يريد البنك أن يؤجرها، هو في الحقيقة إما أن تكون في الداخل أو الخارج لو كانت الصورة تتعلق ببنوك مثل بنك التنمية الإسلامي الذي يشتري معدات ومصانع لدول معينة، ففي هذه الحالة هذه حقيقة الأمر فيها الفكرة فيها أنها للتمليك وليست للتأجير، وكون الدولة تلتزم بدفع الأقساط – يعني – أو أنها تلتزم بدفع إجارة، في الحقيقة المسألة لا تختلف كثيرًا، لكننا نبحث عن أصل الملكية، هل كانت هذه الأدوات والمصانع أساسًا متوفرة لدى البنك الممول؟ هي ليست موجودة ولكن يشتريها بمواصفات معينة تضعها الدولة المعينة، أو يضعها الإنسان الذي يريد أن يستفيد من هذه الآلات، فعقد شرائها، هناك عقد لشرائها بمواصفات معينة، وهناك عقد لتأجيرها ووعد ببيعها، فصارت عقودًا متشابكة في عملية واحدة، الحقيقة هذه المسألة لا بد من بحثها بالتفصيل، كيف يشتري؟ وكيف يؤجر؟ وهذه المسألة لا يمكن أن تحسم بدون دراسة مستوفية لهذا الموضوع الآخر وهو كثير مما يمس حياة الناس، وهو تملك البيوت، الحقيقة أن تملك البيوت هذا تتدخل فيها مسألة لها علاقة بالزمن – يعنى – على مدى عشرين أو خمسة وعشرين سنة يتم التملك والنتيجة النهائية هي التملك لأن أسعار الأراضى والبيوت ترتفع في خلال هذه المدة مع الانتفاع بها. وهناك بعض الإخوة الأساتذة عرضوا فكرة أن يتم البيع من الأول على أساس أنه بيع بأقساط محددة، وأنه كل قسط يعتبر بيعًا من جزء هذا الأصل، وهذه طبعًا يمكن حسابها عمليًّا في التكلفة، بحيث أنه يخير، لو كانت مدة العقد عشرين سنة – مثلًا – فلو استطاع أن يدفع في عشر سنوات، يمكن له أن يدفع مع خصم معين، هذا مسموح به في الشريعة، لأنه عبارة عن تنازل عن القيمة، وهذا لا يمكن الاعتراض عليه، وتفعله كثير من الدول أيضًا في موضوعات الإسكان، ويمكن أن تفعله الشركات والبنوك. وأما إذا كان لم يدفع بعد انتهاء المدة، أو تقريبًا قبل انتهاء المدة بشيء قصير، فهذا معناه أنه يمكن بيع الجزء الذي تبقى، يعني الجزء الذي تم ودفع ثمنه يعتبر مباعًا إلى المشتري أو الساكن، والجزء الآخر يباع، وبذلك تتحقق مصلحة للبائع – الذي هو البنك – وتتحقق مصلحة لصاحب العقار إذا لم يرغب في استمرار هذا العقد، أما إذا أتم العقد فهذه ليست مشكلة، ويعتبر عقد بيع، ويمكن أن نستعيض بكلمة الهبة، أو التأجير والتمليك في النهاية، بما نسميه التنازل عن المنفعة، فإذا كان البنك يملك العين، فيستطيع أن يتنازل عن منفعتها بدون أجرة، وبدون أي شيء في إطار هذه الأقساط التي يحصلها، وعلى كل حال، فالمسألة تحتاج حقيقة قبل البت فيها – في رأيي – في هذه الندوة إلى مزيد من الدراسة التفصيلية للموضوعات حسب تقسيمها، وحتى يمكن أن ننتهي – ربما في جلسة قادمة – إن شاء الله – إلى قرار حاسم في هذا الموضوع، خاصة وأنه سبق للمجمع أن نظر في بعض العقود التي ينفذها بنك التنمية الإسلامي. وشكرًا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/2219)
الشيخ محمد علي عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
استفسار من العارض الآن، تفضلتم في مقدمة كلامكم وقلتم وتكلمتم عن بعض الأسعار التي ترتفع، وبعض الأسعار التي تنخفض، أريد أن أعرف هل الانخفاض والارتفاع يكون معتبرًا في العقد أم لا؟ أو يكون يقع الاعتبار في الآخر عند الهبة.
الدكتور درويش جستنية:
هو في الحقيقة أن الارتفاع أو الانخفاض شيء يطرأ، وليس له علاقة في داخل العقد، إنما لو انخفضت الأسعار فهذا من مسئولية المشتري، ولو ارتفعت الأسعار فهذا أيضًا من حظ المشتري، ولكن عندما يحصل خلاف في النهاية قبل التسديد، فالبيع يتم، بيع شرعي وبالسعر الحاضر، فيعتبر ما تم دفعه جزءًا من الثمن، وأما الباقي فينتفع به البائع والمشتري، وفي هذه الحالة لا يستطيع أحد أن يغرم دون الآخر، وإنما هما مشتركان في الربح ومشتركان في الخسارة. وشكرًا.
الدكتور عبد الله إبراهيم:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا يا فضيلة الرئيس:
أريد أولًا أن أستجيب لبعض ما أثاره بعض الخبراء وهو الدكتور الجبير، فإنه ذكر أن العملية عملية التأجير المنتهي بالتمليك مركبة من بيع وإجارة. فلهذا يتكون الإيجار من ثمن الإيجار وجزء من قيمة البيع، الذي يظهر لي، أن البيع المقصود هنا لم يتم بعد وإنما هو موعود به، وينبغى أن يعقد له عقد مستقل عن عقد الإجارة، وذلك لأن ما بين البيع والإجارة تباين من حيث المعقود عليه، فإن الإجارة يقصد منها المنافع، بينما البيع مقصود به عين ومنفعتها، ولا يجوز – في رأيي – أن يعقدا في وقت واحد لهذا التباين. وبالتالي فإن إضافة جزء من القيمة، من قيمة البيع وهو لم يتم بعد، ونظرًا لهذا التباين فإن هذه الإضافة – فيما يتراءى لي – أنه أيضًا غير مناسب، ولكن يمكن أن نلجأ إلى طريقة أخرى لهذه الإضافة، وهي أن يتفق الطرفان بإضافة مبلغ فوق ثمن الإيجار المناسب للسلعة، ويودع هذا المبلغ المضاف في الودائع الاستثمارية في البنك الإسلامي على أنه ضمان أو تأمين للمول ولا يسفتيد منه في الحال وإنما يستفيد به بعد إتمام عقد البيع، بعد انتهاء مدة الإجارة، على أنه جزء من القيمة، ويتسلم في الحال هذا المبلغ بأرباحه ويتسلم بقية القيمة على أقساط … إلخ، وشكرًا.(5/2220)
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدى الرئيس: الحقيقة أن الموضوع الذي هو بين أيدينا اليوم هو موضوع يتعلق بما يطلق عليه في القوانين الوضعية الصورية، وقد ذكره السنهوري وحلله في كتابه (الوسيط) في ضوء القوانين العربية بمقارنات وإن كانت قليلة مع الشريعة الإسلامية، ثم تعرض له القانون الكويتي في المادة 193 ,194. وتعرض له القانون المغربي في المادة 22، وقد أعددت عليها رسالة ماجستير في الصورية بين الشريعة والقانون. والخلاف يدور بين الحكم الشرعي الذي تعرض إليه الإخوان في مدار العقد بين الألفاظ والمباني، أو المقاصد والمعاني، فالمالكية في بعض آرائهم رجحوا الالتجاء إلى العقد الخفي، والحنفية ذهبوا إلى ذلك أيضًا. وقد شرح السنهورى- رحمه الله – هذا في كتابه الحقوق العينية والضمانات، أو مصادر الحق في الشريعة الإسلامية والقانون. والبحوث التي قدمت الآن، الدكتور عبد الله أعجبنى استنباطه في كتاب (الدرر) حيث نص على أن الخلاف وقع في الموضوع وعلى أن الخلاف إذا وقع حسب الرأي الذي استند إليه كان مدعاة للاجتهاد. لهذا فإن المجمع منذ البداية مزج الباحثون بين شيئين مختلفين، بيع العقار وبيع ماعدا العقار، ففي العقار المسألة واضحة وقد حلتها بلاد المغرب باتخاذ طريقة توافق الشريعة الإسلامية ويستفيد منها الضعفاء. ذلك أن الشركة أو البنك أو الجهة الممولة تبنى دورًا للسكنى فتحدد ثمنها، وتعرضه على الناس من أراد أن يشتري فليشترِ، يدفع قسطًا ضئيلًا جدًا في الأول، ويدخل المبنى على أنه ملك له وتبقى ما يسمى بوثيقة المحافظة العقارية التسجيل العقاري في الدفتر العقاري والذي هو إجراء لا يتعلق بالمسطرة الإسلامية، يبقى مؤجلًا حتى تنتهي الأقساط. أما صاحب العقار الذي يدخله فيصبح مالكًا لعقاره، لكنه مدين لصاحب المشروع بذلك المبلغ، وإن عجز عن أدائه تتبع في سبيله مسطرة أداء الدين في الشريعة الإسلامية بقي شيء هو الرهن الرسمي. ففي الشريعة الإسلامية الرهن – حسب ما لدي من معلومات متواضعة – الرهن وعد واحد، الرهن الحيازي وليس هناك رهن رسمي، بينما في الغرب نجد الرهن الحيازي والرهن الرسمي أي أن الشخص يكتب على صك الملكية أنها مرهونة وأنه لا يستطيع التصرف فيها إلا بعد أن تطهر من الدين الذي أصبح لاحقًا بها، فكان في نظري من اللائق أن يدرس المجمع الموقر شرعية أو عدم شرعية الرهن الرسمي فإذا توصلنا إلى جوازها فالمسألة محلولة؛ لأن المسطرة الموجودة هي مسطرة تسهل على الضعفاء. وأظن على أن جمعنا الموقر يريد إيجاد السبل التي تسهل على ضعفاء المسلمين الانتفاع بما بيدي أغبيائهم عن طريق تغاير الربا، أما إذا نحن نسقنا مع نظريات البنوك التي تهيؤها من أجل أن تضمن لنفسها الربح فإننا سنسد كل سبيل على الضعيف يمكن أن ينتفع به من مال الأغنياء، إذن فالمسألة في نظري ينبغى أن يفرق فيهما فيما بين تأجير الطائرات والسيارات، وهذا شيء لا أرى أنه يجوز إلى الدرجة التي يقول الجميع هنا لأنه عين تندثر، فإذا بيعت يمكن أن يبقى دين ممتاز أو دين ليسدد من ما بيد المدين. أما أن يأخذ شيئًا يمكن أن يندثر في يوم أو في يومين ويؤجره في شهر أو شهرين أو ثلاثة، وتأخذ الشركة أقساطًا من التأجير وعندما يهلك تصبح تطالبه بالدين كله، أو عندما يصبح لا فائدة فيه بعد عشر سنين يصبح ملكًا له، فهذا فيه مضرة للضغيف. ولكنني لا أتدخل هنا لأن المسألة أظن أنها ينبغى أن تدرس شرعيًّا فيما يرجع إلى الأشياء التي تندثر والأشياء غير العقار. أما العقار فينبغى أن يكون عقد تمليك من اللحظة الأولى، وأن تكون جهة التمويل تطالب الشخص فقط بذلك المبلغ على أنه دين مقسط. والدين المقسط جائز في الشريعة الإسلامية. وشكرًا لكم.(5/2221)
الدكتور يوسف محمود قاسم:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وتمسك ومسك بشرعه إلى يوم الدين.
الذي دعاني إلى طلب الكلمة في خلال دقائق معدودة مجموع ما سمعته وتعلمته من العلماء الأفاضل جزاهم الله خيرًا، استنتجت مما سمعت أن الصورة لا تزال يكتنفها الغموض، وأن هذا المجمع الموقر له كلمته المسموعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، والعالم الإسلامي ينتظر منه كلمة في أي موضوع، فإذا قال كلمته صارت حجة ملزمة. بالنسبة للموضوع الذي يكتنفه الغموض، فإنى أرى التريث في إصدار القرار حتى تصوروه على بينة، وحتى نصل إلى الحق الذي يرضي الله عز وجل ويرضيه عنا. وهنالك فارق كبير بين بحث فردي، باحث يجتهد ويبحث في رسالته أو بحثه أو موضوعه جزاه الله خيرًا، أيضًا هيئة شرعية في مصرف أو في بنك إسلامي وعملهما في الواقع لا يخرج عن كونه عملًا فرديًّا، أما هذا المجمع الموقَّر فله إجلاله وله منزلته في قلوب المسلمين جميعًا. ولذلك أرى أن هذا الموضوع لا بد أن نبحثه من جميع جوانبه وحتى نصل إلى الحق الذي يوفقنا الله إليه. شكرًا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
في تدخلي نسيت أن أتحدث عن قضية هامة – تفضل بعرضها الدكتور سامى حمود – هي التمليك التدريجي والتي عقب عليها كثير من الأخوان على أنه صورة من العقد يمكن قبوله، وهذا العقد في نظري هو لا يمكن قبوله شرعيًّا، ذلك أن التمليك التدريجي معنى ذلك أنه عند العقد إنما بيع جزء من العقار أو من الشيء المكتري، ثم إنه بعد ذلك يباع قسط آخر فهو قسط آخر وزعه عند البيع حالته هي غير معلومة، فبيعه من الآن بثمن معلوم ومحدد يترتب عليه أن يكون الثمن معلومًا وأن يكون المثمن غير معلوم، وكون المثمن غير معلوم لا يصح شرعًا، فأرى هذه الناحية لو نظرنا بالنظرة الأولي لنجد فيه خللًا. أما إذا تدققنا في النظر فلن نجد فيه هذا الخلل إلى يمنع منه. وشكرًا.(5/2222)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الواقع أن الإيجار من خلال البحوث التي جرت في المناقشات أن الإيجار المنتهي بالتمليك هو عنوان لا يمكن في الظاهر ترتيب حكم عليه بصفته عنوانًا لما ينطوِ عليه من عدة صور سواء كانت الصور القانونية المعمول بها قانونًا، أو الصور المعدلة أو الصور المقترحة ابتداءً. وفي الواقع قد تنتهون أو ترون أحد اتجاهين: إما أن يؤلف لجنة جريًّا على ما جرينا عليه، وننظر ماذا تنتهي إليه في صورة من الصور، أو في عدد من الصور، أو أنه يكون من الآن يقترح تأليف لجنة على الأمانة العامة، ويؤجل إلى الدورة اللاحقة، ويؤلف له ندوة من اقتصاديين متخصصين ومن شرعيين حتى تجمع الصور، لأن الصور التي أثيرت هنا لم تمر في أي بحث من هذه البحوث، وعدد من الصور كذلك مع مرورها في البحوث لم تتطرق لها المناقشة. فعلى كل الأمر متروك إليكم، فهل ترون أن نؤلف لجنة، وتدرس الموضوع فإن انتهت إلى شيء بعينه من هذه الصور وكان محل اتفاق أو أغلبية فذلك المطلوب، أو أن يقترح تأليف ندوة ويؤجل الموضوع بكليته إلى الدورة القادمة.
الشيخ محمد المختار السلامي:
نظرًا لأن الحل الأول هو سينتهي إلى الحل الثاني:
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم:
يا سيدى من فضلك، إن هذا الموضوع قد وقع بحثه في الدورة السابقة، وأجل النظر فيه إلى هذه الدورة والموضوعات التي أرجئت أربعة، هذا رابعها. ولذلك أنا أرى أن الاقتراحين اللذين تقدما بهما – فضيلة الرئيس – ممكن الجمع بينهما. الجوانب التي بحثت وأخذت حظها من النظر تشكل اللجنة لتقديم الاقتراح المتعلق بالقرار المطلوب فيها، والجوانب الجديدة وهي كثيرة وتحتاج حقيقة إلى درس هي التي نعقد لها الندوة ويكون عرض نتائج هذه الندوة على المؤتمر القادم بإذن الله للتعرف على وجهة النظر فيما يخصها. وشكرًا.
الرئيس:
شكرًا.
ممكن قد تكون اللجنة تنتهي إن شاء الله إلى الجمع بين الرأيين. اللجنة هي: الشيخ عبد الله بن بيه، الشيخ حسن الشاذلي، الشيخ محمد الصديق، الشيخ محمد المختار، الشيخ عبد الله محمد علي، الشيخ عبد الله محمد عبد الله مقررًا.
موافقون.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(5/2223)
مناقشة القرار
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
قرار رقم (6)
بشأن
الإيجار المنتهي بالتمليك
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الإيجار المنتهي بالتمليك) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولًا: إذا كانت الحاجة إلى هذا النوع من التصرف تحصل بالبيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية فالأفضل الاكتفاء به عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك المبينة فيما بعد.
ثانيًا: للإيجار المنتهي بالتمليك عدة صور جائزة شرعًا منها.
(أ) عقد إجارة …
الرئيس:
بدل فالأفضل، فالأولى.
أبو غدة:
للإيجار المنتهي بالتمليك عدة صور جائزة شرعًا منها:
(أ) عقد إجارة مع الوعد بهبة العين المستأجرة عند الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية على أن تكون الهبة بعقد منفصل.
(ب) عقد إجارة يحتوي على عقد هبة معلق على شرط هو سداد جميع الأقساط.(5/2224)
(ج) عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد انتهاء العقد وسداد جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال هذه المدة في واحد من الأمور التالية:
- مد مدة الإجارة.
- إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها.
- شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.
ثالثًا: هناك صور أخرى يطلب من المصارف الإسلامية تقديم نماذج لعقودها وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود سواء بالنسبة للعميل.
مناقش:
أو المصرف
دكتور أبو غدة:
أم المصرف لعرضه في دورة قادمة وبحثها وبيان حكمها في ضوء ما يقدم بِشأنها من بيانات.
الرئيس:
يكفي. اقرأ أولًا.
دكتور أبو غدة:
أولًا: إذا كانت الحاجة إلى هذا النوع من التصرف تحصل بالبيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية فالأولى الاكتفاء به عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك المبينة فيما بعد..
الرئيس
هذه مناسبة أظن أنه ما هي محل أخذ ورد.
دكتور أبو غدة:
ثانيًا: للإيجار المنتهي بالتمليك عدة صور جائزة شرعًا منها.
(أ) عقد إجارة مع الوعد بهبة العين المستأجرة عند الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية على أن تكون الهبة بعقد منفصل.
الرئيس:
أرى الإخوان خرجوا … لماذا؟ سيعودن وإلا؟
مناقش:
هنا يا سيدي في النقطة (أ) هل يكون الوعد بالهبة هذا لازمًا أو غير لازم غير مدكور في هذا القرار؟(5/2225)
الرئيس:
عقد إجارة مع الوعد بهبة العين المستأجرة عند الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية على أن تكون الهبة بعقد منفصل.
مناقش:
يعني إذا كانت هذه الهبة، الوعد بالهبة لازمًا، فهنا إذن لي ملاحظة عليها لأنه يخرج هذا العقد من طبيعة الإجارة إذا كان الوعد بالهبة لازمًا.
الرئيس:
صحيح
مناقش:
أما أن نحذف (أ) ونكتفي بـ (ج) فقط، وكذلك (ب) ما فهمت ما المقصود من هذا عقد إجارة يحتوى على عقد هبة معلق على شرط هو سداد جميع الأقساط. فهناك يعني …
الرئيس أنا أرى أننا نحن نترك هذه لا نثبتها ولا ننفيها حتي نمشي للتي بعدها نشوف ماذا يثبت في أيدينا من هذه الصور. نشوف حتى تتبلور أكثر.(5/2226)
الشيخ المختار:
أعتقد أنه في المناقشة اتفقنا على هاتين الصورتين: الصورة الأولي وهي عقد الإجارة مع الوعد بهبة العين، وأن يكتب هذا أن تكتب الهبة في عقد منفصل وهذا الأصل وهذا الأفضل ثم إنها كذلك يجوز أن تكتب في نفس العقد، الهبة في نفس العقد، وعندنا الهبة هي تلزم بالنطق، بمقتضى العقد انتهت. هي ليست لازمة هي تلزم ولكن نطالب بالحوز والحوز هو تحت يده، فالهبة تلزم بمجرد انتهاء الأجل، لكن الذي أتوقف فيه هو هذا العقد الثالث، لأننا نحن نتحدث عن الإيجار المنتهي بالتمليك فإذا بالصورة الثالثة تأتينا على أنها تنتهي بمد مدة الإجارة أو إنهاء عقد الإيجار ورد العين المأجورة إلى صاحبها، أصبحنا نتحدث عن أشياء ليست داخلة في الموضوع الذي نتحدث فيه وما تحدثنا عن هذه الصور أيضًا فيما أذكر في المناقشات.
الرئيس:
لا، أما الصورة الثالثة فهي التي تحدثنا عنها بكثرة يا شيخ. الصورة الثالثة خاصة.
مناقش:
وهي السليمة.
الرئيس:
وهي السليمة وأذكر أن عددًا من الإخوان ركزوا عليها. هذه هي الصورة الثالثة.
الشيخ المختار:
الصورة الثالثة ليس فيها إيجار منتهي بالتمليك.
الرئيس:
لا، المهم أننا تحدثنا عنها، هذا يقين.
الشيخ المختار:
هي خارج الموضوع.
الرئيس:
لا لا، أقول قصدي أنها دخلت في المناقشة ما فيها إشكال، أما هي فالذي يظهر – والله أعلم – أنها هي أسلم الصور كلها ما فيها إشكال بالنسبة لي.
الشيخ المختار:
ليست من الإجارة المنتهية بالتمليك هي شيء آخر، نحن نتحدث عن الإيجار المنتهي بالتمليك، عندما تقول عند نهاية الأجل يتمدد أجل الكراء أو عند انتهاء الأجل يعود الملك لصاحبه ليس هذه هي الإجارة المنتهية بالتمليك المعروضة هو أمر آخر فهو حديث خارج الموضوع.
الرئيس:
طيب، لو يعني طالما أن أولًا إذا كانت الحاجة إلى هذا النوع من التصرف تحصل بالبيع بالأقساط، هذا بديل أم لا؟
مناقش:
بديل.
الرئيس:
هذا بديل. نفس فقرة (ج) كذلك بديل. هي بديل للإيجار المنتهي بالتمليك. أليس كذلك؟
مناقش:
صحيح. نعم، بديل.
الشيخ المختار:
إذا وضعناها كبديل مقترح ما فيه مانع، لكن لا بد من أمر خاص وهو شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة. هذا البيع على سعر السوق بعد عشرين سنة. أنا في الواقع عندي فيه توقف.(5/2227)
دكتور الضرير:
الصورة الأولى: المقصود بها تفضيل هذه الصورة على الإجارة المنهية بالتمليك.
الرئيس:
هذا واضح
دكتور الضرير..
وإذا لم يمكن نعم، وهذا هو القصد الذي من أجله وضعت لأنه الغرض من هذه العملية كلها المعاملة هو التمليك، فإذا كان ممكن أن تتم عن طريق البيع بالتقسيط فهو الأفضل إذا حصل ما يوجد عدم الصيرورة إلى هذه الصيغة التي هي البيع بالتقسيط فهذه الصور الثلاثة هذه، هي كانت محل اتفاق. الصورة الثالثة: التي أشكلت على الشيخ المختار، هي داخلة في الموضوع، أولًا من حيث الجواز ما أظن أن أحدًا يختلف في جوازها، ومن حيث دخولها وعدمه هي داخلة لكن كل ما هناك أنها أعطت المستأجر الخيار في أن يتملك أو لا يتملك. تباع العين المأجورة بسعر السوق. الفرق بينها وبين الصور السابقة أنه في هذه الصورة الثالثة الإيجار يكون بأجر المثل الحقيقي لأن المستأجر في الآخر سيشتري بسعر السوق، لكن في الصور التي قبلها تنتهي بالهبة في الغالب الإيجار يكون بحيث عندما ينتهي آخر قسط يكون استوفي الثمن كله فتكون هبة.
الرئيس:
لكن في الصورة الأولى عقد إجارة مع الوعد، يعنى وعدًا ملزمًا أو غير ملزم هنا؟ لأننا إذا قلنا عقد إجارة مع الوعد بهبة ملزمة..
دكتور الضرير
وعد ملزم.. التصرف واحد
الرئيس:
فإذا صار ملزمًا فالصورة صورة إيجار والحقيقة.(5/2228)
مناقش:
تمليك.
والحقيقة يخرج عن طبيعة الإيجار.
الرئيس:
أي نعم، ما رأيكم لو يعني طالما أن ثالثًا قيل هناك صور أخرى أنه بمسألة الإيجار المنتهي بالتمليك أنها تطرح البدائل التي هي أولًا بيع التقسيط والعقد (حـ) الذي فيه الخيارات الثلاثة.
مناقش:
هذا أحسن.
الرئيس:
ويكتفي عن (أ) و (ب)
مناقش:
هذا أحسن
يكفي هذا أحسن.. هذا أحسن
الرئيس:
ما رأيكم؟ شوف يا شيخ مختار نحن نكتفي بأولًا الذي فيه بديل بعقد التقسيط ونكتفي بـ (حـ) الذي فيه الخيار بين أمور ثلاثة.
الشيخ المختار:
بمعنى أننا لم نحل شيئًا من المشكلة في القضية المطروحة علينا.
الرئيس:
لأن ثالثًا توحي بالدراسة مستقبلًا. ثالثًا آخر القرار عندك
الشيخ المختار:
أيه شفته شفته أنا قرأته ما أتحدث إلا وقد استوعبت القرار، الموضوع المقترح المعروض علينا: هو الإيجار المنتهي بالتمليك، هذا إما أن نقول إنه حرام وهذه هي البدائل، وإما أن نقول إن الإيجار المنتهي بالتمليك هو عقد يمكن أن يسوغ على الطرق التي يمكن أن يسوغ بها.
الشيخ التسخيري:
نقول – لأن فيه إشكالات- الأفضل الآن الاتجاه إلى البدائل حتى تدرس العقود من جديد.
الرئيس:
هذا هو، ما فيها شيء هذا طيب.
الشيخ المختار:
حين انتهينا إلى أن الإيجار مع الهبة وهذا ما وقع والتسجيلات موجودة على أن الإيجار المنتهي بالهبة هو جائز شرعًا وهو أفضل الوجود ووافق عليه كل الناس.
الرئيس:
لا أبدًا، لا أبدًا الاتفاق ما حصل سلمك الله، أما البحث فهو نعم بحث أما الاتفاق فلا.(5/2229)
الشيخ المختار:
أذكر أظن أن الشيخ الضرير يذكر وقال هذه صورة نتفق عليها، وأظن أن الشيخ الضرير تدخل بمثل هذا التدخل.
الشيخ الشريف:
عفوًا أولًا، التعبير أولًا فيه خطأ واضح، لأنه ما يمكن أن نقول إذا كانت الحاجة تحصل، سد الحاجة أو قضاء الحاجة يحصل ولكن العبارة تكون الأفضل بالشكل التالي: إذا كان البيع بالأقساط مغنيًّا عن هذا النوع من التصرف فالأفضل الاكتفاء به عن صور الإيجار إلى آخر، يعني الحاجة لا تحصل بالبيع وإنما نقضي الحاجة، نسد الحاجة بالبيع بالأقساط.
الرئيس:
الحقيقة البيع بالتقسيط مع الرهن يعني واضح أنه
الشيخ الشريف:
يعني إذا كان البيع.
الرئيس:
لا، لأنه يكون مع حصول الضمانات الكافية
الشريف:
لكن العبارة تبدل يعني العبارة غير صحيحة(5/2230)
الشيخ تقي الدين العثماني:
لو اكتفينا بالبدائل. لو جعلنا القرار أن المقصود من عقد الإجارة المنتهي بالتمليك يمكن أن يحصل عليه بصورتين، الأولى: البيع بالتقسيط. والثانية: ما ذكرناه في (حـ) فيعني نقول أن المقصود من الإجارة المنتهية بالتمليك يحصل بهاتين الصورتين شرعًا.
الرئيس:
هو المهم إذا رأيتم لأن هذا فيه احتياط وفيه ترك للخلاف في الصور التي يعني هي..
الشيخ المختار:
بالله يا سيادة الرئيس الواقع أن الحقيقة لأنه لما عرض علينا هذا التعامل من المصارف الإسلامية هو أن البيع بالتقسيط لا يوفي بالغرض لأن البيع بالتقسيط ينتقل ضمانه وتنتقل الملكية إلى المشتري من أول يوم، بينما الإيجار هو صورة يريد منها المالك أن يبقى الملك له، ولا تنتقل عنه الملكية إلى أن يستوفي ثمن المبيع، هذه هي الصورة التي من أجلها وقع التعليل، إما أن يقول إنه يريد البيع بالتقسيط، فهذه قضية عرفها حتى صغار العلماء، ما هي القضية التي نحن نعطيها بديلًا ونقول هذا بديل، القضية هو أن الشخص يريد أن يبيع وأن يبقى الملك تحت تصرفه في البيع والشراء والتفويت ولا ينتقل التصرف إلى المستأجر.
الشيخ تقي الدين العثماني:
وهناك يختار الصورة الثالثة وهي مذكورة في (حـ)
الشيخ المختار:
عند انتهاء المدة قد دفع الثمن كاملًا، نعطيه مثلًا وهذا بينته، قلت إنه إذا كان شركة تريد أن تشتري محركين لطائرة فتأتي إلى المصرف الإسلامي فيشتري لها المحركين ويبقى المحركان أو الطائرة تحت ذمته هو المسؤول عنها وهو المالك لها إلى أن يقع الخلاص، ففي اليوم الذي يقع الخلاص بمجرد انتهاء الخلاص تنتقل إلى ملك المشتري أو المستأجر. هذه الصورة التي تقع في الواقع يريدون لها حلًا فنقول لهم نحن بيعوا بالتقسيط، يقولون: ما هذا الذي يريدون، هذا نوع من الأنواع الذي تعرض له البنك الإسلامي للتنمية وغيره.
مناقش:
ووقع الاتفاق عليه.
الرئيس:
طيب … لا ما وقع الاتفاق صدر بالأكثرية في عمان عقد إجارة مع الوعد بهبة ملزمة مع وعد ملزم أو غير ملزم؟ أنا أسأل الشيخ المختار.
الشيخ المختار:
الوعد ملزم لا شك فيه يا شيخ
الرئيس:
مهلًا يا شيخ، مع وعد ملزم؟
الشيخ المختار:
ملزم لا شك فيه
الرئيس:
طيب، هل يتلاقى مع ما قرر في المرابحة على اشتراطكم أن يكون الوعد الملزم، ما كان ...
الشيخ المختار:
الهبة … الهبة … الهبة… عندما تحدثنا في الآخر هو في عقد المعاوضة، وهنا نتحدث عن عقد هبة، وعقد الهبة يجوز عند المالكية بكامل الوضوح.(5/2231)
الرئيس:
أن يلزم الناس ...
الشيخ المختار:
لأنه على سبب.
الرئيس:
يجوز أن يلزم الناس بأن يهبوا؟ يجوز الإلزام بأن يهب فلان؟
المختار:
أنا لا ألزمه هو وحده، هو التزام أنا ما ألزمت أحدًا. أنا قلت على كذا فإذا وهب تفضل فإذا يريد ألا يقع هذا العقد فلا يقع. ما ألزمت أحدًا.
دكتور الضرير:
في رأيي أن هذه الصيغة مقبولة هو كما قال الشيخ المختار، وأنا كنت معه في هذا الاجتماع وأجزنا هذه الصيغة ولا أرى فيها إشكالًا، هو عقد إجارة هذه ما فيها كلام مع الوعد بهبة، ونحن كنا قررنا أن هذا الوعد وعد من جانب واحد، وعد بمعروف. فنحن قررنا أن الوعد من جانب واحد ملزم ديانة وملزم قضاء إذا أدخل دخل الموعود في إفساد، وهنا واضح أنه الشخص هذا جاء دخل في هذه الإجارة وأجر لأن هذا وعده بأن يهبه في آخر الأمر هذه السلعة، فالقواعد منطبقة على هذه الصورة فيما أرى وهي التي تحل المشكلة في الواقع التي عرضت علينا في وقتها وهي مشكلة البنك الإسلامي للتنمية، ويعتقد أن كل ما شابه موقف البنك الإسلامي يمكن أن تنطبق عليه هذه الصورة ولا أرى فيها مخالفة شرعية.
الرئيس:
طيب وإذا كان الأمر كذلك ما هو السر في أن تكون بعقد منفصل لولا وجود التواطؤ المسبق؟
دكتور الضرير:
هذه كانت وعدًا فقط، وعد ملزم. هو ما قال له وهبتك، هو جائز حتى لو وهبه وعلقها التي هي الصيغة الثانية: عقد إجارة على عقد هبة معلق على شرط الوفاء. الصورتان جائزتان عندي، لكن الحالة الأولي لا بد من إنشاء الهبة لأن الوعد وحده لا ينشئ الهبة، فإذا انتهت المدة يقول له: وهبتك. وحسب مذهب المالكية الذي نأخذ به على أنه حتى بالصيغة تصبح الهبة لازمة.
الشيخ المختار:
عندنا: وحيث ما شرط على الطبع جعل، فالأحسن كتبه بعقد منفصل هوأي صورة ولا مانع أن نكتبها في نفس العقد.(5/2232)
مناقش:
بالنسبة للهبة الموعود بها، فإن هذا يأتي بمشكلة أخرى، فإن المؤجر نظرًا لوعده الهبة فإنه سيضع مقابلًا لهذه الهبة الموعود بها مبلغًا آخر فوق الإيجار المناسب، هل يجوز أن يوضع مبلغ للهبة الموعود بها والهبة لم تقع بعقد؟ هذه هي مشكلتي.
مناقش:
أنا أقول بأن الأن الصورة (ج) أعتقد بأنها هذه محل اتفاق بيننا جميعًا.
الرئيس:
نعم، هذا مناسب.
مناقش:
طيب، باقية الصورة (أ) والصورة (ب) ، الآن إذا أحببت فضيلتك أنك تأخذ الأصوات على بقائهما أو عدم بقائهما، لا يوجد لدينا مانع، لأنها هي يبدو أنها مسألة خلافية، لكن في الوقت نفسه.
مناقش:
لا نسمع(5/2233)
الرئيس:
لا، لا، واضح. كلام الشيخ كما جرى البحث فيه الآن على أن عندنا بيع التقسيط، وعندنا عقد الإجارة مع الوعد بالهبة وعندنا عقد الإجارة يحتوي على عقد هبة معلق على شرط، وعندنا عقد الإجارة الذي فيه واحد من ثلاث خيارات. والاتفاق هذا لا إشكال فيه واقع عن الصيغة الأولى وهو عقد التقسيط كبديل، وعلى فقرة (ج) كبديل آخر، يبقى هذان الموضوعان فقرة (أ) وفقرة (ب) ، هل ترون إبقاء هاتين الفقرتين أو حذفهما؟ ويبقى في القرار البديل.
مناقش:
حذفهما.
الرئيس:
أما أنا فأرى الحذف. والذي يرى الحذف يرفع يده.
الشيخ المختار الاسلامي:
بالبديل لا من فضلك لا، أما بالبديل غير ممكن، أما يبقى البديل وحده، هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن المجلس أنه يقول: الإيجار المنتهي بالتمليك ثم نقول بالبديل فقط، بمعنى أنه لا يجوز.
الرئيس:
لا، لا ما هو كذا يا شيخ مختار. نحن سنقول في الفقرة الثالثة، سنصوغ العبارة من جديد، سنقول: أن صور عقد الإيجار المنتهي بالتمليك تحتاج إلى مزيد من تقديم هذه العقود وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود سواء بالنسبة للعميل أو المصرف لعرضها في دورة قادمة، والمجلس يرى بديلًا أي يرى كحل مؤقت أو كحل. يرى أن التعامل الآتي يعني حلًّا مؤقتًا كذا وكذا.
المختار السلامي:
سيدى.. سيدي الرئيس: الواقع الحقيقة أن هذا الحل ليس حلًّا، وإنه ليس الذي يطلبه التعامل المصرفي حاضرًا.
الرئيس:
هو دلالة.
المختار:
تقول له كحل وليس حلًّا، فلتبق القضية كلها للدورة القادمة. أما أن تقدم الحلول هذه التي ليست حلولًا؟!
الرئيس:
إذا رأيتهم تبقى كلها تبقى.
المختار:
أنا أرى أن تبقى أن يكون (أ) و (ب) تبقى. إذا رأيتهم حذف الكل حذف الكل، أما البديل فقط ليس بديلًا، لأن البديل بمعنى أنه شيء يمكن تحقيقه يحقق الغرض، وهذا لا يحقق الغرض.
مناقش:
هو (حـ) باقي بطبيعته محل اتفاق (حـ) … محل اتفاق
الرئيس:
(حـ) محل اتفاق.
مناقش:
يبقى الخلاف هو فقط، في (أ) و (ب) .(5/2234)
مناقش:
عفوًا فقرة (حـ) أنا أخالف فقرة (حـ) حقيقة لأنها فعلًا تحقق مصلحة الضعيف، لأن لا مصلحة للمستأجر هنا ما أعطيناه أي شيء، بالعكس أعطيناه ثلاث خيارات، والخيارات كلها تمثل الضعف، ونحن علينا أن نحمي الجانب الضعيف. أليس كذلك؟
الرئيس:
هل ترون تأجيل الموضوع؟
مناقش:
نعم.
الرئيس:
هل ترون تأجيله بالكامل.
الدكتور الصديق الضرير:
أنا أرى أنه إذا كان مجرد تأجيل لـ (2) و (39) ، لا، ما نعمل بهذا. التأجيل للتي بها البحث، لكن إذا كنا سنبت فيها بأنه جواز أو عدمه لا. مجرد تأجيل تدخل مع ثالثًا، تدخل في الصور التي ستقدم وتشرح فيما بعد شرحًا وافيًا ونكتفي بالاثنين.
الرئيس:
أي الاثنين؟
الصديق:
الأول البيع بالتقسيط و (ج) ، نثبت البيع بالتقسيط ونثبت (حـ) على أن هي فيها بديل ونرجئ ...
الرئيس:
ونرجئ الموضوع.
الضرير:
هذا ممكن في الحقيقة إذا رأيتموه مناسبًا؟
الذي يرى أن تبقى مسألة بيع التقسيط وفقرة (حـ) ، ويرجأ موضوع الإيجار المنتهي بالتمليك إلى الدورة القادمة.. يرفع يده.
الأمين العام:
يا سيدي أنا أقترح اقتراحًا: بالنسبة للدراسات التي قدمت في الموضوع لم تقدم إلا دراسة واحدة، والدراسة الواحدة لا يمكن أن نبني عليها أحكامًا مفصلة، وإذا كنا بالنسبة لشطر هذا الموضوع قد اقترحنا التأجيل فليؤجل الموضوع كله، وتأتي الدراسات وبعد ذلك ننظر انتهى الأمر.(5/2235)
الرئيس:
الدراسة فيها أربع خمس دراسات يا شيخ.
أبو وغدة:
صغيرة
الرئيس:
فيها خمس دراسات. على كل نحن اتخذنا قرارًا بالتأجيل ونرى للدلالة على حل في هذا الموضوع مؤقت يراه العلماء لا محظور فيه (البيع بالتقسيط) وما ورد في فقرة (حـ) من التخيير وليس فيها محظور.
المختار السلامي:
سيدي الرئيس.. كلامنا مثلما يقول شخص أنا جائع وأريد أن آكل ونقول: تفضل أنا أعطيك جبة ألبسها، هذا أمر مناسب، رجل يطلب منك شيئًا … فالبديل هو أن يكون من الموضوع.
الرئيس:
على كل نحن بين أمرين: إما أن يؤجل الموضوع بكليته.
الشيخ المختار:
بكليته … إما كليته أو …
الرئيس:
أو نذكر … لأن – حقيقة – هاتين الفقرتين تعب عليهما وجرى حولهما مناقشات كبيرة فكونهما تقران فيها دلالة وإرشاد للناس.
مناقش:
تبقى هاتان الفقرتان، ونؤجل الفقرة (أ) و (ب) ألف وباء نؤجلهما…
الضرير:
إذا أجلنا كل الموضوع لم نكن فعلنا شيئًا.
الرئيس:
إذن أنا أري في الواقع ويرى عدد من الإخوان الاكتفاء ببيع التقسيط وفقرة (حـ) ويصاغ القرار من جديد ويكون الإيجار المنتهي بالتمليك يؤجل.
المختار الإسلامي:
عجيب، مجمع الفقه الإسلامي يجتمع لكي يقول: إنه يجوز البيع بالتقسيط، لأن مجمع الفقه الإسلامي يريد أن يقول: أن تبيع الإيجار عندما تنتهي الإجارة يجوز ذلك أن تبيع بالتقسيط…
الرئيس:
ما قلنا يجوز…. ما قلنا يجوز بيع التقسيط.. لا ما قلناه، إنما قلنا دلالة. أظن قلتها أكثر من عشر مرات دلالة على أن هذا كبديل مؤقت. المهم الذي يرى هذا يرفع يده انتهى يصاغ يا شيخ عبد الستار.(5/2236)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه
قرار رقم (6)
بشأن
الإيجار المنتهي بالتمليك
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409هـ/10 إلى 15 كانون الأول) ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع) الإيجار المنتهي بالتمليك) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (1) في الدورة الثالثة بشأن الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامى للتنمية فقرة (ب) بخصوص عمليات الإيجار.
قرر
أولاً: الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى منها البديلان التاليان.
(الأول) : البيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية
(الثاني) : عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في واحد من الأمور التالية:
- مد مدة الإجارة.
- إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها.
- شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.
ثانياً: هناك صور مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك تقرر تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة بعد تقديم نماذج لعقودها وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود بالتعاون مع المصارف الإسلامية لدراسته وإصدار القرار في شأنها.
والله أعلم.(5/2237)
تحديد أرباح التجار
إعداد
الشيخ محمد المختار السلامي
مفتي الجمهورية التونسية
ورئيس المجلس الأعلى الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
(تحديد أرباح التجار)
يدخل تحت هذا العنوان:
أولًا: تحديد أرباح التجار من الشارع على معنى هل قدرت الشريعة الإسلامية للتجار ربحًا لا يتجاوزونه، بحيث لو تعدى التاجر تلك النسبة يكون آثمًا أو ملومًا.
ثانيًا: مقدار الربح الذي للتاجر أن يربحه في بيع الاستئمان.
ثالثًا: تدخل السلطة لتحديد أرباح التجار.
النوع الأول: لم أجد فيما اطلعت عليه من نصوص الكتاب والسنة وما أثر من أقوال الفقهاء ما يفيد أن الشريعة حددت للتجار ربحًا هو السقف الذي ليس لهم تجاوزه بل المأثور عن الصحابة والتابعين أن للتاجر أن يربح الضعف وأكثر منه، وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك كما يفيده الحديث الذي جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلف أحد أصحابه أن يشتري له شاة أضحيه بدينار. فرجع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدينار وشاه. وقال له: يا رسول الله اشتريت شاتين بدينار، ثم بعت إحداهما بدينار. فهذه شاتكم وهذا ديناركم. فرضي صلى الله عليه وسلم ما فعله صاحبه.(5/2238)
النوع الثاني: بيع الاستئمان، وهذا النوع من البيوع هو البيع الذي يكون فيه المشترى جاهلًا بالثمن، ويقول للتاجر بعني بالثمن الذي تبيع به للناس فهذا قد صرح بوثوقه في أمانته فلا يجوز للتاجر أن يزيد على ثمن السوق. ولكن لم تحد له الشريعة حدًّا في الربح لا يجوز له أن يتجاوزه، فلو اشترى السلعة بعشرة وكان ثمنها في السوق مائة وباع للمستأمن بمائة فليس له حق القيام عليه وما تحصل عليه من الربح حلال له.
النوع الثالث: تدخل السلطة لتحديد أرباح التجار. وهذا هو المعبر عنه بالتسعير ورأي أنه المقصود الأعظم من العنوان.
التسعير لغة: الاتفاق على سعر – أسعروا وتسعروا تسعيرًا، بمعنى واحد، اتفقوا على سعر وقال الصاغاني أسعره وسعره بينه. والتسعير تقدير السعر، قاله ابن الأثير (1)
التسعير اصطلاحًا:
(أ) تقدير السلطان أو نائبه للناس سعرًا وإجبارهم على التبايع بما قدره.
(ب) أن يأمر الوالي الناس بسعر لا يجاوزونه (2)
(ج) أن يأمر الوالي السوقة أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بكذا (3) .
(د) تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه قدرًا للمبيع بدرهم معلوم (4)
(هـ) تحديد حاكم السوق المبيع المأكول فيه قدرًا للجميع بدرهم معلوم (5) .
هذه التعريفات الخمسة تتفق أولًا على أن التسعير المبحوث فيه إنما هو تدخل صاحب السلطة في تحديد الثمن، سواء أكان الحاكم العام، أو صاحب السوق المفوض له من الوالي متابعة ما يجري في الأسواق وإقامة العدل بينهم – وثانيًا على أن هذا التدخل إنما هو في تقدير ثمن المبيع دون غيره من المصالح التي يحتاج إليها الناس كالإجارة والكراء، والحمل والتطيب والتعليم… إلخ.
وتتفاوت في محتواها ذلك أولًا.
إن التعريف الأول والثاني أعم من البقية؛ لأن التعريف الأول لا يجعل التسعير خاصًّا بالسوق، بل يجري التسعير على السوقة وعلى غيرهم لقولهما (للناس) بينما هو على التعريفات الثلاثة الأخرى يختص بالسوق.
ثانيًا: أن حد ابن عرفة وتلميذه ابن ناجي أخص من الثلاثة الأولى إذ يربط التسعير بالمأكول وحده بينما يطلق أصحاب التعريفات الأخرى فيتناول التسعير عندهم المأكول وغيره.
__________
(1) تاج العروس: 12/28
(2) مطالب أولي النهي: 3/62 أسنى المطالب: 2/38 الموسوعة الفقهية: 11/301.
(3) زاد المحتاج: 2/38 مغني المحتاج: 2/38
(4) شرح حدود ابن عرفة: ص 258
(5) ابن ناجى: ط 120 حاشية الجلاب: 2/168(5/2239)
حكم التسعير:
لا شك أن التسعير تقييد لحرية البائع وعدم اعتبار لرضاه أو سخطه بالقيمة التي يحددها صاحب السلطة. وعنصر الرضا شرط أساسي لسلامة العقود. والضغط على إرادة البائع لبيع سلعته بثمن محدد من إرادة صاحب السلطة إكراه. وأمر السلطان إكراه بالإجماع. إلا أن هذا الإكراه هل هو إكراه بحق فلا إثم فيه أو هو إكراه بغير حق، فالحاكم المسعر آثم. أو المقام مقام تفصيل.
للإجابة على هذا لا غنى عن الرجوع إلى القرآن والسنة: أولًا القرآن
أما القرآن فلا نجد فيه في التسعير إلا الآية العامة التي هي قاعدة من قواعد التعامل يقول الله تعالى ++ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ (1) .
يروي الطبري بسنده إلى السدي ما يلى: (نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا والقمار، والنجش والظلم إلا أن تكون تجارة ليربح في الدرهم ألفًا أن استطاع (2) .
ويقول الشيخ ابن عاشور: ومعنى أكل الأموال بالباطل أكلها بدون وجه، وهذا الأكل مراتب (3) .
المرتبة الأولى: ما أجمع عليه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلًا كالغصب والسرقة والحيلة.
المرتبة الثانية: ما ألحقه الشرع بالباطل فبين أنه من الباطل، وقد كان خفيًّا عنهم. وهذا مثل الربا فإنهم قالوا إنما البيع مثل الربا – ومثل رشوة الحكام – ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها – ففي الحديث ((أرايت إن منع الله الثمرة بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه)) . والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي هي خمسون حديثًا.
المرتبة الثالثة: ما استنبطه العلماء في ذلك مما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر. وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل. والعلماء فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب من المالكية وتفصيله في الفقه (4)
فالنهي عن أكل المال بالباطل واشتراط الرضا في التعامل من القواعد العامة التي تتتنزل على الوقائع بالاجتهاد.
__________
(1) سورة النساء: الآية 29
(2) الطبري: 8/30
(3) الطبري: 8/30
(4) التحرير والتنوير: 2/190(5/2240)
ثانيًا: السنة:
1- الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله سعر لنا. فقال: ((أن الله هو المسعر القباض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال)) أخرجه أبو عيسى الترمذي وقال حسن صحيح (1)
2- الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري، قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: لو قومت لنا سعرنا قال: ((إن الله هو المقوم أو المسعر، إنى لأرجو أن أفارقكم وليس أحد منكم يطلبنى بمظلمة في مال ولا نفس)) (علَّق عليه أحمد البنا بقوله رجاله رجال الصحيح وحسَّنه الحافظ) (2) .
3- الحديث الذي رواه أبو هريرة - أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سعِّر لنا، فقال: ((إن الله يرفع ويخفض، ولكنى لأرجو أن ألقى الله عز وجل وليس لأحد عندي مظلمة)) (3)
فالأحاديث المتصلة عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك تتفق كلها (1) على أن الأسعار ارتفعت، (2) أن الصحابة طلبوا تدخل النبي صلى الله عليه وسلم لتحديد السعر (3) أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من التسعير (4) أنه لم يستجب لطلبهم معللًا رفضه يكون التسعير مظلمة يخشى أن يطلبه أحد بها يوم القيامة، وأن الظلم حرام. فظاهر الأحاديث تقتضي المنع من التسعير أيضًا كما أن ظاهر القرآن يقتضى المنع أيضًا. ولذلك فإنه بالرجوع إلى كلام فقهاء المذاهب الأربعة نجدهم يجمعون على أن الأصل في التسعير هو التحريم.
مذهب الحنفية: في الفتاوى الهندية – ولا يسعر بإجماع (4) ويقول الحصكفي: ولا يسعر حاكم لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تسعروا، فإن الله هو المسعر القابض الباسط)) . يقول ابن عابدين: لا يسعر أي يكره (5)
__________
(1) عارضة الأحوذي: 6 /53 وأخرجه أحمد: 3/156 – 286 وابن ماجه كتاب التجارات: 2/741 والدارمي: 2/249
(2) رواه أحمد: 3/58 ورواه ابن ماجه ونقد سند: 2/741
(3) رواه أحمد: 2/337-372
(4) الفتاوى الهندية: 3/214
(5) رد المحتار: 5/256.(5/2241)
مذهب المالكية: سُئِلَ ابن القاسم عن قول مالك ينبغي للحاكم إذا غلا السعر واحتاج الناس أن يبيع ما عندهم من فضل الطعام أن يبيعوا! قال: إنما يريد مالك طعام التجار الذين خزنوا للبيع من طعام جميع الناس إذا اشتدت السنة واحتاج الناس إلى ذلك ولم يقل المالك يباع عليهم ولكن قال: يأمر بإخراجه وإظهاره للناس، ثم يبيعون ما عندهم مما فضل عن قوت عيالهم كيف شاؤوا ولا يسعر عليهم، قيل: فإن سألوا الناس مالا يحتمل من الثمن؟ هو مالهم يفعلون فيه ما أحبوا ولا يجبرون على بيعه بسعر يوقت لهم – هم أحق بأموالهم – ولا أرى أن يسعر عليهم، وما أراهم إذا رغبوا وأعطوا ما يشتهون أن لا يبيعوا – وأما التسعير فظلم لا يعمل به من أراد العدل (1) .
وقال ابن وهب سمعت مالكًا وسئل عن صاحب السوق بسعر، فيقول: إما بعتهم بكذا، وإما أخرجتم السوق، فقال: قال مالك: لا خير في هذا (2) .
مذهب الشافعية: يحرم التسعير ولو في وقت الغلاء بأن يأمر الوالي السوقة أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بكذا للتضييق على الناس في أموالهم، وقضية كلامهم أن ذلك لا يختص بالأطعمة (3) .
مذهب أحمد: قال ابن حامد ليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون وهذا مذهب الشافعي – وكان مالك يقول: يقال لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع به الناس بِعْ كما يبيع الناس أو أخرج عنا – وناقش مالكًا واستدل بحديث أنس - وعلق عليه بقوله إنه علل بكونه مظلمة والظلم حرام (4) .
وكما استدل أصحاب المذاهب على أن الأصل في التسعير المنع بالقرآن والسنة، كذلك استدلوا على المنع بالمصلحة التي يجب مراعاتها – وبالعدل الذي هو المعيار الذي يجب أن يضبط تدخل صاحب السلطة.
يقول الشوكاني وجه المنع من التسعير أن الناس يسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين. وليس نظره في مصلحة المشتري يرخص الثمن أولى من النظر في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم (5)
__________
(1) المعيار: 6/425
(2) المعيار: 6/425
(3) مغني المحتاج: 2/38
(4) المغني: 4/239 – 240
(5) نيل الأوطار: 3/335.(5/2242)
ونقل صاحب المغني عن بعض الحنابلة أن التسعير سبب الغلاء لأن الجاليين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلدًا يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون. ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها، ويكتمها ويطلبها أهل الحاجة إليها فلا يجدونها إلا قليلًا، فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها، فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين، جانب الملَّاك في منعهم من بيع أملاكهم وجانب المشترى في منعه من الوصول إلى غرضه فيكون حرامًا (1)
فالشوكاني يثير قاعدة مقطوع بها: إن الحاكم ليس له أن يحابي طرفًا ليستفيد طرف آخر. ولما كانت مصلحة البائع أن يبيع سلعته بالثمن الذي يرغب فيه دون أن يلزم أحدًا بالشراء منه، وكانت مصلحة المشتري أن يحصل على مرغوبه بأقل ثمن ممكن، ولما تعارضت المصلحتان وجب على الحاكم أن يعتزل عن التدخل، وأن يترك لكل من المتبايعين الاجتهاد لمصلحة نفسه شأن البيع الذي هو باتفاق مبني على المكايسة والمماكسة. فهذه النظرية يدافع عنها الشوكاني هي نظرية العرض والطلب في تحديد الأسعار، وقبول كل طرف بالنتائج المترتبة على ذلك، فكما يعجز الحاكم عند رخص الأسعار وخسارة التجار أن يفرض على المشترين سعرًا أرفع، فكذلك ليس له إذا غلت الأسعار أن يخفض منها لفائدة المشترين. وهذه النظرية هي نظرية سليمة في بادئ الرأي، لو كانت الحياة تجري على نسق وفرة العرض وقلته، ووفرة الطلب وضآلته. ولكن التجار قد يتدخلون لإعطاء صورة مفتعلة ليوفروا لأنفسهم أرباحًا أكثر كما سنبينه فيما بعد.
وأما صاحب المغني فإنه يبني تعليله في منع التسعير على أن التسعير ضرر محض لا صلاح فيه لا للمشتري ولا للبائع. فهو مفسدة وتصور خاطئ ناتج عن قصر في النظر. ذلك أن التسعير يؤول إلى الضرر بالمشتري (المستهلك) لأن تدخل السلطة يترتب عليه انقطاع العرض، لأن الجالبين إذا عرفوا أن السلطة تتدخل في تحديد الأثمان امتنعوا من جلب السلع للأسواق فيتضرر الباعة بتعطيل نشاطهم ويتضرر المشتري (المستهلك) بانقطاع ما هو في حاجة إليه ويغلو الثمن ولا بد.
__________
(1) المغني 7/340.(5/2243)
وجه آخر من النظر
إن هذه النصوص التي ذكرناها والأدلة المستندة للقواعد التي حللناها يعارضها من ناحية أخرى أدلة وقواعد يمكن الاستناد إليها.
فمن ذلك الاحتكار فقد ورد في الاحتكار أحاديث كثيرة رويت بطرق متعددة تدل على تحريم الاحتكار، فقد روى مسلم قال: كان سعيد بن المسيب يحدث أن عمر بن عبد الله العدوي قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر فهو خاطئ)) (1) .
ورواه أحمد وأبو داود والترمذي كما روي النهي عن الاحتكار بأسانيد مختلفة يقوي بعضها بعضًا وأصحها هو ما رواه مسلم (2) .
ومعنى خاطئ أي آثم فالاحتكار - حسب ظاهر حديث مسلم - حرام، مع أن المحتكر إنما تصرف في ماله تصرفًا مشروعًا في أوله، إذ أن صاحبه قد اشترى ما يحل له شراؤه بعقد صحيح، لا ظلم فيه. وبين الإنسان ما دخل في ملكه بعقد صحيح لا يكون إلا برضا المالك عملًا بالآية: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
ونظرًا لهذا التعارض اختلفت أقوال العلماء في الاحتكار:
الحنفية: ذهب أبو حنيفة ومحمد أن الاحتكار المحرم هو في قوت البشر وعن أبي يوسف كل ما أضر بالعامة حبسه. وروى عن محمد أنه في قوت البشر وثيابهم. والمحتكر يأمره القاضي ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله ويزجره، فإذا امتنع أوقف، فإن تمادى حبسه وعززه، وهذا كله إذا كان قد اشترى ذلك من السوق، أما إذا كان من غلة أرضه، أو جلبه من بلد آخر بعيد، فإنه لا يعتبر محتكرًا لعدم تعلق حق العامة (3) .
المالكية: يقول ابن رشد قد اختلف قول المالكية على أربعة أقوال ـ أحدها: إجارة احتكار الأطعمة كلها القمح والشعير وغير ذلك في الأوقات التي لا تضر الحكرة بالناس. والثاني: المنع من احتكارها كلها جملة ـ والثالث: إجازة احتكارها كلها ما عدا القمح والشعير، والرابع: المنع من احتكارها كلها ما عدا الأدم والفواكه والسمن والعسل والتين والزيت.
وتأول ابن أبي زيد ما ذهب إليه مطرف وابن الماجشون من تحريم احتكار شيء من الأطعمة بأن ذلك في المدينة المنورة لقلة الطعام بها.
ثم يقول ابن رشد: فعلى قوله هم متفقون على أن علة المنع من الاحتكار هو تغلية الأسعار. وإنما اختلفوا في جوازه لاختلافهم باجتهادهم في وجود العلة وعدمها.
__________
(1) إكمال الإكمال: 4/304
(2) نيل الأوطار: 5/ 335، 336
(3) رد المحتار: 5/265(5/2244)
ولا اختلاف بينهم إن ما عدا الأطعمة من العصفر والكتان والحناء وشبهها من السلع يجوز احتكارها إذا لم يضر ذلك بالناس.
وهذا الذي ذكره ابن رشد زاده عياض تحديدًا، فقال: والممنوع هو فيما اشترى من السوق، وأما من جلب شيئًا من بلد فله ادخاره إلا أن ينزل بالناس حاجة ولا يوجد عند غيره فيؤمر ببيعه لدفع الضرر عن الناس. وكذلك ما اشتراه لقوت عياله، لادخاره صلى الله عليه وسلم قوت عياله سنة، (وزاد القرطبي فقال: وكذلك له ادِّخار ما تحل من كسبه. فإذا باعه الناس لحاجتهم فإنما يبيعه بسعر الوقت. بل إنه رجح أن احتكار ما لا يضر مصلحة وترك احتكاره مفسدة، لأن ذلك الشيء قد يقل أو ينعدم من المستقبل فيوجد عنده. مستدلًا بكلام ابن العربي إذا كثر الجالب ولم يشترِ منهم وردوا. فالاحتكار حينئذ جائز بل مستحب (1) .
الشافعية: قال النووي: قال أصحابنا: الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصةً. وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة ـ ولا يبيعه في الحال بل يدخره ليغلو ثمنه. فأما إذا كان من قريته أو اشتراه في وقت الرخص وادخره أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إي أكله أو ابتاعه ليبيعه في وقته فليس باحتكار ولا يحرم فيه. وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال هذا تفصيل مذهبنا.
قال العلماء والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس ـ كما أجمع العلماء على أن لو كان عند إنسان طعام واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره، أجبر على بيعه دفعًا للضرر على الناس ـ وما روي أن سعيد بن المسيب ومعمرًا كانا يحتكران، قال ابن عبد البر وآخرون: إنما كانا يحتكران الزيت وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه والغلاء. (2)
الحنابلة: قالوا الاحتكار حرام والاحتكار المحرم هو ما اجتمع فيه ثلاثة شروط:
أحدها: أن يشتري، فلو جلب شيئًا أو أدخل من غلته شيئًا فادخره لم يكن محتكرًا لأن الجالب لم يضيق على أحد ولا يضربه، بل ينفع.
الثاني: أن يكون المشتري قوتًا. فأما الإدام، والحلواء، والعسل، والزيت، وأعلاف البهائم، فليس فيه احتكار محرم.
__________
(1) إكمال الإكمال: 4/305
(2) شرح مسلم: 11/43(5/2245)
الثالث: أن يضيق على الناس بشرائه ولا يحصل ذلك إلا بأمرين:
أحدهما: يكون في بلد يشق بأهله الاحتكار كالحرمين والثغور فالبلاد الواسعة الكبيرة المرافق والجلب كبغداد والبصرة ومصر لا يحرم فيها الاحتكار؛ لأن ذلك لا يؤثر فيها غالبًا.
ثانيهما: أن يكون في حال الضيق كأن يدخل البلد قافلة فيتبادر ذوو الأموال فيشترونها ويضيقون على الناس، فأما إذا اشتروه في حال الاتساع والرخص على وجه لا يضيق على أحد فليس بمحرم. (1)
أن تتبع المذاهب في الاحتكار يدل على اتفاق المذاهب في الحقيقة وإن ظهر اختلاف بينها في بادئ الرأي، ذلك أن المذاهب الأربعة تتفق على أن الاحتكار المحرم هو ما كان طريق التحصيل عليه الشراء من السوق ـ وإن المنتج والجالب للسلعة من مكان بعيد حر التصرف في سلعته له بيعها وادخارها، ثانيًا: إن الادخار في الوقت الذي يكثر فيه العرض كثرة تفوق الطلب لا حرمة فيه، بل هو مستحب حتى لا تهبط الأسعار هبوطًا يعزف معه المنتج عن الإنتاج، ثالثًا: إن العلة التي تظهر بين الحين والآخر مؤثرة في التحريم (تعلق حق العامة) (إذا لم يضر ذلك بالناس) ، والضرر كما صرح به ابن العربي: (هو غلاء الأسعار) ، ومن هذه النقطة يظهر وجه ربط الاحتكار بالتسعير، فالمذاهب الأربعة تحرم الاحتكار وتعطي المحتسب الحق في التدخل حفاظًا على استقرار الأسعار ـ فهم جميعًا يعتبرون أن استقرار الأسعار مصلحة عامة. وأن الحرية مصلحة خاصة تهدر في مقابل المصلحة العامة ـ وأما التفرقة بين الطعام وغيره واختلافهم في تحديد الأطعمة وإدخال اللباس وعدم إدخاله، إنما هو اختلاف في التدقيق في النظر. فمن تعمَّق في تقدير الحاجات الإنسانية التي لا بد منها لم يقصر تحريم الاحتكار على القمح والشعير، ومن رأيي أن ذلك هو الضروري لبقاء الحياة قصر التحريم. والذي يظهر أن الاحتكار على مستويين، المستوى الأول: ما تستطيع المجموعة مقاومته بالامتناع عن الشراء حتى يضطر المحتكرون إلى النزول بسلعهم للسوق وهو مستوى من التوكل عند المؤمن والرضا بالمقدور، وعند غير المؤمن مستوى مدني ـ وعلى كلٍّ فإن تهافت البشر على ما ليس ضروريًّا لحياتهم يتحملون بتهافتهم قسطًا من اندفاع المحتكرين للاحتكار فالمسؤولية موزعة ولذا رأى أكثر الفقهاء أنه لا حرمة فيه. والمستوى الثاني: أن لا تستطيع المجموعة التأثير على المحتكرين لكون الاحتكار في عيش البشر وما لا يبصرون على اقتنائه. وهنا فالاحتكار طلبًا للغلاء حرام. إذ ترضخ الجماعة للأسعار التي يفرضها المحتكرون. فمن راعى هذه الدقة قصر التحريم على الضروري ومن راعى أن المستوى العام للمجموعات البشرية أنها لا تصبر على المفقود في تحريم الاحتكار.
__________
(1) المغني: 4/244، 245(5/2246)
وعلى كل، فإن التأثير في غلاء الأسعار هو الذي أباح للمحتسب التدخل وحرم الاحتكار على المحتكر.
وبجانب الاحتكاك أيضًا، فقد ورد في الشريعة ما يبيح انتقال الملك بقيمة المثل إلى غير صاحبه وبدون رضاه.
فمن ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم ومالك عن عبد الله بن عمر من أعتق شركًا له في عبد، فكان له ما يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عيه العبد، وإلا فقد عتق عنه ما عتق (1) .
فالحديث نص على أن المعتق لنصيبه من العبد المشترك يجب عليه أن كان واجدًا أن يدفع إلى شركائه قيمة حصصهم بعد أن يقوم العبد بقيمة المثل.
يقول ابن القيم صار هذا الحديث أصلًا أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل لا بما يزيد عن الثمن (2)
ومن ذلك أيضًا الحديث الذي رواه البخاري وأحمد، عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم)) . فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. (3) أجمع العلماء على جواز الأخذ بالشفعة وهي في حقيقتها إجبار المشتري على تمكين الشريك من الحصة التي اشتراها بنفس الثمن الذي اشتراها به، فهي تتضمن خروج الملك عن مالكه بغير رضاه، وأن القيمة المحددة، هي ثمن الشراء ليس له أي أدنى حظ من الربح.
فإذا كان الشارع قد أباح انتزاع ملكية العبد من سيده جبرًا وبسعر محدد هو سعر المثل ليتحقق العتق الذي يتسوفِ له الشارع، وإذا كان الشارع قد أجبر المشتري للشقص على بيع شقصه بالثمن الذي اشتراه به دفع الضرر عن الشريك، وهي مصلحة جزئية لا أفضلية للشريك إلا بالسبق الزمني في التملك، فالتسعير أولى بالقبول.
ولذا فإن العلماء بعد اتفاقهم على منع التسعير أخذوا ينظرون في القضية نظرة جديدة. ومن ذلك ما ذكره ابن العربي في العارضة وقال سائر العلماء بظاهر الحديث أي بمنع التسعير والحق التسعير وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، وذلك قانون لا يعرف إلا بالضبط للأوقات ومقادير الأحوال. وحال الرجال والله الموفق للصواب وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق وما فعله حكم، لكن على قوم صح ثباتهم واستسلموا إلى ربهم، وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق عليهم فباب الله أوسع وحكمه أمضي (4)
__________
(1) إرواء الغليل: 5/357
(2) الطرق الحكمية: ص 304
(3) نيل الأوطار: 6/20
(4) العارضة: 6/54(5/2247)
فابن العربي نظر إلى القواعد الشرعية فرأى أنها جاءت بالعدل، وأن لا يمكن المهرة من الإثراء بوساطة التلاعب في الأسواق وإغلاء الأسعار، وأن الحاكم قد نصب لإقامة العدل ين الناس ـ وأن سياسة البشر الذين يغلب عليهم تقوى الله والإيثار تخالف سياسة البشر الذين همهم ملء خزائنهم والاستئثار، وطغيان حب الذات والأنانية، ولو بالتضييق على الناس، فما حكم به صلى الله عليه وسلم حق في الوقت الذي حكم به.
معنى ذلك أن هذه قضية عين لا عموم لها هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن نص الحديث لا يدل عي أن الغلاء كان نتيجة عبث بالسوق، وإنما ارتفع الثمن في سوق المدينة تبعًا لعوامل موضوعية لا دخل للتجار فيها. ولذلك ابتدأ صلى الله عليه وسلم بالكشف عن الفاعل في الغلاء بقوله ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق)) ، فارتفاع الأسعار في عهده كانت متسببة عن تصرف إلهي حكيم في الكون تعرف آثاره، ولله الحجة البالغة وهو ما يفهم عنه الرواية الأخرى بل ادعو الله.
إذن هما اتجاهان: الأول لأصحاب المذاهب لا يتدخل السلطان ولا نائبه في التسعير أصلًا. الاتجاه الثاني أن للسلطان أو نائبه حق التدخل في التسعير، إلا أن هذا التدخل في التسعير للمصلحة قد اختلف فيه الفقهاء تبعًا لتحديدهم للمصلحة المسوغة لذلك، كما أن ميادين التدخل قد تكون في السلع المعروضة في السوق عند التجار، وقد تكون في السلع المجلوبة، وقد تكون في الخدمات البشرية، وقد تكون في الانتفاع بالمباني والآلات.
القسم الأول ـ تدخل السلطة في أثمان المبيعات:
الحنفية: يقول الطوري: إن الثمن حق البائع وإليه تقديره، فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يحتكرون على المسلمين ويتعدون تعديًّا فاحشًا، وعجز السلطان عن منعه إلا بالتسعير والتعدي الفاحش هو تضعيف القيمة.
يقول في الدر المختار وأفاد أن التسعير في القوتين (أي قوت البشر والأنعام) ثم قال: لكن إذا تعدى أرباب غير القوتين وظلموا العامة فيسعر عليهم الحاكم بناء على قول أبي يوسف فالحصكفي جعل القول بتسعير الحاكم في غير القوتين إذا أضر بالعامة غير منصوص لأئمة المذهب، ولكنه مخرج على قول أبي يوسف أن كل ما أضر حبسه بالناس فهو احتكاره (1)
__________
(1) رد المختار: 5/257(5/2248)
فحاصل مذهب الحنفية أن الإمام أو نائبه لا يتدخل في تسعير قيم المبيعات إلا في القوت إذا تلاعب التجار بالسوق حتى بلغ الضعف نصًّا في المذهب، وفي غير القوت قياسًا على القوت.
المالكية: سئل القاضي أبو عمر بن منظور عن التسعير فكان مما أجاب به: (أهل الأسواق والحوانيت الذين يشترون من الجلاب وغيرهم جملًا ويبيعون ذلك على أيديهم) . قيل هم كالجلاب الحكم واحد في كل ما مضى لا فرق، قاله عبد الله بن محمد، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وقيل إنهم بخلاف الجلاب، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا غلبوا على الناس، وإن على صاحب السوق أن يعرف ما اشتروا ويجعل لهم من الربح ما يشبه وينهي عن الزيادة، ويتفقد السوق، فيمنع من الزيادة على ما حد. ومن خالف أمره عوقب بما يراه من الأدب أو الإخراج من السوق أن كان البائع معتادًا لذلك مشتهرًا به، وهو قول مالك في سماع أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب، وقال به من السلف جماعة. ولا يجوز عند واحد من العلماء أن يقول لهم بيعوا بكذا وكذا ربحتم أو خسرتم من غير نظر إلى ما يشترون به، ولا أن يقول لهم فيما اشتروه لا تبيعوه إلا بكذا وكذا مما هو مثل الثمن الذي اشتروه به أو أقل، وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون، فلا يتركهم أن يغلوا في الشراء، ولو لم يزيدوا في الربح إذ قد يفعلون ذلك لأمر ما، مما يكون نتيجته ما فيه ضرر (1)
فابن منظور يرى أن على صاحب السوق أن يتدخل بتحديد الثمن كلما تعسف أهل السوق من التجار في مقتضى الحرية، وظلموا الناس دون أن يربط مجال التسعير بقوت أو غيره، والذي ذهب إليه ابن عرفة أن التسعير إنما يكون في القوت خاصةً لقوله في تعريفه (تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه) علق الرصاع على هذا بقوله: أخرج به غير المأكول، لأنه لا يسعر (2)
__________
(1) المعيار: 5/84ـ85
(2) شرح حدود ابن عرفة: ص 295(5/2249)
وما ذهب إليه ابن منظور من أن الحاكم يسعر على أهل السوق بعد أن ينظر في شرائهم ويترك لهم من الربح ما لا ضرر فيه على العامة، وأنه لا يحل له أن يحدد ثمنًا دون نظر إلى معطيات موضوعية للتسعير، وأن هذا أمر متفق عليه، يؤكد ذلك ما في سماع أشهب لصاحب السوق: بيعوا على ثلث رطل من الضأن ونصف رطل من الإبل (يعني أن الدرهم يشتري به ثلث رطل أو نصف رطل) ، قال مالك: ما أرى به بأسًا إذا سعر عليهم شيئًا يكون فيه ربح يقوم لهم من غير اشتطاط (1)
الشافعية: اقتصر صاحب تكملة المجموع على نقل كلام ابن القيم (2)
الحنابلة الذي أفاض القول في التسعير هو شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. يقول ابن القيم: وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم ومنه ما هو عدل جائز.
فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ومنعتهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب.
وابن القيم يلتقي مع ابن العربي في أن التسعير لا يحكم عليه حكم مطلق، ولكن ينطبق في الظروف التي أدت إليه، فما كان منه ظلمًا للناس فهو حرام، وما كان منه حماية للناس من الظلم، فهو واجب. وبهذا يصبح الخلاف هو في تحقيق المناط أي في بيان الأحوال التي تحقق فيها الظلم لصاحب السلعة، فيكون تصرف صاحب السوق حرامًا. وفي الأحوال التي ظلم فيها أرباب السلع غيرهم فيكون رفع ظلمهم واجبًا.
__________
(1) المعيار 6/409، الطرق الحكمية ص: 302
(2) المجموع: 13/29(5/2250)
أنواع صاحب السلعة:
الجالب: قد يكون صاحب السلعة جالبًا للسلعة، والرأي الغالب أن الجالب لا يسعر عليه، أصله ما رواه مالك في موطئه أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: لا حكرة في سوقنا.. لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله (1) . فهذا الحديث يدل على حرية الجالب في التسعير لا يتسلط عليه. وكذا المنتج يبيع سلعته بالثمن الذي يرغب فيه لا يتسلط عليه الحاكم فيحدد له الثمن، إلا أنه إذا كان أهل السوق قد جرى بينهم سعر فجاء الجالب ليرفع في الثمن أو ليخفض فيه فإنه لا يتعرض له في تحديد الثمن، ولكن هل يرفع من السوق أو لا؟ خلاف، فمالك اعتمد على ما رواه من حديث عمر رضي الله عنه مع حاطب بن أبي بلتعة ـ فعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر على حاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع له زبيبًا بالسوق فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا (2) ، فهم بعضهم أن حاطبًا كان يبيع بالدرهم أقل مما يبيع غيره فنهاه عمر عن ذلك ليحط من الثمن ويسير مع ثمن أهل السوق، وقيل بل إن حاطبًا كان يبيع بالدرهم أكثر مما يبيع غيره. وهذا مفضٍ للخصام بين من يخفض في الثمن وأهل السوق. ولذا لم يفرق كثير من العلماء في الخروج عن الثمن بين الزيادة والنقص، قال ابن القصار: اختلف أصحابنا في قول مالك ولكن من حطَّ سعرًا، فقال البغداديون: أراد أن يباع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية بدرهم، وقال قوم من البصريين: أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة، فيفسد على أهل السوق بيعهم وربما أدى إلى الشغب والخصومة. قال ابن القصار، وعنه أن الأمرين جميعًا ممنوعان (3) ، ورأي ابن رشد هذا غلط ظاهر إذ لا يلام أحد على المسامحة في البيع والحطيطة فيه، بل يشكر على ذلك إن فعله لوجه الناس ويؤجر إن فعله لوجه الله (4) .
__________
(1) الزرقاني: 3/126
(2) الزرقاني على الموطأ: 3/127
(3) الطرق الحكمية: ص301
(4) الطرق الحكمية: ص301(5/2251)
تدخل صاحب السلطة في الشراء:
إذا تمالأ التجار على الزيادة في ثمن الشراء طلبًا لإغلاء الأسعار فإن صاحب السلطة يتدخل لرفع الظلم، يقول ابن القيم: فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها قد تواطؤوا على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل ويبيعوا ما يبعدونه بأكثر من ثمن المثل ويقتسموا ما يشتركون فيه من الزيادة كان إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظلم والعدوان، وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، [الآية 12 من سورة المائدة] ، ولا ريب أن هذا عظم إثمًا وعدوانًا من تلقي السلع وبيع الحاضر للبادي ومن النجش (1)
طريقةُ تدخُّلِ صاحبِ السُّلْطَةِ:
إن الزيادة في السعر أو التنقيص منه قد تكون من جملة التجار في السوق وقد تكون من عدد محدود.
فإذا كانت من عدد محدود فإن لم تتحدد صفة المبيع واختلفت جودة ورداءة، فلا يتدخل صاحب السلطة (2) وإن اتحدَّ المبيع صفة فكما تبين من النصوص السابقة يؤمر من زاد في الثمن إما بمتابعة أهل السوق وإما أن يتحول عنه ولا يبقى يبيع ويشتري به. وإن نقص فقد رأينا الخلاف في ذلك، غير أن ابن رشد يرى أنه لا فرق بين رفع الأثمان وخفضها، ويرى ابن رشد أن من خفض في الثمن لأوجه لمنعه من ذلك، لأن خفض الثمن من المسامحة التي يستحق صاحبها الشكر في الدنيا، والمثوبة عند الله إذا قصد به وجه الله وما قاله ابن رشد فيه نظر ذلك أن التخفيض يكون من الجلابين فلا يتعرض لهم، أما من أرباب السوق فإنها من الطرق التي يعمد لها بعض التجار ليفسد على أهل السوق بيعتهم ويستأثر هو بالحرقاء، حتى إذا ما ألفه الناس استطاع أن يرفع في الأثمان فهو من الطرق الماكرة للاستئثار.
وأما إذا كان التنقيص من جملة التجار فلا يتدخل صاحب السلطة، وأما إذا كانت الزيادة من جملة التجار فهنا يتدخل صاحب السلطة ويجب أن يكون تدخله بالعدل فلا يظلم الباعة، ولا يظلم المشتري، وصفة ذلك يقول ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق في ذلك الشيء، ويحضر غيرهم استظهارًا على صدقهم، فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد، حتى يرضوا به، ولا يجبرهم على التسعير، ولكن عن رضا (3) .
__________
(1) الطرق الحكمية: ص289
(2) التيسير في أحكام التسعير: ص6.
(3) التيسير في أحكام التسعير: ص 49(5/2252)
قال أبو الوليد بن رشد: ووجه هذا أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضا ما لا ربح لهم فيه، أدى ذلك إلى فساد الأسعار، وإخفاء الأقوات، وإتلاف أموال الناس (1) وهو نص ما جاء في جواب ابن منظور.
يتبين مما سبق أن التسعير لا يعطي لصاحب السلطة الحق في التعسف في الحكم وفرض التسعير حسب تقديره الخاص، ولا يمكنه التسعير بالاعتماد على رأي المشترين وإنما يجمع هيئة تتآلف من التجار والخبراء، ويعتمد المعطيات الحقيقية من ثمن الشراء، وما يرغب التجار في الاستمرار على القيام بدورهم من إيصال السلع إلى الراغبين فيها، وعلى هذا فالسعر غير ثابت وإنما هو تابع لتقلب السوق واختلاف القيم ـ يقول أحمد سعيد المجيلدي: يجب على صاحب السوق الموكل لمصلحته أن يجعل لهم من الربح ما يشبه ويمنعهم من الزيادة عليه ويتفقدهم في ذلك ويلزمهم إياه كيفما يتقل بالسعر زيادة أو نقصانًا (2) .
تدخل صاحب السلطة في قيمة الانتفاع بالمباني والآلات:
يقول ابن القيم إذا قدر أن قومًا اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان لا يجدون سواه أو النزول في خان مملوك، أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحى للطحن، أو دلو لنزع الماء، أو قدر، أو فأس، أو غير ذلك، وجب على صاحبه بذله بلا نزاع لكن هل له أن يأخذ أجرًا؟ فيه قولان للعلماء. ومن جوز له الأجرة حرم عليه الزيادة على أجر المثل (3) .
فالتسعير بقيمة المثل في هذه إنما تكون عند الاضطرار بتوفر ركني الحاجة وعدم وجود سواه.
تدخل صاحب السلطة في قيمة الانتفاع بالخدمات:
يقول ابن تمية: أن ولي الأمر أن أجبر أهل الصناعات على ما يحتاج إليه الناس من صناعاتهم كالفلاحة والحياكة والبناية فإنه يقدر أجرة المثل، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل، وهذا من التسعير الواجب وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحرب وغير ذلك، فيستعمل بأجرة المثل ولا يمكن المستعملون من ظلمهم ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم، مع الحاجة إليها فهذا تسعير العمال (4) .
__________
(1) الطرق الحكمية: ص 303، والفتاوى: 28/92
(2) التيسير في أحكام التسعير: ص: 49
(3) الطرق الحكمية: 305 ـ 308
(4) الفتاوى 28/86(5/2253)
هذا وجه من التدخل فصله شيخ الإسلام أن ولي الأمر يقدر قيمة العمل المحتاج إليه ويلزم صاحب المال بدفع أجر العمل كاملًا حسبما قدره مراعاة للظروف العامة ويلزم العامل بالعمل بتلك القيمة إذا تعينت فيه ولم يجد صاحب العمل عاملًا آخر.
ونوع آخر من التدخل فصله ابن القيم: وهو اشتراك أهل صناعة أو حرفة فيما بينهم اشتراكًا يوقع الناس في حرج، بإلزامهم الرضا بما يسعرون به فقال: منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه القسامين الذين يسقمون العقار وغيره بالأجرة أن يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا والناس يحتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجرة.
قلت: وكذلك ينبغي لوالي الحسبة أن يمنع مغسلي الموتى والحمالين لهم من الاشتراك لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم كالشهود والدلالين وغيرهم. (1)
ونقل المجيلدي عن المالقي: لا احتساب على جالب الطعام ولا لمن يبيع بغير دكان ولا حانوت يعرض للخاص والعام، ولا على الفواكه والخضر، إلا لغلاء مفرط ولا على السكري ولا على الدباغ والسمسار والخراز والبناء والكاتب والصاغة والشراط والنكاز والحواز والخياط والبرام ـ والصفار ـ والقواس ـ والخراط ـ والفخار ـ والحائك والنجار والرماح والحداد وجميع أهل الحرف والصنائع والمنتسبين من حمال أو سواه ودلال وسمسار وغيرهم (2) فالمالقي يخرج كل الصناعات من دائرة التسعير وإنما يفرض على المحتسب أن يقيم لكل صناعة أمينًا يتفقد الإنتاج والخدمات هل راعى أصحابها الأصول الفنية أو لا؟ وله أن يؤدب من لم يحترم الأصول بإفساده من أنتج (3) .
إنه بالموازنة بين رأي ابن القيم والمجيلدي يتبين بوضوح أن ابن القيم أبعد نظرًا بتقسيمه أرباب الصناعات إلى قسمين: قسم تعسف في استعمال حقه ومكر للإضرار بغيره، وهذا تنطبق عليه القاعدة لا ضرر ولا ضرار. وما وضع الحاكم إلا ليقيم العدل ويمنع الظلم الظاهر والمقنع. وقسم جرى على سنة التفاضل حسب القدرة على التجويد بدون حيلة ولا مكر، وهذا لا يتدخل فيه الحاكم ولا يسعر عليه.
مخالفة التسعير:
إذا تدخل صاحب السلطة وسعر على الناس فإنه يجب أن يطاع لأن القضية محل خلاف وحكم الحاكم برفع الخلاف، ويلزم كل الناس احترام حكمه ما دام غير مناقض لأصل يقيني.
وإذا خالف البائع وباع أكثر من القيمة فالمبيع صحيح. ففي الفتاوى الهندية فإن سعر فباع الخباز بأكثر مما سعر جاز بيعه (4) ، ويقول الشربيني: فلو سعر الإمام عزر مخالفة بأن باع بأزيد مما سعر لما فيه من مجاهرة الإمام بالمخافة وصح البيع. إذ لم يعهد الحجر على المختص في ملكه أن يبيع بثمن معين (5) .
والتعزيز عند الحنفية لا يكون إلا إذا تكرر من التاجر المخالفة. يقول الطوري وينبغي للقاضي والسلطان أن لا يعجل بعقوبة من باع فوق ما سعر بل يعظه ويزجره وإن رفع إليه ثانيًا فعل به كذلك وهدده وإن رفع إليه ثالثًا حبسه وعزره حتى يمتنع عنه ويمتنع الضرر عن الناس (6) .
حكم الشراء بالسعر المحدد:
يقول الطوري: ومن باع منهم بما قدَّره الإمام صح لأنه غير مكره على البيع. كذا في الهداية، وفي المحيط: أن كان البائع يخاف إذا زاد في الثمن على ما قدره أنقص في البيع يضربه الإمام أو من يقوم مقامه ولا يحل للمشتري ذلك؛ لأنه في معنى المكره، والحيلة في ذلك أن يقول له تبيعني بما تحب (7) . وعند الحنابلة يبطل البيع إن هدد المشتري البائع (ويكره الشراء بالتسعير، وإن هدد من خالفه حرم البيع بطل لأن الوعيد إكراه) (8) .
وفيما قاله الحنابلة نظر ذلك أن الإكراه المؤثر في العقد هو الإكراه التعسف الذي يتسلط فيه القوي على الضعيف فيخضعه لإرادته، أما إذا كان الإكراه تطبيقًا لمقتضيات الشرع فلا حرمة فيه ولا بطلان ـ كما يكره الشفيع المشتري للشخص على تحويل له بثمنه، وكما يكره الشريك شريكه على البيع فيما لا يقبل القسمة، وكما تكره الزوجة زوجها على تنفيذ قضاء القاضي بالنفقة عليها حسبما قدره.
__________
(1) الطرق الحكمية: ص 287
(2) التيسير في أحكام التسعير: ص 55
(3) التيسير في أحكام التسعير: ص 55
(4) كذا في فتاوى قاضيان: 3/214
(5) مغنى المحتاج: 2/38
(6) تكملة البحر: 8/230
(7) تكملة البحر: 8/230
(8) شرح منتهى الإرادات: 2 /159(5/2254)
التسعير في عصرنا الحاضر:
إن التسعير في عصرنا الحاضر يختلف عن التسعير في العصور السابقة كما أنه يختلف أمره من بلد إلى بلد ومن بضاعة إلى بضاعة أخرى، ويتبين ذلك مما يأتي:
أولًا: جرت بعض البلدان التي لها قوة مالية تغطي احتياجاتها أو تفوقها أنها لا تتدخل في التوريد، ذلك أن عملتها لها من الغطاء ما يضمن رواجها بقيمتها، وهذه الدول تبني اقتصادها على قاعدة العرض والطلب، فترتفع الأثمان أو تنخفض تبعًا لهذه القاعدة ولا يرى الحاكم أنه في حاجة إلى التدخل، وإن عدم تدخله يضمن تدفق السلع للأسواق والمزاحمة، خاصةً وقد غدت وسائل النقل وإيصال السلع تشمل البر والبحر والجو وأصبح التجار في هذه البلدان يعتمدون لتحقيق الأرباح دوران رأس المال. وقلما يلجأون إلى الاحتكار.
ثانيًا: جرت بعض البلدان ذات الاقتصاد الضعيف أن تتدخل في الحركة الاقتصادية من عدة نواح:
(أ) لما كانت عملتها لا قيمة لها خارج حدودها وهي غير ملزمة بمقايضتها، كان التوريد خاضعًا لتمكين المورد من العملة التي يقبلها البائع خارج الحدود الوطنية، وهذه العملة ليست من مجهود المورد ولكنها مجهود الأمة. وبهذا الاعتبار فالمورد يملك رأس مال ناقص تكمله له الدولة من ثروة الأمة، وتنظيم شؤون الدولة حصر قائمة الموردين حسب شروط وتنظيمات، وبهذا فإنه يحق للدولة أن تحدد سعر البيع كما تراقب سعر الشراء وهو ما نص عليه ابن القيم أن يلزم الناس أن لا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون وهؤلاء يجب التسعير عليهم والا يبيعوا إلا بقيمة المثل ولا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاؤوا أو يشتروا بما شاؤوا كان ذلك ظلمًا للناس.
(ب) إن الدولة تجد نفسها ملزمة لظروفها الاقتصادية والاجتماعية أن توقف غلاء المعيشة وتيسر على ذوي الدخل المحدود اقتناء بعض الضروريات بثمن أخفض من قيمتها الحقيقية وتعوض من صندوق الخزينة الفارق بين القيمتين، وهنا لا بد لها من أن تحدد ثمن البيع، لأنها في حقيقة الأمر أسهمت في رأس المال ـ فهي شريكة ومن يشاركها قد دخل على أنه لا يزيد على الثمن الذي حددته.
فيظهر أن تدخل الدولة في التسعير هو نتيجة ضعف في الاقتصاد الوطني وأنه كلما كان الاقتصاد قويًّا كانت الدولة في غنى عن ذلك.
والله أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الشيخ محمد المختار السلامي.(5/2255)
تحديد أرباح التجار
إعداد
الدكتور يوسف القرضاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
تحرير موضوع البحث:
قبل البدء في الموضوع ينبغي أن نحرر المراد منه، فبعض الباحثين في الموضوع قد يفهم أن المراد تحديد الربح للتجار من قبل ولي الأمر.
وأعتقد أن هذا ليس مرادًا هنا، إذ لو كان هو المراد لبحث تحت عنوان آخر أخص به، وهو عنوان (التسعير) .
على أن التسعير لا يقتصر على التجار، بل يشمل المنتجين من زراع وصناع، ونحوهم..
كما أن بعض الباحثين يشتبه عليه موضوع الربح ونسبته، بموضوع (الغبن) ، وقد اشتهر عند بعض الفقهاء أن الغبن يتسامح فيه في حدود الثلث وما عدا ذلك يعتبر غبنًا فاحشًا، لا يجوز، أخذًا بالحديث المتفق عليه في شأن الوصية ((الثلث والثلث كثير)) .
ولكن الغبن شيء والربح شيء آخر، ولا تلازم بينهما، فقد يربح التاجر 50 % أو 100 %، ولا يكون غابنًا للمشتري، لأن السلعة في السوق تساوي ذلك، أو أكثر، بل قد يكون مع الربح الكبير متساهلًا مع المشتري.
وقد يبيع للمشتري بربح قليل، بل بغير ربح، بل ربما مع خسارة تقل أو تكثر، وهو مع هذا قد غبن المشتري.
وهنا يلزم معرفة المراد من التجارة والربح ...
التجارة والربح:
التجارة هي: شراء السلع وبيعها بقصد الربح منها.
والتاجر هو: من يشتري السلعة ليبيعها بقصد الربح، وقد تسمى السلعة: البضاعة أو العرض، وتجمع على عروض.(5/2256)
والربح هو: الفرق الزائد بين ثمن بيع السلعة وثمن شرائها مضافًا إليه المصاريف التجارية.
وفي القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [سورة النساء: الآية 29] .
وفي آية المداينة التي أمرت بكتابة الدين: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [سورة البقرة: الآية 282] .
كما عرض القرآن للتجارة المعنوية، كما في قوله تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [سورة فاطر: الآية 29] .
وقوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الصف: الآية 10] .
ووصف تعالى المنافقين بقوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [سورة البقرة: الآية 16] .
فدل هذا على أن الأصل في التجارة أن تربح، ومن لم تربح تجارته فلا بد أنه لم يحسن اختيار ما يتجر فيه، أو من يتعامل معه.
وقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك)) وقال: حسن غريب (1) وهذا، لأن المقصود من التجارة الربح، فإذا دعا عليه المؤمنون ألا يربح الله تجارته، فقد ضاع مقصوده وذهب تعبه سدى.
وقد ذكر القرآن التجار المؤمنين بقوله: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [سورة النور: الآية 37] .
وإذا كانت التجارة بيعًا وشراء، فقد ذكر القرآن البيع في رده على المرابين المتلاعبين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] .
وذكر القرآن البيع في معرض الحث على السعي إلى الجمعة: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [سورة الجمعة: الآية 9] .
وذكر القرآن فعل (يشري) بمعنى (يبيع) ، وذلك في مجال المعنويات: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [سورة البقرة: الآية 207] .
ومثله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ} [سورة النساء: الآية 74] .
__________
(1) رواه في البيوع، باب النهي عن البيع في المسجد، حديث (1321) .(5/2257)
كما ورد فعل (شرى) في الماديات في قصة يوسف الصديق: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [سورة يوسف: الآية 20] .
وفي جملة آيات يطلق القرآن الكريم على التجارة وصفًا أو عنوانًا يوحي بالرضا عنها، وهو – الابتغاء من فضل الله – وذلك في مثل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [سورة الجمعة: الآية 10] .
وقوله: {وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [سورة المزمل: الآية 20] .
والقرآن لا يمنع ابتغاء هذا الفضل، ولو في موسم الحج، وقصد النسك والعبادة، فيقول سبحانه {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة البقرة: الآية 198] .
كما نوه برحلتي قريش الشهيرتين بين اليمن والشام بقوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [سورة قريش: الآيات 1-3] .
ابتغاء الربح لإيتاء الحقوق والمحافظة على أصل المال:
وقد روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)) (1) .
وهذا الحديث إن كان فيه مقال، فقد روى الطبراني في الأوسط من حديث أنس مرفوعًا: ((اتجروا في أموال اليتامى، لا تأكلها الزكاة)) (2) .
وصح نحو هذا مرسلًا، من حديث يوسف بن ماهك مرفوعًا، كما صح هذا المعنى موقوفًا على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه (3) .
وكل هذه الأحاديث تشير إلى أمر هام في ميدان الاقتصاد والتجارة، وهي أن الحد الأدنى الذي ينبغي أن تحققه التجارة الناجحة، هو: أن يفي الربح بما يجب في المال من زكاة، إلى جوار النفقة أيضا أي النفقة المطلوبة لرب المال ومن يعوله.
__________
(1) رواه في أبواب الزكاة، حديث (641) ، ط. حمص. وفي سنده مقال.
(2) قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: أخبرني سيدي وشيخي (يعني الحافظ العراقي) : أن إسناده صحيح (حـ 3/67) ، وحسنه الحافظ ابن حجر والسيوطي، كما في فيض القدير (1/108) .
(3) انظر: كتابنا فقه الزكاة (حـ 1/122، 123) ط. وهبة بالقاهرة، السادسة عشرة.(5/2258)
فإن المال كما ينقص ظاهرًا بإخراج الزكاة منه، بحيث تصبح المائة 97.5، فإنه لا شك ينقص بمقدار ما ينفق منه على حاجات مالكه.
وهذا يحتم على ذي المال القليل أن يربح أكثر، إما بإدارة المال مرات أكثر، أو بزيادة نسبة الربح، حتى يمكن لربحه أن يغطي نفقاته المتجددة، وإلا أكلت النفقة رأس ماله.
وهذا بخلاف ذي المال الكثير، فقد يكفيه القليل من الربح كل ما يحتاج إليه، وزيادة.
هل حددت النصوص نسبة للربح؟
ولكن، إذا كانت السنة قد رغبت في الاتجار بالمال، ليحقق ربحًا ينفق منه، ويبقى رأس المال سالمًا، فهل أشارت السنة إلى تحديد نسبة معينة للربح، يفرضها التاجر على نفسه، أو يفرضها عليه المجتمع، لا يجوز له أن يتعداها؟
الواقع أن المتتبع للسنة النبوية، والسنة الراشدية، وقبل ذلك للقرآن الكريم، لا يجد أي نص يوجب، أو يستحب، نسبة معينة للربح، ثلثًا أو ربعًا أو خُمسًا أو عشرًا، مثلًا يتقيد بها ولا يزاد عليها.
ولعل السر في ذلك أن تحديد نسبة معينة لجميع السلع، في جميع البيئات وفي جميع الأوقات، وفي جميع الأحوال، ولجميع الفئات، أمر لا يحقق العدالة دائما.
فهناك فرق بين المال الذي يدور بسرعة بطبيعته كالأطعمة ونحوها، بحيث يدور في السنة عدة مرات، وبين المال البطيء الدوران الذي لا يدور في السنة إلا مرة، وقد تمضي أكثر من سنة، دون أن يتحرك، فالربح في الأول ينبغي أن يكون أقل من الربح في الأخير.
وهناك فرق بين من يبيع قليلًا ومن يبيع كثيرًا، وكذلك بين رأس المال القليل التافه ورأس المال الكثير الوافر، فإن ربح القليل في المال الكثير كثير.
وثمة فرق كذلك من يبيع حالًا، ومن يبيع بالأجل، فالمعروف أن البيع الحال المقبوض يكون الربح فيه أقل، على حين تكون نسبة الربح في البيع المؤجل أعلى، نظرًا لما فيه من احتمال إعسار المشتري أو مطله، أو تلف ماله بوجه من الوجوه، وبهذا يهلك مال البائع، فضلًا عن تعطيل ماله، هذه المدة، وقد أجاز جمهور العلماء الزيادة في الثمن إذا زيد في الأجل، إذا عرف ذلك من أول الأمر، وتحدد بوضوح وهو مقابل بيع السلم الذي تباع فيه السلعة بأقل من الثمن المعتاد.
وأيضًا يوجد فرق بين السلع الضرورية، أو الحاجية، التي يفتقر إليها جمهور الناس، وبخاصة الضعفاء والفقراء منهم، والسلع الكمالية التي لا يشتريها إلا الأثرياء.(5/2259)
ففي الأولى ينبغي أن يقلل الربح رفقًا بذوي الضعف والحاجة، وفي الثانية يمكن أن يكون أكثر، إذ من الميسور الاستغناء عنها.
ولهذا شدد الشارع في احتكار الأقوات والأطعمة خاصة، أكثر من غيرها لاشتداد حاجة الناس – بل ضرورتهم – إليها، ولهذا أيضا حرم احتكارها بالإجماع، وجرى الربا فيها بالإجماع، ووجبت الزكاة فيها بالإجماع.
وكذلك ينبغي التفريق بين من يحصل على السلعة بسهولة، ومن يجهد ويتعب في جلبها من مصادرها، وكذلك بين من يبيع السلعة كما هي، ومن يدخل عليها تحويلات تكاد تجعلها سلعة أخرى.
كما أن ثمة فرقًا بين من اشترى برخص، كأن اشترى السلعة من منتجها بلا وسائط بسعر نازل، ومن اشتراها بعد تداول عدة وسائط لها، بسعر مرتفع، فشأن الأول أن يربح أكثر من الآخر.
والمقصود أنه لا يوجد في نصوص القرآن الكريم، ولا في السنة ما يجعل للربح حدًّا معينًا، أو نسبة معلومة، والظاهر أن ذلك ترك لضمير الفرد المسلم، وعرف المجتمع من حوله، مع مراعاة قواعد العدل والإحسان، ومنع الضرر والضرار، التي تحكم تصرفات المسلم، وعلاقاته كلها ...
فالإسلام لا يفصل بين الاقتصاد والأخلاق، خلافًا لفلسفة النظام الرأسمالي، الذي يجعل (الربح) المادي الفردي، هو الهدف الأول، والمحرك الأكبر، للنشاط الاقتصادي، الذي لا يتقيد بكثير من القيود التي يقيده بها الإسلام فلا حرج في ابتغاء الربح عن طريق الربا أو الاحتكار، أو بيع المسكرات، أو غيرها مما يضر بالجماعة، ويدر الربح على الأفراد.
أما الإسلام فله قيود وضوابط دينية وأخلاقية وتنظيمية، يوجب على كل تاجر رعايتها والوقوف عندها، وإلا كان ربحه حرامًا أو مشوبًا بالحرام.
هذا، ولم أجد في كلام الفقهاء – في حدود ما أتيح لي الاطِّلاع عليه، ولم أبحث كل البحث – ما يدل على نسبة معينة للربح يلتزمها التاجر في تجارته.
إلا ما ذكره العلامة الزيلعي من علماء الحنفية في تعريف ما ذكره صاحب الهداية وغيره من شرعية التسعير إذا تعدى أصحاب الطعام تعديًّا فاحشًا.
فقد عرف الزيعلي التعدي الفاحش بأنه البيع بضعف القيمة (1) ولكنه لم يبين المراد بالقيمة: هل هي ثمن المثل في السوق في مثل هذا الوقت؟ حينئذٍ لا تلازم بين القيمة والربح أو قيمة ثمن الشراء الذي اشتريت به السلعة، وهنا يكون الربح محددًا بألا يزيد على مائة في المائة؟
__________
(1) الزيلعي (6/28) ، انظر: ابن عابدين (5/256) .(5/2260)
وقد شاع لدى كثيرين أن في علماء المالكية من يحدد نسبة الربح بالثلث ولم أعثر على مصدر لهذه الدعوى وأخشى أن يكون ثمة خلط بين الربح والغبن، ولا تلازم بينهما كما ذكرت في أول البحث.
ولعل الإخوة الأجلاء من علماء المذهب المالكي، وهم متوافرون والحمد لله يفيدونني بما لديهم من علم في هذه المسألة.
لكنني – بتوفيق من الله تبارك وتعالى – وجدت في صحيح السنة المشرفة، وفي عمل الصحابة رضي الله عنهم، ما يدل على أن الربح إذا سلم من كل أسباب الحرام وملابساته، فهو جائز ومشروع، إلى حد يمكن لصاحب السلعة أن يربح فيها ضعف رأسماله، مائة في المائة (100 %) بل أضعاف رأس ماله، مئات في المائة، وهاكم الدليل.
مشروعية الربح إلى مائة (100 %) :
قد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما يدل على مشروعية الربح إلى مائة في المائة (100 %) .
وهذا في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عروة بن الجعد – أو ابن أبي الجعد – البارقي رضي الله عنه.
روى الإمام أحمد في مسنده عن عروة، قال: عرض النبي صلى الله عليه وسلم جلب، فأعطاني دينار، وقال: ((أي عروة، ائت الجلب فاشترِ لنا شاة)) فأتيت الجلب، فساومت صاحبه، فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما – أو قال: أقودهما – فلقيني رجل فساومني، فأبيعه شاة بدينار، فجئت بالدينار، وجئت بالشاة، فقلت: يا رسول الله، هذا ديناركم، وهذه شاتكم! قال: ((وصنعت كيف؟!)) قال: فحدثته الحديث فقال: ((اللهمَّ بارك له في صفقة يمينه)) فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة، فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي. (1) .
ورواه الترمذي بنحوه (2) .
__________
(1) مسند أحمد (ج 4 /376) ط المكتب الإسلامي.
(2) رواه في البيوع – حديث (1258) .(5/2261)
وروى الإمام البخاري في (كتاب المناقب) من صحيحه عن عروة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه! (1) .
ورواه أبو داود في كتاب البيوع من سننه – باب في المضارب يخالف – بنحو ما رواه البخاري (2) ، وذكره المنذري في مختصر السنن (3) قال: وأخرجه الترمذي وابن ماجه (4) .
__________
(1) انظر: الحديث (3642) فتح الباري (6/ 632) دار الفكر – بتصحيح وتحقيق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز والحديث من طريق شبيب بن غرقدة، قال: سمعت الحي يتحدثون عن عروة و (الحي) وإن جهل حالهم يمتنع تواطؤهم على الكذب، كما قال الحافظ، بالإضافة إلى ورود الحديث من الطريق الأخرى التي هي الشاهد لصحته، ورواها أحمد وغيره (الفتح: 6/635) ، فما قاله الإمام الخطابي في ترجيح مذهب الشافعي في عدم إجازة بيع الفضولي، ورده خبر عروة (إن الحي حدثوه) وما كان هذا سبيله من الرواية لم تقم بالحجة (معالم السنن: 5/49) لا وجه له بعد أن أخرج البخاري الحديث، فقد جاز القنطرة، فضلًا عن الطرق الأخرى.
(2) انظر: الحديث (3384) ط. حمص _ إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس
(3) الحديث (3244) من مختصر السنن مع معالم السنن للخطابي، وتهذيب السنن لابن القيم بتحقيق محمد حامد الفقي، ط. السنة المحمدية، مصر.
(4) أخرجه الترمذي في البيوع، حديث (1258) ، وابن ماجه في الصدقات، حديث (2402) ، باب الأمين يتجر فيه فيربح.(5/2262)
وروى أبو داود أيضا عن حكيم بن حزام رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار، وباعها بدينارين، فرجع فاشترى له أضحية بدينار، وجاء بدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتصدق به النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا له أن يبارك له في تجارته (1) .
ورواه الترمذي من حديث حبيب بن أبي ثابت، عن حكيم بن حزام قال: وحبيب لم يسمع – عندي – من حكيم (2) .
مشروعية الربح أكثر من ذلك:
ومن الأدلة على مشروعية الربح بغير حد – إذا لم يأتِ عن طريق غش ولا احتكار ولا غبن ولا ظلم بوجه ما – ما صح أن الزبير بن العوام رضي الله عنه – وهو أحد المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته – اشترى أرض الغابة، وهي أرض عظيمة شهيرة من عوالي المدينة بمائة وسبعين ألفًا (170000) فباعها ابنه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما بألف ألف وستمائة ألف، أي مليون وستمائة ألف (160000) أي أنه باعها بأكثر من تسعة أضعافها!
ويحسن بي أن أسواق الحديث من الجامع الصحيح للإمام البخاري، كما رواه بسنده عن عبد الله بن الزبير، وقد ساقه في كتاب فرض الخمس – باب بركة الغازي في ماله حيًّا وميتًّا (حديث 3129) .
قال عبد الله بن الزبير:
(لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه، فقال: يا بني إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل اليوم مظلومًا، وإن من أكبر همي لديني، أفترى يبقي ديننا من مالنا شئنا؟ فقال: يا بني، بع مالنا فاقض ديني. وأوصى بالثلث وثلثه لبنيه – يعني عبد الله بن الزبير يقول ثلث الثلث -، فإن فضل مالنا فضل بعد قضاء الدين فثلثه لولدك، قال هشام: وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزبير – خبيب وعباد – وله يومئذ تسعة بنين وتسع بنات.
__________
(1) رواه في البيوع، حديث (3386) ، عن طريق سفيان، عن أبي حصين، عن شيخ من أهل المدينة، وهو مجهول، فالحديث ضعيف بذلك.
(2) الترمذي في البيوع، حديث (1257) .(5/2263)
قال عبد الله: فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني إن عجزت عنه،في شيء فاستعن عليه مولاي، قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت يا أبت من مولاك؟ قال: الله، قال والله ما وقعت في كربة من دينه، إلا قلت يا مولى الزبير اقضِ عنه دينه فيقضيه، فقتل الزبير رضي الله عنه ولم يدع دينارًا ولا درهمًا إلا أرضين منها الغابة وإحدى عشرة دارًا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر. قال: وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة. وما ولي إمارة قط، ولا جباية خراج، ولا شيئا إلا أن يكون في غزوة، مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو مع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. قال عبد الله بن الزبير: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف، قال فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير، فقال يا ابن أخي: كم على أخي من الدين؟ فكتمه فقال: مائة ألف، فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع لهذه! فقال له عبد الله: أرأيتك إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه، فاستعينوا بي، قال وكان الزبير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام فقال، من كان له على الزبير حق، فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد الله بن جعفر، وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم، قال عبد الله: لا، قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم، فقال عبد الله: لا قال: قال: فاقطعوا لي قطعة، قال عبد الله: لك من ههنا إلى ههنا، قال: فباع منها فقضى دينه فأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزبير وابن زمعة، فقال له معاوية: كم قومت الغابة؟ قال: كل سهم مائة ألف، قال: كم بقي؟ قال: أربعة أسهم ونصف، فقال المنذر بن الزبير: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، وقال عمرو بن عثمان: قد أخذت سهمًا بمائة ألف. وقال ابن زمعة: قد أخذت سهمًا بمائة ألف، فقال معاوية: كم بقي؟ فقال: سهم ونصف، أخذته بخمسين ومائة ألف. قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف ... ) .
والحديث موقوف، ولكن عبد الله بن الزبير، وهو صاحبي، باع ما باعه من الغابة لعبد الله بن جعفر، وهو صحابي، ولمعاوية، وهو صحابي، وكثير من الصحابة أحياء متوافرون، إذا تم ذلك في عهد علي رضي الله عنه، ولم ينكر ذلك أحد منهم، مع اشتهار الواقعة واتصالها بحقوق كثير من الصحابة وأبنائهم، فدل ذلك على إجماعهم على الجواز.
وأحب أن أنبه هنا على أن دلالة الوقائع التي ذكرناها من العصر النبوي والعصر الراشدي، على جواز بلوغ الربح في بعض الأحيان إلى ضعف رأس المال، أو إضعافه، لا تعني أن كل صفقة يجوز فيها الربح إلى هذا الحد، فإن الوقائع التي ذكرناها من حديث عروة، وحديث حكيم بن حزام ـ إن صح ـ وحديث عبد الله بن الزبير، هي في الحقيقة وقائع أعيان أو أحوال لا عموم لها. ولا يمكن أن يؤخذ منها حكم عام دائم مطرد، لكل تجار الأمة في كل زمان ومكان، وفي كل الأحوال، وكل السلع. ولا سيما الذين يتاجرون في السلع الضرورية لجماهير الناس.
كما أن الواقعات المذكورة لم تقترن بأية محاولة من محاولات إغلاء السعر على الناس، أو أي لون من احتكار السلعة، أو غبن المشتري، أو استغلال غفلته أو حاجته أو التدليس عليه، أو ظلمه بأي وجه من الوجوه.
فهذا لو وقع، يجعل الربح الحاصل من الصفقة حرامًا. إذ كل ربح يأتي ثمره لتعامل يحظره الشرع، فإنه لا يطيب لكاسبه ولا يحل بحال من الأحوال. والمسلم لا يرضى أن يربح الدنيا، ويخسر الآخرة.
وهذا ما نحاول أن نبينه بإيجاز في الصفحة التالية، إن شاء الله.(5/2264)
الربح المحرم
من المعلوم أن من ربح التجارة ما هو محرم بلا نزاع.
وذلك له جملة صور وأسباب ... منها:
الربح بالاتجار في المحرمات:
ما جاء عن طريق الاتجار في أعيان محرمة شرعًا، مثل الاتجار في المسكرات، والمخدرات، وبيع الميتة والأصنام، ومنها: التماثيل المحرمة، وكل ما يضر بالناس، مثل الأغذية الفاسدة، والأشربة الملوثة، والمواد الضارة، والأدوية المحظورة، ونحوها ...
وقد جاء في عدد من الأحاديث النهي عن بيع الأعيان المحرمة، والانتفاع بثمنها.
فعن جابر: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الله حرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام)) ... وفيه: ((قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه (أي أذابوه) ثم باعوه وأكلوا ثمنه)) [رواه الجماعة] (1) .
وعن ابن عباس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) [رواه أحمد وأبو داود] (2) .
قال أبو البركات ابن تيمية: وهو حجة في تحريم بيع الدهن النجس.
وعن ابن عباس أيضا قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وقال: إن جاءك يطلب ثمن الكلب، فاملأ كفه ترابا)) [رواه أحمد وأبو داود] (3) .
__________
(1) انظر: الحديث 2777، من منتقى الأخبار، لأبي البركات ابن تيمية، بتحقيق محمد حامد الفقي، ط. دار المعرفة، بيروت، الثانية. وانظر: إرواء الغليل للألباني، ص 1290، ط. المكتب الإسلامي، بيروت
(2) انظر: الحديث 2778، من المنتقى السابق وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته برقم 5107.
(3) انظر: الحديث 2781، من المنتقى المذكور، وانظر الحديث 3488، من سنن أبي داود، ط. حمص(5/2265)
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حرمت التجارة في الخمر)) [رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه] (1) .
وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله الخمر، وشاربها وساقيها ,وبائعها ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)) [رواه أبو داود وابن ماجه] ، وزاد: ((وآكل ثمنها)) (2) .
ذكره المجد ابن تيمية في (المنتقى) في باب تحريم بيع العصير لمن يتخذه خمرًا، وكل بيع أعان على معصية (3) .
ومن هذه الأحاديث يتبين أن الربح الذي يتحقق من هذا اللون من التجارة في المحرمات، ربح خبيث محرم، قلت نسبته أو كثرت.
الربح عن طريق الغش والتدليس:
ومثل ذلك الربح عن طريق الغش والتدليس التجاري، بإخفاء عيوب السلعة، أو إظهارها بصورة خادعة، تغاير حقيقتها، تلبيسًا على المشتري وقد يدخل في ذلك الدعاية الإعلانية المبالغ فيها، التي تضلل المشتري عن واقع السلعة.
وقد برئ النبي صلى الله عليه وسلم، ممن غش، وقال: ((من غشنا فليس منا)) [رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي] (4) .
وعن عطية بن عامر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وفيه عيب، إلا بينه له)) [رواه أحمد وابن ماجه] (5) .
وكان الصحابة والسلف رضي الله عنهم يرون إظهار عيوب السلعة من النصيحة التي بها يصح دين المسلم ويستقيم وكان جرير بن عبد الله إذا قام إلى السلعة يبيعها، بصر المشتري بعيوبها، ثم خيره، وقال: إن شئت فخذ، وإن شئت فاترك فقيل له: إنك إذا فعلت هذا لم ينفذ لك بيع فقال: (إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم) (6) .
__________
(1) رواه البخاري في المساجد والبيوع والتفسير، ومسلم في المساقاة حديث 1580، وأبو داود في البيوع: 759، وابن ماجه في التجارات: رقم 2167.
(2) رواه أبو داود في الأشربة، حديث 3674، وابن ماجه في الأشربة أيضًا، حديث 3380، وأوله: (لعنت الخمر على عشرة أوجه ... )
(3) انظر المنتقى: 2/321.
(4) انظر: المنتقى: 2/2937.
(5) وقال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، انظر الحديث 2935 من المنتقى، تعليق المحقق عليه.
(6) ذكر ذلك الغزالي في الإحياء: 2/76، وقوله: بايعنا رسول الله ... إلخ، ثابت في الصحيحين.(5/2266)
وكان واثلة بن الأسقع واقفًا، فباع رجل ناقة له بثلاثمائة درهم، فغفل واثلة وقد ذهب الرجل بالناقة، فسعى وراءَه وجعل يصيح به: يا هذا، اشتريتها للحم أو للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: إن بخفها نقبا قد رأيته، وإنها لا تتابع السير، فعاد فردها فنقصها البائع مائة درهم، وقال لواثلة: رحمك الله أفسدت علي بيعي، فقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى النصح لكل مسلم، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحل لأحد يبيع بيعًا إلا أن يبين ما فيه، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه)) (1) .
قال الإمام الغزالي معقبًا على هذه الواقعة:
(فقد فهموا من النصح أن لا يرضى لأخيه إلا ما يرضاه لنفسه، ولم يعتقدوا أن ذلك من الفضائل وزيادة المقامات، بل اعتقدوا أنه من شروط الإسلام الداخلة تحت بيعتهم، وهذا أمر يشق على أكثر الخلق فلذلك يختارون التخلي للعبادة والاعتزال عن الناس لأن القيام بحقوق الله مع المخالطة والمعاملة ومجاهدة لا يقوم بها إلا الصديقون) (2) .
التدليس بإخفاء سعر الوقت:
ويدخل في ذلك، أو يقرب منه: التدليس في سعر الوقت، فالواجب – كما ذكر الغزالي – أن يصدق في سعر الوقت ولا يخفي منه شيئًا، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان (3) .
__________
(1) قال الحافظ العراقي: حديث واثلة
(2) إحياء علوم الدين: ج 2، كتاب أدب الكسب والمعاش: ص 76، ط. دار المعرفة، بيروت.
(3) حديث النهي عن تلقي الركبان: متفق عليه من حديث ابن عباس، وأبي هريرة.(5/2267)
ونهى عن النجش (1) أما تلقي الركبان، فهو أن يستقبل الرفقة ويتلقى المتاع ويكذب في سعر البدل، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تتلقوا الركبان ومن تلقاها فصاحب السلعة بالخيار بعد أن يقدم السوق)) (2) ، وهذا الشراء منعقد، ولكنه إن ظهر كذبه ثبت للبائع الخيار، وإن كان صادقًا ففي الخيار خلاف لتعارض عموم الخبر مع زوال التلبيس (3) .
ونهى أيضًا أن يبيع حاضر لباد (4) : وهو أن يقدم البدوي البلد ومعه قوت يريد أن يتسارع إلى بيعه، فيقول له الحضري: اتركه عندي حتى أغالي في ثمنه، وأنتظر ارتفاع سعره، وهذا في القوت محرم وفي سائر السلع خلاف، والأظهر تحريمه لعموم النهي، ولأنه تأخير للتضييق على الناس على الجملة، من غير فائدة للفضولي المضيق.
((ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش)) وهو أن يتقدم إلى البائع بين يدي الراغب المشتري، ويطلب السلعة بزيادة، وهو لا يريدها، وإنما يريد تحريك رغبة المشتري فيها، فهذا إن لم تجر مواطأة مع البائع، فهو فعل حرام من صاحبه، والبيع منعقد، وإن جرى مواطأة ففي ثبوت الخيار خلاف، والأولى إثبات الخيار لأنه تغرير بفعل يضاهي التغرير في المصراة وتلقي الركبان.
__________
(1) حديث النهي عن النجش: متفق عليه من حديث ابن عمر، وأبي هريرة.
(2) متفق عليه من حديث ابن عباس، وأبي هريرة، وأنس.
(3) أقول: واتباع الخبر أولى.
(4) رواه البخاري وغيره.(5/2268)
قال الإمام الغزالي:
فهذه المناهي تدل على أنه لا يجوز أن يلبس على البائع والمشتري في سعر الوقت ويكتم منه أمرًا لو علمه لما أقدم على العقد، ففعل هذا من الغش الحرام المضاد للنصح الواجب، فقد حكي عن رجل من التابعين أنه كان بالبصرة وله غلام بالسوس يجهز إليه السكر، فكتب إليه غلامه، أن قصب السكر قد أصابته آفة في هذه السنة، فاشتر السكر، قال: فاشترى سكرًا كثيرًا، فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفًا، فانصرف إلى منزله فأفكر ليلته وقال: ربحت ثلاثين ألفًا وخسرت نصح رجل من المسلمين، فلما أصبح غدا إلى بائع السكر فدفع إليه ثلاثين ألفًا، وقال: بارك الله لك فيها، فقال: ومن أين صارت لي؟ فقال: إني كتمتك حقيقة الحال وكان السكر قد غلا في ذلك الوقت، فقال: رحمك الله قد أعلمتنى الآن، وقد طيبتها لك، قال: فرجع بها إلى منزله وتفكر وبات ساهرًا، وقال: ما نصحته فلعله استحيا مني فتركها لي فبكر إليه من الغد، وقال: عافاك الله خذ مالك إليك فهو أطيب لقلبي، فأخذ منه ثلاثين ألفًا!.
فهذه الأخبار في المناهي والحكايات تدل على أنه ليس له أن يغتنم فرصة وينتهز غفلة صاحب المتاع، ويخفي من البائع غلاء السعر أو من المشتري تراجع الأسعار، فإن فعل ذلك كان ظالمًا تاركًا للعدل والنصح للمسلمين، ومهما باع مرابحة بأن يقول: بعت بما قام على أو بما اشتريته، فعليه أن يصدق، ثم يجب عليه أن يخبر بما حدث بعد العقد من عيب أو نقصان، ولو اشترى إلى أجل وجب ذكره، ولو اشترى مسامحة من صديقه أو ولده يجب ذكره، لأن المعامل يعول على عادته في الاستقصاء أنه لا يترك النظر لنفسه، فإذا تركه بسبب من الأسباب فيجب إخباره، إذ الاعتماد فيه على أمانته (1) .
الربح عن طريق الغبن الفاحش:
فينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه: لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، ولكن يراعى فيه التقريب، فإن بذل المشتري زيادة على الربح المعتاد إما لشدة رغبته أو لشدة حاجته في الحال إليه، فينبغي أن يمتنع من قبوله، فذلك من الإحسان، ومهما لم يكن تلبيس لم يكن أخذ الزيادة ظلمًا، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الغبن بما يزيد على الثلث يوجب الخيار ولسنا نرى ذلك، ولكن من الإحسان أن يحط ذلك الغبن.
ويروى أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان: ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة، فعرض عليه من حلل المائتين، فاستحسنها ورضيها فاشتراها فمضى بها وهي على يديه، فاستقبله يونس فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين، فارجع حتى تردها، فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها، فقال له يونس فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها، ثم رده إلى الدكان، ورد عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه، في ذلك وقاتله وقال: أما استحييت، أما اتقيت الله، تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين؟ فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك، وهذا إن كان فيه إخفاء سعر وتلبيس، فهو من باب الظلم وقد سبق (يعني أنه محرم) وفي الحديث: غبن المسترسل حرام (2) ، وكان الزبير بن عدي، يقول: أدركت ثمانية عشر من الصحابة ما منهم أحد يحسن يشتري لحمًا بدرهم، فغبن مثل هؤلاء المسترسلين ظلم، وإن كان من غير تلبيس فهو من ترك الإحسان وقلما يتم هذا إلا بنوع تلبيس وإخفاء سعر الوقت.
ثم ضرب الغزالي مثلًا للإحسان المحض في المعاملة، وهو أمر فوق العدل الواجب، بما روي عن محمد بن المنكدر أنه كان له شقق بعضها بخمسة وبعضها بعشرة، فباع غلامه في غيبته شقة من الخمسينات بعشرة فلما عرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة، فقال: يا هذا قد رضيت، فقال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك، وإما أن ترد عليك خمسة، وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك، فقال: أعطني خمسة، فرد عليه خمسة وانصرف الأعرابي.
__________
(1) إحياء علوم الدين: 2 / 72.
(2) قال الحافظ العراقي: حديث (غبن المسترسل حرام) أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف، والبيهقي من حديث جابر بسند جيد، وقال: (ربا بدل) حرام.(5/2269)
قال الغزالي:
فهذا إحسان في أن لا يربح على العشرة إلا نصفًا أو واحدًا على ما جرت به العادة في ذلك المتاع في ذلك المكان، ومن قنع بربح قليل كثرت معاملاته واستفاد من تكررها ربحًا كثيرًا، وبه تظهر البركة.
كان علي رضي الله عنه، يدور في سوق الكوفة بالدرة ويقول: معاشر التجار، خذوا الحق تسلموًا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيرة.
قيل لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ما سبب يسارك؟ قال: ثلاث، وما رددت ربحًا قط، ولا طلب مني حيوان فأخرت بيعه، ولا بعت بنسيئة، ويقال: إنه باع ألف ناقة فما ربح إلا عقلها باع كل عقال بدرهم، فربح فيها ألفا وربح من نفقته عليها ليومه ألفًا.
الربح عن طريق الاحتكار:
ومن الربح الذي لا يحل لتاجر مسلم: ما جاء عن طريق الاحتكار الذي نهى عنه الشرع.
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحتكر إلا خاطئ)) (1) .
والخاطئ هو الآثم، وقد وصف الله أكثر الطغاة المستكبرين بهذا الوصف حين قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [سورة القصص: الآية 8] .
وروى أحمد والحاكم من حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر الطعام أربعين يومًا فقد برئ من الله، وبرئ الله منه)) (2) .
وعن علي رضي الله عنه: من احتكر الطعام أربعين يومًا نسا قلبه!.
وعنه أيضا: أنه أحرق طعام محتكر بالنار (3) .
وقيل في قوله تعالى في شأن المسجد الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الحج: الآية 25] .
__________
(1) رواه في كتاب المساقاة من صحيحه.
(2) قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث (الإحياء) : رواه أحمد والحاكم بسند جيد وحسنه الحافظ في (الفتح) وقواه في (القول المسدد في اللب عن المسند) ردًّا على ابن الجوزي الذي ذكره في (الموضوعات) وعضده بجملة شواهد وأيده السيوطي ونقل ذلك عنه في اللآلئ المصنوعة: 2/147، 148
(3) نقل ذلك الغزالي في الإحياء: 2/72، 73(5/2270)
إنَّ الاحتكار من الظلم، وداخل تحته في الوعيد.
والاحتكار أن يحبس التاجر السلعة، ينتظر بها غلاء الأسعار.
وهو يدل على نزعة أنانية، لا يبالي صاحبها بما يقع من أذى وضرر على جمهور الناس، ما دام هو يجني من وراء ذلك أرباحًا طائلة.
ويتفاقم الضرر إذا كان التاجر هو البائع الوحيد السلعة، أو تواطأ مجموعة التجار الذين يبيعون السلعة على إخفائها وحبسها، حتى يشتد الطلب عليها، فيغلو سعرها، ويفرضوا فيها الثمن الذي يريدون وهذا هو شأن النظام الرأسمالي الذي يقوم على دعامتين رئيسيتين هما: الربا والاحتكار.
وللفقهاء هنا خلاف حول أمرين: الجنس الذي يحرم احتكاره من السلع ما هو؟.. والوقت الذي يحرم فيه الاحتكار.
فمن الفقهاء من قصر الاحتكار على (الأقوات) لا يتجاوزها قال الغزالي: أما ما ليس بقوت ولا هو معين على القوت، كالأدوية والعقاقير، والزعفران وأمثاله، فلا يتعدى النهي إليه، وإن كان مطعومًا، وأما ما يعين على القوت كاللحم والفواكه وما يسد سدًّا يغني عن القوت في بعض الأحوال، وإن كان لا يمكن المرادفة عليه، فهذا في محل النظر، فمن العلماء من طرد التحريم في السمن والعسل والشيرج والجبن والزيت، وما يجري مجراه (1) .
ويفهم من كلام الغزالي هنا أنهم يعتبرون (القوت) محصورًا في الطعام الجاف مثل الخبز والأرز بلا سمن ودون أدام، حتى الجبن والزيت والسمسم ونحوها اعتبرت خارج دائرة القوت.
وهذا الذي ذكروه من القوت، لا يكتفي به الطب الحديث غذاء صحيحًا للإنسان، إذ لا بد أن تتوافر في الغذاء الجيد جملة عناصر ضرورية منها البروتينات والدهنيات والفيتامينات وإلا أصبح الآن عرضة لأمراض سوء التغذية، ومن هنا فإن كل ما تشتد حاجة الناس إليه يكون احتكاره أشد إثمًا، وفي مقدمة ذلك الطعام، وفي مقدمة الطعام القوت الضروري.
كما أن الأدوية في عصرنا أصبحت أمرًا ضروريا للناس، وكذلك الملبوسات ونحوها.
وحاجات الناس تتطور بتطور أنماط حياتهم، وكم من أمر تحسيني أو كمالي، أصبح حاجيًّا، وكم من حاجي غدا ضروريًّا.
والأرجح في رأيي تحريم الاحتكار لكل ما يحتاج إليه الناس، طعامًا كان أو دواء، أو لباسًا، أو أدوات مدرسية أو منزلية، أو مهنية، أو غير ذلك.
__________
(1) الإحياء: 2/73، ط. دار المعرفة – بيروت.(5/2271)
والدليل على ذلك عموم الحديث ((لا يحتكر إلا خاطئ)) أو ((من احتكر فهو خاطئ)) والوعيد عليه خاصة، لا ينفي ذلك العموم.
وعلة النهي أيضًا تؤكد ذلك، وهي الإضرار بعموم الناس، نتيجة حبس السلعة وحاجة الناس ليست إلى الطعام وحده، وخصوصًا في عصرنا، فهو في حاجة إلى أن يطعم ويشرب، ويلبس ويسكن، ويتعلم، ويتداوى، وينتقل، ويتواصل مع غيره بشتى الوسائل.
ومن هنا أرجح قول الإمام أبي يوسف في (الخراج) : كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار (1) .
وكل ما تشتد حاجة الناس إليه يكون احتكاره أشد إثمًا، وفي مقدمة ذلك الطعام، وفي مقدمة الطعام القوت الضروري.
وكذلك الخلاف في الوقت الذي يحرم فيه الاحتكار، فمن العلماء من طرد النهي في جميع الأوقات، ولم يفرق بين وقت الضيق ووقت السعة أخذًا بعموم النهي، وعليه عمل الورعين من السلف.
قال الغزالي:
(ويحتمل أن يخصص بوقت قلة الطعام، وحاجة الناس إليه حتى يكون في تأخير بيعه ضر ما، فأما إذا اتسعت الأطعمة، وكثرت واستغنى الناس عنها، ولم يرغبوا فيها إلا بقيمة قليلة، فانتظر صاحب الطعام ذلك، ولم ينتظر قحطًا، فليس في هذا إضرار،وإذا كان الزمان زمان قحط، كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها أضرار، فينبغي أن يقضي بتحريمه ويعول في نفي التحريم وإثباته على الضرار، فإنه مفهوم قطعًا من تخصيص الطعام، وإذا لم يكن ضرار فلا يخلو احتكار الأقوات عن كراهية، فإنه ينتظر مبادئ الضرار وهو ارتفاع الأسعار وانتظار مبادئ الضرار، محذور كانتظار عين الضرار، ولكنه دونه، وانتظار عين الضرار أيضًا هو دون الإضرار، فبقدر درجات الإضرار تتفاوت درجات الكراهية والتحريم (2) .
وعن بعض السلف: أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع هذا الطعام يوم يدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد فوافق سعة في السعر فقال له التجار: لو أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا، إن كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وإنك قد خالفت وما نحب أن نربح أضعافه بذهاب شيء من الدين، فقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال كله، فتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من إثم الاحتكار كفافًا لا علي ولا لي (3) .
خاتمة:
وإذا كان الأصل جواز الربح بغير نسبة محددة للتاجر الملتزم بأحكام الإسلام وتوجيهاته في البيع والشراء، وترك السوق للعوامل الطبيعية، وهو ما يعبر عنه اليوم بقوانين العرض والطلب – دون تلاعب أو تدليس، أو تدخل مفتعل، لإغلاء الأسعار على عموم الناس ... فهذا لا يمنع ولي الأمر المسلم – عندما يوجد شيء من ذلك – أن يتدخل بمقتضى عموم ولايته ومسئوليته، لتحديد أرباح التجار، بنسب معينة، قد تتفاوت بتفاوت السلع وبمشورة أهل الرأي والبصيرة، كما عبر علماؤنا السابقون رحمهم الله تعالى، وهذا هو موضوع (التسعير) ومتى يجوز، ومتى لا يجوز، وما شروطه، إلخ ... وهو لا يخص التجار وحدهم، بل يشمل المنتجين أيضًا، وهو جدير ببحث مستقل بعنوانه الخاص.
__________
(1) الخراج، لأبي يوسف.
(2) الإحياء: 2/73.
(3) الإحياء: 2/73.(5/2272)
الخلاصة
والخلاصة التي تخرج بها من هذا البحث تتمثل فيما يلي:
1- أن ابتغاء الربح في التجارة أمر جائز ومشروع، بل هو مأمور به لمن لا يحسنون الاتجار لأنفسهم كاليتامى.
2- أن النصوص لم تحدد نسبة معينة للربح، بحيث لا يجوز تعديها، بل وجد في السنة ما يدل على جواز بلوغ الربح إلى ضعف رأس المال أو أضعافه.
3- أن جواز الربح الكثير لا يعني أنه مرغوب فيه دائمًا، بل القناعة بالربح القليل أقرب إلى هدي السلف وأبعد عن الشبهات.
4- أن الربح لا يحل للتاجر المسلم، إلا إذا سلمت معاملاته التجارية من الحرام فأما إذا اشتملت على محرم كالاتِّجار في الأعيان المحرمة، أو التعامل بالربا أو الاحتكار أو الغش والتدليس، أو إخفاء سعر الوقت أو التطفيف ونحوهما فإن ما ترتب عليها من ربح يكون حرامًا.
5- أن القول بأن للتجار أن يربحوا بالحلال ما شاؤوا، في حدود القيم والضوابط التي ذكرناها، لا ينفي حق ولي الأمر المسلم في تحديد مقدار الربح أو نسبته، وخصوصًا في السلع التي يحتاج عموم الناس إليها.
الدكتور يوسف القرضاوي.(5/2273)
مسألة تحديد الأسعار
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد البشر محمد وآله الطيبين وصحبه المنتخبين.
رغم أن الموضوع المطلوب بحثه هو مسألة تحديد أرباح التجار ولكننا نقصر البحث هنا على موضوع تحديد الأسعار لأن الموضوع الأول واسع الأبعاد يشمل مساحات مختلفة كتحديد الأجور والرواتب وتحديد موارد الاستثمار الصناعي والزراعي والتجاري وتحديد الأسعار، وتحديد الدخل بشكل عام ومن الطبيعي عدم إمكان البحث في كل هذه الأمور اللهم إلا أن يقال بوحدة الملاك فيها جميعًا ويتم التركيز على هذا الملاك ليعرف الجواب في الجميع ومن هنا فقد ركزنا على موضوع تحديد الأسعار للأمور التالية:
أولًا: لتحديد محل البحث.
ثانيا: لأنه أكثر من غيره محل الخلاف والبحث من قبل علمائنا.
وثالثا: لأن الموقف فيه إذا عرف عرفت أغلب المواقف في الموارد الأخرى، وعلى أي حال، فإن الأصل في البين هو حرية البائعين والمشترين في التعامل بأي سعر كان، أما التحديد فيجب أن يتم طبق حركة استثنائية وعلى أساس من سلطة حكومية ولائية أو قواعد ثانوية تنفي الضرر والحرج وغيرها وسنلاحظ اختلاف المواقف فيما يلي:
أقوال العلماء:
ذكر العالم الكبير المنتظري في رسالته (التسعير) بعض هذه الأقوال وأكد على أن كلماتهم مختلفة في ذلك والأكثر على المنع، بل في كتاب مفتاح الكرامة: (إجماعًا وأخبارًا متواترة كما في السرائر وبلا خلاف كما في المبسوط وعندنا كما في التذكرة للعلامة) (1) .
وجاء في نهاية الشيخ الطوسي (ولا يجوز له أن يجبره على سعر بعينه، بل يبيعه بما يرزقه الله – تعالى – ولا يمكنه من حبسه أكثر من ذلك) (2) .
__________
(1) مفتاح الكرامة ج 4، كتاب المتاجر: ص 109
(2) النهاية للشيخ الطوسي: ص 374.(5/2274)
وفي المبسوط للشيخ الطوسي: (لا يجوز للإمام ولا النائب عنه أن يسعر على أهل الأسواق متاعهم من الطعام وغيره سواء كان في حال الغلاء أو في حال الرخص بلا خلاف ... فإذا ثبت ذلك فإذا خالف إنسان من أهل السوق بزيادة سعر أو نقصانه فلا اعتراض لأحد عليه) (1) .
وفي كتاب الغنية لابن زهرة: (ولا يجوز إكراه الناس على سعر مخصوص) (2) .
وفي كتاب الشرائع: (ولا يسعر عليه، وقيل: يسعر: والأول أظهر) (3) .
وفي المختصر للمحقق الحلي: (وهل يسعر عليه؟ الأصح، لا) (4) .
وفي المقنعة: (وله أن يسعرها على ما يراه من المصلحة ولا يسعرها بما يخسر أربابها فيها) (5) .
وفي الدروس للشهيد الأول: (ولا يسعر عليه إلا مع التشدد) (6) .
وفي مفتاح الكرامة: (وفي الوسيلة والمختلف والإيضاح والدروس واللمعة والمقتصر، والتنقيح أنه يسعر عليه إن أجحف في الثمن لما فيه من الإضرار المنفي) (7) .
وقال العلامة في المنتهى: (على الإمام أن يجبر المحتكرين على البيع وليس له أن يجبرهم على التسعير، بل يتركهم يبيعون كيف شاؤوا به قال أكثر علمائنا وهو مذهب الشافعي، وقال المفيد وسلار (ره) للإمام أن يسعر عليهم فيسعر بسعر البلد وبه قال مالك) (8) .
وجاء في موسوعة الفقه الإسلامي: (نص المالكية على أن من اشترى الطعام من الأسواق واحتكر وأضرَّ بالناس، فإن الناس يشتركون فيه بالثمن الذي اشتراه به) (9) .
وجاء في نفس الموسوعة: صرح الحنابلة بأن لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه مثل من عنده طعام يحتاج إليه الناس في مخمصة، فإن من اضطر إلى طعام غيره أخذه منه بغير اختياره بقيمة المثل ولو امتنع عن بيعه إلا بأكثر من سعره أخذه منه بقيمة المثل) (10) .
__________
(1) المبسوط: 2 /195.
(2) الجوامع الفقهية: ص 590.
(3) الجزء الثاني: ص 21.
(4) المختصر النافع: ص 120.
(5) المقنعة: ص 96.
(6) الدروس: ص 332.
(7) مفتاح الكرامة: 4/ 109.
(8) المنتهى: 2/ 1007.
(9) موسوعة الفقه الإسلامي: 3/198.
(10) موسوعة الفقه الإسلامي: 3 /198.(5/2275)
وهكذا نجد العلماء بين موافق ومخالف في هذا الموضوع.
أدلة الطرفين:
أما النافون للجواز فقد استندوا إلى أدلة أهمها:
أولا: كل الأدلة العامة التي تدعو إلى احترام الملكية الخاصة، والسطلنة على المال وعدم التدخل في ذلك، وأن الأصل هو تحريم نقل مال الغير عنه بغير إذنه وأن البيع معاملة وقعت عن تراضٍ فما المجوز للتدخل وأمثال ذلك.
ثانيا: الروايات الخاصة الواردة في هذا الموضوع ومنها:
1- ما رواه محمد بن يعقوب بسنده عن حذيفة بن منصور عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال: نفذ الطعام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه المسلمون فقالوا يا رسول الله قد نفذ الطعام ولم يبق منه شيء إلا عند فلان فمره ببيعه، قال: ((فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا فلان إن المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفذ إلا شيء عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه)) (1) ورواه الشيخ الطوسي بسنده إلا أنه قال (فقد) مكان (نفذ) وقال سماحة الشيخ المنتظري في سنده أنه لا كلام في رجاله إلا في حذيفة ومحمد بن سنان والظاهر أن الأمر فيهما سهل.
2- ما رواه الشيخ بسنده عن الحسين بن عبيد الله بن حمزة، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، أنه قال: رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مر بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظر الأبصار إليها فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قومت عليهم! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه، فقال: ((أنا أقوم عليهم إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء)) (2) .
ورواه الصدوق أيضا في (من لا يحضره الفقيه) مرسلًا، وفي التوحيد بسند موثوق به (3) .
__________
(1) وسائل الشيعة ج 12 الباب 29 من أبواب آداب التجارة الحديث 1
(2) وسائل الشيعة ج 12 الباب 30 من آداب التجارة الحديث 1
(3) التوحيد للصدوق: ص 388.(5/2276)
3- ما رواه الصدوق في الفقيه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو سعرت لنا سعرًا فإن الأسعار تزيد وتنقص، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما كنت لألقى الله ببدعة لم يحدث إلى فيها شيء فدعوا عباد الله يأكل بعضهم من بعض وإذا استنصحتم فانصحوا)) ، ورواه في التوحيد أيضا (1) .
4- وفي سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة أن رجلًا جاء فقال:
يا رسول الله سعر فقال: ((بل أدعو)) ، ثم جاء رجل فقال يا رسول الله: سعر، فقال: ((بل الله يخفض ويرفع وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة)) (2) .
5- وفيه أيضا بسنده عن أنس بن مالك قال: قال الناس: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال)) (3) ، وأحمد في المسند (4) .
6- وهناك روايات أخرى رواها ابن ماجه وعبد الرزاق في المصنف وروى بعضها أبو يوسف في (الخراج) والشوكاني في نيل الأوطار وغيرهم.
وأما المجيزون للتسعير فهم يستندون إلى أدلة منها:
أولا: مسألة الولاية التي يملكها الحاكم الشرعي على الأوضاع العامة لتحقيق العدالة الاجتماعية فله حق التدخل لتعديل الأسعار كما أن له حق التدخل في مختلف المجالات المباحة ومن الطبيعي أن الحكومة والقدرة على الإدارة العامة تتطلبان بلا ريب هذه الولاية لملء منطقة الفراغ التنظيمي.
أما الأساس الذي يقوم عليه تدخله في الأمور فقد يكون هو الضرورة وقد لا تكون هناك ضرورة وإنما تقتضي المصلحة العامة أي تقتضي مسألة السير الاجتماعي المتوازن أن يتدخل في هذه المنطقة ومن الواضح أن التسعير لا يعني الإجبار على البيع إذا كان هناك ما يتطلب ذلك ويقوم أصل الولاية هذا على أساس من أمر الشريعة بإطاعة ولي الأمر فيما رآه.
ثانيًا: وجود الضرر وهو منفي في الإسلام والمقصود به هنا أن المنع من التسعير أو عدم التسعير يؤدي إلى ضرر العامة وهم محتاجون إلى المتاع ويتأكد هذا الموضوع إذا قلنا إن الضرر يفسر بسوء الحال فيشمل الضرر الاجتماعي العام.
__________
(1) وسائل الشيعة ج 12 الباب 30 من أبواب آداب التجارة الحديث 2.
(2) سنن أبي داود: 3/272، كتاب الإجارة باب التسعير.
(3) سنن ابن ماجه: ج 2 الحديث 2200 كتاب التجارات.
(4) مسند الإمام أحمد بن حنبل: 2/156.(5/2277)
ثالثا: كما استند في ذلك إلى سد الذريعة إلى الحرام، والمصالح المرسلة باعتبارها أصولًا قائمة برأسها ونحن لا نقول بذلك.
وعلى ضوء هذه الأدلة التي نقلناها وما نفهمه من طبيعة الإسلام والنظام الإداري فيه نستطيع طرح النقاط التالية والتي تساهم في تفهم الموقف الصحيح.
أولا: رغم أن الإسلام اعترف تمامًا بالملكية الخاصة والحرية الاقتصادية في مجالات ترشيد الثروة والتملك والاستهلاك وأعطاها دورها الخاص الأصيل في الحياة الاقتصادية تمامًا إلى جانب الاعتراف بالملكية العامة والمصالح العامة، ولكنه أكد من جهة بعض المفاهيم التي تبعد هذا الاعتراف عن صورته الرأسمالية الجشعة وتلك من قبيل مفهوم الخلافة الإلهية على المال وأن الإنسان إنما خول التصرف في المال بما يريده المالك الحقيقي له.
{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد: الآية 7] .
{وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [سورة الأنعام: الآية 94] .
وإن الأموال إنما أعطيت ونظم لها نظام ملكية معين باعتبار مالها من وظيفة اجتماعية عامة ألا وهي قيام المجتمع بها ولذا يمنع السفهاء من التلاعب بها واستغلال ملكيتهم الخاصة في هذا الصدد.
{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [سورة النساء: الآية 5] .
وتلاحظ هنا عبارة (لكم) مع أن المراد هو أموال السفهاء.
وربما جاءت نصوص تذكر حقيقة الملكية الإلهية والهدف منها، ثم تعقب على ذلك بأحكام تحدد فيها هذه الملكية.
مما يوضح لنا أن الملكية في الإسلام، ليست حقًّا مطلقًا وإنما هي حق تستتبعه مسئولية.
وعلى ضوء هذا، فإذا أريد استغلال الملكية لصالح جشع المالك واستفادته من حاجة الناس إليها للتضييق عليهم والوصول إلى الربح المضاعف، فإن ذلك مما يتنافى وطبيعة المسئولية التي أشرنا إليها.
والذي يشخص الضرورة الاجتماعية أو المصلحة الاجتماعية العليا هو ولي الأمر العادل عبر تشاوره مع ذوي الخبرة.
وعبر هذا المعنى يملك ولي الأمر القدرة على توجيه الاقتصاد السياسي المطبق الوجهة التي يريدها الإسلام فيمنع من انحصار الأموال بيد طبقة خاصة: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [سورة الحشر: الآية 7] .(5/2278)
ويحقق للتداول طبيعته الاقتصادية المنسجمة مع المسئولية الاجتماعية مبعدًا إياه عن دوره الاستثنائي الرأسمالي المنحرف والمؤدي لتضخم القيمة وإهدار الطاقات، ويوفر التوازن الاجتماعي المطلوب.
وعملية التسعير إذا نظر إليها في هذا الإطار كانت عملية طبيعية بلا ريب.
ثانيا: إذا أردنا أن نوضح موقف الإسلام من حرية قوانين العرض والطلب في السوق الإسلامية نستطيع الوصول إلى نتيجة ملخصها:
1- أن هذه القوانين لا محل لها في مرحلة ما قيل الإنتاج البشري أي مرحلة الطبيعة الخام فالمؤثر في هذه المرحلة هو العمل على الطبيعة وبدونه لا يحصل أي اختصاص أو توزيع.
2- أما في مرحلة ما بعد الإنتاج البشري، فإن هذه القوانين تعمل عملها ولكن في أطر معينة يرضاها الإسلام للسوق الإسلامية السليمة والتي تذكرها لنا النصوص الإسلامية الكثيرة.
إذ لا يوجد في هذه السوق (احتكار) ولا (إجحاف) ولا (غش) ولا تبان لرفع القيم (حتى التباني الرسمي) ، ولا ندرة مصطنعة كما يتوفر فيها ما يحتاجه المجتمع حيث يجب كفاية توفر ذلك، وهكذا نصل إلى منع أي معاملة محرمة وسيادة روح التعاون والخدمة وغير ذلك من أحكام السوق الإسلامية السليمة، وفي مثل هذه الحالة الطبيعية لا معنى لتدخل الدولة في عملية العرض والطلب حيث الأصل حريتهما وربما يحمل على ذلك ما جاء في الأخبار: ((إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء)) أو (إن غلاء السعر ورخصه بيد الله) وأمثال ذلك.
وإذا رأيناه صلى الله عليه وسلم يغضب ممن طلب منه التدخل فهو – على الظاهر – لأنه طلب إليه التدخل في حالة عادية.
وقد روى عبد الرزاق في المصنف بسنده عن سالم بن أبي الجعد، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم سعر لنا الطعام، فقال: ((إن غلاء السعر ورخصه بيد الله وإني إن ألقى الله لا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في مال ولا دم)) (1) .
__________
(1) مصنف عبد الرزاق الجزء الثامن الحديث 14897 باب هل يسعر.(5/2279)
فليس غلاء السعر، أو كون الطعام غير مسعر وأمثال ذلك سببًا للتدخل، أما إذا حصل إجحاف في البين أو احتكار وما إلى ذلك مما يتنافى والشكل الإسلامي للسوق، فإن لولي الأمر التدخل لإرجاع الحالة إلى الوضع الطبيعي بلا ريب.
قال الصدوق في كتاب التوحيد: (فما كان من الرخص والغلاء عن سعة الأشياء وقلتها، فإن ذلك من الله – عز وجل – ويجب الرضا بذلك والتسليم له وما كان من الغلاء والرخص بما يؤخذ الناس به لغير قلة الأشياء وكثرتها من غير رضى منهم به أو كان من جهة شراء واحد من الناس جميع طعام بلد فيغلوا الطعام، فذلك من المسعر والمعتدي بشراء طعام المصر كله كما فعله حكيم بن حزام كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله فمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا حكيم بن حزام إياك أن تحتكر)) ) (1) .
وقد روي عن الإمام على بن أبي طالب أنه كتب إلى مالك الأشتر عامله على مصر يقول: (فامنع من الاحتكار فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع منه وليكن البيع بيعًا سمحًا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع) (2) .
ويقول الشهيد الثاني: (ولا يجوز التسعير في الرخص مع عدم الحاجة قطعًا والأقوى أنه مع الإجحاف حيث يؤمر به لا يسعر عليه أيضًا، بل يؤمر بالنزول عن المجحف وإن كان بمعنى التسعير إلا أنه لا ينحصر في قدر خاص) (3) .
والظاهر أن النصوص تؤكد على حرية التسعير، ما لم يتطلب الموقف غير ذلك، وحتى لو أمكن تلافي الحاجة بالأمر بتقليل السعر دون تحديد لتعين ذلك فهي حالة استثنائية لا يصار إليها إلا عند الضرورة أو اقتضاء المصلحة العامة الملزمة لذلك.
وإننا إذا تأملنا الخلاف بين العلماء ونصوصهم واستدلالاتهم وجدنا أن هذا يشير إلى الحالة الطبيعية فيحرم وذاك يشير للحالة الثانوية فيجيز، فهم في الواقع متفقون – كما يظهر-.
الخلاصة:
من ملاحظة الأدلة والنصوص والفتاوي يتلخص ما يلي:
1- إن الأسعار متروكة للمالكين يسيرون بها حسب العرض والطلب وفي الجو الطبيعي لهما دونما صيرورة إلى ندرة كاذبة واحتكار مذموم.
2- في الحالات التي تتطلب الضرورة أو المصلحة الاجتماعية تدخل ولي الأمر، فإن له بمقتضى ولايته التدخل.
والله أعلم.
الشيخ محمد علي التسخيري
__________
(1) التوحيد للصدوق: ص 389.
(2) نهج البلاغة شرح الإمام محمد عبده: 3/92.
(3) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: 3/ 299.(5/2280)
بحث
تحديد أرباح التجار
إعداد
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
يقصد بتحديد أرباح التجار التسعير وهو تحديد أسعار معينة تباع بها سلع معينة في الأسواق. والهدف من تحديد أرباح التجار أو التسعير لهم هو حماية المشتري حتى لا يظلم في شراء ضرورياته ومستلزماته. والهدف من ذلك أيضًا هو محاربة الاحتكار والسوق السوداء وقد تسببا في معاناة شديدة وحرج كبير لكثير من شعوبنا. ولا شك أن هذه أهدافًا جميلة تتمشى مع ما تهدف إليه الشريعة الغراء من الرحمة بين الناس والعدل والرضا والطمأنينة في البيع.
ولكن قد يثار أن تحديد أرباح التجار أو التسعير لهم فيه مخالفة لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) .
وفي تحديد السعر الذي بيبع به التاجر وهو تحديد لربحه قد يكون إجبارًا له على البيع بغير ما يرضى أو يريد من الربح. كما أن هذا التحديد قد يحد من حرية المالك مما تكفله له الشريعة الإسلامية من حرية التصرف فيملكه كيف يشاء من غير إتلاف لماله أو مساس بحقوق الآخرين، كما أن مبدأ حرية التجارة وارتزاق الناس بعضهم من بعض التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبع حاضر لباد، ودعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) (2) . ولكي نصل إلى الرأي الفقهي في هذه المسألة لا بد من الرجوع إلى أصولها في الفقه ومصادره.
أولًا: الأصل في هذه المسألة قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (اعلم أن كل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض، إلا أن قوله (بالباطل) أخر منها كل عوض لا يجوز شرعًا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير وغير ذلك. وخرج منها أيضًا كل عقد جائز لا عوض فيه، كالقرض والصدقة والهبة. وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة في مواضعها. فهذان طرفان متفق عليهما) (3) .
__________
(1) سورة النساء: الآية29.
(2) الحديث صحيح وقد رواه كثير من المتحدثين تارة باللفظ وتارة بالمعنى. أخرجه مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه، والترمذي في جامعه، والنسائي في صحيحه. وفي أخرى للبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن أنس (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حاضر لباد وإن كان أخاه لأبيه وأمه) ، وفي أخرى لأبي داودوالنسائي (وإن كان أخاه أو أباه) إلى غير ذلك.
(3) الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله القرطبي: 5/152، دار إحياء التراث العربي، لبنان، 1965م.(5/2281)
ويقول: " والجمهور على جواز الغبن في التجارة مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة فذلك جائز، وإن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، كما تجوز الهبة لو وهب. واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك، فقال قوم: عرف قدر ذلك أم لم يعرف فهو جائز إذا كان رشيدا حرًا بالغًا. وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا، وقال ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله: والأول أصح لقوله عليه السلام في حديث الأمة الزانية: "فليبعها ولو بضفير"، وقوله عليه السلام لعمر ((لا تبتعه – يعني الفرس – ولو أعطاكه بدرهم واحد)) . وقوله عليه السلام ((دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) . وقوله عليه السلام: ((لا يبع حاضر لباد)) . وليس فيها تفصيل بين القليل والكثير من ثلث ولا غيره". (1) .
ثانيًا: ما روي في الحديث من رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر للناس، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال: سعر لنا يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنما يرفع الله ويخفض، إني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة)) . قال له آخر: سعر، قال: ((أدعو الله)) .
قال الإمام البغوي في الجزء الثامن من شرح السنة أن إسناد الحديث أعلاه صحيح، وأخرجه أبو داود في البيوع: باب في التسعير. وأخرجه ابن ماجه في التجارات: باب من كره أن يسعر بلفظ، قال الناس: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد منكم يطالبني بمظلمة من دم ولا مال)) .
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي الباب أيضًا عن أبي جحيفة وابن عباس وأبي سعيد الخدري عند الطبراني في معاجمه الثلاثة (2) .
ويأتي هنا أيضًا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المذكور سابقًا ((لا يبع حاضر لباد)) , ((ودعوا الناس يرزق الله بعضهم بعضًا)) ، وقد بينا صحة إسناده سابقًا، والمنهي عنه هنا أن يأتى البدوي البلدة ومعه قوت يبغي التسارع إلى بيعه رخيصًا، فيقول له الحضري: اتركه عندي لأغالي في بيعه. فهذا الصنيع محرم لما فيه من الاضرار بالغير. والبيع إذا جرى مع المغالاة متعقد. وسئل ابن عباس عن معنى الحديث فقال: لا يكون له سمسارًا. (عن ابن الأثير) (3) .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله القرطبي: 5/152، دار إحياء التراث العربي، لبنان، 1965م. ص152، 153.
(2) انظر شرح السنة للإمام البغوي: 8/177، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1983م.
(3) انظر الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله القرطبي: 5/153، مطبعة دار إحياء التراث العربي، لبنان، 1965م.(5/2282)
وروى الإمام مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب قال: لا حكرة في سوقنا لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فليبع كيف شاء، وليمسك كيف شاء الله (1) .
ويبدو أن تغير أحوال الناس وظهور عنصر الجشع وفقدان الأمانة والتقوى في معاملاتهم وكذلك اتساع الأوضاع التجارية دفع الفقهاء إلى البحث عن حكم البيع بالزيادة المتفاحشة على الثمن المعتاد. ويبدو أن هناك اتفاقًا ظاهرًا في أنه متى علم البائع والمشتري قيمة السلعة التي تباع بها في الأسواق، وحصل الغبن بزيادة في الثمن غير معتادة، أو نقص فيه كذلك، فالبيع صحيح لا حرمة فيه، ولو كان البيع فوق فائدة الربا بكثير، وما مثل هذا إلا كزارع وضع قليلًا من الحب في أرضه فأنبتت عشرة من الأرادب، فالطريق مشروع، والكسب حلال ورزق ساقه الله إلى التاجر والزارع.
أما إذا جهلت قيمة السلعة، فإن استسلم أحدهما لصاحبه بأن أخبره بجهله وائتمنه فيما يخبره به وما يحدده من الثمن، فقال البائع للمشتري: قيمتها في السوق عشرون، فإذا هي عشرة، أو قال المشتري للبائع: قيمتها في السوق عشرة، فإذا هي عشرون، فللمغبون الرد، وعلى صابحه المؤتمن الكذوب الحرمة. فإن لم يستسلم لصاحبه مع جهل القيمة، بل باع أو اشترى على المغالبة والمشاحة فحصل الغبن المتفاحش، فالبيع صحيح لا رد فيه ولا حرمة على المشهور.
وقال بعضهم: إن وصل الغبن الثلث فأكثر من قيمة السلعة، فسخ البيع أن قام المغبون برد السلعة في أثناء السنة من يوم البيع. وقد أفتى به ابن عرفة والماذري والبرزلي. ومشى عليه ابن عاصم في التحفة، لكن رده ابن رشد بقوله: إنه غير صحيح لحديث: ((لا يبع حاضر لباد)) ((ودعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) .
__________
(1) الموطأ: 2/651.(5/2283)
قال في أقرب المسالك وشرحه: ولا رد بغبن ولو خالف العادة في القلة أو الكثرة، كأن يشتري ما يساوي درهمًا بعشرة أو عكسه، إلا أن يستسلم أحد المتابيعين لصاحبه بأن يخبره بجهله، كأن يقول المشتري: أنا لا أعلم قيمة هذه السلعة فبعني كما تبيع الناس، فقال البائع: هي في العرف بعشرة، فإذا هي بأقل. أو يقول البائع: أنا لا أعلم قيمتها فاشترِ مني كما تشتري من الناس، فقال: هي في عرفهم بعشرة، فإذا هي بأكثر، فللمغبون الرد على المعتمد (بل باتفاق، ولم يخالف فيه أحد) . وإنما الخلاف في الغبن من غير استسلام إذا كان المغبون جاهلًا، فإن كان عارفًا فلا رجوع له اتفاقًا، فإن استسلم الجاهل فالرد متفق عليه" (1) .
والذي يتضح من هذا كله أن الرأي الراجح هو ترك البضائع بغير تحديد سعر أو تحديد أرباح للتجار على أن تقوم الدولة بواجبها في توفير البضائع وأنواعها محاربة للغلاء أو الاحتكار أو السوق السوداء كما عليها إقامة الدين بين الناس وإحياء ضمائرهم بالتقوى والبعد عن إجحاف الناس وظلمهم أو استغلال حاجتهم للشراء وجلهم بالأسعار. فعلى الدولة ترك تحديد الأسعار أو تحديد أرباح التجار مع نشر الوعي الديني وحث الناس على تقوى الله في هذا المجال ومخافته في معاملة عباده ولا سيما قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) (2) .
إلا أنني أرى أن الأمر إذا استشرى جدًا وصارت طبقة من الناس لا تخشى الله ولا ترحم الناس كما يحصل فيما يسمونه اليوم بالسوق السوداء، فعلى الدولة واجب محاربة هذه الطبقة ومحاربة ما يفعلونه، بخلق التنافس الصالح في التجارة وتوفير البضائع وأنواعها وتوعية الناس بكل الوسائل بالأسعار المعقولة للبضائع جملة وتجزئة. ولا شك أن هذا من أهم مهام الدولة الإسلامية والمحتسبين في محاربة أي عامل يؤدي إلى الغلاء في الأسواق وسن اللوائح اللازمة لتحقيق ذلك وعلى الناس طاعتها لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) .
وللحكومة الحق في تعزير من يخالف تلك اللوائح.
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد.
__________
(1) جاء هذا في فتوى للشيخ يوسف الرجوي المالكي من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف – انظر مجلة الأزهر، مجلد 5، ص244. انظر أيضًا الفقه على المذاهب الأربعة، كتاب البيع: بحث البيع بالغبن الفاحش.
(2) أخرجه الترمذي: (1209) ؛ والدارمي: 2/247؛ والحاكم: 2/6.
(3) سورة النساء: الآية 59.(5/2284)
تحديد أرباح التجار
إعداد
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على أفضل الأنبياء والمرسلين
المقدمة:
لا شك أنَّ اختلاط المسلمين اليوم بغيرهم، وتطور الحريات العامة، واحترام الإنسان لأخيه الإنسان بقطع النظر عن الجنس، أو الدين أو اللغة، أو الإقليم، إضافة إلى سهولة المواصلات وسرعتها وتنوع وسائل الإنتاج، وتصاعد حاجات الإنسان، كلها مؤثرات بالغة الأهمية في نمو ربح التاجر، وتنوع مصادره، فإذا ما تضافرت كلها وترك لها الباب مفتوحًا، فإن تفاحش الربح والبحث عنه لا محالة سيؤدي إلى فوضى اجتماعية، وانتهاكات دينية تخل بسلامة المجتمع الإنساني بصفة عامة، كما ستهدر قيم المجتمع الإسلامي بصفة خاصة.
ويثبت ذلك ما يشاهد اليوم في النظام الرأسمالي الغربي، الذي أصبحت الشركات الكبرى هي التي تتحكم في مصيره مكرسة كل طاقات الدول لخدمة ربحها المتنامي بصرف النظر عن كل شيء يخدم الربح على أبشع صور الاستغلال، والاستنزاف.
وبموازاة ذلك تعيش مراكز البيروقراطية في المعسكر الاشتراكي جاعلة من طاقات الإنسان وسيلة لرفاهية مدراء المكاتب، والمؤسسات العسكرية على حساب حرية الفرد واختياره وتنمية جهوده، ليصبح عبد التوجيه الذي لا يرحم، ولا يسمن ولا يغني، ولعل ما يلاحظ اليوم من عجز النظامين عن حل أبسط المشاكل اليومية للإنسان يحتم علينا نحن المسلمين أن نرجع لنظريات الإسلام، بإبرازها للعالم كبديل قادر على تجنب كثير من مساوئ التجارب البشرية، التي أعطيت لها كل الفرصة الزمنية فعجزت عن حل أبسط مشاكل الفرد والجماعة، إذ في الوقت الذي يبحث خبراء العالم عن البدائل يجدر بنا نحن المسلمين أن نقدم لهم البديل جاهزًا، وقد أتت جل قواعده من الله لصالح عباده، ثم إن تلك التعاليم قد خضعت لمحك التجربة فأعطت أنها صالحة أيام ازدهار دولة الإسلام.
كما أن جُلَّ النظريات الصالحة في سجل الفكر البشري لعالم اليوم، إذا لم تكن مقتبسة في جلها من تعاليم الإسلام، فإنها أتت شديدة التأثر به، ونعني كل القوانين، سواء كانت في إطار نظريات اقتصادية أو قواعد مدنية، مما يحتم علينا نحن أصحاب تلك الشريعة الإسلامية الخالدة أن نعيد تجاربنا في الحياة استنادًا إليها وتطبيقًا لنصوصها، كما يجب علينا أن نتعرف على نصوصها، ونقدم أسسها لأبناء اليوم بأسلوب يحافظ على تعاليمها، وينسجم مع أساليبهم الدراسية.(5/2285)
لذا، فإن جهود المجمع الفقهي الإسلامي بجدة بفضل الخبرة والحنكة، والاطلاع الواسع الذي يتميز به أمينه العام، العالم الجامع، والمجرب الغيور على وطنه الإسلامي، وعلى عقيدته الإسلامية الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة، قد أحسن صنعًا بتنظيم هذه الندوات التي تقرب بعيد الفقه الإسلامي وتجمع شتاته من حنايا ذلك الزخم العظيم من المؤلفات الفقهية التي أصبحت تعج بها المكتبات ويلفها النسيان في طياته، بحيث أوشكت أن تدخل في عداد الرصيد التاريخي الذي يعتز به اليوم، ولا سبيل إلى تطبيقه، وليس لذلك من سبب سوى قصور الهمم والارتماء في أحضان المستورد من الغرب أو الشرق، والحكم بأنه الوسيلة الوحيدة للخروج من أزمات كان ذلك المستورد هو السبب فيها.
وللمساهمة في هذا اللقاء المبارك سندرس الموضوع من خلال النقاط التالية:
1- التعريف بالتجارة.
2- بيع المرابحة.
3- التسعير.
4- سلامة الربح من العيوب الشرعية.
5- تحريم الاحتكار.
6- مبررات تدخل الدولة لتنظيم الربح.
7- الخاتمة.
1- التعريف بالتجارة:
لقد تمَّ تعريف التجارة في كتب التفسير وكتب الفقه حكمًا، كما ورد تعريفها في المعاجم لغة، وأيضًا ورد ذكر التجارة في كتاب الله العزيز عدة مرات، منها ما يدل على المعاوضة ومنها ومنها ما يدل على الربح الذي يناله العبد ثوابًا من ربه جزاء على فعله للصالحات، واجتنابه للمنهيات ففي موضوع المعاوضة، قال الله عز وجل في الآية 29 من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلاَّ أن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}
قال القرطبي في تفسيره: التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ومنه الأجر الذي يعطيه الباري سبحانه وتعالى لعبده عوضًا عن الأعمال الصالحة.(5/2286)
والتجارة نوعان:
تقلب في الحضر من غير نقله ولا سعر، وهذا تربص واحتكار وذكر أنه غير حسن.
والثاني: تقلب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار، فهذا أليق بأهل المروءة وأعم جدوى ومنفعه غير أنه أكثر خطرًا وأعظم خوفًا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن المسافر لعلى "قلت" (1) . إلا ما وقى الله "قيل في التوارة" يا ابن آدم أحدث سفرًا أحدث لك رزقًا)) .
فكل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض، غير أن قول الآية الكريمة "بالباطل" أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعًا "عندنا نحن المسلمين" من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد، كالخمر والخنزير، وغير ذلك، وخرج منها كل عقد جائز لا عوض فيه مثل الهبة والوقف.
هذا تعريف القرطبي للتجارة عند تفسيره للآية السالفة.
وأثناء تفسير المرجع المذكور لقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الآية 275 من سورة البقرة] ، والتركيز على أن الله حذر من أكل أموال الناس بالباطل قال بأن الغبن اليسير لا يثير شبهة، وغايته من ذلك الربح العادي، فقال: إلا أن تكون أموال تجارة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وقد ورد ذكر التجارة في القرآن الكريم عدة مرات نذكر منها ما يلي: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الآية 282 من سورة البقرة] .
ثم الآية: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} [من الآية 24 من سورة التوبة] .
ومن الآية 37 من سورة النور، وهي: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية، ووردت التجارة بمعنى الأجر عند الله في الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [الآية 29 من سورة فاطر] .
ووردت بنفس هذا المعنى في الآية 10 من سورة الصف، وهي: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ…} الآية، وورد لفظ التجارة يرمي لنفس المعاوضة المادية عند قول الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الآية 11 من سورة الجمعة] .
__________
(1) لخطر.(5/2287)
وفي اللغة قال القاموس: التاجر الذي يبيع ويشتري، وبائع الخمر، الجمع تجار وتجار وتجر وتجر كرجال وعمال، وصحب وكتب، والحاذق بالأمر والناقة النافقة في التجارة وفي السوق كالتجارة، وأرض متجرة يتجر فيها، وإليها، وقد تجر تجرًا وتجارة وهو على أكر تاجرة على أكرم خيل عتاق.
وفي الحديث الشريف: ((التاجر الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة)) ، وعن أبي داود قال: حدثنا مسدد، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن قيس بن أبي غرة، قال: كنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نسمي السماسرة، فمر بنا النبي صلى الله عليه وسلم فسمانا باسم هو أحسن منه، فقال: ((يا معاشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة)) .
قال شمس الحق العظيم أبادي في كتابه عون المعبود على سنن أبي داود:
البيع لغة مبادلة المال بالمال، وكذا في الشرع لكن زيد فيه قيد التراضي، وإنما جمعه دلالة على اختلاف أنواعه، والحكمة في شرعية البيع أن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبًا، وصاحبه لا يبذله ففي شرعية البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج (1) .
وما دمنا غير مطالبين بالحديث عن التجارة إلا في حدود تبيين الأساليب التي رسمها الفقه الإسلامي لمراقبة أرباح التاجر، فإننا نكتفي بهذا القدر اليسير من التعريف للتعرض بصفة وجيزة أيضًا لنماذج من المعاوضات التي يجني منها التاجر ربحًا، جاعلين الأساس هو تفسير القرطبي للآية الكريمة رقم 29 من سورة النساء حيث قال: إن الربح جائز بإجماع، وهو تفاوت الثمن الذي حصل التاجر بوساطته على بضاعة ما، والقدر الذي باعها به فيكون الربح هو الفرق الحاصل بين رأس المال، وبين قيمة الشراء الجديد، ولم يرَ القرطبي بأسًا في حصول التاجر على ربح يغبن غير فاحش على أن يكون الثمن الأصلي معروفًا، والشاري لم يغرر به ولم يكن جاهلًا لحال السوق غير أنه إذا وصل الثلث أصبح غبنًا فاحشًا يمكن مراجعة العقد بسببه، واستدل للتفاوت بعدة أحاديث منها حديث الأمة الزانية والقائل: ((فليبعها ولو بضفير)) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في الحديث الشريف: ((لا تبعه)) يعني الفرس ولو أعطاكه بدرهم واحد وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعو الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) ، وقوله عليه السلام: ((لا يبعْ حاضر لباد)) .
__________
(1) عون المعبود على سنن أبي داود: 9/173.(5/2288)
قال ابن وهب من المالكية، فيها تفصيل بين القليل والكثير، كالثلث ولا غيره، ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية كانت سباقة إلى سن مبدأ التراضي، الذي يجعل كل واحد من الطرفين يمحص ماله وما عليه، ومن الأفضل احترام إرادتهما إذا أنشأت عقدًا تمت فيه استفادة كل واحد منهما بما في يد صاحبه، مما يحسبه ربحًا ساعة إبرام العقد.
على أن الربح لكي يكون عادلًا ينبغي أن يتميز بالعدل فلا يستنزف البطاقة المادية للشاري، ولا يبخس بضاعة ومجهود البائع، وهذا ما دعي إليه الحديث الشريف المتقدم ذكره ((التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة)) .
ويكره للتاجر الحلف من أجل ترويج بضاعته، وعليه أن لا تشغله عن ذكر الله وعن الصلاة.
ولا يكون الربح مباحًا وسليمًا إلا إذا سلم من الغبن، والتدليس والنجش وجملة البيوع المنهي عنها كبيع الأشياء المحرمة من خمر وقمار، ولحم خنزير، وجملة أنواع بيوع الربا، فإذا سلم العقد من هذه الشوائب وحصل التاجر على ربح ولو كثيرًا فصرفه في أوجه البر فأعطي منه في النائبات وأدى زكاته، وأعان منه المسلمين في المجهود العام لفائدة نشر الإسلام والحفاظ عليه، واستثمره في الرواج الاقتصادي للتخفيف من البطالة، وتطوير وسائل الإنتاج العام لدولة الإسلام بصفة عامة كان من الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، والذين قال فيهم الله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [الآية 261 من سورة البقرة] .
فإن أنفق التاجر على الضعفاء والأيتام وأدى الزكاة وأعطى في النائبات كان من الذين عيَّنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالحديث الشريف: ((ذهب أهل الدثور بالأجر)) من الوعيد النازل في المكتنزين بحكم قول الله عز وجل: {والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [الآيتان 34، 35 من سورة التوبة] .
فإذا ما تجنب التاجر المنهيات ولم يتعاط المحرمات، ولم يتخلف عن الجوانب في النائبات استحق شكر الناس في الدنيا ورحمة الخالق في الآخرة، ومن هنا نتبين أن مراقبة أرباح التاجر في الشريعة الإسلامية هدفها هو أن تنمو طبقة الموسرين وهم محبون عند الله وعند الناس يغبطهم المصلحون، ولا يضرهم حسد المسيئين.(5/2289)
وإذا كان الفقه الإسلامي يفضل ترك الحرية للمتابعين ليحني كل واحد منهما منفعة أثناء تعاقده مع الآخر، فإنه إضافة إلى ذلك وضع الإطار الشامل لمراقبة الربح، حيث سن قواعد ونصوصًا تمكن من رقابة البيع، وما يحصل عنه مِنْ رِبْحٍ، ولم تترك القواعد مجالًا يمكن أن يمر منه التاجر إلى الربح، إلا ونظمته، فالمبدأ هو أن الإنسان يمكن أن يبيع ما له بما شاء بأقل مما كلفه، أو بأكثر منه، أو بنفس المبلغ.
غير أن تلك الحرية تفرض عليها قيود تهدف إلى تحقيق الصالح العام للجماعة، فإذا خفض المالك ثمن بضاعته، وتبين أن ذلك التخفيض من شأنه أن يضر ببقية التجار مما يمكن أن يحملهم على ترك تزويد السوق بما يحتاج إليه العامة، يؤمر المخفض بأن يبيع بمثل بيع السوق، وإلا فلينتقل عنه، وهذا المبدأ يجعلنا نقول بأن الربح في بعض صوره يتعلق بالنظام العام للجماعة، ولولي أمرها أن يراقبه، محافظة على المصالح العامة.
وإذا كان التاجر غير ملزم ببيان كل جزئيات بضاعته، فإنه إذا سئل أو تبرع بالإخبار تحتم عليه أن يقول الحقيقة رفعًا لكل لبس، وإذا أصاب البضاعة عيب مؤثر وجب عليه أن يبينه، قال خليل في مختصره "وجب تبيين ما يكره".
ويحرم النجش والاحتكار والغبن بالتغرير، ويحرم أن يدخل على سوم أخيه، ويحرم أن يبيع حاضر لباد وعليه مراعاة أحوال التسعير التي يفرضها الحاكم على السوق.
هذه إشارات لما يجب أن يتحلى به التاجر في سوق الأمة الإسلامية، فإذا طبقت بنزاهة أصبحنا أمام وضع اقتصادي يجعل الأمة الإسلامية كما هي نموذجًا في معتقدها وسلوكها، تكون كذلك نموذجًا في مبادلاتها التجارية، فتتحكم الروح الإنسانية، وتنتفي الطبقية، ويسود التآلف والتآخي بين مختلف طبقات المجتمع، وتعريف الفقه الإسلامي للبيع هو تعريفه للتجارة، ومن خلال دراسة أنواع البيوع نتعرف على الربح الجائز أو المنهي عنه، كما نتعرف على أنواع النهي، إذ بعض النهي يتعلق بعقاب الآخرة، وتبقى الرقابة فيه لضمير المسلم فيما بينه وبين ربه، بينما تبقى أنواع أخرى من الرقابة للحاكم التدخل في شأنها رعيًا لمصالح الناس.
قال صاحب التحفة الحكام:
ما يستجاز بيعه أقسام
أصول أو عروض أو طعام
أو ذهب أو فضة أو ثمر
أو حيوان والجميع يذكر
قال عبد السلام التسولي في شرح بيتي محمد بن عاصم هذين، ما ملخصه:
البيع لغة مصدر باع الشيء إذا خرجه من ملكه بعوض، أو أدخله فيه فهو من أسماء الأضداد يطلق على البيع والشراء.(5/2290)
وهو إما بيع عين بعين، أو عرض بعرض، فإن بيع بالميزان يسمى مراطلة، وإن بيع بالعدد سمي مبادلة وإن عينا شرط فيه التناجز وسمي صرفًا ويجب على متعاطي البيع أن يعلم حكم الله فيه، وإن بيع بناجز في أحد العوضين ومؤجلًا في الثاني سمي سلمًا (1) .
قال ابن العربي في القبس على موطأ الإمام مالك: البيع والنكاح عقدان يتعلق بهما قوام العالم.
2- المرابحة:
قال ابن رشد في بداية المجتهد: "أجمع جمهور الفقهاء على أن البيع صنفان مساومة ومرابحة، وأن المرابحة هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحًا ما للدينار أو الدرهم".
ثم تعرض خلافهم حول ما يصح للبائع أن يضمه إلى ثمن السلعة من المصاريف التي تحملها عليها، أي ما يمكن أن يحسب من رأس المال، وما لا يمكن أن يحسب منه ولخص مذهب مالك في الزوائد التي تطرأ من بعد رأس المال في ثلاث حالات: هي قسم يعد من الثمن ويكون له حظ من الربح وهو ما كان مؤثرًا في عين المحل " محل العقد " كالخياطة والصبغ.
وقسم بعد من أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح، وهو ذلك الذي يمكن للبائع أن يتولاه بنفسه، ولا يؤثر في السلع ككراء البيوت التي توضع فيها ونقلها من مكان قريب.
وإن تطور الكراء والنقل اليوم ليعترضان على التسليم بإمكانية تطبيق هذا الحكم بدون خسارة التاجر.
وأما ما لا يحسب فيه التاجر الأمرين معًا فهو ما ليس له تأثير في حال المبيع، كالسمسرة، والطي والشد، فلا يحسب على عين السلعة ولا على الربح (2) .
وقد عزى ابن رشد لأبي حنيفة القول الآتي وأنه أقرب إلى الإنصاف وعدم تعرض أي من الطرفين لأي حيف والقول المنسوب لأبي حنيفة هو: أن البائع يحسب على رأس مال السلعة كلما نابه عليها من مصاريف النقل والإصلاح ثم يطلب ربحه من بعد ذلك كله.
قال أبو ثور، لا تجوز المرابحة إلا بالثمن الذي يشتري به البضاعة فقط، واختلف ابن القاسم، وأشهب فيمن اشترى سلعة بعروض هل يجوز له أن يبيعها بعروض، أو بنقود فقط؟
__________
(1) البهجة على شرح التحفة: 1/2.
(2) بداية المجتهد:2/214.(5/2291)
فابن القاسم أجاز بيعها بالعروض أو بالنقود، بينما أشهب لم يجز بيعها بالعروض مثلما شريت بها.
واختلفوا أيضًا في حكم من ابتاع سلعة مرابحة بثمن ذكره، ثم ظهر بعد ذلك، إما بإقراره وإما بالبينة أن الثمن كان أقل مما ذكر، والسلعة مازالت قائمة، فمالك وجماعة أعطوه الخيار بأخذها بالثمن الذي أعطاه فيها أو ردها إذا كانت موجودة، وفسخ البيع، بينما أبو حنيفة وزفر قال بأن المشتري على الخيار دائمًا، نظرًا لاكتشاف كذب البائع، وإعطائه أوصافًا تناقض الواقع، والفرق هو أن مالكًا الزم الشاري بأخذ السلعة الموجودة بنفس الثمن الصحيح، وأبو حنيفة منح الشاري الخيار على الإطلاق ولا يلزمه الأخذ بالثمن أن الزمه البائع به، وقال الثوري وابن أبي ليلى وأحمد وجماعة، بل يبقى البيع لازمًا لهما بعد حط الزيادة، وعن الشافعي القولان: القول بالخيار مطلقًا والقول باللزوم بعد الحط.
إن نفس الاتجاه الذي تناول به ابن رشد المرابحة بمختلف أساليبها لهو نفس الأسلوب الذي اتبعه الرافعي أثناء شرحه للمهذب، وأيضًا نفس الحالات التي تناولها السرخسي، وكتاب الأم للشافعي، إذ كل واحد منهم تناول مختلف أوجه الخلاف على حدة، وبما أننا نحاول من خلال هذا البحث أن نبين مختلف أوجه رقابة الفقه الإسلامي لأرباح التاجر ينبغي لنا أن نمر بسرعة على بعض أقوالهم في الموضوع من خلال ما يلي:
يجوز أن يبيع السلعة مرابحة، وهو: أن يقول رأسمالها مائة وقد بعتها برأس مالها درهم في كل عشرة، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسًا بده، وبازده، وده وزاده (1) ، ولأنه ثمن معلوم فجاز البيع به كما لو قال بعتك بمائة إلا عشرة، ويجوز بيع بعضه مرابحة، فإن كان لا تختلف أجزاؤه كالطعام والعبد والواحد قسم الثمن على أجزائه، وباعه ما يريد منه بحصته.
وإن كان مما يمكن أن يقسم، وزع الثمن على أجزائه بحسب حصة كل واحد منهما في المبيع، والأصل في هذا هو حديث الذهب الذهب. يدرك من هذا أن المرابحة بأحكامها جائزة.
ولكن كره بعض صورها ابن عباس وابن عمر ولم يجوزها إسحاق بن راهويه، واتفقوا على أنه إذا اشتري بثمن مؤجل لم يجز بمطلق بل يجب البيان، وقال الأوزاعي: يلزم العقد إذا أطلق، ويثبت الثمن في ذمته مؤجلًا، وقال أبو حنيفة، ومالك والشافعي وأحمد يثبت للمشتري الخيار إذا لم يعلم بالتأجيل.
__________
(1) ده عشرة بالفارسية، وبازده أحد عشر وده وازده اثنا عشر. انظر تفصيل هذا في فتح العزيز للرافعي شارحًا فيه المهذب للنووي 13/3.(5/2292)
ووجه هذه المسائل بواعث مختلفة بينهم، بين متشدد ومخفف على البائع، أو على المشتري بحسب مداركهم، فالشافعي يجيز بيع السلعة برأس مالها أو أقل أو أكثر من البائع وغيره قبل نقد الثمن أو بعده.
وأحمد وأبو حنيفة ومالك لا يجوز عندهم بيعها بأقل من الثمن الذي ابتاعها به قبل نقد الثمن في المبيع الأول، ويجوز أن يبيع ما اشتراه مرابحة بالاتفاق، وهو أن يبين رأس المال وقدر الربح.
قال في مجمع الأبحر: المرابحة بيع ما شراه بما شراه به، وزيادة، والتولية بيعه بلا زيادة والوضيعة بيعه بأنقص منه، قال الرافعي عند استعراضه لهذه الآراء بأنه يرى أن تضاف نفقات الصناعة، والطراز والنقل إلى رأس المال مع بيانها (1) ، وهذا رأي أرى أنه صادف الصواب وإن اتفقا على ثمن حط عنه منه شيء، فإن كان ذلك قبل إمضاء البيع عد من رأس المال، وإن كان من بعد إمضاء البيع عد تبرعًا وأصبح غير مطالب بإضافته إلى رأس المال.
وأجاز النووي في بعض أوجه الخلاف أن يقول رأس ماله عشرة مثلًا ويكون اشتراه بثمانية، وطرزه باثنين؛ لأن رأس المال هو كل ما وزن فيه في بعض الروايات، مع أن آخرين خالفوا وقالوا لا يقول إلا قام علي وقد أتينا بتفصيل ذلك عند السرخسي في مكان آخر من هذا البحث. وأصل مسألة المرابحة أحاديث عدة، أهمها الحديث الذي أخرجه مسلم والنسائي، وابن ماجه، عن عبادة بن الصامت باللفظ المشهور، وهو: ((الذهب الذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل سواء بسواء، يدًا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إن كان يدًا بيدا)) .
وروى أبو داود بنحوه، وفي آخره ((وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدًا بيد كيف شئنا)) .
قال النووي ما معناه: يمكن أن يضيف إلى رأس المال نفقات للصناعة والعمل والنقل، مع بيانها وإيضاحها لمن ابتاعها (2) وآداب تلك الإضافة قال فيها النووي: وعند إضافة شيء إلى الثمن فلا يقول اشتريته، أي المحل بكذا، ولكن يقول: قام علي بكذا، مثل ذلك أن يشتري ثوبًا بخمسة دراهم ثم يقصره بدرهم، ويطرزه بدرهم فلا يقول: اشتريته بستة، ولكن يقول: قام على بستة فيصح له الربح بعد ذلك، ويكون قد احترز من الكذب، يمزج المصاريف مع رأس المال وهو غير مباح عند الجمهور (3) .
__________
(1) فتح العزيز نفس المرجع.
(2) قد لخصت هذه الأقوال من فتح العزيز 13 /1-5.
(3) المبسوط للسرخسي 13 /81.(5/2293)
وإذا ذكر الثمن فيحرم عليه الكذب، ولكن إذا قال: قامت علي بكذا جاز له إدخال كل التكاليف إلا أن إفصاحه عن مبلغ ما كلفته يلزم أن يقول الحقيقة بأمانة، وإذا لم يسأل، أو لم يرد ذكر رأس المال، فليس مطالبًا، إلا في بيع المرابحة فإنه يجب عليه ذكر الحقيقة مفصلة.
وإذا اشترى سلعة بها عيب عليه أن يبينه، وإذا أصابها عيب ثان عنده، كان عليه أن يميز بينهما، لأن الأول من رأس المال والثاني من التكاليف.
وتنظر الشريعة إلى بيع المرابحة بدقة متميزة، ذلك أن الإنسان إذا سكت وباع متاعه بدون استعمال وسائل الغش أو التدليس أو الغبن، فإن ربحه يكون حلالًا، ولا يلزم بأن يعطي تفاصيل جزئيات لا تضر بالثمن ولم يسأل عنها للحديث الشريف ((دعو الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض)) أو كما قال.
أما إذا تعرض هو من تلقاء نفسه للتعريف بالثمن أو سأله عن الشاري، فعندما يحرم الكذب ويلزم بأن يميز بين رأس المال والتكاليف، وبين ما جنى من المحل عما كان مرتبطًا به كولد الدابة وثمار الأشجار وما إلى ذلك.
فلابن مسعود وأبي حنيفة أن البائع لسلعةٍ ما عند ضم التكاليف إلى ثمنها فلا يقول رأسمالها، بل يقول قامت على بكذا لأن قوله اشتريت بكذا أكثر من الثمن الحقيقي فيه كذب.
وحديث ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحل الخلابة لمسلم)) ، والخلابة بأنواعها معروفة، ومنها الكذب والتدليس والغش، وكتمان العيب. وعلى هذا يقول أبو حنيفة: "لا يقول شريته بكذا، وإنما يقول قام على بكذا".
وإذا أضاف النفقات الأخرى لثمن الشراء ثم ظهرت الحقيقة، للشاري الخيار في أخذه بكل ثمنه أو تركه.
قال في المهذب: فإن ظهر للمشتري خيانة المرابحة خير في أخذه بكل ثمنه، وعند أبي يوسف يحط من الثمن قدر الخيانة مع حصتها من الربح وعند محمد يخير (1) .
ومنهم من أبطل العقد مثل شيخ الإسلام ابن تميمة في فتاويه، وللنووي عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) رواه الدارمي والحاكم، والترمذي وحسنه.
ثم قال المهذب بالحرف: "قوله: ولا يضم ما خسر فيه إلى الثمن". كذا هو مقرر في المذهب أنه لا يرابح إلا على الثمن الأخير، وعند أبي حنيفة تمتنع المرابحة إذا شراه ثانية بأقل مما باعه أولًا، وعند الصاحبين محمد وأبي يوسف موافقة المصنف من جواز المرابحة على الثمن الأخير (2) .
__________
(1) المجموع13 /6 للنووي، وبهامشة فتح العزيز للرافعي والكلام له.
(2) المبسوط للسرخسي 13 /87 وما بعدها إلى نهاية باب المرابحة.(5/2294)
وعند أبي حنيفة لا يلزم البائع بتبين بعض العيوب الظاهرة التي طرأت للمحل عنده مثل حرق النار أو قرض الفأرة، أي لا يجب عليه أن يقول: اشتريته سليمًا فأصابه هذا العيب عندي، وعلة هذا عنده أن ظهور العيب كافٍ لنزع مقابله من الثمن "لأن الفائت وصف بلا صنع أحد" هذا فيما يتعلق ببيان الثمن قبل العيب.
أما العيب نفسه فيجب بيانه بالكتاب والسنة والإجماع لحديث العداء بن خالد الذي روته الجماعة، وهو: كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا ما باع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للعداء بن خالد بيع المسلم للمسلم لا داء ولا خبيئة ولا غائلة)) (1) .
هذا إذا كان البيع مرابحة والعيب خفيف، أما إذا وصل العيب إلى درجة تسوق إلى الغبن فإن التساهلات المنسوبة إلى أبي حنيفة قبل سياق لفظ الحديث، لا بد من عدم التمسك بها. وإلا يكون الحكم الذي أعطاه لهذه المسألة غير معلل.
قال الإمام الباجي في المنتقى ما ملخصه:
قال مالك في الأمر المجتمع عليه: عندنا في البز يشتريه الرجل ببلد ثم يقدم به بلدًا آخر فيبيعه مرابحة، إنه لا يحسب فيه أجر السماسرة ولا أجر الطي ولا الشد ولا النفقة ولا كراء البيت، فأما كراء البز في حملانه فإنه يحسب في أصل الثمن ولا يحسب فيه ربح إلا أن يعلم البائع من يساومه بذلك فإن ربحه على ذلك بعد العلم به فلا بأس به.
وأما القصارة والصبغ والخياطة وما أشبه ذلك فعند مالك، فإنه يحسب فيه الربح كما يحسب في البز.
وكراء البز في حمله فهو يحسب في أصل الثمن ولا يحسب فيه ربح، إلا أن يعلم البائع من يساومه بذلك كله.
وأما الثمار، وكراء الرقيق والدواب، فقد قال ابن القاسم في المدونة: من اكترى ذلك كله زمانًا إذا لم تحل الأسواق فلا بأس أن يبيع مرابحة بلا تبيين إلا أن يطول الحال فإن عليه آنذاك التبيين، لإمكانية تغير حال السوق؛ وعزي لابن القاسم عن مالك أن من اشترى سلعة فحالت أسواقها، فلا يبيع مرابحة حتى يبين، وإن زادت الأسواق، لأن الناس في الطريق أرغب وظاهر المذهب المنع من ذلك".
__________
(1) المجموع شرح المهذب13 /6.(5/2295)
وإنما جاز أن يراعى اختلاف الأسواق دون زيادة العين أو نقصها، ووجه آخر هو أن بقاء السلعة مدة طويلة يدل على غلاء شرائها، وعلى زهد الناس في عينها ولذا لم يجز (1) . كتم حالها فعليه أن لا يبيع مرابحة حتى يبين جميع أحوالها وأوصافها. قال ابن حبيب: ليس عليه أن يبين، وقال ابن القاسم: في الزيادة أعجب لي أن لا يبيع حتى يبين ولم يفصل بين قرب المدة وطولها، وهذا في زيادة العين والقيمة، فأما النقص من ذلك فمانع من البيع، إلا أن يبين.
استطرد أبو الوليد مواقف الإمام مالك في هذه المسألة إلى أن قال: "ولو اشترى سلعًا فباع بعضها مرابحة، فلا يخلو أن تكون غير مكيلة أو موزونة، كالثياب والحيوان، فإن كانت معينة لم يجز أن يبيع بعضها مرابحة حتى يبين، قاله ابن القاسم وزاد ابن عبدوس كذلك الرجلان يشتريان البز فيقسِّمانه، لا يبيع أحدهما مرابحة حتى يبين حاله، ووجه ذلك إذا شملهما عقد بيع، فلا يختص بعضها بحصة من الثمن إلا بعد التقويم، والتقويم قد تدخله الزيادة، والنقصان. فلا يلزم ذلك المشتري حتى يبين له، فإن لم يبين فللمشتري الرد إن شاء ما لم تفت، فإن فاتت فالقيمة يوم القبض".
ومن الصور المهمة التي تعرض لها أبو الوليد في شرحه للموطأ مسألة بيع "سلعة مرابحة قامت عليه بمائة للعشرة أحد عشر، ثم جاء بعد ذلك أنا قامت عليه بتسعين يحتمل أن يكون البائع غلط، وظن أنها قامت عليه بمائة فباع، ثم جاء العلم أنها قامت عليه بتسعين أو أن البائع زاد في الثمن عمدًا، فإذا أحب عند اتضاح الأمر أن يأخذها بجميع الثمن فله ذلك أو يردها، ولا يلزم البائع بالثمن الأول إلا إذا رضي، أي لا يلزم بتفويتها له بتسعين إلا برضى للبائع وفي المسألة خلاف أخذنا هنا بشطره، وأما أيهما له الخيار، فإذا لم تفت السلعة فالخيار للبائع بين أن يرد، أو يحبس بجميع الثمن، فإن رد خير البائع بين أن يرد أو يحط، الكذب وربحه فيتم البيع".
قال مالك: وإن باع رجل سلعة مرابحة، فقال: قامت على بمائة دينار ثم جاء بعد ذلك أنها قامت بمائة وعشرين دينارًا خير المبتاع، فإن شاء أعطى البائع قيمة السلعة يوم قبضها، وإن شاء أعطى الثمن الذي ابتاع به على حساب ما ربحه بالغًا ما بلغ، إلا أن يكون ذلك أقل من الثمن الذي ابتاع به السلعة فليس له أن ينقص رب السلعة من الثمن الذي ابتاعها به، لأنه قد كان رضي بذلك، وإنما جاء رب السلعة يطلب الفضل فليس للمبتاع في هذا حجة على البائع، بأن يضع من الثمن الذي ابتاع به على البرنامج (2) .
__________
(1) المنتقى 5 /47.
(2) المدونة الكبرى ص32.(5/2296)
وهذا ما ذهب إليه ابن رشد في البيان والتحصيل حيث أكد أن أقدمية الشيء عند البائع تحول بينه، وبين بيعه مرابحة، إلا إذا بيَّن حالها يوم الشراء، ثم يوضح الأوصاف التي طرأت عليها عنده، فإن باع مرابحة أو مساومة، وقد طال مكث المبتاع عنده ولم يبين فهو بيع غش وخديعة، وإن فعل وظهر للشاري عكس الأوصاف التي أخذها عليها كان له الخيار، بين الرد والإمساك، ويرد في الفوات إلى القيمة إذا كانت أقل من الثمن على حكم الغش والخديعة، في البيع.
وفى حكم آخر أنه يحكم له بحكم من باع وزاد في الثمن وكذب به، وتكون القيمة في ذلك يوم القبض للمبيع كالثمن الصحيح في بيع الكذب، فتكون فيه القيمة إذا فات يوم القبض إلا أن تكون أقل من قيمتها يوم البيع فلا ينقص من ذلك شيئًا، وإن كانت أكثر من الذي باع به فلا يزاد عليه وهو مذهب سنحون (1) .
ويمكن أن نلخص جميع أقوال المالكية في أن المدونة تعرضت لنحو اثنين وعشرين نموذجًا من الحالات التي يمكن أن يتم عليها بيع المرابحة، فشددت على مراقبة الربح فيها حتى لا يتم شراء لشيء مجهول، ثم دفع فيه ربح غير عادل، قال خليل في المختصر: جاز مرابحة والأحب خلافه، ولو على مقوم، وهل مطلقًا أو إن كان عند المشتري؟ تأويلان وحسب ربح ماله عين قائمة كصبغ وطرز وخياطة وفتل وكعهد وتطرية، وأصل ما زاد في الثمن كحمولة وشد، وطي أعيد أجرتهما وكراء بيت لسلعة إلى آخر الفصل.
لقد تعرض المختصر في هذا الفصل لكل أنواع المرابحة التي رأينا الخلاف في شأنها فبين مواقف المالكية منها.
قال شارحه الرهوني لابن المواز عن محمد بن رشد:"يضم إلى رأس المال منها ماله عين قائمة في المتاع، ويكون له قسطه من الربح، ولا يضم إليه ما لا تأثير له في عين المتاع مما يمكن توليه بنفسه لا في رأس المال ولا في ربحه، وما لا يمكن توليه بنفسه، مثل كراء المتاع ونقله من بلد والسمسرة فيما جرت العادة فيه بأن لا يباع إلا بواسطة فيضم ما ألزمه عليه إلى رأس المال ولا يكون له قسط من الربح" (2) .
__________
(1) البيان والتحصيل 8 /373.
(2) انتهى بلفظه من حاشية الإمام الرهوني5 /206.(5/2297)
ولا أستطيع فهم هذا الموقف بسهولة لأن التاجر عليه أن يحسب الربح بعد كل الخسارة وأجرة هذه الأشياء هي من تكاليفه التي إذا لم تحسب في الربح تعرض الخسارة.
وهذه الحالات طالبوا البائع فيها بالإخبار عند البيع فكالزيادة، فإن أراد أن يبيع مرابحة أخبر بالثمن، ولكن يمكنه أن يخبر أيضًا بالتكاليف، وإذا أخذ الفوائد – أو الربح أو الناتج – لم يلزمه تبين مقدار ما جنى، ولابن المنذر عن أحمد أنه يلزمه تبيين ذلك، وعند ابن قدامة أنه إذا صدق في الأوصاف من غير تغرير جاز عدم التعرض لما سلف في المنافع.
ومن المراقبة على أرباح التاجر مواقفهم من التولية، وهي:
أن يقول: ولني ما اشتريته بالثمن، فقال: وليتك. صح إذا كان الثمن معلومًا لهما، فإن جهله أحدهما لم يصح.
ولو اشترى ثوبين بخمسة دراهم فلا يجوز أن يبيع أحدهما بخمسة بلا بيان.
وإذا أخبر أن رأس المال مائة مثلًا، وعلي أنه يبيع المحل برأس المال وربح 10 % جاز، وفيه أقوال بالكراهة نجمل أقوال المجموع فيها في الفقرات التالية:
متى باع شيئًا برأس مال وربح عشرة ثم علم بتبيينه أو إقراره أن رأس ماله تسعون فالبيع صحيح، لأنه زيادة في "الثمن" فلم يمنع صحة العقد كالعيب، وللمشتري الرجوع على البائع بما زاد في رأس المال، وهو عشرة وحطها من الربح (1) .
فإذا رفع المال ليزيد من الربح الذي هو عشرة في المائة، فأمام هذه الحالة أبو حنيفة منح الشاري الخيار بين الأخذ بكل الثمن أو الترك قياسًا على الموقف من المحل المعيب.
وعند الشافعي في أحد قولين عنه يخير بين الأخذ بكل الثمن، أو الترك، ونفس الحكم عند أحمد بن حنبل حسب رأي ابن قدامة، وخالفه الخرقي، إذ لم يمنح الشاري الخيار، إذ يرى أن الشاري رضي بالمحل ولزم البيع، وهذا القول يوافق القول الثاني للشافعي، فقد حصل البيع برأس مال وحصة من الربح، فهو موافق للمعاملات الشرعية، وعليه فيلزم، هذا على شرط السلامة، أما مع وجود العيب فيجب التبيين، وعند ظهوره بدون علم، فإن الشاري له أن يمسك بالمحل إذا رغب فيه بنفس الثمن، أو يرده، ومنهم من قال بأن أرش العيب يعتبر هبة من الشاري للبائع إذا علم ولم يطالب بالرد أو أخذ الأرش ومنهم من قال بانتقاض العقد، ومنهم من قال بالرد، وهذه كلها أقوال مشروحة في العيوب، إذ لا يهمنا منها هنا إلا ما يتعلق بثبوت المواقف الفقهية في شأن مراقبة أرباح التاجر، إذ لا بأس بناء على ذلك من استطراد نماذج موجزة جدًا من أقوال المذاهب في الموضوع.
__________
(1) المبسوط 13 /86.(5/2298)
قال أبو الخطاب من الحنابلة: يحط أرش العيب من الثمن ويخير بالباقى.
قال الشافعي يحطه من الثمن ويقول تقول علي بكذا، وعقب النووي أن المبيع إذا جنى فقداه المشتري لم يلحق ذلك بالثمن، ولم يخبره في المرابحة؟ لأن هذا الأرش لم يزد به المبيع قيمة، يتضح من كل ما سبق أن المرابحة تصرف جائز، وأن الخلافات المسجلة في شأنها ليست جوهرية، كما يتضح أن مراقبة أرباح التاجر فيها منصوص عليها بما فيه الكفاية، وأنها تهدف إلى تحقيق الأساسيات العامة، التي تبنى عليها سلامة الربح في الشريعة الإسلامية، وهي:
- التوازن بين مجهود التاجر، وضرورة احترام ملكيته الخاصة، وبين مصالح الأمة، بعدم استنزاف طاقاتها المادية بأرباح استغلالية.
- سلامة الربح المحصل عليه من بيع المرابحة من العيوب الشرعية التي تعلق بالعقد فتجعله إما باطلًا أو قابلًا للإبطال، أو ساري المفعول، ولكن أحد طرفيه ارتكب إثمًا، وأصبح ما جناه من ربح بواسطته من قبيل أكل أموال الناس بالباطل، أن بيع المرابحة اليوم يزداد أهمية لكونه الصورة الرائجة أكثر من غيرها في المعاملات التجارية المعاصرة.
ذلك أن دور الصناعة، والمتاجر الكبيرة، ودور النشر، والمؤسسات المالية بصفة عامة كثيرًا ما تعلن أنها تبيع بضائعها بربح لا يتجاوز مبلغًا معينًا في المائة، غير أن الصور الفقهية التي عالج بها علماء الشريعة المشكل حفاظًا على سلامة الربح من الشوائب، وعلى المشتري تبقى معرفة المؤسسات التجارية اليوم، إذ قليلًا ما نجد مؤسسة تذكر رأس مال بضاعتها بصدق.
لعدم تحرز الإنسان اليوم من الكذب في غالب الأحوال من جهة ومن جهة ثانية، لأن المعاملات في الفقه الإسلامي ظلت مرتبطة بالشعور الديني مما جعل الإنسان ينظر من خلالها إلى رقابة الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ومن هنا تتضح خطورة بيع المرابحة اليوم ودوره في أرباح التاجر كما يدرك من خلال النصوص الإسلامية التي تعرضت إليه مدى صلاحيتها لتطبق على المؤسسات التي تتناول هذا النوع من البيوعات. علمًا بأن كثيرًا منها يطالب بأرباح تبلغ نسبة معينة بعد تحصيل رأس المال مثل 30 % أو 40 %، فإذا لم تراع أحكام ذلك اتسمت كل تلك البيوع بالغرر.(5/2299)
3- التسعير:
التعريف:
قال في القاموس: السعر بالكسر: الذي يقوم عليه الثمن الجمع أسعار وأسعر وسعر وتسعيرًا اتفقوا على سعر معين.
سعر الشيء قدر له سعرًا، والجمع أسعار كما رأينا، أما تعريفة حكمًا فلا يبعد عن هذا، قال النووي في المجموع شرح المهذب، التسعير:
هو جعل سعر معلوم ينتهي إليه ثمن الشيء، وأسعرته بالألف لغة، ويقال سعر إذا زادت قيمته وليس له سعر إذا رخص، والجمع أسعار مثل حمل وأحمال (1) .
والتسعير من بين الوسائل التي تتأتى عن طريقها مراقبة أرباح التاجر، ولا شك أنه من أهمها في هذا العصر، على أن النصوص الواردة فيه بالخصوص جعلت العلماء ينظرون إلى مسطرة ضربة على السلع بحذر شديد.
لأن الحرية التي منح الله للتجار أثناء تبادلهم في بيع المعاوضة، وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير لأهل المدينة كلها مبادئ أصلية ثابتة، فالله قال في كتابه العزيز: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ... } الآية.
وحديث أنس من القادم يكرس نفس مبادئ حرية التبادل، وعدم التدخل.
غير أن تطور الأوضاع واختلاط المسلمين بغيرهم، إضافة إلى ضعف روح الإيمان في النفوس كانت عوامل مؤثرة في أن تجعل نوعًا من الرقابة على السوق، وإلا لشاعت فوضى البيع، وفشى الاستغلال وحصل بعض الناس على أرباح غير عادلة، إما لضخامتها، وإما لعدم جواز العقود التي كانت سببًا فيها.
لقد بقي إعطاء الحرية للمتبايعين هو الأصل استنادًا إلى مبدأ الرضائية الذي هو من ابتكارات الشريعة الإسلامية مع أن حالات عدة عرفت في الصدر الأول من دولة الإسلام جعلت الفقهاء يفتون بجواز التسعير في بعض الحالات كما يحرمونه في حالات أخرى، فما هي الحالات التي يجوز فيها التسعير، وما هي تلك التي لا يجوز فيها؟ وما هي المواقف المتباينة لفقهاء المذاهب في التسعير؟
__________
(1) المجموع وشرحه فتح العزيز 13 /21.(5/2300)
لا شك أن ضعف الرقابة الدينية على إنسان اليوم من داخل نفسه تجعل طمعه ليس له حد، وفي كثير من الحالات يجره إلى انتهاك تعاليم شريعه الله، الشيء الذي يحتم على العلماء البحث عن قيود تمكن المجتمع الإسلامي من تفادي تلاعب المتلاعبين، سواء تعلق الأمر بحرية التصرف، وما ينتج عنها من ربح يجنيه التجار لقاء مخاطرتهم بأنفسهم أحيانًا، ولقاء مجهودهم الدائم أحيانًا أخرى، وسواء تعلق بالحيلولة بين هؤلاء التجار، وبين استنزاف زبائهم بطريق الاستغلال. لقد أصبح هذا باعثًا على تنظيم حال السوق ومراقبة أرباح التاجر، غير أن تلك المراقبة ليست مبتكرة في أسسها، وأهدافها العامة، وإن كانت بسبب تنوع مستجدات الحياة تتعرف كل يوم على وضع جديد لا تنظم أحواله إلا عن طريق القياس، واستخلاص الأحكام من المبادئ العامة، على أن تبقى الرضائية وعدم الإضرار بالناس مبدآن خالدان، ومن خلال تباين هاتين الوضعيتين الرضائية، وعدم الإضرار بالناس، رأى بعض العلماء أن مبدأ حرية التملك والتصرف في الإسلام لا تسمح بالتدخل، معتمدين على حديث أنس القادم عندما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر لهم.
ومنهم من بنى على تدخل عمر في بعض الحالات لتنظيم حال السوق حذرًا من كساد المواد، وفقدها بعدم استجلابها وأيضًا عدم ترك الباب مفتوحًا على مصراعيه للمستغلين فيمتصون شرايين الأمة بأرباح ظالمة وغير منظمة.
سنحاول تبيين نماذج من تلك المواقف في الفقرات القادمة، ومنها ندرك أن الشريعة الإسلامية جعلت هدفها هو رعاية المصالح المتبادلة لكل أطراف المعامل، إذ لا يجب أن يترك المستغلون يتلاعبون بأموالهم الناس لفائدة حساباتهم الخاصة، كما يجب عدم التحجير على التجار بترك أية رقابة تمنعهم من الربح وتجعلهم يتركونه، فتشتد حاجة الناس إلى السلع، ولن تجد من يمتهن توريدها إليهم.
فعلى فكرة خلق التوازن بين ربح التاجر من جهة وعدم مضرة الناس من جهة ثانية تمحورت أحكام أرباح التاجر في الفقه الإسلامي، كما سنشاهد في الفقرات القادمة بحول الله.
- السعر في المدينة، على ساكنها أفضل السلام:
غلا السعر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول الله سعر لنا فقال عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: ((إن الله هو القابض والباسط والرازق والمسعر وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس ولا مال)) .(5/2301)
قال ابن القيم: "وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز، فيكون ظلمًا وحرامًا إذا أريد به منع الناس من الربح المباح الذي أحله الله لهم بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275] ، كإرغام على بيع الأشياء المحرمة، أو تعديل صور البيع إلى أوضاع تخالف صورتها الشرعية، فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المألوف، أرباح معتادة تؤخذ بدون غش ولا خديعة، ولا غبن، ولا تغرير، فإن حديث أنس بن مالك السابق نهي عن التدخل في مثل هذه الحالة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأرجو أن ألقى الله …)) .
أما إذا كان التسعير يرمي إلى العدل بين الناس كتدخل الحاكم لإرغام التجار على إخراج بضاعة اختزنوها برغم شدة حاجة الناس إليها لهدف بيعها بأثمان باهظة أو لتسويقها إلى جهات أخرى لمزيد الربح، فإن التسعير هنا حتى تباع بثمن المثل يكون أقرب إلى عدل الله وإلى سنة نبيه الكريم، الذي سنبين في موضوع آخر أحكامها من الاحتكار فتدخل السلطة الحاكمة لإحقاق الحق، رعيًا لمصالح عامة الناس هو خدمة للعدل وإجراء التسعير أمر واجب (1) .
لقد حرمت الشريعة الإسلامية إجراءات الحصر "المونويول" وهو أن تقوم سلطة ما يمنع غير طائفة معينة من بيع مادة بذاتها، أو مواد، وكل من شاركهم في بيعها تعاقبه، فهذا ظلم، وتسعير مخالف لشرع الله وتجب مراقبة الربح الحاصل منه، لأنه ينافي غاية الشريعة في حرية البيع، قال ابن القيم:" ومِنْ ذلك أنْ يلزم بأن لا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا أناس يخصون بذلك فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب. فهذا من البغي في الأرض والفساد، والظلم الذي يحبس به قطر السماء وهؤلاء يجب التسعير عليهم وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل، ولا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاؤوا أو يشتروا بما شاؤوا، كان ذلك ظلمًا للناس ظلمًا للبائعين الذين يريدون بيع تلك السلع، وظلمًا للمشترين منهم (2) . وعند المالكية تناول الباجي التسعير من خلال أوجه عدة تستهدف كلها قيام توازن تحميه السلطة الإسلامية بين احترام الإرادة وضمان الربح للتجار من جهة، وبين توفير حاجات الناس بتزويد السوق بما يحتاج إليه من جهة ثانية، وأهم ما يمكن أن تستشهد به من ذلك في موضوعنا هذا ما يلى:
المعتبر في ذلك ما عليه جمهور الناس فإذا انفرد عنهم الواحد أو العدد اليسير بحط السعر أمر من حطه باللحاق بهم، وإن زاد واحد، أو عدد قليل لم يؤمر الجمهور باللحاق بهم، والمقصود بهذا هم أهل السوق، أما الجالب فلا يمنع من أن يبيع بأقل من ثمن السوق.
__________
(1) ابن القيم في الطرق الحكمية: ص244، دون التقيد بالألفاظ.
(2) نقلت هذه الجملة بالحرف لأهميتها من نفس المرجع السابق: ص30، وهي منقولة أيضًا في كلام ابن القيم.(5/2302)
والذي تطبق عليه هذه الأقوال هو ما يكال أو يوزن، وأما غيرهما فلا يحمل الناس فيه على سعر معين. ومنع مالك من أن يحد لأهل السوق سعر لا يتجاوزونه، وبمنعه قال عمر وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وأرخص فيه سعيد بن المسيب، وربيعة بن عبد الرحمن ويحيي بن سعيد الأنصاري، وروى أشهب عن مالك أن صاحب السوق يمكن أن يسعر للجزارين بأثمان لا تنفرهم من السوق، على أن لا يكون في ذلك إجبار لهم ببيع أموالهم بثمن معين خشية الوقوع فيما تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث ((بل إن الله يرفع ويخفض وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة…)) .
وإذا تقرر التسعير قال ابن حبيب يجمع الإمام وجوه أهل السوق ثم يتشاور معهم ليتم القرار مستجيبًا لمصالح الكل، وفي هذا المضمار لا يسعر على الجانب وحتى إن رضي فالحبوب التي بها قوت أهل البلد، فإنه يمنع تسعيرها (1) وعندنا في المغرب اليوم تطبق الدولة هذه القاعدة فتشتري الحبوب من عند من يرغب في البيع من الفلاحين بأثمان مرتفعة تشجيعًا لهم على مواصلة حراثتها، وإذا كان المبدأ هو عدم إلزام الإنسان ببيع ماله، فإن استثناءات ترد على هذه القاعدة فتشتري الحبوب من عند من يرغب في البيع من الفلاحين بأثمان مرتفعة تشجيعًا لهم على مواصلة حراثتها، وإذا كان المبدأ هو عدم إلزام الإنسان ببيع ماله، فإن استثناءات ترد على هذا المبدأ منها إضافة إلى إلزام أصحاب الحصر بيع المواد التي انفردوا باستيرادها لأهل البلد، أن يلزم الإنسان ببيع ماله لأداء الحقوق المرتبة عليه، كالنفقة وقضاء الدين، ومثل البناء والغرس في أرض الغير فإن لرب الأرض أخذه بثمن المثل ويرغم الباني أو الغارس على أخذ ذلك الثمن، ومن ذلك الأخذ بالشفعة فإن صاحب الشقص المشفوع فيه يلزم بأخذ نفس الثمن الذي خرج من يده، ومن عليه كفَّارة يعتق رقبة أو إطعام فإنه يجبر على شرائها بثمن المثل ويجبر على ذلك الشاري ولا يسمح له بأن يمتنع من أداء ما أخذ بحجة أنه رأى فيه ربحًا.
كما منع كثير من الفقهاء على المحترفين لتعاطي عمل معين يحتاج إليه السكان باستمرار، من أن يشتركوا فيما بينهم لأنهم إذا فعلوا أغلوا عليهم الأجرة، وقال ابن القيم إنه ينبغي لوالي الحسبة أن يمنع مغسلي الموتى، والحمالين كلهم من الاشتراك لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم، وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم كالدلالين وغيرهم بخلاف الصنائع فإن اشتراك أصحابها مباح، لعلة تسهيل العمل عليهم، حتى يزودوا السوق بما يحتاج إليه الناس.
__________
(1) أورد هذه الأقوال بإسهاب أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي في كتابه المنتقى شرح موطأ الإمام مالك رحمه الله.(5/2303)
وكذلك على والي الحسبة أن يمنع المشترين من الاشتراك في شيء لا يشتريه غيرهم لما في ذلك من ظلم البائع، ويمنع أولئك الذين يتواطؤون على شراء سلعة معينة مشتركين ثم يبيعونها فيما بينهم ويقتسمون الربح، لأن إقرارهم على ذلك من الظلم والعدوان الوارد النهي عنه صريحًا؛ يقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، [الآية 2 من سورة المائدة] .
قال ابن القيم وهذا أعظم إثمًا من تلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي، ومن النجش ثم عقد ابن القيم فصلًا لتسعير الأجور وأفتى بأن لولي الأمر أن يلزم أصحاب الحرف بأجل المثل لحاجة الناس إلى عملهم، وتضررها من تواطئهم على رفع الأجور وحسب نظري أنها هي علة منعهم من الاتفاق على ذلك.
وكذلك لمن بيده الأمر أن يتدخل لدى أصحاب المصانع ليلزمهم ببيع السلاح للمجاهدين بثمن المثل، فالله أوجب الجهاد بالنفس والمال، يقول ابن القيم: فكيف لا يوجب على أرباب السلاح بذله بقيمته، أي بثمن المثل وعدم استغلال الحاجة.
وعلق ابن القيم تعليقًا جيدًا محللًا فيه أسباب عدم التسعير في المدينة أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز ولا من يبيع طحينًا ولا خبزًا"، فكانوا يخدمون أنفسهم، وكان من يقدم بالحبوب لا يجد من يتلقاه ويحاول الشراء من عنده ليرفع السعر على أهل البلد، ويشتري من عند البادي بأقل ثمن فيعرض مصالح الطرفين للضرر، ولهذا الحديث: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون"، ولم يكن كذلك في المدينة أصحاب حرف أخرى كأصحاب النسيج، حيث كانت تستورد الثياب من اليمن، والشام وغيرهما، وقد تابع الرافعي ابن القيم على أقواله في التسعير وقد تناول العلماء التسعير من وجهين:
1- إذا كان سعر غالبًا على سوق البلد فأراد إنسان أن ينزل عن ذلك السعر عند مالك يمنع، وحجة مالك الحديث الذي رواه في الموطأ ونصه: (عن يونس بن سيف، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له بالسوق فقال له عمر: "إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا") .(5/2304)
ولمالك أن الإنسان إذا خالف السعر الغالب في السوق وحط منه لم يجز ترك ذلك، وذكر قولة عمر بن عبد العزيز المستند على الحديث السابق فإنما السعر بيد الله.
2- قال ابن رشد في البيان والتحصيل، أما الجلابون فلا خلاف أنه لا يسعر عليهم شيء مما جلبوا، وإنما حمل الشاذ منهم على أن يبيع بمثل أهل السوق أو يرتحل عنهم تطبيقًا لقول عمر السابق (1) .
وتمسك مالك بنظرية عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله فعندهم أن الجلابين إذا باعوا لأهل السوق بأكثر من الربح المعتاد، فإنهم يمنعون من ذلك وقيل أيضًا إذا اشتري من عندهم أصحاب الدكاكين بالجملة ثم أرادوا البيع بالتقسيط بأثمان مرتفعة، قيل أنهم كالجلابون فلا يتركون على اختيارهم إذا أغلوا على الناس، ولم يقتنعوا بأرباح معقولة، وعلى صاحب السوق أن يطلع على ما كلفتهم تلك البضائع ثم يجعل لهم ربحًا لائقًا، وينهاهم عن الزيادة عليه، ويستمر في تفقد السوق لمنعهم من الزيادة على الربح المعتاد، وينزل العقاب بمن خالف، وهذا القول الأخير منسوب أيضًا من طريق أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب، وقال به ابن المسيب، ويحيى بن سعيد والليث وربيعة (2) ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقال للتجار لا تبيعوا إلا بكذا بما هو أقل من الثمن، وإذا ضرب لهم الربح، فلا يجوز لهم أن يصعدوا الثمن عنه استنزافًا لأموال الناس بغير حق، قال ابن رشد هذا عند مالك، أما عند الشافعي فيستند إلى قصة عمر مع حاطب بن بلتعة حيث لقيه يحمل عدلين من الزبيب ثم قال بكم تبيع؟ قال حاطب مدين لكل درهم، فقال عمر قد قدمت عير من الطائف وهم يغترون بسعرك فإما أن تبيع بسعر أرفع، وإما أن تدخل السوق ثم تبيع كيف شئت، إلا أن عمر قدم على حاطب بعد قليل وقال له: إنما قلت لك آنفًا ليس عزمة، ولكن نصيحة فبع كيف شئت وأين شئت فإنما أردت الخير لأهل البلد.
قال الشافعي: "وهذا الحديث ليس بخلاف لما رواه مالك ولكنه روي بعض الحديث أو رواه عنه من رواه فأتي بأول الحديث، وترك آخره، وبآخره أخذنا، قال الشافعي: لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب خاطر، إلا في الحالات التي تلزمهم وهذا ليس منها" (3) .
__________
(1) البيان والتحصيل لابن رشد: 9 /313، وما بعدها من باب التسعير فقد أورد مختلف أقوال مالك وأصحابه من التسعير.
(2) نفسه
(3) الأم، للشافعي: ج4.(5/2305)
وقال الباجي بأن السعر الذي يلزم البائع باللحاق به هو السعر الذي عليه جمهور الناس، فإذا انفرد منهم الواحد أو العدد اليسير بحط السعر لم يؤمروا باللحاق بسعرهم، لأن الذي يجب أن تراعى أحواله هو الجمهور (1) .
وقال القصار من المالكية بأن البغداديين فهموا من قول مالك عدم السماح بمخالفة أسعار الجمهور سواء بالنقص أو بالزيادة.
وعند الحنفية قال محمد بن الحسن: يمكن للجالب أن يبيع بسعر أرخص من سعر السوق. ولهم خلافات أخرى في مسألة أن يحد لأهل السوق حدًّا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب، فهذا منع منه الجمهور حتى مالك نفسه، ولأشهب أن صاحب السوق يباح له أن يسعر للجزارين أنواع اللحوم وإن خالفوا تسعيره أخرجوا من السوق، على ألا يكون ذلك شأنه أن يحملهم على مغادرة السوق، وعلة هذا هو عدم السماح للتجار برفع الأسعار على الناس رفعًا غير مناسب لأرباح عادلة، وبأثمان مناسبة. قال أبو الوليد الباجي ووجه هذا أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس (2) .
قال ابن تيمية: "وأما إذا امتنع التجار من بيع ما عندهم مما يحتاج الناس إليه فإنهم يؤمرون بالواجب ويعاقبون على الامتناع، وكذلك من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع" (3) .
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم: منع من الزيادة على ثمن المثل، فأصبح هذا قاعدة على أن من وجبت عليه المعاوضة ألزم بإعطاء ثمن المثل، فتدخل الدولة هنا لمنع العارض من استغلال الحاجة والحصول على ربح فاحش هو الموافق لروح الشريعة، وغايتها، وتذهب النصوص الإسلامية إلى أبعد من ذلك فنجعل بيع ما بيد التاجر واجبًا، وأن لا يعطي له غير ثمن مثل، من ذلك الأدوات التي يحتاج إليها الحاج فيجب أن تفوت له بثمن المثل، وكذلك بيع السلاح للمجاهدين ناهيك عن بيع أقوات الناس فإن تفاحش الثمن فيها من الضرر الذي يجب إزالته.
__________
(1) المنتقى:5 /18.
(2) في فتح العزيز:13 /37، يروى عن الباجي.
(3) 9 /254.(5/2306)
وعزى الرافعي لابن القيم الجوزية موقفًا رائعًا يتناسب وما ينبغي أن تقوم به المصالح الإسلامية اليوم لفائدة المسلمين، ذلك أنه أوجب على مالك الدار التي اضطر ناس إلى السكنى فيها، وهم لا يجدون سواها، أو النزول في خان مملوك، أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحى للطحن أو دلو لنزع الماء، أو قدر، أو فأس، أو غير ذلك، أوجب على صاحبه أن يبذله بلا نزاع، والخلاف الحاصل هل يحل له أن يأخذ ثمنه أم لا؟ إلا أنهم أجمعوا أيضًا على أنه إذا أخذ ذلك الثمن فلا يمكن أن يعطى أكثر من ثمن المثل، وأفتى كثيرون بوجوب بذل ذلك مجانًا استنادًا إلى قول الله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} ، [الآيات 4-7 من سورة الماعون] .
قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة هو إعارة القدر والفأس والدلو وغيرها من الأدوات الضرورية.
إلى أن قال ابن القيم: (وحاجة الناس إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع ولأن كل الناس يحتاجون إليها، فلو مكن من هي بيده من الاختيار في الثمن لرفع ثمنها إلى درجة المضرة الفادحة بهم) .
وأبعد العلماء عن التدخل في بيع المعاوضة هو الشافعي، ومع ذلك فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يبذله له بثمن المثل فإذا رفع للقاضي أمر المحتكر بيع ما زاد على قوته وقوت أهله بثمن المثل، فإن أبى حبسه (1) ، فإن أصر تجار المواد الغذائية على مواصلة البيع بما فوق الثمن المعتاد جاز للقاضي أن يستشير أهل البلد ثم يسعر مراعيًا المصالح العامة في تصرفاته.
وعن خلافهم حول بيع ما بيد المحتكر: فإن أبا حنيفة يلحقه بالمحجور عليهم بسبب الدين ثم يبيع عليه البضائع التي دعت الحاجة إليها، وقال أصحاب أبو حنيفة: لا ينبغي للسلطان أن يسعر إلا إذا تعلق به – أي السعر – حق العامة.
ولمالك وأحمد أن كل مسترسل بمنزلة الجالب الجاهل لحال السوق إذ يجب على الحاضر أن لا يبيع من هؤلاء.
__________
(1) نفس المرجع: ص41.(5/2307)
وقال: إن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم تسعير عدل، وورد عن مالك أنه لا يجوز للإمام التسعير، وأحاديث الباب ترد عليه، وللشافعية جواز التسعير (1) . إذا دعت إليه الضرورة، ولبى حاجة الجماعة، وسيبقى في طليعة البحوث الجيدة التي تكلمت عن التسعير بصفته إحدى وسائل تحديد أرباح التاجر ما كتبه العلامة ابن القيم الجوزية في كتابه: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، وقد سبقت إشارات إليه، ولأهميته فسنحاول تلخيص بعض أحكامه فيما يلي:
1- من التسعير ما هو ظلم أو حرام وذلك إذا اتبع لإكراه الناس على بيع أموالهم بثمن لا يرضيهم، أو منعهم مما أباح الله لهم.
2- ويكون جائزًا إذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم من الزيادة على عوض المثل فيكون هنا جائزًا بل واجبًا.
وأساس حكم الأول هو حديث أنس عن غلاء السعر بالمدينة وعرض طلب السعر على النبي صلى الله عليه وسلم وامتناعه عن التسعير خشية المضرة بأحد، لقد روينا الحديث في مكان آخر من هذه النقطة.
ومن ظلم التسعير تأجير محل تجاري على واجهة الطريق، أو في القرية على ألا يبيع أحد غيره تلك البضائع التي تباع به، فهذا ظلم وإضرار بالناس، ومثل ذلك حصر نوع من الأطعمة والسلع على ناس معينين ومنحهم امتياز بيعها، فهذا إجراء جائز، وظلم تبع، من أن هؤلاء يجب التسعير عليهم، وإلزامهم البيع بثمن المثل ففي هذه الحالة التسعير واجب بلا نزاع.
وخشية استغلال الحاجة وطلب أثمان غير لائقة، منع أبو حنيفة وأصحابه: القسامين الذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة من أن يكونوا شركة بينهم لأنهم إذا فعلوا أغلوا على الناس وقت الحاجة إليهم، ولوالي الحسبة أن يراقب كل أصحاب حرفة حتى لا يكونوا شركة هدفها رفع الأسعار على الناس عند الحاجة إلى شيء من الأشياء التي ينتجونها أو يتعاطونها، خصوصًا مما تدعو الحاجة إليه باستمرار.
__________
(1) فتح العزيز: 13 /44، من تحليل لابن القيم الجوزية.(5/2308)
بخلاف الصنائع فإن الشركة فيها محمودة من أجل توفير حاجات توفير حاجات الناس وخفض الأثمنة وضمان تزويد السوق بما يطلبه الجمهور، فكل من ينتج شيئًا، أو يحس حرفة إنجاز ذلك واجبًا عليه، إذا احتاج الناس إلى عمله، وعليه أن يفوته لهم بثمن المثل ولا يستغل حاجتهم، فيطلب ربحًا خياليًا، ولا يستغلون ضعفه، ويفرضون عليه البيع بثمن أقل من ثمن المثل حسب تقلب أحوال السوق.
وأثناء تحليل أحوال السوق، وأنواع سبل حكم التسعير تعرض ابن القيم لقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابن اللتبية المشهورة، وملخصها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كلف ابن اللتبية بجمع صدقات بني سليم، فلما قدم حاسبه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الرجل يقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وخطب في الناس وقال: ((إني لأستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي)) إلى آخر الحديث الذي رواه الشيخان، والموضوع الذي من أجله سيق هنا هو التذكير بأن لولي الأمر نزع أي ملك استحوذ عليه الإنسان من طريق غير مشروع سواء بعوض أو بغير عوض، وأحرى إذا كان ربحًا أتاه من قبل نفوذه أثناء قيامه بالولاية لبعض أمور المسلمين.
ومن خلال الحديث عن أمور التسعير تعرض ابن القيم الجوزية لمراقبة الربح عن طريق المزارعة فقال: ومنهم من احتج ((بأن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن المخابرة)) ، ولكن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم هو الظلم، فإنهم كانوا يشترطون ما على المذيانات وإقبال الجداول وشيئًا من التبن يختص به صاحب الأرض ويقتسمون الباقي.
وهذا الشرط باطل بالنص والإجماع فإن المعاملة مبناها العدل من الجانبين وهذه المعاملة من جنس المشاركة لا من باب المعاوضة، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المشاركة العادلة هي أن يكون لكل واحد من الشريكين جزء شائع، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر كان ظلمًا، وإن صدق التاجر رزقه الله من حيث لا يحتسب، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للتاجر الصدوق بنزول البركة، وما قصة عروة بن أبي الجعد إلا تكريس لنظرة الإسلام المشجعة للتجارة الصادقة، ففي الموطأ عن عروة بن أبي الجعد، قال عرض للنبي صلى الله عليه وسلم، جلب فأعطانى دينارًا فقال: ((أي عروة إيت الجلب فاشتري لنا شاة)) فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما - أو قال: أقودهما - فلقينى رجل فساومنى فبعت شاة بدينار، فجئت بالدينار وجئت بالشاة فقلت: يا رسول الله، هذا ديناركم وهذه شاتكم، وقال: ((وصنعت كيف؟)) فحدثته الحديث فقال: ((اللهم بارك له في صفقة يمينه)) ، فلقد رأيتنى أقف بكناسة الكوفة، فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل إلى أهلي، وكان يشتري الجواري ويبيع ويهم هذا البحث أن نبين أن كل ربح نتج عن إذعان أو اشتراط شرط ظالم مهما كان مصدره الشركة … أو بيع البراءة، أو النجش أو الغش، أو التدليس، أو الغبن، أو بيع المحرمات، فإن الفقه الإسلامي لا يقره كربح، ولا نرى أن في ذكرنا لهذه الأشياء مرة ثانية هنا تكرار مشينًا لأنها تتعلق دائمًا بالثمن الذي هو محل التسعير.(5/2309)
وعلى ما تقدم فإن على دولة الإسلام التدخل الفعلي حسب نظرنا لتضرب السعر المناسب على الضروريات التي بدون شك أنها أصبحت كثيرة ومتنوعة، ويساهم تعدد مصادر إنتاجها وعدم معرفتها عند الجميع في رفع الأثمان على الناس، ولذا فحسب نظري تكون مراقبتها اليوم أقرب إلى روح ما يهدف إليه الفقه الإسلامي.
وقد حرم التملك بوساطة التلاعب بالأسعار، والأصل فيه حديث معقل بن يسار قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًّا على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة)) ، رواه أحمد والطبراني.
ويدخل في الربح غير المشروع استيلاء جهة واحدة على سلعة معينة، والاستبداد ببيعها بحسب الثمن الذي يضمن لها أرباحًا خيالية سواء كانت تلك الجهة شخصًا طبيعيًّا أو اعتباريًّا.
ومن مراقبة الريح عدم ترك الأشياء الكبرى ذات النفع العام يتصرف فيها غير الدولة كالبترول، والفوسفات، وما يطلق عليه الركاز بصفة عامة.
والأصل في هذا اجتهاد عمر رضي الله عنه حين قدم اثنان على أبي بكر، وقالا بأنهما كان يستغلان سبخة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكتب لهما خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ملكيتها، وكتب في الصك إشهاد عمر على ذلك، فذهب الرجلان بالصك إلى عمر فلما رأه مزقه، ومنع من تنفيذ هذا التمليك بحجة أن تلك السبخة من المال العام، الذي يجب أن تبقى ملكيته للدولة، ثم أخذ سيدنا أبو بكر الصديق بهذا الاجتهاد لما فيه من المصلحة العامة للمسلمين.(5/2310)
وقد ذهب المالكية: إلى أن ما يستخرج من الأرض إذا كان له نفع عام كبير فهو ملك للدولة، وذهب الحنابلة إلى أن ما يستخرج من باطن الأرض فيه الزكاة، إذا كان مستخرجه ممن تلزمهم الزكاة وذهب الحنفية إلى أن في الركاز الخمس قياسًا على الغنيمة، ولا يعتبر البترول داخلًا في تعريف الركاز (1) .
يبدو من هذا أن الفقه الإسلامي وقف مواقف متطورة جدًّا من تنظيم الملكية العامة والخاصة قبل أن تتعرض إليها النظم الأخرى شرقية كانت أو غربية، وبهذا نرى أن التسعير من أهم الوسائل التي طبقها الفقه الإسلامي لتنظيم ربح التاجر المسلم، أو الذي يبيع في دار الإسلام.
4- سلامة الربح من العيوب الشرعية:
يتميز الفقه الإسلامي أصولًا وفروعًا بسن كثير من القواعد التي يمكن أن يراقب عن طريقها ربح التاجر حتى يسلم من كل شائبة عملية، أو شرعية ليصل إلى صاحبه، وليست عليه فيه تبعة، أمام الله والناس.
فهناك رقابة اجتماعية تصاحب التاجر وهذه تشكل قاسمًا مشتركًا بين أبناء البشرية كلهم، إذ تراهم ناقمين على البائع الغشاش والكذاب والمدلس، والمتعاطي لجميع صنوف الخديعة، وإن مرد هذا إضافة إلى سجايا الإنسان هو أن الكتب السماوية استمرت في تحريم مثل هذه الرذائل، جاعلة منها جرائم يعاقب الله عليها الإنسان في آخرته.
ثم أتت القوانين الوضعية فحرمت هي بدورها القدر الفادح من تلك العيوب، وللاهتمام البالغ الذي خصها به الفقه الإسلامي فإننا سنقدم نماذج من أحكامه تجاهها فيما يلى:
بيع النجش:
بيع النجش وصورته أن يأتي شخص من غير المتبايعين، قبل إنهاء البيع يساوم بثمن أكثر من أجل أن يحمل الشاري على الزيادة في الثمن الحقيقي، ولم تكن نيته الحقيقية أن يشتري.
والدليل على حرمته الحديث الشريف، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التناجش، وذلك من حديث عمر وهو:" لا يَبِعْ أحدكم على بيع أخيه"، حتى يبتاع أو يذر وهي رواية البخاري.
وروى أحمد عن ابن عمر: ((لا يبع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته إلا أن يأذن له)) ، قال النووي رحمه الله في المهذب ما نصه: "ويحرم أن يدخل على سوم أخيه وهو أن يجيء إلى رجل أنعم لغيره في سلعة بثمن فيزيده ليبيع منه أو يجيء إلى المشتري فيعرض عليه مثل السلعة، بدون ثمنها أو أجود منها بذلك الثمن، لما روي أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يخطب الرجل على خطبة أخيه)) الحديث لأن في ذلك إفسادًا وإنجاشًا. فلم يحل" (2) .
__________
(1) سعيد حوري في كتابه الإسلام: ص426.
(2) المجموع لشرح المهذب، للنووي: م13 ,ص16.(5/2311)
إن بيع النجش متفق عليه على إثم صاحبه الذي قام به، والخلاف الحاصل يعني بالخيار أو عدمه ومن أوجه خلافاتهم:
فأهل الظاهر قالوا: فاسد، وقال مالك: هو كالعيب، والمشتري بالخيار، إن شاء أن يرد رد، وإن شاء أن يمسك أمسك، وقال الشافعي، وأبو حنيفة، إن وقع إثم وجاز البيع.
وسبب اختلافهم يرجع إلى خلافهم حول الحكم الذي يترتب على النهي فهل يتضمن فساد المنهي عنه؟ والجمهور على أن النهي إذا ورد لمعنى في المنهي أنه يتضمن الفساد مثل النهي عن الربا والغرر، وإذا ورد الأمر من خارج لم يتضمن الفساد (1) .
وهذا هو المرتكز الذي اعتمد عليه، الذين قالو بسريان البيع في هذه الحالة سواء أعطي الخيار في الرد، أو لم يعط.
وللباجي في شرحه المنتقي أنواع المبيعات التي نُهي عنها خشية حصول ربح بطريق غير مشروعه فعن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبيع بعضكم على بيع بعض)) وقال مالك أيضًا، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلقوا الركبان للبيع ولا يبيع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبيع حاضر لباد)) .
والمقصود هو عدم جواز التدخل بين المتابعين ليفسد على أحدهما صفقته من الآخر ليشتريها هو لنفسه بغية الحصول على ربح يستغل فيه الجهل أو الخديعة.
وعن تلقي الركبان الغاية منه التلقي لمن يجلب السلع إلى الحضر، ومن فعل ينهى فإن تمادى أدب.
والبوادي المنهي عن البيع لهم في القول الراجح عند مالك هو أهل العمود لئلا يرخص ما بأيديهم خصوصًا وإنهم لا يعرفون بكم طلع عليهم نتاج ما تحت أيديهم فمنع الحضري من البيع للبدوي قبل أن يدخل السوق متفق عليه.
__________
(1) بداية المجتهد: 2 /165.(5/2312)
الخلابة:
وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلابة)) وهي الخديعة ككتم العيوب، أو قوله إنها تساوي أكثر من قيمتها، وأعطي فيها أكثر مما أعطي، وقد روى حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) ، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش لأنه من باب الخديعة في البيع وإظهار الناجش للمبتاع أن البضاعة تساوي أكثر مما اشتراها به.
هذا وقد حذرت الشريعة أثناء وضع الإطار العام لترويج التجارة للتاجر من محاولة ربح عن طريق نوع آخر من الغش، وهو عدم وفاء المكيال والميزان، فعن مالك، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول إذا جئت أرضًا يوفون المكيال والميزان فأطل المقام عندهم، وإذا جئت أرضًا ينقصون المكيال الميزان فأقلل المقام عندهم بها.
وقد نهى عن بيع المجازفة مما يعد عدًّا، وأجاز أبو الوليد بيع الجزاف فيما يكال، والذي يحتاط منه مالك حسبما تشير إليه أمهات كتب المذهب هو عدم قيام توازن بين ربح التاجر وبين ضرورة تزويد السوق بما يحتاج إليه المسلمون، والكل ينبغي أن تراعى فيه أحكام الله في سلامة المبيع من العيوب، وعدم استعمال وسائل احتيالية.
ويمنع جميع فقهاء المذاهب الإسلامية استغلال الجهل، أو عدم معرفة حال السوق، أو الحاجة الماسة، أو الكتمان، أو استعمال وسائل احتيالية تدفع الشاري إلى إنهاء صفقة ما كان ليقدم عليها لو علم بحقيقة الأمور.
ومع ذلك فإنهما متفقون على وجوب احترام إرادة المتبايعين، لأن احترامهما هو الكفيل بأن يمحص كل واحد من أفراد العلاقة، ماله وما عليه بطريقة تفرض توازنًا يكفل للتاجر ربحًا يشجعه على تزويد السوق بما يحتاج إليه، فلا تفرض رقابة عمياء تبتز أموال الناس، وتحول بينهم وبين الغفلة التي ورد النص على أن الله يرزق بعضهم من بعض من خلالها، لكن لا يكون ذلك بطمع جشع يستنزف طاقة الشاري، ويدر ربحًا على التاجر، يمكن أن يقال عنه بأنه ربح استغلالي، ولا بد من سلامة الربح – حتى يسلم به الفقه الإسلامي للتاجر – من تلقي الركبان، والغش والتدليس، وبيع البادي للحاضر، والأنواع المنهي عنها في بيع المرابحة، وقد تقدمت إشارات إليها، كما سبقت عدة إشارات إلى هذه العيوب ويحرم أن يبيع الإنسان على بيع أخيه ومثاله أن يجيء شخص إلى آخر في مدة الخيار فيقول له افسخ العقد وأنا أبيعك أجود منه بهذا الثمن، أو مثله بأقل من هذا الثمن، فإن قبل وفسخ البيع الأول وباع له صح البيع الأخير، وأتم البائع والمشترى الأخير.(5/2313)
ومستند النهي عن هذا النوع من البيع الحديث الشريف: ((لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له)) ، متفق عليه ورواه أحمد، عن ابن عمر وعند الشيخين عن أبي هريرة في البخاري، عن عقبة بن عامر عن مسلم.
ويحرم أن يدخل على سوم أخية، وهو أن يجد اثنين اتفقا على بيع سلعة معينة بثمن، ثم يزيد في ثمنها ليفسد على الأول شراءه (1) .
وعند بعض الشافعية على أن البيع والسوم على السوم لا يحرم إلا إذا لحق البائع غبنًا، أما إذا لم يحصل الغبن فلا يحرم البيع على البيع أو السوم على السوم (2) .
وللشوكاني رأي في هذا الشأن إذ يقسم الأحاديث الواردة في السوم على السوم أو البيع، على البيع إلى: أحاديث نصيحة وهي أعم مطلقًا من الأحاديث القاضية بتحريم أنواع من البيع فيبنى العام على الخاص.
وهذا غير مسلم في نظري، لأن النهي تلو النهي تقوية لضرورة تجنب الفعل المنهي عنه. وقد استندت جماعة على جواز السوم على السوم بحديث أنس، الذي رواه أحمد والترمذي، وحسنه وقال لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي عنه، وأخرجه أيضًا أبو داود والنسائي، وأعله ابن القطان بجهل حال أبي بكر الحنفي، ونقل عن البخاري أنه قال لم يصح حديثه، ولفظ الحديث عن أبي داوود وأحمد، أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى على قدح وحلس لبعض أصحابه فقال رجل هما عليَّ بدرهم، ثم قال آخر: هما عليَّ بدرهمين … إلخ.
ولعلهم هنا لم ينتبهوا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبل بالإيجاب الذي وجهه الأول وقبل بالزيادة التي أعطاها الآخر والمسألة مشهورة لأنها أصل من أصول تحريم المسألة.
ولم يرَ البخاري بأسًا في بيع المغانم بالمزايدة، وسوى ابن العربي بين البيع بالمزايدة في شتى الأصناف ولذا لا يضر كره التخطي لعمل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه بنى كراهته للمسألة على قضية عين، وهي بيع المدبر، ولا نرى أن يقاس عليها غيرهما من المبايعات الأخرى.
__________
(1) هذه الأقوال كلها أوردها النووي في المجموع، والسرخسي في المبسوط وبداية المجتهد لابن رشد.
(2) نفسه: ص18.(5/2314)
تلقي الركبان:
ولجهل أهل البادية بالسوق، ولئلا يستغل جهلهم المرابون، ثم يشترون من عندهم فيرفعون السعر على السوق، أو يحسبونهم على البيع بالتقسيط بسعر مرتفع فقد نهى الحديث عن ذلك، وهذا مجمل قول الفقهاء في الموضوع، فأصل المسألة هو حديث ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض)) ، رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الترمذي بلفظ لا يبيع حاضر لباد.
وقد رواه أحمد بسند آخر، عن أبي زيد، عن أبيه بلفظ آخر، هو: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح الرجل فلينصح له.
لم ير الشافعي في الأم أن الحديثين يقتضيان المنع، وقالت الحنفية بأن المنع هنا يختص بزمن الغلاء، وقال ابن حجر في فتح الباري أن المنع انيط بالبادي، لظنة جهله بحال السوق، وإمكانية غبنه.
وقال مالك: لا يلحق أهل القرى المترددون على السوق بالباد، لأنهم يعرفون أحوال السوق.
والجمهور على منع المسألة إذا كان المبيع مما تدعو الحاجة إليه. ولم يعرضه البدوي على الحضري، وهذه التخصيصات هنا كلها استنباطية.
ووردت أقوال عن عطاء ومجاهد وأبي حنيفة، أنه يجوز بيع الحاضر للبادي مطلقًا، وتمسكوا بحديث النصيحة، وقال بعضهم أن حديث بيع الباد للحاضر منسوخ.
والشوكاني يعترض على النسخ ويتمسك هنا بحمل العام على الخاص ويدخل المسألة في بيع المسلم للمسلم بدون غش ولا تدليس، ولا غبن ولا ربا، ويؤيد عدم النسخ موقف الشافعي من المسألة لأنه صحيح البيع، ولم ينفِ الإثم، فأي حاضر باع لباد فهو عاص، إذا علم بالحديث، والبيع لازم غير مفسوخ.
ويحرم تلقي الركبان ويخبرهم بكساد ما معهم من المتاع لغبنهم فيه، لأن عمر نهى عنه، ولأنه تدليس، وإن فعل ودخلوا البلد وتبين لهم الغبن كان لهم الخيار لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلقوا الجلب فمن تلقاها واشترى منهم فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق)) ، وهذا الحديث رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر، وهو نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان، وبهذا اللفظ رواه الجماعة إلا البخاري.
وأورد الشافعي في الأم، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلقوا السلع، فمن تلقى فصاحب السلعة بالخيار بعد أن يقدم السوق)) (1) .
__________
(1) الأم:3 /93.(5/2315)
ومن هنا جوز الشافعي البيع وحكم بإثم المتلقي، واعتبر ابن القيم الجوزية تلقي الركبان من المنكرات للنهي الحاصل فيه (1) ، لكون الباد لا يعرض ثمن السلع فيشتري منه الحضري بثمن بخس، كما أنه لا يجوز لأهل السوق أن يبيعوا للقادم من خارج البلد بثمن يغاير ما يبيعون به لأهل البلد، ولوالي الحسبة مراقبة ذلك.
قال ابن القيم الجوزية في كتابه الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: " ومن المنكرات تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، لما فيه من تغرير البائع، فإنه لا يعرف السعر، فيشتري من المشتري بدون القيمة، ولذلك أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار، إذا دخل السوق، ولا نزاع في ثبوت الخيار له مع الغبن".
ولابن حجر أن التلقي يكره عند من لا يقول بتحريمه لسببين:
الأول: أن يضر بأهل البلد بأن يشتري السلعة بثمن بخس، ثم يبيعها لهم بثمن مرتفع.
الثاني: أن يلبس السعر على الواردين (2) .
وحول النهي الوارد في حديث تلقي الركبان اختلف أصحاب المذاهب على الأقوال التالية:
الشافعية، والحنابلة عندهم يثبت الخيار بمجرد تلقي الركبان رحمة عندهم بالباد، لئلا يقع في شرك الحاضر لصيانة القادم من الخديعة، وعن ابن المنذر أن مالكًا حمل النهي على مراعاة منفعة أهل السوق لا على نفع رب السلعة، وإلى رأي مالك جنح الكوفيون والأوزاعي، إلا أن ثبوت الخيار لصاحب السلعة لا لأهل البلد دليل على قوة حجة الشافعية في هذه المسألة.
وشرط إمام الحرمين في النهي أن يكذب المتلقي على صاحب السلعة حتى يشتري منه بأقل من الثمن المثل (3) ، وأطلق الشوكاني المسألة على عمومها في النهي.
__________
(1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص242.
(2) المجموع، للنووي وشرحه؛ فتح العزيز، للرافعي: 13 /24، وما بعدها إلى نهاية الباب.
(3) المجموع، للنووي وشرحه؛ فتح العزيز، للرافعي: 13 /24، وما بعدها إلى نهاية الباب: ص26.(5/2316)
يمكن أن نخرج من هذه الأقوال بنتيجة أساسية، وهي أن الفقه الإسلامي أثناء تحديده لمسطرة سلامة الربح من العيوب الشرعية، بين جميع الصور التي إن تم البيع عليها يكون مباحًا، والربح منه من أكثر أنواع الرزق شرفًا لأن المهنة الوحيدة التي تعاطاها نبينا عليه الصلاة والسلام وهي التجارة، فيجب أن تبقى لها حرمتها سلامة ما يجني منها من أي عيب يحرمه على صاحبه، أو يكون له نقدًا في عرضه عند الناس.
ومن ثم أتت العيوب التي أشرنا إلى بعضها، وتركنا تلك المألوفة، مثل الغبن والتدليس والإكراه، لأنها معلومة، وكتبت فيها مواضيع خاصة بها، من مختلف فقهاء المذاهب، ولأن موضوعنا ليس في عيوب الرضا.
الاحتكار:
الحكرة:
التعريف: قال في القاموس: الحكر الظلم وإساءة المعاشرة، والفعل كضرب، والسمن بالعسل يلعقهما الصبي والقعب الصغير، والشيء القليل وبضمان، وبالتحريك ما احتكر أي احتبس انتظارًا لغلائه، كالحكر كصرد، وفاعله حكر واللجاجة والاستبداد بالشيء، حكر كفرح فهو حكر، والماء المجتمع، والتحكر الاحتكار، والتحصر والمحاكرة الملاحة، والحكرة بالضم اسم من الاحتكار ومخلاف بالطائف.
الاحتكار حكمًا:
يحرم الاحتكار في الأقوات، وهو أن يشتري البضائع في وقت الغلاء، ويمسكها رغم حاجة الناس إليها حتى يرتفع ثمنها، ومن الحنابلة من قال يكره ولا يحرم، ولا يمكن أن ينظر إلى المحتكر بالسلامة بعد حديث عمر: الجالب مرزوق والمحتكر ملعون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحتكر إلا خاطئ)) .
وعلى هذا الحديث استند أصحاب الكراهة، لأن لفظة الخطأ لا تدل على التحريم علمًا بأن المخطئ هو المذنب والعاصي.
وقد روى أحمد والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ)) .
وزادوا في إسناده "أبو معشر"، وهو ضعيف وقد وثقه بعضهم.
وفي حديث آخر عن عبد الله بن عمر: ((من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه)) ، رواه أحمد والبزار وابن أبي شيبة.
المهم هو أن هذه الأحاديث بعضها يقوي بعضًا فتشكل حجة كافية على عدم جواز الاحتكار.(5/2317)
ويرى الشافعية أن المحرم، هو احتكار الأقوات خاصة لا غيرها، وذهب الشوكاني إلى أن الاحتكار حرام من غير فرق بين الأقوات وغيرها.
ويقصد بالاحتكار المنهي عنه ذلك الذي يشتري البضاعة القليلة في السوق ويمتنع من بيعها حتى يرتفع ثمنها، أما إذا كان اليسر، وجمع بضاعة حتى قلت ثم أخذ يبيعها بثمنها المعتاد أي ثمن المثل فهذا مستحسن ويثاب عليه، كما سيأتي عن ابن مسعود.
وللنووي في شرحه لمسلم عند حديث معمر بن عبد الله مرفوعًا من احتكر فهو خاطئ. قال النووي: الخاطئ بالهمزة هو العاصي الآثم، وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن يشتري الطعام وقت الغلاء للتجارة ولا يبيعه في الحال بل يدخره حتى يرتفع ثمنه.
وأخرج ابن ماجه والحاكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((الجالب مرزوق والمحتكر ملعون)) .
وعن الحاكم من رواية ابن إسحاق، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله)) ، وإن صح هذا الحديث فيكون أشنع وعد.
وقد اختلف العلماء في النوع الذي يعني بالاحتكار، فطائفة ترى على أنه خاص بما يقتات به، ومنهم من عممه على كل ما يقتات به، أو غيره من أنواع المكتسبات التي تدعو الضروريات إليها، وفي المنتقى قال عمر بن الخطاب: لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب على عمود كبده في الشتاء والصيف فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء وليمسك كيف شاء الله.
قال أبو الوليد قصد أمير المؤمنين من هذا الحكم أن يمنع الناس من الاحتكار في سوق المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، لأن غالب أحوالها غلاء الأسعار وقلة الأقوات.
وعرف أبو الوليد في شرحه لكلام عمر في الموطأ الاحتكار، فقال: الاحتكار هو الادخار للبيع وطلب الربح بتقلب الأسواق، فأما الادخار للقوت، فليس من باب الاحتكار.
والإجماع على أن صاحب السلعة يمنع من الاحتكار، وفي أيام عدم الشدة والحاجة فروى ابن القاسم عن مالك أنه لا بأس به، لإمكانية حصول الناس على شدة حاجتهم من عند غيره.
وروى ابن الماجشون، عن مالك أن احتكار الطعام يمنع منه في كل وقت. وأما غير الطعام فلا يمنع من احتكار إلا في وقت الشدة، وسوى ابن المواز، وابن القاسم بين الطعام وبين الكتان، إذ يمنع من احتكار ما أضر بالنسا.(5/2318)
وقد استثنى من التدخل في الملك لمنع الاحتكار، المزارع الذي يدخل محصوله الزراعي سواء في اليسر أو العسر أو نتاج كسبه فإنهما لا يمنعان.
أما الفئة الثانية، وهي التي تجب مراقبتها لمنعها من الاحتكار، فهم من صار إليهم الطعام بابتياعه من سوق البلد، فإن منع الاحتكار يجوز في حقهم، وفي وقتين: أحدهما أن يبتاعه في وقت الضرورة، ثم يحصل على أكثر من حاجته ويمتنع من البيع للناس حتى يحصل على أرباح أكثر من اللازم.
والثاني أن يشتري وقت اليسر كثيرًا من المواد التي لا يجوز احتكارها، ثم يدخرها حتى تشتد حاجة الناس لها، فلا يبيعها لهم إلا بأثمان عالية، أو لا يبيعها، علمًا بأن من عنده طعام مخزون عليه أن يخرجه للناس في ساعة الشدة، وسيأتي مزيد من بيان حكم ذلك، وتابع أبو الوليد في المنتقى كلامه عن حديث عمر، فقال بأن قولة أمير المؤمنين: فذلك ضيف عمر معناه عدم التدخل في شؤونه في السوق إذ لا يمكن أن يرغمه أحد على البيع أو عدم البيع، أو إرغامه على البيع بأقل من الثمن.
ثم أورد قصة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مع حاطب ابن أبي بلتعة في بيع الزبيب وهي مذكورة في مكان آخر من هذا البحث.
وقد استخلص كثير من العلماء عدم جواز أي ربح يجنى من الاحتكار تطبيقًا للأحاديث الشريفة التي روينا بعضها في بداية هذه النقطة من هذا البحث.
وأيضًا استندوا على الحديث الذي رواه الموطأ، عن عمر بن الخطاب، وهو الحديث المتقدم " لا يعمد رجال … " (1) .
قال الباجي قصد منع الاحتكار في المدينة، ونحن نرى استنادًا إلى مواقف عمر أنه يحرم الاحتكار قياسًا على ذلك في كل بلد إسلامي، ولنرجع إلى التفريعات التي استخرجها أبو الوليد من الآثار التي رواها عن الاحتكار إذ قسم دراسته إلى أربعة أبواب هي:
1- بيان معنى الاحتكار.
2- الوقت الذي يمنع فيه الاحتكار.
3- ما يمنع من احتكاره.
4- ما يمنع من الاحتكار.
1- قال في النقطة الأولى بأن الاحتكار هو الادخار للمبيع وطلب الربح بتقلب الأسواق.
__________
(1) المنتقى على الموطأ، لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفي: سنة 494هـ: 5 /17.(5/2319)
ولا يكون ممنوعًا عنده إلا إذا تم الشراء زمن قلة السلع، وشدة الحاجة إليها، أما إن اشتراها زمن الرخاء وادخرها حتى يرتفع السوق، ويكثر الطلب وباعها فلا شيء عليه، ويتعلق المنع بمن يشتري كما قلنا وقت الغلاء أكثر من قوته فيدخره لطلب الربح الفاحش، فإما أن يبيعه لأهل البلد، أو ينقله إلى مكان آخر ليبيعه أيضًا بربح مرتفع كما سبقت إشارة إلى ذلك.
2- أما عن الوقت الذي يمنع فيه الادخار فذلك المنع تراعى فيه حالتان:
(أ) حالة الضرورة والضيق ففي هذا الظرف يجب أن يمنع الاحتكار وقال الباجي: إنه لا خلاف في ذلك، ولقد وجدنا جل كتب المذاهب متفقة على هذا الحكم.
(ب) الثانية ورد فيها خلاف داخل المذهب المالكي، فعند ابن القاسم عن مالك أنه لا يمنع في ساعة الرخاء، وروى ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون عن مالك أن احتكار الطعام يمنع في كل وقت، أما غير الطعام فلا يمنع احتكاره إلا فيوقت الضرورة إليه ومن طرف الأغلبية.
3- والذي يمنع احتكاره فعن ابن القاسم عن مالك: أن الطعام وغيره من الكتان والقطن، وجميع ما يحتاج إليه ذلك سواء فيمنع من احتكاره، ما أضر بالناس، ووجه ذلك أن هذا مما تدعو الحاجة إليه لمصالح الناس، فوجب أن يمنع من إدخال المضرة عليهم باحتكاره كالطعام.
4- أما الذي يمنع من الاحتكار فهم الناس الذين صارت إليهم المواد التي يريدون احتكارها بالشراء، فأما من اكتسبها كنتاج كسب، أو ثمار زراعة فليس بمحتكر إذا ادخرها.
إلا أن مالكًا أفتى بأنه إذا كانت الحاجة وفي البلد طعام مخزون أمر خازنه بإخراجه، فإن امتنع أخرج عليه، ثم أمر ببيعه بثمنه، فإن لم يعلم ثمنه فبسعره يوم احتكاره (1) .
واتفقت أقوال المجموع على شرح المهذب للنووي، مع ما قاله الباجي، وخصوصًا في الحكم على الشراء وقت الرخاء وادخاره إلى زمن الغلاء، وبيعه بثمن المثل يوم تفويته، قال النووي: "ومن أصحابنا من قال بأن الاحتكار يكره ولا يحرم"، ثم رد بأن تلك الأقوال لا يلتفت إليها لمخالفتها للفظ أحاديث متعددة، دلت كلها على أن الاحتكار حرام.
وقد استدل النووي على جواز شراء السلع أيام الرخاء، وادخارها إلى وقت الشدة بالآثار التالية:
__________
(1) الباجي في المنتقى: 5 /15 و16و17.(5/2320)
"روى أبو الزناد قال: قلت: لسعيد بن المسيب بلغني عنك أنك قلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحتكر بالمدينة إلا خاطئ)) (1) ، وأنت تحتكر قال: ليس هذا الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي الرجل السلعة عند غلائها فيغالي بها، فأما أن يأتي الشيء وقد اتضع فيشتريه فيضعه، فإن احتاج الناس إليه أخرجه، فذلك خير، وأما غير الأقوات فيجوز احتكاره (2) ، واستدل على أن النهي الوارد في احتكار الطعام، والسكوت عن غيره جعل ادخاره مباحًا وفي شرحه المسمى فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي، أورد حديثًا عن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس)) (3) .
واستدل الرافعي أيضًا للنهي عن الاحتكار: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًّا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة" رواه أحمد، الطبراني في المعجم الكبير.
وقد روى أيضًا: "أيما أهل قرية أصبح فيهم أمرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله".
قال الرافعي: هذه الأحاديث كلها لا شك أنها تستنهض الهمم للاستدلال على عدم جواز الاحتكار.
وللشافعية أن المحرم هو احتكار الأقوات خاصة، ووافقتهم الزيدية، وكذلك الإمامية من فرق الشيعة حيث رأى فقهاؤهم أن المحرم من الاحتكار هو احتكار الأطعمة، وأخذ الشوكاني بحرمة الاحتكار بناء على الأحاديث المروية أعلاه.
وفرق العلماء بين الاحتكار والادخار، فالاحتكار خزن السلعة وحبسها عن طلابها حتى يتحكم المختزن في حال السوق فيبيعه بأثمان عالية، وهذا حرام، قال الرافعي بالإجماع، وكل سلعة – أضاف الرافعي – يصيب الناس ضرر من احتكارها تلحق باحتكار الطعام.
أما اشتراء الإنسان لما يمكن أن يحتاج إليه وقت اليسر، وادخاره لوقت الحاجة، أو شراء كثير من السلع وقت الرخاء، وادخارها إلى وقت الشدة وإخراجها للناس وبيعها لهم بأثمان معتادة فهذا محبوب، واستدل لجواز هذا النوع الأخير بما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم: من إعطائه لكل واحدة من زوجاته رضي الله عنهن مائة وسق من خيبر للنفقة
__________
(1) زاد هنا لفظ "المدينة".
(2) المجموع شرح المهذب، للنووي: 13 /44.
(3) الحديث رواه ابن ماجه، وفي إسناده الهيثم بن رافع، وقد روي حديثًا منكرًا، وفي إسناده أيضًا أبو يحيى المكي وهو مجهول.(5/2321)
وأرى شخصيًّا أن ما ورد في الآية 47 من سورة يوسف لخير دليل على جواز هذا الإجراء أي إجراء شراء السلع أيام الرخاء، وإخراجها عند الشدة وبيعها بأثمان مناسبة، فقد قال الله عز وجل: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} .
فالآية وردت على سبيل الإخبار ولكن لم ترد بصيغة التحذير مما فعله أصحاب العزيز خصوصًا وأن الأمر صادر إليهم من نبي، ولم يرد نسخ لهذا الإجراء.
قال ابن أرسلان في شرح السنن: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنة، واتفقت مواقف الطائفة الإمامية من الشيعة مع أهل السنة والجماعة على تعريف الاحتكار، وجملة الأحكام التي تنطبق على المحتكر، والأحوال التي يجوز لولي الأمر التدخل فيها لجعل حد لاحتكار المحتكر.
فهذا الطوسي شيخ الإمامية ووجههم في عصره قال ما ملخصه:
الاحتكار هو حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن من البيع، ولا يكون الاحتكار في شيء سوى هذه الأجناس، وإنما يكون الاحتكار إذا كان بالناس حاجة شديدة إلى شيء منها. ولا يوجد في البلد غيره، فأما مع وجود أمثاله فلا بأس أن يحبسه صاحبه ويطلب بذلك الفضل (1) .
وقد أوضح بأنه إذا ضاق بالناس الحال كان على السلطان أن يلزم المحتكرين ببيع ما عندهم، ولكنه لا يلزمهم على البيع بثمن معين، وأيضًا قال بأن غير الأشياء التي ذكرها فلا احتكار فيها.
إن أقوال الإمامية هذه هي نفس الأقوال التي مرت معنا عند فقهاء مذاهب السنة، وحتى الخلاف الحاصل في الأنواع التي يحصل فيها الاحتكار، سبق أن رأيناه عندهم بأسلوب مقارب لهذا، إذن فتحريم الربح عن طريق الاحتكار هو المربح فلا مجال للتردد في أن الربح المحصل عليه من قبل بيع غير مشروع اعتبر غير مشروع، مثل الربح الحاصل عن طريق الغبن، أو التدليس، أو الغش أو التناجش، أو أي نوع من أنواع الخلابة.
وكذلك عن طريق الاحتكار الذي وردت فيه أحاديث عدة منها:
روى ابن عساكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من احتكر على أمتي أربعين يومًا وتصدق به لم يقبل منه ويرى ابن قدامة في المغني أن الاحتكار لا يتم إلا إذا استكمل ثلاثة شروط هي:
__________
(1) النهاية في مجرد الفقه والفتاوي لشيخ الطائفة أبي محمد بن الحسن بن علي الطوسي.(5/2322)
1- أن يكون المحتكر حصل عليه من احتكره بواسطة الشراء، فلا يكون من جلبة ولا من غلة ممتلكاته، واتفق مع المالكية في أن ادخار غلة ملك الإنسان لا يعد احتكارًا.
2- الثاني أن يكون قوتًا، ما عدا الزيت والعسل والبهائم، فادخارها لا يعد احتكارًا.
3- أن يضيق على الناس بشرائه… ويستنتج من هذه الأقوال عدم جواز الاحتكار، وضرورة مراقبة أرباح التجار حتى لا يتم جنيها من هذا المورد، ومن تتحكم فيه منهم الروح الدينية فلتكن وازعًا له حتى لا يحرم أمواله بجني ربح من مورد حرام كهذا.
6- مبررات التدخل في تنظيم أرباح التاجر:
يمكن أن نخرج من كل ما سبق بملاحظات أساسية وهي أن مراقبة أرباح التاجر لها أكثر من أصل في الشريعة الإسلامية، وذلك في كل ربح يجنيه التاجر، سواء نتج عن عقد مساومة، أو عقد مرابحة، إذ من حيث التنظيم وضمان مصلحة الطرفين ضبطت القواعد المنظمة لكل عقد على حدة، فأصبح كل طرف يجد السند الشرعي، والذي يحمي حقوقه من الضياع، والموئل الذي يرجع إليه عند الخلاف فيحميه من الظلم، ويمكنه من جني آثار معاملاته بعيدًا عن الاحتكار، أو الاستغلال أو استنزاف الغير.
فمبررات تدخل السلطة في أرباح التاجر ضيقة، بسبب حديث أنس حول سعر المدينة واستنادًا إلى الآية الكريمة: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .
وحديث: (دعوا الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض....) .
أمام هذه النصوص التي تسير في المبدأ الرباني الخالد والقائل: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [الآية 71 من سورة النحل] .
وقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الآية 32 من سورة الزخرف] .
وجد الحاكم سلطته ضيقة جدًّا، تجاه حرية التبادل التجاري، إذ ليس لأية سلطة مهما كانت تشريعية أو تنظيمية، الحق المطلق في تقرير نزع ملكية الأفراد، أو الجماعة، أو الحد من تصرفاتهم في المعاوضات، دون رضاهم.
غير أن حكمة الشارع من منظور الوسطية التي تدعو إلى الاعتدال في كل شيء، ولم تترك الأمر فوضى، يتحكم فيه التجار في رقاب الناس، باستغلال فرصة الحاجة ليستنزفوا كل إمكانياتهم وبذا أتت تحذيرات الكتاب والسنة واضعة الإطار المنظم لكل المعاملات فلا إفراط، ولا تفريط، ومن خلال ذلك جعلت الرقابة على التاجر ذات وجهين: أحدهما يصاحب ضميره وخلجات فكره، لأنه يتعلق بالإيمان الداخلي، فينبهه أن هناك معاملات محرمة يمكن أن يجني من ورائها ربحًا، إلا أنه إن فعل وسلم من عقاب السلطات الحاكمة، فلن يسلم من عقاب الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.(5/2323)
وقد ينجم هذا عن ارتكاب الغش أو التدليس بصورة تنطلي على زبونه، فينفذ العقد، ويحصل الربح، لكن الغشاش أو المدلس، أو المرتكب لعيب من صنوف الخلابة، سينال عذاب الآخرة.
كما يمكن أن يقال إنه خارج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بحكم الحديث الشريف: ((من غشنا فليس منا)) وقصة الحديث معروفة، وهي شاهد على ضرورة مراقبة أرباح التاجر أثناء تحصيله لها.
فقد وقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على رجل يبيع طعامًا في المدينة فأدخل فيه يده فوجد بداخله بللًا فقال الحديث: ((من غشنا فليس منا)) ، ومن المعلوم أن هذه الصفات أي الغش والكذب والخيانة والغبن وما مثلها من وسائل الخداع تعتبر من الباطل الذي قال الله فيه:
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
ومن خلال هذه النصوص وما مثلها مما أشرنا إليه في النقط المكونة لهذا البحث، وبالخصوص اجتهاد عمر بن الخطاب: "لا يعمد رجال بأيديهم فضل" الحديث المتقدم، وأصرح من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الجالب مرزوق والمحتكر ملعون)) ، وفي رواية: خاطئ ((ومن دخل في شيء من أسعار المسلمين ليلغيه عليهم)) الحديث، كل هذه الآثار تمكن من القول بأن على حكام المسلمين اليوم واجب التدخل لتنظيم السوق وتحديد أرباح التجار، وتكريسها لخدمة الأمة أولًا ولضمان مصالح التجار غير المستغلين ثانيًا.
ومما يبرر ضرورة هذا التدخل هو كون السوق لم تبق إسلامية محضه، فسيطرة غير المسلمين على كثير من وسائل الإنتاج في الدول الإسلامية، واختلاط الباعة من مختلف الجنسيات والعقائد نرى أنه كافٍ لتبرير وجوب تدخل السلطات في كل بلد إسلامي لضبط حالة السوق، وتنظيم أرباح التجار، والحرص على سلامتها من الشوائب.
وهل هناك تبرير أكثر من تفشي ظاهرة تعاطي الربا في جل المجتمعات الإسلامية، حتى أن كثيرًا من شباب الأمة الإسلامية يوشك أن يأتي اليوم الذي يصبح جاهلًا لما يعرف بالربا، لشيوع تعاطيه داخل الأقطار الإسلامية.
وأيضًا بعض من صور البيوعات المنهي عنها هي أيضًا تكاد تكون مجهولة كذلك.(5/2324)
الخاتمة:
إن أهم ما يمكن أن تهتم به المؤسسات الإسلامية في نظرنا انطلاقًا من توصيات المجمع الفقهي، لهو القيام بمجهود علمي وتنظيمي لسن قانون تجاري إسلامي موحد، إذ من خلاله يستطيع المسلم معرفة سبل التعامل مع المؤسسات المصرفية سواء داخل العالم الإسلامي أو خارجه، وما هي المعاملات الربوية التي من تعاطاها، قد أذن بحرب من الله ورسوله؟ وما هي الصبغ التي وجد لها العلماء طرقًا أدخلتها في دائرة المباح؟ لأن المسألة ليست حديثة على الساحة الإسلامية، وقد كان الرعيل الأول من المسلمين حائرًا في جواز أو عدم جواز بعض المعاملات مما حدا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى قولته المشهورة ثلاثًا: وودت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى يبين لنا الحكم فيها، الجد والكلالة وأبواب من الربا، هذا معنى كلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وإذا كان هو لم يتضح له الحكم الراجح فيها فما بالك بأبناء اليوم ومدرستهم ليست إسلامية إلى حد تعريف الأجيال بكل دراسات الحرام والحلال، وشارعهم ليس إسلاميًّا إلى حيث لا يبيع فيه غير المسلمين، بل إن الاختلاط في المدرسة والشارع، وحتى البيوت والمصانع والمتاجر، وعدم تحكم الروح الإسلامية في كثير من النفوس تحتم سن قواعد تنظيمية وزجرية تستبعد تعامل المسلمين مع كل بيع وشراء لا يرضي الله.
أما من يدعي أن حياة اليوم والاختلاط بالعالم، والمصالح المتبادلة أصبحت تفرض نوعًا من التعامل في ظل تجاهل أحكام الشريعة، إذ من يقول بذلك أو يقبله لهو مخرب لبناء هذه الأمة التي لم يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، ولا يستطيع أي مكابر يقول بأن المسلمين حسب لهم أي حساب، أو طلعت شمس عظمتهم أو تحكمت دولتهم في أهم مصادر اقتصاد العالم، وأصبحت لا تغرب شمسها، ما عدا في الفترة التي تحكمت فيهم شريعة الله، بجعلهم القرآن دستورهم والسنة النبوية المطهرة تشريعاتهم التنظيمية، ونبراسهم الذي يهتدون به.
بقيت إشارة أخرى: وهي أن من ادعى بأن قوانين الغرب أو الشرق اليوم، قد احتوت على جميع التطلعات الإنسانية بصفة أكثر شمولية من نظريات الفقه الإسلامي، يعتبر جاهلًا لهذا الفقه، الذي بدون شك، ومن منطلق تجربة طويلة، وممارسة ميدانية اهتمت بمقارنة الفقه الإسلامي بغيره من القوانين الغربية، نستطيع الحكم بأن نظريات وآراء وفتاوي فقهاء الإسلام، أكثر استجابة في جوهرها مما وصلت إليه القوانين الوضعية على مختلف اتجاهاتها، وكذلك الاجتهادات القضائية على مختلف مراكز إصدارها. علمًا بأن الشريعة وسعت دائرة المباح، مما أكسبها مرونة تستجيب لتطورات كل عصر.(5/2325)
إلا أن عدم جمع وتنظيمه، وتقديمه بأسلوب مقبول يبقى مسئولية علماء اليوم، ومن بين تلك النظريات الشمولية ومراقبتها لأحوال جميع أصناف المعاملات هادفة إلى خلق توازن اجتماعي، عن طريق التربية والتوجيه والتشريع، ولم تقتصر الشريعة على مراقبة ربح التاجر في هذه الحالات التي رأينا في النقط التي تعرضنا إليها أعلاه، بل إن الشريعة ذهبت إلى بعد من ذلك في تنظيم المعاملات، ومراقبة جميع صنوف الحياة العامة، حتى لا يطغى جانب تحت أية طائلة على مصالح الجانب الآخر.
وكأمثلة على ذلك نسوق الحالات الآتية:
لولي الأمر أن يلزم أصحاب الصناعات إلى إنتاج البضائع، التي تنتجها معاملهم وليس لهم أن يطالبوا بغير أجور المثل للعمال، وثمن المثل للبضائع، ولهذا السبب رأى بعض أصحاب أحمد، والشافعي بأن تعليم هذه الصناعات فرض كفاية، ومحاسبة ولاة الأمر المشرفين على تنظيم تلك الأمور واجب على ولي الأمر أيضًا بحكم حديث أبي اللتبية (1) .
المهم أن الأعمال التي تنفع العموم، إذا انفرد شخص واحد بصنعها تصبح فرض عين عليه. وإن تخصص في صناعتها عدة أفراد أصبحت فرض كفاية عليهم جميعًا، يمكن أن يقوم به واحد منهم وأثموا جميعًا إن لم يقم به أحدهم، ويلزمون بالقيام به، إذا لم يفعلوا أو أحدهم من تلقاء نفسه.
وهكذا نظمت نظريات الفقه الإسلامي كل معاملة يمكن أن يجني منها التاجر ربحًا، وأعطت لكل صورة اسمها وبينت أحكامها، حتى لا يقع الناس في الحرام، وحتى لا يتعرض أحد أطراف المعاملة لحيف من الطرف الآخر.
وإذا ما رجعنا لأصول المبيعات المنهي عن الربح عن طريقها، نرى أنها قليلة جدًّا، إذا ما قيست بتلك التي ترك الربح فيها مباحًا إذا سلم من الشوائب، أما المنهي عنها فقد قال ابن رشد في بداية المجتهد في شأنها ما نصه.
"وإذا اعتبرت الأسباب التي من قبلها ورد النهي الشرعي في البيوع، وهي أسباب الفساد العامة وجدت أربعة: أحدها تحريم عين البيع، والثاني الربا، والثالث الغرر، والرابع الشروط التي تؤول إلى واحد من هذه أو لمجموعتها".
وهذه الأربعة هي في الحقيقة الفساد، وذلك أن النهي تعلق فيها بالبيع من جهة ما هو مبيع لا لأمر من خارج، وأما التي ورد النهي فيها لأسباب من خارج فمنها الغش، ومنها الضرر، ومنها ما هو لمكان الوقت المستحق بما هو أهم منه، ومنها لأنها محرمة البيع" (2) ، مثل النجاسات.
__________
(1) في قضية توليته على صدقات بني سليم فلما أتى قال: "هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الحديث المشهور" (إني لأستعمل الرجل على العمل منكم) الحديث…
(2) بداية المجتهد:2 /125.(5/2326)
وإذا كان لا يهمنا هنا أن نستقصي كل حال على حدة، فيمكن أن نستخرج من هذه الإشارات عند ابن رشد الحفيد أن دائرة المبيعات التي يمكن أن يجني منها التاجر أرباحًا كثيرة، ومتنوعة، وربحه فيها إذا سلم من أي عيب يجعله مع النبيين؛ الحديث السابق، وتعاطيه للتجارة الشريفة من أشرف وسائل التكسب للرزق.
والاستنتاج الثاني: هو أن الربح ليس متروكًا للفوضى، أو التصرفات العمياء، وإنما هو مدروس في الشريعة الإسلامية بكيفية تضمن قيام مجتمع متكافل تنظم معاملاته قواعد وسطية الشريعة السمحة، فلا ضرر ولا ضرار.
وفي ختام هذه الكلام فلا بد من التأكيد على شكر الجهات الحكومية في كثير من الأقطار الإسلامية التي جعلت الشريعة الإسلامية هي الأصل لكل تشريع واحترام قواعدها هو الشرط، لتطبيق أي قانون استهدف تقريب المعارف من الحاكمين والمحكومين.
غير أن كثرة النظريات الفقهية ومسطرة تأليفها، والأسلوب الذي ألفت عليه أصبحت عوائق في وجه من أراد الاستفادة منها، هو أمر لا مجال لتذليله إلا عن طريق مجهود الدول بتكريس أهم الطاقات العلمية والمادية لخدمة تلك المؤلفات واستخلاص نصوص منها تلائم مناهج الدراسة اليوم، وتوضح للشباب بأن العيب ليس من تقصير نصوص الشريعة ولكن من عدم فهم أهلها لها.
وإننا لنتفاءل خيرًا بوجود بعض المؤسسات المهتمة على مستوى العالم الإسلامي كالمجمع الفقهي فيما يرجع للتشريع، ومحاولة تقريبه من أجيال الغد، وإذا ما وجدت معه مؤسسات أخرى مهتمة، فإن هذا كله يبشر بالخير، غير أن الإطار وحده لا يكفي والأسماء لا تخدم الأهداف، ولا توصل للغايات إلا إذا صاحبها وترجمها رصد الوسائل المالية الكافية، حتى يتم التنظيم والإنتاج، ومن ثم تتأتى إمكانية التطبيق والله يلهمنا سبل الرشاد إنه ولي التوفيق وبيده الخير إنه سميع مجيب.
الدكتور حمداتي شهبينا ماء العينين.(5/2327)
مناقشة البحوث
تحديد أرباح التجار
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذه الجلسة موضوع " تحديد أرباح التجار "، والعارض هو فضيلة الشيح محمد المختار السلامي، والمقرر هو الشيخ محمد عطا السيد.
وكتب في هذا أبحاث خمسة وهي بحث الشيخ المختار، وبحث الشيخ عطا، وبحث الشيخ علي التسخيري والشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين والدكتور يوسف القرضاوي.
ونرجو الاختصار ما أمكن في العرض والمناقشة، لأن بعد انتهاء هذه الجلسة الصباحية الأولى ستكون – بإذن الله – فترة استراحة ثم نستأنف الجلسة للموضوع الثاني وهو موضوع " العرف ".
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
الموضوع كما تفضل السيد الرئيس هو مسألة " تحديد الأسعار "، وهذه المسألة " تحديد الأسعار ": اتصلت بأربعة عروض وسأرتبها حسب الترتيب الحرفي لأصحابها.
فأقدم أولًا: بحث فضيلة الشيخ علي التسخيري، ثم بحث فضيلة الشيخ عطا السيد، ثم بحث فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، ثم ملخص بحث الشيخ حمداتي ماء العينين.(5/2328)
الشيخ علي التسخيري: كتب بحثه وبعد أن قدم له بمقدمة قال: فإن الأصل البينة هو حرية البائعين والمشترين في التعامل بأي سعر كان أما التحديد فيجب أن يتم طبق حركة استثنائية، وعلى أساس من سلطة حكومية ولائية، أو قواعد ثانوية تنفي الضرر والحرج وغيرها، وستلاحظ اختلاف المواقف فيما يلي، ثم ذكر أقوال العلماء، فذكر رأي العالم الكبير المنتظري وما جاء في نهاية الشيخ الطوسي، واستخلص وقال في المبسوط الشيخ الطوسي: لا يجوز للإمام ولا النائب عنه أن يسعر على أهل الأسواق متاعهم من الطعام وغيره سواء كان في حال الغلاء أو في حال الرخص بلا خلاف فإذا ثبت ذلك فإذا خالف إنسان من أهل السوق بزيادة سعر أو نقصانه فلا اعتراض لأحد عليه. ثم أخذ نصوص التسعير، ففي مفتاح الكرامة " وفي الوسيلة والمختلف والإيضاح ... إلخ ".
وقال العلامة في المنتهى: " على الإمام أن يجبر المحتكرين على البيع وليس له أن يجبرهم على التسعير بل يتركهم يبيعون كيف شاؤوا ".
ثم نقل بعض الأقوال عن المذاهب: عن المذهب المالكي، وكذلك المذهب الشافعي، ثم أخذ يحتج ويبين أدلة الطرفين، فبين أن دليل النافين هو احترام الملكية العامة، هذا كدليل عام، والدليل الثاني هو الحديث المروي الذي رواه محمد بن يعقوب بسنده عن حذيفة بن منصور عن الإمام الصادق أنه نفذ الطعام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث بين أن في سنده ضعفًا، لأنه قال: إلا في حذيفة ومحمد بن سنان، وقال سماحة الشيخ المنتظري في سنده: إنه لا كلام في رجاله إلا في حذيفة ومحمد بن سنان والظاهر أن الأمر فيهما سهل.
وما رواه الشيخ بسنده عن الحسين بن عبيد أيضًا، وهو في نفس المعنى ثم أخذ يستدل للمجيزين.
فاستدل أولا بمسألة الولاية التي يملكها الحاكم الشرعي على الأوضاع العامة لتحقيق العدالة الاجتماعية، فله حق التدخل لتعديل الأسعار، كما أن له حق التدخل في مختلف المجالات المباحة ومن الطبيعي أن الحكومة والقدرة على الإدارة العامة تتطلبان بلا ريب هذه الولاية لملء منطقة الفراغ التنظيمي.
ثانيا: وجود الضرر:
ثالثا: استند إلى سد الذريعة، والمصالح المرسلة قال: باعتبارها أصولا قائمة برأسها ونحن لا نقول بذلك.(5/2329)
على ضوء هذه الأدلة انتقل الشيخ التسخيري فيقول: رغم أن الإسلام اعترف تمامًا بالملكية الخاصة والحرية الاقتصادية إلا أن الإنسان مستخلف في المال، ثم بين وظيفة المال الاجتماعية، وانتهى إلى أنه مما يوضح لنا أن الملكية في الإسلام ليست حقا مطلقًا وإنما هي حق تتبعه مسئولية وعلى ضوء هذا فإذا أريد استغلال الملكية لصالح جشع المالك واستفادته من حاجة الناس إليها للتضييق عليهم والوصول إلى الربح المضاعف فإن ذلك مما يتنافى وطبيعة المسئولية التي أشرنا إليها.
والذي يشخص الضرورة الاجتماعية أو المصلحة الاجتماعية العليا هو ولي الأمر العادل عبر تشاوره مع ذوي الخبرة.
ثم يقول: وعملية التسعير إذا نظر إليها في هذا الإطار كانت عملية طبيعية بلا ريب.
ثم تحدث على مرحلتين مرحلة ما قبل الإنتاج ومرحلة ما بعد الإنتاج – بمعنى أن ما تنتجه الأرض والمواد الخام هو لا دخل فيها، أما مرحلة ما بعد الإنتاج البشري فإن القوانين تعمل عملها ولكن في أطر معينة يرضاها الإسلام للسوق الإسلامية السليمة والتي تذكرها لنا النصوص الإسلامية الكثيرة، إذ لا يوجد في هذه السوق احتكار ولا إجحاف ولا غش ولا تبان لرفع القيم حتى التباني الرسمي، ولا ندرة مصطنعة، كما يتوفر فيها ما يحتاجه المجتمع حيث يجب كفاية توفير ذلك. واستخلص إلى أنه ليس غلاء السعر أو كون الطعام غير مسعر، وأمثال ذلك سببًا للتدخل، أما إذا حصل إجحاف في البين أو الاحتكار وما إلى ذلك مما يتنافى والشكل الإسلامي للسوق فإن لولي الأمر التدخل لإرجاع الحالة إلى الوضع الطبيعي بلا ريب.
وانتهى إلى أن الظاهر أن النصوص تؤكد على حرية التسعير ما لم يتطلب الموقف ذلك وحتى لو أمكن تلافي الحاجة بالأمر بتقليل السعر دون تحديد لتعيين ذلك، فهي حالة استثنائية لا يصار إليها إلا عند الضرورة أو اقتضاء المصلحة العامة الملزمة لذلك.
وإننا إذا تأملنا الخلاف بين العلماء ونصوصهم واستدلالاتهم وجدنا أن هذا يشير إلى الحالة الطبيعية فيحرم، وذلك يشير للحالة الثانوية فيجيز، فهم في الواقع متفقون كما يظهر.
والخلاصة من ملاحظة الأدلة والنصوص والفتاوي يتلخص ما يلي:
أولا: إن الأسعار متروكة للمالكين يسيرون بها حسب العرض والطلب وفي الجو الطبيعي لهما دونما صيرورة إلى ندرة كاذبة واحتكار مذموم.
ثانيا: في الحالات التي تتطلب الضرورة أو المصلحة الاجتماعية تدخل ولي الأمر فإن له بمقتضى ولايته التدخل، والله أعلم هذه هي الأولى.(5/2330)
البحث الثاني: هو مقدم من إعداد الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد بين الهدف من تحديد أرباح التجار، هو حماية المشتري حتى لا يظلم في شراء ضرورياته ومستلزماته ثم ذهب إلى الهدف من ذلك أيضا هو محاربة الاحتكار والسوق السوداء وقال: لا شك أن هذه أهداف جميلة تتمشى مع ما تهدف إليه الشريعة الغراء من الرحمة بين الناس والعدل والرضا والطمأنينة في البيع ثم بين ما يمكن أن يعترض على هذا بالحرية التي جاءت في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .
وأن الأصل في المسألة هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .
ثم ذكر ما يقوله القرطبي حول هذه الآية، فأخذ منه على أن الجمهور على جواز الغبن في التجارة، إذا عرف قدر ذلك ما تجوز الهبة لو وهب. واختلفوا إذا لم يعرف قدر ذلك، فقال قوم: عرف قدر ذلك أم لم يعرف فهو جائز، بمعنى الغبن، إذا كان رشيدًا حرًّا بالغًا. وقالت فرقة – القول الثاني -: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود وقال ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله: والأول أصح – أي عدد القول بالغبن – لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأمة الزانية: ((فليبعها ولو بضفير)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام لعمر: ((لا تبتعه – يعني الفرس – ولو أعطاكه بدرهم واحد)) (فرس الصدقة) .
ثانيا: ما روي في الحديث من رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر للناس، فقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه – أن رجلًا قال: سعر لنا يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنما يرفع الله ويخفض، إني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة)) قال له آخر: سعر، قال: ((أدعو الله)) .(5/2331)
ثم بعد أن علق على ذلك وتتبع الروايات، قال: ويبدو أن تغير أحوال الناس وظهور عنصر الجشع وفقدان الأمانة والتقوى في معاملاتهم، وكذلك اتساع الأوضاع التجارية دفع الفقهاء إلى البحث عن حكم البيع بالزيادة المتفاحشة على الثمن المعتاد، ويبدو أن هناك اتفاقًا ظاهرًا في أنه متى علم البائع والمشتري قيمة السلعة التي تباع بها في الأسواق وحصل الغبن بزيادة في الثمن غير معتادة، أو نقص فيه كذلك فالبيع صحيح ولا حرمة فيه، ولو كان البيع فوق فائدة الربا بكثير، وما مثل هذا إلا كزارع وضع قليلا من الحب في أرضه فأنبتت عشرة من الأرادب، فالطريق مشروع والكسب حلال ورزق ساقه الله إلى التاجر والزارع، أما إذا جهلت قيمة السلعة فإن استسلم أحدهما لصاحبه بأن أخبره بجهله وتحدث عن بيع الاستئمان، ثم تحدث عن الغبن وحكمه، لأنه إذا بلغ الثلث يرد. واستخلص إلى أن الذي يتضح من هذا كله: أن الرأي الراجح هو ترك البضائع بغير تحديد سعر، أو تحديد أرباح للتجار على أن تقوم الدولة بواجبها في توفير البضائع وأنواعها، محاربة للغلاء أو الاحتكار أو السوق السوداء كما عليها إقامة الدين بين الناس، وإحياء ضمائرهم بالتقوى، والبعد عن إجحاف الناس وظلمهم أو استغلال حاجتهم للشراء وجهلهم بالأسعار، فعلى الدولة ترك تحديد الأسعار، أو تحديد أرباح التجار مع نشر الوعي الديني وحث الناس على تقوى الله في هذا المجال ومخافته.
ثم ذكر رأيه، فقال: إلا أنني أرى أن الأمر إذا استشرى جدًّا وصارت طبقة من الناس لا تخشى الله ولا ترحم الناس كما يحصل فيما يسمونه اليوم بالسوق السوداء، فعلى الدولة واجب محاربة هذه الطبقة، ومحاربة ما يفعلونه بخلق التنافس الصالح في التجارة وتوفير البضائع وأنواعها، وتوعية الناس بكل الوسائل بالأسعار المعقولة للبضائع جملة، جملة. ولا شك أن هذا من أهم مهام الدولة.
فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي: أولًا ابتدأ بحثه بتحديد الموضوع فقال: قبل البدء في الموضوع ينبغي أن نحرر المراد منه، فبعض الباحثين في الموضوع قد يفهم أن المراد تحديد الربح للتجار من قبل ولي الأمر.
وأعتقد أن هذا ليس مرادًا هنا، إذ لو كان هو المارد لبحث تحت عنوان آخر أخص به، وهو عنوان (التسعير) .
على أن التسعير لا يقتصر على التجار، بل يشمل المنتجين من زراع وصناع ونحوهم ... وكذلك هذا الموضوع لا يشمل (الغبن) ، لأن (الغبن) شيء آخر وتحدث بعض الأمر عن الغبن، ثم انتقل لبيان معنى التجارة ومعنى الربح، وتتبع الآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة التجارة، ثم ذكر عنوانًا هو: " ابتغاء الربح لإيتاء الحقوق والمحافظة على أصل المال ".
وذكر حديث الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)) وبعد أن تتبع النصوص من هذا النحو استخلص سؤالا، وهو: هل حددت النصوص نسبة للربح؟
فيقول: ولكن إذا كانت السنة قد رغبت في الاتجار بالمال، ليحقق ربحًا ينفق منه، ويبقى رأس المال سالمًا. فهل أشارت السنة إلى تحديد نسبة معينة للربح، يفرضها التاجر على نفسه، أو يفرضها عليه المجتمع، لا يجوز له أن يتعداها؟
الواقع أن المتتبع للسنة النبوية، والسنة الرشيدة، وقبل ذلك القرآن الكريم، لا يجد أي نص يوجب، أو يستحب، نسبة معينة للربح، ثلثًا أو ربعًا أو خمسًا، أو عشرًا، مثلا، يتقيد بها ولا يزاد عليها.
ولعل السر في ذلك أن تحديد نسبة معينة لجميع السلع، في جميع البيئات وفي جميع الأوقات، وفي جميع الأحوال، ولجميع الفئات، أمر لا يحقق العدالة، ثم أخذ يستدل على هذا المعنى ويؤكده، وانتهى إلى أن المقصود أنه لا يوجد في نصوص القرآن الكريم، ولا في السنة ما يجعل للربح حدًّا معينًا، أو نسبة معلومة، والظاهر أن ذلك ترك لضمير الفرد المسلم، وعرف المجتمع من حوله، مع مراعاة قواعد العل والإحسان، ومنع الضرر والضرار، التي تحكم تصرفات المسلم، وعلاقاته كلها.(5/2332)
وأكد بعد ذلك هذا ولم أجد في كلام الفقهاء – في حدود ما أتيح لي الاطلاع عليه ولم أبحث كل البحث – ما يدل على تحديد نسبة معينة للربح يلتزمها التاجر في تجارته.
ثم يشتم من كلام الزيلعي أن التعدي الفاحش بأنه البيع بضعف القيمة، فقد عرف الزيلعي التعدي الفاحش بأنه البيع بضعف القيمة، ولكنه لم يبين المراد بالقيمة، وهل هي ثمن المثل؟ أو القيمة هي ثمن الشراء؟
ثم بين مشروعية الربح إلى مائة بالمائة وأورد الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وقعت في حياته وأقرها كحديث حكيم بن حزام: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار وباعها بدينارين، فرجع فاشترى له أضحية بدينار، وجاء بدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتصدق به النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له أن يبارك له في تجارته.
ثم انتقل إلى أكثر من هذا وهو مشروعية الربح أكثر من ذلك.
ومن الأدلة على مشروعية الربح بغير حد – إذا لم يأتِ عن طريق غش ولا احتكار ولا غبن ولا ظلم بوجه ما – ما صح أن الزبير بن العوام رضي الله عنه، أنه اشترى أرض الغابة بمائة وسبعين ألفًا وباعها بمليون وستمائة ألف.
ثم قال، وأحب أن أنبه على أن دلالة الوقائع التي ذكرناها – وقد بين عدة وقائع والحديث والواقعة – ثم قال:
وأحب أن أنبه هنا على أن دلالة الوقائع التي ذكرناها في العصر النبوي والعصر الراشدي، على جواز بلوغ الربح في بعض الأحيان إلى ضعف رأس المال، أو أضعافه، لا تعني أن كل صفقة يجوز فيها الربح إلى هذا الحد، فإن الوقائع التي ذكرناها من حديث عروة، وحديث حكيم بن حزام – إن صح – وحديث عبد الله بن الزبير، هي في الحقيقة وقائع أعيان أو أحوال لا عموم لها، ولا يمكن أن يؤخذ منها حكم عام دائم مطرد، لكل تجار الأمة في كل زمان ومكان، وفي كل الأحوال، وكل السلع، ولا سيما الذين يتاجرون في السلع الضرورية لجماهير الناس.
ثم بين الربح المحرم، وربح الاتجار بالمحرمات، ثم الربح عن طريق الغش والتدليس، ثم التدليس بإخفاء سعر الوقت في بيع الاستئمان، وما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من البيوع وأسباب ذلك ثم قال:
فهذه الأخبار في المناهي والحكايات تدل على أنه ليس له أن يغتنم – أي التاجر – فرصة وينتهز غفلة صاحب المتاع، ويخفي من البائع غلاء السعر أو من المشتري تراجع الأسعار، فإن فعل ذلك كان ظالمًا تاركًا للعدل والنصح للمسلمين.(5/2333)
وبين الربح عن طريق الغبن الفاحش فقال:
ينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، ولكن يراعى فيه التقريب وأتى بنصوص تؤكد ذلك، ثم تحدث عن الاحتكار، وعن المواد التي يدخلها الاحتكار، وترجيحه أن كل ما يحتاج إليه الإنسان يدخله الاحتكار. وختم الحديث بهذه الخاتمة التي تعبر عن رأيه.
وإذا كان الأصل جواز الربح بغير نسبة محددة للتاجر الملتزم بأحكام الإسلام وتوجيهاته في البيع والشراء، وترك السوق للعوامل الطبيعية، وهو ما يعبر عنه اليوم بقوانين العرض والطلب، دون تلاعب أو تدليس أو تدخل مفتعل، لإغلاء الأسعار على عموم الناس ... فهذا لا يمنع ولي الأمر المسلم عندما يوجد شيء من ذلك – أن يتدخل بمقتضى عموم ولايته ومسئوليته، لتحديد أرباح التجار بنسب معينة، قد تتفاوت بتفاوت السلع، وبمشورة أهل الرأي والبصيرة، كما عبر علماؤنا السابقون رحمهم الله تعالى. وهذا هو موضوع (التسعير) ومتى يجوز، ومتى لا يجوز، وما شروطه ... إلخ، وهو لا يخص التجار وحدهم، بل يشمل المنتجين أيضًا، وهو جدير ببحث مستقل بعنوانه الخاص والخلاصة التي نخرج بها من هذا البحث تتمثل فيما يلي:
1- أن ابتغاء الربح في التجارة أمر جائز ومشروع، بل هو مأمور به لمن لا يحسنون الاتجار لأنفسهم كاليتامى.
2- أن النصوص لم تحدد نسبة معينة للربح، بحيث لا يجوز تعديلها، بل وجد في السنة ما يدل على جواز بلوغ الربح إلى ضعف رأس المال أو أضعافه.
3- أن جواز الربح الكثير لا يعني أنه مرغوب فيه دائمًا، بل القناعة بالربح القليل أقرب إلى هدي السلف وأبعد عن الشبهات.
4- أن الربح لا يحل للتاجر المسلم، إلا إذا سلمت معاملاته التجارية من الحرام، فأما إذا اشتلمت على محرم كالاتجار في الأعيان المحرمة أو التعامل بالربا أو الاحتكار أو الغش والتدليس، أو إخفاء سعر الوقت أو التطفيف ونحوها فإن ما ترتب عليها من ربح يكون حرامًا.
5- أن القول بأن التجار أن يربحوا بالحلال ما شاؤوا، في حدود القيم والضوابط التي ذكرناها، لا ينفي حق ولي الأمر المسلم في تحديد مقدار الربح أو نسبته، وخصوصًا في السلع التي يحتاج عموم الناس إليها.(5/2334)
البحث الرابع، هو بحث الشيخ حمداتي ماء العينين: هو افتتحه بمقدمة حول تحديد الأرباح ثم عرف التجارة من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تعرضت لذكر التجارة، وفي المبحث الثاني عرف بيع المرابحة المتعارف عليه، واستخلص ضرورة مراقبة أرباح التجار من هذا النوع، وأن وجوب مزيد أحكام في التنظيم وفي المبحث الثالث حلل أحكام التسعير، بعد تعريفه يبين أن الأساس هو الحديث الشريف، والقائل أن الله هو القابض، الباسط، والرازق، والمسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس ولا مال، غير أن تبدل الأحوال واختلاط المسلمين بغيرهم حمل عمر على التدخل في شأن أحوال السوق، واستعرض أقوال أمهات الكتب، وفي المبحث الرابع استعرض بعض الشواذ التي يجب أن يسلم منها البيع، حتى يكون الربح الذي يجنيه منه التاجر ملكًا حلالًا، مبينًا من خلال هذه النقطة جملة من البيع المنهي عنها كالخلابة بجميع صورها، وتلقي الركبان، وغيرها من البيوع الفاسدة بحكم القرآن والحديث وفي النقطة الخامسة تكلم عن الاحتكار بصفته إحدى الوسائل التي تمكن التاجر " من أرباح يجب أن يحال بينهم وبينها، لما فيه من مضرة للمسلمين، ومخالفة للنصوص الصريحة في السنة. أما النقطة السادسة، فقد خصصها لما سماه " بمبررات تدخل الدولة في أرباح التجار " مبينًا أنها ترتكز على عدم تمكن روح الإسلام من الناس، وعدم تحرج الإنسان اليوم من الكذب، وقال بالحرف: يمكن أن نخرج من كل ما سبق بملاحظات أساسية هي أن مراقبة وتحديد أرباح التاجر لها أكثر من أصل في الشريعة الإسلامية، سواء أكان الربح عن طريق عقد مساومة أو عقد بيع. فقد نظمت كتب الفقه الإسلامي ذلك تنظيمًا محكمًا، وبعد أن عدد الصور التي اعتمدها لمبررات التدخل لتحديد ربح التجار ومراقبتهم، أنهى بخاتمة هذا مجملها:
إن أهم ما يمكن أن تهتم به المؤسسات الإسلامية – في نظرنا – انطلاقًا من توصيات المجمع الفقهي هو سن قانون إسلامي تجاري، يستطيع المسلم بوساطته التعامل مع المصارف داخل العالم الإسلامي وخارجه بعيدًا عن الربا، فقال بأن التجربة أعطت على أن الشريعة الإسلامية أكثر استجابة لتلبية جميع المستجدات بإيجاد الحلول الصالحات لها، ولكنها مهمشة مع الأسف من أبنائها قبل غيرهم، وألح على أن الشعارات والتوصيات وفتاوى العلماء وحدها لا تكفي، ما لم تقم الجهات الرسمية في العالم الإسلامي بتبني الشريعة تطبيقًا لا ادعاء، هذا هو ملخص البحث.(5/2335)
البحث الخامس، هو البحث الذي تقدمت به وسأختصر على بعضه، هو – في نظري – أن هذا العنوان يحتمل:
أولًا: تحديد مقدار نسبة الربح من رأس المال من قبل الشارع، والتزام المؤمن بتطبيق حكم الشريعة، وهذا أمر لم أجد فيما وقفت عليه نصًا، لا في القرآن ولا في السنة ولا في كتب الفقهاء، يحدد الربح بنسبة لا يجوز تجاوزها، خاصة وأن التاجر معرض للخسارة والربح على حد سواء، فلما كانت خسارته لا تضمن، وكساد سلعه لا يضمن فكذلك ربحه ينبغي أن يكون فيه ما يغطي نفقاته، واحتمال خسارته التي ربما تصل إلى رأس المال كله.
ثانيا: يحتمل هذا العنوان تحديد النسبة التي إذا تجاوزها غدا التاجر غابنًا للمشتري، وهذه قضية أخرى هي قضية " الغبن " واختلاف الفقهاء فيها.
الثالث: وهو الذي أرى أنه هو المقصود بالعنوان، هو تدخل السلطة لتحديد ربح التجار، وهو " التسعير " والتسعير: أوسع تعريف وجدته للتسعير هو الذي جاء في (مطالب أولي النهى) ، هو تقدير السلطان أو نائبه للناس سعرًا، وإجبارهم على التبايع بما قدره.
وحكم التسعير: لا شك أن التسعير تقييد لحرية البائع، وعدم اعتبار لرضاه أو سخطه بالقيمة التي يحددها صاحب السلطة، وعنصر الرضا شرط أساسي لسلامة العقود، والضغط على إرادة البائع لبيع سلعته بثمن محدد من إرادة صاحب السلطة هو إكراه، وأمر السلطان إكراه بالإجماع، إلا أن هذا الإكراه، هل هو إكراه بحق فلا إثم فيه، أو هو إكراه بغير حق، فالحاكم المسعر آثم، أو المقام مقام تفصيل؟ للإجابة عن هذا لا غنى عن الرجوع إلى القرآن والسنة، أما القرآن فلا نجد فيه في التسعير إلا الآية العامة التي هي قاعدة من قواعد التعامل، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .
فالنهي عن أكل المال بالباطل، واشتراط الرضا في التعامل من القواعد العامة التي تتنزل على الوقائع بالاجتهاد.(5/2336)
ثانيا: السنة:
فمن ذلك الحديث الذي رواه أنس بن مالك، قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله سعر لنا، فقال: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال)) ، أخرجه أبو عيسى الترمذي، وقال: حسن صحيح وكذلك الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري، والحديث الذي رواه أبو هريرة فالأحاديث متصلة عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك تتفق كلها:
أولًا: على أن الأسعار ارتفعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: أن الصحابة طلبوا تدخل النبي صلى الله عليه وسلم لتحديد السعر.
ثالثا: أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من التسعير.
رابعًا: أنه لم يستجب لطلبهم، معللًا رفضه بكون التسعير مظلمة، يخشى أن يطلبه أحد بها يوم القيامة، وإن الظلم حرام.فظاهر الأحاديث تقتضي المنع من التسعير أيضا، كما أن ظاهر القرآن يقضي بالمنع أيضًا، ولذلك فإن بالرجوع إلى كلام فقهاء الأئمة الأربعة نجدهم يجمعون على أن الأصل في التسعير هو التحريم، فمذهب الحنفية: فقد جاء في الفتاوي الهندية: (ولا يسعر بإجماع) ، ومذهب المالكية، سئل ابن القاسم عن قول مالك: " ينبغي للحاكم إذا غلا السعر واحتاج الناس أن يبيعوا ما عندهم من فضل الطعام أن يبيعوا؟ قال: إنما ما يريد مالك طعام التجار الذين خزنوا للبيع من طعام جميع الناس، إذا اشتدت السنة واحتاج الناس إلى ذلك "، ولم يقل مالك: يباع عليهم، ولكن قال: يأمر أي السلطان بإخراجه، وإظهاره للناس، ثم يبيعون ما عندهم مما فضل عن قوت عيالهم كيف شاؤوا، ولا يسعر عليهم. قيل: فإن سألوا الناس ما لا يحتمل من الثمن قال: هو ما لهم يفعلون فيه ما أحبوا، لا يجبرون على بيعه بسعر يوقت لهم. هم أحق بأموالهم، ولا أرى أن يسعر عليهم. وما أراهم إذا رغبوا وأعطوا ما يشتهون إلا يبيعوا، وأما التسعير فظلم لا يعمل به من أراد العدل. ومذهب الشافعية، هو يحرم التسعير ولو في وقت الغلاء، بأن يأمر الوالي السوقة بألا يبيعوا أمتعتهم.(5/2337)
ومذهب أحمد، قال ابن حامد: ليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون، وهذا هو مذهب الشافعي، وكما استدل أصحاب المذاهب على أن الأصل في التسعير المنع بالقرآن والسنة. وكذلك استدلوا المنع بالمصلحة التي يجب مراعاتها وبالعدل الذي هو المعيار الذي يجب أن يضبط تدخل صاحب السلطة يقول الشوكاني: ووجه المنع من التسعير أن الناس مسلطون على أموالهم، والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من النظر إلى مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، فالشوكاني يثير قاعدة مقطوعًا بها، إن الحاكم ليس له أن يحابي طرفًا ليستفيد طرف آخر، ولما كانت مصلحة البائع أن يبيع سلعته بالثمن الذي يرغب فيه، دون أن يلزم أحدًا بالشراء منه، وكانت مصلحة المشتري أن يحصل على مرغوبه بأقل ثمن ممكن، ولما تعارضت المصلحتان وجب على الحاكم أن يعتزل عن التدخل، وأن يترك لكل من المتبايعين الاجتهاد لمصلحة نفسه، ذلك هو شأن البيع الذي هو باتفاق مبني على المكايسة، والمماسكة. فهذه النظرية التي يدافع عنها الشوكاني هي نظرية العرض والطلب في تحديد الأسعار، وقبول كل طرف بالنتائج المترتبة على ذلك، فكما يعجز الحاكم عند رخص الأسعار وخسارة التجار أن يفرض على المشترين سعرًا أرفع، فكذلك ليس له إذا غلت الأسعار أن يخفض منها لفائدة المشترين، وهذه النظرية هي نظرية سليمة في بادئ الرأي لو كانت الحياة تجري على نسق وفرة العرض وقلته، ووفرة الطلب وضآلته، ولكن التجار قد يتدخلون لإعطاء صورة مفتعلة ليوفروا لأنفسهم أرباحًا أكثر، كما سنبينه.
فهذه النصوص التي ذكرناها، والأدلة المستندة للقواعد التي حللناها، يعارضها من ناحية أخرى أدلة وقواعد يمكن الاستناد إليها، فمن ذلك الاحتكار فقد ورد في الاحتكار أحاديث كثيرة رويت بطرق متعددة تدل على تحريمه، فقد روى مسلم قال: كان سعيد بن المسيب يحدث أن عمر بن عبد الله العدوي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر فهو خاطئ)) .
إن تتبع المذاهب في الاحتكار يدل على اتفاق المذاهب في الحقيقة وإن ظهر اختلاف بينها – بعد أن بينت كل المذاهب في الاحتكار في بادئ الرأي – ذلك أن المذاهب الأربعة تتفق على أن الاحتكار المحرم هو ما كان طريق التحصيل عليه الشراء من السوق، وإن المنتج والجالب للسلعة من مكان بعيد حر التصرف في سلعته، له بيعها وادخارها.(5/2338)
ثانيا: إن الادخار في الوقت الذي يكثر فيه العرض كثرة تفوق الطلب لا حرمة فيه، بل هو مستحب حتى لا تهبط الأسعار هبوطًا يعزف معه المنتج عن الإنتاج.
ثالثا: أن العلة التي يظهر بين الحين والآخر مؤثرة في الترحيم هو قولهم: تعلق حق العامة إذا لم يضر ذلك بالناس. والضرر – كما صرح به ابن العربي – هو غلاء الأسعار، ومن هذه النقطة يظهر وجه ربط الاحتكار بالتسعير، لماذا أتيت به؟
فالمذاهب الأربعة تحرم الاحتكار، وتعطي المحتسب الحق في التدخل حفاظًا على استقرار الأسعار، فهم جميعًا يعتبرون أن استقرار الأسعار مصلحة عامة، وأن الحرية مصلحة خاصة تهدر في مقابلة المصلحة العامة. وأما التفرقة بين الطعام وغيره واختلافهم في تحديد الأطعمة، وإدخال اللباس وعدم إدخاله، إنما هو اختلاف في التدقيق في النظر، فمن تعمق في تقدير الحاجات الإنسانية التي لا بد منها لم يقصر تحريم الاحتكار على القمح والشعير، ومن رأى أن ذلك هو الضروري لبقاء الحياة قصر التحريم، والذي يظهر أن الاحتكار على مستويين المستوى الأول: ما تستطيع المجموعة مقاومته بالامتناع عن الشراء حتى يضطر المحتكرون إلى النزول بسلعهم للسوق. وهو مستوى من التوكل عند المؤمن ورضا بالمقدور، وعند غير المؤمن مستوى متدنٍ، وعلى كل فإن تهافت البشر على ما ليس ضروريًّا لحياتهم يتحملون بتهافتهم قسطًا من اندفاع المحتكر للاحتكار، فالمسئولية موزعة ولذا رأى أكثر الفقهاء أنه لا حرمة فيه والمستوى الثاني: هو أن لا تستطيع المجموعة التأثير على المحتكرين لكون الاحتكار في عيش البشر وما لا يصبرون على اقتنائه، وهنا فالاحتكار طلبًا للغلاء حرام إذ ترضخ الجماعة للأسعار التي يفرضها المحتكرون، فمن راعى هذه الدقة قصر التحريم على الضروري، ومن راعى أن المستوى العام للمجموعات البشرية أنها لا تصبر على المفقود عمم في تحريم الاحتكار.
وعلى كل فإن التأثير في غلاء الأسعار هو الذي أباح للمحتسب التدخل وحرم الاحتكار على المحتكر.(5/2339)
وبجانب الاحتكار أيضًا – ما يدل على تدخل الحاكم للتسعير – فقد ورد في الشريعة ما يبيح انتقال الملك بقيمة المثل إلى غير صاحبه وبدون رضاه، فمن ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم ومالك عن عبد الله بن عمر من أعتق شركًا له في عبد فكان له ما يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عنه ما عتق.
فالحديث نص على أن المعتق لنصيبه من العبد المشترك عليه إن كان واجدًا أن يدفع إلى شركائه قيمة حصصهم بعد أن يقوم العبد بقيمة المثل، ومن ذلك أيضا الحديث الذي رواه البخاري وأحمد، عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)) ، أجمع العلماء على جواز الأخذ بالشفعة وهي في حقيقتها إجبار المشتري على تمكين الشريك من الحصة التي اشتراها بنفس الثمن الذي اشتراها به، فهي تتضمن خروج الملك عن مالكه بغير رضاه، وأن القيمة محددة هي ثمن الشراء ليس له أي أدنى حظ من الربح.
فإذا كان الشارع قد أباح انتزاع ملكية العبد من سيده جبرًا وبسعر محدد هو سعر المثل لتحقق العتق الذي يتشوف له الشارع، وإذا كان الشارع قد أجبر المشتري للشقص على بيع شقصه بالثمن الذي اشتراه به الدفع الضرر عن الشريك وهي مصلحة جزئية لا أفضلية للشريك إلا بالسبق الزمني في التملك، فالتسعير أولى بالقبول، ولذا فإن العلماء بعد اتفاقهم على منع التسعير، أخذوا ينظرون في القضية نظرة جديدة، ومن ذلك ما ذكره ابن العربي في العارضة، وقال سائر العلماء بظاهر الحديث أي بمنع التسعير، ثم قال: والحق التسعير وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، وذلك قانون لا يعرف إلا بالضبط للأوقات ومقادير الأحوال وحال الرجال والله الموفق للصواب وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق وما فعله حكم، لكن على قوم صح ثباتهم واستلموا إلى ربهم وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق عليهم فباب الله أوسع وحكمه أمضى.
فابن العربي نظر إلى القواعد الشرعية فرأى أنها جاءت بالعدل وأن لا يمكن المهرة من الإثراء بوساطة التلاعب في الأسواق وإغلاء الأسعار وأن الحاكم قد نصب لإقامة العدل بين الناس، وأن سياسة البشر الذين يغلب عليهم تقوى الله والإيثار تخالف سياسة البشر الذين همهم ملء خزائنهم والاستئثار وطغيان حب الذات والأنانية ولو بالتضييق على الناس فما حكم به صلى الله عليه وسلم حق في الوقت الذي حكم به.(5/2340)
معنى ذلك أن هذه قضية عين لا عموم لها، هذه من ناحية ومن ناحية أخرى فإن نص الحديث لا يدل على أن الغلاء كان نتيجة عبث بالسوق وإنما ارتفع الثمن في سوق المدينة تبعا لعوامل موضوعية لا دخل للتجار فيها، ولذلك ابتدأ صلى الله عليه وسلم بالكشف عن الفاعل في الغلاء بقوله: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق)) فارتفاع الأسعار عهده كانت متسببة عن تصرف إلهي حكيم في الكون تعرف آثاره ولله الحجة البالغة وهو ما يفهم عنه الرواية الأخرى بل أدعو الله.
إذن هما اتجاهان الأول لأصحاب المذاهب لا يتدخل السلطان ولا نائبه في التسعير أصلًا. الاتجاه الثاني أن للسلطان أو نائبه حق التدخل في التسعير إلا أن هذا التدخل في التسعير للمصلحة قد اختلف فيه الفقهاء تبعًا لتحديدهم للمصلحة المسوغة لذلك كما أن ميادين التدخل قد تكون في السلع المعروضة في السوق عند التجار وقد تكون في السلع المجلوبة وقد تكون في الخدمات البشرية، وقد تكون في الانتفاع بالمباني والآلات.
القسم الأول – تدخل السلطة في أثمان المبيعات:
الحنفية يقول الطوري، إن الثمن حق البائع وإليه تقديره فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يحتكرون على المسلمين ويتعدون تعديًّا فاحشًا وعجز السلطان عن منعه إلا بالتسعير، والتعدي الفاحش هو تضعيف القيمة، يقول في الدر المختار وأفاد أن التسعير في القوتين (أي قوت البشر والأنعام) ثم قال لكن إذا تعدى أرباب غير القوتين وظلموا العامة فيسعر عليهم الحاكم بناء على قول أبي يوسف، فالحصكفي جعل القول بتسعير الحاكم في غير القوتين إذا أضر بالعامة غير منصوص لأئمة المذهب، ولكنه مخرج على قول أبي يوسف أن كل ما أضر حبسه بالناس فهو احتكار في أصل مذهب الحنفية أن الإمام أو نائبه لا يتدخل في تسعير قيم المبيعات إلا في القوت إذا تلاعب التجار بالسوق حتى بلغ الضعف نصًّا في المذهب وغير القوت قياسًا على القوت.
المالكية: سئل القاضي أبو عمر بن منظور عن التسعير، فكان مما أجاب به أهل الأسواق والحوانيت الذين يشترون من الجلاب وغيرهم جملًا، ويبيعون ذلك على أيديهم قيل هم كالجلاب الحكم واحد في كل ما مضى لا فرق قاله عبد الله بن محمد والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله، وقيل إنهم بخلاف الجلاب، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا غلبوا على الناس، وأن على صاحب السوق أن يعرف ما اشتروا ويجعل لهم من الربح ما يشبه وينهى عن الزيادة ويتفقد السوق فيمنع من الزيادة على ما حد، ومن خالف أمره عوقب بما يراه من الأدب أو الإخراج من السوق إن كان البائع معتادًا لذلك مشتهرًا به، وهو قول مالك في سماع أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب، وقال به من السلف جماعة، ولا يجوز عند واحد من العلماء أن يقول لهم بيعوا بكذا وكذا ربحتم أو خسرتم من غير نظر ما يشترون به وإلا أن يقول لهم فيما اشتروه لا تبيعوه إلا بكذا وكذا مما هو مثل الثمن الذي اشتروه به أو أقل. وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون، فلا يتركهم أن يغلوا في الشراء، ولو لم يزيدوا في الربح إذ قد يفعلون ذلك لأمر ما، مما يكون نتيجته ما فيه ضرر.(5/2341)
فابن منظور يرى أن على صاحب السوق أن يتدخل بتحديد الثمن كلما تعسف أهل السوق من التجار في مقتضى الحرية، وظلموا الناس دون أن يربط مجال التسعير بقوت أو غيره، والذي ذهب إليه ابن عرفه أن التسعير إنما يكون في القوت خاصة لقوله في تعريفه (تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه) ، علق الرصاع على هذا بقوله: أخرج به غير المأكول لأنه لا يسعر.
وما ذهب إليه منظور من أن الحاكم يسعر على أهل السوق بعد أن ينظر في شرائهم ويترك لهم من الربح ما لا ضرر فيه على العامة وأنه لا يحل له أن يحدد ثمنًا دون نظر إلى معطيات موضوعية للتسعير، وإن هذا أمر متفق عليه يؤكد ذلك ما في سماع أشهب إذ قال صاحب السوق: بيعوا على ثلث رطل من الضان ونصف رطل من الإبل (يعني أن الدرهم يشتري به ثلث رطل أو نصف رطل) ، قال مالك: ما أرى به بأسًا إذا سعر عليهم شيئًا يكون فيه ربح يقول لهم من غير اشتطاط.
الشافعية: اقتصر صاحب تكملة المجموع على نقل كلام ابن القيم.
الحنابلة: الذي أفاض القول في التسعير هو شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، يقول ابن القيم: وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم ومنه ما هو عدل جائز.
فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه أو منعهم مما أباح الله فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعارضة بثمن المثل ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عرض المثل فهو جائز بل واجب.
وابن القيم يلتقي مع ابن العربي، في أن التسعير لا يحكم عليه حكم مطلق ولكن ينظر الظلم فهو واجب، وبهذا يصبح الخلاف هو في تحقيق المناط أي في بيان الأحوال التي تحقق فيها الظلم لصاحب السلعة، فيكون تصرف صاحب السوق حرامًا، وفي الأحوال التي ظلم فيها أرباب السلع غيرهم فيكون رفع ظلمهم واجبا.(5/2342)
أنواع صاحب السلعة:
الجالب والمنتج: قد يكون صاحب السلعة جالبًا للسلعة والرأي الغالب أن الجالب لا يسعر عليه، أصله ما رواه مالك في موطئه أن بلغه، أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- قال لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من إذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء أو الصيف، فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله، فهذا الحديث يدل على حرية الجالب في التسعير لا يتسلط عليه، وكذلك المنتج يبيع سلعته بالثمن الذي يرغب فيه لا يتسلط عليه الحاكم فيحدد له الثمن إلا أنه إذا كان أهل السوق قد جرى بينهم سعر فجاء الجالب ليرفع في الثمن أو ليخفض فيه فإنه لا يتعرض له في تحديد الثمن، ولكن هل يرفع من السوق أولًا؟ خلاف، فمالك اعتمد ما رواه من حديث عمر رضي الله تعالى عنه مع حاطب بن أبي بلتعة فعن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه أن عمر بن الخطاب مر على حاطب بن أبي بلعة، وهو يبيع له زبيبًا بالسوق فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا، فهم بعضهم أن حاطبًا كان يبيع بالدرهم أقل مما يبيع غيره، فنهاه عمر عن ذلك ليحط من الثمن ويسير مع ثمن أهل السوق، وقيل بل إن حاطبًا كان يبيع بالدرهم أكثر مما يبيع به غيره وهذا مفضٍ للخصام بين من يخفض في الثمن وأهل السوق، ولذلك لم يفرق كثير من العلماء في الخروج عن الثمن بين الزيادة والنقص، قال ابن القصار: اختلف أصحابنا في قول مالك ولكن من حط سعرًا، فقال البغداديون أراد: باع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية بدرهم، وقال قوم من البصريين أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة فيفسد على أهل السوق بيعهم وربما أدى إلى الشغب والخصومة، قال ابن القصار وعنه أن الأمرين جميعًا ممنوعان ورأي ابن رشد هذا – الذي أيده – هو غلط ظاهر إذ لا يلام أحد على المسامحة في البيع والحطيطة فيه، بل يشكر على ذلك فعله لوجه الناس، ويؤجر إن فعله لوجه الله بهذا عقب صاحب الطرق الحكيمة.
يتبين مما سبق أن التسعير لا يعطي لصاحب السلطة الحق في التعسف في الحكم وفرض السعر على الناس حسب تقديره الخاص ولا يمكنه من التسعير بالاعتماد على رأي المشترين وإنما يجمع هيئة تتألف من التجار والخبراء، ويعتمد المعطيات الحقيقية من ثمن الشراء وما يرغب التجار في الاستمرار على القيام بدورهم من إيصال السلع إلى الراغبين فيها، وعلى هذا فالسعر غير ثابت وإنما هو تابع لتقلب السوق واختلاف القيم، يقول صاحب التيسير في أحكام التسعير: يجب على صاحب السوق الموكل لمصلحته أن يجعل لهم من الربح ما يشبه ويمنعهم من الزيادة عليه ويتفقدهم في ذلك ويلزمهم إياه كيفما يتقلب السعر زيادة أو نقصانًا.(5/2343)
مخالفة التسعير:
إذا تدخل صاحب السلطة وسعر على الناس فإنه يجب أن يطاع، لأن القضية محل خلاف وحكم الحاكم يرفع الخلاف، ويلزم كل الناس احترام حكمه ما دام غير مناقض لأصل يقيني.
وإذا خالف البائع وباع أكثر من القيمة فالبيع صحيح، ففي الفتاوي الهندية إن سعر فباع الخباز بأكثر مما سعر جاز بيعه، ويقول الشربيني: فلو سعر الإمام عزر مخالفه بأن باع بأزيد مما سعر لما فيه من مجاهرة الإمام بالمخالفة وصح البيع إذا لم يعهد الحجر على المختص في ملكه أن يبيع بثمن معين، والتعزيز عند الحنفية لا يكون إلا إذا تكرر من التاجر المخالفة، يقول الطوري: وينبغي للقاضي والسلطان أن لا يجعل بعقوبة من باع فوق ما سعر به بل يعظه ويزجره، وإن رفع إليه ثانيًا فعل به كذلك وهدده وإن رفع إليه ثالثًا حبسه وغرره حتى يمتنع عنه ويمتنع الضرر عن الناس.
أما حكم الشراء بالسعر المحدد:
يقول الطوري: ومن باع منهم بما قدره الإمام صح لأنه غير مكره على البيع، كذا في الهداية وفي المحيط إن كان البائع يخاف إذا زاد في الثمن على ما قدره أو نقص في البيع يضربه الإمام، أو من يقوم مقامه، لا يحل للمشتري ذلك لأنه في معنى نقص في البيع يضربه الإمام، أو من يقوم مقامه، لا يحل للمشتري ذلك لأنه في معنى المكره والحيلة في ذلك أن يقول له – أن يقول المشتري للبائع – تبيعني بما تحب وعند الحنابلة يبطل البيع إذا هدد المشتري البائع ويكره الشراء بالتسعير وإن هدد من خالفه حرم البيع وبطل، لأن الوعيد إكراه.
وفيما قاله الحنابلة نظر، ذلك أن الإكراه المؤثر في العقد هو الإكراه التعسفي الذي تسلط فيه القوي على الضعيف فيخضعه لإرادته، أما إذا كان الإكراه تطبيقًا لمقتضيات الشرع فلا حرمة فيه ولا بطلان، كما يكره الشفيع المشتري للشقص على تحويله له بثمنه، وكما يكره الشريك شريكه على البيع فيما لا يقبل القسمة، وكما تكره الزوجة زوجها على تنفيذ قضاء القاضي بالنفقة عليها حسبما قدره.(5/2344)
أما التسعير في عصرنا الحاضر:
أن التسعير في عصرنا الحاضر يختلف عن التسعير في العصور السابقة، كما أنه يختلف أمره من بلد ومن بضاعة إلى بضاعة أخرى ويتبين ذلك مما يأتي:
أولًا: جرت بعض البلدان التي لها قوة مالية تغطي احتياجاتها أو تفوقها أنها لا تتدخل في التوريد ذلك أن عملتها لها من الغطاء ما يضمن رواجها بقيمتها، وهذه الدول تبني اقتصادها على قاعدة العرض والطلب، فترفع الأثمان أو تنخفض تبعًا لهذه القاعدة ولا يرى الحاكم أنه في حاجة إلى التدخل وأن عدم تدخله يضمن تدفق السلع للأسواق والمزاحمة، خاصة وقد غدت وسائل النقل وإيصال السلع تشمل البر والبحر والجو، وأصبح التجار في هذه البلدان يعتمدون لتحقيق الأرباح دوران رأس المال، قلما يلجأون إلى الاحتكار.
ثانيا: جرت بعض البلدان ذات الاقتصاد الضعيف أن تتدخل في الحركة الاقتصادية من عدة نواح:
(أ) لما كانت عملتها لا قيمة لها خارج حدودها، وهي غير ملزمة بمقايضتها لما كانت كذلك كان التوريد خاضعًا لتمكين المورد من العملة التي يقبلها البائع خارج الحدود الوطنية، وهذه العملة ليست من مجهود المورد ولكنها مجهود الأمة، وبهذا الاعتبار، فالمورد يملك رأس مال ناقص تكمله له الدولة من ثروة الأمة، وتنظيم شئون الدولة حصر قائمة الموردين حسب شروط وتنظيمات، وبهذا فإنه يحق للدولة أن تحدد سعر البيع كما تراقب سعر الشراء وهو ما نص عليه ابن القيم لما قال: أن يلزم – أي الحاكم – الناس أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا ناس معروفون – إذا وقع هذا – فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون، وهؤلاء يجب التسعير عليهم وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل وألا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد العلماء، لأنه إذا منع غيرهم من أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاؤوا أو يشتروا بما شاؤوًا كان ذلك ظلمًا للناس.
(ب) إن الدولة تجد نفسها ملزمة لظروفها الاقتصادية والاجتماعية أن توقف غلاء المعيشة وتيسر على ذوي الدخل المحدود اقتناء بعض الضروريات بثمن أخفض من قيمتها الحقيقية، وتعوض ذلك من صندوق الخزينة الفارق بين القيمتين، وهنا لا بد لها من أن تحدد ثمن البيع لأنها في حقيقة الأمر أسهمت في رأس المال، فهي شريكة ومن يشاركها قد دخل على أنه لا يزيد على الثمن الذي حددته.
فيظهر أن تدخل الدولة في التسعير هو نتيجة ضعف في الاقتصاد الوطني وأنه كلما كان الاقتصاد قويًّا كانت الدولة في غنى عن ذلك.
والله أعلم وهو حسبنا ونعم والوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(5/2345)