ب- أدلة هذا المذهب الأول:
لقد استدل القائلون بهذا القول بنصوص من الكتاب والسنة النبوية:
1- منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف2-3] فذكر المفسرون كابن كثير الشافعي في تفسيره الكبير أنه يحتج بالآية على أن من ألزم نفسه عقدا لزمه الوفاء به، والوعد مما ألزم الإنسان على نفسه به مع وجود الخلاف في الوجوب أو الاستحباب. كما في "الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي، و"أحكام القرآن " للجصاص.
وذكر الفقهاء في هذه الآية: أن الذين أوجبوا الوفاء بالوعد وجه استدلالهم بالآية أن الواعد إذا وعد، ثم أخلف، فإنه قال قولًا ولم يفعل، فيكون داخلًا في استنكار الآية الكريمة، فليزم أن يكون وعده كذبا، والكذب محرم إجماعا فيكون إخلاف الوعد محرما لا محالة فلزم الوفاء به خروجا من وصف الكذب، كما في كتاب الفروق والمحلى.
2- ومنها: قوله تعالى {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177] ووجه الاستدلال بهذه الآية وغيرها: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالوفاء بكل من الوعد والعهد والعقد في جميع الأديان السماوية، فحافظ عليه الرسل المتقدمون منهم والمتأخرون، فمدحهم سبحانه وتعالى بوفائهم بوعودهم وصدقهم فيها. حيث قال في حقهم {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] وقال {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] وفي شريعتنا ما يؤكد الوفاء بالوعد دائما- مثل قوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم: 6] وقوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20] وقوله جل وعلا- في أكثر من سورة في القرآن الكريم (أن وعد الله حق) فمن هذه الآيات وأمثالها نعلم أن الله سبحانه قطع على نفسه الوفاء بما وعد لعباده من وعد ووعيد فعلى العباد الوفاء بوعودهم.(5/660)
3- ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)) . وفي رواية ((من علامات المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف ... إلخ " وفي رواية: " آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف.. وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) .
وحديث مسلم: ((إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف. وإذا خاصم فجر)) . ومحل الدلالة في هذه الأخبار الصحيحة على وجوب الوفاء بالوعد هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عد إخلاف الوعد من خصال المنافقين وصفاتهم، والنفاق مذموم قطعًا في الشريعة، فلذا أعد الله لأهل النفاق الدرك الأسفل من النار: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] فنظرًا لهذا يكون إخلاف الوعد محرما والوفاء به واجبا ". انظر شرح مسلم للإمام النووي.
4- ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه وذكره في معرض الاحتجاج لوجوب الإنجاز بالوعد من حديث المسور بن مخرمة حيث قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صهرا له فقال: " وعدني فوفاني ".
5- ومنها: ما أخرجه البخاري وغيره من حديث جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو جاء مال البحرين لأعطينك هكذا ثم هكذا)) ثلاث حثيات، وأنجز له ذلك الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصه: قال جابر: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ((لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا ثلاثا، فلم يقدم حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل أبو بكر مناديا فنادى: من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتنا فأتيته، فقلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم وعدني فحثا لي ثلاثا". وفي رواية أخرى " فحثا لي حثية، فعددتها فإذا هي خمسمائة، وقال: خذ مثليها" وفي رواية " فعد في يدي خمسمائة ثم خمسمائة)) .
وما رواه الترمذي في سننه وحسنه من حديث أبي جحيفة، قال، ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض قد شاب، وكان الحسن بن علي يشبهه، وأمر لنا بثلاثة عشر قلوصا، فنبهنا نغيفها؟ فأتانا موته، فلم يعطونا شيئا، فلما قام أبو بكر قال: من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليجئ، فقمت إليه، فأخبرته، فأمر لنا بها)) .
6- ومنها: ما رواه ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ولا تعهد أخاك وعدا فتخلفه، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) . ووجه الدلالة في هذا الحديث وما قبله واضح وأبو حنيفة ومالك يحتجان بالمرسل.
7- ومنها: ما روي عنه صلى الله عليه من أنه قال ((وأي المؤمن واجب)) أي وعده واجب الوفاء به وهو حديث مرسل من مراسيل هشام بن سعيد أيضا.(5/661)
8- ومنها: ما روي في الأثر: ((من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وعد وعدا قال عسى، وكذلك كان عبد الله بن مسعود لا يعد إلا ويقول: إن شاء الله)) ذكره الإمام الغزالي في " الإحياء " وقال فيه: إذا جزم الواعد في الوعد فلابد من الوفاء به إلا أن يتعذر، فإن كان عند الوعد جازما على أن لا يفي فهذا هو النفاق بعينه.
9- ومنها ما رواه الترمذي وحسنه وغربه: من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه)) .
10- ومنها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة 1] وقالوا إن العقد هو كل ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء. وإجاره وكراء.. وكل ما كان غير خارج عن مقاصد الشريعة، وكل ما عقده الإنسان على نفسه من الطاعات ومنها: المواعيد.
11- ومنها: قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} [التوبه: 75- 77]
ووجه الاستدلال بالآية: أن الله سبحانه وتعالى استنكر إخلافهم بوعدهم استنكارا شديدا. لأن الصدقة واجبة، والكون من الصالحين واجب بسبب الوعد والعهد الشبيه بالشرط فالوعد بذلك كلاهما فرضان وإنجازهما لازم وواجب، وإن قال بعض من العلماء، أن هذا كان نذرا ممن عاهد الله على ذلك. وهو ثعلبة بن حاطب ومن نحا نحوه، والنذر بالخير فرض وواجب فهو كذلك.
12- ومنها: ما رواه ابن عساكر عن هارون بن رباب من أن عبد الله بن عمر لما حضرته الوفاة قال: " انظروا فلانا فإني كنت قلت له في ابنتي قولا كشبه العدة فما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق، فأشهدكم أني زوجته ". ووجه دلالة هذا الأثر واضح.(5/662)
ولأصحاب هذا القول أدلة أخرى من الكتاب والسنة. نكتفي من إيرادها وتتبعها بهذا القدر.
وقد رأينا أنه رأي نخبة من علماء الأمة من السلف الصالح ومن علماء المذاهب المشهورة: كالصحابي الجليل: عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – وسمرة بن جندب الصحابي المشهور. وكالخليفة الراشد: عمر بن عبد العزيز - رحمه الله – وكالحسن البصري التابعي الجليل – رحمه الله – وكالإمام إسحاق بن راهويه والقاضي سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قاضي الكوفة في إمارة خالد القسري.
وكالفقيه المالكي المشهور بابن شبرمة، والقاضي أبي بكر بن العربي الأندلسي المالكي، وكالإمام الغزالي الشافعي، وتقي الدين السبكي الشافعي. وكالإمام تقي الدين ابن تيمية الحنبلي المشهور.
هذا المذهب هو أكثر دليلا من غيره من المذاهب الأخرى في هذه المسألة.
جـ- المذهب الثاني: استحباب الوفاء بالوعد لا وجوبه مطلقا.
1- وهو مذهب جمهور العلماء: أبي حنيفة والشافعي، وأحمد بن حنبل، والظاهرية، وبعض من علماء المالكية، وغيرهم من علماء الإمامية.
وخلاصة قولهم في هذه المسألة " أن الوفاء بالوعد مستحب مندوب إليه، وليس بواجب ولا فرض، فلا يقضى به على الواعد إذا أخلف، ولكن الواعد إذا ترك الوفاء بالوعد فإنه الفضل، وارتكب المكروه بسبب خلفه".
قال الإمام النووي في " الأذكار" (ذهب الشافعي وأبو حنيفة والجمهور: إلى أنه مستحب، فلو تركه فاته الفضل، وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة. ولكن لا يأثم) .
وقال ابن علان الشافعي في كتابه" الفتوحات الربانية..": " وقد تقرر في مذهبنا أن الوفاء بالوعد مندوب لا واجب ".
ومقتضى حكم آراء علماء الشافعية كما يفهم من كلام النووي في الروضة، و"القليوبي" و"شرح الأذكار"، لابن علان " أن إخلاف الوعد مكروه كراهة شديدة مطلقا، وأن مخلفه لا يجبر على التنفيذ".
وقال الإمام أبو بكر الجصاص في كتابه " أحكام القرآن " " إن الوعد بفعل يفعله الإنسان في المستقبل مباح إذا كان الفعل مباحا، وأن الوفاء به أولى من إخلافه مع الإمكان".(5/663)
وقال ابن حزم الظاهري في " المحلى": " من وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين، أو بأن يعينه بعمل ما، حلف له على ذلك أو لم يحلف، لم يلزمه الوفاء به، ويكره له الخلف، وكان الأفضل لو وفى به، وسواء أدخله بذلك في نفقة أم لم يدخله، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان".
وقال برهان الدين ابن مفلح الحنبلي في كتابه " المبدع" " لا يلزم الوفاء بالوعد وقال نص عليه – الإمام أحمد – وقاله أكثر العلماء".
وكتاب " جامع البيان " للطبرسي ما مؤاده " أن استحباب الوفاء بالوعد" هو مذهب " الإمامية.."
ونقل العسقلاني في " الفتح " عن المهلب " أن إنجاز الوعد مأمور به ومندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود له لا يضارب بما وعد به مع الغرماء.." وقد رد العسقلاني ادعاء هذا الاتفاق، وعلله بقوله " لأن الخلاف فيه مشهور، وإن كان القائل به قليل".
قال بعض العلماء: إن العلماء الذين نفوا الإثم عن مخلف الوعد إنهم عنوا ذلك بمجرد خلف الوعد، فلو قصد الواعد في إخلافه إضرار الموعود له فهو آثم لا محالة.
هذا وقد تساءل ابن حجر العسقلاني في القول " بأن الواعد إذا ترك الوفاء بوعده فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة تنزيهية شديدة ولا يأثم" وقال: هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي أن الواعد يأثم بالإخلاف وإن ذلك نفقة القريب، فإنها إذا مضت مدة يأثم بعدم الدفع ولا يلزم به ... ".
وفي كتاب " التمهيد " لابن عبد البر قال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وعبد الله بن الحسن،وسائر الفقهاء" أما العدة فلا يلزمه فيها شيء وبأنها منافع لم يقبضها في العارية، لأنها طارئة، وفي غير العارية أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض ولصاحبها الرجوع فيها ".
ومن هذا كله نعلم: أن هذا المذهب هو مذهب أكثر العلماء والفقهاء، لكن قد لا يوجد له دليل قاطع وصحيح من حيث النقل فلننظر إلى تلك الناحية.(5/664)
ب- أدلة هذا المذهب الثاني:
منها ما أخرجه الإمام مالك في " الموطأ ((أنه قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب لامرأتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم " لا خير في الكذب" فقال: يا رسول الله: أفأعدها وأقول لها؟ فقال صلى الله عليه وسلم " لا جناح عليك ")) .
ووجه الاستدلال من هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل، ونفى الجناح عن الوعد، فإخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله صلى الله عليه وسلم قسيما له، ولو كان منه لم يجعله قسيما له، فإخلاف الوعد لا حرج فيه، ولو كان المقصود في مثل هذا الحديث – الوعد الذي يفى به – أي يريد الوفاء به- لما احتاج للسؤال عنه، ولما ذكره مقرونا بالكذب، فتبين من ذلك أن مقصود الرجل إصلاح حال زوجته بما لا يفعله. فتخيل الحرج في ذلك فاستوضح النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ... انظر: ما قاله القرافي في " الفروق".
أجاب ابن الشاط في حاشيته على الفروق عن هذا الاستدلال إجابة حرفية خلاصتها كالتالي: إن القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل، غير سليم، إذ يمكن أن يكون قصده من الكذب على زوجته أن يخبرها عن فعله مع غيرها من النساء بما لم يفعله إغاظة لزوجته، فلم يتعين أن المراد ما ذكر، ومعنى الحديث، أنه صلى الله عليه وسلم منعه من أن يخبرها بخبر كاذب يقتضى تغييظها به وأجاز له الوعد لأنه لا يتعين فيه الإخلاف. لاحتمال الوفاء به، إذ معظم دلائل الشريعة يقتضي المنع في الإخلاف ...
- ومنها: ما أخرجه أبو داود في سننه من حديث زيد بن أرقم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له، فلم يف ولم يجئ للميعاد، فلا إثم عليه.))
- ومنها – ما في الوعد من معنى التبرع المحض، فقد قال الإمام النووي في " الأذكار" " استدل من لم يوجب الوفاء – بالوعد- بأنه في معنى الهبة - قبل قبضها- والهبة لا تلزم إلا بالقبض عند الجمهور، وعند المالكية تلزم قبل القبض " فالهبة تبرع محض كالوعد- ولا دليل على وجوب التبرع المحض على أحد شرعا.(5/665)
هذا. وإن أدلة هذا الفريق أقل من أدلة الموجبين. وإنها لا تصل إلى درجة القمة التي وصلت من حيث الصحة والوصف.
ولذا تأولوا الآيات والأحاديث التي استدل بها الموجبون.
وقالوا: إن الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] .
إنها نزلت على قوم تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض الجهاد عليهم نكل بعضهم، كقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 77] . وكقوله تعالى {وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد20] فهي خاصة فيهم أو في أمور الجهاد. وهو اختيار ابن جرير. وقول ابن عباس.
وقالوا- أيضا- إن المراد بالآية الإنكار على الذين يقولون ما لا تفعلون خاصة في الأمور الواجبة كالوعد بإنجاز دين وأداء حق ونحو ذلك..
كما تأولوا الآية الثانية: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ... } إلخ [التوبة 75] .. بأنها تخبر عن النذر، والوفاء به فرض وواجب.
وأجابوا عن الأحاديث التي وردت بأن إخلاف الوعد خصلة وعلامة مميزة للنفاق وأهله بأن الحديث مصروف عن ظاهره، وأن النفاق الوارد في الحديث مصروف عن حقيقة النفاق، فقالوا كما في " فتح الباري" إن المراد بإطلاق النفاق: الإنذار للمسلم وتحذيره عن ارتكاب هذه الخصال واعتيادها، لئلا تفضي به إلى حقيقة النفاق، وهو ما حكاه الخطابي وارتضاه.
وقال بعض منهم: إن المنافقين الذين يذكرهم الحديث هم الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وائتمنهم النبي صلى الله عليه وسلم على سره فخانوه، ووعدوه بالخروج معه للجهاد فأخلفوه.
وقال أكثرهم: إن معنى الحديث: إن الخصال المعدودة فيه خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، وهو متخلق بأخلاقهم، لأن النفاق إظهار لما يبطن خلافه، ويكون نفاقه في حق: من وعده وخاصمه وحدثه وائتمنه وعاهده من الناس، ولا يكون منافقا في الإسلام: فيظهره ويبطن الكفر، فليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار، وقالوا: إن معنى قوله صلى الله عليه وسلم ((كان منافقا خالص)) ، أي شديد الشبه بهم بسبب تلك الخصال.
وقال الترمذي في " سننه" عقب حديث ابن عمر ((أربع من كن فيه كان منافقا.. إلخ)) . " إنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل، وإنما كان نفاق التكذيب على عهد الله صلى الله عليه وسلم، هكذا روي عن الحسن البصري شيء من هذا. وارتضاه كل من القرطبي والعسقلاني- كما في " الفتح". ولكن العسقلاني قال فيه " إن أصحاب هذا التفسير قد استدلوا بأحاديث ضعيفة ولو صحت لوجب المصير إليها ".(5/666)
هـ- المذهب الثالث: التفصيل في وجوب الوفاء بالوعد: وهو مذهب المالكية ومن وافقهم.
ذهب فقهاء المالكية فيما يجب الوفاء به من الوعود وما لا يجب إلى التفصيل الآتي، وافترقوا في ذلك إلى فرقتين:
ذهب الفريق الأول: إلى أن الوعد يكون لازما فيجب الوفاء به ويقضي القاضي به على الواعد إذا كان الوعد قد تم على سبب ودخل الموعود له في شيء من سبب الوعد أما إذا لم يدخل الموعود له في شيء من ذلك فلا شيء على الواعد ولا يجب الوفاء به كما لا يقضي عليه القاضي به.
وهو القول الراجح المشهور في مذهب الإمام مالك، وعزاه القرافي إلى الإمام مالك نفسه، وابن القاسم، وسحنون، وعليه المدونة.
قال القرافي في " الفروق" اختلف العلماء في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟ قال مالك: إذا سألك أن تهب له دينارا فقلت: نعم ثم بدا لك- أن لا تفي له – لا يلزمك – ولو كان إفراق الغرماء عن وعد وإشهاد لأجله لزمك لإبطالك مغرما بالتأخير، وقال سحنون: الذي يلزم من الوعد قولك اهدم دارك وأنا سأسلفك ما تبني به، أو أخرج إلى الحج وأنا أسلفك – ما تحج به مثلا – أو اشتر سلعة أو تزوج امرأة وأنا أسلفك- كذا وكذا – لأنك أدخلته بوعدك في ذلك. أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق.. ".
وقال القرافي – أيضا – وبذلك قضى عمر بن عبد العزيز رحمه الله. ونقل من مؤيدي هذا القول هذا المثال، أو قريبا منه: إذا اشترى رجل من آخر كرما، فخاف الوضعية- أي الكساد - فأتى المشتري إلى بائع الكرم ليستوضعه فقال له البائع، بع وأنا أرضيك، فإن باع المشتري الكرم برأس ماله أو بربح فلا شيء على الواعد. وإن باع بالوضعية كان عليه أن يرضيه وإن زعم الموعود له أن أراد شيئا أو قدرًا سماه – أثناء ممارسة عمله – فله ما أراد اتفاقا، وإن لم يكن أراد شيئا معينا أرضاه الواعد بما شاء، وحلف بالله أنه ما أراد أكثر من ذلك.
وقالوا: إن هذا هو رأي أشهب. أما على رأي ابن وهب: فإن على الواعد إرضاء الموعود له بالمثل، وهو ما يكون مرضيا عند الناس، أما لو حلف الواعد أثناء وعده ليرضينه فإن عليه أن يوفيه بما يرضيه ويرضي الناس.
وذهب الفريق الثاني، وهو قول أصبغ ومن وافقه من السلف والخلف إلى أن الوعد يكون لازمًا ويجب الوفاء به ويقضي القاضي به على الواعد إذا تم الوعد على سبب وإن لم يدخل الموعود له في ممارسة شيء من السبب.
وقالوا: إنه مذهب قوي.(5/667)
وحكى الباجي في كتابه " المنتقى " عن أصبغ قوله: كأنه يجعل العدة شيئًا آخر غير الوعد كعادة علماء المالكية الذين يفرقون الموضوع إلى (عدة، ووعد، ومواعدة) أما إن كانت عدة لا تُدْخِل من وعد به في شيء فلا يخلو من أن تكون – مفسرة أو مبهمة – فإن كانت مفسرة، كأن يقول الرجل للرجل، أعرني دابتك إلى موضع كذا. فيقول: أنا أعيرك غدا، أو يقول: علي دين فأسلفني مائة دينار أقضه فيقول: أنا أسلفك – غدا إياها- فهذا قال أصبغ - يحكم بإنجاز ما وعد به، كالذي يدخل الإنسان في عقد.. وظاهر المذهب – المالكي – على خلاف هذا لأنه لم يدخله بوعده في شيء يضطره إلى ما وعده.
وأما إن كانت العدة مبهمة، مثل أن يقول له: أسلفني مائة دينار ولا يذكر حجته إليها، أو يقول: أعرني دابتك أركبها، ولا يذكر له موضعا ولا حاجة، فهذا قال أصبغ- لا يحكم عليه بها.
وإن قال في المسألة الأولى: انكح وأنا أسلفك ما تصدقها، فإن رجع عن ذلك قبل أن ينكح من وعد له، قال أصبغ- يلزم ذلك ويحكم به عليه".
وفي الفروق " لو قال رجل لآخر: إن غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضهم فوعده المقابل، ثم بدا له الرجوع- فعلى رأي مذهب أصبغ الوفاء لأنه وعد على سبب، وعلى مذهب مالك ومن وافقه لا يجب. لأن الموعود له لم يدخل في شيء إلا إذا اعتقد منه الغرماء على موعد أو اشهد بإيجاب ذلك على نفسه.(5/668)
و أدلة هذا المذهب الثالث:
قال أصحابه: إن النصوص الشرعية بهذا الأمر قد تعارضت تعارضًا حادًا فمنها: ما أوجب الوفاء بالوعد مطلقًا، أي سواء كانت مرتبطة بسبب أم لا، وسواء دخل الموعود له في ممارسة السبب أم لا، كلف الموعود له بتكلفة أم لم يكلف ... وهي التي ساقها موجبو الوفاء بالوعد، كأحاديث النفاق ومنها- ما لم يوجب الوفاء به مطلقا، ولم يجعل إخلاف الوعد من الكذب كحديث أبي داود والترمذي والموطأ. كما فهمها الجمهور.
فاحتاج الموقف إلى تفصيل وتكييف وتوفيق بين الأدلة، لاسيما إذا لوحظ نحو قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف 3] والتي قبلها، لأنها نزلت في قوم كانوا يقولون جاهدنا وما جاهدوا وفعلنا أنواع الخيرات وما فعلوا أو قالوا: لو حصل لنا كذا وكذا لنفعلن كذا وكذا ولا يوفون ولا شك أن هذا وأمثاله محرم لأنه كذب، فلاحظوا تلك الناحية، وكذلك لاحظوا كون مخلف الوعد منافقا وكاذبا فحملوا الإخلاف على ظاهره، كما لاحظوا أن تحويل التبرعات المجانية إلى ملازمات قضائية من غير سبب. فأرادوا الجمع بين الأدلة.
فوافقوا رأي من أوجب الوفاء بالوعد إذا كان الوعد مرتبطا على سبب وباشره الموعود له.
ووافقوا رأي من لم يلزم الوفاء بالوعد، فيما عدا ذلك من الوعود المجردة، كما ذكره القرافي في كتاب " الفروق".
وقال ابن الشاط في حاشيته على الفروق ما مؤداه " ينبغي الجمع بين الأدلة وتأويل ما يناقض ذلك، فيحمل حديث المالكي وأبي داود بما يتسق مع الآية وحديث خصال المنافق، وذلك بأن تكون المسامحة في إخلاف الوعد اضطرارًا ".(5/669)
المبحث الرابع: الخلاصة:
الرأي الراجح:
لقد اتضح لنا من خلال ما نقلنا في بحثنا هذا عن أئمة الفقه المشهورين رحمهم الله: أن لهم اتجاهات ثلاثة حول الوفاء بالوعد.
- اتجاه الجمهور الذين يرون استحباب الوفاء بالوعد مطلقا وكراهة الإخلاف فيه كراهة شديدة، وعدم وجوب الوفاء به.
- واتجاه العلماء الذين يرون أن الوعد لازم، والوفاء به واجب.. إلخ.. وهم الذين قد قيل: إن أجلهم الخليفة عمر بن عبد العزيز، وابن شبرمة الفقيه المالكي، وعد منهم تقي الدين السبكي الشافعي، وغيرهم من العلماء الأجلاء.
- واتجاه العلماء الذين فصلوا الوعد إلى وعد مجرد، وغير مجرد. وهم أكثر المالكية.
وتبيين لنا – أيضا- من خلال ما استدل به كل فريق لرأيه من أدلة، وجاهة رأي القائلين بوجوب الوفاء بالوعد مطلقًا. ديانة وقضاء، سواء كان الوعد مقيدا بسبب أو غير مقيد، وذلك من حيث رجحان الأدلة التي استدلوا بها، فإنها أدلة صحيحة وقوية وواضحة كما لا يخفى.
وتبين لنا – أيضا- من ذلك كثرة هذا الفريق وثقل مذاهبهم وأئمتهم، أعني الحنفية قاطبة وغالبية علماء الشافعية، والحنابلة. والإمامية وغيرهم الذين ذهبوا إلى استحباب الوفاء بالوعد وكراهة الإخلاف فيه وعدم لزومه، وقد أجابوا عن أدلة الموجبين إجابات لم يقتنع بها كثير من الأصوليين.
ولكننا قد وجدنا أدلتهم التي استدلوا بها لرأيهم ونقلنا منها ما نقلناه فوجدناها أنها ليست رفيعة الدرجة، إن لم تكن ضعيفتها.
وقد ذكر الترمذي في سند الحديث الذي أخرجه أبو داود أيضًا من حديث زيد ابن أرقم أن فيه مجهولين.
ولم يسلم من الجرح شيء أو حديث واحد مما استدلوا من الأحاديث إلا حديث الموطأ، وقد عرفنا كيف فسره الآخرون.
وتبين لنا من ذلك- أيضا- وجاهة رأي القائلين بالتفصيل حيث توسطوا بين الفريقين، فوافقوا القائلين بالوجوب فيما إذا كان الوعد مصحوبا بسبب فقط، محترمين الأدلة الواردة.
ووافقوا الآخرين إذا كان الوعد مجردا فقط.
وبرأيي المتواضع: أؤيد أو أرجح رأي هؤلاء الذين يقولون بالتفصيل، وأوافقهم من حيث المبدأ من غير تعصب لمذهب.. ولكن لي ملاحظة حول هذا التفصيل لم أر إبداءها قبل أن أجد ما قال علماء القانون العصريون حول الوعود الدولية فإني لم أجد شيئا وأن قل ما قالوه.
فلذا أحببت أن أدخر ملاحظتي إلى وقت المناقشة، وفقني الله وإياكم إلى ما فيه الحق والصواب.
إنه ولي التوفيق.
الشيخ هارون خليف جيلي(5/670)
أهم المراجع
1- القرآن الكريم.
2- التفسير العظيم لابن كثير.
3- تفسير البيضاوي.
4- تفسير الإمام الصاوي.
5- صفوة التفاسير للصابوني.
6- تفسير البيان للطبري (جـ2) .
7- أحكام القرآن للجصاص.
8- أحكام القرآن لابن العربي.
9- المصباح المنير.
10- مختار الصحاح.
11- قاموس المحيط.
12- المنجد في اللغة والأعلام.
13- صحيح البخاري مع فتح الباري العسقلاني.
14- صحيح البخاري مع عمدة القاري للعيني.
15- سنن الترمذي.. تحفة الأحوذي.
16- سنن أبي داود مع عون المعبود.(5/671)
17- إحياء علوم الدين للإمام الغزالي.
18- الأذكار للنووى مع الفتوحات الربانية لابن علان (جـ1) .
19- المحلى لابن حزم.
20- الفروق للقرافي مع حاشيته لابن الشاط (جـ1) .
21- فتح العلي المالك. لعليش (جـ1) .
22- مغنى المحتاج للشربيني.
23- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
24- جامع العلوم والحكم لابن رجب.
25- التفسير الوسيط لنخبة من العلماء.
26- شرح صحيح مسلم للنووي.
27- ياقوت النفيس لابن نفيس.
28- الموطأ لإمام مالك.
29- التمهيد لابن عبد البر.
30- الفتاوى لابن تيمية.
31- إغاثة اللهفان لابن القيم.(5/672)
الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد
إعداد
فضيلة الشيخ الحاج عبد الرحمن باه
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء – (34) ] .
وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل – (91) ] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف (2-3) ] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)) : متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)) (متفق عليه) .
قال فضيلة الشيخ أحمد محمد عساف في كتابه الحلال والحرام في الإسلام ما نصه: الوفاء سمة المؤمنين وعلامة الصادقين وهو أفضل القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله إلى الناس، ولا يتم الوفاء إلا إذا أصدق القول والفعل وبالوفاء تزداد الروابط بين الناس وينتشر الأمان في المجتمع وتسعد الإنسانية ويعم الحب بين البشر ولذلك عظم الله الوفاء وأمر به في كل شيء.
وأمر سبحانه بالوفاء بالعقود التي يتعاقد عليها الناس فيما بينهم من عقد اليمين وعقد النكاح وعقد العهد وعقد البيع والشراء وعقد الشركة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة (1) ] . وبالوفاء بالكيل والميزان {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام (152) ] .
والرسول صلى الله عليه وسلم وهو المشرع الأول كان القدوة الحسنة للناس، لذلك ضرب أروع الأمثلة في الوفاء، يقول عبد الله بن أبي الحمساء ((: ((بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو في مكانه فقال: " يا فتى لقد شققت علي أنا هنا منذ ثلاث أنتظر)) )) رواه أبو داود:(5/673)
وقال صلى الله عليه وسلم محذرا للمؤمنين ومنفرا لهم من عدم الوفاء: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) متفق عليه.
وكان صلى الله عليه وسلم ألزم الناس بالوفاء وأحسنهم وفاء بالعهد، فحينما صالح قريشا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، وكان من ضعف الشروط أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب مع سهيل بن عمرو رسول قريش، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤمنا هاربا من قريش، فلما رأى سهيل أبا جندل أخذ بتلابيبه ثم قال، يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتي هذا إليك، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم صدقت، فجعل يجره ليرده إلى قريش وأبو جندل يصيح بأعلى صوته، يا معشر المسلمين أرد إلى الكفار يفتنوني في ديني؟ فقال له الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم، وعندما جاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو براء وعرض عليه الرسول الكريم الإسلام، فأبى ولكنه طلب من الرسول أن يبعث معه إلى أهل نجد من يعلمهم الدين، فبعث عليه السلام أربعين رجلا، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، فبعثوا بكتاب رسول الله إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه الكتاب مزقه وقتل الرسول، وقتلوا البعثة كلها، ولم ينج منهم إلا عمرو بن أمية، الذي قابل في طريق رجوعه رجلين من بني عامر، فقتلهما ثأرا لأصحابه، ولم يكن يعلم أن معهما كتاب عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى وفاء النبي إلا أن يدفع إلى أهل القبيلتين ديتهما، فوعده يهود بني النضير بالإعانة رياء ونفاقًا، وأرادوا الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينجحوا فحاصرهم المسلمون وأجلوهم عن ديارهم.
لقد غرس الإسلام في نفوس المسلمين الوفاء حتى ولو كان ذلك العهد من عبد مسلم حبشي.
فما أروع هذا الوفاء الذي وفى به نبي الإسلام حتى ولو كان مرًا.(5/674)
* خلاصة الكلام *
معنى الوفاء: قال في كتاب موعظة المؤمنين للشيخ جمال الدين الدمشقي: الثبات على الحب وإدامته إلى الموت معه، وبعد الموت مع الأولاد والأحفاد.
((روي أنه صلى الله عليه وسلم أكرم عجوزًا دخلت عليه، فقيل له في ذلك فقال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة وإن كرم العهد من الدين)) .
ومن الوفاء الإيثار على نفسه مع وجود الحاجة. {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر (9) ] في التواصل مع أخيه.
ومن الوفاء ألا يتغير حاله وإن ارتفع شأنه كما قال الشاعر:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا
من كان يألفهم بالمنزل الخشن.
واعلم أنه ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين بل من الوفاء له المخالفة والنصح لله.
ومن آثار الصدق والإخلاص وتمام الوفاء أن تكون شديد الجزع من المفارقة نفور الطبع عن أسبابها كما قيل:
وجدت مصيبات الزمان جميعها
سوى فرقة الأحباب هينة الخطب.
ومن الوفاء أن لا يسمع بلاغات الناس على صديقه.
ومن الوفاء أن لا يصادق عدو صديقه.
قال الشافعي رحمه الله: " إذا أطاع صديقك عدوك فقد اشتركا في عداوتك".(5/675)
ولقد نزل في القرآن الكريم آيات كثيرة تذم عدم الوفاء.
قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة (100) ] .
قال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف (102) ] .
قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة (12) ] .
قال تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: (10) ] .
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: (107) ] .
قال طه عبد الله العفيفي في المجلد الأول من وصايا الرسول: "وكن وفيا لعهدك حتى تكون من الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ومن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وحسبك أن تعلم أن الوفاء بالوعد من صفات الله عز وجل الذي يقول:
{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم (47) ] ويقول: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة (111) ] .
ومن صفات الرسل الكرام، قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم (36،37) {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54] .
وحتى تكون متصفا بهذه الصفة الحميدة إليك هذا الخبر الذي يحكي: أن رجلا اقترض من غيره مالا ووعده أن يرده إليه في ميعاد كذا ولم يحضر المستدين شاهدا وضامنا له إلا الله ورضي صاحب المال بالله شاهدا وضامنا، ولحسن نية المقترض هذا في السداد قواه الله وأغناه، وجاء ليرد ما عليه فتعذر عليه الوصول لبلد الدائن من أجل تلف القنطرة التي يعبر الناس عليها ولخوفه من الله ومن خلف الوعد هداه تفكيره إلى أن يضع المال في جوف خشبة ثم سدها سدا محكما وقال: اللهم أنت الشاهد والضامن فأسألك أن توصل الحق لصاحبه، ورمى بالخشبة في الماء وشاءت إرادة الله إكراما لهذا الرجل الوفي أن يخرج الدائن إلى البحر مصادفة فوجد الخشبة وفتحها فوجد فيها المال فحمد الله كثيرا وأثنى على المقترض الوفي ودعا له بخير، ولكن المقترض لم تطب نفسه بما عمل وظن أن المال لم يصل إلى صاحبه، فجاء بعد إصلاح القنطرة إليه فقال له الدائن يا أخي بارك الله لك قد أدى الله عنك وأوصل المال إلي لحسن نيتك وعزمك على السداد فانصرف راشدًا.
وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) .
فلا تنس هذا وكن وفيًا لعهدك حتى لا تقع في شباك النفاق.
ففي الحديث " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر " رواه البخاري ومسلم.. ..
الحاج / عبد الرحمن باه(5/676)
الوفاء بالوعد
إعداد
الشيخ شيت محمد الثاني
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فرض على العباد أداء الأمانة وحرم عليهم المكر والخيانة وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من يرجو بها النجاة يوم القيامة وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي ختم الله به الرسالة صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الموصوفين بالعدالة وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فقد اخترت أن أكتب في هذا الموضوع الشريف وهو: الوفاء بالوعد الذي هو فضيلة من الفضائل الحميدة المطلوبة من المؤمنين، لأنه أمانة فرضها الله تعالى كرد الودائع وأمرهم أن يؤدوها حق الأداء وأوجب عليهم حفظها لأنها اعظم وسائل الفلاح والنجاح، ومن الوفاء بالوعد أن يوجب الإنسان على نفسه شيئًا يتبرع به من عبادة أو صدقة أو دين أو نذر أو غير ذلك، أو وعد به أخاه من إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات مما لو لم يوجبه على نفسه لم يلزمه، وإذا نذر شخص شيئًا بنفسه فعليه أن يوفي نذره، وقد قال الله تعالى في شأن المؤمنين الصالحين {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان (7) ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى)) .
فالمؤمن لابد له من الوفاء بالوعد الذي أوجبه على نفسه، وكان المثل يضرب بوفاء العربي، لأن قبائل العرب كانوا يحفظون العهد ويوفون بالوعد ويكرهون الغدر، وفي الكتب الأدبية والتاريخية أمثلة كثيرة تدل على مغالاة العرب في الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة، ولا عجب: فالأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
إن ضياع الوفاء وضياع الأمانة سبب ضياع الأمور بين عالمنا اليوم، ولعدم الوفاء يخون المرء بني جنسه ويضيع الأمن بين الزوج والزوجة وبين المعلم وتلامذته وكذلك بين البائع والمشتري وبين الحكومة وموظفي الدولة وبين الأئمة في المساجد وجماعاتهم، وبين سائقي السيارات والطائرات وركابها وبين المحب وحبيبه، فكان ذلك مما يسبب تأخر المسلمين وعدم الاستقامة في العالم أجمع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) .(5/677)
فإذا أردنا عزة الإسلام ورفعة شأنه الأعلى، فعلينا بالوفاء وحفظ الأمانة حتى تكون معاملتنا مع الغير مأمونة محفوظة في إنشاء المصانع والمكاتب والمطابع والأسواق المالية والمعاملات في البيع والشراء والبنوك الإسلامية وبناء المساجد والمنازل والمساكن للضيوف والمسافرين ومستأجريها.
وقد حثنا الإسلام على الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة حتى نكون مسلمين بمعنى الإسلام، ومن الناس من ليسوا مسلمين وكان لديهم الإسلام ولكن في التعامل، وقد علمنا في الحقيقة أن الدين الإسلامي دين الدنيا والآخرة إرشادًا وتعليما.
لا شك أن للوفاء بالوعد وحفظ الأمانة آثارًا ظاهرة في حياة الإسلام والمسلمين، وما تؤكده أصوات المؤمنين التي ترتفع في الحاضر داعية إلى الأخذ بأحكام الدين منهاجًا للحياة يحمي المجتمع الإسلامي من التيارات، ولا شك أن الرغبة الشديدة لدى الشعوب المسلمة في العودة للأخذ بأحكام الدين، من شأنها أن تمهد الطريق أمام الكثير من القيم والأخلاق والفضائل التي أولها الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة، لتأخذ مكانها في حياة الناس دون اضطراب أو قلاقل، لأن الواقع المعاصر داخل بلاد العالم الإسلامي يؤكد وجود صحوة إسلامية طيبة تتمثل في الرغبة القوية لدى الشعوب المسلمة في العودة إلى أحكام الدين الحنيف، وعلينا أن لا نفرح أنفسنا إلى أقوال الذين قالوا إن أكثر الذين تمسكوا بالدين أقل أخلاقًا من الذين تخلوا عنه وتمسكوا بعلم الأخلاق، وفي الحقيقة أنهم بنوا حكمهم هذا على قياس الاستقراء والتمثيل غير أن كلامهم هذا لا يرفض كله كما لا يقبل كله.
وقد قيل إن الغربيين اليوم أحسن أخلاقًا في الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة وأدائها مع حسن المعاملة في البيع والشراء وفي الصناعات ورعاية حقوقها، ومن أراد التحقيق فليقارن بين معاملة التجار المسلمين وبين معاملة التجار الغربيين في أوروبا وأمريكا يجد الفرق واضحًا، وكذلك الأمر في الأعمال الإدارية، ولعل ذلك مما حمل الإمام محمد عبده على القول عند رجوعه إلى بلاده من أوروبا في أوائل هذا القرن: " وجدت هناك الإسلام ولا مسلمين، وهنا المسلمين ولا إسلام" فإن واجب المسلمين في هذا المجال عظيم ولا بد من الانطلاق لتحقيق الغايات المرجوة، ويجب اعتماد القيم والتعليم الإسلامي منهاجًا لتيسير حياة الناس في هذه الآونة.
وإذا كانت الرغبة الشديدة لدى الشعوب المسلمة في العودة للأخذ بأحكام الدين الإسلامي، فعلينا أن نرجع إلى الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة الذي أمرنا بهما القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومن الناس من هو ظالم لنفسه ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، كبعض أئمة الجوامع وجماعاتهم يطلبون مساعدات مادية كانت أو معنوية لبناء المساجد أو المدارس أو لفتح المصنع الجديد، ومنهم الذين يجمعون الزكاة من أصحابها ويعدون بتوزيعها للفقراء والمساكين واليتامى وأبناء السبيل، ولا يوفون بالوعد ولا يؤدون الأمانة إلى أهلها، ويقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، وينسون قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل (.9) ] ، وفي الحديث الشريف: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".(5/678)
ولقد أذن الإسلام للمسلمين بطلب الرزق والأموال والثروة على الوجه الحلال دون الحرام، وأمر باكتساب المعيشة والتعاون بين الأفراد والجماعات، وفرض الله الزكاة على الأغنياء أن يؤدوها للفقراء والمساكين والمستحقين لها والتكافل الاجتماعي في إطعام الجائع والمحتاج، وأمرنا الإسلام بطلب الرزق على الوجه الشرعي دون الحرام لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة (.1) ] ، وقال أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة (172) ] ، وفي الحديث الشريف: " نعم المال الصالح للرجل الصالح ". وقال أيضًا: " التمسوا الرزق في خبايا الأرض"، ثم قال: " ما أكل أحد طعامًا قط خيرا من أن يأكل من عمل يده"، وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: " لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة ".
وقد نهى الإسلام المسلمين عن أكل الأموال الحرام كالربا والظلم في البيع والشراء وأكل حقوق العمال في معاملاتهم وتجاراتهم وأرباحهم، وأن لا يطففوا المكيال والميزان، وقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين (1-5) ] .
وقد أقر الإسلام الملكية الخاصة على الوجه الأكمل والمشروع من الصيد والصناعة والتجارة والزراعة والميراث الصحيح، وأوجب الإسلام على الدولة أن تهتم بأمور البيع والشراء في التجارة والصناعة، وحرم الإسلام السرقة بكل وجه من الوجوه، ونهى الإسلام عن الغش والغدر في التعامل التجاري والصناعي، فأصحاب المطابع الذين يأخذون الوعد والأمانة لطبع الكميات من العدد الكبير من الكتب المؤلفة فهم كالوراقين والنساخين والكاتبين في ما ما مضى من الزمان فلهم أجر أعمالهم التي تواعدوا عليها من المؤلف ولكن للأسف كان منهم من يغش ويغدر.
والملكية الخاصة مراعاة حقوق التأليف وحقوق الطبع للمؤلف، وقد أحسن الغربيون عندما وضعوا القانون لحماية حقوق التأليف والطباعة، ومع ذلك فإن بعض المطابع تخون وتغدر كما يسرق بعض العلماء من تآليف غيرهم، والذي يسرق التأليف أو الطبع أشد ممن يسرق البيضة والجمل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الجمل فتقطع يده)) . فمهما فسروا البيضة والجمل فإنه يلحق به سرقة التأليف والطبع، وأكثر أصحاب المطابع يطبعون عددًا أكثر من العهد الذي كان بينهم وبين صاحب الكتاب والمؤلف ويبدأون في بيع الكتب بلا إذن المؤلف ولا يوفون بالوعد الذي سبق بينهما ولا يحفظون حقوق طبع الكتاب مع أنهم يكتبون على كل نسخة من الكتاب: " حقوق الكتاب محفوظة للمؤلف".
فلهذا وجب علينا حفظ الأمانة والوفاء بالوعد، كما أمرنا الإسلام بالعدل والإحسان وحفظ الحقوق بين الفرد والجماعة، وحرم الإسلام الظلم والخيانة في كثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة مثل قوله تعالى:
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: (188) ] .(5/679)
فإذا أراد المسلمون العودة إلى الإسلام وحقيقة العدل وحفظ الأمانة والوفاء بالوعد، فعلينا باتباع أحكام الكتاب والسنة المطهرة مع تطبيقها فيكون لدينا الإسلام ونحن مسلمون وقد ظهر وثبت الحق في هذه المعاصرة الحاضرة أن أمة الإسلام خاتمة الأمم وخير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وقد أكمل الله لها الدين وأتم عليها النعمة واختار لها أماكن طيبة مقدسة قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: (3) ] .
فلهذا على المسلمين جميعًا أن يحفظوا الأمانة والوفاء بالوعد تجاه ربهم وأنفسهم ليكونوا قدوة حسنة صالحة لغيرهم، كما أوجب عليهم أن يتمسكوا بتعاليم الدين الإسلامي والعمل بالشريعة الإسلامية والاستقامة بالعدل والصدق وقال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب (23) ] .
فلتكميل الموضوع في هذا المجال العظيم جمعت هذه الآيات الكريمة الواردة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة في ذكر الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة على هدي الكتاب والسنة مع تكميلها بآراء السلف وعلماء الإسلام الصالحين مع تطبيق ذلك بالشريعة الإسلامية راجيًا من المولى العلي القدير أن أنال الثواب والغفران إنه لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
والمؤمن الحقيقي هو الذي يؤدي الأمانة ويرد الودائع فيما بينه وبين عباد الله وبني جنسه، أدوا الأمانة فإنكم عنها مسئولون أمام الله تعالى، وعلى حسب القيام بها أو التفريط فيها تجزون، الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة التي عرضها الله تعالى على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، وإن الدين الإسلامي يريد من أتباعه أن يتوفر بينهم جو من الطمأنينة والأمن والاستقرار، بحيث يكون كل واحد منهم آمنًا على نفسه وماله وعرضه ومصالحه، كما يريد لهم أن يكونوا عند عقودهم والتزاماتهم يحافظون ويوفون بها حتى تَسُود بينهم الثقة، ويعامل بعضهم بعضًا بروح الوفاء والإخلاص والأخوة والمودة وحتى يطمئنوا جميعًا في معاملاتهم.
ونظرًا لأهمية المحافظة على الأمانة ورعاية الحقوق والوفاء بالوعد مع الالتزام بالآثار الطيبة في حياة الناس عامة وفي حياة المسلمين بصفة خاصة، نرى القرآن الكريم والسنة المطهرة يوليانها أهم العناية وأعظم الاهتمام يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال (27) ] .
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، [النساء (58) ] . ثم قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة (1) ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) ويقول: ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)) .(5/680)
والإسلام يحث المسلم على المعاملة الأدبية التي قاعدتها الالتزامات الأدبية مثل الوفاء بالوعد والصدق في القول وغير ذلك من الصفات الحميدة، فإذا وعد الإنسان أخاه المسلم أو غير المسلم كان عليه حقًا الوفاء بوعده عملًا بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء (34) ] ، وقد جاء في وصايا الحكماء والأدباء أمثلة مختلفة تحريضًا على الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة مثله قولهم: " وعد الحر دين عليه "، وأن الوعد كورق الشجر والوفاء به كالثمرة، وكن يا أيها المسلم بطيء الوعد سريع الوفاء، إن الوفاء بالوعد دين توجب عليك الشهامة والمروءه أداءه، ولهذا ينبغي أن يفكر الإنسان قبل أن يعد فإذا ما وعد تحتم عليه أن ينجز وعده مهما كانت الموانع والعقبات، وقال الشاعر:
إذا قلت في شيء نعم فأتمه
فإن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل (لا) تسترح وترح بها
لئلا يقول الناس إنك كاذب
إن الإسلام يعتبر أرباب الأعمال والعمال إخوة متحابين متعاونين، والإسلام يأمر أن يؤدي المسلم أعماله على الوجه المطلوب، وأن لا يقصر في تأدية حقوق العامل، ويدفع له أجره كاملًا في وقته المحدود، وعلى القدر والمبلغ الذي اتفقا عليه، حتى تكون العلاقة طيبة بين العمال وأرباب الأعمال فتسودها المحبة والأخوة لا روح الاستغلال والكراهية والاستهاننة التي تخلق الشحناء وتولد البغضاء بين طبقات الأمة كما هو مشاهد اليوم مما تنشأ عنه المفاسد التي تكون عواقبها وخيمة على الجميع، وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) . ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، وإن الموت والشهادة في سبيل الله هما أرفع درجة الأعمال عند الله وإن الله تعالى لا يكفرن إثم الخيانة ولا يدخلن صاحبه في الجنة إلا برحمته تعالى وهو أرحم الراحمين)) .
فالأمة العربية الإسلامية أولى الناس للوفاء بالوعد وحفظ الأمانة لأن المسلمين قد ورثوا ذلك من الأنبياء والمرسلين، وقد جاء الدين الإسلامي والقرآن الكريم بلغة العرب وبواسطة النبي العربي القرشي الهاشمي، والإسلام دين الله الذي أرسله الله إلى كافة الناس أجمعين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء (107) ] ، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: (45) ] ، وقال أيضًا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران (19) ] ، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران (85) ] .
فإن الإيمان بالله ورسوله والملائكة والكتب وجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام واليوم الآخر والقدر خيره وشره أمانة على كل مسلم ومسلمة، وإن خمس الصلوات المفروضة والتوحيد والزكاة والحج وصوم رمضان أمانة ومن لم يؤد هذه الأمانات على الوجه الأكمل فهو ناقص الإيمان، وكذلك الوضوء والغسل من الجنابة ثم الوزن والكيل " وما خفي من الشرائع" أمانة وأشد في ذلك الودائع.(5/681)
الوفاء بالوعد: هو عدم الجور والظلم والخيانة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من أحد يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلم يعدل فيهم إلا كبه الله في النار)) ، وقال أيضا ((اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) . ثم قال: ((إيما رجل تزوج امرأته على ما قل من المهر أو كثر وليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله وهو زان بها)) ، وقال: إن الله عز وجل يقول: ((أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما)) وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل)) وهذا لصدقه وأمانته ووفائه للوعد.
الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة من الأخلاق الإسلامية التي تجعل الإنسان يؤدي إلى كل ذي حق حقه حيوانًا كان أو إنسانًا فضلًا عن قيامه بحقوق الله رب العالمين وبهذا يكون المسلم كاملًا في وضعه السليم الصحيح.
وما عدا ذلك فلا تطلق عليه صفة الإنسانية الكاملة، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة أحاسنكم أخلاقًا)) ، والإسلام يطلب من المسلم الحقيقي أن يوفي بالوعد ويحفظ الأمانة مع الصدق والعدل في أعماله وفي جميع ما يتحدث به لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر (55) ] ، وقد قيل: إن سلمان قال لأبي الدرداء: " إن لربك عليك حقًا وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه". فقال صلى الله عليه وسلم ((صدق سلمان)) .(5/682)
والمسلم لا يبالي برضى الناس عليه أو سخطهم، وإنما الذي يبالي به هو أن يقوم بحق الله عليه متوكلًا على الله وحده، الوفاء بالوعد معناه: الثبات على الحب والصدق حتى الموت وبعد الموت تكون مع أولاد أصدقائك وإنما يراد بذلك الجنة في الآخرة، فإذا انقطع الحب والصدق قبل الموت حبط العمل وضاع السعي والمرؤة، ومن الوفاء بالوعد أن لا تسمع بلاغات الناس على صديقك وأن لا تصادق عدو صديقك، كما قال الشافعي رحمه الله: " إذا أطاع صديقك عدوك فقد اشتركا في عداوتك" فعليك بحفظ الأمانة مع الالتزام، بوفاء العهد، فإن ولاة الأمور صغارا كانوا أو كبار رؤساء أو مديرين يقومون بالعدل والصدق فيما تولوا عليه وأن يسيروا في ولايتهم حسبما تقتضيه المصلحة في الدين والدنيا وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق بدون قسم ((لو أن فاطمة بنت محمد، صلى الله عليه وسلم سرقت لقطع يدها)) ، أقسم على ذلك علنا وهو يخطب الناس حينما شفع إليه في رفع الحد عن المرأة التي سرقت من بني مخزوم، وقد أقسم النبي على ذلك تشريعا للأمة الإسلامية وتبيانا للمنهج السليم الذي يجب أن يسير عليه ولاة الأمور.
وفقنا الله وإياكم لأداء الأمانة والوفاء بالوعد وحمانا الله جميعا من الإضاعة والخيانة وغفر الله لنا ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
الشيخ شيت محمد الثاني(5/683)
مناقشة الأبحاث
الوفاء بالوعد
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لدينا اليوم موضوعان مترابطان: أحدهما في بحث الوفاء بالوعد وهو تأسيس للموضوع الذي أجل من الدورة الرابعة وهو " بيع المرابحة للآمر بالشراء". وكما هو معلوم فإن الوفاء بالوعد لا يبحث على أنه موضوع مستقل، نصدر به قرارا بخصوصه، ولكن يبحث على وجه التأسيس والتأصيل لبيع المرابحة، ولهذا فإنه قدم في العرض على موضوع بيع المرابحة والعارض هو الأستاذ نزيه حماد فليتفضل.
الدكتور نزيه كمال حماد:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن تحرير الأحكام الشرعية المتعقلة بالوعد من حيث وجوب الوفاء به ديانة أو استحاببه، أو من حيث القوة الملزمة له في القضاء والحكم تقتضينا تناول ألفاظه الاصطلاحية المتعددة التي يستعملها سائر الفقهاء أو بعضهم بالبيان والتفصيل وهي: العدة والمواعدة والوعد، وذلك من أجل الوصول إلى فقه محكم في المسألة، بعيد عن الاختلاط والتداخل، قد تميز فيه محل الوفاق عن مواطن النزاع، وتبين فيه الموقف الأخلاقي والموجب الدياني من الحكم القضائي حيث يوجد التباين أو يقع الفرق، وبذلك يمكننا إبراز الأحكام الشرعية في القضية واضحة جلية، لا لبس فيها ولا خلل يعتريها.
وإن كون هذه الألفاظ الثلاثة مشتقة من مادة لغوية واحدة تدل في أصل الوضع " على ترجية بقول" كما قال ابن فارس لا يستلزم كون دلالتها الاصطلاحية واحدة، لأن تواضع الفقهاء أو بعضهم على مدلول شرعي متميز لكل كلمة قد نقل معناها اللغوي وحوله إلى معنى إصطلاحي جديد، ربما كان أخص أو أضيق شمولا واستيعابا.(5/684)
أ- العدة: العدة في لغة العرب معناها الوعد، يقال: وعدت فلانًا بكذا ... والاسم منه العدة، فالعدة اسم منقوص من الوعد يحمل معناه دون زيادة أو نقصان، أما في الاصطلاح الفقهي، فقد درج على استعمالها المالكية بدلالة خاصة وهي الإعلان عن رغبة الواعد في إنشاء معروف في المستقبل يعود بالفائدة والنفع على الموعود، قال الحطاب في كتابه " تحرير الكلام في مسائل الالتزام " وأما العدة فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئا الآن، وإنما هي كما قال ابن عرفة إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل.
فالعدة إذن عند فقهاء المالكية هي عبارة عن تصرف شرعي قولي يتم بالإرادة المنفردة قوامه تعهد شخص بلفظ الأخبار بأن يسدي لغيره معروفا مجانا دون مقابل، في المستقبل لا في الحال.
أما حكم العدة من حيث وجوب الوفاء بها قضاء أو ديانة أو استحباب ذلك، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على خمسة أقوال:
أحدهما: يقضى بها مطلقا، وهو مذهب القاضي سعيد بن أشوع الكوفي الهمذاني، وقول عند المالكية، ورأي ابن شبرمة كما نقل ابن حزم في المحلى.
والثاني: يجب الوفاء بها ديانة لا قضاء، وهو رأي الإمام تقي الدين السبكي الشافعي، قال: ولا أقول يبقى دينا حتى يقضى من تركته، وإنما أقول يجب الوفاء تحقيقا للصدق وعدم الإخلاف، وقد استشكل الحافظ ابن حجر هذه المقولة فقال: وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي يأثم بالإخلاف. وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك؟ أي في القضاء، فأجاب الإمام السخاوي على ذلك في جزئه المسمى " التماس السعد في الوفاء بالوعد" فقال: قلت ونظير ذلك نفقة القريب، فإنها إذا مضت مدة يأثم بعدم الدفع ولا يلزم به، ونحوه قولهم في فائدة القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، تضعيف العذاب عليهم في الآخرة مع عدم إلزامهم بالإتيان بها.(5/685)
والقول الثالث: إن الوفاء بها مستحب لا واجب، وهو مذهب جماهير العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وبعض المالكية وغيرهم، جاء في العقود الدرية لابن عابدين: سئل فيما إذا وعد زيد عمرًا أن يعطيه غلال أرضه الفلانية فاستغلها وامتنع من أن يعطيه من الغلة شيئا فهل يلزم زيدا شيء بمجرد الوعد المزبور؟ الجواب لا يلزمه الوفاء بوعده شرعا، وإن وفى فبها ونعمت، وفي التمهيد لابن عبد البر: وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وعبيد الله بن الحسن وسائر الفقهاء، أما العدة فلا يلزمه فيها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية: أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض ولصاحبها الرجوع فيها، ثم قال: إن العدة واجب الوفاء بها وجوب سنة وكرامة، وذلك من أخلاق أهل الإيمان، وقد جاء في الأثر: " وأي المؤمن واجب "، أي واجب في أخلاق المؤمنين، وإنما قلنا: إن ذلك ليس بواجب فرضا، لإجماع الجميع على أن من وعد بمال ما كان لم يضرب به الغرماء كذلك قلنا: إيجاب الوفاء به حسن في المروءة ولا يقضى به ولا أعلم خلافا أن ذلك مستحسن، يستحق صاحبه الحمد والشكر على الوفاء به، ويستحق على الخلف في ذلك الذم، وقد أثنى الله عز وجل على من صدق وعده ووفى بنذره: وكفى بهذا مدحًا وبما خالفه ذمًا.
والقول الرابع: إن كانت العدة مرتبطة بسبب، ودخل الموعود في السبب، فإنه يجب الوفاء بها كما يجب الوفاء بالعقد، أما إذا لم يباشر الموعود السبب فلا شيء على الواعد، كما إذا وعده بأن يسلفه ثمن دار يريد شراءها، فاشتراها حقيقة، أو أن يقرضه مبلغ المهر في الزواج، فتزوج اعتمادا على هذا الوعد، ففي هذه الحالات وأمثالها يلزم الواعد قضاء بالوفاء بما وعد به، أما إذا لم يباشر الموعود تلك الأسباب، فلا يلزم الواعد بشيء. وهذا القول هو المشهور والراجح في مذهب مالك، وعزاه القرافي إلى مالك وابن القاسم وسحنون، وقد أشار العلامة محمد العزيز جعيط إلى أن هذا القول المشهور ليس مبنيا على أساس وجوب الوفاء بالوعد- أي أن في الوعد قوة ملزمة للواعد كما هو الشأن في العقد- بل هو مبنى على عدم وجوب الوفاء به وإنما قضى به في صورة ما إذا أدخله في شراء عقار أو تزوج امرأة أو غير ذلك.
لأنه تسبب له في إنفاق مال قد لا يتحمله ولا يقدر عليه، رفعا للضرر عن الموعود المغرر به، وتقريرا لمبدأ تحميل التبعة لمن ورطه في ذلك، إذ لا ضرر ولا ضرار.(5/686)
والقول الخامس: إن كانت العدة مرتبطة بسبب، وجب الوفاء بها قضاء، سواء دخل الموعود في السبب أو لم يدخل فيه، وإلا فلا، فلو قال شخص لآخر: أعدك بأن أعيرك بقري ومحراثي لحراثة أرضك، أو أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، أو قال الطالب لغيره: أريد أن أسافر أو أن أقضي ديني أو أن أتزوج فأقرضني مبلغ كذا فوعده بذلك ثم بدا له فرجع عن وعده قبل أن يباشر الموعود السبب الذي ذكر من سفر أو زواج أو وفاء دين أو حراثة أرضٍ ... إلخ، فإن الواعد يكون ملزما بالوفاء، ويقضى عليه بالتنفيذ جبرا أن امتنع، أما أن كانت العدة على غير سبب، كما إذا قلت: أسلفني كذا، ولم تذكر سببا، أو أعرني دابتك أو بقرتك ولم تذكر سفرا ولا حاجة، فقال: نعم، أو قال الواعد من نفسه: أنا أسلفك كذا أو أهب لك كذا ولم يذكر سببا، ثم رجع عن ذلك، فلا يلزم بالوفاء بها، قال القرافي: وبذلك قضى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وهو قول في مذهب المالكية وقريب منه قول الإمام أصبغ منه.
ب- المواعدة: المواعدة في اللغة تعني نشوء وعدين متقابلين من شخصين، فهذا يعد فلانا بكذا، والآخر يعده بكذا في مقابلة ذلك، أما في الاصطلاح الفقهي فهي عبارة عن إعلان شخصين عن رغبتهما في إنساء عقد في المستقبل تعود آثاره عليهما.
وأكثر الفقهاء استعمالا لهذا المصطلح المالكية. وقد عبر عنها في النكاح الحطاب بقوله: المواعدة أن يعد كل واحد منهما صاحبه بالتزويج، فهي مفاعلة، لا تكون إلا من اثنين. فإن وعد أحدهما دون الآخر، فهذه العدة، وبهذا افترقت المواعدة عن العدة التي سبق بيانها من حيث كون الأولى لا تنشأ إلا باجتماع رغبة طرفين، بينما تتم العدة بإعلان الرغبة من طرف واحد، وقد ذكر الفقهاء المواعدة في مسائل عديدة منها: المواعدة على البيع وقت نداء الجمعة، والمواعدة على بيع ما ليس عند الإنسان.
ومع أن الفقهاء اتفقوا على عدم مشروعية بعضها، كالمواعدة على النكاح في العدة، واختلفوا في جواز بعضها الآخر كالمواعدة في الصرف ونحوها، فإنه لم ينقل عن أحد منهم- سواء كان من المجيزين أو من المانعين- قول بأن في المواعدة قوة ملزمة لأحد المتواعدين أو لكليهما، لأن التواعد على إنشاء عقد في المستقبل ليس عقدا، وفي ذلك يقول ابن حزم: والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة، وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا، لأن الواعد ليس بَيِّعًا.
على أن المتواعدين لو اتفقا على أن يكون العقد الذي تواعدا على إنشاءه في المستقبل ملزما للطرفين من وقت المواعدة، فإنها تنقلب إلى عقد، وتسري عليها أحكام ذلك العقد، إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.(5/687)
ج- مصطلح الوعد: الوعد في اللغة معناه الإخبار عن أمر في المستقبل سواء أكان خيرًا أم شرًا، بخلاف الوعيد، فإنه لا يكون إلا بشر. وقيل: الوعد والوعيد واحد، ويستعمل الفقهاء كلمة " الوعد" بنفس مدلولها اللغوي، بمعنى أن الوعد قد يكون بمعروف، مقرض أو تمليك عين أو منفعة مجانا للموعود، وقد يكون بصلةٍ أو بر أو مؤانسةٍ كعيادة مريض وزيارة صديق وصلة رحم ومرافقة في سفر ومجاورة في سكن، وقد يكون بنكاح، كما في خطبة النساء، وقد يكون بمعصية كما إذا وعد شخصا بأن يقتل له خصمه أو غريمه أو يتلف ماله ظلمًا وعدوانًا ونحو ذلك.
أما الحكم التكليفي للوعد من حيث الوفاء به، فهو محل خلاف بين الفقهاء، وإذا أردنا تحرير محل النزاع في المسألة فلابد من البيان والتفصيل الآتي:
إذا كان الوعد بمعروف- وهو ما يسمى عند المالكية بالعدلة- أو كان من قبيل المواعدة، فقد سبق عرض آراء الفقهاء فيه على الخصوص.
أما ما عدا ذلك من ضروب الوعد وصوره وحالاته، فإنه لا خلاف بين الفقهاء:
1- في إن من وعد بشيء منهي عنه، فلا يجوز له الوفاء بوعده، بل يجب عليه إخلافه.
2- وإن من وعد بشيء واجب شرعا، كأداء حق ثابت أو فعل أمر لازم، فإنه يجب عليه إنجاز ذلك الوعد.
3- وإن من وعد بشيء مباح أو، مندوب إليه، فينبغي له أن يفى بوعده، حيث إن الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق وخصال الإيمان، وقد أثنى المولى جل وعلا على من صدق وعده، وكفى به مدحا، وبما خالفه ذما.
ولكن هل الوفاء بذلك واجب أم مستحب أم غير ذلك؟ اختلف الفقهاء في ذلك على خمسة أقوال:
أحدها: أن الوفاء بالوعد واجب، قال القاضي ابن العربي: أجل من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز. وقد حكى هذا القول عن ابن شبرمة - حكاه ابن حزم في المحلى وبرهان الدين ابن مفلح في المبدع- وإليه ذهب العلامة تقي الدين السبكي، وهو وجه في مذهب أحمد اختاره الإمام تقي الدين ابن تيمية، وقول في مذهب المالكية صححه ابن الشاط في حاشيته على الفروق، وحجتهم على هذا الرأي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] . وما روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) .(5/688)
والقول الثاني: إن الوفاء بالوعد واجب إلا لعذر، وهو رأي القاضي ابن العربي. قال: والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر. وقال: وإذا وعد وهو ينوي أن يفي فلا يضره إن قطع به عن الوفاء قاطع، كان من غير سبب منه، أو من جهة فقر، اقتضى ألا يفي للموعود بوعده، وعليه يدل حديث أبي عيسى- أي الترمذي - عن زيد بن أرقم: ((إذا وعد الرجل وهو ينوي أن يفي به، فلم يف فلا جناح عليه)) . وهو غريب ضعيف، وإلى هذا الرأي مال الإمام الغزالي، حيث قال في الوعد: فلابد من الوفاء إلا أن يتعذر، ثم نزل النفاق المذكور في الحديث " وإذا وعد أخلف " على من ترك الوفاء بالوعد من غير غدر.
والقول الثالث: إن الوفاء بالوعد مستحب، فلو تركه فاته الفضل، وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة، ولكن لا يأثم، وهو رأي جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم، قال ابن علان الشافعي: قد تقرر في مذهبنا أن الوفاء بالوعد مندوب لا واجب، وجاء في المبدع لبرهان الدين ابن مفلح: لا يلزم الوفاء بالوعد، نص عليه – أي الإمام أحمد - وقاله أكثر العلماء.
والقول الرابع: إن الوفاء بالوعد أفضل من عدمه إذا لم يكن هناك مانع، وهو رأي الإمام أبي بكر الجصاص.
والخامس: إن الوفاء بالوعد المجرد غير واجب، أما الوعد المعلق على شرط، فإنه يكون لازما وهو مذهب الحنفية. جاء في الأشباه والنظائر لابن نجيم: وفي القنية إن وعده أن يأتيه، فلم يأته لا يأثم، ولا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقا، وجاء في الفتاوى البزازية: إن المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة. ونصت المادة (84) من مجلة الأحكام العدلية: المواعيد بصورة التعاليق تكون لازمة، مثال ذلك: لو قال شخص لآخر ادفع ديني من مالك، فوعده الرجل بذلك، ثم امتنع عن الأداء، فإنه لا يلزم الواعد بأداء الدين، أما لو قال رجل لآخر: بع هذا الشيء لفلان، وإن لم يعطك ثمنه فأنا أعطيه لك، فلم يعطه المشتري الثمن، لزم الواعد أداء الثمن المذكور بناء على وعده.
وأساس ذلك أن الإنسان إذا أنبأ غيره بأنه سيفعل أمرا في المستقبل مرغوبا له، فإذا كان ذلك الأمر غير واجب عليه، فإنه لا يلزمه بمجرد الوعد، لأن الوعد لا يغير الأمور الاختيارية إلى الوجوب واللزوم، أما إذا كانت المواعيد مفرغة في قالب التعليق، فإنها تلزم لقوة الارتباط بين الشرط والجزاء، من حيث إن حصول مضمون الجزاء موقوف على حصول شرطه، وذلك يكسب الوعد قوة، كقوة الارتباط بين العِلِّية والمعلولية، فيكون لازما.(5/689)
وحكى العلامة الحموي في شرحه على الأشباه والنظائر: إن الوعد إذا صدر معلقا على شرط، فإنه يخرج عن معنى الوعد المجرد، ويكتسي ثوب الالتزام والتعهد، فيصبح عندئذ ملزما لصاحبه، قال: لأنه إذا كان معلقا يظهر منه معنى الالتزام، كما في قول: إن شفيت أحج، فشفي يلزمه. ولو قال: أحج، لم يلزمه بمجرده، على أن الحنفية إنما اعتبروا الوعود بصور التعاليق لازمة إذا كان الوعد مما يجوز تعليقه بالشرط شرعا حسب قواعد مذهبهم، حيث إنهم أجازوا تعليق الإطلاقات والولايات بالشرط الملائم دون غيره، وأجازوا تعليق الإسقاطات المحضة بالملائم وغيره من الشروط، أما التمليكات- كالبيع والإجارة والهبة ونحوها – وكذا التقييدات، فإنه لا يصح تعليقها شرعا بالشرط عندهم، فليتأمل.
وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن النافين لوجوب الوفاء بالوعد حيث نفوه:
أ- حملوا المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله عليه في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} على من وعد وفي ضميره ألا يفي بما وعده، أو على الإنسان الذي يقول عن نفسه من الخير ما لا يفعله.
ب- وأجابوا على استدلال الموجبين للوفاء بالوعد المجرد بحديث ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) بأن ذم الإخلاف إنما هو من حيث تضمنه الكذب المذموم إن عزم على الإخلاف حال الوعد، لا إن طرأ له، وقال الغزالي: وهذا ينزل على من وعد وهو على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما من عزم على الوفاء، فعن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقا، وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وشكرا.(5/690)
الدكتور عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لقد قام الدكتور نزيه بإعطاء صورة واضحة عن الموضوعات التي تناولت هذا البحث ولكن لي ملاحظة واحدة على البحوث وعلى ما تفضل به الأخ الدكتور. إنه قال إن المواعدة لا تكون إلا في التبرعات، أما في عقود المعاوضات فلا تلزم المواعدة، وفي الواقع إني وجدت في فقه المالكية وفي قواعد الونشريسي ما يدل على لزوم المواعدة حتى في عقود المعاوضات وكذلك في مذهب الأحناف: من ذلك ما جاء في القاعدة الخامسة والستين من قواعد الونشريسي قال: أصل منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال، وتطبيقا لهذه القاعدة إن كل عقد يجوز إيقاعه في الحال تجوز المواعدة فيه والعكس صحيح، والأمثلة التى ضربها لهذه القاعدة بيع الطعام قبل قبضه، والبيع من عقود المعاوضة، والبيع وقت نداء الجمعة، وبيع ما ليس عندك. فهذه قواعد أو استثناءات طبقا للقاعدة لأن هذه العقود لا يجوز إيقاعها في الحال فلا تجوز المواعدة فيها.
مذهب الحنفية: عند الأحناف الأصل عدم لزوم المواعدة ولكن قالوا بلزومها لحاجة الناس وضربوا لذلك مثلا " بيع الوفاء " على الرأي القائل بأن بيع الوفاء هو بيع وشرطوا فيه شروطا معينة بأن يكون العقد بلفظ البيع وألا ينص في العقد على الفسخ أو الإقالة، بل يكون شرطا لاحقا لأن الشرط المفسد عندهم هو الشرط الذي يقارن العقد ويمازجه كما عبروا بهذا التفسير، أما الشرط اللاحق فإنه لا يؤثر، وهذا الشرط اللاحق هو المواعدة ويجب الوفاء بها للحاجة. وشكرا.(5/691)
الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن قضية الوفاء بالوعد على حقيقتها يجب ألا تحمل على أكثر مما حدده العلماء في تعريف الوعد، فقد عرفه العلامة المالكي ابن عرفة: بأنه إخبار عن إنشاء معروف في المستقبل، وكذلك عرفه العيني الحنفي: بأنه إخبار عن إنشاء خير في المستقبل، ومن هذا التعريف يتضح بأن الوعد مقصور على الخير وعلى المعروف.
أما قضية المعاوضات فإن أحكامها واضحة، وإن للعقد أحكامه فلا يجب ولا ينبغي أن يسري حكم الوعد عليه، فقد اتفق الفقهاء على استحباب الوفاء بالوعد دينيا وأخلاقيا ويقابل ذلك قول آخر مفاده وجوب الوفاء بالوعد ديانة وقضاء وبدون تفصيل- أي على إطلاقه – ولكن هذا يمكن أن يناقش، فقول من أوجب الوفاء بالوعد مطلقا عند المالكية لا ينصرف إلى المعاوضات بوضوح ظاهر، وقد صرح بذلك الحطاب في كتابه " تحرير الالتزام" صرح: بأن الوعد لا يشمل المعاوضات كالبيع والإجارة ولا يشمل النكاح وإنما الخلاف الذي دار بين فقهاء هذا المذهب هو في نطاق التبرعات، فمنهم من أوجبه مطلقا، ومنه من أوجبه إذا دخل الموعود على سبب، ومنهم من أضاف أو من أقتصر على وجود السبب بدون دخول الموعود في مباشرة الأسباب فيما وعد فيه، هذا خلاف المالكية وهو لا يحتاج إلى مزيد فهو واضح بالتصريح.
يبقى لدينا قول من أطلق القول وهو: ابن شبرمة، وابن الأشوع. فقد ورد عنهما القول بالإطلاق بدون تفصيل. ويبدو لنا أن هذا الإطلاق مقيد ولا يسري على إطلاقه.
أولًا: إن تعريف الوعد يقيده كما عرفه العلماء ابن عرفة والعيني وغيرهما فقد قيدوا الوعد بأنه في المعروف وإنه في الخير والمعاوضات في الاصطلاح الفقهي لا يسري عليها هذا المعنى.(5/692)
ثانيا: من المُسَلَّمَات الفقهية عند العلماء أن البيع وأمثاله يجب أن يتم على طريقة الجزم لا على طريقة إبقائه وتعليقه، لذلك قالوا إذا استخدم لفظ المضارع في صيغة البيع إنما هو مجرد وعد لا يفيد شيئا ولا ينعقد البيع ما لم تكن قرينة صارفة إلى إرادة الحال لا المستقبل. ولقد قال المالكية إذا استخدم المضارع في البيع وجب على الموجب أن يحلف أنه ما أراد الوعد. وهذا يكشف لنا أن الوعد في البيع عند المالكية لا يفيد شيئا. فإذا كان الأمر كذلك في رفض استخدام لفظ المضارع المقيد أو المفيد للمستقبل وعدم ترتب أثر عليه وفي مجلس العقد والمبيع مملوك للبائع فكيف يقال بإلزام وعد صدر من شخص إيجابا أو قبولا وصيغته دائما لا تكون إلا مستقبلة، والوفاء لا يكون إلا في المستقبل، وقد لا يكون البيع أيضا ملك البائع. فإذا كان العقد هنا لا وجود له مع استعمال صيغة المستقبل فكيف بالوعد وهو أقل قوة وإلزاما من العقد بلا نزاع!!
ولكي يؤكد الفقهاء وجوب الجزم في المعاوضات منعوا جواز تعليقها على أمر مستقبل، والوعد مستقبل، ثم لا يخفى أن القول بإلزام الواعد في البيع أو المشترى يجرنا إلى القول بصحة البيع والنكاح وأمثالهما في ظل الإكراه وهذا لم يقل به أحد من فقهاء الشريعة لأن الإكراه من عيوب الإرادة والعقود.
وبناء على ذلك فإنه لا متمسك لمن يقول إن مذهب ابن شبرمة وموافقيه جاءت مطلقة غير مقيدة بمعاوضات أو تبرعات بل يجب أن تقيد بالتبرعات فقط فوجب المصير إلى رأي الجمهور وهو استحباب الوفاء بالوعد لأنه من محاسن الأخلاق لورود النص النبوي الشريف في هذا الخصوص.
بقي أن أقول تعقيبا على بحث الأخ الدكتور نزيه: إن التفريق الذي أورده بين العدة والوعد لا يبدو وجيها لأن الأحكام التي أوردها في الوعد والعدة كما تبين: هي متساوية والفقهاء استخدموا اللفظين في المعنى نفسه، فمنهم من عرف العدة ومنهم من عرف الوعد بنفس اللفظ. وقضية التواعد هي وعد في حقيقتها من طرفين إذا أخذناها على الانفراد، فمن هذا وعد ومن ذاك وعد. أما أن تجمع فهي تواعد على الحقيقة وإلا فإن الحكم حكم الوعد يسري عليها، فهي لا تأخذ حكما جديدا.
أما ما قيل من الأخ قبل قليل بأن تعليق العقد على الشرط أو الوعد على الشرط يراه نوعا من الإلزام فإن الحقيقة العبرة بالشرط وليس بالوعد. وشكرا لكم.(5/693)
الدكتور سامي حسن حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم.
موضوع الوعد والكلام عن الوفاء به في ظل الالتزام الإسلامي، فالمسلمون هم أهل الوفاء والكل يتفق على إن من مكارم الأخلاق الوفاء بالوعد، ولكن عندما تأتي الحقوق والالتزامات يصبح هناك تفريق هل هناك إلزام أو لا يكون إلزام؟ والأبحاث التي قدمت إلى هذا المجمع الكريم متفقة إجمالا على وجوب الوفاء بالوعد وهناك مناطق للتفريق.
فمنطقة الأخلاق والمروءات قيل إن الوفاء بالوعد إذا لم يكن ناتجا عنه كلفة فإنه يكون من المكارم ولا إجبار فيه. أما إذا أدخل الموعود في كلفة فهناك سبب قد يكون موجبا للضرر كأن يقول له تزوج وأقرضك (1000) دينار، فهيأ نفسه للزواج ثم قال خطر لي أو عن لي أن لا أقرضك. فهنا؛ جاء رأي المالكية بوجوب الإلزام قضاء وليس ديانة لأنه قد أضر بوعده هذا الذي قاله لجاره أو لأخيه فدخل في الكلفة ثم تركه وحيدا في الساحة.
هذا المنطق الذي يأتي من جراء منع الضرر والإضرار هو ظاهر في التبرعات ولكنه في نظري أقوى وأشد لزوما في الالتزامات رغم أن هناك من يحاول أن يحصر هذه العملية في ميدان التبرعات. فعندما نأتي للالتزامات لا يكون الأمر أمر أخلاق ومروءة فحسب ولكنه أمور تترتب عليها التزامات معينة. فلو قال رجل لآخر، لصاحب مصنع اصنع لي كذا وكذا وأنا أشتريه منك بسعر كذا ولم يتفق معه على العقد استصناعا حتى لا يقال أن هناك عقد استصناع وقال: وكما تعلن الدولة تشجيعا للمزارعين مثلا أن من ينتج القطن أو ينتج القمح ففي موسم الحصاد هناك سعر محدد تشتريه الدولة بسعر كذا، ثم يأتي المزارعون فيندفعون في الإنتاج فإذا جاء الوقت قيل عدلنا عن ذلك، هنا الدخول في الالتزامات بالوعد الذي صدر يدخل الموعودين في كلفة. فهؤلاء الذين وعدوا ودخلوا في الكلفة أمامهم أمران: إما أن يكون هناك إجبار على الوفاء بما وعدوا به أو أن يكون هناك مقابل تعويضا لهم عن الضرر الذي تعرضوا له فإذا قلنا بأن الإلزام بالوعد لا محل له بالإجبار على تنفيذ العقد الذي وعدوا به، فإن المقابل وعدل الشريعة تقتضي منا أن نقول نعم. إذا لم يكن هناك إلزام فإن الشريعة لا تسمح بأن يقع ضرر دون أن يكون المتسبب ملزما بتعويض هذا الضرر. ومن هنا يأتي التوازن العادل في الشريعة الإسلامية بأن الوفاء بالوعد واجب في مكارم الأخلاق وعندما تأتي الالتزامات فإنه إن قيل بأن الوعد لا يجبر فيه تنفيذ العقد فإنه أيضا ينص في ذات المادة أن تعويض الضرر إذا حصل وكان ضررا حقيقا حالا غير محتمل وغير متوقع فإن هذا التعويض يكون واجبا على من تسبب بوعده في حدوث هذا الضرر. وشكرا.(5/694)
الرئيس:
شكرا. ما أشار إليه الأستاذ على أن البحوث تكاد تكون متفقة على وجوب الوفاء، أظن أن هذا غير مسلم به. البحوث واضحة وهي أمامنا ويكاد الأكثر من البحوث- لأننا قرأناها وتتبعنا ما فيها – ينص على عدم الوجوب والتفصيل معلوم.
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
بعد أن استمعنا إلى بحث الدكتور نزيه حماد وهو بحث مستوف جميع جوانبه من الناحيتين الموضوعية والتوثيقية وهو من أدق البحوث التي نقلت لنا الثروة الفقهية الموجودة في كتبنا العظيمة بكل أمان واطمئنان، ولكن إيراد الخلافات وعرضها بهذا الشكل الممتاز لا يعفينا من ضرورة تلبية الحاجة الملحة في عصرنا الحاضر وهو الوفاء بالوعد في مجال المعاملات.
كلنا نعلم كما تفضل الإخوة الذين عقبوا أن الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق ومن أصول الإسلام ومن مفاخرة أيضا وهو مما أشاد به الإسلام وأقرت به الأعراف العربية السابقة التي كانت تفاخر بهذه الفضيلة العظيمة، فهذا مما لا شك فيه ولكننا بحاجة إلى أن نبين ونركز على ضرورة الوفاء بالوعد في مجال المعاوضات لأن الدوافع والبواعث التي أملت على المجمع والظروف التي أحاطت به في أن يعرض هذا الموضوع هو تلبية الحاجة إلى هذا البحث في مجال المعاملات.
فلذلك كنا نود من الأخ الدكتور نزيه أن يبين لنا بما عرف عنه من دقة وموضوعية الرأي الراجح في هذا الموضوع ويركز سواء بالأخذ بالآراء التي هي وإن كانت تمثلها القلة الفقهية يركز على هذه الناحية ويدعمها بالأدلة الواضحة الصريحة التي هي جاءت في الحقيقة في مكارم الأخلاق وفي التبرعات، فهل يمكننا النقلة السريعة من هذا المجال إلى مجال المعاوضات وبالتالي نصل إلى إلزام الواعد بالوفاء بوعده لا سيما إذا أدخله في ضرر؟ الحقيقة نحن نميل في الوقت الحاضر إلى رأي المالكية في هذا الجانب فهو ملب للحاجة ومطابق لما تقتضيه أعراف الناس وعاداتهم في الوقت الحاضر، خصوصا وأن الآخرين ينتظرون ممن يحملون شريعة الله أن يكونوا مثلا عليا في الوفاء بالوعد وفي عدم إلحاق الضرر بالآخرين وفي الالتزام أيضًا بكل ما ألزموا به أنفسهم إذ لا ملزم لهم غير الكلمة التي أصدروها من قبل أنفسهم دون إكراه ودون اضطرار ودون إلجاء.
لهذا كله نحن نرحب بأن يكون هناك مجال للترجيح في مثل هذه الآراء الفقهية المتناثرة حتى تكون الصورة واضحة وأن نعتمد على الرأي الذي يمكن أن نفتى به ونوصى به أو يُصدر لنا قرار في مجاله في هذا الموضوع المهم جدا والذي أصبح هناك تطلع إلى معرفة الحكم الشرعي الذي ينبغي أن يصدر عن مجمعنا بشكل حاسم نسبيا. والسلام.(5/695)
الشيخ عبد الله محفوظ بن بيه:
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مسألة الوعد أنا أوافق الأخ أظنه محمد رضا الذي تحدث عن مذهب مالك وقال إن الوعد لا يجب في مذهب مالك فيما يتعلق بالمعاوضات وإن نصوص المذهب وظواهره كلها تدل على أن الوعد إنما يعتد به في المعاوضات أو ما يشبهها أو ما هو في التبرعات أو ما هو من قبيل التبرعات، كالخلع، مثلا. خليل يقول: أو الوعد إن ورطها – أي أدخلها في ورطة – فإن الخلع يجب حينئذ بالوعد لأنه يجوز له أن يطلقها بغير عوض، أما في المعاوضات فقد تتبعنا سائر المسائل في المذهب فما وجدنا مسألة واحدة يوجب فيها الوعد عقدا وإنما هو وعد وليس عقدا كل نصوص المذهب وكل شروحه متواردة متواطئة على هذا لا يشذ منها شيء.
والكلام الذي نقل عن الونشريسي هو في جواز الوعد وليس في لزوم الوعد.
فيجب أن نتحرى الدقة فيما ننقله عن العلماء.
هذه المسألة بنيت عليها أحكام وهذه الأحكام بنيت على أساس لا وجود له وعزيت إلى مذهب مالك وليست في مذهب مالك، إنما الذي في المذهب هو لزوم الوعد على قول من سبعة أقوال ذكرها الحطاب في التزاماته وذكر غيره أربعة أقوال: ذكرها خليل في توضيحه، ونظمها الزقاق في المنهج فقال: هل يجب الوفاء بالوعد؟ نعم أو لا فهذه الأقوال كلها إنما تتعلق بالتبرعات لأن المعاوضات إذا كان ينوي منشئها إلزاما فقد نشأ الإلزام. فمن قال بعتك أو أبيعك قاصدا إنشاء البيع لزمه إنشاء البيع. وهذه مسألة نعرفها حتى في النحو وحتى في البلاغة. إن هذه الجملة الخبرية تتحول إلى جملة إنشائية إذا قال أبيعك أو أزوجك قاصدا إنشاء البيع. أما الوعد فإنه لا يلزمه شيء من ذلك. هذا هو أصل مذهب مالك.
أود فقط أن أشير إلى مسألة لعلها لغوية وهي الفرق بين الوعد والعدة. لا فرق بينهما فهما مصدران لوعد والتاء هنا نائبة عن فاء المصدر كما تقول ونقه ونقا ونقة إذا أحبه ووجد به وجدا وجدة إذا حزن عليه وأسف. فلا فرق والكلمة لا تتضمن معنى زائدا على كلمة وعد، والعلماء فرقوا بين وعد وعقد ومذهب مالك لا يوجد فيه هذا الكلام، فنحن نشكر من يقدم لنا شيئا في مذهب مالك، ولعل الأصح في مذهب مالك والأقرب إلى الصواب أن يبيعه ولو باعه ما لا يملكه فهو أمر قد يكون مكروهًا في مذهب مالك إذا كان متوفرا في السوق كما نص عليه ابن رشد في المقدمات الكبرى صفحة 517 نص على أن مالكًا خفف ذلك إذا كان المبيع موجودا في السوق، فهذا أولى من التشبث بوعد لا وجود له وبعقد لا يستند إلى عهد. وشكرا.(5/696)
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
لاحظت في هذه الأبحاث وفي أبحاث سابقة أن الذين يتحدثون عن الإلزام بالوعد يستدلون أساسا برأي ابن شبرمة حيث قال بأن الوعد كله لازم، ولكن أحب أن أقول بأن رأي ابن شبرمة لا يفيد في بيع المرابحة، لأن ابن شبرمة نفسه قال بخيار الرؤية فلو اعتبرنا أن الوعد لازم ولكن عند استيراد السلعة قال العميل بأنه لا يريد بعد أن يرى بحسب رأي ابن شبرمة له هذا، فرأي ابن شبرمة لا يفيد، ثم أحب أن أذكر هنا رأيا آخر كان توفيقا بين الرأيين وذلك أن فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي يرى الإلزام بالوعد وكنت عارضت هذا ورأيت عدم الإلزام في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي ثم أصبحنا معا في هيئة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي فكيف نوفق بين الرأيين؟ أنأخذ بالإلزام أم بعدم الإلزام؟ والعضو الثالث في هيئة الرقابة الشرعية أيد فضيلة الشيخ القرضاوي، فانتهينا إلى أن عقد البيع لا يتم إلا بضوابطه الشرعية وبالتراضي، ولا يلزم العميل بأن يوقع عقد البيع. إلا بالتراضي ولكن إذا لم يلتزم بالوعد فهل تكون هناك شروط يمكن أن يضيفها للعقد بحيث نطبق الحديث الشريف ((لا ضرر ولا ضرار)) والقاعدة الضرر يزال؟ رأينا أن نضيف هذا الشرط بمعنى إذا كان المصرف يبيع السلعة بغير مكسب ولا خسارة فلا يعود على العميل بشيء- باع السلعة وكسب كثيرا فهو يبيع سلعة يملكها – والعميل كذلك إذا لم يقع عليه ضرر فليس له أن يطالب المصرف بشيء، إذا كان بسبب هذا الوعد دخل في أمر معين، كأن دخل في مناقصة مثلا والتزم بها ثم المصرف لم يأته بما وعده فوقع عليه ضرر- عقوبة مثلا- نتيجة الإخلال بهذا، قلنا بأن المصرف يتحمل هذا الضرر، إذن جعلنا هذا شرطا خارجا عن العقد، يعني عقد البيع لا يتم إلا بضوابطه الشرعية، ولكن هناك شرط بأنه إذا حدث ضرر نتيجة عدم الالتزام بالوعد فإن من يتسبب في الضرر عليه أن يلتزم بهذا الضرر.
فإذا رأى مجمعكم الموقر أن هذا الرأي يعتبر توفيقا بين الرأيين أمكن أن نقدمه للمصارف الإسلامية وإن رأى غير هذا أمكن أن نحسم الخلاف. والله أعلم بالصواب وشكر الله لكم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.(5/697)
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
شكرا سيدي الرئيس، أعتقد أن هناك حالات متصورة للوعد. هناك حالة خفيفة- إذا صح هذا التعبير – الوعد العادي الذي يعد به مسلم مسلما وهناك حالة الوعد الذي يعقده على نفسه فيلتزم به بقوة دون أن يترتب على نقضه أثر، وهناك حالة ثالثة، هذا الوعد المعقود بقوة مع ترتب أثر من نوع ما على نقضه، الحالة الرابعة الوعد المعطى كشرط ضمن عقد من العقود، فهل الوعد في كل هذه الحالات ملزم، أو يختص الإلزام ببعضها دون بعض؟.
إذا أردنا أن نطرح الأدلة نجد أن أهمها اثنان: الأول أدلة الوفاء بالوعد وهي كثيرة وواضحة ولا داعي لذكرها، إلا أنه يقال في قبالها كما سمعتم: إن اللزوم فيها أخلاقي دياني محض وليس فيها إلزام تكليفي أو وضعي.
الشيء الثاني قوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] بناء على تفسير العقود بالعهود إلا أن الظاهر فيها أنها تركز على العهود العقدية أو العهود التي فيها التزامات قوية فلا تشمل النوع الأول " الوعد العادي" قطعا كما تشمل النوع الرابع الممضي شرعا، وهو الوعد المعطى كشرط ضمن عقد من العقود وفي شمول هذه الآية للنوعين الوسطيين كلام.
قيل إن العقد عهد موثق كما حكي عن الكشاف، ورأى آخرون أن التوثيق ليس من جملة معناه فيكفي الرابط بأي نحو كان، وفسروا العقد بالمعنى الاستعاري بأنه يطلق المعاملة بإحال الرابط الاعتباري المتبادل، الظاهر من الآية في رأيي- والله تعالى أعلم- الشمول للنوعين الوسطيين وإن كان هناك إجماع مدعى لدينا على خروجهما من دائرة شمول الآية باعتبار عدم الإلزام الشرعي فيهما. ولما كان خروج هذه الأنواع الثلاثة يعني تخصيص الأكثر وهو مستهجن عرفا فإن ذلك يوضح أن الآية لم تشمل من الأول منذ البدء إلا النوع الرابع وهو الشرط المتضمن في عقد. ولكن كما أعتقد أننا لو سلمنا الإجماع المدعى لا نسلم بأن خروج الكثير من أفراد قاعدة ما مع بقاء كثير من الأفراد أمر مستهجن لغويا. ولذلك نبقى مع هذا الظهور ومثل هذا الإجماع لم يثبت لدينا.(5/698)
شيء آخر أقوله للأخ الأستاذ الدكتور السالوس في الحل الذي طرحه في مسألة الإلزام: أعتقد أن المصرف لا يمكنه أن يبنى مستقبله على ضوء ما سوف يمكن أن يدعى من ضرر هنا أو ضرر هناك، هذا المعنى لا يمكنه أن يجعل أي معاملة معروفة المستقبل أو مضمونة المستقبل، الذي أعتقده أن علينا اللجوء إلى طريقة أخرى لنفترض الاعتماد على سير المعاملات الطبيعي في أن الواعد سوف يقوم بتنفيذ ما وعد، هذا السير الطبيعي يوجب ذلك الظن بشكل طبيعي خصوصا إذا كان الواعد هو دولة تتعامل مع هذا البنك الدولي أو نعتمد على إلزام يأتي من نذر أو عهد وهذا النذر والعهد يوجب لزومًا تكليفيًا لا وضعيًا بالالتزام بالمعاملة وإذا تخلف أي طرف يمكن للدولة أن تلزم بهذا المعنى من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طبعا أنا أخالف الإلزام في عقد المرابحة لأن لدينا الكثير من الروايات التي تمنع الإلزام والإمام يقول فيها: أليس إن شاء أخذ أو إن شاء ترك. قال نعم، قال: لا بأس. فالإلزام من جهة أخرى من روايات خاصة أخالفه ولكن كإلزام ضمن عقود معينة يمكن اللجوء لهذا الإلزام من خلال العهد والنذر وما إلى ذلك أو حتى لو كان شرطًا ضمن عقد آخر إذا صححنا مثل هذا الشرط. وشكرا.
الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرا أيها السيد الرئيس. بعد هذه التعقيبات الكريمة من الإخوة الزملاء أود أن أطرح إطارا جديدا للبحث لعله يكون – إن شاء الله – فيه خير وإضاءة.(5/699)
المعلوم لدينا جمعيا أن هنالك بالنسبة لموضوع البحث وعدًا وعهدًا وعقدًا، وأن هنالك ما يقابل هذه المسميات الثلاثة: حق المروءة وحق الديانة وحق القضاء، فأما حق المروءة فيقابل دائما الوعد وهو مجرد أن يعد الإنسان إنسانا آخرا بأمر ولا يكلف نفسه عهدا ولا عقدا ولا التزاما ولا ينبني على الإخلاف بذلك ضرر مادي، فحق المروءة كما تفضل الإخوة أخلاقيا أن يفي وإذا لم يف يكون تاركا للفضيلة وتاركا للأحسن والأكرم والأمثل، لكن هناك حق الشرع، وحق الشرع أمران اثنان: حق الديانة وحق القضاء. وهذان الاصطلاحان معروفان لدينا جميعا كطلاب علم. فحق الديانة شيء وحق القضاء شيء آخر، حق الديانة قد يكون الشيء حراما ديانة ولكنه قضاء جائز، وقد يكون حلالًا ديانة وقضاء بالعكس كما مثلوا لذلك من ادعى بشهادي زور أن فلانة امرأته ولم يعلم القاضي بالزور ولا بالشهادين، فهذا قضاء هي زوجته أما ديانة فهو زنا وهو حرام لكن لو ادعت المرأة أو ادعى هو أن تأتي إلى بيت الزوجية وجب قضاء على القاضي أن يقضي بذلك. فالعهد هو ما تشدد الواعد فيه بالالتزام سواء انبنى على ذلك ضرر أم لم يبن. فهذا التشدد يجعل الوعد عهدا. قال تعالى {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] ولم يفصل القرآن الكريم المسئولية في الدنيا أم في الآخرة، فهذا يقتضي الإطلاق، هناك مسئولية، فالمسئولية بالإخلاف هي مسئولية ديانية وليست من حق المروءة هي من حق الشرع فهو مكلف شرعا أن يفي لأنه التزم بذلك وتعهد به وقوى ذلك بشرط أو بنذر أو بشيء آخر، ولكنه قضاء لا يلزمه أن يفي بهذا الوعد، فلو أن من وعد أو من عوهد بالعهد ولنصطلح على هذه الكلمة رفع الأمر إلى القاضي، فالقاضي لا يلزمه بالوفاء ولكن هناك عهدا أرتقى إلى درجة العقد أو ما يشبه العقد وهو ما يسمى لدى علماء القانون بالالتزام فالالتزام أشمل من العقد وإن سماه القرآن عقدا، ولذلك قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} حينئذ قوى العهد إلى درجة صار التزاما. وآية ذلك أنه ينبني على الإخلاف به ضرر فادح بالمعاهد أو بالملتزم له في أمر دينه ودنياه.
ولذلك أرى حينئذ – والله تبارك وتعالى أعلم والرأي يعود إلى مجمعنا الموقر أن ترتفع المسئولية إلى القضاء والديانة معا فيصير الملتزم حينئذ مؤاخذًا ومسئولا قضاء وديانة، والله تعالى أعلم.(5/700)
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين، وبعد
السيد رئيس الجلسة المحترم، لي تعليق بسيط حول الموضوع فأقول: إذا قلنا بأن الوفاء بالوعد واجب في التبرعات فلأن نقول بإلزامها في المعاوضات من باب أولى استنادا إلى الأدلة الواردة من النصوص القرآنية والسنة النبوية الواردة بهذا الخصوص والتي ذكرت العديد منها في بحثي الوفاء بالوعد وذكرها غيري من الإخوان.
ثانيا هناك مصلحة تقضي بالقول بوجوب الوفاء بالوعد، فإن عدم القول به كما ذكر بعض إخواني يؤدي إلى الضرر.
ثالثا: إذا لم نقل بوجوب الوفاء بالوعد فلنقل بأن هذه المعاملة صيغة مستجدة من صيغ العقود نرجع بها إلى العرف، والقول بالإلزام في مثل هذه الحالة لا يترتب عليه أي محظور شرعي، فإن قيل بأن هذه الصورة تدخل في بيع المبيع قبل قبضه، فأقول من المعروف أن المصرف لا يوقع عقد البيع إلا بعد أن يدخل المبيع في حوزته. فعلى هذا ينتفي ما ذكره الإخوة من أن الإلزام بالوعد يترتب عليه بعض المحظورات الشرعية.
لهذا إني أميل وأرجح القول القائل بأن وجوب الوفاء بالوعد في مثل هذه المعاملة هو الراجح لا سيما وأن هناك العديد من النقول ومن أقوال الفقهاء من غير قول ابن شبرمة رحمه الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(5/701)
الدكتور علي محيي الدين القرة داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أشكر الإخوة الفضلاء سواء كانوا العارضين أم المعلقين والمتداخلين فجزاهم الله عنا خيرا. حقيقة أيضا أنا أضم صوتي إلى الأستاذ الفاضل في أنه ليس هناك داع إلى أن يذكر لفظ العدة أو موضوع العدة في مكان والوعد في مكان آخر لأنهما حقيقة كما قال الأخ الكريم بمعنى واحد ولا أريد التفصيل في ذلك والسلفيون قالوا: العدة هي الوعد فحذفت الواو تخفيفا وعوضت عنها بالتاء، فإذن فالمعنى واحد يجب أن يذكرا في مكان واحد.
ثانيًا: كنت أحب أيضا من بعض الإخوة ولا سيما الأخ الباحث القدير الأستاذ الفاضل الدكتور نزيه أن يذكر رأيه الخاص في هذا الموضوع ولكنه أراد أن يترك هذا الرأي للمجمع الموقر أو للمناقشة.
ثالثا: في اعتقادي أنه يجب أن تبحث هذه المسألة من حيث أصولها وجذورها مع احترامي لكل الآراء الفقهية التي قيلت ولكن أيضا يجب الرجوع في ذلك إلى المصدر الأصلي وهو الكتاب والسنة بالإضافة إلى الجانب الفني والعلمي والتنظيري في هذه المسألة، وهي قضية مصدر الالتزام، ما مبنى أو ما هو مصدر الالتزام في الشريعة الإسلامية؟ إذا كان مصدر الالتزام هو الالتزام في القوانين الوضعية ومن هنا يكون من المعقول جدًا أن يكون الالتزام أو أن تكون دائرة الالتزام محصورة بين العاقدين باعتبار التزم لأنك أيضا تلتزم. أما إذا كان مصدر الالتزام في الشريعة الإسلامية هو الأوامر والنواهي أو الشريعة فلا بد حينئذ أن نرجع مرة أخرى إلى هذه الشريعة هل توجب الوفاء بالعقود أو لا؟ فإذا كنا نحن المسلمين قد أقررنا بأن مصدر الالتزام هو الشرع فيجب أن نقول بالوفاء بالوعد لأن الأدلة ظافرة وناطقة على حرمة المخالفة بالوعد فالمفسرون أو جمهورهم فسروا العقود في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] بكل التزام سواء كان هذا الالتزام دينيا أم دنيويا وسواء كان هذا الالتزام له مقابل أو ليس له مقابل كما ذكره الطبري والقرطبي وغيرهما. هذا جانب.
جانب ثان أيضًا فإن الناحية الدينية والأخلاقية لا خلاف بين الفقهاء، ولا سيما المحدثين في حرمة مخالفة الوعد وبالتالي يكون الالتزام واجبًا إلا في حالة الضرورة، وإلا فكيف نفسر كل هذه الآيات والأحاديث الدالة على الترهيب والتحذير من مخالفة الوعد وجعلها من علامات النفاق.(5/702)
فإذا اتفقنا على حرمة مخالفة الوعد فلا بد أن نجعل القضاء خادما للجانب الديني والأخلاقي ما دام قادرا على ذلك، فالقضاء لا يدخل في النوايا ولكن يدخل في الأمور الواردة بين الناس فيما يتعلق بالمعاوضات أو في غير المعاوضات ومن هنا أضم صوتي إلى الأخ الكريم الأستاذ فاضل الدبو إذا كان ذلك في التبرعات، ففي باب المعاوضات يكون الالتزام أشد حتى لا يكون هناك فصام وازدواجية بين القضاء والأخلاق والديانة ما دام ذلك ممكنا. وقد ناقشت هذه الآراء في رسالتي بالتفصيل ولنا في ذلك سابقون:
وهو بسبق حائز تفضيلا
مستوجب ثنائي الجميلا؟
رابعًا: ما ذكره الأستاذ الدكتور نزيه في مناقشة النافين الوفاء لوجوب بالوعد، ففي اعتقادي أن هذه المناقشة لهم لا تمس أدلتهم ولا تدك بنيانها فحمل الآية {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} على من وعد وفي ضميره ألا يفي بما وعد فهذا الحمل تحميل دليل وتخصيص بدون مخصص، فالآية عامة وردت بلفظ ما العامة هذا من جانب، ومن جانب آخر إن مبنى الأحكام الشرعية على الظواهر والله يتولى السرائر فكيف نعلم أنه نوى أم لم ينو؟ وجوابهم كذلك عن حديث النفاق أخص من الدليل حيث نقل الأخ الكريم عن الغزالي وكلامه في عدم الوفاء بعذر مع أن الكلام في مخالفة الوعد مطلقا أو في مخالفة الوعد بدون عذر.
خامسًا: ما ذكره الأخ الفاضل الأستاذ محمد رضا في التلازم بين الإكراه والقول بوجوب الوعد أرى أنه لا يوجد أي تلازم بين المسألتين فلا نسلم ذلك، فعدم قبول الإكراه لخلل في القصد، بينما قضية الوعد أمر آخر.
وفي الختام أرجح القول بحرمة المخالفة للوعد ديانة، وترجيح القول بإلزامية الوعد قضاء ما دام يترتب عليه ضرر للجانب الثاني بناء على الأدلة السابقة وجمعا بينها والجمع أولى والصلح خير. والسلام عليكم ورحمة الله.(5/703)
الدكتور عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
تلخص من عرض الدكتور نزيه حماد كما ذكر مجمل البحوث الأخرى أن المذاهب في الوفاء بالوعد خمسة وأرى أن هناك رأيا سادسا ينبغي أن يذكر، فالمذاهب الخمسة التي ذكرت هي: إن الوفاء بالوعد واجب، والثاني إن الوفاء بالوعد واجب إلا لعذر، والثالث أنه مستحب فلو تركه فاته الفضل وارتكب مكروها كراهة تنزيهية، والرابع إن الوفاء بالوعد أفضل من عدمه إذا لم يكن هناك مانع وهو رأي الإمام الجصاص، والخامس أن الوفاء بالوعد المجرد غير واجب أما المعلق على شرط فإنه يكون ملزما.
أود هنا أن أبرز رأيا سادسا ربما اعتبره البعض مغمورا ولم يذكره الدكتور نزيه كاملا وذكره بعض الباحثين بمرور سريع وهو رأي الإمام الغزالي وهو قوله: إذا فهم الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا إن يتعذر وقد يفهم الجزم في الوعد إذا اقترن به حلف أو إقامة شهود على الوعد أو قرائن أخرى، وهذا الرأي يجمع عند التحقيق عدة آراء سابقة، وأرى أنه رأي وسط جامع يحقق مصلحة المصرف والعميل في آن واحد، فالوعد غير ملزم مطلقا وكي يكون ملزما لا بد من عنصر الجدية فيه وهذه الجدية ضمانة وقائية ومصلحة للمصرف أو البنك وفي هذا الرأي سعة للمصرف في أن يقرن الوعد بتواقيع أو بشهادات أو أية وسيلة أخرى فيكون الوعد ملزما حينئذ. هذا ما استنبطه من رأي الإمام الغزالي. وشكرا.(5/704)
الدكتور حسن عبد الله الأمين:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبد الله ورسوله الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وبعد:
مسألة الوفاء بالوعد: قضية طرحت منذ زمن طويل على عدة مجامع علمية ولا زالت تراوح مكانها لم تتقدم كثيرا، أول ما طرحت في ندوة المصرف الاٍسلامي بدبي سنة 79 ثم في الندوة الثانية للمصرف الإسلامي بالكويت وفي ندوة البركة الثالثة بتركيا، والذي دعا إلى إثارة قضية الوعد، والوعد معروف وموضح ومقرر في كتب الفقه أحكامه واضحة وبينة كما سردها وبينها الإخوة في أبحاثهم التي عوضوها علينا الآن والتي قرأناها، الذي دعا إلى إثارة هذه القضية هو مسألة بيع المرابحة للواعد بالشراء أو للآمر بالشراء هذه القضية هي التي أثارت هذا الموضوع ودعت إلى البحث عن الوعد في عدة مجامع عملية ومنها انتهى الأمر إلى أن عرضت هذه المرة على مجمعكم الموقر، وقد استند الناس في هذه القضية إلى وجوب الوعد فيما ذكره المالكية عن الوعد في مجال المعروف وقالوا إن الوعد يجب الوفاء به بناء على مذهب المالكية وهو قول غير ممحص كما أشار إلى ذلك بعض الإخوة الذين سبقوني الآن الدكتور العاني والدكتور ابن بيه، وهذا هو الصحيح في مذهب المالكية أن العدة أو الوعد لم يتكلموا عن الوفاء به على عدة صور إلا في حالة واحدة وفيما يتعلق بالمعروف وقالوا إنه لا يرد في أمور الالتزامات أو عقود المعاوضات صراحة، فكيف لنا أن نقول بذلك ونقحمه على المالكية إقحاما؟(5/705)
الذي دعا إلى الدوران حول هذه القضية، قضية الوعد كما قلنه هو ربطها بقضية بيع المرابحة للآمر بالشراء، وفي رأيي أن القضية يجب أن ننظر في حلها نظرا آخر غير هذا التلفيق الذي نربطه بين عقد المعاوضة " البيع " والعقد من جهة واحدة " العقد المنفرد" وهو الواعد إن صح أنه عقد، هذا التلفيق أرى أننا لا نصل في الدوران حوله إلى نتيجة، فالمقررات الفقهية واضحة، المذاهب كلها لا تقول بوجوب الوعد، والمذهب المالكي الذي يقول بالوفاء بالعهد يقصره على المعروف ويبعده عن المعاوضات المالية ولا نجد في ذلك حلا لقضيتنا، فنحن أمام عقد معاوضة واضح ورئيسي وهو عقد البيع للآمر بالشراء، والمشكلة منشؤها أن البيع للآمر بالشراء بيع لسلعة قائمة، فالتعاقد على معدوم غير حاضر، والحديث النبوي الشريف نهى عن بيع المعدوم أو عن بيع غير الحاضر فكيف نحل هذه المشكلة؟ هذا هو بيت القصيد.
في رأيي أن الوفاء بالوعد وربط القضية به والتلفيق بينه وبين عقد البيع لا يحل القضية كما ذكرت، وإنما يجب أن ننظر في فقه هذا الحديث، النهي عن بيع الغائب أو عن بيع المعدوم، كيف نحل القضية؟ هل السلعة المصنعة المحددة المواصفات المعلومة المنضبطة الوصف غير الحاضر في مجلس العقد بيعها يعتبر معدوما؟ كل أو أغلب السلع تباع وهي غير معاينة وإنما هي قائمة ولكنها معلومة بأوصافها لدى المتبايعين، فهل ينطبق عليها هذا الحديث؟ وبيع المرابحة يجرى في هذا النوع من السلع فهل فهمنا للحديث يدخل هذا النوع من السلع في بيع الغائب؟ أعتقد أننا يجب أن ننظر للموضوع من هذه الناحية يجب أن نوسع فهمنا للحديث على ضوء المعطيات الحاضرة، هل السلع بأنواعها المختلفة ذات المواصفات المحددة والموديلات المعينة الغائبة التي في مصانعها أو في أماكن بيعها البعيدة عنا التي يجب استيرادها يعتبر بيعها معدوما، أم أن الأمر يحتاج إلى إعادة نظر في فهم الحديث على ضوء هذه المعطيات؟ إذا استطعنا أن نصل إلى فهم لهذه القضية على ضوء ظروفها نستطيع أن نحل المشكلة دون أن نلجأ إلى الوعد والتلفيق والدوران حول هذه القضية على الوجه الذي سرنا عليه وعهدناه في ندواتنا ومؤتمراتنا، ولعل الإمامين الجليلين ابن القيم وابن تيمية لهما نظرات صائبة في هذا المجال تحدثا فيها عن هذا المعنى بيع المعدود وبيع الموصوف، وإذا رجعنا إلى هذه الآراء القيمة استفدنا منها وحاولنا أن نستفيد منها في فهمنا وإدراكنا لقضايانا الحاضرة لعلنا نصل إلى حل يريحنا من هذا الدوران الطويل حول قضية الوعد الملزم أو غير الملزم. شكرا جزيلا.(5/706)
الدكتور عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم.
في الواقع لي تعقيب بسيط على الموضوع لأننا نريد أن نحقق معنى كلمة " الوجوب: يجب قضاء" فبعض الإخوان يفهم أنه " يجب قضاء " بمعنى أنه لا بد من تنفيذ الوعد بالفعل، وإيقاع وتحقيق العقد لا يلزم من القول بالوجوب وتنفيذ العقد أو تنفيذ الوعد بتحقيق العقد ولعل ابن العربي ومن شايعه في رأيه أنه يجب إلا لعذر نقصد منه هذا.
بمعنى إذا امتنع الواعد من تنفيذ وعده وتنفيذ العقد، هل للطرف الآخر أن يلجأ إلى القضاء لا لطلب تنفيذ العقد، بل لمحاكمته مثلا أو إيقاع العقوبة عليه؟ ولهذا قال: العين بدل العين عن ابن شبرمة أنه حبس رجلا لعدم الوفاء بالوعد مستندا إلى قوله تعالى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} ولم يستند إلى قوله {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لأن الوعد غير العقد، فإذا امتنع عن تنفيذ الوعد قد يكون لعذر وقد يكون لغير عذر فإن كان لعذر لم يستوجب العقوبة أما إذا كان هزلا وتلاعبا وعدم التزام بالكلمة فهذا الذي يستحق العقوبة. والعقوبة قد تكون بدنية وقد تكون مالية كما تعلمون في التعزير.
بقيت مسألة أخرى، الفرق بين الوجوب أو الجواز، عندما استندت إلى كلام الونشريسي وقاعدة الونشريسي بمنع المواعدة، الذي ربط بين المواعدة وبين جواز إيقاع العقد في الحال، وقال: كل عقد لا يمكن إيقاعه في الحال تمنع المواعدة فيه، فهذا القول أطلقه على مختلف العقود وجاء بالأمثلة في عقود المعاوضات كبيع الطعام قبل القبض والبيع وقت نداء الجمعة، وبيع ما ليس عنده، فإذا قلنا إن هذا العقد لا يجوز إيقاعه في الحال فلا تجوز المواعدة فيه، فلو كان العقد جائزا إيقاعه في الحال جازت المواعدة فيه. فإذا كانت المواعدة جائزة ووعد وأخلف، فهل يختلف الحكم؟ إذا كان العقد جائزًا ووقع في الحال، فالمواعدة جائزة، فإذا وعد فهنا المواعدة جائزة في عقد المعاوضات في البيع، فإذا امتنع لاشك أنه يخضع للأقوال الفقهية الأربعة أو الخمسة أو الستة كما ذكر الدكتور عجيل.(5/707)
بقيت مسألة من الأمثلة التي ذكرتها في لزوم الوعد ولأضرب مثالا: تواعدت مع شخص على أن يبيعني شيئا وواعدني على ذلك ولم يكن عندي ما أسدد به الثمن فذهبت فبعت سيارتي في السوق لأوفر له الثمن فلما بعتها وجئت أخلف في الوعد، ألم يدخلني في سبب؟ فالذي قال إن المواعدة تلزم إذا كان معلقا على سبب، أو الرأي الآخر إذا قال إذا كان معلقا على سبب ودخل في السبب، أليست المواعدة هنا مبنية على سبب؟ ودخلت في السبب وعرضني مثلا أنني بعت سيارتي بخسارة؟ أليست هذه الصورة شبيهة بهذه الصورة التي ذكرها في تحرير الكلام؟ قال أصبغ:
سمعت أشهب وسئل عن رجل اشترى من رجل كرما، فخاف الوضيعة فأتى ليستوضعه فقال له: بع وأنا أرضيك قال فإن باع برأس ماله أو بربح فلا شيء له، وإن باع بوضيعة كان عليه أن يرضيه، أليست هذه الصورة مثل هذه الصورة؟ ما الفرق بين عقد المعاوضة وبين عقد التبرع؟ هنا التزم ...
الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني:
التزام الوضيعة تبرع وليس بالعقد.(5/708)
الدكتور عبد الله محمد عبد الله:
فهذا أشد، فالذي عرض في عقد المعاوضة للخسارة وأدخله في سبب أشد وطئًا من الذي واعده بمجرد الوعد في عقد تبرع، فهذا يعني لابد من استعراض مختلف الصور حتى يكون الحكم مناسبا وملائما ومحققا للمصلحة. فمسألة التفريق بين عقد المعاوضة وعقد التبرع هو أن الونشريسيي حيث قال منع المواعدة في العقد الذي لا يجوز إيقاعه في الحال. نقول في حالة الجواز، أنا معك في حالة الجواز أن العقد الذي يجوز إيقاعه في الحال تجوز المواعدة فيه. أنا معك في هذان مع هذا الجواز استعملنا المواعدة، فماذا يكون الحكم؟. هي الحقيقة الأقوال الثلاثة: الذي يقول بالإلزام مطلقا. والذي يقول بالإلزام إذا كان معلقا على سبب، والذي يقول بالإلزام على معلق على سبب ودخل في السبب، والقول الرابع الذي قاله ابن العربي إذا كان: تلزم المواعدة إلا لعذر، للعذر كيف مثلا؟ هذا وعدني أن يبيعني السيارة وهو في طريقه إلي عمل حادثًا بالسيارة، فأصبح تنفيذ العقد غير قائم، معذور إذن فهذا هو الذي يعذر. أما القول بهذا فهو قول متناقض ومتهافت ومتساقط ولا يحقق المصلحة أبدًا. وشكرا.(5/709)
الدكتور محمد سليمان الأشقر:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أنا أود أن أنبه إلى ما حصل من كثرة البحث في الموضوع ومن أسباب كثرة هذا البحث وبذل الجهود الكثيرة التي هي أكثر من اللزوم في الحقيقة، إن الإخوة في المجامع التي طرحت هذا الموضوع انتقلوا من قضية الإلزام المسبق إلى قضية الوعد، ثم ذهبوا إلى الأدلة في الوعد، وأقوال العلماء فيه والأدلة الواردة والكتب المؤلفة فيه، القضية ليست في تصوري هذا وأنا أول من طرح هذه المسألة في رسالة لي نشرت وعرضت على المجمع على ندوة البنوك الإسلامية في بيت التمويل الكويتي سنة 84 م، وكان الموضوع الذي طرح على أساس معين، وهو أنه إن كان هناك إلزام سابق ببيع لاحق بطل البيع اللاحق، وليست المسألة مسالة وعد نسميه وعدا أو ما نسميه، هذا شيء آخر خارج عن الموضوع إن كان هناك كلام سابق غير ملزم في المرابحة اللاحقة أو الوعد اللاحق، صحيح وإن كان هناك إلزام سابق ففي تصوري البيع اللاحق غير سليم لأنه ما صدر عن إرادة سليمة إنما تحت خطر الحكم القضائي بالسجن أو بالغرامة أو بغير ذلك، كما قال كثير من الإخوة في أبحاثهم بالنسبة للخطبة، خطبة النكاح لو كانت وعدا ملزما أو كان فيها إلزام يكون النكاح اللاحق غير واقع بإرادة حرة، فلا يكون صحيحا، فكذلك نقول في هذا إنه إذا كان هناك التزام سابق ببيع لاحق فهذا في نظر الشرع الأسلامي لا يجوز سواء سميتم الأول وعدا أو غير وعد. ليس النظر في كونه وعدا، النظر في أنه هل يجوز الالتزام السابق بوعد لاحق؟ أنا أقول في تصوري وقلت هذا في رسالتي إن قلنا بأن المواعدة السابقة هي إلزام، هذا يقتضي مباشرة وبدون أن يتوقف على أمر آخر بطلان العقد اللاحق لأن هذا يكون من باب بيعتين في بيعة، لو قلنا بجواز إلزام سابق بوعد لاحق فتنفتح هي للربا على مصارعها وحينئذ لا حاجة للكلام في المواعيد والكلام في إلزاميتها والكلام في بيع المرابحة على الطريقة التي جرى فيها البحث، لأنك كما قال الحنفية مثلا، يجوز أن تبيع وأن تقرض إنسانا ألف دينار وبدل أن تطلب فائدتها مثلا مائة دينار للسنة تقول له اشتر مني هذا قلم الرصاص الذي لا يساوي خمسين فلسا اشتراه مني بمائة دينار التي هي فائدة الألف دينار، أبيعك أو أقرضك الألف دينار، هذا عقد معه عقد آخر ببيع قلم رصاص بمائة دينار تكون هي الفائدة، إذا أجزتم الإلزام السابق بوعد لاحق فحيل الربا مفتوحة أمامكم على مصارعها.
الإمام الشافعي رضي الله عنه وكذلك أقوال المذاهب الأخرى كلها تدل على أنه لا يجوز البيع اللاحق بناء على إلزام سابق وقد نص.(5/710)
الرئيس:
الإلزام السابق يا شيخ ببيع لاحق.
الدكتور محمد سليمان الأشقر:
فالشافعي رضي الله عنه في النص الذي نقله الإخوة ونقله الأستاذ سامي حمود في رسالته يقول: فإن ألزما أنفسهما بالأمر الأول بقطع النظر عن تسميته وعدا أو غير وعد إن ألزما أنفسهما بالأمر الأول فهو مفسوخ أبدا. كذلك المالكية، المالكية لاشك وهذا أمر قطعي: أن مذهبهم أن المواعدة الجائزة إنما هي في المعروف وقد نصوا في المرابحة بالذات وفي كتبهم جميعا على أن المرابحة بناء على وعد سابق لا تجوز، حتى على وعد لا تجوز. فمن باب أولى لو كان على إلزام سابق، والحنابلة أيضًا كلامهم في ذلك صريح، والحنفية أيضا كون الإلزام لا يجرى بالوعد في البيع الإلزام بالوعد في البيع والإجارة والمعاوضات جميعا لا يجوز. كلهم يرفضون هذا، لماذا؟ يعني ما هي النظرية التي تحكم عملية الوعد السابق الملزم؟ النظرية أنه صار العقدان كأنهما عقد واحد، وكما قلت هذه من النبي صلى الله عليه وسلم عندما نهى عن صفقتين في صفقة، أو بيعتين في بيعة أو شرطين في بيع. وجميع الفقهاء- يعني غالبا- ولا أستطيع أن أجزم على الجميع لكن الرأي المشهور عند الفقهاء جميعا أن اشتراط عقد في عقد هذا هو النوع الوحيد من الشروط الذي يكادون يتفقون على منعه، أن تشترط عقدا في عقد، الحنابلة أوسع الناس في الشروط في العقود إلا أن هذا النوع عندهم هو الوحيد تقريبا الذي يرون أنه ممنوع وإن أجازوا كثيرا من الشروط.(5/711)
نستطيع أن نقول إن الوعد إذا كان ملزمًا وهناك قوانين تلزم به وقضاء يلزم به فهو عقد، أو كما رأيت في بعض أبحاث الإخوة أنه عقد ابتدائي وفعلا هو عقد، وقد رأيت بعض النماذج التي أخرجتها البنوك الإسلامية بالنسبة للوعد السابق، كتب عليها عقد وعد، فهو إذا كان ملزما وهناك التزام فهو نوع من العقد ولا يمنع هذا أن يقال إنه لا نلزمه بالعقد الجديد، ولكن نلزمه بأداء الغرامة وفي حالة عدم أداء الغرامة فإنه يكون معرضا للسجن كل هذا لا يلغي أن هناك إلزامًا سابقًا بل يبقى الإلزام، سواء ألزمناه بعقد جديد أو ألزمناه بتعويض الأضرار.(5/712)
الذي أرى أنه على البنوك الإسلامية أن لا تكتفي بالعمل في المرابحة في ميدان عدم الإلزام بالأمر السابق بناء على قول الحنفية والشافعية الذين يجيزون التسهيل في هذا، طبعا المالكية والحنابلة يرفضون المواعدة السابقة ولو كانت غير ملزمة على مثل هذا النوع من البيع الذي هو بيع المرابحة، لكن الحنفية والشافعية يجيزون المواعدة السابقة كما في نص الإمام الشافعي ونص الحنفية واضح في ذلك.
بقي الذي افترضه أن البنوك الإسلامية ترضى وتقبل وتسير بالمسلمين في طريق لا تكاد تكون فيه شبهة كبيرة وهو أن تقبل المواعدة غير الملزمة وتنفذ عملية في حدود هذا المقدار وبدل أن تستند إلى المرابحة في تسعين في المائة من عملياتها تستند إلى خمسين أو ستين أو سبعين في المائة، وهذا يكفي في هذا الميدان، وتبحث عن وسائل جديدة وطرق جديدة أخرى لعل الله يهدي إليها بعض الباحثين ومنها الذي طرحه الأستاذ حسن الأمين من أن نرجع إلى البيع بالوصف وهو الأصل في هذا الموضوع، الأصل في هذا الباب البيع نفسه، نأتي إلى البيع مباشرة أن نبيع بالوصف تبيع البنوك الإسلامية هذه البضاعة المطلوبة مثلا في الذمة بأوصاف محددة وإن كان الشيء غير معين لأنه إذا كان معينا فلا بد أن البنك قد حازه، لكن إذا كان على الوصف فحينئذ لا بأس من أن يبيع البنك إلا أن أيضا هذا الحل يصطدم بأن المشهور عند الفقهاء أن المبيع على الذمة لا بد أن يكون ثمنه مدفوعا فورا، فهل لهذه المسألة من حل؟ أرجو، لعل المجمع يطرحها للبحث في مستقبل الندوات ونصل في ذلك إلى حلول ولعل أيضا الإخوة يركزون على البحث عن حلول أخرى تغطي الكمية الباقية من العقود التي يحتاج إليها في البيع المؤجل. وشكرًا.(5/713)
الرئيس:
في الواقع أنه، يعني في هذه المسألة إذا نظرنا أنها تنبني على الوعد، فأمامنا قول جماهير علماء الأمة على أن الوعد المالي أنه غير ملزم، وأمامنا أن الهبة وهي أقوى من قضية الوعد أنها لا تلزم عند الجمهور إلا بالقبض، وأمامنا كما ذكره الحافظ ابن حجر عن بعض أهل العلم في الفتح، أن الموعود بمال ليس له الحق في أن يضارب به بناء على الوعد، هذا إذا كان بناء هذه المسألة على الوعد، هل هو ملزم أو غير ملزم؟ وكذلك ما أشار إليه الأستاذ الشيخ حسن الأمين من بيع الغائب والمعدوم وما إلى ذلك، لأن الشريعة آخذ بعضها بلحمة بعض، وأما لو فرض تكييف المسألة على قضية الإلزام السابق ببيع لاحق فإن الأمر كما ذكر الشيخ محمد لا شك أنه فيه فتح وتوسيع لجريان عدد كبير من المعاملات الربوية في المصارف، لكن هذا يرتبط في البحث الذي سيكون بعد هذه الجلسة إن شاء الله تعالى في بيع المرابحة.
والآن استراحة نعود إن شاء الله تعالى في العاشرة والنصف.
وشكرًا.(5/714)
قرار رقم (2، 3)
بشأن
الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي (الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما.
قرر:
أولًا: أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعًا، هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه.
ثانيًا: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب ودخل الوعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
ثالثًا: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة ((لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.))
ويوصي المؤتمر:
في ضوء ما لاحظته من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء.
يوصي بما يلي:
أولًا: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد ولا سيما إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى.
ثانيًا: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية، لوضع اصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء.
والله أعلم(5/715)
المرابحة للآمر بالشراء
بيع المواعدة
المرابحة في المصارف الإسلامية
وحديث ((لا تبع ما ليس عندك))
إعداد
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فهذه مجموعة أبحاث في تصور، وحكم بيع المواعدة الجاري في المصارف الإسلامية باسم (بيع المرابحة للآمر بالشراء) في بعض صوره، وإنما اخترت تلقيبها باسم (بيع المواعدة) لأنها في جميع صورها مبنية على الوعد ملتزما به كان أو غير ملتزم به، ولئلا تختلط على البعض مع (بيع المرابحة) المحرر عند متقدمي الفقهاء – رحمهم الله تعالى – في (بيوع الأمان) .
على أن صورتها تدخل تحت اسم (السلم الحال) المنهي عنه في قصة حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه كما في (زاد المعاد) ويأتي نقله في السادس، وسترى في المبحث الثاني) بعد موقعها الصحيح من مباحث الفقهاء.
وهذه المجموعة من الأبحاث معقودة في البحوث الآتية:
1- المبحث الأول: بيع المرابحة في اصطلاح متقدمي الفقهاء.
2- المبحث الثاني: في مدى لزوم الوفاء بالوعد.
3- المبحث الثالث: المؤلفات والبحوث فيها.
4- المبحث الرابع: صور بيع المرابحة في المصارف الإسلامية.
5- المبحث الخامس: سبب وجودها في المصارف الإسلامية.
6- المبحث السادس: حكمها.
7- المبحث السابع: في ضوابطها الشرعية.
فإلى بيانها والله ولي الهداية والتوفيق.(5/716)
المبحث الأول: بيع بالمرابحة عند متقدمي الفقهاء (1) .
يستقرئ بعض أهل العلم أنواع البيوع بأنها أربعة:
1- بيع المساومة، ويقال: المماكسة، ويقال: المكايسة.
2- بيع المزايدة.
3- بيع المرابحة.
4- بيع أمانة.
ومنهم من يجعل بيع المرابحة منه، فتكون أقسامه ثلاثة:
بيع المرابحة: وهو البيع بأزيد من رأس المال.
بيع الوضيعة: وهو البيع بأنقص من رأس المال.
بيع التولية: وهو البيع برأس المال سواء.
وإنما سميت هذه (بيوع أمان) للائتمان بين الطرفين على صحة خبر رب السلعة بمقدار رأس المال.
فبيع المرابحة مثلا: حقيقته بيع السلعة بثمنها المعلوم بين المتعاقدين، بربح معلوم بينهما، ويسمى أيضا (بيع السلم الحال) (2) .
فيقول رب السلعة: رأس مالي فيها مائة ريال، أبيعك إياها به وربح عشرة ريالات.
وهذا هو معنى ما هو جارٍ على الألسنة من قولهم: اشتريت السلعة مرابحة، أو: بعتها مرابحة.
وركن هذا العقد: هو العلم بين المتعاقدين بمقدار الثمن ومقدار الربح، فحيث توفر العلم فيهما فهو بيع صحيح، وإلا فباطل.
__________
(1) أبحاثها منتشرة عند الفقهاء في كتاب البيوع كما ستراه في المراجع اللاحقة
(2) زاد المعاد: 4/265(5/717)
وهذه الصورة من البيوع (بيع المرابحة) جائزة بلا خلاف بين أهل العلم، كما ذكره ابن قدامة (1) ، بل حكى ابن هبيرة (2) : الإجماع عليه، وكذا الكاساني (3) .
والخلاف في الكراهة تنزيها، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وروي عن ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، وعن الحسن، ومسروق وعكرمة، وعطاء بن يسار رحمهم الله تعالى.
وقد علل الكراهة تنزيها بأن فيه جهالة، فيما إذا قال: بعتكه برأس ماله مائة ريال، وربح درهم في كل عشرة، فالجهالة أن المشتري يحتاج إلى جمع الحساب ليعلم مقدار الربح، لكن هذه الجهالة مرتفعة؛ لأنها تعلم بالحساب، بل لا ينبغي وصفها بالجهالة، وليس فيها تغرير ولا مخاطرة.
وهذه العلة هي مستند ما يحكى عن ابن راهويه رحمه الله تعالى، من قوله بعدم الجواز.
وقد علمت ارتفاعها بالحساب، على أن من وراء ذلك الوقوف على صحة السند للمروي.
فصح الاتفاق إذًا حكمًا على الجواز، وطردًا لقاعدة الشريعة من أن الأصل في المعاملات الجواز والحِلّ حتى يقوم دليل على المنع.
هذا هو بيع المرابحة المسطر في كتب أهل العلم تحت هذا اللقب في: أبواب البيوع، وفي مطاويه صور وفروع، وما زال الناس يتوارثون العمل به في معاملاتهم بأسواقهم من غير نكير.
لكن هذه الصورة غير مرادة في هذه الرسالة، وإنما جاء الحديث عنها للاشتراك اللفظي مع (بيع المرابحة للآمر بالشراء) في صورته الحادثة المتعامل بها في المصارف الإسلامية، لينظر:
هل يشتركان في الحكم: الجواز، كما اشتركا في الاسم أم أن حكمه التحريم بإطلاق أم بتفصيل؟ هذا ما ستراه إن شاء الله تعالى في أبحاث هذه الرسالة.
__________
(1) المغني: 4/259
(2) الإفصاح: 2/ 350
(3) بدائع الصنائع: 7/92(5/718)
المبحث الثاني: في مدى لزوم الوفاء بالوعد ديانة وقضاء (1) . بحث مدى لزوم الوفاء، أساس في معرفة الحكم في هذه المعاملة.
بيع المواعدة لأن الوعد أساس في صورها كافة، وعليه فاعلم أنه قد أجمع المسلمون أنه على العموم فإن الوفاء بالوعد (العهد) محمود، وأن إخلاف الوعد (العهد) وعدم الوفاء به مذموم، وقد أثنى الله تعالى على رسوله ونبيه إسماعيل بأنه كان صادق الوعد فقال سبحانه {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} . [مريم آية: 54] .
__________
(1) مباحثه مشتركة بين المفسرين، والمحدثين، والفقهاء، وكتب الرقائق فانظر: تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: 1] ، وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [سورة مريم: 54، 55] تفسير القرطبي. أضواء البيان /4/322- 328 مهم. أحكام القرآن للجصاص 2/363، وغيرها. وفتح الباري في السلفية 6/242 كتاب فرض الخمس – 5/222 كتاب الهبة 5/289 كتاب الشهادات 5/319 كتاب الشروط 5/359. وكتاب الوصايا منه. المقاصد الحسنة للسخاوي. الجامع الصغير للسيوطي. كشف الخفاء للعجلوني في أطراف الأحاديث: العدة دين. وَأْيُ الواعد دَيْنٌ ... إلخ. التمهيد لابن عبد البر 3/206 -214 مهم. والمحلى 8/28. شرح المنهاج 2/260. الفروق للقرافي 4/21- 25 الفرق رقم /214. فتاوى عليش 1/254. كشاف القناع 6/284. المجلة بشرح الأتاسي 1/238. إعلام الموقعين 1/385- 387. الغرر وأثره في العقود للصديق الضرير ص7 -10. الأذكار للنووي ص/ 270. الأدب المفرد. وللسخاوي رسالة باسم (التماس السعد في الوفاء بالوعد) كما في مادة (وعد) من (تاج العروس) ولغيره: القول السديد في خلف الوعيد للقاري. إخلاص الوداد في صدق الميعاد لمرعي الكرمي الحنبلي. القول السديد في عدم جواز خلف الوعيد للنابلسي. كما في حروفها من (كشف الظنون) وذيليه.(5/719)
وهو بدليل مخالفته يفيد أن إخلاف الوعد مذموم، وهذا المفهوم قد جاء مصرحا به في آيات من الكتاب كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] . وقال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . [التوبة: 77] .
والسنة طافحة بهذا، ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف ... )) الحديث.
هذا من حيث الوفاء بالوعد بصفة عامة. أما (الوعد المالي) فإن العلماء يجرون الخلاف في حكم الوفاء به (قضاء) على أساس حقيقته الاصطلاحية التي تواضعوا عليها وهي كما قال ابن عرفة المالكي رحمه الله تعالى (1) (الوعد: إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل) . فهو (الوعد المعروف) وعلى هذا يدور كلامهم في حكم الإلزام به كما حكى الشيخ عليش الخلاف بعد بيان الحقيقة المذكورة له.
وعليه تجده مبحثا مشتركا بين: المفسرين، والمحدثين والفقهاء، وكتب الرقائق وفضائل الأعمال، كما ساق البخاري رحمه الله تعالى بعض الأحاديث في (العِدَة) في كتابه (الأدب المفرد) والنووي في (الأذكار) .
أما هذا النوع الجديد من (الوعد التجاري) الذي يريد به العميل مع المصرف: تداول سلعة بالثمن والربح ولما تحصل ملكيتها بعد، فإن خلافهم في (الوعد) لا ينسحب على هذا بل هو يتنزل على حد حديث حكيم بن حزام وما في معناه (لا تبع ما ليس عندك) ، وعلى مسألة (البيع المعلق) .
__________
(1) فتاوى عليش1/254. الأذكار ص/ 270، الأدب المفرد مع شرحه، بيع المرابحة للشيخ الأشقر: وهو مهم.(5/720)
فتحرر من هذا أن عقود المعاوضات، وهي التي يقصد بها تحصيل المنافع وإدرار الربح لا تدخل في المواعدة هذه وخلافهم فيها، إذ جميع الأمثلة التي يسوقها العلماء على إثر الخلاف في (لزوم الوفاء بالوعد من عدمه) إنما هو فيما سبيله الإرفاق المعروف لا الكسب التجاري) (1) .
ولهذا فإن (عقد الاستصناع) وهو: عقد على بيع عين موصوفة في الذمة مطلوب صنعها يقرر من قال به إنه عقد لا وعد، فهو من عقود المعاوضات الخالية من الغرر (2) .
وبناء على جميع ما تقدم فإن أهل العلم يذكرون هذه الصورة من المبيع في (بيوع المعاوضات المحرمة) فيذكرونها في:
1- بيع العينة.
2- وفي الحيل المحرمة.
3- وفي شرح حديث حكيم وغيره ((لا تبع ما ليس عندك)) .
4- وفي: بيوع الغرر.
5- وفي: تعليق العقود بالشروط.
لهذا: فإن جماعة من الباحثين المعاصرين وهموا بإجراء البحث فيها تفريعا على (حكم الوعد هل هو ملزم أم غير ملزم؟) فأوهموا الدارسين لهذه المعاملة والذي نعرفه نجا من هذا ممن كتب فيها بحثا أو فتيا:
1- شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز في فتواه حيث خرجها على حديث (لا تبع ما ليس عندك) .
2- وتلميذه الشيخ العلامة محمد الأشقر في رسالة (بيع المرابحة) .
__________
(1) تحرير هذا في: بيع المرابحة للأشقر ص/32- 33 مهم
(2) الغرر ص/457- 458(5/721)
فإذا أخلف الواعد وعده، هل يلزم به قضاء وحكما؟ الخلاف في هذا على أقوال ثلاثة:
القول الأول: عدم الإلزام بالوفاء به مطلقا..
وهو مذهب الجمهور منهم: الثلاثة ورواية عن مالك، ومذهب داود، وابن حزم، وقد حكى عليه الإجماع: المهلب، وابن بطال، وابن عبد البر، وتعقبه الحافظ ابن حجر بوجود المخالف لكنه قليل.
القول الثاني: الإلزام بالوفاء بالوعد مطلقا.
قال به: عمر بن عبد العزيز، وابن الأشوع الهمداني الكوفي، وابن شبرمة.
القول الثالث: التفصيل: إن أدخل الواعد بوعده في (ورطة) لزم الوفاء به وإلا فلا يلزم الوفاء به، وهو رواية عن مالك رحمه الله تعالى.
ومثاله: من قال لرجل: تزوج، فقال: ليس عندي ما أصدق به الزوجة، فقال: تزوج وألتزم لها الصداق وأنا أرفق عنك، فتزوج على هذا الأساس فقد احتمل الوعد (ورطة) فيلزم بالوفاء به.
وأدلة القول الأول: وهو قول الجمهور من عدم الإلزام بالوعد قضاء مطلقا، فقد استدل له بالإجماع على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء، حكاه المهلب، وابن بطال، وابن عبد البر، قال المهلب (1) : (إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء) اهـ.
وقال ابن بطال: (2) (لم يرو أحد من السلف وجوب القضاء بالعدة، أي مطلقا، وإنما نقل عن مالك أنه يجب منه ما كان بسبب) اهـ.
وذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى- تعقب الإجماع في ذلك فقال (3) : (ونقل الإجماع في ذلك مردود فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر، وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز) اهـ.
ووجه هذا القول من حيث النظر: أنه وعد بمعروف محض (4) ، ولا سبيل عليه بالإلزام في المعروف. والله أعلم.
واستدل له أيضا بالهبة فإنها لا تتم عند الجمهور إلا بالقبض خلافا للمالكية، وذلك يقتضي على مذهب الجمهور: عدم الحكم بها قضاء فيما لو رجع الواهب عنها قبل قبض الموهوب له إياها.
__________
(1) فتح الباري 5/290
(2) فتح الباري 5/222
(3) فتح الباري 5/290
(4) أضواء البيان 4/325(5/722)
وعليه:
فإذا كانت الهبة لا تلزم إلا بالقبض فكيف يلزم بالهبة لو وعده بها مجرد وعد إذا قال له: سوف أهبك إياها (1) .
ولهذا استدل بهذا الفرع على عدم وجوب الوفاء بالوعد: ابن قدامة في (المغني) والنووي في (الأذكار) وقال:
(واستدل من لم يوجبه بأنه في معنى الهبة، والهبة لا تلزم إلا بالقبض عند الجمهور وعند المالكية تلزم قبل القبض) اهـ.
وأدلة القول الثاني: الإلزام به: النصوص المتقدمة، ومنها أيضا حديث " الْعِدَةُ دَيْنٌ " رواه عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا الطبراني في (الأوسط) والقضاعي وأبو نعيم، والبخاري في: (الأدب المفرد) ، والديلمي، والخرائطي في (مكارم الأخلاق) وأبو داود في (المراسيل) ، وابن أبي الدنيا في (الصمت) ، وغيرهم جميعهم بألفاظ متقاربة وأسانيده لا تخلو من ضعف (2) .
وأما القول الثالث بالتفصيل (3) : إن احتمل ورطة ألزم به قضاء وإلا فلا، فحجته عموم حديث رفع الضرر في قوله صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) .
قال شيخنا الأمين رحمه الله تعالى في (أضواء البيان) بعد أن ساق الخلاف محررا: (الذي يظهر لي في هذه المسألة، والله تعالى أعلم أن إخلاف الوعد لا يجوز لكونه من علامات المنافقين؛ ولأن الله يقول {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد، ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبرا، بل يؤمر به ولا يجبر عليه؛ لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به لأنه وعد بمعروف محض، والعلم عند الله تعالى) اهـ.
__________
(1) المغني 4/594. الأذكار للنووي ص/270. ورسالة الشيخ الأشقر: بيع المرابحة ص/25، 41.
(2) كشف الخفاء، وفيض القدير، وأضواء البيان 4/323- 324، والمقاصد الحسنة للسخاوي وقد أفرد هذا الحديث بجزء كما ذكره في: المقاصد. وفي تاج العروس للزبيدي في مادة (وعد) ذكر اسمها (التماس السعد في الوفاء بالوعد)
(3) فتح الباري: 5/222، 290.(5/723)
المبحث الثالث: البحوث والمؤلفات في هذه النازلة.
تم الوقوف على المؤلفات والأبحاث الآتية:
1- بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية.
تأليف: محمد بن سليمان الأشقر.
طبع: عام 1404هـ. نشر مكتبة الفلاح بالكويت.
2- فقه المرابحة في التطبيق الاقتصادي المعاصر.
تأليف: عبد الحميد بن محمود البعلي.
نشرر: مكتبة السلام العالمية بالقاهرة.
3- بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية.
تأليف: يوسف القرضاوي.
طبع: دار القلم بالكويت عام 1405 هـ.
4- المرابحة / أصولها وأحكامها وتطبيقاتها في المصارف الإسلامية.
تأليف: أحمد علي عبد الله.
نشر: الدار السودانية. الخرطوم. عام 1407هـ.
5- كشف الغطاء عن بيع المرابحة للآمر بالشراء.(5/724)
تأليف: رفيق المصري.
6- الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية.. الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية.
7- المرابحة في البنوك الإسلامية ومناقشة وضعها على ضوء الأدلة.
تأليف: بدر بن عبد الله المطوع.
نشر: مطبعة الجذور بالكويت.
8- الاستثمار اللاربوي في نطاق عقد المرابحة.
بحث: حسن بن عبد الله الأمين.
9- تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية.
سامي حمود. الأردن.
10- الودائع المصرفية واستثمارها في الإسلام ص/325-330.
حسن عبد الله الأمين، السودان.
وقد عقد لمناقشتها عدد من الندوات وفي عدد من مؤتمرات المصارف الإسلامية والمجامع وصدرت فيها عدة فتاوى منها:
1- المؤتمر الدولي الثاني للاقتصاد الإسلامي المنعقد في: إسلام أباد في باكستان عام 1983م.
2- مؤتمر المصرف الإسلامي الأول بدبي عام 1399هـ.
3- مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت عام 1403هـ.
4- المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية / عمان عام 1407هـ.
5- فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز/ السعودية.
6- فتوى الشيخ بدر المتولي عبد الباسط/ الكويت.(5/725)
المبحث الرابع: صور بيع المواعدة
وفيه: الصورة الجارية في المصارف الإسلامية (بيع المرابحة للآمر بالشراء) . بالتتبع يمكن أن تكون صور بيع المواعدة، أو يقال (صور بيع المرابحة للآمر بالشراء) كما يلي:
الصورة الأولى: وتنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين مع عدم ذكر مسبق لمقدار الربح.
وصورتها: أن يرغب العميل شراء سلعة بعينها فيذهب إلى المصرف ويقول: اشتروا هذه البضاعة لأنفسكم ولي رغبة بشرائها بثمن مؤجل أو معجل بربح، أو سأربحكم فيها.
الصورة الثانية: وتنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين، مع ذكر مقدار ما سيبذله من ربح.
وصورتها: أن يرغب العميل شراء سلعة معينة ذاتها أو جنسها، فيذهب إلى المصرف ويقول: اشتروا هذه السلعة لأنفسكم، ولي رغبة بشرائها بثمن مؤجل أو معجل، وسأربحكم زيادة عن رأس المال: ألف ريال مثلا.
الصورة الثالثة: وتنبني على المواعدة الملزمة بالاتفاق بين الطرفين، مع ذكر مقدار الربح.
وصورتها: أن يرغب العميل شراء سلعة معينة ذاتها أو جنسها المنضبطة عينها بالوصف، فيذهب إلى المصرف ويتفقان على أن يقوم المصرف ملتزما بشراء البضاعة من عقار أو آلات أو نحو ذلك، ويلتزم العميل بشرائها من المصرف بعد ذلك، ويلتزم المصرف ببيعها للعميل بثمن اتفقا عليه مقدارا وأجلا وربحا.(5/726)
المبحث الخامس: سبب وجودها
تئن الديار الإسلامية من المعاملات الربوية الضاربة بجرانها في البنوك والمصارف الربوية، دور المحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وأكبر مركز يهز الاقتصاد ويخرب الديار، ويمتص روح الحياء والحياة، ويؤول بالأمة إلى: جمع فقير غارم.
وفي طليعة معاملاته التي يهرع إليها كثيرون (صريح الربا) المجلل بالاسم الكاذب (القرض بفائدة) .
وإن من مآثر المد الإسلامي المعاصر: حركة المصارف والبنوك الإسلامية، فكان حقيقا عليها إيجاد المعاملات الإسلامية لرد الأمة في معاملاتها إلى دين الله وشرعه، وكف الدخيل عليها.
فكما ولد المسلم من نكاح بعقد شرعي فليسر في حياته وكسبه وما فيه قوام دينه ودنياه على جادة العقود الشرعية المتخلصة من الربا ووضره.
فرفضًا لذلك الربا الصريح (القرض بفائدة) ، صار إيجاد المصارف الإسلامية لهذه المعاملة التي أطلق عليها اسم: بيع المرابحة، أو: بيع المرابحة للآمر بالشراء والذي يناسب أن يطلق عليه اسم: (بيع المواعدة) ؛ لأن فيه وعدا من الطرفين: وعدا من العميل بالشراء من البنك، ووعدا من البنك بشراء السلعة وبيعها عليه. والمواعدة في هذا البيع ملزمة أو غير ملزمة هي أساس في الاختلاف فيه حِلًّا وحرمة فصارت تسميته (بيع مواعدة) أولى، والأسماء قوالب للمعاني.
فهل هذه المعاملة كالقرض بالفائدة في التحريم، أم تجوز مطلقا أم فيها تفصيل يوضحه المبحث بعده؟ والله أعلم.(5/727)
المبحث السادس: حكمها.
وَهلَ جماعة من الباحثين في أبحاثهم فحسبوها من نوازل العصر وقضاياه، فصار الوقوع في أنواع من الغلط والوهم، سيأتي التنبيه عليها بعد إن شاء الله تعالى، في هذا المبحث.
والحال أن هذا الفرع الفقهي بصوره مدون عند الفقهاء المتقدمين في مباحث الحيل، والبيوع، فهو عند: محمد بن الحسن الشيباني في كتاب (الحيل) ص/79، ص/127، ومالك في (الموطأ) ومعه (المنتقى) للباجي 5/38-39، والشافعي في (الأم) 3/39، وابن القيم في (إعلام الموقعين) 4/39. وغيرها كثير.
وهذه نصوصهم فيها:
1- الحنفية:
ففي كتاب (الحيل) لمحمد بن الحسن الشيباني قال:
(قلت: أرأيت رجلا أمر رجلا أن يشتري دارا بألف درهم، وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم، فأراد المأمور شراء الدار، ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها، فتبقى في يد المأمور، كيف الحيلة في ذلك؟
قال: يشتري المأمور الدار على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام، ويقبضها، ويجيء الآمر ويبدأ فيقول: قد أخذت منك هذه الدار بألف ومائة درهم. فيقول المأمور: هي لك بذلك، فيكون ذلك للآمر لازما، ويكون استيجابا من المأمور للمشتري: أي ولا يقل المأمور مبتدئا: بعتك إياها بألف ومائة؛ لأن خياره يسقط بذلك فيفقد حقه في إعادة البيت إلى بائعه، وإن لم يرغب الآمر في شرائها تمكن المأمور من ردها بشرط الخيار، فيدفع عنه الضرر بذلك) اهـ.
ففي الموطأ للإمام رحمه الله تعالى في: باب بيعتين في بيعة:
(أنه بلغه أن رجلا قال لرجل: ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل فسأل عن ذلك عبد الله بن عمر فكرهه ونهى عنه) اهـ.
والمسألة مبسوطة لدى المالكية كما في: (1)
المنتقى لأبي الوليد الباجي 5/38 – 39، والكافي لابن عبد البر، (والمقدمات) لابن رشد 2/537، وخليل في (المختصر) وشراحه كافة.
__________
(1) انظر بيع المرابحة للأشقر ص/34(5/728)
وهذا نص ابن رشد في (المقدمات) (1) : (فصل) والعينة على ثلاثة أوجه جائزة ومكروهة ومحظورة، فالجائزة أن يمر الرجل بالرجل من أهل العينة، فيقول له: هل عندك سلعة كذا ابتاعها منك؟ فيقول له: لا، فيخبره أنه قد اشترى السلعة التي سأل عنها فيبيعها بما شاء من نقد أو نسيئة، والمكروهة أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا فأنا أربحك فيها وأشتريها منك، من غير أن يراوضه على الربح، والمحظورة أن يرواضه على الربح، فيقول له: اشتر سلعة كذا وكذا بعشرة دراهم نقدا، وأنا أبتاعها منك باثني عشر نقدا، والثانية أن يقول له: اشترها لي بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل، والثالثة عكسها، وهي أن يقول له: اشترها لي باثني عشر إلى أجل وأنا أشتريها منها بعشرة نقدا، والرابعة أن يقول له: اشترها لنفسك بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، والخامسة أن يقول له: اشترها لنفسك بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، والسادسة عكسها، وهي أن يقول له: اشترها لنفسك، أو: اشتر، ولا يزيد على ذلك باثني عشر إلى أجل، وأنا ابتاعها منك بعشرة نقد، فأما الأول: وهو أن يقول: اشترها لي بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، فالمأمور أجير على شراء السلعة للآمر بدينارين؛ لأنه إنما اشتراها له، وقوله: وأنا أشتريها منك، لغو لا معنى له؛ لأن العقدة له بأمره، فإن كان النقد من عند الآمر أو من عند المأمور بغير شرط فذلك جائز، وإن كان النقد من عند المأمور بشرط فهي إجارة فاسدة؛ لأنه إنما أعطاه الدينارين أن يبتاع له السلعة وينقد من عنده الثمن عنه فهي إجارة وسلف ويكون للمأمور إجارة مثله إلا أن تكون إجارة مثله أكثر من الدينارين، فلا يزاد عليهما على مذهب ابن القاسم في البيع والسلف، إذا كان السلف من غير البائع وفاتت السلعة أن للبائع الأقل من القيمة بالغة ما بلغت، يلزم أن يكون للأمور ههنا إجارة مثله بالغة ما بلغت، وإن كانت أكثر من الدينارين، والأصح أن لا تكون له أجرة؛ لأنا إنا جعلنا له الأجرة كانت ثمنًا للسلف فكان تتميما للربا الذي عقدا فيه، وهو قول سعيد بن المسيب، فهي ثلاثة أقوال فيما يكون له من الأجرة، إذا نقد المأمور الثمن بشرط، وهذا إذا عثر على الأمر بحدثانه ورد السلف إلى المأمور قبل أن ينتفع به الآمر، وأما إن لم يعثر على الآمر حتى انتفع الآمر بالسلف قدر ما يرى أنهما كانا قصداه فلا يكون في المسألة إلا قولان، (أحدهما) أن للمأمور إجارته بالغة ما بلغت، (والثاني) أنه لا شيء له، ولو عثر على الآمر قبل الابتياع وقبل أن ينقد المأمور الثمن، لكان النقد من عند الآمر، ولكان فيما يكون للأجير قولان: (أحدهما) أن له إجارة مثله بالغة ما بالغة ما بلغت.
__________
(1) المقدمات: 2/537- 539(5/729)
(والثاني) أن له الأقل من إجارة مثله أو الدينارين، وابن حبيب يرى أن المأمور إذا نقد فقد تقدم الحرام بينهما فتدبر ذلك، (وأما الثانية) وهو أن يقول: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فذلك حرام لا يحل ولا يجوز؛ لأنه رجل ازداد في سلفه، فإن وقع ذلك لزمت السلعة للآمر؛ لأن الشراء كان له، وإنما أسلفه المأمور ثمنها ليأخذ به منه أكثر منه إلى أجل، فيعطيه العشرة معجلة ويطرح عنه ما أربى، ويكون له جعل مثله بالغا ما بلغ في قول، والأقل من جعل مثله أو الدينارين اللذين أربى له بهما في قول، وفي قول سعيد بن المسيب: لا أجرة له بحال؛ لأن ذلك تتميم للربا، كالمسألة المتقدمة، قال في سماع سحنون: وإن لم تفت السلعة فسخ البيع، وهو بعيد، فقيل: معنى ذلك إذا علم البائع الأول بعملهما، وأما الثالثة وهي أن يقول له: اشترها لي باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا فذلك أيضا حرام لا يجوز، ومكروهه أنه استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بسلف عشرة دنانير يدفعها إليه ينتفع بها إلى الأجل ثم يردها إليه، فيلزم الآمر السلعة باثني عشر إلى أجل ولا يتعجل المأمور منه العشرة النقد، وإن كان قد دفعها إليه صرفها عليه، ولم تترك عنده إلى الأجل، وكان له جعل مثله بالغًا ما بلغ في هذا الوجه باتفاق، وأما الرابعة وهي أن يقول له: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا اشتريها منك باثني عشر نقدا، فاختلف في ذلك قول مالك: فمرة أجازه إذا كانت البيعتان جميعا بالنقد وانتقد، ومرة كرهه للمراوضة التي وقعت بينهما في السلعة قبل أن تصير في ملك المأمور، وأما الخامسة وهي أن يقول: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فهذا لا يجوز إلا أنه يختلف فيه إذا وقع، فروى سحنون عن ابن القاسم، وحكاه عن مالك أن الآمر يكره الشراء باثني عشر إلى أجل؛ لأن المشتري كان ضامنا لها لو تلفت في يده قبل أن يشتريها منه الآمر، ولو أراد أن لا يأخذها بعد اشتراء المأمور، كان ذلك له، واستحب للمأمور أن يتورع فلا يأخذ من الآمر إلا ما نقد في ثمنها، وقال ابن حبيب: يفسخ البيع الثاني إن كانت السلعة قائمة، وترد إلى المأمور، فإن فاتت ردت إلى قيمتها معجلة يوم قبضها الآمر، كما يصنع بالبيع الحرام؛ لأنه كان على مواطأة بيعها قبل وجوبها للمأمور، فدخله بيع ما ليس عندك، وأما السادسة وهي أن يقول له: اشترها لنفسك باثني عشر إلى أجل، وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا، فروى سحنون عن ابن القاسم أيضا، أن البيع لا يرد إذا فات، ولا يكون على الآمر إلا العشرة، وأحب إليه أن لو أردفه الخمسة الباقية؛ لأن العقدة الأولى كانت للمأمور، ولو شاء المشتري لم يشتر، وقال ابن حبيب: يفسخ البيع الثاني على كل حال، كما يصنع بالبيع الحرام للمواطأة التي كانت للبيع قبل وجوبها للمأمور، فإن فاتت ردت إلى قيمتها يوم قبضها الثاني، وهو ظاهر رواية سحنون أن البيع الثاني يفسخ ما لم تفت السلعة، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق وهو الهادي إلى أقوم طريق.(5/730)
وقال الدردير في (الشرح الصغير 3/129) قال: (1)
(العينة: وهي بيع – من طلبت منه سلعة للشراء وليست عنده، لطالبها بعد شرائها – جائزة، إلا أن يقول الطالب: اشترها بعشرة نقدا، وأنا آخذها منك باثني عشر إلى أجل، فيمنعه لما فيه من تهمة (سلف جر نفعا) ؛ لأنه كأنه سلفه ثمن السلعة يأخذ عنها بعد الأجل اثني عشر) اهـ.
وفي (الأم) للإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
(إذا أرى الرجلُ الرجلَ السلعةَ، فقال: اشترها وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال: أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعًا، وإن شاء تركه.
وهكذا إن قال: اشتر لي متاعا ووصفه له، أو متاعا أي متاع شئت وأنا أربحك فيه فكل هذا سواء.
ويجوز البيع الأول، ويكون فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال: ابتعه وأشتريه منك بنقد أو دَيْن، يجوز البيع الأول، ويكون بالخيار في البيع الآخر، فإن جدداه جاز، وإن تبايعا به على أن الزما أنفسهما فهو مفسوخ من قبل شيئين:
أحدهما: أنه تبايعاه قبل أن يملكه البائع.
والثاني: أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا) .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في (إعلام الموقعين) :
(المثال الموفي مائة – أي من أمثلة الحيل-: رجل قال لغيره: اشتر هذه الدار أو هذه السلعة من فلان بكذا وكذا وأنا أربحك فيها كذا وكذا، فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يريدها ولا يتمكن من الرد.
فالحيلة: أن يشتريها على أنه بالخيار ثلاثة أيام، أو أكثر ثم يقول للآمر: قد اشتريتها بما ذكرت، فإن أخذها منه وإلا تمكن من ردها على البائع بالخيار، فإن لم يشترها الآمر إلا بالخيار فالحيلة: أن يشترط له خيارا أنقص من مدة الخيار التي اشترطها هو على البائع، ليتسع له زمن الرد إن ردت عليه) اهـ.
هذه جملة من نصوص العلماء في هذا الفرع الفقهي الذي تبنته المصارف الإسلامية للتعامل به مع العميل لها مستبعدة معاملة البنوك التجارية الربوية من معاملة صريح الربا (القرض بفائدة) .
ومن هذه النقول يتضح الحكم في كل واحد من الصور الثلاث المتقدمة على ما يلي:
فالصورة الأولى: التي تنبني على التواعد بين الطرفين – غير الملزم مع عدم ذكر مسبق لمقدار الربح وتراوض عليه – فالظاهر الجواز: عند الحنفية والمالكية والشافعية، كما تقدم نقله من كلام ابن رشد في المذهب المالكي؛ وذلك لأنه ليس في هذه الصورة التزام بإتمام الوعد بالعقد أو بالتعويض عن الضرر لو هلكت السلعة فلا ضمان على العميل فالبنك يخاطر بشراء السلعة لنفسه وهو على غير يقين من شراء العميل لها بربح، فلو عدل أحدهما عن رغبته فلا إلزام ولا يترتب عليه أي أثر فهذه الدرجة من المخاطر هي التي جعلتها في حيز الجواز والله أعلم (2) .
__________
(1) بواسطة بيع المرابحة للأشقر ص / 37
(2) انظر: بيع المرابحة للأشقر ص /47 مهم(5/731)
والصورة الثانية: التي تنبني على التواعد غير الملزم بين الطرفين مع ذكر مسبق لمقدار ما سيبذله من الربح ومراوضته عليه فقد تقدم في كلام ابن رشد أنها من العينة المحظورة؛ لأنه رجل ازداد في سلفه وتقدم نقل كلام الشرح الصغير. والله أعلم.
والصورة الثالثة: التي تنبني على المواعدة والالتزام بالوفاء بها بالاتفاق بين الطرفين، قبل حوزة المصرف للسلعة، واستقرارها في ملكه، مع ذكر مقدار الربح مسبقا واشتراط أنها إن هلكت فهي من ضمان أحدهما بالتعيين، فهذه حكمها البطلان والتحريم فهي أخية القرض بفائدة، وذلك للأدلة الآتية:
1- أن حقيقتها عقد بيع على سلعة مقدرة التملك للمصرف مربح قبل أن يملك المصرف السلعة ملكا حقيقيا وتستقر في ملكه.
2- عموم الأحاديث النبوية التي نصت على النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده.
منها حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني المبيع لما ليس عندي فأبيعه منه ثم أبتاعه من السوق، فقال صلى الله عليه وسلم ((لا تبع ما ليس عندك)) رواه أصحاب السنن وقال الترمذي: حديث حسن
، فسبب الحديث نص في بيع الإنسان ما لا يملك فحكم صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه، قال ابن قدامة في " المغني " (1) .
" لا نعلم فيه خلافا " اهـ.
وعلته والله أعلم " الغرر في القدرة على التسليم وقت العقد " (2) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((: لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) . رواه أصحاب السنن وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) :
(فاتفق لفظ الحديثين على ((نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده)) فهذا هو المحفوظ عن لفظه صلى الله عليه وسلم وهو يتضمن نوعا من الغرر فإنه إذا باعه شيئا معينا وليس في ملكه، ثم مضى ليشتريه ويسلمه له كان مترددا بين الحصول وعدمه فكان غررا يشبه القمار فنهى عنه، وقد ظن بعض الناس أنه إنما نهى لكونه معدما فقال: لا يصح بيع المعدوم، وروى في ذلك حديثا ((أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المعدوم)) ، وهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث ولا له أصل) اهـ.
__________
(1) 4/206
(2) الغرر وأثره في العقود ص 319
(3) زاد المعاد 4/262(5/732)
وقال الخطابي رحمه الله تعالى (1) :
(قوله ((: لا تبع ما ليس عندك)) يريد بيع العين دون بيع الصفة ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال، وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر، وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق، أو جَمَلَهُ الشارد ويدخل في ذلك: كل شيء ليس بمضمون عليه، مثل أن يشتري سلعة فيبيعها قبل أن يقبضها.) اهـ.
3- عموم الأحاديث النبوية التي نصت على نهي الإنسان عن بيع ما اشتراه ما لم يقبضه (2) .
وقد صحت الأحاديث في هذا من حديث ابن عمر، وابن عباس وابن عمرو وزيد بن ثابت، وحكيم بن حزام، وجابر رضي الله عنهم وغيرهم رضي الله عن الجميع.
منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يَسْتَوْفِيَهُ)) رواه الستة إلا الترمذي.
وعن ابن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم ((نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض)) رواه الترمذي وغيره.
وقد حكى: ابن المنذر والخطابي، وابن القيم، وغيرهم: الإجماع على أن من اشترى طعاما فليس له بيعه حتى يقبضه.
وأما بيع ما يشتريه الإنسان قبل قبضه من غير الطعام من مكيل أو موزون أو عقار وغير ذلك ففيه خلاف على أقوال أربعة، والذي عليه المحققون هو: أنه لا يجوز بيع شيء من المبيعات قبل قبضه بحال وهو مذهب ابن عباس ومحمد بن الحسن، وإحدى الروايات عن أحمد. حكى ذلك ابن القيم واختاره فقال (3) .
(وهذا القول هو الصحيح الذي نختاره) اهـ.
ثم حرر ابن القيم رحمه الله تعالى الخلاف في علة المنع من بيع ما لم يقبض وقال (4) .
(فالمأخذ الصحيح في المسألة أن النهي معلل بعدم تمام الاستيلاء وعدم انقطاع علاقة البائع عنه، فإنه يطمع في الفسخ والامتناع عن الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه ... ) اهـ.
ووجه الاستدلال من هذا في مسألتنا هذه: أن النصوص إذا كانت صريحة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع ما لم يقبض، وأنه على عمومه، وأن العلة عدم تمام الاستيلاء والاستقرار في ملك المشتري، فكيف يجوز للمصرف أن يبيع ما لم يملك أصلا ويصافق ويربح فيه؟ فملكه تقديري لا حقيقي، واستيلاؤه عليه تقديري لا حقيقي. المنع من هذا يكون من باب الأولى والله أعلم.
__________
(1) معالم السنن مع التهذيب 5/143
(2) زاد المعاد 4/262 - 265. تهذيب السنن 5/130- 140.
(3) تهذيب السنن 5/132
(4) تهذيب السنن 5/136- 137(5/733)
4- أن حقيقة هذا العقد: بيع نقد بنقد أكثر منه إلى أجل بينهما سلعة محللة فغايته (قرض بفائدة) .
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في بيع ما لم يقبض (1) .
(أنه يكون قد باع دراهم بدراهم والطعام مُرَجّى) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة.
قال الخطابي:
(وهو غير جائز؛ لأنه في التقدير بيع ذهب بذهب والطعام مؤجل غائب غير حاضر ... ) اهـ.
والذي عليه المحققون هو شمول النهي عن بيع ما لم يقبض من طعام وغيره وإن ذكر الطعام خرج مخرج الغالب والله أعلم (2) .
5- أن البيوعات المنهي عنها ترجع إلى قواعد ثلاث:
1- الربا.
2- الغرر.
3- أكل أموال الناس بالباطل.
وقد روى الجماعة إلا البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر.))
وفي معناه أحاديث أخرى، وهذا الحديث ليس من باب إضافة الموصوف إلى صفته فيكون صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الذي هو غرر وإنما من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، فالمبيع نفسه هو الغرر كبيع الثمار قبل بدو صلاحها (وبيع ما لا يملكه) وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى (3) .
ولهذا لما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أقسام المعدوم وهي:
معدوم موصوف في الذمة (السلم) وهو جائز اتفاقا.
ومعدوم تبع للموجود مثل بيع الثمار بعد بدو صلاحها وهو جائز اتفاقا. ومثل بيع المقاثي والمباطخ فهذا جائز على التحقيق، وأما الثالث فقال (4) :
(الثالث: معدوم لا يدري يحصل أو لا يحصل ولا ثقة لبائعه بحصوله بل يكون المشتري منه على خطر فهذا الذي منع الشارع بيعه لا لكونه معدوما بل لكونه غررا فمنه صورة النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي الله عنهما، فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه ولا له قدرة على تسليمه ليذهب ويحصله ويسلمه إلى المشتري كان ذلك شبيها بالقمار والمخاطرة من غير حاجة بهما إلى هذا العقد ولا تتوقف مصلحتهما عليه) اهـ.
__________
(1) معالم السنن 5/139. بيع المرابحة للأشقر ص/8
(2) الغرر وأثره في العقود ص /329-330
(3) زاد المعاد 4/467. والغرر للضرير ص / 62- 63
(4) زاد المعاد 4/263(5/734)
وجهة نظر المخالف:
يتضح مما تقدم أنه ليس من خلاف يؤثر عند أهل العلم في أن البيع في (الصورة الثالثة) باطل محرم، لكن لما أثريت في العصر الحاضر، وكتب فيها من كتب وجرى الخلاف بين الكاتبين فيها بين الجواز والمنع قرر المجيزون الجواز لعدة وجوه وهي أن الوعد ملزم وأن العين مرادة (حقيقة) في هذا العقد، فالعقد حقيقي، وليس صوريا: فالعميل يقصد الانتفاع بالعين ولا يريدها للتوصل إلى دراهم يحتاجها، وأن النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده: خاص فيما كان فيه البيع حالًّا بتسليم العين المباعة، أما إذا كانت العين المباعة مؤجلة إلى أجل محدود فلا، وينسحب عليهما حكم بيوع الآجال وإن النهي عن بيع المعدوم: هو ما كان المعدوم فيه مجهول الوجود في المستقبل، أما العين هنا فهي محققة الوجود مستقبلا حسب العادة (1) .
وأنه في هذه الصورة لو تأخر العميل في أداء الثمن لم يفرض عليه أي زيادة في الثمن.
وأنه على أقل الأحوال فإن الحاجة في التعامل داعية إليه كما دعت إلى السلم، والاستصناع واغتفر ما يعتريهما من الغرر تقديرا للحاجة، والحاجة هنا داعية لاتساع رقعة التعامل وتضخم رؤوس الأموال وحاجة المنشآت إلى دعمها بالآلات والمباني التي لا قوام لها إلا بها، فإن لم تتم تلك المعاملة وقع المسلم في حرج ومشقة الفوات لمصالح يريد تحقيقها، فإن لم تكن من هذا الباب، اضطر إلى (القرض بفائدة) ودينه يعصمه من هذا الربا المحرم، فليقرر هذا التعامل تحت وطأة الحاجة (الضرورة) والانتشال من المحرم وتحقيق مصالح المسلمين.
المبحث السابع: في الضوابط الكلية التي تجعل (بيع المواعدة) أي (المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية) – في دائرة الجواز وهي على ما يلي:
1- خلوها من الالتزام بإتمام البيع كتابة أو مشافهة قبل الحصول على العين بالتملك والقبض.
2- خلوها من الالتزام بضمان هلاك (السلعة) أو تضررها من أحد الطرفين: العميل أو المصرف بل هي على الأصل من ضمان المصرف.
3- أن لا يقع العقد للمبيع بينهما إلا بعد قبض المصرف للسلعة واستقرارها في ملكه.
والله أعلم
بكر بن عبد الله أبو زيد
__________
(1) الغرر وأثره في العقود ص/358(5/735)
المرابحة للآمر بالشراء
إعداد
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير
أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية القانون – جامعة الخرطوم
عضو مجمع الفقه الإسلامي بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
1- بيع المرابحة:
البيع إما أن يكون عن طريق التفاوض بين البائع والمشتري من غير نظر إلى رأس المال الذي قامت به السلعة على البائع، ويسمى بيع المساومة، وإما أن يكون على أساس رأس المال، ويسمى بيع الأمانة، وفي بيع الأمانة قد يكون البيع برأس المال فقط، ويسمى تولية، إذا أخذ المشتري كل السلعة، أما إذا أخذ جزءا منها بما يقابله من الثمن، فيسمى إشراكا، وقد يكون بربح معلوم ويسمى مرابحة، وقد يكون بخسارة معلومة، ويسمى وضيعة ومواضعة ومحاطة ومخاسرة.
فبيع المرابحة نوع من البيع الجائز بلا خلاف، غير أن بيع المساومة أولى منه عند بعض الفقهاء، يقول ابن رشد: البيع على المكايسة والمماكسة أحب إلى أهل العلم وأحسن عندهم؛ وذلك لأن بيع المرابحة كما يقول الإمام أحمد: تعتريه أمانة واسترسال من المشتري، ويحتاج إلى تبيين الحال على وجهه، ولا يؤمن من هوى النفس في نوع تأويل أو غلط، فيكون على خطر وغرر، وتجنب ذلك أسلم وأولى. ويشترط في بيع المرابحة ما يشترط في البيع بصفة عامة، ويختص بشروط خاصة أهمها علم المتبايعين برأس المال والربح، كأن يقول البائع: رأس مالي مائة، أو: هو علي بمائة، بعتك بها وربح عشرة.
وإذا ظهرت خيانة البائع فيما ذكره من الثمن أو غيره مما يجب ذكره، فالبيع صحيح، ولكن يثبت للمشتري الخيار، فإن شاء أخذ بما بينه البائع على ما فيه من زيادة، وإن شاء ترك البيع، وقال بعض الفقهاء: ليس للمشتري الخيار، وإنما له الحق في إسقاط الزيادة (1) .
__________
(1) انظر أحكام بيع المرابحة في: ابن عابدين 4: 211، والدسوقي على الشرح الكبير 3: 159 والمقدمات الممهدات 2: 276، ونهاية المحتاج 3: 163، والمغني 4: 179، والبحر الزخار 3: 277(5/736)
2- بيع المرابحة للآمر بالشراء:
حقيقته:
هذه صورة من صور التعامل وردت في الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية، وتطبقها البنوك الإسلامية، وكيفيتها كما جاء في الموسوعة:
" أن يتقدم العميل إلى البنك طالبا منه شراء سلعة معينة بالمواصفات التي يحددها على أساس الوعد منه بشراء تلك السلعة اللازمة له فعلا مرابحة بالنسبة التي يتفقان عليها، ويدفع الثمن مقسطا حسب إمكانياته".
ثم أوردت الموسوعة تبريرا لهذه المعاملة فقالت:
" فهذه المعاملة مركبة من وعد بالشراء، وبيع بالمرابحة، فهي ليست من قبيل بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأن البنك لا يعرض أن يبيع شيئا، ولكنه يتلقى أمرا بالشراء، وهو لا يبيع حتى يملك ما هو مطلوب ويعرضها على المشتري الآمر ليرى إذا كان مطابقا لما وصف، كما أن هذه العملية لا تنطوي على ربح ما لم يضمن؛ لأن البنك قد اشترى فأصبح مالكا يتحمل تبعة الهلاك " (1) اهـ.
فهذه المعاملة تتم في مرحلتين:
المرحلة الأولى: عندما يتقدم العميل إلى البنك طالبا منه شراء سلعة معينة أو موصوفة ليست عند البنك، فيعده البنك بأنه سيشتري السلعة التي يطلبها العميل ويبيعها له، ويعد العميل البنك بأنه سيشتريها منه عندما يقدمها له، ويحددان في هذه المرحلة ثمن الشراء والربح، وطريقة الدفع، وهو مؤجل غالبا، وتطلب بعض البنوك دفع عربون في هذه المرحلة.
وقد يكون هذا الطلب شفويا، وقد يكون مكتوبا، ولكن جاء في الموسوعة:
" إنه لا ينبغي أن يكون الأمر بالشراء شفاهة وإنما يلزم أن يكون طلبا مكتوبا، وأن يتأكد البنك من جدية الطلب حتى تصبح المخاطرة محسوبة، وحتى يتلافى البنك نكول الآمر بالشراء بعد طلبه ذلك " (2) .
والسلعة المطلوبة قد تكون موجودة في السوق المحلي، وقد لا تكون موجودة فيستوردها البنك من الخارج.
المرحلة الثانية: المرحلة الأولى كانت مجرد مواعدة، أما هذه المرحلة الثانية فهي مرحلة إبرام العقد، وتبدأ بعد شراء البنك البضاعة وتسلمها وعرضها على العميل وقبوله، وعندئذ تتم كتابة عقد البيع وتوقيعه من الطرفين.
__________
(1) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 1/29، وهذا الذي ورد في الموسوعة مأخوذ عن الدكتور سامي حمود في رسالته: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية 476 - 479
(2) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية(5/737)
هل هذه معاملة مستحدثة؟
هذه المعاملة ليس مستحدثة، وإنما المستحدث هو التسمية فقط، أما حقيقة المعاملة فهي معروفة في الفقه الإسلامي، ونورد فيما يلي بعض النصوص الفقهية التي تذكر هذه المعاملة وتذكر حكمها:
1- روى مالك في الموطأ أنه بلغه أن رجلا قال لرجل: " ابتع لي هذه البعير بنقد، حتى أبتاعه منك إلى أجل، فسأل عن ذلك عبد الله بن عمر فكرهه ونهى عنه" (1) .
ذكر مالك هذه المسألة في باب: " بيعتان في بيعة " فكأنه يرى أن ابن عمر يعتبرها داخلة فيما نهى عنه من بيعتين في بيعة.
قال الباجي: " ولا يمتنع أن يوصف بذلك من وجهة أنه قد لزم مبتاعه بأجل بأكثر من الثمن، فصار قد انعقد بينهما عقد بيع تضمن بيعتين: إحداهما الأولى، وهي بالنقد، والثانية المؤجلة، وفيها مع ذلك بيع ما ليس عنده؛ لأن المبتاع بالنقد قد باع من المبتاع بالأجل البعير قبل أن يملكه، وفيها سلف وزيادة؛ لأنه يبتاع له البعير بعشرة على أن يبيعه منه بعشرين إلى أجل، يتضمن ذلك أنه سلفه عشرة في عشرين إلى أجل وهذه كلها معان تمنع جواز البيع، والعينة فيها أظهر من سائرها، والله أعلم" (2) .
وقد أورد فقهاء المالكية صورا متعددة لهذه المعاملة تحت عنوان بيع العينة، وبخاصة شراح متن خليل عند قوله:
" جاز لمطلوب منه سلعة أن يشتريها ليبيعها بنماء ولو بمؤجل بعضه" (3) .
__________
(1) الموطأ مع المنتقى 57/ 38
(2) المنتقى 5/38، 39
(3) متن خليل مع حاشية الدسوقي، 3/ 88(5/738)
2- قال الإمام الشافعي: " وإذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز والذي قال: أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعا، وإن شاء تركه، وهكذا إن قال: اشتر لي متاعا، ووصفه له، أو متاعا أي متاع شئت، وأنا أربحك فيه، فكل هذا سواء، يجوز البيع الأول، ويكون هذا فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء هذا ما وصفت إن كان قال: ابتاعه وأشتريه منك بنقد، أو بدَيْن، يجوز البيع الأول، ويكونان بالخيار في البيع الآخر، فإن جدداه جاز، وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ من قبل شيئين: أحدهما أنهما تبايعا قبل أن يملكه البائع، والثاني أنه على مخاطرة إنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا " (1) .
3- قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني: " قلت: أرأيت رجلًا أمر رجلا أن يشتري دارا بألف درهم وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم، فأراد المأمور شراء الدار، ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها، فتبقى في يد المأمور، كيف الحيلة في ذلك؟ قال: يشتري المأمور الدار على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ويقبضها ويجيء الآمر، ويبدأ فيقول: قد أخذت منك هذه الدار بألف ومائة درهم، فيقول المأمور: وهي لك بذلك، فيكون ذلك للآمر لازما، ويكون استيجابا من المأمور للمشتري، وإن لم يرغب الآمر في شرائها تمكن المأمور من ردها بشرط الخيار، فيدفع عنه الضرر بذلك" (2) اهـ.
هذه النصوص الفقهية لثلاثة من كبار أئمة الفقه تبين لنا بوضوح أن بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي تمارسه البنوك الإسلامية ليس أمرا جديدا، كما يتوهمه بعض الباحثين، وتبين لنا من هذه النصوص أن السلعة التي يطلب الآمر شراءها قد تكون معينة، وقد تكون موصوفة، وقد لا تكون معينة ولا موصوفة كما في عبارة الشافعي: " أو متاعا أي متاع شئت "، كما تبين لنا أن الآمر بالشراء قد يشتري السلعة بنقد وقد يشتريها إلى أجل، وفي الحالين يكون الشراء بربح محدد.
__________
(1) الأم للشافعي 3/33
(2) كتاب الحيل رواية السرخسي 79(5/739)
حكم هذه المعاملة عند هؤلاء الأئمة:
هذه المعاملة لا تجوز عند هؤلاء الأئمة الثلاثة إذا كانت ملزمة للطرفين، وهذا واضح من عبارة الشافعي، " وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ "، وواضح أيضا من عبارة الباجي التي شرح بها قول مالك وهي: " ولا يمتنع أن يوصف بذلك من وجهة أنه قد لزم مبتاعه بأجل بأكثر من الثمن "، أما الإمام محمد فإن إرشاده المأمور إلى استعمال خيار الشرط يدل على أنه يرى أن إلزام الآمر بالشراء غير جائز؛ لأنه لو كان جائزا لم تكن هناك حاجة إلى الحيلة.
والتعليل الذي يؤخذ من أقوال هؤلاء الأئمة للحكم بعدم جواز الإلزام هو:
1- أن البيع مع الإلزام يكون قد وقع قبل أن يملك البائع السلعة، كما يقول الشافعي، والباجي.
2-أن الإلزام يجعل هذه المعاملة داخلة في " بيعتين في بيعة" المنهي عنها " كما يقرر الباجي.
3- أن الإلزام يجعل في المعاملة مخاطرة: " إنك إن اشتريته بكذا أربحك فيه كذا"، كما يقول الشافعي.
4- أن في هذه المعاملة سلف وزيادة، كما يقول الباجي.
وهذه كلها معان تمنع جواز البيع، والأظهر منها عندي هو المانع الأول، وهو أن الإلزام بالوعد يجعل هذه المعاملة من قبيل بيع الإنسان ما لا يملك.
ويفهم من أقوال هؤلاء الأئمة الثلاثة أن هذه المعاملة تجوز إذا جعل للطرفين الخيار، أو جعل الخيار لأحدهما، وقد صرح الإمام الشافعي بهذا، بل إن الشافعي جعل الخيار للمشتري من غير شرط، وحكم بأن اشتراط الإلزام مفسد لعقد البيع بين الآمر والمأمور.(5/740)
الخلاف الحادث في الإلزام بالوعد في هذه المعاملة:
لا أعلم خلافا معتبرا بين الفقهاء المعاصرين في جواز بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا جعل للطرفين أو لأحدهما الخيار وإنما الخلاف بينهم فيما إذا وقع هذا البيع على الإلزام من أول الأمر، بمعنى أن البنك ملزم بالبيع مرابحة للآمر بالشراء، والآمر بالشراء ملزم بتنفيذ وعده بالشراء، عندما يقدم له البنك السلعة المطلوبة.
وقد ظهر أول اختلاف بين الفقهاء المعاصرين عندما بحث هذا الموضوع في مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي 1399هـ، 1979م، وكان رأي الأكثرية جواز الإلزام بالوعد في هذه المعاملة، ولهذا جاءت توصية المؤتمر على النحو التالي:
يرى المؤتمر أن هذا التعامل يتضمن وعدا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع، بعد الشراء طبقا لذلك الشرط.
إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقا لأحكام المذاهب الأخرى، وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه.
تحتاج صيغ العقود في هذا التعامل إلى دقة شرعية فنية، وقد يحتاج الإلزام القانوني بها في بعض الدول الإسلامية إلى إصدار قانون بذلك. (1) انتهت التوصية.
__________
(1) مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي 1399هـ – 1979 م ص 14(5/741)
وبحث هذا الموضوع مرة أخرى في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني المنعقد بالكويت في جمادى الآخرة 1403هـ – مارس 1983م، وأصدر فيه المؤتمر التوصية التالية:
8- يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء، بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها، ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق هو أمر جائز شرعا، طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي.
وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزما للآمر أو المصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل، وأن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعا، وكل مصرف مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه.
وكانت التوصية الخاصة بجواز بيع المرابحة للآمر بالشراء بالإجماع، أما التوصية الخاصة بجواز الإلزام بالوعد فكانت رأي الأكثرية.
وبحث هذا الموضوع مرة ثالثة في ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي المنعقدة بالمدينة المنورة في شهر رمضان 1403هـ – يونيو 1983م، وجاءت الفتوى على النحو التالي:
" وأما الصورة المرابحة للآمر بالشراء فإن اللجنة تؤكد ما ورد في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي المنعقد في الكويت مع ما تضمنت من تحفظات بالنسبة للإلزام".
وقد اختلف العمل في البنوك الإسلامية بالنسبة لإلزام الآمر بوعده وعدمه، تبعا لاختلاف فتاوى هيئات الرقابة الشرعية للبنوك، والعمل في كل البنوك الإسلامية في السودان على عدم الإلزام، ما عدا بنكا واحد، وتضمن بعض البنوك نصا صريحا في العقد يعطي الآمر الخيار في الشراء وعدمه، عندما يقدم له البنك السلعة المطلوبة.
والصواب عندي هو عدم إلزام الآمر بالشراء للأدلة التي ذكرها المتقدمون من الفقهاء، وأقواها أن بيع المرابحة للآمر بالشراء مع إلزام الأمر بوعده يؤدي إلى بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأنه لا فرق بين أن يقول شخص لآخر: بعتك سلعة كذا بمبلغ كذا، والسلعة ليست عنده، وبين أن يقول شخص لآخر: اشتر سلعة كذا، وأنا ملتزم بشرائها منك بمبلغ كذا وبيع الإنسان ما ليس عنده منهي عنه بحديث: " لا تبع ما ليس عندك" (1) ولا يغير من هذه الحقيقة كون البنك والآمر بالشراء سينشئان عقد بيع من جديد بعد شراء البنك السلعة وتقديمها للآمر، ما دام كل واحد منهما ملزما بإنشاء البيع على الصورة التي تضمنها الوعد.
__________
(1) انظر الجامع الصحيح 3/536، ومنتقى الأخبار مع نيل الأوطار 5/252، والغرر وأثره في العقود للدكتور الصديق الضرير 318 وما بعدها(5/742)
أدلة المجوزين للإلزام بالوعد في بيع المرابحة، ودفعها:
استدل المجوزون لإلزام كل من البنك والآمر بالشراء بوعده في بيع المرابحة للآمر بالشراء بدليلين:
الأول: أن الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقا لأحكام المذاهب الأخرى، وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء، وإذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه (1) .
الثاني: الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل (2) .
والدليلان غير مقبولين عندي:
أما الدليل الأول، فغير وارد في مسألتنا هذه؛ لأن الوعد الذي وقع الاختلاف فيه بين المالكية وغيرهم، فقال المالكية بالإلزام به ديانة وقضاء، وقال غيرهم بالإلزام به ديانة لا قضاء، هو الوعد بالمعروف من جانب واحد، كأن يعد شخص آخر بأن يدفع له مبلغا من المال، ومسألتنا هذه ليست من هذا القبيل؛ لأن الوعد فيها من أحد الطرفين يقابله وعد من الطرف الآخر، فهو أقرب إلى العقد منه إلى الوعد، وينبغي أن تطبق عليه أحكام العقد.
ثم إن الوعد الملزم الذي يجب الوفاء به ديانة وقضاء، أو ديانة فقط، هو الوعد الذي لا يترتب على الإلزام به محظور، والإلزام بالوعد في مسألتنا هذه يترتب عليه محظور، هو بيع الإنسان ما لا يملك.
وبناء على هذا فلا يصح القول بالإلزام بالوعد في هذه المعاملة اعتمادا على رأي المالكية أو غيرهم، ويؤيد هذا أن الإمام مالكا وفقهاء المالكية من بعده نصوا على منع هذه المعاملة إذا وقعت على الإلزام (3) .
__________
(1) مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي 1399هـ- 1979م ص14
(2) مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت 1403هـ – 1983م
(3) راجع ص 3 وراجع شراح متن خليل عند قوله: " جاز لمطلوب منه سلعة ... "(5/743)
ويزيد هذا الأمر وضوحا أن المالكية لا يسمون مثل هذه المعاملة وعدا، وإنما يسمونها " مواعدة "، ولهم في المواعدة قاعدة تنطبق تمام الانطباق على مسألتنا، وهذا هو نص القاعدة مع شرحها:
القاعدة الخامسة والستون:
" الأصل منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال حماية "
ومن ثم منع مالك المواعدة في العدة، وعلى بيع الطعام قبل قبضه ووقت نداء الجمعة، وعلى ما ليس عندك ... " (1) .
وأما الدليل الثاني، وهو أن في الإلزام استقرار المعاملات ومصلحة الطرفين فهو غير مقبول أيضا، بعدما ثبت أن في الإلزام محظورا شرعيًّا؛ لأن المصلحة التي فيه تكون غير معتبرة شرعا، فهي كالمصلحة التي تعود على الطرفين في بيع الإنسان ما ليس عنده الذي نهى عنه الشارع.
هذا لو سلمنا بأن في الإلزام مصلحة الطرفين واستقرار المعاملات (2) .
صحيح أن البنك يصيبه ضرر كبير إذا كانت السلعة المأمور بشرائها لا تصلح إلا للآمر، ورفض شراءها من البنك بعدما تملكها.
لقد تنبه القائلون بعدم الإلزام لهذه الحالة، وأرشدنا الإمام محمد بن الحسن إلى أن المخرج الذي يجعل البنك في مأمن من الضرر، هو أن يشترط لنفسه خيار الشرط عندما يشتري السلعة المطلوبة، ثم يعرضها على الآمر في مدة الخيار، فإن قبلها تم البيع ولزمته، وإن رفضها ردها البنك إلى من اشتراها منه (3) .
__________
(1) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك تأليف أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي 278
(2) انظر رأي الدكتور أحمد علي عبد الله في أن استقرار المعاملات والمصلحة في عدم الإلزام، لا في الإلزام، المرابحة: أصولها وأحكامها وتطبيقاتها في المصاريف 255-260 (رسالة دكتوراه على الآلة الكاتبة) .
(3) انظر ص4(5/744)
مسألة تحتاج إلى بحث:
يتبين لنا مما تقدم أنه لا خلاف بين الفقهاء، المتقدمين منهم والمعاصرين، في أنه يشترط لصحة بيع المرابحة للآمر بالشراء أن يتم عقد البيع بعد أن يتملك المأمور السلعة المطلوبة، عملا بالحديث الذي ينهى عن بيع الإنسان ما ليس عنده، كما يتبين لنا أن المتقدمين من الفقهاء اشترطوا لصحة بيع المرابحة للآمر بالشراء أن يكون للآمر الخيار في إنشاء العقد بعد أن يتملك المأمور السلعة، ولا يجوز إلزامه بإنشاء العقد؛ لأنه يؤدي إلى بيع المأمور السلعة قبل أن يتملكها، وقد أخذ بعض الفقهاء المعاصرين بهذا الرأي، وخالف بعض منهم، فجوز إلزام الآمر بإنشاء العقد، ولم ير فيه مخالفة للحديث؛ لأن البيع يتم بعد أن يتملك المأمور السلعة.
وظهر في أثناء النقاش في هذا الموضوع اتجاه ثالث يطالب ببحث ما يدل عليه حديث: " لا تبع ما ليس عندك"، هل يتناول النهي فيه كل ما ليس في ملك البائع عند العقد، سواء أكان شيئا معينا، أو موصوفا في الذمة، وسواء أكان مدخولا على تسليمه في الحال، أو بعد مدة من الزمان؟ أم يختص ببعض هذه الحالات؟
وقد كان لي رأي قديم في فهم هذا الحديث، كتبته قبل عشرين عاما، خلاصته أن النهي في الحديث يتناول بيع الإنسان ما لا يملك إذا كان مدخولا على تسليمه في الحال، ولا يتناول بيع الأشياء الموصوفة المتفق على تسليمها بعد مدة محددة من الزمان؛ لأن العلة في المنع هي الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم، وهذا الغرر يزول، أو يقل، إذا كان التسليم بعد مدة يغلب فيها تمكن البائع من الحصول على المبيع وتسليمه للمشتري، وأخذت من هذا أن بيع الاستيراد المتعارف عليه في عصرنا الحاضر لا يشمله النهي الوارد في الحديث (1) ، ولكني توقفت عن الفتوى بهذا الرأي عندما عرضت علينا مسألة من هذه القبيل في هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني، التي أتشرف برئاستها، وأصدرت الهيئة فتوى متمشية مع ما عليه الفقهاء من الأخذ بظاهر الحديث، ومنع بيع كل من ليس في ملك البائع، إلا أن يكون بيع سلم، وأرسلت بمذكرة في هذا الشأن إلى الهيئة العليا للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية طلبت فيها بحث هذا الموضوع، ولكن لم يتيسر بحثه إلى اليوم.
وقد خصص الدكتور أحمد علي عبد الله فصلا لهذا الموضوع في رسالته عن المرابحة: أصولها، وأحكامها، وتطبيقاتها في المصارف الإسلامية (2) ثم قدم هذا الموضوع تحت عنوان " البيع على الصفة " في ندوة في الخرطوم شارك فيها بعض أعضاء هيئات الرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية بالخرطوم، ولكن لم يصلوا فيه إلى رأي موحد.
وأقترح أن يبحث المجمع هذا الموضوع في دورته القادمة.
ونسأل الله التوفيق والهداية
الصديق محمد الأمين الضرير
__________
(1) انظر كتاب الغرر وأثره في العقود 320
(2) رسالة دكتوراه أعدت في قسم الشريعة الإسلامية بكلية القانون بجامعة الخرطوم، الفصل الثالث (261- 303) وصاحب الرسالة يعمل مديرا لإدارة الفتوى والبحوث ببنك التضامن الإسلامي بالخرطوم(5/745)
المرابحة للآمر بالشراء
دراسة مقارنة
إعداد
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
الأستاذ بكلية الشريعة جامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
وبعد: من البيوع التي تناولها التشريع الإسلامي بالبحث: (بيوع الأمانة) وقد أطلق عليها هذه الوصف؛ لأنها تقوم على الأمانة فعلا، حتى إن مجرد الكذب فيها يعتبر خيانة وتدليسا، وتعتبر بحق منطقة حرام كما عبر عنها الأستاذ السنهوري، يفترض فيها على الناس الأمانة في التعامل إلى أبعد مدى (1) .
وقد أعطى فيها الفقه الإسلامي المجال لمن قلت خبرته في التعامل أن يتوقى غش الناس إياه وذلك بالتعامل معهم وفق حدود معينة، فتعتبر مجاوزة تلك الحدود خديعة وتغريرا، تجوز للطرف المقابل المطالبة بحقه ورفع الغبن الذي لحق به.
وهكذا نجد الفقه الإسلامي قد تكفل بحماية من هو بحاجة لدفع الأذى عنه ورفع ما يعتريه من غبن الآخرين له.
وجملة القول في عقود الأمانة هذه، أن المشتري فيها يضع ثقته بالبائع ويطمئن إلى أمانته فيشتري منه السلعة على أساس ثمنها الذي اشترى به البائع نفسه هذه السلعة، وفي هذه الحالة إما أن يربح المشتري البائع قدرا معلوما من المال زيادة على الثمن الأول، فيسمى البيع مرابحة، وإما أن ينقصه من الثمن الأصلي للسلعة بأن يخسر البائع جزءا من رأس ماله فيسمى البيع وضيعة، وإما ألا يزيد ولا ينقص، بل يأخذ المبيع بثمنه الأصلي، فيسمى البيع تولية، وإن أشرك معه آخر في المبيع بما يقابله من الثمن، سمي العقد إشراكا ومشاركة.
والذي يعنينا بالبحث هنا، هو عقد المرابحة، وهل يلزم الآمر بالشراء مرابحة بالوفاء بوعده؟
ومن هنا يظهر لنا بوضوح أن طبيعة البحث تقتضي الكلام في مسألتين، وذلك إتماما لفائدة البحث.
إحداهما: عقد المرابحة.
والثانية: الوعد، وهل يلزم الوفاء به في عقود المعاوضات ومنها المرابحة؟ وسأحاول في بحثي هذا إن شاء الله تقصي رأي فقهاء المسلمين، السلف والخلف منهم في هاتين المسألتين.
داعيا العلي القدير أن يوفقنا جميعا لخدمة ديننا الحنيف إنه سميع مجيب.
الباحث
__________
(1) انظر مصادر الحق في الفقه الإسلامي 154/2 وما بعدها(5/746)
المرابحة في اللغة:
جاء في لسان العرب، يقال " ربح فلان ورابحته وهذا بيع مربح إذا كان يربح فيه " والعرب تقول: ربحت تجارته إذا نال صاحبها الربح فيها.
ويقال: أربحته على سلعته، بمعنى أعطيته ربحا " وقد أربحه بمتاعه وأعطاه مالًا مرابحة أي على الربح بينهما ".
كما أنه يقال: بعت الشيء مرابحة أو بعت السلعة لفلان مرابحة على كل عشرة دنانير دينار واحد، وكذلك الحال بالنسبة للشراء، إذ يقال: اشتريته مرابحة، ولا بد من تسمية الربح (1) ، والمرابحة مفاعلة، بمعنى أنها تقتضي فعلا من الجانبين؛ لأن إبرام العقد متوقف على رضاهما، فكان كل عاقد فاعلًا للربح وإن اختص به أحدهما (2) .
فعلى هذا تكون لفظة المرابحة مشتقة من رابح وأربح، وكلا اللفظين يعنيان البيع أو الشراء بزيادة على رأس المال وهو الربح، وهذا هو المعنى الشرعي لمعنى المرابحة، وبذلك يلتقي مدلول الكلمة اللغوي مع مدلولها في الاصطلاح كما سنرى.
المرابحة في الاصطلاح:
عرفت المرابحة بعدة تعاريف وكلها تعني الزيادة على رأس المال، فعند الحنفية، المرابحة " نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح " (3) . وقد عرف الدردير من المالكية المرابحة بتعريف مقارب لما قاله الحنفية حيث قال: المرابحة عبارة عن بيع السلعة بالثمن المشتراة به مع زيادة ربح معلوم للمتعاقدين (4) . وعرفها الحنابلة بقولهم: " هو البيع برأس المال وربح معلوم " (5) .
__________
(1) انظر مادة (ربح) في لسان العرب لابن منظور الأفريقي
(2) انظر مفتاح الكرامة شرح قواعد العلامة لمحمد جواد العاملي 486/6
(3) شرح الهداية المطبوع مع فتح القدير 252- 5
(4) انظر الشرح الكبير على سيدي خليل 159/3
(5) انظر المغني لابن قدامة المقدسي 136/4(5/747)
شروط المرابحة:
بما أن المرابحة عقد معاوضة، فإنه يخضع لكافة الشروط الواجب توافرها في عقود المعاوضات الأخرى، والتي تناولها الفقهاء بالبحث مما لا مجال لبحثها هنا، وبما أنه عقد أمانة، فإنه يخضع لشروط خاصة يجب توافرها فيه.
والشروط التي تخص المرابحة هي التي يعنينا الكلام عنها هنا.
وشروط المرابحة، منها ما يخص الصيغة ومنها ما يخص رأس المال، ومنها ما يتعلق بالربح.
شروط الصيغة:
بما أن المرابحة بيع فإنه يشترط فيها ما يشترط في سائر البيوع الأخرى، وذلك بأن تحتوي الصيغة على لفظ ينم عن رغبة العاقدين في إبرام العقد مع تطابق الإيجاب والقبول، وأن يكونا بلفظين ماضيين أو أحدهما ماضٍ والآخر مستقبل، وذلك كأن يقول البائع للمشتري: بعتك هذه السلعة بألف دينار أو بما اشتريت به وربح دينار لكل مائة، أو ما جرى مجرى هذا اللفظ، فيجيبه الطرف الثاني بالموافقة، بأن يقول: رضيت أو قبلت أو ما أشبه ذلك، ولا بد أن ينص في الصيغة على قدر رأس المال والربح، كما أنه لا بد من ذكر المصرف والوزن إن اختلفا.
وإذا كان البائع لم يحدث في المبيع شيئا بأن باعه بالصورة التي اشتراه بها، فالعبارة عن الثمن أن يقول: اشتريت بكذا أو رأس ماله كذا أو تقوم علي أو هو علي (1) .
أما لو عمل فيه ما يستوجب زيادة الثمن، فإنه يقول: رأس ماله كذا وعملت فيه بكذا، وإن أعطي على العمل أجرة، جاز له أن يقول: تقوم علي أو هو علي، كما سيتضح لنا ذلك من خلال البحث بإذن الله.
__________
(1) انظر شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 4/2(5/748)
رأس المال، ماهية رأس المال:
إن المقصود برأس المال، هو ما يلزم المشتري بالعقد لا ما نقده فيما بعد، وذلك لأن المرابحة بيع بالثمن الأول، والثمن الأول هو ما وجب بالبيع، فأما ما يدفعه بعد ذلك فإنما وجب عليه بعقد آخر، وهو الاستبدال، ونعني به أخذ مال بدل مال آخر، فالمشتري الثاني ملزم بدفع ما وجب بالعقد لا المدفوع بعده، هذه وجهة نظر الحنفية (1) . وبناء على ما قالوه: لو اشترى رجل سلعة بمائة درهم ونقد مكانها عشرة دنانير أو أعطاه دابة بدل السلعة، فرأس المال هو المائة درهم لا الدنانير ولا الدابة؛ لأن الدراهم هي التي وجبت بالعقد، والدنانير أو الدابة بدل عن الثمن الواجب (2) ، وبهذا قالت الزيدية أيضا، مدللين على رأيهم: بأن المبلغ المتفق عليه في العقد معلوم، والعرض المدفوع بدله، عقد منفصل (3) .
وقد خالف المالكية وجهة نظر الحنفية والزيدية هذه، حيث اعتبروا المدفوع هو رأس المال سواء كان ما اتفق عليه في العقد أو فيما اصطلح عليه فيما بعد، إذا كان نقدا من النقود. إلا أنهم اشترطوا على البائع بيان ذلك للمشتري، فقد جاء في المدونة إن الإمام مالك سئل عن رجل اشترى سلعة بمائة دينار فأعطى عوض المائة ألف درهم، فهل يجوز للبائع بيع السلعة مرابحة على الألف درهم؟
فأجاب رحمه الله بالجواز على أن يوضح البائع ذلك للمشتري، وعندئذ لا فرق بين أن تكون الدنانير أو الدراهم هي رأس المال إذا رضي المشتري بذلك (4) .
ولو أن المشتري دفع عروضًا بدل الثمن نقدا، فإذا أراد بيع المبيع مرابحة، فهل يجوز له أن يجعل العرض نفسه ثمنا أم لا بد من جعل النقد هو الثمن؟
اختلفت المالكية في هذه المسألة على رأيين:
أحدهما لابن القاسم ويقضي بأنه لا بأس في ذلك إذا بين البائع ماهية العرض وصفته بأن يقول للمشتري: أبيعك هذه السلعة بربح كذا وكذا ورأس مالها عربة صفتها كذا وكذا وعندئذ يستحق العربة المذكورة وما سمى من الربح.
أما لو أراد أن يجعل قيمة العربة هذه هي الثمن، فلا يحل له ذلك، وقاس ابن القاسم جواز بيع المرابحة بهذه الصورة على ما لو اشترى رجل سلعة بطعام، فللمشتري بيعها بطعام إذا وصف ذلك.
الرأي الثاني وهو لأشهب، ويقضي بعدم جواز البيع مرابحة في الصورة مدار البحث؛ لأن المسألة تؤول إلى بيع ما ليس عنده وهذا لا يجوز، مبرهنا على ذلك بقوله: إن البائع قد باع سلعته بطعام أو بعرض، وليس في ملك المشتري أحد منهما، فصار البائع كأنه اشترى من المشتري بسلعته ما ليس عند المشتري، فيصبح كأنه باع ما ليس عنده، وذلك غير جائز (5) .
__________
(1) انظر البدائع 3197/7 وما بعدها
(2) انظر البدائع 3197/7 وما بعدها
(3) انظر البحر الزخار 379/4
(4) انظر230/4
(5) انظر المدونة 231/4(5/749)
الرأي المختار:
من خلال عرضنا لرأي الفقهاء في هذه المسألة، يترجح لنا رأي المالكية؛ لأن الثمن المدفوع إذا كان نوعا من النقود فلا ضير من استبداله بنقد آخر.
وإذا كان المدفوع عرضا وقد رضي الطرفان باعتباره ثمنا، فلا بأس في ذلك أيضا؛ لأن المحذور التدليس على المشتري وهذا ينتفي عند بيان الأمر له ورضاه به.
حكم الزيادة والحطيطة في ثمن المبيع:
لو أراد المشتري أن يزيد في ثمن السلعة المباعة، أو أراد البائع أن يحط من ثمنها شيئا، فإذا بيعت تلك السلعة مرابحة، فهل تعتبر الزيادة والحطيطة من الثمن، أم الثمن هو ما اتفق عليه أولا؟
الجواب على هذا: إن الزيادة والحطيطة إذا وقعت في مدة الخيار، لحقت بالعقد؛ لأن الثمن غير مستقر زمن الخيار، فإذا ما انتهى الخيار لزم العقد واستقر الثمن.
أما لو وقعت الزيادة أو الحطيطة بعد إبرام العقد ولزومه، فقد اختلف الفقهاء على رأيين:
1- ذهب أصحاب الرأي الأول إلى القول: بأن الحط أو الزيادة كما تلحق بأصل الثمن في مدة الخيار كذلك تلحق به بعد مضيه؛ لأن كلا منهما يلحق بأصل العقد، فيصير التقدير كأن التعاقد قد تم على أصل الثمن مع الزيادة جميعا، فتصبح الزيادة والأصل رأس مال المبيع، لوجوبهما بالعقد تقديرا، فيباع المبيع مرابحة عليهما، وكذلك يعتبر الباقي بعد الحط رأس مال المبيع أيضا.
هذه وجه نظر الحنفية (1) ، ورواية عن الحنابلة (2) ، وبه قالت الزيدية أيضا (3) ، وهذا كما يبدو لي رأي المالكية، بناء على قولهم: بأن اللاحق للبيع كالواقع فيه (4) .
2- ذهب الحنابلة في رأيهم الثاني إلى عدم إلحاق الزيادة في الثمن أو الحط منه بأصل العقد بعد لزومه؛ لأنها تعتبر من قبيل الهبة أو الإبراء، لا العوض، هذا هو رأي المذهب عندهم وعليه أصحابهم (5) وهذه وجهة نظر الشافعية (6) ، والإمامية أيضا (7) .
والرأي الأخير هو الراجح عندي، لما قالوه من أن الزيادة أو الحط في هذه الحالة تعتبر من قبيل الهبة أو الإبراء؛ ولأن الثمن يستقر بعد لزوم العقد، فلا تلحق به الزيادة أو الحطيطة بعد ذلك.
__________
(1) انظر الكاساني في البدائع، 3198/7
(2) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 443/4
(3) انظر البحر الزخار 379/4
(4) انظر الشرح الكبير للدردير 165/3
(5) انظر ابن قدامة في المغني 137/4
(6) انظر مغني المحتاج 78/2 والشيرازي في المهذب 289/1
(7) انظر مفتاح الكرامة 491/4(5/750)
رأي الفقهاء في زيادة المبيع بسبب نمائه:
إذا كانت الزيادة الحاصلة في المبيع عند المشتري بسبب طبيعي لا دخل للمشتري فيه كالسمن والكِبَر في الحيوان، فالمرابحة في مثل هذه الحالة تكون على الثمن الأول للمبيع، ولا يحق للمشتري أن يزيد في الثمن؛ لأنه القدر الذي تم شراء السلعة به من البائع الأول.
أما لو كان النماء منفصلا وأراد البائع أخذه فللفقهاء رأيان في المسألة عندئذ:
1- ذهب أصحاب الرأي الأول إلى القول: بأنه يجوز للمشترى بيع المبيع مرابحة برأس ماله الأصلي دون أن يشترطوا عليه بيان الحال للمشتري الجديد، حجتهم في ذلك ما يأتي:
أ- أن البائع – المشتري الأول – صادق فيما أخبر به دون أن يغرر بالمشتري الثاني، فجاز له السكوت عن أخذ النماء كما لو لم يزد على رأس المال شيئًا.
ب- أن ولد الحيوان أو ثمرة الشجرة كل ذلك نماء منفصل عن الأصل فلم يمنع من بيع المبيع مرابحة دون الإشارة إليه كالغلة، كما أنه ليس من موجبات العقد.
ج- أن العقد لم يتناول تلك الفائدة كي نلزم البائع ببيانها للمشتري.
هذا هو الصحيح في مذهب الحنابلة (1) وبه قالت الشافعية أيضا (2) . وإلى هذا ذهب الإمامية، حجتهم في ذلك: أن النماء عبارة عن فائدة تجددت في ملك المشترى (3) وهذه وجهة نظر الزيدية أيضا (4) .
__________
(1) انظر الانصاف 433/4 وكذا المغنى 137/4
(2) انظر الشيرازي في المهذب 289/1
(3) انظر مفتاح الكرامة شرح قواعد العلامة490/4
(4) البحر الزخار 4/378(5/751)
2- اشترط أصحاب الرأي الثاني على البائع في حالة أخذه نماء البيع المنفصل، بيان ذلك للمشترى عند التعاقد، معللين ذلك بقولهم:
أ- إن الزيادة الحاصلة من المبيع تعتبر من جملته أيضا، برهان ذلك، أنها تمنع رده بالعيب وإن لم يكن لها حصة من الثمن للحال، فإن لم يوضح البائع ذلك للمشتري، يصبح بمثابة حبسه بعض المبيع وبيعه الباقي، فلا يجوز له من غير بيان (1) .
ب- إن استغلال المشترى للمبيع، دليل على تأخره عنده، مما يجعله عرضة لانخفاض قيمته التي تتأثر باختلاف السوق بين الحين والآخر، فبيعه مرابحة من دون توضيح ذلك المشتري، فيه شيء من الغرر، والمرابحة مبنية على الأمانة وعدم الغرر (2) .
هذا ما قاله الأحناف (3) ، والمالكية (4) ، ووجه عند الحنابلة (5) .
مناقشة وترجيح:
إن القول بصدق البائع مع سكوته عن أخذ النماء غير مسلم، لأن النماء فرع عن المبيع، فالمفروض في البائع عند بيعه الأصل وإبقاء الفرع عنده، أن يوضح ذلك للمشتري، لأن المرابحة ليست بيعًا كسائر البيوع من هذه الجهة، فإن الأمانة تفرض على العاقد فيها عدم إخفاء ما فيه أدنى صلة بالمبيع عند بيعه، تحرزًا عن شبهة الخيانة.
لذا يكون الرأي الثاني هو المرجح عندي، والله أعلم.
__________
(1) بدائع الصنائع 7/3201
(2) انظر المدونة 4/228
(3) بدائع الصنائع
(4) انظر المدونة في 4/228
(5) انظر المرداوي في المصدر السابق: " الإنصاف"(5/752)
حكم ما لو استغل المشتري المبيع:
إن كلامنا عن النماء المنفصل عن المبيع وجواز أخذه من قبل المشتري الذي يعتبر بائعًا في العقد الجديد دون بيان ذلك أو عدم جوازه، دعانا للخوض فيما أثاره الفقهاء بخصوص استغلال المبيع، وذلك كأن تكون العين المتعاقد عليها دارًا فأجرها المشتري أو سكنها فترة من الزمن، أو دابة فكراها للغير أو شاة حلوبًا فاستفاد من لبنها مدة بقائها عنده، فهل يجوز والحالة هذه بيع تلك العين مرابحة دون بيان ما استفاده المشتري منها أم لا؟
الجواب على ذلك: إن الشيء المستفاد من العين المبيعة لا يخلو من أحد أمرين، لأنه إما أن يكون موجودًا أثناء العقد الأول أم لا، فإن كان موجودًا في العقد الأول وذلك كالصوف فوق ظهر الحيوان أو اللبن الموجود في ضرعه، ففي هذه الحالة إذا استغل المشتري المبيع، فالواجب يقضي عليه بيان ذلك للعاقد الجديد، لأن المبيع قد تغير بعد ذلك إلى حالة أنقص من الحالة الأولى، ولما كانت المرابحة مبنية على الأمانة ونفي التغرير بالمشتري والتدليس عليه، وجب توضيح ذلك له.
هذا ما ذهب إليه الحنابلة (1) والحنفية (2) والمالكية، (3) وقد ذهب الشافعية إلى أكثر من هذا، حيث ألزموا البائع في هذه الحالة أن يحط من ثمن المبيع بقدر قيمة ما استفاد منه، حجتهم في ذلك: أن العقد الأول قد تناول هذه الغلة وقابله قسط من الثمن، فوجب إسقاط ما قابله، (4) وهذه وجهة نظر الإمامية (5) وبه قالت الزيدية أيضًا (6)
أما لو كان المستغل من المبيع قد حصل في ملك المشتري، فلا يحط مقابل ذلك شيئًا من الثمن ولا يجب على البائع إطلاع المشتري على الشيء الذي استفاده من المبيع، دليل ذلك هو:
1- إن الزيادة التي لم تتولد من المبيع لا تعتبر مبيعة، وعلى هذا جاز للمشتري رد المبيع إذا اطلع على عيب فيه.
2- إن المشتري في حالة بيعه المبيع بعد استغلاله لم يكن حابسًا لجزء منه كي نشترط عليه بيان ذلك. (7)
3- إن العقد الأول لم يتناول الزيادة الطارئة، فلا يشترط بيانها في العقد الجديد (8)
4- إن الغلة المستفادة من المبيع، يقابلها ضمان المستفيد. (9)
هذه وجهة نظر الحنفية (10) والشافعية (11) والصحيح من مذهب الحنابلة، (12) وبه قالت الإمامية (13) والزيدية. (14)
أما المالكية فقد فرقوا بين ما إذا كانت مدة الاستفادة قصيرة أو طويلة، فإن كانت المدة قصيرة فالرأي عندهم مثل ما قاله الآخرون في عدم اشتراط بيان الغلة المستفادة من المبيع، أما لو طالت المدة فالواجب على البائع بيان ذلك للمشتري، معللين ذلك، بأن سعر المبيع يختلف في هذه الحالة لاختلاف الأسواق، لذا ينبغي توضيح الأمر للعاقد الجديد. (15)
__________
(1) انظر ابن قدامة في المغني 4/138
(2) البدائع7/3201
(3) المدونة 4/228 وانظر الخرشي 5/176
(4) المهذب 1/289
(5) مفتاح الكرامة 4/490
(6) البحر الزخار 4/378
(7) البدائع 7/3201
(8) المهذب 1/289
(9) الخرشي 5/178
(10) البدائع 7/3201
(11) المهذب 1/289
(12) الإنصاف 4/443 وانظر ابن قدامة في المغني 4/137
(13) مفتاح الكرامة 4/490
(14) البحر الزخار 4/378
(15) المدونة 4/228(5/753)
رأينا فيما قاله المالكية:
لا أرى موجبًا للتفريق بين طول المدة أو قصرها، فبالإضافة إلى ما ذكره غيرهم من أدلة، فإن اختلاف السعر أمر غير خاف على العاقد الجديد، وكل ما هو مطلوب من البائع في بيع المرابحة، أن يكون صادقًا في قوله غير مغرر ولا مدلس على المشتري، فحينما تكون الفائدة قد حدثت عنده وقد استغلها مدة طويلة بعد دخول المبيع في ملكه أو قصيرة يكون بمنأى عن ذلك، فعليه لا أرى موجبًا لبيان الغلة من قبل البائع عند دخوله في عقد مرابحة مع الغير.
حكم ما لو أضاف المشتري على المبيع شيئًا من ماله:
لو فرض أن المبيع بعد دخوله في ملك المشتري طرأ عليه تغيير بسبب من المشتري وذلك كأن يكون قماشًا فصبغه أو دارًا فرممها، ففي مثل هذه الحالة إما أن تكون الزيادة المذكورة قد فعلها المشتري بنفسه أو أعطى عليها أجرة، ولكل حالة من هاتين الحالتين حكمها الخاص بها.
حكم ما لو كانت الإضافة بدون أجرة:
لو أن المشتري كان قد فعل الإضافة بنفسه أو تطوع له بها شخص، فلا يحق له أن يزيد في رأس مال المبيع الأصلي شيئًا إلا أن يوضح للعاقد الجديد ذلك بأن يقول له: بعتك هذا المبيع بكذا وأجرة عملي أو عمل المتطوع عني وهي كذا أو ربح كذا، وإذا أراد السكوت عنها، فليس له إلا إضافة قيمة الصبغ فقط أو ما أشبهه من عين أخرى.
كما أن الأجرة لا تدخل في قول البائع، قام علي المبيع بكذا، لأن عمله وما تطوع له به، لم يقم عليه، وإنما الذي يبذله من ماله على المبيع هو ما قام عليه فقط، هذه وجهة نظر الحنفية، (1) والشافعية، (2) والحنابلة (3) وبه قالت الإمامية، (4) والزيدية أيضًا. (5)
أما المالكية فقد وافقوا غيرهم في القول بعدم ضم أجرة عمله إلى ثمن المبيع في مثل هذه الحالة، إلا أنهم يختلفون معهم في ضم قيمة الصبغ إلى الثمن، حيث قالوا: بأن الصبغ المعني إما أن يكون من عند البائع أو لا، فإن كان من عنده، فإن قيمته لا تضم إلى رأس مال المبيع، وإلا حسبت منه. (6)
وقول المالكية هذا أمر فيه نظر، إذ لا فرق بين قيمة العين المضافة إلى رأس مال المبيع بين أن تكون العين ملكًا للبائع فأضافها إلى المبيع أو اشتراها من الغير، لأنها عين ولا بد لها من قيمة.
__________
(1) انظر المبسوط لشمس الدين السرخسي 13/82
(2) مغني المحتاج 2/78
(3) المغني 4/137
(4) قواعد العلامة 6/489
(5) البحر الزخار 4/377
(6) الشرح الكبير للدردير 3/160(5/754)
حكم الزيادة المضافة على المبيع إذا كانت لقاء ثمن:
اتفق الفقهاء على القول: بأن الزيادة التي أضافها المشتري على العين المشتراة وكان قد دفع عوضها مالًا، فإنها تحسب من رأس المال وتحسب لها نسبة من الربح أيضًا، دليلهم في ذلك ما يأتي:
أ- إن عرف التجار معتبر في مثل هذه العقود، فما جرى العرف بإلحاقه برأس المال ألحق، وما لا فلا، ولما كان العرف يقضي بإلحاق مثل هذه الإضافة على أصل الثمن وجب القول به.
ب- كل ما أثر في المبيع تزداد به ماليته صورة أو معنى، فللبائع أن يلحق ما أنفقه فيه برأس المال والصبغ أو الخياطة وصف في العين تزداد به المالية، لذا جاز إلحاقه بالثمن الأصلي. (1)
إلا أنهم اختلفوا في القول بإلزام البائع بتوضيح ذلك للمشتري أو عدم إلزامه على قولين:
الأول: إن البائع ملزم بتفصيل ذلك للمشتري، ولا فرق بين تفصيله إياه ابتداء أو يجمله ثم يفصله بعدئذ، أما لو أراد أن يجمل رأس المال الأصلي مع الإضافة، ويقول: قامت علي السلعة بكذا، فلا يجوز له ذلك، والأصل في العقد في مثل هذه الحالة الفساد، هذه وجهة نظر المالكية، (2) وهو رأي المذهب عند الحنابلة (3) وحكى ابن قدامة ذلك عن الحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب وطاوس وغيرهم من فقهاء السلف. (4)
الثاني: أجاز فريق من العلماء للبائع في صورة البيع هذه، أن يقول: قام علي المبيع بكذا، إلا أنه لا يجوز له أن يقول: اشتريته بكذا، لئلا يكون كاذبًا في قوله، إذ القيام عبارة عن الحصول بما غرمه البائع، ولا شك بأنه عندما زاد في المبيع شيئًا جديدًا، قد غرم فيه ثمن الزيادة، هذا ما ذهب إليه الحنفية (5) وبهذا قال الشافعية أيضًا (6) ووجه عند الحنابلة، (7) وحكى صاحب القواعد مثل ذلك عن الإمامية، (8) وهذه وجهة نظر الزيدية أيضًا. (9)
وما ذهب إليه أصحاب الرأي الثاني هو المختار لما ذكره من تدليل، ولأن البائع صادق في قوله: قام على المبيع بكذا. والعقد في مثل هذه الصورة تتوفر فيه الأمانة.
__________
(1) المبسوط 13/80
(2) الدردير في الشرح الكبير ص 163
(3) المغني 4/137
(4) المغني 4/137
(5) شرح العناية على الهداية وكذا فتح القدير 5/255
(6) مغني المحتاج 2/78
(7) الإنصاف 4/444
(8) انظر 6/489
(9) البحر الزخار 4/377(5/755)
هل تضاف نفقات المبيع على رأس المال:
ذكرنا فيما مضى رأي الفقهاء في الإضافة التي تدخل على المبيع فتغير صورته كالصبغ والخياطة وما شابه ذلك، ونقف الآن على وجهة نظرهم عندما تكون الزيادة على المبيع، مقابل نقله وتحويله من مكان إلى مكان، أو يكون المبيع قطيعًا من الغنم فيدفع البائع أجرة رعيه، أو مكيلًا وموزونًا يحتاج إلى دار لخزنه، أو أجرة حراسة للحارس الذي يحرسه ونحو ذلك.
فالقول عند الفقهاء هو أن ما أنفقه التاجر على نفسه بسبب شرائه المبيع، لا تحسب نفقته من رأس المال، حجتهم في هذا هي:
أ- انعدام العرف في إضافة مثل هذه النفقات على رأس مال المبيع ظاهرًا.
ب- إن ما أنفقه التاجر على نفسه لا تزداد به مالية المبيع صورة ولا معنى، لهذا لا تحسب نفقاته من جملة رأس مال المبيع. (1)
أما ما عدا ذلك من النفقات التي تم صرفها على المبيع، فلا يخلو الأمر من أحد شيئين، أحدهما: أن يوضح البائع تلك النفقات للمشتري، ويشترط عليه ضمها إلى رأس مال المبيع، فيرضى الأخير بذلك، فيرابحه على ثمن المبيع مع زيادة تلك النفقات فهذا جائز والآخر أن يجمل القول، فيقول قام علي المبيع بكذا، وللفقهاء كلام فيما يجوز ضمه من النفقات وفيما لا يجوز عندئذ، نوجز القول فيه كما يأتي:
أولًا- الشافعية قالوا: تدخل في قول البائع قام المبيع علي بكذا، أجرة الكيال للثمن المكيل وأجرة الدلال والحارس وأجرة المكان والطبيب إذا اشترى المبيع مريضًا، وأجرة تطيين الدار والعلف المقصود به التسمين، واستثنوا من ذلك المؤن المقصود بها بقاء المبيع كعلف الحيوان المعتاد وأجرة الطبيب إذا حدث بالمبيع مرض عند البائع، فلا تضاف النفقة على رأس المال في مثل هذه الحالة.
واشترط الشافعية في مثل هذا البيع، على المتبايعين بثمن المبيع عند قول البائع للمشتري: بعتك المبيع بما قام علي دون تفصيل، ولو جهل أحدهما الثمن، ففي صحة البيع وعدمه عندهم ثلاثة أراء، الصحيح في المذهب بطلان البيع لجهالة الثمن، والثاني صحته لسهولة معرفة الثمن، ولأن الثمن الثاني مبني على الأول. والقول الثالث هو: إن علم المشتري الثاني بمقدار الثمن في المجلس، فالبيع صحيح، وإلا فلا. (2)
__________
(1) انظر المدونة 4/226، المبسوط 13/80وما بعدها
(2) انظر الشربيني في مغني المحتاج 78/2(5/756)
ثانيًا: الحنفية: وقد جاء رأيهم موافقًا مع رأي الشافعية في ضم أجرة حمل المبيع ونقله من مكان إلى مكان إلى رأس المال، وكذا أجرة الدلال وتطيين الدار، ومثله أجرة سوق الغنم، واتفقوا معهم أيضًا على عدم ضم أجرة الطبيب ومثله مروض الحيوان والبيطار.
إلا أنهم اختلفوا معهم في ضم كراء البيت لحفظ المبيع، فإنهم لا يقولون بضمه إلى الثمن، بحجة أن ذلك لا يزيد في العين ولا في القيمة، ومثل ذلك عندهم في الحكم أجرة الراعي، كما أنهم يختلفون مع الشافعية في قيمة علف الحيوان، فالحنفية أجازوا ضمها إلى رأس المال إلا أن تعود على البائع منفعة من الحيوان كاللبن والصوف والسمن، فعند ذلك يسقط ما قابله من المؤنة وينضم ما زاد. (1)
ثالثًا: المالكية: وافقوا غيرهم في القول: بضم أجرة حمولة المبيع وما معها ونحوهما كأجرة شده وطيه إلى أصل الثمن إذا كان العرف والعادة يقضيان بأن يستأجر عليهما.
واشترط اللخمي أن تزيد أجرة النقل في ثمن المبيع بأن يكون النقل من بلد أرخص إلى بلد أغلى، ولو أن سعر البلدين سواء فلا تحسب الأجرة عنده.
كما أنهم وافقوا الأحناف في ضم قيمة علف الحيوان إلى ثمنه الأصلي، ووافقوا غيرهم في القول أيضًا بضم أجرة الدلال إلى رأس مال المبيع إذا تولى بيعه، إلا أن المالكية يقولون بضم ما دفعه البائع من الأجور المذكورة إلى أصل الثمن دون أن يحسب في مقابل ذلك شيء من الربح، بمعنى أن المرابحة تكون على الثمن الأول دون أن تدخل الزيادة الطارئة عليه. (2)
__________
(1) السرخسي في المبسوط 83/13 وانظر فتح القدير 255/5
(2) انظر المدونة 226/4، الخرشي 173/5(5/757)
رابعًا- الحنابلة: والذي عليه مذهبهم أن ما أنفقه البائع على المبيع لا يدخل في قوله: تحصل أو قام علي بكذا، إلا أن يبين ذلك للمشتري، قالوا ويحتمل إدخالها في رأس المال. (1)
خامسًا- الإمامية والزيدية وقد جاء رأيهم موافقًا لما قاله الشافعية. (2)
الرأي المختار:
بعد هذا العرض لآراء الفقهاء بخصوص نفقة المبيع التي تدخل في ثمنه والتي لا تدخل يمكننا القول بأنه اتفقوا على إلحاق أكثر المؤن برأس المال، إلا أن خلافهم انصب على المؤن التي يقصد بها بقاء المبيع كعلف الحيوان مثلًا، حيث اختلفوا فيه على قولين كما رأينا.
كما أن المالكية انفردوا بالقول كما يظهر لي من النصوص الفقهية بجعل الربح في مقابل أصل الثمن فقط.
والذي أرجحه هو إلحاق جميع ما أنفقه المشتري من مال على المبيع برأس ماله الأصلي، إذ لا أرى مبررًا للتفريق بين نفقة وأخرى، فالمشتري قد قام بدفع أجور تلك النفقات من ماله الخاص زائدًا على الثمن الأول، فلم لا نعتبر تلك الزيادة جزءًا من رأس المال؟
كما أني أؤيد وجهة نظر الجمهور بجعل المرابحة على رأس المال الأخير، أي الثمن الأول زائدًا قيمة المؤن، لأن الكل صار بمثابة رأس مال واحد للمبيع.
__________
(1) انظر الإنصاف 4/444
(2) انظر قواعد العلامة 489/4 البحر الزخار 377/4(5/758)
المرابحة في هذه الحالة، والعلة في ذلك هي:
إن المرابحة كما قلنا، بيع بمثل الثمن الأول، فإن لم يكن الثمن الأول مثل جنس الثمن الأخير، فإما أن يقع المبيع الجديد على عرض آخر غير ذلك العرض، وإما أن يقع على قيمته، والبيع لا يصح في كلا الحالتين، فكونه لا يصح في الحالة الأولى، لأنه قد وقع على عرض لا تعود ملكيته للمالك وليس داخلًا تحت يده، كما أنه لا يصح على القيمة أيضًا لجهالتها، حيث أنه تعرف بالحزر والظن لاختلاف المقومين فيها.
وأما لو أريد بيع العرض مرابحة بعرض في حوزة مالكه، فينظر: إن جعل الربح شيئًا منفصلًا عن رأس المال معلومًا، فذلك جائز، وذلك كبيع ثوب بثوب وربح درهم أو درهمين، وسبب الجواز هو: أن الثمن الأول معلوم والربح معلوم.
أما لو جعل الربح جزءًا من رأس المال، فلا يجوز
وصورة البيع في مثل هذه الحالة، أن يعتمد الثمن الأول في البيع الجديد، فيقول البائع للمشتري: بعتك هذا العرض الذي في يدي مقابل العرض الذي بحوزتك على أن يكون الربح دينارًا من كل عشرة دنانير من قيمة عرضي المبيع، وعلة المنع في مثل هذه الصورة، هي أن الربح أصبح جزءًا من العرض، والعرض ليس متماثل الأجزاء، وإنما يعرف بطريق التقويم والقيمة مجهولة أثناء التعاقد، لأن معرفتها بالحزر والظن، فلا تصح المرابحة في هذه الحالة.
هذا ما فصله الأحناف في كتبهم. (1) وفي كتب المالكية ما يؤيد هذا أيضًا. (2)
__________
(1) انظر الكاساني في البدائع 3195/7
(2) انظر الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 16/3، الخرشي 172/5(5/759)
شروط رأس المال:
بعد هذا العرض لرأي الفقهاء فيما يعتبر من الثمن وما لا يعتبر منه، نقف الآن على ما اشترطوه من شروط في رأس المال من أجل تصحيح العقد، والشروط هي:
1- أن يكون معلومًا لدى طرفي العقد، وذلك لأن المرابحة كما ذكرنا عبارة عن بيع بالثمن الأول مع زيادة ربح، والعلم بالثمن الأول شرط لصحة البيوع كلها لما علم من أن الجهالة به تؤول إلى المنازعة، والمنازعة تفسد العقد.
فإن لم يكن معلومًا للمشتري، فالبيع فاسد إلى حين معرفته له في المجلس، فيخير بين إمضاء العقد أو إبطاله.
ووجه فساده في الحال، هو جهالة الثمن، لأن الثمن في الحال مجهول.
وأما إعطاء المشتري حق الخيار، فلوجود الخلل في الرضا، لأن الإنسان قد يرضى بشراء شيء يسير الثمن، إلا أنه لا يرضى بشرائه بالكثير، فلا يتكامل الرضا إلا بعد معرفة مقدار الثمن، فإذا لم تتحقق المعرفة عنده، اختل رضاه، واختلال الرضا يوجب الخيار. (1)
ولو أن المتعاقدين تركا المجلس من غير علم برأس المال، فالعقد باطل لتقرر الفساد.
2- أن يكون رأس المال من ذوات الأمثال، أن مما له مثل وذلك كالمكيلات الموزونات والعدديات المتقاربة، فإن كان من هذا القبيل، فبيعه مرابحة جائز على الثمن الأول، سواء جعل الربح من جنس رأس المال أو من خلاف جنسه، بعد أن صار الثمن الأول معلومًا والربح معلومًا.
ولو كان الثمن الأول للمبيع عرضًا من العروض القيمية كالثياب والدواب والبط وما أشبه ذلك، وأراد مالكه بيعه مرابحة بعرض مماثل، فلا يخلو الأمر من أن يوجد العرض المماثل في يد المشتري الثاني أم لا، فإن لم يكن العرض في حوزة صاحبه، فلا تصح.
__________
(1) انظر بدائع الصنائع 193/7، ابن قدامة في المغني 136/4 مفتاح الكرامة 486/4(5/760)
3- أن لا يكون الثمن في العقد الأول من الأموال الربوية، وقد بودل بجنسه مثلًا بمثل، ومعنى هذا الشرط هو: أن الثمن الأول للمبيع المراد بيعه مرابحة إذا كان من الأموال الربوية، فلا يخلو من أن مالكه كان قد اشتراه بجنسه مثلًا بمثل أم لا، فإن اشتراه بخلاف جنسه، فلا بأس من بيعه مرابحة.
مثال ذلك: لو أن رجلًا اشترى مثقالًا من الذهب بعشرة دراهم من الفضة، جاز له بيعه مرابحة بأحد عشر درهمًا أو بعشرة دراهم وقطعة قماش مثلًا، لعدم تحقق الربا في مثل هذه الحالة، ولو اشتراه بجنسه مثلًا بمثل، فلا يجوز له بيعه مرابحة، كما لو كان المشتري في المثال المذكور اشترى مثقال الذهب بذهب مثله أيضًا، وعلة المنع هي: أن المرابحة كما ذكرنا عبارة عن بيع بالثمن الأول وزيادة، والزيادة في الأموال الربوية تعتبر ربا لا ربحًا. (1)
4- ومن الشروط التي لها صلة بالثمن ما ذكره فقهاء الحنفية من أنه يشترط لصحة المرابحة كون العقد الأول صحيحًا، فإذا كان فاسدًا، فلا تصح، والسبب في ذلك هو: أن البيع الفاسد وإن كان يفيد الملك، إلا أن المشتري يملك المبيع بقيمته أو بمثله لا بثمنه لفساد التسمية، وبما أن الثمن الأول للمبيع هو المعتبر في بيع المرابحة، فإذا فسدت تسميته فلا يمكن اعتباره، فعليه لا تصح المرابحة في هذه الحالة. (2)
__________
(1) انظر البدائع 3196/7
(2) انظر البدائع 3197/7(5/761)
شروط الربح:
يشترط في الربح عند إبرام عقد المرابحة أن يكون معلومًا، لأنه جزء من الثمن، والعلم بالثمن شرط في صحة البيوع كلها.
أحكام المرابحة:
للمرابحة أحكام متعددة، منها ما يظهر قبل إنشاء العقد ومنها ما يتأخر ظهوره لحين إبرام العقد، وسأقتصر في هذا البحث على أهم الأحكام التي ذكرها الفقهاء في موضوع المرابحة، مبتدئًا الكلام عن الأحكام التي تظهر قبل إنشاء العقد.
حكم ما لو حدث بالسلعة المراد بيعها مرابحة عيب:
إذا حدث بالسلعة عيب في يد البائع أو في يد المشتري، فأراد بيع تلك السلعة المعيبة مرابحة، فإن كان العيب قد حدث بفعله أو بفعل أجنبي، لم يجز له بيع المبيع مرابحة حتى يبين للطرف المتعاقد معه العيب، وهذا محل وفاق بين فقهاء المسلمين رحمهم الله.
أما لو حدث العيب بآفة سماوية، فقد اختلف الفقهاء في اشتراط بيان ذلك أو دعم اشتراطه على قولين:
أولًا: ذهب الجمهور إلى اشتراط بيان حدوث العيب للمشتري الثاني: مدللين على رأيهم هذا بما يلي:
أ- أن البيع مع السكوت على العيب لا يخلو من شبهة الخيانة، لأن المشتري الثاني لو علم بحدوث العيب في يد المشتري الأول، لما أربحه على السلعة شيئًا.
ب- أن المشتري الأول عند بيعه المبيع بعد حدوث العيب عنده، قد احتبس جزءًا منه، فلا يملك بيع الباقي من غير بيان العيب، وصار كما لو احتبس بفعله أو بفعل أجنبي.
جـ- أن المبيع السليم غير المعيب، فالغرض يختلف من حالة لأخرى.
هذه وجهة نظر نفر من الحنفية، (1) وبه قالت الحنابلة (2) والشافعية (3) والمالكية (4) وإلى هذا ذهبت الزيدية، وذلك كما قالوا: للخروج عن التهمة المنهي عنها (5) وهو رأي الإمامية أيضًا (6)
ثانيًا: ذهب الحنفية ما عدا زفر إلى القول: بأن المبيع إذا أصابه عيب بآفة سماوية، فللبائع أن يبيعه مرابحة بجميع الثمن دون أن يشترطوا عليه إيضاح العيب للمشتري، حجتهم في هذا هي: أن الفائت من المبيع جزء لا يقابله ثمن، لأنه وصف، بدليل أنه لو فات بعد التعاقد عليه قبل أن يحوزه المشتري، لا يسقط بحصته شيء من الثمن، لهذا فإن بيانه والسكوت عنه بمنزلة واحدة، وما يقابله من الثمن قائم بجميع أجزاءه، فللبائع بيع المعيب مرابحة في هذه الحالة دون أن يشترط عليه بيان العيب، لأنه يكون بائعًا ما بقي من المبيع بعد العيب بجميع الثمن.
والفرق عند الحنفية بين حدوث العيب بآفة سماوية وبين حدوثه بفعل يد إنسان هو: أن الفائت من المبيع في الحالة الأخيرة أصبح مقصودًا بالفعل وصار مقابله ثمن، فيكون المشتري قد حبس جزءًا من المبيع يقابله شيء من الثمن، فلا يملك بيع الباقي مرابحة دون العيب. (7)
__________
(1) انظر الكاساني في البدائع
(2) انظر المغني 138/4
(3) انظر مغني المحتاج 79/2
(4) انظر المدونة 228/4 وكذا الشرح الكبير 164/3
(5) انظر البحر الزخار 379/4
(6) انظر مفتاح الكرامة 491/4
(7) انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 78/4، البدائع7/3201(5/762)
الرأي الراجح:
والذي يترجح عندي هو رأي الجمهور لما ذكروه من أدلة، ولأن اطلاع المشتري الثاني على العيب، فيه خروج عن التهمة كما ذكر الزيدية.
حكم شراء العرض بالنسيئة وبيعه مرابحة:
إذا كان المبيع المراد بيعه مرابحة كان قد اشتراه المشتري نسيئة، فإذا أراد بيعه مرابحة لشخص آخر، لا بد من بيان ذلك له، لأن للأجل شبهة المبيع، بمعنى أنه يعتبر جزءا من المبيع وإن لم يكن في الحقيقة مبيعًا، لأنه مرغوب فيه بدليل، أن ثمن البضاعة قد يزداد في حالة تأجيله، فكان للأجل شبهة أن يقابله شيء من الثمن فيصير بمثابة ما لو اشترى شيئين، ثم باع أحدهما مرابحة على ثمن الجميع، وإذا علمنا بأن الشبهة ملحقة بالحقيقة في هذا الباب وجب التحرز عنها، وذلك عن طريق الإيضاح. (1)
حكم شراء العرض مقابل دين:
ولو أن المبيع اشتراه صاحبه مقابل دين له على شخص، فلا يخلو الأمر من أن يكون العرض المأخوذ قد أخذه المشتري من الطرف الآخر صلحًا أم لا، فإن كان قد اشتري بطريق المساومة لا الصلح، جاز لصاحبه بيعه مرابحة دون أن يشترط عليه بيان ذلك للعاقد الجديد، أما لو أخذه صلحًا عن دين كان له على إنسان، فلا يجوز له بيعه مرابحة قبل إيضاحه للطرف الذي يروم التعاقد معه.
ووجه الفرق بين إلزام المشتري بتوضيح ذلك في حالة الصلح دون الشراء، هو:
1- إن الصلح مبناه على الحط والتجوز بدون الحق، فلا بد من بيان ذلك للمقابل، ليتأكد له ما إذا كان المشتري متساهلًا مع من تصالح معه أم لا، فيقع التحرز عن التهمة، بينما مبني الشراء على المضايقة والمماكسة، فلا حاجة إلى البيان.
__________
(1) انظر ابن قدامة في المغني 139/4، مغني المحتاج 79/2، المدونة 229/4، البدائع 3202/7(5/763)
2- إن الخيانة لا يمكن تصورها في حالة الشراء، لأن الشراء لا يقع بذلك الدين بعينه، بل بمثله "وهو أن يجب على المشتري مثل ما في ذمة المديون فيلتقيان قصاصًا لعدم الفائدة".
والدليل على هذا: أن المشتري لو تعاقد مع البائع المديون على حاجة ما، ثم تصادقا على أنه لا دين على الأخير، لم يبطل الشراء، ولو فرض أن الشراء قد وقع بذلك الدين بعينه، لبطل، ولما لم يقع الشراء بالدين بعينه، فلا تتقدر الخيانة، وصار كما لو اشترى أي عرض ابتداء، فكما لا يشترط البيان فيه، كذلك الحال في مسألتنا.
بخلاف الصلح فإنه يقع بما في الذمة على البدل المذكور، بدليل أن المتصالحين لو تصادقا بعد عقد الصلاح على أنه لا دين في ذمة المتصالح معه، فالصلح يبطل، لاحتماله تهمة المسامحة والتجوز بدون الحق، لذلك وجب على البائع في هذه الحالة إيضاح الأمر للمقابل تحرزًا عن الخيانة (1) . هذا ما ذكره الأحناف في كتبهم، وينبغي أن يكون قول الفقهاء الآخرين مثل هذا، لما ذكره الأحناف من تعليل.
أحكام المرابحة بعد العقد:
قلنا قبل قليل، بأن الأحكام في المرابحة منها ما يظهر قبل إبرام العقد، ومنها ما يتأخر لحين إبرامه، وقد بينا فيما سبق الأحكام التي تسبق العقد، ونقف الآن على أهم الأحكام التي تليه.
__________
(1) انظر الكاساني وابن نجيم في المصدرين السابقين(5/764)
حكم الخيانة في المرابحة – الخيانة في قدر الثمن:
إذا قال البائع للمشتري: اشتريت هذا المبيع بمائة دينا وبعتك إياه بربح كذا، ثم ظهر أنه قد اشتره بتسعين، فالمبيع في هذه الحالة لا يخلو من أحد أمرين، إذ أنه إما أن يكون قائمًا في يد المشتري ولم يحدث به ما يمنع الفسخ أو لا، بأن يكون المشتري قد استهلك المبيع أو هلك بنفسه أو أحدث به ما يمنع الفسخ، فإن كان مما تنطبق عليه الحالة الثانية، فلا خيار للمشتري ويلزمه جميع الثمن، لأن المبيع إذا لم يكن بحالة تصلح لفسخ العقد، لم يكن في ثبوت الخيار فائدة، فيسقط كما هو الحال بالنسبة لخيار الرؤية والشرط (1) .
وإن كان المبيع بحال يصلح للفسخ، فقد اختلف الفقهاء في حكم المبيع في هذه الحالة، وذلك على النحو الآتي:
أولا: ذهب بعضهم إلى القول: بأنه يحط قدر الزيادة التي ظهرت في الثمن وما يقابله من الربح، دليل هذا الرأي هو:
أ- أن تمليك المشتري للمبيع قد تم باعتماد الثمن الأول، فتخصم الزيادة عنه كما في الشفعة إذا أخذها الشفيع بما أخبر به المشتري ثم أطلع على حقيقة الثمن، فإنه يأخذها بالثمن الأصلي، وكأن العقد لم يبرم إلا بما بقي من الثمن.
ب- أن الثمن الأول الذي سمي في العقد أصل في بيع المرابحة، فإذا ظهرت الخيانة، تبين أن التسمية قدر الخيانة غير صحيحة، فألغيت وبقي العقد لازما بالثمن الباقي.
ج- قاس أصحاب هذا الرأي المسألة المذكورة على المبيع إذا ظهر به عيب، فإن المشتري له الرجوع على البائع بمقدار ما يقابل العيب من الثمن، وكذلك الحال فيما لو اطلع المشتري على خيانة في المرابحة بعد العقد، هذا هو القول الأظهر عند الشافعية (2) ، وبه قال الحنابلة (3) ، وأبو يوسف من الحنفية (4) .
ثانيا: القول عند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن هو: أنه لا يحط شيء من الثمن وأن المشتري بالخيار إن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن وإن شاء ترك، ووجه قولهما كما ذكره الكاساني هو:
أ- أن المشتري قد رضي بإبرام العقد بعد معرفته لثمن المبيع وتصديقه البائع بمقداره، فإذا ظهر له خلاف ذلك، فلا يلزم بدونه، ويثبت له الخيار لفوات وصف السلامة عن الخيانة، كما ثبت له فيما لو فاتت السلامة عن العيب إذا ظهر بالمبيع عيب.
ب- إن الخيانة في المرابحة لا تخرج العقد عن كونه مرابحة، لأنها عبارة عن بيع بالثمن الأول مع زيادة ربح، وهذا موجود بعد الخيانة، لأن بعض الثمن رأس مال وبعضه ربح، فينطبق التعريف على البيع، وكل الذي حصل هو أن الثمن المذكور في العقد ليس بالثمن الأصلي للمبيع مما أحدث خللًا في رضا المشتري، فيثبت له الخيار كما لو ظهرت الخيانة في صفة الثمن بأن كان نسيئة ونحو ذلك (5) .
وإلى هذا ذهب الشافعية في القول الثاني، معللين ذلك، بأن المشتري قد سمى العوض في العقد وقد تم الاتفاق على هذا الأساس، والبيع صحيح على القولين عندهم، لأن تغرير البائع بالمشتري لا يمنع الصحة كما لو كان باعه شيئا معيبا (6) .
وبمثل هذا قال المالكية أيضا إلا أنهم انفردوا بالقول: بأن البائع لو حط ما كذب به من زيادة الثمن وربحه، فالبيع يلزم المشتري وإلا فله الخيار (7) .
__________
(1) انظر البدائع 3207/7، المدونة 237/ 4
(2) انظر مغني المحتاج 79/2
(3) ابن قدامة في المغني 136/4
(4) انظر الكاساني في البدائع 3209/7
(5) انظر الكاساني في البدائع 3209/7
(6) الخطيب الشربيني مغني المحتاج 2/79
(7) انظر الخرشي 179/5(5/765)
خلاف فرعي بين أصحاب الرأي الأول:
بعد أن اتفق الفريق الأول من الفقهاء، على حط قدر الخيانة من ثمن البيع في المسألة المذكورة آنفا، اختلفوا في القول، بإعطاء حق خيار فسخ العقد للبائع والمشترى أو سلبه منهما في مثل هذه الحالة.
1- القول الأظهر عند الشافعية بناء على حط قدر الخيانة من الثمن، أنه لا خيار لأي عاقد منهما، وذلك للأسباب التالية:
أ- أما المشتري فلأنه قد رضي بالأكثر ثمنًا، فلأن يرضى بالأقل بعد الحط يكون من باب أولى.
ب- أما البائع فلتدليسه ولأنه باع المبيع برأس ماله الأصلي وحصته من الربح، وقد حصل له ذلك فعلا.
جـ- إن المسألة هنا تشبه ما لو اشترى رجل شيئا على أنه معيب فبان سليما أو وكل في شراء عرض معين بمائة دينار مثلا فاشتراه بتسعين، فكما لا خيار للمشتري في مثل هذه الحالة، كذلك الحال هنا أيضا (1) .
وهذا هو ظاهر كلام الخرقي من الحنابلة أيضا (2) .
وبمثل هذا قال أبو يوسف من الحنيفة (3) .
2- نص الحنابلة في كتبهم على أن المشتري بعد طرح الزيادة من الثمن، يخير بين أخذ المبيع برأس ماله الأصلي وحصته من الربح، وبين تركه، حكى ذلك ابن قدامة عن الإمام أحمد، دليل هذا الرأي هو:
أ- أن المشتري بعد إطلاعه على خيانة البائع قد لا يأمن الجناية في هذه الثمن أيضا.
ب – من المحتمل أن يكون للمشتري غرض في الشراء بذلك الثمن بعينه، إما لكونه حالفا على الشراء بمثل هذه الثمن أو ربما يكون وكيلا في ذلك أو غير هذا (4) .
وإلى هذا ذهب الشافعية في الرأي الثاني لهم، وقد ذهبوا في هذا الرأي إلى القول: بإعطاء البائع حق الخيار أيضا، لأنه لم يسلم له القدر الذي سماه في العقد، فكان له الخيار (5) .
خلاصة الأراء واختيار الراجح منها:
لقد ظهر لنا من خلال بحثنا لمسألة الخيانة في ثمن المرابحة أن الاتفاق قد حصل بين الفقهاء على أن المبيع إذا هلك أو استهلك أو أحدث به المشتري ما يمنع فسخ العقد، فالبيع لازم ولا خيار للمشتري في هذه الحالة. وقد اختلفوا فيما لو بقي المبيع على حاله على رأيين:
ذهب أصحاب الرأي الأول إلى وجوب إهدار الزيادة من ثمن المبيع، إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم إذا كان البيع نافذًا بحق المتعاقدين أو يخير كل منهما بين إمضاء العقد أو فسخه، في حين: خير أصحاب الرأي الثاني المشتري بين إمضاء العقد وفسخه دون أن يقولوا الخيانة التي ظهرت في الثمن.
والذي أختاره هنا هو رأي الفريق الأول لرجحان أدلتهم من جهة ولأن بالإمكان تلافي الخلل الذي طرأ على العقد، وذلك بإهدار الخيانة التي ظهرت في ثمن المبيع.
وبخصوص تخيير العاقدين بعد حط الزيادة أو اعتبار العقد نافذًا عليهما، فالذي أرجحه هو عدم إعطاء الخيار لأي عاقد، ذلك للأدلة التي استدل بها أصحاب هذا الرأي.
__________
(1) مغنى المحتاج 2/79 وانظر المغنى 4/136، 137
(2) ابن قدامة في المغنى 4/136، 137
(3) البدائع 7/3209
(4) ابن قدامة في المغنى 4/136، 137
(5) الخطيب الشربيني مغنى المحتاج 2/79(5/766)
حكم الخيانة في صفة الثمن:
ذكرنا فيما سبق حكم الخيانة في المرابحة إذا ظهرت في مقدار الثمن، ونقف الآن على حكمها عند الفقهاء فيما لو حدثت في الصفة، مثال ذلك: أن يشتري البائع المبيع نسيئة، ثم يبيعها مرابحة دون أن يوضح ذلك للمشتري، أو كان قد صالح به من دين على إنسان، فأخفى ذلك عن المقابل، فالحكم في هذه المسائل وأمثالها كما يأتي:
أولا: الرأي عند فقهاء الأحناف (1) والشافعية (2) . ورواية عن الحنابلة (3) ، أن المشتري إذا اطلع على خيانة في صفة الثمن، خير بين أخذ المبيع بالثمن المتفق عليه في العقد وبين رده، بمعنى أن البائع غير ملزم برد شيء مقابل تدليسه الأمر على المشتري، والبيع صحيح، إلا أن نفاذه موقوف على رأي المشتري، دليلهم في ذلك ما يأتي:
أ – إن البائع قد دلس الأمر على المشتري فثبت له الخيار.
ب- إن المرابحة عقد مبني على الأمانة، إذ المشتري قد اعتمد البائع وائتمنه فيما أخبره به، ولما كانت الأمانة مطلوبة في عقد المرابحة، كانت صيانة العقد عن الخيانة مشروطة دلالة، ففواتها يوجب الخيار للمقابل كفوات وصف السلامة من العيب.
ج- إن أحجام البائع عن كشف حقيقة الأمر للمشتري، دليل على عدم رضا البائع بذمة المقابل، وقد تكون ذمته دون ذمة مالك المبيع، فهو غير ملزم ببيع المبيع بأجل كما اشتراه، فعليه لا يلزم بالحط من الثمن مقابل الأجل شيئا، وكل ما في الأمر أن يخير المشتري بين إبقاء العقد أو فسخه.
ثانيًا: حكى ابن المنذر عن أحمد قولا آخر ذكر فيه أن المبيع إذا كان باقيا بيد المشتري، خير بين أخذه بأجل بقدر الأجل الذي كان للبائع على مدينه قبل استيفاء الدين، وبين فسخ العقد. وإن كان قد استهلك حبس المشتري الثمن بقدر الأجل، وهذه هي وجهة نظر شريح القاضي أيضا (4) .
دليل هذا الرأي: أن البيع قد وقع على البائع بهذه الصفة فيجب أن يكون للمشتري أخذ المبيع بمثل تلك الصفة، وصار بمثابة ما لو أخبر بزيادة الثمن، فإن الزيادة هناك تحط عن القيمة، كذلك الحال هنا.
وقد أجيب عما قيل بأن البائع قد لا يرضى بذمة المشتري، بأن ذلك لا يمنع نفوذ البيع ولا يلتفت إلى رضا البائع كما هو الحال في حط الزيادة التي أخبر بها، فكما لا عبرة برضاه هناك كذلك الأمر هنا، والواجب هو الرجوع إلى ما وقع به البيع الأول.
ثالثًا: حكى ابن عرفة عن المالكية قولين في المسألة، أحدهما: أن المبيع إذا كان قائما، فالمشتري بالخيار بين إمضاء العقد بالثمن الذي اتفق عليه وبين رد المبلغ، وأما لو هلك أو استهلك، فالمشتري يلزم بالأقل من الثمن والقيمة نقدا بدون ربح، فعلى هذا الرأي يكون البيع صحيحا ويكون البائع غاشا في كتمانه الأجل.
والرأي الآخر، إن البيع فاسد في مثل هذه الحالة، وعليه يتعين على المشتري رد المبيع إن كان قائما وعند فواته يدفع الأقل من الثمن والقيمة (5) .
__________
(1) البدائع 7/3209
(2) مغني المحتاج 2/79
(3) ابن قدامة في المغني 4/141
(4) انظر ابن قدامة في المغني 4/141
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/165 وانظر المدونة 4/231(5/767)
الرأي المختار:
إن القول الأول للمالكية يتفق مع رأي الفريق الأول من الفقهاء في جزئية وهي، أن المشتري في المسألة المختلف فيها يخير بين إمضاء العقد وفسخه في حالة بقاء المبيع، أما في حالة هلاكه، فالظاهر من رأي الأحناف ومن وافقهم في الرأي، أنه لا شيء للمشتري بعد ذلك لفوات المحل، إلا أن المالكية قد أعطوه حقًا عندما قالوا: بأنه لا يلزم إلا بدفع الأقل من ثمن المبيع وقيمته بدون ربح، معنى هذا أننا قد حفظنا للمشتري حقه ولو بعد هلاك المبيع، جبرا لما أصابه من ضرر، فإن البائع قد غشه عند كتمانه ما ينبغي بيانه له.
والحنابلة وإن كانوا قد التفتوا إلى هذه الجزئية في القول الذي حكاه ابن المنذر عن أحمد، إلا أن قول المالكية يبدو لي أوجه مما قاله غيرهم، لذا يكون قولهم الأول هو المختار.
حكم ما لو ذكر البائع ثمنا لمبيعه ثم ادعى الغلط:
لو أن البائع ادعى ثمنا لمبيعه كأن قال اشتريته بمائة دينار وباعه مرابحة، ثم ادعى الغلط في الثمن، فزعم بأن الثمن الحقيقي هو مائة وعشرة، فما هو الحكم عندئذ؟
الجواب على ذلك: أن المشتري في هذه الحالة إما أن يصدق البائع في ادعائه الغلط أو يكذبه به، ولكل حالة من هاتين الحالتين حكمها الخاص بها.
حكم ما إذا صدق المشتري البائع:
إذا صدق المشتري البائع في قوله غلطت في ثمن المبيع، فللفقهاء عندئذ قولان في صحة إمضاء المرابحة أو عدم صحتها.
1- ذهب الشافعية في أصح القولين عندهم كما ذكر النووي إلى القول: ببطلان المرابحة في هذه الحالة للأسباب التالية:
أ- لقد تعذر إمضاء العقد بسبب الزيادة التي ادعاها البائع المتبوعة بربحها.
ب – أن العقد لا يحتمل الزيادة بخلاف النقصان فإنه معهود بدليل أن البائع لو أخذ أرش عيب أصاب المبيع، للزمه حطه من الثمن (1) .
2 – الرأي عن المالكية، هو صحة المرابحة وتنقص الزيادة التي غلط بها البائع وصار بمثابة ما لو غلط المشتري بالزيادة ولا فرق عندهم في مثل هذه الحالة بين تصديق المشتري للبائع أو إثباته ذلك بالبينة، ويخير المشتري بين رد السلعة وأخذ ما دفعه، أو دفع ما تبين أنه الثمن الصحيح للمبيع وربحه، هذا إذا كانت السلعة قائمة، فإن تغيرت بزيادة أو نقص، خير المشتري كذلك بين دفع الثمن الحقيقي للمبيع وربحه أو دفع قيمته إذا كان المبيع قيميًا أو مثله في المثلي، ويعتبر في القيمة والمثل يوم البيع لا يوم القبض، لأن العقد صحيح، بشرط أن لا تنقص القيمة عند المبلغ الذي غلط به البائع مع ربحه، فإن نقصت، تعين على المشتري إذا اختار إمضاء العقد دفع الغلط وربحه (2) .
وإلى هذا ذهب الشافعية في رأيهم الثاني، وقد اعتبره الشربيني أصح القولين، إلا أنهم يختلفون عن المالكية في إعطاء حق الخيار، فهم يقولون بتخيير البائع لا المشتري بين إمضاء العقد أو فسخه (3) .
وفي مذهب الحنابلة ما يؤيد هذا الرأي أيضا (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 2/79،80
(2) الشرح الكبير: 3/168، وانظر حاشية الدسوقي بنفس الموضع
(3) الشربيني في مغني المحتاج 2/79،80
(4) ابن قدامة في المغنى 4/142(5/768)
الرأي المختار:
إن ما ذهب إليه أصحاب الرأي الثاني هو المختار، لأن القول بفسخ العقد وبطلانه ينبغي أن يكون عندما يخرج العقد عن مدلوله، وهنا ما يزال العقد عقد مرابحة، كما أنه لا ضرر على أي طرف من المتعاقدين من جراء ذلك.
وبخصوص تخيير المشتري أو البائع عندئذ، أي أن يخير المشتري كما يقول المالكية للأسباب الآتية:
أولا: إن تخييره ينفي ضرر البائع له، حيث سيقوم المشتري بدفع الثمن الصحيح للمبيع وربحه.
ثانيًا: إن التفريط قد حصل من جهة البائع لعدم ثباته على قوله الأول، فعلى هذا لا خيار له (1) .
حكم إما إذا كذب المشتري البائع: إذا ادعى البائع الغلط فيما ذكره من ثمن للمبيع وكذبه المشتري، فأما أن يذكر وجها للغلط أم لا.
فإن لم يذكر وجها محتملا للغلط وقد كذبه المشتري، فإذا أراد أن يعزز ادعاءه ببينة، فهل تسمع بينته عندئذ أم لا؟
الجواب على هذه أن رأيان في المسألة:
الرأي الأول: ويقضى بعدم قبول قوله وبعدم سماع بينته للأسباب التالية:
1- أن البائع قد كذب البينة بنفسه عند إقراره بالثمن أولًا.
2- أن إقراراه بالثمن الأول قد تعلق به حق الغير فلا يقبل رجوعه عنه.
هذه وجه نظر الشافعية (2) ، وبه قال الحنابلة في رواية عنهم، إلا أنهم لم يفرقوا بين ذكر البائع وجها يحتمل الغلط أم لم يذكر شيئا في هذا القبيل (3) .
وفي تحليف المشتري اليمين من قبل البائع على أنه لا يعرف الثمن الأخير ثمنا صحيحا للمبيع، وجهان عند الشافعية: أحدهما وهو الأصح، ويقضي بجواز طلبه اليمين، لأن المشتري قد يعترف بالثمن الأصلي عند عرض اليمين عليه، والآخر، ذكروا فيه عدم جواز طلب اليمين من المشتري، كما هو الأمر بالنسبة لعدم سماع بينة البائع.
__________
(1) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/168
(2) مغنى المحتاج 2/80
(3) ابن قدامة في المغني 4/142(5/769)
وعلى الوجه الأول: إن حلف المشتري، فالأصح عندهم إمضاء العقد على ما حلف عليه، وإن نكل عن الحلف، ردت على البائع بناء على القول الأظهر عندهم، من أن اليمين المردودة كالإقرار، فيحلف البائع يمينا باتا على أن ثمن المبيع هو ما ادعاه أخيرا.
وفي إثبات الخيار لأي من الطرفين رأيان للشافعية أيضا: الأول، وقد ذكروا فيه أن الخيار للمشتري، وهذا على الوجه الضعيف القائل بثبوت الزيادة، وأما على الرأي المعتمد عندهم، فالخيار للبائع (1) .
الرأي الثاني: وهو مروى عن الحنابلة ذكروا فيه، أن البائع في المرابحة إذا ادعى الغلط في الثمن عند كلامه الأول، وأشهد على أن رأس ماله عليه ما قاله ثانيا، تسمع بينته، وقد أجاب ابن قدامة على أدلة القائلين برفض بينة البائع في هذه المسألة بما يلي:
1- إن البينة عادلة وقد شهدت بما يحتمل الصدق فتقبل، كما هو الأمر في سائر البينات.
2- إننا لا نسلم بأن البائع قد أقر بخلاف بينته، لأن الإقرار يعني الاعتراف للغير، وإخبار البائع بثمن مبيعه قد حصل قبل أن يتعلق به حق الغير، فلم يكن إقرارا (2) .
ما أرجحه: بعد عرض رأي الفريقين المختلفين من الفقهاء في هذه الجزئية ومناقشة الفريق الثاني لما استدل به الفريق الأول، يترجح عندي القول الثاني لوجاهته من جهة، ولأن البائع في مثل هذه الحالة مدع، ومن المعروف بداهة أن تسمع بينته في مثل هذه الحالة.
حكم ما إذا ذكر وجها يحتمل الخطأ:
وقفنا قبل قليل على رأي الفقهاء عندما يدعي البائع في المرابحة خطأ في الثمن ولم يذكر وجهًا يحتمل الخطأ، أما لو ذكر وجها يحتمل الخطأ كقوله: جاءني كتاب من وكيلي بأن ثمن المبيع الذي اشتراه هو مائة وعشرة مثلا وليس بمائة دينار، أو اتضح لي ذلك لمراجعة حساباتي وما أعتمد عليه من سجلات وأرقام بينة على ذلك، فالأصح عند الشافعية في مثل هذه الحالة، سماع بينة البائع التي يقيمها لتعزيز ادعائه، كما أن له تحليف المشتري على أنه لا يعرف الثمن الصحيح للمبيع، لأن العذر هنا يحرك ظن صدقه.
وذهبوا في وجه ثانٍ لهم إلى عدم قبول بينته حتى في هذه الحالة، ودليلهم هنا هو عين ما ذكروه في الحالة الأولى (3) .
وبما أننا اخترنا رأي القائلين: بسماع بينة البائع عندما لا يذكر وجها محتملا لخطئه، فلأن نقول بقبول بينته عندما يحتمل كلامه الأول الخطأ من باب أولى.
__________
(1) الخطيب الشربيني مغني المحتاج
(2) المغني 4/142
(3) الخطيب الشربيني مغني المحتاج(5/770)
الفصل الثاني
الوعد ومدى قوة إلزامه في الفقه الإسلامي
تمهيد:
بعد أن وقفنا في الفصل الأول على رأي فقهاء المسلمين في موضوع المرابحة وما وضعوا لها من شروط وأحكام. نقف في هذا الفصل على رأيهم في المسألة الثانية من موضوع بحثنا، وهي رأي فقهاء المسلمين في الآمر بالشراء مرابحة، ولهذا العقد صور عديدة، منها:
أن يتقدم أحد الأشخاص أو الشركات إلى أحد المصارف الإسلامية ويخبره عن وجود بضاعة أو عقار ما عند شخص آخر يريد بيعه، ويبدي المخبر رغبته بأنه إذا ملك المصرف الإسلامي هذه البضاعة أو العقار، يعده بشرائه منه بالأجل بربح معلوم، وقد يكون البادئ بتقديم المعلومات عن البضاعة هو المصنع مخاطبا التاجر الذي يأتي بدوره إلى المصرف المذكور مبديا رغبته في شراء ما عرض عليه من المصنع إذا قام المصرف بالحصول عليه، في هذه الحالة بالصورتين المشار إليهما، يقوم المصرف الإسلامي بدراسة العرض للبضاعة أو للعقار، فإذا ما وجد جدوى من الشراء يتمم ذلك لنفسه ويشحن البضاعة إلى بلد ذلك المصرف ويحوزها المصرف في مخازنه ثم يعقد بعدئذ بيع المرابحة بينه وبين الواعد بالشراء إن تم الاتفاق بينهما على ذلك (1) .
فهل يلزم الواعد بالوفاء في وعده في هذه الحالة؟
الجواب على هذا: أنه يفترض بيان رأي فقهاء المسلمين في حكم الوعد ومدى قوة إلزامه لمعرفة مدى إلزام الواعد بالشراء هنا أو عدم إلزامه.
__________
(1) هذه الصورة نقلناها بتصرف من (بيوع الأمانة في ميزان الشريعة) من منشورات بيت التمويل الكويتي، وهناك صور أخرى ذكرت في النشرة المذكورة(5/771)
فأقول وبالله التوفيق: اختلف الفقهاء في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟ وذلك على ثلاثة مذاهب.
المذهب الأول: ذهب فريق من العلماء إلى أن الوفاء بالوعد مستحب مندوب إليه وليس بفرض. فلا يقضى به على الواعد، لكن الإخلال بالوعد يفوت الواعد الفضل، ويرتكب بسبب خلفه هذا المكروه، هذا ما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي وأبو سليمان (1) ، وقد استدل أصحاب هذا الرأي بما يلي:
أولًا: أخرج الإمام مالك رحمه الله في الموطأ ((أنه قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكذب لامرأتي فقال صلى الله عليه وسلم: لا خير في الكذب، فقال يا رسول الله: أفأعدها وأقول لها؟ فقال عليه السلام: لا جناح عليك)) (2) .
وجه الاستدلال من الرواية كما يذكر القرافي (3) .
أ- إن الرسول عليه الصلاة والسلام منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل ونفى الجناح على الوعد.
ب- إن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا، لأنه عليه الصلاة والسلام قد جعله قسيم الكذب، ولو كان منه، لما جعله قسيما له.
ج- كما يستدل من الرواية على أن إخلاف الوعد لا حرج فيه.
د- " لو كان المقصود الوعد الذي يفي به لما احتاج للسؤال عنه ولما ذكره مقرونا بالكذب " فتبين بأن قصد السائل بإصلاح حال امرأته بما لا يفعله، فتخيل الحرج في ذلك فاستأذن عليه.
__________
(1) انظر المحلى لابن حزم الظاهري 28/8 وقد نص على ما يلي: " ومن وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين أو بأن يعينه في عمل ما حلف له على ذلك أو لم يحلف لم يلزمه الوفاء به ويكره له ذلك، وكان الأفضل لو وفى.. وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان ".
(2) انظر شرح الزرقاني على الموطأ 408/4
(3) انظر الفروق لشهاب الدين أبي العباس الصنهاجي المشهور بالقرافي طبع دار المعرفة 21/4(5/772)
وقد أجاب ابن الشاط على استدلال القرافي هذا بما يلي:
1- إن القول بأن الرسول عليه الصلاة والسلام منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل، غير مسلم وهي دعوى لا حجة عليها، ولعل السائل كان قصده من الكذب على زوجته أن يخبرها عن فعله مع غيرها من النساء بما لم يفعله، أو غير ذلك مما يقصد به إغاظة زوجته، فلم يتعين أن المراد ما ذكره، كيف وأن ما ذكره هو عين الوعد، وما معنى الحديث إلا أنه صلى الله عليه وسلم " منعه من أن يخبرها بخبر كذب يقتضي تغييظها به وسوغ له الوعد لأنه لا يتعين فيه الإخلاف لاحتمال الوفاء به سواء كان عازما عند الوعد على الوفاء أو على الإخلاف أو مضربا عنهما، ويتخرج ذلك في قسم العزم على الإخلاف على الرأي الصحيح ... من أن العزم على المعصية لا مؤاخذة به، إذ معظم دلائل الشريعة يقتضي المنع في الإخلاف " (1) .
2- إن القول بأن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله قسيم الكذب، غير مسلم أيضا، لأنه جعله قسيم الخبر عن غير المستقبل الذي هو كذب، فكان قسيمه من جهة كونه مستقبلا، وذلك غير مستقبل، أو من جهة كونه قد تعين أنه كذب، والوعد لا يتعين كونه كذبا.
3- أما دعوى إخلاف الوعد لا حرج فيه فليس بصحيح، بل فيه الحرج بمقتضى ظواهر الشرع إلا حيث يتعذر الوفاء، كما سنرى ذلك من الأدلة.
4- إن القول: بأنه لو كان قصد السائل الوعد الذي يفي به لما احتاج السؤال عنه ... إلخ. فيجاب عليه، بأن السائل لم يقصد الوعد الذي يفي فيه على التعيين، وإنما قصد الوعد على الإطلاق وسأل عنه لأن الاحتمال في عدم الوفاء اضطرارًا أو اختيارا قائم، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم عنه الجناح لاحتمال الوفاء، ثم إن وفى فلا جناح، وإن لم يف مضطرًا فكذلك، وإن لم يف مختارًا فالظواهر المتظاهرة قاضية بالحرج.
__________
(1) انظر أدرار الشروق على أنوار الفروق لابن الشاط والمطبوع بأسفل الفروق 21/4(5/773)
5- إن القول: بأن قصد السائل إصلاح حال امرأته ... إلخ، إن هذا القول غير صحيح، إذ من أين يحصل العلم بأن الزوج لا يفعله؟ وعلى أن يكون في حال الوعد غير متمكن مما وعد به، ومن أين يعلم عدم تمكنه منه في المستقبل؟ وإذا تعذر العلم بجميع ذلك، تعين أن يكون سؤال الزوج لاحتمال عدم الوفاء أو العزم على عدم الوفاء فسوغ له عليه الصلاة والسلام ذلك، لأن عدم الوفاء لا يتعين أو لأن العزم على عدم الوفاء على تقدير أن عدم الوفاء معصية، ليس بمعصية. (1)
ثانيا: ومما استدل به هذا الفريق على قولهم: بأن الوعد غير ملزم، ما أخرجه أبو داود أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه)) (2) .
وأجيب عن هذا الحديث بما أجيب به عن الحديث الذي سبقه.
ثالثا: ومما استدل به أصحاب هذا الرأي أيضا، أن الرجل إذا وعد وحلف واستثنى – بأن قال إن شاء الله – فقد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن فإذا سقط عنه الحنث، دل على أنه لم يلزمه فعل ما حلف عليه.
وبما أن الوعد لا يصح بدون استثناء، لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (3) . دل على أن من وعد ولم يستثن، فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك، ولا يجوز أن يجبر أحد على معصية، فإن استثنى فقال " إن شاء الله تعالى أو إلا أن يشاء الله تعالى أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل فلا يكون مخلفا لوعده إن لم يفعل " (4) .
ويجاب على هذا الاستدلال، بأن الاستثناء في الوعد سنة وليس بواجب، ولم ينقل عن أحد من العلماء بأنه يحرم الوعد بغير استثناء، حكى القرطبي عن ابن عطية قوله " وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الإيمان وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين " (5) .
__________
(1) انظر أدرار الشروق على أنوار الفروق لابن الشاط والمطبوع بأسفل الفروق 21/4
(2) انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 339/3 وذكر ذلك صاحب الفروق في 21 / 4
(3) سورة الكهف آية 23- 24
(4) انظر ابن حزم في المحلى30/8
(5) انظر الجامع لأحكام القرآن 385/10(5/774)
المذهب الثاني: وهو رأي الفقيه المالكي ابن شبرمة، ويقضي: بأن الوعد ملزم مطلقا ويجب الوفاء به ديانة وقضاء، حكى ذلك عنه ابن حزم حيث قال: " قال ابن شبرمة: الوعد كله لازم ويقضى به على الواعد ويجبر " (1) .
وهو مذهب كثير من فقهاء السلف، منهم الحسن البصري، والخليفة عمر بن عبد العزيز، وقضى به سعيد بن عمرو بن الأشوع (2) ، ونقل ذلك عن الصحابي الجليل سمرة بن جندب رضي الله عنه، وذكر البخاري في صحيحه بأنه رأي إسحق بن راهويه مستدلا بحديث ابن الأشوع في القول بإنجاز الوعد (3) .
ووجوب الوفاء بالعود مطلقًا مذهب بعض المالكية وإن وصفوه بأنه مذهب ضعيف (4) وذهب إلى وجوب الوفاء بالوعد كذلك أبو بكر بن العربي المالكي (5) .
وهذه وجهة نظر ابن الشاط المالكي وقد دافع عن رأيه هذا من خلال رده على القرافي (6) . وحكى ابن رجب الحنبلي وجوب الوفاء بالوعد مطلقا عن طائفة من علماء أهل الظاهر وغيرهم (7) .
وقال الإمام الغزالي الشافعي: إذا فهم الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر، وقد يفهم الجزم في الوعد إذا اقترن به حلف أو إقامة شهود على الوعد أو قرائن أخرى (8) .
__________
(1) انظر المحلى 28/8
(2) انظر العيني في عمدة القاري 358/13 وسعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قاضي الكوفة في زمن إمارة خالد القسري على العراق بعد المائة للهجرة وقد مات في ولاية خالد وقد عده ابن حبان في الثقات وعده يحيى بن معين في المشهورين
(3) انظر العيني في عمدة القاري 358/13 وكذا صحيح البخاري بهامش فتح الباري طبعة الحلبي 218/6
(4) انظر فتحت العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك لابن عليش 256/1 وكذا القرافي في الفروق 24/4
(5) انظر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 29/18
(6) انظر أدرار الشروق على أنوار الفروق 21/4
(7) انظر جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم مطبعة دار العلوم الحديثة ص 404
(8) انظر إحياء علوم الدين 133/3(5/775)
أدلة أصحاب هذا الرأي:
استدل أصحاب هذا الرأي بنصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
1- فمما استدلوا به من الآيات القرآنية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) .
وجه الاستدلال من الآية: إن العقود تعني المربوط واحدها عقد، يقال عقدت العهد والحبل، والعقد، هو كل ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وكل ما كان غير خارج عن الشريعة وكذا ما عقده الإنسان على نفسه لله من الطاعات، قال الزجاج: " المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض" (2) . ويستدل أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام: ((المؤمنون عند شروطهم)) . ولما كان الوعد مما ألزم به الإنسان نفسه، فعلى هذا يلزمه الوفاء.
واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) .
فالوعد إذا أخلف، قول نكل الواعد عن فعله، فيلزم أن يكون كذبا محرما وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا (4) .
كما استدل هذا الفريق من العلماء بالآيات التي أثنى الله فيها على من بر بوعده وأوفى بعهده، منها قوله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (5) وقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (6) . ومدح إسماعيل لصدقه في وعده بقوله عز شأنه: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (7) .
وقد حمل أصحاب المذهب الأول هذه الأدلة على الندب والاستحباب.
2- ومن السنة النبوية التي استدل بها القائلون: بوجوب الوفاء بالوعد، ما أخرجه البخاري ومسلم (8) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)) وفي رواية ((من علامات المنافق ثلاث ... إلخ)) وفي رواية أخرى ((آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) وورد في البخاري ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)) .
__________
(1) سورة المائدة آية 1
(2) انظر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 33/6
(3) سورة الصف آية 2-3
(4) انظر القرافي في الفروق20/4
(5) البقرة آية 177
(6) النجم آية 37
(7) مريم 54
(8) انظر العيني في عمدة القاري 258/13وكذا صحيح البخاري مع فتح الباري 89/1وكذا صحيح مسلم بشرح النووي 47/2(5/776)
الدليل في هذه الأخبار أن إخلاف الوعد قد عده النبي صلى الله عليه وسلم في خصال المنافقين، والنفاق مذموم شرعًا، وقد أعد الله للمنافقين الدرك الأسفل من النار، حيث قال جل ثناؤه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) .
وعلى هذا يكون إخلاف الوعد محرما فيجب الوفاء به.
وقد صرف بعض شراح الحديث معنى النفاق الوارد في الروايات المذكورة عن حقيقته، فقالوا: إن المراد بإطلاق النفاق، الإنذار والتحذير للمسلم عن ارتكاب هذه الخصال أو اعتيادها والتي يخاف عليه أن تفضي به إلى حقيقة النفاق، وهذا المعنى حكاه الخطابي وارتضاه (2) .
كما قال البعض منهم، بأن المراد بالحديث، المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وأتمنهم على سره فخانوه ووعدوه بالخروج معه للجهاد فأخلفوه، وقد روى محمد المحرم هذا التأويل عن عطاء وأنه قال: حدثني به جابر، وذكر أن الحسن رجع إلى قول عطاء هذا عند بلوغه الخبر.
وقد رد ابن رجب الحنبلي على كلام محرم هذا بقوله: " هذا كذب والمحرم شيخ كذاب معروف بالكذب" (3) .
فالحديث عام في كل إنسان يظهر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الأكبر، والنفاق الأصغر وهو نفاق العمل " وهو أن يظهر الإنسان علانية صلاحه ويبطن ما يخالف ذلك ". والنفاق هذا ترجع أصوله إلى الخصال المذكورة في هذا الحديث وغيره (4) .
ومن الأحاديث النبوية التي استدل بها أصحاب المذهب الثاني ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له سألتك ماذا يأمركم فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة قال وهذه صفة نبي " (5) .
__________
(1) سورة النساء آية 145
(2) انظر فتح الباري90/1، عمدة القاري 222/1
(3) انظر جامع العلوم والحكم ص 403
(4) انظر جامع العلوم والحكم ص 403
(5) أخرج الحديث البخاري عن محمد بن مسلم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، وهذا قطعة من حديث قصة هرقل. انظر العيني 259/13(5/777)
واستدلوا أيضا بما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ((لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة فليأتنا، قال جابر فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر فعد في يدي خمسمائة ثم خمسمائة ثم خمسمائة)) (1) .
وأخرجه البخاري بلفظ قريب في باب من تكفل عن ميت دينا (2) . قال العيني: وقد استدل بعض الشافعية على وجوب الوفاء بالوعد في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم زعموا أنه من خصائصه ولا دلالة فيه أصلا لا على الوجوب ولا على الخصوصية (3) .
ومما استدل به أصحاب هذا الرأي ما أخرجه البخاري وذكره في معرض الاحتجاج لوجوب الوفاء بالوعد عن المسور بن مخرمة أنه قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صهرا له فقال: وعدني فوفاني " (4) .
ومن ذلك أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: ((وأي المؤمن واجب)) (5) بمعنى وعده واجب الوفاء به.
واستدلوا كذلك بما رواه الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((" لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه)) (6) .
ومن أدلتهم بهذا الخصوص أيضا، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وعد وعدا قال: عسى، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لا يعد وعدا إلا ويقول: إن شاء الله، وقد حمل الغزالي ذلك بعد ذكره لهذا الخبر، على أن الواعد إذا جزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر، فإن كان عند الوعد جازما على أن لا يفي، فهذا هو النفاق (7) . لكن صاحب مرقاة المفاتيح قال بعد نقل هذا عن الغزالي: وهذا كله يؤيد الوجوب إذا كان الوعد مطلقا غير مقيد بعسى أو المشيئة ونحوهما مما يدل على أنه جازم في وعده، فقول الغزالي محل بحث (8) .
وقد حمل أصحاب الرأي الأول الروايات التي استدل بها الفريق الثاني على الندب والاستحباب.
__________
(1) انظر عمدة القاري 258/13وصحيح البخاري بشرح فتح الباري 218/6
(2) انظر العيني في عمدة القاري 121/12
(3) عمدة القاري
(4) انظر عمدة القاري 258/13 وفتح الباري 218/6
(5) انظر الفروق للقرافي20/4
(6) أخرجه الترمذي وقال عنه: حسن غريب. انظر تحفة الأحوذي 131/6 عارضة الأحوذي 161/8
(7) انظر إحياء علوم الدين 133/3
(8) انظر مرقاة المفاتيح 653/4(5/778)
المذهب الثالث: التفصيل في وجوب الوفاء بالوعد:
ذهب فقهاء المذهب المالكي إلى التفصيل فيما يجب الوفاء به من الوعود وما لا يجب وكانوا في ذلك فريقين.
الفريق الأول: وهو المنقول عن مالك وابن القاسم وسحنون، ويقضى رأيهم بأن الوعد يكون لازما يجب الوفاء به ويقضى القاضي به على الواعد إذا كان الوعد تم على سبب ودخل الموعود له بسبب الوعد في شيء.
قال القرافي: " اختلف العلماء في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟ قال مالك: إذا سألك أن تهب له دينارا فقلت نعم ثم بدا لك لا يلزمك، ولو كان افتراق الغرماء عن وعد وإشهاد لأجله، لزمك لإبطالك مغرما بالتأخير، قال سحنون: الذي يلزم من الوعد قوله: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، أو: اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو: اشتر سلعة، أو: تزوج امرأة وأنا أسلفك؛ لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به بل الوفاء به من مكارم الأخلاق " (1) .
وإذا تنازع الواعد والموعود له فيما يلزم الواعد بسبب وعده، فقد قالوا: إذا اشترى رجل من آخر كرما فخاف الوضيعة، فأتى المشتري إلى البائع ليستوضعه، فقال له البائع: بع وأنا أرضيك، فإن باع المشتري الكرم برأس ماله أو بربح، فلا شيء على الواعد، وإن باع بالوضيعة كان عليه أن يرضيه، " فإن زعم الموعود أنه أراد شيئا سماه، فله ما أراد اتفاقا، وإن لم يكن أراد شيئا، أرضاه الواعد بما شاء وحلف بالله أنه ما أراد أكثر من ذلك ". وهذا هو رأي أشهب، أما على رأي ابن وهب واستحسنه أصبغ، فإن على الواعد، إرضاء الموعود بما يشبه، أي بالمثل، وهو ما يكون مرضيا عند الناس. أما لو حلف الواعد ليرضينه فإن عليه أن يوفيه بما يرضيه ويرضي الناس (2) .
__________
(1) انظر الفروق 24/4 وما بعدها. وكذا ابن عليش في فتح العلي المالك 254/1 فقد نص على ما يلي: " يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور من الأقوال"
(2) انظر فتح العلي المالك 255/1(5/779)
الفريق الثاني: ويمثله مذهب أصبغ، وقالوا عنه بأنه مذهب قوي، ويقضي بلزوم الوعد ووجوب الوفاء به إذا تم الوعد على سبب وإن لم يدخل الموعود له في مباشرة شيء، نقل ذلك ابن عليش المالكي حيث قال: " والقول بأنه يقضي بها إذا كانت على سببه وإن لم يدخل بسببها في شيء هو قول أصبغ في كتاب العدة " (1) .
فعلى هذا الرأي، لو قال رجل لآخر إن غرمائي يلزمونني بدين، فأسلفني أقضهم فوعده المقابل، ثم بدا له الرجوع، فإن على مذهب أصبغ، يجب الوفاء لأنه وعد على سبب، وعلى مذهب مالك ومن وافقه، لا يجب، لأن الموعود له لم يدخل في شيء إلا إذا اعتقد منه الغرماء على موعد وأشهد بإيجاب ذلك على نفسه (2) .
وحجة المالكية في تفصيلهم هذا، أن النصوص الشرعية بهذا الصدد قد تعارضت، فمنها ما أوجب الوفاء بالوعد مطلقا، وهي الأدلة التي ساقها موجبو الوفاء بالوعد، ومنها ما لم يجعل إخلاف الوعد من الكذب كحديث الموطأ وأبي داود، وأما قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} . فإنها نزلت في قوم كانوا يقولون جاهدنا وما جاهدوا، وفعلنا أنواع الخيرات وما فعلوا (3) . ولا شك أن هذا محرم لأنه كذب، وأما كون مخلف الوعد منافقا فهو محمول على حالة كون الإخلاف سجية له أو تعمدا، فكان لا بد من حمل هذه النصوص على خلفا ظاهرها وأن يجمع بين الأدلة، فوافق هذا الرأي من أوجب الوفاء بالوعد إذا كان الوعد على سبب وباشره، ووافق من لم يلزم الوفاء بالوعد فيما عداها من الوعود المجردة، هكذا ذكر القرافي (4) .
وقد رد ابن الشاط على كلام القرافي هذا، حيث قال: بأنه ينبغي الجمع بين الأدلة وتأويل ما يناقض ذلك، فيحمل حديث الموطأ وأبي داود بما يتسق مع الآية وحديث خصال المنافق، وذلك بأن تكون المسامحة في إخلاف الوعد اضطرارًا (5) .
وقد انتقد ابن حزم تقسيم المالكية هذا وتفصيلهم وقال: " بأنه لا وجه له ولا برهان يعضده لا من قرآن ولا سنة ولا قول صحابي ولا قياس، فإن قيل: قد أضر الواعد بالموعود إذ كلفه من أجل وعده عملا ونفقة، قلنا: فهب أنه كما تقولون فمن أين وجب على من ضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالا؟ " (6) .
وقول ابن حزم هذا غير مسلم، فقد ساق أصحاب الرأي الثاني من الأدلة ما فيه الكفاية، للقول بلزوم الوفاء بالوعد.
__________
(1) انظر فتح العلي المالك 255/1 وكذا القرافي في الفروق 25/4
(2) انظر ابن عليش فتح العلي المالك 255/1 وكذا القرافي في الفروق 25/4 أيضا
(3) انظر الجامع لأحكام القرآن 77/18
(4) انظر الفروق 25/4
(5) انظر حاشية ابن الشاط على الفروق 25/4
(6) انظر المحلى 28/8(5/780)
الرأي الراجح:
لقد تبين لنا من خلال ما نقلنا عن أئمة الفقه رحمهم الله أنهم اتجهوا ثلاثة اتجاهات في القول: بإلزام الواعد بالوفاء بوعده أو عدم إلزامه، ومن خلال ما استدل به كل فريق من أدلة، يترجح لنا رأي الفريق القائل: بوجوب الوفاء بالوعد مطلقا، وكما يلزم الواعد بالوفاء بوعده ديانة، يلزم به قضاء (1) . وذلك لرجحان أدلة هذا المذهب من جهة، ولعدم وجود مبرر للتفريق بإلزام الواعد بوفاء وعده ديانة وعدم إلزامه به قضاء مع ملاحظة ما اشترطه الفقهاء من وجوب تحقق ركني العقد – الإيجاب والقبول – ممن تتوفر فيهما أهلية التعاقد، وأن يتم ذلك في مجلس واحد وإذا أخل الواعد بوعده، فعليه تعويض ما لحق الطرف المقابل من أضرار.
جواب السؤال مدار البحث:
بعد أن تبين لنا في موضوع الوعد، رجحان رأي من يلزم الواعد بالوفاء بوعده، فالجواب على سؤال الآمر بالشراء مرابحة، وهل يلزم بذلك؟ يكون الجواب كالآتي:
إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاءً لأحكام المذهب المالكي، وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل به.
على أن تلاحظ الشروط التي اشترطها الفقهاء في مثل هذه العقود وتلخص بما يلي:
1- تطابق الإيجاب والقبول وأن يتم هذا التطابق في مجلس واحد.
2- أن يكون الثمن والسلعة معلومين لدى المتعاقدين.
__________
(1) وهذا هو مذهب ابن شبرمة ومن نحا نحوه،. وقد أخذ رجال القانون بهذا الرأي أيضا. وانظر في ذلك: مسألة الوعد بالتعاقد، نظرية العقد للدكتور السنهوري ص262، الوسيط للسنهوري أيضا 265/1، أصول الالتزام للدكتور حسن علي الذنون ص67 مطبعة المعارف بغداد، الوسيط في نظرية العقد للدكتور عبد المجيد الحكيم 193/1(5/781)
3- أن يبقى العقد معلقا لحين حيازة المصرف الإسلامي السلعة ودخولها في ملكه، لئلا يحصل بيع المبيع قبل قبضه، وذلك لا يجوز.
4- أن توصف السلعة للمشتري وصفا تزول معه الجهالة، فإذا تم العقد وأراد المصرف تسليم البضاعة للآمر بالشراء مرابحة، فإن لم تكن السلعة على الوصف الذي اتفق عليه الطرفان في العقد، فللمشتري الحق في فسخ العقد، عملا بخيار الوصف.
ومع أننا قد أخذنا برأي من يلزم الواعد بالوفاء بوعده ديانة وقضاء، فإننا نوصي القائمين على المصارف الإسلامية باتباع ما يلي: وذلك للخروج من خلاف الفقهاء.
أ- أن يمتلك التصرف الإسلامي البضاعة قبل أن يتعاقد عليها مرابحة، ومن ثم يبيعها مرابحة وفق الشروط التي تكلمنا عنها في الفصل الأول من هذا البحث.
ب- إذا لم يلحق المصرف ضرر من جراء وعد الواعد له بالشراء مرابحة، فلا يطالبه بتعويض مالي، أما لو لحقه ضرر فلا بأس من أخذ التعويض في هذه الحالة، لأن المصرف المعين مؤتمن على الأموال المودعة عنده، قلا يحق للقائمين على شؤونه التفريط في حقوق أصحاب تلك الأموال.
وأسأل الله أن يجنبنا الزلل في القول والعمل إنه سميع مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إبراهيم فاضل الدبو(5/782)
مراجع البحث
بعد القرآن الكريم
1) الجامع لأحكام القرآن – لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي.
الطبعة الثالثة – دار الكاتب العربي للطباعة والنشر 1387 هـ – 1967م.
2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني إدارة الطباعة المنيرية.
3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري – للعسقلاني – مطبعة البابي الحلبي.
4) صحيح مسلم بشرح النووي – دار الفكر- بيروت.
5) إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد الغزالي، المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
6) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ محمد عليش- الطبعة الأخيرة 1378 هـ – 1958م.
7) الفروق لأبي العباس الصنهاجي القرافي مع حاشية قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط مع تهذيب الفروق لمحمد بن الشيخ حسين دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت.
8) المحلى لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم – المكتب التجاري للطباعة والنشر.
9) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي – نشر دار العلوم الحديثة – بيروت.
ودار الشرق الجديدة – بغداد.
10) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري – نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.(5/783)
11) من مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح – لعلي بن سلطان محمد القارني – نشر المكتبة الإسلامية.
12) الموطأ – للإمام مالك بهامش كتاب المنتقى للباجي – الطبعة الأولى.
13) شرح بداية المبتدي – لبرهان الدين علي أبي بكر المرغيناني والمطبوع مع فتح القدير – الطبعة الأولى – بولاق مصر 1317هـ.
14) شرح فتح القدير للكمال ابن المهام. والمطبوع مع الهداية.
15) المغني – لابن قدامة على مختصر الخرقي _ مطابع سجل العرب بالقاهرة.
16) الشرح الكبير للدردير على مختصر سيدي خليل – المطبعة الأميرية.
17) روضة القضاة وطريق النجاة – لأبي القاسم علي بن محمد بن أحمد الرحبي السمناني تحقيق الدكتور صلاح الدين الناهي. مطبعة أسعد ببغداد.
18) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع – لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني- مطابع الإمام – القاهرة.
19) المبسوط – لشمس الدين محمد بن سهل السرخسي – مطبعة السعادة بمصر 1324 هـ.
20) الدر المختار شرح تنوير الأبصار لعلاء الدين الحصكفي- مطبعة البابي الحلبي الطبعة الثانية.
21) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين والمطبوع مع الدر المختار.
22) المدونة الكبرى رواية الإمام سحنون بن سعيد التنوطي عن عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك – الطبعة الأولى.
23) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف – لعلي بن سليمان المرداوي مطبعة السنة المحمدية في غزة 1955م.(5/784)
24) المهذب لأبي إسحاق إبراهيم علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي. مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر.
25) مغني المحتاج إلى معاني ألفاظ المنهاج – للخطيب الشربيني – مطبعة البابي الحلبي.
26) شرح الخرشي لمختصر سيدي خليل – لأبي عبد الله محمد الخرشي ومعه حاشية الشيخ العدوي – المطبعة الأميرية ببولاق مصر – الطبعة الثانية.
27) مطالب أولى النهي في شرح غاية المنتهى للسيوطي الرحيباني – الطبعة الأولى لسنة 1380هـ- 1960م منشورات المكتب الإسلامي بدمشق.
28) كشاف القناع عن متن الإقناع – لمنصور بن يونس البهوتي، والإقناع للحجاوي الناشر مكتبة النصر الحديثة في الرياض.
29) قواعد العلامة – للحسن بن يوسف بن المطهر الحلبي وهو متن مفتاح الكرامة.
30) مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة لمحمد جواد العاملي – مطبعة الشورى.
31) البحر الزخار – الجامع لمذاهب علماء الأمصار – لأحمد بن يحيى بن المرتضى – مطبعة السنة المحمدية بمصر – 1368هـ – 1949 م.
32) مصادر الحق في الفقه الإسلامي – للدكتور عبد الرزاق السنهوري – الجزء الثاني الطبعة الثالثة 1967 م.
33) نظرية العقد – للدكتور عبد الرزاق السنهوري.
34) أصول الالتزام – للدكتور حسن علي الذنون – مطبعة المعارف.
35) الوسيط – للدكتور عبد الرزاق السنهوري.
36) الوسيط في نظرية العقد- الدكتور عبد المجيد الحكيم.(5/785)
المرابحة للآمر بالشراء
نظرات في التطبيق العملي
إعداد
الدكتور علي أحمد السالوس
أستاذ الفقه والأصول – كلية الشريعة
جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
" إياك نعبد وإياك نستعين "
تقديم
الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد: فعندما قامت المصارف الإسلامية جعلت شعارها قول الحق تبارك وتعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: (275) ] . ورأت في بيع المرابحة للآمر بالشراء بديلا عن الإقراض الربوي الذي تقوم به البنوك الربوية. وثار الجدل ولا يزال حول مشروعية هذا البيع كما تجريه المصارف الإسلامية.
فذهب فريق من فقهاء العصر إلى أن هذا البيع لا يختلف في جوهره عن بيع المرابحة المعروف في الفقه الإسلامي كنوع من بيوع الأمانة.
وذهب آخرون إلى أن منهج البنوك الإسلامية في هذا المسمى بالبيع لا يختلف عن منهج البنوك الربوية في الإقراض الربوي.
واستدل كل فريق بأدلة كثيرة رأيناها في الأبحاث المقدمة للمؤتمرات، وفي الصحف والمجلات، كما نشر أكثر من كتاب يبحث هذا الموضوع.(5/786)
فتوى المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي:
ومن الفتاوى الجماعية المبكرة في هذا الموضوع ما صدر عن المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي الذي عقد بدبي سنة 1399هـ (1979 م) – أي بعد أربع سنوات من ظهور أول بنك إسلامي. ونص الفتوى ما يلي:
الوعد بالشراء مرابحة:
" يطلب العميل من المصرف شراء سلعة معينة، يحدد جميع أوصافها، ويحدد مع المصرف الثمن الذي سيشتريها به العميل بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما، وهذا التعامل يتضمن وعدا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقا لذات الشروط. ومثل هذا الوعد ملزم للطرفين طبقا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقا لأحكام المذاهب الأخرى، وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه.
وتحتاج صيغ العقود في هذا التعامل إلى دقة شرعية فنية، وقد يحتاج الإلزام القانوني بها في بعض الدول الإسلامية إلى إصدار قانون بذلك " اهـ.
ولعل المؤتمر لم يأخذ حظه من الإعداد الكافي، والفتوى ينقصها الدقة، فبيع المرابحة كما تجريه المصارف الإسلامية لا يجيزه المذهب المالكي، فضلًا عن أن يلزم به، وعارض الفتوى كثير ممن حضورا المؤتمر ممن لم يشاركوا فيه.
ومع هذا فالمؤتمر يعد خطوة أسهمت في مناقشة الموضوع من جوانبه المختلفة ومهدت لعقد مؤتمرات أخرى للمصارف الإسلامية ولغيرها.(5/787)
المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي:
وبعد أربع سنوات، أي سنة 1403 هـ (1983م) عقد المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي، بعد إعداد جيد، وكتابة قدر كاف من الأبحاث، ودعوة عدد كبير من فقهاء العصر ورجال الاقتصاد، وكان لبيع المرابحة النصيب الأوفى من البحث والمناقشة.
وأصدر المؤتمر فتوى من جزأين: الجزء الأول صدر بالإجماع، والجزء الثاني اشتد حوله الخلاف، ولم يمكن الجمع بين الآراء المتعارضة، فصدر تبعا لرأي الفريق الأكثر عددا.
الجزء الأول من الفتوى:
" يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء: بعد تملك السلعة المشتراة للآمر، وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق، هو أمر جائز شرعا طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي ".
الجزء الثاني من الفتوى:
" وأما بالنسيبة للوعد، وكونه ملزما للآمر أو للمصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل، وإن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعا، وكل مصرف مخير في أخذ ما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه " اهـ.
والجزء الأول من الفتوى كان له أثره الكبير في مسيرة المصارف الإسلامية، وفي قرارات هيئات الرقابة الشرعية المختلفة، وفي صياغة العقود لكثير من المصارف.
أما الجزء الثاني فلا يزال الخلاف حوله قائما، ولذلك فقد أحسن مجمعكم الموقر إذ جعل لموضوع " الوفاء بالوعد " بحثا مستقلًّا.
والجزء الأول وإن صدر بإجماع المشاركين غير أنا وجدنا من غيرهم من يعارضه، وفي انتظار قرار المجمع في دورته الحالية حيث لم يتمكن من إصدار قرار بشأن هذا البيع في دورته السابقة.(5/788)
في التطبيق العملي للمصارف الإسلامية:
لعل الضوابط الشرعية التي ذكرت في هذا الجزء من الفتوى تعتبر الحد الأدنى اللازم ليكون البيع مقبولا شرعًا، إلا أنني وجدت بعض المصارف الإسلامية لم تلتزم بهذه الضوابط في التطبيق العملي مع موافقتها على الفتوى، ووجدت في التطبيق العملي أيضا أمورا أخرى رأيت أن أعرضها على مجمعكم الموقر ليقول فيها رأيه إسهاما في تصحيح مسار المصارف الإسلامية.
وأبدأ بتقديم نموذجين لعقود الوعد بالشراء وبيع المرابحة، وكل نموذج تم التعامل به في مصرف إسلامي أو أكثر.
النموذج الأول " الوعد "
عقد وعد بالشراء
إنه في يوم: الموافق:
تم الاتفاق بين كل من:
أولا: ويمثله السيد/ طرف أول
ثانيا: السيد / السادة / طرف ثان
المقدمة
حيث إن الطرف الثاني يرغب في شراء / استيراد البضاعة المحددة المواصفات والكمية والمصدر على النحو المبين بطلب الشراء المؤرخ / / والمرقم الملحق بهذا العقد والمتمم له ونظرا لرغبة الطرف الثاني في الحصول على تمويل البضاعة من قبل الطرف الأول، لذا سيقوم الطرف الأول بشرائها ومن ثم بيعها للطرف الثاني إيفاء بوعد الشراء هذا ووفقا للشروط الآتية:
المادة الأولى: تعتبر المقدمة بأعلاه جزءًا لا يتجزأ من هذا العقد ومتممة له.
المادة الثانية: وعد الطرف الثاني الطرف الأول بشراء البضاعة المبنية آنفا وأبرم عقد البيع والشراء بمجرد استلام وكيل الطرفين (المتعاقدين) البضاعة من المستفيد.
المادة الثالثة: يعتبر الناقلون بصفتهم وكلاء عاملون للنقل، وكلاء للطرفين باستلام البضاعة اعتبارا من وقت استلامها وحتى ميعاد الوصول لشروط الاعتماد المستندي.(5/789)
المادة الرابعة: يكون البيع والشراء محل هذا الوعد على أساس المرابحة وبقيمة تكلفة البضاعة الكلية المشتملة على ثمنها وتكاليف شحنها وتأمينها وكافة المصاريف الأخرى بالإضافة إلى ربح الطرف الأول من مجموع التكلفة المذكورة وقدره --------------------------------- ويتحمل الطرف الثاني كامل الكلف الإضافية الطارئة إن وجدت ونتائج أية طوارئ قد تتعرض لها البضاعة عند استلامها من المستفيد كما ورد بالمادة الثانية.
المادة الخامسة: وافق الطرف الثاني على دفع نسبة % من قيمة البضاعة عند توقيع هذا الوعد كتأمين لضمان تنفيذ التزاماته قبل الطرف الأول وتسديد ما تبقى من قيمة البضاعة الكلية وأرباح الطرف الأول الواردة في المادة الرابعة أعلاه على النحو التالي: -
ــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــ
المادة السادسة: يلتزم الطرفان بإبرام عقد المرابحة النهائي المتعلق بهذا الوعد بمجرد إبلاغ المستفيد أحد الطرفين بتسليم البضاعة.
المادة السابعة: إذا امتنع أحد الطرفين عن تنفيذ هذا الوعد فيتحمل الطرف الممتنع أية أضرارا تلحق الطرف الآخر نتيجة لذلك ووفقا لما تحكم به هيئة التحكيم الواردة الذكر في المادة التاسعة من هذا العقد.
المادة الثامنة: إذا امتنع المصدر الذي عينه الطرف الثاني عن تنفيذ الصفقة أو أخرها عن موعد التسليم المتفق عليه لا يكون الطرف الأول مسئولا عن أي ضرر يعود على الطرف الثاني الذي عليه أن يدفع كافة المصاريف التي تحملها الطرف الأول من جراء عدم تنفيذ المصدر، وفي هذه الحالة لا يعتبر الطرف الأول مخلا بالوعد.
المادة التاسعة: في حالة نشوء أي نزاع بين الطرفين بشأن تنفيذ هذا العقد فإن هذا النزاع يعرض على هيئة تحكيم من ثلاثة محكمين ويختار كل طرف محكما ويختار المحكمان حكما ثالثا مرجحا، فإذا لم يتفق المحكمان على اختيار المحكم الثالث تتولى اختياره ------------------ خلال أسبوع من تاريخ نشوء النزاع بناء على أي طلب من الطرفين يتم الفصل في النزاع على أساس الشريعة الإسلامية ويكون حكم المحكمين سواء صدر بالإجماع أو بالأغلبية ملزما للطرفين غير قابل للطعن بالمعارضة ولا الاستئناف.
المادة العاشرة: كل ما لم يرد ذكره في بنود هذا العقد يخضع للقوانين النافذة بدولة -------- بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية وعقد التأسيس للطرف الأول ومن اختصاص محاكم دولة --------
المادة الحادية عشرة: حرر هذا العقد من نسختين استلم كل طرف نسخة منه.
الطرف الأول الطرف الثاني(5/790)
النموذج الأول " عقد البيع "
عقد بيع مرابحة
إنه في يوم الموافق حرر هذا العقد
بين كل من:
أولا: ويمثله السيد / طرف أول / بائع
ثانيا: السيد / السادة طرف ثان / مشتري
وذلك وفقا لما يلي:
1- يقر الطرف الثاني بأهليته الكاملة للتصرفات المالية عن نفسه أو بصفته
ــــــــــــــــــــــــــــ
وأنه اطلع على النظام الأساسي................. (الطرف الأول) لا يلتزم في تعامله معه وفقا لهذا النظام.
2- باع الطرف الأول للطرف الثاني القابل لتلك البضاعة المبينة أوصافها وكميتها بطلب الشراء المرفق بهذا العقد رقم بتاريخ / /
3- حدد الثمن الإجمالي للبضاعة بمبلغ ـــــــــــ
متضمنا الثمن الأساسي والمصاريف المدفوعة من الطرف الأول والربح المتفق عليه ويتعهد الطرف الثاني بسداده على النحو التالي
ــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــ
4- تم التوقيع على هذا العقد من قبل الطرفين بعد تسليم البضاعة من قبل المستفيد إلى وكيل الطرفين (الناقلين) ويكون العقد نافذا من تاريخه وتصبح البضاعة ملكا للطرف الثاني وتحت مسئوليته.
5- حيث أن الطرف الثاني هو الذي اختار المصدر وحدد مواصفات البضاعة فإن الطرف الأول ليس مسئولا عن أي نقص في البضاعة أو اختلاف في مواصفاتها وأن مسئولية ذلك تقع على عاتق الطرف الثاني طبقا لما هو متعارف عليه دوليا.
6- الرسوم الجمركية ومصاريف نقل البضاعة من ميناء الوصول إلى مخازن المشتري والتخليص عليها لا تدخل ضمن الثمن المتفق عليه بهذا العقد ويتحملها الطرف الثاني (المشتري) .
7- يتعهد الطرف الأول (البائع) بإخطار الطرف الثاني (المشتري) بوصول المستندات الخاصة بالبضاعة وتسليمه هذه المستندات بمجرد وصولها بعد إجراء اللازم في البند رقم (3) .
8- في حالة امتناع الطرف الثاني عن استلام المستندات الوارد ذكرها في البند السابق أو استلام البضاعة فمن حق الطرف الأول بيعها بالسعر السائد في حينه في بلد الوصول أو أي مكان آخر حسبما يراه الطرف الأول ولحساب الطرف الثاني وقبض الثمن لاستيفاء حقوقه وإعادة ما يزيد على ذلك للطرف الثاني وإن قل الثمن عن مستحقات الطرف الأول، كان له أن يرجع على الطرف الثاني بما بقي له في ذمته.
9- في حالة نشوء أي نزاع بين الطرفين بشأن تنفيذ هذا العقد فإن هذا النزاع يعرض على هيئة تحكيم من ثلاثة محكمين ويختار كل طرف محكما ويختار المحكمان محكما ثالثا مرجحا. فإذا لم يتفق المحكمان على اختيار المحكم الثالث تتولى اختياره ----------- خلال أسبوع من تاريخ نشوء النزاع بناء على أي طلب من الطرفين. يتم الفصل في النزاع على أساس الشريعة الإسلامية، ويكون حكم المحكمين سواء صدر بالإجماع أو بالأغلبية ملزما للطرفين غير قابل للطعن بالمعارضة ولا الاستئناف.
10- كل ما لم يرد ذكره في بنود هذا العقد يخضع للقوانين النافذة بدولة ــــــــــ بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية وعقد التأسيس للطرف الأول ومن اختصاص محاكم ـــــــــ
11- حرر هذا العقد من نسختين استلم كل طرف نسخة منه.
الطرف الأول " بائع " الطرف الثاني " مشترى "(5/791)
تعقيب:
عندما يرغب أحد في استيراد سلعة عن طريق الاقتراض من بنك ربوي فإنه يتفق مع البنك على القرض وفائدته، أي الربا الذي يلتزم به تبعا للزمن المتفق عليه، ويقوم البنك بفتح اعتماد مستندي للمقترض، ويستورد السلعة لحسابه، أي أنها تكون ملكا للمقترض، غير أن المستندات تأتي للبنك ويسلمها للعميل بعد اتخاذ ما يراه من إجراءات، ويمكن أن تظل البضاعة رهنا إلى أن تتم هذه الإجراءات.
والبنك هنا يتعامل في مستندات تطابق شروط فتح الاعتماد، والتزامه يقف عند هذه المستندات ولا يتعداها إلى السلعة ذاتها.
وعندما قامت المصارف الإسلامية رأت أن البديل الإسلامي كما سبق ذكره أن تقوم باستيراد السلعة لحسابها، ثم بيعها للعميل بالأجل عن طريق بيع المرابحة.
وتبعا للجزء الأول من فتوى المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي – سواء أكان الوعد ملزما أو غير ملزم – فإن البنك لا يقوم بالبيع إلا بعد التملك والحيازة، ويقع عليه هو تبعة الهلاك قبل التسليم، والرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي بعد التسليم.
وإذا نظرنا في النموذج السابق وجدناه يبعد كثيرا عما أفتى به المؤتمر، ويحكم العرف الدولي الذي ينظم الاعتمادات المستندية للبنوك الربوية لا الإسلامية.
وتبعا لهذا النموذج فإن السلعة تنتقل ملكيتها – وما يتبع ذلك من ضمان – من المستفيد، أي المصدر، إلى العميل المستورد مباشرة دون أن تدخل في ملكية المصرف وضمانه.(5/792)
وما ذكر من أن الشركة الناقلة وكيلة عن الطرفين، فهي تتسلم السلعة كوكيل عن المصرف، ويعتبر عقد البيع قد أبرم بمجرد هذا التسليم، وبالتالي تتسلم السلعة كوكيل عن العميل، هذا القول ممجوج مرفوض، فالشركة لا شأن لها بالبيع ولا بالشراء، ولم توكل لهذا أصلا، وإنما هي مختصة بالنقل، فالمصرف لم يوكلها لتبيع، والعميل لم يوكلها لتشتري، بل إن الأصل أن العميل ليس بينه وبين الشركة الناقلة أي نوع من العلاقة، فعلاقته بالمصرف، ولا يشتري إلا بعد أن تدخل السلعة في ملك المصرف وحيازته، ويتحمل مسئولية الهلاك قبل وصول السلعة وتسليمها، ولكن المصرف – كما يبدو من النموذج – اعتبر العميل قد اشترى بمجرد الشحن سواء أوافق أو عارض، فلم يشترط موافقة العميل لإتمام العقد.
ولم يكتف المصرف بكل هذه المخالفات الشرعية، وإنما جاء إلى الضابط الشرعي الأخير بعد التسليم ومحاه محوا تاما، ثم أضاف مخالفة جديدة أبعد من هذا وأكثر شططا، حيث اعتبر العميل هو المسئول عن أي نقص في البضاعة أو اختلاف في مواصفاتها لما هو متعارف عليه دوليا.
والمتعارف عليه دوليا إعطاء هذا الحق للبنك الربوي، حيث يتعامل في مستندات فقط لا في سلع، فهو لا يشتري لنفسه ولا يبيع، وإنما هو واسطة بين المستورد المشتري، والمصدر البائع، ومهمته مراجعة المستندات طبقا للاعتماد المستندي، وتسليمها للمستورد، وتسليم الثمن للمصدر.
وإذا لم يتم هذا المسمى بالبيع بكل ما يحمله من مخالفات شرعية بعد فتح الاعتماد المستندي فإن العميل هو الذي يتحمل كافة المصاريف التي تحملها المصرف.
وبهذا لا نرى أي فرق بين فتح الاعتماد المستندي – غير المغطى أو المغطى جزئيا لا كليا- في بنك ربوي وفي مصرف إسلامي يأخذ بمثل هذا العقد.(5/793)
النموذج الثاني " الوعد "
وعد بالشراء
أنه في يوم / / 14 هـ الموافق / / 19 م
قد تم الاتفاق بين كل من:
1- مصرف قطر الإسلامي طرف أول
2- طرف ثان
على ما يلي: -
المقدمة
حيث إن الطرف الثاني يرغب في شراء البضاعة المحددة على النحو المبين بطلب الشراء بالمرابحة والمؤرخ / / والمرقم:
فقد طلب الطرف الثاني من الطرف الأول القيام بشرائها ثم بيعها إيفاء بهذا الوعد منه بالشراء وفقا للشروط التالية:
1- يقر الطرف الثاني بأهليته للتصرفات المالية وأنه قد اطلع على القانون والنظام الأساسي لمصرف قطر الإسلامي (الطرف الأول) ويلتزم في تعامله معه وفقا لهذا النظام.
2- وعد الطرف الثاني الطرف الأول بشراء البضاعة المبينة آنفا وإبرام عقد البيع والشراء بمجرد إعلام الطرف الأول للطرف الثاني بأن البضاعة جاهزة للتسليم أو وصلت إلى ميناء ---------------------- ووردت مستنداتها.
3- شروط ومكان التسليم: ------------------------
4- يكون البيع والشراء محل هذا العقد على أساس المرابحة وبقيمة التكلفة الكلية للبضاعة بالإضافة إلى ربح الطرف الأول بنسبة ----------- % من التكلفة الكلية.
5- وافق الطرف الثاني على دفع نسبة % من قيمة البضاعة عند التوقيع على هذا الوعد كعربون لضمان الجدية وتنفيذ التزاماته تجاه الطرف الأول والقيام بتسديد باقي القيمة البيعية للطرف الأول الواردة على النحو التالي:
ــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــ
6- في حالة امتناع الطرف الثاني عن تسلم البضاعة أو المستندات المتعلقة بها فإنه يعتبر ناقضًا لوعده وحينئذ فإنه من حق الطرف الأول بيعها واستيفاء حقوقه من الثمن وإن قل الثمن عن مستحقات الطرف الأول كان له أن يرجع على الطرف الثاني (المشتري) بمقدار ما تحمله من خسائر فعلية تترتب على ذلك وإن زاد ثمن البضاعة عن مستحقات الطرف الأول كانت هذه الزيادة خالصة له باعتباره مالكها.
7- إذا امتنع أحد الطرفين عن تنفيذ هذا الوعد أو قدم بيانات أو معلومات ومستندات غير صحيحة فيتحمل أية أضرار تلحق للطرف الآخر نتيجة لذلك.
8- في حالة ما إذا قام الطرف الثاني بتحديد المصدر فإنه يقر بعدم مسئولية المصرف في حالة عدم تنفيذ وعد الشراء لأسباب ترجع إلى المصدر ما دام المصرف قد وفى بالتزامه بفتح الاعتماد المستندي الضروري لاستيراد البضاعة في المدة المتفق عليها بطلب الشراء، كما يقر الطرف الثاني بعدم مسؤولية المصرف عن أية أضرار قد يتحملها نتيجة تأخر وصول البضاعة إذا تم شحنها خلال المدة المحددة في الاعتماد ويتعهد بشرائها وإبرام عقد البيع فور وصولها تنفيذا لهذا الوعد.
9- أي نزاع ينشأ حول تنفيذ هذا الوعد يكون من اختصاص محاكم دولة قطر.
10- حرر هذا الوعد من نسختين بيد كل طرف نسخة للعمل بموجبه.
الطرف الأول الطرف الثاني(5/794)
بسم الله الرحمن الرحيم
النموذج الثاني " عقد البيع "
مصرف قطر الإسلامي
شركة مساهمة قطرية
عقد بيع بالمرابحة (نهائي)
في يوم / / 14 هـ الموافق / / 19 م بمدينة الدوحة – قطر – حرر هذا العقد بين كل من:
أولا مصرف قطر الإسلامي ويمثله في هذا العقد السيد /
طرف أول: بصفته بائعًا
ثانيا: السيد / السادة
ومقره طرف ثان / بصفته مشتريًا
وأقر الطرفان بصفتهما وأهليتهما القانونية للتعاقد واتفق على ما يلي:
... البند الأول ...
تنفيذًا – لطلب الشراء رقم () بتاريخ / /
ووعد الشراء المؤرخ في / /
والذي يعتبر هو وطلب الشراء جزءًا لا يتجزأ من هذا العقد، باع الطرف الأول للطرف الثاني القابل لذلك البضاعة المبينة أوصافها وكمياتها أدناه:
وصف البضاعة: --------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
الكمية: --------------------------------------------
بوليصة الشحن رقم: --------------- وتاريخها: / /
رقم الحاوية: -------------------------(5/795)
. البند الثاني..
حدد ثمن البضاعة بمبلغ ------------------------
متضمنا المصاريف وأرباح المصرف، ويتعهد الطرف الثاني بسداد الثمن الإجمالي المشار إليه أعلاه على النحو التالي: ---------------------------------------------------------------------------
.. البند الثالث..
تم التوقيع على هذا العقد من قبل الطرفين المنوه عنهما بالبندين أولا وثانيًا بعد التأكد من حيازة الطرف الأول لهذه البضاعة.
.. البند الرابع..
اتفق الطرفان على أن يكون التسليم هو ميناء الوصول، ومن ثم فإن أجور التفريغ والرسوم الجمركية ومصاريف نقل البضاعة من الميناء إلى مخازن المشتري والتخليص عليها لا تدخل ضمن الثمن الإجمالي للبضاعة المشار إليها بالبند الثاني من هذا العقد ويتحملها الطرف الثاني (المشتري وحده) ولا يحسب لها نسبة أو مقدار في الربح.
.. البند الخامس..
وافق الطرف الثاني على تسلم المستندات المتعلقة بالبضاعة المبينة في هذا العقد بعد تظهيرها لصالحه من قبل الطرف الأول ويتعهد بتسلم البضاعة والتخليص عليها بمعرفته وذلك بمجرد تفريغها بجهة الوصول ويتحمل الطرف الثاني مصاريف الأرضيات وأجور التخزين في الميناء الناشئة عن التأخير في التخليص عن البضاعة محل هذا العقد.
.. البند السادس..
تنتهي مسئولية الطرف الأول عن أية عيوب خفية أو ظاهرة بعد ثلاثة أيام من توقيع العقد بالمرابحة وتقع مسئولية تخزين البضائع وفقا للأصول الفنية على عاتق الطرف الثاني وحده ولا يحق له الرجوع على الطرف الأول بالنتائج التي قد تترتب على مخالفته ذلك.
وإذا سبق أن وقع عقد بيع ابتدائي لنفس هذه البضاعة فإن مسؤولية الطرف الأول عن أية عيوب تعتبر منتهية بعد ثلاثة أيام من تاريخ توقيع ذلك العقد.(5/796)
. البند السابع..
كل ما لم يرده ذكره في هذا العقد يخضع القوانين والأعراف التجارية النافذة بدولة قطر وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية وعقد تأسيس الطرف الأول ومن اختصاص المحاكم القطرية.
.. البند الثامن..
لا يحق للطرف الثاني (المشتري) أن يتأخر في دفع الثمن بالكيفية الموضحة في هذا العقد كما لا يحق له أن يتأخر في دفع الأقساط المقررة عليه، وفي حالة تأخره عن دفع قسطين متتاليين أو في حالة مماطلته أو امتناعه عن الدفع تحل باقي الأقساط فورا دون تنبيه أو إنذار ويحق الطرف الأول في هذه الحالة أن يرجع على الطرف الثاني لاستيفاء كافة حقوقه الناتجة عن هذا العقد.
.. البند التاسع..
أي خلاف ينشأ حول تطبيق أحكام هذا العقد أو عن أي شيء متفرع عنه أو له علاقة به يعرض الخلاف على لجنة تحكيم تشكل من ثلاثة أعضاء على الوجه التالي:
- حكم يختاره الفريق الأول
- حكم يختاره الفريق الثاني
- حكم يختاره المحكمان الأولان
ويتم الفصل في النزاع على أساس الشريعة الإسلامية، ويكون حكمهم، سواء صدر بالإجماع أو بالأغلبية، ملزما للفريقين، وغير قابل للطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن الجائزة قانونا.
وفي حالة عدم توفر الأغلبية يحال الخلاف موضوع التحكيم إلى المحاكم القطرية.
وتكون محاكم دولة قطر هي المختصة دون سواها، بالفصل في أي طلبات و / أو قضايا تنشأ بمقتضى التحكيم و / أو ناشئة و / أو متعلقة به و / أو بهذا العقد.
.. البند العاشر..
حرر هذا العقد من نسختين بيد كل طرف نسخة للعمل بموجبه.
الطرف الأول بصفته الطرف الثاني بصفته
البائع المشتري(5/797)
تعقيب
قبل افتتاح مصرف قطر الإسلامي استعان المسئولون بمن سبقهم في هذه التجربة، وأخذوا نماذج من العقود التي وجدوها عندهم، وعرضوها علي للنظر فيها قبل بدء العمل.
واختاروا للمرابحة النموذج الأول، فطلبت منهم إحراقه لما رأيته من مخالفات شرعية، وأعطيتهم نموذجا آخر يسيرون عليه حتى تنتهي هيئة الرقابة الشرعية للمصرف من صياغة العقود المختلفة، وكان هذا النموذج الثاني هو ما انتهت إليها الهيئة.
ويلاحظ أن هذا النموذج التزم بالجزء الأول الذي صدر بإجامع المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي، وراعى الضوابط الشرعية من التملك والحيازة، ومسئولية الهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد بعد التسليم.
ولذلك فهو يقوم بفتح الاعتماد المستندي لنفسه، وتصدر مستندات البيع من المصدر باسمه كمشتر، وباسمه أيضا تكون (بوليصة) الشحن والتأمين، ويتحمل مخاطر الطريق وعلى الأخص ما لا يدخل في ضمان شركات التأمين، كما يتحمل نقص البضاعة ومخالفتها للمواصفات، والعيوب الظاهرة والخفية. وتبعا لهذا أصيب المصرف بخسائر في بعض العمليات، ولكنها – بحمد الله تعالى – لم تكن كثيرة، وأثبتت بطريقة عملية الفرق بين بيع المرابحة والقرض الربوي.
ويبقى الجزء الثاني الذي ثار حوله الجدل في المؤتمر المذكور:
وشاركت في المؤتمر مع فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي، وكان مع القائلين بالإلزام بالوعد في بيع المرابحة، وكنت مع المعارضين، ثم أصبحنا معا في هيئة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي، وكان معنا عضو ثالث أيد رأي الشيخ القرضاوي، ودار النقاش، ثم انتهينا إلى هذه الصيغة المعروضة التي توفق بين الرأيين إلى حد ما، وإن كانت أقرب إلى رأي غيري.(5/798)
والفرق بين النموذجين في آثار الالتزام بالوعد: أن النموذج الأول يجعل الموافقة على الوعد إلزاما بعقد البيع حتى وإن امتنع العميل بعد هذا عن تسلم المستندات وإتمام عقد البيع، وإذا باع المصرف السلعة حسبما يراه فإنه يبيعها باعتبارها ملكا للعميل الذي رفض التوقيع على العقد، ثم يأخذ التكاليف والربح، ويعطي العميل ما زاد عنها، ويعود عليه بما يقل عن التكاليف والربح معًا.
أما النموذج الثاني فعقد البيع فيه لا يتم إلا بالتراضي، وعند امتناع العميل فإن المصرف يبيع السلعة باعتبارها لا تزال في ملكه، وإن ربح قليلًا أو كثيرًا فالربح له، وإن لم يربح ولم يخسر فلا يعود بشيء على العميل.
ويبقى ما يعد شرطا يلتزم به الطرفان لتحمل الضرر نتيجة للوعد:
فإن خسر المصرف عاد بمقدار الخسارة على العميل، وإن وقع ضرر على العميل يتحمله المصرف ما دام لم يلتزم بوعده، كأن يكون العميل دخل في مناقصة وترتب على عدم تنفيذه أن غرم مالًا، أو وعده المصرف ببيع آلات لمصنع أو مستشفى واستأجر العميل المكان وأنفق مالًا لإعداده، فهنا يلتزم المصرف بما غرمه العميل.
فعقد البيع إذن لا يتم إلا بضوابطه الشرعية، ولكن هذا الشرط الذي وضع لمنع الضرر الذي يسببه أي طرف للآخر نتيجة للوعد أيقبل شرعًا أم لا؟
لعل مجمعكم الموقر يقول: كلمته:
فإن أقر هذا اعتبرناه توفيقا بين الرأيين، وقدمناه للمصارف الإسلامية، وإن لم يقره أرحنا من الخلاف، والله عز وجل هو المستعان، وهو الأعلم.(5/799)
مسائل أخرى في التطبيق العملي لبيع المرابحة:
المسألة الأولى:
في المرابحات الخارجية وجدت بعض المصارف تفتح الاعتماد المستندي باسم العميل، وتأتي المستندات باسمه، ومعنى هذا صراحة أن السلعة لا تدخل في ملك المصرف.
وفي المرابحات المحلية قد يتفق العميل مع البائع، ثم يأتي للمصرف ليأخذ المبلغ الذي يريده، ويكتب عقد بيع المرابحة، ثم يقوم العميل بعد هذا بالشراء مباشرة من البائع.
فالمصرف باع قبل أن يملك ويحوز، بل لم تدخل السلعة في ملكه وحيازته بعد هذا.
المسألة الثانية:
بيع المرابحة عن طريق تظهير (بوليصة) الشحن، وهذا يعني أنه لا حيازة، ولا ضمان، ولا تسليم ولا تسلم، ولا رؤية.
وأحيانا يكون الشراء عن طريق التظهير، ثم يتم البيع مرابحة بالتظهير مرة أخرى.
المسألة الثالثة:
يوكل المصرف أحدا بالشراء، وبعد أن يتم الشراء، وتصبح السلعة أمانة في يد الوكيل، يطلب المصرف منه بيعها مرابحة بشروط معينة، إذا رغب الوكيل في الشراء لنفسه بهذه الشروط جاز بموافقة المصرف، وإذا لم يرغب، ولم يتمكن من بيعها بهذه الشروط، ظلت أمانة عنده.
أجاز المجمع هذه الصورة.
وجدت مصرفا يوكل غيره بالشراء، ويشترط على الوكيل أن يشتري لنفسه بمجرد شرائه للمصرف بشروط محددة للمرابحة.
فتسلم الوكيل للسلعة المشتراة للمصرف يعتبر في الوقت نفسه تسلما للسلعة المبيعة من المصرف، أفيجوز هذا؟ علما بأن المصرف يحتج هنا بفتوى المجمع.(5/800)
المسألة الرابعة:
ما دامت السلعة في ملك البائع ولم يتم البيع، فلا يجوز جعل الضمان على طالب الشراء.
غير أننا وجدنا – في بضع الحالات – أن طالب الشراء هو الذي يقوم بالتأمين على السلعة التي تشتريها المصرف عند الشحن وقبل أن يتم بيع المرابحة.
وأحيانا يقوم المصرف بالتأمين ولكن (بوليصة) التأمين تصدر باسم طالب الشراء بدلا من إصدارها باسم المصرف مالك السلعة.
المسألة الخامسة:
من المشكلات التي تؤثر في مسيرة المصارف الإسلامية عدم التزام كثير من المدينين بدفع أقساط الديون في مواعيدها المتفق عليها، وقليل من هؤلاء ذو عسرة وأكثرهم يماطلون مع القدرة على الأداء نظرًا لأن المصارف الإسلامية لا تأخذ فوائد التأخير التي يلتزم بها هؤلاء مع البنوك الربوية.
وكثير من المصارف لم تجد علاجا لهذه المشكلة، ووجدت حلا جزئيا في اللجوء إلى المزيد من الضمانات، غير أن بعض المصارف لجأت إلى حلول أخرى نرجو أن يقول المجمع فيها رأيه. ونذكر منها ما يأتي:
أ- عند عجز المدين (المشتري) عن الدفع، وعلم المصرف بهذا، رأى – تقديرا لظروفه ورأفة به- أن يدخل مع هذا المدين في شركة بقيمة الدين وربما كان هذا التصرف يتعارض مع قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة (280) ] .
ب- ومن المصارف من لجأ إلى إعادة الاتفاق على نسبة الربح، بحيث تزيد هذه النسبة لصالح المصرف تبعا للزمن الذي يتأجل إليه الدفع.
ولعل هذا مثل إعادة جدولة الديون الربوية، وربما كان فيه شبه من المبدأ الجاهلي " إما تقضي وإما أن تُرْبِي ".
جـ- وبعض المصارف الإسلامية – وهي ليست قليلة – استحدثت إلزام المدين المماطل دفع تعويض عن الضرر الذي ألحقه بالمصرف نتيجة مماطلته، وحجز المال عن الاستثمار وتحقيق الربح.
ولعل هذا الموضوع يحتاج إلى وقفة، نبين فيها وجهة نظر القائلين بهذا الرأي المدافعين عنه، وأثر هذا في التطبيق العملي.(5/801)
هل للمصرف أخذ تعويض من المدين المماطل؟
رأي المجيزون أن الغني المماطل أوقع الضرر بالمصرف، فلولا مماطلته لضم هذا المال لباقي الأموال المستثمرة، ويمكن أن يقدر بمقدار الربح الذي حققه المصرف فعلا في مدة المماطلة.
ولذلك أجازوا للمصرف أخذ تعويض بمقدار نسبة الربح التي كان يمكن أن يحققها دين المماطل لو استثمره المصرف، فمتى تبين المصرف الإسلامي أن المدين المماطل مليء غني أضاف إلى دينه نسبة تعادل التي حققها خلال مدة بقاء الدين في ذمته.
وقد ناقشت بعض هؤلاء المجيزين، ووجدتهم يستدلون بثلاثة أحاديث شريفة، وبالمصلحة المرسلة التي يرون أنها تتفق مع مقاصد التشريع الإسلامي.
والأحاديث الثلاثة هي:
1) ((مطل الغني ظلم))
2) ((لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)) .
3) ((لا ضرر ولا ضرار)) .
والحديث الأول متفق عليه.
قال ابن حجر في الفتح (4/446- الباب الأول من كتاب الحوالة) :
" في الحديث الزجر عن المطل، واختلفت هل يعد فعله عمدا كبيرة أم لا؟
فالجمهور على أن فاعلها يفسق، لكن هل يثبت فسقه بمطله مرة واحدة أم لا؟ قال النووي: مقتضى مذهبنا اشتراط التكرار، ورده السبكي في شرح المنهاج بأن مقتضى مذهبنا عدمه، واستدل بأن منع الحق بعد طلبه، وابتغاء العذر عن أدائه، كالغصب، والغصب كبيرة ... وتسميته ظلما يشعر بكونه كبيرة، والكبيرة لا يشترط فيها التكرار، نعم لا يحكم عليه بذلك إلا بعد أن يظهر عدم عذره ".(5/802)
والحديث الثاني " لَيُّ الواجد ... " ذكره السيوطي وأشار إلى رواته وهم: أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم. ورمز للحديث بالصحة.
وقال المناوي في فيض القدير (5/400) :
" عرضه: بأن يقول له المدين (ولعل الصحيح بأن يقول للمدين) : أنت ظالم، أنت مماطل، ونحوه ما ليس بقذف ولا فحش.
وعقوبته: بأن يعزره القاضي على الأداء بنحو ضرب أو حبس حتى يؤدي ثم قال: " قال الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي، ولم يضعفه أبو داود ".
والحديث ذكره البخاري تعليقا، قال في " باب: لصاحب الحق مقال " من كتاب الاستقرار في صحيحه: ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَيُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه)) قال سفيان: يقول مطلتني، وعقوبته: الحبس.
وفي تغليق التعليق لابن حجر (3/318-320) ذكر طرقه المختلفة الموصولة، وقال كما قال في الفتح: إسناده حسن.
والحديث الثالث: ((لا ضرر ولا ضرار))(5/803)
ذكر السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 468) أن الحديث أخرجه مالك والشافعي مرسلا، وأحمد وعبد الرزاق وابن ماجه والطبراني، وفيه جابر الجعفي، وابن أبي شيبة من وجه آخر أقوى عنه، والدارقطني من وجه ثالث.
وقال المناوي في فيض القدير (6/432) : الحديث حنسه النووي وقال: له طرق يقوى بعضها بعضا.
وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به.
والحديثان الأول والثاني ظاهران في ظلم الغني المماطل، واستحقاقه للعقاب، وهما مما يحتج به.
والعقوبة هنا تعزيرية، وذهب الجمهور إلى أن العقوبة هنا هي الحبس، وإن جاز في التعزير غيره كالضرب والتوبيخ، وما دام الهدف من العقوبة التعزيرية الردع والزجر وأداء الحقوق، وليس في العقوبة هنا حد مقرر، فالأمر إذن فيه متسع أمام القاضي أو ولي الأمر، فقد يرى في التوبيخ الكفاية، وقد يرى ضرورة الضرب مع الحبس، والأمر لا يستدعي كبير خلاف ما دام الحكم يصدر من عادل غير محكم للهوى والتشهي.
والحديث الثالث: ينهى عن الضرر، ومن القواعد الشرعية المعروفة أن الضرر يزال، والمصرف لحقه ضرر فيجب أن يزال.
ومن المعروف أن الدائن ليس له إلا دينه، سواء أخذه وقت استحقاقه، أم بعد مدة المطل، وما أجاز أحد من الفقهاء، أن يدفع المدين قدرا زائدا عن الدين لعقوبة تعزيرية، ولو قيل: يدفع مقابل الزمن، فهذا هو عين الربا.
قال المجيزون: " إن المصلحة تقتضي منع المماطل من استغلال أموال المسلمين ظلما وعدوانا "، وإذا كانت الفائدة الربوية تمنع المطل مع البنوك الربوية، فإن الإسلام لا يعجز عن أن يوجد حلا لمشكلة المطل التي تعاني منها المصارف الإسلامية، وإذا كان الفقهاء السابقون رأوا أن تكون العقوبة الحبس، وهذا غير مطبق الآن، فعلى فقهاء العصر أن يجتهدوا لإيجاد الحل.(5/804)
ثم أضافوا: " والقدر الذي نرى أن يتحمله المماطل هو ما يقابل الربح الفعلي للمصرف، فهذا ليس من باب الربا، ولكنه من باب منع الضرر الذي يلحق بالمصرف ".
وربما كان من الصعب التفرقة بين ما ذهب إليه هؤلاء وبين الربا.
ويبقى هنا كذلك أن نسأل:
ما الهدف من العقوبة التعزيرية؟
ومن الذي يحدد هذه العقوبة؟
ومن الذي يأمر بإيقاعها؟ أو يقوم بتنفيذها؟
أفيمكن أن يكون شيء من هذا للمصرف؟
لو جاز أن يكون للمصرف استحداث عقوبة تعزيرية يوقعها بالعميل، وهي تشتبه بالربا، إن لم تكن هي الربا بعينه، فمن باب أولى أن يكون له الحق في العقوبة التعزيرية المقررة كالحبس أو الضرب؟
ونأتي إلى الجانب التطبيقي لنرى هل تحقق الهدف من هذه العقوبة؟
بعض المصارف رأت أن المتعاملين معها الذين لا يؤدون الأقساط في مواعيدها بلغوا من الكثرة حدا يصعب معه النظر في كل حالة، والتفرقة بين مطل الغني وعجز الفقير، كما توجد عوامل أخرى تزيد الأمر صعوبة، ولذلك عند تأخر أي مدين عن الأداء يضاف على دينه ما يقابل الربح الذي يعلنه المصرف في حينه، ولا يستطيع أي أحد أن يفرق بين هذا وبين الربا المحرم.
وقد يقال: إن هذا خطأ في التطبيق لا في الفتوى، ولكن على المفتي أن ينظر إلى ما يمكن تطبيقه.
وبعض المصارف الأخرى تمسكت بنص الفتوى، فكانت ترسل للعميل أولا حتى تتأكد من المطل قبل إنزال العقوبة.
ويلاحظ هنا أن الأرباح التي تحققها المصارف الإٍسلامية أقل من الفوائد الربوية في أوقات كثيرة فالذين يستحلون هذه الفوائد استمروا في مطلهم غير عابئين بما يضيفه المصرف الإسلامي.
وبذلك تحولت العقوبة التعزيرية إلى زيادة ترتبط بربح المصرف والزمن، ورضي بهذا الطرفان، فهل تحقق الهدف من العقوبة التعزيرية؟ أم تحولت العقوبة إلى نوع جديد من الربا؟ ويبقى هنا أيضا أن نسأل:
إذا لم يكن هذا التصرف مشروعا- وأظنه غير مشروع – فهل نجد عند مجمعكم الموقر حلا لمشكلة الأموال الضخمة التي يستحلها الأغنياء القادرون المماطلون؟
نرجو أن يتسع وقت المجمع لبحث هذا الموضوع(5/805)
الخاتمة
بعد هذه الدراسة لبعض الجوانب التطبيقية لبيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية، أرجو ألا يكتفي المجمع بالفتوى من الناحية النظرية، وأن يبين ما يجوز وما لا يجوز مما ذكرته في هذه الدراسة، حتى نساعد المصارف الإسلامية لتصحح مسيرتها، وتبتعد عن الأخطاء في مجال التطبيق العملي.
والله عز وجل هو المستعان، نعم المولى ونعم النصير، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
" سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين "
الدكتور / علي أحمد السالوس(5/806)
بيع المرابحة للآمر بالشراء
إعداد
الدكتور سامي حسن محمود
المدير العام
مركز البركة للبحوث والاستشارات المالية
الإسلامية
عمان – المملكة الأردنية الهاشمية
بيان المحتويات
مقدمة الموضوع
الفرع الأول: أهمية بيع المرابحة للآمر بالشراء واستعمالاته.
الفرع الثاني: الوجه الفقهي لتخريج الصيغة المستحدثة.
الفرع الثالث: وجوه الاعتراض على بيع المرابحة للآمر بالشراء
1- هل المرابحة للآمر بالشراء من بيع العينة؟
2- مسألة الإلزام بالوعد
3- نقطة المخاطرة برأس المال.
الخاتمة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الموضوع:
يعتبر بيع المرابحة للآمر بالشراء في مجال التطبيق المعاصر للمعاملات الشرعية أنه تعامل حديث دعت إليه الحاجة ورسخت جذوره الظروف السائدة في غالب المجتمعات الإسلامية وأعلت راياته المصارف الإسلامية بما توسعت به في طرق استعمال هذه الصيغة المستحدثة.
وقد كان بيع المرابحة للآمر بالشراء بصورته المعروفة حاليًا في التعامل المصرفي كشفًا وفق الله إليه الباحث أثناء إعداده لرسالة الدكتوراه في الفترة الواقعة بين 1973- 1976 (1) حيث تم التوصل إلى هذا العنوان الاصطلاحي بتوجيه من الأستاذ الشيخ العلامة محمد فرج السنهوري- رحمه الله تعالى – حيث كان أستاذ مادة الفقه الإسلامي المقارن للدراسات العليا بكلية الحقوق بجامعة القاهرة.
__________
(1) نوقشت رسالة الباحث للدكتوراه في 30/ 6 / 1976وكانت بعنوان " تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية " وكانت لجنة المناقشة مؤلفة من كل من الأساتذة الأفاضل: - الشيخ زكريا البري (المشرف على إعداد الرسالة من الناحية الفقهية) – الدكتور علي جمال الدين عوض (المشرف من الناحية القانونية) – الشيخ عبد الله المشد – (عضو اللجنة المناقشة)(5/807)
وعندما صدر القانون المؤقت رقم 13 لسنة 1978 بتأسيس البنك الإسلامي الأردني (وهو القانون الذي تولى الباحث إعداد صيغته الأولية حين كان مقرر اللجنة التحضيرية) وافقت لجنة الفتوى الأردنية بوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية على تعريف مقترح لبيع المرابحة للآمر بالشراء وهو التعريف الذي تضمنته المادة الثانية من القانون المشار إليه حيث جاء النص عليه كما يلي:
بيع المرابحة للآمر بالشراء يعني: قيام البنك بتنفيذ طلب المتعاقد معه على أساس شراء الأول ما يطلبه الثاني بالنقد الذي يدفعه البنك – كليًّا أو جزئيًّا – وذلك في مقابل التزام الطالب بشراء ما أمر به وحسب الربح المتفق عند الابتداء (1) .
وقد تثبت هذا النص بتمامه عند صدور القانون الدائم للبنك الإسلامي الأردني وهو القانون رقم 62 لسنة 1985.
وقد شاعت صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء وتلقفتها البنوك الإسلامية الناشئة في البلاد الإسلامية وخارجها، واعتمد عليها البنك الإسلامي للتنمية في مجال التجارة الخارجية حيث صارت هذه الصيغة تمثل النسبة الغالبة من تعامل البنوك الإسلامية على اختلاف مواقعها وأنشطتها.
وكان من الطبيعي أن تتعرض هذه الصيغة للنقد والجرح بما يتناسب مع درجة الشيوع والذيوع فكان أن تعرض بيع المرابحة للآمر بالشراء إلى زوابع من الكلام المحق حينًا وغير المحق في غالب الأحيان.
ومرادنا في هذا البحث الموجز يتمثل في توضيح حقيقة هذه الصيغة لتقويم الاعوجاج في التطبيق – إذا وجد – وإبعاد المغالاة والإغراق في الشكليات البعيدة عن درب اليسر والتيسير الذي ميز الله – سبحانه وتعالى – شريعته الخالدة على مر العصور والأزمان.
والله المستعان والمرتجى في كل حين وآن.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
الدكتور / سامي حمود
__________
(1) انظر في ذلك مجموعة الأعمال التحضيرية لمشروع قانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار مع الأسباب الموجبة والمذكرة الإيضاحية – إعداد الدكتور سامي حمود – مقرر اللجنة التحضيرية، وقد كانت لجنة الفتوى، والخبراء الذين انضموا إليها لمناقشة وضع مادة مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني مؤلفة من الأساتذة: - (الشيخ محمد عبده هاشم المفتي العام، الشيخ عز الدين الخطيب، الشيخ محمد أبو سردانه، الشيخ أسعد بيوض التميمي، الدكتور إبراهيم زيد الكيلاني، الدكتور عبد السلام العبادي، الدكتور ياسين الدرادكه. – كما انضم إلى لجنة الفتوى – بتكليف من وزير الأوقاف آنذاك – كل من – سماحة الشيخ عبد الحميد السائح والدكتور محمد سقر)(5/808)
الفرع الأول: أهمية بيع المرابحة للآمر بالشراء واستعمالاته:
تتمثل أهمية بيع المرابحة للآمر بالشراء في أنه يحقق أمرين رئيسين هما:
1- أنه يغطي جانبًا من جوانب الحاجة التي لا يمكن تحقيقها عن طريق الصيغ المعروفة في المعاملات المبحوثة في الفقه الإسلامي كالمضاربة والمشاركة وذلك باعتبار هاتين الصيغتين هما أبرز صيغ التمويل والاستثمار الحلال.
فالمضاربة مثلًا فيها تمويل ولكنه تمويل مقصود به العمل من أجل تحقيق الربح، وسواء كان ذلك بطريق تقليب رأس المال في التجارة أو التصرف فيه بالصناعة والزراعة وغير ذلك من الأعمال عند من يرى إمكان شمول المضاربة للأنشطة الأخرى عدا المتاجرة بالسلع انطلاقًا من إطلاق المضاربة على كل عمل يراد به تنمية المال حسبما يرى فقهاء المذهب الحنبلي بشكل مفصل (1) .
ولكن كيف يكون الحال لو أن شخصا ما يحتاج إلى آلة خاصة باستعماله الشخصي مثل السيارة أو جهاز التلفاز أو الأثاث المنزلي؟
وماذا يكون الحل لو أنا جهة ما تحتاج إلى أدوات ليست للتجارة بل من أجل تقدم الخدمات للمجتمع، مثل احتياج البلدية لشراء أنابيب لإيصال المياه إلى المواطنين أو سيارات لنقل النفايات؟
فأين يكون موضوع المضاربة هنا؟
من أجل ذلك كان تفكير الباحث متجهًا إلى تكميل صورة العمل المصرفي الإسلامي بحيث يكون قادرًا على تغطية مختلف الاحتياجات.
وليس من سبيل لذلك سوى أسلوب بيع المرابحة للآمر بالشراء حيث يحدد صاحب الحاجة ما يرغب فيه ويقوم المصرف الإٍسلامي بالشراء بناء على طلب صاحب الحاجة وبحسب ما يحدده من مواصفات لكي يبيع عليه ما اشتراه بناء على طلبه بعد إضافة الربح المتفق عليه.
2- أما الأمر الثاني الذي تحققه صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء فإنه يتمثل في القالب العملي الذي يتمتع بالمرونة والملاءمة لطبيعة العمل المصرفي المعاصر وذلك ضمن إطار الالتزام بالضوابط الشرعية.
فالمصرف الإسلامي – شأنه في ذلك شأن أي مصرف آخر – ليس تاجر اقتناء للسلع والبضائع والخدمات، ولكنه مدير مدبر للاحتياجات.
__________
(1) للتوسع في ذلك يمكن الرجوع إلى بحث " حقيقة المضاربة والعمل الذي تشمله " في كتاب سامي حمود " تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية " الطبعة الثانية " عمان – توزيع دار الفكر، 1982 " الصفحات 369 - 381(5/809)
فالمصرف الإسلامي لا يستطيع – حتى لو أراد ذلك – أن يكون مخزنًا عالميًّا لكي يشتري ويقتني من أجل البيع والشراء كل ما يخطر على بال الناس من السلع التي قد يحتاجون إليها في أعمالهم وأغراضهم ومتطلباتهم. ولكن هذا المصرف يستطيع أن يشتري ما يطلبه من صاحب الحاجة وفقًا لظروف كل حالة بحالتها.
ويمثل هذا الباب من أبواب التعامل نوعًا من الاستثمار الذي يغلب عليه عنصر البعد عن مسببات الخسارة التي قد تنتج من جراء الإقدام على شراء السلع يصيبها الكساد أو التلف أو يزيد في كلفتها التخزين والحراسة والضوابط الإدارية.
فما الوجه الفقهي الذي اعتمد عليه في تخريج هذه الصيغة العملية؟
الفرع الثاني: الوجه الفقهي لتخريج صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء:
كانت العمدة في تخريج صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء مبنية على ما ذكر في كتاب الأم للإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – حيث أورد فيه ما يلي (1) :
" ... وإذا أرى الرجل الرجل السلعة، فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا فاشتراها الرجل. فالشراء جائز والذي قال أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعًا وإن شاء تركه. وهكذا أن قال اشتر لي متاعًا ووصفه له , أو متاعًا أي متاع شئت: وأنا أربحك فيه فكل هذا سواء، يجوز البيع الأول ويكون فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت، إن كان قال ابتعه وأشتريه منك بنقد أو دين يجوز البيع الأول ويكونان بالخيار في البيع الآخر فإن جدداه جاز. وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ من قبل شيئين – أحدهما أنه تبايعاه قبل (أن) يملكه البائع والثاني أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا ".
فالواضح هنا من كلام الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – أن المبادرة في الطلب تتم من الراغب في شراء السلعة وأنه يرى الطرف الثاني السلعة ويطلب منه أن يشتريها على أساس أنه يعد بشرائها منه بالثمن المدفوع في السلعة زائد الربح المتفق عليه من الابتداء.
فهذه العملية هي عملية مركبة من وعد بالشراء من طرف الآمر وبيع المرابحة من طرف المأمور وهذا هو الوجه الذي رآه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد فرج السنهوري – رحمه الله تعالى – عند عرض المسألة عليه في مقابلة شخصية بمنزلة بالمعادي بتاريخ 9 / 8 / 1975.
وإذا كانت المرابحة قد بحثت في معظم المؤلفات الفقهية عند مختلف المذاهب الإسلامية فإن هذه المرابحة ليست إلا بيعًا مبنيًّا على بيان رأس المال ومقدار الربح.
وأما الأمر الذي تفرد به الإمام الشافعي في الصورة المذكورة في كتاب الأم فإنه يتمثل في انتقال المبادرة من المورد للسلعة إلى الراغب في الشراء الذي يطلب من الطرف الآخر أن يشتري سلعة معينة بالذات أو موصوفة بمواصفات محددة.
__________
(1) الإمام الشافعي، كتاب الأم، الطبعة الأولى، تصحيح محمد زهدي النجار – (القاهرة مكتبة الكليات الأزهرية، 1961) ، صفحة 39(5/810)
فالطبيب الذي يحتاج إلى جهاز خاص بتخطيط القلب مثلًا يحدد هو مواصفات الجهاز الذي يريده وقد يحدد كذلك اسم الشركة الصانعة ويقوم بالاتصال معها لمعرفة السعر وموعد التسليم وإمكانية إضافة المزايا التي يحبذ وجودها في الجهاز، فإذا تم له ذلك فإنه يأتي إلى الشخص أو المصرف الذي يملك القدرة على شراء مثل هذا الجهاز طالبًا منه أن يشتريه على أساس الوعد منه بشراء الجهاز المطلوب بسعر التكلفة (رأس المال + المصاريف) بالإضافة إلى ربح محدد سلفًا.
فالعملية هنا تواعد من طرفين ثم تنفيذ يتم فيه إنجاز المبايعة المتواعد عليها.
والتواعد في العقود الشرعية جائز طالما أن البيع جائز، والتنفيذ هو إنجاز يتم بطريق إبرام البيع المتواعد عليه.
ويشترط في التواعد المبتدأ والتبايع اللاحق ما يشترط في العقود بوجه عام سواء من حيث العاقدين أو المحل أو غير ذلك من شرائط الانعقاد. فإذا وجدت هذه الأركان صحيحة فإنه ليس هناك ما يمنع المواعدة في البيع الحلال أولًا ثم إجراء المبايعة بعد أن يمتلك البائع ما هو مطلوب شراؤه من الآمر.
أما ما يقال من أن المقصود بعقد المرابحة للآمر بالشراء هو التمول أي بمعنى الحصول على النقود عن طريق البيع فليس له اعتبار عند النظر الفقهي الدقيق لصيغة هذا التعاقد إذا جرى بشكله الصحيح، فإذا كان هناك انزلاق في التطبيق لدى بعض الجهات التي تتعامل بالمرابحة سواء من قبل المصارف الإسلامية نفسها أو من قبل المتعاملين معها، فإن هذه المخالفات يجب أن تصحح لكي ترد إلى جادة الحق والالتزام بضوابط الشرع ولا يكون الحل بالتوجيه إلى إغلاق أبواب اليسر في شريعة الله الرحمن الرحيم.(5/811)
وإن ما يعتذر به البعض لأنفسهم من هذا التشدد، في التحوط لحماية شرع الله – كما يظنون – لا محل له في التطبيق العملي في حياة الناس، وإلا كان موقف هؤلاء يشبه موقف من ينادي بتحريم زراعة العنب، لأن عصير العنب قد يصنع منه الخمر التي حرمها الله. فهل يقبل بذلك التحوط إنسان مسلم وله فهم بمقاصد الشريعة الإسلامية في الحياة؟
إن ما يهم المسلم المؤمن برسالة الإسلام أن يكون العقد الذي يتعامل به وذلك التصرف الذي يقوم به متفقا مع الشريعة وأن يكون مبنيا على وجه فقهي صحيح.
وطالما أن التعاقد وارد على بيع جائز شرعًا وأن شرائط انعقاد العقد صحيحه بالنسبة لذلك البيع، فإن الوعد والتواعد على إبرام العقد الشرعي الصحيح تكون صحيحة في كل عقد يجوز تلك المواعدة.
وما يهمنا في صيغة المرابحة للآمر بالشراء هو توفر الشروط التالية:
1- أن تكون الشيء المراد شراؤه مما يجوز للمسلم أن يتملكه فلا تجوز المواعدة لشراء الخمر أو الخنزير مثلًا.
2- أن يكون ذلك الشيء موجودًا أو قابلًا لأن يوجد في السوق.
3- أن يكون قابلًا للتحديد بالوصف المنضبط إذا لم يمكن معيانته بالذات.
4- أن يكون هناك تفريق بين التواعد والتبايع بحيث لا تتم المبايعة إلا بعد ثبوت التملك لدى البائع بحيث تمر عملية الامتلاك بذمته ليكون التمليك صادرًا ممن يملك أولًا ولكي يكون هناك مجال للقول بالضمان إذا تبين أن هناك تلفًا أو عيبًا خفيًّا أو غير ذلك من أسباب الضمان.
وليس يهمنا التقيد بالشكل عند من يربطون التملك بالحيازة المادية لأن ذلك ليس شرطًا من شرائط انعقاد العقود الشريعة حيث يكون التسليم أثرًا من آثار الانعقاد وليس ركنًا فيه.
فقد يشتري الإنسان الشيء ويبقيه عند البائع كوديعة. حيث تنقلب يد البائع الأول من يد ملك إلى يد أمانة، فإذا باع هذا الإنسان ما اشتراه بعد أن يصبح معينًا إلى شخص آخر فإنه يبيع مما يملك ويقع عليه ضمانه حتى يتسلمه المشتري الأخير سليمًا خاليًا من العيوب الموجبة لرد البيع.
وهذا هو الوجه الفقهي الذي نراه لتخريج صيغة بيع بالمرابحة للآمر بالشراء في حدود الفهم الذي تيسر لنا اغترافه من بحر الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان.
فما هي وجوه الاعتراض على هذه الصيغة التي كانت العمود الفقري لنجاح العمل المصرفي الإسلامي في التطبيق المعاصر؟(5/812)
الفرع الثالث: وجوه الاعتراض على بيع المرابحة للآمر بالشراء:
تعرضت صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء إلى النقد والتجريح بدرجات متفاوته ابتداء من الاعتراض على أساس المعاملة وانتهاء بالاعتراض على مسألة الإلزام في الوعد.
وليس يهمنا اعتراض ذلك الفريق من الناس المعتادين على حمل العصا في وجه كل فكرة مستحدثة لكي يغلقوا أبواب الرحمة في هذا الدين الذي بعث الله نبيه به ليكون رحمة للعاملين، كما لا يهمنا أولئك الذين يحسبون أنفسهم أنهم قوامون على أبواب الاجتهاد حيث يريدون إقفال ما تركه رب العباد مفتوحًا لكي تتبارى فيه العقول والأفهام. وإنما يهمنا فقط أن نناقش وجوه الاعتراض الفقهي على بيع المرابحة للآمر بالشراء لنرى ما إذا كانت هذه الاعتراضات جديرة بالاعتبار.
جمع الأستاذ الفاضل الدكتور يوسف القرضاوي اعتراضات المعترضين في ست نقاط حيث تولى الرد على هذه الاعتراضات في كتاب أصدره بعنوان " بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية ". وهذه النقاط الستة هي: (1)
1- إن هذه المعاملة ليست بيعًا ولا شراء وإنما هي حيلة لأخذ الربا.
2- إن أحدًا من فقهاء الأمة لم يقل بحلها.
3- إنها من بيوع العينة وهي محرمة.
4- إنها بيعتان في بيعة وذلك منهي عنه.
5- إنها تدخل في بيع ما لا يملك وهو ممنوع.
6- إن فيها إلزامًا بالوعد وهو إيجاب لما لم يوجبه الله تعالى وتقييد لما أطلقه.
وقد تولى الدكتور القرضاوي – جزاه الله خيرًا – تفصيل القول في هذه النقاط الستة بما يفي بغاية البحث وبحيث لا أرى مجالًا للزيادة على ما أورده حيث يستطيع من شاء الإطلاع أن يرجع إلى كتابه المشار إليه، ويهمنا فقط أن نختار لتوضيح نقطتين تتطلبان التركيز في الإيضاح مما أورده فضيلة الدكتور القرضاوي وذلك بالإضافة إلى نقطة ثالثة جديدة وجه إليها النظر الدكتور عبد السلام العبادي في محادثة شخصية جرت معه بهذا الخصوص (2) .
__________
(1) يوسف القرضاوي، بيع المرابحة للآمر بالشراء، كما تجريه المصارف الإسلامية، الطبعة الأولى (الكويت: دار القلم، 1983) صفحة 37
(2) الدكتور عبد السلام العبادي – مناقشة شخصية بتاريخ 26 / 9 / 1988(5/813)
أ – الاعتراض الوارد على تصنيف بيع المرابحة للآمر بالشراء ضمن بيوع العينة المحرمة.
شبه بعض الكاتبين الصورة الواردة في كتاب الأم بما أورده المالكية في كتبهم حيث قالا بأن من صور العينة أن يقول الرجل: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدًا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل قال ابن رشد (الجد) في المقدمات فذلك حرام لا يحل ولا يجوز، لأنه رجل ازداد في سلفه (1) .
وقال الدريدير في " الشرع الصغير " العينة جائزة إلا أن يقول الطالب: اشترها بعشرة نقدًا وأنا آخذها منك باثنى عشر إلى أجل، فتمنع، لما فيه من تهمة سلف جر نفعًا، لأنه كأنه سلفه عشرة- ثمن السلعة – يأخذ عنها بعد الأجل اثنى عشر (2) .
والصورة هنا – كما هو واضح – تختلف عن الصورة الواردة في كتاب الأم من حيث أسس بناء التصور والمفهوم والمقصود.
فالتصور في هذه الصورة التي أوردها المالكية هو أن الراغب في الشراء يطلب من الشخص المعنى أن يشتري السلعة له (أي للراغب نفسه) حيث يقول له اشتر لي سلعة كذا وهذا يعني أنه يوكله الشراء، والوكيل كما هو معروف أمين فإذا هلك ما تحت يده بلا تعد ولا تقصير فإنه يهلك على ملك الأصيل. فلا محل لمرور الضمان هنا بذمة المشتري الوسيط حيث يصبح الثمن المدفوع قرضًا أو سلفًا بدأ بعشرة دراهم وانتهى باثني عشر درهمًا، وهذا حرام لأن فيه سلفا وزيادة، وهذا ما أوضحه الدردير في الشرح الصغير حين قال كأنه سلفه عشرة (ثمن السلعة) ليأخذ عنها بعد الأجل مقدار اثنى عشر.
أما الصورة التي أوردها الإمام الشافعي فهي تتناول صورة الشراء الكامل من جانب المطلوب منه الشراء. وهو شراء حقيقي يتطلب المرور بذمته وذلك بدليل أن هناك حاجة إلى إجراء عقد البيع اللاحق فإذا لم يتم عقد ذلك البيع فلا بيع بينهما.
فهنا لا بد من وجود اتفاقين منفصلين يتضمن الأول منهما المواعدة ثم يتم في الثاني إتمام العقد وذلك أمر قد يتحقق وقد لا يتحقق، حيث يحتلم عدم وجود السلعة أو عدم تمكن المأمور بالشراء من الحصول عليها بالسعر الذي يحدده الآمر أو بالوصف الذي يطلبه.
ثم قد يحدث التملك ولكنه يعجز عن التسليم إلى غير ذلك من أحوال.
__________
(1) الشرح الصغير ج 3ص 129 طبعة دار المعارف نقلًا عن كتاب القرضاوي – بيع المرابحة للآمر بالشراء صفحة 55
(2) الشرح الصغير ج 3 ص 129 طبعة دار المعارف نقلًا عن كتاب القرضاوي – بيع المرابحة للآمر بالشراء، صفحة 55(5/814)
ب- الاعتراض الوارد على مسألة الإلزام بالوعد:
أثار العديد من الكاتبين في موضوع المرابحة مسألة الإلزام في المواعدة التي تتضمنها صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء.
وقد تعددت وجهات النظر المطروحة حول هذه المسألة:
أ- فهناك من يرى لزوم الوعد لطرفي الاتفاق وهما التزام الآمر بالشراء فيما يعد بشراء ما أمر به، وكذلك التزام المطلوب منه ببيع ما يشتريه بناء على طلب الآمر.
وهذا الرأي هو ما أخذت به لجنة الفتوى في المملكة الأردنية الهاشمية عند مناقشة مشروع قانون تأسيس البنك الإسلامي الأردني (1) ، كما أخذ به كذلك بيت التمويل الكويتي وبنك دبي الإسلامي وهو رأي له ما يبرره من ناحية الوفاء بالعهود ودين الإسلام، كما ينسجم مع الاتجاه الذي اختاره القانون المدني الأردني المستمد من الفقه الإسلامي من ناحية اعتبار الوعد ملزمًا.
ب - وهناك من يرى لزوم الوعد بالنسبة للمطلوب منه حيث يكون هو ملزمًا بالبيع أما الآمر بالشراء فهو غير ملزَم.
وهذا هو ما علمت من الأستاذ الفاضل الدكتور صديق الضرير أنه أفتى به لبنك فيصل الإسلامي المصري، ولم أستطع أن أفهم سببًا لهذا التفريق بلا موجب لوجود هذا الفرق.
جـ- وهناك من يرى عدم لزوم الوعد للجانبين حيث يكون كل منهما حرًّا في أن يكمل العملية ليبيع المطلوب منه ما اشتراه بناء على طلب الآمر أو يعدل عن ذلك كما يشاء، وكذلك يكون الآمر حرًّا في أن يشتري ما أمر به أو يعدل عن الشراء.
وهذا ما يراه البعض من الكاتبين في الفقه الإسلامي الذين تصدوا للمسألة وخالفوا مسألة القول بلزوم الوعد، ومن أبرزهم الأستاذ الدكتور محمد سليمان الأشقر الباحث بموسوعة الفقه الإسلامي بالكويت والدكتور رفيق المصري الباحث بمركز الاقتصاد الإسلامي التابع لجامعة الملك عبد العزيز في جدة والدكتور على السالوس الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة قطر والدكتور حسن عبد الله الأمين الباحث بالمعهد الإسلامي للتدريب والبحوث التابع للبنك الإسلامي للتنمية بجدة.
__________
(1) انظر – مجموعة أعمال اللجنة التحضيرية للبنك الإسلامي الأردني – تجميع مقرر اللجنة التحضيرية (الدكتور سامي حمود) مطبوعة على الآلة الكاتبة، الصفحة 21(5/815)
وقد تنوعت وجهات النظر المثارة حول هذه المسألة بحيث يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1- إن القول الوارد في مذهب الإمام مالك في الإلزام بالوعد إنما يتعلق بمسائل المعروف والإحسان دون عقود المعاوضات.
وهذا الاعتراض لا يتفق مع المثل الإسلامية التي توجب الوفاء بالوعد فإن قيل بأن الوفاء واجب ديانةً وليس قضاء، فنقول: وماذا يمنع من انتقال الإلزام من منطقة الأخلاق إلى منطقة الإلزام بالقضاء؟ ثم أليس الوفاء بالعهود هو مما أمر به الله تعالى؟
2- أما النقطة الثانية وهي الأقوى في الاستدلال على عدم صحة اشتراط لزوم الوعد فهي ما احتج به الفريق الذي يرى أن كلام الإمام الشافعي نفسه ينفي هذا الإلزام بدليل ما جاء في آخر العبارة المنقولة عن كتاب الأم بقوله (رحمه الله تعالى) : " وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ من قبل شيئين: أحدهما أنه تبايعاه قبل (أن) يملكه البائع والثاني أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا ".
وإن من يعيد قراءة النص فيما كتبه الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – يجد أن المقصود هو قيام المتواعدين بإلزام نفسيهما بالبيع بأن قال أحدهما للآخر بعتك بالمرابحة ما سوف أشتريه بناء على طلبك. ولكن الحال الواقع في صيغة المرابحة للأمر بالشراء أن هناك مرحلتين منفصلتين هما:
- مرحلة المواعدة ومرحلة المبايعة وبينما فاصل زمني هو حضور البضاعة أو التمكن من إبرام العقد عليها.
وهذا بخلاف الإلزام بالبيع مسبقًا حيث يصبح العقد باتًّا، أما كون الواعد ملزمًا فإنه يفيد الإجبار على إبرام العقد حيث يمكن أن يتحقق ذلك أو لا يتحقق، فإذا أمكن تحقيق التنفيذ بإبرام عقد البيع كان به، وإلا كان هناك محل للمطالبة بجبر الضرر الواقع على أحد الطرفين المتواعدين والذي قد يكون المصرف الإسلامي أو من يتعامل معه.
وهذا هو مبرر القول بالإلزام في المواعدة، وذلك لأنه وكما جاء في الحديث النبوي- ((لا ضرر ولا ضرار))
فإذا طلب شخص من المصرف الإسلامي شراء آلة هي عبارة عن جزء متمم في مجموع الآلات المتوفرة في المصنع الخاص به ثم فرضنا أن هذا المتعامل قد عن له (لأي سبب كان) أن يعدل عن شراء الآلة التي طلب شراءها، فكيف يتحمل المصرف اٍلإسلامي الخسارة التي قد تكون كبيرة في مثل هذه الحال لأنه لا مصلحة لأحد في شراء هذه الآلة إلا الطالب لها؟.
وقد يكون الحال على النقيض من ذلك بأن يستغل المصرف الإسلامي حاجة الطالب للآلة فيمتنع عن الوفاء بما وعد مما يتسبب في إيقاع الضرر بصاحب الحاجة.(5/816)
وإن وقوع مثل هذه المحاذير أمر ممكن عمليًّا ولا يمكن التغاضي عن مصالح الناس بحجة أن الوعد في الإسلام ملزم ديانةً وليس ملزمًا قضاء مع أن أمر الله واضح بالوفاء بالعهود وكذلك وصف الرسول صلى الله عليه وسلم للإخلاف في الوعد بأنه أحد آيات النفاق، فقد ورد في الحديث الصحيح المتفق عليه من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) .
وفي رواية أخرى عن عبد الله بن عمرو حيث جاء فيها ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر))
وإذا كان الوفاء بالوعد هو من مكارم الأخلاق , فماذا يمنع أن تكون هذه المكارم مؤيدة بالزواجر القانونية التي تمنع الإخلال بهذا البنيان المتكامل؟
ولعل أبلغ رد حول مسألة الإلزام بالوعد فيما يدخل أحد طرفي المواعدة في كلفة أو يعرضه للضرر فيما لو لم يتم تنفيذ المواعدة: هو ما نقله الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي عن تطور نظرة الفقه الحنفي في مسألة عقد الاستصناع.
فقد ولد هذا العقد في الأصل تحت مظلة الاعتراض عليه من الأساس باعتباره بيعًا لمعدوم ولكن أجيز التعامل به عند الحنفية استحسانًا نظرًا لتعامل الناس به وعموم الحاجة إليه.
ولكن اختلف شيوخ الفقه الحنفي في تكييف عقد الاستصناع من حيث اعتباره مواعدة أم مبايعة، كما اختلف النظر كذلك في مسألة الخيار للمستصنع إذا رأي الشيء المتفق على صنعه حيث بدأت المسألة بتقرير الخيار طالما أن المشتري قد اشترى ما لم ير، وهذا هو المفتى به عن قول أبي حنيفة ومحمد.
وذهب أبو يوسف إلى أنه لا خيار لأي من الصانع والمستصنع، أما الصانع، فلأنه بائع باع ما لم يره، وأما المستصنع فلأن الصانع أتلف ماله بتحويله من مادة خام إلى مادة مصنوعة، فلو ثبت الخيار للمستصنع لتضرر الصانع، لأن غيره لا يشتريه بمثله. (1)
__________
(1) انظر – د. يوسف القرضاوي، بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية مرجع سابق، الصفحات 105- 106(5/817)
ويذكر الأستاذ الدكتور القرضاوي أن مجلة الأحكام العدلية عدلت عن قول أبي حنيفة ومحمد المفتى به في المذهب، والذي يجعل الخيار للمستصنع بعد إنجاز المصنوع رغم أنه مطابق للمواصفات المتفق عليها، وأخذت بقول أبي يوسف فيما يراه بعدم الخيار وإلزامه بأخذ المصنوع، وهذا ما نصت عليه المادة 392 من مجلة الأحكام العدلية (1) .
وقد نقل الدكتور القرضاوي التقرير الذي قدمت له مجلة الأحكام العدلية بالنسبة لهذه المادة وهو التقرير الذي نرى الفائدة في نقله عنه كما أورده حيث جاء فيه ما يلي:
" وعند الإمام الأعظم (أبي حنيفة) أن المستصنع له الرجوع بعد عقد الاستصناع،وعند الإمام أبي يوسف – رحمه الله تعالى – أنه إذا وجد المصنوع موافقًا للصفات التي بينت وقت العقد فليس له الرجوع، والحال أنه في هذا الزمان قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها المدافع والبواخر ونحوها بالمقاولة، وبذلك صار الاستصناع من الأمور الجارية العظيمة، فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة ... لزوم اختيار قول أبي يوسف – رحمه الله تعالى في هذا – مراعاة المصلحة الوقت، كما حرر في المادة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة من هذه المجلة (2) .
ولعل في هذا النقل المتوسع فيه بعض الشيء دليلًا ينير الطريق أمام بصائر البعض ممن يصرون على موقف التشدد الذي قد تضيع معه حقوق الناس وتنعدم ظروف الاستقرار في المعاملات وما يؤدي إليه ذلك من خسائر تعود على المجتمع بأفدح الأضرار.
وإنه تبعًا لذلك، فإن على من يقول بعدم الإلزام في الوعد أن لا يسقط من اعتباره مبادئ الشريعة الإسلامية العادلة التي منعت الإضرار بالناس، بل إن الشريعة تمنع إضرار الإنسان بنفسه علاوة منع إضرار الإنسان بأخيه الإنسان.
فهل تسمح قواعد شريعة العدل والإحسان أن يأتي إنسان بالسلعة المطلوبة بناء على وصف محدد من الآمر طالب الشراء وكما يراه ويرغبه ثم يبادر هذا الآمر بالنكول والعدول لسبب أو بلا سبب لكي يقع المأمور في الضرر؟
__________
(1) بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية صفحة 106
(2) بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية , صفحة 106(5/818)
قد يقول قائل إن السوق موجود والسلعة تباع لغيره. وهذا صحيح في المثليات العامة ولكن ما هو الموقف في الطلبات المخصصة مثل آلة الأشعة للطبيب المختص أو محرك السيارة الخاصة لنوع ميعن أو إطارات طائرات البوينج؟
وكما قد يحدث الضرر للمأمور إذا قلنا بحق العدول للآمر، فإن الضرر قد يحدث لهذا الأخير إذا عدل المأمور عن بيع ما يكون الأمر قد طلب منه شراءه.
فلو أن مقاولا ملتزما بتوريد أجهزة مخبرية لمستشقى الجامعة مثلا، وجاء يطلب من المصرف الإسلامي شراء هذه الأجهزة على أساس المواعدة بالمبايعة مرابحة، ثم خطر للمصرف الإسلامي أن يعدل عن البيع استعمالًا لحقه المزعوم بعدم الإلزام، فإن المقاول يتعرض للتغريم ونزول سمعته بل ودرجته.
فأي ضرر أعظم من هذا الضرر؟ وهل يستطيع العالم المسلم وهو يتحسس حقيقة مصالح الناس التي جاءت الشريعة لحفظها أن يتجاهل هذه الأمور لكي يتمسك بمقولة أن الوفاء بالوعد هو من مكارم الأخلاق وأن تنفيذ الوعد ملزم ديانة وليس ملزمًا بالقضاء؟ ...
إن مكارم الأخلاق هي مرحلة متقدمة جدًا في الرقي الاجتماعي ولكن عندما تصل المسألة إلى انفتاح أبواب الضرر والإضرار فإن ولي الأمر يتدخل لحفظ مصالح الناس، ومن هنا وجد ميدان العقوبات التعزيزية مجاله الخصيب حيث يستطيع الراعي لشؤون الرعية أن يحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدثون من الفجور.
والرأي الذي نراه فيما يتعلق بمسألة المواعدة هو اختيار أحد المرتكزات التالية:
1- النظر إلى أن الأمر المطلوب ديانة يمكن أن يصبح ملزمًا قضاء إذا أمر ولي الأمر بذلك تحقيقا لمصلحة عامة يتعلق بها استقرار المعاملات وذلك على النحو الذي اتجه إليه التقنين الأردني في القانون المدني.
فلا يظن أن هناك مخالفة شرعية عندما يختار ولي الأمر الانتقال بالمسألة الواجبة الوفاء ديانة بالاتفاق ليجعلها واجبة الوفاء بالقضاء وذلك لأن أمر ولي الأمر واجب الطاعة ما لم يأمر بمعصية وليست هناك معصية في إكساء صفة الإلزام على المواعدة فيما هو جائز شرعا.(5/819)
2- اعتبار الموازنة في الحقوق عند تقرير الاستمساك بمبدأ عدم الإلزام بحيث لا يترتب على ذلك الأمر إضرار بأحد الطرفين المتواعدين، فإذا لم يكن هناك إجبار على التنفيذ فإنه لا بد من النص الصريح بأن الناكل عن تنفيذ الوعد يكون ملزما بتعويض الضرر الذي يصيب الموعود من جراء هذا النكول وذلك باعتبار هذا الواعد الناكل مسببا في إحداث الضرر للموعود حين أمره بشراء شيء لم يكن ليشتريه لولا الوعد الذي أعطاه الأمر بشراء ذلك الشيء.
ولا بد من أن يشمل هذا الضرر رأس المال والربح الذي كان متفقا عليه بين المتواعدين بما في ذلك مصاريف الحفظ والتخزين والمتابعة وسائر الأضرار المباشرة.
فلو طلب شخص من المصرف الإسلامي مثلا شراء آلة نسيج وجاءت الآلة بحسب المواصفات المطلوبة تماما، ونكل الآمر عن شراء الآلة التي كان طلب من المصرف شراءها على أساس الوعد بالشراء مرابحة بمقدار 10 % من التكلفة، فإن المصرف الإسلامي يمكنه أن يعرض هذه الآلة للبيع.
- فإن كان الثمن الذي بيعت به معادلا لما كان متفقا عليه مع الآمر بما في ذلك الربح والمصاريف المدفوعة لإجراءات البيع، فلا يكون هناك ضرر على المصرف ولا مجال لمطالبة الآمر بالشراء بأي تعويض.
- وإن كان الثمن أعلى من ذلك فإن الزيادة تعود للآمر وذلك في مقابل الغرم الذي كان سيتحمله لو كان الثمن أدنى حيث يعود المصرف الإسلامي عليه بما يلحقه من ضرر مادي واقع فعلا.
وهذا هو الميزان العادل الذي توزن به الحقوق ويحال فيه بين الناس وبين أهواء الاشتهاء لأكل أموال الناس بالباطل.(5/820)
جـ- نقطة المخاطرة برأس المال:
أثار هذه النقطة الجديدة الأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي في لقاء جمعنا فيه السفر بالطائرة من عمان إلى جدة يوم 26 /9 / 1988 وقد كان الدكتور عبادي عضوا في لجنة الفتوى الأردنية التي ناقشت مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني قبل أحد عشر عاما، كما أنه عايش تطبيق هذه المعاملة في الواقع الذي مارس البنك الإسلامي الأردني نشاطه في هذا المجال.
وقد بنى الأخ الدكتور العبادي نظرته على أساس أنه يرى أن حق المال في الربح مبنى على المخاطرة التي تتمثل في إمكان تغير الأسعار أو تلف البضاعة أو ظهور عيوب فيها إلى آخر ما هنالك من أسباب.
وبما أن بيع المرابحة للآمر بالشراء هو تعاقد مبني على المبايعة حقيقة وليس صورة، فإن هذه المبايعة يجب أن يكون محلها سلعًا تقبل طبيعتها أن تكون محلا للمخاطرة المحتملة. فلا يجوز مثلا شراء الأرض على أساس المرابحة للآمر بالشراء لأن الأرض لا تتعرض لخطر التلف أو الهلاك وهي ليست محلًا لإثبات العيوب الموجبة لرد المبيع مثلا.
وقد استدل الدكتور عبادي من هذا الطرح للمسألة أن بيع المرابحة للآمر بالشراء يجب أن يكون استعماله محددا بدائرة تتفق مع طبيعة السلعة التي تتوافق مع هذه الصيغة.
وهذه النظرة لها وجاهتها حيث إن لكل عقد دائرة اختصاص يصلح لها ويناسبها حيث لا يناسب العقد الآخر. فالإيجار هو مبادلة منفعة بمال مثلا في حين أن البيع مبادلة مال من جنس معين بمال من جنس آخر.
ولكن الذي أراه بعد توزين المسألة بصورة متأنية أن سبب المشروعية البيع الذي أحله الله ليس مبنيا على أساس الخطر المحتمل إنما أحل الله البيع – والله أعلم – لأن فيه تحويلا للمال وذلك على خلاف الربا الذي يحصر التداول بين الدائن والمدين.(5/821)
فالبيع يشتمل على شراء السلعة من الطرف الآخر والذي قد يكون وسيطا أو منتجا حيث يدور المال دورته في المجتمع.
ولو أننا سلمنا باشتراط توفر الخطر المحتمل لكان هناك إمكان اعتراض على كثير من العقود لفقدان الضابط في المعيار.
فإذا كانت الأرض لا تنقص ولا تستهلك وبالتالي فإنها لا تصلح للتعاقد على شرائها بالمربحة للآمر بالشراء حيث لا توجد مخاطرة برأس المال، فماذا يكون الموقف لو كان المبيع آلة كالسيارة مثلا حيث يتعهد البائع الأول بتحمل تبعة الهلاك إلى أن يتسلمها المشتري الأخير وكذلك مسؤولية رد السيارة لوجود العيب الخفي الذي قد يكتشفه المشتري الثاني؟..
فالواضح هنا أن البائع الأول الوسيط هو في موقع الضمان والأمان بحيث إنه لا يتحمل تبعة الهلاك إلى أن يتسلم السيارة المشتري الأخير ويوافق على شكلها ووصفها ونوعها، وكذلك فإنه لا يتحمل مسؤولية الرد للعيب وإن كان يتلقاه إلا أنه ينقله مباشرة إلى البائع الأصلي.
لذلك فإني الذي نراه – والله أعلم – أن العبرة في البيع الحلال هو تحول المال من صورة إلى صورة وذلك لأن راس المال النقدي هو أداة وساطة.
ولعل هذا هو ما يرشد إليه ذلك التوجيه الذي رد به الرسول صلى الله عليه وسلم تصرف بلال رضي الله عنه – حين أتاه بتمر خيبر وكله من الجنيب " النوع الجيد " فقال له صلى الله عليه وسلم حين أعلمه بلال بأنه قد قايض صاعين من الجمع ((التمر غير الجيد)) بصاع من الجنيب، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – ((يا بلال إنه عين الربا، إذا أردت ذلك فبع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيبًا.))
وهذا يدل – في نظر الباحث – أنه عندما كانت العلاقة ثنائية فإن التبادل قد ظل محصورًا بين من يملك التمر بأنواعه (من الجمع والجنيب) فكان توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى حقيقة التداول عن طريق توسيط النقود حيث يتحول التمر من الجمع إلى نقود وتتحول النقود إلى التمر الجنيب. فيستطيع من يملك النقود وليس لديه تمر أن يشتري بنقوده تمرا، كما يستطيع من يملك التمر ولا يجد النقود أن يبيع التمر بالنقود.
لذلك فإن مبنى البيع في نظرنا هو تحول المال من صورة إلى صورة أخرى لما في ذلك من منافع للمجتمع المتكافل حيث يريد الله للناس أن يسيروا في طريق الخير ليبتغوا من فضل الله، وهذا هو المقصود والله أعلم بالمراد.(5/822)
خاتمة البحث
يمكن القول في ختام هذه الجولة مع الأفكار المسترشدة بتراث الفقه الإسلامي العظيم أن نصل بالبحث إلى الاستنتاجات التالية:
1- إن صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء هي إحدى الصيغ المقبولة في التعامل الإسلامي وأن استنادها إلى رأي الإمام الشافعي يكفي – عند أهل العلم – لإعطاء هذه الصيغة الكساء الذي يدخلها في نطاق المعاملات الشرعية المعتبرة.
ويؤيد هذا الاتجاه ما هو متفق عليه في الجملة من ناحية أن الأصل في العقود هو الإباحة ما لم يرد دليل التحريم بسبب ثابت في كتاب الله أو سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أو القياس عليهما أو الإجماع على المنع بدليل يتفق عليه أهل العلم، أما فيما عدا ذلك من آراء فردية واجتهادات متأثرة بالأفكار الخاصة بأصحابها فإنها لا تلزم المسلمين للأخذ بها ولو كان صاحبها صادقا بالنسبة لما يراه بفهمه الذي قد يرشده إليه تفكيره. وكم أن المفكر المسلم حر في أن يفكر ضمن إطار الشريعة وحدودها كما يشاء، فإن المسلمين ليسوا ملزمين بالأخذ بما هو أضيق وأشد في حين أن هناك أراء تبسط الطريق لما هو أرحب وأوسع دون الخروج عن حدود ما نهى الله عنه.
2- إن مسألة الإلزام في الوعد وكونها ملزمة ديانة أو ملزمة قضاء هي من المسائل الاجتهادية التي يحتمل فيها الاختلاف، وإن مراعاة استقرار التعامل ومنع الإضرار بالناس أو حتى منع الناس من الإضرار بأنفسهم – لو أرادوا ذلك – إنما هي من مبادئ الشريعة الإسلامية الخالدة وهي المبادئ التي أرادها الله لعباده لتكون طريقًا للهداية والفوز في الدنيا والآخرة.
وإذا كان هناك من يرى التمسك بالقول بعدم الإلزام في الوعد، فإن منهج العدل في الشرع الإسلامي يستلزم الأخذ بمبدأ التعويض عن الضرر الذي قد يصيب الطرف الذي يتعرض له.(5/823)
ولا يستطيع مسلم – يقدر شرع الله حق قدره ويستطيع أن يتلمس أصول الشريعة وقواعدها المبنية على العدل الذي يمنع الجور ويقر الرحمة التي تزيل مسببات الضرر والإضرار – أن يتجاهل منطق الشريعة استمساكا بمقولة رأي اجتهادي مبنى على أن الوفاء بالوعد ملزم ديانة وليس ملزما بالقضاء.
وإن ما نسأل به أصحاب هذا الرأي القائلين بعدم الإلزام في الوعد بالقضاء، لأن الوفاء بالوعد هو من مكارم الأخلاق وليس من مقاطع الحقوق فنقول لهم بأن مكارم الأخلاق هي مرحلة متقدمة من مراحل الرقي الاجتماعي وهو الصدق الذي وصلت به بعض الأمم إلى ما وصلت إليه من تقدم في الصناعة والتجارة والأعمال، وأنه لا يمنع في نظرنا أن تصبح مكارم الأخلاق مؤيدة بالزواجر التي تحض على الصدق وتعاقب على الكذب. وأنه عندما تصل الأمور إلى انفتاح أبواب الضرر والإضرار بمصالح الناس. فإن تدخل ولى الأمر لدرء الضرر يكون واجبا وليس مستحبًا فحسب ومن هنا وجد ميدان العقوبات التعزيرية مجاله الخصيب حيث يستطع الراعي لشؤون الرعية أن يحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدثون من الفجور.
لذلك فإن ما نراه بالنسبة إلى من يتمسكون إلى النهاية بالرأي القائل بعدم الإلزام بالوعود في العقود مبني على وجوب الأخذ بمبدأ التعويض عن الضرر الذي قد يحصل من جراء هذا النكول. فإذا كان النكول من طرف الآمر بالشراء فلم ينفذ ما وعد بشرائه مما أدى إلى أن يبيع المأمور بالشراء السلعة التي لم يكن ليشتريها لولا هذا الأمر المصحوب بالوعد من قبل الآمر، فإن على الناكل عن الوعد أن يتحمل هذا الإضرار الحاصل لأنه لا يهلك حق في الإسلام. وإذا صدر الإخلال بالوعد من قبل المأمور الذي جلب السلعة المطلوبة منه ثم امتنع عن بيعها للآمر بالشراء مما ترتب عليه قيام الآمر بشراء بدل عنها من السوق بسعر أعلى، فإن ذلك الضرر الذي يتحمله الآمر يجب جبره ويقع عبء ذلك على المأمور بالشراء.
وهكذا تتوازن الأمور في ظلال الشريعة التي أنزلها رب العباد هداية للناس ورحمة بهم عن التظالم والوقوع في الهوى والانحراف عن السبيل المستقيم.
ونسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يزيد الباحثين المتفقهين في شريعته نورًا على نور لكي يبصرنا بالأحكام التي أنزلها الله خاتمة للأديان ومبنية على قواعد العدل والإحسان.
وآخر دعوانا – أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور سامي حسن حمود(5/824)
نظرة شمولية لطبيعة بيع
المرابحة للآمر بالشراء
إعداد
الدكتور عبد السلام داود العبادي
مدير عام مؤسسة إدارة تنمية أموال الأيتام
وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن الأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه ومن اقتدى به إلى يوم الدين.
أما بعد:
1- فهذه جملة من الملاحظات والأفكار حول طبيعة بيع المرابحة للآمر بالشراء أقدمها على أساس نظرة شمولية لهذه المعاملة، تهدف إلى شدها إلى محاورها الرئيسية وقواعدها الأساسية، ضمن المفاهيم العامة للاقتصاد الإسلامي، وفي إطار المنهج الذي اعتمدته الشريعة الإسلامية لاستثمار الأموال واكتساب الملكيات وتحقيق الأرباح ... وذلك في نقاط محددة، ودون دخول في التفصيلات والفروع ... وبخاصة أن هذا الموضع قد كتب فيه الكثير من البحوث والمؤلفات، وجرت مناقشته في الكثير من الندوات والمؤتمرات ... وما زال الخلاف فيه قائما ومحتدما.
2- وقد كان لي حظ المشاركة في مناقشة هذا الموضوع أول مرة – بصفتي أحد أعضاء لجنة الفتوى في المملكة الأردنية الهاشمية – عندما عرض عليها مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني سنة (1397هـ – 1977 م) حيث أوضح الأخ الدكتور سامي حمود -حفظه الله- مقرر اللجنة التحضيرية لمشروع القانون وجهة نظره التي ضمنها المشروع، والتي كان قد بينها تفصيلا في رسالته للدكتوراة بعنوان (تطوير الأعمال المصرفية بم يتفق والشريعة الإسلامية) .. وبعد حوار ومناقشة أقرت اللجنة هذه المعاملة، وصدر قانون البنك الإسلامي بعد أن أدخلت اللجنة بعض التعديلات المهمة على مشروعه.
ولكني لاحظت أن بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد أن اعتمد في قانون البنك الإسلامي وانتقل إلى الواقع التطبيقي، وأخذت به كثير من البنوك الإسلامية وقع في كثير من المحاذير، وذلك نتيجة الغفلة عن الطبيعة الأساسية لهذه المعاملة مما يتطلب العودة بها إلى جادة الصواب وتخليصها من سوء الفهم والتطبيق، لتظل أداة من أدوات الاستثمار المالي المشروعة في الإسلام، فلا تقع فيما هو محظور شرعا من الربا أو غيره.
وإني لأدعو الله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذه الملاحظات والأفكار حول طبيعة بيع المرابحة للآمر بالشراء، وأن يكون في عرضها على مجلس مجمع الفقه الإسلامي مساهمة بناءة في استصدار قرار فقهي مجمعي حول هذه المعاملة، يرسخ دورها في مجال المعاملات المصرفية الإسلامية، ويحميها من كل مظاهر سوء الفهم والتطبيق.(5/825)
حقيقة بيع المرابحة للآمر بالشراء وشروطه
3- كان واضحا في لجنة الفتوى في المملكة الأردنية الهاشمية عند إقرار بيع المرابحة للآمر بالشراء الأساسيات التالية فيه:
أ- أن السلعة المأمور بشرائها يجب أن تدخل في ملك البنك وضمانه ... وأن هذا هو أساس جواز أخذ البنك للربح، وأن العلاقة الحقوقية عند شراء البنك للسلعة المأمور بشرائها يجب أن تقوم بين البنك وبائع السلعة ولا يصح دخول العميل (للآمر بالشراء) بأي صورة من الصور محل البنك وإلا لماذا أمره بالشراء؟ ؟ وهذا يعني أن البنك في الشراء هو الذي يفتح الاعتمادات، وبوالص الشحن تكون باسمه، وهو الذي يؤمن على السلع في الحالات الملزمة لذلك، وكذلك عليه في الشراء الداخلي جميع الإجراءات والالتزامات المترتبة على المشترين.
ب- إن عقد شراء العميل من البنك يجب أن يكون بعد استقرار ملك البنك للسلعة. استقرارًا معقولًا بعرضه لاحتمالات الضمان، فهو لا يبيع حتى يملك السلعة ومن حق العميل أن يتأكد أنها مطابقة لمواصفات ما طلب، وإلا فله أن يردها على البنك وإذا هلكت السلعة أثناء وقوعها في ملك البنك تهلك عليه ولا علاقة للعميل بذلك.
جـ- إن وعد العميل بالشراء من البنك وإن كان ملزما لا يصح أن يحمله أي مسؤولية غير إكمال الشراء من البنك بعد أن يستقر ملك البنك للسلعة ... وإذا امتنع عن الشراء فللبنك إلزامه قضائيًا بذلك، ومطالبته بتعويض عما أصابه من أضرار فعلية.
د- وإن الثمن الذي يترتب في ذمة الآمر بالشراء بعد ذلك سواء أكان الاتفاق على دفعه نقدا أو مقسطا لا يجوز زيادته عند التأخر في الدفع وإنقاصه عند التبكير فيه إذا كان ذلك مشروطا، أو متفقا عليه فيما بعد، أو استقر عليه عرف الناس، لأن هذا يوقعنا في الربا، بل في ربا الجاهلية: (زدني أنظرك) و (ضع وتعجل) .
4- وقد أكد هذا قرار المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي الذي عقد في دبي سنة 1399هـ (1979م) وقرار المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي الذي عقد في الكويت سنة 1403هـ (1983م) حيث ركزا على ضرورة أن يسبق بيع البنك للسلعة تملكه وحيازته لها وإنه في خلال ذلك يتحمل تبعة الهلاك قبل التسليم ويتحمل أيضا تبعة الرد بالعيب الخفي كما بينا أن الأخذ بإلزامية الوعد مقبول شرعا وهو أحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل. وقد ترك المؤتمران لكل مصرف الخيار في الأخذ بالإلزام وعدمه.(5/826)
5- والدكتور سامي حمود فيما قدم من بحوث حول هذه القضية يؤكد على ضرورة التفريق هنا بين التواعد والتبايع بحيث لا تتم المبايعة إلا بعد ثبوت التملك للبنك ليكون التمليك للآمر بالشراء صادرا عن تمليك ولكي يكون هناك مجال للقول بالضمان إذا تبين أن هناك تلفا أو عيبا خفيا أو غير ذلك من أسباب الضمان ولكنه لا يشترط التسليم والحيازة ويقول (وليس يهمنا التقيد بالشكل عند من يربطون التملك بالحيازة المادية لأن ذلك ليس شرطا من شرائط انعقاد العقود الشرعية حيث يكون التسليم أثرا من آثار الانعقاد وليس ركنا فيه. فقد يشتري الإنسان الشيء ويبقيه عند البائع كوديعة، حيث تنقلب يد البائع الأول من يد ملك إلى يد أمانة ... فإذا باع هذا الإنسان ما اشتراه بعد أن يصبح معينا إلى شخص آخر فإنه يبيع ما يملك ويقع عليه ضمانه حتى يتسلمه المشتري الأخير سليما خاليا من العيوب الموجبة لرد المبيع (1) .
وهذه قضية في غاية الأهمية لأنها تقودنا لأحد المحاور الأساسية في هذه العملية من حيث هل يمكن أن تكون بعض صورها مما لا يتصور الضمان فيها وأن الامتلاك لسلعة المأمور بشرائها امتلاك شكلى ومظهر صوري ليس إلا مرورا عابرا في الذمة؟ وعند ذلك نعود على أصل القضية بالنقض ... ولا خلاف في أن المشتري يستطيع أن يبقي المبيع في يد البائع كوديعة وعندها تنقلب يد البائع إلى يد أمانة، ولا خلاف بأن هذا المشتري بعد أن ملك ما اشترى يستطيع أن يبيعه كيفما يريد ضمن قواعد الشريعة ... ولكن موضوعنا ليس هذا إنما موضوعنا أن هذا المشتري الثاني هو الذي أمر بالشراء.. فهل مثل هذه الحالة تقلب حقيقة بيع المرابحة للآمر بالشراء من صورتها المقبولة شرعا إلى صورة تمويل ربوي سمي بغير اسمه.
__________
(1) انظر بحث الدكتور سامي حمود المقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة ص8(5/827)
المحاذير العملية لهذه المعاملة:
6- والواقع أن بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد أن أخذت المصارف الإسلامية في العمل به قد وقع في محاذير وإشكالات متعددة تتعارض مع ما اعتمد من قواعد لتخريجه والأخذ به.
وقد كان ذلك نتيجة لعدم وضوح الرؤية الفقهية السليمة لهذا العقد أو لوجود بعض العقبات القانونية والعملية التي صادفتها البنوك الإسلامية عند التطبيق وقد تمت معالجتها دون انتباه لأصل المعاملة وشروطها وأساسياتها.
وقد ساعد على ذلك أن كثيرا ممن يتصدون للعمل المصرفي الإسلامي من المصرفيين الفنيين الذين لا تتوافر لديهم المعرفة الفقهية المطلوبة.. ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها المستشارون الشرعيون وهيئات الرقابة الشرعية في عدد من البنوك الإسلامية فإن بعض الصور قد ندت عن هذه القواعد ولم تلتزم بها بشكل تام ويعود ذلك إلى أسباب منها:
أ- نقل الصيغ العملية للتطبيق دون عرضها على المستشارين الشرعيين أو هيئات الرقابة الشرعية.
ب- حاجة بعض هذه القضايا إلى اجتهاد جماعى عميق حيث لا يصح أن تترك للاجتهاد الفردي العاجل.
جـ- النظر الجزئي لهذه القضايا وعدم الربط لها بالقواعد الأساسية التي قام عليها بيع المرابحة للآمر بالشراء في الأصل.
7- هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ركزت كثير من البنوك الإسلامية على أسلوب بيع المرابحة للآمر بالشراء ولم تهتم بأساليب الاستثمار الأخرى كالمضاربة والمشاركة المتناقصة وذلك لسهولة هذا الأسلوب، ولأنه يلبي حاجات التمويل العاجل والذي عليه طلب متزايد، بالإضافة إلى أن البنوك في التطبيق ركنت لهذه الصيغة لأنها استطاعت أن تطبقها بطريقة تكاد تحميها من كل احتمالات التعرض لأي خسارة. وإن معظم إجراءات هذا الأسلوب كما طبق إجراءات مكتبية مربحة.
8- وهكذا كادت هذه الصيغة – في عدد من المصارف- أن تنقلب إلى مجرد صيغة تمويل مالي يعود على البنك بما يسمى بالربح دون أن يقدم البنك غير المال، وبلا أي مخاطرة يمكن أن يتعرض لها البنك وفق الظروف والأحوال العادية ... إلا إذا افترضنا الزلازل والكوارث مما يدخل في الظروف القاهرة، ولا يجري حسابه عند تحديد الالتزامات في العقود ... وإذا أصبحنا أمام تمويل بدون مخاطرة وكان يسترد بزيادة فهذا الربا بعينه، فهو قرض بزيادة وإن أخذ صورة البيع.(5/828)
وأصبح الأمر مثل: أن يوكل شخص البنك بشراء السلعة له، ويطلب منه دفع ثمنها للبائع على أن يقوم هو بتسديد الثمن بزيادة على أقساط ... فهذا من الربا قولا واحدا، ولكن ما الفرق بينه وبين صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا انقلب إلى مجرد تمويل بزيادة وبلا مخاطر.
إن أساس جواز معاملة بيع المرابحة للآمر بالشراء هو تعرض المصرف لاحتمالات الربح والخسارة فإذا أفرز التطبيق صورا نقطع معها بالربح في جميع الأحوال ولا تصور لأي مخاطرة انقلبت هذه المعاملة إلى تمويل ربوي لا يجوز مهما كانت التسميات وصور الإجراءات فالمصرف يعمل على تدبير السلع التي يحتاجها الناس الذين يأمرون بالشراء لكن يجب أن لا يقتصر دوره على التمويل دون مخاطرة.
مبررات استحقاق الربح في الإسلام:
9- وهذا يعود بنا إلى أصل استحقاق الملك والكسب في الشريعة الإسلامية والقواعد الضابطة لذلك.. فالشريعة حددت وسائل التملك والكسب فأجازت وسائل ومنعت أخرى.. فهي في مجال العقود تمنع كل صور الربا ولا تجيز الربح إلا إذا كان نتيجة مشاركة بين رؤوس الأموال ومشاركة بين رأس المال والعمل أو مشاركة بين الأعمال. ولا تسمح لرأس المال أن يجني مزيدا من الزيادة دون أن يتعرض لاحتمالات الربح والخسارة وهي في المشاركة بين رأس المال والعمل إذا كان هنالك خسارة دون اعتداء أو تفريط من العامل فإنها تقع على صاحب المال ويكفي العامل خسارة جهده وعمله.. ومن قواعد الشريعة السمحة أن الغرم بالغنم وأن الخراج بالضمان.. مما هو محل دراسة مستقلة.
وعلى ضوء هذا إذا وجد في التطبيق صور تؤدي إلى أن صاحب المال يستحق في تعامله مع الآخرين دخلا دون أن يكون هنالك تعرض لاحتمالات الخسارة فهذه الصور ممنوعة بأصل القاعدة مهما كانت التسميات المستخدمة والشكليات الممارسة ومهما كانت الأحكام الجزئية لبعض تفصيلات هذه الصور التي قد تكون لها بصرف النظر عن كامل مكوناتها وجميع ملابساتها ... والقول بغير ذلك عدم انتباه لأساسيات الشريعة وروحها العامة في مجال استثمار الأموال وتحقيق الأرباح.(5/829)
طبائع السلعة وعلاقتها بهذه المعاملة:
10- وإذا اتجهنا إلى طبائع السلع فهذا يعني إخراج بعض السلع من الدخول في دائرة التعامل ببيع المرابحة للآمر بالشراء وهي السلع التي يكون دخولها في ملك البنك دخولا شكليا، وإنه لا يتصور أي ضمان أو مخاطرة عليه فيها.. وعندها يكون الاستثمار في هذا النوع من السلع بطرق استثمار أخرى تقررها الشريعة.
وعليه فإن من شروط بيع المرابحة للآمر بالشراء أن يكون محله سلعا تقبل طبيعتها المخاطرة المحتملة، فلا يجوز مثلا أن يكون محلها شراء قطعة أرض، لأن الأرض لا يتصور فيها تبعة هلاك يمكن أن تقع على البنك، كما لا يتصور فيها عيوبا خفية موجبة للرد.
وهذا النظر يحد في التطبيقات من دائرة انتشار بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي طغى على صور الاستثمار الأخرى من مشاركة ومضاربة. وأدى ذلك إلى سلبيات كثيرة ... فلا يعني تقرير عقد من العقود أن كل شيء يصلح محلا له، فلا بد أن يكون المحل قابلا لحكم العقد أو منسجمًا مع طبيعته وهذا هو الميزان العملي للتفريق بين أنواع العقود، فليس كل شيء يقبل الإجارة، وما يقبل البيع قد لا يقبل الإجارة مثلًا.
11- والواقع أننا في بيع المرابحة للآمر بالشراء لا نتحدث عن عقد البيع وطبيعته وأساس مشروعيته، إنما نتحدث عن معاملة مركبة لها شروطها الخاصة التي يجب أن تراعى في كل الأحوال ... وأي نظر فيها لعقد البيع وحده هو عدم انتباه لطبيعة هذه المعاملة المركبة فكيف إذا كان هذا النظر سوف يوقعنا في الربا الذي استحدثنا هذه الصور في التعامل من أجل الهروب منه نسأل الله العفو والعافية.
مشكلات التطبيق وحلول مقترحة:
12- ولا يعني هذا أن التطبيق العملي لهذه المعاملة المركبة لا يوجد مشكلات تحتاج إلى نظرة ومعالجة.. فهذا لا بد أن يقع.. ولكن يجب أن تواجه المشكلات بنظر لا يغفل عن أصل المسألة، وبحيث لا تنسف الحلول المقترحة الشروط الأصلية المقررة.
فإذا قيل مثلا إن العميل قد يغرر بالبنك ويدفع لشراء سلعة من جهة غير مأمونة قد تضيع حقوق البنك، فلنبحث في صيغة مناسبة لكفالة العميل للبائع أن لا يخل بالتزاماته تجاه البنك.
وإذا قيل إن الوعد الملزم قد يتفلت منه العميل وقد ينتهي الأمر بالبنك إلى المطالبة بما وقع عليه من أضرار فعلية قد يطول الحكم بها في القضاء فيمكن البحث في تبني صيغة بيع المخايرة بين البنك وبائع السلعة ويقوم البنك في فترة الخيار وبعد ملك السلعة وتسلمها بالبحث في علاقته مع الآمر بالشراء كما يمكن بحث أخذ العربون من الآمر بالشراء ضمن تكييف شرعي مقبول.
ولكن كل هذه الحلول وأي حلول أخرى يجب أن تبقى المسألة في إطارها الأول ولا تحول دخول البنك في هذه الصيغة إلى مجرد تمويل بدون مخاطر.(5/830)
أمور لا يجوز إدخالها في هذه المعاملة:
13- سأل البنك الإسلامي الأردني في ندوة البركة الخامسة التي عقدت في القاهرة مؤخرا سؤالا حول جواز أن يشتري البنك لمن يطلب منه من شركات الكهرباء الطاقة الكهربائية، من سلطة الكهرباء التي تنتجها علما أن الطاقة الكهربائية لا يتسلمها البنك ويجرى نقلها في أعمدة خاصة من موقع الإنتاج في محطات إنتاج الكهرباء إلى نقاط التوزيع التي تمتلكها شركات الكهرباء: فهل يتصور في مثل هذه الصورة ملكية البنك للطاقة الكهربائية ووقوعها في ضمانه؟ وإذا تصور مرورها في ذمته – أي مرور السلعة المشتراه كما عبر الأخ الدكتور سامي في بحثه – فكيف يمكن تصور تحمل البنك لتبعة الهلاك وتبعة الرد التي كانت من أسس القول بالجواز؟؟ إن البنك في هذه الصورة لا يقوم إلا بدفع المال ويسترد ماله بزيادة دون مخاطرة لذلك كان جوابي على هذا السؤال أن هذه من الصور غير الجائز التعامل معها وفق بيع المرابحة للآمر بالشراء لعدم توافر شروطه الأساسية وكذلك تمويل شراء البترول إذا كان ينقل من المنتج للآمر بالشراء بوساطة أنابيب ودون تدخل البنك ملكية وضمانا. ويقاس على ذلك كل سلعة مشابهة ... وليحاول الفقهاء بعد ذلك البحث عن صور مقبولة شرعا لكل هذه الأنواع من الاستثمار كما اقترح علينا الأخذ الدكتور سامي فكرة بيع المرابحة للآمر بالشراء.
14- ومثل ذلك ما تفعله بعض البنوك – الإسلامية – من توكيل للآمر بالشراء بمفاوضة البائع وتحرير الفواتير باسم البنك وتقديمها للبنك، وبعد أن يقوم البنك بدفع قيمتها للبائع دون أن يتسلم البضاعة ويتعرض لمخاطر ملكه وتسلمه، بل كل ما يحدث أن يحضر مندوبه للإشراف على تسلم البضاعة من البائع إلى الآمر بالشراء اكتفاء بصورة دخول البضاعة في ملك البنك بالإيجاب والقبول المتصور بين البنك والبائع.. فالبنك هنا لا يأخذ بضرورة تسلمه البضاعة ومن ثم نقل ملكيتها للآمر بالشراء.
ومن غريب ما يحدث هنا أن بعض الآمرين بالشراء هنا يتفقون مع بعض البائعين على زيادة قيم فواتيرهم ... فإذا دفعت لهم من البنك قاموا بإعطائها لهؤلاء الآمرين بالشراء ... بهدف الحصول على سيولة مالية لإنجاز أعمال أخرى وبخاصة في مجال دفع أجور متعهدي البناء، فمواد البناء وأجوره يحصل عليها بهذه الطريقة الموقعة في الربا.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
15 – هذه أهم الأفكار والملاحظات التي لدي حول هذا الموضوع أضعها بين يدي مجلس ومجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة تاركا للحوار والمناقشة التي أرجو أن أكون طرفا فيها – حيث أن ظروفا خاصة وارتباطات علمية أخرى أوجبت على آسفًا ألا أشارك إلا في جزء من هذه الدورة – داعيا الله العلي العظيم أن يوفق مجمعنا العتيد إلى القرار السليم في هذا الموضوع الشائك الخطير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور / عبد السلام العبادي(5/831)
بيع المرابحة للآمر بالشراء
في المصارف الإسلامية
إعداد
دكتور رفيق يونس المصري
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبد العزيز – جدة
بيع المرابحة للآمر بالشراء
في المصارف الإسلامية
" يجب على الناس إحياء سنن رسول الله صلى الله عله وسلم، والاقتفاء لأمره، والاهتداء بهديه، في تسهيل ما سهل، وتغليظ ما غلظ، وعلى الله التوفيق والقبول".
أبو عبيد - الأموال 594
قد يرى الرجل الرأي " ثم يتبين له الرشد في غيره، فيرجع إليه، وهذا من أخلاق العلماء قديما وحديثًا "
أبو عبيد – الأموال 359
مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد، ففي هذه الورقة سأبحث باختصار في بيع المرابحة كما ورد في الفقه القديم، ثم بتفصيل أكبر في بيع المرابحة كما هو مطبق في المصارف الإسلامية الحديثة.
ولقد سبق لي أن طرقت هذا الموضوع في مناسبات مختلفة، منها مقالي بمجلة المسلم المعاصر عام 1402هـ، ثم مقالي بمجلة الأمة القطرية عام 1406 هـ.
ورأيت أن من المتعين علي أن أطرق الموضوع مرة أخرى، بالنظر لما استجد من وقائع، ومعلومات، ومراجع..
وألفت النظر منذ البداية إلى أنني استخدمت أحيانا عبارة " المرابحة المصرفية " للدلالة على بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية، وذلك على سبيل الاختصار. وربما استخدمت أحيانا أخرى عبارة " المرابحة الملزمة " وأريد بها المرابحة إذا كانت المواعدة فيها ملزمة.(5/832)
والله أسأل أن يحمينا من الغرور والغل والحسد والتقعر والإعجاب بالرأي والاستخفاف بأهل العلم والتملق لأهل الباطل، وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، ويمكننا من الحق قولا وعملا، بلا خوف من عقاب، ولا طمع في ثواب، إلا عقاب الله تعالى وثوابه. وقد نهينا عن أن نكون كلابس ثوبي زور في بيع فنبيع ما ليس عندنا أو في علم فنظهر ما لا نملك أو في خلق فنبدي بلساننا ومظاهرنا ما لا يوافق قلوبنا، فمن تخلق للناس بما ليس من شأنه شانه الله تعالى، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
بيع المرابحة.
البيع في الفقه الإسلامي بيعان: مساومة وأمانة. فأما المساومة فيتفق فيها المتبايعان على ثمن البيع، بغض النظر عن الثمن الأول الذي بذله البائع لشراء السلعة أو إنتاجها. وأما الأمانة فهي ثلاثة أنواع:
- مرابحة (= مشافة) : وهي البيع بمثل الثمن الأول مع ربح معلوم. والمشافة منا لشف وهو الزيادة، الربح.
- وضيعة (= محاطة) : وهي البيع بمثل الثمن الأول مع وضع (= حط) مبلغ معلوم.
- تولية: وهي البيع بمثل الثمن الأول بلا ربح ولا خسارة.
وفي البناية شرح الهداية 6/488 قوله: " قد صح ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة ابتاع أبو بكر بعيرين. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ولني أحدهما. فقال: هو لك بغير شيء. فقال صلى الله عليه وسلم: أما بغير ثمن فلا)) . ثم ذكر صاحب البناية أن هذا الحديث غريب، وأنه ورد في البخاري ومسند أحمد وفي طبقات ابن سعد، ولكن بدون ذكر لفظ التولية.(5/833)
هذا إذا تعلق البيع بالسلعة كلها، فإذا تعلق بجزء منها فهو " الإشراك "، أي البيع تولية بنسبة الجزء إلى الكل. فيصير المشتري شريك ملك للبائع، كل بحسب حصته من السلعة.
على أن الإشراك في نظري، لا ينحصر في التولية، بل يمكن أن يكون في المرابحة، فيبيعه مثلا نصف السلعة بنصف الثمن الأول وربح معلوم، أو يكون في الوضيعة، فيبيعه نصف السلعة بنصف الثمن الأول مع وضع مبلغ معلوم.
وجمهور الفقهاء على جواز المرابحة، ولكن روي عن بعض العلماء أنها باطلة (المحلى لابن حزم 9/625- 626) ، وروي عن ابن عباس أنه نهى عنها، وفي بعض الكتب أنه كره بيع المشافة (مصنف ابن أبي شيبة 7/48 و8/42) . كما روي هذا النهي عن عكرمة وإسحاق، والكراهة عن الحسن ومسروق، والجواز عن ابن مسعود وابن المسيب وشريح وابن سيرين (مغني المحتاج 2/77) . وروي عن آخرين أن المساومة أفضل من المرابحة (المغني 4/108، والخرشي على خليل 5/172) .
وإني أميل إلى جوازها إذا كان الثمن الأول معلوما، والربح معلوما، ولم تكن هناك خيانة أو شبهة خيانة في بيان الثمن الأول. وهذا الربح يكون في مقابل خبرته وجهده ووقته ومخاطرته.
ولعل سبب كراهتها لدى ابن عباس أن البائع مرابحة يبيع السلعة بزيادة ربح مضمون، فيصير هذا الربح أشبه بالربا، لأنه دفع الثمن الأول مثلا 100، وقبض الثمن الثاني 120، والسلعة دخلت ثم خرجت. قد يؤيد هذا أن المشافة من الشف وهو الزيادة كما بينا سابقا. وفي أحاديث الربا ورد قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض..)) (البخاري في البيوع، ومسلم في المساقاة وغيرهما) .(5/834)
ولكن هذا التأويل غير صحيح، لأن الذي اشترى السلعة لم يكن يعلم أنه سيبيعها مرابحة، فربما باعها تولية أو محاطة أو مساومة.. إلخ وربما تكون الصورة التي نهى عنها ابن عباس أو كرهها هي أن يشتري لك سلعة بالنقد ويبيعها إليه بالأجل، ويكون توسطه بشراء السلعة لا معنى له إلا أنه أقرضه المال بربا وقد ورد في بعض الكتب أن المرابحة ربا (مصنف ابن أبي شيبة 6/436، والمحلى 9/14) ، أو " المرابحة بيع الأعاجم" (ده دوازده) (مصنف ابن أبي شيبة 6/434 و7/253) .
أما تفضيل المساومة على المرابحة لدى بعض الفقهاء، فسببه أن البائع مرابحة يأتمنه المشتري على الثمن الأول، وقد لا يخلو تحديد الثمن الأول من غلط أو تأويل أو هوى. فقد يضيف البائع إلى الثمن الأول ما ليس منه، كأن يشتري السلعة بأكثر من ثمنها، أو لا يبين الأجل ولا مقداره إذا اشتراها بثمن مؤجل، وللأجل حصة من الثمن، أو يدخل أجرة نقل أو إصلاح لنفسه أو لغيره، والحال أن هذا الغير متطوع لم يقبض منه شيئا، أو يحتسب مصاريف إصلاحها أو مداواتها (إذا كان المبيع حيوانا مثلا) ، أو يكتم أنه مضى زمن على شرائها وانتفاعه بها (إذا كان المبيع مسكنا مثلا أو آلة) .
لكن لا بأس بإضافة مصاريف الخياطة والصباغة والتطريز والقصر، ومصاريف النقل والتخزين، وسائر ما يزيد في قيمة المبيع، وجرى العرف بإضافته إلى الثمن. فإذا أشتبه بالمصروف: هل تجب إضافته أم لا؟ بين ذلك.. إلخ ما هو معروف في مظانه من كتب الفقه القديم على المذاهب المختلفة.
وتفصيل هذه المصاريف قليل الأهمية في بيع المرابحة المطبق في المصارف الإسلامية، لأن المصاريف كلها تدخل في الثمن الأول لدى هذه المصارف، ولا يقوم المصرف بإدخال أي إضافة على السلعة من تصنيع أو خياطة أو صبغ ... إلخ. لكن قد يكون من المهم معرفة ما إذا كان على المصرف تفصيلها، أو يكتفي بإجمالها دون تفصيل. وأميل إلى تفصيلها ولا سيما إذا طلبه المشتري، فهو أدعى للثقة وأنفى للتهمة وأبرأ للذمة.
وعندي أن بيان البائع للثمن الأول يمكن أن يكون مؤيدا بالفواتير والوثائق، وهذا أبعد عن الغلط وسوء الظن، ما لم تكن هذه الوثائق مزورة أو محورة.(5/835)
ويصح أن يكون الربح في صورة مبلغ مقطوع، أو في صورة نسبة من الثمن الأول، مئوية أو غيرها، لأن المال واحد. وما دام هذا البيع من بيوع الأمانة، فعلى البائع أن يكون أهلا لتحمل هذه الأمانة، ومحترزا من الخيانة أو شبهتها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال 27) . وقد نص الفقهاء على أن السلعة إذا كان ثمنها في السوق أرخص، لسبب أو آخر كحوالة الأسواق (= تغير الأسعار) ، وجب على البائع إخبار المشتري به منعا للتغرير وإخفاء المعلومات عن المشتري وربما لم يوجبوا على المشتري إخبار البائع بثمن السوق إذا كان أغلى، لافتراض أن البائع يعلم ثمن سلعته في السوق، وهو راض بثمن العقد.
والدافع إلى هذا النوع من البيوع هو أن المشتري قد يكون جاهلا بالسلع وأثمانها، يخشى الغبن في المساومة، أو ليس لديه الوقت الكافي للتحري والتجول على الباعة والمماكسة. هذا إذا كانت المرابحة حالّة، أما إذا كانت مؤجلة، فيستفيد المشتري أيضا من الأجل، ولكن هذا الأجل ليس للمرابحة علامة مميزة لها عن المساومة، فبيع المساومة يمكن أيضا أن يكون مؤجلا.
ومن أراد مرجعا حديثا في موضوع المرابحة أمكنه الرجوع إلى كتاب الدكتور عبد الحميد البعلي " فقه المرابحة في التطبيق الاقتصادي المعاصر "، أو كتاب الدكتور أحمد علي عبد الله " المرابحة أصولها وأحكامها وتطبيقاتها في المصارف الإسلامية " (رسالة دكتوراة) .
بيع المرابحة للآمر بالشراء كما في المصارف الإسلامية
تلك هي بإيجاز المرابحة في الفقه المأثور. أما المرابحة المطبقة اليوم في المصارف الإسلامية، والمسماة بـ" بيع المرابحة للآمر بالشراء" أو لـ" الواعد بالشراء "، فهي أن يتقدم الراغب في شراء سلعة إلى المصرف، لأنه لا يملك المال الكافي لسداد ثمنها نقدا، ولأن البائع لا يبيعها له إلى أجل، أما لعدم مزاولته للبيوع المؤجلة، أو لعدم معرفته بالمشتري، أو لحاجته إلى المال النقدي، فيشتريها المصرف بثمن نقدي ويبيعها إلى عميله بثمن مؤجل أعلى. ويتم ذلك على مرحلتين.
مرحلة المواعدة على المرابحة، ثم مرحلة إبرام المرابحة. وهذه المواعدة ملزمة للطرفين (المصرف، والعميل) في بعض المصارف الإسلامية، وغير ملزمة للعميل في بعض المصارف الأخرى. فإذا اشترى المصرف السلعة كان العميل بالخيار، إن شاء اشترى وإن شاء ترك. ويفهم من هذا أن المصرف لا يلتزم بشراء السلعة، ولكنه إذا اشتراها التزم ببيعها إلى العميل إذا اختار العميل شراءها. ولكن المصرف يحرص على شراء السلعة حفاظا على سمعته.(5/836)
ويبدو أن بعض المصارف الإسلامية تفضل أن تكون السلعة، موضوع المرابحة، من السلع المعمرة، كي لا تنتقل ملكيتها إلى العميل إلا بعد سداد الأقساط جميعا، وهذا على الطريقة المعروفة في القوانين الوضعية بـ" الإجارة السائرة للبيع" أو " الآيلة للبيع". والتي سميت في المصارف الإسلامية " بـ الإيجار المنتهي بالتمليك " (السنهوري في الوسيط 4/170، والقرنشاوي ص4) . وفي بعض المصارف جرى التعبير عن هذا بأن البضاعة ومستنداتها ترهن رهنا تأمينيا لصالح المصرف إلى حين استيفائه كامل الثمن، ويكون للمصرف حق امتياز البائع، وله أن يطلب فوقها رهونات أو ضمانات إضافية (أحمد علي عبد الله ص268) . كما تفضل هذه المصارف أحيانا التعامل بالسلع المستوردة لأنها سلع منمطة ومواصفاتها محددة، ودرجة المخاطرة فيها درجة منخفضة، ونسبة تحكم المصرف في تدفقها أعلى، وتصريفها أسهل إذا ما قورنت بالسلع المحلية (القرنشاوي ص4) .
على أن المرابحة المصرفية يمكن تطبيقها في شراء الأموال المثلية أو الأموال القيمية كما في شراء المنقولات والعقارات.
أهمية بيع المرابحة في المصارف الإسلامية
تطبق المرابحة في المصارف الإسلامية في عمليات الشراء الداخلية (مرابحات داخلية) وفي عمليات الاستيراد من الخارج (مرابحات خارجية) . وهذه المرابحات آخذة في التوسع والامتداد إذا ما قورنت بالمشاركات والمضاربات (= عمليات القراض) .
وإليك مثالا عن أهمية عمليات المرابحة بالنسبة لمجموع عمليات التمويل:
المصرف النسبة السنة المصدر
البنك الإسلامي الاردني 80 % 1986 م موسى شحادة ص13
البنك الإسلامي في بنغلادش 65 % 1984م أوصاف أحمد ص8
مؤسسة فيصل المالية في تركيا 94 % 1986 م شوقي شحاتة ص8
البنك الإسلامي لغرب السودان 54 % 1984 أوصاف أحمد ص8
بنك التضامن الإسلامي في السودان 61 % 1984م نفسه
بنك قطر الإسلامي 98 % 1984م نفسه
وفي هذا البنك الأخير، بلغت عقود المرابحة 665 عقدا من أصل 667 عقدا، والفرق عقدان فقط هما من عقود المشاركة.(5/837)
ويذكر الأستاذ موسى شحادة المدير العام للبنك الإسلامي الأردني أن سبب " توجيه أغلب استثماراته إلى المرابحة، بدل توجيهها إلى المساهمات والمشاركات لسرعة تسييلها، ووضوح التدفق النقدي، ووضوح العائد" (موسى شحادة ص 22) . ويقصد بسرعة التسييل سرعة التنضيض بلغة الفقه الإسلامي، أي تحويل الديون إلى نقود؛ ويقصد بوضوح التدفق النقدي إمكان جدولة الثمن المؤجل في المرابحة على أقساط معلومة وبآجال معلومة، كما يقصد بوضوح العائد إمكان حصول المصرف على عائد معلوم المقدار، في صورة نسبة من الثمن الأول، أي نسبة من رأس المال، رأس المال العملية، أي بدون مخاطرة كما هو الحال في المضاربة أو الشركة.
ويقول الدكتور شوقي إسماعيل شحاتة إنه " بظهور البنوك الإسلامية، تعاظم دور بيع المرابحة للآمر بالشراء، وخصوصا بثمن مؤجل، بضوابطه الشرعية. وتأكدت أهميته وجدواه الاقتصادية وملاءمته علما وعملا لطبيعة العمليات التمويلية والعمليات الإيرادية التي تجريها البنوك الإسلامية بعيدا عن القروض ونظام الفائدة الربوية " (شحاتة ص9) ويقصد الدكتور شحاتة بملاءمة المرابحة لطبيعة العمليات التمويلية ملاءمتها لطبيعة العمل المصرفي التقليدي القائم على أساس العمل المضمون واجتناب المخاطرة. كما يقصد بملاءمة المرابحة للعمليات الايرادية بعيدا عن القروض والفائدة الربوية أن المصارف من طريق المرابحة استطاعت أن تحقق لنفسها إيرادات شبيهة بالفائدة من حيث الضمان، ولكنها مشروعة في نظره.
غير أن الدكتور شحاتة لم يبين لنا كيف تأكدت أهمية المرابحة وجدواها الاقتصادية. لكن هناك بحوثا أخرى تكفلت بخلاف رأيه، كبحث الدكتور حاتم القرنشاوي بعنوان " الجوانب الاجتماعية والاقتصادية لتطبيق عقد المرابحة ".
يقول الدكتور القرنشاوي إن " التطبيق السليم لعمليات المرابحة يتطلب، خلافا لما قد يسود لدى بعض العاملين بالبنوك الإسلامية، درجة عالية من المعرفة بظروف السوق، وتطور الطلب على السلع المختلفة فيه، وجهازا فنيا قادرا على تحليل المناخ العام للسوق، واتجاهات السياسة الاقتصادية في الأجل القصير والطويل، وشبكة مصادر المعلومات لتأمين ما يكفي من بيانات عن المصادر البديلة للسلع ومواصفاتها وأسعارها، فضلا عن الاستعلامات المطلوبة عن العملاء طالبي التمويل. وتوافر ذلك يعني إمكانية قيام البنك بدوره المفترض كتاجر، وليس كممول فحسب " (القرنشاوي ص 7) .
وواضح أن الدكتور شحاتة يصدر رؤية غير الرؤية التي يصدر عنها الدكتور القرنشاوي. فالدكتور شحاتة يصدر عن سهولة التطبيق وإمكان القيام بالعمل المصرفي الإسلامي غير بعيد عن العمل المصرفي غير الإسلامي، بل وفق فلسفته في السيولة والربحية والضمانة، حتى أن الفرق بين العملين لا يعدو أن يكون خلافا في الشكل والصورة فحسب.(5/838)
أما الدكتور القرنشاوي فقد أراد للمصرف الإسلامي أن يقوم بدور أصيل ومتميز في الإتجاهين الشرعي والتنموي معا. فالعملية تتلاشى منها المآخذ الشرعية كلما كانت أكثر جدية، بحيث يكون المصرف مؤهلا فعلا للقيام بعمليات البيع الحقيقية، على أنه تاجر سلع، لا على أنه ممول فحسب، ومن جهة أخرى فإن اتجاه المصارف في عملياتها إلى المرابحة، وإلى المرابحة على السلع المعمرة المستوردة قد أدى إلى إهمال عمليات الاستثمار الإنتاجي الأجل، وإلى " ترسيخ قيمة الربح السريع، وتجنب المخاطرة، وهو ما قد يتعارض مع قيم إسلامية أخرى " " القرنشاوي ص2 و8".
مناقشة بيع المرابحة للآمر بالشراء من حيث صحة التسمية:
هذه التسمية هي من تركيب الدكتور سامي حمود (انظر رسالته تطوير الأعمال المصرفية، ط 2، ص430) . ولا يفهم من رسالته أنه قد اختار قطعا إلزام الطرفين بمواعدتهما، وإن كان في ثنايا كلامه ما قد يدل على ميله للإلزام، الذي توضح واستقر فيما كتبه بعد ذلك، ولا سيما من حيث استخدامه لفظ " الآمر بالشراء، بدل " الواعد" بالشراء.
فإذا كان المذهب بعدم الإلزام فالتسمية تبدو غير موفقة، لأن لفظ " الآمر يفيد أن العميل ملتزم بأمره، والمصرف ملتزم بتنفيذ أمر العميل (انظر مقالي في مجلة المسلم المعاصر ص184) ، فكأنه وكيل مأجور ولا يحسن أن يكون المصرف أجيرا، لأنه يصير أجيرا ومقرضا معا إذ يقرض العميل ثمن الشراء ويتقاضى منه أجرا على وكالته، فتجتمع في العملية شبهة البيع مقرونًا بالسلف، وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف.))
ولهذا السبب عدل بعض العلماء عن لفظ " الآمر بالشراء " إلى لفظ " الواعد بالشراء "، وبهذا يعبر الاسم عن مرحلتي العملية: مرحلة الوعد، ومرحلة البيع، وذلك بغض النظر بعد ذلك عن المذهب المختار في الوعد، هل هو الإلزام أو عدم الإلزام؟
ويمكن تسمية العملية أيضا " مواعدة على المرابحة"، فهي مواعدة أولا ثم مرابحة، فإن كانت المواعدة غير ملزمة فكل منهما بالخيار.... إلخ.(5/839)
مزايا المرابحة المصرفية
المرابحة المصرفية في نظر أنصارها مواتية للعمل المصرفي، لا سيما بالمقارنة مع المشاركة والمضاربة (= القراض) ، فالمصرف يدفع فيها رأس مال معينا، ويتقاضى عليه ربحا معلوما، ويستطيع دعم تمويله بضمان، ويمكنه أن يتخفف قدر الإمكان من أعباء قبض السلعة، فلا يحفظ من القبض إلا على الحد الأدني الذي يبقي على المصرف وساطته المالية وتجارته المالية غير السلعية. فإذا مول عملية ما عرف مسبقا أقساط السداد، وتاريخ سداد كل قسط، وأرباحه من العملية.
وهناك علميات لا يستطيع المصرف تمويلها عن طريق الشركة أو المضاربة، مثل تمويل شراء الفرد سيارة لاستعماله الشخصي، أو أثاثا لمسكنه، حيث لا تجارة ولا ربح يمكن الإشتراك فيه؛ ومثل شراء الحكومة أنابيب لنقل المياه، حيث لا يمكن مشاركة القطاع الخاص للقطاع العام في ملكية الأصل أو إدارته وإيراداته؛ ومثل حال التجار الذين لا يريدون شركاء، بل يؤثرون الدائنين على الشركاء من أجل الحصول على المال (حمود: تطبيقات ص8) .
ولكن أنصار المرابحة في هذه العمليات التمويلية انطلقوا من أن كل عملية مصرفية تقوم بها المصارف الربوية، يجب أن تقوم بها المصارف الإسلامية، فلم يبينوا ولم يناقشوا مدى أهمية تمويل شراء سيارات للاستعمال الشخصي عن طريق القرض، كما أنهم لم يعملوا أذهانهم لاستكشاف أساليب أصيلة، أو أساليب ملائمة لهذه العمليات أكثر من الديون، مثل فرض ضرائب، أو دين عام بدون فائدة على الأغنياء أو على المصارف، أو الاعتماد على التمويل الذاتي من طريق الادخار والاحتياطي. فالدينُ هَمٌّ بالليلِ ذلٌّ بالنهارِ، ألا ترى إلى هذه البلدان " النامية " المثقلة بالديون، المرهقة بها، حتى لو أعفيت من فوائدها؟(5/840)
التفريق بين المرابحة القديمة والمرابحة المصرفية الحديثة
1- السلعة في المرابحة القديمة تكون موجودة حاضرة لدى البائع مرابحة، وغير موجودة ولا حاضرة لديه في المرابحة المصرفية.
2- المرابحة القديمة تنعقد مرة واحدة في مجلس العقد، أما المرابحة المصرفية ففيها مرحلتان: مرحلة المواعدة، ومرحلة المعاقدة.
3- المواعدة في المرابحة المصرفية قد تكوين ملزمة، مع أن الثمن لا يزال مجهولا، إذ لم يشتر المصرف السلعة بعد، ولم يعرف كلفتها (= ثمنها الأول) أما الثمن في المرابحة القديمة فمعلوم في المجلس.
4- في المرابحة القديمة يكون البائع مرابحة قد اشترى السلعة لنفسه بلا ريب، سواء للانتفاع بها، أو للاتجار بها، وقد يمضى وقت بين شرائها وإعادة بيعها. أما في المرابحة المصرفية فلا يشتري المصرف السلعة إلا بناء على طلب العميل ووعده بشراء السلعة، فهو يشتريها لا لكي ينتفع بها، بل ليعيد بيعها بمجرد حصوله عليها.
5- المرابحة القديمة قد تكون مرابحة حالَّة أو مؤجلة، أما المرابحة المصرفية فالغالب أنها مؤجلة، فالمصرف يشتري السلعة بثمن نقدي، ليعيد بيعها بثمن مؤجل.
6- المرابحة القديمة إذا كانت حالَّة فربح البائع فيها كله ربح نقدي لقاء جهده ووقته ومخاطرته، أما المرابحة المصرفية المؤجلة فربح المصرف فيها كله ربح ناشئ عن التأجيل، أي ربح في مقابل الأجل. ولو أراد المصرف الحصول أيضا على ربح نقدي لارتفعت كلفة التمويل، بما قد يؤدي إلى إحجام العميل عن التعامل معه. وغالبا ما لا يعترف العميل للمصرف إلا بدوره التمويلي في العملية. أما الدور التجاري فهو ما ينهض به العميل، وتدخل المصرف في هذا الدور ليس إلا من باب تحلة العمل.
7- المرابحة القديمة فيها خلاف بين الفقهاء حول ما يجب أن يدخل في الثمن الأول أو لا يدخل، من مصاريف وأجور وسواها. أما المرابحة المصرفية فالأمر فيها ههنا سهل، إذ كل التكاليف تدخل في الثمن الأول، وما قد يقال بعدم إدخاله في الثمن، كمصاريف التأمين مثلا، يمكن إدخاله في الربح.(5/841)
8- في المرابحة القديمة قد يكون البائع مرابحة أدخل على السلعة قيمة مضافة من إصلاح أو تصنيع أو مداواة أو خياطة أو صباغة. أما في المرابحة المصرفية فالمصرف لا يدخل على السلعة أية إضافة، فهو تاجر يشتري السلعة ليعيد بيعها فورًا كما هي.
9- في المرابحة القديمة قد تكون السلعة قابلة للزيادة والنماء، كأن تكون حيوانا يسمن ويكبر ويلد، أو شجرًا يثمر. أما المرابحة المصرفية فتجري على سلع غير قابلة للنماء، لأن المصرف لا يتحمل مثل هذه المسؤوليات في التكاثر والعلف والنماء.
ولذلك كان جديرًا بمن بحث المرابحة المصرفية أن لا يعرض للمرابحة القديمة إلا في حدود صلتها بالمرابحة المصرفية، فتفصيل ما يضاف وما لا يضاف إلى الثمن الأول، والتعرض للسلع الحيوانية أو النباتية القابلة للنماء ... كل هذا وأمثاله لا قيمة له في المرابحة المصرفية الحديثة، ولا حاجة للإطالة به. أما ما أشار إليه المالكية من وجوب تفصيل عناصر الثمن الأول أو الاكتفاء بالإجمال فمناقشته مهمة ومفيدة، والله أعلم.
زيادة الثمن المؤجل على المعجل في المرابحة
إذا اشترى البائع مرابحة السلعة بثمن معجل، وكانت المرابحة معجلة، أي بثمن معجل، فههنا لا مشكلة. لكن قد يحدث أحيانا أن يكون البائع مرابحة قد اشترى السلعة بثمن مؤجل، فإن باعها مرابحة للأجل نفسه (ثلاثة أشهر مثلا إذا كان الأجل الأول ثلاثة أشهر) فلا مشكلة أيضا. أما إذا اشتراها بثمن مؤجل ثم باعها بثمن مؤجل إلى أجل أقل، فلا بد للبائع مرابحة من بيان هذا للمشتري، لأن للزمن حصة من الثمن عند جمهور الفقهاء، والأثمان تختلف باختلاف الأزمان (= الآجال) . قارن البعلي ص69- 70 و193-194، وأحمد علي عبد الله ص 72 – 74 و85 – 92 و126- 128.(5/842)
وزيادة الثمن للأجل جائزة، وليست ربا محرما كما وهم بعض الناس، وقد دافعت عن ذلك نقلا وعقلا في غير هذا الموضع " انظر مقالي بمجلة الأمة: القول الفصل في بيع الأجل ص 54: وكتابي: الربا والحسم الزمني ص 33) .
ولكن زيادة الثمن للأجل قد تصير حراما إذا اتخذت ذريعة للربا الحرام. فالبائع قد يبيع بثمن مؤجل مقداره مائة، ثم يخصم هذا الثمن (الممثل بورقة تجارية: سفتجة أو سند إذنى) لدى مصرف، فيحصل مثلا على تسعين في الحال. فالبيع بثمن مؤجل أعلى من المعجل جائز، ولكن قيام البائع بخصم الثمن المؤجل لدى المصرف حرام، لأن من شأنه أن المصرف يقرض البائع تسعين حالّة في مقابل مائة مؤجلة، وهذا ربا قرض أو ربا نسيئة محرم.
وقد تصير الزيادة في الثمن المؤجل على المعجل موضوعا لبعض الحيل الربوية، فيبيعه بثمن مؤجل ويشتري منه ما باعه بثمن معجل، أو يبيعه بثمن مؤجل إلى أجل معلوم، ويشتري منه ما باعه بثمن مؤجل إلى أجل معلوم أدنى من الأجل الأول، فهذا ينقل البيوع من بيوع أجل جائزة إلى بيوع آجال غير جائزة (بيوع عينة) . فلا بد إذن من التفريق بين بيوع الأجل وبيوع الآجال، وهذه العبارة الأخيرة استخدمها بعض الفقهاء (المالكية وغيرهم) للتعبير عن الحيل الربوية.
ومن هذا الباب حديث عائشة مع زيد بن أرقم، إذ بيع العبد بثمن نقدي مقداره 600 دينار، ومؤجل مقداره 800دينار (الأم 3/68، والمحلى 9/60، وبداية المجتهد 2/139) . والخلاف بين العلماء في هذا الحديث ليس خلافا في زيادة الثمن المؤجل على المعجل، بل هو خلاف فيما وراء ذلك، حول بيع العبد بـ 800 دينار مؤجلة وإعادة شرائه بـ600 دينار معجلة.
وقد ميزت فيما كتبت سابقًا بين جواز البيع بثمن مؤجل أعلى من المعجل، وبين عدم جواز اتخاذ هذا الجواز سبيلًا إلى العينة أو بيوع الآجال، فحسبه بعض القراء من باب التناقض (أبو غدة ص21) .(5/843)
اختلاف صور المرابحة المصرفية من مصرف إسلامي إلى آخر
لا يمكن القول إن المصارف الإسلامية تستوي جميعا في موقفها من بيع المرابحة، بحيث تتفق على صورة أو صور موحدة منه. فهناك مصارف تطبق الإلزام بالمواعدة على كل من المصرف والعميل، فيلتزم المصرف بشراء السلعة وبيعها إلى العميل، كما يلتزم العميل بشراء السلعة من المصرف. وثمة مصارف أخرى تطبق الإلزام بالوعد على المصرف فقط، دون العميل. فإذا اشترى المصرف السلعة التزم ببيعها إلى العميل إذا رغب العميل في ذلك. وربما لا توجد مصارف تطبق عدم الإلزام، أي الخيار، بالنسبة لكل من المصرف والعميل، إلا أنه يمكن القول بأن المصارف التي تلزم نفسها دون العميل ليست بعيدة عن الخيار للطرفين، لأن المصرف غير ملزم بشراء السلعة، إنما يلزم فقط ببيعها إذا اشتراها.
وهناك مصارف تطبق الإلزام في المرابحات الخارجية، والخيار في المرابحات الداخلية (أبو غدة ص6 و 14) .
وهناك مصارف تحدد الثمن الأول والربح منذ المواعدة (حمود: تطبيقات ص14) . ومصارف تحدد الربح عند المواعدة، ولكنها لا تحدد الثمن الأول إلا بعد شراء السلعة.
وهناك مصارف تشتري السلعة لنفسها أولا، وربما تودعها في مخازن لها، قبل بيعها، وهناك مصارف أخرى لا تشتري السلعة إلا بناء على طلب العميل، ولحسابه.
وربما أخذت المرابحة، في بعض الأحيان، صورة " اتفاق مسبق بين البنك وبعض الموردين على تصريف سلعهم "، فإذا اتجه العميل إلى المورد أرسله المورد إلى البنك لكي يصدر له أمر توريد، ويوكله في عمليات المرابحة (محمد عبد الحليم عمر ص 15) .
وقد تكون المرابحة بأن يمنح المصرف النقود للآمر بالشراء ليشتري السلعة بنفسه، ثم يبيعها لنفسه (حمود: تطبيقات ص15) .
وربما جرت المرابحة بأن يشتري المصرف سلعة ما من عميله بثمن نقدي، ثم يبيعها إليه بثمن مؤجل أعلى. وقد لا يكون مهما حضور السلعة أو غيابها في مجلس العقد، بل قد لا يكون مهما أن يكون وجودها حقيقيا أو موهوما، لأنها دخلت في المجلس لتخرج في المجلس نفسه (محمد فهيم خان ص3) .
لقد أغرق بعض الفقهاء في الحيل، وزادها بعض " المنفذين " إغراقا، وجعلوا العملية أشبه باللعبة منها بالجد. وربما لهذا السبب يعتبر البنك المركزي المصري عملية المرابحة عملية قرض (شلبي ص27) .(5/844)
هل المرابحة المصرفية عملية مستحدثة؟
زعم بعض الكاتبين أن المرابحة المصرفية عملية مستحدثة، إما لعدم اطلاعه على أقوال الفقهاء في هذا الباب، وإما لأنه أراد الذهاب فيها إلى مذهب آخر لا يوافق فيه مذاهبهم. وسنبين في هذه الدراسة أن شراء شيء بثمن نقدي وبيعه بثمن مؤجل ليس أمرا جديدا على الفقه الإسلامي، كما سنبين أن المواعدة في هذه العملية إذا كانت ملزمة لم يجزها أي مذهب من المذاهب الفقهية الأربعة. وهذا دليل على أن العملية ليست مستحدثة.
ويبدو أيضًا أن العثمانيين قد لجأوا أيضا إلى المرابحة وأصدروا قانونًا سمى " قانون المرابحة العثماني في المسائل المدنية" (ذكره السنهوري في مصادر الحق3/248، وانظر أيضا نظام المرابحة في الجزء الثاني من مجموعة القوانين ليوسف صادر، ص 262- 263. وننقل نصه لعدم تيسر الرجوع إليه) :
نظام المرابحة
المادة 1- اعتبارا من تاريخ نشر هذا النظام تعين تسعة في المائة فائدة سنوية حدا أعظم لكل أنواع المداينات العادية والتجارية (1) .
المادة 2- إن مقاولات الفائدة التي عقدت على حساب 12 في المائة قبل تاريخ نشر هذا النظام هي مرعية ومعتبرة إلى يوم إعلان هذا النظام.
المادة 3- إذا تبين وقوع مقاولة على فائدة زائدة عن حدها النظامي، إما صراحة في السند بين الدائن والمديون، أو بثبوت ضمها إلى رأس المال، فيصير تنزيل مقدار الفائدة السنوية إلى تسعة في المائة.
المادة 4- فائدة الديون مهما مر عليها من السنين، فلا يجب أن تتجاوز مقدار رأس المال، وجميع الحكام ممنوعون من الحكم بالفائدة التي تتجاوز رأس المال.
المادة 5- إن إجراء الفائدة المركبة في الاقتراضات غير جائز إلا:
أولا – إذا لم يصر تسليم دفعات من طرف المديون في ظرف ثلاث سنوات على حساب المبلغ المستقرض.
ثانيا – إذا حصل اتفاق بين الدائن والمديون على ضم فائدة الثلاث السنوات التي صار إجراء تمشية حساب الفائض بها إلى أصل المال، فيمكن حينئذ تمشية فائدة مركبة لأجل ثلاث سنين فقط. وإن معاملات الفائض المركب الناشئ عن الحساب الجاري بين التجار توفيقا لأحكام قانون التجارة هي مستثناة.
__________
(1) يتبين من مراجعة قرارات الموراتوريوم (= تأجيل الديون) المنشورة في الصفحة 402 من المجلة القضائية السنة الثانية أنه أجيز أن يحسب للديون غير المنصوص عن مقدار فائدتها 4 في المائة عن الأموال المودعة في البنوك (كذا) و7 في المائة لسائر الديون، وذلك من تاريخ 3 آب سنة 1914م لتاريخ 26 شباط سنة 1921م وفقا لقرار تسديد الديون المؤجلة رقم 655(5/845)
المادة 6- إنه ما دامت معاملة الإقراض والاستقراض جارية بين الدائن والمدين، فسواء أريد نقل (لعله خطأ صوابه: قفل) الحساب أو تجديد سند الدين، فإن دعوى تنزيل الفائدة إلى الحد النظامي هي مسموعة، أما إذا صار أداء الدين وصار قطع المعاملات بين الدائن والمديون فإن دعوى استرداد الفائض الفاحش تكون غير مسموعة.
المادة 7- إن نظام المرابحة المؤرخ في 16 أيلول سنة 1280هـ (لعل صواب هذه السنة 1880م) هو مفسوخ اعتبارا من تاريخ نشر هذا النظام.
المادة 8- أن نظارة العدلية مكلفة بتنفيذ أحكام هذا النظام.
في 9 رجب سنة 1304 هـ
وفي 22 مارس سنة 1303 م (لعل الصواب 1886م)
ومن هذا النظام نستنتج ما يلي:
1- أنه في أيام العثمانين قد صدر نظام مرابحة مؤرخ في 16 أيلول (سبتمبر) 1880م، نسخه هذا النظام الجديد المؤرخ في 22 آذار (مارس) 1886م.
2- الفائدة، والفائض (انظر المادة 5و6) ، والمرابحة في لغة هذا النظام أو القانون هي بمعنى واحد.
3- المقصود بالمرابحة هو الزيادة في المداينة في مقابل الزمن.
4- وقد تدخل القانون العثماني لوضع حد أعلى (سقف) لهذه المرابحة لا يجوز تجاوزه، كان 12 % قبل صدور هذا النظام، وصار في ظله 9 %، وهذا المعدل لا يزال يعتبر في بعض القوانين العربية أعلى معدل فائدة مسموح به قانونا، وهو معدل فوائد التأخير في السداد الذي يكون أعلى من معدل الفوائد التعويضية.
5- لا يجوز أن تتجاوز الفوائد مقدار أصل المال مهما كان أجل الدين. ومن شأن هذا بالطبع أن لا يتم الإقراض إلا لآجال قصيرة.(5/846)
6- حدد القانون الحالات التي يجوز فيها اللجوء إلى الفائدة المركبة (= الفائض المركب)
وهذه الحالات هي:
أ – إذا تأخر المدين في دفع أحد الأقساط لمدة بلغت ثلاث سنوات، أو لم يسدد أي قسط خلال هذه المدة، لا نتيجة تأخير، بل نتيجة اتفاق.
ب – واتفق الطرفان (الدائن والمدين) على سريان هذه الفائدة المركبة لمدة لا تتجاوز ثلاث سنوات. ويلحظ أن القانون استخدم لفظ " التمشية " بمعنى اللفظ المستخدم اليوم وهو " سريان " أو " تحقيق سريان ".
جـ – الحسابات الجارية بين التجار.
7- لا تسمع دعوى تنزيل الفائدة إلى الحد النظامي إذا تم سداد الدين، وصفي الحساب بين الطرفين، ولم يبق منه شيء.
هذا ويلاحظ أن مجلة الأحكام العدلية، وهي القانون المدني العثماني، قد سكتت عن أي نص فيها يحرم الربا. وسادت أيام العثمانيين حيل فقهية كثيرة للتغلب على حرمة الربا، من هذه الحيل ما أطلق عليه بيع المعاملة، وهو أن يبيعه المقرض شيئا بأكثر من ثمنه، أو يبيعه المقترض شيئا بأقل من ثمنه، تمكينا للمقرض من وصوله إلى منفعة القرض (انظر حاشية ابن عابدين، فصل في القرض، مطلب كل قرض جر نفعا حرام، ج5 ص166، وانظر التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة في القرن الأول الهجري، لصالح أحمد العلي بيروت، دار الطليعة، ط 2، 1969م ص290) .(5/847)
ويبدو أن ابن عابدين قد استخدم أيضا المرابحة بمعنى الربح لأجل الأجل. قال " إذا قضى المديون الدين قبل الحلول، أو مات (فحل بموته) فأخذ من تركته فجواب المتأخرين أنه لا يأخذ من المرابحة (أي من الربح المقابل للأجل) التي جرت بينهما إلا بقدر ما مضى من الأيام" (الحاشية 5/160 والعقود والدرية 1/278) .
وأوضح هذا الشيباني النحلاوي فقال: " صورته: اشترى شيئا بعشرة نقدا، وباعه لآخر بعشرين إلى أجل هو عشرة أشهر، فإذا قضاه بعد تمام خمسة أشهر، أو مات بعدها، يأخذ خمسة ويترك خمسة " (الدرر المباحة 53) .
فكيف يقال بعد هذا إن المرابحة المصرفية عملية مستحدثة؟
بل لقد روى الإمام مالك في الموطأ 2/662، في باب النهي عن بيعتين في بيعة، أنه بلغه أن رجلًا قال لرجل: ابتع لي هذا البعير بنقد، حتى أبتاعه منك إلى أجل، فسئل عن ذلك عبد الله بن عمر، فكرهه ونهى عنه.
وهذا مطابق تماما للمرابحة المصرفية، إذا كان الوعد فيها ملزمًا، وسيأتي الكلام عنه في هذه الورقة.
المرابحة المصرفية الملزمة غير جائزة بإجماع المذاهب الأربعة
قررنا آنفا أن المرابحة المصرفية الملزمة ليست مستحدثة، وهاك آراء الفقهاء من المذاهب الأربعة التي أجمعت على عدم جوازها.
1 – من الفقه المالكي:
روى الإمام مالك في الموطأ 2/663، باب النهي عن بيعتين في بيعة: أنه بلغه أن رجلا قال لرجل: ابتع لي هذا البعير بنقد، حتى ابتاعه منك إلى أجل، فسئل عن ذلك عبد الله بن عمر، فكرهه ونهى عنه.
وقال ابن جزي في القوانين الفقهية ص284: " إن العينة ثلاثة أقسام الأول: أن يقول رجل لآخر: اشتر لي سلعة بعشرة، وأعطيك خمسة عشر إلى أجل، فهذا (ربا) حرام. والثاني: أن يقول له: اشتر لي سلعة، وأنا أربحك فيها ولم يسم الثمن، فهذا مكروه. والثالث: أن يطلب السلعة عنده فلا يجدها، ثم يشتريها الآخر من غير أمره، ويقول: قد اشتريت السلعة التي طلبت مني، فاشترها مني إن شئت، فهذا جائز ". وانظر ابن رشد في المقدمات ص 538، والباجي في المنتقى 5/39، والشرح الكبير للدردير 3/89، والكافي لابن عبد البر 2/572.(5/848)
2 – من الفقه الشافعي
قال الإمام الشافعي في الأم 3/33، كتاب البيوع، باب في بيع العروض: " إذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال: أربحك فيها، بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعا، وإن شاء تركه. وهكذا إن قال: اشتر لي متاعا، ووصفه له، أو متاعا أي متاع شئت، وأنا أربحك فيه، فكل هذا سواء: يجوز البيع الأول، ويكون هذا فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال: ابتاعه (كذا أي ابتعه) أشتريه منك بنقد أو دين: يجوز البيع الأول، ويكونان بالخيار في البيع الآخر، فإن جدداه جاز. وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ من قبل شيئين: أحدهما أنه تبايعاه قبل يملكه (كذا صحيح مثل: قبل أن يملكه، خلافا لما ظنه بعض الكتاب) البائع، والثاني أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه " وانظر مقالي في المسلم المعاصر، ص 179- 189.
3- من الفقه الحنفي:
في كتاب الحيل للإمام محمد بن الحسن ص79 و127 رواية السرخسي: قلت: أرأيت رجلا أمر رجلا أن يشتري دارًا بألف درهم، وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم، فأراد المأمور شراء الدار، ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها، فتبقى في يد المأمور، كيف الحيلة في ذلك؟ قال: يشتري المأمور الدار على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام ( ... ) وإن لم يرغب الآمر في شرائها تمكن المأمور من ردها بشرط الخيار، فيدفع عنه الضرر بذلك. وانظر بيع المرابحة للأشقر ص46.
فلو كان من الممكن أن يكون الوعد بالبيع أو بالشراء ملزما لما احتاج المأمور أن يشتري بالخيار لثلاثة أيام أو غيرها. وفي النص ما يدل على أن " الآمر بالشراء " غير ملزم بالشراء، فقد يأمره بالشراء، ثم يبدو له ألا يشتري، ألا يرغب في الشراء، فهو بالخيار: إن شاء اشترى وإن شاء ترك.
4 – من الفقه الحنبلي:
في إعلام الموقعين 4 / 29 لابن القيم نص مثل هذا النص الذي تقدم في الفقه الحنفي. فلو كان الوعد ملزما لما اشترى المأمور بالخيار، ولما رجع الآمر عن رغبته.
وتجدر الإشارة إلى أن كلا من نص الإمام ابن القيم ونص الإمام محمد لم يرد فيهما ما يدل على أن المرابحة حالّة أو مؤجلة، لكن المهم فيهما أن الإلزام في المرابحة لا يجوز.
الوعد في المرابحة هل هو ملزم أو غير ملزم؟
ذكرنا أن المرابحة المصرفية تجري في المصارف الإسلامية، أو في فتاوى المفتين لها، على مرحلتين: مرحلة المواعدة، ثم مراحلة المعاقدة. فإذا اشترى المصرف السلعة، عرضها على العميل، فكان هذا العميل بالخيار، على رأي من خيره ولم يلزمه بوعده. أو كان ملزما بالشراء وإبرام عقد البيع، على رأي من ألزمه ولم يترك له الخيار.(5/849)
ومن المصارف الإسلامية التي أخذت بإلزام المصرف دون العميل المصارف السودانية التالية:
- بنك فيصل الإسلامي
- بنك التضامن الإسلامي
- بنك البركة
- البنك الإسلامي لغرب السودان (أحمد على عبد الله ص 253)
ولا ريب أن ذلك بتأثير الاتجاه السوداني الذي يتزعمه الدكتور الصديق الضرير.
والحقيقة أن الإلزام بالمواعدة ولو ملنا إليه، وأخذنا به على العموم، إلا أننا نجد أن الآخذ به في المرابحة يؤدي إلى محظورات شرعية، وهو ما بينته في مواضع متعددة، وبينه كذلك كل من الدكتور الصديق الضرير، والدكتور أحمد على عبد الله، والدكتور محمد سليمان الأشقر، والدكتور عبد الله العبادي والدكتور حسن عبد الله الأمين.
فهناك حالات لا يكون فيها الوعد ملزمًا، بل يجب فيها إخلافه، فلو وعد أحدهم، بل نذر أو حلف، أن لا يفعل خيرًا أو أن يفعل معصية أو حرامًا، ألا ترى أن عليه أن يخلف وعده، ويفعل الخير، ويمتنع عن المعصية والحرام، ويكفر عن يمينه إذا حلف؟ (انظر مقالي في الأمة، ص27) .
إذن لا يمكن القول بالإلزام بالوعد مطلقا، فبالإضافة إلى ما ذكر، فإن المتبايعين في خيار المجلس العقد أعطى لهما الشارع خيار المجلس (العبادي ص 59) ، ولا يستطيع أحد أن يتذرع بعدم الخيار مدعيا بأن الالتزام قد قام بينهما، أو أن المواعدة بينهما ملزمة.
والإلزام للطرفين، عند من ذهب إليه، يدخله أن إلزام العميل لا يتقابل ولا يتناظر تماما مع إلزام المصرف، ذلك بأن المصرف لا يلتزم حيال العميل إلا بعد شراء السلعة، فإذا رأى أن الشراء في مصلحته اشترى، وإلا فلا، وهذا من شأنه أن يؤدي في الواقع إلى إلزام العميل حقيقة والمصرف ظاهرًا.(5/850)
ومما يشكل أيضا أن إلزام العميل بالشراء، لا يمكن شرعا إذا لم يكن الثمن معلوما في وقت الإلزام، فمعلومية الثمن مطلوبة في كل بيع شرعي لأجل تحقيق التراضي، فكيف يتم التراضي على مجهول؟ وكذلك المواعدة إذا كانت ملزمة للعميل، فكيف يلتزم، والثمن الأول للمرابحة لم يعلم بعد؟ إن الذي دعا إلى العلم بالثمن في البيع هو نفسه الذي يدعو إلى العلم بالثمن في المواعدة الملزمة بالبيع ألا وهو التراضي على المعلوم، فالتراضي على مجهول غير متصور. إن الإلزام بالوعد في المرابحة يتنافى مع الرضا المطلوب شرعا في البيوع والتجارات (مقالي في الأمة ص26، وأحمد علي عبد الله ص215) ، ولا سيما على رأي من رأى أن للمصرف أن يشتري السلعة للعميل بدون تحديد الثمن في وقت المواعدة، بل بالاقتصار على تحديد نسبة الربح إلى التكلفة، فهذا رضا بالمجهول، والرضا بالمجهول لا يصح في البيع (قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/176، والطرق الحكمية لابن القيم ص264 حيث ذكر أن البيع " يعتبر فيه الرضا، والرضا يتبع العلم ") .
ومن اضطر إلى إخلاف وعده، دون أن يكون في نيته الكذب أو الإخلاف وقت المواعدة، فليس بمنافق ولا آثم. قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (التوبة 77 – 78) .
وفي بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي 5/237 ((العدة دين)) رواه الطبراني في الأوسط عن علي وابن مسعود (الفتح الكبير) ، ((والعدة عطية)) رواه أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود (الفتح الكبير) . فلا يقال إذن إن العدة دين بإطلاق، ولا عطية بإطلاق.
إن الله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده، لأنه عالم وقادر، بخلاف البشر، فإنهم يعدون أحيانا ولا يعقدون، لاحتمال الإخلاف نتيجة نقص علمهم وقدرتهم. فليس من المناسب أن نجعل الوعد ملزما كالعقد، ولا أن نجعل العقد كالوعد غير ملزم فلكل منهما دور ووظيفة لا يجب التعدي عليهما.
وقد بحث فقهاؤنا السابقون المواعدة في المعاوضات، بمناسبة الصرف (المواعدة في الصرف) ، فمنهم من أجاز المواعدة، ومنهم من لم يجزها، ولكن أحدا منهم لم يجعلها ملزمة، لأن الإلزام بها يؤدي إلى الربا، وإلى الصرف المؤجل (الأم 3/27، والمحلى 8/513، ومقدمات ابن رشد 2/181، والقوانين الفقهية لابن جزي ص276، والخرشي على خليل 5/38) .(5/851)
هذا وقد توسع بعض العلماء المعاصرين في الوعد الملزم، فأخذوا به في المرابحة، وفي المصارفة (محمد خاطر ص225 و288 و230، وفتاوى بيت التمويل الكويتي، ط 1، ص89- 90) ، وفي الإجازة التمويلية Leasing (قرارات مجمع الفقه الإسلامي بجدة، صحيفة الشرق الأوسط ليوم السبت 25/10/1986م ص10) ، وفي التأمين (الزرقا: نظام التأمين ص58 و131) ، وفي سندات المقارضة (سامي حمود: تصوير حقيقة سندات المقارضة ص7 من المذكرة) ، فاحتاج الأمر إلى دراسة منفردة لمسألة الوعد الملزم وتطبيقاتها المعاصرة، لتأصيل هذه المسألة ودراستها قبل الأخذ بها مفتاحا سحريا في كل مناسبة ومناسبة.
المالكية برغم قولهم بالوعد الملزم لم يصححوا الإلزام بالوعد في المرابحة
استند العلماء في المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي على مذهب المالكية في الوعد فقالوا: " إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقا لأحكام المذهب المالكي".
علي أن صور بيع المرابحة ليست جديدة على المذهب المالكي، ولم يرتضوا الإلزام فيها، برغم مذهبهم بالوعد الملزم قضاء، في بعض الحالات. فقد نُقل عن الإمام مالك أنه كره أن تكون بين الطرفين مواعدة أو عادة، بأن يقول له: ارجع إلي، (المنتقى للباجي 4/288. وانظر مصنف ابن أبي شيبة 6/434 و7/48 و253، ومصنف عبد الرزاق 8/ 232- 233، وسنن البيهقي 5/330، والمحلى 9/14) .
وروي عن الحسن أنه كان يكره أن يأتيك الرجل يساومك بشيء ليس عندك فتقول: ارجع إلي غدا، وأنت تنوي أن تبتاعه له. وعن طاوس. لا تؤامر ولا تواعد. قل: ليس عندي (مصنف عبد الرزاق 8/42) .
فلا يجوز إذن تجزئة العملية إلى جزأين: وعد، وبيع، ثم الاستعانة بإلزامية الوعد بما يؤدي إلى الغرر في البيع أو الربا أو ربح ما لم يضمن أو بيع ما ليس عنده أو أي محظور شرعي آخر.
وقد دافع بعضهم عن أن الإلزام بالوعد في البيع وسائر المعاوضات أولى منه في التبرعات (القرضاوي في كتابه ص 102- 103) ، فقلب بذلك القاعدة الفقهية المعروفة، وهي أن الغرر يغتقر منه في التبرعات ما لا يغتقر في المعاوضات (الصديق الضرير ص521)(5/852)
مناقشة الرأي القائل بالخيار للعميل والإلزام للمصرف
الدكتور الصديق الضرير شارك في المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي عام 1399هـ، وفي المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي بالكويت عام 1403هـ. وكان من المعارضين لإلزام الطرفين (المصرف، والعميل) بمواعدتهما، ومن المنافحين عن إلزام المصرف دون العميل.
وقد أشرف الدكتور الصديق على رسالة دكتوراة، وتوصل فيها صاحبها، وهو الدكتور أحمد علي عبد الله، إلى ما وصل إليه أستاذه المشرف.
ومن ناحية اعتراض الدكتور الصديق، والدكتور أحمد علي عبد الله، على الإلزام للعميل، يمكن اعتبارهما متفقين مع من يعترض على الإلزام للطرفين، فالحجج تكاد تكون واحدة (لكنها صلحت عندهما لتخيير العميل فقط، لا للطرفين معا) . ولا خلاف لي معهما في هذا الباب. وأشير هنا إلى أن الحكم الصحيح على مثل هذه المرابحة إنما يتوقف بشكل خاص على مدى التمكن من فهم الربا والغرر في الإسلام، والدكتور الصديق هو ممن كانت له عناية خاصة بدراسة الغرر، فقد كان موضوع رسالته للدكتوراة منذ عام 1386هـ- 1967م.
غير أنني لم أفهم كيف ارتضى أستاذنا الصديق إلزام المصرف دون العميل؟ قد يمكن القول بأن المصرف عنده مخير أيضا، لأن إلزامه لا يبدأ حيال العميل إلا بعد شراء السلعة. فإذا أراد ألا يلتزم أمكنه اختيار عدم شراء السلعة. وهذا ما يقرب رأيه من رأي أنصار الخيار للطرفين، وهو الرأي الصحيح المريح عندي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن إلزام المصرف، حتى عند أنصار إلزام الطرفين، لا يبدأ إلا بعد شراء المصرف للسلعة. ولهذا جعلوها في المرحلة الأولى مواعدة، فالمصرف لا يلتزم بوعده إلا إذا اشترى السلعة، والعميل يلتزم بوعده إذا اشترى المصرف السلعة.(5/853)
ولكني أرى أن الحكم الشرعي يجب أن يدور ههنا بين تخيير الطرفين معا أو إلزامهما معا، حتى يكونا على قدم المساواة، أي مستويين في الغنم والغرم، فكما تعرض للعميل أسباب تدفعه لعدم إمضاء وعده، فكذلك تعرض للمصرف مثل هذه الأسباب، كتغير سعر السلعة بين تاريخ المواعدة وتاريخ المعاقدة، أو انحراف المصاريف الواقعة عن المتوقعة، مثل مصاريف الشحن والتأمين والجمرك وأسعار صرف العملات، ولذلك لا أرى من الناحية الشرعية إلا وجوب اعتبار الطرفين في حالة خيار لا لزوم. فكيف نلزم المصرف بعد الشراء، ولا نلزم العميل لا قبل الشراء ولا بعده؟
وقد لاحظت أن الدكتور الصديق قد اعتمد على نص كتاب الأم للشافعي في استمداد الخيار للعميل والإلزام للمصرف. مع أن التأمل في نص الأم يفضي إلى خيار الطرفين لا إلى خيار أحدهما دون الآخر (راجع ما كتبته في مجلة المسلم المعاصر، ص184 و188، وأبو غدة ص14) .
قال في الأم 3/33: " ويكونان بالخيار في البيع الآخر، فإن جدداه جاز، وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ ".
الفرق بين المرابحة والوعد بالمرابحة
قد يتساءل: لماذا لجأ بعض الفقهاء المعاصرين إلى تقسيم العملية إلى مرحلتين: مرحلة مواعدة، ومرحلة معاقدة؟ فما دامت المواعدة، عند بعضهم ملزمة، فلماذا لم تنعقد العملية بيعًا منذ البداية؟ فأي فرق بين البيع والوعد بالبيع إذا كان الوعد ملزما؟
الجواب أن المصرف لا يملك السلعة عند المواعدة، وقد لا يستطيع شراءها لسبب أو لآخر، كارتفاع ثمنها أو غير ذلك. لذلك لجأوا إلى المواعدة، وهي حتى لو كانت ملزمة، إلا أنه يجب الانتباه إلى معنى الإلزام عندهم، حتى يلحظ الفرق بين البيع والوعد الملزم بالبيع.
فالمواعدة من جانب المصرف لا تصير ملزمة إلا بعد شرائه السلعة، والمصرف ليس ملزما بشراء السلعة، ولكنه إذا اشتراها صار ملزما ببيعها إلى العميل، سواء كان المذهب إلزام المصرف وحده دون العميل، أو كان المذهب إلزام الطرفين.
كما لجأوا إلى المواعدة (الملزمة) بدل البيع، لأن هناك نصوصا تمنع من بيع ما لا يملك، فاختاروا لفظ " المواعدة " بدل البيع حتى لا يتطابق بيع المرابحة المصرفية مع بيع ما لا يملك، ومع محرمات أخرى (كربح ما لا يضمن وخلافه) فجعلوها مواعدة أولًا على سبيل الهرب المؤقت من لفظ البيع، ثم ملزمة ثانيا على سبيل الرجوع إلى حقيقة البيع.(5/854)
تناقض بعض الكتاب في أمر المرابحة:
على الكاتب أن يتدبر ما يكتب، والتدبر معناه أن يرد الآخر على الأول، والأول على الآخر أي بأن يذكر في موضع ما قاله في الموضع الآخر، فلا يكون هناك تناقض يترك بلا إزالة.
ففي معرض الدفاع عن المرابحة المصرفية قد يقال لك: إن المصرف يتحمل تبعة الرد بعيب خفي. وفي معرض التطبيق أو الرغبة في التحصن من المخاطر قد يقال لك: إن المصرف يشترط على العميل إبراءه من كل عيب!
وفي معرض التهجم على بعض الكتاب، يقول أحدهم في موضع: إن المشتري مرابحة لا تكون لديه الخبرة في الشراء، ولا القدرة التنظيمية لإتمام عملية الشراء (محمد عبد الحليم عمر ص5) ، ثم يقول في موضع آخر، بعد خمس صفحات فقط: " قيام العميل بتحديد السلعة ومصدرها والسعر المبدئي لشرائها أمر طبيعي، لأنه الذي يحتاج السلعة، وهو أقدر على تحديد مواصفاتها، ويعرف مصادرها، ولديه خبرة بها " (محمد عبد الحليم ص10) .
وقد رأيت من رجاحة عقل الكاتب في تصميم استمارة المرابحة الملحقة بورقته، ما يجعلني أشك في جدية تهجمه المنوه به آنفا. فللكتاب لغات، وعلى القارئ أن يعرف اللغة المختارة للكاتب في التعبير عن موضوع ما، لكي يفهم مقاصده.
كواشف المرابحة (= روائز المرابحة)
بالاعتماد على بحوث العلماء والخلاف الجاري بينهم، قام الدكتور عبد الحميد البعلي في كتابه فقه المرابحة (ص184 – 200) بتصميم استمارة استقصاء لاستبيان مدى جدية بيع المرابحة المطبقة في مختلف المصارف الإسلامية: هل هو بيع حقيقي أم هو بيع صوري هل هو أقرب إلى البيع أم هو أقرب إلى القرض بزيادة؟
ثم طور الدكتور محمد عبد الحليم عمر هذه الاستمارة في ورقته " التفاصيل العملية لعقد المرابحة في النظام المصرفي الإسلامي ".
ويمكن الوقوف على مدى جدية المرابحة من خلال الكواشف (= الروائز) التالية:
- هل المواعدة غير ملزمة للمصرف والعميل، أم ملزمة لهما؟
- وإذا كانت المواعدة ملزمة، فهل ثمن البيع معلوم أم مجهول في مجلس المواعدة؟
- هل المصرف يقبض السلعة من بائعها، أم يقبضها العميل نفسه من البائع مباشرة، بتوكيل أو سواه من الأساليب؟
- هل قائمة حساب (= فاتورة) البيع وسائر الوثائق، كوثيقة الشحن والتأمين، تصدر باسم المصرف أم باسم العميل؟
- إذا كانت السلعة عقارا أو سيارة، فهل تسجل ملكيتها باسم المصرف أولًا، ثم باسم العميل ثانيا، أم تسجل باسم العميل مرة واحدة، لكي لا يدفع إلا رسم تسجيل واحد؟ (حمود: تطبيقات ص16، ومحمد عبد الحليم عمر ص16، وشحادة ص6، 16، 22) .(5/855)
- هل المصرف يتحمل تبعة الرد بعيب خفي، أم يشترط على العميل براءته من كل عيب؟ (محمد فهيم خان ص23، ومحمد عبد الحليم عمر ص19) .
- إذا ظهر عيب في السلعة، أو سلمها البائع (أو المصدر) ناقصة، أو مختلفة المواصفات؟ (البعلي ص181، وأحمد علي عبد الله ص266) .
- هل هناك فعلا سلعة حقيقية، أم أن السلعة وهمية والمراد فقط هو القرض بمنفعة؟، (محمد فهيم خان ص3) .
- هل المصرف هو الذي يشتري السلعة فعلا، بحيث يكون خبيرًا بالسلعة وأسواقها، ويتصل بالباعة الموردين؟ أم أن هذا العمل يقع على عاتق العميل، فهو الذي يحدد السلعة وبائعها؟ " قارن زاد المعاد لابن القيم 5/816، والبعلي ص103 و163".
- هل المصرف يشتري السلعة لنفسه أم للعميل؟
- هل المصرف يشتري السلعة بنفسه أم يوكل العميل بالشراء؟
- هل المصرف يملك الأجهزة الفنية والإدارية الخبيرة بتجارة السلع، أم أن أجهزته لا تتعدى الأجهزة المعتادة في المصارف الأخرى التي تقوم عملياتها على التمويل والائتمان والمتاجرة بالنقود والديون؟ (القرنشاوي ص7) .
- هل المصرف يشتري السلعة من البائع بدون كفالة عميله أم بكفالة عميله؟ (أبو غدة ص24) .
إذا كان الجواب بالثاني لا بالأول كانت العملية أقرب إلى المراباة منها إلى المرابحة، أو أقرب إلى الحرام منها إلى الحلال. وكلما كثرت الأجوبة بالثاني كانت العملية أقرب إلى الصور والحيل والشكليات الورقية والعكس بالعكس.(5/856)
حد التباس المرابحة بالمراباة
في ضوء ما ذكرناه في " كواشف المرابحة " كلما كان الجواب بالأول لا بالثاني كان الفرق أوضح بين المرابحة والمراباة، وكلما تزايدت الأجوبة بالثاني غمض الفرق بينهما وتضاءل إلى حد قد يصل إلى التلاشي الكامل.
وربما وصل الأمر إلى ما هو أسوأ من الربا، وذلك في حالات الربا الحرام عن طريق الحيل، فالحيلة لا تحل الربا بل تزيده حرمة، ففي الحيلة معنى الاستهزاء والسخرية، نعوذ بالله.
ولعل هذا الاتجاه الشكلي في الفتوى أو في التطبيق هو الذي كان وراء توجه المصارف الأجنبية إلى المرابحة واستساغتها لها، فهي تضيف على المشتري نسبة إلى الثمن النقدي، لا تختلف كثيرا في المحصلة عن خصم نسبة من الثمن المؤجل، عن البائع.
يقول الدكتور سامي حمود: " تنبهت البنوك الأجنبية إلى صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء، وأحدثت صورا من التعامل الذي تتوسط فيه لشراء سلع أو معادن، بالنقد، من طرف، لبيعها إلى طرف آخر بالأجل، بفارق ربح يتوازى مع أسعار الفائدة الرائجة. وقد اجتذبت هذه الطريقة مئات الملايين من أموال البنوك الإسلامية والمستثمرين الإسلاميين، بسبب توافر المواد، وانتظام الأسواق" (حمود: تطبيقات ص11) .
ويقول أريك ترول شولتز: " كما يظهر في التقرير السنوي لسنة 1985م، فإن التجربة العملية للمصرف الإسلامي الدولي الدانماركي، في ضوء أهدافه المزدوجة، قد أثبت أن أي مصرف دانماركي يمكن أن يتعامل بموجب الشريعة الإسلامية تماما " (شولتز ص3) .
وذكر الدكتور منذر قحف " أن عددا من المصرفيين الغربيين الذين شاركوا في ندوة لندن 31/10- 1 / 11/1985م لم يروا فيه (أي في بيع المرابحة) اختلافا عن التمويل الربوي إلا من حيث الشكل (قحف ص8) .
لا ريب أن التحول من الاقتصاد الربوي إلى الاقتصاد الإسلامي أصعب مما يتصوره هؤلاء الغربيون، وهؤلاء الذين يعتقدون أن الأمر لا يحتاج لأكثر من محاولات إضفاء الشرعية على قوانين الغرب وأعرافه وتقاليده، على علم بهذه القوانين والأعراف والتقاليد أو على غير علم بها.(5/857)
المرابحة الملزمة وسد الذرائع
ظن بعض العلماء أن المرابحة الملزمة حرام فقط عند من يقول بسد الذرائع (القرضاوي في كتابه ص55) .
والحق أن الإمام الشافعي قد صرح في الأم بحرمة الإلزام فيها، مع أنه لا يقول بسد الذرائع في العينة أو بيوع الآجال، كما تقول المالكية (راجع كتب أصول الفقه، سد الذرائع، وما كتبه الأستاذ محمد أبو زهرة في كتابه عن الإمام مالك ص 369، وكتابه الآخر عن الإمام الشافعي".
قال الإمام الشافعي في الأم 3/33: " وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول، فهو مفسوخ من قبل شيئين، أحدهما أنه تبايعا قبل يملكه البائع، والثاني أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه". والمخاطرة هي الغرر، فقد يتمكن من شرائه بالثمن المحدد أو لا يتمكن.
وهكذا ترى أن المرابحة بوعد ملزم لم تجز لا عند الشافعية الذين يضيقون من مبدأ سد الذرائع، ولا عند المالكية الذين يتوسعون في سد الذرائع (راجع نصوص المذاهب في موضع آخر من هذه الدراسة) .(5/858)
المرابحة الملزمة والحيل
يتوسع بعض المذاهب، أو بعض الفقهاء، في الأخذ بالحيل الفقهية في المعاملات المالية وغيرها، حتى تشعر أنك أحيانا أمام جملة من الألاعيب والأبواب والمخارج المضحكة والمبكية في آن واحد معا.
ومن أحسن من تصدى لهذه الحيل شيخ الإسلام ابن تيمية في " كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل"، المطبوع مع الفتاوى الكبرى طبعة دار المعرفة، ج3، ص97 –405، وغير المطبوع مع الطبعة السعودية للفتاوى، وكذلك تلميذه ابن القيم في كتابه " إعلام الموقعين "، فإني أرتضي مذهبهما في محاربة الحيل، حفاظا على جمال الشريعة وكمالها، وحفاظا على جدية المسلمين وأصالتهم، ودفعا لهم إلى الابتكار والبعد عن التقليد والتلفيق والدوران في آفاق محدودة.
وقد استشهد بعض أنصار الإلزام بالوعد في المرابحة بحديث التمر ((بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) (متفق عليه) ، ورأوا أن الفرق بين (التمر بالتمر) و (التمر بالنقد، ثم النقد بالتمر) مجرد فرق في الصورة (القرضاوي في كتابه ص 44 – 45) .
وهذا غير مسلم، لأن الذي باع الجمع بالدراهم، هو بعد ذلك قد يشتري الجنيب من هذا البائع نفسه أو من غيره. ولو كان ملزما بالشراء من البائع نفسه لأمكنهم القول أنه مجرد فرق في الصورة، ولكن هيهات!
للشريعة مقاصد، وللعقود مقاصد، لابد من الحفاظ عليها. ومقصد العميل من اللجوء إلى المصرف هو الحصول على المال. نعم له غرض بالسلعة المطلوبة، ولكن غرضه يتحقق باللجوء إلى بائعها مباشرة، ولولا حاجته للمال لما لجأ إلى المصرف. والمصرف إذا كان مصرفا فعلا فلا غرض له من التعامل بالسلع، يقبضها حقيقة لإعادة بيعها في زمان آخر أو مكان، كتجار السلع.(5/859)
المرابحة الملزمة والتلفيق
اعتمد أنصار الإلزام بالوعد في المرابحة على التلفيق بين المذاهب، فاخذوا من الإمام الشافعي مرابحته، وتركوا له خياره، وأخذوا من المالكية وعدهم وتركوا لهم مرابحتهم، فقد رأى المالكية إمكان الإلزام القضائي بالواعد في تعض الحالات، فطبقه أنصار الإلزام على هذه الحالة، فخرجوا بنص فقهي لم يقل به فقيه.
وهذا التلفيق لم يكن من النوع الجائز، لما دخله من اعتراضات شرعية. وإذا شاع التلفيق في عصر ومصر، فلابد من وضع ضوابط له وحدود، وإلا لأمكن بالتدريج، لا سمح الله، استباحة كثير من المكروهات أو المحرمات.
ومعلوم في الشرع أنه قد يجمع بين أمرين، كل منهما جائز على انفراد، ولكن جمعهما حرام. فالسلف (= القرض) منفردا جائز، والبيع كذلك جائز، ولكن لم يجز الجمع بينهما، كما في السنة النبوية، لإفضاء هذا الجمع إلى محظور، وهو أخذ منفعة (= فائدة) السلف من ربح البيع (انظر كتابي: ربا القروض ص22) .
ولم يعترف بعضهم بالتقليد والتلفيق بين المذاهب في هذه المسألة، مع أن ذلك واضح في فتاوى المفتين في المصارف والمؤتمرات وبحوث الباحثين، وقد كان حاضرا هذه الفتاوى والمؤتمرات، وكان من الواضح أن نص الإمام الشافعي قد حذفت من آخره القطعة التي فيها الحرمة الصريحة للإلزام، لتستبدل بها قطعة أخرى من المذهب المالكي فيها الإلزام في موضوع آخر. ولكن الكاتب ذكر أنه يجتهد ولا يقلد، وإن وافق مذهبا في جزء وغيره في جزء آخر (القرضاوي في مقاله ص12) . لاشك أن الاجتهاد في شيء سبق الاجتهاد فيه، إذا وصل صاحبه إلى رأي مخالف، عليه أن يرد على الاجتهادات كلها، ولا يصح تجاوزها وغض النظر عنها.
المرابحة الملزمة وخصم الأوراق التجارية
المرابحة المصرفية اقترحت في الأصل بديلًا لعملية خصم الأوراق التجارية (= الخصم المصرفي) (حمود: تطوير، ط 2، ص430 – 431) والموسوعة العلمية والعملية، 5/498 – 500 و506 و1/28- 29) . ولكنها بالإلزام لا تختلف عن الخصم إلا في أن المال فيها يمنحه المصرف الوسيط إلى الشاري، وفي الخصم إلى البائع. ففي كل منهما ثلاثة أطراف: بائع حقيقي، ومشتر حقيقي، ومصرف وسيط. وقد ذكر أصحاب المرابحة أن هذا الخط التمويلي أو الائتماني يبدأ من المستهلك لا من التاجر. مع ما في هذا من أن العميل قد يكون أيضا تاجرا لا مستهلكًا، وهو الغالب.
وإذا صح أنها تمويل استهلاكي ثلاثي الأطراف، فهي تشبه في الغرب نظام التمويل المعروف بـ" بطاقة الائتمان " credit card, carte de credit وتفصيل هذا في غير هذا الموضع.
وقد حاول بعضهم أن يجيب عن هذا بأن الخصم المصرفي مبادلة نقد بنقد والمرابحة سلعة بنقد (حسن الأمين ص89، وأبو غدة ص.2) . ولكن الناقد قد غفل عن أن تشبيه المرابحة بالخصم يختص بالمرابحة ذات الوعد الملزم، وهي التي تؤول إلى نقد بنقد أكثر منه، والسلعة لغو.(5/860)
آراء منقحة
الدكتور عبد الستار أبو غدة عضو هيئة الرقابة الشرعية في بيت التمويل الكويتي، والمراقب الشرعي للبنك الإسلامي في الدانمارك، قد انتقد في ورقته " أسلوب المرابحة والجوانب الشرعية التطبيقية في المصارف الإسلامية "، الذين انتقدوا المرابحة المصرفية الملزمة (أي ذات المواعدة الملزمة) . ومع ذلك فقد توصل، بعد صمت طويل، إلى أن " الحقيقة أن زوال الشبهة تماما هو في القول بعدم لزوم الوعد رغم ما يحف بذلك من المخاطر التي لا تخلو عنها طبيعة التجارة؛ وأسلوب المرابحة، أسلوب تجاري، وليس أسلوبا مصرفيا للتمويل دون مخاطر" (أبو غدة ص14) . فيستفاد من كلامه:
1 – أن رأيه بعدم لزوم الوعد.
2- وأن ذلك فيه مخاطر، ولكن هذا من شأن التجارة، والمرابحة منها.
3 – المرابحة الجائزة ليست أسلوبا مصرفيا للتمويل على المضمون، بل هي أسلوب تجاري من شأنه أن يعرض الآخذ به للمخاطرة.
ولكن لفظ " تماما " قد يفهم منه أن لزوم الوعد فيه شبهة، ولا بأس عنده بالعمل به مع بعض الشبهة، وأن عدم اللزوم يصفي العملية من كل شبهة.
والأستاذ مصطفى الزرقا كان من بين العلماء الذين اشتركوا في المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي الذي انعقد في دبي في الفترة 23- 25 جمادى الآخرة 1399هـ (= 20-22مايو 1979م) ، ووافق على الإلزام في المرابحة. وأكد موافقته هذه في ورقته عن " المصارف " (ص12- 13) (وانظر أيضا كتاب قراءات في الاقتصاد الإسلامي ص 336 حيث أعيد فيه طبع الورقة نفسها؛ وانظر الفتاوى الشرعية لبيت التمويل الكويتي ص 71) .(5/861)
غير أنه كتب مؤخرا في مجلة المجتمع الكويتي (العدد 843لعام 1408هـ = 1987م) أن " الأمر الذي يمكن أن يلام عليه القائمون على هذه المؤسسات الإسلامية الهامة هو أخذهم بطريق جانبي في إدارة الأعمال الاستثمارية وتركهم للطريق الرئيسي والطبيعي. وأعني بذلك أنه عندما تأسست " بيوت الاستثمار" كان أمامها طريقان: أن تنزل إلى السوق وتنفذ مشاريعها الاستثمارية بصورة مباشرة، فتدير أعمالها بنفسها، أو بالمشاركة في مؤسسات تجارية عاملة في مجالات التجارة والصناعة، وهو الطريق الرئيسي المطلوب منها، والطريق الجانبي هو " المرابحة " ( ... ) لقد بدأت " بيوت الاستثمار" بالطريق الأول الطبيعي، وهو الاستثمار المباشر، لكنها ما لبثت أن انحرفت عنه إلى طريق المرابحة، والسبب في ذلك أن القائمين على بعض تلك البيوت الاستثمارية لا يريدون تحمل مسؤوليات العمل الاستثماري في السوق. فالمرابحة طريقة مريحة للبنك، وتتم في المكاتب وعلى المناضد المريحة، وبدون مشقة، فالعميل يحدد المصدر وجهة الشراء، ووظيفة البنك الشراء، وممارسة الأعمال الورقية المكتبية (....) ما تفعله بعض بيوت الاستثمار أنها تختصر العقدين في عقد واحد، بل ويطلبون من العميل التوقيع على وثيقة تلزمه بتحمل جميع المسؤوليات والمصاريف بل وحتى التأمين على البضاعة. فهذا الاختصار الذي أرادوا به الراحة وعدم تحمل المشقة أوقعهم في ملاحظات شرعية وانتقاد من العملاء الذين شكك بعضهم بالفرق بين هذا الأسلوب في المرابحة وبين ما تفعله البنوك الربوية العادية (ص27) .
وتعليقا على كلام الأستاذ الزرقا نقول:
1- إن بعض الفقهاء أيضا مسؤولون، لأن القائمين على أمر المصارف إذا رأوا أن ما يفتي به هؤلاء الفقهاء هو مجرد حيل، فإنهم يرون من الجدية أن ينفذوا الأمر بلا حيلة ولا تطويل ولا كلفة.
2- اعتبر الأستاذ الزرقاء أن المرابحة طريق ثانوي (جانبي) ولو جازت.
3- اعتبر التوسع فيها انحرافا عن الجادة.
4 – رأى أن المرابحة أعمال مكتبية ورقية مريحة.
5 – ذكر أن العميل هو الذي يحدد جهة الشراء (المورد) .
6 – يختصر أحيانا الطريق، فيجعل عقدان في عقد.
7 – قد يوقع العميل وثيقة تلزمه بتحمل كل المسؤوليات.
8 – ربما يعتبر هذا الكلام تنقيحا لرأيه السابق. فقد كان من الضروري أن يبين المفتي درجة ثقته بفتواه، وشروط تطبيقها، ومكانة العملية في سلم المصالح (المرابحة بالنسبة للقراض أو الشركة) .
وأخيرا يبدو أن الدكتور على أحمد السالوس كان تحفظ على الإلزام مع المتحفظين في المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي. ولكنه اليوم عضو هيئة الرقابة الشرعية في مصرف قطر الإسلامي التي أفتت بجواز الإلزام، ولا أدري إن كان رجع عن رأيه.(5/862)
المصرف الإسلامي هل هو وسيط مالي يتاجر بالنقود والديون أم هو تاجر سلع؟
عن قصد أو غير قصد، لم يتعرض المفتون وكثير من الدارسين لهوية المصرف الإسلامي، هل هو وسيط مالي يتاجر بالنقود والقروض، ويتجنب المتاجرة بالسلعة كالبضائع والعقارات وغيرها، أم هو تاجر سلع يتجنب المتاجرة بالنقود والقروض. فالمصارف (الربوية) كما بين الدكتور جمال الدين عطية تحل الربا لنفسها وتحرم البيع (مجلة الأمة، العدد 56 لعام 1405 هـ، ص46) ، أما المصارف الإسلامية فهي تحرم الربا على نفسها وتحل البيع كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة 275] .
وتنص النظم المصرفية على أن المصارف لا يجوز لها شراء العقارات بقصد بيعها، وإذا آل إليها عقار، فعليها التصرف به خلال مدة قصيرة، سنتين أو ثلاث على الأكثر. كما تحظر على المصارف العمل بتجارة الجملة أو التجزئة، أو بالاستيراد أو التصدير (انظر على سبيل المثال المادة 10 من نظام مراقبة البنوك في المملكة العربية السعودية) .
والظاهر أن المصارف الإسلامية تتأرجح بين البيع وسواه، فتود البيع ولكن من دون تحمل أعبائه؛ وتحاول اجتناب الربا، ولكن دون الدخول في عمق البيع. وترى في كتابة البعض تأرجحًا مماثلًا بين اعتبار المصرف الإسلامي بائع سلع، أو وسيطا ماليا أو بيت تمويل (القرضاوي في كتابه ص110) .
ولاشك أن إطلاق لفظ المصرف أو بيت التمويل على أي منشأة إنما يفيد معنى معروفا هو الاقتراض والإقراض والمتاجرة بالقرض والنقود، عن طريق عمليات الائتمان والمصارفة.
فكلما جنح المصرف الإسلامي نحو حقيقة البيع كان أقرب إلى تاجر السلع، ولا معنى لإطلاق لفظ المصرف عليه، وكلما جنح نحو صورة البيع كان أقرب إلى تاجر القروض والنقود، أي إلى المصرف معنى ولفظًا.
ولو تفكر العلماء في هذا لسهلت عليهم الفتوى فيما بعد، ولصدروا في كل جزئية عن هذه الكلية، عن هذه الهوية، ولما كان لكل فتوى هوية (قحف ص6) .
الخاتمة
1 – بيع المرابحة بالمعنى الفقهي المنقول في كتب الفقه القديم جائز عند جمهور الفقهاء، ولا نأخذ فيه بقول من قال أنه ربا، أو إنه بيع أعاجم، أو أن المساومة أفضل منه، فلكل دور. وربح البائع فيه يكون في مقابل خبرته وجهده ووقته ومخاطرته. والحكمة من هذا البيع هي أن المشتري قد يكون جاهلا بالسلع وأثمانها، وله ثقة بخبرة البائع مرابحة وأمانة، ويفضل أن يشتري بناء على أمانة البائع، لا بناء على مساومته ومماكسته.
2 – بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية يقوم على شراء المصرف سلعة بطلب عميله، بثمن معجل، ومن ثم بيعها إليه بثمن مؤجل، وذلك بناء على مواعدة بينهما، ملزمة في بعض المصارف، وغير ملزمة في مصارف أخرى. وفي كل الأحوال لا تكون ملزمة للمصرف إلا إذا اشترى المصرف السلعة.(5/863)
3 – يحتل بيع المرابحة للآمر بالشراء، في المصارف الإسلامية، مكانة مهمة إذا ما قورن بعمليات المشاركة والقراض، حتى إن بعض المصارف تكاد تقصر عملياتها التمويلية عليه. وذلك لأن مال المصرف فيه يكون مضمونا بأصله وربحه معا، في صورة تدفقات نقدية معلومة المبالغ والآجال مسبقا.
4 – عبارة " بيع المرابحة للآمر بالشراء " أفضل منها عبارة " بيع المرابحة للواعد بالشراء "، لأن لفظ " الآمر " يفيد أن المصرف مأمور، أي كأنه وكيل مأجور، أو يفيد على الأقل أن الطرفين (المصرف والعميل) ملزمان، في حين أن بعض المصارف لا تلزم العميل.
وقد يمكن تسمية العملية أيضًا " مواعدة على المرابحة "، سواء كانت المواعدة ملزمة بعد ذلك أو غير ملزمة.
5 – لا يحسن أن يكون المصرف وكيلا للآمر بأجر، خشية اجتماع الإجارة والقرض، لأن المصرف يقبض أجرة الوكالة مع كونه مقرضا، وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف)) ، والإجارة ضرب من البيع (بيع المنافع) .
وذلك لما في هذا من فتح الذريعة لأخذ منفعة السلفة من ربح البيع.
6 – لبيع المرابحة للآمر بالشراء، في نظر أنصاره مزايا. فبالإضافة إلى ما ذكر من مزايا الضمان للأصل والعائد، والمعلومية المسبقة للتدفقات النقدية لأقساط استرداد التمويل، هناك أيضا بعض العمليات التي لا يمكن تمويلها بطريق القراض أو المضاربة، حيث لا يكون ثمة ربح يتم الاشتراك فيه، أو حيث لا تمكن الشركة، مثل عمليات القطاع العام؛ أو حيث لا تراد الشركة.
7 – هناك فروق بين المرابحة بمفهومها الفقهي المنقول في كبت الفقه القديم، والمرابحة بمفهومها المصرفي الإسلامي الحديث، وقد بينا هذه الفروق في فصل خاص.
8 – المرابحة في المصارف الإسلامية غالبا ما تكون مرابحة مؤجلة، لا حالة ومن الجائز عند جمهور الفقهاء أن يكون الثمن المؤجل أعلى من الثمن الحالي، وقد برهنت على صحة هذا الرأي وقوته في مقالي " الحسم الزمني في الإسلام " عام 1405هـ، ثم زدته تفصيلا وتوثيقا في مقالي " القول الفصل في بيع الأجل" عام 1406هـ، لمواجهة من قال إن زيادة الثمن الآجل على العاجل ربا محرم، ثم بسطته في كتابي " الربا والحسم الزمني " عام 1406هـ، ولدي الآن صيغة منقحة ومزيدة بالمعلومات والمراجع، أرجو نشرها قريبا.
فلا شك عندي نقلًا ولا عقلًا في جواز أن يكون الثمن المؤجل أعلى من المعجل، وهذا مهم لطمأنة إدارة المصارف الإسلامية وعملائها والمتعاملين معها من مودعين ومساهمين.(5/864)
9 – ولكن جواز الفرق بين الثمن المؤجل والمعجل لا يجوز الاستناد إليه لتمرير بعض الحيل الربوية، مثل بيع العينة، أو ما يماثله من حيل تستند إلى الحلال وصولا إلى الحرام.
والعينة هي أن يبيعه شيئا بثمن مؤجل، ثم يشتريه منه بثمن معجل، وهي عند الفقهاء جميعًا حرام ديانة إذا كانت نية المتعاملين الحيلة الربوية، وحرام قضاء عند الفقهاء الذين سدوا الذرائع. وسد الذرائع ثابت بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد منع بيع الذهب بالذهب بفضل ونساء كي يسد الطريق على المقرضين بالربا أن يلجأوا إلى مثل هذا البيع. كما منع بيع الذهب بالفضة نساء، كي يسد الذريعة إلى عقد القرض بالذهب يرد بالفضة، أو بالعكس، لا سيما وأن منفعة الذهب والفضة واحدة، فكلاهما نقد. كما ثبت سد الذرائع بحديث النهي عن بيع وسلف، كي لا يتوصل إلى منفعة السلف من ربح البيع. وهناك نصوص شرعية أخرى، لكننا اخترنا ما هو مفيد في هذا السياق.
ومن المحتمل جدا أن يلجأ المرابون إلى البيع لتحقيق أغراضهم، فقد حرم الله الربا وأحل البيع. وقد يصبح جواز الفرق بين الثمنين المؤجل والمعجل مرتعًا لأهل العينة للوصول إلى مآربهم الربوية.
ولهذا يجب التنبه إلى الفرق بين بيوع الأجل وبيوع الآجال، فبيوع الأجل جائزة، ولو بثمن مختلف باختلاف الأجل، أما بيوع الآجال فهي بيوع مختلفة الآجال تتقابل وتتعاكس لتصبح السلعة فيها لغوا، وليخلص أصحابها إلى مقصودهم وهو القرض بزيادة.
لقد توسعت في هذا دفعا لما رأيته من التباس في أذهان البعض.
10 – المرابحة في المصارف الإسلامية تختلف صورها من مصرف إلى آخر، باختلاف إدارته وهيئة الرقابة الشرعية فيه. فهي بيع جاد في بعض المصارف، وصوري في مصارف أخرى، وبينهما درجات.(5/865)
11- المرابحة المصرفية ليست عملية مستحدثه كما ذكر البعض. وقد سبق لي أن أشرت إلى هذا في مقالي حول الموضوع بمجلة المسلم المعاصر عام 1402هـ، ثم في مجلة الأمة القطرية عام 1406 هـ، كما أشار إلى هذا عدد من الباحثين، منهم الدكتور أحمد علي عبد الله في رسالته للدكتوراه عن " المرابحة " عام 1407هـ.
وقد ضربت، في هذه الورقة، عددا من الأمثلة على قِدم هذه العملية، من التاريخ القديم والحديث، مثل نظام المرابحة المطبق في العهد العثماني، والمرابحة في كتاب متأخري الحنفية، كابن عابدين في حاشيته وعقوده الدرية، والشيباني النحلاوي في درره المباحة.
12- المرابحة المصرفية إذا كانت المواعدة فيها ملزمة فهي غير جائزة بإجماع المذاهب الأربعة، ولا نعلم لها مخالفا. وقد ذكرنا نصوصا في الموضوع من كل مذهب من المذاهب المذكورة.
13 – بينا عددًا من الأدلة على عدم جواز الإلزام بالمواعدة في المرابحة، لما في هذا الإلزام من محظورات شرعية وعقلية تترتب عليه.
14- توسع بعض العلماء المعاصرين في الأخذ بالمواعدة أولًا، ثم في الإلزام بها ثانيا، حتى صارت حلًا سحريا لعدد من المشكلات والقضايا القانونية المعاصرة، كالتأمين والإجارة التمويلية والمصارفة وسندات المقارضة والمرابحة.. إلخ. فوجب إفراد دراسات مستقلة لهذه المواعدة وتطبيقاتها الحديثة، فما هو موجود منها حتى الآن لا يشفي غليل الباحث.
15 – استند بعض العلماء المعاصرين إلى مذهب المالكية في الوعد متى يكون ملزمًا قضاء، وذلك لتجويز المواعدة في المرابحة، هذا والمالكية أنفسهم قد بحثوا هذه المرابحة ولم يجيزوا فيها الإلزام. فلا يصح طرد قاعدة الإلزام في الوعد حتى لو سلمنا بمذهب الإلزام به في الجملة.
16 – زعم بعض الباحثين المعاصرين أن الإلزام بالوعد في المعاوضات أولى من الإلزام به في التبرعات، فكان في هذا خروج على أحكام الغرر وقواعده، منها قاعدة الغرر يغتفر منه في التبرعات ما لا يغتفر منه في المعاوضات.
17- الأستاذ الدكتور الصديق الضرير، والدكتور أحمد علي عبد الله، يريان جواز إلزام المصرف بوعده، إذا اشترى السلعة، دون العميل. وقد بينت أوجه مخالفتي لهذا الرأي، في موضعها من هذه الورقة، ورأيت أن أستاذنا الكريم الدكتور الصديق قد بنى رأيه على نص كتاب الأم للشافعي، فأخذ منه جواز الإلزام للمصرف والخيار للعميل، وإني أختلف معه في هذا النص الذي فهمت منه ضرورة الخيار لكل منهما.(5/866)
18 – بينت الفرق بين المرابحة والوعد بالمرابحة إذا كان ملزمًا أي بينت لماذا لجأ بعض العلماء المعاصرين إلى تقسيم العملية إلى مواعدة ثم مرابحة.
19 – بينت أيضا تناقض بعض الكتاب في أمر المرابحة. فهنا يقولون لك: " إن المصرف يتحمل تبعة الرد بعيب خفى "، وهناك يقولون لك: " إن المصرف يشترط على العميل إبراءه من كل عيب "!.
وفي موضع يقولون " إن العميل ليست لديه الخبرة في الشراء، ولا القدرة التنظيمية والإدارية عليه ". وفي موضع آخر " إن العميل هو الذي يحدد السلعة وبائعها وثمنها، لأنه أكثر خبرة وقدره "!.
20- وضعت بالاستناد إلى دراساتي ودراسات الباحثين السابقة رائزًا (= كاشفًا) للمرابحة على صورة أسئلة لاختبار مدى جدية المرابحة أو صوريتها.
ومن فوائد هذا الرائز أنه يجمع الفتاوى المشتتة في مشهد شامل، للوقوف على اتجاهها الكلي، وتجميع جزئياتها، واستخراج كوامنها.
21- ذكرت أمثلة وشواهد على الحالات التي لا يكاد يرى فيها الفرق بين المرابحة والمراباة.
22- أوضحت، خلافًا للبعض، أن المواعدة الملزمة في المرابحة لا تجوز لا عند الفقهاء المتوسعين في الذرائع، ولا عند غيرهم.
23- تغلب الحيل على بعض صور المرابحة، والحيل من الأمور الفقهية الدقيقة، وهي أوضح ما تكون دراسة لدى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
وقد استدل بعضهم بحديث التمر، ولم ير فرقًا بين (التمر بالتمر) و (التمر بالنقد، ثم النقد بالتمر) إلا في الصورة. وقد دفعت هذا التوهم بأن من يشتري التمر بالنقد ليس ملزما بعد ذلك بالشراء من البائع نفسه، ولو كان ملزما أو مقيدا بذلك لأمكن الاستدلال للحيلة بهذا الحديث.
24- يجب ألا يغيب عن البال في كل فتوى وبحث مقاصد الشريعة ومقاصد العقود، ولا يجوز بحال تفريغ الشريعة من جوهرها، ولا العقود من مقاصدها، ولا المعاملات من روحها.(5/867)
25 – ليس التلفيق جائزًا في كل حال. وقبل استمراء التلفيق، يحسن وضع ضوابط وقواعد لهذا التلفيق. ومن البدهي أن العلماء الجديرين بوضع هذه الضوابط والقواعد ليسوا علماء التلفيق أنفسهم، بل هم علماء الاجتهاد والابتكار والأفق العلمي الواسع.
ولا يجوز التلفيق أولًا، ثم الادعاء لتصحيحه بأن هذا الرأي مبنى على اجتهاد مطلق.
26 – المواعدة الملزمة في المرابحة تجعل العملية غير مختلفة عن عملية خصم الأوراق التجارية لدى المصارف. فالمرابحة مبلغ يزيده المصرف على الشاري، والخصم مبلغ يقتطعه المصرف من البائع، الأول ربا والثاني حطيطة.
27 – ربما تكشف لبعض علماء العصر ما في الإلزام بالمواعدة من آثار سلبية، فجعلتهم يبدون وساوسهم وشكوكهم، فسجلوا تراجعا ولو جزئيا عن آرائهم.
28 – من المهم جدا لاستقامة الفتوى والبحث أن تحدد أولًا هوية المصرف الإسلامي هل هو تاجر سلع أم هو تاحر نقود وديون (= وسيط مالي) ؟
يبدو أن وضع المصرف في نظر الكثير من المفتين والباحثين: بين بين، فلا هو وسيط مالي تماما فلا يختلف إذن عن غيره، ولا هو تاجر سلع تماما فتنتفي عنه صفة المصرف بالمرة: عيني ببيع السلع، ولا أقدم عليه، إقدام على البيع شرعا، وإحجام عنه تطبيقا.. هذا هو سر التأرجح! (قارن زاد المعاد لابن القيم 5/816، وفقه المرابحة للبعلي ص103 و163) .
29- والخلاصة أنني من الناحية الشرعية مع العلماء الذين قالوا بالخيار لكل من المصرف والعميل، وهم الشيخ عبد العزيز بن باز، والدكتور محمد سليمان الأشقر، ومن لحق بهذا الرأي مؤخرًا، تمامًا أو على تردد، ومن هو على هذا الرأي ولكنه لم ينشره، أو لم يجد مناسبة لنشره.
30 – أن خدمة الاقتصاد الإسلامي لا تكون إلا من طريق الأصالة والابتكار وكد الذهن، ولا تكون إلا من طريق الحلال المؤيد بكل أداة قوية من أدوات الاستدلال.
لقد توسعت في الخاتمة، عسى لضيق الأوقات أن لا يقرأ بعضهم من هذه الورقة غيرها.
وهذا ما بلغ العلم القاصر، وفوق كل ذي علم عليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
د/ رفيق يونس المصري(5/868)
المراجع
- ابن أبي شيبة: المصنف في الأحاديث والآثار، الدار السلفية، بومباي (الهند) ، ط1، 1400هـ = 1980م.
- ابن تيمية: الفتاوى الكبرى، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
- ابن جزي: القوانين الفقهية، عالم الفكر، القاهرة، ط1، 1975م.
- ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، طبعة رئاسة إدارات البحوث، الرياض، د. ت.
- ابن حزم: المحلى، دار الآفاق الجديدة، بيروت، د. ت.
- ابن رشد (الحفيد) : بداية المجتهد ونهاية المقتصد، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، د. ت.
- ابن رشد (الجد) : المقدمات، دار صادر، بيروت، د. ت.
- ابن عابدين: حاشية رد المحتار على الدر المختار، دار الفكر، بيروت، 1399هـ =1979 م.
- ابن عابدين: العقود الدرية، دارا لمعرفة، بيروت، ط2، د. ت.
- ابن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تعليق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، ط2، 1400هـ = 1980 م.
- ابن قدامة: المغنى مع الشرح الكبير، دار الكتاب العربي، بيروت 1392هـ = 1972م.
- ابن القيم: إعلام الموقعين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، ط1، 1374 هـ = 1955م.
- ابن القيم: زاد المعاد في هدي خير العباد. تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، 1402هـ = 1982م.(5/869)
- ابن القيم: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت.
- الباجي: المنتقى شرح موطأ الإمام مالك، دار الكتاب العربي، بيروت، د. ت.
- البيهقي: السنن الكبرى، دار الفكر، بيروت، د. ت.
- أبو عبيد: الأموال، تحقيق محمد حامد الفقي، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1353 هـ.
- الخرشي: الخرشي على مختصر خليل، دار صادر، بيروت، د. ت.
- الدسوقي: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، دار الفكر، بيروت، د. ت.
- الشافعي: الأم، طبعة دار الشعب، القاهرة، د. ت.
- الشيباني النحلاوي: الدرر المباحة في الحظر والإباحة.
- الشربيني: مغنى المحتاج، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1374 هـ = 1955م.
- عبد الرزاق: المصنف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمى، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1403هـ = 1983م.
- العيني: البناية في شرح الهداية، دار الفكر، بيروت، ط1، 1401 هـ = 1981م
- الفيروز آبادي: بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز، المكتبة العلمية، بيروت، د. ت.
- مالك: الموطأ، تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، د. ت.(5/870)
مراجع أخرى
- أبو زهرة: الشافعي، دار الفكر العربي، القاهرة، د. ت.
- أبو زهرة: مالك، دار الفكر العربي، القاهرة، 1978 م.
- خاطر (محمد) : جهاد في رفع بلوى الربا، بدون ناشر، وبدون تاريخ.
- الزرقا (مصطفى) : المصارف، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، 1404هـ. ومنشور أيضا في كتاب " قراءات في الاقتصاد الإسلامي "، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، ط1، 1407 هـ = 1987 م.
- الزرقا (مصطفى) : نظام التأمين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1404 هـ.
- السنهوري (عبد الرزاق) : مصادر الحق في الفقه الإسلامي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.
- صادر (يوسف) : مجموعة القوانين، بيروت. 1929 م.
- الضرير (الصديق محمد الأمين) : الغرر وأثره في العقود، بدون ناشر، القاهرة، ط1، 1386هـ = 1967 م.
- المصري (رفيق يونس) : الحسم الزمني في الإسلام، مجلة المال والاقتصاد، بنك فيصل الإسلامي السوداني، الخرطوم، العدد 2، لعام 1405هـ = 1985 م.
- المصري (رفيق يونس) : الربا والحسم الزمني في الاقتصاد الإسلامي، دار حافظ، جدة، ط2 –1، 1406هـ = 1986 م.
- المصري (رفيق يونس) : ربا القروض وأدلة تحريمه، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة،1408هـ.
- المصري (رفيق يونس) : القول الفصل في بيع الأجل، مجلة الأمة القطرية، العدد 66 لعام 1406 هـ= 1986 م.
- مؤسسة النقد العربي السعودي: نظام مراقبة البنوك، صدر بموجب المرسوم الملكي رقم م /5 وتاريخ 22 / 2/ 1368 هـ، الرياض.
- الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية، الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، ج 5 الشرعي، القاهرة، ط1، 1402 هـ = 1982م.(5/871)
مراجع في بيع المرابحة للآمر بالشراء
(قائمة مرتبة زمنيا)
- سامي حسن حمود: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية القاهرة، ط1، 1396 هـ.
- رفيق يونس المصري: كشف الغطاء عن بيع المرابحة للآمر بالشراء، في مجلة المسلم المعاصر، العدد 32، لعام 1402 هـ.
- حسن عبد الله الأمين: الاستثمار اللاربوي في نطاق عقد المرابحة، ورقة مقدمة إلى المؤتمر الثاني للاقتصاد الإسلامي، المنعقد في إسلام آباد 19- 23 آذار (مارس) 1983 م، ومنشورة في مجلة المسلم المعاصر، العدد 35، لعام 1403هـ.
- محمد سليمان الأشقر: بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية، ورقة مقدمة إلى المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي، المنعقد في الكويت (بيت التمويل الكويتي) 6 – 8 جمادى الآخرة 1403هـ = 21- 23 آذار (مارس) 1983م، ومنشورة لدى مكتبة الفلاح، الكويت، ط1، 1404هـ = 1984 م.
- عبد الرحمن عبد الخالق: شرعية المعاملات التي تقوم بها البنوك الإسلامية المعاصرة، مجلة الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، العدد 59، لعام 1403 هـ.
- سامي حسن حمود: رد على نقد حول بيع المرابحة للآمر بالشراء، في مجلة المسلم المعاصر،. العدد 36 لعام 1403 هـ.
- عبد الحميد البعلى: فقه المرابحة، نشر الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، د. ت. ثم نشر موسعا بعنوان " فقه المرابحة في التطبيق الاقتصادي المعاصر"، نشر السلام العالمية للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت.(5/872)
- بدر عبد الله المطوع: المرابحة في البنوك الإسلامية ومناقشة وضعها على ضوء الأدلة، دون ناشر ولا تاريخ.
- يوسف القرضاوي: بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية، دار القلم، الكويت، 1404 هـ.
- عبد الله العبادي: المرابحة والفوارق الأساسية بينها وبين السلم، مجلة منار الإسلام، العدد 6 لعام 1405هـ.
- رفيق يونس المصري: بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية، في مجلة الأمة القطرية، العدد 61 لعام 1406 هـ، وصحيفة " المسلمون " العدد 37 لعام 1406 هـ.
- يوسف القرضاوي: بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية، في مجلة الأمة القطرية، العدد 64 لعام 1406 هـ، وصحيفة " المسلمون " العدد 54 لعام 1406هـ.
- محمد الشحات الجندي: عقد المرابحة بين الفقه الإسلامي والتعامل المصرفي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1406هـ.
- أحمد علي عبد الله: المرابحة أصولها وأحكامها وتطبيقاتها في المصارف الإسلامية (رسالة دكتوراة بإشراف الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير) ، الدار السودانية للكتب الخرطوم، ط1، 1407 هـ = 1987 م.
- أوراق ندوة استراتيجية الاستثمار في البنوك الإسلامية، بالتعاون بين المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب (البنك الإسلامي للتنمية) ، المنعقدة خلال المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي في الفترة 22 – 25شوال 1407هـ = 18 – 21 حزيران (يونيو) 1987م، في عمان (المملكة الأردنية الهاشمية) :
* حاتم القرنشاوي: الجوانب الاجتماعية والاقتصادية لتطبيق عقد المرابحة.
* محمد فهيم خان: تطبيق عقد المرابحة في البنوك التجارية في باكستان.
* موسى شحادة: تجربة البنك الإسلامي الأردني.
* ايريك ترول شولتز: تجربة البنك الإسلامي في الدانمارك.
* شوقي إسماعيل شحاتة: تجربة بنوك فيصل الإسلامية، عقد المرابحة.
* محمد عبد الحليم عمر: التفاصيل العملية لعقد المرابحة في النظام المصرفي الإسلامي (مع استمارة استقصاء) .
* إسماعيل عبد الرحيم شلبي: الجوانب القانونية لتطبيق عقد المرابحة.
* أوصاف أحمد: الأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفي الإسلامي.
* سامي حسن حمود: تطبيقات بيوع المرابحة للآمر بالشراء.
* عبد الستار أبو غدة: أسلوب المرابحة والجوانب الشرعية التطبيقية في المصارف الإسلامية.
* منذر قحف: تعليق على الورقة السابقة.(5/873)
نظرة إلى عقد
المرابحة للآمر بالشراء
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
مسئول العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الدولية
وعضو مجمع الفقه الإسلامي
عن إيران
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد البشرية محمد خاتم الأنبياء وآله وصحبه
ربما أدعي الإجماع على صحة بيع المرابحة وهو (البيع مع الإخبار برأس المال ونوع الزيادة عليه) ووردت في ذلك روايات كثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام) منها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال – سألته عن الرجل يبيع السلعة ويشترط أن له نصفها: ثم يبيعها مرابحة أيحل له ذلك؟ قال: لا بأس (1) .
ورواية علي بن سعيد قال: سئل أبو عبد الله عن رجل يبتاع ثوبًا فيطلب مني مرابحة ترى ببيع المرابحة بأسا إذا أصدق في المرابحة وسمى ربحا دانقين أو نصف درهم؟ قال: لا بأس.
إلا أنه وردت أدلة أخرى على كراهتها من قبيل ما رواه محمد بن مسلم قال قال الصادق (عليه السلام) : إني أكره بيع عشرة بإحدى عشرة ولكن أبيعك بكذا وكذا مساومة فقال: أتاني متاع من مصر فكرهت أن أبيعه كذلك وعظم علي فبعته مساومة " (2) .
ولكي يتم التأكد من وقوع هذا البيع على الوجه الصحيح رأينا الفقهاء يشترطون شروطًا كثيرة فيه من قبيل:
العلم بقدر الثمن وقدر الربح والغرامة والمؤن.
ذكر البائع لما طرأ من نقص بعد الشراء.
ذكر البائع للأجل إذا كان الثمن مؤجلًا.
ذكر البائع لما عمله في السلعة
إذا كان البائع دلالًا فإنه يقول: تقوم علي بكذا ولا يقول ... اشتريته بكذا الثمن على البائع أن يسقط الأرش المأخوذ من مجموع الثمن لأن الأرش جزء الثمن إلى ما هنالك من شروط يشترطونها لتحقيق تلك الغاية وهي مقتضى الأمانة فإذا تبين بعد ذلك تخلف أي من هذه الشروط كان البائع آثمًا ولكن البيع صحيح يتخير فيه المشتري بين الأخذ بالثمن والرد.
بعد هذه المقدمة نركز على موضوع
__________
(1) وسائل الشيعة ج12 من أحكام العقود، ج3، 1
(2) وسائل الشيعة ج12 باب 12 من أحكام العقود ج4(5/874)
المرابحة للآمر بالشراء
فنقول: إن المعروف من هذه المعاملة يلخصها بأنها عملية يتقدم فيها شخص إلى آخر ليقوم هذا الآخر بشراء سلعة بأوصاف معينة ويعده الشخص الأول بشرائها منه مرابحة بنسبة يتفق عليها معه مقسطة وللعملية مراحل:
طلب الأول من الثاني شراء سلعة معينة.
وعد الثاني للأول بأنه سيشتري السلعة ويبيعها له.
وعد الأول للثاني بأنه سوف يشتري السلعة مرابحة بنسبة معينة بالأقساط شراء الثاني للسلعة.
بيعها للأول مرابحة
فما حكم هذه المعاملة؟
لا ريب في أنها معاملة صحيحة إذا كان فيها رضا الطرفين إلى نهاية المطاف لأنها تحقق كل مقومات العقد المقبول شرعًا أما إذا أردنا أن ندخل عنصر الإلزام في البين فهل يمكننا ذلك؟ وهل تصح المعاملة؟
أما إدخال عنصر الإلزام في معاملة غير ملزمة في الأصل – لو افترضنا ذلك – فهو ممكن من جهة ولا يضر من جهة أخرى.
ذلك أن الإلزام قد يأتي من شرط في عقد آخر، أو من نذر أو من يمين وحينئذ يكون ملزمًا ولا يغير من ماهية المعاملة ولا تنافي بينه وبين كونها في الأصل غير ملزمة.
ولكن هل يكفي الوعد هنا في تحقيق الإلزام؟
وفي الجواب لا بد من الرجوع إلى البحث التفصيلي في هذا الموضوع، ولكن نقول إجمالًا: بأن الوعد قد يكون ابتدائيًا دون أي أثر يترتب عليه، وهنا قد يمكن القول بأنه غير ملزم وقد يكون بمعنى التعهد والالتزام، وحينئذ فهناك من الأدلة ما يدعو بكل قوة للإلزام به – وفي طليعتها أدلة الوفاء بالوعد والعهد.
وكذلك للفهم العرفي لهذا الوعد على أساس الوجوب مما يجعله مصداقًا لقاعدة (المؤمنون عند شروطهم) .
ثم إنه يمكن القول بأن الوعد الابتدائي الآنف ذكره، إذا ترتب عليه ضرر عاد مصداقًا لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وقد يقال هنا إن عدم الربح ليس من الضرر وإنما هو من عدم النفع، ولا يمكن القول هنا بأن حديث ((لا ضرر)) يشمل الواعد أيضًا لأنه هو الذي أوقع نفسه في هذا الضرر.(5/875)
كل هذا كان طبق القواعد الأولية في التعامل مع الحوادث، إلا أنه تطرح في البين أدلة خاصة يقال عنها إنها تخالف مقتضى القواعد الأولية، وهذه الأدلة هي:
1- دخول هذه المعاملة تحت عنوان بيع العينة المنهى عنه.
2 – دخولها تحت عنوان (لا تبع ما ليس عندك) .
3 – دخولها تحت عنوان النهي عن بيعتين في بيعة.
4 – دخولها تحت عنوان المخاطرة.
5 – دخولها تحت عنوان السلف والزيادة.
وهنا نقول في هذا الصدد.
إن هذه المعاملة لا تدخل تحت عنوان بيع العينة.
ذلك أن بيع العينة يصور بصور متفاوتة منها:
أن تباع السلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها البائع من المشتري بثمن معجل أقل مما باع به.
ومنها: أن يبيع صاحب السلعة سلعته نقدا، ثم يشتريها من المشترى نسيئة بمقدار أكثر قيمة – وهذه هي الصورة التي وردت فيها روايات الإمامية ومنها:
أن يبيع صاحب السلعة سلعته نسيئة بالسعر السوقي، ثم يشتريها منه بأقل من السعر السوقي نقدًا.
وعلى أي حال فقد وردت نصوص الإمامية، ببطلان هذه المعاملة منها صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر قال: سأله عن الرجل باع ثوبا بعشرة دراهم إلى أجل ثم اشترها بخمسة دراهم بنقد أيحل؟ قال: إذا لم يشترطا ورضيا فلا بأس (1) وهي بمفهوم الشرط تدل على البطلان عند الاشتراط.
وعلى أي حال فإن هذا العنوان لا ينطبق على ما نحن فيه رغم وجود عنصر الإلزام في المعاملتين.
__________
(1) وسائل الشيعة ج 12 باب 5 من أحكام العقد حديث 6(5/876)
كما أن عقدنا هذا لا يندرج تحت " بيع ما لا يملك " فإن عقد البيع إنما يقع بعد شراء البنك للسلعة ووضعها بين يدى العميل، وقبل ذلك لا يوجد إلا وعد بالبيع على أن بعض الفقهاء ذكروا أن المراد من حديث " لا تبع ما ليس عندك " النهي عن بيع العبد الآبق أو الجمل الشارد، حيث لا يتمكن المشتري فيه من تسلم المبيع ولا البائع من تسليمه، ويحصل منه الضرر، وهذا احتمال وجيه جدًا ويؤكده الفهم العرفي للأحاديث.
أما بالنسبة لمصداقية العقد لحديث (بيعتين في بيعة) فيقال فيه إن هذا الحديث وارد فيما إذا تمت المعاملة بعقدين كاملين وهنا قبل قبض العين لا يوجد بيع وإنما يوجد وعد بالبيع.
أما بالنسبة للمخاطرة فهو ما لم نتبين وجهه وربما كان في عدم الإلزام مخاطرة. وأخيرا فهل يمكن أن نعد هذه المعاملة من الربا، أو السلف والزيادة؟ الصحيح أنه لا يمكن عده كذلك لترتب أحكام الملكية، والبيع حقيقة على هذا المورد، فلو تلفت العين قبل بيعها تلفت من مالكها، فكيف يمكن عده تحايلًا على الربا؟ وهذا الجواب نقوله أيضا لمن قال بأن هذه المعاملة هي بيع نقد بنقد أكثر منه إلى أجل (بينهما سلعة محللة) غايته قرض بفائدة.
والواقع أن كل بيع نسيئة أو بنقد يتضمن هذا المعنى فهل نحرم كل البيوع؟!(5/877)
رأي الإمامية في هذه المعاملة:
يلتزم الإمامية ببطلان مثل هذه المعاملة إذا كانت على نحو الإلزام للنصوص الكثيرة الواردة عن أهل البيت ومنها:
1- صحيحة معاوية بن عمار قال: قلت للصادق (ع) : يجيئني الرجل فيطلب " منى" بيع الحرير، وليس عنده منه شيء، فيقاولني عليه، وأقاوله في الربح والأجل حتى نجتمع على شيء ثم أذهب فاشتري له الحرير فأدعوه إليه، فقال: أرأيت إن وجد بيعًا هو أحب إليه مما عندك أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك؟ أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه؟ قلت: نعم. قال فلا بأس (1) وهذه الرواية واضحة الدلالة على أن الإلزام في هذه المعاملة الثانية يوجد فيها البأس وهو معنى البطلان، وأما إذا كانت المعاملة الثانية خالية من الإلزام للمشتري وللبائع فلا بأس بها.
2- صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت الصادق (ع) عن العينة فقلت يأتيني الرجل فيقول: اشتر المتاع واربح فيه كذا وكذا، فأراوضه على الشيء من الربح فنتراضى به، ثم أنطلق فأشتري المتاع من أجله، لولا مكانه لم أرده، ثم آتيه به فأبيعه، فقال: ما أرى بهذا بأسًا – لو هلك منه المتاع قبل أن تبيعه إياه كان من مالك، وهذا عليك بالخيار إن شاء اشتراه بعد ما تأتيه، وإن شاء رده فلست أرى به بأسًا (2) .
3- صحيحة منصور بن حازم قال: " قلت للصادق (ع) الرجل يريد أن يتعين من الرجل عينة، فيقول له الرجل: أنا أبعد بحاجتي منك، فأعطني حتى أشتري فيأخذ الدراهم فيشتري حاجته ثم يجيء، بها الرجل الذي له المال فيدفعه إليه، فقال: أليس إن شاء اشترى وإن شاء ترك، وإن شاء البائع باعه وإن شاء لم يبع؟ قلت نعم، قال: لا بأس (3) .
4 – وعن منصور بن حازم أيضًا قال: " سألت الصادق (ع) عن رجل طلب من رجل ثوبًا بعينة قال: ليس عندي. هذه دراهم فخذها فاشتر بها، فأخذها فاشترى بها ثوبا كما يريد، ثم جاء به أن يشتريه منه؟ فقال: أليس إن ذهب الثوب ثمن مال الذي أعطاه الدراهم؟ قلت: بلى، قال: إن شاء اشترى، وإن شاء لم يشتر؟
قلت: نعم، قال: لا بأس (4) .
__________
(1) وسائل الشيعة /ج1/ باب 8 من أحكام العقود /ج7
(2) وسائل الشيعة / ج12/باب 8 من أحكام العقود / ج9
(3) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج11
(4) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج12(5/878)
5- صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق قال: " سألت أبا الحسن (ع) عن العينة وقلت إن عامة تجارنا اليوم يعطون العينة، فأقص عليك كيف نعمل؟ قال: هات، قلت: يأتينا المساوم يريد المال فيساومنا وليس عندنا متاع، فيقول: أربحك " ده يازده"، وأقول أنا " ده دوازده " فلا نزال نترواض حتى نتراوض على أمر فإذا فرغنا قال: قلت أي متاع أحب إليك أن أشتري لك؟ فيقول: الحرير لأنه لا يجد شيئا أقل وضيعة منه، فأذهب وقد قاولته من غير مبايعة، فقال: أليس إن شئت لم تعطه، وإن شاء لم يأخذ منك؟ قلت: بلى، قال: فأذهب فأشتري له ذلك الحرير وأماكس بقدر جهدي، ثم أجيء به إلى بيتي فأبايعه، فربما أزددت عليه القليل على المقاولة، وربما أعطيته على ما قاولته، وربما تعاسرنا فلم يكن شيء فإذا اشترى مني ... فقال: أليس إنه لو شاء لم يفعل ولو شئت أنت لم تزد؟ فقلت: بلى لو أنه هلك فمن مالي، قال: لا بأس بهذا، إذا أنت لم تعد هذا فلا بأس به " (1) .
6 – وعن خالد بن الحجاج قال: " قلت للصادق (ع) الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا، قال: أليس إن شاء ترك، وإن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال: لا بأس به ... " (2) .
ولا بأس بالتنبيه: إلى وجود روايات تصحح هذه العملية من دون تفصيل بين صورة وجود الإلزام وعدمه، ولكن بواسطة هذه الروايات المتقدمة نعيدها بصورة عدم وجود الإلزام. فمن تلك الروايات المطلقة:
1 – " عن ابن سنان عن الإمام الصادق (ع) قال: " لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع ليس عندك تساومه، ثم تشتري له نحو الذي طلب، ثم توجبه على نفسك ثم تبيعه منه بعد " (3) .
2 – وروى عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: " سألت الصادق (ع) عن الرجل يأتيني بطلب مني بيعًا وليس عندي ما يريد أن أبايعه به إلى السنة أيصلح لي أن أعده حتى أشتري متاعًا فأبيعه منه؟ قال: نعم " (4) .
__________
(1) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج14
(2) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج4
(3) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج1
(4) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج5، 8(5/879)
3 – صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (ع) قال: " سألته عن رجل أتاه رجل فقال: ابتع لي متاعًا لعلي أشتريه منك بنقد أو نسيئة، فابتاعه الرجل من أجله، قال: ليس به بأس إنما يشتريه منه بعد ما يملكه" (1) .
وهناك صورة أخرى لمعاملة المرابحة للآمر بالشراء خلاصتها أن يقول الأول للثاني اشتر لي سلعة بعشرة دراهم نقدًا وأنا أشتريها منك باثنى عشر درهمًا إلى أجل.
وهذه معاملة باطلة وهناك نص صحيح يدل على ذلك.
فعن محمد بن قيس عن أبي جعفر (ع) قال قضى أمير المؤمنين (ع) في رجل أمره نفر ليبتاع لهم بعيرًا بنقد ويزيدونه فوق ذلك نظرة فابتاع لهم بعيرًا ومعه بعضهم فمنعه أن يأخذ منهم فوق ورقه نظرة.
وتبطل أيضا صورة أخرى وهي ما لو قال الأول للثاني اشتر لي سلعة باثنى عشر إلى أجل وأنا أشتريها منك بعشرة نقدًا.
ويمكن أن يقال إن الروايات الآنفة شاملة لجميع هذه الصور في روحها، ولذا نفتي بعدم جواز هذه المعاملة إن كان فيها إلزام، اللهم إلا أن يأتي الإلزام من مصدر آخر كالنذر والعهد والشرط ضمن معاملة أخرى لازمة، فحينئذ يمكن التصحيح، إلا أن يقول أحد بأن الشارع قصد من مثل هذه المعاملة عدم الإلزام، وأصر عليه نظير إصراره على بقاء بعض الأمور مباحة، كالطلاق والزواج فلا يمكن الإلزام أو الالتزام بعدمه، وهذا القول رغم كونه قابلًا للتأمل لا يمكن الالتزام به كما نعتقد، كما أنه قد يقال بأن الشرط ضمن معاملة أخرى لازمة غير صحيح في هذا المورد، لأنه يعني إيجاب شيء لم يستوجب. وعلى أي حال يكفى النذر والعهد مع وجود إلزام حكومي للفرد بالعمل بما التزم به فيهما.
الشيخ / محمد علي التسخيري
__________
(1) وسائل الشيعة / ج12 / باب 8 من أحكام العقود / ج5، 8(5/880)
بيع المرابحة في الإصطلاح الشرعي
وآراء الفقهاء المتقدمين
فيه
إعداد
الشيخ محمد عبده عمر
باحث علمي في المركز اليمني للأبحاث الثقافية
بوزارة الثقافة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله. والصلاة والسلام على من قال: الدين المعاملة: أبي القاسم محمد خاتم الأنبياء وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وترسم خطاه إلى يوم الدين. وبعد.
فهذا بحث في موضوع: بيع المرابحة للآمر بالشراء.
واستجابة لرغبة مجمع الفقه الإسلامي المتضمنة خطاب سماحة أمينه العام المؤرخ 15 / 8/ 1408هـ في الكتابة في المواضيع التي تعرض على المجمع في دورته الخامسة المزمع انعقادها في ديسمبر 88 م بدولة الكويت الشقيق فقد وقع اختياري على المواضيع التالية:
منزلة العرف من الأدلة الشرعية، وقد فرغت من الكتابة فيه. والآخر: بيع المرابحة.
وهو ما سوف نتناوله في بحثنا هذا إن شاء الله وقد قسم إلى المباحث التالية:
1- المبحث الأول:
تعريف بيع المرابحة في الاصطلاح الشرعي وآراء الفقهاء المتقدمين فيه.
2- المبحث الثاني:
الإشارة إلى السوابق التاريخية للموضوع وما طرح فيه من أنظار شرعية إلخ.
3- المبحث الثالث:
النظرة الفقهية إلى أدلة الخلاف ووجه الدلالة منها ومخارج الاستدلال. هذا والله وحده الهادف إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.(5/881)
المبحث الأول:
1- تعريف المرابحة في الاصطلاح الشرعي: هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحًا كأن يقول البائع أنا اشتريت هذه السلعة بمائة دينار أو هي علينا بمائة دينار وأبيعك إياها بمائة وعشرة. وهناك عدة تعاريف وكلها تدور حول هذا المعنى وكلها تعني الزيادة على رأس المال. فعند الحنفية: المرابحة: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح. وقال بعض المالكية: المرابحة عبارة عن بيع السلعة بالثمن المشتراه به مع زيادة ربح معلوم للمتعاقدين: أما الحنابلة فقالوا: هو البيع برأس المال وربح معلوم. هذه التعاريف متقاربة المعنى كما نجدها مشتركة في مدلولها اللغوي: فالمرابحة في اللغة مشتقة من رابح واربح وكلا اللفظين يعنيان البيع أو الشراء بزيادة على رأس المال وهو الربح (1) وهذا هو المعنى الشرعي لمعنى المرابحة فاجتمع المدلول اللغوي مع المدلول الشرعي في الاصطلاح. وهذا التعريف للمرابحة ليس هو المقصود هنا بالبحث لأن بيع المرابحة بالتعريف المتقدم يكاد ينعقد الإجماع على صحته عند العلماء سلفا وخلفا بل إنه قد نقل الإجماع على صحة بيع المرابحة بالمعنى المتقدم وإن كان البعض من العلماء يفضل بيع المساومة عليه وهذا خلاف أفضلية وليس خلاف في عدم صحة بيع المرابحة. فبحثنا هذا لا يتعلق ببيع المرابحة بالمعنى الآنف الذكر على اعتبار أنه ليس هناك أي خلاف في صحته وجوازه وإن كانت هناك خلافات جزئية تفصيلية بين الفقهاء سلفا وخلفا وهذا شيء متعارف عليه بين الفقهاء في مسائل عديدة من فقه المعاملات وإن كنا لا بد وأن نتناول بيع المرابحة بالمعنى المذكور ولكنه ليس مقصودا لذاته بل لتحرير المسألة التي يتعلق بها بحثنا هذا وللإيضاح الكافي الذي يجلي المسألة المراد بحثها من أي ملابسة عملا بالقاعدة الفقهية المشهورة: الحكم على الشيء فرع عن تصوره ولكن بحثنا يتعلق بصورة التعامل التي تزاولها البنوك والمصارف الإسلامية تحت عنوان: بيع المرابحة للآمر بالشراء وصورتها: أن يتقدم العميل إلى البنك أو المصرف طالبا منه شراء سلعة معينة بالمواصفات التي يحددها على أساس الوعد منه أي من العميل بشراء تلك السلعة اللازمة له فعلا مرابحة بالنسبة التي يتفقان عليها ويدفع الثمن مقسطا حسب إمكانيته. فهذه الصورة كما يفهم من التعريف ذات شقين: أحدهما عندما يأتي العميل إلى البنك طالبا منه شراء سلعة معينة أو موصوفة ليست عند البنك فيعده البنك بأنه سيشتري السلعة التي يطلبها العميل ويبيعها له ويعده أي يعد العميل البنك بأنه سوف يشتري السلعة عند ما يقدمها البنك. وفي هذه الفترة يحددان الشراء والربح وطريقة الدفع نقدا أو مؤجلًا أو مقسطًا، وبعض المصارف أو البنوك تطلب دفع عربون مقدما.
والسلعة المطلوبة قد لا تكون موجودة في الأسواق المحلية فيستوردها البنك من الخارج.
2- الشق الآخر: إبرام العقد وتبدأ بعد شراء البنك البضاعة وعرضها على العميل وقبوله لها: ما حكم هذه المعاملة في فقه الشريعة الإسلامية؟ فهذه هي نقطة البحث التي تتعلق بها الأنظار الشرعية. وإن كانت كما تقدمت الإشارة أتناول في البداية الموضوع بصفة عامة لتحرير وإيضاح نقطة البحث لا أكثر من ذلك.
المبحث الثاني: الإشارة إلى السوابق التاريخية للموضوع وما طرح فيه من أنظار شرعية إلخ.
__________
(1) انظر مادة ربح في لسان العرب. المغني لابن قدامة 4/136. البداية والنهاية لابن رشد 2/214(5/882)
تقدمت الإشارة إلى أن بيع المرابحة بالتعريف الفقهي المتقدم باستثناء تعريف نقطة البحث من البيوع الجائزة بين الفقهاء ويشترط في بيع المرابحة ما يشترط في البيع بصفة عامة ويختص بشروط خاصة أهم ما فيها علم المتابيعين برأس المال والربح كأن يقول البائع: رأس مالي مائة وربح عشرة. وفي هذا المبحث مسائل لا بد من تناولها. منها ما هو الذي يعد من رأس المال مما لا يعد وفي صفة رأس المال الذي يجوز أن يبنى عليه الربح. والأخرى حكم ما وقع من الزيادة أو النقصان في خبر البائع بالثمن.
فأما ما يعد في الثمن مما لا يعد: أي مما ينوب البائع على السلعة زائد على الثمن فإن المالكية يقسمونه إلى ثلاثة أقسام: قسم يعد في أصل الثمن ويكون له حظ من الربح. وقسم يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح وقسم لا يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح. فأما الذي يحسب في رأس المال ولا يجعل له حظ من الربح فهو الذي لا يؤثر في عين السلعة مما لا يمكن البائع أن يتولاه صاحب السلعة بنفسه كالسمسرة والطي والشد وقال أبو حنيفة بل يحتمل على ثمن السلعة كل ما نابه عليها وقال أبو ثور: لا تجوز المرابحة إلا بالثمن الذي اشترى به السلعة فقط. إلا أن يفصل ويفسخ عند البيع إن وقع، قال: لأنه كذب لأنه يقول: أي صاحب السلعة ثمن سلعتي كذا وكذا وليس الأمر كذلك وهو عنده أي عند أبي ثور من باب الغش. وأما الذي يحسب في رأس المال ويجعل له حظ من الربح فهو ما كان مؤثرا في عين السلعة مثل الخياطة والصباغ. وأما صفة رأس المال: أي الثمن الذي يجوز أن يخبر به فإن مالكًا والليث بن سعد قالا فيمن اشترى سلعة بدنانير والصرف يوم اشتراها صرف معلوم ثم باعها بدنانير تختلف عن الدنانير التي اشترى بها أو بدراهم والصرف قد تغير إلى زيادة أنه ليس له أن يطلب سعر الصرف الذي كان يوم شرائه للسلعة. كما اختلف بعض فقهاء المالكية: فيمن ابتاع سلعة بعروض هل يجوز له أن يبيعها مرابحة أم لا يجوز فقال ابن القاسم يجوز له بيعها بالثمن الذي اشتراها به من العروض ولا يجوز له على القيمة. وقال أشهب: لا يجوز لمن اشترى سلعة من العروض أن يبيعها مرابحة لأنه يطالبه بعروض على صفة عرضه. وفي الغالب لا يكون عنده فهو من باب بيع ما ليس عنده. كما اختلف مالك وأبو حنيفة فيمن اشترى سلعة بدنانير ثم أخذ بالدنانير عروضا أو دراهم فهل يجوز له بيعها مرابحة دون أن يعلم (1) بما نقد أم لا يجوز؟ فقال مالك لا يجوز إلا أن يعلم بما نقد وقال أبو حنيفة يجوز أن يبيعها منه مرابحة على الدنانير التي ابتاعها: أي التي ابتاع بها السلعة دون العروض التي أعطى فيها أو الدراهم. وقال مالك أيضا فيمن اشترى سلعة بأجل فباعها مرابحة أنه لا يجوز حتى يعلم بالأجل وقال الشافعي إن وقع كان للمشترى مثل أجله. وقال أبو ثور هو كالعيب وله الرد به أما حكم ما وقع فيه من الزيادة والنقصان في خبر البائع بالثمن. فقد اختلف فيه فقهاء السلف ومن هذه المسائل مسألة من ابتاع سلعة مرابحة على ثمن ذكره ثم ظهر بعد ذلك إما بإقراره أو ببينة أنه كان أقل، والسلعة قائمة فقال مالك وجماعة: المشتري بالخيار.
__________
(1) انظر البداية والنهاية لابن رشد المرجع السابق(5/883)
إما أن يأخذ بالثمن الذي صح أو يترك إذا لم يلزمه البائع أخذها بالثمن الذي صح، وإن ألزمه لزمه. وقال أبو حنيفة ونفر بل المشتري بالخيار على الإطلاق ولا يلزمه الأخذ بالثمن الذي إن ألزمه البائع لزمه. وقال الثوري وابن أبي ليلى وأحمد وجماعة بل يبقى البيع لازمًا لهما بعد حط الزيادة وعن الشافعي قولان قول بالخيار مطلقا وقول باللزوم بعد الحط وحجة من أوجب البيع بعد الحط أن المشتري إنما أربحه على ما ابتاع به السلعة لا غير ذلك فلما ظهر خلاف ما قال وجب أن يرجع إلى الذي ظهر كما لو أخذه بكيل معلوم فخرج بغير ذلك الكيل إنه يلزمه توفية ذلك الكيل. وحجة من رأى أنه الخيار مطلقًا تشبيه الكذب في هذه المسألة بالعيب أعنى أنه كما يوجب العيب الخيار كذلك يوجب الكذب.
وأما إذا فاتت السلعة فقال الشافعي يحط مقدار ما زاد من الثمن وما وجب له من الربح وقال مالك: إن كانت قيمتها يوم القبض أي يوم البيع على خلاف عنه في ذلك مثل ما وزن المباع أو أقل فلا يرجع عليه بشيء: أي فلا يرجع عليه المشتري بشيء وإن كانت القيمة أقل خير البائع بين رده للمشتري القيمة أورده الثمن أو إمضائه السلعة بالثمن الذي صح. وأما إذا باع الرجل سلعته مرابحة ثم أقام البينة أن ثمنها أكثر مما ذكره وأنه وهم في ذلك والسلعة قائمة. فقال الشافعي: لا يسمع منه تلك البينة لأنه كذبها آخر. وقال مالك في هذه المسألة إذا فاتت السلعة يخير المبتاع أن يعطى قيمة السلعة يوم قبضها أو أن يأخذها بالثمن الذي صح. ومعرفة أحكام هذا البيع في مذهب السادة المالكية. ينبني على معرفة أحكام ثلاثة وما تركب منها وهي حكم مسألة الكذب وحكم مسألة الغش وحكم مسألة وجود العيب فأما حكم الكذب فقد تقدمت الإشارة، وأما حكم الرد بالعيب فهو حكمه في البيع المطلق. وأما حكم الغش عنده فهو تخيير البائع مطلقا وليس للبائع أن يلزمه البيع وإن حط عنه مقدار الغش كما له ذلك في مسألة الكذب (1) .
__________
(1) الأم للشافعي ج3 ص34(5/884)
ومما تقدم يتضح لنا بأن هذه المعاملة معروفة في كتب الفقه الإسلامي. أما الخلاف فيما يتعلق ببحثنا فهو وقوع البيع على الإلزام من أول الأمر بمعنى أن البنك ملزم بالبيع مرابحة للآمر بالشراء. والآمر بالشراء ملزم بتنفيذ وعده بالشراء عندما يقدم له البنك السلعة المطلوبة. فهذه معاملة مركبة من وعد بالشراء وبيع المرابحة فهي في الحقيقة ليست من باب بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأن البنك لا يبيع شيئا ابتداء، وإنما يتلقى أمرًا بالشراء وبالتالي فهو لا يبيع حتى يملك ما هو مطلوب منه ويعرضه على المشتري ليرى ما إذا كان مطابقًا لما وصف أم لا. وبالتالي فإن هذه المعاملة لا تنطوي على ربح ما لم يضمن؛ لأن البنك قد اشترى فأصبح مالكا يتحمل تبعة الهلاك.
هذه خلاصة وجهة نظر المجيزين لهذه المعاملة من بعض الفقهاء المعاصرين، أما علماء السلف بما فيهم أصحاب المذاهب الفقهية المشهورة فلا أعلم أحدًا منهم أجاز هذه المعاملة، والمشهور من بعض علماء السلف رضي الله عنهم جواز هذه المعاملة إذا جعل الخيار للطرفين أو لأحدهما. أما الفقهاء المعاصرون فإن أول خلاف ظهر بينهم في هذه المسألة عندما طرح هذا الموضوع على بساط البحث في مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي 1399 هـ 1979م، وكان رأي الأغلبية جواز الإلزام بالوعد في هذه المعاملة وقد جاءت توصية المؤتمر كالتالي: " يرى المؤتمر أن هذا التعامل يتضمن وعدًا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها ووعدا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقا لذلك الشرط. إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقا لأحكام المذهب المالكي. وملزم للطرفين ديانة طبقًا لأحكام المذاهب الأخرى. وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه. تحتاج صيغ العقود في هذا التعامل إلى دقة شرعية فنية وقد يحتاج الإلزام القانوني بها في بعض الدول الإسلامية إلى إصدار قانون بذلك " نصًّا: (1) .
__________
(1) انظر مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي 1399 هـ 1979م ص14(5/885)
وطرح هذا الموضوع نفسه في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني المنعقد بالكويت في جمادى الآخر 1403 هـ مارس 1983، وأصدر المؤتمر فيه التوصية التالية:
8 – " يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق هو أمر جائز شرعًا طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي. وأما بالنسبة للوعد ملزما للآمر أو المصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة المصرف، والأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات وقيمة مراعاة لمصلحة المصرف والعميل وأن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعًا وكل مصرف مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه " نصًّا.
بهذا الاستعراض للسوابق التاريخية للموضوع وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بنقطة البحث نخلص من تحرير الموضوع إلى النقاط التالية:
1 – أولا عنوان بحث الموضوع والمحدد تسميته من قبل المجمع: ببيع المرابحة للآمر بالشراء غير دقيق؛ لأن هذا العنوان تدخل فيه صور من بيع المرابحة للآمر بالشراء أجازها العلماء سلفا وخلفا مما جعل البحث في الموضوع محل التباس تبعًا لالتباس العنوان. وأرى ضرورة التسمية التالية: بيع الأمانة للآمر بالشراء لمقابل ربح معلوم للبائع المؤتمن على شراء السلعة للآمر بالشراء؛ لأن هذا البيع في نظري هو بيع أمانة أقرب منه للمرابحة، وهذا التخريج لهذا النوع من البيع يخرجنا من الخلاف الفقهي وعلى وجه الخصوص يخرجنا من النص النبوي الشريف الذي يتمسك به بعض الفقهاء من قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تبع ما ليس عندك " على أن لي بعض الملاحظات على وجه الاستدلال بهذا الحديث سوف أوضحها في مكانها من هذا البحث إن شاء الله. كما يخرجنا من الخلاف الفقهي الذي يمثل من وجهة نظري جوهر الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة سلفا وخلفا والخاص بالوفاء بالوعد من جانب العميل خاصة إذا علمنا بأن جمهور الفقهاء قد جوزوا هذا النوع من البيع إذا جعل الخيار للطرفين أو لأحدهما. كما أن الفقهاء المعاصرين مجمعون ولا يوجد بينهم خلاف حسب علمي بأن الخيار في هذا النوع من البيع، إذا جعل الطرفان بالخيار أو أحدهما فإنه يعتبر جائز شرعًا، وإنما الخلاف بين السلف والخلف منصب في هذه المسألة على الوعد الذي يعد به العميل البنك أو المصرف من أخذ السلعة عندما يقدمها له البنك وتكون مطابقة للمواصفات التي اشترطها العميل في توفرها في السلعة. هل الوعد شرعًا ملزم للعميل بأخذ السلعة أو ليس ملزما. وقد تقدم لنا في هذا البحث استعراض أقوال الفقهاء وخلاصة مؤتمرَي دبي والكويت.(5/886)
2 – ثانيا: استدلال بعض الفقهاء بحديث: لا تبع ما ليس عندك، ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مسألتنا مناط البحث واضح: وهو أن البنك أو المصرف عندما يعد العميل ببيع السلعة لا يكون البنك أو المصرف قد ملك تلك السلعة، وبالتالي فإن هذا البيع لا يجوز استنادًا إلى نص الحديث. ولكن هذا الاستدلال من وجهة نظري غير دقيق للأسباب التالية.
1 – أولا: أن قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تبع ما ليس عندك)) يحتمل أن النهي منصب على تحريم بيع الإنسان لأخيه شيئًا لا يقدر على تسليمه للمشتري وقت العقد؛ لأن هذا النوع من البيع نوع من بيوع الغرر التي نهى الشارع عنها، ومن الأمور التي لا يستطيع البائع تسليمها وقت العقد كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء ومن باب أولى يشمل النهي بيع الفضولي ما ليس يملكه وإن كان بعض الفقهاء قد أجازوه إذا أجازه من يملك عين المبيع بالشروط المعتبرة، كما يحتمل أن ينصب النهي على كل بيع لا يستطيع البائع تسليمه للمشتري وقت إبرام العقد وإن كان يملكه، هذا من ناحية وجه الاستدلال بهذا الحديث على مسألتنا فالحديث بهذا الاحتمال تصبح دلالته ظنية أي غير قائمة الحجة على المخالف؛ لأنها غير قطعية الدلالة على محل الخلاف، أما من ناحية أصولية فإن الحديث يشتمل على عموم وخصوص مطلق يجتمعان في النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده، وينفرد الجواز في بيع الإنسان ما يملكه مما هو قادر على تسليمه؛ لأنه يسمى عرفًا عنده وإن كان غير قادر على تسليمه وقت العقد إذا أخبر المشتري بذلك وهذا ما جرى عليه عرف المسلمين في معاملاتهم.
وبالنظر إلى مناط الاستدلال بهذا الحديث على مسألتنا نجد وجه الاستدلال غير دقيق؛ لأن هذه المسألة مركبة من طرفين أو جزأين من وعد بالشراء من جانب العميل طرف، وبيع بالمرابحة من جانب البنك أو المصرف وبالتالي فهي ليست من قبيل بيع الإنسان ما ليس عنده، فجهة النهي منفكة؛ لأن البنك لا يبيع شيئا ابتداء وإنما يتلقى أمرا بالشراء وبالتالي فهو لا يبيع حتى يملك ما هو مطلوب منه وطبقًا للمواصفات الدقيقة التي يحددها الآمر بالشراء، فإذا جاءت السلعة على خلاف الشروط والمواصفات الدقيقة فإن المشتري بالخيار إن شاء عقد الصفقة وأبرم العقد، وإن شاء فسخ البيع باتفاق المذاهب الفقهية، وليس في هذا النوع من البيع شيء من الغرر المحتمل وجوده في حديث: لا تبع ما ليس عندك، كما تقدمت الإشارة، ومعلوم عند علماء سلف الأمة وخلفها بأن نصوص الكتاب والسنة الخاصة بالمعاملات معللة ومعقولة المعنى وخاضعة للحكمة والمصلحة التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، ومن هذا المنطلق كانت المذاهب الفقهية وزخرت المكتبات بإنتاج العقول المتفقهة في كنوز الكتاب والسنة. وهذه هي مهمة المجمع الذي بدأ بخطى ثابتة ومباركة مما جعله الآن موضع اهتمام أمتنا الإسلامية التي تأمل من علمائها وفقهائها الأجلاء مساندتها ومساعدتها على جمع كلمتها في الرأي خاصة في هذا الظرف الذي نجد فيه أمتنا الإسلامية مستهدفة من الطامعين في خيراتها وموقعها والذين ما برحوا يخططون لزرع الفتن بين أبنائها.(5/887)
فإذا لم نجد للمسألة حكمًا من الكتاب ولا السنة ولا الإجماع ولا القياس الصحيح فإن الواجب على المجتهد والحالة هذه أن يلجأ للالتماس في حكم المسألة إلى المصادر الشرعية المعتبرة.
المبحث الثالث: النظرة الفقهية إلى أدلة الخلاف ووجه الدلالة منها ومخارج الاستدلال:
أن أدلة الخلاف في المسألة مناط البحث تنحصر أصولها في الآتي:
1 – عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((: لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) رواه الخمسة إلا ابن ماجه. الحديث: في ج2 من كتاب المنتقى لابن تيمية الجَدّ، طبعة أولى عام 1351 هـ- 1932 م ص332 (1) .
2 – عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم وأخرجه في علوم الحديث من رواية أبي حنيفة عن عمرو المذكور بلفظ: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط)) ثم قال ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني في الأوسط وهو غريب، متن بلوغ المرام (2) .
__________
(1) انظر 5 و6 من نيل الأوطار ص 175 وما بعدها
(2) انظر 5 و6 من نيل الأوطار ص 175 وما بعدها(5/888)
3 – عن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: ((قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق. فقال: لا تبع ما ليس عندك)) ، رواه الخمسة، هذه هي النصوص الثابتة بالسنة ومكان الدليل منها على المسألة عند القائلين به هو قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تبع ما ليس عندك)) ، وقد سبق في المبحث الثاني مناقشتي لوجه الدلالة، ووجهة نظر المستدلين بها. وقصدت بجمع نصوص الحديث وكان بالإمكان الاكتفاء بحديث حكيم بن حزام لولا أن الإمام محمد بن علي الشوكاني رضي الله عنه قال في سنده عند شرحه للحديث: ما يلي " الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن حيكم، انتهى. وفي بعض طرقه عبد الله بن عصمة زعم عبد الحق أنه ضعيف جدا، قال: والكلام للشوكاني:ولم يتعقبه ابن القطان بل نقل عن ابن حزم أنه مجهول. قال الحافظ وهو جرح مردود فقد روى عنه ذلك ثلاثة كما في التلخيص وقد احتج به النسائي، وفي الباب عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عند أبي داود والترمذي، وصححه النسائي وابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((:لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا في ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) قال الإمام الشوكاني: قوله: " ما ليس عندك "، أي ما ليس في ملكك وقدرتك. ثم قال: والظاهر أنه يصدق على العبد المغصوب الذي لا يقدر على انتزاعه ممن هو في يده، وعلى الآبق الذي لا يعرف مكانه، والطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه، ويدل على ذلك معنى عند لغة، قال الرضى: إنها تستعمل في الحاضر القريب وما هو في حوزتك وإن كان بعيدا، انتهى. فيخرج عن هذا ما كان غائبًا خارجا عن الملك أو داخلًا فيه خارجًا عن الحوزة. وظاهره أنه يقال لما كان حاضرا وإن كان خارجا عن الملك فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم ((لا تبع ما ليس عندك)) أي ما ليس حاضرا عندك ولا غائبا في ملكك وتحت حوزتك. قال البغوي: النهي في هذا الحديث عن بيوع الأعيان التي لا يملكها، أما بيع شيء موصوف في ذمته فيجوز فيه السلم بشروطه فلو باع شيئا موصوفا في ذمته عام الوجود عند المحل المشروط في البيع جاز، وإن لم يكن المبيع موجودا في ملكه حالة العقد كالسلم. قال: وفي المعنى بيع ما ليس عنده في الفساد بيع الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه إلى محله، فإن اعتاد الطائر أن يعود ليلًا لم يصح عند الأكثر إلا النحل، فإن الأصح فيه الصحة كما قاله النووي في زيادات الروضة وظاهر النهي تحريم بيع ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلا تحت مقدرته. وقد استثنى من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم.
وكذلك إذا كان المبيع في ذمة المشتري إذ هو كالحاضر المقبوض، هذه خلاصة وجهة نظر الإمام الشوكاني ومن نقل عنهم، نجد فيها الاحتمالات التي أشرنا إلى بعضها في المبحث الثاني من هذا البحث. ولكنا نجد الإمام النووي يصرح بجواز البيع إذا كان البيع في ذمة المشتري إذ هو - أي المبيع - كالحاضر المقبوض، انتهى.(5/889)
وإذا أمعنا النظر في حديث حكيم بن حزام وفي استفتائه للنبي عليه الصلاة والسلام بهذه الصيغة: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق، إن المعنى المتبادر إلى الذهن من منطوق الحديث أن الرجل طالب السلعة يأتي إلى حكيم ليأخذ منه سلعة في الحال، فيتفقان على الثمن دون علم المشتري أن السلعة التي أبرم بشأنها العقد غير موجودة عند حكيم، ثم يذهب حكيم خلسة إلى السوق فيبحث عن السلعة التي عقد بشأنها العقد مع المشتري فيأخذها من السوق فيأتي بها ليسلمها إلى المشتري. فكانت فتوى هذا السؤال: لا تبع ما ليس عندك، لما في ذلك من الغرر والمخاطرة.
أما الغرر فلما فيه من إيهام المشتري بأن السلعة المطلوبة موجودة لدى البائع وقت إبرام العقد حيث لم يقل حكيم: إنه ليأتيني الرجل فيسألني عن البيع، فأقول له السلعة المطلوبة ليست عندي ولكني أعدك بعد إبرام العقد بالذهاب إلى السوق، وأخذها وأعرضها لك وتسليمك إياها حسب المواصفات المتفق عليها في صيغة العقد. فلو كان السؤال على هذا الوجه الذي يحاول المستدل على تحريم نوع البيع في مسألتنا هذه لربما كانت الفتوى بقوله عليه الصلاة والسلام ((لا تبع ما ليس عندك)) على خلاف ما هي عليه.
فوجه الدلالة في الحديث افتراضية على خلاف منطوق الحديث ومفهومه وسببه. وأما المخاطرة فلربما ذهب إلى السوق فلم يجد السلعة المباعة مما يثير الخلاف والمنازعة بين البائع ما ليس عنده والمشتري. . . إلخ.. وربما كانت حاجة المشتري إلى السلعة لا تحتمل التأخير إما لحاجته إليها في الحال وإما لنفاذها من السوق بسبب إيهام المشتري بأن السلعة المطلوبة بحوزة البائع مما يجعل المشتري يطمئن إلى محادثة البائع المدلس وضياع جزء من الوقت كان بإمكان المشتري طالب السلعة الحصول عليها بيسر وسهولة لو أن البائع المدلس قال لطالب السلعة: السلعة المطلوبة لا توجد الآن عندي فإن أحببت أحضرتها لك عند الحصول عليها، وإن كنت تريدها الآن فبإمكانك الذِّهَاب إلى السوق أو إلى التاجر الفلاني وهذا من باب النصيحة.
2 – الدليل الثاني من أدلة الخلاف يتعلق بالعميل: أي الوفاء بالوعد بمعنى هل الوفاء بالوعد من جانب العميل يأخذ السلعة عند إحضارها من قبل البنك أو المصرف ملزم أو غير ملزم. ومما زاد الخلاف في المسألة: صيغ الوفاء بالوعد من الكتاب والسنة مختلفة حسب اختلاف الآثار المترتبة عليها فليست كلها تحمل على الوجوب، وليست كلها تحمل على الندب والاستحباب. مما حدا ببعض الفقهاء إلى التفريق بين الوفاء بالوعود التي يترتب على عدم الوفاء بها إضرار للطرف الآخر فجعلوا الوفاء بها واجب وملزم مثل أن يقول فلان من الناس لآخر: اهدم دارك هذه وابن مكانها أخرى وأنا أسلفك ما تحتاج إليه من تكاليف بناء للدار. فيقوم صاحب الدار بهدمها، فإن الوفاء بالوعد ملزم؛ لأن الواعد أدخل الموعود في ورطة، وعلى ذلك فقس مثل قول الواعد لآخر: تزوج وأنا أسلفك تكاليف الزواج، ونحو ذلك، فقالوا: بلزوم كل وعد أدخل الموعود في ضرر من جراء تسبب عدم وفاء الواعد بوعده كما ذهب فريق من الفقهاء إلى الإلزام بالوفاء بالوعد مطلقًا.(5/890)
وفريق آخر ذهب إلى عدم الإلزام بالوعد مطلقا، ومن هذا الفريق الأئمة الثلاثة ورواية عن الإمام مالك. علمًا بأن الأئمة الثلاثة ما عدا مالك يجوزون هذا النوع من البيع إذا كان الخيار لهما أو لأحدهما، ولم يحتجوا بحديث حكيم بن حزام المتقدم على فساد البيع مما أضعف الاستدلال به في مسألتنا هذه، ومما يلاحظ في هذه المسألة أن كلام الفقهاء منصب في باب الوفاء بالوعد على العميل دون صاحب البنك أو المصرف فيما إذا لم يلتزم بالوفاء للعميل حسب الاتفاق الذي تم بينهما، فحسب علمي لم أجد أحدًا تناول الطرف الآخر بالإلزام أو بعدمه أو غير ذلك، كما هو الخلاف بالنسبة للعميل علمًا بأن الأضرار التي تلحق بصاحب البنك أو المصرف قد تلحق بالعميل إذا كان يترتب على عدم وفاء البنك بما التزم به من إحضار السلعة بوقت معين معلوم إضرار بالعميل: والخلاصة لهذا المبحث تتحدد في أن النصوص التي وردت في إطار الظنية في ثبوتها أو دلالتها، وهنا يتصدى الاجتهاد للبحث عن صحة السند من خلال دراية السند وطرق روايته أو يتصدى الاجتهاد للبحث في تفسير تلك النصوص بما يؤدي إلى وضوح الدلالة على المعاني المراد منها: الأمر (1) الذي يحتم على مجمعنا الموقر حسم الخلاف في هذه المسألة التي أصبحت ملحة وضرورية في حياة الأمة الإسلامية ولنا في مصادر الاجتهاد النبع الذي لا ينضب فإذا كانت النصوص ظنية الدلالة وشقة الخلاف فيها متسعة، والمسألة المطروحة ضرورية وملحة فإننا نلجأ لترجيح أحد القولين أو الأقوال على الآخر باستلهام روح التشريع الإسلامي الذي استهدف في أحكامه تحقيق مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم، وهو الذي يقدر ما إذا كان عملا معينا يحقق لهم مصلحة: أي يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم مفسدة، أي يدرأ عنهم ضررًا. وقد ذهب المالكية إلى أن المصلحة تخصص النص غير القطعي ومنها كل النصوص العامة، ومن ذلك تخصيص الحديث النبوي ((البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر)) فإن المصلحة تقتضي عدم تحليف المدعى عليه إلا إذا كان بينه وبين المدعي خلطة حتى لا يسيء السفهاء استغلال هذا الحق ويكيدون لغيرهم رفع دعاوى أمام القضاء، كما أن المذهب الحنفي ويخصص النص بالمصلحة وإن كان عندهم يأخذ اسم الاستحسان ومنها تخصيص الحديث الذي يوجب رؤية العيان في الشهادة فأباحوا قبول شهادة التسامع في إثبات بعض الحقوق إذا اقتضت المصلحة فيها ذلك، مثل إثبات أصل الوقف صيانة للأوقاف القديمة من الضياع، وأجازوها في إثبات النسب والوفاة والدخول بالزوجة ومنها حديثنا محل الخلاف. فقد خصصوا النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده. فأباحوا بيع الثمار المتلاحقة بعد بدو صلاحها. وكذلك تخصيص النصوص التي توجب أن يكون الشهود من الرجال وحدهم أو من الرجال والنساء معًا، فأباحوا قبول شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه سوى النساء مثل الجرائم التي تقع في الحمامات الخاصة بالنساء وشهادة القابلة على واقعة الولادة وتعيين المولود عند النزاع فيه.
__________
(1) انظر الجامع الصحيح 3/536 الغرر وأثره للدكتور الصديق الضرير ص318. وما بعدها(5/891)
خلافًا للحنابلة الذين يرون عدم جواز تخصيص النص بالمصلحة على الرغم من أخذهم بنظرية المصالح المرسلة وحجتهم في أنه لا محل للنظر إلى المصلحة إلا عند فقدان النص، ولا مجال للنظر إليها عند وجوده؛ لأن دلالة النص وعمومه مقدمان على النظر إلى المصلحة. كما ذهب الشافعي إلى رفض الأخذ بنظريتي الاستحسان والمصالح المرسلة إلى عدم تخصيص النص، ولو كان غير قطعي الدلالة بالمصلحة؛ لأنه يرفض التسليم بالمصلحة كأصل للتشريع، غير أنه يصل إلى ذات النتيجة التي يصل إليها من يأخذ بالمصلحة المرسلة كأساس للتشريع، ويخصصون بها النص ولكن عن طريق أصل آخر هو تحكيم قاعدة الضرورات تبيح المحظورات (1) . وعلى الرغم من الخلاف الشكلي بين الأئمة الثلاثة فإن المصلحة المرسلة أصبحت مصدرًا خصبا للفقه الإسلامي تخصص بعض النصوص وتفسر البعض الآخر منها فمن أمثلة الاعتماد عليها في تفسير النصوص وفهمها منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إعطاء المؤلفة قلوبهم سهمًا في الزكاة رغم الأمر بذلك في القرآن كما أوقف عقوبة السرقة في عام المجاعة وأبقى أرض العراق وغيرها من الأرض المفتوحة في أيدي أصحابها، وفرض ضريبة الخراج عليها بدلا من توزيعها على الفاتحين: وفي هذا الصدد يقول المالكية تعبيرهم المشهور: " فحيث تكون المصلحة العامة للمسلمين يكون شرع الله " (2) .
وبعد هذا الاستعراض، ولكون هذا النوع من البيوع أصبح اليوم في حكم الضرورة وبما أن القاعدة الشرعية: هي أن الأصل في المعاملات الإباحة إلا ما قام الدليل المعتبر شرعًا على تحريمه فإنني أرجح جواز إباحة التعامل بهذا البيع مع وضع الشروط والضوابط اللازمة شرعًا، ولو لم يكن في نظري أي مرجح لهذا النوع من البيع إلا تخصيص الحديث النبوي الذي ينهى عن بيع ما ليس عند البائع على فرض سلامة وجه الاستدلال منه لكانت المصلحة وحدها كافية لتخصيصه، ولا يفوتني هنا أن أذكر أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع الموقرين بترابط النظرة الفقهية للمجمع في هذه المسألة. وبين القرار رقم (1) و2/7. /86 بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية الذي أصدره في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 12 صفر 1407 هـ / 12 إلى 16 أكتوبر 1986 م. حيث جاء فيه ما يلي: " المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا.
المبدأ الثاني: أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها هو توكيل مقبول شرعا. والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.
__________
(1) انظر المدخل للزرقا ص 57 وما بعدها المستصفى للغزالي ص137، والأم للشافعي ج7 ص373- 374
(2) انظر محمد يوسف موسى: المدخل ص189، 191، أصول الفقه للبرديسي 1969 ص21 وما بعدها(5/892)
المبدأ الثالث: إن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد.
المبدأ الرابع: أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل.
المبدأ الخامس: أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالكا للمعدات ما لم يكن ذلك لتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذ عليه. . . إلخ.
والله أسأل أن يهدينا سواء السبيل ويلهمنا طريق الحق والصواب
إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بقلم عضو المجمع محمد عبده عمر
أهم مراجع البحث:
1 – البداية والنهاية لابن رشد.
2 – المدخل لفضيلة الشيخ الزرقا.
2 – المغني لابن قدامة.
3 – الأم للإمام الشافعي.
4 – زاد المعاد للإمام ابن القيم.
5 – نيل الأوطار للإمام الشوكاني.
6 – متن بلوغ المرام على شرح سبل السلام.
7 – الجامع الصحيح.
8 – الغرر وأثره لفضيلة الشيخ الصديق الضرير.
9 – المستصفى للإمام الغزالي.
10- محمد يوسف موسى المدخل.
11- أصول الفقه للبرديسي.
12- أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف.
13- إعلام الموقعين لابن القيم.
14- غمز عيون البصائر لشهاب الدين الحموي.(5/893)
المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية
(مؤسسة آل البيت)
ندوة عن:
"خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية:
الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات".
بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب/ البنك الإسلامي للتنمية/ جدة.
عمان 22 شوال – 25 شوال 1407 هـ
18/6 – 21/6/1987م
بحث الدكتور عبد الستار أبو غدة
عن
أسلوب المرابحة والجوانب الشرعية
التطبيقية في المصارف الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فلا تخفى الحاجة الماسة إلى استمرار البحث المتأني المتعمق في أنشطة المصارف الإسلامية، سواء ما أصبح منها جادة مسلوكة يستبعد التنكب عنها، أو الطرق التي لم تبلغ هذه المنزلة لإعوازها إلى التمهيد أو التعبيد، وجميع هذه المناشط تعتبر ضرورية لتغلب المصارف الإسلامية على مصاعب النشأة، ووحشة الغربة، وبواعث المواكبة العصرية لتحقيق نفس الأغراض المبتغاة في الميدان الاقتصادي ولكن بوسائل شتى منها المتوافق مع المتبع من غيرها، ومنها المهذب أو المشذب، ومنها المستحدث بأصله من حيث هو، أو بوصفه والملابسات الإجرائية لتطبيقه.
و (المرابحة) هي من هذا النوع الأخير، وقد أدى هذا الطابع القديم الحديث فيها إلى أن لا تقتحمها أبصار الباحثين إلا من خلال الاعتراض عليها أو المنافحة عنها، ولم يسلم هذا ولا تلك من الإفراط أو التفريط.
وقد أردت أن أسلط بعض الضوء على (أسلوب المرابحة) من خلال النواحي التالية:
- أسلوب المرابحة قديما وحديثا
- التأصيل الجماعي لأسلوب المرابحة
- الجوانب الفقهية المطبقة في المرابحة
- جوانب تطبيقية أخرى للمرابحة
- أساليب وصنع طرحت في شأن المرابحة
ولا أدعي أن هذا كل ما يقال في هذا المقام فقد اقتصرت على ما رأيت أنه أهم مع بعض المهم، ثقة بما تكشف عنه اللقاءات الجماعية من تكامل، وعسى أن تتمخض البحوث المطروحة في الندوات المتخصصة لموضوع واحد، كهذه الندوة عن تأصيل لذلك الموضع الوحيد من استعراض ما له وما عليه وإحلاله موقعه الجدير به، بعيدا عن ضغط الحاجة، والاسترواح للسهولة أو الشهرة.
والله ولي التوفيق.
د. عبد الستار أبو غدة(5/894)
(أولا)
أسلوب المرابحة قديما وحديثا
(تمهيد وجيز في ماهية المرابحة) :
المرابحة صيغة (مفاعلة) من الربح، وهي بيع بزيادة ربح على الثمن الأول، وصيغ المفاعلة للمشاركة وهي هنا اشتراك البائع والمشتري في قبول الإرباح بالقدر المحدد، والمرابحة: نوع من أنواع بيوع الأمانة التي يقوم فيها التبايع على أساس (رأس المال) ، وهو ثمن شراء السلعة أو (التكلفة) وهي ما قامت به السلعة على البائع.
ففي بيع المرابحة يتم عقد البيع بإضافة نسبة مئوية معلومة أو مبلغ مقطوع على رأس المال أو التكلفة.
أسلوب المرابحة قديما:
وهذا البيع بهذه الصورة الساذجة لم يخل منه كتاب من كتب الفقه على شتى المذاهب، ولم ينازع أحد في مشروعيته؛ لأنه بهذه الكيفية الخاصة لتحديد الثمن لم يخرج عن مطلق البيع الذي جاء النص بإباحته في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، بل جاء في السنة تطبيق للتولية (شقيقة المرابحة) حين اشترى أبو بكر رضي الله عنه الناقتين اللتين أعدهما للهجرة عليهما، وأراد أبو بكر رضي الله عنه إعطاء إحداهما للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الهبة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل بالثمن، أي يأخذها تولية بمثل الثمن الذي اشتراها به أبو بكر رضي الله عنه.
وللفقهاء تفصيلات في أحكام المرابحة وآثارها وما يترتب على ظهور الخلف (التغاير) بين ما أخبر به البائع وبين الثمن الحقيقي (الخيانة في الإخبار عن الثمن) من تصحيح للثمن المستحق على المشتري وثبوت خيار له بين المضي في العقد مصححًا أو الفسخ عند من يثبت له ذلك الخيار، ويسمى (خيار المرابحة) أو (خيار تخبير الثمن) (1) – مع الأخذ بالاعتبار أن هذه التسمية الثانية تشمل بالإضافة إلى المرابحة كلا من (التولية) و (الوضيعة) .
ولسنا بمعرض البحث في هذه الأحكام المستقرة بل الغرض مناقشة الطرح الجديد للمرابحة والجوانب الفقهية العصرية لتطبيقها، ولذا آثرت استخدام عبارة (أسلوب المرابحة) .
__________
(1) التسمية الثانية يستعملها الحنابلة و" تخبير " بالباء بعد الخاء بمعنى " الإخبار " وقد وقعت في كثير من كتبهم محرفة إلى " تخيير" بياءين(5/895)
أسلوب المرابحة حديثا:
أما أسلوب المرابحة حديثا فالحق أن أول من طرحه للتطبيق على نطاق المعاملات المصرفية هو الدكتور سامي حسن حمود، وقد أنصف الحقيقة حين أشار إلى (سابقة) قديمة لهذا الأسلوب، هي ما أورده عن الإمام الشافعي في كتاب الأم و (بارقة) جديدة لسند هذا التطبيق، هي ذلك التكييف الشرعي الدقيق الذي أسعفه به العلامة الشيخ محمد فرج السنهوري (1) .
أما السابقة فهي قول الشافعي في كتاب الأم:
" وإذا أرى الرجلُ الرجلَ السلعةَ، فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال: (أربحك فيها) بالخيار: إن شاء أحدث فيها بيعا وإن شاء تركه، وهكذا إن قال: " اشتر لي متاعا، ووصفه له، أو متاعا أي متاع شئت، وأنا أربحك فيه، فكل هذا سواء يجوز البيع الأول، ويكون فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال: أبتاعه وأشتريه منك بنقد أو دَيْن، يجوز البيع الأول، ويكونان بالخيار في البيع الآخر. فإن جدداه جاز. وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما فهو مفسوخ من قبل شيئين: أحدهما أنه تبايعاه قبل أن يملكه البائع. والثاني أنه على مخاطرة إنك وإن اشتريته على كذا أربحك فيه على كذا " (2) .
وأما التكييف الشرعي لهذا الأسلوب مقولا على لسان العلامة الشيخ محمد فرج السنهوري كما جاء في مقابلة أجراها معه الدكتور سامي حمود بتاريخ (9/8/1975) (3) :
" هذه العملية مركبة من وعد بالشراء وبيع بالمرابحة.
- وهي ليست من قبيل بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأن المصرف لا يعرض أن يبيع شيئا، ولكنه يتلقى أمرا بالشراء، وهو لا يبيع حتى يملك ما هو مطلوب، ويعرضه على المشتري الآمر ليرى ما إذا كان مطابقا لما وصف.
- كما أن هذه العملية لا تنطوي على ربح ما لم يضمن؛ لأن المصرف وقد اشترى فأصبح مالكا يتحمل تبعة الهلاك ".
__________
(1) ذكر ذلك في رسالته للدكتوراة " تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية (ص479) ط (1)
(2) الأم للإمام الشافعي 3/29 ط. الكليات
(3) تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية (رسالة دكتوراة) سامي حسن محمود (ص479) ط (1)(5/896)
واستكمالا لتأريخ هذا التطبيق فإن الكيفية التي طرح بها أول مرة لم تلبث أن اتسعت أفقيا وعموديا – إن صح التعبير – فقد ذكر الدكتور سامي هذا الأسلوب على أنه بديل يطرحه لمواجهة مسألة خصم الكمبيالات لدى البنوك الربوية ممن يشترون السلع، وليست لديهم الملاءة للدفع والعاجل ... وأنه: " للمساعدة على تمكين الشخص من الحصول على السلعة التي يحتاجها على أساس دفع القيمة بطريق القسط الشهري، أو غير ذلك من ترتيبات مشابهة، ولكن هذا الخط يبدأ من المستهلك وليس من التاجر ". وهذا الخط أصبح خطوطا حيث صار يصل بين التاجر المستورد وبين المصدر، ويصل بين صاحب المصنع وبين مصدري المصانع، ويصل بين مستغلي منافع البواخر والطائرات وبين صانعيها وهكذا.
كما أن المرابحة اتسعت في الشمول بحيث زاحت (المضاربة) ، بل كادت تزيحها من التطبيق، مع أنها وهي الأسلوب الرائد في المصارف الإسلامية، وكانت مطروحة وحدها في الساحة حتى قرنت بها المرابحة.. وسنرى أن هذه المزاحمة أو الإزاحة لم تنج من المخاوف بل المآخذ أحيانا مما سيأتي بيانه في موقعه المناسب. مما جعل الحاجة داعية إلى تقديم ردائف للمرابحة من حيث هي، أو للعنصر الشائك منها وهو أن يسبقها وعد بالشراء باعتباره إجراء يتوقف عليه تطبيقها، وأصبح مثارا للجدل من حيث لزومه وعدم لزومه، وأثر ذلك على جوهرية شراء المصرف السلعة لنفسه وتحمله للضمان. وهو ما طرح في الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي (7 مارس 1987) من خلال خيار الشرط على ما سيأتي:(5/897)
(ثانيا)
التأصيل الجماعي لأسلوب المرابحة
لم يلبث أسلوب المرابحة المقدم إلى المصارف الإسلامية أن أخذ طريقه إلى الإقرار الجماعي له من خلال قنوات شتى؛ (1) .
(إحداها) : ظهوره بصورة أساسية في أنظمة المصارف الإسلامية الأولى ونشراتها، كبنك دبي الإسلامي، وبيت التمويل الكويتي، والبنك الإسلامي الأردني، وبنك فيصل الإسلامي المصري، وبنك فيصل الإسلامي السوداني ... إلخ.
(الثانية) : إدراجه في الكتابات المهتمة بتنظير أنشطة المصارف الإسلامية، كالموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية في جزأين منها: الأول ص28، والخامس، الجزء الشرعي، المجلد الأول ص 329، وإن كان معظم ما جاء عنه فيهما يدور على ما كتبه الدكتور سامي حمود.
(الثالثة) : صدور التوصيات من المؤتمرات بتنظيم وتعزيز أسلوب المرابحة، كان ذلك في مؤتمر الصرف الإسلامي الأول بدبي 1399 هـ = 1979م. ثم في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت.
(الرابعة: تأكيد ذلك في ندوة البركة الأولى للمصارف الإسلامية بالمدينة المنورة. رمضان 1403هـ = يونيو 1983م. والتي عنيت بالرد على بعض الشبهات المثارة حول المرابحة.
والجدير بالذكر أن هذين المؤتمرين لم يحسما أعسر الجوانب الفقهية في هذا الأسلوب وهي مسألة إلزامية الوعد، ولا تركاها غفلا، بل جاءا بمبدأ التخيير لكل مصرف في الأخذ بإحدى الوجهتين اللتين اختلف فيهما طويلا، وهما: الإلزام، وعدمه (2) .
__________
(1) الأعمال المصرفية التي يزاولها البنك الإسلامي ص3، بيت التمويل الكويتي للأعمال المصرفية والاستثمار ص16 بيوع الأمانة في ميزان الشريعة
(2) بعض المصارف يختار الإلزام، وبعضها يختار عدمه، وبعضها يختار في المرابحات الخارجية الإلزام، وفي المرابحات الداخلية عدم الإلزام وذلك هو المطبق في بيت التمويل الكويتي تبعًا لصعوبة تقدير جدية الوعد ومعرفة العملاء(5/898)
وفيما يلي نص قرار المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي بشأن اعتبار (الوعد بالشراء مرابحة) بين صور التمويل:
" يطلب العميل من المصرف شراء سلعة معينة يحدد جميع أوصافها ويحدد مع المصرف الثمن الذي سيشتريها به العميل بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما. وهذا التعامل يتضمن وعدا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقا لذات الشروط.
ومثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقًا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقا لأحكام المذاهب الأخرى. وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه.
وتحتاج صيغ العقود في هذا التعامل إلى دقة شرعية فنية، وقد يحتاج الإلزام القانوني بها في بعض الدول الإسلامية إلى إصدار قانون بذلك.
ويلحظ بوضوح أن الغرض الأساسي من القرار بيان مشروعية (إلزام الوعد) . أما المؤتمر الثاني بالكويت فقد جاء فيه عن المرابحة ما نصه.
" يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة للآمر وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الوعد السابق هو أمر جائز شرعا طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي.
وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزما للآمر أو المصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعا، وكل مصرف مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه.
وخلاصة هذا القرار:
- ضرورة أن يسبق تملك المصرف السلعة لنفسه وحيازتها قبل بيع السلعة للواعد.
- تحمل المصرف تبعة الهلاك قبل التسليم
- تحمل المصرف تبعة الرد بالعيب الخفي
- جواز إلزامية الوعد وعدمها
- تخيير المصارف في الأخذ بالإلزام وعدمه من خلال قرار هيئة رقابة المصرف.(5/899)
أما ندوة البركة الأولى فقد جاء في التوصية الثامنة منها ما يلي:
" أورد بعض الناس شبهات على جواز بيع المرابحة بالأجل بأنه ينطوي على شبهة ربوية، كما أوردوا شبهات على جواز بيع المرابحة للآمر بالشراء. وهذه الشبهات هي:
(أولا) أن هذا العقد يتضمن بيع ما ليس عند البائع
(ثانيا) تأجيل البدلين
(ثالثا) أنه بيع دراهم بدراهم والمبيع مرجأ، أو أنه نوع من التورق
(رابعا) أن المالكية منعوا الإلزام بالوعد في البيع
(خامسا) أن هذا العقد يتضمن تلفيقا غير جائز
فما هو الجواب عن ذلك؟
الفتوى: بيع المرابحة المعروف في الفقه الإسلامي جائز باتفاق سواء كان بالنقد أو بالأجل، وأن هذه الشبهة الربوية المثارة على بيع المرابحة بالأجل ليست واردة لا في هذا البيع ولا في البيع المؤجل.
وأما صورة المرابحة للآمر بالشراء فإن اللجنة تؤكد ما ورد في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي المنعقد في الكويت مع ما تضمن من تحفظات بالنسبة للإلزام ".
(ثالثا)
الجوانب الفقهية المطبقة في المرابحة
إن المرابحة من حيث هي غنية عن الاستدلال على مشروعيتها هنا، لما أشرت إليه من اشتمال كتب الفقه جميعها على باب للمرابحة تستوفي فيه أدلة مشروعيتها وأحكامها ومستند كل حكم، ولكن بالنظر إلى (أسلوب) المرابحة المتبعة في البنوك الإسلامية هناك بعض الجوانب الفقهية المرعية فيه حتى يمكن تطبيقها بصورة عملية مأمونة.
وهذه الجوانب المستحدثة تزيد أو تنقص تبعا لمجالات التطبيق المختلفة، وما دمنا في معرض البحث والمناقشة فإن المناسب استيعاب جميع ما حفت به المرابحة من نقاط مع مستند كل منها بقطع النظر عن كونه مسلما أو محل اعتراض، مع إيراد النقاش المتعلق بكل منها. وفضلا عن ذلك سأشير في الأخير إلى جوانب فقهية وقع الربط بينها وبين أسلوب المرابحة مع أنها لا علاقة لها بهذا الأسلوب.(5/900)
وفيما يلي الكلام عن تلك الجوانب، مع مناقشة ما أورد في ذلك من اعتراضات وشبهات:
استعراض الجوانب الفقهية المعترض بها على أصل المرابحة:
لعل ما أورده كل من الدكتور يوسف القرضاوي من اعتراضات على أسلوب المرابحة بصدد الدفاع عنها (1) وما أورده الدكتور محمد سليمان الأشقر في كتابه الهادف إلى نقدها (2) . هو أجمع ما قيل في هذا المجال، حيث أورد الدكتور القرضاوي ستة أمور، اثنان منها لا داعي للتوقف عندهما لما فيهما من التكلف، ومجافاة المنطق الفقهي:
(أولهما) إن هذه المعاملة ليست بيعا ولا شراء وإنما هي حيلة لآخذ الربا، (وثانيهما) أن أحدا من فقهاء الأمة لم يقل بحلها. وما جاء به المعترضون بهذين لا يزيد عن التهويل اللفظي، وقد نهض الدكتور القرضاوي بكشفه بما لا مزيد عليه.
ثم أورد الدكتور القرضاوي – على لسان المعترضين – أربعة أمور أخرى؛ اثنان منها تكفي لمحة يسيرة في الكلام عنها، في حين يقتضي الأمران الآخران شيئا من التفصيل (الآتي فيما بعد) لما لهما من جذور في المراجع الفقهية، كما تكررت بعض هذه الاعتراضات في دراسة الدكتور محمد الأشقر مع زيادات سيأتي الكلام عنها بمناسبتها.
* القول بأن أسلوب المرابحة من بيعتين في بيعة:
وذلك لما فيها من البيع للواعد بالأجل وهو بسعر مغاير للسعر الحال ... والحقيقة أن هذا الاعتراض ليس موجها للمرابحة لذاتها، بل لما فيها من بيع الأجل؛ لأن تطبيق المرابحة لدى المصارف الإسلامية لا ينفك عن بيع الأجل.. وقد جاء تفسيران (للبيعتين في بيعة) : أحدهما أنها قول البائع: بعتك بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة، والتفسير الثاني أنها بيع العينة؛ لأن فيه بيعتين إحداهما بثمن آجل، والأخرى بثمن حال، لتحصل بذلك الحيلة على الربا.
وسيأتي الكلام عن علاقة أسلوب المرابحة ببيع العينة، أما البيع بالأجل فقد اعتبر التشكيك فيه من سقط القول بعد أن أخذ به جماهير الفقهاء، وضبطوا صحته بأن ينفصل المتعاقدان (بعد المساومة في الثمن المتعدد) على ثمن واحد محدد، فلا تكون هناك إلا بيعة واحدة، وينتفي الغرر الذي يحصل لو كانت المساومة أساسًا دون إبرام وجه واحد مما دار فيها.
والذي يقع في أسلوب المرابحة هو بيعة واحدة للاتفاق على ثمن واحد هو تحديد ثمن البيع الأجل مع تحديد الأجل، فلا جهالة ولا غرر.
__________
(1) بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية، للدكتور يوسف القرضاوي 37
(2) بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية، للدكتور محمد سليمان الأشقر 7(5/901)
* القول بأن أسلوب المرابحة فيه بيع ما لا يملك:
وهذا الاعتراض لا مساغ له أيضا في الأسلوب المطبق في المصارف الإسلامية، اللهم إلا ما قد يقع مخالفا لما هو مقرر من مؤتمراتها وندواتها أو هيئاتها ومستشاريها، فما وقع كذلك فهو أسلوب منحرف، وعليه تنصب معظم الاعتراضات (1) .
وهذا المحذور من أول ما طرح بالنسبة لأسلوب المرابحة فقد احترزت منه البيانات التي رافقت نشأته.
* القول بأن الوعد لازم:
لا يخفى أن هناك صلة شديدة بين مسألة (بيع ما لا يملك) وبين الجانب الآخر المهم في أسلوب المرابحة وهو القول بلزوم الوعد، من حيث إن ما ينشأ عن هذا اللزوم يحول الوعد إلى شبه عقد فيقع المصرف في بيع ما لم يملكه بعد.
وليست الإشارة إلى هذه العلاقة حديثة بل جاءت في أقوال المتقدمين على ما أورده الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير في إشارة له إلى المرابحة ضمن أشكال وأساليب الاستثمار في الفكر الإسلامي حيث قال: " وجدت في أقوال المتقدمين من الفقهاء صورة من التعامل شبيهة بما نتحدث عنه يؤيد حكمهم فيها ما ذهبت إليه، فقد روى مالك في الموطأ: أنه بلغه أن رجلا قال لرجل: ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل، فسأل عن ذلك عبدَ اللهِ بنَ عمرَ فكرهه ونهى عنه.
وقد ذكر مالك هذه المسألة في باب " بيعتين في بيعة " فكأنه يرى أن ابنَ عمرَ يعتبرها داخلة فيما نهى عنه من بيعتين في بيعة. (2)
قال الباجي: " ولا يمتنع أن يوصف بذلك من جهة أنه انعقد بينهما أن المبتاع للبعير بالنقد إنما يشتريه على أنه قد لزم مبتاعه بأجل بأكثر من ذلك الثمن فصار قد انعقد بينهما عقد بيع تضمن بيعتين، إحداهما الأولى وهي بالنقد، والثانية المؤجلة، وفيها مع ذلك بيع ما ليس عنده؛ لأن المبتاع بالنقد قد باع من المبتاع بالأجل البعير قبل أن يملكه، وفيها سلف بزيادة؛ لأنه يبتاع له البعير بعشرة على أن يبيعه منه بعشرين إلى أجل، يتضمن ذلك أنه سلفه عشرة في عشرين إلى أجل، وهذه كلها معان تمنع جواز البيع، والعينة فيها أظهر من سائرها ".
__________
(1) ومن ذلك ما جاء في بحث الدكتور محمد سليمان الأشقر حيث أورد بضعة أمور - سبق بعضها - وهي لا تتحقق إلا في تطبيق خاص من تطبيقات المرابحة ليس هو المعمول به في المصارف الإسلامية، ولم يورد على الأسلوب المشهور إلا مسألة إلزامية الوعد. . مع أمور أخرى تتصل به وهي كل ما يقيد حرية الطرفين في إتمام البيع أو تركه، وعدم ترتب تعويض لما يقع على أحدهما من ضرر، وعدم البيع إلا بعد القبض
(2) أشكال وأساليب الاستثمار في الفكر الإسلامي، بحث للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، مجلة البنوك الإسلامية، العدد 19(5/902)
ولابد من التعقيب بأن هذا المحذور يقع حقيقة إذا صدر الشراء من العميل والبيع إليه قبل تملك المصرف للسلعة، وهو ما صوره الدكتور محمد الأشقر بقوله: " إن العميل يقول في شأن السلعة: إذا اشتريتموها بمائة فقد أشتريتها منكم بمائة وعشرين نقدا أو مؤجلة "، ثم قال عن هذه الصورة: " فهو عقد بلا ريب ولو سمي وعدا فهو عقد أيضًا ... وهذا لا يسلم إلا بوجود الضميمة التي فيها فإذا اشتريتموها بمائة فقد أشتريتها منكم ... "
وليس هذا هو الأسلوب المتبع في المصارف الإسلامية أصوليا، ولا عبرة بما شذ، كما هذه الصورة المنتقدة فيها شراء معلق والبيع والشراء لا يقبل التعليق ولا يقع، خلافا للبيع المضاف إلى زمن مستقبل حيث تلغى الإضافة ويقع البيع.
المواقف تجاه لزوم الوعد:
بما أن توصية المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي تركت الحرية لكل مصرف في الأخذ بلزوم الوعد أو عدمه فإن المصارف اختلفت مواقفها في هذا الشأن:
- فبعضها كالبنك الإسلامي الأردني أخذ بإلزام الوعد مطلقا.
- وبعضها كمصرف فيصل الإسلامي السوداني أخذ بالإلزام بالنسبة للمصرف دون العميل، وهو ما رأى الدكتور الضرير أنه أبعد عن الشبهة؛ لئلا تجعل المعاملة عقد بيع مرابحة قبل ملك البنك للسلعة إذا اعتبر ملزما للطرفين. .
- وبعضها كبيت التمويل الكويتي أخذ بالإلزام في المرابحات الخارجية، حيث تكثر المخاطر لعدم معرفة حال الواعد، والأخذ بعدم الإلزام في المرابحات الداخلية.
والحقيقة أن زوال الشبهة تماما هو في القول بعدم لزوم الوعد رغم ما يحف بذلك من المخاطر التي لا تخلو عنها طبيعة التجارة وأسلوب المرابحة أسلوب تجاري، وليس أسلوبا مصرفيا للتمويل دون مخاطر.
وقد رأينا في كلام الشافعي اشتراط الخيار لكل من الطرفين، كما رأينا في كلام المالكية إدراج صور من المرابحة في العينة المكروهة، أو المحظورة حسب الصيغة المتبعة فيها لموضع اللزوم الذي جعل الشراء كما لو كان لصالح الواعد، ثم يتقاضى منه زيادة عن المدفوع وهي نظير الأجل.
كما أن من صور هذه المواعدة بأنها عقد لم يحالفه الصواب؛ لأنه أعدم الفوارق بين العقد والوعد لمجرد توثيق الوعد ديانة أو قضاء في حين أن العقد يترتب عليه الحصول على ثمن المبيع، وبمجرد العقد.
والوعد لا يزيد عن الحصول على تعويض للضرر إن وقع، وللقضاء فيه مدخل ومجال. . .
وقد حان الآن الكلام عن قضية إدراج المرابحة في بيع العينة، وعن مسألة إلزام الوعد:(5/903)
إدراج المرابحة في بيوع العينة:
للعينة صورة مشهورة وقع فيها خلاف بين الجمهور القائلين بحرمتها أو كراهتها تحريما وبين الشافعية القائلين بجواز العقد نظرا إلى اكتمال مقوماته وطرح ما التبس به من نية، وهذه الصورة هي أن يشتري شخص سلعة من مالكها بالأجل، ثم يبيعها إليه نقدا، وهناك صورة أخرى بكون الرغبة للحصول على المال لدى مالك السلعة نفسها حيث يبيع سلعته نقدا إلى شخص، ثم يشتريها منه بالأجل، وهاتان الصورتان لم تتبدل فيهما عين السلعة وعين العاقدين (البائع والمشتري) وهي تتخذ حيلة للاقتراض بفضل خال عن عوض وليس تمليك السلعة مرادا في الصورتين، بل المراد تحصيل السيولة لكن تحت اسم المبايعة.
ولا يخفى أنه لا علاقة حقيقة بين أسلوب المرابحة وبين العينة في تحقيق ما يراد من العينة من السلف الذي يجر نفعا دون أن يكون لأحد العاقدين غرض في تملك أو تمليك السلعة؛ لأن هناك سلعة لم تكن لدى كلا المتعاملين بأسلوب المرابحة، بل كانت لدى طرف ثالث (المصدر) وتم تملكها لأحدهما (المصرف) ، ثم بيعها بالأجل للمتعامل الآخر (الواعد بالشراء) ولم يقم المصرف بشرائها ثانية من الوعد بالشراء كما هو الحال في العينة حيث يكون الغرض الحصول على (العين) أي النقد، وليس الحصول على السلعة: ومن هنا جاءت تسمية هذه المعاملة قال الفيومي في المصباح المنير: " قيل لهذا البيع عينة؛ لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عينا أي نقدا حاضرا، وذلك حرام إذا اشترط المشتري على البائع أن يشتريها منه بثمن معلوم، فإن لم يكن بينهما شرط فأجازها الشافعي لوقوع العقد سليما من المفسدات، ومنعها بعض المتقدمين وكان يقول: هي أخت للربا.
والربط بين الاشتراط وبين الحرمة هو مذهب الشافعية خلافا للجمهور الذين لم يعلقوا الحرمة على هذا الاشتراط الملفوظ أو الملحوظ. فلو باعها المشتري من غير بائعها في المجلس فهي عينة أيضا لكنها جائزة بالاتفاق "، وهذا الصورة الأخيرة تسمى (التورق) " وهو الحصول على الورق، أي الفضة فهو بمعنى (العينة) التي هي الحصول على العين، أي النقد الحاضر من ذهب أو فضة.
ويبدو للمتأمل في مذهب المالكية أنهم اتجهوا وجهة مغايرة كل المغايرة لما أخذ به الشافعية من ربط الحرمة باشتراط الصفقة الثانية التي تعود بها السلعة إلى مالكها الأول، فالمالكية منعوا كثيرا من صور البيع على سبيل الحرمة أو الكراهة أو التورع لوجود الغرض المشابه لبيع العينة على تقدير أنه من الممكن اتخاذ صور من البيع ذريعة للربا، وسموها عِينة، وما أجازوها منه غيروا آثاره ونتائجه لإجراء تغيير في تكوينها مع أنها لا يقع فيها عود السلعة إلى مالكها الأول، ولكن لمجرد قابلية المجال لسلوك سبل أخرى كالقرض، فإذا لم يتم القرض وتم ما يغني عنه مع ترتب زيادة على أحدهما فهي من الذريعة للربا، وهم قد توسعوا في الذرائع.(5/904)
وفيما يلي إيجاز ما أورده ابن رشد (الجد) في " البيان والتحصيل " وهو أصل لِمَا جاء في كتب المالكية التالية له حول تقسيم العينة إلى جائزة وهي إذا لم يقع تواعد بل مجرد استفادة البائع من وجود الرغبة، ومكروهة وهي إذا حصل تواعد على أصل الشراء والإرباح دون تحديد مقدار الربح، ومحظورة قال عنها ما نصه " وهي أن يقول الرجل للرجل: اشتر سلعة كذا وكذا بكذا وكذا، وأنا أشتريها منك بكذا وكذا، وهذا الوجه فيه ست مسائل تفترق أحكامها بافتراق معانيها " ثم سردها معقبا عليها بأحكام شتى، كالجواز، أو الكراهة " لوجود المراوضة التي وقعت بينهما في السلعة قبل أن تصير في ملك المأمور "، وقال في إحداها: " ويستحب له أن يتورع فلا يأخذ منه إلا ما نقد فيها " ولولا خشية الإطالة لأوردت كلامه بكامله فيرجع إليه من شاء (1) .
ومن هذا يتبين أن الممنوع هو ما كان فيه قرض بزيادة وظهر في صورة بيع. أما أسلوب المرابحة فهو بيع خالص ولو كان من الممكن أن يقرض البائع المشتري المبلغ الذي يتمكن به من الشراء لصالحه دون فرق الربح الذي حصل لموضوع التأجيل في الثمن، والأمر لا يعدو أن يكون من قبيل الورع والحذر من مشابهة من يتخذ صورة البيع حيلة للإقراض بالربا. . .
هذا وقد أورد الدكتور رفيق المصري على (أسلوب المرابحة) بصدد رفضه له أنه لا يخرج عن أسلوب (حسم الأسناد التجارية) قائلا: " فليس الحسم إلا نتيجة عملية مشابهة حيث يقوم البائع بالبيع لأجل مع زيادة السعر، ثم يتقدم إلى المصرف للحسم، فيأخذ الثمن النقدي، على أن يسترد المصرف الثمن المؤجل في الاستحقاق. والفرق بين العمليتين هو أن المصرف يمنح المال للبائع في حال الحسم، ويمنحه للشاري في حال " بيع المرابحة ". وهذا وإن كان (أي المصرف) يطالب الشاري بسداد الثمن عند الاستحقاق قبل الرجوع على البائع (بافتراض أن السند لم يظهر) أي وكأن المصرف في حال الحسم يمنح المال للبائع عوضا أو نيابة عن الشاري، فماذا يبقى من الفرق بين الحسم وما دعاه الدكتور حمود بالمرابحة. هذا مع أن المرابحة فرأينا (أي رأي د. المصري) ليست كما صورها الدكتور حمود.. أن بيع المرابحة يتم ضمن علاقة ثنائية بين البائع والمشتري فيما يريد أن يجعله الدكتور حمود ذا علاقة ثلاثية بإضافة المصرف الممول وهو في هذه الحالة عبارة عن قرض بفائدة يقدمه المصرف إلى الشاري والفائدة ليست إلا فرق السعرين: المؤجل والمعجل فهو يشبه بهذا نظام بطاقة الائتمان المعروف في الغرب. . . وإن هذه الصورة من بيع المرابحة للأمر بالشراء إنما تطابق صورة من بيع العينة المحرم.
__________
(1) البيان والتحصيل لابن رشد (الجد) 7/86 - 89(5/905)
وقد استكملت كل كلام الدكتور رفيق؛ لأنه أقسى وأغرب ما أثير على أسلوب المرابحة. وقبل مناقشة بعض ما جاء في كلامه عنه تجدر الإشارة إلى أن هذه النقطة التي وقف عندها طويلًا (وهي المشابهة بينه وبين الحسم) ليست كل ما أبداه من اعتراضات على أسلوب المرابحة، ففي دراسة قدمها في ورقة عمل إلى المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي أضاف إلى هذا الجانب أمورًا أخرى هي أنه من (بيعتين في بيعة) و (بيع ما ليس عند البائع) و (فيها سلف وزيادة) أي قرض مع فضل خال عن عوض. وقد سبق الكلام عن هذه الاعتراضات، وهي قد جاءت أيضًا في بحث للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير بصدد أسلوب المرابحة مع الإلزام بالوعد ونقلها على سبيل التشبيه واستند في ذلك إلى عبارة للباجي، وسبق تفصيل ذلك". (1) .
أما الجواب عن الجديد منها وهي (تشبيه أسلوب المرابحة بالحسم) فهو لا يلحق بأسلوب المرابحة أي ضير؛ لأنه تشبيه في الأثر والنتيجة مع إغفال الفروق الجوهرية في السبب الشرعي المقتضي التحريم في الحسم، والحل في المرابحة، فكم من صيغتين تشابهتا في تحقيق الغرض مع اختلاف المنهج والحكم.
ويلحظ أن الدكتور حسن الأمين – في بحثه عن أسلوب المرابحة (2) استرسل في تكييف هذا الاعتراض بما ربما لم يخطر على بال صاحبه وهو أن الحسم هو بيع بطريق الحوالة، وأن الحوالة مختلف فيها هل هي بيع أم وفاء ثم ضعف ذلك وأشار إلى أن عملية الحسم قرض وفيها مبادلة نقد بنقد زائد في مقابل الأجل على حين أن المرابحة تتضمن مبادلة سلعة بنقد، هذا ما ختم به الدكتور الأمين مناقشته لهذا الاعتراض وهو يغني عن كل ما سواه؛ لأن مرده إلى اختلاف السببين ما بين حلال وحرام.
ويضاف إلى هذا أنه لا صحة لكون العلاقة ثلاثية في المرابحة فقد اشتبهت على قائل ذلك المراحل المتعددة لأسلوب المرابحة وفي كل منها علاقة ثنائية، والمرابحة نفسها علاقة ثنائية بين الواعد والبنك، ثم بين البنك والمصدر، ثم بين البنك والعميل. . ثم كيف يسلم للدكتور رفيق المصري قوله: إن " الفائدة ليست إلا فرق السعرين المؤجل والمعجل " مع أن هذا الفرق إذا وقع خلال البيع حلال وهو نفسه مصرح بذلك. (3)
__________
(1) أشكال وأساليب الاستثمار في الفكر الإسلامي بحث للدكتور الصديق الضرير في مجلة البنوك الإسلامية العدد (19)
(2) الاستثمار اللاربوي في نطاق عقد المرابحة (بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر العدد (35) .
(3) بحثه: النظام الإسلامي خصائصه ومشكلاته ص 18، ويبدو أن الولع بنقد المرابحة أدى به إلى هذا القول المختلف عما سبق له أن قرره(5/906)
رابعًا: جوانب تطبيقية شرعية للمرابحة:
توجد هناك لدى بعض المصارف جوانب شرعية تطبقت في المرابحة حتى أصبحت من لوازمها حسب الأسلوب المتبع عمليًّا مع أن هذه الجوانب ليست لازمة لأصل الأسلوب، فمن ذلك:
أ- أخذ العربون من الواعد:
وموجز الكلام في الحكم الشرعي للعربون أن الإمام أحمد قال بجوازه مستدلًّا بفعل عمر رضي الله عنه، وأن للعربون صورتين: أن يكون جزءًا مقدمًا من الثمن في حال تمام البيع على كل حال، ثم إما أن يعاد لدافعه إن لم تتم الصفقة، أو أن لا يعاد بل يؤخذ في حال العدول من دافعه عن إتمام الصفقة.
وما دام حكم العربون خلافيًّا وقد قام الدليل على جوازه ولم يصح الحديث في النهي عن بيع العربون، فوجوده في بيع المرابحة لا يختلف في الحكم عن وجوده في بيع المساومة، لكن بعض من تكلم في مسألة لزوم الوعد ربط بين العربون وبين هذا اللزوم الذي يفضل عدم وجوده، أبعادًا لصورة الوعد عن ملامح العقد المبرم، مع أن العربون ليس فيه مزيد إلزام في لزوم الوعد في ذاته بل هو في معنى التعويض عما لحق بالطرف الآخر من ضرر وليس حملًا على إبرام العقد، فإبرام العقد شيء، وبذلك المال تعويضًا عن ترك التعاقد شيء آخر.
وقد اختلفت صور العربون بعد شمول حالته للطرفين للواعد الذي سيؤول إلى مشتر، أو البائع. كما ظهرت صورة يدفع فيها الواعد عربونًا ثم إذا أخل بالتعاقد لا يرد إليه إلا إذا هيأ بمعرفته مشتريًا آخر بحيث لا يقع الضرر.
وقد يدفع الواعد قبل دخوله في المواعدة عربونًا للمصدر، ثم يأتي للمصرف الذي يبدي رغبته في شراء السلعة (التي هي موضوع المرابحة) فيفرج المصدر عن عربون الواعد، ثم يشتري المصرف السلعة ويبيعها مرابحة للعميل الواعد.
ب- أخذ الضمان من الواعد:
الأصل في الضمان (أي الكفالة) أن يؤخذ في الحق الذي وجب أو انعقد سبب وجوبه، وقد أجاز بعض الفقهاء ومنهم الحنفية والحنابلة أن يطلب الضمان لحق سيجب فيما بعد وسموا هذا (ضمان الدرك) ؛ لأنه لما سيدرك الشخص من حقوق عليه، كما سماه بعضٌ: (ضمان السوق) ؛ لأنه يحصل لتمكين غريب يريد العمل في السوق فيكفله تاجر معروف تجاه كل ما سيترتب بذمته وبذلك يعمل في السوق.(5/907)
وبما أن المصرف الإسلامي يجري المرابحة عن طريق استيراد ما يحتاجه العميل، ومن خلال البيانات التي يقدمها العميل عن البضاعة وعن المصدر، وقد يكون في ذلك بعض التوريط للمصرف إذا تعامل مع مصدر لا يعلم جديته في التعامل وأمانته فيه، وقد يدفع له الثمن أو جزءًا منه – من خلال فتح الاعتماد - ثم لا يفي بما التزم تجاه المصرف، وحينئذ يحتاج الأمر إلى جهد كبير لاستخلاص المصرف حقه ومع هذا الجهد قد يرجع بخفي حنين، وهذا ما دعا بعض المصارف إلى أن تطلب من الواعد قيامه بكفالة المصدر – وهي معاملة مستقلة عن المرابحة وإن كانت قد أصبحت من إجراءات أسلوبها المتبع لدى بعض المصارف.
على أن الالتزام الذي تغطيه هذه الكفالة ليس هو التزام البيع بالمرابحة؛ لأنه لم يحصل بعد، وإنما هو نتيجة التزام مستقل، وهو التزام تبعي للالتزام الأصيل بين المصرف وبين المصدر الذي منه يتم الحصول على السلعة موضوع المرابحة.
ج- تخفيض الثمن بالسداد المبكر:
لا يخفى أن أسلوب المرابحة يشتمل على البيع بالأجل، والأجل في البيع له حصة من الثمن، لكنها مدمجة فيه وعليه لا يمكن شرعًا أن يزاد الثمن إذا زاد الأجل، كما لا يمكن أن ينقص إذا نقص الأجل.
وهاتان الحالتان من صور الربا في الجاهلية ويطلق على الأولى (زِدْنِي أُنْظِرْك) وعلى الثانية (ضع وتعجل) ..
وبما أن أسلوب المرابحة، بل بيع الأجل نفسه يتم في ساحة ترتبط فيها الأسعار بالفائدة وحساباتها الزمنية فإن من يشتري بالأجل لمدة ما، ثم يقوم بالسداد قبل مضيها يشعر أنه قد غبن؛ لأنه اشترى حالًّا بسعر الآجل، مما أدى بالمصرف المركزي بباكستان إلى إصدار تعليماته للمصارف بشأن التزام تخفيض الثمن في حالة السداد المبكر. (1)
ولا يخفى ما في ذلك من خلل شرعًا، بالرغم من وقوع الخلاف في قاعدة " ضع وتعجل " فإن ما استقر عليه الفقه منع الحط من الثمن المؤجل إذا تم تعجيله ما دام ذلك الحط بشرط ملفوظ أو عُرْف ملحوظ.
(خامسًا)
أساليب وصيغ طرحت في شأن المرابحة
لقد أتى على المصارف الإسلامية حين من الدهر لم تزل – إلى جانب خدماتها المصرفية - متشبثة في جوهر أعمالها الاستثمارية بالتجارة في ظل قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . [البقرة: 275]
فإن إقدامها على التجارة لا يحصل بالصورة التقليدية المتبعة في الأسواق والتي يصدق عليها قول القائل: (وفازَ باللذةِ الجسورُ) بل إنها – في ظروف استئمان أصحاب الأموال إياها ومناشدتهم لها بلسان الحال في مزيد الحرص على مصالح المودعين المستثمرين في سلامة رأس المال وريعه ما أمكن- لا تتردد في توفير أي ضمان أو أمان لا يخل بقاعدة الرحب الحلال المتمثلة في (الغرم بالغنم) و (الخراج بالضمان) ولا يوقع المتعامل في المحذور بظلم المراباة أو التجارة باختلال التراضي وحصول الخلابة.. والمصارف الإسلامية إن وجدت في (بيع المرابحة المسبوق بالمواعدة) واحة الأمان ليس لها أن تكتفي به؛ لما يعتري هذا الأسلوب من الاحتمالات الناشئة عن إلزامية الوعد وعدمها، ولكثرة الصور العملية التي تستدعي فيها الأسواق اتباع أسلوب المبادرة لتوفير ما يظن اتجاه الرغبات إليه، ولو كانت غير معينة ولا موثقة بالوعد المحترم.
__________
(1) أشار إلى ذلك د. جمال الدين عطية في كتابه على البنوك الإسلامية.(5/908)
أ- أسلوب (بيع المخابرة)
وتطبيقه للمصارف الإسلامية
المستند الشرعي:
أسلوب شرعي يحقق – في الأصل- التروي وتدبر العواقب لصاحب الخيار سواء كان هو المشتري ليرى هل يصلح له المبيع أو لا، أو البائع ليرى هل يناسبه الثمن أو لا، لكن الغاية الخاصة هنا هي حفظ خط الرجعة فيما إذا لم يف الواعد بوعده في شراء السلعة، التي سيتملكها (المصرف الإسلامي) بناء على هذا الوعد، ولا ضير من تعدد الغايات والمصالح من تصرف ما، ولا أثر لذلك على مشروعيته.
السابقة العلمية:
إن الإمام محمد بن الحسن الشيباني هو أول من أرشد إلى هذه الوسيلة سائلًا سأله (حقيقة، أو تقديرًا على سبيل التعليم) وقد سماها ذلك السائل (حيلة) بمعنى المخرج الشرعي أو الحل الموافق لحالة السائل. وفي ذلك أورد محمد بن الحسن في كتاب "المخارج" ص 37 على لسان من سأله قوله:
- أرأيت رجلًا أمر رجلًا أن يشتري دارًا بألف درهم، وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم، فأراد المأمور شراء الدار، ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها، فتبقى الدار في يد المأمور، كيف الحيلة في ذلك؟
- قال: يشتري المأمور الدار، على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام، ويقبضها، ويجيء الآمر إلى المأمور فيقول له: قد أخذت منك هذه الدار بألف درهم ومائة درهم، فيقول المأمور: هي لك بذلك. فيكون ذلك للآمر لازمًا، ويكون استيجابًا من المأمور للمشتري.
الخطوات العملية:
1- يتلقى المصرف الإسلامي رغبة من عميله مع وعد بالشراء وهو إن كان لا يبالي – في الواقع- بمصير هذا الوعد، فإن من الضروري الإبقاء على جدية الوعد تفاديًا للدخول في المصفقة وإلغائها مما إذا تكرر يخل بسمعة المصرف كمستورد.
2- يشتري المصرف السلعة الموعود بشرائها مع اشتراطه الخيار (حق الفسخ) خلال مدة معلومة يظن كفايتها للتوثق من تصميم الواعد على الشراء وصدور إرادته بذلك.
3- يطالب العميل الواعد بتنفيذ وعده بالشراء فإذا اشترى السلعة باعه المصرف إياها وبمجرد موافقته على البيع يسقط الخيار الذي له.(5/909)
مزايا هذا الأسلوب:
ليس الاستباق والتروي هو الأهم في مزايا أسلوب (بيع المخايرة) فإنه يتيح للمصرف الإسلامي الدخول في مبادرات لشراء ما يتوقع اتجاه الرغبات إليه، كما أنه يجعل المصرف الإسلامي جهة أصيلة في السوق حيث يتلقى رغبات البيع من المصدرين كما يتلقى رغبات الشراء من العملاء.
وهذا الأسلوب كان أول ما طرحته جوابًا عن مسألة أثيرت في إحدى جلسات هيئة الفتوى والرقابة الشرعية لبيت التمويل وقد شد انتباه رئيس مجلس إدارته بصفته رئيسًا لتلك الجلسات وعنصرًا مصرفيًا ضروريًا لاكتمال مداولاتها وحسن أداء مهامها فاقترح أن يكون أحد موضوعات الندوة الفقهية الأولى التي أقامها بيت التمويل الكويتي، وذلك لكي يمر بقنوات جماعية بحيث تستطلع الآراء الشرعية والفنية في تطبيقه وأدائه الدور المطلوب. وقد اشتملت الندوة على أربعة أبحاث في هذا الموضوع شاركت بأحدها وهو منشور ضمن أعمال الندوة المذكورة.
ولعل من لطيف التوافق أن هذا الأسلوب الذي يمكن اختصار تسميته بكلمتي (بيع المخايرة) سبق إلى تقريره وسيلة للأمان في الاستثمار الأمام محمد بن الحسن الشيباني، كما أن (بيع المرابحة للواعد بالشراء) – وموقعه معروف في أمان الاستثمار- قد سبق إلى الإبانة عنه الإمام الشافعي، مع أن الموضعين يمثل كل منهما بابًا أصيلًا بين أبواب فقه المعاملات. وهذا يزيد من الدلائل على ما في هذا التراث الفقهي من ثروة تشريعية لا تفتقر إلا للترتيب والمواكبة العصرية في صور التطبيق ومجالاته.
وفيما يلي بعض ما انتهت إليه الندوة في هذا الأسلوب تأكيدًا لموقعه رديفًا للمرابحة أو بديلًا لها حسب الرغبة:
الفتاوى والتوصيات الفقهية:
بشأن خيار الشرط وتطبيقه في معاملات المصارف الإسلامية
(1) أحكام مختارة في خيار الشرط:
أ- خيار الشرط حق يثبت باشتراط المتعاقدين لهما أو لأحدهما أو لغيرهما، يخول من يشترط له إمضاء العقد أو فسخه خلال مدة معلومة.
ب- اشتراط الخيار كما يكون عند التعاقد يكون بعده باتفاق العاقدين.
جـ- يتم اشتراط الخيار بكل ما يدل عليه.(5/910)
د- يمكن اشتراط الخيار في جميع العقود اللازمة القابلة للفسخ مما لا يشترط القبض لصحته، فيمكن اشتراطه في البيع والإجارة مثلًا، ولا يسوغ اشتراطه في الصرف والسلم وبيع المال الربوي بجنسه.
هـ- لا يجب تسليم البدلين (المبيع أو الثمن) في عقد البيع بشرط الخيار، ولكن يجوز قيام أحد العاقدين أو كليهما بالتسليم طواعية لا سيما بهدف التجربة والاختبار.
و ينتقل ملك المبيع إلى المشتري (المصرف الإسلامي مثلًا) بموجب العقد إذا كان الخيار له وحده.
ز- نماء المبيع في مدة الخيار يتوقف فيه إلى إمضاء البيع أو فسخه، فإن أمضى كان النماء للمشتري (المصرف) وإن فسخ كان للبائع.
حـ- إذا كان الخيار للمشتري وحده (المصرف) فإن تصرفاته، من بيع وإجارة ونحو ذلك، تصرفات صحيحة ناقلة للملك مسقطة للخيار ولو لم يسق ذلك التصرف قبض المصرف الإسلامي للسلعة ما لم تكن قوتًا.
ط- يسقط الخيار ويصبح العقد باتًا بمجرد انقضاء مدة الخيار إذا لم يصدر من المشتري (المصرف) فسخ العقد أو التصرف في السلعة.
ى- لا يشترط قيام المشتري (المصرف) بإعلام البائع بإبرامه للعقد أو فسخ له، لأن البائع بموافقته على جعل الخيار للمشتري خوله صلاحية اختيار الإمضاء أو الفسخ خلال المدة المعينة.
ك- يضمن المشتري (المصرف) المبيع إذا قبضه وتلف مدة الخيار.
(2) تقديم صورتين لخيار الشرط للممارسة:
يمكن تطبيق إحدى الصورتين التاليتين:
الأولى: بناء على رغبة ووعد بالشراء:
أ- يتلقى المصرف الإسلامي رغبة من عميله مع وعد بالشراء، وهو وإن كان لا يبالي –في الواقع- بمصير هذا الوعد، فإن من الضروري الإبقاء على جدية الوعد، تفاديًا للدخول في الصفقة بدءًا ثم إلغائها انتهاءً، مما إذا تكرر يخل بسمعة المصرف كمستورد.
ب- يشتري المصرف السلعة الموعود بشرائها مع اشتراط الخيار له (حق الفسخ) خلال مدة معلومة تكفي عادة للتوثق من تصميم الواعد على الشراء وصدور إرادته بذلك.
جـ- يطالب المصرف الواعد بتنفيذ وعده بالشراء فإذا اشترى السلعة باعه المصرف إياها، وبمجرد موافقته على البيع يسقط الخيار.
الثانية: المبادرة لتوفير سلع مرغوبة في السوق:
أ- يشتري المصرف الإسلامي سلعة من الأسواق المحلية أو العالمية مع اشتراطه الخيار (حق الفسخ) خلال مدة معلومة تكفي عادة للتوثق من وجود راغبين يبرم معهم عقودًا على تلك الصفقة.
ب- يحق للمشتري (المصرف) أن يبرم عقودًا على تلك الصفقة مع الراغبين في شرائها وبمجرد إتمام العقد ينتهي الخيار.(5/911)
من المراجع المستخدمة في البحث
أ- من كتب الفقه:
- الأم للإمام الشافعي
- المغني لابن قدامة
- المبسوط للسرخسي
- مواهب الجليل للحطاب
- البيان والتحصيل، لابن رشد الجد
- بداية المجتهد لابن رشد الحفيد
- المخارج في الحيل، لمحمد بن الحسن الشيباني
ب- من كتب أنشطة المصارف الإسلامية:
- تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، د. سامي حسن حمود
- الأعمال المصرفية التي يزاولها بنك دبي.
- أعمال مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني، بيت التمويل الكويتي.
- البنوك الإسلامية، للدكتور جمال الدين عطية
- قرارات مؤتمر المصرف الإسلامي الأول، بنك دبي
- قرارات ندوة البركة الأولى
- فتاوى وتوصيات الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي.(5/912)
المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية
(مؤسسة آل البيت)
ندوة عن:
"خطة (استراتيجية) الاستثمار فلي البنوك الإسلامية:
الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات:
بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب / البنك الإسلامي للتنمية / جدة.
عمان
22 شوال – 25 شوال 1407هـ
18/6 – 21/6/1987م(5/913)
بحث الدكتور حاتم القرنشاوي
عن الجوانب الاجتماعية والاقتصادية لتطبيق عقد المرابحة
مقدمة:
عقود المرابحة هي إحدى صيغ التوظيف التي تستأثر بجانب رئيسي من التمويل الذي تقدمه البنوك الإسلامية في الوقت الحالي حيث تتراوح نسبة التوظيف قصير الأجل في تلك البنوك –وعماده المرابحات - بين 40 % - 60 % من إجمالي التوظيفات في المتوسط.
ومضمون بيع المرابحة أن يقوم البنك بشراء سلعة ما بناء على طلب عميل ويعرضها للبيع بالثمن الذي اشتريت به مع زيادة ربح معلوم للبائع والمشتري فيدفع المشتري الثمن مضافًا إليها لربح الذي يتفقان عليه.
وفي التطبيق العملي فإن العميل يتقدم للبنك طالبًا شراء سلعة معينة تحدد مواصفاتها بدقة وقد يحدد مصدرها ويعد بشرائها بتكلفتها زائد ربح يتفق عليه. وقد يطلب البنك دفع جانب من الثمن (عربون) مقدمًا عند طلب الشراء ويقوم البنك بعد ذلك بالحصول على السلعة إن لم تكن متاحة لديه ويعرضها للعميل الذي يشتريها بحسب ما اتفق عليه أو قد يرفضها. وقد يتفق على أن يتم دفع كامل ثمن السلعة أو المتبقي منه مضافًا إليه ما اتفق عليه من ربح عند توقيع عقد البيع واستلام السلعة وقد تكون مرابحة لأجل- وهي الصورة الأعم في بعض البنوك- بحيث يتم دفع باقي القيمة على أقساط يتفق على مواعيد استحقاقها.
وقد ثارت حول عقد المرابحة –وما زالت- العديد من التساؤلات الفقهية والاقتصادية والتطبيقية. فمن الناحية الفقهية أثيرت التساؤلات حول شرعية العقد ذاته ومدى شرعية إلزام المشتري بوعده بالشراء ومن ثم جواز إلزامه بالتعويض في حالة تحمل البنك لأية خسائر قد تنتج عن عدم التزام المشتري بوعده وكذلك أثيرت التساؤلات حول جواز الربط بين بيع المرابحة والبيع لأجل وجواز قبض العربون ومدى حق المشتري فيه إن عدل عن وعده بالشراء. وكذلك فيما يجوز حسابه ضمن الثمن الذي يحتسب الربح على أساسه وهل يحتسب الربح كنسبة أو كقيمة. وهي كلها تساؤلات لها انعكاساتها التطبيقية فضلًا عن جانبها الفقهي.
ومن الناحية الاقتصادية فقد أثار توسع البنوك الإسلامية في عمليات المرابحة تساؤلات حول مدى جدية هذه البنوك في تدعيم جهود التنمية الاقتصادية في البلاد الإسلامية والتي تتطلب توجيه جانب متزايد من مواردها لعمليات الاستثمار الإنتاجي وهو طويل الأجل بالضرورة. وعن تأثير ذلك من الناحية الاجتماعية على ترسيخ قيمة الربح السريع وتجنب المخاطرة وهو ما قد يتعارض مع قيم إسلامية أخرى.
وبطبيعة الحال لن تعرض هذه الورقة - ولا تستطيع - لكل هذه التساؤلات التي ما زال بعضها موضع أخذ ورد والتي سيتم مناقشة جانب رئيسي منها في أوراق بحثية أخرى مقدمة لهذه الندوة وإنما ستحاول أن تفتح الباب لحوار مثمر – إن شاء الله- حول بعض الآثار الاقتصادية والاجتماعية لتطبيق عقد المرابحة والإطار المحاسبي لتلك العقود.(5/914)
أولًا: الآثار الاقتصادية لتطبيق عقد المرابحة:
لا خلاف على أن لصيغة المرابحة جوانب إيجابية عديدة لعل أهمها يتمثل في توفير بديل "شرعي" لعمليات التمويل الربوي قصير الأجل الذي تقدمه البنوك التقليدية وكذلك في تأمين انسياب السلع المطلوبة للمجتمع بتكلفة نهائية يمكن أن تكون أقل مما هي عليه في حالة التمويل بالفائدة. وكلا الهدفين لازم لحركة النشاط الاقتصادي ولخدمة جماهير المستهلكين.
ولكن الذي يمكن أن يثور حوله الخلاف هو الشروط والضوابط التي يمكن من خلالها تجنب المزالق التي نشأت في بعض الأحيان ليس من المرابحة كصيغة شرعية للتعامل –في حدودها المتفق عليها- وإنما في طريقة تطبيقها ومداه. وبصورة أكثر تحديدًا فإننا يمكن أن نبرز ما يلي:
1- نظرًا لأن صيغة المرابحة قد قدمت للبنوك الإسلامية صورة للتوظيف أقرب ما تكون شكلًا لصيغة الائتمان القصير التقليدية من حيث انخفاض درجة المخاطرة نتيجة توافر درجة عالية من الضمانات – وخاصة في حالة الأخذ لإلزام طالب الشراء بوعده وأخذ العربون وعد رده كليًا أو جزئيًا مقابل الضرر الذي قد ينشأ- وكذلك سرعة دوران رأس المال أدى ذلك كله إلى إقبال تلك البنوك على توجيه كم متزايد من أموالها لتلك الصيغة.
2- ساهم عدم توافر الكفايات المهنية اللازمة لدراسة مجالات المشاركة الدائمة أو المتناقصة، واتخاذ القرار بشأنها وعدم الرغبة –أو المقدرة- على تحمل مسئولية ذلك القرار ساهم ذلك كله في تدعيم الاتجاه نحو توظيف كم متزايد من الأموال في عمليات المرابحة وكان ذلك بالضرورة على حساب التوظيف طويل الأجل ومتوسط الأجل.
3- أدت رغبة البنوك الإسلامية –أو بعضها- في الدخول في منافسة غير مطلوبة ولا مرغوبة مع البنوك التقليدية في مجال العائد الذي يحصل عليه العميل ومدى دورية ذلك العائد ليس فقط إلى توجيه الأموال للمرابحات وإنما لتوجيه جانب ليس بالبسيط منها إلى تمويل عمليات شراء السلع نصف الكمالية والكمالية حيث يكون هامش الربح الممكن الحصول عليه أعلى ودرجة المخاطرة أقل كما في حالة السيارات التي تظل قانونًا مملوكة للبنك حتى تمام السداد. وقد كان ذلك بطبيعة الحال على حساب ما يمكن توجيهه للسلع الضرورية ذات هامش الربح المنخفض فضلًا عن تفضيل المرابحات ذات المدى الزمني القصير ما أمكن أو فرض معدلات ربح عالية مقابل الأجل وهو ما أثار بالضرورة تساؤلات لا ترتبط فقط بالشرعية بل بطبيعة البنوك الإسلامية ذاتها.(5/915)
4- ارتبط التطبيق أيضًا في نماذج عديدة منه بتفضيل ضمني لتمويل عمليات شراء السلع المستوردة لأسباب عديدة منها نمطيتها وسهولة تحديد مواصفاتها وانخفاض درجة المخاطرة فيها نسبيًا ولازدياد درجة تحكم البنك في تدفقها وسهولة تصريفها بالمقارنة بالسلع المحلية في بعض البلاد.
ومؤدى ذلك كله أن تضاءل نشاط البنوك الإسلامية –أو انعدم- في مجال تمويل المضاربات وكذلك تمويل المشاركات الدائمة أو المتناقصة وتحول هيكل الموارد تدريجيًا إلى موارد قصيرة الأجل في المقام الأول وتعرضت عديد من البنوك الإسلامية في البلاد التي تعاني من مشاكل في موازينها التجارية –إلى عديد من المخاطر غير المحسوبة والتي نشأت من وضع قيود على عمليات الاستيراد أو من تقلبات في أسعار العملات أدت لعجز المدينين عن السداد أو نتيجة لتزايد الديون المعدومة التي ترتبت على اندفاع بعض البنوك في القيام بعمليات المرابحة دون دراسة دقيقة مسبقة –وتحت افتراض أن هناك من الضمانات ما يكفي- مما أدى لاستغلال ثغرات العمل أو العقود.
والأهم من ذلك كله هو تدني الأثر الكلي لنشاط البنوك الإسلامية على الاقتصاد القومي حيث انصرف ذلك النشاط إلى تمويل التجارة- وهي نشاط مشروع ومطلوب- ولكن على حساب الأنشطة الأخرى ولم يكن ذلك مطلوبًا خاصة في المجتمعات التي تعاني في المقام الأول من قصور هياكلها الإنتاجية ومن حاجتها الملحة إلى إيجاد فرص عمل منتجة لمواطنيها. ولا شك أن مثل ذلك الأثر السلبي لسيطرة توظيفات المرابحة سيتفاوت حسب طبيعة المجتمع وتكوينه والأهمية النسبية لقطاعاته الاقتصادية ومدى التوازن بينها وفرص الاستثمار المتاحة فيه.(5/916)
ثانيًا: بعض الجوانب الاجتماعية وأخلاقيات العمل المرتبطة بتطبيق عقود المرابحة:
يرتبط تطبيق عقد المرابحة بمجموعة من المتطلبات السلوكية والأخلاقية التي تعكس الاشتراطات الإسلامية في مشروعية وطيب عائد النشاط الاقتصادي، فالتطبيق المقبول شرعًا لعقد المرابحة يتطلب فضلًا عن سلامة العقد:
1- الأمانة وعدم الخيانة أو التحايل حيث إن مدار تحديد الربح وما يلحق به ومن ثم كان هذا الأمر مدار بحث وتدقيق من الفقهاء فيما يترتب على عدم الأمانة في تحديد الثمن أو في مكوناته أو في التحايل على ذلك ببيع السلعة صوريًا ثم شرائها وغير ذلك.
2- جدية البائع والمشتري وترسيخ سلوك الوفاء بالعهد والالتزام بالوعد خلقًا وليس بالضرورة قضاءً.
3- ضرورة إظهار عيوب المبيع أو ما يكره فيه إن علمها البائع قبل التسليم وإن خفيت على المشتري وهو ما قد يندرج تحت باب أمانة التعامل.
4- الالتزام الديني حيث قد يداخل تحديد الربح أو مقابل الأجل في حالة المرابحة لأجل شبهة استخدام الفائدة الدائنة في البنوك التجارية أو التسهيلات البنكية الأخرى في احتساب " الربح " وهو ما ينقل العملية من دائرة الحل إلى الشبهة المحرمة إن لم يكن إلى الحرمة ذاتها.(5/917)
ومن ناحية أخرى فإن التطبيق المصرفي السليم لعمليات المرابحة يتطلب خلافًا لما قد يسود لدى بعض العاملين بالبنوك الإسلامية- درجة عالية من المعرفة لظروف السوق وتطور الطلب على السلع المختلفة فيه وجهازًا فنيًا قادرًا على تحليل المناخ العام للسوق واتجاهات السياسة الاقتصادية في الأجل القصير والطويل وشبكة مصادر المعلومات لتأمين ما يكفي من بيانات عن المصادر البديلة للسلع ومواصفاتها وأسعارها فضلًا عن الاستعلامات المطلوبة عن العملاء طالبي التمويل. وتوافر ذلك يعني إمكانية قيام البنك بدوره المفترض كتاجر –وليس كممول فحسب- يحصل على السلعة من أفضل مصادرها بأقل تكلفة ممكنة وأفضل شروط متاحة مما يعني توفيرها للعميل بكل هذه المزايا فضلًا عن تأمين ربحه وتقليل المخاطر غير المحسوبة التي قد تنشأ من قصور المعلومات عن العميل أو عن ظروف السوق المحلي وهو ما يخل بدور البنك "كمضارب" في أموال المودعين. ولا شك أن توافر الأفراد القادرين على القيام بهذه المهام إنما يندرج كذلك في باب أمانة التعامل حيث إن العميل هنا –خاصة في حالة إلزامه بوعده بالشراء- إنما يقبل الثمن الذي يحدده البنك بناء على كل ما تكلفه بالفعل فإن لم يكن قد تحرى كل السبل التي تكفل له الحصول على أفضل الأثمان وأحسن الشروط اعتمادًا على التزام العميل فقد شاب تعامله في رأينا- الكثير.
وبعيدًا عن تلك المتطلبات الأساسية التي أشرنا لبعضها فإن الصورة التي تم بها تطبيق صيغة المرابحة في الواقع العملي قد أسفر عن بعض الآثار السلوكية السلبية التي انعكست على مودعي البنوك الإسلامية ومتخذي القرار فيها في الوقت ذاته. ولعل من أهم تلك الآثار السلبية هو ترسيخ سلوك انتظار الربح السريع لدى المودعين من ناحية وسلوك تجنب المخاطر – أو ما يتصور أنه تجنب مخاطر- مع الرغبة في زيادة هامش الربح ما أمكن لدى متخذي القرار في البنوك الإسلامية وهو ما أدى بالتالي إلى سيادة معيار للتقييم يرتكز أساسًا على معدلات الربح المحققة بمعرفة البنك دون ما نظر إلى غيرها من المعايير الأخرى مثل الإسهام في تحقيق "مجتمع المتقين" الذي يسعى إليه العمل الإسلامي أو توفير فرص العمل للمحتاجين أو غيرها مما ينبغي أن تكون مكونات أساسية في دالة ربح البنك والمودع على حد سواء.
وقد أدى تفشي هذا السلوك – الذي انعكس في توجيه جانب متزايد من الموارد المتاحة لعمليات المرابحة قصيرة الأجل- إلى عدم توجيه الجهد الكافي لتكوين الكادرات الفنية القادرة على العمل في مجال التوظيفات متوسطة الأجل وطويلة الأجل وهي عصب جهاز الاستثمار الذي يتصف بضعفه الشديد في معظم البنوك الإسلامية ومن ثم بدا الأمر وكأنه يدور في دائرة مغلقة فتوجه الموارد إلى التوظيف نتيجة للرغبة في الربح العالي ذو درجة المخاطرة القليلة- مما انعكس على عدم الاهتمام بجهاز الاستثمار وهو ما أدى بالتالي إلى صعوبة توجيه الموارد للتوظيف الطويل وإن وجدت النية ومن ثم توجيه مزيد من الموارد للتوظيف القصير.(5/918)
ثالثًا: بعض الملاحظات حول الإطار المحاسبي لعقد المرابحة:
تثير دراسة الإطار المحاسبي لعقد لمرابحة مجموعة من النقاط الأساسية يمكن تحديدها فيما يلي:
1- تحديد ثمن شراء السلعة وما يتم تحميله عليه.
2- تحديد هامش الربح الذي سيحصل عليه البنك.
3- حساب ثمن بيع السلعة للآمر بشرائها وهو محصلة إضافة 1، 2.
4- معالجة طرق سداد الثمن.
1- تحديد ثمن شراء السلعة وما يتم تحميله عليه:
وهنا يتطلب الأمر وجود قيود محاسبية مستقلة لكل عملية مرابحة تتحدد فيها كافة المصاريف المباشرة المتعلقة بعملية شراء السلعة ونقلها إلى مقر البنك وكذا التحديد الواضح لنصيب العملية من المصروفات الإدارية إذا ما أمكن احتسابها بصورة دقيقة وإلا فإننا نميل إلى اعتبار تلك المصروفات من بين مبررات الربح الذي يحصل عليه البنك نظير قيامه بالعملية ومن ثم فإن إدخاله في الاعتبار عند تحديد الثمن الذي يضاف إليه هامش الربح قد يعني ازدواجية في الحساب. وجدير بالذكر أن الأمر قد يتطلب إعادة تقويم السلعة في تاريخ عقد البيع إذا ما كان البنك قد حصل عليها نفسه عن طريق مرابحة لأجل ومن ثم لا يجوز تحميل المشتري بالزيادة الناشئة عن الأجل.(5/919)
2- تحديد هامش الربح الذي سيحصل عليه البنك:
قد يكون من الأفضل في هذا الشأن خلافًا لما جرى عليه العمل في بعض المصارف أن يتم الإعلان عن هامش الربح الذي يرغب البنك في تقاضيه عن المجموعات السلعية المختلفة والذي يكون أساسًا للتعاقد في حالة الرضا –بين الطرفين وبطبيعة الحال فإن هذا الهامش ينبغي تعديله بصورة دورية في ضوء ما يطرأ من تغييرات في السوق أو في المناخ الاجتماعي أو الاقتصادي وليس على أساس التباين بين العملاء.
ومن ناحية أخرى فإننا نميل إلى ما انتهى إليه بعض الباحثين من ضرورة الفصل بين هذا الهامش وبين ما يحصل عليه البنك من زيادة في الثمن مقابل الأجل وان يحدد لذلك هامش مستقل يسترشد في تكوينه بمتوسط العائد من توظيفات البنك ومن متوسط العائد في السلعة موضع التعاقد.
وفي كل الأحوال ينبغي أن يضع البنك في اعتباره ذلك التوازن المطلوب –والمفتقد أحيانًا- بين الرغبة في تعظيم الربح وبين الوظيفة المجتمعية للبنك الإسلامي.
3- حساب ثمن بيع السلعة:
وهو ما سيأتي كمحصلة لتحديد تكلفة الشراء وإضافة هامش الربح وهامش الآجل.(5/920)
4- طرق سداد الثمن:
ينبغي في هذه النقطة أخذ القيمة الحقيقية للعربون أو المقدم الذي دفعه العميل عند طلب الشراء بمعنى أنه من غير المقبول أن يحتسب البنك لنفسه زيادة في الربح مقابل الأجل ثم يعامل طالب الشراء بالقيمة الاسمية لما دفعه قبل التعاقد بشهور عند احتساب المتبقي من الثمن- وفي هذا قد يقترح إيداع المقدم أو العربون كوديعة استثمارية تحتسب أرباحها طول فترة ما قبل التعاقد على البيع ونضفي تلك الوديعة عند التعاقد وتستخدم في السداد الفوري أو كقسط أول في حالة المرابحة لأجل. ولا شك أنه في الحالة الأخيرة يظل العميل مدينًا بقيمة الأقساط ويحمل بها حسابه حتى تمام السداد. ويتعلق بهذه النقطة أمران: أولهما يرتبط بطبيعة التعامل مع العربون أو المقدم في حالة عدول العميل عن الشراء وهنا تختلف المعالجة طبقًا للتفسير الفقهي الذي يأخذ به البنك فإن كان يأخذ بصيغة الوعد الملزم فإنه يحتفظ بحساب العربون حتى يتم تصريف السلعة ويخصم منه ما قد يتحمله البنك من خسارة وأما إذا أخذ بثبوت الخيار للعميل وللبنك فإنه سيقوم في هذه الحالة برد العربون للعميل دون ما خصم.
والأمر الثاني يتعلق بما أثير من ضرورة أخذ قيمة النقود لا عددها في الاعتبار عند تحديد الثمن وعند السداد وكذلك عند التأخر فيه والرأي أن مثل هذا الأمر فيه من التحفظات الشرعية ما يتطلب مزيد بحث ودراسة فضلًا عن أنه يدخل ضمن المخاطر التجارية التي ينبغي أخذها في الاعتبار عند تحديد الثمن في البيع الآجل عمومًا ومن ثم فقد يكون الأيسر والأحوط أن يلتزم الطرفان بما يتم الاتفاق عليه من ثمن وأقساط عند التعاقد وأن يوجه مزيد من البحث خاصة لرأي ابن عابدين وغيره من الفقهاء المحدثين في هذا الأمر.(5/921)
المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية
(مؤسسة آل البيت)
ندوة عن:
"خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية:
الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات".
بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب / البنك الإسلامي للتنمية / جدة.
عمان
22 شوال – 25 شوال 1407 هـ
18/6 – 21/6/1987 م(5/922)
بحث السيد موسى شحادة
عن
"تجربة البنك الإسلامي الأردني"
بسم الله الرحمن الرحيم
خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية
الجوانب التطبيقية والقضايا والمشكلات
تجربة البنك الإسلامي الأردني
مقدمة:
تهدف هذه الورقة إلى تقديم تجربة البنك الإسلامي الأردني في تطبيق عقد المرابحة من الناحية العملية والصعوبات التي تعترض هذا التطبيق مع الإشارة إلى خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنك.
ولعل من المناسب قبل شرح هذه التجربة وتفصيلها ونطاق تطبيقها، الإشارة إلى بعض المعلومات والبيانات عن البنك وأهدافه وخطط الاستثمار فيه وذلك حسب متطلبات الورقة التي حددت إطار هذا البحث.
تأسيس البنك:
تأسس البنك بموجب قانون خاص مؤقت صدر في عام 1978 وتفضلت حكومة المملكة الأردنية الهاشمية بإصداره كقانون دائم عام 1985. ومن الجدير بالذكر أن قانون البنك ونظامه الأساسي قد دُرِسَا من قبل لجنة من العلماء وذلك قبل إقراره. وقد سجل البنك كشركة مساهمة برأسمال مقداره أربعة ملايين دينار أردني، وتم في عام 1986 رفع رأسماله إلى (6) ملايين دينار.
أهداف البنك:
حدد القانون وجوب التزام البنك باجتناب الربا –في الأخذ والإعطاء- وأكد أن هذا الالتزام مطلق في جميع الأحوال والأعمال، وأن أنظمة البنك ولوائحه وتعليماته الصادرة فيه -خلافًا لموجبات هذا الالتزام- تعتبر غير نافذة في حق البنك له أو عليه.
كما حددت مواد قانونه إلى أن البنك يهدف إلى تغطية الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية في ميدان الخدمات المصرفية وأعمال التمويل والاستثمار المنظمة على غير أساس الربا، مع الإشارة بوجه خاص إلى الغايات التالية:
أ- توسيع نطاق التعامل مع القطاع المصرفي عن طريق تقديم الخدمات المصرفية غير الربوية مع الاهتمام بإدخال الخدمات الهادفة إلى إحياء صور التكافل الاجتماعي المنظم على أساس المنفعة المشتركة.
ب- تطوير وسائل اجتذاب الأموال والمدخرات وتوجيهها نحو المشاركة في الاستثمار بالأسلوب المصرفي غير الربوي.
جـ- توفير التمويل اللازم لسد احتياجات القطاعات المختلفة، ولا سيما تلك القطاعات البعيدة عن إمكان الإفادة من التسهيلات المصرفية المرتبطة بالفائدة.(5/923)
اختصاصات البنك:
ولتحقيق الأهداف المذكورة فقد سمح للبنك بممارسة العمل في المجالات التالية:
1- الأعمال المصرفية غير الربوية:
يمارس البنك سواء لحسابه أو لحساب غيره في داخل المملكة وخارجه جميع أوجه النشاط المصرفي المعروفة أو المستحدثة مما يمكن البنك أن يقوم به في نطاق التزامه المقرر ويدخل في نطاق النشاط ما يلي:
أ- قبول الودائع وفتح الحسابات الجارية وحسابات الإيداع المختلفة وتأدية الشيكات وتقاصها وتحصيل الأوراق التجارية، وتحويل الأموال، وفتح الاعتمادات المستندية وإصدار الكفالات وخطابات الضمان وبطاقات الائتمان وغير ذلك من الخدمات المصرفية.
ب- التعامل بالعملات الأجنبية بيعًا وشراء على أساس السعر الحاضر.
جـ- إدارة الممتلكات وغير ذلك من الموجودات القابلة للإدارة على أساس الوكالة بالأجر.
د- القيام بدور الوصي المختار لإدارة التركات وتنفيذ الوصايا.
هـ- القيام بالدراسات الخاصة لحساب عملائه وتقديم المعلومات والاستشارات المختلفة.
2- الخدمات الاجتماعية:
القيام بدور الوكيل الأمين في مجال تنظيم الخدمات الاجتماعية الهادفة إلى توثيق أواصر الترابط بين مختلف الجماعات والأفراد؛ لتقديم القروض الحسنة للغايات الإنتاجية والاجتماعية، وإنشاء وإدارة الصناديق المخصصة لهذه الغايات، وكل ما يلزم من أعمال من أجل هذه الغايات المستهدفة.
3- أعمال التمويل والاستثمار:
يقوم البنك بجميع أعمال التمويل والاستثمار على غير أساس الربا وذلك من خلال الوسائل التي تمكنه من تحقيق أهدافه ومنها:
أ- تقديم التمويل اللازم –كليًّا أو جزئيًّا- في مختلف الأحوال والعمليات ويشمل أشكال التمويل بالمضاربة والمشاركة، وبيع المرابحة وغير ذلك من صور مماثلة.
ب- توظيف الأموال التي يرغب أصحابها في استثمارها المشترك مع سائر الموارد المتاحة لدى البنك وفق نظام المضاربة المشتركة، وكذلك القيام بتوظيف الأموال حسب الاتفاق الخاص بذلك.
جـ– استثمار الأموال في مختلف المشاريع.
د- تأسيس الشركات في مختلف المجالات وتملك الأموال المنقولة وغير المنقولة واستثمارها واستئجارها وتطويرها في مجالات مختلفة: زراعية وصناعية وإسكان وغيرها.(5/924)
مباشرة البنك للعمل:
باشر الفرع الأول للبنك أعماله في شهر أيلول (سبتمبر) عام 1979 في مدينة عمان، وتم وضع خطة للتفرع بهدف إيصال الخدمات إلى كافة المواطنين في أنحاء المملكة، وأصبح للبنك الآن اثنا عشر فرعًا تنتشر في مناطق الأردن الأكثر ازدحامًا بالسكان والأكثر نشاطًا من الناحية الاقتصادية. وقد استطاع البنك من خال فروعه، أن يستقطب خلال سبع سنوات من عمله ودائع بلغت حتى نهاية عام 1986 حوالي (128) مليون دينار أردني منها 100 مليون دينار في حسابات الاستثمار المشترك، كما بلغت استثماراته في مجالات الاستثمار المختلفة حتى نهاية الفترة المذكورة، حوالي (95) مليون دينار أردني، وبلغ عدد عملائه حوالي (80) ألف عميل.
البيئة التي يعمل فيها البنك:
يعمل في الأردن الآن (16) مصرفًا ومثلها كشركات مالية وعقارية تقبل الودائع. وبالرغم من أنه كان آخر مصرف باشر عمله في المملكة، إلا أنه أصبح يحتل، مع نهاية عام 1986، المرتبة الرابعة بين البنوك الأردنية من حيث مجموع الموجودات ومن حيث مجموع الودائع، ومن حيث مجموع الاستثمارات، وذلك بالرغم من قصر المدة التي أنشئ فيها ويبلغ رأس مال البنك واحتياطياته ومخصصاته في الوقت الحاضر حوالي 9.8 مليون دينار يضاف إلى ذلك 2.7 مليون دينار كمخصص لمخاطر الاستثمار.
العلاقات مع البنوك المحلية والأجنبية:
استطاع البنك خلال الفترة الماضية وضع أسس التعامل مع البنوك المحلية وفق قانونه وتطبيقاته الخالية من الربا. كما تم إقامة علاقات مع المصارف الخارجية وفق نفس الأسس. ومن الجدير بالذكر أن البنك يتبع سياسة إقامة شبكة المراسلين في الخارج مع البنوك الإسلامية أولًا، وإذا تعذر وجودها في بلد ما فإنه يتجه إلى البنوك الأخرى التي تفهمت تطبيقات البنك وأسس تعامله وقبلت التعامل معه وفق هذه الأسس.
العلاقات مع البنك المركزي الأردني:
يمارس البنك الأعمال المصرفية المختلفة حسب الأعراف والقواعد المتبعة لدى البنوك المرخصة في المملكة وذلك باستثناء ما يتعارض منها مع التزام البنك المقرر بالسير في تعامله على غير أساس الربا.
كما يتقيد البنك –في مجال ممارسته لنشاطه المصرفي- بكل ما تتقيد به البنوك المرخصة من ضوابط بما في ذلك الاحتفاظ بالاحتياطي النقدي المقرر والمحافظة على نسب السيولة اللازمة لحفظ سلامة مركز البنك، وحقوق المودعين والمستثمرين والمساهمين، كما يتقيد البنك بالتعليمات الصادرة للبنوك فيما يتعلق بتنظيم الائتمان ونوعيته وتوجيهه في الإطار المطلوب للتنمية الوطنية.(5/925)
ومن الجدير بالذكر أن البنك الإسلامي، وحسب تطبيقات البنك المركزي الأردني، لا يستطيع حتى الآن الاستفادة، كما تستفيد المصارف الأخرى، من التسهيلات التي يقدمها البنك المركزي كملجأ أخير لتلك البنوك عند الحاجة إلى السيولة السريعة، كما أنه لا يستفيد من تعليمات إعادة الخصم أو تشجيع التصدير وغيرها بسبب عدم وجود المنافذ في تلك التعليمات خارج إطار الفائدة. ويأمل البنك الإسلامي أن تتاح له فرصة المساواة مع البنوك الأخرى ليتمكن من زيادة توجيه استثماراته نحو متطلبات التنمية ولمدد أطول مما هو مطبق حاليًا لدى البنك الإسلامي، وتجنبًا لاستمرار تعطيل نسبة عالية من سيولته بسبب ذلك.
القوانين والأنظمة التي تحكم علاقاته بالآخرين:
باستثناء ما ورد في قانون البنك الإسلامي الخاص، فإن العديد من القوانين ما زالت تعيق حرية تطبيقات البنك وقد أشرت سابقًا إلى الامتياز الذي تمتاز به البنوك الأخرى في مجال استفادتها من تسهيلات البنك المركزي. كما أن بعض القوانين الأخرى تعيق تطبيقات البنك وتجعل تكلفة تعامل الناس معه مرتفعة كقانون رسوم تسجيل الأراضي وغيره من قوانين الرسوم، وسنتعرض إلى إيضاح هذه الناحية في تطبيقات عقود المرابحة وبيان أثرها على تعامل العملاء مع البنك الإسلامي.
مصادر الأموال:
تتكون موارد البنك من مصادر ذاتية، وتتمثل في رأسمال البنك واحتياطياته وتشكل هذه النسبة حاليًا 10 % من مصادر الأموال، وأما الجزء الأكبر فيتمثل في الموارد من الودائع الائتمانية وحسابات الاستثمار وتشكل هذه الموارد حاليًا 90 %، والحسابات في البنك الإسلامي الأردني ثلاثة أنواع رئيسية هي:
أ- حسابات الائتمان:
وهي عبارة عن الودائع (الجارية وتحت الطلب) التي يتسلمها البنك على أساس تفويضه باستعمالها وله غنمها وعليه غرمها، ولا تكون مقيدة بأي شرط عند السحب أو الإيداع.
ب- حسابات الاستثمار المشترك:
وهي الحسابات التي يتسلمها البنك من الراغبين في مشاركته فيما يقوم به من تمويل واستثمار على أساس المضاربة المشتركة مقابل حصول هذه الحسابات على نسبة من الربح المتحقق خلال السنة المالية ذات العلاقة وهذه الحسابات هي حسابات التوفير والإشعار والأجل.
جـ- حسابات الاستثمار المخصص:
وهي الودائع التي يتسلمها البنك من الراغبين في اسثتمارها في مشروع معين أو غرض محدد على أساس حصول البنك على حصة من الربح، ودون أن يتحمل الخسارة الناشئة بدون تعد أو تفريط.
ويبين الجدول رقم (1) فيما يلي تطور موارد الودائع خلال الأعوام 1980 – 1986، كما يبين الجدول رقم (2) فيما يلي تصنيف ودائع لأجل وتحت إشعار في البنك حسب استحقاقها وتدفقها.(5/926)
جدول رقم (1)
تصنيف الودائع والحسابات (لأقرب ألف دينار)
السنة جارية وتحت الطلب توفير إشعار لأجل المجموع
1980 4848 1097 4099 1598 11642
1981 12213 1864 8024 3233 25334
1982 16382 3268 11530 4654 35834
1983 20728 4902 13485 19451 58566
1984 22298 6826 15033 38712 82869
1985 23746 8060 15875 55183 102864
1986 26641 10287 16334 74352 127614(5/927)
جدول رقم (2)
تصنيف الحسابات الاستثمارية تحت إشعار ولأجل حسب استحقاقها في نهاية الأعوام التالية:-
حسابات تستحق خلال 3 أشهر بعد ثلاثة أشهر
ولغاية ثلاثة أشهر بعد ستة أشهر
ولغاية تسعة أشهر أكثر من تسعة أشهر
1980 4099
1598
1981 8024
3233
1982 11530
4654
1983 13485
19452
1984 38299 4761 3698 6987
1985 32526 8746 10887 18899
1986 34297 14810 16801 24777(5/928)
وحيث إن الودائع تستحق لأعداد كبيرة من العملاء تختلف ميولهم اختلافًا كبيرًا فإنه يتوجب على الإدارة الحكيمة التعرف على العوامل التي تحكم تصرفات هؤلاء العملاء وتوزيع ودائعهم واستحقاقاتها، والوقوف على توقعات السحب والإيداع والأهمية النسبية لكل نوع من أنواع الودائع وتجميع هذه الودائع في إحصائيات لتحديد استراتيجية الاستثمار والاستخدام للموارد، ولتحديد آجال هذه الاستخدامات لتتطابق مع استحقاق الودائع للوصول إلى الحد الأمثل من السيولة والربحية حتى لا تتم التضحية بأي من العنصرين المذكورين على حساب الآخر.
ويلاحظ القارئ من الجدولين السابقين أن الودائع " كما ظهرت في الجدول رقم 1 " قد ازدادت في حسابات الأجل عبر السنوات ولا سيما منذ بداية العام 1983 (حيث كانت قبله غير منتظمة الاستحقاق) وأصبحت هذه الودائع تشكل في نهاية عام 1986 58.2 % وتبلغ نسبة حسابات لأجل وتحت إشعار معًا 71.1 % من إجمالي الودائع في نهاية العام المذكور. ويعود السبب في زيادة ودائع لأجل إلى أن إدارة البنك قد توصلت إلى تغيير الأسلوب الذي اتبع في قبول ودائع العلماء عند تأسيس البنك، وتم اتخاذ قرار أثر بشكل جوهري على أوعية الادخار إذ أصبح قبول ودائع لأجل منذ بداية عام 1983 على مدار العام خلافًا لما بدئ العمل به في عام 1979 حيث كان قبول ودائع لأجل مقصورًا على نهاية العام فقط، يضاف إلى ذلك مباشرة البنك بقبول ودائع استثمارية بالعملات الأجنبية منذ ذلك التاريخ.
أما الجدول رقم (2) فيوضح أن هيكل استحقاق الودائع قد تغير أيضًا. بحيث أصبحت الودائع التي تستحق بعد تسعة أشهر حوالي 19.4 %، بينما كانت هذه الودائع تستحق في زمن قصير نسبيًّا مما كان يسبب إعاقة تامة في استخدام هذه الأموال لفترات طويلة، وبالتالي يؤثر على خطة الاستثمار في البنك.
استخدام الأموال وإدارة التوظيفات:
يستثمر البنك الإسلامي أمواله وموارده من خلال قنوات استثمارية متعددة نوجزها فيما يلي:
أ- المضاربة:
ومن خلال هذه القناة الاستثمارية يدخل البنك طرفًا في عمليات الاستثمار بأن يقدم النقد اللازم كليًّا أو جزئيًّا لتمويل عملية تجارية محددة يقوم بالعمل فيها شخص آخر على أساس المشاركة في الربح أو الخسارة حسب التطبيقات الشرعية المعتمدة.
ب- المشاركة:
وتشمل مختلف الحالات التي يدخل البنك طرفًا ممولًا فيها في مشروع ذي جدوى اقتصادية. والمشاركة إما مستمرة أو متناقصة تنتهي بتمليك الشريك حصة البنك بعد مدة معينة، وأبرز تطبيقات البنك الإسلامي الأردني في المشاركة المنتهية بالتمليك هي حالات العقارات التي يمولها البنك وذلك بتقديم التمويل، كليًّا أو جزئيًّا، للشريك على أساس حصول البنك على نسبة من صافي الدخل المتحقق فعلًا، مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي ليكون تسديدًا لأصل ما قدمه البنك من تمويل. وبعد استرداد البنك لكامل ما دفعه من تمويل يؤول المشروع مع كامل إيراداته لصاحبه، وقد طبق البنك الإسلامي هذا الأسلوب على العقارات التجارية وبعض العقارات السكنية في مناطق مختلفة من المملكة، وكأمثلة على تطبيقه، مشاركة البنك في مشروع بناء سوق تجاري بالمشاركة مع بلدية أربد، وكلية مجتمع في جرش ومستشفى في الزرقاء.
جـ- الاستثمار المباشر:
يستثمر البنك موارده في الموجودات والأصول المنقولة وغير المنقولة والمساهمات التي تدر عليه دخلًا يستطيع به أن يغطي بعض مصروفاته ويعطيه إيرادات لمودعيه.
د- بيع المرابحة:
أما أهم قنوات الاستثمار في البنك الإسلامي الأردني حاليًا فهي بيع المرابحة، وبيع المرابحة كما هو معروف هو البيع برأس المال وربح معلوم مع اشتراط علم البائع والمشتري برأس المال.(5/929)
أما بيع المرابحة للآمر بالشراء المطبق في البنك فهو قيام البنك بتنفيذ طلب المتعاقد معه (العميل) على أساس شراء البنك ما يطلبه الآمر بالشراء بالنقد – كليًّا أو جزئيًّا- على أساس التزام العميل بشراء ما أمر به بالربح المتفق عليه عند الابتداء. والبنك لا يبيع الراغب في الشراء حتى يملك السلعة ثم يجري عقد البيع، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن البنك يشتري ويصبح مالكًا للسلعة، ويتحمل البنك تبعة هلاكها قبل تسليمها لصاحبها.
ونظرة إلى الجدول رقم (3) المبين تاليًا تظهر الأهمية النسبية لقنوات الاستثمار في البنك الإسلامي الأردني كما هي في نهاية الأعوام 1984، 1985 و1986.
ولعل من المناسب الإشارة هنا إلى أن معظم استثمارات البنك الإسلامي الأردني تمت وانتهت مع عملاء في المملكة، وأن نسبة هذه الاستثمارات القائمة والتي تمت مع عملاء خارج المملكة كما هي الأرصدة في نهاية الأعوام الثلاثة المذكورة كانت تتراوح ما بين 8.9 % إلى 10.3 %.
جدول رقم (3)
توزيع الاستثمارات في البنك الإسلامي الأردني (لأقرب ألف دينار) :-
السنة المشاركة والمضاربة والاستثمارات الأخرى المرابحة المجموع نسبة المرابحة إلى المجموع
1984 11764 51249 63013 81.33 %
1985 14882 56132 71014 79.04 %
1986 19464 75998 95462 79.6 %
خطة الاستثمار في البنك:
إن مشكلة توازن السيولة والربحية في إدارة الموارد أمر أساسي في كل الأعمال، وبالرغم من أن رسالة البنوك الإسلامية، باعتبارها بنوك استثمار، قد تدفع بعض مسؤوليها إلى تغليب النواحي الاستثمارية وعدم تعطيل الأموال، إلا أن مشكلة السيولة بقيت من الأساسيات التي روعيت تمامًا في مسيرة البنك الإسلامي الأردني باعتبارها أساسًا لاستمرار المؤسسة في العمل، ولقد أثرت الموارد المتاحة واستحقاقاتها وتدفقاتها بشكل جوهري على طبيعة الاستثمار وقنواته ومدته، كما أثر في ذلك أيضًا ضرورة المحافظة على السيولة الكافية لتغطية احتياجات المودعين مقرونا بضرورة إيجاد مصادر دخل سنوي للتوزيع عليهم.
وكان أثر عدم الاستفادة من المميزات التي تتمتع بها البنوك التجارية في علاقاتها مع البنك المركزي - كملجأ أخير كما سبق ذكره - في توجهات وقنوات وخطط الاستثمار في البنك إذ كان هذا العامل مقيدًا للاستثمار طويل الأجل وجعله محدودًا نسبيًّا ولا سيما في السنوات الأولى لعمل البنك، ولم يتجه البنك إلى الاستثمار الأطول أجلًا إلا بعد أن اطمأن إلى استمرار تدفق الودائع سنويًّا بما يضمن زيادة مدة الاستثمار وتنويع قنواته.(5/930)
تطبيق عقد المرابحة:
بُوشِرَ في تطبيق عقود المرابحة في البنك منذ الأشهر الأولى للعمل وذلك لاستخدام الموارد المتاحة من رأسمال وودائع، وكان إنشاء عقد المرابحة وإقراره من قبل إدارة البنك، بعد موافقة المستشار الشرعي عليه، أمرًا مهمًّا في التطبيق لاستغلال هذه الموارد، وبُوشِرَ وقتها وضع السياسات للعمل وآلية التطبيق والتعليمات اللازمة لذلك.
آلية التطبيق بتمويل المرابحة:
يجري البنك عمليات التمويل بالمرابحة وفق إجراءات وخطوات جرى إقرارها من الناحية الشرعية والإدارية ويمكن توضيح هذه الإجراءات فيما يلي:
1- بيع المرابحة للأفراد في السلع المميزة والقابلة للرهن (السيارات مثلًا) : تتولى فروع البنك بموافقة الإدارة اختيار العملاء (البائعين) وفق الخطوات التالية:
أ- يقدم المشتري طلب شراء السلعة على أساس المرابحة لفرع البنك ويوقع عقد مرابحة للآمر بالشراء.
ب- يطلب البنك فاتورة عرض الأسعار من البائع.
جـ- يقدم البائع فاتورة عرض أسعار البيع للبنك.
د- يوافق البنك على الفاتورة بعد التحقق من أنها مطابقة للشروط المقررة ويعيدها للبائع.
هـ- يشتري البنك البضاعة من الوكيل (أو البائع) بموجب فاتورة رسمية صادرة باسم البنك.
و يلتزم المشتري بشراء البضاعة مرابحة بالسعر المتفق عليه وذلك بتوقيعه عقد المرابحة الخاص لدى البنك المتضمن ذلك.
ز- يتولى البائع بطريق الوكالة تنظيم عقود البيع وتنظيم الكمبيالات وذلك حسب الفاتورة الموضحة في البند (و) أعلاه وتسجيل السيارة باسم البنك.
ح- يقدم البائع (الوكيل) المستندات المذكورة للبنك ويقوم البنك بدفع رصيد فاتورة البيع واستلام الكمبيالات بعد استكمال الإجراءات اللازمة.
ط- يكفل البائع الكمبيالات المقدمة (إذا كان ذلك من الشروط بين البنك والوكيل) وللبنك عند إتمام العقد الحق في الحصول من المشتري على ضمانات أخرى يراها مناسبة لضمان حقوقه.
ى- يبيع البنك السيارة للمشتري مرابحة ويسجلها باسم المشتري (في دائرة السير) ، وفي ذات الوقت يرهنها لصالح البنك لدى دائرة السير. (إذا كان الرهن من شروط الضمان) .
ك- يجري تأمين السيارة شاملًا لصالح البنك (إذا كان ذلك من الشروط المتفق عليها بين البنك والمشتري) .(5/931)
2- شراء الأراضي والعقارات:
تطبق على شراء الأراضي والعقارات نفس الإجراءات المتعلقة بالسيارات من حيث التسجيل لدى دائرة الأراضي عند شراء البنك للعقار ثم إعادة تسجيله باسم المشتري.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن تسجيل العقار مرتين الأولى باسم البنك كمشتر من البائع ثم باسم العميل مشتري الأرض يوجب دفع رسوم تسجيل العقار مما سبب إعاقة لقيام البنك بمثل هذا التمويل بشكل كبير بسبب ارتفاع هذه الرسوم وأعاق قيام البنك تمويل الأفراد في الشقق والبيوت.
3- تمويل شراء السلع المشتراة محليًّا:
يمول البنك الأفراد في السلع غير القابلة للرهن كالتجهيزات المنزلية وغيرها (أثاث، غسالات، ثلاجات، أفران غاز، غرف نوم، ... إلخ) وفق الخطوات التالية:
أ- يقدم المشتري طلب شراء السلعة على أساس المرابحة لفرع البنك.
ب- إذا وافق البنك على التمويل يوقع البنك والعميل عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء.
جـ- يطلب البنك فاتورة عرض الأسعار من البائع للبضاعة المطلوبة.
د- يقدم البائع فاتورة عرض أسعار البيع للبنك.
هـ – يوافق البنك على الفاتورة بعد التحقق من أنها مطابقة للشروط المقررة ومن ثم يعيدها للبائع أو يوجه رسالة للبائع بالموافقة على ما ورد في فاتورة العرض.
و يشتري البنك البضاعة من البائع بموجب فاتورة رسمية صادرة باسم البنك.(5/932)
ز- يقوم البنك بدفع قيمة البضاعة للبائع حسب فاتورة البيع.
ح- يلتزم المشتري بشراء البضاعة مرابحة بالسعر المتفق عليه وذلك حسب عقد بيع المرابحة الخاص بذلك والموجود لدى البنك والمتضمن ذلك.
ط- يتولى البنك تنظيم الكمبيالات على المشتري حسب شروط عقد المرابحة.
ى – يتولى أحد موظفي البنك الإشراف على عملية استلام البضاعة من البائع وتسليمها للمشتري.
ويجري تطبيق هذه الإجراءات على جميع المواد التي تلزم للأفراد أو التجار في عمليات المرابحة الداخلية كشراء الحديد والأسمنت والمواد الغذائية والمواد الخام وجميع مستلزمات التجارة.
وتجدر الإشارة إلى أن البنك قد درج على دفع أثمان المشتريات من العملاء الذين يبيعونه بضائع بموجب شيكات مسطرة حتى لا تصرف نقدًا.
4- تمويل المرابحة بواسطة الاعتمادات المستندية والاستيراد:
يجري تمويل البضائع بواسطة الاعتمادات المستندية سواء أكان ذلك لسلع تجارية أو معدات أو مواد خام أو غيرها مما يستورد من بضائع وتتلخص عمليات التمويل بهذه الطريقة بما يلي:
أ- يوقع العميل الآمر بالشراء على عقد الآمر بالشراء ثم يوجه أمره إلى البنك لشراء سلعة جاهزة محددة الأوصاف، ويأمر البنك بشرائها.
ب- يتولى البنك فتح الاعتماد المستندي من المصدر الذي حدده العميل للبضاعة الموصوفة.
جـ- يقوم البنك بشراء البضاعة بموجب الاعتماد المستندي من المصدر، ويدفع قيمتها له.
د- عند ورود المستندات المحددة لملكية البضاعة يجري الاتصال بالعميل طالب الشراء ليقوم بالاطلاع على تلك المستندات، ثم يقوم البنك بإتمام عملية البيع ويظهر بوليصة الشحن تظهيرًا ناقلًا للملكية، ويطلب إلى إحدى شركات التخليص إنهاء المعاملة مع الجمارك وتسليم البضاعة إلى العميل.
هـ- عند تظهير البوليصة يقوم البنك باحتساب قيمة البضاعة بالدينار الأردني حسب الشروط المتفق عليها مع المشتري، ويتم تنظيم كمبيالات بثمن البضاعة مضافًا إليه ربح البنك حسب الشروط المقررة.
ومن الجدير بالذكر أنه إذا وردت مستندات البضاعة مخالفة لشروط الاعتماد أو تبين أن البضاعة عند استلامها من الجمارك بها تلف فإن البنك يتحمل النتائج المتعلقة بذلك، ويكون العميل مخيرًا بين قبول البضاعة أو رفضها.
أما إذا تطابقت المستندات والبضاعة مع ما سبق، وأمر المشتري فإنه يلزم بشرائها حسب العقود الموقعة معه.
كما تجدر الإشارة إلى أن البنك يتولى تكليف بعض الجهات في بلدان المصدر من أجل معاينة البضاعة وإرفاق شهادة معها تفيد دقة وصحة المواصفات للبضائع المشحونة بسبب مسؤوليته عن تسليم البضائع للمشتري، ومنعًا لشحن بضائع مخالفة للشروط كما يفعل ذلك بعض المصدرين في بعض البلدان.(5/933)
نطاق تطبيق المرابحة:
شملت تطبيقات البنك الإسلامي الأردني في المرابحة نطاقًا واسعًا شمل معظم السلع اللازمة معمرة أو غير معمرة أو استهلاكية، ففي مجال الأفراد تم تمويل احتياجاتهم من السلع الاستهلاكية كالسيارات والأثاث وغيرها. وتم تمويل التجار في مختلف احتياجاتهم أيضًا كالأقمشة والمواد الغذائية ومواد البناء. . . إلخ، أما الصناعيين فتم تمويلهم فيما يحتاجونه من معدات ومصانع ومواد خام، وتم تمويل المتعهدين والمقاولين في الآليات والمعدات والجرافات والحفارات وغيرها، وشمل التمويل أيضًا نطاق الآليات الدقيقة كأجهزة الكمبيوتر، وأدوات المختبرات والمعدات الطبية اللازمة للمستشفيات والمواد الخام اللازمة لصناعة الأدوية، وحاجات المعاهد والجامعات وحاجات المزارعين من سماد وبذور وتراكتورات زراعية وبيوت بلاستيكية أو معدات التغليف والتعبئة، وغير ذلك من المواد في جميع القطاعات وتمويل البترول وغيرها.
القطاعات والنشاطات التي يطبق فيها عقد المرابحة:
إن نظرة إلى تصنيف أعمال التمويل في البنك تشير إلى أن جميع القطاعات قد تم تمويلها بواسطة عقود المرابحة، وفيما يلي كشفًا يبين توزيع التمويل في البنك حسب القطاعات كما ظهر في نهاية الأعوام المذكورة والتي تمثل المرابحة 80 % تقريبًا منها.(5/934)
كشف رقم (4)
التوزيع القطاعي للتمويل والاستثمار
حسب تصنيف البنك المركزي الأردني
القطاع 1984 1985 1986
الصناعة 26.6 % 28.6 % 34.9 %
التجارة العامة 21.9 % 23.8 % 22.9 %
عقارات وتعهدات 17.3 % 18.2 % 17.2 %
نقل 13.7 % 9.4 % 9.9 %
أفراد وأصحاب مهن 7.2 % 8.2 % 7.5 %
الزراعة والخدمات والأغراض الأخرى (تم دمجها) 13.3 % 11.8 % 7.6 %
الصعوبات القائمة:
من استعراض سريع لما ورد في هذه الورقة، ومن واقع التطبيق العملي تتبين لنا بعض الصعوبات المبينة تاليًا:
1- قصور بعض القوانين عن معالجة تسهيل مهمة البنك الإسلامي في تحقيق متطلبات عملائه حيث إن بعض هذه القوانين قد صيغ لمعالجة الإقراض الربوي دون حل مشكلة التمويل اللاربوي. وأمثلة ذلك اضطرار البنك عند تمويل شقة لعميل أو سيارة إلى دفع رسوم متكررة تصل في تمويل العقارات إلى (16 %) من تكلفة التمويل مما يثقل كاهل العملاء.
2- منح ميزة للبنوك الربوية على البنك الإسلامي في مجال استفادته من تعليمات تشجيع التصدير بسعر خصم مخفض، مما يجعل تكلفة عملاء البنك الإسلامي أعلى من تكلفة عملاء البنوك الأخرى بسبب هذا الامتياز.
3- اضطرار البنك الإسلامي – بسبب عدم إمكان الإفادة من تسهيلات البنك المركزي- كملجأ أخير- اضطرار البنك إلى ما يلي على سبيل المثال:
أ- جعل مُدَد التمويل لعملائه قصيرة الأجل أو متوسطة.
ب- الاحتفاظ بسيولة مرتفعة لمواجهة أي طوارئ قد تحصل –لا سمح الله- مما يعيق استثمار الأموال، ويخفض عوائد المودعين.
جـ- اعتماد البنك الإسلامي على تدفق الودائع عند اتخاذ خطة توزيع وتنويع استثماراته وتحديد مُدَد التمويل اللازمة.
د- توجيه أغلب استثماراته إلى المرابحة، بدل توجيهها إلى المساهمات والمشاركات، لسرعة تسييلها ووضوح التدفق النقدي، ووضوح العائد.(5/935)
4- نقص الأدوات المالية (كسندات المقارضة) التي يمكن بمقتضاها سرعة تدوير الأموال وإيجاد مصادر للسيولة السريعة للبنك مما يشكل باعثًا على الاستثمار الأطول أجلًا.
5- اضطرار البنك إلى التشدد في الحصول على الضمانات لتكون رادعًا للعملاء، بسبب مماطلة بعض العملاء في السداد ولجوئهم إلى الاستفادة من قوانين المحاكمات اعتمادًا على أن البنك لا يتقاضى عوائد عن أمواله المستحقة خلال سنوات المحاكمة.
6- لقد أدى ارتباط العديد من الناس بأعمال البنوك الربوية لمدة طويلة إلى تركز أذهانهم بأن أية نسبة مئوية يتقاضاها البنك على تكلفة المرابحة وإنما هي من أعمال الفائدة دون تفهم لطبيعة عملية المرابحة.
7- اعتراض البعض على قيام البنك بتأمين البضائع التي يمولها من خلال شركات التأمين القائمة.
8- ضعف الأجهزة الوظيفية، ولا سيما في بداية عمل البنك، وعدم قدرتها على تفهم الأمور الشرعية بدقة.
الحلول المقترحة:
يمكن اقتراح ما يلي في هذا المجال لإيجاد بعض الحلول لدفع مسيرة البنوك الإسلامية:
1- معالجة الثغرات في بعض القوانين لتساير وتتمشى مع حاجات التطبيق وفق ما ذكر في الصعوبات سواء من ناحية الرسوم المكررة أو من ناحية مماطلات العملاء في التقاضي وغيرها.
2- إيجاد حل لمشكلة استفادة المصارف الإسلامية من البنوك المركزية كملجأ أخير خارج إطار الفائدة لا سيما وأن هذه المهمة هي من المهمات الأساسية للبنوك المركزية، وكذلك إيجاد الإمكانية للاستفادة من توجهات السياسة النقدية في مجالات الاستثمار المختلفة كالتصدير؛ ليتمكن البنك من التوجه في استثماراته حسب توجهات خطة التنمية.
3- إيجاد الأدوات المالية وإقرار قانون سندات المقارضة بشكله الدائم ليصار إلى الاستفادة منه وتطبيقه لإيجاد وسائل التسييل السريعة.
4- إيجاد حوافز للبنوك الإسلامية لتقوم بتوجيه استثماراتها ضمن الأسس التي تراها الدولة ووفق خطط التنمية.
5- استمرار توجه البنوك الإسلامية نحو حسابات الودائع لأجل الأطول أجلًا وحسابات الاستثمار المخصص ضمن الحوافر المطلوبة لتتطابق استحقاقات هذه الودائع مع التدفقات النقدية للاستثمارات.
6- الحاجة المستمرة من الفقهاء إلى استمرار تقديم الفتاوى بمرونة وتطور واستيعاب للجديد من الأعمال لتبقى مرونة التعامل، ويبقى التطبيق للنظام المصرفي الإسلامي مسايرًا للمستجدات ضمن قواعد الشريعة الإسلامية السمحاء.
7- استمرار البنك في إجراء التدريب المستمر لموظفيه من أجل تفهم طبيعة العمل واستيعاب مستجداتها.(5/936)
8- الاستمرار في توجيه الإعلام المصرفي الإسلامي لتوضيح طبيعة أعماله المطابقة للشريعة.
9- السماح للبنك الإسلامي بإنشاء شركة تأمين تبادلي مطابقة لأحكام الشريعة الإسلامية لإكمال مسيرة أعماله وتطابقها وتناسقها.
التوقعات المستقبلية:
إن مسيرة البنك الإسلامي خلال الفترة الماضية تعطي دليلًا على ما يمكن أن تصل إليه هذه المسيرة من تقدم ونجاح ما استمرت رعايتها، وتسهيل مهمة القائمين عليها سواء في إزالة الصعوبات التي تواجه المؤسسة أو منح الحوافز لها؛ لتتجه المؤسسة وتشارك في دور أكبر في خطط التنمية المختلفة.
ولعل من المناسب الإشارة هنا إلى أن توجهات البنك المستقبلية هي إدخاله في خططه واستراتيجية استثماره خطوات أساسية للوصول إلى أكبر عدد من العملاء في مختلف مناطق المملكة. وقد كان لنجاح تجربة البنك التي بدأها منذ بداية العام الماضي، بتزويد المواطنين بما يلزمهم من تمويل في مواد البناء لإكمال مساكنهم التي استفاد منها أكثر من ألفي مواطن، أغلبهم خارج مدينة عمان، كانت نتائج هذه التجربة مشجعة له على توجيه خطط للوصول إلى الحرفيين وأصحاب الصناعات الصغيرة حيث تقرر هذا العام السير في هذا النوع من التمويل لتوسيع قاعدة المستفيدين من خدماته.
أما على صعيد الخدمات العامة فقد توجه البنك في خطط استثماره لهذا العام إلى تمويل بناء المدارس الحكومية، وقدم عرضًا – ما زال يجري البحث فيه مع الجهات المختصة - لتمويل هذه المدارس وفق الأسلوب الذي يتفق عليه، كل ذلك بناء على استقرار تدفق الودائع وحسن استخدامها بما يلائم سياسة البنك الاستثمارية.
الخاتمة
وأخيرًا وليس آخرًا فإن مسيرة البنك الإسلامي الأردني ما زالت في رأيي في بدايتها رغم وصول البنك إلى المرتبة الرابعة بين البنوك الأردنية في هذه الفترة القصيرة من الجهد والعمل الصامت، وأن مزيدًا من الدعم له سيمكنه من تحقيق الغاية التنموية والاجتماعية التي أنشئ من أجلها بفضل توفيق الله سبحانه وتعالى وجمهور المتعاملين والرعاية التي يلقاها البنك على جميع المستويات.
والله الموفق وهو المستعان.(5/937)
المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية
(مؤسسة آل البيت)
ندوة عن:
"خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية: الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات".
بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب / البنك الإسلامي للتنمية / جدة.
عمان
22- شوال – 25 شوال 1407هـ
18/6 – 21/6/1987م
بحث الأستاذ قاسم محمد قاسم
عن
البنوك الإسلامية واستراتيجيتها الاستثمارية
البنوك الإسلامية واستراتيجيتها الاستثمارية
ورقة عمل
مقدمة إلى الاجتماع المشترك بين منظمة الخليج للاستشارات
الصناعية والبنوك الإسلامية في منطقة الخليج
لبحث إمكانيات التعاون بينهما(5/938)
إعداد
قاسم محمد قاسم
مدير عام مصرف قطر الإسلامي
البنوك الإسلامية واستراتيجيتها الاستثمارية
ورقة عمل لبحث إمكانيات التعاون بين
منظمة الخليج للاستشارات الصناعية والبنوك الإسلامية
في منطقة الخليج
مقدمة:
ليس الغرض من هذه الورقة تقديم بحث بالمفهوم الأكاديمي لكلمة بحث، وليس الغرض منها التعرض بالتفصيل لتطور المصارف عامة والمصارف الإسلامية خاصة.
وإنما الغرض هو عرض تصور مبني على الخبرة والممارسة الفعلية اليومية للاستراتيجية الاستثمارية في المصارف الإسلامية كما يراها الكاتب، والصعوبات التي تصادفها هذه المصارف تمهيدًا لإيجاد تصور مشترك لإمكانات التعاون بين المصارف الإسلامية العاملة في منطقة الخليج، وبين منظمة الخليج للاستشارات الصناعية.
فالغرض الذي من أجله وجدت المصارف الإسلامية يكاد يكون هو نفس الغرض الذي أنشئت من أجله المنظمة، فبينما تسعى المصارف الإسلامية لتوظيف الأموال في مجالات التنمية المختلفة تسعى المنظمة – فيما أظن- إلى تقديم الاستشارة المهنية المتخصصة بكامل فروعها في مجالات التنمية الصناعية للدول الأعضاء في المنظمة. إلا أن المصارف الإسلامية تهدف إلى تحقيق الربح المقبول شرعًا على ما تقوم به من استثمارات في حين أن المنظمة لا تهدف إلى الربح فيما تقوم به من دراسات واستشارات إذ يكفيها أن يعود الربح منفعة اقتصادية واجتماعية ناتجة عما يجري تنفيذه من مشروعات لدى هذه الدول الأعضاء.
إن إدارات المصارف الإسلامية لم تأل جهدًا - منذ تأسست هذه المصارف- في تطوير أنماط ووسائل العمل المنسجمة مع المبادئ الإسلامية، كما لم تأل جهدًا في البحث عن فرص الاستثمار للأموال المتراكمة لديها من أجل خلق دور منتج للمال بين أيدي المسلمين بما ينفع أصحاب الأموال، وينفع المجتمعات التي تنتمي هذه الأموال لها.(5/939)
لقد كان الهدف الأول لتأسيس أول بنك إسلامي في وقتنا الحاضر هو تطهير الأموال من الربا عن طريق تقديم البدائل المقبولة شرعًا لأنماط الاستثمار المختلفة، والتي درجت البنوك التقليدية على تقديمها سواء لأصحاب الأموال (عرض الأموال) أو مستغلي هذه الأموال (الطلب على الأموال) على أساس ربط الاستثمار وعوائده بفوائد محددة سلفًا.
وقد مارست البنوك التقليدية بفلسفة تنصب على الضمان، وهذه الفلسفة نابعة من كون الوديعة عقد قرض وأن المقترض يتصرف بالقرض ويقع عليه الضمانه، وقد ضمنت البنوك للمودع رأس ماله والفائدة المحددة سلفًا. كما أخذت على المقترضين ضمان ما اقترضوا دون ربط القرض بما وراءه من عمل، ودون نظر إلى نتيجة هذا العمل إن ربحًا وإن خسارة، وعليه فإنه يصح وصف هذه الفلسفة بفلسفة تأجير الأموال حيث يتوجب دفع الإيجار (الفوائد) سواء انتفع (ربح) المستأجر (المقترض) أم لم ينتفع.
مهنيًّا، فقد اقتنع نظام المصرف الدولي بجدوى هذه الفلسفة في غياب البديل، ومع تواتر التطبيق عبر مئات السنين، فقد أصبحت هذه الفلسفة راسخة، وأصبح المجتمع المصرفي الدولي يقاوم أي تغيير.
ولقد طورت الأجهزة المصرفية التقليدية في إحدى مراحلها نوعًا من الممارسات الاستثمارية التي اقتربت بأساسها النظري من المفهوم الإسلامي لاستثمار المال حيث ظهرت مصارف تسمى بنوك التجار أو بنوك الأعمال والاستثمار، وتقوم هذه البنوك على أساس إنشاء المشروعات والمساهمة في رأس مالها مع آخرين إلا أن هذه البنوك قد ظلت وفية للمذهب الذي نشأت عليه وهو نظام الفائدة في تعاملها مع مصادر الأموال.(5/940)
2- النظام المصرفي التقليدي وسلوك الأفراد:
2-1- كان تطور النظام المصرفي التقليدي مواكبًا لتطور الحضارة الغربية الحديثة، والتي كان من أهم إفرازاتها فصل الدين عن الحياة اليومية للأفراد في المجتمعات المسيحية، ودون أن نخوض في بحوث لاهوتية لسنا مؤهلين لها، نقرر أن الدين المسيحي يحرم الربا، ولكننا نجد أن البيئة الحضارية الحديثة أوجدت مناخًا مناسبًا لتطوير العمل المصرفي القائم على نظام الفائدة دون أن يجد مقاومة دينية تمنع تطوره.
2-2- ونظرًا لقيام البنوك بدفع الفوائد على الأموال مع تعهدها برد المال والفوائد المستحقة عليه إلى صاحبه فقد أدى هذا الوضع إلى تباطؤ همم أصحاب الأموال عن استثمار أموالهم بأنفسهم بما في ذلك من مخاطر وقبول الأسلوب الهين وهو الإيداع لدى البنوك مقابل الفوائد. ولنفس السبب، أي ضمان البنك لأموال المودع مع ما يترتب عليه من فوائد فقد تعسفت البنوك في اقتضاء ديونها من المدينين دون نظر إلى الحالة المادية للمدين أو حال المشروع الذي أخذ من أجله المال أو الظروف الاقتصادية السائدة، بل إن مبدأ القرض بفائدة كثيرا ما كان أهم أسباب تردي الحالة المادية للمدين. وما وَضْعُ دولِ العالمِ الثالث المدينة بخاف عنا إذ أن فوائد خدمة الدين كثيرًا ما زادت عن موارد بعض الدول المدينة. وهكذا تراجعت المعايير الأخلاقية في التعامل المالي وقلد التجار والأفراد البنوك فيما ذهبت إليه، وأصبح الطلاق بائنًا بين المال وبين الهدف الذي صرف من أجله، وأصبح تأجير الأموال هو القاعدة، كما أصبح الفرد في سلوكه يجمع المال من أجل المال وتطور الأمر ليصبح عادة اجتماعية.
2-3- ولتشجيع أصحاب الأموال على الاحتفاظ بأموالهم لدى البنوك فقد أصبحت البنوك تدفع لهم الفوائد على فترات زمنية قصيرة جدًّا ربما وصلت إلى ليلة واحدة “OVERNIGHT” ومن الطبيعي أن يكون أجل الودائع مساويًا للفترة التي تدفع عنها الفوائد. وكانت النتيجة أن تغيرت عادات المودع من استثمار أمواله في مشروعات طويلة الأجل إلى استثمارها في ودائع ذات أجل قصير جدًّا.(5/941)
3- المصارف الإسلامية، تطهير وتثمير:
3-1- دخل النظام المصرفي الحديث إلى العالم الإسلامي، والعالم الإسلامي في حالة خطيرة من التمزق والتخلف والجمود، وفي وقت كانت فيه أغلب أقطاره ترزح تحت سيطرة الدول الأجنبية، كما أن دور المؤسسات الدينية بدأ يتراجع إلى الوراء بضغط من الدول الاستعمارية التي كانت ترى دائمًا أن الخطر على نفوذها كبير إذا نهض العالم الإسلامي من سباته بقيادة فكرية إسلامية متطورة؛ ولذا فلقد راوح العالم الإسلامي في مكانه يحاول أن يجيب على السؤال التالي: هل الفوائد المصرفية حلال أم حرام؟ وهل تحل الفوائد إذا كانت دون نسبة معينة وتحرم إن زادت عليها؟ وسمعنا الكثير من الفتاوى التي ليس هنا مجال لبحثها مع أن أغلبها أقر بحرمة فوائد البنوك، إلا أن أحدًا فردًا كان أو مؤسسة أو دولة لم يفكر في إيجاد النظام المصرفي البديل القائم على تطوير أنماط من التعامل الاستثماري المقبول شرعًا.
وللتدليل على ذلك فلقد قبلت الدول الإسلامية جميع التشريعات الوضعية الغربية التي أدخلت معه جميع أنماط التعامل المالي الغربية بحلالها وحرامها كما اعترفت صراحة بالفوائد وظهر اصطلاح الفوائد القانونية في تشريعات تلك الدول الوضعية.
ويشاء المولى أن يجتمع علماء الأمة الإسلامية في عام 1385هـ في القاهرة في المجمع الفقهي الثاني، ويجتمع معهم لفيف من اقتصادي هذه الأمة، وصدرت فتوى جماعية باعتبار فوائد البنوك من الربا المحرم، وأن على رجال المال والاقتصاد وعلماء الشريعة أن يبحثوا عن البديل.
ولقد كان البديل في العشر سنوات الأخيرة نحوا من خمسين بنكا إسلاميًّا إضافة إلى البنك الإسلامي للتنمية الذي تشترك في عضويته أكثر من خمسة وأربعين دولة إسلامية، وكذلك تحويل النظام المصرفي في باكستان بأكمله لينسجم مع الشريعة الإسلامية.(5/942)
لقيت البنوك الإسلامية الكثير من الترحيب والتشجيع منذ قيامها وتمثل هذا التشجيع بالزيادة الكبيرة والمطردة في حجم الودائع لدى هذه البنوك. ذلك أن تأسيس هذه البنوك أوجد منفذًا للكثير من أصحاب الأموال الذين لا يتقاضون أية فوائد على أموالهم فوجدوا في البنك الإسلامي مكانًا مناسبًا لاستثمار أموالهم التي ظلت معطلة سنين طويلة. يضاف إلى هذا انجذاب المتعاملين الآخرين الذين لا تحركهم الاعتبارات الدينية بل جذبتهم النجاحات المبدئية التي حققتها تلك البنوك والعوائد المرتفعة التي تمكنت من توزيعها على المودعين في مراحل مختلفة.
3-2- إلا أن نجاح البنوك الإسلامية متمثلًا في الإقبال المتزايد للمودعين كان في حد ذاته بداية لمشاكل فنية حقيقية لهذه البنوك.
إن الأموال المتراكمة لدى البنوك الإسلامية كانت ولا تزال تبحث لها عن منافذ شرعية تستثمر بها حتى تعطي مردودًا مناسبًا للمودع وللبنك، فدعوة البنك الإسلامي لنفسه بأنه قام بتطهير الأموال من الربا واستثمار مال المسلمين فيما ينفع المسلمين خارج نظام الفائدة وخارج إطار الإقراض والاقتراض قد حددت مسار البنوك الإسلامية بصفة نهائية – في رأي الكاتب - في الاستثمار. " فالاستثمار يشكل طبيعة عمل المصارف الإسلامية وذاتها بل وحياتها، وبدونه لا يتصور لها استمرارية - وهي في هذا تعطي النموذج الفريد في التوحد في توجهاتها مع أهداف دولها في الاستثمار والتنمية " (1)
وكما هو معلوم فالاستثمار المرتبط بالتنمية بالمعنى الذي تقصده وترغب في تحقيقه البنوك الإسلامية هو استثمار طويل الأجل بطبيعته، ويجب أن يتم في مجالات وفرص مجدية.
4- المعوقات التي واجهتها البنوك الإسلامية في توجهاتها الاستثمارية:
واجهت البنوك الإسلامية ولا زالت العديد من المعوقات التي تعترض طموحاتها الاستثمارية، وأهم هذه المعوقات في نظر الكاتب ما يلي:
أولًا: العادات الربوية لدى المودعين:
ومنها أن المودع يودع أمواله في آجال قصيرة لا تتجاوز السنة في أغلب حالاتها، وفي القليل جدًّا من الحالات أصبح المودع يودع في نوع من الودائع المطلقة وهي التي تشبه الودائع بإشعار لدى البنوك التقليدية – وهذا أيضًا ما يجعل من هذه الودائع ودائع قصيرة الأجل عند دراسة طبيعة الموارد المتاحة للاستثمار.
إن مثل هذا الوضع يحد من قدرة المصرف الإسلامي على الاستثمار في الأجل الطويل إذ لابد من تماثل الاستحقاقات بين مصادر الأموال وبين استخداماتها، وهي ما يسمى بالإنجليزية “MATCHFUNDING”؛ لأن الإخلال بهذا التماثل بشكل كبير يعرض المصرف لمخاطر كثيرة أهمها احتمال توقفه عن الدفع.
ثانيًا: يرتبط بالعادات الربوية لدى المودعين عادة أخرى أهمها أن الإنسان فطر على حب الكسب وكره الخسارة.
ومن واقع الخبرة العملية فإن المودع لدى البنك الإسلامي – وإن كان يقبل مقدمًا وعلى الورق على الأقل بمبدأ المشاركة في الخسارة - ينتظر الأرباح الموزعة آخر العام.
__________
(1) أحمد أمين فؤاد – معوقات الاستثمار في البلاد الإسلامية وسبل التغلب عليها ص2 من أبحاث المؤتمر الثالث للمصرف الإسلامي- دبي – أكتوبر 1985.(5/943)
وكما هو معلوم فإن أي مشروع استثماري ستمر به عدة سنوات قبل أن تظهر ميزانيته أية أرباح. وهذا الوضع، يضاف إلى سابقه دفع بودائع البنوك الإسلامية إلى الاستثمار في مجالات الاستثمار القصيرة الأجل، وخصوصًا المجالات التجارية حتى تتفادى مشاكل اختلاف الآجال وتشبع الناحية النفسية لدى المودع المتمثلة في التطلع إلى الربح السريع.
ثالثًا: حداثة نشأة البنوك الإسلامية:
ولهذا العامل أثرين:
أ- اضطرار البنوك الإسلامية للتركيز على العمليات التجارية القصيرة الأجل لتقوية مراكزها المالية.
ب- قلة الكفاءات البشرية المؤهلة شرعيًّا وفنيًّا للبحث عن الفرص المجدية وإعداد دراسات الجدوى العائدة لها، وتقييم ما يقدم إليها من مشروعات.
رابعًا: ضيق السوق المحلي أحيانًا وعدم قدرته على استيعاب مشاريع استثمارية معينة بما في ذلك الصعوبات المتعلقة باقتصاديات الموقع وتوطن الصناعة هذا الوضع مقرونا بارتفاع الثروة لدى المودعين في نفس السوق مما يجعل من ازدياد الودائع مشكلة في حد ذاتها؛ لعدم القدرة على خلق فرص مناسبة للاستثمار.
خامسًا: عدم توفر الدراسات لمشروعات استثمارية معينة وعدم وجود أولويات لمشاريع استثمارية تجارية تحقق العوائد المناسبة لتحفيز المستثمر للمخاطرة بأمواله، ويرافق ذلك عدم وجود بيوت الخبرة المتخصصة في تقديم دراسات السوق والجدوى وتقييم الفرص، وإن وجدت مثل هذه البيوت فأكثرها مشكوك في حياده وكثيرًا ما عرضت دراسات تم تفصيلها تفصيلًا لتؤثر على القرار تأثيرًا مغرضًا.
يضاف إلى ذلك أن بيوت الخبرة الأجنبية ليس لها دراية كافية بالسوق المحلي مما يرفع من تكلفة إعداد الدراسة.
سادسًا: القيود على الاستثمار خارج النطاق المحلي:
من المنطقي أن يتجه الاستثمار إقليميًّا وإسلاميًّا مع ضيق الأسواق المحلية عن الاستيعاب. فالبنوك الإسلامية في دول الخليج هي بنوك وفرة نقدية في حين أن الدول العربية والإسلامية المجاورة هي أسواق متعطشة للاستثمار، ولديها الكثير من الكوادر البشرية الماهرة ونصف الماهرة اللازمة للعمل في هذا الاستثمار، كما أن كثافتها السكانية توفر القوة الاستهلاكية اللازمة لامتصاص أي إنتاج.
إلا أن القيود الضريبية والنقدية ومخاطر تقلبات أسعار الصرف ومشاكل ميزان المدفوعات وعدم الاستقرار السياسي وسرعة تغيير القوانين وتعديلها، كل هذه العوامل وغيرها كثير يجعل المستثمر – بما في ذلك البنك الإسلامي- غير مطمئن على مستقبل استثماره؛ ولهذا رأينا ونرى توجيه الكثير من الأموال العربية والإسلامية إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية للاستثمار في القطاعات الصناعية والمالية والعقارية وذلك رغم مخاطر تجميد الاستثمارات الأجنبية، والتي أصبحت أكثر وضوحًا في السنوات القليلة الماضية، رغم كل ما يقال من تبريرات وتفسيرات.(5/944)
سابعًا: القيود الشرعية:
معلوم أن المصارف الإسلامية قامت لتقدم البدائل المقبولة شرعًا لأنماط التعامل المالي والمصرفي؛ ولذا فإن أي عملية سواء كانت عملية يومية تجارية أو عملية استثمارية تخضع لمراجعة دقيقة للتأكد من انسجامها مع الضوابط الشرعية التي تسير المصارف الإسلامية على هديها. وأي عملية لا توافق الشروط الشرعية يتم رفضها.
ولطمأنة المودع والمستثمر أنشأت المصارف الإسلامية ضمن أجهزتها لجانًا للرقابة الشرعية مكونة من أفاضل العلماء في البلاد التي تعمل فيها لعرض الممارسات المصرفية عليها وصولًا للصيغ المقبولة شرعًا. ولهذا فليست كل الفرص مهما كانت مجدية ومغرية، مقبولة للمصارف الإسلامية. فإذا لم يتساوى أطراف العلاقة في المشاركة في الربح والخسارة وإذا استثمرت المشروعات فائض أموالها أو إذا مولت العجز لديها عن طريق البنوك التقليدية تثور الصعوبات في قبول مبدأ الاستمثار. هناك بالطبع حالات قبلتها بعض لجان الرقابة الشرعية في بعض البلدان ولها أسبابها في ذلك إلا أننا لا نستطيع أن نفترض أن كل اللجان ستتخذ نفس المواقف.
إن من الصعوبات الشرعية اختلاف وجهات النظر من لجنة إلى لجنة في النظر إلى الأشياء والعمليات والمعاملات مما يمكن مصرفًا من عمل شيء ولا يمكن مصرفًا آخر من مشاركته به وأبرز مثل على ذلك اختلاف المواقف في قضية الإيجار المنتهي بالمليك (LEASING) ، إلا أن اختلاف لجان الرقابة الشرعية أمر يمكن تلافيه عن طريق التنسيق بين هذه اللجان في المشروعات المشتركة أو بأي أسلوب آخر.
5- الاستثمار خليجيًا:
بينا في الصفحات السابقة أن الاستثمار بالنسبة للمصارف الإسلامية هو بمثابة الهواء اللازم لتنفس الإنسان وأن المصارف الإسلامية بدون استثمار حقيقي يضيف إلى الاقتصاد الوطني حقيقية ستلقي ظلالًا من الشك على مبررات وجودها. كما قررنا أن المصارف الإسلامية لا ينقصها المال ولكن تعترضها الصعوبات.(5/945)
وقد استعرضنا بعضًا من تلك الصعوبات وهي في نظري –باستثناء الصعوبات الشرعية- نفس الصعوبات والمعوقات التي تعترض أي مستثمر.
ولقد حاولت المصارف الإسلامية كثيرًا لتذليل الكثير من الصعوبات ولا زالت تحاول وسوف تستمر- إن شاء الله في هذه المحاولات.
ومن ضمن هذه المحاولات محاولتنا اليوم كمجموعة خليجية ضمن منظومة البنوك الإسلامية لولوج باب الاستثمار من حيث يمكن ولوجه بالتعاون مع منظمة إقليمية متخصصة لا تهدف إلى الربح وأعني منظمة الخليج للاستشارات الصناعية.
فدول الخليج تتشابه في الكثير من الخصائص والنظم الاجتماعية والسياسية والنقدية ووفرة الثروة وتشابه التشريعات وهذه كلها نقاط التقاء إيجابية يضاف إليها توجه تلك الدول إلى زيادة التنسيق فيما بينها في مختلف المجالات وصولًا إلى التكامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
كما تتشابه هذه الدول في صغر كياناتها منفردة –باستثناء السعودية والعراق - من حيث عدد السكان وحجم الأسواق مما يخلق مناخًا استثماريًا غير مؤات إن انفرد كل كيان بتطوير المشروعات التي يرى أنها ضرورية ومن ثم تتكرر المشروعات الاستثمارية المتشابهة مما يؤدي بالتالي إلى الشك في الجدوى الاقتصادية لتلك المشروعات.
إذن فالتكامل الاستثماري بين هذه الدول أمر يمكن أن تفيد منه البنوك الإسلامية وتستفيد عن طريق الدخول في المشروعات المشتركة التي تخدم قطاعًا أوسع وأعمق مما لو انفردت هذه البنوك في الاستثمار في مشاريع متكررة. وعليه فمشاركة البنوك الإسلامية مستفيدة من هذا التكامل يدفع بهذا التكامل إلى مراحل متقدمة.
كما أن الاستثمار خليجيًّا – في المشاريع التي تثبت جدواها- يعطي للمستثمر إحساسًا أكثر بالأمان على استثماراته، ويستطيع أن يرى بعينه: أين استثمرت تلك الأموال وكيف تجري إدارتها، وذلك نظرًا لقربها منه إقليميًّا.
6- هل يمكن أن تستفيد البنوك الإسلامية في الخليج من منظمة الخليج للاستثمارات الصناعية؟
من كل ما مضى وانطلاقًا من استعداد مبدئي لدى البنوك الإسلامية في منطقة الخليج للاشتراك معًا في مشاريع مشتركة على مستوى الخليج فإن إمكانية التفاعل قائمة بين البنوك الإسلامية والمنظمة، والأسباب بسيطة وسهلة ودون الدخول في تعقيدات علمية لدى البنوك الإسلامية؛ المال، والرغبة في استثماره استثمارًا مجديًا.
ولدى المنظمة الخبرة والكوادر الفنية والسوق الواسع ودعم الدول الأعضاء بها لتسهيل تنفيذ دراستها على أرض الواقع.(5/946)
ولهذا فإن منظمة الخليج في اعتقادنا تستطيع أن تشبع الحاجات الآتية للمصارف الإسلامية:
1- إعداد دراسات عن السوق وعن فرص الاستثمار التي يتبين جدواها مبدئيًّا في مجالات الصناعة.
2- إعداد دراسات الجدوى للمشروعات الصناعية والمنوي إقامتها.
3- تقييم دراسات الجدوى التي تعرض على البنوك الإسلامية من عملاء آخرين أو من بيوت الخبرة المتخصصة.
4- مساعدة البنوك الإسلامية في الترويج للمشروعات التي تتبناها البنوك الإسلامية.
5- دعوة البنوك الإسلامية للمساهمة في المشاريع التي تطرحها المنظمة، والتي وافقت عليها الدول الأعضاء.
6- تقديم فرص التدريب اللازمة للكوادر الفنية لدى البنوك الإسلامية في مجالات دراسة وتقييم وإدارة المشروعات الصناعية.
أما الصعوبات التي تعرضت لبحث بعضها آنفًا فعند وجود:
أ- المشروع المجدي.
ب- المتوسط الحجم.
جـ- ذو الغرض المقبول شرعًا من وجهة نظر إسلامية.
فإنه يمكن بالعمل الدؤوب تخطي الكثير منها والوصول إلى صيغ واتفاقات مقبولة.
وأما المنظمة فإن تعاونها مع مجموعة البنوك الإسلامية في دول الخليج سوف يساعدها بالتأكيد على الوصول إلى أهم أهدافها وهو تحقيق الإنماء الصناعي للمنطقة من منظور التعاون والتنسيق الاقتصادي، كما يساعدها في جهودها لتحقيق التكامل الصناعي بين دول منطقة الخليج العربي.
إن تعاون المنظمة مع البنوك الإسلامية يمثل أداة فعالة وقادرة على تخطي عقبات الروتين كما يمثل وصولًا أسرع إلى الإمكانيات المادية المطلوبة لدفع عملية التنمية والتكامل، ونحن كمجموعة مصارف إسلامية لنا أمل عريض في أن يشجع هذا التعاون جهات أخرى كثيرة في عالَمَيْنا العربي والإسلامي للسير في نفس الاتجاه وصولًا لتنمية الأمة ورفع مستوى الإنسان وتحقيقًا للاعتماد على النفس.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]
صدق الله العظيم(5/947)
المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي
لبحوث الحضارة الإسلامية
(مؤسسة آل البيت)
ندوة عن:
"خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية:
الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات"
بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب / البنك الإسلامي للتنمية / جدة.
عمان
22 شوال – 25 شوال 1407 هـ
18 /6 – 21 /6 /1987م(5/948)
بحث الدكتور محمد عبد الحليم عمر
عن
التفاصيل العملية لعقد المرابحة في النظام
المصرفي الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
موضوع البحث:
حينما قامت البنوك الإسلامية اتجهت صوب الشريعة الإسلامية للبحث عن صيغ لتوظيف أموالها، وكان من بين هذه الصيغ بيوع المرابحة التي تعتبر من الصور المناسبة لطبيعة عمل المصارف في تمويل الأنشطة الاقتصادية المختلفة، وتطبق على نطاق واسع فيها، وبالرغم من ذلك فإنها تكاد تكون الصورة الوحيدة التي ثار حولها جدل كثير ليس من حيث الفكرة كما وردت لدى الفقهاء القدامى، وإنما من حيث الأسلوب الذي تطبق به في البنوك الإسلامية المعاصرة، وبما أن هذا التطبيق يمثل صدى للأفكار النظرية حولها؛ لذلك أثر الخلاف النظري بين الفقهاء المعاصرين على الإجراءات العملية لبيوع المرابحة، الأمر الذي على هذه الصورة محور الاهتمام في كل الندوات والمؤتمرات والدراسات التي جرت حول البنوك الإسلامية، ويأتي هذا البحث ليقوم برصد الإجراءات التفصيلية لبيوع المرابحة لتحديد الفروق بين تطبيقها في البنوك الإسلامية، ثم تقويم هذه الفروق شرعيًّا واقتصاديًّا. وبذلك نصل إلى تحقيق الأهداف التالية.
هدف البحث:
إن الهدف العام لهذا البحث هو المساهمة العلمية في إنجاح مسيرة البنوك الإسلامية من خلال دراسة إحدى أهم صور توظيف الأموال بها وهي بيوع المرابحة لتحقيق ما يلي:
1- تحديد الإجراءات التفصيلية لبيوع المرابحة في البنوك الإسلامية بصورة مجمعة في بحث واحد حتى يمكن تبادل المعلومات والخبرات بين البنوك التي يجمعها هدف مشترك.
2- تحديد الفروق التطبيقية لبيوع المرابحة بين البنوك المختلفة، ثم تقويم هذه الفروق شرعيا واقتصاديا بصورة تساعد بعض البنوك على تعديل التطبيق استرشادا بالقواعد الشرعية وبما يتم تطبيقه في بنوك أخرى.(5/949)
3- بيان مدى تناسب التطبيق مع الأفكار النظرية شرعية واقتصادية بشكل يوضح للمسئولين في هذه البنوك مدى التزامهم بالأحكام الشرعية في تطبيق عقود المرابحة ومدى ومسايرة هذا التطبيق للأفكار الاقتصادية.
مصادر المعلومات: بما أن البحث يجمع بين الإطار التطبيقي والنظري لذلك اعتمدنا في إعداده على المصادر التالية:
أ- تجميع المعلومات عن الإجراءات العملية بواسطة الأدوات التالية:
1- استمارة استقصاء – مرفق صورتها – أرسلناها لجميع البنوك الإسلامية ورد علينا بعضها.
2- نماذج من طلب الشراء وعقد الوعد وعقد البيع مرابحة، المستخدمة في عدد من البنوك.
3- دليل إجراءات العمل لبعض البنوك.
4- الإطلاع على الفتاوى الصادرة من هيئة الرقابة الشرعية لبعض البنوك والتي ناقشت تطبيق المرابحة بها.
5- الزيارة الميدانية لبعض البنوك بمصر ومناقشة بعض المسئولين بها عن تطبيق عقود المرابحة.
ب- بعض كتب الفقه قديمًا وحديثًا وأعمال المؤتمرات والندوات التي تناولت موضوع المرابحة.(5/950)
محددات البحث: توجد عدة محددات يلزم ذكرها فيما يلي:
1- إن بعض البنوك لم ترد على استمارة الاستقصاء المرسلة إليها وقد تكون لديها إجراءات تختلف عن باقي البنوك لم نذكرها لأننا لم نعلم بها.
2- إننا التزمنا بالضوابط التي وضعتها إدارة الندوة –قدر الإمكان- من حيث عدد الصفحات.
3- إن هناك بحوثًا أخرى في الندوة تتناول بالتفصيل الجوانب المختلفة للمرابحة الفقهية والقانونية والاقتصادية.
أسلوب البحث: قام البحث على الأسلوب التالي في عرض المعلومات:
1- بدأنا البحث ببيان الإطار العام لعمليات المرابحة بشقيه الفقهي والمصرفي.
2- قسمنا البحث بحسب المراحل التي تتم بها العملية (المواعدة – الشراء الأول – البيع مرابحة) ثم بحسب الخطوات التي تتم في كل مرحلة.
3- أوردنا الإجراءات العملية التي تتبع في كل خطوة مع تحديد الفروق بينها.
4- أوردنا الرأي الشرعي والاقتصادي بالنسبة لكل خطوة منها.
خطة البحث: سعيًا وراء تحقيق الهدف من البحث وتمشيًا مع الأسلوب المذكور تم تنظيم البحث وفق الخطة التالية:
المبحث الأول: الإطار العام لبيوع المرابحة.
المبحث الثاني: الإجراءات العملية في مرحلة المواعدة.
المبحث الثالث: الإجراءات العملية في مرحلة الشراء الأول.
المبحث الرابع: الإجراءات العملية في مرحلة البيع مرابحة.(5/951)
المبحث الأول
الإطار العام لبيوع المرابحة
من المهم وقبل البدء في دراسة الإجراءات العملية لبيوع المرابحة أن نأتي في إيجاز على الجوانب الفقهية والمصرفية لها، لتتضح صورتها الإجمالية ولتساعد على تقويم الفروق التي تظهر في التطبيق، وسوف نتناول ذلك في الآتي:
أولًا- الجانب الفقهي ثانيًا- الجانب المصرفي
أولًا- الجانب الفقهي:
أ- تعريف المرابحة: توجد تعاريف عديدة للمرابحة لدى الفقهاء وهي وإن اختلفت في الصياغة إلا أن دلالاتها واحدة، حيث تدور حول بيع السلعة بثمن شرائها وزيادة ربح، حيث يقول أحد الفقهاء: المرابحة بيع السلعة بالثمن الذي اشتراها به وزيادة ربح. (1)
ب- مشروعيتها: يستدل الفقهاء على مشروعية المرابحة بأدلة عامة غير مباشرة مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) والرأي الراجح لدى الفقهاء أن المرابحة جائزة شرعًا، وهناك من يرى كراهتها مثل ابن عمر وابن عباس، (3) بل إن هناك من يقول بمنعها مثل ابن حزم (4) ولقد بنيت الآراء التي تقول بالكراهة أو المنع على أن البيع يتضمن غررًا وجهالة ولقد فند ابن قدامة (5) هذه الحجة بما يمكن معه القول أن المرابحة جائزة شرعًا.
__________
(1) الدسوقي – حاشية الدسوقي على الشرح الكبير- دار إحياء الكتب العربية بمصر جـ 3 ص 159
(2) سورة البقرة – آية 275
(3) ابن قدامة – المغني – مكتبة الجمهورية العربية – جـ 4 ص 199
(4) ابن حزم – المحلى – مكتبة الجمهورية العربية – جـ 9 ص 625
(5) ابن قدامة – المغني – مكتبة الجمهورية العربية – جـ 4 ص 199(5/952)
ويستفاد من الاستدلال على مشروعية المرابحة بالأدلة العامة، بأن الموضوع يدخل بصورة كبيرة في دائرة الاجتهاد الذي يجب أن يراعي إلى جانب الالتزام بالقواعد الشرعية العامة، ظروف الحال المتغيرة، وبذلك فإن التطبيق المعاصر لبيوع المرابحة يجب أن يراعي الظروف الحالية والتي من أهمها أن العملية تتم بين مؤسسات كبيرة وليس في نطاق المعاملات الفردية التي كانت موجودة في زمن الفقهاء القدامى، هذا إلى جانب التطور الكبير الذي لحق بالأنشطة الاقتصادية، وهذا ما يلزم على المجتهدين المعاصرين مراعاته دون التقيد الحرفي بكل ما قاله الأولون رغم أهميته.
جـ – شروط المرابحة: توجد عدة شروط للمرابحة ذكرها الفقهاء القدامى من أهمها:
1- أن يكون الثمن الأول معلومًا لطرفي العقد، وكذلك ما يحمل عليه من تكاليف أخرى.
2- أن يكون الربح محددًا مقدارًا أو نسبة من الثمن الأول.
3- أن يكون الثمن الأول من ذوات الأمثال.
4- أن يكون العقد الأول صحيحًا.
إلى غير ذلك من الشروط المذكورة تفصيلًا في كتب الفقه. (1)
د- صور المرابحة: يمكن أن تتم المرابحة بإحدى صورتين عرفهما الفقه قديمًا وهما:
1- الصورة الأولى: ويمكن أن يطلق عليها الصورة العامة أو الأصلية وهي أن يشتري شخص ما سلعة بثمن معين ثم يبيعها لآخر بالثمن الأول وزيادة ربح، فهو هنا يشتري لنفسه دون طلب مسبق ثم يعرضها للمبيع مرابحة.
2- الصورة الثانية: وهي ما يطلق عليها حديثًا اصطلاح " بيع المرابحة للآمر بالشراء " وكيفيتها: أن يتقدم شخص إلى آخر ويقول له: اشتر سلعة معينة موجودة –أو يحدد أوصافها- وسوف أشتريها منك بالثمن الذي تشتريها به وأزيدك مبلغًا معينًا أو نسبة من الثمن الأول كربح، وهذه الصورة وإن كانت تسميتها بالبيع مرابحة للآمر بالشراء من إطلاق الفقهاء المعاصرين إلا أن كيفيتها وردت لدى الفقهاء القدامى كما جاء في كتاب الأم للشافعي ما نصه: "وإذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال اشتر هذه وأربحك فيها كذا فاشتراها الرجل فالشراء جائز ... " ثم يقول: "وهكذا إن قال: اشتر لي متاعًا - ووصفه - أو متاعًا أي متاع شئت وأنا أربحك فيه فكل هذا سواء يجوز البيع.." (2)
__________
(1) يراجع في ذلك: ابن قدامة المغني مرجع سابق جـ 4 ص 198 وما بعدها، ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقصد – دار الكتب العربية – جـ 2 ص 273 وما بعدها، الشربيني الخطيب – مغني المحتاج – مطبعة مصطفى الحلبي جـ 2 ص 76 وما بعدها.
(2) الإمام الشافعي – الأم- الدار المصرية للتأليف والترجمة جـ 3 ص 33.(5/953)
ثانيًا: الجانب المصرفي للمرابحة: وسوف نتناول فيه النقاط التالية:
أ- مدى تناسب المرابحة مع طبيعة البنوك الإسلامية.
ب- حجم عمليات المرابحة في البنوك الإسلامية.
جـ- الصورة التي تتم بها وأساليب تطبيقها في البنوك الإسلامية.
أ- مدى تناسب المرابحة مع طبيعة عمل البنوك الإسلامية: يثير البعض شبهات (1) حول قيام البنوك الإسلامية بعمليات المرابحة على أساس أن طبيعة عمل هذه البنوك هو الوساطة المالية وأن عملية المرابحة تقتضي الوساطة التجارية ولذلك فإن البنك يطبق المرابحة بأسلوبه كوسيط مالي وليس كتاجر حيث يقوم بدفع مبلغ للمورد ويتقاضى من المشتري مرابحة أزيد منه، وفي ذلك شبهة ربا لا محالة.
وفي رأينا أن هذه الشبهة لا محل لها، حقيقة أن طبيعة عمل المصارف عمومًا هو الوساطة المالية، ولكن هذه الوساطة بين الادخار والاستثمار، حيث تقوم بتجميع المدخرات وتوجيهها إلى الاستثمارات المختلفة ويختلف هذا التوجيه بحسب نوع البنوك من تجارية ومتخصصة وبنوك استثمار وأعمال، والتي يحق لها استثمار الأموال بنفسها في أعمال وأنشطة تجارية وصناعية وغيرها.
__________
(1) د. رفيق المصري – النظام المصرفي الإسلامي- المؤتمر الدولي الثاني للاقتصاد الإسلامي باكستان – مارس 1983 ص 47 وله أيضًا نفس الرأي في ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي المدينة المنورة – رمضان 1403 – كتاب المناقشات صفحات 95 – 96، 129 - 130(5/954)
ولا تختلف طبيعة عمل البنوك الإسلامية (1) وفق هذا التصور عن غيرها في كونها تقوم بالوساطة المالية بين الادخار والاستثمار، غير أن هذه الطبيعة تقتضي أن تكون البنوك الإسلامية بنوك استثمار وأعمال حيث تقوم بمباشرة الأنشطة الاقتصادية المختلفة بنفسها بصور عديدة ومنها صورة بيوع المرابحة التي تعني شراء وبيع السلع بربح محدد، وبالتالي يمكن القول أن عملية المرابحة لا تتناقض مع طبيعة عمل المصارف الإسلامية بل على العكس هي من أنسب صور توظيف الأموال بها، كما أن دور البنك في هذه العملية ليس التمويل فقط، وإن كان التمويل لا يمنع من كون العملية تجارة أيضًا، لأن الحكمة من بيوع المرابحة تتحدد في الآتي:
1- أن المشتري مرابحة لا تكون لديه الخبرة في الشراء، وبذلك يعهد إلى غيره ممن له خبرة لشرائها ثم يبيعها له مرابحة.
2- أن المشتري مرابحة لا تكون لديه القدرة التنظيمية لإتمام عملية الشراء.
3- أن المشتري مرابحة لا تكون لديه القدرة التمويلية لتمويل عملية الشراء فورًا.
4- تقليل المخاطر على المشتري مرابحة خلال فترة الشراء الأول من المورد. وإحضار السلعة فإنه وإن كان لا يمكن القول بأن البنك الإسلامي أكثر خبرة من المشتري، خاصة إذا كان الأخير يعمل أو يتاجر في السلعة، فإنه بالتأكيد يقدم خدمات أخرى لإتمام العملية مثل تحمل المخاطر خلال فترة الشراء الأول ومباشرة العملية من خلال أجهزته بالإضافة إلى تمويل العملية، ولكل ذلك فهو ليس ممولًا للعملية فقط، وإنما يمارس الدور التجاري، وما يستحق من ربح ليس فقط لتقديم الأموال كالبنوك الربوية وإنما أيضًا لما يقوم به من دور في إتمام الصفقة.
ب- حجم عمليات المرابحة في البنوك الإسلامية: تأكيدًا لتناسب عمليات المرابحة مع طبيعة عمل البنوك الإسلامية فإنها تقوم بها على نطاق واسع في جميع أنواع السلع ومن مصادر محلية وأجنبية وبمبالغ كبيرة، فلقد ظهر من الإجابات على استمارة الاستقصاء ما يلي:
1- أن عمليات المرابحة تتم على منقولات من أغذية وسيارات وبضائع مختلفة كما تتم على عقارات في بعض الأحيان.
2- أن نسبة مصدر البضائع تتراوح بين 30 % إلى 90 % مصادر محلية وبين 70 % إلى 10 % مصادر أجنبية.
3- أن نسبة عمليات المرابحة إلى مجموع عمليات التوظيف الأخرى بالبنوك تتراوح بين 90 % وبين 65 % سواء من حيث عدد العمليات أو المبالغ الموظفة.
__________
(1) من المهم الإشارة إلى أن البنوك الإسلامية تختلف عن غيرها في علاقتها بالمدخرين والمستثمرين حيث تقوم هذه العلاقة على قاعدة المشاركة وليس قاعدة الاقتراض والإقراض بفائدة ربوية.(5/955)
جـ- الصورة التي تتم بها المرابحة وأساليب تطبيقها في البنوك الإسلامية:
لقد سبقت الإشارة إلى أن الفقه الإسلامي قديمًا عرف صورتين للمرابحة هما الصورة العامة وصورة بيع المرابحة للآمر بالشراء، وبالنظر في التطبيق المعاصر نجد أن الصورة الأولى والتي يسبق العرض فيها الطلب نادرة الحدوث، كما أفادت بذلك البنوك في إجاباتها على أسئلة استمارة الاستقصاء، ويقف وراء هذه الندرة عدة أسباب منها:
1- أن السلع تتعدد ويوجد تخصص في التجارة ولا يعقل أن يتخصص البنك الإسلامي في سلعة معينة، وإلا لكان بذلك يضيق من دائرة نشاطه، كما لا يمكن اقتصاديا شراء جميع السلع وعرضها انتظارًا لطلبها لما يصاحب ذلك من تكاليف ومجهودات كثيرة لدراسة الأسواق، ولوجود مخاطر كبيرة تتمثل في عدم القدرة على تصريف البضاعة وتعطيل جزء من أمواله في المخزون السلعي.
2- أنه لا توجد لدى البنك قدرة تخزينية لاستيعاب السلع التي يشتريها انتظارًا لبيعها مرابحة.
3- عدم وجود الكفاءات البشرية المطلوبة لتنفيذ هذه الصورة والتي يلزم أن تكون متخصصة في عمليات التسويق شراء وبيعًا.
لذلك فإن الصورة الأخرى " بيع المرابحة للآمر بالشراء " هي التي تلقى قبولًا في التطبيق العملي كما أفادت بذلك كل البنوك التي ردت على أسئلتنا، وهذه الصورة نقوم بالطبع على الفكرة الأصلية للصورة العامة حيث يقوم المصرف ببيع ما اشتراه مرابحة وإن كان يسبق ذلك طلب من المشتري أي أن الطلب فيها يسبق العرض بما يضمن معه البنك من تصريف السلع التي يشتريها.
وبالنظر في الإطار التطبيقي لهذه الصورة كما تحدث في البنوك الإسلامية نجد أنها تطبق بعدة أساليب هي:
الأسلوب الأول: وكيفيته أن يتقدم العميل للبنك بطلب شراء سلعة معينة يحدد أوصافها ويقوم المصرف بالحصول عليها بطريقته من أي مصدر ثم يبيعها مرابحة لطالبها.
الأسلوب الثاني: وكيفيته أن يتقدم العميل للمصرف بطلب شراء سلعة معينة يحدد أوصافها ومصدر توريدها وكل البيانات المتعلقة بها ويقوم المصرف بشرائها بعينها من نفس المصدر ويبيعها مرابحة لطالبها.
وهذان الأسلوبان يطبقان في البنوك الإسلامية وهما جائزان شرعا كما يقرر بذلك الإمام الشافعي في القول السابق سواء حدد العميل سلعة بعينها أو حدد أوصافها.(5/956)
الأسلوب الثالث: ويحدث في حالة السلعة المستوردة والمصرف يكون في دولة تحكمها قوانين وقرارات استيراد، حيث يحدد لكل مستورد في الدولة حصة معينة للاستيراد وتصدر له رخصة بذلك فيتقدم المستورد بطلب إلى البنك ليقوم باستيراد السلعة وبيعها له مرابحة، وبما أن رخصة الاستيراد تكون باسم المستورد وأنه في بيع المرابحة لابد أن تكون السلعة في ملك البنك أولا حتى يمكنه بيعها مرابحة، وحلًّا لذلك فإنه في هذه الحالة يتم تطبيق بيع المرابحة بأي من الطريقتين بحسب ما تسمح به قوانين الدول التي توجد بها البنوك.
الطريقة الأولى: أن يقوم العميل المشتري مرابحة بالتنازل عن رخصة الاستيراد للبنك حتى يمكنه شراء السلعة باسمه ثم بيعها مرابحة وهذا ما يتم على سبيل المثال في البنوك الإسلامية العاملة بالسودان.
الطريقة الثانية: أن تستخدم الموافقات او الرخص الاستيرادية للعملاء لإتمام عملية الاستيراد وترد مستندات الشحن باسم المصرف ويتم تظهيرها تظهيرا ناقلا للملكية باسم العميل ويتم إبرام عقد البيع مرابحة معه وبذلك تدخل البضاعة إلى الدولة باسم المستورد، وهذا يحدث في بنك فيصل المصري حيث إن قوانين الاستيراد في مصر تحظر على غير المصريين الاستيراد وبنك فيصل يعتبر من المصارف المشتركة لأن به مساهمين أجانب.
وتجدر الإشارة إلى أنه لو كان للبنك الحق في الاستيراد فإن العملية تدخل في نطاق الأسلوب الثاني.
الأسلوب الرابع: ويمكن تسميته بأسلوب توكيل البائع أو المورد في إجراء عملية البيع مرابحة نيابة عن البنك، وكيفيته كما وردت في جواب المستشار الشرعي للبنك الإسلامي الأردني ردا على مدى شرعية هذا الأسلوب في إجراء عمليات المرابحة، أن يتولى البنك اختيار البائعين وتحديد سقف لمعاملاتهم مع البنك في حدود مبلغ معين على أن يتقدم المشتري بطلب شراء للبنك، فيطلب البنك من البائع عرض أسعار للتحقق من مطابقة الشروط ثم يشتري البنك البضاعة من البائع بموجب فاتورة صادرة باسمه ويتولى البائع بطريق الوكالة تنظيم عقود البيع مرابحة واستلام الدفعة الأولى وتنظيم الكمبيالات وكفالتها ثم يقدم البائع مستندات العملية للبنك الذي يدفع له قيمتها.
وقد أجاب المستشار باعتماد هذا الأسلوب (1) .
__________
(1) البنك الإسلامي الأردني – الفتاوى الشرعية جـ1 1984 فتوى رقم 5، 14، 21(5/957)
الأسلوب الخامس: ويمكن أن نطلق عليه أسلوب توكيل المشتري مرابحة في إجراء عملية البيع مرابحة نيابة عن البنك، وكيفيته كما ورد في ندوة البركة بالمدينة المنورة (1) أن يطلب شخص من البنك شراء سلعة معينة لبيعها له مرابحة فيتفق معه البنك على توكيله في عملية الشراء، ثم توكيله ثانية في بيعها لنفسه مرابحة، وقريبا من ذلك ما ذكره أحد أعضاء الندوة (2) فيما وجده مطبقا في بعض البنوك بأن يحضر شخص للبنك ويطلب منه شراء سلعة معينة ليشتريها من البنك مرابحة، فيقوم البنك بإعطائه شيكا بالمبلغ لشرائها بنفسه وأخذها مرابحة، وفي رأينا فإن هذا الأسلوب بشقيه (توكيل أو بدون توكيل) غير سليم للآتي:
1- أنه لا يجوز في عقود المفاوضات ومنها البيع أن يتولى شخص واحد تولي العقد عن الجانبين؛ ولذلك لم يجز أن يكون الشخص الواحد وكيلا عن الجانبين في البيع وأشباهه (3) ، وبالتالي فإنه وإن صح توكيل المشتري مرابحة في إجراء الشراء الأول فلا يصح توكيله في البيع لنفسه مرابحة.
2 – أن في هذا الأسلوب شبهة التحايل لمعاملة ربوية حيث قد لا تكون هناك سلعة بالمرة، وإنما تتم العملية صوريًّا لحصول العميل على مبلغ الصفقة حالا ورده آجلا بزيادة، وذكر السلعة بينهما لتغطية العملية.
لذلك فإننا ندعو البنوك الإسلامية إلى الامتناع عن هذا الأسلوب الذي يخالف الشريعة الإسلامية.
__________
(1) ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي- المدينة المنورة – مرجع سابق ص 323- 330
(2) د. صديق الضرير – مرجع سابق ص 106
(3) الشيخ محمد أبو زهرة – الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية – دار الفكر العربي 1976 ص406(5/958)
المبحث الثاني
الإجراءات العملية في مرحلة المواعدة
لقد سبق القول أن بيع المرابحة للآمر بالشراء هو الصورة المطبقة في البنوك الإسلامية، وتبدأ هذه الصورة بمرحلة المواعدة على الشراء حيث يتقدم العميل إلى البنك بطلب لشراء السلعة، وبعد أن يتم دراسة الطلب يتم إبرام عقد الوعد معه، وبالتالي فإن الإجراءات في هذه المرحلة تسير وفق الخطوات التالية:
أولا – تلقي المصرف لطلب الشراء.
ثانيا – دراسة المصرف العملية.
ثالثا – إبرام عقد الوعد مع العميل.
أولا – طلب الشراء: تبدأ العملية بتلقي البنك طلبا من العميل يوضح فيه رغبته في أن يقوم البنك بشراء سلعة معينة على أن يشتريها العميل منه مرابحة، ومن الناحية التطبيقية فإن ذلك يتم في جميع البنوك الإسلامية من خلال نموذج يسمى " طلب شراء أو طلب شراء المرابحة أو رغبة بالشراء ".
أ – البيانات التي تظهر به:
1 – بيانات مشتركة لدى جميع البنوك وهي:
- مواصفات البضاعة المطلوب شراؤها، - بيانات عن العميل.
- القيمة الإجمالية، - المستندات المطلوبة.
2 – بيانات تنفرد بها بعض البنوك:
- نسبة الربح، - مصدر البضاعة -، شروط ومكان التسليم.
هذا مع ملاحظة ما يلي:
- أن هذا الطلب أو الرغبة عبارة عن بيان بالبضائع المطلوب شراؤها كما هو واضح من التقديم في نماذجها.
- أن هذه النماذج تحيل إلى عقد الوعد الذي يوجد على نفس نموذج طلب الشراء بالصفحة الخلفية في بعض البنوك وتظهر الإحالة بالنص وهذه البضائع هي موضوع وعد الشراء المحرر بيننا وبينكم بتاريخ / /، وبالتالي فإن ما لم يذكر في طلب الشراء من بيانات لدى بعض البنوك يوجد تفصيلا وزيادة عليه في عقد الوعد كما سنرى فيما بعد.(5/959)
ب – ومن دراسة نماذج طلبات الشراء وإجابات البنوك على استمارة الاستقصاء عن هذه الخطوة يتضح أن العميل قد يقوم بالدراسة المبدئية لتحديد السلعة محل الصفقة وتحديد مصدرها وسعر شرائها وكافة الشروط الأخرى المتعلقة بالشراء الأول، ولتقويم ذلك اقتصاديا يمكن القول بالآتي:
1 – إن قيام العميل بتحديد السلعة ومصدرها والسعر المبدئي لشرائها أمر طبيعي لأنه الذي يحتاج السلعة وهو أقدر على تحديد مواصفاتها ويعرف مصادرها ولديه خبرة بها، هذا مع مراعاة أن البنك يقوم بعد تلقى طلب الشراء بدراسة العملية كما سيأتي بعد.
2 – من الناحية الفقهية فإن قيام العميل بالاتصال الأول بالموردين وتحديد السلعة أمر يجد سنده الفقهي في قول الإمام الشافعي المشهور حيث جاء في صدره: " وإذا أرى الرجلُ الرجلَ السلعةَ،: فقال اشتر هذه وأربحك فيها ... " حيث يفهم من النص أنه يجوز أن يقوم المشتري مرابحة بتحديد السلعة تعيينًا ويريها للبائع مرابحة، وتطبيق ذلك في الوقت المعاصر يكون باتصال المشتري مرابحة بالمورد والحصول منه على فاتورة مبدئية وباقي المستندات في حالة الاستيراد من الخارج وتقديمها مع طلب الشراء للبنك.
ثانيا – دراسة العملية: حينما يتلقى البنك طلب الشراء من العميل يقوم بدراسة العملية من كل جوانبها، والتي تشمل – بإيجاز – كما ورد بدليل الإجراءات لدى أحد البنوك: (1) .
1- سلامة البيانات المقدمة من العميل سواء عن نفسه أو البضاعة موضوع الصفقة أو المورد.
2 – دراسة سوق السلعة حتى يضمن إمكانية تسويقها في حالة نكول العميل عن الشراء.
3 – التأكد من أن الطلب يدخل فعلا ضمن نشاط العميل حتى لا تكون العملية ستارا لحصوله على مبلغ الصفقة.
4 – التأكد من أن العملية تتفق والأغراض التي يمولها البنك.
5 – التأكد من أن العملية تتفق وأحكام الشريعة الإسلامية والقوانين السائدة.
6 – دراسة الحالة المالية للعميل للتأكد من قدرته على سداد الثمن.
7 – بيان تكلفة العملية بالتفصيل.
8 – تحديد نسبة الربح طبقا لنوع السلعة وأجَل السداد.
9 – تحديد الأسلوب المقترح لتنفيذ العملية من حيث كيفية دفع الثمن للموردين وتحصيله من العميل.
10- تحديد الضمانات المقترحة لضمان حق البنك في تحصيل الثمن في ضوء حالة العميل وقيمة الصفقة.
__________
(1) بنك فيصل الإسلامي المصري – دليل العمل ص120 وما بعدها(5/960)
هذا مع ضرورة الإشارة إلى بعض الأمور المتصلة بدراسة العملية التي اتضحت لنا من إجابات البنوك على استمارة الاستقصاء وهي:
أ – أن بعض البنوك عند دراسة العملية تقوم بالحصول على عروض أخرى لنفس نوع السلعة ومواصفاتها بغرض المقارنة والحصول على أفضل العروض لإتمام الصفقة، وهذا أمر له أهميته؛ لأن فيه خدمة للمشتري مرابحة ويؤكد صحة ما ذهبنا إليه سابقا من أن دور البنك في العملية ليس مجرد دور تمويلي فقط كما يعتقد البعض، بل أنه يقوم بدور تجاري أيضا.
ولقد أوردنا سؤالًا باستمارة الاستقصاء: " إذا كان لدى المصرف عرض من مورد آخر خلاف المورد الذي حدده العميل بشروط أفضل، هل يؤخذ به؟ " فأجابت بعض البنوك بنعم وأخرى: لا.
ب – أنه توجد لدى البنوك مشكلات تتعلق بدراسة العملية من أهمها:
1- عدم توافر المعلومات عن الموردين – خاصة المصدرين – ويقترح لذلك:
- إنشاء مركز معلومات عن الموردين.
- إقامة علاقات مع كل من الغرف التجارية والزراعية والصناعية والملحقين التجاريين والهيئات التجارية بالدول الإسلامية.
2 – عدم وجود قسم لدراسة السلع يمكن بواسطته دراسة الحالة التسويقية للسلعة حتى يمكن تصريفها في حالة نكول العملاء.(5/961)
ثالثا – عقد الوعد: إن الخطوة التالية لدراسة العملية وقبول البنك القيام بها هي إبرام عقد الوعد مع العميل، والذي يتفق بموجبه الطرفان – البنك والعميل على تنفيذ العملية، وسوف نتناول في هذه الخطوة ما يلي:
أ – هل يتم إبرام عقد الوعد أو يكتفى بطلب الشراء؟ لقد أجابت غالبية البنوك على هذا التساؤل بنعم وأرفقت بإجاباتها نموذجا لهذا العقد، وأجاب عدد قليل منها بأنه يكتفى بطلب الشراء، والحجة لدى الفريق الأخير أن إبرام عقد الوعد فيه معنى الإلزام بإتمام الصفقة، وهم لا يأخذون بالرأي الذي يقول بالإلزام بالنسبة للعميل – كما سيأتي بعد- وبالتالي فليس هناك حاجة في نظرهم لإبرام عقد الوعد، وبمناقشة ذلك يمكن القول أن إبرام عقد الوعد ضروري من الناحية العملية حتى مع القول بعدم إلزام الوعد؛ لأن العميل وقد أبدى رغبته في الشراء بموجب طلب شراء فإن الأمر يقتضي الرد على طلبه كتابة؛ لأنه لا يمكن الاعتماد على ذاكرة العاملين، أو العميل وبدلا من أن يرسل البنك له خطابا بذلك فإن الأفضل أن يبرم معه اتفاقا مكتوبا يحفظه كل طرف في ملف العملية لديه حتى يبدأ في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ الصفقة، ويمكن النص إذا رأيا الأخذ بعدم الإلزام على ذلك بالعقد.
ب – البيانات التي تذكر بعقد الوعد: بالاطلاع على نموذج العقود التي وصلتنا مع استمارة الاستقصاء وجدنا أنها تشتمل على البيانات التالية:
1 – بيانات مشتركة لدى جميع البنوك، وهي:
- المقدمة التي تشتمل على البيانات الخاصة بطرفي العقد، وموضوع العقد وهو البيع مرابحة.
- الإحالة إلى طلب الشراء فيما يتعلق بتحديد نوع البضائع ومواصفاتها وغير ذلك من البيانات التي وردت به.
- نسبة الربح المتفق عليها.
- كيفية سداد ثمن البيع.(5/962)
2 – بيانات تختلف من بنك إلى آخر، وهي:
- إقرار الطرف الثاني (العميل) بتنفيذ وعده بالشراء عند إخطار البنك له بأن البضاعة جاهزة، فلقد ورد هذا الإقرار في أغلب النماذج.
- ورد في نماذج بعض البنوك بأنه إذا امتنع أحد طرفي العقد (العميل أو البنك) من تنفيذ وعده يتحمل الأضرار التي تلحق بالطرف الآخر، بينما ورد ذلك بالنسبة للعميل فقط لدى بعض البنوك الأخرى.
- إقرار الطرف الثاني بأهليته للتعاقد والتزامه بأحكام الشريعة والنظام الأساسي للبنك.
- النص على قيام العميل بدفع مبلغ مقدم عند توقيع عقد البيع كتأمين لضمان جديته.
- النص على أن الشاحن يعتبر وكيلا عن البنك، وفي نماذج أخرى وكيلا عن الطرفين.
- النص على أن ما ورد ذكره يخضع للقوانين والأعراف النافذة في الدولة، وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، وفي بنوك أخرى أحالت النزاع الذي ينشأ إلى هيئة تحكيم يختارها الطرفان.
- نصت بعض البنوك على أحقيتها في شراء البضاعة من مصدر آخر خلاف المورد الذي حدده العميل في طلب الشراء، بينما نصت بعض البنوك على أنه إذا امتنع المورد الذي عينه العميل عن تنفيذ الصفقة أو أخرها لا يكون البنك مخلا بوعده وليس مسئولا عن الضرر الذي يعود على العميل، وعليه – أي العميل- أن يدفع كافة المصاريف التي تكبدها البنك نتيجة عدم تنفيذ الصفقة.(5/963)
وبالنظر في هذه البيانات يمكن إبداء الملاحظات التالية.
1 – أن تحديد الربح ورد في بعض النماذج كنسبة من التكلفة الكلية، وفي البعض الآخر استثنى منها الرسوم الجمركية، ومصاريف النقل إلى مخازن العميل، وسوف نعود إلى ذلك تفصيلا فيما بعد.
2 – أن النص على إلزام العميل بالوفاء بوعده دون البنك في بعض عقود الوعد يحتاج إلى تعديل؛ لأن الأصل المتفق عليه وفقا لقول الشافعي أن البنك ملزم بتنفيذ وعده، بينما الخلاف يدور حول إلزام العميل كما سيأتي بعد.
3 – أن النص في بعض النماذج على التزام العميل بتعويض الضرر الواقع على البنك نتيجة عدم الوفاء بوعده يحتاج إلى تعديل كما جاء في النماذج الأخرى التي تلزم في ذلك كلًّا من العميل والبنك.
4 – أن النص على أن الشاحن يكون وكيلا عن الطرفين ليس له سنده القانوني أو الشرعي؛ لأنه في مرحلة الشراء الأول يكون البنك هو المشتري ولا دخل للعميل بها.
5 – أن النص على أنه إذا امتنع المصدر المعين من قبل العميل على تنفيذ العملية فإن البنك لا يكون مسئولا، يحتاج إلى إعادة نظر؛ لأن ذلك يخفف من مسئولية البنك بينما مسئولية العميل قائمة مهما كانت الأعذار.
جـ-الإلزام بالوعد: تعتبر هذه القضية من موضوع بيع المرابحة للآمر بالشراء محل الخلاف الرئيسي حيث كثرت فيها الكتابات وصدرت بشأنها التوصيات العديدة، ويدور الخلاف فيها بين آراء ثلاثة أولها: أن الوعد غير ملزم للعميل أو المصرف، وثانيها: أن الوعد ملزم للمصرف فقط، وثالثها: أن الوعد ملزم لكل من العميل والمصرف، ويأتي التطبيق العملي صدى لهذه الآراء، كما أفادت بذلك البنوك في إجاباتها على استمارة الاستقصاء.(5/964)
ويعتبر الرأي الثالث (الإلزام لكلا الطرفين) هو الرأي الراجح لدى الفقهاء المعاصرين وبالتالي هو الرأي السائد في التطبيق العملي، ويقف وراء هذا الرأي الذي تؤيده عدد من الحجج العملية والأدلة الشرعية (1) ، لسنا في حاجة إلى تكرارها لكننا نود التأكيد بخصوصها على الآتي:
1 – أن موضوع المرابحة في أصل من الأمور الاجتهادية التي لم يرد فيها نص شرعي محدد، وبالتالي فإن الاستدلال بقول الإمام الشافعي بعد الإلزام بالوعد للعميل هو اجتهاد منه صدر في ظل ظروف معينة، وكما يقول الدكتور القرضاوي (2) : " ومن يدري لعل الإمام الكبير- يقصد الشافعي – لو رأى ما يترتب اليوم على إعطاء الخيار لطالب الشراء في الصفقات الكبيرة من الأضرار والخسائر لغير اجتهاده دفعا للضرر وتجنبا لأسباب النزاع بين الناس ".
وعلى ذلك فإن الرأي الذي وصل إليه جمهور الفقهاء المعاصرين من القول بالإلزام لا يخالف نصا ولا يعطل حكما شرعيا قائما، بل على العكس يدور في فلك مقصود الشريعة من المحافظة على الأموال ومنع الضرر والحد من المنازعة بين الناس.
2- أن الوفاء بالوعد من القواعد الأصولية في الإسلام التي يجب أن يلتزم بها المسلم في كل أعماله.
3 – أن هناك آراء لدى الفقهاء القدامى تقول بالإلزام بالوعد في المعاملات دينا وقضاء.
__________
(1) انظر في ذلك: د. يوسف القرضاوي – " بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية " دار القلم الكويت.
(2) د. يوسف القرضاوي – " بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية " دار القلم الكويت ص51(5/965)
4 – أن التراضي من أهم ركائز العقود والمعاملات في الإسلام، وحيث إن الطرفين تراضيا على الالتزام بالوعد فإنه ينفذ طالما لم يتفقا على ما يخالف نصا شرعيا، وأن هذا الإلزام لا ينافي مقصود العقد.
5 – أن ما يسوقه البعض (1) من أنه كان هناك إلزام بالوعد فإن العملية تكون قد تمت، وفي ذلك مخالفة للحديث الشريف ببيع الإنسان ما ليس عنده، هذا فضلا على أنه لا يكون هناك داع لإبرام عقد البيع عند حضور البضاعة، هذا القول مردود عليه بأن الاجتهاد الفقهي والتطبيق العملي المعاصر على أن عقد الوعد ليس بعملية بيع، وأنه ينصب على الوفاء بالوعد فقط، بدليل أنه يمكن تعديل الثمن أو شروط السداد في عقد البيع بعد ورود البضاعة والوقوف على تكلفتها الفعلية؛ ولذلك لا تحتوي عقود الوعد في البنوك الإسلامية على ثمن البيع مرابحة بل تذكر بقيمة إجمالية – احتمالية – في طلب الشراء، ولذلك لا يتم عقد البيع إلا بعد ورود البضاعة فعلا للبنك.
وفي نهاية هذا المبحث نورد ملاحظة عامة تتعلق بترتيب الإجراءات في مرحلة المواعدة، فلقد تبين لنا أنها لا تمر وفق الخطوات المنطقية التي ذكرناها (طلب شراء – دراسة العملية- إبرام عقد الوعد) ، بل الذي يتم هو تقديم طلب الشراء كبيان بالبضائع مع إبرام عقد الوعد في نفس الوقت، والذي يكون على نفس نموذج طلب الشراء، ثم يبدأ البنك في دراسة العملية، فإن وجدها مجدية استمر فيها وإلا توقف عنها، وهذا الإجراء يتعارض أولا مع الترتيب المنطقي للعملية، وثانيا أنه في حالة الأخذ بالالتزام بالوعد للطرفين ورأى البنك بعد الدراسة عدم جدوى العملية يعتبر مخلا بالوعد، ولكن الذي يحدث في بعض البنوك أنه غير مخل بوعده، وفي ذلك تناقض بين الإطار النظري والتطبيقي لدى هذه البنوك، بل أننا وجدنا بعض البنوك تذهب في المخالفة إلى أبعد من ذلك فتبرم عقد البيع مع عقد الوعد عند تلقي طلب الشراء.
__________
(1) د. الصديق الضرير – ندوة البركة – مرجع سابق ص: 102(5/966)
المبحث الثالث:
الإجراءات العملية في مرحلة الشراء الأول
بعد أن تنتهي الإجراءات في مرحلة المواعدة تبدأ المرحلة التالية وهي قيام البنك بإجراءات شراء السلعة المطلوبة حتى يتمكن من بيعها مرابحة للعميل، وتمر هذه المرحلة في الخطوات التالية:
أولا: الاتصال بالمورد والتعاقد معه للشراء.
ثانيا: استلام البنك للسلعة من المورد.
ثالثا: المخاطر التي تتعرض لها السلعة خلال مرحلة الشراء الأول.
أولًا: الاتصال بالمورد والتعاقد معه للشراء: وسوف نتناول في هذه المرحلة الإجراءات التالية:
أ – الاتصال بالمورد: يقوم المصرف بالاتصال بالمورد بعدة طرق أهمها:
1 – إذا كان المورد محددا في طلب الشراء المقدم من العميل فإن البنك تكون لديه بيانات عنه وعن البضاعة وأسعارها من واقع الفاتورة المبدئية، وشروط التسليم والدفع، وبذلك فإنه يبدأ في الاتصال به واتخاذ إجراءات الشراء بالطرق المعتادة، وهذا لا يمنع لدى بعض البنوك من أن يحصل البنك على عروض من موردين آخرين للمقارنة بينها واختيار الأفضل، وهذا ما أفادت به بعض البنوك.
2 – إذا لم يكن المورد محددا في طلب الشراء فإن البنك يتولى بواسطة القسم أو الإدارة المختصة لديه بالاتصال بالموردين والحصول على عروضهم، ثم يبدأ في الشراء بالإجراءات المعتادة.
3 – أن يكون هناك اتفاق مسبق بين البنك وبعض الموردين على تصريف سلعهم من خلال عمليات المرابحة بالبنك، وبذلك فإن العميل حينما يذهب للمورد للشراء يرسله للبنك فيقدم طلب شراء وبعد دراسته وإبرام عقد الوعد يصدر أمر توريد للمورد ويشتري منه البضاعة، ثم يوكل البنكُ الموردَ في عملية البيع مرابحة للعميل كما سبق ذكره.
4 – توكيل البنك للعميل في الاتصال بالموردين في مرحلة الشراء الأول خاصة إذا لم يكن في البنك قسم مختص أو خبراء لشراء هذه السلعة، هذا مع ضرورة الإشارة إلى أنه وإن كان يجوز شرعا توكيل البنك للعميل في الشراء الأول، فإنه لا يجوز توكيله في البيع مرابحة لنفسه كما سبق ذكره.(5/967)
ب – التعاقد مع المورد:
1- أسلوب التعاقد: يتم التعاقد مع المورد بأساليب تختلف بحسب الظروف ونوع السلعة وبذلك يأخذ التعاقد أحد الأساليب التالية:
- إصدار أمر توريد للمورد، ثم ورود الفاتورة منه، وذلك في الشراء المحلي.
- فتح الاعتماد المستندي، وورود مستندات الشحن التي يتسلمها الشاحن وكيلا عن البنك.
- إبرام عقد شراء بين المصرف والمورد، خاصة في حالة العقارات وبعض المنقولات كالسيارات.
وبكل هذه الأشكال ينعقد الشراء الأول بين المورد والبنك بناء على الرأي الفقهي الراجح (1) في أن العقود تنعقد بكل ما يدل على مقصودها من قول أو فعل أو ما يقوم مقامهما كالكتابة، وحيث إن إرسال أمر التوريد للمورد يمثل إيجابا من البنك فإن إرسال المورد للفاتورة أو مستندات الشحن إلى البنك يمثل القبول.
2 – شروط التعاقد: ومن أهم ما يجب ذكره هنا ما يلي:
- أنه يجب أن يكون مستند التعاقد (فاتورة أو عقد) باسم البنك حتى لو تولى أي شخص آخر الشراء وكيلا عن البنك، وذلك حتى يتحقق شرط ملكية البنك للسلعة قبل بيعها مرابحة، وهذا ما يحدث في الواقع التطبيقي كما أفادت بذلك البنوك في إجاباتها على أسئلة استمارة الاستقصاء بأن البنك يقوم بالشراء لحساب نفسه وتكون المستندات باسمه، هذا مع مراعاة أن بعض البنوك أفادت بأن الفواتير ترد باسم العميل وذلك بالنسبة لعمليات الاستيراد، ونرى في هذه الحالة أن العملية لا تكون بيع مرابحة بل يكون البنك وكيلا عن العميل في الشراء.
- بالنسبة لبعض السلع كالعقارات والسيارات فإن القوانين السائدة في الدول المختلفة تشترط لنقل الملكية ضرورة تسجيل عقد البيع في إدارة التسجيل الحكومية المختصة " كالشهر العقاري بمصر " وبناء عليه فإنه يلزم في حال شراء البنك لمثل هذه السلع أن يسجلها باسمه قبل بيعها مرابحة حتى تتحقق ملكيته لها، وهذا ما ورد في الفتاوى الشرعية لبعض البنوك (2) ، ونرى بالنسبة لهذه النقطة أنه يمكن الاكتفاء في تحقيق شرط ملكية البنك للسلعة قبل بيعها مرابحة بالعقد الابتدائي تبسيطا للإجراءات، وتخفيضا لتكاليف السلعة خاصة في الدول التي يتطلب التسجيل فيها إجراءات مطولة وتكاليف كبيرة، وبما أن البنك يشتري السلعة ليبيعها بمجرد شرائها، فلا داعي لأن تتم إجراءات التسجيل مرتين، مرة باسم البنك ومرة باسم المشتري مرابحة، هذا فضلا عن أن ما نراه لا يتعارض مع القواعد الشرعية التي تقول بأن العقد ينعقد بكل ما يدل عليه وأن الإقرار به عند حاكم (التسجيل) إجراء لتأكيد العقد وليس ضرورة لإنشائه، فهي توثقة للعقد لا زيادة فيه (3) .
- صفة الثمن: نظرا لأن بيع المرابحة يبنى على الثمن الأول، فإنه يلزم العلم به صفة ومقدارا وهذا ما سنوضحه فيما بعد، كل ما نريد توضيحه هنا أنه لو اشترى البنك السلعة بالأجل فلا بد أن يبين هذه الصفة قبل البيع مرابحة (4) لأن للأجل حظا في الثمن يزيد به فلا بد أن يعرف المشتري مرابحة أجل الثمن في الشراء الأول.
__________
(1) الشيخ محمد أبو زهرة – الملكية ونظرية العقد - ص 234، 238
(2) البنك الإسلامي الأردني – الفتاوى الشرعية – مرجع سابق ص 98
(3) الخطيب الشربيني – مغني المحتاج – مرجع سابق جـ2 ص 120
(4) الدسوقي – حاشية الدسوقي – دار إحياء الكتب العربية جـ3 ص165(5/968)
ثانيا: استلام البنك للسلعة من المورد: لإتمام تحقق شرط ملكية البنك للسلعة قبل بيعها مرابحة، ولكي يتم الشراء الأول فإنه يلزم أن يستلم البنك السلعة المشتراة، وهذا أمر طبيعي في عمليات الشراء العادية، ولكن بما أن البنك يشتري السلعة ليبيعها مرابحة فإنه تثور بعض التساؤلات تدور حول استلام البنك للسلعة كأحد الإجراءات التي تثبت ملكيته لها، وهذه التساؤلات تدور حول من يقوم بعملية الاستلام ونقل السلعة.
أ – من يقوم باستلام السلعة في الشراء الأول: بما أن البنك هو الذي يقوم بالشراء الأول لحساب نفسه فإن الوضع الطبيعي أن يقوم هو باستلام السلعة من مخازن المورد أو المكان المحدد في شروط التسليم، ولكن بما أنه يشتريها ليبيعها مرابحة فإنه يتصور أن عملية التسليم للبنك ثم تسليم السلعة للمشتري مرابحة تتم مرة واحدة، ولقد جاءت إجابات البنوك على هذا التساؤل في استمارة الاستقصاء وفق الآتي:
1 – بعض البنوك أفادت بأن الذي يتسلم البضاعة من المورد هو المشتري مرابحة.
2 – بنوك أخرى أفادت بأن الذي يتسلم البضاعة من المورد هو مندوب المصرف.
3 – والقسم الأخير من البنوك أفاد بأن عملية الاستلام تتم مشاركة بين مندوب المصرف والعميل.
ومما لا شك فيه أن حضور المشتري مرابحة – أو مندوبة – عملية الاستلام في الشراء الأول أمر هام؛ لأن ذلك يقلل المنازعة حول السلعة في البيع مرابحة له، غير أنه من المهم حضور مندوب البنك معه؛ لأنه هو الذي يشتري في هذه المرحلة.
وفي حالة المشتريات الخارجية فإن البنوك أفادت بأنه في أغلب الأحيان يتولى المشتري مرابحة التخليص الجمركي على البضاعة؛ نظرا لخبرته في ذلك، ولأن البنوك في العادة ليس لديها الإمكانات لعمل ذلك.
ب – نقل السلعة من مخازن المورد إلى مخازن البنك قبل بيعها مرابحة: من الأمور المهمة لتحقيق شرط ملكية البنك للسلعة قبل بيعها مرابحة قبضها حتى تتحقق حيازته للسلعة، ومن المقرر قانونا شرعا أن الحيازة للمنقول تكون بنقله، وللعقار تكون بالتخلية وما يحدث في الواقع التطبيقي في البنوك الإسلامية هو الآتي:
1 – بالنسبة للمشتريات الخارجية، فإن شرط قبض البنك للسلعة قبل بيعها مرابحة يتحقق؛ لأن الشاحن يكون وكيلا عن البنك كما سبق ذكره.
2 – بالنسبة للعقارات فإن شرط القبض يتحقق أيضا؛ لأنه يحدث بالتخلية، أي تمكين البنك من العقار.
3 - بالنسبة للمشتريات المحلية (منقولات) فإن البنوك أفادت بأن السلعة تظل في مخازن المورد حتى يبيعها مرابحة؛ نظرا لعدم وجود قدرة تخزينية كافية لديها.
وفي تقويم هذا الأسلوب شرعيا نجد أن مالكًا يرى أنه يجوز بيع ما سوى الطعام قبل القبض، وأما الطعام فالقبض فيه شرط في بيعه، ورأي أحمد قريب من هذا.
وأما أبو حنيفة فالقبض عنده شرط في كل بيع ما عدا المبيعات التي لا تنتقل ولا تحول كالدور والعقار، وهذا هو رأي الشافعي (1) ، وبالنسبة لجميع المبيعات.
__________
(1) ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقتصد – دار الكتب العربية جـ2: ص 182 – 183- ابن قدامة – المغنى: مرجع سابق جـ4: ص121- 128(5/969)
ثالثا: المخاطر التي تتعرض لها السلعة خلال مرحلة الشراء الأول:
إن السلعة في مرحلة الشراء الأول حتى بيعها مرابحة تكون في ملكية البنك، وعلى ذلك فالمقرر شرعا أن ضمانها يكون على البنك بمعنى أنه هو الذي يتحمل مخاطرها؛ لأنه المالك لها، وهذا ما أفادت به جميع البنوك في إجاباتها على استمارة الاستقصاء، لكن هناك بعض النقاط جديرة بالذكر من أهمها:
أ – أن البنوك تحمل المشتري مرابحة مبلغ التأمين على البضاعة خلال الشراء الأول، وذلك بإدراج هذا المبلغ ضمن المصروفات التي تحمل على الثمن الأول، ويقتضي الأمر طالما أن البنك هو الذي يتحمل مخاطر السلعة خلال مرحلة الشراء الأول أن لا يحمل العميل قيمة التأمين؛ لأنه ما دام البنك يتحمل تبعة الهلاك، والتأمين هنا تكلفة لتبعة الهلاك فإذا حمل بها الآمر بالشراء كان فيها شبهة، ومن وجه آخر فإنه إذا تعرضت البضاعة لمخاطر معينة وتلف جزء منها فإن البنك هو الذي يقبض مبلغ التعويض فكيف يحمل العميل بقيمة التأمين ويحصل البنك على التعويض؟
ب – بعض البنوك تشترط في عقد البيع مرابحة على العميل إبراءها من أي عيب يكون بالسلعة، ويفهم من هذا أن ذلك يكون سواء حدث العيب عند المورد أو عند البنك، وبالتالي فإنه إذا حدثت مخاطر أدت إلى عيوب بالسلعة فإن الذي يتحملها هو العميل وليس البنك، وهذا جائز شرعا (1) .
جـ- في حالة إجراء البيع مرابحة للسلعة على البرنامج أو الصفة أي قبل وصول السلعة وفحصها، ويكون ذلك غالبا في المشتريات الخارجية حيث يقوم البنك بتظهير بوليصة الشحن تظهيرا ناقلا للملكية باسم المشتري مرابحة، فما هو حكم المخاطر التي تتعرض لها السلعة قبل تسليمها للمشتري مرابحة؟
الرأي الفقهي لدى أبي حنيفة أن كل بيع تلف قبل قبضه من ضمان البائع إلا العقار، وقال الشافعي: كل بيع من ضمان البائع حتى يقبضه المشتري. أما مالك فيرى ذلك بالنسبة للطعام فقط، ولأحمد رأيان أحدهما من ضمان البائع والثاني أنه من ضمان المشتري، هذا مع مراعاة ما يلي بالنسبة لهذا البيع:
1 – إنه لو اشترط البنك على العميل إبراءه من أي عيب يظهر بالسلعة فذلك جائز كما سبق ذكره في فقرة (ب) .
2 – أن البيع على البرنامج جائز عند مالك (2) طالما كان المبيع موافقا للصفة التي ذكرت خلافا للشافعي (3) .
__________
(1) ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقتصد – مرجع سابق جـ2 ص234
(2) الإمام مالك – الموطأ – دار الشعب ص415- 416
(3) الإمام الشافعي – الأم – مرجع سابق جـ3 ص18، 45(5/970)
المبحث الرابع
الإجراءات العملية في مرحلة البيع مرابحة
هذه هي المرحلة الأخيرة من مراحل البيع مرابحة، وسوف نتناول فيها النقاط التالية:
أولا: عقد البيع مرابحة
ثانيا: ثمن البيع
ثالثا: الضمانات
رابعا: التوقف عن الدفع
خامسا: النكول
سادسا: المعالجة المحاسبية لعمليات المرابحة
وفيما يلي تفصيل ذلك:
أولا: عقد البيع مرابحة: من المقرر في جميع البنوك أنه يتم إبرام عقد البيع مرابحة، ولا يكتفى بعقد الوعد السابق، وهذا ما يؤكد ما سبق أن ما ذكرناه بأن عقد الوعد ليس عقد بيع، وسوف نتناول بخصوص عقد البيع ما يلي:
أ – متى يتم إبرام عقد البيع مرابحة؟ يختلف وقت إبرام عقد البيع مرابحة في البنوك المختلفة، فهناك من يذكر أنه يتم إبرام العقد خلال مدة لا تتجاوز خمسة عشر يوما من تاريخ إخطار البنك للعميل بأنه اشترى البضاعة وأصبحت جاهزة، وهناك من حدد هذه المدة بسبعة أيام، بينما توجد بنوك تحدد وقت إبرام العقد بمجرد إعلام العميل بأن البضاعة جاهزة، هذا مع مراعاة أن عملية تجهيز البضاعة التي يعول عليها في تحديد وقت إبرام عقد البيع تكون بإبرام عقد شراء البنك للسلعة أو استلامه للبضاعة، أو استلام الشاحن- وكيل المصرف – للبضاعة ومستندات الشحن أو ورودها للمنطقة الجمركية أو ورود مستندات الشحن للبنك، وإذا كان استلام المصرف للبضاعة يحق له بيعها مرابحة باعتبار أن ذلك يحقق شرط ملكية البنك لها بصورة كاملة، فإن التساؤل الذي يرد هنا هو، هل يحق للبنك بيع البضاعة مرابحة بعد استلام مستندات الشحن أو إبرام عقد شرائها، وبمعنى آخر هل يحق له بيعها مرابحة قبل معاينتها؟ والرأي الشرعي: أن ذلك يجوز طالما كانت السلعة محددة ومعلومة مواصفاتها بدقة وهو المعروف في الفقه الإسلامي ببيع البرنامج، وهو ما صدرت بشأنه فتوى المستشار الشرعي للبنك الإسلامي الأردني (1) بأنه يجوز إتمام البيع مرابحة على أساس بوليصة الشحن عن طريق تظهيرها للغير تظهيرا ناقلا للملكية، وذلك دون معاينة البضاعة الموصوفة في البوليصة.
__________
(1) الفتاوى – مرجع سابق – ص 15(5/971)
ب – البيانات الواردة بعقد البيع مرابحة: بالاطلاع على نماذج عقد البيع مرابحة في البنوك الإسلامية نجد أنها اشتملت على بيانات عديدة سوف نسردها في إيجاز مع إفراد فقرات مستقلة لبعضها، مثل الثمن والضمانات حيث نتناولها بالتفصيل لأهميتها، وتشتمل نماذج هذه العقود على البيانات التالية:
اسم العقد – التاريخ – مكان العقد – بيانات عن طرفي العقد – إقرار العميل بأنه اطلع على نظام البنك – موضوع العقد – تحديد مكان التسليم – تحديد الثمن – تحديد الربح- طريقة دفع الثمن – التأكد بأن البضاعة في حيازة المصرف- تحديد جهات الاختصاص في حالة وقوع نزاع بشأن العقد سواء المحاكم أو هيئات التحكيم التي تشكل باختيار طرفي العقد- الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالعقد – إقرار العميل بأهليته- مسئولية العميل عن تأخير دفع أقساط الثمن – عدم الحق في مطالبة العميل البنك بالتعويض إذا امتنع المورد عن التوريد – مسئولية العميل عن الأضرار التي تقع على البنك من جراء عدم تسلمه البضاعة – إبراء العميل البنك من ضمان ما يكون من عيوب في البضاعة - مسئولية العميل عن إخطار شركة التأمين والملاحة بأي نقص يظهر في البضاعة - الضمانات التي على العميل تقديمها ضمانا لسداد باقي الثمن – مسئولية العميل عن التصرف في البضاعة وفق القوانين بالدولة- إقرار العميل بأن النقص الذي يظهر في البضاعة لا يفسخ العقد بل يستنزل من قيمتها بمقدار النقص.
وتأتي ملاحظاتنا على هذه البيانات في الآتي:
1- إن بعض البنوك تسمي العقد (عقد بيع) فقط دون ذكر كلمة (مرابحة) في عنوان العقد.
2 – إنه يوجد نموذجان من العقود، أحدهما للعمليات المحلية، والآخر لعمليات الاستيراد وتتفق أغلب بياناتهما ما عدا ما يتعلق بعملية الاستيراد من الخارج مثل مكان التسليم.
3 – إن بعض نماذج العقود تحيل إلى عقد الوعد وطلب الشراء في تحديد بعض الأمور، مثل مواصفات البضاعة ومكان التسليم، وحيث إن عقد الوعد لا ينعقد به بيع لذا فمن المستحسن – مثل ما فعلت بعض البنوك – ذكر جميع البيانات في عقد البيع.
4- إنه سبق أن أبدينا ملاحظات على بعض البيانات الواردة خاصة التي تتعلق بمسئولية العميل، والتي ترى أنه يركز عليها دون ذكر لمسئوليات البنك كثيرا.
5 – من الملاحظ أن بعض البيانات السابقة تذكر في نماذج بعض البنوك، ولا تذكر في الأخرى.
6 – إنه على وجه الإجمال فإن البيانات الواردة في نموذج عقد المرابحة تشتمل على ما يحقق شروط المرابحة من السابق ذكرها، وبالتأكيد فإن بعض البحوث الأخرى المقدمة في الندوة والتي تتناول كلا من الجانب القانوني والجانب الفقهي لعقود المرابحة سوف تتناول ذلك تفصيلًا.(5/972)
ثانيا: ثمن البيع مرابحة: وسوف نتعرف عليه في النقاط التالية:
أ – ذكر الثمن في العقد: إن ذكر الثمن في العقد أمر لازم شرعا وواقعا، ونتناول فيما يلي العقد الذي يذكر فيه وكيفية ذكره.
1 – العقد الذي يذكر فيه: بالنظر في نماذج عقود المرابحة وإجابات البنوك على استمارة الاستقصاء نجد أن ثمن البيع مرابحة يذكر مرتين، مرة في عقد الوعد عند من يبرمه، وأخرى في عقد البيع مرابحة، وفي تقويمنا لهذا الأسلوب نقول بالآتي:
- إن الثمن غالبا ما يكون معروفا عند الوعد حيث يتقدم العميل بالفاتورة المبدئية الموضح بها ثمن الشراء الأساسي، إلا أنه ليس من الضروري أن يتفق الثمن الوارد في عقد الوعد مع الثمن الوارد في عقد البيع مرابحة وسبب ذلك كما أفادت البنوك ما يلي:
* قيام المورد بشحن جزء من البضاعة والامتناع عن شحن الجزء الباقي.
* إذا تغيرت الأسعار من مرحلة المواعدة إلى مرحلة الشراء الأول.
* في حالة الاستيراد حيث يمكن أن تتغير قيمة العملة وأسعار الجمارك وغيرها.
- أن ذكر الثمن في عقد البيع مرابحة ضروري؛ لأن العلم بالثمن شرط شرعي في جميع عقود البيع، وأما ذكره في عقد الوعد فلا يغني عن ذكره في عقد البيع؛ لأن العقد الأول يتعلق بمواعدة على البيع ولا يتعلق بعملية البيع ذاتها.
2 – كيفية ذكر الثمن في العقد: بالاطلاع على نماذج عقود المرابحة في البنوك الإسلامية نجد الآتي:
- بعض البنوك تورد ثمن البيع بصيغة إجمالية هي: " تم هذا البيع وقبله طرفاه بثمن إجمالي قدره.. " وذلك دون الإشارة إلى عناصر الثمن من ثمن شراء أساسي ومصروفات وربح، هذا مع الإشارة إلى أن نفس البنوك تذكر في عقد الوعد بأن الثمن هو قيمة التكلفة المشتملة على ثمن الشراء والرسوم الجمركية وتكاليف الشحن والتأمين وكافة المصاريف الأخرى بالإضافة إلى الربح بنسبة.. % من التكلفة الكلية.
وفي رأينا، وكما سبق أن ذكرنا تكرارا أن عقد الوعد ليس عقد بيع وبالتالي يجب أن يذكر في عقد البيع الثمن بمشتملاته من ثمن أساسي وربح، ولا يكتفى في ذلك بما ذكر في عقد الوعد خاصة أن نفس البنوك أجابت بأنه يمكن أن يتغير الثمن في عقد الوعد عن الثمن في عقد البيع.
- بعض البنوك تورد الثمن إجماليا ثم تذكر مشتملاته بقولها: إن ثمن البيع متضمنا الثمن الأساسي والمصاريف المدفوعة من البنك مضافا إليه ربح قدره ... ، وهذا الأسلوب سليم شرعا؛ لأنه يحقق شروط العلم بالثمن الأول والربح، لأنه أخير بالثمن الأول بما قامت عليه السلعة به (الثمن الأساسي + التكاليف الأخرى) مضافا إليه الربح المتفق عليه.(5/973)
ب – عناصر الثمن:
من المعروف أن ثمن البيع في المرابحة يتكون من ثمن الشراء الأساسي والمصروفات التي أنفقها البنك على السلعة خلال فترة الشراء الأول بالإضافة إلى الربح المتفق عليه، وبذلك فإن عناصر الثمن تتحدد في كل من الثمن الأساسي أو الأول، المصروفات، الربح، وفيما يلي تفاصيل كلٍّ منها:
العنصر الأول: الثمن الأساسي أو ثمن الشراء الأول: من المتفق عليه أن الثمن الأول هو الثمن الذي اشترى به البنك السلعة من موردها مع أمور تتصل بالثمن الأول مثل هل هو الثمن المتعاقد عليه أو المدفوع فعلا؟ لأنه قد تتغير قيمته أو صفته بأن يشتري بدولارات ويدفع بدلا منها إسترليني، ونورد فيما يلي أهم الأمور التي تؤثر على الثمن الأول:
1 – تغير الثمن الأول بسبب تغير الأسعار، وصورته أن يشتري البنك السلعة بـ100000 جنيه مثلا ولكن قبل عقد البيع مرابحة زادت الأسعار لتصبح قيمة السلعة 110000جنيه فالمقرر شرعا (1) والذي يحدث في التطبيق العملي أنه لا يؤخذ بالزيادة في الأسعار بل بالثمن الذي اشترى به فعلا وهو 100000 جنيه.
2 – تغير الثمن الأول بسبب تغير في السلعة ذاتها بأن نقصت بالتلف أو غيره أو زادت زيادة متصلة أو منفصلة، ففي حالة التغير بالنقص فإن المقرر شرعا (2) وما يحدث تطبيقا أنه يتم إسقاط مقابل النقص من الثمن، أما في حالة الزيادة بأن وردت كمية أكبر من المطلوبة مثلا تضاف قيمتها على الثمن الأول.
3 – سعر الصرف: في حالة المشتريات الخارجية تثور مشكلتان بخصوص تغير سعر الصرف هما:
- إذا اشترى البنك السلعة بعملة أجنبية محددة كالدولارات 105000 ودفع بدل الدولارات إسترلينيا، وكان سعر الصرف مثلا 3 دولارات لكل جنيه إسترليني، وبالتالي فإن ما دفعه هو 35000 جنيه إسترليني، وعند البيع مرابحة تغير سعر الصرف ليكون 3.5 دولار لكل جنيه إسترليني، وبذلك تكون القيمة 30000 جنيه إسترليني. فهل عند البيع مرابحة يذكر الثمن الأساسي على أنه 35000، أو 30000 جنيه إسترليني؟ الرأي الراجح لدى الفقهاء (3) أن السعر يحسب على ما نقده وبسعر ما صرف يوم النقد أي 35000 جنيه.
- إذا اشترى بعملة أجنبيه وباع بعملة محلية وتغير سعر الصرف للعملة المحلية إلى العملة الأجنبية من يوم الشراء الأول إلى يوم البيع مرابحة مثل أن يكون ثمن الشراء الأول 100000 دولار وسعر الصرف 1.30 جنيها مصريا للدولار، وعند البيع مرابحة 1.40 جنيها، وبالتالي فإن الثمن الأول يوم الشراء 130000 جنيها ويوم البيع 140000جنيها فأيهما يؤخذ به؟ المقرر شرعا (4) وما يحدث تطبيقا هو أن الثمن يحسب على سعر صرف يوم البيع لا يوم الشراء الأول أي 140000 جنيه.
ويتصل بذلك نقطة أخرى هي أنه إذا اشترى البنك السلعة بعملة أجنبية وباعها مرابحة، واتفق مع المشتري على أن السعر يحسب بالعملة المحلية بسعر الصرف يوم ورود المستندات، ولقد أجاب المستشار الشرعي (5) بأن ذلك غير جائز؛ لأن الثمن غير معلوم عند البيع والعلم به شرط لانعقاد البيع.
__________
(1) ابن قدامة – المغني – مرجع سابق جـ4 ص 200
(2) المرجع السابق ص 201- 202
(3) ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقتصد – مرجع سابق جـ2 ص274
(4) الإمام مالك – الموطأ – دار الشعب ص 414، ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقتصد ص274
(5) الفتاوى الشرعية – البنك الإسلامي الأردني – جـ1 ص93(5/974)
4 – الخصم (الحسم) أو الحط من الثمن الأول: وكيفيته أن يسمح المورد للبنك بخصم جزء من ثمن الشراء الأول وهو ما يعرف محاسبيا بالخصم بنوعيه؛ (تجاري ونقدي) ، فهل عند البيع مرابحة يذكر الثمن الأول قبل الخصم أو بعده؟
- من الناحية التطبيقية أفادت البنوك في إجاباتها على ذلك بأن بعضها لا تأخذ بالخصم (بنوعيه) في الاعتبار عند تحديد الثمن، والبعض الآخر أفاد بأنه يأخذ الخصم التجاري فقط، بينما هناك فريق ثالث أفاد بأنه يأخذ كلا الخَصْمَين في الاعتبار.
- من الناحية الشرعية يدور الرأي الفقهي في هذه المسألة وفق الآتي (1) :
* الرأي الأول: البائع (البنك) مخير بين أن يحط من الثمن الأول ما حط بائعها عنه فإن اختار الحط لزمت المشتري مرابحة، وإن لم يختر فالمشتري مرابحة بالخيار وهذا هو رأي المالكية.
* الرأي الثاني: يرى أن العبرة في ذلك بوقت الخصم أو الحط، فإذا وقع الحط قبل لزوم العقد الأول - أي في فترة الخيار - فيلزم أن يخصم من الثمن عند البيع مرابحة، وإن وقع الحط بعد لزوم العقد الأول فلا يخصم من الثمن الأول؛ لأنه تبرع لا يقابله عوض فلم يتغير الثمن، وهذا هو رأي الشافعية والحنابلة والحنفية.
وتفسير هذا الرأي باللغة المحاسبية المعاصرة أن الخصم التجاري يؤخذ في الاعتبار بخلاف الخصم النقدي، وهذا تخريج سليم؛ لأن الخصم التجاري محاسبيا هو في حقيقته تعديل لسعر البيع، أما الخصم النقدي محاسبيا أو مسألة " ضع وتعجل" فقهيا فهي تتعلق بالدَّيْنِ الناتج عن الثمن، وعادة لا تعرف قيمته إلا عند السداد الذي قد يكون بعد البيع مرابحة.
العنصر الثاني: (من عناصر ثمن البيع مرابحة) المصروفات: من المعروف أن البنك يتكلف بعض المبالغ لشراء السلعة بخلاف ثمن شرائها، ويلزم لكي يحقق ربحا من هذه العملية أن يغطي ثمن البيع هذه التكاليف بالإضافة إلى ثمن الشراء الأول وهذا هو المقرر شرعا، وما يحدث في التطبيق العملي على خلاف حول ماهية التكاليف التي تضاف وفقا للآتي:
- بالنسبة للواقع التطبيقي: بالاطلاع على عقود المرابحة وإجابات البنوك على استمارة الاستقصاء اتضح ما يلي:
1 – بعض البنوك تضيف على الثمن الأول جميع المصروفات المباشرة على العملية مثل مصاريف وعمولة فتح الاعتماد المستندي والنقل والشحن والرسوم الجمركية والتأمين، أي كل ما يدفع ويتحمله البنك متعلقا بهذه الصفقة.
2 – بعض البنوك تضيف إلى الثمن الأول المصروفات السابقة ما عدا الرسوم الجمركية ومصاريف نقل البضاعة من ميناء الوصول إلى مخازن المشتري على أساس أن مكان التسليم هو ميناء الوصول، وبالتالي فكل ما يحدث من مصروفات بعد ذلك تقع على عاتق المشتري، ولو دفعها البنك نيابة عنه فإنها تُحَصَّل من المشتري كما هي دون إضافتها للثمن الأول أو احتساب ربح عليها.
وهذان الأسلوبان يتشابهان باعتبار أن من يحسب الرسوم الجمركية، ومصاريف النقل إلى مخازن المشتري على أساس أن البنك يدفعها، ويبذل مجهودا في إتمام هذه العمليات، وبالتالي فإنه يكون لها حظ من الربح، وأما من لا يحسبها فيبني ذلك على أن البنك لا يتحمل بها بل يدفعها المشتري، هذا مع ضرورة الإشارة إلى أن إضافة مصروفات التأمين ضمن المصروفات التي تحمل على المشتري أمر فيه نظر وقد سبق بيانه.
__________
(1) ابن قدامة – المغني – مرجع سابق ص200 وما بعدها(5/975)
3 – بعض البنوك إضافة إلى ما سبق تذكر في عقد البيع مرابحة بأن يتحمل المشتري أية مصروفات أخرى غير واردة في بنود تكلفة العملية موضوع هذا العقد، وفي الحقيقة فإن ذكر ذلك من غير تحديد لأنواع هذه المصروفات للحكم على ما إذا كانت تلحق بالثمن الأول من عدمه، بالإضافة إلى عدم تحديد قيمتها يثير شبهة حول ضرورة معلومية الثمن.
4 – بعض البنوك ترى أنه يمكن لها أن تنص في عقد البيع مرابحة على حقها في تعديل بعض بنود المصروفات مثل فرق العملة والعمولة.. ولكن المستشار الشرعي (1) لها لم يجز ذلك على أساس أن هذا يؤدي إلى عدم معلومية الثمن كشرط أساسي من شروط البيع.
5 – لقد أفادت بعض البنوك في الرد على أسئلة استمارة الاستقصاء بأنها تضيف إلى الثمن مصروفات أخرى غير مباشرة، ويمثل نصيب العملية في المصروفات العامة للبنك، وفي رأينا أن هذا الإجراء فيه شبهة؛ لأنه في أحسن الأحوال لا يمكن تحديد نصيبها من هذه المصروفات بدقة تامة، ومن وجه آخر فإنه يمكن مراعاة تغطية هذه المصروفات من الربح الذي يستحق على ما يتكبده البنك من مال ومن مجهوداته في هذه العملية.
- بالنسبة لوجهة النظر الفقهية في المصروفات التي تضاف على الثمن الأول، تأتي أقوال الفقهاء على التالي (2) :
1 – المالكية: ويفرقون في هذه التكاليف بين الآتي:
- ما له أثر في عين السلعة (أي التكاليف الصناعية) وهذه تضاف ويحسب لها ربح.
- ما ليس له أثر في عين السلعة مثل النقل وعمولة الشراء (أي التكاليف الإدارية والتسويقية) وهذه يفرق بينها، فإذا كانت العادة أن يستأجر عليها تضاف للثمن ولا يحسب لها ربح وإن كانت العادة أن يتولاها البائع بنفسه كعادة التجار فهذه لا تضاف ولا يحسب لها ربح.
2 – الشافعية والحنابلة: يضاف إلى الثمن الأول كل المصروفات التي تكبدها البائع إلا مقابل ما عمله بنفسه؛ لأنه لا يستحق له أجره على ما عمله بنفسه.
3 – الحنفية: ما يجري عليه العرف السائد بين التجار.
وبتقويم التطبيق العملي على ما ورد في أقوال الفقهاء نجد أن له سنده الفقهي من أقوال أئمة المذاهب الكبرى خاصة رأي الحنفية الذي ضبط ذلك بما يجري عليه العرف التجاري.
__________
(1) الفتاوى الشرعية – البنك الإسلامي الأردني – مرجع سابق ص43
(2) ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقتصد جـ2 ص273 – 274، الخطيب الشربيني – مغني المحتاج – مرجع سابق جـ2 ص175، المرغيناني – الهداية – مطبعة مصطفى الحلبي بمصر جـ3 ص56(5/976)
العنصر الثالث: الربح: إن هذا العنصر هو مقصود العملية ومنه يستمد اسمها (بيع مرابحة) ، والعلم به وذكره في العقد شرط من شروط المرابحة، وسوف نتناوله في الآتي:
1 – العقد الذي يذكر فيه الربح: في جميع عقود الوعد في البنوك التي تبرمه يوجد ذكر الربح فيه، وأما بالنسبة لعقد البيع مرابحة فإن بعض البنوك تذكره والبعض الآخر لا يذكره بل يذكر الثمن إجماليًّا متضمنا الربح دون إشارة إلى ذلك، وهذا أمر يجب تعديله بضرورة ذكر الربح في عقد البيع حتى يحقق شرط العلم بالربح كأحد شروط المرابحة، ولا يكتفى في ذلك بذكره في عقد الوعد حتى ولو أشير صراحة في عقد البيع على هذه الإحالة، أولًا لأن عقد الوعد لا ينعقد به بيع كما سبق أن كررناه، وثانيًا لأنه ربما يتم تغيير الربح بين مرحلة المواعدة ومرحلة البيع لأية ظروف، مثل صدور قوانين أو قرارات من الدولة تنظم ذلك.
2- كيفية حساب الربح: يحسب الربح كنسبة مئوية من ثمن الشراء وجميع المصروفات في بعض البنوك ومصروفات محددة في بنوك أخرى على الوجه السابق ذكره، هذا مع ضرورة ذكر الآتي:
- أن نسبة الربح يجب أن تختلف بحسب نوع البضاعة وأجل السداد بما يؤثر على إجمالي الثمن الذي يزيد في البيع الآجل عنه في البيع النقدي؛ لأن الرأي الفقهي مجتمع على أن للأجل حظًّا في الثمن، وهذا الحظ يظهر في زيادة نسبة الربح، مع ضرورة الإشارة إلى أن ذلك يجب أن يكون محددًا بصفة قاطعة عند إبرام عقد البيع، ولا يقال مثلًا: إن نسبة الربح لسلعة ما 5 % إذا كان السداد على شهرين، و7 % إذا كان السداد على أربعة شهور، وهو ما يعرف بالتناسب الطردي للأرباح مع أجل السداد، فإذا كان يجوز أن يكون هذا واضحًا قبل التعاقد فإنه إذا تم العقد على نسبة معينة 5 % مثلًا والسداد لمدة شهرين ثم تأخر المشتري عن السداد في الموعد المحدد أن لا تزاد نسبة الربح مقابل الأجل في هذه المرة، بل يعالج الموقف بأحد الإجراءات المقررة للتوقف عن الدفع كما سيأتي:
- أنه في بعض الدول تحدد الدولة بقرارات نسب الربح لكل سلعة مستوردة أو محلية لكل من المستورد أو تاجر الجملة والتجزئة، ولقد أجابت بعض البنوك التي بهذه الدول أنها تلتزم في تحديد الربح بالنسب المقررة بالدولة.
- نود التنبيه إلى خطورة ما نمى إلى علمنا من أن بعض البنوك تحدد الربح بنسب ثابتة على جميع أنواع السلع (18 % مثلًا) مسترشدة في ذلك بسعر الفائدة الربوي السائد في السوق، وهي بذلك تفرغ عملية المرابحة من مضمونها الاقتصادي والشرعي، وتصبح كأنها عملية إقراض الثمن للمشتري مرابحة خاصة إذا علمنا أنها توكل العملية كلها شراء أول وبيع مرابحة للمشتري.(5/977)
جـ- طريقة دفع الثمن: بعد أن حددنا الثمن بعناصره نأتي إلى نقطة هامة وهي طريقة دفع الثمن حيث أظهر الاستقصاء أن جميع البنوك تسير على أن يدفع العميل الثمن للمصرف آجلًا على أقساط وفي حالات قليلة يدفع نقدًا، وعملية تقسيط الثمن تيسر التعامل على العملاء، وترغب في التعامل مع البنوك الإسلامية وتوسع مجالات الاستثمار باستخدام البيع مرابحة، هذا مع ضرورة أخذ الضمانات الكافية لضمان حق البنك كما سنذكره بعد، وأن سعر البيع بالأجل متى تم الاتفاق عليه في العقد لا يزاد بعد ذلك إذا زاد الأجل؛ لأن الثمن بالأجل دَيْن في ذمة المشتري والدَّيْن لا يزيد بزيادة الأجل.
ثالثًا: الضمانات: في حالة البيع بالأجل وهو الغالب في التطبيق العملي فإنه من المقرر شرعًا (1) وقانونًا وما يحدث تطبيقًا أن يحصل البنك على ضمانات من المشتري مرابحة بقيمة المؤجل من الثمن.
وبالاطلاع على نماذج عقود المرابحة في البنوك نجد أنها تطلب كل أو بعض الضمانات التالية:
1- الضمان الشخصي المتعلق بسمعة العميل ومركزه المالي، وهذا يظهر في دراسة العملية.
2- الحصول على رهن بقيمة الثمن أو رهن البضاعة ذاتها رهنًا تأمينيًّا.
3- طلب كفالة شخص آخر مليء لضم ذمته إلى ذمة المشتري.
4- الحصول على سندات إذنية للتحصيل أو سندات إذنية بالاطلاع.
5- التأمين على البضاعة محل العقد من كافة الأخطار لصالح البنك.
6- تقديم المشتري خطاب ضمان مصرفي بقيمة البضاعة للبنك.
7- تحفظ البنك على وديعة للمشتري طرف البنك.
8- توقيع المشتري على إيصال أمانة أو شيكات مؤجلة السداد بقيمة المبلغ.
9- عقد البيع مرابحة ذاته.
10- إعطاء البنك حق امتياز البائع على السلعة المباعة.
11- أية ضمانات أخرى يطلبها البنك من المشتري.
__________
(1) راجع بحثنا الاحتياط ضد مخاطر الائتمان في الإسلام – بالتطبيق على المصارف الإسلامية – مجلة الدراسات التجارية الإسلامية – مركز صالح عبد الله كامل – كلية التجارة- جامعة الأزهر- العدد الخامس / السادس 1985.(5/978)
وبالنظر في هذه الضمانات يمكن القول بالآتي:
1- إن طلب البنك ضمانات من العميل واشتراط ذلك في عقد البيع مرابحة أمر تقره الشريعة حيث إنها لا تخالف مقصود العقد بل تؤكده.
2- إن بعض البنوك لا تشير إلى الضمانات في عقد البيع مرابحة وإن كانت ذكرتها في إجاباتها على استمارة الاستقصاء.
3- إن بعض البنوك يكتفي بضمان واحد أو اثنين فقط من هذه الضمانات.
رابعًا: توقف العميل عن الدفع: إذا توقف العميل عن دفع باقي الأقساط وكان موسرًا فإن الإجراءات التي تتبع حيال ذلك أوضحتها نماذج العقد والرد على أسئلة استمارة الاستقصاء في الآتي:
1- حلول باقي الأقساط فورًا.
2- استخدام المصرف للضمانات المقدمة إليه في استيفاء حقه.
3- اللجوء إلى القضاء طبقًا لما هو محدد بعقد البيع، وبعض البنوك تجعل ذلك من اختصاص هيئة التحكيم التي ينص على تشكيلها في عقد البيع بعضو يختاره العميل وعضو يختاره البنك وعضو ثالث مرجح يختار مشاركة بينهما.
4- استرداد البنك للسلعة إن كانت باقية وهذا الإجراء يتبع في بعض البنوك.
5- فرض مبلغ على العميل لتعويض المصرف عن الضرر الذي وقع عليه من جراء هذا التوقف، ويتبع هذا الإجراء في بعض البنوك بناء على ما انتهت إليه هيئات الرقابة الشرعية الثلاث لدار المال الإسلامي وبنكي فيصل المصري والسوداني، والذي يقضي بتعويض المصرف عن الضرر الذي يحدث من جراء تأخر العملاء عن دفع ديونهم في مواعيدها وتحسب قيمة الضرر على أساس متوسط نسبة إجمالي أرباح البنك المحققة عن ذات الفترة فضلًا عن أية تعويضات أخرى فعلية، بينما في المصرف الإسلامي الدولي يفوض تقدير الضرر إلى هيئة التحكيم.
وما تجدر ملاحظته بهذا الخصوص أن فرض مبلغ على العميل مقابل التأخير ومقابل الضرر الذي يقع على البنك أمر تجيزه الشريعة بناء على الحديث النبوي الشريف ((لَيُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه)) (1) وإذا كانت العقوبة البدنية متفق عليها فإن العقوبة المالية مختلف فيها، والرأي الراجح أنها جائزة وهي في الحقيقة ليس عقوبة بقدر ما هي تعويض للضرر بناء على القاعدة الأصولية إن الضرر يزال، غير أن ما نود الإشارة إليه أن طريقة احتساب الضرر منسوبًا إلى أرباح البنك أمر يحتاج إلى نظر إذ يمكن أن يكون ذلك منسوبًا إلى ما يحققه العميل من أرباح مثلًا، على أساس اعتبار الدَّيْن مال مضاربة. (2)
__________
(1) صحيح البخاري بشرح السندي – دار الشعب جـ 2 ص 58
(2) راجع في ذلك: بحثنا "حماية الديون في الشريعة الإسلامية" بحث مقدم إلى ندوة البركة الثانية – تونس نوفمبر 1984(5/979)
خامسًا النكول: كل ما ذكرناه حتى الآن في هذه المرحلة من إجراءات يتعلق بما إذا أوفى العميل بوعده واشترى السلعة مرابحة، أما في حالة نكوله أي رجوعه عن طلب شرائه بمعنى عدم تنفيذه لوعده بالشراء السابق إبداء رغبته فيها أو نكول المصرف عن تنفيذ العملية، فإن هذا ما سنناقشه في هذه الفقرة وفقًا للآتي:
أ- نكول العملاء: لقد أفادت البنوك أنه يحدث أحيانًا نكول بعض العملاء، وفي هذه الحالة تتبع الإجراءات التالية:
- بالنسبة للبنوك التي لا تأخذ بالإلزام بالوعد تتولى بيع السلعة التي أحضرتها لحساب نفسها وينتهي الأمر عند هذا الحد.
- بالنسبة للبنوك التي تبرم عقد الوعد وتأخذ بالإلزام به تتبع فيها الإجراءات التالية:
1- بيع السلعة بالسعر السائد في السوق وقبض المصرف للثمن استيفاءً لحقه وإذا قل الثمن عن مستحقات المصرف كان له الرجوع على العميل لاستيفاء باقي حقه، وإذا زاد الثمن كانت الزيادة خالصة له باعتباره مالكًا للبضاعة، هذا مع مراعاة أن حق البنك هنا يتمثل في تكلفة السلعة وقيمة الأضرار التي لحقته من جراء عدم تنفيذ الصفقة.
2- بعض البنوك تتبع الإجراء السابق ولكنها في حالة إذا زاد ثمن بيع السلعة عن مستحقات المصرف تكون الزيادة للعميل.
3- بعض البنوك تشترط في حالة النكول إحالة الموضوع لهيئة التحكيم للفصل فيه.
4- هناك إجراء آخر يتمثل في مصادرة الدفعة المقدمة في مرحلة المواعدة لضمان الجدية.
5- في كل الأحوال يكون هناك إجراء مستقبلي وهو عدم التعامل مع العميل مرة أخرى.
وبالنظر في هذه الإجراءات يمكن القول بالآتي:
1- إن السلعة في مرحلة الشراء الأول تكون ملكًا للبنك، وبالتالي فإنه إذا باعها يكون البيع لحسابه يتحمل بخسارتها ويعود إليها ربحه بناء على الرأي القائل بأن المبيع يكون من ضمان البائع لا من ضمان المشتري قبل البيع.
2- إنه تنفيذًا لإلزام العميل بالوعد تقدر الأضرار التي عادت على البنك سواء خسارته في السلعة أو أية أضرار أخرى ويطالب بها العميل ويستوفيها البنك تمامًا من الدفعة المقدمة لضمان الجدية أو مطالبة العميل بها دون مصادرة الدفعة أيًّا كانت قيمتها.
ب- نكول المصرف: بمعنى عدم تنفيذه لوعده بشراء السلعة أو شرائها وعدم بيعها مرابحة لطالبها، وقد أفادت بعض البنوك أنه يحدث أحيانًا نكول المصرف وتتبع بشأن ذلك لما يلي:
1- بعض البنوك تنص على أنه إذا امتنع أحد الطرفين عن تنفيذ هذا الوعد فإنه يتحمل أية أضرار تلحق بالطرف الآخر، وإذا كان ذلك يرد على إجماله في عقود الوعد فإنه في عقد البيع تحدد كيفية حساب الضرر الذي يقع على المصرف عند نكول العميل كما سبق القول، أما كيفية تحديد حساب الضرر الذي يقع على العميل فلا يذكر إلا في الإشارة العامة إلى أن أي نزاع يحدث يحال إلى هيئة التحكيم.
2- بعض البنوك اشترطت في عقود البيع والوعد أنه إذا كان نكول البنك بسبب المورد الذي حدده العميل فإن البنك لا يعتبر مخلًّا بوعده.(5/980)
سادسًا: المعالجة المحاسبية لعمليات المرابحة: وسوف نوضح فيها التوجيه المحاسبي لعمليات المرابحة وأرباحها، إما وفقًا لما جاء في استمارة الاستقصاء أو وفقًا لما نراه متفقًا مع الأصول المحاسبية السليمة، وذلك في الآتي:
أ- عند تلقي البنك طلبات الشراء: لا تجرى قيود محاسبية في الدفاتر بل يكتفى بإثبات ذلك في سجل طلبات الشراء مرابحة.
ب- عند إبرام عقد الوعد: نظرًا لأن عقد الوعد يلقي التزامات مستقبلية على طرفيه؛ لذلك فإنه قد يكتفى بإثبات ذلك في سجل عقود الوعد مرابحة أو يتم تسجيل الوعد بقيد نظامي كالآتي:
×× من حـ/ التزامات العملاء عن بيوع مرابحة (مرابحة رقم....)
×× إلى حـ/ التزامات البنك عن بيوع مرابحة (مرابحة رقم......)
وتظهر في الميزانية ضمن الحسابات النظامية.
جـ- عند تحصيل الدفعة المقدمة التي تشترطها بعض البنوك لضمان الجدية
×× من حـ/ الخزينة (التحصيل النقدي)
×× أو من حـ/ الحسابات الجارية أو الاستثمارية (حـ رقم..) (خصمًا من حـ/ العميل طرف البنك)
×× أو من حـ/ شيكات تحت التحصيل (التحصيل بشيكات)
×× إلى حـ/ حسابات جارية خاصة (مرابحات) مرابحة رقم....
د- عند قيام البنك بشراء السلعة وحسب طريقة دفع المبلغ ومفرداته ووقته
×× من حـ/ الاستثمارات تحت التنفيذ (استثمار في مرابحات) مرابحة رقم ...
×× إلى حـ/ الشيكات
×× إلى حـ/ الموردين
×× إلى حـ/ المراسلين
هـ- عند إبرام عقد البيع مرابحة:
×× من حـ/ مديني المرابحات (اسم المدين) مرابحة رقم ...
×× إلى حـ/ الاستثمارات تحت التنفيذ (استثمارات في مرابحات) رقم..
×× إلى حـ/ إيرادات الاستثمارات (مرابحات) مرابحة رقم..
و تسوية الدفعة المقدمة مع حـ/ مديني مرابحات:
×× من حـ/ حسابات جارية خاصة (مرابحات)
×× إلى حـ/ مديني المرابحات(5/981)
ز- عند عقد الضمانات المختلفة: تسجل بحسب نوعها بقيد نظامي كالمعتاد.
ح- تحصيل الأقساط تباعًا وبحسب طريقة التحصيل:
×× من حـ/ الخزينة
×× أو من حـ/ حسابات جارية أو استثمارية
×× أو من حـ/ الشيكات
×× إلى حـ/ مديني المرابحات
ط- نكول العملاء:
1- بيع البضاعة بخسارة:
×× من حـ/ الخزينة
×× من حـ/ مديني المرابحات
×× إلى حـ/ الاستثمارات تحت التنفيذ (مرابحات)
2- بيع البضاعة بربح لحساب البنك:
×× من حـ/ الخزينة
×× إلى حـ/ الاستثمارات تحت التنفيذ (مرابحات)
×× إلى حـ/ إيراد الاستثمارات
ى- المعالجة المحاسبية للأرباح المحققة من عمليات المرابحات، ويحسن أن نوضح ذلك بالمثال التالي:
حققت إحدى عمليات المرابحة ربحًا للبنك قدره 24000 جنيه علمًا بأن العملية تمت في 1 /4 /1985 ففي حساب أرباح وخسائر أي سنة يظهر فيه هذا الربح؟ علمًا بأن سداد الثمن على ثلاث سنوات من تاريخ الشراء.
في التطبيق العملي للبنوك وفي الفكر المحاسبي المعاصر يوجد رأيان هما:
الرأي الأول: أن الربح كله يكون للسنة التي تحقق فيها البيع (1985) وبالتالي يظهر في حـ/ أ. خ الخاص بهذه السنة بالقيد الآتي:
24000 من حـ/ إيرادات الاستثمارات (إيرادات مرابحات)
24000 إلى حـ/ أ. خ الاستثمار
31/ 12 /1985
الرأي الثاني: توزيع الأرباح على سنوات التحصيل كالآتي:
على أن يتم تجنيب الأرباح التي تخص السنوات التالية في حـ/ دائن:
24000 من حـ/ إيرادات الاستثمارات (مرابحات)
15000 إلى حـ/ إيرادات استثمارات لم تتحقق (للأعوام التالية)
9000 إلى حـ/ أ. خ الاستثمار (لعام 1985)(5/982)
وبالنظر في هذه المعالجة بشقيها محاسبيًا وشرعيًا يمكن القول بالآتي:
- من الناحية المحاسبية طبقًا لسياسة الحيطة والحذر والتي تقضي بأخذ الخسائر المحتملة في الحسبان فإنه يستحسن أن يكون مخصص بالأرباح التي لم تتحقق، وهي هنا عبارة عن الأرباح المحتسبة على المبالغ غير المحصلة توقعًا لتوقف المدينين عن الدفع، وهذا ما يتبع في البيع بالتقسيط ويتفق ذلك مع الرأي الثاني، وإن كان هذا لا يمنع أن بعض المحاسبين يأخذون بالرأي الأول.
ومن الناحية الشرعية يوجد رأيان:
الرأي الأول: قال به المستشار الشرعي للبنك الإسلامي الأردني (1) ويرى الأخذ بالمعالجة الأولى على اعتبار أن الربح تحقق في سنة البيع وبالتالي يقيد كله فيها بناء على أن العبرة بتحقق الربح، وأن باقي الثمن في حالة التأجيل يعتبر دينًا على المشتري ولا علاقة له بالربح.
الرأي الثاني: ونراه نحن استنادًا إلى القواعد الفقهية التالية:
- أن هناك فرقًا في الربح بين مراحل ثلاث، تولده، وتحققه أو ظهوره، وتوزيعه.
- فالربح كنماء للمال يولد أو يحدث حتى ولو لم يوجد بيع وهذا ما عليه فقه الزكاة في النظر للنماء كشرط من شروط المال المزكى على أنه نماء حقيقة أو حكما، فعلًا أو بالقوة، أما البيع فإنه يظهر الربح ويحققه وليس شرطًا لحدوثه.
- أما توزيع الربح واقتسامه فإنه في فقه المضاربة والتي تعمل البنوك الإسلامية وفق أحكامه في علاقتها بأصحاب حسابات الاستثمار باعتبار البنك مضاربًا وهم أرباب أموال، فالرأي الفقهي (2) على أنه لا بد من نض المال أي تحويله من عروض تجارة إلى نقود كشرط لتوزيع الربح، ولا شك أن باقي الثمن على عملاء المرابحة ليس نقودًا، ولذلك لا توزع الأرباح الناتجة عن عملية المرابحة إلا بعد التحصيل النقدي.
وهذا الرأي يتفق مع سابقه في أن الربح تحقق في سنة البيع ولكننا بصدد قضية توزيعه بين المضارب (البنك) وأرباب الأموال الأمر الذي يقضي بأن يظهر الربح في سنة تحققه ولكن لا يوزع منه إلا بمقدار ما حصل وهذا هو جوهر المعالجة الثانية بإثبات الأرباح في سنة 1985، ثم يرحل منه إلى حـ/ أ. خ الاستثمار الخاص بها ما يقابل المبلغ المحصل ويجنب الباقي في حساب دائن للسنوات التالية.
وفي النهاية أرجو أن أكون وفقت في عرض الموضوع بصورة يستفاد منها في ترشيد عمل البنوك الإسلامية وأقرر أن هذا جهدًا بشريًّا يعتريه القصور ويشوبه الخطأ وحسبي صدق النية في أنني أريد به وجه الله وإعلاء كلمة الإسلام.
والحمد لله أولًا وأخيرًا ...
د. محمد عبد الحليم عمر
تجارة الأزهر
__________
(1) الفتاوى الشرعية – مرجع سابق ص 36- 40
(2) ابن رشد – بداية المجتهد ونهاية المقتصد – مرجع سابق جـ 2 ص 308(5/983)
المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية
(مؤسسة آل البيت)
ندوة عن:
"خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية:
الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات".
بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب/ البنك الإسلامي للتنمية / جدة.
عَمَّان
22 شوال – 25 شوال 1407هـ
18 /6 – 21 /6/ 1987م(5/984)
بحث الدكتور شوقي إسماعيل شحاتة
عن
"تجربة بنوك فيصل الإسلامية – عقد المرابحة - دراسة تطبيقية"
بسم الله الرحمن الرحيم
بحث مقدم
إلى ندوة خطة "استراتيجية" الاستثمار في
البنوك الإسلامية
الجوانب التطبيقية والقضايا
والمشكلات
المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية "مؤسسة آل البيت"
عمان – الأردن بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
البنك الإسلامي للتنمية – جدة
من
دكتور شوقي إسماعيل شحاته
المستشار المالي لبنك فيصل الإسلامي المصري
في
تجربة بنوك فيصل الإسلامية – عقد المرابحة – دراسة تطبيقية
22 – 25 شوال 1407هـ الموافق 18 يونيو 1987م(5/985)
بسم الله الرحمن الرحيم
في إطار أهداف الندوة التي تتلخص في:
- دراسة القضايا المتعلقة بتطبيق عقد المرابحة لتوفير التمويل لقطاعات التجارة والصناعة والزراعة والإسكان وغيرها.
- تحديد القضايا العملية والصعوبات في تطبيق عقد المرابحة في النظام المصرفي الإسلامي.
- تبادل الآراء في مجال النظام المصرفي والتمويل الإسلامي.
- اقتراح السبل والوسائل الفعالة لتطبيق عقد المرابحة في البنوك الإسلامية.
والتزاما بمنهج الندوة الموحد في الدراسات التطبيقية، ينقسم هذا البحث في " تجربة بنوك فيصل الإسلامية- عقد المرابحة – دراسة تطبيقية إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: خطوط عريضة لاستراتيجية التمويل، والاستثمار والتوظيف، والعائد، ومؤشرات الأهمية النسبية لمصادر واستخدامات الأموال.
القسم الثاني: طبيعة عقد المرابحة والتفاصيل العملية في التطبيق المعاصر كما هو معمول بها في بنوك فيصل.
القسم الثالث: مشكلات وقضايا وآفاق جديدة في عقد المرابحة وحلول مقترحة.
1- القسم الأول:
خطوط عريضة لاستراتيجية التمويل، والاستثمار والتوظيف، والعائد، ومؤشرات الأهمية النسبية لمصادر واستخدامات الأموال في بنوك فيصل الإسلامية:
1- 1- مصادر الأموال الداخلية- حقوق الملكية:
وتتمثل في رأس المال المدفوع والاحتياطيات والأرباح المرحلة من سنوات سابقة، وصافي ربح العام:-
بلغ عدد البنوك الإسلامية الأعضاء في الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية حتى وقتنا الحاضر ستة وعشرون مصرفا منها تسعة بنوك من بنوك فيصل الإسلامية بالقاهرة، والسودان، والبحرين. وقبرص والنيجر وغينيا والسنغال وجزر البهاما.
وأخيرا مؤسسة فيصل للتمويل بإسطنبول – تركيا التي تأسست في 23 يناير 1985م.
وبلغت رؤوس الأموال المدفوعة من البنوك الأربعة الأولى
في نهاية 1404 هـ – 1984م المتاحة بياناتها ما تعادل جملته مقومه (1) بالدولار الأمريكي 98.7 مليون دولار، أما مؤسسة فيصل للتمويل بتركيا التي بدأت أعمالها في 2أبريل 1985م فقد بلغ رأس مالها المدفوع 5000 مليار ليرة تركية أسهمت فيها دار المال الإسلامي بنسبة 51 % وبنك فيصل الإسلامي المصري. وبنك فيصل الإٍسلامي السوداني. وبنك فيصل الإسلامي بالبحرين.
__________
(1) سمير مصطفى متولي – بحث مقدم إلى المؤتمر العام الأول للبنوك الإسلامية بإسطنبول- تركيا 18- 21 اكتوبر 1986م في " هيكل مصادر الأموال واستخداماتها بالبنوك والمؤسسات المالية ".(5/986)
وفيما يلي بيان بمؤشرات الأهمية النسبية لحقوق الملكية في أربعة من بنوك فيصل الإسلامية من رأس المال المدفوع. والاحتياطيات. والأرباح، منسوبة لمجموع مصادر الأموال- مجموعة الميزانية - في نهاية 1404 هـ- 1984 م:
جدول رقم (1) (لأقرب مليون دولار أمريكي)
البنوك رأس المال المدفوع الاحتياطيات والأرباح إجمالي المصادر الداخلية
مجموع الميزانية
1- بنك فيصل الإسلامي- المصري (1) 40 13.5 53.5 3 % 1862
2- بنك فيصل الإسلامي- السوداني - 32.6 46.00 78.6 31 % 250
3- مصرف فيصل الإسلامي- البحرين 20.00 4.5 24.5 9 % 273
4- مصرف فيصل الإسلامي- قبرص 6.1 0.1 6.2 30 % 21
98.7 64.1 162.8 6.7 % 2406
وتعكس هذه المؤشرات تفاوت الأهمية النسبية لحقوق الملكية- المساهمين- لمجموع المصادر الداخلية الذاتية للأموال بين 3 %،31 % الأمر الذي لا شك في أنه ينعكس ويحكم خطة الاستثمار والتوظيف وطرق وأساليب التمويل والتركيب القطاعي.
1-2- مصادر الأموال الخارجية – التمويل الخارجي:
1-2-1- الحسابات الجارية وحسابات الاستثمار (الودائع تحت الطلب والاستثمارية) :
وفقا للمفاهيم والمبادئ الإسلامية في استراتيجية التمويل وأحكام الشريعة الإسلامية بتحريم التعامل والتمويل بأسلوب القروض بفائدة ثابتة مضمونة ومحددة مقدما بنسبة من رأس مال القرض وهي الربا بعينه برزت إلى الوجود في ميزانيات البنوك الإسلامية مصادر للأموال الخارجية والتمويل الخارجي في إطار الغنم بالغرم، والكسب بالخسارة، والخراج بالضمان، والمضاربة الشرعية وحسابات الاستثمار (الودائع الاستثمارية) .
__________
(1) زيد رأس المال المدفوع إلى 70 مليون دولار أمريكي، والاحتياطيات إلى 26.6 مليون دولار بمجموع قدره 96.6 مليون في وقتنا الحاضر.(5/987)
أما الحسابات الجارية فهي ودائع تحت الطلب يضمن البنك رد قيمتها بالكامل وله أو عليه كل عائد استثمارها وتوظيفها.
وفيما يلي بيان بمؤشرات الأهمية النسبية لكل من الحسابات الجارية وحسابات الاستثمار منسوبة لإجمالي الودائع، والأهمية النسبية لإجمالي الودائع كمصادر تمويل خارجي منسوبة إلى مجموع مصادر الأموال مجموع الميزانية – في نهاية 1404 هـ- 1984م.
جدول (2) (لأقرب مليون دولار أمريكي)
م البنوك الحسابات الجارية النسبة المئوية حسابات الاستثمار النسبة المئوية مجموع الودائع النسبة لمجموع الميزانية النسبة المئوية
1 بنك فيصل الإسلامي – المصري 54 3.7 % 1477 96.3 % 1532 1862 78 %
2 بنك فيصل الإسلامي- السوداني 100 65 % 55 35 % 154 250 62 %
3 مصرف فيصل الإسلامي – البحرين 6 2.9 % 225 97.1 % 231 273 86 %
4 مصرف فيصل الإسلامي- قبرص - - 13 100 % 13 21 64 %
160 8.3 % 1770 91.7 1930 2406 80 %
وتعكس هذه المؤشرات ضآلة نسبة الحسابات الجارية –الودائع تحت الطلب – التي تتفاوت من صفر % -2.9 %،3.7 % فيما عدا بنك فيصل الإسلامي السوداني التي تعكس أهميتها النسبية لمجموع الودائع 68 % وبلغت في نهاية عام 1405هـ- 1985م- 66 % وفي نهاية عالم 1406هـ- 1986 – 72 %.
كما تعكس هذه المؤشرات بوضوح الأهمية النسبية الكبرى لحسابات الاستثمار – الودائع الاستثمارية – التي تتفاوت بين 96.3 % في بنك فيصل الإسلامي المصري، 97.1 % في مصرف فيصل الإسلامي بالبحرين، 100 % في بنك فيصل الإسلامي بقبرص.(5/988)
1-2-2- دائنون وأرصدة دائنة:
وتحصل البنوك الإسلامية على تمويل خارجي وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية كائتمان بضوابطه الشرعية في إطار الأساليب البديلة للقروض والدائنية الربوية ومنها:
- موردو سلع وخدمات، وأصول ثابتة بثمن مؤجل كديون تجارة بأساليب البيع المختلفة، بيع المرابحة، بيع المساومة، بيع التولية، وبيع الوضيعة، بثمن مؤجل.
- الأرصدة الدائنة للمشاركات. والمشارك يختلف عن أصحاب الودائع. كما يختلف عن المساهم. وهو مشارك في عمليات أو أنشطة أو مشروعات.
- الأرصدة الدائنة التي تترتب عن معاملات بأساليب أخرى جائزة شرعا.
وفيما يلي بيان بمؤشرات الأهمية النسبية للدائنين والأرصدة الدائنة- كتمويل خارجي من منظور إسلامي- في نهاية عام 1404هـ- 1984م.
جدول رقم (3)
البنوك
دائنون وأرصدة دائنة
مجموع الميزانية
1 بنك فيصل الإسلامي – المصري 270 14.6 % 1862
2 بنك فيصل الإسلامي – السوداني 22 8.8 % 250
3 مصرف فيصل الإسلامي –البحرين 17 6.2 % 272
4 بنك فيصل الإسلامي – قبرص 1.4 0.7 % 21
320.4 13 % 24.6(5/989)
1-3- استخدامات الأموال:
العمليات الأولى في حياة أي مشروع مستمر بعد عمليات الاكتتاب النقدي في رأس المال المصدر هي تبديل رأس المال النقد من غير جنسه بعروض تنقسم بلغة الفقهاء إلى عروض تجارة من سلع وخدمات- معدة للبيع، أو بلغة العصر- " الأصول الإيرادية " – وعروض القينة غير معدة للبيع بل للاحتفاظ بها لاستخدامها في العمليات الإنتاجية أو بلغة العصر " الأصول الرأسمالية " طلبا للربح الذي يتحصل بالانتفاع بكل منهما فيما هو مقصود منه.
مع مراعاة الاحتفاظ والإمساك بجزء من رأس المال النقدي ومصادر الأموال في صورة نقود وأرصدة نقدية في الصندوق والبنوك أو بلغة العصر " السيولة النقدية المناسبة " لأداء ما هو مقصود منها وهو " المعاملة أولا".
وفي الحديث الشريف: " لا عليك أن تمسك بعض مالك فإن لهذا الأمر عدة" ثم تتوالى دورات تقليب مصادر الأموال حالا بعد حال وفعلا بعد فعل طلبا للربح وهذه الدورة هي دورة الحياة في المشروع المستمر.
1-3-1 تبويب استخدامات الأموال - الأصول - من منظور محاسبي إسلامي (1) وقياس ومؤشرات أهميتها النسبية في بنوك فيصل الإسلامية في نهاية عام 1404هـ- 1984م.
جدول رقم (4) (لأقرب مليون دولار أمريكي)
م البنوك الأصول التمويلية النسبة المئوية الأصول الإيرادية النسبة المئوية الأصول الرأسمالية النسبة المئوية مجموع الميزانية
1 بنك فيصل الإسلامي –المصري 227 12.7 % 1605.8 86.3 % 19.2 1 % 1862
2 بنك فيصل الإسلامي –السوداني 100 40 % 105.1 42 % 44.9 18 % 250
3 بنك فيصل الإسلامي –البحرين 1.7 0.6 % 270.9 99.3 % 0.4 0.1 % 273
4 بنك فيصل الإسلامي –قبرص 13.5 64 % 7.00 33.5 % 0.5 2.5 % 21
352.2 14.7 % 1988.8 82.6 % 65.00 2.7 % 2406
__________
(1) د. شوقي إسماعيل شحاتة " نظرية المحاسبة المالية من منظور إسلامي " 1407هـ -1987م الزهراء للأعلام العربي - القاهرة(5/990)
هذا وقد بلغ مؤشر الأصول التمويلية في بنك فيصل الإسلامي المصري عام 1405هـ – 1985م 11.3 % وفي نهاية عام 1406هـ – 1986م 13.6 %.
وانخفض مؤشر الأصول التمويلية في بنك فيصل الإسلامي السوداني في نهاية عام 1405هـ إلى 36 % ثم إلى 28 % في نهاية عام 1406هـ- 1986م
وتعكس هذه المؤشرات تفاوتا ملحوظا لا شك في أنه يحكم استراتيجية الاستثمار والتوظيف وطرق وأساليب التمويل والتركيب القطاعي والعائد.
1-3-2- استراتيجية السيولة النقدية والاستخدام الأمثل من منظور إسلامي في البنوك الإسلامية:
1- بشكل الحجم الزائد عن الاستخدام الأمثل للأصول التمويلية- النقود والأرصدة النقدية بالصندوق والبنوك- عبئا تحميليا وعنصرا من عناصر التكاليف على الإنتاج من منظور إسلامي ذلك أن عائد الاحتفاظ بالسيولة غير المناسبة في البنوك الإسلامية ليس صفرا فحسب بل هو عائد سلبي قدره 2.5 % تتمثل في زكاة النقود الواجبة التي بلغت نصابا وحال عليها الحول.
2- عائد توظيف الأصول التمويلية – النقود – قد يكون ربحا وقد يكون خسارة وليس ثمنا في جميع الأحوال كالفائدة الربوية.
3- يعمل الاستخدام الأمثل للأرصدة التمويلية في البنوك الإسلامية على مراعاة تحقيق التوازن في التوظيف على أربعة محاور والمواءمة بينها من حيث:
- التقلب ودوران المال العامل وعدد دوراته.
- المخاطرة وأعني بها في مخاطرة النشاط والأعمال لا المغامرة.
- الربحية.
- التنمية.
4- المرونة في التخطيط النقدي في البنوك الإسلامية لمواجهة مواسم التمويل والاستخدامات المتوقعة وحوالة الأسواق. وتجديد الموارد النقدية كلما وجد البنك ذلك مناسبا له وأهمية التعاون بين البنوك الإسلامية وأيسرية انتقال مصادر الأموال والفوائض بينها.
1-3-3- الأهمية النسبية لمؤشرات " المرابحات " في بنوك فيصل الإسلامية وفعاليتها واستقرارها:(5/991)
بنك فيصل الإسلامي المصري:
1- بلغت جملة أرصدة المشاركات والمضاربات والمرابحات التجارية والإنتاجية في نهاية عام 1406هـ 1986م مبلغ 1533 مليون دولار أمريكي يمثل 74 % من الاستخدامات – مجموع الميزانية وقدرها 2056مليون دولار أمريكي.
وكانت في نهاية عام 1405هـ- 1985م مبلغ 1375 مليون دولار تمثل 77 % من مجموع الميزانية.
2- وبلغت جملة أرصدة المرابحات 529 مليون دولار أمريكي تمثل 34 % من إجمالي أرصدة المشاركات والمضاربات والمرابحات في نهاية 1406هـ- 1986م، وتمثل نسبة 26 % من إجمالي الاستخدامات – مجموع الميزانية:
3 – بلغت جملة إيرادات المشاركات والمضاربات والمرابحات لعام 1406هـ- 1986م 113مليون دولار أمريكي بنسبة 92 % من إجمالي الإيرادات وقدرها 123 مليون دولار.
4 – بلغت إيرادات المرابحات 40 مليون دولار أمريكي 35 % من إيرادات المشاركات والمضاربات والمرابحات.
وتعكس هذه المؤشرات مدى الأهمية النسبية " للمرابحات التجارية والإنتاجية " وفعاليتها وأظهرت المقارنات بالسنوات السابقة في بنك فيصل الإسلامي المصري استقرارها.(5/992)
مؤسسة فيصل المالية – تركيا:
بلغت الأهمية النسبية لمؤشرات استخدامات الأموال في المرابحات والمضاربات في السنة المالية 1985م (والمدة من 2 أبريل 1985م تاريخ مباشرة البنك أعماله حتى 31 /12/ 1985م) كما هي متصلة في التقرير السنوي لعام 1985م.
كالآتي:
73.6 % مرابحات محلية
20.8 % مرابحات خارجية
94.4 % 94.4 % المرابحات
5.6 % المشاركات
وفيما يلي بيان مؤشرات نشاطات المرابحات على مستوى القطاعات:
وجدير بالذكر أن بنك فيصل الإسلامي المصري قد أسس وأسهم في 32شركة مساهمة تلعب دورا متميزا في مجال نشاط المرابحات في الإنتاج الصناعي والدواء والرعاية الطبية – المستشفيات. والإسكان ومواد البناء. والإنتاج الزراعي والحيواني، والتجارة وفي الاستثمارات والسياحة والبنوك والمؤسسات المالية.
جدول رقم (5)
البنك قطاع الصناعة قطاع الزراعة قطاع التجارة قطاع الخدمات
بنك فيصل الإسلامي- المصري 36 % 17 % 12 % 35 %
مؤسسة فيصل للتمويل / تركيا 53 % 20 % 21 % 6 %
1-3-4- لماذا نفتقد مؤشرات نشاطات المرابحات في البنك الإسلامي بوصفه آمرا بالشراء؟
لعل ذلك يرجع في رأيي إلى أن البنوك الإسلامية أو بعضها ما زال متأثرا بالنظرة التقليدية للتوظيف وأساليب التمويل في إطار العمل المصرفي باعتبار النقود سلعة، أما الأمر فإنه يختلف جذريا وكليا في البنوك الإسلامية وقد آن الأوان لممارسة البنك الإسلامي لنشاطات المرابحات بشراء السلع والأصول بأسلوب المرابحة بوصفه الآمر بالشراء نقدا وبالأجل وفقا لمؤشرات مصادر واستخدامات الأموال فيه، وبيعها نقدا وبالأجل بضوابطه الشرعية.
وفي ذلك ما يفتح آفاقا واسعة في التوظيف الخارجي والتجارة الخارجية.
وصدق الله العظيم إذ يقول: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) } [قريش](5/993)
القسم الثاني
2 – طبيعة عقد المرابحة والتفاصيل العملية في التطبيق المعاصر كما هو معمول بها في بنوك فيصل الإسلامية.
2-1- طبيعة عقد المرابحة للآمر بالشراء وملائمته علما وعملا للعمليات التمويلية والعمليات الإيرادية تحقيقا للربح من منظور إسلامي:
2-1-1- تعريف التجارة وبيع المرابحة للآمر بالشراء كأحد أنواع البيع من حيث تعلقه بالثمن من منظور إسلامي:
أحل الله البيع وحرم الربا، وقد كان للعرب تجارة داخلية في جزيرة العرب، وتجارة خارجية مع العالم شرقيه وغربيه وظل الدينار الشرعي الإسلامي يحتل مكانا مرموقا في التجارة العالمية لمدة خمسة قرون من القرن الأول الهجري إلى القرن الخامس.
والتجارة من منظور إسلامي (1) هي: " تقليب المال بمعاوضة لغرض الربح، وهي " صناعة التجار" وهي التصدي للبيع والشراء لتحصيل الربح". ويتم البيع بثمن حال أو مؤجل ولا يصح التأجيل في تسليم الأعيان:
وبيع المرابحة هو أحد أنواع البيع الأربعة من حيث تعلقه بتحديد الثمن وهي:
(1) إن كان بمثل " الثمن الأول " – أي التكلفة – مع زيادة ربح يتفق عليه فمرابحة.
(2) إن كان بمثل " الثمن الأول" – أي التكلفة – بدون زيادة فتولية.
(3) إن أنقص الثمن الأول – أي التكلفة – فوضيعة.
(4) إن كان بدون زيادة ولا نقص فمساومة – أي بأي ثمن من غير نظر إلى الثمن الأول – التكلفة.
وبظهور البنوك الإسلامية تعاظم دور بيع المرابحة للآمر بالشراء وخصوصا بثمن مؤجل بضوابطه الشرعية. وتأكدت أهميته وجدواه الاقتصادية وملائمته علما وعملا لطبيعة العمليات التمويلية والعمليات الإيرادية التي تجريها البنوك الإسلامية بعيدا عن القروض ونظام الفائدة الربوية لتوظيف واستخدامات الأموال في النشاطات والقطاعات المختلفة لغرض الربح من منظور إسلامي في إطار التقليب. والمخاطرة والغنم بالغرم. والخراج بالضمان إلى غير ذلك من أحكام الشريعة الإسلامية الغراء.
هذا ويتعين مراعاة الأحكام الشرعية في البيوع الصحيحة بأن يقوم البنك ببيع ما يملك مع الاتفاق على شروط تسليم المبيع. وأن يكون معلوما للمشتري بثمن الشراء- الثمن الأول- وما أضيف عليه من النفقات كالرسوم الجمركية مثلا، والمصاريف المختلفة التي يتفق عليها الطرفان من مصاريف إضافية مختلفة ومصاريف إدارية وتسويقية أخرى تختص بالمبيع وصولا إلى تحديد التكلفة الكلية التي يضاف إليها نسبة الربح المتفق عليها أو مبلغ الربح وصولا إلى تحديد ثمن البيع النهائي بالعقد. وكذلك طريقة وسداد الثمن على الآجال المختلفة.
__________
(1) " نظرية المحاسبة من منظور إسلامي" د. شوقي إسماعيل شحاتة 1407هـ-1987م الزهراء للإعلام العربي – القاهرة.(5/994)
وقبل أن نتناول فورا هذه التفاصيل العملية في التطبيق المعاصر لبيع المرابحة للآمر بالشراء بالعقد وبالأجل كما هو معمول به في بنوك فيصل الإسلامية وعلى الأخص بنك فيصل الإسلامي المصري نسترعي الانتباه إلى مدى وأهمية العلاقة بين السعر والتكلفة في التطبيق المعاصر من منظور إسلامي في بيع المرابحة وغيره من بيوع التولية والوضيعة من حيث إنها علاقة تبادلية بمعنى أن كلا منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به وإن أسعار البيع وإن تعلقت بالعرض والطلب والعوامل الفعالة المؤثرة في السوق وحوالة الأسواق والمخاطرة إلا أنها تتعلق أساسا في بيع المرابحة بعلاقة وطيدة بين التكلفة، وثمن البيع حالا أو مؤجلا.
ومن ثم فإن بيع المرابحة يتميز بملاءمته لطبيعة العمليات التمويلية والعلميات الإيرادية المتعلقة بالربح والمرتبطة مباشرة بالتكلفة وعوامل التقليب. والمخاطرة في سوق المال أو سوق العقود التي تتميز بالخصائص الآتية:
1 – حرمة المعاملات.
2 – تحريم الربا بكل أنواعه وأشكاله الظاهرة والمستترة.
3 – تحريم الغش بكل أنواعه.
4 – تحريم الاحتكار بأنواعه.
5 – توافر المعلومات الصادقة لكل من البائع والمشتري.
6 – أن يتلاءم هامش الربح مع درجة المخاطرة.
7 – أن يكون الثمن عادلا وليس مجحفا بحق البائع أو المشتري.
8 – أي شروط أخرى يراها الحاكم ضرورية لمنع الضرر.
2-2- التفاصيل العملية لتطبيق عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء والنشاطات والقطاعات التي يطبق عليها في بنوك فيصل الإسلامية:(5/995)
2-2-1- الأحكام الشرعية الصادرة من هيئات الرقابة الشرعية وقرارات مؤتمرات البنوك الإسلامية في عقد بيع المرابحة:
طبقا للفتاوى الشرعية الصادرة من هيئة الرقابة الشرعية ببنك فيصل الإسلامي المصري وهيئة الرقابة الشرعية ببنك فيصل الإسلامي السوداني. وهيئة الرقابة الشرعية ببيت التمويل الكويتي وهيئة الرقابة الشرعية بمصرف قطر الإسلامي.
- وبناء على قرارات مؤتمر المصرف الإسلامي الأول المنعقد في دبي 1399هـ- 1979م، وفتوى وتوصيات لجنة العلماء بالمؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي المنعقد في الكويت 1403هـ – 1983م فإن معاملة الوعد بالشراء والمواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء عقد ملزم لكل من الطرفين الآمر بالشراء والبنك بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها. طالما كانت تقع على البنك الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي. والأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات. وفيه مراعاة لمصلحة البنك والعميل إلا أن كل بنك مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه.
- وبناء على الفتاوى الشرعية المصدرة من هيئة الرقابة الشرعية ببنك فيصل الإسلامي يلتزم الطرفان بعقد الوعد بالشراء وعقد البيع بالمرابحة بضوابطهما الشرعية بأن يكون الثمن الأصلي معلوما لمن يشتري بطريق المرابحة وأن تكون جميع النفقات والتكاليف التي تحملها المشتري الأصلي في الحصول على السلعة معلومة كذلك للآمر بالشراء بطريق المرابحة. وأنه لابد من توضيح كل ذلك بجميع أوراق بيع المرابحة المودعة بملف كل عقد من عقودها.
- ينبغي ألا يكون الأمر بالشراء شفاهة ويلزم أن يكون طلبا مكتوبا. وأن يتأكد البنك من جدية الطالب حتى تكون المخاطرة محسوبة وحتى يتلافى البنك نكوص الآمر بالشراء بعد طلبه ذلك.(5/996)
- أخذ جزء من الثمن مقدما أو أخذ عربون ودفع الباقي عند التسليم أو دفعه على أقساط يتفق عليها جائز بشرط ألا يحق للبنك أن يستقطع من العربون المقدم إلا بمقدار الضرر الفعلي المتحقق عليه من جراء نكول الآمر بالشراء.
- إذا ظهرت خيانة البائع فيما ذكره من الثمن أو غيره مما يجب ذكره فالبيع صحيح ولكن يثبت للمشتري الخيار فإن شاء أخذ بما بينه البائع على ما فيه من زيادة وإن شاء ترك البيع أو أسقط الزيادة.
- لا مانع شرعا من الزيادة في الثمن إذا كان البيع بثمن مؤجل، والدفع على أقساط. ولا مانع أيضا من اختلاف الثمن باختلاف الأجل.
- يأخذ البنك في الاعتبار ألا ترتفع تكلفة السلعة عن مثيلتها في السوق حتى يجد العميل له ربحا مناسبا عند بيعه لها.
- تنقسم عمليات البيع بالمرابحة إلى:
1- مرابحة محبة 2- مرابحة استيرادية
2-2-2- التفاصيل العملية لطلب الشراء كما هو معمول بها في بنك فيصل الإسلامي المصري.
يتقدم العميل كتابة بطلب شراء في النموذج المعد يشمل:
أ – بيان السلعة أو الأصول موضوع الوعد بالشراء الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من عقد بيع المرابحة.
ب- بيان الأوصاف التي يحددها العميل للآمر بالشراء.
جـ- التكلفة الكلية التقديرية.
د- نسبة الربح من التكلفة الكلية.
هـ- بيان شروط ومكان التسليم.
و أي شروط أخرى.
ز – الاسم – العنوان – رقم صندوق البريد- رقم التليفون – رقم التلكس – رقم الحساب الجاري (إن كان) ورقم حساب الاستثمار (إن كان) – أي بيانات أخرى..
ح – التوقيع والتاريخ
2-2-3- خطوات التنفيذ في المرابحات المحلية:
2 -2-3-1- اختيار العملاء والاستعلام عنهم:(5/997)
إذا كان عمل البنك على هدي أحكام الشريعة الإسلامية الغراء قد أتاح له رصيدا ضخما متزايدا من العملاء أصحاب حسابات الاستثمار على النحو الذي جعل مواردة تقفز بطفرات كبيرة فإن ذلك يضع على عاتق البنك وفروعه باعتباره مفوضا في استثمار تلك الأموال وفق شريعة الله سبحانه وتعالى ضرورة اختيار عملاء المرابحات وغيرهم من العملاء وفق أسس تضمن سلامة التوظيف وحصول البنك على أمواله وعوائدها وفيما يلي الأسس التي يجب مراعاتها عند اختيار عملاء البنك:
1- أن تكون سمعة العميل حسنة محافظا على الوفاء بتعهداته والتزاماته قبل المتعاملين معه سواء البنوك أو الموردين أو غيرهم.
2 – الاستعلام الجيد عن العميل من البنوك التي سبق له التعامل معها، كما يتم الاستعلام عنه لدى الموردين وغيرهم من التجار، وكذلك الاستعلام عن العميل لدى المجتمع الذي يعيش فيه وتصرفاته المالية والأخلاقية.
3 – أن يكون للعميل خبرة في مجال عمله ونشاطه التجاري والصناعي وغيره.
4 – ألا يكون سبق له التوقف عن دفع ديونه أو أجرى ضده بروتستو وذلك بالرجوع لنشرة الأحكام التجارية والحصول على شهادة من المحكمة التابع لها لمطابقتها على النشرة.
5 – ألا يكون قد سبق إشهار إفلاسه.
6 – ألا يكون في نشاطه التعامل على سلع يحرمها الإسلام.
7 – التأكد من سلامة مركزه المالي من ميزانيات العميل والتقارير التي تظهرها الزيادة الميدانية لموقع نشاطه وذلك بمؤشرات حقيقية وواقعية.
8 – أن يقدم العميل ما يوضح موقفه الضريبي وسلامته بشهادة من مراقبة الضرائب أو من محاسب قانوني.
9 – التأكد من سلامة اقتصاديات نشاط العميل مقارنا بالأنشطة المماثلة.
10 – الاستعلام عن المراكز الائتمانية للعميل سواء أكان شركة أو بصفته الشخصية وذلك من إدارة مراكز الائتمان بالبنك المركزي المصري وتحليل هذه المراكز للتأكد من سلامتها.
11- في حالة شركات الأشخاص (تضامن – توصية – بسيطة) يجب الاستعلام عن كل شريك على حدة بخلاف الاستعلام عن موقف الشركة وأن يشمل ملف العملية الحصول على بيان بالمركز الائتماني المجمع لكل منهم على حده من البنك المركزي المصري ودراسة هذه المراكز للتأكد من سلامتها.
12- الحصول على بيان بممتلكات الأشخاص الطبيعين أو الشركاء في شركات الأشخاص والإطلاع على عقود الملكية والشهادات العقارية والسلبية التي تثبت خلو الممتلكات من الرهن أو الاختصاص.
كما يطلب من العميل تقديم صور من المستندات الآتية: السجل التجاري - عقد الشركة وملخص العقد- البطاقة الضريبية – البطاقة الاستيرادية – الميزانيات وحسابات الأرباح والخسائر عن الثلاث سنوات الأخيرة وتقارير مراقبي الحسابات ورقم الحساب ببنك فيصل الإسلامي المصري (إن كان) إلى غير ذلك من المستندات اللازمة.(5/998)
دراسة عملية بيع المرابحة – العناصر والأسس والقواعد السليمة لدرجة المخاطرة المقبولة:
أولا: الظروف التجارية والاقتصادية وظروف السوق داخليا وخارجيا:
الظروف التجارية والاقتصادية التي لا يتحكم فيها الفرد ربما تغير مقدرته على مواجهة التزاماته فالتقلبات الاقتصادية في الأعمال التجارية سواء كانت طويلة الأجل أو قصيرة الأجل لا بد أن تؤخذ في الاعتبار عند الدراسة:
1 – قد تكون هذه التقلبات خاصة بصناعة أو منطقة صناعية معينة أو بسلعة معينة.
2 – أو منطقة جغرافية (المناطق الحرة مثلا)
3 – أو الدولة بأكملها.
4 – أحوال المنافسة في السوق.
5 – تقلبات أسعار النقد في السوق ومدى توفير العملات.
ثانيا: طبيعة السلعة، أو الخمات أو مستلزمات الإنتاج، أو الأصول موضوع المرابحة:
والسلعة أو الأصول أو مستلزمات الإنتاج المحلي والعالمي موضوع العملية المقدمة يجب دراسة طبيعتها بحيث تتوفر فيها العناصر التالية:
1 – قابلية السلعة إلى التصريف: ومدى تحويلها إلى أرصدة نقدية خلال دور البضاعة (المخزون) أي مدى الطلب على السلعة.
2 – طبيعة السلعة والخامات ومستلزمات الإنتاج ومدى قابليتها للتلف السريع، ,أو الشروط الخاصة بالتخزين في درجات حرارية معينة مثلا ...
3 – المواصفات الفنية المطلوبة في الأصول كالآلات – والماكينات – والأجهزة – وقطع الغيار – والصيانة.
4 – أنسب مصادر للشراء من حيث شروط التوريد والالتزام بالمواعيد المحددة والأسعار والسداد والضمانات.
ثالثا: سمعة العميل:
وهي العنصر الأول الهام في اتخاذ القرار، وتعتمد على مؤشرات أهمها:
أ – بالنسبة للأفراد وشركات الأشخاص:
1 – التمتع بسمعة ائتمانية وأخلاقية طيبة.(5/999)
2 – الانتظام في سداد العميل لديونه.
ب- بالنسبة لشركات الأموال (الشركات ذات المسئولية المحدودة والمساهمة) :
- فلا يستدل على سمعتها بدرجة كبيرة من سمعة القائمين على إدارتها فحسب، بل تعتمد بصفة أساسية على سلامة اقتصادياتها وأساليبها والسياسات التي تتبعها ومدى دقة نظام العمل، ونظامها المحاسبي. وتقارير مراقبي الحسابات.
- إن الشكل القانوني للشركة قد يعني رغبة الشركاء في تحديد مسئولياتهم إزاء التزامات الشركة. وهذا يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند تقدير المخاطر.
جـ- المستندات التي تبين سمعة العملاء ومدى احترامهم لتعهداتهم والوفاء بها في استحقاقاتها كما يلي:
1 – الاستعلام ويتضمن:
أ – الاستعلام من البنوك الأخرى التي يتعامل معها العميل.
ب- الاستعلام من الموردين الذين يتعاملون معه، ومكان عمله، ومكانته في الهيئة الاجتماعية وخبرته في مجال عمله.
جـ- شهادة من المحكمة المختصة التي يقع في دائرتها نشاط العميل تثبت عدم توقيع بروتستات عليه خلال العام.
د – نشرة الغرفة التجارية التي تصدرها شهريا متضمنة أسماء التجار الذين أجريت عليهم بورتستات أو توقفوا عن الدفع.
2 – البيان الائتماني المجمع:
- دفتر القضايا بالإدارة المركزية لتجميع مخاطر الائتمان بالبنك المركزي المصري.
3 – مركز العمليات السابقة مع العميل:
- مركز العمليات السابقة للعميل مع البنك ورأي قسم التنفيذ والمتابعة في مدى انتظامه في السداد.
رابعا: القدرة على الدفع:
1 – إن دخل التجارة يستمد أساسا من حجم المبيعات، وأي عامل يؤثر على المبيعات يؤثر إلى درجة ما على القدرة على الدفع.
2 – وكذلك نسبة المصروفات العمومية والإدارية فكلما زادت هذه المصروفات قلت القدرة على مجابهة الالتزامات المستحقة.
ولذا وجب التركيز على حجم المبيعات وأي إيرادات أخرى وصافي الربح وتطوراتها خلال عامين على الأقل.(5/1000)
خامسا: المركز المالي:
يلزم للتعرف على مدى سلامة المركز المالي للعميل أن تستوفي العناصر الآتية:
1 – تحليل الميزانيات وحسابات النتيجة " الأرباح والخسائر " حساب التوزيع لأقرب عامين على الأقل والأفضل ثلاثة أعوام.
2 – الحصول على بيان بممتلكات الأشخاص الطبيعيين أو الشركاء في شركات الأشخاص، والإطلاع على عقود الملكية والشهادات العقارية أو السلبية التي تثبت خلو الممتلكات من الرهن والاختصاص.
3- الإطلاع على المركز الضريبي للعميل سواء بشهادة من مراقبة الضرائب أو من محاسب قانوني موثوق فيه.
4 – التأكد من سداد العميل للتأمينات الاجتماعية على عماله.
5 – الاستفسار من العميل عن التزاماته المالية قبل مورديه، وكذا معاملاته لدى البنوك الأخرى للتأكد على ما ورد بالاستعلام.
6 – الإطلاع على البيان المجمع من الإدارة المركزية لتجميع إحصائيات الائتمان المصرفي بالبنك المركزي وتحليله.
سادسا: الربحية:
1 – ملاءمة الربحية لذات السلعة أو النشاط في ضوء أسعار السوق أو العمليات السابقة.
2 – مدى الالتزام بالقرارات الخاصة بنسب تحديد نسب الربح. وقوانين الاستيراد واللوائح التنفيذية.
سابعا: تقويم درجة المخاطرة:
1- وفي إطار هذه العناصر والأسس والقواعد تعتبر المخاطرة مقبولة ومحسوبة على أساس سليم.
2 – أما في حالة غياب أي عنصر واحد من هذه العناصر أو ضعفه (فيما عدا السمعة) فإن المخاطرة تعتبر مقبولة. ولكن بشرط مقابلتها بضمان إضافي.
3 – أما في حالة غياب عنصرين من هذه العناصر (فيما عدا السمعة) فإن المخاطرة تعتبر متوسطة وتحتاج إلى ضمانات كافية.
4 – بخلاف ما تقدم تكون المخاطرة غير مقبولة على الإطلاق.
- إضافات لخطوط التنفيذ في المرابحة الاستيرادية:
1- تقدم فاتورة مبدئية من المورد محدد بها مواصفات السلعة وعددها وسعرها وشروط التسليم.
2 – يتم تحديد سعر السلعة على أساس التكلفة الكلية المشتملة على ثمن الشراء والرسوم الجمركية وتكاليف الشحن والتأمين ومصاريف التخليص الجمركي وكافة المصاريف الأخرى. بالإضافة إلى ربح البنك ويكون هذا الربح بالإضافة إلى التكلفة الكلية ويجوز أن يكون نسبة من قيمة التكلفة النهائية.(5/1001)
3 – في حالة قبول التوريد من المورد المحدد من قبل البنك يجب أن تتضمن شروط التوريد تقديم المورد خطاب ضمان توريد في المواعيد المحددة مع تقديم شهادة بمطابقة البضاعة الموردة للمواصفات المطلوبة وعلى أن ينص على ذلك الاعتماد المستندى.
4 – دراسة مستوى الأسعار للعرض المقدم من المورد في الخارج للتأكد من سلامة هذه الأسعار والاستعلام عن المورد ومركزه الصناعي أو التجاري والمالي عن طريق مراسلي البنك في الخارج.
5 – يقوم البنك بعد إنهاء إجراءات التعاقد باتخاذ اللازم نحو فتح الاعتماد المستندي الخاص بتنفيذ العملية.
6 – يجب أن يخطر المورد بأن تصدر المستندات الخاصة بالعملية (الفواتير – بوالص الشحن ... إلخ) باسم البنك.
7 – عند ورود المستندات يجوز تظهيرها لصالح العميل وتسليمها له لاتخاذ اللازم نحو إنهاء إجراءات استلامها مقابل توقيعه على الشيكات الخاصة باستلام مستحقات البنك وتوقيع الضمانات اللازمة والتي تم الاتفاق عليها عند دراسة العملية، أما في حالة التسليم للبضاعة في مخازن العميل فيقوم البنك باتخاذ الإجراءات اللازمة لتحمل تكاليف النقل والتخليص الجمركي للبضائع حتى مخازن العميل.
8 – إذا تم وصول البضاعة قبل وصول المستندات وإصدار البنك خطاب ضمان ملاحي للإفراج عن البضاعة فإنه يتعين قبل تسليم خطاب الضمان للعميل الحصول على إقرار منه على قبول أية تحفظات ترد على المستندات فيما بعد.
بالإضافة إلى الحصول على توقيعه على الشيكات والضمانات الخاصة بالعملية مع تعهده برد أصل خطاب الضمان بمجرد وصول المستندات وتسليمها إليه.
9 – في حالة رفض العميل استلام مستندات الشحن الخاصة بالبضاعة رغم مطابقتها للمواصفات والمواعيد وشروط المرابحة يقوم البنك أو الفرع باتخاذ اللازم نحو البضاعة بالسعر السائد في السوق لحساب عميل المرابحة استيفاء لحقه وفقا لما هو وارد في البند الخامس من عقد بيع المرابحة (استيراد) .
10- عند وصول البضاعة ومعاينة عميل المرابحة لها يتم الحصول منه على تعهد بأن البضاعة الواردة مطابقة للمواصفات والشروط الواردة في التعاقد ويتم بعد الحصول على التعهد برد أصل خطاب الضمان السابق إصداره إلى المورد، ويجوز أن تتم المعاينة في ميناء الشحن في الحالات التي تستدعي ذلك ووفقا لرغبة العميل في القيام بنفسه بهذه المهمة وعلى نفقته الخاصة.(5/1002)
ثامنا: الضمانات:
يجب على الفرع عند إتمام عملية المرابحة الحصول على ضمانات عينية أو شخصية. ومن هذه الضمانات ما يلي:
1 – التأمين على مخازن العميل والبضاعة موضوع المرابحة ضد كافة الأخطار (حريق- سطو – خيانة – أمانة) لصالح البنك مع التزامه بتقديم الوثائق الدالة على ذلك وتجديد الوثائق دوريا حتى تمام سداد مستحقات البنك.
2 – يلتزم العميل بالاحتفاظ بحساباته الجارية بالنقد المحلي والأجنبي وكذا كافة الإيرادات الخاصة بالبيع موضوع المرابحة سواء كانت نقدا أو شيكات بحسابه الجاري طرف البنك.
3 – إجراء رهن تجاري مشمول بالصيغة التنفيذية.
4 – الحصول على عقود بيع ابتدائية على أملاك العميل أو بعضها بقيمة تغطي مديونية العميل قبل البنك على أن يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة لشهر عقود البيع الابتدائية لهذه الممتلكات.
5 – تقديم العميل لأوراق تجارية برسم الضمان تستخدم حصيلتها لسداد مديونيته.
تاسعا: متابعة تحصيل مستحقات البنك والتعويض عن التأخير في سدادها
يقوم البنك وفروعه بمتابعة تحصيل الأقساط المستحقة عن العمليات التي عقدها في مواعيدها، وعند التأخير في السداد يطبق ما جاء بالفتوى الشرعية الصادرة عن هيئة الرقابة الشرعية بالبنك والخاصة بالتعويض عن التأخير في سداد مستحقات البنك. كما يجب الالتزام باتخاذ الإجراءات القانونية المختلفة قبل العميل بالتنفيذ على الضمانات التي بحوزته - بعد استيفاء كافة الوسائل في إمكان الوصول إلى تسوية ودية - وحتى في حالة السير في الإجراءات القانونية فهذا لا يمنع من الاستمرار في الاتصالات مع العملاء لمحاولة الحصول على مستحقات البنك.
وغني عن البيان أن التعويض عن التأخير في سداد مستحقات البنك في مواعيدها هو تعويض عما أصاب البنك من ضرر فعلي بسبب ما أدى إليه التأخير في السداد من تعطيل دورة تقليب المال، وهي دورة الحياة في نشاط التجارة بمفهومه الواسع الذي يستهدف تحقيق الربح من منظور إسلامي كما سبقت الإشارة إليه.
وينص عقد البيع بالمرابحة في بنك فيصل الإسلامي المصري في البند الرابع عشر على أن " القاعدة الشرعية وهي أساس المعاملات تقرر أنه لا ضرر ولا ضرار وذلك على النحو الذي انتهت إليه هيئات الرقابة الشرعية الثلاث في مؤتمرها الثلاثي لدار المال الإسلامي، وبنك فيصل الإسلامي المصري وبنك فيصل الإسلامي السوداني، لذلك فقد اتفق الطرفان على أنه في حالة تأخير الطرف الثاني- المشتري – عن سداد أي قسط عن موعد استحقاقه فإنه يحق للبنك بلا أي منازعة تعويضا عما أصابه من ضرر فعلي بسبب التأخير، وتحتسب قيمة هذا الضرر على أساس متوسط نسبة إجمالي أرباح البنك المحققة عن ذات الفترة، فضلا عن أية تعويضات أخرى فعلية، وأن أي منازعة في استحقاق التعويض أو قيمته تعرض على هيئة الرقابة الشرعية لحسمها نهائيا ورأيها فيه باتا".(5/1003)
القسم الثالث
مشكلات وقضايا، وآفاق جديدة في عقد المرابحة وحلول مقترحة:
3-1- قياس التكلفة في عقد المرابحة بين مبدأ التحميل الشامل، ومبدأ التحميل الجزئي الذي نادى به فقه المالكية (1)
3-1-1- الرأي الأول: مبدأ التحميل الشامل في بيع المرابحة:
يرى جمهور الفقهاء – عدا المالكية – قياس التكلفة التي يحتسب عليها نسبة الربح أو يضاف إليها مبلغ الربح، وصولا إلى تحديد ثمن بيع السلعة بأسلوب بيع المرابحة على أساس مبدأ التحميل الشامل للسلعة بنصيبها من كل عناصر التكاليف- أي التكلفة الكلية – ويعبر الفقهاء عن ذلك بقولهم " بل يجعل على السلعة كل ما نابه عليها" وهذا هو المعمول به في بنوك فيصل الإسلامية أي أنه بلغة العصر يضاف إلى تكلفة الشراء جميع بنود وعناصر التكاليف الصناعية والتسويقية والإدارية وصولا إلى تحديد التكلفة الكلية.
3-1-2- الرأي الثاني: مبدأ التحميل الجزئي في بيع المرابحة في الفقه الإسلامي عند المالكية:
ويحدثنا ابن رشد الحفيد المتوفي سنة 495هـ – 1176م (2) فيقول: " بيع المرابحة هو أن يذكر البائع الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط فيه ربحا، وحاصل مذهب مالك فيما يعد في الثمن- أي الكلفة – مما لا يعد أن ما ينوب البائع على السلعة زائدا على الثمن من الكلف والمؤن – أي من عناصر وبنود التكاليف ينقسم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما يعد في أصل الثمن ويكون له حظ من الربح:
أو بلغة العصر " تكلفة الشراء أو تكلفة الإنتاج " أي التكلفة الصناعية التي يعبر عنها ابن رشد الحفيد بقوله: " ما كان مؤثرا في عين السلعة وله عين قائمة مثل الخياطة، والفتل، والصبغ، فإنه بمنزلة الثمن الأول ويحسب له ربح ".
القسم الثاني: ما يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح:
ويعبر عنه ابن رشد الحفيد بقوله " وهو ما لا يؤثر في عين السلعة مما لا يمكن للبائع أن يتولاه بنفسه، وتحمل المباع من بلد إلى بلد، وكراء البيوت- أي المخازن – التي توضع فيها، فإنه يحسب في أصل الثمن – أي التكلفة – ولا يحسب له ربح "
وعلى هذا فإنه على المذهب المالكي لا يحتسب ربح وصولا لتحديد ثمن البيع بالمرابحة على تكاليف التسويق، وتكاليف الإدارة وإن كانت تدخل ضمن عناصر التكلفة. وفي ذلك يقول ابن عابدين: لأنها ليست هي الغرض الأساسي.
القسم الثالث: ما لا يعد في أصل الثمن – أي التكلفة – ولا يكون له حظ من الربح:
ويعبر عنه ابن رشد الحفيد بقوله " وهو ما لا تأثير له في عين السلعة مما يمكن أن يتولاه التاجر صاحب السلعة بنفسه كالسمسرة والطي والشد، وكل ما يتولاه بنفسه مما يختص بالمتاع – أي بالسلعة – لا يحسب في التكلفة "
أي أنه بلغة العصر لا تتضمن بنود التكلفة أي مقابل لعمل صاحب المنشأة في منشأته، وبالتالي فإن الفكر الإسلامي المحاسبي يرى عدم احتساب أي نفقات أو بنود افتراضية ضمن عناصر التكاليف.
__________
(1) د. شوقي إسماعيل – "نظرية المحاسبة المالية من منظور إسلامي" – 1407هـ – 1987م الزهراء للإعلام العربي – القاهرة – "البنوك الإسلامية" – 1397هـ – 1977م. دار الشروق – جدة.
(2) "بداية المجتهد ونهاية المقصد"(5/1004)
مثال: التحميل الشامل، والتحميل الجزئي وتحديد ثمن البيع بالمرابحة من منظور إسلامي.
الرأي الأول (التحميل الشامل) الرأي الثاني (التحميل الجزئي)
وهكذا نادى فقه المالكية منذ أربعة عشر قرنًا بالأخذ بمبدأ التحميل الجزئي وصولًا لتحديد ثمن البيع بالمرابحة، ويشهد عالمنا المعاصر جدلًا وحوارًا بين محاسبي التكاليف حول الأخذ بمبدأ التحميل الشامل أو بمبدأ التحميل الجزئي وإلى أي مدى، ويسوق كل فريق من الحجج والمزايا والانتقادات للرأي الآخر ما يبرر به رأيه.
ونعرض على بساط البحث والمناقشة في هذه الندوة رأي المالكية الذي ينادي بمبدأ التحميل الجزئي كأسلوب آخر يشكل إثراءً ومرونة ويفتح آفاقًا جديدة لتحديد ثمن البيع بالمرابحة في إطار العلاقة بين التكاليف والأسعار.
3-2- التوازن في هيكل الودائع ونوعيتها، واستثمار وتوظيف مصادر الأموال الداخلية والخارجية في الأصول التمويلية، والأصول الإيرادية، والأصول الرأسمالية،، ودور المرابحات التجارية والإنتاجية وفعاليتها في المرحلة الحالية وصعوبات المرحلة الحالية:
تلفت المؤشرات التي قدمناها في القسم الأول من البحث عن مصادر الأموال واستخداماتها وأهمية أسلوب المرابحات التجارية والإنتاجية وفعاليتها في المرحلة الحالية إلى أنه يتعين العمل على تحريك مؤشرات مصادر الأموال ونوعيتها والاستثمار والتوظيف. والعائد على خمسة أبعاد رئيسة هي:
1- تعديل هيكل الودائع ونوعيتها وتحقيق التوازن بين الحسابات الجارية وحسابات الاستثمار والمحافظة على السيولة النقدية المناسبة دون زيادة أو نقص.(5/1005)
2- المخاطرة المحسوبة بنوعيها في إطار تخطيط التسويق – من مخاطر النشاط والأعمال، والمخاطر النقدية وتغير مستويات أسعار الصرف للعملات الأجنبية.
3- تقليب ودوران رأس المال العامل ومدى دوراته أو بلغة العصر التوظيف قصير أو متوسط أو طويل الأجل.
4- التوازن النسبي في العائد بين المساهمين، وأصحاب الودائع والمستثمرين،
5- الخطة القومية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية للفرد والمجتمع.
وأن تعمل البنوك الإسلامية على التغلب على الصعوبات التي تواجهها من حيث ضيق سوق المال وصعوبة انتقال رؤوس الأموال، وتنويع وترويج الصكوك الإسلامية، وتهيئة مناخ الاستثمار والتوظيف في أسواق العقود الآجلة للسلع والأصول بما يكفل معالجة أنواع البيوع بثمن مؤجل ومن أهمها عقد المرابحة في المرحلة الحالية كما رأينا، وتخطيط الربحية والتسويق وفقًا لظروف العرض والطلب في أسواق العقود وحوالة الأسواق مع عدم استخدام سعر الفائدة لتحديد الثمن الآجل، وبعبارة أخرى إقامة سوق إسلامية للعقود الآجلة للسلع والأصول المختلفة.
ومن جهة أخرى على البنوك الإسلامية أن تعمل جاهدة على إقناع البنوك المركزية أو بعضها بألا تطبق عليها ما تطبقه على البنوك الربوية من ذات المعايير، وسقوف الائتمان، ونسبة الاحتياطي النقدي من الودائع بالعملة المحلية التي تودع لديها، ومن تقييد نشاطاتها بقيود مختلفة ومتعددة في مجالات الاستثمار والتجارة والتوظيف بما لا يتفق مع طبيعتها وأساليبها التي تختلف اختلافًا جذريًا عن البنوك الربوية.
ومن ذلك ألا يزيد إجمال التوظيف عن 65 % من مجموع الودائع بالعملة المحلية، وألا يزيد نشاط قطاع التجارة من مشاركات ومضاربات ومرابحات وغيرها عن 1 % شهريًا – أي 12 % سنويًا – من رصيد يونيو 1984م وأن يمتنع عليها المتاجرة في العقارات وألا تتملكها لغير استخدامات البنك.(5/1006)
كما أنه في مجال الاستثمار وتأسيس الشركات المساهمة أو المساهمة في الشركات القائمة والتوسعات والإحلال والتجديد لا يطبق على البنك الإسلامي ما يطبق على البنوك الربوية من عدم تجاوز إجمالي مساهمات البنك في الشركات لإجمالي رأس مال البنك واحتياطاته، كما لا يسهم البنك في رأس مال أي شركة إلا في حدود 25 % من رأسمالها وتشترط موافقة مسبقة من وزير الاقتصاد لتجاوزها.
والبنوك الإسلامية إذا ترحب كل الترحيب برقابة البنوك المركزية بل وتتمسك بها إلا أنها تناشد البنوك المركزية أو بعضها أن يتمشى مع ما تضعه من معايير، وضوابط، وسقوف للائتمان في مجال التجارة أو قيود في مجال الاستثمار على مساهماتها في الشركات المساهمة مع طبيعة وأساليب التوظيف وصبغة العمل المصرفي الإسلامي بعيدًا عن سعر الفائدة الربوية، أو البيوع الفاسدة، وأهدافه في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وذلك في إطار ما توضحه وتؤكده المؤشرات التي أوردناها.
3-3- البنوك الإسلامية ومشكلات تغير أسعار صرف العملات الأجنبية:
وفي ظل المتغيرات الاقتصادية وهي كثيرة ودائمة الحركة تتغير أسعار صرف العملات الأجنبية تغيرات هامة ومستمرة بعيدة الأثر ولا تخفى أهميتها في البنوك الإسلامية التي تجمع بين كونها بنوك تجارية وبنوك استثمارية تتكامل وظائفها في شتى مجالات النشاطات المالية، والنقدية، والتجارية، والاستثمارية، والخدمية في مختلف القطاعات من صناعة، وتجارة، وزراعة، وإسكان إلى غير ذلك ومن خلال تمويل وائتمان قصير ومتوسط وطويل الأجل.
ومن ثم ينعكس أثر تغيرات أسعار الصرف للعملات الأجنبية لا على أرصدة الأصول والخصوم النقدية المدينة والدائنة بالعملات الأجنبية في القوائم المالية فحسب، بل تتعدى آثاره كأحد المعوقات والصعوبات لمسيرة المشروعات الإنتاجية والاستثمارية في مراحلها المختلفة سواء في دراسات الجدوى الاقتصادية، والتشييد، والتشغيل، والتمويل، والنمو والتوسعات، وتكوين مخصصات الأهلاك للأصول الثابتة على أساس القيمة الاستبدالية للمحافظة على رأس المال الاقتصادي الحقيقي والطاقة الإنتاجية وليس على أساس التكلفة التاريخية.
لذلك ناديت أكثر من مرة بضرورة تكوين احتياطي لمخاطر تقلبات أسعار الصرف على الأقل للأصول والخصوم النقدية بالعملات الأجنبية، ودعمه، ومتابعته حتى يكون كافيًا لمقابلة تلك المخاطر عميقة وبعيدة الأثر مع ضرورة إظهاره كمفردة مستقلة بذاتها ضمن احتياطيات البنك الإسلامي.
كما ناديت دعمًا للتعاون والتكامل بين البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية وشركاتها الإسلامية في مسيرة حركة التمويل والصحوة الإسلامية المباركة المبادرة إلى تكوين صندوق مشترك لمخاطر تغيرات أسعار الصرف للعملات الأجنبية تسهم فيه البنوك والمؤسسات المالية والشركات الإسلامية وحبذا لو تبنى هذا الاقتراح البنك الإسلامي للتنمية بجدة.(5/1007)
3-4- "محاسبة البنوك" التقليدية والحاجة لتطويرها من منظور إسلامي:
تأثرت البنوك الإسلامية في مرحلة نشأتها بنظام "محاسبة البنوك" التقليدية المعمول به في البنوك الربوية الأمر الذي قد آن الأوان لتعديله وتطويره بما يلائم متغيرات العمل المصرفي الإسلامي.
وفي إطار النظرة إلى علم المحاسبة في طوره الحالي كنظام للمعلومات فإن مدخلات ومخرجات النظام المحاسبي في البنوك الربوية لا تمثل في رأيي المدخلات والمخرجات الملائمة والكافية والشاملة للبنوك الإسلامية ويتعين إعداد حسابات للتشغيل، والإنتاج، والمتاجرة بالإضافة إلى القوائم المالية بما يكفل معالجة الحجوم، وأرقام الأعمال، والنتائج على مستوى النشاطات والقطاعات مبوبة ومجزأة وقياسها محاسبيًا وليس إحصائيًا ولا يتم ذلك إلا بممارسة محاسبة التكاليف، والمحاسبة الإدارية.
ولا تخفى الأهمية البالغة في مجال المرابحات وخصوصًا بثمن مؤجل للتخطيط النقدي، وتخطيط التسويق، وقياس التكلفة، وتحديد الأسعار، وتخطيط الربحية. فضلًا عن قياس التعويض الذي لحق بالبنك من عدم الوفاء بمستحقاته في مواعيدها المحددة على أساس الضرر الفعلي من منظور إسلامي.
والله الموفق والمستعان.
25 من رجب 1407هـ
25 من مارس 1987م
د. شوقي إسماعيل شحاتة(5/1008)
المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية
(مؤسسة آل البيت)
ندوة عن:
"خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية:
الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات".
بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب/ البنك الإسلامي للتنمية / جدة.
عمان
22 شوال – 25 شوال 1407هـ
18 /6 – 21/ 6/ 1987م
بحث السيد إيريك ترول شولتز
عن
دراسة تطبيقية: تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك
دراسة تطبيقية
تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك
أريك ترول شولتز
دائرة العلوم الإدارية – جامعة أودنسي
مقدمة إلى ندوة خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية:
الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات:
المنعقدة في عمان من 18 – 20 حزيران
1987 والمعدة من قبل المجمع الملكي
لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) بالتعاون مع مركز
البحوث والتدريب الإسلامي وبنك التنمية الإسلامي – جدة-
المملكة العربية السعودية.
شيء من تجربة البنك الإسلامي في الدنمارك:
تعتبر عملية إقامة بنك إسلامي في الدنمارك، خطة وتنظيمًا وتطبيقًا، تحديًا صعبًا ومعقدًا في نفس الوقت، وذلك لوجود تباين واسع في الأوضاع القانونية بين الدنمارك والأقطار الإسلامية.
وقد بَنَيْتُ ورقة الدراسات التطبيقية على التجارب التي تجمعت لدي خلال ما يقرب من أربع سنوات عملت إبانها مشرفًا على إنشاء بنك دنماركي جديد يتعامل حسب الشريعة الإسلامية وبموجب قانون البنوك الدنماركي في وقت واحد.(5/1009)
لمحة تاريخية، مع شيء عن وضع المؤسسة:
في خريف 1982 منحت مراقبة البنوك الدنماركية رخصة بنك تجاري للشركة القابضة المسماة جهاز البنوك الإسلامية في لكسمبرج (سميت فيما بعد بيت المال الإسلامي) تُخَوِّلها هذه الرخصة أن تنشئ بنكًا تجاريًّا باسم " البنك الإسلامي الدولي – الدنمارك".
وقد أوضحت مراقبة البنوك عند منح الرخصة أن على البنك الإسلامي الدولي أن يعمل ضمن قانون البنوك الدنماركي شأنه في ذلك شأن أي بنك تجاري آخر إذ لا يوجد امتياز أو استثناء لأي بنك دنماركي بالنسبة لقانون البنوك أو أي قانون دنماركي آخر.
ولما كانت الشركة القابضة في لكسمبرج هي المساهم الوحيد فقد تقدمت بطلبات ترخيص بنوك في جميع الدول الكبرى في أوروبا، ولكن التصريحات لم تمنح بمجرد تقديم الطلبات فاضطرت الشركة القابضة أن تتقدم بطلب جديد تحدد فيه طلبها بأن تعمل كبنك تجاري مع إذن خاص من البنك المركزي بأن تكون وكيلًا له في العمليات الأجنبية، فقانون البنوك خاص بنوع واحد من البنوك العامة: فالبنوك التجارية وحدها هي التي يسمح لها بتجسير المسافة بين الفائض والعجز في طرفي الاقتصاد، والبنوك وحدها هي المسموح لها بطلب الودائع وقبولها من الجمهور، وتدخل بنوك التوفير تحت سلطة قانون البنوك الدنماركي. وهناك بعض المؤسسات المالية غير البنكية التي تتعامل بالموجودات والمطلوبات دون أن يكون لها حق في قبول الودائع.
يتشدد قانون البنوك الدنماركي في تحديد نشاطات البنوك والتأكيد على بقاء قدرتها على الوفاء أعلى من غيرها في الـ OECD أي منظمة التعاون والإنماء الاقتصادي، بحيث لا تقل عن 8 % من مجموع الديون والكفالات معا. كذلك يخضع استثمار الأموال ونسبة السيولة لأنظمة صارمة.
تعتبر مراقبة البنوك بصفتها هيئة حكومية هي السلطة المشرفة التي تراقب البنوك ضمن قانون البنوك. أما البنك المركزي الذي يتمتع بشبه استقلال تام عن الحكومة، فيما يتعلق بأمور السيولة، فهو الذي ينظم السياسة المالية المفروضة، فتكون له المراقبة على البنك في مسائل العملة الأجنبية.
وقد باشر البنك الإسلامي الدولي أعماله في 18 نيسان سنة 1983 بإدارة عامة وفرع للجمهور في وسط كوبنهاجن، وانحصر التوظيف في الدنمركيين، وقد بدأ تدريبهم على أنظمة التعامل الإسلامية بصورة مكثفة قبل افتتاح البنك للجمهور بشهرين، وكان يدربهم مسؤولون من الشركة القابضة، ولم تتوقف عملية التوعية في الاقتصاد الإسلامي حتى الآن.
أما أصعب العمليات وهي إدخال العقود والإجراءات المطلوبة في هذا البنك الدنماركي الجديد، فقد تم التغلب عليها بالتعاون بين الشركة القابضة التي قدمت علماء الشريعة وبين الاقتصاديين والمصرفيين الدنمركيين.
ولا ننسى أن هذا كان بنكًا دنماركيًا جديدًا بأهداف جديدة اعتبرها كثير من المراقبين الغربيين بأنها ذات أهداف متضاربة، لأن كل معاملات البنك يجب أن تتمشى مع الشريعة الإسلامية بكل دقة وتحت إشراف المستشار الشرعي المعين لذلك، وكذلك تحت مراقبة فاحص الحسابات الشرعي الداخلي، وفي الوقت نفسه يتعين على البنك أن يطبق قانون البنوك الدنماركي أي أن يكون تحت إشراف السلطات الدنماركية شأنه في ذلك شأن أي بنك دنماركي آخر.(5/1010)
وكما يظهر في تقرير البنك السنوي لسنة 1985، فإن التجربة العملية للبنك الإسلامي الدنماركي في ضوء هدفه المزدوج قد أثبت أن أي بنك دنماركي يمكنه أن يتعامل بموجب الشريعة الإسلامية.. والبنك الإسلامي الدولي الدنماركي عضو مقبول لدى السلطات الدنماركية، وفي الوقت نفسه يهيئ هذا البنك الدولي المال الحلال كما وصفه فاحص الحسابات الشرعي.
وقد قسمت تعبئة الأموال وإنفاقها في الوجوه التالية:
التعبئة:
الحسابات الجارية
حسابات التوفير أو الحسابات المربوطة لأجل
حسابات الاستثمار (ودائع معينة)
الإنفاق:
المضاربة
المشاركة
المرابحة
الإجارة
خطابات الاعتمادات (المرابحة)
تم خلال صيف 1986، إجراء خمسة وعشرين عقدًا من عقود التعبئة والإنفاق الشرعية وتم اعتمادها من المستشار الشرعي الدكتور عبد الستار أبو غدة.
وإليكم لمحة عن مدى تطبيق عقود المرابحة كما وصفها المستشار الشرعي في تقارير فحص الحسابات لسنتي 1984 و 1985.(5/1011)
جاء في تقرير 1984:
"تمت دراسة كثير من المشكلات والنتائج من أجل تطوير وسائل الائتمان الشرعية المتفقة تمامًا مع القوانين الدنماركية والغربية ومع الشريعة الإسلامية، وقد تمكنت الشريعة الإسلامية من إيجاد حلول لكل المشاكل التي واجهها بَنْكُنَا الجديد والتي كانت تحديًا رئيسًا له ضمن الوسط القانوني الدنماركي – من خلال تطوير العمل البنكي نوعًا وتطبيقًا حسب الشريعة الإسلامية مما يمكن البنك الإسلامي الدولي من تزويد البنوك الإسلامية في أقطارها أو الأفراد بالخدمات البنكية الصحيحة.
فرضت هذه الظروف – أي العمل في وسط غير إسلامي- على البنك الإسلامي الدولي أن يقبل في بادئ الأمر بعض عمليات غير حلال في انتظار تيسير البدائل المناسبة، ولم تكن هذه النشاطات غير العادية مما يتفق مع اسم البنك الإسلامي الدولي أو سياساته المرسومة أي التعامل حسب الشريعة الإسلامية عند تقديم تلك الخدمات البنكية، مما يدل على أن البنك الإسلامي الدولي خضع لمبدأ الحاجة.
وقد تم التغلب على العمليات – غير الحلال التي كان البنك الإسلامي بحاجة لها تمشيًا مع قانون البنوك الدنماركي في بادئ الأمر، عندما تم تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية والعمليات الحلال لدى هذا البنك.
أما العمليات الحلال الكثيرة فقد غطت 82 % من استثمارات البنك حتى نهاية سنة 1984. أي أن العلميات الحلال كادت تستهلك كل الودائع الإسلامية في البنك، أما عائدات هذه العمليات الحلال فكانت تقيد في حساب منفصل في سجلات البنك.
شَكَّلَ دَخْلُ هذه العمليات سنة 1984 ما نسبته 54 % من الإيرادات العامة، بينما شكلت العمليات غير الحلال نسبة 46 % تم تمويلها من حصة الأسهم التي تم إفرادها منذ البدء لتيسير الخطوات اللازمة لتثبيت موقف البنك في الدنمارك"
جاء في تقرير 1985
"قام البنك الإسلامي الدولي خلال سنة 1985 بتطوير عملياته البنكية وزادها بحيث أصبحت تغطي 87 % من الأموال المتاحة للاستثمار و 98 % من مجموع المطلوبات، أما دخل العمليات الحلال فقد ارتفع إلى 78 % من مجموع الدخل العام، وقد جاء هذا التحسن بشكل خاص نتيجة لموافقة البنك المركزي على اعتبار القبولات البنكية الناجمة عن عقود المرابحة الآجلة جزءًا من احتياطي السيولة النقدية، مما مكن البنك الإسلامي الدولي من استعادة المبالغ التي كانت تستعمل في العمليات غير الحلال بموجب التعليمات البنكية القائمة.
وجدير بالذكر أن البنك الإسلامي الدولي قد أشنأ جهازًا داخليًا لمراقبة الحسابات بموافقة تامة من السلطات البنكية ضمن قانون البنوك الدنماركي، وتم إقرار هذا الجهاز من قبل مجلس الإدارة الذي يتلقى مراقب الحسابات تعليماته منه. وقد سهل ذلك التأكد من تطبيق مبادئ الشريعة على الحالات الفردية مما سهل في خلق تفهم للصعوبات العملية التي تواجه البنك في جهوده المتواصلة من أجل تحسين النظام المصرفي الشرعي وتطويره.
وتبين لنا من فحص حسابات سنة 1985 أن القسم الأكبر من عمليات البنك الإسلامي الدولي، قامت في أساسها على أسس شرعية وصلت الآن إلى عشرين نوعًا من حيث العدد.(5/1012)
وسائل الائتمان الرئيسة في استثمارات البنك الإسلامي الدولي:
كان الأسلوب المتعارف عليه عالميًا في التعامل بالمرابحة المؤجلة (ادفع واحمل) هو الدافع الرئيسي لاستثمار الأموال. وهذا الأسلوب كان يستعمل في أسواق لندن وعلى نطاق أضيق في نيويورك. ولم يكن لهذا النوع من التعامل مرونة ملحوظة، أما الوسيلة الرئيسة الثانية والتي كانت تتم بالنقد الدنماركي فهي الإجارة.
وكانت الوسيلة الثالثة وهي تمويل الصادرات والواردات الدنماركية بالمرابحة المؤجلة المتمثلة في البائع والشاري دونما حاجة إلى حق الرجوع على المحول.
أم الجهات التي تم الاستثمار فيها في الدنمارك فكانت في الواردات والصادرات يليها الإنشاءات ضمن خطة الإسكان الدنماركي، ثم تجهيز لوازم الصناعة.
الصعوبات القائمة:
يظهر في جانب الموجودات لدى البنك الإسلامي الدولي أن الاستثمار في التجارة الدولية هو الأهم ونتيجة لتعليمات دنماركية تنظيمية معينة، صارت هذه العقود المؤجلة للمرابحة إلى قبولات بنكية. وتجاوبًا من طلبات إسلامية أدخل نظام تعامل حلال جديد وذلك بتنظيم سفتجة (كمبيالة) تربط مع بوليصة الشحن القائمة، وبعد أن يباشر البنك الإسلامي الدولي تلك الصفقة يتم وضع ختم تظهير القبول على الكمبيالة، وبذا تصبح عملية استثمار البنك الإسلامي الدولي قبولًا قانونيًّا، وكل هذه العمليات كانت تبرم من خلال سوق لندن، وهذه القبولات تكون في العادة "عمليات كبيرة" لا تترك للبنك الإسلامي الدولي شيئًا من المرونة يتحرك ضمنها.
استطاع البنك الإسلامي الدولي فيما بعد أن يطور وسيلة مرنة جدًّا للاستثمار الحلال مستفيدًا من عمليات التصدير الدنماركية الواسعة عن طريق خطابات الاعتمادات، فقد طور البنك وسيلة لتعامل قصير الأجل وفي مدة لا تتجاوز 24 ساعة، وكان لا بد من تنظيم عمليات استثمار معينة صالحة لأي فترة من الوقت، أو للتعامل بأية عملة قابلة للتحويل لدى البنك الإسلامي الدولي وتمت الموافقة على ذلك من قبل المستشار الشرعي للبنك، مثل هذه الاستثمارات في المرابحة تجعل أي بنك إسلامي عديم السيولة لفترة مؤقتة، لأن سيولة هذه العقود لا تتم إلا بين الفريقين البائع والمشتري في آن واحد، حين تنتقل ملكية البضاعة إلى المشتري الأخير الذي يقوم البنك بتمويله.
على أن ملكية المنفعة في حالة الإجارة تبقى للبنك الذي يجد الحرية في إدارة موجوداته ومطلوباته بشكل يؤمن السلامة البنكية وسنبحث ذلك فيما بعد.(5/1013)
العميلات الحلال المبنية على الاعتمادات المستندية للصادرات:
يصلح هذا النموذج من العلميات الحلال لكل أنواع الاعتمادات المستندية، وبعبارة أخرى فهو مستقل عن الاعتماد المستندي المعروف: القابل للنقض وغير القابل للنقض، أو المعزز وغير المعزز، أو المدفوع أو القابل للتظهير، أو بالاطلاع والمؤجل الدفع.
وأهم شرط لجعل العملية (حلال) ضمن الاعتماد المستندي هو أن يكون مستند التمليك للآمر أي أن تكون بوليصة الشحن للآمر.
وعندما يقدم البائع مستنداته للبنك فاتح الاعتماد يجب أن يكون من بينها سند تمليك.
أما الإجراءات فتكون كالتالي: قبل أن يسير البنك فاتح الاعتماد المستندي في إتمام التصرف بالمستندات العائدة للاعتماد والتي يكون من بينها اعتماد مستندي بالاطلاع يسهل تحويل الدفع إلى البائع يقوم البنك الإسلامي بشراء صفقة حلال هي شراء سند التملك الخاص بالاعتماد المستندي بسعر إضافي زائد عن السعر النقدي. وتتم هذه الصفقة الحلال بين البنك الإسلامي والبائع لأن البنك فاتح الاعتماد هو وكيل البائع الذي يتسلم من البنك فاتح الاعتماد الدفعات التي يعطيها له البنك الإسلامي الذي يصبح تبعًا لذلك، المالك الجديد لسند التمليك. ومن خلال هذا السند يمكن تحديد البضاعة وتعيين أي شروط حلال أخرى واجبة التنفيذ مثل نوع البضاعة والجهة الصادرة إليها.
بعد ذلك، وبصفته صاحب سند التمليك، يستطيع البنك الإسلامي تنفيذ صفقة بيع حلال وهي بيع سند التمليك إلى البنك فاتح الاعتماد بسعر يتفق عليه يشمل الزيادة الناتجة عن عملية البيع الأخيرة لسند التمليك.
يتم هذا النموذج من الصفقات بين ثلاثة أطراف مميزة: البنك الإسلامي الذي ينفذ عملية شراء نقدية للبضاعة المفصلة من وكيل البائع وهو البنك فاتح الاعتماد كطرف ثان ثم يقوم البنك فاتح الاعتماد منفردا وعلى مسؤوليته بشراء سند التمليك من البنك الإسلامي ويكون البنك فاتح الاعتماد في هذه الحالة الأخيرة هو الطرف الثالث.
أمكن الوصول بالتعاون بين البنوك إلى السوق اليومية الكبيرة لسندات التمليك (بوالص الشحن) العائدة للصادرات الدنماركية، وهذا يَسَّرَ للبنك الإسلامي حرية ومرونة من حيث السيولة النقدية ومن حيث الوقت بكلفة تجعل العائدات أقل من سعر السوق التقليدي بما لا يزيد على جزء من الواحد بالمائة.(5/1014)
هذا النوع الجديد من الاعتمادات المستندية هيأ المرونة الكافية لبناء محفظة الاستثمارات، ولكن بكلفة جعلت عائدات أي بنك إسلامي أقل من توقعات المودعين المبنية على أسعار السوق التي توجد في النظام البنكي التقليدي.
هذه السيولة المتجددة لا تتجاوز الفترة التي استعادت فيها محفظة الاستثمارات أنفاسها، إذ أن الوضع الذي طرأ كان عبارة عن إعداد سجل يحتوي على عينات من الاستحقاقات المحددة سابقًا تعطي البنك مواعيد محددة سلفًا ومخطط لها لاستقبال السيولة الواردة. وحسب مبادئ الشريعة فإنه لا يمكن تعويم أي من هذه العمليات قبل موعد استحقاقها ولهذا السبب نشأ وضع بالغ الخطورة بالنسبة للبنك الذي يعمل وسيطًا بين المودعين والمستثمرين، وبالتالي فإن البنك يصبح فاقدًا للسيولة وعليه أن يعتمد على تدفق أموال معروفة وثابتة، اللهم إلا إذا تيسرت له عمليات سوق حلال موازية.
ولا بد أن تكون هذه السوق الموازية كبيرة ومركزية لمسائل حلال أهمها (السندات المالية) مختلفة الاستحقاقات، حتى يتمكن البنك من تأمين بيع مستمر يوفر أموالًا وتسعيرات يومية توفر السيولة للبنك الإسلامي في أي وقت. وهذا يزيد في أرباح البنك، ويعدل مستوى عائدات الودائع لتصبح في مستوى الأسواق التقليدية للودائع، ومما يزيد الأمر سوءًا أن أي بنك إسلامي وهو يتدبر أمر موجوداته ومطلوباته في ظل نقص السيولة لا يستثمر الأموال السائلة العفوية المتيسرة بين حين وآخر، أما بالنسبة للبنك الإسلامي في الدنمارك فإن الأموال المعدة للاستثمار لا تطرح إلا عندما تتهيأ الفرص السليمة الشرعية وتكون العملية جاهزة للتمويل، بينما تجد بنوك الدنماركية المنافسة الأموال التي تنتج الربح متيسرة أو تستطيع تأمينها حالًّا عندما تبرم أي اتفاق مع مستثمر أو رجل أعمال.
لذلك لا يظهر أي وضع تنافسي للبنك الإسلامي لأنه وهو يستعمل أمواله الخاصة لا يسمح له شرعيًّا بالتعامل بالديون على الإطلاق. لذلك تسبب العجز عن توفير الأموال الصالحة للاستثمار في خلق دخل متوقع يكون أدنى من دخل البنوك التقليدية.
أخيرًا وقبل أن نتطلع إلى التوقعات المستقبلية لا بد أن نشير إلى أن أنظمة الضريبة ومبادئ المحاسبة والحسابات في الغرب تحد من نشاط أي بنك إسلامي ومن فاعليته إذا قرر العمل في وسط رسمي غربي.
يوجد في الدنمارك والأقطار الأوروبية الأخرى ضريبة القيمة المضافة (VAT) عدا ضريبة الدخل العالي والضرائب الأخرى وهذه الضريبة (VAT) لا تفرض على الفوائد المدفوعة، مما يعطي البنوك الأخرى ميزة على أي بنك إسلامي حيث تفرض هذه الضريبة (VAT) على أي إضافة أو زيادة في عمليات المرابحة، كما يجب أن يراعى أن الربح هو الفائض بعد الضرائب في حين أن الفوائد عامل كلفة يعفي من الضريبة أو ينقصها.(5/1015)
تطلعات مستقبلية:
تأسس البنك الإسلامي ليثبت أن النشاطات البنكية المبنية على الشريعة الإسلامية قادرة على الصمود في أشد الأوساط الدنماركية (الغربية) محققة الفوائد لعملائها وللبنك نفسه.
كتبت فعلًا في سنة 1984 عدة رسائل لأصدقاء جدد في الأوساط المالية الإسلامية لأثير اهتمامه للمشاركة في حل بعض التحديات الرئيسة التي تواجه بنكًا يعمل بموجب مبادئ الشريعة.
"إذا أرادت أية مؤسسة إسلامية أن تتحول إلى بنك –وأعتقد أن المكان ليس مهمًا- فإن على تلك المؤسسة أن تسلم بالمبادئ التي تحول أية مؤسسة إلى بنك. ومن بين هذه المبادئ اثنان على الأقل هما:
1- القدرة على قبول الودائع لأجل يتراوح بين ودائع "تحت الطلب" واضحة الشروط من حيث المدة مثلًا من 3 – 12 شهرًا ودائع غير محددة الشروط مثل الودائع المحددة للاستثمار.
2- القدرة على تحويل استحقاقات الودائع المقبوضة إلى موجودات أطول أجلًا - ومن خلال هذه العملية تنتج ربحًا يتقاسمه البنك والمودع.
تحويل الاستحقاقات:
يواجه هذين المبدأين أي بنك بالشكل التالي: كيف تحول حسابات توفير سائلة إلى استثمارات منتجة للربح ذات استحقاقات أبعد – علمًا بأنك بنك- وفي نفس الوقت تحافظ على السيولة وتتقاسم الأرباح مع المودعين الوافدين إلى البنك بمدخراتهم؟
وأقتبس من رسالة أخرى سنة 1984:
"المطلوب قيام مركز مالي مجهز، باستطاعته تحويل الاستثمارات الإسلامية إلى بنك إسلامي.
إن الهدف الرامي إلى تحويل الصفقات والإجراءات إلى الشكل الإسلامي في أي بنك يسمي نفسه "إسلاميًّا" يتطلب أن يقبل المستشارون الشرعيون في البنوك الإسلامية أن تقوم تلك البنوك بتحويل الاستحقاقات العائدة لبنود الموجودات لتصلح للمتاجرة السليمة في سوق موازية تنشأ لهذا الغرض.
تعتبر أي مؤسسة تسمي نفسها بنكًا مؤسسة تقبل الودائع وتطلبها لذلك فإن عليها أن تكون قادرة على تحويل الاستحقاقات بكفاءة فعلى البنك أن يلبي متطلبات محافظ الموفرين والمودعين، فالمودعون يفضلون أن تكون الوديعة قصيرة الأجل في حين يبحث المستثمرون عن تمويل متوسط الأجل أو حتى طويل الأجل. لذا كانت مهمة البنك أن يحول قبول الودائع قصيرة الأجل إلى استثمارات أطول أجلًا. ولا تزال الوسائل والإجراءات اللازمة لتمكين أي بنك إسلامي من تنفيذ تحويلات الاستحقاق المطلوبة غير متوفرة حتى الآن، وما دامت هذه الوسائل والإجراءات غير موجودة في البنوك الإسلامية، فإن عملها سيبقى محصورًا في كونها مؤسسات استثمارية معتمدة على أن تكون البنوك التقليدية أداة لها"(5/1016)
العمليات الحلال في السوق الموازية – تناول عملي:
تم خلال 1985 انتشار عدد من سندات الإجارة، شهادات إيداع مبنية على الإجارة، قابلة للتداول، مع اقتراح فتح سوق موازية (مساعدة أو جانبية) للتعامل بهذه الشهادات، وفيما يلي بعض المقتطفات:
يمكن أن يتم في البنوك الإسلامية قبول الودائع الحرة وتحويل استحقاقات الموجودات باستعمال شهادات إيداع صالحة بكل وضوح لمنح حق تملك الأشياء المؤجرة للمستأجر من قبل البنك المصدر للشهادات والذي يعتبر مؤجرًا.
وإذا تم إيجاد أوراق تداول حرة تصدر في فئات صغيرة مثل 100 دولار أو دنانير إسلامية، فإنه لا يبقى علينا لإجراء تحويلات الاستحقاقات سوى تأمين سوق جانبية لشهادات الإيداع الحلال، يكون في هذه السوق عميل محرك واحد على الأقل لإتمام تبادل العرض والطلب من خلال عملية التسعير.
لو فرضنا أن البنك الإسلامي الكبير (س) اشترى مجموعة من محطات الوقود فأصبح مالكًا لها. ثم قام البنك (س) بتأجيرها إلى أصحاب الاختصاص مقابل دفع الإجارة حسب عقود خاصة. هنا يستطيع البنك في ضوء عقود الشراء وعقود الإجارة أن يصدر شهادات إيداع بالدولار مثلًا تكون قيمتها مساوية للقيمة المدفوعة في شراء هذه المحطات، وتحمل شهادات الدولار هذه على كل منها، ما يشير إلى حق تملك المأجور أي محطات الوقود.
ولما كانت هذه الشهادات قد صدرت قابلة للتداول فإن البنك (س) سيعمل على عرضها للبيع في سوق جانبية يقيمها في موقعه، وتكون هذه التسهيلات "فوق الحاجز" متاحة لكل العالم عن طريق رويتر أو غيرها من وكالات الاتصال الدولية ويكون البنك (س) في هذه الحالة هو محرك السوق بصلاحية مزدوجة للتسعير شراء وبيعًا (أخذًا وإعطاءً) .
ثم تعمل ترتيبات تأجير لمدة خمس سنوات أو عشر سنوات مع المستأجرين (ص) وتكون العقود حاوية لطريقة الدفع الشهري أو الربع سنوي لكل شهادة قيمتها الاسمية 1000 دولار مثلًا: عندها يتمكن البنك (س) من تحديد السعر المناسب للشهادات ذات الألف دولار، كما تبين هذه الشهادات قيمة العائدة المتوقعة والمبنية على الإجارة المذكورة في عقود الإجارة الأصلية.
ومن خلال هذه السوق يستطيع أصحاب الأموال النائمة شراء شهادات من الموجود في السوق وغيرها، ويستطيع أصحاب الشهادات عرضها للبيع إن كانوا بحاجة إلى النقد، ويتحكم حجم العرض والطلب على هذه الشهادات التي تحمل عائدًا متوقعًا في كل وقت، يتحكم في تحديد السعر الآني لهذه الشهادات بالنسبة لمتغيرات السوق.(5/1017)
أما الفروقات التي تحدث في العمليات المتبادلة بين يوم وآخر فهي التي تمثل الخسارة أو الربح بالنسبة للأموال التي استثمرت خلال هذين اليومين.
يمكن اقتباس طريقة لخلق سوق نشيطة تعطي تسعيرًا أفضل للشهادات الحلال من أسواق العالم التي يتنافس فيها عملاء تلك الأسواق في المزايدة لخلق الأسعار والسيولة للمستثمرين في الأسهم والسندات.
الخاتمة:
إذا أردنا أن نرسي قواعد نظام مصرفي إسلامي مبني على أساس تقاسم حقوق التملك أو حيازة الموجودات الحقيقية فإن علينا مراعاة الأولويات المقترحة التالية:
- توفير سندات حلال قابلة للتداول (شهادات إيداع وشهادات استثمار) صالحة للتملك المباشر. وتكون صالحة للتحويل مع أية أرباح متحققة.
- إيجاد سوق مركزية (فيها بيانات رسمية عن حجم التجارة والأسعار مع تسهيلات تسديد ومخالصة) للسندات الحلال، يعمل في هذه السوق وسطاء منافسون يؤكدون وجودهم في مواقعهم غير الثابتة ويعملون بوساطة الاتصالات الإلكترونية.
- إيجاد مرونة في التصرف باستحقاقات الموجودات والمطلوبات لدى المؤسسات الوسيطة (البنوك) عن طريق استثمار جزء من موجوداتهم في سندات حلال قابلة للتداول.(5/1018)
الجوانب القانونية لتطبيق عقد المرابحة
الدكتور
إسماعيل عبد الرحيم شلبي
كلية الحقوق – جامعة الزقازيق
دراسة مقدمة لندوة
استراتيجية الاستثمار في البنوك الإسلامية
الجوانب التطبيقية والقضايا والمشكلات
التي ستعقد خلال الفترة من 18 – 21/ 6/ 1987م
بسم الله الرحمن الرحيم
الجوانب القانونية لتطبيق عقد المرابحة
"مقدمة" (1)
من بين مجالات استثمار الأموال في البنوك الإسلامية يظهر نشاط البيوع، وقد شرع الله تعالى إلى جانب بيع المساومة وبيع المزايدة والاستئمان بيوعًا أخرى تقوم على الثقة بين المتبايعين والتي يطلق عليها الفقهاء "بيوع الأمانة" وهذه البيوع لها ثلاثة صور:
1- بيع التولية: وهو أن يتم عقد البيع بنفس سعر الشراء أو التكلفة دون زيادة أو نقص.
2- بيع الوضيعة: وفيه يتم عقد البيع بنقص معلوم عن سعر الشراء أو التكلفة.
3- بيع المرابحة: وفي يتم عقد البيع بالتكلفة مضافًا إليها زيادة نسبة معلومة محددة أو مبلغ مقطوع. أو يتم البيع بالنقد أو بالأجل.
فبيع المرابحة مبني على صدق البائع في الإفصاح عن ثمن السلعة ومقدار ربحه فيها، ولهذا اعتبرها الفقهاء من بيوع الأمانة. فالمشتري الأول قام بعملية الشراء الأولى، وهي منفصلة عن بيعها لغيره. كما أنها تمت بعقد شرعي كامل ومنفصل عن قعد بيعه لها.
كما أن بيع المرابحة بيع حاضر حيث إن البائع مالك للسلعة المباعة ومن ثم يستطيع التصرف فيها بالبيع للغير وإلا اعتبر بيع ما لا يملك. وهو بيع محرم شرعًا.
__________
(1) انظر تفصيلات ذلك في المراجع التالية: - د. يوسف القرضاوي – بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية – دار العلم – الكويت – 1984. - د. عبد الحميد البعلي – فقه المرابحة في التطبيق الاقتصادي المعاصر – السلام العالمية للطبع والنشر بالقاهرة. - د. الصديق الضرير – أشكال وأساليب الاستثمار في الفكر الإسلامي. - د. محمود الناغي - إطار المحاسبة في عقود المرابحة الإسلامية لأجل – مجلة الدراسات التجارية الإسلامية – جامعة الأزهر – العدد الثاني – 1984. - الموسوعة العلمية للبنوك الإسلامية – الجزء الشرعي.(5/1019)
وقد درجت البنوك الإسلامية على اتخاذ صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء كأسلوب من الأساليب الشرعية للتمويل، وتتلخص هذه العملية في أن يتقدم العميل للبنك طالبًا منه شراء سلعة معينة بالمواصفات التي يحددها على أساس الوعد منه بشرائها مرابحة وبالنسبة التي يتفق عليها. وبدفع الثمن مقسطًا حسب إمكانياته.
وهذه العملية مركبة من وعد بالشراء ووعد بالبيع وبيع بالمرابحة، فهي ليست من قبيل بيع الإنسان ما ليس عنده لأن البنك لا يعرض أن يبيع شيئًا، ولكنه يتلقى أمرًا بالشراء، وهو لا يبيع حتى يملك ما هو مطلوب ويعرضه على المشتري الآمر ليرى ما إذا كان مطابقًا للمواصفات التي طلبها أم لا. كما أن هذه العملية لا تنطوي على ربح ما لم يضمن لأن البنك قد اشترى هذه السلعة فأصبح مالكًا يتحمل تبعة الهلاك.
وقد ثار الكثير من الجدل عن الوعد بالشراء من جانب المشتري الآمر بالشراء والواعد بالبيع من جانب البنك هل هو وعد ملزم أم لا؟
ونود أن نشير إلى أن هذه الدراسة تتضمن ثلاثة فصول:
الفصل الأول:
ونشير فيه إلى الصعوبات القانونية التي تعترض تطبيق عقد المرابحة وهذا الفصل يتضمن ثلاثة مباحث وهي:
المبحث الأول: عن الوعد بالشراء أو بالبيع ملزم أم لا.
المبحث الثاني: عن الملابسات القانونية لعقود المرابحة في إطار الممارسات العملية بين العميل والبنك.
المبحث الثالث: عن المشاكل القانونية التي تتضمنها القوانين المصرفية.
الفصل الثاني:
ونلقي فيه الضوء على حق الضمان وموقف البنوك الإسلامية منه وهذا الفصل يتضمن أربعة مباحث:
المبحث الأول: عن الضمان في اللغة وعند الفقهاء وفي القرآن الكريم.
المبحث الثاني: عن أقسام الضمان.
المبحث الثالث: عن الضمان في البيع وفي عقد المرابحة.
المبحث الرابع: عن العربون
الفصل الثالث:
ونشير فيه إلى التعويض.(5/1020)
وهذا الفصل يتضمن أربعة مباحث:
المبحث الأول: التعويض في الشريعة الإسلامية.
المبحث الثاني: التعويض في القانون المدني
المبحث الثالث: تقدير التعويض والوقت الذي يجب فيه.
المبحث الرابع: ما يجري عليه العمل في البنوك الإسلامية.
الفصل الأول
"الصعوبات القانونية التي تعترض تطبيق عقد المرابحة"
هناك بعض الصعوبات القانونية التي تعترض تطبيق عقد المرابحة في البنوك الإسلامية وسوف نشير فيما يلي إلى أهم هذه الصعوبات.
المبحث الأول: الوعد بالشراء أو بالبيع، ملزم أم لا؟
بيع المرابحة للآمر بالشراء إحدى صيغ التمويل الحديثة والتي ظهرت وطبقت بصورة متطورة لبيع المرابحة حيث لم تكن مطبقة إلى وقت قريب (1) ولهذا فقد ثار الجدل حول ما إذا كان الوعد بالشراء أو البيع ملزمًا أم لا؟
وكما سبق أن أشرنا فإنها ليست أكثر من مواعدة على البيع لأجل معلوم بثمن محدد هو ثمن الشراء مضافًا إليه ربح معلوم تزيد نسبته أو مقداره عادة كلما طال الأجل ولكنه ثمن معلوم من أول الأمر.
ولقد أثار البعض عدة اعتراضات حولها حيث يرون أن هذه المعاملة ليست بيعًا ولا شراء وإنما هي حيلة لأخذ الربا، وأن أحدًا من الفقهاء لم يقل بحلها، وأنها من بيوع " العينة " وهي محرمة، وأنها بيعتان في بيعة وذلك منهي عنه، وأنها تدخل في بيع ما لا يملك وهو ممنوع، وأن فيها إلزامًا بالوعد وهو إيجاب لما لم يوجبه الله تعالى وتقييد لما أطلقه. (2)
__________
(1) د. سامي حسن حمود: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية - رسالة 1976 – ص 480، 481
(2) انظر تفصيلات ذلك والرد على هذه الاعتراضات – د. يوسف القرضاوي: فقه المرابحة – مرجع سابق – ص 37 وما بعدها. د. عبد الحميد البعلي – فقه المرابحة – مرجع سابق.(5/1021)
ولقد أجاب أكثر من فقيه وعالم وهيئات شرعية على هذه الادعاءات وفندوها، بل اتخذت المؤتمرات العلمية عدة قرارات بشأنها، وأوضحت هذه الردود عدم صحة الاعتراضات الموجهة إليها، ومن هذه الردود نشير بإيجاز إلى بعضها فيما يلي:
بخصوص اعتبار هذه الصورة من قبيل الربا، فإن من ينظر إلى بيع الأجل أو التقسيط لا يجد فيه شيئًا من الربا وشبهته لأن الزيادة في بيع الأجل والتقسيط ليست خالية من عوض، بل هي في مقابلة العين المبيعة، وكما أن هذا البيع يفترق عن الربا بأنه إذا حل الأجل ولم يؤد الثمن فإنه لا زيادة عليه ولا مؤاخذة إن كان معسرًا بل يمهل حتى يوسر لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 281] وإن تأخر بغير عذر فهو ظالم يستحق العقوبة كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: مطل الغني ظلم)) . (1)
وحديث: ((: لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)) (2) وعلى ذلك يستطيع البنك الإسلامي أن يحصل على التعويض عن الضرر الفعلي الذي لحقه وذلك استنادًا إلى حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) . (3)
وقد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت ((: اشترى رسول الله من يهودي طعامًا نسيئة ورهنه درعًا له من حديد)) .
أما بخصوص اعتبار هذا البيع يدخل في النهي عن بيعتين في بيعة، فإن بيع الأجل بثمن أكبر من ثمن النقد أو الحال لا يدخل مطلقًا ضمن حديث بيعتين في بيعة؛ حيث إن البيع عقد والعقد يتم بالإيجاب والقبول أو ما يقوم مقامهما.
وهذا معنى قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وأن هذا البيع لم يتم إلا بعقد واحد وبيع واحد، أما ثمن النقد أو ثمن الأجل وهو بذلك يخرج عن نطاق النهي عن بيعتين في بيعة.
__________
(1) رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة، كما رواه أحمد والترمذي عن ابن عمر كما في فتح القدير – جـ 5 – ص 523
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحكم والبيهقي من حديث عمرو بن الشريد، عن أبيه، وعلقه البخاري
(3) رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس.(5/1022)
أما عن القول بأنها عبارة عن بيع الشخص ما ليس عنده فإنه من المعروف أن البنك لا يعرض أن يبيع شيئًا ولكنه يتلقى أمرًا بالشراء، ولا يبيع البنك حتى يملك ما هو مطلوب ويعرضه على الآمر بالشراء ليرى ما إذا كان مطابقًا للمواصفات.
أما الآراء الأخرى والتي ترى أن الوعد ملزم فإنها تستند في ذلك إلى أن الوفاء بالوعد واجب ديانة؛ وذلك استنادًا إلى الآيات القرآنية. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) } [الصف:2،3] ، ومن هذه الآية نجد عبارة " كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ " تعطي الدلالة إلى أنه كبيرة وليس مجرد حرام. (1)
وفي آية أخرى يقول الله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] ، ومن هذه الآية الكريمة يتضح لنا ذم الله المنافقين، وأن نفاقهم كان سبب إخلافهم وعدهم مع الله.
وقياسًا على ذلك إخلاف الوعد مع الناس، حيث لا فرق في أصل الحرمة بين الأمرين، كما أن نكث العهد محرم سواء كان مع الله أم مع الناس. (2)
وفي آية أخرى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وعندما أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل قال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] .
وفي الأحاديث النبوية الكثير من هذه الدلالات الواضحة ففي الحديث الصحيح المتفق عليه من رواية أبي هريرة. قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) . (3)
وفي حديث عبد الله بن عمر وهو حديث صحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) . (4)
كذلك ما روي عن بعض الفقهاء من المسلمين عن إلزام الوعد، ومنهم ما روي عن ابن شبرمة فيما نقله عن ابن حزم حيث قال: " الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد ويجبر" (5)
كذلك بالإضافة إلى الكثير من الآراء لجماعة من السلف في وجوب الوفاء بالوعد. (6)
__________
(1) د. يوسف القرضاوي: بيع المرابحة للآمر بالشراء – مرجع سابق- ص 91
(2) د. يوسف القرضاوي: بيع المرابحة للآمر بالشراء.
(3) رواه البخاري في كتاب الإيمان – باب علامة المنافق
(4) رواه مسلم والبخاري
(5) المحلى – جـ 8- مسألة 1125
(6) انظر تفصيلات ذلك في كتاب: د. يوسف القرضاوي – بيع المرابحة للآمر بالشراء - مرجع سابق، ص 94 وما بعدها، وهو يستند في ذلك إلى الإمام البخاري في صحيحه.(5/1023)
هذا وإذا ما رجعنا إلى مؤتمرات المصارف الإسلامية وكذا لرأي البنوك الإسلامية القائمة على التطبيق الفعلي نجد موقفها كالآتي:
مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي:
وفي مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي جاءت توصيته على النحو التالي:
يرى المؤتمر أن هذا التعامل يتضمن وعدًا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدًا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقًا لذات الشروط.
إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقًا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقًا لأحكام المذاهب الأخرى، وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه. (1)
ولكن هناك من يرى أن هذه التوصية قد جانبها الصواب من حيث إن العميل الواعد ملزم بالشراء على المذاهب الأربعة، ويرى أصحاب هذا الرأي أن الإمام الشافعي في " الأم " يرى أن الواعد بالشراء ليس ملزمًا وإنما مخير في ذلك. (2)
وهناك من يرى أن توصية المؤتمر المذكور فيها من الإجمال ما لا يؤخذ به على طلاقه إذ لا خلاف أن الوعد مستحب، ولكنهم اختلفوا في وجوب الوفاء بالوعد. فالجمهور يرى أن الوفاء بالوعد غير واجب خلافًا للحنفية، والمشهور الراجح عند المالكية وابن شبرمة وابن العربي.
وقد جاء في كتاب الأم للشافعي ما يؤيد رأي جمهور الفقهاء فيما يتعلق بالوعد من أن طالب الشراء ليس ملزمًا بالشراء وإنما هو بالخيار في ذلك. (3)
مؤتمر المصرف الإسلامي بالكويت:
وفي مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني الذي عقد بالكويت في مارس 1983 قرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة، وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق هو أمر جائز شرعًا طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي.
وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزمًا للآمر أو المصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل. وأن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعًا، وكل مصرف مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه. (4)
__________
(1) مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي - 1398هـ/ 1979م- ص 14
(2) موسوعة البنوك الإسلامية – الجزء الخامس، ص 332
(3) د. عبد الحميد البعلي: فقه المرابحة – مرجع سابق- ص 81
(4) مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت – في جمادى الآخرة 1403هـ – مارس 1983م.(5/1024)
بنك فيصل الإسلامي السوداني:
جرى العمل في بنك فيصل الإسلامي السوداني على أن الوعد ملزم للبنك وغير ملزم للآمر بالشراء، فهو بالخيار عندما يعرض عليه البنك السلعة فإن شاء اشتراها وإن شاء تركها، أما البنك فهو ملزم ببيع السلعة للآمر بالشراء إذا رغب فيها. ويبرر البنك موقفه بأن ذلك أولى وأبعد عن الشبهة؛ لأن اعتبار الوعد ملزمًا للطرفين والعميل بالشراء، والبنك بالبيع – يجعل هذه المعاملة في حقيقتها عقد بيع مرابحة قبل ملك البنك للسلعة. ولا يغير من هذه الحقيقة كون البنك والعميل ينشئان عقد بيع من جديد بعد وصول السلعة ما دام كل واحد منهما ملزمًا بإنشائه على الصورة التي تم بها الوعد. (1)
بيت التمويل الكويتي:
أصدر فضيلة مستشار بيت التمويل الكويتي فتوى جاء بها: "ما صدر من طالب الشراء يعتبر وعدًا، ونظرًا لأن الأئمة اختلفوا في هذا الوعد أهو ملزم أم لا، فإني أميل إلى الأخذ برأي ابن شبرمة رضي الله عنه الذي يقول: إن كل وعد بالتزام لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا يكون وعدًا ملزمًا قضاء وديانة. وهذا ما تشهد له ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية. والأخذ بهذا المذهب أيسر على الناس، والعمل به يضبط المعاملات؛ ولهذا ليس هناك مانع من تنفيذ مثل هذا الشرط ". (2)
ندوة البركة بالمدينة المنورة:
جاء في الفتاوى الصادرة عن ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي والتي عقدت بالمدينة المنورة أن المؤتمر يقرر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الوعد السابق هو أمر جائز شرعًا، طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد في ما يستوجب الرد.
وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزمًا للآمر أو للمصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل. وأن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعًا. وكل مصرف مخير في الأخذ بما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه. (3)
__________
(1) د. الصديق الضرير: أشكال وأساليب الاستثمار في الفكر الإسلامي، مرجع سابق ص 24، 25. هذا وقد وجد الدكتور الضرير في أقوال المتقدمين من الفقهاء صورة التعامل شبيهة.
(2) انظر فتاوى بيت التمويل الكويتي.
(3) مجلة البنوك الإسلامية – العدد 35 إبريل 1984 – ص 68(5/1025)
الوعد بين الشريعة والقوانين المدنية الوضعية:
أشرنا فيما سبق إلى الاتجاه الشرعي لمدى الإلزام بالوعد، ثم ألقينا الضوء على مؤتمرات المصارف الإسلامية، ثم وضحنا ما يسير عليه العمل في البنوك الإسلامية، ولا يتبقى لدينا سوى أن نعرف موقف القوانين المدنية الوضعية من مدى الإلزام بالوعد؛ ولهذا سوف نشير فيما يلي إلى الوعد في القانون المدني الأردني , وكذا في القانون المدني المصرفي وبعض القوانين العربية الأخرى لنرى موقف هذه القوانين من الوعد وهل هو ملزم أو غير ملزم.
أ- القانون المدني الأردني:
ينص القانون المدني الأردني في المادة 106 منه على أن الوعد الصادر من الآمر بالشراء ملزمًا. كما تنص المادة 105 على أن الاتفاق الذي يتعهد بموجبه كل من المتعاقدين أو أحدهما بإبرام عقد معين في المستقبل لا ينعقد إلا إذا عينت جميع المسائل الجوهرية للعقد المراد إبرامه. (1)
ومن نص المادة 106 نلاحظ أن القانون الأردني قد قرر صراحة أن الوعد ملزم للآمر بالشراء، وهذه أول حالة نجدها في القوانين الوضعية تنص صراحة وبوضوح؛ وذلك يرجع إلى أن القانون المدني الأردني حديث وقد استطاع المشرعون أن يلموا بجميع المعاملات الإسلامية الجديدة، والتي ظهرت وبرزت بعد انتشار البنوك الإسلامية ومنها عقد المرابحة للآمر بالشراء ومدى الإلزام بالوعد.
ب- القانون المدني المصري:
يرى القانون المدني المصري أن الوعد بالتعاقد – من أي من الجانبين- عقد كامل لا مجرد إيجاب ولكنه عقد تمهيدي لا عقد نهائي. (2)
فالوعد بالتعاقد وسط بين مجرد الإيجاب والتعاقد النهائي. فالواعد بالبيع مثلًا قد التزم بأن يبيع الشيء الموعود ببيعه إذا أبدى الطرف الآخر رغبته في الشراء، وهذا أكثر من إيجاب؛ لأنه اقترن به القبول فهو عقد كامل. ولكن كلا من الإيجاب والقبول لم ينصب إلا على مجرد الوعد بالبيع؛ ولذلك يكون الوعد بالتعاقد مرحلة دون التعاقد النهائي.
وتنص الفقرة الأولى من المادة 101 من القانون المدني المصري (وكذلك المادة 102 /2 من القانون المدني السوري والمادة 101/ 2 من القانون المدني الليبي، والمادة 91 /2 من القانون المدني العراقي) على أن: " الاتفاق الذي يعد بموجبه كلا المتعاقدين أو أحدهما بإبرام عقد معين في المستقبل لا ينعقد إلا إذا عينت جميع المسائل الجوهرية للعقد المراد إبرامه والمدة التي يجب إبرامه فيها " (3) ذلك أن الوعد بالتعاقد خطوة نحو التعاقد النهائي، فوجب أن يكون الطريق مهيأ لإبرام العقد النهائي بمجرد ظهور رغبة الموعود له. ولما كان الوعد هو خطوة نحو العقد النهائي كما سبق القول فإن شروط هذا العقد من حيث الانعقاد والصحة تكون بوجه عام مطلوبة في عقد الوعد ذاته. (4)
__________
(1) الفتاوى الشرعية للبنك الإسلامي الأردني – الجزء الأول، 1984، ص 48
(2) د. السنهوري – الوجيز- مرجع سابق، ص 85
(3) د. السنهوري – الوجيز- مرجع سابق، ص 86
(4) كالأهلية وعيوب الإرادة ومشروعية المحل والسبب انظر د. السنهوري – الوجيز - ص 87(5/1026)
وإذا انعقد الوعد صحيحًا فإن الأثر الذي يترتب عليه يجب أن نميز فيه بين مرحلتين يفصل بينهما ظهور رغبة الموعود له في التعاقد النهائي.
ففي المرحلة الأولى التي تسبق ظهور الرغبة لا يكسب الوعد الموعود له إلا حقوقًا شخصية حتى لو كان التعاقد النهائي من شأنه أن ينقل حقًّا عينيًّا كما في البيع. فإذا كان العقد الموعود بإبرامه عقد بيع فإن الموعود له بالبيع لا يكسب إلا حقًّا شخصيًّا في ذمة الواعد، ولا ينتقل إليه ملكية الشيء الموعود ببيعه. فيبقى الواعد مالكًا للشيء وله أن يتصرف فيه إلى وقت التعاقد النهائي ويسري تصرفه في حق الموعود له. فإذا باع العين فليس للموعود له إلا الرجوع بتعويض على الواعد. (1) وإذا هلك الشيء بسبب أجنبي تحمل الواعد تبعة هلاكه لا لأنه لم يسلمه إلى المتعاقد الآخر فحسب كما في العقد النهائي، بل أيضًا لأنه لا يزال المالك. (2)
وتحل المرحلة الثانية بظهور رغبة الموعود له في إبرام العقد الموعود به في خلال المدة المتفق عليها، فإذا لم تظهر هذه الرغبة قبل انقضاء المدة، سقط الوعد بالتعاقد (3) أما إذا ظهرت صراحة، (4) أو ضمنًا كأن تصرف الموعود له في الشيء الموعود ببيعه إياه فإن التعاقد النهائي يتم بمجرد ظهور هذه الرغبة، ولا حاجة لرضاء جديد من الواعد، (5) ويعتبر التعاقد النهائي قد تم من وقت ظهور الرغبة، لا من وقت الوعد.
وإذا اقتضى إبرام العقد النهائي تدخلًا شخصيًّا من الواعد، كما إذا كان العقد بيعًا واقعًا على عقار ولزم التصديق على إمضاء البائع تمهيدًا للتسجيل فامتنع البائع عن ذلك جاز استصدار حكم ضده، وقام الحكم متى حاز قوة الأمر المقضي مقام عقد البيع. فإذا سجل نقلت ملكية العقار إلى المشتري، وهذه الأحكام نص عليها التقنين المدني صراحة في المادة 102 مدني. (وكذلك المادة 103 من القانون المدني السوري، والمادة 102 من القانون المدني الليبي) . إذ تقول: "إذا وعد شخص بإبرام عقد ثم نكل وقاضاه المتعاقد الآخر طالبًا تنفيذ الوعد، وكانت الشروط اللازمة لتمام العقد وبخاصة ما يتعلق منها بالشكل متوافرة، قام الحكم متى حاز قوة الأمر المقضي به مقام العقد.
__________
(1) فإذا كانت العين عقارًا وجب تسجيل البيع، حتى يسري في حق الموعود له عند إظهار رغبته في الشراء، انظر الوجيز، ص 88
(2) حكم محكمة النقض – مدني 13 يناير 1938م مجموعة نمرة 2 رقم 84 ص 240
(3) قضت محكمة النقض بأن الوعد بالبيع يسقط من تلقاء نفسه بلا إنذار ولا تنبيه إذا انفض الأجل دون أن يظهر الموعود له رغبته في الشراء. ذلك أن الموعود له لم يلتزم بشيء بل كان له الخيار إن شاء قبل إيجاب الواعد ودفع الثمن خلال الأجل المتفق عليه، وإن شاء تحلل من الاتفاق دون أية مسئولية عليه. (نقض مدني 6 مايو 1954م مجموعة أحكام النقض 5 رقم 124، ص 834) .
(4) وذهاب الموعود له قبل نهاية الأجل إلى محل إقامة الواعد ومقابلة ابنه وإبداء رغبته له في الشراء واستعداده لدفع الثمن، يعتبر قرينة على علم الواعد بالقبول، ويقع على عاتقه عبء نفي هذه القرينة، (نقض مدني 6 مايو 1954م مجموعة أحكام النقض 6 رقم 124 ص 834 وهو الحكم السابق الإشارة إليه)
(5) نقض مدني 14 مايو سنة 1942م مجموعة نمرة 3 رقم 154 ص 430(5/1027)
مما سبق يتضح لنا أن هناك عدة آراء حول الإلزام بالوعد. فالبعض يرى أن الوعد ملزم والبعض الآخر لا يرى ذلك، وآخرون يرون أن الوفاء بالوعد ملزم ديانة وآخرون يرونه – الوفاء بالوعد - ملزم قضاء، هذا من وجهة نظر الفقهاء الشرعيين.
أما من وجهة نظر القوانين المدنية الوضعية فنجد أن القانون المدني الأردني قد نص صراحة في المادة 106 منه بأن الوعد الصادر من الآمر بالشراء ملزم، وينفرد هذا القانون بهذا النص الصريح نظرًا لحداثة هذا القانون، ومن ثم استطاع أن يدرج فيه نصًّا صريحًا لهذه الواقعة الحديثة أيضًا وهي بيع المرابحة للآمر بالشراء ومدى التزام الآمر بالشراء بالوعد.
أما القانون المدني المصري ويشاركه أيضًا القانون السوري والقانون الليبي والقانون العراقي – فقد نص على أن الوعد بالتعاقد عبارة عن عقد كامل لا مجرد إيجاب، ولكنه عقد تمهيدي لا عقد نهائي، فهو خطوة نحو التعاقد النهائي، فواجب أن يكون الطريق مهيأ لإبرام العقد النهائي بمجرد ظهور رغبة الموعود له، فإذا كان العقد الموعود بإبرامه عقد بيع فإن الموعود له بالبيع لا يكسب إلا حقًّا شخصيًّا في ذمة الواعد، ولا تنتقل إليه ملكية الشيء الموعود ببيعه.
وإذا هلك الشيء المبيع تحمل الواعد تبعة هلاكه لا لأنه لم يسلمه إلى المتعاقد الآخر (المشتري) فحسب كما في العقد النهائي بل أيضًا؛ لأنه لا يزال المالك.
ومن روح نص القانون المدني المصري – وكذا القوانين العربية سالفة الذكر- نجد أن الوعد بالتعاقد عقد كامل لا مجرد إيجاب وهو خطوة نحو التعاقد النهائي، ومن ثم ففيه شيء من الإلزام للواعد. حيث إنه في حالة نكوله عن تنفيذ الوعد يحق للطرف الآخر مقاضاته طالبًا التنفيذ، ومتى كانت الشروط اللازمة لتمام العقد متوافرة قام الحكم متى حاز قوة الأمر المقضي به مقام العقد، ومن ثم لا حاجة لإبرام العقد النهائي؛ لأن الحكم قام مقامه.
أما بالنسبة للبنوك الإسلامية فنجد أن العميل يسير في معظمها على أن الوعد بالشراء ملزم للواعد، وذلك عدا القليل منها حيث يرون أن الوعد بالشراء غير ملزم للمشتري، وأن له الخيار، مع إلزام البنك بالوعد.
ونحن نختار الرأي الذي يرى أن الوفاء بالوعد ملزم لكل من البنك والمشتري الآمر بالشراء من حيث إنه ملزم قضاء طبقًا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقًا لأحكام المذاهب الأخرى (1) وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه. ذلك هو الصالح العام لكلا الطرفين وكذا لاستقرار المعاملات والمحافظة على المؤسسات المالية الإسلامية.
__________
(1) يشير البعض إلى أن الإمام الشافعي في كتاب الأم يرى أن الواعد بالشراء ليس ملزمًا وإنما مخير في ذلك. انظر الموسوعة العلمية للبنوك الإسلامية – الجزء الخامس- ص 332(5/1028)
المبحث الثاني: الملابسات القانونية لعقد المرابحة في إطار الممارسات العملية بين العميل والبنك:
يقوم كل بنك إسلامي بطبع نماذج خاصة بطلبات الشراء والوعد بالشراء وعقد البيع بالمرابحة، وقد لاحظنا على هذه النماذج ما يلي: (1)
أ- الضوابط القانونية لتشكيل هيئة التحكيم:
أسندت بعض البنوك الإسلامية للقضاء – الوطني بدولها الاختصاص في فض المنازعات بين البنك وعملائه. (2) بينما نجد أن البعض الآخر منها قد أسند ذلك إلى محكمين ملتزمين بالشريعة الإسلامية يتم اختيارهم على الوجه التالي:
1- حكم يختاره الطرف الأول.
2- حكم يختاره الطرف الثاني.
3- حكم مرجح يختاره الطرفان.
وإذا لم يقم الطرف الثاني باختيار الحَكَم المرجح أو اختلفا في اختياره اختارت هيئة الرقابة الشرعية بالبنك الحَكَم المرجح، ويتم الفصل في النزاع وفقًا للقوانين والأعراف التجارية السائدة في الدولة وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، ويكون حُكْمهم نهائيًّا وملزما للطرفين. (3)
ويلاحظ أن تشكيل هيئة المُحَكِّمِين قد اختلفت في بعض البنوك عن بعضها الآخر؛ ففي أحد هذه البنوك تبين أن تشكيل هيئة المُحَكِّمِين من ثلاثة يختار كل طرف مُحَكِّمًا عنه ويكون رئيس الهيئة شخصًا معينًا حدد بالاسم مسبقًا بمعرفة البنك، ونص في عقد البيع على أنه إذا لم يقم أي من الطرفين باختيار مُحَكِّمِهِ خلال خمسةَ عشرَ يومًا من إخطاره بذلك من الطرف الآخر يتولى رئيس الهيئة (السابق تحديده بالاسم) التحكيم وحده، كما نص على أن هيئة المحكمين تفصل في النزاع بحكم نهائي. (4)
وإذا ما رجعنا لقانون المرافعات المصري نجد أن المادة 412 منه تنص على أنه يترتب على الاتفاق على التحكيم – أيًّا كانت صورته - أثران هامان:
أثر إيجابي هو الحق في الالتجاء إلى التحكيم، وأثر سلبي هو منع قضاء الدولة من نظر المنازعة محل التحكيم على أنه إذا حكم ببطلان الاتفاق على التحكيم عاد لطرفيه الحق في الالتجاء إلى قضاء الدولة.
ويمكن الطعن في حكم المُحَكِّمِين بالبطلان طبقًا لنص المادة 512 من قانون المرافعات وذلك في حالات محددة نصت عليها تلك المادة، وهي:
1- إذا كان قد صدر حكم المُحَكِّمِين دون وجود شرط تحكيم أو استند إلى وثيقة باطلة أو شرط باطل أو صدر في غير حدود النزاع الذي اتفق على التحكيم بشأنه.
2- إذا صدر من مُحَكِّمِين لم يتفق عليهم الخصوم.
3- إذا كان حكم المُحَكِّمِين غير مسبب أو لم يوقع عليه، أو وجود بطلان في الإجراءات أثر في الحكم.
مما سبق يتضح لنا مدى السلطة القانونية والحصانة القضائية التي تنوط بنظام التحكيم. ولهذا فقد جرى العرف والعمل على أن تشكل هيئة التحكيم من ثلاثة مُحَكِّمِين على الأقل، يتم اختيار أحدهم بمعرفة الطرف الأول والثاني بمعرفة الطرف الثاني. أما المحكم المرجح فيختار بمعرفة الطرفين، وفي حالة اختلافهما أو تقاعس الطرف الثاني على اختياره، تقوم هيئة الرقابة الشرعية باختياره.
__________
(1) هذه الملاحظات تتعلق بنماذج أربعة بنوك فقط وهي التي استطعت الحصول عليها، وهي بنك فيصل الإسلامي المصري، المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية، بيت التمويل الكويتي، بنك قطر الإسلامي.
(2) بيت التمويل الكويتي، بنك قطر الإسلامي
(3) بنك فيصل الإسلامي المصري – بند 10 من الوعد بالشراء
(4) المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية، الفقرة سادسًا من عقد الوعد بالشراء، والفقرة سابعًا من عقد البيع بالمرابحة(5/1029)
كل هذه الإجراءات من أجل كفالة الحياد التام لهيئة التحكيم؛ نظرًا لأن حكمها نهائي وملزم للطرفين ولا يستطيع أي من الطرفين – طبقًا لنص القانون المدني المصري- اللجوء للقضاء إلا في إطار ظروف وأسباب محددة- نصت عليها المادة 512- يصعب تحقيقها.
أما أن يحدد الحكم المرجح بالاسم مسبقًا من قبل البنك ويرأس هيئة التحكيم، ويحكم في النزاع بمفرده في حالة عدم قيام أي من الطرفين باختيار مُحَكِّمِهِ خلال خمسة عشر يومًا من إخطاره بذلك فهذا يخالف العرف وما جرى عليه العمل بشأن التحكيم.
ب- الموقف القانوني لناقل البضاعة:
ورد بأحد نماذج الوعد بالشراء بأن الناقل للبضاعة يعتبر بصفته وكيلًا عامًّا للشحن – وكيلًا لطرفي العقد باستلام البضاعة من وقت تحميلها على ظهر الباخرة من قبل المصدر في ميناء الشحن وحتى ميناء الوصول. (1)
ونحن نرى أن هذا النص قد جعل من ناقل البضاعة بصفته وكيلا عاما للشحن وكيلا للبائع، فهذا صحيح، حيث إنه مكلف من قبله بالقيام بعملية الشحن أما أن نجعله أيضًا وكيلا عن المشتري باستلام البضاعة فهذا غير صحيح قانونًا؛ نظرًا لأن البضاعة حتى تلك اللحظة لم تدخل في ملكية المشتري فعلًا أو مستنديًّا حيث إنها ما زالت في الخارج، كما أنها لم تدخل بعد في حوزة البنك فعليًّا. وإنه طبقًا لقواعد عقد البيع بالمرابحة للآمر بالشراء فإن عقد البيع بالمرابحة للآمر بالشراء يشترط فيه تملك البنك للسلعة المباعة، وهذا التملك إما بدخولها لمخازنه أو حصوله على مستندات الشحن الخاصة بها وهذا غير متوفر. وحتى لو توفرت شروط الملكية للبنك فإنه إذا حدثت أي تلفيات أو هلاك للبضاعة فإن البنك يتحمل هذه الخسارة كلية ولا يتحمل الآمر بالشراء شيئًا منها، فكيف يكون الناقل للبضاعة وكيلا له باستلامها وهو – أي الآمر بالشراء - لم يتملكها بعد.
جـ- الوضع القانوني لرهن البضاعة المباعة ضمانًا لحق الطرف الأول:
ورد بأحد عقود البيع بالمرابحة التزام الطرف الثاني بأن البضاعة ملكه موضوع هذا العقد مرهونة رهنًا تأمينيًّا لصالح الطرف الأول حتى استيفائه لكامل الثمن المتفق عليه وله عليها حق امتياز البائع. (2)
ونود أن نشير هنا إلى أن الرهن من التأمينات العينية الخاصة التي يقدمها المدين للدائن ضمانًا للدَّين. والرهن ينقسم لنوعين: رهن حيازي، ورهن رسمي.
والرهن الحيازي يقتضي نقل حيازة المال المرهون من يد المدين "الراهن" إلى يد الدائن "المرتهن" ويكون للدائن أن يحبسه حتى يستوفيَ حقه. وهو يرد على العقار والمنقول.
أما الرهن الرسمي فإنه يرتب للدائن حقًّا عينيًّا على المال المرهون دون أن تنتقل حيازة هذا المال إلى يد الدائن بل تبقى حيازته في يد المدين الراهن وهو لا يرد إلا على العقار دون المنقول، فهو الذي يمكن رهنه رهنًا رسميًّا.
والرهن بنوعيه يعتبر من الحقوق العينية التبعية، بمعنى أن الرهن الذي يقوم ضمانًا للقرض يتبع القرض من حيث وجوده وعدمه ومن حيث صحته وبطلانه، وينقضي الرهن حتمًا بانقضاء الدَّين، كما أن الرهن بنوعيه يخول للدائن مزيتي التقدم والتتبع، فمزية التقدم تخول للدائن اقتضاء حقه من المال المرهون متقدمًا على سائر الدائنين العاديين ومتقدمًا على الدائنين المرتهنين التالين له في مرتبة الرهن، ومزية التتبع تخول للدائن اقتضاء حقه من المال المرهون تحت أي يد يكون قد انتقلت ملكية المال المرهون من المدين إلى الغير (كالمشتري مثلًا) يستطيع الدائن المرتهن التنفيذ على المال المرهون تحت يد من انتقلت إليه ملكيته واقتضاء حقه منه. (3) والرهن بنوعيه مصدره العقد. حيث ينشأ كل منهما بموجب عقد.
__________
(1) بند 3 من نموذج الوعد بالشراء لبنك فيصل الإسلامي المصري
(2) المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية – البند السادس من عقد البيع بالمرابحة
(3) الموسوعة العلمية للبنوك الإسلامية – الجزء الخامس ص 240(5/1030)
والسؤال هنا: هل يجوز للبنك الإسلامي رهن السلع المشتراة من البنك في عقد المرابحة للآمر بالشراء ضمان لما عليه من أقساط؟ أي هل يمكن للعميل أن يقوم برهن السلعة المشتراة ضمانًا للأقساط المتبقية عليه من الثمن على أن يأخذ من السلعة ما يقوم بسداد ثمنه. وذلك نظرًا لأن العميل سوف لا يقوم بدفع جميع الثمن بل سيدفع جزءًا ويقسط الباقي من الثمن على أقساط، وليس هناك ما يضمن العميل لدى البنك في باقي الثمن؟
عرض هذا الموضوع على هيئة الرقابة الشرعية بأحد البنوك الإسلامية فرأت بأنه طبقًا لما جاء بمذهب الإمام مالك يجوز الرهن في دَين أو في بيع ما لم يكن الرهن في البيع وسيلة للتأخير، فيصبح الرهن في هذه الحالة وسيلة إلى الربا فيحرم. (1) وقد رأت الهيئة عدم الموافقة على ما جاء بالموضوع من رهن السلعة ضمانًا للثمن بعدًا عن الشبهات ويمكن للعميل أن يقدم أي ضمان آخر.
إلا أن المسؤولين بالبنك الإسلامي يرون أن تطبيق هذه الفتوى يترتب عليها عدة نتائج هي:
1- تعطيل سياسية البنك الرأسية إلى التعامل مع صغار العملاء الذين لا يملكون ضمانات عقارية والذي يحتاجون إلى مساندة البنوك الإسلامية لهم. وتشجيع الشباب الذين يمتلكون الخبرة على اقتحام مجالات الأعمال، بالإضافة إلى توسيع قاعدة التعامل مع صغار العملاء حتى يكون للبنك أثر ملموس في الحياة الاقتصادية للبلاد.
2- إن البنك قد يضطر إلى رهن بعض السلع الراكدة أو الآلات القديمة لدى العميل وتكون قيمتها أقل من قيمة السلعة أو الآلات المباعة لهم مرابحة مما يعرض أموال البنك للضياع.
ونود أن نشير بأنه لا يجوز حجب السلعة المباعة مرابحة عن المشتري، وأن العلاقة بين البنك والعميل تنتهي بتسليم العميل للسلعة موضوع المرابحة واستلام البنك لشيكات الأقساط – أو الأوراق الخاصة بالأقساط - وتصبح العلاقة حينئذ علاقة دائن بمدين. كما أن للبنك الحق في الحصول على ما يحتاجه من ضمانات لحفظ حقه بشرط ألا يكثر في طلب الكثير منها حتى لا يثقل على العميل أو المشتري، ومن ثم يحرم من التعامل معه. (2)
__________
(1) الهيئة الشرعية لبنك فيصل الإسلام المصري المصدر البهجة شرح التحفة، جـ 2، كتاب الرهن
(2) حجب السلعة المباعة مرابحة عن المشتري لا تمكنه من الوفاء بالتزاماته المادية قبل البنك إذا كانت السلعة المباعة يصعب تجزئتها – كمعدات مصنع - لأنه لن يحدث إنتاج ما لم يتم تركيب باقي أجزاء المصنع خاصة وأن الأقساط تدفع من عائد بين هذا المنتج(5/1031)
المبحث الثالث: المشاكل التي تتضمنها القوانين المصرفية:
من المعروف أن البنوك التجارية الوضعية عبارة عن بنوك تتعامل في الدَّين أو الائتمان. فالبنك التجاري يحصل على ديون الغير ويعطي مقابلها وعودًا بالدفع تحت الطب أو بعد أجل وهذه البنوك تعمل في سوق النقد. وعملياتها تتميز بطابع الائتمان قصير الأجل. وأهمية هذه البنوك ترجع للدور الهام الذي تقوم به في التأثير على العرض الكلي للنقود. فهي لا تقبل ودائع الأفراد فقط ولكن تقوم بخلق هذه الودائع أي بخلق الائتمان (1) وعلى ذلك نجد أن نشاطها الإنتاجي يتمثل في التعامل في الديون أو الائتمان، وأن ما لديها من أصول مادية تعد ضئيلة للغاية حيث تقدم هذه البنوك خدمات ائتمانية لعلمائها المودعين والمقرضين وتحصل في مقابل ذلك على مدفوعات من هؤلاء العملاء.
ومن هذا التعامل تحقق أقصى ربح ممكن. ويتلخص هذا التعامل في نوعين أحدهما الإتجار في الديون أو الائتمان والآخر هو خلق الائتمان. (2)
ونظرًا لصغر رأسمال هذه البنوك والتي يقف دوره عند حدود فترة الإنشاء فقط وطبيعة عملها السالف ذكره فإن البنوك المركزية قد وضعت لها عدة ضوابط ومحاذير لسياستها الائتمانية حتى لا تتعرض هذه البنوك للمخاطر.
ومن هذه الضوابط السقوف الائتمانية وتحديد نسبة للسيولة لدى البنوك ونسبة للاحتياطي تودع لدى البنك المركزي وعدم السماح لهذه البنوك بتملك العقارات وتحديد نسبة للمساهمة في الشركات أو المشروعات. كل هذه الضوابط ترجع إلى طبيعة عمل هذه البنوك نظرًا لأنها تتاجر في الديون – أي تعمل بأموال المودعين - ومن ثم يجب أن يكون هناك ملاءمة ما بين السيولة والربحية حتى لا يتعرض البنك للمخاطر إذا ما زادت طلبات السحب.
فالودائع عبارة عن دَين واقع في ذمة البنك قبل المودع وعليه أن يردها له وقت الطلب إن كانت تحت الطلب، أو في تاريخ استحقاقها إن كانت لأجل مضافًا إليها الفائدة الثابتة المتفق عليها. ومن المعروف أن هذه العلاقة التعاقدية قائمة ومستقلة بذاتها بين البنك والعميل المودع وليس لها أي ارتباط بأساليب استخدامات البنك لهذه الأموال ومدى شرعيتها وما إذا كانت قد حققت ربحًا أو خسارة.
أما البنوك الإسلامية فإنها لا تتاجر في الديون، وإنما تكون العلاقة بينها وبين أصحاب الودائع ومستخدميها علاقة مشاركة ومتاجرة، وليست علاقة دائنية ومديونية. ومن ثم فهي تأخذ شكل المضاربة أو المشاركة. (3) وعلى ذلك فهي لا تعمل على خلق الائتمان ومن ثم فهي تحد من ارتفاع نسبة التضخم.
كما أن أرصدة الحسابات الاستثمارية لدى البنوك الإسلامية تختلف تمامًا عن نظيرتها لدى البنوك التجارية الوضعية. إذ أنها عبارة عن أرصدة أودعها أصحابها ليضارب البنك فيها وفقًا لقواعد التعامل الإسلامية حيث لا يوجد ضمان لعائد محدد. ومن ثم فهي معرضة للمكسب والخسارة، وفي حالة الخسارة يتحملها أصحاب الحسابات الاستثمارية.
__________
(1) لفظ خلق الائتمان هذا ليس إلا مصطلح قد درج الاقتصاديون الوضعيون على استخدامه
(2) انظر للباحث: - كتاب مقدمة في النقود والبنوك – القاهرة 1982 – البنوك الإسلامية- من منشورات معهد الدراسات المصرفية للبنك المركزي المصري – ديسمبر 1981 - البنوك الإسلامية والتنمية – ندوة بنك فيصل الإسلامي المصري – ديسمبر 1983 - مفاهيم وممارسات البنوك الإسلامية – ندوة الاقتصاد الإسلامي والتكامل التنموي في الوطن العربي – تونس – نوفمبر 1985
(3) انظر للباحث: صكوك المضاربة الإسلامية – الهيئة العامة لسوق المال بالقاهرة – فبراير 1986(5/1032)
ورغم هذا الاختلاف الكبير بين أساليب وممارسات البنوك الإسلامية والبنوك الوضعية فإن البنوك المركزية ما زالت تنظر إلى البنوك الإسلامية نظرتها للبنوك التجارية الوضعية، ومن ثم تطبق عليها نفس التعليمات والضوابط، مما يثير الكثير من المشاكل والصعوبات في أداء البنوك الإسلامية لرسالتها، ومن هذه المشاكل ما يلي:
أ- مشكلة السقوف الائتمانية:
فالبنك المركزي المصري يعتبر عملية المرابحة بأنها عملية تمويل بالإقراض في بياناته ويترتب على ذلك أن كل السقوف الائتمانية الموضوعة بمعرفته تحد من عملية المرابحة، حيث إنه وضع ضوابط وشروط وحدود لاستخدام هذه السقوف ففي 15 /10 /1981 صدر قرار مجلس إدارة البنك المركزي بوضع ضوابط للتوسع الائتماني للبنوك التجارية بحيث لا تتعدى المطلوبات من العملاء نسبة 65 % من إجمالي الودائع كمعيار عام رئيسي. مع تحديد معيارين فرعيين أحدهما للمطلوبات، من القطاع التجاري والآخر من القطاع العائلي واتخذ رصيد الائتمان لهذين القطاعين في 30 /9 /1981 أساسًا لتحديد هذين المعيارين مع السماح بزيادة قدرها 12 % من هذا الرصيد وطلب من البنوك الإسلامية الالتزام بهذه الضوابط.
حاول المسؤولون عن البنوك الإسلامية توضيح وجهة نظرهم بأن طبيعة عمليات هذه البنوك من مرابحات ومشاركات ومضاربات هي نوع من البيوع الإسلامية أساسها عمليات الشراء والبيع، ومن ثم فإن التدفقات النقدية المترتبة عليها مرتبطة بتدفقات من السلع الضرورية وبما يخدم أهداف التنمية الاقتصادية، وذلك خلافًا لطبيعة عمليات منح الائتمان في البنوك التقليدية الأخرى التي تنطوي على زيادة كمية النقود بما يسمح بمزيد من الضغوط التضخمية، ومن ثم فلا يجوز تكييف عمليات البنك الشرعية على أنها من قبيل الائتمان الذي يعنيه قرار البنك المركزي.
كما أن التاريخ الذي اتخذه البنك المركزي كأساس للمعايير وهو 30 /9 /1981 كانت البنوك الإسلامية في بداية عملها وحديثة العهد بالسوق المصرفية ومن ثم فإن ودائعها لم تكن ذات حجم كبير في تلك الفترة. بينما زادت نسبة هذه الودائع بأرقام كبيرة خلال فترات وجيزة. (1) مما أدى إلى زيادة حجم التوظيف ليتناسب مع حجم هذه الودائع.
وقد طلب رسميًّا أكثر من مرة من البنك المركزي أن يعمل على إعادة تصحيح هذه المفاهيم إلا أن المشكلة ما زالت قائمة حتى الآن.
__________
(1) كان بنك فيصل الإسلامي المصري يعتبر البنك الوحيد في تلك الفترة حيث افتتح الفرع الرئيسي في 5 /7 /1979 وكان لافتتاح بعض الفروع أثر كبير على زيادة هذه الودائع. فكان حجمها في 30 /9 /1981 وهو التاريخ المحدد من البنك لا تتجاوز 309 مليون جنيه بينما بلغت هذه الودائع 1055 مليون جنيه في 30 /11 /1983(5/1033)
ب- الحد من عملية الائتمان والمساهمة في رأس مال الشركات:
كذلك من تعليمات البنك المركزي والقوانين المصرفية عدم السماح للبنك بمنح ائتمان أكثر من 25 % من رأسماله. وكذلك عدم المساهمة في رأس مال الشركات بما يزيد عن 25 % من رأس مال الشركة أو البنك أيهما أقل.
وهذه التعليمات تحد كثيرًا من نشاط البنوك الإسلامية خاصة مساهمتها أو مشاركتها في المشروعات ذات الحجم الكبير، والتي تعود على المواطنين بالخير، حيث إن المشروعات الكبيرة تعطي الإنتاج الكبير، ومن ثم تحدث تنمية اقتصادية ويحصل المواطنون على السلع بأسعار منخفضة مما يساعد على رفاهيتهم.
جـ- مشكلة تملك العقارات:
تنص المادة 39 من قانون البنوك رقم 163 لسنة 1957 على عدم تملك البنوك التجارية للعقارات بغرض البيع. وكما نص أيضًا على إلزام هذه البنوك بالتصرف في العقارات التي تؤول إليها خلال سنتين على الأكثر.
نظرًا لأن البنوك التقليدية تعتمد في نشاطها على أموال الغير والتي تكون في صورة ودائع لديها أي ديون عليها قابلة للدفع تحت الطلب أو في آجال محددة، وهي غالبًا ما تكون قصيرة الأمد فإن التشريعات المصرفية تحرص على وضع قيود على تملك البنوك لأصول ثابتة أو منقولة بخلاف ما يحتاج إليه نشاطها؛ وذلك حتى لا تتعرض للمخاطر إزاء صعوبة تسييل هذه الأصول في حالة الحاجة إلى مواجهة السحب على الودائع، وهذه الضوابط وإن كانت تتلاءم مع طبيعة نشاط البنوك التجارية والتي تتجر في الديون فإنها لا تتلاءم مع نشاط واستثمارات البنوك الإسلامية والتي لا تتجر في الديون ولا تقرض أموالًا وإنما تشارك في المشروعات وتضارب بالأموال في مشروعات إنتاجية وذات فائدة للمجتمع.
وعلى ذلك لا تستطيع البنوك الإسلامية أن تساهم في حل إحدى المشكلات الرئيسية – في بلادها، وهي مشكلة الإسكان. بالإضافة إلى أنه لو آلت إليها عقارات فإنها تضطر إلى التصرف فيها على وجه العجلة مما يعرضها للخسارة.
مما سبق يتضح لنا أن نشاط البنوك الإسلامية وعملياتها تختلف اختلافًا جذريًّا عن نشاط عمليات البنوك التجارية الوضعية سواء من ناحية الموارد والتوظيفيات، لهذا فإن الأمر يتطلب تغيير المفاهيم والأساليب التي تمارسها البنوك المركزية حيالها، وأن تبدأ بمفاهيم وضوابط تتواءم مع مفاهيم وممارسات البنوك الإسلامية؛ حتى تستطيع الدول التي انتشرت بها هذه البنوك أن تستفيد الاستفادة المرجوة منها.(5/1034)
الفصل الثاني
حق الضمان وموقف البنوك الإسلامية منه
المبحث الأول: الضمان في اللغة:
تقول العرب: ضمنت المال، وضمنت بالمال ضمانًا، فأنا ضامن وضمنته – التزمته. (1)
الضمان في تعريف الفقهاء:
ذكر الفقهاء تعريفات متعددة للضمان تتحدد في معناها وإن اختلفت ألفاظها. فكل هذه تعريفات تتفق من حيث المعنى على ضرورة تعويض المتلف من الأموال بمثله أو قيمته مع التفاوت في الألفاظ التي صيغت منها هذه التعريفات.
عرف الشوكاني الضمان بأنه: عبارة عن غرامة التالف. (2)
وعرفه الغزالي: "أن الضمان هو وجوب رد الشيء أو بدله بالمثل أو بالقيمة". (3)
ويقول المالكية: الضمان شغل ذمة أخرى بالحق. (4)
ويقول الشافعية: الضمان لغة: الالتزام، وشرعًا: يقال للالتزام حق ثابت في ذمة الغير وإحضار من هو عليه أو عين مضمونة. (5)
ويقول الحنابلة: الضمان: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق. (6)
الضمان في القرآن الكريم:
لم يرد في القرآن كلمة ضمن ولكن ورد فيه كفل والتي هي بمعنى ضمن. ومن هذه الآيات قول الله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] ، وقوله تعالى: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه: 40] ، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [سورة ص: 23] ، وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91] .
ومما يدل على وجوب الضمان عمومًا حديث نبوي يعتبر قاعدة أساسية في هذا الشأن، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) .
__________
(1) المصباح المنير- جـ 2، ص 497، 498
(2) نيل الأوطار للشوكاني جـ 5 ص 299 ط العثماني المصرية.
(3) الوجيز جـ 1 ص 208
(4) الشرح الكبير للدردير جـ 3 ص 329 ط البابي الحلبي.
(5) مغني المحتاج جـ 2 ص 198 طبعة البابي الحلبي
(6) المغني لابن قدامة جـ 4 ص 534 الطبعة الثالثة بدار المنار(5/1035)
المبحث الثاني: أقسام الضمان:
ينقسم الضمان إلى قسمين أساسيين هما ضمان النفس وضمان المال وما يهمنا هنا هو ضمان المال وهو تعويض المال عن الضرر اللاحق بالغير. وضمان المال يكون بقدر الضرر أو التعدي الحاصل. وينقسم إلى نوعين أحدهما ضمان كلي والآخر ضمان جزئي.
والضمان الكلي هو الالتزام بدفع قيمة جميع الشيء المتلف إذا كان الإتلاف كليًّا أو جزئيًّا فاحشًا شبيهًا بالإتلاف التام. وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية. (1)
أما في حالة الإتلاف الفاحش أو الجناية على الشيء بدون غصب فيرى كل من الحنفية والمالكية أن صاحب الشيء مخير بين أن يسلم الشيء للجاني ويأخذ منه قيمته، أو أن يأخذ قيمة الجناية الناقصة فقط. (2)
وقال الشافعي وأحمد: يضمن الجاني في النقصان ما نقص يوم الجناية. (3)
المبحث الثالث: الضمان في البيع:
البيع عند صحته يوجب ضمان المبيع على البائع ما دام في يده قبل أن يسلمه، وهلاكه في هذه الحالة يكون بثمنه فيسقط عن المشتري ويسترده من البائع إن دفعه إليه ويبطل العقد. وأما إذا هلك في يد المشتري فإن هلاكه يكون عليه في حال صحة العقد.
الضمان في عقد المرابحة:
نظرًا لأن المرابحة ما هي إلا عقد بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح فإن ضمان البيع على البائع ما دام الشيء المباع في حوزته ولم يتم تسليمه للمشتري، ومن ثم فهلاكه أو تلفه يقع على البائع ولا يتحمل المشتري شيئًا وإذا كان المشتري قد دفع شيئا من الثمن أو الثمن كله فمن حقه استرداده.
أما إذا هلك الشيء المباع أو تلف في يد المشتري بعد استلامه بمواصفاته المتفق عليها فإن الهلاك أو التلف يقع على المشتري.
ونظرًا لأن عقد المرابحة للآمر بالشراء عادة ما يتم البيع فيها بالأجل ويقوم المشتري باستلام الشيء المباع حيث يقوم بدفع ثمنه على أقساط شهرية أو سنوية فإن البنك الإسلامي يعمل على الحصول على ضمانات من المشتري خشية تعرض الشيء المباع للتلف أو الهلاك أو التأخير في السداد.
ومن هذه الضمانات ما يلي:
1- ضمانات شخصية بتقديم كفيل مليء أو أكثر.
2- ضمانات عينية في صورة رهن عقاري أو تجاري
3- التأمين على الأصول المشتراة أو البضاعة موضوع المرابحة ضد الحريق والسطو وخيانة الأمانة لصالح البنك.
4- التوقيع على سند إذني.
5- التوقيع على إيصال أمانة.
6- حجز مبلغ في حساب الاستثمار بقيمة الضمان المطلوب أو إيداع صكوك مضاربة إسلامية أو أسهم قابلة للتداول.
7- الاهتمام بسمعة العميل وسيرته الحسنة وخبرته وملاءته ومتانة مركزه المالي.
8- أي ضمانات أخرى يراها البنك.
__________
(1) الإتلاف الفاحش عند المالكية هو ما يبطل الغرض المقصود من الشيء، والإتلاف اليسير هو ما يبطل يسيرًا من المنفعة – بداية المجتهد، جـ 2، ص 313
(2) بداية المجتهد، جـ 2، ص 313
(3) بداية المجتهد، جـ 2، ص 313(5/1036)
المبحث الرابع: العربون:
عادة ما يقوم الآمر بالشراء بدفع عربون للسلعة الراغب في شرائها للبنك وقد أقر مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني المنعقد بالكويت في مارس 1983 أخذ العربون في عمليات المرابحة وغيرها جائز، بشرط أن لا يحق للمصرف أن يستقطع من العربون المقدم إلا بمقدار الضرر الفعلي المتحقق عليه من جراء النكول.
وقد نصت بعض البنوك الإسلامية في طلب الوعد بالشراء على التزام المشتري بدفع نسبة من قيمة البضاعة عند التوقيع على هذا الوعد كعربون لضمان الجدية وتنفيذ التزاماته قبل الطرف الأول والقيام بتسديد باقي القيمة للطرف الأول (1) كما ورد نص آخر على دفع هذه النسبة كتأمين لضمان الجدية وتنفيذ التزامات الأمر بالشراء قبل البنك والقيام بتسديد باقي القيمة البيعية للطرف الأول. (2)
ويلاحظ أن أيًّا من هذه البنوك لم تنص على مصير هذا العربون في حالة عدم إتمام التعاقد.
موقف القانون المدني من العربون:
يحدث أن يدفع أحد المتعاقدين للآخر عند إبرام العقد مالا يكون عادة من النقد يسمى بالعربون وأكثر ما يكون ذلك في عقد البيع وفي عقد الإيجار فيدفع المشتري للبائع إما لحفظ الحق لكل من المتعاقدين في العدول عن العقد بأن يدفع من يريد العدول مقدار هذا العربون للطرف الآخر، وإما للبت في العقد عن طريق البدء في تنفيذه بدفع العربون. (3)
وقد انقسمت القوانين بين هاتين الدلالتين المتعارضتين، فالقوانين اللاتينية بوجه عام تأخذ بدلالة العدول. أما القوانين الجرمانية فتأخذ بدلالة البت. وكلتا الدلالتين قابلة لإثبات العكس. فإذا تبين من اتفاق المتعاقدين أو من الظروف أن المقصود بالعربون غير ما يؤخذ من دلالته المفروضة وجب الوقوف عند إرادة المتعاقدين.
أما في القانون المدني المصري لم يشتمل التقنين المدني السابق على نص في هذه المسألة فكان القضاء المصري يتردد بين الدلالتين ويأخذ في ذلك بقية المتعاقدين مفسرًا إياها في ظل العرف الجاري.
وحسم التقنين المدني المصري هذا التردد فأورد نصًّا يأخذ بدلالة العدول إذ تنص المادة 103 منه على أن:
1- دفع العربون في وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك.
2- وإذا عدل مَنْ دَفَعَ العربون فَقَدَهُ. وإذا عدل مَنْ قَبَضَهُ رَدَّ ضِعْفَهُ. هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر. (4)
ويتبين من هذا النص أنه إذا لم يتفق المتعاقدان صراحة أو ضمنًا على أن العربون إنما دفع لتأكيد البتات في التعاقد كان دفعه دليلًا على الاحتفاظ لكل من المتعاقدين بالحق في العدول. فإذا لم يعدل أحد منهما عن العقد في خلال المدة المتفق عليها، أصبح العقد باتًّا واعتبر دفع العربون تنفيذًا جزئيًّا له.
أما إذا عدل أحد المتعاقدين فإنه يجب عليه أن يدفع للآخر مقدار العربون فإذا كان هو الذي دفعه فإنه يفقده، وإذا كان هو الذي أخذه فإنه يرده ويرد معه مثله. (5)
وغرامة العربون على هذا النحو لا تعتبر تعويضًا عن ضرر إذ هي لازمة حتى لو لم يترتب على العدول أي ضرر. ولكنها المقابل الذي اتفق عليه المتعاقدان لحق العدول.
مما سبق يتضح لنا أن مفهوم العربون في القانون المدني يختلف عن ما تسير عليه البنوك الإسلامية، حيث إنه بالنسبة للأخيرة يؤخذ لضمان الجدية من الآمر بالشراء وتنفيذ التزاماته قبل البنك. أما بالنسبة للقانون المدني المصري وغيره من القوانين العربية المطابقة له فإنه لا يعتبر تعويضا عن ضرر بل مقابل اتفق عليه المتعاقدان لحق العدول.
__________
(1) بند 6 من طلب الوعد بالشراء لبنك فيصل الإٍسلامي المصري.
(2) بند 5 من طلب وعد بالشراء لبنك قطر الإسلامي.
(3) د. السنهوري –الوجيز- مرجع سابق، ص91
(4) التقنينات العربية الأخرى المطابقة للقانون المدني المصري هي القانون المدني السوري المادة 104 والليبي المادة 103، أما القانون العراقي فنجد أن المادة 92 منه تجعل من العربون دليل إثبات لا دليل جواز الرجوع.
(5) وقد يتفق المتعاقدان على أن أحدهما دون الآخر هو الذي يكون له حق العدول فلا يجوز في هذه الحالة للآخر أن يعدل عن العقد، ولا يدفع قيمة العربون، بل يكون العقد باتًّا بالنسبة له. انظر. د. السنهوري – الوجيز، ص93.(5/1037)
الفصل الثالث
التعويض
يقصد بالتعويض تغطية الضرر الواقع بالتعدي أو الخطأ. والمبدأ المقرر في المسئولية المدنية هو عدم مقابلة الإتلاف بمثله. إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. والمقصود من منع الضرار نفي فكرة الثأر التي كانت سائدة في الجاهلية. (1)
أما التعويض أو التضحية ففيه نفع يجبر الضرر وترميم الآثار. وعلى هذا فليس للمتضرر أن يتلف مال غيره كما أتلف ماله وإنما له القيمة أو المثل. (2)
لهذا قال ابن القيم بصدد تقدير مبدأ التضمين وعدم مقابلة الإتلاف بمثله: "إن مقابلة الإتلاف بمثله في كل الأحوال شرع الظالمين المعتدين الذي تنزه عنه شريعة أحكم الحاكمين". (3)
((وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن على أهل الحوائط –البساتين- حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أصحابها)) . (4)
وأما المبدأ المقرر في المسؤولية الجنائية على النفوس البشرية فهو مقابلة الجناية بمثلها – أي المماثلة بين الجناية والعقاب - لأن الجنايات لا تقمع إلا بعقوبة مماثلة لها من جنسها، منعًا لحزازة النفس وإطفاءً لنار الفتنة وأشفى لغليل أولياء المجني عليه وكظمًا لغيظهم. فمن قتل قُتل، ومن جرح جُرح، ومن قطع قُطع.
هذا هو مبدأ التعويض في المسئوليتين الدينية والجنائية، وخلاصته هو شرعية القصاص في الدماء دون الأموال.
__________
(1) جمال الدين محمد عطوة –المسؤولية التعاقدية في الفقه الإسلامي- دراسة مقارنة – رسالة مقدمة لجامعة الأزهر 1979
(2) تنص المادة 921 من مجلة الأحكام الشرعية على ما يأتي: "ليس للمظلوم صلاحية أن يظلم آخر بما أنه ظلم. مثلًا: لو أتلف زيد مال عمرو مقابلة بما أنه أتلف ماله يكون من ضامنيه، وكذا لو أتلف زيد مال عمرو للذي هو من قبيلة عليٍّ بما أن بكرًا الذي هو من تلك القبيلة أتلف ماله يضمن كل منهما المال الذي أتلفه وكذا ليس لمن أخذ دراهم زَبُونًا من أحد صلاحية صرفها لآخر" والزَّبُون: ما زيفه بيت المال أي يرده ولكن تأخذه التجار في التجارة.
(3) إعلام الموقعين جـ 2 ص 104
(4) انظر إعلام الموقعين ص 327، جـ2، ص 95 وما بعدهما، والمدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء ص 586(5/1038)
المبحث الأول: التعويض في الشريعة الإسلامية:
اتفق العلماء على تحريم الغصب والإتلاف ونحوهما من الاعتداء على أموال الآخرين لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [سورة النساء: 29] ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع ((: إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم، من أخذ شبرًا من الأرض طوقه الله من سبع أَرَضِين)) (1) وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) . (2)
لهذا فإن الأصل العام المقرر في الضمانات للتخلص من العهدة والمسئولية هو رد الحقوق بأعبائها عند الإمكان، فإن ردها كاملة الأوصاف برئ من المسؤولية وإن ردها ناقصة الأوصاف جبر الضامن أوصافها بالقيمة؛ لأن الأوصاف ليست بين ذوات الأمثال ولكن لا يضمن نقصها بسبب انخفاض الأسعار إلا عند الفقيه أبي ثور فإنه يوجب ضمان قيمة النقص بسبب ذلك. (3)
وقاعدة الضمان أو كيفيته بالنسبة للأموال بسبب الغصب أو الإتلاف أو نحوهما هو أنه يجب ضمان المثل باتفاق العلماء إذا كان المال مثليًّا (4) لقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ؛ لأن المقصود من التضمين جبرًا من الضرر وذلك أعدل وأتم في مثل الشيء المختلف؛ لأن المثل معادلة صورة ومعنى أي مراعى فيه جنس التالف وماليته فكان الإلزام بالمثل.
والواجب في الضمان الاقتراب من الأصل بقدر الإمكان تعويضًا للضرر وكذلك إذا تعذر وجود المثل ينتقل إلى القيمة للضرورة وعملًا بالقواعد الشرعية" إذا تعذر الأصل يصار إلى البدل (5) إذ هو عندئذ كما لا مثل له.
وأما إذا كان المال قيميًّا كالعروض التجارية والحيوان ونحوهما مما لا مثل له. فيجب ضمان القيمة باتفاق العلماء. (6) لأنه تعذر الوفاء بالمثل تمامًا صورة ومعنى فيجب المثل معنى وهو القيمة لأنها تقوم مقامه ويحصل بها مثله واسمها ينبئ عنه. (7)
وتجب القيمة في ثلاث حالات وهي: (8)
1- إذا كان الشيء غير مثلي كالحيوانات والدور والمصوغات فلكل واحد منها قيمة تختلف عن الأخرى باختلاف الصفات المميزة بكل واحد.
2- إذا كان الشيء خليطًا مما هو مثلي بغير جنسه.
3- إذا كان الشيء مثليًّا وتعذر وجود مثله إما حقيقة أو حكمًا (9)
مما سبق يتضح لنا أن الأصل العام في الضمان أو التعويض هو إزالة الضرر عينًا كإصلاح الحائط أو جبر المتلف وإعادته صحيحًا كما كان عند الإمكان كإعادة المكسور صحيحًا، فإن تعذر ذلك وجب التعويض المثلي أو النقدي.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأحمد عن عائشة – رضي الله عنها- وللحديث عندهم رواية أخرى عن سعيد بن زيد رواه أحمد والبخاري عن ابن عمر، ورواه أحمد أيضًا عن أبي هريرة. انظر نيل الأوطار للشوكاني، جـ 5، ص 317
(2) رواه أبو إسحاق الجوزي من حديث أبي هريرة الرقاش عن عمه وعمرو بن يثربي.
(3) قواعد الأحكام، جـ 1، ص 151 وما بعدها – المغني لابن قدامة، جـ 5 ص 257
(4) رد المحتار، جـ 5 ص 130، جـ 4 ص 173 تبيين الحقائق للزيلعي، جـ 5، ص 223
(5) المادة 53 من مجلة الأحكام الشرعية
(6) إلا أن الإمام مالك يقول: لا يقضى في العروض من الحيوان وغيره إلا بالقيمة يوم استهلك. وجمهور الفقهاء يقولون: الواجب في ذلك المثل لا تلزم القيمة إلا عند عدم المثل. – انظر بداية المجتهد، جـ 2 ص 312
(7) انظر تبيين الحقائق للزيلعي، جـ 5، ص 223، 234
(8) جمال الدين محمد عطوة – المسئولية التعاقدية في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة- مرجع سابق.
(9) التعذر إما حقيقي حسي كانقطاع وجود المثل في السوق بعد البحث عنه وإن وجد في البيوت، أو حكمي كأن لم يوجد إلا بأكثر من ثمن المثل، أو كان العجز عن المثل شرعًا بالنسبة للضامن كالخمر بالنسبة للمسلم يجب عليه للذمي عند الحنفية ضمان القيمة، وإن كانت الخمر من المثليات لأنه يحرم عليه تملكها بالشراء – انظر جمال الدين محمد عطوة المسئولية التعاقدية في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة - ص 378(5/1039)
المبحث الثاني: التعويض في القانون المدني:
وأما ما سار عليه القانون المدني فنجد أنه قد نص على أن التعويض له طرق ثلاثة وهي: (1)
1- التنفيذ العيني: في المسئولية التقصيرية يمكن في قليل من القروض أن يجبر المدين على التنفيذ العيني على سبيل التعويض، والقاضي ليس ملزمًا أن يحكم بالتنفيذ العيني ولكن يتعين عليه أن يحكم به إذا كان ممكنًا وطالب به الدائن أو تقدم به المدين.
2- التعويض غير النقدي: فإذا تعذر التنفيذ العيني في المسئولية التقصيرية – وهذا هو الذي يقع غالبًا - لم يبق أمام القاضي إلا أن يحكم بالتعويض. وليس من الضروري أن يكون التعويض نقدا، فيصح في قروض نادرة أن يختار القاضي للتعويض طريقا غير النقض. ففي دعاوى السب والقذف يجوز للقاضي أن يأمر على سبيل التعويض بنشر الحكم القاضي بإدانة المدعى عليه في الصحف، بل إن الحكم بالمصروفات على المدعى عليه في مثل هذه الأحوال والاقتصار على ذلك قد يعتبر تعويضًا كافيًا عن الضرر الأدبي الذي أصاب المدعي وهو تعويض غير نقدي؛ لأن الملحوظ فيه هو المعنى الذي يتضمنه.
3- التعويض النقدي: وهذا هو التعويض الذي يغلب الحكم به في دعاوى المسئولية التقصيرية، وكان كل ضرر حتى الضرر الأدبي يمكن تقويمه بالنقد.
__________
(1) د. السنهوري – الوجيز، ص 389 - 391(5/1040)
المبحث الثالث: تقدير التعويض والوقت الذي يجب فيه:
يقدر القاضي التعويض بالاستعانة بالخبراء ويلاحظ ما حدث من الأضرار المادية الملموسة والواقعة فعلًا. أما الأضرار المحتملة فإن كان وقوعها مؤكدًا فهي في حكم الواقعية. وأما ضياع المصالح والخسارة المنتظرة غير المؤكدة فلا يعوض عنها في أصل الحكم الفقهي، لكن يمكن أن نجد مستندًا لها في السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي فيما لا نص عليه. وذلك عملًا بمبدأ السياسة الشرعية من إحقاق الحق وتقرير العدل ودفع الحرج والمشقة وأخذًا بمشروعية التعزيرات أو الغرامات المالية، يفعل القاضي ما يراه حسب الحاجة.
والمبدأ العام في تعويض الأضرار الناشئة عن ضمان اليد أو المسئولية التقصيرية هو المماثلة بين التعويض والضرر؛ لأن ضمان الإتلاف ضمان اعتداء، والاعتداء لم يشرع إلا بالمثل في النص القرآني، وفي ضمان العقد أو المسئولية العقدية لا يشترط التقيد بالمثل وإنما ينفذ الشرط المتفق عليه قدر الإمكان عملًا بقاعدة يلزم مراعاة الشرط قدر الإمكان. (1)
أما الوقت الذي يجب فيه التعويض فنفرق بين ما تلف بطريق الغصب أو بغير غصب. فأما الغصب فاختلفت آراء الفقهاء في الوقت الذي يجب فيه الضمان على أقوال متعددة. فمنهم من قال: إنه تجب القيمة أو المثل يوم الغصب، ومنهم من قال: يوم انقطاعه عن الأسواق، ومنهم من قال: يوم الحكم بهلاكه ووجب الضمان على الغاصب. (2)
أما الحالة الثانية، وهي تلف الشيء بدون غصب فلا خلاف بين الفقهاء في أن القيمة تجب يوم الهلاك. وعلى هذا تجب قيمة الشيء المستعار وقت التلف، وفي الرهن تجب القيمة وقت القبض إن كان المرتهن هو الذي أتلف المرهون، وإن كان المتلف هو الأجنبي أو الراهن فتجب قيمته يوم التعدي.
أما القانون المدني فيرى أن التعويض مقياسه الضرر المباشر. فهو في أية صورة - كانت - يقدر بمقدار الضرر المباشر الذي أحدثه الخطأ. والضرر المباشر يشتمل على عنصرين جوهريين هما: الخسارة التي لحقت المضرور والكسب الذي فاته. فهذان العنصران هما اللذان يقدمهما القاضي بالمال.
وتنص المادة 170 مدني على أن يقدر القاضي مدى التعويض عن الضرر الذي لحق بالمضرور فإن لم يتيسر له وقت الحكم أن يعين مدى التعويض تعيينًا نهائيًّا فله أن يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطالب خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير (3) والظروف الملابسة التي يذكر النص أنها تراعى في تقدير التعويض هي الظروف الشخصية التي تحيط بالمضرور لا الظروف الشخصية التي تحيط بالمسئول.
والأصل أنه لا ينظر إلى جسامة الخطأ الذي صدر من المسئول وإنما يقدر التعويض بقدر جسامة الضرر لا بقدر جسامة الخطأ، وفي حالة تغير الضرر ما بين وقت وقوعه إلى يوم النطق بالحكم فإن هذا التغيير يدخل في الحساب عند تقدير التعويض، فالعبرة إذن في تقدير التعويض بيوم صدور الحكم اشتد الضرر أو خف. وإذا كان الضرر لا يتيسر تعيين مداه تعيينًا نهائيًّا وقت النطق بالحكم جاز للقاضي أن يحتفظ للمضرور بالحق في أن يطالب في خلال مدة معينة بإعادة النظر في التقدير وفقًا لنص المادة 170 مدني.
__________
(1) انظر – جمال الدين عطوة- المسئولية التعاقدية في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة- ص 380
(2) انظر – جمال الدين عطوة- المسئولية التعاقدية في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة- 380
(3) التقنينات العربية الأخرى – القانون السوري المادة 171، والقانون الليبي – المادة 173، والقانون العراقي المادة 207، 208، والقانون اللبناني المادة 134 /521 – انظر د. السنهوري – الوجيز 392(5/1041)
المبحث الرابع: ما يجري عليه العمل في البنوك الإسلامية:
أولًا: بالنسبة لامتناع أحد الطرفين عن تنفيذ الوعد أو قدم بيانات أو معلومات أو مستندات غير صحيحة يتحمل أية أضرار تلحق الطرف الآخر نتيجة ذلك. (1)
ثانيًا: في حالة تأخير الطرف الثاني "الآمر بالشراء" عن سداد أي قسط من الأقساط في موعد استحقاقه يحق للبنك أن يتخذ الإجراءات القانونية اللازمة لحفظ حقوقه قبل الطرف الآخر الذي عليه أن يتحمل ما يترتب على ذلك من مصاريف وأضرار. (2)
ثالثًا: أما بشأن ما يصيب البنك الإسلامي من ضرر نتيجة التأخير في السداد فإن البعض يرى أن تأخير سداد الأقساط المستحقة على العميل في مواعيد استحقاقها على الوجه المتفق عليه يؤدي إلى أضرار بالغة بالبنك يستحق معه التعويض، بحسبان أن القاعدة الشرعية وهي أساس المعاملات تقرر أنه لا ضرر ولا ضرار، وتحسب قيمة هذا الضرر على أساس متوسط نسبة إجمالي أرباح البنك المحققة عن ذات الفترة، فضلًا عن أية تعويضات أخرى فعليه، وأن أي منازعة في استحقاق التعويض أو قيمته تعرض على هيئة الرقابة الشرعية لحسمها نهائيًّا ورأيها فيه باتٌّ. (3)
ويرون آخرون أن تأخر المدين عن الوفاء بالدَّين عند حلول الأجل جاز للدائن أن يطالبه بتعويض ما أصابه من ضرر بسبب هذا التأخير إلا إذا أثبت المدين أن التأخير حدث بقوة قاهرة، أَيْ سَبَب لا يد له فيه فعندئذ لا يستحق الدائن تعويضًا عن التأخير وأساس هذا الحكم هو الضمان بالتسبب وشرطه التعدي. (4)
__________
(1) انظر طلبات الوعد بالشراء لبنك قطر الإسلامي – البند السادس، وبنك فيصل الإسلامي المصري- البند الثامن، ويلاحظ أن بعض البنوك نصت على التزام المشتري فقط في تعويض البنك في هذه الواقعة.
(2) البند السادس من عقد البيع لبنك قطر الإسلامي.
(3) فتوى هيئات الرقابة الشرعية الثلاث لدار المال الإسلامي وبنكي فيصل المصري والسوداني.
(4) اتجاه المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية. انظر فتاوى المستشار الشرعي في هذا الشأن رقم (3)(5/1042)
كما يرى أصحاب هذا الاتجاه أن تأخير الوفاء بالدين دون عذر شرعي مقبول يعد تعديًا؛ لأنه معصية لقوله عليه السلام: ((مطل الغني ظلم)) ، واستند هذا التُّجاه إلى نص المادة 1430، 1431 من مجلة الأحكام الشرعية. (1)
ويرى أنه يمكن تعويض الدائن تخريجًا على قواعد الغصب وذلك أن عدم الوفاء بالدين عند حلول الأجل وإمساكه عن الدائن دون عذر شرعي يجعل المدين في حكم الغاصب للدين؛ لأن إبقاؤه بعد حلول الأجل يعد تعديًا والغصب هو التعدي على حق الغير، وإذا كان المدين تاجرًا أي ممن يقوم باستثمار الدَّين نفسه أو بإعطائه للغير مضاربة وأخر الدين عن موعد استحقاقه فإن جميع أرباح الدين تكون للدائن، ويكن تقدير هذه الأرباح إما بإقراره بمتوسط أرباحه وإما بواسطة لجنة تحكيم أو بواسطة القضاء. كما يمكن عند إبرام الاتفاق معه في مضاربة أو مرابحة مثلًا أن يتفق على نسبة الربح من واقع دراسة الجدوى التي قدمها العميل أو التي قبلها وينبني على أن هذا هو الأساس ما لم يثبت المدين أن الأرباح الفعلية أقل من ذلك. (2)
وهذا يعني أن تعويض البنك لا يقاس بما لحقه من خسارة بسبب عدم الوفاء عند حلول الأجل بل يقاس بما حققه المدين من ربح خلال المدة التي امتنع فيها عن الوفاء ويمكن إثبات هذا بكافة وسائل الإثبات الشرعية. كما يجوز أن يعهد إلى لجنة تحكيم بتقديره في حين أن التعويض على أساس التسبب في الضرر المذكور يقاس بما لحق البنك من ضرر بسبب التعدي في التأخير وليس بما حققه المدين من ربح من جراء حبس الدين عن الدائن عند حلول الأجل فهما طريقان يمكن اختيار أحدهما.
__________
(1) تنص المادة 1430 على أن: "من تسبب في تلف مال الغير ضمنه" وتنص المادة 1431 على أنه: "يشترط في الضمان بالتسبب التعدي في الفعل الذي تسبب عنه التلف" ويقصد بالتعدي التفريط بأن يكون الفعل مخالفا للشريعة.
(2) استند في ذلك لما جاء في المغني جـ 5، ص 205 "إذا غصب أثمانًا فأتجر بها أو عروضًا وأتجر بثمنها اشتراه في ذمته ثم نقد الأثمان، قال أصحابنا: الربح للمالك والسلع المشتراة له؛ لأنه نماء ملكه فكان له وإن حصل خسران فهو على الغاصب.. وإن دفع المال إلى من يضارب به فالحكم في الربح على ما ذكرناه وليس على المالك من أجر العامل شيء؛ لأنه لم يأذن له في العمل بماله. - واستند أيضًا للمادة 1367 "لا يضمن الغاصب (ومثله المدين الممتنع عن الوفاء) ما فوته على المالك من الربح بحبسه مال التجارة".(5/1043)
وأقترح طريقة ثالثة وهي تخريج تعويض البنك عن التأخير في الوفاء بالدين على أساس مضاربة المثل، فالمدين الذي يحبس الدين عن الدائن عند حلول الأجل دون عذر شرعي وهو ممن يمارسون التجارة ويعملون في مجال الاستثمار يكون قد استثمر مبلغ الدين دون اتفاق فيلزمه حصة رأس المال في الربح، كما فعل عمر بن الخطاب مع ولديه عندما اقترضا مالًا من أبي موسى الأشعري دون وجه حق لأن أبا موسى لم يقرض غيرهما.
وأقترح طريقة رابعة وهي على أساس التعزير بأخذ المال ممن ارتكب معصية لا حد فيها ولا كفارة وإعطائه لمن أصابه ضرر من جراء ذلك.
ولقد ثبت التعزير بأخذ المال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغني ظلم)) ، "والعقوبة تجوز بأخذ المال وإعطائه للمضَّرِّر".
وهذا الأساس لا ينظر في التعويض إلى ما حققه المدين المماطل من كسب أو ربح الامتناع عن الوفاء بالدين بل ينظر إلى أن التأخير كان معصية تكون جريمة تعزيرية وإن كان هناك شخص تضرر من هذه المعصية.
ويمكن أن يعهد بتقدير هذا التعويض على هذا الأساس بواسطة لجنة التحكيم دون النص عليه في العقد بهذا التكييف إذ أن التعزير لا يملكه إلا ولي الأمر ونحن نحكم بالتعويض على هذا الأساس الشرعي دون حاجة إلى ذكره في العقد.
والخلاصة هي جواز النص على تعويض البنك عن الأضرار التي تلحق به بسبب عدم قيام المدين بالوفاء بالدين عند حلول الأجل ما لم يكن هذا التأخير قد حدث بسبب لابد له فيه ولا يستطيع له دفعًا، أما تقدير التعويض فيؤخذ فيه بأحد المعيارين إما مقدار ما حصل المدين من ربح في مشروعاته وإما مقدار الضرر الذي وقع على البنك ويترك ذلك للجنة التحكيم وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وتستطيع اللجنة أن تؤسس حكمها على أحد الاعتبارات السابقة. (1)
__________
(1) يلاحظ أن جميع الحلول المقدمة لم تتضمن اقتراح بتقدير ما لحق الدائن من ضرر الخسائر بتأخير المدين عن الدفع بطريق الاتفاق "حيث إن طريق الاتفاق على مقدار ضرر الدائن من تأخير الوفاء له محذور كبير. حيث إنه قد يصبح ذريعة لربا مستور بتواطؤ بين الدائن والمدين بأن يتفقا في القرض على فوائد زمنية ربوية ثم يعقد القرض لمدة قصيرة وهما متفاهمان على أن لا يدفع المدين القرض في ميعاده لكي يستحق عليه الدائن تعويض تأخير متفق عليه مسبقًا يعادل سعر الفائدة وذلك لا يجوز إذا أقرت فقهيًّا فكرة التعويض عند ضرر التأخير أن يحدد هذا التعويض باتفاق مسبق بل يجب أن يناط تقدير التعويض بالقضاء تقدره المحكمة عن طريق لجنة خبراء محلفين لكيلا يتخذ تقدير التعويض بالاتفاق المسبق ذريعة لفوائد ربوية مستورة". - انظر تفصيلات ذلك في المرجع التالي:- - مصطفى أحمد الزرقا – هل يقبل شرعًا الحكم على المدين المماطل بالتعويض على الدائن؟ – مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي – العدد الثاني- 1985، ص 89 وما بعدها(5/1044)
مقدمة رقم الصفحة
الفصل الأول: الصعوبات القانونية التي تعترض تطبيق المرابحة 1394
المبحث الأول: الوعد بالشراء أو بالبيع ملزم أم لا 1394
المبحث الثاني: الملابسات القانونية لعقود المرابحة في إطار الممارسات العملية بين العميل والبنك. 1404
المبحث الثالث: المشاكل القانونية التي تتضمنها القوانين المصرفية 1410
الفصل الثاني: حق الضمان وموقف البنوك الإسلامية منه 1415
المبحث الأول: الضمان في اللغة وعند الفقهاء وفي القرآن الكريم 1415
المبحث الثاني: أقسام الضمان 1416
المبحث الثالث: الضمان في البيع وفي عقد المرابحة 1417
المبحث الرابع: العربون 1418
الفصل الثالث: التعويض 1421
المبحث الأول: التعويض في الشريعة الإسلامية 1422
المبحث الثاني: التعويض في القانون المدني 1423
المبحث الثالث: تقدير التعويض والوقت الذي يجب فيه 1424
المبحث الرابع: ما يجري عليه العمل في البنوك الإسلامية 1426(5/1045)
المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية
(مؤسسة آل البيت)
ندوة عن:
"خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية
الجوانب التطبيقية، والقضايا والمشكلات "
بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
البنك الإسلامي للتنمية – جدة
عمان
22 شوال – 25 شوال 1407 هـ
18 / 6 – 21 / 6 / 1987 م(5/1046)
بحث الدكتور سامي حسن حمود
عن
"تطبيقات بيوع المرابحة للآمر بالشراء من الاستثمار البسيط إلى
بناء سوق رأس المال الإسلامي مع اختيار تجربة بنك البركة
في البحرين كنموذج عملي"
"تطبيقات بيوع المرابحة للآمر بالشراء من الاستثمار البسيط إلى
بناء سوق رأس المال الإسلامي مع اختيار تجربة بنك البركة
في البحرين كنموذج عملي"
بحث مقدم إلى ندوة "استراتيجية الاستثمار في البنوك الإسلامية" المنظمة بالتعاون بين المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع. للبنك الإسلامي للتنمية في جدة والمقرر عقدها أثناء المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي في الفترة الواقعة يبن 22 – 25 شوال 1407 هـ الموافق 18 – 21 حزيران 1987 في عمان – المملكة الأردنية الهاشمية.
إعداد
الدكتور سامي حسن حمود
مدير عام بنك البركة الإسلامي
للاستثمار
المنامة – دولة البحرين
تقديم البحث وبيان المحتويات
يعتبر بيع المرابحة للآمر بالشراء عصب النجاح في التطبيق المصرفي الإسلامي الحديث، سواء كان ذلك على مستوى التعامل المحلي أم كان على المستوى الدولي. لذلك لم يكن مستغربًا –في ضوء أهمية هذا النوع المستحدث من التعامل أن يخصص له المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب هذه الندوة الخاصة التي تعالج مختلف جوانب هذا التعاقد الفريد، وهو التعاقد الذي دعت إليه الحاجة، وأغنته التجربة وتوجته الآمال المزدانة بطموحات العمل المتصل لاستمرار الاجتهاد فيه من أجل التطوير والإبداع.
وإذا كان يحق للأردن أن يفخر بما قدمه العالم الإسلامي من بنات فكر أبناءه في مجال ترسيخ بناء هذه الصورة المركبة من الوعد بالشراء والبيع بالمرابحة، سواء كان ذلك في مرحلة البناء النظري أم في ميدان العمل التطبيقي، (1) فإنه ليجدر بمن يسجل الأحداث بحقائقها أن يذكر بالخير ذلك الدور الرائد الذي قام به ابنك الإسلامي للتنمية في بواكير دخوله ميدان العمل حيث تبنى رئيس البنك الأخ الفاضل الدكتور أحمد محمد علي فكرة بيع المرابحة للآمر بالشراء وطبقها على تمويل عمليات التجارة الدولية التي تحتاج إليها الدول الإسلامية.
__________
(1) المقصود بالإشارة هنا هو السبق العلمي الذي كشف فيه الباحث عن الأساس الفقهي لصورة هذا التعاقد الفريد حيث جرى استخراج النص من موطنه في كتاب "الأم" للإمام الشافعي وذلك من خلال البحث العلمي الذي قدم فيه الباحث رسالته لنيل درجة الدكتوراه في الحقوق لدى جامعة القاهرة والتي جرت مناقشتها بتاريخ 30/6/1976 وقد أدخل الباحث هذه الصورة التعاقدية في قانون البنك الإسلامي الأردني رقم 13 لسنة 1978 بعد أن وافقت لجنة الفتوى التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية على قبول مبدأ القول بالإلزام في الوعد. انظر في ذلك: أ- سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية الطبعة الأولى (القاهرة، 1976) ص 476 – 481. ب- سامي حمود – الأعمال التحضيرية لإنشاء البنك الإسلامي الأردني محفوظات خاصة لمشروع القانون الخاص بإنشاء البنك ومناقشات لجن الفتوى للمشروع في الفترة الواقعة بين 6/7/1977 – 11/9/1977(5/1047)
وإذا كان قد اجتمع في هذه الندوة المباركة السهم الحضاري المتمثل في المجمع الملكي العتيد مع القوس المشدود بعزم الإرادة على العمل المشترك وهو العزم الذي تمثل في إيجاد البنك الإسلامي للتنمية، فإن اجتماع هذا السهم مع ذلك القوس إنما يعبر عن وحدة الفكر والعمل في سبيل استمرار بناء صرح الحضارة الإسلامية المجيد لكي تظل هذه الحضارة مرتفعة الأعلام على مر العصور والأزمان.
ويتألف البحث المقدم من أربعة فصول وخاتمة حيث اشتمل الفصل الأول على نبذة تاريخية عن بيع المرابحة وتطوره المعاصر في صورة التعامل المركب من آمر بالشراء ووعد بالتبايع.
أما الفصل الثاني فقد تضمن بيان النموذج الأردني في تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء باعتباره الأساس الذي نسجت على منواله البنوك الإسلامية الأخرى الصور المختلفة للتطبيق مع بعض الاختلافات في الشكل دون الجوهر.
وتناول الفصل الثالث آلية (ميكانيكية) تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء ومجالاته والمشكلات والحلول الفقهية لهذه المشكلات.
وتضمن الفصل الرابع الآفاق المستقبلية لبيع المرابحة من ناحية التخطيط المتصور للانتقال بالعملية من مجرد عملية استثمارية بسيطة إلى قاعدة راسخة لإيجاد أدوات استثمارية ملائمة بحسب طبيعتها لإيجاد نواة سوق رأس المال الإسلامي مع الإشارة في ذلك إلى تجربة بنك البركة الإسلامي في البحرين.
وقد أوجزت الخاتمة خلاصة البحث وما يراه الباحث من توصيات.
ولا يسع الباحث إلا أن يتقدم بالشكر والتقدير لهذه المبادرة الطيبة التي رعاها كل من معالي الدكتور ناصر الدين الأسد – رئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – في عمان ومعالي الدكتور أحمد محمد علي – رئيس البنك الإسلامي للتنمية – في جدة من أجل بحث موضوع المرابحة على هذا المستوى العلمي الرفيع، كما يشكر الباحث كذلك معالي البروفيسور كوركوت أوزال مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب وجميع المشاركين في إغناء التراث الإسلامي بخلاصة الفكر والإبداع.
ونسأل الله –سبحانه وتعالى- أن يديم لقاءات الخير في ظل مجد هذه الحضارة التي نرجو لها دوام الازدهار لترسيخ مفاهيم العدل والإحسان في تعامل الإنسان مع إخوانه من بني الإنسان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الباحث
الدكتور سامي حسن حمود
البحرين في 14 شعبان 1407
الموافق 12 أبريل 1986م
الفصل الأول
نبذة تاريخية عن بيع المرابحة وتطوره المعاصر
1- أساس بيع المرابحة في الفقه الإسلامي:
يعتبر بيع المرابحة نوعًا من أنواع البيوع المعروفة في الفقه الإسلامي. والبيع في الشرع هو كما جاء في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (مبادلة المال بالمال بالتراضي وفي اللغة هو مطلق المبادلة من غير تقييد بالتراضي. (1)
__________
(1) انظر الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، الجزء الرابع (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، دون تاريخ) ص 2(5/1048)
والأصل في البيع أنه جائز بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقد ورد فيه قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [من سورة البقرة الآية: 275] وأما السنة فقد وردت روايات كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيوع وكان الناس يتعاملون بها فأقرهم على ما يجيزه الشرع ونهاهم عما لا يجوز. وأما الإجماع فإن الأمة قد أجمعت على جواز البيع في الجملة وأنه أحد أسباب التملك. (1)
ويتميز بيع المرابحة بأن فيه بيانًا لرأس المال في الشيء المبيع، فهو من بيوع الأمانة (2) وقد عرفه ابن قدامة في كتابه المغني بأنه "البيع برأس المال وربح معلوم ويشترط علمهما (أي البائع والمشتري) برأس المال فيقول رأس مالي فيه أو هو علي بمائة بعتك به وربح عشرة فهذا جائز لا خلاف في صحته ولا نعلم فيه عند أحد كراهة". (3) ثم أورد أبو محمد –رحمه الله تعالى- ما نقل من آراء عن ربط الربح بنسبة من رأس المال، كما لو قال البائع للمشتري بعتك هذا الشيء –مثلًا- برأس مالي فيه وهو مائة وأربح في كل عشرة درهمًا، فقال بأنه نقل عن الإمام أحمد بن حنبل كراهة ذلك كما نقل القول بالكراهية أيضًا عن ابن عمر وابن عباس، وأورد أبو محمد أيضًا القول بالترخيص في هذه المسألة عن سعيد بن المسيب وابن سيرين وشريح والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. (4)
__________
(1) انظر الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، الجزء الرابع (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، دون تاريخ) ص 3
(2) تصنف البيوع في النظر الفقهي من ناحية بيان الثمن إلى بيوع مساومة وبيوع أمانة. - أما بيوع المساومة فهي التي يحدد فيها ثمن المبيع بالمفاوضة أو الإيجاب والقبول دون بيان لرأس المال. - وأما بيوع الأمانة فإنها تكون مبنية على أساس بيان رأس المال وهي تتفرع إلى ثلاث صور هي: - المرابحة وتكون بالبيع برأس المال مع إضافة ربح معين يتفق عليه. - التولية وتكون بالبيع برأس المال دون ربح أو خسارة. - الوضعية أو المواضعة وتكون في حالة البيع بخسارة تطرح من رأس المال. انظر – مصطفى أحمد الزرقاء، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، الجزء الأول (المدخل الفقهي العام) ، الطبعة السادسة (دمشق: مطبعة جامعة دمشق 1959) ، ص 547
(3) انظر: ابن قدامة، المغني، الجزء الرابع (القاهرة: مكتبة القاهرة، دون تاريخ) ص 136
(4) انظر: ابن قدامة، المغني، الجزء الرابع (القاهرة: مكتبة القاهرة، دون تاريخ) ص 136(5/1049)
والذي يظهر من استعراض آراء من قالوا بالكراهة في بيان الربح بطريق النسبة إلى رأس المال هو الظن بوجود الجهالة في الثمن، وهذا الظن ليس واردًا طالما أن الأمر معلوم أو يمكن العلم به بنتيجة الحساب، لذلك فقد انتهى أبو محمد من تحرير المسألة بالقول بأن الكراهة المروية عن ابن عمر وابن عباس إنما هي كراهة تنزيه وإن البيع صحيح.
وإن من يتفحص حقيقة هذا البيع المبني على الأمانة في بيان رأس المال أو إعلان حقيقة تكلفة المبيع بما قام به على البائع يجد أن البيع بهذه الصورة يكون من أشرف البيوع لأنه يمسح من نفس الشاري أي تشكك قد يراوده من ناحية الثمن الذي يدفعه.
2- الصورة المستحدثة في بيع المرابحة للآمر بالشراء:
يختلف بيع لمرابحة الذي تتعامل به المصارف الإسلامية عن صورة المرابحة المعروفة عمومًا والمبحوثة في المؤلفات الفقهية لمختلف المذاهب الفقهية المعتبرة. فالمرابحة عند الفقهاء هي نوع من التجارة يكشف فيها التاجر البائع للمشتري رأسماله في السلعة الموجودة بحوزته وذلك بحسب ما اشتراها أو بما قامت عليه، ثم يضيف ربًحا مبينًا ومعلومًا ويقول أبيعها لك برأسمالي فيها وهو كذا وربحي فيها كذا أما بيع المرابحة الذي تتعامل به المصارف الإسلامية فيبدأ من عند صاحب الحاجة الذي يأتي إلى المصرف ليطلب شراء سلعة معينة ليست موجودة بحوزة المصرف وذلك على أساس أن الطالب يعد بأن يشتري السلعة التي يطلبها من المصرف بما تقوم عليه من تكلفة زائدًا الربح الذي يتفق عليه معه.
وهذه هي الصورة المستحدثة لهذا التعامل المركب من وعد وبيع، فما هو أصل هذه الصورة وما هو سندها من الفقه وما مدى احتياج الناس والمصارف الإسلامية إلى تطبيقها في الحياة المعاصرة؟
أساس ظهور الصورة في الفقه الإسلامي:
ليس لهذا العنوان بالشكل الذي أصبح معروفًا بيع المرابحة للآمر بالشراء وجود في المؤلفات الفقهية القديمة حيث لم تكن هذه الصورة معروفة أساسًا في التعامل قبل عام 1976 عندما اكتشف الباحث –ولأول مرة- وجود الأساس الفقهي لهذه الصورة المركبة من مواعدة وبيع، (1) وقد جاء هذا الاكتشاف من خلال البحث العلمي الذي كان يعده الباحث لنيل درجة الدكتوراه في موضوع –تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية وهي الرسالة التي جرت مناقشتها في كلية الحقوق بجامعة القاهرة في 30/6/1976.
__________
(1) كان هذا هو الرأي الذي انتهى إليه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد فرج السنهوري (رحمه الله تعالى) والذي كان أستاذ مادة الفقه المقارن للدراسات العليا بقسم الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة. وقد كان الأستاذ المرحوم مهتمًا اهتمامًا شخصيًا بموضوع الرسالة التي كان يعدها الباحث بعد أن درس على يديه دبلوم الشريعة الإسلامية وكان الأستاذ المشرف على الرسالة (فضيلة الشيخ زكريا البري رئيس قسم الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة) يطمئن إلى رأي الشيخ السنهوري الذي كان أستاذًا للأستاذ المشرف على الرسالة(5/1050)
وقد جاءت بداية الخيط في تحقيق هذا الكشف العلمي من خلال مراجعة كتاب الأم للإمام الشافعي –رحمه الله تعالى- حيث ورد فيه ما يلي:
"وإذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال: اشتر هذه وأربحكم فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال أربحكم فيها بالخيار إن شاء أحدث فيها بيعًا وإن شاء تركه. وهكذا إن قال اشتر لي متاعًا ووصفه له أو متاعًا أي متاع شئت وأنا أربحك فيه فكل هذا سواء، يجوز البيع الأول ويكون فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت، إن كان قال ابتاعه (الصواب ابتعه) وأشتريه منك بنقد أو دين، يجوز البيع الأول ويكونان بالخيار في البيع الآخر، فإن جدداه جاز ... " (1)
وهذا يعني إمكان قيام صاحب الحاجة إلى سلعة ما (سواء كانت خاصة بالاستعمال الشخصي أم كانت للمتاجرة) بتكليف شخص آخر بأن يشتري هذه السلعة في مقابل وعد من الآمر بأن يشتري هذه السلعة في مقابل وعد من الآمر بأن يشتري منه ما اشتراه مع تحديد الربح الذي يعطيه إياه.
وعندما نظر الباحث على هذه الصورة بعين المصرفي المطلع على احتياجات الناس ومتطلباتهم وجد أن هذا الباب يسد حاجة الناس بصورة أوسع مما يسده به باب المضاربة الشرعية لو كان هو المنفذ الوحيد للتمويل في نطاق عمل البنك الإسلامي، فقد كانت المضاربة التي هي صورة من صور المشاركة بين رأس المال وعمل الإنسان هي المخرج الوحيد الذي كان يطرحه المفكرون الإسلاميون في العقدين السادس والسابع من هذا القرن لحل مشكلة الاستثمار والتمويل الإسلامي، ولكن لم يقل لنا هؤلاء المفكرون كيف يمكن أن يمول البنك الإسلامي بالمضاربة شخصًا يريد شراء سيارة لاستعماله الشخصي مثلًا أو أثاثًا لمسكنه حيث لا يوجد ربح ولا توجد تجارة، كما لم يقل لنا أحد منهم كيف يمول البنك الإسلامي شراء أنابيب نقل المياه مثلًا إذا رغبت دائرة المياه الحكومية في أن تتمول للشراء.
فهل يقف البنك الإسلامي مكتوفًا أمام هذه الاحتياجات المعتبرة ولا يمول إلا التجارة والتجاريين؟
وهب أن تاجرًا لا يريد شريكًا بل يريد بضاعة يشتريها بالأجل ويتصرف فيها بالبيع والتقليب، أو صانعًا يريد شراء المواد الخام لصناعته ولا يريد لأحد أن يدخل شريكًا معه في مصنعه وعمله، فهل يلزم الناس بالمشاركة من أجل التمويل وهم لا يرغبون؟
ولو كان هناك طبيب بحاجة إلى جهاز للأشعة أو آلة للجراحة المتقدمة فهل يجري معه البنك الإسلامي عقد مضاربة على العمل في الآلة؟
إن قاعدة الإسلام مبنية على رفع الحرج عن الناس، وإن عدل الشريعة مبني على التيسير في دين الله، وإنه لا يمكن النظر في إلزام الناس بقبول ما لا يريدون قبوله طالما أن في الشرع متسع للاختيار ولكن الضيق يأتي من نقصان العلم والمعرفة بالأحكام.
فكيف تطورت هذه الصورة من النظرية إلى التطبيق، هذا ما سنعرض إليه في الفصل الثاني.
__________
(1) انظر – الشافعي، كتاب الأم، الطبعة الأولى، تصحيح محمد زهدي النجار، الجزء الثالث، (القاهرة: مطبعة الكليات الأزهرية 1961) ، صفحة 39(5/1051)
الفصل الثاني
النموذج الأردني لبيع المرابحة للآمر بالشراء
1- خلفية التطوير وأثره في العالم
كان للتجربة الأردنية أثر واضح في إدخال مفهوم الوعد الملزم على بيع المرابحة للآمر بالشراء وذلك من خلال ما قدمه النموذج الأردني لهذه الصورة عندما صدر قانون البنك الإسلامي رقم 13 لسنة 1978.
فقد رأت لجنة الفتوى التي كلفها معالي وزير الأوقاف في ذلك الوقت معالي الأستاذ كامل الشريف بدراسة مشروع قانون البنك –الذي كان للباحث شرف إعداده وتقديمه- إن الأخذ بالقول بلزوم الوعد في هذا التعامل أمر ممكن باعتباره أن الإلزام القضائي بالوعد أمر معروف في الفقه المالكي، فقد نقل الأستاذ الجليل مصطفى أحمد الزرقاء في مؤلفه الجامع "الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد" إن الرأي المشهور عند المالكية يعتبر الوعد بالعقد ملزمًا للواعد قضاء إذا ذكر فيه سبب ودخل الموعود تحت إلزام مالي بمباشرته ذلك السبب بناء على الوعد. (1) كما إن القول بلزوم الوعد قضاء منقول كذلك عن ابن شبرمة. (2)
ونظرًا لما يؤدي إليه القول بلزوم الوعد قضاء من استقرار في المعاملات ودفع للضرر الذي قد يتعرض له البنك الإسلامي من جراء النكول عن إتمام البيع فيما يكون الآمر قد طلب شراءه من سلع أو معدات قد لا تكون صالحة لغير الغاية التي طلبها من أجلها، كل ذلك قاد الباحث إلى الاطمئنان إلى عدالة القول بلزوم الوعد قضاء لدفع الضرر والوصول إلى استقرار المعاملات وتجنب الضرر والتغرير.
وإن من يستعرض قواعد الشرع الحنيف يجد أنه كما يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) .
وفي ضوء هذا التصور المنظور ومن أجل سلامة الأساس الذي سيبني عليه عمل البنك الإسلامي الأردني تم وضع التعريف الشامل لبيع المرابحة للآمر بالشراء وهو التعريف الذي أقرته لجنة الفتوى (3) وتضمنه القانون رقم 78 لسنة 1978 ونصه كما يلي: (4)
بيع المرابحة للآمر بالشراء: قيام البنك بتنفيذ طلب المتعاقد معه على أساس شراء الأول ما يطلبه الثاني بالنقد الذي يدفعه البنك كليًا أو جزئيًا وذلك في مقابل التزام الطالب بشراء ما أمر به وحسب الربح المتفق عليه عند الابتداء.
__________
(1) انظر- مصطفى أحمد الزرقاء، مرجع سابق، نفس الجزء صفحة 1023 - 1024
(2) انظر – ابن حزم: المحلى (بيروت: دار الآفاق الجديدة، دون تاريخ) ، الجزء الثامن، ص 28
(3) انظر – تقرير لجنة الفتوى إلى معالي وزير الأوقاف عن مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني وهو التقرير الصادر عن دار الإفتاء تحت رقم 4/5/65 تاريخ 22/9/1977
(4) انظر – المادة رقم 2 من قانون البنك الإسلامي الأردني رقم 13 لسنة 1978 المنشور في الجريدة الرسمية بالعدد 2773 تاريخ 1/4/1978(5/1052)
ومع صدور هذا التعريف لبيع المرابحة للآمر بالشراء بالصورة التي أقرتها لجنة الفتوى (1) فقد بدأ عهد جديد لدخول هذه الصورة نطاق الاستعمال المتسع سواء على مستوى البنوك الإسلامية المحلية (2) أم على مستوى التعامل الدولي في داخل العالم الإسلامي وخارجه. (3) وهكذا أصبح النموذج الأردني في بيع المرابحة منهجًا معروفًا وتسير على منواله العديد من البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية مع بعض التفريعات والاختلافات التي لا تؤثر في جوهر التعاقد وطبيعته.
__________
(1) شارك في اجتماعات لجنة الفتوى التي كلفت بدراسة مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني كل من: - الشيخ محمد عبده هاشم (المفتي العام) ، الشيخ عز الدين الخطيب، الشيخ محمد أبو سردانه، الشيخ أسعد بيوض التميمي، الدكتور إبراهيم يزيد الكيلاني، الدكتور عبد السلام العبادي الدكتور ياسين الدرادكه، وانضم إلى اللجنة من غير أعضاء لجنة الفتوى كل من: الشيخ عبد الحميد السائح، الدكتور محمد أحمد صقر كما شارك الباحث الدكتور سامي حمود في المناقشات باعتباره معد المشروع وقد عقدت اللجنة لهذه الغاية 15 اجتماعًا في الفترة الواقعة بين 6/7/1977 – 11/9/1977 وكان بعض هذه الاجتماعات يمتد أحيانًا من بعد صلاة العشاء حتى صلاة الفجر.
(2) زار الباحث خلال عامي 1977/1978 بناء على دعوات الاستضافة التي تلقاها من البنوك الإسلامية الحديثة لشرح مفهوم العمل المصرفي الإسلامي ومن بينها النموذج الأردني لبيع المرابحة للآمر بالشراء – كلًا من: - الحاج سعيد أحمد لوتاه - رئيس مجلس إدارة بنك دبي الإسلامي – دبي - الحاج أحمد بزيع الياسين – رئيس مجلس إدارة بيت التمويل الكويتي – الكويت - الدكتور أحمد محمد علي – رئيس البنك الإسلامي للتنمية - جدة
(3) تنبهت البنوك الأجنبية إلى صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء وأحدثت صورًا من التعامل الذي تتوسط فيه لشراء سلع أو معادن بالنقد من طرف لبيعها إلى طرف آخر بالأجل بفارق ربح يتوازى مع أسعار الفائدة الرائجة، وقد اجتذبت هذه الطريقة مئات الملايين من أموال البنوك الإسلامية والمستثمرين الإسلاميين بسبب توفر المواد وانتظام الأسواق، ويا حبذا لو طور العالم الإسلامي تجارته لكي يستوعب الأموال الباحثة عن الاستثمار الحلال وهي تعد بالبلايين بحسب الإحصائيات المتوفرة بالأرقام.(5/1053)
2- النقد الموجه للنموذج الأردني
واجه النموذج الأردني لبيع المرابحة للآمر بالشراء جبهات متعددة من النقد والتجريح وهو أمر طبيعي في مناهج السلوك والتفكير الإنساني، ذلك أن بيع المرابحة أصبح يمثل حجر الأساس في نجاح البنوك الإسلامية كما أن حجم الاستثمارات المالية المبنية عليه تمثل الحجم الأكبر من استثمارات البنوك الإسلامية التي تستطيع أن تنافس فيها البنوك العادية في كل مجال وميدان.
ورغم كثرة الانتقادات إلا أن أحدًا لم يستطع الاعتراض على أساس التعامل وإنما انصب النقد على جوانبه باستثناء ما أورده البعض من أقوال المالكية الذي أوردوا صورًا مماثلة لبيع العينة رغم إن صورة المرابحة ليست منها.
فقد ورد في المقدمات لابن رشد إن من صور العينة أن يقول: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدًا وأنا ابتاعها منك باثني عشر إلى أجل، حيث قال المؤلف أن ذلك حرام لا يحل ولا يجوز لأنه رجل ازداد في سلفه.
ورغم أن المنع هنا هو اجتهاد مأخوذ من باب سد الذرائع الذي توسع فيه فقهاء المذهب المالكي إلا أنه لا يعدو أن يكون رأيًا فقهيًا يقابله رأي آخر للإمام الشافعي يجيز فيه ذلك صراحة، فلماذا يلزم الناس ويجبر المفكر الإسلامي على اتباع الرأي الأشد في حين أن التيسير ورفع الحرج هما سمة مميزة من سمات الدين الإسلامي الحنيف.
وذهب آخرون إلى القول بأن جهة الحرمة في هذا التعامل (بحسب زعمهم) تتمثل في القول بالإلزام وأنه لو لم يكن هناك إلزام لكان التعامل صحيحًا ومقبولًا شرعًا.
وهذا أمر أكثر غرابة من سابقه، فهل يكون القول بلزوم الوعد مخالفة في حين أن الله سبحانه وتعالى يأمر بالوفاء بالوعود والعهود؟(5/1054)
ثم من قال بأن الإضرار بالبنك الإسلامي يكون مقبولًا شرعًا؟ فإذا أمر المتعامل البنك بشراء آلة لا يحتاجها غيره وجاء له البنك بالآلة حسب ما طلب ثم عن له أن يخلف الوعد، فهل يكون هذا الخلف بالوعد حلالًا، وإذا كان ذلك يجوز فمن يجبر الضرر الذي يتعرض له البنك بسبب هذا النكول الذي ليس له ما يبرره؟
وبالغ بعضهم في القول بأن هذه المعاملة لم يقل بها أحد من السابقين وكأن شرع الله يلقي الحجر على العقول مع أنه الدين الذي يعطى للمجتهد أجرًا إذا أخطأ وأجرين إذا أصاب.
ورغم أن النقد والاعتراض صفة من صفات الإنسان بوجه عام إلا أن محاولة فرض الآراء الضيقة من أجل التضييق على الناس أمر لا يجوز في دين الله الذي رفع به الحرج، وأن هؤلاء الذين يريدون أن يجعلوا من أفهامهم الضيقة موازين لمصالح الناس دون أن يرتفعوا بهذه الأفهام إلى مقاصد الشرع وغاياته ومراميه هم أناس ظالمون لأنفسهم أولًا وظالمون لأمتهم المتطلعة للصعود إلى المجد من جديد.
لقد كانت البنوك الربوية متفردة في الساحة لإجبار الناس على التعامل بالربا طوعًا وكرهًا وكان هؤلاء المدعون بحماية الإسلام والمسلمين نائمين على الطريق وليس من عمل إلا أنهم يحوقلون. (1) فلما جاء الفكر الإسلامي المستنير يفتح الطريق للعمل الحلال ويحل المشاكل ويقدم الحلول قام هؤلاء النفر ينقدون ويجرحون، فلا هم جاهدوا من قبل ولا تركوا المجاهدين يقاتلون بأي جهد.
ونظرًا لكثرة ما تعرض له بيع المرابحة للآمر بالشراء من هجوم فقد تصدى الأستاذ الفاضل الدكتور يوسف القرضاوي لكل ما يقال من ادعاءات حول هذا التعامل بالصورة التي تقوم بها البنوك الإسلامية وأصدر بذلك كتابًا شاملًا يتضمن الرد على الشبهات المثارة فجزاه الله خيرًا. (2)
__________
(1) الحوقلة – هي القول المعروف لا حول ولا قوة إلا بالله.
(2) انظر – يوسف القرضاوي – بيع المرابحة كما تجريه المصارف الإسلامية (الكويت دار القلم، 1984) الطبعة الأولى.(5/1055)
الفصل الثالث
تطبيقات بيوع المرابحة
" الميكانيكية والمجالات والصعوبات "
1- ميكانيكية التطبيق ونطاقه
يقوم تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء في البنوك الإٍسلامية على آلية (ميكانيكية) محددة مؤداها أنه لابد من وجود الأطراف التالية:
1- الآمر بالشراء وهو الراغب في شراء السلعة.
2- المصرف الإسلامي وهو الجهة المستعدة لتلقي الطلب.
3- البائع وهو مالك السلعة.
وتتم العملية كما يلي:
أ – يأتي الراغب في شراء السلعة للمصرف الإسلامي الذي يتعامل معه ويعرض عليه طلب شراء السلعة التي يرغب في شرائها مبينا أوصافها ومصدرها وثمنها الذي يكون قد سامه وعرفه.
ب – إذا وافق المصرف وكان للمتقدم سقف محدد للتعامل، فإنه يتلقى طلب عميله (الآمر بالشراء) ويحدد معه شروط الدفع ويبين له الثمن الذي سوف يبيعه على أساسه وهو السعر المبني على كلفة الشراء (الثمن الأساسي للسلعة زائدا مصاريف الشحن والتأمين والرسوم الجمركية ومصاريف النقل إذا كان المتفق عليه أن يكون البيع في خارج الميناء في حالة الاستيراد) .
جـ- يقوم المصرف بدفع ثمن البيع للبائع مباشرة كذلك والمصاريف الداخله في حساب الثمن مثل مصاريف الشحن والرسوم الجمركية وغيرها ولا يجوز دفع النقود للآمر بالشراء ليشتري لنفسه تجنبا للوقوع في الشبهات مع أنه يجوز التوكيل في الشراء إلا أن الابتعاد عن ذلك أسلم وأتقى إلا إذا أمن المصرف تماما.(5/1056)
د – عندما يقبل الآمر بالشراء السلعة المشتراة بناء على طلبه فإن هذا القبول يعتبر شراء (سواء كان ذلك كتابة أو شفاهة أو تعاطيا مستفادا من توقيع الكمبيالات بالثمن المتفق عليه) حيث يتسلم المشتري المبيع ويقدم الثمن الذي هو عبارة عن كمبيالات موقعة بالأقساط حسب تواريخ الاستحقاق المتفق عليها من الابتداء.
وبذلك تصل العملية إلى نهايتها.
أما إذا كانت تصرفات مخالفة سواء من البنوك الإسلامية أو من غيرها فإن التصرف المخالف لا يجوز قبوله.
من ذلك مثلا ما قيل أن هناك حالات تعطي فيها بعض البنوك الإسلامية النقود للآمر بالشراء ليشتري السلعة بنفسه ثم يبيع لنفسه ويقدم للبنك كمبيالة بالثمن فيكون كأنما خذ الفا نقدا وقدم سندا بألف ومائتين إلى أجل فإن هذا لا يجوز سدا للذرائع وإن كان من الجائز توكيل الإنسان بأن يشتري لنفسه.
كذلك التصرف الذي تتبعه البنوك في عكس عملية المرابحة بخصم قيمة الربح أو جزء منه بعد إتمام البيع وهو ما تطلق عليه هذه البنوك Mark down فإن هذا التصرف غير صحيح بالمعيار الإسلامي الدقيق لأنه عملية خصم كمبيالة.
وكذلك الحال بالنسبة لبيع المرابحة الذي تجريه هذه البنوك على أساس شراء سلعة من العميل ثم بيعه نفس سلعته مع ربح مضاف فإن ذلك لا يعتبر مرابحة لأنه ليس فيه تمليك جديد وإنما هو حيلة لبيع النقد بالدين وزيادة وهذا هو الربا الحرام.
فالمرابحة بمفهومها الشرعي الكامل هي المرابحة التي تفيد ملكا جديدا في عملية مركبة من ثلاثة أطراف هي البائع والمشترى والمتوسط بالشراء الذي يملك السلعة أولا من البائع ثم ينقل الملك إلى المشترى ويقصد بالتملك هنا حقيقته وآثاره وليس شكله ومظاهره.
فلو اشترى البنك الإسلامي سلعة وإبقاها في مخازن البائع ثم طلب منه تسليمها إلى المشترى الآخر فإن ذلك التصرف مقبول طالما أن البنك هو البائع في نظر المشتري وإنه يتحمل تبعة الهلاك وإليه يتم رد المبيع بسبب العيب إن وجد وكان من الأسباب الموجبة لرد المبيع.(5/1057)
2- النشاطات والقطاعات التي يطبق فيها بيع المرابحة:
يمكن تطبيق بيع المرابحة على مختلف الأنشطة والقطاعات سواء كان ذلك خاصا بالأفراد والشركات أم بالمؤسسات والهيئات المحلية أو الحكومية.
ذلك أن بيع المرابحة غير محدود بالنشاط التجاري بل إنه يشمل كل نشاط سواء كان لتلبية الاحتياجات الفردية (شراء سيارة أو ثلاجة) أو الاحتياجات المهنية (شراء جهاز أو آلة) أم كان لتلبية الاحتياجات الحكومية (شراء نفط أو معدات للمطارات والموانيء والمرافق العامة) .
فما هي الصعوبات التي تواجه تطبيق هذا البيع في الواقع العملي؟
3- الصعوبات والحلول المقترحة:
تختلف الصعوبات الخاصة بتطبيق بيع المرابحة باختلاف البلاد وتعدد الحالات، ففي بلد كالأردن حيث تبنى القانون المدني المستمد من أحكام الفقه الإسلامي مبدأ الإلزام فإن المصرف الإسلامي قد يواجه مشكلة النكول عن الوعد بسبب لا يد له فيه.
أما أهم الصعوبات التي تعترض تطبيق هذا البيع في الواقع العملي في البلاد عموما فإنها تتمثل في التمسك بشكليات الإجراء في البيوع بوجه عام مثل اشتراط التسجيل المباشر في حالات بيع العقارات والسيارات والسفن وغيرها وما يتبع ذلك من رسوم مستحقة الأداء عند البيع والشراء مما يترتب عليه إيجاد تكلفة إضافية دون سبب لذلك.
والحل الذي يراه الباحث يتمثل في إمكان السماح للمصرف الإسلامي (باعتباره لا يشتري لنفسه) بأن يشتري باسم شخص يسمى فيما بعد، وهو أسلوب معروف في التداول القانوني في البلاد الغربية ولا يتنافى مع الضوابط الفقهية طالما أن شخص المشتري ليس مؤثرا في سلامة الرضا من جانب البائع.
فإذا اشترى البنك الإسلامي الأردني – مثلا – سيارة نقل بناء على طلب من عميله فإن دائرة السير تسمح بنقل السيارة من اسم البائع في سجلات الدائرة على أن يبقى اسم المشترى معلقا على التسمية من جانب البنك ولا بأس من جعل المدة قصيرة جدا مثل خمسة أيام أو سبعة أيام على الأكثر حيث يسمى البنك اسم المشتري الذي يتحمل دفع الرسوم مرة واحدة في هذه الحالة بدل الدفع مرتين بلا سبب موجب لذلك.
وبذلك يستطيع هذا التعامل أن يسهم في تحريم دورة المال في المجتمع ليحقق الغاية التي يحققها الماء الجاري في الحديقة الغناء والتي كان يبقى فيها آسنا إذا أبقيناه حبيس الحوض والبناء.
فهل هناك من آفاق يمكن أن ينتقل إليها هذا التعامل إلى مدى هو أبعد من حدود هذا التوسط البسيط؟
هذا ما سوف نبينه في الفصل الرابع والأخير من هذا البحث بإذن الله.(5/1058)
الفصل الرابع
تطوير المرابحة كأساس لسوق رأس المال الإسلامي مع
التعرض لتجربة بنك البركة في البحرين
1- الانتقال من التمويل إلى التداول
يلاحظ المتتبع لنمو البنوك الإسلامية إن هذه البنوك قد نجحت على مستوى القاعدة حيث تدفقت الودائع واتسعت آفاق التمويل والطلب عليه، إلا أن هذه البنوك ما تزال تبحث عن الغطاء في قمة العمل المصرفي وهو الغطاء الذي يتمثل في وجود سوق رأس المال الإسلامي، وإنه من المعروف لدى المصرفيين أن البنوك والمؤسسات المالية تمثل قاعدة السوق الأولية للمال وإن التكامل يتطلب وجود السوق الثانوية لكي تستطيع هذه البنوك أن تكون لها رئة مالية تتنفس فيها شهيقا وزفيرا حيث تعطي الفائض من سيولتها وتمتص ما تحتاجه عند الحاجة إلى هذه السيولة.
وفي ظل عدم وجود السوق الثانوية ذات الإطار الإسلامي وجدت البنوك الإسلامية نفسها أسيرة النظام المالي المتحكم في تدوير أموال الشعوب فكان إن ساهمت هذه البنوك إلى حد كبير وعن غير قصد غالبا- في نقل الأموال الإسلامية إلى الأسواق العالمية تحت ظلال المرابحة في السلع الدولية.
وليس هناك من سبيل إلى إعادة توطين هذه الأموال المهاجرة من الديار الإسلامية إلى خارج البلاد إلا عن طريق المحاولة لإيجاد سوق لرأس المال الإسلامي يكون مرفودا بعمليات تجارية وتعاون اقتصادي بين دول العالم الإسلامي لخدمة أهداف التنمية ووقاية هذا العالم من الوقوع في شرور التناقض الاجتماعي الذي يسببه اختلال الموازين الاقتصادية وانتشار الفقر والحقد الدفين.
ومن هنا بدأ التطلع والعمل للانتقال إلى مرحلة جديدة من مراحل تطور العمل المصرفي الإسلامي من أجل دخول سوق رأس المال بأدواته المتلائمة مع طبيعة العمل الملزم بأحكام الشرع الحنيف.
ففي مقابل سند القرض بالفائدة لابد أن توجد الأداة الاستثمارية الإسلامية التي تتمتع بما يتمتع به سند الفائدة من سيولة وربحية وضمان في إطار ما هو ممكن وبما لا يتعارض مع قواعد الفقه الإسلامي العظيم.
وقد كانت بيوع المرابحة هي أساس هذا التفكير الذي يكاد يعلم فيه راس المال والربح فور إبرام عقد البيع اللاحق حيث تباع السلعة التي ثمنها ألف دينار بمبلغ ألف ومائة دينار مثلا بعد عام.
ومن المعلوم أن ثمن المبيع يكون دينا في ذمة المشتري وإن الديون لا تباع إلا بمثل القيمة دون اعتبار للأجل، فكيف يمكن التصرف في مثل هذا الموقف الذي تبقى يد الدائن مقيدة إلى أن يحل أجل السداد؟
كان هذا هو الحل الذي جاءت به نعمة الرضى من الله سبحانه وتعالى على ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي على نحو ما نبينه أدناه.(5/1059)
2- إدخال مفهوم أدوات سوق رأس المال الإسلامي للاقتصاد الإسلامي
طرح الباحث في ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي التي تم عقدها في تونس بين 4- 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1984 موضوع الوسائل الشرعية لتداول الحصص الاستثمارية في حالات السلم والإيجار والمرابحة.
وقد كان بيع المرابحة من أبرز الأمثلة المختارة لبيع الحصص الاستثمارية باعتبار أن بيع المرابحة بعد أن يتم يمكن فيه تماما معرفة الربح وموعد تحققه ونسبة ما يستحق من الزمن وما يتبقى لما هو باق من الأيام.
وإذا كانت الديون بحد ذاتها لا تباع إلا مثلا بمثل فإن هذه الديون إذا كانت جزءا من موجودات مختلطة مع النقود والأعيان فإنها تصبح قابلة للبيع، ولذا جاز في المخارجة وهي بيع الوارث نصيبه في التركة مع أن فيها ديونا ونقودًا ومنافع لأنها مختلطة بعضها مع بعض. وكذلك جاز لمالك السهم أن يبيع سهمه في الشركة مع أن هذا السهم يمثل حصة في موجودات الشركة كلها بما يدخل فيها من نقود وديون وأعيان.(5/1060)
ومن هنا كان مبنى الفكرة المعروضة على لجنة العلماء المشاركين في ندوة البكرةى الثانية (1) وهي الفكرة المتمثلة في إنشاء شركة تابعة لبنك البركة الإسلامي في البحرين تكون مختصة في تمويل المرابحة وتكون أسهمها قابلة للبيع والشراء وفق أسعار معلنة مقدما على أساس محسوب تبعا للعمليات المنفذة والأرباح المستحقة في بيوع المرابحة القائمة وذلك باعتبار أن السهم في الشركة التابعة يمثل جزءا شائعا في موجودات الشركة بكاملها.
__________
(1) ضمن ندوة البكرة الثانية مجموعة من العلماء من مختلف المذاهب وهم أصحاب الفضيلة: 1- الشيخ عبد الحميد السائح رئيسا. 2- الشيخ زكريا البري عضوًا. 3- الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير عضوًا. 4- الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة عضوًا. 5- الدكتور حسين حامد حسان عضوًا. 6- الشيخ محمد السعدي فرهود عضوًا. 7- الدكتور عبد الستار أبو غدة عضوًا. 8- الدكتور حسن عبد الله الأمين عضوًا. 9- الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عضوًا. 10 – الدكتور محمد إبراهيم عضوًا. 11- الدكتور محمد الطيب النجار عضوًا. 12- الدكتور عبد اللطيف آل محمود عضوًا. 13- الدكتور با بكر عبد الله إبراهيم عضوًا. 14- الشيخ أبو تراب الظاهري عضوًا. 15- الشيخ المختار السلامي عضوًا. 16- الحاج أحمد البزيع الياسين عضوًا مراقبًا 17- الدكتور سامي حسن حمود عضوًا(5/1061)
وعندما طرحت فكرة الشركة التابعة على السلطات المختصة في البحرين وتم إيضاح الأهداف المتوخاة من أجل المساهمة في إنشاء سوق رأس المال الإسلامي عن طريق تهيئة الأدوات الملائمة لوجود هذا السوق لم تتردد هذه السلطات في التجاوب الحميد حيث أصدر سعادة وزير التجارة والزراعة في البحرين الأستاذ حبيب أحمد قاسم القرار رقم 17 لسنة 1986 لتسجل دولة البحرين بذلك سبقا كبيرا في مجال التنافس المحمود لوضع قواعد الأساس لنوع جديد من الشركات المساهمة الإسلامية التي تتمتع بخاصيتين هامتين:
أولاهما: وجود نوعين من الأسهم هما أسهم الإدارة وأسهم المشاركة والفرق بين النوعين أن أسهم الإدارة تمثل ملكية الشركة وإدارتها أسهم المشاركة فليس للمساهم حق التصويت أو التدخل في الإدارة وإنما هو يشارك في الربح المتحقق فقط.
ورغم أن المعروف في هذه الأسهم المسماة بالاصطلاح الأجنبي Non – Voting Shares أنها ترجع إلى الأصول الإنجليزية في التشريع إلا أن الواقع يدل على أن حقيقة التصور في المسألة تتمثل في الأساس الإسلامي الذي تفترق فيه الملكية عن التصرف والإدارة، ولعل المثل الواضح في ذلك هو علاقة رب المال بالعامل في مال المضاربة حيث أن رب المال وهو المالك لا يستطيع أن يتدخل في إدارة مال المضاربة رغم أن المال ماله حيث أن التدخل يفسد العقد من أساسه.
وقد كان حريا بأصحاب الفكر الإسلامي أن يقدموا للعالم صورة الشركة المساهمة الإسلامية التي تستطيع أن تصدر أسهم المضاربة لتمويل عملياتها دون أن يحدث هناك خلل في ملكية الشركة وإدارتها وخاصة بالنسبة لبلد مثل بلدنا الأردن الذي يبحث عن الوسائل المناسبة لتشجيع المستثمرين على القدوم إلى البلاد مع الرغبة في المحافظة على الملكية الوطنية للشركات المساهمة التي تمثل دعامة البناء الاقتصادي الوطني.
ففي ظل نور الفقه الإسلامي يأتي الحل الموفق بين هذا وذاك.
أما الخاصية الثانية فإنها تتمثل في قبول فكرة رأس المال القابل للتغيير وهو أمر معروف في بعض القوانين التجارية حيث يتصاعد رأس المال أو يقل بمقدار الإصدارات المطروحة من أسهم المشاركة أو المباعة أو المطفأة.
وقد أحسن القرار الوزاري البحريني صنعا حين الزم في مادته الأولى مثل هذه الشركات المعفاة بأن تعمل وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية.
واستنادا إلى صدور القرار الوزاري المشار إليه أعلاه قام بنك البركة الإسلامي في البحرين بتأسيس شركة مساهمة بحرينية معفاة ذات رأس مال متغير لممارسة أعمال الإصدارات المختلفة في صناديق المرابحة والإيجار والسلم والمشروعات ومن المقرر أن يكون الإصدار الأول لصندوق المرابحة من اجل لفت الأنظار إلى إمكان وجود الأدوات المالية الإسلامية والتي تتمتع بالسيولة والربحية والقابلية للتسويق المنظم على أساس السعر المعلن والمكشوف.(5/1062)
3- ميكانيكية العمل في صندوق المرابحة وإصداراته المختلفة
تقوم فكرة الإصدارات المختلفة لأسهم المشاركة في صندوق المرابحة على أساس أن الصندوق يمثل جزءا من موجودات الشركة بميزانية فرعية تختلط فيها النقود مع الديون والأعيان وأن المساهم يملك حصة مشاعة في مجموع هذه الموجودات.
وبما أن عمليات المرابحة يمكن فيها حساب الربح المتحقق شهرا فشهرًا، فإن قيمة السهم يمكن أن تزيد بما يعادل نسبة الربح المتحقق بالفعل، ويستطيع بنك البركة بصفته يملك الشركة أن يعلن استعداده لشراء الأسهم المعروضة وفق سعر محسوب فيه ثمن الأساس زائدا الربح المتحقق بالنسبة لما فات من شهور، وطالما أن الاستعداد للشراء موجود فإن القابلية للبيع تزداد وتستطيع الشركة أن تصدر رأس مالها بمقدار ما تطرحه في السوق من أسهم جديدة للاكتتاب تبعا للعمليات الجارية بانتظام.
وبذلك يستطيع المستثمر أن يطمئن إلى أن في إمكانه أن يشتري في أي وقت وأن يبيع أسهمه كذلك عند الحاجة بسعر يمثل سعر الأساس زائدا ما يكون قد تحقق له من أرباح.
وهكذا يولد السوق من خلال توفير الاستعداد الدائم المفتوح للبيع والشراء وبما أن الأدوات المالية المباعة والمشتراة تمثل أسهما تزيد بالربح وليست سندات تزيد بالفائدة فإن الوصف الإسلامي لهذا السوق لا يجافي الحقيقة والواقع.
وعندما توجد مثل هذه السوق ويشتد عودها فإنها تكون الأولى باجتذاب فائض السيولة لدى البنوك الإسلامية حيث تستطيع الشراء عندما تفيض لديها الموارد وتبيع عندما تشعر بالحاجة إلى السيولة.(5/1063)
الخلاصة والتوصيات
نستخلص مما سبق بيانه ما يلي:
1 – أن بيع المرابحة للآمر بالشراء في بنائه الفقهي يستند إلى أساس سليم وأن الصورة التطبيقية التي أقرتها لجنة الفتوى في الأردن من ناحية القول بلزوم الوعد في بيع المرابحة هي الصورة الأقرب لتحقيق الاستقرار في التعامل وأعمال الشروط الجائزة بين المسلمين.
2 – أن بيع المرابحة للآمر بالشراء ليس مجرد وسيلة للتمويل أو الاستثمار المحدود ولكنه يمكن أن يتطور إلى إدارة لرأس المال القابلة للتداول والتدوير.
3 – أن الجهات التشريعية في البلاد الإسلامية مطالبة بأخذ التطورات الحديثة التي استدعتها العمليات المستجدة للبنوك الإسلامية على محمل التيسير بهدف تسهيل انتشار التعامل الإسلامي الذي يحقق العدل والإحسان فيما بين الناس.
4 – أن العمل الجاد لإيجاد أدوات سوق رأس المال الإسلامي يكان يكون ضرورة لازمة في سبيل تسهيل إعادة توطين الأموال المتدفقة من بلاد العالم الإسلامي إلى خارج ديار الإسلام، وأن البنوك الإسلامية سوف تكون مضطرة أمام فقدان هذه السوق المالية بأدواتها المتلائمة مع المبادئ الإسلامية إلى الهجرة بفائض ما لديها من أموال إلى حيث توجد السعة والفرص المتاحة لاستيعاب هذه الأموال.
5 – أن شركات المرابحة المساهمة المعفاة (1) يمكن أن تكون نواة ناجحة لإيجاد الأداة المناسبة للتداول والتي يمكن أن تشكل مع غيرها من الأدوات إطارا متكاملا لسوق رأس المال الإسلامي بكل ما يتمتع به هذا السوق من خصائص الجذب والاجتذاب.
وكما يبنى البيت الكبير من تجميع الحجر فوق الحجر في نظام هندسي بديع كذلك يبنى النظام المالي المتكامل من تجميع الأداة إلى جانب الأداة في نظام هرمي راسخ في الأرض ومرتفع إلى عنان السماء.
وإن هذا البلد الأردني المعطاء لجدير بأن يكون مع غيره من الأشقاء في سلم القيادة على طريق الحق والخير بإذن الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الدكتور سامي حسن حمود
مدير عام بنك البركة الإسلامي للاستثمار
دولة البحرين
__________
(1) الشركات المعفاة بالمفهوم القانوني في دولة البحرين يعني الشركات المعفاة من بعض أحكام قانون الشركات وذلك من ناحية تملك المواطنين مثل لما لا يقل عن 51 % من رأس المال وغير ذلك من الاشتراطات وقد نجحت دولة البحرين في اجتذاب العديد من الشركات المسجلة في الدولة للعمل في خارج البلاد على طريقة الافشور أي طريقة التعامل الخارجي لمنع المنافسة مع الشركات الوطنية(5/1064)
مراجع البحث
- ابن حزم المحلي (بيروت: درا الآفاق الجديدة، دون تاريخ)
- ابن قدامة المغني (القاهرة، مكتبة القاهرة، دون تاريخ)
- الشافعي كتاب الأم (القاهرة – مطبعة الكليات الأزهرية، 1961) الطبعة الأولى
- الزيلعي تبين الحقائق شرح كنز الدقائق (بيروت – دار المعرفة، دون تاريخ)
- مصطفى الزرقاء الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد (المدخل الفقهي العام)
(دمشق، مطبعة جامعة دمشق، 1959) . الطبعة السادسة
- سامي حمود تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية
(عمان – دار الفكر – 1981) الطبعة الثانية.
- سامي حمود الأعمال التحضيرية لإنشاء البنك الإسلامي
محفوظات خاصة مطبوعة بالآلة الكاتبة.
- يوسف القرضاوي بيع المرابحة كما تجريه المصارف الإسلامية
(الكويت: دار القلم، 1984) الطبعة الأولى.(5/1065)
المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث
الحضارة الإسلامية
(مؤسسة آل البيت)
ندوة عن:
"خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية، الجوانب التطبيقية، والقضايا، والمشكلات" بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب/ البنك الإسلامي للتنمية بجدة
عمان
22 شوال – 25 شوال 1407 هـ
18/ 6 – 21 / 6/ 1987 م
بحث الدكتور م. فهيم خان
عن
تطبيق عقد المرابحة في البنوك التجارية في باكستان
القسم الثاني
(شيء من تفصيل حول عقود المشاركة (ربحا وخسارة)
لدى قطاع البنوك الباكستانية
القسم الثاني: تطبيق عقود المشاركة الرابحة:
التطبيقات التالية لعقود المشاركة الرابحة هي الأكثر شيوعا لدى قطاع البنوك الباكستانية:
1- اتفاقية مبنية على زيادة السعر مع بنك تجاري.
2 – اتفاقية إعادة الشراء مع بنك تجاري.
3 – عقد مشاركة مع بنك تجاري.
4 – شهادة مساهمة ذات استحقاق مع مؤسسة للتنمية المالية
5 – اتفاقية مساعدة مالية مع مؤسسات مالية متخصصة في تلبية حاجات المشاريع الصغيرة.(5/1066)
تظهر في الفصول التالية المعالم البارزة لهذه التطبيقات:
1 / أولًا: الاتفاقية المبنية على زيادة السعر:
هذه الاتفاقية عبارة عن تطبيق مبدأ البيع الآجل أو بيع السلم. وفيما يلي أهم ميزات هذه الاتفاقية:
1 – تستغل هذه الاتفاقية لدى البنوك التجارية للقروض التمويلية مختلفة الآجال من قصيرة ومتوسطة وطويلة.
2 – يدخل العميل في اتفاق مع رب المال لشراء أموال منقولة.
3 – يوافق العميل على بيع تلك الأموال إلى البنك على مبلغ يتفق عليه يدعى " سعر البيع " ويقوم البنك بتسليمه للعميل.
4 – يوافق العميل نفسه على شراء نفس البضاعة ثانية من البنك بسعر معين يتفق عليه يسمى " سعر الشراء " (يشمل هذا زيادة السعر) يتم تسديده من قبل العميل في تاريخ معين. وإذا قام العميل بالتسديد في التاريخ المتفق عليه فإن البنك يعطيه تخفيضا خاصا يسمى " منحة " مثلا لو أن شخصا وافق على دفع سعر الشراء بحدود 1300 روبية بعد سنة واحدة. وكان هذا المبلغ يمثل أصل الدين 1000روبية وزيادة السعر 300 روبية. وبعد مرور السنة قام ذلك الشخص بدفع 1300 روبية، فإن البنك يعيد إليه " منحة " قدرها مثلا 160 روبية لأنه سدد في الموعد المتفق عليه. هذه الروبيات المعادة ما هي إلا زيادة في السعر أضافها البنك احتياطا لأي تأخر في التسديد بعد الموعد المحدد ولمدة لا تزيد على 210 يومًا إذ يستطيع البنك أن يحصل أمواله من العميل بموجب قرار محكمة في مدة أقصاها 210 يومًا من تاريخ الاستحقاق الأول.
5 – دفع سعر الشراء مضمون بأن يرهن العميل البضاعة أو يؤمنها لصالح البنك، وأن يكون مستعدا لتقديم ضمانات أخرى قد يطلبها البنك من حين لآخر.
6 – كذلك يلتزم العميل بموجب عقد الشراكة أن لا يفترض أية أموال أو يستغل زيادة سعر أو تمويل من أي بنك آخر أو مؤسسة مالية أو شخص آخر، وأن لا يسدد أي دين أو التزام مالي لأية جهة دون اخذ موافقة خطية مسبقة من البنك.
7 – البنك غير مسؤول تحت طائلة القانون عن البضاعة التي اشتراها العميل من حيث الجودة أو الكمية والقيمة أو أي شيء آخر.(5/1067)
8 – إذا تأخر العميل في سداد أي قسط في موعد استحقاقه تعتبر بقية الأقساط مستحقة وللبنك الحق في المطالبة بكامل رصيد سعر الشراء، وله الحق لتأمين تسديد ذلك أن يضع يده على البضاعة ويقوم ببيعها.
9 – للبنك الحق في أن يطالب بتسديد سعر الشراء حالا ودون بيان الأسباب. ويلتزم العميل في مثل هذه الحالة بأن يسدد القيمة خلال سبعة أيام من تاريخ الطلب. وفي حاله التخلف فإن العميل يلتزم أيضا بدفع العطل والضرر بحدود 20 % من قيمة المبالغ التي طلبها البنك وتخلف العميل عن دفعها.
10- الاصطلاحات: البنك والعميل تشمل الورثة بالأصالة أو الوكالة لأي منهما أو منهم.
ملاحظة:
هذه الاتفاقية أيضا تستخدم في منح تسهيلات لذوي الدخل المحدود. حيث يقوم العميل بتقديم حاجة للبيع ويتعهد بشرائها ثانية بالسعر والزيادة اللذين يفرضهما البنك.
2 / ثانيا: اتفاقية إعادة الشراء:
تكاد تكون هذه الاتفاقية مثل الاتفاقية المبنية على زيادة السعر. والخلاف الوحيد ينحصر في أن على العميل أن يقدم حاجة للبيع يقوم ببيعها للبنك (بغض النظر عن قيمتها أو نوعها) بسعر يساوي المبلغ الذي يحتاجه من البنك ويوافق في نفس الوقت على شراء الحاجة ثانية بسعر أعلى (يشمل زيادة السعر التي يضيفها البنك) مثلا: لو كنت بحاجة إلى 10.000 روبية من البنك فإن البنك يطلب مني أن أبيعه شيئا من عندي، عندها أوافق على بيع تلفزيوني مثلا (وليس بالضرورة أن يساوي 10.000 روبية) للبنك وأوافق في نفس الوقت على شراء ذلك التلفزيون ثانية بمبلغ 12.000 روبية أو 15.000 روبية أو حتى باحتساب سعر إعادة الشراء كما يحسب أي بنك يتعامل بالفائدة ما يجب أن يدفعه عميله بحيث يغطى المبلغ الأصلي مضافة إليه الفائدة.
يطلب البنك عادة وضمن الاتفاقية أن يقوم العميل بتقديم رهونات أو تأمينات لأية أملاك أو ممتلكات ضمانا للمبلغ الذي سيسدده العميل في الموعد المتفق عليه.
ويسرى على هذه الاتفاقية جميع الشروط من 3- 10 الواردة في الاتفاقية المبنية على زيادة السعر المذكورة في البند 2 / أولًا(5/1068)
2/ثالثا: المشاركة: عقد اقتسام الأرباح المتداول في أي بنك تجاري باكستاني:
المشاركة بطبيعتها نوع من الاستثمار المالي المبنى على تقاسم الأرباح أو الخسائر. ويلجا لمثل هذا التمويل ويطبق على المعاملات المالية للفئات التالية:
أ – التمويل الرأسمالي للصناعات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة الحجم.
ب- التمويل الرأسمالي للأعمال التجارية والتجارة نفسها.
جـ- تمويل الهيئات التي تعمل في إنشاء المباني (مؤسسات الإسكان)
د- لمزارع الطيور ومنتجات الألبان.
هـ- للبستنة والدواجن.
و للغابات.
إلا أن مثل هذه الاتفاقات قليلة للتطبيق ولا تزيد على 10 % من مجموع التمويل البنكي. وأهم ما تمتاز به عقود المشاركة:
1- أنها لا تمنح إلا للشركات التي تحتفظ بحسابات رسمية، وتعد ميزانيات نهائية بانتظام.
2 – تتحاشى البنوك احتمالات التلاعب في السوق أو المضاربات أو المغامرات التي قد تؤثر على إرباحية المشروع المشترك أو أن العميل يدير المشروع بطريقه تؤثر على مصالح البنك. ولهذه الأسباب فإنها أي البنوك تمارس منتهى الحذر عندما تقدر صلاحية العميل أو المشروع المشترك ليقوم البنك بإجراءات المشاركة. كذلك تتساءل هل العملية صالحة للتطبيق.
3 – يقدم العميل طلبه على النموذج المعد ويرفق معه:
- بيانات عن ثلاث سنوات تشمل نتائج العمليات ورأس المال والميزانية العمومية وحساب الأرباح والخسائر لتلك السنوات.
- ضرائب الدخل المدفوعة- إن وجدت – خلال ثلاث سنوات.
- بيان سنوي عن أرباح المشروع على شكل كشوفات تقديرية للأرباح تشمل النتائج لعمليات المشروع بموجب تلك التقديرات.
4 – تتطلب المشاركة تقديم ضمانات: ولابد من أن نأخذ بعين الاعتبار ما يلي بالنسبة للضمانات المقدمة:
أ – هل الضمانات كافية؟ أي هل قيمتها التحويلية كافية لتغطية استثمار البنك مضافا إليه كمية الربح التي قد تتحقق بموجب كشف الربح التقديري الذي أعده العميل.
ب- هل الضمانة سهلة التحويل إلى نقد.
جـ- لما كانت طبيعة كثيرة من الضمانات توحي باحتمال نقص قيمتها عادة وفجأة فإن على البنك أن يراعي ذلك عند قبول الضمان.
د- يؤمن على الضمانات على حساب العميل وبنفقته.
هـ- في حالة الشركات المساهمة المحدودة فإنه تؤخذ كفالة المدراء المسؤولين بصفتهم الشخصية ضمانا إضافيًا للودائع المقدمة ضمانات وهو ما جرت عليه العادة.(5/1069)
5 – تقرر حصة البنك في عقود المشاركة في ضوء ما يلي:
أ – الكشوفات التقديرية للأرباح التي يقدمها العميل هي التي تقرر حصة البنك والعميل معا.
ب- في ضوء ذلك يحقق البنك حصته من الأرباح كل ربع سنة (تحت الحساب) كما هو متفق عليه عادة في اتفاقية المشاركة.
جـ – لهذا السبب يقوم العميل أو الشركة بفتح حساب في البنك يسمى حساب المشاركة (تخصيصات الأرباح) ، ويبقى الحساب دائنا ويعطى البنك تفويض ليقيد على هذا الحساب في آخر كل ربع سنة الأرباح المؤقتة المحسوبة بالطريقة المبينة أعلاه على أساس الناتج اليومي على استثمارات البنك القائمة.
د – في نهاية كل سنة مالية يوزع الربح المتحقق بموجب حسابات الشركة حسب التخصيصات المعينة لكل استثمار حصته.
هـ- عند احتساب التخصيصات – يراعى ما يلي: إذا وجد أن حصة البنك أو أي جهة أخرى صاحبة حق، كانت تزيد على ما استوفته من أرباح مؤقتة فإن تلك الزيادة تقيد في حساب احتياطي خاص يسمى احتياطي المشاركة يقوم البنك بفتحه في سجلاته. أما إذا كانت الأرباح المؤقتة التي استوفاها البنك أو جهة أخرى صاحبة حق، أكثر مما تحقق من أرباح فعلية، فإن الفرق يقيد على الحساب الجديد الذي تم فتحه وهو حساب احتياطي المشاركة.
6 – في حالة الخسارة تتم الإجراءات التالية:
أ – تقوم الشركة خلال ثلاثة أشهر من إغلاق حساباتها بتقديم ميزانية مصدقة من فاحص الحسابات إلى البنك.
ب- في حالة رغبة الشركة في استعادة الربح المؤقت أو جزء منه من البنك مما كان قد قيد على حساب المشاركة – إذا كانت اتفاقية المشاركة تنص على ذلك، فإن على الشركة أن تخطر البنك خلال ثلاثين يوما من انتهاء الاتفاقية. وإذا لم تقم الشركة بهذا الإشعار خلال تلك المدة فإن ذلك يعتبر تنازلا منها عن تلك الاستعادة، ويعتبر كذلك موافقة من الشركة على قبول الربح القليل الذي وصلها وإقرار ما قيده البنك على حساب المشاركة.(5/1070)
جـ- إذا تبين أن حصة البنك من الربح خلال سنتين من السنوات الثلاث السابقة كانت دون ما قيده على حساب المشاركة، فإن للبنك الحق في أن يحول 20 % من استثماره إلى أسهم عادية من أسهم الشركة على حساب أضعاف أسهم الشركة وذلك بموجب البند 120 من نظام الشركات لسنة 1984.
د – أما إذا تعرضت الشركة للخسارة خلال فترة اتفاقية المشاركة، فإن للبنك الحق في أن يحول من أسهم الشركة بما يساوي حصته من الخسارة على حساب أضعاف قيمة أسهم الشركة وذلك بموجب نظام الشركات المشار إليه في (ج) أعلاه.
هـ- تصدر الشركة كتب توزيع الأسهم كما ذكر أعلاه خلال ثلاثين يوما من طلب البنك وتكون الأسهم عادية ويصحب البنك مثله مثل أي حامل أسهم آخر صاحب حق في الانتخابات والتحويل متمتعا بأية حقوق أخرى يمنحها القانون للشركات المساهمة.
و في حالة تعرض الشركة للخسارة خلال فترة الاستثمار بسبب سوء الإدارة أو عجزها عن تسديد أموال البنك أو التعويض عن الأرباح لأي سبب مهما كان، أو عجزت عن تنفيذ أي بند من بنود الاتفاقية، فاللبنك إضافة إلى أي وسائل معالجة أخرى متيسرة أن يباشر إجراءات تصفية الشركة لعله يؤمن ما يستحق له.
ز- في حالة عجز الشركة عن تحقيق الأرباح التقديرية بسبب سوء الإدارة أو إهمال المدراء المسؤولين، أو إذا تبين أن هناك تجاوزا على أي بند من بنود الاتفاقية من قبل الشركة، فإن على الشركة أن تتحمل جميع الخسائر. وعلى الشركة كما هو متفق عليه أن تتحمل العطل والضرر الذي تعرض له البنك بسبب عجز الشركة عن تأمين الأرباح التقديرية بسبب إهمالها أو لأي سبب آخر مما ذكر أعلاه.
ويعتبر هذا العطل والضرر مساويا في المقدار للربح المؤقت المتفق على دفعه للبنك بموجب الاتفاقية.
2 / رابعا: ش م ق (شهادة مساهمة ذات استحقاق)
عقد شراكة في الأرباح تتداوله مؤسسات التنمية المالية (م ت م)
الأرباح. تدخل الشركة في اتفاقية (ش م ق) مع (م ت م) – مؤسسة تنمية مالية على الأسس التالية:
1 – تطلب الشركة تمويلا جزئيا لمشروع معين من (م ت م) .
2- توافق (م ت م) على استثمار مبلغ محدد في المشروع.
3 – تتعهد الشركة بتحمل مسؤولية تنفيذ المشروع وإتمامه من جميع الوجوه بما يرضى (م ت م) حسب جدول التنفيذ. ويعتبر المبلغ المدفوع للشركة قرضا عليها.(5/1071)
وإذا لم يتم إنجاز العمل في الوقت الذي حددته (م ت م) فتتحمل الشركة غرامة حسب المعادلة التي بينها بنك الدولة الباكستاني لمثل هذه الغرامات التي تستوفي على المبالغ التي تقترضها الشركة من وقت لآخر خلال المدة المقررة لإنجاز المشروع.
4 – بعد إنجاز العمل من جميع الوجوه وبشكل مقبول من (م ت م) ضمن وقت الإنتاج التجاري أو حوالي ذلك الوقت، فإن جميع الموجودات العائدة للمشروع والتي تعتبر ملكا للمؤسسة (م ت م) تباع للشركة بسعر يساوي الأشياء التالية: المبالغ التي اقترضتها الشركة لإنجاز المشروع، مضافا إلى ذلك أية غرامات قد تكون فرضت على الشركة علاوة على نسبة ربح لا تقل عن 12 % تستوفيها (م ت م) على مثل تلك المبالغ ولنفس الآجال إذا استثمرتها في مجالات أخرى، وتكون نسبة الأرباح على مجموع المبالغ والغرامات التي دفعت في سبيل تأمين القيمة التي نسميها " سعر الشراء ". عند إتمام عملية الشراء تقوم الشركة بإصدار (ش م ق) معادلة لسعر الشراء المدفوع إلى (م ت م) وتكون الشهادات من الفئات والاستحقاقات التي تنصح بها (م ت م) .
5 – إذا تبين في أي وقت من الأوقات أن سير الإنجاز دون الوقت المقرر في جدول المواعيد، وأن المشروع لن يتم ضمن التقديرات المالية المتفق عليها، والتي تعتبر أساس هذه الاتفاقية، وزاد التجاوز في النفقات أو توقعنا أن يزيد مستقبلًا على 15 % من الكلفة المقدرة أصلا، فإن (م ت م) تعيد تقييم المشروع.
وما دامت (م ت م) هي صاحبة القرار المطلق فإنها قد تقرر ما يلي:
أ – أن لا تتجاوز عن التخلف الناتج عن تأخير الإنجاز أو أن تتوقف عن تمويل المشروع حسبما يتراءى لها. وفي مثل هذه الحال فإن (م ت م) :
- قد تكلف شخصا آخر أو أحد الشركاء ليقوم بإتمام المشروع وتشغيله بدلا من الشركة.
ويقوم هذا الشخص أو الشريك الذي جاءت به (م ت م) بتحمل كافة الأموال الفعلية التي تم استثمارها من قبل ممثلي الشركة ويدفعها لهؤلاء الدائنين بعد إجراء تدقيق الحسابات من قبل فاحصي حسابات قانونيين.
- أو تبيع أو تضع يدها على الممتلكات والموجودات عن طريق المناقصة أو البيع بالمزاد العلني، وتخصص عائدات البيع لتغطية استثمارات (م ت م) بالدرجة الأولى. وما زاد عن ذلك إن وجد يستغل بالدرجة التالية لتسديد الممولين الآخرين ودائني الشركة من مدرائها المسؤولين.
ب – أو تسمح للشركة بإتمام المشروع بالكلفة المعدلة وبالشروط والتعليمات التي تضعها (م ت م) .(5/1072)
6 – حصة (م ت م) من الأرباح تتناسب طرديا مع نسبة شهادات المساهمة غير المستردة إلى مجموع أموال الـPLS الأخرى والاحتياطيات ورأس مال الشركة المدفوع،ومع ذلك ولإعطاء حافز للشركة فإن (م ت م) قد لا تحتفظ إلا بشىء يسير من أرباحها بما يعادل الربح الذي تستوفيه من الشركة بعد 30 يوما من إغلاق حساباتها نصف السنوية وتخصم للشركة 2 % وتبقى (م ت م) لنفسها ما يعادل 15 % فقط من القيمة الاسمية لشهادات المساهمة ذات الاستحقاق (ش م ق) لسنة مالية واحدة.
7 – تفتح الشركة حساب مشاركة مع أي بنك تجاري وطني باسم (م ت م) بعد أخذ موافقتها. وتودع في ذلك الحساب الدفعة نصف السنوية المؤقتة من الأرباح دون إشعار أو طلب مفوضة لصالح (م ت م) .
8 – تدفع الشركة دفعة مؤقتة على حساب الأرباح بمعد 8.5 % حسب حصة الأرباح المتفق عليها في الفقرة السابقة خلال 30 يوما من انتهاء 6 أشهر على بدء سنة الشركة المالية، ويرفق مع الدفعة نسخة من حسابات الشركة نصف السنوية. وتعتبر هذه الدفعة المؤقتة، دفعة مقدمة من أرباح (ش م ق) للسنة المالية وتسوى حسابيا في تاريخ الاستحقاق الأخير لشهادات (ش م ق) . وإذا لحقت الشركة خسارة في أي سنة مالية ندخل الدفعات المؤقتة في السجلات في حساب احتياطي المشاركة وتجرى تسويتها في هذا الحساب في الاستحقاق الأخير لشهادات (ش م ق) . وفي حالة تحقيق الشركة أرباحا تقل عن 15 % من قيمة (ش م ق) القائمة تغطي الشركة ذلك العجز بالوسائل التالية:
أ – تعطي شهادات (ش م ق) الصادرة لصالح (م ت م) الأولية في الاستفادة من الأرباح المقررة للتوزيع.
ب – إذا حققت الشركة أرباحا عالية بحيث زادت أرباح (م ت م) على الحصة المقررة لأي سنة أخرى، فإن هذه الزيادة في أرباح (م ت م) تقيد أيضا لحساب احتياطي المشاركة.
جـ – إذا كانت أرباح الشركة غير كافية لتأمين العائد المتفق عليه مع (م ت م) وكانت أباح المساهمين الآخرين غير كافية لتغطية العجز الحاصل في عائدات أسهم (م ت م) ، يجرى قيد العجز على احتياطي المشاركة، ثم ترحل أي زيادة في ذلك الحساب (إن وجدت) إلى الفترات القادمة احتياطا لمواجهة العجز في السنة أو السنوات التالية في حصة (م ت م) .
د – (م ت م) لها الحق في أن تحول ما لا يزيد عن 20 % من (ش م ق) الخاصة بها إلى أسهم عادية بالسعر السائد وفي أي وقت ضمن مدة سريان (ش م ق) . على أن مثل هذه الشهادات لا تصدر، ومثل هذا التحويل من (ش م ق) إلى أسهم عادية لا يلجأ إليه إلا إذا هبط مردود (ش م ق) بعد مرور سنتين من ثلاث سنوات من بدء الإنتاج التجاري إلى ما دون الحد الأدنى لمعدل المردود الذي وضعه بنك الدولة الباكستاني.(5/1073)
9 – تتم إعادة الدفع في حساب رأس مال المستهلك خلال سنة مالية معينة على أساس مجزأ دون اعتبار للربح أو الخسارة وإلى موعد الاستحقاق الأخير لشهادات (ش م ق) وبعد أن يسوى حساب الخسارة إن وجدت من حساب احتياطي المشاركة الذي ينشأ بالأسلوب المبين فما يلي من أجل هذه الغاية المحددة.
أ – تقوم الشركة بإنشاء حساب احتياطي خاص تسميه حساب احتياطي المشاركة للسنة المالية التي تبدأ منذ تاريخ الإنتاج التجاري وحتى تاريخ استحقاق آخر قسط في (ش م ق) . وتقيد فيه الزيادات الحاصلة في مردود (م ت م) من حصتها من أرباح الشركة.
ب- الأموال التي تدفع في حساب احتياطي المشاركة أو المبالغ التي تدفع منه، إن لزم ذلك فما تخصصه الشركة، كل ذلك يستغل ويجهز للاستعمال في أي وقت حتى دفع آخر أقساط (ش م ق) . وأن تخفض حصة الأعضاء من الأرباح وتدفع لمواجهة أي نقص في السنة أو السنوات السابقة في دفع الحد الأعلى من المردود على (ش م ق) المتفق عليه.
جـ- دون اجحاف بحق أي تسوية خلال ذلك من حساب احتياطي المشاركة، فإن هذا الحساب سيصفى في نهاية استحقاقات أقساط (ش م ق) ودفع آخر تلك الأقساط وذلك أما بالتوزيع أو التسوية أو التخصيص في أو حول الأولويات التالية:
1 – دفع أية خسارة في استثمارات (م ت م) بالدرجة الأولى
2 – دفع العجز الحاصل في نسبة 15 % الخاصة بـ (م ت م) عن السنوات المالية التي لم تتحقق فيها أرباح للشركة.
3 – رفع حصة (م ت م) إلى 15 % عن السنوات التي تقل فيها أرباح الشركة بحيث لا يصل مردود (م ت م) إلى 15 %
4 – لمواجهة مجموع النقص بشكل عام خلال سنوات حياة (ش م ق) أثناء صلاحيتها منذ إصدارها وحتى استحقاقها.(5/1074)
توضيح:
تدل عبارة النقص أو العجز المستعملة أعلاه أو في أي مكان آخر، وما لم ينص على خلاف ذلك، تدل على دفعات الربح التي تقل عن 15 % من القيمة الاسمية لشهادات (ش م ق) أو أي جزء من الأصل لا يسترد عند الاستحقاق وفي جميع الأحوال عند استحقاق (ش م ق) .
5 – بعد دفع التخصيصات الواردة في 1 إلى 4 أعلاه وبعد مواجهة أي غرامات قد تنتج عن التأخر في الدفعات أو التخلف عنها يحول أي رصيد باق في حساب احتياطي المشاركة إلى حساب الشركة كمنحة لها مقابل إدارتها الفعالة وحسن أدائها.
10- عند استحقاق (ش م ق) إذا أظهرت الشركة خسارة صافية إجمالية، وتآكل المبلغ الأساسي لشهادات (ش م ق) المتداولة:
أ – تعاد للشركة كل المبالغ المدفوعة زيادة على الربح الفعلي.
ب- وكذلك ودون تجاوز حصة الأعضاء من الخسارة تعامل (ش م ق) القائمة والتي تمثل الحصة النسبية من الخسارة غير المغطاة بعد التحوط للخسارة التي تزال من الأرباح الخاضعة للضريبة فإن (ش م ق) إما أن تسوى عند المحاسبة على الأقساط الأخيرة فيها أو تستعاد من قبل (م ت م) إلى الشركة، مع احتفاظ (م ت م) بحقها في شراء أسهم الشركة العادية مقابل دفع الثمن.
11- إذا تعرضت الشركة للخسارة في أي سنة مالية فإن (ش م ق) تعامل بالشكل التالي:
أ – تعيد الشركة قيمة (ش م ق) الأساسية بشكل يتفق مع الشروط الأصلية.
ب- تدور الخسارة المترتبة على (م ت م) في أي سنة إلى موعد الاستحقاق النهائي لأقساط (ش م ق) .
جـ- عند انتهاء استحقاق (ش م ق) يتم احتساب الأرباح المقبوضة والخسارة التي سيتحملها حملة (ش م ق) . وإذا وجد أن جملة (ش م ق) سيتحملون أية خسارة صافية، فإن تلك الخسارة ستغطى إن أمكن من حساب احتياطي المشاركة بالدرجة الأولى.
د – أما الخسارة التي قد تحدث بعد ذلك، فتغطى من احتياطات الشركة العادية. وإذا استمر وجود خسارة مهما كانت بعد استعمال الاحتياطيين العادي وحساب احتياطي المشاركة تتحمل (م ت م) تلك الخسارة بنسبة مساهمتها.
هـ- إذا قامت الشركة بإعادة دفع المبلغ الأصلي واستلمت (م ت م) أرباحها طيلة فترة (ش م ق) بالمعدل المتفق عليه بالنسبة لأصل الدين القائم وحتى الحساب النهائي لاستحقاق (ش م ق) فلا يطلب من (م ت م) أن تتحمل أية خسارة. وتعتبر (ش م ق) بقيمتها الكاملة أنها قد استردت، وتعيدها مؤسسة (م ت م) إلى الشركة بعد إلغائها حسب الأصول. وإذا تبقى أي مبلغ في حساب احتياطي المشاركة بعد تخصيص ما يكفي لدفع عائدات (م ت م) بمعدل 15 % على حسابها غير المسدد طول حياة (ش م ق) وبعد تسديد المبلغ الأصلي وأية غرامات قد تكون فرضت بسبب التخلف عن أو التأخر في التسديد فإن هذا المبلغ المتبقي يعطى للشركة كمنحة مقابل حسن الأداء تعيد استثمارها أو توزيعها على المساهمين كما تراه الشركة مناسبا.
و– إذا اضطرت (م ت م) عند الحساب الختامي وبتاريخ الاستحقاق إلى تحمل أية خسارة فإن لها الحق أن تشترى من أسهم الشركة بما يعادل الخسارة التي ستغطيها أو تتحملها.(5/1075)
12- استثمارات (م ت م) وأية عائدات أخرى لها محتملة في (ش م ق) أو غير ذلك تعتبر مضمونة برهن من الدرجة الأولى على جميع ممتلكات الشركة الحالية والمستقبلية، سواء المنقولة منها وغير المنقولة وكذلك مضمونة برأس المال غير المدفوع – إن وجد – وأية موجودات متداولة أخرى.
13- تقوم الشركة بتسديد القيمة الأصلية لشهادات (ش م ق) على دفعات نصف سنوية بعد مرور سنة على بدء الإنتاج التجاري، وبعبارة أخرى، بمبالغ تقررها (م ت م) .
14- يحق للشركة، قبل استحقاق (ش م ق) النهائي أن تعيد شراء (ش م ق) القائمة بأن تدفع:
أ – ضميمة لتغطي أي نقص، إن وجد، بين الربح الفعلي والربح المقرر في حدود 15 % وعلى (ش م ق) القائمة لتعوض الخسارة على القيمة الصافية الناتجة عن تراكم الخسارة.
ب – أو مبلغا معادلا للخسارة التي تحملتها (م ت م) على (ش م ق) التي تم استردادها فعلا.
جـ- أو مبلغا مساويا للنقص الحاصل بين الأرباح المدفوعة فعلا، ومتوسط أرباح (ش م ق) التي تم استردادها.
د- أو تعويضًا عن الخسارة في المكاسب المستقبلية المحسوبة على أساس تجميع تلك المكاسب المستقبلية.
هـ- أو يدفع أية مستحقات أو نفقات أو رسوم قائمة عليها.
وإلى أن يتم تسديد المبلغ الأصلي وما يترتب عليه من أرباح (ش م ق) مع أية مستحقات اخرى بموجب هذا الترتيب أو بموج قانون الائتمان أو أية وثيقة تصدر وتكون لصالح (م ت م) وتعاد جميع الأموال إلى (م ت م) بشكل ترضى عنه، فإن الشركة لا تستدين أو تضغط على موجوداتها الثابتة إلا في حالة تسلمها إحالة خطية مسبقة من (م ت م) وبالشروط والتعليمات التي توافق عيها وتحررها النقابة خطيًا.(5/1076)
15- توافق الشركة كذلك على ما يلي:
أ- تمتلك (م ت م) حق تعيين مدير عن (ش م ق) في مجلس إدارة الشركة من وقت لآخر.
ب- تدفع الشركة من وقت لآخر رسوما ًربع سنوية بمعدل 1,5 % على المبالغ غير المسددة من أصل الاستثمار.
جـ- تدفع الشركة إلى (م ت م) رسوم تصديق بمعدل 0.25 % ورسوم كشف على المشروع بمعدل 0.5 % على قيمة الاستثمار المدفوعة.
ويتكرر تحصيل هذين الرسمين عند كل استثمار تال أو كفالة أو غير ذلك من أجل تغطية أية تجاوزات أو الحاجات الإضافية للتمويل.
د – تدفع الشركة إلى (م ت م) رسم إشراف على المشروع بمعدل واحد في الألف سنويا من المبالغ القائمة عليها من أموال المساعدة مضافا لذلك أية مصاريف طارئة.
هـ- تطلب الشركة إلى مدرائها المسؤولين أن يتعهدوا بتأمين الأموال اللازمة لتغطية النفقات الزائدة، إن وجدت، من أموالهم الشخصية على أن يكون 40 % منها على الأقل من احتياطي رأس المال.
و– تطلب الشركة إلى مدرائها المسؤولين أن ينظموا تعهدًا مقبولًا من (م ت م) ، وما دامت أموال (م ت م) في الاستثمار قائمة، بأن يتعهدوا أن لا يتصرفوا بأسهمهم أو يحولوا إدارة مشروع الشركة للغير دون موافقة خطية مسبقة من (م ت م) .
ز – يضع المدراء المسؤولون أسهمهم في الشركة تحت تصرف (م ت م) عندما تشاء.
ح- لن تصرح الشركة عن أية قسائم أو تبيعها أو تمنح أسهم مجاملة خلال هذه الفترة لأي من أموالها المستحقة أو القابلة للدفع إلى أي عضو في (م ت م) ضمن هذه الاتفاقية إلا بعد أخذ موافقة خطية مسبقة من (م ت م) .
ط- تشرف (م ت م) على إقامة المشروع وتنفيذه وتؤمن حيث يلزم ذلك مستشارين وخبراء على حساب الشركة من أجل هذه الغاية.
ي – (م ت م) لها الحق أن تكلف فاحص حسابات غير فاحص حسابات الشركة المعين، ليقدم لها تقريرا خاصا عن أوضاع الشركة. مثل هؤلاء المحاسبين سيتأكدون من قيام موجودات الشركة في مواقعها الطبيعية وهو ما تتقاضي عليه (م ت م) رسما. وتكون النفقات على حساب الشركة.(5/1077)
ك – تستغل الشركة جميع ما لديها من أموال خلال فترة الإنشاء لإتمام المشروع حسب الخطة التمويلية التي أقرتها (م ت م) . وفي حالة تعرض المشروع إلى تجاوزات أو نقص في الأموال، فإن الشركة تتوقف عن دفع أية مبالغ أو فوائد لأي مؤسسة دائنة أخرى خلال فترة الإنشاء إلا إذا حصلت على موافقة خطية مسبقة من (م ت م) . وعلى مدرائها المسؤولين من جهة أخرى أن يعملوا على تسديد المبالغ المطلوبة مع فوائدها من حساباتهم الخاصة، على أن يخصص 25 % منها للاستثمار من احتياطي رأس المال في الشركة.
ل – تمشيا مع توجيهات الحكومة أو إذا رغبت (م ت م) في أي وقت أن تجرى تعديلات على أية شروط أو بنود في الاتفاقية أو رغبت في إدراج شروط أخرى فإن الشركة توافق وتتعهد أن تدخل في اتفاقية لاحقة مع (م ت م) وتعتبر هذه الاتفاقية اللاحقة جزءا لا يتجزأ من الاتفاقية الأصلية.
م – إذا لم ينجز المشروع خلال 12 شهرا من تاريخ استلام كتاب التصديق فإنه يعاد تقييم المشروع ليعاد النظر فيه من قبل مجلس إدارة (م ت م) . ويستوفى رسم إعادة تقييم 10 % من رسم الكشف الأصلي على المشروع محسوبا على المبلغ الأصلي وعلى الأموال التي دفعتها النقابة، وقيمة أي كفالة قائمة. وتقوم الشركة بدفع هذا الرسم الذي يعتبر غير قابل للاسترداد بغض النظر عن النتائج التي قد تتمخض عنها إعادة التقييم.
ن – إذا وصلت الشركة أي شروط عن طريق أي مستند غير مشمول في هذه الاتفاقية فإن تلك الشروط تعتبر جزءًا من الاتفاقية الأصلية.
س – تدفع الشركة إلى (م ت م) عمولة بمعدل 1 / 8 % من قيمة الأموال المستثمرة وعمولة أخرى بمعدل 1 / 10 % (واحد في الألف) من قيمة القسط الخاص بالمبلغ الأصلي الذي يدفع في تاريخ الاستحقاق. وكذلك يدفع مبلغ 1000 روبية تسمى رسم انتداب بصفة (م ت م) قيمًا.
2 / خامسا: اتفاقية مساعدة مالية:
عقد مشاركة في الأرباح كما هو متداول في مؤسسات مالية متخصصة في تلبية حاجات الصناعات الصغيرة.
تعد هذه الاتفاقية المؤسسات المالية المتخصصة لتؤمن الأموال اللازمة للاتفاق على الأعمال الصغيرة على أساس المشاركة في الأرباح.(5/1078)
خصائص هذه الاتفاقية:
1- عميل يرغب في القيام بعمل صغير يتقدم بطلب مبلغ معين من المال لا يتجاوز حدًا معينا، لعمل معين.
2- المؤسسة توافق على تسليم مساعدة مالية معينة للعمل المذكور.
3- تتطلب المؤسسة كفيلين شخصيين (يسري على ورثتهما ما يسري عليهما بالأصالة أو الوكالة) يتعهدان بتسديد الالتزامات المترتبة على العميل طالب المساعدة المالية في حالة تخلفه عن تنفيذ شروط الاتفاقية.
4 – تمنح المساعدة المالية لمدة 3 سنوات من تاريخ التصديق عليها.
5 – يتقاسم الطالب والمؤسسة الأرباح والخسائر في ضوء الشروط التي سترد في 6إلى 10 فيما بعد.
6 – تقرر المؤسسة نسبة الربح والخسارة في ضوء مبلغ المساعدة المالية وقيمة موجودات الطالب كما قدرتها المؤسسة. وتعتبر تقديرات المؤسسة للموجودات نهائية وملزمة للطالب.
7 – إذا زادت الأرباح المعلنة من قبل العميل أو تعادلت مع الربح المتوقع كما سيرد في (9) مما يلي فإن المؤسسة تقبله دون تعليق أو تحفظ كما صرح به العميل، حيث لا يشك في صحة الأرباح المصرح بها.
8 – إذا نقص الربح المعلن عن المعدل المذكور في (9) أدناه أو إذا أعلن العميل عن خسارة، فإن المؤسسة في هذه الحالة ترفض الربح أو الخسارة المصرح بهما، وتقوم بإجراء امتحان لأصالة العملية وفحص حسابات شامل لهذا الربح أو الخسارة يقوم به فاحصو حساباتهما أو آخرون بالنيابة عنها. وما تقرره المؤسسة بعد الفحص والامتحان من ربح أو خسارة يعتبر ملزما للعميل.
9 – تحدد المؤسسة للعميل معدلا متوقعا للربح. وإذا لم يقم العميل بتقديم كشوفات حساب المؤسسة لتجري عليها الفحص والامتحان خلال المدة المطلوبة منه، فإنه يعتبر قد حقق أرباحا لا تقل عن المعدل المتوقع المحدد له من قبل المؤسسة لتلك السنة.
10 – يسدد أصل المساعدة المالية مع أية مصاريف أو نفقات أخرى على أقساط شهرية يدفعها العميل للمؤسسة دون النظر إلى أن العمل قد لا يكون حقق أي ربح.(5/1079)
11- يقوم العميل أو كفيله برهن ملك لصالح المؤسسة تأمينا للمساعدة المالية التي دفعتها المؤسسة للعميل. وتبقى هذه الرهنية قائمة مع جميع حقوق الراهن ومصالحه إلى حين تسديد مستحقات الشركة كلها أو جزء منها.
12- إذا حدث نقض لبنود الاتفاقية أو شروطها، فإن للمؤسسة صلاحيات، دون الرجوع للمحاكم، تخولها أن تضع يدها على الملك المرهون وكذلك أن تقوم ببيع المرهون وفاء لقيمة المساعدة المالية، ويعتبر العميل وكفيلاه أو الراهن مسئولين شخصيا عن أي رصيد يتبقى مستحقا بعد ذلك.
13- تأمينا لسداد المستحقات للمؤسسة يرهن العميل كذلك أملاكه لصالح المؤسسة.
14- للمؤسسة الحق في جميع الأوقات، ودونما حاجة إلى إخطار العميل، بل على العكس، على حسابه، أن تدخل أي مكان يحوي بضائع العميل لتقوم بفحصها وقدير قيمتها و/ أو تحصل على كل التفاصيل وتتصرف بالبضائع عندما يتخلف العميل عن الوفاء بأي التزام للمؤسسة.
15- إذا تبين في أي وقت من الأوقات أن مجموع المساعدة المالية وحصة المؤسسة من الأرباح مضافا إليها أية مصاريف أو نفقات أخرى تزيد على سعر الكلفة أو سعر السوق الذي تساويه قيمة ملك العميل المرهون، فإنه يترتب على العميل أن يسدد الفرق حالا، إما بدفعه نقدًا أو زيادة الأملاك المرهونة للمؤسسة وضمن ما تقرره المؤسسة نفسها.
16- يؤمن العميل لصالح المؤسسة ولصالحه جميع البضائع أو الأملاك المرهونة ضمانا للمساعدة المالية التي منحتها المؤسسة، ويتم التأمين لدى أن مكتب تأمين تسميه المؤسسة من وقت لآخر، ويتم دفع الأقساط من قبل العملية.
17- للمؤسسة أن تنهي هذه الاتفاقية متى شاءت دون بيان أسباب ودون أن يكون العميل قد خالف أية شروط أو بنود في تلك الاتفاقية. وعلى العميل أن يقوم حالا بتسديد أصل المساعدة المالية المتبقي مضافا إليه حصة المؤسسة من الأرباح عدا أية نفقات أو مصاريف أو غير ذلك مما يتعلق بالعملية كلها.(5/1080)
2 / سادسا: تعليق مختصر على تطبيق عقود المشاركة الرابحة في قطاع البنوك الباكستاني.
تحتاج روح استبدال التمويل المبنى على المشاركة في الربح والخسارة بالتمويل المبنى على الفائدة إلى عنصرين أساسيين:
أ – الغنم بالغرم، أي أنه لا يحق لأي طرف في الاتفاقية أن ينال مغنما دون أن يتعرض للخسارة أو يتحمل مغرما.
ب – التساوي والتوازي، أي أنه لا ينال أي طرف في الاتفاقية فائدة لا يستحقها بحكم المركز في مقابل الطرف الآخر في مركزة الآخر.
إذا أخذنا بعين الاعتبار العلاقة بين البنك وبين من يستثمرون أمواله نجد أنه لا توجد هناك عناصر عليا في الجهتين المتعاملتين في اتفاقيات المشاركة الرابحة والرائجة في قطاع البنوك الباكستاني في هذه الأيام.
تتعامل البنوك بشكل رئيسي في علاقاتها مع مستثمري أموالها وفي 90 % من عملياتها بمبدأ زيادة السعر. وهذا المبدأ يستعمل بشكل لا ينطوي على عناصر عليا، لذلك كانت زيادة السعر مطابقة للفائدة إن لم تكن أسوأ من ذلك. ففي الحقيقة يعتبر مبدأ زيادة السعر كما هو مستعمل الآن أسوأ من التعامل بالفائدة، لأنه يسبب لمن يتعامل به عناء أكبر خصوصا ما يتعلق بإعداد المستندات. فالبنك لا يتحمل أية مسئولية بالنسبة للنوعية أو الكمية، أو تسليم أي شيء مما له علاقة بالبضاعة موضوع الاتفاقية. وإنما يستوفي البنك زيادة في السعر معلومة تتأثر بزمن التسديد. ولا يشارك البنك أو يتحمل أية أخطار. وهو في هذه الحالة وهو يقبض زيادة السعر يعتبر مخالفًا لمبدأ الغنم بالغرم.
أما المبدأ الثاني الذي تتعامل به البنوك في علاقتها مع الذين يستثمرون أموالها فهو مبدأ المشاركة. وهو في البنوك قليل الوجود. وفي حين تتعامل به على نطاق واسع مؤسسات التنمية المالية، أو مؤسسات التمويل المتخصصة، وهذه المؤسسات وهي تتعامل بهذا المبدأ بعيدة كل البعد عن روح التعامل به. فكما نلاحظ من البنود (ثالثا إلى خامسا) من بحثنا هذا فإن البنوك تؤمن نفسها دائما بمردود يكاد يكون ثابتا (15 % غالبا) على المبالغ التي تدفعها، وتسمى هذا المردود معدل الربح المتوقع أو المعدل الذي أنتجه المشروع. فالبنك لا يستوفي أكثر من هذا المعدل حتى ولو أنتج العميل ربحا أعلى من المعدل المتوقع، ولا يطالب عادة بزيادة حصته أسوة بالعميل نفسه. أما إذا تدنى الناتج عن المعدل المتوقع المذكور في الاتفاقية فإن البنك لا يتنازل عن ذلك المعدل المتوقع ويستوفيه كاملا. وفي بعض الحالات النادرة وحين يتعرض العميل إلى خسارة مستمرة خلال بضع سنوات فإن البنك قد يقبل (وليس ذلك بالضرورة قائما) مردودا أقل من معدل الربح المذكور في الاتفاقية. وقد أعدت الاتفاقيات بشكل يجعل مساهمة البنك في الخسارة أمرا غير موجود أو قائم.
كل رحلة (مهما طال أمدها) تبدأ بالخطوة الأولى، وقد نظمت الاتفاقيات الواردة في هذا الفصل متأثرة بروح الخطوة الأولى. أما مدى تجاوب علماء المسلمين واقتصادييهم مع مبدأ الخطوة الأولى وإقراره بالإجماع والإيجاب فهو سؤال لم تتم الإجابة عليه بعد..
إذا استطاعت هذه الاتفاقيات أن تضيف غضن تعاسة في جبين شايلوك، فإني أستطيع القول ... لقد بدأنا الخطوة الأولى.(5/1081)
المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث
الحضارة الإسلامية
(مؤسسة آل البيت)
ندوة عن:
"خطة (استراتيجية) الاستثمار في البنوك الإسلامية، الجوانب التطبيقية، والقضايا، والمشكلات" بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب/ البنك الإسلامي للتنمية بجدة
عمان
22 شوال – 25 شوال 1407 هـ
18/ 6 – 21 / 6/ 1987 م(5/1082)
بحث الدكتور
أوصاف أحمد
عن
الأهمية النسبية لطرق التمويل المختلفة في النظام المصرفي
الإسلامي
أدلة عملية من البنوك الإسلامية
أولًا: مقدمة:
من المتفق عليه في هذا الموضوع أن البنوك الإسلامية تنمي أموالها عن طريق فتح حسابات مختلفة كالحسابات الجارية وحسابات التوفير، بتفويض استثمارها أو دون ذلك وحسابات الاستثمار العادية أو الخاصة بخدمة العملاء في استثمار أموالهم أو تأمين ما يلزمهم على شكل المضاربة أو المشاركة أو البيع الآجل أو المرابحة أو التمويل برسم التمليك أو القرض الحسن.
وقد قيل الكثير عن وسائل الائتمان هذه مفترضين أن العائدات الحدية ضمن هذا الأسلوب من التعامل لن تكون عالية، هذا مع ضآلة المعلومات عن طريقة البنوك الإسلامية في استغلال هذه الوسائل بما يكفي لتأمين التمويل اللازم، كيف تستغل وسائل الائتمان المختلفة المتيسرة؟ وأي هذه الوسائل أيسر تطبيقًا بالنسبة لقطاعات معينة؟ ذلك هما السؤالان الأساسيان اللذان تصعب الإجابة عليهما دون الرجوع إلى الممارسات الفعلية للبنوك الإسلامية، ولابد لمن كان له اهتمام بهذه الأمور من أن يتغلب على صعوبة كبرى، هي عدم توفر المعلومات الكافية، حتى أن الميزانيات العمومية وحسابات الأرباح والخسائر لا تعتبر كافية لتزويدنا بالمعلومات اللازمة حول هذه الوسائل. (1)
إن الهدف من هذا البحث هو دراسة وسائل الائتمان التي تمارسها البنوك الإسلامية لبيان مدى أهميتها ودورها في المحصلة النهائية لعمليات الائتمان، وكذلك بيان بعض الملاحظات القصيرة عن نسبة توزيع التسهيلات على مختلف القطاعات بالإضافة إلى التعرف على آجال التسهيلات الائتمانية.
__________
(1) إن الآراء الواردة في هذه الورقة لا تعني بالضرورة وجهة نظر مركز البحوث والتدريب الإسلامي، أو بنك التنمية الإسلامي، والورقة مبنية على دراسة أوسع عنوانها "تطوير البنوك الإسلامية ومشاكلها" والتي تم نشرها مؤخرًا من قبل مركز البحوث والتدريب الإسلامي(5/1083)
ثانيًا: المنهج العلمي، الاستبيان ونوعية الاستجابة:
لما كانت المعلومات المتوفرة عن البنوك الإسلامية ضئيلة، فقد رأينا أن من الأنسب جمع المعلومات المطلوبة عن طريق دراسة عينات من البنوك الإسلامية العاملة، وباشرنا هذه الدراسة خلال الفترة من نيسان إلى تشرين الأول (أكتوبر) 1985، ولمعرفتنا أن "الدراسة عن طريق البريد" ضعيفة معدل التجاوب لجأنا إلى الاتصالات الشخصية مع عدد من البنوك الإسلامية مباشرة، فتم تجهيز الاستبيان المناسب وسلم إلى البنوك الإسلامية التي اشتركت في الاجتماع الرابع لمدراء عمليات البنوك الإسلامية الذي عقد في الدوحة (قطر) في نيسان 1985، وأرسل الاستبيان بريديًا إلى البنوك الأخرى التي لم تمثل في ذلك الاجتماع وقد بلغ عدد الاستبيانات المرسلة ثلاثين استبيانًا، وقد تم تذكير المشتركين في الاجتماع الخامس لمدراء عمليات البنوك الإسلامية الذي عقد في لكسمبرغ من 7 إلى 8 تشرين الأول 1985للإجابة على الاستبيان المرسل إليهم سابقًا.
وقد قسم هذا الاستبيان إلى ثمانية أقسام اشتملت في مجموعها على 55 سؤالًا وقد ضمت بالإضافة إلى المعلومات العامة معلومات عن العمليات البنكية، والموجودات والودائع، وحساب الإيرادات وعمليات الائتمان وكيفية توزيعها على مختلف القطاعات، وآجال التسهيلات الائتمانية، ونسبة توزيع القروض، والودائع، والدور الاجتماعي للبنوك الإسلامية، ومشاكل الجهاز المصرفي الإسلامي، هذا مع العلم بأن المعلومات المشمولة في هذه الورقة معنية بالدرجة الأولى بعمليات الإقراض ونسبة توزيعها قطاعيًا وبآجال التسهيلات الائتمانية (1)
وقد هدف الاستبيان إلى الحصول على معلومات وصفية وزمنية، وذلك في ضوء حقيقة أعمار البنوك الإسلامية فعلى الرغم من حداثة عدد منها –بعد 1983- إلا أن كثيرًا منها تأسس في سنة 1977 أو نحو ذلك، لهذا اعتبرنا أن مجموعة المعلومات الزمنية المقدمة من البنوك الأقدم نسبيًا ستلقي ضوءًا على الاتجاهات المتغيرة لدى البنوك الإسلامية كما ستكون مصدر فائدة للبنوك الإسلامية الجديد خاصة، وسنرى فيما بعد أن هذا الاتصال أدى إلى نتائج مفيدة.
وقد استجاب من البنوك الإسلامية الثلاثين التي تم الاتصال بها ما مجموعة ثمانية بنوك فحسب، أي ما يمثل 26? تقريبًا من عدد البنوك الإسلامية القائمة، فإذا اعتبرنا ضعف معدل التجاوب في الاتصال البريدي لمثل هذه الدراسة، ولم نغفل كذلك طبيعة المعلومات المطلوبة فإن ذلك يعتبر معدل تجاوب مقبول.
__________
(1) للحصول على معلومات أوفى راجع كتاب "تطوير البنوك الإسلامية ومشاكلها" للدكتور أوصاف أحمد (1987) IRTI جدة(5/1084)
أما البنوك الإسلامية التي تجاوبت معنا فهي:
1- البنك الإسلامي الأردني الأردن (1979)
2- بنك فيصل الإسلامي القاهرة – مصر (1977)
3- البنك الإسلامي للسودان الغربي السودان (1981)
4- بنك التضامن الإسلامي السودان (1981)
5- بنك قطر الإسلامي الدوحة – قطر (1983)
6- البنك الإسلامي الدولي الدانمارك (1983)
7- بنك بنجلاديش الإسلامي دكا – بنجلاديش (1983)
8- البنك الإسلامي السوداني الخرطوم – السودان (1983)
وتمثل التواريخ المحصورة بين هلالين تاريخ تأسيس كل بنك منها.
إذا رجعنا إلى الاستجابات نجد أن بنكًا واحدًا قد أجاب على البنود التسعة (بما فيها المعلومات العامة) الواردة في الاستبيان، وقد تحاشت معظم البنوك الإسلامية إعطاء معلومات عن بعض المسائل الحيوية، وقدمت ستة بنوك معلومات عن العمليات البنكية، في حين لم تزد البنوك التي أعطت معلومات عن نسبة توزيع تسهيلاتها الائتمانية على ثلاثة، وهكذا فإن المعلومات التي أعطيت تشعر بوجود حاجة إلى مزيد منها، مع مراعاة أن هذه المعلومات تعود إلى نشاطات لا تكاد توجد لدى البنوك الإسلامية أو بعبارة أصح فإنها لا تعرف عنها شيئًا.
لقد كانت العينة المقدمة من البنوك الثمانية عينة مرضية، فقد جاءت من بنوك إسلامية قديمة وأخرى حديثة، ومن بنوك إسلامية كبيرة وأخرى صغيرة، وبلغة الأرقام فإن البنك الإسلامي الأردني بفروعه الأحد عشر كان الأول في هذه العينة، وجاء بعده بنك فيصل الإسلامي المصري بفروعه العشرة، علمًا بأن عدد فروع البنوك الثمانية هو تسعة وأربعون فرعًا، وجاءت العينات من ستة أقطار هي بنجلاديش، وجمهورية مصر العربية والدانمارك، والسودان وقطر والمملكة الأردنية الهاشمية بمعدل بنك واحد من كل قطر باستثناء السودان فقد شارك منها ثلاثة بنوك، ولم يغير عدم ورود ردود من كل بنوك الدولة الواحدة في نتائج الدراسة التي تمت على مستوى البنوك أفرادًا. .(5/1085)
ثالثًا: العمليات المالية لدى البنوك الإسلامية:
تتم في البنوك الإسلامية معظم العمليات التي تتم في البنوك التجارية مع تعديلات هنا وهناك حيث لا تتفق بعض العمليات مع أحكام الشريعة الإسلامية، أما العمليات فتشمل: قبول الودائع للحفظ أو الاستثمار، ومنح القروض والتسهيلات الائتمانية حسب أحكام الشريعة،
وشراء العملات الأجنبية وبيعها، كذلك فتح الاعتمادات المستندية وتحصيل قيمة السحوبات وخصم الكمبيالات وقبول بوالص الشحن وغير ذلك على أساس استيفاء عمولة، وتقوم البنوك التجارية المعاصرة بمعظم هذه الأعمال بفائدة يتفق عليها، في حين تقوم بها البنوك الإسلامية بطريقة لا تتعارض مع أحكام الشريعة، مثلًا تشتري البنوك الإسلامية وتبيع العملات الأجنبية والسبائك الذهبية بالسعر السائد فحسب.
ويسهل تمييز البنوك الإسلامية من البنوك المعاصرة التي تتعامل بالفائدة حيث يظهر في ميزانية البنوك الإسلامية وفي جانب الموجودات بالذات عدد من عمليات الائتمان التي تقرها الشريعة الإسلامية (مما لا تعرفه البنوك التي تقوم على الفائدة) مثل عبارات المضاربة والمشاركة والمرابحة والمشاركة المتناقصة والاستثمار المباشر، والإجارة وغير ذلك، ويختلف ظهور هذه العمليات أو مزجها من بنك إسلامي إلى آخر، في حين أظهرت البنوك الثمانية التجارية المتجاوبة أنها تمارس المشاركة وتمارس سبعة منها المضاربة والمشاركة المتناقصة والاستثمار المباشر.
ومن عجب أن خمسة بنوك فحسب تمارس المرابحة في أعمالها البنكية، في حين أنها وسيلة ائتمان شائعة بين البنوك الإسلامية، أما الإجارة فلم يشر إلى التعامل بها سوى البنك الإسلامي الدولي – الدانمارك، والبنك الإسلامي- بنجلاديش بينما ذكر بنك فيصل الإسلامي – القاهرة - أن الدراسات الضرورية جارية لإدخال التعامل في الإجارة في المستقبل القريب. .
وفيما يلي لمحة عن العمليات التي تقوم بها معظم البنوك الإسلامية:
أ- المضاربة:
تقوم البنوك الإسلامية بتمويل المشاريع على أساس المضاربة ويسمى البنك رب المال ويسمى المتعهد أو الملتزم مضاربًا، وهو الذي يقوم بالعمل في المشروع، ولا يتدخل البنك في تفاصيل العمل اليومية، وفي نهاية العمل يقسم الربح بين البنك والمتعهد بموجب الاتفاق السابق على حصة كل منهما، أما في حالة الخسارة فإن رب المال أي البنك يتحملها وحده.(5/1086)
ب-المشاركة:
تقوم البنوك الإسلامية أيضًا بتمويل المشاريع عن طريق المشاركة كأن يتقدم متعهد أو أكثر بطلب بتمويل لمشروعهم من البنك الذي يقوم وحده أو بمشاركة آخرين بتأمين الأموال اللازمة الكافية، ويكون لجميع الأطراف بما فيهم البنك حق الإدارة والإشراف على المشروع، ولهم أو لأي واحد منهم الحق في أن يتخلى عن هذا الحق، أما الأرباح فتوزع بين الشركاء حسب النسب المتفق عليها والتي لا يشترط أن تكون مماثلة لنسبة ما دفعه كل شريك من الأموال، أما الخسارة فيشترط أن يتحملها الشركاء بنسبة ما أسهم فيه كل منهم في رأس المال.
جـ- البيع الآجل:
تقوم البنوك الإسلامية بتمويل التجارة على أساس البيع الآجل إذ يوافق البنك على بيع حاجة معينة بسعر يتفق عليه يسدد بعد أجل معين، ويقوم البنك بتسليم الحاجة (البضاعة) إلى عميله الذي يصبح صاحب الحق الأوحد في التصرف بتلك البضاعة، ويكون السعر الذي يحدده البنك عادة شاملًا لكلفة البضاعة على البنك مضافًا إلى ذلك نسبة من الربح، ويقوم العميل بعد انقضاء الوقت المقرر بدفع المبلغ المتفق عليه وقد يتساهل البنك مع عملائه فيسمح لهم بتقسيط الدفع بالشكل الذي يتفق عليه الطرفان معًا.
د- المرابحة:
تتم هذه الطريقة بأن يطلب العميل إلى البنك أن يشتري له منفعة أو حاجة مقابل ربح معين وأجل معين للتسديد، وتقوم معظم البنوك الإسلامية باتباع هذا الأسلوب -أي المرابحة- في شراء الخامات والبضائع والآلات والمواد الأخرى والتجهيزات بسعر ما، ثم تبيعها للعميل على أساس "الكلفة مضافًا إليها نسبة من الربح تم الاتفاق عليها".
هـ- الإجارة:
تتم هذه العملية بأن تملك البنوك الإسلامية عمارات أو آلات أو تجهيزات وتؤجرها للعملاء مقابل أجر يتفق عليه، وتسمى العملية إجارة، ولها شروط تقرر بالاشتراك مع المستأجر.
و الإقراض برسم التمليك:
هذه طريقة أخرى من التعامل تقوم بها البنوك الإسلامية، وهي وجه آخر من أسلوب الإجارة السابق، يتملك البنك أشياء منقولة أو غير منقولة ويؤجرها للعميل مقابل تعهد الأخير بأن يدفع أقساطًا متساوية في آجال معينة ولمدة يتفق عليها في حساب توفير يفتحه البنك لهذه الغاية، ويعطي البنك تفويضًا بحق استثمار موجودات الحساب، ويمكن إضافة الأرباح إلى هذا الحساب وعندما تتكامل الأقساط يلغي العقد وتنتهي الإجارة وتنقل الملكية من البنك إلى العميل.
ز- القرض الحسن:
تقوم البنوك الإسلامية بهذه الخدمة الاجتماعية بأن تمنح أموالًا بدون فائدة للأفراد، وتسمى هذه التسهيلات قرضًا حسنًا، وتتحرى البنوك الإسلامية أن تكون القروض هذه لمن هم بحاجة إلى مساعدة ودعم تمكينًا لهم من إعادة تأهيل أنفسهم ماديًا. .(5/1087)
رابعًا: تصنيف أهمية عمليات الائتمان:
يمكننا القول بأن البنوك الإسلامية تمتاز من نظائرها من البنوك والمؤسسات المالية التقليدية بأنها تؤدي خدمات مالية جديدة لعملائها وتظهر هذه العلاقات الجديدة بشكل بارز في جانب الموجودات (منه) في ميزانياتها أي في حقل الجهات التي تقدم لها القروض، وقد بينا في الفصل السابق ممارسات البنوك الإسلامية بهذا الخصوص، وقد يهم البعض أن يعرفوا مدى تواتر استعمال وسائل الائتمان المختلفة لدى سائر البنوك الإسلامية، ومراعاة لذلك فقد طلب إلى البنوك الإسلامية أن تزودنا بمعلومات عن مدى تواتر استعمال هذه الوسائل، وكان الاستبيان شاملًا لست من هذه الوسائل الائتمانية: هي المضاربة والمشاركة والمرابحة والإجارة والاستثمار المباشر وصناديق التمويل المشتركة.
وقد طلب إلى البنوك الإسلامية أن تزودنا بشكل خاص بكشف من سنة كاملة تبين فيه المبالغ الموظفة في كل نوع من أنواع الإقراض وعدد العمليات التي تمت في كل نوع، وقد حصلنا على المعلومات المطلوبة من ستة بنوك إسلامية كما يظهر في الكشف الإحصائي رقم (1) وكانت المعلومات المقدمة من البنك الإسلامي الأردني أكثرها تفصيلًا، وكان البنك في أول نشأته يتعامل بعمليات تقرها الشريعة الإسلامية هي المضاربة والمشاركة والمرابحة ومنذ سنة 1981 أضاف التعامل في الاستثمار المباشر، ثم أدخل التعامل في
صناديق التمويل المشتركة منذ سنة 1983. .(5/1088)
جدول رقم (1)
تصنيف أهمية المرابحة بين وسائل الائتمان لدى البنوك الإسلامية
المختارة سنة 1984
اسم البنك النسبة المئوية لعملية المرابحة من أصل جميع التمويل المخصص
1- البنك الإسلامي الأردني 72.00
2- البنك الإسلامي بنجلاديش 65.3
3- بنك السودان الإسلامي 53.6
4- بنك التضامن الإسلامي 61.4
5- بنك قطر الإسلامي 97.7
المصدر: من المادة المبينة في الكشف الإحصائي رقم (1)
ويلاحظ أن المرابحة تتقدم جميع وسائل الائتمان لدى البنك الإسلامي الأردني وإن كانت قد تراجعت قليلًا مع مرور الزمن لأنها كانت تمثل 84 % من التسهيلات في سنة 1980، أما حصة المضاربة من مجموع التسهيلات لدى نفس البنك فكانت قليلة متدنية، فقد كانت النسبة المئوية لسنتي 1981 و 1982 بمعدل 4.9 % و 3 % على التوالي، وفيما عدا هاتين السنتين فقد تدنت نسبة المضاربة إلى أقل من 2 % وبالمقارنة مع المضاربة نجد أن المشاركة كانت أحسن حظًا فقد كانت نسبتها تتراوح حول 7 % بانتظام.
أما الاستثمار المباشر فكان 10 % من مجموع التسهيلات، وقد أدخل البنك مؤخرًا حساب صناديق التمويل المشتركة التي ارتفعت حصتها من 2 % من مجموع التسهيلات سنة 1983 إلى 4 % سنة 1984.
أما بنك بنجلاديش الإسلامي والذي يتعامل بشكل رئيسي في المشاركة والمرابحة مع شيء يسير من التعامل في عمليات أخرى غير محددة، فقد ارتفعت نسبة المرابحة من 50 % سنة 1983 إلى 65? سنة 1984، وكذلك يظهر تقدم المرابحة بشكل أوضح في عدد العقود السنوية، فبينما كان مجموع عقود التمويل سنة 1984 هو 2244 عقدًا كانت حصة المرابحة 2156 عقدًا منها أي ما نسبته 96 % أما المشاركة فقد كان لها 85 عملية شكلت 23 % من مجموع التمويل لسنة 1984. .(5/1089)
وكذلك برز تقدم المرابحة لدى بنك قطر الإسلامي، بل يكاد هذا البنك يحصر تعامله في المرابحة، فمنأصل 230 عقدًا أجراها سنة 1983 كانت حصة المرابحة 229 عقدًا منها تشكل 87 % من مجموع المخصصات التمويلية، والباقي لعملية مشاركة واحدة، وفي سنة 1984 كان للمرابحة 665 عقدًا من أصل 667 عقدًا وللمشاركة عقدان.
أما في البنوك الإسلامية في السودان فيبدو أن المشاركة كانت مرغوبة أكثر، فقد أجرى بنك التضامن الإسلامي سنة 1983، (269) عملية كانت حصة المشاركة حوالي 48 % منها تمثل 56 % من مجموع التمويل لتلك السنة، ولكن هاتين النسبتين قد تدنتا إلى 29 % و 37 % على التوالي سنة 1984 حسب المعلومات المتيسرة، وقد برزت أهمية المرابحة لدى بنك التضامن الإسلامي خلال سنتين، فبلغت نسبتها 70 % من حيث عدد العمليات و 61 % من حيث المخصصات التمويلية، أما عمليات المضاربة لدى بنك التضامن الإسلامي فقد كانت أربع عمليات لم تحقق أية أهمية نسبية.
أما البنك الإسلامي السوداني فقدم معلوماته عن سنة واحدة هي سنة 1984 تظهر فيها استعمالات متنوعة لثلاث وسائل ائتمان رئيسية، فقد تمت لديه في تلك السنة 14 عملية مضاربة مثلت 3 % من مجموع عدد العمليات و 3 %
من مجموع المخصصات المالية، أما الباقي فكان للمشاركة 43 % من المخصصات، وللمضاربة 53 % من تلك المخصصات.
تشير الأدلة المتوفرة بأن المرابحة أكثر شيوعًا وأكثر ظهورًا بين وسائل الائتمان لدى البنوك الإسلامية موضوع الدراسة، وقد تبينت الأهمية النسبية للمرابحة في مجموع العمليات المالية لخمسة بنوك إسلامية في جدول رقم (1) الذي يتحدث عن نفسه. (1)
ويمكن أن نفترض بعض المبررات لتقدم وسيلة المرابحة على غيرها من وسائل الائتمان لدى البنوك الإسلامية، ومثالًا على ذلك يمكن القول: (1) المرابحة أقرب من غيرها إلى التمويل قصير الأجل، (2) لأنها انسب للتمويل التجاري الذي تنصب فيه معظم أموال الإقراض لدى البنوك الإسلامية، (كما سنرى فيما بعد) (3) تعتبر المرابحة وسيلة ائتمان سهلة الاتباع وأن "قانون الإبهام" أيسر للتطبيق فيها، (4) توجد عوائق إدارية واقتصادية وقانونية في التعامل مع الوسائل الأخرى خصوصًا المضاربة على نطاق واسع وغيرها، على أن هذه تبقى مجرد فرضيات ما لم نحصل على معلومات أوفر تجعل منها حقائق مقبولة. .
خامسًا: التوزيع القطاعي للتمويل:
من الطبيعي أن نسأل حول العمل المصرفي الإسلامي هذا السؤال: ما هي القطاعات الاقتصادية التي تفيد من النظام المصرفي الإسلامي، وإن نظرة إلى التوزيع القطاعي لمجمل التمويل الذي تقدمه البنوك الإسلامية يلقي بعض الضوء –على هذا السؤال- لذلك طلبنا إلى البنوك الإسلامية أن تزودنا بقيمة المبالغ التي منحتها لمختلف القطاعات في مختلف الأعوام، لهذا الغرض قسمت البنية الاقتصادية إلى خمسة قطاعات رئيسية هي الصناعة الخفيفة والزراعة والإنتاج الصناعي والعقارات والإنشاءات، والتجارة، ولم يصلنا سوى ثلاثة ردود لهذا السؤال، وعلى الرغم من قلة عدد البنوك التي تجاوبت معنا إلا أننا سنورد هذه الردود آملين أن يوفر ذلك بعض المعلومات عن هذه المسألة التي لم يتوفر لها إلا القليل من الأدلة الملموسة. .
__________
(1) قدم بنك فيصل الإسلامي – القاهرة – معلومات عن نسبة توزيع العمليات المالية المختلفة ولكن تلك المعلومات كانت إجمالية جدًا، لذلك لم تدخل في تحليلاتها هذه(5/1090)
جدول رقم (2)
التوزيع القطاعي للتمويل في البنوك الإسلامية المختارة 1984 والنسبة
المئوية من مجموع التمويل الممنوحة إلى
اسم البنك الزراعة الإنتاج الصناعي الصناعة الخفيفة العقارات والإنشاءات التجارة
البنك الإسلامي الأردني 0.35 39.79 1.00 25.87 32.79
بنك قطر الإسلامي -- -- -- 9.35 90.34
بنك بنجلاديش الإسلامي 0.83 26.10 -- -- 73.07
المصدر: من المعلومات الواردة في الكشف الإحصائي رقم (2)
الجدول رقم (2) يمثل التوزيع القطاعي للتمويل لدى ثلاث بنوك إسلامية هي البنك الإسلامي الأردني وبنك قطر الإسلامي وبنك بنجلاديش الإسلامي لسنة 1984، وقد ظهرت المعلومات المفصلة في الكشف الإحصائي رقم (2) وإن نظرة سريعة إلى جدول رقم (2) تبين أن قطاعات الإنتاج، والعقارات، والإنشاءات، والتجارة تستنزف معظم مخصصات التمويل لدى هذه البنوك الإسلامية، وللتجارة منها حصة الأسد، ففي بنك قطر الإسلامي استهلك 99 % من الأموال المقرضة في حقلي التجارة والعقارات، للأخيرة 9 % وللتجارة 90 %، وفي بنك بنجلاديش استهلكت التجارة والإنتاج الصناعي 99 % أيضًا، منها 73 % لقطاع التجارة، 26 % لقطاع الإنتاج، أما في البنك الإسلامي الأردني فكان التوزيع أعدل إذ نال قطاع العقارات والإنشاءات حوالي ربع أموال التسهيلات الائتمانية، ووزع الباقي بشكل مقبول بين الإنتاج الصناعي والتجارة أما الزراعة فنالت حصة لا تكاد تبين من مجموع الأموال المقرضة.
أما التوزيع الزمني لتمويل هذه القطاعات في البنوك الثلاثة، فيظهر في الكشف الإحصائي رقم (2) وهو بنفس النسبة في بنك قطر الإسلامي وبنك بنجلاديش الإسلامي لأنهما تأسسا سنة 1983، حيث بقيت نسبة التوزيع في سنة 1984 كما كانت في سنة التأسيس، أما في البنك الإسلامي فقد ظهرت تغييرات واضحة من سنة إلى أخرى خلال المدة 1980 – 1984 في نسبة توزيع التمويل على القطاعات المختلفة المذكورة في جدول رقم (2) فالتجارة مثلًا كانت حصتها 73 % في سنة 1980 وبدأت تتناقص هذه الحصة تدريجيًا بشكل رتيب ومنتظم بحيث وصلت إلى 32 % من مجموع التسهيلات الائتمانية في سنة 1984 على الرغم من أن التجارة لا تزال في المقدمة من حيث عدد العقود المبرمة أو المبالغ المستهلكة، أما الصناعات الخفيفة والزراعة فلم يتهيأ لهما تمويل عال وكانت حصتهما تتراوح بين 1 % و2 % من مجموع التسهيلات، بينما ارتفعت قيمة الأموال التي استهلكها قطاع العقارات والإنشاءات حتى سنة 1983 عندما حققت نسبة تزيد على ثلث التسهيلات عامة في حين كانت النسبة 13 % سنة 1980، ثم أخذت في التناقص، أما قطاع الإنتاج الصناعي فكانت حصته من مجموع التمويل تتزايد باستمرار من حيث عدد العمليات أو في القيمة المطلقة أو في نسبة ذلك إلى مجموع التسهيلات الائتمانية.
إن التمويل الذي يمنحه أي بنك لأي قطاع يعتمد بالدرجة الأولى على عاملين هما أسلوب التمويل، والمدة المقررة للتسديد، وتشير البيانات المقدمة من البنوك الإسلامية أن التجارة تمول عن طريق المرابحة، في حين تلجأ البنوك لتمويل قطاع الإنتاج الصناعي عن طريق المشاركة، ولما كانت حاجات التجارة قصيرة الأمد بطبيعتها، فقد نجحت البنوك الإسلامية في تلبية تلك الحاجات بالرجوع إلى أسلوب المرابحة، هذا ولم يتبلور حتى الآن أسلوب المضاربة في الائتمان، وعندما تتيسر الوسائل والطرائق لإزالة العوائق المبدئية الحائلة دون تطبيق عقود المضاربة بنجاح، فإن البنوك الإسلامية تستطيع حينئذ تنويع عمليات الائتمان قطاعيًا وتلبية حاجة كل من قطاعي الزراعة والصناعات الخفيفة.(5/1091)
سادسًا: آجال التسهيلات الائتمانية:
تعتبر جدولة آجال التمويل عاملًا هامًا في تقييم أي نظام بنكي، ونعني بجدول الآجال التوزيع الزمني المخصص للتمويل، أي ما طول مدة التمويل التي يمنحها البنك لأي عملية محددة، ومن المسلم به أن الحاجة للتمويل تختلف من وحدة إلى أخرى، كما يختلف الوقت الممنوح من قطاع إلى آخر وقد اتفق على تصنيف آجال التسهيلات الائتمانية على النحو التالي: (1) التمويل قصير الأجل جدًا، ولا يزيد أجل القرض على بضعة أيام أو بضعة أسابيع (2) التمويل قصير الأجل الذي تقل مدته عن 90 يومًا (3) التمويل متوسط الأجل الذي تتراوح مدته بين 3 أشهر إلى 6 أشهر – (4) التمويل طويل الأجل والذي قد تمتد فترته من سنتين إلى عشر سنوات أو أكثر.
وتحقيقًا للرغبة في معرفة الآجال التي تمنحها البنوك الإسلامية لعملياتها الائتمانية المختلفة فقد أدرجنا طلب ذلك ضمن الاستبيان المرسل لها، وحددنا الآجال في الاستبيان ولغايات إحصائية بستة أنواع (1) لمدة ثلاثة أشهر (2) لمدة 6 أشهر أو أكثر من 3 أشهر (3) لسنة أو أقل ولكن أكثر من 6 أشهر (4) لسنتين (5) لثلاث سنوات (6) لمدة تزيد على 3 سنوات.
وقد جاءتنا ردود من أربعة بنوك هي: بنك قطر الإسلامي، والبنك الإسلامي الدولي – الدانمارك، وبنك بنجلاديش الإسلامي، والبنك السوداني الإسلامي، وتظهر المعلومات المتقدمة منهم في الكشف الإحصائي رقم (3) ويرجى ملاحظة أن هذه البنوك الأربعة جميعها قد تأسست سنة 1983، مما يحصر المعلومات في سنتي1983 و 1984، أما البنوك الأقدم فلم تتجاوب لسوء الحظ مع هذا السؤال.
وكما يظهر من المعلومات المقدمة فإن معظم البنوك الإسلامية تتعامل إما في التمويل قصير الأجل لثلاثة أشهر أو أقل، أو تتعامل في التمويل متوسط الأجل لمدة سنة أو أقل، ولم يمنح بنك قطر أية قروض لمدة سنتين، في حين منحت البنوك الثلاثة الأخرى قروضًا تزيد آجالها على سنتين ولكنها لا تشكل نسبة عالية في مجموع المبالغ المقرضة، ويمكن القول بأن البنوك الإسلامية بوجه عام لا تميل إلى القروض طويلة الأجل، بل تحصر تعاملها في القروض قصيرة الأجل أو متوسطة الآجال. .(5/1092)
سابعًا: الخلاصة:
تشمل هذه الورقة معلومات هامة عن توزيع التسهيلات الائتمانية التي تمنحها البنوك الإسلامية من مضاربة أو مرابحة أو مشاركة أو إجارة أو استثمار مباشر أو صناديق التمويل المشتركة، ويبدو أن المرابحة والمشاركة والاستثمار المباشر هي أكثرها شيوعًا لدى البنوك موضوع الدرس، وتبقى المرابحة متقدمة على بقية وسائل التمويل والائتمان لدى البنوك الإسلامية التي تمت دراسة أوضاعها وهذا التقدم يشمل كل عمليات الائتمان من حيث عددها ومن حيث قيمة التمويل الممنوحة، وتحل المشاركة في المحل الثاني من الأهمية.
أما المضاربة فحصتها من التمويل قليلة ومتدنية جدًا، وعلى الرغم من قلة الأدلة المحسوسة إلا أن ما توصلنا إليه يدل على أن عمليات المرابحة هي المسيطرة في حقل التجارة، وأن المشاركة هي المستعملة في عمليات تمويل نشاطات الإنتاج الصناعي، ولما كانت المضاربة أميل إلى القروض طويلة الأجل وهي العمليات التي لم تمارسها البنوك الإسلامية حتى الآن، لذلك كان التعامل بها في الوقت الحاضر، وفي أحسن الحالات محدودًا، أما استعمال المضاربة على نطاق أوسع في عمليات التمويل فإنه يستدعي التحقق مسبقًا من بعض الضروريات التي لا توجد في الوقت الحاضر، مثلًا تحتاج البنوك الإسلامية إذا أرادت أن تضع المضاربة موضع التنفيذ، إلى مؤسسات تقييم المشاريع فنيًا، فهي لا تمول إلا المشاريع السليمة فنيًا، ومثل هذه المقدرة الفنية لازمة أيضًا لدراسة أي مشروع مطروح للتمويل لضمان صحة التقييم، وفي بعض البلاد قد توجد موانع قانونية أمام المضاربة، ولابد كذلك من تسهيلات مناسبة لمراقبة المشروع وللتقييم متوسط الأجل، وما لم تتحقق هذه المتطلبات الأساسية هي وغيرها فإنه لا ينتظر من البنوك أن تتوسع في استعمال المضاربة كوسيلة ائتمان.(5/1093)
وقد تمت دراسة التوزيع القطاعي للتمويل بالنسبة لخمسة قطاعات رئيسية هي الزراعة، والإنتاج الصناعي، والصناعات الخفيفة، والعقارات، والتجارة، ولم تتجاوب البنوك في هذه الناحية وكانت الأجوبة في الحقيقة من ثلاثة بنوك فقط، وتم تحليل المعلومات لعلها تلقي بعض الضوء على مسار التسهيلات الائتمانية لدى البنوك الإسلامية، وأشارت المعلومات المتوفرة إلى أن معظم التمويل يتجه إلى قطاع التجارة، حيث وصلت نسبة الاستثمار في التجارة لدى بعض البنوك إلى 90 % من مجموع التمويل، وإذا جاز أن نأخذ أي بنك إسلامي مثالًا يحتذى لكل البنوك، فإن من المنتظر أن تتناقص حصة التجارة من مجموع التمويل كما حدث في البنك الإسلامي الأردني حيث ارتفعت حصة القطاعات الأخرى على حساب قطاع التجارة، فقد تبين من تجربة البنك الإسلامي الأردني، وبنك بنجلاديش الإسلامي، أنها يمولان قطاع الإنتاج الصناعي على نطاق كبير، وهذا مؤشر على صحة العمليات ويبشر بأن يزيد تمويل هذا القطاع، ونأمل مع مرور الوقت أن تتمكن البنوك الإسلامية من تعهد تمويل المشاريع بالرعاية.
هناك حقلان من حقول الاقتصاد لم يصلهما إلا القليل من أموال القروض في البنوك الإسلامية، هما الزراعة والصناعات الخفيفة، وهذان القطاعان في ضوء الأوضاع الاقتصادية للأقطار الإسلامية هما أكثر القطاعات استبعادًا من قبل أصحاب الأموال المتوفرة للإقراض، فالمعلومات التي بين أيدينا تشير إلى أن حصة الزراعة والصناعات الخفيفة من مجموع التمويل لم تكن شيئًا مذكورًا، ومن الممكن تعليل عدم تحمس البنوك الإسلامية لتمويل هذين النشاطين: تغلب على البنوك الإسلامية صفة البنوك التجارية، وفي أوائل عهدها، كانت السلامة
وسرعة المردود تهيمنان على سياسة الإقراض لديها وبالتالي كان تمويل الزراعة أكثر خطورة، أما الصناعات الخفيفة فمعظمها ينقصه التنظيم، وهذه العوامل تبرر ضعف التمويل الموجه للزراعة وعلى كل حال فإن هذا حقل يستطيع التمويل البنكي الإسلامي أن يثبت فيه دوره الاجتماعي والاقتصادي في دفع التنمية الاقتصادية في الأقطار الإسلامية، ولابد من تأمين بعض المتطلبات الأساسية قبل أن تتمكن البنوك الإسلامية من أداء هذا الدور، فلا بد لها من فتح فروعها في المدن الصغيرة والقرى ليسري التعامل البنكي الإسلامي في الشعب، إذ تتركز البنوك الإسلامية في الوقت الحالي في المدن الكبيرة، وقد وجهنا إلى البنوك الإسلامية في دراستنا هذه سؤالًا عن مدى رغبتهم في فتح فروع جديدة في المناطق الريفية، وكانت ردود معظمهم بالإيجاب، وقد يكون هذا دافعًا لتوجيه مصادر التمويل نحو التنمية الاقتصادية.
يبقى على البنوك الإسلامية أن توجه عنايتها إلى تمويل النشاطات الزراعية فأي وسائل الائتمان تناسب حقل الزراعة؟ كيف نتغلب على عدم وضوح الرؤية بالنسبة لجودة المحصولات كمية ونوعًا في سنة ما؟ هل نطلب كفيلًا ثالثًا؟ ولابد أن تواجه هذه الأسئلة تمحيصًا وتدقيقًا قبل أن تقدم البنوك الإسلامية على تمويل الزراعة. .
نأتي أخيرًا إلى آجال التسهيلات الائتمانية، حيث كشفت هذه الدراسة أن معظم البنوك الإسلامية تقرض الأموال إلى آجال تتراوح بين 6 أشهر وسنة واحدة، وليس لدى هذه البنوك حاليًا إمكانات مادية للآجال قصيرة الأمد جدًا مثل اليوم أو الأسبوع، حيث تستطيع أن تستثمر الأموال وتصفيها بسرعة حتى يلزم ذلك، وفي الحقيقة فإن تطوير مثل هذه القدرات المالية لدى البنوك الإسلامية يستلزم قيام سوق ثانوية حيث يمكن أن يتاجر من خلالها بهذه الأنواع من التمويل، والجهود قائمة لتأمين ذلك من بعض البنوك، ولن نقطف ثمرات تلك الجهود إلا بعد مدة ما، أما بالنسبة للإقراض الطويل الأجل فإنه يلاحظ أن بعض البنوك الإسلامية بدأت تميل إلى تبني ذلك الإقراض الطويل الأجل، وإلى أن يتم ذلك لابد لهذه البنوك الإسلامية من زيادة تجربتها وتطوير خبراتها. .(5/1094)
كشف إحصائي رقم (1)
عمليات التمويل لدى البنوك الإسلامية
1- البنك الإسلامي الأردني
السنة نوع وسيلة الائتمان مبلغ التمويل بالدينار الأردني النسبة المئوية للتوزيع
1980 عمليات المضاربة 95.092 1.40
1980 عمليات المشاركة 715.445 10.60
1980 عمليات المرابحة 5718.247 84.76
1980 الإجارة -- --
1980 الاستثمار المباشر -- --
1980 صناديق التمويل المشتركة -- --
1980 عمليات تمويل أخرى 217.239 3.22
المجموع 6746.023 99.98
1981 عمليات المضاربة 704.555 4.96
1981 عمليات المشاركة 1020.280 7.18
1981 عمليات المرابحة 10046.381 70.75
1981 الإجارة -- --
1981 الاستثمار المباشر 2093.173 14.74
1981 صناديق التمويل المشتركة -- --
1981 عمليات تمويل أخرى 334.296 2.35
المجموع 14198.685 99.980
1982 عمليات المضاربة 806.611 3.03
1982 عمليات المشاركة 1951.251 7.34
1982 عمليات المرابحة 20323.895 76.48
1982 الإجارة -- --
1982 الاستثمار المباشر 3194.775 12.02
1982 صناديق التمويل المشتركة -- --
1982 عمليات تمويل أخرى 295.239 1.11
المجموع 26571.771 99.98
السنة نوع وسيلة الائتمان مبلغ التمويل بالدينار الأردني النسبة المئوية للتوزيع
1983 عمليات المضاربة 292.261 2.63
1983 عمليات المشاركة 2879.785 7.86
1983 عمليات المرابحة 29634.933 78.71
1983 الإجارة -- --
1983 الاستثمار المباشر 2812.511 7.41
1983 صناديق التمويل المشتركة 800.000 2.12
1983 عمليات تمويل أخرى 417.759 1.25
المجموع 37591.249 99.98
1984 عمليات المضاربة 182.249 0.28
1984 عمليات المشاركة 4478.500 7.10
1984 عمليات المرابحة 45389.322 72.03
1984 الإجارة -- --
1984 الاستثمار المباشر 9336.304 14.81
1984 صناديق التمويل المشتركة 3375.000 5.350
1984 عمليات تمويل أخرى 251.848 0.39
المجموع 63013.403 99.96
لم يقدم معلومات عن عدد العمليات(5/1095)
2- بنك بنجلاديش الإسلامي
السنة نوع وسيلة الائتمان عدد العمليات مبلغ التمويل بملايين التاكا النسبة المئوية للتوزيع
1983 عمليات المضاربة -- -- --
عمليات المشاركة -- -- --
عمليات المرابحة 60 28.20 50.42
الإجارة -- -- --
الاستثمار المباشر -- -- --
صناديق التمويل المشتركة -- -- --
عمليات تمويل أخرى 3 27.73 49.57
المجموع 63 55.93 99.99
1984 عمليات المضاربة -- -- --
عمليات المشاركة 85 106.58 23.28
عمليات المرابحة 2156 299.08 65.33
الإجارة -- -- --
الاستثمار المباشر -- -- --
صناديق التمويل المشتركة -- -- --
عمليات تمويل أخرى 3 52.13 11.38
المجموع 2244 457.79 99.99(5/1096)
3- البنك الإسلامي السوداني لسنة 1983 فقط
السنة نوع وسيلة الائتمان عدد العمليات نسبة توزيع العمليات مبلغ التمويل بملايين الجنيه السوداني النسبة المئوية للتوزيع
1983 عمليات المضاربة 14 2.02 1.44 2.83
عمليات المشاركة 213 30.73 22.07 43.50
عمليات المرابحة 466 67.24 27.22 53.65
الإجارة -- -- -- --
الاستثمار المباشر -- -- -- --
صناديق التمويل المشتركة -- -- -- --
عمليات تمويل أخرى
-- -- -- --
المجموع 693 99.99 50.73 99.99(5/1097)
4- بنك التضامن الإسلامي – السودان
السنة نوع وسيلة الائتمان عدد العمليات نسبة توزيع العمليات مبلغ التمويل بملايين الجنيه السوداني النسبة المئوية للتوزيع
1983 عمليات المضاربة 4 0.71 0.4 0.75
عمليات المشاركة 269 47.86 29.9 56.41
عمليات المرابحة 289 51.42 22.7 47.83
الإجارة -- -- -- --
الاستثمار المباشر -- -- -- --
صناديق التمويل المشتركة -- -- -- --
عمليات تمويل أخرى -- -- -- --
المجموع 562 99.99 53.0 99.99
1984 عمليات المضاربة 4 0.570 0.5 1.33
عمليات المشاركة 206 29.42 13.9 37.16
عمليات المرابحة 490 70.00 23.0 61.49
الإجارة -- -- -- --
الاستثمار المباشر -- -- -- --
صناديق التمويل المشتركة -- -- -- --
عمليات تمويل أخرى -- -- -- --
المجموع 700 99.99 37.4 99.99(5/1098)
5- بنك فيصل الإسلامي – القاهرة:
السنة نوع وسيلة التمويل عدد العمليات مبلغ التمويل بملايين الدولار النسبة المئوية للتوزيع
1979 عمليات المضاربة 52 9 --
عمليات المشاركة -- -- --
عمليات المرابحة -- -- --
الإجارة -- -- --
الاستثمار المباشر -- -- --
صناديق التمويل المشتركة -- -- --
عمليات تمويل أخرى -- -- --
المجموع 52 9.0 --
1980 عمليات المضاربة 178 61.00 --
عمليات المشاركة -- -- --
عمليات المرابحة -- -- --
الإجارة -- -- --
الاستثمار المباشر -- -- --
صناديق التمويل المشتركة -- -- --
عمليات تمويل أخرى -- -- --
المجموع 178 61.0 --
1981 عمليات المضاربة 461 124 89.46
عمليات المشاركة -- -- --
عمليات المرابحة -- -- --
الإجارة -- -- --
الاستثمار المباشر 5 11.8 8.51
صناديق التمويل المشتركة 4 2.8 2.02
عمليات تمويل أخرى -- -- --
المجموع 470 138.6 99.99
1982 عمليات المضاربة 1269 410 96.56
عمليات المشاركة -- -- --
عمليات المرابحة -- -- --
الإجارة -- -- --
الاستثمار المباشر 5 11.8 2.77
صناديق التمويل المشتركة 5 2.8 0.65
عمليات تمويل أخرى -- -- --
المجموع 1279 424.6 99.98
1983 عمليات المضاربة 2535 767 --
عمليات المشاركة -- -- --
عمليات المرابحة -- -- --
الإجارة -- -- --
الاستثمار المباشر -- -- --
صناديق التمويل المشتركة -- -- --
عمليات تمويل أخرى -- -- --
المجموع 2535 767 --
1984 عمليات المضاربة 3464 993.0 91.22
عمليات المشاركة -- -- --
عمليات المرابحة -- -- --
الإجارة -- -- --
الاستثمار المباشر 32 95.5 8.77
صناديق التمويل المشتركة -- -- --
عمليات تمويل أخرى -- -- --
المجموع 3496 1088.5 99.99(5/1099)
بنك قطر الإسلامي
المجموع 470 138.6 99.99
1983 عمليات المضاربة -- -- --
عمليات المشاركة 1 3.00 12.5
عمليات المرابحة 229 20.96 87.4
الإجارة -- -- --
الاستثمار المباشر -- -- --
صناديق التمويل المشتركة -- -- --
عمليات تمويل أخرى -- -- --
المجموع 23 23.96 99.9
1984 عمليات المضاربة -- -- --
عمليات المشاركة 2 0.994 2.20
عمليات المرابحة 665 44.176 97.79
الإجارة -- -- --
الاستثمار المباشر -- -- --
صناديق التمويل المشتركة -- -- --
عمليات تمويل أخرى -- -- --
المجموع 667 45.170 99.99(5/1100)
الكشف الإحصائي رقم (2)
توزيع التمويل حسب القطاعات
(أ) البنك الإسلامي الأردني
السنة الأنشطة الممولة عدد الأنشطة النسبة المئوية للتوزيع المبلغ بالدينار الأردني النسبة المئوية للتوزيع
1980 الزراعة -- -- -- --
الصناعة 25 17.00 722.886 12.34
الصناعات الخفيفة 8 5.44 47.903 00.81
العقارات والإنشاءات 20 13.60 770.650 13.16
التجارة 94 63.94 4314.169 73.67
المجموع 147 99.98 5855.608 99.98
1981 الزراعة 3 1.17 157.353 1.49
الانتاج الصناعي 34 13.28 919.421 8.74
الصناعات الخفيفة 17 6.64 157.922 1.50
العقارات والإنشاءات 45 47.58 3144.356 29.89
التجارة 157 61.32 6139.772 58.36
المجموع 256 99.99 10518.824 99.98
1982 الزراعة 10 1.98 191.584 1.09
الصناعة 51 10.11 1463.768 8.33
الصناعات الخفيفة 54 10.71 412.305 2.34
العقارات والإنشاءات 81 16.07 5990.986 34.10
التجارة 308 61.11 9508.907 54.12
المجموع 504 99.98 17567.550 99.98
1983 الزراعة 30 3.88 381.002 1.39
الصناعة 56 7.24 5981.842 21.86
الصناعات الخفيفة 80 10.34 594.394 2.17
العقارات والإنشاءات 103 13.32 6816.644 24.91
التجارة 504 65.20 13586.794 49.65
المجموع 773 99.98 27360.631 99.98
1984 الزراعة 43 4.22 226.763 0.35
الصناعة 46 4.52 16818.342 39.79
الصناعات الخفيفة 105 10.32 423.957 1.00
العقارات والإنشاءات 261 25.66 10934.114 25.87
التجارة 562 55.26 13857.198 32.79
المجموع 1.17 99.98 42260.375 99.98(5/1101)
2- بنك قطر الإسلامي
السنة الأنشطة الممولة عدد الأنشطة النسبة المئوية للتوزيع مبلغ التمويل بملايين الريال القطري النسبة المئوية للتوزيع
1983 الزراعة -- -- -- --
الصناعة -- -- -- --
الصناعات الخفيفة -- -- -- --
العقارات والإنشاءات 3 -- 4.30 20.51
التجارة 224 -- 16.66 79.48
المجموع 227 -- 20.96 99.99
1984 الزراعة -- -- -- --
الصناعة الصناعة -- -- -- --
الصناعات الخفيفة الصناعات الخفيفة -- -- -- --
العقارات والإنشاءات العقارات والإنشاءات 5 -- 4.13 9.35
التجارة التجارة 660 -- 40.40 90.64
المجموع 665 -- 44.17 99.99(5/1102)
3- بنك بنجلاديش الإسلامي
السنة الأنشطة الممولة عدد الأنشطة النسبة المئوية للتوزيع مبلغ التمويل بملايين التاكا النسبة المئوية للتوزيع
1983 الزراعة 1 -- 4.00 7.15
الانتاج الصناعي -- -- -- --
الصناعات الخفيفة -- -- -- --
العقارات والإنشاءات -- -- -- --
التجارة 62 -- 51.93 92.84
المجموع 63 -- 55.93 99.99
1984 الزراعة 1 -- 3.60 0.38
الانتاج الصناعي 85 -- 106.58 26.10
الصناعات الخفيفة -- -- -- --
العقارات والإنشاءات -- -- -- --
التجارة 2142 -- 299.08 73.07
المجموع 2228 -- 409.26 100(5/1103)
الكشف الإحصائي رقم (3)
جدول آجال التمويل
1- بنك قطر الإسلامي:
السنة أجل القرض عدد العمليات المبالغ المخصصة بملاين الريال القطري النسبة المئوية للتوزيع
1983 3 أشهر أو اقل 139 6.907 32.94
ستة أشهر أو أقل ولكن أكثر من 3 أشهر 87 9.758 46.54
سنة أو أقل 33 4.299 20.50
سنتان -- -- --
ثلاث سنوات -- -- --
أكثر من ثلاث سنوات -- -- --
المجموع 229 20.964 99.98
1984 3 أشهر أو اقل 580 21.577 48.84
6 أشهر أو أقل ولكن أكثر من 3 أشهر 80 18.577 42.10
سنة أو أقل 5 4.135 9.06
سنتان -- -- --
ثلاث سنوات -- -- --
أكثر من 3 سنوات -- -- --
المجموع 665 44.176 100.00(5/1104)
البنك الإسلامي الدولي – الدنمارك
السنة آجال القروض النسبة المئوية 1983 النسبة المئوية للتوزيع 1984
3 أشهر أو اقل 10 20
6 أشهر أو أقل 30 30
سنة واحدة أو أقل 50 40
سنتان 10 10
ثلاث سنوات -- --
أكثر من 3 سنوات -- --
المجموع 100 100
لم تتوفر معلومات مطلقة عن عدد العمليات أو المبالغ المستغلة(5/1105)
3- البنك الإسلامي – بنجلاديش عن سنة واحدة فقط
السنة آجال القروض عدد العمليات النسبة المئوية للتوزيع المبالغ المستعملة بملايين التاكا النسبة المئوية للتوزيع
1983 3 أشهر أو اقل -- -- -- --
6 أشهر أو أقل 125 6.25 10.50 3.51
سنة واحدة أو أقل 1050 52.50 160.00 53.49
سنتان 825 41.25 128.58 42.99
ثلاث سنوات -- -- -- --
أكثر من 3 سنوات -- -- -- --
المجموع 2000 100 299.08 99.99(5/1106)
4- البنك الإسلامي السوداني لسنة واحدة فقط
السنة آجال القروض عدد العمليات النسبة المئوية للتوزيع مبلغ التمويل بملايين الجنيه السوداني النسبة المئوية للتوزيع
1984 3 أشهر أو اقل 464 54.78 20.06 37.18
6 أشهر أو أقل 213 25.14 18.91 35.05
سنة واحدة أو أقل 145 17.11 12.34 22.87
سنتان 23 2.71 2.51 4.65
ثلاث سنوات 2 0.23 0.13 0.24
أكثر من 3 سنوات -- -- -- --
المجموع 847 99.97 53.95 99.99(5/1107)
مناقشة البحوث
المرابحة للآمر بالشراء
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نستأنف الجلسة الصباحية والتي سيكون محل بحثها إن شاء الله تعالى " بيع المرابحة " وقبل الدخول في ذلك أعطي الكلمة لفضيلة الأمين العام الشيخ الحبيب.
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عندما رفعنا الجلسة من أجل الاستراحة سألني بعض الأخوة ممن طلبوا الكلمة للتعقيب على الموضوع الذي كنا بصدد بحثه وهو "الوفاء بالوعد" الذي أريد أن أذكر به إخواني أن الموضوعين، موضوع "الوفاء بالوعد " وموضوع "المرابحة للآمر بالشراء" يكادان يكونان موضوعًا واحدًا، لأن أحدهما مترتب على الآخر، وإنما بحث موضوع الوعد ليكون تمهيدًا للموضوعات التي تأتي من بعده، فآمل أن يكون هذا مجليًا لتأخير إعطاء الكلمة وإسنادها، ويمكنهم بإذن الله مع بقية الإخوان الذين يريدون التعقيب على الموضوع الثاني وهو المرابحة، أن يأخذوا الكلمة إثر العرض الذي سيكون بالنسبة للموضوع الخامس والجلسة الخامسة. وشكرًا لكم. .(5/1108)
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد، فعندما قامت المصارف الإسلامية جعلت شعارها قول الحق تبارك وتعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: (275) ] ورأت في بيع المرابحة للآمر بالشراء بديلًا عن الإقراض الربوي الذي تقوم به البنوك الربوية، وثار الجدل ولا يزال حول مشروعية هذا البيع كما تجريه المصارف الإسلامية، فذهب فريق من فقهاء العصر إلى أن هذا البيع لا يختلف في جوهره عن بيع المرابحة المعروف في الفقه الإسلامي كنوع من بيوع الأمانة.
وذهب آخرون إلى أن منهج البنوك الإسلامية في هذا المسمى بالبيع لا يختلف عن منهج البنوك الربوية في الإقراض الربوي، واستدل كل فريق بأدلة كثيرة رأيناها في الأبحاث المقدمة كما رأينا هذا أيضًا في الصحف، والمجلات، كما نشر أكثر من كتاب يبحث هذا الموضوع.
ومن الفتاوى الجماعية المبكرة في هذا الموضوع ما صدر عن المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي الذي عقد بدبي سنة 1399هـ (1979) أي بعد أربع سنوات من ظهور أول مصرف إسلامي، ونص الفتوى هو ما يلي: "يطلب العميل من المصرف شراء سلعة معينة، يحدد جميع أوصافها، ويحدد مع المصرف الثمن الذي سيشتريها به العميل بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما، وهذا التعامل يتضمن وعدًا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها، ووعدًا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقًا لذات الشروط، ومثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقًا لأحكام المذهب المالكي، وملزم للطرفين ديانة طبقًا لأحكام المذاهب الأخرى، وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه".
ولعل المؤتمر لم يأخذ حظه من الإعداد الكافي، والفتوى ينقصها الدقة، فبيع المرابحة كما تجريه المصارف الإسلامية لا يجيزه المذهب المالكي، فضلًا عن أن يلزم به وعارض الفتوى كثير ممن حضروا المؤتمر وممن لم يشاركوا فيه، ومع هذا فالمؤتمر يعد خطوة أسهمت في مناقشة الموضوع من جوانبه المختلفة، ومهدت لعقد مؤتمرات أخرى للمصارف الإسلامية ولغيرها. .(5/1109)
وبعد أربع سنوات، أي سنة 1403 هـ عقد المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي، بعد إعداد جيد، وكتابة قدر كاف من الأبحاث، ودعوة عدد كبير من فقهاء العصر ورجال الاقتصاد، وكان لبيع المرابحة النصيب الأوفى من البحث والمناقشة، وأصدر المؤتمر فتوى من جزأين: الجزء الأول صدر بالإجماع، والجزء الثاني اشتد حوله الخلاف، ولم يمكن الجمع بين الآراء المتعارضة، فصدر تبعًا لرأي الفريق الأكثر عددًا.
والجزء الأول من الفتوى هو: "يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء: بعد تملك السلعة المشتراة للآمر، وحيازتها، ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق، هو أمر جائز شرعًا طالما كانت تقع على المصرف الإسلامي مسئولية الهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي" هذا هو الجزء الذي صدر بإجماع من حضر هذا المؤتمر.
والجزء الثاني من الفتوى هو خاص بالنسبة للوعد والخلاف حوله ظهر كما ظهر الآن.
والجزء الأول من الفتوى كان له أثره الكبير في مسيرة المصارف الإسلامية، وفي قرارات هيئات الرقابة الشرعية المختلفة، وفي صياغة العقود لكثير من المصارف.
أما الجزء الثاني فلا يزال الخلاف حوله قائمًا وقد رأيناه في الجلسة السابقة.
والجزء الأول وإن صدر بإجماع المشاركين غير أننا وجدنا من غيرهم من يعارضه وفي انتظار قرار المجمع الموقر في دورته هذه حتى يجتمع الجميع إن شاء الله على هدى وبصيرة. .(5/1110)
ولعل الضوابط الشرعية التي ذكرت في هذا الجزء من الفتوى تعتبر الحد الأدنى اللازم ليكون البيع مقبولًا شرعًا، إلا أنني وجدت بعض المصارف الإسلامية لم تلتزم بهذه الضوابط في التطبيق العملي مع موافقتها على الفتوى، ووجدت في التطبيق العملي أيضًا أمورًا أخرى رأيت أن أعرضها على مجمعكم الموقر ليقول فيها رأيه إسهامًا في تصحيح مسار المصارف الإسلامية، وابدأ بتقديم نموذجين لعقود الوعد بالشراء وبيع المرابحة، وكل نموذج تم التعامل به في مصرف إسلامي أو أكثر.
النموذج الأول: نجد من مواده في عقد وعد بالشراء: وعد الطرف الثاني –وهو العميل- الطرف الأول –أي المصرف- بشراء البضاعة المبينة وإبرام عقد البيع والشراء بمجرد تسلم وكيل الطرفين الناقلين للبضاعة من المستفيد، فاعتبر أن مجرد التسليم هذا يعتبر عقدًا وليس بعد هذا يعقد العقد، وفي المادة الثالثة قال: يعتبر الناقلون بصفتهم وكلاء عامين للنقل، وكلاء للطرفين بتسلم البضاعة اعتبارًا من وقت تسلمها وحتى ميناء الوصول طبقًا لشروط الاعتماد المستندي، وفي المادة الرابعة يتحمل الطرف الثاني نتائج أية طوارئ، الطرف الثاني الذي طلب الشراء، والذي يتحمل نتائج أية طوارئ قد تتعرض لها البضاعة بعد تسلمها من المستفيد، وفي المادة السادسة: يلتزم الطرفان بإبرام عقد المرابحة النهائي المتعلق بهذا الوعد بمجرد إبلاغ المستفيد أحد الطرفين بتسلم البضاعة، وفي المادة الثامنة: إذا امتنع المصدر الذي عينه الطرف الثاني عن تنفيذ الصفقة أو أخرها عن موعد التسليم المتفق عليه لا يكون الطرف الأول وهو المصرف مسئولًا عن أي ضرر يعود على الطرف الثاني الذي عليه أن يدفع كافة المصاريف التي تحملها الطرف الأول من جراء عدم تنفيذ المصدر وفي هذه الحالة لا يعتبر الطرف الأول مخلًا بالوعد.
وفي عقد المرابحة ينص البند الرابع: تم التوقيع على هذا العقد من قبل الطرفين بعد تسليم البضاعة من قبل المستفيد إلى وكيل الطرفين (الناقلين) ويكون العقد نافذًا من تاريخه وتصبح البضاعة ملكًا للطرف الثاني وتحت مسئوليته، وفي المادة الخامسة: حيث أن الطرف الثاني هو الذي اختار وحدد مواصفات البضاعة فإن الطرف الأول ليس مسئولًا عن أي نقص في البضاعة أو اختلاف في مواصفاتها وأن مسئولية ذلك تقع على عاتق الطرف الثاني –أي العميل- طبقًا لما هو متعارف عليه دوليًا، -هذا بالنسبة للاعتماد المستندي في البنوك الربوية -، وفي المادة الثامنة: في حالة امتناع الطرف الثاني عن تسلم المستندات الوارد ذكرها في البند السابق أو تسلم البضاعة فمن حق الطرف الأول بيعها بالسعر السائد في حينه في بلد الوصول أو أي مكان آخر حسب ما يراه الطرف الأول ولحساب الطرف الثاني، أي أن يبيع لحساب الطرف الثاني وليس لحساب المصرف.
وهكذا وجدنا في هذا العقد أن الأساس عندما يرغب أحد في استيراد سلع عن طريق الاقتراض من بنك ربوي فإنه يتفق مع البنك على القرض وفائدته، أي الربا الذي يلتزم به تبعًا للزمن المتفق عليه، ويقوم البنك بفتح اعتماد مستندي للمقترض، ويستورد السلعة لحسابه، أي أنها تكون ملكًا للمقترض، غير أن المستندات تأتي للبنك ويسلمها للعميل بعد اتخاذ ما يراه من إجراءات، ويمكن أن تظل البضاعة رهنًا إلى أن تتم هذه الإجراءات، والبنك الربوي هنا يتعامل في مستندات تطابق شروط فتح الاعتماد، والتزامه يقف عند هذه المستندات ولا يتعداها إلى السلعة ذاتها..(5/1111)
وعندما قامت المصارف الإسلامية ورأت أن البديل الإسلامي كما سبق ذكره أن تقوم هي باستيراد السلعة لحسابها، ثم تبيعها بالأجل عن طريق بيع المرابحة فإنها تشتري لنفسها وتفتح الاعتماد المستندي لها وتتحمل تبعة الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد بعد التسليم، لكن وجدنا هنا أن المصرف يبيع قبل أن يحوز ورأينا أن العميل هو الذي يتحمل تبعة الهلاك قبل التسليم، ورأينا كذلك أنه حتى لو لم يتم تنفيذ العملية ونقول بأنه إلزام للوعد، أن البنك يكون مسئولًا عن الضرر، وجدنا أن العميل هو الذي يتحمل المصاريف التي دفعها المصرف، ولذلك لا أرى في هذا العقد أي فرق بين البنك الإسلامي والبنك الربوي حيث أنه يتعامل في مستندات فقط ولا يتعامل في سلعة، وإنما الذي يتحمل السلعة هو العميل.
هذا نموذج أوردته دون ذكر اسم البنك، ثم عرضت بعد ذلك النموذج الثاني وهو لمصرف قطر الإسلامي والنموذج بين أيدي حضراتكم ونلاحظ فيه أن عقد البيع لا يتم إلا بعد وصول البضاعة والمستندات وينص على هذا صراحة في الوعد وفي العقد، ففي الوعد: وعد الطرف الثاني "العميل" الطرف الأول "المصرف" بشراء البضاعة المبينة آنفًا وإبرام عقد البيع والشراء بمجرد إعلام الطرف الأول الطرف الثاني بأن البضاعة جاهزة للتسليم أو وصلت إلى ميناء كذا.. ووردت مستنداته، ولا يتم البيع إلا في هذه الحالة، وفي حالة امتناع الطرف الثاني عن تسلم البضاعة ما ذكرته من قبل عن الوعد والإلزام بالوعد أن قلنا هنا إذا خسر البنك شيئًا يلزم العميل به، وإذا لم يخسر ولم يربح العميل لا يلتزم بشيء وعلى كل حال هو يبيع البضاعة لأنها ملك وليست ملكًا للعميل كما جاء في النموذج الأول.
وفي عقد البيع ينص البند الثالث: تم التوقيع على هذا العقد من قبل الطرفين المنوه عنهما بعد التأكد من حيازة الطرف الأول لهذه البضاعة، فلا يتم العقد إلا بعد حيازة البضاعة.
إذن هذان نموذجان عمل بكل منهما في مصرف إسلامي أو أكثر، والاثنان أو الأكثر أخذًا بالفتوى التي صدرت عن مصرف قطر الإسلامي، ولذلك أرى أن الفتوى من الناحية النظرية وحدها لا تكفي، وإنما لابد من الإشارة إلى الجوانب العملية ولذلك عرضت بعض المسائل التي وجدتها في التطبيق العملي لبيع المرابحة. .(5/1112)
المسألة الأولى: في المرابحات الخارجية وجدت بعض المصارف تفتح الاعتماد المستندي باسم العميل، والأصل أن المصرف يفتح الاعتماد المستندي باسمه هو لأنه هو الذي يستورد ثم بعد أن يملك ويحوز ويبيع، وتأتي المستندات باسم العميل ومعنى هذا صراحة أن السلعة لا تدخل في ملك المصرف، وفي المرابحات المحلية قد يتفق العميل مع البائع وليس مع المصرف ثم يأتي للمصرف ليأخذ المبلغ الذي يريده، ويكتب عقد بيع المرابحة، ثم يقوم العميل بعد هذا بالشراء مباشرة من البائع.
فالمصرف باع قبل أن يملك ويحوز، بل لم تدخل السلعة في ملكه وحيازته بعد هذا، ولا أرى فرقًا بين مصرف إسلامي وبنك ربوي.
المسألة الثانية: بيع المرابحة عن طريق تظهير بوليصة الشحن ومستندات الشحن، وهذا يعني أنه لا حيازة، ولا ضمان، ولا تسليم ولا تسلم، ولا رؤية وأحيانًا يكون الشراء عن طريق التظهير، ثم يتم بيع مرابحة مرة أخرى عن طريق التظهير مرة أخرى، هذه مسألة أرجو أن يصدر مجمعكم الموقر رأيه فيها.
المسألة الثالثة: يوكل المصرف أحدًا بالشراء، وبعد أن يتم الشراء وتصبح السلعة أمانة في يد الوكيل، يطلب المصرف منه بيعها مرابحة بشروط معينة، وإذا رغب الوكيل في الشراء لنفسه بهذه الشروط جاز بموافقة المصرف، وإذا لم يرغب ولم يتمكن من بيعه بهذه الشروط، ظلت أمانة عنده هذه الفتوى أجازها المجمع في دورة من دوراته، وجدت مصرفًا يوكل غيره بالشراء، ويشترط على الوكيل أن يشتري لنفسه بمجرد شرائه للمصرف بشروط محددة للمرابحة، فتسلم الوكيل للسلعة المشتراه للمصرف، يعتبر في الوقت نفسه تسلمًا للسلعة، المبيعة من المصرف أفيجوز هذا؟ علمًا بأن المصرف يحتج هنا بفتوى المجمع السابقة وأرفق فتوى المجمع السابقة مع هذا التصرف.
المسألة الرابعة: ما دامت السلعة في ملك البائع ولم يتم البيع، فلا يجوز جعل الضمان على طالب الشراء، غير أننا وجدنا –في بعض الحالات- أن طالب الشراء هو الذي يقوم بالتأمين على السلعة التي يشتريها المصرف عند الشحن وقبل أن يتم بيع المرابحة، وأحيانًا يقوم المصرف بالتأمين ولكن بوليصة التأمين تصدر باسم طالب الشراء بدلًا من إصدارها باسم المصرف مالك السلعة، نرجو من مجمعكم الموقر أن يقول رأيه في هذا، لأننا نرى أن الضمان هنا مفروض على من يملك السلعة وهو المصرف وليس العميل. .(5/1113)
المسألة الخامسة: من المشكلات الكبرى التي تؤثر في مسيرة المصارف الإسلامية عدم التزام كثير من المدينين بدفع أقساط الديون في مواعيدها المتفق عليها، وقليل من هؤلاء ذو عسرة وأكثرهم يماطلون مع القدرة على الأداء نظرًا لأن المصارف الإسلامية لا تأخذ فوائد التأخير التي يلتزم بها هؤلاء مع البنوك الربوية، وكثير من المصارف لم تجد علاجًا لهذه المشكلة، ووجدت حلًا جزئيًا في اللجوء إلى المزيد من الضمانات، غير أن بعض المصارف لجأت إلى حلول أخرى نرجو أن يقول مجمعكم الموقر فيها رأيه، ونذكر منها ما يأتي:
عند عجز المدين (المشتري) عن الدفع وعلم المصرف بهذا رأينا المصرف بعد أن علم يقول المصرف: تقديرًا لظروف هذا العميل ورأفة به يدخل مع هذا المدين في شركة بقيمة الدين، وربما كان هذا التصرف يتعارض مع قول الحق تبارك وتعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} . [البقرة: 280]
النقطة الثانية: ومن المصارف من لجأ إلى إعادة الاتفاق على نسبة الربح بمعنى أنه باع مرابحة بربح معين، فلما وجد العميل تأخر عاد معه لاتفاق من جديد على نسبة الربح، بحيث تزيد هذه النسبة لصالح المصرف تبعًا للزمن الذي يتأجل إليه الدفع –ولعل هذا مثل إعادة جدولة إعادة الديون الربوية- وربما كان فيه شبه من المبدأ الجاهلي " إما أن تقضي وإما أن تربى"..(5/1114)
الحالة الثالثة: وبعض المصارف الإسلامية وهي ليست قليلة استحدثت إلزام المدين المماطل دفع تعويض عن الضرر الذي ألحقه بالمصرف نتيجة مماطلته، وحجز المال عن الاستثمار وتحقيق الربح، ولعل هذا الموضوع يحتاج إلى وقفة، نبين فيها وجهة نظر القائلين بهذا الرأي، المدافعين عنه، وأثر هذا في التطبيق العملي، ورأى المجيزون أن الغني المماطل أوقع الضرر بالمصرف، فلولا مماطلته لضم هذا المال لباقي الأموال المستثمرة ويمكن أن يقدر الضرر بمقدار الربح الذي حققه المصرف فعلًا في مدة المماطلة، ولذلك أجازوا للمصرف أخذ تعويض بمقدار نسبة الربح التي كان يمكن أن يحققها دين المماطل لو استثمره المصرف، فمتى تبين المصرف الإسلامي أن المدين المماطل مليء غني أضاف إلى دينه نسبة تعادل النسبة التي حققها خلال مدة بقاء الدين في ذمته.
وقد ناقشت بعض هؤلاء المجيزين، ووجدتهم يستدلون بثلاثة أحاديث شريفة، وبالمصلحة المرسلة التي يرون أنها تتفق مع مقاصد التشريع الإسلامي، والأحاديث الثلاثة هي:
1- ((مطل الغني ظلم))
2- ((لي الواجد يحل عروضه وعقوبته))
3- ((لا ضرر ولا ضرار))
والأحاديث صحيحة منها ما هو متفق عليه الحديث الأول متفق عليه والحديث الثاني ذكره السيوطي وأشار إلى رواته وهم أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم ورمز للحديث بالصحة والثالث معروف، والحديثان الأول والثاني ظاهران في ظلم الغني المماطل، واستحقاقه للعقاب، وهما مما يحتج به، والعقوبة هنا تعزيرية، وذهب الجمهور إلى أن العقوبة هنا هي الحبس، وإن جاز في التعزير غيره كالضرب والتوبيخ، ومادام الهدف من العقوبة التعزيرية الردع والزجر وأداء الحقوق، وليس في العقوبة هنا حد مقرر، فالأمر إذن فيه متسع أمام القاضي أو ولي الأمر، فقد يرى في التوبيخ الكفاية، وقد يرى ضرورة الضرب مع الحبس، والأمر لا يستدعي كبير خلاف مادام الحكم يصدر من عادل غير محكم للهوى والتشهي، والحديث الثالث ينهى عن الضرر، ومن القواعد التشريعية المعروفة أن الضرر يزال، والمصرف لحقه ضرر فيجب أن يزال.(5/1115)
ومن المعروف أن الدائن ليس له إلا دينه، سواء أأخذه وقت استحقاقه أم بعد مدة المطل، وما أجاز أحد من الفقهاء أن يدفع المدين قدرًا زائدًا عن الدين كعقوبة تعزيرية، ولو قيل: يدفع مقابل الزمن، فهذا هو عين الربا: قال المجيزون ردًا على هذا: إن المصلحة تقتضي منع المماطل من استغلال أموال المسلمين ظلمًا وعدوانًا، وإذا كانت الفائدة الربوية تمنع المطل مع البنوك الربوية، فإن الإسلام لا يعجز عن أن يوجد حلًا لمشكلة المطل التي تعاني منها المصارف الإسلامية، وإذا كان الفقهاء السابقون رأوا أن تكون العقوبة الحبس، وهذا غير مطبق الآن، فعلى فقهاء العصر أن يجتهدوا لإيجاد حل، ثم أضافوا: والقدر الذي نرى أن يتحمله المماطل هو ما يقابل الربح الفعلي للمصرف، فهذا ليس من باب الربا، ولكنه من باب منع الضرر الذي يلحق بالمصرف وربما كان من الصعب –تعقيبًا على قول هؤلاء ربما كان من الصعب- التفرقة بين ما ذهب إليه هؤلاء وبين الربا، ويبقى هنا كذلك أن نسأل: ما الهدف من العقوبة التعزيرية؟ ومن الذي يحدد هذه العقوبة؟ ومن الذي يأمر بإيقاعها؟ أو يقوم بتنفيذها؟ أفيمكن أن يكون شيء من هذا للمصرف؟ لو جاز أن يكون للمصرف استحداث عقوبة تعزيرية يوقعها بالعميل وهي تشبه بالربا، إن لم تكون هي الربا، بعينه، فمن باب أولى أن يكون له الحق في العقوبة التعزيرية المقررة كالحبس أو الضرب. .
ونأتي إلى الجانب التطبيقي لنرى هل تحقق الهدف من هذه العقوبة؟ بعض المصارف رأت أن المتعاملين معها الذين لا يؤدون الأقساط في مواعيدها بلغوا من الكثرة حدًا يصعب معه النظر في كل حاجة، والتفرقة بين مطل الغني وعجز الفقير، كما توجد عوامل أخرى تزيد الأمر صعوبة، ولذلك عند تأخير أي مدين –وهذا أمر وقع في أكثر من مصرف- ولذلك عند تأخر أي مدين عن الأداء يضاف على دينه ما يقابل الربح الذي يعلنه المصرف في حينه، ولا يستطيع أي أحد أن يفرق بين هذا وبين الربا المحرم، وقد يقال أن هذا خطأ في التطبيق لا في الفتوى، ولكن على المفتي أن ينظر إلى ما يمكن تطبيقه، وبعض المصارف الأخرى تمسكت بنص الفتوى، فكانت ترسل للعميل أولًا حتى تتأكد من المطل قبل إنزال العقوبة.
ويلاحظ هنا أن الأرباح التي تحققها المصارف الإسلامية أقل من الفوائد الربوية في أوقات كثيرة، فالذين يستحلون هذه الفوائد استمروا في مطلهم غير عابئين بما يضيفه المصرف الإسلامي، وبذلك تحولت العقوبة التعزيرية إلى زيادة ترتبط بربح المصرف والزمن، ورضي بهذا الطرفان، فهل تحقق الهدف من العقوبة التعزيرية أم تحولت العقوبة إلى نوع جديد من الربا؟
ويبقى هنا أيضًا أن نسأل: إذا لم يكن هذا التصرف مشروعًا –وأظنه غير مشروع- فهل نجد عند مجمعكم الموقر حلًا لمشكلة الأموال الضخمة التي يستحلها الأغنياء القادرون المماطلون؟ نرجو أن يتسع وقت المجمع لبحث هذا الموضوع، هذا من الناحية التطبيقية وأن لا يكتفي المجمع بإذن الله تعالى على المسائل النظرية فقط.
والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وشكر الله لكم جميعًا. .(5/1116)
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
تناول الأستاذ مقدم الموضوع، تناول عدة موضوعات ولم يسر على الطريقة التي كنا نتوقعها ونبه إليها الأستاذ رئيس المجلس من أن يعرض علينا ما ورد في البحوث والموضوعات التي تناولها كثيرة ولا يمكن بحثها في هاتين الساعتين ولذلك سأركز حديثي على الناحية النظرية وعلى جوانب خاصة منها، وسأحاول أن أربط بين ما دار في الجلسة الماضية في الحديث عن الوعد باعتباره تمهيدًا للحديث عن بيع المرابحة للآمر بالشراء بقدر الإمكان.
أهم نقطة في الواقع في بيع المرابحة للآمر بالشراء التي يجب أن يصدر فيها المجلس قرارًا هي موضوع الإلزام، أو عدم الإلزام بالوعد الذي صدر من البنك وصدر من العميل، كما سمعنا في تكييف هذه المعاملة أن العميل يطلب من البنك أن يشتري السلعة ويبيعها له، ويعده بأن يشتريها إذا قدمها إليه البنك، وكذلك البنك يعد من جانبه أن يشتري السلعة ويبيعها لهذا العميل، لكي نصل إلى الحكم الصحيح في هل هذا الوعد من جانب البنك، والوعد المقابل له من جانب العميل هل هناك إلزام أم ليس هناك إلزام؟
في الموضوع السابق فرق الأستاذ نزيه بين الوعد والمواعدة والعدة، وهذه نقطة في غاية الأهمية وهي المفتاح لحل هذه القضية "قضية الإلزام أو عدمها" وإن كنت لا أتفق مع الأستاذ نزيه في التفرقة الثلاثية هذه، وإنما التفرقة ثنائية فقط، هي تفرقة بين العدة والوعد من جانب، والمواعدة من الجانب الآخر، لأني لم أجد فرقًا بين العدة والوعد، إلا أنه قال: وصحيح هذا أن المالكية يستعملون كلمة عدة أكثر من استعمالهم لكلمة وعد، لكن الحكم واحد عندهم. .(5/1117)
الفرق الهام بين الوعد والعدة وبين المواعدة هو أن العدة أو الوعد تكون من جانب واحد، ومادامت من جانب واحد فهي لا تكون إلا بمعروف، لا تكون إلا تبرعًا، فالذين قالوا إنه إذا كان حتى على أكثر الآراء في مسألة اللزوم ولنأخذ به أن هذه العدة التي تصدر من جانب واحد ملزمة لهذا الشخص الذي صدرت منه، قال بعض الأخوة وهم أكثر من واحد إنها إذا كانت واجبة في التبرعات فمن باب أولى تكون واجبة في المعاوضات، وهذا كلام غريب في الواقع بالنسبة لي لأنه إذا كانت هذه العدة لا تصدر إلا من جانب واحد، فكيف تكون في المعاوضات؟ لا يمكن، ولا يمكن أن نجد مثالًا واحدًا لعدة في المعوضات، هي دائمًا تبرعات، بأي صفة صدرت، يدفع له مالًا يعمل عملًا، حتى من ناحية الوعد سواء دخل في السبب أم لم يدخل، كان هناك سبب أو لم يكن، هي كلها وفي جميع صورها تبرع محض، فلا محل للقول بأنها إذا كانت لازمة في التبرعات فهي ألزم منها في المعاوضات، هذا ما يتعلق بالعدة ولنأخذ بالقول بالإلزام ديانة وقضاء وفي جميع الأحوال، لكن هذا كله لا ينفعنا في موضوع البيع المرابحة يدخل في القسم الثاني وهي المواعدة، والمواعدة هذه تكون من جانبين، هي عدة من جانبين، من البنك ومن العميل، فلا يصح إطلاقًا أن نطبق عليها حكم العدة، وهذا هو السبب الذي أوقع بعض الأخوة في الخطأ وفي الاستدلال بمذهب الإمام مالك في وجوب الوفاء بالوعد.
فإذا أخرجنا موضوع بيع المرابحة للآمر بالشراء من باب العدة أو الوعد واتفقنا على هذا نكون قد قطعنا شوطًا كبيرًا في حل هذه المسألة، ولنأت بعد ذلك إلى المواعدة، أي وعد من الجانبين: هل هو ملزم أو غير ملزم؟ مذهب المالكية صريح في هذا وقد تحدثوا عن العدة كما تحدثوا عن المواعدة، وأحد الإخوان أشار إلى قاعدة المواعدة، هذه قاعدة عندهم أقرأ لكم نصها: "القاعدة الخامسة والستون: الأصل منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال حماية" وشرح هذه القاعدة كما جاء في "إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك": ومن ثم منع مالك المواعدة في العدة لأنه لا يصح الزواج وعلى بيع الطعام قبل قبضه لأنه لا يجوز ووقت نداء الجمعة وعلى ما ليس عندك، وهذا هو محط الشاهد: الإمام مالك والمالكية جميعًا يمنعون المواعدة على ما ليس عندك وهذا هو بيع المرابحة للآمر بالشراء بنصه، لا يختلف عنه في شيء بتاتًا، البنك يعد بأن يبيع السلعة لطالبها، وطالب السلعة يعد بأن يشتريها، وأحب أن أنبه إلى نقطة هنا، المالكية عندما قالوا هذا الكلام، وهذه القاعدة تعني أن هذا لا يجوز في حال الإلزام "الإلزام بهذه المواعدة" لأنا لو ألزمنا كلا من الطرفين بتنفيذ وعده تكون بيعًا، وليست مواعدة، وهذا البيع لا يجوز إنشاؤه في الحال، لا يجوز أن يقول البنك للعميل الذي يطلب لسلعة ليست عند العميل: بعتك السلعة الفلانية التي طلبتها بمبلغ كذا، ويقول له الطالب قبلت، ثم يذهب البنك فيشتريها ويقدمها له. .(5/1118)
هذا هو معنى هذه القاعدة: المواعدة لا تصح بما لا يصح وقوعه في الحال، كما لا يصح أن أبيع ما لا أملك، كذلك لا يصح أن أعد بأن أبيع ما لا أملك مع التزام كل من الطرفين بهذا الوعد، هذا هو ما فهمته من هذه القاعدة.
والقاعدة تعني أيضًا أن هذه المواعدة يمكن أن تقع صحيحة إذا كان الشيء الموعود أو المتواعد عليه يصح وقوعه في الحال، إذا كان المال الذي أريد أن أبيعه عندي لا مانع من هذه المواعدة عند المالكية.
فإذن أنا أريد –وأطلت في هذا- لأدفع به قول من يستشهد بالإلزام في بيع المرابحة بمذهب المالكية، فمذهب المالكية قطعًا لا يجيز هذا، بل إن المالكية قد تطرقوا إلى هذه المسألة تحت باب "العينة" والدكتور بكر كتب في هذا ونقل كل نصوص المالكية في هذه المسألة، وحسب مذهب المالكية فإن المعاملة القائمة بين البنوك بحسب الجزئيات التي ذكروها زيادة على هذه القاعدة العامة لا تجوز، بل أن هذه المسألة ذكرها الإمام مالك في الموطأ، وبالمناسبة أن بيع المرابحة للآمر بهذا ليس أمرًا مستحدثًا، هي التسمية بهذا الشكل هي المستحدثة أما البيع فهو معروف وأقرأ لكم عبارة الإمام مالك في الموطأ: "روي مالك في الموطأ أنه بلغه أن رجلًا قال لرجل ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل، فسأل عن ذلك عبد الله بن عمر فكرهه ونهى عنه" الإمام مالك أورد هذه العبارة في باب "بيعتان في بيعة"، وقد علق شراح الموطأ ومنهم الباجي على هذه المسألة بقوله: ولا يمنع أن يوصف بذلك من وجهة أنه قد لزم مبتاعه بأجل بأكثر من الثمن فصار قد انعقد بينهما عقد بيع تضمن بيعتين، إحداهما الأولى وهي بالنقد، والثانية المؤجلة، وفيها مع ذلك بيع ما ليس عنده، وهذا هو المهم عندي وهو الصفة الواضحة في هذه المسألة لأن المبتاع بالنقد قد باع من المبتاع بالأجل البعير قبل أن يملكه، ثم يستطرد ويقول: وفيها سلف وزيادة.. الخ، فذكر أكثر من دليل على المنع وأوضح هذه الأدلة على المنع هو أن هذا البائع قد باع قبل أن يملك، وواضح من عبارة الإمام مالك ومن شرح الباجي أن هذا إذا كان على الإلزام، أما إذا كان ليس على الإلزام ولو على طرف واحد، على المشتري أنه بالخيار فلا مانع من هذا وخاصة كما تعلمون أن مذهب المالكية أنه عنده الخيار قد يدخل كثير من العقود فيجعلها صحيحة مقبولة وإن كانت في الأصل لو كانت على الإلزام لا تكون مقبولة، أما إذا جعل فيها الخيار لأحد الطرفين تكون مقبولة.
ويعللون هذا بأن دخول الخيار يخرجها من باب المكايسة والمغالبة إلى باب المكارمة، مادام أعطى أحد الطرفين الآخر الخيار فقد جعله في حل وسعة، ولهذا فتفسير هذا المنع هو في حال الإلزام.(5/1119)
ولذلك الرأي أو الفتوى التي يسير عليها بنك فيصل الإسلامي في السودان هي أن العميل أو طالب الشراء أو الآمر بالشراء بالخيار بين أن يشتري السلعة بعد أن يقدمها له البنك أو يتركها إذا شاء، وقد نص على هذا صراحة في عقد المرابحة للآمر بالشراء، في المرحلة الأولى: إن البنك وعد بأن يشتري السلعة ويبيعها لطالبها إذا رغب فيها ثم بعد ذلك يتم عقد البيع، يقدم البنك السلعة بعد أن يشتريها ويتملكها ويقبض، يقدمها لطالبها، فإن شاء قبلها وإن شاء ردها، وهذا الذي عليه العمل في بنك فيصل الإسلامي السوداني يختلف عما عليه العمل في بعض البنوك الأخرى، وهو أيضًا ما عليه العمل في كل البنوك في السودان، ما عدا بنكًا واحدًا أخذ بنظرية الإلزام.
قرأت في بعض بحوث الإخوة المعارضين للإلزام –وأنا أتفق معهم ولعله سيبين رأيه في هذا الأستاذ رفيق المصري- بحثًا جيدًا قدمه وهو لمعارضي الإلزام وأنا أتفق معه في كل ما قاله بالنسبة لرد حجج من يقول بالإلزام ويقول بعدم الإلزام، لكنه ذهب إلى أبعد من هذا فمنع الإلزام فقال بعدم الإلزام من الجانبين أو هذا هو ما فهمته من بحثه.
واعترض على ما يسير عليه العمل في بنك فيصل الإسلامي من أنه يعطي الخيار للمشتري ويمنعه للمصرف، أي يلزم البنك، وهذا هو ما عليه، يعني البنك إذا اشترى السلعة هو غير ملزم بشراء السلعة لكنه إذا اشترى السلعة هو ملزم بأن يقدمها أولًا لطالبها، فإذا قبله فهو أولى بها وليس له أن يبيعها لغيره، لكن العميل هو الذي بالخيار، وهذا الذي سار عليه بنك فيصل مأخوذ من نصوص فقهية معتمدة أوضحها وأولها هو كلام الإمام الشافعي: جاء في الأم كلام صريح في جواز بيع المرابحة للآمر بالشراء إذ كان الآمر هذا بالخيار، ومنع منعًا صريحًا أن يكون هناك إلزام على الطرفين، واسمحوا أن أقرأ لكم هذا النص، يقول الإمام الشافعي: "وإذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال: أشتر هذا وأربحك فيها كذا"، هذا هو بيع المرابحة للآمر بالشراء، اشتر هذه أمر.(5/1120)
وفي الباقي القليل الرد على بعض ما جاء في بعض البحوث من أن هذه التسمية غير مقبولة وغير سليمة وهي تسمية معروفة وليست بالابتداع (حتى الدكتور سامي) فالإمام الشافعي يصورها لنا، اشتر أمر، أمره بأن يشتري له السلعة وقال له: أربحك فيها، فكل ما فعله الدكتور سامي أنه صاغ هذه العبارة في عبارة موجزة ومقبولة، وبعض الفقهاء يعبر بالطلب: مثلًا ورد في مختصر خليل: (جاز للمطلوب منه سلعة أن يشتريها ليبيعها بنماء ولو بمؤجل) استعمل كلمة طالب بدل آمر، كل هذا سواء، فالإمام الشافعي يقول: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، شراء الأول والذي قال أربحك فيها بالخيار إن شاء أحدث فيها بيعًا وإن شاء تركه، وهذا نص قاطع في الموضوع، أن المشتري الآمر إذا كان بالخيار فالبيع صحيح، ثم يمضي الشافعي فيقول: وهكذا يقال اشتر لي متاعًا ووصفه له، أو متاعًا أي متاع شئت حتى ولو لم يصفه لأنه بالخيار، لكن الذي عليه العمل في البنوك أنه يوصف ويحدد الثمن، فكل هذا سواء يجوز البيع الأول ويكون فيما أعطي من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال: ابتعه واشتريه منك بنقد أو بدين جاز، وإن تبايعا إن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ، وهذا هو الذي جعلنا نمنع الإلزام من الجانبين، فهو مفسوخ من قبل شيئين: أحدهما أنهما تبايعا قبل تملكه، وهذه الحجة التي اعتمدنا عليها، من صريح كلام الشافعي، والثاني أنه على مخاطرة انك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا، ولعل هذا أقوى دليل على جواز بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا جعل للمشتري الخيار.
بعض الإخوة فهم من عبارة الشافعي هذه أن الخيار لابد أن يكون للطرفين، وليس فيها ما يدل على ذلك، لأن أولها صريح وكل ما قد يطرأ منه التباس هو هذه العبارة: "ويكونان في الخيار في البيع الآخر" يكونان في الخيار هذه، إذا فهمناها في سياق هذا النص كله لا تعني أن كلًا منهما يكون في الخيار، هو البيع في جملته بيع خيار يكون لأحدهم الخيار، هذا يكفي بدليل العبارة التي بعدها "وإن تبايعا على أن ألزما أنفسهما" إذا ألزم أحد الطرفين نفسه ولم يلزم الآخر فلا مانع من هذا أيضًا، على أنه هنا نقطة أحب أن أبينها وهي: في الواقع الصور التي تسير عليها البنوك في الإلزام وعدمه ثلاث وليست صورتين كما ذكر بعض الأخوة –الدكتور رفيق أظن في بحثه أيضًا- بعض البنوك تلزم البنك بالشراء والبيع لطالبه وتلزم المشتري بالشراء، وأظن هذا ما ذهب إليه الدكتور سامي لأنه يوجب التعويض على البنك إذا لم يف بوعده، الصورة الثانية أو البنوك الثانية: تلزم البنك البيع إذا اشترى السلعة أما إذا لم يشترها فلا إلزام عليه، لكن لو اشتراها يجب عليه أن يبيعها لطالبها وعلى طالبها أن يشتريها، الحالة الثالثة والتي عليها بنك فيصل الإسلامي في السودان أن البنك أيضًا غير ملزم بشراء السلعة لكنه إذا اشتراها يلزم ببيعها للمشتري لطالب الشراء، وطالب الشراء غير ملزم.
نقطة صغيرة –وأظن أني أطلت وأحب أن أختصر وأنتهي- الدكتور سامي في حديثه في الجلسة الماضية قال: إذا لم يجب التنفيذ قضاء، وأظن أن هذه عبارته "يجب التعويض"، فكأنه يريد أن ينقلنا ويقول مادمتم لا تريدون أن يكون هذا الوعد ملزمًا قضاء ولا تلزمون البنك بالتنفيذ أو لا تلزمون المشتري بالتنفيذ، فيجب التعويض إذا أخل أحد الطرفين فلم يف بوعده، نقول له: هذا غير ممكن، كيف تطالب بتعويض في أمر، في عقد، في تصرف ممنوع؟ التصرف في أصله غير جائز، فكيف ينبني عليه المطالبة بالتعويض؟ يعني إذا دخل من أول مرة المصرف والمشتري على أنهما ملزمان فلا يمكن أن يأتي التعويض هنا، وأكتفي بهذا وشكرًا لكم.
.(5/1121)
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الحقيقة أنه الآن ينطبق علينا قول الشاعر:
من يتبع القدماء أعاد حديثهم
بعد الفشو وضل إن لم يتبع
أرى أنه يشفع لي في التدخل قول الشاعر الآخر:
والسامرون إذا طال الجلوس بهم
ظنوا التسامر في أولى البدايات
البيت الأخير قلت معناه، كنت أريد أن أتدخل في الصباح على عرض الدكتور نزيه والذي اتفق مع الشيخ وهبه في أنه عرض موثق توثيقًا جيدًا واستعرض لمختلف الآراء.
إلا أن الملاحظة الشكلية التي أوجهها إليه ويمكن أن توجه لكثير من العروض هو أننا عند استعراضنا لمختلف أقوال الفقهاء في قضايا حساسة تشد تطلعات شباب الأمة الإسلامية إليها، ينبغي أن نعطي آراء تشكل مصادر استئناس للجان الصياغة عندما تحاول إعداد مقررات هذا المجمع المحترم.
فالوعد نقل فيه الحافظ بن حجر القول الصحيح والذي لا يمكن أن نتجاوزه حيث قال: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به من الغرماء، ثم أضاف: ولم ينقل أي إجماع في ذلك ومن قال به فهو مردود بخلاف المشهور، "فتح الباري جزء 6 صفحة 207 الطبعة الحلبية".
فإن الوعد هنا يتفق تمامًا مع ما يعرف في الفقه الغربي بقيام الوجوب، أو الفترة التي يبقى فيها الإيجاب قائمًا، علمًا بأنهم قرروا وهذا التقرير موجود حتى في الفقه الإسلامي وهم أخذوه منه، وقد حللته في رسالتي للدكتوراه "تأثر مصادر الالتزام الغربي في الفقه الإسلامي" هو على أن الإيجاب القائم لا يلزم إلا من وافق عليه ونزل عليه الإيجاب، أما الوعد بالبيع فلا يسمى بيعًا، إلا أن الإنسان إذا وافق على وعد وجهه إليه الواعد أصبح ملزمًا بأداء ما وافق عليه، فإذا نحن قلنا اليوم من منطلق هذا المجمع الفقهي العظيم أن الوعد نافذ على صاحبه وينبغي أن يسال عنه قضاء أضفنا قاعدة جديدة استخلصناها من كلام الفقهاء، ولو كنا أخذنا بشطر الخلاف استجابة للمصالح المتجددة وسدًا للذرائع وخشية أن يصبح الناس في متاهات من المشاكل التي تطرأ بينهم في مثل هذه المواعيد، هذا ما أقوله عن الوعد.(5/1122)
أما المرابحة: فالمرابحة بشكلها الحالي الموضوع في المجمع فهو تعبير جديد أضيف إلى بيع المرابحة المعلوم، وبيع المرابحة المعلوم قال فيه ابن رشد: أجمع جمهور العلماء على أن البيع صنفان: مساومة، ومرابحة، وأن المرابحة هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحًا ما بالدينار أو الدرهم، ثم حلل خلاف العلماء في أنواع الزيادات التي يمكن أن تحسب من رأس المال وتلك التي لا يمكن أن تحسب منه، واستطرد كلام المالكية في هذا الموضوع حيث قالوا: إن البعض من الأعمال اليسيرة التي يقوم بها الشخص لا يمكن أن تحسب من رأس المال عندما يريد أن يبيع فلا يقول: اشتريته بكذا، ولكن يقول: قام علي بكذا وهذا متفق مع مذهب المالكية، وإذا نحن نظرنا إلى ما قاله المنتقي في الجزء الخامس حول المرابحة لوجدنا أنه حللها تحليلًا قيمًا لا يتفق وبعض ما نسب إلى المالكية فيما سمعته من عروض قيمة ألقيت هنا بأنهم حظروا بأن يبيع شخص مجهولًا لشخص آخر وأجازوا أن بيع شخص الشيء المعلوم لشخص آخر بثمن معلوم على أن لا يكون وقت الأداء معروفًا، والمدونة تعرض لاثنتين وثلاثين قضية تهم بيع المرابحة، اثنتين وثلاثين قضية التي تعرضت لها المدونة، منها ما يطرأ على البضاعة من الزيادة وما يمكن أن يضاف إليها، والتحسينات التي يقوم بها الشخص عندما يريد أن يبيع بيع مرابحة، والشيخ خليل في كتابه "المختصر" خصص فصلًا خاصًا للمرابحة حيث أجازها وحذر من المجهول في شأنها فقال: [وجاز مرابحة والأحب خلافه ولو على مقوم مطلقًا أو إن كان عند المشتري تأويلان، وحسب ربح ماله عين قائمة كصبغ وطرز وخياطة وغير ذلك] .
فعندما تعرض لهذه الأنواع شارحه الحطاب بين الحظر الكامل الذي يمكن أن يقع في بيع المجهول، أما ما يذكر اليوم من بيع المرابحة للآمر بالشراء أو الوعد للآمر بالشراء كما رأينا في الجزء السابق من المحاضرات فالصيغة المطروح بها اليوم هو بيع دين بدين، وبيع الدين بالدين معلوم، فالذي ينبغي في نظري أن نخرج منه من هذه البحوث، هو أن على المجمع الموقر عندما تتعارض أقوال الفقهاء أن يستخلص لنا القواعد التي يمكن أن يحتج بها أمام القضاء، وأرجح وأؤكد على أولئك الذين قالوا بتدوين قواعد إلزام الوعد لمن وعد به، وعلى بيع المرابحة، ولكن في النظريات الفقهية لا نضيف إليها شيئًا يحلل لنا الربا وندخل تحت المسميات، فنكون هدرنا الشريعة الإسلامية عن طريق مسميات لم تعرف من قبل ولم تستخلص من نظريات الشريعة بأسلوب واضح ومركز، وشكرًا لكم.(5/1123)
القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.
فإن الموضوعات أرى أنها قد اشتبكت ولكنني أريد أن أمر مرًا سريعًا على النقاط المهمة التي طرحت أمامنا اليوم.
أولًا بالنسبة للوعد الملزم قد جرى الحديث عنه وقد ذكر كثير من الاخوة أنه يقترح إلزام الوعد لتحيل على الربا الجاري في المصارف ولكنني أريد أن ألفت أنظاركم إلى أن هذه المسألة ليست خاصة بالمصارف الإسلامية فحسب، وإنما هي مسألة مهمة بالنظر إلى التجارة العامة، ولو فرضنا –ولو قطعنا النظر عن المصرف- وفرضنا أن هنالك تاجرًا عاديًا يستورد البضاعات من الخارج، يأتيه أحد ويقول: استورد لي بضاعة كذا، أو أجهزة أو معدات من الخارج، فإني أشتريها منك، ومعلوم أن الأجهزة والمعدات واستيرادها من الخارج ربما يكلف الملايين، فلو استورد هذا التاجر هذه البضاعات أو الأجهزة أو المعدات من اجل هذا المشتري وكلفه الملايين من الروبيات مثلًا، فإذا بذلك المشتري يقول: أنا لا أقبل هذا الشراء، أنا لا أفي بوعدي بالشراء، مع أن هذه الأجهزة والمعدات كانت ملائمة لظروفه، وإنما صنعت من أجله، فلو قطعنا النظر عن المصارف فإن مسألة الوعد الملزم تعرض لنا في التجارات العامة الأخرى أيضًا فإذا نظرنا إلى هذه المسألة من هذا المنظار، فأريد أن ألفت أنظاركم إلى ما ذكره بعض الأخوة عن أن الوعد عند المالكية إنما يختص في التبرعات ولا يوجد في المعاوضات، والحمد لله عندنا ثلة جليلة من علماء المالكية وفقهائهم، ولست أدعي أني أعلم أكثر منهم بمذهب المالكية، ولكن عندي كتاب للإمام الحطاب رحمه الله "تحليل الكلام في مسائل الالتزام" وقد ذكر في هذا الكتاب عدة فروع يبدو أنها تتعلق بالمعاملات والمعاوضات، ومع ذلك فإنه أفتى في ذلك بلزوم الوعد، ومن هذا صورة واحدة وهي في بيع المزايدة، في بيع من يزيد، جاء واحد وقال لآخر كف عني –يعني كف عني في المزايدة- ولك دينار جاز ذلك، ولزمه اشتري أو لم يشتر، ثم يقول ولو قال كف عني ولك نصفها على سبيل الشركة لجاز أيضًا، يعني لو كف عن المزايدة، فإن وعده بأن ما يشتريه من تلك المزايدة يجلس فيها شركة، شركة الملك معه، فهذه أحداث شركة الملك عقد معاوضة وعقد مالي، ووعده بذلك العقد المالي، ويقول ابن رشد رحمه الله لجاز أيضًا، فلو لم يكن الوعد ملزمًا في المعاوضات لا أرى مبررًا لهذه الجزئية التي ذكرها الحطاب عن ابن رشد في هذا الكتاب.(5/1124)
فالمطلوب من السادة فقهاء المالكية شرح هذه المسألة، ثم لو قطعنا النظر عن مذهب المالكية فإن عند الحنفية رحمهم الله نظرية مشروحة في كتبهم وهي أن المواعيد ربما تجعل لازمة لحاجات الناس، وقد ذكروا هذه القاعدة في ضمن البيع بالوفاء، حينما وعد الرجل بالوفاء فإن ذلك وعد محض ولكن ذكر كثير من فقهاء الحنفية أن هذا الوعد ملزم، وعلى أساس هذه الجزئية جاءت مادة في مجلة الأحكام العدلية تقول: إن المواعيد ربما تجعل لازمة لحاجة الناس.
ثم هناك ناحية أخرى لم يذكرها الباحثون، وهي أن الوعد سواء، إن كان واجبًا أو مندوبًا أو مستحبًا، فإنه لا يقل عن أن يكون مباحًا، ومن المعروف أنه لو ألزم ولي الأمر مباحًا على الشعب فإنه يكون واجبًا عليه، فلو ألزم ولي الأمر إيفاء الوعد في هذه المعاملات نظرًا إلى المصلحة الشرعية، لا أرى في القرآن ولا في السنة والدلائل الشرعية الأخرى ما يمنع ذلك، هذا بالنسبة لمسألة الوعد.
أما عقد عملية المرابحة كما تجريه الآن المصارف الإسلامية، فأتفق مع الذين ذكروا أن هذه المعاملة إنما تجوز بشروطها، والشرط الأول: أن تكون المعاملة في البضاعة حقيقة لا في النقود، والثانية: أن يقع عقد المرابحة بين المصرف وبين العميل بعد أن يمتلك البنك البضاعة وتأتي في حيازته وضمانه، سواء كان عن طريق القبض الحسي أو المعنوي، وسواء كان مباشرة من البنك أو من وكيله المنصوب لهذا الغرض، وأن يتحمل البنك تبعة الهلاك قبل تسليمها إلى العميل كما ذكره أخونا الأستاذ علي السالوس حفظه الله، والثالث: أن يكون كل من الأجل والثمن معلومًا لدى الجانبين وقت العقد، ولا يكون هناك تردد في الثمن ولا في الأجل، والرابع: أن يكون الثمن لا يزيد في حالة عدم أدائه في الوقت المحدد ولا ينقص في حالة أدائه قبل الموعد المحدد، وأما تعويض البنك في حالة تقصير العميل في أداء ثمنه في وقته المحدد كما يجري في كثير من البنوك الإسلامية، فلي في ذلك وقفة، لأن هذا التعويض في نظري لا يدخل تحت أصل شرعي، ولكن قد ذكر الحطاب رحمه الله في نفس هذا الكتاب مسألة يمكن أن تصبح بديلًا لهذا التعويض، ويمكن أن يكون هذا البديل أكثر أثرًا على العملاء، وهي أن الحطاب رحمه الله قد ذكر أنه لو قال المستقرض: إن لم أوفك هذا القرض في وقته المحدد فإني أدفع مبلغًا كذا إلى الفقراء أو أدفع مبلغ كذا إلى رجل آخر غير المقرض، فإن ذلك يجوز عند جميع المالكية ديانة وعند بعضهم قضاء أيضًا، وأقرأ عليكم نصًا من الحطاب رحمه الله: وأما إذا التزم المدعى عليه للمدعي أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا فله عليه كذا وكذا، فهذا لا يختلف في بطلانه لأنه صريح الربا، وسواء كان الشيء الملتزم به من جنس الدين أو غيره، وأما إذا التزم أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا، فعليه كذا وكذا، فهذا لا يختلف في بطلانه لأنه صريح الربا، وسواء كان الشيء الملتزم به من جنس الدين أو غيره، وأما إذا التزم أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا، فعليه كذا وكذا لفلان، أو صدقة للمساكين، فهذا هو محل الخلاف، والمشهور أنه لا يقضى به، وقال ابن دينار: يقضى به، فلو أخذنا بقول ابن دينار لأن مقصود البنك من فرض التعويض هو الضغط على العميل بأن يوفي الثمن في وقته المحدد ويمكن هذا الضغط بهذا الطريق.(5/1125)
ومع هذا أريد أن أنبه إلى ناحية أخرى مهمة في هذا الصدد، وذلك أن عقد المرابحة بعد توفر الشروط التي ذكرتها وإن كانت تدخل في إطار الجواز الفقهي ولكنه في نظري ليس بديلًا مثاليًا للنظام الربوي، ولئن اكتفت المصارف الإسلامية بهذا العقد في سائر مداولاتها، أو في معظمها، فأخشى أن لا يبقى فرق عملي بين النظام الربوي وبين النظام الإسلامي، لأن ما يجري في البنوك الإسلامية اليوم هو أنه يحدد ربحه في عقود المرابحة بعين ذلك الأساس الذي تحدد به البنوك الربوية فائدتها، فكان البنك في النظام الربوي يأخذ خمس عشرة في المائة على القروض فلو أدر مشروع العميل ربح خمسين في المائة فإن نصيب البنك منه لا يجاوز خمسة عشرة في المائة، والخمسة والثلاثون الباقية كلها للعميل، والنتيجة هي هي في عقود المرابحة أيضًا، فإنه ليس نصيب البنك في هذه العقود إلا خمس عشرة في المائة، فتعديل عمليات البنوك من سعر الفائدة إلى عقد المرابحة وإجراء جميع عملياتها على هذا المنهج وإن كان يدخل في إطار الجواز الفقهي ولكنه لا يغير من وضع توزيع الثروة شيئًا، فالبديل الحقيقي للنظام الربوي هو الشركة والمضاربة فإنه هو الذي يضمن التوزيع العادل فيما بين البنك والعميل.
فالذي أراه أنه لو أصدر المجمع قرارًا لجواز عقد المرابحة فينبغي أن يصرح فيه بأن البنك لا ينبغي له أن يجري هذه العمليات إلا فيما لا يمكن فيه المضاربة والشركة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
ترقع الجلسة الآن لأداء صلاة الظهر ثم نعود إن شاء الله تعالى بعد الصلاة مباشرة لاستكمالها وشكرًا. .(5/1126)
بعد الصلاة:
الدكتور عبد السلام داود العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسوله الكريم.
إذا سمح لي الأخوة الكرام أحب أن أقدم لحديثي ببعض الملاحظات: نحن في هذا المجمع الكريم عندما نتصدى لهذه القضية يجب أن نتصدى لها في إطار أصل المسألة المطروح وهو أننا نحاول أن نضع صيغًا جديدة في مجال المعاملات المصرفية ونبذل في هذا المجال جهدًا في التحرير والتخريج والقياس والاجتهاد، يعني نحن لسنا في صدد بحوث فقهية تعالج جزئيات هنا وهناك لننتهي إلى ماذا ذهب المذهب الفلاني؟ أو إلى ماذا قال الفقيه الفلاني؟ فنحن أمام محاولة اجتهادية جماعية لاستحداث صور جديدة تعالج مشكلات الناس وقضاياهم الملحة، نحن أمام غزو ربوي مركز أثارنا جميعًا بلا استثناء، مواجهة هذا التعامل الربوي الذي يجتاح واقعنا: كيف نواجهه؟ جاءت فكرة البنوك الإسلامية، بدأت البنوك الإسلامية بالعمل بصيغ متعددة، هذه الصيغ يجب أن نقومها في إطار ما استحدثت من أجله وما بحثت من أجله هل هي وسائل للتحايل على الربا؟ هل هي تحقق منهج الشرعية الإسلامية في استثمار الأموال وتحقيق الأرباح؟ هل هذه الصور الجديدة ببعض تفصيلاتها أم بكل تفصيلاتها؟ هل هناك ما يمنع شرعًا من استحداث عقود جديدة ذات مواصفات محددة، شريطة أن لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالًا؟ هذه الأمور في الواقع هي التي يجب أن تكون في الذهن ونحن نتصدى ونعالج هذا الموضوع.
الواقع عندما بحث موضوع بيع المرابحة للآمر بالشراء وضعت له شروط دقيقة كان القصد منها هو أن لا نتقلب هذه المعاملة في التطبيق إلى نوع من التمويل بدون مخاطر وبتحقيق زيادات على أصل التمويل وبحيث يكون دخول البنك الإسلامي المؤسسة المصرفية الإسلامية على هذا الخط فيه نوع من المخاطرة والتعرض لاحتمالات الربح والخسارة، ومن هنا جاء الشرط الأساسي في هذه القضية وهي أن السلعة يجب أن تدخل في ملك البنك وضمانه دخولًا فعليًا، يعرضه لاحتمالات الربح والخسارة وإنه في اللحظة التي تتولد صوره في التطبيق تنفي هذا الأصل وهذا الشرط الأساسي، فإن الأمر ينقلب عند ذلك إلى نوع من التحايل والوقوع في دائرة المحظور الشرعي، فكل ما يجب أن نحرص عليه هو أن نضع الضمانات في هذه الصيغة، ولتكن صيغة مستحدثة لا تقوم على التلفيق والتجميع من هنا وهناك، وإنما تقوم على صياغة متكاملة لمعاملة فيها تركيب لعدد من العقود والوعود المترابطة ضمن تصور شمولي يهدف إلى تحقيق عملية الدخول الاستثمارية للبنك وفق قاعدة الشريعة في أن ذلك إذا كان يهدف إلى تحقيق أرباح معينة لابد أن يكون فيه ضمان ومخاطرة كما هي واضحة في قواعد الشريعة.(5/1127)
في ظني أن المشكلة التي أوقعت بعض التطبيقات المعاصرة لهذا العقد في محاذير التمويل بدون مخاطر ليس موضوع إلزام الوعد أو عدم إلزامه، إنما الذي أوقع هذا العقد في بعض التطبيقات هو حيطة بعض البنوك الإسلامية في أن تبعد نفسها عن الوقوع في أي ضمان متصور في هذا المجال، فذلك انقلبت العملية إلى عملية ربوية في هذه الصورة، لكن إذا التزم بالشروط الأصلية التي وضعت وبحيث أن البنك يملك السلعة التي أمر بشرائها ملكًا حقيقيًا فعليًا وبفترة معتد بها في مجال التملك ليس مرورًا عابرًا في الذمة عند ذلك يكون هذا هو فيصل التفرقة بين عملية التمويل الربوي البحث وهذه الصيغة.
موضوع الإلزام وعدم الإلزام في الواقع في التطبيق ليس مشكلة وأظن أي مصرفي واع لما يجري في المصارف الإسلامية، المصارف الإسلامية تشكو من أن الناس لا تلتزم بما وعدت أو أن البنك لا يقوم بهذا، الواقع الجهتان تندفعان لهذا الأمر لأنه هي عملية يربح منها البنك ويربح منها العميل، المشكلة ليست هذا المشكلة نريد أن نحمي هذه المعاملة من أن تكون وسيلة من وسائل التحايل للوقوع في الربا، فنهرب مما وقعنا فيه، وقد أوضحت في البحث الذي قدمته في هذه القضية وطالبت بإلحاح بجملة من الأمور التي تحمي هذا العقد أو هذه الصيغة من صيغ التعامل من أن تنقلب إلى أداة ربوية، هذا من الناحية الموضوعية، ومن العادة أن يؤجل الحديث في القضايا الموضوعية على القضايا الشكلية، لكن أنا أريد أن أذكر السادة أعضاء مجلس المجمع بقضية شكلية وهي نقطة نظام يجب أن ننتبه إليها في هذا المجال.(5/1128)
نحن في الواقع عالجنا هذا الموضوع في مجلس المجمع معالجة مستفيضة عندما عرضت علينا استفسارات البنك الإسلامي للتنمية، عرضت علينا كما تذكرون في الدورة الأولى وأجلناها إلى الدورة الثانية ثم عرضت علينا في الدورة الثانية وبعد لجان شكلت وبحوث أعدت ودراسات جهزت انتهينا أيضًا إلى عدم البت في هذه الموضوعات، وأجلناها لمزيد من البحث والدراسة إلى الدورة الثالثة، وفي الدورة الثالثة أعيد الأمر بحثًا واستقصاءً ودراسة وانتهينا فيها إلى قرارات بالأغلبية، والواقع يبدو أننا سنعود على ما أنهيناه بالتحرير والتحليل وإن كان ذلك بالأغلبية، بما نتوجه إليه الآن إذا توجهنا إلى ما ألاحظه في كلام بعض السادة الأعضاء إلى نقض ما انتهينا إليه، لذلك أنا أرجو أن أذكر إخواننا بالقرار رقم واحد في دورة عمان 86 في قضيتين مطروحتين علينا في هذه الدورة، قضية بيع المرابحة للآمر بالشراء، وقضية الإجارة المنتهية بالتمليك.
في قضية الإجارة المنتهية بالتمليك كان هناك وضوح كامل لكن أريد أن أذكر النصوص لأنها تعالج قضية الوعد أيضًا وبت فيها: قرر مجلس المجمع بخصوص عمليات الإيجار اعتماد المبادئ التالية فيها:
المبدأ الأول: إن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعًا.. هذا المبدأ الأول.
المبدأ الثاني: إن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، لماذا؟ بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء، وهذا وعد، بعد حيازة الوكيل لها توكيل مقبول شرعًا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور، إذا تيسر ذلك.
المبدأ الثالث: إن عقد الإجارة يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات، وأن يبرم بعقد منفصل، عن عقد الوكالة والوعد. .(5/1129)
المبدأ الرابع: إن الوعد بهبة المعدات – وهذا أيضًا وعد- عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل.
المبدأ الخامس: إن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالكًا للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذ عليه.
هذا بخصوص الموضوع الذي سيناقض قريبًا والذي هو "الإجارة المنتهية بالتمليك" وهي معالجة كما تلاحظون، معالجة شمولية، غطيت كل تفصيلاتها وما يتعلق بها.
بخصوص موضوعنا المطروح اليوم عمليات البيع –سميت هكذا في الاصطلاح هنالك- ولا مشاحة في الاصطلاح، المهم المضامين، سميت هناك عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن، قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية:
المبدأ الأول: إن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية ببيع المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعًا –فالقضية منتهية-.
المبدأ الثاني: إن توكيل البنك أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يبيعه البنك تلك الأشياء بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل، هو توكيل مقبول شرعًا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.
يعني نحن ذهبنا إلى اكثر من ذلك، ذهبنا إلى جواز أن يوكل الآمر بالشراء نفسه في الشراء على أن يكون في فترة التوكيل قبل تحرير عقد البيع الثاني في ملك البناء وضمانه.
المبدأ الثالث: إن عقد البيع يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات والقبض لها وأن يبرم بعقد منفصل.
فتلاحظون أيها السادة كيف أن هذه القضية قد بت بها في دورة عمان ولذلك كنقطة نظام ومبدأ قد أقررناه نحن في جلساتنا المتعاقبة أنه لا يجوز أن نعود على قراراتنا بالنقض وأن ما استقر من قرارات لا يجوز أن نصوغ قرارات جديدة تتعارض معها كليًا أو جزئيًا.(5/1130)
الشيء الآخر هنا في هذا المجال لا أريد في الواقع أن ندخل في نقاش ونعيد ما ذكرته في البحث لكن أحب أن أشير إلى بعض ملاحظات عاجلة في هذا المجال تعليقًا على ما ذكره بعض الإخوان.
الواقع كلام الإمام الشافعي والكلام الذي ورد في الموطأ وهنالك كلام أيضًا لمحمد بن الحسن الشيباني في هذا المجال، يدل جميعها على أن هذه الفكرة واضحة بأساسها وشروطها، يعني أنا أفهم نص الشافعي في جزئه الأخير، وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما الأمر فهو مفسوخ من قبل شيئين، إذا أكملنا العبارة في الواقع نلاحظ أن الشرط الذي اشترطناه في بيع المرابحة للآمر بالشراء: "إنه تبايعاه قبل تملكه" نحن فيما صغنا من شروط اشترطنا أن لا يكون التبايع إلا بعد الملك الحقيقي، ولذلك يزول هذا الإشكال، يعني وخشية الإمام الشافعي بما ذكر في نهاية عبارته، أن تكون عمليات التبايع تتم قبل أن يحدث تملك حقيقي للمأمور بالشراء، وعند ذلك تنقلب العملية إلى عملية إقراض ربوي، وهذا هو المحظور الذي احتطنا له بالشرط الذي شرطناه، وهذا يؤكد عبارة الموطأ، هنا عبارة الشافعي تقول: (اشتر هذه وأربحك فيها) يعني الذي سيشتري من؟ المأمور بالشراء وستدخل في ملكه ثم سيدخل في مرابحة مع الذي أمره بالشراء، بينما عبارة الموطأ: (ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل) فالعملية هنالك توكيل بالشراء فكذلك حقيقة الذي أمر بالشراء، وهنا إذن عملية تحايل على الربا لذلك ذكرت هنا تحت بيع العينة، الذي يتخذ وسيلة من وسائل التحايل على الربا، بينما عند الإمام الشافعي لم ترد في هذا المجال، ولدينا عبارة أخرى للإمام محمد بن الحسن الشيباني وكان قد ذكرها الدكتور عبد الستار في بحث له يرشد فيها الإمام محمد بن الحسن إلى حل في كتابه المخارج في قضية الخشية التي نحن خائفون منها، إنه العميل يرفض عملية الشراء بعد ما يقوم المأمور بالشراء، بشراء ما أمر به، فقد جاء في كتاب المخارج "رأيت رجلًا أمر رجلًا أن يشتري دارًا بألف درهم وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومئة درهم فأراد المأمور شراء الدار ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر –لاحظوا حتى نفس العبارة- فلا يأخذها، فتبقى الدار في يد المأمور، كيف الحيلة في ذلك؟ " إذن الصيغة مقررة ومسلمة، لكن فيه خشية من أنه يعدل الذي أمر عن أخذ ما أمر به فيرشده، قال يشتري المأمور الدار على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام ويقبضها ويجيء الأمر إلى المأمور فيقول له: قد أخذت منك هذه الدار بألف درهم ومائة، فيقول المأمور: هي لك بذلك فيكون ذلك للآمر لازمًا، ويكون استيجابًا من المأمور للمشتري:
فإذن القضية: المطلوب من البنوك الإسلامية والمصارف الإسلامية أن تطبق هذه الصيغة كما اشترطت، الذي يحدث في التطبيق أيها الأخوة الكرام فيه خلل كبير وهذا ليس حجة على القاعدة، هو حجة على الذين يطبقون، هم قد أفرزوا في التطبيق كثيرًا من الصور ليس فيها ضمان، وأنا تحفظت على ما ورد في كلام الدكتور سامي من نفي موضوع الحيازة، وقال الحيازة ليست شرطًا، يكفي التملك، التملك هو ممكن تملك صوري ومرور عابر في الذمة وعند ذلك فيه محظور كبير من أن نكون قد وقعنا في الربا. .(5/1131)
لابد من التملك الفعلي الحقيقي ليكون هناك تعرض لتبعات الضمان في الهلاك، وتعرض لتبعات الرد بالعيب وغير ذلك من معطيات الضمان، وهنالك أيضًا شرط آخر نبهت إليه في البحث الذي هو قضية إنه ليست كل سلعة تقبل التعامل وفق هذه القاعدة أو وفق هذه المعاملة، يعني من شروط تطبيق هذا البيع أن تكون السلعة مما تنسجم مع طبيعته، يعني إذا كان التطبيق له على سلع نقطع معها بأنه لا ضمان على البنك وأنه لا يتصور الضمان في أي حال من الأحوال عند ذلك واضح، أصل المسألة انتفى، وشرط القضية لم يعد واردًا، وبالتالي تدخل في دائرة الممنوع ودائرة الربا، مثل أن تكون بيوع المرابحة للآمر بالشراء متعلقة بالأراضي، حتى لو سجلت في ملك البنك في دائرة الأراضي فكيف ستهلك الأرض، وكيف سيكون الرد بالعيب؟ إذن كل ما في العملية أنها عملية إقراض ربوي لتمويل هذه الصفقة، ولذلك لا تجوز، أحب أن أؤكد على هذه النقطة أولًا نقطة النظام وأننا لا يصح أن نعود إلى ما اتخذنا فيه من قرارات واضحة بالنقض، والنقطة الأخرى أن الصيغة التي قدمت في مجال بيع المرابحة للآمر بالشراء، إذا التزم فيها وفق ما قررتها المجامع المعترف بها والقرارات التي أخذت فيها فإنها بحمد الله وفضله يمكن أن تؤدي دورًا كبيرًا في هذا المجال، وخاصة أن هذا التطبيق سيمنع بهذه الشروط، سيمنع البنوك الإسلامية من التركيز عليها لأنه مادام فيه احتمالات ضمان وخسارة ستتجه إلى المشاركة والمضاربة، لكن لما جعلت هذه الصورة في التطبيق (الواقع لا يطرح قضايا ضمان) استسهلتها البنوك الإسلامية وصارت ترى أن نسبة تقريبًا تسعون بالمئة من أموالها المتداولة توظف في هذا النوع ولا تلجأ إلى الأنواع الأخرى لأن هذا النوع مضمون العاقبة ونحن لا نريد في الاقتصاد الإسلامي أن تقع مثل هذه الصور لأن الأصل احتمالات الخسارة والربح هي الأساس في جواز هذا الربح، وشكرًا والسلام عليكم ورحمة الله. .(5/1132)
الرئيس:
في الواقع أنه بخصوص عمليات البيع الآجل مع تقسيط الثمن، ليس هو صورة كاملة لبيع المرابحة للآمر بالشراء الذي طرح بحثه، وإذا كان أحد من الأخوة يرى أنه صورة كاملة فيكتفى بما أداه أولًا عن المناقشة، أما من وجهة نظري ومن وجهة نظر عدد من الإخوان فإنه صورتان مختلفتان تمام الاختلاف، ودراسة هذه لا تغني عن دراسة تلك، هي مستقلة على ما هي عليه، على ما أفتى فيها وتم فيها، أما بيع المرابحة للآمر بالشراء بصوره الثلاث، سواء التي كانت في مصرف فيصل الإسلامي في السودان أو التي في بيت التمويل أو غيره، فهي محل البحث في جلستنا هذه.
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده وبعد.
لاشك يا إخواني أن الداعي إلى إيجاد أو دراسة هذه المواضيع هو في الواقع شعور عن مرارة الشكوى من انتشار البنوك الربوية وسيطرتها حتى على المجتمعات الإسلامية، ولهذا فزعت مجموعة كبيرة من أهل الخير إلى البحث عن بدائل من شأنها أن تزاحم، أو أن تحل محل هذه البنوك الربوية، وفي نفس الأمر تعطي الخدمات التي يحتاجها العصر الحديث، لاشك في هذا، ولاشك أن من أسباب قيام هذه المؤسسات الإسلامية المصرفية هو تيسير أمورها بحيث لا يترتب على ذلك التمييز أي إثم، ولكن كذلك لا يمكن أن يكون الوقوف أمام هذه المصارف الإسلامية، لا يمكن أن نقف أمامها بأقوال وإن كانت أقوالًا مشهورة وراجحة، لكن لاشك أن العلماء رحمهم الله بحثوا وقالوا إن هناك من الأمور الراجحة ما يمكن أن يأتي عليها من الزمن ومن تغير الأحوال ما يجعلها مرجوحة ويجعل المرجوحة راجحة، هذه في الواقع ناحية أحببت أن أتحدث عنها.
ناحية أخرى، هي في الواقع لها أثرها في قبول أي قول يأتي به أي واحد أو أي باحث، وهو أن يؤسس ما يقوله في منع أي شيء على سلبيات يبرزها قبل أن يحتج على هذه السلبيات بقول فلان وفلان المجرد من التعليل، فإذا وجدت العلة ووجدت الآثار المترتبة على هذه العلة وهي آثار سلبية من شأنها مثلًا أن تأتي بالغرر أو بالجهالة أو بالربا أو بأكل أموال الناس بالباطل إذا جاءت هذه الموانع مؤكدة لهذا الشيء فهي مقبولة، أما أن يأتي المنع على أساس أن فلانًا قال كذا، وفلانًا من العلماء قال كذا، مجردًا عن أن يكون هناك علة لهذا الشيء أو أن تكون مبنية على تقعيد له أثره وله في الواقع سلبيته في ذكر الأسباب المانعة، فهذا في الواقع قد لا يكون مقبولًا.
آتي على بعض النقاط: في الواقع أن هذه البنوك الإسلامية حين قامت فزعت منها البنوك التقليدية أو البنوك الربوية، في الواقع علمت أنها قد تضايقها أو قد تحل محلها، في الواقع على كل حال هيأت نفسها لمحاربة هذه البنوك الإسلامية محاربة بإيجاد شبه، واستئجار مجموعة ممن لا أخلاق لهم الواقع يأتون بالشبهات ويأتون بما يمكن أن يكون سببًا أو عراقيل من الأشياء الموجبة للحد من نشاط هذه الجمعيات.(5/1133)
النقطة الثانية وهو أننا حينما ننظر إلى النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالوعد المطلق والإلزام به والتحذير من مخالفته نجد من ذلك قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] ونجد من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث)) ومنها: إذا وعد كذب وقد وجد من أهل العلم ومن سلف هذه الأمة من قال بالوعد الملزم قضاء وديانة، وطالما أن الإلزام بالوعد في الواقع لا يترتب عليه أكل أموال الناس بالباطل، ولا يترتب عليه ربا، ولا يترتب عليه غرر، ولا يترتب عليه جهالة، وإنما الذي أعطى وعده إذا جاء طائعًا مختارًا وهو مؤهل للتصرفات الشرعية، فلماذا لا نقبل منه ذلك ونلزمه بهذا الشيء؟ ثم أن هذا تيسير لأعمال البنوك الإسلامية، حينما نقول هذا لا يجوز لكم وهذا لا يجوز لكم، وهذا ينبغي البعد عنه، وهذا ينبغي كذا، فمعنى ذلك أننا نقول أفسحوا المجال للبنوك الربوية واجعلوا الربا ينتشر بيننا كانتشار النار في الحطب، فهذا في الواقع لا يجوز لنا، أن نسلك هذا المسلك.
ناحية ثالثة، في الواقع قال مجموعة من الإخوان بأن الإلزام بالوعد هو بيع في الحقيقة، وأعتقد أن هذا ليس صحيحًا فإنما البيع يترتب عليه أحكام درك المبيع وما يتعلق بذلك، وأما الوعد فهو مجرد وعد، ففرق بين الوعد بالبيع وبين البيع نفسه ولاشك أن لهذا آثاره ولهذا آثاره ففي الواقع على كل حال أنا أرى أنه يتعين علينا أننا لا نبحث أو لا نقول بحل مسألة أو بمنعها إلا بعد أن نذكر العلة المانعة وأن نستدل على ذلك بنصوص من كتاب الله ومن سنة رسوله ومن أقوال السلف الصالح، أما أن نقول والله هذا لا يصلح لأن فلانًا قال كذا وفلانًا قال كذا من غير أن نجد تعليلًا لذلك، فأعتقد أن هذا لا يخدم المصارف الإسلامية التي تحاول جهد إمكانها في أن تحل محل البنوك الربوية أو أن تبعد عن الأمة وباء الربا وانتشاره وآثاره السيئة وشكرًا. .(5/1134)
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
عطفًا على ما ذكره الأخ المتحدث أخيرًا، الحقيقة الكلام موصول، هنالك آية وحديث أو عدة أحاديث، الآية الأولى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] إذن آية تتوجه نحو الوفاء والحديث يتبعها بأمر عجيب وهو مقابل الإيمان إما نفاق وإما كفر، ولذلك جاء في الحديث ((آية المنافق ثلاث)) وعد منها ((وإذا وعد أخلف)) إذن نحن أمام إيمان أمام شريعة يلتزم أهلها بأقوالهم وأفعالهم يصل بنا الكلام إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا في نفس النسق ((لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك)) ، والكل يعلم أن الخطبة هنا وعد بالزواج وليس زواجًا، بل يصل بنا إلى حديث آخر: ((لا يبع أحدكم على بيع أخيه)) ومعلوم هنا أن هذا البيع هو المساومة، إذن الآيات والأحاديث متوجهة نحو الوفاء بالوعد كما هو الوفاء بالعهد والعقد، الآية طالبتنا بالوفاء بالعقود علمًا بأن المطالب بالوفاء هنا طرفان إن صح التعبير، أولًا الآية الكريمة "والمستفيد أو المتضرر من هذا العقد سيطالب" المولى عز وجل يطالبنا بالوفاء، ثم إن الفريق الآخر يطالب بهذا الوفاء باعتبار أن هذا عقد إذن عندنا هنا الوفاء مروءة، نعم، وهل الشريعة إلا تقعيد باصطلاح القانون للمروءة؟ وهذه هي شريعة الإسلام، إنها تسمو بالمروءة لتكون شريعة، وكم من مروءات العرب كانت في الجاهلية صارت شريعة إسلامية، وعليه ما تفضل به الجميع: نلاحظ أن الأحاديث مع الآية تتوجه إلى الوفاء بينما كلام الفقهاء طبعا يقترب من الوفاء حينا ويبتعد أحيانا، وما تفضل به الأخ نحن ملزمون نعم بالأحكام بالنصوص، والنصوص متوجهة إلى الوفاء خاصة إذا كان هذا الوفاء أو هذا الوعد أدخل الطرف الآخر بعقد أو بما مر عليه الأخوة الباحثون بالإلزام، ونحن فعلًا أمام نصوص فقهية، نحترمها ومنها نستقي ونستضيء بها بنور القرآن الكريم والسنة النبوية، ونحن أمام حالة بنوك إسلامية لا نقول نسهل لها الربا ولكن نحول بينها وبين الربا ونحول بيننا وبين المجتمع الربوي الذي غاصت به بنوك العالم الأخرى، وعلى أية حال الآيات والأحاديث متجهة نحو الوفاء، فلنتجه كما اتجه القرآن والسنة، إلى الوفاء بالعهد والوفاء بالوعد، والسلام عليكم ورحمة الله. .(5/1135)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الحقيقة طلبت الكلام في الموضوع الأول الذي كنا فيه ويبدو أننا مازلنا نتتبع أذياله، فيه بعض المسائل المهمة يجب أن نتفق عليها أولًا، من هذه المسائل هل نحن متبعون أم مبتدعون؟ يقولون إن الناقد بصير ولكنه باتباع الأثر جدير، عندما نقول كل أقوال العلماء، والعلماء تحدثوا عن مسألة الوعد ما تركوها هملًا، العلماء الذين تلقوا السنة وتلقيناها منهم تحدثوا عن هذه المسألة، وفرقوا بين عقد ووعد، وجعلوا النتائج المترتبة، والآثار التي تترتب على العقود ليست هي نفس الآثار المترتبة على الوعود، هذه البديهة الأولى هل نحن متفقون عليها؟ نعم، قلت: إن العلماء الأوائل فرقوا بين الوعد والعقد وهذا أمر بديهي، تحدث عنه الجميع، هل نحن متفقون على اقتفاء الأوائل؟ وهل نحن متبعون أم مبتدعون؟ الجواب على هذا السؤال طبعًا يحدد الإجابة في هذه القضية، إذا كنا قد تتبعنا المذاهب ونقبناها وجدنا أنهم تحدثوا عن هذه المسألة وما أغفلوها، وفي نفس الوقت قالوا إن الآثار المترتبة على الوعد ليست هي نفس الآثار المترتبة على العقد، نعلم ضرورة أن ترتيب هذه الآثار من طرفنا ألا ننشد له سلفًا من الأمة، وبالتالي فهو أمر خطير أن يكون مجمعنا هذا مجمعًا يحدث آراء جديدة على غير هدى، ويقعد قواعد أو يضع جملة من القواعد قد تناولها العلماء قبلنا، ووقفوا منها موقفًا واضحًا صريحًا، ونحن نخالفهم بدعوى أننا نريد إنقاذ البنوك من الربا، وبالتالي لنوقعها في ربا آخر، هذا الأمر له خطوراته أردت أن أنبه إليه.
المسألة الثانية هي مسألة المواعدة التي أثارها الدكتور الضرير، وأنا في الحقيقة لم أفهم كيف ألزم طرفًا ولم يلزم الطرف الآخر، ليكون منطقيًا مع نفسه ومع النصوص التي أوردها، فإذا ألزم البنك فعليه أن يلزم الطرف الآخر الذي وعد، أو أن لا يلزم أحدًا منهما، وقد راجعت نص الشافعي فما وجدت فيه إلزامًا، البيع الأول هو بيع البنك أو بيع المأمور بالشراء هو الذي أمضاه الشافعي، أما البيع الثاني فهو بيع جديد ينشأ بين المأمور وبين الآمر، وهو بيع جديد كلاهما بالخيار، بمعنى أن أيًا منهما لم يلتزم شيئًا للآخر، فكيف تلزم بالوعد؟ هي المواعدة هي وعد من اثنين مفاعلة، والمفاعلة هي من اثنين، وقد تكون من واحد قليلًا، كما في قوله تعالى {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] وقد تكون من اثنين كما هو الغالب، فهي مواعدة من اثنين، التقاء وعد بوعد، فكيف تلزم طرفًا وتترك الطرف الآخر؟ أردت فقط أن يوضح لي الدكتور موقفه من هذه القضية، لا أزيد شيئًا كبيرًا –سيادة الرئيس- غير التنبيه على أن هذه المسألة لم نجد لها سلفًا، ولو وجدناه لاتبعناه، وشكرًا. .(5/1136)
الدكتور إبراهيم بشير الغويل:
الدكتور عبد السلام أيضًا في بحثه القيم الذي كان يتسم بالموضوعية يقول بالنص: ركزت كثير من البنوك الإسلامية على أسلوب بيع المرابحة للآمر بالشراء ولم تهتم بأساليب الاستثمار الأخرى –يعني أهملتها- لأنها استطاعت أن تطبقها بطريقة تكاد تحميها من كل احتمالات التعرض للخسارة، أيضًا يقول: كادت هذه الصيغة في عدد من المصارف أن تنقلب إلى مجرد صيغة تمويل مال بمال يعود على البنك بالربح وبلا أي مخاطرة، الدكتور رفيق المصري أيضًا أورد نسبًا مئوية، كيف المصارف الإسلامية بدأت كلها تترك أي معاملات أخرى وتتجه إلى المرابحة للآمر بالشراء؟ فوصلت إلى ثمانين في المائة في بعض المصارف وإلى ثمانية وتسعين في المائة في بعض المصارف وقد تصبح مئة في المائة، إذن هذا السؤال، إذن هذه المعاملة أو هذا الأسلوب لابد أن ينظر، هذه الملاحظة أود أن أعود إليها أيضًا لأن كثيرين يذكرون بأن هناك آيات في القرآن تؤكد على الوفاء بالعقد وأن هناك أحاديث لم تمر على الأسبقين في أي قرار: نحن نريد أن نصدره علينا أن نذكر أنها موجودة، ولكنهم احتاطوا لما عرفوا أن هذا الأمر يجر إلى معاملات ربوية، وكل عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تتبعه للمعاملات هو مطاردة لاحتمالات تحويلها إلى الربا، أيضًا هذه المعاملة في حد ذاتها حينما نزلت إلى التطبيق دعت الجميع إلى ترك أي أمر، والبحث عن المعاملة العادية التي كنا نحاول أن نتجنبها وهي معاملة تتجنب المخاطرة، تبحث عن الربح السريع، تهمل عمليات الاستثمار الإنتاجي الحقيقي، وبالتالي أصبحت المرابحة في المصارف الإسلامية هي في الحقيقة عبارة عن كسب سريع دون مخاطرة ودون أي جهد.
المرابحة في المصارف المعمول بها الآن ليس فيها أي جهد، ولا تعرف حتى على ظروف الأسواق العالمية، ولا تطور الطلب فيها، ولا تحليل مناخ السوق العام ولا اتجاهات الأجل القصير ولا البعيد، ولا معلومات عن أي مصادر لأن هذا كان يستدعي من المصارف جهدًا لا يقل عن الجهد الذي لو دخلت في المضاربات أو المشاركات، فهي مالت وتركت ما أنشئت من أجله وهو إبراز أن ما يريده الإسلام في المعاملات هو المشاركة والدخول في المخاطرة وتشجيع الإمكانيات، وعادت من جديد إلى الأسلوب التقليدي للمصارف أو البنوك، وهو البحث عن الربح السريع مع ضمان وجود أي مخاطرة، وإهمال أي عمليات استثمارية أخرى، هل هذه الظروف التي تحيط بهذه المعاملة بالإضافة إلى ما انتبه إليه الأسبقون من خطورتها تجر إلى ذلك، لتنبهنا إلى أن هذه العملية فعلًا هي تجر الناس جرًا كما انتبه الأسبقون إلى المعاملات الربوية؟ الأسبقون يعون جيدًا أهمية الوفاء بالعقود، ويعون جيدًا توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكون الإنسان غير مخل بوعوده، ولكنهم وجهوها في أمور ليس فيها مجال للالتباس في دخول العقود الربوية، ولذلك كان الشيخ صباحًا حينما تكلم كآخر متحدث في موضوع الوفاء بالوعد هو الذي أوضح موضع الداء الذي يتوجه إليه، والآن في المرابحة للآمر بالشراء الأمر واضح بناء على المعلومات التي أدلى بها الدكتور عبد السلام والأخوة أصحاب المصارف الإسلامية من أنها صارت تكاد تنفي أي معاملات أخرى، لماذا؟ لأنها ليس فيها مخاطرة، لأن فيها ربحًا سريعًا، لأن فيها إهمالًا لعمليات الاستثمار الإنتاجية وما تتطلبه من جهد، إذن لا جهد ولا مخاطرة، وما هو المانع وراء الربا غير أنه أخذ المال دون أي مخاطرة أو جهد؟ واستغلال للآخرين، وشكرًا.(5/1137)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] .
إن هذه القضايا المصرفية التي أحيلت علينا، والتي نظرت فيها مجامع وجلسات كثيرة، علينا أن نعود إلى منبعها، من أين نبعت هذه المشاكل؟ نبعت هذه المشاكل من قرار، قرار خطير حكيم قال به الملك فيصل رحمة الله عليه وألحقه بالشهداء الصالحين، لما منع النفط كان العالم الإسلامي كله فقيرًا لأن الدول التي نهضت –لما نمنا- عملت على تعويقنا، فكان كل ما في العالم الإسلامي من خيرات إنما هي تمتص ليزداد الغرب ثراء وليبقى العالم الإسلامي على فقره، فكان القرار الخطير بمنع تدفق النفط وارتفاع سوق النفط أو ثمن النفط، أن حصل فيض من السيولة المالية عند بعض الدول المنتجة للنفط في العالم الإسلامي، وهذه السيولة المالية كما يقول عمر رضي الله عنه "أبت الدراهم ألا تخرج أعناقها" فلابد من أن هذه السيولة المالية ستنصرف، انصراف المال في أمرين: أولًا حركة، وبغية للربح من أجل المال، ثانيًا في الإنفاق على المتاع وعلى الحياة وهذا التوجه الأول أعني زيادة أو إنماء هذه الأموال ذهبت أولًا وبالذات فعند كثير من الذين تحصلوا عليها، إلى دول الغرب، فأودعت في بنوك أمريكا وفي سويسرا وفي غيرها من الدول المالية، وإذا بمشكلة جديدة حصلت في العالم الإسلامي هي أن هذه الأموال عادت إلى الغرب بعد أن دفعها لتزيده نهضة وتمكن للعالم الإسلامي في قيوده، فكيف تعود هذه الأموال إلى العالم الإسلامي حتى ينتفع بها؟ فكان كحل من الحلول إيجاد البنوك الإسلامية، فهذه البنوك الإسلامية هي تمثل الاحتفاظ بمقوم من المقومات الخمسة –أعني حفظ المال- لأن المهم أولًا وبالذات حفظ مال الأمة، ثم حفظ المال الفردي، فهذا المال الذي قد تفتح له وتجلب الغربيون بكل الطرق وعاد على اقتصادهم بالخير الوافر، كيف يمكن أن يعود إلى العالم الإسلامي ليحركه؟ فكانت هذه البنوك الإسلامية وكان لابد من أن تأخذ هذه البنوك الإسلامية منهجًا وطريقة: هذا المنهج نريده أن يبتعد رويدًا رويدًا وقليلًا قليلًا عن البنوك الربوية التي مضى عليها قرون وقرون حتى يستقل بذاته، وهنا يأتي الموقف الخطير لفقهاء المسلمين، فعلينا أولًا أن نعلم أن هذه المصارف على هذا النحو هي أمر جديد في الإسلام وعلى العالم الإسلامي، وما كان يريد العالم الإسلامي في تاريخه الطويل تجميع الأموال بهذه القوة وتصريفها في الاقتصاد والاستثمار، وإنما كانت الجهود فردية والشركات التي كانت عندما كانت بين أفراد أو اثنين أو ثلاثة ولا تعدو ذلك إلى أن تشمل كامل المواطنين في البلد. .(5/1138)
فهذا النوع الجديد من الاقتصاد الذي يحفظ مال الأمة، وكيف نجعله إسلاميًا؟ هو الذي جعل هذا البحث يأتي إلى هذا المجمع الموقر، جاءتنا مشاكل أولًا من البنك الإسلامي للتنمية، وهو بنك يتعامل مع الدول، والنظرة إلى هذا البنك غير النظرة إلى بقية البنوك، ولذلك جاء في المقررات النص على البنك الإسلامي للتنمية باعتبار أنها فتوى في واقعة تشمل كل المعطيات التي تتعلق بتلك الواقعة التي منها البنك الإسلامي للتنمية باعتبار أنه يتعامل مع دول ولا يتعامل مع أفراد، وفرق لأنه لا يبغي الربح في ذاته وإنما يبغي تكوين استثمارات مالية والقيام بمشاريع اقتصادية كبرى في العالم الإسلامي هي في حاجة إليها، سواء أكانت هذه التجهيزات أساسية أو كانت تجهيزات إنمائية.
ثم بعد ذلك –والحمد لله- جاءت الاستفتاءات من البنوك الإسلامية التي لها طرق كثيرة في التصرف والتي ستولد طرقًا أخرى، وعلينا أن ننظر في كل الطرق التي تأتينا من التفكير الإسلامي أو تفكير رجال الأموال ورجال الأعمال لتنمية الأموال، فجاء من هذه القضايا قضية الوعد الملزم.
الوعد الملزم: إذا أخذنا الوعد الملزم حسبما جاء في نصوص الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة فنحن نجزم أنه في القضايا المالية ليس هناك وعد ملزم ولكن الذي أريد أن أقوله هو أن الوعد باعتباره كقيمة خلقية أي من الناحية الثالثة من القواعد الشرعية وهي قاعدة تحسينات، هي قاعدة من القواعد، لكن هذه القاعدة عندما تصبح خادمًا للأصل أعني الأصل الأول وهو المحافظة على مال الأمة فإنها تلتحق بالحاجة لأن كل ما كان خادمًا للظروف يصبح ملتحقًا بالحاجة وبذلك يكون الوعد النظر في هذا على حسب القواعد التي أسسها العلماء والتي فصلها الإمام الشاطبي رحمة الله عليه يصبح الوعد الملزم محل نظر أو محل ترجيح خاصة وأننا نجد أن الصحابة رضوان الله عليهم قد واجهتهم مشكلة وهي أن اليد الأمينة هي لا تتحمل الضمان، غير ضامنة، لكنهم في النهاية قالوا إن الصناع يعملون رغم أن يدهم يد أمينة وذلك حفاظًا على المصلحة العامة أي على التعامل بين الناس. .(5/1139)
ولذا أرى أن وجود الوعد الملزم يمكن النظر فيه، لكن الأمر الذي بقيت أتساءل فيه مع كل الباحثين الذين بحثوا هو أنه في هذه القضايا لابد من البحث الميداني، أعني البحث الميداني، هو أنه البحث مع البنوك الإسلامية هل هي في حاجة للوعد هذا أم لا؟ وهل العقود التي عقدتها مع المتعاملين معها كانت في حاجة إلى هذا الوعد الملزم؟ وكم عدد العقود أو عدد المتعاقدين الذين حصلوا على العقد ثم لم يقع الوفاء به؟ فالحل أننا ننظر في وقائع ميدانية حقيقية وهذا ما أرجو أن يقع التآمل فيه وأن تقع الاستجابة إلى إجابته لأنه مثلًا في قضية الزيادة عند الأجل، يقول أهل بنوك المسلمون: إننا لسنا في حاجة إلى هذا فقد استطعنا أن نأخذ من الضمانات ما يكفينا ولا حاجة لنا في أن نحمل العميل غرامة زائدة، والفقهاء يريدون أن يذهبوا أكثر مما يريده أهل البنوك، فأهل البنوك لابد عندما يتحدث معهم رجال الأعمال أن نستوضح منهم الواقع كما هو، لأن في استيضاح الواقع ما يرشدنا، فإذا وقع التعامل المالي، وأصبحنا نقول للبنوك لا تعملوا وإذا كانوا يعملون فستذهب الأموال إلى أمريكا فهنا علينا أن ننظر في الواقع حسب ما هو، فهذه ناحية أردت أن تضاف إلى البحث حتى نطمئن عندما ننتهي ونعطي فتوى.
الأمر الثاني الذي أردت أن أتحدث فيه هو التفرقة بين البيع وبين العقد فيما تحدث فيه فضيلة الشيخ تقي الدين عثماني، فإذا قال له تنح وأنا أعطيك فهذا ليس وعدًا، هذا عقد كامل، لكن المعقود عليه ما هو؟ لأننا كما قلنا لو قال سأعدك بأنني في المستقبل –لا – هو من الآن وقع بينهما عقد على أن يتنحى من المزايدة ويأخذ مالًا لأنه حتى إذا لم تقع المزايدة ولم يشتر الشيء فعليه أن يدفع له، فزاد عقدًا وقع على معقود عليه قد تختلف فيه الأنظار ولكنه ليس مما نحن فيه، ليس بالوعد الملزم، كما أن الشرط الذي ذكره الحطاب في الغرامة هو شرط لاحق، وهو شرط مقدم والذي تريده البنوك هو شرط عند عدم الوفاء يقول له: إما أن تقضي وإما أن تزيد، سواء كانت الزيادة له أو لغيره مشكل آخر، فهذا بعض ما أردت أن أذكره وشكرًا لكم.
الرئيس:
شكرًا بقي حوالي ثمانية من الذين طلبوا الكلمة وأرى الوقت الآن الواحدة والربع تقريبًا فترفع الجلسة ونستأنفها إن شاء الله تعالى في أوائل الجلسة المسائية الساعة الرابعة وشكرًا. .(5/1140)
الجلسة المسائية
الدكتور سامي حسن حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم
أساس التسمية " بيع المرابحة للآمر بالشراء " هو من الاختيارات التي أقرها أستاذ الفقه الإسلامي المرحوم محمد فرج السنهوري رحمه الله، حين كنت أدرس في جامعة القاهرة، والتسمية اصطلاحية، لذلك أرى في الاعتراضات من بعض الباحثين أن يقال لها الواعد بدل الآمر، اعتقد أن استقرارنا على الآمر في اللغة العربية، الأمر له معاني متعددة فهو من الأقل إلى الأعلى، رجاء ودعاء، ومن المتساوين التماس، ومن الأعلى إلى الأدنى أمر، الدوافع الأساسية في هذه القضية، قيل من غير العارفين بظروف طرحها للعمل أنها حيلة للربا، وقيل إنها صورة من صور العينة، والواقع أنها بشعور المستظل بظل الفقه الإسلامي في مجالات لا يمكن أن تغطيها المضاربة أو المشاركة، واضرب لذلك مثلًا: إنسان بحاجة إلى سيارة لاستعماله الشخصي، فلا سبيل لشرائها واستعمالها عن طريق المضاربة أو المشاركة، أو الحكومة تحتاج إلى أنابيب تمديد توصيلات المياه وترغب في أن تجد طريقًا للتمويل فلا سبيل إلى المضاربة أو المشاركة، وإنما عن طريق بيع المرابحة تشتري لها الأنابيب وتباع عليها بالسعر والربح المتفق عليه، فهذا الاستظلال بظل الفقه الإسلامي الذي وجدناه في كتاب الأم للإمام الشافعي رحمه الله وجزاه الله خيرًا بما قدم ولم يكن حتى أهل الشافعية يعلمون بذلك كما قال لي الدكتور عبد الغني عبد الخالق الذي درس كتاب الأم ثلاثين عامًا، وقال عندما سألته عن هذه المسألة، هذه أول مرة أطلع عليها في كتاب الأم، فالجدة في الصيغة عن الإمام الشافعي تختلف حتى مع احترامي للذين يقولون إنها واردة عند المالكية فيما ذكره هذا الصباح الأستاذ الفاضل الصديق الضرير حينما أشار إلى ما ورد في الموطأ قال: ابتع لي هذا البعير، هناك فرق في المعنى واللفظ، عندما أقول: ابتع لي هذا البعير بعشرة، وأشتريه منك بأثني عشرة فهو وكيل عني فالبعير ملك لي وله على دين قيمته عشرة، وشراء الدين عشرة بأثني عشرة ربا، وأنا معهم في ذلك وهم محقون ولكن عندما ننظر إلى الصيغة التي طرحها الإمام الشافعي رحمه الله، قال: أشتر هذه وأربحك فيها كذا، اشترها بملكك أنت، وإن هلكت فهي تهلك عليك، وهذه هي الصيغة التي يجب أن تكون واضحة في أذهاننا ونرد البنوك الإسلامية إليها –إن خرجت عنها- بأن يكون الشراء حقيقة، المأمور يقوم به حقيقة ويتملك ويضمن تبعة الهلاك ثم يبيع، إذا رددنا الأمور إلى نصابها فتاتي الصور أو التطبيقات التي يطعن بها البعض في أصل العقد من ناحية الخروج عن الأصل فإذا كان العنب يزرع في بلد من البلاد ويصنع البعض من عصير العنب خمرًا فلا يقال أقلعوا العنب، ولكن امنعوا صناعة الخمور من هذا العنب، ويبقى العنب عنبًا للزراعيين حلالًا طيبًا. .(5/1141)
فالمرابحة يجب أن ترد إلى الأصل أن لا يسمح بالتخلص من تبعات الهلاك، وأن لا يكون الآمر أيضًا تخلص من العمل عن طريق التوكيل، توكيل المأمور بأن يقوم بكل مهام العملية، ويشتري لنفسه ويقبض لنفسه وكأنه أخذ المال ابتداءً ورده مع زيادة انتهاء فنصبح واقعين بعملنا في الربا من خلال الخروج عن الصيغة التي وصفها الإمام، وقال: اشتر هذه، يعني قم بعمل الشراء.
النقطة التي تتعلق بالوعد والإلزام فيه، المواعدة بحد ذاتها لا تعتبر بيعًا ولو كانت ملزمة وما ذكر الإمام الشافعي يوضح لك لو قرأناه معًا بدقة، قال: وإن تبايعا به على أن الزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ من قبل شيئين، أحدهما أنه تبايعاه، قبل أن يملكه البائع، فهنا لو قال بعتك ما سوف اشتريه لك ولكن عندما يقول أعدك أو نتواعد معًا على أن نتبايع بعد أن يأتي الشيء ويصبح واقعًا، والصورة التي نقلها الإمام تتحدث عن أمرين.
الأمر الأول: قال: اشتر هذه، فمعناه يشير إلى شيء حاضر، هذه المعينة اشتر هذه وأربحك فيها كذا، أو قال: اشتر لي هذا المتاع ووصفه له، الوصف وصف لغائب، وسواء وصفه أو قال متاعًا أي متاع شئت، يعني فوضه بذلك، فلا بد عند حضور المتاع: إما حسب الوصف وإما حسب الرغبة، الذي قال اشتر كما تشاء وأرى فكل هذا الأمر يدل على أن العملية يتم فيها الشراء أولًا ثم يأتي العرض على المشتري، فإما أن يشتري وإما أن لا يشتري.(5/1142)
فالإلزام في الشراء ليس بيعًا، بدليل أنه لو كان بيعًا لانتقل الملك مباشرة بمجرد حضور البيع، ولكن ليس هناك انتقال وإنما فيه إلزام على البيع، والإلزام في اللغة الشرعية واللغة القانونية مقتضاه أمران: إما أن يكون هناك تنفيذ فيكون تنفيذًا لما تم عليه الاتفاق، أو لا يكون تنفيذ فيكون تعويضًا من الضرر الناتج عن عدم التنفيذ، فمفهوم الإلزام ومقصوده أن لا نخرج من عملية البيع بتحايل قد يضار فيه البنك ولسنا نحمي البنوك الإسلامية فقط، وقد يضار فيه العميل بدليل أنه لو استورد البنك هذه البضاعة ثم ارتفعت الأسعار وطمع البنك في ارتفاع السعر وحرم التاجر من بيعه البضاعة التي طلبها لأنه كان يتوقع ارتفاع الأسعار، وكان هذا التاجر مرتبطًا مع جهة ما ليورد لها هذه البضاعة فيحصل له ضرر كبير لو لم يلتزم البنك، فأما أن نقول بالإلزام للطرفين -وهذا هو المفهوم- أو الطرفان يكونان حرين في ذلك، وهنا إذا كانت الحرية، فتدخل الأطماع، كيف ترتفع الأسعار ونبيع السعر المرتفع بالسعر السابق المتفق عليه؟ فيحدث الضرر ويصبح بلبلة في الأسواق ويتجنب استقرار الاسعار والعقود والمعاملات بين الناس، وتصبح القضية، قضية هزل وليست قضية جد، فإذا كان هناك من يقول: فلتمتنع البنوك الإسلامية عن الالتزام ولا تشتري إلا البضائع التي ليس فيها التزام، فماذا يعني هذا؟ يعني أن البضائع العامة كالقمح والسكر والأرز الذي يمكن أن يباع عمومًا يصبح صالحًا للاستيراد، ماذا عن البضائع المخصصة؟ شركة طيران الكويت تستورد محركات نفاثة لا تصلح إلا لطائراتها البيونغ 747 وجاء المحرك حسب الوصف ثم قال مدير الشركة لا نشتري هذا المحرك، أين يذهب البنك بهذا المحرك؟ هنا يحدث ضرر فإما أن يكون قول بالإلزام لأنه جاء حسب الوصف وهذا هو الذي سار به الأحناف في عقد الاستصناع عندما كان الرأي الأول رأي الإمام أنه هناك خيار في عقد الاستصناع ثم تبينوا مدى الضرر الذي ينتج عن هذا الخيار، فجاء رأي المتأخرين ورأي أبي يوسف وأخذت المجلة (مجلة الأحكام العدلية) بالرأي الأخير الذي ألزم قبول الشيء المستصنع فيه طالما أنه جاء حسب الوصف، ولو كان عند التعاقد معدومًا، وهذا هو الأمر الذي نرى فيه في عقود المرابحة للآمر بالشراء، أنه إذا كان هناك نكول وقلنا بأن اللزوم لا يعني الإجبار على التنفيذ فلابد أن عدالة الشريعة لا تسمح بوقوع الضرر لا للبنك الإسلامي ولا للعميل، وأن تكون هناك قاعدة واضحة بأن هذا الضرر إذا حصل فإن المتسبب فيه يكون ضامنًا لتعويض الجهة المتضررة عنه وبذلك يتكامل عدل الشريعة وجمالها.(5/1143)
الذين يقولون أو يعلقون أن المرابحة بيع لمعدوم أقول: عندي ملاحظة لو كان معدومًا إذا كان البيع حاصلًا وقت التعاقد ولكنه وعد، يعني إن جاء هذا الشيء حسب ما اتفقنا عليه فأنا أشتريه، فعندما يأتي الشيء ويتم النظر فيه أو الفحص أو المعاينة فإن هذا هو المطلوب، والذي يحمل النصوص أكثر مما تحتمل فيقول: إن البنوك الإسلامية تفتح الاعتمادات بأسماء الناس، صحيح أن فتح الاعتماد باسم البائع أو الطالب للشراء، ولكن بوليصة الشحن حتى وفق قواعد الاعتمادات المستندية العالمية لا تكون إلا باسم البنك، والملكية تبقى باسم البنك وزادت عليها البنوك الإسلامية أن تبعة الهلاك لا تتعلق بالوثائق ولكن تتعلق بحقيقة البضاعة، وقد حدثت حادثة في البنك الإسلامي الأردني عندما كنت مديرًا له أن جاءت الصناديق حسب الوصف في بوليصة الشحن ولكن المحتوى كان مختلفًا عن وصف البضاعة الحقيقي، فتحمل البنك تبعة الهلاك لأن المسئولية ليست مسئولية وثائق وأوراق، ولكن حقائق وبضاعة حقيقية تكون حسب الوصف المتفق عليه.
ولو نظرنا إلى هذا الموضوع من هذه الصورة الشاملة والنظرة المتكاملة اعتقد أننا نعطي الموضوع حقه من جانبيه: حماية للبنك الإسلامي الذي نحرص عليه ولكن حرصنا الأشد أن لا يخرج عن حدود قواعد الشرع، وحماية للمتعامل مع هذا البنك أيضًا حتى لا يساء إليه باسم القول وبعدم اللزوم والإلزام لأن اللزوم شيء والإلزام في العقد شيء، وتنفيذ العقد وتعويض الضرر شيء آخر، وشكرًا لكم.(5/1144)
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
عندما بدئ في بحث هذا الموضوع الذي انتهت البنوك الإسلامية فيه إلى رأيين: الرأي الأول يكون الوعد ملزمًا، والرأي الثاني يكون الوعد غير ملزم، وسارت على هذين الرأيين حسب ما تراه الهيئات الشرعية في كل بنك، انتهت البنوك الإسلامية أقول: إلى هذين الرأيين، وهذان الرأيان مأخوذان من الشريعة الإسلامية ومن قواعدها ومن أسسها، عندما بدئ البحث فيها، قلت سبحان الله لماذا العود على البدء؟ الخطأ حصل أم الرأي جديد جد؟ فأخذت أصغي إلى ما قيل من الصباح إلى اليوم ووجدت أن لا جديد: الفقهاء كل منهم يكرر ويعيد رأيه السابق، وأود أن أقول شيئًا من التصحيح والترجيح ووضع بلسم على ما سمعته من بعض الأخوة على مواطن الترجيح.
البنوك الإسلامية هي في الحقيقة أسست لأن تقوم حسب منهج الله سبحانه وتعالى وحسب الشريعة الإسلامية في فقه المعاملات، ولتنقذ الأمة الإسلامية من الربا ومن كل أموال الناس بالباطل، ومن الأمور الأخرى التي لا يجيزها الإسلام، وسارت على هذا المنهج طوال خمسة عشر عامًا، وهي في تفوق وفي نجاح وفي ازدياد، بدليل أن البنوك الإسلامية الآن منتشرة في العالم اجمع، وإن البنوك الأخرى التقليدية تحاول أن تنهج نهجًا وان تسير حسب مسيرتها، فأنا أطمئن الأخوة الذين يخشون أن تقع البنوك الإسلامية في الربا، أطمئنهم بأن كل بنك إسلامي لم يؤسس إلا لمحاربة الربا، وقد يقع في الخطأ ولكن الخطأ غير متعمد وإذا رؤي تصحيح للخطأ يصحح ما عليه العمل في أي بنك من البنوك الإسلامية.(5/1145)
في بيت التمويل الكويتي قبل أن نبدأ العمل وضعنا قواعد وأسسًا عليها نسير طيلة ثمانية شهور، ونحن نقعد القواعد ونضع العقود حسب منهج الشريعة الإسلامية نحن لا نعد أحدًا بأن نشتري له بضاعة، وإذا وعدنا أحدًا بأن نشتري له بضاعة نحن نكون صفتنا هنا صفة الوكيل الذي يأخذ أجرًا على الخدمة إنما نعد إذا اشترينا وملكنا نعده بأن نجري عقد البيع معه، في الحقيقة لا أريد أن أطيل لأن ما قاله الشيخ ابن منيع جزاه الله خيرًا صباحًا كفاني –في الحقيقة- الكثير من القول، إنما أرجح الآن أن نقطع الأمر وأنا حسب رأيي أن أرجح بالوعد الملزم لأمرين، الأمر الأول: الوعد الملزم يتلاءم مع القيم الإسلامية الرفيعة، ويطابق النصوص في الكتاب والسنة، ولقد وردت على لسان الفقهاء صباح اليوم ولا داعي لتكرارها.
الأمر الثاني: لإزالة الحرج الذي يلقاه المسلم عندما يتواعد مع غير المسلم في المعاملات حيث أن المعاملات المعاصرة في زمننا هذا دائمًا وأغلبها تسبقها المواعدة، وكيف يجوز للمسلمين أن يظهروا للكفار بمظهر يتناقض مع ديانتهم التي تحث على الوفاء بالوعد؟ أما الأخوة الذين يريدون من البنوك الإسلامية بأن تكون بنوكًا تسوية تعمل بالآجال المتوسطة والبعيدة، هؤلاء الأخوة ليسوا اختصاصيين اقتصاديين عليهم هم أن يردوا في المسائل الفقهية، وأن يتركوا المسائل الاقتصادية لأهل الاقتصاد وشكر الله لكم. .(5/1146)
الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت راغبًا عن الكلام في هذا الموضوع بعد أن طال وخصوصًا بعد أن قدمت بحثي فيه، والكلام فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين، ولكن بدت لي بعض الملاحظات، معظمها ملاحظات منهجية:
أولًا: فضيلة الرئيس قد أشار إلى أن من يعرض بحثًا معينًا عليه أن يشير إلى البحوث الأخرى، وهذا لم يلتزم، مع أنه لازم وخاصة إذا كانت بعض البحوث تنهج نهجًا مخالفًا لعامة البحوث الأخرى، أو متجهة اتجاها آخر، لأن من الظلم لها في هذه الحالة أن تترك، هذه واحدة.
الملاحظة الثانية: أننا هنا في الواقع لسنا كما قال بعض الإخوة مبتدعين، نحن متبعون، ولكن ما معنى الاتباع والابتداع؟ هل الأتباع أتباع ما قاله السادة فقهاؤنا السابقون من مقلدي المذاهب المختلفة؟ أم الإتباع هو إتباع ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ لاشك أن الأتباع الذي نلزم به دينا ويحاسبنا الله عليه هو اتباع الكتاب والسنة، وكل أحد بعد ذلك يؤخذ من كلامه ويرد عليه، فلا ينبغي أبدًا أن نلام إذا لم نأخذ بقول الفقيه الفلاني أو الفقيه الآخر، لأن هؤلاء اجتهدوا لزمانهم وعلينا أن نجتهد لزماننا، وكل زمن له أموره الخاصة وأحواله الخاصة، وهذا أيضًا ما أقوله في الملاحظة الثالثة وهي أننا من الناحية النظرية جميعًا نشيد بكلام الإمام ابن القيم وكلام القرافي وكلام ابن عابدين، وغيرهم ممن تحدثوا عن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال والعرف إلى آخر ما نعلم، كلنا يشيد بهذا، وعند التطبيق لا نلتزم هذا، نحن نوقن أن الفقهاء الذين قالوا بعدم الوعد أو عدم الالزام بالوعد أو غير ذلك لو عايشوا ما عايشنا وشهدوا من الوقائع ما شهدنا وأن مثل هذا الأمر إذا لم يقل به يترتب عليه ضياع مصالح كثيرة، وأن المعاملات الآن لم تعد فيما كانت عليه من قبل، أصبحت ملايين وعشرات الملايين، لو أن هؤلاء الفقهاء عايشوا ما عايشنا لقالوا بمثل ما قلنا، فهذه ينبغي أن توضع في الحساب. .(5/1147)
رابعًا: في مسائل المعاملات الخاصة، الحقيقة ينبغي أن نتبنى منهج التيسير لا التشديد، وهذا ما جرى عليه الأئمة ومقلدوهم، فكثيرا ما كانت لهم عبارات في مثل هذه الأحوال يقولون: هذا أرفق بالناس، لا يصلح الناس إلا ذلك، عملية الرفق أو يقال مثل هذا، أعني قيل به تصحيحًا لمعاملات المسلمين بقدر الإمكان، وهذا أمر معروف في كل المذاهب، ولهذا قال الحنفية المتأخرون منهم أنهم اجازوا أو اجبروا بالمواعدة لحاجة الناس، والاخوة يذكرون في مسالة بيع الوفاء، ولكن هناك ما هو اسبق من بيع الوفاء، وهو ما ذكرته في بحثي وما أشار إليه الأخ الدكتور سامي حمود "عملية الاستصناع" والاستصناع قالوا هو مواعدة أم مبايعة؟ ورجح الكثيرون أنه مواعدة، ولذلك مذهب الإمام، والمذهب المفتى به عندهم أنه بعد الاستصناع من حق المستصنع له، أو المستصنع طلب الصنعة أن يقول لا، لا يعجبني ويترك ما صنع له، ولكن مجلة الأحكام حينما قننت مذهب أبي حنيفة في المعاملات اختارت مذهب أبي يوسف في هذا، وعللت هذا أنه الآن أصبحت هناك مصانع عظيمة ومعامل كبيرة وسفن وبواخر، فلو أننا خبرنا من طلب الصنعة المستصنع بعد ذلك وقال: لا أريده لترتب على ذلك حرج كبير ومفاسد عظيمة، فمن اجل هذا اختارت المجلة مذهب أبي يوسف، فهذا ينبغي أن نراعيه، مسالة التيسير، وأنا يعجبني هنا كلمة أكررها دائمًا وهي كلمة الإمام سفيان بن سعيد الثوري، وهو إمام في الفقه وإمام في الورع وإمام في الحديث، أمير المؤمنين في الحديث يقول: إنما الفقه الرخصة من ثقة، فاما التشديد فيحسنه كل أحد، والرخصة في المعاملات بالذات لأن الأصل فيها الإباحة، والبيع بصفة خاصة لأن فيه نصًا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] و (الـ) هنا للجنس أو للاستغراق ولذلك ابن رشد في المقدمة يقول: هذا يشمل كل بيع إلا أم استثناه النص، فالأصل في البيوع خاصة الحل وفي المعاملات عامة الحل، هذه كلها ينبغي أن نراعيها حينما ننظر في موضوع مثل موضوع المرابحة، وهو موضوع تقوم عليه البنوك الإسلامية صحيح نبه أخونا الأستاذ الدكتور العبادي في الصباح إلى أن البنوك الإسلامية أصبحت معظم معاملاتها في المرابحة، وهذا للأسف أمر نأسف له وهو يرجع إلى أمور اقتصادية لا إلى أمور شرعية كما أشار الأخ أحمد بازيع رئيس بيت التمويل، ونحن نبهنا وقلنا: إنه ينبغي أن نخرج البنوك الإسلامية من قمقم المرابحة، هي سجنت نفسها في المرابحة ولكن هذا شيء والقول بتحريم المرابحة شيء آخر، فالمرابحة جائزة والقول بالمرابحة مع عدم الإلزام بالوعد في الحقيقة يترتب عليه ضرر كبير، ونحن أيضًا هنا أذكر ملاحظة، أنه حينما يختلف العلماء، فما المرجع؟ ما قاله الله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . [النساء: 59](5/1148)
هل الوفاء بالوعد يصل إلى حد أنه مجرد مستحب؟ وإن إخلاف الوعد مكروه تنزيهًا أو خلاف الأولى؟ هذا يمكن إذا رجعنا إلى النصوص، إذا احتكمنا إلى الله ورسوله، القرآن والسنة مليئان بأن الوفاء بالوعد من الأمور الواجبة والتشديد في إخلاف الوعد والأحاديث محفوظة لكم، القرآن غير {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وغير {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] هنا يقول {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} [التوبة: 77] ما معنى هذا؟
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] يعني إبراهيم استجاز أن يستغفر لمشرك من أصحاب الجحيم من أجل الوعد السابق، إنه قال: سوف أستغفر لك ربي، يعني معناه أنه يرى أن الوعد لازم، طبعًا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نسخ، الإمام الغزالي ذكر الإخلاف بالوعد، جعله من المهلكات في روع المهلكات في الإحياء، وذكر في الآفات وذكر عليه أدلة عديدة من القرآن والسنة ومن أعمال الصحابة وهديهم، كما ذكر عن ابن عمر رضي الله عنه ذكر انه قال عند موته قال لهم أجلسوني ثم قال: إنه قال: قد كلمني رجل من قريش خطب إلي ابنتي، وكان لي منه شبه وعد، أشهدكم أني زوجتها منه حتى لا ألقى الله بثلث النفاق، هذه كانت نظرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى المسألة، وعمر بن عبد العزيز وغيره من العلماء منهم ابن شبرمة الذي ذكره ابن حزم في المحلى ومنهم ابن الأشوع، الذي ذكره البخاري في صحيحه، وهو مذهب البخاري كما يبدو من ترجمته في الصحيح ومذهب شيخه إسحاق بن راهوية وهو ما ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين حيث ذكر الوفاء بالشروط والعقود والعهود والوعود، كلها نظمها في سلك واحد، كما أن المسلمين عند شروطهم، فهم عند وعودهم أيضًا لأنهم لا يقولون ما لا يفعلون هذا أمر واضح فيما كتبه ابن القيم، فكيف نقول بعد هذا أن هذا أمر مكروه والحافظ ابن حجر قال: وجدت فيما ذكره أبي من إشكالات على الأذكار للنووي، وجدت بخط أبي أن أباه رضي الله عنه استشكل قال: كيف يقولون بأن اخلاف الوعد مكروه مع قوله تعالى {لِمَ تَقُولُونَ ... } [الصف: 2] ومع ما جاء في الأحاديث ومع هذا الوعيد الشديد؟ فهذا استشكال يعني لا جواب له، فكل هذه الأدلة وما ذكره أيضًا ابن القيم وأضاف إليه في الوعود خاصة، أنك إذا قلت لابنك أعطيك شيئًا ولم تعطه كتب عليك كذبة، وغيره من الأحاديث.
ولذلك الذي يطمئن إليه قلب الإنسان المسلم بعد قراءة النصوص هذه كلها لا يمكن أن يراوده شك في أن الوفاء بالوعد واجب وفريضة من فرائض الدين وأن إخلافه من علامات النفاق. .(5/1149)
بقيت مسالة في أنه هل الوعد في البر والصلة أو في امور المعاوضات –والبعض يعد في الصلة يعني يوجب إنفاذه- وفي المعاوضات؟ والله أنا أرى الأمر بالعكس، لأنه في الصلة الإنسان متبرع بها وله أن يرجع فيها حتى لو وهب له أن يرجع، إنما إذا ترتب على الأمر معاوضات وترتب عليها أمور في حياة الناس وعلاقاتهم، هذا أهم من أمر البر والصلة، ولهذا نقول بالوفاء بالوعد في المعاوضات وبالالتزام به، وقد قال به مثل عمر بن عبد العزيز وابن شبرمة وابن الأشوع وهم كانوا كما يبدو من طريقة حياتهم وتفكيرهم في ذلك الوقت أنهم لم يكونوا يفرقون بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء، إنما يفرقون في ذلك بين ما له ظاهر وباطن فيجرون الأمور على ظواهرها، أما كل شيء فإنهم لم يلزمون بما ألزم الله به ورسوله، ولذلك كانوا يلزمون بالعبادات الدينية، الشعائر الدينية ويعاقبون عليها، فكيف في أمور المعاملات؟ وإذا قلنا بالالزام، كيف نقول بالالزام في الوعد بالنسبة للمصرف ولا نقول به بالنسبة للآخرين؟ ولذلك الأخوة مثل الدكتور رفيق المصري الذي كان منطقيًا مع نفسه قال: كلا الطرفين مخير، المصرف والعميل، أما أن تلزم المصرف بالوعد ولا نلزم العميل بهذا يترتب عليه ضرر كبير، أكتفي بهذا القدر أيها الأخوة وشكر الله لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/1150)
الرئيس:
أحب أن أسأل الشيخ يوسف: إذا نكل ولي المخطوبة عن الوعد بعقد الزواج للخاطب وكان هذا الزواج سواء دخل في ورطة من مال أو لم يدخل هل يلزم قضاء؟
الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي:
أولًا نحن متفقون أو يجب أن نتفق على ما ذكره الإمام الغزالي أنه إذا وجد عذر فإن الاخلاف جائز، عندما يوجد عذر معين.
الرئيس:
ليس له عذر، التي لها مبررات نتركها، وهو نكل بلا عذر، هل يلزم بعقد النكاح؟
الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي:
يجوز، نحن لا نقول يجب الإلزام في كل قضية من القضايا، نحن نقول إن ما يلزم ديانة يجوز الإلزام به قضاء، ليس هذا وجوبًا فهذا مرجعه إلى المصلحة في بعض الأمور التي فيها مصلحة للناس ودرء مفسدة عنهم يجوز أن نلزم به قضاء وليس أمرًا واجبًا ولا مطردًا.
الرئيس:
هل نلزم بهذا قضاءً؟
الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي:
في القضية الجزئية هذه –هذه قضية جزئية- حيث يكون الأمر أمرًا كليًا عامًا يترتب عليه مصلحة لجمهور الناس يجوز الالتزام به، أما في قضية خاصة، هذه لا معنى لأن أدخل القضاء فيها. .(5/1151)
الرئيس:
هو كما تعلمون يا شيخ –والكلام للجميع- أن الفتوى إذا صدرت لن تكون في داخل مصرف إسلامي أو في داخل المصارف الإسلامية وإنما هي تفيد قاعدة للأمة أو فتوى لأمة من مصارف ومن متاجر ومن متعاملين وبين مسلمين متواعدين، بينهم وعد، وبينهم أي مواعدة كانت سواء كانوا في بطون المصارف أو في خارجها، فالفتوى إذا صدرت سيكون لها صفة العموم في الأمة، وترد آلاف المسائل على القضاء، فكم من الأوعاد –وما سمعنا أن قضية وعد- رفعت إلى المحاكم، حسب استقرائي ومساسي بالقضاء ما يزيد عن عشرين عامًا في المملكة مثلًا –وذلك على سبيل المثال- ما سمعت بقضية وعد رفعت إلى المحاكم لأن المسلمين شبه متعارفين على أن الأوعاد غير ملزمة وإن كان الإثم لا يلزم الحكم القضائي في كل حال.
فالحقيقة هي أن الذي أحب أن يكون أمامنا، هل إذا قلنا إن الوعد ملزم بالمعاوضات، هل هو مقيد في حالة معينة تشتغل بها المصارف الإسلامية ويجعل لها من الضوابط والقيود ما يجعله في قالب شرعي؟ أو نقول لا؟ نأخذ بمقتضى النصوص {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ((آية المنافق ثلاث..)) إلى غيره نحن معكم –ولسنا نحن معكم- لأننا نحن مع إجماع العلماء وإجماع المسلمين على الترغيب في الوعد، وأن أخلافه مذموم، لكن كونه مذمومًا شيء وكونه يقضى به شيء آخر، لما له من آلاف وأعداد كبيرة من الصور التي لا يمكن التخلص منها، ففي الواقع أردت التساؤل عنه فقط.
الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي:
اسمح لي، أنا لا أريد أن أقول إننا نجعل الأمر بغير ضوابط، لابد من وضع الضوابط – ولن يكون هذا في كل القضايا وفي كل المسائل- إنما هذه قضايا خاصة –الناس الآن أصبحوا يعملون في مجالها والبنوك الإسلامية تنتظر منا- نحن نقيد الفتوى بهذه القضية وما يتصل بها من ملابسات.
الرئيس:
هم لا ينتظرون منا لأنهم ماضون شغالون. .(5/1152)
الشيخ محمد سالم بن عبد الودود:
بسم الله الرحمن الرحيم
أن لا أريد أن أطيل، لأن الحديث طال وفيه الكفاية، ولكن أريد تصحيح بعض المفاهيم بالنسبة إلى ما ينسب إلى بعض المذاهب، وأنا لا أريد أن ألزم الناس بالمذاهب ولكن أريد ألا نقول على المذاهب، وعلى علمائنا غير ما قالوا: لا نحمل كلامهم أكثر مما يتحمل.
بالنسبة للوعد، معروف في المذهب المالكي أقوال في وجوب الوفاء به ومنها القول بوجوب الوفاء إذا ورط الواعد الموعود، كما إذا قال الرجل لامرأته: إن أعطيتني ألفًا أفارقك، فباعت حليها وتكلفت الإتيان بالألف، فهنا يلزم به قضاء، وفي هذا يقول خليل بن إسحاق المالكي رحمه الله تعالى: عاطفًا على الأمور التي تلزم في باب الخلع: والبينونة فيه إن أعطيتني ألفًا فارقتك أو أفارقك إن فهم الالتزام أو الوعد إن ورطها، ومعروف مورد الفرق بين الوعد والالتزام، قرائن الأحوال وسوق الكلام.
أولًا: أريد أن أفتتح تدخلي هذا بكلمة قالها الإمام مالك رحمه الله تعالى عندما قال له عبد الرحمن بن القاسم: إن أهل مصر أعلم الناس بأحكام العقود، البيوع وما شاكلها، فقال له الإمام: ممن تعلموها؟ قال: منك يا أبا عبد الله، قال: سبحان الله، ما أعلم هذا، كيف يتعلمونها مني؟
أقول إن المالكية على اختلافهم في لزوم الوفاء بالوعد الذي أشار إليه على ابن قاسم الزقاق في كتاب المنهج بقوله: هل يلزم الوفاء بالوعد؟ نعم صدر بالإيجاب أو لا؟ نعم لسبب أو إن لزم يركزون على أن الموعود إذا تورط بسبب الواعد لزم الواعد الوفاء، ويذكرون من ذلك قضية الرجل يقول لامرأته إن أعطيتني الفًا فارقتك أو أفارقك –بالمضارع- يكون الالتزام، لزمت البينونة سواء ورطها أو لم يورطها، ويوفون، الوعد وورطها لزم الوفاء لزمت البينونة بمجرد إتيانها بالألف، كما إذا باعت حليها وتكلفت له هرق القربة فإنها في هذه الحال يلزم الوفاء لها قضاء أكثر مما يلزم ديانة.(5/1153)
قضية المرابحة للآمر بالشراء هذه لا تخرج عند المالكية، هناك من ينسب إلى المالكية غير ما يقولون ومن يفرق بين اشتر لي وابتع لي، وكلمة ابتع واشتر واحدة، لأن المصطلح عند الفقهاء أن الثلاثي من المادتين يستعمل للإخراج بعوض، والخماسي من المادتين يستعمل للإدخال بعوض، بعت وشريت للإخراج، وابتعت واشتريت للإدخال، فإذا قال له: ابتع لي هذه البكر، فلا فرق بينها وبين أن يقول له اشتر لي هذه البكر، والقضية عندهم ذات طرفين وواسطة، إذا قال له: جاء يسال عن سلعة فقال له المسؤول: أمهلني إلى غد وجاء بالسلعة وباعها بما يريد هذا لا غبار على جوازه، وعنه عبر خليل بن إسحاق بقوله: جاز لمطلوب منه سلعة أن يشتريها ليبيعها بثمن، وفي نسخة بنماء، وفي نسخة بمال ولو بمؤجل بعضه، الطرف الثاني أن يصرح بقدر ما يربحه وهذا ممنوع عندهم وهو قوله بخلاف اشترها لي بعشرة نقدًا وآخذها باثني عشر لأجل، ولزمت الآمر إن قال لي وفي الفسخ إن لم يقل لي أو إمضائها ولزومه الاثني عشر، قولان، والوساطة هي أن يوميء بالتربيح من غير تصريح، ففي هذه الحالة يكره العقد ولا يفسخ، وفي هذا يقول: وكره خذ بمائة ما بثمانين أو اشترها ويوميء بتربيحه ولم يفسخ.
والمالكية يركزون على سد باب الحيل، كل ما فيه حيلة على الربا، فإذا كان الآمر بالشراء يحتال على دفع القليل في الكثير فهذا ممنوع عندهم، وإذا كان إنما أراد مساعدته على الحصول على سلعة لا يمكنه شراؤها في الوقت الحاضر فطلبها من بنك أو مورد ووعده أنه سيشتريه له ووعده الآخر أنه سيشتريها منه لا على معنى المعاملة في النقود والمتاجرة بها فهذا من الأمور التي لا تخرج عن أنظار المجتهدين، ومحط الخلاف هو يجوز الأخذ بالأرفق والأوسع فيها، في هذا العصر الذي تكالبت عليه فينا قوى الشر ولم نصبح قادرين على إيجاد ذلك الاستقلال الإسلامي الخالص، والذي صدق علينا فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: - إن صح- ((يوشك أن ياتي على الناس زمان من لم يأكل فيه الربا ناله من غباره)) فنحن نريد أقل الشرين وأخف الضررين لا نريد أن نحرج الناس وفي هذا المعنى قال الإمام مالك رحمه الله تعالى عندما سئل عن جبن الروم، قال: هم قوم كفار ويجيئونه بأنفحة الخنزير، وما أحب أن أحرم على الناس معايشهم وشكرًا.(5/1154)
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم
استدل كثير من الإخوة في أحاديثهم بالآيات القرآنية التي توجب الوفاء بالعقود والوفاء بالعهود وبالأحاديث النبوية التي تؤيد هذا أيضًا، والواقع أن هذا الاستدلال في قضيتنا هذه غير وارد، أعني في قضية بيع المرابحة للآمر بالشراء على الإلزام، وهذه هي النقطة التي سأركز عليها لأن هذه الآيات كلها والأحاديث ليست على عمومها وإنما هي من العام الذي أريد به الخاص، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: (275) ] الله لم يحل كل بيع وإنما هناك أحاديث وآيات منعت بعض البيوع، فكلمة البيع هنا عام أريد به الخاص وكذلك ما جاء في كلمة التجارة {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فهذه الآية لا تصلح دليلًا على ما نحن بصدده وإنما هي دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم –الأصل في العقود بدلًا من الأشياء- الأصل في العقود والشروط الإباحة وهي قضية خلافية كما تعلمون لكن هذا هو الذي أرجحه وهو ما استقر عليه آراء المتأخرين من الفقهاء، الأصل في العقود والشروط الصحة والإباحة ما لم يقم دليل على المنع.
فهذه الآيات تصلح دليلًا على هذا، ونقبلها من القائلين بجواز بيع المرابحة للآمر بالشراء على الإلزام، نقبلها منهم لكن نرد عليهم بأن دليل المنع قائم، ودليل المنع هذا أجمع عليه الفقهاء المتقدمون، لم أجد فقيهًا واحدًا من المتقدمين أجاز هذه الصورة من البيع على الإلزام، فإن أبوا هذا وقالوا: لا نقبل أقوال المتقدمين ونحن لنا رأينا ونريد النص من القرآن والسنة، كما ثبتت هذه القاعدة من القرآن والسنة، نقول لهم: المتقدمون لم يقولوا هذا الكلام اعتباطًا وإنما بنوه على دليل قوي وسأعتمد على دليل واحد وهو حديث حكيم بن حزام ((لا تبع ما ليس عندك)) وقالوا: وهذا هو ما يقتضيه المنطق إن هذه المبايعة وقد سمعتم نصوصها الكثيرة في مذاهب المالكية وفي غيره، لا أريد أن أعيدها، قالوا: إن هذه المبايعة أو المواعدة إذ كانت على الإلزام من الطرفين فلا فرق بينها وبين بيع الإنسان ما ليس عنده، وسمعتم الأدلة التي اعتمد عليها الشافعي، كلهم متفقون على هذه العلة وهي أنها إذا جازت تؤول إلى أن هذا الشخص قد باع ما ليس عنده، فإذا قال شخص لآخر: أعدك بأن أبيع لك سلعة كذا وهي ليست عنده – الفرض أن السلعة غير موجودة عنده- أعدك بأن أبيع لك سلعة كذا بألف جنيه، وقال له الآخر: أعدك بأن أشتريها، وقلنا إن هذا ملزم وتحايلنا بأن هذين المتواعدين سينشئان عقدًا عندما يمتلك السلعة، ماذا فعلنا؟ هل كونهما سينشئان هذا العقد يغير من الواقع؟ وبخاصة عند من يقول إنه إذا نكل أحدهما يلزم ويأمر القضاء بالتنفيذ فإن لم ينفذ فعليه التعويض، أقول لهم: ما الفرق بين هذا ولم هذه اللفة؟ لم لا يقول له من أول الأمر بعتك سلعة كذا بمبلغ كذا، ويقول له الآخر: قبلت؟ ما الفرق في النتيجة بين هاتين الصورتين؟ هما واحد من غير شك، والذين يقولون –الأخ الشيخ أحمد قال- إن هذا في الغرب والناس يريدون ابتياعه، أقول أن هذه الصورة جائزة في القوانين جميعًا، القوانين العربية الموجودة الآن جائزة فيها ويسمونه بالوعد بالبيع ويشترطون فيه ما يشترط في البيع تمامًا ولا يطالبون بتجديد عقد، وهذا هو المنطق، لم؟ إذا كانا هما ملزمين بأن ينشئا هذا العقد على الصفة التي تواعدا عليها، فلم ينشئان العقد مرة أخرى؟ هذا عبث.(5/1155)
ولذلك أنا قلت في بحثي وطالبت بأن يبحث المجمع حديث حكيم بن حزام ((لا تبع ما ليس عندك)) فإذا كانت الصورة التي تتعامل بها البنوك ينطبق عليها هذا الحديث فلا مفر لنا من القول بعدم اللزوم ولا نستطيع أن نقول باللزوم، أما إذا استطعنا أن نوجد مخرجًا وتفسيرًا وقد كتبت في بحثي وهذا تفسير قديم ذهبت إليه وقلت: إن بيع الاستيراد المتعارف بين التجار لا يدخل في بيع ما ليس عندك، وبهذا يكون جائزًا مع أن السلعة غير موجودة عند التاجر، وهذا هو المتعارف في الأسواق الآن، لكن عندما جئنا إلى موضوع البنوك وهيئات الرقابة لم أفت بهذا الرأي في هيئة الرقابة، وطبقت رأي الجمهور وهو ما يقول به جميع الذين تحدثوا عن الإلزام، هم مسلمون بأن هذه الجزئية تدخل في بيع ما ليس عندك، ومع ذلك يريدون أن يجعلوا الوعد ملزمًا، في هيئة الرقابة في السودان لم نجز هذا، ورفضنا الإلزام كما قلت لكم، وقلنا بعدم الإلزام بالنسبة للمشتري بالنسبة لطالب السلعة، وقد تساءل بعض الأخوان واعترض على كيف يكون الإلزام من جانب ولا يكون من الجانب الآخر؟ أقول إن هذا هو الذي يخرج هذه الصورة من بيع ما ليس عندك، لأن المسألة فيها خيار، وسينشأ عقد جديد حقيقي برضا الطرفين، لأن أحدهما مخير لا يلزم أن يكون الاثنان، مادام أحدهما مخيرًا فقد خرجت المسألة من أن تكون من بيع ما ليس عند الإنسان، وقلت إن هذه المسألة وبخاصة عند المالكية –أما الشافعية فقد نص عليها صراحة، بل هو جعل للآمر الخيار من غير شرط، ولو رجعتم إلى عبارتي- عند المالكية وإن كانت عبارتهم مطلقة أو عامة وليس فيها إعطاء خيار لأحد الطرفين، وإنما فيها المنع إذا التزم الطرفان، وقلت إن تخريج إعطاء الخيار لأحد الطرفين على مذهب المالكية مفهوم واضح، لأن المالكية يقولون مثلًا في بيعتين في بيعة: هذه لا تجوز، إذا قال له بعتك هذه السلعة بعشرة نقدًا وبخمسة عشر إلى أجل وافترقا على ذلك بأن ألزما أنفسهما هذا، وهذه هي الصورة التي لا تجوز في بيعتين في بيعة، لكنهم قالوا: إذا جعل البائع الخيار للمشتري جاز ذلك، كذلك في بيع العين الغائبة قالوا لا تجوز من غير صفة ولا رؤية متقدمة إذا كانت على الإلزام –إلزام الطرفين- أما إذا جعل للمشتري الخيار فهي جائزة لأن له أن ينشئ العقد وله أن لا ينشئ، فهذا هو الفرق بين الحالتين.(5/1156)
هذا الموضوع فعلًا بحث في مناسبات متعددة والقول بأنه لا جديد فيه هو الجديد فيه، بزيادة الحجج وزيادة المؤيدين، هذا الموضوع عندما بحث في أول الأمر كان المؤيدون حوالي ثمانين في المائة، وابتدأ يتناقص المؤيدون للإلزام، وأرجو أن ينتهي هذا القول بالإلزام في مجمعنا هذا إلى لا شيء وأن يقع الإجماع على أنه جائز إذا لم يكن ملزمًا للطرفين إلى أن يتمكن المجمع من بحث ما يدل عليه حديث حكيم بن حازم ((لا تبع ما ليس عندك)) فعند ذلك نصل إلى تفسير لهذا الحديث وهو في رأيي قد يكون موجودًا فيريحنا من هذه التي أنا أعتبرها حيلة إذا قلنا بالإلزام، وشكرًا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد مر على مسامعكم وقرأتم ما يتعلق بالوفاء بالوعد، وأما أكثر المداولات التي جرت هنا على أن الوفاء بالوعد غير لازم في المعاوضات وهذا ما عليه أكثر الباحثين وعليه عامة الفقهاء.
وأما ما يتعلق ببيع المرابحة، فتعلمون أن لها صورًا ثلاثًا يمكن التعامل بها، اثنتان قد يبدو أن الأولى منهما لا إشكال في إباحتها، والثانية إباحتها محتملة جدًا، وأما الثالثة التي سواء قلنا أنها تنبني على وعد ملزم أو أنها تنبني على الإلزام السابق ببيع لاحق، فالإخوان المقرر ومن سيؤلفون لوضع القرار في هذا الموضع مشاركون وسمعوا ما جرى في هذا الموضوع من مداولات والاتجاه العام حول ذلك، فأرى تأليف لجنة من المقرر الأستاذ سامي والمشايخ الآتية أسماؤهم: الشيخ نزيه والشيخ العاني، والشيخ علي السالوس، والشيخ الصديق الضرير، والشيخ محمد الاشقر، هل ترون هذا مناسبًا؟
نرفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد..(5/1157)
ويوصي المؤتمر:
أولًا: في ضوء ما لاحظه من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في اغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء، حتى كاد بعضها أن يقتصر على هذا النوع من المعاملات، والمأمول أن يشمل نشاط المصارف الإسلامية بقية أساليب تنمية الاقتصاد عن طريق إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهودها الخاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى.
ثانيًا: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية لوضع أصول تعصم وقوع الخلل في التطبيق وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء.
الرئيس:
نعم.. قرر.. "من أولًا"..
مناقش:
يوصى المؤتمر في ضوء هذا:
أولًا:..
الرئيس:
لا.. لا دعونا أولًا يا شيخ.. قرر أولًا أن بيع..
الأمين العام:
أنا قبل هذا –سيدي- عندنا الموضوعان (الوفاء بالوعد) و (المرابحة للآمر بالشراء) إذن يكون القرار رقم (3) و (4) ونأخذ كل واحد على استقلاله.
الرئيس:
لا.. لا. نحن يا فضيلة الشيخ في أثناء المناقشة لعلكم تذكرون، قلنا إن بحث (الوفاء بالوعد) هو مدخل لبحث (المرابحة) لم يبحث لذات الموضوع، فطالما أنه ليس لذات الموضوع فإذا رأيتم يبقى على ما هو عليه لكن قد –مثلًا- يرى الأخوان على أن ما صدر من القرار يقدم ما في (الوفاء بالوعد) على (المرابحة) في نفس الصياغة.(5/1158)
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
لكن هنا (بيع المرابحة) هو الذي يفهم به الوعد، لأن الوعد ليس المراد الوعد مطلقًا..
الرئيس:
المهم اقرأ أنت الفقرة الأولى ونستمر إن شاء الله.
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
قرر:
أولًا: إن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض فيما يجب القبض فيه، هو بيع جائز شرعًا، طالما كانت تقع على المأمور مسئولية الهلاك قبل التسليم.
مناقش:
نقول التلف.. بدل الهلاك التلف، هذه عبارة أفضل.
الرئيس:
هذا صحيح.. طالما كانت تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم.
أبو غدة:
وتبعة الرد بالعيب الخفي بعد التسليم. .(5/1159)
الشيخ البسام:
الأحسن نقول: وتبعة الرد بالعيب الخفي، لا تكفي هذه، هناك أشياء ثانية يحصل فيها الرد، التدليس، الغبن، الشكل نقول: ونحوه إذا أردنا أن نقتصر على هذا.
الرئيس:
وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد.
مناقش:
ونحوه نعم ونحوه، فيها شيء كثير.
الدكتور/ طه العلواني:
لكن لو سمحتم تكون بدل (طالما) بشرط أن تقع على المأمور.
الدكتور/ عبد اللطيف الفرفور:
أرى أن نتابع فضيلة الشيخ البسام ونقول: وتبعة نحو الرد، فقط كلمة نحو، نزيد كلمة (نحو) .
الرئيس:
وتبعة الرد.. الرد ليس له نحو، النحو للعيب يا شيخ.
الفرفور:
وتبعة ما هو.
الرئيس:
لا، وتبعة الرد بالعيب ونحوه.
الفرفور:
ونحوه.(5/1160)
الرئيس:
نعم في العيب الخفي، ونحوه بعد التسليم، يعني لعلها تناسب.
الشيخ المختار:
بعد الخفي ونحوه.
الدكتور/ طه العلواني:
لكن لو وضعنا بدل (ظلما) بشرط، يعني جعلناها شروط هذه الثلاثة.
الرئيس:
صحيح.. (وحصول القبض فيما يجب القبض فيه هو بيع جائز شرعًا بشرط أن تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم) ، مناسب؟
الدكتور/ طه العلواني:
نعم.. نعم.. نعم.
أبو غدة:
أولًا: إن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور وحصول القبض فيما يجب القبض فيه، هو بيع جائز شرعًا، بشرط أن تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم.. ما..
الشيخ البسام:
"فيما يجب القبض فيه" لا شيء الآن لا يجب القبض فيه لكن القبض يختلف بحسب المبيع.. وإلا ما في شيء يباع حتى يقبض، لكن القبض يختلف.
الرئيس:
يا شيخ عبد الله، هذا صحيح لكن أنا يظهر لي لو قال: وحصول القبض، إما أن يقال المعتبر شرعًا أو كل شيء بحسبه أو.. نعم.
أي نعم، أو حصول القبض الشرعي، كفى حتى يعم. لأنه ما هناك يعني مثل ما تفضل الشيخ (بحصول القبض الشرعي) .
الشيخ المختار:
لا.. لا عندنا المنهي عنه: بيع الطعام قبل قبضه، أما بقية المذاهب واحد فلا نحكم المذهب هنا.
الدكتور/ عبد الستار أبو غدة:
العقار يباع قبل القبض.(5/1161)
الشيخ المختار:
في مذهب مالك يباع الطعام قبل قبضه، فقط.
الرئيس:
المهم أن القبض –كما تعلمون- إما أن يكون بالتخلية، قد يكون بالتخلية والتخلية هي قبض، فإذا قلنا يجب القبض فيه، يكون لها يعني..
أبو غدة:
تنظيم.
الرئيس:
مفهوم، ما هو توضيح هذا.. هذا مفهوم مخالفة، لكن لماذا لا نقول: "وحصول القبض الشرعي"؟
الشيخ البسام:
نعم.. أحسن.
الرئيس:
يكفي وننتهي.
مناقش:
أنا ما أتكلم عن مذهب معين أبدًا.
الرئيس:
نحن –بدون مؤاخذة- المذهبية انتهت هنا في القرارات، المسألة دليل من الكتاب والسنة، ما في إشكال جزاكم الله خيرًا. .(5/1162)
الدكتور/ الصديق الضرير:
الكلمة هذه فيما يجب القبض فيه، لأنه يصير موضوع القبض وهذه المسألة –كما تعلمون- خلافية، بعضهم يجعل القبض في كل شيء وبعضهم يجعله في بعضه وقد تبحث في.. ولذلك رأينا أن توضع بهذه الصيغة ولكن ما في مانع إذا كان وجدتم أن المجمع حكم بأنه بعض الأشياء لا يجب القبض فيها، فلا مانع من التعديل الذي ذكره الرئيس "حصول القبض المطلوب شرعًا".
الرئيس:
يكفي..
مناقش:
سيادة الرئيس: ما دام قلنا بعد دخولها ملك المأمور هذا قد يشترط القبض وقد لا يشترط إذن نقصر على بعد دخولها في ملك المأمور ونحذف حصول القبض فيما يجب القبض فيه. يعني ما دام دخل، هو يدخل فيما بالقبض في حالة اشتراط القبض، هو دخل في ملك المأمور ونحذف حصول القبض فيما يجب القبض فيه، يعني مادام دخل هو يدخل فيما بالقبض في حالة اشتراط القبض هو دخل في ملك المأمور.
الرئيس:
بشرط أن تقع.
أبو غدة:
بشرط أن تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم مع خلوه –مع خلو العقد- من أي محظور.
الرئيس:
مكتوب هنا.. وعدم وجود أي محظور.
أبو غدة:
مع خلو البيع من أي محظور من محظورات العقد.
الصديق الضرير:
سيدي الرئيس، كلمة (بشرط) إن هذا ليس شرطًا –بل يا سيدي الرئيس- وإنما هو تعليل، السلعة دخلت في ملك البائع، هذا نتيجة، كون أن تبعة التلف وتبعة الهلاك والرجوع بالعيب ليس شرطًا نضعه نحن، وإنما هو نتيجة لدخوله، فالصياغة الأولى هي التي تؤدي المعنى المقصود.
أبو غدة:
صدقت.. طالما كانت.. الخ.(5/1163)
ثانيا:
الرئيس:
انتظر يا شيخ لا، طالما، لماذا لا يقال: "حيث إن المسئولية تقع على المأمور" مسئولية التلف، "حيث إن مسئولية التلف تقع على المأمور قبل التسليم".
الشيخ البسام:
لأن.. لأن..
الرئيس:
لأن مسئولية..
أبو غدة:
لماذا لأن؟
الشيخ البسام:
حيث ليست تعليلًا.
الشيخ المختار السلامي:
حيث القضايا.. (النظر فيها فقط) لأن حيث فيها الظرفية فقط.
أبو غدة:
لا داعي للتعليل هنا، لأنه فقط بيان الأثر الصحيح.
الرئيس:
ليس القصد، إننا نريد عبارة فقهية، (هل تعلم) يعبر بها الفقهاء؟ هذا هو القصد، الأمر ميسور، هذا لا مشاحة فيه.
الشيخ المختار:
نتوقف على اللغة الفقهية فقط.
الأمين العام:
الصديق الضرير فقيه.(5/1164)
الرئيس:
هو ما قال هذه.
الأمين العام:
لا.. لا هو الذي قالها وقد رجع إليها الآن.
الصديق الضرير:
(بشرط) هي ليست شرطًا، وإنما هي نتيجة.
أبو غدة:
نقول: مهما كانت..
مناقش:
لأن مسئولية..
أبو غدة:
لا، محل للتعليل هنا، نعلل ماذا؟ ما هو المعلل له؟
الرئيس:
اتركوا طالما تبقى على ما هي عليه..
مناقش:
موضوع "وجود أي محظور آخر من محظورات العقد" العقد لا يتم ويعتبر شرعًا، إلا بأمرين، (وجود شروط وانتفاء موانع) هذه العبارة لا تكفي لهذا المعنى، لا تكفي هذه العبارة لهذين المعنيين.
أبو غدة:
مع توافر شروط البيع وانتفاء..
البسام:
موانعه..
الرئيس:
يكفي..(5/1165)
أبو غدة:
حتى تجيب الجانب الإيجابي..
الرئيس:
حتى تجيب الجانب الإيجابي..
الأمين العام:
إذن أعد علينا الصيغة..
أبو غدة:
الأخيرة، وإلا كلها؟
الأمين العام:
وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم.
الرئيس:
وتوافر شروط البيع وانتفاء موانعه.
أبو غدة:
وتوافرت –طالما كانت- وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه.
الرئيس:
ما يخالف، زيادة خير إن شاء الله.(5/1166)
أبو غدة:
ثانيًا: كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم في بيع المرابحة للآمر بالشراء يختلف حكمه بين الوعد والمواعدة.
الرئيس:
ما ممكن، "فإن هناك فرقًا بين الوعد والمواعدة".
أبو غدة:
عدلناها من أجل أن تصير فقرة مستقلة –يعني وسط- الشيخ الأمين الحبيب طلب أن تكون قرارًا مستقلًا، على الأقل نعملها فقرة مستقلة.
الرئيس:
لا.. لا قصدي نحذف كلمة (فإن هناك فرقًا؟)
أبو غدة:
ونضع بدلًا منها يختلف حكمه بين الوعد والمواعدة.
الرئيس:
أما كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم.. ثانيًا.
أبو غدة:
كون الموعد ملزمًا أو غير ملزم في بيع المرابحة للآمر بالشراء، يختلف بين الوعد والمواعدة.
الأمين العام:
يختلف ماذا.. بين الوعد والمواعدة؟
أبو غدة:
يختلف الكون.. لا.. لا هو كون الوعد ملزمًا يختلف..
الصديق الضرير:
لماذا عدلنا عنها؟
الرئيس:
لأنه في الحقيقة فيها قلق لكن شوف، يا شيخ إذا قلنا: أما كون الوعد، لأنه ما في –ترى- مانع من أن يكون ثانيًا (أما كون الوعد) قل لي، فيه مانع؟ ما في مانع يمنع، لأن حتى إذا قلنا..
أبو غدة:
استشهد بالفقرة لوحدها بدون ما قبلها.
الرئيس:
لأنكم تعلمون أن الوفاء بالوعد ما بحث استقلالًا، بحث مدخلًا لبيع المرابحة، فإذا قلنا ثانيًا: " أما كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم في بيع المرابحة للآمر بالشراء فإن هناك فرقًا بين الوعد والمواعدة ".(5/1167)
الشيخ المختار:
القلق الذي عندي من العبارة: هو ابتدأنا أما كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم، فإن هناك فرقًا بين الوعد والمواعدة، نحن نتحدث عن الوعد أو المواعدة، فالعبارة كلها قلقة، ابتدأت بوعد وانتهت إلى أن هناك فرقًا بين الوعد والمواعدة.
الدكتور/ عبد اللطيف الفرفور:
سماحة الرئيس، أرى أن هذا القلق كله جاء نتيجة جعل المدخل خاتمة، والخاتمة مدخلًا، فلو أننا قدمنا هذا الموضوع –الوعد والمواعدة- وجعلناه مادة رقم (1) وقلنا: الوعد قسمان: وعد ومواعدة، ويختلف الحكم، وتكلمنا على ذلك وجئنا ببيع المرابحة بعد ذلك، الوعد نوعان: ملزم وغير ملزم وإن فرقا بين الوعد والمواعدة.
الشيخ المختار:
فضيلة الرئيس، يجب أن تحذف أن نحذف كلمة..
الرئيس:
يا مشايخ، ما رأيكم أن نقول: هناك فرق بين الوعد والمواعدة يختلف؟
أبو غدة:
يختلف حكمهم في الإلزام.
الرئيس:
هناك فرق بين الوعد والمواعدة يختلف الحكم فيهم بالإلزام في بيع المرابحة للآمر بالشراء على ما يلي:
الفرفور:(5/1168)
رقم (1)
الشيخ المختار:
لا، أنا عندما ينتهي من الفقرة، (وموانعه) تكون الفقرة الثانية: "الوعد الذي يصدر من الأمر أو المأمور على وجه الانفراد يكون ملزمًا".
المواعدة من الطرفين تجوز بشرط الخيار للمتواعدين، أما كون الوعد ملزمًا أو غير ملزم، لا حاجة لنا بها.
الرئيس:
لاحظ شيئًا واحدًا، إن عشرة السطور الآتية للتفسير، شرح بيان للوعد وبيان للمواعدة.
الفرفور:
الذي تفضلتم به هو الخير.
الدكتور/ طه العلواني:
لو سمحتم سيادة الرئيس، أنا يعني مع الشيخ السلامي في هذا الموضوع، إن السطرين الأولين: (أما كون كذا..) يحذفان ثم يأتي أولًا (الوعد الذي يصدر من الأمر.. الخ) .
ثانيًا: المواعدة من الطرفين:
الرئيس:
اقرأ يا شيخ، الوعد، حتى ننظر الآن:
الدكتور/ عبد الستار أبو غدة:
صارت ثانيًا: الوعد الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة لذلك الوعد، ويتحدد أثر الالتزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
ثالثًا: المواعدة من الطرفين تجوز بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو احداهما فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في البيع تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة ((لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.))
الدكتور/ طه العلواني:
أعتقد، هذا جيد إن شاء الله.
الدكتور/ الصديق الضرير:
إننا نقول: "لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة وليس في البيع، لأن المواعدة الملزمة هنا جائزة في البيع، نحن نتكلم عن بيع المرابحة "لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع"..(5/1169)
الدكتور/ طه العلواني:
جيد هذا..
الشيخ خليل الميس:
سيادة الرئيس، إذا أمكن: "وأما المواعدة من الطرفين.. فإنما تجوز بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، لنحذف الفقرة الثانية، إنما تجوز بشرط الحذف (فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز) ، تختصر العبارة وتكون أدق.
الشيخ المختار:
التنظيم، الوعد الذي يصدر من الأمر وتحدثنا عن الوعد، ثم المواعدة من الطرفين تجوز، هذا الترتيب التنظيم اللفظي وتبقى كما هي.
الدكتور/ عبد اللطيف الفرفور:
شكرًا سيدي الرئيس.
هناك ملاحظتان، واحدة شكلية والثانية موضوعية، الناحية الشكلية أرى أن يجعل الوعد أولاً والمواعدة ثم بيع المرابحة
ثانيًا، وهذا المنطق السليم أن نجعل الوسيلة أولًا ثم الغاية، الناحية الموضوعية هي العذر، ما هو العذر؟
هذا عذر مطلق، أرى أن يوجد عذر معتبر شرعًا، أن نضيف كلمة معتبر شرعًا في كلا المحلين، فالوعد الذي يصدر من الآمر إلى آخره، إلا لعذر معتبر شرعًا، وفي آخر العبارة (بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر معتبر شرعًا) فإطلاق العذر هكذا..
الرئيس:
الحقيقة أن هناك النقطة –في نظري التي قد تكون واردة- أنه ما فسر الوعد ولا فسرت المواعدة هنا.
مناقش:
هناك فرق بين الوعد والمواعدة من حيث كذا في بيع المرابحة.
الرئيس:
هم أرادوا الفرق حكمًا، لكن أنا أريد الفرق حقيقة، فلابد أن يقال: الوعد وهو كذا، لابد أن يصير فيه تفسير: ما هو الوعد هذا؟ لأنه الآن جعل التفريق بين الوعد والمواعدة، القارئ الآن ما يعلم ماذا تقصدون بالوعد، وماذا تقصدون بالمواعدة إلا أنكم أفتيتم هذا ملزم وهذا غير ملزم.(5/1170)
الشيخ المختار:
الجواب سيادة الرئيس، الوعد الذي يصدر من الأمر أو المأمور، والمواعدة هي من الطرفين، هو موجود أمامنا.
الصديق الضرير:
من الطرفين، هذا هو المقصود، أن الوعد من جانب واحد، والمواعدة من جانبين، وهذا هو محط الفرق.
الرئيس:
لا إذا كانت هذه حقيقة الوعد، فالوعد الذي يصدر عن الواعد وهو الذي يصدره، والوعد هو الذي يصدر هنا.
الوعد وهو والذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد يكون ملزمًا.
مناقش:
الوعد في بيع المرابحة.
الشيخ المختار:
الوعد الذي يصدر.. الذي.. تفسيرية، الذي يصدر هي تفسيرية واضحة جدًا.
الرئيس:
لا ما هي تفسيرية، القصد شيء واحد، أنتم تصدرون حكمًا، فهل جرت العادة أن الفقيه يصدر حكمًا أن الحقيقة الشرعية للوعد هي كذا، والحقيقة الشرعية للموعود هي كذا أنتم تبنون الحكم على هذه الحقيقة أم لا؟ تبنون الحكم الشرعي على حقيقة الوعد، وحكم المواعدة على حقيقتها، فإذا قلتم الوعد..
أبو غدة:
الوعد يصدر..
الرئيس:
الوعد وهو الذي يصدر.
الضرير:
لا.. مقبولة هنا، وهو الذي يصدر زيادة خير.
الشيخ المختار:
الوعد: الذي يصدر يكون نعتًا، ويكون الخبر، يكون ملزمًا، وإذا قلت الوعد وهو الذي تصبح الجملة في الحقيقة.. .(5/1171)
الدكتور/ الفرفور:
ما تفضلت به قيم، لكن إذا جعلت التعاريف أو التعريفات في أول الحديث فنقول: الوعد هو كذا وكذا، والمواعدة هي كذا وكذا، والمرابحة للآمر بالشراء، هي كذا وكذا، ثم بعد هذه التعريفات نثني فنقول: الوعد حكمه كذا وكذا، والمواعدة حكمها كذا وكذا، والمرابحة حكمها كذا وكذا، يكون هذا تفصيلًا بعد إجمال، وغاية بعد واسطة، والرأي لكم.
الأمين العام:
سيدي، نحن لا حاجة لنا لتحديد لا الوعد ولا المواعدة، أما من الناحية اللغوية والشرعية فكلاهما معروف، ثانيًا: المقام يخصص، نحن نتحدث عن الوعد والمواعدة مرتبطين بالمرابحة.
الرئيس:
والآن الوعد والمواعدة مفسران يا شيخ، لكن تفسيرهما ليس حكمًا من المجلس، التفسير بني عليه الحكم هذا هو الظاهر فأنا أقول: الوعد وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور ثم يأتي الحكم.. هذا لا شيء فيه.
الأمين العام:
نحو إذن وهو ملزم، يصير الوعد وهو الذي يصدر من الآمر ملزمًا قضاء.
الرئيس:
فالوعد وهو الذي..
الأمين العام:
لا داعي للفاء، الوعد..(5/1172)
أبو غدة:
الوعد وهو الذي يصدر..
الشيخ المختار:
عندما أقول: "وهو الذي" ماذا أضافت من المعنى؟ لم تضف أي معنى جديد.
أبو غدة:
الوعد وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد.
الرئيس:
يأتي الحكم، يكون ملزمًا.
أبو غدة:
يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر.
الرئيس:
يكون فيها بيان للناس. .(5/1173)
البسام:
الواو أحسن حذفها، الوعد هو الذي، لكن وهو الواو حرف عطف، الوعد هو: الذي يصير تفسيرًا للوعد، بين قوسين هو كذا وكذا، الوعد هو الذي..
الرئيس:
هذا مناسب.
الصديق الضرير:
لا يستقيم، لا يستقيم سيدي الرئيس بهذه الكيفية، لأننا نريد الخبر ياتي، هذه جملة اعتراضية، (الوعد وهو الذي) جملة تفسيرية.. خبرها الخبر هو يكون.
الرئيس:
المراد يا شيخ عبد الله على أنه ليس حكمًا، القرار ليس حكمًا على أن الوعد تفسيره كذا، المراد هنا الحكم على هذا الوعد المفسر، ما فيه شيء تكون بين قوسين يعني تكون بين عارضتين –وهو الذي- وتنتهي.
الدكتور/ طه العلواني:
سيادة الرئيس، في هذه الحالة لا يكون تفسيرًا، لأنه ناقص (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور) ما الذي يصدر من الآمر والمأمور؟ يجب أن نبين، لا نكمل تقلق العبارة.
الرئيس:
يكون ملزمًا.
العلواني:
وهو الذي يصدر من الآمر والمأمور بتعهد بكذا أو شيء حتى يتم.
الرئيس:
لا.. لا أبدًا ماشية يا شيخ، على أن يكون ملزمًا، اقرأ.
أبو غدة:
ثانيًا: الوعد (وهو الذي من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزمًا للواعد ديانة الخ العبارة.
ثالثًا: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) .
الأمين العام:
والمواعدة وهي..
أبو غدة:
وهي التي تصدر من الطرفين.
البسام:
لا داعي للواو.. لا داعي للواو هذه.. .(5/1174)
أبو غدة:
حذفنا الواو، المواعدة ثالثًا صارت فقط.
(وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز ففي بيع المرابحة بشرط الخيار للمواعدين.
الأمين العام:
أو أحدهما.
أبو غدة:
المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما.
الرئيس:
المهم ما رأيكم في الحكم؟ الصياغة انتهينا منها، لكن ما رأيكم في الحكم في قضية الوعد في هاتين الفقرتين؟
البسام:
مسألة خلافية معروفة.. هذه مسألة خلافية معروفة.
الرئيس:
ما رأيكم فيما انتهينا إليه؟
البسام:
جمهور أهل العلم ما يرون الوفاء بالوعد ملزمًا بحال من الأحوال.(5/1175)
العلواني:
سيادة الرئيس، كنا في منجاة حقيقية قبل اقتراح فضيلتكم، هذا وكانت العبارة سليمة، ومؤدية للغرض فيعني لو قلنا: الوعد الذي يصدر من الآمر أو المأمور يكون ملزمًا وقلنا في العبارة الأخرى: المواعدة وهي التي تصدر من الطرفين تجوز بشرط الخيار، العبارة ماشية وما فيها قلق، فالآن بدأنا نضيف ونقلق في العبارتين فأظن لو نرجع إلى هذا.
الرئيس:
على كل إذا قلنا الوعد وهو الذي تريدون، الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، هذا مقبول لا أظن أنه محل خلاف.
الفرفور:
عذر أيش؟
أبو غدة:
معروف.
الشيخ المختار:
ما لم يكن شرعيًا لا يكون معتبرًا، قلناها أو لم نقلها.
مناقش:
عذر شرعي.(5/1176)
المختار:
هو كل شيء شرعي، الأعذار المعتبرة هي الأعذار الشرعية، غير المعتبر شرعًا مفسوخ ساقط غير موجود.
مناقش:
إذا تسمح لي سيادة الرئيس.
الرئيس:
حتى يكون ملزمًا الواعد ديانة، ما في حتى كلمة إلا لعذر، لو حذفت بالأساس ما فيه ما يدعو إليها.
مناقش:
ليس له محل.
الرئيس:
لأنها يعني المسألة ديانة، لكن يبقى محل الأخذ والرد من هنا، وهو ملزم قضاء، إذا كان معلقًا على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة لذلك الوعد، هذا طبعًا على مذهب المالكية الذين يقررون إذا دخل في ورطة، إذا دخل الوعد بورطة، ويتحدد أثر الالتزام في هذه الحالة يقررون إما بتنفيذ الوعد وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
مناقش:
إذا سمحت لنا، يعني يمكن أن نبدل العبارة بصورة أو جزء وأقوى حتى تكون العبارة فقهية بشكل كامل نقول: فالوعد الذي يصدر من طرف واحد يكون ملزمًا، أما الوعد من الطرفين (أي المواعدة) فإنها تجوز بشرط الخيار.
العلواني:
سيدي الرئيس، ربما تأذنون أنها ماشية ولكن ديانة لا قضاء إلا إذا كان معلقًا ونحذف.
الشيخ المختار:
الموجود الآن أوضح من هذا، يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، انتهينا، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا.
الرئيس:
العبارة مستقيمة ما فيها شيء، لكن ليس الشأن بالعبارة الشأن في الحكم هل أنتم متفقون على هذا الحكم أم لا؟ هذا هو الشأن. الذي يوافق عليه يرفع يده.
الصديق الضرير:
ما فهمته لجنة الصياغة بالاجتماع العام..
الفرفور:
بزيادة عذر شرعًا.(5/1177)
الرئيس:
المهم الذي يوافق على هذه الفقرة يرفع يده.
الرجاء عدم الحديث الذي يوافق على بقاء هذه الفقرة يرفع يده.
أبو غدة:
بعد الأيدي المرفوعة.. وصل العدد إلى 19.
الدكتور/ طه العلواني:
لم نر يدك يا سماحة الرئيس، لم نر يدك.
الرئيس:
أنا في الواقع يعني ليس قضية أني لا أرى، أنا متوقف في هذا الموضوع منذ وقت بحثه، من الدورة الماضية وأنا أسأل الله أن يفتح لنا ولكم بما هو الحق.
الفرفور:
أرجو يا سماحة الشيخ.
أرجو سماحة الشيخ كلمة واحدة، أن نزيد في آخر العبارة بالوعد بلا عذر شرعًا، أو بلا عذر معتبر.
الرئيس:
المهم يا مشايخ لا تنسوا نظام المجمع على أن الذين لهم تحفظات فإنهم يكتبون تحفظهم في ورقة ويسلمونها لأمانة المجمع، لأن هذا دين وأحوط لذمة الإنسان.(5/1178)
الأمين العام:
السؤال الوحيد هو أن فضيلة الشيخ عبد اللطيف الفرفور اقترح تغيير الترتيب، أنأخذ ببيان الوعد والمواعدة ثم بيع المرابحة أم نبقيها كما هي؟
الرئيس:
لا.. تبقى على ما هو عليه.
عجيل النشمي:
لو سمحت يا فضيلة الرئيس.
في هذه الحالة ينبغي أن يقال: قرر المجلس بالأغلبية أو المجمع بالاغلبية اعتقد هذا تبعًا للنظام.
الأمين العام:
القرار يصدر بالأغلبية دائمًا.
أبو غدة:
ويوصي المؤتمر:
في ضوء ما لاحظه –بدون أولًا- من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء حتى كاد بعضها أن يقتصر على هذا النوع من المعاملات بما يلي:
المختار السلامي:
إزالة (أن) "حتى كاد بعضه يقتصر".
أبو غدة:
حتى كاد بعضه يقتصر على هذا النوع من المعاملات، بما يلي:
أولًا: أن يشمل نشاط المصارف الإسلامية بقية أساليب تنمية الاقتصاد عن طريق إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهودها الخاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى.
ثانيًا:....(5/1179)
الأمين العام:
من فضلك.. من فضلك: أنت غيرت الجملة وبناء على هذا ينبغي أن نضيف.
أبو غدة:
نحذف رقم (1)
الشيخ المختار:
كلمة (والمأمول) بداية.. والمأمول..
أبو غدة:
لا.. لا. تغيرت.. تغيرت.
الشيخ المختار:
كيف أصبح التعبير؟
أبو غدة:
ويوصي المؤتمر "تحذف رقم (1) "
في ضوء ما لاحظه من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طرق المرابحة للآمر بالشراء.. حتى كاد بعضها يقتصر –بدون أن- على هذا النوع من المعاملات، بما يلي:
الرئيس:
يوصى بما يلي:
أبو غدة:
تكرر يوصى مرة ثانية؟(5/1180)
الرئيس:
طال الفصل نعم.
الدكتور/ طه العلواني:
لا عفوًا إذا سمحتم، ترفع من الأول وتوضع في الأخير، فيقال في البداية، (في ضوء ما لاحظه) إلى قولك (من المعاملات) يوصى بما يلي: ...
أبو غدة:
لا.. ضروري حتى نفصل بين القرار والتوصية، دائمًا مألوفة في القرارات.
التسخيري:
وكلمة حتى كاد..
العلواني:
يوضع عنوان فرعي "توصية".
الرئيس:
دعوها.. مناسبة يا شيخ.
أبو غدة:
يوصى بما يلي:
أولًا: أن يشمل نشاط المصارف الإسلامية إلى آخر الفقرة.
ثانيًا: أن تدرس الحالات العملية، إلى آخر الفقرة.
التسخيري: كلمة (حتى كاد) لو تحذف، لا داعي لها، يعني المعنى الأول كاف، فلماذا نتهم نحن هذا البنك أو ذاك؟ يعني (حتى كاد) لا داعي لها.
الشيخ المختار:
حتى تكون التوصية واضحة هو اليوم يوجد فيه نشاطات ومختلف أنواع النشاط إنما التوسع في مختلف أنواع النشاط الأخرى هي الأمور التي نبغيها، أما اليوم ليست مقتصرة على البيع بالمرابحة.
التسخيري:
ولذلك (حتى كاد) يحذف.
الشيخ المختار:
ما سمعت الكلام في هذا، أنا تدخلت، هذه قضية غير صحيحة، عندما نقول يوصي بالنشاط، النشاط موجود ومتوفر، وسيادتك أنت مع بيت التمويل الكويتي هل الموجود فيه المرابحة فقط؟ أو شمل نشاط المرابحة وغيرها؟ فإذا شمل النشاط المرابحة وغيرها فكيف نوصي بشمول المرابحة وغيرها؟ نوصي بالواقع؟ والذي نراه.. ليس هو الشمول وإنما هو التوسع في مختلف النشاطات.(5/1181)
أبو غدة:
مناسب.. أن يتوسع.
الأمين العام:
أن يتسع نشاط المصارف الإسلامية لبقية..
التسخيري:
أن يشمل نشاط كل المصارف الإسلامية مختلف النشاطات يعني تعميم وليكن التعميم لكل المصارف الإسلامية.
السلامي:
أن يتوسع نشاط المصارف الإسلامية في بقية أساليب تنمية الاقتصاد وليس أن يشمل هو شامل الآن.
أبو غدة:
أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية بشتى أساليب.
البسام:
أقول (أن) مصدرية تأتي بعد حتى.
التسخيري:
هذه العبارة كلها تحذف (حتى كاد) الأفضل أن تحذف، يقترح هذا المعنى يا سيادة الرئيس (حتى كاد بعضها يقتصر) هذا المعنى احذفوه، حتى لا داعي لذكر ذلك، اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل يوصي بما يلي:
أولًا: أن يتسع نشاط ...
الرئيس:
هذا طيب.(5/1182)
الأمين العام:
هذا ما فعلناه.
أبو غدة:
نشطب يقتصر؟
الرئيس:
لا، إلى التمويل.
أبو غدة:
لا، عن طريق المرابحة للآمر بالشراء، عند كلمة: بالشراء.
الرئيس:
حتى كاد..
أبو غدة:
نشطب (حتى كاد بعضها يقتصر) نقول يوصي بما يلي: صارت هكذا ويوصي المؤتمر:
في ضوء ما لاحظه من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء.
يوصي بما يلي:
أولًا: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد ولا سيما إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة.
الأمين العام:
مع أطراف أخرى.
أبو غدة:
مع أطراف أخرى.
ثانيًا: أن تدرس إلى آخره ... ويصبح نص القرار كاملًا على النحو التالي:.(5/1183)
قرار رقم (2، 3)
بشأن
الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي (الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما.
قرر:
أولًا: أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعًا، هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه.
ثانيًا: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب ودخل الوعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
ثالثًا: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة ((لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.))
ويوصي المؤتمر:
في ضوء ما لاحظته من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء.
يوصي بما يلي:
أولًا: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد ولا سيما إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى.
ثانيًا: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية، لوضع اصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء.
والله أعلم(5/1184)
تغير قيمة العملة في الفقه الإسلامي
إعداد
الدكتور عجيل جاسم النشيمي
الأستاذ المساعد في كلية الشريعة
والدراسات الإسلامية – جامعة الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3) .
أما بعد (4) :
فلقد تعددت المشكلات التي تصيب اقتصاد الدول مما يؤثر تأثيرا بليغا على أحوالها وعلاقاتها واستقرارها، ويعود تأثيره أيضا على أوضاع أفراد المجتمع في تعاملهم واستقرار أحوالهم وشغل ذممهم.
وإن من أهم هذه المشكلات الاقتصادية المعاصرة اليوم مشكلة انخفاض القوة الشرائية للنقد أو ما يسمى بمشكلة التضخم. حيث يرخص النقد وتغلو السلع فتتأثر التزامات الدولة داخليا وخارجيا ويجر ذلك إلى مشكلات عديدة.
كما يتأثر أفراد المجتمع من خلال تعاملهم بالإقراض، أو البيع بالأجل.
فقد يحل أجل القرض أو البيع بالأجل، وقد تغيرت قيمة العملة من حيث قيمتها وقوتها الحقيقية بحيث لا يكون المدفوع عددا عند الأجل مكافئا ومساويا للمدفوع عند بدء التعامل، مما قد يلحق غبنا كبيرا على أحد الأطراف دون تقصير من جانبه.
فقد تقوم الدولة لأسباب اقتصادية متعددة بتخفيض قيمة علمتها بالنسبة للذهب الذي ينبغي أن يكون غطاء ثابتا لها، أو بالنسبة لقيمة العملات الأخرى، بل قد تقوم الدولة بإلغاء عملتها أو استبدالها بغيرها.
وإن مما لا شك فيه أن مشكلة تغير قيمة العملات تتربع اليوم على رأس المشكلات الاقتصادية على المستوى المحلي للدول وعلى المستوى العالمي، خصوصا بعد أن ارتبطت عملات الدول الصغيرة والنامية بعملات الدول الكبرى المتقدمة، وأصبحت هذه الدول متحكمة بها تحكما اقتصاديا تاما من خلال قوة عملتها الرئيسية تعليق: وأقوى هذه العملات وأكثرها تأثيرا في عالم الاقتصاد اليوم على المستوى العالمي العملة الأمريكية (الدولار) ،
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 102
(2) سورة النساء: الآية 1
(3) سورة الأحزاب: الآية 70 – 71
(4) هذه خطبة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يعلمها أصحابه رضوان الله عليهم في كل شأن(5/1185)
وإن نظرة سريعة للأرقام ترينا بجلاء تام خطورة الوضع الاقتصادي القائم، وحجم المشكلة الاقتصادية العالمية التي تقف أمريكا وراءها بصفة مباشرة؛ فللحفاظ على الاقتصاد القومي الأمريكي، ولتشجيع الصادرات وتخفيض العجز الهائل في الميزان التجاري كان أمام أمريكا حلان: أما أن تزيد معدلات الفائدة على الدولار فتحمي الدولار، وأما أن تترك الدولار ينخفض، وقد اختارت أمريكا الحل الثاني. يقول وزير الخزانة الأمريكي جيمس بيكر: " إن على الولايات المتحدة أن تختار بين حماية الدولار بزيادة معدلات الفائدة، وبين حماية الاقتصادي القومية بالحفاظ على انخفاض المعدلات وترك الدولار ينزلق، وأوضح وزير الخزانة الأمريكي: أن واشنطن اختارت ترك الدولار ينزلق وهي تعتمد على التعاون الدولي للحفاظ عليه من الانحدار كثيرا.
وهذه بعض الأرقام التي ترينا بوضوح حجم مشكلة تغير العملة خصوصا إذا كانت عملة رئيسية عالمية كالدولار، فإن انخفاض الدولار في الآونة الأخيرة أصاب الاقتصادي العالمي بهزة اقتصادية عنيفة لم يشهد لها التاريخ مثيلا في حجمها وآثارها العالمية.
ففي يوم الاثنين 19/10/1987 م خسرت أسواق الأوراق المالية في هذا اليوم فقط 500 بليون دولار، وبلغ حجم الأسهم المتداولة 600 مليون سهم.
وهبط سعر الأوراق المالية يوم الثلاثاء 20/10/1987 م بمقدار 12.2 % في بورصة لندن و15 % في بورصة طوكيو، و6 % في بورصة باريس.
وفي 3/11/1987 م شهد الدولار مزيدا من الانخفاض وبلغ في الولايات المتحدة أدنى مستوى له منذ 40 عاما مقابل الين الياباني. وانخفض سعر الدولار في الشرق الأقصى إلى 136.53. وفي 7/11/1987 م حطم الدولار حاجز الـ 136 ينا في سوق طوكيو مسجلا سعرا منخفضا قياسيا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.
وانخفض الدولار مقابل المارك الألماني الغربي إلى 1.7097 ماركا بتاريخ
3/11/1987 م وهبط في 7/11/ 1987م إلى 1.70 ماركا، وهو أدنى حد منذ إدخال تحديد التسعيرات الرسمي للعملات في عام 1953م.(5/1186)
وحدد البنك المركزي الألماني الغربي السعر الرسمي للدولار عند 1.7050 ماركا ألمانيا غربيا، وهو أدنى سعر للدولار منذ بدء التعامل بالمارك الألماني الغربي قبل 39 عاما، وهبط سعر الدولار في مواجهة المارك الغربي وبلغ 1.7055 وهو أدنى سعر رسمي سجله الدولار مقابل المارك عندما بلغ 1.7067 في عام 1980م في ذروة ركود اقتصادي أمريكي.
كما هبط سعر الدولار إلى نحو 1.41 فرنكا سويسريا وإلى 5.80 فرنكا فرنسيا وبلغ سعر الجنيه الإسترليني 1.7420 دولارا.
وفي 26/10/1987 م بلغت خسائر بورصة هونغ كونغ وحدها في هذا اليوم 50 مليار دولار أمريكي أما خسائر الأسهم في هذا اليوم فبلغت كالتالي:
لندن % 7 وطوكيو 5 % وهونغ كونغ 35 % ومدريد 5.4 % وباريس 6 % وأمستردام 4.2 %.
وفي 10/11/ 1987م في لندن منيت أسعار الأسهم بتدهور جديد لدى افتتاح عمليات التبادل في بورصة لندن وذلك تبعا للخسائر الجديدة التي لحقت بأسعار الأسهم في بورصة وول ستريت بنيويورك أمس الأول وبورصات لندن والشرق الأقصى صباح أمس.
وامتنع المتعاملون بالأسهم عن القيام بأي عمليات تبادل بانتظار ورود أنباء إيجابية عن عزم حكومة الولايات المتحدة على إصلاح عجز ميزانها التجاري، والذي لا يمكن بدونه إزالة الركود الذي يسيطر على الأسواق المالية والعالمية.
وهبط مؤشر صحيفة فايننشال تايمز لأسهم المؤسسات والشركات الثلاثين الأكثر نشاطا لدى افتتاح عمليات التبادل في بورصة لندن أمس بمعدل 35.7 نقطة حيث انتهي عند حدود 1529.5 نقطة.(5/1187)
وشهدت أسعار الأسهم هبوطا حادا لدى إغلاق بورصة وول ستريت.
وتراجع مؤشر داوجونز بمعدل 54.54 نقطة حيث انتهي عند حدود 1904.51 نقطة.
* وفي طوكيو:
هبطت أسعار الأسهم في بورصة كوكيو تبعا لتدهور سعر الدولار الأمريكي حيث تراجع مؤشر نيكي داو جونز بمعدل 731.91 ليستقر عند حدود 21686.46 نقطة. ولحقت بورصة سيدني بكل من بورصتي لندن ونيويورك على طريق الخسائر حيث هبط مؤشر أول أورديناريز بمعدل 48.6 نقطة ليستقر عند حدود 203.3 نقطة.
وتأثرت بورصة هونغ كونغ بالضعف الذي طرأ على البورصات الأخرى حيث هبط مؤشر هانغ سينت بمعدل 96.07 نقطة لينتهي عند حدود 2043.24 نقطة وفي السوق الفرنسية انخفض مؤشر بورصة باريس إلى حوالي 4.5 في المائة مقارنة مع نهاية الأسبوع.
وفي 11 / 11/1987 م أصيبت أسعار الأسهم في طوكيو بانتكاسة جديدة إثر انحدار أسعار الدولار الأمريكي والسندات الحكومية اليابانية لدى بدء التعامل في سوق الأوراق المالية الياباني، وإن أسعار الأسهم انخفضت بشكل حاد، مما أثر على المؤشرات التجارية خاصة مؤشر نيكاي الذي يقيس أداء 225 من الشركات الصناعية الرئيسية.
وإن مؤشر نيكاي انخفض 809.14 نقطة ليستقر عند 20877.32 نقطة مقابل 731.19 نقطة أمس الأول.
وإن أسعار السندات الحكومية اليابانية فقدت عدة نقاط من قيمتها في تبادل محموم بسبب الارتفاع الملحوظ في أسعار العملة اليابانية، وانخفاض أسعار الأسهم في طوكيو ونيويورك. كما أصيبت الأسواق العالمية الأخرى بمزيد من الانخفاضات المتدنية
ومن خلال هذه الأرقام يتضح مدى الاضطرابات في الاقتصاد العالمي، وكان يخشى أن يعقب هذا التضخم العالمي كساد عالمي كما حدث في عام 1929 م حيث عانت الدول الأوروبية من ارتفاع الأسعار منذ بداية الحرب العالمية الأولى 1914–1918م وإلى أوائل العشرينات، حيث ارتفعت الأسعار في ألمانيا في 1923م ملايين المرات بالنسبة للمارك عما كان قبل سنوات قلائل، ثم أصاب الكساد العالمي معظم الدول الصناعية في صيف 1929م وأحدث انخفاضا كبيرا للغاية في مستويات الأسعار في هذه الدول (1) .
__________
(1) جريدة " القبس الكويتية، في 27 / 10 / 1987 م، العدد 5552؛ و4/11/1987م، العدد 5560؛ و7/11/1987م، العدد 5562؛ و9/11/1987م، العدد 5564؛ و13 / 11 / 1987 م، العدد 5568، وجريدة " الوطن " الكويتية، في 11/1/1987م، العدد 4570 و12/11/1987م، العدد 4571(5/1188)
أما عن تلمس وجهة الفقه الإسلامي في هذه المعضلة الاقتصادية المزمنة، وهي تغير قيمة العملات وما يترتب على ذلك من آثار، فإن الشريعة الإسلامية لما كانت شريعة تنظم علاقات الأفراد فيما بينهم، وعلائقهم بالدولة، وتنظم علاقة الدولة بغيرها من جميع النواحي كان طبيعيا أن يحظى الجانب الاقتصادي بأهمية خاصة في التشريع الإسلامي لماله من خطورة فردية ومحلية ودولية.
وقد تضمنت الشريعة الإسلامية نظاما اقتصاديا متكاملا متميزا، له نظريته وأسسه وموازينه، وله علاجاته كل ما قد ينشأ من مشكلات اقتصادية في المجتمع والدولة الإسلامية.
إلا أن الشريعة الإسلامية ليست مسئولة عن حل مشكلات نشأت من طبيعة النظم الاقتصادية الأخرى؛ لأن لكل نظام أسلوبه في حل إشكالاته التي قد تنشأ من خلال التعامل، وهي التي قد ينجح هو في حلها، في الوقت الذي قد يعجز نظام آخر عن حلها، ولو كان أكثر تطورا وشمولا.
إن الأحكام الفقهية في الشريعة الإسلامية أحكام لواقعات تنشأ في المجتمع الإسلامي، وحينئذ لا بد لكل واقعة من حكم، ولا نعرف واقعة واحدة في تاريخ الدولة الإسلامية لم يجد الفقهاء لها حكما شرعيا.(5/1189)
وهذا هو الذي يفسر لنا صعوبة الحل لمثل مشكلة الأوراق النقدية وتغير قيمتها فهي مشكلة لم تنشأ في ظل الشريعة الإسلامية، وما كان لها أن تنشأ لمصادمتها ابتداء لأسس النظام الاقتصادي الإسلامي الذي لا يسمح تطبيقه السليم بظهور مثل هذه المشكلة بالحجم والواقع المعاصر.
ولذلك فإن النظر في مثل هذه المشكلات الاقتصادية المعاصرة لا يستلزم بالحتم حلا، فقد يكون في التوقع عند إبداء الحكم الشرعي مندوحة، إذ ترتب عليه لي عنق الآية أو الحديث، أو تحميل اللفظ ما لا يحتمل، أو التحايل على نصوصه وقواعده. وهذا لا يمنع من إبداء الرأي في هذه المعضلة من منظور إسلامي، وهذا ما نحاول أن نطرحه من خلال هذا البحث بالرجوع إلى وقائع الأحداث المشابهة في التاريخ الإسلامي وآراء الفقهاء واجتهاداتهم وما يمكن أن يستنبط من تخريجات لموضوع تغير الأوراق النقدية. ويبقى كل ما يذكر رأيا لا حكما في المسألة موضوع البحث.
والله تعالى أعلم.(5/1190)
المبحث الأول
تغير قيمة العملة وواقعاتها
تمهيد
سبق أن أشرنا في مقدمة هذا المبحث إلى خطورة موضوع تغير العملة بما له من أثر على الفرد والجماعة والدول، وهو بلا شك قضية العصر الاقتصادية، والتي انفجرت في هذه السنوات الأخيرة إثر تراكمات متوالية من المشكلات الاقتصادية المحلية والعالمية، ولعلها بدأت منذ أن ارتضت الدول واصطلحت على أن تتعامل بالأوراق النقدية من غير اشتراط أن يكون لها غطاء ذهبي أو فضي يوازن قيمتها ويحفظ اضطرابها الأمر الذي شجع كثيرا من الدول تحت ظروف اقتصادية سواء في حال السلم عامة، أو الحرب خاصة، أن تسرف في طبع هذه الأوراق وتغرق بها الأسواق، طمعا في تعديل اقتصادها وإرضاء المشاعر، أو تخديرها، أو كبت بوادر ومظاهر الثورات الاجتماعية، متجاهلة خطورة هذا التوسع في مردوده الاقتصادي الخطير على الأسعار والقوة الشرائية للعملة فيكون سببا في التضخم وهو ارتفاع الأسعار بسبب زيادة الإنفاق النقدي بنسبة أكبر من عرض السلع، ولا شك أن هذا يسبب مشاكل اقتصادية متشعبة المسالك صعبة الحل، وقد تتكرر هذه القضية على فترات تاريخية متقاربة فيقل الخطر أحيانا، ويمكن تلافي آثاره، ويعظم أحيانا فيصعب تداركه وتلافي آثاره السيئة على الفرد والجماعة والدولة، وكم من دول استبيحت أراضيها بأسباب اقتصادية، وكم من دول انهار بنيانها بعد قوة بسبب سوء تصريف اقتصاديا.
وكان الربا وما زال هو مرجع هذه الإشكالات، ومصدر المحن الاقتصادية الخانقة، وما التضخم أو الكساد أو غيرها، إلا بعض مظاهر الربا في واقع الأمر، وحقيقته بشكل مباشر أو غير مباشر، وإن موضوع تغير العملة يقع ضمن أدق وأخطر أبواب الفقه الإسلامي، فيقع ضمن أبواب القرض والبيوع والربا والصرف وغيرها، والصرف خاصة هو من أقرب الأبواب إلى الربا، وأمر يقع بين الصرف والربا لهو خطير جدا، وإن ممارسة الصرف وتشعيب قضاياه يحتاج إلى نوع حذر شديد، فلا توسع أبوابه حتى لا يكون ذريعة إلى الربا، ولا تضيق عن حدها فيدخل على الناس العنت في معايشهم وتعكر أحوالهم، وذاك أو هذا مما لا يرتضيه الشرع الحنيف. وينبغي أن تراعى في ذلك قواعد الصرف كما تراعى قواعد الأبواب الأخرى في الفقه حتى يسلم الحكم من شائبة الغرر أو الربا أو غير ذلك.(5/1191)
والصرف خاصة: هو بيع الذهب أو الفضة بمثله، أو بيع أحدهما بالأخر، وبالإضافة إلى أركان البيع يشترط في الصرف ثلاثة شروط أخرى:
أولهما: أن يكون البدلان متساويين، سواء كانا مضروبين أو غير مضروبين فلا يصح بيع دينار بدينار مع زيادة في أحدهما، ولا سوار بوزن، وسوار بوزن أكبر.
ثانيها: الحلول: فلا يصح بيع الذهب أو الفضة مع تأجيل قبضهما أو أحدهما.
ثالثها: التقابض في المجلس لما جعل ثمنا ومثمنا، فإذا افترقا قبل القبض بطل العقد. فإذا كان البيع لأحد الجنسين بالآخر، فيشترط حينئذ شرطان، الحلول، والتقابض في المجلس.
هذا بالنسبة للذهب والفضة، وكذا بقية الأصناف الربوية عند فقهاء المذاهب سوى الحنفية فإنهم لم يشترطوا التقابض في غير الذهب والفضة.
وهذا القدر في الصرف متفق عليه بين المذاهب المعتبرة، أما محل الخلاف فإنما هو في الأثمان من غير الذهب والفضة، كالفلوس والذهب والفضة التي غلب عليها الغش، وهذا ما ستنفصل القول فيه من حيث تغير القيمة فيه بالإضافة إلى تغير قيمة الذهب والفضة في الدراهم والدنانير.
وسنتناول الكلام عن هذه القضية ببيان واقعات المسألة في العصور الإسلامية المختلفة، ودور الدولة في علاج هذه القضية، ثم عرض صور تغير العملة والمذاهب فيه ثم إعمال النظر، واختيار ما يغلب على الظن رجحانه.
وإن ما نتوصل إليه من الترجيح هو رأي قاصر، لا نلزم به أنفسنا بمجتهدين، ولا نفتي به أحدا ما فإنه لا يسعنا القول في مثل القول في مثل هذه القضية العامة، وما نقدمه لا يعدو كونه رأيا بدا، وإنما يسع جمهرة من فقهائنا الكرام، أن يتداولوا الموضوع ويشبعوه بحثا بما حباهم الله من علم رصين، سياجه ولحمته وسداه تقوى الله تبارك وتعالى، ثم يعلنوا ما ترجح لديهم من حكم الشرع في هذه القضية سواء في الجواز أو المنع، أو الجواز مع وضع الشروط والضوابط، ويسعهم في كل الأحوال التوقف إن رأوا فيه المصلحة. والله الهادي إلى سواء السبيل.(5/1192)
واقعات مسألة تغير العملة:
إن وقائع الأحداث التي تتكرر وتتجدد أو تستجد تحتاج إلى أحكام فقهية تضفي عليها الوصف الشرعي، لقد تكفل الشرع الحنيف بإعطاء كل واقعة في المجتمع الإسلامي حكما شرعيا من التحريم، أو الكراهة، أو الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، وهذه الأحكام أما مستندها الأدلة المتفق عليها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أو الأدلة المختلف فيها، من الاستحسان أو المصالح المرسلة أو قول الصحابي أو عمل أهل المدينة وما إلى ذلك من الأدلة المختلف فيها، أو بالرجوع إلى القواعد الفقهية والأصولية المعتبرة من قواعد الضرورات وقاعدة التيسير وما إلى ذلك.
وفي ظل هذا الرصيد الوافر من الأدلة الحاكمة لم يواجه فقهاؤنا مسألة عابرة، أو معضلة شائكة إلا وكان لها وصف شرعي ضابط من الحظر أو الإباحة.
وإن مسألة تغير العملة كانت إحدى واقعات المسائل التي طرأت على واقع الفقه الإسلامي في عصور متفرقة، وكانت هذه الواقعات تصغر أحيانا، وتكبر في أحيان أخرى، ويلحظ أن هذا مرتبط بمدى تطبيق الأحكام الشرعية في واقع المجتمع المسلم، ومدى التزامه بقواعد الأحكام، خصوصا في مسائل البيوع الجائز منها والمنهي عنه، فكلما كان التطبيق شاملا تاما ندر أن تقع هذه الواقعات، وإن وقعت فحالات فردية، لا تشكل ظاهرة اقتصادية تترك آثارا عامة على المجتمع المسلم، وكلما كان التطبيق الشامل متخلخلا، ومتفاوتا بين فترة وأخرى، فإن ضغوطات التصورات وواقع المجتمعات غير الإسلامية التي قد يكون له تفوق اقتصادي، يبدأ ثقله بالضغط لإيجاد واقع يتجاوب وصفة واقع هذه المجتمعات.
ولذا فقد ظهرت هذه المشكلة باعتبارها قضية اقتصادية اجتماعية في العصور المتأخرة للدولة الإسلامية. وأما من قبل فلم تعد كونها فردية جزئية، وإن توسعت فمحلية قطرية ويكون حلها حينئذ تبعا لها فرديا أو محليا.(5/1193)
وبطريق التتبع يمكن أن نسجل هنا بعض الوقائع التي حدثت في التاريخ الإسلامي، بقصد أن نقف على طريق نظر الفقهاء لهذه القضية، وصفة الحكم الذي انقدح في أذهانهم فعبروا عنه.
أما في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فما نكاد نرى لموضوع تغير العملة حدثا يطابق صورته المعروفة اليوم، وإنما نجد بعض الوقائع التي هي من باب الصرف الجائز وهو اقتضاء أحد النقدين من الآخر، فيكون صرفا بعين في الذمة في قول أكثر أهل العلم، فقد روى أبو داود، والأثرم في سننهما عن ابن عمر رضي الله عنهما،، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطى هذه من هذه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة رضي الله عنها، فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ((:لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء ")) .(5/1194)
قال أحمد: إنما يقضيه إياها بالسعر، لم يختلفوا أنه يقضيه إياها بالسعر إلا أصحاب الرأي: أنه يقضيه مكانها ذهبا على التراضي، قال: لأنه بيع في الحال، فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس، كما لو كان العوض عرضا، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن بكر بن عبد الله المزني ومسروقا العجلي سألاه عن كرى – أي أجير – لهما له عليهما دراهم، وليس معهما إلا دنانير؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: أعطوه بسعر السوق) (1) .
ووجه اتصال هذا بموضوع تغير العملة هو: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يأخذ بدل الدنانير دراهم أو بدل الدراهم دنانير، وقد يكون حالا أو مؤجلا، وفي الأجل قد يتغير سعر الصرف أي قيمة ما دفع أولا يوم البيع عن يوم الأداء، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بسعر يوم الأداء وبشرط التقابض في المجلس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وبينكما شيء)) أي غير مقبوض والواو للحال. قال الخطابي: "واشترط أن لا يتفرقا وبينهما شيء، لأن اقتضاء الدراهم عن الدنانير صرف، وعقد الصرف لا يصح إلا بالتقابض" (2) .
ولا يخفي أن نسبة التغير بين الدراهم والدنانير يومها كان طفيفا لا يصل حد الغبن لتعاملهم بالذهب والفضة عينا، وقيمتهما تكاد تكون ثابتة على مر العصور التي كان الذهب والفضة فيها عملة الناس المتداولة.
__________
(1) عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلامة محمد شمس الحق آبادي مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية: 9/203، والمغني: 4/38، وكشاف القناع: 3/266، الطبعة الثانية، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة 1388هـ – 1969 م
(2) معالم السنن، للخطابي: 5 / 6(5/1195)
وأما في العهود اللاحقة لعهد النبوة، فقد تكرر السؤال عنها خصوصا في عهود الأئمة الأربعة، والمدارس الفقهية في الحجاز والعراق ومصر والشام، مما يدل على ظهور هذه المسألة بين الفينة والأخرى، ويظهر أن هذه المسألة قد ازداد وقوعها عندما شاع استخدام الفلوس والتعامل بالدراهم والدنانير المغشوشة. وفي كل هذه العهود لا تكاد هذه المسألة تعدو كونها مسألة واقعات فردية، وبتغير في السعر طفيف إلا أن الفترات التي شكلت فيها هذه المسألة قضية أو مشكلة ظاهرة في المجتمع الإسلامي فهي في فترات متأخرة، وفي ذات الوقت في ظروف اضطراب سياسي كالحروب المسببة لإشكالات اقتصادية حادة قد تتفاوت فيها الأسعار وقد تقل القوة الشرائية وقد تضعف لارتباط الأسعار بالعرض والطلب. ولعل أول تغير للعملة كان سنة أربع وسبعين في عهد عبد الملك بن مروان حين أمر بضرب النقود في العراق، وقد كانت الدنانير ترد رومية والدراهم كسروية، فغيرها إلى عملة إسلامية (1) .
__________
(1) فتوح البلدان للبلاذري: ص 452(5/1196)
وقد ظهرت مشكلة تغير العملة باعتبارها مشكلة اقتصادية عامة في فترات عديدة من التاريخ الإسلامية ففي القرن الخامس الهجري يذكر الإمام أحمد بن يحيى الونشريسي 914 هـ: أنه قد نزل ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال، فالتزم ابن عبد البر يوسف بن عبد الله القرطبي 368 (هـ –463 هـ) السكة الأخيرة. ثم قال: وأفتى أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (403 هـ – 474 هـ) أنه لا يلزم إلا السكة الجارية حين العقد (1) .
وقال الونشريسي أيضا: (سئل ابن الحاج (وهو محمد بن أحمد التجيبي 458 هـ – 529 هـ) عمن عليه دراهم، فقطعت السكة، فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا: أن ابن جابر (2) (وهو أبو العباس أحمد بن محمد بن جابر) فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري في الأحكام، ومحمد بن عتاب (وهو أبو عبد الله القرطبي) حي ومن معه من الفقهاء، فانقطعت سكة ابن جهور (محمد بن جهور 391هـ – 462 هـ) بدخول ابن عباد (محمد بن عباد بن محمد اللخمي 431هـ – 488هـ) سكة أخرى) (3) .
__________
(1) المعيار المعرب والجامع المغرب، للإمام أحمد بن يحيى الونشريسي: 6/164، طبع دار الغرب الإسلامي 1401هـ – 1981، بيروت؛ وحاشية محمد بن أحمد الرهوني على شرح عبد الباقي الزرقاني، لمتن خليل: 5 /119، الطبعة الأولى، المطبعة الأميرية بولاق 1306 هـ بمصر.
(2) وقد وقع في المعيار " أبا جابر " وهو خطأ لعله من الطابع
(3) وقد وقع في المعيار "أبا جابر " وهو خطأ لعله من الطابع: 6 / 163(5/1197)
وفي القرن السابع الهجري، قال الذهبي في تاريخه: في سنة اثنين وثلاثين وستمائة أمر الخليفة المستنصر بضرب الدراهم الفضة يتعامل بها بدلا عن قراضة الذهب فجلس الوزير أحضر الولاة والتجار والصيارفة، وفرشت الانطاع، وأفرغ عليها الدراهم، وقال الوزير: قد رسم مولانا أمير المؤمنين بمعاملتكم بهذه الدراهم عوضا عن قراضة الذهب، رفقا بكم وإنقاذا لكم من التعامل بالحرام من الصرف الربوية، فأعلنوا بالدعاء، ثم أديرت بالعراق، وسعرت كل عشرة بدينار، فقال الموفق أبو المعالي بن أبي الحديد الشاعر في ذلك:
لا عدمنا جميل رأيك فينا
أنت باعدتنا عن التطفيف
ورسمت اللجين حتى ألفناه
وما كان قبل بالمألوف
ليس للجمع كان منعك للصر
ف ولكن للعدل والتعريف
(1) .
ويبدو أنها كانت بلوى عامة في عهد الإمام ابن تيمية 661 هـ – 728 هـ، وهو عهد كثير القلاقل والاضطرابات، وإجابته وتفصيله في الموضوع يوحي بعموم القضية. كما سيتبينه بعض النصوص لاحقا.
__________
(1) الحاوي للفتاوى: 1/ 103(5/1198)
وفي القرن الثامن الهجري يقول ابن كثير في تاريخه: في سنة ست وخمسين وسبعمائة: رسم السلطان الملك الناصر حسن بضرب فلوس جدد على قدر الدينار ووزنه، وجعل كل أربعة وعرشين فلسا بدرهم، وكان قبل ذلك الفلوس العتق كل رطل ونصف بدرهم.
ويتحدث ابن حجر عن أحداث سنة ست وسبعين وسبعمائة عن الغلاء وتغير أسعار السلع وما تبع ذلك فيقول: لما وقع الفَنَاء في هذه السنة بلغ ثمن الفروج خمسة وأربعين والفرخة خمسين، والرمانة عشرة، والبطيخة سبعين، وينقل السيوطي عن ابن حجر أيضا: بأنه قد بيع الأردب من القمح بمائة وخمسة وعشرين درهما نقرة، وقيمتها إذ ذاك ست مثاقيل ذهب وربع، قال السيوطي: وهذا على أن كل عشرين درهما مثقال، وقال ابن حجر أيضا: في هذه السنة، غلا البيض بدمشق، فبيعت الحبة الواحدة بثلث درهم من حساب ستين بدينار، وهذا أيضا على أن كل عشرين درهما مثقال. ثم ارتفع الفناء وتراجع السعر إلى أن بيع أردب القمح سعر سبعين، وفي آخر هذه السنة إلى عشرين (1) .
__________
(1) إنباء الغمر بأبناء العمر، لشيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني: 1/93، الطبعة الأولى، طبع مجلس دائرة المعارف العثمانية 1378 هـ – 1967 م الهند، والحاوي للفتاوى: 1 / 102(5/1199)
وفي القرن التاسع الهجري في عهد الإمام جلال الدين البلقيني (وهو ابن رسلان البلقيني 791هـ – 868 هـ) يقول السيوطي في رسالته التي خصصها لموضوع تغير العملة والتي سماها " قطع المجادلة عند تغيير المعاملة ": وتكلم في ذلك قاضي القضاة جلال الدين البلقيني: (نقلت من خط شيخنا قاضي القضاة شيخ الإسلام علم الدين البلقيني رحمه الله قال في فوائد الأخ شيخ الإسلام جلال الدين وتحريره ما قال: اتفق في سنة إحدى وعشرين وثمنمائة عزة الفلوس بمصر وعلى الناس ديون في مصر من الفلوس وكان سعر الفضة قبل عزة الفلوس كل درهم بثمانية دراهم من الفلوس ثم صار بتسعة، وكان الدينار الإفلوري بمائتين وستين درهما من الفلوس، والهرجة بمائتين وثمانين، والناصري بمائتين وعشرة وكان القنطار المصري ستمائة درهم فعزت الفلوس ونودي على الدرهم بسبعة دراهم، وعلى الدينار بناقص خمسين فوقع السؤال: عمن لم يجد فلوسا، وقد طلب منه صاحب دينه الفلوس فلم يجدها، فقال: أعطني عوضا عنها ذهبا أو فضة بسعر يوم المطالبة ما الذي يجب عليه؟) (1) .
__________
(1) الحاوي للفتاوى 1 / 95 و 96(5/1200)
وفي ظل الدولة العثمانية وخصوصا في أواخر عهدها تغيرت قيمة العملة أكثر من مرة، وقد كان النقد المتداول في جميع البلدان العربية في آسيا تقريبيا، يخضع قبل الحرب العالمية الأولى إلى الحكم العثماني، وبالتالي كان النقد المتداول فيها هو النقد العثماني بالدرجة الأولى. فكانت في أواخر القرن التاسع عشر الليرة العثمانية الذهبية وحدة البلاد النقدية، وذلك بعد أن خرجت الإمبراطورية العثمانية عام 1888م عن قاعدة المعدنين واتبعت قاعدة الذهب. وكانت النقود التركية الفضية والنحاسية تستخدم في المدفوعات الصغيرة، أما المدفوعات الكبيرة فكانت تتم بالليرات الذهبية العثمانية، والليرات الذهبية الإنكليزية والفرنسية أما في أطراف الإمبراطورية فكان التداول في أنواع أخرى من النقود.(5/1201)
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى أعلنت تركيا التداول الإجباري بالنقد الورقي الذي كان قد بدأ إصداره عام 1862م. ولم يلق النقد الورقي التركي في يوم من الأيام قبولا من الأهالي خصوصا في الأرياف والمناطق النائية، فبقى التعامل به محدودا جدا رغم أنه كان قابلا بادئ الأمر للتحويل إلى ذهب، وقد خفت ثقة الناس في النقد الورقي أكثر خلال الحرب، وذلك نظرا للسقوط المستمر الذي تعرضت له قيمته بسبب طبعه بكميات كبيرة لتمويل نفقات الحرب (1) . وقد اضطرت الدولة إزاء المشكلات الاقتصادية والسياسية لهذا التغيير، ويبدو أن اضطراب العملة كان متكررا في عهد الخلافة العثمانية منذ قرابة القرن العاشر الهجري، وهذا الاضطراب الاقتصادي في تغير العملة، أو نقص قيمتها أدى بلا شك إلى إشكالات في البيوع الآجلة خاصة والبياعات التي تمت قبل الأوامر السلطانية، وهذا الذي تشير إليه إفتاءات الفقهاء وخاصة الحنفية منها باعتباره مذهب دولة الخلافة، ولعل أول عمل يذكر في هذه الفترة رسالة الخطيب التمرتاشي، محمد بن عبد الله بن أحمد 939 هـ – 1004 هـ حيث ألف رسالة سماها " بذل المجهود في مسألة تغير النقود " (2) وقد اعتمد على هذه الرسالة من أتى بعد الإمام التمرتاشي، بل إن ابن عابدين بنى رسالته على رسالة التمرتاشي فلخصها وزاد عليها (3) .
__________
(1) النقد والائتمان في البلاد العربية، للدكتور عصام يوسف عاشور: ص 1و2، طبع نهضة مصر1962 م بمصر.
(2) خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، للعلامة محمد أمين المحبي: 4/18، طبع مكتبة خياط، بيروت؛ والأعلام، للزركلي: 7/117 وأشار إلى أن له رسالة في النقود وذكر عنوان الرسالة كاملا كما أثبته ابن عابدين في رسالته تنبيه الرقود: ص 75، وفي غيرها من كتبه.
(3) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، للعلامة محمد أمين، ابن عابدين: 1/280، نشر دار المعرفة بيروت.(5/1202)
وفي القرن الثالث عشر الهجري ألف الشيخ عبد القادر الحسيني رسالة بعنوان "رسالة في تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني" (1) في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، فعرض هذه القضية عرضا تفصيليا على المذهب الحنفي، بدا الحسيني رسالته بما يشير إلى المشكلة حيث قال: "وبعد فلما صدر الأمر السلطاني إلى مدينة دمشق الشام ومحروسة حلب بتراجع سعر أنواع النقود الرائجة من الفضة والذهب، وكثرت وقائع الناس في البيوع والمعاملات، واضطربت مسائلهم في سائر العقود والصناعات، واختلفت الفتوى لاختلاف هذه الوقائع …" (2) ، إلخ.
__________
(1) قام بدراسة وتحقيق هذه الرسالة القيمة الدكتور نزيه كمال حماد، ورجح أن هذه الرسالة سابقة لرسالة ابن عابدين " تنبيه الرقود على مسائل النقود " مستدلا على ذلك بأن الحسيني كتب رسالته في 1216 هـ ـ وابن عابدين كتب رسالته 1230 هـ، والحسيني متقدم في العمر والطبقة، راجع تحقيق رسالة الحسيني في "مجلة الاقتصاد الإسلامي"، العدد الثاني، المجلد الثاني، 99 مطبعة الملك عبد العزيز 1405 هـ – 1985 م.
(2) قام بدراسة وتحقيق هذه الرسالة القيمة الدكتور نزيه كمال حماد، ورجح أن هذه الرسالة سابقة لرسالة ابن عابدين " تنبيه الرقود على مسائل النقود " مستدلا على ذلك بأن الحسيني كتب رسالته في 1216 هـ ـ وابن عابدين كتب رسالته 1230 هـ، والحسيني متقدم في العمر والطبقة، راجع تحقيق رسالة الحسيني في "مجلة الاقتصاد الإسلامي"، العدد الثاني، المجلد الثاني، 99 مطبعة الملك عبد العزيز 1405 هـ – 1985 م. ص 111(5/1203)
وبعد قرابة أربعة عشر عاما في 1230هـ (1) ألف محمد أمين عابدين 1252 هـ رسالته " تنبيه الرقود على مسائل النقود " وقد ألف ابن عابدين هذه الرسالة على مذهب الحنفية السائد في الدولة العثمانية وقد لخص فيها رسالة التمرتاشي – كما سبق التنويه – ويبدو أنه لم يطلع على رسالة الحسيني، وعن نقل له رأي الحسيني ولم يرتضه، قال في تنبيه الرقود في معرض كلامه في رخص الفلوس: "وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطي بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلا، ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري" (2) .
ولعله يريد من ذلك قول الحسيني في رسالته في ذات الموضوع فالظاهر من النقول – نصا ودلالة – أنه يفتي بدفع النقود على السعر الرائج بعد الأمر، بحساب القرش بأربعين مصرية (3) .
__________
(1) وفاقا لما رجحه الدكتور نزيه كمال حماد كما سبقت الإشارة، المرجع السابق، ص 101
(2) تنبيه الرقود: ص 64؛ وقد تعرض لهذه المسألة أيضا في حاشيته رد المحتاج على الدر المختار: 2/30 وما بعدها، و5/24، وما بعدها؛ وفي العقود الدارية: 1/280 وما بعدها
(3) رسالة الحسيني في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي: ص 118(5/1204)
وقد أشار ابن عابدين إلى خصوص المشكلة في عصره فقال: " وقد شاع في عرف أهل زماننا أنهم يتبايعون بالقروش، وهي عبارة عن قطع معلومة من الفضة، ومنها كبار كل واحد باثنين، ومنها أنصاف وأرباع، والقرش عبارة عن أربعين مصرية، ولكن الآن غلب تلك القطع وزادت قيمتها، فصار القرش الواحد بخمسين مصرية، والكير بمائة مصرية (1) كما أشار إلى ذلك في حاشيته حين قال: إذا رخص بعض أنواع العملة أو كلها واختلفت في الرخص كما وقع مرارا في زماننا". وقال: "اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص" (2) .
وأشار عبد الحميد الشرواني " كان حيا 1289 م سنة إتمام حاشيته" (3) في حاشيته على تحفة المحتاج بشرح المنهاج تعليقا على قول المصنف" ولو نقدا أبطله السلطان: قال: " فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زماننا في الديار المصرية من إقرار الفلوس الجدد ثم إبطالها وإخراج غيرها، وإن لم تكن نقدا" (4) .
__________
(1) تنبيه الرقود: ص 63؛ وحاشية ابن عابدين: 4/26
(2) حاشية ابن عابدين: 4 / 26، وتنبيه الرقود، ص 64
(3) بروكلمان: 1/681
(4) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج، للإمام أحمد بن حجر الهيتمي: 5 / 44(5/1205)
ولعل ما ذكرناه هاهنا هو من أهم واقعات تغير العملة أو تبلدها وهو يمنح القضية وضوحا، من حيث صورتها وحجمها، لم يكن مقارنتها بوقائع الأحوال في أيامنا المعاصرة، ومن حيث الجملة فإن المبدأ نفسه وصورة التغير ذاتها، فالتغير في العملة الرئيسية المتداولة أما بتبدل العملة أو بتغيير قيمتها بالنقص، وربما اختلف حجم التعامل ونسبة التغير فحسب بين ما كان وما عليه الحال اليوم، ونظرا لهذا التقارب في الوقائع فإن ما أفتى به فقهاؤنا السابقون سيكون له دور أصيل في تحديد طريق النظر في هذه القضية، وتوضيح مواضع الإشكالات فيها وبه يتيسر استنباط الحكم بعون الله وتوفيقه.(5/1206)
* **
المبحث الثاني
دور الدولة في استقرار العملة
مما لا شك فيه أن الإشراف التام على النقد من حيث نوعه وصفاته وإصداره وكمياته قضية هامة جدا، ولذلك فقد تكلم الفقهاء عن دور الدولة ومسئوليتها في هذا الجانب، وما ينبغي عليها أن تتخذه من إجراءات وأساليب، وفي خصوص ضرب العملة وغشها تكلم الفقهاء فيها سواء بالنسبة للأفراد أو الدولة ممثلة بالحاكم. أما بالنسبة للأفراد فإنهم قد يتدخلون فيما هو من اختصاص الحاكم، فيفتات عليه بضرب النقود، وقد كان هذا موجودا، وإن كان بشكل محدود وفي بعض فترات التاريخ الإسلامي، وهو يحمل شبهة التزوير والغش، وإن كان خالص الذهب، سواء كان في نفس العملة أو عملة أخرى لها تداول في سوق الناس.
وقد بين فقهاؤنا الحكم في مثل هذا بالنسبة للأفراد بأسلوب وقائي وعلاجي.
فقال: يكره لغير الإمام ضرب الدراهم الدنانير، وإن كانت خالصة، لأنه من شأن الإمام، ولأنه لا يؤمن فيه الغش والإفساد، ولأنه يخفي فيغتر به الناس.
وذكر الفقهاء الكراهة هنا محمول على عدم صدور قرار من الحاكم بالتزام العملة المضروبة من الدولة وحدها، ومن جانب آخر: لم تتوافر نية الغش والتزوير ممن يرب هذه العملة المساوية في قيمتها لعملة الدولة، فمن باب سد الذريعة قضوا بذلك، فإن صدر منع أو تحققت نية غش فيأخذ هذا الفعل حكم الفعل المحرم.(5/1207)
وكذلك تكلم الفقهاء في ضوابط ضرب النقود بالنسبة للحاكم فهو قائم على مصلحة المسلمين، فلا يكون سببا في فساد أحوالهم واضطرابها، وإن غش العملة أو تغييرها أو إنقاضها كل ذلك مما يحظر على الحاكم فعله إلا في أضيق نطاق بحيث لا يؤثر على أحوال المسلمين، فلا يحملهم التزامات أكبر مما عليهم، ولا يشغل ذممهم بما ليس من قصدهم أو بسبب منهم. وأن يكون القصد من ورائه دفع مفسدة أعظم.
ولهذا قال الإمام الشافعي: "يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة للحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من غشنا فليس منا)) (1) ولأن فيه إفسادا وإضرارا بذوي الحقوق، وغلاء الأسعار، وانقطاع الأجلاب، وغير ذلك من المفاسد." (2) .
وقال السيوطي: "من ملك دراهم مغشوشة كره له إمساكها بل يسبكها ويصفيها، قال القاضي أبو الطيب: إلا إذا كانت دراهم البلد مغشوشة فلا يكره إمساكها، قال في شرح المذهب: وقد نص الشافعي على كراهة إمساك المغشوشة، واتفق عليه الأصحاب لأنه يغر به ورثته إذا مات، وغيرهم في الحياة، كذا علله " (3) .
وقال أيضا: "يكره للإمام إبطال المعاملة الجارية بين الناس لما أخرجه أبو داود عن ابن مسعود " قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجارية بينهم إلا من بأس)) . (4) .
وقال الأصحاب: " يكره لغير الإمام ضرب الدراهم والدنانير وإن كانت خالصة، لأنه من شأن الإمام، ولأنه لا يؤمن فيه الغش والإفساد " (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة،
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، حديث رقم 164، وأبو داود في عون المعبود، كتاب البيوع، باب 50؛ والترمذي، كتاب البيوع، باب 72؛ وأحمد في مسند: 2/50 و242 و417 و3/416 و4/45، المجموع: 6/10، 11 والحاوي للفتاوى: 1/100، 101
(3) الحاوي للفتاوى: 1/99، والمجموع: 6/11
(4) الحاوي للفتاوى: 1 /100، 101
(5) المجموع 6 / 11(5/1208)
وجاء في كشاف القناع في ضرب النقد المغشوش. نقل صالح عن الإمام في دراهم يقال لها: المسبية عامتها نحاس إلا شيئا فيها فضة فقال: إذا كان شيئا اصطلحوا عليه كالفلوس واصطلحوا عليها فأرجو أن لا يكون فيها بأس، لا تغرير فيه، ولا يمنع منه لأنه مستفيض في سائر الأعصار، جارٍ بينهم من غير نكير، لكن يكره ضرب النقد المغشوش، لأنه قد يتعامل به من لا يعرفه، فإن اجتمعت عنده دراهم زيوف أي نحاس فإنه يسكبها ولا يبيعها ولا يخرجها في معاملة ولا صدقة، فإن قابضها ربما خلطها بدراهم جيدة وأخرجها على من لا يعرف حالها، فيكون ذلك تغريرا للمسلمين وإدخالا للغرر عليهم، قال أحمد: إني أخاف أن يغر به مسلما. وقال: ما ينبغي أن يغر بها المسلمين. ولا أقول: إنه حرام. قال في الشرح: فقد صرح بأنه إنما كرهه لما فيه من التغرير بالمسلمين وكان عبد الله "ابن مسعود "رضي الله عنه يكسر الزيوف وهو على بيت المال (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، ينبغي للسلطان أن يضرب لها فلوسا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم، ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلا، بأن يشتري نحاسا فيضربه فيتجر فيه، ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم، ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه، للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصانع من بيت المال فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطل، فإنه إذا حرم المعاملة بها صارت عرضا، وضرب لهم فلوسا أخرى أفسد ما عندهم من الأموال ينقص أسعارها، فيظلمهم فيها، ظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها.
__________
(1) كشاف القناع: 3 / 271، 272(5/1209)
ثم بنى ابن تيمية المسألة على نهي النبي صلى الله عليه وسلم وسدا لذريعة الظلم والإفساد.
فقال: وأيضا فإذا اختلفت مقادير الفلوس: صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارا فيصرفونها، وينقلونها إلى بلد آخر، ويخرجون صغارها فتفسد أموال الناس، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس)) . فإذا كانت مستوية المقدار بسعر النحاس، ولم يشتر ولي الأمر النحاس والفلوس الكاسدة ليضربها فلوسا ويتجر بذلك: حصل بها المقصود من الثمنيه (1) .
وقد قرر جمهور الفقهاء العقوبة التعزيزية لمن يغير سكة المسلمين بأن يضرب على غير سكتهم، فيفتات على الحاكم بفعله، أو بغش العملة، ومن خالف في ذلك من الفقهاء نظر إلى عدم تحقق الضرر على المسلمين، فإن تحقق ضرر فلا خلاف من وجوب العقوبة، قال البلاذري: "حدثني الوليد بن صالح عن الواقدي عن ابن أبي الزناد عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز أتى برجل يضرب على غير سكة السلطان فعاقبه وسجنه".
وقال: "حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب أن عبد الملك بن مروان أخذ رجلا يضرب على غير سكة المسلمين، فأراد قطع يده ثم ترك ذلك وعاقبه. قال المطلب: فرأيت من بالمدينة من شيوخنا حسنوا ذلك من فعله وحمدوه، قال الواقدي: وأصحابنا يرون فيمن نقش على خاتم الخلافة المبالغة في الأدب والشهرة وأن لا يروا عليه قطعا، وذلك رأي أبي حنيفة والثوري، وقال مالك وابن أبي ذئب، وأصحابهما: نكره قطع الدرهم إذا كانت على الوفاء، وننهى عنه لأنه من الفساد وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بقطعها إذا لم يضر ذلك بالإسلام وأهله".
وقال حدثني عمرو الناقد: قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي عون عن ابن سيرين: أن مروان بن الحكم أخذ رجلا يقطع الدراهم فقطع يده. فبلغ ذلك زيد بن ثابت، فقال لقد عاقبه، قال إسماعيل يعني دراهم فارس.
__________
(1) مجموع الفتاوى 29 / 469(5/1210)
قال محمد بن سعد، وقال الواقدي: عاقب أبان بن عثمان وهو على المدينة من يقطع الدراهم ضربه ثلاثين، وطاف به، وهذا عندنا فيمن قطعها ودس فيها المفرغة والزيوف.
وحدثني محمد عن الواقدي عن صالح بن جعفر عن ابن كعب في قوله تعالى: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} (1) . قال: قطع الدراهم.
وقال ابن جرير الطبري في قوله تعالى: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} من كسر الدراهم وقطعها وبخس الناس في الكيل والوزن. وأخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} . قال: نهاهم عن قطع هذه الدنانير والدراهم قالوا: إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء إن شئنا قطعناها وإن شئنا أحرقناها وإن شئنا طرحناها
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه قال: عذب قوم شعيب في قطعهم الدراهم وهو قوله تعالى {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}
وأخرج ابن جرير أيضا وابن المنذر وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم رضي الله عنه {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} قال: قرض الدراهم وهو من الفساد في الأرض.
وأخرجه عبد الرزاق وابن سعد وابن المنذر وأبو الشيخ وعبد بن حُمَيْد عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: قطع الدراهم والدنانير والمثاقيل التي قد جازت بين الناس وعرفوها من الفساد في الأرض.
وأخرجه أبو الشيخ عن ربيعة بن أبي هلال أن ابن أبي الزبير عاقب في قرض الدراهم (2) .
وقال البلاذري: حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أنبأنا يحيى بن سعد، قال: ذكر لابن المسيب رجل يقطع الدراهم، فقال سعيد: هذا من الفساد في الأرض (3) .
__________
(1) سورة هود: الآية 87
(2) جامع البيان عن تأويل أي القرآن للإمام أبي جعفر الطبري: 12/101، الطبعة الثانية 1373 هـ – 1954 م، مطبعة مصط في البابي الحلبي بمصر، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: 3/346 نشر محمد أمين دمج – بيروت.
(3) فتوح البلدان: ص 455، ص 456(5/1211)
وقال صاحب المعيار: "ولا يغفل – أي الحاكم – النظر إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة ومخالطة بالنحاس، بأن يشد فيها ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظفر أناله من شدة العقوبة، وأمر أن يطاف به الأسواق لينكله ويشرد به من خلفه، لعلهم يتقون عظيم ما نزل من العقوبة ويحبسه بعد، على قدر ما يرى، ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق، حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويحرزوا نقودهم فإن هذا أفضل ما يحوط رعيته فيه، ويعمهم نفعه في دينهم ودنياهم ويترجي لهم الزلفى عند ربهم والقربة إليه إن شاء الله " (1) . وواضح من كلام الفقهاء: أن نظرهم في قضية تغير العملة أو غشها من حيث هو فعل يرتب عليه حكم شرعي، أن هذا الفعل يدخل في دائرة الحظر من حيث أصله، سواء بالنسبة للأفراد وهو حينئذ أشد حظرا، لأنه يدخل في دائرة الضرر العام، وقد يكون من الإفساد في الأرض فتلزم عقوبة المتسبب به سدا للذريعة.
وكذا إن كان تغيير العملة بالغش فيها من الدولة، فالأصل فيه الحظر، وخلافه استثناء فيتقيد بتحقيق مصلحة عامة، أو بقصد احتمال مفسدة أقل في سبيل دفع مفسدة أكبر، فلا تكفي حينئذ الحاجة المحتمل إهدارها، فإن كانت حاجة ملحة يترتب على تركها فوات مصالح عامة راجحة، جاز مع مراعاة ثابت الحقوق والالتزامات بالقدر الذي لا يحمل الناس فوق ما يطيقون، وإن رجح أو تيقن ضرر ومفسدة عامة في ترك التغيير، وجب حينئذ سدا للذريعة وحفظا للحقوق، وإن ترتب على ذلك تفويت بعض المصالح تبعا لقاعدة دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وأما في عصرنا الحديث فإن القواعد الفقهية التي ذكرناها والتي بنى عليها الفقهاء نظرهم في طبيعة موضوع تغيير العملة وآثارها بالغش أو غيره، تتحقق بذاتها وإنتاجها، وما ذكره الفقهاء من حكم وعقوبة يأتي هنا بتمامه، ويزاد على ذلك أنه ينبغي على الدولة أن تسترشد حين الإقدام على مثل هذا الفعل بما توصل إليه علم الاقتصاد الحديث من وسائل وتدابير وقائية للحيلولة دون احتياج الدولة إلى تغيير علمتها، والعمل على ثبات قيمة نقدها بالنسبة لغيرها من العملات الأخرى، وبالنسبة إلى أسعار السلع تجنبا للتضخم والكساد، كما يسع الدولة الأخذ بالأساليب الاقتصادية الحديثة في علاج هذه القضية إذا اضطرت إليها، وعلاج آثارها المبنية عليها. وكل ذلك مع مراعاة أصول وضوابط الاقتصاد الإسلامي في أبواب الفقه المختلفة وخاصة في أبواب البيع والصرف والربا.
__________
(1) المعيار: 6 / 407(5/1212)
المبحث الثالث
تغير قيمة العملة بالغش فيها
يعتبر غش النقد بمعنى خلطه بغيره نوع تغيير لقيمة العملة سواء أكان غشا للدنانير أم الدراهم، وقد يكون من فعل الأفراد أو الدولة وتختلف نسبة الغش فيه بالنسبة للذهب أو الفضة. ولقد كان ضرب النقد مع غشه من الأفراد، أو الدولة ثم التعامل به قضية واقعة ومُقَرَّة في فترات كثيرة من التاريخ كما يفهم مما سبق.
ويبدو أن غش الدراهم والدنانير، وغيرها كالفلوس، كان متقدما في العهد. فيروي البلاذري عن عمرو الناقد: قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا يونس بن عبيد عن الحسن، قال: كان الناس وهم أهل كفر قد عرفوا موضوع هذا الدرهم من الناس فجودوه وأخلصوه، فلما صار إليكم غششتموه وأفسدتموه، ولقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل فقيل: إذا لا بعير فأمسك (1) .
ولقد شاعت أنواع كثيرة من النقد المغشوش، وما تكاد ناحية أو بلدة إلا ويشيع فيها نوع منها، فكان منها ما يسمى بالمبهرجة وهي: ما كان مقدار الفضة منها أقل وغشها أكثر، ولذا كان بعض التجار يردها، وبعضهم وهو المتساهل يقبلها، ومنها ما يطلق عليه الفقهاء: زيوفا وهي: المغشوشة غشا يتجوز في قبوله التجار، وكان بيت المال يردها. ومنها ما يسمى: الستوقة وهي: المغشوشة غشا زائدا (2) ، ومنها العدالي منسوبة إلى العدل (3) والغطارفة منسوبة إلى غطريف بن عطاء الكندي (4) ، والدراهم البخارية وهي فلوس على صفة مخصوصة (5) ، والطبرية واليزيدية وهما مما غلب غشه (6) والمسببة وهي: دراهم يغلب فيها النحاس الفضة (7) . والهروي وهو ذهب مغشوش (8) وغيرها. وقد بنى الفقهاء أحكامهم في النقد المغشوش من حيث ضربه وتداوله على رواجه أو عدم رواجه، وعلى اعتبار الناس له واصطلاحهم عليه أو عدم اعتباره وعلى علم من يتعامل معه أو عدم علمه، وهذه كلها تأخذ عند إبداء الحكم صورة ضوابط للنقد المغشوش، وسينكشف رأي الفقهاء في النقد المغشوش عند معرفة أحكامهم الجزئية الفرعية في مسائله، وسنوضح أهم قضيتين تكلم الفقهاء في حكمهما وهما زكاة النقد المغشوش، والتعامل به في القرض والاستقراض وغيرهما.
__________
(1) فتوح البلدان: ص 456
(2) حاشية ابن عابدين: 3 / 132 و 133، وفتح القدير: 5 / 511 بتصرف
(3) تنبيه الرقود: ص 59
(4) شرح فتح القدير: 5/382
(5) حاشية ابن عابدين: 5/163
(6) حاشية ابن عابدين: 4/24
(7) كشاف القناع: 3/271
(8) المجموع 6/289(5/1213)
زكاة النقد المغشوش:
ذهب الشافعية والحنابلة: إلى أن الذهب والفضة إذا كانا مخلوطين بنحو نحاس أو رصاص أو نيكل، فلا زكاة فيهما حتى يبلغ ما فيها من الذهب والفضة والخالصين نصابا كاملا، سواء كان الذهب أو الفضة أكثر مما خلط به أو أقل.
وذهب الحنفية إلى أنه إذا سبك أحد النقدين بغيره، فما غلبت فضته أو ذهبه فكالخالص منهما، وكذا ما استوى فيه النقد وغيره احتياطا، ومراعاة لحال الفقراء، وإن سبك الذهب والفضة، فإن كان الذهب غالبا، فالكل في حكم الذهب الخالص، وكذا إذا استويا، لأنه أعز وأغلى قيمة، وإن كانت الفضة غالبة، وبلغت نصابا، ففيه زكاتها، وإن بلغ الذهب نصابا ففيه زكاته، وما غلب غشه ولم يكن ثمنا رائجا، تعتبر قيمته لا وزنه، فإن بلغت نصابا من أقل نقد، تفرض فيه الزكاة إن نوى فيه التجارة وإلا فلا.
وذهب المالكية: إلى وجوب الزكاة في المغشوش وناقص الوزن إن راج كل رواج الكامل في المعاملات، فإن لم ترج أصلا، أو راجت دون رواج الكاملة، حسب الخالص في المغشوش، فإن بلغ نصابا زكى، وإلا فلا، واعتبر كمال الناقص بزيادة ما يكمله، ونقل عن مالك أنه يغتفر نقص الحبة والحبتين، وعن أبي حنيفة أنه يغتفر ما دون النصف، ولا يخفي أن ما غلب غشه اعتبر من عروض التجارة فيحتاج إلى نية التجارة، وهذا ما لم يستخلص منه ما يبلغ نصابا من الفضة (1) .
__________
(1) راجع تفصيله في درر الحكام: 2/205، والزرقاني على خليل: 2/141 و5/862، والمغنى مع الشرح الكبير: 2/599، والمبدع شرح المقنع، لأبي إسحاق إبراهيم بن مفلح: 4/207، طبع المكتب الإسلامي بيروت، والمجموع: 6/9، والدين الخالص: 8 /141، والفقه على المذاهب الأربعة: 1/612(5/1214)
التعامل بالنقد المغشوش:
ذهب الفقهاء إلى جواز التعامل بالنقد المغشوش – في الجملة – على تفصيل وقيود. فذهب الحنفية: إلى جواز بيع الغالب الغش من الدراهم والدنانير، اعتبارا للغالب، فيصح بيع الغالب الغش بالخالص من الدراهم والدنانير إن كان الخالص أكثر من المغشوش، ويصح بيعه أيضا بجنسه متفاضلا بشرط التقابض في المجلس، وإن كان الخالص مثل غالب الغش أو أقل منه أو لا يدري فلا يصح البيع، وإذا راج غالب الغش لم يتعين بالتعيين وإن لم يرج يتعين به، وإن كان يقبله البعض دون البعض فهو كالزيوف لا يتعلق العقد بعينه بل بجنسه زيفا إن كان البائع يعلم حاله لتحقق الرضا منه، وبجنسه من الجياد وإن لم يعلم رضاه، واعتبر الحنفية المتساوي كغالب الخالص في المبايعة والاستقراض، وعليه فلا يجوز عندهم البيع بها ولا إقراضها إلا بالوزن فهي بمنزلة الدراهيم الرديئة، ولا ينقض العقد بهلاكها قبل التسليم ويعطيه مثلها، لأن الخالص موجود بها حقيقة ولم يصر مغلوبا، فيجب اعتبارها بالوزن شرعا إلا أن يشار إليها كما في الخالصة (1) .
وذهب المالكية إلى جواز بيع مغشوش كذهب وفضة بمغشوش مثله تساوي الغش أم لا مراطلة أو مبادلة أو غيرهما، ويجوز عندهم أيضا بيع المغشوش بالخالص على المذهب، والأظهر خلافه أي بيع المغشوش بالخالص، وأما بيعه بمثله فهذا لا خلاف في جوازه، والخلاف عندهم في المغشوش الذي لا يجري بين الناس كغيره، وإلا جاز قطعا، وشرط جواز بيع المغشوش، ولو بعرض أن يباع لمن يكسره أو لا يغش به، بل يتصرف به بوجه جائز كتحليله أو غيرهما، أما بيعه لمن لا يؤمن أن يغش به، مثله ابن رشد بالصيارفة، فيكره، وفسخ ممن يعلم أنه يغش به، فيجب رده على بائعه إلا أن يفوت بذهاب عينه أو بتعذر المشتري (2) .
__________
(1) درر الأحكام: 2 / 205
(2) حاشية الدسوقي والشرح الكبير: 3 / 43(5/1215)
وقال الشافعية: ينظر في المعاملة بالدراهم المغشوشة: فإن كان الغش فيها مستهلكا بحيث لو صفيت لم يكن له صورة، كالدراهم المطلية بزرنيخ ونحوه، صحت المعاملة عليها بالاتفاق؛ لأن وجود هذا الغش كالعدم، وإن لم يكن مستهلكا كالمغشوش بنحاس ورصاص ونحوها: فإن كانت الفضة فيها معلومة لا تختلف صحت المعاملة على عينها الحاضرة وفي الذمة أيضا، وهذا متفق عليه صرح به الماوردي وغيره من العراقيين، وإمام الحرمين وغيره من الخراسانيين، وإن كانت الفضة التي فيها مجهولة ففي صحة المعاملة بها معينة وفي الذمة أربعة أوجه: أصحها: الجواز فيها؛ لأن المقصود رواجها: ولا يضرب اختلاطها بالنحاس، كما يجوز بيع المعجونات بالاتفاق، وإن كانت أفرادها مجهولة المقدار، والثاني: لا يصح لأن المقصود الفضة، وهي مجهولة، كما نص الشافعي والأصحاب أنه لا يجوز بيع تراب المعدن؛ لأن مقصوده الفضة وهي مجهولة، وكما لا يجوز بيع اللبن المخلوط بالماء باتفاق الأصحاب والثالث: تصح المعاملة بأعيانها، ولا يصح التزامها في الذمة، كما لا يصح بيع الجواهر والحنطة المختلطة بالشعير معيبة ولا يصح السلم فيها ولا قرضها، والرابع: إن كان الغش فيها غالبا لم يجز وإلا فيجوز، والحكم في الدنانير المغشوشة كهو في الدراهم المغشوشة كما سبق ولا يجوز بيع بعضها ببعض ولا بالدنانير الخالصة، وكذا لا يجوز بيع دراهم مغشوشة بمغشوشة ولا بخالصة – وستأتي المسألة واضحة في باب الربا إن شاء الله تعالى – قال صاحب الحاوي: "ولو أتلف الدراهم المغشوشة إنسان لزمه قيمتها ذهبا؛ لأنه لا مثل لها، هذا كلامه، وهو تفريع على طريقته، وإلا فالأصح ثبوتها في الذمة وحينئذ تكون مضبوطة فيجب مثلها" (1) .
__________
(1) المجموع 6/11 و12، ونهاية المحتاج 3/399، والحاوي للفتاوى: 1/99.(5/1216)
وجاء في المجموع أيضا عن الدراهم المغشوشة: أنها إن كان الغش معلوم القدر صحت المعاملة بها قطعا، فإن كان مجهولا فأربعة أوجه أصحها: تصح المعاملة بها معينة وفي الذمة. والثاني: لا تصح والثالث: تصح معينة ولا تثبت في الذمة بالبيع، ولا بغيره والرابع: إن كان الغش غالبا لم تصح، وإلا فتصح وذكر هناك توجيه الأوجه وتفريعها وفوائدها، قال: أصحابنا: فإن قلنا بالصحيح وهو الصحة مطلقا: انصرف إليها العقد عند الإطلاق، ولو باع بمغشوش ثم بان أن فضته ضئيلة جدا، فله الرد على المذهب وبه قطع الجمهور، حكى الصيمري عن شيخه أبي العباس البصري: أنه كان يقول: فيه وجهان: أحدهما، هذا، والثاني: لا خيار: لأن غشها معلوم في الأصل، وحكى هذا الوجه أيضا صاحب البيان والرافعي وغيرهما (1) .
وذهب الحنابلة: إلى "جواز المعاملة بنقد مغشوش من جنسه أي لم يعرف الغش، لعدم الغرر، وكذا يجوز المعاملة بنقد مغشوش بغير جنسه" (2) .
" وقال أحمد فيمن اقترض من رجل دراهم، وابتاع منه شيئا، فخرجت زيوفا: البيع جائز، ولا يرجع عليه بشيء" (3) .
وقال ابن تيمية: بيع النقرة المغشوشة جائز على الصحيح، كبيع الشاة اللبون باللبون، إذا تماثلا في الصفة، أو النحاس وأما بيع النقرة بالسوداء، إذا لم يقصد به فضة بفضة متفاضلا، فإن النحاس الذي في السوداء مقصود، وهي قرينة بين النقرة والفلوس، فهذه تخرج على النزاع المشهور في مسألة " مد عجوة " إذ قد باع فضة ونحاسا بفضلة ونحاس مقصودين، والأشبه الجواز في ذلك، وفي سائر هذا الباب، إذا لم يشتمل على الربا المحرم (4) .
__________
(1) المجموع: 9/ 262
(2) كشاف القناع: 3 /271
(3) المغنى: 4 / 243
(4) الفتاوى: 29 / 466(5/1217)
المبحث الرابع
تغير قيمة النقد من الدراهم والدنانير والمذاهب فيه
تمهيد:
يمتاز النقد من الذهب والفضة عن الأوراق النقدية بالاستقرار النسبي لقيمته منذ القدم؛ ولذلك لأن قيمتها راجعة إلى ذات معدنهما النفيس، وقد مضى الناس منذ القدم باعتبارهما أداة التبادل والتعامل، وسببا مقبولا لشغل الذمم وترتب الحقوق والالتزامات.
وكان الذهب ولا يزال يحتمل مكان الصدارة في الاستقرار والمحافظة عل سعره وقوته الشرائية بالنسبة للعملات الأخرى، وما قد يطرأ عليه من تغير فهو تغير محتمل يسير حتى في أشد ظروف الكساد، وتأتي الفضة في الدرجة الثانية في استقرار قيمتها النسبية، لكنها تتفاوت كثيرا بالنسبة إلى قيمة الذهب، فكان الدينار في صدر الإسلام يعادل صرفه عشرة دراهم، ولكن هذه النسبة كانت تتغير كثيرا بين فترة وأخرى، أما الأوراق المالية الاعتبارية الاصطلاحية المعروفة اليوم فإنها عرضة للتغير المستمر، كما هو الحال منذ أمد إقرار الدول التعامل بالأوراق النقدية.
وما مشكلة تغير العملة وما يترتب عليه من آثار إلا صورة واقعية لطبيعة هذه الأوراق القابلة للتغير وفقا لمتغيرات عديدة سياسية واقتصادية واجتماعية.
وقد تطرق الفقهاء لموضوع تغير العملة في عدة مواضع، وفي مسائل عملية هامة، مما يقع كثيرا في التعامل بين الناس سواء أكان نقدا، دراهم أو دنانير، خالصة أو مغشوشة، أم كان فلوسا.
وأهم مسائله التي تطرقوا إليها: في القرض، والسلم، وبيع ما في الذمة، والأجرة والصداق، وبدل الغصب، والمقبوض بالبيع الفاسد، وفي الإتلاف بلا غصب، وفي إعارة الدراهم والدنانير للتزيين – على رأي من يجيزه – وما إلى ذلك.
وسنتناول فيما يلي مذاهب الفقهاء في تغير النقد إذا كان دراهم أو دنانير.(5/1218)
مذاهب الفقهاء:
إذا ترتب على التعامل بالنقد الذهب والفضة دين سببه القرض أو البيع، ثم تغيرت قيمته وقت الأداء، لأي سبب كان، فهل يدفع ما اتفق عليه عددا، أو يدفع قيمته؟
اتفق الفقهاء: على أن الدين إن كان من الدراهم أو الدنانير، لا يلزم عند حلول أجل الدين غير ما اتفق عليه، فيؤدي بمثله قدرا وصفه سواء غلت قيمته أو رخصت، ويكاد يكون في حكم القاعدة عندهم "أن الديون تؤدي بأمثالها".
مذهب الحنفية:
قال ابن عابدين: "إذا كان عقد البيع أو القرض وقع على نوع معين منها كالريال الفرنجي مثلا، فلا شبهة في أن الواجب دفع مثل ما وقع عليه البيع أو القرض" (1) .
وقال أيضا: "إن الدراهم الخالصة أو المغلوبة الغش إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعا ولا يجب إلا رد المثل الذي وقع عليه العقد، وبين نوعه كالذهب الفلاني أو الريال الفلاني" (2) .
وقال ذات العبارة في تنبيه الرقود ثم زاد تعليلا قوله: لأنها أثمان عرفا وخلقة، والغش المغلوب كالعدم، ثم بين أن خلاف أبي يوسف ليس جاريا في الذهب والفضة فقال:
"ولا يجري في ذلك خلاف أبي يوسف. كما سيأتي بيانه – على أنه ذكر بعض الفضلاء أن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط، أما الدراهم التي غلب غشها فلا خلاف له فيها" (3) .
ونقل عن شيخه سعيد الحلبي بعد أن تكلم شيخه عن الثمن الذي غلب غشه قال: "وإذا علم الحكم في الثمن الذي غلب غشه إذا نقصت قيمته قبل القبض، كان الحكم معلوما بالأولى في الثمن الذي غلب جيده على غشه إذا نقضت قيمته، لا يتخير البائع بالإجماع، فلا يكون له سواه، وكذا لو غلت قيمته، لا يتخير المشتري بالإجماع، قال: وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة، كالشريفي والبنقدي والمحمدي والكلب والريال، فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع فإن ذلك الفهم خطأ صريح ناشئ عن عدم التفرقة بين الفلوس والنقود ".
ثم قال ابن عابدين: وهذا كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا، فإذا تبايعا بنوع منهما ثم غلا، أو رخص، بأن باع ثوبا بعشرين ريالا مثلا، أو استقرض ذلك يجب رده بعينه غلا أو رخص. وقال أيضا: تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن: دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي أو مائة ذهب عتيق (4) .
__________
(1) العقود الدرية: 1 /281
(2) العقود الدرية: 1 / 280
(3) تنبيه الوقود، ص 61 و 63
(4) تنبيه الرقود، ص 64(5/1219)
وذهب المالكية:
إلى أنه إن بطلت الدنانير أو الدراهم، فالمشهور قضاء المثل على من ترتب في ذمته، وكذا إذا تغيرت من باب أولى.
سئل الإمام مالك:
عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوب عليه من صرف عشرين بدينار، أو خمسة دراهم من صرف عشرة دراهم بدينار، فقال: أرى أن يعطيه نصف دينار ما بلغ كان أقل من ذلك أو أكثر إذا كانت تلك العشرة دراهم أو الخمسة المكتوبة عليه من بيع باعه إياه، فأما إن كانت من سلف أسلفه فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه.
فقيل له:
أرأيت إن باعه ثوبا بثلاثة دراهم: ولا يسمى له صرف كذا وكذا، والصرف يومئذ تسعة دراهم بدينار؟.
قال: إذا لم يقل من صرف كذا وكذا، أخد بالدراهم الكبار ثلاثة دراهم، وإن قال بثلاثة دراهم من صرف كذا وكذا بدينار فذلك جزء من الدينار، ارتفع الصرف أو انخفض.
قال محمد بن رشد: هذا كما ذكر، وهو مما لا اختلاف فيه أنه باع كذا وكذا درهما ولم يقل من صرف كذا، فله عدد الدراهم التي سمى، ارتفع الصرف أو اتضع، وإذا قال: بكذا وكذا درهما، وصرف كذا وكذا، فلا تكون له إلا الدراهم التي سمى (1) .
وعلق الرهوني على قول خليل: "وإن بطلت فلوس فالمثل" قال: ومثلها في ذلك النقد، وهذا هو مذهب المدونة وقد عول عليه غير واحد، ولم يحكوا فيه خلافا، بل صرح ابن رشد، بأنه المنصوص لأصحابنا وغيرهم من أهل العلم، وذكر جماعة الخلاف ورجحوا ما للمصنف (2) .
__________
(1) البيان والتحصيل: 6/ 487
(2) حاشية الرهوني: 5/118؛ وشرح الزرقاني بحاشية البناني: 5/60(5/1220)
وسئل ابن رشد عن الدنانير والدراهم إذا قطعت السكة فيها وأبدلت بسكة غيرها ما الواجب في الديون والمعاملات والمتقدمة وأشباه ذلك؟ قال:
المنصوص لأصحابنا وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله: أنه لا يجب عليه إلا ما وقعت به المعاملة.
فقال له السائل: فإن بعض الفقهاء يقول: إنه لا يجب عليه إلا السكة المتأخرة، لأن السلطان قد قطع تلك السكة وأبطلها فصارت كلا شيء، فقال وفقه الله: لا يلتفت إلى هذا القول. فليس بقول لأحد من أهل العلم.
وقد استدل ابن رشد لقوله: بأنه مقتضى الكتاب والسنة فالقول بخلافه مناقضة لهما في النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، فاعتبر غير المثل من أكل أموال الناس بالباطل سواء بالزيادة أو النقص ولو لم يكن للعاقدين دخل في ذلك؛ لأنه من فعل السلطان.
ثم ساق مفارقات في هذه القضية لو قيل بخلاف ما ذكر فقال:
ويلزم هذا القائل أن يقول إن بيع عرض بعرض أنه لا يجوز لمتبايعيه أن يتفاسخا العقد فيه بعد ثوبته، وأن يقول: إن من كانت عليه فلوس فقطعها السلطان وأجرى الذهب والفضة فقط أن عليه أحد النوعين وتبطل عنه الفلوس.
وأن يقول: إن السلطان إذا أبدل المكاييل بأصغر أو أكبر، أو الموازين بأنقص أو أوفى، وقد وقعت المعاملة بينهما بالمكيال الأول، أو بالميزان الأول، إنه ليس للمبتاع إلا بالكيل الأخير وإن كان أصغر، وإن على البائع الدفع بالثاني أيضا وإن كان أكبر. وهذا مما لا خفاء في بطلانه وبالله التوفيق (1) .
وقد نص غير واحد من علماء المالكية على أن هذا هو المشهور.
وقد يقال لمفارقات ابن رشد، إنها ليست في محل النزاع إذ هو في الأثمان وما هنا ليس كذلك. وسيأتي الكلام على مقابل المشهور في كساد الفلوس.
__________
(1) فتاوى ابن رشد، لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد، تحقيق د. المختار التليلي: ص 540 و541، الطبعة الأولى 1407 هـ – 1987م، دار المغرب بيروت؛ وحاشية الرهوني: 5 / 118، و119(5/1221)
وذهب الشافعية:
إلى وجوب رد المثل في القرض وفي إبطال العملة ليس له غير ما تم العقد به، نقص أو زاد أو عز، فإن فقد وليس له مثل فقيمته.
قال الشيرازي: ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل؛ لأن مقتضى القرض رد المثلي، وقال فيما لا مثل له: وجهان:
أحدهما: يجب عليه القيمة: لأن ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات.
والثاني: يجب عليه مثله في الخلقة والصورة، لحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقضي البكر بالبكر (1) .
وقال الرملي: ولو باع بنقد دراهم أو دنانير وعين شيئا اتبع وإن عز، فإن كان معدوما أصلا ولو مؤجلا أو معدوما في البلد حالًّا أو مؤجلا إلى أجل لا يمكن فيه نقله إلى البلد بشرطه لم يصح، أو إلى أجل يمكن فيه النقل عادة صح، ومنه ما فقد بمحل العقد. وإن كان ينقل إليه لكن لغير البيع فلا، وإن أطلق وفي البلد: أي بلد البيع، البيع سواء أكان كل منهما من أهلها ويعلم نقدها أو لا على مقتضى إطلاقهم نقد غالب من ذلك وغير غالب تعين الغالب.
وإن كان مغشوشا أو ناقص الوزن، إذ الظاهر إرادتهما له فإن تفاوتت قيمة أنواعه ورواجها وجب التعيين، وذكره النقد جرى على الغالب أو المراد به مطلق العوض، لأنه لو غلب بمحل البيع عرض كفلوس وحنطة تعين، ولو مع جهل وزنه وعلم من ذلك أن الفلوس لا تدخل في النقد إلا مجازا.
وإن أوهمت عبارة الشارح كابن المقري أنها منه، ويدفع الإيهام أن يجعل قوله: أو فلوس عطفا على نقد.
قال الأذرعي: ومحل الحمل على الفلوس إذا سماه، أما إذا سمى الدراهم فلا وإن راجت؛ لأن الإطلاق ينصرف من غير تعيين، ويسلم المشتري ما شاء منها (2) .
__________
(1) المجموع 13 / 174
(2) نهاية المحتاج: 3/397(5/1222)
وقال الرملي أيضا: "ولو قلت أو عز وجودها في أيدي الناس فإنه لا يجب غيرها، ثم بين العلة بأنها: إمكان تحصيلها مع العزة، بخلاف ما إذا انقطعت أو انعدمت أو فقدت (1) .
وقال السيوطي: إن القرض الصحيح يرد فيه المثل مطلقا فإذا اقترض منه رطل فلوس فالواجب رد رطل من ذلك الجنس زادت قيمته أم نقصت، أما في صورة الزيادة فلأن القرض كالسلم.
وأما في صورة النقص، فقد قال في الروضة من زوائده: ولو أقرضه نقدا فأبطل السلطان المعاملة به فليس له إلا النقد الذي أقرضه، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، فإذا كان مع إبطاله فمع نقص قيمته من باب الأولى، ومن صورة الزيادة أن تكون المعاملة بالوزن، ثم ينادي عليها بالعدد ويكون العدد أقل وزنا، أما لو تراضيا على زيادة أو نقص فلا إشكال (2) .
وفي إبطال النقد قال النووي: "ولون أقرضه نقدا فأبطل السلطان المعاملة به فليس له إلا النقد الذي أقرضه" (3) .
وقال الرملي: "لو أبطل السلطان ما باع به أو أقرضه لم يكن له غيره بحال: نقص سعره أم زاد أم عز وجوده، فإن فُقِد وله مثل وجب: وإلا فقيمته" (4) .
وإذا تقررت القيمة عند الشافعية فوقتها يوم المطالبة (5) .
__________
(1) نهاية المحتاج: 3 / 399
(2) الحاوي للفتاوى: 1 / 97
(3) روضة الطالبين: 4 / 37
(4) نهاية المحتاج: 3/399
(5) نهاية المحتاج: 3/399(5/1223)
وذهب الحنابلة:
إلى وجوب رد المثل في القرض، والقيمة عند الإعواز.
جاء في المغنى: "إذا كان الدراهم يتعامل بها عددا، فاستقرض عددا رد عددا، وإن استقرض وزنا رد وزنا، وهذا قول الحسن وابن سيرين والأوزاعي ".
وقال في المغنى: "إن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص السعر أم غلا أو كان بحاله".
وقال أيضا: "يجب رد المثل في المكيل والموزون لا نعلم فيه خلافا" (1) .
وجاء في مجلة الأحكام الشرعية: "المكيلات والموزونات يجب رد مثلها، فإن أعوز لزم رد قيمته يوم الإعواز" (2) .
وإذا كان المقرض ببلد المطالبة تحرم المعاملة به في سيرة السلطان، فالواجب على أصلنا: القيمة، إلا فرق بين الكساد لاختلاف الزمان أو المكان، إذ الضابط أن الدين الذي في الذمة كان ثمنا فصار غير ثمن، ويجب على المقرض رد مثل في قرض مكيل وموزون يصح السلم فيه لا صناعة فيه مباحة، قال في المبدع: إجماعا، لأنه يضمن في الغصب والإتلاف بمثله، فكذا هنا، مع أن المثل أقرب شبها بالقرض من القيمة سواء زادت قيمته أي المثل عن وقت القرض أو نقصت قيمته عن ذلك، فإن أعوز المثل، قال في الحاشية: عوز الشيء عوزا من باب: عز، فلم يوجد، وأعوزني المطلوب – مثل أعجزني لفظا ومعنى – لزم المقترض قيمته أي المثل يوم إعوازه لأنها حينئذ ثبتت في الذمة ويجب على المقترض رد قيمة ما سوى ذلك أي المكيل والموزون، لأنه لا مثل له، فضمن قيمته كالغصب (3) .
__________
(1) المغنى مع الشرح الكبير: 4/405 ح والمغنى: 4/717 و718، وطبعة سجل العرب: 4/239
(2) مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، مادة 749، دراسة وتحقيق د. عبد الوهاب أبو سليمان ود. محمد إبراهيم أحمد علي مادة 749، الطبعة الأولى – مطبوعات تهامة 1401 هـ – 1981 م المملكة العربية السعودية
(3) كشاف القناع: 3 / 314(5/1224)
المبحث الخامس
تغير قيمة الفلوس
"ومثلها الدراهم والدنانير غالبة الغش في الجملة"
تمهيد:
لقد تعددت آراء الفقهاء واختلفت فيما بينهم، وفي المذاهب الواحد حول الوصف الشرعي لتغير الفلوس، ومرجع خلافهم إلى تحديد طبيعة الفلوس، هل هي أثمان أو عروض؟ وهل يدخلها الربا في الصرف والبيع والقرض وغيرها أم لا؟ على التفصيل الذي سبق بيانه – وتبعا لهذا الاختلاف اختلف حكم الفقهاء في صور وحالات تغير الفلوس.
ويمكن حصر حالات التغير في الآتي:
الحالة الأولى: الكساد.
الحالة الثانية: الانقطاع
الحالة الثالثة: الرخص والغلاء.
الحالة الأولى – الكساد ومذاهب الفقهاء فيه:
فسر ابن عابدين الكساد: بأن تترك المعاملة بالنقد في جميع البلاد (1) .
إلا أن الفقهاء لم يلتزموا لفظ الكساد للدلالة على هذا المعنى دائما، وقد يستخدمون لفظ إبطال الفلوس، أو قطع التعامل، أو ترك المعاملة.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 4/24.(5/1225)
* مذاهب الفقهاء:
المذهب الأول:
ذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كسدت الفلوس (1) بأن بطل تداولها في كل البلاد، وسقط التعامل بها، وكذا إذا انقطعت فالبيع فاسد؛ لأن الثمن بالاصطلاح، وكسادها أو انقطاعها يسقط ثمنيتها، فيجب حينئذ رد المبيع إن كان قائما، ومثله إن كان هالكا وكان مثليا وإلا فقيمته.
وذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن إلى عدم بطلان البيع لاحتمال أن يروج ثانية، وتجب القيمة عندهما، لكن وقتها عند أبي سوف يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد، وهو آخر ما تعامل الناس بها – كما ستأتي الإشارة لذلك -
فإن كان الثمن عن قرض أو مهر مؤجل فيجب عند أبي حنيفة رد مثله، ولو كان كاسدا.
جاء في البدائع: ولو اشترى بفلوس نافقة ثم كسدت قبل القبض، انفسخ عند أبي حنيفة رحمه الله، وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائما، وقيمته ومثله إن كان هالكا، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يبطل البيع والبائع بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ قيمة الفلوس.
وحجة أبي حنيفة: أن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمنا، لأن ثمنيتها ثبتت باصطلاح الناس، فإذا ترك الناس التعامل بها عددا فقد زال عنها صفة الثمنية، ولا بيع بلا ثمن فينفسخ ضرورة، ولو لم تكسد ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عددا، ولا يلتفت إلى القيمة ههنا، لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية، وذلك مثل الدراهم قد ترخص وقد تغلو وهي على حالها أثمان.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 4/24(5/1226)
وحجة أبي يوسف ومحمد: أولا: أن الفلوس في الذمة وما في الذمة لا يحتمل الهلاك، فلا يكون الكساد هلاكا بل يكون عيبا فيما يوجب الخيار، إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ قيمة الفلوس، كما إذا كان الثمن رطبا فانقطع قبل القبض.
وثانيا: أن الواجب يقبض القرض رد مثل المقبوض وبالكساد عجز عن رد المثل لخروجها عن رد الثمنية وصيرورتها سلعة، فيجب عليه قيمتها كما لو استقرض شيئا من ذوات الأمثال وقبضه ثم انقطع عن أيدي الناس.
ثم اختلف أبو يوسف ومحمد فيما بينهما في وقت اعتبار القيمة، فاعتبر أبو يوسف وقت العقد؛ لأنه وقت وجوب الثمن، واعتبر محمد وقت الكساد، وهو آخر يوم ترك الناس التعامل بها؛ لأنه وقت العجز عن التسليم، ولو استقرض فلوسا نافقة وقبضها فكسدت فعليه رد مثل ما قبض من الفلوس عددا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وفي قول محمد عليه قيمتها (1) .
وجاء في حاشية ابن عابدين والفتاوى الهندية: إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس ولم يسلمها للبائع ثم كسدت بطل البيع، والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد ويجب على المشتري رد المبيع لو قائما، ومثله أو قيمته لو هالكا، وإن لم يكن مقبوضا فلا حكم لهذا البيع أصلا، وهذا عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر التسليم بعد الكساد وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج، لكن عند أبي يوسف تجب قيمته يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد، وهو آخر ما تعامل الناس بها وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف وفي المحيط والتتمة والحقائق: ويقول محمد يفتي رفقا بالناس (2) .
أما في الاستقراض فمذهب أبي حنيفة أنه إذا استقرض فلوسا فكسدت برد مثلها عددا اتفقت الروايات عنه بذلك، وأما إذا استقرض دراهم غالبة الغش، فقال أبو يوسف: في قياس قول أبي حنيفة عليه مثلها، ولست أروي عنه ذلك، ولكن لروايته في الفلوس إذا أقرضها ثم كسدت، وقال أبو يوسف على قيمتها من الذهب يوم القرض في الفلوس والدراهم، وقال محمد: عليه قيمتها في آخر وقت نفاقها.
__________
(1) البدائع: 7 / 3245
(2) حاشية ابن عابدين: 4/24؛ والفتاوى الهندية: 3/225(5/1227)
ووجه قول أبي حنيفة هنا: أن استقراض المثلى إعارة كما أن إعارته قرض، ويجب في استقراض المثلى رد عينه معنى، والثمنية فضل فيه إذ القرض لا يختص به، وبالنظر إلى كونه عارية يجب رد عينه حقيقة، ولكمن لما كان قرضا، والانتفاع به إنما يكون بإتلاف عينه فإن رد عينه حقيقة، فيجب رد عينه معنى، وهو المثل، ويجعل بمعنى العين حقيقة؛ لأنه لو لم يجعل كذلك لزم مبادلة الشيء بجنسه نسيئة وهو لا يجوز.
وأما عند أبي يوسف ومحمد تجب القيمة.
ووجه قولهما: أنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبض، فيجب رد قيمتها كما إذا استقرض مثليا فانقطع. واختلفا في وقت القيمة – كالسابق – عند أبي يوسف يوم القبض وعند محمد يوم الكساد (1) .
وجاء في الدرر (2) : إذا استقرض أحد نقودا غالبة الثمن أو زيوفا عندما كانت واستهلكها ثم كسدت، ففي صورة تأديتها ثلاثة أقوال:
__________
(1) فتح القدير وشرحه: 5/385 و386؛ وتنبيه الرقود: ص57
(2) درر الحكام: 3/94(5/1228)
القول الأول: قول الإمام الأعظم وهو لزوم مثلها كاسدا، وعدم لزوم قيمتها، ولا يعتبر الغلاء والرخص إذا كان في بلد واحد.
القول الثاني: قول الإمام أبي يوسف وهو لزوم قيمتها يوم القبض، وهذا القول أقرب للصواب في زماننا، وقد أفتى بعض مشايخنا بقول أبي يوسف.
القول الثالث: قول محمد وهو لزوم قيمتها في آخر يوم من رواجها والفتوى عليه.
وهذا كله في الكساد إذا كان عاما في كل البلاد، أما إذا كان في بعض البلاد دون بعض، فالمنصوص عليه عند الحنفية أنه لا يبطل البيع ويخير البائع، خلافا لأبي حنيفة وأبي يوسف فإنه يبطل.
قال ابن عابدين: والكساد أن تترك المعاملة في جميع البلاد، فلو في بعضها لا يبطل، لكنه تتعيب إذا لم ترج في بلدهم، فيتخير البائع إن شاء أخذه، وإن شاء أخذ قيمته (1) .
وقال ابن عابدين أيضا: وفي عيون المسائل عدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان؛ لأنه حينئذ يصير هالكا ويبقى المبيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقط، فلا يفسد البيع؛ لأنه لا يهلك، ولكنه تعيب وكان للبائع الخيار إن شاء قال: اعطني مثل الذي وقع عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير (2) .
وقال البابرتي في العناية تعليقا على ما نقل في عيون المسائل: قالوا: وما ذكر في العيون يستقيم على قول محمد، وأما على قولهما – أبي حنيفة وأبي يوسف – فلا يستقيم – أي يبطل البيع – وينبغي أن يكتفى بالكساد في تلك البلدة بناء على اختلافهم في بيع الفلس بالفلسين (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 4/24
(2) تنبيه الرقود: ص 57
(3) شرح العناية على الهداية وفتح القدير: 5/383(5/1229)
المذهب الثاني:
ذهب المالكية في المشهور والشافعية والليث بن سعد (1) : إلى أنه إذا كسد النقد لم يكن على المدين غير السكة التي قبضها يوم العقد، وحكى عن الشافعي وجه أن البائع بتخير بين إجازة البيع بالنقد القديم أو فسخه.
جاء في شرح الزرقاني على خليل: وإن بطلت فلوس ترتبت لشخص على آخر أي قطع التعامل بها بالكلية، فالمثل على من ترتبت في ذمته قبل قطع التعامل بها (2) .
وفي حاشية الرهوني – كما سبقت الإشارة -: وإن بطلت فلوس فالمثل، هذا هو مذهب المدونة وعليه عول غير واحد، ولم يحكوا فيه خلافا، وصرح ابن رشد بأنه المنصوص – كما سبق – وذكر جماعة الخلاف، ورجحوا ما للمصنف (3) .
وجاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: إن بطلت فلوس أو دنانير أو دراهم ترتبت لشخص على غيره فقطع التعامل بها، ومن باب أولى إذا تغيرت بزيادة أو نقص، فيجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته قبل قطع التعامل بها أو تغيرها (4) .
ولم يذكر خليل ولا الدردير والدسوقي في هذا خلافا، ولعلهما وافقا المصنف في إهمال خلاف المشهور واعتباره منصوصا عليه.
وجاء في منح الجليل: ومن ابتاع بنقد أو اقترضه، ثم بطل التعامل به، لم يكن عليه غيره (5) .
وجاء في المعيار أن أبا الوليد الباجي كان يفتي أنه لا يلزمه إلا السكة الجارية حين العقد (6) .
__________
(1) أضاف ابن قدامة في المغنى الليث بن سعد: 4/365
(2) شرح الزرقاني على خليل وبهامشهما حاشية البناني: 5/60 والخرشي على خليل: 5/55؛ والمعيار؛ 6 / 461
(3) حاشية الرهوني: 5/118
(4) حاشية الدسوقي: /54 و56
(5) شرح منح الجليل على مختصر خليل، للشيخ محمد عليش: 2/534، وبهامشه حاشيته المسماة تسهيل منح الجليل، تصوير دار صادر، بيروت.
(6) المعيار: 6 / 163(5/1230)
وجاء عند الشافعية في المجموع: ولو باع بنقد معين أو مطلق، وحملناه على نقد البلد، فأبطل السكان المعاملة بذلك النقد لم يكن للبائع إلا ذلك النقد، هذا هو المذهب (1) .
وحكى البغدادي والرافعي وجها: أن البائع بخير: إن شاء أجاز البيع بذلك النقد وإن شاء فسخه (2) .
وفي تحفة المحتاج: ويرد وجوبا المثل في المثلي، ولو نقدا أبطله السكان، لأنه أقرب إلى حقه.
قال الشرواتي: فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زمننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد ثم إبطالها وإخراج غيرها وإن لم تكن نقدا (3) .
المذهب الثالث:
ذهب الحنابلة والمالكية في مقابل المشهور وأبو يوسف ومحمد بن الحسن إلى أن الفلوس إذا كسدت ترد القيمة.
واختلفوا في وقت تقدير القيمة، فذهب جمهور القائلين بهذا الرأي إلى أن الوقت يوم القبض، واشترط بعض المالكية أن يكون يوم القبض من النقد الرائج.
وقال محمد بن الحسن وبعض الحنابلة أنه وقت الكساد وترك المعاملة في آخر نَفاق الفلوس وفي قول عند الحنابلة وقت الخصومة.
__________
(1) المجموع: 9/364؛ وروضة الطالبين، للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي: 4/37، طبع المكتب الإسلامي، بيروت
(2) المجموع: 9/ 309
(3) تحفة المحتاج: 5 / 44(5/1231)
جاء في المغنى مع الشرح الكبير: إن كان القرض فلوسا أو مكسرة فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها، لأنه كالعيب فلا يلزمه قبولها، ويكون له قيمتها وقت القرض سواء كانت باقية أو استهلكها، نص عليها أحمد في الدراهم المكسرة. فقال: يقومها كم تساوي يوم أخذها، ثم يعطيه، وسواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا، وذكر أبو بكر في التنبيه أنه يكون له قيمتها وقت فسدت وتركت المعاملة بها؛ لأنه كان يلزمه رد مثلها ما دامت نافقة، فإذا فسدت انتقل إلى قيمتها حينئذ كما لو عدم المثل. قال القاضي: هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزمه أخذها (1) .
__________
(1) المغنى مع الشرح الكبير: 4/365؛ ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، للعلامة مصطفى السيوطي الرحيباني: 3/241, 242، منشورات المكتب الإسلامي، بيروت، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للعلامة علاء الدين على بن سليمان المرادي: 5/127، الطبعة الأولى، مطبعة السنة المحمدية 1376هـ – 1956 م بمصر(5/1232)
وفي كشاف القناع: إن كان القرض فلوسا أو دراهم مكسورة فيحرمها أي يمنع الناس من المعاملة بها السلطان، أو نائبه، سواء اتفق الناس على ترك المعاملة بها أو لا؛ لأنه كالعيب فلا يلزمه قبولها، فللمقترض القيمة عن الفلوس والمكسرة في هذه الحال وقت القرض سواء كانت باقية أو استهلكها، وسواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا، والمغشوشة إذا حرمها السلطان كذلك. وعلم منه: أن الفلوس إن لم يحرمها وجب رد مثلها، غلت أو رخصت، أو كسدت وتكون قيمة ذلك من غير جنسه إن جرى فيه ربا فضل، كما لو أقرضه دراهم مكسورة، فحرمها السلطان أعطى قيمتها ذهبا حذرا من ربا الفضل وعكسه بعكسه، فلو أقرضه دنانير مكسورة فحرمها السلطان أعطى قيمتها فضة (1) .
وجاء في الإنصاف: إن كان فلوسا أو مكسرة فيحرمها السلطان " الصحيح من المذهب أن له القيمة، سواء اتفق الناس على تركها أو لا، وعليه أكثر الأصحاب، وجزم به كثير منهم، وقدمه في المغنى والشرح وغيرهما، وقال القاضي: إن اتفق الناس على تركها فله القيمة، وإن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها، لزمه أحدها، وقيل: له القيمة وقت تحريمها، قاله أبو بكر في التنبيه، وقال في المستوعب: وهو الصحيح عندي، وقال في الفروع غيره: والخلاف فيما إذا كانت ثمنا، وقيل: له القيمة وقت الخصومة" (2) .
__________
(1) كشاف القناع: 3 / 314، والمغنى مع الشرح الكبير: 5 / 358
(2) الإنصاف: 5 / 127؛ ومطالب أولي النهى: 3 / 249(5/1233)
أما مقابل المشهور عند المالكية: فقد ذهب ابن عتاب وسعيد بن لب وعبد الحميد الصائغ، وعزى لأشهب، ونُقِل عن سحنون: بأن يرجع إلى القيمة، واختلفوا فقال ابن عتاب وسعيد بن لب وعبد الحميد الصائغ: يرجع إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب. وبه كان يفتي ابن دحون، وفسر ابن الصائغ القيمة بأنها يوم دفعها إليه بهذه السكة الموجودة.
وقال سحنون: يرجع إلى قيمة السلعة يوم دفعها بالسكة الجديدة، ونقل عنه أنه يقضي بقيمة الفلوس، وقال أبو يونس وأبو حفص قيمتها يوم الحكم، وبه قال سحنون في صورة قرض – مخصوصة – كما سيأتي – وذهب ابن عبد البر بأنه يأخذ السكة الأخيرة الجارية حين القضاء. فجاء في أقوالهم: سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة.
فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن ابن جابر فقيه إشبيليه قال: نزلت هذه المسائل بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام، ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء، فانقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد سكة أخرى، فأفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب.
قال: وأرسل إلى ابن عتاب فنهضت إليه فذكر المسألة، وقال لي: الصواب فيها فتواي فاحكم بها، ولا تخالفها، أو نحو هذا الكلام.(5/1234)
وسئل الأستاذ أبو سعيد بن لب عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول، فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف. وكان ذلك على جهة فبأيهما يقضي له؟ وعن رجل آخر باع بالدراهم المفلسة فتأخر الثمن إلى أن تبدل فبأيهما يقضي له؟
فأجاب: لا يجب للبائع قِبَلَ المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه في عقده، فإن وجد المشتري ذلك قضاه إياه، وإن لم يوجد رجع إلى القيمة ذهبا لتعذره.
ومن باع بالدراهم المفلسة الوزانة فليس له غيرها، إلا أن يتطوع المشتري، بدفع وازنة غير مفلسة بعد المفلسة فضلا منه.
وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض ويقول: إنما أعطاها على العوض، فله العوض، أخبرني به الشيخ أبو عبد الله بن فرج عنه، وكان الفقيه أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى دارا أو حماما إما بدراهم موصوفة جارية بين الناس حين العقد، ثم غيرت دراهم تلك البلد إلى أفضل منها، أنه يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء، دون النقد الجاري حين العقد.
وقد نزل هنا ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير بمثقال، ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال، فالتزم ابن عبد البر السكة الأخيرة، وكانت حجته في ذلك، أن السلطان منع من إجرائها وحرم التعامل بها، وهو خطأ من الفتوى.
وأفتى أبو الوليد الباجي أنه لا يلزمه إلا السكة الجارية حين العقد (1) .
وجاء في حاشية الرهوني قوله: يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة أي على تقدير ثبوت التعامل بها، ووقع نحوه في كتاب ابن سحنون وحكاه المازري عن شيخه عبد الحميد، وعزى لأشهب؛ لأنه دفع شيئا منتفعا به فلا يظلم بإعطاء ما لا ينتفع به، وقيل يرجع في ذلك إلى قيمة السلعة يوم دفعها بالسكة الجديدة، وقد يظهر ببادئ الرأي أن الشاذ أولى لظهور وجهه المتقدم، وليس كذلك بل المشهور هو الذي يظهر وجهه؛ لأن ذلك مصيبة نزلت كما قاله أبو الحسن (2) .
__________
(1) المعيار: 6/163 و 462؛ وشرح الزرقاني بحاشية البناني: 5/60
(2) حاشية الرهوني والمدني: 5/118 و119 و120(5/1235)
وقد علق الونشريسي على فتوى ابن عتاب وعللها تعليلا جيدا، وبين أوجه ظواهر النقل فقال: ومن المعلوم أن ابن عتاب إنما التفت في فتياه إلى وصف التعامل على كيفيته في وقته؛ لأن قيمة الشيء بمنزلته، فقد جعل الخسارة في قطع التعامل لاصقة بجهة المطلوب، وذلك عين ما قصدت في النازلة المذكورة عند بقاء السكة نفسها ورجوعها إلى أصلها الذي لم يزل معتبرا فيها، ولما أهمل غيره ذلك الوصف مع أنه مدخول عليه في أصل العقد رأي أنه غير مصيب في فتياه، وهذا وجه ثان من ظواهر النقل، ثم قال: ومثل قول ابن عتاب وقع في كتاب ابن سحنون في الفلوس إذا قطعت، ونحوه حكى المزري عن شيخه عبد الحميد، وأنه عدل عن غيره إليه، وقد أضافه ابن محرز إلى أشهب في كتاب ابن المواز، وهذا وجه ثالث من ظواهر النقل (1) .
وذكر الونشريسي المسألة في موضوع آخر وعلق عليها، وذكر التفريع والتخريج فقال: عن حفص العطار: من لك عليه دراهم فقطعت ولم توجد قيمتها من الذهب بما تساوي يوم الحكم لو وجدت.
وحكى ابن يونس عن بعض القرويين: إذا أقرضه دراهم فلم يجدها في الموضع الذي هو به الآن أصلا، فعليه قيمتها بموضع إقراضه إذا أقرضه إياها يوم الحكم لا يوم كان دفعها إليه.
وفي كتاب ابن سحنون: إذا أسقطت يتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت؛ لأن الفلوس لا ثمن لها وفرع على هذا الأصل: من تسلف دراهم فلوسا أو نقرة بالبلاد المشرقية، ثم جاء مع المقرض إلى بلاد المغرب، فوقع الحكم بأنه يلزمه قيمتها في بلدها يوم الحكم كما قال ابن يونس وأبو حفص مع ظاهر المدونة في الرهون، وعلى القول الآخر الذي تلزمه قيمتها يوم فقدت وقطعت وتكون حينئذ قيمتها يوم خروجه من البلد الذي هي جارية فيه، إذ هو وقت فقدها وقطعها وعليه أيضا إذا حالت السكة أو الفلوس بعد الوصول في تلك البلاد والفتاوى فيها أيضا أنه يعطي قيمة الفلوس أو الدراهم المقطوعة في تلك البلاد يوم الحكم ذهبا (2) .
__________
(1) المعيار: 6/192 و193
(2) المعيار: 6/106(5/1236)
ويظهر مما سبق اضطراب النقل لمقابل المشهور، وقد جمع الرهوني أقوالهم وحصلها فقال: وحاصل ما ذكر: أنه يتعين أخذ السكة، إن كانت موجودة وهذا هو المشهور، والشاذ يقضي بقيمتها، قاله في كتاب ابن سحنون. ومثله لعبد الحميد الصائغ. قال ابن عبد السلام: لا أدري كيف يتصور القضاء بقيمتها مع وجودها إلا أن يريد بقيمتها يوم تعلقها في الذمة لا يوم حلول الأجل، وهو مع ذلك مشكل لأنه إلزام لمن هو في ذمته أكثر مما التزم، وأجاب الصائغ إذا فسدت السكة وباعه بثمن إلى أجل، وصارت غيرها، وصار الأمر إلى خلاف ما دخلا عليه، فعليه قيمتها يوم دفعها إليه بهذه السكة الموجودة الآن، وقد اضطرب فيها المتقدمون والمتأخرون والأولى ما ذكرت لك.
وفي كتاب ابن سحنون إذا سقطت يتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت؛ لأن الفلوس لا ثمن لها ووجه ما في المدونة أنها جائحة نزلت به، وجزم أبو الحسن في كتاب الصرف بأن الشاذ الإتب0اع بقيمة السلعة فقال ما نصه: وحكى عن ابن شاس أنه قال: إذا كانت الفلوس من بيع على المبتاع قيمة السلعة وهذا خلاف المشهور؛ لأن ذلك مصيبة نزلت به، والذي في الجواهر لابن شاس هو ما نصه: لو كان التعامل بالفلوس، ثم قطعت فهل يقضي فيه بالمثل، أو بالقيمة، المشهور المعروف من المذهب القضاء بالمثل، وإن فسدت إذا وجدت، وحكى بعض المتأخرين عن كتاب ابن سحنون القضاء بالقيمة، ورآه أبو إسحاق التونسي وغيره قياسا (1) .
ونقل النص على القيمة من قول أبي يوسف ومحمد: "إذا اشترى بالفلوس أو الزيوف سلعة ثم كسدت قال أبو حنيفة: يبطل العقد، وقال أبو يوسف ومحمد: لم يبطل وعليه قيمتها، لكن عند أبي يوسف قيمته يوم البيع، وعند محمد آخر ما تعامل الناس بها" (2) ، وقد سبق تفصيل هذا الرأي.
__________
(1) حاشية الرهوني والمدني: 5/118 و120
(2) شرح فتح القدير: 5/383 ح والبدائع: /3245؛ وحاشية ابن عابدين: 4/24(5/1237)
* * *
الحالة الثانية – الانقطاع ومذاهب الفقهاء فيه:
فسر ابن عابدين الانقطاع: بألا يوجد النقد في السوق، وإن وجد في يد الصيارفة والبيوت.
ثم نقل فقال " وقيل: إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع والأول أصح" (1) .
وقال الزرقاني والبناني في معرض بيان معنى الانقطاع: أنه الانعدام "جملة في بلد تعامل المتعاقدين وإنه وجدت – أي الفلوس – حين القبض في غيرها" (2) . والفقهاء لم يلتزموا لفظ الانقطاع فحسب، بل قد يستخدمون ألفاظا أخرى، كما سيتضح من النقول عنهم.
وقد اتفق جمهور الفقهاء: الحنفية في قول أبي يوسف ومحمد وهو المفتي به والمالكية والشافعية والحنابلة على وجوب القيمة عند الانقطاع لكنهم اختلفوا في وقت تقديرها: فعند المالكية في المعتمد وقت الحكم والقول الثاني أبعد الأجلين من الاستحقاق والانقطاع.
وعند الشافعية وقت المطالبة، سواء يوم انقطاع إن كان حالا، أو يوم حلول الأجل.
وعند الحنابلة ومحمد بن الحسن وبه يفتي عند الحنفية أن القيمة آخر يوم قبل الانقطاع وعند أبي يوسف يوم التعامل.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 4/24، وتنبيه الرقود: ص 58
(2) شرح الزرقاني على الخليل، بحاشية البناني: 5/60(5/1238)
مذهب الحنفية:
ذهب أبو حنيفة – كما سبق – إلى أن الانقطاع يوجب فساد البيع، وخالفه أبو يوسف ومحمد بن الحسن.
قال ابن عابدين: " إن انقطعت بأن لا توجد في السوق، ولو وجدت في يد الصيارفة، أو في البيوت، فقيل: يفسد البيع، وقيل: تجب في آخر يوم الانقطاع، وهو المختار " (1) .
ونقل ابن عابدين عن كتاب المضمرات قوله: " فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع وهو المختار" (2) .
وقال في تنبيه الرقود: "وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها، فعليه قيمتها في آخر يوم انقطع من الذهب والفضة هو المختار " (3) .
وقال أيضا: وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد وعليه الفتوى: (4) .
وقال أيضا: "وأما الكساد والانقطاع فالذي يظهر أن البيع لا يفسد إجماعا إذا سميا نوعا منه، وذلك لأنهم ذكروا في الدراهم التي غلب غشها ثلاثة أقوال: الأول: قول أبي حنيفة بالبطلان، والثاني: قول الصاحبين بعدمه، وهو قول الشافعي وأحمد لكن قال أبو يوسف: عليه قيمتها وقت البيع. وقال محمد: يوم الانقطاع. وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف. وفي التتمة، والمختار، والحقائق. بقول محمد يفتي رفقا بالناس" (5) .
وعلة قول أبي يوسف بوقت البيع؛ لأنه مضمون به، وعند محمد يوم الانقطاع؛ لأنه أوان الانتقال إلى القيمة (6) .
__________
(1) العقود الدرية: 1/280
(2) حاشية ابن عابدين: 4/24
(3) تنبيه الرقود: ص 58
(4) تنبيه الرقود: ص 57 و 60
(5) تنبيه الرقود: ص 62
(6) شرح فتح القدير: 5 / 383(5/1239)
وقال المالكية في المعتمد:
القيمة يوم الحكم. وقول: وقت اجتماع الاستحقاق أي الحلول ويوم العدم فالعبرة بالمتأخر منهما، وهذا هو المشتهر عندهم.
جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: إن عدمت الفلوس بالكلية في بلد المتعاقدين وإن وجدت في غيرها، فالقيمة واجبة على من ترتبت عليه ما تجدد أي يدفعها مما تجدد وظهر من المعاملة فيقال: ما قيمة العشرة دراهم التي عدمت بهذه الدراهم التي تجددت فيقال: ثمانية دراهم مثلا فيدفع المدين ثمانية من تلك الدراهم التي تجددت وإذا قيل: قيمتها اثنا عشر، دفع اثني عشر منها وهكذا.
وقال خليل: تعتبر القيمة وقت اجتماع الاستحقاق أي الحلول ويوم العدم، فالعبرة عنده بالمتأخر منهما، فإن كان العدم والاستحقاق حصلا في وقت واحد، فالأمر ظاهر. وإن تقدم أحدهما على الآخر فالعبرة بالمتأخر منهما، إذ لا يجتمعان إلا وقت المتأخر منهما، فإذا استحقت ثم عدمت اعتبرت القيمة يوم العدم، وإن عدمت ثم استحقت اعتبرت القيمة يوم الاستحقاق ولم يذكر خليل القول المعتمد.
وقال الدرديري: المعتمد أن القيمة تعتمد يوم الحكم، قال الدسوقي: أي اليوم الذي هو متأخر عن يوم العدم وعن يوم الاستحقاق. وانظر على هذا القول: إذا لم يقع تحاكم.
والظاهر أن طلبها بمنزلة التحاكم، وحينئذ تعتبر القيمة يوم طلبها ثم قال: إن قول المصنف: من أن القيمة تعتبر وقت اجتماع الاستحقاق والعدم. وكذا على المعتمد من أنها تعتبر يوم الحكم. ظاهره ولو حصلت مماطلة من المدين حتى عدمت تلك الفلوس. وبه قال بعضهم. وقال بعض: كل من القولين مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطلب، وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة، أو مما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة على القديمة. وهذا هو الأظهر، لظلم المدين بمطله فليس لربه إلا قيمته يوم امتناعه وتبين ظلمه (1) .
__________
(1) حاشية الدسوقي: 3/45 و 46، والخرشي على خليل: 5 / 55، وشرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني: 5/60، وقد خالف المالكية هنا في الحكم بين المماطل وبين الغاصب. فالغاصب يضمن المثل، ولو بغلاء مع أنه أشد ظلما من المماطل لتعديه، وإن لم يكن فمثله، وقد نبه على هذا الشيخ العدوي وأجاب: بأن الغاصب لما كان يغرم في الجملة خفف عنه، ولا كذلك المماطل. الخرشي. على خليل بحاشية العدوي: 5/55(5/1240)
وقول المالكية باعتبار يوم الحكم أولى عندي من غيره فهو أرفق بالناس وأحرى ألا يختلفوا بعده، وما كان قبل هذا اليوم فهو مظنة الخلاف.
وقال الخرشي: إن عدمت فالواجب على من ترتبت عليه قيمتها مما تجدد وظهر، وتعتبر قيمتها وقت أبعد الأجلين عند تخالف الوقتين من العدم والاستحقاق، فلو كان انقطاع التعامل بها أو تغيرها أول الشهر الفلاني. وإنما حل الأجل آخره. فالقيمة آخره. بالعكس بأن حل الأجل أوله وعدمت آخره فالقيمة يوم العدم ولو آخره أجلا ثانيا وقد عدمت عند الأجل الأول فالقيمة عند الأجل الأول؛ لأن التأخير الثاني إنما كان بالقيمة، وبعبارة ولو آخره بها بعد حلول أجلها، وقبل عدمها، ثم عدمت في أثناء أجل التأخير فإنه يلزمه قيمتها عند حلول أجل التأخير، كما يفيده كلام أبي الحسن الشاذلي، ويفهم منه أنه إذا تأخر عدمها عن الأجل الثاني أن قيمتها تعتبر يوم عدمها، ثم قال: وكلام المؤلف مقيد بما إذا لم يحصل من المدين مطل وإلا وجب عليه ما آل إليه، أي من المعاملة الجديدة لا القيمة لأنه ظالم (1) .
وهذا ترجيح من الخرشي للتقييد بالمطل – وقد خالف بذلك ظاهر كلام المصنف خليل والمدونة والوانوغي وكثيرا من المالكية.
وجاء في شرح الزرقاني عن انقطاع الفلوس: بأن القيمة واجبة على من ترتبت عليه مما تجدد وظهر، وتعتبر قيمتها وقت اجتماع الاستحقاق، أي الحلول والعدم معا، ولا يجتمعان إلا وقت المتأخر منهما، فأشبه وقت الإتلاف، فإذا استحقت ثم عدمت فالتقويم يوم العدم، وإن عدمت ثم استحقت فالقيمة يوم استحقت، كأقصى الأجلين في العدة.
ثم قال: وهذا كله على مختار المصنف خليل هنا تبعا لابن الحاجب تبعا للخمي وابن محرز، والذي اختاره ابن يونس وأبو حفص أن القيمة تعتبر يوم الحكم قال أبو الحسن الشاذلي وهو الصواب.
وقال البرزلي وهو ظاهر المدونة فكان على المصنف أن يذكر القولين، أو يقتصر عن الثاني ثم استشكل الزرقاني مسألة تقييد الموضوع بالمطل، وهو أمر مختلف فيه فقال فيه: وعليه فانظر إذا لم يقع تحاكم: هل يكون الحكم ما مشي عليه المصنف أو تعتبر قيمتها يوم حلولها إن كانت مؤجلة، ويوم طلبها إن كانت حالة، أو يقال: بمنزلة التحاكم، وظاهر كلام المصنف كالمدونة سواء مطله بها أم لا. وقيدها الوانوغري وأقره في التكميل بما إذا لم يكن من المدين مطل، وإلا وجب عليه لمطله ما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة على القديمة كما هو ظاهر (2) .
ونقل في فتح الجليل عن القرافي قوله: "ولو انقطع ذلك النقد حتى لا يوجد لكان له قيمته يوم انقطاعه إن كان حالا، وإلا فيوم يحل الأجل لعدم استحقاق المطالبة قبله" (3) .
__________
(1) الخرشي على خليل بحاشية العدوي: 5/55، وشرح الزرقاني: 5/60
(2) شرح الزرقاني على خليل وبهامش البناني: 5/60، وحاشية الرهوني: 5/121، وفيه مناقشة لقول الزرقاني "وعليه فانظر إذا لم يقع تحاكم …. إلخ"
(3) منح الجليل: 2/534(5/1241)
وعند الشافعية:
جاء في تحفة المحتاج، ويرد وجوبا المثل في المثلي حيث لا استبدال، ولو نقدا أبطله السلطان فشمل الفلوس الجديد. وعللوا ذلك بأنه أقرب إلى حقه (1) .
وقال الرملي: إن فقد وله مثل وجب، وإلا فقيمته وقت المطالبة (2) .
وفصل في المجموع بناء على حكم الاستبدال على الثمن وانقطاع المسلم فيه. فقال: لو باع بنقد قد انقطع من أيدي الناس فالعقد باطل؛ لعدم القدرة على التسليم، فإن كان لا يوجد في ذلك البلد، ويوجد في غيره، فإن كان الثمن حالا أو مؤجلا إلى أجل لا يمكن نقله فيه، فالعقد باطل أيضا، وإن كان مؤجلا إلى مدة يمكن نقله فيها صح البيع، ثم إن حل الأجل وقد أحضره فذاك، وإلا فينبني على أن الاستبدال على الثمن هل يجوز. إنا قلنا: لا، فهو كانقطاع المسلم فيه. وإن قلنا: نعم، استبدال ولا ينفسخ العقد على المذهب، وفيه وجه ضعيف: أنه ينفسخ. أما إذا كان يوجد في البلد ولكنه عزيز فإن جوزنا الاستبدال، صح العقد. فإن وجد فذاك وإلا فيستبدل، وإن لم نجوزه لم يصح. أما إذا كان النقد الذي جرى به التعامل موجودا ثم انقطع فإن جوزنا الاستبدال استبدل وإلا فهو كانقطاع المسلم فيه (3) .
__________
(1) تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني: 5 /44
(2) نهاية المحتاج: 3/399
(3) المجموع: 9 / 364(5/1242)
وقد حاول ابن البلقيني والسيوطي تخريج مسألة تغير قيمة الفلوس حال انعدامها أو عزتها على مسألة إبل الدية فقال:
وظهر لي في ذلك أن هذه المسألة قريبة الشبه من مسألة إبل الدية، والمنقول في إبل الدية: أنها إذا فقدت، فإنه يجب قيمتها بالغة ما بلغت على الجديد. قال الرافعي: فَتُقَوَّمُ الإبل بغالب نقد البلد، وتراعى صفتها في التغليظ، فإن غلب نقدان في البلد تخير الجاني. وتقوم الإبل التي لو كانت موجودة وجب تسليمها. فإن كانت له إبل معيبة، وجبت قيمة الصحاح من ذلك الصنف، وإن لم يكن هناك إبل فيقوم من صنف أقرب البلاد إليهم، وحكى صاحب التهذيب وجهين: في أنه هل تعتبر قيمة مواضع الوجود، أو قيمة بلد الإعواز لو كانت الإبل موجودة فيها؟ والأشبه الثاني. ووقع في لفظ الشافعي: في أنه يعتبر قيمة يوم الوجوب، والمراد على ما يفهمه كلام الأصحاب، يوم وجوب التسليم، ألا تراهم قالوا: إن الدية المؤجلة على العاقلة تُقَوَّم كل نجم منها عند محله، وقال الروياني: إن وجبت الدية والإبل مفقودة فتعتبر قيمتها يوم الوجوب أما إذا وجبت وهي موجودة فلم يتفق الأداء حتى أعوزت. تجب قيمة يوم الإعواز؛ لأن الحق حينئذ تحول إلى القيمة. ثم بين وجه الشبه بين المسألتين، وتخريج المسألة فقال: فهذه تناظر مسألتنا؛ لأنه وجب عليه متقوم معلوم الوزن، وهو قنطار من الفلوس مثلا فلم يجده، فإن جرينا على ظاهر النص الذي نقله الرافعي، فلا يلزمه الحاكم إلا بقيمة يوم الإقرار. فينظر في سعر الذهب والفضة يوم الإقرار، ويحكم عليه القاضي بذلك، وإن قلنا: بما قاله الروياني، فتجب قيمتها يوم الإعواز فإن الأقارير كانت قبل العزة- انتهي ما أجاب به ابن البلقيني.(5/1243)
ثم قال السيوطي عن ابن البلقيني: واعلم أنه نحا في جوابه إلى اعتبار قيمة الفلوس؛ وذلك لأنها عدمت فلم تحصل إلا بزيادة. والمثلى إذا عدم أو عزَّ فلم يحصل إلا بزيادة لم يجب تحصيله، كما صححه النووي في الغصب بل يرجع إلى قيمته، وإنما نبهت على هذا لئلا يظن أن الفلوس من المتقومات وإنما هي من المثليات في الأصح والذهب والفضة المضروبان مثليان بلا خلاف، إلا أن في المغشوش منهما وجها أنه متقوم (1) .
وقال السيوطي أيضا: إن عدمت الفلوس العتق فلم توجد أصلا، رُجِعَ إلى قدر قيمتها من الذهب والفضة، ويعتبر ذلك يوم المطالبة، فيأخذ الآن لو قدر انعدامها في كل عشرة أرطال دينارا.
ولو اقترض منها فلوسا عددا كستة وثلاثين، ثم أبطل السلطان المعاملة بها عددا، وجعلها وزنا كل رطل بستة وثلاثين، كما وقع في بعض السنين، فإن كان الذي قبضه معلوم القدر بالوزن رجع بقدره وزنا، ولا تعتبر زيادة قيمته ولا نقصها، وإن لم يكن وزنه معلوما، فهو قرض فاسد؛ لأن شرط القرض أن يكون المقرض معلوم القدر بالوزن، أو الكيل، وقرض المجهول فاسد، والعدد لا يعتبر به والمقبوض بالقرض الفاسد يضمن بالمثل، أو بالقيمة، وهنا قد تعذر الرجوع إلى المثل للجهل بقدره فيرجع إلى القيمة. وهل تعتبر قيمة ما أخذه يوم القبض أو يوم الصرف؟ الظاهر الأول فقد أخذ ما قيمته يوم قبضه ستة وثلاثون فيرد ما قيمته الآن كذلك. وهو رطل أو مثله من الفضة أو الذهب (2) .
أما الحنابلة فقد نصوا على حال الإعواز – كما سبق – جاء في كشاف القناع "وإذا كان المقرض ببلد المطالبة تحرم المعاملة به في سيرة السلطان، فالواجب على أصلنا القيمة، إذ لا فرق بين الكساد لاختلاف الزمان أو المكان، ثم قال: فإن أعوز المثل. قال في الحاشية: عوز الشيء عوزا من باب: عز فلم يوجد، وأعوزني المطلوب، مثل أعجزني لفظا ومعنى، لزم المقترض قيمته أي المثل يوم إعوازه؛ لأنها حينئذ ثبتت في الذمة، ويجب على المقترض رد قيمة ما سوى ذلك أي المكيل والموزون، لأنه لا مثل له، فضمن بقيمته كالغصب" (3) .
__________
(1) الحاوي للفتاوى: 1 / 98
(2) الحاوي للفتاوى: 1/97
(3) كشاف القناع: 3 / 314(5/1244)
الحالة الثالثة – الرخص والغلاء ومذاهب الفقهاء فيه:
ومعنى أن الرخص والغلاء: أن الفلوس أو الأوراق النقدية، قد تهبط قيمتها بضعف قوتها الشرائية فترخص وهذا هو الغالب، وقد ترتفع قيمتها فتقوى قوتها الشرائية فيقال، غلت، وقد يحدث ذلك بعد أن ثبت في ذمة المدين قيمة قرض أو ثمن بيع بالأجل أو غير ذلك. وحل الأجل. فهل يؤدي ما التزم به باعتبار الرخص والغلاء، أما لا اعتبار لهما؟ وفي جميع الأحوال قد يحدث الرخص والغلاء بفعل الدولة أو بسبب العرض والطلب أو بغير ذلك.
اختلف الفقهاء في ذلك على مذهبين ووجه:
المذهب الأول:
ذهب جمهور الفقهاء: المالكية والشافعية والحنابلة وهو قول أبي حنيفة إلى أن الواجب أداء ذات النقد الثابت في ذمة المدين ولا اعتبار للرخص أو الغلاء.
فنص المالكية – كما سبق – على وجوب المثل في إبطال الفلوس، واعتبروا تغيرها كذلك من باب أولى، فقال خليل وشارحه الزرقاني: "وإن بطلت فلوس ترتبت لشخص على آخر أي قطع التعامل بها بالكلية، وأولى تغيرها بزيادة، أو نقص، مع بقاء عينها، فالمثل على من ترتبت في ذمته قبل قطع التعامل بها، أو التغير. ولو كانت حين العقد مائة بدرهم، ثم صارت ألفا به، كما في المدونة أي أو عكسه لأنها من المثليات (1) .
وقال الدسوقي: إذا بطلت فلوس ترتبت لشخص على غيره بقرض، أو بيع أو نكاح، أو كانت عنده وديعة وتصرف فيها، وكذا لو دفعها لمن يعمل بها قراضا، فالواجب المثل على من ترتبت في ذمته، ولو كانت الفلوس حين العقد مائة بدرهم، ثم صارت ألفا به" (2) .
وقال في منح الجليل عن المدونة: "إن أقرضته دراهم فلوسا، وهو يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم صارت مائتي فلس بدرهم، فإنما يرد إليكم مثل ما أخذ لا غير ذلك " (3) .
__________
(1) شرح الزرقاني على خليل: 5/60، ومثله في منح الجليل: 2/534
(2) حاشية الدسوقي: 3/45، بتصرف يسير
(3) منح الجليل: 2/535(5/1245)
وفي المعيار: سئل سعيد بن لب عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف، وكان ذلك على جهة، فبأيهما يقضي له؟ وعن رجل آخر باع بالدراهم المفلسة فتأخر الثمن إلى أن تبدل فأيهما يقضي له؟.
فأجاب: لا يجب للبائع قبل المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه في عقده (1) .
وعند الشافعية يرد المثل أيضا. قال السيوطي في تعليقه على قول النووي في الروضة: " لو باع بنقد معين، أو مطلق، وحملناه على نقد البلد، فأبطل السلطان ذلك النقد …" قال السيوطي تفريعا على قول النووي: إن باع برطل فلوسا فهذا ليس له إلا رطل زاد سعره أم نقص، سواء كان عند البيع وزنا فجعل عددا أو عكسه، فإن باع بألف فلوسا، أو فضة، أو ذهبا، ثم يتغير السعر فظاهر عبارة الروضة المذكورة أن ليس له ما يسمى ألفا عند البيع، ولا عبرة بما طرأ، ويحتمل أن له ما يسمى ألفا عند المطالبة. وتكون عبارة الروضة محمولة على الجنس لا على القدر، وهذا الاحتمال وإن كان أوجه من حيث المعنى إلا أنه لا يتأتى في صورة الإبطال؛ إذ لا قيمة حينئذ إلا عند العقد لا عند المطالبة ويرده أيضا التشبيه بمسألة الحنطة إذا رخصت (2) .
وكذلك يرد المثل بناء على اعتبار الشافعية الفلوس من المثليات في الصحيح. فالقرض مثلا يرد بمثله مطلقا. سواء كان ذهبا أو فضة أو فلوسا، وسواء زادت قيمته أو نقصت قال ابن حجر: (ويرد وجوبا حيث لا استبدال المثل في المثلى، لأنه أقرب إلى حقه) (3) .
__________
(1) المعيار: 6/462
(2) الحاوي للفتاوى: 1 / 97
(3) تحفة المحتاج: 5/44، والحاوي للفتاوي: 1/98(5/1246)
وأما أقوال الحنابلة في رد المثل فجاء في المغني:
"وأما رخص السعر فلا يمنع سواء كان قليلا أو كثيرا؛ لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر. فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت، وكذلك يخرج في المغشوشة إذا حرمها السلطان".
وجاء فيه أيضا: "أن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا" (1) .
وفي مطالب أولي النهى: "ويجب على مقترض رد مثل فلوس اقتراضها، ولم تحرم المعاملة بها، ورد مثل دراهم مكسرة أو مغشوشة غلت، أو رخصت" (2) .
وفي مجلة الأحكام مادة 750: "وإذا كان القرض فلوسا أو دراهم مكسرة، أو أوراقا نقدية، فغلت أو رخصت أو كسدت، ولم تحرم المعاملة بها وجب رد مثلها " (3) .
المذهب الثاني:
مذهب الحنفية: وهو قول أبي يوسف وعليه العمل والفتوى وهو وجوب أداء القيمة في الرخص والغلاء، فإن كان ما في الذمة قرضا، فتجب القيمة يوم القبض، وإن كان بيعا فالقيمة يوم العقد. وأما أبو حنيفة فرأيه مع الجمهور، ويعلم مذهبه من بيان رأي أبي يوسف التالي تفصيله.
نقل ابن عابدين عن المنتقى قوله: "إذا غلت الفلوس قبل القبض، أو رخصت قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء، وليس له غيرها ثم رجع أبو يوسف، وقال: عليه قيمتها من الدراهم، يوم وقع البيع أي في صورة البيع، ويوم وقع القرض، أي في صورة القبض. ثم قال ابن عابدين: وبه علم أن في الرخص والغلاء قولان، الأول: ليس له غيرها، والثاني: قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى (4) .
ونقل عن الولواجية في: رجل اشترى ثوبا بدراهم نقد البلدة فلم ينقدها حتى تغيرت، فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلا قد فسد البيع؛ لأنه هلك الثمن وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد لأنه لم يهلك وليس له إلا ذلك (5) .
__________
(1) المغنى: 4/358، ومطالب أولي النهى: 2/241
(2) مطالب أولي النهى: 3/241، والإنصاف: 5 / 128
(3) مجلة الأحكام الشرعية مادة 750
(4) تنبيه الرقود: ص 58، وحاشية ابن عابدين: 4/24
(5) تنبيه الرقود: ص 56(5/1247)
وقال ابن عابدين في حاشيته نقلا عن التمرتاشي في رسالته " بذل المجهود في مسألة تغير النقود ".
"إذا غلت قيمة الفلوس أو انتقصت، فالبيع على حاله، ولا يتخير المشتري، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع كذا في فتح القدير، وفي البزازية عن المنتقى غلت الفلوس أو رخصت، فعند الإمام الأول – أبو حنيفة – والثاني – أبو يوسف – أولا – أي رأي أبي يوسف الأول – ليس عليه غيرها، وقال الثاني – أبو يوسف – ثانيا – أي قول أبي يوسف الثاني – عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض وعليه الفتوى وهكذا في الذخيرة والخلاصة عن المنتقى، ونقله في البحر وأقره. فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فيجب أن يعول عليه إفتاء، وقضاء، ولم أر من جعل الفتوى على قول الإمام، هذا خلاصة ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى في رسالته " بذل المجهود في مسألة تغير النقود " (1) .
ونقل عن البزازية: "استقرض منه دانق فلوس حال كونها عشرة بدانق، أو رخص وصار عشرين بدانق، يأخذ منه عدد ما أعطى، ولا يزيد ولا ينقص. قلت: هذا مبني على قول الإمام وهو قول أبي يوسف أولا، وقد علمت أن المفتى به قوله ثانيا، وجوب قيمتها يوم القرض، وهو دانق أي سدس درهم سواء صار الآن ستة فلوس بدانق أو عشرين بدانق تأمل " (2) .
وقال في العقود الدرية: وإن رخصت أو غلت فقيل: ليس للبائع غيرها، فيجب على المشتري رد المثل، وقيل: تجب بقيمتها يوم البيع، أو يوم القرض في صورة القرض. ثم قال وعليه الفتوى، وهذا كله في الدراهم التي غلب غشها والفلوس (3) .
__________
(1) العقود الدرية: ص 281، وتنبيه الرقود: ص 58
(2) حاشية ابن عابدين: 4 / 24
(3) العقود الدارية 1/280(5/1248)
وقد جزم ابن عابدين بأن المفتي به قول أبي يوسف نقلا عن الغزي قال: وقد تتبعت كثيرا من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة، فلم أر من جعل الفتوى على قول أبي حنيفة رضي الله عنه، بل قالوا: به كان يفتي القاضي الإمام. وأما قول أبي يوسف فقد جعلوا الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فليكن المعول عليه. انتهي كلام الغزي رحمه الله تعالى (1) .
ثم قال نقلا عن شيخه سعيد الحلبي بإقرار قول أبي يوسف إفتاء وقضاء فقال: وقد نقله شيخنا في بحر وأقره فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء؛ لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامهما، ومقلدهما، ولا يجوز لهما الأخذ بمقابله؛ لأنه مرجوح بالنسبة إليه وفي فتاوى قاضي خان يلزمه المثل، وهكذا ذكر الإسيجابي قال: ولا ينظر (2) .
__________
(1) تنبيه الرقود: ص 65.
(2) تنبيه الرقود: ص58(5/1249)
الوجه، وهو رأي الشيخ الرهوني:
ذكر الشيخ الرهوني رأي المالكية في وجوب المثل في الرخص والغلاء، ووافق على هذا، وبين أنه لا خلاف في هذه المسألة، وإنما الخلاف في الكساد فقال: "ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب، وصريح آخرين منهم، أن الخلاف محله إذا قطع التعامل بالسكة القديمة جملة، وأما إذا تغيرت بزيادة أو نقص فلا".
ذكر حجة مقابل المشهور في وجوب القيمة وتعليلهم في الكساد بقصد رد هذه الحجة فقال: وقد يظهر ببادئ الرأي أن مقابل المشهور أولى لما علل به قائله من أن البائع إنما يدل سلعته في مقابلة منتفع به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه مالا ينتفع به، وليس كذلك بل المشهور هو الذي يظهر وجهه؛ لأن ذلك مصيبة نزلت به، ثم بين أن الإمام مالكا وأتباعه لم يلتفتوا إلى حجة المقابل في مراعاة ضرر البائع.
ومع تأييد الرهوني لحجة المشهور في المذهب، إلا أنه حين عرض لرأي المالكية في الرخص والغلاء، لاحت له حجة مقابل المشهور في الكساد، فقيد به رأي المذهب، قال: وينبغي أن يقيد – رأي المالكية في الرخص والغلاء – بما إذا لم يكثر ذلك جدا، حتى يصير القابض لها، كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة التي علل بها المخالف – في الكساد – من أن البائع إنما بذل سلعته في مقابلة منتفع به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به (1) .
__________
(1) حاشية الرهوني والمدني: 5 / 118 و 120 و 121(5/1250)
الرأي الراجح:
والذي يترجح – مع كثير من الوجل – في القول في بهذا الموضوع الخطير خصوصا وأن الحكم فيه شامل للحكم في الأوراق النقدية. هو قول الإمام أبي يوسف، ووجه الشيخ الرهوني، ورأي سحنون المنقول عنه في تقدير وقت القيمة في الكساد. فتجب القيمة في الرخص والغلاء، إذا كان كثيرا ووقت تقدير القيمة في القرض يوم القبض، وإن كان بيعا فنختار رأي سحنون في الكساد بأن يرجع إلى قيمة السلعة يوم دفعها بالسكة الجديدة.
توجيه أدلة الرأي الراجح:
إن قول أبي يوسف بإيجاب القيمة في الرخص والغلاء قول يسنده العديد من قواعد الشرع كما سنذكره بعد قليل، ولعل أبا يوسف اعتبر الرخص والغلاء عيبا لحق الفلوس، سواء في القرض أو البيع، فترتب عليه ظلم للدفاع مع الرخص فينبغي أن يجبر بالقيمة، ولا يقتضي إبطال العقد كما لم يبطل في الكساد والانقطاع. وقد لاحظ أبو يوسف ها هنا أن الفلوس أثمان باصطلاح الناس، فإذا تغير اصطلاحهم، أو تغير ما اصطلحوا عليه، فينبغي مراعاة هذا التغير بحيث لا يترتب على طرف ضرر وإلا لم يعد للاصطلاح فائدة أو معنى.
وهذا النظر عند أبي يوسف جرى عليه في أحوال التغير كلها في الكساد والانقطاع، وكذا ها هنا في الرخص والغلاء، وإن رأي محمد بن الحسن تبعا لرأيه في الكساد والانقطاع بناء على دليل أبي يوسف، ينبغي أن يكون موافقا لرأيه على اعتبار أنهما اتفقا في دليل الحكم.(5/1251)
وأما الوجه الذي ذكره الرهوني، فهو رأي وجيه متجه وهو بمثابة ضابط لرأي أبي يوسف، لئلا يمضي رأيه في كل رخص أو غلاء ولو يسيرا، فتضطرب المعاملات وتتزعزع ثقة الناس في التبادل بالفلوس ومثلها الأوراق النقدية. ولأن الغبن اليسير أو الغلاء والرخص اليسير لا تخلو منه المعاملات، ولو تُقُيِّدَ به دخل على الناس العسرُ في معاملاتهم لكن التغيّر في القيمة إذا كان كثيرا فإنه يترتب عليه ظلم على أحد الطرفين في الرخص والغلاء.
ولأن الدافع أولا لم يدفع – في غير القرض وأشباهه إلا بقصد الانتفاع والربح، وهذا هو الأصل في المبايعات، ولذا احتج الرهوني بقوله: إن البائع إنما بذل سلعته في مقابلة منتفع به، لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به. والظلم متحقق حتى في القبض، وهو عقد إرفاق، ولو لم تقدر القيمة عند التغير الكبير لتحرج الناس من عمل الخير لئلا يجلب لهم ضررا.(5/1252)
وينبغي أن يكون تقدير الرخص والغلاء من ولي الأمر، لأنه الأقدر على معرفة المصلحة العامة وتقديرها، كما ينبغي أن تعتبر مسألة تغير قيمة النقود قضية عامة لا خاصة أما الحالات الفردية فإنها لا تدخل بخصوصها. هذا ما يترتب على قيد الرهوني.
وكذلك قول سحنون له وجاهته ها هنا: ذلك أن الدراهم والدنانير تستند في عيار قيمتها إلى ذاتيتها خلقة، فإذا رخصت أو غلت فإنما ترخص وتغلو بالنسبة لذاتها من الذهب والفضلة، لكن الفلوس ومثلها الأوراق النقدية لا تستند إلى عيار من الذهب والفضة حتى تقاس به في الرخص والغلاء وإنما هي مرتبطة إلى حد كبير بالسلع، فكلما ارتفعت قيمة السلع رخصت قيمتها وكلما انخفضت قيمة السلع غلت قيمتها، فلابد للفلوس من ارتباط والسلع تصلح معيارا، أما اصطلاح الناس فلا يصلح بداهة.
ويمكن أن يخرج على قول سحنون هذا: ربط تغير العملة بأسعار السلع لمعرفة نسبة انخفاض ورخص العملة أو ما يسمى بالتضخم. ولا نجد ما يمنع من تنظيم الدول نسب التضخم، وتحديها كل عام تكون قائمة الأسعار مقياسا لتقويم العملة. وهذا موضوع ينظر تفصيله عند الاقتصاديين، لكن المبدأ مقبول ابتداء، حتى تنجلي صورته العملية من كل وجه ويتبين عدم مصادمته لنص، أو قاعدة، أو مقصد شرعي.
وإن هذا الرأي يتأسس صحيحا على ما سبق تفصيله من طبيعة الفلوس في أنها ليست ثمنا خالصا، ولا عرضا خالصا، وإنما فيها شوب من هذا ومن هذا، فقد تكون ثمنا فتجري عليها أحكام الأثمان، وقد تكون في حكم العروض فتجري عليها أحكام العروض. فلتكن ها هنا كالعروض المعيبة فتؤخذ قيمتها عند الرخص والغلاء الكثير في القرض، لأنه لا بديل عن ذلك، وتؤخذ قيمة السلعة في البيوع لإمكان التقدير بها، وهي عرض محض لا شائبة فيه، فيكون التقدير على وفقها أكثر اطمئنانا.
وقد يقال هنا: كيف افترقت الفلوس عن حكم الدراهم والدنانير في أنه لا يجوز القيمة فيها بحال، وقد قستم الفلوس على الدراهم والدنانير بجامع علة الثمنية في كل.
فيقال: إن اجتماعهما في علة الثمنية لا يمنع من حيث آثار كل أن يختلفا في قيمة هذه الثمنية، فالدراهم والدنانير لا تبطل ثمنيتها بحال. وقد ترخص بنسبة يسيرة لأنها في الخلقة ثمن، ولذا لا يترتب ضرر محقق للعاقدين حتى يجب رفعه، بخلاف الفلوس ومثلها الأوراق النقدية فإنها قد تبطل ثمنيتها، وقد ترخص كثيرا، فينظر حينئذ إلى ما انبني عليها من آثار شغل الذمم. ومن جانب آخر، إذا رخصت ثمنية الفلوس ومثلها الأوراق النقدية، لم يرخص ما دلت عليه من مقدار شغل الذمم. فقد فارقت في هذا الحال مماثلة الدراهم والدنانير صورة برخص قيمتها، ولم تفارقه حقيقة في مقدار ما شغلت به الذمة، مما اصطلح عليه حين العقد وإن لم يقبل هذا في مفارقة الفلوس الدراهم والدنانير، فيمكن اعتبار المفارقة استحسانا للمصلحة أو الضرورة على رأي الحنفية؛ إذ القياس الجلي هنا يقتضي المثل في الفلوس، والقياس الخفي وهو الاستحسان يقتضي القيمة بدليل المصلحة والضرورة.(5/1253)
تخريجات الرأي الراجح:
يمكن أن يتخرج الرأي المختار على عدة نظائر، وقواعد فقهية.
أما النظائر: فقد تكلم الفقهاء في بيع الفلوس إذا حصل تخالف وفسخ وهي تالفة فتجب القيمة، وتعتبر قيمتها يوم التلف على خلاف بينهم.
وتكلموا عن استعارة الفلوس، ففي تلفها قال بعضهم: بالقيمة يوم التلف.
وأيضا: لو أخذت الفلوس على جهة السوم، فتلفت ففيها القيمة يوم القبض، أو يوم التلف على خلاف بينهم.
أما القواعد التي يدخل فيها الموضوع وله فيها نوع تعلق فهي: قاعدة الضرورة – والضرر لا يزال بالضرر – والضرورة تقدر بقدرها – الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أم خاصة – وتصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة – والخراج بالضمان – الميسور لا يسقط بالمعسور – والمشقة تجلب التيسير – ورفع الحرج.
إذا وقع العقد على نقد غير معين النوع:
هذا الذي سبق بيانه إذا رخصت أو غلت الدراهم والدنانير والفلوس وكان عقد البيع أو القرض وقع على نوع معين منها، لكن إذا وقع العقد على نقد غير معين من مثل القروش، فالحكم يختلف وقد تكلم ابن عابدين عن هذا الموضوع فقال: أما إذا وقع العقد على القروش التي لا يتعين منها نوع خاص فلا يمكن القول برد المثل؛ لأن المثلية إنما تعلم حيث علم النوع، وقد علمت أن أنواع النقود متفاوتة في المالية، وكذا رخصها الذي ورد الأمر به متفاوت فبعضها أرخص من بعض، وإذا جعلنا الخيار للدفاع كما كان الخيار له قبل ورود الأمر يحصل للبائع ضرر شديد، فإن الدافع يختار ما رخصه أكثر، فإن ما كان من بعض أنواع النقود وقت البيع يساوي مائة قرش مثلا، صار بعد الأمر يساوي تسعين، ومنه ما يساوي خمسة وتسعين، فيختار المشتري ما يساوي تسعين ويحسبه عليه بمائة. كما كان وقت البيع، فيحصل بذلك ضرر بين للبائع، ولا يقال: إن الخيار وقت البيع كان للمشتري، فيبقى له الآن؛ لأنَّا نقول: قد كان الخيار له حيث لا ضرر فيه على البائع، فإنه وقت البيع لو دفع له من أي نوع كان لا يتضرر، ولو كان رخص الأنواع الآن متساويا بلا ضرر لجعلنا الخيار للمشتري، ليدفع على السعر الواقع وقت العقد من أي نوع كان، كما كنا نخيره قبل الرخص، ولكنه لما تفاوت الرخص، وصار المشتري يطلب الأنفع لنفسه، والأضر على البائع قلنا: لا خيار إذ لا ضرر وضرار في الإسلام. ولما لم أجد نقلا في خصوص مسألتنا هذه تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل عصره، وأفقهم، وأورعهم فيما أعلم، فجزم بعدم التخيير، وجنح إلى الإفتاء بالصلح في مثل هذه الحادثة حتى نجد نقلا في المسألة، لأنك قد علمت مما قدمناه أن المنصوص عليه، إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصا لا الأقل ولا الأكثر، كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري، وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطى السعر الدارج وقت الدفع. ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلا ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري. لا يقال ما ذكرته من أن الأولى الصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته عن حاشية أبي السعود من لزوم ما كان وقت العقد بدون التخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة لأنا نقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلا.(5/1254)
وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه. وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص. ثم بين وجه من أفتى بخلاف رأيه وشيخه فقال: ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفا: أن القروض في زماننا بيان لمقدار الثمن، لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلا، ودفع المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشا من الريال أو الذهب مثلا، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنا لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضيا وقت العقد بأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان، صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيا به، وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها، وقصد الإضرار كما قلنا، وفي الحديث لا ضرر ولا ضرار، ولو تساوى رخصها لما قلنا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد، كأن صار مثلا ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين، وكذا سائر الأنواع. أما إذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين، ومن نوع آخر خمسة وتسعين. ومن آخر ثمانية وتسعين، فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وإن ألزمنا المشتري بدفع تسعين اختص الضرر به فينبغي وقوع الصلح على الأوسط (1) .
ويفهم من كلام ابن عابدين رأيه الخاص فيما إذا وقع العقد في البيع أو القرض على القروش غير المعينة، وبين أن الأمر المتفق عليه قبل صدور الأمر السلطاني بالرخص فيها أن المشتري بالخيار في دفع القروش المسماة والمتفق عليها، أو ما يعادلها كل قرش بأربعين مصرية أو من غيرها كالريال، بناء على أن العرف الشائع عندهم أن من اشترى بالقروش لا يجب عليه دفع عينها.
أما بعد ورود الأمر السلطاني بالرخص، فأما أن تكون العملات متساوية في قيمتها، أو مختلفة فإن كانت متساوية في الرخص فيجب حينئذ دفع ما يعادل تلك القروش بالسعر الذي كانت عليه وقت العقد.
وإن كانت مختلفة فيلجأ إلى الصلح، ولا يخير المشتري لئلا يلحق ضررا بالبائع فينبغي دفع الوسط من الأقل والأكثر توزيعا للضرر على البائع والمشتري.
__________
(1) العقود الدرية: 1/281؛ وتنبيه الرقود: ص 64(5/1255)
وقد أشار ابن عابدين إلى خلاف رأيه في هذا الموضوع ولم يرتض الفتوى فيه حين أشار بقوله: وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطى بالسعر الدارج وقت الدفع ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلا (1) .
ولعله يشير بذلك إلى فتوى الشيخ عبد القادر بن محمد الحسيني، وقد تكلم الشيخ الحسيني عن ذات المسألة في رسالة بعنوان " تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني "، وتكلم عن موضوع هو أخص من عنوان الرسالة فقد خصصها لواقعة حال كثيرة الوقوع وهي فيما يقع من التعامل بالقروش ثم يرد الأمر السلطاني برخص القروش ماذا يلزم؟ فقال الحسيني في بداية رسالته: مسألة ما إذا باع بالقروش المتعارفة قبل ورود الأمر السلطاني، ولم يقبض الثمن حتى ورد الأمر، هل للبائع طلب المسمى من القروش أو ما يعدله القرش من النقود؟ هل يدفع بالسعر الذي يروج به بعد ورود الأمر أو بالسعر الذي كان يوم البيع قياسا على ما إذا باع بالدراهم ثم رخصت قبل القبض؟ هل هذا القياس في محله أو مع الفارق؟
__________
(1) هذه الإشارة: من رجاء أن يكون ابن عابدين أراد بما قال رسالة الشيخ الحسيني، قاله الدكتور نزيه كمال حماد في تحقيق الرسالة المسماة: رسالة تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني: ص102، ونشرت في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، العدد الثاني، المجلد الأول 1405 هـ – 1985م، ط جامعة الملك عبد العزيز – كما سبقت الإشارة(5/1256)
وقد أفتى بأن: (من باع بالقروش قبل ورود الأمر السلطاني، وقبل قبض الثمن، وورد الأمر بتراجع أسعار النقود، كالريال، وأنواع الذهب فعلى المشتري أن يدفع ما يعدل القرش بحساب العرف من أي نوع كان بالسعر الذي يروج به وقت القبض برضى البائع) . وللبائع طلب المسمى في عقد البيع، أو مثله، فإن كانت القروش المسكوكة موجودة بأربعين مصرية – كما كانت أولا – فله طلب ذلك، وإن لم تكن فتجري فيها أحكام الكساد والانقطاع والغلال والرخص … أي على المذهب الحنفي كما فصلناه سابقا – ثم قال: فعلى كل حال: الواجب أما عين القروش أو القيمة المعروفة كل وقت يوم البيع والقبض وغيره، فإذا دفع من النقود كالريال، وأنواع الذهب، فإنه يدفع برضى البائع بالسعر الذي يروج به يوم القبض، ويعدل القرش المسمى في العقد. ثم قال: وليس المشتري مخيرا في دفع أي نوع شاء إلا فيما كان مستويا في الرواج والمالية والجنس واحد … فإذا أراد المشتري دفع الريال بدل القروش بالسعر الرائج وأبى البائع لا يجبر البائع على القبض لاختلاف المالية، فكيف يجبر على قبضه بالسعر القديم، هذا لا قائل به، وليس للمشتري أيضا جبر البائع على أخذ الذهب مكان القروش … فإذا كان لا يجبر على قبض الذهب، ولا على قبض غير المسمى مما اختلفت ماليته فكيف ينبغي القول في وجوب إعطاء النقود بالسعر القديم؟ فإن أورد مسألة رخص الفلوس فجوابه: أن مسألة الغلاء والرخص في المسمى في بالعقد، لا في غير النقود. ثم قال مقررا: فالظاهر من النقول – نصا ودلالة – أنه يفتي بدفع النقود على السعر الرائج بعد الأمر بحساب القرش بأربعين مصرية ثم قال: ومثل البيع الإجارة كما إذا أجر بمائة قرش. ولم يقبض الأجرة فإنه يرد له مثل ما يقبض ريالا أو ذهبنا لا يعتبر غلاؤه ورخصه (1) .
ويظهر من وجه الحكمين في المسألة أن رأي ابن عابدين أرجح في ميزان القواعد الشرعية، وأحرى بتحقيق مقصود الشارع في استقرار المعاملات، ورفع الضرر ما أمكن، فإن حجة الحسيني أنه ليس للمشتري الخيار حال اختلاف السعر الرائج لاختلاف المالية. هذا أمر مسلم بنى عليه رأيه في عدم إجبار البائع أن يقبض بالسعر القديم وكذا ليس للمشتري جبر البائع على أخذ الذهب مكان القروش، وهذا قياس أو استنتاج خاطئ لأن عدم جواز إجبار البائع بالسعر القديم إنما سببه اختلاف المالية، وهذا عين الدعوى إذ مع تساوي المالية لا نزاع، ولاختلاف المالية لم يجبر أحد منهما؛ لأن الضرر متحقق في التخير لأيهما، ولذا فتقرير الدفع بالسعر القديم أو الجديد كلاهما ضرر فاختيار أحدهما تحكم في تخصيص أحدهما بالضرر.
وحجة ابن عابدين أرفق بالعاقدين فلا تخصيص لأحدهما بالضرر بل يتوزع عليهما بالصلح فيدفع الوسط. وبدونه يحدث الضرر فإن جعل الخيار للدافع يجعل الضرر على البائع شديدا؛ لأن الدافع سيختار الأكثر رخصا. وفيه ضرر لا مبرر له وكون الخيار له في الأصل حيث تساوى في المالية أما مع اختلافها فيتحقق الضرر. والضرر مرفوع للحديث " لا ضرر ولا ضرار "
الدكتور عجيل جاسم النشمي
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في رسالة تراجع سعر النقود بالأمر السلطاني، للشيخ الحسيني: ص 111 – 119 ضمن مجلة أبحاث الاقتصادي الإسلامي(5/1257)
مراجع البحث
1- الأعلام، للأستاذ خير الدين الزركلي – الطبعة الثالثة.
2- إنباء الغمر بأبناء العمر، لشيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني – الطبعة الأولى – طبع مجلس دائرة المعارف العثمانية – 1378 هـ – 1967 م. الهند.
3- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للعلامة علاء الدين علي بن سليمان المرادي – الطبعة الأولى مطبعة السنة المحمدية – 1376 هـ – 1956 م بمصر.
4- بدائع الصنائع، للإمام علاء الدين مسعود بن الكاساني – الطبعة الأولى – مطبعة الجمالية 1328 هـ – 1910 م بمصر.
5- البيان والتحصيل، لابن رشد.
6- تحفة المحتاج بشرح المنهاج، للإمام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي بحاشية العلامة عبد الرحمن الشرواني، والعلامة أحمد بن قاسم العبادي.
7- جامع البيان عن تأويل أي القرآن، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري – الطبعة الثانية مصطفى البابي الحلبي – 1373 هـ – 1945 م بمصر.
8- تنبيه الرقود على مسائل النقود، للعلامة أحمد أمين، ابن عابدين – مجموعة الرسائل 2 / 56 – تصوير دار إحياء التراث العربي. بيروت.
9- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، للإمام محمد بن عرفة الدسوقي – طبع دار إحياء الكتب العربية بمصر.
10- حاشية محمد بن أحمد الرهوني على شرح عبد الباقي الزرقاني، لمتن خليل – الطبعة الأولى – المطبعة الأميرية بولاق – 1306هـ بمصر.
11- الحاوي للفتاوى، للإمام جلال الدين السيوطي – نشر دار الفكر. بيروت.
12- خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، للعلامة محمد أمين المحبي – طبع مكتبة خياط – بيروت.
13- درر الحكام في شرح غرر الأحكام، للعلامة منلا خسرو وبهامشه حاشية العلامة الشرنبلالي.(5/1258)
14- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي – نشر محمد أمين دمج. بيروت
15- رد المحتار على الدر المختار، للعلامة محمد أمين المعروف بابن عابدين – طبع الأميرية 1323 هـ بمصر.
16- روضة الطالبين، للإمام ابن زكريا يحيى بن شرف النووي – طبع المكتب الإسلامي بيروت.
17- شرح الزرقاني على خليل بحاشية البناني – نشر دار النشر 1398 هـ – 1978 م بمصر.
18- شرح فتح القدير، للعلامة كمال الدين محمد بن أحمد المعروف بابن الهمام مع تكملة نتائج الأفكار، للعلامة شمس الدين أحمد المعروف بقاضي زاده على الهداية شرح بداية المبتدي، للعلامة برهان الدين علي بن أبي بكر المرغياناني وبهامشه شرح العناية على الهداية، للبابرتي – المطبعة الأميرية 1316هـ بمصر.
19- شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل، للشيخ محمد عليش وبهامشه حاشيته المسماة تسهيل منح الجليل – تصوير دار صادر. بيورت.
20- العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، للعلامة محمد أمين المعروف بابن عابدين – نشر دار المعرفة. بيروت.
21- عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلامة محمد شمس الحق آبادي مع شرح الحافظ ابن قيم الجوزية.
22- فتاوى ابن رشد، للإمام أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد – تحقيق الدكتور المختار التليلي – الطبعة الأولى 1407هـ – 1987 – دار الغرب الإسلامي. بيروت.
23- فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن يتمية – الطبعة الأولى – مطابع الرياض 1383 هـ. السعودية.
24- الفتاوى الهندية، للإمام فخر الدين الفرغاني بهامشه فتاوى قاضيخان – طبع بولاق 1400 هـ – 1980 بمصر.
25- فتوح البلدان، للإمام أبي الحسن البلاذري – طبع دار الكتب العلمية 1398 هـ – 1978. بيروت.
26- الفقه على المذاهب الأربعة، للشيخ عبد الرحمن الجزيري – الطبعة السادسة بمصر.(5/1259)
النقود وتقلب قيمة العملة
إعداد
د. محمد سليمان الأشقر
بسم الله الرحمن الرحيم
النقود هي ما اتخذه الناس وسيطا للتبادل، ومخزنا للقيم، ومقياسا للأسعار. وكان الذهب والفضة رأس النقود منذ حقب متطاولة في التاريخ لما تميز به هذان المعدنان من ثبات القيمة وعدم التعرض للتآكل وعدم التأثر بالمؤثرات الجوية ونحوها.
وقد خصهما النبي صلى الله عليه وسلم من بين سائر المعادن بأحكام منهما:
1 – أنه حرم استعمالهما كآنية للشرب أو الطعام، وفي ذلك توفير لهما لاستخدامهما أثمانا.
2 – أنه حرم استعمال الذهب كحلى للتزين، وفي ذلك توفير لثمنيته كذلك. واستثنى النساء لحاجة المرأة للتزين.
3 – أنه أوجب الزكاة في أعيانهما إذا بلغا نصابا. واعتبر الشرع من لم يخرج الزكاة منهما كانزا يستحق العذاب بهما يوم القيامة. وفي إيجاب الزكاة فيهما تحريك لثمنيتهما، حتى يتداولا في الاستعمال تحصيلا للربح، وإلا أكلتهما الزكاة مع السنين.
4 – وأنه حرم المراباة فيهما تبعا للنص القرآني، والربا فيهما هو بيع الذهب نسيئة في العوضين أو في أحدهما، أو بزيادة أحد العوضين ولو مع الحلول، وكذلك الفضة بالفضة، وحرم بيع الذهب بالفضة نسيئة كذلك. وحرم الإقراض بزيادة على الأصل في الذهب والفضة (وسائر الأموال) .
ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صريح خاص يدل على إيجاب الزكاة في (الفلوس) ، وهي ما اتخذ ثمنا من سائر المعادن، ولا نص كذلك يمنع التفاضل أو النساء في بيعها، ولا أوجب فيها الزكاة، مع أن في السنة النبوية والسيرة النبوية مواضع تدل على أن الفلوس كانت مستعملة في عهده صلى الله عليه وسلم.
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال ليس ذلك المفلس، بل المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام، ويأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) .
ومن ذلك قوله أيضًا ((أيما رجل وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه)) .
إلى غير ذلك من الأحاديث التي تذكر الإفلاس.
ولفظ الإفلاس بالاتفاق مشتق من (الفلس) ، وذلك لأن الرجل إذا كثر دينه رجع ماله إلى الفلوس بعد أن كان يتعامل بالدرهم والدنانير.
وفي حديث أبي ذر عن الإمام أحمد (5/156، 158) ، أنه أمر جارية أن تشتري له " فلوسا ". ويأتي النقل عن مجاهد والنخعى في الفلوس. وقال السيوطى في الحاوى (1/104) : التعامل بالفلوس قديم. ثم استدل على وجودها عند العرب بآثار.(5/1260)