كما استدلوا بالمعقول، وهو أن للزوجة في الولد حقا، وعليها في العزل ضرر، فلم يجز إلا بإذنها "لأن إسقاط الحق لا يكون إلا من صاحبه، وتحمل الضرر لا يكون إلا برضا المضرور في حدود ما يتحمل شرعا".
وقد ردوا على أدلة المحرمين للعزل بما يلي:
عمدة أدلة المحرمين للعزل هو حديث جذامة بنت وهب الأسدية والذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة للعزل ((ذلك الوأد الخفي)) وقرأ {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} .
هذا الحديث يعارض الحديث الذي رواه أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حينما قالت اليهود العزل الموءودة الصغرى، قال ((كذبت يهود، إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه)) تقدم نصه.
ونظرا لهذا التعارض بين الحديثين، فقد سلك العلماء في دفع هذا التعارض عدة مسالك: مسلك النسخ، مسلك الترجيح بالقوة والضعف، مسلك الجمع بينهما، ونوضح هذه الآراء فيما يلي:
أ - المسلك الأول وهو النسخ:
لما كان النسخ – اصطلاحا – هو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكم الدليل الشرعي المتقدم – وعندنا الآن في العزل دليلان أحدهما حديث جذامة وهو ينص على الحرمة، وثانيهما حديث أبي سعيد، وهو يدل على الإباحة، فقد رأى بعض العلماء أن حديث جذامة منسوخ بالأحاديث الدالة على الجواز، ومنها حديث أبي سعيد.(5/62)
ولما كانت دعوى النسخ هذه تحتاج إلى معرفة المتقدم من الأدلة والمتأخر، أي معرفة تاريخ ورود كل من النصين، ونظرا إلى أنه لم يعرف هذا التاريخ، لذلك كانت دعوى النسخ غير واردة، وتسقط.
ومنهم من جعل حديث جذامة هو المتقدم، وأنه كان على وفق ما عليه أهل الكتاب، قال الطحاوي: يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أولا من موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم أعلمه الله تعالى بالحكم، فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه.
وقد تعقب ابن رشد وابن العربي هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحرم شيئا تبعا لليهود، ثم يصرح بتكذيبهم فيه.
وأيضا يمكنني أن أقول: إن قوله (يحتمل أن يكون ... ) لا يصلح أن يكون هذا الاحتمال طريقا لجعل حديث جذامة هو المتقدم.
ب - مسلك الترجيح باعتبار السند:
من بين العلماء من رجح حديث جذامة بثبوته في الصحيح، وضعف حديث أبي سعيد بالاختلاف في إسناده والاضطراب.
قال الحافظ: ورد – على هذا – بأنه إنما يقدح في حديث لا فيما يقوي بعضه بعضا، فإنه يعمل به، وهو هنا كذلك، والجمع ممكن.
ومنهم من ضعف حديث جذامة لمعارضته ما هو أكثر منه طرقا (1) .
وقد رد على هذا، فقال الحافظ: وهذا دفع للأحاديث بالتوهم، والحديث صحيح لا ريب فيه، والجمع ممكن.
جـ- مسلك الجمع بين الحديثين:
سلك البيهقي مسلك الجمع بين الحديثين، فحمل حديث جذامة على الكراهة التنزيهية ومثله قاله الطحاوي (2) ويقول الصنعاني "ونوزع ابن حزم في دلالة قوله صلى الله عليه وسلم ((ذلك الوأد الخفي)) على الصراحة بالتحريم للوأد المحقق الذي هو قطع حياة محققة، والعزل وإن شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فإنما هو قطع لما يؤدي إلى الحياة، والمشبه دون المشبه به، وإنما سماه وأدا لما تعلق به من قصد منع الحمل ".
__________
(1) قال الشوكاني "وقد ضعف أيضا حديث جذامة – أعني الزيادة التي في آخره – بأنه تفرد بها سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود، ورواه مالك ويحيى عن أبي الأسود، فلم يذكراها، وبمعارضتها لجميع أحاديث الباب، (التي استدل بها على الإباحة) وقد حذف هذه الزيادة أهل السنن الأربع "
(2) سبل السلام جـ3 ص168(5/63)
وجمع ابن القيم بينهما فقال "الذي كذب فيه صلى الله عليه وسلم اليهود هو زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا، وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم، وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدا حقيقة، وإنما سماه وأدا خفيا في حديث جذامة، لأن الرجل إنما يعزل هربا من الحمل، فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، لكن الفرق بينهما: أن الوأد ظاهر بالمباشرة، اجتمع فيه القصد، والعزل (1) يتعلق بالقصد فقط، فلذلك وصفه بكونه خفيا، وهذا الجمع قوي.
فحديث جذامة حمل على التنزيه وتكذيب اليهود لأنهم أرادوا التحريم الحقيقي، وحمل تكذيب اليهود على أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا، كما قاله ابن القيم آنفا، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطاعت أن تصرفه)) أي أنه تعالى إذا قدر خلق نفس فلا بد من خلقها، وأنه يسبقكم الماء فلا تقدرون على دفعه، ولا ينفعكم الحرص على ذلك، فقد يسبق الماء من غير شعور العازل لتمام ما قدره الله.
وقد أخرج أحمد والبزار من حديث أنس، وصححه ابن حبان أن رجلا سأل عن العزل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لو أن الماء يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدا)) وله شاهدان في الكبير للطبراني عن ابن عباس وفي الأوسط له عن ابن مسعود.
ومن كل هذا يترجح لنا رأي جمهور الفقهاء في أنه يباح العزل عن الزوجة الحرة إذا أذنت في ذلك، ويحرم إذا لم تأذن.
__________
(1) ورد في الشوكاني كلمة (والفعل) ولكن المعنى لا يستقيم فلعله خطأ مطبعي(5/64)
حكم العزل عن الأمة:
الأمة إما أن تكون زوجة، أو تكون سرية.
فإن كانت الأمة زوجة، فهناك اتجاهان رئيسيان:
• الاتجاه الأول:
يشترط الإذن: وهو رأي جمهور الفقهاء، إلا أنهم اختلفوا فيمن يؤخذ إذنه، هل يؤخذ إذنها، أو إذن وليها، أو هما معا:
الرأي الأول: فيرى أبو حنيفة والحنابلة أن الإذن في العزل لمولى الأمة، وقالوا في توجيه ذلك: إن العزل يخل بحق المولى، وهو حصول الولد الذي هو ملكه فيشترط رضاه. بخلاف الحرة، لأن الولد والوطء حقها.
الرأي الثاني: يرى الصاحبان " أبو يوسف ومحمد من الحنفية" أنه يشترط رضاها، دون رضى وليها، لأن الوطء حقها، والعزل تنقيص له.
الرأي الثالث: يرى المالكية وقريب منه الإباضية، قال المالكية: يجوز لزوجها العزل إذا أذنت وسيدها معا له بالعزل، إذا كانت ممن تحمل ويتوقع منها الحمل وإلا فالعبرة بإذنها دون السيد، وقريب منه قول الإباضية يجوز له العزل عنها بإذنها، أو بإذن وليها، وإنه إن لم يأذن سيدها لم يجز إذنها.
* الاتجاه الثاني:
لا يشترط إذنا: وهو رأي الشافعية وكذا الزيدية حيث قالوا: "يجوز العزل عن الزوجة الأمة، والمملوكة مطلقا، أي سواء رضيت أم كرهت وسواء رضي سيد الأمة المزوجة أم كره".
وأرى رجحان رأي جمهور الفقهاء الذين يشترطون الإذن في العزل عن الأمة المزوجة، كما أرجح الرأي القائل بأن الإذن في العزل يكون من حق الأمة فقط، لأن المولى برضاه بزواجها قد رضي بكل ما يترتب على العقد من أحكام وآثار، وأصبحت العلاقة بين الزوجين علاقة خاصة يحكمها عقد الزواج، فدخوله بعد ذلك في الحياة الزوجية – في العزل وغيره – أمر لا يتفق ومقتضى عقد الزواج وبخاصة أن الوطء حقها، والعزل تنقيص له – كما قاله الصاحبان.(5/65)
حكم العزل عن السرية:
وأما السرية: فيرى الفقهاء (كما صرح: المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإباضية) أنه يجوز لسيدها العزل عنها دون إذنها – وقد استدل الحنابلة بحديث أبي سعيد الخدري مرفوعا ((إنا نأتي النساء، ونحب إتيانهن، فما ترى في العزل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله تعالى فهو كائن، وليس من كل الماء يكون الولد)) رواه أحمد.
أقوله: تأييدا لهذا الاستدلال إن هذا الحديث كان بشأن السبايا، فقد روي عن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل، فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما عليكم ألا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة)) متفق عليه – وقد تقدم نصه وتقدم مناقشة ما يفهم من هذا النص.
وقال في الفتح "يجوز العزل عن السرية بلا خلاف عندهم، إلا في وجه حكاه الروياني في المنع مطلقا، كمذهب ابن حزم، وإن كانت السرية مستولدة فالراجح الجواز فيه مطلقا، لأنها ليست راسخة في الفراش، وقيل حكمها حكم الأمة المزوجة" (1) .
وأرى رجحان الرأي الثاني، لأنها باستيلادها، أصبحت لا تباع ولا تشترى ولا توهب، وتعتق بمجرد موت سيدها، لذلك كان القول بقياسها على الأمة المزوجة أولى من قياسها على الأمة السرية.
كما أرجح ما رآه الحنفية من أن المكاتبة حكمها حكم الحرة، في أن يؤخذ إذنها فقط عند العزل عنها.
__________
(1) نيل الأوطار جـ 6 ص197(5/66)
حقيقة الإذن المطلوب:
الإذن المطلوب إما قطعي بأن تأذن له في العزل عنها صراحة، أو ظني، بأن كان الزوج يغلب على ظنه أنها رضيت بذلك، لا أنها ترضى بذلك بعد وقوعه – صرح بذلك: الزيدية، وللزوجة أن تعدل عن هذا الرضا في أي وقت تشاء، فإذا عدلت عنه يحرم على الزوج أن يعزل عنها.
استثناءات لا تحتاج إلى إذن:
ما يستثنى من الحالات التي يجوز فيها العزل دون إذن:
نص بعض فقهاء الحنفية على بعض الحالات التي لا يحتاج فيها الزوج إلى إذن زوجته بالعزل عنها:
جاء في الخانية "أنه يباح العزل في زماننا لفساده" – أي فساد هذا الزمان – قال الكمال: فليعتبر عذرا مسقطا لإذنها.
وعلق ابن عابدين بقوله "قال الكمال عبارته" وفي الفتاوى: إن خاف من الولد السوء في الحرة يسعه العزل بغير رضاها، لفساد الزمان، فليعتبر مثله من الأعذار مسقطا لإذنها.
كما أن قوله: "فليعتبر مثله من الأعذار ... " يحتمل أنه أراد إلحاق مثل هذا العذر به، كأن يكون في سفر بعيد، أو في دار الحرب فخاف على الولد، أو كانت الزوجة سيئة الخلق، ويريد فراقها، فخاف أن تحبل.
فما رآه بعض الحنفية من الأعذار مجيزا لإسقاط إذنها، ينحصر في اتجاهين:
أولهما: أن يكون العذر عاما، بأن يكون الزمن زمن سوء، ويخشى من الإنجاب في مثل هذا الوسط السيئ، أو أن يكونا في دار الحرب، ويخشى من استرقاق الولد.(5/67)
وثانيهما: أن يكون العذر خاصا، وذلك بأن يخشى من الحمل والولادة أثناء سفرهما سفرا بعيدا، أو كانت الزوجة سيئة الخلق ويريد فراقها فيخشى بأن تحبل ويترتب على ذلك ضياع الولد مستقبلا بعد فراقهما.
وما قاله بعض علماء الحنفية هنا، لا ينطبق على الزوج وحده، بل وعلى الزوجة أيضا (1) .
كما نص الحنابلة على أنه يجب على الزوج أن يعزل – عن زوجته الحرة أو الأمة – كما يجب أن يعزل عن سريته – بدار الحرب دون حاجة إلى الاستئذان – لئلا يستعبد الولد.
البواعث التي يجوز من أجلها تنظيم النسل أو تحديده:
تناول بعض العلماء هذه البواعث بإيجاز، وبعضهم تناولها بالتفصيل، وأورد فيما يلي ما نص عليه بإيجاز، ثم ما نص عليه بالتفصيل.
الحنفية: يجوز عند فساد الزمان، وعند الخوف من الولد السوء، بأن كانت أمه سيئة الخلق – أو كان أبوه كذلك – ويريد كل منهما أو أحدهما الفراق، وكذا يجوز في السفر البعيد، وفي دار الحرب، خوفا على الولد.
الحنابلة: يجب العزل في دار الحرب.
__________
(1) فقد قال ابن عابدين في تنبيه له: "أخذ في النهر من هذا ومما قدمه الشارح عن الخانية والكمال أنه يجوز لها سد فم رحمها، كما تفعله النساء مخالفة لما بحثه في البحر من أنه ينبغي أن يكون حراما بغير إذن الزوج قياسا على عزله بغير إذنها" قلت (أي ابن عابدين) : لكن في البزازية أن له منع امرأته عن العزل - اهـ نعم، النظر إلى فساد الزمان يفيد الجواز من الجانبين، فما في البحر مبني على ما هو أصل المذهب، وما في النهر على ما قاله المشايخ والله الموفق.(5/68)
الإباضية: قالوا "والعزل يكون للفرار من الولد خشية العيال، وإدخال الضرر على المرضع، واسترقاق الولد إن كانت أمة، ولإضرار المرأة بذلك.
وأما الذين فصلوا فالإمام الغزالي في إحيائه جـ 2 ص47. فقد تناول آراء العلماء في حكم العزل، مرجحا إباحته، وإن ما ورد من النهي إنما هو لترك الفضيلة وليس لنهي التحريم، ولا لنهي التنزيه.
وبعد أن استدل لهذا الفهم تساءل هل يكون النهي مكروها من حيث إنه دفع لوجود الولد، فلا يعدو أن يكره لأجل النية الباعثة عليه، إذ لا يبعث عليه إلا نية فاسدة فيها شيء من شوائب الشرك الخفي؟
ثم رد على هذا التساؤل مبينا البواعث على العزل وصحح أن يكون الباعث عليه (في السرراي) حفظ الملك عن الهلاك باستحقاق العتاق.. وفي الحرائر – استبقاء جمال المرأة وسمعتها لدوام التمتع بها واستبقاء حياتها.. أو الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد – وأما الخوف من الأولاد الإناث لما يعتقد في تزويجهن من المعرة، فهذه نية فاسدة، يأثم بها وكذلك إذا كانت المرأة تمتنع لتعززها ومبالغتها في النظافة والتحرز من الطلق والنفاس والرضاع ... فهي نية فاسدة.. ثم يقول فالنية والقصد هو الفاسد، دون منع الولادة وأرى أن أورد رأيه فيما يلي:
رأي الإمام الغزالي:
يرى الإمام الغزالي أن العزل مباح، وإن كان فيه ترك الأفضل والأولى (1) ،كما يرى أن العزل قد يحرم إذا كان الباعث عليه منهيا عنه، وقد عدد البواعث عليه مبينا ما يترتب عليها من إباحة أو حرمة، وأرى أن أورد ما أورده بنصه نظرا لأهميته ثم أتبعه بالرأي الذي يظهر لي:
تناول الإمام الغزالي العزل، فقال: " ومن آداب النكاح ألا يعزل، بل لا يسرح إلا إلى محل الحرث، وهو الرحم فما من نسمة قدر الله كونها إلا وهي كائنة" هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه من حديث لأبي سعيد.
__________
(1) وفي النهاية للطوسي "ويكره للرجل أن يعزل عن امرأته الحرة، فإن عزل لم يكن بذلك مأثوما غير أنه يكون تاركا للأفضل، اللهم إلا أن يشترط عليها في حال العقد، أو يستأذنها في حال الوطء فإنه لا بأس بالعزل عنها عند ذلك".. وفي اللمعة الدمشقية أن الأشهر الكراهة.. وقيل يحرم، وفيه دية النطفة عشرة دنانير للزوجة"(5/69)
فإن عزل، فقد اختلف العلماء في إباحته، وكراهته على أربعة مذاهب:
فمن مبيح مطلقا بكل حال، ومن محرم بكل حال، ومن قائل يحل برضاها، ولا يحل دون رضاها، وكأن هذا القائل يحرم الإيذاء دون العزل، ومن قائل يباح في المملوكة دون الحرة، ثم يقول "والصحيح عندنا – أن ذلك مباح – وأما الكراهية فإنها تطلق لنهي التحريم، ولنهي التنزيه، ولترك الفضيلة، فهو – أي العزل – مكروه بالمعنى الثالث أي فيه ترك الفضيلة، كما يقال يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغا لا يشتغل بذكر أو صلاة، ويكره للحاضر في مكة مقيما بها ألا يحج كل سنة، والمراد بهذه الكراهية: ترك الأولى والفضيلة فقط، وهذا ثابت لما بيناه من الفضيلة في الولد، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل ليجامع أهله فيكتب له بجماعه أجر ولد ذكر قاتل في سبيل الله فقتل (1) وإنما قال ذلك لأنه لو ولد له مثل هذا الولد لكان له أجر التسبب إليه، مع أن الله تعالى خالقه ومحييه ومقويه على الجهاد والذي إليه من التسبب قد فعله، وهو الوقاع، وذلك عند الإمناء في الرحم.
وإنما قلنا لا كراهة بمعنى التحريم والتنزيه، لأن إثبات النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص، ولا أصل يقاس عليه، بل ههنا أصل يقاس عليه، وهو ترك النكاح أصلا، أو ترك الجماع بعد النكاح، أو ترك الإنزال بعد الإيلاج، فكل ذلك ترك للأفضل وليس بارتكاب نهي، ولا فرق، إذ الولد يتكون بوقوع النطفة في الرحم، ولها أربعة أسباب: النكاح، ثم الوقاع، ثم الصبر إلى الإنزال بعد الجماع ثم الوقوف لينصب المني في الرحم، وبعض هذه الأسباب أقرب من بعض، فالامتناع عن الرابع كالامتناع عن الثالث، وكذا الثالث عن الثاني، والثاني كالأول. وليس هذا كالإجهاض والوأد، لأن ذلك جناية على موجود حاصل، وله أيضا مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح، واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيا.
__________
(1) وعلق عليه العراقي بقوله "هذا الحديث لم أجد له أصلا"(5/70)
وإنما قلنا مبدأ سبب الوجود من حيث وقوع المني في الرحم، لا من حيث الخروج من الإحليل، لأن الولد لا يخلق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعا.. وكيفما كان فماء المرأة ركن في الانعقاد، فيجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول في الوجود الحكمي في العقود، فمن أوجب ثم رجع قبل القبول لا يكون جانيا على العقد بالنقض والفسخ، ومهما اجتمع الإيجاب والقبول كان الرجوع بعده رفعا وفسخا وقطعا، وكما أن النطفة في الفضاء لا يتخلق منها الولد فكذا بعد الخروج من الإحليل ما لم يمتزج بماء المرأة أو دمها، فهذا هو القياس الجلي.
ثم يتساءل الغزالي فيقول "فإن قلت يكون العزل مكروها، من حيث إنه دفع لوجود الولد فلا يبعد أن يكره لأجل النية الباعثة عليه، إذ لا يبعث عليه إلا نية فاسدة فيها شيء من شوائب الشرك الخفي.
فأقول: النيات الباعثة على العزل خمس:
الأولى في السراري: وهو حفظ الملك عن الهلاك باستحقاق العتاق (1) ، وقصد استبقاء الملك بترك الإعتاق، ودفع أسبابه ليس بمنهي عنه.
الثانية: استبقاء جمال المرأة وسمنها لدوام التمتع واستبقاء حياتها، خوفا من خطر الطلق، وهذا أيضا ليس منهيا عنه.
الثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، والاحتراز عن الحاجة إلى التعب في الكسب، ودخول مداخل السوء، وهذا أيضا غير منهي عنه، فإن قلة الحرج معين على الدين، نعم: الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله، حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (2) ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال، وترك الأفضل، ولكن النظر إلى العواقب، وحفظ المال وادخاره مع كونه مناقضا للتوكل، لا نقول إنه منهي عنه.
الرابعة: الخوف من الأولاد الإناث لما يعتقد في تزويجهن من المعرة، كما كانت من عادة العرب في قتلهم الإناث، فهذه نية فاسدة، لو ترك بسببها أصل النكاح، أو أصل الوقاع أثم بها، لا بترك النكاح والوطء (3) فكذا في العزل والفساد في اعتقاد المعرة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد، وينزل منزلة امرأة تركت النكاح استنكافا من أن يعلوها رجل، فكانت تتشبه بالرجال، ولا ترجع الكراهة إلى عين ترك النكاح.
__________
(1) لأن السرية إذا ولدت من سيدها صارت أم ولد، فلا تباع ولا تشترى، وتصبح حرة بعد موته.
(2) الآية 6 من سورة هود
(3) لعله أراد ترك النكاح والوطء بعد الزواج(5/71)
الخامسة: أن تمتنع المرأة لتعززها ومبالغتها في النظافة، والتحرز من الطلق والنفاس والرضاع، وكان ذلك عادة نساء الخوارج لمبالغتهن في استعمال المياه، حتى كن يقضين صلوات أيام الحيض، ولا يدخلن الخلاء إلا عراة، فهذه بدعة تخالف السنة، فهي نية فاسدة، واستأذنت واحدة منهن على عائشة رضي الله عنه لما قدمت البصرة فلم تأذن لها – فيكون القصد هو الفاسد منع الولادة.
ثم رد اعتراضات واردة على ما قرره فقال:
قان قلت: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من ترك النكاح مخافة العيال فليس منا، ثلاثا)) (1) .
قلت: فالعزل كترك النكاح، وقوله ((ليس منا)) أي ليس موافقا لنا على سنتنا وطريقتنا، وسنتنا فعل الأفضل (2) .
فإن قلت: فقد قال صلى الله عليه وسلم في العزل: ((ذاك الوأد الخفي)) وقرأ ((وإذا الموءودة سئلت)) وهذا في الصحيح.
__________
(1) قال بشأنه العراقي جـ2 ص20: رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي سعيد بسند ضعيف والدارمي في مسنده، والبغوي في معجمه، وأبو داود في المراسيل من حديث أبي نجيح (من قدر أن ينكح فلم ينكح فليس منا) وأبو نجيح اختلف في صحته
(2) هذا أحد التفسيرات (ليس منا) فلغيره أن يفسره بالتحريم أو الكراهة(5/72)
قلنا: وفي الصحيح أخبار صحيحة في الإباحة (أي إباحة العزل) وقوله ((الوأد الخفي)) كقوله ((الشرك الخفي)) وذلك يوجب كراهة لا تحريما.
فإن قلت: فقد قال ابن عباس "العزل هو الوأد الأصغر" فإن الممنوع وجوده به هو الموءودة الصغرى.
قلنا: هذا قياس منه لدفع الوجود على قطعه (1) ، وهو قياس ضعيف، ولذلك أنكره عليه علي رضي الله عنه لما سمعه، وقال: لا تكون موءودة إلا بعد سبع، أي بعد سبعة أطوار، وتلا الآية الواردة في أطوار الخلقة، وهي قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 12، 13] . إلى قوله {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} أي نفخنا فيه الروح ثم تلا قوله تعالى في الآية {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] .
وإذا نظرت إلى ما قدمناه في طريق القياس والاعتبار ظهر لك تفاوت منصب علي وابن عباس رضي الله عنهما في الغوص على المعاني ودرك العلوم، فكيف وفي المتفق عليه في الصحيحين عن جابر أنه قال: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) وفي لفظ ((كنا نعزل فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا)) وفيه أيضا عن جابر أنه قال: إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وساقيتنا في النخل، وأنا أطوف عليها، وأكره أن تحمل. فقال عليه الصلاة والسلام: ((اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها)) فلبث الرجل ما شاء الله، ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حملت، فقال: ((قد قلت سيأتيها ما قدر لها)) كل ذلك في الصحيحين (2) اهـ الغزالي.
__________
(1) أي قاس العزل – الذي يترتب عليه دفع وجود الولد – على الوأد، الذي يترتب عليه قطع الوجود
(2) هو في مسلم فقط – العراقي جـ2 ص49(5/73)
نتائج البحث حول بيان
رأي الفقه الإسلامي في
تحديد النسل أو تنظيمه
من الدراسة الفقهية المتقدمة نستطيع أن نستخلص في موضوع بحثنا النتائج التالية:
أولا: وسائل منع الحمل التي يترتب عليها منع التقاء الحيوان المنوي بالبييضة – سواء كانت في صورة العزل، وهي الصورة المنصوص عليها، أو في صورة سد الرحم بما يمنع وصول المني إلى البييضة – كما صرح بعض الفقهاء، أو في أي صورة شبيهة بذلك – يرى جمهور الفقهاء صحة استخدامها إذا كان ذلك باتفاق الزوجين، وكان الباعث عليه مشروعا.
أما إذا كانت الوسيلة لمنع الحمل يبدأ عملها بعد التقاء الحيوان المنوي بالبييضة فإن ذلك لا يجوز شرعا (1) .
ثانيا: أن منع الحمل، أو تنظيم فتراته هو حق شخصي للزوجين معا، فهما اللذان يقررانه، وهما اللذان يتحكمان فيه، طبقا لما تقتضيه مصلحتهما، ما دامت هذه المصلحة أمرا يقره الشرع ويرضى عنه.
ومن هنا لا يجوز للدولة أن تتخذ من القرارات في هذا الشأن ما يلزم الأفراد بالامتناع عن الإنجاب، أو تحديده بعدد معين، أو تكثيره، ولكن يمكن للدولة أن تنصح بالإنجاب، أو بتنظيمه، وبيان فوائد كلا الأمرين، في الحدود التي تراها تحقق مصلحة عامة للدولة جميعها.
__________
(1) يراجع بحثنا في "حق الجنين في الحياة"(5/74)
فهناك بعض الدول تحتاج إلى زيادة الإنجاب وتكثير النسل، نظرا لكثرة خيراتها، ووفرة مواردها، وقلة عددها، وحاجتها إلى زيادة القوة البشرية لكي تستوعب كل هذه الخيرات، وتنميها، وتحافظ عليها.
وهناك بعض الدول على العكس من ذلك تحتاج إلى الحد من زيادة الإنجاب، وتنظيمه أو تحديده، نظرا لكثرة عددها وقلة مواردها، وما يحيط بها من ظروف لا تستطيع بها توفير متظلبات شعبها.
لكل ذلك أقول: إن للدولة – بأجهزتها العلمية والإعلامية، ومراكز التعليم والتثقيف فيها أن تبصر الناس بعواقب كثرة النسل – إذا كانت الدولة ليست في حاجة إلى هذه الكثرة - وبعواقب قلة النسل – إذا كانت الدولة بحاجة إلى كثرته.
وإذا بصرت الناس بذلك عن طريق هذه الوسائل، فإنه يصبح لكل شخص وكل فرد من أفراد الأمة أن يوازن أموره طبقا لما يحيط به من ظروف اجتماعية ومادية – حاضرة أو مستقبله، وعلى ضوئها يقرر مع زوجه ويختار المسلك الذي يحقق له مصلحته – في حدود شرع الله تعالى.
وإنما قلت إن حق الإنجاب، أو منعه، أو تكثيره هو حق خاص بالزوجين في الشريعة الإسلامية، وذلك لأن الزواج – وهو عقد يتم برضا الطرفين – حق خاص بكل واحد منهما، إذ كل واحد منهما، إذ كل واحد منهما له الحق في أن يتزوج، وله الحق في ألا يتزوج، وله الحق في أن يطأ، وله الحق في ألا يطأ ومن ثم فله الحق في أن ينجب، وله الحق في ألا ينجب، إلا أنه في هذه الحالة الأخيرة بعد تمام الزواج يصبح هذا الحق لهما سويا؛ لأنه بعقد الزواج أصبح الوطء والإنجاب حقا من حقوق العقد، وأثرا من آثاره، فلا يستأثر به واحد منهما دون الآخر، ولا يتحكم فيه غيرهما، بل هو لهما فقط، كما كان الزواج علاقة خاصة بهما فقط، فكذلك هذا.(5/75)
ثالثا: الباعث على تحديد النسل أو تنظيمه أو منعه:
يمكن أن أتناول فيما يلي جملة من البواعث على منع الحمل، أو تنظيمه أو تحديده، وأبين فيما يلي موقف الفقه الإسلامي في كل واحد منهما، صحة وفسادا وأثر ذلك على إباحة المنع أو عدم إباحته:
الباعث الأول: الخوف على حياة الأم، أو تدهور صحتها.
إذا كان الباعث على استخدام ما يمنع الحمل هو الخوف على حياة الأم، أو تدهور صحتها، بأن كانت مريضة بمرض يؤثر الحمل في زيادته أو تأخير البرء منه فإنه في هذه الحالات يكون الباعث مشروعا، وذلك لأنه يؤدي إلى الحفاظ على حياة الأم، وحفظ الحياة أمر واجب شرعا على الإنسان أن يراعيه سواء بالنسبة لنفسه أو بالنسبة لغيره، زوجا كان الغير أو لم يكن زوجا. قال تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} الآية 29 من سورة النساء.
وقال جل شأنه {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} الآية 195 من سورة البقرة. وكل ما يتطلبه هذا الأمر أن يكون هذا الخوف له أسبابه المقنعة والمعقولة والتي يقررها أهل الاختصاص والخبرة – إذ أنه ليس كل خوف يعتد به – فمن الناس من يكون الخوف عنده مرضا يحتاج إلى علاج.
الباعث الثاني: الخوف على مستقبل الحمل بعد ولادته:
لقد أورد الفقهاء حالات متعددة حول إباحة العزل عند الخوف على مستقبل هذا الطفل بعد ولادته دون إذن من الزوج الآخر.
والخوف على مستقبله يتمثل فيما أحاط بالوالدين، وبما يتوقع أن يحيط بالطفل من ظروف بيئية أو اجتماعية بعد ولادته أثناء قيام هذه الظروف.
فمن الظروف البيئية والتي تتمثل في إقامتها خارج الوطن: أن يكون الزوجان في دار الحرب، ومن المعلوم لنا أن الحرب وما يكتنفها من مخاطر وما يحيط بها من مفاجآت وأحداث، قد تؤدي إلى قتل الوالدين، ثم ضياع الولد في هذه الدار وإن لم يقتلا أو أحدهما، فقد يتعرض الطفل للرق – إن كان هناك رق – أو لاختطافه وتسخيره فيما يراد تسخيره فيه، أو لعدم رعايته الرعاية المطلوبة والحفاظ على حياته. وكل ذلك خطر جسيم وضرر عظيم يخشى منه على مستقبل الطفل إذا وجد.(5/76)
لكل ذلك أرجح رأي الحنابلة الذين يوجبون العزل في هذه الحالة خوفا على مستقبل هذا الجنين.
ويقرب من ذلك في التعرض للمخاطر أن يكون الزوجان في سفر بعيد وفي مكان يخشيان فيه من أن حدوث الحمل أثناء السفر، ثم الولادة، لا يجدان فيه الرعاية المطلوبة للأم، ولا الإمكانات التي لا بد منها لها مما يضعهما في حرج بالغ وضيق شديد، لما يحيط بالأم في أثناء الحمل وأثناء الولادة من ظروف خاصة يعتبر هذا عذرا يبيح للزوج العزل عن زوجته، ولها أيضا ذلك، كما صرح الحنفية.
وأما الظروف الاجتماعية، فقد تكون هذه الظروف عامة أو تكون خاصة: فإن كانت عامة، بأن كان الزمن زمن سوء، تفشت فيه الموبقات، وانتشرت فيه الدعارة، ووئدت فيه القيم، وأصبح الأبوان في ظله يعجزان عن إمكان تربيته التربية السوية الطيبة التي كلفهما المشرع الحكيم بها، ولا يستطيعان – حسب تقديرهما وإحاطتهما بجميع ما يجري حولهما – النجاة به من الانغماس في هذا الشر المستطير – إذا أنجباه – فإن ذلك يكون عذرا مقبولا شرعا يبيح العزل دون إذن من الزوج الآخر، كما صرح به علماء الحنفية.
أو تكون الظروف خاصة بأحد الزوجين، كأن كانت الزوجة أو الزوج سيئة الخلق، أو سيئ الخلق، ويخشى إن هو أو هي أنجب منها، أو أنجبت منه، أن يكون مآل هذا الطفل – إذا حملت به – أن يكون سيئ الخلق مثله أو مثلها، فإنه في هذه الحالة أيضا يكون هذا السبب عذرا مبيحا للزوج أو للزوجة أن يعزل عن زوجته، أو تعزل عنه بوضع ما يسد فم الرحم، كما صرح علماء الحنفية أيضا.
ومن الظروف الخاصة أيضا أنه إذا كان الزوج قد اعتزم فراق زوجته لعدم حدوث الائتدام والعشرة الطيبة بينهما وتفاقم ذلك بحيث لم يجد مفرا من الفراق، فإنه في هذه الحالة يمكن أن يعتبر ذلك عذرا يبيح له العزل عنها دون إذنها خوفا على مستقبل هذا الطفل – إذا وجد – من الضياع بين والدين مفترقين، كل منهما يعيش حياته الخاصة بعيدا عن الآخر، ولا يرعاه الرعاية المطلوبة شرعا – كما صرح بعض فقهاء الحنفية.
الباعث الثالث: الخوف على الطفل الرضيع من حدوث الحمل:
إذا كانت المرأة لها طفل رضيع، ترضعه من لبنها، وتعوله وترعاه، وتخشى أن يتأثر لبنها بالحمل، وتتأثر رعايتها لهذا الرضيع من مضاعفات الحمل وظروفه التي تختلف من امرأة إلى أخرى قوة وضعفا.. فأرادت منع الحمل حينئذ.
ففي هذا الحالة أيضا يكون الباعث على منع الحمل أثناء هذه الفترة مشروعا، لأنه يكون الهدف منه حماية نفس الرضيع واستمرار رعايته وتتبعه بما يقويه ويساعده على النمو، والوصول إلى درجة الاستغناء عن الرضاعة التي هي عماد الحياة الأولى للطفل، والتي أثبت الطب أنها الغذاء الذي لا يعادله غذاء للطفل، وأي غذاء غيره فيه من المخاطر ما فيه.
لكل ذلك، ولنفس الأدلة التي سقناها في الباعث الأول يكون للزوجين الحق في منع الحمل أثناء هذه الفترة، ولا يكون عليهما إثم في ذلك.
الباعث الرابع: الخوف من كثرة النسل وتعاقبه:
إن التناسل أمر مرغوب فيه شرعا، به يعمر الكون، وهدف مشروع من بين الأهداف التي شرع من أجلها الزواج، به يبقى النسل ويتمادى ويتتابع الخلق كما شاءت إرادة الله تعالى.
وأيضا فإن كلا من الأبوين عليهما رعاية نسلهما، وحمايته، والتكفل بجميع متطلباته سواء من الناحية الصحية أو المادية أو الرعوية أو الاجتماعية، أو غير ذلك من الجوانب التي تتطلبها رعاية الأبناء حتى يشبوا قادرين على تحمل التكاليف، وتحمل متطلبات الحياة.
وهذه الرعاية أمر مقرر شرعا، سواء من حيث كونها أمانة يتحملها الزوجان نحو أطفالهما، وهذه الأمانة أمرنا بأدائها إلى أهلها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [الآية 58 من سورة النساء] .
وقال تعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [الآية 8 من سورة المؤمنون] .
أو من حيث كونها مسئولية وتبعة تحملها الزوجان طائعين، ويسألان عنها يوم الدين حفظاها أو ضيعاها، والأحاديث في ذلك كثيرة منها:
ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) رواه أبو داود والنسائي والحاكم إلا أنه قال: ((من يعول)) وقال صحيح الإسناد.(5/77)
وروي عن الحسن رضي الله عنه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) رواه ابن حبان في صحيحه.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بعلها وولده، وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده، وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ لمسلم.
فإذا كان الإنسان مسئولا عن رعاية كل ذلك، ومنها رعاية ولده، فإن هذه المسئولية تشتمل على أمور متعددة: تشتمل على التربية السوية، والرعاية الحقة، حتى يصلحوا ويكونوا عناصر إيمانية قوية في أمة الإسلام.
وتشتمل على الرعاية المادية، حتى يوفر لهم – بإذن الله تعالى وتوفيقه – ما يحتاجون إليه من قوت، ومن ملبس ومشرب، ومن تعليم وتثقيف، ومن رعاية صحية واجتماعية، كل ذلك وغيره داخل في هذه المسئولية التي يسأل عنها الأب والأم كل فيما يخصه حسب منهج الشرع وأسلوبه الذي حدده.
فإذا رأى الزوجان أن تتابع النسل وتكاثره لا يمكنهما من توفير الرعاية المطلوبة والتربية الحقة التي أرادها الله وشرعها للمسلمين، حتى يكونوا أقوياء، قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضيعف ... )) رواه مسلم في صحيحه – فإنه في هذه الحالة يكون الهدف مشروعا، حيث أن المشرع الحكيم سائلنا عمن ضيعناه وأهملنا تربيته ورعايته، فإذا علم الأبوان أو ترجح لديهما أنهما لا يتمكنان من ذلك جاز لهما تنظيم الحمل وتحديده، بالوسائل المشروعة التي لا تضر بصلاحيتهما للإنجاب في الوقت الذي يرغبان فيه في المستقبل، وفي الحدود التي يغلب على ظنهما أنهما يستطيعان القيام بهذه المسئولية إزاء من ينجبانه.
وقد سبق أن بينا أنها مسئولية شخصية للأبوين دون غيرهما، وأنها تتم برضاهما معا.(5/78)
هذا ويجب أن أوضح أن الفقر في ذاته لا يصلح عذرا للمنع ولا يصلح باعثا على ذلك المنع، فإن الرزق لكل كائن مقرر ومكتوب. قال تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [الآية 6 من سورة هود] . وقال تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} الآية 31 من سورة الإسراء، وتراجع الآية 151 من سورة الأنعام.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)) رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود.
فالرزق مكتوب عند الله تعالى ومقدر ومقرر، والعلم به كما وكيفا لا يحيط به إلا الله تعالى، ولكن الذي نعلمه ونؤمن به أن لكل إنسان – أو كل دابة – رزقا محددا وعد الله به وهو لا يخلف الميعاد.
ومن هنا كان الباعث المشروع هو الذي يدور حول تمكن الأبوين من الرعاية المطلوبة شرعا – على الوجه الذي بيناه – أو عدم تمكنهما، فإذا ترجح لديهما أنهما لن يستطيعا ذلك كان لهما الحق في منع الإنجاب خلال هذه الفترة.
قال الله تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الآية 286 من سورة البقرة] وإذا لم يترجح كان لهما ألا يمنعا ذلك.
وما قاله الإمام الغزالي من أن الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز عن الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضا غير منهي عنه، فإن قلة الحرج معين على الدين، نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله ... "تقدم نص كلامه آنفا" نقول بشأنه ما يلي:
أ - إنه يسلم بأن النظر في ذلك فيه سقوط عن ذروة الكمال، وترك الأفضل، وإذا كان الأمر على هذا المنوال، فإن المؤمن سباق إلى الكمال، عامل دائما إلى ما هو الأفضل.
ب - قوله: "لكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره. مع كونه مناقضا للتوكل لا نقول إنه منهي عنه".
نقول له: إن الأمر مختلف، إذ النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره مأمور به شرعا وليس منهيا عنه بصريح الآيات والأحاديث. قال تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [الآية 77 من سورة القصص] .(5/79)
وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الآية 29 من سورة الإسراء] – ففيها نهي عن التبذير وضياع المال، والنهي عن الشيء أمر بضده. وهو حفظ المال وادخاره.
وقال تعالى {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [سورة الإسراء 26، 27] .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الهدي الصالح والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة)) (أخرجه الطبراني عن جندب بن أبي سفيان البجلي) .
وعن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)) رواه مسلم.
فابتغاء المال وطلبه للدنيا والآخرة، والإنفاق منه بقدر، دون إسراف أو تبذير، هو أمر واجب على المسلم، وضده منهي عنه، وإذا كان ذلك كذلك فيجب حينئذ الامتثال لما أمر به، والانتهاء عما نهي عنه.
أما أن يكون الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، باعثا مشروعا لعدم الإنجاب، فإن هذا لا يصلح أن يكون مناطا لهذا الحكم ولا باعثا عليه، لأن الله قد تكفل برزق كل مولود، والدخول في هذا المجال دخول فيما لا قبل للإنسان باستكشاف حقيقته، فكم من مولود كان أسعد حظا من والده، وكم من مولود تدفق الرزق على والديه بسببه.(5/80)
الباعث الخامس: العمل على استبقاء جمال المرأة لدوام التمتع بها:
لا شك أن الحفاظ على الزوجة وما وهبها الله من جمال، أمر مرغوب فيه شرعا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيرا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله)) رواه ابن ماجه، عن أبي أمامة.
وإذا كان أمرا مرغوبا فيه، فإن الحفاظ عليه أمر مشروع، لكن هل يصح أن يكون هذا الباعث معطلا للإنجاب نهائيا؟ لا: لا يصح أن يكون كذلك، لأنه إذا كان هذا مرغوبا، فأيضا الإنجاب مرغوب فيه، بل إن الرغبة في الإنجاب – ما دام ممكنا – تفوق الرغبة في حفظ جمالها، لأن لحفظ جمالها غاية خاصة بها أو به، وللإنجاب غاية عامة, وغاية خاصة، فأما عمومها فمن ناحية تعمير الكون وتتابع بني الإنسان تحملا للأمانة، وابتغاء لرضى الله تعالى، وأما خصوصها فمن ناحية وجود العقب وإرضاء غريزة الأبوة والأمومة، وتحصيل متعة امتداد الذكر وبقاء الاسم.
لكل ذلك أقول إن منع الإنجاب إذا كان الباعث عليه استبقاء جمال المرأة وعدم تشوه منظرها، إن كان ذلك مانعا من الإنجاب نهائيا كان باعثا غير مرضي عنه شرعا، وإن كان هذا المنع موقوتا، أو لفترة محدودة، أو بعد وجود بعض من الذرية، كان باعثا لا ينهى عنه الشرع.(5/81)
الباعث السادس: الخوف من إنجاب البنات خوفا من العار:
لقد كان من العادات السيئة في الجاهلية كراهة إنجاب البنات، ووأدهن قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الآيات 57- 60 من سورة النحل] .
قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [8، 9 من سورة التكوير] .
ولكن الإسلام حرم ذلك، ومنع أن يكون النظر للبنت بهذه الكيفية، وجعلها صنو الولد، وجعل تربيتها وإحسان تثقيفها، وتعليمها موجبا لدخول الجنة.
قال تعالى {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} الآيتان [49، 50] من شورى الشورى، وأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالنساء فقال ((استوصوا بالنساء خيرا)) الحديث.
وروي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من كن له ثلاث بنات يؤويهن، ويرحمهن، ويكلفهن، وجبت له الجنة البتة قيل. يا رسول الله فإن كانتا اثنتين؟ قال: وإن كانتا اثنتين قال: فرأى بعض القوم أن لو قال واحدة لقال واحدة)) رواه أحمد بإسناد جيد والبزار والطبراني في الأوسط.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كن له ثلاث بنات، فصبر على لأوائهن (1) وضرائهن، (2) وسرائهن، أدخله الله الجنة برحمته إياهن فقال رجل: واثنتان يا رسول الله؟ قال واثنتان قال رجل: يا رسول الله: وواحدة؟ قال وواحدة)) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.
الباعث السابع: تأفف المرأة وتضجرها من الوطء، ومبالغتها في النظافة وتحرزها من الطلق والنفاس والرضاع.
لقد أوجد الله الإنسان لحكمة، وخلقه على نهج قويم، وجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، وخص كلا منهما بخصائص تناسب تكوينه، واستعداداته الفطرية وجعل لكل منهما مهام تناسب هذه الخصائص، وكلفه بتكاليف تتفق وما منحه وأعطاه وجعلت الشريعة الإسلامية خروج أي منهما عن خصائصه ونزوعه إلى الجنس الآخر أمرا معاقبا عليه شرعا، فلعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء.
فإذا كانت المرأة تمتنع عن الحمل تأففا وتضجرا وتحرزا من الطلق والنفاس والرضاع فهو تأفف فاسد، وقصد غير مستقيم، يتنافى مع طبيعة ما خلقت له من ناحية، وما تحملته بمقتضى عقد الزواج من ناحية أخرى، وما خطه الشرع ورسمه لمسيرتها من ناحية ثالثة.
لذلك كله نقول إن هذا القصد قصد فاسد.
هذا ما أردت معالجته وإبرازه في هذا البحث "تنظيم النسل أو تحديده" راجيا الله تعالى أن يجنبنا الزلل والخطأ.
{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .
أ. د حسن علي الشاذلي
__________
(1) مشقاتهن، وفي النهاية اللأواء الشدة، وضيق المعيشة
(2) أحزانهن وأتراحهن(5/82)
تنظيم النسل ورأي الدين فيه
إعداد
الدكتور/ محمد سيد طنطاوي
مفتي الديار المصرية
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة تنظيم الأسرة من المسائل التي اهتم بها كثير من الدول والهيئات وكتبت فيها عشرات البحوث والمقالات والكتب قديما وحديثا:
وقبل أن نبدأ في الحديث عن هذه المسألة من الناحية الدينية نحب أن نتفق على الحقائق التالية لأن تحرير موضع النزاع يعين على حسن الاقتناع وهذه الحقائق هي:
1- أن الأديان السماوية أنزلها الله تعالى لسعادة البشر ولهدايتهم إلى الصراط المستقيم ولغرس المعاني الفاضلة في نفوسهم. وأن الكتب التي أنزلها – سبحانه – على أنبيائه، قد قررت هذه الحقيقة، ومن ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: الآيات 2-4] .
وقوله سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سورة إبراهيم:الآية 1] .
2- أن الكلام في الأمور الدينية بصفة خاصة، وفي غيرها بصفة عامة يجب أن يكون مبنيا على العلم الصحيح، والفهم السليم، والدراية الواسعة الواعية لأصول الدين وفروعه ولمقاصده وأهدافه وأحكامه. وأن يكون ذلك لحمته وسداه: الأمانة والصدق وخدمة الحق والعدل والتنزه عن الأحقاد والأطماع والبعد عن المآرب والأهواء والترفع عن النفاق وكتمان الحق، وقال – تعالى:
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] .
وقال سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] .
وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] .(5/83)
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا – أي في أنفسهم – وأضلوا- أي: غيرهم.
3- أن الخلاف في الأمور التي تقبل الاجتهاد لا غبار عليه ولا ضرر منه ما دام القصد الوصول إلى الحق، وإلى ما تتحقق معه المصالح النافعة للأفراد والجماعات وما دام أيضا هذا الخلاف مصحوبا بالنية الحسنة وبالكلمة الطيبة وبالمناقشة الرصينة التي يزينها الأدب ومكارم الأخلاق.
ولقد سما النبي صلى الله عليه وسلم – بهذا الاجتهاد، فبشر أصحابه بأنهم مأجورون سواء أصابوا أم أخطأوا، فقال في حديثه الصحيح: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد)) .
ومن شأن الأمم السعيدة الرشيدة أنه يكثر بين أفرادها التعاون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان أما الأمم الشقية الجاهلة، فهي التي يشيع بين أفرادها سوء الظن والتراشق بالتهم الباطلة، والتنازع الذي مبعثه الأهواء والأحقاد.
4-أن الأولاد هم ثمرة القلب وإحدى زينتي الحياة الدنيا وقد تمنى الذرية جميع الناس حتى الأنبياء فهذا سيدنا إبراهيم يدعو الله فيقول {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] ولكن الأولاد في الوقت نفسه أمانة في أيدي آبائهم، ويجب على الآباء أن يرعوا هذه الأمانة حق رعايتها، بأن يحسنوا تربيتهم دينيا وجسميا وعلميا وخلقيا، وبأن يقدموا لهم ما هم في حاجة إليه من عناية مادية ومعنوية ...
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [سورة التحريم: 6] .
وقال سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] .
وفي الحديث الصحيح: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) .(5/84)
5 – أن هذا الكون قد أقامه الله تعالى – على نظام دقيق، بديع محكم، فكل شيء فيه يسير وفق تدبير متقن وتنظيم بديع، فالشمس تشرق وتغرب في وقت معلوم، ومثلها القمر والليل والنهار، كما قال سبحانه: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . (يس: 40) .
وكما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) .
وكما قال عز وجل: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} (الملك: 3) .
وإذًا فالإنسان العاقل هو الذي يتخذ النظام شعارًا له في سائر تصرفاته لأنه يوفر المجهود ويضاعف الثمرة، وما وجد النظام في شيء إلا زانه، وما فقد من شيء إلا شانه وصدق الله إذ يقول: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: 21) .
6 – إننا نعيش في عصر لا تتنافس فيه الأمم بكثرة أفرادها، ولا باتساع أراضيها وإنما نحن نعيش في عصر تتنافس فيه الأمم بالاختراع والابتكار ووفرة الإنتاج والتقدم العلمي بشتى صوره وألوانه، هذا التقدم الذي يجعل احتياج الغير إليك أكثر من احتياجك إليه.
ونحن نشاهد أممًا أقل عددًا من غيرها ولكنها أقوى وأغنى من ذلك الغير والأمثلة على ذلك يعرفها عامة الناس، فضلًا عن علمائهم.
7 – أن من مزايا الشريعة الإسلامية أن الأمور التي لا تختلف المصلحة فيها باختلاف الأوقات والبيئات والاعتبارات تنص على الحكم فيها نصًا قاطعًا لا مجال معه للاجتهاد والنظر، كتحليل البيع وتحريم الربا، أما الأمور التي تخضع فيها المصلحة للظروف والأحوال فإن شريعة الإسلام تكل الحكم فيها إلى أرباب النظر والاجتهاد والخبرة في إطار قواعدها العامة، ومن هذه الأمور مسألة تنظيم الأسرة أو النسل، فإنها من المسائل التي تختلف فيها الأحكام باختلاف ظروف كل أسرة وكل دولة، وباختلاف إمكانياتها.(5/85)
فمثلًا هناك دول هي في حاجة إلى الكثرة البشرية لأن وسائل الإنتاج والرقي فيها تحتاج إلى هذه الكثرة القوية المنتجة الرشيدة، وأمثال هذه الدول يقال لها: مرحبًا بهذه الكثرة القوية المؤمنة العاقلة، وهناك دول لا تحتاج إلى الكثرة في عدد أفرادها لأن هذه الكثرة موجودة فيها ولأن إمكانياتها لا تتحملها، ولأن السواد الأعظم من أفرادها يعيش على جهود القلة فيها، ولأنها مع كثرتها تستورد من غيرها معظم ضروريات حياتها، وأمثال هذه الدول يكون تنظيم الأسرة فيها أمرًا مرغوبًا فيه ومطلوبًا منها مع غيره من الوسائل الأخرى التي تؤدي إلى تقدمها، كمضاعفة الإنتاج، ومواصلة تطوير الزراعة والصناعة وغيرهما، وحرص أفرادها على أداء واجباتهم بأمانة ونشاط وقوة.
إننا مرة أخرى نقول: إن الكثرة الصالحة المنتجة القوية مرحبًا بها، أما الكثرة الهزيلة الضعيفة الشاردة عن الطريق القويم، المعتمدة في كثير من ضروريات حياتها على غيرها فالقلة خير منها.
بعد هذه الحقائق التي أرجو أن تكون محل اتفاق نحب أن ندخل إلى موضوع تنظيم الأسرة أو النسل بأسلوب السؤال والجواب فنقول:
أولًا: ما معنى تنظيم الأسرة؟ وهل هناك فرق بينه وبين التحديد والتعقيم والإجهاض؟
والجواب ببساطة: تنظيم الأسرة معناه أن يتخذ الزوجان باختيارهما واقتناعهما الوسائل التي يريانها كفيلة بتباعد فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان يتفقان عليها فيما بينهما.
والمقصود من ذلك تقليل عدد أفراد الأسرة بصورة تجعل الأبوين يستطيعان القيام برعاية أبنائهما رعاية متكاملة بدون عسر أو حرج أو احتياج غير كريم.
وهناك فرق شاسع بينه وبين التحديد والتعقيم والإجهاض، إذ تحديد النسل بمعنى منعه منعًا مطلقًا ودائمًا، حرام شرعًا، ومثله التعقيم الذي هو بمعنى القضاء على أسباب النسل نهائيًا.
وأما الإجهاض وهو قتل الجنين في بطن أمه أو إنزاله، فقد أجمع الفقهاء أيضًا على حرمته وأنه لا يجوز إلا إذا حكم الطبيب الثقة بأن في بقاء هذا الجنين هلاكًا للأم، أو ضررًا بليغًا سيصيبها بسبب بقائه في بطنها.(5/86)
ثانيًا: هل تنظيم الأسرة بتلك الصورة التي سبق بيانها جائز من الناحية الدينية؟ والجواب: أن تنظيم الأسرة أو النسل بتلك الصورة التي سبق بيانها جائز شرعًا وعقلًا متى كانت هناك أسباب تدعو إليه، وهذه الأسباب يقدرها الزوجان حسب ظروفهما، فقد تنشأ أسباب تدفع الإنسان إلى تنظيم أسرته أو نسله، وقد ذكر الفقهاء قديمًا وحديثًا جملة من الأسباب التي تبيح للزوجين تنظيم نسلهما.
ومن الفقهاء القدامى الذين فصلوا الحديث عن هذه المسألة، الإمام الغزالي المتوفى سنة 505هـ، فقد قال في كتابه إحياء علوم الدين ج/2 ص (51) : (وأما العزل – وهو أن يقذف الرجل ماءه خارج الرحم منعًا للحمل، فقد اختلف العلماء في إباحته وكراهته ... والصحيح عندنا أن ذلك مباح) .
ثم قال رحمه الله: (والنيات الباعثة على العزل خمس:
الأولى: في السراري، وليس منهيًا عنه.
والثانية: من أجل استبقاء جمال المرأة وسمنها لدوام التمتع بها واستبقاء حياتها خوفًا من خطر الطلق، وهذا أيضًا ليس منهيًا عنه.
والثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضًا غير منهي عنه فإن قلة الحرج معين على الدين.
نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره، لا نقول إنه منهي عنه) .
ولقد لخص فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت في كتابه تنظيم النسل ص 8 جانبًا من كلام الإمام الغزالي في هذه المسألة فقال: (يرى الإمام الغزالي أن منع الولد مباح ولا كراهة فيه. قال: لأن النهي إنما يكون بنص أو قياس منصوص، ولا نص في الموضوع ولا أصل يقاس عليه بل عندنا في الإباحة أصل يقاس عليه وهو ترك الزواج أصلًا أو ترك المخالطة الجنسية بعد الزواج، أو ترك التلقيح بعد المخالطة، فإن كل ذلك مباح وليس فيه إلا مخالفة الأفضل فليكن منع الحمل بالعزل أو ما يشبهه مباحًا ... ) .(5/87)
ومن العلماء القدامى الذين رجحوا جواز العزل الأئمة ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، أما الإمام ابن تيمية فقد جاء عنه في كتاب (مختصر الفتاوى) ص (426) : (وأما العزل فقد حرمه طائفة لكن الأئمة الأربعة على جوازه بإذن المرأة) ، وأما الإمام ابن القيم، فقد رجح في كتابه زاد المعاد ج/4 ص 16 الرأي القائل بإباحة العزل، فبعد أن ذكر طائفة من الأحاديث المصرحة بجوازه فقال: (فهذه الأحاديث صريحة في جواز العزل) .
وأما الإمام الشوكاني فقد قال في كتابه نيل الأوطار: (ولا خلاف بين العلماء في جواز العزل، بشرط أن توافق الزوجة الحرة على ذلك، لأنها شريكة في المعاشرة الزوجية) .
وأما الفقهاء المحدثون فمنهم فضيلة الشيخ السيد سابق، فقد قال في كتابه المشهور فقه السنة ج 7 ص 145، تحت عنوان: (العزل وتنظيم النسل) : (تقدم أن الإسلام يرغب في كثرة النسل، إذ أن ذلك مظهر من مظاهر القوة والمنعة بالنسبة للأمم والشعوب إلا أن الإسلام مع ذلك لا يمنع في الظروف الخاصة من تنظيم النسل، باتخاذ دواء يمنع من الحمل أو بأي وسيلة أخرى من وسائل الحمل فيباح التنظيم في حالة ما إذا كان الرجل معيلًا – أي كثير العيال – ولا يستطيع القيام على تربية أبنائه التربية الصحيحة وكذلك إذا كانت المرأة ضعيفة، أو كانت موصولة الحمل، أو كان الرجل فقيرًا، أو كان هناك مرض معد في الزوجين أو في أحدهما.
ففي مثل هذه الحالات يباح تنظيم النسل، بل إن بعض العلماء يرى أن التحديد في هذه الحالات لا يكون مباحًا فقط بل مندوبًا إليه ... ) .
ولقد جاء في مجلة الحج العدد 16 لسنة 1384 فتوى لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز حول هذا الموضوع قال فيها: (العزل هو إراقة المني خارج الفرج، لئلا تحمل المرأة وهذا إنما يفعله الإنسان عند الحاجة إليه، مثل كون المرأة مريضة فيخشى أن يضرها الحمل أو يضر طفلها، فيعزل لهذا الغرض أو نحوه من الأغراض المعقولة الشرعية إلى وقت ما، ثم يترك ذلك وليس في هذا قطع للحمل ولا تحديد للنسل، وإنما فيه تعاطي بعض الأسباب المؤخرة للحمل لغرض شرعي وهذا لا محظور فيه في أصح الأقوال – عند العلماء كما دلت عليه أحاديث العزل) (1) .
وبذلك نرى أن تنظيم الأسرة أجازه الفقهاء القدامى والمحدثون متى كان هناك داع إليه.
__________
(1) نقلًا عن كتاب الدين وتنظيم الأسرة ص 69 لفضيلة الدكتور أحمد الشرباصي.(5/88)
ثالثًا: هل تنظيم النسل أو الأسرة هو الوسيلة الوحيدة لحل مشكلة تزايد السكان ورفع مستوى المعيشة وحصول كل فرد على مطالب حياته بصورة مقبولة؟
والجواب: ما قال عاقل بأن تنظيم النسل أو الأسرة هو الوسيلة الوحيدة لحل هذه المعضلات، وإنما هو وسيلة من بين كثير من الوسائل التي من أهمها: أداء كل فرد من أفرادها لواجبه قبل مطالبته بحقوقه، وحرص هذا الفرد على أن يكون لبنة نافعة في بناء كيان مجتمعه لبنة تقوي كيان المجتمع ولا تضعفه، وتعطيه من إنتاجها أكثر مما تأخذ منه وآفة الآفات في كل أمة تثقلها الديون والمتاعب المتشابكة، تتمثل – في تقديري – في تمزق أبنائها وتفرقهم وسلبيتهم وشيوع سوء الظن بينهم بدون موجب واهتمام معظمهم بالحصول – بكل الطرق – على مصالحهم الخاصة، ومنافعهم الذاتية، أما ما يعود على أمتهم بالخير، فلا يحظى بجانب كبير من تفكيرهم أو اهتمامهم، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) .
رابعًا: أهناك فتاوى رسمية صدرت في موضوع تنظيم النسل أو الأسرة؟
والجواب: نعم هناك فتاوى متعددة صدرت في هذا الموضوع، نكتفي بإيراد نماذج منها:
1 – في 25 من يناير سنة 1937، أي منذ أكثر من خمسين سنة ورد إلى دار الإفتاء سؤال نصه: رجل رزق بولد واحد، ويخشى إن هو رزق أولاد كثيرين أن يقع في حرج من عدم قدرته على تربية الأولاد والعناية بهم، أو تسوء صحته فتضعف أعصابه عن تحمل واجباتهم ومتاعبهم، وأن تسوء صحة زوجته بكثرة ما تحمل وتضع، دون أن يمضي بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها، فهل له أو لزوجته أن يتخذا بعض الوسائل التي يشير بها الأطباء، ليتجنبا كثرة النسل، بحيث تطول الفترة بين الحمل فتستريح الأم ولا يرهق الوالد؟
__________
(1) الرعد (11)(5/89)
وقد أجاب فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم – مفتى الديار المصرية في ذلك الوقت بقوله: (اطلعنا على هذا السؤال، ونفيد بأن الذي يؤخذ من نصوص الفقهاء الأحناف أنه يجوز أن تتخذ بعض الوسائل لمنع الحمل، على الوجه المبين بالسؤال) .
والفتوى بكاملها منشورة بمجموعة الفتاوى الإسلامية ج 2 ص 445.
2 – وشبيه بهذا السؤال سؤال آخر ورد إلى لجنة الفتوي بالأزهر في 10 مارس سنة 1953م ونصه: رجل متزوج رزق بولد واحد ويخشى إن هو رزق أولادًا كثيرين أن يقع في حرج من عدم قدرته على تربية الأولاد والعناية بهم ... فهل له أو لزوجته أن يتخذا بعض الوسائل التي يشير الأطباء لتجنب كثرة النسل بحيث تطول الفترة بين الحمل والحمل، فتستريح الأم وتسترد صحتها ولا يرهق الوالد صحيًا أو ماديًا أو اجتماعيًا؟
وكان الجواب: اطلعت اللجنة على هذا السؤال، وتفيد بأن استعمال دواء لمنع الحمل مؤقتًا لا يحرم على رأي عند الشافعية، وبه تفتي اللجنة، لما فيه من التيسير على الناس، ودفع الحرج ولاسيما إذا خيف من كثرة الحمل، أو ضعف المرأة من الحمل المتتابع بدون أن يكون بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها المرأة وتسترد صحتها، والله تعالى يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وأما استعمال دواء لمنع الحمل أبدًا فحرام.
3 – ومن الأسئلة التي وجهت لي شخصيًا حول هذا الموضوع ما يأتى:
أ – زوجان معهما طفل واحد، ويسكنان في شقة من حجرتين ودخلهما الشهرى في حدود مائة جنيه في أيامنا هذه سنة 1988، ويريدان باختيارهما واتفاقهما أن يوقفا الحمل لفترة من الوقت ليتفرغا لتربية هذا الطفل تربية كريمة، فهل يجوز لهما شرعًا ذلك مع أنهما يؤمنان إيمانًا عميقًا بأن كل شيء بقضاء الله وقدره؟
وكان جوابي: لا مانع شرعًا من إيقاف الحمل لفترة من الزمان ماداما يقصدان من وراء ذلك حسن التربية لطفلهما، وماداما يؤمنان هذا الإيمان العميق بقدرة الله تعالى على كل شيء، ومسلكهما هذا إنما هو لون من مباشرة الأسباب الشريفة التي أحلها الله تعالى.(5/90)
ب – زوجان يسكنان في شقة من ثلاث غرف، ومعهما ولد وبنت ودخلهما الشهرى في أيامنا هذه سنة 1988 مائتا جنيه، ويشعران بأن هذا المبلغ يكفيهما بمطالب الحياة الشهرية التي لا غنى عنها، ويريدان باختيارهما أن يوقفا الحمل لفترة من الزمان وقصدهما من ذلك أن يكون للولد حجرة خاصة ينام فيها، وللبنت حجرة أخرى تنام فيها، فهل يجوز ذلك شرعًا، ومع أنهما يحافظان على أداء فرائض الله تعالى، ويحرصان على التقيد بأحكام دينه؟
وكان جوابي: أنه لا مانع شرعًا من ذلك لأنهما بفعلهما هذا يباشران الوسائل السليمة لتربية ولديهما تربية قويمة، دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((علموا أولادكم الصلاة وهم في سن السابعة واضربوهم على تركها وهم في سن العاشرة، وفرقوا بينهم في المضاجع)) أي عند النوم.
ج – زوجان معهما ثلاثة أولاد، وحالتهما المادية والصحية ممتازة، ويريدان أن يوقفا برضاهما واختيارهما الحمل لفترة من الزمان، وليس ذلك لأسباب خاصة بهما وإنما لأنهما يعتقدان بأن الدولة التي يعيشان فيها هي بحاجة إلى تنظيم النسل، فهل هذا جائز شرعًا مع حرصهما التام على أداء أحكام دينهما؟
وكان جوابي: أن هذا الشعور بظروف الدولة التي تعيشان فيها شعور طيب وحميد يدل على حسن الظن وعلى الثقة فيما تصدره الدولة من بيانات حول هذا الموضوع، كما يدل على الاهتمام المشكور بأحوال المجتمع الذي تعيشان فيه استجابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)) . ومادام شعوركما كذلك، فما تريدان عمله من تأجيل الحمل لفترة من الزمان تتفقان عليها، لا مانع منه شرعًا، فإن الأمور بمقاصدها، والأعمال بالنيات.
خامسًا: أيصح للدولة أن تصدر قانونًا لتنظيم الأسرة أو النسل؟
والجواب: لا يصح ذلك في تقديري، لأن مسألة تنظيم الأسرة من المسائل الشخصية التي تتعلق بالزوجين وحدهما، والتي تختلف من أسرة إلى أسرة على حسب ظروفهما وأحوالهما وما يتعلق بالزوجين لا تعالجه القوانين، وإنما خير وسيلة لتنظيم الأسرة فهم الدين فهمًا سليمًا وإشاعة هذا الفهم بين جميع أفراد الأمة.(5/91)
وإني أرجح أن على رأس الأسباب التي جعلت بعض الناس يتهاون في مسألة تنظيم الأسرة هو فقدان الوعي، وعدم الفهم السليم لأحكام الدين ولشئون الدنيا، والاستخفاف بالمسئولية نحو الأبناء.
سادسًا: هل تتعارض الدعوة إلى تنظيم الأسرة مع قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أو مع قوله سبحانه {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} أو مع قوله تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} أو مع الحديث الشريف: ((تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم بوم القيامة؟)) .
والجواب: لا تتعارض الدعوة إلى تنظيم النسل متى سيقت بأسلوب حكيم، مع قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ومع ما يشبهها من آيات كريمة وذلك لأنه لم ينكر أحد من العقلاء أن المال الحلال والذرية الصالحة هما زينة الحياة الدنيا، ولكن هناك ما هو أسمى منهما وأبقى، وهو ما وضحته بقية الآية في قوله سبحانه: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (1) أي: المال والبنون زينة يتزين بها كثير من الناس في هذه الحياة وإذا كان الأمر كذلك في عرف كثير منهم، فإن الأقوال الطيبة والأعمال الصالحة هي الباقيات الصالحات التي تبقى ثمارها للإنسان وتكون عند الله تعالى خير من الأموال والأولاد، لأن المال والبنين كثيرًا ما يكونان فتنة، كما في قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (2) أي أن أموالكم وأولادكم على رأس الأسباب التي تؤدي المبالغة في الاشتغال بها إلى التقصير في طاعة الله تعالى وإلى مخالفة أمره، فكونوا مؤثرين لرضا الله على كل شيء سواه وقال سبحانه في آية أخرى قبل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (3) .
فالأولاد قد يكونون زينة، وقد يكونون فتنة، وقد يكونون أعداء، وتنظيم النسل متى صاحبته النية الطيبة والمقاصد الشريفة، كان عونًا للإنسان على أن يكون الأولاد قرة عين له.
__________
(1) الكهف (46) .
(2) التغابن (15)
(3) التغابن (14)(5/92)
ولا تتعارض الدعوة إلى تنظيم الأسرة مع قوله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (1) لأنه ما قال أحد بأن تنظيم الأسرة قتل للأولاد، وإنما هو حماية لهم من النواحي الدينية والصحية والاجتماعية ...
والآية الكريمة وما يشبهها من آيات، تنهى عن قتل الأولاد قبل ولادتهم، وبعد ولادتهم وتتوعد الذين كانوا يفعلون ذلك من أهل الجاهلية ولاسيما مع البنات بأشد أنواع العذاب، ومن ذلك قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (2) وقوله سبحانه: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (3) .
ولقد حرمت شريعة الإسلام الإجهاض – وهو قتل الجنين في بطن أمه – تحريمًا قاطعًا، ولم تبحه – كما سبق أن أشرنا – إلا إذا حكم الطبيب الثقة بأن بقاء هذا الجنين سيؤدي إلى هلاك الأم أو إلحاق ضرر محقق بها. وقال فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت ما ملخصه: (اتفق الفقهاء على أن إسقاط الحمل بعد نفخ الروح فيه – وهو كما يقولون لا يكون إلا بعد أربعة أشهر – حرام وجريمة لا يحل لمسلم أن يفعله لأنه جناية على حي متكامل ولكنهم قالوا: إذا ثبت من طريق موثوق به أن بقاءه بعد تحقيق الحياة هكذا يؤدي لا محالة إلى موت الأم فإن الشريعة بقواعدها العامة تأمر بارتكاب أخف الضررين، وهو إسقاط هذا الحمل، أما إسقاطه قبل نفخ الروح فيه – أي قبل إتمام أربعة أشهر كما يقولون – فقد اختلفوا فيه فرأى فريق أنه جائز ولا حرمة فيه، ورأى آخرون أنه حرام أو مكروه) .
ولا يتعارض تنظيم الأسرة كذلك مع قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (4) ، لأن كل إنسان لا يكون مؤمنًا حقًا إلا إذا اعتقد اعتقادًا جازمًا أن كل دابة في الأرض من إنسان أو حيوان أو غيرهما، على الله وحده رزقها فهو سبحانه الرازق للغني والفقير وللصغير والكبير، ولكن ذلك لا ينافي الأخذ بالأسباب والسعي في سبيل الحصول على الرزق إذ أن هذا الرزق قد جعل الله تعالى له وسائل من سلكها نجح ومن أهملها خسر، وكيف لا هو القائل في آية أخرى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} .
__________
(1) الإسراء (31)
(2) الأنعام (140) .
(3) التكوير (8، 9) .
(4) هود (6)(5/93)
ولذا فتنظيم الأسرة لا يتعارض إطلاقًا مع الاعتقاد بأن الله تعالى هو الرازق لمخلوقاته لأننا مع هذا الاعتقاد مطلوب منا أن نسعى لطلب الرزق من وجوهه المشروعة حتى نقدم لمن هم أمانة في أعناقنا ما يغنيهم ويسترهم.. وفي الحديث الصحيح: ((إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون وجوه الناس)) ، ثم إني بعد ذلك أتساءل في ألم: هل الناس في مجموعهم يؤمنون بهذه الآية إيمانًا عمليًا كما ينطقون بها لفظيًا؟
والجواب: أن واقعهم العملي الذي نحسه ونشاهده، يخالف أقوالهم.. بدليل أنهم لو كانوا يؤمنون بهذه الآية إيمانًا عمليًا عميقًا، لما رأيت الوساطات من فلان إلى فلان من أجل الحصول على أشياء معينة.. ولما رأيت من يريق ماء وجهه ويذل نفسه لمخلوق مثله، من أجل أن يعين بعض أولاده في وظيفة معينة، أو في عمل معين، أو أن يدخلهم له كلية معينة ... إلخ، ولما رأيت أولئك الذين لا يعرفون معنى التعفف وهم يمدون أيديهم بالسؤال إلى مخلوق مثلهم.
فهل هذا المسلك الذي يتنافى مع الكرامة الإنسانية يتفق مع معنى قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ؟
مما لا شك فيه أن الذي يتفق مع معنى هذه الآية الكريمة هو العفاف النفسي والسمو القلبي والتعالي على سؤال المخلوقين في أمر يتنافى مع مكارم الأخلاق.. ولكن آفة الناس الكبرى أن كثيرًا منهم أقوالهم في واد وأفعالهم في واد آخر، وهذا شر ما تبتلى به الأمم.
وأيضًا لا تتعارض الدعوة إلى تنظيم النسل مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) ؛ لأن هذا الحديث مع كونه مرسلًا نرجح أن المقصود به والله أعلم الكثرة المؤمنة الصالحة القوية المنتجة، إذ من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يباهي بكثرة فاسقة عاصية ضعيفة جائعة متخلفة جاهلة تستورد معظم ضروريات حياتها من غيرها، وإنما يباهي بالكثرة المستقيمة القوية العزيزة الغنية التي دائمًا يدها هي العليا ويد غيرها هي السفلى.(5/94)
ولقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم الكثرة التي لا فائدة من ورائها في حديثه المشهور الذي يقول فيه: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، قالوا: ومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم حينئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) .
وإذن فالكثرة الصالحة القوية المنتجة مرحبًا بها، وهي محل المباهاة في كل زمان ومكان، أما الكثرة المنحرفة الطائشة الضعيفة التي تمد يدها بالسؤال إلى غيرها فإن القلة الرشيدة خير منها.
ونحن نكرر أن مسألة تنظيم الأسرة ليست من المسائل التي لا تقبل التغيير أو النظر؛ لأنها تنزيل من حكيم حميد، وإنما هي من المسائل التي تقبل المراجعة والنظر والتى هي من الأمور النسبية التي تخضع لظروف كل أسرة وأحوالها، ولإمكانيات كل دولة وتقديرها، فقد يكون تنظيم النسل مطلوبًا في أسرة دون أسرة وفي دولة دون دولة.
فالأقطار التي تشكو من تضخم السكان في حاجة إلى تنظيم الأسرة أو النسل، والأقطار التي في حاجة إلى كثرة الأفراد لخروجها من حروب مدمرة أو لوجود إمكانيات ضخمة فيها، لا تطالب بتنظيم النسل.
والخلاصة أن هذه المسألة تختلف من أسرة إلى أسرة، ومن قطر إلى قطر على حسب الظروف والأحوال والإمكانيات.
سابعًا: هل الدين يدعو إلى اتخاذ وسائل معينة لتنظيم الأسرة؟
الجواب: أن الدين يدعو إلى الحياة السعيدة بين الزوجين ويرسم لهما طريقهما ويحدد لهما ما هو حلال وما هو حرام، ثم بعد ذلك يعيطهما الحرية الكافية لتصريف حياتهما في إطار شريعة الله تعالى ومكارم الأخلاق.(5/95)
وظروف تنظيم النسل أو الأسرة كانت في القديم مقصورة على (العزل) وهو قذف النطفة بعيدًا عن الرحم عند الإحساس بنزولها.
وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل. وفي رواية للإمام مسلم عن جابر أيضًا قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه ذلك فلم ينهنا.
ثم تطورت طريقة تنظيم النسل بمرور الأيام وابتكر الأطباء أنواعًا كثيرة لهذا الغرض، منها ما يؤخذ عن طريق الفم، ومنها ما يؤخذ عن طريق الحقن، ومنها اللوالب المعدنية إلى غير ذلك من الوسائل.
وكل هذه الوسائل لا يعارضها الدين مادامت لا تتنافى مع آدابه، ومادام قد حكم الأطباء الثقات بصلاحيتها وعدم حدوث ضرر من استعمالها.
ثامنًا: هل يتنافى تنظيم الأسرة مع الإيمان بقضاء الله وقدره؟
والجواب: أنه لا تنافي بين تنظيم الأسرة وبين الإيمان بقضاء الله وقدره، لأن تنظيم الأسرة ما هو إلا لون من مباشرة الأسباب التي أمرنا الله تعالى بمباشرتها لتنظيم حياتنا.
وهذه الأسباب قد تنجح وقد لا تنجح، وقد تتخذ المرأة وسائل منع الحمل لفترة معينة مع ذلك يأتي الحمل، كما أن المريض قد يذهب إلى الطبيب فيعطيه علاجًا معينًا، ولكن هذا العلاج قد يؤدي إلى الشفاء وقد لا يؤدي إلى ذلك.
ونحن مطالبون دينيًا وعقليًا بمباشرة الأسباب التي شرعها الله تعالى لنجاحنا في الحياة، مع إيماننا المطلق بأن ما قدره الله وقضاه لابد أن يكون، إلا أن ما قدره الله وقضاه نحن لا نعلمه ولا نعرفه؛ لأن مرده إليه وحده، وهو سبحانه علام الغيوب، ورحم الله القائل:
إنما الغيب كتاب صانه عن
عيون الخلق رب العالمين
ليس يبدو منه للناس سوى
صفحة الحاضر حينًا بعد حين
وإذن فتنظيم الأسرة لا يتعارض إطلاقًا مع الإيمان بالقضاء والقدر لأن ما قدره الله سبحانه نحن لا نعلمه، وإنما نحن نباشر الأسباب، ثم نَكِلُ النتائج له سبحانه يصرفها كيف شاء {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
الدكتور محمد سيد طنطاوى(5/96)
تحديد النسل وتنظيمه
إعداد
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
أستاذ في قسم الفقه الإسلامي بجامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة وعرض لخطة البحث
الحمد لله ملهم الخير، دل عباده على طريق الصواب ثم ألزمهم به، ونبههم إلى مزالق الردى ثم حذرهم منها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فيحسن أن أضع القارئ الكريم أمام خطة لهذا البحث تبين له هيكله العام، وتسلسل جزئيات مسائله المرتبة بعضها على بعض حتى يكون على بينة من خارطة البحث ونهجه وكيفية تسلسله.
وهذه هي الخطة، وعلى نهجها بتوفيق الله نسير:
1 – تحرير محل البحث وتحديده.
2 – تمهيد: متى وكيف بدأت فكرة تحديد النسل أو تنظيمه؟
3 – حكم المسألة في الميزان الفقهي:
أ – مقدمة تتضمن بيان القاعدة الفقهية القائلة: ليس كل ما هو مشروع للفرد يشرع للجماعة.
ب – حكم تحديد النسل للأفراد.
جـ - حكم تحديد النسل في حق المجتمع بتوجيه من القادة.
4 – دراسة المسألة في الميزان الاجتماعي والديموغرافي.
5 – وأخيرًا المشكلات الجزئية التي تقتضي الحد من النسل أو تنظيمه محلولة، والمصلحة الكلية تتمثل دائمًا في أن يكون الزواج للإنجاب لا لمجرد المتعة والاقتران.
هذا وأسأل الله تعالى الرشد والتوفيق.(5/97)
تحرير محل البحث وتحديده
كلمة (تحديد النسل) أو (تنظيم النسل) تعني في المصطلح الشائع اليوم كل ما قد يتبعه الزوجان من الوسائل والأسباب التي من شأنها أن تحول دون نشوء الحمل، كليًا أو جزئيًا، أي دائمًا أو في أحوال وفترات دون أخرى.
ويدخل في هذه الوسائل العلاجات المختلفة التي تلجأ إلى استعمالها الزوجة ومنها العزل الذي قد يمارسه الزوج لأسباب اقتصادية أو اجتماعية.
إذن فلا يدخل في هذا المصطلح الإجهاض بأنواعه، من كل ما يعد إسقاطًا للجنين أو لمادة الجنين بعد العلوق.
إن المراد بتحديد النسل في بحثنا هذا كل ما يدخل في مضمون العمل الوقائي ضد الحمل لا الوسائل العلاجية التي تتخذ لإسقاطه.
كما أن مرادنا بتحديد النسل هذا ذاك الذي يمارسه الزوجان ابتغاء هدف اقتصادي أو تربوي أو اجتماعي كما أوضحنا، فلا يدخل في بحثنا هذا ما قد يلجأ إليه مرتكبوا الفواحش، نساء أو رجالًا، من الوسائل الكفيلة بمنع الحمل، فإن لهذه الحالة موازين خاصة بها من النظر والاعتبار.
متى وكيف بدأت فكرة تحديد النسل؟
من المعروف لدى علماء التاريخ والاجتماع أنه سادت بعض العشائر البدائية في بعض العصور القديمة عادة قتل الأولاد لأسباب متعددة، لعل من أكثرها شيوعًا الرغبة في التخفيف من أعباء الحياة.. ولما كان البنون أكثر نفعًا لآبائهم في أعمال الإنتاج، فقد كانت البنات وحدهن ضحية هذه العادة، هذا ما يقرره كثير من الباحثين (1) .
غير أن هذه العادة لم تكن مضطردة، فكثيرًا ما كان الآباء يصطفون لأنفسهم البنات، فلا يقع القتل إلا على الذكور، مما يبعث على الريبة في السبب الذي افترضه أولئك الباحثون.
__________
(1) انظر الأسرة والمجتمع للدكتور علي عبد الواحد وافي: ص 42 و 101.(5/98)
ولقد شاع القتل لكل من الجنسين لدى كثير من القبائل البدائية في أستراليا وغيرها، إذ كثيرًا ما كانت الأم تحرص على التخلص من وليدها دون نظر إلى الجنس، ولعل ذلك كان يتم لمجرد أسباب شخصية تعود إلى رغبة الأم وربما الأب أيضًا، في التخفيف من مشقات التربية، وفي الركون إلى مزيد من الراحة والدعة.
وفي إسبرطه كانت التقاليد المتبعة تقضي بأن يختبر الوالد وليده الصغير فور ولادته، فإن وجده ضعيفًا أو مريضًا أو مشوهًا لم ير مانعًا من القضاء عليه بأيسر طريق (1) .
كما أن عادة قتل الأولاد كانت سارية عند كثير من القبائل العربية في الجاهلية، مثل كندة، وربيعة، وطيء، وتميم، وغيرها.. والصحيح أن الدوافع إلى ذلك كانت مختلفة، فربما كان الحامل على ذلك خوفًا من الفقر والإملاق، وفي هذه الحال كان الهلاك كان يقع على كل من الذكور والإناث، وربما كان خوفًا من العار أو سيرًا وراء بعض المعتقدات الأسطورية التي تقضي بكون الأنثى من الإنسان رجسًا من الشيطان، وفي هذه الحال كان القتل يستحر بالبنات وحدهن (2) .
وأيًا كان الأمر فإن التخلص من النسل أو كثرته لم تكن تعتمد عند تلك الجماعات والشعوب على أي طريقة وقائية سابقة، على نحو ما صورنا وحددنا في نقطة تحرير البحث.. بل كان يأخذ شكل التدارك للأمر من بعد الولادة بواسطة القتل.
__________
(1) دائرة المعارف لفريد وجدي: 4/432، وقصة الزواج والعزوبة في العالم لعلي عبد الواحد وافي ص 122.
(2) الأسرة والمجتمع: ص 102، وانظر لسان العرب مادة (وأد) .(5/99)
وإذا استثنينا النظام الذي كان سائدًا في إسبرطه وأثينا فيما يتعلق بهذا الأمر، فإن هذا الذي كانت تقدم عليه سائر القبائل والشعوب الأخرى، إنما كانت مدفوعة إليه بدافع من جهالتها وبدائيتها في التعامل مع الحياة وأسبابها ... ولم يكن لدى أي قبيلة أو فئة من مجموع أولئك الناس أي انطلاقة علمية أو ثقافية مهما ضؤلت قيمتها إلى تلك العادة المتبعة.
ولقد تقدمت الشعوب والأمم صعدًا فيما بعد على درب العلم والحضارة، فترك كثير منها كثيرًا من عاداتها وتقاليدها المتخلفة وراءها.. بما فيها هذه العادة ذاتها، وظل الأمر مستمرًا على ذلك أجيالًا متعاقبة من الزمن.
إلا أن الثلث الأخير من القرن الثامن عشر شهد ولادة جديدة لهذا الاتجاه بأسلوب متطور.. لقد ولد هذه المرة في رحم من المسوغات والحيثيات العلمية والحضارية بعد أن كانت ولادته الأولى ضمن ظلمات من تلافيف الجهل والخرافة.
فقد نشر القس والعالم الاقتصادي البريطاني (مالتوس) مقالًا بعنوان (تزايد السكان وتأثيره في تقدم المجتمع في المستقبل) وذلك في عام 1798 أوضح فيه أن وسائل الإنتاج وأسباب الرزق في الأرض محدودة، غير أنه لا يوجد حد لتزايد السكان وتضخم النسل. فإذا ترك الأمر بدون تنسيق، فإن المفروض أن يأتي يوم تضيق الأرض فيه بسكانها وتقل فيه وسائل العيش عن تلبية حاجاتهم.. ثم اقترح الكاتب القس لتنفيذ هذا التنسيق سبيلين اثنتين:
أولهما: ألا يتزوج الشباب إلا بعد أن يتقدم بهم السن.
ثانيهما: أن يبذل الأزواج بعد أن تظلهم الحياة الزوجية قصارى جهدهم في سبيل الإقلال من الإنجاب (1) .
__________
(1) كان هذا المقال من أهم ما حمل داروين على طرح فرضيته المتعلقة بأصول الأنواع. وانظر مقدمة كتابه: أصل الأنواع.(5/100)
وما كادت أصداء مقالته هذه تنتشر في ربوع أوروبا، حتى كتب الباحث الفرنسي فرنسيس بلاس Francis Palace مقالًا ينادي فيه بدعوة مالتوس، ويؤكد فيه ضرورة الحد من تزايد السكان. وبعد حين ظهر في أمريكا مقال للطبيب المشهور تشارلس كنورتون Charles Knorotton يؤيد فيه الفكرة ذاتها مقدمًا اقتراحاته ضمن آراء وتدابير طبية يمكن الاستفادة منها.
وسرعان ما لقيت هذه الدعوة رواجًا في الأوساط المختلفة، وصادفت من الغرب المقبل على بحر من التحلل لا شاطئ له ولا قرار، تربة صالحة، ووجد الباحثون عن اللذة والهاربون من مغارم المسئولية في الاستجابة لها ما يحقق بغيتهم ويعينهم على تحقيق أهدافهم وهذا شيء متوقع من أناس هذه هي حالهم.
ولكن لابد أن نتساءل: هل صدقت قواعد العلم، أو هل صدق الواقع الممتد من أواخر القرن الثامن عشر إلى أواخر القرن العشرين، شيئًا من تصورات مالتوس؟ وأحسب أن قرنين من الزمن فيهما فرصة كافية للكشف عن حقيقة هذه النبوءة.. نبوءة تناقص وسائل الرزق عن عدد الأناسي الذين أحصاهم مالتوس في خياله الممتد إلى آفاق الزمن المقبل.
إن الذي أثبتته الدراسات العلمية الموضوعية، ودلت عليه تجارب الأمم ووقائع الأزمنة والتاريخ، نقيض ما قد تصوره مالتوس ومن انساقوا وراء افتراضاته، فلنشرح ذلك بالقدر الذي يتناسب وطبيعة هذا البحث، على أن نبدأ قبل كل شيء، فنستجلي حكم هذه المسألة في الميزان الشرعي، فقد كانت حقائق العلم ولا تزال لاحقة بحكم الشرع وخاضعة له، ذلك لأن حكم الشرع ليس إلا قرار خالق العلم وقواعده ومحال أن يقع بينهما أي تناقض أو تشاكس.(5/101)
حكم المسألة في الميزان الفقهي
لهذه المسألة حكمان مختلفان، أولهما يتعلق بالأفراد، وثانيهما يتعلق بالمجتمع الذي تمثله الدولة وينطق باسمه الحاكم أو الإمام، فلنبدأ ببيان الحكم الأول منهما، وهو الحكم الذي يخاطب به الفرد صاحب العلاقة.
أولًا: عرض لأهم الأحاديث الواردة في هذه المسألة:
1 – روى البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه، عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل.
2 – روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا سبيًا فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أوإنكم لتفعلون؟!)) قالها ثلاثًا، ((ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)) .
3 – روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: غزونا مع رسول الله غزوة بني المصطلق فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل، وقلنا: نفعل ورسول الله بين أظهرنا لا نسأله؟! فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا عليكم ألا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون)) . ورواه أيضًا بألفاظ مقاربة أبو داود والطبراني والإمام أحمد.
4 – روى مسلم والبخاري وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري أن صلى الله عليه وسلم سُئل عن العزل، فقال: ((لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم، فإنما هو القدر)) .
5 – روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ولم يفعل ذلك أحدكم؟)) ، ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم، ((فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها)) .(5/102)
6 – روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا (أي تسقي لنا) وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال: ((اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها، فلبث الرجل ثم أتاه، فقال: إن الجارية قد حبلت، فقال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها)) . ورواه أيضًا بألفاظ قريبة أبو داود والإمام أحمد.
7 – روى مسلم وابن ماجه والإمام أحمد عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة حديثًا طويلًا جاء فيه: ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذلك الوأد الخفي".
8 – وروى الترمذي والنسائي كل منهما عن طريق معمر، عن يحيى بن كثير عن جابر قال: كانت لنا جوار وكنا نعزل، فقال اليهود: إن تلك الموءودة الصغرى، فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: ((كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع رده)) .
ما الذي نفهمه من هذه الأحاديث؟
إذا استثنينا الحديث السابع من مجموع هذه الأحاديث، لاحظنا أن سائر الأحاديث الأخرى دالة على جواز العزل عن المرأة اتقاء الحمل، وإن كانت لا تخلو من دلالة علي الكراهة، فقول جابر في الحديث الأول: كنا نعزل على عهد رسول الله في قوة قوله: كان يعلم أننا نعزل وكان يقرنا على ذلك، وإلا لم يكن لقوله: على عهد رسول الله معنى.
وقد نقل الإمام النووي في مقدمة المجموع، أن مثل هذا التعبير من الصحابي يجعل الحديث في قوة المرفوع، بل عده البعض في حكم المرفوع، حتى وإن لم يضفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن نقل النووي الخلاف في ذلك قال: وظاهر استعمال كثير من المحدثين وأصحابنا في كتب الفقه أنه مرفوع مطلقًا، سواء أضافه أم لم يضفه، وهذا قوي، فإن الظاهر من قوله: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون، الاحتجاج به وأنه فعل على وجه يحتج به، ولا يكون ذلك إلا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغه (1) .
__________
(1) المجموع للنووي: 1/60، وانظر فتح الباري: 9/245.(5/103)
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني: ((أوإنكم لتفعلون؟)) يحتمل الاستنكار على وجه الكراهة التنزيهية، ويحتمل الاستنكار على وجه التحريم، كما أن قوله في الحديث الثالث والرابع: ((لا عليكم ألا تفعلوا)) ، يحتمل الإذن والنهي، إذ يحتمل أن يكون معنى هذه الجملة ليس عليكم أن تتركوا ذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: لا تعزلوا وعليكم إثم ذلك.
إلا أن نص الحديث السادس وهو قوله: ((اعزل عنها إن شئت)) رفع الاحتمال من كلا الجملتين، فبقيت الجملة الأولى دالة علي الكراهة، أما الثانية فدالة على عموم الإذن وعدم الحرج.
وإذن فإن سبعة أحاديث من مجموع ما أوردناه تدل على جواز العزل من حيث المبدأ ويقطع النظر عن الإباحة والكراهة. أما الحديث الذي يدل ظاهره على المنع فهو حديث جذامة بنت وهب، فما القول فيه؟
كيف نفهم حديث جذامة؟
نبدأ أولًا فنذكر الوجوه التي ذكرها العلماء في التوفيق بينه وبين الأحاديث الأخرى، ثم نختار من بين هذه الوجوه ما قد يبدو لنا أنه الأقرب والأوفق.
الوجه الأول: وذكره النووي في شرحه على مسلم، ويفهم من كلام الطحاوي في شرح معاني الآثار أن حديث جذامة يحمل النهي فيه على كراهة التنزيه، ويحمل الإذن الوارد في الأحاديث الأخرى على عدم الحرمة، فيكون القدر المشترك في دلالة الأحاديث كلها هو كراهة التنزيه (1) .
__________
(1) النووي على مسلم: 10/8، وشرح معاني الآثار للطحاوي: 3/30.(5/104)
الوجه الثاني: تضعيف حديث جذامة بسبب كثرة الأحاديث الصحيحة المعارضة له، وبسبب أن حديث تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لليهود أكثر طرقًا، إذ أن النسائي قد أخرجه من طريق هشام وعلي بن المبارك وغيرهما عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي مطيع عن أبي سعيد.. ومن طريق ابن عامر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة.. ومن طريق سليمان الأحول أنه سمع عمرو بن دينار يسأل أبا سلمة بن عبد الرحمن عن العزل، فقال: زعم أبو سعيد.. إلخ، قال: فسألت أبا سلمة: أسمعته من أبي سعيد؟ قال: لا، ولكن أخبرني رجل عنه.
فهذا الطريق الأخير وإن كان فيه مجهول، إلا أنه معزز بالطرق المذكورة الأخرى وهي في مجموعها، بالإضافة إلى الأحاديث الأخرى الصريحة في جواز العزل، تقضي بضعف حديث جذامة المنفرد في مضمونه عن كل ما قد روي عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب.
الوجه الثالث: أن مضمون حديث جذامة وهو المنع، كان معمولًا به في أول الإسلام، ثم إنه نسخ فيما بعد بالأحاديث الأخرى الدالة على الجواز.
الوجه الرابع: وإليه ذهب ابن حزم، أن حديث جذامة هو الذي يجب العمل به، لثبوته في الصحيح، ولاضطراب الطرق الواردة للحديث المقابل له، ولأن حديث جذامة دال على المنع، فهو رافع لحكم الإباحة الأصلية، وهذا أمر متيقن، فمن ادعى أن تلك الإباحة المنسوخة قد عادت وأن النسخ المتيقن قد بطل، فقد ادعى الباطل، ونفى ما لا علم له به، وأتى بما لا دليل عليه (1) .
__________
(1) المحلى لابن حزم: 10/88.(5/105)
الوجه الذي نرجحه:
إن القول بتضعيف حديث جذامة للأسباب التي ذكرناها قول لا يستند فيما نرى إلى دليل صحيح، ذلك لأن دعوى التعارض في أصلها غير صحيحة، بل غاية الأمر أن قوله عليه الصلاة والسلام: ((ذلك الوأد الخفي)) يشير إلى كراهة العزل تنزيهًا، وليس فيه ما يقطع بالدلالة على التحريم، مع ملاحظة أن أقواله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الأخرى دالة على أصل الجواز الصادق بالكراهة والإباحة، فانتفى التعارض، فانتفى بذلك موجب الشذوذ الباعث على التضعيف.
وقد قال الحافظ ابن حجر عن هذا الوجه: وهذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم والحديث صحيح لا ريب فيه، والجمع ممكن (1) .
وأما القول بأن مضمون حديث جذامة، وهو النهي، كان ساريًا في أول الإسلام، ثم نسخته الأحاديث الأخرى الدالة على الجواز، فيرده أن من شروط النسخ معرفة تاريخ كل من الناسخ والمنسوخ، وليس ثمة ما يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بحكم التحريم أولًا، ثم أخبرهم بعد حين بحكم الجواز.
وأما قول ابن حزم بأن المنع في حديث جذامة جاء نسخًا لأحاديث الإباحة الأصلية، فيرده قول جابر رضي الله عنه فيما رواه الستة ما عدا أبا داود: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل، فلو لم يكن جواز العزل مستمرًا إلى وفاته عليه الصلاة والسلام، لما قال جابر ذلك، ولأوضح أن آخر ما استقر عليه الحكم هو التحريم.
ويرده أيضًا أن كلامه هذا يعني أن حديث تكذيب النبي لليهود منسوخ، فيقال له عندئذ عين ما يقوله هو لنا، ويطالب هو نفسه بالدليل الذي يثبت أن حديث تكذيب اليهود منسوخ ولا دليل، ذلك لأن دعواه بأن حديث جذامة قد نسخ الإباحة الأصلية، ليست أولى من دعوانا نحن بأن حديث تكذيب النبي لليهود قد نسخ حديث جذامة، هذا كله نقض إجمالي.
أما النقض التفصيلي فهو أن يقال لابن حزم: ليس ثمة أي تعارض، كما قد أوضحنا، ومن ثم فإن اللجوء إلى القول بالنسخ غير وارد في هذا الصدد مطلقًا.
إذن فقد بقي الوجه الأول الذي رويناه عن النووي وأيده الحافظ ابن حجر والطحاوي وجماهير الفقهاء والمحدثين، وهو الوجه المتعين الذي لا محيد عنه، وهو أن العزل (كأداة من أدوات التحايل لمنع الحمل) جائز مع الكراهة التنزيهية.
__________
(1) فتح الباري: 9/248.(5/106)
حكم العزل عند الفقهاء بناء على هذه الأحاديث:
ذهب الأئمة الأربعة اعتمادًا منهم على مجموع الأحاديث المذكورة إلى جواز عزل الرجل ماءه عن زوجته مع الكراهة التنزيهية.
واتفق الأئمة الثلاثة (مالك وأحمد وأبو حنيفة) على أن ذلك مشروط برضا الزوجة، واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من وافق الجمهور في هذا الشرط، ومنهم من خالفه فأجازه بدون ذلك. قال الإمام النووي: العزل هو أن يجامع، فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج، وهو مكروه عندنا في كل حال، ولكل امرأة سواء رضيت أم لا. إلى أن قال: وأما زوجته الحرة فإن أذنت فيه لم يحرم، وإلا فوجهان أصحهما لا يحرم (1) .
وقال ابن جزي من فقهاء المالكية: لا يجوز العزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها (2) .
وقال ابن قدامة من فقهاء الحنابلة: ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها. قال القاضي: ظاهر كلام الإمام أحمد وجوب استئذان الزوجة في العزل (3) .
وقال الإمام الكاساني، وهو من أئمة الحنفية: ويكره للزوج أن يعزل عن امرأته الحرة بغير رضاها، لأن الوطء عن إنزال سبب لحصول الولد، ولها في الولد حق، وبالعزل يموت الولد، فكان سببًا لفوات حقها، وإن كان العزل برضاها لا يكره؛ لأنها رضيت بفوات حقها (4) .
__________
(1) شرح مسلم للنووي: 10/9.
(2) القوانين الفقهية:160.
(3) المغني لابن قدامة: 7/228.
(4) بدائع الصنائع: 2/334.(5/107)
قلت: والمقصود بالكراهة في كلام الكاساني كراهية التحريم، لأن الحنفية إذا أطلقوا الكراهة انصرفت إليها بمصطلحهم.
فقد تحصل من هذا أن الأئمة الأربعة متفقون على جواز العزل عن الزوجة، إذا كان ذلك برضاها، وإلا فالأئمة الثلاثة متفقون على التحريم، وللشافعية في ذلك وجهان، رجح الإمام النووي منهما عدم التحريم.
ولعل الذي يقتضيه الدليل ويتفق مع القواعد الفقهية ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط رضا الزوجة، أما الدليل فما رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها. وأما القاعدة فهي قولهم (الضرر يزال) وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) بيان ذلك أن للزوجة في الولد حقًا مع الزوج، وفي توفيت هذا الحق إضرار بها.
ثم إن العزل من شأنه أن يفوت عليها لذة الجماع، فإن كان ذلك بدون رضاها فقد أضر بها.
ثم إن ثمة شرطًا آخر، هو في حكم المتفق عليه لدى الجميع، لدخوله تحت سلطان هذه القاعدة، ألا وهو أن لا يستتبع العزل أو ما يقوم مقامه ضررًا بالزوج أو الزوجة، فلو توقع الضرر من ذلك بعلم طبيب موثوق به وعادل، حرم اتخاذ تلك الوسيلة أيًا كانت.
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلًا، وأخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي والدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري، وابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت.(5/108)
يدخل في حكم العزل سائر الأسباب الوقائية:
الآن وقد علمنا حكم العزل وأدلته وشرائطه، فإننا نقول: إنه يقاس عليه كل ما قد يشبهه من الوسائل التي يتقي بها الزوجان أو أحدهما الحمل، كالحبوب التي تستعملها النساء، وكاللجوء إلى الجماع في الأوقات التي لا يتوقع فيها العلوق، ونحو ذلك من الوسائل التي قد يبدعها الأطباء لتحقيق هذا الغرض.
فكل ما اتفق عليه الزوجان من ذلك ولم يستتبع ضررًا بالجسم أو النفس بناء على مشورة طبيب موثوق، جاز استعماله مع كراهة التنزيه.
ونحن كما تعلم إنما نتحدث عن الزوجين وما قد يكون بينهما من لقاء مشروع، فأما الزنا وما قد يترتب عليه من محاولات لعدم العلوق، فلا شأن لنا بالحديث عنه في هذا المقام.
لا رخصة في استعمال وسائل لاستئصال النسل:
اتفق جماهير العلماء على أنه لا يجوز استعمال شيء من الوسائل التي من شأنها القضاء على النسل قضاء مبرمًا، سواء في ذلك الرجل والمرأة، وسواء أكان ذلك باتفاق بينهما أم بدونه، وسواء أكان الدافع دينيًا أم غيره (1) .
وذلك كأن يستعمل الرجل علاجًا من شأنه استئصال الطاقة على الجماع، وكإجراء عملية لرحم المرأة يفقدها صلاحية الحمل والإنجاب، ويدخل في ذلك ما يسمى اليوم بربط البوقين.
__________
(1) انظر الأنوار للأردبيلي: 2/41، ومغني المحتاج: 3/126، والإقناع على شرح أبي شجاع: 4/40.(5/109)
دليل حرمة ذلك أنه يدخل تحت ما يعد تغييرًا لجانب ذاتي من خلق الله عز وجل، وليس للإنسان أن يستقل بشيء من هذا التغيير، يقول الله عز وجل مبينًا ما أخذه إبليس على نفسه من بذل كل جهد لإغواء الصفوة من عباده: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (النساء: 118 - 119) .
ومن أجل ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التنميص وتزجيج الحاجبين وتفليج الأسنان والوشم، إذ كل ذلك داخل في مسمى التغيير الذاتي، بخلاف ما يدخل في معنى التهذيب والعناية كحلق الشعر والعناية به، وقص الأظافر وتكحيل العين ونحو ذلك.
وقد علمنا أن استئصال الشهوة الجنسية أو وسيلة القدرة على الإنجاب من أوضح أمثلة التغيير الذاتي لخلق الله، وقد حذر البيان الإلهي منه كما قد رأينا.
ولكن قد يرد علي ما قلناه السؤال التالي:
أرأيت لو أن طبيبين عادلين مختصين قررا أن فلانة من الناس يعرضها الحمل لخطر موت غالبي أو مؤكد، وأن ذلك يعود إلى حالة مرضية، الشأن أن تلازمها حتى الموت، ألا يجوز لها في هذه الحالة ربط البوقين، وهي معالجة تمنع الحمل منعًا دائمًا؟
مقتضى القواعد الفقهية أن يجوز لها الإقدام على هذا العمل استثناء من القاعدة العامة لاسيما وأن مرضها الطارئ قد تولى هو تغيير جانب ذاتي في حياتها إذ أفقدها القدرة على تحمل أعباء الحمل، فكان الربط الذي أقدمت عليه انسجامًا مع واقع التغيير الذي ابتلاها الله تعالى به. وكم من فرق بين هذه المرأة وتلك التي تتمتع بصحتها التامة وواقعها السوي، فتقدم على اجتثاث قابلية الحمل وأسبابه، لا شك أن هذه الثانية دون الأولى هي التي يصدق عليها أنها قد غيرت من خلق الله، والله أعلم.(5/110)
كان هذا بيانًَا لحكم هذه المسألة في حق الأفراد أصحاب العلاقة المباشرة.
والآن ما هو حكم هذه المسألة في حق المجتمع المتمثل في الدولة إذ توجه وتأمر وتنهى؟
إننا نقول بكلمة موجزة شاملة: إن الدولة لا تستطيع أن تستفيد شيئًا من أحكام الجواز الذي أوضحناه في حق كل من الزوجين، ولا يحق لها أن تعتمد على شيء من أدلة ذلك الحكم في أي إجراء توجيهي تتخذه إلا أن يكون توجيهًا للناس إلى الحكم الشرعي ذاته، ذلك لأن الدولة ليست هي صاحب العلاقة المباشرة في الموضوع، وليست لها أي سلطة أو ولاية على شيء من أركانه.
وهذا الفرق في الحكم يتجلى في كل ما كان الجواز فيه على سبيل الرخصة والتوسعة، فإن حكم الجواز فيه يسري في حق الأفراد أصحاب العلاقة المباشرة، ولكنه يبقى في عمومه، وبالنظر لعامة الناس ومجموعهم على أصل العزيمة التي اقتضتها المصلحة العامة.
أرأيت إلى الطلاق؟ إنه حق أعطاه الشارع لصاحب العلاقة وهو الزوج بشروط وقيود معروفة، فهل للدولة أن تفرض لنفسها صلاحية ممارسة هذا الحق وصلاحية فرضه على من تشاء من الناس، أي بأن تجبر من تشاء على الطلاق أو بأن توقع هي الطلاق عنه عندما ترى أن المصلحة تقضي بذلك، محتجة بعموم الأدلة الناطقة بمشروعية الطلاق؟
كذلك أحكام الحد من النسل، فإنما هي عائدة – من حيث هي رخصة – إلي الشخصين اللذين يمثلان أركان القضية، فليس إذن للحاكم أن يحتج بهذا الحق لهما، فيبني عليه دعوة عامة إلي الحد من النسل، ويثير لذلك الدوافع والمرغبات، بل يشرع له الإلزامات الأدبية أو الجزائية بالوسائل المختلفة.(5/111)
وأصل هذا الذي نقرره أن المباح في الشرع نوعان:
نوع يتفق مع حكم الأصل، بأن ينطوي على فائدة ومصلحة عامة للفرد والمجتمع، كالتمتع بالطيبات وتناول المنتفعات التي لا ضرر فيها، فحكم الإباحة في هذا النوع ماض في حكم الفرد والجماعة، يقضي به الفرد في حق نفسه، ويقضي به الحاكم لمجتمعه، دون إجبار ولا إلزام إلا في حق المصلحة العامة.
ونوع آخر لا يتفق مع حكم الأصل من الإباحة الأصلية العامة، وإنما دخله حكم العفو أو الإباحة (بتسامح في التعبير) من أجل عارض يتعلق بأشخاص بأعيانهم. فحكم العفو أو الإباحة يبقى خاصًا في نطاق هؤلاء الأشخاص الذين تعلقت بهم أحوال عارضة اقتضت التخفيف في أمر كان أصله يقتضي عدم الإباحة.
ونحن نعلم أن النكاح إنما شرع في أصله من أجل النسل، ولحكمة بقاء النوع. وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((تناكحوا تناسلوا تكثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) (1) .
__________
(1) رواه عبد الرزاق عن سعيد بن أبي هلال، مرسلًا.(5/112)
فالسعي إلى إيقاف النسل أو تقليصه مناف لأصل ما شرع النكاح من أجله ولكن الشارع الحكيم جل جلاله رخص للزوجين في محاولة جزئية وفردية للحد من النسل نظرا لظروف أو مصالح شخصية قد تكتنفهما أو تكتنف أحدهما أما الحكم العام فباق على أصله وهو المنع والحاكم العام هو الأمين على ذلك.
وفي بيان هذا الأصل يقول الإمام الشاطبي: إن المباح ضربان: أحدهما أن يكون خادمًا لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي والثاني ألا يكون كذلك. فالأول قد يراعى من جهة ما هو خادم له. فيكون مطلوبًا ومحبوبًا فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوهما مباح في نفسه، وإباحته بالجزء، وهو خادم لأصل ضروري وهو إقامة الحياة، فهو مأمور به من هذه الجهة ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب، فالأمر به راجع إلي حقيقة كلية، لا إلى اعتبار جزئي.. ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد، لا من حيث هو جزئي معين. والثاني: إما أن يكون خادمًا لما ينقض أصلًا من الأصول الثلاثة المعتبرة أو لا يكون خادمًا لشيء كالطلاق، فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلي: إقامة النسل في الوجود، وهو ضروري لإقامة مطلق الألفة والمعاشرة واشتباك العشائر بين الخلق، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما، فإذا كان الطلاق بهذا النظر حرامًا لذلك المطلوب ونقضًا عليه كان مبغضًا، ولم يكن فعله أولى من تركه، إلا لعارض أقوى وعدم إقامة حدود الله، وهو من حيث كان جزئيًا في هذا الشخص وفي هذا الزمان مباح وحلال (1) .
__________
(1) الموافقات للشاطبي: 1/28، وانظر مبحث تنظيم الأسرة للشيخ أبو زهرة، وهو من بحوث المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية.(5/113)
أقول وقد يعبر عن هذا الأصل الذي قررناه بالقاعدة الفقهية القائلة: ليس كل ما هو مشروع للفرد مشروعا للجماعة. وهي قاعدة فرعية مخرجة على القاعدة المعروفة الكبرى: تصرف الحاكم منوط بالمصلحة. أي بما أنه وكيل عن الأمة في رعاية مصالحها فقد وجب عليه أن يلتزم جانب الحيطة في الأمر فلا يغامر بمصالحها ولا ينزل عن السعي إلى تحقيق أعلى درجات الصلاح لها. هذا مع العلم بأن أفراد الأمة لو مارسوا بأنفسهم حقوقهم ومصالحهم جاز لكل منهم أن يغامر بمصالحه كما يحب.
مثال ذلك أن للفرد من الناس أن يقتدي في صلاته بفاسق إن شاء ذلك.. غير أن الحاكم لا يجوز له أن يعتمد على هذا الحكم، فينصب للناس إمامًا فاسقًا.
ومثاله أيضًا أن ولي المقتول يملك أن يعفو عن القصاص على الدية أو جزء منها.. غير أن الحاكم لا يملك مثل هذا الحق، ولا يستطيع أن يلزم ولي المقتول به (1) .
وحيثما يعطي الشارع الزوجين حق إيقاف النسل أو يمنعهما منه، طبق ما رأينا آنفًا، فإنما ذلك لمصلحة تتعلق بهما، ولأمر عائد إليهما، وقد يكون المجتمع شريكًا لهما في المصلحة في بعض الأحيان.
فتعميم الدولة حكم الإباحة أو الحظر، هدر لمصلحة الأفراد، وتجاوز لواجب الحيطة في رعاية أمر العامة.
ولو أن هؤلاء الذين يظلون يفتون للحاكم بالدعوة إلي تحديد النسل، تنبهوا إلي هذه القاعدة التي ما ينبغي أن تخفى على باحث بل طالب علم – لعلموا أنهم مبطلون فيما يفتون به، وأنهم إنما يستلبون بذلك حقًا أعطاه الشارع للأفراد أصحاب العلاقة، ليملكوه لمن لا حق لهم في امتلاكه أو التصرف به.
وأخيرًا فإننا نلاحظ أن خلاصة ما ذكرناه من أحكام هذه المسألة وما لم نذكره مما يتعلق بحالات الإجهاض وأحكامه – إنما هي في مجموعها رعاية لحقوق ثلاثة تعود إلي ثلاثة أطراف، وهي حق الأبوين، وحق المجتمع، وحق الجنين.
فمن رعاية هذه الحقوق الثلاثة والتنسيق فيما بينها، تتكامل أحكام تحديد النسل وقاية (وهو ما فرغنا من بيانه) وعلاجًا (وهو ما لم نذكره في هذا المقام) (2) .
__________
(1) انظر الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 109.
(2) قلنا عند تحرير محل هذا البحث: إن موضوع الإجهاض وأحكامه مفصول في مصطلح الباحثين اليوم عن موضوع تحديد أو تنظيم النسل، ولذا لم نشأ أن نفتح ملف البحث في هذا المقام.(5/114)
دراسة المسألة في الميزان الاجتماعي والديموغرافي
دأب طائفة من الباحثين السطحيين علي إهمال الحكم الشرعي وعدم الوقوف عنده بأي تقدير، كلما كان الحكم متعلقًا بقضية اجتماعية سجل علماء الاجتماع في حقها حكمًا مخالفًا، ونظرة مغايرة لنظر الشرع ومن أبرز مظاهر السذاجة عند هذه الطائفة من الناس، أنهم ينعتون حديث علماء الاجتماع بالقرار العلمي، ويصفون حكم الشريعة الإسلامية بالنظرة الدينية.
ولسنا الآن بصدد تحليل هذه الظاهرة الفكرية المتخلفة التي تبعث علي الإشفاق، ولكني أشعر نظرًا لوجود هذه الطائفة فعلًا أن ثغرة ما قد تبقى في تضاعيف هذا البحث إن لم أتبع بيان الحكم الفقهي بما يؤيده من تهافت الكلام الذي يردده من ينعتون أنفسهم بعلماء الاقتصاد أو الاجتماع أو العلماء الديموغرافيين، بدءًا من مالتوس إلي كل من يهيم وراء كلامه في عصرنا هذا.
ومعلوم أنهم جميعًا يرفعون – في بلادنا العربية والإسلامية – شعار الدعوة إلى تحديد النسل أو تنظيمه.. والكلمتان توأمان في المدلول وإن اختلفتا في المظهر والنعومة.
بإمكاننا أن نكثف الأدلة العلمية المختلفة التي كشفت عن زيف افتراضات مالتوس وأشياعه في بيان النقاط التالية:
أولًا: إذا فرضنا أن المستند الذي أقام عليه مالتوس تصوراته، مستند علمي صحيح، يجب إذن أن يكون حقيقة راسخة تهيمن على علاقة الإنسان بوسائل الرزق والإنتاج من حيث الكم، علي طول الحياة الإنسانية فوق هذه الأرض. ذلك لأن الإنسان ذاته في كل عصر، وأسباب الرزق في محدوديتها أو عدم محدوديتها هي أسباب الرزق ذاتها في كل مكان وزمان.
فأين هو مصداق تصوره الذي بنى عليه اقتراحاته، على مساحة التاريخ الإنساني كله طولًا وعرضًا؟(5/115)
لقد ظل الناس يتزاوجون فيتناسلون ويتكاثرون خلال قرون متطاولة مرت، وكانت أرزاق الأرض والسماء كما هي الآن، إن لم تكن أقل غنى منها اليوم فإنها لم تكن أكثر. ومع ذلك فإن شيئًا مما دار في خلد مالتوس لم يقع في أي مرحلة من مراحل ذلك التاريخ الطويل: لم تتناقص كمية الأرزاق أمام زيادة السكان، ولم يقع أي جيل في كمين المهلكة التي ينذر بها المالتوسيون اليوم (1) .
وطبيعي أن أنظمة المعيشة ومقوماتها ليست خاصة بإنسان هذا العصر وحده، بل هي لا تسمى أنظمة كونية ومقومات أساسية إلا إذا كانت مهيمنة علي حياة الأسرة الإنسانية كلها منذ فجر التاريخ.
قد يناقش بعض السطحيين هذا الكلام بأن من الثابت أن تزايد السكان في هذا العصر يسير بسرعة أكثر مما كان الحال عليه في الماضي، فنسبة تزايد السكان في العالم اليوم ما بين 4.3 % (إحصائيات هيئة الأمم المتحدة) وهي تكشف عن مدى التفاوت في سرعة التكاثر بين هذا العصر والعصور الخالية.
والجواب أن ملاحظة هذه النسبة في الزيادة يجب أن تقترن بها ملاحظة التفاوت الكبير في الطاقة الإنتاجية وثمراتها، ما بين عصرنا هذا وتلك العصور الغابرة، فإذا أخذنا هذا بعين الاعتبار، أدركنا أنه ما من زيادة في تكاثر السكان إلا وتتبعها زيادة في الطاقة الإنتاجية وأسباب المعيشة، ذلك لأن التقدم العلمي الذي أصبح عاملًا في خفض نسبة الوفيات هو ذاته الذي غدا عاملًا في تطوير الطاقات الإنتاجية ومضاعفة ثمراتها، ولا يستثنى من هذا التلازم الواضح إلا حالة الركود الذي قد تجنح إليه جماعة من الناس، فالذنب عندئذ إنما هو ذنب الكسل والركود لا ذنب النسل المتكاثر.
__________
(1) من الواضح أننا نعني مجاعة عامة يفترض أنها ظهرت أو ستظهر من جراء سوء التناسب الكمي بين الإنسان ومدخرات الأرض فلا شأن لنا إذن بالمجاعات التي قد تقع لعورض وأسباب خاصة.(5/116)
ثانيًا: إن أرباب هذه الدعوة، أقاموا دعوتهم على خطيئة كبرى في تقدير معنى الرزق الذي يحتاج إليه الإنسان، فلقد تصوروا أن الحاجات الإنسانية محصورة في الخيرات الثابتة في الأرض والمنافع الكامنة في أحشائها، بقطع النظر عن أي تفاعل يتم بينها وبين الإنسان، وهي بدون شك (علي هذا المعنى) منافع محصورة، سرعان ما يربو عليها نمو السكان وتكاثر الأفراد.
ولكن الأمر في واقعه ليس كذلك.
ليست مقومات العيش لبني الإنسان متمثلة في هذه المدخرات الثابتة من زيت وفحم وحديد وغير ذلك، وإنما هي كل ما قد يتوالد من تزاوج هذه المدخرات، مع ما قد يبذله الإنسان من جهد ويحققه من تدبير، في سبيل الوصول بهذه المنافع الطبيعية إلى أقصى درجات الاستفادة المتنوعة منها.
ومعلوم أن الإنسان كلما اكتشف سبل نفع جديدة من بعض خيرات الأرض، تكون له من ذلك رأس مال جديد لتحقيق مغانم جديدة في مجال النفع الإنساني الذي لا يكاد يقف عند حد.. ويمتد أثر هذا التلاقح من النفع المتوالد بشكل زاوية منفرجة تتسع قدر اتساع الجهد الإنساني.
وهذا شيء معروف ومفروغ منه لدى سائر علماء الاقتصاد والديمغرافيا اليوم، ولا نحسب أن أحدًا من المثقفين، فضلًا عن أهل الاختصاص يمتري فيه.
يقول الأستاذ فيدروف أمين الأكاديمية السوفياتية للعلوم بصدد نقده لتصورات مالتوس: وإذا كانت موارد الطبيعة محدودة حقًا، وكانت الحاجات الإنسانية غير محدودة فما وجه الاعتراض إذا على تلك النظرية؟ وجه الاعتراض عندنا أن موضع الاهتمام ينبغي أن يركز علي حاجات المجتمع الإنساني الأساسية وعلى وسائل سدها، لا على موارد الطبيعة ذاتها، كالفحم والزيت والحديد وغيرها، وكذلك ينبغي أن لا نغفل عن قيمة الإنسان وسعيه وتدبيره (1) .
__________
(1) من مقال نشرته مجلة ستردي ريفبو، وانظر كتاب المجتمع العربي ومقاييس السكان للدكتور عبد الكريم اليافي.(5/117)
ويقول العالم الديموغرافي الفرنسي الفريد سوفي: إن الاكتظاظ الذي قد تبدو سماته في بعض البلدان مرده إلى قلة الاستغلال لموارد الطبيعة وضعف اختصاص العمال والاعتماد علي الزراعة، فالاكتظاظ في نهاية التحليل كظاهرة من ظواهر التأخر يزول عند أخذ المجتمع بأسباب التقدم.
ثم يذكر الفريد سوفي في ختام كلامه مثال الصين الشعبية إذ كانت تعد من أكثر البلاد اكتظاظًا بالسكان، وقد أصبحت أخيرًا محتاجة إلى مزيد من الأيدي العاملة نظرًا لتقدمها السريع (1) .
ويقول المستر هوبرت مارسين وزير داخلية بريطانيا عام 1943: إن بريطانيا إذا كانت تحب المحافظة على مستواها في الوقت الحاضر، والتقدم في سبيل الرقي والازدهار في المستقبل، فمن اللازم أن يتزايد فيها أفراد كل أسرة بنسبة 25 % على الأقل.
ولكن ما وجه العلاقة بين ازدياد كثافة السكان، وازدياد الأرزاق والطاقات الإنتاجية؟
هذا ما سنوضحه في البرهان الثالث، وهو:
ثالثًا: إن المتحمسين في الدعوة إلي تحديد النسل، يذهلون عن حقيقة ذات أهمية بالغة في ترسيخ دعائم الحضارة والمدنية في المجتمع، وهي حقيقة علمية لا مجال لإنكارها.
__________
(1) كان هذا التقرير من الفريد سوفي في الستينات، أما اليوم فقد يقول البعض: ولكن ها هي الصين تسعى اليوم إلى التخفيض من عدد سكانها.. والجواب أن العبرة من سياسة الصين تجاه كثافة السكان ما كانت تفعله أيام تخلفها، لا ما غدت تتجه إليه بعد تقدمها.. أي فإذا تقدمت البلاد العربية والإسلامية وغدت في مصاف العالم الثاني فإن لها أن تفكر في هذا الأمر إذا شاءت، ولكل حادث حديث.(5/118)
هنالك ما يسمى عند علماء الديموغرافيا بمبدأ الاصطفاء، وهو يعني باختصار أن مرافق العمل الإنتاجي والاقتصادي في أي مجتمع من المجتمعات متعددة ومتنوعة فمنها ما هو فني، ومنها ما هو علمي، ومنها ما هو عضلي ... إلخ ولابد أن يسد كل واحد من هذه المرافق بالعدد الكافي من الأشخاص الأكفاء.. غير أن الأشخاص الأكفاء لا يظهرون إلا ضمن مجموعة كثيرة من الناس عن طريق الاصطفاء، فالعباقرة العلميون لا يمكن العثور عليهم في ساحة لا يوجد فيها غيرهم، وإنما يتم اكتشافهم من خلال استعراض أناس كثيرين، وكذلك الفنيون، وكذلك غيرهم من ذوي القدرات أو الاختصاصات علي اختلافها.
وهكذا فإن من الثابت أن الأمة كلما كانت أكثر عددًا، كانت الصفوة فيها أكثر عددًا أو أكثر تنوعًا، ونتيجة لذلك تصبح فرص المهارات والاختصاصات أمامها أرحب وأوسع.
إذن فإن رأس المال الأول الذي لا غنى عنه لتحريك عجلة الحياة الإنتاجية إنما يتمثل في الفيض السكاني إذ يملأ رحب الأرض.
يتوهم بعض السطحيين أن عملية الاصطفاء هذه من شأنها أن تخلف وراءها كمية كبيرة من الناس الذين لا يمكن تصنيفهم مع أي فريق من العاملين، فيكونون بذلك عبئًا على المجتمع، وتبوء عملية الاصطفاء بالخسارة بدلًا من الربح.
ولا ريب أن هذا توهم باطل ينطوي على خطأ كبير في التقدير.. والحقيقة أن الكرم الإلهي قد وزع مزايا الملكات والطاقات بين سائر الناس، بحيث قل أن تجد – بالنسبة إلى الكثرة الكبرى – إنسانًا جردته الأقدار من كل طاقة فوقف هناك عالة على الناس.
غير أنه لا يمكن اكتشاف ما لدى الأفراد من ملكات وطاقات يتمتعون بها، وبتعبير أدق لا يمكن اكتشاف حاجة المجتمع إلى مواهبهم أو جهودهم إلا بعد ظهور صفوة العلماء والفنيين وأصحاب الاختصاصات المتنوعة حيث تتجلى من خلال خططهم ومشروعاتهم التي يتقدمون بها – الحاجة إلى ملكات أولئك الناس وطاقاتهم.. ذلك لأن مرافق الحياة كثيرة ومتوالدة، واحتياجات الإنسان أيضًا كثيرة ومتنوعة لا يكاد يحصرها عد، إلا أن وجه الحاجة إلى كثير من هذه المرافق والاحتياجات والتنبه إلى المشروعات المتوالدة عن بعضها، لا يستبين جليًا إلا بوجود تلك الصفوة المتنوعة من الناس قبل كل شيء.(5/119)
وإليك هذا المثل: إن استخراجك لحجارة سليمة صالحة لتشييد بناء بها لا يتم في أي تربة أو مكان، إلا من خلال تجميع ركام من الرمال وفتات الحجارة تتكاثر أمامك، وقد تتوهم بادئ الأمر أن هذا الركام شيء لا يجدي شيئًا، ولكن ما أن تتهيأ الحجارة الكبيرة أمامك حتى تتنبه إلى أن ذاك الذي كنت تحسبه ركامًا لا فائدة منه شرط أساسي لإقامة بناء متماسك.
لا أظن أن بين هذا المثال والمجتمعات الإنسانية أي فارق إلا في اختلاف الجنس وتفاوت حجم المثال.
وتبدو لنا ثمرة هذا الذي نقول فيما نلاحظه من كثرة أصحاب الاختصاصات العميقة والمهارات المتنوعة في الأمم الكثيفة الأعداد (شريطة أن لا تكون كسولة ميالة إلى الدعة) .
ومن هبوط عدد هؤلاء الرجال في الأمم التي هي أقل عددًا إلي نسبة أقل بكثير مما يقتضيه الفرق العددي بين حجم كل من الأمتين.
ويقرر الدكتور عبد الكريم اليافي بالإضافة إلى هذا حقيقة أخرى إذ يقول: وربما كان في هذا ما يفسر حصول الابتكار والاختراع والكشوف في البلاد الكبيرة على أنه ربما يكون الأفراد في البلاد الصغيرة على درجة عالية من الثقافة ولكن الابتكار والاختراع والكشوف في الغالب من نصيب البلاد الكبيرة (1) .
ويقول جاك أوستروي في كتابه: الإسلام والتنمية الاقتصادية مؤكدًا هذه الحقيقة الهامة: وإذا كان الازدياد الكبير في السكان يشكل فيما يبدو أخطارًا اقتصادية لا يمكن إنكارها في بلاد أخرى، فإن هذا الواقع له جانب مفيد أيضًا، وهو تحول التركيب البشري في اتجاه اقتصادي مفيد بإنقاص عدد الأشخاص الذين لا ينتجون اقتصاديًا بالنسبة لعدد المنتجين، وبالتالي يحدث دفعًا مبدعًا له دور أساسي في عملية التنمية (2) .
__________
(1) المجتمع العربي ومقاييس السكان: ص 33.
(2) الإسلام والتنمية الاقتصادية لجاك استروي، ترجمة الدكتور نبيل الطويل: ص 28.(5/120)
ويعدد الدكتور أحمد عبد العزيز النجار المشكلات الاقتصادية لتنمية المجتمعات المتخلفة بعد أن أوضح عوامل الإنتاج وبين أن الإنسان أهم هذه العوامل من حيث الكم ومن حيث الكيف، فيذكر منها: الخلل في العلاقة الكمية بين الناس المخططين والمنظمين من جهة، والعاملين من جهة أخرى قائلًا: الخلل في العلاقة بين نسب عوامل الإنتاج المختلفة، فرأس المال والمنظمون أقل نسبيًا من الأرض والموارد الطبيعية والعمل (غالبية العمال غير مهرة) وبالتالي فإن وسائل الإنتاج الكامنة لا تستغل استغلالًا كافيًا، ويصاحب الاستغلال السائد طاقة إنتاجية ضعيفة، ويصبح متوسط الدخل القومي للفرد منخفضًا.
ويتابع فيقول: تؤدي قلة وجود أنظمة وانعدام الخبرة ونقص الأيدي العاملة الماهرة، وصعوبة الحصول علي رأس المال بتكاليف معدلة، إلى اعتماد الدول النامية الرئيسي على تصدير بعض الخدمات أو المواد الأولية أو نوع أو أكثر من السلع الزراعية واستيراد جميع السلع الاستثمارية ومعظم السلع الاستهلاكية.. ويعتبر هذا الارتباط الشديد بالأسواق الخارجية من أهم العوامل المسببة لمشاكل كثيرة في الدول النامية (1) .
أقول: ومن أبرز النتائج لهذه الظاهرة شيوع البطالة، حيث تقل الكثافة السكانية وذلك على النقيض مما يتوهمه السطحيون والبسطاء.. ذلك لأنها وإن كانت تشيع لأسباب شتى، إلا أن من أهم أسبابها أن تعوز الأمة وجود الصفوة الكافية فيها من المخططين والخبراء والمبدعين، فيبقى أكثر السبل إلي الحياة الإنتاجية مغلقة من جراء ذلك، فلا يجد كثير من الناس بسبب ذلك ما يعملون، وتذهب طاقاتهم الكامنة بددًا.
__________
(1) المدخل إلى النظرية الاقتصادية في المنهج الإسلامي: ص 207.(5/121)
وأخيرًا
المشكلات الجزئية محلولة
ثم إن أكثر الذين يتبنون الدعوة إلى ما يسمونه بـ (تنظيم النسل) وهي تسمية ملطفة عن الحقيقة التي هي – تحديد النسل – يتذرعون بأسباب ومقتضيات جزئية يلملمونها من هنا وهنك، ليقيموا عليها دعوتهم الكلية العامة هذه.
فهم يذكرون من هذه الأسباب والمقتضيات مثلًا ما قد تتعرض له المرأة أو بعض النساء من أوضار صحية مختلفة، إذا ما تلاحق الحمل بالحمل دون فاصل زمني كاف لإعادة المرأة الأم إلى نشاطها ومناعتها الصحية، أو ما قد يتعرض له الطفل من أمراض وأضرار بسبب الحمل المبكر الذي من شأنه أن يصرف الأم كليًا أو جزئيًا عن إمكانية منحه الرعاية الكافية، أو ما قد تفاجأ به الحامل من أوضاع صحية، وربما نفسية واجتماعية تقتضيها التخلص من حملها.. يذكرون أمثلة من هذا القبيل، ثم يتخذون منها حجة لقيامهم بحملة مركزة عامة في صفوف الناس جميعًا تهدف إلى حملهم على الإقلال من النسل ما أمكن، وخفض نسبة الكثافة السكانية فيهم بصورة عامة، أي بقطع النظر عن أي عارض من العوارض الجزئية ونحن نقول في تعليقنا على هذا الشكل، بل الطريقة من الاحتياج.
أولًا: ليس ثمة أي تناسب منطقي بين الاحتجاج بالوقائع الجزئية والقصد إلى توجيه الناس عمومًا نحو العمل على إقلال النسل ومقاومة الكثافة السكانية.
إن المشكلات الجزئية إنما يتم التغلب عليها بالحلول الجزئية المتعلقة بها، أما زعم السعي إلي القضاء عليها ضمن تيار عام من التغيير والتحويل، فإنه لا يمكن إلا أن يجر معه مشكلات أخرى أكثر عددًا وأشد خطورة وأهمية من تلك المشكلات الجزئية المتناثرة التي استعمل ذلك التيار العام للقضاء – فيما زعموا – عليها.
ثانيًا: إن كلًا من المنطق والشريعة الإسلامية قد تكفل بحل سائر المشكلات الجزئية التي قد تظهر في أي أسرة، مما يتعلق بأمر الحمل والإنجاب وقضايا الصحة والتربية ونحو ذلك. أجل فقد تكلفت الشريعة الإسلامية بحل ذلك، كما قد رأينا في الوقت ذاته الذي يدعو عامة الناس إلى الإكثار من النسل وإلى مسابقة الأمم الأخرى في هذا المضمار.(5/122)
فقد علمنا أن الشريعة الإسلامية لا تمنع من اتفاق الزوجين على اتخاذ وسيلة وقائية ما لمنع الحمل، بالشروط التي أوضحناها، غير أن من المعلوم أيضًا أن هذا الحكم ليس إلا رخصة رخص الله بها لعباده، ليستعينوا بها في حل مشكلاتهم الجزئية العارضة، ومن ثم فإن هذه الرخصة لا تخلو من الكراهة التنزيهية في أكثر الأحيان. وهي في الحقيقة ليست إلا ذيلًا وتتميمًا للحكم الأساسي العام الذي تنهض عليه الحكمة الكبرى من ربط كل من الجنسين بالحياة الزوجية وإخضاع الإنسان (ذكرًا أو أنثى) لهذا المعنى الغريزي العجيب، تحقيقًا لتنمية النسل وتكاثر أفراد الأسرة الإنسانية المسلمة فوق الأرض ولا يضير بهذا الحكم الأساسي العام وجود رخصة استثنائية تذيله وتقيده، إذ ما من حكم من الأحكام الكلية إلا وله قيود ورخص استثنائية.
ومن ثم فإن واجب المسلمين والحالة هذه أن يطبقوا الحكم الكلي في مجاله الكلي العام وأن يضعوا قيوده واستثناءاته ورخصه في مواضعها الجزئية الخاصة بها بحيث لا يجعل من الاستثناءات الجزئية أداة نسف للقاعدة الكلية التي شرعها الله عز وجل.
والنتيجة التي تؤخذ من هذا الكلام أنه لا يجوز للدولة ولا لأي جهة عامة ولا لفئات الموجهين والمصلحين توجيه الناس عمومًا إلى الحد من النسل، مهما اختلفت الأسماء والمسوغات، كما لا يجوز – قولًا واحدًا – استخدام شيء من وسائل الإعلام لبث هذه الدعوة في صفوف الناس، أو لحملهم على مضمونها بشكل من الأشكال.. بل واجب هذه الفئات والأجهزة، وعلى رأسهم ممثلو الدولة تذكير الناس بالحكمة الكبرى التي شرع من أجلها الزواج وتشجيعهم بكل الوسائل الممكنة على الإكثار من النسل، كما أن من واجب هذه الفئات العامة ترك الرخص التي شرعها الله استجابة لظروف وأحوال جزئية طارئة يقدرها أصحاب العلاقة أنفسهم.
نعم لا بأس من بيان الحكم الشرعي العام والخاص للناس عامة، حتى يكونوا على بينة من أمرهم وعلى علم باليسر الذي ضمنته الشريعة لحياتهم.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا نعمة الاعتزاز بدينه وشريعته، وأن يلهم المسلمين جميعًا قادة وشعوبًا الرجوع إلى ما ضمن الله به عزنا وسعادتنا وتألفنا واجتماع شملنا، ألا وهو دين الله المتمثل في عقائده وتشريعاته وأخلاقه، إنه سميع مجيب. والحمد لله رب العالمين.
محمد سعيد رمضان البوطي(5/123)
تنظيم النسل وتحديده
إعداد
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
الأستاذ بكلية الشريعة – جامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد..
قد دعا الإسلام إلى زيادة الإنجاب والتكثير من النسل الطيب والذرية الصالحة، وجعل ذلك سببًا لتكثير الأمة وإعلاء كلمة التوحيد، وترجيح كفة الإيمان على الكفر والفسوق والعصيان، وتعزيز جانب الحق وإظهاره على الباطل، وتعمير الأرض بالعمل الصالح {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (1)
لأجل هذا ندب الإسلام أتباعه إلى الزواج لأنه السبب في بقاء هذا النوع الإنساني على أحسن وجه، وأكمل نظام، وفيه حفظ النوع البشري من الفناء والانقراض وفيه عمران الأرض وصلاحها، فها هو نبينا الأعظم محمد عليه الصلاة والسلام، يلفت أنظار الشباب لهذا الركن الحيوي من أركان الحياة الاجتماعية، مخاطبًا إياهم بقوله: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" (2) .
وبخصوص زيادة النسل وتكثير عدد أفراد الأمة، فقد لفت الإسلام أنظارنا إلى اختيار المرأة الودود الولود. قال صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم " وفي رواية: " فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة" (3) .
والتكاثر المقصود، هو التكاثر الذي يستحق أن يباهي به الرسول صلى الله عليه وسلم، الأمم وهو التكاثر القائم على الصلاح والإيمان والقوة والحيوية والخير، أما التكاثر القائم على الفساد والعصيان فإنه أبعد ما يكون عن قصد النبي عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) سورة الأنبياء [105] .
(2) الحديث متفق عليه. انظر سبل السلام – شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام لمحمد بن إسماعيل المعروف بالصنعاني 109/3
(3) رواه أحمد وصححه ابن حبان وله شاهد عند أبي داود والنسائي. راجع المصدر السابق 111/ 3(5/124)
التنظيم والتنسيق بمعنى واحد، يقال: خرز نسق بمعنى منظم. والنسق أيضًا ما جاء من الكلام على نظام واحد.
والإنظام معناه الاتساق (1) .
أما التحديد فله معنى آخر، فحد الشيء منتهاه، والحد بمعنى المنع. ومنه قيل للبواب حداداً وللسجان أيضا، لأنه يمنع عن الخروج، أو لأنه يعالج الحديد من القيود (2) .
ولا يختلف المعنى الاصطلاحي كثيرًا عن المعنى اللغوي للفظتي التنظيم والتحديد، إذ مقصودنا من هاتين اللفظتين في هذا البحث، هو ترتيب النسل وتنسيقه أو منعه بصورة مؤقتة.
الفرق بين تنظيم النسل ومنعه:
هناك فرق كبير بين تنظيم النسل المقصود بالبحث هنا، وبين منعه بصورة دائمة وذلك بإجراء بعض العمليات الجراحية، وبعض الطرق العلمية التي تحقق هذا الغرض، ومنع الإنجاب نهائيًا يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية من الزواج الذي من أهم أغراضه ومقاصده التناسل كما ظهر لنا ذلك من النصوص المتقدمة.
ثم إن قواعد الشريعة تدل على منع ذلك الأمر وتحريمه من غير ضرورة، فإن في الحرمان من النسل نهائيًا مضرة ظاهرة يأباها الشارع وتدخل فيما نهى عنه بقوله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " وواضح وجه المضرة في الحرمان من النسل، فإن الشريعة الإسلامية وما تعارفه الناس في أمر النكاح، يقتضي أن يكون هناك تناسل لعمارة الأرض وبقاء الإنسان، كما أنه هو الذي يتفق مع الطبيعة الإنسانية التي أوجدها الله في كل من الذكر والأنثى من حب الأبوة والأمومة، وأن يشعر كل منهما بتحقق هذا الوصف كما تحقق في أصله الذي يرى في حياته إمتدادًا لحياة أصله وتخليدًا له، وفي هذا الأمر تغيير لخلق الله في الإنسان، وتحويل له عن طبيعته، ومقتضى فطرته التناسلية، والدين يأبى ذلك، لأنه جاء مسايرًا للناس في نظرهم السليم، وداعيًا إلى مصالحهم، ومحرمًا لكل ما يترتب عليه ضرر في أشخاصهم ومجتمعاتهم (3) .
__________
(1) انظر مادة نسق ونظم في مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي
(2) انظر مادة حدد في المصدر السابق أيضًا
(3) الجنين والأحكام المتعلقة به في الفقه الإسلامي للأستاذ محمد سلام مدكور ص313(5/125)
وبناء على ذلك فقد وردت نصوص فقهية، في كتب الشافعية وغيرها تنص على تحريم التعقيم، فقد نقل البجيرمي أحد فقهاء الشافعية في حاشيته على الإقناع، عن فقهاء المذهب " أنه يحرم استعمال ما يقطع الحبل من أصله".
ويستوى في تحريم التعقيم، أن يكون قبل الإنجاب مطلقًا، أو بعد الإنجاب اكتفاء بما رزق به الزوجان أو أحدهما من أولاد، فإن ذلك أيضًا يشتمل على مضرة، تتنافى مع أغراض الشارع، فإن ما رزقهما الله به من أولاد، قد يفقدانه دفعة واحدة أو على التتالي، وقد فقدا أو أحدهما وسيلة الإنجاب، فيقعان في الحرمان، ولا يستطيعان على أن يتداركا ما فاتهما، وقد تتحرك فيهما أو فيمن فقد منهما الصلاحية للإنجاب. عاطفة الأمومة أو الأبوة فلا يجدان أو أحدهما مجالا لتحقيقها، والانتفاع بها، ويندمان أو أحدهما وقت لا ينفع الندم (1) .
الغرض من تنظيم النسل وتحديده:
تلجأ الأسر إلى عملية التنظيم هذه، بقصد عدم إرهاق الأم في أغلب الأحيان سيما إذا كانت الأم مشغولة بالأعمال الوظيفية، وليس لديها الوقت الكافي لإدارة شئون أسرتها فتلجأ إلى هذه الوسيلة لتتهيأ لها فرصة الإشراف على أعمالها المنزلية من خدمة زوجها أو تربية أولادها، وفي بعض الأحيان يكون سببه مرض المرأة مما يجعلها عاجزة عن مهامها البيتية كما قلنا، فتلجأ لذلك.
وقد يكون سببه حرص المرأة على المحافظة على جمالها وسمنها لدوام التمتع واستبقاء حياتها خوفًا من خطر الولادة، وهناك عامل آخر قد تلجأ إليه بعض الأسر وهو الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء (2) ومهما كان القصد من تحديد النسل وتنظيمه، فإنه لا يعني منعه بصورة نهائية.
__________
(1) الأستاذ مدكور في المصدر السابق أيضًا
(2) انظر: إحياء علوم الدين – للإمام الغزالي 53/2(5/126)
وسائله:
لتنظيم النسل وسائل متعددة، منها ما تتم قبل تكوين الجنين في رحم المرأة، وذلك بأن يمتنع الزوج من وطء زوجته في فترة معينة من طهرها، وغالبا ما يكون ذلك في العشرة الوسيطة من الطهر، عندما تكون بويضة المرأة مهيأة للتلقيح، أو في استعمال بعض العقاقير الطبية التي تقلل فرصة الحمل، وأحيانًا يلجأ الزوج إلى العزل وذلك بأن يقذف ماءه خارج رحم زوجته.
وهناك وسائل أخرى تلجأ إليها بعض الأسر بعد تكوين الجنين في رحم أمه، سواء كان في مراحل تكوينه الأولى أم الأخيرة، ولكل حالة من هاتين الحالتين حكمها الخاص.
حكم الحالة الأولى:
وهي ما إذا استعمل الزوجان الوسائل الكفيلة بمنع الحمل بصفة مؤقتة قبل تكوين الجنين.
ومنع الحمل بهذه الصفة أمر معروف لدى الأمم قبل الإسلام وبعده، ومنهم الفرس والرومان، وقد اتخذ العرب في الجاهلية العزل وسيلة لمنع الحمل أيضًا، ولما جاء الإسلام والناس على هذه الحال، وكان بعض من دخلوا في الإسلام يتبعون هذه الوسيلة، سأل بعضهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم العزل باعتباره وسيلة للتحكم في الحمل طالما وجدت الرغبة في عدم حصوله، فأدلى الرسول عليه الصلاة والسلام بما يشعر بإباحته.
فما هو العزل؟ هو أن ينزع الرجل بعد الإيلاج ليقذف ماءه خارج الرحم.
ويلجأ إليه لأحد سببين، إما خوفًا على الرضيع من أن يلحق به ضرر إن وجد أو لئلا تحمل المرأة (1)
__________
(1) انظر سبل السلام 145/3(5/127)
رأي الفقهاء في العزل:
الأصل عند الجمهور هو جواز العزل إلا أنهم اختلفوا في اشتراط إذن الزوجة له أو عدم اشتراطه، وذلك على النحو التالي:
1- نص الحنفية على إباحة العزل بعد إذن الزوجة، إذا كانت بالغة، إذ غير البالغة لا ولد لها، وكالبالغة المراهقة إذ يمكن بلوغها وحبلها. وقد نقل ابن عابدين عن بعض كتب المذهب، أن الزوج إذا خاف من الولد السوء، فله العزل بغير رضاها بسبب فساد الزمن (1) وهذه وجهة نظر الحنابلة أيضًا، قال ابن قدامة: " ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها" (2) معللا لذلك بأن للزوجة حقًا في الولد. وعليها في العزل ضرر فلم يجز إلا بإذنها (3)
وهل الاستئذان واجب أو مستحب؟ قال القاضي الحنبلي: " ظاهر كلام أحمد وجوب استئذان الزوجة في العزل، ويحتمل أن يكون مستحبًا لأن حقها في الوطء دون الإنزال " (4) .
وبإباحة العزل قال المالكية أيضًا. فقد ذكر الدردير أن للزوج العزل إذا أذنت له الزوجة بذلك (5) ونص الخرشي على مثل هذا بقوله: " يجوز للرجل أن يعزل عن زوجته. لكن إن كانت أمة فلا بد من إذنها وإذن سيدها.. وإن كانت حرة فيكفي أذنها وإن لم يأذن وليها (6) .
وفي مذهب الشافعية ما يؤيد هذا الرأي أيضًا، فقد ذكر الفيروزآبادي الشافعي، أن الرجل إذا عزل عن زوجته الحرة، إن كان العزل بإذنها جاز، لأن الحق لهما، ولو لم تأذن الزوجة بالعزل ففيه وجهان: " أحدهما لا يحرم لأن حقها في الاستمتاع دون الإنزال، والثاني يحرم لأنه يقطع النسل من غير ضرر يلحقه" (7) .
2- ونص الغزالي الشافعي في الإحياء على إباحة العزل دون اشتراط أذن الزوجة، وقد نفى أن يكون ذلك مكروها كراهة تحريم أو تنزيه، معللًا لذلك بقوله: " لأن إثبات النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص ولا أصل يقاس عليه، بل ههنا أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلا أو ترك الجماع بعد النكاح أو ترك الإنزال بعد الإيلاج فكل ذلك ترك للأفضل وليس بارتكاب منهي " (8)
__________
(1) انظر حاشية رد المحتار على الدر المختار 175/3
(2) انظر المغني 298/7
(3) انظر ابن قدامة في المصدر السابق وكذا منتهى الإرادات للنجار 227/2
(4) المصدر السابق أيضًا
(5) انظر الشرح الكبير على سيدي خليل 266/2
(6) الخرشي علي سيدي خليل وبهامشه حاشية الشيخ العدوي في 225 / 3
(7) المهذب طبعة البابي الحلبي 66/2
(8) إحياء علوم الدين 53/2(5/128)
دليل الجمهور فيما ذهبوا إليه:
استدل الجمهور على إباحة العزل للزوج من زوجته سواء من اشترط منهم إذنها أو لم يشترط بالروايات الصحيحة الواردة عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والتي تشعر بجواز ذلك منها:
أ – ما جاء في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: " كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل لو كان شيء ينهى عنه لنهانا عنه القرآن " (1) .
والحديث فيه دليل على فعل الصحابة للعزل في زمن التشريع ولو كان حرامًا لما أقرهم الوحي عليه.
ب- واستدلوا كذلك بما رواه أحمد وأبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي جارية، وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وأن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى قال: كذبت اليهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه (2) .
وجه الإستدلال من هذا الرواية، أن الرسول صلى الله عليه وسلم فند مزاعم اليهود في تسميتهم العزل بالموءدة الصغرى: وقوله: " لو أراد الله أن يخلقه ... الحديث" معناه أنه تعالى إذا قدر خلق نفس فلا بد من خلقها بأن يسبق الرجل ماؤه من غير شعوره فلا يقدر على دفعه فينفذ الله ما قدره، وفي هذا دليل على جواز العزل (3) .
وقد جزم ابن حزم الظاهري بتحريم العزل (4) . وقالت الزيدية بكراهيته (5) .
وقد استدل الظاهرية بما رواه مسلم عن جذامة بنت وهب قالت حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: " لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئًا ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذلك الوأد الخفي " (6) والغيلة والغيال بكسر الغين، والمراد بها مجامعة الرجل امرأته وهي ترضع وقيل هي: أن ترضع المرأة وهي حامل، ويعتبر الأطباء ذلك داء، وكانت العرب تكرهه وتتقيه، وقد فند النبي عليه الصلاة والسلام هذه المزاعم لما ثبت عنده من فعل فارس والروم ذلك دون أن يلحق أولادهم ضرر من جرائه (7) .
__________
(1) الحديث متفق عليه انظر سبل السلام 146/3إلا أن قوله " لو كان شيء ينهى عنه.. إلخ " لم ترد في صحيح البخاري وإنما رواه مسلم من كلام سفيان أحد رواته، وظاهره أنه قاله استنباطًا ذكر ذلك الصنعاني في المصدر السابق
(2) انظر الصنعاني في المصدر السابق
(3) المصدر السابق
(4) المحلي 78/10 المسألة 1907
(5) الروضة الندية شرح الدرر البهية لأبي الطيب القنوجي 42/2
(6) جذامة بنت وهب أخت عكاشة بن محصن من أمه انظر الصنعاني 145/3
(7) انظر الصنعاني في سبل السلام أيضًا 145/3(5/129)
وجه الاستدلال في هذه الرواية كما يراها ابن حزم هو: أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتبر العزل بمثابة الوأد الخفي وذلك أمارة التحريم، وغيرها من الروايات مرجحة لأصل الإباحة ورواية جذامة تمنع، فمن يدعي إباحة العزل بعد منعه فعليه البيان (1) .
جواب الجمهور على ما استدل به ابن حزم:
أ – إن حديث جذامة معارض بما رويناه من أحاديث صحيحة، ويمكن الجمع بين رواية جذامة وغيرها، بحمل النهي الوارد في حديث جذامة على التنزيه.
ب- إن قوله صلى الله عليه وسلم " الوأد الخفي " في رواية جذامة بنت وهب لا يفهم منه التحريم صراحة، لأن التحريم يثبت للوأد المحقق الذي فيه قطع حياة محققة، والعزل وإن شبهه صلى الله عليه وسلم به فإنما هو قطع لما يؤدي إلى الحياة والمشبه دون المشبه به، وإنما سماه وأدًا لما تعلق به من قصد منع الحمل (2) وبهذا يرجح رأي الجمهور.
الحالة الثانية:
وهي ما إذا تعمدت المرأة إسقاط النطفة بعد تكوينها في رحمها وذلك باستعمال العقاقير الطبية أو إجراء عملية جراحية أو ما أشبه ذلك، وهو ما يعبر عنه بالإسقاط أو الإجهاض، وقبل أن أنقل رأي الفقهاء في الاعتداء على الجنين بما ذكرناه أود أن أبين هنا مراحل تكوين الجنين بقدر ما له صلة بموضوع بحثنا هذا.
__________
(1) المصدر السابق أيضا
(2) الصنعاني في المصدر السابق أيضًا(5/130)
أطوار الجنين في الرحم:
لقد تناول القرآن الكريم أطوار الجنين في رحم أمه من وقت التلقيح الذي هو أصل التكوين الجنيني حتى مرحلة نفخ الروح فيه وتكوين العظام وإكسائها باللحم ثم جعله إنسانًا كامل الخلقة، وكل هذه الأطوار يتناولها قول الله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1) يتعرض القرطبي في تفسيره للأطوار الثلاثة التي يمر بها الجنين منذ بدء تكوينه ويفسر كل طور من هذه الأطوار، ومن المفيد أن ننقل ما قاله رحمه الله بهذا الخصوص.
النطفة: " وهي المني، سمي نطفة لقلته، وهو القليل من الماء وقد يقع على الكثير منه ".
العلقة: وهو الدم الجامد، والعلق الدم العبيط، أي الطري، وقيل الشديد الحمرة.
المضغة: وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ ومنه الحديث ألا وإن في الجسد مضغة" (2)
والأطوار المذكورة عدتها أربعة أشهر وحكي عن ابن عباس قوله: وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح فذلك عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر. (3) ، وجاء الحديث الشريف مؤكدًا الأطوار المارة الذكر التي ذكرها القرآن الكريم، ففي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.. " (4)
ومما مضى تأكد بأن نفخ الروح في الجنين يكون بعد مائة وعشرين يوما، وذلك محل اتفاق بين جميع العلماء، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف (5)
__________
(1) سورة المؤمنون الآيات [12، 13،14]
(2) انظر الجامع لأحكام القرآن 6/12وكذا روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للعلامة الآلوسي 14/18
(3) انظر القرطبي في تفسيره السابق
(4) المصدر السباق
(5) المصدر السابق(5/131)
رأي العلماء في الاعتداء على الجنين بالإجهاض:
بعد هذه العرض لتكوين الجنين في رحم أمه والأطوار التي يمر بها، أذكر ما قاله فقهاؤنا رحمهم الله بخصوص جواز إسقاطه أو عدم جوازه، وفي أي مرحلة من مراحله يجوز الإسقاط؟
اتفق الفقهاء: على القول بتحريم الإجهاض بعد نفخ الروح في الجنين، أما قبل النفخ فقد اختلفت آراؤهم وذلك على النحو التالي:
أجاز الحنفية في كثير من كتبهم الإسقاط بعد الحمل، ما لم تنفخ فيه الروح ولن يتحقق ذلك إلا بعد مائة وعشرين يومًا كما قلنا، ولم يشترط أصحاب هذا الرأي من فقهائهم إذن الزوج في الإسقاط قبل المدة المذكورة، جاء في الدر المختار: " يباح إسقاط الولد قبل أربعة أشهر ولو بلا إذن الزوج".
وحكى ابن عابدين عن بعض كتب المذهب ما يفيد الكراهية، إن تم الإسقاط بدون عذر، فقد نقل عن الذخيرة ما نصه.. " لو أرادت الإلقاء قبل مضي زمن ينفخ فيه الروح هل يباح لها ذلك أم لا؟ اختلفوا فيه وكان الفقيه علي بن موسى يقول أنه يكره، فإن الماء بعدما وقع في الرحم مآله الحياة، فيكون له حكم الحياة كما في بيضة صيد الحرم، ونحوه في الظهيرية ".
ومن المفيد في ذلك ما نقل عن ابن وهبان، من أن وجود العذر يبيح الإجهاض قبل أربعة أشهر، وذلك كأن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاكه. وفي القول بإباحة الإسقاط هذا استنتج صاحب كتاب النهر، بأنه يجوز للمرأة سد فم رحمها، كما تفعله النساء دون اشتراط إذن الزوج، وقد خالف بذلك رأي صاحب البحر الذي اشترط لذلك إذنه، قياسًا على عزله بغير إذنها، فإنه لا يجوز له ذلك، كذلك الأمر هنا.
وفي حالة عدم رجوع الزوجة إلى أخذ رأي زوجها، فإنه يحرم عليها ما تفعله من سد فم رحمها (1) .
__________
(1) انظر ابن عابدين في المصدر السابق أيضا(5/132)
وقد تشدد المالكية في هذه المسألة، إذ منعوا إسقاط الجنين ولو قبل الأربعين يومًا على ما هو المعتمد في المذهب. جاء في الشرح الكبير للدردير " ولا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم ولو قبل الأربعين يومًا، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعًا " (1) . وجاء في الخرشي ما يؤيد ذلك أيضًا فقد نص على ما يلي: " لا يجوز للمرأة أن تفعل ما يسقط ما في بطنها من الجنين، وكذا لا يجوز للزوج فعل ذلك ولو قبل الأربعين، وقيل يكره قبل الأربعين للمرأة شرب ما يسقطه إن رضي الزوج بذلك" (2) . على أن الخرشي قد نقل عن أحد أئمة المذهب ما يفيد جواز الإسقاط قبل الأربعين (3)
وعلى هذا الرأي، يكون للمالكية رأيان في جواز إسقاط ما في الرحم قبل الأربعين يومًا، الجواز وعدمه، أما بعد الأربعين فلا يجوز إسقاطه قولًا واحدًا.
أما الشافعية فمذهبهم تصوره عبارة البجيرمي نقلًا عن ابن حجر إذ يقول: " اختلف الشافعية في سبب الإسقاط ما لم يصل لحد نفخ الروح فيه، والذي يتجه وفاقًا لابن عماد وغيره الحرمة" وفرق بين ذلك وبين العزل، فإن المني حال نزوله محض جماد ولم يتهيأ للحياة بوجه (4) بخلافه بعد استقراره في الرحم، وأخذه في مبادئ التخلق. ثم يمضي البجيرمي قائلًا: إن في بعض الكتب خلاف ذلك أخذا من قول ابن حجر والذي يتجه الحرمة.
ومقتضى ذلك أن بعض الشافعية يقول بعدم حرمة الإسقاط قبل نفخ الروح، واستنتج البجيرمي من قول ابن حجر- " وأخذه في مبادئ التخلق " أنه يفيد عدم الحرمة قبل ذلك (5)
وقد نص الشبراملسي أنهم اختلفوا في جواز التسبب في إلقاء النطفة بعد استقرارها في الرحم، وأن أبا إسحق المروزي يجوز إلقاء النطفة والعلقة. ونقل عن الغزالي: أورد في بحث العزل، ما يدل على تحريمه وقال: إنه الأوجه لأنه بعد الاستقرار آيلة للتخلق (6) .
__________
(1) انظر 266/2وكذا حاشية الدسوقي على الشرح المذكور بنفس الموضوع، وقد عقب على ذلك بقوله: " هذا هو المعتمد".
(2) انظر 255/3
(3) انظر المصدر السباق وقد جاء فيه ما نصه: " والذي ذكره الشيخ عن أبي الحسن أنه يجوز قبل الأربعين"
(4) انظر 266/2
(5) المصدر السابق أيضا
(6) انظر نهاية المحتاج 179/6(5/133)
وجاء في موضع آخر من نهاية المحتاج، اختلف في النطفة قبل تمام الأربعين على قولين: قبل لا يثبت لها حكم السقط والوأد، وقيل لها حرمة ولا يباح إفسادها، ويتجه أبو بكر بن أبي سعيد القرافي، إلى جواز الإسقاط في فترتي النطفة والعلقة، أي قبل التخلق في مرحلة المضغة، ونقل الشبراملسي عن الغزالي أيضًا ما حاصله: أن العزل ليس كالاستجهاض والوأد وأن مراتب الوجود، دفع نطفة الرجل في الرحم فيختلط بماء المرأة فإفسادها جناية، فإن صارت علقة أو مضغة فالجناية أفحش، فإن نفخت الروح واستقرت الخلقة زادت الجناية تفاحشًا ثم قال الغزالي: ويبعد الحكم بعدم تحريمه، ثم عاد فتردد بقوله: قد يقال إن الإجهاض قبل نفخ الروح لا يقال إنه خلاف الأولى بل يحتمل التنزيه والتحريم ويقوي التحريم فيما قرب من زمن النفخ، ثم قال: نعم لو كانت النطفة من زنى فقد يتخيل الجواز فلو تركت حتى نفخ فيها فلا شك في التحريم (1)
ويبدو من مسلك الغزالي هنا كما يقول الأستاذ مدكور، " أنه باحث متحفظ يريد أن يطرق الاحتمالات التي يمكن الذهاب إليها، وأنه لا ينقل عن أئمة الفقه الشافعي على طريقته في الورع الصوفي والنظر الفلسفي، غير أنه استطاع أن يجزم على طريق النظر الفقهي بما أشرنا إلى أنه مجمع عليه , وهو أنه لا شك في تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح، وإن كان لم يشر إلى حالة وجود الفرد اعتمادًا على القواعد الفقهية العامة، كما أنه جزم بحثًا فقهيًا لم يسنده إلى أحد بأن النطفة من الزنا إذا تركت حتى نفخ فيها فلا شك في التحريم، وكأنه يرى أن ذلك يلتحق بالوأد المحرم ومعنى يشترك فيه ابن الزنا وابن الفراش (2)
وذكر الخطيب الشربيني، أن المرأة الحامل إذا دعتها الضرورة إلى شرب دواء فشربته ثم أجهضت فينبغي أن لا ضمان عليها في هذه الحالة، كما قال الزركشي بخلاف ما إذا صامت فأجهضت فإنه تضمن دية الجنين (3) .
ومن هنا يظهر لي بأن الإجهاض لعذر لا إثم فيه على رأي الشافعية بناء على قول الزركشي هذا، وبهذا يتضح أن الشافعية لا يختلفون عن غيرهم ممن قدمنا كثيرًا في مسألة العزل وإن كانوا يقتربون في مسلكهم الفقهي وذكر الخلافات من مسلك الحنفية على ما أوردناه.
__________
(1) انظر نهاية المحتاج 416/8
(2) انظر الجنين والأحكام المتعلقة به في الفقه الإسلامي ص304.
(3) انظر مغني المحتاج 103/4 ونص العبارة كما يلي: " ولو دعتها ضرورة إلى شرب دواء فينبغي كما قال الزركشي أنها لا تضمن بسببه، وليس من الضرورة الصوم ولو في رمضان إذا خشيت منه الإجهاض، فإذا فعلته فأجهضت ضمنته كما قاله الماوردي ولا ترث منه لأنها قاتلة "(5/134)
ويصور لنا ابن قدامة مذهب الحنابلة فيقول: تجب في الجنين إذا سقط من الضربة ميتًا وكان من حرة مسلمة الدية، وقيمتها خمس من الإبل، ولا فرق بين أن يخرج جميع أجزاء الجنين من الضربة أو بعضه، ولو أن رجلا ضرب حاملًا أو ضرب من في جوفها حركة أو انتفاخ فسكن الحركة وأذهبها لم يضمن الجنين، معللًا ذلك بقوله: " لأن الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت ولا يجب الضمان بالشك" (1) . فإن أسقطت المرأة من جراء الضربة ما ليس فيه صورة آدمي فلا شيء فيه، لعدم التيقن من كونه جنينا، " وإن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية ففيه غرة، وإن شهدت أنه مبتدأ خلق آدمي لو بقي تصور ففيه وجهان: أحدهما لا شيء فيه، لأنه لم يتصور فلم يجب فيه كالعلقة، ولأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك. والثاني فيه غرة لأنه مبتدأ خلق آدمي، أشبه ما لو تصور وهذا يبطل بالنطفة والعلقة " (2) .
ومن خلال ما قاله ابن قدامة هنا بعد إلزام الضارب بشيء فيما لو أسقط ما لم يتصور أو كان نطفة أو علقة، يظهر بأن الحنابلة لا يختلفون عن غيرهم من الفقهاء الآخرين، في القول: بجواز إسقاط الجنين ما دام في مراحل تكوينه الأولى من نطفة أو علقة، بخلاف ما لو تصور بمعنى بان خلقه، فلا يحل إسقاطه لاحتمال نفخ الروح فيه.
ويرى الظاهرية كما يصور مذهبهم ابن حزم بقوله: " صح أن من ضرب حاملًا فأسقطت جنينًا فإن كان قبل الأربعة أشهر، فلا كفارة في ذلك " وهذا العبارة لا تدل على وقوع الإثم فلا يكون حرامًا، وقد علل ذلك بقوله: " لأنه لم يقتل أحدًا فلا كفارة إذ هي إنما تكون في القتل الخطأ ولا يقتل إلا ذو روح". (3)
وإن كان الإجهاض قد حدث بعد الأربعة أشهر فإنه يوجب مع الغرة الكفارة التي هي كفارة القتل الخطأ لأن الجنين بعد مضي أربعة أشهر يكون قد نفخت في الروح الإنسانية.
__________
(1) انظر المغنى 406/8
(2) انظر المغنى 406/8
(3) انظر المحلى 36/11(5/135)
وفي مذهب الزيدية ما يؤيد اتجاه الفقهاء الآخرين، فيرون كما يحكي مذهبهم صاحب البحر الزخار " أنه يجوز القاء النطفة والعلقة والمضغة لأنه لا حرمة لهذه الأشياء" (1) . ونص في موضع آخر على أنه " لا شيء فيما لم يتبين فيه التخلق والتخطيط كالمضغة " ثم قال: " إنه لا كفارة في المستبين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالغرة ولم يذكر الكفارة".
خلاصة الآراء:
ومن كل ما عرضنا في هذا الموضوع يتبين أن الإتجاه، لا تختلف فيه وجهة النظر في أن الإجهاض بعد نفخ الروح عمدًا محرم شرعًا، وقد حكى اتفاق العلماء هذا ابن قدامة حيث قال: " وإذا شربت الحامل دواء فألقت به جنينًا فعليها غرة، لا ترث منها شيئًا وتعتق رقبة" (2) ويمضي قائلًا:" ليس في هذه الجملة اختلاف بين أهل العلم نعلمه" (3) .
وقد انفرد الزركشي من أئمة الشافعية، بجواز ذلك للأم عند الضرورة، كما حكاه الخطيب الشربيني والذي أشرنا إليه سابقًا.
أما قبل نفخ الروح في الجنين فقد اختلفت وجهات نظرهم على ما بينا.
والذي أرجحه في هذه المسالة: هو حرمة الاعتداء على الجنين بعد نفخ الروح فيه بأي وسيلة كانت، سواء بشرب دواء من الأم أو بإجراء عملية جراحية أو غير ذلك فيما لو تأكد لنا بث الروح فيه، لأن الإجهاض عليه إزهاق لروحه وهذا لا يجوز. وما ذهب إليه الزركشي من جواز ذلك عند الضرورة ينقصه الدليل.
أما قبل نفخ الروح في الجنين، فإن دعت الضرورة لإسقاطه كالخوف على هلاك الأم من مرض أو ما أشبهه، فلا أرى مانعًا من إسقاطه، أما إجهاضه لغرض تنظيم النسل بعد استقراره في رحم المرأة، فلا أرى جوازه؛ لأنه ليس بضرورة وبإمكان الزوجين الأخذ بالوسائل المشروعة لتنظيم النسل والذي فصلنا فيها القول عند كلامنا عن العزل.
__________
(1) انظر البحر الزخار 457/5
(2) المغني 418/8
(3) المغني 418/8(5/136)
الخاتمة:
في ختام بحثنا لموضوع تنظيم النسل وتحديده، أود أن أبين ما يلي:
1 – إن تنظيم النسل وتحديده بالوسائل المشروعة التي تطرقنا إليها خلال البحث وقبل تكوين الجنين في رحم المرأة، ينطبق عليه حكم العزل الذي فصل العلماء فيه القول، وقد أباحه جمهورهم على أن لا يتخذ ذلك ذريعة لمنع الحمل بصورة دائمة، لأنه يتنافى مع توجيهات الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى تكثير النسل.
2 – بعد استقرار في رحم المرأة، وأخذ دوره التكويني سواء كان في طوره الأول النطفة أو الثاني العلقة أو الثالث المضغة، وقبل نفخ الروح فيه، فلا يباح إسقاطه إلا إذا دعت الضرورة إليه، كما ذكرنا ذلك قبل قليل.
3 – وبعد بث الروح في الجنين، ويعرف ذلك عن طريق الأم، أو إخبار طبيب أو مولده، فلا أرى جواز إسقاطه لأي سبب من الأسباب، لما فيه من إزهاق الروح، وهو محرم شرعًا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو(5/137)
أهم مصادر البحث
بعد القرآن الكريم:
1 – الجامع لأحكام القرآن – أبو عبد الله محمد القرطبي، المتوفى 671هـ- مطبعة دار الكتاب العربي- الطبعة الثالثة 1967م
2 – روح المعاني – شهاب الدين السيد محمود الآلوسي – المتوفى 1270هـ- إدارة الطباعة المنيرية- دار إحياء التراث العربي – بيروت.
3 – سبل السلام- محمد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني المتوفى 1182هـ شرح بلوغ المرام لأحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني- مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
4 – الروضة الندية شرح الدرر البهية – لأبي الطيب صديق بن حسن القنوجي البخاري- الطبعة الأولى 1404هـ- دار الندوة الجديدة.
5 – منتهى الإرادات – تقي الدين محمد بن أحمد الشهير بابن النجار– تحقيق الدكتور عبد الغني عبد الخالق – الناشر عالم الكتب.
6 – الشرح الكبير – لأبي البركات سيدي أحمد الدردير- طبع بدار إحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي وشركاه.
7 – حاشية الدسوقي على الشرح الكبير – للعلامة محمد عرفة الدسوقي.
8 – الخرشي على مختصر سيدي خليل وبهامشه حاشية الشيخ علي العدوي – دار صادر بيروت.(5/138)
9 – حاشية البجيرمي على المنهج، المساة التجريد بنفع العبيد على شرح منهج الطلاب لأبي يحيى زكريا الأنصاري – الطبعة الأخيرة مطبعة البابي الحلبي.
10- حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار- لمحمد أمين الشهير بابن عابدين - الطبعة الثانية – مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
11- إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي – مطبعة مصطفى البابي الحلبي – سنة الطبع 1385هـ - 1939م.
12- المهذب في فقه الإمام الشافعي - للفيروز آبادي الشيرازي – مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر.
13- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج- للخطيب الشربيني – مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1377هـ 1958م.
14- المغني – لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة على مختصر أبي القاسم عمر بن حسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي – مطابع سجل العرب 1389هـ- 1969م.
15- مختار الصحاح – لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي- الناشر دار الكتاب العربي.
16- الجنين والأحكام المتعلقة به في الفقه الإسلامي- للدكتور محمد سلام مدكور- الطبعة الأولى 1389هـ - دار النهضة العربية بالقاهرة.(5/139)
تنظيم النسل وتحديده
إعداد
الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام
القاضي بمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية
المملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فهذه خلاصة ونبذة في حكم الشريعة الإسلامية الغراء عن موضوع (تنظيم النسل وتحديده) .
نستمد العون من الله تعالى في تحريرها وتطبيقها وفق الشريعة الإسلامية ثم نستمد ذلك من النصوص الكريمة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وكلام علماء المسلمين رحمهم الله تعالى.
فقد عودتنا هذه الشريعة الكريمة المعطاءة من الحلول الكافية لجميع مشاكل الحياة وأمورها مما يستجد فيها من وقائع وقضايا، فإنها الشريعة الكفيلة بتقديم كل ما يحل المشكلة المعترضة أو الواقعة الجديدة بكل ما يكفل نجاح المهمة.
ذلك أنها شريعة الله الخالدة التي جعلت لصلاح البشرية عبر قرونها الطويلة وستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهذه الشريعة لا بد أن يكون فيها عوامل البقاء والدوام ومقومات الشمول والعموم لتصمد في عطائها الحلول الكافية للإنسانية في كل زمان ومكان.
وبهذا فإننا على ثقة تامة – بحول الله تعالى وعونه- من أننا سنقدم في هذه القضية وغيرها ما يكفل الصالح العام ويضمن سلامة العاقبة، لتطمئن بها النفوس وترضى بها القلوب وترتاح إليها العقول.
تحديد النسل لغة:
الحد هو طرف الشيء ومنتهى غايته.
النسل لغة: الولد والذرية يقال: تناسل القوم إذا كثر نسلهم.
تعريفه اصطلاحا:
هو وضع حد ينتهي إليه نسل الأولاد بتقدير من الأبوين أو من الدولة لغاية مرادة بوسائل يظن أنها تمنع الحمل.
تاريخه:
أقدم ما حفظه التاريخ لمنع الحمل لغرض الحد من النسل هو ما وجد في الآثار الفرعونية، فقد كشف تنقيب الآثار عن وجود كتابات تدل على هذه المحاولة ترجع إلى ما قبل عشرين قرنا قبل ميلاد المسيح عليه السلام، مما يدل على قدم هذه الأفكار.(5/140)
الأمم التي عرفت بهذا:
تقدم أن هذه موجود عند قدماء المصريين منذ عهد الأسر الفرعونية.
وقد ذكر علماء الاجتماع أن هذه الظاهرة معروفة لدى الإغريق واليونان والصينيين.
وهي كذلك موجودة عند العرب في جاهليتهم بوسائل، منها قتل الأولاد التي نهى عنها القرآن الكريم بقوله {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (1) وبصورة وأد البنات كما قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (2) وقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (3) .
وجاء بصورة العزل وذلك بأن ينزع الرجل حينما يحس بقرب نزول شهوته.
وطرق محاولة تحديد النسل بمنع الحمل تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة والثقافة.
أما تحديد النسل الذي وضحت لنا معالمه ومقاصده وأهدافه وعلمت دوافعه وعمل به كمبدأ اقتصادي وتنظيمي، فإن أول من علمنا به هو العالم الإنجليزي – مالتس روبرت – المولود- 1776- والمتوفي – 1834م. فقد قالت (الموسوعة العربية الميسرة) :
مالتس: اقتصادي إنجليزي اشتهر بنظريته في نمو السكان وتناقصهم وبين كيف يميلون إلى الزيادة بنسبة تجاوز كثيرا نسبة الزيادة في المواد الغذائية، وأن التوازن بين السكان والمواد الغذائية يتحقق بالكوارث كالحروب والمجاعات ولا يمكن الخلاص من هذه النتيجة إلا بالامتناع الاختياري عن الزواج أو تأخير ميعاده وتحديد النسل. اهـ.
وقد ضمن نظريته كتابه (بحث في مبادئ السكان) . وكان له أثر عميق في المعاصرين واللاحقين من رجال الاقتصاد والاجتماع والسياسة. اهـ.
وتلاه في نظريته كل من العالم الفرنسي – فرانسيس بلاس- والطبيب الأمريكي الشهير- تشارلس تون – ثم انتشرت في هذه السنين القريبة حينما وفرت الدول بالسكان العاطلين وحينما ناب الحديد والمعدات الثقيلة بالأعمال الشاقة عن الأيدي العاملة وضاق مجال العمل، وكثرت البطالة فصارت هذه الظاهرة الاجتماعية حجة لأصحاب هذا المبدأ السلبي ممن لا يواجهون مشاكل الحياة إلا بالتواري والانطواء.
__________
(1) الإسراء: [31]
(2) التكوير: [8، 9]
(3) النحل: [58، 59](5/141)
طرق تحديد النسل:
إن هناك حضارات كانت على ضفاف النيل، وهناك الإغريق وقدماء اليونان من تلك الأمم التي لم يصل إلينا من حضارتهم وأساليب عيشهم وأحوالهم الاجتماعية إلا النزر اليسير الذي لا يعطي حكما يقينيا على طرقهم في ذلك، فمع عظمة ما خلد من آثارهم التي توحي بوجود علم واسع وحضارة عريقة، فإن معرفة تلك الطرق لا تعنينا في بحثنا هذا وإنما تعني رجال الآثار وعلماء التاريخ.
أما وجوده عند الأمة البدائية وهي العرب في جاهليتها فهو العزل حال الجماع، وذلك بإخراج العضو التناسلي ليريق ماءه خارج الفرج.
فهذا الذي قال بعض الصحابة عنه: كنا نعزل والقرآن ينزل.
وللعرب طرق في تقليل النسل وذلك بقتل الأولاد عامة من ذكر وأنثى كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (1) وكذلك يئدون البنات، والوأد هو دفنها حية حتى تموت، ولذا قال تعالى {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (2) وقال تعالى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (3)
فكان الوأد عند بعض القبائل العربية وليس عند جميعهم، بل بلغت الرأفة والرحمة ببعضهم أنه كان يفتديها ويشتريها من أهلها فيربيها أحسن تربية، كما قال الفرزدق التميمي يفخر بقومه:
ومنا الذي أحيا الوئيدة غالب
وعمرو ومنا حاجب والأقارع
ولقساتهم في الوأد طريقان:
قال في – بلوغ الأرب- للشيخ محمود شكري الألوسي: كيفية الوأد أن الرجل من العرب كان إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية.
وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر مع الأرض.
الطريق الثاني: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: كانت الحامل إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة إذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة وإذا ولدت ولدا حبسته.
__________
(1) الإسراء: [31]
(2) التكوير: [8، 9]
(3) النحل: [58، 59](5/142)
طرقه الحديثة:
بعد أن تقدم الطب وتقدمت وسائله وأجهزته صار لمنع الحمل عدة طرق:
قال الدكتور الطيب الفاضل محمد بن علي البار في كتابه (خلق الإنسان بين الطب والقرآن) : وطرق منع الحمل كثيرة جدا نوجزها فيما يلي:
1 – استعمال الرفال (جلد يغطي الإحليل) .
2 – استعمال الحواجز والقلنسوة لتغطية عنق الرحم.
3 – استعمال المراهم واللبوس (التحاميل) القاتلة للحيوانات المنوية.
4 – تنظيم الجماع بحيث يقع في أول الدورة الشهرية وآخرها. ويجتنب وسطها الذي تخرج فيه البييضة من المبيض.
5 – استعمال حبوب منع الحمل وهي أنواع كثيرة.
6 – استعمال أداة داخل الرحم (اللولب) وهو أنواع كثيرة تزيد على المائة.
7 – تعقيم الرجل أو المرأة فتعقيم الرجل – الآن – بربط الحبل المنوي وقطعه، وأما تعقيم المرأة فبإزالة المبيض والرحم أو إزالة الرحم وهذا في حالة مرض الرحم. وأما الطريقة الشائعة فتكون بقطع قناتي الرحم وربطهما وتسمى – ربط الأنابيب.
أغراض تحديد النسل:
مادمنا عرفنا أن هذه (العادة) أو هذا (التنظيم) معروف لدى الأمم الماضية والباقية فإن المقاصد منه والهدف من ممارسته تختلف اختلافا كبيرا متباينا لا يمكن حصره في غرض واحد من الأغراض ولكن سنحاول أن نذكر ما وصل إليه علمنا من هذه الأهداف.
أولا: علمنا أنه موجود عند قدماء المصريين واليونان وعند الإغريق والصينيين ولكننا نجهل – الآن – الدوافع التي تدعو إليه، ولعلها ترجع إلى قضايا اقتصادية أو اعتقادات دينية، فهذان الأمران هما موضع الاهتمام عند عموم البشرية ولم تقم الحروب وتشعل الفتن إلا لأجل هذين الأمرين.(5/143)
ثانيًا: الذين وصلت إلينا أخبارهم هم العرب قبل الإسلام فكان قتل الأولاد عامة شائعا عند كثير من قبائل العرب، وكذلك وأد البنات كان موجودا عند بعض القبائل العربية. فكانوا يقتلون أولادهم من وجود الفقر كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (1) بل يبلغ بهم الأمر إلى قتلهم خشية الفقر كما قال تعالى في سورة الإسراء: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (2) .
وقد جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت: ثم أي؟ قال: " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك".
ومن أغراضه عند بعض العرب أنهم يئدون بناتهم خشية العار فكانت الحروب تقع بينهم، وكانت القبيلة المنتصرة تستولي – فيما تستولي عليه – على نساء القبيلة المغلوبة المقهورة وهذا من أشق الأمور عليهم أن تكون نساؤهم تحت أعدائهم فكانوا لا يستحيون منهن إلا ما دعت إليه ضرورتهم.
وتعظم الغيرة عليهن ويزيد الحقد عليهن حينما يخيرن بعد السبي فيخترن من سباهن على أهلن فكره ذلك عند ولادة البنت لتخلصوا منها بأبشع صورة.
وروي أن أول قبيلة وأدت من العرب ربيعة، وذلك أنهم أغير عليهم فنهبت بنت أمير لهم فاستردها بعد الصلح، فخيرت بين أبيها وبين من هي عنده فاختارت من هي عنده وآثرته على أبيها، فغضب وسن لقومه الوأد ففعلوه غيرة منهم ومخافة أن يقع لهم مثل ما وقع، وشاع ذلك في العرب وغيرهم والله أعلم.
وما زالت هذه العادة في العرب حتى جاء الإسلام فهذبهم وعلمهم وزكاهم بمثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (3) وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (4) .
__________
(1) الانعام [151]
(2) الإسراء [31]
(3) الإسراء [31]
(4) النساء [29](5/144)
ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت: ثم أي؟ قال: " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ". حبب إليهم الأبناء بقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (1) كما وعدهم الخير بتربية البنات والإحسان إليهن فقال صلى الله عليه وسلم: " من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار ". متفق عليه.
ورفع من قدر الزوجة فقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بالنساء خيرا".
وجاء في خطبته العظيمة يوم عرفة أنه قال صلى الله عليه وسلم: " استوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم، إلا أن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا".
وقال صلى الله عليه وسلم: " خياركم خياركم لنسائهم " رواه الترمذي بإسناد الصحيح.
فبهذه النصوص الكريمة وأمثالها هذب الإسلام طبائع العرب وأزال منها الوحشية والهمجية، حتى صار للنساء شأن كبير ومكان شريف في المجتمع الإسلامي، وأصبحن شقائق الرجال فيما لهن من الحقوق وما عليهن من الواجبات، وأصبحت المرأة إنسانا كامل الحرية مطلق التصرف، وهذا كله بفضل هذه الشريعة الكاملة العادلة التي أعطت كل ذي حق حقه.
المنادون به:
لم يصل إلينا علم عن القرون الماضية: هل نادت به واتخذته لها عقيدة دينية أو نظاما وضعيا أو مبدأ اقتصاديا أو غير ذلك من مقاصدها في رعاياها؟ وإنما الذي وصل إليه علمنا أنه كان موجودا لديها.
أما العرب قبل الإسلام فإنه كان موجودا لديهم ولكنه على مستوى الأفراد وليس نظاما قبليا تسير عليه القبيلة في ذريتها.
ولما جاء الإسلام قضى عليه في جملة ما قضى عليه من أعمالها الجاهلية المستنكرة وعاداتها القبيحة الممقوتة، ولذا فإنه لم يعرف كنظام تسير عليه الدولة إلا حينما نادى به أحد علماء الاقتصاد في بريطانيا وهو العالم – مالتس – وذلك في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.
ثم تلاه على هذا المبدأ الاقتصادي العالم الفرنسي – بلاس- والطبيب الأمريكي- تشارلس – ثم شاع وانتشر كتنظيم سكاني ومبدأ اقتصادي، وقد تبنت هذه النظرية ودعمتها وعززتها منظمة – اليونسكو – التي تعمل لصالح أعداء الإسلام ممن تحركهم الصهيونية العالمية وقد قبل هذه الفكرة بعض المسلمين، إما لسوء نية أو حسن نية.
__________
(1) الكهف [46]
(2) النساء [19](5/145)
أهداف القائلين به:
أما أهداف القرون الأولى فهي مجهولة لدينا كجهلنا بكثير من أحوالهم ولكن بصفتها أمما ذات حضارة عريقة فلا بد أن لها في سياستها مبادئ خاصة ولها نظامها الاجتماعي وسياستها الخاصة التي ترى أنها تلائم أحوالها ووضعها.
وعليه فإننا نرجح أنها أخذت بمبدأ تحديد السكان إما لمبدأ سياسي أو حصانة أمنية أو مبدأ اقتصادي لدى مفكريها.
أما الذي وصلت إلينا أخبار أهدافهم ومقاصدهم فهم عرب الجزيرة العربية إبان الجاهلية فيهم والهمجية والوحشية المتفشية فيهم، والفقر المدقع الذي يرزحون تحت وطأته مع ما هم عليه من الغيرة الشديدة على محارمهم ونسائهم اللاتي لا يهون عليهم أن يَكُنَّ عند أعدائهم.
وهذه الأهداف في العرب قبل الإسلام سجلها القرآن الكريم عليهم فذكر أن بعض العرب يقتلون أولادهم من البنين والبنات إما لوقوع الفقر فيهم كما قال تعالى " {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} (1) أو يقتلونهم خشية الفقر أن يحل بهم كما قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (2) .
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب قتل الولد خشية أن يطعم مع أبيه.
وأما قتل البنات وهو ما يسمى بالوأد وذلك بأن يدفنها وهي حية حتى تموت فهذا من أجل العار كما تقدم. فكانوا يستقلون من النساء ويتخففون منهن بقدر استطاعتهم فلا يستحيون منهن إلا ما تدعو إليه ضرورتهم.
على أن وأد البنات ليس عاما في قبائل العرب، وإنما هو موجود في بعض القبائل العربية، ومن القبائل التي لم تمارس الوأد قبيلة قريش، تلك القبيلة التي شرفها الله تعالى بمجاورة البيت الحرام كما شرفها ببعثه محمدا فيهم، فهذه القبيلة لها من الحصانة والأمان ما يستوجبا الإعظام في نفوس العرب والاحترام الاجتماعي في الجزيرة العربية، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (3)
ولذا غلط بعض المؤرخين الذين نسبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه واد إحدى بناته في الجاهلية، فهو خطأ واضح وغلط فادح فلم تكن هذه العادة في قريش أبدا.
__________
(1) الأنعام [151]
(2) الإسراء [31]
(3) العنكبوت [67](5/146)
أما اتخاذ – تحديد النسل – مبدأ اقتصاديا تسير عليه الدولة كمحاولة لتحديد السكان بقدر ما يتوقع من وجود المواد الغذائية، فهذا لم يعرف إلا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، حينما ألف العالم الاقتصادي – مالتس- كتابه عام (1798م) في مشكلة السكان والذي جاء فيه العبارة التالية:
" إن العالم مقدم على تزايد هندسي في عدد السكان كل (25سنة) بينما تزايد المواد الغذائية يسير بنسبة حسابية متوالية".
ومعنى هذه النظرية: أن التزايد الهندسي يكون بالضعف دائما أبدا فإذا كان عدد السكان مثلا مليونا فإنه بعد (25سنة) يكون مليونين وبعد (25سنة) أخرى يكون أربعة ملايين وبعد (25سنة) أخرى يكون ثمانية ملايين وبعد (25سنة) رابعة يكون (ستة عشر مليونا) .
بينما لو كان الموجود من المواد الغذائية اليوم – طنا – وزاد في (25سنة) ثالثة يزيد طنا واحدا وفي (25سنة) رابعة يزيد طنا واحدا. ففي مائة سنة تكون نسبة زيادة السكان إلى زيادة المواد الغذائية بمعدل – أربعة أمثال – فنادى – مالتس – آنذاك بتحديد النسل تفاديا – في نظره – لهذا الخطر المتوقع.(5/147)
موقف الإسلام من تحديد النسل:
نستعرض لهذا الموقف بفقرات نبين فيها موقف الإسلام من هذه النظرية التي شغلت أذهان كثير من الناس، وتناولتها بعض الأقلام ما بين رافضة لها ومؤيدة.
أولا: الزواج: هو الطريق الطبيعي والشرعي لحصول الأولاد وتكثير النسل وبقاء النوع البشري، حث عليه الإسلام ورغب فيه حتى في حالة الفقر فقال تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1)
وأباح تعدد الزوجات بشرط العدل بينهن فقال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (2) وذلك لفوائد النكاح العديدة التي منها مراعاة تكثير النسل ووفرة الذرية.
وجاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج " والنصوص في هذا كثيرة.
ثانيا: الزواج وطلب الأولاد وهو مسلك أفضل خلق الله من النبيين والمرسلين وعباد الله الصالحين، فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (3) وقال تعالى عن زكريا عليه السلام: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (4)
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله".
فهذا دأب الصالحين المصلحين من عباد الله يستكثرون من الأولاد لما يرون في ذلك من المصالح الكبيرة والفوائد العظيمة والقدوة الحسنة في عبادته وطاعته وعمارته أرضه، فهؤلاء هم الذين جعلهم لنا قدوة وأسوة فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (5) وليس القدوة هم دعاة الضلال وملاحدة الإفرنج.
__________
(1) النور [32]
(2) النساء [3]
(3) الرعد [38]
(4) آل عمران [38]
(5) الأنعام [90](5/148)
ثالثا: نهى الإسلام عن التبتل والانقطاع عن النساء والذرية؛ لأنه طريق عقيم ومسلك وخيم لا يقبله إلا قليلو الإدراك وسطحيو النظر ممن يرون الدين رهبنة وطقوسا جوفاء ويظنون العبادة هي التقشف والبعد عن ملاذ الحياة الطيبة ونعيمها المباح، قال تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (1)
وجاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنا أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، من رغب عن سنتي فليس مني ".
فالحياة الزوجية وطلب الأولاد مما حبب إليه الإسلام وحث عليه قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} (2) فالحرث من زرع الذرية وحصول الأولاد الذي هو أهم مطالب النكاح.
رابعا: جعل الله تعالى حصول الذرية منة منه على خلقه ونعمة أنعم بها عليهم فقد قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} (3) وقال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} (4) وقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (5)
وقد جعل الله تعالى حصول الولد بشارة كبيرة ونعمة عظيمة فقال تعالى على لسان خليله إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (6) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (7) وذكر شعيب قومه بنعمة الله عليهم فقال الله عنه: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} (8) .
والنصوص التي جعلت من التناسل والتكاثر نعمة أنعم بها الله على خلقه كثيرة جدا، فحصول الولد نعمة من الله على الإنسان حتى بعد موته؛ ولذا جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. . . " من الثلاث " ولد صالح يدعو له".
__________
(1) الأعراف [32]
(2) البقرة [223]
(3) النحل [72]
(4) آل عمران [14]
(5) الكهف [46]
(6) الصافات [100، 101]
(7) النساء [1]
(8) الأعراف [86](5/149)
خامسًا: رغبت الشريعة الإسلامية في كثرة الولد وحثت عليه بعدة نصوص كريمة فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد وابن حبان من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة".
ومنها ما رواه الإمام أحمد عن حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " انكحوا أمهات الأولاد فإني أباهي بكم يوم القيامة".
فتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته لا يأتي إلا من كثرة نسلها مع اتباع هذا النسل سنته وتحققه بمتابعته، فتكثير سواد المسلمين وتعظيم شأنهم أمر كبير وهو مطلب من مطالب الشريعة ورغبة أكيدة من صاحب الرسالة المحمدية صلى الله عليه وسلم وإقلاله وتخفيفه مخالفة كبيرة لهذا الأمر العظيم.
سادسا: إن لبنات المجتمع لا تكون إلا من أفراده ففرده هو الذي يقوم عليه بناء المجتمع، فإذا قلت الولادة صار البناء صغيرا قليلًا لا يفي بمقصده ولا يحصل به المراد.
فتحديد النسل هو تنقيص لهذا المجتمع الإسلامي من أطرافه، وتخون له من جوانبه حتى ينتهي بالقضاء عليه، أما كثرة الولادة فهي لَبِنَات متعددات لقيام مجتمع إسلامي كبير وتكثير لسواد أمة إسلامية تبقى كثيرة العدد مرهوبة الجانب منيعة الذراء قوية البناء.
سابعا: إن الله تبارك لم يخلق هذه الخلق إلا لعبادته فقد قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) فتكثير سواد المسلمين هو تكثير لعبادة الله تعالى التي خلق الخلق لأجلها، وتحديد النسل وتقليل المسلمين هو إبطال لهذه الإرادة الشرعية من الله تعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه الإبقاء على المشركين المعاندين له رجاء أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله.
ثامنا: إن بث هذه الدعاية ونشرها بين المسلمين ما هو إلا مكيدة مدبرة ودسيسة مرتبة من أعداء الإسلام الذين يتمثلون في المستعمرين والشيوعيين والصهيونيين والمنصرين، هذه الجهات الأربع التي بذرت في بلاد الإسلام كل شر وزرعت فيه كل قبيح ووجدت من ضعاف النفوس وقليلي الإيمان ممن يدعون الإسلام أكبر عون لها على تنفيذ مخططاتها الماكرة ضد الإسلام والمسلمين بما تبثه من أفكار باطلة ومذاهب خبيثة ومبادئ هدامة تريد بذلك القضاء على الإسلام وإضعاف كيان المسلمين. ونحن – المسلمين – بين رجلين إلى ما شاء الله رجل قبل هذه الأشياء المروجة المغلفة عن حسن نية وسلامة صدر وطيب قلب. وإما آخر خان دينه وأمانته وأمته وبلاده فباع هذا كله بعرض من أعراض هذه الحياة الزائلة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
__________
(1) الذاريات [56](5/150)
شُبَهٌ وأجوبتها:
الأولى: قال المنادون بتحديد النسل: إن الإسلام أباح العزل فقد صحت الأحاديث بجوازه وفعله من بعض الصحابه، وما المراد بالعزل إلا منع الحمل والولد؟ الجواب على هذا من وجهين:
الأول: إن الأحاديث الواردة في هذا الباب قد اختلفت فبعضها أباح العزل وبعضها منعه، فمن الأحاديث المبيحة ما في الصحيحين عن جابر قال: " كنا نعزل والقرآن ينزل "، ومنها ما جاء في صحيح مسلم عنه قال: " كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا " وغير ذلك من الأحاديث المفيدة بجواز العزل.
أما الأحاديث الناهية عن العزل فمنها ما رواه مسلم من حديث عائشة عن جذامة بنت وهب قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس فسألوه عن العزل، فقال صلى الله عليه وسلم: " ذلك الوأد الخفي " وهو قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (1)
وبناء على تعارض الأحاديث فيه فقد اختلف العلماء في حكمه فذهب الأئمة الثلاثة إلى جوازه، وذهب الإمام أحمد إلى تحريمه إلا إذا أذنت الزوجة المشاركة للزوج في اللذة والولد، وذهب ابن حزم والظاهرية إلى تحريمه مطلقا.
وذهب إلى تحريم تحديد النسل غالب علماء عصرنا منهم مفتي الديار السعودية سابقا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ومفتي الديار السعودية حاليا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وأخذ بالتحريم هيئة كبار العلماء بالمملكة ومجلس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، ولكل من هذين المجلسين الكبيرين قرارهما الآتي إن شاء الله.
أما تعارض الأحاديث في ذلك فأحسن ما يقال في ذلك إن حديث عائشة ناسخ لأخبار الإباحة، فإنه ناقل عن الأصل وأحاديث الإباحة على وفق البراءة الأصلية وأحكام الشرع ناقلة عن البراءة الأصلية. وهذه طريقة ابن حزم رحمه الله تعالى.
__________
(1) التكوير [8، 9](5/151)
الوجه الثاني:
أنه على فرض بقاء أحاديث الإباحة على أصلها بدون ناسخ لها فإن هذه الأحاديث لا تدل على ما ذهب إليه هؤلاء المنادون بتحديد النسل، وإنما تدل – في نهاية أمرها- على جواز محاولة منع الحمل لعارض من العوارض وظرف خاص من الظروف في حالات فردية: إما أن تكون الموطوءة أَمَة ويكره أن يكون ولده من أَمَة، وإما أن تتوالى الولادات فيحتاج إلى تنظيم وفترة استراحة، وإما أن يكون هناك مبرر ومسوغ شرعي يجيز ذلك ويبيحه.
والشرع الحنيف لا يمنع من جواز ذلك في مثل هذه الحالات فمنع الحمل على مستوى الأفراد جائز في إحدى حالتين.
الأولى: أن يكون على الزوجة ضرر في الحمل والولادة ويخشى عليها من ذلك، فصحتها وبقاؤها مقدمان على حصول الولد بناء على القاعدة " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" وقاعدة: " إذا وجد مفسدتان ارتكب أخفهما ".
الثانية: إن توالى الحمل بلا فترة راحة للأم فلا بأس في تنظيم الحمل بأن يجعل بين حمل وحمل آخر فترة راحة واستجمام، فهذا جائز لأن هذا لا يعتبر تحديدا للنسل ولا منعا للحمل، وإنما يعتبر تنظيما له وترتيبا.
الشبهة الثانية:
قال دعاة تحديد النسل: إن مساحة الأرض محدودة والصالح منها للسكنى والاستثمار محدود، وإن وسائل إنتاج الأرزاق محدودة أيضا، أما تناسل الناس فهو غير محدود بل زيادته مستمرة وكلما كثر الناس تضاعفت الزيادة، فإذا استمرت الزيادة في السكان مع محدودية الأرزاق والأمكنة حصلت الضائقة والمجاعات وأصيب الناس بهبوط مستواهم الصحي والعلمي، وانتهى بهم الأمر إلى عيشة البؤس والشقاء.
والجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول: إن الذي برأ النسمة وخلق الخلق وأوجد الأشياء هو الذي يقول في محكم كتابه العزيز: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1) ويقول تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) .
__________
(1) هود [6]
(2) العنكبوت [60](5/152)
وجاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وشقي أو سعيد ".
والنصوص في هذا مستفيضة من الكتاب والسنة بأن الله تعالى هو المتكفل برزق خلقه وإنما عليهم الأسباب الظاهرة، وقال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (1) .
فيا عجبا: هل نؤمن بكلام أصحاب هذه الأفكار القاصرة والمعلومات المحدودة والأفهام المنحرفة؟ أم نؤمن بكلام خالق السماوات والأرض الذي بارك فيها وقدر فيها أقواتها وأرزاق أهلها بما بسط لهم من الأرض وأجرى من الأنهار والعيون وأخرج لهم من الثمار والغلات التي جاء تقديرها من لدن حكيم خبير؟
الوجه الثاني:
أما تزايد السكان في الأرض فليس موضع خيفة وخطر على سعادة البشرية وإنما زيادة السكان زيادة في ثروة عظيمة من زيادة العلوم النافعة والاختراع المفيد والأيدي العاملة والقيام بكل مرافق الحياة إذا نظمت هذه الطاقة البشرية ونسقت. والخالق جل وعلا لما أوجب على نفسه رزق خلقه بقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (2) أودع هذه الأرض التي يسكنها البشر كل حاجات هذه المخلوقات من عناصر الغذاء ومقومات الحياة وكنوز الأرض وجعل في هذه المخلوقات القدرة على الحصول على رزقها المودع فيها، وهذه هي الصورة اللائقة بحكمة الله تعالى ورحمته في خلق الكون وأمرهم بالسعي وحثهم على كسب الرزق حيث قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (3) .
__________
(1) فصلت [9، 10]
(2) هود [6]
(3) الملك [15](5/153)
هكذا تواجه الحياة وهكذا تستقبل الدنيا وهكذا يعد ويهيأ للأجيال القادمة من العمار والاستثمار، أما الوقوف في وجه الأجيال المقبلة ووضع السدود والمبيدات في طرق وفود السعادة وفيهم العلماء والمفكرون، وفيهم العاملون والمخترعون وفيهم قبل كل ذلك عباد الله الصالحون، فهذا ليس عملا صالحا وإنما هو سلبية وانهزامية وجبن، والمشاكل تواجه وتحل بالإيجابيات المفيدة لا بالتواري والسلبيات.
فلا تزال في الأرض قارات ومسافات شاسعة غير مسكونة، ولا تزال الأنهار العظام تصب في البحار لا تجد من يستفيد منها ويوجه مياهها الغزيرة الثمينة إلى الأرض البور لتخرج الأشجار والثمار.
ثم إن تحديد النسل مخافة الجوع والضيق إجرام كبير في جانب الله تعالى وسوء ظن بالله تعالى وبوعده الكريم وهي إعادة للجاهلية الأولى بأبشع صورة ممن قال الله عنهم {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (1) . وهو – في نفس الوقت – تدخل بين الله تعالى وبين خلقه الذي دبر معائشهم وقدر أرزاقهم وهو الرازق ذو القوة المتين.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (2)
__________
(1) الإسراء [31]
(2) الحجر [20، 21] .(5/154)
الشبهة الثالثة: قال المنادون بتحديد النسل: إن الطبيعة قضت بتحديد النسل ومنع التضخم السكاني وذلك بكتب الموت والفناء عليهم بعد الوجود، كما قدر ذلك بوجود اليأس من المرأة في آخر عمرها والعجز عن الوقاع من الرجل في آخر حياته، وكما يحصل بالعقم من بعض الأفراد رجالا ونساء.
كل هذا مراعاة للتحديد السكاني وعدم التكاثر البشري.
الجواب عن هذا من وجوه:
الأول: إن الطبيعة ليست شيئا معترفا به عند الشرعيين، وإنما المقر به والمعترف به هو الله العلي القدير المدبر المتصرف في ملكه بلا شريك ولا معين، وإنما هو المتفرد بالربوبية والخلق والرزق والإحياء والإماتة وغير ذلك من شئون ملكوته.
وطبائع الأشياء هي أسباب خلقها الله تعالى وجعلها أسبابًا منظمة محكمة حسب إرادته ومشيئته جل وعلا، وإذا أراد تبارك وتعالى أبطلها وأبطل مفعولها فليس في هذا الكون متصرف سواه سبحانه وتعالى.
الثاني: إن القول بأن وجود الموت والفناء والعقم والإياس من الولادة ونحو ذلك إنما جاءت لتكون حدا من تكاثر النسل ووفرة السكان هو جراءة على الله تعالى وقول في أمره وخلقه بلا علم، وإنما هي تخمينات وتخرصات تمليها الأفكار القاصرة والعقول الزائغة.
والله تعالى جعل القول عليه بلا علم مثل الإشراك به فقال تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) فالتحكم بمخلوقات الله تعالى تعالى تهجم وهو جهل معه غرور والله تعالى يقول: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} (2) ويقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (3) .
فمن أين لهؤلاء المفترين على الله الدليل على أن الله لم يوجد هذه الأسباب إلا ليحد من تضخم البشرية ويقلل من نسلها؟ .
إن طبيعة – الكائنات الحية – في الحيوان والنبات تخضع لنظام خاص بها جاء من طبيعة تركيبها وأصل عناصرها، تلك العناصر التي لها حد تنتهي إليه وليس هذا خاصا بالإنسان فلله تعالى في خلقه شئون وأحوال لا ندركها ولا نحيط بشيء منها، فالله لم يعطنا من العلم إلا قليلا ندرك به ما يسعدنا في دنيانا وأخرانا، أما الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا فهو الله تعالت قدرته.
__________
(1) الأعراف [33]
(2) البقرة [255]
(3) الإسراء [85](5/155)
الثالث: إن الله تبارك وتعالى أودع في طبيعة الأحياء وفي غرائزهم الرغبة في التناسل وحصول الذرية، فهي جبلة وغريزة ملحة في الإنسان تدعوه إلى الرغبة في الزواج لحصول الولد تحقيقا لبقاء النوع وإرضاء لعاطفة الأبوة والأمومة، فالذي جعل هذه الغريزة وتلك الطبيعة هو الذي جعل الوفاة واليأس من الولادة والعقم عوائق عن مواصلة الولادة والتناسل.
فحكمة الله تعالى أجل وأسمى من أن ترد إرادتان متضادتان على مراد واحد ومقصد واحد.
وإذا أبحنا لأنفسنا تعليل شيء من مراد الله تعالى وتلمسنا حكمته في هذا فإننا نقول: إن فترة الإخصاب بين الرجل والمرأة كافية لحصول عدد كبير من الأولاد، وهي الفترة التي فيها- غالبا- وجود الأبوين قويين لتربية الأولاد وتعليمهم والقيام على شئونهم وما يصلحهم. أما في حالة الشيبة والكبر فهما أنفسهما في حاجة إلى الراحة، وليس لهما قدرة على الولادة والتربية والقيام بشئون الأطفال، فرحمة الله تعالى وحكمته في ضعف الأبوين ورحمته وحكمته بالأطفال المحتاجين للعناية والرعاية أن ينتهي الإخصاب والإنجاب في هذه الفترة، وفترة نشاط الأبوين في سن الشباب إلى سن الكهولة الذي هو وقت الإخصاب وزمن الغبطة بالأولاد والقوة على تربيتهم والقيام بشئونهم كأطفال محتاجين للعناية والرعاية، أما الوفاة والفناء فهذا مصير كل كائن حي حتى على الكائنات التي يعتبر وجودها وتكاثرها إثراء في المواد الغذائية ورغدا في وسائل المعيشة، أما العقم فهو من الندرة بمكان جدا.
على أن من فوائده بيان قدرة الله تعالى وكمال إرادته وشمولها كما قال الله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} (1) فهو تعالى يهب الإناث أو الذكور ويهب النوعين ويحرم من يشاء فيجعله عقيما، وكل هذه الأحوال خاضعة لمشيئة الله تعالى يقدرها ويجريها وفق علمه وحكمته.
والقصد أن المناطقة وذَوُو العقول يحيلون اجتماع الضدين قال تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (2) .
__________
(1) الشورى [49، 50]
(2) الأنبياء [22](5/156)
أقوال العلماء المحققين:
قال مفتي الديار السعودية – سابقا – الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: ما قيل في تحديد النسل فهو يناقض ويخالف ويتعارض مع مدلول الأحاديث المرغبة في التزويج بالودود الولود، مع مباهاة الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته الأمم يوم القيامة، أما مفتي الديار السعودية – الآن – الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فله مقالات ضافية في الرد على المنادين بها وتوهين حججهم ودحض أدلتهم، ونشر ما قال سماحته في الصحف وأذيع من المحطات الكبار كمحطة لندن وصار لها وقع كبير في الجمهور الثقافي.
وألف العلامة الشيخ أبو الأعلى المودودي رسالة سماها: " حركة تحديد النسل " بنى فيها رده على أقوال الأطباء وإحصائيات اقتصادية ونظريات علماء النفس ورد تلك المزاعم المبيحة لتنظيمه.
وألف الشيخ عطية محمد سالم أحد قضاة المدينة المنورة رسالة في هذا الموضوع سماها " تعدد الزوجات. وتحديد النسل " أجاد فيها وأفاد بموقف الإسلام المضاد لهذه النظرية الاستعمارية.(5/157)
وللشيخ حسنين مخلوف – مفتي الديار المصرية سابقًا – عدة فتاوى في هذه المسألة كلها تحذير من خطورة تنفيذ هذه النظرية المستوردة وجاء في بعض فتاويه قوله: تحديد النسل مشروع خطير ولم يثره بادئ الأمر عندنا إلا الاستعماريون حين أفزعهم تزايد السكان وأقلقهم نمو الأمة ويقظة الشعور العام إلى أساليب الاستعمار، فنادوا في طول البلاد وعرضها بالخوف من المجاعة إذا لم يحدد النسل وزعموا أن الإسلام يبيح هذا التحديد بصفة عامة.
فبينا لهم في أكثر من مقال أن من أهم مقاصد الشريعة تكثير سواد الأمة حتى تواجه الخطوب وتستمر خيرات البلاد وتقف في وجوه الأعداء وقديمًا قالوا: إنما العزة في الكثرة.
هذا بعض ما قال علماء التحقيق.
أما الذين ساروا في ركاب الاستعمار فلا يخلو حالهم من أمرين: إما مخدوع وإما مأجور، فنسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين آمين.
ولقد سبق – مجمعكم – الموقر بدراسة هذه المسألة من مجمعين كريمين أحدهما - مجلس هيئة كبار العلماء – في المملكة العربية السعودية وهم يضم نخبة ممتازة من علماء هذه البلاد المقدسة ممن جمعوا الرواية والدراية فأصدروا فيها قرارًا بالمنع منه.
كما درست هذه المسألة – أيضًا من – مجلس المجمع الفقهي الإسلامي – بمكة المكرمة الذي يضم نخبة ممتازة من علماء المسلمين من أرجاء المعمورة، فأصدروا فيها قرارًا بالمنع منه أيضًا، فرأيت ضم هذين القرارين إلى بحثي وإلحاقهما معه ليكون من مجموعهما مع البحث تعزيز وتقوية.
وإلى حضراتكم أول القرارين صدورًا وهو قرار – هيئة كبار العلماء.(5/158)
قرار رقم 42 وتاريخ 13 / 4 / 1396 هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر 1396هـ، بحث المجلس موضوع منع الحمل وتحديد النسل، وتنظيمه بناء على ما تقرر في الدورة السابعة للمجلس المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان 1395هـ من إدراج موضوعها في جدول أعمال الدورة الثامنة. وقد اطلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء وبعد تداول الرأي والمناقشة بين الأعضاء، والاستماع إلى وجهات النظر قرر المجلس ما يلي:
نظرًا إلى أن الشريعة الإسلامية ترغب في انتشار النسل وتكثيره وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة من الله بها على عباده، فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بحثها المعد للهيئة والمقدم لها، ونظرًا إلى أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الخلق عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الرب تعالى لعباده، ونظرًا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة بصفة خاصة حتى تكون لديهم القدرة على استعمار البلاد واستعمار أهلها وحيث إن في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى وإضعافًا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها، لذلك كله فإن المجلس يقرر بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد منه خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرازق ذو القوة المتين {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ، وأما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل أو تأخيره عملًا بما جاء في الأحاديث الصحيحة وما روي عن جميع الصحابة رضوان الله عليهم من جواز العزل، وتمشيًا مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء، لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحققة، وقد توقف فضيلة الشيخ عبد الله بن عذبان في حكم الاستثناء، وصلى الله على محمد.
هيئة كبار العلماء(5/159)
وإلى حضراتكم قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وبعد:
فقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في موضوع تحديد النسل أو ما يسمى تضليلًا بـ (تنظيم النسل) .
وبعد المناقشة وتبادل الآراء في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي:
نظرًا إلى أن الشريعة الإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره وتعتبر النسل نعمة ومنة عظيمة مَنَّ الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودلت على أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى لعباده، ونظرًا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفة عامة، وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفة خاصة حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية، وحيث إن في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها.
لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرازق ذو القوة المتين {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرة شرعًا، أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين فإنه لا مانع من ذلك شرعًا وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخرى شرعية أو صحية يقرها طبيب مسلم ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقق على أمة إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير من يوثق به من الأطباء المسلمين.(5/160)
أما الدعوة إلى تحديد النسل أو منع الحمل بصفة عامة فلا تجوز شرعًا للأسباب المتقدم ذكرها، وأشد من ذلك في الإثم إلزام الشعوب بذلك وفرضه عليها في الوقت الذي تنفق فيه الأموال الضخمة على سباق التسلح العالمي للسيطرة والتدمير بدلًا من إنفاقه في التنمية الاقتصادية والتعمير وحاجات الشعوب.
وكاتب هذا البحث بعد أن استعرض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وبعد أن اطلع على كلام العلماء، والقرارين الصادرين في هذه المسألة المدعمين بالأدلة الصحيحة الصريحة، وبعد أن ظهر له وخاصة القول بتحديد النسل وما يجره على الأمة الإسلامية من قلة وذلة، وما يقصد به أعداء الإسلام بهذه المكيدة من إضعاف للمسلمين وتقليل لعددهم لا يسعه إلا أن يقرر بحزم وحتم تحريم القول والعمل بتحديد النسل بصورة جماعية وبنظام متبع عام.
أما استعماله بصورة فردية لظرف ملح خاص أو لضرورة داعية فلا مانع من ذلك.
وكذلك تنظيم النسل حينمًا يتوالى الحمل والولادة على المرأة فيريد الزوجان أن يجعلًا بين كل مولود وآخر فترة راحة للأم وعلوق للطفل الأول فلا مانع أيضًا.
وكاتب البحث يقترح على هذا – المجمع الفقهي الإسلامي – الموقر أن يحذو حذو زميليه – مجلس هيئة كبار العلماء والمجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة – بالمنع من ذلك إلا ما استثني.
والحمد لله رب العالمين وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبد الله بن عبد الرحمن البسام(5/161)
تنظيم النسل وتحديده
إعداد
الدكتور علي أحمد السالوس
أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة
جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
تنظيم النسل وتحديده" تعقيب "
الحمد لله تعالى حمدًا كثيرًا، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
وبعد: فقد رأيت أن أشترك بثلاثة موضوعات في هذا المؤتمر المبارك إن شاء الله تعالى وهي: تغير قيمة العملة، وأعمال البورصة، وبيع المرابحة، ولكن بعد الاضطلاع على بعض الأبحاث المقدمة بدا لي أن أكتب كلمة موجزة في تنظيم النسل وتحديده، وأركز هنا على النقاط التالية:
1- ما نسمعه من زيادة السكان أو الانفجار السكاني وقلة الغلة، هو قول غريب عن الإسلام وفد إلينا بعد أن تركنا الاقتصاد الإسلامي الرباني وأخذنا بالاقتصاد الوضعي البشري، فمالتس أحد أئمة الاقتصاد الرأسمالي – خرج على الناس بنظريته في السكان، حيث رأى أن الموارد تزيد بمتواليات عددية (1، 2، 3، 4، 5 وهكذا وأن السكان يزيدون بمتواليات هندسية (1، 2، 4، 8، 16 ... وهكذا) . وهذا يعني أن في خلق الأرض خللًا، فغلتها لا تكفي سكانها، وبالطبع فإن هذا يخالف الواقع الذي أخبرنا به خالق السكان، وخالق الأرض، التي بارك فيها وقدر فيها أقواتها، والقائل سبحانه وتعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1) ، ولو أن الناس عمروا الأرض كما أمر الله عز وجل: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (2) أي طلب منكم عمارتها ولو أنهم طبقوا المنهج الإلهي، لما وجد جائع أو عريان.
وهذا الخلل المزعوم المتزايد في السكان والموارد، والذي لا وجود له إلا في أوهام المالتسيين، ما علاجه عند مالتس؟ يرى تأخير الزواج مع العفة، ويعارض بناء مساكن لذوي الدخل المحدود، وتقديم أي عون للمحتاجين، ما دام سيساعد على الزاوج، وقد يقال: إنه حرص على العفة لأنه قسيس، ولكن هذا فيه نظر، فمع غير العفة يزداد السكان.
__________
(1) هود: 6
(2) هود: 61(5/162)
وكم من الملايين في عصرنا ولدوا من سفاح، والعجيب أن يعارض من ينسب نفسه للدين مساعدة المحتاجين، والذين أخذوا بنظرية مالتس شجعوا الإجهاض، وتعقيم الرجال والنساء.
2- الإسلام يدعو إلى النكاح، وهذا مسلم به واضح بَيِّنٌ، ومقصد النكاح الأول هو النسل، ولذلك جاء في أكثر من رواية: " تزوجوا الودود الولود ... " ومنع النسل ضد الفطرة، والإسلام دين الفطرة.
فإذا ذكرت أحاديث شريفة تبيح العزل، فيجب أن نبحث عن بقية الأحاديث المتصلة بالموضوع، وعلى الأخص إذا وجد ما يعارض أحاديث الإباحة، ثم نسلك بعد هذا المنهج العلمي في النظر في الأحاديث مجتمعة.
فمن الأحاديث الصحيحة الصريحة في المنع ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام مسلم في صحيحه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال:
ذلك الوأد الخفي {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} .
ومن حديث المنع، ومنهج الإسلام، يتبين أن الإباحة برخصة فردية على خلاف الأصل، ولا تكون هذه الرخصة عامة على نطاق دولة من الدول.
3- ذكرت بعض الفتاوى المعاصرة الفردية، وأرى أن من أهم ما صدر – إن لم يكن أهمها على الإطلاق – قرار المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1385 هـ (1965 م) والذي صدر بإجماع العلماء الذين كانوا مندوبين عن خمسة وثلاثين دولة إسلامية، ومن بعده قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، التابع لرابطة العالم الإسلامي، في دورته الثالثة سنة 1400 هـ وصدر أيضًا بإجماع الحاضرين.
وأذكر هنا نص كل من القرارين:-
أولًا: قرار مجمع البحوث الإسلامية:
1- إن الإسلام رغب في زيادة النسل وتكثيره لأن كثرة النسل تقوي الأمة الإسلامية اجتماعيا واقتصاديًا وحربيًا وتزيدها عزة ومنعة.
2- إذا كانت هناك ضرورة شخصية تحتم تنظيم النسل فللزوجين أن يتصرفا طبقًا لما تقتضيه الضرورة، وتقديره هذه الضرورة متروك لضمير الفرد ودينه.
3- لا يصح شرعًا وضع قوانين تجبر الناس على تحديد النسل بأي وجه من الوجوه.
4- وأن الإجهاض بقصد تحديد النسل، أو استعمال الوسائل التي تؤدي إلى العقم لهذا الغرض، أمر لا تجوز ممارسته شرعًا للزوجين أو لغيرهما.
ويوصي المؤتمر بتوعية المواطنين وتقديم المعونة لهم في كل ما سبق تقريره بصدد تنظيم النسل.(5/163)
ثانيًا: قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي
الحمد لله وحده، والصلاة على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه: وبعد.
فقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في موضوع تحديد النسل أو ما يسمى تضليلًا بـ " تنظيم النسل ".
وبعد المناقشة وتبادل الآراء في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي:
نظرًا إلى أن الشريعة الإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره، وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة مَنَّ الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلت على أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى لعباده، ونظرًا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفة عامة، وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفة خاصة، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية، وحيث إن في الأخذ بذلك ضربًا من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى، وإضعافًا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها.
لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع، أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقًا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ، أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرة شرعًا، أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق ككون المرأة لا تلد ولادة عادية، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين فإنه لا مانع من ذلك شرعًا، وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخرى شرعية أو صحية يقرها طبيب مسلم ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقق على أمه إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير من يوثق به من الأطباء المسلمين.(5/164)
أما الدعوة إلى تحديد النسل أو منع الحمل بصفة عامة فلا تجوز شرعًا للأسباب المتقدم ذكرها، وأشد من ذلك في الإثم والمنع إلزام الشعوب بذلك وفرضه عليها في الوقت الذي تنفق فيه الأموال الضخمة على سباق التسلح العالمي للسيطرة والتدمير، بدلًا من إنفاقه في التنمية الاقتصادية والتعمير وحاجات الشعوب.
4- بعد هذه الكلمة الموجزة أريد أن أسأل سؤالا له دلالته وهو:
ما الجهات التي تنفق على الدعوة لتحديد النسل وتنظيمه في البلاد الإسلامية ذات القلة غير المسلمة؟ وما أهدافها؟ وما نسبة هذه القلة قبيل بدء الدعوة وما نسبتها؟
نسأل الله تعالى أن يجنبنا الزلل في القول والعمل
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الدكتور علي السالوس(5/165)
تنظيم النسل وتحديده
إعداد
الشيخ د. الطيب سلامة
عضو المجلس الإسلامي الأعلى – أستاذ بالجامعة الزيتونية
بسم الله الرحمن الرحيم
تنظيم النسل وتحديده
البحث في هذا الموضوع يتناول عدة قضايا
أهمها اثنتان:
الأولى: التوقي من حصول الإخصاب الذي به يبدأ الحمل.
• بسط إجمالي.
• تنظيم النسل وتحديده.
• ما هو النسل؟
• حكمة التناسل ومنزلة الذرية في حياة الناس.
• النسل كما يرضاه الإسلام.
• هل من شروط الإنجاب حسن القيام؟
• موقف الشريعة الإسلامية من التعرض للإخصاب.
• الإنجاب في القرآن.
• الإنجاب في السنة الشريفة.
1- اتجاه الجواز.
2- اتجاه القائلين بعدم الجواز.(5/166)
الرد على القائلين بالمنع.
• حكم التوقي من الحمل عند أئمة المذاهب.
1- في المذهب المالكي.
- خلاصة المذهب المالكي.
2- عند الشافعية.
3- عند الحنفية.
4- عند الحنابلة.
- خلاصة المذاهب.
الثانية: الإجهاض والإعقام:
• تقديم.
• حكم الإجهاض.
• حكم الإعقام.
• القرار في النسل يتبع الحق في الولد.(5/167)
القضية الأولى في هذا البحث
التوقي من حصول الإخصاب الذي به يبدأ الحمل
بسط إجمالي:
لا نعدو الحق والواقع إذا نحن قلنا: إن البحث في هذا الموضوع هو بحث في صميم البناء الهيكلي للأسرة البشرية التي بها يتواصل الوجود الدنيوي ويعمر الكون كما أراد الله تعالى أن يعمر، وتتم الخلافة في الأرض للإنسان كما أراد الله أن يحصل ذلك ويتم.
وإذا كان الحجر الأساسي في بناء هيكل الأسرة إنما هو الزواج الذي حثت عليه الأديان السماوية ورغبت فيه الفطرة الإنسانية، فإن لهذا الزواج مأملين عظيمين وغايتين شريفتين:
- أولى هاتين الغايتين – إعفاف النفس وإحصان الفرج وكفى بذلك نبلا أن الإنسان يرتفع عن مصاف العجماوات، ويتنزه عن الدنس والرذيلة والفجور.
- وثانية الغايتين – التناسل والإنجاب اللذان أودع الله تعالى في تركيبه الجبلة الحيوانية عموما، وخص الجبلة البشرية بالرغبة في ذلك تقترن بحب البقاء، وتحقيق الآمال، وبقاء الذكر، والتطلع لامتداد الأجل.
- وإذا كان بقاء الإنسان في ذاته منتهيا إلى حد قصير في هذا الوجود الدنيوي، فإن بقاءه في نسله وبنسله قد يستمر ما استمر الملوان..
- وإذا كان من العسير جدا أن يحقق الإنسان بنفسه كل الآمال والأحلام التي ظل يحلم بها ويمني النفس، فإن تحقيق ذلك قد يصبح ميسورا مأمولا إن هو عول في الباقي على ربه وعلى ما وهبه من ذرية صالحة.
وقد اشتاقت (حنة) امرأة عمران إلى الولد لما أسنت فدعت ربها، ولما أحست بالحمل نذرت ما في بطنها محررا من شواغل الدنيا لخدمة بيت المقدس، وبذلك تحقق بنسلها ما لم يتيسر لها تحقيقه بشخصها، ولكن جرت المقادير بغير ما اشتهت حنة.(5/168)
قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} . (1) .
كما اشتاق زكريا إلى الذرية الصالحة لما رأى من أمر مريم التي تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكان هو الكافل لها، وكان قد انقرض أهل بيته، فدخل محرابه للصلاة في جوف الليل وحكى عنه القرآن توجهه وقوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (2)
- وإذا كان بقاء الإنسان حيا بالذكر لا يتم إلا بما يحقق من عمل صالح أو من علم بثه في صدور الرجال أو من أبناء ينشئون تنشئة طيبة، فإن أيسر الأمور الثلاثة بقاء الذكر عن طريق الذرية الطيبة والأبناء الصالحين؛ لأن ذلك رهين العناية بهم وحسن القيام على تهذيبهم وتربيتهم، وهذا ليس بالعسير على كافة الآباء والأمهات في حين أن الأعمال الصالحة وبث العلم في صدور الرجال لا يحققان هذه الغاية إلا متى بلغ صاحبهما مبلغ النباهة ورفعة الشأن وحسن الأحدوثة، وليس الوصول إلى ذلك إلا لمن وفقهم الله ويسر لهم الطريق وكلل مساعيهم بالنجاح والفوز.
ولقد جاء من أوصاف الصالحين الذين سماهم القرآن عباد الرحمن أنهم هم الذين يدعون ربهم أن يهب لهم أزواجا وذرية – إذ الذرية من الأزواج حتما – ما تقر به أعينهم ويرضي طموحهم إلى مزيد الصلاح والخير فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (3) .
فقد دعوا أن يمنحهم الله الخير عن طريق الأزواج والذرية وقدموا ذلك على دعائهم لأنفسهم مباشرة مع أن المعروف من سنة الدعاء هو تقديم النفس على الغير، فيقول الداعي الملتزم بآداب الدعاء مثلا: اللهم ارحمنا وارحم آباءنا وارحم جميع المسلمين.
__________
(1) 35 – 37 / آل عمران.
(2) 38 / آل عمران.
(3) 74/ الفرقان.(5/169)
والظاهر أن ذلك التقديم لأمرين:
-أحدهما أن دعاءهم للأزواج والذرية هو دعاء للنفس في الواقع؛ لأن صلاح الأزواج والذرية ينتفع به الأب بلا شك.
-وثانيهما أن هذا التقديم لإبراز ما للآباء من آمال تعلق على الأبناء هي أقرب للتحقيق من سواها، وما لهؤلاء الآباء من حرص على الأزواج والأبناء يفوق الحرص على النفس من باب ويؤثرون على أنفسهم، وإن كان هذا الإيثار لا يخلف خصاصة.
-وهكذا فإن الإنجاب مطمح عظيم تتعلق به أسمى الغايات وتتوقف عليه أزكى المآرب وأشرف المقاصد.
-وكفى بالوالد شرفا ونبلا ومكانة وفخرا أن يولد له من صلبه من يعبد الله ويتقيه، وقد خلق تعالى المخلوقات من جن وإنس ليعبدوه، وحصر خلقهم في ذلك الشأن فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1)
-وأن يولد له من صلبه من يسهم بقسطه في إعلاء كلمة الحق وإقرار القيم والموازين القسطاس ويحمل الأمانة على خير الوجوه كما حملها عباد الله المقربون.
-مما أسلفنا عن الإنجاب والذرية – وما أسلفنا غير نبذة – قد اكتسب هذا الموضوع قداسة وأهمية بالغة دفعت بالباحثين في أمر تحديد النسل إلى مزيد من الحذر أحيانا وإلى الخوف من الوقوع فيما يغضب الله أحيانا أخرى.
-ولعل الأهم من الحذر والخوف أن يتوصل العلماء والباحثون إلى إنارة السبيل أمام الأفراد والمجتمعات وأمام الماسكين بأزمة السياسة والحكم في العالم الإسلامي حتى لا تحيد الأسرة المسلمة عن منهج دينها الحنيف، وفي دينها من التعاليم والأحكام المرنة التي ترعى المصالح الثابتة والآنية ما يضمن لها أن تعيش عصرها على خير الوجوه وأمثل الطرق، وأن تستغني عن استيراد الأنماط والنماذج المنبترة النزقة التي لا تقاس فضلا عن كونها تلبس.
__________
(1) 56/ الذاريات.(5/170)
-إن الأسر المسلمة اليوم في هذا العصر تعيش مذبذبة بين أصالة حضارتها الإسلامية، التي طمس صفاءها الجهل بها والتغاضي عنها، وبين زيف حضارة قائمة في بلاد الغرب بناها أهلها على مادية جامحة، لها بريقها ولها مغرياتها فتهافت الأغرار على نارها تهافت الفراش.
-بين هذه وتلك تعيش الأسرة المسلمة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ترقب الهداية من الله وتبحث عن العون من أهل العلم والخير والتقى لتجد سبيلها الواضحة القويمة حتى لا تتفرق بها السبل كما هو الواقع والمحسوس.
ولها في هذا المجمع الفقهي الكريم وأسرته من العلماء والباحثين الجلة خير مرشد ومعين خصوصا حين يحتسب عمله لله تعالى راجيا أن ينفع به أمة الإسلام متخذا شعاره من شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه القرآن إياه في قوله {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1)
ومن المتأكد أن نشير في خاتمة هذا التقديم إلى أن موضوع تنظيم النسل وتحديده قد كان من القضايا الثانوية التي أثارها المتسرون توقيا من حمل الإماء وأثارها بعض الأزواج في حالات قليلة لأسباب عارضة، أما الزوجات فقلما كان الأمر يعنيهن أو يفكرن فيه بحكم أن المرأة لا تكره أن تكون ولودا ودودا ولا يعجزها تدبير بيتها وقوام أمره في حدود نفقات الزوج وقدرته، أما السلطة السياسية فقد تخلت عن هذه القضية لنظر السلطة القضائية باعتبار أنها من الأحوال الشخصية شأنها شأن الزواج والطلاق والإيلاء وغيرها.
لكن تغير واقع الحياة عما كان عليه فصار أمر النسل في يومنا هذا موضع عناية المرأة باعتبار أنها خرجت من البيت لتعمل خارجه وصارت تكره أن تكون ولودا ودودا وتعجز عن تدبير البيت وقوام أمره إلا بمال وفير فخرجت تسعى لهذا المال وتروم سد الحاجة فلم تصل إلى سدها ولن تصل.
كما صار موضع عناية فائقة من السلطة السياسية، فنادى البعض بتكثير النسل لمجابهة عدد آخر من الأعداد، وعد المتواني في الإنجاب متوانيا في خدمة وطنه، وهو بالتالي لا يبعد كثيرا عن أرباب الخيانة الذين خانوا أوطانهم.
__________
(1) 108/ يوسف.(5/171)
في حين نادى البعض الآخر بضرورة تحديد النسل والحرص عليه والإسراع به قبل أن تحل الكارثة التي لا يستبعد أن تصيب العالم كله، ويبني نظريته على حسابات عدة يدخل فيها الاقتصاد والإنتاج والتشغيل والإسكان وفتح المدارس وإقامة المستشفيات وتعبيد الطرقات وبناء المسارح والملاهي ونصب المحاكم وتخصيص السجون ... و ... و ... و ... حتى أمر المناخ وكمية الأوكسجين في الهواء أصبحت مهددة بتزايد النسل تزايدا لا يخضع للمقاييس المحددة.
وكما أشاد الفريق الأول بالمكثرين من النسل ونوه بخصالهم وليكونوا أسوة لمن سواهم، فقد توسع في البذل والعطاء لهؤلاء المستجيبين ورفع من درجاتهم الاجتماعية حتى عادت الأسر تتباهى بعدد الأبناء وكثرتهم بقلة العدد.
كما أشاد الفريق الثاني بالمقلين من الإنجاب واعتبروا فيهم مثالا للتحضر والمعاصرة وسموهم بالواعين والمنسجمين مع حياة الرقي وقالوا عنهم بالفرنسية (Les gens biens) يعني (الناس الكيسون الظرفاء) وبذلوا لهم وسائل الحد من الإخصاب مجانا من ميزان الدولة وأخفوا عنهم ما تخلفه الأدوية والآلات التي توضع في الأرحام من انعكاسات سيئة، وألزموا الأطباء والأعوان الصحيين بأن يغيروا الحقائق العلمية، وأوكلوا أمر العناية بتحديد النسل وتقليله إلى وزارات أو إلى دواوين مجت الأسماع أساليبها الدعائية واشمأزت الأذواق والأخلاق من شعاراتها السمجة وتوضيحاتها وبياناتها المثيرة للسخط والمنفرة، ورغم الإنفاق السخي والمجانية الكاملة لمن يقبلون ورغم العقوبة بالحرمان من بعض المنح والعلاوات لمن يزيدون على الولد الثالث، فإن الحصيلة بقيت هزيلة باعترافهم وبقيت النسبة المؤملة في تحديد النسل تتراءى لهم بعيدة المنال..
فهل يجوز أن نسكت ونترك أمر الإنجاب والتناسل موكولا لاجتهاد زوج غير مسؤول أو لشهوة زوجة ناشز أو لحكم السياسة تعتد برأيها ولا تعتبر أحكام الدين ولا اجتهاد العلماء الذين لا يخشون في الحق لومة لائم؟
اللهم إنه لا يجوز أن نسكت عن هذا التذبذب والتسيب، بل علينا أن نقول للمسلمين ما قاله شرعهم ثم ندعو أن يوفقنا الله وإياهم إلى الهدى وصراط الله المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين – آمين.(5/172)
ما هو النسل؟
النسل في اللسان العربي هو الولد والذرية، والثلاثي منه – من باب كتب، وتختلف المادتان نسل وولد بأن أولاهما مشعرة بالكثرة فيقال: نسلت الناقة أي بولد كثير، بخلاف ولدت ومن هنا أشعرت كلمة النسل بالكم دون كلمة الولد.
قال في القاموس
النسل = الخلق والولد نسل = ولد كأنسل، وتناسلوا = أنسل بعضهم بعضا.
وجاء في المصباح المنير اقتران مادة نسل بمعنى الكثرة، فقال: النسل الولد، ونسل نسلا من باب ضرب (1) كثر نسله.
ولعل المراد المطابق لكلمة النسل هي كلمة الذرية، بحكم إفادة كل منهما لمعنى الخلق ومعنى الكثرة.
قال في القاموس:
ذرأ كجعل = خلق، والشيء كثره ومنه الذرية، لنسل الثقلين.
وجاء في المصباح أيضا:
والذرية: النسل، والذرية فُعْلِيَّة من الذَّرِّ وهم الصغار (2) وتكون الذرية واحدا وجمعا (3) .
ولم ترد كلمة النسل بصيغة الاسم في القرآن إلا مرتين إحداهما في سورة البقرة في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (4) .
وإذا اعتبرنا سبب النزول وأنها نزلت في نفاق الأخنس بن شريق الذي كان يتظاهر بالإيمان ولكنه عمد إلى زرع لبعض المسلمين فأحرقه وإلى حمرهم فعقرها، فكشف الله حقيقة أمره.
وحينئذ فالمراد بالحرث في الآية هو الزرع كما أن المراد بالنسل الحيوان فأدركنا أن النسل كما يقال على ولد الإنسان يقال كذلك على ولد الحيوان.
وثانية المرتين في سورة السجدة في قوله تعالى:
{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (5) .
والنسل هنا هو نسل الإنسان أي ذريته.
__________
(1) الصواب من باب دخل؛ لأن نسل التي من باب ضرب معناها أسرع في العدو ومنه قوله تعالى: {إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} .
(2) ومنه تسمية صغار النحل بالذر.
(3) انظر المصباح=95/1 (ط 1315هـ) .
(4) 204-205 البقرة.
(5) 6-7/ السجدة.(5/173)
وفي حين وردت مادة نسل في القرآن مرتين بصيغة الاسم – كما بينا – فقد وردت كذلك مرتين فقط بصيغة الفعل في قوله تعالى في سورة الأنبياء:
{وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} (1) . وفي قوله تعالى في سورة يس: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} (2) .
والفعل المكرر في الآيتين بمعنى يسرعون وبابه: ضَرَبَ.
وإن كلمة الذرية قد وردت في عديد من سور القرآن وآياته بما لا يقل عن اثنتين وثلاثين مرة وكلها بصيغة الاسم (ذرية) المفرد، مذكرا أو موصوفا أو مضافا، وبعضها بصيغة الجمع (ذرياتنا – ذرياتهم) وأكثر ما ورد من هذه الأسماء جاء مرادا بها النسل والعقب والأبناء وقلما وردت بمدلول مجانب كإطلاق الذرية على الطائفة مثل قوله تعالى: {فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ} (3)
ولم تطلق الذرية في الاستعمال القرآني على ولد الحيوان كما كان الشأن بالنسبة لكلمة النسل، فثبت أن اسم الذرية أخص من النسل.
ولعل وقوع الاختيار على كلمة النسل في عنوان الموضوع الذي نحن بصدده وهو:
تنظيم النسل وتحديده دون كلمة الذرية اعتبارا لكون عملية التنظيم والتحديد هذه إنما تبدأ من البداية، أي من الحيوان المنوي الذي هو بداية الخلق، وبعد أطوار من النمو، ومنذ نفخ الروح يصح إطلاق الذرية على الجنين.
__________
(1) 96/الأنبياء.
(2) 51/يس.
(3) 83/يونس(5/174)
حكمة التناسل ومنزلة الذرية في حياة الناس:-
شاءت حكمة الباري التي لا تجارى أن يقوم تواصل الحياة في هذا الكون على نظام المباشرة والتناسل بين المخلوقات، سواء في ذلك أصناف الحيوان وأصناف النبات.
وقد شاءت حكمته تعالى أن يخضع توالد النبات إلى نظام دقيق وعجيب هو آية للمتدبرين، وأن يخضع تناسل الحيوان إلى غريزة ماضية لا تفتر ولا تني بل تضمن استمرار الأنواع بقدر وموازنة في نطاق ما رسمته الآية الكريمة في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1) .
وميز الإنسان من بين أصناف الحيوان بفطرة حسنة تكفل له البقاء وتوفر له المتعة والخير في الدارين، ولم يترك الإنسان كما ترك الحيوان إلى الغريزة التي تحدد تحركاته وتسير حياته، بل أعطي مع فطرة الله الحسنة التي فطر الناس عليها عقلا مفكرا ووجدانا هو عالم النفس والشعور، وفوق كل ذلك وضحت له مسالك الهداية والرشاد عن طريق ما جاءه من الدين القيم رحمة من الله وتكريما وحفظا.
وهكذا شرف الإنسان عامة بشرف خطاب الله من خلال خطابه لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأتباع محمد رضوان الله عليهم حين قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
وبهذا الشرف فارق الإنسان أصناف الحيوان لأنه لا يتناسل بالغريزة، ولا يتناسل الذكر مع أية أنثى وجدها ولا تقبل الأنثى أو تطلب أي ذكر صادفته، وإنما التناسل لدى الإنسان أمانة يتحمل تبعتها حيًّا وميتًا وهو عمل اختياري هادف وتعامل مدني يتوقف على القدرة والتمييز والأهلية.
والتناسل عند الإنسان لا يكون إلا بالزواج وإلا عد فسوقًا وظلمًا وهبوطًا عن أدنى مستوى الإنسانية، فصار الزواج في حد ذاته غاية ووسيلة وهو غاية؛ لأنه يوفر للإنسان نعمة لا تنتجها المعامل والأيدي ولا تابع في المتاجر والأسواق وإنما هي نعمة من الله وآية من آيات خلقه، هي نعمة السكن ونعمة المودة والرحمة قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3) . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (4) .
__________
(1) 49/القمر
(2) 30/الروم
(3) 12 / الروم
(4) 198 / الأعراف(5/175)
ثم هو وسيلة لآية أخرى من آيات الله الكبرى ونعمة من نعمه الجلية، إنه طريق لإنجاب الأبناء والحفدة إنجابًا يكون حافزًا على تعظيم الخالق وتقواه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (1)
ويكون مؤملًا لخير من الله وبركة ورزق الطيبات قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (2) .
وهل في الدنيا أو في حياة الناس شيء يعادل منزلة الأبناء الصالحين أو يسد مسد الذرية الصالحة؟ لقد شاءت حكمته تعالى أن يجعلهم من زينة الحياة الدنيا حين قال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (3) بل جعلهم المحور لكل زينة في هذه الحياة حتى إن الإنسان لتنقطع صلته بكل زينة إذا ما انقطعت حياته الدنيوية باستثناء زينة الذرية والأولاد فيهم يستمر بقاؤه وذكره، وعن طريقهم يتواصل عمله فلا ينقطع بحكم أن الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته (4) .
وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا ثلاثة أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) (5) .
__________
(1) 1/ النساء
(2) 72 /النحل
(3) 46/ الكهف
(4) كما جاء ذلك في حديث ابن عمر المتفق عليه، والذي يقول في أوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ... إلخ) .
(5) رواه مسلم – مشكاة المصابيح: 71/1 - عدد 203 (ط، أولى دمشق1380/1961) .(5/176)
وهكذا تبقى صلة الميت بالدنيا ويستمر عمله كما لو كان حيًا عن طريق العقب والذرية، ولقد جاءت الآثار تؤكد أن الآباء ينتفعون بصلاح الأبناء ولو كانوا قد تبوءوا أماكنهم من الجنة، أخرج مالك عن يحيى بن سعيد أن سعيد بن المسيب كان يقول: " إن الرجل لَيُرْفَعُ بدعاء ولده من بعده. وقال بيديه نحو السماء ورفعها (1) قال الإمام السيوطي في تعليقه على هذا الخبر: قال ابن عبد البر: هذا - أي الذي كان يقول سعيد بن المسيب - لا يدرك بالرأي، وقد روي بإسناد جيد مرفوعًا، ثم أخرج - أي ابن عبد البر - من طريق أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن المؤمن ليرفع له الدرجة في الجنة، فيقول: يا رب بم هذا؟ فيقال له: بدعاء ولدك من بعدك " (2) .
وقد نَزَّلَ الله تعالى محبة الأبناء والحفدة سويداء القلوب فحفظ بذلك مصالحهم, وأمن عيشهم فلم يحتج إلى حرص يحفز الآباء لمزيد العناية وحسن القوامة عليهم، بل قد يدعو الأمر إلى تنبيه هؤلاء الآباء إلى الأخذ بالحذر في سعيهم وحدبهم على الأبناء، حتى لا ينقلب الأمر إلى وبال عليهم أو إلى فتنة يفتنون بها في حياتهم، فقال تعالى مرشدًا ومحذرًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (3) .
__________
(1) الموطأ، قرآن (العمل في الدعاء) ، انظر: السيوطي، تنوير الحوالك 1/169.
(2) انظر: تنوير الحوالك170/1 (ط مصر 1356/1937) .
(3) 14-15/التغابن.(5/177)
كما قال تعالى في بيان المنهج الرشيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1) .
وقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ} (2)
ولم ينقص هذا الإرشاد ولا هذا التحذير من عاطفة الأبوة المتأججة بل استمر تأججها ضمانًا لبقاء العطف والرحمة وضمانًا لاستمرار الحياة وبقاء النوع البشري. وهذا أسوتنا الحسنة وسيد الأنام صلى الله عليه وسلم يستجيب لأزكى مشاعر الأبوة فينزل من أعلى المنبر ويقطع خطبته لأصحابه من أجل الحسن والحسين رضي الله عنهما، أخرج الترمذي من طريق الحسين بن حريث عن عبد الله بن بريدة (3) قال سمعت أبا بريدة رضي الله عنه يقول: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذا جاء الحسن والحسين عليهما السلام، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: " صدق الله العظيم {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما " (4)
__________
(1) 9/المنافقون.
(2) 37/ سبأ.
(3) هو أبو عبد الله بريدة بن الحصيب (بضم الأول وفتح الثاني فيهما) الأسلمى روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه ابناه: عبد الله وسليمان، وعبد الله بن أوس الخزاعي، والشعبي والمليح بن أسامة وغيرهم – شهد خيبر، وَفَتَحَ مكة واستعمله الرسول صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه ذكر ابن سعد أن وفاته كانت في خلافة يزيد بن معاوية سنة (63هـ) ابن حجر. التهذيب: 54/1-55، عدد 797.
(4) قال الترمذي: حديث حسن غريب، انظر سننه: مناقب 30، وانظر عارضة الأحوذي: 195/13. (ط دار الكتاب العربي، بيروت) .(5/178)
ولقد أعرب صلى الله عليه وسلم عن عاطفة الأبوة في غير ما مرة ذلك أنه خرج ذات يوم وهو محتضن أحد ابني ابنته فاطمة رضي الله عنهم، وهو يقول عن الأبناء: " إنكم لتبخلون وتجبنون وتجهلون، وإنكم لمن ريحان الله ". (1) وقال حين أبصر الحسن والحسين: ((اللهم إني أحبهما فأحبهما)) (2) . وفي حديث آخر كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحسن والحسين هما ريحاناتي من الدنيا)) (3) .
وحين سئل صلى الله عليه وسلم: أي أهل بيتك أحب إليك قال: " الحسن والحسين، وكان يقول لفاطمة ادعي ابني ". فيشمهما ويضمهما إليه، تلكم هي حكمة التناسل، وهذه هي منزلة الأبناء في قلوب الناس وفي حياتهم التي يحيونها.
النسل كما يرضاه الإسلام:
لا أحد فيما نعلم ينازع أن الشريعة الإسلامية، حثت على الزواج ودعت إلى التناسل ورغبت في التكاثر، والنصوص في هذا من الكتاب والسنة معلومة وعديدة: قال تعالى في بيان شرعه في رسله وأخرى في خلقه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (4) ونوه القرآن بزكرياء حين دعا ربه ليرزقه ذرية طيبة فقال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} (5)
وقد جاء في حديث أنس المتفق عليه: " وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " وهل يراد النكاح إلا من أجل الذرية والنسل؟ أخرج ابن ماجه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء " (6) .
كما أخرج عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انكحوا فإني مكاثر بكم " (7) .
__________
(1) أخرجه الترمذي من حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها، وزعم أنه لا يعرفه إلا من طريق سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة الذي قال: وفي الباب عن ابن عمر والأشعث بن قيس رضي الله عنهما.
(2) حديث البراء بن عازب، أخرجه الترمذي: مناقب (30) وقال: حديث حسن صحيح
(3) حديث أنس أخرجه الترمذي مناقب (30) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه من حديث أنس.
(4) 38/الرعد.
(5) 38/آل عمران.
(6) سنن ابن ماجه: نكاح (1) .
(7) سنن ابن ماجه: نكاح (8) .(5/179)
ومما هو نص في أن المراد من الزواج التناسل والتكاثر ما أخرجه أبو داود بسنده عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: لا – ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم " (1) .
نعم لا خلاف أن الإسلام لا يرضي التبتل ولا رهبانية النصارى، كما جاء عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: " رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا " (2) ونظيره ما أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق زيد بن أخزم الطائي وغيره قالوا: حدثنا معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل وزاد زيد بن أخزم: وقرأ قتادة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (3)
كما لا يرضى الإسلام لمن هفا إلى الزواج – وحري به أن يهفو – أن يخبط خبط العشواء بل عليه أن يتخير القرين الكفء والصالح، لأن هذا القرين سيصبح أقرب الناس إليه وألصقهم به وأشركهم في متاعه، وليس هذا القريب بالمنفك عن قرينه المشدود إليه بعقد الزواج حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا، وليس في حياة القرينين – قران زواج – مسؤولية أثقل ولا عمل أدق وأخطر من إنجاب الذرية وتنشئتهم التنشئة الصالحة والطيبة، لذا وضح رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته الطاهرة معالم الطريق، وذلك بوضع المقاييس الصحيحة والموازين القسط في هذا المضمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " وفي رواية: " إذا أتاكم - وأخرى: إذا جاءكم - من ترضون دينه وخلقه. . . " إلخ (4) .
__________
(1) سنن أبي داود: نكاح (3) وللنسائي مثله.
(2) سنن الترمذي: نكاح (2) سنن ابن ماجه: نكاح (2) . وفي رواية الطبري أن عثمان بن مظعون قال: يا رسول الله أتأذن لي في الاختصاء؟ قال: " إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة ". الشوكاني. النيل: 299/6-230 (ط لبنان، دار الجيل 1973) .
(3) عين المصدرين.
(4) رواه الترمذي: نكاح (3) وابن ماجه، نكاح (46) من طريق عبد الحميد بن سليمان الأنصاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورجح الترمذي أنه مرسل ثم رواه من حديث أبي حاتم المزني رضي الله عنه وحسنه.(5/180)
والمعتبر في القرين سواء كان زوجًا أو زوجة من الاستعداد والخصال ما يتحققه مع السكن وحسن العشرة سواء قبل الإنجاب أو بعده، ثم حسن القوامة على سير الأسرة وعلى تربية الأبناء وتعليمهم وسد حاجاتهم بعد الإنجاب؛ لذا جاءت بعض الأحاديث ترشد إلى تخير الزوجة كما تتخير التربة فقال صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن عائشة رضي الله عنها ((تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم)) (1) .
ولن يوفق الزوجان في بحثهما عن الكفء وعن حياة راضية حتى يضعا في الاعتبار الإيمان والتدين قبل كل اعتبار آخر من مال أو جمال أو نسب، وفي الزوجة المؤمنة نسوق حديث ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما نزل في الفضة والذهب ما نزل، قالوا: فأي المال نتخذ؟ - قال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك فأوضع على بعيره، فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في أثره فقال: يا رسول الله: أي المال نتخذ؟ فقال: " ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر الآخرة ". (2) وليس أمر الآخرة بالهين إذا لم تعن عليه الزوجة ولم تستعن فيه بزوجها، ولقد جاء الخطاب عامًّا لأرباب التكليف والمسؤولية من الذين آمنوا فقال الحق تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (3) والمخاطب في الآية كل مكلف من المؤمنين في خاصة نفسه من جهة، وفي عامة أهله من جهة أخرى، وبذلك تتوافر دواعي الوقاية لكل فرد.
وفي اختيار الدين قال صلى الله عليه وسلم: " تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " (4) .
وقد لا يجتزي الزوج بالزوجة المؤمنة المتدينة، بل قد يطلب فوق ذلك أن تكون الزوجة صالحة فما المراد بالزوجة الصالحة؟ هي التي سماها الحديث بهذا الاسم وهي التي عرفها صلى الله عليه وسلم في قوله الصادق: " ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة: إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله (5) فليست الزوجة صالحة حتى يشمل صلاحها نفع زوجها وأبنائها، وليس الزوج صالحًا حتى يكون صالحًا لأهله، وهل يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هذا حين قال: " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " (6)
__________
(1) رواه ابن ماجه من طريق الحارث بن عمران المدني الذي قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوي، انظر: نكاح: (46) .
(2) ابن ماجه: نكاح: (5) . ورواه الترمذي في التفسير وحسنه.
(3) 6/التحريم.
(4) حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه أصحاب الصحاح إلا الترمذي، ولمسلم والترمذي قريب منه، انظر الشوكاني النيل: 232/6-233.
(5) رواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، نكاح: (5) ورواه النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وعن ابن عباس عند أبي داود والحاكم بلفظ: (ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته) ونحوه عن ثوبان عن الترمذي.
(6) هو حديث عائشة أخرجه الترمذي، انظر: مناقب (63) ومن حديث ابن عباس أخرجه ابن ماجه انظر: نكاح (50) .(5/181)
ثم ماذا بعد الزوجة الصالحة والزوج الصالح غير الأبناء الصالحين؟ نعم إن الإسلام يكره تقليل النسل ويكره الامتناع عن الزواج وعن الإنجاب ... ولكن أي نسل هذا الذي يكره قلته ويحب الكثرة منه؟ إنه النسل الصالح الذي تزداد الأمة بازدياده مكانة ورجحانًا، وليس النسل الذي تصبح به الأمة غثاء كثغاء السيل، عن ثوبان مولى رسول الله قال: " توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ". – فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: " بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ". فقال قائل: يا رسول الله! . وما الوهن؟ قال: " حب الدنيا وكراهية الموت " (1) .
فهل يبقى بعد هذا شك أن المفهوم الصحيح للأمة الإسلامية ليس هو العدد الكثير الوهن حتى صار في الكثرة والتفاهة أشبه بالغثاء؟ إنما مفهوم الأمة الإسلامية مراد منه الكيف أولًا وبالذات وهذا الكيف يأخذ في الاعتبار – حتما وبالأساس – ما ينشأ عليه الفرد من إيمان قوي وتربية فاضلة وسلوك حضاري قويم.
هذه الأمة الإسلامية بجوهرها وبعرضها بحيث لا يعد من اختل إيمانه واعتلت تربيته وفسد سلوكه في عداد أفراد الأمة الإسلامية إلا على ضرب من التجوز، أو باعتبار التقسيم الجغرافي للكرة الأرضية.
وهذه حقيقة تكاد تصبح بديهية لا ينكرها عالم، ولا يقول بخلافها إلا من قصرت مداركه عن التصور السليم لمفهوم الأمة الإسلامية كأمة متميزة لها حضارة إنسانية فريدة ولها شرعة ومنهاج من الله رب العالمين.
وسيرًا في ضوء هذا المقصد التشريعي الواضح أفتى بعض المتأخرين من علماء الحنفية وغيرهم أنه إذا خيف على الولد السوء لفساد الزمان فالأولى الإمساك عن الإنجاب، ويرى البعض أن الأولوية تكون في الإمساك عن الزواج من أصله إذا أمكن إعفاف النفس بالصوم مثلًا.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد بلفظ قريب من هذه انظر: 278/5 وهذا اللفظ لأبي داود انظر: ملاحم (5) عدد 4297، قال في التعليق عليه في مشكاة المصابيح: إنه حديث صحيح، انظر: الحديث عدد 5369.(5/182)
هل من شروط الإنجاب حسن القيام؟
ليس غريبًا بعد كل الذي أسلفنا أن نفهم أن القيود على الإنجاب التي تفرضها قاعدة: " لا ضرر ولا ضرار " وقاعدة: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة جديرة بالاعتبار نظرًا لوضع الأمة الإسلامية اليوم ونظرًا لوضع القيم والأخلاق والمعاملات في عالمنا المعاصر.
هل ليجوز للفقيه المسلم – وخصوصًا إن كان يواكب الحياة في هذا العصر – أن يدعو إلى كثرة الإنجاب وأن يدعي تأثم المنظمين لنسلهم أو المحددين لهذا النسل بحسب قدرتهم على أداء الأمانة وبحسب طاقاتهم على الاضطلاع بالمسئولية: مسؤولية التكوين الإيماني السليم، وحسن التنشئة والتربية، ومسؤولية سد الحاجة والإنفاق من المال الحلال؟
هل يجوز لهذا الفقيه المسلم أن يقف عند نصوص الترغيب في كثرة النسل وينسى النصوص الكثيرة التي تعتبر هذا النسل مسؤولية عظيمة سواء المصرحة بذلك أو الملمحة إليه؟
ألم يقل القرآن على لسان زكريا: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} (1) فطلب الذرية الطيبة لا ذرية فحسب؛ لأن الذرية غير الطيبة ليست نعمة يصح بها التوجه والدعاء، وإنما هي مصيبة يجب التعوذ منها، ثم ألم يقل القرآن أيضًا على لسان عباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (2) فهل كان يصح من هؤلاء الصالحين أن يقنعوا بغير الذرية التي تقر بها العين؟ وهل يستوي عند الله الصالح والطالح من الذرية أم إن الله تعالى يقول: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (3) وكيف ترجى عبادة الله – وهي صلاح من فاقد الصلاح؟
__________
(1) 38/آل عمران.
(2) 74/الفرقان.
(3) 56/الذاريات.(5/183)
أما السنة المطهرة فقد اعتبرت الإنجاب مثل الزواج مسؤولية وعملًا يترتب عليه الثواب والعقاب، فقد روى البخاري بسنده من طريق بشر بن محمد السختياني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع ومسؤول عن رعيته ")) ، قال: " أو حسبت أن قد قال: والرجل راع في مال أبيه " (1) .
وهل يعذر الرجل إن هو أهمل الإنفاق على الأهل مع القدرة عليه؟ ألا يكون مآله السجن بجريمة إهمال العيال؟ وفيه ورد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت، وفي رواية: من يعول " (2) .
فكيف يعذر عند الله بجريمة إهمال التربية والإخلال بحسن التنشئة الدينية والأخلاقية والسلوكية؟ أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل في هذا الحديث الصحيح المتفق عليه: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء. هل تحس فيها من جدعاء؟ " (3)
والقائل في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.
" لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع " (4) .
فيه تفضيل تأديب الأبناء، على عمل آخر وهو التصدق ببعض المال من وجهين:
- الوجه الأول: أن العمل الأول واجب والثاني تطوع.
- الوجه الثاني: أن ثواب العمل الأول أوفر عند الله وأجزل لأهميته.
وهو القائل أيضًا في حديث " ما نحل والد ولدًا من نحل أفضل من أدب حسن " (5)
ثم أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يأمرنا في حديثه الذي رواه ابن ماجة عن أنس بن مالك إذ قال صلى الله عليه وسلم: " أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم " (6) .
فالواضح من هذا الحديث أن المأمور به هو إكرام الأولاد وذلك بالإحسان في تربيتهم وتأديبهم، لأن أدبهم هو الحد الأدنى والمقدار المفروض اللذان لا يجوز النزول عنهما.
__________
(1) البخاري: وصايا (9) ، بهذا اللفظ ورواه مسلم بلفظ قريب.
(2) حديث: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، رواه أبو داود والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
(3) حديث أبي هريرة متفق عليه، اللفظ لمالك في الموطأ: جنائز (52) ولأبي داود: سنة (17) عدد 4714.
(4) رواه الترمذي: بر (33) ، وقال: حديث حسن غريب.
(5) رواه الترمذي بر (33) ، قال: حديث غريب وهو عندي حديث مرسل
(6) ابن ماجه: أدب (3) عدد 3671.(5/184)
موقف الشريعة الإسلامية
من التعرض للإخصاب
لا أحب أن أقول منع الإخصاب لأن ذلك بيد الله وحده وليس الإنسان بقادر على منع الإخصاب، بل هو يتعاطى بعض الأسباب لمحاولة ذلك سواء بالوسائل البدائية الطبيعية كالعزل الذي اعتاد الفقهاء إطلاقه على منع الإخصاب، أو بما يقول مقام العزل من اتخاذ الحائل الذي يحول دون التقاء بويضة المرأة بالحيوان المنوي للرجل وهو الالتقاء الذي قد يتم عن طريق الإخصاب.
أو بالوسائل العلمية والتي لا تمنع التقاء الماءين، وإنما تفسد المناخ الطبيعي الذي يتم فيه الإخصاب عادة في الرحم، وقد يكون ذلك باستعمال بعض الأدوية والعقاقير أو باستعمال بعض الآلات التي توضع في الرحم فيصبح رافضا أن يستقر فيه أي شيء، على أن هذه الأدوية والعقاقير وهذه الآلات قد لا تتلائم مع أبدان بعض النساء أو أنها تصبح بتكرر الاستعمال لا تتلاءم معها لهذا احتاجت العملية إلى بحوث وفحوص وتجارب ومؤسسات ونفقات.
وإذا كانت الأحكام الشرعية في هذا الموضوع (موضوع العزل – أو موضوع التعرض للإخصاب بالطرق المستحدثة) قد أنيطت بما يترتب على ذلك بما يترتب على ذلك من تقليل النسل، فإن الوسائل الحديثة المستعملة في هذا المضمار والتي حلت محل الوسائل الطبيعية القديمة الخالية من مادة تؤثر على البدن، سواء على الأمد القريب أو البعيد ... قلت فإن هذه الوسائل الحديثة ليست كلها مباحة الاستعمال وليس حكمها واحدًا بالنسبة لكل النساء.
لأننا إذا أخذنا بالقاعدتين الكليتين الشرعيتين وهما:
أ- لا ضرر ولا ضرار
ب- ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
نجد أن الشريعة تمنع كل دواء أو كل عقار أو آلة تلحق بمستعملها ضررًا عاجلًا أو آجلًا في سبيل التصدي للإخصاب والتوقي من الحمل والمتحمل للإثم والوزر هو الطبيب في الدرجة الأولى ولو لم يكن عالمًا، لأنه لا يعذر بجهله، ولأنه من المفروض في حقه أن لا يتعاطى مثل هذا الأمر قبل التأكيد والحصول على الخبرة، ويشارك الطبيب في هذا الوزر المتلقي للعلاج ذكرًا أو أنثى بشرط علمه بالخطر أو المضرة والله تعالى يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) بعد هذا التفصيل في الوسائل، وبعد إخراج وسائل محاولة منع الإخصاب أو التوقي من الحمل الضار، لأنها ممنوعة لذاتها شرعًا فيكون المقدم عليها آثمًا وواقعًا تحت طائلة العقاب والتعزير، فإن البحث يبقى في وسائل محاولة منع الإخصاب أو التوقي من الحمل التي – لا ضرر فيها، هل يسمح الإسلام بتعاطيها بقصد تنظيم النسل أو تقليله وتحديده؟ فنقول وبالله التوفيق.
__________
(1) 195/ البقرة.(5/185)
الإنجاب في القرآن:
لم يأت في كتاب الله تعالى ما هو نص في هذا الموضوع، بل جاء ما هو أشمل وأعم، وما يمكن أن نعتبره إطارًا لبحث الموضوع وفهمه، من ذلك:
1- قضية خلق البنين والحفدة، وإن هذا الخلق بقدر من الله وحده لا شريك له، ولا دخل للعبد المخلوق فيه، فهذه حينئذ قضية إيمانية مسلمة وبديهية لدى المؤمنين عالمهم وجاهلهم، كقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} . وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} وقوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} فالواهب للذرية والمانع هو الخالق تعالى وليس للإنسان في ذلك دخل ولا طول.
قال الإمام ابن العربي: " لا خلاف بين أهل السنة في أن الأمور تجري على قضاء الله وقدره وعلم سابق وقضاء مقدم، وإن كان علقها بالأسباب، فلاحظ للأسباب فيها إلا أنها علامات على وجود ما قدر وعلم وخلق، فأما أن يكون لها تأثير أو ينسب إليها عمل فلا سبيل في التوحيد إلى ذلك " (1) قلت: أراد ابن العربي بهذا الكلام وهو يتحدث عن حكم العزل عن المرأة أن يستبعد كل الأوهام التي قد تعتبر أن العزل إبطال للخلق أو تعرض للقدر وقد جاءت جميع نصوص السنة في موضوع العزل تقر هذه الحقيقة على النحو الذي قررها القرآن الكريم، وكل من الكتاب والسنة وحي من رب العالمين رب السماوات والأرض قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (2)
2- إن الذرية أمانة ومسئولية باعتبار أنهم من زينة الحياة {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وباعتبار أنهم من مفاتن الحياة {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} وباعتبار أنهم في رعاية خالقهم ورازقهم {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم خشية إمْلاَقٍ} وباعتبار ما في هذه المسؤولية من مزالق {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} .
وما ورد في كتاب الله تعالى من هذه الآيات وغيرها كاف لنعلم أن النسل والذرية إنما هو إعداد ومسؤولية خطيرة وليس كثرة بها يكثر الطغام والتشتيت والضياع.
__________
(1) أنظر: عارضة الأحوذي: 75/5-76 (ط دار الكتاب العربي بيروت) .
(2) 49-50/الشورى.(5/186)
الإنجاب في السنة الشريفة:
أما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالكلام وارد على العزل في عديد من الأحاديث على اختلاف رواتها ودرجاتهم وعلى اختلاف دواوين السنة التي خرجتها.
وحاصل ما روته أهم هذه الدواوين – وأعني بذلك الموطأ – ومسند الإمام أحمد – وسنن الدرامي – والصحاح الستة – من أحاديث الباب ما يزيد عن الاثنين وثمانين حديثًا، وترجع أغلب هذه الأحاديث إلى صاحبيين جليلين هما: أبو سعيد الخدري – وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعة أو في حكم المرفوعة وحديث واحد عن كل من عمر – وجذامة – وأنس وأسامة – وأبي سعيد الزرقي رضي الله عنهم وهي أحاديث مرفوعة أو معتمدة، وفي الباب آثار أو أحاديث مقطوعة عن عامر بن سعد بن أبي وقاص وعن أم ولد لأبي أيوب الأنصاري – وفيه فتوى لسعيد بن المسيب ولو تأملنا في كل هذه الأحاديث وهذه المرويات لوجدنا أنها تعضد بعضها بعضا في اتجاهين:
1- اتجاه الجواز: ويمكن إرجاع هذه الأحاديث وهي الأغلبية الغالبة إلى أصول أربعة وهي:
الأول: عمل الصحابة وأفعالهم إذ علمها الرسول صلى الله عليه وسلم وسكت عنها ولم ينكرها عليهم، دل ذلك على الجواز، وتحديث الصحابي بهذا الأمر يعد في درجة الحديث المرفوع، من هذه أحاديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ومنها هذا الحديث المتفق عليه واللفظ لمسلم قال: " كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل ولو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عن القرآن " (1)
في رواية أخرى لمسلم:
كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا " (2) .
__________
(1) البخاري: نكاح: (96) (باب العزل) مسلم: طلاق (32) ابن ماجه: نكاح (30) (باب العزل) عدد 1927 واللفظ لمسلم.
(2) مسلم: طلاق (34) .(5/187)
الثاني: أحاديث أثبتت أنه صلى الله عليه وسلم أبدى عجبه من عزل أصحابه عن نسائهم أو أبدى استفساره عن سبب اللجوء إلى هذا العزل، ورغم ذلك لم ينههم ولم يقل: لا تفعلوا، من ذلك حديث أبي سعيد الخدري ومثله عن جابر وهو متفق عليه ولفظه للبخاري:
عن أبي سعيد الخدري قال:
" أصبنا سببيا فكنا نعزل فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أو إنكم لتفعلون؟ (قالها ثلاثًا) ما من نسمه كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة " (1)
في رواية أخرى للبخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخبر:
" أنه بينما هو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم جاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إنا نصيب سبيًا، ونحب المال، كيف ترى في العزل؟
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو إنكم تفعلون ذلك؟ لا عليكم أن لا تفعلوا فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة " (2) .
وفي رواية لأحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
((" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال:
أو إنكم تفعلون؟ - قالوا: نعم – قال: فلا عليكم أن لا تفعلوا، فإن
الله تعالى لم يقض لنفس أن يخلقها إلا هي كائنة)) (3) .
__________
(1) البخاري: نكاح: (96) (باب العزل) مسلم: طلاق: (19) .
(2) البخاري قدر (4) (باب وكان أمر الله قدرا مقدورا) الدارمي: نكاح: (36) (باب في العزل) ابن ماجه: نكاح: (30) (باب العزل) عدد 1926.
(3) انظر المسند: 57/3.(5/188)
ومن ذلك استفساره عن سبب عزلهم دون إنكار عليهم كما جاء في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه أخبر سعد بن أبي وقاص أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم تفعل ذلك؟)) ، فقال الرجل: أشفق على ولدها أو على أولادها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان ذلك ضارًّا ضر فارس والروم)) .
قال مسلم: وقال زهير في روايته: "إن كان لذلك فلا! ما ضار ذلك فارس ولا الروم ". (1) . ومن الواضح أن صيغة السؤال: ((لم تفعل ذلك؟)) قد أذهبت احتمال المنع، لأن العزل لو كان ممنوعًا لما وقع الاستفسار عن سببه، ولكان الجواب بالنهي: ((لا تفعل)) بدل ذلك، وتأكيدًا لهذا المعنى (أي استبعاد المنع للعزل) جاء هذا الحديث عند مسلم من طريقي عبيد الله بن عمر القواريري وأحمد بن عبدة عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ولم يفعل ذلك أحدكم؟)) ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم، ((فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها)) (2) .
وهو عن أبي داود من طريق إسحاق بن إسماعيل الطالقاني مع اختلاف طفيف (3) أما الترمذي فيرويه من طريقي ابن أبي عمر وقتيبة عن سفيان بن عيينة، ونسب الزيادة وهي (ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم) إلى شيخه ابن أبي عمر خاصة (4) .
__________
(1) مسلم: طلاق: (40) .
(2) مسلم: طلاق (26) .
(3) أبو داود: نكاح (48) عدد 2170.
(4) الترمذي: نكاح: (39) (باب ما جاء في كراهية العزل) .(5/189)
الثالث: ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم مما يفيد الإذن بالعزل لأصحابه، بل وما يفيد إنكاره مقالة اليهود التي شبهت العزل بالموءودة الصغرى، أما إذنه صلى الله عليه وسلم بالعزل فقد جاء فيما رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل؟ قال: ((اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها)) ، قال: فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حملت، قال: ((قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها)) (1) .
وفي رواية أخرى لأحمد، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: أصبنا سبيًا يوم حنين، فكنا نلتمس فداءهن، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: ((اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله فهو كائن، فليس من كل الماء يكون الولد)) (2) . وطرقه عند مسلم عن أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري، سمعه يقول: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: ((ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء)) (3) .
أما ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من تكذيب لليهود في ادعائهم أن العزل هو الموءودة الصغرى فقد جاء ذلك فيما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري بسند قال فيه ابن القيم: وحسبك بهذا السند صحة فكلهم ثقات حفاظ.
عن أبي سعيد الخدري، أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي جارية وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى، فقال: ((كذبت اليهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه)) (4) .
ومثلها رواية الترمذي، عن جابر بن عبد الله قال: قلنا: يا رسول الله، إنا كنا نعزل، فزعمت اليهود أنها الموءودة الصغرى، فقال: ((كذبت اليهود، إن الله إذا أراد أن يخلقه لم يمنعه)) (5) .
قال الترمذي: وفي الباب عن عمر، والبراء، وأبي هريرة، وأبي سعيد، فقول الصحابة رضي الله عنهم بلسان جابر: إنا كنا نعزل مشعر بأنهم توقفوا عن ذلك بسبب ما بلغهم من قولة اليهود، فلم يقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا التوقف الناشئ عن أكذوبة اليهود، بل أجاب بتفنيد الأكذوبة وبذلك زال المانع المسبب للخوف والانقطاع.
__________
(1) مسلم: طلاق: (29) - أبو داود: نكاح (48) (باب ما جاء في العزل) عدد 2173 ابن ماجه: مقدمة (10) (باب في القدر) عدد 89 أحمد: 3/312 – واللفظ له وهو قريب جدا من لفظ مسلم.
(2) أحمد: 47/3.
(3) مسلم: طلاق: (27) .
(4) أبو داود: نكاح: (48) (باب ما جاء في العزل) عدد 2171.
(5) الترمذي: نكاح: (38) (باب ما جاء في العزل) ، ومثله للإمام أحمد عن أبي سعيد انظر المسند: 53/3.57/3.33/3(5/190)
الرابع: ما دارت حوله كل أحاديث الباب بدون استثناء تقريبًا، وهو أن الأمر يتعلق بقدر الله ومشيئته، ولن يغير العزل أو عدمه من هذا القدر شيئًا، لأن الأسباب ليست هي المنشئة لمسبباتها، وإنما المنشئ والخالق هو الله تعالى، ففي الحديث المتفق عليه، وهو الحديث الوحيد الذي اقتصر عليه مالك في الموطأ في هذا الباب باعتبار أنه جامع، ثم ساق بعده جملة من الآثار تبين اختلاف العمل لدى عدد من الصحابة أنه قال: عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عبد الله ابن محيريز، أنه قال: دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه، فسألته عن العزل، قال أبو سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيًا من سبي العرب، فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة، وأحببنا الفداء، فأردنا أن نعزل، فقلنا: نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله؟ فسألناه عن ذلك، فقال: ((ما عليكم أن لا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)) (1) .
وفي رواية أحمد لهذا الحديث: ((ما عليكم أن تعزلوا، فإن الله قدر ما هو خالق إلى يوم القيامة)) ، وفي حديث أنس بن مالك عند الإمام أحمد ما يزيد المسألة تقريرًا وبيانًا، فقد جاء عن ثمامة بن عبد الله بن أنس أنه قال: سمعت أنس بن مالك يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله عز وجل منها - أو: لخرج منها - ولد - الشك منه، أي من ثمامة - وليخلقن الله نفسًا هو خالقها " (2) .
فما عليكم سواء عزلتم أم تركتم، فالله تعالى هو خالق كل نفس هو مقدر أن يخلقها، فليس الماء هو المؤثر وليس المكان الذي يكون فيه الماء هو المؤثر، وليس عند هذا السبب يكون المسبب باطراد، فقد روى أحمد، عن سعيد بن المسيب في غير موضع أنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: ((ليس من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله أن يخلق شيئًا لم يمنعه شيء)) (3) .
فالخالق والرازق الذي يعلم ما في الأرحام والذي يشاء ويقدر هو الله وحده الذي لا يعارض قدره بعزل ولا بغيره كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في العزل: ((أنت تخلقه؟ أنت ترزقه؟ أقره قراره، فإنما ذلك القدر)) (4) .
__________
(1) الموطأ: طلاق: (95) (باب ما جاء في العزل) أحمد: 63/3 البخاري: مغازي: (32) (باب غزوة بنى المصطلق) ، مسلم: طلاق: (17) ، أبو داود: نكاح: (48) ، (باب ما جاء في العزل) عدد 2172.
(2) انظر: المسند: 3/140 وللبزار مثله، وله شاهدان للطبراني في الكبير عن ابن عباس، وفي الأوسط عن ابن مسعود.
(3) انظر المسند: 93/3.82/3.59/3.49/3
(4) هو حديث أبي سعيد أيضا رواه أحمد، انظر المسند: 78/3.53/3(5/191)
وقد استشعر بعض أهل الورع والصلاح النهي عن العزل من قوله صلى الله عليه وسلم المتقدم: ((ما عليكم أن لا تفعلوا)) كالذي جاء في مسلم تعقيبًا على حديث أبي سعيد من طريق أبي الربيع الزهرانى، وأبي كامل الجحدري، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا عليكم أن تفعلوا ذاكم فإنما هو القدر)) (1) .
قلت: جاء في مسلم قوله: قال محمد (يعني ابن سيرين) ، وقوله: لا عليكم ... أقرب إلى النهي.
وجاء تعقيبًا على الحديث الموالي وهو مثله، لكنه من طريق محمد بن المثنى قوله: قال ابن عون: فحدثت به الحسن (أي البصري) ، فقال: والله لكأن هذا زجر (2) .
وعندي أن الذي دفع بالرجلين من سلفنا الصالح إلى هذا الاستشعار إنما هو مزيد الورع والأخذ بالأحوط، وهو ما دعا القرطبي إلى القول: كأن هؤلاء فهموا من (لا) النهي عما سألوا عنه، فكأنه قال: ((لا تعزلوا، عليكم أن لا تفعلوا)) ، فيكون ((وعليكم أن لا تفعلوا)) تأكيدًا للنهي في لا تعزله) .
وفي هذا الكلام من الكلفة والتقدير ما حمل المتعقبين على القول بأن الأصل عدم التقدير (3) وزعم بعضهم أن النهي عن الفعل مفهوم من الكلام، لأن المستفاد من صريح العبارة نفي الحرج عن عدم الفعل فمعنى: لا عليكم أن لا تفعلوا، لا حرج عليكم في ترك العزل، فأفهم ذلك ثبوت الحرج في الفعل، ولو أراد نفي الحرج عن الفعل لقال: لا عليكم أن تفعلوا.
وفي هذا التأويل ما لا يخفي من التكلف في اعتماد الفروض دون تحقيق والدليل على ذلك أنه يمكن السير في مجال الافتراضات لإثبات الحكم المقابل، فيقال: لو أراد صلى الله عليه وسلم المنع لما عبر بنفي الحرج أصلًا، بل لقال: لا تفعلوا، فإن الله قد حرمه عليكم، ولكنه لم يقل ذلك فلا منع ولا حرمة، كما يمكن أن يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا عليكم أن لا تفعلوا)) هو على تقدير (لا عليكم أن تفعلوا أو أن لا تفعلوا) فحذف الفعل المثبت مع حرف التسوية (أو) لغرض ندبهم إلى التوكل على الله الذي بيده وحده تصريف الأمر، وهو المعنى الذي ألمح إليه القاضي أبو الوليد الباجي كما سيأتي قريبًا.
وليس هذا ببعيد في النتيجة – عن الافتراض القائل بأن (لا) في (لا أن لا تفعلوا) زائدة، قلت: وزيادتها واردة في لسان العرب الفصيح، وعلى ذلك جاء قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} إذ المراد من الآية كما قال المفسرون: وممنوع على قرية قدرنا إهلاكها أن يرجعوا عن ضلالتهم إلى الإيمان مادام قد حق عليهم الهلاك وقدر، فكانت (لا) زائدة للتوكيد والتأويل السليم لمدلول عبارته صلى الله عليه وسلم فيما فهمه الإمام النووي في شرحه على مسلم، وكذلك فيما أشار إليه القاضي أبو الوليد الباجي في منتقاه على موطأ مالك.
__________
(1) مسلم: طلاق: (22) .
(2) مسلم: طلاق: (23) .
(3) الشوكاني، نيل الأوطار: 348/6 (ط-دار الجيل بيروت 1973) .(5/192)
أما الإمام النووي فقد قال: معناه ما عليكم ضرر في ترك العزل، لأن كل نفس قدر الله تعالى خلقها لابد أن يخلقها سواء عزلتم أم لا، وما لم يقدر خلقها لا يقع سواء عزلتم أم لا، فلا فائدة في عزلكم، فإنه إن كان الله تعالى قدر خلقها سبقكم الماء فلا ينفع حرصكم في منع الخلق (1) .
وأما القاضي أبو الوليد الباجي فقد قال كلامًا في غاية الدقة والاختصار والرشاقة إذ أفاد أن قوله صلى الله عليه وسلم: " ما عليكم أن لا تفعلوا " هو ندب منه صلى الله عليه وسلم إلى نهاية التوكل وإشارة إلى فضيلة من عول على ذلك (2) .
وعندي أن كلام الباجي – رحمه الله – هو الذي عنده ينتهي الفهم السليم لمدلول هذه العبارة، وبه ينكشف المقصد الأسمى لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 – اتجاه القائلين بعدم الجواز مطلقًا أو بالجواز المشروط ومستند المانعين مطلقًا حديث جذامة بنت وهب الأسدية الذي رواه الإمام مسلم قال: حدثنا عبيد الله بن سعيد، ومحمد بن أبي عمر قالا: حدثنا المقرئ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثنا أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة، قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: ((لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم ذلك شيئًا)) ، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك الوأد الخفي)) زاد عبيد الله في حديثه عن المقرئ وهي {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (3) .
وجه الاستدلال بهذا الحديث لدى من قال بحرمة العزل كأبي محمد ابن حزم قالوا: الأصل في الأشياء الإباحة على وفق البراءة الأصلية وأحكام الشرع، إنما تأتي ناقلة عن البراءة الأصلية.
فقول جابر رضي الله عنه: (كنا نعزل والقرآن ينزل، فلو كان شيئًا ينهى عنه لنهى عنه القرآن) هو لتقرير حكم الإباحة على وفق البراءة الأصلية، وقد ارتفع هذا الحكم بورود النهي عن العزل ممن أنزل عليه القرآن حين قال: ((ذلك الوأد الخفي)) ، وهي {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} .
__________
(1) انظر: شرح مسلم: 10/10-11 (دار الفكر، ط – ثانية بيروت 1972-1393) .
(2) انظر: المنتقى: 142/4 (مط السعادة – ط – أولى القاهرة 1332 هـ) .
(3) مسلم: طلاق: (38) أحمد: 434/6.361/6 ابن ماجه: نكاح: (61) (باب الغيل) عدد 2011.(5/193)
الرد على القائلين بالمنع:
رد عليهم بوجوه متعددة نجملها فيما يلي:
أ – إن الأحاديث التي جاءت على خلاف حديث جذامة كثيرة ومتعاضدة في إثبات الجواز لا المنع، زد على ذلك أن بعضها يحكي عمل الصحابة كالآثار التي رواها مالك في الموطأ والتي بينت رأي وعمل سعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم (1) .
قال ابن القيم: وقد رويت الرخصة فيه (أي في العزل) عن عشرة من الصحابة: علي، وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب، وزيد بن ثابت، وجابر، وابن عباس، والحسن بن علي، وخباب بن الأرت، وأبي سعيد الخدري، وابن مسعود رضي الله عنهم (2) .
ويروى عن بعض هؤلاء أنهم كانوا يكرهون العزل مثل علي ومثل ابن مسعود رضي الله عنهما، وقد صح عنه أنه قال: العزل الموءودة الصغرى، كما صح عن أبي أمامة أنه سئل عنه، فقال: ما كنت أرى مسلمًا يفعله.
وعن نافع، عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما ضرب على العزل بعض بنيه، وعن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا ينهيان عن العزل. قال ابن القيم: وليس في هذا ما يعارض أحاديث الإباحة مع صراحتها (3) .
ب – إن حديث جذامة الذي هو مستند القائلين بحرمة العزل لا يقوم به الدليل؛ لأنه معارض بحديث أبي سعيد الخدري المتقدم، والذي جاء فيه: ((كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه)) ، وهو الحديث الذي قال فيه ابن القيم كما سبق أن أشرنا: حسبك بهذا الإسناد صحة فكلهم ثقات حفاظ (4) .
وهكذا نرى أن موقف العلماء أمام هذين المتعارضين، حديث أبي سعيد (كذبت اليهود) وحديث جذامة (ذاك الوأد الخفي) كان دائرًا بين الترجيح والجمع.
__________
(1) الموطأ: طلاق: (96) ، (97) ، (99) ، (100) .
(2) انظر زاد المعاد: 16/4 (المطبعة المصرية ومكتبتها – القاهرة) .
(3) انظر زاد المعاد: 17/4 (المطبعة المصرية ومكتبتها – القاهرة) .
(4) انظر زاد المعاد: 17/4 (المطبعة المصرية ومكتبتها – القاهرة) .(5/194)
أما المرجحون فمنهم من ضعف حديث جذامة لمعارضته لما هو أكثر منه طرقًا، وهو حديث أبي سعيد، ومنهم من ادعى أنه منسوخ، ولا يمكن الجزم بهذا حتى يعلم التاريخ، وحاول الطحاوي أن يعرض صورة لنسخ حديث جذامة فقال: يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أولًا من موافقة أهل الكتاب، وكان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم أعلمه الله بالحكم، فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه.
وقد تعقب هذا الافتراض كل من الإمامين ابن رشد ثم ابن العربي فقالا: بأنه لا يجزم بشيء تبعًا لليهود، ثم يصرح بتكذيبهم فيه (1) ومنهم من قدح في حديث جذامة وضعفه بأن الزيادة التي في آخره (وهي: وإذا الموءودة سئلت) تفرد بها سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود، وقد روى الحديث مالك ويحيى بن أيوب، عن أبي الأسود فلم يذكراها، كما حذفها أهل السنن الأربع (2) .
أما إمكانية الجمع فقد قال بها بعض العلماء ومنهم البيهقي حين حمل حديث جذامة على التنزيه دون التحريم.
ومنهم ابن القيم حين قال: (الذي كذبت فيه اليهود زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد، فأكذبهم، وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدًا حقيقة، وإنما سماه وأدًا خفيًّا في حديث جذامة؛ لأن الرجل إنما يعزل هربًا من الحمل، فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد، ولكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر بالمباشرة، اجتمع فيه القصد والفعل، والعزل يتعلق بالقصد صرفًا، فلذلك وصفه بكونه خفيًّا) (3)
قال الشوكاني: وهذا الجمع قوي (يعني ما فعله ابن القيم) وقال شيخ الإسلام ابن حجر: فهذه عدة أجوبة يقف معها الاستدلال بحديث جذامة على المنع. جـ - إن حديث جذامة الذي تمسك به أبو محمد ابن حزم ليس صريحًا في المنع والحرمة إذ لا يلزم من تسمية العزل وأدًا خفيًّا على طريقة التشبيه أن يصبح حرامًا مثل الوأد؛ لأن التشبيه لا يفيد المطابقة وتمام المماثلة إلا على ضرب من الادعاء والمبالغة، وهذا مقبول في مجال التحسينات البلاغية وليس مقبولًا في مجال الحقائق وتحديد الحدود.
__________
(1) ابن حجر، الفتح 309/9 (ط-دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت) .
(2) عن الشوكاني انظر: نيل الأوطار: 349/6-350.
(3) ابن حجر، الفتح 309/9 (ط-دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت) . عن الشوكاني انظر: نيل الأوطار: 349/6-350.(5/195)
وقد أنكر الإمام علي رضي الله عنه وافقه على ذلك عمر رضي الله عنه أن تكون موءودة ما لم تمر بالتارات السبع كما جاء في رواية القاضى أبي يعلى وغيره بإسناده عن عبيد الله بن رفاعة عن أبيه قال: (جلس إلى عمر علي والزبير وسعد رضي الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذاكروا العزل، فقالوا: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون (يعني اليهود) أنها الموءودة الصغري قال على رضي الله عنه: لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع: حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظامًا، ثم تكون لحمًا، ثم تكون خلقًا آخر.
ولا يخفى أن الإمام عليًّا رضي الله عنه يشير إلى قول الحق تعالى في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1) .
وجاء في فتح الباري ما يعضد هذه الرواية عن علي قال:
وعند عبد الرزاق وجه آخر: عن ابن عباس أنه أنكر أن يكون العزل وأدًا، وقال: المني يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظمًا ثم يكسى لحمًا قال: والعزل قبل ذلك كله.
ثم قال شيخ الإسلام: وأخرج الطحاوي من طريق عبد الله بن عدي بن الخيار عن علي نحوه في قصة حرب عند عمر، وسنده جيد (2) .
وهكذا يتضح أن جوانب الافتراق أكثر من نواحي الشبه بين العزل والوأد فهل يصح سحب حكم الوأد على العزل؟ ولا جامع بينهما إلا مقصد خفي كما سلف عن ابن القيم بيان ذلك.
__________
(1) 12-14 /المؤمنون.
(2) فتح الباري: 309/9-310.(5/196)
حكم التوقي من الحمل عند أئمة المذاهب:
انطلق أئمة المذاهب السنية في بحثهم عن حكم العزل باعتباره الوسيلة المعروفة والمتداولة للتوقي من الحمل، من بحثهم فيما شرع له الزواج وهو أمران:
الأول: إعفاف النفس بمسايرة الفطرة السليمة، والاستجابة للشهوة البشرية في نطاق ما حدده الشرع العزيز.
الثاني: إنجاب البنين الذين زين الله تعالى حبهم للناس لأن بوجودهم يبقى الذكر، وبصلاحهم تقر العين، ومعهم يكون الأنس والمتعة، فشهوة إتيان النساء وشهوة إنجاب البنين هما من الشهوات التي زينها الله تعالى في قلوب الناس وجعلها متاع الحياة الدنيا ليبتليهم في هذه الحياة كما جاء في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (1) .
- أما الإنجاب فهو ألصق بالقضية الثانية (قضية الإجهاض) وهناك سيكون البحث عن صاحب الحق فيه.
- وأما إعفاف الذي لا يتم إلا بإطفاء الشهوة المتأججة عن طريق ما شرع من الجماع فقد بات من المتفق عليه بين سائر العلماء وأئمة المذاهب أنه حق للرجل دون خلاف في ذلك.
- وإنما الخلاف في المرأة هل هو من حقها مثل الرجل أو لا؟ وعلى هذا الحق ينبني حق العزل لمن يكون؟
في المذهب المالكي:
أما المرأة الحرة فحقها في الوطء ثابت عند مالك، ولها المطالبة به إن قصد الزوج بتركه إلحاق الضرر بها.
وبناء على هذا الحق لم يجز للزوج أن يعزل عنها إلا بإذنها، وهذا ما صرح به مالك في الموطأ حيث قال: ((ولا يعزل الرجل عن المرأة إلى الحرة إلا بإذنها)) (2) .
__________
(1) 14/آل عمران.
(2) الموطأ: كتاب الطلاق (باب ما جاء في العزل) .(5/197)
وحكى الزرقاني عن ابن عبد البر أن الترخيص في العزل (هو قول جمهور الفقهاء) وذلك إثر ذكر عدد من الصحابة كانوا يفعلون ذلك أو يرون الرخصة فيه (1) .
ومهد الحافظ لحكاية الخلاف عن السلف في العزل بقوله:
(وفي العزل أيضًا إدخال ضرر على المرأة لما فيه من تفويت لذتها) .
ثم قال: (وقد اختلف السلف في حكم العزل، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها، لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل) (2) .
وقد وافق ابن هبيرة على حكاية ابن عبد البر للإجماع، وتعقب الحافظ ذلك بأن المعروف عند الشافعية أن المرأة لا حق لها في الجماع أصلًا، ومن هذا يتبين بوضوح أن للزوجة الحرة كلمتها في كل ما يتعلق بحياتها الجنسية، وليست الكلمة في ذلك للزوج وحده، ومن باب أولى أن الكلمة ليست للزوجة وحدها، وهل يتم شيء سواء في الإنجاب أو في طلب اللذة وإعفاف النفس دون اجتماع الطرفين؟ هذا حكم العزل عن الزوجة الحرة، أما الأمة فلا يخلو حالها إما أن تكون سرية أو زوجة.
فإن كانت سرية عند مالكها فقد غلب مالك رسوخها في الرق على رسوخها وحقها في الفراش فقال: "لا بأس أن يعزل عن أمته بغير إذنها".
لأن مراعاة حقها في الفراش قد يؤدي إلي أنها تحمل فتصبح أم ولد فيضيع ثمنها على المالك وإن كانت زوجة مملوكة لغير زوجها فالحق دائر بن أطراف ثلاثة: الزوج بما له من حق في الوطء والسيد بحقه في الملكية والأبناء، والأمة الزوجة بحقها في الاستمتاع الذي خوله لها عقد الزواج ...
غلب مالك حق الزوج في الوطء وحق السيد في الملكية "ومن كانت تحته أمة قوم فلا يعزل إلا بإذنهم وفي هذا عدم اعتبار لحق الزوجة المملوكة في المتعة؛ لأنها غير راسخة في الفراش مثل رسوخ الحرة، وعدم اعتبار حقها في الإنجاب لأن الأبناء يتبعونها في الرق وملكيتهم لمالكها ".
__________
(1) انظر شرحه على الموطأ: 228/3 (دار الفكر للطباعة والنشر/ 1981-1401) .
(2) انظر الفتح 308/9 (ط- دار المعرفة بيروت) .(5/198)
ومن عجيب ما جاء عن علماء المالكية ما قاله القاضى أبو الوليد الباجي تعقيبا على إمامه وتغليبا لجانب الإنسانية في الزوجة المملوكة إذ قال: "وعندي أن للأمة فيه حقا قد ثبت بعقد النكاح، فلا يجوز له أن يعزل إلا بإذنها لأنه وطء زوجته (يريد وليس وطء مملوكته) فللزوجة حق فيه والله أعلم" (1) "وهذا الرأي هو الذي مال إليه القاضي أبو بكر بن العربي حيث قال: "اتفقوا على أن لا عزل عن الأمة المتزوجة إلا بإذن مولاها وهذا ضعيف فإن الوطء حق الزوجين" (2) وعلى هذا الرأي درج القاضي عياض حين حكى رأى بعض شيوخه فقال: "ورأي بعض شيوخنا إذنها أيضا لحق الزوجية" (3) .
واعتبر الزرقاني أن ذلك موافق لمذهبي أبي حنيفة وأحمد كما حكى أن مذهب الشافعية القول بالكراهة مطلقا في كل حال في كل امرأة وإن رضيت؛ لأنه طريق إلى قطع النسل.
خلاصة المذهب المالكي:
جاء ذلك فيما لخصه الزرقاني حين قال:
"ولا يحرم (العزل) في مملوكته ولا زوجته الأمة رضيت أم لا؛ لأن عليه ضرارا في أمته بصيرورتها أم ولد، وفي زوجته الرقيقة لمصير ولدها رقيقا.
أما الحرة فإن أذنت لم يحرم، وإلا فوجهان، أصحهما: لا يحرم" (4) .
عند الشافعية:
جاء في كلام الحافظ ابن حجر وردده أن المعروف عند الشافعية أن المرأة لا حق لها في الجماع أصلا (5) ، وهذا مغاير لما صرح به صاحب المهذب إذ قال: "وإن كانت حرة فإن كان بإذنها جاز (يريد العزل) ؛ لأن الحق لهما (يريد: حق الاستمتاع والوطء) وإن لم تأذن ففيه وجهان: أحدهما لا يحرم؛ لأن حقها في الاستمتاع دون الإنزال، والثاني: يحرم؛ لأنه يقطع النسل من غير ضرر يلحقه (6)
فأفهم كلامه أن الحق المشترك بين الزوج وزوجته الحرة إنما هو الاستمتاع دون الإنزال وهذا الفصل بين الاستمتاع والإنزال مخالف لما تقدم في المذهب المالكي عن ابن عبد البر أنه قال: " ... ليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل". وقد حكى القاضي أبو بكر بن العربي عن الشافعي وأبي حنيفة أنهما يقولان: "لا حق لها إلا في وطئة واحدة يستقر بها المهر" واستنكر القول بمنع العزل على من يقول بأن المرأة لا حق لها في الوطء، وقال: "والعجب أن يكون لها حق في العزل عند العلماء، ولا حق لها في أصل الوطء " (7) .
__________
(1) المنتقي: 143/4 (مطبعة السعادة – ط – أولى القاهرة 1332 هـ) .
(2) عارضة الأحوذي: 77/5 (ط- دار الكتاب العربي – بيروت) .
(3) الزرقاني، شرح الموطأ: 229/3.
(4) الزرقاني، شرح الموطأ: 229/3.
(5) فتح الباري: 308/9.
(6) الشيرازي: المهذب: 67/2 (دار المعرفة – ط – ثانية بيروت: /1959-1379) .
(7) انظر عارضة الأحوذي 77/5.(5/199)
وتعقب الحافظ كلامه فقال: "ما نقله عن الشافعي غريب والمعروف عند أصحابه أنه لا حق لها أصلا (1) ".
قلت: الإشكال الذي عرضه ابن العربي قائم، لأن من لا حق لها في أصل الوطء لا موجب لأخذ رأيها في العزل إلا إذا كان الإنزال شيئا مغايرا للوطء كما أوهمه صاحب المهذب فيما أسلفنا نقله.
وسواء قيل بأن الحرة لا حق لها في الجماع أصلا أو قيل: لها حق في الاستمتاع دون الإنزال، أو قيل بأن الحق لهما، فإن أقوال الشافعية تعددت في بيان الحكم.
فقد حكى الدمشقي في رحمة الأمة: (أن العزل عن الحرة ولو بغير إذنها جائز على المرجح من مذهب الشافعي، لكن نهى عنه، فالأولى تركه) (2) .
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للحرة فإن الجواز يكون أولى بالنسبة لغيرها، ودون توقف على إذن السيد في الأمة.
والقول بالجواز هو الذي حكاه الحافظ عن الغزالي وغيره، ثم قال: "وهو المصحح عند المتأخرين" (3)
وقد صرح الغزالي في الإحياء بإباحة العزل وصحح ذلك في المذهب إذ قال: "والصحيح عندنا أن ذلك مباح " (4) . ثم ينفي أن يكون حكم العزل الكراهة بمعنى التحريم أو التنزيه، ولا ينفي القول بالكراهة بمعنى ترك فضيلة وترك الأولى كما يقال: يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغا لا يشتغل بذكر أو صلاة يعني أنه ترك فعل الأفضل.
وعلل الغزالي نفي كراهة التحريم والتنزيه "بأن إثبات النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص ولا أصل يقاس عليه، بل ههنا أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلا أو ترك الجماع بعد النكاح، أو ترك الإنزال بعد الإيلاج، فكل ذلك ترك للأفضل، وليس بارتكاب نهي" (5) .
__________
(1) فتح الباري 309/9.
(2) انظر رحمة الأمة في اختلاف الأئمة: 224 (دار الكتب العلمية – ط – أولى – بيروت 1407/1987) .
(3) انظر: فتح الباري: 309/9.
(4) انظر إحياء علوم الدين: 51/2 – (دار المعرفة – بيروت) .
(5) انظر إحياء علوم الدين: 51/2 – (دار المعرفة – بيروت) .(5/200)
وهذا الجواز الذي صححه الغزالي في المذهب وصححه الحافظ عند المتأخرين هو الذي عزاه ابن جزي في القوانين إلى الإمام الشافعي حيث قال: "لا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها ولا عن الزوجة الأمة إلا بإذن سيدها لحقه في النسل، ويجوز عن السرية بغير إذنها وأجازه الشافعي مطلقا" (1) .
أما حكم العزل كما جاء في المهذب فهو دائر بين الكراهة والحرمة حيث قال: " (فصل) ويكره العزل لما روت جذامة بنت وهب ... إلخ".
ثم يفصل بين أمته وزوجته المملوكة وزوجته الحرة، فلا حرمة فيه عن أمته؛ لأن الاستمتاع لا حق لها فيه، ولا حرمة فيه عن زوجته الرقيقة؛ لأنه يلحقه العار باسترقاق ولده منها.
ثم يقول في الحرة: وإن كانت حرة، فإن كان بإذنها جاز لأن الحق لهما، وإن لم تأذن ففيه وجهان: أحدهما لا يحرم؛ لأن حقها في الاستمتاع دون الإنزال، والثاني يحرم؛ لأنه يقطع النسل من غير ضرر يحلقه (2) ومن وجوه الخلاف في المذهب الشافعي ما حكاه الروياني في منع العزل مطلقا كمذهب ابن حزم (3) .
عند الحنفية:
سلك الحنفية في بيان حق الزوجة الحرة في الوطء وما يترتب على ذلك من طلب إذنها للعزل عنها على وفق المشهور في باقى المذاهب السنية فقالوا: إن الحرة لا يعزل عنها إلا بإذنها، وإن المتسري بها يعزل عنها بغير إذنها وفي الزوجة الرقيقة قال أبو حنيفة مثل قول مالك: إن الإذن لسيدها، وهو القول الراجح عن محمد بن الحسن، أما أبو يوسف فيرى أن الإذن لها، وعن محمد أنه جنح لما قاله أبو يوسف وهذا ما نقله صاحب الهداية إذ قال: "إذا تزوج أمة فالإذن في العزل إلى المولى عند أبي حنيفة رحمه الله وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن الإذن في العزل إليها؛ لأن الوطء حقها حتى تثبت لها ولاية المطالبة، وفي العزل تنقيص حقها، فيشترط رضاها كما في الحرة، بخلاف الأمة المملوكة لأنه لا مطالبة لها فلا يعتبر رضاها" (4) .
__________
(1) انظر: القوانين الفقهية: 217 الدار العربية للكتاب - ليبيا - تونس: 1988
(2) انظر المهذب: 67/2.
(3) عن فتح الباري 308/9.
(4) المرغياني: الهداية: 217/1 (ط-المكتبة الإسلامية) .(5/201)
عند الحنابلة:
المعروف عن الإمام أحمد انه لم يخالف مالكا ولا أبا حنيفة في حكم العزل ولا في حق المرأة في الوطء، فقد فصل هو الآخر فعلق الإباحة على إذن الحرة، وقال بالحرمة إن لم تأذن وجعل الحق للسيد في العزل عن الزوجة الرقيقة لحقه في الولد ولم يبح دون إذنه.
قال ابن القيم: وهذا منصوص أحمد رحمه الله (1) .
ومن أصحاب أحمد من منع العزل بكل حال، كما قال بمنعه أبو محمد بن حزم الظاهري، ومنهم من قال: يباح بكل حال، ومنهم من قال: يباح بإذن الزوجة حرة كانت أو أمة، ولا يباح دون إذنها حرة كانت أو أمة.
قال ابن القيم: "فمن أباحه مطلقا احتج بما ذكرنا من الأحاديث، وبأن حق المرأة في ذوق العسيلة لا في الإنزال ومن حرمه مطلقا احتج بما رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة رضي الله عنهما" (2) .
خلاصة المذاهب:
مما أسلفنا من أقوال علماء المذاهب السنية يتبين لنا من هؤلاء العلماء من قال بالجواز مطلقا بناء على عدم وجود نص صريح في النهي. ومنهم من قال بالمنع مطلقا، إستنادا إلي حديث مسلم عن جذامة بنت وهب أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال: ذلك الوأد الخفي.
ومنهم الجمهور الذين فصلوا بين الحرة والأمة الزوجة أو السرية، وحجتهم ما رواه عبد الرزاق بسند صحيح عنده عن ابن عباس أنه قال: ((تستأمر الحرة في العزل، ولا تستأمر الأمة السرية، فإن كانت أمة تحت حر، فعليه أن يستأمرها)) .
قال الحافظ: (وهذا نص في المسألة، فلو كان مرفوعا لم يجز العدول عنه) (3) .
__________
(1) انظر: زاد المعاد: 1604 (المطبعة المصرية القاهرة) .
(2) انظر: زاد المعاد: 16/4 (المطبعة المصرية القاهرة) .
(3) فتح الباري: 308/9.(5/202)
القضية الثانية
الإجهاض والإعقام
تقديم:
الإجهاض هو إسقاط الجنين قبل تمام خلقه أي قبل موعد ولادته وتمام استعداده للحياة خارج رحم أمه.
وقد أدرك الفقهاء ما أدركه الأطباء منذ قرون متطاولة من أن تكوين الجنين في الرحم يمر بسبعة أطوار، تبدأ بالتقاء المائين الأمر الذي قد ينشأ عنه اللقاح والإخصاب، وعندما يتم ذلك تبحث البويضة عن مكان عيشها واستقرارها إلى زمن الانفصال وهو زمن الولادة، ومكان عيشها، هو مكان ما ميسر لها في جدار رحم الأم، فتعلق به لتمتص قوتها الذي يأتيها رغدًا في كل حين بإذن ربها، وعلى هذا العطاء تنمو وتقطع مراحلها مرحلة بعد مرحلة إلى نهاية المطاف، وفي ذلك آية من آيات الخلق العجيبة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
فالأطوار السبعة مقسومة إلى قسمين، الفاصل والمميز بينهما هو نفخ الروح الذي ينتقل به الجنين من حياة إلى حياة، من حياة الإعداد والنمو إلي حياة الحس والحركة، والفارق بين الحياتين أن حياة الإعداد والنمو هي حياة خلية نمت حتى صارت كتلة من الخلايا، مارة بمراحل انطلاقا من مرحلة النطفة ثم العلقة ثم المضغة، ومسافة كل مرحلة أربعون يوما، وفي ختام المائة والعشرين يوما يقدر الله نفخ الروح وعندها يتغير كل شيء وتبدأ مرحلة الحس والحركة، لأن الجنين أصبح يحس وأصبح يتحرك وأصبحت الحامل به أما تتعامل معه وتؤثر فيه، ونستطيع أن نقول: إن تربيته تبدأ من هذا الحد.(5/203)
ونعني بذلك تربيته الجسمانية وما سيكون لها من استعداد وطاقة لتغذية عقل مدرك ونفس كبيرة، وقد ردد حكماء العصر: أن العقل السليم في الجسم السليم.
إن حياة الجنين في مرحلته الثانية هي حياة مخلوق له روح ويمر بمراحل الاكتمال لينزل إلى دنيا الناس بشرا سويا.
وبناء على الفارق الواضح بين مرحلة الإعداد والنمو أو مرحلة التكوين الجسمي المحض، ومرحلة الحس والحركة، وهي مرحلة ما بعد نفخ الروح، حيث أصبح الجنين يحس فتحس الأم بإحساسه ويألم فتألم الأم بآلامه.
أدرك الأطباء الفرق الكبير بين إجهاض المرأة قبل نهاية الشهر الرابع أي قبل نفخ الروح، والجنين حينئذ ليس إلا كتلة من الخلايا أو قطعة من اللحم خالية من حياة ذوي الأرواح وإنما حياتها مثل حياة عالم الجمادات، وبين الإجهاض بعد نفخ الروح، فالإجهاض في المرحلة الأولى ليس فيه خطورة على الأم كالإجهاض في المرحلة الثانية.
بناء على هذه المدركات التي اشترك فيها علماء التشريح وعلماء الشريعة حصل الإجماع على الأمرين التاليين:
الأول: إن الإجهاض ليس كالعزل، إذ في الإجهاض جناية على موجود بخلاف العزل.
الثاني: إن الإجهاض قبل نفخ الروح ليس كالإجهاض بعده؛ لأن الإجهاض قبل نفخ الروح جناية على أصل الجنين وبذرته، أما بعده فالجناية على كائن مخلوق له روح.(5/204)
حكم الإجهاض
اتفق علماء المسلمين على أن إسقاط الحمل ومحاربته بعد نفخ الروح جناية محرمة؛ لأنها جناية على حي، وأوجبوا فيها الدية إن نزل حيا، والغرة إن نزل ميتا، وهذا إذا لم تدع ضرورة إلي إسقاطه أو إزالته مثل ضرورة المحافظة على حياة الأم عملا بقاعدة: ارتكاب أخف الضررين وقاعدة: الأصل المستقر قبل الفرع المنتظر، ومثيلتها: لا يعدم الأصل من أجل الحصول على الفرع.
فليس في هذا الأمر خيار للأبوين ولا لغيرهما؛ لأن الحق لله والحكم متعين، فيتعين إسقاطه إذا توقف على ذلك إنقاذ حياة الأم، وثبت ذلك من طريق موثوق، كما يتعين إبقاؤه واحترام حياته كما تحترم حياة كل إنسان – فيما عدا ذلك.
أما قبل نفخ الروح يعني قبل نهاية الشهر الرابع من الإخصاب فقد جرى في ذلك خلاف بين العلماء، ومبنى هذا الخلاف شيئان:
أ - هل يعتد بحياة الإعداد والنمو؟ وهل لها حرمة كحياة من نفخت فيه الروح؟
ب - لمن الحق في الولد؟ هل للأب؟ أو للأبوين؟ أو لهما وللأمة جميعا؟
من العلماء من اعتبر حياة المادة التي منها يتكون الجنين قبل نفخ الروح ولم يفرق بينهما وبين حياة الجنين بعد نفخ الروح، باعتبار أن الوجود حاصل في الكل، وأن الحياة أمر لا ريب فيه في الكل، وإن اختلفت هذه الحياة تبعا للأطوار التي يمر بها هذا الجنين، وبناء على ذلك لا يجوز الإجهاض بدون عذر معتبر شرعا، وتشتد الحركة من طور لآخر فليست حرمة إسقاطه قبل نفخ الروح كالحرمة فيما بعد ذلك بدليل ما أسلفنا من وجوب الدية في حالات، ووجوب الغرة في حالات أخرى، مع ما يقترن به ذلك من تعزير يقدره القاضي بحسب جسامة الجريمة فليس إسقاط الحمل في طور النطفة كإسقاطه في طور العلقة وهكذا.(5/205)
ومن هؤلاء العلماء الإمام الغزالي وهو وإن بدا موقفه غير متشدد في أمر العزل إذ جوزه ولو كان الباعث عليه استبقاء جمال المرأة أو الخوف من خطر الطلق والولادة، فإنه يعتبر الإجهاض جناية على موجود حاصل إذ قال: "وليس هذا - أي العزل - كالإجهاض والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل وله أيضا مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت علقة ومضغة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيا" (1) .
ومن هؤلاء العلماء القائلين بالحرمة والمنع كل الذين قالوا بحرمة العزل إذ الحرمة عندهم هنا بالأولوية.
ومن العلماء من اعتبر حياة الجنين في الطور الأول (طور الإعداد والنمو وقبل نفخ الروح) حياة مادة ليست هي حياة الإنسان التي كرمها الله لاقترانها بالروح، فلا جناية إلا مع إزهاق الروح، وحيث لا روح في المادة الأولى التي منها الجنين فلا جناية وإذا لم يكن الحكم عند هؤلاء هو الحرمة ... فهل الحكم هو الكراهة أو الإباحة؟ خلاف بينهم في ذلك، جاء في الذخيرة "لو أرادت الإلقاء قبل مضي زمن نفخ الروح، هل يباح لها ذلك أم لا؟ " اختلفوا فيه (2) .
ولقد ثبت علميا أن للإجهاض في مدة الحمل الأولي انعكاسات ومخلفات تتفاوت مضرتها وخطورتها بتقدم زمن الحمل وباختلاف أبدان الأمهات، وتشتد الخطورة إذا تكرر الإجهاض مع قصر الفواصل، وفي هذا دليل على أن الإجهاض فيه معاكسة للطبيعة ومناقضة لسيرها، وما كان كذلك لا يترجح القول فيه بالإباحة، بل الذي يقتضيه النظر الوجيه أن يدور الحكم بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه بحسب الأوضاع والحالات والأشخاص، أما القول بالإباحة فهو خلاف الراجح عند العلماء من الفقهاء والأطباء.
هذا في فترة الحمل الأولى، أما الفترة الثانية التي تعقب نفخ الروح فقد أسلفنا ذكر الاتفاق بين الفقهاء على حرمة إسقاط الحمل فيها بغير ضرورة وهذا هو الذي يراه الأطباء؛ لأنهم يقررون أن الأمر لا يخلو من خطورة ومجازفة بحياة الأم.
__________
(1) الإحياء: 51/2.
(2) عن شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة: 216 (دار القلم – القاهرة) .(5/206)
حكم الإعقام
الإعقام من قولهم: أعقم الله رحمها فعقمت (على ما لم يسم فاعله) إذا لم تقبل الولد (1) والإعقام في المرأة يكون بإفساد رحمها حتى يصير رافضا للإخصاب أو بإفساد مائها أو بإفسادهما معا، وهو عبارة عن شل عضو أو إفساد جهاز في الجسم مما خلق الله، ولم تأت الشرائع بذلك أصلا ولم تبحه ولا أباحه العلم؛ لأنه ضرب من إفساد ما خلق الله تعالى والله لا يحب الفساد.
ويكون الإعقام في الرجل، فيقال: رجل عقيم، بمعنى لا يولد له، كما يقال امرأة عقيم؛ لأنه من الأوصاف التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، ويكون إعقام الرجل قديما بالخصاء، وصار اليوم بما يعرف بربط القنوات أو بتناول بعض العقاقير المفسدة لمائه إن صح ما بلغنا من بعض طلاب العلم في الطب.
وقد ورد في شأن الخصاء الحديث المتفق عليه، وهو عند البخاري من طريق قتيبة عن جرير عن إسماعيل عن قيس قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود -: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا شيء - وللبخاري من طريق: محمد بن المثني عن يحيى في باب تزويج المعسر: وليس لنا نساء - فقلنا: ألا تستخصي؟ فنهانا عن ذلك" (2) .
قال الحافظ: "هو نهي تحريم بلا خلاف في بني آدم" ثم بين سبب الحرمة فأفاد أن السبب يرجع إلى عدة مفاسد منها قطع النسل، ومنها تعذيب النفس والتشويه من إدخال الضرر الذي قد يفضي إلى الهلاك، ومنها أن فيه تغيير خلق الله وكفر النعمة.
وقد منعت الشريعة قطع نسل الحيوان، واستثنوا من ذلك الخصاء من أجل تطييب اللحم في الأنعام ما دامت في حال الصغر، حتى لا يشتد تعذيبها عند الكبر، فكيف يكون الحال في الإنسان؟ (3)
وتعضيدا لحديث البخاري نقل الحافظ ما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العزوبة فقال: ألا أختصي؟ قال: ((ليس منا من خصى أو اختصى)) .
هذا هو حكم الإعقام الذي به يقطع النسل بلا رجعة، مثل الإخصاء عند الرجال، أو استئصال الرحم عند المرأة لغير علاج، وإنما يقصد قطع النسل عن المرأة المعافاة".
أما إذا اتخذت وسائل الإعقام بقصد التصبير وإرجاء الحمل لأجل محدد بحيث يمكن إزالتها بزوال سببها والعودة إلى الإنجاب، فإن ذلك يأخذ حكم العزل، لأنه به أشبه ولأنه لا إفساد فيه ولا تغيير لخلق الله.
__________
(1) قاله مختار الصحاح.
(2) انظر: البخاري: كتاب (76) النكاح، باب (6) تزويج المعسر وباب (8) ما يكره من التبتل والخصاء.
(3) فتح الباري: 118/9-119 بتصرف.(5/207)
القرار في النسل يتبع الحق في الولد
لكن يبقي السؤال القائم كالتالي:
-من الذي يملك حق الولد وحق القرار في الإنجاب أو عدمه؟ هل هو الزوج وحده؟ أو الزوج بالاشتراك مع الزوجة؟ أو هما بالاشتراك مع الأمة التي تمثلها الدولة؟
اختلفت في ذلك أنظار العلماء إلى أربعة آراء:
الأول: إن الولد حق للوالد وحده، فإن شاء أنجب وإن شاء لم ينجب وذلك نظرا لكونه رب الأسرة، وهو المسؤول عن القيام على أبنائه نفقة وتأديبا وإعدادا للحياة الجادة كما يريدها الله تعالى، ومن هؤلاء الإمام الغزالي الذي جوز العزل للزوج دون توقف على إذن الزوجة فهو الذي يكون له القرار وتبعا لذلك له الإنجاب إن رامه.
الثاني: إن الولد حق للأبوين بالإشراك، ومن غير اختصاص أحدهما دون الآخر؛ لأن الأبناء من زينة الحياة ومتعها وليس ذلك للآباء دون الأمهات، ولأن الأم لا تقل مسؤوليتها عن الأب بل قد تفوق مسؤولية الأب إذا اعتبرنا أن مسؤوليتها التربوية للولد تبدأ من أيام الحمل وتعظم في مرحلة الطفولة الأولى.
ومن هؤلاء أئمة المذاهب الذين اشترطوا موافقة الزوجة للترخيص في العزل.
الثالث: إن الولد حق مشترك بين الوالدين والأمة مع تغليب حق الوالدين والقائلون بهذا هم العلماء من فقهاء الأمصار، الذين أفتوا بكراهة العزل وكراهة تحديد النسل مطلقا ولو باتفاق الأبوين، لأن الأمر لا يخصهما على انفراد، بل هو لهما على وجه الأمانة حتى يعد للأمة جيل المستقبل الصالح.
ومن القائلين بهذه الكراهة أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس في إحدى الروايتين عنه.
ومن أصحاب هذا الرأي الإمام النووي والشافعي وموفق الدين ابن قدامة الحنبلي.(5/208)
الرابع: أن الولد حق مشترك بين الوالدين وبين الأمة مع التغليب المطلق لحق الأمة، وهو مذهب القائلين بحرمة العزل وحرمة كل ما يمنع الولد، فالأبوان بمثابة الوكيلين والوكيل معزول – كما يقول الفقهاء – عن غير المصلحة من هؤلاء أبو حاتم محمد بن حبان البستي الشافعي صاحب الصحيح والإمام أبو محمد بن حزم الأندلسي الظاهري.
وإذا قلنا بتحديد حق الأبوين وتغليب حق الأمة فهل للدولة أن تتكلم باسم الأمة لتقرر تحديد النسل أو الزيادة فيه؟
الجواب: لا يكون بنعم أو لا؛ لأن المسألة تتعلق بشرعية القرار الذي تتخذه الدولة لا من الناحية الشكلية باعتبار أنها دولة لها (الحق وحدها في أخذ القرار وحماية المصالح) ولكن من ناحية جوهر القرار وتمشيه مع روح الشريعة وعقيدة المسلم وإيمانه بربه. هذا الإيمان الذي تنكرت له العلمانية ولم يتنكر له العلم الصحيح.
ولكي يكون قرار الدولة الإسلامية في هذا الصدد مسموعا ومطبقا من المسلمين يتعين اعتبار ما يأتي:
1- أن لا يكون علمانيا فيه إلزام لكل الأسر سواء بتقليل النسل أو بتنظيم الإنجاب أو المباعدة بين الولادات، أو كان المراد منه تكثير النسل بالترغيب في الزواج والمكافأة على الإنجاب، بل يكون قرارا يدعو الناس والأسر إلي الإتيان من ذلك ما في وسعهم وعلى حسب طاقتهم، وظروف عيشهم، والوسائل المتاحة لهم.
2- أن يكون الباعث على القرار الالتزام بالمصالح الشرعية التي فيها مصلحة الأمة وحثها على السعي إلى غد أفضل وإلى تحقيق المزيد من المناعة والقوة، وليس الباعث ما يشير به الخبراء الأجانب ممن قامت تقديراتهم وأبحاثهم على معطيات مادية اقتصادية بحتة كأن المادة هي كل شيء، وكأن الاقتصاد هو الذي يرزق الذرية وهو الذي يقدر موتهم أو حياتهم وقد علمتنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أن المادة والمال قد يكون نقصهم عائقا أمام تحقيق الغايات، لكن لا يثنينا ذلك عن المضي قدما قصد تسخير المادة وتحصيل المال وتذليل الصعوبات، فلا نحدد النسل بدعوى نقص الموارد مع الإبقاء على استهلاك متهور غير رشيد، بل نرشد الاستهلاك ونتعلم حسن القناعة ونبقي على التناسل والنمو العادي للأمة، روى أحمد في مسنده من طريق هاشم بن القاسم وحسن بن موسى عن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال:(5/209)
"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش وزودنا جرابا من تمر، لم يجد لنا غيره قال: فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة قال: قلت: كيف تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل" (1) إلى آخر الحديث فما كانت المادة لتعوق عن المهمات العسكرية وقضايا الجهاد، فكيف نتخذ منها تعلة لتحديد النسل؟ مع أن الذي يهدد نسلنا إنما هو تدهور القيم وانحطاط الأخلاق أو ما سماه بعض الحنفية بفساد الزمن الذي يبيح التحرز من الإنجاب.
3- أن تكون الدولة ذات أخلاق ومصداقية: ذات أخلاق تدفعها إلى التعامل مع أحكام الإسلام بصدق، وذات مصداقية؛ لأنها لا تتناقض مع نفسها فالدولة إذا شجعت على كثرة النسل تفقد مصداقيتها إذا لم توفر لهذا النسل ما به ينشأ على الإيمان بالله والاستقامة وحسن التربية والإقبال على مختلف العلوم والمعارف.
والدولة إذا نفرت من كثرة النسل بدعوى العجز الاقتصادي ومحدودية الدخل والموارد بالنسبة للأمة لا يبقى شيء من مصداقيتها، ولا يسمع لها قول أو قرار أو رأي إذا هي بذرت الأموال في ميزانها للتصرف واستوردت المحظورات وأكثرت من شراء الكماليات وسمحت للأيدي أن تجول في الأموال والأملاك العمومية، وهل يدعو إلى الرشاد من لم يرشد؟
أمر النسل تكثيرا أو تحديدا أو تنظيما أو إعقاما أو إجهاضا له صلة بعقيدة المسلم وشريعته فلا يتقبل فيها المسلم ما يقوله العلمانيون ولو صادف الحق وواقع التشريع، حتى يسمع من علماء المسلمين الذين ورثوا عن الأنبياء أمر البلاغ لهذه الأمة ولعل أمر هذا البلاغ هو خير ما دعا إلى تأسيس مجمعنا الفقهي الإسلامي هذا.
والحمد لله بدءًا وختاما مع خير صلاة وأزكى سلام على الحبيب رسول الله.
الطيب سلامة
__________
(1) المسند: 311/3.(5/210)
رأي في تنظيم العائلة
وتحديد النسل
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
مسئول العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامية
وعضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
تحرير محل النزاع:
نود في البدء أن نوضح أننا سنركز في هذا البحث على خصوص (تنظيم النسل) ونعني به (التخطيط الصحيح والشرعي لامتلاك الزوجين عددًا معينًا من الأولاد ينسجم مع قدرتيهما على القيام بحق الوالدية والتربية من جهة كما ينسجم مع قدرة المجتمع الذى.. يعيشان فيه على توفير متطلبات الحياة السعيدة من جهة أخرى) .
وبإدخالنا القيد (الشرعي) نخرج به كل أسلوب ثبتت حرمته أو اشتهرت من قبيل (الإجهاض) و (التعقيم الكامل) وأمثالهما.
وكذلك لا يشمل بحثنا الأهداف المرفوضة شرعًا وإنما يركز على خصوص الأسباب المشروعة والمتعارفة:
فما هو الموقف من هذه العملية؟ هل نرفضها مطلقا أم نقبلها مطلقا؟ أم نقول بالتفصيل بين الصعيد الفردى والإلزام الحكومي؟
أنصار وجوب الإطلاق وأدلتهم:
إذا طالعنا أدلة أنصار وجوب الإطلاق في هذا الموضوع وعدم جواز التنظيم مطلقا لاحظناها تركز:
أولًا: على أنماط متعددة من النصوص الشرعية التي تؤكد على الأمور التالية:
- ذم العادات الجاهلية في وأد البنات وقتل الأولاد خوفًا من قلة الرزق والإملاق.
- اعتبار من يموت بلا ولد هالكا.
- التركيز على امتلاك الولد الصالح.
- التركيز على انتخاب المرأة الولود.
- جعل الولد من نعم الله.
- الدفع للإكثار من التوالد.
- النهي عن التبتل والانقطاع عن الولد.
- تعليم المؤمنين بعض الأدعية لحصول الولد.(5/211)
وغير ذلك من النصوص الشريفة التي تؤدي بمجموعها للقول بأن الإسلام يدعو بكل وضوح إلى الإكثار من النفوس الصالحة.
وها نحن نذكر بعض هذه الروايات:
1- ففي صحيحة محمد بن مسلم أن أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله قال: ((تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم غدًا في القيامة)) (1) .
2- وفي رواية جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ((ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلا لعل الله يرزقه نسمة تثقل الأرض بلا إله إلا الله)) (2) .
3- وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام وفي حديث ((الأربعمائة)) قال: تزوجوا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله كثيرًا ما كان يقول: ((من كان يحب أن يتبع سنتي فليتزوج فإن من سنتي التزويج، واطلبوا الولد فإني أكاثر بكم الأمم غدًا)) (3) .
4- وفي صحيحة جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم وآله فقال: ((إن خير نسائكم الولود الودود العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها)) الحديث (4) .
5- وفي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله فقال: يا نبي الله إن لي ابنة عم لي قد رضيت جمالها وحسنها ودينها لكنها عاقر فقال: لا تزوجها إن يوسف بن يعقوب لقي أخاه فقال: يا أخي كيف استطعت أن تزوج النساء بعدي؟ فقال: إن أبي أمرني، فقال: إن استطعت أن تكون لك ذرية تثقل الأرض بالتسبيح فافعل، قال: وجاء رجل من الغد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم له: تزوج سوآء ولودًا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة. فقال: فقلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما السوآء؟ قال: القبيحة (5) .
__________
(1) رواه الصدوق في الفقيه ومعاني الأخبار أخرجه عنه في الوسائل، الباب الأول من أبواب مقدمات النكاح الحديث 2، ج 14، ص 3
(2) رواه الصدوق في الفقيه، وأخرجه عنه في الوسائل الباب الأول من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 3، ج 14، ص 3
(3) رواه الصدوق في الفقيه والخصال ص 14 - 615 وأخرجه عنه في الوسائل الباب الأول من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 6، ج 14، ص 3 - 4
(4) الوسائل، الباب 6 من أبواب مقدمات النكاح الحديث 2، ج 14، ص 14
(5) الوسائل، الباب 15 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 1، ج 14، ص 33(5/212)
أقول: فتراه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن تزوج العاقر التي لا تلد واستدل بقول يعقوب النبي الذي قد أمر بثقل الأرض بتسبيح الذرية مهما استطاع وقد أمر صلى الله عليه وسلم بتزوج السوآء الولود ومعلوم أن كون المرأة سوآء غير مندوبة عنده كما تدل عليه كلماته الأخر مثل قوله صلى الله عليه وسلم وآله: ((أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهًا وأقلهن مهرًا)) (1) . بل إن مراده صلى الله عليه وسلم أن كون الزوجة ولودًا كثيرة الولادة والأولاد مطلوب جدًّا حتى إنه لو دار الأمر بين الجميلة غير الولود والسوآء الولود فالسوآء الولود هي الأولى والمتعينة. ويستفاد من نقل كلام النبي يعقوب عليه السلام أن كثرة الولد وثقل الأرض بتسبيحه مندوب في جميع الشرائع الإلهية.
6 - وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ((تزوجوا بكرا ولودا ولا تزوجوا حسناء جميلة عاقرًا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة)) (2) .
7 - وفي رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ((أكثروا الولد أكاثر بكم الأمم غدا)) (3) .
8 - وفي سنن البيهقي بإسناده عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ((تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة.)) خ. ((ولا تكونوا كرهبانية النصارى)) (4) .
9 - وفيها قال عمر بن الخطاب والله إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله مني نسمة تسبح الله (5) .
__________
(1) الوسائل، الباب 6 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 8، ج 14، ص 16
(2) الوسائل، الباب 16 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 1، ج 14، ص 33 أخرجه عن الكافي
(3) الوسائل، الباب 1، من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 8، ج 15، ص 96
(4) البيهقي، كتاب النكاح، باب الرغبة في النكاح، ج 7، ص 78
(5) البيهقي، كتاب النكاح، باب الرغبة في النكاح، ج 7، ص 79(5/213)
10 - وفيها بإسناده عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال إلا أنها لا تلد، أفأتزوج بها؟ فنهاه رسول الله، ثم أتاه الثانية فقال له مثل ذلك فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال له مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم: ((تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم)) (1) . وأخرجه الحاكم في المستدرك بتقديم (الولود) ، وقال: إن هذا حديث صحيح الإسناد. وصححه الذهبي في التلخيص. وأخرجه النسائي في سننه في باب كراهية تزوج العقيم. وأخرجه أبو داود أيضًا في سننه في باب النهي عن تزوج من لم تلد من النساء.
11 - وفيها بإسناده عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم يأمرنا بالباءة (بالنساء. خ د) وينهانا عن التبتل نهيا شديدا ويقول: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء (الأمم، خ ل) يوم القيامة)) (2) .
12 - وفيها بإسناده عن أبي أذينة الصدفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قال: ((خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية إذا اتقين الله)) الحديث (3) .
13 - وفي سنن ابن ماجه بإسناده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم: ((انكحوا فإني مكاثر بكم الأمم)) (4) . إلا أن في السند طلحة بن عمر والمكي الحضرمي وقد ورد عن الزوائد أنه متفق على تضعيفه.
ونكتفي بهذا المقدار وهي باقة من النصوص كثيرة في هذا الصدد.
ثانيًا: - كما تمسك أنصار هذا الرأي بالدافع الفطري الذي يحقق استمرار النوع البشري عن طريق التوالد وأن أي وقوف أمامه يعني مخالفة الفطرة بل وسوء الظن بالله تعالى الذي أرسل هذا الدين فطريا، وضمن للإنسان رزقه بشكل واضح، وأكد أن الطبيعة كافية تماما لكل ما يحتاجه أبناء الإنسان، أما النقص فهو ناتج من ظلم الإنسان وكفره {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (5) .
__________
(1) البيهقي، كتاب النكاح، باب استحباب التزوج بالودود الولود، ج 7، ص 81، المستدرك كتاب النكاح، ص 162، ج 2، النسائي، ج 6، ص 6 - 65، أبو داود، ج 2، ص 297 الرقم2050
(2) البيهقي، كتاب النكاح باب استحباب الزواج بالودود الولود، ج 7، ص 82
(3) البيهقي، كتاب النكاح باب استحباب الزواج بالودود الولود، ج 7، ص 82
(4) سنن ابن ماجه، باب تزوج الحرائر والولود، ج 1، ص 599، الرقم 1863
(5) سورة إبراهيم الآية 34(5/214)
ثالثًا: كما ركزوا على الدوافع الاستعمارية والصهيونية والإباحية للقائلين بتحديد النسل وأشاروا من خلال ذلك إلى الحرب الديموغرافية التي يشنها الأعداء ضد الأمة الإسلامية لتقليل عددها وإضعاف قوتها.
رابعًا: على إبطال كل الدوافع المدعاة لهذا التحديد.
من خلال مناقشة نظرية مالتس التي تؤمن بأن (التصاعد العددي لنمو الإمكانات الغذائية لا يمكنه اللحوق بالتصاعد الهندسي للتوالد البشري) تعرضوا للرد عليها بالحجة وإبطالها، ثم حاولوا التشكيك في دلالة الروايات على جواز العزل أو قالوا بأنها لحالات فردية خاصة ولا يمكن استفادة الإطلاق في الجواز منها.
أنصار إمكان التنظيم ومستندهم:
أما أنصار إمكان تنظيم النسل فهم يركزون على ما يلي:
أولًا: الاستناد إلى الأحاديث التي تجيز (العزل) والتي على أساسها أفتى أئمة المذاهب الأربعة بجوازه مع إذن الزوجة بل أفتى مالك وأبو حنيفة والشافعي بالجواز دون تقيده بإذن الزوجة.
أما الإمامية فالمشهور لديهم هو جواز العزل
يقول الإمام الخميني (لا إشكال في جواز العزل. في غير الزوجة الدائمة الحرة وكذا فيها مع إذنها وأما فيها بدون إذنها ففيه قولان، أشهرهما الجواز مع الكراهية وهو الأقوى بل لا يبعد عدم الكراهة في التي علم أنها لا تلد وفي المسنة والسليطة والبذية والتي لا ترضع ولدها كما أن الأقوى عدم وجوب دية النطفة عليه وإن قلنا بالحرمة وقيل بوجوبها عليه للزوجة، وهي عشرة دنانير وهو ضعيف للغاية) (1) .
وهناك روايات في هذا الموضوع نذكر منها ما يلي:
1 - صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (ع) (يعني الصادق) عن العزل؟ فقال: ذاك إلى الرجل يصرفه حيث شاء.
2 - وعن محمد بن مسلم عن الباقر (ع) قال: (لا بأس بالعزل عن المرأة الحرة أن أحب صاحبها وإن كرهت ليس لها من الأمر شيء) .
__________
(1) تحرير الوسيلة ج 2 ص 242(5/215)
3 - وعن محمد بن مسلم عن أحدهما (أنه سئل عن العزل فقال: أما الأمة فلا بأس، فأما الحرة فإني أكره ذلك إلا أن يشترط عليها حين يتزوجها) .
4 - وعن يعقوب الجعفي قال: سمعت أبا الحسن (ع) يقول: لا بأس بالعزل في ستة وجوه: المرأة التي تيقنت أنها لا تلد والمسنة والمرأة السليطة والبذية والمرأة التي لا ترضع ولدها والأمة.
5 - جاء في الصحيحين عن جابر قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) .
ثانيًا: الاستناد لأصل الإباحة في أصل الزواج وفي أصل الإنجاب خصوصا مع عدم تضرر أي من الجانبين ورضاهما.
ثالثًا: الاستناد إلى ما يترتب من ضرر فردي أو اجتماعي أحيانا وهذا أمر يشخصه الفرد في الحالة الفردية والحاكم في الحالة الاجتماعية.
ولقد حاول هؤلاء التركيز على أن الإسلام إذ يدعو لتكثير الذرية إنما يطلب بطبيعة الحال ما يمكن أن يباهي به النبي صلى الله عليه وسلم الأمم الأخرى وهي الذرية الصالحة والولد الطيب، فإذا أدت كثرة الإنجاب إلى فقدان القدرة على التربية لم تكن محبذة إسلاميا.. وربما كانت قلة العيال أحد اليسارين.
وقد ركزوا لا على نظريات مالتس أو دواعي الغربيين وإنما على الأرقام الفعلية للنمو وضعف الإمكانات في قبال ذلك.
القول بالتفصيل:
وربما رأينا من يجنح للقول بالتفصيل بين الحالات الفردية والمنع الاجتماعي بحجة أن المباح على نوعين:
أ - ما يتفق مع حكم الأصل بأن ينطوي على فائدة عامة للفرد والمجتمع كالتمتع بالطيبات.
ب - ما لا يتفق مع حكم الأصل من الإباحة الأصلية العامة وإنما دخله حكم العفو أو الإباحة بالنسبة لأشخاص بأعيانهم أما المجال الأول فللحاكم الشرعي التدخل في منعه لمصلحة.
وأما الثاني فليس له ذلك ومسألتنا من هذا القبيل بل ربما يبدو من بعض العلماء قوله بعدم وجود أصل الإباحة فالأصل المنع إلا برخصة باعثة ويعتبر ذلك مما يقتضيه التفكير السليم (1) . ولا مبيح للتحديد على المستوى الجماعي.
__________
(1) الأستاذ عبد المجيد بن ياكل في بحثه. ص 10(5/216)
الرأي المختار:
يمكننا في مسألة جواز تنظيم الأسرة بتحديد النسل أن نلاحظ النقاط التالية لنصل إلى الرأي المختار في النتيجة:
النقطة الأولى: لا ريب - بملاحظة النصوص الكثيرة والمتنوعة - في أن الشريعة تحث على الإنجاب وتكثير النسل باعتباره مبدأ عاما وأصلا اجتماعيًّا يعتمده المسلمون، وقد بينت النصوص أن ذلك لكي تقوى به الأمة الإسلامية ويباهي بها الرسول باقي الأمم، وطبيعي ذلك باعتبار الأمة الإسلامية يراد لها أن تقود البشرية كلها حضاريًّا؛ لأنها خير أمة أخرجت للناس ولا يمكنها أن تحقق وظائفها وهي ضعيفة من حيث العدد الكمي.
إلا أن من الواضح أن التكاثر المراد ملحوظ فيه الجانب الكيفي أيضًا فالتركيز كله على الذرية الصالحة الطيبة المتقية التي تحمل أمانة الآباء وتخلفهم في حمل الرسالة الإسلامية والقيام بأعباء الخلافة الإلهية، وحينئذ فقط يفرح المجتمع الإسلامي بالإنجاب والتوالد الكثير.
ومن الواضح أيضا أن الإسلام من خلال ذلك يعطي رأيه في أمثال نظرية (مالتس) التي تتحدث عن بخل الطبيعة في مجال استيعاب معدلات النمو الإنساني في حين أننا نعلم أن الطبيعة تحوي طاقات ضخمة تستوعب أضعاف ما هو موجود اليوم إذا توفر أمران، أولهما شكر النعم الإلهية بالاستفادة الأفضل وتحسين أساليب الإنتاج باستمرار وعدم التبذير والإسراف في الاستهلاك وصرف الأموال على الحروب والأعمال المعادية للإنسانية أو التافهة، وثانيهما العدالة في التوزيع وضمان الحقوق الإنسانية التي ركز عليها الإسلام للإنسان كإنسان.
يقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (1) . فالمشكلة الحقيقية تكمن في ظلم الإنسان وكفره.
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 32 - 34(5/217)
النقطة الثانية: ما هو المرجع عند الشك في حكم شرعي لم يمكن إثباته ولا نفيه؟ في مثل هذا المورد يتم البحث على صعيدين:
الأول: صعيد الأصل العملي العقلي.
الثاني: صعيد الأصل العملي الشرعي.
أما على الصعيد الأول: فهناك مسلكان.
المسلك الأول: وهو مسلك نفي الحكم التكليفي عند الشك فيه استنادًا إلى قاعدة عقلية هي (قاعدة قبح العقاب بلا بيان) .
والمسلك الثاني: مسلك حق الطاعة (كما يسميه السيد الصدر) وهو يؤمن بأن حق الطاعة للمولى الحقيقي حق واسع الأبعاد بحيث يشمل كل حكم تكليفي حتى ولو كان محتملا فقط ويؤمن هذا المسلك بأن العقل الإنساني الوجداني يؤمن بهذه السعة للمولى الحقيقي.
أما المسلك الأول فهو يركز على عدم وجود عقاب ما لم يقم دليل قطعي على الحكم مستدلا تارة بأنه لا مقتضى للتحرك وفق الحكم مع عدم الوصول القطعي للتكليف، والعقاب هنا قبيح عقلا.
والواقع أننا لو آمنا بضيق دائرة حق الطاعة بحيث لا تشمل التكاليف المشكوكة لكان هذا الكلام صحيحا ولكنه أول الكلام فيجب تحديد دائرة حق الطاعة أولا وهل تشمل التكاليف المحتملة أم لا؟
كما يستشهد أصحاب هذا المسلك بالعرف العقلاني الجاري بعدم العقاب عند عدم البيان ولكن يجب هنا التمييز بين المولى الحقيقي والمولى العرفي.(5/218)
وهناك أدلة أخرى ذكرت لهذا المسلك.
وعلى أي حال فإن آمنا بالمسلك الأول كان مقتضى الأصل العقلي عند الشك في أي حكم تكليفي هو البراءة العقلية من التكليف، وإن آمنا بالمسلك الثاني كان علينا الاحتياط العقلي.
هذا، إذا لم يكن هناك أصل شرعي في البين وقد ذكر العلماء أن الأصل الشرعي موجود ومقدم على الأصل العقلي وهو ما يسمى بالبراءة الشرعية من التكليف عند الشك فيه واستدلوا على ذلك بالكتاب الكريم والروايات.
أما الكتاب العزيز فقد استدلوا منه بآيات منها:
قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} (1) . وهذه الآية شاملة للشبهات الموضوعية والحكمية.
ومنها: قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2) . فكلمة (الرسول) مثال على إرسال ما يوضح الحكم.
ومنها: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) .
أما من الروايات:
فقد ورد عن الصادق (ع) قوله: (كل شيء مطلق حتي يرد فيه نهي (4) .
كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((رفع عن أمتي تسعة: الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة)) (5) .
وضعف السند مجبور بشهرته والاستناد إليه وإذا شئنا التفصيل في البحث لزمنا الرجوع إلى الكتب الأصولية (6) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 7
(2) سورة الإسراء الآية 15
(3) سورة التوبة الآية 115
(4) جامع أحاديث الشيعة: أبواب المقدمات الباب الثامن، الحديث 15
(5) جامع أحاديث الشيعة: أبواب المقدمات الباب الثامن، الحديث 3
(6) راجع قبلا دروس في علم الأصول للسيد الصدر ص 29، 64(5/219)
ونخلص من هذا البحث إلى:
أنه في الموارد المشكوكة الحكم يكون الأصل العملي فيها البراءة الشرعية وحينئذ فارتكاب العمل مباح.
ولا معنى حينئذ للقول بالمنع ما لم يأت دليل مبيح ومسألتنا هنا موضوع لهذا البحث فليس هناك أي دليل على حرمة تحديد النسل وما ذكر من الأدلة المانعة لا يمكن أن تنهض على هذه الحرمة.
في حين أن حلية العزل بشرائطه دليل على إباحة التنظيم بلا ريب ولكن حتى لو لم تتم هذه الحلية فإن الأمر يبقي مشكوكًا والأصل الشرعي هنا هو البراءة عن الحكم التكليفي الإلزامي بعد أن لم يصلنا دليل قطعي على الحرمة.
النقطة الثالثة:
حول سعة دائرة ولاية الحاكم الشرعي.
وهنا بحوث مفصلة نحاول أن نذكر منها ما يرتبط بموضوعنا بكل اختصار:
ما هي مساحة الولاية؟
ما يمكن استفادته من الأدلة الشرعية أن الحاكم الشرعي يقوم بالوظائف التالية:
1 - التصرف في الأموال العامة وتوجيهها الوجهة الصحيحة.
2 - إقامة الحدود الإسلامية.(5/220)
3 - إصدار الأحكام في المساحة المباحة من التشريع الإسلامي كالإلزام بالمباح أو تحريمه تحقيقا لمصلحة اجتماعية ضرورية مثل تحديد الأسعار ومنع الاستيراد.
4 - توحيد الموقف الاجتماعي كما في الأهلة والجهاد.
5 - تشخيص موارد التزاحم الاجتماعي بين الأحكام فإذا ما تزاحم حكم شرعي اجتماعي مع حكم آخر ولم يكن بالإمكان الإتيان بهما معا كان من وظيفة الحاكم تشخيص هذا المورد وتقديم الأهم على المهم.
6 - إلزام الأفراد بالعمل بواجباتهم وفق وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1) . وهل هناك فرق بين المباحات للأفراد والمباحات بشكل عام؟
لا تجد هناك ما يبرر هذا الفرق. إلا أن يقول أحد: إن الإسلام أراد لبعض الأحكام أن تكون مباحة دائما للأفراد كالزواج والطلاق والاستمتاع والحرية وليس للدولة الإسلامية أن تحد منها أو تضع لها قيودا حتى ولو كان ذلك بمقتضى مصلحة عامة ملزمة.
والظاهر: أن التأمل في نوع إباحة المشي والأكل المعين مثلا وإباحة الطلاق ينتهي إلى وجود فرق بينهما، من حيث كون النوع الثاني من الحلال الذي يعتمده الشارع حلالًا، وحينئذ فتجب مراعاة ذلك ولكن ذلك بالنسبة لأصل هذه والأمور لا لتقييداتها وحينئذ فللدولة الإسلامية إذا رأت المصلحة أن تقيد الزواج مثلا بالكتابة لدى كاتب العدل أو الطلاق ببعض القيود.
هذا إذا لم ينته الأمر إلى نوع من التزاحم بين بقاء هذه الإباحة مطلقة وبقاء النظام الاجتماعي العام وهو الأهم حتما فهو المقدم عقلا وشرعا.
وتحديد النسل بقانون هو في الواقع تقييد لهذا الحكم المباح ولا مانع منه بناء على ما قدمناه.
__________
(1) راجع لمعرفة التفاصيل (حول الدستور الإسلامي في مواده العامة) للكاتب 2 ص، 60، 61(5/221)
النتيجة:
بعد معرفة المقدمات الماضية نستطيع أن نلخص الرأي المختار في موضوع بحثنا على النحو التالي:
أولًا: في الحالات الطبيعية يرى الإسلام الإنجاب وفتح المجال لتكثير عدد المسلمين لما يؤدي إليه ذلك من قوة لهم.
ثانيًا: للفرد عندما يرى حاجة لتحديد النسل وتنظيم الأسرة أن يستخدم إحدى الطرق المشروعة لذلك ومنها (العزل) مع مراعاة ما يشترطه الفقهاء أحيانًا من قبيل حصول رضا الزوجين وعدم الإضرار بحق الزوجة.
ثالثًا: ينبغي أن لا تلجأ الدولة الإسلامية إلى مسألة تحديد النسل بقانون مهما أمكن، وذلك:
أولًا: لأنه خلاف التوجه الإسلامي الاجتماعي العام.
ثانيًا: لأن فيه تضييقا لا مبرر له على المسلمين ولما فيه من صعوبة عملية شاقة الأمر الذي يلجئ للارتفاع بمستوى الإنتاج بمفهومه الواسع واستيعاب الطاقات الجديدة لتنتقل رأسا للقيام بالواجب الاجتماعي والنهوض بالأمة بدلا من العمل على التحديد.
وثالثًا: وعندما تواجه الدولة ضائقة عامة وتتحق المصلحة الملزمة لنوع من التنظيم والتحديد فلا مانع منه ولها القدرة للإلزام بهذا المباح إلى فترة معينة وبتعبير آخر لها القدرة على تقييد هذا الحكم المباح لصالح المجتمع حتى تمر الأزمة الاجتماعية ويعود الحال إلى وضعه الطبيعي.
ورابعًا: على أن للدولة الإسلامية أن تقوم بالتحديد لا على أساس ولايتها بل على أساس ما يتولد من الانفتاح المطلق من أَضرار اجتماعية كبرى إن قلنا بأن حديث (لا ضرر) يشمل الضرر الاجتماعي وسوء الحال في المجتمع، وهو الظاهر.
محمد علي التسخيري(5/222)
مسألة تحديد النسل
إعداد
الدكتور محمد القري بن عيد
باحث بمركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبد العزيز
جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونصلي ونسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
تعد قضية السكان واحدة من أهم المشاكل التي تواجه الدول النامية بما فيها أكثر بلدان المسلمين، والثابت ضمن المعرفة الاقتصادية المتاحة أن المجتمع النامي يواجه خيارا صعبا بين تحسين مستوى معيشة أفراده وبين إطلاق العنان للتزايد في عدد سكانه؛ لأن أحدهما لابد أن يأتي على حساب الآخر.
ولذلك تضطر البلدان التي يحقق سكانها معدلات نمو عالية ويعجز اقتصادها عن تحقيق متوسطات نمو كافية لتحسين مستوى معيشة الجميع إلى محاولة الحد من التزايد السكاني.
ولكن ذلك يواجه من جهة أخرى برفض شعبي سببه الاعتقاد الجازم عند أفراد المجتمع الإسلامي أن سياسة تحديد النسل غير جائزة في الشريعة الإسلامية.
إن مجتمعات الإسلام اليوم تختلف عنها بالأمس، فالمصالح صارت متشابكة والحياة معقدة، وكل قرار فردي له آثار اجتماعية مباشرة وغير مباشرة، والحكومة وهي الجهاز الضخم الذي تمس قراراته وسياساته حياة كل الأفراد في يومهم وفي غدهم، أصبحت واقعا يحتاج من جميع الأفراد إلى التنازل عن جزء من حرياتهم لكي يعاد تسخيرها لمصلحة المجموع لتحقيق ما يسمى في القاموس السياسي (المصلحة العامة) .
المشكلة التي تواجهها مجتمعات الإسلام اليوم هي إعادة فهم الأحكام الفقهية لكي تأخذ باعتبارها هذا الواقع الجديد، وكل ما تحتويه كتب الفقه حول تحديد النسل إنما يتعلق بالفرد والأسرة، أما السياسة العامة التي تستهدف السيطرة على زيادة عدد السكان فهي أمر مستجد ليس له أصل يقاس عليه، فمرده والحال هذه الأصول العامة للشريعة.
وقرار الفرد والأسرة بتحديد النسل أمر له طبيعة مختلفة عن السياسة العامة، فالأول يتخذ الوسائل البيولوجية طريقا إلى منع النسل، أما الثاني فقد يتبنى أساليب كثيرة منها سياسية واقتصادية وإعلامية بالإضافة إلى الطرق المباشرة لمنع التناسل والأهداف التي يسعى الفرد للوصول إليها من تحديد نسله أهداف شخصية مباشرة.
أما الأهداف العامة فقد تتعلق بأمور بالغة الأهمية والخطورة تمس حياة المجتمع بمؤسساته ومعتقداته وأجياله الحالية والمستقبلية.
لذلك صار لزاما علينا اليوم أن ننظر إلى هذه المشكلة من أبعادها المستجدة.
ونسأل الله العلي القدير أن يهدينا إلى الصواب ...(5/223)
استعراض سريع للكتابات في هذا الموضوع:
تعالج أكثر الكتابات الإسلامية في موضوع السكان هذه القضية من زاوية واحدة هي ما يسمى بتحديد النسل، ويكاد يتفق أكثر من كتب في هذا الموضوع من منطلق فقهي على عدم جواز تبني الدولة الإسلامية سياسة عامة يمنع بموجبها الأفراد من إنجاب أكثر من عدد من الأطفال تحدده الحكومة، أو تكره فيها النساء - بقوة القانون - على تناول حبوب منع الحمل، أو تلقي الحقن أو إجراء العمليات الجراحية المؤدية لقطع النسل بصورة مؤقتة أو دائمة، ولكنهم يختلفون فيما دون ذلك، فيميل أكثرهم إلى إباحة التحديد إذا كان ضمن نطاق الأسرة وكان معتمدًا على حاجة حقيقية ورضا مشترك من الزوجين، والأدلة التي يعتمد عليها من كتب في هذا الموضوع كثيرة بعضها عقلي وبعضها نقلي، ومن النوع الأول القول بأن لأي برنامج لتحديد النسل آثارا إجتماعية واقتصادية سيئة، مثل قلة السكان وتدهور الأخلاق وانتشار الفواحش بالإضافة إلى الأضرار الصحية التي يتركها تناول المركبات الكيماوية المتضمنة في وسائل منع الحمل على جسد المرأة، وإلى مخالفة منع الحمل للفطرة الإنسانية السليمة. وسنعرض أدناه لأفكار ما أطلعنا عليه من فقهاء ومفكري الإسلام المعاصرين الذين كتبوا في هذا المجال.
يقدم المودودي في كتابه (حركة تحديد النسل) . (1) استعراضا مستفيضا للحركة المذكورة، تاريخها وأهدافها وتجارب الأمم المختلفة معها ونتائجها المحتملة على الفرد وعلى المجتمع. ثم يقوم بتفنيد أدلة القائلين بها، ويقدم أخيرا اقتراحه لحل مشكلة السكان المتمثل في دعوته إلى (أن يُبْذَلَ مَزِيدٌ من الجهود الفعالة الجديدة لزيادة وسائل المعيشة واكتشاف الموارد الجديدة للرزق) (2)
ويرى الشيخ أبو زهرة في كتابه (تنظيم الأسرة وتنظيم النسل) (3) أن حركة تحديد النسل هي (دعاية أمريكية إنجليزية صهيونية) (4) وأن (الأرض العربية بكر تحتاج إلى يد عاملة) (5) وكما أن (النسل في ذاته ثروة، وأن أعلى مصادر الثروة هو القوى البشرية. (6)
ويضيف آخرون أن الفكرة (أمريكية صهيونية استعمارية شيوعية إلحادية دخيلة علينا كمسلمين) (7) ... وهكذا.
إن ما يهمنا في هذا الاستعراض هي الأدلة الفقهية والأصول الشرعية للموقف المذكور من قضية السكان؛ لأن هذا هو المعيار الصحيح للحكم على الآراء المطروحة.
__________
(1) المودودي، أبو الأعلى، حركة تحديد النسل، بيروت، مؤسسة الرسالة 1402
(2) المرجع السابق ص 154
(3) أبو زهرة، الشيخ محمد تنظيم الأسرة وتنظيم النسل
(4) أبو زهرة، الشيخ محمد تنظيم الأسرة وتنظيم النسل ص 105
(5) أبو زهرة، الشيخ محمد تنظيم الأسرة وتنظيم النسل ص 104
(6) أبو زهرة، الشيخ محمد تنظيم الأسرة وتنظيم النسل ص 101
(7) علي موسى محمد تحديد النسل على ضوء الكتاب والسنة، بيروت، عالم الكتب 1405، ص 117(5/224)
1 - موقف الفقهاء المعاصرين من سياسة تحديد النسل والأصول الشرعية التي يستمد منها:
رغم أن أكثر الكتاب الذين عالجوا قضية السكان من منظور شرعي لم يقدم تعريفا محددا لما يسمى بتحديد النسل، لكن الذي يفهم من تلك الكتابات أنها تنظر إلى تحديد النسل بأنه سياسة تتبناها الحكومة يتم ضمنها منع الناس من الإنجاب أو منعهم من ذلك إلا بإذن الحكومة، أو تحديد حد أعلى لعدد الأطفال بهدف تقليل النسل (1) ، أو وقف النسل الإنساني عن النمو والزيادة بقوة القانون أو بالتأثير الإعلامي (2) . ويدخل في ذلك إقدام الأفراد بأنفسهم على الامتناع عن الإنجاب لأسباب اقتصادية كالخوف من الفقر ... إلخ.
والاتجاه العام لدى من تناولوا هذا الموضوع أنه لا يجوز تبني مثل تلك السياسة، واعتمدوا في ذلك على أدلة متعددة، منها عام يتعلق بالمقاصد الكلية للشريعة، ومنها خاص. وسوف نحاول أدناه معرفة ما إذا كان يستفاد من هذه الأدلة حكم شرعي على سبيل القطع في مسألة السكان.
أولًا: أدلة عامة:
استدل بعض من قال بعدم جواز تبني تلك السياسة بأدلة كلية وبديهيات معروفة وذلك لاستنتاج تناقض تلك السياسة مع المبادئ العامة للدين الإسلامي، من ذلك أن الإسلام دين الفطرة ولذلك فكل قوانينه موافقة للفطرة الإنسانية والتوالد والتناسل من مقتضيات الفطرة الإنسانية (3) . وأن قوانين الإسلام للحياة الاجتماعية والاقتصادية مع تعاليمه الخلقية وتربيته الروحانية قد محت كل سبب أو داعية من تلك الأسباب والدواعي التي لأجلها نشأت حركة تحديد النسل (4) . ومنها أن من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية إيجاد النسل وبقاء النوع الإنساني وحفظه. وقد روي عن الإمام أحمد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل (5) ، وأن (هذه هي النظرة العامة للشريعة بالنسبة للنسل وهي تدعو إلى الإكثار فالأحاديث النبوية تحث عليه والقرآن دستور الأمة يشير إليه وهو الفطرة وتحديده يناقضها) (6) . وأن الإسلام رغب في زيادة النسل وتكثير؛ لأن كثرة النسل تقوي الأمة الإسلامية اجتماعيا واقتصاديا وحربيا وتزيده عزة ومنعة (7) .
__________
(1) انظر الخطيب، أم كلثوم يحيى مصطفى، قضية تحديد النسل في الشريعة الإسلامية، جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، 1404هـ ص 53
(2) المودودي، مرجع سابق ص 3. وكذلك الطريقي، عبد الله بن عبد المحسن: تنظيم النسل وموقف الشريعة الإسلامية منه، الرياض، بدون ناشر، 1983 ص 288
(3) المودودي مرجع سابق ص 67
(4) المودودي مرجع سابق ص 69
(5) علي، موسى محمد، مرجع سابق ص 66، وهو ينقل هنا عن الشيخ حسن مأمون
(6) أبو زهرة، محمد مرجع سابق ص 96
(7) فتوى المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد في مايو 1965 عن مجلة منبر الإسلام عدد شعبان 1398 هـ يوليو 1978 م(5/225)
وكذلك (إن القرآن الكريم قد جاء في أحد مواضعه كقاعدة كلية أن ليس الإقدام على تغيير خلق الله إلا عمل من أعمال الشيطان {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] ، والمراد بتغيير خلق الله في هذه الآية أن يستعمل شيء لغير الغرض الذي خلقه الله لأجله) (1) فالغرض الأصلى من الزواج هو الاستبقاء على النوع البشري وإقامة الحياة المدنية (2) ، وأن الإسلام يدعو إلى القوة كما في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الآية، والقوة أول ما تكون بالعدد والقاعدة الأصولية أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (3) ، وأن (من نظر وينظر إلى ما نزل بنا من الحروب وسفك للدماء وطحن للعدة والعتاد، واستشهاد الكثير من الرجال والأبناء يعلم يقينا أننا في حاجة ضرورية لكثرة النسل والإنجاب) (4) .
أدلة خاصة:
سوف نورد أدناه أهم النصوص من الكتاب والسنة التي يستمد منها بعض الفقهاء ما يطلقونه من أحكام حول موضوع السكان.
أولًا: أدلة الكتاب:
قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] ، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] .
وقد استدل عدد من الكتاب بهاتين الآيتين الكريمتين على عدم جواز تحديد النسل؛ لأنهم قاسوا طرق منع الحمل ومنها العزل والإجهاض على قتل الأولاد (5) وأن كليهما يشترك في الباعث وهو الخوف من الفقر وانخفاض مستوى المعيشة.
__________
(1) المودودي، أبو الأعلى مرجع سابق ص 70
(2) المودودي مرجع سابق ص 71
(3) البنا، الإمام حسن تحديد النسل، جدة، مكتبة المنهل 1405، ص 29
(4) علي موسى محمد مرجع سابق ص 108
(5) انظر مثلًا: الخطيب، أم كلثوم مرجع سابق ص 97 – 104 علي، موسى محمد مرجع سابق 98 أبو زهرة، محمد مرجع سابق ص 96، المودودي، أبي الأعلى مرجع سابق ص 170(5/226)
ثانيا: الأدلة من السنة المطهرة:
أ - أحاديث التكاثر:
يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث تفيد الحث على التكاثر أصحها (1) : ((عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنى أحببت امرأة ذات حسب ومنصب ومال إلا أنها لا تلد أفأتزوجها؟ فنهاه ثم أتاه الثانية، فقال له مثل ذلك، ثم أتاه الثالثة فقال له ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم..)) )) رواه أبو داود والنسائي والحاكم. وأخرج الإمام أحمد في المسند عن أنس رضي الله عنه ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) .
ب - أحاديث النهي عن العزل:
وردت عدة أحاديث بحرمة العزل وبأنه الموءودة الصغرى وأخرى بإباحته، وقد أخذ بها فريق من العلماء حكموا بحرمته مطلقا، وقال بعضهم غير ذلك. من هذا: عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم سألوا عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ذلك الوأد الخفي)) ، وعن أبي هريرة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها. أخرجه أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري.
أخرج البيهقي في السنن الكبرى في كتاب النكاح باب العزل ... أنهم أصابوا سبايا، فأرادوا أن يستمتعوا بهن ولا يحملن، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال ((ما عليكم، فإن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة)) وبزيادة ((ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها)) (2) .
وعن جابر قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لى جارية وهي خادمتنا وسانيتنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل، قال: ((اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها)) أخرجه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده.
وعن جابر رضي الله عنه ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) وهو حديث متفق عليه، وفى رواية مسلم زيادة ((فبلغه فلم ينهنا عنه)) (3) .
ولذلك فقد اعتد بعضهم بالحديث الأول وغيره بنفس معناه فقال بعدم جواز العزل وقاس عليه منع الحمل وتحديد النسل (4)
__________
(1) ومنها ضعيف مثل " انكحوا فإني مكاثر بكم " متفق على تضعيفه، " انكحوا أمهات الأولاد، فإني أباهي بكم يوم القيامة " فيه ضعف وكذلك " سوداء ولود خير من حسناء لا تلد، وإني مكاثر بكم الأمم ... " ضعيف انظر تعليق الشيخ محمد عفيفي على كتاب تحديد النسل للإمام حسن البنا، مرجع سابق، ص 30 – 32
(2) وعن أبي سعيد الخدري قال: أوقفت جارية لي أبيعها في سوق بني قينقاع فجاءني رجل من اليهود فقال: يا أبا سعيد ما هذه الجارية؟ فقلت: جارية لي أبيعها قال: فعلك أن تبيعها وفي بطنها سخلة، قلت: إني كنت أعزل عنها قال: فإن تلك الموءودة الصغرى، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: " كذبت يهود ولا عليكم أن تفعلوا " وفي رواية: " لو أراد الله خلقه لم يستطع رده " أخرجه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده
(3) أبو زهرة، محمد مرجع سابق ص 97
(4) انظر مثلا: علي، موسى محمد مرجع سابق ص 104(5/227)
ونفي القياس عن الحديثين الأخيرين؛ لأنه يستعمل اليوم من الوسائل ما يمنع الحمل مطلقا مثل التعقيم واستئصال الرحم (1) ولأنه ليس لموضوع العزل صلة بتحديد النسل (2) ومنهم من اكتفى بالقول بالكراهة وأنه عبث لأن الله عز وجل خالق ما يشاء (3) . ومنهم من قال بجوازه كاستثناء في حدود الضرورة كرخصة خاصة وأن القاعدة العامة هي حرمة العزل (4) . وأن الرخصة خاصة بصاحب الضرر، ولا يباح كقاعدة عامة، ومنهم من حاول التوفيق بين الأحاديث بالقول بنسخ بعضها أو وجود قوة في إسناد بعضها وضعف في أخرى، وهذا تفصيل كثير ليس هذا مجال تقصيه. إلا أن منهم أيضا من قال بإباحة العزل مطلقا وجواز أن يقاس عليه موانع الحمل المعروفة اليوم وأن تكون أساسا لسياسة عامة لتحديد النسل (5) .
جـ - الحث على الزواج:
الزواج سنة، حث رسولنا الكريم عليه ورغب فيه وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها ما رواه عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) . وعن عبد الله بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح)) أخرجه البيهقي. ونهى عليه الصلاة والسلام عن التبتل، وأن يخصى أحد من ابن آدم (6) . وحث عليه السلام على اختيار المرأة الولود.
وقد عد أكثر الكتاب ذلك دليلا على ضرورة تكثير عدد السكان بزيادة النسل؛ لأن (منع النسل أو تحديده من الأعمال التي تنافي مقاصد النكاح) (7) . (والإنسان مطالب بأن يتزوج وينجب ذرية؛ لأن الإسلام (يرغب) في تكاثر الأعداد البشرية عن طريق الزواج) (8) ... إلخ. وفى ما قيل عن الزواج تفصيل يكفي قليله عن كثيره.
__________
(1) أحمد، عبد الرحمن يسري، ص 194
(2) من كلام الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر سابقًا انظر، الخطيب، أم كلثوم، مرجع سابق ص 19
(3) مثل المودودي، أبو الأعلى، مرجع سابق ص 142
(4) أبو زهرة، محمد، مرجع سابق ص 98، ص 100
(5) الخولي، البهي 241 – 244. الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة، بيروت، دار القرآن الكريم والاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية 1980
(6) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نغزوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء فقلنا ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب ... الحديث.
(7) الشيخ حسن مأمون، انظر علي، موسى محمد، مرجع سابق ص 66
(8) أحمد، عبد الرحمن يسري، مرجع سابق ص 143(5/228)
2 - تحديد النسل والحد من الزيادة في عدد السكان:
يمكن النظر إلى موضوع تحديد النسل على مستويين، الأول فردي محدود بالأسرة والثاني اجتماعي وهو المتعلق بالسياسة العامة للدولة تجاه قضية السكان ومحاولة السيطرة على معدل تزايده، والمسألة الشائكة التي تحتاج إلى نظر وإلى تحرير هي المتعلقة بالمستوى الثاني؛ لأنها مشكلة تمس في زمننا الحاضر مجتمعات كثيرة في بلاد الإسلام وتواجه حكومات متعددة. وسوف نحاول أدناه استجماع الآراء المتعددة في موضوع تحديد النسل وخلافه للوصول إلى موقف محدد في المسألة السكانية بشكل عام.
أ - الأرجح أنه لا يجوز إصدار القوانين التي تحدد عدد الأطفال بالنسبة لكل أسرة، كأن يقال مثلا: إنه لا يجوز للزوجين إنجاب أكثر من ثلاثة أطفال، أو نحو ذلك، كما لا يجوز إرغام النساء بقوة القانون على تناول المواد الكيماوية أو خلافها التي تمنع القدرة على الإنجاب بصفة دائمة أو مؤقتة، ولا استئصال الرحم أو تعقيم الرجال بالقوة، ولا الدعوة إعلاميا إلى قطع النسل؛ لأن ذلك كله يتنافى مع مبدأ الحرية الذي قرره الإسلام للفرد في مجتمعه المسلم وتتناقض مع الفطرة فهي إذن تتناقض مع الإسلام؛ لأنه دين الفطرة.. والأدلة على ذلك كثيرة.
ب - لا يجوز تحريم الزواج، ولا وضع العراقيل القانونية أو الإدارية التي تحول بين الشباب والزواج ما دام أنه يتم ضمن القواعد المعتبرة شرعا؛ لأن الزواج مباح في الإسلام وهذه من الأمور المعروفة من الدين بالضرورة؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم حث على الزواج ورغب فيه ووصفه عليه الصلاة والسلام بأنه من سنته ومن رغب عن سنته فليس منه.
كما لا يجوز منع تعدد الزوجات؛ لأن هذا أمر مباح بنص الكتاب، وكل أمر خالف نصا قطعيا في الشريعة فهو مردود على صاحبه، فلا يجوز عصيانه فقط بل يجب محاربته؛ لأنه يكون مشرعا في الدين ما لم يأذن به الله، والتعدد مسموح به ضمن شروط أهما العدل والاقتدار على النفقة.(5/229)
جـ - يجوز للزوجين باختيارهما استعمال موانع الحمل لأي سبب، كأن تكون الزوجة مريضة أو ضعيفة أو موصولة الحمل. أو أن يكون الرجل فقيرًا (بل إن بعض العلماء يرون أن التحديد في هذه الحالات لا يكون مباحا فقط بل مندوبا إليه) (1) ، وكذلك الخوف من كثرة الحرج بسبب تعدد الأولاد؛ لأن قلة الحرج معين على الدين (2) ، وقد ذكر بعض العلماء أن العزل لمجرد الرغبة في استبقاء جمال المرأة وسمنها لدوام التمتع بها، ليس منهيا عنه (3)
وقد اعتقد بعض العلماء أن جواز استخدام وسائل منع الحمل (ومنها العزل) لا يجوز إذا كان ذلك خشية الفقر أو خوفا من زيادة تكاليف العيش؛ لأنه يخالف - في رأيهم - نص الآية الكريمة {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] . (4) والحق أن ذلك قياس مع الفارق فالآية الكريمة تشير إلى قتل الأولاد، واستخدام موانع الحمل ليس فيه قتل لولد؛ لأنه تترتب على القتل أحكام كثيرة لم يقل أحد بأنها تترتب على العزل، ولو كان في العزل قتل لكان كل بالغ غير متزوج قاتلا لأولاده لأن شهوته قد تذهب بغير إنجاب (5) وهذا ما لم يقل به أحد وهو مخالف للمنطق السليم، وقد ذكر الغزالي أن القتل جناية على موجود حاصل، أما العزل فهو غير ذلك (6) ولا نرجح أن يكون الإذن بالعزل رخصة؛ لأن الرخصة لا تكون إلا من عزيمة والعزيمة لا تكون إلا بنص.
د - ولكن المهم في الأمر أنه لا يوجد دليل قطعي يقول بضرورة العمل على زيادة عدد السكان، ولذلك لا يوجد سند مقبول للقول أن العمل على زيادة عدد السكان أمر مطلوب شرعا بشكل مطلق، أو أن ذلك أحد مقاصد الشريعة فعلى المستوى الفردي لا يوجد نص قطعي يلزم المسلم بضرورة استخدام كل قدراته التناسلية لإنجاب الأطفال، صحيح أن الإسلام ينهى عن التبتل وعن قطع النسل ويحث على الزواج ولكن هذه كلها غير كافية لاستنتاج أن الإسلام يدعو إلى ضرورة أن يحاول كل مسلم إنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال بل الدليل على عكس ذلك، للأسباب التالية:
__________
(1) عيد، مصطفى محمد سعيد، الإعلام الإسلامي ودوره في إبطال الدعاية لتحديد النسل رسالة لنيل درجة الماجستير (غير منشورة) من المعهد العالي للدعوة الإسلامية، جامعة الإمام محمد بن سعود الرياض 1402، ص 104 وهو ينقل رأيًا للشيخ سيد سابق
(2) عيد، مصطفى محمد سعيد، الإعلام الإسلامي ودوره في إبطال الدعاية لتحديد النسل رسالة لنيل درجة الماجستير (غير منشورة) من المعهد العالي للدعوة الإسلامية، جامعة الإمام محمد بن سعود الرياض 1402، ص 25
(3) أبو عبيد، العيد خليل " منع الحمل بالتعقيم بالوسائل المؤقتة في الفقه الإسلامي " وهو ينقل هنا عن أبي حامد الغزالي، مجلة دراسات مجلد 14 عدد 7 ذو القعدة 1407 ص 199
(4) انظر على سبيل المثال علي، موسى محمد، مرجع سابق ص 98
(5) وليس المقصود هنا بالطرق غير المشروعة بل بردود الفعل الجسدية الطبيعية والمعروفة لتراكم الشهوة في الجسد
(6) الغزالي، أبو حامد، إحياء، علوم الدين، بيروت، ج 2 ص 65(5/230)
1 - إن الإنجاب لا يتأتى في مجتمع الإسلام إلا عن طريق النكاح الشرعي، والنكاح تسري عليه الأحكام الخمسة، الوجوب والحرمة، والكراهة، والندب والإباحة، والشروط التي يكون فيها الزواج فرضا تجعل هذه الحالة هي الشذوذ لا القاعدة العامة، فلا يكون الزواج كذلك عند الحنفية إلا أن يتيقن الشخص الوقوع في الزنا إذا لم يتزوج (ولا يكفي مجرد الخوف من الوقوع في الزنا) ، وأن لا تكون له قدرة على الصيام الذي يكفه عن الوقوع في الزنا، وألا يكون قادرا على اتخاذ أمة يستغني بها وأن يكون قادرا على المهر والإنفاق من كسب حلال لا جور فيه، فإن لم يكن قادرا لا يفرض عليه الزواج حتى لا يدفع محرما بمحرم. والمذاهب الثلاثة الأخرى قريبة من ذلك (1) ، بل إن الشافعية قد قالوا: (إذا كان قادرا على مؤونة النكاح وليست به علة تمنعه من قربان الزوجة - فإن كان متعبدا - كان الأفضل له أن لا يتزوج كيلا يقطعه النكاح عن العبادة التي اعتادها (2)
والمقصود الأصلي من الزواج ليس الإنجاب وإنما أن تكون المرأة سكنا للرجل ويكون الرجل سكنا لها، كما قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] .
ولذلك فقد أفتى بعض العلماء بأنه لا يجوز إجراء الكشف قبل الزواج للاطمئنان على قدرة الزوجين على الإنجاب (3) ؛ لأن ذلك مخالف للغرض الإسلامي من الزواج وهو أن يسكن الرجل إلى المرأة وتسكن إليه ويكون بينهما مودة ورحمة.
2 - لا يكون التحريم إلا بنص أو قياس على منصوص، والقول بتحريم الحد من زيادة السكان ليس منصوصا عليه وليس له أصل واحد يقاس عليه، بل الأصل الذي يمكن أن يقاس عليه هو النكاح، والقياس على هذا الأصل يقول بالإباحة لا بالتحريم. فإذا جاز ترك النكاح وهو الأصل ألا يجوز ترك الإنجاب وهو النتيجة؟ وكما لا يجوز تحريم الزواج بتشريع لا يجوز تحريم الإنجاب بتشريع.
3 - لم يبح الإسلام الزواج إلا لمن كان قادرا على نفقاته والقيام بواجباته من رعاية للزوجة والإنفاق عليها.. إلخ. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أن (استطاعة النكاح هي القدرة على المؤونة وليس القدرة على الوطء فإن الحديث إنما هو خطاب للقادر على فعل الوطء ولهذا أمر من لم يستطع الباءة بالصوم فإنه له وجاء) (4) . فالقدرة الاقتصادية لازمة التوفر حتى تكون مؤسسة الزواج ذات جدوى وثمرة مفيدة للفرد والمجتمع.
__________
(1) انظر الجزيري، عبد الرحمن، الفقه على المذاهب الأربعة ج 4 ص 4 – 11
(2) الجزيري مرجع سابق ج 4 ص 7
(3) من فتوى للشيخ إسماعيل الدفتار الأستاذ بجامعة الأزهر منشورة في العدد 147 من مجلة المسلمون بتاريخ 6 / 4 / 1408 الموافق 27 / 11 / 1987 ص 4
(4) ابن تيمية، أحمد، مختصر الفتاوى المصرية، القاهرة، مطبعة المدني، سنة 1400 ص 415(5/231)
يقول عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية [النور: 33] فالقدرة إذن شرط في النكاح. وإذا لم يكن الفرد قادرا على الكسب بما يسد تلك النفقة إلا من حرام فإن الزواج يكون حراما عليه (1) ، وإذا أعسر الزوج بعد الزواج، وفقد القدرة على الإنفاق جاز للزوجة أن تتقدم للقاضي بطلب الطلاق (2) .
والزواج مندوب لمن كان قادرا على مؤنته حتى لو لم يخش على نفسه الزنا ولم يكن له أمل في النسل (3) وهذا يعطينا صورة عن أهمية القدرة الاقتصادية في الزواج فالقدرة على الإنفاق أرجح من الأمل في النسل؛ لأن غير القادر على الإنفاق لا يتزوج حتى لو قدر على الوطء والإنجاب، والقادر على الإنفاق يتزوج حتى لو لم يكن له أمل في النسل.
ولا تقتصر المسئولية الملقاة على الأب تجاه أطفاله على رعايتهم وتحري ما فيه خيرهم ورغدهم في حياته بل تتعدى ذلك إلى ضرورة الحرص على أن يترك لهم ما يغنيهم بعد وفاته فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم ... الحديث)) .
4 - إن تعدد الزوجات مباح فقط، (أي ليس مندوبا إليه مثلا) ، وحتى تلك الإباحة مقيدة بشرط القدرة على العدل بين النساء كما قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} الآية [النساء: 3] ولو كان تكثير السكان هدفا إسلاميا عامًّا يكتسب أولوية لقامت الشريعة على ندب التعدد، وربما يكون تحديد الزوجات بأربع وجعل ذلك التعدد مباحا فقط مؤشرا على أن الإسلام لا يهدف إلى التكاثر لمجرد العدد، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث في قوم كانوا يبيحون التعدد حتى عشرين زوجة وكانوا يبيحون تعدد الأزواج، فجاء بتحديد الزوجات بأربع واشترط العدل بينهن وهو إجراء يؤدي إلى تقليل النسل مقارنة بالوضع السابق.
__________
(1) الجزيري، مرجع سابق ج 4 ص 6
(2) العيلي، د. عبد الحميد حسن، الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام، القاهرة دار الفكر العربي 1983 ص 307
(3) الجزيري، مرجع سابق ج 4 ص 5 وهذا رأي المالكية(5/232)
هـ - لقد أمر الله عز وجل النساء بإرضاع أطفالهن حولين كاملين كما قال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} الآية [لقمان: 14] . ومن المعروف أن احتمال الحمل بالنسبة للمرأة المرضعة هو أقل ما يكون أثناء الإرضاع ولذلك فإن استمرار إدرارها للحليب لطفلها هو أحد موانع الحمل الطبيعية، فالإرضاع لمدة سنتين ليس فيه مصلحة للطفل فقط بل وللأم كذلك؛ لأن فيه تنظيما لعملية الحمل بالمباعدة بين حمل وآخر (Spacing) . وهذا مؤشر لمعدل الخصوبة في المجتمع الإسلامى، وقد استعملت المجتمعات القديمة طريقة تمديد فترة الإرضاع كوسيلة لخفض معدل الحمل (1) ، فلو كان تكثير النسل يكتسب تلك الأولوية التي يدعيها البعض لقصرت فترة الإرضاع لزيادة معدل الخصوبة.
و كما رأينا سابقا فإن النصوص التي يمكن أن يقاس عليها حكمنا على موضوع الحد من تزايد السكان هي الأحاديث المتعلقة بالعزل، والأحاديث التي تحث على التكاثر.
أما الأولى فقد رأينا أن في روايتها بعض التناقض، وأن الراجح لدى جمهور العلماء، والله أعلم، هو الإباحة، ومن قال بذلك كثير، منهم عشرة من كبار الصحابة (هم علي وسعد وأبو أيوب وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس والحسن بن علي وخباب وأبو سعيد الخدري وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين) (2) ، وكثير من التابعين ومنهم العلماء في كل عصر. لذلك فلا يمكن القول أنها تصلح حجة أو دليلا على ضرورة تكثير عدد السكان.
ونريد الآن أن نناقش حديث، أو أحاديث التكاثر، يرى البعض أنه يمكن أن يستفاد من تلك الأحاديث حكم شرعي يقول بضرورة زيادة عدد السكان أو - على الأقل - إطلاق حجم السكان وتركه يتزايد بشكل غير مقيد، ونحن نرى غير ذلك. فالراجح - والله أعلم - أن تلك الأحاديث لا يستفاد منها حكم شرعي على سبيل القطع يقول بضرورة ما ألمحنا إليه أعلاه.
وللحديث رواية صحيحة مشهورة هي ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى أصبت امرأة ذات حسب وجمال وأنها لا تلد أفأتزوجها قال: " لا "، ثم أتاه الثانية فنهاه ثم أتاه الثالثة فقال: " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ")) أخرجه النسائي في المجتبى والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى، وأخرجه ابن حبان من حديث أنس ((فإني مكاثر بكم يوم القيامة)) ، وأخرجه ابن ماجه بلفظ ((انكحوا فإني مكاثر بكم)) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
__________
(1) تومسون، وارين س، وداند ت. لويس: مشكلات السكان، ترجمة راشد البرادي، القاهرة، مؤسسة فرانكلين 1969 ص 818
(2) ابن القيم، زاد المعاد ج 4 ص 31(5/233)
وفى رأينا - والله أعلم - أن الدليل المتضمن في هذا الحديث يتعلق بالنهي عن قطع النسل وليس فيه دعوة إلى العمل على زيادة عدد السكان لمجرد التزايد، والقرائن التالية تدل - إن شاء الله - على صحة ما نرمي إليه:
1 - يروى الحديث كرد من الرسول صلى الله عليه وسلم على من سأله عن رغبته في زواج الجميلة التي لا تلد، وهذا مهم لفهمنا للمعنى المتضمن في هذا الحديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهاه عن قطع نسله بالزواج من العقيم، وهذا هو المعنى الذي فهمه أكثر رواة الحديث ولذلك نجد أن النسائي رحمه الله قد أدرجه في باب ((كراهية تزويج العقيم)) ، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في باب ((النهي في تزويج من لم تلد من النساء)) ، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده في باب ((صفة المرأة التي يستحب خطبتها)) ، فالواضح أن المعنى في الحديث لا ينصرف للدعوة إلى تكثير السكان، وإنما إلى النهي عن قطع النسل.
2 - والراجح أن هذا كان فهم الصحابة رضوان الله عليهم للحديث. إذ لو أنهم فهموا منه الدعوة إلى تكثير السكان لمجرد العدد وأن على ولي الأمر مسئولية فعل ذلك، لكان الخلفاء منهم رضي الله عنهم قد اتخذوا خطوات عملية بهذا الصدد مثل الحث على زيادة الأولاد أو دفع المكافآت لهذا العمل أو الدعوة إلى تعدد الزوجات ... إلخ. ولكننا لا نعرف في السياسات التي اتبعها الخلفاء الراشدون ومن جاء بعدهم في عهود التابعين ما يدل على أن على ولي الأمر أن يعمل على زيادة عدد السكان بالتوالد.
3 - إن كلمة (الولود) معناها الوالدة، كما قال الأعرابى للجاحظ في القصة المشهورة (كل أذون ولود وكل صموخ بيوض) فجعل الولود أي التي لا تبيض وإنما تحمل وتلد (1) . والولود تعني أيضا كثيرة الولد.
والذين يدعون إلى ضرورة زيادة عدد السكان لمجرد التكاثر يصرفون معنى الولود في الحديث إلى كثيرة الولد، والأرجح أن المعنى إنما ينصرف إلى عكس العقيم، أي المرأة التي تحمل وتلد لأن سؤال الصحابي كان عن العقيم، ومن ثم لا يكون معنى الحديث الطلب إلى المسلم أن يستغل كل طاقاته التناسلية في إنجاب الأطفال بل مجرد النهي عن قطع النسل.
__________
(1) انظر في ذلك معجم محيط المحيط لبطرس البستاني، بيروت، مكتبة لبنان 1983 ص 984 مادة ولد، ومعاجم اللغة جميعها تورد لكلمة ولد معنيين، الأول الوالدة والثاني كثيرة الولد(5/234)
4 - وكلمة التكاثر الواردة في الحديث الشريف تحتاج إلى وقفة. فالتكاثر بمعنى التزايد يحصل بمجرد عدم قطع النسل، فالزوجان إذا أنجبا طفلا واحدا فقد تكاثرا، ولا يعني ضرورة إنجاب أكبر قدر ممكن من الأطفال، فالمقصود يتحقق بإنجاب ولد واحد.
ويعني التكاثر أيضا (التفاخر) ، أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم علل دعوته أمته إلى التوالد برغبته صلى الله عليه وسلم بأن يكاثر بها (أي يفاخر) الأمم يوم القيامة، ولكن لا يتصور أن يكون التفاخر بمجرد العدد؛ وذلك لأن الإسلام عقيدة ودين وليس دعوة عصبية، الانتساب إليها مرجعه اتصال الدم والنسب البيولوجي، ولذلك فإن مصدر الفخر للأمة الإسلامية هو المسلم القوي العامل المتعلم الذي اعتنى أبواه بتنشئته وتربيته ووفر له مجتمعه التعليم والثقافة العالية، وقوة الأمة الإسلامية - لو استعرضنا تاريخنا الإسلامي منذ البعثة - لم يكن مصدرها المعدل العالي للولادات، ولكنه بلا شك دخول أكثر أمم الأرض إلى الإسلام في عهد الفتوحات الإسلامية، والدعوة إلى دين الإسلام سوف تظل المصدر الأول للقوة الإسلامية، فالحديث الشريف رغم أنه قطعي في إسناده لكنه ظني الدلالة إلى المعنى المذكور وهو ضرورة زيادة عدد السكان.
5 - وقد يبدو اليوم مستغربا أن يكون الحث على عدم قطع النسل بهذه الأهمية، ولكن الاستغراب سرعان ما يتبدد عندما نعرف أمرين مهمين، الأول: أن قطع النسل كان أمرا معروفا في المجتمعات القديمة حيث كانت تنتشر بعض النحل والملل والمذاهب التي تدعو إلى التبتل وعدم الزواج بل وقطع الشهوة بالاختصاء للرجال، ولذلك جاء دين الإسلام ناهيا عن هذه الأمور، والثاني: أن المجتمع الإسلامي في تلك الفترة كان يمر بالمرحلة الأولى من مراحل التحول الديموغرافي حيث يحقق معدلا عاليا من الوفيات ومن المواليد. وقد قرر علماء السكان أن التوازن كان دقيقا بين المعدلين بحيث أن زيادة معدل الوفيات على المواليد يؤدي إلى اندثار المجتمع برمته. ولهذا كان على مجتمع الإسلام أن يتأكد من عدم حدوث ذلك بالتوالد، ولا ندعي بأن ذلك كان سبب حث الرسول صلى الله عليه وسلم على التكاثر، لكننا نرجح أن مجتمع الإسلام في عصر النبوة يواجه مشكلة محددة هي ضرورة تحقيق التوازن بين الوفيات والمواليد وعدم السماح للأولى بتخطي الثانية.(5/235)
من هذا كله نخلص إلى النتائج التالية:
أولًا: لا يوجد في الكتاب الكريم ولا في السنة النبوية الصحيحة نص يتضمن حكما قطعيا في موضوع السكان، ولذلك لا يمكن لنا أن نقول مطلقا: إن على الدولة الإسلامية أن تعمل على زيادة عدد سكانها، أو أنه لا يجوز لها أن تعمل على الحد من التزايد بالطرق الشرعية المباحة، ولقد ذكر الفقهاء بأن الأمور التي لا يوجد فيها نص من كتاب أو سنة ولا تسعف مصادر التشريع الأخرى في الوصول إلى ذلك الحكم فإن مرجعها إلى أصل الشريعة وهو تحقيق المصلحة.
ثانيًا: أن الأمر، والحال هذه، راجع إلى المصلحة، فإذا كان للمجتمع الإسلامي مصلحة راجحة في زيادة السكان أضحى على ولي الأمر أن يعمل على تحقيق ذلك، وإذا كان لذلك المجتمع مصلحة راجحة في الحد من الزيادة، صار لزاما عليه أن يتبع من السياسات المباحة شرعا ما يؤدي الهدف المقصود.
قال ابن تيمية رحمه الله:
(إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء هل هو على الإباحة أو التحريم، فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته بل يقطع أن الشرع يحرمه لا سيما إذا كان مفضيا إلى ما يبغضه الله ورسوله) (1) .
ولذلك فإن السياسة السكانية المناسبة للدولة الإسلامية هي تلك التي تستمد أصولها من نظرية المصلحة العامة في الفقه الإسلامى.
ثالثًا: إن التزايد السكاني في أي قطر معتمد على متغيرات كثيرة معقدة ومتشابكة، وفى كثير من الأحيان تؤدي السياسات الحكومية الخاصة بتوزيع الدخل وتقديم الخدمات العامة إلى إحداث تسارع في معدل الزيادة السكانية بدون أن تكون تلك الزيادة هدفا مقصودا لهاتيك السياسات، وبما أن من الثابت (ضمن المعرفة الاقتصادية) ارتباط معدل الزيادة في عدد السكان بمتغيرات إقتصادية قابلة للتأثر بالسياسات المذكورة، صار يمكن للحكومة الإسلامية أن تتبنى سياسة تستهدف الحد من تزايد السكان بدون أن تلجأ (بالضرورة) إلى تحديد النسل، ومن المهم إذا الإتفاق على أنه لا يوجد في أصول الشريعة ما يلزم الحكومة بالضرورة بزيادة عدد السكان، ومن ثم يمكن لها أن تجعل آثار السياسات المختلفة على معدل النمو السكاني أحد الاعتبارات المهمة التي يعول عليها في اختيار السياسة المناسبة.
محمد القري بن عيد
__________
(1) ذكره حسين حامد حسان في كتاب " المصلحة "، ص 472(5/236)
تحديد النسل وتنظيمه
إعداد
الدكتور مصطفى كمال التارزي
أستاذ بالجامعة الزيتونية
بسم الله الرحمن الرحيم
إن مسألة تنظيم النسل أو تحديده قضية إنسانية شغلت الناس وخصوصا المفكرين قديما وحديثا، وكانت موضع خلاف بينهم شأنها شأن كل قضية يتغير الحكم فيها بما يكتنفها من اعتبارات وما يرجح في نظر الباحث من مصلحة أو مفسدة، قد يوجبها وضع ما، أو اعتبار معين.
وتنظيم النسل أو ضبط النسل أو تحديد النسل أو التحكم في النسل أو تنظيم الولادية عبارات حديثة، حلت محل كلمة العزل المعروفة عند العرب وعند الفقهاء خاصة في القديم، وهي كلها تتعلق بمعنى واحد وتؤول إلى نتيجة واحدة هي تحديد النسل، وإنما استبدلوا أخيرا كلمة التحديد بالتنظيم ليخففوا من وقع معنى التحديد في نفوس الذين رفضوا التحكم في عملية الإنجاب.
وسواء قلنا التحديد أو التنظيم، فالسؤال المطروح هو: هل يجوز منع الحمل في حالات خاصة كالمرض؟ وهل يجوز منعه في حالات عامة كما إذا عجزت موارد الدولة عن ضمان ضروريات الشعب أمام تزايد عدد السكان؟
إن الشريعة الإسلامية التي قامت على رفع الحرج والتيسير وجلب المصالح ودرء المفاسد، هي أجدر الشرائع تفهما لهذه المشاكل الاجتماعية، وإيجاد الحلول التي تتحقق بها المصلحة وتبعد عن المجتمع ما يوقعه في الحرج والمفسدة.
ويستطيع الباحث أن يجد في بطون الكتب الفقهية القديمة منها والحديثة مادة غزيرة واسعة حول هذه المسألة، سواء فيما يتعلق بالحالات الخاصة أو الحالات العامة.
لقد دعا الإسلام إلى النكاح وحث عليه واعتبره طريقا لتحصيل العفة مع تحقيق النسل وبقاء النوع البشري.
والمتأمل في كتاب الله عز وجل يدرك من سياق الآيات التي يقترن فيها ذكر الزواج بالنسل صراحة أو كناية أن النسل هدف من أهداف الحياة الزوجية، ومقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية حرصت على المحافظة عليه.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} (1) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (2) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 54
(2) سورة النساء الآية 1(5/237)
فهذه الآيات مقترن فيها ذكر الزواج بالنسل، صراحة أو كناية وهذا يوحي بأن النسل كما قلنا غرض أساسي، والاستكثار منه من مقاصد الشريعة.
ومما يؤكد هذا المعنى ويدعو لكثرة النسل أيضا ما روي عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم - وقيل: الأنبياء - يوم القيامة)) (1) .
وما روي عن معقل بن يسار، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال " لا ". ثم أتاه الثانية فنهاه. ثم أتاه الثالثة فقال: " تزوجوا الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ")) (2) . كما رويت أحاديث كثيرة بينت أن المقصد الأول من الزواج هو النسل.
فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لحصير في ناحية البيت خير من امرأة لا تلد)) . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((النساء تنكح للولد)) .
وبهذا نعلم أن الإكثار من النسل مطلوب في ذاته ويتماشى مع الفطرة السليمة والطبيعة الإنسانية، ومنع النسل أو تحديده بدون ضرورة ماسة وقوف أمام الفطرة، والإسلام دين الفطرة كما قال تعالى في كتابه العزيز: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (3) .
فهل لأحد فردا كان أو جماعة أن يقف أمام هذه السنة الحياتية؟
يظهر أن موضوع معرفة حكم الله في العزل أو تنظيم النسل مرتبط ارتباطا كبيرا بمعرفة من له حق الولد عند فقهاء الشريعة الإسلامية ولهم في ذلك أقوال ثلاثة:
__________
(1) مسند الإمام أحمد
(2) أبو داود والنسائي
(3) سورة الروم الآية 30(5/238)
القول الأول: يرى أن الولد حق للوالد وحده فهو الذي يختار الإنجاب أو عدمه وبموجب هذا الاختيار يكون امتناعه عن إنجاب الولد مباحا لا كراهة فيه؛ لأن النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص ولا نص في الموضوع فترك التلقيح بعد المخالطة مباح ليس فيه إلا مخالفة الأفضل.
ومن القائلين بهذا الرأي الإمام الغزالي ولذلك فهو لا يتقيد بضرر موجب للعزل؛ لأن بواعث العزل كلها مباحة ما لم يكن منصوصا على كراهته كالخوف من ولادة الإناث فإنه مكروه بالنص. ومثل الغزالي لبواعث العزل المباحة:
1 - باستبقاء جمال المرأة ونضرتها.
2 - الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد.
القول الثاني: يرى أن الولد حق للزوج والزوجة وهو مذهب الحنفية الذي يقرر أن العزل مباح بشرط أن تأذن فيه الزوجة؛ لأن الإنزال في داخل الفرج من حقها فهما يشتركان في حق الولد.
قال المرغياني صاحب كتاب الهداية (1) : (ويشترط في العزل عن الزوجة الحرة إذنها إذ العزل ينقص من حقها كما أن تحصيل الولد من حقها) .
وقال ابن عابدين (2) . في حاشية رد المحتار (ويعزل عن الحرة بإذنها) .
قال الكمال بن الهمام: إن خاف من الولد السوء في الحرة يسعه العزل بغير رضاها لفساد الزمان فليعتبر مثله من الأعذار مسقطا لإذنها، ويقول الكاساني في البدائع (3) : (ويكره للزوج أن يعزل عن امرأته الحرة بغير رضاها؛ لأن الوطء عن إنزال سبب لحصول الولد ولها في الولد حق وبالعزل يفوت الولد فكان سببا لفوات حقها. وإن كان العزل برضاها لا يكره؛ لأنها رضيت بفوات حقها) .
وجاء في كتاب منتهى الإرادات لابن النجار الحنبلي (4) . (ويحرم وطء في حيض وكذا عزل بلا إذن حرة فالتحريم منصب على حالة العزل دون رضاء الزوجة) .
وينص الدسوقي في حاشيته على الدردير، وهو مالكي، على جواز العزل ليمنع الحمل واشترطوا إذن الزوجة بذلك صغيرة كانت أو كبيرة.
__________
(1) الهداية ج 2 ص 494
(2) ابن عابدين الجزء الثاني صفحة 379
(3) بدائع الصنائع ج 2 ص 334
(4) الجزء الثاني ص 227، 228(5/239)
القول الثالث: هو رأي جمهور من العلماء يرى أن منع الولد مكروه كراهة تحريم لحق الأمة فيه ولحق الزوجين إذ العزل يخالف المصلحة العامة وهي حفظ النسل الذي هو أحد الضروريات الخمسة التي قام عليها التشريع الإسلامي، كما يعارض رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى استكثار النسل في قوله ((تناكحوا تناسلوا تكثروا)) .
ولهذا قال ابن قدامة (1) . في المغني: والعزل مكروه رويت كراهته عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وروي ذلك عن أبي بكر الصديق أيضا؛ لأن فيه تقليل النسل وقطع اللذة عن الموطوءة.
ثم قال في الشرح الكبير (2) . (ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها) . قال القاضي (ظاهر كلام أحمد وجوب استئذان الزوجة في العزل ويحتمل أن يكون مستحبا؛ لأن حقها في الوطء دون الإنزال، والأول أولى لما روي عن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها) (3) .
ومعنى هذا أنه إن أجيز للزوج العزل فإن عليه أن لا يتعسف باستعمال هذا الحق بالتعدي على حقوق الغير.
فمنعهم ليس لذات العزل وإنما هو مراعاة لحق الغير لأن استكمال لذتها لا يتم إلا بالإنزال في الرحم.
__________
(1) المغني الجزء الثامن ص 132
(2) الشرح الكبير الجزء الثامن ص 133
(3) رواه الإمام أحمد في المسند وابن ماجه(5/240)
1 - وسائل منع الحمل:
يبدو أنه لا خلاف بين العلماء في إباحة إيقاف الحمل إذا كان هناك موجب شرعي يقتضيه بطريقة من الطرق المعروفة سابقا:
1 - بالعزل: وهي الطريقة البسيطة التي اتخذها القدماء للحيلولة دون الحمل أو دون تكوين الجنين أو دون التقاء الحيوان المنوي للرجل ببويضة الأنثى، ولا زال العزل شائع الاستعمال بين مختلف الأوساط الاجتماعية في الدول النامية والدول الصناعية على حد سواء.
2 - أو بالوسائل الحديثة: كتناول الحبوب ضد الحمل أو استعمال آلة لمنعه.
3 - أو بتوقيف المعاشرة الجنسية أياما معينة من الشهر: بحيث يقع في أول الدورة وآخرها وبتجنب وسطها الذي تخرج فيه البويضة، والذي يقع عادة في اليوم الرابع عشر قبل بدء الحيض وما دامت طريقة العزل مباحة شرعا عند الحاجة إليها لدى غالب العلماء فكل طريقة تماثلها تأخذ حكمها بشرط أن لا يكون المراد الإجهاض أو إسقاط الجنين وألا يكون فيها ضرر للمرأة أو الرجل أو الجنين.
4 - أو الرضاعة: وللإرضاع تأثير مؤقت على الحمل وخاصة في فترته المبكرة وهي طريقة طبيعية ومعروفة من القدم ولكن لا يعول على هذه الطريقة بشكل أكيد؛ لأن فاعلية منع الحمل فيها تختلف من امرأة إلى أخرى.
ولذا فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن وطء المرضع، وسماه وطء الغيلة؛ لأن المرأة إذا حملت في هذه المدة تغير لبنها، فإذا رضع الصغير منه ربما يلحقه ضرر آجل أو عاجل، وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده (1) . قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة من فوق فرسه)) .
ثم أباح الرسول صلى الله عليه وسلم وطء المرضع عندما رأى أنه مستعمل عند الأمم بدون ضرر فعال فيها. روى أسامة بن زيد (2) . أن رجلا جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((" لم تفعل ذلك؟ " فقال: أشفق على ولدها، فقال الرسول: " لو كان ذلك ضارا لضر فارس والروم ")) .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده جزء 6 ص 453
(2) صحيح مسلم، كتاب النكاح باب جواز الغيلة(5/241)
وقد استطاع ابن القيم (1) . أن يجمع بين الحديثين بأن النهي عن ضعف المولود أقل خطرا من الإمساك عن وطء النساء مدة الرضاع، ولا سيما الشباب وأصحاب الشهوة، لذلك رأى رسول الله أن دفع المفسدة الأعظم أهم من درء المفسدة الأصغر ولهذا أباح وطء المرضعة بعد أن نهى عنه.
وقد تعرض الفقهاء في القديم إلى عدة وسائل أخرى غير العزل كانت تستعملها النساء فقد قال الونشريسي (2) . في المعيار: وقد أجازوا أيضا أن تجعل المرأة وقاية في رحمها تمنع من وصول الماء للوالدة.
وذكر ابن عابدين في حاشيته (3) . أنه كما جاز للرجل أن يعزل بإذن زوجته فلها أن تسد فم رحمها كما تفعله النساء في ذلك الزمان، وبذلك نعلم أن الوقاية من الحمل عند المسلمين لم تكن خاصة في الماضى بالرجل، بل كانت من جانبي الرجل والمرأة على السواء، وإذا كان من المقرر أن الرجل لا يعزل إلا بإذن زوجته قالوا فقياسا على هذا: إن المرأة لا تعزل إلا بإذن زوجها.
ونقل الرملي في نهاية المحتاج (4) . عن الزركشي: هذا كله في استعمال الدواء بعد الإنزال فأما استعمال ما يمنع الحمل قبل إنزال المني حالة الجماع مثلا فلا مانع منه.
وموضوع وسائل منع الحمل طرقه عدد كبير من الأطباء المسلمين القدامى في بحوثهم حول الوسائل المختلفة في تنظيم الولادات ونجد هذا في قانون ابن سينا وإرشاد ابن الجامي وفي الذخيرة في الطب لإسماعيل الجرجاني وفي التذكرة لداود الأنطاكي، فكل هؤلاء تكلموا عن منع الحمل خوفا على صحة المرأة عند ضعفها خشية من الحمل المتتابع.
__________
(1) زاد المعاد ج 4 ص 18
(2) المعيار ج 4 ص 164
(3) الجزء الثاني ص 380
(4) ج 8 ص 416(5/242)
أسباب منع الحمل:
أما أسباب منع الحمل فهي كثيرة وقد حصرها الغزالي (1) . في أنواع النية الباعثة على العزل وهي:
- استبقاء جمال المرأة لدوام التمتع خوفا من خطر الطلق.
- الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد.
- الاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء.
وذكر غيره أسبابا أخرى منها:
- الخوف من الضرر إذا كان الحمل يلحق ضررا مباشرا بصحة الأم.
- أو تحقق الأبوين من عجزهما عن القيام بشؤون مولود جديد.
- أو كانا في الجهاد وخيف على الزوجة أن يضعفها حملها عن مشقة السفر أو الجهاد أو كانت الزوجة سيئة الخلق ويريد فراقها.
قال الكمال بن الهمام (2) : ((: ((وفي الفتاوى إن خاف من الولد السوء في الحرة يسعه العزل بغير رضاها لفساد الزمان فليعتبر مثله من الأعذار مسقطا لإذنها)) )) .
فأصل العزل مباح عند من قال إن الولد حق للأب أو للأب والأم معا.
أما من يرى أن الولد حق مشترك بين الأمة والوالدين فإنه يبيح العزل في الصور التي تلحق ضررًا بالأب أو الأم دفعا للمفسدة وتطبيقا للقاعدة المقررة أن الضرورات تبيح المحظورات.
ويبقى الخلاف محصورا بين الفقهاء في حكم العزل فيما سوى الضرورة، كما إذا كان لمجرد رغبة الأب أو الأم أو هما معا في تحديد الأولاد مع توفر الإمكانيات المادية، تحقيقا للراحة وحب الدنيا واتباع الشهوات والفرار من المسئولية الاجتماعية التي أنيطت بعهدتهما.
__________
(1) الإحياء الجزء الرابع ص 151
(2) ابن عابدين ج 2 ص 379(5/243)
حجة القائلين بكراهة العزل
من العلماء من يقول بكراهة العزل إذا لم يكن هناك موجب يقتضيه، احتجوا بما ورد من إنكار النبى صلى الله عليه وسلم للعزل في نصوص كثيرة من السنة حيث لم يرد شيء في القرآن يبين حكم الله في العزل.
ومما وقع الاحتجاج به ما ورد في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا سبيا فكنا نعزل وسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أو إنكم لتفعلون - أو إنكم لتفعلون - ما من نسمة كانت إلى يوم القيامة إلا وهى كائنة)) (1) . ففهموا أن هذا الحديث سيق بصيغة الإنكار فيكون العزل غير مشروع ولا مباح.
وقد ورد هذا الحديث بعدة صيغ وفي لفظ لمسلم (2) . من طريق ابن محيريز قال: دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد الخدري فسأله أبو صرمة فقال: يا أبا سعيد، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر العزل؟ فقال: نعم. غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق فسبينا كرائم العرب فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل ورسول الله بين أظهرنا لا نسأله؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون)) وفي لفظ لمسلم ((فإن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة)) وفي لفظ: ((فقال لنا: وإنكم لتفعلون. وإنكم لتفعلون. وإنكم لتفعلون، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة)) وفي لفظ له قال: ((لا عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر)) .
وفسر العلماء هذا على أنه حث على عدم العزل حتى قال الحسن بأن قوله: " لا عليكم أن تفعلوا " تشبه الزجر، وقال ابن سيرين: هذا خبر إلى النهي أقرب.
ومنها حديث جذامة بنت وهب الأسدية قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: ((لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر ذلك أولادهم شيئا، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله: " ذلك الوأد الخفي ")) رواه مسلم (3) . ويشير الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا إلى قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (4) .
__________
(1) صحيح البخاري شرح ابن حجر ج 9 ص 305
(2) النووي على مسلم. الجزء العاشر ص 15
(3) النووي على مسلم. الجزء العاشر ص 15
(4) سورة التكوير الآية 8، 9(5/244)
ومنها ما ورد عن أسامة بن زيد ((أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى أعزل عن امرأتي، فقال له الرسول: " لِمَ تفعل ذلك؟ " فقال له الرجل: أشفق على ولدها أو أولادها: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو كان ضارا ضر فارس والروم ")) رواه مسلم (1) .
وكذلك استدلوا بحديث أبي سعيد الخدري من قول الرسول في العزل ((أنت تخلقه؟ أنت ترزقه؟ أقره قراره فإنما ذلك القدر)) وهذا الحديث يقتضي بظاهره منع العزل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل أن يقر الماء في مقره، وهذا يدل على أن الله هو الخالق الرازق، وأنه ليس هناك ما يدعو إلى عزل النطفة والحيلولة بينها وبين أن تستقر في الرحم.
فهذه الأحاديث وغيرها تؤكد عند بعض الفقهاء الاتجاه الإسلامي العام القاضي بأن كثرة الذرية من مقاصد النكاح، وأن المحافظة على النسل هو أحد المصالح الخمسة التي يقررها الإسلام أساسا للتشريع.
إذ من المعلوم أن المصالح التي اعتمدها الفقهاء أساسا للتشريع ترجع إلى المحافظة على خمسة أمور هي: المحافظة على الدين وعلى النفس وعلى العقل وعلى النسل وعلى المال، وقد قال الغزالي في المستصفى ما نصه: (إن جلب المنفعة ودفع المضار مقاصد الحق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم لكننا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع. ومقصود الشرع في الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، لذلك فكل محاولة تهدف إلى منع الحمل هي محاولة تبعد عن منهج الشريعة الإسلامية الذي يدعو إلى التكاثر. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) (2) . كما يحفز من استطاع الباءة أن يتزوج ويدعو الزوج أن يختار لنفسه الولود الودود.
__________
(1) النووي على مسلم ج 10 ص 16
(2) رواه السيوطي في الجامع الصغير(5/245)
وقد سبق أن بينا أن الإسلام. يرغب في الزواج ويأمر به ويمتن على المسلمين بشرعه قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
ومن أغراض الزواج تكوين الأسرة وإيجاد النسل، والولد من نعم الله تميل إليه الفطرة السليمة وهو في الآن نفسه زينة الحياة الدنيا، لذلك كان العزل والفرار من الحمل انحرافا عن الفطرة السليمة.
وإذا كان العزل مكروها عند هؤلاء الفقهاء، فإن مذهب ابن حزم من الظاهرية يحرم العزل كما جاء في المحلى (2) : قال: لا يحل العزل عن حرة ولا عن أمة مستدلًّا بحديث جذامة بنت وهب على أن الرسول لما سئل عن العزل قال: " ذاك الوأد الخفي ": قال إنه خبر في غاية الصحة وساق حديث أبي سعيد الذي قال فيه رسول الله: " لا عليكم أن لا تفعلوا " وقال: إن الذين احتجوا بأخبار أخرى لا تصح؛ لأن خبر جذامة بنت وهب يعارضها جميعا ثم قال: إن كل شيء أصله الإباحة لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وعلى هذا كان كل شيء حلالا حتى نزل التحريم قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فصح أن خبر جذامة بالتحريم هو الناسخ لجميع الإباحات المتقدمة، وهو أمر متيقن؛ لأنه إذا أخبر عليه السلام أنه الوأد الخفي والوأد محرم فقد نسخ الإباحة المتقدمة بيقين، فمن ادعى أن تلك الإباحة المنسوخة قد عادت، وأن النسخ المتيقن قد بطل فقد ادعى الباطل وأتى بما لا دليل له عليه ورد كلام ابن حزم بأن ادعاء النسخ يحتاج فيه إلى معرفة تاريخ الناسخ وحيث إن التاريخ غير معروف فلا يصح ادعاء النسخ.
__________
(1) سورة الروم الآية 21
(2) المجلد السابع ج 10 ص 78 المسألة 197(5/246)
حجة المجيزين للعزل
من العلماء من يقول بجواز العزل استنادا إلى جملة من أحاديث صحيحة رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثبتتها الكتب الصحاح، أهما:
1 - ما جاء عن جابر رضى الله عنه الوارد في الصحيحين (1) . قال: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل، ولو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن)) متفق عليه. ولمسلم ((فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا عنه)) .
وأول ما يتبادر إلى الذهن من هذا الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينه عن العزل بل أقره ولو كان حراما لنهى عنه؛ لأنه كان في وقت تقرير الأحكام ونزول الأوامر والنواهي، وقد أكد جابر رضي الله عنه أن عملهم بالعزل لم يكن خافيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل علم به فأقرهم ولو كان محرما ما أقرهم عليه.
2 - ما جاء في صحيح مسلم (2) . أيضا عن أسامة بن زيد أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله، إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله: لم تفعل ذلك؟ " فقال الرجل: أشفق على ولدها، فقال: رسول الله: " لو كان ضارا - أي العزل - لضر فارس والروم ")) .
3 - عن جابر ((أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لى جارية هي خادمتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل، فقال: " اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها ")) رواه مسلم فقد كان السائل يطلب من الرسول الحكم في أمر العزل فجاءه النص صريحا في إباحة العزل، ومن العلماء من يرى أن هذا الحديث يفيد معنى أكثر من الجواز؛ لأن الرسول هو الذي أشار بالعزل.
4 - عن أبي سعيد الخدري قال: قالت اليهود: العزل الموءودة الصغرى فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((كذبت يهود. إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه)) رواه أحمد وأبو داود، ويقول الشوكاني: وقد أخرج هذا الحديث أيضا الترمذي والنسائي ونقل عن الحافظ أن رجاله ثقات.
__________
(1) كتاب النكاح باب جواز الغيلة
(2) كتاب النكاح باب جواز الغيلة(5/247)
5 - روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها)) رواه أحمد وابن ماجه.
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها)) وهذا يدل على جواز العزل بإذنها.
6 - ما ورد عن رفاعة بن رافع قال: (جلس إلى عمر كل من علي والزبير وسعد وجماعة من أصحاب الرسول فتذاكروا العزل فقال عمر: لا بأس به. فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى. فقال علي: إنها لا تكون موءودة حتى تمر على الأطوار السبعة تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون خلقا آخر. فقال عمر: صدقت) لأن الوأد لا يتصور إلا بعد أن تمر بالمادة الأطوار السبعة وبروز الجنين إلى الوجود.
7 - ما رواه أبو داود عن أسماء بنت زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة عن فرسه)) فقد دل الحديث على أن مواقعة الزوجة في مدة الرضاعة تؤثر على الرضيع حالا أو مستقبلا ولو كان في قوة شبابه. ومن هنا استنتج الفقهاء أن وطء الحامل والمرضع مكروه إن خيف منه ضرر الولد وإن غلب على الظن الضرر حرم. وإذا كانت مدة الحمل والرضاع حولين كاملين فليس للزوج من طريق للوصول إلى مباشرة زوجته إلا عن طريق العزل، وهذا إذن ضمني من الشارع بالعزل على أن القائلين بعدم جواز العزل كثيرا ما يترددون في الاستشهاد بالنصوص القاضية بالمنع.
ويرى الأستاذ محمد سلام مدكور في كتابه نظرة الإسلام إلى تنظيم النسل (1) . أن ما ذهب إليه الإمام الشوكاني (2) . من أن معنى (لا عليكم أن لا تفعلوا) من الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري هو: " نفي الحرج عن عدم الفعل وهذا يفيد ثبوت الحرج في فعل العزل " لا يستقيم مع القواعد الأصولية المقررة التي تقول إن نفى الحرج عن جانب يفيد نفيه عن الجانب الآخر. فإذا كان الحديث قد أفاد نفي الحرج عن عدم الفعل، فنفي الحرج أسلوب يفيد الإباحة التي تقتضي التسوية بين جانبي الفعل والترك، فكان الأولى أن يستدل بهذا الحديث على جواز العزل؛ لأنه المتفق مع ما يفيده الأسلوب العربي.
__________
(1) نظرة الإسلام إلى تنظيم النسل ص 43
(2) نيل الأوطار للشوكاني الجزء السادس ص 340(5/248)
وقد ذكر الإمام الشوكاني أنه يمكن أن يخرج الحديث على أن يقال إن (لا) زائدة فيكون المعنى نفي الحرج عن الفعل؛ لأن (لا) كثيرا ما تزاد في أساليب العرب لذا اقتضى السياق ذلك، نظير ذلك قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} والمعنى ليعلم أهل الكتاب.
ويؤيد هذا الاتجاه ما ذكره محمد بن خلفة الأبي (1) . في كتابه إكمال الإكمال بعد أن أورد وجهين في فهم الحديث قال والمعنى: لا جناح عليكم في أن تفعلوا العزل.
ويقول ولي الله الدهلوي (2) . في قول الرسول ((ما عليكم ألا تفعلوا)) يشير إلى كراهية العزل من غير تحريم والسبب في ذلك أن المصالح متعارضة فالمصلحة الخاصة بنفسه قد تدعوه إلى العزل والمصلحة النوعية ألا يعزل لتحقيق كثرة الأولاد وقيام النسل، والنظر إلى المصلحة النوعية أرجح من النظر إلى المصلحة الشخصية في عامة أحكام الله تعالى التشريعية والتكوينية، فالقضية في نظره لا تزيد على أن يكون العزل خلاف الأولى.
وقال ابن قيم الجوزية في إعلام الموقعين (3) . في حديث جابر بن عبد الله الذي قال: كنا نعزل والقرآن ينزل: إن ما فهمه جابر هو كمال فقه الصحابة وعلمهم واستيلائهم على طرق معرفة الأحكام ومداركها. وهذا يدل على أمرين:
1 - أن أصل الأفعال الإباحة، ولا يحرم منها إلا ما حرمه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
2 - أن علم الرب تعالى بما يفعلون في زمن شرع الشرائع ونزول الوحي، وإقراره لهم عليه، دليل على عفوه عنه.
ويقول الإمام الشوكاني في حديث جابر (4) . في قوله: والقرآن ينزل: فيه جواز الاستدلال بالتقرير من الله ورسوله على حكم الأحكام، لأنه لو كان ذلك الشيء حراما لم يقروا عليه.
__________
(1) إكمال الإكمال هو شرح أكمل به الأبي شرح القاضي عياض لكتاب المعلم بفوائد مسلم لمؤلفه محمد بن علي التميمي المشهور بالإمام المازري دفين المنستير
(2) حجة الله البالغة ج 2 ص 706
(3) الجزء الثاني ص 438
(4) نيل الأوطار للشوكاني ج 6 ص 347(5/249)
وقال القاضي عياض (إن كثيرا من الصحابة والتابعين أجازوا العزل استنادا إلى حديث جابر) ، ومهما يكن من أمر فإن المسافة بين المانعين والمجيزين لا تتعدى حدود الكراهة، فالمانع يقول بالكراهة، والمجيز يقول بأن العزل هو خلاف الأولى وهو كذلك إذا لم يكن هناك داع.
ويعبر عن هذا المعنى الإمام النووي في شرحه على مسلم فيقول: إن هذه الأحاديث التي استدل بها المانعون مع غيرها من الأحاديث التي أفادت الإباحة، يجمع بينها أن ما ورد في النهي محمول على الكراهة التنزيهية، وما ورد في الإذن محمول على أنه ليس بحرام، وليس معناه نفي هذه الكراهة التنزيهية.
ويؤيد هذا الاتجاه الإمام الغزالي في آداب معاشرة النساء (1) . حيث يقول (وأما الكراهية فإنها تطلق لنهي التحريم ولنهي التنزيه ولترك الفضيلة وهو مكروه هنا بالمعنى الثالث) .
ثم يقول: (وإنما قلنا لا كراهية بمعنى التحريم والتنزيه لأن إثبات النهي إنما يمكن بنص أو قياس على منصوص، ولا نص ولا أصل يقاس عليه، بل ههنا أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلا أو ترك الجماع بعد النكاح أو ترك الإنزال بعد الإيلاج، فكل ذلك ترك للأفضل وليس بارتكاب نهي.
لذلك فإن المجيزين لمنع الحمل يردون على المانعين ويؤولون كل النصوص التي يستشهدون بها وقالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تكثروا)) الحديث: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا في أول الإسلام، وفى فترة كان المسلمون فيها قلة، وكانوا بحاجة أن يكونوا كثرة نامية للوقوف في وجه أعدائهم الكثيرين على أن الرسول عندما يفاخر لا يفاخر بالكم وحده بل إنه يقرن الكم بالكيف وهو القائل: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)) وهو الذي نزل عليه قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} .
__________
(1) إحياء علوم الدين ج 4 ص 150(5/250)
فالشريعة أيضا لا تعجبها الكثرة الهزيلة ولا تقيم لارتفاع نسبتها في التعداد وزنا إذا لم تكن مؤهلة للقيام بمسؤلياتها، ويشير إلى هذا ما صح في دلائل النبوة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: ((توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا بل أنتم كثيرون ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قال قائل: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) .
وتحتج فئة أخرى بقوله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} فيكون الله متكفلا برزق جميع خلقه، ولا يتنافى هذا مع الأخذ بالأسباب، قال في تفسير المنار (1) : (قد أعطى كلا منها خلقه المناسب لمعيشته ثم هداه إلى تحصيل غذائه بغريزته) ثم قال (وليس معناها أن الله جعل لكل دابة من كل نوع أن يخلق لها ما تتغذى به، ويوصله إليها بمحض قدرته وإنما معناها: خلقه تعالى لكل منها الرزق الذي تعيش به، وأنه سخره لها وهداها إلى طلبه وتحصيله) .
ولقد جعل الإسلام من الزواج مسئولية مادية ومعنوية تجاه الزوجة والأولاد، وقد نص صراحة على أنه إذا تعذر على الرجل القيام بأعباء الزوجية أو يجد في ذلك حرجا فإنه مطالب بألا يقدم على الزواج. قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} سورة النور [33] .
وروى البخاري ومسلم عن علقمة رضي الله عنه قال: واللفظ لمسلم (2) . كنت أمشى مع عبد الله بمنًى فلقيه عثمان رضي الله عنهما فقام معه يحدثه، فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن: ألا نزوجك جارية ثانية لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك؟ قال: فقال عبد الله: لئن قلت ذلك: لقد قال لنا صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) .
__________
(1) المنار ج 12 ص 13
(2) حديث 794 مختصر صحيح مسلم كتاب النكاح ص 207(5/251)
فالدعوة إلى الزواج والإنجاب مرتبطة بالقدرة على تحمل مسئولياتها ونتائجها، ومسئولية الزوج تزداد إذا أنجب إذ عليه مسئولية التربية والتوجيه وتوفير المسكن والغذاء، وإعداد الولد ليكون مواطنا صالحا، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المسئولية في قوله ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) وكثرة العيال قد تكون سببا في تشتيت العائلة وضياع مصالحها وتلاشي تربيتها.
وعندما يتأمل المرء في كل الأحاديث والآثار التي استند إليها المانعون للعزل والمجيزون له لا يستطيع الجزم بحرمة العزل الشخصي أو الفردي ما دامت النصوص الواردة في هذا الموضوع غير صريحة والقضية اجتهادية، بل يجد الإنسان نفسه أميل إلى القول بالإباحة إذ هي الأصل، لا سيما إذا وجدت الدوافع أو المصالح التي تدعو الزوج أو الزوجة لمنع الحمل بحيث يكون اتخاذ هذه الوسيلة في حدود الداعي الذي استلزمها ويكون هذا التنظيم فرديا اختياريا.
وبهذا نعلم أن ضعف الموارد المادية في العائلة قد يكون عائقا يمنع الزوج عن النهوض بتبعات الأسرة والأظهر اعتباره عذرا من الأعذار المبيحة لمنع الحمل المؤقت
وهذا لا ينافي ما نعتقده كمسلمين أن قدرة الله وإرادته فوق قدرة الإنسان وإرادته وأن الإنسان لا يستطيع الفرار من قدر الله وقضائه. وأن الله هو الرزاق وأنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها؛ لأن الله في نفس الوقت مكن الإنسان من الكسب والاختيار ومكنه بما أوتي من عقل وفكر أن يدبر ويعمل ويسعى لإصلاح حياته وتنظيمها.. وأن إفساد المادة التناسلية قبل التلقيح هي وسيلة من وسائل منع الحمل لمصلحة لا يكون فيه اعتداء على الجنين بحال من الأحوال.(5/252)
وقد صدرت فتاوى كثيرة عن هيئات علمية إسلامية محترمة كمشيخة الأزهر الشريف (1) . ومعهد البحوث الإسلامية (2) . وعن مؤسسات دينية ومن شخصيات علمية (3) . جوزت منع الحمل المؤقت للأفراد وعللت ذلك بقولها:
(لما فيه من التيسير على الناس ورفع الحرج لا سيما إذا خيف من كثرة الحمل) .
أما قرار مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في الحكم الشرعي في تحديد النسل فيبدو أنه أكثر تشددا من القرارات السابقة في خصوص هذا الموضوع فكأنه يريد قصر جواز منع الحمل بحالات المرض خاصة حيث يقول (4) . (لا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرة شرعا.
أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين فإنه لا مانع من ذلك شرعا. وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخرى شرعية أو صحية يقرها طبيب مسلم ثقة) .
__________
(1) الجزء الثانى من كتاب الإسلام وتنظيم الأسرة ص 541
(2) كتاب المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1965 ص 404
(3) الجزء الثاني من كتاب الإسلام وتنظيم الأسرة 544
(4) قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة سنة 1400(5/253)
فكرة تحديد النسل الجماعي ونشأتها
إذا كانت كثرة النسل في العصور الأولى تعتبر عنوانا للعزة والقوة في القبيلة وسبيلا إلى الصمود أمام كل اعتداء فإن الكثافة السكانية أصبحت - مع مرور العصور، وتغير المفاهيم والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية - تعتبر في بعض الأحيان من المحاذير التي يجب أن ينظر إليها من قريب حتى لا تنقلب هذه الكثافة كارثة تدعو الحكومة إلى درئها قبل وقوعها.
وإذا كان موضوع الانفجار السكاني بهذا الاعتبار فلا غرابة أن يجد اهتماما كبيرا من المفكرين والمشرعين قديما وحديثا، وأن تختلف أنظارهم في الحكم عليه.
ولم تَعْدُ فكرةُ تحديد النسل في القديم حدودَ الأسرةِ، وبقيت تطبق بصفة فردية حسب الضرورات الخاصة التي دعت إليها، وإن اختلف مفهوم الضرورة من مدينة إلى أخرى ومن جيل إلى آخر.
وأول بروز لفكرة تحديد النسل الجماعي كان في أوروبا ثم في أمريكا في أواخر القرن الثامن عشر، عندما تبنى هذه الفكرة عدد من رجال الاقتصاد في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وحذروا المجتمعات من بروز مشكل اقتصادى خطير وهو عدم التوازن بين نمو عدد السكان في العالم الذي صار يزداد بنسبة عالية، بل أصبح عدده يتضاعف في مدة قصيرة، وبين ضعف نمو وسائل العيش الذي لا يتم بنفس النسبة.
وهذا من شأنه أن يحدث خللا كبيرا في التوازن، ويبشر بمجيء يوم يكون فيه عدد السكان أضعاف أضعاف موارد الرزق، وبذلك تحل بالمجتمعات أزمات ومجاعات قد يصعب التخلص منها.
ولقيت حركة تحديد النسل الجماعي في أول أمرها صعوبات واعترضتها عراقيل متعددة منعتها من البروز والانتشار حقبة من الزمن.
ثم لقيت في النهاية إقبالا من المجتمعات الأوربية المصنعة، فانتشرت كما انتشرت وسائل الوقاية من الحمل في جميع أنحاء أوروبا، ودلت الإحصائيات في أوائل القرن العشرين على أن التخطيط الشعبي الذي انتهجته بعض الدول في التقليل من الإنجاب قد حقق نتائج محسوسة في تقليل الولادية.
واستمر انتشار حركة تحديد النسل في جميع أنحاء أوروبا بل في جميع بلاد العالم وما زالت تنتشر بخطى سريعة في مدة وجيزة لاحتواء العالم كله.(5/254)
أسباب نجاح حركة تحديد النسل
لم تكن الوقاية من الحمل بإحدى الوسائل الواقية هي التي حمت وحدها البلاد الأوروبية من الكثافة السكانية، وإنما هي عوامل متعددة أحاطت بهذا المجتمع الذي آمن بأن الأسرة إنما تقوم على الكيف لا على الكم، وعلى سمو تربية الأولاد وتوفير وسائل العيش لهم لا على كثرتهم.
وأهم هذه العوامل التي ساعدت على انتشار فكرة تحديد النسل هي:
1 - النهضة الصناعية: وما جلبته من أيد عاملة نازحة كونت كثافة سكانية في المدن، ورغبة في رفع مستوى المعيشة، فكان تحديد النسل وسيلة لمواجهة تلك الضغوط.
2 - مشاركة النساء في العمل: وعجزهن عن القيام بشؤون رعاية البيت والأولاد مع ذلك، إذ كثرتهم تعوق المرأة عن مواصلة عملها خارج البيت.
3 - فقدان التوازن بين الطموح الشخصي وبين المستوى الاقتصادي والاجتماعي: وتعلق الطبقات الكادحة بإيصال أبنائهم إلى أعلى المراتب أسوة بمطامح الطبقات الغنية. وهذا لا يتحقق إلا بقلة الأولاد.
4 - انتشار المبدأ المادي الإلحادي: الذي قطع الصلة بالله الرزاق المجير المنعم المتفضل وجعل الإنسان يفكر في حدود ضيقة، لا يؤمل من الحياة إلا موارده المادية المحدودة.
5 - الانغماس في الاستمتاع الشخصي: إلى أبعد حدوده، فلا يريد الزوجان الإنجاب؛ لأنه - حسب زعمهما - يعكر صفو حياتهما، ومسؤوليات الأبناء تقف حجر عثرة أما شهواتهما ورغباتهما الشخصية وتمتعهما بملذات الحياة.(5/255)
وهذه الأفكار في مجموعها هي التي تسربت إلى العالم الإسلامى، وتهافتت المجتمعات الإسلامية في تقليدها واعتناقها، مستبيحة كل الوسائل التي استباحها الغرب في التقليل من النسل، وحادت بها - أحيانا - عن مقاصد الإسلام التي تمنع التحديد، إلا إذا كان استجابة لضرورة اقتضتها مصلحة الأبوين، لتبني مبادئ بعيدة عن الإسلام، أساسها:
1 - تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
2 - تغليب الجانب الاستهلاكي في الإنسان على الجانب الإنتاجي، وعدم تقدير قيمة توفير الأيدي العاملة التي تمكن المجتمعات من استغلال خيرات الله في أرضه وتناسي أن الأزمات الاقتصادية كان سببها في الغالب:
- تكاسل الحكومات عن إيجاد حلول اقتصادية إيجابية قد تكلفها متاعب ومشاق.
- ضعف التعاون الصادق النزيه بين دول العالم عامة، والدول الإسلامية خاصة.
- عدم سعي المجتمعات إلى روح الإنتاج وتحسين الجودة لضعف الوازع الأخلاقي والديني.
والذي ينبغي أن نلاحظه في هذا الموضوع أن العالم الغربي أصبح يتراجع عن تأييد فكرة تحديد النسل، ومناصرتها، إذا هو الآن يدعو إلى تكثير النسل، وتشجيع الإنجاب، وإعانة العائلات ذات الأطفال، ومكافأة العاملين على كثرة الإنجاب بالأوسمة والجوائز بينما تقوم بعض الدول الإسلامية في هذه السنوات الأخيرة بإكراه النساء على استعمال وسائل منع الحمل دون مراعاة لأدنى نصيب من إنسانية الإنسان وكرامته. يقول الدكتور محمد على البار: (ففي بعض البلاد العربية التي تبذل كل جهدها في نشر وسائل منع الحمل بكافة الطرق يقوم الطبيب بإدخال لولب إلى رحم المرأة عند قيامه بفحصها، دون علمها ولا رغبتها ولا موافقتها، وذلك تنفيذا لأوامر الدولة. وهو أمر يجافي أبسط المبادئ الإنسانية) (1) .
__________
(1) مقال نشر بمجلة المسلم المعاصر. الصفحة 11 العدد 42(5/256)
نظرة الشريعة إلى تحديد النسل الجماعي
لقد تبين لنا مما تقدم أن المنع الفردي للنسل، بالعزل أو بغيره من الوسائل، هو ترك الأفضل أو مكروه، وإذا وجد موجبه عند الفرد كان العزل مباحا على مقدار هذه الرخصة الفردية، والسؤال المطروح: هل يُجَوِّزُ الفقه الإسلامي قياس الرخصة الجماعية لأمة من الأمم أو لدولة من الدول على الرخصة الفردية في منع الحمل، وتحديد النسل، ولو لمدة معينة، حتى يزول المانع؟
المعروف عند الفقهاء أن الرخصة الفردية. محدودة بحدود الضرورات والضرورة تقدر بالنسبة لكل واحد على حدة، حسب ظروفه المادية والمعنوية. فإذا أبيح التحديد فإنما يباح للشخص الذي كانت عنده الرخصة، ولا يباح كقاعدة عامة تعم جميع الناس في بلد أو إقليم، فينتفع بالإباحة صاحب الرخصة وغيره.
ولهذا فإن من قاس تحديد النسل على العزل فقد أخطأ، إذ هو قياس مع وجود الفارق، والقاعدة في القياس اتفاق المقيس مع المقيس عليه من جميع الوجوه ولا يوجد في الفقه الإسلامي ما يجعل الرخصة جماعية، إذ من المقررات الشرعية أن المباح بالشخص أو بالجزء، يكون إما مطلوبا بالكل، أو ممنوعا بالكل، على حسب موافقته للمبادئ الكلية المقررة في الشريعة، أو مناقضتها.
فإن كان خادما للمبادئ الشرعية الثابتة، كان مطلوبا بالكل، مباحا بالجزء. وإن كان مناقضا للمبادئ العامة، كان مباحا بالجزء حراما بالكل. وقد بين هذا الموضوع الشاطبي في الموافقات، عند تعرضه لبيان المباح، فقال:
(إن المباح ضربان: أحدهما أن يكون خادما لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي والثاني أن لا يكون كذلك.
فالأول: قد يراعى من جهة ما هو خارج له فيكون مطلوبا ومحبوبا فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب والملبس ونحوها مباح في نفسه، وإباحته بالجزء وهو خادم لأصل ضرورى، وهو إقامة الحياة، فهو مأمور به من هذه الجهة، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب. فالأمر راجع إلى حقيقته الكلية لا إلى اعتباره الجزئي.(5/257)
والثانى: إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة، أو لا يكون خادما لشيء. كالطلاق، فإنه ترك للحال الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في وجود وهو ضروري لإقامة مطلق الألفة والمعاشرة واشتباك العشائر بين الخلق وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما. فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرقا لذلك المطلوب ونقضا عليه، كان مبغضا، ولم يكن فعله أولى من تركه، إلا لعارض أقوى كالشقاق (بين الزوجين) ، وعدم إقامة حدود الله. وهو من حيث كونه جزئيا في هذا الشخص وفي هذا الزمان فهو مباح وحلال) (1) .
وبهذا نعلم أن الشرع لا يجوز منع النسل بالكل، ولا يبيحه كأمر عام، لأن اعتبار حق الأمة في الولد حق تقرره الشريعة الإسلامية لحفظ كيانها، ولنهوضها القومي، ومعاكسة الطبيعة في كف أجهزتها عن القيام بوظيفتها التي خلقت لها مما لا تقره الشريعة. والله يقول {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} .
فالتحديد الجماعي لا تقره الشريعة الإسلامية، ولا تبيحه مهما كانت الأعذار ولا تحدد عدد الأولاد الذين ينبغي أن تنجبهم الأسرة، لأن الحكمة في عدم تحديد العدد الأقصى للأولاد، مادام ذلك يتعلق بالاختيار الإنساني في الأسرة، وقدرة كل أسرة على تربية الأولَاد تربية واعية.
ولذلك فإن كثيرا من العلماء يرون أن تحديد النسل الجماعي ليس معناه جبر الأمة أو جبر إقليم من أقاليم البلاد على اتخاذ تدابير معينة لتحديد النسل للوصول بهم إلى نسبة ولادية معينة، فهذا مما لا يجيزه الشرع قطعا، بل معناه توعية الآباء والأمهات بمسؤولياتهم الزوجية والأبوية، وإقناعهم بهذه المسؤولية المرعية حتى يصبحوا أكثر احتياطا لمستقبل أولادهم، وأحرص على الاكتفاء بعدد من الأولاد حسب قدراتهم المادية والأدبية، وحتى يمدوا المجتمع بجيل قادر على مواجهة مشاكل الحياة؛ لأن من اهتمامات الشريعة الوصول بحياه المجتمع إلى المثل الأعلى.
__________
(1) الموافقات للشاطبي. الجزء الأول، صفحة 77 مطبعة المدني(5/258)
ولا يتم ذلك إلا بتدخلها تدخلا مباشرا في تنظيم الأسرة، وإخراجها من دائرة الحيرة والفوضى والتعسف إلى دائرة الوعي والنشاط والإنتاج، وذلك بتوعيتها توعية دينية واجتماعية وطبية تدفع الضرر الذي يلحق الزوجة أو الأمة من جراء الإنسال الأهوج وإطلاق الحرية غير الواعية في تحصيل النسل وكثرته؛ لأن الكثرة الهزيلة التي تتملكها عوامل الضعف والانهيار كثرة لا خير فيها. فالدعوة إلى تنظيم الأسرة لا يجوز أن تكون دعوة إلى محاربة الزواج أو محاربة النسل، فوجود الذرية بين البشرية أمر فطري لابد منه، والقرآن نفسه يوجبها إلى الذرية الطيبة الصالحة النافعة والمنتفعة، يوجهنا أن ندعو ربنا بدعاء زكريا {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (1) .
كما علم عباد الرحمن أن يدعوه ليهبهم الذرية القوية الصالحة بقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (2) . وإنما تكون الذرية سببا للسعادة إذا كانت سليمة قوية، ومستعدة لخوض غمار الحياة.
ولا خلاف بين الفقهاء في أن الإسلام يشترط في الزواج أن يكون الرجل صالحا للنهوض بواجبه، قادرا على تحمل تبعاته. فإن كان عاجزا غير قادر طالبه بالتعفف والانتظار، حتى يتوافر لديه المال والاقتدار، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (3) .
وإذا أباح عدد من العلماء توعية الأسرة توعية دينية وإجتماعية قصد تعريفها بحقوقها وواجباتها إزاء الأخطار التي تهدد حياة المجتمعات فلا ينبغي أن يقتصر جهدنا على هذا الجانب وحده، بل يجب أن تبذل كل الجهود لمضاعفة الإنتاج، وتطوير الصناعة والزراعة، ومواصلة السعي لكشف خيرات الأرض، والتعاون لتوزيع الفوائض والطاقات بين بلدان العالم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 38
(2) سورة الفرقان الآية 74
(3) سورة النور الآية 33(5/259)
كما علينا - من جانب آخر - أن نعالج المصابين والمصابات بالعقم، حتى يشعر كل الناس أن توعية الأسرة هدف عام وندعو الأغنياء وأصحاب القصور أن لا يبخلوا بإنجاب الأولاد حسب طاقتهم، تلبية لرغبة الأمة المستمرة في إنجاب الأولاد الصالحين.
من كل ما قدمناه يتبين أنه لا مجال لإلزام مجتمع ما بإنجاب عدد معين من البنين إذ هو تحكم في حرية الأسرة، وفيه مخالفة للفطرة البشرية، وخروج عن أهداف الشريعة من تكوين العائلة.
كما أن إطلاق الحرية للمجتمع كي ينجب دون وعي ولا مراعاة للقدرات الفردية والعائلية والاجتماعية، الصحية منها والاقتصادية أمر لا يتماشى مع أهداف الشريعة الداعية إلى إنجاب أجيال قادرة على تبوء مركز الخلافة في الأرض تماشيا مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((..... فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) .
وهكذا يتبين أن موقف الشريعة الإسلامية من قضية تحديد النسل هو موقف الاعتدال والوسطية الذي ينصح العائلة ويوجهها، ويبقي لها حق اختيار الموقف الملائم لقدراتها في نطاق استعمال الوسائل التي لا تخرج بها عما يبيحه شرع الله.
إن هذا هو الموقف الذي يتحقق به قول الله سبحانه.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}(5/260)
شبهات حول تحديد النسل
وقبل أن ننهي الحديث عن تحديد النسل الجماعي لابد أن نتكلم عن شبهات ذائعة بين المسلمين وبعض العلماء الساهرين على شؤون الدعوة الإسلامية حول تنظيم الأسرة.
فهناك شبهة تقول: إن الدعاية لتحديد النسل غزو يهودي صهيوني يقصد منه تقليل أفراد الأمة الإسلامية لتبقى ضعيفة لا تستطيع الجهاد والإنتاج وحينئذ تكون عالة على غيرها فيتحكم فيها كما يحلو له ويشهد بهذا ترويج وسائل منع الحمل بين أوساط المسلمين بأرخص الأسعار وقد يباع بعضها بأقل من سعر التكلفة ولا يوجد نظير هذه الحركة بين اليهود أنفسهم.
وهناك من يقول إنها دعاية أمريكية وإنجليزية وغربية سرت إلينا وتبعها بعض المخلصين غافلين عن جذورها ومواردها وما يغذيها واتبعها بعض آخر ممن هو معجب بالأفكار الغربية وهؤلاء يتبعون كل ناعق ويسيرون وراءه من غير أن يعرفوا: أَيُسَارُ بهم في طريق يوصل إلى الخير أم يسار بهم في طريق مملوء بالأفاعي والحيات؟
وهناك من يقول: إن الدعوة إلى تنظيم النسل دعوة مرحلية وإننا إذا ذهبنا مع هذه الدعوة وفتحنا صدورنا لتقبلها بشروط وحدود معينة تقبلها الشريعة الإسلامية فإنها ستتحول في المستقبل لا محالة إلى تحديد النسل بصفة إجبارية موحدة وبطريقة لا تقبلها الشريعة الإسلامية بحال.
وأمام هذه الشبهات وقف الشيخ أبو زهرة موقفا واضحا في المنع فقال (1) : (هل هنا علاقة بين هذه الدعوة إلى تحديد النسل أو تنظيمه وبين إسرائيل ومن استتر خلفها) ثم قال: (إنه لا يجوز منع النسل بالكل ولا يباح كأمر عام؛ لأنه يعارض قوله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} أو {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} لذلك نعارض باسم الدين ولا نريد أن نقطع نسلنا ونقلل جمعنا ونعصي رسولنا ونكفر بقدرة ربنا الذي يرزق من يشاء بغير حساب وهو نفس الموقف الذي وقفه المجمع الفقهي الإسلامي بمكة (2) . في قراره في تحديد النسل حيث نص على: (أن تحديد النسل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله لعباده، ونظر إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفة خاصة حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية.
لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق) .
__________
(1) مقال لأبي زهرة في تنظيم الأسرة وتنظيم النسل نشر في مجلة الأزهر سنة 1966
(2) قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثالثة سنة 1400(5/261)
أما مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر فإنه لم يتعرض إلى الشُّبَهِ التي تحيط بتحديد النسل الجماعي واقتصرت الفقرة الثالثة من القرار على قضية تحريم جبر الناس على التحديد ونص الفقرة الثالثة (ولا يصح شرعا وضع قوانين تجبر الناس على تحديد النسل بأي وجه من الوجوه) ويوصي القرار في الآخر بتوعية المواطنين وتقديم المعونة لهم بصدد تنظيم النسل.
أما الشيخ شلتوت (1) . فإنه يرى أن الشريعة الإسلامية لا تعجبها الكثرة الهزيلة ولا تقيم لارتفاع نسبتها في التعداد وزنا ولا يتخذ منها النبي الكريم مبعثا للمباهاة بها.
ويرى عدد من العلماء المعاصرين (2) . أن عدد السكان لما أصبح يزيد زيادة مطردة مع نقص في الموارد الطبيعية لا تسير بنفس النسبة مما يخشى معه عدم القدرة على تحقيق المستوى اللازم لمستوى الفرد فإنه لا مانع شرعا عندهم من النظر في تنظيم النسل إذا كانت الحاجة تدعو إليه على أن يتم ذلك دون قهر أو قسر.
إن الجزم بقيمة ومدى تدخل الدول الأجنبية في موضوع تحديد النسل يبقى موقوفا على قلة من الباحثين الذين اطلعوا على أسباب هذا التدخل؛ لأنه يتم في الغالب بطرق سرية ومقنعة.
وفي انتظار الكشف عن ذلك للعموم لابد لنا أن نواجه بشجاعة ووعي ما قامت وتقوم به منظمات عالمية وأهلية من جهود كبيرة لخدمة تنظيم الأسرة وما عملته في هذا الميدان منذ عشرات السنين (الاتحاد العالمي لتنظيم الولادية) الذي أسس منذ سنة 1952 وقسم العالم إلى ثمانية أقاليم وكان أحد أقاليمه إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ويضم البلدان الممتدة من أفغانستان حتى المغرب والسودان.
وإدارة الإقليم تقدم لمعظم بلدان الإقليم المساعدات المادية والفنية الخاصة في حقل التدريب الطبي والفني لتحديد النسل (3) .
__________
(1) الإسلام عقيدة وشريعة ص 220
(2) انظر الإسلام وتنظيم النسل مؤتمر الرباط
(3) نشرة الاتحاد العالمي لتنظيم الولادية إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تونس سنة 1978(5/262)
إن عمل هذا الاتحاد ينبثق من إيمانه بأن ممارسة طرق سليمة وفعالة لتنظيم الأسرة (سواء بمنع الحمل أو المباعدة بين الولادات) هو حق إنساني أساسي كما أن تحقيق التوازن بين سكان العالم وموارده الطبيعية أمر أساسي لتأمين السعادة والرفاهية والسلم للإنسان.
والهدف البعيد لهذه المنظمة هو العمل لخلق رأي عام ملائم يشجع الحكومات على تبني خدمات تنظيم الوالدية ضمن خدمات الصحة العامة.
وقد تقدمت هذه المنظمة العالمية وغيرها من المنظمات والهيئات التي تعمل في تنظيم الأسرة تقدما كبيرا في عملها هذا، ووجدت إقبالا كبيرا من شعوب العالم واهتماما بالغا ومساعدات متعددة من الدول والحكومات الإسلامية وغير الإسلامية.
ويبدو أن بعض الحكومات الإسلامية قد تبنت فكرة تنظيم الأسرة قبل أن تتعرف على حكم الشريعة في ذلك واندفعت في تنفيذ مخططات الجمعيات العالمية والإقليمية العاملة على تنظيم الولادية حتى أصبحت هذه الحركة تشمل آلافا من مراكز تنظيم الأسرة مزودة بأطباء متخصصين في هذا الميدان من مختلف جنسيات العالم.
وأصبحت عملية تنظيم الأسرة واستعمال وسائل الوقاية من الحمل معروفة لدى الخاص والعام وعلى الأخص لدى الطبقات الشعبية التي صارت تتردد على هذه المراكز زرافات ووحدانًا وتسعف في غالب جهات العالم الإسلامي بوسائل الوقاية المجانية غير مبالية بما يقول الشرع في هذا الموضوع؛ لأن حركة تنظيم الأسرة غزت المجتمع، والمجتمع استجاب لتوجيهاتها وطبق وسائلها.
وفي الختام أدعو إلى إعداد دراسات موضوعية صحية واجتماعية واقتصادية وغيرها تحدد بدقة ما لعملية تنظيم النسل من إيجابيات وسلبيات ودراسات أخرى تكشف بوضوح نوايا الدول المتدخلة في هذا الميدان ودراسات وإحصائيات تبين ما قطعه هذا العمل في مختلف البلدان الإسلامية من أشواط منذ ولجتها فكرة تحديد النسل أو تنظيمه.
وبذلك نستطيع أن نحدد من الآراء ما ينير طريق المؤمنين ويساعد على حل هذا المشكل في ضوء شريعة الله.
والسلام
مصطفى كمال التارزي(5/263)
تحديد النسل وتنظيمه
إعداد
الشيخ رجب بيوض التميمي
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
وعضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فكرة تحديد النسل وتنظيمه
خلق الله الإنسان وجعله خليفته على الأرض، استخلفه لتعمير الأرض واشاعة الرخاء وعدم الإفساد فيها بإهلاك الحرث والنسل، وقدر الله في الأرض أقواتها تمهيدا لوجود البشر عليها، وطلب من البشر أن يمشوا في مناكبها، ويعملوا ليأكلوا من خيراتها التي أنعم الله بها عليهم.
وأن الله جل وعلا الذي شاءت إرادته أن يعمر الأرض بالبشر لِيعلم أن هؤلاء يزدادون بأمره، ليتمكنوا من السعي في طلب الرزق والاستفادة بما على سطح الأرض وفى جوفها، وسخر لهم البحر علاوة على البر ليبتغوا من فضل الله، وكلما بحث الإنسان ونقب في البر والبحر، فإنه يكتشف موارد جديدة لم تكن في حسبانه، ولا تزال حتى يومنا هذا كثير من الأماكن غير معروفة للإنسان، وهى في حاجة إلى اكتشافها ومعرفة مقدراتها، كما أنه ستكون في حاجة أيضا إلى استغلالها والاستفادة من مواردها، وفي كل هذه الحالات يكون الإنسان محورا أساسيا، في البحث والتنقيب عن المصادر الطبيعية التي خلقها الله جل وعلا، كما أنه الأداة الرئيسية لاستخراج هذه المصادر والاستفادة منها.
خلق الله الإنسان من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، يتناسلون ويتكاثرون ويزدادون، فطرة الله التي فطر الناس عليها، وسنته ولن تجد لسنة الله تبديلا.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) .
وقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة النحل الآية 72(5/264)
من الأفكار السيئة الهدامة، والتي تخالف الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والتي غزانا بها الغرب، ليقضي بها على قوة المسلمين وعزهم ومجدهم؛ فكرة تحديد النسل، والتي يطلقون عليها أيضا فكرة تنظيم النسل وكلاهما بمعنى واحد والذي يقصد منها العمل على إضعاف الأمة الإسلامية، وتقليل عددها ليتمكن أعداء الإسلام من السيطرة على بلاد المسلمين، ونهب خيراتها، واستعمارها سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وتهافت على هذه الفكرة الخبيثة الملحدة من أبناء المسلمين، من يتبعونهم ويغترون بأفكارهم، دون فهم لمقاصدهم، وما يتربصون به من كيد للإسلام والمسلمين، مع أننا لو أمعنا النظر وتتبعنا ما يقوم به الغرب واقعيا، لوجدناه أنه حينما يروج لهذه الفكرة في البلاد العربية والإسلامية، يدعو إلى عدم تطبيقها في بلاده، ففي أمريكا: أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية الجنرال أيزنهاور في مؤتمره الثاني المنعقد في ديسمبر سنة 1959، أن حكومته لن تفكر في تحديد النسل في أمريكا مادمت في البيت الأبيض، ويقول الرئيس جونسون: أنه ما دامت الفرص أمام الأمريكيين في تزايد، فسوف تظل هذه الأمة تنعم بالخير والبركة، مهما وصل عدد أبنائها، قال هذا: عندما وصل عدد الشعب الأمريكي مائتي مليون نسمة، وأعلن الرئيس نيكسون تأييده لموقف أيزنهاور وطالب بمنع الإجهاض، وفي روسيا قالت صحيفة الديلي تلغراف: إن السلطات زادت الأموال المخصصة وامتيازات السكن للمتزوجين، كما شجعت النساء على إنجاب الأطفال، واشترطت لذلك إعطاءهن إجازات ولادة لمدة سنة مدفوعة الأجر، وفى اليونان: صرفت مكافأة شهرية ثابتة لكل أبوين عن الطفل الثالث، وفى بريطانيا: بالإضافة للإجازة المجانية والعلاوة التي تحصل عليها الأمهات، فإن كل مولود دون استثناء يحصل على علاوة طفل تستمر إلى أن يتخرج من المدرسة الثانوية، وفي فرنسا: صدر قانون سنة 1968 يجعل بيع وسائل منع الحمل ممنوعا، ويحرم الدعاية الإعلانية فيها، ويشترط شهادة طبيب لاستخراجها واستخدامها، وأعلن وزير الدفاع ميشيل دبريه: أن تحديد النسل يمثل خطرًا كبيرًا على مستقبل الدولة، وأنه بالتالي يجب على المرأة الفرنسية أن تعمل على زيادة النسل، كواجب قومي يحفظ لفرنسا كيانها كدولة كبرى.(5/265)
هذه مواقف أمريكا وأوروبا والدول الغربية التي تروج في بلادنا فكرة تحديد النسل، حتى تعمل كما بينت على إضعاف الأمة الإسلامية، وتقليل عددها ليسهل عليها التغلب عليها، وقهرها سياسيا واقتصاديا والاستيلاء على خيرات بلادها ونهب مواردها، يقول فضيلة الشيخ حسنين مخلوف، المفتي الأسبق لجمهورية مصر العربية وعضو مجمع البحوث الإسلامية في فتواه في هذا الموضوع: وقد عثرت على رسالة وجهها أحد الرؤساء المسيحيين للأطباء منهم، يحذرهم من منع الحمل بين أبناء طائفتهم، ويدعوهم إلى منع ذلك بينهم منعا باتا، بينما يدعوهم إلى مساعدة من يريد التحديد والتنظيم إذا كان من المسلمين، أملا في أن يقل عدد المسلمين ويكثر عدد غيرهم من غير المسلمين، يقول فضيلته في فتواه: وهذا المنشور قرأته بنفسى منذ بضع سنين، وهو منشور سري كتبه هذا الزعيم المسيحى، ونشره بين أبناء ملته سرا، ليعمل به أطباؤهم وينفذوه حين يعرض عليهم الأمر، وخلاصته تقليل عدد المسلمين وتكثير عدد غير المسلمين، وبعبارة أخرى إضعاف المسلمين وتقوية غير المسلمين في مجال الحياة، والله لا يهدي كيد الخائنين - انتهى ما قاله فضيلته.
إن من الواجب على المخلصين من أبناء الأمة الإسلامية، أن يقفوا بوعي وحسم وبجدية أمام المؤامرات الإمبريالية والصهيونية، التي تعمل على إخضاع المسلمين والاستيلاء على أقدس بقعة في بلادهم بعد المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوى الشريف بالمدينة المنورة، وهو المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، والقدس الشريف وفلسطين المباركة، إنه من الواجب على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن ينتبهوا ويفيقوا من غفلتهم ويرفضوا هذه الأفكار الخبيثة التي يروج لها أعداؤهم، والتي تؤدي إلى ضعف الأمة وانحلالها، وليعلم الذين يتبعون هذه الأفكار من أبناء الأمة الإسلامية، والترويج لفكرة تحديد النسل، أنهم يساعدون الصهيونية التي تعمل على إبادة الشعب العربي الفلسطيني، وإضعاف العالم العربي والإسلامي، والقضاء على كيانه بالتعاون مع أعداء العرب والمسلمين.
إن العالم العربي والإسلامي، عالم متكامل يكمل بعضه بعضا، فقد يكون في بلد كثافة سكانية، وفي بلد آخر تقل الأيدي العاملة وتكثر الأراضي البور الصالحة للزراعة، ولذلك يجب أن ينظر إليه نظرة شاملة، بحيث تذوب الحواجز السياسية والمصطنعة، ويتكون من هذه الأوطان المتعددة عالم قوي متماسك، تتكامل فيه الثروة المادية والثروة البشرية والثروة الأدبية ويتبوأ بذلك مكانته اللائقة في هذا العالم.(5/266)
إن العالم الإسلامي، لم يحقق وحدته الاقتصادية التي تجعل كل جزء من أجزائه عضوا في الجسد الإسلامي الكبير، بما يحقق التعاون بتنمية الثروة ومضاعفة الانتاج، ومن المؤسف حقا أن المسلمين اليوم يملكون ما يكفي لاستصلاح كل شبر من أراضيهم التي لم تستغل حتى الآن ولكن هذه الثروة توضع في بنوك أوروبا وأمريكا ويستفيد منها الصهيونية وأعداء الأمة، ويستغل هذه الثروة ويستفيد منها المتآمرون على عقيدتهم وحريتهم وبلادهم، وعلى كيانهم التقدمي والحضاري، وبالرغم من قيام منظمات إسلامية وعربية متخصصة في جوانب الاقتصاد، إلا أننا لم نر عمليا حتى اليوم التكامل الاقتصادي في البلاد الإسلامية والعربية، مع أنه يجب أن يعلم أن العالم العربي والإسلامي حين يستغل ثرواته الطبيعية، فإن ميزان القوى في هذا العالم سيتحول لصالحه، ويسير بخطى واسعة في طريق القوة والتقدم والازدهار، وليعلم الجميع أن واقعنا يلزمنا من الإكثار من النسل بعد أن تبين أن عالمنا العربي والإسلامي غني بثرواته الطبيعية، وفي حاجة إلى الأيدي البشرية لاستغلال هذه الموارد والاستفادة منها، ويجب أن يعلم أن قضية تحديد النسل قضية عقائدية، قبل أن تكون مخططا لتقليل عدد المسلمين وإضعافهم، فالقرآن الكريم يقرر أن الله سبحانه وتعالى تكفل برزق العباد، ولكن دعاهم إلى البحث والتنقيب عن مصادر الرزق واستغلالها استغلالا حسنا وعادلا قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) .
أما الذين يدعون إلى الشرك والضلال والإلحاد يقولون: إن مسألة إيجاد الرزق خاضعة لعقل الإنسان وتخطيطه، ولا علاقة لها بالمسائل الإيمانية، ويزعمون من هذا المنطلق الإلحادي قائلين: إن تحديد أفراد الأسرة يرفع من مستوى المعيشة، ويساعد على التنمية القومية، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} .
__________
(1) سورة الملك الآية 15(5/267)
إن زيادة أفراد الأسرة وزيادة عدد الأطفال فيها، وإن كانوا يمثلون في أول عمرهم عبئًا على الأسرة، ويقللون من مستوى نصيب الفرد في الأسرة لأنهم يستهلكون المواد الاقتصادية فيها، وبالتالي تتدنى المستويات المعيشية لأسرهم، وللمجتمعات التي يعيشون فيها، إلا أنه من المشاهد في المجتمع أن الأسرة التي يزداد عدد أفرادها وأولادها، تحقق فوائد اقتصادية كثيرة من وراء استثمار الوالدين، والأسرة لأموالهم في تربية الأطفال وتعليمهم، ذلك لأن الأطفال إذا كبروا يعملون ويصبحون منتجين، ويكون إنتاجهم أثناء عملهم أكثر من استهلاكهم، وبذلك يتحقق الخير والبركة للأسرة والمجتمع، وإن تحديد النسل ما هو إلا نوع من أنانية الوالدين اللذين ينظران لمصلحتهما أكثر من مصلحة المجتمع الاقتصادية.
إن الإسلام يأمرنا بالإكثار من النسل، ويحض عليه ويدعو إليه، فعن معقل بن يسار جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إنى أحببت امرأة ذات حسب ومنصب ومال، إلا أنها لا تلد أفأتزوجها؟ فنهاه ثم أتاه الثانية فقال له مثل ذلك ثم أتاه الثالثة فقال له صلى الله عليه وسلم: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)) - رواه أبو داود والنسائي والحاكم.(5/268)
إن الذين يدعون إلى حركة تحديد النسل من المسلمين، لا يجدون في القرآن الكريم آية واحدة تؤيدهم في دعواهم، يحاولون أن يستدلوا على صحة فكرتهم بروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في بعضها الإذن بالعزل، إن احتجاجهم بالأحاديث النبوية الشريفة هو احتجاج غير صحيح، ذلك لأن العزل لم يكن شائعا بين المسلمين، ولم تقم فيهم حركة لتحديد النسل ومنع الحمل، وإنما كانت هناك ثلاثة أسباب، هي التي حملت على العزل نفرا من المسلمين، ويمكن أن نعرفها من الروايات الواردة في كتب الحديث الشريف في باب العزل، أولا: خشية أن تحمل الأمة، ثانيًا: خشية أن تستحق الأمة إقامة دائمة إذا صارت أم ولد، ثالثًا: خشية أن يتعرض الولد لنوع من الضرر إذا حدث الحمل في أيام الرضاعة.
فهذه هي الأسباب التي من أجلها أحس نفر من الصحابة - منهم عبد الله بن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم - بحاجة إلى العزل في ظروف خاصة، وعملوه بحجة أنهم لم يجدوا في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية دليلا ينهى صراحة عنه، يقول جابر رضي الله عنه: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول في رواية أخرى: كنا نعزل والقرآن ينزل، ويقول في رواية ثالثة: كنا نعزل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل رواها البخاري ومسلم، فواضح من هذه الروايات، أن جابرًا ومن كان على رأيه من الصحابة، في إباحة العزل، لما لم يجدوا في نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة دليلا ينهى عن العزل صراحة، حسبوا ذلك دليلا على إباحته، يقول جابر رضي الله عنه في رواية أخرجها عنه الإمام مسلم في صحيحه: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه ذلك فلم ينهنا.
أما الروايات الأخرى فقد جاء في بعضها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان سئل في هذه القضية، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أصبنا سبيا فكنا نعزل) . فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أو إنكم لتفعلون - قالها ثلاثًا - ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهى كائنة)) أخرجها البخاري ومسلم.(5/269)
وفى رواية أخرى، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وساقيتنا وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها. رواه مسلم، مع أن جماعة من الصحابة وغيرهم قد صح عنهم النهي عن العزل، يقول الإمام الترمذي في سننه: وقد كره العزل قوم من أهل العلم من الصحابة وغيرهم، وروى الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أنه كان لا يعزل وكان يكره العزل، والذى يمكن أن نستخلصه من الروايات التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لم تكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم حركة عامة قائمة لدعوة الناس إلى تحديد النسل، ولا جاء أحد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسأله عما إن كان له القيام بحركة مثل هذه، وكل ما في الأمر أن نفرا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم جاءوا إليه على أحيان مختلفة، يعرضون عليه ظروفهم الشخصية المخصوصة، ويسألون عما إذا كان من المباح لهم كمسلمين في مثل هذه الظروف أن يعزلوا؟ والرسول صلى الله عليه وسلم في رده على سؤال بعض هؤلاء قد نهى عن العزل وفى رده على سؤال بعضهم عد العزل فعلا عبثا لا طائل تحته. كما أنه قد سكت في رده على سؤال بعضهم، إذ قال ما لا يمكن الاستدلال به على إباحة العزل، ونحن إذا لم نأخذ بالاعتبار إلا أقواله التي تدل على إباحة العزل فإنه يمكن الاستدلال بها على إباحة العزل للأفراد بصفتهم الفردية في ظروفهم الشخصية المخصوصة. ولا يمكن بحال من الأحوال أن يستدل بها على إباحة القيام بحركة شعبية عامة لمنع الحمل، أما الحركة الاجتماعية لتحديد النسل فهي متصادمة مع الإسلام في صميمه لأنها تؤدي إلى تناقض المجتمع وانخفاض أصحاب الكفاءات العلمية فيه، وإن استعمال الوسائل التي تؤدي إلى منع الحمل، قد تؤدي إلى إشاعة الفاحشة وانتشار الأمراض والفساد في الأرض، كما يولد استخدام هذه الوسائل الأنانية والانحلال لأنه يطلق العنان لشهوات المراهقين الذين يتحولون إلى حيوانات مفترسة، تتصارع مع بعضها لإشباع الغريزة الجنسية، ولا يمكن للدين الإسلامي الذي يرى في الزنا أبشع جريمة خلقية يستحق مقترفها أقصى العقوبات، أن يسكت عن معارضة حركة لابد أن تعرض المجتمع كله لخطر انتشار هذه الجريمة، كما أن الإسلام لن يسكت على هذه الدعوة، التي تقوم على الأثرة وحب الذات، وتسبب مزيدا من النقص في أعداد المسلمين المحاطين بالأعداء المتربصين.(5/270)
إن موقف الإسلام من هذه الحركة الخبيثة لا يمكن أن يقبل تحديد النسل للأمة الإسلامية التي تريد لنفسها البقاء، وتعمل جاهدة في جميع الميادين، لتأخذ مكانتها اللائقة بها بين الأمم الأخرى، قوية عزيزة الجانب تسير في طريق التقدم والازدهار، كما أنه لا يقبله أحد من أبناء الأمة العاملين المخلصين لرفع شأن الأمة، ومن هنا جاءت الشريعة الإسلامية، على مبادئ القوة واتساع العمران وكثرة الأيدي العاملة والحث على الزواج، وامتن الله على الناس بنعمة الأولاد والحفدة كأثر من آثار الزواج قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (1) . وقد طمأن الله النفوس على الرزق، وأن المائدة التي أعدها الله لعباده في ظاهرها وباطنها، لا يمكن أن تضيق عن حاجتهم، وحاجة نسلهم مهما تكاثروا وتزايدوا، وحاشا لله أن تضيق مائدته عن عباده، إن القيام بحركة تحديد النسل بشكل كلٍّ، وعلى مستوى الأمة بأسرها، حرام شرعا، ويحرم الإقدام عليه، كما تحرم الاستجابة له؛ لأن أي تقدم اقتصادي وعمراني رهن بكثافة النسل والسكان، وأن خيرات الأمة لا يمكن استغلالها إلا بازدياد عدد السكان، وأصبحت حاجتهم ماسة إليها؛ لأن ضغط السكان على الموارد يعمل في استغلال هذه الموارد لحاجة السكان إليها، وقد تكفل الله جل وعلا برزق المخلوقات، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} (2) . وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (3) . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (4) . وقال تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} (5) . وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (6) .
__________
(1) سورة النحل الآية 72
(2) سورة العنكبوت الآية 60
(3) سورة هود الآية 6
(4) سورة الذاريات الآية 58
(5) سورة الشورى الآية 12
(6) سورة الحجر الآية 20، 21(5/271)
إن المهمة التي يجعلها الله من وظيفة الإنسان بعد بيانه له حقيقة الرزق في هذه الآيات الكريمة هي أن يبذل الإنسان سعيه للبحث عن رزقه في خزائنه المبثوثة على وجه الأرض وفي باطنها وبمعنى آخر فإن الرزق من وظيفة الخالق، وأن البحث عنه من وظيفة الإنسان قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} .
وعلى هذا الأساس ينعى القرآن الكريم في غير موضع من آياته الكريمة على الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية الإملاق أيام الجاهلية. قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (1) .
وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (2) .
إن الذين يدعون لحركة تحديد النسل، إنما يدعون الناس لمنع زيادة الأفراد وتكاثر النسل، خشية الفقر كما كانوا في أيام الجاهلية، ويستعملون طرقا أخرى تحول دون الحمل، إنهم بدعوتهم الإلحادية يرتكبون جريمة خطر ضيق الأرض ونفاذ موارد الرزق، وهو الباعث لهم على الترويج لهذه الحركة لمنع زيادة السكان والنسل، إن الذين يدعون لهذه الحركة يخالفون الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وينكرون ما بينه الله عز وجل في الآيات الكريمة، بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ويعملون على تقويض أركان المجتمع، وإهلاك الحرث والنسل، ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون. وإن حركتهم ستبوء بالفشل لأنها قائمة على الإلحاد والدعوة إلى الفساد والله لا يهدي كيد الخائنين.
إن منع الحمل إذا كان محددا بشئون فردية مخصوصة، قد يشعر فيها الزوجان بحاجة حقيقية إليه، نظرا لأحوالهما الخاصة، على ألا يكون منها الخوف على الرزق؛ لأن هذا يتصادم مع الشريعة الإسلامية في صميمها، ويشترط أن يفتي بجوازه عالم تقي من علماء المسلمين لصحة حاجتهما، مع ذلك لا يجوز لهما استعمال وسائل منع الحمل إلا عن طريق طبيب مسلم صادق، إذا كان منع الحمل بهذه الشروط يكون مباحا؛ لأنه لن يرجع على الحياة الاجتماعية بمثل تلك المضار التي تؤدي إلى الإخلال بالمجتمع وتنقيص النسل؛ لأن هذا المنع الفردي للحمل، يختلف عن الحركة الشعبية العامة المتصادمة مع الشريعة الإسلامية وتوجيهاتها وأحكامها.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2) سورة الإسراء الآية 31(5/272)
ويجب أن يعلم أن الإجهاض بقصد تحديد النسل، أو استعمال الوسائل التي تؤدي إلى العقم، أمر لا يجوز ممارسته للزوجين، وأن الإجهاض قبل الأربعين وبعدها يكون حراما، إلا في حالة الضرورة العلاجية، وفقا للضوابط المقررة في الشرع وأن العقوبة المترتبة على جريمة الإجهاض عقوبتان: عقوبة دنيوية وعقوبة أخروية.
وفى الختام:
على المسلم رجلا كان أو امرأة، أن يتحرى الحلال، ويعمل به وأن يتقيَ الله وألا يتخذ من فساد المجتمع مبررا لارتكاب ما نهى الله عنه، وعلى الدول العربية والإسلامية أن تحارب فكرة تحديد النسل أو تنظيمه، محاربة تامة وصريحة وحاسمة، وعلى الدول العربية والإسلامية أن تعمل حظرا على بيع وسائل منع الحمل الحديثة، حفظا على الأخلاق والصحة العامة، وألا تسمح باستعمال تلك الوسائل إلا في الحالات العلاجية الضرورية، وأخيرا على الدول العربية والإسلامية أن تعمل على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية تطبيقا كاملا ومخلصا، في جميع مجالات الحياة حتى تكون الأمة الإسلامية كما أراد الله لها خير أمة أخرجت للناس تقود العالم إلى طريق الخير والعدل والرحمة. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رجب بيوض التميمي(5/273)
تناسل المسلمين
بين التحديد والتنظيم
إعداد
الدكتور أحمد محمد جمال
عضو مجلس الشورى وأستاذ الثقافة الإسلامية
بجامعة أم القرى
بسم الله الرحم الرحيم
تناسل المسلمين بين التحديد والتنظيم.
* عقيدة المسلم تمنعه من التحديد.
* الدعوة إلى تحديد النسل: مكيدة استعمارية.
* قلة السكان من أسباب الكساد!!
* متى بدأت فكرة تحديد النسل؟!
* المخاطرة الأخلاقية لعمليات التحديد!
* الغربيون أنفسهم يعارضون دعوتهم.
* تنظيم النسل في حالات فردية لا بأس به.
أحمد محمد جمال
أستاذ التفسير بجامعة أم القرى(5/274)
بسم الله الرحمن الرحيم
تتعالى بين حين وآخر.. الدعوة إلى تحديد النسل بحجة تكاثر السكان وقلة الغذاء أو السكن، وخوفًا من حدوث مجاعة عامة، وتتردد - في الوقت نفسه - تحذيرات من بعض الساسة والزعماء العرب والمسلمين.. تؤكد أن وراء هذه الدعوة أغراضا استعمارية سياسية واقتصادية، هدفها الدول العربية والإسلامية.
وهناك - في بعض المجتمعات - فكرة أخرى تطرح الدعوة إلى تنظيم النسل وبين الفكرتين أو الدعوتين فرق واضح. فالدعوة الأولى عامة شاملة أما الأخرى فهى محدودة وخاصة ببعض الأسر، تنفذها الأسرة من أجل إمكان تربية أطفالها وتعليمهم فترة بعد فترة، أو بسبب اضطرار الأم إلى الانتظار بضع سنين بين حمل وحمل.
وفي الدراسة التالية للموضوعين، محاولة لبيان وجهة النظر الإسلامية حولهما وكشف مكائد الاستعمار الأجنبى اقتصاديا وسياسيا الموجه للعالم العربي والإسلامي من وراء الدعوة إلى تحديد النسل.
وحسبنا في بداية بحثنا عن تحديد النسل - من الوجهة الشرعية - أن نذكر كفالة الله الخالق الرازق في قوله عز وجل تأنيبًا وتثريبا للجاهلين الوائدين لبناتهم.
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1) .
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (2) .
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} (3) .
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (4) .
وإلى جانب هذه الكفالة الإلهية الثابتة الخالدة برزق الخلق - يحث الإسلام في قرآنه وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي سيرة خلفائه وأصحابه على البحث والعمل، واكتشاف كنوز الأرض وثرواتها التي لا تنفد واستغلال خيراتها التي لا تغيض.
__________
(1) سورة هود الآية 6
(2) سورة الذاريات الآية 58
(3) سورة الحجر الآية 20
(4) سورة الأعراف الآية 96(5/275)
ففي التشريع الإسلامي: الكفالة الإلهية برزق الناس.. تأكيدا للقدرة، وتعميمًا للرحمة، وإغراء بالإيمان، وفيه الدعوة المكررة إلى العمل امتحانا للإنسان الذي وهبه الله العقل والسمع والبصر والجوارح، {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فهو عز وجل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) .
ونستأنس بوجهة نظر العلامة الأستاذ علال الفاسي في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها) يقول الأستاذ الفاسي ما خلاصته.
(إن الدولة وذوى السلطة في الأمة الإسلامية ممنوعون من اتخاذ التدابير لقتل الأمة خوفًا من الفقر، وذلك كوأد الأجنة في بطون أمهاتها.. حتى لا تنمو الأمة، فلا تجد بزعمهم ما يسمونه بالمجال الحيوي. إن دعوات جاهلية تنتشر في الشعوب الكثيرة العدد كالصين والهند - ويقلدها في ذلك بعض الدول العربية والإسلامية - تحث على تحديد النسل وإجهاض الأجنة بعد تكوينها بدعوة ضرورة توافق عدد السكان مع مستوى الإنتاج الاقتصادى، وللاحتياط من الفقر والبطالة، لقد خلق الله لنا من عوالم هذه الدنيا وما فوقها وما تحتها، وإلى الآن لم يبلغ الإنسان في استنزاف خيراتها إلا القليل، ولم يبلغ من اكتشاف أسرارها إلا الأقل، فلماذا نضيع الوقت في البحث عن طريق تحديد النسل، وإبادة الخلق، وقطع حبل الإنتاج الإنساني لأوهام لا مبرر لها؟!) .
(وليس في إفريقيا الآن إلا قدر ضئيل من السكان بالنسبة إلى مساحتها الكبيرة.. وما عليها الآن بعد أن تخلصت من الاستعمار الأجنبي إلا أن تبدأ كفاحها لإحياء أراضيها واستخراج خيراتها..) .
(إن إجهاض الأجنة، واستعمال الأدوية لمنع النسل وتقليله بصفة جماعية ليس مما يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية - وهو مما يدخل في غاية القرآن مما قصه علينا في وأد البنات عند العرب الجاهليين، والسبب الذي كان يحملهم على ذلك) .
__________
(1) سورة الملك الآية 15(5/276)
وهنا نحب أن نقف قليلا عند قول الأستاذ الفاسي: إن استعمال الأدوية المانعة للنسل أو تقليله.. بصفة جماعية لا يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية - فنلفت الانتباه والتأمل لقوله (بصفة جماعية) !!
فهذا هو الصواب في تحريم تحديد النسل أو تقليله: أن يكون بصفة جماعية تفضي إلى تناقص الأمة عددًا، وضعفها قوةً، وقلة أبنائها ورجالها الذين يعملون لتقدمها وتطورها علميا واقتصاديًا، ويدافعون عن مصالحها ومنافعها سلمًا، وعن حماها وبيضتها (1) . إذا أريدت بحرب أو عدوان.
ونتأمل هنا زجر الله عز وجل لخلقه من وأد بناتهم كما كانوا يفعلون في الجاهلية مخافة الفقر حاضرًا ومستقبلًا، مع وعده تبارك وتعالى بأنه الكفيل برزقهم وبرزق أولادهم: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (2) . {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (3) .
وللعلامة الأستاذ أبي الأعلى المودودي رأى في الدعوة إلى تحديد النسل يقول سماحته:
(إن هؤلاء المتعاقلين - يقصد دعاة تحديد النسل - لا يعرفون أن الله عز وجل قد خلق كل شيء في السماوات والأرض بمقدار كما قال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وأنه لا يصدر شيئًا من خزائنه إلا بقدر معلوم: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} فمهما يكن من ظن هؤلاء القوم بالله وبأنفسهم، فإن الحقيقة التي لا تقبل الجدل هي أن الله الذي خلق هذا العالم وأبدع نظامه المحكم ليس بجاهل، ولا بطالب مبتدئ لفن الخلق والتنشئة، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} - كما أن خلق السكان في العالم أو في بلد من بلاده عز وجل، ثم الزيادة والنقصان في عددهم وتهيئة الأسباب لبقائهم - مما يتعلق بحكمته ونظامه وحده: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} - {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} - {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .
__________
(1) بيضة كل شيء: حوزته وبيضة القوم: ساحتهم
(2) سورة الأنعام الآية 151
(3) سورة الإسراء الآية 31(5/277)
وعلى هذا الأساس يزجر القرآن الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية الإملاق - أى الفقر - أيام الجاهلية، وكان زجرهم عن ذلك لارتكابهم جريمتين: الأولى أنهم يقتلون أولادهم، والأخرى أنهم يرون في ولادتهم سببًا لفقرهم وبؤسهم) .
ويضيف الأستاذ المودودي: أن هناك عشرات الكتب التي طبعت في الغرب، ومهمتها أن تبالغ كل المبالغة في عرض مشكلة زيادة السكان في الشرق وتقترح على أساسه اتباع خطة تحديد النسل، ومنع الحمل - كحل ناجح لهذه المشكلة، وإن مكتبات البلاد الغربية مليئة بمثل هذه الكتب وهى تؤثر في حكومات الغرب بصفة مستمرة، كما أن السلوك العملي للقوى الاستعمارية يوثقها توثيقًا.
تآمر استعماري على العالم الإسلامي:
ويثبت الأستاذ المودودي ما يقوله باعتراف لبعض المفكرين الغربيين أمثال فرانك نوتيسين - وأرنولد قرين - وآثر كورماك -: بأن التقدم العلمي والفني قد وصل أيضًا إلى البلاد التي يتزايد عدد سكانها بسرعة فائقة!! وأن سيادة أوروبا تتوجس خطرًا سياسيًا شديدًا من تزايد السكان في العالم الإسلامي، وأن أمريكا تشعر بقلق من تغير الأحوال في آسيا وأفريقيا على أساس زيادة السكان بحيث يصبحون أغلبية في العالم.
وهناك مخاطر قلة السكان العرب في ديارهم الواسعة ذات الخيرات والبركات الكثيرة، ومساعي إسرائيل إلى مزيد من تهجير اليهود في العالم الشيوعي إليها لتوطينهم واستعمار الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967 م
لقد تحدث الدكتور أحمد زكي عن هذه المخاطر والأطماع اليهودية، وعن إسرائيل وانتصارها مع قلتها على العرب وكثرتهم فقال: إن ما حدث لم يكن من قوة الصهاينة ولكن من ضعف العرب، وقال أيضا: هناك أطماع في الوطن العربي تثيرها قلة السكان مع كثرة الخير. ثم قال: إن زيادة السكان لا نقصهم يجب أن تكون سياسة العرب، على شرط ألا ينتجوا الأنسال للعري والجوع ولكن للرزق الحلال، من العمل النافع، بعد التخطيط له، ثم كرر الكاتب: القول: بأن قلة السكان مع كثرة الخير تحرك الأطماع، ذلك أن بعض مناطق الوطن العربي قد تصبح في أي وقت موضعًا لأطماع تغزوها من الخارج لكثرة خيرها، مجتمعًا هذا إلى قلة سكانها، وضعف الدفاع عنها بناء على ذلك. وهو لا يعني (بالخير) الزيت وحده. وإنما يعني: الأرض الطيبة، والماء الوفير (1) .
__________
(1) كان الدتور أحمد زكي - رحمه الله رئيسا لتحرير مجلة (العربي) التي تصدر في الكويت(5/278)
أشار الكاتب إلى أحاديث سبقت له مع بعض اليهود في لندن، صرحوا فيها أنهم لا يهدفون إلى سيناء ولا إلى النقب، ولا إلى الأردن الشرقي، فهي عندهم مناطق صحراء غبراء ولكنهم يهدفون إلى أبعد من ذلك وأخطر من ذلك، وأمرع نباتا وأكبر محصولًا، وأكثر ثمرًا، وأقل رجالًا، بل حيث لا رجال.
وقد نشر إلى جوار كلامه هذا خريطتين وضعتا على قاعة المحاضرات في لندن مع دعوة للناس إلى الاستماع إلى محاضرة عنوانها (معجزة العودة - الإسرائيلية إلى الشرق الأوسط) الخريطة الأولى تصور إسرائيل في وضعها الحاضر - والثانية تصورها وهى تغطي جزيرة العرب كلها!
وأضاف قوله: إنه إذا لم تكن سرعة النسل بمسعفة فما بال الهجرة من مكان فيه كثرة إلى مكان فيه قله؟؟ نعم هجرة عرب إلى أرض عربية ينزلون فيها ليعملوا في حرث وبذرٍ وجمعٍ وحصاد.
قلت: إنه نذير صارخ للزعامات العربية: أن تصحو.. وأن تفكر وأن تعمل وأن تتعاون على الحرث والزرع وتكاثر النسل وبذر الخير للأبناء قبل أن يهجم الأعداء.
ومن عجائب الصدف ومحاسن الاتفاق: أن أقرأ في نفس الوقت في كتاب (وجهة الاقتصاد الإسلامي) لجاك أوستروي - رأيًا للمستشرق الفرنسي المعروف لويس ماسنيون يقول فيه: (إن الدراسات البشرية تدل أن سكان البلاد الإسلامية هم من الشباب في ذروة النشاط والأمل، ولن يتركوا إلى ما لا نهاية نظام استغلال بلادهم عن طريق الوصاية. إن هؤلاء الشباب سيصلون إذا عملوا إلى استعادة ثرواتهم الطبيعية من أرض زراعية، ومطاط، وقصدير، ومنغانيز وبترول إلخ) .
وقد علقت على هذا الرأى بالعبارة التالية: إذن فالدعاة إلى تحديد النسل في بلادنا العربية والإسلامية، وأصحاب صناعات أدوية منع الحمل: مدسوسون لمنع هذه (اليقظة) الإسلامية ومنع نهوض الشباب الإسلامي لاستراداد حقوقه واستغلال ثروات بلاده الغنية المعطاء!(5/279)
قلة السكان سبب للكساد:
ولعلماء الاقتصاد الحديث وجهة نظر مضادة لفكرة تحديد النسل، فإنهم يرون أن قلة السكان أقوى أسباب الكساد الاقتصادى لأنه بانخفاض عدد المواليد يقل عدد السكان المستهلكين للسلع المنتجة، مما تفشو به البطالة بين السكان المنتجين، بقلة الطلب على المواد المنتجة، الأمر الذي يضطر أصحاب المصانع لتسريح عدد كبير من العمال، ومن هنا يطالب علماء الاقتصاد المعارضون لفكرة تحديد النسل بزيادة السكان، لضمان استهلاك الإنتاج واستبقاء العمال في مصانعهم.
ويؤكد فريق آخر من علماء الاقتصاد الحديث: بأن زيادة السكان في العالم أو في منطقة خاصة منه، ليس معناها زيادة الأفواه الآكلة فقط، بل تعني زيادة الأيدي العاملة أيضًا: وذلك أن للإنتاج ثلاثة أسس: الأرض - والمال - والإنسان هو أهم هذه الأسس وأخطرها ومن المؤسف: أن دعاة تحديد النسل يرون في زيادة السكان عاملًا استهلاكيًا ويصرفون نظرهم جهلًا وعنادًا عن كون هذه الزيادة عاملًا مهما للإنتاج!
ولا أدل على صدق وجهة نظر هؤلاء الاقتصاديين - من اهتمام فرنسا بانخفاض نسبة تزايد سكانها - في عام 1967 وتكوينها فرق عمل لدراسة ما يمكن القيام به لحث الأزواج على إقامة أسر متعددة الأفراد أكثر مما هو موجود الآن.
كذلك ليس أدل على كذب الدعوى بأن الإنتاج الغذائي في العالم أقل من كفاية سكانه المزايدين عامًا بعد عام - مما أثبته تقرير منظمة الزراعة والأغذية التابعة لهيئة الأمم المتحدة - لسنة 1967 - من أن إنتاج المواد الغذائية في العالم ارتفع بنسبة 3 % وفى البلدان النامية ارتفع الإنتاج إلى 6 % ولم يرتفع عدد السكان في السنة ذاتها إلا بنسبة 2 % - وكانت المحصولات الزراعية غزيرة في أوروبا الغربية وأوروبا الوسطى وأمريكا وأمريكا الشمالية والشرق الأدنى.(5/280)
وهناك واقع مرير للسياسة الأمريكية والأوروبية الاقتصادية.. وهى قذف آلاف الأطنان من الحبوب والبيض والفواكه في المحيطات والبحار، لأنها زائدة عن حاجة الأسواق العالمية التي تصدر إليها أمريكا وأوروبا إنتاجها الغذائي، ولو كان لهؤلاء الناس المستعمرين كما يزعمون بعض المشاعر الإنسانية لتصدقوا بهذا الفائض من إنتاجهم على الجياع في أفريقيا من شيوخ ونساء وأطفال.
وهكذا تبطل حجة المنادين بتحديد النسل، وتسقط دعواهم بأن الإنتاج الغذائي لا يكفي سكان العالم.
ومن العجيب المريب: أنه في الوقت الذي ينادي فيه بعض الخبراء الاقتصاديين الغربيين الذين تبعثهم بعض الدول الكبرى - تحت ستار المساعدات الاقتصادية لبعض دول أفريقيا - بضرورة التشجيع على زيادة السكان الأفريقيين لأن بلادهم حديثة عهد بالاستقلال السياسى والتنمية الصناعية ولأن الإنتاج الاقتصادى يحتاج إلى أيد عاملة وفيرة - في هذا الوقت بالذات يكرر المستر (مكنمار) مدير البنك العربي الدولي الذي يتولى إعطاء القروض الربوية لتلك الدول الأفريقية المتطلعة إلى الازدهار الاقتصادي - يكرر الدعوة في تقرير له - عام 1969 - إلى المسارعة لحل مشكلة زيادة السكان في هذه الدول، ويصفها بأنها أكبر عائق للتقدم الاقتصادى والاجتماعى لأغلبية شعوب العالم غير المتطور!
وتكرار (مكنمار) لدعوته إلى مقاومة زيادة السكان في الدول الشرقية النامية برهان جديد على أهداف الغرب الاستعمارية من وراء فكرة تحديد النسل، وقد بدأ التخطيط لتحقيق الفكرة منذ رحل الاستعمار الغربي العسكري والسياسي عن بلدان الشرق في آسيا وأفريقيا، حيث لاحظ الغرب المستعمر زيادة عدد السكان المستمرة بين الشرقيين، وتعذر بقائهم محكومين أبدًا للغربيين، وبخاصة بعد تدرب الشرقيين على الآلات الميكانيكية وإلمامهم بالعلوم الفنية.(5/281)
بدء الدعوة إلى تحديد النسل:
واستتمامًا للحديث عن فكرة تحديد النسل نرى أن نذكر منشأها أو ابتداءها التاريخي، لقد بدأت فكرة تحديد النسل في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وكان أول الدعاة إليها الاقتصادي الإنكليزي المعروف مالتوس فقد رأى أن سكان بريطانيا في عهده يتزايدون بصورة غير عادية، وأنه لابد لكى يحافظ الشعب البريطاني على سعة عيشة ورخائه المادي، ورفاهه الاقتصادي: أن يكون ازدياد عدد سكانه متمشيًا مع ازدياد موارد الرزق ووسائل المعيشة في بريطانيا.
والطريق التي اقترحها (مالتوس) لتحديد النسل هي أن لا يتزوج الأفراد إلا بعد أن تتقدم بهم السن، وأن يحاولوا التغلب على أهواء النفس وكبت نزواتها في الحياة الزوجية إذا تزوجوا.
وبعد مالتس الأنكليزي ظهر فرانسيس بالاس الفرنسي، ودعا في فرنسا بضرورة الحد من تزايد السكان، وكان رأيه الذي تقدم به لتحقيق هذا الغرض هو استخدام الآلات والعقاقير.
ثم قام في أمريكا الطبيب الشهير تشارلس نورتون وأصدر كتابه (ثمرات الفلسفة) الذي شرح فيه التدابير الطبية لمنع الحمل، وأشاد فيه بذكر المنافع الاقتصادية لتحديد النسل.
وقد تأسست في بريطانيا - على إثر ذلك جمعية برئاسة الطبيب دريسديل، وأصدرت كتبًا ورسائل للحث على تحديد النسل، وبعد ذلك بسنين ظهر كتاب (قانون عدد السكان) للسيدة بيسانت وفى سنة 1881 م وصلت حركة تحديد النسل إلى هولندا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا، وانتشرت شيئا فشيئًا في سائر البلاد المتحضرة في أوروبا وأمريكا.(5/282)
ويرى الأستاذ المودودي: أن انتشار هذه الحركة في أوروبا وأمريكا كان لأسباب غير الذي دعا من أجله مالتوس وإنما جاء نجاحها نتيجة للنهضة الصناعية الجديدة والنظام الرأسمالي والحضارة المادية السائدة اليوم في الغرب، فقد هجر سكان القرى والأرياف مزارعهم إلى المدن للعمل في مصانعها ومعاملها، واتسعت حاجات الحياة، وغلت تكاليفها غلاء فاحشا ضاق به أصحاب الدخل المحدود، حتى عجز الآباء عن تربية أولادهم، والأزواج عن رعاية زوجاتهم والشباب عن كفالة آبائهم وأمهاتهم الشيوخ، واضطرت النساء أن يكفلن أنفسهن بعملهن فخرجن من بيوتهن لكسب المعيشة.
بذلك بطلت القسمة الفطرية القديمة في باب الاقتصاد التي كان بموجبها: أن يكدح الرجال لكسب المعيشة، وأن يتولى النساء تربية الأولاد، وإدارة شؤون المنزل الداخلية، وإذا كان على المرأة أن تعمل كالرجل لتؤدي نصيبها من نفقات الأسرة المشتركة فأنى لها أن تستعد لإنجاب الأولاد، وأن تقوم برعايتهم كما ينبغي!
وإن نعجب من نجاح فكرة تحديد النسل لسبب غير السبب الذي من أجله دعا الدعاة إلى تحقيقها وهو تقليل عدد السكان ليتفق مع مقدار الموارد والوسائل الاقتصادية الممكنة.
.. فعجب آخر: أن يكون رواج هذه الفكرة بين الأغنياء والطبقات المتوسطة.. التي لا تشكو فقرًا ولا نقصًا في مواردها الاقتصادية، فالعمال الفنيون من ذوي الرواتب الضخمة، وأرباب التجارة والصناعة، والمثقفون ثقافة عليا، ورجال الرفاهية الاقتصادية من الطبقة الوسطى والأغنياء والمترفون من الطبقة العليا - هم المؤيدون لهذه الحركة والعاملون على تحديد نسلهم كما جاء في تقرير اللجنة الملكية لإحصاء السكان في بريطانيا، وظلت طبقة العمال والفلاحين يتزايد عدد أفرادها في مقابل انخفاض عدد الأغنياء والمثقفين.
وقد أكد ذلك الفيلسوف البريطاني برترا ثدراسل - في كتابه (مبادئ الإنشاء الاجتماعي) فقال: إن الطبقات التي يقل أفرادها هم المثقفون والأغنياء والأذكياء.. بينما يتزايد عدد أفراد طبقات العمال والأغبياء والجبناء، وحذر راسل من انحطاط مستوى الذكاء والقوة والنشاط والثقافة وطالب بتغيير النظام الاقتصادي والمستوى الأخلاقي.(5/283)
المخاطر الأخلاقية للتحديد:
ومن عجائب آثار حملة تحديد النسل - غير ما تقدم - أن أدوية ووسائل منع الحمل يسرت طرق الفواحش الخلقية. ولم تعد المرأة تخشى فضيحة بسبب حملها إذا ما رغبت في تلبية نزعاتها الجنسية بغير وسيلة الزواج. وبخاصة حين تقوم العقبات الاقتصادية الكثيرة في طريق تأسيس بيت الزوجية، وتتبع الفواحش الخلقية الميسرة - عادة - الأمراض التناسلية الخبيثة المعروفة..
وللأستاذ المودودي تعليق لطيف حكيم، على هذه الناحية الخلقية من نتائج تحديد النسل، يقول سماحته: (إن هناك أمرين لا ثالث لهما يثبتان النساء - بعد خشيتهن لله - على جادة الأخلاق.. وهما حياؤهن الفطري، وخوفهن من أن ولد الزنا يفضحهن في البيئة، أما الحاجز الأول فقد أزاحته المدنية الجديدة إلى حد كبير، فأنى للحياء أن تبقى منه باقية بعد الاختلاط العلني بين الرجال والنساء في محافل الرقص والغناء والخمر وسواحل البحار والمسابح والملاهي، وأما الخوف من ولادة ولد الزنا فإن رواج وسائل تحديد النسل قد جعله أيضا أثرًا بعد عين، وشيئا يمت إلى الماضي لذلك أصبح النساء والرجال جميعا كأنهم قد نالوا إجازة عامة باقتراف الزنا) !!
ومن ثمرات تحديد النسل كثرة حوادث الطلاق، وقد أسلفنا أن الفكرة راجت في أوروبا بين طبقات الأغنياء والمثقفين أكثر من رواجها بين الفقراء.
والحقيقة أن هناك علاقة واضحة بين الطلاق والحياة الزوجية الخالية من الذرية التي من شأنها أن تشد من رباط الزوجين، كما يقول بارنيس وريودي في كتابهما: (الأسلوب الأمريكى للحياة) ويقرران أن الأزواج والزوجات الذين يطالبون بالطلاق ثلثاهم ممن لم يرزقوا أطفالا. وهنا نقف مليا لنتأمل هذه الحقيقة الإنسانية واضحة بينة في كتاب الله المجيد: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
وهكذا أوهنت بدعة تحديد النسل العلاقات الزوجية بين سكان البلاد الغربية - كما يقول الأستاذ المودودي - وقد أثبت سماحته في كتابه: (حركة تحديد النسل) آراء ونظريات أعلنها مفكرون غربيون حذرا من مخاطر التحديد، وقلة الذرية، وفشو الطلاق بين الأزواج وزيادة عدد الوفيات من الكبار.(5/284)
الغربيون أنفسهم يعارضون التحديد:
وحين تجلت الآثار السيئة لبدعة تحديد النسل من:
- رواج الفكرة بين الأغبياء والمثقفين، عكس ما كان يراد لها.
- وزيادة نسل الفقراء والأغبياء.
- وتفشي الزنا وما يصحبه من الأمراض الخبيثة.
- وكثرة حوادث الطلاق بسبب فقدان الذرية.
- وزيادة عدد الوفيات من الشيوخ على عدد المواليد من الأطفال..
قام عدد من المفكرين ونادوا بخطأ الفكرة وخطرها وأثرها السيء في مستقبل الأسرة والمجتمع في أوروبا وأمريكا.
من هؤلاء (ليندليس بال) الذي قال في كتابه (المشاكل الاجتماعية) : إن مالتوس لو كان حيا لما وسعه إلا الشعور بأن الإنسان في الغرب قد رمي إلى أبعد من اللازم بسبب تحديده للنسل، بل الحقيقة أنه أثبت أن نظرة قصير جدًا.. بشأن التفكير في حفظ مستقبل حضارته.
ويضيف ليندليس بال: أن عدد سكان فرنسا وبليجكا قد قل من وقت لآخر؛ لأن الوفيات فيهما تزيد على المواليد، ولكن البقية الباقية من الأمم الصناعية المتحضرة في الغرب يواجهها أيضا هذا الخطر، وفى أمريكا نفسها قال علماء الإحصاء إن خطر قلة السكان سيتحول إلى حقيقة ثابتة بعد جيل واحد فقط.
ويقول الأستاذ (كول) مؤلف كتاب (توجيه الرجل الذكي بعد الحرب) (ليست قلة السكان حلًا لمشكلة البطالة في بلادنا كما أنه من المحال أن يرتفع بها مستوى معيشة بقية السكان وستكون مؤثراتها الاقتصادية سيئة للغاية.. إذ لابد بسببها أن ترتفع نسبة العجائز فيضطر المنتجون إلى تشغيل المتقاعدين لكل ذلك علينا أن نستعين بكل طريق ممكن لمواجهة خطر قلة السكان) .(5/285)
ويقول سوروكون في كتابه (الثروة الجنسية في أمريكا) من قانون الفطرة أن أية أمة إذا لبت نداء شهواتها النفسية، وانقطعت إلى التشرد الجنسي غفلت عن إنجاب الذرية وتخليد النسل، وحسبت الأطفال عائقا في سبيل حريتها ولذاتها ورخائها الاقتصادى - وهو سلوك معاد لقانون الفطرة وبه يقل عدد أفرادها ثم ينحط ويتردى حتى لا تستطيع قضاء حاجاتها اللازمة، ولا تقدر على الاحتفاظ بشخصيتها المستقلة، ولا أن تدافع عن نفسها.. وهذا هو الانتحار!
وقد قامت لجان في بريطانيا وفرنسا وأمريكا لدراسة النتائج التي ترتبت على فكرة تحديد النسل، وما لوحظ من نقص المواليد وزيادة الوفيات، ووضعت هذه اللجان تقاريرها المدعمة بالأرقام والحقائق الإحصائية، ودعت بمنتهى الصراحة إلى العمل على زيادة عدد أفراد كل أسرة بنسبة 25 % على الأقل وحذرت من خطر النقص المتزايد في هبوط نسبة الولادة القومية، وأوصت هذه اللجان بمنح الأسر مكافأة مالية على قدر ما يكون لديها من أطفال، وأن تخف وطأة قانون الضريبة على المتزوجين الآباء وتشتد على غير المتزوجين، وأن تبنى على نطاق واسع بيوت تشتمل على أكثر من ثلاث حجرات للنوم.. كل ذلك تشجيعا على الزواج والولادة ومقاومة لخطر قلة التناسل التي نشأت من فكرة التحديد.
وكذلك كانت الحال بالنسبة لألمانيا، وإيطاليا، والسويد، فقد شجعت هذه الدول جماهير شعبها على التناسل بعد أن سبق لها تطبيق فكرة التحديد ورأت من أخطاره ما رأت - فقد أصدرت ألمانيا قانونا لتحريم منع الحمل، وترويج طرقه وأخرجت النساء من المعامل والمصانع، وبذلت القروض لتشجيع الزواج والنسل، وكذلك أصدرت إيطاليا والسويد قوانين مماثلة أو شبيهة.(5/286)
تنظيم النسل في حالات فردية:
أما إذا كانت هناك أسباب صحية تدعو إلى وقف التناسل في حالات فردية خاصة.. كأن تكون الأم لا تقوى على الحمل المتواصل لضعفها أو مرضها، أو أنها تحتاج عند كل وضع إلى شق بطنها لإخراج الجنين منه، وهو ما يفضي بها مع التكرار إلى ضرر شديد أو موت مؤكد، وما يشبه ذلك من أخطار وأضرار فردية.. فإن التشريع الإسلامي - في أصوله وقواعده الحكيمة الرحيمة - يأمر بمنع الضرر من ناحية، ويبيح المحظور للضرورة من ناحية أخرى.
وهناك مسوغ آخر لتنظيم فترات النسل (أو الحمل) وهو رغبة الأبوين في إحسان تربية كل مولود ورعايته حتى يبلغ السادسة من عمره فيدخل المدرسة، وتتفرغ الأم عندئذ لمولود جديد.. ففي هذا الانتظار بين طفل وطفل - لا شك - مصلحة ظاهرة للآباء والأبناء معا.
وقد جاءت بعض الآثار عن الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم أنهم كانوا يعزلون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينههم عن (العزل) وإنما وجههم وجهة إيمانية يقينية بأن الله تبارك وتعالى إن يشأ يثبت الحمل مهما عزلوا أو يمنعه مهما اتصلوا فهو القادر على كل شيء وهو الفعال لما يريد.
وهذه (القدرة والمشيئة) اللإلهيتان المطلقتان اللتان لفت الرسول عليه الصلاة والسلام إليهما أصحابه الذين كانوا يعزلون عن نسائهم طلبا لعدم الحمل - ما زالتا تتجليان على مدى الدهر فنحن نرى ونسمع أن امرأة تستعمل الأدوية المانعة للحمل فتحمل رغم أنفها وأنف زوجها، وأن أخرى لا تستعملها ولا تحمل على كره منها ومن زوجها، وصدق الله القدير الحكيم فيما قال - عز وجل -.
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (1) .
على أنه يجب أن نلاحظ أن العزل الفردي الذي كان يمارسه الصحابة إنما كان لأسباب فردية ومؤقتة منها: خشية أن تحمل الأمة، أو خشية أن تستحق الأمة إقامة دائمة إذا صارت أم ولد أو خشية أن يتعرض الرضيع للضرر إذا حدث الحمل أثناء الرضاعة.
__________
(1) سورة الشورى الآية 49، 50(5/287)
وللإمام الغزالي - في كتابه (إحياء علوم الدين - رأي في تنظيم النسل - يقول: قد يكون الفقر من دواعي تأخير الحمل خوفا من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، للاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب، ودخول مداخل السوء، وهذا غير منهي عنه فإن قلة الحرج معين على الدين وإن كان الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1) .
كما أن هيئة كبار العلماء في السعودية أصدرت بتاريخ 13/4/1396 ورقم (42) فتوى أباحت فيها تأخير الحمل لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان عملا بما جاء في الأحاديث الصحيحة وما روي عن جمع من الصحابة من جواز العزل وما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين.
ودين الله عز وجل يسر، وما جعل الله على عباده من حرج ورحمته واسعة وفضله كبير.
وبعد.. فخلاصة البحث يتقرر بها أمران:
الأول: أن تحديد النسل، بأية وسيلة من وسائل التعقيم، مخافة الحاجة أو الفاقه حاضرا أو مستقبلا - لا يقره الإسلام؛ لأن الأرزاق والأعمار بيد الله، وهو الوكيل عليها، والكفيل بها ولا يليق بالعبد المؤمن بالله أن يشك في ذلك.
الثاني: أن تنظيم النسل.. أى جعله فترة بعد فترة من أجل إتاحة الفرصة للأم أن تتمكن من تربية طفلها الأول ولترتاح نفسيًّا وجسديًّا من متاعب الحمل والوضع والرضاعة بصورة متتابعة، ومن أجل إتاحة الفرصة للأب أيضًا أن يهيئ أطفاله واحد بعد الآخر للدراسة والتعليم - هذا التنظيم أرى فيما أعتقد أنه جائز لا يمنعه الإسلام.. لأنه يستهدف مصلحة الأبوين وأولادهما معا.. والله أعلم.
أحمد محمد الجمال
__________
(1) سورة هود الآية 6(5/288)
تنظيم النسل وتحديده
إعداد
الشيخ محمد بن عبد الرحمن
مفتي جمهورية جزر القمر الاتحادية
ومستشار الرئيس للشئون الدينية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد ...
فهذا بعض من فتاوى الفقهاء وأسانيد بحوثهم في موضوع تنظيم النسل وتحديده نقلتها وجمعتها لتكون ضوءًا لزملائي الذين سيشاركون في مناقشة تنظيم النسل وتحديده في الدوره الخامسة لمجمع الفقه الإسلامي والله وحده المستعان.
اختلف الفقهاء قديمًا وحديثًا في جواز منع الحمل وتحريمه على أربعة آراء:
الرأي الأول
يرى الإمام الغزالي ومن وافقه أن الولد حق لوالده وحده فله إن شاء أن يحصله وله إن شاء أن لا يحصله، وبناء على ذلك يقول الغزالي: يباح للزوج وحده منع الحمل وعلل ذلك بأن النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص في الموضوع ولا أصل يقاس عليه، بل عندنا في الإباحة أصل وهو ترك الزواج أصلا، أو ترك المخالطة الجنسية أو ترك التلقيح بعد المخالطة فإن كل ذلك مباح وليس فيه إلا مخالفة الأفضل، فليكن منع الحمل بالعزل وما يشبهه مباحًا كما أبيح ترك الزواج وترك المخالطة. . . إلخ (1) .
الرأي الثاني
يرى الحنفية أن حق الولد مشترك بين الوالدين، وبناء على ذلك قالوا: إن منع الحمل مباح بشرط أن تأذن فيه الزوجة لاشتراكهما في حق الولد، قال صاحب الهداية، ولا يعزل عن زوجته إلا بإذنها لأن تحصيل الولد من حقها، وللكمال ابن الهمام وغيره من علماء الحنفية مثل هذا وقال علماء الحنفية: هذا هو أصل المذهب، ولكن المتأخرين أفتوا في زمانهم بجوازه لأحد الزوجين بغير رضا صاحبه إذا خيف على الولد السوء لفساد الزمان، وهذا مبني على قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان (2) .
__________
(1) الإسلام شريعة وعقيدة للشيخ محمود شلتوت ص 220
(2) الإسلام شريعة وعقيدة للشيخ محمود شلتوت ص 220(5/289)
الرأي الثالث
يرى جمهور العلماء من فقهاء الأمصار أن منع الولد مكروه نظرًا لحق الأمة فيه، قالوا: قد رويت كراهته عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم؛ لأن فيه تقليل النسل، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج تكثيرًا للنسل، فقال: ((تناكحوا تكثروا)) وقال ((سوداء ولود خير من حسناء عقيم)) .
هذا رأيهم في منع الولد من جهة حق الأمة فيه أما من جهة حق الزوجين فأفتوا بالحرمة إذا عزل الرجل بغير رضا زوجته، وقالوا جميعًا إذا دعت إليه حاجة مهمة في نظر الشرع جاز من غير كراهة، وقد مثلوا لتلك الحاجة بأن يكون الزوجان في الجهاد ويخاف على الزوجة أن يضعفها حملها مع مشقة السفر والجهاد، أو يخاف أن يولد لهما ولد في دار الحرب وليس عندهما من وسائل الراحة والصحة ما يطمئنان به، ومن أصحاب هذا الرأى موفق الدين بن قدامة الحنبلي ومنهم الإمام النووي الشافعي المتوفى سنة 676 (1) .
الرأى الرابع
يرى جماعة منهم ابن حبان وابن حزم، تحريم منع الولد مطلقًا، وقد غلب على هؤلاء حق الأمة في الولد على حق الوالدين، وقالوا: إن في العزل قطع النسل المطلوب شرعًا من الزواج، وفيه أيضًا صرف السيل عن واديه، مع حاجة الطبيعة إليه واستعدادها للإنبات والإثمار لما ينفع الناس ويعمر الكون.
الأحاديث التي يستدل بها على تحريم منع الحمل وتعليق بعض العلماء عليها:
يستدل بعض الفقهاء على تحريم منع الحمل بأحاديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم ((من ترك النكاح مخافة العيال فليس منا)) ومنها: ما رواه مسلم وأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها عن جذامة بنت وهب قالت: ((حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس فسألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الوأد الخفي)) يحتج القائلون بتحريم العزل بأن هذا الحديث ناسخ لأحاديث الإباحة ومما يستدل به على تحريم العزل ما رواه مسلم في صحيحه أيضًا عن ابن محيرز أنه قال: دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فسأله أبو صرمه فقال: يا أبا سعيد هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر العزل؟ فقال: نعم غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بلمصطلق يعني بني المصطلق فسبينا كرائم العرب فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل فقلنا: نفعل ورسول الله بين أظهرنا ألا نسأله؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا عليكم ألا تفعلوا ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون)) .
ويستدل أيضًا على التحريم بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: العزل هو الوأد الأصغر.
__________
(1) الإسلام شريعة وعقيدة للشيخ محمود شلتوت ص 223(5/290)
التعليقات على هذه الأحاديث
وبما أنه ليس في هذه الأحاديث ولا في غيرها تصريح بحرمة العزل، وإن كان ما جاء فيها يحتمل التأويل، وبما أن العزل هو وحده المسلك الذي كان يلجأ إليه الصحابة لمنع الحمل في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم علق الإمام الغزالي على هذه الأحاديث بالتأويل فقال في قوله صلى الله عليه وسلم: من ترك النكاح مخافة العيال فليس منا، أي ليس على سنتنا وطريقتنا فعل الأفضل، وقال في قوله صلى الله عليه وسلم: " ذلك الوأد الخفي ". جوابًا لأناس سألوه عن حكم العزل، كما رواه مسلم عن جذامة بنت وهب، قوله: " الوأد الخفي ". كقوله: " الشرك الخفي "، وذلك يوجب كراهة لا تحريما (1) .
هذا وقد نقل الشيخ مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء، والشوكاني في نيل الأوطار، عدة وجوه من أجوبة العلماء الذين سلكوا مسلك التأويل، لمعنى حديث جذامة بما لا يتعارض مع حديث جابر، كالقول بأن حديث جذامة لا يقصد منه سوى مجرد التنزيه، وكالقول بأن حديث جذامة ليس بصريح في المنع، إذ لا يلزم من تسمية العزل وأدا خفيًّا على طريق التشبيه، أن يكون ذلك حرامًا، وكالقول السابق آنفا بأن قوله صلى الله عليه وسلم: " إنه الوأد الخفي "، كقوله: " الرياء هو الشرك الخفي ". وإنما شبه بالوأد لأن فيه طريقًا إلى قطع الولادة، وكالقول بأن السبب الوحيد في تسمية العزل، وأدا خفيا في حديث جذامة، هو أن الرجل إنما يعزل هربًا من الحمل، فأجرى قصده بذلك مجرى الوأد لكن الفرق بينهما أن الوأد اجتمع فيه القصد والفعل وأمره ظاهر بالمباشرة بينهما، والعزل يتعلق بالقصد فقط، فلذلك وصف في الحديث بكونه خفيا، وهذا الرأى هو الذي ذهب إليه ابن القيم، وحمل العراقي في شرح الترمذي حديث جذامة على العزل عن الحامل، لزوال المعنى الذي كان يحذره الزوج من حصول الحمل، ولكون العزل حينئذ يكون فيه تضييع للحمل، فقد يؤول إلى موته، وضعفه وهذا وأد خفي، وجزم الطحاوي بأن حديث جذامة منسوخ (2) .
__________
(1) إحياء علوم الدين الجزء الثانى ص 54
(2) الإسلام وتنظيم الأسرة ثبت كامل لأبحاث ومناقشات المؤتمر الإسلامي في الرباط ص 60(5/291)
وقال الإمام ابن القيم بعد ذكر الأحاديث الدالة على جواز منع الحمل: فهذه الأحاديث صريحة في جواز العزل، فقد رويت الرخصة فيه عن عشرة من الصحابة علي وسعد بن أبي وقاص وأبي أيوب وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس والحسن بن علي وخباب بن الأرت وأبي سعيد الخدري وابن مسعود رضي الله عنه، إلى أن قال.. أي ابن القيم بعد كلام سبق، والحديثان صحيحان ولكن حديث التحريم ناسخ (يعني قوله صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل: ذلك الوأد الخفي، وهذه طريقة ابن حزم، وقالوا: لأنه ناقل عن الأصل، والأحكام كانت قبل التحريم على الإباحة، ودعوى هؤلاء تحتاج إلى تاريخ محقق يبين تأخير أحد الحديثين عن الآخر، وأنى لهم به، وقد اتفق عمر وعليٌّ على أنه لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع فروى القاضي أبو يعلى وغيره بإسناده عن عبيد بن رفاعة عن أبيه قال: جلس إلى عمر عليٌّ والزبير رضي الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذاكروا العزل، فقالوا: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون أنه الموءودة الصغرى فقال علي رضي الله عنه: لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظامًا، ثم تكون لحمًا، ثم تكون خلقًا آخر. فقال عمر رضي الله عنه: صدقت أطال الله بقاءك (1) .
ويرى الدكتور أحمد الشرباصي أن النهي عن العزل ربما كان في أول الدعوة الإسلامية وكان المسلمون يومئذ قلة، ثم جاءت أحاديث الإباحة والجواز فنسخت النهي السابق ومع ذلك فهناك من قال: إن بعض الأحاديث الواردة في النهي عن العزل إنها ضعيفة أو مضطربة (2) .
__________
(1) زاد المعاد - الجزء الرابع ص 17، 18
(2) الدين وتنظيم النسل للدكتور أحمد الشرباصي ص 71، 72(5/292)
الأحاديث التي يستدل بها على إباحة منع الحمل
يستدل بعض الفقهاء على إباحة منع الحمل بأحاديث منها ما رواه الإمامان البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) وجه الاستدلال بهذا الحديث، أن العزل كان معمولًا به في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو عهد التشريع، فلو كان حرامًا لنزلت في القرآن آية بتحريمه، ويؤيد هذا المعنى رواية مسلم في صحيحه عن عطاء عن جابر قال: ((كنا نعزل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) زاد إسحاق قال سفيان: ولو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن.
فهذه الجملة الأخيرة (ولو كان شيئًا ينهى عنه) إلخ، وإن قيل أنها من كلام سفيان أحد رواة الحديث قالها استنباطًا إلا أن الشيخ ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام عدها من الحديث وأدرجها فيه، وروى مسلم في صحيحه أيضًا أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لى جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل. فقال عليه الصلاة والسلام: " اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها ". فلبث الرجل ما شاء الله، ثم أتى رسول الله بعد ذلك، فقال: إن الجارية قد حملت. فقال: " قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها ".(5/293)
وفي مسند الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها. وجه الاستدلال بالحديث: أن العزل مباح إذا أذنت الحرة، وإذنها أمر ممكن، وعن أبي محيريز قال: دخلت أنا وأبو صرمة على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فسأله أبو صرمة، فقال: يا أبا سعيد: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر العزل؟ فقال: نعم، غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا لا نسأله؟ فسألنا رسول الله، فقال: " لا عليكم ألا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون ". رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أيضًا أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي جارية، وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل هو الموءودة الصغرى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذبت اليهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه)) ، معناه إذا قدر الله خلق نفس فلا بد من خلقها، وأنه قد يسبقكم الماء فلا تقدرون على دفعه، ولا ينفعكم الحرص على ذلك، فقد يسبقكم الماء من غير شعور العازل لتمام ما قدر الله.
وفي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد أن رجلًا جاء إلى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله، إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم تفعل ذلك؟)) فقال الرجل: أشفق على ولدها أو قال: على أولادها، فقال رسول الله: ((لو كان ضارا (أي العزل) لضر فارس والروم)) ، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبيا فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((وإنكم لتفعلون ذلك - قالها ثلاثا - ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)) .(5/294)
التعليقات على هذه الأحاديث
علق بعض من العلماء على هذا الحديث فقال: قوله: " إنكم لتفعلون ذلك ". ثلاث مرات إقرار لهم على ما فعلوه، وقال آخر: إن ظاهر: " أو إنكم لتفعلون ذلك " كما في رواية، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلع على ذلك، وكونه كررها ثلاثًا يفيد الإنكار، ثم إن ابن حزم يطبق قاعدتين أصوليتين ليستدل على أن العزل غير جائز فنهي عنه، القاعدة الأولى: هي أن الأصل في الأشياء الإباحة، ويزعم أن الذين يرون العزل جائزًا ليس لهم دليل يستندون عليه إلا هذا والقاعدة الثانية: إذا كان الأصل في الأشياء الإباحة فحينئذ تأتي الحرمة بعدها، وبناء على ذلك إذا كان محرما فقد جاء التحريم لا شك متأخرًا عن الإباحة وينسخ الإباحة، وإن حديث جذامة بنت وهب يثبت تحريم العزل، وبذلك يعتبر متأخرًا وينسخ الأحاديث الأخرى التي وردت في الإباحة الأصلية، وزعم أنها غير صحيحة أيضًا عدا حديث جابر، وهو وإن كان صحيحًا عند ابن حزم فإنه لم يتكلم فيه بوجه وتركه من دون أن يعلق عليه بشيء (1) . وقال ابن سيرين: في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، لا عليكم ألا تفعلوا إلخ قوله: ((لا عليكم ألا تفعلوا)) أقرب إلى النهي، وقال الحسن البصري: والله لكأن هذا زجر، وقد اعتبر هؤلاء (لا) ناهية ومدخولها محذوف، تقديره لا تعزلوا، وعليكم أن لا تفعلوا وأكد هذا النهي بقوله: وعليكم ألا تفعلوا.
هذا وقد رد الباجي في شرحه على الموطأ على قول الحسن البصري فقال: قوله سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: ((لا عليكم ألا تفعلوا، فإنما هو القدر)) ، ليس معناه النهي كما فهمه الحسن البصري، وحكاه عن ابن عبد البر بل قال أكثر العلماء: إنه ليس نهيًا، بل معناه ليس عليكم إثم أو ضرر ألا تفعلوا كما نقل ذلك الشيخ مرتضى الزبيدي في شرحه على الإحياء، ثم عقب عليه بقوله: قال البيهقي: رواة الإباحة أكثر وأحفظ والله أعلم (2) وذكر فضيلة الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتابه (حركة تحديد النسل) أن الاحتجاج بهذه الأحاديث فاسد، فقال: والذين يدعون إلى حركة تحديد النسل من المسلمين لا يجدون في آيات القرآن كلمة واحدة يتأيدون بها، فهم لأجل هذا إنما يرجعون إلى كتب الحديث ويستدلون على صحة فكرتهم بروايات جاء في بعضها الإذن بالعزل.
__________
(1) الإسلام وتنظيم الأسرة، أعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 181
(2) الإسلام وتنظيم الأسرة، أعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 409(5/295)
ولكن هناك ثلاثة أمور أساسية لا بد من رعايتها في استخراج مسألة فقهية من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
1 - الاستقصاء التام لكل ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المسألة التي تحت البحث.
2 - بذل الجهود الممكنة لمعرفة السياق والموقف الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حديثًا من أحاديثه.
3 - بذل الجهود الممكنة كذلك للاطلاع على الظروف والملابسات السائدة في بلاد العرب في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمع رعاية هذه الأمور الأساسية نريد الآن أن نلقي نظرة على الروايات التي يستدل بها هؤلاء القوم للدفاع عن فكرتهم، ومما لا يخفى على أحد أنه كان قتل الأولاد هو الطريق الجاري في بلاد العرب لتحديد النسل، إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لسببين:
أولهما: تدهور الوضع الاقتصادي فكان الآباء لأجله يقتلون أولادهم خشية أن يشاركوهم في رزقهم.
وثانيهما: عاطفة الغيرة المجاوزة لحدودها العادلة، فكانت تحرض الآباء على وأد بناتهم خاصة خشية عار المصاهرة، فلما جاء الإسلام ندد بهذه الجريمة ونهى العرب عن اقترافها، وقلب عقليتهم في شأنها قلبا كليًّا.
ثم اتجهت فكرة المسلمين إلى العزل، أي الإنزال بعيدًا عن المرأة، ولكن من المعلوم أن العزل ما كان عامًّا شائعًا بين المسلمين، ولا كانت قد قامت فيهم حركة لتحديد النسل ومنع الحمل، ولا كان المقصود أن تتخذ من العزل سياسة قومية، ولا كانت من الأسباب المحرضة عليه تلك الأفكار والعواطف التي كانت تحرض الناس على اقتراف جريمتي قتل الأولاد ووأد البنات أيام الجاهلية، وإنما كان هناك ثلاثة أسباب هي التي حملت على العزل نَفَرًا من المسلمين، ولنا أن نعرفها بتتبع الروايات الواردة في كتب الحديث في باب العزل.
1 - خشية أن تحمل الأَمَة.
2 - خشية أن تستحق الأَمَة إقامة دائمة إذا صارت أم ولد.
3 - خشية أن يتعرض الرضيع لنوع من الضرر إذا حدث الحمل أيام الرضاعة.
ههنا سرد الإمام أبو الأعلى المودودي الأحاديث المبيحة للعزل إلى أن قال: " على أن هناك جماعة من الصحابة وغيرهم قد صح عنهم النهي عن العزل، يقول الإمام الترمذي في سننه: وقد كره العزل قوم من أهل العلم من الصحابة وغيرهم، ويروي الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمر، أنه كان لا يعزل، وكان يكره العزل، فالذى نعلم من تتبع الأحاديث والروايات من كلام النوعين أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان أذن في العزل، بل كان يكرهه ويرى فيه فعلًا عبثا كما يكرهه جماعة من أصحابه رضي الله عنهم ".(5/296)
آراء الفقهاء في منع الحمل
سبق أن قلت: إن الفقهاء اختلفوا في منع الحمل إلى أربعة آراء وهذه نصوص كلام القائلين بالإباحة لذلك.
الشافعية
قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين (1) عند الكلام عن آداب المعاشرة الجنسية: ومن الآداب أن لا يعزل، بل لا يسرح إلا إلى محل الحرث وهو الرحم، فما من نسمة قدر الله كونها إلا وهي كائنة، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عزل فقد اختلف العلماء في إباحته على أربعة مذاهب، فَمِن مبيح مطلقًا بكل حال، ومن محرم بكل حال (2) ومن قائل يحل برضاها ولا يحل دون رضاها (3) وكأن هذا القائل يحرم الإيذاء دون العزل، ومن قائل: يباح في المملوكة دون الحرة، والصحيح عندنا أن ذلك مباح، وأما الكراهية فإنها تطلق لنهي التحريم ولنهي التنزيه ولترك الفضيلة فهو مكروه بالمعنى الثالث، أي فيه ترك فضيلة، كما يقال: يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغا لا يشتغل بذكر أو صلاة، ويكره للحاضر بمكة مقيمًا أن لا يحج كل سنة، إلى أن قال: وليس هذا أي العزل كالإجهاض والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل، وله أيضًا مراتب وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت علقة ومضغة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشًا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيا. اهـ
وصرح الإمام الرملي نقلًا عن الزركشي، بأن استعمال ما يمنع الحمل قبل إنزال المني في حالة الجماع مثلًا لا مانع منه، وقال البجيرمي في حاشيته على الإقناع في حل كلام أبي شجاع: يحرم استعمال ما يقطع الحمل من أصله، أما ما يبطئ الحمل أو يؤخره دون أن يقطعه من أصله فلا يحرم، بل إن كان لعذر كتربية فلا يكره أيضًا، وفرق الشبرامسي بين ما يمنع الحمل بالكلية وما يمنعه مؤقتًا، فقال بتحريم الأول واعتبر شبيهًا بالعزل (4) إلخ.
ويستدل على الجواز أيضًا بتفسير الإمام الشافعي قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} النساء [3] بقوله: ذلك أقرب ألا تكثر عيالكم، فقد فهم الإمام الشافعي رحمه الله أن التشريع القرآني يتجه إلى كراهية كثرة العيال؛ لأن الله تعالى علل به الأمر بالاقتصار على واحدة عند الخوف من عدم العدل وإذًا فتنظيم النسل لئلا يكثر العيال مما يدخل ضمنا في دلالة الآية الكريمة (5) .
__________
(1) إحياء علوم الدين ص 52 - 53 جـ 2
(2) هو ابن حزم وابن حبان
(3) هو الجمهور من فقهاء الأمصار
(4) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 291
(5) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 126(5/297)
الحنفية
يرى الأحناف أن منع الحمل مباح بشرط أن تأذن فيه الزوجة لحقها في الولد كالرجل، ويقول الكمال بن همام في حاشية القدير: العزل جائز عند عامة العلماء، وكرهه بعضهم، ثم قال: والصحيح الجواز، وساق أحاديث الجواز ثم قال: فهذه الأحاديث ظاهرة في جواز العزل.
وجاء في حاشية ابن عابدين على شرح الدر (1) نقلا عن صاحب النهر، أنه يجوز للمرأة أن تسد فم الرحم منعا من وصول ماء الرجل إليه لأجل منع الحمل، واشترط صاحب البحر لذلك إذن الزوج، ويؤيد القرطبي المالكي ذلك بقوله: إن النطفة ليست شيئا يقينًا ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة ما لم تستقر في الرحم، فهو كما لو كانت في صلب الرجل، فالقرطبي بهذا القول يبيح إلقاء النطفة بعد وصولها إلى الرحم وقبل الاستقرار، فمن باب أولى إذا لم تصل إلى الرحم (2) .
المالكية
نص فقهاء المذهب المالكي على جواز العزل واشترطوا إذن الزوجة لذلك صغيرة كانت أو كبيرة (3) .
__________
(1) جـ2 ص 412
(2) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2
(3) راجع حاشية الدسوقي في شرح الدردير على متن خليل جـ 2 ص 266(5/298)
الحنابلة
ذهب فقهاء المذهب الحنبلي، إلى جواز العزل بشرط رضا الزوجة واستئذانها، قال ابن قدامة (1) : والعزل مكروه، ومعناه أن ينزع إذا قرب الإنزال فينزل خارجًا من الفرج، رويت كراهيته عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود، وروي ذلك أيضًا عن أبي بكر الصديق؛ لأن فيه قطع النسل وقطع اللذة عن الموطوءة إلى أن قال: ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها، قال القاضي: ظاهر كلام أحمد وجوب استئذان الزوجة، ويحتمل أن يكون مستحبًّا؛ لأن حقها في الوطء دون الإنزال. . . إلخ.
الزيدية
تصريح كتب المذهب الزيدي بإباحة العزل إذا وافقت الزوجة بل صرح الإمام يحيى بن زيد بجواز العزل لمنع النسل، ومعنى ذلك أنه أجاز أخذ الأسباب لمنع النسل صراحة (2) .
الشيعة الجعفرية
إن كتب مذهب هؤلاء تصرح بأن العزل لمنع الحمل مباح على أن توافق الزوجة على ذلك عند عقد الزواج، وهم بذلك لا يطلبون إلا إذنا عامًّا من الزوجة عند إجراء العقد، سواء رضيت بعد ذلك أو رفضت (3) .
__________
(1) المغني جـ 7 ص 23
(2) كتاب البحر الزخار جـ 3 ص 80 الطبعة الأولى سنة 1948 مطبعة أنصار السنة المحمدية
(3) كتاب الروضة البهية - شرح اللمعة الدمشقية جـ 2 ص 68 - مطبعة دار الكتاب بمصر(5/299)
الشيعة الإسماعيلية
الشيعة الإسماعيلية الذين يتزعمهم (أغاخان) لا يتعدى مذهبهم مذهب الشيعة الجعفرية في حكم العزل، فقد جاء في كتاب دعائم الإسلام (1) . نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن المرأة إلا بإذنها إلخ.
مذهب الإباضية أتباع عبد الله بن أباض التميمي
نرى في كتبهم التصريح بجواز العزل إذا رضيت الزوجة، وقالوا: إن العزل يباح للفرار من الولد خشية العيال وإدخال الضرر على الرضيع (2) .
ويقول الشوكاني: (إن الأمور التي تحمل على العزل، الإشفاق على الولد الرضيع خشية الحمل مدة الرضاع والفرار من كثرة العيال، والفرار من حصولهم من الأصل وخشية علوق الزوجة الأمة لئلا يصير الولد رقيقًا، ثم ذكر أنه لا خلاف بين العلماء على جواز العزل بشرط أن توافق الزوجة الحرة؛ لأنها شريكة في المعاشرة الزوجية) (3) .
وهكذا يتضح لنا بعد هذا كله أن العزل مباح إذا دعا إليه داع وهذا الداعي هو ما عبر عنه الفقهاء قديمًا وحديثًا، بأنه دفع الضرر أو رفع الحرج أو صيانة النفس، والقرآن يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج [78] والحرج هو الضيق بسبب تكليف شاق، ويقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة [185] ، ويقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (4) البقرة [195] .
قبل أن أنقل للقارئ الكريم الدواعي التي تدعوه إلى تنظيم الأسرة ينبغي أن أذكر فصلًا من بحث (الدكتور أحمد الشرباصي) الذي قدمه في المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط من 24 إلى 29 من شهر ديسمبر عام 1971 لأهميته، وهذا نص كلامه: (ويجب أن نسلم أولا بأن الدعوة إلى تنظيم الأسرة لا يجوز أن تكون دعوة إلى محاربة الزواج أو محاربة الأسرة أو محاربة الذرية في حد ذاتها، أو محاولة التخلص منها بعد وجودها، ويجب أن نسلم كذلك بأن حب الذرية أمر فطري لمن تقهره عقبات مصطنعة أو موضوعة في طريقه، ومهما بذلت الإنسانية المتحضرة من جهود في مجالات تنظيم الأسرة سيبقى حب الذرية مسيطرًا على مئات الملايين هنا وهناك وإلى ما شاء الله) (5) .
ومن الجدير بالذكر لأهميته أيضًا قول الدكتور الشرباصي في البحث المذكور: (ينبغي أن نفهم بوضوح، ونذكر باستمرار، أن موضوع تنظيم الأسرة يرجع أولًا وآخرًا إلى اقتناع الفرد وإرادته، ونخسر كثيرًا إذا لجأنا في هذا الباب إلى الإكراه والإرغام أو العقاب) (6) .
__________
(1) مطبعة دار المعارف بمصر جـ 2 ص 210
(2) راجع النيل وشرحه جـ3 ص 126
(3) نيل الأوطار جـ 6 ص 198
(4) الإسلام وتنظيم النسل لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد بالرباط جـ 2 ص 104
(5) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 9
(6) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 24(5/300)
أهم الدواعي إلى تنظيم الأسرة
1 - أن يكون مرض من الأمراض المعدية عند الزوجين أو عند أحدهما، ولو نشأت ذرية عنهما والمرض موجود لا ينتقل المرض إلى الذرية فتشقى به حياتها.
2 - أن يكون عند المرأة مع ضعفها استعداد قوي ظاهر للحمل عقب انتهائها من آثار الحمل السابق.
3 - الخوف على صحة الزوجة وسلامتها من الحمل المتتابع؛ لأنها مريضة وسيزيد مرضها بحملها أو سيتأخر شفاؤها أو سيحدث المرض بسبب الحمل.
4 - الضعف الاقتصادي عند الزوج حيث لا يكون لديه اقتدار مادي يجعله صالحًا للنهوض بتبعات الذرية (1) .
ومن المعلوم بداهة أن إيقاف الحمل بسبب مرض الزوجة والخوف على سلامتها هو محل وفاق لا مجال للنزاع فيه عقلًا ونقلًا، أما عقلًا فلأن من المسلم به أنه إذا تضرر الأصل بالفرع وجب تقديم مصلحة الأصل على فرعه، وعند الأصوليين إذا عاد الفرع على الأصل بالإبطال فالفرع يكون باطلًا (2) .
وأما إيقاف الحمل بسبب الفقر وضعف الاقتصاد فمختلف فيه، والإمام الغزالي يجيز ذلك بقوله: الثالثة (يعني من البواعث على منع الحمل بالعزل) الخوف من الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضًا غير منهي عنه، فإن قلة الحرج معين على الدين نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} هود [6] ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال وترك الأفضل، ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره مع كونه مُنَافٍ للتوكل، لا نقول إنه منهي عنه (3) . وقال الإمام محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق: أما تحديد النسل بمعنى تنظيمه بالنسبة للسيدات اللاتي يسرع اليهن الحمل، وبالنسبة لذوات الأمراض المنتقلة، وبالنسبة للأفراد القلائل الذين تضعف أعصابهم عن مواجهة المسئوليات الكثيرة، ولا يجدون من حكومتهم أو من الموسرين من أمتهم ما يقويهم على احتمال هذه المسئوليات.
إن تنظيم النسل بشيء من هذا وهو تنظيم فردي، لا يتعدى مجاله شأن علاجي تدفع به أضرارًا محققة ويكون به النسل القوي الصالح، والتنظيم بهذا المعنى لا ينافي الطبيعة ولا يأباه الوعي القومي ولا تمنعه الشريعة إن لم تكن تطلبه وتحث عليه (4) .
الشيخ محمد عبد الرحمن
__________
(1) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط جـ 2 ص 9
(2) الإسلام وتنظيم الأسرة لأعمال المؤتمر الإسلامي المنعقد في الرباط
(3) إحياء علوم الدين ج 2 ص: 53
(4) كتاب الفتاوى للشيخ شلتوت - ص 266(5/301)
أسماء بعض من كبار العلماء في العصر الأخير الذين أفتوا بجواز منع الحمل بسبب مقبول شرعا
* المرحوم الشيخ عبد المجيد سليم - مصر
* المرحوم الشيخ محمود شلتوت - مصر
* الشيخ عبد العزيز عبد الله بن باز - السعودية
* المرحوم الشيخ حسن مأمون - مصر
* الشيخ عبد الله القلقيلي - الأردن
* آية الله الشيخ بهاء الدين محلاتي - إيران
* الشيخ الحاج عبد الجليل بن الحاج حسن - ماليزيا
* الشيخ يوسف بن علي الزواوي - ماليزيا
* لجنة الفتوى بالأزهر - مصر
* لجنة الفتوى بقطاع غزة - فلسطين
* المجلس الاستشاري للشئون الدينية - تركيا
* رئيس المحكمة العليا الاستئنافية - اليمن
هذا ما أردت نقله وجمعه في هذا الموضوع، والرأي الحاسم ما سيقع الاتفاق عليه من السادة المشاركين في الدورة.
وبالله التوفيق(5/302)
تنظيم النسل وتحديده
إعداد
الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد
أستاذ بكلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن جمهورية السودان
بسم الله الرحمن الرحيم
تنظيم النسل وتحديده
الأصل في هذه المسألة قول الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (1) . فحرم الله تعالى في هذه الآية ما كان يفعله الجاهليون من وأد البنات خشية العيلة فالله يرزقهم وأولادهم. وقد كان منهم من يفعل ذلك بالذكور والإناث خشية الفقر كما هو ظاهر الآية. وحرمة هذا الفعل من الأشياء المجمع عليها.
وقد اختلف الفقهاء في العزل فاستدل بهذه الآية من يمنع العزل وقال: إنه منع أصل النسل فتشابها، إلا أن قتل النفس أعظم وزرا وأقبح فعلا، وذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إلى كراهة العزل لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن العزل فقال: ((ذلك الوأد الخفي)) (2) .
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي وليدة وأنا أعزل عنها، وأنا أريد ما يريد الرجل، وإن اليهود زعموا: أن الموءودة الصغرى العزل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أراد الله أن يخلقه لم تستطع أن تصرفه)) (3)
وروي عن ابن عمر أنه كان لا يعزل، قال مالك والشافعي: لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، ولا عن زوجته الأمة في رأي الإمام مالك إلا بإذن أهلها، ويعزل عن أمته بغير إذنها. وروي عن ابن عباس: (تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الجارية) وبه قال أحمد.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 31
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (1442) (141) في النكاح: باب جواز الغيلة وهي وطء المرضع وكراهة العزل، وهو في المسند 6/361 و 434 والبيهقي 7/231
(3) قال الإمام البغوي: وإسناده صحيح وله شاهد عند البيهقي 7/230.(5/303)
وقال بجوازه جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء لما ورد في الحديث الذي أخرجه مسلم عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل قال: " اعزل عنها إن شئت. فإنها سيأتيها ما قدر لها ". فلبث الرجل ما شاء الله ثم أتى رسول الله بعد ذلك فقال: إن الجارية قد حبلت فقال: " قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدرلها ")) .
وفي حديث آخر متفق على صحته (1) عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز أنه قال: دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل، قال أبو سعيد: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة، وأحببنا العزل فأردنا أن نعزل فقلنا: نعزل ورسول الله بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك فقال: ((ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)) .
قال جابر (كنا نعزل والقرآن ينزل) (2) ، ورخص فيه زيد بن ثابت وروي عن أبي أيوب، وسعد بن أبي وقاص وابن عباس، أنهم كانوا يعزلون.
يمكننا مما سبق أن نصل إلى ما يأتي:
أولًا: لا يجوز لأمة مسلمة أن تتخذ تحديد النسل سياسة عامة للدولة خوفا من العيلة والفقر أو ما شابه ذلك لقوله تعالى المذكور في بداية البحث وقوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (3) وليس بعد هذا الضمان الرباني ضمان لمن آمن بالله واليوم الآخر ولينظر كيف أن الله تعالى قد ألزم نفسه برزق عباده، مسلمهم وكافرهم، غنيهم وفقيرهم، صغيرهم وكبيرهم ومن فهم حقيقة الغنى والفقر، وأن الغني قد يصبح فقيرا معدما، والفقير المعدم قد يمسي غنيا موفور الغنى، ومن يعلم لعل ابن الفقير قد يكون من أغنى الناس في مستقبله أو قد يكون من العلماء الصالحين أو المسلمين الأخيار كما دل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((استكثروا من أولادكم فإنكم لا تدرون بمن ترزقون)) .
__________
(1) انظر شرح السنة للبغوي ج 9 ص 103 الطبعة الثانية، مطبعة المكتب الإسلامي، بيروت
(2) أخرجه البخاري 9/266 في النكاح: باب العزل ومسلم (1440) في النكاح: باب حكم العزل
(3) سورة الذاريات الآية 22(5/304)
لا يرتاب من فهم ذلك في أن تحديد النسل خوف العيلة، أو عدم القدرة على الإنفاق، أو خوف المرض، أو عدم القدرة على التعليم، غير جائز ولا يليق بمؤمن.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نصحنا بقوله ((تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) وقوله: ((تزوجوا الودود الولود)) وفى آخر يقول: ((سوداء ولود خير من حسناء عقيم)) .
والمتأمل في هذه الأحاديث لا يملك إلا أن يدرك الحكمة البالغة التي رمى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا نظرنا إلى هذه المسألة من الناحية الواقعية، نجد أن الأمة وسلامتها مرتبطان بكثرة أفرادها فالأمم القليلة العدد مغلوبة على أمرها مهما بلغت قوتها الأدبية أو العلمية أو الصناعية فهي دائما قلقة محتاجة إلى من يضمن سلامتها، وإذا أخذت أمة الإسلام بهذا التوجيه، فتكاثرت في إيمان بالله، ووحدت كلمتها، وأعدت عدتها، فيبعد أن تقع فريسة صاغرة لأي أمة أخرى مهما كانت.
ثانيًا: إذا كانت هنالك مسائل فردية، مشروطة بحال مرضية أو نفسية كأن يؤكد الأطباء المتخصصون خطورة الحمل مثلا على امرأة بعينها، أو يخشى على حياتها من استمرار الحمل أو تأكد بما لا يدع مجالا للشك أنها وزوجها، غير قادرين على تحمل أعباء تربية الطفل ويخشيان على طفل يولد لهما من الإهمال والضياع وسوء المعاملة المؤكد ... فهذه مسائل شخصية بحتة تتوقف على رأي المتخصصين، والله أعلم بما في صدورهم أجمعين {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (1) .
وإليه ترجع الأمور وإليه المصير.
محمد عطا السيد
__________
(1) سورة غافر الآية 19(5/305)
تنظيم النسل وتحديده
إعداد
الأستاذ تجاني صابون محمد
أستاذ بمعهد المعلمين العالي بأنجامينا
وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن تشاد
بسم الله الرحمن الرحيم
- وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم:
الموضوع: بحث حول تنظيم النسل وتحديده:
إن المعنى المقصود من تنظيم النسل أو تحديده، هو إيقاف الإنجاب الإنساني عن النمو والزيادة، وقد تستعمل وسائل كثيرة للوصول إلى هذا الغرض، منها: الإجهاض - وتعطيل الرحم بعمليات جراحية - وتعقيم الرجال - واستعمال الحبوب المانعة للحمل - والعزل وقتل الأولاد – (وكبت النفس بالعزوبة) والإبعاد عن الاتصال الجنسي، كل هذه العمليات تسمى بتنظيم النسل تارة، وبتحديد النسل تارة أخرى، أو بتنظيم الأسرة أحيانًا، والوسائل الأكثر شيوعًا في هذا العصر، هي استعمال العقاقير الطبية المانعة للحمل، والعمليات الجراحية لتعطيل الرحم عن الإنجاب.
ما هي الأسباب الداعية إلى تحديد النسل؟
قبل التحدث عن رأي الإسلام حول هذه العملية، يجدر بنا أن نتناول الأسباب الداعية إلى القيام بهذه العملية، إن الإنسان بتسليمه إلى القواعد الهندسية والحسابية التي اخترعها، يزعم بأن زيادة السكان في الكرة الأرضية، تتم بنسبة متوالية هندسية (PROGRESSION GEOMETRIQUE) 2، 4، 8، 16، 32، 64، 128، 356 ... - على حين لا تزيد ولا يمكن أن تزيد وسائل رزقهم مهما اخترعوا لزيادتها من الطرق المؤثرة، إلا بنسبة متواليه حسابية PROGRESSION ARITHMETIQUE 1، 2، 3، 4،5،6، 7، 8، 9.. إلخ
فعلى هذا يزعم الخبراء المعنيون بهذا الأمر، بأنه إذا ظل عدد السكان يتضاعف بدون ما حاجز، في وجهه، فلابد أن يصل إلى ضعفيه بعد كل خمس وعشرين سنة، بينما لا تزيد وسائل رزقهم خلال هذه المدة إلا إلى 9. فبالحساب على هذه القاعدة يقول الذين يتفكرون على مستوى منطقي عن منطقة خاصة من مناطق الأرض: إن عدد السكان في الكرة الأرضية، أو في منطقة ما منها إذا بقي في الزيادة على حاله، فمهما بذلنا من المحاولات العلمية الجديدة لتنمية موارد الرزق ووسائل المعيشة، فإنه من المحال أن تتوفر فيها الوسائل الكافية لقضاء الحياة، فضلا عن أن يحظى فيها النسل الإنساني بشيء من النهوض والتقدم، إلى أن يأتي وقت لا يبقى على سطح الكرة الأرضية، موضع يضع فيه الإنسان قدميه.(5/306)
وانطلاقا من هذه المعطيات المفزعة الخاطئة، قام المؤيدون لهذه الفكرة والباحثون حول هذا الموضوع بإطلاق صفارة الإنذار على جميع سكان الأرض، فأقاموا الدول وأقعدوها، ثم فكروا بأنفسهم في كيفية تفادي هذه الكارثة على حد زعمهم، فاقترحوا فكرة تحديد النسل، فقامت بعض الدول، بإباحة الإجهاض والعمليات الجراحية داخل الرحم لمنع الإنجاب، واستعمال حبوب منع الحمل، كما قامت دول بتعقيم الرجال والنساء معا، ولجأت أخرى إلى العزل وكبت النفس بالعزوبه والابتعاد عن الاتصال الجنسي وغيرها من العمليات المحددة أو المنظمة للنسل.
- بطلان دعوى مؤيدي حركة تحديد النسل:
إن الحجج التي يحتج بها مؤيدو تحديد النسل، ما هي إلا انتقاد لذات الخالق سبحانه وتعالى، واعتراض على حكمته البالغة، ونظامه المحكم في السماوات والأرض، يظنون بالله أنه لا يعلم كثيرا مما يعلمونه أو يتوصلون إليه بقواعدهم الحسابية {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} .
لا يعرف هؤلاء أن الله - عز وجل - ما خلق شيئا في السماوات والأرض إلا على كمية محدودة {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1) . وأنه لا يصدر شيئا من خزائنه إلا بقدر معلوم {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (2) ، فمهما يكن من ظن هؤلاء القوم بالله وبأنفسهم فإن من الحقيقة التي لا تقبل الجدل أن الذي خلق هذا العالم وأبدع نظامه المحكم ليس بجاهل عنه {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} (3) وأنه لو نظروا في آياته، وأسرار حكمته في الآفاق وفي أنفسهم بعين البصيرة والعقل، لتبين لهم أنه الأكمل في تقديراته وحسابه، فقد خلق على هذه المساحة من سطح أرضه أنواعا لا عداد لها من خلائقه، وأودع كل واحد منها قدرة عاتية على التوالد، والتناسل، بحيث لو أرخى العنان في وجه نسل زوجين منه فقط لينمو على هواه لاكتظ به وحده وجه الأرض، من أقصاه إلى أقصاه. إن الماء الذي يفرزه كل رجل في كل اتصال من اتصالاته الجنسية، يمكن أن تحمل به ما بين 300 و 400 مليون امرأة في آن واحد، فلو أن القدرة التناسلية لرجل واحد فقط وجدت في وجهها مجالا كاملا للاتساع والنمو، لاكتظت الأرض اكتظاظا كليا بأفراد نسله وحده في سنوان قلائل، ولكن من الذي أقام الحاجز أمام هذه القوة التناسلية العاتية منذ مئات الآلاف من السنين، بحيث لم يدع نوعا من أنواع الخلائق يتعدى الحدود المعينة لزيادة نسله وتكاثر أفراده.
__________
(1) سورة القمر الآية 49
(2) سورة الحجر الآية 21
(3) سورة المؤمنون الآية 17(5/307)
فبالرغم من الإنذار بالخطر الذي وجهه هؤلاء الخبراء فإننا لم نر زيادة مذهلة للنسل البشري في مرحلة من مراحل تاريخه، بتلك النسبة المتوالية الهندسية، التي يتخوفون منها ولم يأت على الإنسانية زمن كانت فيه النسبة بين عدد السكان وموارد الرزق مثل التي يدعونها، وإن الأمر لو كان هكذا لكان النسل الإنساني قد انقرض عن وجه الأرض منذ زمن بعيد.
- النتائج السلبية لعملية تحديد النسل:
لقد ثبت علميا بأنه من الممكن باستخدام الوسائل المانعة للحمل، أن ينشأ الاضطراب والاختلال في نظام الرجل الجسماني، كما أنه من الممكن أن ينشأ به الضعف في قوته التناسلية، أو تنعدم فيه هذه القوة كليا، ومما يجوز القول به - على وجه عام - أن هذه الوسائل وإن كانت تحدث في صحة الرجل مؤثرات سيئة جدا إلا أن الذي يخشى دائما أن الرجل عندما لا تشبع غريزته الجنسية بعلاقته الزوجية، يعتريه التبرم والانقباض شيئا فشيئا في حياته العائلية، ولابد أن يحاول إشباع غريزته الجنسية بوسائل أخرى، تفسد عليه صحته، بل وقد تعرضه للأمراض الخبيثة، كما أن اتخاذ الوسائل الصناعية لدى المرأة لمنع الحمل، قد ينشئ التوتر في نظام المرأة الجسماني، ويلازمها شيئًا فشيئًا القلق والاضطراب والتبرم والضجر؛ لأنها عندما لا تشبع غريزتها الجنسية، فإن علاقتها بزوجها يعتريها الشذوذ والانزعاج. وقد شوهدت هذه النتائج بصفة خاصة في الذين يختارون طريق العزل.(5/308)
كما ثبت علميا، بأن وسائل تحديد النسل، سواء أكانت هي اللولبيات المعدنية، أو الأقراص والعقاقير القاتلة للحيوانات المنوية، أو حواجز المطاط وغيرها، وإن كانت المرأة لا تتعرض باستخدامها لضرر فوري ظاهري، ولكنها إذا ظلت تستخدمها لمدة من الزمان، فلابد أن يصيبها الانهيار العصبي، قبل أن تبلغ سن الكهولة، كما قد قيل: إنها تسبب سقوط الرحم، والمراق وخفقان القلب والجنون، وعللا خطيرة أخرى، ومن أقدم وأهم طرق تحديد النسل الإجهاض أو (إسقاط الحمل) (AVORTEMENT) إنه لا يزال الطريق المستعمل لمنع الحمل في كثير من البلاد، وقد ثبت أن للإجهاض مؤثرات مهلكة على صحة المرأة وعلى نظامها العصبي، كما يذهب عدد غير يسير من الأمهات ضحية الموت أثناء عملية الإجهاض، كما يمكن أن تسبب عملية الإجهاض أضرارا بالرحم مما يتلفها أو يعقمها تماما، أما حبوب منع الحمل فلا يمكننا أن نجهل تأثيرها المؤكد على صحة المرأة وفي تعطيل كثير من قواها العقلية والتناسلية.
ويقول أحد الأطباء: إنه من الخيانة الشنيعة القول بأنها غير ضارة بصحة المرأة، وأردف يقول: بأن المرأة عندما تتناول هذه الحبوب لمنع حملها فإنها لا تتعرض للصداع والآلام العصبية فحسب، بل لا تأمن على نفسها أن يصيبها مرض عضال كالسرطان.
واستنتج بعض الأطباء أنه من غير القطعي، حتى بعد استعمال كل هذه الوسائل، ومكابدة أخطارها، أن تكون إحداها وسيلة ناجحة لمنع الحمل؛ لأن الطرق المستعملة في يومنا هذا غير قطعية، حيث إن كثيرًا من النساء قد حملن وذلك بالرغم من اتخاذهن تدابير لمنع الحمل.(5/309)
الإسلام أمام فكرة تحديد النسل:
لا توجد في القرآن الكريم آية واحدة، بل كلمة واحدة تبيح عملية تحديد النسل، ولكن الذين يؤيدون عملية تحديد النسل عند المسلمين يستدلون بالأحاديث التي وردت في شأن العزل، ولكن هناك ثلاثة أمور أساسية لا بد من رعايتها في استخراج مسألة فقهية من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
1 - الاستقصاء التام لكل ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المسألة التي هي تحت البحث.
2 - بذل الجهود الممكنة لمعرفة السياق والموقف الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حديثًا من أحاديثه.
3 - بذل الجهود الممكنة كذلك للاطلاع على الظروف والملابسات السائدة في بلاد العرب في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمع رعاية هذه الأمور الأساسية نريد الآن أن نلقي نظرة على الروايات التي يستدل بها هؤلاء القوم للدفاع عن فكرتهم، ومما لا يخفى على أحد أن قتل الأولاد كان هو الطريق الجاري في بلاد العرب لتحديد النسل، إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لسببين:
أولهما: تدهور الوضع الاقتصادي، فكان الآباء لأجله يقتلون أولادهم خشية أن يشاركوهم في رزقهم.
ثانيهما: عاطفة الغيرة المجاوزة لحدودها العادلة، فكان الآباء يحرصون، على وأد بناتهم خشية عار المصاهرة.
فلما جاء الإسلام ندد بهذه الجريمة، ونهى العرب عن اقترافها، وقلب عقليتهم في شأنها قلبا كليا، ثم اتجهت فكرة المسلمين إلى العزل، أي الإنزال بعيدًا عن المرأة، ولكن من المعلوم أن العزل ما كان عامًّا شائعًا بين المسلمين جميعًا، ولا كانت قد قامت فيهم حركة لتحديد النسل ومنع الحمل، ولا كان المقصود، أن يتخذ من العزل سياسة قومية، ولا كانت من الأسباب المحرضة عليه، تلك الأفكار التي كانت تحرض الناس على اقتراف جريمتي قتل الأولاد ووأد البنات، أيام الجاهلية، وإنما كانت هناك ثلاثة أسباب، هي التي حملت على العزل نفرًا من المسلمين، ولنا أن نعرفها بتتبع الروايات الواردة في كتب الحديث، في باب العزل.(5/310)
1 - خشية أن تحمل الأمة.
2 - خشية أن تستحق الأمة إقامة دائمة إذا صارت أم لولد.
3 - خشية أن يتعرض الرضيع لنوع من الضرر إذا حدث الحمل أيام الرضاعة.
فهذه هي الأسباب التي لأجلها أحس نفر من الصحابة - منهم عبد الله بن عباس وسعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم - بحاجة إلى العزل في ظروف مخصوصة وعملوه بحجة أنهم ما وجدوا في نصوص القرآن والسنة شيئا ينهى عنه صراحة.
يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول في رواية أخرى: كنا نعزل والقرآن ينزل، ويقول في رواية ثالثة: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل) رواه البخاري ومسلم.
فواضح من هذه الروايات أن جابرًا ومن كان على رأيه من الصحابة في إباحة العزل لم يجدوا في نصوص القرآن والسنة شيئًا ينهى عنه صراحة، ويقول جابر رضي الله عنه في رواية أخرى أخرجها عنه الإمام مسلم: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغه ذلك فلم ينهنا، فلا تصرح هذه الرواية فيما إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن حكم العزل أم لم يسأل، وأنه إذا سئل فماذا كان جوابه؟
أما الروايات الأخرى فقد جاء في بعضها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد سئل في هذه القضية، فعن أبي سعيد الخدري أنه قال: ((أصبنا سبيًا فكنا نعزل فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوإنكم لتفعلون؟ - قالها ثلاثًا - ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)) . أخرجه البخاري ومسلم.(5/311)
وقد جاءت هذه الرواية في الموطأ للإمام مالك رضي الله عنه وفيها يقول أبو سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيًا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة وأحببنا الفداء - يعني أن لا يولد لهم مولود - فأردنا أن نعزل فقلنا: نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله؟ فسألناه عن ذلك فقال: " ما عليكم أن لا تفعلوا - يعنى أي شيء يحدث إذا لم تفعلوا - ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة ". وفى رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولِمَ يفعل ذلك أحدكم؟ " وفى رواية أخرى ((أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لى جارية هي خادمتنا وسانيتنا وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل. فقال: " اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها ")) رواه مسلم.
على أن هناك جماعة من الصحابة وغيرهم قد صح عنهم النهي عن العزل. يقول الإمام الترمذي في سننه: وقد كره العزل قوم من أهل العلم من الصحابة وغيرهم، ويروي مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمر، أنه كان لا يعزل وكان يكره العزل.
فالذي نعلم من تتبع الأحاديث والروايات من كلا النوعين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أذن في العزل، بل كان يكرهه جماعة من أصحاب العلم من أصحابه رضي الله عنهم، ولكن لما لم تكن هناك حركة عامة لمنع الحمل وتحديد النسل قائمة بين المسلمين، ولا كانت الجهود تبذل لجعل العزل خطة قومية وتعاملًا عامًّا في المجتمع، وإنما كان نفر من المسلمين يعملونه لحاجاتهم وضروراتهم بصفتهم الشخصية، فما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم حرمته، ولا نهى عنه نهيا مؤكدًا على أنه لو كان في زمانه حركة عامة تدعو الناس إلى منع الحمل وتحديد النسل على نطاق قومي واسع، لنهى عنه نهيا مؤكدًا.(5/312)
ونحن إذا قسنا على العزل ما ظهر في زماننا من الطرق الأخرى لمنع الحمل وتحديد النسل. جاز لنا القول: بأن الشرع إذا لم يكن قد نهى عنه فإنما ذلك لأن الإنسان قد يحتاج إليه حاجة حقيقية في بعض ظروفه.. فمن باب الحيطة أن يسمح له باستخدامه وذلك مثل أن تتعرض المرأة لخطر الموت، أو تخاف على نفسها أو على طفلها الرضيع، ضررًا غير عادي إذا وقع الحمل، ففي هذه الظروف وأشباهها فقط يمكن استخدام إحدى طرق منع الحمل بعد مشورة الطبيب، ولا بأس بذلك في نظر الشريعة.
وأما تبني سياسة تحديد النسل عامة في الدول، فقد جاء القرآن صريحا في تحريمها، حيث قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} (1) فالنتيجة التي ورد ذكرها في هذه الآية الكريمة لتحريم نعمة التناسل بقتل الأولاد، هي الخسران، والوجوه التي تظهر عليها نتيجة الخسران هذه، تكون في الجسد والروح، وفي الحياة المدنية والاجتماعية، وفي الأخلاق وفي النسل والحياة القومية، وفي إضاعة المصالح القومية في سبيل المصالح الشخصية وفي الانتحار القومي، وفي الخسائر الاقتصادية. وذكر بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} (2) فقال: إنهم يحرمون على أنفسهم ما قد أحل الله لهم من المأكولات والسبب في ذلك أنه لم تكن قديما حركة لتحديد النسل ولكن الله الذي يحيط بعلمه كل ما كان وما سيكون، ما استعمل إلا كلمات عامة لا تشمل تحريم المباحات من المأكولات فحسب وإنما تشمل أيضًا تحريم كل نعمة أنعمها على عباده وكلمة " الرزق " لا تستعمل في معاجم اللغة وفي كلام العرب لمجرد المأكولات والمشروبات، وإنما تستعمل لكل نعمة بما فيها نعمة الذرية، ولما قد جاء هنا ذكر تحريم " الرزق " عقب قتل الأولاد، فمعناه الواضح أنه كما قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، كذلك قد خسر الذين حرموا على أنفسهم، نعمة التناسل والإنجاب والأولاد.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 140
(2) سورة الأنعام الآية 140(5/313)
الخلاصة:
نستخلص من هذا كله أن اتخاذ طرق لتحديد النسل، من عزل وغيره، من أسباب منع الحمل كخطة قومية وتعامل عام في المجتمع، أمر مصادم للشرع، ومتناف مع أحكامه، ولكن إذا تعرضت المرأة لظروف يمكن أن تؤدي إلى هلاكها، أو هلاك رضيعها، نتيجة حمل، فإنه يمكن في هذه الحالة، أن يسمح لها باستعمال إحدى الطرق المذكورة، لإنقاذها وذلك بعد مشورة الطبيب كما ذكرنا آنفا، والله أعلم.
تجاني صابون محمد(5/314)
تنظيم النسل وتحديده
إعداد
الحاج عبد الرحمن باه
إمام جامع وعضو المجمع الفقهي الإسلامي
عن جمهورية غينيا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وحده لا شريك له، والصلاة والسلام على رسوله الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تمسك بسنته والتمس الرشاد في هديه إلى يوم الدين.
وبعد: سادتي العلماء.. وشيوخي الأفاضل..
أقف بين أيديكم موقف المتهنئ لإلقاء كلمة حول الموضوع الذي اخترته من ضمن المواضيع التي ستدرس وتناقش في دورتنا هذه ولعله يكون مساهما في حركة المجمع الفقهي وأرجو أن يكون في محل الثقة عند سعادتكم، وإذا كان الصواب فمن الله تعالى، وإذا كان الخطأ فكلنا خطاؤون وخير الخطائين التوابون.
فالموضوع هو: تنظيم النسل وتحديده
سبب اختياري لهذا الموضوع: هو أن المجتمع الإسلامي في عصرنا الحاضر يعيش بين التيارات المعادية للإسلام من أهل الباطل والضلال وأصحاب الأهواء والمتجبرين في الأرض، ويخطئ من يظن أن الحرب بين الإسلام وأعدائه قد وضعت أوزارها وإنما بالعكس فالحق أن أعداء الإسلام يدبرون لحربه كل يوم وسيلة من وسائلهم المختلفة إما في الفكر أو الثقافة أو المذهب أو العادات والتقاليد؛ لأن أكثر المعارك الآن تخطيط يتناول مظاهر حياة المسلمين كلها ابتداء من تغيير الزي وتغيير العادة إلى تغيير الخلق والسلوك وانتهاء بتغيير منهج الله وشريعته في المجتمع.
أيها السادة والشيوخ..
ما هذا الإنسان؟ مم خلق؟ وكيف كان؟ وكيف صار؟ وكيف قطع رحلته الكبيرة حتى جاء إلى هذا الكوكب؟
ألم يك نطفة من الماء، من منيٍّ يُمْنَى ويراق؟ ألم تتحول هذه النطفة من خلية صغيرة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم، تعلق بجدارنه لتعيش وتستمد الغذاء؟ .. فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة؟ ومن ذا الذي أودعها هذه القدرة؟ ومن ذا الذي وجهها هذا الاتجاه؟ ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك جنينا معتدلًا منسق الأعضاء؟ مؤلفًا جسمه من ملايين الملايين من الخلايا الحية، وهو في الأصل خلية واحدة مع بويضة.(5/315)
والمرحلة المديدة التي قطعها من الخلية الواحدة إلى الجنين السوي وهي أطول بمراحل من رحلته من مولده إلى مماته.
والتغيرات التي تحدث في كيانه في الرحلة الجنينية أكثر وأوسع مدى من كل ما يصادفه من الأحداث في رحلته من مولده إلى مماته! فمن ذا الذي قاد هذه الرحلة المديدة، رحلة هذه الخليقة الصغيرة الضعيفة التي لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب؟
ثم في النهاية من ذا الذي جعل من الخلية الواحدة.. الذكر والأنثى؟ وأي إرادة كانت لهذه الخلية في أن تكون ذكرًا؟ وأي إرادة لتلك في أن تكون أنثى؟ أمن ذا إلى يزعم أنه تدخل فقاد خطواتهما في ظلمات الرحم إلى هذا الاختيار؟
إنه لا مفر من الإحساس باليد اللطيفة المدبرة التي قادت النطفة في طريقها الطويل، حتى انتهت بها إلى ذلك المصير..
وجهات النظر
(أ) المفكرون الإسلاميون:
لا ريب أن بقاء النوع الإنساني من أول أغراض الزواج أو هو غاية هذه الأغراض. وبقاء النوع إنما يكون بدوام التناسل. وقد حبب الإسلام في كثرة النسل، وبارك الأولاد ذكورًا وإناثًا ولكنه رخص للمسلم في تنظيم النسل إذا دعت إلى ذلك دواع معقولة وضرورات معتبرة، وقد كانت الوسيلة الشائعة التي يلجأ إليها الناس لمنع النسل أو تقليله - في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هي العزل (وهو قذف النطفة خارج الرحم عند الإحساس بنزولها) وهذا يتم بدور الذكر؛ لأن دور الذكر في التناسل هو تقديم النطاف فقط، ولأن طرح النطف لا يفيد في العملية التناسلية أيضًا ما لم يتم في مهبل المرأة.
وقد كان الصحابة يفعلون ذلك في عهد النبوة والوحي كما روي في الصحيحين عن جابر: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا ولو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن)) (1) .
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله إن لي جارية وأنا أعزل عنها، وإني أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال وإن اليهود تحدث: أن العزل الموءودة الصغرى!! فقال عليه السلام: " كذبت اليهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه ")) (2) .
ومراد النبي صلى الله عليه وسلم أن الزواج - مع العزل - قد تفلت منه قطرة تكون سببًا للحمل وهو لا يدري.
__________
(1) سنن الترمذي 241
(2) سنن الترمذي 242(5/316)
وفي مجلس عمر تذاكروا العزل فقال رجل: إنهم يزعمون أنه الموءودة الصغرى فقال علي: لا تكون موءودة حتى تمر عليها الأطوار السبعة، حتى تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم تكسى لحمًا، ثم تكون خلقًا آخر. فقال عمر: صدقت أطال الله بقاءك.
لقد قال الشيخ أحمد محمد عساف في كتابه الحلال والحرام في الإسلام ما نصه: (قد تنشأ أسباب أو ضروريات تدفع الإنسان إلى تنظيم أسرته أو تنظيم نسله، بأن يجعل هناك فترات متباعدة بين مرات الحمل وينشأ عن ذلك أن يكون عدد الذرية قليلا، نزولا على مقتضيات تلك العوامل والأسباب) .
وقد ذكر إباحة العزل الإمام الغزالي والإمام ابن القيم الجوزية وغيرهما، ولكن لا يجوز إجراء عملية يترتب عليها تعطيل الأجهزة التناسلية بصفة دائمة عند الزوج أو الزوجة؛ لأن هذا اعتداء على خلقة الله تعالى دون موجب..
(ب) المفكرون الغربيون: منهم (مرجريت سنجاير) .
ومنذ عام 1915 م قامت مرجريت سنجاير رائدة ضبط تحديد النسل فزينت جدران مكاتب أبحاثها بمدينة نيويورك حتى استجوبها القضاة أمام مجلس القضاء بشأن نشاطها الهدام من أجل ضبط النسل فابتكرت فكرة جديدة وهي أن تعلم النساء طريقة منع الحمل فاختارت خير مكان هو فرنسا وسافرت إلى باريس وبعدما شاعت دعايتها هناك قررت السيدة عودتها إلى نيويورك فأصدرت نشرة شهرية بعنوان: المرأة الثائرة. وألفت كتابا بعنوان: تحديد الأسرة. لم يقبل أي ناشر طبعه.
ثم سافرت مرجريت سنجاير إلى موسكو في عام 1934 م ومنها توجهت إلى الهند وقابلت غاندي الذي اقتنع بأن الأمومة ينبغي أن تكون واعية واختيارية خاصة وأن هذه مسألة تتعلق باحترام حرية المرأة في مجال يخصها بالدرجة الأولى فرفض الموافقة على استعمال مواد موانع الحمل.(5/317)
ضروريات تنظيم النسل
1 - الخشية على حياة الأم أو صحتها من الحمل أو الوضع، إذا عرف بتجربة أو إخبار طبيب ثقة. قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} النساء [29] وقال: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} البقرة [195] .
2 - الخشية من وقوع حرج دنيوي قد يفضي به إلى جرم في دينه، فيقبل الحرام ويرتكب المحظور من أجل الأولاد. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة 185 - وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} سورة المائدة 6.
3 - الخشية على الأولاد أن تسوء صحتهم أو تضطرب تربيتهم. وفي صحيح مسلم (عن أسامة بن زيد أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعزل عن امرأتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لِمَ تفعل ذلك؟)) فقال الرجل: أشفق على ولدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان ضارًّا لضر فارس والروم)) (1) .
وكأنه عليه السلام رأى أن هذه الحالات الفردية لا تضر الأمة في مجموعها بدليل أنها لم تضر فارس والروم وهما أقوى دول الأرض حينذاك.
4 - الخشية على الرضيع من حمل جديد ووليد جديد، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الوطء في حالة الرضاع وطء الغيلة أو الغيل لما يترتب عليه من حمل يفسد اللبن ويضعف الولد، وإنما سماه غيلا أو غيلة؛ لأنه جناية خفية على الرضيع فأشبه القتل سرًّا.
وكان عليه السلام يجتهد لأمته فيأمر بما يصلحها، وينهاها عما يضرها، وكان من اجتهاده لأمته أن قال: (لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة) (2) . ولكنه عليه السلام لم يؤكد النهي إلى درجة التحريم.. ذلك لأنه نظر إلى الأمم القوية في عصره فوجدها تصنع هذا الصنيع ولا يضرها فالضرر إذًا غير مطرد، هذا مع خشية العنت على الأزواج لو جزم بالنهي عن وطء المرضعات، ومدة الرضاع قد تمتد إلى حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة. لذلك كله قال: (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ثم رأيت فارس والروم يفعلونه ولا يضر أولادهم شيئا) (3) .
والمفهوم من تعاليم الشريعة الغراء أنه إذا كان هناك داع يستوجب هذا التنظيم في النسل فلا مانع شرعًا من اتباع طريقة سليمة لتحقيق ذلك. ومن هنا قرر العلماء إباحة منع الحمل مؤقتًا بين زوجين أو دائمًا إذا كان بهما أو بأحدهما داء من شأنه أن ينتقل في الذرية والأحفاد. وتنظيم النسل بهذه الأسباب الضرورية تبيحه الشريعة الإسلامية أو تحتمه على حسب قوة الضرر ونفعه؟
__________
(1) أخرجه مسلم ت: 241
(2) أبو داود ت: 242
(3) مسلم: ت: 243(5/318)
مانعات الحمل
أولا: العصر الحديث:
1 - وقد استحدث في عصرنا من الوسائل التي تمنع الحمل حبوب تتركب من مركبات البروجسترون والإستروجين ولكنها ذات تأثيرات جانبية سيئة، تختلف من امرأة إلى أخرى، ومن هذه التأثيرات التوتر الشرياني، والعنانة (الضعف الجنسي) والصداع المعند، والاكتئاب النفسي، واختلاف توازن سكر الدم، واحتقان الثديين بشكل مؤلم (1) . فمعظم النسوة يستعملن هذه الحبوب ليمارسن العلاقات الجنسية المحرمة.
يقول الدكتور نيكول: (إن المشكلة التي تواجهنا اليوم هي تبدل قيمنا الأخلاقية التي شجعت وتشجع إقامة العلاقات الجنسية المحرمة، وهذه بدورها سببت ازديادًا حادًّا في إصابات الأمراض الجنسية) SIDA (2) .
2 - الاعتزال: وذلك بأن يعتزل الرجل زوجته فلا يجامعها في أيام محددة من الدورة الطمثية.. ثلاثة أيام قبل موعد الإباضة وثلاثة بعدها ويوم الإباضة، وبذا تتم الإباضة دون إلقاح، ولا بد لنجاح هذه الطريقة من أن تكون الدورة الطمثية منتظمة، وأن نعرف يوم الإباضة بالضبط.
ثانيًا: عصر النبوة والوحي:
العزل: وذلك بأن يعزل الرجل ماءه ويقذفه خارج مهبل زوجته. لحديث جابر السابق: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) .
__________
(1) الأمراض الجنسية: د. نبيل ص 86
(2) الأمراض الجنسية. د. نبيل ص 86(5/319)
إسقاط الحمل
وإذا كان الإسلام قد أباح للمسلم أن يمنع الحمل لضرورات تقتضي ذلك فلم يبح له أن يجني على هذا الحمل بعد أن يوجد فعلًا.
واتفق الفقهاء على أن إسقاطه بعد نفخ الروح فيه حرام وجريمة، لا يحل للمسلم أن يفعله؛ لأنه جناية على حي متكامل الخلق، ظاهر الحياة، قالوا: ولذلك وجبت في إسقاطه الدية إن نزل حيًّا ثم مات، وعقوبة مالية أقل منها إن نزل ميتا، ولكنهم قالوا: إذا ثبت من طريق موثوق به أن بقاءه بعد تحقق حياته هكذا يؤدي لا محالة إلى موت الأم فإن الشريعة بقواعدها العامة تأمر بإرتكاب أخف الضررين، فإذا كان في بقائه موت الأم وكان لا منقذ لها سوى إسقاطه، كان إسقاطه في تلك الحالة متعينًا، ولا يضحى بها في سبيل إنقاذه؛ لأنها أصله، وقد استقرت حياتها، ولها حظ مستقل في الحياة، ولها حقوق وعليها حقوق، فهي بعد هذا وذاك عماد الأسرة، وليس من المعقول أن نضحي بها في سبيل الحياة لجنين لم تستقل حياته، ولم يحصل على شيء من الحقوق والواجبات (1) .
وقال الإمام الغزالي يفرق بين منع الحمل وإسقاطه: (وليس هذا - أي منع الحمل - كالإجهاض والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل، والوجود له مراتب، وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة وإفساد ذلك جناية، فإن صارت نطفة فعلقة، كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشًا، ومنتهى التفاحش في الجناية هي بعد الانفصال حيًّا (2) .
تقليل النسل في العصر الجاهلي منها: وأد البنات، قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} التكوير: [8، 9] ، وقيل في التسهيل: الموءودة هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حية من كراهته لها أو غيرته عليها. فتسأل يوم القيامة {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} ؟ على وجه التوبيخ لقاتلها. فلهذا يقول عز وجل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} النحل [58] .
__________
(1) الفتاوى للشيخ محمود شلتوت
(2) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي كتاب النكاح: 47(5/320)
الخلاصة
رَأْيُنَا حول هذا الموضوع:
ترى ما هو العلاج لهذا الموضوع الخطير الذي يحاول أعداء الإسلام تشويه المجتمع الإسلامي به؟
إن مشكلة تنظيم النسل وتحديده في هذا العصر المائع والمجتمع المضطرب والقيم الأخلاقية المتدهورة والصراع المادي المستحكم، ليست سهلة الحل إذا عولجت على أساس أنها عارض منفصل عن بقية أوجه الحياة، والإسلام وحدة متكاملة في نظام حياته المتميز، وَرَحِمَ الله من قال: (خذوا الإسلام جملة أو فاتركوه) .
إن تأييد تحديد النسل تأييد لأعداء الإسلام الذين يحاولون تشويه المجتمع الإسلامي ودعاياتهم منتشرة في جميع النواحي.
قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} الإسراء [31] .
وفي وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) . وقال أيضًا: ((من ترك الزواج مخافة العيال فليس منا)) .
فالإسلام كفيل بحل مشكلة تنظيم النسل وتحديده في المجتمعات المسلمة.. عندما تكون له السيادة فيها.
أما الترقيع الإجتماعي الجزئي فليس من أسلوب الإسلام ولا من منهجه؛ لأن المصلحة التي هدف إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي حماية الرضيع من الضرر - مع تجنب المفسدة الأخرى - وهي الامتناع عن النساء مدة الرضاع وما في ذلك من مشقة.
وعلى ضوء هذا نستطيع أن نقرر أن المدة المثلى في نظر الإسلام بين كل ولدين هي ثلاثون أو ثلاثة وثلاثون شهرًا لمن أراد أن يتم الرضاعة، وقرر الإمام أحمد وغيره أن ذلك يباح إذا أذنت به الزوجة؛ لأن لها حقًّا في الولد، وحقًّا في الاستمتاع.
وروي عن عمر أنه نهى عن العزل إلا بإذن الزوجة (1) .
فالمهم أنه لا يجوز إجراء أي عملية يترتب عليها تعطيل الأجهزة التناسلية بصفة دائمة عند الزوج أو الزوجة. فقد يكون لهما على سبيل المثال ولدان أو عدد من الأولاد ثم يجريان عملية التعقيم وبعد ذلك يموت هؤلاء الأولاد موتًا طبيعيًّا أو في حادث من الحوادث ولا يستطيعان بعد ذلك أن يحصلا على أولاد لتعطل الأعضاء التناسلية عندهما.
يقول الدكتور: هـ. فلورنوي (إن الشعب الذي يحتاج إلى التهديد بفرض العقوبات التشجيعية على النسل والحفاظ على ارتفاع معنوياته شعب معتل وليس ناضجًا بالمرة) (2) .
سادتي العلماء وشيوخي الأفاضل
كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاج عبد الرحمن باه
__________
(1) الحلال والحرام في الإسلام د / يوسف القرضاوي
(2) ضبط النسل وتنظيم الأسرة كاكرين فالا بريج ص 18(5/321)
تنظيم النسل وتحديده
إعداد
الشيخ الشريف محمد عبد القادر
عميد المدرسة العالية بسرسينة
وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن بنغلاديش
بسم الله الرحمن الرحيم
تنظيم النسل وتحديده
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وآله وأصحابه أجمعين أما بعد:
1 - فإن المفهوم المتبادر في الأذهان من كلمة تنظيم النسل وتحديده هو العمليات الجارية للحد من تزايد عدد السكان والمزايا الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عنها - ولكن الكلمة تشمل معنى أوسع وأرحب ليس مقصورًا في شئون التقليل من عدد البطون الآكلة.
وقد أولى الدين الإسلامي الحنيف أهمية خاصة لتنظيم النسل وبين أصول وقواعد تحسين وتوطيد الأواصر بين أفراد العائلة وتهذيب أخلاقهم وتطوير مستوياتهم الدينية والمالية.
2 - فإن اللبنة الأساسية للأسرة والوسيلة الشرعية الوحيدة لابقاء عمليات التوالد والتناسل المستمرة هي العلاقة الزوجية بين رجل وامرأة - ونالت هذه العلاقة الزوجية أهمية بالغة وعناية خاصة في الشريعة الإسلامية - قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) . ووصف القرآن الكريم الزوجين بأن أحدهما لباس للآخر - {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (2) . وأشار كتاب الله الكريم إلى وسيلة حسن نظام العائلة وقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (3) . وتعاليم الدين الحنيف في هذا المجال واضحة ومتوسعة في آيات القرآن الحكيم وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
ومعرفة هذه الأحكام والنصائح ونشرها فيما بين الناس وخاصة فيما بين الفتيان والفتيات من المسلمين والمسلمات لتمكينهم من بناء أسرة إسلامية سليمة ومن تربية وتوعية الأجيال الآتية تعتبر من أهم أعمال تنظيم النسل والأسرة.
__________
(1) سورة الروم الآية 21
(2) سورة البقرة الآية 187
(3) سورة النساء الآية 34(5/322)
3 - ومن الواجبات المهمة والمكلف بها الآباء والأمهات هي تربية الأولاد الذكور والإناث الذين أنعم الله بهم على الزوجين نتيجة حياة زوجية سليمة وطبيعية وذلك طبقا للشريعة الإسلامية وقوانين الصحة البدنية والعقلية وأكدت الشريعة الإسلامية في هذا الصدد على الرضاعة من ثدي الأم بدلا من الرضاعة الصناعية ومن ثَمَّ بَيَّنَ القرآن الكريم الرضاعة بنوع من التفصيل حيث قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} الآية - وغيرها من الآيات الكريمة بهذا الشأن - والاعتماد على الخادمات والمربيات لتربية الأولاد وتخلي الأمهات عن هذه الواجبات لينشغلن بشئون أخرى ربما بأمور لا تعنيها مما لا توافق عليه الشريعة الإسلامية ولا ترضى بها فإن تربية المولود في مهد من ولدته هو المطلوب لتنظيم الجيل الصاعد، ومفاسد الاعتماد على المربيات الأجنبيات لتربية الأولاد قد برز جليًّا في بعض مجتمعاتنا الإسلامية خاصة الراقية منها والتي يحلو لها تقليد الغرب في كل شئون الحياة ويتحتم علينا أن نتنبه لهذا الخطر العظيم قبل فوات الأوان - ومن أعمال تنظيم النسل التي يجب علينا أن نتوجه إليها هو توعية الأمهات المسلمات وحثهن على تأدية واجباتهن تجاه رضائعهن كما يجب توفير الأجواء والوسائل المناسبة لهن ليقمن بواجباتهن مرضاة لله العليم الخبير.
4 - إن مرحلة الطفولة التي تعقب مرحلة الرضاعة تعتبر من أهم المراحل في حياة الإنسان - فإن هذه هي المرحلة التي تتكون فيها شخصية رجل وامرأة المستقبل ومسئولية تكوين شخصية الإنسان إنما تقع على عواتق الأبوين كما قال نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أويمجسانه)) - ويدل هذا الحديث الشريف بكل وضوح على أن توعية الأولاد توعية إسلامية وحفظهم من العقائد الضالة والثقافة الباطلة من واجبات الأبوين أولا وقبل أية جهة أخرى - وجاء في الحديث الشريف ((ألا كلكم راع وكل مسئول عن رعيته.... الحديث)) - وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((مروا أولادكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا)) .(5/323)
وبالعموم تعليم الأولاد وتربيتهم في البيئة العائلية وبين أفراد العائلة هو الأكثر إفادة والأقوم دعامة والأمثل نتيجة - أما التعاليم المدرسية والجامعية قد تساعد على تقوية أعمال العائلة ولكن في بعض الأحيان وللأسف الشديد قد تؤثر التعاليم المدرسية والجامعية في معظم البلدان الإسلامية تأثيرات سلبية على أفكار ومعتقدات فلذات أكبادنا ومن ثم تزداد مسئولية العائلة وصاحبها وتعتبر تربية الأولاد وتوعيتها من أهم أعمال تنظيم النسل والأسرة.
5 - وشجع الإسلام على تزويج الأولاد والبنات عند بلوغهم سن الزواج وقال ربنا العزيز الرحيم في كتابه الحكيم {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (1) أما الرهبانية والعزوبة والعنوسة فلا مجال لها في الإسلام - ويرفضها كتاب الله المجيد بنص صريح حيث قال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (2) - وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا رهابنية ولا خصاء في الإسلام)) - وأيضا قال ((النكاح من سنتي ومن رغب عن سنتى فليس مني)) - فإن الزواج الإسلامي هو وسيلة شرعية لزيادة أعداد متبعي الرسول الذين سيباهي بهم - فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((وانكحوا الودود فإني أباهي بكم يوم القيامة)) وأيضا قال: ((فإني مكاثر بكم الأمم)) والامتناع من الزواج لمدة طويلة في انتظار الحصول على الاستطاعة المزعومة مما لا يحمد عاقبته من الناحية الدينية؛ لأن الاستطاعة من الأمور النسبية والبركة في يد الله وأن الاستطاعة لا تعني أبدا توفر أسباب ووسائل الترف والبذخ - وتنظيم النسل في الإسلام يتطلب الإسراع في الزواج بغية الحصول على الأولاد خلال قمة الشباب فيكون الجيل الجديد أقوى من الناحية البدنية والعقلية وفي حين تكون القوى العاملة للوالد في ذروتها بحيث يستطيع بذل جهود متزايده ليبتغي من فضل الله، فيصرفه على الأولاد.
6 - إعداد الأولاد لكسب المال والأرزاق وحثهم على الجهد والعطاء من الواجبات الإسلامية ومتطلبات تنظيم الأسرة وأوصى نبينا المصطفى على أن نترك أولادنا في حالة لا يضطرون فيها على مد أيدي السؤال لما يقتات به من المال، ولا يحصل ذلك بتوفير خزينة من المال وتركها للأولاد، ما لم يكن الأولاد قادرين على حفظ وحسن استخدام هذه الأموال، أما الأولاد الذين تدربوا على حرفة ومهنة وتعرفوا على أساليب سليمة لكسب الأرزاق بالكد والجهد فهم الذين يعيشون حياة ناجحة وسعيدة، وأما جمع المال والمقدرة في مكان واحد فذلك فضل الله يعطيه من يشاء.
__________
(1) سورة النور الآية 32
(2) سورة الحديد الآية 27(5/324)
7 - قد يقال: إن كثرة عدد الأولاد قد تحول دون تأدية الواجبات تجاههم - ويتعذر للأبوين توفير كل المتطلبات للأولاد، ومن ثم يبرر عمليات تحديد النسل، كما يقال: إن خيرات الدنيا ومصادر الرزق محدودة للغاية، كما أن مساحة الكرة الأرضية والمناطق المسكونة منه محدودة - فإن استمر تزايد السكان في العالم بدون حد أو قيد لن يجد الإنسان ما يقتات به ولن يجد مكانًا للسكن - وسيعجز الإنسان من توفير فرص التعليم لأولاده - وسينخفض مستوى معيشة الإنسان إلى الحد الأدنى - وسيعم الفساد في الأرض وستندلع حروب مستنزفة وستحدث كوارث طبيعية ومدمرة ويلقى على أثرها مئات الألوف ضحايا.
8 - ومن أجل الحفاظ على نوع البشر من سلبيات التزايد السكاني المزعومة والمذكورة أعلاه تم إجراء حملة قوية وعالمية لتحديد النسل - وتم إيجاد طرق ووسائل متنوعة للتعقيم ومنع الحمل، وتم اتخاذ إجراءات كفيلة بتوفير هذه الوسائل وتوصيلها إلى متناول عامة الناس بسهولة وبأثمان رخيصة للغاية، ويجري صرف كميات ضخمة من المال واستخدام أفواج كبيرة من البشر لإجراء حملات دعائية واسعة النطاق ترغب عامة الناس في التقليل من الإنجاب واتخاذ وسائل كفيلة بتحديد النسل، وفي بعض البلدان تم فرض حظر قانوني على إنجاب أكثر من عدد محدد من الأولاد والبنات - قد يعاقب الزوجان على إنجاب أكثر من عدد محدد من الحكومة، وذلك بفرض ضرائب مالية عليهما، ومن خلال هذه الوسائل والتدابير تم التقليل من إمكانية استقرار الحمل، وتم في بعض البلدان إحلال الإجهاض - ونتيجة للحملات الدعائية والمعادية للحمل والإنجاب قد زادت عمليات الإجهاض غير الشرعي بشكل كبير.(5/325)
9 - ومثل هذه الحملات والبرامج لمنع الحمل وتحديد النسل لا تقرها الأصول والمبادئ الإسلامية، ونظرية عجز الأرض من توفير أرزاق العدد المتزايد من العباد تنفي وتعادي عقيدة الكفالة الربانية لأرزاق الخلائق {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (1) {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} (2) {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (3) {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} (4) {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (5) {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (6) {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ} (7) {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (8) - والآيات القرآنية والأحاديث النبوية كثيرة في هذا الشأن ولا داعي لحصرها.
10 - ومما لا شك فيه أن عدد أولاد آدم يتزايد يوما بعد يوم بانسجام تام ووئام كامل مع الخطة السماوية لخلق الخلائق - فإن الخالق العزيز القدير خلق نفسا واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء حتى بلغ عدد سكان العالم اليوم عدة بلايين ولكن لم تبخل الأرض ولا السماء عن توفير الأرزاق لهذا العدد الهائل من البشر بل يتفتح كل يوم آفاق جديدة لرزق لا يحصى - فإن الإنسان ليس عبارة عن بطون آكلة فحسب - بل لكل إنسان عينان يبصر بهما ورجلان يمشي عليهما ويدان يعمل بهما وعدد كبير من الأعضاء والجوارح يستخدمها وله مخ ثمين يفكر به ليس لإبقاء حياته فحسب بل لتحسين مستواه وتطويره - وما حققه الإنسان من النجاح في هذا المجال فهو البين والأظهر من الشمس - ولهذا من الواهيات والخرافات الاعتقاد بأن مصادر الرزق محدودة للغاية وأنها اقتربت للنفاد وسوف تنفد عاجلا إن لم يتم تحديد النسل والتقليل من تزايد البشر - والحق أن خيرات الأرض وفيرة وكافية لسد حاجة سكانها الحاليين وفي المستقبل وكل الحرمان في فريق من البشر مرده إلى بغي الفريق الآخر.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 58
(2) سورة هود الآية 6
(3) سورة الإسراء الآية 31
(4) سورة العنكبوت الآية 60
(5) سورة إبراهيم الآية 34
(6) سورة الحجر الآية 21
(7) سورة الأعراف الآية 96
(8) سورة المائدة الآية 66(5/326)
11 - ولا مبرر للقول والاعتقاد بأن عمليات تزايد عدد البشر تجري بدون أي تخطيط من رب العالمين، ولا يجوز القول إن الخالق الرب قد ترك الحبل على الغارب فيتزايد البشر والخلائق بطريقة عشوائية وغير مخططة - فإن من المعترف به علميًّا أن قطرة من النطفة البشرية تحتوى على عدد لا يحصى من الحيوانات المنوية والقابلة لتلقيح البويضة النسائية وبالتالي صالحة لاستقرار الحمل، وكذلك عدد البويضات المفروزة في الدفعة الواحدة مما لا يحصى. وعلى كل هذه الإمكانيات الهائلة كم هو الرقم القياسي للإنجاب في العالم وعلى مدى العصور الماضية؟ هل يقارن ذلك العدد بتلك الإمكانية الهائلة؟ وهذه الحقيقة العلمية تدل على أن عمليات الخلق والموت تجري وتستمر تحت خطة إلهية راسخة، وأية محاولة للتدخل في تنفيذ هذه الخطة المقدسة سوف تسفر عن نتائج وخيمة، وبالفعل قد برزت للظهور سلبيات برامج تحديد النسل في البلدان الراقية والرائدة في هذا المجال، فإن مستوى الأخلاق في تلك الأقطار قد انهار كل انهيار وزادت أحداث الاغتصاب والشذوذ الجنسي بشكل رهيب - وبدأت هذه البلدان تعاني من عجز الكوادر الفنية والأيدي العاملة والعقول المدبرة الوطنية - وزادت نسبة الكهول من الشبان.
وهذه السلبيات تسببت بكثير من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية مما يهدد هوية بعض هذه البلدان، وتنبه مسئولو هذه البلدان لهذا الخطر العظيم وبدءوا في اتخاذ إجراءات لتشجيع الشبان على الزواج وإنجاب عدد أكبر ممكن من الأولاد، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} .
12 - وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن دول العالم المتقدمة وغير الإسلامية قد تنبهت لأخطار تحديد النسل - وتجرى في تلك الدول محاولات شاطرة ومدروسة لزيادة العدد السكاني وتصدر من مراكزها الدينية كل يوم وليلة فتاوى تندد بعمليات تحديد النسل وتمنع متبعيها من اتخاذ خطوات لمنع الحمل وتشجعهم على زيادة أبناء المسيح عن طريق التوالد والتبشير، وفي الوقت نفسه تصرف هذه الدول موارد مالية ضخمة وقوى عاملة كبيرة لتشجيع سكان الدول الإسلامية في آسيا وأفريقيا على تحديد النسل والتقليل من تزايد عدد السكان المسلمين.
وهذا إلى جانب حملة تبشيرية قوية التي يقوم بها العالم المسيحي في الدول الإسلامية ونظرا إلى هذه الظروف لا يستبعد أن تكون مؤامرة تكمن وراء هذه الحملات والعمليات لتحديد النسل من أجل القضاء على الأمة الإسلامية وثقافتها وكيانها الديني والسياسي.
وينبغي أن يظهر أن الأعذار الشخصية المبيحة للعزل وما يقوم مقامه غير مؤثرة في توكل العبد على الله تعالى بإيصاله الرزق إليهم لا جليًّا ولا خفيًّا فهي المرض في الزوجين أو في أحدهما الذي يخاف به نقصان الصحة وسرايته في الولد واستبقاء الحياة بالتحرز عن المخاض وحسنها وسمانتها أو الخوف من الإفضاء إلى كسب حرام أو الخوف من الولد السوء لفساد الزمان ومانحا نحوها وكأن يكون في سفر بعيد أو في دار الحرب فخاف على الولد فعلى العبد أن لا يقع خلل في إيمانه برازقه تعالى عند اختياره شيئًا من تلك الأعمال المرخصة.
هذا ما عندي والعلم عند الله تعالى
الشريف محمد عبد القادر(5/327)
تحديد النسل وتنظيمه
إعداد
الشيخ مولاي مصطفى العلوي
رئيس المجلس العلمي بمكناس ومستشار وزير الأوقاف
ورئيس رابطة علماء المغرب والسنغال
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
استجابة لدعوة مجمع الفقه الإسلامي الموقر للاشتراك في دورته الخامسة بما يسر الله.
فقد اخترت أن أدلي ببحث متواضع على قدر استطاعتي وبضاعتي المزجاة من العلم، وذلك حول تحديد النسل وتنظيمه. ومن الله أستمد العون والتوفيق سبحانه.
تعريف تحديد النسل وتنظيمه
هو اتخاذ ما يمنع الحمل المعهود بين الذكر والأنثى عند الاتصال الجنسي بين الرجل وزوجته بصفة مؤقتة أو دائمة، فالدائمة هي التحديد والمؤقتة هي التنظيم كما سيأتي:
حركة التنظيم والتحديد:
كثيرا ما نسمع ونقرأ عن حركة التنظيم والتحديد مما يكتب تحت عناوين مختلفة مثل: (تنظيم الأسرة) (والتخطيط العائلي) وغيره والتي يختلف القائمون بها والمهتمون ما بين محبذ ومنكر ومتردد.
والكل يأتي بأسباب تتفق أحيانا وتختلف أخرى، ويحاول إقناع القارئ والمستمع بسداد رأيه، وإظهار حجته، وبلورة رأيه بما يتفق والهدف الذي ينشده، والرأي الذي يدافع عنه.
والقضية قديمة في تاريخ الإنسانية، ففي المجتمع الإسلامي بدأت في مستهل عصره، وفي عهد النبوة وحياة الرسول عليه السلام وعندما فكر بعض الصحابة في العزل عن المرأة لأسباب وقتية طارئة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأفاد بما يفيد الجواز مع الكراهة كما أفاده الفقهاء من جوابه عليه السلام: " لا عليكم أن لا تفعلوا ". وسنورد الأحاديث الثابتة في ذلك بحول الله.(5/328)
أما في المجتمعات غير الإسلامية فقد ثبت عند العلماء تاريخيًّا أن بعض القبائل البدائية، كانوا يتضايقون من كثرة الإنجاب، فيتخلصون من بعض ما أنجبوه بالقتل رغبة في التخلص من أعباء النفقة التي تثقل كواهلهم ومن هذا المنطلق بدأوا بقتل الإناث والاحتفاظ بالذكور؛ لأن هؤلاء يشتغلون مع آبائهم في شئون الحياة، ويساعدون على كثرة الإنتاج، وفي بعض القبائل العربية كانوا في عصر الجاهلية يتخلصون من الإناث خشية العار، فإذا كبرت البنت ولم تتزوج، أصبحت عارًا على أهلها ومذمة، فكانوا يدفنونها بعد ولادتها، وقد ندد القرآن الكريم بهذا العمل الشنيع في قول الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (1) . وفي بعض الأقطار كانوا يختبرون الطفل في طفولته المبكرة فإذا رأى الأب طفله سالم الخلق ذكيا احتفظ به، وإن رآه غير ما يحب تخلص منه بالقتل.
وأحيانا كانوا يقتلون أطفالهم خوفا من الجوع والفقر، ولهذه الأسباب جميعها أو بعضها وبهذا السلوك اللاإنساني جاء القرآن الكريم منددًا مستنكرًا هذا المسلك الشنيع فقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (2) . وفي آية أخرى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (3) .
وهكذا لم تكن في الأعصر القديمة وسائل للتخلص من كثرة الأولاد غير قتلهم بعد الولادة، فالأسباب تختلف ولكنها في نطاق ضيق، أما اليوم فإنها قد تنوعت وتعددت، ووسائل التخلص منها أيضا كثرت كالإجهاض.. وهو قتل مبكر قبل الولادة، وحدثت وسائل أخرى لمنع الحمل وهي كثيرة ومتنوعة والتي شاع أمرها وذاع تحت عنوان (تحديد النسل وتنظيمه) وأول من دعا إلى ذلك من فلاسفة الغرب هو الفيلسوف (مالتوس) الإنجليزي في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد، فقد لفت الأنظار إلى وجوب الحد من إنجاب المواليد خشية الجوع والفقر، وبعد قرن من الزمن جاء فيلسوف آخر بريطاني أيضا ينادي بخطورة النمو الديموغرافي هو (البير وليم كروكس) وذلك أمام قلة موارد الرزق وقلة وسائل التغذية، مما يؤدي إلى المجاعة المهولة.
__________
(1) سورة التكوير الآية 8 و9
(2) سورة الأنعام الآية 151
(3) سورة الإسراء الآية 31(5/329)
والجدير بالذكر أن بناء الدعوة إلى تحديد النسل على قضية التغذية وخوف المجاعة قد ظهر خطؤه مرارا. فالتقدم الاقتصادي في سائر أنحاء الدنيا حقيقة لا يمكن إخفاؤها، وهو شيء يناقض نظرية (مالتوس) ومن سار على نهجه من دعاة الخوف من النمو الديموغرافي وضائقة الغذاء بالنسبة للجنس البشري.
والذي ثبت في تاريخ المجتمع الغربي منذ شروعه في عملية تحديد النسل هو عكس ما يقوله هؤلاء، إن الزمن الذي شاعت فيه فكرة التحديد وبدأ تطبيقها على نطاق واسع في الأقطار الغربية أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العشرين، كان الفترة التي تقدم فيها الاقتصاد وازدهرت حركة الإنتاج، وأصبحوا يتخلصون من فائض إنتاج مواد التغذية بإغراقها في البحر وإحراقها بالنار مخافة هبوط أسعارها في الأسواق العالمية، وهكذا ثبت أيضا أن فكرة الخوف من زيادة السكان أمام ضعف الإنتاج الغذائئ والصناعي لا أساس لها، بل العكس هو الصحيح.
فالازدهار والنمو الاقتصادي الذي عرفه الغرب، وبعض الأقطار بصفة خاصة، مثل إنجلترا وفرنسا وأمريكا لم يتم إلا عن طريق النمو الديموغرافي لهذه الأقطار.
فبالرجوع إلى تاريخ بريطانيا مثلا نجد النمو السكاني بها هو الذي جعلها أثناء القرن التاسع عشر تصبح سيدة العالم، ولا تغيب الشمس عن أقطار نفوذها، ففي القرن الخامس عشر لم يكن سكانها يتجاوزون المليونين ثم قفز عددهم في نهاية القرن الثامن عشر إلى عشرة ملايين، وفي نهاية القرن التاسع عشر وأوائل العشرين إلى 40 مليونا، وهم الآن نحو 60 مليونا، ومع كثافة سكان الجزر البريطانية بهذا العدد، ومساحتها لا تتجاوز 244.100 كلمترًا مربعًا، وذلك سر قوتها وامتداد نفوذها إلى سائر القارات وإلى أمريكا بالذات، وكندا واستراليا وأقطار شاسعة في آسيا أيضا.
أما أميريكا الشمالية فقد كان عدد سكانها في منتصف القرن الثامن عشر مليونًا واحدًا، وفي ظرف مائة سنة قفز عددهم إلى 26 مليونًا، أما عدد سكان الولايات المتحدة - أمريكا - اليوم، فيزيد عن 230 مليونًا، وذاك ما منحها قوة اقتصادية وعسكرية، ونفوذًا على العالم كله، مع ملاحظة أن السر ليس في كثرة العدد، بل فيه مع ارتفاع مستوى تكوينه علميًّا وفنيًّا، فالكم وحده لا يفيد ما لم يكن معه الكيف الرفيع.
فالمهم في الأمر هو التكوين العلمي والتكنولوجي الذي أصبحت به الدول الغربية اليوم، قوة لها حسابها في المجتمع الإنساني كله شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا.(5/330)
أما قضية النمو الديموغرافي، فإنما هي واجهة يهاجم منها أهل الدعوة إلى تحديد النسل في الأقطار الإسلامية عربية وغير عربية؛ لأن الماسكين بزمام السياسة في المجتمع الإنساني يخشون من تكاثر المسلمين ويقظتهم التي قد تجعلهم يستعيدون وحدتهم، ويأخذون بمنهج دينهم الحنيف، الدين الإسلامي الذي يفرض على معتنقيه الأخذ بأسباب التطور والمعرفة والقوة وبذلك تسترجع أمة الإسلام قوتها وسيادتها ونفوذها على الإنسانية وتكون أمة وسطا كما قال الله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) .
وأعتقد أن هذا هو سر هذه الحملة الموجهة إلى المجتمع الإسلامي كله وفي كل مكان، ومن المعلوم أن الإسلام وهو وحي من الله العليم الخبير. مدبر هذا الكون سره وعلنه، ماضيه وحاضره ومستقبله، قد شجع على التناسل وحض عليه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) .. وقال في حديث آخر وهو أكثر دقة وصراحة في الموضوع: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)) والحديثان رواهما أصحاب السنن. ومن المؤسف حقا أن تتأثر الشعوب الإسلامية والعربية بصفة خاصة، بدعوة تحديد النسل التي يروجها خصوم الإسلام، ويبذلون في سبيل تحقيقها من الأموال والوسائل، ما لو أنفقوه على بعض الشعوب ذات المظهر التخلفي والمتسم بالفقر، لكان له أثر محمود على تلك الشعوب ولارتفع مستواها الفكري والثقافي وخرجت من حيز التخلف والفقر والجهل.
فالأقطار العربية والإسلامية التي يصفونها بما يحبذ فكرة الخوف من النمو السكاني، والمهددة بشبح المجاعة، ويحاولون إخضاعها لتنظيم النسل وتحديده، وفعلا فقد وقعت في شَرَكِ هذه الدعوة كثير من الدول الإسلامية. وأصبح لفكرة التحديد والتنظيم مؤيدون، وأسست للتنفيذ جمعيات ومؤسسات تسهر على تنفيذ هذا المخطط المفروض، مع أن هذه الشعوب لو انتبهت إلى حقيقة أمرها، ودرست أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية ووجدت من يأخذ بيدها ويساعدها على تطوير إمكانياتها الإنتاجية في الزراعة والصناعة، لكانت على شكل وصفة غير التي هي عليها اليوم، مهددة بالمجاعة والتخلف وكثرة الجائعين والعاطلين.
__________
(1) سورة البقرة الآية 143(5/331)
وقد نشرت مجلة المسلم المعاصر في عددها 42 السنة 1984 بتاريخ جمادى الأولى 1404 هـ بحثًا للدكتور السيد محمد علي البار، وفيه فقرة تصف السودان بأنه (سلة الخبز) نظرًا لإمكانياتها الزراعية والحيوانية التي يمكنها أن تطعم العالم العربي بأكمله، والذي يقدر بمائة وستة وأربعين مليون نسمة، والمعروف أن أقطار العالم العربي توجد بها ملايين الهكتارات المسقية والصالحة للزراعة والإنتاج الحيواني.
ومع هذا تجد الدعوة إلى تحديد النسل في الأمة العربية والإسلامية ميدانًا خصبا، لرواجها وقبولها وتنفيذها على أيدي المسؤولين في بعض الأقطار، إنه خطأ فاحش، وانصياع لغزو فكري ظالم مغرض يريد المزيد من تدمير المجتمع الإسلامي، والقضاء عليه، ويجب الانتباه لهذا الأمر الخطير الذي لا يقل عما سبقه قبل فترة من الزمن من حرب مدمرة سلطت على العالم الإسلامي بمختلف الأسلحة الفتاكة عجزت الشعوب الإسلامية عن مقاومتها، فخضعت للاستعمار العسكري المباشر، وذاقت مرارته عشرات السنين.
وما فكرة تحديد النسل إلا حرب أخرى وبشكل آخر. تلك قضت على مئات الآلاف من رجال الحرب، الذين قاوموا الاستعمار عند بسط نفوذه وقاوموه لإخراجه، وهذه تضعف الأمة من الأساس، إذ تقلل من إنجاب الأطفال الذين هم رجال المستقبل، فتصبح الأمة فقيرة من الرجال الصالحين الأكفاء الذين يناهضون الاستعمار بكل أشكاله فكريا وعسكريا، واقتصاديا، إنها حرب خفية تلبس لبوس التطبيب والإسعاف والتنظيم والإنقاذ، فتسلك طريق المسعفين الأطباء الذين يعملون عن قصد أو غيره على تعقيم الناس رجالا ونساء كما يقال عن دولة الهند، حيث يجري التعقيم سرا وعلانية، وذلك بأمر سلطان الدولة عند علاج المرضى وبدون شعور أكثريتهم.(5/332)
هذه حقيقة مؤسفة وتلك بعض ملابساتها، ومن الأسباب التي أصبح يتعلل بها المتسلطون في هذا الميدان، زيادة على علة الفقر والخوف من المجاعة التي تؤثر على الأسر في تنشئة الأولاد العديدين، وتوقع في حرج دنيوي، وقد تؤدي إلى ارتكاب ما ليس بمشروع من أجل الإنفاق على الأولاد والتوسعة فيه.
من هذه الأسباب الخشية على حياة الأم أو سلامة صحتها عند الإكثار من الحمل والولادة والخشية على الرضيع من حمل جديد يفاجئها، وهو المعروف (بالغيلة) ومن ذلك الحفاظ على سلامة جمال المرأة ورشاقتها وراحتها من أعباء الحمل والرضاعة، والانشغال بتربية الأطفال عن المتعة بشبابها وأناقتها.
وقد أصبح الكثيرون مع الأسف الشديد يقدمون على تنفيذ خطة وقف الإنجاب اعتبارا من بعض هذه العلل. وهو أمر ينافي الطبيعة البشرية فيستعملون وسائل التعقيم أو تعطيل الإنجاب مؤقتا، وأحيانا تعطيل الزواج الذي حث عليه الإسلام بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)) وقوله عليه السلام ((تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) .(5/333)
موقف الشريعة من تنظيم النسل وتحديده
فأما التحديد الدائم، وهو التعقيم الذي يتم عن طريق قطع الحبل المنوي للرجل، وقناتي الرحم للمرأة، بحيث يصير كل منهما عقيما طول حياته، فهو أمر يجافي الطبيعة الإنسانية، ويتنافى وتعاليم الإسلام الصريحة؛ لأنه تغيير لخلق الله، وقد ندد القرآن بذلك عندما نسب أمره للشيطان فقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (1) .
فقطع الحبل المنوي وقناتي الرحم تغيير لخلق الله وعمل شيطاني. وإذن التعقيم الدائم غير مقبول شرعا، وحتى في الطبيعة البشرية والفطرة التي فطر الله الناس عليها {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
وأما اتخاذ وسائل التباعد بين الحملين فهو جائز إذا استعملت فيه الوسائل التي لا تلحق ضررا بأحد الزوجين أو بهما، فطبيعة التكوين البشري تختلف من شخص لآخر فهناك من النساء من لا تتهيأ للحمل إلا بعد أمد طويل، ومنهن من تتهيأ للحمل بسرعة، وقد جاء في القرآن ما يفيد جواز العمل على تباعد ما بين الحملين في قول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (3) . فالمرأة إذا حملت تسعة أشهر ووضعت وظلت ترضع مولودها حولين كاملين يكون الزمن الفاصل بين مولودين، ثلاث سنوات تقريبًا، وقد يستفاد من هذا أن الأصلح للمولود والوالدة أن يكون أقل الفصل بين حملين ثلاث سنوات، تستريح فيها المرأة من عناء الحمل ومشقاته، ويتمتع المولود بفترة كافية من الغذاء الأنسب له، وهو لبن أمه، ريثما يتدرج في التغذية إلى الوسائل الطبيعية.
__________
(1) سورة النساء الآية 117، 118، 119
(2) سورة الروم الآية 30
(3) سورة البقرة الآية 233(5/334)
ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وطء المرضع، وسماه وطء الغيلة، وقال: " إنه يدرك الفارس قيد عثرة ". ولكنه أباحه صلى الله عليه وسلم فيما رواه أسامة بن زيد ((أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: " لم تفعل ذلك؟ " فقال الرجل: أشفق على ولدها، فقال الرسول: " لو كان ذلك ضارًّا لضر فارس والروم ")) . رواه (مسلم، وأحمد) . غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى أن منع الناس من الوطء مدة الرضاع قد يؤدي إلى مفسدة أعظم فرخص لهم في وطء المرضع، دفعا لمفسدة أشد من ذلك وهي اندفاع الأقوياء جنسيا إلى ارتكاب المحظور وهو الزنى، خصوصا وقد علم أن الروم وفارس يفعلون ذلك ولا يضر الرضع عندهم وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (1) . وهو يؤكد رفع الضرر عن الزوجين معًا ومن أشد الضرر أن يحمله الكف عن المرضع مدة الرضاع فيندفع إلى ارتكابه المحرم الذي قد يتسبب له في الموت رجمًا، إذا افتضح أمره وكان محصنًا.
فالمرتكب جريمة الزنى يجلد مائة ويغرب سنة إذا كان غير محصن وإذا كان محصنًا، أي متزوجًا، يرجم حتى يموت، وذلك بحكم القرآن والسنة. قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (2) .
أما السنة فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز عندما اعترف بالزنى، وهو رجل متزوج اعترف بخطيئته تخلصا من تبعتها غدا بعد الموت. فهذا صحابي اقترف ذنبا عظيما ورأى أن التوبة في نظره لا تكفيه وإنما أراد التخلص من تبعة الذنب غدا يوم القيامة.
وهكذا نرى أن الرضاع يمنع الحمل عند الكثير من النساء وإن كان لا يمنعه عند أخريات.
__________
(1) سورة البقرة الآية 233
(2) سورة النور الآية 3,2(5/335)
وهناك سبب آخر يمنع الحمل وهو طبيعي وجائز شرعا ذاك هو اجتناب الاتصال الجنسي بين الزوجين زمنا معروفا بين الحيضتين، وذلك قبل موعد الحيضة بأربعة عشر يوما؛ لأن البويضة التي يتم بها اللقاح تكون قد تجاوزت صلاحية الإنجاب.
وبهذا الترتيب يستطيع الزوجان أن يباعدا بين الحملين حسب اختيارهما، غير أن هذا يختلف باختلاف الناس فينبغي الاحتياط فيه حتى يعرف بدقة متى تفرز البويضة ومتى تنتهي صلاحيتها، وهذا أمر يعرفه الأطباء.
إلى جانب هذا هناك أمر ثالث هو العزل بمعنى أن الرجل عندما يشعر بأنه على وشك أن يتدفق منه الماء داخل الفرج ينسحب، وهذا لابد فيه من موافقة الزوجة.
وقد ورد فيه عدة أحاديث نسوقها كي يتضح أمر العزل وأسبابه وكيف يتم. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا الغربة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا نفعل ذلك ورسول الله بين أظهرنا لا نسأله؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون)) أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والإمام أحمد.. وعن جابر رضي الله عنه ((أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا، وساقيتنا، وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل، فقال: " اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها ". فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت فقال: " قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها ")) رواه مسلم. وهذا يدل على أن العزل قد لا يفيد مع قدرة الله. وهذا في الأمة.
أما الزوجة فلابد من إذنها لما رواه الإمام أحمد عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها.(5/336)
أما قول من قال: إن العزل كالوأد. فقوله مردود بما روي أن رجلا في مجلس عمر بن الخطاب قال: العزل كالوأد، وكان سيدنا علي بن أبي طالب حاضرا فقال: لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع، حتى تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم عظاما، ثم تكسى لحما، ثم تكون خلقا آخر. فقال عمر: صدقت أطال الله بقاءك. رواه ابن رجب في جامع العلوم. والحديث مطابق للآية الكريمة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1) .
كما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زعمته اليهود من أن العزل هو الموءودة الصغرى، فقال: " كذبت اليهود إن الله إذا أراد خلقه لم يمنعه شيء ". وإذن فالعزل جائز بشرط موافقة الزوجة الحرة في مذهب مالك وأحمد، وخالفه الحنفية في مسألة واحدة وهي إذا خاف سوء الولد أو كانت الزوجة سيئة السلوك معه وهو عازم على طلاقها فله أن يعزل عنها بدون رضاها، والله أعلم.
وتوجد طريقة أخرى لمنع الحمل وهي استعمال حواجز صناعية تمنع اختلاط ماء الرجل ببويضة المرأة، هي غشاء يغطي به الرجل عضوه التناسلي عند الجماع مما يسمى القبعة أو القلنسوة، وهذا أيضا مما لا إثم فيه ولا ضرر إذا كان متفقا عليه بين الزوجين؛ لأن للمرأة الحق في إرادة الإنجاب أو توقيفه ويشبه هذا استعمال أداة داخل رحم المرأة تسمى (اللولب) وهو أيضا يمنع علوق البويضة بجدار الرحم كي لا تتحول إلى نطفة وتأخذ طريق الأطوار السبعة المذكورة في الآية السالفة والحديث النبوي الشريف.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 12، 13، 14(5/337)
وأخيرا اكتشف في منتصف هذا القرن 1956 ما يدعى (حبوب منع الحمل) وأصبح استعماله شائعا بين سائر الطبقات وهو أخطر الوسائل على المجتمع البشري في نشر الرذيلة والفساد، وقد أصبح وسيلة لمئات الملايين ممن يتهربن من الحمل لأسباب متنوعة ومختلفة، منها المقبول شرعا ومنها ما لا يقبل.
فإذا كانت هناك أسباب معقولة ومقبولة أخلاقيا ودينيا. فالأسباب الخارجية عن هذا متعددة ومتنوعة، ونتائجها مهولة وفظيعة في الميدان الشرعي والخلقي والصحي.
ففي الميدان الصحي ثبت ضرر اللولب الموضوع داخل رحم المرأة. فكثيرا ما يحدث أمراضا خطيرة أو ثقبا في جدار الرحم.
أما الحبوب التي شاع استعمالها كثيرا كثيرا. نظرا لسهولة أمرها ووجودها بكثرة، فإن استعمالها يضر أيضا بكثير من النساء مثل المرأة المريضة بضغط الدم، أو بأمراض القلب والكبد والكليتين، والبول السكري، وسرطان الثدي، وحتى الإدمان على التدخين إلى غير ذلك مما أصبح عادة مألوفة لا يؤبه بضررها.
وفي الميدان الأخلاقي نجد استعمال حبوب منع الحمل تساعد على انتهاك حرمة الدين والأخلاق لدى الجماهير المنحرفة خصوصا ونحن نعيش كما يشعر الجميع ظروفا طغت فيها المادية، وضعفت فيها التربية الدينية والأخلاقية، في كثير من بلاد المسلمين، بسبب الغزو الفكري الذي طغى وانتشر في جميع الأوساط مع شديد الأسى والأسف.
فاستعمال وسائل منع الحمل بمختلف أشكالها وأنواعها، خصوصا الحبوب الواسعة الانتشار نظرا لسهولة الحصول عليها، ويسر استعمالها سرا من جميع الطبقات خصوصا الفتيات قبل الزواج في ميدان الطالبات والعاملات من غير اللجوء إلى طبيب.
إن هذا الاستعمال أعطى لأهله الحرية الجنسية، أو الفوضى الجنسية بأدق تعبير فاختلاط الشباب ذكورا وإناثا في المدارس والجامعات، وفي قاعات السينما، وفي الشوارع والمعامل تجدهم مختلطين مندمجين، لا رقيب ولا ملاحظ من أهل أو معلم أو قريب أو من حارس أخلاق فوجود الشباب على هذا النمط من الحياة أشاع الفاحشة وساعد على الرذيلة في كل الأوساط فمانع الحياء لا أثر له، والخوف من فضيحة حدوث الحمل من الفتاة دون زواج قد انتهى بوجود هذه الحبوب المدمرة للأخلاق والفضيلة.(5/338)
فقد كانت في المجتمعات أمور تبعث الفتاة على الاستقامة والحفاظ على سمعتها وأخلاقها وشرف أسرتها، ومعيار ذلك هو الحياء الفطري والخوف من حدوث ما يخدش كرامتها، من ولد زنى يفضحها في بيئتها ولدى أسرتها، فجاء الحاجز الذي يخفي كل سبب يؤدي إلى الفضيحة، ومن ثم لم يبق للحياء أثر في هذه المدنية الغربية، التي أشاعت الاختلاط العلني في محافل الرقص والغناء، وسواحل البحار ومسابح والملاهي وما فيها من خمر وميسر مما يتنافى وتعاليم ديننا الحنيف.
وليست فضيحة الأولاد غير الشرعيين هي وحدها ما انجر على البشرية بسبب وسائل منع الحمل وعلى رأسها وفي مقدمتها الحبوب الملعونة. فهناك أيضا وجود الأمراض الخبيثة والتي يسهل انتشارها بسبب الاتصال الجنسي الذي أصبح فوضى لا يحصره حد من قانون ولا أخلاق ومن آخر ما ظهر بسبب ذلك فقدان المناعة، الذي برز أخيرا، وظهرت خطورته على سائر المجتمعات وأصبح الغول المهول لجميع الأوساط.
وقد ضربت المدنية الغربية أعلى مثل في إنجاب الأطفال غير الشرعيين وانتشار الأمراض الخطيرة. ففي إنجلترا يولد كل سنة أزيد من ثمانين ألفا بدون زواج شرعي وفي سنة 1946 كانت نسبة أولاد الزنى واحدا من كل ثمانية ولدوا.
وهناك إحصائية مخيفة على حد تعبير أحد الأطباء الإنجليز هو: (أزوالدشوازز) حيث يقول إن 80 ألف امرأة في إنجلترا يلدن أولادا غير شرعيين وإذا كان هذا صحيحا، فينبغي معه اعتبار أنه حدث برغم استعمال وسائل منع الحمل كالحبوب وغيرها، ومنه ندرك أن الإحصائية إنما كشفت جزءا يسيرا من الواقع المر، الذي تسببت فيه طبيعة وجود وسيلة لمنع الحمل في مجتمعات الحضارة الغربية التي نعيشها اليوم.
ويقول الطبيب (تشيسر) الإنجليزي في إحصائية أجريت على 600 امرأة سنة 1956: إن واحدة من كل ثلاث نساء في إنجلترا تفقد جوهر عفتها قبل الزواج، ويتساءل هل قد عادت العفة أثرا بعد عين؟(5/339)
ويعرض الدكتور (سوروكي) وهو مؤرخ وخبير في الشؤون الاجتماعية الأرقام الآتية للعلاقات الجنسية غير الشرعية في أميركا. ويبكي للوضع الخطير الذي تظهره تلك الأرقام من العلاقات غير الشرعية قبل الزواج ففي الرجال من 27 إلى 87 % وفي النساء من 7 إلى 50 %، أما العلاقة غير الشرعية بعد الزواج.. ففي الرجال من 10 إلى 40 %، وفي النساء من 5 إلى 26 %، ويذكر التصاعد الذي يسير عليه وجود الأولاد غير الشرعيين في أمريكا ففي سنة 1927 كان 28 من كل ألف، وفي سنة 1937 أصبح 38.7 من كل ألف، ويحصي حوادث الإجهاض سنويا من 33.300 إلى مائة ألف.
ويقول هذا الخبير: إن مظهر هذه الحقائق المرعبة يبدو في الزيادة في بيع الأدوية والآلات المانعة للحمل، وهذه الزيادة التي تكاد تبلغ عنان السماء في أمريكا.
أما الجرائم التي كثرت والتي تدل على تدهور الأخلاق، والسير وراء الشهوات الجنسية العارمة والتي لم يبق للحد منها أي وازع من أخلاق أو دين، ومن أفظعها (الإجهاض) .
ففي تقرير لمجلة (تايم) عن سان فرنسيسكو أنه قد أجهض 18 ألف جنين مقابل ستة عشر ألف وأربعمائة مولود حي.
وفي ميدان الجرائم الجنسية أيضا تقول التقارير عن جرائم الجنس: إنها في تصاعد مستمر، ففي سنة 1938 تدخلت الشرطة في 283.000 جريمة وفي سنة 1955 م تدخلت في 483.000 جريمة.(5/340)
وتدل إحصائية المكتب الاتحادي لتحقيق الجرائم أن حوادث الزنى زادت سنة 1955 م 60 % بالقياس إلى سنوات 1937 - 1939 م.
وتقول إحصائية أخرى عن تشرد الشباب وازدياده: إن الشرطة قبضت على 2980.000 سنة 1957 في 1473 مدينة أميريكية وكانت سن 253000 دون 18 سنة، مما يدل على تدهور الأخلاق في صفوف الأحداث أكثر من غيرهم.
إن تأثير وسائل منع الحمل في المجتمع الإنساني متنوعة وكثيرة وخطورتها من أشد وأقبح ما يعانيه الإنسان اليوم، فالأمراض الجسدية المنتشرة اليوم سببها هذا الهجوم الفظيع على التقاليد الطيبة والأخلاق الحميدة، والقضاء على كل الفضائل الإنسانية التي فضل الله بها الإنسان على غيره من المخلوقات، واستخلفه في الأرض ليعمرها، ولا يمكن ذلك إلا إذا حافظ الإنسان على ميزته التي أكرمه الله بها وهي العقل واستعمالها للتمييز بين الطيب والخبيث من الأشياء، وما فكرة تحديد النسل إلا من التخلي عن نعمة العقل التي امتاز بها الإنسان على غيره من المخلوقات، وإذا أمعنا النظر واستعملنا العقل في نتائج منع الحمل ... وبهذه الوسائل البسيطة (الحبوب) الرخيصة والسهلة الاستعمال فإن الإنسانية تفقد بعد يسير من الزمن سرها وخصائصها، ويمسي فيها الإنسان مجرد حيوان يمشي على الأرض لا فرق بينه وبين سائر الوحوش والحيوانات.
ولعل ذلك إيذان بخراب الأرض ونهاية الحياة فيها نعوذ بالله من السلب بعد العطاء.
ومن المناسب أن نسوق في الختام بعض الآيات التي تفند وتبعد السبب الذي يبني عليه المتآمرون على الإنسانية، وعلى أمة الإسلام بصفة خاصة بدعوى الخصاص وخوف الفقر والمجاعة إلى تحديد النسل وما يثبت بأن ذلك مجرد ادعاء لا أساس له.(5/341)
يقول الحق تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1) .
ويقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (2) .
ويقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3) .
ويقول تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) .
ويقول: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (5) .
فمهمة الإنسان هي السعي في البحث عن رزقه مما أودعه الله في هذه الأرض التي استخلفه ليعمرها ويستمتع بخيراتها التي هي من فعل الله سبحانه.
والإنسان عليه أن يتخذ الأسباب وعلى الله الكمال، قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (6) .
وعلى المسلمين وعلماء الإسلام أن يسعوا جهد المستطاع لإيقاظ الجماهير المؤمنة من الغفلة، وأن ينتبهوا إلى أنهم محاطون بأعداء دينهم من كل جانب وأن يعلموا أن الدعوة إلى تحديد النسل بسبب الخوف من الجوع كذب وبهتان وافتراء.. وما هو إلا سلاح خفي لمحاربة أمة الإسلام.
والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
مولاي مصطفى العلوي
__________
(1) سورة هود الآية 6
(2) سورة الذاريات
(3) سورة العنكبوت الآية 60
(4) سورة الشورى الآية 12
(5) سورة الحجر الآية 20 - 21
(6) سورة العنكبوت الآية 16(5/342)
المراجع
التفسير:
1 - الجامع لأحكام القرآن:............... للقرطبي.
2 - تفسير القرآن العظيم:............. لابن كثير.
3 - الكشاف:............... للزمخشري.
4 - المنار:............... لرشيد رضا.
5 - في ظلال القرآن:............... لسيد قطب.
6 - رضوان البيان:..... لمحمد الأمين الشنقيطي.
الحديث:
1 - صحيح الإمام البخاري بشرح القسطلاني.
2 - صحيح الإمام مسلم بشرح النووي.
3 - عون المعبود على سنن أبي داود.
4 - تحفة الأحوذي على سنن الترمذي.
5 - سنن ابن ماجه.
6 - السنن الكبرى للبيهقي.
7 - مسند الإمام أحمد بن حنبل.
8 - الموطأ للإمام مالك.
أبحاث:
1 - خلق الإنسان بين الطب والقرآن للدكتور محمد علي البار.
2 - حركة تحديد النسل لأبي الأعلى المودودي.
3 - مجلة المسلم المعاصر عدد 42 السنة 11 تاريخ جمادى الأولى 1404 هـ.(5/343)
تنظيم النسل وتحديده
إعداد
أونج حاج عبد الحميد بن باكل
كبير القضاة بإدارة الشئون الإسلامية ببروني
وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن
بروني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد.
تمهيد:
فإن تحديد النسل أو تنظيم النسل أو ضبط النسل ألفاظ مترادفة مؤداها تقليل النسل كما يقصد الكتاب فيها، أو كما يقصده الذين يقومون بالعمل في تنفيذها بمختلف المستويات.
فالمراد من تحديد النسل هو التحكم فيه والتقليل من عدده بمنع الحمل قبل وقوعه إما لأسباب تتعلق بصحة الزوجة أو عجز الزوج عن الإنفاق على ذرية كثيرة بسبب ضيق ذات يده، أو تتعلق بضيق محصولات البلاد حيث أصبحت لا تتكافأ مع زيادة السكان المستمرة بنسبة عالية، فلابد من وقف ذلك النمو المتزايد وذلك بجعل النسل يكون على قدر ما يجيء من المحصولات على حسب قول أنصار هذه الفكرة بأفواههم، ومقالاتهم بأقلامهم.
أول من نادى بهذه الفكرة
أول من نادى بفكرة تحديد النسل هو الفيلسوف البريطاني "مالتس" وسرعان ما انتشرت هذه الفكرة في أوروبا وأمريكا وآسيا والبلدان الأخرى إسلامية أو غير إسلامية، فاحتضنتها بعض الحكومات ورفضتها الأخرى، وكما تأثر بها بعض الناس ورفضها الآخرون.
فالنقاش حول هذا الموضوع لا يزال مستمرا.(5/344)
رأي الإسلام
الإسلام يدعو إلى الزواج
الغريزة الجنسية لدى الإنسان حاجة من حاجات الفطرة السوية، جبل الإنسان عليها وأودعت فيه، كما أودعت فطرة الميل إلى الطعام والشراب، رعاها الإسلام واعتنى بها، شأنه في ذلك شأن كل أمر فطر عليه الإنسان، فنظم هذه الغريزة وأقامها وفق عقد مشروع بين الزوجين له شروطه وأركانه ومستلزماته وأجواؤه.
فالزواج في ظل الإسلام - إلى جانب كونه حاجة فسيولوجية، يتوقف عليها بقاء النوع الإنساني - ضرورة اجتماعية تؤدي وظيفتها في تنظيم الغرائز، واستقرار العواطف، واستمرار الحياة الإنسانية مبنية على الود والصفاء. وتنشئة الأطفال على تربية سديدة، وخلق كريم، ليكونوا أعضاء صالحين في تلك المجتمعات، وتنشئة لبنة قوية في بناء هيكل المجتمع، عليها يتوقف صلاح المجتمع وفساده كما قال الله تعالى في سورة الأعراف آية [58] .
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} .
ومن هنا دعا الإسلام إلى الزواج الشرعي الذي هو عماد تكوين الأسرة الفاضلة، والأسرة الفاضلة هي عماد تكوين المجتمع القوي.
فهو في العموم مندوب إليه في حال الاعتدال في رأي جمهور الفقهاء، بل عند بعضهم سنة مؤكدة لقوله تعالى في سورة النور آية (32) {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} وفي سورة النساء الآية (3) {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} .
فإن الخطاب في الآيتين قد جاء بصيغة الأمر والأمر للوجوب، إذا لم تكن هناك قرينة صارفة عن ذلك وقد قامت القرينة على أنه للندب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) (متفق عليه) .(5/345)
حين سمع الرسول عليه الصلاة والسلام أن نفرا من أصحابه قال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم: أصلى ولا أنام، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر قال: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) - متفق عليه.
وقد أمر الله باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول في سورة آل عمران آية [31] : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
وقد نهى الإسلام عن التبتل والانقطاع عن الزواج قال الله تعالى في سورة المائدة آية [87] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .
والزواج من جملة الطيبات التي أحلها الله سبحانه وتعالى ونعى على السابقين تبتلهم فقال في سورة الحديد [27] : {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} .
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التبتل نهيًا شديدًا (رواه سعيد بن منصور من حديث أنس بن مالك، ورواه ابن ماجه من حديث سمرة) .
وجعل المنقطعين عن الزواج من القادرين عليه خارجين عن سنته صلى الله عليه وسلم إذ يقول ((من كان موسرا لأن يناكح ثم لا يناكح فليس مني)) سنن ابن ماجه عن عائشة.
قال طاووس ((لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج)) سنن سعيد بن منصور وهو في معنى قوله صلى الله عليه وسلم ((: من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي)) .(5/346)
الإسلام يأمر بتكثير النسل:
لقد جاءت أحاديث كثيرة تأمر بتكثير النسل وتحث على زيادة الإنجاب واختيار المرأة الودود الولود لتحقيق ذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) .
وفي حديث آخر أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال: " لا ". ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ")) ، وفي حديث آخر قال ((انكحوا فإني مكاثر بكم)) .
والتكاثر المقصود هو التكاثر الذي يستحق أن يباهي به الرسول صلى الله عليه وسلم الأمم وهو التكاثر القائم على الصلاح والإيمان والقوة والحيوية والخير بلا شك، فإن التكاثر القائم على الفساد والعصيان لا يباهي به الرسول صلى الله عليه وسلم ولتحقيق زيادة الإنجاب وتكثير النسل حبب الرسول صلى الله عليه وسلم الزواج من الأبكار؛ لأنهن أكثر قابلية على الإنجاب قال: ((عليكم بالجواري الشباب فإنهن أطيب أفواها وأعز أخلاقًا وأفتح أرحامًا ألم تعلموا أني مكاثر......)) وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأنتق أرحامًا وأرضى باليسير)) والنتق الرمي والنفض والحركة.
وإنما تكون المرأة أنتق رحمًا إذا كانت أكثر استعدادًا للحمل والإخصاب، وهي الشابة التي لم تلد، وهي بلا شك تكون أكثر استعدادًا من تلك التي تقدمت في السن.
تحريم قتل الأولاد:
وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاختصاء.
وقد ورد في حديث عثمان بن مظعون أنه قال: يا رسول الله إنه ليشق علينا العزبة في المغازي أفتأذن لي يا رسول الله في الخصاء فأختصي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا، ولكن عليك يا ابن مظعون بالصيام فإنه محفرة)) أي: قاطع النكاح. والحكمة في تحريم الاختصاء إرادة تكثير النسل كما يقول ابن حجر.(5/347)
وكما يشمل النهي عن الاختصاء الذكور يشمل أيضًا قطع بيت الرحم في المرأة أو مبيضها لغير علة أو عذر، فإن العلة واحدة في الحالتين، وفي تحريم قتل الأولاد.
قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} الأنعام [151] .
وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} الإسراء (31) .
وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الأنعام [151] والإسراء [33] .
فهذه الآيات تدعو إلى الاعتماد على الله في رزق الأولاد بعد أخذ كل طريقة في الكسب الحلال، وإن التعاون الذي فرضه تعالى على المؤمنين، والتكافل الإجتماعي الذي أوجبه عليهم يوجبان أن يعين الغني الفقير، وذو اليسرة ذا الحاجة، فإذا كان هناك ذو عيال لا يجد ما يكفيهم بالمعروف كان على من يجد أن يمدهم بالعون، والدولة تأخذ من القادر لتكفل غير القادر، فالنسل قوة للأمة، وبدل أن نقول لكثرة العيال أقتل أسباب النسل في أصلاب الآباء أو أرحام الأمهات نقول للدولة: خذي من ذوي الفضل من المال وأعطي من يحتاج، والجميع بكثرتهم قوة للأمة.
هذه هي النظرة العامة للشريعة بالنسبة للنسل وهي تدعو إلى الإكثار لا التحديد، فالأحاديث تحث عليه والقرآن يشير إليه وهو الفطرة، وتحديده يناقضها ولكن وردت أحاديث في العزل، وهو إلقاء النطفة في غير مقرها من الأرحام لكيلا يكون إنتاج، وفي بعضها صحة وقوة، فما مدى دلالتها وقوتها في الوقوف أمام الدعوة إلى الإكثار من النسل؟ فلننظر في هذا فإن كثيرين من الذين يتكلمون في هذا يتخذون منه دليلًا للدعاية العامة لتحديد النسل، لقد وردت أحاديث في العزل بعضها متفق عليه في الصحاح، وبعضها سنده ضعيف، ولنذكر ما عثرنا عليه منبهين إلى الضعف، وموفقين بين ما ظاهره التعارض.(5/348)
1 - روي عن جابر: ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) . وهو حديث متفق عليه، وفى رواية مسلم زيادة: (فبلغه فلم ينهنا) .
2 - وروي عن جابر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن لي جارية هي خادمتنا وساقيتنا، وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل. فقال: " اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها ")) رواه مسلم وأحمد وأبو داود.
3 - عن أبي سعيد: ((كنا في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة، وأحببنا العزل فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لا عليكم ألا تفعلوا فإن الله قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة ")) متفق عليه. واللفظ للبخاري، وظاهره أن المراد النهي عن العزل كما قرر ابن سيرين؛ لأن حرف لا للنهي، وقد تأكد النهي منه بعد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم ألا تفعلوا " وببيان أن الله كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة.
4 - عن أبي سعيد الخدري قال: قالت اليهود: العزل الموءودة الصغرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كذبت اليهود، إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئًا لم يستطع أحد أن يصرفه)) ، وقد ضعف بعض رواته، ويعارضه حديث أقوى منه سندًا.
5 - عن جذامة بنت وهب الأسدية: ((حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس سألوه عن العزل فقال عليه السلام: ((ذلك الوأد الخفي)) {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} )) - رواه أحمد ومسلم، وهذا حديث صحيح، كل رجاله ثقات، ولذا لا يقف أمامه عند التعارض حديث أبي سعيد الخدري الخاص بموءودة اليهود؛ لأنه في حديث أبي سعيد ضعف، وهذا لا ضعف فيه، وبأنه يعاضده حديث غزوة بني المصطلق، والنهي عن العزل فيه صريح، ومن العلماء من رجح حديث أبي سعيد؛ لأن له طرقًا مختلفة، ولكن في كلها ضعف، والقوي لا يعارض بأحاديث قد كثرت طرق ضعفها، وقد قال الحافظ ابن كثير ذلك، هذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم والحديث صحيح لا ريب فيه.
والذي نراه أن هناك حديثين - متعارضين - متفق عليهما هما حديث جابر وحديث: وكنا نعزل - مع حديث بني المصطلق، ومثلهما، حديث الوأد الخفي مع حديث تكذيب اليهود متعارضان.
ولذلك اختلف العلماء في جواز العزل، ففريق جوزه، وفريق منعه، من هؤلاء ابن حزم وبعض الحنابلة، والذين أجازوه على أنه رخصة فردية، وإن اختلفوا في أسباب هذه الرخصة ما بين موسع ومضيق، ومن أشد من وسعوا الغزالي في الإحياء، فقد وسع في أسباب الرخصة.(5/349)
ومع ذلك فقد قرر الغزالي مع غيره أن العزل ترك الأفضل، بل إنه مكروه، لقد علق على حديث جذامة بنت وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم: فإن قلت فقد قال: ((قوله عليه السلام: الوأد الخفي، كقوله: الشرك الخفي، وذلك يوجب كراهة لا تحريمًا)) .
وننتهي من هذا إلى أن بعض الفقهاء يقرر أنه ممنوع، وبعضهم يقرر أنه غير ممنوع، ولكنه ترك للأفضل، ومنهم من يقول: إنه مكروه.
وفي الجملة أن الإباحة لا تكون إلا برخصة باعثة وفي غيرها لا يكون جائزا، هذا ما ينتهي إليه التفكير السليم.
ويجب أن نقرر أن العزل أو المنع الشخصي للنسل يتعارض مع الفطرة، وفيه معارضة للأحاديث المتفق عليها الداعية إلى تكثير النسل ويعارضه أيضًا الأحاديث الصريحة المانعة له، حتى قال بعض العلماء إنها ناسخة لأحاديث الإباحة على سبيل الرخصة وخصوصًا الحديث الصحيح الذي قال: ((إنه الوأد الخفي)) . ثم تعارضه قاعدة أجمع عليها المسلمون، وهي المحافظة على النسل، وقد أجمع العلماء على أن الضرورات التي يجب المحافظة عليها خمس: النفس والدين والعقل والنسل والمال. فنظرية منع النسل معارضة صريحة لكون المحافظة على النسل من الأمور الضرورية في الإسلام لإجماع العلماء.
تبين من البحث السابق أن المنع الفردي للنسل ترك للأفضل أو مكروه وإذا وجد موجبه عند الفرد كان مباحًا على مقدار هذه الرخصة الفردية، ولا يوجد في الفقه الإسلامي ما يجعل الرخصة الفردية جماعية لأمة من الأمم، أو لإقليم من الأقاليم، فالرخص دائمًا فردية.
الخلاصة:
1 - تحديد النسل بالنسبة للفرد مكروه أو ترك للأفضل. وبعض العلماء يقول: إنه حرام.
2 - إذا وجد موجب تحديد النسل عند الفرد كان مباحًا على مقدار هذه الرخصة الفردية.
3 - تحديد النسل بالنسبة لجماعة الأمة حرام.
والله أعلم.
الحاج عبد الحميد بن باكل(5/350)
تحديد النسل
إعداد
الشيخ محمد علي عبد الله
مستشار محكمة استئناف نيامي
وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن
جمهورية النيجر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين وعليه نتوكل ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. هو الأول والآخر والظاهر والباطن والهادي إلى الصراط المستقيم، من يهد الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له.
عزة ونعمة شهادتنا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله ناصر الحق بالحق والهادي إلى الصراط المستقيم، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
أما بعد:
مقدمة
فإن موضوع تحديد النسل يعتبر اليوم من أهم المواضيع الاجتماعية المدروسة في الدول الإسلامية وغير الإسلامية، وفي الحقيقة يمكن القول بأنه فرض نفسه عند طرقه باب الأسر الصغيرة قبل التعدي إلى ساحة المجتمعات الدولية حتى يتم عرضه في قاعات الاجتماعات والحلقات العلمية.
ففي هذا يمكن القول بأن الاعتقاد كما ذهب إليه بعض الناس بأن زيادة عدد سكان العالم قد يزيد في الرفاهية والازدهار الاقتصادي. وقد يعتبره بعض علماء علم الاجتماع من المجازفة ما دامت مسألة الطاقة الحيوية والمواد الغذائية نادرة، رغم أن بعض علماء الديموغرافية يأخذون بفكرة ازدياد عدد النسل في العالم يقابله في السلم زيادة حجم الأعمال وازدهار مواردها الصناعية، وهذا يؤدي إلى زيادة الدخل الفردي للمجتمع الصناعي، وبالتالي حتى إن كانت دول العالم الثالث تكافح مسألة زيادة النسل فلابد من إقناعها في ترك كل ما من شأنه أن يعود بالضرر على الأسرة حتى تؤول إلى التخفيض من النسل إذ يعود كما ترون بالفائدة على المجتمع الصناعي، لا مجتمع العالم الثالث الذي يعتبرونه سوق بضاعتهم نشتري منهم الكثير ولا نبيع إلا القليل والنادر في بعض الأحيان، على أنه من الضروري الإشارة هنا بأن هنالك فريقًا من العلماء في علم الاقتصاد من يرى العكس بأن في زيادة النسل وانتشاره في العالم لا يعد ضمانًا للازدهار والرفاهية، إذ إن كانت هذه الزيادة تحل بعض المشاكل الوقتية أو الحالية إلا أنها تعقدها وتشعبها بصفة خطيرة من الناحية الثانية، وعلى سبيل المثال كثرة النسل يؤدي بلا شك إلى كثرة الاستهلاك مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وبالتالي يتحول بدوره مع مرور الزمن إلى تخفيض الدخل الفردي الذي يؤدي حتمًا إلى انخفاض المستوى المعيشي للأفراد.
والسؤال الذي يتطرق إلى الذهن حاليًا هو هل يجوز أم لا القول بتحديد النسل؟ وما موقف الدين الحنيف من هذه القضية؟.
وسأتعرض خلال هذا البحث إلى موضوع تحديد النسل كما هو معمول به في الدول النامية ودول العالم الثالث مع تحديد نظريتها قبل التعرض إلى موقف الدين الحنيف من هذه المسألة.
وبالله التوفيق.(5/351)
الوضع العالمي الديموغرافي لدول العالم
وموقفها إزاء قضية تحديد النسل
لقد لوحظ خلال السنوات الأخيرة أن عدد سكان العالم يزداد بسرعة مهولة فقد كان عدد سكان العالم خلال سنة 1850 مليار نسمة فقط وأصبح خلال سنة 1930 مليارين ثم تجاوز ثلاثة مليارات خلال سنة 1970 حتى تجاوز حدود خمسة مليارات خلال السنوات الأخيرة.
والإحصائيات اليوم تعطي معدل ما يقارب 6: 7 مليارات نسمة. ويعتبر هذا العدد من خوارق العصر الحالي، ويعتبر بعض العلماء الوضع الديموغرافى المتزايد كنتيجة حتمية لانخفاض عدد الوفيات في العالم. نظرًا للتقدم العلمي الذي مكن من إنقاذ كثير من الأرواح وساعد النسل على النمو بدون مشقة.
إلا أنه يجدر بنا الملاحظة هنا بأن معدل النمو المدهش لعدد سكان العالم كان بطريقة غير عادلة من حيث التقسيم الجغرافي للعالم، وبالتالي فإننا في أوروبا واليابان مثلا نجد عدد النمو للسكان يقل عن 15 في الألف فهذه النسبة مثلا تعني أن فرنسا وبعض الدول الأوربية والنامية لا تبلغ نسبة مائة مليون بعد خمسين أو مائة سنة.
أما في أمريكا الشمالية وروسيا تبلغ من 15 إلى 20 في الألف.
أما في آسيا وأفريقيا فهذه تصل إلى 25 في الألف وربما أكثر من ذلك مما قد يؤدي إلى تضاعف نسبة السكان في هذه المناطق حوالي كل ثلاثين سنة، وهذا النمو الهائل ينجم عنه نتائج خطيرة، فقد يحدث أن ينشأ من جراء زيادة النسل في بعض أقطار العالم قلة الموارد الغذائية.(5/352)
وأمام الوضع الراهن السائد في أغلب مدن العالم وزيادة النسل فيها فقد بدأت التساؤلات حول مسألة إجازة تخفيض أو عدم تخفيض عدد سكان العالم الحالي، مثلا بأن الدول غير النامية قد تجد نفسها عرضة لزيادة سكانها، ويبدو بلا محال أن بعض هذه الدول غير مستعدة لاستقبال زيادة عدد سكانها في السنوات القادمة. ونظرا لعدم استطاعتها وضع إمكانيات مالية ولازمة للمعاش، كان من الضروري عليهم مراقبة النسل وبسبب ذلك قامت هذه الدول بوضع قانون يهدف إلى مراقبة الولادات، وسلكت سياسة ديموغرافية غايتها التخفيض بصفة نسبية من عدد الولادات.
فتقوم هذه الدول بوضع قوانين تهدف إلى مراقبة الولادات وذلك بتشجيع الزوجين على عدم كثرة النسل، وتحديد عدد الأطفال بثلاثة ولأجل ذلك تقوم حاليا بحملات دعائية عن طريق الأشرطة والإعلانات ووضع صور للأسرة المثالية التي لا يتعدى عددها الزوج والزوجة وثلاثة أولاد وزيادة على هذا فهنالك مكافآت لكل زوج أو زوجة يعرض نفسه لعمليات جراحية غايتها الحرمان من إنجاب الأطفال، ولكن رغم كل هذه المحاولات والمجهودات المبذولة لتحديد النسل في الدول النامية والعالم الثالث، فإن النتيجة لم تأت بثمارها المرجوة وإذ تعرضت مسألة تحديد النسل إلى عقبة صعبة الاجتياز، ألا وهي الاعتقادات الدينية، وبالتالي فرغم وجود التصور لزيادة النمو الذي يشير بانفجار العالم لكثرة سكانه في السنوات القادمة، فهذا لا يعني أنه يجب علينا حتما تخفيض عدد سكان العالم إذ في الحقيقة العالم الحالي يتمتع بطاقة معروفة أو غير مستغلة لتحديد زيادة النسل خلال السنوات القادمة، رغم أنه ليس هنالك أحد يستطع أن يحدد لنا كيفية موقفه ومدى الذي سيصل إليه تعمير العالم، على أنه يبدو أن مثل هذا النمو لا يبقى ثابتًا بلا نهاية بدون مخاطر. وبالتالي فلما كان التخفيض من عدد سكان العالم محالا، فإن الجهود الآن تسعى جاهدة إلى تنظيم النسل والتوفيق بين سكان الجيل القادم والموارد الإنسانية المقدرة.(5/353)
مفهوم تحديد النسل وتخطيط الأسرة:
منذ سنوات عديدة ومسألة تخطيط الأسرة تعتبر من الموضوعات اليومية في سائر أنحاء العالم، بين من يرى في تخطيط الأسرة عنصر تحرير المرأة ومن يشجع تحديد النسل خشية نمو النسل في العالم الثالث. فهنالك آراء كثيرة، إلا أن الذي يجذب الانتباه ويعبر بتمام عن الغموض في فهم هذا الموضوع يكمن في الكلمات المستعملة لتعيين هذا الموضوع.
فالبعض يعتبر أن لفظة تخطيط النسل وتنظيمه تعني عدم تقارب الولادات عند المرأة، وعند الآخرين يعتبر تحديد النسل وبعض عبارات أخرى مستعملة تزيد في غموض المسألة كتنظيم الولادات، والأمومة الاختيارية، وفي زائير مثلا بأفريقيا يقولون بالولادة المرغوبة أو الإرادية فتحديد النسل: هو عباره عن فعل أو عمل يقصد به منع الحمل سواء كان عن طريق آلي أو عن طريق كيماوي (حبوب منع الحمل) أو العادي كالامتناع عن مجامعة الزوجة لمدى معين من الزمن، وهنالك أيضا طريقة الحساب، وطريقة تنظيم الولادات التقليدية: يعتبر مجموعة من عمليات تطبيقية قد تشمل الانقطاع الإرادي عن مجامعة الزوجة، أو الافتراق بين الزوجين الذي يمكن من أبعاد زمن الولادات والتقليل منه لغاية الحفاظ على حياة المرأة وابنها.
وهذه الطريقة في الحقيقة كانت منتشرة منذ القدم بأفريقيا، والهدف من تقليل مدة الحمل وإبعاده لم يكن التقليل من عدد الأولاد المنجبين، بالعكس كانت غاية هذه العملية ضمان الحياة لعدد كثير منهم.
تحديد النسل المعاصر:
يعتمد على استعمال المواد المانعة للحمل دون اللجوء إلى الحساب فيما يخص عدد المواليد المرغوب فيه من الأولاد ويجب تميزه عن تخطيط الأسرة.
تخطيط الأسرة:
يقصد به التنسيق بين تهذيب أو تربية الأسرة وإمدادها بطريقة منع الحمل مع الأدوية اللازمة لتلك الغاية، لكي يسمح للزوجين من إنجاب ما تيسر لهم من عدد الأولاد اللازم لهم، وتخطيط الأسرة أيضا يعتمد على الحساب الدقيق للعدد الضروري للأولاد، والأسرة معنية اعتبارًا لمقتضياتها المالية والدبية والدينية.
وتحديد النسل: يقصد منه نشر فكرة منع الحمل على نطاق عام، عن طريق الدولة حتى يعم كافة الأسر ويشمل هذا النوع أيضا الإجهاض بغاية نقص نسبة الولادة لبلد معين لأسباب اقتصادية، وهذا النوع من تحديد النسل يعتمد عليه في آسيا بصفة عامة، أما في أفريقيا مثلا فهو مشجع في تونس ومصر، أما في المغرب وكينيا وغانا فبنسبة أقل.(5/354)
موقف الشريعة من قضية تحديد النسل
قال تعالى في محكم كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (1) .
ولقد كان أهل الجاهلية يقتلون أبناءهم مخافة الفقر فنزل قول الحق تبارك وتعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (2) .
وطالعتنا الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية ببحوث تطول وتقصر، في تأييد الرأي والدعوة إليه، إلا أنه يلزم قبل الخوض في البحث تحديد المقصود من الموضوع، أو تحريم محل النزاع، فقد تبادر للناس أن المقصود منه هو إصدار قانون عام يلزم الأمة كلها أن تقف بالنسل عند حد معين. لا فرق في ذلك بين سيدة يسرع إليها الحمل، فترضع ولدها السابق لبن الحمل، وأخرى يبطئ حملها وتمضي مدة الرضاع أو أكثر في تربية السابق دون حمل، كما ذكره محمود شلتوت في كتابه الفتاوى، دراسة لمشكلة المسلم المعاصر، ولا سيما القوي والسليم من الأمراض يلد أقوياء أصحاء والضعيف المريض يلد ضعفاء مرضى، ولا بين من في سعة من الرزق يستطيع تربية أبنائه مهما بلغ عددهم، وبين فقير في ضيق لا يستطيع القيام بتربية أبنائه الكثيرين فيضعف احتماله وتخور أعصابه وتفسد حياته.
وتحديد النسل بهذا المعنى العام، لا يمكن أن يقصده أحد ما فضلا عن أمة تريد لنفسها البقاء، وتعمل جاهدة وبخطوات سريعة في المشروعات الإنتاجية التي بها تنافس الأمم الأخرى، وترد عنها أطماع المستعمرين، عن طريق الإنتاج والاقتصاد، وهو بعد هذا تفكير تأباه طبيعة الكون المستمرة في النمو، وتأباه حكمة الحكيم الذي خلق في الإنسان والحيوان مادة التوالد والتناسل، وخلق مقابل ذلك في الأرض وسائر ما خلق قوة الإنتاج الدائم المضاعف، والمائدة التي أعدها الله عز وجل لعباده في ظاهر الأرض وباطنها لا يمكن أن تضيق عن حاجتهم وحاجة نسلهم مهما كثروا ومهما عاشوا بإذن الله.
أما النظرة الداعية إلى تحديد النسل وتنظيمه بالنسبة للسيدات اللاتى يسرع إليهن الحمل، وبالنسبة لذوي الأمراض المتنقلة، وبالنسبة للأفراد القلائل الذين تضعف أعصابهم عن مواجهة المسئوليات الكثيرة، ولا يجدون ما يقويهم على احتمال هذه المسئوليات، فمثل هذا التنظيم فردي أسري لا يتعدى مجاله وهو شأن خاص تدفع به أضرار محققه ويكون به النسل القوي الصالح.
__________
(1) سورة النحل الآية 72
(2) سورة الإسراء الآية 31(5/355)
ومن هنا حثت الشريعة على مبادئ القوة واتساع العمران وكثرة الأيدي العاملة، وعلى تهيئة ما تعمل فيه تلك الأيدي، وحثت على الزواج وامتن الله على الناس بنعمة البنين والحفدة كأثر من آثار الزواج وطمأن النفوس على الرزق كما ورد في قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (1) .
وكما جاء أيضًا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) .
فالله عز وجل كرم النبي آدم - عليه السلام - أولا بالسماح له بدخول الجنة ولما أقدم على مخالفة ما نهاه عنه أسكنه الأرض وسخر له ما فيها من حيوان ونبات وكل شيء أليس هذا بتكريم فالبارئ الخالق يقول في كتابه الكريم: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (2) .
قال عز وجل {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (3) . وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (4) . فظلموا أنفسهم وإن الله عز وجل قد قدر مقادير كل شيء من خير وشر وحياة وموت. وهداية وضلال، قبل أن يخلق السماوات والأرض، وقال جل جلاله أيضا {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (5) . وقوله أيضا {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (6) . فهذه الآيات دليل قاطع بأن العزيز الغفار ما خلق الإنسان باطلا، فهو عالم بالأشياء قبل كونها، وكتابته للأشياء قبل برئها، وبالتالي هل يجوز للإنسان المؤمن بقدرة الله الذي لا ينام والذي يمسك السماوات بلا عمد أن يتكلم بتحديد النسل؟ ويشكو بأن الله ليس قادرًا على أن يطعم أبناءه؟ في حين أنه قد قدر له هو الأب قوت يومه فهل يجوز أن نشكو بأن الذي جعل من الماء كل شيء حي وأنزل من السماء ماء ليس قادرا على أن يغذي ذرة من سكان العالم؟ سبحانه الذي قال: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} (7) . وقال أيضا في كتابه الكريم: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} (8) . صدق الله العظيم، والله عز وجل يسقي العالم بأسره بعد أن خلقه بلا شك، فإنه القدير البديع القادر على أن يطعمه، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} (9) . صدق الله العظيم.
__________
(1) سورة النحل الآية 72
(2) سورة الكهف الآية 51
(3) سورة الزخرف الآية 19
(4) سورة القمر الآية 49
(5) سورة الفرقان الآية 2
(6) سورة الأعلى الآية 1، 2، 3
(7) سورة الواقعة الآية 68، 69
(8) سورة المرسلات الآية 27
(9) سورة الملك الآية 30(5/356)
فبعد هذه الآيات هل يجوز الكلام بتحديد النسل أنه حرام أم حلال؟ بل زيادة على ذلك فالله عز وجل بَيَّنَ في محكم كتابه المقدس، كيفية تكوين الإنسان وخلقه، بطريقة دقيقة ورائعه، حيرت علماء العالم، ووحدانية الخالق سبحانه وتعالى تقتضي رعاية مصالح عباده، فهو ربهم وخالقهم إذ هو رب العالمين جميعا، إذ خلق الإنسان من نطفة ضعيفة فسواه وعدله. وجعله كامل الخلقة ذكرا أو أنثى كما يشاء، وجعل بقدرته هذا العالم المنتشر في أقطار المعمورة من ذلك الماء المهين، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} (1) . وهذا الإنسان الذي خلقه الله وأمره بأن ينظر إلى حقيقة خلقه بأن قال عز وجل: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} (2) .
ولقد جاء أيضًا في وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((سوداء ولود خير من حسناء عقيم)) وقوله أيضا صلى الله عليه وسلم: ((من ترك الزواج مخافة العيل فليس منا)) .
وكثيرا ما تعرض علماؤنا على اختلاف مسئولياتهم واختصاصاتهم من شرع وعلم اجتماع وطب واقتصاد لمسألة تحديد النسل.
فالإنسان مطالب بأن يتفكر وأن يتأمل حياتنا، ويعلم كمخلوق بأنه مطالب بعبادة الله الخالق، لأنه قادر على إعادته مرة أخرى بعد موته لمحاسبته على ما عمل في هذه الدنيا من خير وشر، فإن القادر على البدء قادر على الإعادة من باب أولى، فلا يجوز إذًا قتل الأولاد خشية إملاق؛ لأن الله عز وجل قادر على أن يرزقنا جميعا. فقد نهانا عن ذلك عز وجل في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (3) . وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (4) . رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي من تشاء منهما وتمنع من تشاء وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (5) . وقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (6) . وقد قال تعالى أيضًا {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (7) . وقوله أيضًا {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (8) .
وقوله أيضًا {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} (9) . وقال جل وعلا {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} (10) .
فإن الله تبارك وتعالى قد جعل رحلة خلق الإنسان آية لنا فتنقل خلقه من حال إلى حال، من نطفة بعد أن خلقه في بطن أمه خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث: ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشية، دليل واضح على أنه قادر على أن يرزقه إلى وفاته قبل انبعاثه مرة ثانية للحساب.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 54
(2) سورة الطارق الآية 5، 6، 7، 8
(3) سورة الأنعام الآية 151
(4) سورة آل عمران الآية 26، 27
(5) سورة النساء الآية 1
(6) سورة لقمان الآية 10
(7) سورة المؤمنون الآية 12
(8) سورة عبس الآية 18
(9) سورة الإنسان الآية 1، 2
(10) سورة القيامة الآية 37(5/357)
وعن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله عز وجل إليه ملكا بأربع كلمات فيقول: اكتب أجله ورزقه وشقي أو سعيد)) صدق رسول الله الكريم فالإنسان اليوم يسأل نفسه عن مآل أبنائه وأحفاده وإخوانه في المستقبل وهو حائر في ميسرهم ومعاشهم، ويحاول جاهدًا لإيجاد الحل لتحديد النسل، لعل وعسى أن يكون ذلك حلًّا ناجعًا لحماية سلالته من مصاعب الدنيا، وقد أغفل عليه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (1) . صدق الله العظيم فمن كان قادرا على أن يحيي العظام وهي رميم أليس بحق الله أن يكون قادرًا على أن يضمن معيشة خلقه بقدر ما قدر لكل فرد مسلم {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) . والله صادق فله الخيار في إمداد رزقه لمن يريد من الناس فقد قال تعالى أيضًا {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} (3) . فإن الله هيأ الأرزاق، ويسر أقوات جميع الخلق من إنسان وطيور وحيوان.
ولا ننسى أيضًا أنه عز وجل قال {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) .فكل بيت يولد فيه مسلم ينطق لا إله إلا الله محمد رسول الله بركة لكافة الدنيا لا للمسلمين فقط، إذ هي كلمة الدنيا والآخرة للفرد ولأسرته فالاعتماد حسب رأيي على كل عمل من شأنه التقليل من الإنجاب، يعني حرمان الإسلام من صوت ينشد بوجود الله وبركات رسول الله، فإن كان الفرد في ضيق فقد أمده الخالق بصلاح يعضد به نفسه ويرتكز عليه عند الشدائد ألا وهو الدعاء، فقد قال عز وجل {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (5) .
والله عز وجل لا يخلف الميعاد فالدعاء عضد الإيمان والله قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه فهو أقرب من حبل الوريد، فكيف إذن نؤمن بأنه إذا تعطل علينا المطر يقوم الجميع بصلاة الاستسقاء وينزل المطر. ونخاف اليوم بأن ندعوه عز وجل ليبعد عنا الفاقة والجوع والتشرد؟ وبالتالي فإنه لا يجوز للمسلم المؤمن أن يوافق فكرة تحديد النسل بمعناه حرمان أحد الزوجين (الزوج والزوجة) من الإنجاب، أي القيام بعمليات لقطع الحمل قطعا عن طريق الجراحة أو عقاقير خاصة لتلك الغاية، أما إن كان تحديد النسل لغاية التنظيم أي تنظيم النسل فقد يتقبله المؤمن إذ يعتبر علاجًا تدفع به أضرار محققة ويكون به النسل القوي الصالح، ومثل هذا التنظيم لا يجافي الطبيعة ولا يأباه الوعي القومي ولا تمنعه الشريعة وحسب رأيي يجب الأخذ به بشروط عملا بالقياس، إذ القرآن حدد مدة إرضاع الطفل بحولين كاملين فقد قال عز وجل {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (6) .
__________
(1) سورة يس الآية 77، 78، 79
(2) سورة البقرة الآية 212
(3) سورة الملك الآية 19
(4) سورة الذاريات الآية 56
(5) سورة غافر الآية 60
(6) سورة البقرة الآية 233(5/358)
وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرضع الطفل من لبن الحامل، وعملا بالقياس فإن كانت علة منع رضاعة الطفل للبن الحامل هو الضرر الذي قد يصيبه من جراء الرضاعة فإن ذلك قياسا يقضي إباحة العمل على وقف الحمل مدة الرضاع بغية دفع الضرر الذي قد يلحق بالطفل وبالتالي فإنه يمكن القول: بإباحة منع الحمل مؤقتا بين الزوجين في حالة حماية أو الحفاظ على صحة المرأة إن كانت المرأة لا تلد ولادة عادية تضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين، فإن كان تأخير الحمل بالأدوية أو غير ذلك لأسباب شرعية يقرها طبيب مسلم فقيه وكذلك إن ثبت الضرر للمرأة عند الحمل كأن يكون الزوج يخشى على حياة زوجته بعد فحص طبيب وبتقرير من طبيب مسلم. وفي الختام أؤكد لكم أن الدعوة لتحديد النسل أو منع الحمل بصفة عامة لا يجوز شرعا؛ نظرًا لأن المسلمين قلة في عالمنا هذا في حين أن الكفار والمشركين يفوقوننا عددا ولنا زيادة على ذلك أن الشريعة الإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره، إذ يعتبر المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وبالتالي فإن النسل يعتبر نعمة من رب العالمين، فعلينا أن نسعى جاهدين في زيادة النسل، حتى يزداد أصوات القائلين بلا إله إلا الله محمد رسول الله، حتى تعم الرحمة برحاب عالمنا هذا، ويقل فيه الفساد إذ لا يخفى عليكم بأن حث أبنائنا وبناتنا على أخذ العقاقير لمنع الحمل في كل وقت وكيف ما كان يؤدي حتما إلى مفاسد الأخلاق وإياكم وغضب الله ولعنته فعلينا أن نحتاط من كيد الداعين لمنع الحمل، الراغبين بكل الطرق على وضع أيديهم على أموال المسلمين كيدا لنا ومقتا، فالحروب الصليبية ليست ببعيدة في أذهاننا، فلا يرتاح بالهم إلا إذا انقضوا على ثروات المسلمين اليوم، فقد حاربونا الأمس لقوتنا وتمسكنا بحبل الله والعمل بسنة رسول الله، ولم يقدروا علينا، فما بالك اليوم وفينا الأغنياء والأثرياء؟ فكيف لا يرغبون في زرع مثل هذه الأفكار البغيضة المعادية للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها ولشريعتنا الحميدة؟ فعلينا أن لا نخالف الشرع وأن لا ننسى أبدا قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (1) . وقوله أيضًا عز وجل {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) . وعلى هذا نكون قد اختتمنا بحثنا ونسأله تبارك وتعالى أن يوفقنا للعمل الصالح وأن يتم لنا بعمل يدخلنا الجنة إنه ولي ذلك والقادر عليه فنعم المولى ونعم النصير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد علي عبد الله
__________
(1) سورة الإسراء الآية 31
(2) سورة الأنعام الآية 151(5/359)
تنظيم النسل وتحديده في
الإسلام
إعداد
الدكتور دوكوري أبو بكر
مدير المعهد العلمي والمشرف العام على المراكز الإسلامية
ومستشار الدولة للشئون الإسلامية
وعضو مجمع الفقه الإسلامي عن جمهورية
بوركينافاسو
بسم الله الرحم الرحيم
ليس لتحديد النسل وتنظيمه حكم واحد مستقر، وإنما يختلف حكمه باختلاف الدوافع والبواعث على هذا التحديد؛ لذلك اختلف العلماء في هذه المسألة كما هو الحال في شأن كل مسألة يكتنفها اعتبارات مختلفة، فيترك الحكم فيها لما يترجح في نظر الباحث من هذه الاعتبارات وما تقضي به المصلحة. فهذه هي طريقة الإسلام في تشريع الأحكام لذلك كانت شريعته صالحة لكل زمان ومكان ولكل حادثة.
وسنتناول في هذا البحث عدة جوانب.
الجانب الأول: تحديد النسل من حيث الدافع إليه.
الجانب الثاني: مسوغات تحديد النسل.
الجانب الثالث: شروط تحديد النسل.
الجانب الرابع: وسائل تحديد النسل.
ونقول بالنسبة إلى الجانب الأول: إن تحديد النسل إذا كان بسبب ما يروجه الغربيون وعملاؤهم من أن تزايد سكان العالم إذا استمر بالمعدل الحالي لدى جميع الدول فإن العالم سيقع في مجاعة خطيرة في المستقبل نتيجة لكثرة سكانه بحيث لا يمكن تأمين المواد الغذائية الكافية لهم جميعا ففيه نظر.
لذلك نرى الدول الغربية المتقدمة، تسعى جاهدة إلى إقناع دول العالم الثالث بضرورة الحد من نسبة المواليد، وقد استجاب كثير من الحكومات إلى هذه النداءات، وذهب بعضها إلى أبعد الحدود في ذلك حيث عقمت الرجال. ونرى كثيرا من الناس في الدول النامية وخاصة المثقفين منهم يقللون عدد أولادهم فيقتصرون على ولد واحد أو ولدين وذلك خوفا من الفقر والعجز عن القيام بأعباء تربية الأولاد ورعايتهم وهذا خطأ فاضح من الناحية الدينية والعقلية ومن حيث الواقع كذلك.(5/360)
يقول المرحوم الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي مصر السابق في الجزء الأول من كتابه (فتاوى شرعية وبحوث إسلامية) : (تحديد النسل أو كما يسمونه تنظيم النسل ودعوة الأمة إليه بصفة عامة مشروع خطير تجاذبته الأفكار والأقلام منذ سنين ولم يثره بأدنى الأمر عندنا إلا الاستعماريون حين أفزعهم تزايد السكان وأقلقهم نمو الأمة ويقظة الشعور العام فيها إلى أساليب الاستعمار والتنبه العام إلى ماله من فادح الأخطار على البلاد ومناداة الشعوب في كل الأقطار العربية بضرورة تحريرها وتخليصها من شروره ومفاسده فنادوا في طول البلاد وعرضها بالخوف من المجاعة والفقر إذا استمر تزايد السكان وما لم يحدد النسل بطريقة حاسمة. . . إلخ) .
وقد رأى غير واحد من المفكرين المسلمين أن الدعوة إلى تحديد النسل بالطريقة التي ينادون بها في العالم الثالث بوجه عام وفي العالم الإسلامي بوجه خاص مؤامرة استعمارية ضد هذه الشعوب يقصد منها إضعاف هذه الشعوب وإذلالها وإخضاعها دائما وأبدا لسيطرة الدول الكبرى المتقدمة ومما يؤيد وجهة نظرهم هذه أن الدول الغربية تشجع زيادة نسبة المواليد داخلها وتكافئ من يأتي بأكبر عدد ممكن من الأولاد.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن سكان العالم كانوا أقل عددا بكثير مما نحن عليه الآن ومع ذلك فإنهم كانوا يعانون من البؤس والفاقة أكثر مما نعانيه اليوم ولا يخالف أحد في أننا أكثر منهم تقدما ورفاعية وتنعما فعلمنا أن لا علاقة بين وفرة المعيشة ورغد العيش وبين قلة سكان العالم وكثرتهم، وأيضا مما لا يخفى على أحد أن ما تنفقه إحدى الدول الكبرى في برامج الفضاء وفى سبيل تطوير أسلحتها النووية لقادر على توفير الغذاء والعلاج اللازمين لجميع سكان العالم فكيف إذا صرفت هذه الدول مجتمعة كل طاقاتها وإمكانياتها المادية في مجالات التنمية المختلفة الصناعية والزراعية والتجارية أتظنون أنه سيبقى على وجه الأرض جائع واحد؟ كلا!.(5/361)
إذن فلا ينبغي لمسلم عاقل أن يغتر بكل بريق ويعتبره ذهبا، وأن يستجيب لكل نداء وأن ينجرف وراء كل تيار، بل عليه أن يكون ناقدا بارعا يحلل الأشياء ويمعن النظر فيها ويعمل فكره في التفريق بين الخطأ والصواب وبين الحق والباطل.
فلا ينبغي لأي مسلم أن يحدد نسله بحجة أنه قد يعجز عن الإنفاق على عياله إذا هم كثروا؛ لأنه أولا لا يعلم الغيب، فمن الذي أطلعه على مغيبات الأمور؟ فلئن كان فقيرا اليوم فإنه قد يغنى غدا، فكم من فقير معدم أصبح من كبار الأغنياء وكم من غني موسر أصبح من أفقر الناس ولم يعد يملك حتى قوت يومه وفي ذلك يقول تعالى {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (1) . أي في تقلب الأحوال من حال إلى حال أمر يخالفه.
وثانيا: أن هذا الإنسان المسكين ليس ضامنا لرزق نفسه فضلا عن رزق غيره فالله سبحانه وتعالى هو الذي يدير الأرزاق ويقدر لكل إنسان نصيبه منها قبل ولادته وخروجه إلى هذه الدنيا وما قدر له منها فإنه سيناله حتما فليس على وجه الأرض قوة قادرة على منعه من هذا الحق المقدر.
قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} (2) . وقال جل من قائل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (3) . وقال في آية أخرى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (4) .
أما إذا كان الدافع في تحديد النسل ليس لمجرد الخوف من كثرة العيال والفقر وإنما دعت إليه حاجة ملحة وضرورة معتبرة في نظر الشرع جاز ذلك.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 140
(2) سورة العنكبوت الآية 60
(3) سورة هود الآية 6
(4) سورة الأنعام الآية 151(5/362)
مسوغات لتحديد النسل:
أولا: أن يكون الزوجان في الجهاد مثلا فيحتاط على ألا تحمل المرأة لأن من شأن حملها تعريضها للضعف وللخطر نتيجة لمشقة السفر والجهاد أو أن يمنعا الحمل خوفا من أن يولد مولود وهما في دار الحرب وليس عندهما من وسائل الراحة والصحة ما يطمئنان به.
ثانيًا: إذا أخبر طبيب ثقة أو أثبت بالتجربة أن الحمل أو الوضع يعرض حياة الأم أو صحتها للخطر فيجوز لها منعه لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) . وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (2) .
ثالثًا: إذا خفنا على حياة الرضيع أو صحته من حمل جديد أو مولود جديد فيجوز منع الحمل في هذه الحالة حتى يزول هذا الخوف وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الوطء في حالة الرضاع وطء الغيلة (3) . لأنه إن قدر فيه حمل فإنه سيؤدي إلى إفساد اللبن وبالتالي إضعاف الولد، وإنما سماه غيلة لكونه جناية خفية على الرضيع فأشبه القتل سرا.
رابعًا: إذا خشينا على الأولاد أن تسوء صحتهم أو تضطرب تربيتهم لأنهم إن كثروا ولم تكن إمكانيات الوالدين كبيرة فيصعب توفير التربية الضرورية المناسبة لهم من الناحية المعيشية والصحية والتعليمية.
شروط تحديد النسل:
إذا عرفنا أن هناك مسوغات لتحديد بقي أن نعلم الشروط التي يجب توافرها لمشروعية ذلك.
ذكر بعض العلماء أن تنظيم النسل ومنعه لا يجوز إلا إذا أذنت به الزوجة؛ لأن لها حقا في الولد وحقا في الاستمتاع وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نهى عن العزل إلا بإذن الزوجة (4) . وفى هذا دليل على أن الإسلام قد أعطى المرأة حقها في عصر لم يكن يعترف لها بحقوق فعلى الذين يصرخون وينادون بحقوق المرأة في هذه العصور أن يكونوا منصفين ويشيدوا بعظمة الإسلام.
__________
(1) سورة البقرة الآية 2/195
(2) سورة النساء الآية 29
(3) راجع سنن الترمذي
(4) هذا الحديث مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق عمر بن الخطاب وقد أخرجه كل من الإمام أحمد وابن ماجه - راجع مسند الإمام أحمد 1/31 ونيل الأوطار 6/221(5/363)
واشتراط إذن الزوجة في منع الحمل هو مذهب الحنفية قال صاحب الهداية "ولا يعزل عن زوجته إلا بإذنها لأن تحصيل الولد من حقها" وورد مثله عن الكمال بن الهمام (1) . غير أن المتأخرين من الحنفية أفتوا في زمانهم بجواز منع الولد لأحد الزوجين بغير رضا صاحبه إذا خيف على الولد السوء لفساد الزمان وهذا مبني على قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان (2) .
أما الإمام الغزالي وجمهور الشافعية فيرون أن الولد من حق الوالد وحده فله إن شاء أن يحصله وله إن شاء أن يمنعه؛ لأن إثبات النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص ولا نص ولا أصل يقاس عليه بل ههنا في الإباحة أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلا أو ترك الجماع بعد النكاح أو ترك الإنزال بعد الإيلاج فكل ذلك مباح وليس فيه إلا مخالفة الأفضل فليكن منع الحمل بالعزل وما يشبهه مباحا كما أبيح الزواج وترك المخالطة إلخ.. إلخ (3) .
ويرى جمهور العلماء من فقهاء الأمصار أن منع الولد مكروه نظرا إلى حق الأمة فيه ونسب ذلك إلى عدد من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود؛ لأن فيه تقليل النسل وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج تكثيرًا للنسل فقال: ((تناكحوا تكثروا)) (4) .
ومن العلماء من ذهب إلى تحريم منع الولد مطلقا سواء أذن الزوجان في ذلك أم لا؛ لأنهم غلبوا حق الأمة في الولد على حق الوالدين، وقالوا: إن العزل فيه قطع النسل المطلوب شرعا من الزواج وفيه أيضا صرف السيل عن واديه مع حاجة الطبيعة إليه واستعدادها للإنبات والإثمار لما ينفع الناس ويعمر الكون، وينسب هذا المذهب إلى ابن حزم وابن حبان (5) .
__________
(1) راجع كتاب الإسلام عقيدة وشريعة لشيخ الأزهر محمود شلتوت ص 222 وهذا المذهب أعني عدم جواز العزل بدون إذن الزوجة الحرة نقل غير واحد الإجماع عليه منهم ابن عبد البر ولا يصح راجع نيل الأوطار 6/222
(2) راجع كتاب شلتوت الإسلام عقيدة وشريعة ص 222
(3) راجع الإحياء 2/51
(4) أخرجه البيهقي في المعرفة وغيره مرسلا وأسنده ابن مردويه في تفسيره عن ابن عمر وسند المرسل والمسند مضعف راجع الجامع الصغير 3/269
(5) راجع نيل الأوطار 6/223. والمحلى 10/70(5/364)
وسائل تنظيم النسل:
أولًا: العزل: وهو قذف النطفة خارج الرحم عند الإحساس بنزولها (1) . ويعتبر العزل الوسيلة السائغة التي يلجأ إليها الناس لمنع النسل أو تقليله في العصور السابقة وخاصة عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة يفعلون ذلك في عهد النبوة والوحي كما ورد في حديث جابر الذي في الصحيحين ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل)) (2) . ولمسلم ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه ذلك فلم ينهنا)) (3) .
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وساقيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل فقال: ((اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها)) (4) .
وفي مجلس عمر تذاكروا العزل فقال رجل: إنهم يزعمون أنه الموءودة الصغرى. فقال علي: لا تكون موءودة حتى تمر عليها الأطوار السبعة حتى تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم علقة، ثم مضعة، ثم عظاما، ثم تكسى لحما، ثم تكون خلقا آخر. فقال عمر: صدقت أطال الله بقاءك. (5) .
ومن الوسائل التي يلجأ إليها بعض الناس لتنظيم النسل وتحديده إسقاط الحمل بعد وجوده فعلا وهذه الوسيلة تعتبر جريمة في نظر الإسلام.
فلا يجوز لمسلم أن يسقط الحمل بعد نفخ الروح فيه فمن فعله فهو آثم وعليه دية إن نزل حيا وغرة إن نزل ميتا.
أما إسقاط الحمل قبل نفخ الروح فيه فقد رأى فريق أنه جائز إذ لا حياة فيه فلا جناية ولا حرمة أما الغزالي فقد صرح بتحريمه حيث قال في معرض تفريقه بين منع الحمل وبين إسقاطه: (وليس هذا - رأي منع الحمل - كالإجهاض والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل، والوجود له مراتب وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت نطفة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشًا، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حيًّا) (6) . وتحريم إسقاط الحمل حتى قبل نفخ الروح فيه مبني على أن فيه حياة محترمة هي حياة النمو والإعداد وقد قاسه بعض الأحناف ببيض الصيد إذا كسره المحرم فإنه يضمن لكونه أصل الصيد، قالوا: وما دام المحرم يطالب بالجزاء إذا كسر بيض الصيد فلا أقل من أن يلحق من يسقط الحمل الذي لم ينفخ فيه الروح إثم إذا كان قد أسقطه بدون عذر شرعي.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الناس بفضل التقدم العلمي تمكنوا من اكتشاف وسائل علمية لتحديد النسل وتنظيمه بحيث لا يضطرون إلى إسقاط الحمل المفضي إلى ارتكاب محظور شرعي وبحيث لا يضطرون إلى العزل أيضا المفضي إلى الإضرار بالنفس أو بالزوجة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدكتور/ دوكوري أبو بكر
__________
(1) انظر معنى العزل في النهاية في غريب الحديث 3/230
(2) متفق عليه راجع نيل الأوطار 6/220
(3) راجع نيل الأوطار 6/220
(4) رواه أحمد ومسلم وأبو داود راجع نيل الأوطار 6/220
(5) راجع إحياء علوم الدين 2/52، الحلال والحرام في الإسلام ص 192
(6) راجع إحياء علوم الدين للغزالي 2/51(5/365)
تنظيم الأسرة
في المجتمع الإسلامي
الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية
إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
أعد هذا الكتاب للنشر بتكليف من اللجنة التنفيذية لإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية، لجنة مؤلفة من:
1 - الدكتور عصام رشدي الناظر
2 - الأستاذ حسن سعيد الكرمي
3 - الدكتور عبد الرحيم عمران
4 - الدكتور محمود زايد
الفصل الأول
الإسلام والأسرة والمجتمع
الإسلام والأسرة والمجتمع
- تقدمة -
إن الكلام عن الإسلام وتنظيم الأسرة، في مؤتمر الرباط وفي غيره فيما بعد ينطوي كما لا يخفى على اعتبار مهم واحد وهو أن الأسرة لها كيان خاص يتميز عن غيره ويمكن دراسته وحده، وهذه الفكرة عن الأسرة فكرة جديدة في العالم المتحضر الغربي لم يكن لها قبل القرن التاسع عشر حظ من البروز والظهور مع العلم بأن الأسرة بمعناها المعروف كانت موضع بحوث فقهية إسلامية جديدة منذ القرن الثامن الميلادي عن طريق بحث العلاقة بين الزوج والزوجة، وبحث حقوق الزوجية، ومشكلات العلاقة الزوجية وكثرة الأولاد وقلتهم، وحالة الأسرة الاقتصادية والاجتماعية وما إلى ذلك، فالبحث إذًا في الأسرة عند المسلمين قديم، ولكنه في العالم الغربي حديث. وبداية البحث فيها عند العلماء الغربيين صدرت عن غير رجال الدين، وتناولت هذه البداية منشأ الأسرة وكيف تطورت من الأصل، واحتاج الأمر بالطبع إلى دراسات تاريخية ووثائق وسجلات للاضطلاع على تاريخ الأسرة، وكانت هذه بطبيعة الحال مفقودة إلى حد كبير مما دعا علماء الاجتماع إلى دراسة الأسرة في المجتمعات البدائية لمعرفة تطور الأسرة الحديثة اعتبارا منهم بأن الأسرة كيان اجتماعي نشأ وتطور مع الزمان منذ أمد بعيد. وحصل العلماء من هذه الدراسات على معلومات أصبحت مرجعًا لتاريخ الأسرة. غير أن الاهتمام في هذه الدراسات الأولى كان يتجه إلى أمور معينة مثل: هل كانت الأسرة تحت سلطة الأم أم تحت سلطة الأب؟ وهل كان الرجل يكثر من الزوجات أم يقتصر على زوجة واحدة؟ وهل كانت المرأة تتزوج أكثر من رجل واحد في وقت واحد؟ إلى غير ذلك.(5/366)
ولكن الثورة الصناعية واستفحال الفقر عند بعض الطبقات دعا الباحثين في العالم الغربي أو الصناعي عامة إلى دراسة مشكلات الفقر وإلى دراسة الأحوال الاقتصادية للأسر الفقيرة بوجه خاص، وفي القرن العشرين ظهرت مشكلات أخرى بالإضافة إلى مشكلة الفقر والعمل، كالطلاق والافتراق بين الزوجين وكثرة عدد الأولاد غير الشرعيين وحوادث الإجرام وغيرها. وهذا معناه قصر الاهتمام في البحث عن الأسرة منفصلة عن المجتمع، ونشأ عن ذلك أن تعمق الباحثون في وضع الأسرة بالنسبة إلى الأفراد وحالاتهم الصحية والنفسانية وأسباب النزاع بين الأفراد وإرجاعه إلى عوامل نفسيه.
وبعد الحرب العالمية الثانية قوي هذا الاتجاه في البحث هذا الذي عولجت فيه الأسرة بمعزل عن بقية المجتمع، بل إنه لم تجر إلا محاولات قليلة للربط بين الطرفين، مما أدى في النهاية إلى التركيز على الأحوال والظروف التي تؤدي إلى انهيار الأسرة وعلى معالجة مشكلاتها كالطلاق والإجهاض والتعقيم ومنع الحمل، وبالتالي إلى الاهتمام بتنظيم الأسرة بوجه عام.
وقد ظهرت في المدة الأخيرة أبحاث مهمة تتعلق بهذه المشكلات مما اضطر الكثير من الدول وخاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية إلى وضع تشريعات لمعالجتها، حتى إن الكنيسة الكاثوليكية لم تجد بدا من الدخول في ميدان الجدل العالمي لتدلي برأيها في وسائل منع الحمل وتنظيم الأسرة.
أما في البلاد الإسلامية فإن تنظيم الأسرة كحل لمشكلات الأسرة لم يحظ بمثل هذا الاهتمام رغم أن الوسائل لمنع الحمل وخاصة العزل كانت معروفة (وممارسة) منذ فجر الإسلام. غير أن ازدياد السكان في بعض البلاد الإسلامية زيادة كبيرة حدا بالمسؤولين إلى التفكير جديًّا بهذه القضية.
ومؤتمر الرباط الذي عقد في سنة 1971 كان أول استجابة عامة من المسلمين للتحديات الناجمة عن مشكلات الأسرة والسكان وذلك في ضوء التعاليم الإسلامية واجتهادات علماء المسلمين. وكان من إنجازات هذا المؤتمر الكشف بصورة واضحة عن موقف الإسلام من الأسرة، وعن العلاقات بين أفرادها وتفاعلها مع المجتمع.
ومما هو جدير بالذكر أن مؤتمر الرباط لم يقتصر في بحث الأسرة على النظر في القضايا الفردية، كما كان الحال في العالم الأوروبي، بل تعرض للأسرة من حيث ظروفها الصحية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وعلاقة ذلك كله بالمجتمع كما سيظهر جليًّا في الملخص التالي.(5/367)
خلاصة بحوث ومناقشات مؤتمر الرباط
الإسلام والأسرة والمجتمع
تناولت الدورة الأولى في المؤتمر موضوع الأسرة من حيث تاريخها ومن حيث كيانها وتركيبها، وكذلك الأسرة من حيث الغاية في تكوينها وعلاقتها بالمجتمع، وكل ذلك من وجهة النظر الإسلامية، فإن الإسلام جاء بنظم اجتماعية جديدة بقصد إصلاح المجتمع، ونظرة واحدة إلى ما كانت عليه الجزيرة العربية من نزاع وتفرق بسبب النظام القبلي والتفاخر بالأنساب، توضح الغاية في الإسلام من إيجاد وحدة اجتماعية جديدة لتكون محورًا للمجتمع الأوسع في الأمة الإسلامية.
ومن الأقوال في ذلك أن القرابة القبلية لا تتمتع بأي احترام أو رعاية في النظام الإسلامي إذ لم تشجع التعاليم الإسلامية على تنمية العلاقة العشائرية بل حاول الإسلام بطرق كثيرة أن يحطم الوحدة العشائرية في سبيل بناء الأمة القائمة على وحدة المعتقد.
لقد كان هدف الإسلام إصلاح المجتمع القبلي في سبيل إيجاد مجتمع مدني حضري جديد يقوم على أساس أسرة وثيقة العرى متآزرة، تدين بالولاء لمجتمعها الصغير من الأقارب بدلًا من الولاء للقبيلة. وهكذا كانت الأسرة موضع تطورات في اتجاهات مختلفة، ومن ذلك أن الأسرة في الإسلام تحولت عن القبيلة إلى الأسرة الموسعة ثم إلى الأسرة الأحادية، وهكذا أصبحت الأسرة في الإسلام ترتبط برابطتين، الأولى الرابطة الداخلية الموجهة إلى مركز هذه الوحدة الاجتماعية الصغيرة، والثانية الرابطة الخارجية إلى الأمة الإسلامية والمجتمع الإنساني قوة الدفع نحو المركز، وفي حين أن الرابطة الثانية تجذب نحو الخارج وتعمل عمل قوة الدفع بعيدًا عن المركز، والإسلام وازن بين القوتين.(5/368)
معنى الأسرة:
كانت الأسرة ومعناها موضع بحث مطول في المؤتمر، واتفق الرأي مع الأستاذ حسن الكرمي والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ محمد الفقيه الطنجي على أن الإسلام هو الذي أوجد الأسرة تمييزًا لها عن القبيلة، بشروط تضمن لها أن تكون مصونة من كل ضعف وانهيار، حتى إن الإسلام أمر بالامتناع عن الزواج عند عدم قدرة الزوج على القيام بواجباته نحو أسرته المؤلفة من زوجة وأولاد؛ لأن الغاية من الزواج في الإسلام هي ضمان السعادة والهناء في الأسرة، كما أشارت الآية الكريمة 21 من سورة الروم {وَمِنْ آَيَاتِهِ} وقوله تعالى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} في رأي الدكتور عبد السلام عظيمي هو إشارة واضحة إلى أن الاطمئنان القلبي أو السكن مع الراحة والمودة التامة لا يمكن أن يكون في بيت يعيش فيه عدد كبير من الأولاد.
وترددت هذه الفكرة عند الكثيرين من أعضاء المؤتمر ومنهم الشيخ عبد الحميد السائح الذي قال: إن الإسلام اعتبر أساس العلاقة الإنسانية كلها الرحمة والمحبة، ولذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم شعار الإسلام: الأمان والسلام وإطعام الطعام ومساعدة الآخرين.
وكان الاتفاق تامًّا مع السيد رفيع الله شهاب على أن العبرة في الأولاد من حيث القلة أو الكثرة هو إيجاد نسل صالح، إذ لا فائدة من كثرة النسل إذا كانت هذه الكثرة ضعيفة جسميا ونفسانيا وغير صالحة أخلاقيا، وأشير من هذه الناحية إلى أن عدم صلاح الأولاد يؤدي إلى عدم صلاح البيئة، ولذلك ناقش فقهاء المسلمين هذه المشكلة وانتهوا إلى ضرورة الأخذ بإجراءات لتنظيم الأسرة في حالة تدهور الوضع التام الناجم عن سوء البيئات الاجتماعية.
ومهما اختلفت الكلمات الدالة على الأسرة في الإسلام، فلا اختلاف في أن تعاليم القرآن الكريم تهدف إلى استقرار الأسرة وسعادتها ووحدتها، وأن تعيش عيشة وادعة سعيدة، كما جاء في الآية الكريمة 21 من سورة الروم. ومعنى الاستقرار هو ثبات القواعد التي يبنى عليها ثبات الأسرة وعدم تقلب هذه القواعد بحسب الاتجاهات الهدامة.(5/369)
ولقد أثار الدكتور محمد سلام مدكور في البحث قضية التوازن بين مصلحة الأسرة ومصلحة المجتمع على اعتبار أن (مراعاة المصالح من أعمدة التشريع الإسلامي) وأن الفقه الإسلامي يؤثر مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد عند التعارض، وهذا الاتجاه بطبيعة الحال يقضي بأن تكون الأحكام متطورة بسبب الظروف وأن تكون شاملة للوقائع المتطورة أيضا.. (وهي في كل هذا تساير مصالح الناس وهو الأساس الذي قامت عليه) ؛ ولذلك نص فقهاء الحنابلة في هذا الموضوع على أنه (لا يصح أن يخلو العصر من مجتهد؛ لأن طريقة معرفة الأحكام الشرعية إنما هو الاجتهاد) ، وجاء في الحديث الشريف ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)) ووردت عند الفقهاء أقوال وشواهد تؤيد كون الأحكام متأثرة بالزمان والمكان، أي بالبيئة والعرف لمصلحة المجتمع، ومن ذلك قول ابن القيم: (الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد) ، ومن ذلك أيضًا قول الشاطبي: (وضع الشرائع إنما هو لصالح العباد في العاجل والآجل معًا) ، ومنه كذلك قول ابن عابدين الفقيه الحنفي: (كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه، لزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف ورفع الضرر والفساد، ولبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام) .
التطور:
توسع الدكتور محمد سلام مدكور في هذه الناحية من الموضوع وتكلم بإسهاب عن تغير الأحكام تبعًا لتغير المصلحة، وأورد أقوالًا أخرى تأييدًا لفكرته بأن تغير الأحوال يقتضي تغيير الأحكام واستشهد بقول ابن القيم (إن تغيير الفتوى بحسب الأمكنة والأحوال والنيات والعوائد معنى عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة ما يعلم أن الشريعة لا يعقل أن تأتي به) وينقل الزيلعي الحنفي عن فقهاء بلخ رأيهم أن (الأحكام قد تختلف باختلاف الأزمان) ويقول القرافي المالكي: (إن الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف) . وهذا يدل على أن التصرف في الأحكام بما يلائم الواقع أمر مشروع. كما يدل عليه تصرفات الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي طالما غير بعض الأحكام إلى ما يرى أنه مصلحة، مع تفسيره للنصوص تفسيرًا يتفق مع المصلحة، وهي تصرفات تبين أن تغييرات الأحكام تبعًا للمصلحة في عصر الصحابة كانت كثيرة، وهو ما درج عليه التابعون، فلقد وضع أئمة الفقه وتلاميذهم بعدهم قاعدة فقهية عامة وهي (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) حتى إن القاضي أبا يوسف قال: (إذا ورد النص على أساس عرف مستقر وقت وروده، ثم تغير العرف بعد ذلك فإن الحكم يتغير تبعًا لتغيره) ، وقال القرافي: (إن جميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد، إذا تغيرت العادة تغيرت الأحكام في تلك الأبواب) .(5/370)
وخرج الدكتور محمد سلام مدكور من بحثه في الموضوع بقوله: (ونحن لو نظرنا نظرة فاحصة في مسلك الفقهاء السابقين لما وجدناهم إلا متطورين بتطور عصورهم ومتنقلين مع المصالح حيثما كانت) .
ثم تساءل: (وكيف نقف جامدين أمام تطور الحياة، وما يجري فيها من نظم واعتبارات جدت في هذا المجتمع ولا نتعرف على حكم الله فيها) .
الدعوة إلى الاجتهاد:
وتطرق بعض أعضاء المؤتمر إلى موضوع الاجتهاد في إطار الفكرة التي تنسب التخلف إلى المسلمين والإسلام وخاصة العلماء المسلمين، ودعوا إلى استخدام الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية الكفيلة بإزالة التخلف، وإزالة المفاهيم الخاطئة التي دخلت على المجتمع الإسلامي، وانتهوا إلى أن واجب علماء الدين هو إظهار حكم الإسلام في كل جديد وعليهم أن ينظروا بعين العصر الحاضر.
وعلق الدكتور مدكور على هذا بقوله: (إنه ينبغي أن يكون باب الاجتهاد مفتوحًا في كل عصر إذ أن أحكام الشريعة لم تكن قاصرة على ما كان واقعًا عند بدء ظهورها وإنما هي عامة ولابد من عموم أحكامها وشمولها للوقائع المتطورة أيضًا، وهي في كل هذا تساير مصالح الناس وهو الأساس الذي قامت عليه) .
وينص فقهاء الحنابلة في هذا الموضوع على أنه (لا يصح أن يخلو العصر من مجتهد) .
وختم الدكتور محمد سلام مدكور كلامه في هذه النقطة مشيرًا إلى أن الأحكام تتغير تبعًا لتغير المصلحة، وأن التصرف في الأحكام يكون بما يلائم الواقع، وأن التطور هو سنة الحياة، ودعا إلى الاجتهاد الجماعي بين أولي الأمر من العلماء.
وعلق الشيخ محمد مهدي شمس الدين على تغير الأحكام فقال: (فليست هناك أحكام تتغير، وإنما هناك موضوعات تتجدد لقواعد عامة سابقة.. ولكن ما يحدث إنما هو تغير في أوضاع الحياة، ولهذه الأوضاع أحكام في القواعد العامة) .(5/371)
واتخذ عدد من الأعضاء اتجاها حول هذا الموضوع يتلخص في أن الأحكام تتغير بتغير المصلحة وأن الاجتهاد ضروري مع اعتبار المصلحة، وأن الدين فيه عملية تجديد في التشريع كما جرى في المؤلفة قلوبهم حينما حرمهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حقهم في الزكاة بعد أن قويت شوكة الإسلام، وأجمل الفكرة بصورة عامة السيد محمد ظفار بقوله: (أنا مقتنع بأن الإسلام يعارض النظام الاجتماعي الذي لا يتغير) .
التطور والتجديد:
الموضوع كله يتعلق بفكرة التجديد في المجتمع، وهي فكرة دارت حولها تفسيرات وتعريفات متعددة، فيما يتعلق بالإسلام. والرأي الذي أبداه الدكتور مدكور عن وجوب مراعاة تغير الأحوال عند وضع الأحكام تعارض مع رأي آخر للشيخ مصطفى أحمد الزرقاء الذي تساءل عن موقف الإسلام من هذا التطور في جميع اتجاهاته وصوره وألوانه قائلًا: (فهل يجاري الإسلام حياة البشر وتطورها فيتطور معها ويتغير كي لا ينفصل عن ركبها) ؟. ثم عرض رأيه في معنى التطور وقال: إن التطور قد يكون إلى الأحسن وقد يكون إلى الأسوأ، وإن التطور فيما يتعلق بالإسلام لا يعني تطوير الدين نفسه وإنما يعني موقف الإسلام من تطور الحياة البشرية في أوضاعها وعاداتها وتقاليدها وقيمها الاجتماعية وسلوكها في بناء الأسر وما إلى ذلك، ولكن التطور أو التغير قد يعتري الفكر الإسلامي أي فهم الناس للإسلام دون تحريف أو تشويه عن جهل أو سوء قصد بإدخال المفاهيم والقيم غير الإسلامية على الفكر الإسلامي، وأشار بصورة خاصة إلى أن (الإسلام قد أتى بأحكام ومقررات أساسية ثابتة في النواحي ذات القيم الثابتة التي لا يتصور أن يعتريها تطور في الحياة العادية الطبيعية تنعكس فيه قيمها) ، ولكن الإسلام فتح باب المعذرة والترخيص اعتمادًا على القاعدة الفقهية (الضرورات تبيح المحظورات) ، بالقدر الذي يندفع به الاضطرار، ولذلك (جاءت نصوص الشريعة في القرآن والسنة النبوية كاشفة عن قضاياها الثابتة القيم، وكانت هذه النصوص صالحة بذلك لكل زمان ومكان بالنسبة للغايات المطلوبة دون الوسائل المتطورة التي تركها الشارع لتتطور بحسب الحاجة) . وأورد الشيخ مصطفى الزرقاء أمثلة على القواعد الإسلامية الثابتة في المجتمع والسياسة التي هي أساسية لا تتبدل وإن تبدلت الوسائل المستعملة لذلك، وقال: إن النصوص الأصيلة غطت جميع الحاجة عن طريق الاجتهاد والاستنباط وتحكيم قاعدة المصالح المرسلة وقاعدة سد الذرائع في كل شأن سكتت عنه النصوص.(5/372)
وتحديد معنى التطور في عبارة (مجتمع متطور) أدى إلى تفسيرات متعددة، وكان الرأي الغالب أن يكون معنى التطور شاملا للتغييرات سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو ثقافية - وأن يعمل المؤمن على تحديد نظرة الإسلام إلى الأسرة في مثل هذا المجتمع المتطور. وكان السؤال الأساسي هو معرفة ما يقدمه الإسلام من تشريع وتنظيم لمواجهة التغييرات الناجمة عن الحياة الحديثة، وما هي الحلول لمعالجة العوامل الكثيرة التي تتعرض لها الأسرة المسلمة، في المجتمعات المتطورة.
وأشار الدكتور قيصر أديب ماجول إلى اهتمام المؤتمر بالمحافظة على المجتمع الإسلامي وقال: (إن الإسلام لا يتغير والحياة الاجتماعية تتغير، ولابد للإسلام من أن يحكم في التغير الذي يطرأ على المجتمع، ويتعين على علماء المسلمين أن يكونوا أكثر إيجابية إزاء التغير، والإسلام يدعو إلى التحديث. والتحديث هو استخدام الوسائل التَّقَنِيَّةِ في حل مشكلات الأسرة والمشكلات الاجتماعية، ويجب أن يكون ذلك في سبيل تماسك المجتمعات الإسلامية) .
وعلى كل فإن الإجماع كان تامًّا حول معنى التطور من حيث إنه يعني التغير نحو ما هو أفضل مع التمسك بالقواعد الإسلامية. ومن الطبيعي أن ينتقل البحث في موضوع التطور إلى موضوع معنى الأمة؛ لأن الأمة في الزمان الحاضر مجتمع متطور. وأكد الأعضاء عموما أن المحافظة على الأمة وكيانها تعتبر واجبًا إسلاميًّا منذ أن أوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مجتمع إسلامي، وعبر بعض الأعضاء عن ذلك بأنه يجب وجود توازن في المجتمع بين سرعة التغير وسرعة التمثيل حتى يمكن المحافظة على طبيعة المجتمع الإسلامي.
وجرى بحث التطور من ناحية أخرى وهي ناحية التجدد، وهو موضوع بحث السيد وجيه الدين أحمد، إذ بدأ بحثه بالكلام عن معنى التجدد وعن النظرية السيكولوجية المتعلقة بالتجدد، وذكر أن هذه النظرية تقوم على الاقتراحات التالية:-
1 - الأشخاص الذين هم على مستوى عال من التجدد ومسايرة العصر الحديث أقوى على الأخذ بالتخطيط والتنظيم وأشد ميلًا إلى الأخذ بالابتكارات العصرية لتحقيق أهدافهم.
2 - السلوك الذي يميل إلى الابتكار يكون عادة متحررًا من العقبات الثقافية القديمة ويكون منبعثًا عن عقلية مستقلة عن تأثير التقاليد.
3 - المستوى العالي للطاقة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأهداف الشخص الخاصة يعزز القدرة على التغيير.(5/373)
وقال السيد وجيه الدين أحمد: (السلوك الذي يدل على التجديد لا يكون عن طريق الأخذ بالأدوات العصرية والتسهيلات المنزلية الكهربائية وغيرها لا لشيء إنها عصرية ميكانيكية، وإنما يكون عن دافع نفساني سيكولوجي نابع من أعماق النفس، فالقروي مثلًا قد لا يكون مهتمًا بهذه الآلات والأدوات العصرية لذاتها، ولكنه يكون مهتمًّا في تحسين وضعه بشراء ثور أقوى على الحرث أو بقرة حلوب، وقد يكون الإقبال على المظاهر العصرية الحديثة إقبالًا مصطنعًا بسبب تأثير الدعايات التجارية الجماعية، غير صادر عن الظروف الحقيقية ولا عن الوضع الثقافي الاجتماعي.
فالفلاح في الباكستان مثلا يقبل على استعمال الأسمدة الكيماوية ويهمل ما هو أهم من ذلك وهو النشاط في العمل. وليس الابتعاد عن الثقافة التقليدية وحده يسهل عملية التغيير والتجديد، والرأي القائل بأن التقاليد كابوس يعطل التقدم في جميع الاتجاهات رأي سطحي، ولو أن بعض التقاليد قد يكون لها هذا الأثر، غير أن تقاليد أخرى قد تكسب التقدم قوة دافعة، ومن ذلك مثلا أن الحركات التجديدية في العالم الإسلامي كانت أقرب ما تكون في حقيقتها إلى المثل القائل (عمل جديد بأسلوب قديم) أي أن هذه الحركات كانت تجمع بين القيم الغربية والنظرة العلمية من جهة، والوحي الديني والقواعد الدينية الأساسية من جهة أخرى، فالدعوة إلى تحرير المرأة مثلا كانت بدافع وضع المرأة في البلاد الأوروبية، ولكنها كانت في الوقت نفسه مبنية على أن النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كن يشاركن الرجل في أعماله ويحاربن معه ويعملن في إسعاف الجرحى) .
والنقطة التي أثارها السيد وجيه الدين أحمد - بشأن العلاقة بين التطور والتجدد كان لها صدى في لفت النظر إلى معنى التطور بالنسبة إلى التقاليد فهو يحض على وجوب إعطاء أهمية عظمى للدوافع النابعة من التقاليد؛ لأنها دوافع مألوفة وتحمل معنى القداسة والسلطان والحكمة الجماعية ويغذيها تراث معنوي، إذ بهذه الطريقة تكتسب عملية التربية والتثقيف سهولة وتصبح أكثر عمقًا.(5/374)
وتكلم الدكتور عبد الرحيم عمران عن وجهة جديدة للتطور من الناحية السكانية حسب نظرية التطور الوبائي للسكان وهي نظرية تدرس التغيرات السكانية وأسبابها وآثارها حسب مبادئ علم الوبائيات، واعتمادًا على هذه النظرية قسم الدكتور عبد الرحيم عمران التاريخ إلى دورتين، الدورة القديمة والتي سبقت القرن السابع عشر والدورة الحديثة التي تلت ذلك حتى الآن.
ونظرته للدورة القديمة هي تطوير علمي لنظرية الدورات السكانية لابن خلدون، أما نظرته للدورة الحديثة فتعتمد على التفاعل بين العوامل الصحية والاجتماعية، وأشار الدكتور عمران إلى أنه لا يوجد تعارض في الإسلام بين الحث على الكثرة وبين الحث في الوقت نفسه على تنظيم الأسرة، إذ أن الهدف الأساسي هو المحافظة على التوازن الحيوي بين معدلات المواليد والوفيات في المجتمع، وبالتالي فقد كانت متطلبات العصور القديمة كثرة التوالد بسبب ارتفاع معدلات الوفيات وخاصة بين الأطفال، أما في العصور الحديثة ونتيجة لانخفاض معدلات الوفيات فقد قلت الحاجة إلى الكثرة من الإنجاب وبالتالي نشأت الدعوة لتنظيم الأسرة.
وأعرب الأستاذ عبد الكريم المراق عن هذه الفكرة بصورة أخرى فقال: (إن المجتمع متطور لأنه يضم كائنات بشرية حية نامية ومتطورة، وحاجة المجتمع إلى الدين هي نفسها متطورة بالنسبة التي يتطور بها المجتمع حتى لا يحصل الاختلال في التوازن الاجتماعي) وقال: (إن الدين صورة للمجتمع الذي ينتمي إليه) فإذا كان ذلك المجتمع في واقعه متميزًا بالصحة العقلية والقوة والمناعة كانت النظرة إلى الدين مستوحاة من هذا الواقع، والإسلام ثورة على الظلم والجهل، وهو لا يزال كذلك. وأضاف بأنه يصح القول بأن (الإسلام كمبادئ عامة يقوى ويضعف تبعًا لقوة أو ضعف الأفراد الذين ينتمون إليه) .
وفي النهاية أجمع المؤتمر بأسره تقريبًا على أن كثرة النسل، وإن كانت مرغوبة في الإسلام، تعني كثرة النسل الصالح لا كثرة النسل الفاسد، ومن ذلك قول السيد محمد ظفار أن (إنجاب أطفال أكثر أو أقل إنما يعتمد على الأوضاع والظروف، فأحيانا تجب زيادة السكان كما يجب إنقاصهم في أحيان أخرى لحفظ التوازن، ولدينا قواعد لكلتا الحالتين في كتب الفقه الإسلامي) .(5/375)
الإسلام والأسرة والمجتمع
تحليل وتعليق
الأسرة في المجتمع الإسلامي هي محور هذا المجتمع، وقد نظم الإسلام أحوالها بتشريعات متعددة اعتمدها الفقهاء في استنباط أحكامهم التي احتاجت بسبب الأوضاع المستجدة إلى تغيرات لا تخرجها عن الأصل ولكن تجعلها أميل إلى مسايرة العصر. ونفهم من هذا بطبيعة الحال أن الاجتهاد في شؤون الأسرة كان عاملًا مهما يؤدي بالنتيجة إلى الإقرار ولو عمليًّا بأن الاجتهاد في التشريع في هذا العصر ضروري حتى تكون الشرائع منسجمة ومستلزمات العصر المتغيرة وعليه فإن التجديد بحسب الحاجة يربط بين الدين والدنيا ويجعلهما متلازمين، على عكس ما جرى في كثير من البلاد الإسلامية حيث سادت الازدواجية في عرف الناس وهي فصل الدين عن الدنيا حتى أصبح الدين منزويا ومنقطعًا عن سير الحياة الاجتماعية، وأصبح رجال الدين رمزًا للمحافظة على القديم والتزمت.
ويجدر بنا في هذه المناسبة أن نذكر ما كتبه خير الدين باشا التونسي (1810 - 1879) عن ذلك بقوله.
(ثم من أهم العوائق في تقدم المسلمين وجود طائفتين متعاندتين: رجال الدين يعلمون الشريعة ولا يعلمون الدنيا ويريدون أن يطبقوا أحكام الدين بحذافيرها بقطع النظر عما جد واستحدث.. ورجال سياسة يعرفون الدنيا ولا يعرفون الدين ويريدون أن يطبقوا النظم الأوربية بحذافيرها من غير رجوع إلى الدين. فنقول للأولين: اعرفوا الدنيا، ونقول للآخرين: اعرفوا الدين، فاعتزال العلماء شؤون الدنيا ثم تحكمهم ضرر أي ضرر، وجهل رجال السياسة بأحوال الدين ضرر مثله، والواجب امتزاج الطائفتين وتعاونهما، فهناك أحوال الدين يجب أن تراعى، وهناك أمور لم ينص عليها الدين وتقتضيها مصالح الأمة يجب أن تقاس بمقياس المنفعة والمضرة ويعمل فيها العقل) (1) .
__________
(1) راجع أحمد أمين: فيض الخاطر ج 6 (القاهرة 1945) ص 216(5/376)
وقال الشيخ مصطفي الزرقا عن التجديد (ليس هو إدخال شيء جديد على الدين الإسلامي ليس منه ولا تشمله نصوصه العامة. المقصود بتجديد الدين الإسلامي في هذا الحديث: إحياء ما اندرس من معالمه وترميم ما توهن من لبناته بسوء الاستعمال وإزاحة ما أقيم في طريق مسيرته البناءة للحياة البشرية الصحيحة الكريمة الطيبة من عوائق أو نصب فيها من نصب وهمية لتشد الأبصار إلى غير الخالق تعالى عن جهل أو عن مكر) (1) .
ومن الأدلة على وجوب الاجتهاد ما روي عن أصحاب المذاهب أنفسهم فقد كانوا ينصحون تابعيهم بأن فقههم غير ملزم. وقال الإمام أبو حنيفة (علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب) وسأله أحد تلاميذه (أهذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا شك فيه؟) فقال: (والله لا أدري، فقد يكون الباطل الذي لا شك فيه) وقال الإمام أحمد بن حنبل (لا تقلدني ولا مالكا ولا الشافعي، وخذ من حيث أخذوا) وروي عن الإمام مالك أنه قال (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، كل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) (2) .
وقد سئل الإمام شهاب الدين القرافي المصري المتوفى سنة 682 هجرية (إذا صارت العوائد لا تدل على ما كانت تدل عليه أولا فهل تبطل الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء، ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة؟ أو يقال نحن مقلدون وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد، فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟ وكان جوابه على ذلك (إن كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغيير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة. وليس بتجديد للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية للاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف) (3) .
__________
(1) مصطفى الزرقاء - الإسلام وتنظيم الأسرة ج 1 (بيروت 1973) ص 243
(2) راجع بشأن هذه الأقوال محمد سلام مدكور (الإسلام والمجتمع والتطور) في الإسلام وتنظيم الأسرة ج 1 - ص 299
(3) صبحي الحمصاني. فلسفة التشريع في الإسلام (بيروت 1961) ص 214(5/377)
وكانت أولى الخطوات التي اتخذت في سبيل تيسير استنباط الأحكام قيام الدولة العثمانية بإخراج قانون للمعاملات المدنية مقتبس من الفقه الإسلامي مع التقيد بالمذهب الحنفي ومع مراعاة مصالح الناس وروح العصر. وتتمثل جرأة هذه المحاولة في عدم الإصرار على مبدأ التقيد بالرأي الراجح من المذاهب، مما وفر حرية كبرى لأعضاء اللجنة المكلفة باستنباط الأحكام في اختيار الأصلح منها للأمة وهذا واضح في التقرير الذي رفعته هذه اللجنة إلى الصدر الأعظم في عام 1869 وجاء فيه:
(علم الفقه بحر لا ساحل له، واستنباط درر المسائل اللازمة منه لحل المشكلات يتوقف على مهارة علمية وملكة كلية وعلى الخصوص مذهب الحنفية لأنه قام فيه مجتهدون كثيرون متفاوتون في الطبقة ووقع فيه اختلافات كثيرة ومع ذلك فلم يحصل فيه تنقيح كما حصل في فقه الشافعية، بل لم تزل مسائله في أشتات متشعبة، فتخير القول الصحيح من بين تلك المسائل والأقوال المختلفة وتطبيق الحوادث عليها عسير جدًا، وعدا ذلك فإنه بتبدل الأعصار تتبدل المسائل التي يلزم بناؤها على العرف والعادة ... ) (1) .
وأصدرت الحكومة العثمانية سنة 1917 قانون العائلة وقد سجل واضعو هذا القانون خطوة أخرى في توفير الحرية في الأخذ بالأحكام الفقهية، وأقروا مبدأ التخير في انتقاء الأحكام، وفي مصر نصت المادة 280 من تشكيل المحاكم الشرعية لعام 1910 على العمل مبدئيًا بأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، ثم شكلت الحكومة المصرية لجنة من كبار الفقهاء والقانونين لوضع أحكام تؤخذ من الفقه الإسلامي دون التقيد بمذهب معين مع مراعاة روح العصر.
وهذا كله شاهد على ضرورة الأخذ بالاجتهاد عند الحاجة.
__________
(1) صبحي الحمصاني. فلسفة التشريع في الإسلام (بيروت 1961) ص 85(5/378)
الفصل الثاني
الإسلام وتنظيم الأسرة
الإسلام وتنظيم الأسرة
تقدمة
ناقش مؤتمر الرباط موضوع تنظيم الأسرة في صراحة ووضوح وإخلاص وحرص على إبداء آراء الدين الإسلامي الحنيف فيها، وبالرغم من الاختلاف في بعض التفاصيل، فإن المؤتمر قد توصل إلى تحديد موقف الإسلام من تنظيم الأسرة وتبيان آراء الفقهاء والمذاهب في هذا الموضوع، كذلك استعرض المؤتمر آراء علماء الدين في العصر الحديث، وهي لا تختلف في الأصل عن آراء الفقهاء الأول، وإن كانت قد تعرضت لتفاصيل يحتاجها الوضع الحالي في العالم الإسلامي.
كذلك استمع المؤتمر إلى آراء المتخصصين في علوم الطب والاجتماع والسكان والاقتصاد والتربية والتعليم، وأخذها بعين الاعتبار عند تكوين الرأي الأخير في موضوع تنظيم الأسرة، وفي موضوع تقييم مستقبل الأسرة المسلمة والمجتمعات الإسلامية والأقليات الإسلامية، وأبدى المؤتمر اهتمامًا بالغًا بالأسرة بوصفها نواة للمجتمع وبعلاقة تنظيمها بصحة أفرادها ورفاهيتهم وتمكينهم من القيام بواجباتهم في بناء المجتمع الإسلامي.
ويمكن أن نقول إن المؤتمر قد حاول أن يجيب على كثير من الأسئلة التي تشغل أذهان المسلمين اليوم ومن هذه الأسئلة ما يأتي:
1-هل تنظيم الأسرة: "بمعنى استعمال وسائل لتأجيل الحمل أو تعجيله، أو لتحديد عدد الولادات. والمباعدة بين حمل وآخر" حرام أو حلال من وجهة نظر الفقه الإسلامي؟
2-هل تنظيم الأسرة في الإسلام مشروط بشروط معينة، أو هو مباح دون قيد؟
3-هل تنظيم الأسرة في الإسلام يقتصر على استعمال وسائل معينة مثل الدين الكاثوليكي أم أنه يسمح بكل الوسائل طالما أنها سليمة ومأمونة.
4-ما هي الدواعي الاجتماعية والاقتصادية والأسرية لتنظيم الأسرة في الإسلام، وهل هناك نصوص فقهية في ذلك؟
5-ما هي الدواعي الصحية لتنظيم الأسرة وما هي النصوص الفقهية المتصلة بذلك؟
6-المعروف عن الإسلام والأديان جميعًا استحباب الزواج والكثرة، فهل يتعارض ذلك مع تنظيم الأسرة؟
7-هل يمكن تنظيم الأسرة على مستوى المجتمع الإسلامي، وما هي خبرات بعض البلاد الإسلامية في ذلك؟
8-هل يعتبر تنظيم الأسرة مؤامرة أجنبية حيث إن البلاد الغربية هي التي تدعو إليه، وتقوم بتمويله وترويجه في البلاد النامية؟
9-ستجد الإجابة على هذه الأسئلة في ثبت وقائع مؤتمر الرباط الذي نشر في جزأين تحت عنوان "الإسلام وتنظيم الأسرة بالعربية والإنكليزية" كما تجدها في الملخص التالي لبحوث المؤتمر ومناقشاته.(5/379)
خلاصة مؤتمر الرباط
الإسلام وتنظيم الأسرة
بحوث ومناقشات
مضمون تنظيم الأسرة:
انتقل المؤتمر إلى بحث موضوع الإسلام وتنظيم الأسرة وكان لابد للأعضاء في هذا البحث من تناول معنى"الأسرة" بزيادة من التوضيح كما سبق ذكره في أبحاث المؤتمر عن ذلك، وكان لابد لهم أيضًا من الوقوف وقوفًا تامًا على فكرة "التنظيم" وعلاقتها بتحديد النسل في الأسرة الواحدة أو بالانفجار السكاني في العالم كله.
كما اقترح عدد من أعضاء المؤتمر استعمال عبارة تنظيم الوالدية بدلًا من تنظيم الأسرة، وعرف الشيخ ناصر الدين لطيف تنظيم الوالدية "بأنه اختبار أو سعي إنسان متعمد لتنظيم الحمل في الأسرة بصورة لا تنافي أحكام الدين وقوانين الدولة والقيم الأخلاقية في سبيل تحقيق رخاء الأسرة خاصة ورخاء الأمة والدولة عامة".
وقد عرف الشيخ أحمد الشرباصي "تنظيم الأسرة" بأنه "تهيئة الظروف السوية المنظمة التي تعاون الأسرة على أن تعيش سعيدة في مختلف النواحي والجهات"، وقال إن هذا التنظيم يظهر أو ينبغي أن يظهر في عدة مجالات منها:
1-تنظيم الأسرة فيما يتعلق بالذرية قلة وكثرة.
2-تنظيم الأسرة فيما يتعلق بالتمهيد لبنائها تمهيدًا سليمًا.
3-تنظيم الأسرة فيما يتعلق بإيراداتها ومصروفاتها- أي تنظيمها اقتصاديًا.
4-تنظيم الأسرة في تحديد العلاقات بين الأزواج والزوجات، وبين الأولاد والوالدين وبين ذوي القرابة والأرحام إلخ.
5-تنظيم الأسرة علميًا وثقافيًا وطبيًا واجتماعيًا إلخ.(5/380)
وعلل الدكتور الشرباصي هذا التوسع في مفهوم "تنظيم الأسرة" بقوله "إذا كان العرف قد جرى على استعمال كلمة (تنظيم الأسرة) فيما يتعلق بالذرية فقط فينبغي أن نصحح هذا العرف وأن نعيد إلى الكلمة مفهومها الواسع العميق لأن هذا التصحيح يلفتنا إلى واجبات اجتماعية من جهة، وهو يفيدنا في معالجة تضخم السكان من جهة أخرى".
أما من وجهة الدين الإسلامي كما قال الدكتور الشرباصي، فإن "الحكم الشرعي الإسلامي في موضوع تنظيم الأسرة، من ناحية قلة الذرية وكثرتها ينهض على الاستنباط والاجتهاد أكثر مما ينهض على إيراد النصوص، إذا لم تكن مشكلة تضخم السكان من المشكلات التي تعرض لها الناس في صدر الإسلام أو في عهد التشريع، والاجتهاد هنا ينبغي أن يكون النظر فيها متطلعًا إلى ما فيه المصلحة ودفع الضرر، مع عدم الخروج عن المبادئ الدينية أو الأصول الشرعية، بناء على القواعد المقررة شرعًا، من أن الضرر يزال، وأنه حيثما كانت المصلحة فهناك شرع الله. والقرآن الكريم يقول {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} [سورة المائدة الآية 6] والملاحظ في الشريعة الغراء أن الأمر الذي يتغير أو يتبدل بتغير ظروف الإنسان أو الزمان أو المكان لا تنص الشريعة فيه على وضع موحد ثابت أو نص صارم قاطع، بل تكله إلى اجتهاد البصراء من علماء الأمة في نطاق مصادر التشريع الإسلامي، وفي ضوء قول الله تعالى {ولوردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [سورة النساء 83] .
هذا القول كاد أن يكون محور البحث والنقاش في المؤتمر من وجهة النظر الإسلامية في موضوع تنظيم الأسرة، ولم تكد أبحاث الباحثين تخرج عن هذا القول إجمالًا عند الكلام على نظرة الإسلام، وإن خرجت في مجالات أخرى يتعلق معظمها بمضمون تنظيم الأسرة من الوجهة الدنيوية. وأشار الدكتور الشرباصي إلى أن تنظيم الأسرة قديم يرجع عهده إلى أيام النبي صلى الله عليه وسلم وقال "لقد ورد في السنة النبوية ما نستطيع أن نعهده وسيلة غير مباشرة لتنظيم الأسرة. فقد روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد حديثًا قاله النبي صلى الله عليه وسلم ينهى فيه عن المعاشرة الجنسية بين الزوجين بصورة تؤدي إلى الحمل في مدة الرضاع إذا كان هناك طفل لها ما زال يرضع. وهذا الحديث يقول "لا تقتلوا أولادكم سرًا، فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة"، والغيل هو أن يعاشر الرجل زوجته معاشرة جنسية وهي ترضع ولدًا لها بحيث تحمل وهي ما زالت ترضعه".(5/381)
وقال الدكتور الشرباصي إن تنظيم مدة الرضاع بسنتين تكون خالية من الحمل واستراحة الزوجة في مدة تقرب من ثلاثة أعوام، معناها تنظيم الأسرة بطريق غير مباشر.
وقال الدكتور الشرباصي إن تنظيم النسل أمر نسبي ليس له قانون صارم لجميع الأزمنة والأمكنة بل يرجع إلى تغير الظروف في المكان والزمان، ويرتبط ارتباطًا وثيقا بالمصلحة، وهي من مصادر الفقه الإسلامي كما ذكر ابن القيم حيث يقول: "الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها. فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل".
وفي بحث الشيخ ناصر الدين لطف إجمال لكثير من الآراء حول تنظيم الأسرة أو التخطيط العائلي أو تنظيم الوالدية. وقال:"إن تنظيم الوالدية يجب أن ينظر إليه اجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا وسياسيا وأيديولوجيا".
ولا يمكن أن يكون هذا التنظيم محرمًا من الدين الإسلامي. ولا يوجد في القرآن الكريم آية واحدة ولا نص صريح واحد يمنع الزوجين من تنظيم الوالدية، بل أن ما جاء في القرآن الكريم (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (سورة البقرة 185) وما جاء أيضًا في الآية 78 من سورة الحج (وما جعل عليكم في الدين من حرج) دليل على ذلك. وما جاء في القرآن الكريم عن قتل الأولاد خشية الإملاق والنهي عن ذلك كما في الآية 151 من سورة الأنعام والآية 31 من سورة الإسراء فهو متعلق بقتل النفس أو قتل الشيء الذي له روح. ولا يمكن أن يكون حجة أو أساسًا للقول بأن القرآن الكريم ينهى عن تنظيم الوالدية لأن تنظيم الوالدية لا يكون بقتل الجنين الموجود الذي نفخ فيه الروح وإنما هو في تجنب الحمل قبل وقوعه. واعتبر الشيخ لطيف أن الغرض من العزل هو منع الحمل وعلى الأقل ضمن نطاق إيجاد فترات متباعدة بين حمل وآخر أو بين ولادة وأخرى والواضح من أحاديث العزل أن النبي الكريم لم يمنع مسلمًا من العزل في نطاق منع الحمل الذي لا يريده، بل يفهم من رواية لسيدنا جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن صراحة بالعزل. وقال الشيخ لطيف "إنه إذا كان في التعاليم الإسلامية الحقيقية ما يجيز لنا" بل ويطلب منا " أن نسعى إلى التداوي والعلاج، فهل من المعقول أن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يبيحان لنا كوالدين أن نسعى إلى تنظيم الحمل أو تأجيله لفترة معينة من أجل تحقيق الرخاء في أسرتنا؟ ثم أورد فتوى لجنة الإفتاء في الأزهر الشريف وفتوى الشيخ عبد المجيد سليم بأن "لكل من الزوجين برضا الآخر أن يتخذ من الوسائل ما يمنع وصول الماء إلى الرحم منعًا للتوالد".(5/382)
وختم الشيخ ناصر الدين لطيف كلامه بقوله إنه مع عدم وجود إجماع عند المسلمين بصدد تنظيم الوالدية ورغم ارتياب بعض المسلمين في الغاية من تنظم الوالدية فإن هذا التنظيم لابد منه عندما تدعو الضرورة الأسرة أو المجتمع إليه.
ولخص الدكتور محمد المكي الناصري موقف الإسلام من التخطيط العائلي أو تنظيم الأسرة بقوله إنه بعد البعث وصل إلى الاقتناعات التالية:
1-التخطيط العائلي ينسجم مع التنظيم الإسلامي للأسرة متى كان المراد منه توعية الآباء والأمهات بالمسؤولية في الرعاية بذرية صالحة.
2-لا يجوز أن يقبل أحد على تأسيس الأسرة إلا إذا كان سليم الصحة وقادًرا على الإنفاق.
3-إذا كان اتخاذ التدابير الوقائية لمنع الحمل مقبولًا شرعًا إذا دعت إليه مصلحة الزوجين أو مصلحة أحدهما أو مصلحة الأسرة، فمن باب أولى وأحرى أن يلجأ إليه إذا دعت إليه المصلحة العامة للمسلمين، وحالة المسلمين حاليًا تدعو إلى ذلك.
وحض فقهاء المسلمين على العناية بالتخطيط العائلي لأن التخطيط العائلي بمعناه المتعارف عليه اليوم "هو توعية الأزواج والآباء بمسؤولياتهم الأدبية والمادية، وجعلهم أكثر تقديرًا لمسؤولياتهم الزوجية والأبوية، حتى يكونوا أوفر احتياطًا لمستقبل أبنائهم وأحرص على إنجاب ذرية صالحة ونسل سليم جسميا وفكريا، ليكونوا لهم خير خلف ولأمتهم خير سند ومدد".
وذهب الشيخ إبراهيم الدسوقي مرعي والشيخ خلف السيد علي إلى أن تنظيم النسل أمر طبيعي لخير البشرية، وهذا يتماشى مع الإسلام والفقه لأن "الدين يدعو إلى التنظيم في كل شيء". وهكذا فإن تنظيم الأسرة من حيث هو تنظيم لا يتعارض مع الدين والتنظيم هنا معناه الملائمة بين حجم الأسرة وظروف المجتمع الاقتصادية والحضارية، فإذا تغيرت الظروف أعدنا النظر في حجم الأسرة، والمعنى من هذا القول من وجهة نمو السكان أن هذا النمو يجب أن لا يتعدى النمو الاقتصادي في الأمة.(5/383)
وأشار الشيخ خلف السيد علي والشيخ إبراهيم الدسوقي بصورة خاصة إلى المخاوف من التنظيم على أنه مناف للإيمان بقضاء الله وقدره، وأنه ينافي تقدير الأرزاق وأنه الوأد الخفي وقالا إن هذه المخاوف غير صحيحة لأن الإيمان بالقدر لا ينافي الأخذ بالأسباب، والقدر لا نعرفه إلا بعد وقوعه، ثم إن تقدير الأرزاق لا يكون مع ذلك إلا بالسعي لقوله تعالى "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" وأما الوأد الخفي فالمقصود به قتل مخلوق موجود خوف الفقر. وذكر أيضًا أن الدين لا يعارض التنظيم لأن الأصل رعاية مصالح الناس ودفع الحرج والمشقة ففي القرآن الكريم قوله تعالى "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" سورة البقرة 185. وبقوله "وما جعل عليكم في الدين من حرج" سورة الحج 78. وقول الرسول عليه الصلاة والسلام "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق". وقوله "إن الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة".
ووجه الشيخ محمد مهدي شمس الدين الانتباه إلى نقطة مهمة وهي أن الولد حق الوالدين وحق الأمة معًا. فهو حق الأمة لأنه نهي عن تزوج الحمقاء، وأنه جعل للزوج وللزوجة الحق في فسخ عقد الزواج إذا كان الآخر مصابًا ببعض الأمراض الوبائية وما إلى ذلك. ثم إن تحديد النسل من طرف الأمة عامة يجب أن يكون فيه مصلحة لها، وإذا لم تثبت المصلحة فلا تحديد. ومن حق الوالدين مثلًا أنه يجوز لهما "لأي اعتبار من الاعتبارات الصحية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أن يضبطا نسلهما فيحدداه بعدد معين من الأولاد دون أن يترتب على ذلك أية مسؤولية شرعية، ولهما أن يتوقفا عن الإنسال عن طريق استعمال موانع الحمل المؤقتة دون أن يترتب عليهما من جراء ذلك أية مسؤولية شرعية".(5/384)
وتكلم الدكتور علي شعبان عن تنظيم الأسرة في مصر وقال إن المشكلة أثيرت في الصحافة المصرية منذ عام 1937 حين طلب إلى سماحة مفتي الديار المصرية الشيخ عبد المجيد سليم أن يدلي برأي واضح حول الموقف الديني في الإسلام إزاء منع الحمل والإجهاض من الناحيتين الطبية والاجتماعية ويتلخص جوابه فيما يلي:
1-للزوجين أن يتخذا الإجراءات الضرورية لمنع الحمل لأسباب طبية أو اجتماعية، وموافقة الطرفين كليهما ليست ضرورية.
2-قبل مضي نحو 16 أسبوعًا على الحمل يمكن اتخاذ الإجراءات أو العقاقير للتهيئة للإجهاض دون تعرض الأم لأي خطر في حالة توفر إرشاد معقول.
3-اتفق أئمة المسلمين بالإجماع على أنه لا يجوز مطلقًا إجراء الإجهاض بعد تلك الفترة.
وأشار الشيخ عبد الرحمن الدوكالي إلى رأي الإمام الغزالي الذي يقول إن منع الولد مباح ولا كراهة فيه لأنه يرى أن النهي إنما يكون بنص أو قياس على منصوص، ولا نص هنا في هذا الموضوع ولا أصل يقاس عليه، بل في الإباحة أصل يقاس عليه، وهو ترك الزواج أصلًا أو ترك المخالطة الجنسية بعد الزواج أو ترك التلقيح بعد المخالطة الجنسية، فإن كل ذلك مباح وليس فيه إلا مخالفة الأفضل. والدليل على ذلك ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه حين قال:"كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل" وهذا معناه أن الرسول لم ينه عن العزل، ثم ذكر الشيخ عبد الرحمن الدوكالي رأي الحنفية في إباحة منع الحمل برضا الزوجة وهو الأصل في المذهب أو برضا أحد الزوجين إذا خيف على الولد السوء من فساد الزمان، في رأي المتأخرين من فقهاء الحنفية الذين يأخذون بقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان، وأشار في شأن تحديد النسل إلى النصوص المختلفة التي ذكرها الشيخ محمود شلتوت في فتواه، ثم أبدى رأيه الخاص في القضية فقال" إن دين الإسلام ينشد الكثرة القوية لا الكثرة الهزيلة، وغير خاف أن الطب يقرر منع الحمل لدفع الضرر الذي يلحق الزوجة أو الأمة من جراء إطلاق الحرية في الإنجاب ".(5/385)
حكم الإسلام في استخدام وسائل منع الحمل:
ثم تركز البحث في المؤتمر على جانب منع الحمل عند بحث تنظيم الأسرة، وسعى كثير من الأعضاء إلى تفسير ذلك عن طريق الضرورة أو رفع الضرر أو الاجتهاد بما فيه المصلحة. وفي هذا الصدد قال الدكتور محمد سلام مدكور "إن الفقه الإسلامي بمذاهبه العديدة والآراء المختلفة كفيل بمسايرة الحياة المتطورة، وأصبح يعتمد على أسس قوية صالحة لتحمل كل جديد، منها إيثار مصلحة الجماعة إذا تعارضت مع مصلحة الفرد، وكان أكثر أحكام هذا الفقه وليد استنباط أفراد من المجتهدين". ثم أورد الدكتور مدكور أمثلة على هذه الأحكام المستنبطة منها مثلًا قولهم إنه يجوز للمرأة أن تسد فم الرحم منعًا لوصول ماء الرجل إليه بقصد منع الحمل، وقولهم إنه يجوز لها استعمال الدواء الذي يقطع النسل، ويجوز للمرأة أن تنفض النطفة من الرحم ما لم تستقر. ثم قال: إن القول الأول في جواز سد فم الرحم يندرج تحته ما تطورت إليه وسيلة العزل لمنع الحمل، فمن ذلك العجلة (الحاجز) التي تغطي عنق الرحم لتمنع اتصال الحيوان المنوي بالبويضة، ومنه أيضًا الحجاب المانع "الكبون" الذي يستعمله الرجل ليحول بين الحيوان المنوي والبويضة. ويندرج تحت قول الفقهاء الثاني عن استعمال الدواء ما وصل إليه التطور في إيجاد حبوب منع الحمل والحقن التي يدوم مفعولها عدة أشهر، ويندرج تحته أيضًا كل دواء تهتدي إليه البشرية لتنظيم الحمل دون الإضرار بالقدرة على النسل في الرجل والمرأة على السواء.
وقدم الدكتور علي شعبان بحثًا عن منع الحمل في الإسلام وقال إنه ليس في القرآن ما يؤيد منع الحمل أو يعارضه، وقال إن أبسط حالت منع الحمل هو خلال فترة الرضاع تفاديًا للغيل، وقال إن منع الحمل من المميزات للحضارة العربية الإسلامية فقد ذكره ابن البيطار وابن سينا وكانت الأدوية له معروفة. وكان الأطباء المسلمون في العصور الوسطى يعظون الناس بوسائل لمنع الحمل ومن ذلك أن أبا بكر الرازي قد شرح في كتابه "الحاوي" طرقًا مختلفة لمنع الحمل، وقال الرازي "إن من المهم أحيانًا منع المني من دخول الرحم حين يكون الحمل خطرًا على المرأة مثلًا وهناك عدة طرق لمنع دخوله" ونقل الدكتور علي شعبان ذكر الرازي لهذه الطرق، وأشار إلى قول علي بن العباس المجوسي في رسالة "كامل الصناعة الطبية في القرن العاشر" أن الأدوية التي تمنع الحمل وإن كان واجبًا ألا تذكر لئلا يستعملها بعض النساء السيئات السمعة، إلا أنه لا مفر من إعطائها النسوة ذوات الرحم الصغير أو اللائي يعانين مرضًا يجعل الحمل خطرًا إلى حد تعريض الحامل للموت أثناء الوضع.." وكذلك ابن سينا في كتابه "القانون" فإنه بحث في طرق منع الحمل. وأشاد الدكتور شعبان إلى اختلاف السياسة في البلاد الإسلامية بشأن تنظيم الأسرة، وإلى اختلاف المعارضة الدينية في هذه البلاد لمنع الحمل وتنظيم الأسرة، وطالب بضرورة انتهاج سياسة إجماعية وتعاون قوي بين البلاد الأسيوية لمعالجة هذه المشكلة الحيوية.(5/386)
وقال الدكتور الشرباصي إن منع الحمل قديم وحديث، وإن الغرض من العزل هو منع الحمل وذكر في هذا المجال فتوى لجنة الإفتاء في الأزهر التي جاء فيها أن استعمال دواء لمنع الحمل مؤقتًا لا يحرم ولا سيما إذا خيف من كثرة الحمل أو ضعف المرأة من الحمل المتتابع بدون أن يكون بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها المرأة وسترد صحتها. وأما استعمال دواء لمنع الحمل أبدا فهو حرام. وذكر أيضًا فتوى الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية التي جاء فيها "أنه يجوز أن تتخذ بعض الوسائل لمنع الحمل كإنزال الماء خارج محل المرأة أو وضع المرأة شيئًا يسد فم رحمها لمنع وصولا ماء الرجل إليه "وذكر كذلك ما كتب الشيخ محمود شلتوت 1959 في هذا الموضوع حين قال "أما تحديد النسل بمعنى تنظيمه بالنسبة للسيدات اللواتي يسرع إليهن الحمل وبالنسبة لذوي الأمراض المتنقلة وبالنسبة للأفراد القلائل الذين تضعف أعصابهم من مواجهة المسؤوليات الكثيرة.. إن تنظيم النسل بشيء من هذا وهو تنظيم فردي لا يتعدى مجاله شأن علاجي، تدفع به أضرار محققة ويكون به النسل القوي الصالح، والتنظيم بهذا المعنى لا يجافي الطبيعة ولا يأباه الوعي القومي ولا تمنعه الشريعة إن لم تكن تطلبه وتحث عليه.
الدواعي الصحية والاجتماعية لتنظيم الأسرة:
تحدث الدكتور عبد الرحيم عمران عن دراسات له حول الأضرار التي تصيب الأسرة من جراء كثرة الأولاد عن غير تنظيم. وقد شملت هذه الدراسات عدة بلاد إسلامية منها مصر وسوريا ولبنان وتركيا وباكستان وإيران وأدت إلى نتائج مهمة في هذا الشأن ولا سيما فيما يتعلق بالأضرار التي تلحق بالأسرة والمجتمع، وعدد هذه الأضرار تحت الأبواب التالية:
1-الأضرار الصحية لأفراد الأسرة ولا سيما الأم والأطفال.
2-الأضرار الاجتماعية والاقتصادية لأفراد الأسرة ولا سيما لرب الأسرة.
3-الأضرار على مستوى المجتمع الذي تعيش فيه الأسرة.
وقد ذكر أن الأضرار الصحية لأفراد الأسرة تنتج عما يلي:
أ-قصر الفترة بين حمل وآخر خصوصًا إذا قلت عن عامين.
ب-زيادة عدد الولادات عن المتوسط المقبول خصوصًا إذا كانت الأم ضعيفة الصحة أصلًا أو كانت سيئة التغذية أو مصابة بأمراض مزمنة أو كانت مرهقة بالعمل أو صغيرة السن.
جـ-الحمل في سن مكبرة دون العشرين.
د-الغيل- وهو رضاعة طفل من لبن الحامل.
هـ-مرض وراثي أو معد يخشى أن ينتقل إلى الذرية.(5/387)
القلة والكثرة في الإسلام:
وفكرة كثرة النسل في الإسلام كانت من أهم المسائل التي تعرض لها الأعضاء، فذهب البعض إلى أنها متفقة مع أوامر الدين، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة)) .
وذهب البعض الآخر إلى أنها تتوقف على أمور كثيرة، وليست الكثرة وحدها هي الأصل.
وذكر الدكتور عبد الرحيم عمران أن الإكثار من النسل يجب ألا يكون عاملًا على الإضرار بالمجتمع والأمة والأسرة، وأن استعمال وسائل منع الحمل تخدم الأغراض التالية:
1-تحديد حجم الأسرة حسب قدرة الوالدين على الإنفاق.
2-المحافظة على صحة الأم وجمالها.
3-تنشئة الآباء والبنات تنشئة صالحة.
4-المباعدة بين حمل وآخر للمحافظة على صحة الأم والأولاد.
وتكلمت السيدة أمينة السعيد عن كثرة الأولاد وعن أسباب التقليل من هذه الكثرة عند كثير من الفقهاء وذكرتها فيما يلي:
1-ضعف المرأة عن تحمل الحمل بسبب عدم استعدادها له.
2-مرض أحد الزوجين.
3-الخشية على صحة المرأة من تكرار الحمل.
4-عدم قدرة الأسرة على مواجهة ظروف الحياة.
5-حرص المرأة على أن لا تفقد جمالها من كثرة الحمل.
وقالت عن الانفجار السكاني إنه من الطبيعي أن يفتح المسلمون الطريق لاتخاذ وجهة نظر معينة في تحديد النسل لإنقاذ البشرية، ودعت الفقهاء والمجتهدين إلى التفكير فيما فيه جلب المنفعة ودفع الضرر، وقالت إن الكثرة من الفقهاء تبيح تنظيم النسل قياسًا على العزل، وأوردت طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تؤيد ذلك.(5/388)
ثم أوردت السيدة أمينة السعيد شواهد أخرى مستقاة من المذاهب الإسلامية وقدمت إلى ذلك بقولها: "ونحن إذا انتقلنا بعد ذلك إلى المذاهب الإسلامية الكبرى ألفيناها جميعًا تقر العزل وتبيحه، ومعنى ذلك أنها تجيز تنظيم النسل ولا ترى فيه شيئًا محرمًا" ومن هذه الشواهد:
1- قول الإمام الغزالي الشافعي المذهب "اختلف العلماء في إباحة العزل وكراهته على أربعة مذاهب.. والصحيح عندنا أن ذلك مباح ".
2-الأصل في الفقه الحنفي إباحة العزل باعتباره الوسيلة لمنع الحمل.
3-فقهاء الحنابلة يذهبون أيضًا إلى إباحة العزل.
4-فقهاء المذهب المالكي ينصون على جواز العزل لمنع الحمل.
5-مذهب الزيدية ينص على إباحة العزل، وفيه أيضًا أن الإمام يحي بن زيد صرح بجواز العزل لمنع النسل.
6-الشيعة الجعفرية. تبيح العزل لمنع الحمل.
7-الشيعة الإسماعيلية لا تخرج على رأي الجعفرية في إباحة العزل استنادًا إلى القول "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها".
8-مذهب الإباضية يجيز العزل ويقول علماؤهم "إن العزل يباح للفرار من الولد خشية الغيل وإدخال الضرر على الرضيع".
وتناول السيد محمد النابلي بعد ذلك الكثرة والقلة في الأولاد فقال: "إن الإسلام لا تعجبه الكثرة الهزيلة الواهية، ولا يقيم لارتفاع نسبتها وزنا. ولا يتخذ منها النبي الكريم سببًا للمباهاة بها، بل بالعكس تمقت الشريعة مثل هذه الكثرة الضعيفة كما ورد في "دلائل النبوة" عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((توشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) . فقال "أومن قلة نحن يومئذ؟ " قال: ((لا، بل أنتم كثرة ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن)) . قال قائل "وما الوهن يا رسول الله" قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) .(5/389)
وأردف السيد محمد النابلي يقول "إن الدين في الوقت الذي حث فيه على كثرة النسل إنماء للأمة وتكوينًا لقوتها، قضي بصيانة هذه الكثرة من الضعف، ومن أن تكون غثاء كغثاء السيل".
وقال عن السبيل إلى الكثرة القوية أن "السبيل إلى هذا هو تنظيم النسل تنظيمًا يحفظ له قوته ونشاطه ويحفظ للأمة قوتها. والتنظيم في النسل على أساس منع الحمل مشروع في كتاب "نهاية المحتاج" للإمام شمس الدين الرملي الشافعي".
ثم قال السيد محمد النابلي "إن تنظيم النسل لتحقيق مصلحة الأفراد ولرفع مستوى الحياة للفرد وللمجتمع لا يمكن أن يكون فيه ما يتعارض مع الدين لأن تلك الأهداف هي أصلًا أهداف دينية أيضًا ويرى الإمام الغزالي أن منع الولد مباح ولا كراهة فيه؛ لأن النهي إنما يكون بنص أو قياس عليه وترك الزواج أصلًا أو ترك المخالطة الجنسية بعد الزواج أو ترك التلقيح بعد المخالطة فكل ذلك مباح".
ثم ذكر السيد النابلي إن إباحة التنظيم مشار إليها في القرآن الكريم فقد روي عن الإمام الشافعي أنه فسر قوله تعالى "فإن خفتم ألا تعدلوا فوحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا" سورة النساء 3 بأن القصد "ألا تعدلوا" هو أن لا تكثروا من عيالكم وهو ما وافق عليه الفخر الرازي، وهذا دليل على أن تنظيم النسل بحيث لا يكثر، داخل ضمنًا في معنى هذه الآية، كما أن إباحة التنظيم موجودة في قول الإمام علي رضي الله عنه "قلة العيال أحد اليسارين وكثرة العيال أحد الفقرين" ثم أورد السيد محمد النابلي بعد ذلك أقوال الأئمة والفقهاء في العزل وفي إباحته كما ذكر خطبة عمرو بن العاص في يوم الجمعة التي قال فيها "إياكم وخلالا أربعًا، فإنها تدعوا إلى التعب بعد الراحة وإلى الضيق بعد السعة وإلى الذل بعد العز.. إياكم وكثرة العيال وإخفاض الحال وتضييع المال والقيل والقال".
وذكر الشيخ محمد المبارك عبد الله بأن الإسلام أقر التنظيم في أول العهد وذلك بتنظيم فترات الحمل وبالسماح بالعزل، وقال إنه لا فائدة من الحمل إذا كان في ذلك إضرار بالوالد أو الوالدة أو الأمة أو المجتمع، وأورد في الحض على عدم التكثير من النسل قول النبي صلى الله عليه وسلم "ليأتين على الناس زمان يغبط فيه الرجل لخفة الحال كما يغبط اليوم أبو العشرة".(5/390)
وأورد أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الدعاء الآتي: ((اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء)) فقيل له "وما جهد البلاء يا رسول الله؟ قال: ((قلة المال وكثرة العيال)) . ومما يذكر عن الإمام أبي حنيفة أنه كان يوصي تلميذه أبا يوسف بما يلي "لا تتزوج إلا بعد أن تعلم أنك تقدر على القيام بجميع حوائج المرأة، وإياك أن تشغل بالنساء قبل تحصيل العلم فيضيع وقتك ويجتمع عليك الولد ويكثر عيالك، فإن كثرة العيال تشوش البال". ثم قال شيخ المبارك: ولا خير في كثرة النسل مع ضعف في الأجسام والنفوس والعقول والأخلاق فقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثرة مع الضعف والخور والتفكك حين قال: ((توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) .
وفسر الدكتور حسين أتاي معنى تنظيم الحياة العائلية بأنه الحصول على الأولاد الأصحاء والأقوياء وليس الحصول على الكثرة منهم لمجرد الكثرة، وأشار إلى أن الظروف لها أحكام، وأن الإجماع يمكن أن يعاد النظر فيه حسب الظروف، وأن أي قرار يتخذ الآن لا يجوز أن يكون ملزمًا في المستقبل لأن الظروف قد تتغير.
وكرر هذه الفكرة الدكتور لطفي دوغان الذي قال" الأسرة لا تكون في حالة حسنة إذا عاشت في بؤس وشقاء، مع كثرة الأولاد وعدم القدرة المالية، فعليها أن ترسم وتخطط لتحديد عدد الأولاد قدر الاستطاعة. كما فسر الحديث النبوي "تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة" بأن فيه إشارة إلى كثرة الأولاد، ولكن الغاية منه هي أن تربي ولدًا صالحًا، مؤمنا بالله ورسوله، قويًا بعقله وبدنه، والكثرة هي الكثرة الصالحة. وهذا ما قاله الشيخ إبراهيم الدسوقي مرعي بأن الكثرة هي بالكيف لا بالكم.(5/391)
وقال الدكتور عبد الرحيم عمران إن التنظيم في عدد الأولاد في الأسرة يعود بالنفع على المجتمع الإسلامي وعلى الأمة الإسلامية من نواح عديدة، ولا سيما إذا روعيت أيضًا الشئون الوراثية والجنينية لقيام جيل صحيح العقل والجسم وهذا لا يحدث إلا بتقليل الحمل، وفي الإسلام أقوال ثابتة تدعو إلى الاحتراس من كثرة العيال وتدعو إلى القلة القوية المنيعة، وأورد شواهد على ذلك من القرآن الكريم والحديث الشريف، ففي القرآن الكريم قوله تعالى "إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ" سورة الأنفال 65.
وفي الحديث الشريف "لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غيظا" وكذلك "يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وولده وأبويه يعيرونه بالفقر ويكلفونه ما لا يطيق، فيدخل المداخل التي ذهب فيها دينه فيهلك". وفي الحديث أيضًا "أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ" أي قليل العيال "ذو حظ من صلاة". والحديث الشريف "التدبير نصف العيش، والتودد نصف العقل، والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين". ويقول ابن عباس "كثرة العيال أحد الفقرين وقلة العيال أحد اليسارين " فالفكرة إذًا تدور حول فائدة كثرة العيال في الحقيقة، وهل هي مقياس للعزة والقوة والمنعة؟ ومع العلم بأن هذا المقياس لا يتوقف على العدد العديد وإنما على العلم والفن والفقه والإيمان ولو كان العدد قليلًا، وذكر الدكتور خلوق شيلوف أن إمكان التنمية الاقتصادية منوط بإيجاد حلول لمشكلات الأسرة ودعا إلى رأي صريح بأن الإسلام يؤيد تنظيم الأسرة وقال إن قانون تنظيم الأسرة في تركيا منذ 1965 جرى تطبيقه باختيار الأسرة حتى يكون هناك ترابط بين التنمية وزيادة السكان ومن ذلك تحديد عدد الأبناء حسب رغبتها.
وأشار الدكتور عبد السلام عظيمي في هذه المناسبة إلى قوله تعالى: "لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً" الآية 21 من سورة الروم.(5/392)
وقال: "إن الاطمئنان القلبي أو السكن مع الراحة والمودة التامة لا يمكن أن يوجد في بيت يعيش فيه عد كبير من الأولاد والأطفال". ولعل الدكتور عظيمي كان يشير هنا إلى ضرورة تحديد النسل عند الحاجة، فإن الكثرة أو التكاثر في الحديث الشريف "تناكحوا تكاثروا.." لا يجوز أن تعني الكثرة من حيث هي بل تعني الكثرة مع صلاح النسل حتى تستطيع الأسرة أن تعيش عيشة فضلى. وأباح العزل لأجل هذا التنظيم. ثم قال: "إنني أرى أن الأليق بالأمة الإسلامية، كما هو واضح من روح الشريعة الإسلامية أن تتبع فكرة تحديد النسل، ومعنى هذا مراعة ظروف كل أسرة وكل أمة ومقتضياتها الخاصة".
وأشار السيد محمد ظفار إلى تنظيم الأسرة والكثرة بقوله: "ما من أحد ينكر فوائد الحياة العائلية المنظمة، والواقع أن إنجاب أولاد أكثر أو أقل إنما يعتمد على الأوضاع والظروف، فأحيانا. تجب زيادة عدد السكان، كما يجب إنقاصهم في أحيان أخرى لحفظ التوازن، ولدينا قواعد لكلتا الحالتين في كتب الفقه الإسلامي".
وأشار كذلك الدكتور قيصر أديب ماجول إلى الكثرة والقلة في الأولاد وأوضح في هذا الصدد أن الآيات القرآنية التي تدعو إلى تقليل السكان أو تكثيرهم يجب أن تدرس بالنظر إلى الظروف التي نزلت فيها هذه الآيات. وأشار عند الكلام عن التخلف في المجتمعات الإسلامية وعن أن الإسلام غير مسؤول عن ذلك فقال: "إن المسلمين في الفيلبين يتأخرون بسبب الفقر والجهل وسوء الأحوال الصحية، وإنهم يحتاجون إلى التوعية أكثر من احتياجهم إلى الكثرة".
مركز الدراسات السكانية في الأزهر الشريف:
تكلم الدكتور عصام الناظر المدير الطبي والإداري لمنطقة الشرق الأوسط في الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية عن موضوع مهم وهو إنشاء مركز الدراسات السكانية في الأزهر والذي يجري البحث فيه. وجاء الكلام عن هذا الموضوع المهم في معرض المناقشات التي جرت بين أعضاء المؤتمر حول ضرورة وجود دراسات علمية للمجتمع الإسلامي من ناحية وللأسرة المسلمة من ناحية أخرى، وحول احتمال اضطلاع الأزهر الشريف بإعداد تلك الدراسات من خلال هذا المركز. وذكر الدكتور الناظر أن برقية وردت إليه إلى الرباط من هيئة الأمم المتحدة تطلب فيها منحها فرصة للتحدث إلى أعضاء المؤتمر عن المشروع، وهذا نص البرقية.(5/393)
هيلتون – الرباط.
الدكتور عصام الناظر المدير الطبي والإداري لمنطقة الشرق الأوسط في الإتحاد العالمي لتنظيم الوالدية.
المشاورات الأخيرة للأمم المتحدة مع الحكومة المصرية. تشير إلى اهتمام مصر بعرض المشروع المقدم إلى صندوق الأمم المتحدة للنشاطات السكانية من قبل الأزهر لإنشاء معهد للأبحاث والدراسات الإقليمية للسكان. الصندوق مهتم مبدئيًا بمشروع الأزهر، بنود المشروع المقترح يمكن أن تشتمل على توفير الإمكانات للبحوث المخططة لتمكين الأزهر من تنسيق الأبحاث السكانية في المجتمعات الإسلامية، وتوفير إمكانية ترجمة المستندات والدراسات إلى جميع لغات الشعوب الإسلامية، ونشر المعلومات عن الأنماط السكانية وتوزيعها وبرامج تدريبية لتعليم الطلاب المسلمين في الأزهر وخارجه وإنشاء مكتبة. كما أكدت محادثة قريبة العهد مع وزير الأوقاف في القاهرة ما ورد أعلاه.
ويشير الصندوق في مؤتمر الاتحاد العالمي لتنظيم الأسرة بالرباط إلى أن المباحثات جارية حول إمكانية إخراج المشروع إلى حيز الوجود وأنه يرحب بالاقتراحات من أعضاء المؤتمر حول أبعاد العمل وبرنامجه في مؤسسات كهذه.
ثم أشار الدكتور الناظر إلى وجود السيد شدي الهنيدي في قاعة المؤتمر وهو المسؤول عن برامج الدراسات السكانية في منطقة أفريقيا والشرق الأوسط، وطلب إلى أعضاء المؤتمر أن يسمحوا للسيد الهنيدي بأن يقدم بيانًا يعرض فيه طلب الأزهر من صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية إنشاء مركز فيه للدراسات السكانية، وبعد موافقة الأعضاء على ذلك ألقى السيد الهنيدي هذه الكلمة.(5/394)
منذ زمن طويل ومشكلة تزايد الأعداد مع ضآلة الموارد تؤرق رب الأسرة في معاشه كما تؤرق الحكومات التي تحاول جاهدة أن تزيد ميزانياتها القومية. بيد أن الاهتمام العالمي بالزيادة السريعة في عدد سكان العالم، بالمقارنة مع الموارد المتاحة، يعتبر وليد اليوم. ويرجع هذا الاهتمام إلى التزايد السريع في معدل النمو السكاني منذ عام 1900.
منذ بداية هذا القرن، بلغ عدد سكان العالم المسجلين نحو 1.7 بليون نسمة. وقد ارتفع هذا العدد حتى بلغ 2.5 بليون نسمة عام 1950، وفيما بين عامي 1950 و 1970، قفز هذا الرقم إلى 3.6 بليون نسمة. ومن الثابت أن ما يقرب من 2.5 بليون نسمة يعيشون في المناطق ذات الدخل المنخفض.
ولعل ما يتنبأ به الخبراء من تضاعف عدد السكان في أواخر القرن الحالي، يركز الضوء على المعضلة المحيرة التي تواجه البلدان النامية التي لم تتمكن حتى الآن. وبالرغم من عمليات التنمية الاقتصادية التي تجري فيها، لم تتمكن من الوفاء بالضروريات الأساسية للعيش الكريم، وما من شك في أن احتمال تضاعف عدد السكان الذين سيتعين إطعامهم وإسكانهم وتعليمهم وتوفير فرص العمل لهم، احتمال لا يبعث على الاطمئنان، وبخاصة إذا نظرنا إلى الوضع الراهن، حيث يعاني ملايين البشر من نقص التغذية، وضآلة الخدمات التعليمية والطبية، وانتشار البطالة.
ولقد تبنت الأمم المتحدة قضية الشعوب الفقيرة، فأعدت برامج لم يسبق لها مثيل تستهدف مساعدة الحكومات على رفع المستويات المعيشية لشعوبها، وبناء اقتصاديات متينة قوية تستطيع الاعتماد على نفسها. بيد أن الأمم المتحدة ما لبثت أن تصدت لتحد أكبر من هذا وأعظم شأنا، فأصبحت تهدف إلى دفع جهود التنمية الدولية على أوسع نطاق، حيث يتسنى تعميم مزايا الحياة المتحضرة بين البشر جميعًا في أقصر وقت ممكن. وإحداث تحسن في مستوى المعيشة على وجه الأرض.(5/395)
وهكذا أصبحت البرامج السكانية من العوامل الجوهرية في نجاح مثل هذه الجهود، ولهذا الغرض، أنشئ صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية لمساعدة البلدان النامية على تنفيذ البرامج السكانية، وتوسيع نطاق عمل أجهزة الأمم المتحدة في هذا الميدان.
وقد أنشأ السكرتير العام للأمم المتحدة هذا الصندوق عام 1967، استجابة منه لقرارات الجمعية العامة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي في هذا الشأن، وبذلك أتيحت للحكومات والهيئات والأفراد فرصة تقديم التبرعات حتى تتضافر الجهود الدولية مع الجهود الوطنية في مجال السكان.
وفي الواقع، أن أسرة الأمم المتحدة قد اعترفت منذ زمن طويل بالعلاقة الوثيقة بين النمو السكاني وعملية التنمية، ولكنها فيما مضى، كانت تقدم مساعداتها في هذا الميدان في إطار التزاماتها الأخرى، فكانت الأمم المتحدة ووكالتها المتخصصة، تدرج بعض النواحي السكانية في البرامج المتعلقة بالعمالة والزراعة والتعليم والصحة.
ويلعب صندوق السكان دور العامل المساعد المنفذ، حيث يوفر الموارد اللازمة لتمويل الأنشطة السكانية الجارية عن طريق تنفيذ بعض المشروعات السكانية الكبرى الجديدة، والعمل على تنسيق جهود الأمم المتحدة، وإطلاع الحكومات على مختلف أنواع المساعدات التي يمكن تقديمها لها.
وقد بدأ الصندوق أيضًا في الاضطلاع بدور هام في التنسيق بين برامج الأمم المتحدة، والبرامج التي تقوم على تنفيذها هيئات ثنائية أو حكومية أو خاصة.
واليوم يمول الصندوق 400 مشروع في 61 دولة من أعضاء الأمم المتحدة، ومن المتوقع أن يزداد عدد مثل هذه المشروعات في السنوات القادمة. وقد بلغت جملة موارد الصندوق من التبرعات في عام 1971 ما يقرب من 25 مليون دولار، ينتظر أن تصل في عام 1972 إلى ما بين 40 و 45 مليون دولار.(5/396)
ولو أننا نظرنا إلى معدل نمو السكان في معظم البلدان الإسلامية لوجدنا أن نسبته تبلغ في المتوسط نسبة 3 % وربما أكثر، وذلك في مقابل نسبة 8 % في أوروبا، ونحو 2 % بالنسبة للعالم ككل، وفي الحقيقة أن قلة الدراسات والبحوث والبيانات العلمية المتعلقة بمشكلات السكان في الدول الإسلامية، تؤكد الحاجة إلى بذل جهود نشيطة في هذا المضمار. وقد رأت جامعة الأزهر في جمهورية مصر العربية، حيث أن الدول الإسلامية في العالم متباعدة جغرافيًا، أنها - أي جامعة الأزهر- ربما استطاعت القيام بدور نافع في تنسيق البحوث والدراسات السكانية، وتدريب الأفراد على الأنشطة السكانية.
ومثل هذه الدراسات يمكن أن تكون بمثابة مصدر للمعلومات الأساسية، ومن شأنها أن تساعد خبراء التخطيط في كافة نواحي التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
ويعتقد الأزهر أن ثمة حاجة إلى القيام بدراسات تستهدف تحديد العوامل الأساسية التي تتحكم في مستوى دخل الفرد في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. ومستوى الإنتاج الفردي في تلك المجتمعات، ونسبة التعليم فيها، وغير ذلك من الخصائص المشتركة بين المجتمعات المسلمة. وهناك بالإضافة إلى ناحية البحث الحاجة إلى توفير الأفراد المدربين اللازمين لتنفيذ البرامج السكانية، وذلك عن طريق التدريب والتعليم على الصعيد الرسمي، والصعيد غير الرسمي.
وفي ضوء هذه الاعتبارات، طلبت جامعة الأزهر من صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية أن يقدم لها المساعدات المالية والفنية اللازمة لإنشاء مركز إقليمي مشترك للأبحاث والدراسات لمواجهة احتياجات الدول الإسلامية في جميع أنحاء العالم.(5/397)
وتعلمون جميعًا أن عدد طلبة العلم في جامعة الأزهر يبلغ نحو 30.000 طالب يمثلون 71 جنسية إسلامية، وفضلًا عن ذلك فإن جامعة الأزهر هي أقدم جامعات العالم، وستحتفل بعيدها الألفي في النصف الأول من عام 1972: غير أنها بالإضافة إلى ذلك عملت في السنوات العشر الأخيرة على توسيع نشاطاتها وخدماتها، لتشمل فروع العلم الدنيوية إلى جانب العلوم الدينية، وفيها الآن كليات للطب، والهندسة، والقانون، والاقتصاد، والتجارة، والزراعة. . . إلخ.
ورغم أنها لا تزال تثقف كل طلبتها بتعاليم الدين الأساسية، فإنها ماضية في النهوض بتدريب العلوم الحديثة.
ولقد أدرك صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية أن جامعة الأزهر قادرة على القيام بهذا النشاط الدولي المقترح، فأوفد في الفترة الأخيرة إلى جمهورية مصر العربية بعثة تباحثت مع السيد الدكتور عبد العزيز كامل، وزير الأوقاف وشؤون الأزهر: وقد تم الاتفاق على أن يبحث الصندوق إمكانيات إنشاء المركز المقترح في نطاق الأزهر: كما أعرب السيد الوزير عن استعداد حكومته لاستضافة هذا المركز في أراضيها، كما أكد استعدادها لتأييد إنشاء مثل هذا المركز الدولي المشترك للبحوث والدراسات السكانية.
وترى جامعة الأزهر أن يؤدي المركز المقترح الخدمات التالية، على سبيل المثال:
1-إعداد برنامج للدراسات العليا لتثقيف خريجي الكليات المختلفة بالتغيرات السكانية في المجتمعات الإسلامية، ومثل هذا البرنامج سيضمن أيضًا توفير البعثات الدراسية، وتقديم العون للكليات، وتطوير مناهج الدراسة لإعداد برامج تعنى بالاحتياجات التدريبية في الأمد القصير وفي الأمد الطويل، بما في ذلك وضع برنامج للتدريب الرسمي للحصول على درجة الدبلوم في الحركات السكانية الإسلامية.(5/398)
2-تتوافر للمركز ميزانية خاصة لتمويل البحوث، بغية تشجيع البحوث المشتركة بين عدة دول، وكذلك البحوث في نطاق جامعة الأزهر، وحيث إن هذا المركز سيقوم بدور الأمين على هذه الأنشطة والبحوث والتنسيق المركزي بينها، فإنه سيكلف أيضًا بمسؤولية نشر وتوزيع نتائج هذه البحوث وغير ذلك من المواد المتعلقة بالأنشطة السكانية.
3-ولكي يتمكن المركز من نشر نتائج البحوث والمواد السكانية التي تعود بالنفع المشترك على المجتمعات الإسلامية على الصعيد العالمي، فستعمل الترتيبات اللازمة لإنشاء وحدة ترجمة لنشر مثل هذه المعلومات في أنحاء العالم بجميع لغات الشعوب الإسلامية المختلفة.
4-وسيقوم المركز بتقديم الخدمات الاستشارية للدول الإسلامية في مجالات بحوث الإدارة والعمليات، وتنظيم البرامج السكانية والتقييم وغير ذلك من الأنشطة المتعلقة بالسكان حسب الحاجة.
5-وبالإضافة إلى ذلك سيعقد المركز حلقات دراسية وندوات ومؤتمرات في مختلف دول العالم، فيتيح بذلك الفرصة لاجتماع علماء المسلمين وخبرائهم للتباحث في المشكلات السكانية والتنموية، وإيجاد الحلول لها.
ولما كان صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية يدرك أهمية قيام مثل هذا المركز للبحوث والدراسات السكانية فقد وافق من حيث المبدأ على مساندة هذا المشروع. ولذا فهو يرحب بآراء السادة أعضاء هذا المؤتمر فيما يتعلق بهذا الاقتراح، كما يرحب باقتراحاتهم لتحضير برنامج عمل مثل هذا المركز، وأنواع التدريب فيه، وكذلك فيما يتعلق بالمجالات والمشكلات التي يستحسن أن تكون لها الأولوية في البحث.
ويسر صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية أن يتلقى اقتراحاتهم التي نرجو أن ترسل مباشرة إلى المركز الرئيسي للصندوق في نيويورك.
ثم جرت مناقشة بين أعضاء المؤتمر حول الموضوع، وقدم أعضاء المؤتمر اقتراحات لهم بشأن المركز. ومن ذلك أن الشيخ محمد مهدي شمس الدين اقترح أن يكون العلماء الباحثون في هذا المركز من المسلمين وأن يكون الجانب الديني لا الدنيوي من الأزهر الشريف هو الذي يقوم بالتعاقد، وأنه لابد للخبراء بعد إنجاز أبحاثهم من الاتفاق مع الأجهزة الدينية المعترف بها في العالم الإسلامي؛ لأجل التأكد من أن ما يصدرونه متفق مع الأحكام الشرعية.(5/399)
الشبهات حول تنظيم الأسرة:
وقد أجمل الدكتور سليمان حزين صورة عن الأزهر الشريف وعن علاقته بموضوع مركز الدراسات السكانية، فقال:
فيما يتعلق بالمركز المقترح إنشاؤه في الأزهر الشريف فقد كان من حسن حظي ومن نعمة الله علي أن أكون أول من وضع يده في قانونه الجديد، ولا تزال لدي المسودات، ففي عام 1960 ائتمنتني الدولة على أن أضع مع زميل لي انتقل إلى رحمة الله مشروعًا لتنظيم الأزهر الجديد يربط بين الأزهر بصورته القديمة، وبين العلم الحديث. لقد حرصت غاية الحرص على أن يأتي المشروع متكاملًا بحيث لا تبقى في الأزهر الشريف كلية تعنى بالدراسات القديمة وحدها. ولا تكون فيه كلية تعنى بالدراسات الحديثة وحدها. حرصت على أن يجمع طالب الأزهر الشريف بين الثقافتين الدينية والدنيوية.
وسينشأ المركز المقترح متواضعًا في البدء على شكل وحدة قد تتطور فيما بعد إلى مركز، والمركز إلى معهد، وعلى أنني أتفق مع الأستاذ شمس الدين على أنه ليس لهذا المؤتمر أن يشير على الأزهر بشيء ولا أن يلفت نظر الأزهر إلى أن مثل هذا المركز يجب أن يحتفظ بالطابع الإسلامي؛ لأن في هذا تعريضًا بقدرة الأزهر على رعاية شؤونه أو قدرة جامعة الأزهر على رعاية شؤونها، ولهذا فإنني لا أرى إطلاقًا إلى الإشارة إلى هذا، وإنما أرى أن يتكرر أمره كله للأزهر، وهو قادر على أن يقوم على شؤونه بنفسه: وعلينا أن نطمئن إلى أن جامعة الأزهر في صورتها الجديدة جامعة دينية تسعى إلى أن تجمع بين القديم والجديد، وأنها تحرص على أن يكون أي مركز ينشأ فيها ذا طابع إسلامي يخدم العالم الإسلامي كله لا مصر وحدها، وجامعة الأزهر هي جامعة للمسلمين لا للمصريين، وتنص إحدى مواد قانونه كما وضعناه على أن يكون الطالب والمدرس مسلمًا لا أكثر.(5/400)
وعلقت السيدة محاسن سعد على ما يثار من شبهات حول تنظيم الأسرة مثل وصفها بأنها دعاية استعمارية وما أشبه ذلك، وقالت بأن شعوب الدول الاستعمارية هي التي سبقت الدول الأخرى في الاقتناع بأهمية تنظيم الأسرة، وقطعت مراحل في تطبيقه قبل أن ننتبه نحن له. ثم ذكرت أن المسلمين عرفوا التنظيم منذ صدر الإسلام وأنهم استخدموا بعض الوسائل لتنظيم الأسرة وأضافت بأن بعض الشعوب الإسلامية تستعمل الأدوية البلدية والعقاقير وغيرها لمنع الحمل، وعليه فالمشكلة ليست محاولة من جانب الدول الغربية لتفرض علينا شيئًا معينًا، وأرى أن رفضنا لتلك الدول بوصفها دولًا استعمارية قد كون لنا عقدة خطيرة ما زلنا نعاني منها، فنحن دائمًا نعزو أخطاءنا إلى الاستعمار، ونبرر رفضنا للشيء بقولنا: إنه من الاستعمار.
ورد الدكتور أحمد الشرباصي على ذلك بقوله: " لقد أشرت في حديثي إلى هذه الشبهات ولم أقل إنها رأي لي، ولم أذكرها بوصفها وقائع وحقائق، وإنما قلت: إنها شبهات والشبهة قد تكون موجودة ولها أساس وقد تكون بلا أساس.. فإن كانت الشبهة واقعة حاربناها وقاومناها وإلا أهملناها ".
ثم أضاف قائلًا:
"إننا أعضاء هذا اللقاء لا نعطي كلمة فاصلة باسم الإسلام ولا نعبر عن إجماع المسلمين،وإنما نحن مجموعة من العلماء يعطون آراءهم الذاتية التي لا يلزمنا كمجموعة ومن باب لا تلزم غيرنا من المسلمين".
وأدلى الدكتور إبراهيم حقي برأيه في هذا الأمر فقال: "كلنا يعلم أن هناك منظمات دولية تعنى بأمور عامة كثيرة لرفع المستوى المعاشي في البلدان النامية، ولتأخذ بيدها فعلًا في سبيل النهوض بالنواحي الزراعية والاقتصادية والاجتماعية وما إلى ذلك. ولكل بلد أن يطلب يد المساعدة من هذه المنظمات بالشكل الذي يتفق وحاجاته، مقدمًا الأهم على المهم، وأرجو أن يقدر أي الأمور أكثر أهمية لنا كمسلمين. فلنبدأ بطلب المعونة لتحقيقه".
وعند ذلك تدخل في الكلام الدكتور سليمان حزين فقال: "إن على الدول النامية أن تستفيد من الهيئات الدولية، ومن حقها أن تفعل ذلك وأنه لا مبرر لمركب النقص أو الخوف منها، وذلك لأن مثل هذه الهيئات الدولية تقوم بمهمتها على أساس أن تطلب الدولة المعونة وبعد أن يتم الاتفاق مع الدولة صاحبة العلاقة".(5/401)
وهنا تدخل الشيخ أحمد سحنون وردد الشكوك حول الاهتمام الأجنبي بتحديد السكان، وشكك حتى في مشروعية المؤتمر فقال: "أحب أن أناقش أولًا مشروعية تصدي المؤتمر لدراسة قضايا خطيرة في الإسلام مثل قضية تنظيم الأسرة، فالدعوة إلى المؤتمر صدرت عن منظمة إقليمية دولية تمولها مؤسسات أجنبية لا حق لها في التدخل في شؤون الإسلام ولا حق لها في أن تقرر أو أن تخطط باسم الإسلام، وإنما كان ينبغي أن تتصدى لها الأمانة العامة التي انبثقت عن مؤتمر الوحدة الإسلامية الذي عقد في الرباط برئاسة السيد عبد الرحمن الطنجي أو أن يتصدى لها مجمع البحوث الإسلامية أو رابطة العالم الإسلامي أو غيرها من المنظمات الإسلامية.
ورد الدكتور سليمان حزين على ذلك قائلًا: "إننا نجتمع هنا في مؤتمر دعت إليه هيئة دولية محترمة تتعامل مع بلادنا الإسلامية على أساس أنه لا إكراه في الدين، وهذه المؤسسة إنما تستشيرنا لتبني رأيها، لكننا لا نستشيرها لنبني رأينا".
وعلق الدكتور عصام الناظر على هذا بقوله: "تكملة لحديث أستاذي الدكتور حزين باعتباره يمثل هيئة الأمم المتحدة، أرى واجبًا علي أن أقول كلمة عن الاتحاد العالمي لتنظيم الولادية الذي أتشرف بتمثيله ويتشرف الاتحاد بأن يجمع هذا الحفل الكريم.
الاتحاد العالمي هو منظمة غير حكومية ولها مركز استشاري لجميع المنظمات الخاصة لهيئة الأمم المتحدة، إن نشاطات الاتحاد تقوم من خلال جمعيات أهلية وقومية، وهي في غالبيتها جمعيات تطوعية، ويضم الاتحاد حاليًا حوالي ثمانين منظمة في جميع أنحاء العالم وتتلخص نشاطات الاتحاد بالنقاط التالية:(5/402)
1-توفير المعلومات للجمعيات الأعضاء وللرأي العام عن جميع جوانب قضايا السكان والتطور في العالم.
2-المساعدة على تأليف جمعيات وطنية لتنظيم الأسرة في الدول غير الأعضاء.
3-توفير التدريب الفني للأطباء والممرضين والعاملين في الحقل الاجتماعي في ممارسة تنظيم الأسرة.
4-تشجيع وعقد مؤتمرات عالمية وإقليمية حول مشاكل تنظيم الأسرة، وهذا المؤتمر أحد هذه النشاطات.
5-تشجيع البحث العلمي في علم التناسل البشري، الدراسات السكانية والاجتماعية ووسائل منع الحمل والإخصاب وقلته أو عدمه، ثم مضمون الوالدية المنظمة أو الوالدية المسؤولة وينبثق نشاط الاتحاد العالمي عن إيمانه بما يلي:
1-إن المعرفة لتنظيم الوالدية هو حق إنساني وأساسي.
2-إن التوازن بين السكان في العالم ومصادر الثروات القومية هو شرط أساسي للتطور الاقتصادي وسعادة البشرية.
3-إن تنظيم الأسرة هو طب وقائي من أجل صحة الأم والأطفال وبالتالي فإن الاتحاد يهدف لتطوير المعرفة والممارسة لوسائل منع الحمل للعالم أجمع، ويهتم بصورة خاصة بتشجيع إدخال تنظيم الأسرة في الخدمات الأساسية للصحة العامة وبرامج الإنعاش الاجتماعي.(5/403)
الإسلام وتنظيم الأسرة
تحليل وتعليق
مفهوم تنظيم الأسرة في الإسلام:
دلت مناقشات المؤتمر على أن الإسلام قد تناول مفهوم تنظيم الأسرة في إطار أشمل وأكمل من النظريات الحديثة في هذا الموضوع، فهو لا يقصر التنظيم على كثرة الذرية وقلتها- وهذا ما يراد به في الغالب- بل يتوسع في ذلك إلى تناوله في إطار أوضاع الأسرة المختلفة، بما في ذلك وضعها الصحي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتربوي. كما يتناوله في إطار المجتمع المسلم كله، على أساس أن مصالح الجماعة مقدمة على مصالح الأفراد، ويشمل ذلك المسائل المتصلة بكثافة السكان، وتوزيعهم الجغرافي، والقوى العاملة، ومدى التوازن بين معدل السكان وبين معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي والتربوي بحيث لا تضعف الدولة، أو تصير الكثرة فيها غثاء كغثاء السيل، ولم نر في دراستنا الأخرى أي تفاصيل مماثلة لموقف الإسلام في تنظيم الأسرة، ولا غرابة في ذلك، إذ الإسلام آخر الأديان وتعاليمه صالحة إلى آخر الزمان، فكان لابد وأن يضع التشريعات لأحوال مختلفة حسب الزمان والمكان، ومن هنا تبرز مرونة الإسلام فوق كل الأديان والفلسفات الأخرى إذ أتاح للأسرة المسلمة خلال تاريخها الطويل التكيف مع ظروف الحياة المتجددة بحيث لا يحملها فوق ما لا تطيق، أو يكلفها بما يرهق كاهلها.
وقد وضع المؤتمر تعريفًا عمليًّا لتنظيم الأسرة هذا نصه: " تنظيم الأسرة" هو قيام الزوجين بالتراضي بينهما، وبدون إكراه، باستخدام وسيلة مشروعة ومأمونة لتأجيل الحمل أو تعجيله، بما يناسب ظروفهما الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك في نطاق المسؤولية نحو أولادهما وأنفسهما" (1)
__________
(1) وافق المؤتمر بالإجماع على هذا التعريف لتنظيم الأسرة وورد في التقرير النهائي للمؤتمر راجع الإسلام وتنظيم الأسرة(5/404)
شبهات وتخوفات:
لابد أن ننبه القارئ الكريم إلى أن المؤتمر كان يعمل تحت ضغوط وتخوفات وشبهات مختلفة منها:
أولًا: شبهة ارتباط تنظيم الأسرة في أذهان بعض الأعضاء بمشكلة السكان، بمعنى أن تنظيم الأسرة يقصد به حل مشكلة التضخم السكاني لا غير. ولما كانت هناك بلاد إسلامية لا تعاني من هذه المشكلة فلا داعي لتعميمه، وفي نظر هؤلاء أن العالم الإسلامي غني بالثروات الطبيعية والمعدنية والبترولية التي لو استغلت استغلالًا سليمًا مع حسن توزيعها بين الأقطار الإسلامية حسب حاجاتها لما كانت هناك مشكلة سكان، وبالتالي لا داعي لتنظيم الأسرة من الناحية الاجتماعية وَإِنْ أباحته الشريعة الإسلامية، وقد رد على هذا الرأي كثيرون من أعضاء المؤتمر وأكدوا بأن تنظيم الأسرة حق إنساني أساسي يلجأ إليه سواء أكان هناك مشكلة تضخم سكاني أو لم يكن، وذلك بقصد المحافظة على صحة الأم والطفل، ورفع المستوى الاجتماعي والتربوي للأسرة، وإتاحة الفرصة للمرأة المسلمة المثقفة عادة بأعباء الولادة المتكررة، للمشاركة في بناء المجتمع عن طريق عناية واعية بأطفالها أو مساهمتها في أعمال زوجها، أو انضمامها للقوة العاملة في حدود آداب الإسلام.
أما من حيث غنى العالم الإسلامي بالثروات المختلفة، وضرورة استغلالها وتوزيعها بين الأقطار المسلمة كل حسب حاجته، فالواقع يثبت أن هذا حلم عزيز المنال، وحتى يحدث ذلك، لابد لكل بلد أن يعمل جاهدًا على الموازنة بين موارده وثرواته من ناحية، وبين عدد سكانه من ناحية أخرى بحيث لا يحدث الحرج للأسرة من كثرة العيال، أو الحرج للقطر كله من تضخم السكان دون وجود موارد كافية، وهو ما استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه "جهد البلاء".(5/405)
ثانيًا: شبهة تخوف بعض الأعضاء من أن يكون تنظيم الأسرة مؤامرة أجنبية يقصد بها تقليل عدد المسلمين وكسر شوكتهم، واحتج هؤلاء بأن حركة تنظيم الأسرة في العالم الثالث وراءها دول غربية يشك في أغراضها ونواياها، ولها تاريخ غير مشرف في البلاد المتخلفة اقتصاديًّا. بل ذكر بعض الأعضاء أن المؤتمر نفسه دعت إليه منظمة أجنبية غير مسلمة، وكان الرد على ذلك بأن العالم الإسلامي تعامل دائمًا مع الهيئات الدولية، وأن المنظمة التي دعت إلى المؤتمر "الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية" خدمت الكثير من البلاد الإسلامية وغيرها.
ثم إن تنظيم الأسرة لا يقصد به التقليل من عدد السكان، ولكن التحكم في معدل الزيادة كما هو الحال في البلاد المتقدمة اقتصاديًّا، ولو كان تنظيم الأسرة ضارًّا لما أخذت به الأمم الغربية، فبينما نجد أن معدل زيادة السكان في العالم الإسلامي قد يزيد على 30 في الألف سنويًّا فإن ذلك المعدل لا يزيد عن 10 في الألف في البلاد الغربية.
ثالثًا: تخوف بعض الأعضاء من أن يترتب على إباحة تنظيم الأسرة أن يمارس وسائله الشباب غير المتزوج، كما قد يؤدي إلى رواج الفوضى الجنسية والانحلال الخلقي في العالم الإسلامي، وقد رد بعض الأعضاء على ذلك أن التربية السليمة للنشء كفيلة بأن ترد عنا هذا الانحلال، وهذه التربية واجبة سواء أكان هناك تنظيم أسرة أو لم يكن. ويرى البعض أن تنظيم الأسرة سيسمح للوالدين بالوقت الكافي للاهتمام بتربية أولادهم تربية دينية سليمة.
رابعًا: تخوف بعض العلماء المتخصصين في الفقه الإسلامي من أن يلجأ غير المختصين في هذا الفقه من علماء الطب والاجتماع مثلًا إلى تفسير الآيات والأحاديث بدون الإلمام التام بأصول الفقه الإسلامي، ولذلك فقد نظر علماء الفقه بحذر إلى ما يقوله علماء الطب والاجتماع والاقتصاد ومعظمهم يؤيد تنظيم الأسرة، ومن هنا كان التخوف من تنظيم الأسرة نفسه، ولكن المناقشات نفت هذه الشبهات وقربت من وجهات النظر، واستطاع المؤتمر أن ينتج للمسلمين ثبتًا قيمًا في موضوع خطير وهام يواجه الأمة الإسلامية في العصر الحالي:(5/406)
موضوعات المناقشة:
ركز أعضاء المؤتمر كلماتهم وتعليقاتهم في الموضوعات الرئيسية التالية:
1-آراء الفقهاء في تنظيم الأسرة.
2-الزواج واستحبابه من ناحية، وعلاقته بتنظيم الأسرة من ناحية أخرى.
3-وسائل تنظيم الأسرة وشرعية كل منها.
4-الدواعي الاجتماعية والاقتصادية والأسرية لتنظيم الأسرة.
5-الدواعي الصحية لتنظيم الأسرة.
6-موضوع الكثرة في الإسلام وتنظيم الأسرة.
7-تنظيم الأسرة في المجتمع الإسلامي وخبرة بعض الأقطار الإسلامية.
آراء الفقهاء في تنظيم الأسرة:
استشهد أعضاء المؤتمر على شرعية تنظيم الأسرة بأمور أربعة:
* كان الرأي الغالب في المؤتمر أن الحكم الشرعي الإسلامي في موضوع تنظيم الأسرة، ينهض في الأغلب على الاستنباط والاجتهاد، والقاعدة الأساسية في ذلك هي مراعاة المصلحة، ورفع الضرر عن الأسرة والمجتمع، والنصوص في ذلك كثيرة، منها الآيات الكريمة التالية:
"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"
"وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"
"يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ"
ومن هنا يلزم تكييف الأحكام بحيث تمنع الحرج عن المسلمين وفي ذلك يقول الفقيه الحنفي ابن عابدين: "كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عُرْف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه لزم منه المشقة والضرر، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف، ورفع الضرر والفساد، ولبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام".(5/407)
أما تحريم تنظيم الأسرة فلا ينص عليه إطلاقًا:
* إن تنظيم الأسرة ليس أمرًا جديدًا على الإسلام وقد تبين من مناقشات المؤتمر أن الصحابة أنفسهم مارسوه وعلم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بل إنهم ناقشوه فيه، فلم ينههم عن ذلك. وكان القرآن ينزل في ذلك الوقت، ولو كان أمرًا محرمًا لنزلت فيه آيات تحرمه، وقد استشهد كثير من الأعضاء بحديث جابر في ذلك وبأحاديث أخرى، ولكن يكفينا حديث جابر إذ يقول: "كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل وبلغ ذلك رسول الله فلم ينهنا، ولو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا القرآن".
* استشهد أعضاء من المؤتمر بآثار غير مباشرة، وهي كراهة الغيل أي الحمل أثناء إرضاع طفل سابق، ولا يعقل أن يمنع الإسلام الزوجين من المباشرة الجنسية مدة الرضاعة إذ قد تصل إلى عامين كاملين دون أن يسمح لهما بما يمنع الحمل.
* استعرض المؤتمر آراء المذاهب الإسلامية المختلفة فوجدها كلها إما مبيحة لتنظيم الأسرة بدون شروط، أو تشترط موافقة الزوجين، أو تكره التنظيم دون حاجة.
المذهب الحنفي:
الأصل في المذهب الحنفي هو إباحة العزل لمنع الحمل، إلا أنهم اختلفوا في ضرورة موافقة الزوجة، فالخلاف ليس على جواز العزل أو عدمه، ولكنه على شرط موافقة الزوجة. وقد أفتى الشيخ عبد المجيد سليم عام 1937 أن علماء الحنفية أجازوا العزل بدون رضا الزوجة إذا كان هناك عذر كأن يخاف الزوج من الولد لسوء فساد الزمان.
المذهب الشافعي:
يرى الإمام الغزالي جواز العزل، وقد فند حجج الذين يكرهونه، ثم قال: والصحيح عندنا أنه مباح، وقد ذكر عدة أسباب للعزل منها استبقاء جمال المرأة وسمنها، واستبقاء حياتها خوفًا من الحمل والولادة، والخوف من الحرج بسبب كثرة العيال.(5/408)
المذهب المالكي:
يجوز العزل في هذا المذهب لمنع الحمل بشرط رضا الزوجة صغيرة كانت أو كبيرة.
المذهب الحنبلي:
يذهب العلماء في هذا المذهب أيضًا إلى إباحة العزل وإن كانوا يشترطون رضا الزوجة، ويكرهه بعضهم لغير عذر.
مذهب الشيعة الإمامية الجعفرية:
يبيح هذا المذهب العزل مع إذن الزوجة، ويمكن أن تستأذن الزوجة عند العقد ولا يلزم استئذانها بعد ذلك.
مذهب الزيدية:
يبيح العزل مع رضا الزوجة
مذهب الإباضية:
يبيح العزل فرارًا من الولد وإدخال الضرر على الرضيع.
مذهب الإسماعيلية:
مثل الجعفرية.
هذا وقد انتهت مناقشات المؤتمر إلى عدة نقط أخرى مهمة:
الأولى: أن علاج العقم جزء لا يتجزأ من تنظيم الأسرة حتى تشعر الجماهير أن إسعاد الأسرة هدف عام، وليس مقصورًا على الذين عندهم أولاد أكثر من اللازم.
والثانية: دعا بعض الأعضاء إلى الاتصال بالقائمين على الجامعات الإسلامية والمعاهد الدينية لكي يجعلوا "تنظيم الأسرة" ضمن الموضوعات التي يدرسها الشباب.
والثالثة: أن تنظيم الأسرة ليس هو الطريقة الوحيدة لمواجهة مشكلة تضخم السكان، بل يجب أن يصحب التنظيم العمل بكل جهد لمضاعفة الإنتاج وتطويره. واستغلال الموارد المهملة، والطاقات المطمورة.(5/409)
الزواج وعلاقته بتنظيم الأسرة:
ناقش المؤتمر موضوع استحباب الزواج في الإسلام، فأشاد بذلك، ورأى أنه لا تعارض بين استحباب الزواج وتنظيم الأسرة، وبرزت إلى جانب ذلك نقطة مهمة وهي أنه يستحب تأجيل الزواج لحين القدرة عليه، ونرى أن هذه القدرة في العصر الحديث لا تقتصر على الناحية المادية، بل تشمل كذلك القدرة الاجتماعية والصحية بمعنى أنه يمكن تأجيل الزواج لحين إتمام التعليم مثلًا، أو لحين نضج الزوجين وخصوصًا الفتاة.
وسائل تنظيم الأسرة:
دلت النصوص الفقهية المتداولة في المؤتمر على أن العزل هو الوسيلة التي كانت شائعة بين الصحابة والمسلمين الْأُوَل والتي نصت عليها كثير من كتب الفقه.
وقياسًا على إباحة العزل، أباح الفقهاء الوسائل الأخرى المشروعة، وقد ذكرت في المؤتمر فتوى الشيخ عبد المجيد سليم عام 1937 التي أجاز فيها أن تضع المرأة شيئًا بداخل رحمها لمنع وصول ماء الرجل إليه ومعنى ذلك أن الإباحة ليست مقصورة على العزل ولكن تتعداه إلى الوسائل الأخرى كحبوب منع الحمل، واللولب، والحجاب الحاجز، والمواد الكيمياوية وما يستجد من وسائل لمنع الحمل.
وكان هذا الرأي مطمئنًا لكثير من المسلمين والمسلمات فهناك ملايين في العالم الإسلامي اليوم يستعملون هذه الوسائل كما أن العدد يزيد يومًا بعد يوم.
الدواعي الاجتماعية والاقتصادية والأسرية لتنظيم الأسرة:
يمكن أن نستخلص من مناقشات المؤتمر أن تنظيم الأسرة يُلْجَأ إليه لدواع اجتماعية واقتصادية وأسرية نذكر منها:
1-حسب ما يقوله الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين": "الخوف من كثرة الحرج لسبب كثرة الأولاد، والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب، ودخول مداخل السوء"، ويقول الغزالي: "وهذا أيضًا غير منهي عنه، فإن قلة الحرج معينة على الدين".
2-تمكين الأسرة المسلمة من تنشئة أطفالها تنشئة إسلامية سليمة وهذا يستدعي تخصيص الأوقات والجهود لهم، ولا يمكن ذلك إذا كان عدد الأطفال كثيرًا.
3-أما على المستوى القومي فقد تلجأ الدولة إلى ترويج تنظيم الأسرة لرفع مستوى المعيشة بين مواطنيها، ولتخفيف حدة التضخم السكاني إذا حدث، أو الوقاية قبل أن يحدث، كذلك فإن تنظيم الأسرة يساعد الدولة على القضاء على البطالة وتشجيع النمو الاقتصادي.(5/410)
الدواعي الصحية لتنظيم الأسرة:
كذلك ناقش المؤتمر الدواعي الصحية لتنظيم الأسرة وهي دواع خاصة بالمحافظة على صحة الأم والطفل ومنها:
1-أن يكون هناك مرض من الأمراض المعدية أو الوراثية يخشى انتقاله من الأبوين إلى الذرية فتشقى به حياتهما.
2-الخوف على صحة الأم وسلامتها بسبب الحمل المتتابع، إذا كانت مريضة وسيزيد مرضها بحملها، أو سيتأخر شفاؤها، أو سيحدث لها المرض بسبب الحمل.
3-الإشفاق على الولد الرضيع من الحمل مدة الرضاع وهو ما يعرف في الفقه بالغيل.
4-الخوف على صحة الجنين والأطفال إذا حدث الحمل على فترة قريبة من حمل آخر، أو إذا حدث لفتاة صغيرة السن أو لامرأة فوق الخامسة والثلاثين.(5/411)
الفصل الثالث الإسلام والإجهاض
تقدمة
كان الموضوع الثالث الذي تعرض له المؤتمر هو موضوع الإجهاض ورأي الإسلام فيه. وبخلاف تنظيم الأسرة فإن موضوع الإجهاض مشحون بالعاطفة كما أنه أمر يهم الجميع من ناحية صحة الأم ومستقبل الطفل؛ لذلك فقد اتسمت مناقشات المؤتمر بالشدة نسبيا، لتحمس بعض الأعضاء لآرائهم في هذا الشأن، وقد اعتمدت كل الآراء المتعارضة على نصوص من الفقه بعضها يبيح الإجهاض وبعضها لا يبيحه.
والإجهاض من الموضوعات التي تعرض لها الفقه الإسلامي في العهد الأول ببعض التفصيل، ومن يومئذ تغيرت ظروف المسلمين تغيرا كبيرا وتغيرت الدواعي للإجهاض، فبعد أن كان أمرًا يخص إنزال الجنين في حادث تلزم فيه الدية أحيانًا، أصبح الإجهاض وسيلة طبية لإسقاط الجنين لظروف اجتماعية ونفسية وصحية عديدة لم تكن مألوفة من قبل ولهذا لزم التعرض له بالتفصيل.
ولقد انتشر الإجهاض العمد في العالم كله بحيث تقدر عدد حالاته من الثلاثين إلى خميس مليون كل عام. ولم يقتصر الانتشار على الأمم غير الإسلامية بل امتد أيضا إلى أمم مسلمة عديدة منها تركيا، وإيران، ومصر، والأردن، وأندونيسيا، وتونس، والمغرب، وبنغلاداس وغيرها، بل إن بلادا إسلامية قد أباحت الإجهاض بقانون " تونس، الجمهورية العربية اليمنية، والجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية" كما أن بعض الدول الإسلامية الأخرى تنظر الآن في السماح به " أندونيسيا " بينما لا تزال البلاد الإسلامية الأخرى تطبق قوانين وضعية نقلتها عن الدول الغربية، وهي قوانين تحرم الإجهاض، وتعاقب عليه، وقد احتفظت هذه الدول بتلك القوانين حتى بعد أن لجأت الدول الغربية نفسها إلى إباحة الإجهاض بقانون في بلادها.(5/412)
وهناك عده أسئله تدور بخاطر المسلمين عن الإجهاض منها:
1-علام يعتمد رأي الإسلام في الإجهاض، على القرآن والسنة أم على الاجتهاد والتأويل؟
2-ما هي تطورات الجنين حسب النصوص الفقهية؟ وهل يتفق ذلك مع الطب الحديث؟
3-متى تدب الحياة في الجنين، وهل يعتبر الجنين قبل نفخ الروح جمادا لا حياة فيه؟ ومتي يصير إنسانا يحرم قتله؟ وما هي الروح؟ وكيف نعرف أنها دخلت الجنين؟ وهل حركة الجنين علامة على ذلك؟
4-هل الإجهاض حلال كله أو حرام كله، أم أنه حلال في ظروف بعينها وحرام في غيرها؟
5-إذا كان الإجهاض مسألة تختلف فيها الآراء فما هو وضع امرأة أجهضت نفسها. هل هي آثمة أم غير آثمة؟ وهل الطبيب الذي أجهضها آثم أم غير آثم؟
6-ما هي دواعي الإجهاض المسموح به؟ هل هو المحافضة على حياة الأم؟ وهل يشمل أيضا المحافظة على صحتها أو حالتها النفسية؟ وهل هناك دواع جنينية للإجهاض؟
7-هل الضغط السكاني من دواعي الإجهاض؟
8-هل للدولة المسلمة أن تبيح الإجهاض بقانون؟(5/413)
خلاصة بحوث ومناقشات مؤتمر الرباط:
مفهوم الإجهاض المتفق عليه في المؤتمر هو خروج الجنين أو إخراجه أو سقوطه أو إسقاطه بصورة غير طبيعية، ويشمل ذلك الإجهاض العفوي والإجهاض العمد.
وفي الفقه الإسلامي نوعان من الإجهاض وهما:
(1) الإجهاض قبل نفخ الروح في الجنين أي قبل مرور 120 يوما من ابتداء الحمل.
(2) الإجهاض بعد نفخ الروح أي بعد مرور 120 يوما على الحمل.
ذكر الدكتور حسان حتحوت أن المؤتمر الذي نظمة الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية في بيروت سنة 1971 (1) عن " الإجهاض العمد وأخطاره الصحية" أظهر وجود تيار قوي يشيد بفوائد الإجهاض القانوني الصحية، كما أظهر خلافا سديدا حول موقف الإسلام من الإجهاض، ولما لم يكن بعض أعضاء الندوة شيوخ مسلمون أو علماء في الفقه الإسلامي فقد اقترح الدكتور حتحوت أن يجرى البحث في هذا الموضوع في مؤتمر آخر يعقد فيما بعد فاستجاب الدكتور عصام الناظر لهذا الاقتراح وأعد العدة للمؤتمر الذي عقد في الرباط والذي نحن بصدده. وتكلم حتحوت عن الإجهاض من ناحية تاريخية وتشريعية فقال: إن الإجهاض كان ممنوعا ولا يسمح للطبيب بإجرائه. وبقي الأمر على ذلك حتى الأمس القريب حينما كاد الإجماع على تحريم الإجهاض أن يكون تامًّا، باستثناء الحالات التي يكون فيها استمرار الحمل خطرا عاجلا أو آجلا على حياة المرأة، أو الحالات التي يترجح أو يتأكد فيها أن الجنين مصاب بالتشوه أو الخلل الخطير. فإباحة الإجهاض كانت في عمومها مبنية على دواع طبية قاهرة تعترف بها القوانين، وتعتبر الإجهاض في غيره جريمة ذات عقوبة منصوص عليها في قانون العقوبات، ولو أن كثيرا من حوادث الإجهاض غير المشروع كانت تجري في الخفاء ولا يصل إليها القانون أو تجرى بتزوير شرعي، غير أن السنين الأخيرة قد شهدت نزعة قوية لدى الكثير من البلاد في العالم إلى توسيع نطاق الإجهاض المباح، لا بالتوسع في مبرراته الطبية، ولكن بالاعتراف بدواع أخرى غير طبية، تتيح للمرأة أن تطلب الإجهاض من الطبيب كما تبيح للطبيب إجراءه.
__________
(1) كان هذا أول مؤتمر من نوعه لبحث مشكلة الإجهاض غير القانوني المتزايدة في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد حضر المؤتمر ممثلون عن معظم كليات الطب ووزارات الصحة ودوائر الإحصاء والعاملين في حقل تنظيم الأسرة في المنطقة مع العديد من الخبراء العالميين، وقد نشرت أعمال المؤتمر وأبحاثه عام 1972 في كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان " الإجهاض العمد – خطر يهدد الصحة العامة"، ويمكن الحصول على هذا الكتاب من الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية – ص ب 18 قرطاج – تونس.(5/414)
وبدلا من أن يكون " الإجهاض القانونى" مرادافًا " للإجهاض الطبي" انقسمت دواعي الإجهاض القانوني إلى عدة شعب هي:
1- الدواعي الطبية. 2- الدواعي الجنينية. 3- الدواعي الإنسانية. 4- الدواعي الطبية الاجتماعية. 5- الدواعي الاجتماعية.
الدواعى الطبية:
كان المفهوم أن الظروف التي يسمح فيها بإجراء عملية الإجهاض هي إنقاذ حياة الأم. ثم اتسع مفهوم هذه الظروف حتى شمل إنقاذ صحتها، واتسع بعد ذلك حتى شمل أيضا المحافظة على صحتها النفسية، ثم وسعه البعض أكثر من ذلك لينطبق على تعريف " الصحة" الذي أورده دستور منظمة الصحة العالمية ووافقت عليه جميع الدول وهو " الصحة هي حالة من السلام الجسمية والنفسية والاجتماعية وليست مجرد حالة انتفاء المرض أو العجز"، وما زالت معظم الدول الإسلامية تقصر إباحة الإجهاض على غرض إنقاذ حياة المرأة فقط، في حين أن الكثير من الدول تسمح بالإجهاض للحفاظ لا على حياة المرأة فقط وإنما على صحتها أيضًا.
الدواعى الجنينية:
تشمل مع انتشار الأمراض الوراثية – والحيلولة دون ولادة أطفال ذوي عاهات جسمية أو عقلية تنتج عن تعرض الجنين داخل الرحم للعدوى بأمراض معينة أو لجرعات خطرة من الإشعاع أو العقاقير تناولتها الأم أثناء الحمل، وهذه الدواعي بالطبع ملحقة بالدواعي الطبية، وتعترف بها الكثير من الدول.
ولقد كان للحصبة الألمانية لما قد تسببه من تشويه خلقي للجنين ولدواء الثاليدومايد لما أحدثه من تشويه فاحش في الأطفال باعثا قويا على الاعتراف بالدواعي الجنينية.(5/415)
الدواعي الإنسانية:
أباحت بعض البلاد الإجهاض لمثل هذه الدواعي كالحمل الناتج عن الاغتصاب أو من محرم أو من مواقعة قاصر أو ضعيفة العقل، أو حينما يكون الحمل ثلما لشرف الحامل أو شرف أسرتها.
الدواعي الطبية الاجتماعية:
وهي دواع تقرها دول كاليابان والدول الإسكندنافية ودول أوروبا الشرقية، وأقرتها بريطانية مؤخرًا، وكانت أيسلندة أول دولة فتحت الباب أمام الإقرار بالدوافع الطبية الاجتماعية، إذ نص تشريعها سنة 1935 على أن تقدير حالة " الخطر" بالنسبة إلى الأم ينبغي أن يأخذ في الاعتبار غزارة الإنجاب، وتقارب الولادات، والمدة الزمنية منذ الولادة الأخيرة، والأعباء المنزلية الناجمة عن كثرة الأولاد، ثم الضيق الاقتصادي، ومرض بعض أفراد الأسرة الآخرين، وبعد ذلك حذت حذو أيسلندة دول أخرى كثيرة، فعدلت السويد في سنة 1946 قانونها لسنة 1938 ليبيح الإجهاض آخذا في الاعتبار ظروف المرأة المعيشية التي تجعل إنجاب الطفل يؤثر تأثيرا ضارا على حالتها الجسمية والنفسية، ثم عدلت الدنمارك في سنة 1956 قانونها لسنة 1937 ونص التعديل على ضرورة اعتبار ظروف المرأة كلها، بما في ذلك ظروف الحياة التي تعيشها، مع أخذ الآثار الجسمية والنفسية بالاعتبار، وإلى مثل ذلك ذهبت فنلندا سنة 1950، وينص قانون النرويج لعام 1960 على أن أية قابلية خاصة لدى المرأة للمرض الجسماني أو النفساني ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار لإجراء الإجهاض، بالإضافة إلى ظروفها المعيشية أو أية ظروف أخرى من الجائز أن تؤثر في صحتها فتفضي إلى انهيار في صحتها الجسمانية أو النفسانية، وفي اليابان يباح الإجهاض بقصد حماية المرأة من الإرهاق الصحي أو العنت الاقتصادي، وفي بريطانيا قانون الإجهاض الجديد لعام 1967 على أنه عند تقرير مدى توقع الخطر على المرأة ينبغي النظر إلى البيئة التي تعيش فيها المرأة فعلا وإلى البيئة التي تعيش فيها في المستقبل المنظور. ومثل ذلك في جنوب أستراليا " 1970" وبالولايات المتحدة الأمريكية "1969"، كما أقرته الهند سنة "1971".(5/416)
الظروف الاجتماعية:
قد أخذت بها بعض الدول لإباحة الإجهاض، ولا سيما دول أوروبا الشرقية، وفي قوانين سنة 1970 في فنلندا والدنمارك وألمانيا الشرقية يسمح بالإجهاض إذا كان للمرأة أربعة أولاد وكانت الفترة بين ولادة وأخرى أقل من خمسة عشر شهرًا. وإذا وقع الحمل الحاضر بعد أقل من ستة أشهر منذ انتهاء الحمل السابق، أو إذا كانت الزوجة " وحدها أو مع زوجها" تقوم بشأن خمسة أولاد أو أكثر، وفي بلغاريا يجوز الإجهاض للمرأة التي لديها ثلاثة أولاد، وفي رومانيا يجوز الإجهاض في تشيكوسلوفاكيا لمن لديها ثلاثة أولاد أو أكثر، وفي الدنمارك يباح بدون إذن لمن لديها أربعة أولاد، وفي تونس " بقانون 1965" (1) يباح الإجهاض لمن لديها خمسة أطفال أحياء، وبدون تحديد عدد الأطفال بقانون 1973 (2) وثمة دوافع اجتماعية أخرى، ففي تشيكوسلوفاكيا يباح الإجهاض لوفاة الزوج أو عجزه أو بعده عن زوجته ووقوع مسؤولية العيال على كاهل المرأة وحدها والظروف الحرجة التي تجابه المرأة غير المتزوجة من جراء الحمل، وفي سنغافورة يعتبر الوضع الاقتصادي وحده مبررا للإجهاض.
وبعض الدول تبيح الإجهاض قبل سن معينة لأسباب إنسانية أو اجتماعية أو فوق سن معينة لأسباب طبية اجتماعية أو طبية جنينية. فهو مباح في ألمانيا الشرقية دون سن 16 وفوق 40 وفي فنلندا دون 17 وفوق 40، وفي تشيكوسلوفاكيا دون 16 وفوق 45، وفي الدنمارك فوق 38 أو إذا قضت لجنة طبية أن الحامل لم تبلغ من النضج الجسمي أو العقلي درجة تمكنها من رعاية المولود وتشترط بلغاريا موافقة الوالدين دون سن 16 وتبيحه إطلاقا فوق 45.
__________
(1) نص القانون رقم 65 – 24 بتاريخ 1/7/1965 يرخص في إنهاء الحمل خلال الثلاثة أشهر الأولى عندما يكون للزوجين خمسة أطفال أحياء كما يرخص فيه إن خشي في مواصلة الحمل تسبب في انهيار صحة الأم ويجب إجراؤه في تلك الحالتين في مؤسسة استشفائية أو مصحة مرخص فيها من طرف طبيب مباشر لمهنته بصفة قانونية.
(2) نص القانون 73 – 75 بتاريخ 19/11/1973: الفصل 214: يرخص في إنهاء الحمل خلال الثلاثة أشهر الأولى منه من طرف طبيب مباشر لمهنتة بصفة قانونية في مؤسسة استشفائية أو صحية أو في مصحة مرخص فيها، كما يرخص فيه بعد ثلاثة أشهر إن خشي في مواصلة الحمل تسبب انهيار صحة الأم أو توازنها العقلي أو كان يتوقع أن يصاب الوليد بمرض أو بآفة خطيرة وفي هذه الحالة يجب إنهاء الحمل كما أشير إليه بالفقرة السابقة، ويجب إجراؤه بعد استظهار لدى الطبيب الذي سيتولى ذلك بتقرير من الطبيب الذي يباشر المعالجة.(5/417)
والدكتور حتحوت في هذا العرض يشير إلى أن المطالبة بإباحة الإجهاض قد نجحت نجاحا في كثير من بلدان العالم ومع هذا مازالت بعض الدول تضع العراقيل في سبيل ذلك ومنها غالبية البلدان الإسلامية، فالإجهاض الذي يجري في هذه البلاد وأمثالها خلافا للقانون يعتبر إجهاضا إجراميا، أما الذي يجري لدواع طبية مشروعة وبإشراف طبيب مختص فهو الإجهاض الطبي. والاتجاه لا يزال نحو إزالة جميع العوائق حتى يكون للمرأة الحق في إجهاض نفسها عند الحاجة دون حرج، أو الإجهاض إطلاقا عند الطلب.
وتكلم الدكتور عبد الرحيم عمران عن الديموغرافية والإجهاض وانتشاره من الناحية التاريخية وخاصة في المرحلة الانتقالية وهي الانتقال من ارتفاع نسبة الوفيات والمواليد إلى مرحلة انخفاضها، فربط بين الحاجة إلى الإجهاض والحاجة إلى تخفيض عدد السكان وخاصة مع انتشار الوعي بضرورة تحديد حجم العائلة وتصغيرها بحيث تكون عائلة آحادية غير موسعة.
وقال: إنه يرى أن هناك أربعة اعتبارات أساسية يلزم ذكرها إزاء بحث رأي الإسلام في الإجهاض بروح عملية وهي:
1- الضغط السكاني الملزم. 2- التخطيط الواقعي.
3- مراعاة الجوانب الإنسانية. 4- المرونة الدينية في الإسلام.(5/418)
وذكر الدكتور عمران الظروف التي طرأت في المجتمع وأدت إلى ازدياد الوعي بالأخطار الناجمة عن الارتفاع الشديد في معدل المواليد، وقال: إن من العوامل في انخفاض نسبة المواليد وفي انتشار فكرة العائلة الصغيرة، الجهود الحثيثة التي تبذل لتنظيم الأسرة سواء أقامت بهذه الجهود مؤسسات أهلية طوعية أم حكومية، وسواء كانت على أساس محلي أو على أساس قومي، ورافق هذه الجهود القبول المتزايد لفكرة تحديد النسل في الأقطار الإسلامية، وذكر بشيء من التفصيل ظهور موجة الإجهاض في الأقطار الإسلامية بسبب العوامل المختلفة المؤدية إلى الوعي بضرورة تحديد حجم العائلة، إما بالوسائل الفعالة لمنع الحمل وإما باللجوء إلى الإجهاض.
وكان من نتيجة الضغط السكاني وإدراك عواقبة اتخاذ موقف تحرري من قوانين الإجهاض في معظم أنحاء العالم وفي الكثير من الدول الإسلامية. وكان الاتجاه على الوجه الأغلب نحو تنظيم الأسرة، ولا سيما نحو منع الحمل أولا قبل اللجوء إلى الإجهاض ولكن الدكتور عمران يرى أنه لا بد لنا من أن نقر " أن منع الحمل وحده لا يساعدنا على تحقيق انخفاضات سريعة في نسبة المواليد، أضف إلى ذلك أن نذر نفشي الإجهاض أخذت تبدو ماثلة للعيان في عدة أقطار إسلامية". كما ثبت في البيانات المتوافرة من الأقطار الإسلامية التي تشير بوضوح إلى أن الإجهاض أخذ يسري وينتشر، وقد أثبتت هذه الدراسات التي قدمت في مؤتمر الاتحاد الدولي لتنظيم الوالدية والذي انعقد في بيروت لمناقشة مشكلات الإجهاض (1) .
فقد أثبتت هذه الدراسات في معظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأن أكثر من ثلث الأمهات المتزوجات فوق الخامسة والثلاثين واللواتي اكتملت أسرهن قد مارسن الإجهاض غير القانوني، كما أثبتت هذه الدراسات بأن الإجهاض غير القانوني هو أكثر انتشار في المدن منه في الريف وزيادة ممارسته مع ارتفاع المستوى التعليمي للمرأة.
__________
(1) راجع دكتور عصام الناظر: الإجهاض العمد: خطر يهدد الصحة العامة " بيروت 1972".(5/419)
تعريف الجنين:
وهنا رأى المؤتمرون ضرورة تعريف الجنين عند بحث الإجهاض فوصف الدكتور حسان حتحوت نمو هذا الجنين منذ أن يصل الحيوان المنوي إلى البويضة ويلقحها في قناة فالوب فيكونان خلية واحدة، تحدث داخلها تغيرات تؤدي إلى قسمة الخلية إلى اثنين، ثم تتوالى الانقسامات بسرعة إلى أربع ثم ثمان ثم ست عشرة وهكذا وعندما يبلغ الجنين شهر الثالث يكون في الواقع إنسانا صغيرا ثم قال: إن الجنين في الإسلام إنسان له حق الحياة.
وتناول الدكتور محمد سلام مدكور ما قيل في تعريف الجنين فأورد الأقوال الفقهية في ذلك، ومنها أن النويري نقل عن بعض الحكماء أنهم أطلقوا اسم الجنين على ما بعد خلق الروح، ويؤيد ذلك ما قاله القرطبي عند تفسير قوله تعالى (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) " سورة النجم 32" إذ قال: " الجنين ما دام في البطن"، ويقول البستاني في دائرة المعارف: " الجنين هو الولد ما دام في البطن، ويكون أولا نطفة، ثم يصير علقة، ثم يصير مضغة، ثم جنينا". ويقول الدكتور نجيب محفوظ " في نهاية الشهر الرابع يطلق على العلقة اسم الجنين" وتقول الدكتورة أيدث سيرول في كتابها " جسم الإنسان" " ويسمى الجسم النامي في الرحم مضغة فيما بين الأسبوعين الثالث والثامن من حياته، ولكنه يسمى جنينا منذ الأسبوع الثامن إلى نهاية مدة الحمل" ومع هذا فبعض كتب الفقه تطلق الجنين على ما في الرحم من وقت العلوق، لكن الإمام المزني الشافعي ينقل عن الإمام الشافعي أن الاستعمال الحقيق للجنين يكون في ما بعد مرحلة المضغة، وينبني عليه أن استعماله في ما قبل هذه المرحلة من باب المجاز باعتبار أنه مقدمة للجنين الحقيقى. إذ قال الشافعي في الجنين: " أقل ما يكون به جنينا أن يفارق المضغة والعلقة حتى يتبين منه شيء من خلق آدمي.." وعلى هذا فإننا نرجح أن ما نقله ابن رشد عن الإمام مالك لا يعم أول الحمل وآخره، وإنما هو خاص بما بعد الأربعين عندما يسمى جنينًا".(5/420)
وأشار الدكتور عبد الرحيم عمران إلى الحديث النبوي الشريف المعروف بحديث الأربعينات عن مراحل تكون الجنين وهو " أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك". وهذا هو الأساس الذي يبنى عليه حساب المئة والعشرين يوما التي يشار إليها في المراجع الدينية باعتبارها المدة التي تسبق نفخ الروح، ومعني ذلك أن الإجهاض إذا حدث قبل نفخ الروح لا يكون قتلا أو وأدا، وإنما يكون القتل أو الوأد عندما يصير الجنين خلقا آخر – أي بعد مرور الجنين في التارات السبع التي أشار إليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: " لا يكون موؤودة حتى تمر على التارات السبع: تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون لحما، ثم تكون خلقا آخر". وهذا القول مأخوذ من القرآن الكريم من قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)) سُورَةُ المؤمنون " 12 – 14".
وللإجهاض تاريخ قديم فقد حرم أبقراط الإجهاض وحرم إعطاء الأدوية التي تسببه.
وذكر الدكتور محمود نجم أبادي أن الأطباء المسلمين المشهورين الذين بحثوا قضية الإجهاض في الماضي هم أبو بكر محمد بن زكريا الرازي وعلي بن عباس المجوسي وابن سينا والحسن بن محمد وابن البيطار المالقي والشيخ داود الأنطاكي، وقال " بأن غالبية الأطباء المسلمين يعتقدون أنه لابد من الحيلولة دون وصول ماء الرجل إلى الرحم إذا كان هناك خطر متوقع على حياة الأم، وعليه فلا بد من إخراج هذا الماء إذا وصل، وإن تعذر ذلك جرى إخراج الجنين من الرحم بوسائل ميكانيكية أو بغيرها من الوسائل المعروفة، كالأدوية التي كانت تستخدم لإخراج الجنين منذ الأزمنة القديمة ومازالت. وينبغي أن نذكر أن أغلبية الأطباء لم يقبلوا فكرة الإجهاض إلا بعد الاستشارة وأنه من الأفضل تبصير المرأة بالطرق التي يمكنها بها تجنب الحمل، ويؤكد الأهوازي أن قسم أبقراط يقضي بتحريم الإجهاض والأدوية التي تسببه تحريما مطلقا.(5/421)
ويضيف إلى ذلك أنه ينبغي أن لا تلجأ الحامل إلى الأدوية المؤدية إلى الإجهاض. أما الرازي فيقول: إن على الحوامل اللائي تتعرض صحتهن للخطر من جراء الحمل أن تدخل الواحدة منهن قطعة من الخشب في رحمها، وتبقيها مدة أسبوعين ولا بد من ربط طرف الخشبة التي تبقى خارج الرحم إلى فخذ المرأة إلى أن يبدأ نزيف الرحم ".
ويتبين أن الفقه الإسلامي عموما يقسم حياة الجنين قسمين (1) قبل نفخ الروح (2) بعد نفخ الروح، وذلك من حيث تحريم الإجهاض أو إباحته مع العلم بأن عددًا من أعضاء المؤتمر ذكروا استنادا إلى أقوال الفقهاء أن الإجهاض محرم على الإطلاق سواء قبل نفخ الروح أو بعده ما لم يكن خطر على حياة الأم أو لضرورة أخرى كاحتمال ولادة مشوة أو مريض ... والمحافظة على حياة الأم بالإجهاض تكون عند الخطر على حياتها اتباعا للقاعدة الفقهية: " إذا تضرر الأصل بالفرع وجب تقديم مصلحة الأصل على فرعه"، حتى إن البعض في المؤتمر كالشيخ أحمد سحنون والشيخ عبد الرحمن الخير والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهم قالوا بأن الإجهاض محرم قبل نفخ الروح وبعده ولا يجوز بحجة الانفجار السكاني، مالم يكن لإنقاذ حياة الأم فقط وليس لأسباب أخرى، وذهب الشيخ سحنون إلى القول بأن الإجهاض والتعقيم لا يقرهما الإسلام.
وكان السيد أحمد الغزالي وسطا بين الطرفين إذ يقول " إن الاعتبارات الطبية لا تقف عند حد صحة الأم بل قد تتجاوزها إلى حالتها النفسانية أيضا"، وذكر أن الإجهاض قبل الأسبوع السادس عشر أي قبل نفخ الروح جائز إذا توافرت الشروط التالية:(5/422)
1-إذا كان الحمل يعرض الأم لمرض نفساني يضر بصحتها.
2-عند احتمال ولادة الجنين مصابا بأمراض معينة.
3-إذا كان الحمل بسبب الاغتصاب أو بسبب اقتراف الزنا مع النساء المحارم.
4-إذا كان الحمل يمس سمعة المرأة المصابة بمرض نفساني.
5-إذا كان الحمل يدفع بالمرأة إلى الانتحار أو تعريض نفسها للهلاك.
وقد ناقش الشيخ محمد الحسيني بهشتي الفكرة التي يتبناها معظم الأطباء والاختصاصيين القائلة بأن الإجهاض لا يكون قتلا إلا بعد التخلق " خَلقا آخر" ولكنهم من وجهة علمية يريدون تحديد موعد معين لهذا التخلق حتى يقولوا: إن الإجهاض قبل هذا الموعد مباح، فأشار إلى هذه النقطة بنفسها، وأثار من جديد علاقة أطوار الجنين في نموه بدرجة العقوبة وتساءل " ما هي النفس المحرمة التي عد الإسلام قتلها من أكبر الكبائر؟ وهل يكون الجنين إنسانًا؟ ففي أي طور من هذه الأطوار اعتبر القرآن الجنين إنسانًا؟ حينما كان سلالة من طين أي قبل أن يكون جنينا؟ حينما صار نطفة في قرار مكين؟ حينما صارت النطفة علقة؟ حينما تبدلت العلقة مضغه؟ حينما ظهر فيها العظم؟ حينما تم ظهور العظام فيه فصار الجنين ذا عظام يكسوها اللحم؟ فمتى إذَنْ؟ وقال " الذي يظهر من الآيات التي تَلَوْنَاهَا أن الجنين يصير إنسانا حينما ينشئه الله خلقا آخر أي خلقا يمتاز به عن سائر الحيوانات فيكون إنسانا، وماذا يكتسب في هذا الطور؟ " ثم أورد قوله تعالى: (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) سورة السجدة [6-9] وقوله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) سورة الحجر [29] وقرر السيد بهشتي أن الإنسان لا يكون إنسانا بعد تسوية جسده في بطن الأم بل بعد نفخ الروح، والروح ليست الروح التي في النبات أو الحيوان وإنما هي روح تختص بالإنسان دون غيره، حتى إذا نفخت هذه الروح في الجنين أصبح الجنين خلقا آخر.(5/423)
أقوال الفقهاء: ملخص أحكام الإسلام في الإجهاض.
ثم عاد الدكتور محمد سلام مدكور وتوسع في الناحية الفقهية واستعرض أقوال المذاهب الإسلامية في الإجهاض وفي أطوار الجنين وقال: " إن الإجهاض متفق عليه بأنه محرم بعد نفخ الروح إلا لعذر أو لضرورة؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، وأما الإجهاض قبل نفخ الروح أي قبل تمام أربعة أشهر من الحمل ففيه اختلاف. من حيث الإباحة والكراهة والحرمة ومن حيث مقدار العقوبة المترتبة بحسب أطوار الجنين، " وحالة العذر لا ينبغي أن تكون موضوع خلاف أو جدل إلا في تقدير العذر المقتضي للإجهاض، وإذا مثل العذر حالة ضرورة فإن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الضرر الأكبر يدفع بالضرر الأدنى، والحكم يتبع أخف الضررين كما هي القاعدة الشرعية. وعلى هذا فإنه لو ترتب على بقاء الحمل هلاك الأم مثلا لا محالة، فإن الشرع الإسلامي يبيح الإجهاض، بل يوجبه محافظة على حياة الأم؛ لأن حياتها ثابته بيقين، وحياة الجنين محتملة، كما أن الأم هي الأصل والجنين فرع منها، والأصل مقدم على الفرع".
وحكم الإجهاض قبل نفخ الروح عند الحنفية يتفاوت بين مباح ومكروه، فقد نص الحصكفي الحنفي على أنه يباح للمرأة إسقاط الولد قبل أربعه أشهر ولو بغير إذن الزوج، وعلق على هذا ابن عابدين الفقيه الحنفي بما نقله عن كتاب " النهر" وعبارته " هل يباح الإسقاط بعد الحمل؟ نعم يباح ما لم يتخلق منه شيء، ولن يكون ذلك إلا بعد مائة وعشرين يومًا".
وعلق الدكتور مدكور على هذا بقوله: ويمكننا أن نقول: إن التخلق في قولهم " نعم يباح ما لم يتخلق" ليس هو نفخ الروح ولا بعد مائة وعشرين يوما، وإنما هو يكون في مدى نحو أربعين يوما من بدء الحمل، وهو عند وصول البويضة الملقحة إلى المرحلة التي عبر عنها القرآن بالمضغة في قول الله تعالى:
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) " سورة الحج 5 ".(5/424)
فمرحلة المضغة هي المرحلة التي يقع فيها التخلق، وقد يمتد ذلك التخلق حتى يصير في طور آخر، وعلى هذا نستطيع فهم هذا الرأي على أنه يبيح الإجهاض في الفترة قبل مضي أربعين يوما على الحمل.
ونقل ابن عابدين أيضا عن ابن وهبان الحنفي قوله: " إن وجود العذر يبيح الإجهاض من قبل أربعة أشهر كأن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاكه". ونقل عن " الذخيرة" أن المرأة إذا ألقت ما في بطنها قبل نفخ الروح فهو مكروه.
وأردف الدكتور مدكور بقوله: إن هناك قولا بأن الإجهاض قبل نهاية الشهر الرابع يباح مطلقا سواء وجد عذر أو لا، وأن منهم من اتجه إلى أنه مكروه من غير عذر، والكراهة كما هو معروف مرتبة دون مرتبة الحرمة.
وقصر هؤلاء الإباحة على حالة وجود عذر واعتبروا من الأعذار مجرد الشعور بالهزال والضعف عن تحمل أعباء الحمل.
أما المالكية فكانوا أكثر تشددا من الحنيفة في الإجهاض قبل نفخ الروح إذ أنهم منعوا الإجهاض ولو قبل الأربعين يوما على ما هو المعتمد في المذهب. وفي رأي آخر في المذهب أنه مكروه في هذه المدة، ولا خلاف عندهم في التحريم بعد نفخ الروح لغير عذر، وهذا ما نص عليه الدردير من فقهاء المالكية بقوله: " لا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم ولو قبل الأربعين يوما، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعا". ويقول الدسوقي تعليقا على الدردير: " ولو قبل الأربعين يوما". " هذا هو المعتمد". وقيل: يكره إخراجة قبل الأربعين.
وعلق الدكتور مدكور على ذلك بقوله: " وهذا يفيد أن مراد الدردير بعدم الجواز هو التحريم، كما يفيد النقل جميعه أنه ليس عند المالكية قول بإباحة إخراج الجنين قبل نفخ الروح فيه، وأضاف الدكتور مدكور قوله: ويلاحظ أن التعبير (المتكون في الرحم) يفيد أنه قبل تكون المني في الرحم واستقراره بالعلوق يجوز إخراجه. يدل على ذلك ما قاله القرطبي من فقهاء المالكية في كتابه " الجامع لأحكام القرآن": " إن النطفة لا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة قبل أن تستقر في الرحم، فهي كما لو كانت في صلب الرجل". وهذا صريح في أن للزوجة أن تخرج النطفة بأية وسيلة ما دامت لم تستقر ودون أن يترتب على ذلك إثم. أما قول ابن رشد الفقيه المالكي عن أن الإمام مالك استحسن الكفارة في إسقاط الجنين فيرجع صرف قوله باستحسان الكفارة إلى ما بعد نفخ الروح.(5/425)
أما الشافعية فقد اختلفوا في حكم الإسقاط ما لم يصل لحد نفخ الروح فيه والذي يتجه وفاقا لابن العماد وغيره الحرمة، على حد ما نقله البجيرمي الشافعي عن ابن حجر الشافعي، وفرق بين الإجهاض والعزل المباح بأن المني حال نزوله محض جماد ولم يتهيأ للحياة بوجه، على خلاف حاله بعد استقراره في الرحم وأخذه في مبادئ التخلق، وقال البجيرمي: إن مقتضى قول ابن حجر " والذي يتجه على الحرمة" أن بعض الشافعية يقول بعدم حرمة الإجهاض قبل نفخ الروح، كما استنتج من قوله (وأخذه في مبادئ التخلق) بأنه يفيد عدم الحرمة قبل الأربعين وأشار الشبراملسي بوجود هذا الخلاف عند الشافعية بقوله: " إنهم اختلفوا في جواز التسبب في إلقاء النطفة والعلقة بعد استقرارها في الرحم" وقال: " إن أبا اسحاق المروزي يُجَوِّزُ إلقاء النطفة والعلقة"، ونقل عن الغزالي أنه أورد في بحثه عن حكم العزل ما يدل على تحريمه وقال: " إنه الأوجه؛ لأنه بعد الاستقرار آيلة للتخلق"، ونقل الشبراملسي عن الغزالي أن الإجهاض قبل نفخ الروح لا يقال إنه خلاف الأولى، بل يحتمل الكراهة والتحريم أي الكراهة التنزيهية والتحريمية، ويقوى التحريم كلما قرب من زمن النفخ.
ثم نقل ما قاله الغزالي في " الإحياء" وعلق عليه بقوله: " والمرجح تحريمه بعد نفخ الروح فيه مطلقا، وجوازه قبله". ويرى الدكتور مدكور بعد هذا العرض للمذهب الشافعي أن من الشافعيه من يرى عدم حرمة الإجهاض قبل نفخ الروح أو قبل الربعين يوما من بدء الحمل، وأن بعضهم يرجح هذا الرأي. وقال: " وبهذا يتضح أن الشافعية يقتربون في مسلكهم الفقهي من مسلك الحنفية، كما يتضح أن المالكية لا يبعدون كثيرا من ذلك، خاصة بعد أن عرضنا ما استحسنه الإمام مالك".
ثم انتقل الدكتور مدكور إلى موقف الحنابلة فأورد قول ابن قدامة الحنبلي وعلق عليه بقوله: " إن العلقة لا يجب فيها شيء وإن المضغة غير المخلقة لا يجب فيها شيء أيضا، فكان الإجهاض على هذا غير محظور عندهم في هذه الفترة".
وفي المذهب الظاهري، كما جاء في كتاب " المحلى" لابن حزم، أن الإجهاض قبل نفخ الروح أو قبل مضي الأربعة الأشهر تلزم فيه الكفار والغرة والإجهاض بعد نفخ الروح ففيه القود أو الفداء.(5/426)
والزيدية، كما جاء في كتاب " البحر الزخار"، يرون أنه " إذا جاز العزل جاز تغيير النطفة والعلقة والمضغة إذ لا حرمة لجماد"، ومعنى ذلك أن الإسقاط جائز بعلتين: الأولى أن الإسقاط قبل نفخ الروح لا حرمة فيه؛ لأن الجنين يكون في حكم الجماد، والثانية أنه جائز قياسا على العزل.
وعند الشيعة الجعفرية والإباضية تحريم للإجهاض في أي طور.
وبعد هذا العرض للمذاهب الإسلامية خرج الدكتور محمد سلام مدكور بقوله: " ومن هذا العرض لحكم الإجهاض يتبين أنه محرم اتفاقا بعد نفخ الروح إلا لعذر يقتضيه، وأما قبل ذلك من غير عذر فقد اختلفت وجهات النظر. ويتردد الرأي بين الإباحة والكراهة والتحريم ويمكن أن نستخلص أن في المسألة أربعه أقوال:
1- الإباحة مطلقا دون توقف على عذر، وهو ما نقلناه عن الزيدية وبعض الحنفية وبعض الشافعية، وما استخلصناه من قول المالكية والحنابلة.
2-الإباحة عند وجود عذر، والكراهة عند انعدام العذر، وهو رأي بعض من الحنفية ومن الشافعية.
3-الكراهة مطلقا، وهو رأي لبعض المالكية.
4- التحريم وهو المعتمد عند المالكية، والمتفق مع مذهب الظاهرية، وما يفيده كلام الشيعه الجعفرية وصريح قول الإباضية، ثم أورد الدكتور مدكور رأيه الشخصي " ونحن نميل بالنسبة إلى ما قبل الأربعين – مرحلة التخلق – إلى القول الثاني من الاباحة لعذر ومن الكراهة لغير عذر. وأما بعد ذلك وقبل نهاية الشهر الرابع فنتجه إلى التحريم، أما بعد الشهر الرابع فهو بالاتفاق حرام بكل صور التحريم إلا لضرورة، ويعجبنا قول الغزالي في جعله الخطر بالنسبة للإجهاض على درجات " الإجهاض جناية على موجود حاصل، فأول مراتب الوجود دفع النطفة في الرحم فتختلط بماء المرأة فإفسادها جناية، فإن صارت علقة أو مضغه فالجناية أفحش، فإن نفخت الروح واستقرت الخلقة زادت الجناية تفاحشا فيقوى التحريم كلما قرب من زمن النفخ؛ لأنه جريمة".(5/427)
وفي هذا الموضوع أبدى الدكتور إبراهيم حقي رأيه بأن الحياة تدب في الجنين منذ التلقيح، وتسير البويضة الملقحة بعد ذلك من حال إلى حال، فالقضاء عليها إذن قتل للنفس وقال: إن الإجهاض مهما كانت الوسائل المتبعه فيه قد يؤدي إلى أضرار خفية أو شديدة أو مؤقتة أو دائمة، فهو إذن غير جائز شرعا إلا إذا شَكَّلَ الحمل خطرًا على حياة الحامل وعندما يكون اللجوء إليه جائزًا من باب " الضرورات تبيح المحظورات" وشاركه في رأيه عن بدء الحياة عند الجنين الشيخ محمد الحسينى بهشتي ولكنه فرق بين الحياة في نظر العلم والروح في نظر الدين فهو يقول: " وربما يقال: إن إجهاض الجنين قتل في جميع الأحوال؛ لأن العلم الحديث بَيَّنَ لنا أن للجنين حياة من أول الأمر".
ولكنه استدل على أن المقصود من الحياة التي يثبتها العلم الحديث للجنين شيء غير الروح التي يبين الشرع ولوجها في الجنين في الشهور الأخيرة وقال بناء على ذلك: " إن إجهاض الجنين قبل ولوج الروح الإنسانية فيه لا يكون قتلا للإنسان؛ لأن الجنين إنما يصير إنسانا في التبدل الأخير أي حينما تلج فيه الروح. وإن شئت أن تسمي الإجهاض قبل ولوج الروح قتلا فسمه قتل حيوان، ولا قتل إنسان بالفعل".
وهنا أشار الدكتور الشيخ أحمد الشرباصي على أن الجنين عند الفقهاء له حياتان: (1) حياة مستكنة و (2) حياة ظاهرة ثم ذكر السيد محمد النابلي أن هذه الحياة عند الفقهاء لها أطوار بحسب ما جاء في حديث الأربعينات، وفي بعض هذه الأطوار لا يكون فيها للجنين روح حتى إن علماء الطب يفرقون بين أطوار الجنين في الفترة الأولى إذ لا يسميه البعض جنينا إلا بعد مائة وعشرين يوما من الحمل، وتساءل هل الجنين قبل المائة والعشرين يوما مخلوق حي وله الحياة المعروفة عندنا حتى يكون إسقاطة جناية؟ وهل الفقهاء جميعا متفقون على أنه لا يجوز إسقاط الجنين في هذه الفترة؟ ورد على ذلك الدكتور حسان حتحوت بأن الطب لا يستطيع أن يميز الآن بين الأطوار التي جاءت في القرآن الكريم وفي حديث الأربعينات، وإذا سقط الجنين حيا فالحياة المقصودة هنا ليست الحياة الميكروسكوبية وإنما هي الحياة الظاهرة مثل النفس والحركة ونبضة القلب، ولكن بداية الإنسان هي التحام الحيوان المنوي بالبويضة، ووافق على هذا الرأي إجمالا الدكتور عبد الرحيم عمران حين قال: إن المسألة فيما يتعلق بالجنين مسألة وجود الروح والجسد معا أي وجود الحياة الإنسانية أو عدمها، ولكنه استدرك فقال: إنه في الواضح من حديث الأربعينات أن الحياة الإنسانية لا تكون إلا بعد 120 يوما، ومسألة دخول الروح متى تكون، وما هي الروح مسألة غيبية لا يمكن معرفتها بالمجهر، وإنما نؤمن بها إيمانا كليا كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله. وكما آمن بها الفقهاء فأباح بعضهم الإجهاض قبل 120 يوما. وقال: إن القتل هو إزهاق الروح وليس القضاء على حياة بيولوجية وإلا كان بتر عضو في عملية جراحية يعد قتلا أيضا.(5/428)
وقسم الشيخ مصطفى الزرقا الأشهر الأربعة الأولى إلى مرحلتين، وقال: " فإما أن يكون الجنين قد تخلق وظهر بعض الأعضاء فيه أو لم يظهر فيه عضو بعد فإذا لم يكن قد تخلق فيه بعض الأعضاء فمن الفقهاء من يرى إسقاطه كمنع الحمل من حيث الجواز بإذن الزوج؛ لأنه لم يكتسب شيئا من الصفات الإنسانية بعد، والرأي الفقهى الراجح أن إسقاطه بغير عذر مكروه، ومعنى المكروه أنه محظور دينا تحت رتبة الحرام ويوجب احتمال الإثم " الخطيئة"؛ لأنه جزء متهيئ لأن يصير إنسانا غير أنه لا يترتب على إسقاطه تبعات جزائية أو مدنية سوى المسؤولية الدينية إلا إذا كان الإسقاط دون إذن الزوج أو بعدوان من شخص أجنبي فإنه يستتبع تبعة جزائية بالتعزير، والتقرير عقوبة غير محدودة بل متروكة لرأي الحاكم يلاحظ فيها إحالة الشخص وقدر الكفاية لقمع أمثاله".
ولخص الدكتور عبد الرحيم عمران بعد ذلك نظرة الإسلام إلى الإجهاض على اعتبار أن هذه النظرة مرنة متسامحة – كما يتبين من القرآن الكريم والسنة – وإجماع العلماء.
القرآن الكريم:
لا يوجد في القرآن الكريم نص صريح يسمح بالإجهاض أو ينهى عنه غير أن ثمة آيات تفسر مراحل نمو الجنين استشهد بها بعض الصحابة في إثبات أن العزل ليس وأدا وهما الآيتان 13-14 من سورة المؤمنون عن أطوار تخلق الجنين. وهي الأطوار التي وصفها علي رضي الله عنه بقوله: " لا تكون موءودة حتى تمر على التارات السبع. تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون خلقا آخر". وقد يستفاد من هذه التحديدات أن الإجهاض إذا حدث قبل نفخ الروح لا يكون قتلا أو وأدا، وإنما يكون القتل أو الوأد عندما يصير الجنين خلقا آخر.
السنة:
في السنة حديث الأربعينات الذي يستفاد منه أن المدة التي تسبق نفخ الروح تقدر بأربعه أشهر أو 120 يوما، على اعتبار مراحل نمو الجنين الثلاث قبل نفخ الروح والحديث النبوي هذا هو " أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك".(5/429)
إجماع العلماء:
يوجد إجماع بين علماء الفقه الإسلامي على أنه إذا تعرضت حياة الأم للخطر بسبب الحمل جاز اللجوء إلى الإجهاض العمد بغض النظر عن المرحلة التي يكون فيها الحمل بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى زيادة الخطر على حياتها، وهذا معناه أنه إذا كان الخطر محققا وجرى الخيار بين إنقاذ حياة الأم أو إنقاذ حياة الجنين فإن علماء الفقه الإسلامي يختارون إنقاذ حياة الأم، وقد ورد هذا الحكم في الفتوى الصادرة عن الشيخ محمود شلتوت الذي قال: إنه إذا كان استمرار الحمل يعرض حياة الأم للخطر، وإذا كانت الطريقة الوحيدة لإنقاذ حياتها هي الإجهاض العمد فإنه يصبح من الملزم اللجوء إلى الإجهاض العمد؛ وذلك لأن حياة الأم مستقلة وهي أصل الجنين وركن الأسرة، وليس من المنطق التضحية بحياتها من أجل إنقاذ الجنين الذي يعتمد في حياته عليها".
وكان الشيخ عبد المجيد سليم أصدر سنة 1937 فتوى بهذا المعنى حين ذكر أن الإجهاض يسمح به للحفاظ على صحة الأم خلال أشهر الحمل الأولى، إذا كانت أعراض صحية تتطلب الإجهاض العمد، وإن لم تكن أعراض فالحكم يختلف باختلاف مذاهب الفقه الإسلامي، كما عرضها الدكتور محمد سلام مدكور في هذا الفصل وفي كتاب له عن تنظيم الأسرة من وجهة النظر الإسلامي (1) .
وقد ذكر سماحة الشيخ عبد الله القلقيلي المفتي العام للأردن في فتواه عام 1964 بأن إسقاط الحمل جائز قبل أن يتخلق الجنين أي قبل انقضاء مائة وعشرين يوما على بدء الحمل.
وأجمل الدكتور عبد الرحيم عمران موقف الإسلام من الإجهاض بقوله: " إن الإجهاض بعد الشهر الرابع لا خلاف في تحريمه إلا إنقاذا لحياة الأم. وأما قبل ذلك فالمسألة خلافية، ذا أن من علماء المسلمين من يرى أن الإجهاض خلال الأربعة الأشهر الأولى حلال، وبعضهم يراه مكروها، والبعض الآخر يراه حرامًا. ثم دعا إلى عمل كل ما في الوسع إلى تجنب الإجهاض وذلك باستعمال وسائل منع الحمل التي لا خلاف فيها".
__________
(1) راجع دكتور محمد سلام مدكور.(5/430)
تعريف الإجهاض:
نستلخص من مناقشات مؤتمر الرباط أن الإجهاض أو الإسقاط هو خروج متحصل الحمل في أي وقت من مدة الحمل، وقبل تكامل الأشهر الرحمية دون أن يعيش، وهذا يتفق مع التعبير الطبي، بأنه خروج الجنين الذي لا يستطيع أن يعيش خارج الرحم، ومن أجل تعميم تعريف واحد بين الأمم، لجأ الأخصائيون حديثا إلى تعريف الإجهاض بأنه خروج متحصل الحمل قبل الأسبوع العشرين، ومن الإجهاض ما هو عفوي أو تلقائي، ومنه ما هو عمد أو متعمد، وقد تركزت بحوث المؤتمر على الإجهاض العمد، كذلك يلزم التنويه بأن الفقه الإسلامي عامة يستعمل لفظ الإسقاط أكثر من لفظ الإجهاض، إلا علماء الشافعية، فيكثر استعمالهم للفظ الإجهاض، هذا ويقسم الفقه الإسلامي الإجهاض إلى طورين أساسيين الأول طور ما قبل نفخ الروح وقد يسمى كذلك مرحلة التخلق والتسوية، والثاني طور ما بعد نفخ الروح التي تبدأ بعد أربعه أشهر من الحمل أي 120 يوما استنادا إلى حديث الأربعينات.
وناقش المؤتمر مسألة الروح والحياة، فقال بعض الأعضاء: إنه يجب التفريق بين الحياة وبين الروح، فالحياة البيولوجية موجودة في الجنين منذ اللحظة الأولى، بل هي موجودة في الحيوان المنوي وفي البويضة قبل التلقيح، إذا فالروح شيء والحياة البيولوجية شيء آخر ومن الممكن أن يحيط علماء الطب بخواص الحياة البيولوجية ويرون آثارها تحت المجهر أو بالعين المجردة، أما الروح فهي فوق علم البشر، إذ خص الله نفسه بمعرفة كنهها إذ يقول تبارك وتعالى (وَيَسْأَلُوَنَك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) .
هذا وقد ركز الأعضاء الكثير من نقاشهم في رأيين؛ أولهما اعتبار الجنين قبل نفخ الروح جماد أي لا حياة فيه، رغم أن الحياة البيولوجية موجودة فيه قبل ذلك، والرأي الثاني هو اعتبارهم أن علامة نفخ الروح هي إحساس الأم بحركة الجنين وذلك بمصادفة أن يكون الإحساس بالحركة في أغلب الأحيان أواخر الشهر الرابع، أي وقت نفخ الروح، وقد أثبت الطب الحديث أن الحركة تدب في الجنين في الأسابيع الأولى وإن لم تحس بها الأم.
وانطلاقا من هذا برز رأيان رئيسيان أولهما يحرم الإجهاض في جميع مراحل الجنين استنادا إلى أن الحياة موجودة في الجنين منذ بدايته، وثانيهما الالتزام القائم على الإيمان الغيبي بآية التخلق وحديث الأربعينات وبالتالي قبول ما ذهب إليه الفقهاء في إباحة الإجهاض في مرحلة ما قبل نفخ الروح. ويتصل بهذا ما ذهب إليه الشيخ محمد الحسيني البهشتي من أنه رغم وجود الحياة البيولوجية عند الجنين منذ ابتدائه " وقد أسماها بالحياة الحيوانية" فإنه لا زال غير إنسان إلى أن تنفخ فيه الروح الإنسانية " وقد أسماها روح العقل" وهذا هو ما فسر به معني " خلقا آخر". ولا تتم إنسانية الإنسان حسب رأيه إلا أيام الأشهر الأخيرة من حياة الجنين داخل الرحم، وانطلاقا من هذا فقد اعتبر أن إجهاض الجنين بعد صيرورته إنسانا ذا روح في الرحم محرم، لكن إجهاضه قبل ذلك ليس محرما وإنما هو عدوان على الأب والأم أو أحدهما إذا لم يكن برضاهما.(5/431)
وهناك نقطة أخرى مهمة أثيرت في المؤتمر وهي إباحة الإجهاض صيانة لصحة الأم أو لتشوه الجنين نتيجة لأمراض وراثية أو نتيجة لتناول الحامل عقاقير طبية أو تعرضها لبعض الأمراض أثناء الحمل. وقد كان النقاش حول هذه النقطة مشحونا بالانفعالات وانتهى المؤتمر إلى رفض إباحة الإجهاض " صيانة لصحة الأم" وقصر إباحته " صيانة لحياتها" ثم قبوله " يأسا من حياة الجنين" كما هو مثبت في التقرير النهائي للمؤتمر" (1) .
الفصل الرابع
الإسلام والتعقيم
الإسلام والتعقيم
مقدمة
ناقش المؤتمر هذا الموضوع المهم الذي يتصل اتصالا وثيقا بتنظيم الأسرة وهو يهم المسلمين عامة وخاصة لزيادة الاهتمام به وممارسته في العالم كله، ففي حين أن الشائع هو أن التعقيم محرم في الإسلام فإن الملايين من المسلمين والمسلمات قد أجريت لهم عمليات تعقيم، ولذا كان لابد للمؤتمرين من مناقشة الجوانب التالية لموضوع التعقيم:
1-الفرق بين التعقيم والخصاء.
2-التعقيم والقدرة الجنسية
3-دواعي التعقيم.
4-حكم الشرع في التعقيم.
الإسلام والتعقيم
خلاصة بحوث ومناقشات مؤتمر الرباط
__________
(1) الإسلام وتنظيم الأسرة ج2 ص 519 - 520.(5/432)
التعقيم والخصاء:
عرف الشيخ خلف السيد علي والشيخ إبرهيم الدسوقي مرعي التعقيم بأنه اللجوء إلى معالجة أحد الزوجين أو كليهما معا علاجا يمنع الإنجاب نهائيا، وقد وافق على مجمل هذا التعريف غالبية أعضاء المؤتمر، أما الخصاء فهو خلاف التعقيم إذ يعني القضاء على قدرة الرجل الجنسية ومن ثم قدرته على الإنجاب. فالخصاء في الماضي تعبير يعود للرجل فقط بينما التعقيم يشمل الرجل والمرأة (ولقد نبه الكثير من المؤتمرين إلى الخلط الشائع في الأذهان بين التعقيم والخصاء) .
التعقيم وحكمه:
وفي هذا المضمار تحدث الدكتور محمد سلام مدكور فقسم التعقيم إلى مؤقت ودائم. فالتعقيم المؤقت لايمنعه الإسلام وهو وسيلة من وسائل تنظيم الأسرة المشروعة في الفقه الإسلامي، ومعناه إيقاف إنجاب الأولاد مؤقتا دون القضاء على القدرة على الإنجاب. ومن الوسائل وسيلة العزل التي وردت الأحاديث النبوية بجوازها ومن ذلك قول البيجرمي الفقيه الشافعي " يحرم استعمال ما يقطع الحمل من أصله، أما ما يبطئ الحمل ويؤخره دون أن يقطعه من أصله فلا يحرم بل إن كان لعذر كتربية ولد لم يكره أيضا" ويقرب من ذلك أو مثله ما جاء في كتب الحنفية والمالكية والحنابلة والزيدية والشيعة الجعرفية والأباضية. وقد فرق الشبراملسي الشافعي بين ما يمنع الحمل بالكلية وما يمنعه مؤقتا وقال بتحريم الأول واعتبر الثاني شبيها بالعزل في الإباحة. وصرح الرملي الشافعي في هذا المقام نقلا عن الزركشي بأن " استعمال ما يمنع الحمل قبل إنزال المني في حالة الجماع مثلا لا مانع منه"(5/433)
وعلق الدكتور محمد سلام مدكور على ذلك بقوله " ولا يعدو شيء من ذلك أن يكون تعقيما مؤقتا، فالحكم لا يختلف في هذا عنه فيما إذا وصل الطب إلى إجراء عمل يمنع الحمل مؤقتا كعقدة القناة الناقلة للبويضة وللحيوانات المنوية أو القناة الرحمية، بحيث يمكن إعادة الحال إلى ما كانت عليه عند الرغبة في الإنجاب". وأما التعقيم الدائم الذي يمنع أصل الصلاحية للإنجاب من غير وجود ضرورة تتطلبه فيقول عنه الدكتور مدكور " إننا لا نعلم فيه نصا من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه سلم، بل إن بعض النصوص توحي بمخالفة ذلك لمقاصد الشريعة الإسلامية من الزواج ولا يتفق مع الطبيعة البشرية التي أوجدها الله في كل من الذكر والأنثى من حب الأبوة والأمومة، وفضلا عن ذلك فإن الفقهاء السابقين نصوا على منعه وتحريمه". وعرف الدكتور مدكور التعقيم الدائم بأنه " معالجة الزوجين أو أحدهما معالجة تمنع الإنجاب نهائيا وتقطع الأمل في وقوعه" وقال إذا وجدنا مايدعو إليه من مرض نفسي أو عقلي أو جنسي وثبت طبيا أنه ينتقل بالوراثة القريبة أو البعيدة وأنه لا يزول بالعلاج مطلقا فإنه عندئذ يجوز التعقيم بل إنه يستطاع القول بأن قواعد الشريعة العامة تقتضي في مثل هذه الحالة أن يكون مطلوبا لا محظورا، منعا من وجود ذرية مشوهة ضعيفة تحيا حياة مليئة بالعقد والآلام النفسية وهذا ما أفتى به من قبل الشيخ محمود شتلوت إذ يقول " يباح منع الحمل دائما إذا كان بالزوجين أو أحدهما داء من شأنه أن ينتقل في الذرية والأحفاد، وإذا كان هذا ما يقلل النسل جزئيا ويحرم بعض الأفراد من الذرية فإن فيه درء مفسدة ودفع ضرر أكبر ألا هو إنتاج ذرية مصابة بأمراض خبيثة مستعصية، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح".
ويرى الدكتور مدكور إباحة التعقيم المؤقت لأنه لا يعدو أن يكون نوعا من وسائل تنظيم النسل المشروعة، ويرى أيضا إباحة التعقيم الدائم في حالات الضرورة الماسة لتحقيق مصلحة ودرء مفسدة فإذا لم يكن التعقيم لحالة ضرورة ماسة فهو محظور ويتنافى مع مقاصد الشرعية وقواعدها ويتعارض مع مصلحة الأفراد أنفسهم. وأشار بصورة خاصة إلى أن التعقيم الدائم بعد إنجاب عدد من الأولاد يتنافى مع أغراض الشارع ويتنافى مع مصلحة الأبوين نظرا إلى أن من المحتمل أن يموت بعض الأولاد أو جميعهم.(5/434)
دواعي التعقيم:
قدم الدكتور عبد الرحيم عمران والدكتورة خيرية عمران معلومات مفصلة عن استعمال التعقيم الطوعي في بلاد مختلفة كطريقة لتنظيم الأسرة والتخفيف من القطاع السكاني، من ذلك الهند فقد تم تعقيم ما يزيد على عشرة ملايين من الذكور والإناث، ومنها باكستان وتم فيها تعقيم ما يربو على المليون، ومنها أيضا الولايات المتحدة وإنكلترا واليابان وغيرها، ثم ذكرا أن العوامل الباعثة على التعقيم متنوعة، أهمها العوامل الطبية كوجود مرض وراثي أو كتعرض صحة المرأة أو حياتها للخطر الشديد إذا ما حملت مرات أخرى أو اختيار الزوجين التعقيم وسيلة لضبط التناسل بعد أن يكونا قد أنجبا العدد المرغوب فيه من الأولاد.
ثم ذكرا أن كثيرا من التردد في السماح بالتعقيم في البلاد الإسلامية يعود إلى الخلط بين التعقيم والخصاء، فإن الخصاء محرم في الإسلام والتعقيم من آخر يختلف تمام الاختلاف لأنه لا ينطوي في حالة النساء والرجال معا على استئصال أية غدة من الجهاز التناسلي كما هو الحال في الخصاء، والتعقيم نوعان: مؤقت ودائم، والتعقيم المؤقت ما هو إلا نوع من العزل الذي لا يثير النفس والأعصاب، أما التعقيم الدائم الذي أشار إليه الدكتور مدكور في بحثه فهو في رأى الدكتور عبد الرحيم والدكتورة خيرية شبيه بالعزل أو باستعمال وسائل منع الحمل التي سمح بها الإسلام، وقد سمح به كثير من العلماء الأجلاء ومن ذلك:
1- الشيخ أحمد إبراهيم وكيل كلية الحقوق في القاهرة وأستاذ الشريعة الإسلامية بها إذ كتب منذ أكثر من ربع قرن يقول: " لا أرى مانعا شرعيا من اتخاذ طريقة التعقيم أو اتخاذ المنع المؤقت تبعا لما تقضي به المصلحة بعد أن يتثبت كل التثبت من ضرورة ذلك".
2- كثير من علماء الشيعة في العراق ولبنان يسمحون بالتعقيم الدائم والمؤقت.(5/435)
3- في كتاب (فقة السنة) للشيخ سيد سابق ما يدل على وجود خلاف على التعقيم الدائم والإجهاض شبيه بالخلاف على العزل، فقد ورد في هذه الموسوعة الفقهية قول مؤلفها: " معالجة المرأة لإسقاط النطفة قبل نفخ الروح يتفرع جوازه وعدمه إلى الخلاف في العزل، فمن أجازه أجاز المعالجة ومن حرمه حرم هذا بالأولى، ويحق للمراة تعاطي ما يقطع الحبل من أصله". ثم قال الدكتور عمران أنه يوجد إجماع على ضرورة منع الحمل بتاتا في حالة داء خطير يمكن أن ينتقل إلى الذرية بل ان البعض يذهب إلى حق ولى الأمر في التفريق بين الزوجين إذا امتنعا عن استعمال وسائل منع الحمل (وأنجعها هو التعقيم الدائم) لأحد الزوجين. ثم قال إن الأوضاع السكانية في العالم الإسلامي تدعو إلى اللجوء إلى التعقيم المؤقت والدائم، وأهم هذه الأوضاع أن ثلث النساء المتزوجات يلدن خمس مرات أو أكثر وأن تعقيم تلك النساء ضروري من الوجهة الطبية لأنهن يتعرضن لأخطار كبيرة في حالة الحمل مرة أخرى.
ومن آراء الأطباء والمختصين بصورة عامة في المؤتمر تعليق الدكتور محمد صادق فودة عن التعقيم في باكستان والهند فقال " لقد تم إجراء حوالي عشرة ملايين عملية تعقيم في الهند وباكستان، ونحن نعلم أن الغالبية العظمى من سكان باكستان مسلمون: هل نحكم بأن هؤلاء كفروا؟ لا أظن ذلك." وكان رجال الدين من أعضاء المؤتمر منقسمين إلى فريق يحرم التعقيم المؤقت والدائم لأن التعقيم والإجهاض معناهما القتل كما قال الدكتور محمد مكي الناصري والشيخ أحمد سحنون وفريق أباح التعقيم المؤقت قياسا على العزل وحرم التعقيم الدائم وفريق ثالث أباح التعقيم إطلاقا.
ويذكر في هذه المناسبة بصورة خاصة ما قاله عضوا المؤتمر الشيخان خلف السيد علي وإبراهيم الدسوقي مرعي عن التعقيم وهو أن التعقيم " هو اللجوء إلى معالجة أحد الزوجيين أو كليهما معا علاجا يمنع الإنجاب نهائيا – فإنه أمر ممنوع ويحرمه الشرع إلا إذا وجد مايدعو إليه: كأن يكون بأحد الزوجين مرض نفسي أو عقلي أو جنسي، وثبت طبيا أنه ينتقل بالوراثة لا محالة. وأنه لا يزول بالعلاج لا محالة. فإن قواعد الشريعة تقضي في مثل هذه الحالة بأن يكون التعقيم مطلوبا منعا من إنجاب ذرية مريضة مشوهة تعاني الآلام محكوم عليها بالموت الأبدي بل أجاز الفقهاء إجابة الزوجة إلى طلب الفرقة بسبب وجود عاهة في الزوج كالجذام والبرص بعلة أن ذلك يتسبب عنه انتقال المرض إلى الذرية، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح". وقد أصدرت لجنة الفتوى في الأزهر " أن استعمال دواء لمنع الحمل أبدا حرام، إلا في حالات الضرورة بأن يكون بالزوجين أو بأحدهما داء من شأنه أن ينتقل إلى الذرية والأحفاد" (1) .
__________
(1) راجع فتوى لجنة الفتوى بالأزهر الشريف وملحق الكتاب.(5/436)
وتحدث الشيخ محمد شمس الدين عن حكم التعقيم بالعملية الجراحية وقال: " فهل يجوز للرجل (أو للمرأة برضا زوجها) أن يجرى أو تجرى عملية جراحية تقضي على إمكانية الحبل عند المرأة، أو تقضي على إمكانية الأحبال عند الرجل، مع بقاء القدرة على الممارسة الجنسية (الوطء) عند الرجل والمرأة على حالها؟ أو أن ذلك محرم شرعًا؟ ".
وأردف قائلا: " لدى مراجعة الأدلة الخاصة بهذا الموضوع لا نجد ما يمنع الزوج أو الزوجة من القيام بذلك. لأن حفظ إمكانية الاستيلاد ليس من الواجبات في الشريعة، وليس من حقوق الزوجة. وعلى هذا فيجوز شرعا إجراء عملية جراحية تقضي على إمكانية الحمل أو الإحمال مطلقا، سواء تمكن بعد ذلك من رفع المانع أو لم يتمكن". وقد أوضح الشيخ شمس الدين أن رأيه هذا هو حصيلة اجتهاد شخصي في مسألة التعقيم، وليس رأي المذهب الشيعي الإمامي. وذلك لأن مسألة التعقيم باعتبارها مطروحة حديثا، وباعتبار فتح باب الاجتهاد في المذهب، لم يتكون بعد موقف مذهبي حول هذه المسألة، ولا يمكن أن يتكون حولها رأي مذهبي إلا بعد أن يتناولها عدد كبير من المجتهدين، ويحدد كل واحد منهم رأيه منهم. وهذا مالم يحدث حتى الآن بالنسبة إلى مسألة التعقيم، لأنها طرحت منذ عقد قريب. ولذلك فقد طلب أن لا ينسب أحد رأيه الشخصي هذا إلى المذهب الشيعي الإمامي. وذكر الدكتور أحمد الشرباصي أن الفقيه الشيخ أحمد إبراهيم أجاز التعقيم في حالة وجود الأمراض المزمنة المعدية عند الوالدين ذلك في قوله: " أليس كل من الامتناع عن الزواج والعزل بعد المعاشرة والعلاج قبل وجود الأثر سواء في النتيجة؟ ولم يرد نص يعول عليه في تحريم شيء منها؟ وعلى هذا لا أرى في التعقيم أي مانع ديني لأنه عملية يراد بها دفع الوالد بمنع علته الموجبة لوجوده بحكم العادة، وليس في هذا جناية على شيء وجد ولا على نفس حية قد تهيأت للخروج إلى عالم الوجود، ولا على ما هو مهيأ لأن يكون نفسًا حية، لذلك الأمر واضح جدًا، لا ينبغي التوقف في إباحته وجوازه".(5/437)
ولكن الشيخ أحمد إبراهيم تحفظ وقال: " إنه ينبغي عدم الإقدام على التعقيم إلا بعد اليأس من أي وسيلة علاجية للقضاء على هذا المرض (المزمن المعدي) أو لمنع انتقاله إلى الذرية". ودعا الدكتور الشرباصي إلى بحث هذا الموضوع من جديد نظر لقيام أوضاع جديدة منذ سنة 1939 حينما قال الشيخ أحمد إبراهيم رأيه ذلك.
ويرى الشيخ عبد الرحمن الخير أن التعقيم نوعان (1) تعقيم يمنع القدرة عن الممارسة الجنسية وعن اللذة و (2) تعقيم لا يمنع ذلك كله، وقال إن التعقيم من النوع الثاني يشبه العزل فهو غير محرم، وإنما المحرم هو النوع الأول الشبيه بالخصاء.
وتحدث الشيخ سيد محمد الحسيني بهشتي عن التعقيم فقال: " أما التعقيم أي تعقيم الأب أو الأم بالأسلوب الطبي الحديث الذي لايضر بالباه ولا يؤدي إلى آثار مشقة في الوجه أو عقد نفسانية أو أضرار أخرى في النفس. فلم نجد بعد الفحص ما يدل على حرمتها إذا كان يرضي الزوجين، وفرق بين الاختصاء المحرم والتعقيم لا يضر بالباه ولا ينتهى إلى شيء من الأضرار الجسمية والروحية والاجتماعية التي تنجم عن الاختصاء"، وقال إنه " إذا لم يقم الدليل على الحرمة، فيبقى الأمر على أصل الإباحة، إذ كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه".
وعلق الدكتور سليمان حزين على الخلاف بين الفقهاء المجتمعين حول التعقيم فقال: " لا حظنا أن بعض فقهاء المسلمين يبيح التعقيم، وهناك شيء من الاختلاف بين باقي الأعضاء فبعضهم يبيح التعقيم المؤقت (الذي يمكن إزالته) . والعلم الآن هو في سبيل حل مشكلة إزالته. ومن الخير أن يعرف رأى المسلمين واضحا فيما إذا كان التعقيم المؤقت مقبولا أو لا. قد يكون حكم التعقيم المؤقت غير مختلف كثيرا عن وسائل منع الحمل. أما التعقيم الدائم فيرى فيه البعض استهانة بإنسانية الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة، وتعرضا لمشيئة الخالق الذي خلقنا لنكون وسيلة لاستمرار الحياة بالإنجاب. وأرجو أن يشتمل التقرير (تقرير المؤتمر) على جميع هذه النواحي دون أن يفضل إحداها على الأخرى، فقد يكون من المفيد أن لاينتهي مثل هذا المؤتمر إلى رأي قاطع في مثل هذه المسألة، وإنما يتركها لاجتهاد المسلمين فيما بعد في ضوء التقدم العلمي ".(5/438)
الإسلام والتعقيم
تحليل وتعليق:
لقد أصبح واضحا أن الاهتمام بالتعقيم في العالم كله عامة وفي العالم الإسلامي له ما يبرره وذلك بالنظر إلى تفاقم المشكلة السكانية في كثير من البلاد الإسلامية من ناحية، وبالنظر إلى اختيار الكثير من الأفراد لهذه الطريقة لضبط النسل بوصفهما أنجع وسيلة مأمونة وسليمة خصوصا إذا اكتفى الوالدان بما أنجبا من أولاد وهما في سن مبكرة. وقد اتضح جليا من مناقشات المؤتمر وأبحاثهم أن التعقيم ليس خصاء وأن الحكم في منع التعقيم ليس مطلقا كما كان شائعا عند عامة الناس.
وأجمع المؤتمر على أن التعقيم المؤقت مباح قياسا على العزل وأن التعقيم الدائم مباح أيضا لمبررات طبية.
أما التعقيم الدائم بقصد تنظيم النسل فقد اختلفت فيه آراء المؤتمرين بين محلل ومحرم، وذهبت الأغلبية من أهل الفقه إلى التحريم معتمدة على رأي مجمع البحوث الإسلامية (1) ، وهنا برز رأي شخصي لعالم ديني بارز وهو الشيخ محمد مهدي شمس الدين أجاز التعقيم الدائم بناء على أنه ليس هناك نص ديني صريح وقاطع يحرمه، ومعتمدا أيضا على أن حفظ إمكانية الإنجاب ليس من الواجبات في الشريعة.
وبالنظر إلى اختلاف آراء الفقهاء حول هذا الموضوع الحيوي فقد طلب الدكتور الشيخ أحمد الشرباصي بضرورة بحث الموضوع من جديد نظرا لقيام أوضاع جديدة منذ أصدر الشيخ أحمد إبراهيم فتواه عام 1936، " وهو وقت مبكر جدا إذ لم تكن الدعوة إلى تنظيم الأسرة قد أخذت الشكل الحاضر".
كما أيد مضمون هذا الرأي الدكتور سليمان حزين إذ طلب أن يترك الحكم في التعقيم الدائم مفتوحا لاجتهاد المسلمين فيما بعد في ضوء التقدم العلمي.
__________
(1) راجع ملاحق الكتاب.(5/439)
الفصل الخامس الملاحق
التقرير النهائي الذي أقره المؤتمر
فتاوى بعض علماء المسلمين
من مقررات وتوصيات مجمع البحوث الإسلامية
بيان حول السكان من رؤساء بعض الدول والحكومات
التقرير النهائي الذي أقره المؤتمر
أكد المؤتمر أن الإسلام وضع الأحكام الكفيلة بمواجهة جميع التغيرات الاجتماعية التي تتعرض لها الأسرة في المجتمع الحديث.
ونبه المؤتمر إلى ضرورة وضع دراسات علمية عن الأسرة، وإلى ضرورة معرفة الناس حكم الإسلام في ما يجد من أحوال وأحداث.
ويرى المؤتمر أن الإسلام قد أعطى المرأة من الحقوق ما يجب لها، وما لم يعطها غيره، وأن عمل المرأة في المجتمع أمر مشروع إذا احتاجت إليه أو احتاج إليه المجتمع المسلم، على أن تكون المرأة في عملها محافظة على دينها وعفتها وحشمتها، وألا يتعارض ذلك مع رسالتها الأساسية كزوجة وأم.
ويستنكر المؤتمر أن تستغل أنوثة المرأة في أي مجال من مجالات عملها.
وينبه المؤتمر إلى أن يكون زي المرأة محتشمًا حسب حكم الإسلام وينبه الرجل إلى ضرورة قيامه بما يتطلبه منه الإسلام في رعاية أولاده، وأن يلتزم بحكم الإسلام في سلوكه وأخلاقه.
وأكد المؤتمرون أنه بينما أباح الإسلام تعدد الزوجات، وضع القيود الكفيلة بعدم سوء استغلال مشروعيته والعبث به.
كما أكد المؤتمرون أن أمر الأسرة يهم الوالدين والمجتمع معًا؛ لأن الأسرة لبنة المجتمع الأولى.
اتفقت الآراء على ما يلي:-
1-إن الإسلام قواعد ومبادئ وأسسًا ثابتة لا تقبل التغير ولا التحوير؛ لأنها هي ركائز إصلاح الحياة البشرية والطريق المستقيم الذي ارتضاه خالق الخلق والعليم بما يصلحهم وما يفسدهم: كما أن فيه أحكامًا عامة ثابتة للحالات العادية، وأحكامًا خاصة لحالات الضرورة والظروف الاستثنائية.
2-إن نظر الإسلام إلى الوسائل غير نظره إلى الغايات، فالوسائل تقبل التغيير والتطور بحسب الأحوال والأزمان.
3- إن الإسلام نظام شامل لإصلاح الحياة العقلية والروحية والقانونية والاجتماعية يسود جميع شئون الحياة للفرد والجماعة.(5/440)
4-إن الإسلام فتح باب الاجتهاد للقادرين عليه استجابة للحاجات المتجددة بطريق القياس والاستحسان ومراعاة المصالح المرسلة والعرف وغيرها في نطاق الكتاب والسنة. وهو كفيل بأن يهيئ الحلول الإسلامية التي تتطلبها جميع قضايا المجتمع على اختلافها، خاصة وأن أحكام المعاملات معللة ومرتبطة بمصالح العباد، والحكم فيها يدور مع علته ثبوتًا وانتفاء، وبذلك تسير أحكام الوسائل في طريق الحفاظ على الغايات.
5-إن الأساس الأول لبناء الحياة الصالحة في نظر الإسلام هو العقيدة القائمة على الإيمان بوحدانية الله وتنزيهه، وأن المجتمع الإسلامي ينبني على مبادئ سلوكية وأخلاقية مقررة في الكتاب والسنة، منها: الإخوة والمودة بين المسلمين، والتكافل الاجتماعي والاقتصادي بينهم. وإقامة العدل، وسيادة قانون الشريعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمجيد العمل الصالح الذي يعود بالنفع على الفرد والجماعة، وحب الخير للبشرية جمعاء، والمسلمون مكلفون بالعمل على تحقيق أكبر قدر من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، باكتشاف طاقات الكون وكنوزه، واستخدام هذه الكنوز في تحسين حياة المسلمين، ومن الوسائل الأساسية لتحقيق ذلك: نشر التعليم مع التوعية والتربية الإسلامية. واعتبار الإنفاق في هذا السبيل استثمارًا ضروريًّا للتنمية في العالم الإسلامي كله.
وإن أي مسعى يبذل على أي صعيد في سبيل الخروج من حالة التخلف التي يعاني منها العالم الإسلامي يجب أن يكون في إطار الحفاظ على الشخصية الإسلامية الأصلية واتجه المؤتمر إلى أن تنظيم الأسرة هو قيام الزوجين بالتراضي بينهما وبدون إكراه باستخدام وسيلة مشروعة ومأمونة لتأجيل الحمل أو تعجيله بما يناسب ظروفها الصحية والاجتماعية والاقتصادية وذلك في نطاق المسئولية نحو أولادهما وأنفسهما وناقش المؤتمر مسألة التعقيم، فكان اتجاهه إلى الأخذ برأي مجمع البحوث الإسلامية (1) حول هذا الموضوع وهو أن استعمال الوسائل التي تؤدي إلى العقم لغير ضرورة شخصية، أمر لا تجوز ممارسته شرعًا للزوجين أو لغيرهما.
وفي أمر الإجهاض الذي هو إفراغ الحمل من الرحم بقصد التخلص منه، استعرض المؤتمر آراء فقهاء المسلمين، فتبين أنه حرام بعد الشهر الرابع إلا لضرورة ملحة صيانة لحياة الأم.
أما ما قبل ذلك فرغم وجود آراء فقهية متعددة فإن النظر الصحيح يتجه إلى منعه في أي دور من أدوار الحمل إلا للضرورة الشخصية القصوى صيانة لحياة الأم أو يأسًا من حياة الجنين، ولقد أحاط المؤتمر علمًا بما تزمعه جامعة الأزهر الشريف من إقامة المزيد من الدراسات العلمية في ميدان السكان في العالم الإسلامي بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة. وفي اضطلاع العلماء المسلمين بهذه المهمة، ملتزمين بشريعة الإسلام وأحكامها ما يعود بالنفع فعلًا على العالم الإسلامي.
__________
(1) نص قرار مجمع البحوث الإسلامية مثبت في ملاحق الكتاب (لجنة التحرير)(5/441)
فتاوى بعض علماء المسلمين
(حسب الترتيب الزمني لصدورها)
الشيخ عبد المجيد سليم (مصر) 25/1/1937
لجنة الفتوى بالأزهر الشريف (مصر) 10/3/1953
الحاج علي بن محمد سعيد صالح (سنغافورة) 25/4/1955
الشيخ محمود شلتوت (مصر) 1959
المجلس الاستشاري للشؤون الدينية (تركيا) 16/12/1960
الشيخ حسن مأمون (مصر) 22/8/1964
الشيخ عبد الله القلقيلي (الأردن) 6/11/1964
لجنة فتوى بقطاع غزة (الأردن) 1964
الشيخ بهاء الدين محلاتي (إيران) 12/11/1964
الحاج عبد الجليل بن الحاج حسن (ماليزيا) 21/11/1965
الشيخ يوسف بن علي الزواوي (ماليزيا) بدون تاريخ
رئيس المحكمة العليا للاستئناف (الجمهورية العربية اليمنية) 23/4/1968(5/442)
فتوى الشيخ عبد المجيد سليم
(1))
هذه صورة طبق الأصل من الفتوى الصادرة من حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، بتاريخ 12 ذي القعدة سنة 1355 هـ الموافق 25 يناير سنة 1937 م، سجل 43. ونصها كالآتي:
سأل سائل، قال: ما قول فضيلتكم في ما يأتي:
رجل متزوج رزق بولد واحد، ويخشى إن هو رزق بأولاد كثيرين أن يقع في حرج من عدم قدرته على تربية الأولاد والعناية بهم، أو أن تسوء صحته، فتضعف أعصابه عن تحمل واجباتهم ومتاعبهم، أو أن تسوء صحة زوجته لكثرة ما تحمل وتضع دون أن يمضي بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها وتسترد قوتها: فهل له أو لزوجته أن تتخذ بعض الوسائل التي يشير بها الأطباء لتجنب كثرة النسل، بحيث تطول الفترة بين الحمل والحمل، فتستريح الأم، ولا يرهق الوالد صحيًّا وماديًّا واجتماعيًّا؟
الجواب
اطلعنا على هذا السؤال، ونفيد بأن الذي يؤخذ من نصوص فقهاء الحنفية أنه يجوز أن تتخذ بعض الوسائل لمنع الحمل على الوجه المبين في السؤال، كإنزال الماء خارج محل المرأة، أو وضع المرأة شيئًا يسد فم رحمها لمنع وصول ماء الرجل إليه.
وأصل المذهب أنه لا يجوز لرجل أن ينزل خارج الفرج إلا بإذن زوجته، كما لا يجوز للمرأة أن تسد فم رحمها إلا بإذن الزوج، ولكن المتأخرين أجازوا للرجل أن ينزل خارج محل المرأة بدون إذنها إن خاف من الولد لسوء فساد الزمان. قال صاحب المقنع: (فليعتبر مثله من الأعذار مسقطًا لإذنها)
والظاهر من العبارة: (فليعتبر مثله من الأعذار) :كأن يكون الرجل في سفر بعيد، ويخاف على الولد. وقياسًا على ما قالوه، قال بعض المتأخرين: إنه يجوز للمرأة أن تسد فم رحمها بدون إذن الرجل (الزوج) إذا كان لها عذر في ذلك.
وجملة القول في هذا أنه يجوز لكل من الزوجين برضاء الآخر أن يتخذ من الوسائل ما يمنع وصول الماء إلى الرحم منعًا للتوالد: ويجوز على رأي المتأخرين من فقهاء الحنفية لكل من الزوجين أن يتخذ من الوسائل ما يمنع وصول الماء إلى الرحم بدون رضا الآخر، إذا كان له عذر من الأعذار التي قدمناها أو مثلها.
__________
(1) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، دار مطابع الشعب، ص 183(5/443)
بقي الكلام في أنه هل يجوز منع الحمل بإسقاط الماء من الرحم بعد استقراره فيه، وقبل نفخ الروح في الحمل؟ اختلف فقهاء الحنفية في ذلك، وظاهر كلامهم ترجيح القول بعدم جوازه إلا بعذر، كأن ينقطع لبن المرأة بعد ظهور الحمل وله ولد، وليس لأبيه ما يستأجر به الظئر (1) ، ويخاف هلاك الولد، أما بعد نفخ الروح في الحمل فلا يباح إسقاطه، وبما ذكرنا علم الجواب عن إسقاطه، وبما ذكرنا علم الجواب عن السؤال حيث كان الحال كما ذكر به، هذا ما ظهر لنا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فتوى لجنة الفتوى بالأزهر الشريف
(2)
السؤال:
رجل متزوج رزق بولد واحد، ويخشى إن هو رزق أولادًا كثيرين أن يقع في حرج من عدم قدرته على تربية الأولاد والعناية بهم، أو أن تسوء صحته بضعف أعصابه عن تحمل واجباتهم ومتاعبهم، أو أن تسوء صحة زوجته لكثرة ما تحمل وتضع دون أن يمضي بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها وتسترد قوتها، وتعوض ما فقدته من جسمها في تكوين حملها.
فهل له أو لزوجته أن يتخذا بعض الوسائل التي يشير بها الأطباء لتجنب كثرة النسل، بحيث تطول الفترة بين الحمل والحمل، فتستريح الأم وتسترد صحتها ولا يرهق الوالد صحيًّا أو ماديًّا أو اجتماعيًّا؟
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد. فقد اطلعت اللجنة على هذا السؤال، وتفيد بأن استعمال دواء لمنع الحمل مؤقتًا لا يحرم على رأي عند الشافعية، وبه تفتي اللجنة، لما فيه من التيسير على الناس ودفع الحرج ولا سيما إذا خيف من كثرة الحمل أو ضعف المرأة من الحمل المتتابع بدون أن يكون بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها المرأة، وتسترد صحتها، والله تعالى يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3) وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4)
وأما استعمال دواء لمنع الحمل أبدًا فهو حرام. وبهذا علم الجواب عن السؤال والله أعلم.
24 جمادى الثانية سنة 1372 هـ
10 مارس سنة 1955 م
__________
(1) الظئر: هي المرضعة لولد غيرها
(2) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، دار مطابع الشعب، ص 191
(3) سورة البقرة 185
(4) سورة الحج 78(5/444)
فتوى الشيخ محمود شلتوت
(1)
تحدث الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر السابق رحمه الله عن موضوع (النسل بين التحديد والتنظيم) في كتابه الفتاوى، وبعد أن قال: إن تحديد النسل بمعنى إصدار قانون عام يلزم الأمة كلها أن تقف بالنسل عند حد معين دون مراعاة للفروق بين الأفراد، شيء لا يمكن أن يقصده أحد ما، فضلًا عن أمة تريد لنفسها البقاء، وهو تفكير تأباه طبيعة الكون المستمرة في النمو، وتأباه حكمة الله تعالى، ذكر أنه يعتقد أن الذين يدعون إلى تحديد النسل لا يريدونه بهذا المعنى. ثم قال:
أما تحديد النسل بمعنى تنظيمه بالنسبة للسيدات اللاتي يسرع إليهن الحمل، وبالنسبة لذوي الأمراض المتنقلة، وبالنسبة للأفراد القلائل الذين تضعف أعصابهم عن مواجهة المسئوليات الكثيرة، ولا يجدون من حكوماتهم، أو من الموسرين من أمتهم، ما يقويهم على احتمال هذه المسئوليات، إن تنظيم النسل بشيء من هذا - وهو تنظيم فردي، لا يتعدى مجاله – شأن علاجي، تدفع به أضرار محققة ويكون به النسل القوي الصالح.
والتنظيم بهذا المعنى لا يجافي الطبيعة، ولا يأباه الوعي القومي، ولا تمنعه الشريعة إن لم تكن تطلبه وتحث عليه، فقد حدد القرآن مدة الرضاع بحولين كاملين، وحذر الرسول صلوات الله عليه أن يرضع الطفل من لبن الحامل، وهذا يقضي بإباحة العمل على وقف الحمل مدة الرضاع.
وإذا كانت الشريعة تتطلب كثرة قوية لا هزيلة. فهي تعمل على صيانة النسل من الضعف والهزال، وتعمل على دفع الضرر الذي يلحق بالإنسان في حياته. ومن قواعدها: الضرر مدفوع بقدر الإمكان.
ومن هنا قرر العلماء إباحة منع الحمل مؤقتًا بين الزوجين، أو دائمًا إن كان بهما أو بأحدهما داء من شأنه أن يتنقل بين الذرية والأحفاد.
(فتنظيم النسل بهذه الأسباب الخاصة التي من شأنها ألا تعم الأمة، بل ولا تكون فيها إلا بنسبة ضئيلة جدًّا، تنظيم تبيحه الشريعة، أو تحتمه على حسب قوة الضرر وضعفه، ولا أظن أن أحدًا يخالف فيه، فهو إذن محل اتفاق، وإذن ففيم الاختلاف؟ وعلام تختلف؟ اللهم إلا إذا كان مجرد الاختلاف والجدل شهوة ورغبة، وليس هذا شأن الباحثين والحريصين على خير أمتهم، وأخيرًا فاسمعوا أيها السادة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [سورة البقرة 208] .
__________
(1) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، دار مطابع الشعب، ص 179(5/445)
فتوى المجلس الاستشاري للشؤون الدينية
في تركيا بشأن تحديد النسل
(1)
تسلمنا الاستعلام من المديرية العامة للشؤون الصحية (رقم: 10456، تاريخ 13/12/60)
الذي يسأل عما إذا كانت تدابير تحديد النسل شرعية بالنسبة للدين الإسلامي أرسل إلينا هذا الاستعلام من قبل وزارة الصحة (رقم 35739، تاريخ 16/12/60) وقد بحث مجلسنا الموضوع.
بالرغم من أن العزل الذي يمكن اعتباره وسيلة لتحديد النسل، شجبه بعض من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعوهم من العلماء، وأجازه البعض الآخر كالإمام علي، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وأبي أيوب الأنصاري، وجابر، وابن عباس، وعروة بن الزبير، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وسار على هديهم من جاء بعدهم من العلماء. يمكن الذهاب في القول إلى أنه في حين أن موافقة المرأة هي شرط ضروري طبيعيًّا، إلا أنه إذا كانت التربية الملائمة للأولاد غير ممكنة بسبب الأوضاع الآتية، كأن تكون الدولة في حالة حرب أو اضطراب أو ظروف مشابهة، فإن هذا الشرط يبطل أيضًا.
لقد قررنا أن نقدم هذه النتائج إلى الوزارة، جوابًا على الاستعلام المذكور أعلاه.
__________
(1) فتوى بشأن تحديد النسل، المجلس الاستشاري للشؤون الدينية في تركيا، مرسوم كانون الأول 1960.(5/446)
فتوى الشيخ حسن مأمون
(1)
تحدث الإمام الأكبر الشيخ حسن مأمون شيخ الجامع الأزهر الشريف عن الإسلام وتنظيم الأسرة في جريدة " أخبار اليوم " الصادرة صباح 22 أغسطس سنة 1964 م. فقال:
رأي الإسلام في هذا الموضوع واضح وصريح، ولعل ما أثار في نفسك – وما يثير في نفوس الكثيرين – هذا التساؤل، ما هو مأثور عن الإسلام من أنه يدعو إلى التناسل والتكاثر ويحفز من استطاع الباءة (2) من الشباب أن يتزوج، ويدعو إلى أن يختار الرجل لنفسه الزوجة الولود الودود إلى غير ذلك مما قد يرى معه البعض أن هذا الرأي هو الإسلام، ولا رأي غيره.
على أنه يمكن لنا أن نتناول الموضوع من زاوية أخرى – وهي الزاوية الأساسية والرئيسية في بناء الحكم الشرعي غالبًا – تلك هي الحكمة التي يبنى عليها الحكم والمصلحة المشروعة التي يستهدف تحقيقها. وفي موضوعنا كانت الحكمة والمصلحة تقضيان بالدعوة إلى التناسل والتكاثر والحفز عليهما.
ذلك أن الإسلام في بدء أمره كان غريبًا في مجتمع الشرك الجاهلي، وكان أتباعه قلة ضعفاء وسط الكثرة الباغية المستعلية بما استأثرت به من مال وجاه، وكانت المصلحة تقضي بالدعوة إلى مضاعفة عدد المسلمين، ليواجهوا مسئولياتهم في الذود عن الدعوة الإسلامية، والدفاع عن دين الله الحنيف الذي يتهدده خصوم كثيرون أقوياء.
ولكننا الآن نجد أن الظروف قد اختلفت، ونجد أن تكاثف السكان في العالم كله بدأ يهدد بهبوط خطير في مستويات الحياة اللازمة للبشر، لدرجة حدت بكثير من المفكرين إلى تنظيم النسل في كل دولة، بحيث لا تعجز مواردها عن الوفاء بأسباب العيش الكريم لسكانها، وتقديم الخدمات العامة لهم.
والإسلام – وهو دين الفطرة – لم يكن في يوم من الأيام ضد مصلحة الإنسان، بل كان دائمًا سباقًا إلى تحقيق هذه المصلحة، ما لم تخالف شرع الله. وإني أرى أنه لا مانع شرعًا من النظر في تنظيم النسل، إذا كانت الحاجة تدعو إلى ذلك، وعلى أن يتم هذا باختيار الناس وإقناعهم، دون قهر أو قسر وفي ضوء ظروفهم على أن تكون الوسيلة إلى ذلك مشروعة.
__________
(1) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، ص 195.
(2) أي قدر على الزواج والقيام به وبتبعاته وواجباته.(5/447)
فتوى الشيخ عبد الله القلقيلي
المفتي العام في المملكة الأردنية الهاشمية
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد عظمت مخاوف العالم من تزايد عدد السكان في كل مكان، وصار الخبراء يعدون ذلك منذرًا بالويل والثبور وعظائم الأمور، ونظروا في وقاية العالم من شره المستطير، وبلائه الخطير، فوجدوا من أعظم ذلك تحديد النسل، لكنهم يعلمون أن اكثر الناس لا يقدمون عليه إلا إذا بين لهم حكم الدين فيه، ولذلك تطلع المسلمون إلى من يثقون به من علماء الدين، ليبينوا حكم الدين فيه، فتواردت علينا الأسئلة في هذه المسألة، ومن هذه الأسئلة ما هو من جهات رسمية، وهذه هي فتوانا فيه (1)
إنه من المعروف عن الشريعة الإسلامية السمحة أنها تساير الفطرة، وتجاري الطبيعة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (2)
وإن الفطرة التي فطر الله عليها الناس ومن سنن الطبيعة الزواج. وإنما المقصود من الزواج النسل، إذ به بقاء الأنواع، وقد أشارت الآية الكريمة إلى ذلك، وعدته من نعم الله على عباده، قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (3) . فلهذا كان الزواج من سنن الشريعة الإسلامية وكان النسل من مقاصدها المستحبة المرضية، بل إن الشارع قد تشوف إلى كثرة النسل، وذلك لما في كثرة العدد من القوة والهيبة، وأسباب المنعة والعزة، كما قال الشاعر:
بالأكثر فيهم حصى
وإنما العزة للكاثر
__________
(1) نشرت الفتوى لأول مرة في جريدة الدفاع 16/11/64 ثم وزعت في بيان صادر عن الإتحاد العالمي لتنظيم الوالدية في كانون الأول 1964م
(2) سورة الروم 30
(3) سورة النحل 72(5/448)
ولذلك ورد الحديث في الحث على تزوج المرأة الولود، ففي السنن عن النبي ((تزوجوا الولود الودود فإني مباه بكم الأمم)) . بيد أن الشارع قيد طلب النسل بالزواج، وتزوج الولود بالقدرة والسعة واليسر، وعدم العجز عن تحمل مؤونة الزواج، وضيق كسب الوالد عن الإنفاق على الولد، وأن لا يجد سعة لتعليمه وتأديبه، حتى يؤدي ذلك إلى إضاعته، وطلبه الرزق من وجوه غير مشروعة، وطرق دميمة مكروهة ممنوعة. فإذا خيف ذلك فإن الحكم يتغير طبقًا للقاعدة الشرعية: تتغير الأحكام بتغير الزمان. فإن هذا هو معناها. فيكون حكم طلب الزواج الذي هو من سنن الإسلام الحظر والمنع، وذلك إذا عجز طالب الزواج عن مؤونة الزواج. وهذا الحكم، وهو خطر الزواج ومنع الشارع منه، هو صريح الكتاب والسنة. فأما الكتاب فقوله عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} . (1) فإن هذه الآية الكريمة ظاهرة وصريحة في الاستعفاف والصبر عن الزواج، إلى حين القدرة عليه، وأما السنة، فما جاء في الحديث الصحيح: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) . فهذا الحديث مثل هذه الآية الكريمة في الأمر بترك الزواج ومن لم يستطع الباءة، وهي القدرة المالية، وهذه الآية وهذا الحديث يؤخذ منهما قطعًا أن تحديد النسل مشروع بطريق الأولى إذا كانت مصلحة العالم أو مصلحة الفرد في ذلك؛ لأنهما قد نهيا عن الزواج الذي في تركه قطع النسل حين العجز عن مؤونة الزواج: فيؤخذ من ذلك حكم تقليل النسل من باب أولى؛ لأن قطع النسل البتة أفحش من تقليل النسل. فلهذا نعجب ممن يستحب الترهب كيف يتردد في إجازة تحديد النسل؟ وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في إباحة طرق تحديد النسل عينًا، فمن ذلك ما في الصحيحين عن أبي سعيد قال: " أصبنا سبيًا فكنا نعزل، فسألنا رسول الله عن ذلك، فقال لنا: " وإنكم لتفعلون - قالها ثلاثا - ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة ".
وفي السنن عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي جارية، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل المؤودة الصغرى. قال كذبت اليهود. ولو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه. وفي الصحيحين: كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل، وفي الصحيح أيضا: كنا نعزل على عهد رسول الله فبلغه ذلك فلم ينهنا. ففي هذه الأحاديث الصحيحة والصريحة إجازة العزل الذي هو أحد طرق منع النسل أو تقليله حتى من غير عذر. وقد رويت الرخصة بذلك عن عدد من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعي وأحمد.
__________
(1) سورة النور 33(5/449)
وقد تفرع عن هذا القول بجواز أخذ الدواء لمنع الحمل، وإسقاط الجنين قبل أن تدب فيه الحياة. وقد قال بجواز ذلك الحنفية إذا كان لعذر، وقد ذكر هذا في كتبهم الفقهية، بل في المطوقات كما جاء في الوهبانية. ويكره أن تسقى لإسقاط حملها. وجاز لعذر حيث لا يتصور. وقد مثل الفقهاء العذر لإسقاط الحمل كما في ابن عابدين إذ قال: وكالمرضعة إذا ظهر بها الحمل وانقطع لبنها، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر، ويخاف هلاك الولد. وقد بين الفقهاء متى يجوز أخذ الدواء للإسقاط أنه ما دام الحمل مضغة أو علقة لم يخلق له عضو، وقدروا مدة ذلك بمائة وعشرين يومًا. وقد قالوا: إنه في هذه الأطوار لا يكون آدميًّا. وقد روي عن عمر وعلي ما يستفاد منه أنه (لا يكون إسقاط الحمل موؤودة حتى تمر عليه التارات السبع) وجاء في الموطأ: قال مالك: لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها. وقال الزرقاني على ذلك. (وأما الحرة فإن أذنت لم يحرم. قال في الفتح: وينتزع من حكم العزل، حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح، فمن قال بالمنع ففي هذه أولى. ومن قال بالجواز، فيمكن أن يلتحق بهذا) ثم قال الزرقاني: (ويلتحق به تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله) .
فترى من هذا أن المتفق عليه بين الأئمة جواز العزل وهو من طرق منع الحمل.
وقد أخذ العلماء من هذا جواز أخذ الدواء لمنع الحمل، بل أخذ الدواء لإسقاط الحمل ونحن نفتي بجواز تحديد النسل مطمئنين. وقد ذكرنا من الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله ما يقطع ريب المستريبين، وإذا قررت الحكومة هذا فإن العمل به يكون لازمًا؛ لأن من المتفق عليه أن أولى الأمر إذ أخذ بقول ضعيف يكون الأخذ به حتمًا. وقد أفتينا بهذا منذ بضع عشرة عامًا قبل أن نلي الإفتاء وطبعت فتوانا في المجموع الأول فتاوينا، ثم سئلنا عنه غير مرة، فأفتينا به ونشرت فتاوينا في هدي الإسلام، والله ولي التوفيق.(5/450)
فتوى لجنة الفتوى بقطاع غزة
(1)
جاء سؤال عن حكم منع الحمل إلى لجنة الفتوى في قطاع غزة من أرض فلسطين، فأجابت عنه بالجواب التالي المنشور في مجلة نور اليقين، عدد رمضان سنة 1384هـ.
وهذا نص الجواب:
(إن الدين دعا إلى التناكح، وبين السبب في ذلك وهو كثرة التناسل، وذلك لعبادة الله وعمارة الأرض، واستخراج كنوزها والانتفاع بما فيها، ولحماية الوطن والدفاع عنه، ولبث الفضائل في الكون. . . إلخ. والله سبحانه وتعالى قد ضمن الرزق لعباده، وقدر في الأرض أقواتها {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} (2) {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) } (3) {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (4)
ولهذا حارب الإسلام ما كانت تفعله الجاهلية من قتل الأبناء بنات وبنين، خشية العار أو الفقر: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (5) وفي الأخرى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} . (6)
وبعد هذا فالمرأة إذا كانت صحيحة قوية وقادرة وغنية، ولا يوجد أي سبب لمنع الحمل فلا يجوز منعه؛ لأنه يتنافي مع ما دعا إليه الدين مما سبق بيانه وتوضيحه، كما لا يجوز بحال من الأحوال إسقاط الجنين بعد تخلقه، ويعتبر فعله قتلًا للنفس التي حرم الله إلا بالحق، وفاعله مرتكبًا للكبيرة التي يستحق بسببها العقوبة في الدارين، إن لم يتب إلى الله عز وجل.
__________
(1) الدكتور أحمد الشرباصي، الدين وتنظيم الأسرة، دار مطابع الشعب ص 199
(2) سورة فصلت 10
(3) سورة الذاريات الآية: 22،23
(4) سورة هود 6
(5) سورة الإسراء 31
(6) سورة الأنعام 151(5/451)
هذا ولزيادة الإيضاح للسائل الكريم نبين له أنه يجوز تعاطي الدواء لمنع الحمل لأسباب، وذلك لتنظيم النسل، وإيجاد المواطن الصالح، ومن ذلك: " لا ضرر ولا ضرار"، وأيضًا:
"الضرر مدفوع بقدر الإمكان " ومن تحديد القرآن الكريم للرضاع بعامين: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (1) ومن تحذير الرسول عليه صلوات الله وسلامه من إرضاع الطفل من لبن الحامل.
وبهذا. فالقرآن والسنة يوضحان للإنسان تنظيم عملية النسل، وذلك بإيقاف عملية الحمل وقت الرضاع. كما أن الشريعة تحرص على سعادة الإنسان وعزته وكرامته، كما تدعوه إلى القوة المحققة للعمل المنتج الذي دعا إليه الدين: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (2) . وهذا لا يتأتى إلا بالنسل المنظم السليم في جسمه وعقله، والكامل في صحته، والخالي من الأمراض الجسمية والنفسية.
وهذا لا يتحقق إلا إذا كان الأبوان قادرين على التربية والتغذية والتعليم والتنشئة الصالحة، وهذا لا يتوافر لكل الناس، ولا يوجد عند جميع الناس.
ومن هنا يجوز تعاطي الدواء لمنع الحمل إذا كان الأبوان أو أحدهما مريضًا؛ لأن المرض ينتقل للذرية، أو كانا فقيرين ولا يستطيعان تحمل المسئولية ولا يجدان من يتحملها من المسئولين الموسرين أو الحكومة، أو كان معهما من الذرية ما فيه الكفاية وما زاد يرهقهما ويتعب أعصابهما أو يكلفهما ما لا يطيقان، أو كان معهما من الذرية ما فيه الكفاية، وترى الزوجة أنها لو حملت بعد هذا لذهب جمالها ونالها من الإرهاق ما يجعلها منغصة في حياتها، أو كانت الكثرة تسبب لها مرضا أو إهمالًا في التربية، أو كان الزوج أنانيًّا يرغب في الجمع بين النساء لمتعته. وبالأولاد لا يتحقق ذلك الغرض، والمرأة مع العدد الكثير من البنين لا ترضيه ولا تحقق رغبته، وبهذا تتسبب له في الزواج بغيرها. أو لغير ذلك من الأسباب المنغصة بسبب كثرة الحمل والوضع.
__________
(1) سورة البقرة 233
(2) سورة التوبة: 105(5/452)
ولهذا يجوز تعاطي الدواء لمنع الحمل، ويكون من الخير فعله لو وجدت لديه هذه الأسباب، وهذا طبعًا لا يشمل الكل بل البعض؛ لأن هذه الأسباب لا توجد إلا في القليل من الناس، ويعجبنا ما عليه الأجانب في تنظيم النسل وتحديده، وقد سارت الآن في هذا الطريق الطبقة المثقفة القادرة. أما من يجوز لهم المنع فعملوا على عكس المطلوب، فنجد الفقير أو المريض بالشهوة هو الذي يكثر من النسل ويحرص عليه، ويكثر من الزوجات لهذا الغرض، ولا يهمه إلا أن يكون له العديد من الأولاد، سواء كانوا صالحين أو مفسدين في الأرض، ولا شيء تسعد به الحياة كاتباع ما جاء به الدين، فحبذا لو تبصرناه وسلكناه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ".
فتوى سماحة آية الله الحاج الشيخ
بهاء الدين محلاتي (1)
شرعية منع الحمل
سؤال:
هل توافقون، أو هل من المشروع دينا أن يصف الطبيب، بصورة مؤقتة، أدوية أو وسائل تمنع الحمل، للحيلولة دون التكاثر الإنساني المفرط؟
جواب:
باسم الله: من وجهة نظر الشريعة السماوية، لا يبدو أن استعمال الأدوية أو وسائل منع الحمل، خاصة بصورة مؤقتة لضبط الخصب الإنساني، عمل غير شرعي، إذا كان لا يقود إلى الإضرار بخصب الأنثى فيجعلها عاقرًا.
__________
(1) بهاء الدين محلاتي. إجابة عن سؤال للدكتور محمد الصرام بكتاب مؤرخ في 12 تشرين الثاني 1964م(5/453)
فتوى الحاج عبد الجليل بن الحاج حسن
المفتي المساعد، جوهور، ماليزيا (1)
خلاصة أحكام تحديد النسل والشريعة الإسلامية
إن تحديد النسل باستعمال العقاقير أو وسائل منع الحمل مباح إذا كان ذلك لا يسبب العقم الدائم.
التعقيم باستعمال العقاقير أو وسائل منع الحمل محرم، إلا في الحالات التي تؤكد فيها شهادة يمكن الحصول عليها من طبيبين، أن حملًا آخر سوف يكون خطرًا، أو يمكن أن يسبب الوفاة.
__________
(1) الحاج عبد الجليل بن الحاج حسن، تقرير من مكتب المفتي في جوهر مؤرخ في 21 تشرين الثاني 1965 م، نسخة صادرة عن الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية(5/454)
فتوى الشيخ يوسف بن علي الزواوي (1)
مفتي ترنغانو، ماليزيا
أحكام تحديد النسل
بسم الله الرحمن الرحيم
إن تأليف الجماعات والجمعيات في سبيل تنظيم الأسرة عمل تفرضه شرائع الدين الإسلامي على المسلمين. لقد فكر المسلمون مليًّا في الماضي والحاضر بهذا الموضوع. وكانت كتب الحديث والاجتهادات في جميع المذاهب موضع جدل دون الوصول إلى نتيجة حاسمة. وفي زمان الصحابة كان فعل منع الحمل يسمى بالعزل " الذي يعني منع منيِّ الذكر من دخول رحم الأنثى. وقد سئل النبي عن رأيه في طبيعة هذا العمل فكان جوابه: "ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة" قالها ثلاثا. ويفهم من هذا القول أن النبي لم يحرم ممارسة منع الحمل، غير أنه نصح الصحابة بأن لا ينغمسوا فيه كعادة.
لقد تساءل الفقهاء المسلمون في تأملاتهم حول وضع الأولاد إذا كان الولد ملكًا لوالديه حقا أو لواحد منهما فقط، أو في ما إذا كان حقا ملكا للوالدين وللمجتمع عموما. وتختلف الآرء بالنسبة للأزمنة والأوضاع. والإسلام دين يحث معتنقيه نحو الوحدة، سواء كان ذلك في المعتقد أو الاقتصاد أو الصحة. ولا تخالف تعاليم الإسلام علم الطب على الإطلاق في ما يختص بالقوانين الصحية.
على هذا يجمع الفقهاء المسلمون عمومًا.
والقرآن الكريم نفسه، كثيرًا ما يحدد أمورًا تتعلق بالصحة والسلامة الجسدية، كما يقول تعالى، {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (2) الذي تعني أن الوالدات اللواتي يرغبن في إرضاع أطفالهن من الثدي يفعلن ذلك عادة لمدة تقارب السنتين. ويحث القرآن الأمهات على إرضاع أطفالهن من الثدي؛ لأن حليب الأم كما أثبت علم الطب، يحتوي على جميع العناصر الغذائية اللازمة لتغذية طفلها وإعطائه القوة. وتقع على الآباء مسؤولية ما هو على قدر استطاعته. فلا تضرن أم بولدها أو أب بولده. يجب أن يفهم من هذا الحكم أن على الأم المرضع أن تأخذ الاحتياط كي لا تحمل من جديد؛ لأن ذلك يضر بالرضيع. ونرى من هذا الحكم كذلك أن القرآن يشجع دون ريب على ممارسة تنظيم الأسرة.
__________
(1) الشيخ يوسف بن الزواوي، أحكام تحديد النسل، مطبوع على الآلة الكاتبة (بدون تاريخ)
(2) سورة البقرة: 233(5/455)
روت أسماء بنت يزيد بن السكن أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإنه ليلقي الفارس قيد عثرة)) وهو يعني: لا تقتلوا أبنائكم سرًّا لأن "الغيل" (مجامعة المرضع) وهو كالفارس الذي يجندل في المعركة من فوق فرسه. وهذا ما يبين أن الجنين المتكون في رحم أمه وهي ترضع طفلًا آخر، يكون ضعيف البنية.
لقد استخلص الفقهاء أن تحديد النسل " مكروه "؛ لأنهم يرون أن الأولاد ملك للجماعة ككل. وبنوا خلاصتهم هذه على كلام سيدنا أبي بكر وعمر وابن مسعود أن تحديد النسل سوف يسبب تناقص الذرية. وبالنسبة للأزواج والزوجات، فقد حكم بأنه لا يجوز للرجل أن يحول دون دخول منيه إلى رحم الزوجة من غير موافقتها إلا إذا كانت هنالك أسباب إلزامية تتناسب مع أحكام الشرائع الإسلامية وتأتي الأمثلة على إباحة الجماع الناقص عندما يكون الزوجان يعيشان في بلد يحارب في سبيل الله حيث إن الحمل مضافًا إلى مصاعب الانتقال والحرب، يمكن أن يزيد من إضعاف المرأة، فيحرمها من الراحة والوقاية الصحية اللازمين. بين الذين يتفقون مع هذا الرأي، الشيخ موفق الدين ابن قدامة الحنبلي الذي توفي في العام 630هـ. وفي رأي الإمام النووي (توفي عام 676 للهجرة) المدون في كتابه شرح صحيح مسلم ما خلاصته: أن فعل العزل، أو منع مني الذكر من دخول رحم الأنثى مرفوض على كل صعيد بصرف النظر عن موافقة الزوجة؛ لأنه يعني قطع الجيل القادم، وهذا ما سماه قول الرسول بالوأد الخفي. إنه يقضي على الحياة تمامًا، كقتل الطفل بدفنه حيًّا.(5/456)
بالاختصار، إني أميل نحو رؤية ثلاثة وجوه لهذا المسألة:
1-إذا كان منع الحمل ضروريا لأسباب صحية، سواء صحة الزوجة أو الزوج أو الجنين المفروض، فإنه ليس هنالك أي قوانين دينية تعارضه إطلاقًا، كما جاء في الآية {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (سورة البقرة 233) ويعني هذا أيضًا أنه يطبق في فترة معينة ومحدودة من الزمن وفي حالات خاصة.
2-يختلف تفكير رجال الفقه حول الحمل، في ما إذا كان الجماع الناقص مقبولًا قبل تكون الحياة في الجنين نفسه (يتم هذا في الشهر الرابع للحمل) .
غير أنهم مجمعون على تحريمه بعد انقضاء أربعة أشهر. وإذا قذف الولد نتيجة إجهاض اختياري فإن على المسؤولين عن العمل – الأطباء، والقابلات. . . إلخ- أن يدفعوا الدية للوالدين إن خرج الجنين حيا، وإذا كان ميتًا فعليهم أن يدفعوا ثمن عبد للوالدين. أما الوالدان اللذان وافقا على الإجهاض، فيدفعان غرامة للسلطات الدينية.
3-يحرم منع الحمل الكلي أو التعقيم بدون أسباب يقرها الدين، حتى ولو كان اختياريا، تحريمًا تاما.
يتبين من الشرح أعلاه، أي أهمية يوليها الإسلام لموضوع تنظيم الأسرة فعلى الهيئات والجمعيات التي تتألف حول هذا الموضوع أن تعمل وفقًا لما تسمح به شرائع الإسلام كما جاء شرحها في الفتوى التي أعطاها سماحة الشيخ عبد الفتاح العناني.
إن تحديد النسل دون مبرر صحي، أو لمجرد الحفاظ على جمال الصورة، أو كوسيلة للتهرب من مسؤولية إنجاب الأولاد يعتبر محرما بالإجماع.(5/457)
وعلى المسلم أن لا يرضى بهذه الممارسة. لقد أشار الله تعالى إلى نعمته علينا كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [سورة النحل: 72] الذي يعني أن الله خلقكم وأعطاكم زوجاتكم والنسل والذرية منهن، وفوق هذا منحكم من الطيبات.
في الواقع إن تحديد النسل الذي يمارس بسبب الفقر ومن دون مبرر صحي، غير مقبول في شرائع الإسلام، إذ يطلب الإسلام من الحكومة والمجتمع أن يسهرا على تكاثر أعضائهما لكي يصبح المجتمع قويًّا منيعًا عزيزًا في نظر الأمم الأخرى.
وبالاختصار، إن حكم الشرائع الدينية في هذا الموضوع يتوقف كثيرًا على وضع كل من الزوج والزوجة. لذلك فإني أقترح بشدة أن تنتخب الحكومة هيئة من الأفراد المسؤولين حقًّا، المؤمنين بالله للتأكد من أن أهداف هذه الجمعيات تنفذ بإخلاص لصالح الأمة التي هي بأمس الحاجة إلى ذرية صالحة تتسلم مسؤوليات المستقبل. إن هيئة كهذه من نساء ورجال متجردين تضمن أن تعمل الجمعيات بانضباط داخلي، وبانسجام مع أدق شرائع الإسلام.
فمن أغراض جمعيات كهذه، أن تسدي النصح الحكيم والدقيق للأزواج والزوجات لكي يتمكنوا من الحفاظ على الانسجام العائلي وعلى صحة الأسرة، إنه لمشروع قيم حقًّا وهو جدير بأن يعطى كل تشجيع ممكن.(5/458)
فتوى رئيس المحكمة العليا الاستئنافية
الجمهورية العربية اليمنية
سؤال:
السيد رئيس المحكمة العليا الاستئنافية.
تحية طيبة وبعد:
فأرجو إفتاءنا في امرأة متزوجة ولديها عدة أولاد. ولجهلها للوسائل الحديثة لمنع الحمل أصبحت حاملًا الآن وتطلب إجهاضها طبيًّا.
فهل تجيز قوانيننا عملية الإجهاض، علمًا بأن ذلك برضاها ورضى زوجها.
نرجو الإفتاء سريعًا، ومفصلًا ليكون منا العمل به.
جواب:
الشريعة المطهرة لا تمنع من ذلك مع رضاء الزوج وبشرط ألا تكون الروح قد نفخت في الجنين. وقد قررت الشريعة أن الروح تنفخ في الطفل من أول الشهر الخامس والله الموفق. 23/ المحرم/ 1388 هـ.(5/459)
من مقررات وتوصيات مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة
المؤتمر الأول سنة 1964
1-تشخيص مواطن الضعف في المجتمعات الإسلامية والعمل على علاجها.
2-العمل على إصدار الفتاوى والأحكام المستمدة من أصول الإسلام وتعاليمه في المشكلات التي جدت وتجد في حياة المسلمين حتى تسير نهضتم على هدى من دينهم الحنيف.
3-إن الكتاب الكريم والسنة النبوية هما المصدران الأساسيان في الأحكام الشرعية. وإن الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية منها حق لكل من استكمل شروط الاجتهاد المقررة. وكان اجتهاده في محل الاجتهاد.
4-السبيل لمراعاة المصالح، ومواجهة الحوادث المتجددة، هي أن يتخير من أحكام المذاهب الفقهية ما يفي بذلك. فإن لم يكن في أحكامها ما يفي فالاجتهاد الجماعي المذهبي. فإن لم يف كان الاجتهاد الجماعي المطلق.
المؤتمر الثاني سنة 1965
1- إن تعدد الزوجات مباح بصريح نصوص القرآن الكريم، بالقيود الواردة فيه، وإن ممارسة هذا الحق متروكة إلى تقدير الزوج. ولا يحتاج في ذلك إلى إذن القاضي.
2- إن الطلاق مباح في حدود ما جاءت به الشريعة الإسلامية. وإن طلاق الزوج يقع دون إذن القاضي.
3- إن الإسلام رغب في زيادة النسل وتكثيره؛ لأن كثرة النسل تقوي الأمة الإسلامية، اجتماعيًّا واقتصاديًّا وحربيًّا، وتزيدها عزة ومنعة.
4- إذا كان هناك ضرورة شخصية تحتم تنظيم النسل فللزوجين أن يتصرفا طبقًا لما تقتضيه الضرورة، وتقدير هذه الضرورة متروك لضمير الفرد ودينه.
5-لا يصح شرعًا وضع قوانين تجبر الناس على تحديد النسل بأي وجه من الوجوه.
6-إن الإجهاض بقصد تحديد النسل أو استعمال الوسائل التي تؤدي إلى العقم لهذا الغرض، أمر لا يجوز ممارسته شرعا للزوجين أو لغيرهما، ويوصي المؤتمر بتوعية المواطنين، وتقديم المعونة لهم في كل ما سبق تقريره بصدد تنظيم النسل.(5/460)
بيان حول السكان من رؤساء بعض الدول والحكومات
أصدر السكرتير العام للأمم المتحدة يوثانت، في 10 كانون الأول 1966 البيان التالي نصه حول السكان. وقد وَقَّعَ هذا البيان تسعة عشر زعيمًا من زعماء العالم، بينهم ستة من زعماء الدول الإسلامية وهم:
الإمبراطور محمد رضا بهلوي إيران
الملك حسين الأردن
الرئيس تنكو عبد الرحمن ماليزيا
الملك الحسن الثاني المغرب
الرئيس الحبيب بورقيبة تونس
الرئيس جمال عبد الناصر الجمهورية العربية المتحدة
نص البيان
إن للسلام العالمي أهمية عظمى لدى جميع الأمم. وتكرس حكوماتنا جهودًا كبيرة لتحسين إمكانات السلام في هذا الجيل وفي الأجيال القادمة. غير أن مشكلة كبيرة أخرى تهدد العالم. مشكلة أقل بروزًا ولكنها ليست أقل إلحاحًا. إنها مشكلة نمو السكان غير المخطط له.
لقد قضت الإنسانية الفترة من بدء عصورها التاريخية إلى منتصف القرن الماضي حتى بلغت مليار نسمة في حين أنها ازدادت مليارا آخر في أقل من مائة سنة. ولم تكد تمضي ثلاثون سنة أخرى حتى بلغت ثلاثة مليارات. وإذا استمر معدل الزيادة هذا، فإنها ستبلغ أربعة مليارات في سنة 1975، وما يقرب من سبعة مليارات سنة 2000. ويضعنا هذا التزايد الذي لم يسبق له مثيل وجهًا لوجه أمام حالة فريدة بالنسبة للشؤون الإنسانية، وحيال معضلة تزداد خطورة في كل يوم.(5/461)
إن هذه الأرقام مذهلة بحد ذاتها، بيد أن دلالاتها أعظم من ذلك أهمية بكثير.
فتزايد السكان البالغ السرعة، يعيق الجهود لرفع مستويات المعيشة، وتقدم التعليم، وتحسين الصحة العامة، وتأمين السكن ووسائل نقل أفضل، وتعزيز فرص الثقافة والترفيه، بل وتأمين الغذاء في بعض الأقطار، وباختصار، فإن طموح الإنسانية برمتها إلى تحقيق حياة أفضل، أخذ في الانهيار.
وبوصفنا رؤساء حكومات معنية فعلًا بمشكلة السكان، فإننا نشارك في هذه القناعات، ونعتقد بأنه ينبغي أن تعتبر مشكلة السكان عنصرًا رئيسيًّا في التخطيط القومي البعيد المدى، هذا إذا أدت الحكومات بلوغ أهدافها الاقتصادية وتحقيق مطامح شعوبها.
نعتقد بأن الغالبية العظمى من الآباء يرغبون في أن تتوافر لديهم المعرفة عن تنظيم أسرهم ووسائله، وبأن فرصة تقرير عدد الأولاد والمباعدة بين الولادات هي حق من حقوق الإنسان الأساسية.
نعتقد بأن السلام الدائم والمجدي يتوقف إلى حد كبير على الطريقة التي يواجه بها تحدي نمو السكان.
نعتقد بأن هدف تنظيم الأسرة هو إغناء الحياة البشرية، لا تقييدها، وبأن تنظيم الأسرة بتأمينه المزيد من الفرص لكل فرد، يطلق الإنسان كي يحقق كرامته الشخصية، ويبلغ كامل إمكاناته.
وإذ نعترف بأن تنظيم الأسرة هو من المصالح الحيوية للأمة وللأسرة فإننا نحن الموقعين أدناه نعقد أكبر الآمال على زعماء العالم لكي يشاركونا في رأينا ويضموا جهودهم إلى جهودنا في مواجهة هذا التحدي الكبير من أجل خير شعوب الأرض قاطبة وسعادتها.(5/462)
تنظيم النسل
وثيقة من المجلس الإسلامي الأعلى
بالجمهورية الجزائرية
بسم الله الرحمن الرحيم
إن المجتمع الذي ترمي إلى إقامته تعاليم الإسلام الأساسية، مجتمع ميزته الصحة والقوة ومؤسس على العدالة الاجتماعية والأخلاق الفاضلة.
وهذا مما جعل الإسلام ـ المفهوم بهذه المعاني السامية المنبع الذي ننهل منه
باستمرار لاستكمال الثورة الاجتماعية القائمة اليوم في بلادنا.
ففي قضية تنظيم الأسرة مثلا نجد الإسلام الذي هو دين الدولة الجزائرية وموجهها التشريعي يهدي إلى مبادئ يتم صلاح البشرية جمعاء بتطبيقها.
فالآيات الكريمة الصريحة والأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في الموضوع وكذا الآثار المروية عن الصحابة رضوان الله عليهم وآراء كبار الفقهاء وشروحهم تضفي على هذه المسألة الضوء الكافي لاستبانة توجيهات الإسلام الهامة في هذا الميدان، ونذكر من بينها:
أولا: احترام الحياة والحفاظ عليها:
فلقد كرم الله الإنسان ونفخ فيه من روحه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا إذ يقول في كتابه الحكيم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الاسراء:70] ويقول: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] ، فقيمة الحياة عند الله عظيمة إلى حد أن قتل النفس بغير موجب شرعي يعتبر قتلا للناس جميعا، كما أن إحياءها بمثابة إحياء الناس جميعا، {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] ؛ لذلك كله نجد القرآن الكريم يحرم الوأد الذي يلجأ إليه العربي في الجاهلية لسببين أساسيين، أحدهما أخلاقي: خشية العار والهون الذي يلحقه بزعمه من الأنثى، وثانيهما اقتصادي: خشية الإملاق.(5/463)
وقد دحض القرآن هاتين الحجتين الجاهليتين الواهيتين بقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) } [لنحل 58-59] كما قرر: أن مكانة المرأة عند الله مثل مكانة الرجل يقول عز وجل {لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]
إن الله هو الرزاق لكل مخلوقاته: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] على أن يتخذ الإنسان الأسباب فيؤدي الجهد والعمل اللازم لتحصيل قوته: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] وعلى أن يسود العدل في توزيع الأقوات على العباد {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] إن الطفل يجب أن يحظى بالاحترام والعناية المطلقة من النطفة إلى الولادة إلى البلوغ ولو كانت ولادته من غير زواج شرعي ومعلوم أن الشرع قد فرض الكفالة على المجتمع للأولاد المشردين ولهذا الاعتبار خاصة نجد الفقهاء يبيحون العزل إذا دعت إليه الضرورة، رغم ضرره النفسي على الزوج والزوجة فالعزل الظرفي بالقياس إلى وسائل منع الحمل الحديثة مباح لكونه لا يلحق أذى بحياة موجودة ولا يمس أيضا بمبدأ حفظ النسل وقد بين الإمام علي كرم الله وجهه وأقره على ذلك الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن العزل ليس الموءودة الصغرى ولا تكون كذلك حتى تمر عليها الأطوار السبعة (1) وذلك بخلاف الإجهاض فإنه محرم تحريما قطعيًّا إلا لضرورة الحفاظ على صحة المرأة أو الولد؛ لأنه تَعَدٍّ واضح على حياة موجودة كما أنه خلاف التعقيم بكل الوسائل المؤدية إليه؛ لأنه تعطيل نهائي لوظيفة التناسل فهو ممنوع شرعا.
__________
(1) انظر كتاب الحلال والحرام للدكتور يوسف القرضاوي صفحة 192(5/464)
ثانيا: مسؤولية الوالدين عن أولادهما:
إن القدرة على تحمل أعباء الزواج ومنها النفقة على الزوجة شرط يعتبره الفقهاء.
بدرجات متفاوتة في حِلِّيَّةِ الزواج والمذهب المالكي يجعل النكاح حراما على من كان عاجزا عن الإنفاق على المرأة من كسب حلال ولم يخش الزنا إلا أن ترضى الزوجة بذلك فلا يحرم.
كما أن القيام بنفقات الأولاد وتربيتهم إلى أن يبلغوا فرض على الوالدين ويتحملان إثما كبيرا إذا أهملاهم فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) رواه أبو داود ويقول أيضا في الحديث المشهور: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها " رواه أحمد في مسنده.
وتتجلى في هذا الحديث النبوي الشريف خطورة المسئولية الملقاة على كاهل كل إنسان في شتى ميادين الحياة ومنها إنجاب الأولاد فإنجابهم وإهمالهم والرمي بهم إلى الشارع عمل يكرهه الإسلام ويحذر منه.
ثالثا: وجوب تحلي الأمة الإسلامية بالعزة والقوة.
إن الإسلام يحث المسلمين على أن يكونوا أقوياء في جميع الميادين: الجسمي الخلقي العسكري العلمي الاقتصادي. . . إلخ، فالله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول ((: المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير)) .
إلى غيرهما من الآيات والأحاديث الدالة على أن المسلم يجب أن تتمثل فيه صفات العزة والرفعة لا الذلة والمهانة، حقًّا إن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا المسلمين إلى التناسل والتكاثر، ولكن الكثرة المنشودة هي الكثرة التي تصلح للمباهاة لا الكثرة السلبية التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها كغثاء السيل أي لا قيمة لها ولا وزن سواء عند الله أو عند العباد، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها)) فقال قائل: أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل , ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: " الوهن حب الدنيا وكراهية الموت ")) رواه أبو داود والبيهقي. وبهذا يتضح أن المعتبر في الإسلام هو النوعية قبل الكمية.(5/465)
رابعا: مراعاة صحة الزوجة والأولاد:
إن الأحاديث الداعية إلى العناية الكاملة بالصحة عموما وبصحة الزوجة والأولاد
خصوصا لا تكاد تحصى، وهدفها الواضح هو بناء الأسرة المسلمة سليمة قوية.
ونكتفي بذكر حديث واحد لأهميته، إذ يقرر بوضوح في نظرنا شرعية مبدأ
المباعدة بين الولادات إن لم نقل: يحث عليه ويستحبه.
هذا الحديث هو حديث الغيل وهو الاتصال بالزوجة المرضعة لتحمل من جديد قبل
أن يستكمل الرضيع الأول الفترة الشرعية المحددة، (1) وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم غيلا؛ لما يترتب عليه من حمل يفسد اللبن ويضعف الولد،
وإنما سماه غيلا لأنه جناية خفية على الرضيع فأشبه القتل سرا (2)
ولفظ الحديث هو: ((لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة))
رواه أبو داود، و: ((لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ثم رأيت فارس والروم يصنعون ولا يضر أولادهم شيئا)) رواه مسلم.
ويستخلص ابن القيم أن المقصود من الحديث الإرشاد والاحتياط للولد، وأن لا يعرضه لفساد اللبن بالحمل الطارئ عليه كما يستخلص الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي، بعد تحليل هذا الحديث ما يلي:
(وقد استحدث في عصرنا من الوسائل التي تمنع الحمل ما يحقق المصلحة التي هدف إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حماية الرضيع من الضرر مع تجنب المفسدة الأخرى وهي الامتناع عن النساء مدة الرضاع وما في ذلك من مشقة وعلى ذلك نستطيع أن نقرر أن المدة المثلى في نظر الإسلام بين كل وليدين هي ثلاثون أو ثلاثة وثلاثون شهرا، لمن أراد أن يتم الرضاعة) و (24 شهرا + 9 أشهر = 33 شهرا) (3)
__________
(1) انظر زاد المعاد / ج 4 ص18، الطبعة الثانية (1950)
(2) (د. يوسف القرضاوي ـ الحلال والحرام ص (165)
(3) راجع د / يوسف القرضاوي ـ الحلال والحرام ص166 الطبعة 11 (1977)(5/466)
خامسا: احترام إرادة الزوجين وحرية اختيارهما:
إن الإمام مالكا رضي الله عنه ومعظم الفقهاء قرروا أن رضى الزوجة ضروري في الامتناع عن الحمل وأثبتوا للزوجة الحق في الولد وهذا منذ 14 قرنا ...
سادسا: التشريع الإسلامي يعتبر المصلحة العامة:
إن المصلحة العامة معتبرة شرعا وقد صنفت في باب المصالح المرسلة التي يرى جمهور علماء المسلمين والمالكية منهم خاصة أنها حجة شرعية يبنى عليها تشريع الأحكام إذا ثبت أنها مصلحة حقيقية، وأنها مصلحة عامة لا مصلحة شخصية ولا تعارض نصا أو حكما شرعيا صريحا.
سابعا: احترام الأخلاق الإسلامية:
لقد شرع الله الزواج وحرم الزنا تحريما قطعيا؛ فلذلك ينبغي اتخاذ الإجراءات اللازمة حتى لا تصبح وسائل منع الحمل المعدة أساسا للزواج لتنظيم أسرة، تيسيرا أو تشجيعا للإباحية الاخلاقية، إذ أن المصلحة المرجوة منها قد تنقلب إلى مفسدة وقاعدة سد الذرائع في الشريعة الإسلامية تمنع ذلك وتقضي بإغلاق الباب الذي يؤدي إلى المضرة والفساد.
نص فتوى المجلس الإسلامي الأعلى
بدعوة من السيد عبد الرحمن شيبان وزير الشئون الدينية اجتمعت لجنة الفتوى والدعوة والإرشاد للمجلس الإسلامي الأعلى بمقر الوزارة تحت رئاسة الشيخ أحمد حسين النائب الأول لرئيس المجلس الإسلامي الأعلى وبحضور الأمين العام لوزارة الشئون الدينية نيابة عن السيد الوزير والأستاذ أحمد درار مستشار بالوزارة.
وبعد أن قدم السيد الأمين العام للوزارة موضوع الاجتماع وهو: النظر في توسيع المدة الفاصلة بين الولادتين، نوقشت المسألة من طرف الأعضاء الحاضرين واتفقوا على ما يلي:(5/467)
أولا: التأكيد على المبادئ التي أقرها المجلس في جلسات سابقة حول تنظيم النسل وخاصة خلاصة الفتاوى التي قدمت في شهر محرم 1400هـ الموافق لشهر ديسمبر 1979م، وهذا نصها:
وإن اختلف علماء الإسلام ماضيا وحاضرا في إباحة العزل ومنعه أو تقييده بشروط معينة وقياس بعض الأدوية والطرق المانعة للحمل بصفة مؤقته عليه، فهم مجمعون على تقييده بالاختيار الفردي لاستعماله أو عدم استعماله حسب الظروف والمبررات وعدم اللجوء إلى التقنين الشامل الذي يدفع الناس مكرهين إلى تحديد النسل أو تنظيمه، أو إجبارهم عليه أو على استعمال الوسائل المستحدثة بدلا عنه، وإنما يترك الأمر إلى الأفراد ومبادرة كل واحد حسب قناعته والدوافع الشخصية التي تحمله على ذلك من غير أن يخشى الوقوع في الحرام. ويكون بث الوعي هو وحده الطريقة المثلى لمعالجة هذا الموضوع الشديد الحساسية.
ثانيا: ترى اللجنة أن مسالة توسيع المدة الفاصلة بين الولادتين موكولة لاتفاق الزوجين وتراضيهما وحكمهما يخضع لظروفهما النفسية والمادية والاجتماعية.
والله الموفق..
حرر بالجزائر في 21 محرم 1403هـ
الموافق 7 نوفمبر 1982 م
عن اللجنة.
الشيخ / أحمد حسين
الشيخ / محمد الصالح بن عتيق
الشيخ / حمزة بكوشة الشيخ /علي المغربي
الأستاذ / بلحاح شريفي(5/468)
مناقشة البحوث
بسم الله الرحمن الرحيم
الرئيس:
نرجو من الأستاذ حسان حتحوت أن يتفضل بالعرض عن موضوعنا اليوم وهو منع تحديد النسل وأرجو أن يكون العرض في ظرف عشرين دقيقة.
الدكتور حسان حتحوت:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أسهبت أقلام فاضلة ومؤتمرات سابقة في هذا الموضوع فلا أجد محلا لتكرار ما تعرفون وإنما أجمل فأقول: إن أغلبية الفقهاء اتجهت إلى أن منع الحمل في ذاته ليس حراما شرعا وإن كان للقلة رأي آخر ولكل من الرأيين حجته وأسانيده، واستندت الغالبية إلى روايات عن الصحابة بأنهم كانوا يمارسون العزل بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يحرمه، وبأن الغزالي أجازه على مدى واسع من المبيحات الطبية أو الاجتماعية أو الشخصية، وإنما قيدت الإباحة بشروط شرعية معروفة، فليس من الجائز تعطيل المقصدين الشرعيين للزواج في الإسلام وهما الجنس والإنجاب أحدهما أو كليهما في حال القدرة عليهما، وليس من الجائز انفراد الزوج بقرار منع الحمل فلابد أن يكون ذلك بإذن الزوجة؛ لأن الأمر شركة بينهما، ومن الواجب أن تكون وسيلة منع الحمل خالية من المضار ولا يجوز أن تكون الوسيلة مهدرة لحياة تكونت ولو في أدوارها الأولى.
وهنا أود أن أشير في موضوع اللولب إلى أن منظمة الصحة العالمية في أكتوبر سنة 1987 م أصدرت تصريحا بأن اللولب يعمل مانعا للحمل وليس مجهضا كما كان يظن في السابق ولا يجوز أن تنطوي الوسيلة على مصادرة نهائية لوظيفة الإنجاب إلا تحت الظروف الاستثنائية التي تبيحها الشريعة، ومع ذلك فهناك اعتبارات هامة لابد منها من باب العلم أولا ثم من باب ضبط خطانا إزاء خُطَى الآخرين حتى لا يظن بنا النية الواحدة إن اتفقنا في مرحلة من المراحل، وأود في البداية أن أشير إلى أن الإباحة الشرعية ليست هي المصفاة الوحيدة التي يستعملها المسلم وهو يقرر ما يأخذ أو يدع، فالحرام بطبيعة الحال حرام، أما الحلال فرقعته واسعة بحكم أن الأصل في الأشياء الإباحة. والمسلم فردا أو مجتمعا كل منهما مطالب بأن ينظر في المباحات العديدة فيختار أنسبها وأصلحها وأوفاها.
ولا غرابة في ذلك فما ألبسه في بيتي قد لا يصلح أن ألبسه في عملي وكلاهما حلال. وسنجد لذلك تطبيقاته في موضوع منع النسل وتنظيمه.(5/469)
خلال عملي أجريت كل طرائق تحديد النسل وطالما أطنبت وبشرت بين مريضاتي أو طلابي عن المخاطر الصحية التي تتعرض لها النساء غزيرات الإنجاب وقناعتي أن منع الحمل في ذاته ليس حراما، ولكن هل معنى ذلك أن أكتفي بإجابة مبسطة عن سؤال بسيط هو حلال أو حرام، أو أن أكتفي بأن الاعتبار الطبي هو المرجع الوحيد فيما ينبغي للناس أن يأخذوا أو يدعوا؟ لا، لأن شواهد العصر ترينا بوضوح أن بين الحروب المستعرة في عالمنا هذا حربا تسمى الحرب الديموغرافية، تلك التي تهدف إلى تغيير الأنماط السكانية لتجعل الأغلبيات أقليات والأقليات أغلبيات وهي تستعين على ذلك بأسباب، منها التبشير بمنع الحمل ولعل من الأمثلة البليغة على ذلك شعب فلسطين، فإن الصداع الأكبر في الدماغ الإسرائيلي ليس الدولة العربية وليس الجيوش العربية وإنما التفاوت الكبير في معدل الإنجاب بين السكان العرب واليهود فإن استمر أفضى إلى أن يجد اليهود أنفسهم بعد بضعة أجيال أقلية مغلوبة، أفيعقل أن نقيم حملة بين نساء العرب لتهويل مخاطر الإنجاب وتزيين مزايا التحديد معتمدين على أن الحكم الشرعي أن منع الحمل حلال؟ إن الأمة التي فقدت كل شيء إلا عدد أفرادها، لا يجوز لها شرعا أن تفرط في هذه الميزة الباقية وليست فلسطين هي المثال الوحيد للحرب الديموغرافية، بل أعلم بالاطلاع الشخصي أن هذه الحرب الديموغرافية دائرة الرحى منذ زمن في أكثر من بلد من بلاد الشرق الأوسط دونما تسمية حتى لا يظن بنا إشعال فتنة طائفية.
أذكر في مطالع حياتي الجامعية أن العلاقات ساءت بيننا وبين دولة غربية كبرى وانقطعت الصلات حتى نبه علينا بأن لا ندخل المكتبة التابعة لهم، إلا بإذن من مجلس الوزراء وكانت هي المكتبة الوحيدة التي تتيح لنا الاطلاع على ما أقفرت منه مكتباتنا؛ نظرا لقيود العملة وطالت القطيعة كل شيء إلا شيئا واحدا هو تمويل أبحاث تحديد النسل في بلادنا من قبل تلك الدولة العظمى ظاهرة في الواقع توحي بسوء الظن حتى بت أعتقد أن مشكلة الانفجار السكاني وقصور موارد الأرض إزاء تفاقم سكانها إنما تمثل جانبا من الحقيقة لا الحقيقة كلها، وإلا فكيف نفسر أن بعض الدول الكبرى لا تتورع عن إحراق الفائض من حاصلاتها الغذائية أو إلقائه في اليم حتى لا تهبط أسعاره وفي عالمنا الذي أصابته المجاعات نرى فائض المحاصيل سلعة استراتيجية للضغط السياسي ولا يستخدم منه في وجوه البر إلا نزر يسير عن طريق هيئات خيرية أو تبشيرية لها هي الأخرى أهداف ومقاصد، ومعلوم أن موارد ضخمة للغذاء في البر والبحر جاهزة لكشف النقاب عنها.(5/470)
وأن التقنيات العلمية على استعداد لمضاعفة تلك الموارد وأن جزءا من مائة من ميزانيات التسلح لو وجه هذه الوجهة لكان بليغ الأثر في سد هذه الهوة، أما العالم الثالث الفقير الذي انهمرت دموع العالم الأول أسفا عليه فأحسب أن الذي يقصم ظهر اقتصاده حقيقة ليس النمو السكاني بقدر ما هو الربا الباهظ الذي يستأديه منه العالم الأول عن ديونه حتى بات الاقتصاد القومي عاجزا عن الوفاء بفوائد الديون فضلا عن الديون نفسها على أنني لا أريد أن أطوي بعض الحقيقة، وإذا بدا حديثي وكأنه ضد تحديد النسل فعلي أن أسائل نفسي ماذا يستطيع بلد من البلاد كمصر أن يفعل إذا كان مقدار التنمية أقل من أن يشبع عدد الأفواه الجديدة التي تولد في كل عام؟ وكيف ألوم أسرة بذاتها إن طحنتها أعباء الحياة فلجأت إلى التحديد؟ ولقد هبت على ذلك عاصفة من الانتقادات بعضها يرتكز على حجج سليمة ولكن بعضها يستشهد بقول الله {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء 31] وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام 151] الاستشهاد هنا في غير موضعه فليس في منع الحمل قتل ولد، لا بعد أن يولد ولا قبل أن يولد وهو ما فرق فيه الغزالي بين منع الحمل والإجهاض، فقال: (وليس ذلك كذلك، فإن الإجهاض عدوان على موجود حاصل ... إلخ ما قال) وعلى الرغم من أنني أبصر وجه الضرورة التي تلجئ مصر وأمثالها إلى الأخذ بسياسة تحديد النسل فإن هذه السياسة في اعتقادي لا تمثل العلاج الإسلامي لهذه المشكلة، كما أنها مرفوضة إن كانت قهرية والجفوة بينها وبين الحل الإسلامي ليست مسئولية مصر وحدها ومن لف لفها وإنما أصل الخلل أن العالم الإسلامي لا يتصرف على أنه عالم إسلامي ما زال القطر من أقطاره ينظر إلى غيره على أنه الآخر وليس الأنا ما زال هناك الذي ينوء بالغنى والذي ينوء بالفقر الأرض الخصبة في مكان والسواعد الدربة في مكان والمال الوافر في مكان ثالث، ولكنها لا تلتقي، ولو كانت كلها للإسلام لالتقت، ويقول الله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون 52] فنسمع ولا نلبي ولسنا هنا ندعو لمظهرية وحدة، ولكن الحقيقة الوحدة تراحما وتلاحما وتنسيقا إذن لوجدنا الحل لا لمسألة تنظيم النسل ولكن لكافة العقبات التي تحول بين العالم وبين الاهتداء بنور الله الذي جائنا وكلفنا بنشره.(5/471)
إن موضوع تحديد النسل في العالم حديث نسبيا ولعله بدأ بصورة مسموعة عندما تبنت بعض الحكومات سياسة التحديد من باب الضرورة الاقتصادية فدعت الفقهاء إلى أن يبينوا للناس أنه ليس حراما شرعا وكانت من ذلك كتابات وأحاديث وإسهامات فقهية في مؤتمرات قومية وإقليمية وعالمية ولا نشكك في إخلاص فقهائنا الذين اضطلعوا بذلك، ولا نقدح فيما وصلوا إليه من رأي الإباحة ورغم اشتراكهم في هذا الرأي مع الهيئات الدولية الداعية إليه فإننا نود أن نؤكد أن هؤلاء وأولئك لم يكونوا جيادا تجري في عنان واحد وبنية واحدة، فحركة تحديد النسل العالمية نبعت من آراء داروين ثم مالثيوس اللذين تحدثا من جانب عن تكاثر الناس أكثر من تكاثر الموارد ولكن من الجانب الآخر عن أن الأجناس المتخلفة تشكل عبئا على الأسرة الإنسانية وتلويثا لنقائها فينبغي أن لا يسمح لها بالتكاثر غير المقنن ثم كان امتدادهما في حمل لواء الحركة على الأخص سيدتين هما ميري ستوبس في بريطانيا ومارجريت سنجر في أمريكا تحت شعار حركة الدفاع عن المرأة الذي خلط صالحا وسيئا، فكان فيه الفوائد الصحية لتحديد النسل ولكن كان فيه كذلك ضرورة مساواة المرأة بالرجل في الحريات ومنها حرية الجنس مشروعا أو غير مشروع غير مهددة بحدوث حمل غير مرغوب وبأموال مرجريت سنجر مولت الأبحاث التي أنتجت حبة منع الحمل الأولى، وبنفوذها تأسس الاتحاد العالمي لتنظيم الوالدية وله صلاته ونشاطه في كثير من بلادنا.
ولقد رأيت له في مؤتمرنا هذا ورقة لي عليها بعض الاحتراز واستقر للحركة النصر فيما يختص بمنع الحمل فإذا هو الأن حق أكيد للمتزوجات وغير المتزوجات والقاصرات وتلميذات المدارس بصحبة تغيير شامل في القيم والمفاهيم أفضى إلى أن ما نسميه نحن زنا ونعترض عليه أصبح نشاطا إنسانيا عاديا لا غبار عليه وهو حق لمن أراده كانت المعركة التالية معركة إباحة الإجهاض وجعله حقا لكل من تطلبه وكانت الآثار الأخلاقية لذلك بالغة المدى فأغلبية المجهضات على مستوى العالم غير متزوجات وفيما طالعت من مؤتمرات فقهية سابقة من تناول لموضوع الإجهاض واختلاف عليه فإن الصاحي لمجريات الأمور في عالمنا الحاضر يدرك بوضوح أنه لو لم يكن هناك من داع لمنع الإجهاض إلا باب سد الذرائع لكفى وزاد، ونحسب أن موضوع الإجهاض قد حسم الآن في أكثر من مؤتمر إسلامي باعتبار حياة الإنسان محترمة في كافة أدوارها فلا يجوز إهدارها إلا لإنقاذ حياة الأم وبينما ظن الفقهاء السابقون منذ قرون أن بدء الحياة قرين نفخ الروح الذي أورده حديث الأربعينات أو إحساس الأم بحركة الجنين في بطنها وكلاهما يكون في نهاية الشهر الرابع للحمل تنبئنا المعطيات العلمية الحديثة أن حياة الفرد منا قد بدأت قبل ذلك بكثير بدأت في الواقع منذ بدايتها بالتحام الحيوان المنوي والبويضة وكل منهما نصف خلية ليكونا الخلية الكاملة ذات الحصيلة الإرثية التي تميز الجنس الآدمي عامة كما تميز إنسانا فردا بعينه لم يتكرر بتمامه ولن يتكرر منذ آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(5/472)
والمطلع على أحكام الفقه عن الجنين في باب الإرث والديات ورعاية الحامل وعبادتها وأحكامها يدرك أن للجنين في الإسلام أهلية وجوب ناقصة من حيث أن له حقوقا وإن لم تكن عليه واجبات ويزيد الأمر وضوحا أن نعلم أنه إذا حكم على امرأته بالإعدام وكانت حاملا في أية مرحلة من الحمل مهما كان باكرا فإن تنفيذ الحكم يؤجل حتى تلد وترضع احتراما لحق هذا الجنين في الحياة مهما كان باكرا وحتى لو كان الحمل من سفاح.
وأما الثالثة في مجال التحديد بعد المنع والتجهيض فجراحات التعقيم وهي كذلك موجة عالمية اجتماعية سياسية خارج نطاق الطب يدعو أهلها إلى تعقيم أعداد أزيد وأزيد في أعمار أصغر وأصغر وعدد أولاد أقل وأقل، وجراحة التعقيم محدث لم يرد فيه نص ولكن مما يدل على أن اتخاذ القرار بها أمر خطير للغاية أن نعلم أنه في باب الديات فإن الإصابة التي تفضي إلى منع القدرة على النسل تستحق دية نفس كاملة ولهذا نرى حصرها في الضرورة الطبية أو عندما تكون الفترة الإنجابية قد قاربت النهاية خاصة وفي الوسع تدبير البديل من وسائل منع الحمل المؤقتة بدلا من إجراء جراحة لا تضمن الرجعة فيها إن تغيرت الظروف بتغيير الزوجة وفقد الأولاد ويكون الندم ولات حين مندم وغير صحيح أن إعادة الخصوبة آنذاك مضمون بالجراحة كما يروج بعض الزملاء.
نقول: تنظيم النسل وتحديده فما الفرق بينهما؟ أسماء سموها فعندما ثارت اعتراضات على المنع والتحديد سموه التنظيم وأدخلوا فيه علاج العقم أي بالنقص والزيادة وقبل أن نتطرق إلى موضوع علاج العقم نشير إلى أن مسألة إرضاع الأمهات أولادهن من أثدائهن رضاعا طبيعيا حازت رضاء الإسلام بلا شك بل قدر القرآن له سنتين لمن أراد أن يتم الرضاعة ولو تم ذلك لكان أنجع وسيلة للمباعدة بين الأحمال نظرا لأن للرضاع أثرا سلبيا على الخصوبة فضلا عن ما فيه من فوائد للمواليد والوالدات جسمية ونفسية ولو كان الأمر بيدي لطوعت كل الظروف واستعنت بكل الوسائل للاستغناء عن الحليب الصناعي وتمكين الوالدات العاملات المتفرغات من أداء الرضاع الطبيعي.
وننتقل إلى علاج العقم فنقول: إن الحرص على الذرية أمر فطري وإن السعي إليها لمن حرمها مطلب مشروع ما دام يتم بوسائل مشروعة ووسائل ذلك الآن عديدة بتعدد الأسباب ولا يستطيع الطب الآن ولا نحسبه سيستطيع في المستقبل أن يكفل الشفاء في مائة بالمائة من الحالات فمن يشأ الله يبق عقيما وقد عرضت مؤتمرات طبية فقهية سابقة لطائفة من الوسائل الحديثة التي ابتكرها الطب الغربي والمعروف أنه لا يتقيد بدين وكان لعلماء المسلمين رأيهم فيها ونرى أن نوجزها هادفين إلى التذكرة عازفين عن التكرار وحبذا لو قدمنا لذلك بالأسس الشرعية التي تحكم هذا الموضوع وهي ثلاثة:(5/473)
الأول: إن الزواج بعقده الشرعي المعتبر هو الآن الوعاء الوحيد المشروع لكل من الجنس والإنجاب.
الثاني: إن عقد الزواج غاية أقرب الأجلين طلاقا أو مماتا وكلاهما ينهي الزوجية.
الثالث: إن الزواج كما يدل ظاهر التسمية إنما ينتظم اثنين لا ثالث لهما ولا رابع ولا خامس وليس هناك عقد زواج يسع أكثر من اثنين هما الزوجان فإذا تعددت الزوجات تعددت العقود وكل دائما بين اثنين.
إن طبقنا هذه الأسس وجدنا إذن التلقيح الصناعي جائز بمني الزوج لزوجته حال قيام الزوجية وإن تقنية أطفال الأنابيب جائزة بين الزوج وزوجته أي بمني منه وبويضة منها وذلك حال قيام الزوجية وبدون إقحام طرف غريب من مني أو بويضة أو جنين أو رحم وعلى هذا فمسألة الرحم الظئر مستأجرة أو موهوبة لا تجوز وكما لا يحل المني الغريب لا تحل البويضة الغريبة ولا الجنين الغريب لا استقبالا من غريب ولا إيداعا في غريب ولا يجوز أن تحمل الضرة جنين ضرتها ولو اشتركا في الزوج وإلا أقحمنا طرفا ثالثا على ثنائية عقد الزواج وهي ثنائية لا تقبل التثليث وتشكل مسالة الرحم الظئر منعطفا خطيرا في تاريخ الإنسانية فلأول مرة في التاريخ تحمل أنثى الإنسان طواعية وقد قررت سلفا أنها ستتخلى عن جنينها لغيرها ولما كان هذا في الغالب الأعم يحدث لقاء مال متفق عليه فقد اختزلت الأمومة من قيمة إلى ثمن والأصل أن صلة الرحم في فطرة الإنسان وفي شرعة الإسلام قيمة تجل عن معيار المادة وتقدير الثمن ولقد نشأت عنها في بلاد مروجيها مشاكل عديدة لعل أشهرها تحرك عاطفة الأمومة في نفس الحامل حتى إذا ولدت وتهيأت للإرضاع تشبثت بالوليد ونشب النزاع بينها وبين صاحبة البويضة وراحت كلٌّ أمام القضاء تسوق حجتها في موقف أقل ما يوصف به أنه اختلاط أنساب فالإسلام يأباه ويأبى ما يؤدي إليه ولكن إن حدث فغالب علماء المسلمين اليوم يرون الأمر على بداهته وهو أن الوالدة هي الوالدة هذه سياحة سريعة في موضوعنا ومن الخير أن نحكم خطوط دفاعنا الإسلامية حتى لا تغزونا تلك الجدائد على علاتها وإنما بعض أرضها على أحكام الإسلام فما اتفق أخذناه وما خالف نبذناه ويبقى في رقابنا واجب آخر نحو بقية العالم الذي أوشك أن يعبد العلم من دون الله وأن يتخذ إلهه هواه ذلك هو واجب الهداية ونعلم أن الغرب في حاجة لاهبة إليه فتلك رسالتنا إن كنا حقا ورثة النبوة التي أرسلها الله رحمة للعالمين فلقد استطال العلم واستطال الإلحاد ولم يزد الإنسان إلا شقاء فعسى الله أن يهدينا ويهدي بنا ويجعلنا أهلا للرسالة وأوفى بالأمانة. بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف 108] وقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه فعسى أن نكون ممن اتبعه والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(5/474)
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
السيد رئيس الجلسة المحترم أساتذتي الحضور لقد أغناني أستاذنا الكريم حسان حتحوت في الكلام عن تحديد النسل من الوجهة الاجتماعية والشرعية بصورة عامة وسوف أتجنب الكلام فيما ذكره الأستاذ الفاضل مقتصرا على ذكر أهم النصوص الفقهية في هذه المسألة فأقول وبالله التوفيق:
هناك فرق كبير بين تنظيم النسل المقصود بالبحث هنا وبين منعه بصورة دائمة.
وذلك بإجراء بعض العمليات الجراحية وبعض الطرق العلمية التي تحقق هذا الغرض ومنع الإنجاب نهائيا يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية من الزواج الذي من أهم أغراضه ومقاصده التناسل كما بينت ذلك النصوص الشرعية ثم إن قواعد الشريعة تدل على منع ذلك الأمر وتحريمه من غير ضرورة فإن في الحرمان من النسل نهائيا مضرة ظاهرة يأباها الشارع وتدخل فيما نهى عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) وواضح وجه المضرة في الحرمان من النسل فإن الشريعة الإسلامية وما تعارفه الناس في أمر النكاح يقتضي أن يكون هناك تناسل لعمارة الأرض وبقاء الإنسان.
لتنظيم النسل وسائل متعددة منها ما تتم قبل تكوين الجنين في رحم المرأة وذلك بأن يمتنع الزوج من وطء زوجته في فترة معينة من طهرها وغالبا ما يكون ذلك في العشرة الوسطية من الطهر عندما تكون بويضة المرأة مهيأة للتلقيح أو في استعمال بعض العقاقير الطبية التي تقلل فرصة الحمل وأحيانا يلجأ الزوج إلى العزل وذلك بأن يقذف ماءه خارج رحم زوجته وهناك وسائل أخرى تلجأ إليها بعض الأسر بعد تكوين الجنين في رحم أمه سواء كان في مراحل تكوينه الأولى أم الأخيرة ولكل حالة من هاتين الحالتين حكمها الخاص.
حكم الحالة الأولى: وهي ماذا استعمل الزوجان الوسائل الكفيلة بمنع الحمل بصفة مؤقتة قبل تكوين الجنين ومنع الحمل بهذه الصفة أمر معروف لدى الأمم قبل الإسلام وبعده ومنهم الفرس والرومان وقد اتخذ العرب في الجاهلية العزل وسيلة لمنع الحمل أيضا ولما جاء الإسلام والناس على هذا الحال وكان بعض من دخلوا في الإسلام يتبعون هذه الوسيلة سأل بعضهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم العزل باعتباره وسيلة للتحكم في الحمل طالما وجدت الرغبة في عدم حصوله فأدلى الرسول صلى الله عليه وسلم بما يشعر من إباحته.
فما هو العزل؟ هو أن ينزع الرجل بعد الإيلاج ليقذف مائه خارج الرحم ويلجأ إليه لأحد سببين: إما خوفا على الرضيع من أن يلحق به من ضرر إن وجد أو لئلا تحمل المرأة.(5/475)
رأي الفقهاء في العزل: الأصل عند الجمهور هو جواز العزل إلا أنهم اختلفوا في اشتراط إذن الزوجة له أو عدم اشتراطه وذلك على النحو التالي:
نص الحنفية على إباحة العزل بعد إذن الزوجة إذا كانت بالغة إذ غير البالغة لا ولد لها وكالبالغة المراهقة إذ يمكن بلوغها وحبلها وقد نقل ابن عابدين عن بعض كتب المذهب أن الزوج إذا خاف من الولد السوء فله العزل بغير رضاها بسبب فساد الزمان وهذه وجهة نظر الحنابلة أيضا قال ابن قدامة: ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها وهل الاستئذان واجب أو مستحب؟ قال القاضي الحنبلي: ظاهر كلام أحمد وجوب استئذان الزوجة في العزل ويحتمل أن يكون مستحبا لأن حقها في الوطء دون الإنزال وإباحة العزل قال المالكية به أيضا وفي مذهب الشافعية ما يؤيد هذا الرأي أيضا.
دليل الجمهور فيما ذهبوا إليه: استدل الجمهور على إباحة العزل للزوج من زوجته سواء من اشتراط منهم إذنها أو لم يشترط بالروايات الصحيحة الواردة عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والتي تشعر بجواز ذلك وقد جزم ابن حزم الظاهري بتحريم العزل وقالت الزيدية بكراهيته مستدلين بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن العزل قال: ((ذلك الوأد الخفي)) .
الحالة الثانية: وهي إذا ما تعمدت المرأة إسقاط النطفة بعد تكوينها في رحمها وذلك باستعمال العقاقير الطبية أو إجراء عملية جراحية أو ما أشبه ذلك وهو ما يعبر عنه بالإسقاط أو الإجهاض.
وقبل أن أنقل رأي الفقهاء في الاعتداء على الجنين بما ذكرناه أود أن أبين هنا مراحل تكوين الجنين بقدر ما له صلة بموضوع بحثنا هذا.
أطوار الجنين في الرحم: لقد تناول القرآن الكريم أطوار الجنين في رحم أمه من وقت التلقيح الذي هو أصل التكوين الجنيني حتى مرحلة نفخ الروح فيه وتكوين العظام أو إكسائها باللحم ثم جعله إنسانا كامل الخلقة وكل هذه الأطوار يتناولها قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . [المؤمنون 12-14] يتعرض القرطبي في تفسيره للأطوار الثلاثة التي يمر بها الجنين عند بدء تكوينه ويفسر كل طور من هذه الأطوار ومن المفيد أن ننقل ما قاله رحمه الله بهذا الخصوص النطفة: هو المني سمي نطفة لقلته وهو القليل من الماء وقد يقع على الكثير منه، العلقة: وهو الدم الجامد، المضغة: وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ ومنه الحديث "ألا وإن في الجسد مضغة"، والأطوار المذكورة عدتها أربعة أشهر.
وحكي عن العباس قوله: "وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح فذلك عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر".(5/476)
ومما مضى تأكد بأن نفخ الروح في الجنين يكون بعد مائة وعشرين يوما وذلك محل اتفاق بين جميع العلماء وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف.
رأي العلماء في الاعتداء على الجنين بالإجهاض: بعد هذا العرض لتكوين الجنين في رحم أمه أذكر ما قاله فقهاؤنا رحمهم الله بخصوص جواز إسقاطه أو عدم جوازه وفي أي مرحلة من مراحله يجوز الإسقاط وفي أي مرحلة لا يجوز اتفق الفقهاء على القول بتحريم الإجهاض بعد نفخ الروح في الجنين أما قبل النفخ فقد اختلفت أراؤهم في ذلك على النحو التالي:
أجاز الحنفية في كثير من كتبهم الإسقاط بعد الحمل ما لم تنفخ فيه الروح ولن يتحقق ذلك إلا بعد مائة وعشرين يوما كما قلنا ولم يشترط أصحاب هذا الرأي من فقهائهم إذن الزوج في الإسقاط قبل المدة المذكورة جاء في الدر المختار (يباح إسقاط الولد قبل أربعة أشهر ولو بلا إذن الزوج) وحكى ابن عابدين عن بعض كتب المذهب ما يفيد الكراهية إن تم الإسقاط بدون عذر فقد نقل عن الذخيرة ما نصه (لو أرادت الإلقاء قبل مضي زمن ينفخ فيه الروح هل يباح لها ذلك أم لا؟ اختلفوا فيه) وكان الفقيه علي بن موسى يقول: إنه يكره فإن الماء بعدما وقع في الرحم مآله الحياة فيكون له حكم الحياة كما في بيضة صيد الحرم ونحو ذلك في الظهيرية.
وقد تشدد المالكية في هذه المسألة إذ منعوا إسقاط الجنين ولو قبل الأربعين يوما على ما هو المعتمد في المذهب جاء في الشرح الكبير للدردير: " ولا يجوز إخراج المني المتكون في الرحم ولو قبل الأربعين يوما، وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعا ".
أما الشافعية فإن مذهبهم تصوره عبارة البجيرمي نقلا عن ابن حجر إذ يقول: اختلف الشافعية في سبب الإسقاط ما لم يصل لحد نفخ الروح فيه والذي يتجه وفاقا لابن عماد وغيره الحرمة وفرق بين ذلك وبين العزل فإن المني حال نزوله محض جماد ولم يهيأ للحياة بوجه بخلافه بعد استقراره في الرحم وأخذه في مبادئ التخلق ثم يمضي البيجرمي قائلا: إن في بعض الكتب خلاف ذلك أخذا من قول ابن حجر والذي يتجه الحرمة ومقتضى ذلك أن بعض الشافعية يقول بعدم حرمة الإسقاط قبل نفخ الروح وقد نص الشبرامسلي أنهم اختلفوا في جواز التسبب في إلقاء النطفة بعد استقرارها في الرحم وجاء في موضع آخر من نهاية المحتاج اختلف في النطفة قبل تمام الأربعين على قولين: منهم من أجاز ذلك ومنهم من منع.(5/477)
وذكر الخطيب الشربيني أن المرأة الحامل إذا دعتها الضرورة إلى شرب دواء فشربته ثم أجهضت فينبغي أن لا ضمان عليها في هذه الحالة كما قال الزركشي بخلاف ما إذا صامت فأجهضت فإنها تضمن دية الجنين.
ومن هنا يظهر لي بأن الإجهاض لعذر لا إثم فيه على رأي الشافعية بناء على قول الزركشي هذا وبهذا يتضح أن الشافعية لا يختلفون عن غيرهم ممن قدمنا كثيرا في مسألة العزل وإن كانو يقتربون في مسلكهم الفقهي وذكر الخلافات من مسلك الحنفية على ما أوردناه ويصور لنا ابن قدامة مذهب الحنابلة فيقول: تجب في الجنين إذا سقط من الضربة ميتا وكان من حرة مسلمة الدية وقيمتها خمس من الإبل ولا فرق بين أن يخرج جميع أجزاء الجنين من الضربة أو بعضه ولو أن رجلا ضرب حاملا أو ضرب من في جوفها حركة أو انتفاخا فأسكن الحركة وأذهبها لم يضمن الجنين معللا ذلك بقوله: لأن الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت ولا يجب الضمان بالشك فإن أسقطت المرأة من جراء الضربة ماليس فيه صورة آدمي فلا شيء فيه لعدم التيقن من كونه جنينا وإن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية ففيه غرة وإن شهدت أنه مبتدأ خلق الآدمي لو بقي تصور، ففيه وجهان: أحدهما لا شيء فيه لأنه لم يتصور فلم يجب فيه كالعلقة؛ ولأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك ومن خلال ما قاله ابن قدامة هنا بعدم إلزام الضارب بشيء فيما لو أسقط ما لم يتصور أو كان نطفة أو علقة يظهر بان الحنابلة لا يختلفون عن غيرهم من الفقهاء الآخرين في القول بجواز إسقاط الجنين ما دام في مراحل تكوينه الأولى من نطفة أو علقة بخلاف ما لو تصور بمعنى بان خلقه.
ويرى الظاهرية كما يصور مذهبهم ابن حزم بقوله: صح أن من ضرب حاملا فأسقطت جنينا فإن كان قبل الأربعة أشهر فلا كفارة في ذلك وإن كان الإجهاض قد حدث بعد الأربعة أشهر فإنه يوجب مع الغرة الكفارة التي هي كفارة القتل الخطأ لأن الجنين بعد مضي أربعة أشهر يكون قد نفخت فيه الروح الإنسانية وفي مذهب الزيدية ما يؤيد اتجاه الفقهاء الآخرين فيرون كما يحكي مذهبهم صاحب البحر الزخار أنه يجوز إلقاء النطفة والعلقة والمضغة لأنه لا حرمة لهذه الأشياء.(5/478)
خلاصة الآراء: ومن كل ما عرضنا في هذا الموضوع يتبين أن الاتجاه لا تختلف فيه وجهة النظر في أن الإجهاض بعد نفخ الروح عمدا محرم شرعا وقد حكى اتفاق العلماء هذا ابن قدامة حيث قال:: (وإذا شربت الحامل دواء فألقت جنينا فعليها غرة) .
وقد انفرد الزركشي من أئمة الشافعية بجواز ذلك للأم عند الضرورة كما حكاه الخطيب الشربيني، والذي أشرنا إليه سابقا، أما قبل نفخ الروح في الجنين فقد اختلفت وجهات نظرهم على ما بينا.
والذي أرجحه في هذه المسألة هو حرمة الاعتداء على الجنين بعد نفخ الروح فيه بأي وسيلة كانت بشرب دواء من الأم، أو بإجراء عملية جراحية، أو غير ذلك فيما لو تأكد لنا بث الروح فيه؛ لأن الإجهاض عليه إزهاق لروحه وهذ لا يجوز وما ذهب إليه الزركشي من جواز ذلك عند الضرورة ينقصه الدليل.
أما قبل نفخ الروح في الجنين فإن دعت الضرورة لإسقاطه كالخوف على هلاك الأم من مرض أو ما أشبهه فلا أرى مانع من إسقاطه، أما إجهاض لغرض تنظيم النسل بعد استقراره في رحم المرأة فلا أرى جوازه؛ لأنه ليس بضرورة، إذ بإمكان الزوجين الأخذ بالوسائل المشروعة لتنظيم النسل والتي فصلنا فيها القول عند كلامنا عن العزل.
في ختام بحثنا لموضوع النسل وتحديده أود أن أبين ما يلي:
أولا: إن تنظيم النسل وتحديده بالوسائل المشروعة التي تطرقنا إليها خلال البحث وقبل تكوين الجنين في رحم المرأة ينطبق عليه حكم العزل الذي فصل العلماء فيه القول وقد أباحه جمهورهم على أن لا يتخذ ذلك ذريعة لمنع الحمل بصورة دائمة؛ لأنه يتنافى مع توجيهات الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى تكثير النسل.
ثانيا: بعد استقرار الماء في رحم المرأة وأخذ دوره التكويني سواء كان في طوره الأول النطفة أو الثاني العلقة أو الثالث المضغة وقبل نفخ الروح فيه فلا يباح إسقاطه إلا إذا دعت الضرورة إليه كما ذكرنا ذلك قبل قليل.
ثالثا: وبعد بث الروح في الجنين ويعرف ذلك عن طريق الأم أو إخبار طبيبة أو مولدة فلا أرى جواز إسقاطه لأي سبب من الأسباب لما فيه من إزهاق روح وهو محرم شرعا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/479)
الدكتور محمد سيد طنطاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة تنظيم الأسرة من المسائل التي اهتمت بها كثير من الدول والهيئات.
وقبل أن نبدأ في الحديث عن هذه المسألة من الناحية الدينية نحب أن نتفق على الحقائق التالية:
أولا: الأديان السماوية أنزلها الله تعالى لسعادة البشر ولهدايتهم إلى الصراط المستقيم، ولغرس المعاني الفاضلة في نفوسهم وأن الكتب الذي أنزلها سبحانه على أنبيائه قد قررت هذه الحقيقة، ومن ذلك قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} . [إبراهيم 1] .
ثانيا: الكلام في الأمور الدينية بصفة خاصة وفي غيرها بصفة عامة يجب أن يكون مبنيا على العلم الصحيح والفهم السليم والدراية الواسعة الواعية لأصول الدين وفروعه ولمقاصده وأحكامه، وأن يكون لحمته وسداه الأمانة والصدق وخدمة الحق والعدل والتنزه عن الأحقاد والأطماع والبعد عن المآرب والأهواء، والترفع عن النفاق وكتمان الحق قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل 116] وفي الحديث الصحيح ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))
ثالثا: إن الخلاف في الأمور التي تقبل الاجتهاد لا غبار عليه ولا ضرر منه ما دام القصد الوصول إلى الحق وإلى ما تتحقق معه المصالح النافعة للأفراد والجماعات.
وما دام هذا الخلاف مصحوبا بالنية الحسنة وبالكلمة الطيبة وبالمناقشة الرصينة التي يزينها الأدب ومكارم الأخلاق ولقد سما النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الاجتهاد فبشر أصحابه بأنهم مأجورون سواء أصابوا أم أخطأوا فقال في حديث صحيح ((: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد)) .
رابعا: إن الأولاد هم ثمرة القلب وإحدى زينتي الحياة الدنيا ولكن الأولاد في الوقت نفسه أمانة في أيدي آبائهم، ويجب على الآباء أن يرعوا هذه الأمانة حق رعايتها وأن يحسنوا تربيتهم دينيا وجسميا وعلميا وخلقيا، وبأن يقدموا لهم ما هم في حاجة إليه من عناية مادية ومعنوية.
خامسا: إن هذا الكون قد أقامه الله تعالى على نظام دقيق بديع محكم فكل شيء فيه يسير وفق تدبير متقن وتنظيم بديع، فالشمس تشرق وتغرب في وقت معلوم ومثلها القمر والليل والنهار كما قال سبحانه {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] .(5/480)
سادسا: إننا نعيش في عصر لا تتباهى فيه الأمم بكثرة أفرادها ولا باتساع أراضيها وإنما نحن نعيش في عصر تتنافس فيه الأمم بالاختراع والابتكار ووفرة الإنتاج والتقدم العلمي بشتى صوره وألوانه هذا التقدم الذي يجعل احتياج الغير إليك أكثر من احتياجك إليه ونحن نشاهد أمما أقل عددا من غيرها ولكنها أقوى وأغنى من ذلك الغير، والأمثلة على ذلك يعرفها عامة الناس فضلا عن علمائهم.
سابعا: من مزايا شريعة الإسلام أن الأمور التي لا تختلف المصلحة فيها اختلاف الأوقات والبيئات والاعتبارات تنص على الحكم فيها نصا قاطعا كتحليل البيع وتحريم الربا أما الأمور التي تخضع فيها المصلحة للظروف والأحوال فإن شريعة الإسلام تكل الحكم فيها إلى أرباب النظر والاجتهاد والخبرة في إطار قواعدها العامة، ومن هذه الأمور مسألة تنظيم الأسرة فإنها من المسائل التي تختلف فيها الأحكام باختلاف ظروف كل أسرة وكل دولة وباختلاف إمكانياتها، فمثلا هناك دول في حاجة إلى الكثرة البشرية؛ لأن وسائل الإنتاج والرقي فيها تحتاج إلى هذه الكثرة القوية وأمثال هذه الدول يقال لها مرحبا بهذه الكثرة القوية المؤمنة العاقلة وهناك دول لا تحتاج إلى الكثرة في عدد أفرادها؛ لأن هذه الكثرة موجودة، ولأن إمكانياتها لا تتحملها، ولأن السواد الأعظم من أفرادها يعيش على جهود القلة فيها، ولأنها مع كثرتها تستورد من غيرها معظم ضروريات حياتها وأمثال هذه الدول يكون تنظيم الأسرة فيها أمرا مرغوبا فيه، إننا مرة أخرى نقول: إن الكثرة الصالحة المنتجة القوية مرحبا بها، أما الكثرة الهزيلة الضعيفة الشاردة عن الطريق القويم المعتمدة في كثير من ضروريات حياتها على غيرها فالقلة خير منها.
بعد هذه الحقائق التي أرجو أن تكون محل اتفاق نحب أن ندخل إلى موضوع تنظيم الأسرة والنسل بأسلوب السؤال والجواب فنقول:(5/481)
أولا: ما معنى تنظيم الأسرة؟ وهل هناك فرق بينه وبين التحديد والتعقيم والإجهاض؟ والجواب ببساطة تنظيم الأسرة معناه أن يتخذ الزوجان باختيارهما واقتناعهما الوسائل التي يريانها كفيلة بتباعد فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان يتفقان عليهما فيما بينهما، وهناك فرق شاسع بينه وبين التحديد والتعقيم والإجهاض إذ تحديد النسل بمعنى منعه منعا مطلقا ودائما حرام شرعا، ومثله التعقيم الذي هو بمعنى القضاء على أسباب النسل نهائيا، وأما الإجهاض وهو قتل الجنين في بطن أمه أو إنزاله فقد أجمع الفقهاء أيضا على حرمته، وأنه لا يجوز إلا إذا حكم الطبيب الثقة بأن في بقاء هذا الجنين هلاكا للأم أو ضررا بليغا سيصيبها بسبب بقائه في بطنها.
ثانيا: هل تنظيم الأسرة بتلك الصورة المحددة التي سبق بيانها جائز من الناحية الدينية؟ وبينا في الجواب أن تنظيم الأسرة بتلك الصورة التي سبق بيانها جائز شرعا، وسقنا الأدلة على ذلك.
ثالثا: هل تنظيم الأسرة هو الوسيلة الوحيدة لحل مشكلة تزايد السكان ورفع مستوى المعيشة وحصول كل فرد على مطالب حياته بصورة مقبولة؟ والجواب ما قال عاقل بأن تنظيم النسل أو الأسرة هو الوسيلة الوحيدة لحل هذه المعضلات، وإنما هو وسيلة من بين كثير من الوسائل التي من أهمها: أداء كل فرد من أفرادها لواجبه قبل مطالبته بحقوقه، وحرص هذا الفرد على أن يكون لبنة نافعة في بناء كيان مجتمعه، لبنة تقوي كيان المجتمع ولا تضعفه وتعطيه من إنتاجها أكثر مما تأخذ منه وآفة الآفات في كل أمة تثقلها الديون والمتاعب المتشابكة تتمثل في تقديري في تمزق أبنائها وتفرقهم وسلبيتهم، وفي شيوع سوء الظن بينهم بدون موجب واهتمام معظمهم بالحصول بكل طريق على مصالحهم الخاصة ومنافعهم الذاتية والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .
رابعا: أهناك فتاوى رسمية صدرت في موضوع تنظيم الأسرة أو النسل؟
والجواب: نعم هناك فتاوى متعددة صدرت في هذا الموضوع وأوردنا جانبا لا بأس به من هذه الفتاوى.
خامسا: أيصح للدولة أن تصدر قانونا لتنظيم الأسرة أو النسل؟
والجواب: لا يصح ذلك إطلاقا؛ لأن مسألة تنظيم الأسرة من المسائل الشخصية التي تتعلق بالزوجين وحدهما والتي تختلف من أسرة إلى أسرة على حسب ظروفها وأحوالها وما يتعلق بالزوجين لا تعالجه القوانين، وإنما خير وسيلة لتنظيم الأسرة فهم الدين فهما سليما وإشاعة هذا الفهم بين جميع أفراد الأمة، وإني أرجح أن على رأس الأسباب التي جعلت بعض الناس يتهاون في هذه المسألة إنما هو عدم الفهم السليم لأحكام الدين ولشئون الدنيا والاستخفاف بالمسئولية نحو الأبناء.(5/482)
سادسا: هل تتعارض الدعوة إلى تنظيم الأسرة مع قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] أو مع قوله سبحانه {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31] أو مع قوله سبحانه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] أو مع الحديث الشريف ((تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) ؟ والجواب: لا تتعارض الدعوى إلا تنظيم النسل متى سيقت بأسلوب حكيم مع هذه النصوص التي سقناها، والجواب أمام فضيلتكم حرصا على العشر دقائق ولا أحب أن أزيد ننتقل إلى النقطة السابعة.
سابعا: هل الدين يدعو إلى اتخاذ وسائل معينة لتنظيم الأسرة؟ والجواب أن الدين يدعو إلى الحياة السعيدة بين الزوجين، ويرسم لهما طريقهما ويحدد لهما ما هو حلال وما هو حرام ثم بعد ذلك يعطيهما الحرية الكافية لتصريف حياتهما في إطار شريعة الله وفي إطار مكارم الأخلاق.
ثامنا: هل يتنافى أو يتعارض تنظيم الأسرة مع الإيمان بقضاء الله وقدره؟
والجواب لا تنافي ولا تعارض بين تنظيم الأسرة وبين الإيمان بقضاء الله وقدره؛
لأن تنظيم الأسرة ما هو إلا لون من مباشرة الأسباب التي أمرنا الله تعالى بمباشرتها لتنظيم حياتنا وهذه الأسباب قد تنجح وقد لا تنجح وقد تتخذ المرأة وسائل منع الحمل لفترة معينة ومع ذلك يأتي الحمل، كما أن المريض قد يذهب إلى الطبيب فيعطيه علاجا معينا ولكن هذا العلاج قد يؤدي إلى الشفاء وقد لا يؤدي إلى ذلك ونحن مطالبون دينيا وعقليا بمباشرة الأسباب التي شرعها الله تعالى لنجاحنا في الحياة مع إيماننا المطلق بأن ما قدره الله وقضاه لابد أن يكون إلا أن ما قدره الله عز وجل وقضاه نحن لا نعلمه ولا نعرفه؛ لأن مرده إليه وحده وهو سبحانه علام الغيوب والأمر كما قال القائل:
إنما الغيب كتاب صانه
عن عيون الخلق رب العالمين
ليس يبدو منه للناس سوى
صفحة الحاضر حينا بعد حين
وإذن فتنظيم الأسرة لا يتعارض مع الإيمان بالقضاء والقدر؛ لأن ما قدره الله تعالى نحن لا نعلمه وإنما نحن نباشر الأسباب التي شرعها سبحانه لسعادتنا، ثم نكل الأمور بعد ذلك لله عز وجل يصرفها كيف يشاء، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وشكرا.(5/483)
الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه لي تعقيب على ما تفضل به بعض الباحثين من قبلي شكر الله لهم مساعيهم وتفضلهم بالبحوث القيمة، فلقد ذكر بعض الإخوة الزملاء أن للحنفية في قضية تحديد النسل أي الإجهاض بالذات مسلكا واحدا، واستشهد على ذلك بكتاب العلامة ابن عابدين رحمه الله وذكر ما لبقية المذاهب من أقوال وآراء، وإنني لم أكتب بحثا في هذا الموضوع حيث بحثي يتعلق بموضوع آخر غير أنني توقفت مليا عند مسلك الحنفية هذا، والذي أعرفه وتذكرته وأذكره بالضبط والتوثيق أن الجمهور لهم مسالك متعددة من جملتها مسلك أربعين يوما وهو مسلك مشهور لديهم، أما الحنفية فلهم مسلكان؛ مسلك بجواز الإجهاض قبل الأربعين فقط، ومسلك بجواز الإجهاض قبل مائة وعشرين يوما وهو المسلك الذي ذكره أخي الباحث مقتصرا عليه حصرا ولعله لم يطلع على المسلك الآخر والذي ذكره العلامة ابن عابدين رحمه الله، هذين المسلكين معا وهما قولان مصححان وذهب جمهور المتأخرين إلى ترجيح القول بقبول ما ذهب إليه الجمهور من الأربعين وإن رجح أيضا القول بأربعة أشهر بعض الحنفية المتأخرين الآخرين، فيظهر لنا أن للحنفية مسلكين معا وليس مسلكا واحدا وللجمهور مسالك وأظن أن أغلب الجمهور عند الأربعين لا عند المائة وعشرين وربما هذا الذي ذكرته في نفسي ولا أستطيع أن أجزم مائة بالمائة أنه عين الحقيقة، ولكن هو ما أذكره يوم كنت على مقاعد الدرس والله تعالى أعلم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.(5/484)
الدكتور إبراهيم بشير الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أولا: هناك ملاحظة تنظيمية قد أقولها في بداية هذا الحديث، وهناك ثلاث ملاحظات متعلقة بالموضوع، وملاحظة تخص بحث الأستاذ حتحوت كما قدمت.
الملاحظة التنظيمية: في دورتنا السابقة لاحظتم أن الذي يقدم للموضوع يتناول لا وجهة نظره فقط بل إلى حد كبير وجهات النظر الأخرى التي عرضها الباحثون حتى على الرغم أعتقد أننا جميعا قد اطلعنا على هذه الآراء ودرسناها وقرأناها، ولكن من المناسب ما سرنا عليه في السابق وهو تقديم الذي يقدم هذا الموضوع يتناول مختلف الأبحاث والآراء وليس مجرد بحثه أو رأيه هو بالذات، هذه من الناحية التنظيمية.
بالنسبة للموضوع لعل الدكتور حتحوت أشار إشارة، ولكنه اهتم لأحد جوانب المشكلة، وإذا كان الحكم على الشيء فرع من تصوره فلابد أن نذكر أين بدأت هذه المشكلة؟ بدأت هذه المشكلة في الغرب بناء على نظرية مالتوس التي تقول: إن الموارد محدودة والحاجات متزايدة. هل نحن نوافق أصلا أن الموارد محدودة وربنا هو الذي قدر فيها الأقوات وربنا هو الذي قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وربنا هو الذي جعل فيها المعايش وربنا هو القائل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21] وربنا هو القائل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وربنا هو القائل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ} [الأعراف: 96] ، إذن بداية التصور للمشكلة الاقتصادية هو مخالف للتصور الإسلامي القرآني ولابد أن يقال هذا وأن يقرر في جامعات العالم الإسلامي، وإنه من الخطورة أن تظل المشكلة الاقتصادية هي الموارد المحدودة والحاجات المتزايدة، ولا أريد أن أزيد في هذا الموضوع ولكن هذا الباب كان قد يفتح أمامنا قضية. إذن إن هذه النعم التي لا تحصى كيف يكون شكرها؟ شكرها بالعمل {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] وشكرها بعدم احتكارها وعدالة توزيعها ولفتحنا أبوابا أخرى في قضية النظام الاقتصادي كله لو نظرنا إلى الأمر من منشئه على وجهة النظر القرآنية الإسلامية إذن هذه هي النقطة الأولى.(5/485)
النقطة الأخرى: أشار إليها أيضا الدكتور حتحوت، ولكنه لامسها بمثل ما سبق أن تكرر في العالم الإسلامي، وأود أن يتغير إلى غيره وهو أن هناك مالا يزيد في بعض البلاد ويفيض ولكنه لا يقابل المتحوجين إليه فيعدم، هذه إحدى مشكلات الجانب الاقتصادي كما عالجه الغرب الذي يقول بالموارد المحدودة، ولكنها مشكلة أخرى بالنسبة للعالم الإسلامي، قضية احتكار المعرفة ونقل ما يسمونه بالمعرفة أو أن تعرف كيف (الناو هاو) هذه قضية في مثل هذا المجتمع وفي العالم الإسلامي لابد أن تكون محل نظر ليس مجرد أنهم يحرقون ما يفيض عن حاجاتهم ويمثل هذا جزءا من المشكلة ولكنهم يحتكرون المعرفة ويمنعونها عن العالم الإسلامي، والذي يظن أن القضية قضية نقل للتكنولجيا بمعنى نقل المصانع والمعامل قد أخطأ القضية، القضية قضية نقل المعرفة وعدم احتكارها وهي قضية لابد أن تثار في هذا الموضوع ولو نقلت المعرفة العلمية كما فعل المسلمون في جولتهم الحضارية الأولى للبشرية لكان هناك ما يكفي جميع الإنسانية ويفيض، إذن لابد أن يدان هذا النظام الذي يشوه الحقائق ويحتكر المعرفة ويمنعها ويقتل الناس.
الأمر الثالث أنه لابد أن ينظر في هذه المشكلة وأشير إليها أيضا على ضوء تكتل إسلامي يضم القوميات وشعوب العالم الإسلامي كلها، فإن وجدت هناك مشكلة تستدعي النظر في تحديد النسل نظر في هذا الأمر.
هذه الملاحظات الثلاث: الملاحظة التي تخص خصيصا بحث الدكتور حتحوت حينما قال: ظن الفقهاء السابقون منذ قرون عديدة أن بدء الحياة قرين نفخ الروح بينما أن الحقائق العلمية اليوم تنبئنا أن حياة الفرد منا قد بدأت قبل ذلك بكثير وهو يشير إلى معنى الحياة البيولوجية الذي يبدأ مع الجنين من أول يوم، وهذا التصور الفكري الغربي مقبول؛ لأن الإنسان عند الغرب حيوان عاقل ولكنه عند المسلمين كائن من الكائنات كما لا يمكن أن يقال عن الحيوان إنه نبات ولكنه متحرك أو متنفس؛ لأن حتى النبات يتنفس وينمو ويتغذى، لا يقال على الإنسان إنه حيوان. هو كائن يحمل أمانة جديدة وهو إنشاء أنشأه الله خلقا آخر، ربنا يقول بعد خلق النطفة {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} [المؤمنون: 14] الحديث عن الخلق الآخر هو التكوين الإنساني. الروح الإنسانية التي هي محل البحث عند الفقهاء فهم لم يخطئوا وفي الحديث الصحيح أن يكون الإنسان نطفة اثنين وأربعين يوما ويكون علقة اثنين وأربعين يوما ويرد في مجموعهما إلى مائة وستة وعشرين وهي الأربعة أشهر وعشر التي أوضحها القرآن الكريم في ذلك الوقت تنفخ الروح ويتكون الإنسان وينشأ خلقا آخر، وهذا ما بحثه الفقهاء السابقون؛ لأنهم ينظرون إلى الإنسانية أنها إنشاء وأنها خلق آخر وليست مجرد امتداد للحياة البيولوجية الحيوانية المعتادة التي يشير لها الفكر الغربي.
هذه هي الملحوظة التي وددت أن أبديها، وهذه هي الملاحظات الثلاث وتلك هي الملاحظة التنظيمية، وشكرا.(5/486)
الدكتور عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أود أن أشير إلى أمرين أظنهما هامين وهما ليسا كلاما في الموضوع وإنما في إطاره الصحيح.
الأولى هي التي أشار إليها الزميل الدكتور إبراهيم الغويل فلا أطيل فيها وهي أن المراد من اختيار أحد الباحثين أو أكثر لإلقاء البحث وهو تلخيص اتجاهات زملائه الذين كتبوا في نفس الموضوع، وأنا شخصيا من خلال عرض الأستاذين الفاضلين لم أعرف اتجاهات البحوث الأخرى فنود أن يؤخذ ذلك في الاعتبار في البحوث القادمة إن شاء الله.
الملاحظة الثانية: وهي في إطار الموضوع أيضا أن هذا الموضوع بحث في ندوتين متخصصتين أقامتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، الأولى كانت ((الإنجاب في ضوء الإسلام)) والثانية كانت ((بداية الحياة ونهايتها في الإسلام أو من منظور إسلامي)) ، وأود أن يكون تركيز البحث في الجديد كي يكون عملنا مكملا لا منشئا أو مبتدئا وشكرا.
الرئيس:
شكرا ما يتعلق بالملاحظة التي آثارها الشيخ إبراهيم وثنى عليها الشيخ عجيل هذا صحيح؛ ولهذا نرجو من أصحاب الفضيلة المشايخ في البحوث التي في الغد وبعده إن شاء الله تعالى أن ينتبه العارضون إلى أن يكون العرض هو ملخص للأبحاث التي طبعت ووزعت في الموضوع ذاته محل المناقشة وشكرا.(5/487)
الشيخ عبد الله البسام:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ليس عندي ما يقال؛ لأن الإخوان والأساتذة قد أوفوا الموضوع حقه وإنما أحب أن أركز على نقطة واحدة، وهو أننا في بحثنا هذا وفي البحوث المستقبلية إن شاء الله إننا نركز على الموضوع نفسه، فموضوعنا هذا تطرقنا فيه إلى الإجهاض هل يجوز أم لا يجوز؟ وهل يجوز قبل نفخ الروح أو بعد نفخ الروح؟ ثم تطرقنا إلى وسائل منع الحمل القديمة كالنزع والحديثة كالعقاقير الموجودة، أنا في اعتقادي أن مثل هذه المسائل ليس لها مساس في الموضوع وليس لها دخل، نحن نتكلم الآن في حكم الشريعة في تحديد النسل هل الشريعة تجيز تحديد النسل أو لا تجيزه؟ وإذا كانت لا تجيزه هل هناك تنظيم أو ليس هناك تنظيم؟ أحب مثلا أن البحث يقتصر على هذا الموضوع؛ لأن الوقت محدود والبحوث كثيرة جدا، الوقت لا يكفينا فإذا تطرقنا إلى مسائل أخرى هي طيب أن نعرفها وأن نفهم كلام العلماء عنها هذا جيد ولكنه يضيع علينا وقتنا في هذه البحوث وفي هذه الاستطرادات البعيدة وهذا مما يضيع الوقت ومما يجعلنا نخرج من ندوتنا دون أن نحقق البحث المراد من جلستنا.
هذا ما أردت أن أقوله، ومن هذا يعني أنا أحب مثلا تحديد النسل أننا نعرف حكم الشريعة فيه يكفينا هذا نعم البحوث فيها استطرادات لكن هذه الاستطرادات لا بأس بها أن تكتب، وأصحابها عرضوها وقرأناها وكلنا كتبنا هذه الاستطرادات، لكننا عند البحث وفي وقت محدد نحصر موضوعنا في المراد وهو تحديد النسل في مثل هذه المسألة، وشكرا.(5/488)
الشيخ أحمد بن حمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد.
فإني أشكر أصحاب الفضيلة الذين بحثوا هذه القضية وأشبعوها بحثا، ولا أريد أن أطيل في الموضوع وإنما أقول: إن إصدار حكم في قضية ما يجب أن يكون بعد تصور أبعاد تلك القضية وملابساتها المختلفة فقضية تنظيم النسل الآن تكتنفها أمور كثيرة، من بين هذه الأمور مؤامرات اليهود والنصارى والشيوعيين وغيرهم على المسلمين بإقلال عددهم مع أنهم يحرصون على تكثير عدد الكفار كما هو معلوم، فالقضية ليست هينة حتى يصدر من هذا المجمع قرار أو تصدر منه فتوى بإباحة تحديد النسل والنظر إلى الموارد هذا أمر قد كفينا إياه فإن الله سبحانه وتعالى تكفل بأرزاق العباد، والذي هيأ في هذا العصر من موارد الرزق ما لم يكن متصورا عند أسلافنا قادر على أن يهيئ في المستقبل من هذه الموارد ما لا نتصوره نحن، فليس ببعيد أن يكون في المستقبل القريب من الموارد من البر والبحر ما لا نتصوره نحن، فكيف نحن نحرص على بذل المال الكثير لأجل هذه الدعاية لتحديد النسل كما هو واقع في بعض الدول؟
على أننا علينا أيضا أن ننظر إلى القضية بالمنظار الطبي فإن درء المفاسد واجب وسد الذرائع لابد من مراعاته، وحسب ما قرأت لبعض الأطباء الذين كتبوا في هذه القضية بالذات من بينهم د. البار: أمر تحديد النسل له آثار سلبية على صحة المرأة نفسها وعلى صحة الجنين المنتظر الذي يأتي بعد ترك هذه الموانع التي تمنع من النسل، وأنا بنفسي عرفت زوجين كانا لا يريدان الإنجاب فترة من الفترات ثم بعد ذلك رغبا في الإنجاب ورفعا ما كانا يستعملانه للوقاية من الحمل، ولكن المرأة لم تحمل ورجعت إلى الأطباء وحقنت بالعديد من الإبر، وعندما ولدت ولدت مولودا واحدا لم يكن طبيعيا وقد سمعنا في دورة سابقة في هذا المجمع عندما بحث حكم ما يسمى بطفل الأنابيب عندما بحث ذلك سمعنا في هذا المجمع من الدكتور البار أن من جملة الأسباب الدافعة إلى استعمال هذه الوسائل للإنجاب منع الحمل أولا بوسيلة أو بأخرى، فإن ذلك يؤدي إلى تقلص الرحم وعدم إمساكه للجنين فلماذا نلجأ أولا إلى منع الحمل ثم نلجأ آخرا إلى وسيلة أو أخرى لأجل الحمل؟ فلندع الأمور طبيعية وأرجو ألا يصدر من هذا المجمع قرار في مسألة تحديد النسل إلا بعد دراسة القضية من كل جوانبها وبشرط أن يقصر ذلك على الضرورة فحسب، وأسأل الله التوفيق وشكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله.(5/489)
الشيخ مصطفى كمال التارزي:
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أشكر أصحاب الفضيلة الذين كتبوا في هذا الموضوع وبودي أن أضيف بعض بيانات حول تحديد النسل الجماعي، لقد بينت في أول البحث الذي قدمته إلى مجمعكم الموقر أن المنع الفردي للنسل بالعزل أو بغيره من الوسائل هو ترك الأفضل أو فعل المكروه، وإذا وجد موجبه عند الفرد كان العزل مباحا على مقدار هذه الرخصة الفردية، والسؤال المطروح: هل يجوز الفقه الإسلامي قياس الرخصة الجماعية لأمة من الأمم أو لدولة من الدول على الرخصة الفردية في منع الحمل وتحديد النسل ولو لمدة معينة حتى يزول المانع؟ المعروف عند الفقهاء أن الرخصة الفردية محدودة بحدود الضرورة، والضرورة تقدر بقدر نسبة لكل واحد حدة حسب ظروفه المادية والمعنوية، فإذا أبيح التحديد فإنما يباح للشخص الذي كانت عنده رخصه ولا يباح كقاعدة عامة تعم جميع الناس في بلد أو إقليم فينتفع بالإباحة صاحب الرخصة وغيره؛ ولهذا فإن من قاس تحديد النسل على العزل فقد أخطأ إذ هو قياس مع وجود الفارق والقاعدة في القياس اتفاق المقيس مع المقيس عليه من جميع الوجوه، ولا يوجد في الفقه الإسلامي ما يجعل الرخصة جماعية إذ من المقررات الشرعية أن المباح بالشخص أو بالجزء يكون إما مطلوبا بالكل أو ممنوعا بالكل على حسب موافقته المبادئ الكلية المكررة في الشريعة أو مناقضتها، فإن كان خادما للمبادئ الشرعية الثابتة كان مطلوبا بالكل مباحا بالجزء، وإن كان مناقضا للمبادئ الكلية العامة كان مباحا بالجزء حراما بالكل، وقد بين هذا الموضوع الشاطبي في الموافقات بيانا شافيا.
وبهذا نعلم أن الشرع الإسلامي لا يجوز منع النسل بالكل ولا يبيحه كأمر عام بدون قيود؛ لأن اعتبار حق الأمة في الولد حق تقرره الشريعة الإسلامية لحفظ كيانها ولنهوضها القومي، أما معاكسة الطبيعة في كف أجهزتها عن القيام بوظيفتها التي خلقت لها مما لا تقره الشريعة الإسلامية والله سبحانه وتعالى يقول: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] .
فالتحديد الجماعي لا تجوزه الشريعة الإسلامية ولا تبيحه مهما كانت الأعذار، ولا تحدد الأولاد الذين ينبغي أن تنجبهم الأسرة؛ لأن الحكمة في عدم تحديد العدد الأقصى للأولاد ما دام ذلك يتعلق بالاختيار الإنساني في الأسرة وقدرة كل أسرة على تربية الأولاد تربية واعية.(5/490)
ولذلك فإن كثيرا من العلماء يرون أن تحديد النسل الجماعي ليس معناه جبر الأمة أو جبر إقليم من أقاليم البلاد على اتخاذ تدابير معينة لتحديد النسل للوصول إلى نسبة ولادية معينة فهذا مما لا يجيزه الشرع قطعا بل معناه توعية الآباء والأمهات بمسئولياتهم الزوجية والأبوية وإقناعهم بهذه المسئولية المرعية حتى يصبحوا أكثر احتياطا لمستقبل أولادهم وأحرص على الاكتفاء بعدد من الأولاد حسب قدراتهم المادية والأدبية، وحتى يمدوا المجتمع بجيل قادر على مواجهة مشاكل الحياة؛ لأن من اهتمامات الشريعة الوصول بحياة المجتمع إلى المثل الأعلى ولا يتم ذلك إلا بتدخلها تدخلا مباشرا في تنظيم الأسرة وإخراجها من دائرة الحيرة والفوضى والتعسف إلى دائرة الوعي والنشاط والإنتاج وذلك بتوعيتها توعية دينية واجتماعية وطبية تدفع الضرر الذي يلحق الزوجة أو الأمة من جراء الإنسان الأهوج وإطلاق الحرية غير الواعية في تحسين النسل وكثرته؛ لأن الكثرة الهزيلة التي تتملكها عوامل الضعف والانهيار كثرة لا خير فيها، فالدعوة إلى تنظيم الأسرة لا يجوز أن تكون دعوة إلى محاربة الزواج أو محاربة النسل، فوجود الذرية بين البشر أمر فطري لابد منه، والقرآن نفسه يوجهنا إلى الذرية الطيبة الصالحة النافعة والمنتفعة ويوجهنا أن ندعو ربنا بدعاء زكريا {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38] كما علم عباد الرحمن أن يدعوه ليهبهم الذرية القوية الصالحة لقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] ، وإنما تكون الذرية سببا للسعادة إذا كانت سليمة قوية ومستعدة لخوض غمار الحياة، ولا خلاف بين الفقهاء في أن الإسلام يشترط في الزواج أن يكون الرجل صالحا للنهوض بواجبه قادرا على تحمل تبعاته، فإن كان عاجزا غير قادر طالبه بالتعفف والانتظار حتى يتوافر لديه المال والاقتدار لقول الله تبارك وتعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} ... الآية [النور: 33] ، وإذا أباح عدد من العلماء توعية الأسرة توعية دينية واجتماعية قصد تعريفها بحقوقها وواجباتها إزاء الأخطار التي تهدد حياة المجتمعات، فلا ينبغي أن يقتصر جهدنا على هذا الجانب وحده بل يجب أن نبذل كل الجهود لمضاعفة الإنتاج وتطوير الصناعة والزراعة ومواصلة السعي لكسب خيرات الأرض.
الرئيس:
يا شيخ مصطفى معذرة أنا أحب أن يكون تعقيدا عاما وهو أن الإخوان المشايخ الذين يأخذون الكلمة هو للمناقشة لا لقراءة ملخص البحوث.
الشيخ مصطفى كمال التارزي:
على كل الموضوع الذي أريد أن أتكلم عنه زيادة على هذا هو موضوع الشبهات التي تثار حول الإنجاب وحول تدخل الصهيونية، أو تدخل هذه الدول الأجنبية فإن هذا التدخل هل وقع بالفعل أو لم يقع؟ ينبغي أن نأخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار أولا في بلادنا، ونقدر الطاقات التي نملكها، ونقدر القدرات المادية التي لدى الدولة هل تستطيع أن تأخذ قرارا في هذا الموضوع؟ ثم هذه الشبهات التي تثار حول مشاركة بعض الدول كالدول الغنية هذه التي تريد التنقيص من عدد المسلمين ينبغي أن تدرس دراسة موضوعية؛ لأننا نقرؤه في الكتب وفي المجلات، ولكن لا نرى بحثا مستفيضا في هذا الموضوع بحثا اقتصاديا أو بحثا ديموغرافيا صحيحا، ينبغي أن تدرس هذه المواضع دراسة موضوعية حتى نتمكن من أخذ قرار نهائي بعد أن توضح لنا كل الجوانب في هذا الموضوع والسلام عليكم.(5/491)
حجة الإسلام محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لا أريد أن أكرر ما تفضل به الأساتذة المحترمون ولكن أشير إلى بعض النقاط بصورة سريعة جدا.
أولا: يجب كما قال الأساتذة من قبلي أن نفصل هذا الموضوع عن الأمور التي تلابسه، هناك موضوع التعقيم الكامل وهناك موضوع الإجهاض، هذه الأمور لا تلازم طبيعة موضوع مسألتنا، وإذا لم تكن تلازم هذه الطبيعة يجب أن نفرد لها بحثا خاصا مستقلا ولا علاقة لنا بها.
الشيء الثاني: المهم نحن يجب أن ندرس هذا الموضوع على مستويات تارة ندرس الموضوع على ضوء حكم الإسلام الأول له ثم هناك موضوع آخر وهو هل يجوز للدولة أن تلزم بهذا كأمر تقتضيه المصلحة الإسلامية العليا؟ وهناك أيضا مرحلة ثالثة هل يلزم منه الضرر أو الحرج الاجتماعي أو تلزم به ضرورة أو لا؟
هذه مراحل ثلاث للحكم يجب أن يدرس على ضوئها، فعلى ضوء المرحلة الأولى يعني لو لاحظنا الحكم في نفسه بعيدا عن مسألة التعقيم الكامل والإجهاض وبعيدا عن ما يشار إلى المؤامرات الدولية، وما إلى ذلك درسنا الموضوع في نفسه ثم نأتي إلى تلك المواضيع لا أجد في الواقع ما يمنع من تنظيم النسل بالطرق المشروعة الصحيحة خصوصا مع رضا الزوجين وبعد ملاحظة أن العزل أجازه الإسلام بشكل كامل لا يقاس على العزل، العزل هو أسلوب من أساليب تنظيم النسل ولا يقاس عليه في الواقع (أسلوب أجازه الإسلام وحتى وهذا ما أصر عليه حتى لو لم يثبت لدينا جواز العزل مع أن لجواز مقول به من قبل أئمة المذاهب الأربعة، بل كل المذاهب تقريبا وبالخصوص مع رضا الزوجة وحتى لو لم يثبت لدينا جواز العزل هناك أساليب أخرى ليس فيها ما في العزل من خصائص، ولا يمكن أن يقاس حكمها على حكم العزل، يبقى تنظيم الأسرة حكما مشكوك التكليف وهنا نشير إلى بحث مبنائي أشرت إليه في بحثي وهو مسألة أصل الإباحة عندما يشك في الحكم البراءة العقلية جارية البراءة الشرعية جارية القواعد الشرعية في هذا المجال كلها تجري ويبقى الأصل هو الإباحة في مسألة التنظيم.
أما على المستوى الآخر مستوى قدرة الدولة على إصدار قانون ينظم لها النسل هذه طبعا مسألة تحتاج إلى دراسة وحبذا لو أمكننا في دوراتنا الآتية أن نبحث عن قدرة ولي الأمر أو الحاكم الشرعي في سن القانون هل هذه القدرة محدودة في إطار المباحات؟ هل أوسع من ذلك؟ هل أضيق من ذلك؟ هذه أمور تحتاج إلى دراسة ولكن بشكل إجمالي ومبنائي أقول: ولي الأمر يمكنه إذا رأى المصلحة الاجتماعية العليا فضلا عن الضرورة الاجتماعية المصلحة الاجتماعية لسير مجتمع متوازن يمكنه أن يصدر أمرا يلزم بمباح تحريما أو واجبا يعني يوجب ذلك المباح أو يحرم ذلك المباح لتحقيق هذه المصلحة.(5/492)
وعلى ضوء هذا يمكننا أن نقول بأن الدولة الإسلامية والحاكم الشرعي يمكنه إذا رأى المصلحة أن يصدر قانونا في ذلك ولا مانع من ذلك والإباحة هنا هي التي تجيز له هذا الإصدار، وخصوصا إذا لاحظنا أن الأمر قد يتطلب أو قد يؤدي إلى فساد النظام الاجتماعي، هناك مناطق اليوم نسبة التوالد فيها أكثر من القدرة الاستيعابية التي تملكها الدولة أكثر من القدرة بشكل واضح، عندنا في إيران أذكر أننا في خلال عشر سنوات زاد شعبنا سبعة عشر مليون نسمة في خلال عشر سنوات وهؤلاء كلهم يحتاجون إلى صحة وتغذية وتربية ومسكن و ... و ... إلخ، فلا مانع إذن من صدور قانون من قبل الحاكم الشرعي إذا رأى ذلك، ولكني مع ذلك أرجح أن لا تلجأ الدولة الإسلامية أو الحاكم الشرعي إلى مسألة التحديد؛ لأن ذلك خلاف التوجه الإسلامي، وأكرر خلاف التوجه الإسلامي، التوجه الإسلامي لكثرة الإنجاب، لكثرة التوالد للإزدياد الكمي للأمة الإسلامية واضح جدا من خلال نصوص كثيرة وفي مواضيع متعددة، فالأفضل للدولة الإسلامية أن لا تلجأ لهذا الحل وتلجا للبدائل في هذا المعنى، أما ما يلزم القضية من أضرار وما أشير إلى الأضرار فيمكن لكل طرف أن يدعي الضرر كما يمكن للطرف المانع أن يدعي الضرر يمكن للطرف المجيز أن يدعي الضرر، وتبقى المسألة إذا كانت على المستوى الفردي تتبع الضرر الفردي، وإذا كانت على المستوى الاجتماعي تتبع الضرر الاجتماعي، إذا قلنا: إن حديث ((لا ضرر)) يمكنه أن يشمل الضرر الاجتماعي وسوء الحال.
أشير في ختام هذا التدخل إلى ما أشار إليه الأستاذ الغويل من قضية المشكلة الاقتصادية أيضا، أنا أعتقد أن المشكلة الاقتصادية ليست في عدم التناسب بين التوالي العددي والتوالي الهندسي الذي يشير له مالتس المشكلة الاقتصادية كما يشير القرآن الكريم إليها تكمن في ظلم الإنسان وكفره بالنعمة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] ، فإذا تآزرت وتلاحمت كل أجزاء وقطاعات الأمة الإسلامية لم تعد لدينا مشكلة لا بل على الصعيد البشري لو أن كل هذه الطاقات تلاحمت لم تبق لدينا مشكلة.
أعتذر عن هذه الإطالة، وأركز على لزوم الرجوع إلى مبادئ الموضوع وعدم الدخول في القضايا الجانبية وشكرا.(5/493)
الدكتور محمد علي البار:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة على أفضل المرسلين.
أصحاب الفضيلة، موضوع تحديد النسل أو تنظيم النسل له جانبان؛ الجانب الأول على المستوى العام أو المستوى الحكومي، والجانب الآخر على المستوى الفردي؛ على المستوى الحكومي ظهرت هذه الدعوة بنطاق واسع وأجبر كثير من الحكومات شعوبها لإجراء ما سمته تنظيم النسل، وقامت بعض هذه الحكومات بتعقيم الرجال أو النساء قسرا كما حدث في أيام أنديرا غاندي فقد عقمت أكثر من عشرة مليون شخص من بينهم عدد من المسلمين كبير، وفي الباكستان عقم ما يقرب من مليون شخص هناك كثير من الحكومات تقوم بمحاولات إغراء هذه الشعوب بشتى الوسائل لتنفيذ وسائل منع الحمل وإيجادها لهم رخيصة جدا أو بأثمان رمزية أو بدون ثمن بينما تتكلف الدولة هذه الأموال وتستدين مبالغ طائلة لتنفيذ سياسة ما يسمى بتنظيم الأسرة فعلى المستوى الآخر كما تعلمون الولايات المتحدة الأمريكية بريطانيا فرنسا ألمانيا الاتحاد السوفيتي إسرائيل، وألمانيا على وجه الخصوص تشجع النسل وتكاثر النسل وتدفع الأموال الكبيرة حتى لو كان.. طبعا سمعتم خطاب بيجن عندما كان رئيسا للوزارة في إسرائيل، كان يطلب من الإسرائيليات أن تزيد نسلها ولو كان بطريق الزنا في الاتحاد السوفيتي ملاحظة: رغم تشجيع النسل هناك بصورة عامة إلا أن كثرة المسلمين في الفترة الأخيرة أدت إلى أن الحكومة تشجع عدم زيادة النسل بين المسلمين وزيادة النسل بين الروس والأكران هذه سياسة رسمية وسائرة في الاتحاد السوفيتي إلى الآن بالنسبة للموارد كما أسلف الفضلاء الباحثون الموارد كثيرة، وسأورد مثالا واحدا فقط في البلاد العربية من بحث كبير للجامعة العربية أصدرته عن الأمن الغذائي سنة 1980 وذكرت فيه أن سكان البلاد العربية سنة 1976م كان مائة وستة وأربعين مليونا، وأن مساحة البلاد العربية تشكل عشر اليابسة بينما كان سكان العالم أربعة آلاف مليون في ذلك الوقت، وأن المفروض في البلاد العربية أن يكون عدد سكانها في ذلك الوقت أربعمائة مليون؛ لأن الأرض الصالحة للزراعة في البلاد العربية مائتان وستة وثلاثون مليون هكتار لا يستغل سوى ستة وأربعين مليونا واستغلالا سيئا جدا، وهناك أمثلة كثيرة كثافة السكان مثلا على وجه المثال في المملكة العربية السعودية وهي بلاد كبيرة شاسعة لا تزيد عن ثلاثة أشخاص في كل كيلو متر مربع بينما هي في بريطانيا مائتان وأربعة وأربعون شخصا لكل كيلو متر مربع هذه هي النقاط بالنسبة للسياسة العامة ونرى كما أشار إلى ذلك كثير من الباحثين أن السياسة العامة في إجبار الشعوب أو محاولة إغراء هذه الشعوب بشتى الوسائل على ما يسمى بتحديد النسل أو تنظيم النسل سياسة غير سليمة لا من الناحية الديموغرافية ولا من الناحية الاقتصادية ولا من الناحية الشرعية كما أشار إلى ذلك سادتي الفقهاء، ويأتي الوضع مختلفا بالنسبة للأفراد، ذكر الباحثون الأحاديث الكثيرة التي تبيح موضوع العزل وغيره، ولكن يبقى هناك نقاط معينة بالنسبة للتعقيم.(5/494)
التعقيم في الحقيقة يعتبر وسيلة من وسائل منع الحمل ويقصد به قطع الأنابيب بالنسبة للمرأة قناتي الرحم وبالنسبة للرجل قطع الحبل المنوي، ولا يقصد به الإخصاء كما لا يقصد به إزالة المبيض أو الرحم في هذه العمليات التي انتشرت على نطاق واسع تجري في كثير من المستشفيات في البلاد العربية والإسلامية عامة على اعتبار أن هناك أسبابا عديدة منها تكرر العمليات القيصرية ومنها الأمراض الوراثية، بينما كل هذه الأسباب في الواقع ليست أسبابا قطعية يعني هو نفس الطبيب في بعض الأحيان يقول للمرأة إذا كان ما لديها أطفال وتريد الأطفال وعندها مرض في القلب: تستطيعين أن تحملي ونستطيع أن نعالج هذا المرض، وإذا كان لديها عدد كاف من الأطفال طبعا ينظر إلى القضية من زوايا مختلفة وتختلف الآراء بناء على تَوَجُّهَات هذا الشخص وميوله واعتقاداته في هذه القضية، لا شك أن وسائل منع الحمل لها أضرار ولها فوائد، من الفوائد التي يقال عنها طبعا من الناحية الصحية هي تنظيم الفترة بين كل حمل وآخر وجعل الفترة حوالي ثلاث سنوات وهي تعتبر أفضل الفترات بين كل طفل وآخر أو بين كل حمل وآخر تعتبر هذه أفضل الفترات لكن لا يعني ذلك أن الأم إذا ولدت بعد عام آخر أن النسل لابد أن يكون ضعيفا أو لابد أن يكون هزيلا أو ... ، ليس ذلك شرطا، المشكلة أن وسائل منع الحمل التي تباع في الأسواق وبدون وصفات طبية لها أضرار كثيرة حتى في البلاد الأوروبية التي تبيح ذلك لا تسمح ببيع وسائل منع الحمل وخاصة الحبوب؛ لأن هناك موانع كثيرة لإعطاء المرأة حبوب منع الحمل، فالمرأة التي تعاني مثلا من البول السكري أو من أمراض القلب وضغط الدم أو من مرض الكبد أو الكلى أو هي فوق سن خمسة وثلاثين أو لديها أمراض نفسية أو كذا وكذا هذه المرأة تمنع من أخذ حبوب منع الحمل المكونة من مواد السيروجين وغيرها إذن سياسة منع إعطاء الحبوب على نطاق واسع وبدون تمييز أيضا حتى على النطاق الفردي سياسة غير سليمة، وينبغي أن تحدد هذه الوسائل بإشراف الطبيب، وأن لا تعطى بدون وصفة طبية أو بدون إشراف طبي لما يعتور ذلك من أضرار كثيرة على صحة المرأة أو على صحة الرجل أو على صحة الجنين، والسلام عليكم ورحمة الله.(5/495)
الدكتور علي محي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة العالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.
أشكر الأستاذين الباحثين العارضين على ما أتحفانا به فجزاهما الله عنا خيرا كما أشكر رئاسة الجلسة حيث جمعت بين طبيب فقيه وشيخ جليل، ثم بعد ذلك أستسمح الباحثين الكريمين عذرا في بعض التعليقات على بحثيهما الكريمين وهي:
أولا: إن استنتاج الأستاذ الدكتور حسان على أن الأصل عند الفقهاء في منع الحمل هو الإباحة لا أوافق عليه؛ وذلك لأن القول بجواز حادثة لا يعني أن الأصل فيها الإباحة، وذلك لأن جوازها قد يكون لدليل خاص مع أنه إذا ثبت أن الأصل في الشيء الفُلاني الإباحة لا نحتاج إلى دليل بل نحتاج إلى الدليل لحرمته، ومن هنا فما قاله جماهير الفقهاء في جواز العزل ليس دليلا على أن الأصل فيه الإباحة؛ لأنهم استدلوا على جوازه بحديث جابر في العزل فلو كان الأصل فيه الإباحة لاكتفوا بهذا الأصل، أو لاستندوا على هذا الأصل مع أنني لم أطلع على أحد من فقهائنا الكرام استند على هذا الأصل، ثم إن هذه القاعدة الأصل في الأشياء الإباحة ليست على إطلاقها إنما هي خاصة بالمعاملات المالية والإفادة من الكون ولذلك قال المحققون: الأصل في الإبضاع ما يتعلق بالمرأة وما أشبه ذلك الحظر والحرمة كما قالوا: الأصل في العقائد والعبادات التوقف على النص هذا من جانب، ومن جانب آخر أن العزل في نظري هو غير المنع كما تفضل بذلك كثير من الإخوة المتداخلين، فالعزل لا يمنع الحمل منعا مطلقا إذ يمكن معه التفلت والتسرب كما أشار إلى ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه، أما المنع بالوسائل الحديثة فيكاد تصل نسبة المنع فيه أو في بعضها إلى مائة بالمائة إذ يمكن أن نقول: إن قياس المنع على العزل فيه بعض شيء إن لم يكن قياسا مع الفارق فهو قريب منه، وهذا بخصوص المنع كمبدأ أما تنظيم النسل للضرورة والحاجة فجائز كما ذكره الإخوة الفضلاء.(5/496)
ثانيا: إن أستاذنا الدكتور حسان حتحوت أشار إلى عدة قضايا في غاية الأهمية لمخاطر الجري وراء المنع ونضيف إليها فنقول: إن الغرب الآن كما أشار إلى ذلك بعض الإخوة أيضا يستشعر مخاطر كثرة النسل بين المسلمين حيث إن نسبة الأطفال والشباب بين المسلمين تكاد تصل إلى سبعين بالمائة في حين أن نسبتهما في الغرب في حدود ثلاثين إلى أربعين بالمئة، فمعنى ذلك أن الغرب يسير نحو الشيخوخة؛ ولذلك تنبهت كثير من الدول الغربية منها فرنسا حيث خصصت عام 1986 وبالتأكيد في 15/6/1986م على لسان وزير الشئون الاجتماعية خصصت مبلغ خمسة عشر مليارا وتسعمائة مليون فرنك فرنسي لتكثير النسل، واتخذت عدة وسائل تشجيعية لا نستطيع ذكرها الآن، أما ما نقول أو يقال في مشاكلنا الاقتصادية فالواقع ليست مرتبطة بكثرة النسل وإنما هي نابعة عن عدم الاستغلال أو عن عدم استغلال الكون كما ينبغي أو عن سوء الاستغلال أو عن سوء التوزيع، كما أشار إلى ذلك الأستاذ الفاضل الدكتور حسان، وكذلك أستاذنا الفاضل إبراهيم حيث أشار إلى ذلك بوضوح، كما عقب على ذلك أيضا الأستاذ الكريم الدكتور البار فجزاهم الله عنا خيرا.
ثالثا: إننا كنا نتوقع من الأبحاث التي ألقيت أن يقوم الباحث بالجمع والترجيح والتوجيه والمناقشة، بالإضافة إلى الجمع بين حديث العزل وحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ((ذلك الوأد الخفي)) مع أن كثيرا من الإخوة الفضلاء ولا سيما الذين ألقوا البحث لم يشيروا حتى في بحثهم إلى ذلك مع أن ذلك حقيقة لابد من الجمع بينهما.
رابعا: إن العارضين ذكروا أن إجماع الفقهاء على حرمة الإجهاض بعد مائة وعشرين يوما مع أن العلم الحديث كما قال أستاذنا الدكتور حسان يقول بأن الحياة تبدأ بالتقاء الحيوان المنوي بالبويضة، وكنت أتوقع من الأستاذ الدكتور وهو خبير جوابا ولكن هذه المشكلة قد أرقتني وقد بحثت عنه ووصلت إلى جواب أعرضه على أصحاب الفضيلة والعلم مجرد عرض وهو أن ذلك في نظري: هناك فرق بين الحياة وبين الروح، فالحياة شاملة لجميع الحيوانات بل لبعض النباتات، بينما الروح خاصة بالإنسان، كما تشير إلى ذلك الآيات الكريمة {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91] من هذا الروح التي فيها صفات العلم وفيها صفات العقل ومنها التكليف وغير ذلك والتسخير التي لم يعط لأي جنس آخر.
إذن ممكن أن نجمع بين ما يقوله العلم الحديث وبين ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم إذ لا يمكن أن يكون هناك تعارض بين العلم الصحيح والحقائق العلمية دون النظريات بينما قاله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إذن فالجمع جدا ميسور في نظري والله أعلم.
هذا جانب والجانب الثاني أن فقهائنا الكرام ولا سيما الأصوليون لم يغفلوا عن ذلك، وقد أثبتوا الحياة وأهلية الوجوب الناقصة للجنين بمجرد استقراره في الرحم.
إذن من هنا أدركوا وقالوا: إن الحياة فيها مقدرة ومن هنا لا يكون لهم أن يقولوا لو قالوا بأن الحياة هي نفس الروح لما عارضوا الشريعة، ولما عارضوا الحديث لا سيما أن العلم لم يظهر آنذاك بهذه الصورة التي نحن نراها.(5/497)
خامسا: هناك بعض الجوانب الشكلية التي لا أريد أن أذكرها، قضية تخريج الأحاديث حقيقة يجب على الباحثين الكرام الاهتمام بالأحاديث؛ لأن قضية الإثبات والمنع كل ذلك يعود للحديث هل هو صحيح أو حسن ودرجته وبعد ذلك من ناحية نقده وما أشبه ذلك، فحقيقة كنت أحب من الإخوة الفضلاء أن يعنوا بهذا الجانب عناية كبيرة ولذلك من هنا إن بعض الإخوة حقيقة ذكر بعض النصوص الحديثية دون تحقيقها وإخراجها من مصادرها خاصة الأحاديث التي يتوقف الاستشهاد والاستدلال بها على صحتها وثبوتها. كما نقل بعض الإخوة في بحثه يقول: إذ المني حال نزوله محض جماد، هذا الكلام ممكن كان معقولا في الأيام التي لم يظهر العلم، أما الآن حقيقة المسألة لابد أن تعطي الأمر لأصحابه فاسألوا أهل الذكر، فإن مثل هذه الأقوال الفقهية يجب أن تمحص وتعرض على العلم؛ ولذلك إذا ثبت الآن أنه ليس جمادا إذن ما بنى عليه الفقيه هذا الحكم أيضا حينئذ لا يعتد به، إذن أيضا يجب أن يطرح ويحقق، فمثل هذه الأمور الفقهية التي مبناها الأمور الطبية والعلمية يجب أخذ رأي المختصين في هذا الموضوع، ثم نبني عليه رأينا ما دام لا يوجد نص صريح في الموضوع وقد كان سلفنا الصالح مثل الإمام الشافعي كذلك ذلك بهذا الخصوص، إذن من هنا فإن تحديد الحرمة أيضا تارة بأربعين يوما وتارة بعشرين يوما في أكثر الأبحاث يعود في نظرنا إلى هذه النظرة في وجود الحياة أو عدمها، أو يعود إلى الحديث الشريف، فكان الأولى بالباحثين الكرام أن يعودوا إلى فهم هذا الحديث والتعمق فيه والتعمق أيضا فيما عرضه العلم.
سادسا: إن ما نقله أحد الباحثين الكرام عن المغني في المذهب الحنبلي لا يدل على دعواه في أن الحنابلة يجيزون ذلك أي يجيزون الإسقاط، فكلام ابن قدامة في المغني وهو عندي نص في صفحة على ما أظن 8 في البحث الكريم الذي ألقاه الأخ الفاضل، فكلام ابن قدامة في المغني في قضية الجنايات والضمانات ولا يترتب على القول بعدم وجود الضمان في بعض الصور لا يلزم منه القول بجواز إسقاط الجنين إذن قد يكون الفعل محرما دون أن يترتب عليه ضمان مادي فالبابان مختلفان.
سابعا: أن ما نقله عن الزركشي الصفحة التاسعة من أن الزركشي انفرد بجواز الإسقاط للأم عند الضرورة قال: إنه ينقصه الدليل، فغير مسلم الآن الدليل الاضطراري موجود (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) ، ومن هنا نرى - ومعذرة على التطويل - أن الأصل في تحديد النسل في نظري وتنظيمه هو الحظر والمنع ويباح للضرورة أو للحاجة من مرض أو رعاية للرضيع أو نحو ذلك، وكذلك نؤيد ما قاله صاحب الفضيلة مفتي جمهورية مصر العربية حيث حصر ذلك أيضا في نطاق الفرد دون أن يكون قانونا وتشجيعا عاما، والله الموفق ومعذرة مرة أخرى وجزاكم الله عنا خيرا وسلام الله عليكم.(5/498)
الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
حقيقة هذا الموضوع المهم بالرغم مما كتب فيه وبالرغم أنه من الموضوعات التي أصبحت تقليدية، والتي كما ذكر بعض الباحثين فيه أنه قتل بحثا بالرغم من كل هذا فإن مجمعنا له حكمة واضحة في عرض هذا الموضوع؛ لأنه يمثل الدول الإسلامية قاطبة فينبغي أن يكون النظر فيه على هذا المستوى عالميا وبالرغم من أنه صدرت قرارات مجمعية واضحة في هذا الموضوع فينبغي الاهتمام بالظروف التي أحاطت بالموضوع، فقد اطلعت عليها وتكاد هذه البحوث تجمع على أنه يجب أن يفرق في شأن معالجة هذه القضية بين الاتجاه والسياسة العامة وبين العمل الفردي، فحقيقة هذا الموضوع له صلة بالسياسة الشرعية العامة التي ينبغي فيها أن نلتزم بمقاصد الشريعة، ومن أهم مقاصد الشريعة التي لا يكابر فيها أحد أن شريعتنا ترغب في إكثار النسل وإن كان يتأول بعضهم أن العبرة بالكثرة النوعية لا بالكثرة الكمية عملا بحديث ((قلة العيال أحد اليسارين)) بالرغم من كل هذا فإن الشريعة تفضل وترغب في إكثار النسل المؤمن لينافسوا بذلك الأمم الأخرى، فكثرة النسل مقصد شرعي ثم إن الاحتياط الواجب في الفتوى في القضايا العامة والذي أدين الله عليه هو أن الأصل في هذا الموضوع هو المنع وهو متفق مع ما ذهب إليه المالكية والظاهرية من أن الإسقاط ولو من أول يوم يعد حراما، لكن أيضا شريعتنا ولله الحمد يمكننا أن نقلد فيها المذاهب الأخرى التي تجيز، ولكن ينبغي أن نحصر هذا في حالات فردية تقررها إما الضرورة القصوى أو الحاجة الملحة، لا ينبغي أن نقصر أيضا الأمر على حالتي الضرورة وإنما أيضا الحاجة تنزل منزلة الضرورة، إذن لا يصح التعميم بحال من الأحوال.
أخالف بعض الإخوة الذين أجازوا للدولة أن تصدر قانونا في هذا الأمر، الحقيقة الدولة وسياستها ينبغي أن تكون نابعة من روح الإسلام وأصول عمل السلف الصالح في هذا المجال، فلم نسمع في أي عهد من العهود الإسلامية القرون الأربعة عشر أنهم اتجهوا مثل هذا الاتجاه.
لقد جمعتنا في أوائل الستينات نقابة أطباء دمشق جمعت عالما شرعيا وكنت متحدثا عن الشرعيين ورجلا نصرانيا وبعض الأطباء وبعض القانونيين وتحدثوا جميعا في هذا الموضوع، ينبغي أيها الإخوة أن لا يكون دورنا أقل من اليهودية كدين وليس كسياسة كما ذكر بعض الباحثين ألا نكون أقل من اليهودية كدين والنصرانية كدين أيضا في أننا نجيز الإجهاض والإسقاط ونعتدي على خلق من مخلوقات الله جل جلاله، هذا الأمر في غاية الخطورة، وله مضاعفات كثيرة سواء على المستوى الإسلامي العام أو المستوى الخاص، كذلك لا يصح أن نربط هذه السياسة الشرعية العامة بقلة الأمة أحيانا وكثرتها العددية فهذا الأمر يخضع لقانون المد والجزر والكثرة، والظروف ظروف الانتعاش الاقتصادي وقلته، فلا يصح أن نقرر لدولة حتى ولو ضاقت ظروفها الاقتصادية أن نقول لها يحل لكم كقانون عام أن تتجهوا إلى تحديد النسل أو إلى الإقلال من النسل تقليدا للشعوب الغربية التي تسير في هذا الفلك، هذا في الحقيقة هو الذي اطمأننت إليه من خلال دراسة آراء الفقهاء قاطبة والأحاديث النبوية الصحيحة والعمل الإسلامي الجاد الذي يتفق مع ضرورة الاحتياط والورع في مثل هذه الأمور.(5/499)
وهناك على الجانب الفردي الحقيقة يمكن أن نقلد بعض هذه الآراء الفقهية وهي محققة ونعتمد على الرأي الأصح على الرأي الضعيف في المذهب لأنه لا يحل الإفتاء بالرأي الضعيف ومع كل هذا فقد سبقني الشيخ علي إلى ملاحظتين أو ثلاث على بحث سبق عرضه، وهو أنه لا يصح بحال من الأحوال أن نخلط بين ضمان الاعتداء على الجنين ونجعل ذلك أساسا للغرة أو دية الجنين وبين تحريم أو إباحة الإجهاض، فقد يحرم الإجهاض ولا يجب ضمان الغرة أو ضمان الدية وهذا أمر بدهي، وأستغرب أننا نخلط بين أمر ضمان الاعتداء على الجنين وبين أمر الحل والحرمة في هذا الموضوع، كذلك أيضا أكبر الأخ الشيخ عليا وكنت مقررا أن أبين هذه الملاحظة أن الإمام الزركشي أن يقال عنه كما يقول بعضنا لبعض ينقصك الدليل، هذا أمر كبير على الإمام الزركشي المعروف بسعة أفقه العلمي وتبحره في الأصول وفي العلم وهو سيد الأصوليين، وأحسنت وزارة الأوقاف إذ نشرت كتابه النفيس (البحر المحيط في الأصول) ، وكنت أتمنى نشره منذ أكثر من ثلاثين عاما واضح عندما يقول: يجوز ذلك للضرورة والضرورة دليل من أدلة الشرع ونظرية واضحة من النظريات الإسلامية الكبرى، والنصوص القرآنية والنبوية تؤكد هذا المعنى، فالضرورة وحدها دليل من الأدلة ثم إن الأخ الباحث قال: أرجح ذلك للضرورة، إذن ما قلته عن الزركشي ينقصك الدليل أين دليلك أنت أيضا إن لم تكن الضرورة هي دليلك في هذا الموضوع؟ أخيرا حصر جواز الإسقاط في حال الضرورة فقط في الحقيقة على المستوى الفردي دون أن يكون ذلك من قبيل السياسة الشرعية العامة، هذا الاتجاه أيضا فيه مجافاة لروح التسامح الإسلامي وشريعتنا معروفة بتسامحها، فهي حينما تكون حالات اضطرارية أو حاجة تنزل منزلة الضرورة فلا مانع على المستوى الفردي أن نجيز ذلك للأمهات وللآباء ولظروف ضيقة جدا ولكننا نلتزم بأصل الحرمة وأصل المنع، فهذا متفق مع مقصد ومع روح التشريع العامة، وشكرا.(5/500)
الدكتور محمد فوزي فيض الله:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وبعد.
فقد تبلور الاتجاه في هذا المؤتمر الكريم فيما يبدو إلى التفرقة في تنظيم النسل بين الحال الفردية وبين الحال الجماعية، وهذا ما ينبغي أن يكون الأرضية لهذا الأمر، لكني أود أن أشير باختصار إلى الحكم في مسألة خفيفة وهي مذهب الحنفية في الإجهاض الذي عرض له بعض السادة الزملاء فالذي يؤخذ من كتبهم ليس هو أن هناك مسلكين لهم في الجزئية بل إن مذهب الحنفية في هذه الجزئية هو تفصيل دقيق تدريجي معقول مقبول، فهم يرون أن الإجهاض قبل أربعين يوما من الحمل وهو مكروه تنزيها؛ لأنه حياة نمو فقط وإن الإجهاض بعد الأربعين وقبل الأربعة أشهر هو مكروه تحريما وهي وإن كانت حياة نامية لكنها بدأت بالتصور والتشكيل الإنساني أما الإجهاض بعد الأربعة أشهر فهو حرام عندهم قطعا كما يقول الجمهور لانبثات أو نفخ الروح فيه وهذا تفصيل حسن ينبغي أن يفكر فيه كثير من أهل العلم وشكرا لكم.(5/501)
الدكتور يوسف محمود قاسم:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله عليه وعلى صحبه ومن اهتدى بهداه.
شكرا سيادة الرئيس وشكرا للسادة الزملاء والعلماء الأفاضل الذين سبقوني بالكلام، غير أني أوجه إلى السادة العلماء أصحاب الفضيلة أن يعطوا الآية الكريمة القرآنية أهمية تليق بجلال القرآن وقداسته وفي هذا المجمع الذي يعتبر مجمعا لِقِمَّةِ علماء المسلمين لا ينبغي أن تتلى الآية على غير ما هي مدونة في المصحف، فصحة الآية الأولى قوله سبحانه {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة 15 -16] ، وصحة الآية الثانية قوله جل شأنه {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] .
وأما عن الموضوع المعروض فلا تعليق لي عليه إلا الشكر الجزيل للسادة العلماء الأفاضل العارضين والمناقشين مع شكر خاص للأستاذ الدكتور حسان حتحوت على هذا العرض الرائع الذي سمعناه من سيادته، وإن كان لي من شيء قد أشير إليه فهو إنما ينقل عن بعض فقهائنا الذين كتبوا قديما لعصرهم حيث لا ينبغي لنا أن نظلم هؤلاء الأئمة، ذلك أن العلم الحديث والمسلمات العلمية الآن تثبت أنه بمجرد الالتقاء تثبت حياة الجنين بل الحياة مشاهدة علميا عن طريق انقسام الخلايا فهو أمر آخر كما جاء في الآية ذاتها {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ} [المؤمنون: 14] .
أما نفخ الروح في الإنسان فهو السر الإلهي الذي أودعه الله تعالى في الإنسان وإلا فما هو الفارق بين الجنين في الإنسان وبين الجنين في غيره من سائر الحيوان؟
نقطة أخيرة أيها السادة العلماء ما قيل من أن الحاكم الشرعي يصدر أمرا أو قانونا فيصير به المباح واجبا أو محرما فهذا غير مسلم، وما قيل من تقييد المباح لا يفيد في هذا الموضوع فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، نعم لولي الأمر تقييد المباح الذي لم يتعلق به حق العباد مثل منطقة معينة في الصحراء يقيدها ولي الأمر لمصلحة الأمة، وفرق كبير بين هذا وذاك، شكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله.(5/502)
الشيخ محمد علي عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
حضرة الرئيس حضرات الإخوان، بعد دراستي لموضوع تحديد النسل وجدت نفسي أتساءل فيم حيرة المسلمين وقد فرض الله علينا الدين الحنيف دينا كاملا وقال عز وجل {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام 38] ؟ في الحقيقة المسلمون في هذا العصر يبدو وكأنهم مشتاقون إلى كل ما يأتي من الغرب وكل ما يأتي من أوروبا، وكل ما يأتي من أمريكا، وكل ما يأتي من آسيا في حين أن لدينا كلنا شرفنا لنا أعمالنا إن كل ما نحتاج إليه دينا وعملا فأوروبا أتتنا بأعمال فضيحة أتتنا بأعمال نحتاج إلى طلب كل شيء من عندهم في حين لا نحتاج إلى هذا طلبنا منهم المال والقوت ففرضوا الآن يعطونا فكرة خاصة، فكرة تريد أن تحطم المجتمع الإسلامي، فكرة أن تجعل سدا للسلالة والأبناء وهي أحسن شيء أعطاه الله للمؤمن فكرة تحديد النسل.
يا أخي، أرى أن المسألة تحتاج إلى فكرة جيدة، تحتاج إلى الاحتياط قبل أن ندخل في هذا الموضوع , فقد قال عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ، هذه الآية كاملة وشاملة لا تحتاج إلى تفسير , إن كل شخص موجود في هذه الدنيا الله أعلم بوجوده , لقد فرض الله الحياة كما فرض الموت، لقد فرض الله الغنى كما فرض الله الفقر، فكيف الآن نتساءل: ما يكون مآل أو مصير أبنائنا في الغد؟ ماذا سيكون أكله غدا، الأمر بيد الله إن كنا نؤمن حقا فعلينا أن نعلم أن الله يعلم كل شيء، خطوة كل عمل نعمله أو نقوم به معروف عنده، زيادة على هذا لقد آمن بعض المؤمنين بأنه إن كانت هناك مشقة أو شدة تصلى صلاة الاستسقاء ونتحصل على المياه فكيف اليوم نخاف ونقول: ماذا سيكون عمل غد إن لم يكن لدينا ما نطعم به إخواننا فلم لا ندعوا الله {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] فالدعاء قلب العبادة، فلم الحيرة لماذا نحتاج إلى تحديد النسل؟ لم نبحث عن طريقة لننظم فيها الأسرة، من أدرى نحن أم الله؟ أقول وأؤكد أن ما فرضه الله لا نشك فيه لقد تعرض سيدي الرئيس في الجلسة الافتتاحية لكلمة أثرت بي لأني كنت مؤمنا بها حقيقة تخص موضوع اليوم فيما يخص موضوع تحديد النسل، تعرض الرئيس إلى موضوع كان من المفروض كل شخص أن ينتبه إليه قبل أن نذهب إلى آراء الأطباء قبل أن نذهب إلى آراء الاختصاصيين المسيحيين فيما فرضوه في كتبهم وهو الموضوع الذي تعرض إليه سيادة الرئيس في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] أيضا قال سيادة الرئيس: إن الرزق يأتي من السماء وهذا حق لا شك فيه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] كما تعرض سيادة الرئيس أيضا إلى موضوع تحديد النسل حين قال: إن.....(5/503)
الرئيس:
تقصدون من هذا أن تبنى الأحكام على النصوص؟
الشيخ محمد علي عبد الله:
صحيح لأنه تعرضت لنفس الموضوع الذي تعرضت إليه أنا شخصيا العفو يا سيادة الرئيس فيما يخص العقيدة والعبادة حقيقة هي كلمة لا إله إلا الله، لقد كدت أبكي من كلمة قلتها لا إله إلا الله وهي عماد الإيمان، وإن كل مؤمن يولد في هذه الدنيا متأكدون بإذن الله أنه سيقول: لا إله إلا الله؛ ولذا أعتبر أن لا إله إلا الله محمد رسول الله هو ميزاننا وأننا كمسلمين في ميزان والكفار من الجهة الأخرى فكل ما نفرض إن قَلَّتْ كلمة لا إله إلا الله نفتكر أن كلام الكفار سيرتفع ونحن نقلل من القائلين بلا إله إلا الله بمنع نساءنا من الإنجاب؛ لأن كل مسلم يرزق وكل مسلم يأتي في هذه الدنيا سينطق بكلمة لا إله إلا الله بإذن الله ولا إله إلا الله هي كلمتنا في الدنيا والآخرة، ثم زيادة على هذا أن تكلمنا في تحديد النسل فإن تحديد النسل سيؤدي إلى فساد الخلق لدى البنات؛ لأن كل بنت تعرف أنه مسموح لها بالقيام بتنظيم النسل ومسموح لها بأخذ الحبوب والأدوية التي قد تشتريها من الصيدليات؛ لأنه ربما سيصدر قانون عام مأذون به وأن سيفتح لها الباب غدا تقوم بأعمال غير لائقة بأعمال مخالفة للإسلام مخالفة للشرع بدون أن يشعر وليها بأي مسئولية عنها.
ولهذا أرى أن الكلام في تحديد النسل يجب أن يكون بحذر فالصحيح أن يقال: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، حقا لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة إذا كانت القضية متعلقة بامرأة في حالة خطر أو حامل وترضع، قد يسمح في هذه الحالات الدقيقة الحالات التي لا يمكن أن نتجاوز عنها بقيامها بعملية الإجهاض أو بقيامها بعملية لا تسمح لها غدا بأن تلد وشكرا.(5/504)
الدكتور محمد نعيم ياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الحقيقة بعض الإخوة وخاصة الدكتور حسان حتحوت في مقالته الراقية الرائعة أوحى بسؤال، ويجب أن نجد له حلا؛ لأن الجزء الأساسي من الموضوع ربما يكون كما قال بعض الإخوة: قد قتل بحثا، ولعل الاتجاه العام فيه إلى إباحة تحديد النسل للأفراد وعدم إباحة ذلك للحاكم، ولكن نريد أن نعرف عندما يغلب الظن يغلب ظني أنا محمد نعيم أن الاجتهاد الخاص أن هناك مؤامرة فعلا في البلد الذي أعيش فيه سواء كنت في جزيرة ترينيداد أو في فلسطين أو في المالديف أو في أي مكان أن هنالك مؤامرة تخطط لجعل نسبة الأقلية المعادية أو أقلية يعني لها اتجاه آخر تزيد وتأخذ مراكز تأثير، أريد أن أعرف عندما يغلب على ظني أنا هل يحرم علي أن أحدد النسل أم يظل ضمن الإباحة؟ وهذا سؤال لا أوجهه للإخوة الذين يرون أن الأصل في تحديد النسل التحريم إنما أوجهه للإخوة الذين يرون أن الأصل في تحديد النسل للفرد، يرون أنه مباح في هذه الحالة هل يحرمونه عليه؟ وإذا كانوا يحرمون عليه ذلك فأرجو إذا ما صدرت توصية بهذا الخصوص وكانت متجهة في الاتجاه الأوسع وهو الإباحة للأفراد أن تستثنى ذلك بحيث يكون حراما أو على الأقل مكروها لأؤلئك الأشخاص الذين يغلب على ظنهم سواء كانوا على مستوى الأفراد المثقفين أو الوسط أو غير ذلك أنه يكون حراما بالنسبة لهؤلاء.
هذه ملاحظة أثارها الحقيقة في ذهني كلام الدكتور حسان والدكتور البار ومن جاء بعدهم وجزاهم الله خيرا وبارك الله فيكم.(5/505)
الدكتور عمر سليمان الأشقر:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كنت أود في مناقشة هذا الموضوع أن لا نصدر في أبحاثنا عن رد فعل تجاه شبهة وردتنا من الغرب في ظني أنه آن للمسلمين في هذا العصر أن يتوجهوا بأبحاثهم النابعة من فقههم وشريعتهم تأصيلا: أولا لبيان المفاهيم الأساسية النابعة من الشريعة والنظريات المبنية على الأصول الشرعية لبيان المشكلات المعاصرة تتقدم بها إلى العالم نقول: هذا فقهنا وهذا ديننا وهذه شريعتنا وهذه أصولنا الموافقة للحق، هذا جانب والجانب الآخر كنت أود أن نناقش أصل النظرية لا نكتفي بإيراد الأدلة الشرعية، إنما أن نبين أصل النظرية التي أقيمت عليها هذه المسألة عند علماء الغرب أو عند غير المسلمين، ثم تفند من مختلف الزوايا سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأخلاقية أو العلمية حتى نهدم الأصل الذي قامت عليه؛ ولذلك حبذا لو أن البحث طرق من عدة زوايا زاوية علماء الشريعة هذا جانب علماء الاقتصاد الإسلاميين، هذا جانب آخر علماء الأطباء المسلمين ماذا يقولون في هذا؟ علماء الاجتماع المسلمين ماذا يقولون في هذا؟ نستطيع أن نقدم بعد ذلك للعالم منهجا واضحا في هذه القضية وقد كنت أسمع من المرحوم الدكتور عيسى عبده العالم في الاقتصاد الإسلامي أنه كان يقول: أصل هذه النظرية أصل هذه المسألة مبني في الاقتصاد الغربي على نظرية الندرة النسبية ويقابلها عندنا في الشريعة الإسلامية نظرية الوفرة النسبية، ففي الاقتصاد الغربي الأصل في الخلق الندرة والمفاهيم الشرعية والنصوص الشرعية تعطي أن الأصل في الخلق هي الوفرة النسبية، فكلما احتاج الإنسان إلى شيء أكثر فيكون وجوده أكثر، فالهواء وجوده كثيرا جدا لحاجة الإنسان الشديدة إليه، الماء بنسبة أقل ولكنه وافر، وهكذا.
في الختام كنت أيضا أحب أن ألفت النظر إلى أن تاريخ هذه القضية الإخوة الذين تكلموا في هذه القضية بعيد الغور في التاريخ الإنساني فقد رأيت بعض النصوص عند الفلاسفة في أثينا دعوا إلى هذا المنهج، وحدد بعضهم أن العدد المثالي لمدينة أثينا خمسة آلاف وسبعمائة هي التي يمكن للموارد في أثينا أن تكفي سكانها، أما الأكثر من ذلك ففيه خطر يعني هذا البحث قديم أو هذه المسألة قديمة وشكرا.(5/506)
الدكتور عمر جاه:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرا فضيلة الرئيس فيما أعتقد أن مسألة المفردات التي تناولناها في تحديد النسل تنظيم النسل منع الحمل هذه كلها مفردات تشير إلى معنى واحد، والذي أراه والذي نستطيع به أن نفرق بين هذا وذاك هو الدوافع، ما هو الدافع؟ ما هو المبرر؟ ما هو الهدف من استعمال هذا الأسلوب لمنع الإنجاب؟ وفي الحقيقة كما رأينا هذا ظاهر في البحوث التي تناولناها أن مسألة منع الحمل وتنظيم النسل كان قائما وليس جديدا في حياة المسلمين، والظاهر الغريب الذي أريد أن أضغط عليه وأصر عليه الغريب في الموضوع هو هذا الضغط الكبير الذي يأتينا من دول تشجع النسل في بلادها وتمنعه في بلادنا نحن ونحن متفقون تماما ولا أشك أن هنالك أحدا يخالف في هذا، إن الهدف أو المبرر لا يمكن أن يكون اقتصاديا ولا ماديا؛ لأن هنالك آيات قرآنية كثيرة ذكرها العلماء في هذا المكان هؤلاء يغنونا عن تكرار ما سبقوا إليه فهذا الكوكب الذي خلقه الله لنا فيه المزيد مما نحتاج إليه لكي نعيش إذا أحسنا، وأشكر الدكتور حتحوت في هذا المجال أشار إلى نقطة هامة جدا ونقطة أساسية في حياة المسلمين تكافل وتكامل، وأنه إذا حدث أن هناك دولة ينقصها موارد لتغذية أبنائها هناك دول إسلامية أخرى عندها وفرة، وإذا كنا مسلمين حقا ينبغي أن نقوم ونتعاون في سد حاجات بعضنا البعض حتى لا نضطر إلى اللجوء إلى أساليب لا يمكن تبريرها فمسألة منع الحمل إما بالتعقيم أو بالعزل أو بطرح كمية ضخمة من حبوب منع الحمل في أسواقنا وهذا يؤدي حتما إلى ظاهرة أخرى غير شرعية فالأخ مندوب النيجر أشار إلى نقطة خطيرة جدا، وأن هناك عددا كبيرا من النسوة يستطعن أن يتناولن هذه الأمور التي تمنع الحمل، وهذا فيه تشجيع على الإباحية كما تعرفون.(5/507)
إذن فالمسألة كما أراها أنا إذا كنا سنصدر في هذا المجلس توصية أو فتوى في هذا المجال ينبغي أن ندرس الموضوع كما قال الأخ عمر الذي سبقني في الكلام، ينبغي دراسة الموضوع دراسة مستفيضة من كل جوانبها، ومن هنا أختلف إلى حد ما مع الإخوة الذين عبروا عن تخوفهم من إقحام موضوعات ليست جزءا من هذا الموضوع ويقولون: إن مسألة الإجهاض والتعقيم تختلف تماما عن موضوع تنظيم النسل، صحيح قد يختلف لكننا لا نستطيع أن نصدر فتوى تفيد إلا إذا بينا هذه الأمور التي أقحمت إقحاما في هذا المجال وهي غير شرعية أنا متفق معهم تماما أن الإجهاض غير شرعي وليس هناك مبرر له إلا إذا كان هناك حاجة لحماية الحياة، الإجهاض في منع حياة أو قتل حياة إذا كانت هذه الحياة التي سوف تأتي لا نقتلها إلا لحماية حياة قائمة إذن الإجهاض غير شرعي ومحرم شرعا إلا إذا كانت هناك ضرورة؛ ولذلك تنظيم النسل وكلنا يعرف أننا نمارس تنظيم النسل حتى من غير أن يكون هناك تشريع على مستوى الدولة لأن كل أسرة تعرف ظروفها الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وتمارس نوعا ما من تنظيم النسل ولكننا ينبغي أن ننتبه إلى أن هذه القضية قضية خطيرة؛ لأنها أقحمت علينا ونتكلم عن أشياء هناك أشياء أخطر من هذا؛ لأن مسألة حبوب منع الحمل الآن أو تركيب لولب هذه الأشياء كان المفروض أن تخصص للمتزوجات والمتزوجين فنجد الآن أن هذه في متناول الملايين وهذا حدث فعلا في الدول الإسلامية، إذن هذا الجانب الخطير ينبغي أن يكون موضع الاعتبار بالنسبة لدراستنا وشكرا.(5/508)
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله بعد هذه الأحاديث الطويلة المستفيضة الممتعة وبعد هذا الاتجاه الطيب إن شاء الله أريد أن أشير إلى نقطتين اثنتين فقط.
النقطة الأولى:
هي أن شيخنا الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله عندما قدم بحثه للمؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية في هذا الموضوع موضوع تنظيم النسل ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وغير الإمام مسلم، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل، فقال: ((ذلك الوأد الخفي)) ثم قرأ: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير 8-9] ، وجعل أن هذا هو الأساس في الموضوع، وأن الأحاديث الأخرى التي ذكرت في الموضوع يجب أن ينظر إليها في ضوء هذا الحديث ((كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) كيف كانوا يعزلون والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((ذلك الوأد الخفي)) فلاحظت في الحقيقة أن بعض الإخوة الباحثين اكتفوا بذكر الأحاديث التي تبين أن العزل مباح، وأن هناك أحاديث شريفة أباحت هذا دون ذكر لهذا الحديث الشريف.
ووجدت أن بعضهم مر عليه مرورا سريعا مع أن شيخنا رحمه الله وقف عند هذا وقفة طويلة، وَبَيَّنَ أن هناك المنهج الذي أشار إليه فضيلة الأخ الدكتور الأستاذ علي القره داغي وهو أنه يجب أن نجمع الأحاديث كلها، وأن نخرج هذه الأحاديث، وأن ننظر في ضوء هذا التخريج فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ذلك الوأد الخفي)) فلا بد إذن إذا كانت هناك إباحة في أحاديث أخرى تبيح لا بد أن ننظر في ضوء حديث المنع إلى جانب ما ذكر من أن الإسلام يحث على الزواج وكثرة النسل.... إلخ، فلا بد أن نجمع بين هذا وذاك.
الأمر الآخر: هناك إشارة إلى بعض الفتاوى الفردية وبعض الفتاوى الجماعية لبعض المؤتمرات الطبية الإسلامية، وأرى أن من أهم الفتاوى التي صدرت فتوى مجمع البحوث الإسلامية، (المؤتمر الثاني سنة 1385هـ - 1965م) حيث حضر هذا المؤتمر كبار علماء يمثلون خمسا وثلاثين دولة إسلامية وصدر القرار بالإجماع، والقرار بالإجماع نصه موجود في البحث الذي قدمته ولا أريد أن أقرأه، كذلك هناك فتوى أخرى إجماعية صدرت بعد هذا بخمس عشرة سنة فتوى مجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي وهي في نفس الموضوع ونصها موجود في البحث الذي قدمته.
إذن أعتقد أن هاتين الفتويين من أهم الفتاوى التي صدرت، ولعل الإخوة الكرام ينظرون إليهما عند صياغة الفتاوى والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وشكر الله لكم.(5/509)
الدكتور أحمد محمد جمال:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد.
تصورت عندما وضعت بحثي عن تحديد النسل وتنظيمه أن هناك أمرين مطروحين على المجمع يريد المسلمون أن يعرفوا رأي الإسلام فيهما، وقد ركزت على هذين الأمرين وهما تحديد النسل على المستوى الجماعي، وتنظيم النسل على المستوى الفردي هذا هو المطلوب، المسلمون يريدون أن يعرفوا: ما حكم الإسلام في التحديد الجماعي؟ أي تدخل الدول في هذا التحديد هذا طبعا لا يجوز وقد استدللنا في أبحاثنا بالأدلة الشرعية من القرآن والسنة، لا يجوز لدولة ما أن تحدد نسل شعبها تحديدا جماعيا فهذا يناقض حكم القرآن وحكم السنة، أما تنظيم النسل على المستوى الفردي فهذا هو الجائز في نظرنا، وقد استدللنا عليه بأدلتنا أيضا الشرعية فلو أتيح لنا من البداية أن يقول كل باحث خلاصة لرأيه وأدلته لكفينا كثيرا من هذه التعليقات الطويلة التي ذهبت بعيدا عن موضوع القضية المطروحة على المجمع.
تحديد النسل لا شك أنه ممنوع على المستوى الدولي أي الدولة أو المجتمع، وقد قرئت الآيات الكثيرة التي تضمن الرزق وأيضا نعرف من حيث الواقع حيث واقعنا نحن المسلمين بلادنا تفيض بالخيرات البشرية والزراعية والغذائية والأرضية، وهنا أحب أن أقف وقفة قصيرة تعليقا على كلمة سماحة الشيخ علي التسخيري؛ لأنه يبدو في كلمته أنه يؤيد التحديد الجماعي، وقال: إن عندهم زيادة سبعة عشر مليونا يحتاجون إلى طعام وشراب وتربية ... إلخ , الواقع أن كل الدول الإسلامية بما فيها إيران عندها من الخيرات ما يكفي للتغذية والتربية إذا وفرت هذه الخيرات للشعب.
نرجع إلى التنظيم الفردي الذي نرى أنه لا بأس به , لماذا لا بأس به؟ لأنه يقوم على حاجة وضرورة بالنسبة للزوج والزوجة، قد تكون الزوجة مريضة لا تحتمل الولادات المتتابعة، قد تكون تحتاج إلى ولادة بالعملية القيصرية فلا بد لها من راحة عدة سنوات، قد يحتاج الأب إلى تربية لأولاده فترة بعد فترة فالتنظيم الفردي لا بأس به.(5/510)
هذا هو أساس القضية على مستوى فردي , وهنا أشير أيضا إلى ما قرره علماء الأصول على أن المباحات قسمان: وليست قسما واحدا ليس كل مباح مباح على المستوى الفردي والمستوى الجماعي وهذا ما تحدث عنه الإمام الشاطبي في الموافقات وكان حكيما في بيان هذا الفرق بين ما يباح للجماعة وللفرد وما يباح للفرد فقط , فالتنظيم الفردي لا يجوز للدولة أن تستبيحه، هو مباح فقط لضرورات فردية للزوجة للزوج للأسرة فقط، وقد ضرب بعض علماء الأصول المثل بتعدد الزوجات أو بالطلاق فهما مباحان مباح على مستوى فردي لكن لا يجوز لحاكم أن يأمر بتعدد الزوجات كقانون، ولا يجوز أن يتدخل في شئون الأفراد أو يوجب الطلاق.
المهم لا أريد أن أطيل في التدليل والتفصيل، وإنما الذي أريده أن نقصر البحث على موضوع القضيتين المطروحتين تحديد النسل على المستوى الجماعي لا يجوز وتنظيم النسل على المستوى الفردي لا بأس به للضرورات التي أشرت إليها.
أريد أن أعلق أيضا في سطور محدودة على كلمة الدكتور علي السالوس فيما ذكره من أحاديث العزل منعا وإباحة الواقع أن العلماء بحثوا أحاديث العزل التي تمنع والتي تبيح وأغلب العلماء أيدوا الإباحة أخذا بحديث جابر " كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل " وهذا الحديث متأخر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم طبعا فاعتبروه حتى لو كان هناك حديث ((الموءودة الصغرى)) يعتبر ناسخا له فالعلماء بحثوا الجمع بين هذه الأحاديث وقرروا أن الإباحة في العزل هي الأساس وشكرا والسلام عليكم.(5/511)
الدكتور الطيب سلامة:
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حضرات العلماء الأفاضل، هذا الموضوع الذي بين أيدينا هو موضوع من الأهمية بمكان لو قايسناه ببقية مواضيع هذه الدورة؛ لأنه موضوع يمس الإنسان المسلم إما عاجلا وإما آجلا في حين أن العديد من الموضوعات الأخرى التي تعني البيع والمرابحة والربا وما شاكل ذلك من قضايا البنوك وقضايا المعاملات هي تتصل بحياة المسلمين عموما، ولكنها لا تمس حياة المسلمين فردا فردا مثل هذا الموضوع، صدقوني إذا قلت لكم: إن من علم من الجماهير العريضة بأن هذا الموضوع سيعرض على المجمع الدولي للفقه الإسلامي هم في أشد الشوق وفي أشد الانتظار لما ستسفر عنه الدورة من قرارات ومن تحليل أو تحريم، ولا أقول جديدا: إن سمحتم لي بأن أُذَكِّرَ بدور هذا المجمع الكريم وأن تأسيسه كان محل ارتياح العلماء والعامة؛ لأننا قد انتهينا إلى قضية ونحن مع طلابنا في أمر الاجتهاد إلى أن الاجتهاد الفردي يحسن أن يعود وإلى أن الاجتهاد الجماعي هو الذي سيأخذ مكان الاجتهاد الفردي، وهو الذي سيوضح للمسلمين معالم طريقهم وأمور دينهم وما سيجد من قضايا حياتهم حينئذ قرارات هذا المجمع هي قرارات اجتهادية، والاجتهاد كما هو معلوم في الشريعة الإسلامية أصل من أصول التشريع الإسلامي حينئذ أود أن أقول من وراء هذا: إن دراسة هذا الموضوع تستدعي أن تأخذ حظها ولو لزم الأمر إلى أن نفكر في مضاعفة دورات المجمع ولا نقتصر على دورة سنوية لحل القضايا ولخدمة هذه المسائل حينئذ قضية تحديد النسل أو التوقي من الحمل أو الإجهاض، هذه كلها قضايا حيوية يحياها الرجال والنساء كما يحياها الشباب بالنظر إلى مستقبل حياتهم الزوجية القضية حينئذ تتطلب مزيدا من التأني وعدم السير على منهج المؤتمرات الأخرى، هذا مؤتمر علمي، وهذا مؤتمر مجمع فقهي، وإن حددناه بزمن فمعنى ذلك أنها دورة يمكن أن تعقبها دورات ويمكن أن تتجدد الدورة وليس اجتماعا سياسيا نريد أن ننتهي فيه حتما إلى قضايا وقرارات سياسية أو إلى لوائح لا بد من إصدارها، هذا من باب التواصي بالحق وبالخير أما إذا عدت إلى موضوع تحديد النسل أو التوقي من الحمل أو العزل وتعددت الأسماء وتقاربت المدلولات وإن كانت هذه الأسماء كلها تجمع قضايا متعددة.(5/512)
الموضوع في الواقع له عدة جوانب والناس والأمة الإسلامية في انتظار الحكم الواضح في كل قضية من القضايا مفصلة هنالك جانب منع الإخصاب والتوقي من الحمل والذي كان يسمى بالعزل في القديم، هنالك جانب ثان وهو جانب منع الإخصاب ولكن ليس بصورة العزل يعني قبل أن يبلغ ماء الرجل المحل " الرحم "، وإنما بعد ذلك فهذه العملية عملية منع الإخصاب ولكن هذه المرة داخل الرحم لا خارجه، وهنالك عملية القضاء على ما تم من إخصاب في فترة من فترات الإخصاب وهو ما يسمى بالإجهاض سواء كان في مرحلة أولى أو في مرحلة ثانية من مراحل الحمل , القضية لها دواع ففي السنة الشريفة وقد تتبعت جل دواوين السنة وجمعت ما فيها من أحاديث فبلغت في هذا الجمع ستة وثمانين حديثا هي أحاديث مقبولة مختلفة الدرجة فيها الصحيح، وفيها الحسن، وفيها المقول في سنده، ولكنها مع ذلك ومع كثرتها كما يعرف أهل الصناعة هي متعاضدة الأحاديث ولكن تعدد هذه الأحاديث قد أفاد شيئا آخر جانبا آخر لمن يتتبعها هو جانب الحياة الاجتماعية وجانب الداعي الذي كان يدعو الصحابة رضوان الله عليهم لسؤال الرسول ولممارسة العزل فكانت قضايا مع زوجات، وكانت قضايا مع سرايا ومع إماء حينئذ الحاجة تدعو إلى هذا العزل، وكان الرسول يجيب فيما يقارب الثمانين حديثا بالجواز وفيها الصحيح المتفق عليه كحديث جابر ولكن هنالك أحاديث أخرى كانت معارضة لهذه الأحاديث وهي عبارة عن ستة أحاديث أو ما يقارب هذا وأصحها حديث مسلم الذي روته جدامة أو جذامة على روايتين بنت وهب والذي تحدث فيه الرسول عن الغيلة وبين أنه كاد أن يمنعها ولكنه رأى أنها لا تضر أبناء فارس ولا الروم، تقول الصحابية الجليلة جذامة: وسئل صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: ((هو الموءودة الصغرى)) لكن هذا الحديث في الواقع وإن كان صحيحا هو معارض لعدة أحاديث أخرى صحيحة ومعارض أيضا بحديث يعارضه تقريبا نصا بنص وهو أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن اليهود، وأنهم يزعمون أن العزل هو الموءودة الصغرى، فقال صلى الله عليه وسلم: ((كذبت اليهود إن الله إذا أراد أن يخلقه - أي المولود - لم يمنعه)) أي لم يمنعه شيء في حديث جذامة، قد تولى علماء المسلمين من فقهاء قدامى ومن محدثين قد تولوا عملية الترجيح وعملية الجمع بما هم أهل له ورأينا أن الموضوع قد قتل بحثا وأن على علماء العصر أن يتتبعوا ما تم من سلفهم الصالح ليكملوا وليوائموا بين حاجات العصر وبين مقتضيات هذه الأحكام الشرعية حينئذ الحاجات بالنسبة للتوقي من الحمل أو بالنسبة للإسقاط والإجهاض متباينة ومختلفة من عصر إلى عصر ومن فرد إلى فرد، وبذلك دخلت هذه القضية وهي داخلة من أصلها في الأحوال الشخصية ولم يجز بعد ذلك أن تكون من الأحول العامة.(5/513)
وهنا قد يأتي سؤال أو قد يطرح سؤال: هل هذا الأمر أمر الإنجاب وأمر الأولاد هو حق من حقوق الأسرة فقط؟ أو للدولة حق فيه؟ وإذا كان للدولة حق فيه فللدولة أن تتدخل حينئذ من فقهائنا من ذهب إلى أنه حق للأب باعتباره أنه القوام على الأسرة وأنه المسئول عن تربية الأبناء، وأنه هو الذي يقدر المسئولية ولذلك الأمر يرجع إليه، ومن العلماء من ذهب في إعطاء المرأة حقها في الموضوع وتحميلها المسئولية كأشد ما يكون اتجاهاتنا العصرية اليوم بحيث يعتبر أن الأمر للزوجة ولا بد أن تستأمر في ذلك ولا بد أن تستأذن ويحرم على الزوج أن يعزل عنها إن لم توافقه على ذلك، وإذا كان الأمر كذلك حينئذ يصبح الأمر شورى والأمر من تدبير الأسرة من تدبير الزوج والزوجة يعني يفعلان ما يتناسب مع وضعهما ومع حالهما الأسري، أما الدولة: الدولة بالطبع لها الإشراف العام ولكن كما تشرف الدولة على الفلاحة وإذا قلنا الدولة تشرف على الفلاحة ليس معنى ذلك أن تأخذ الجرار أو تأخذ المعول أو هي التي تسقي أو تحرث أو تزرع وإنما لها التوجيه والتوجيه يكون توجيها رشيدا وإلا فلا يكون التوجيه معناه: التوجيه إلى السداد وإلى الرشاد والذي تنتفع به كل أسرة سواء في ذلك الأسرة التي يلائمها تحديد النسل أو الأسر التي لا يلائمها ذلك بحيث تتجه الدولة بسداد ورشاد في هذا المنهج والأسر الواعية بعد توعيتها تطبق وتنفذ.
القضية مثل ما قلت: فقهاء المسلمين قد ذهبوا فيها إلى أبعد مما نظن وإلى أبعد مما يظن العلماء المعاصرون في هذا العصر حتى إنهم في مسألة وهي المسألة التي أنتقل إليها من قضية الإجهاض مثلا يبين العلماء أن حياة الجنين في بطن أمه حياتان على خلاف ما تقرره المسيحية، فهنالك حياة بيولوجية حياة جراثيم وهي حياة ما يسمى بحياة الإعداد والنمو خلايا تنمو وتنقسم على بعضها، وهنالك حياة إنسانية للجنين وهي حياة ما بعد نفخ الروح وهي الحياة المحترمة المكرمة، ومن هنا جاء قول الفقهاء الذين يقولون بجواز الإجهاض ولكن ليس جوازا مطلقا جواز مع وجود الداعي يعني قبل المائة والعشرين يوما الأربعة أشهر، وأما بعد ذلك فهي الحرمة باتفاق جمهور العلماء إلا للضرورة، والضرورة كأن تكون حياة الأم في خطر فيعمد إلى الإجهاض ولو بعد الأربعة أشهر لإنقاذ حياة الأم بناء على القاعدة التي تقول: لا يبقى على الفرع بطريق إعدام الأصل. حينئذ الكتب الفقهية، الأحاديث فيها من المادة الزاخرة المهمة ما يفتح لها أمامنا باب الاجتهاد ولكن مع التروي حتى يكون ما يصدر عن هذا المجلس الموقر المحترم وعن هذا المجمع الكريم هو تشريع للأمة الإسلامية التي تنتظره وشكرا.(5/514)
الدكتور محمد عطا السيد:
الحمد لله رب العالمين اللهم صل على محمد عبدك ورسولك.
باختصار شديد يا سيدي الرئيس يبدو لي من أكثرية البحوث التي قدمت والنقاش الذي دار إنه في الحقيقة تبلور النقاش في نقطتين بل وحصل شبه اتفاق على هاتين النقطتين وهما.
أولا: لا يجوز وأقدم هذه المسألة عسى أن تكون إطارا لقرار المجمع وتوجيه النقاش في هذه الناحية لأمة مسلمة أن تتخذ تحديد النسل سياسة عامة للدولة خوفا من العيلة أو الفقر أو لرفع مستوى المعيشة أو التعليم أو ما إلى ذلك، وذلك للأسباب والأحاديث الكثيرة التي أوردها الباحثون والمناقشون جميعا.
ثانيا: إذا كانت هنالك مسائل فردية مشروطة بحالة مرضية معينة أو نفسية كأن يؤكد الأطباء المتخصصون خطورة الحمل مثلا على امرأة بعينها أو يخشى على حياتها من استمرار الحمل أو ما إلى ذلك أو إذا تأكد أن الزوجين لا يستطيعان أن ينشئا الطفل بالصورة المطلوبة، فهذه حالات فردية ويجوز لكل حالة أن تعالج كل حالة بقدرها وبرأي المتخصصين فيها وفي هذه المسألة طبعا كما نعلم أن الله سبحانه وتعالى رقيب على ضمائر الذين يقررون في هذه المسألة.
ولذلك أرى يا سيدي الرئيس انحصار القرار في هاتين النقطتين دون التعرض للتفاصيل المختلفة حتى لا ندخل في متاهات الإجهاض وما إلى ذلك، هذا ما رأيته.(5/515)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
ثراء نعمنا به، وبحوث مستفيضة نشكر عليها السادة الباحثين والمعلقين وبقي لي بعض الأمور التي أريد أن أضيفها.
الأمر الأول:
هو أن هذه المشكلة هل هي مشكلة حقيقية أو هي مشكلة زائفة أَقْنَعَنَا بها الغربُ؟
لا أعتقد أن المشكلة مشكلة زائفة أصلًا فإن التطور العلمي مكن للأطفال بالأسباب التي توفرت من بقاء الحياة، والتطور السكاني أمر مشاهد أمامنا يشاهده كل منا في قريته وفي مدينته وفي بلده، والإحصائيات الرسمية حسب التطور بالحاسوب تفيد أن أفريقيا ستكون في سنة 2057 م أكثر في عدد سكانها من سكان العالم الآن. وستتجاوز ستة مليارات في سنة 2057 م، وهي ليست بعيدة فالمشكلة إذن هي مشكلة واقعة وحقيقية وباعتبار أنها مشكلة واقعة وحقيقية، فمواجهتها وبحثها هو أمر واضح لابد منه وتبحث على ثلاثة نطاقات.
النطاق الأول: هو نطاق شخصي بمعنى أن الأسرة التي تجد نفسها عاجزة وغير مهيأة نفسيا لمواصلة الإنجاب هذه تلجأ إلى الطبيب فحكمها في ذاتها في إقدامها على هذا ثم إن الطبيب وما يصفه إما استجابة للطب أو عدم الاستجابة ما هو حكم الله في ذلك، والطبيب يريد أن يكون مسلما وهو يباشر مهنته الطبية. ومن هنا جاء ما تفضل به السادة الإخوان الذين تعمقوا في المشكل.
وأعطونا بعض النماذج لتنظيم النسل فليست مسألة خارجة عن نطاق البحث ولكنها هي البحث ذاته؛ لأنه هل يربط القنوات ما هو حكم الربط وهو التعقيم الكامل هل يجري منع على الزوج على الرجل؟ هل هناك فرق بين الرجل والمرأة؟ هل يعطي حبوب منع الحمل؟ تأثير هذه الحبوب على الصحة. فهي كلها قضايا تتطلب جوابا من الطبيب المسلم وللعائلة المسلمة.
الأمر الثاني: هو الدولة، والدولة لابد أن نفرق بين مرحلتين على مستويين، المستوى الأول هو أنه هل للدولة وهي تمثل الأمة أن تتدخل تدخلا تنظيميا؟(5/516)
بمعنى أن تعرف الناس بواجباتهم في التربية وبما يلزم كل فرد عندما ينجب وكيف يستطيع الفرد أن يمتنع عن الزيادة هذه ناحية إعلامية تنظيمية، وهناك ناحية أخرى أرفع من هذه وهي أن تتخذ الدولة قرارا في منع التكاثر وفي منع الحمل هذا نجده في بعض الدول أخذت قرارا بأنه ليس للعائلة أن تزيد على شخص واحد إذن فلا بد من النظر في المرحلتين وإعطاء فتوى لكل واحدة منها.
والقضية التي تعرض إليها وأريد أن أعلق عليها بكلمة صغيرة هي الحياة والحياة التي هي حركة وانقسام، فالخلية عندما تلتقي بويضة المرأة بالحيوان المنوي للرجل هل هذه الحياة هي نفس الحياة التي ستتبع أو هما حياتان؟ إن التقدم العلمي اليوم وخاصة بالحصيلة الإرثية وتطور الجنين حسب خلق الله لا يتدخل أحد في ذلك، هذا أثبت أن الحياة البشرية تأخذ خصائص تختلف عن الحياة الحيوانية اختلافا كاملا وأنها خصائص يقينية الآن أصبحت عند العلماء؛ ولذلك يكون احترام الجنين من أول يوم للقاح لتلقيح البويضة، وما ورد عن العلماء إنما هو اجتهاد عندما كان المستوى العلمي مستوى معينا، فلما تجاوز المستوى العلمي ما عند العلماء في عصرهم وجب أن تتجاوز الفتوى، وأن يصبح القول الذي لا يعتمد أو هو دون المستوى العلمي هذا قولا لا يعتمد عليه بالفتوى.
الأمر الثاني: وأنه وقع التعرض في كثير أو في بعض تدخلات الإخوان على أن القضية ظنية، نعم يا سيدي هي ظنية ونحن نبني فتاوانا على الظن ولا نبني الفتاوى على اليقين، وإذا كانت القضية يقينية فهي من البديهيات التي لا اجتهاد فيها إنما يصبح الاجتهاد في التطبيق فإذا ظننا أن هذا الحمل سيضر بالمرأة عند ذلك نأخذ القرار بناء على الظن لا بناء على اليقين، فاليقين لم يعطنا رب العزة الإمكانيات للوصول إلى اليقين إلا في نطاق محدود، وما كانت الفتاوى إلا مبنية على الظن. وشكرا.(5/517)
الشيخ مولاي مصطفى العلوي:
بسم الله الرحمن الرحيم سيدي الرئيس أصحاب الفضيلة لقد سمعت ما راج في هذه الجلسة الطويلة، ولا أريد الإعادة لما تقدم به إخواني شاكرا لهم، وإنما أريد أن ألفت النظر إلى ما نتج عن بحوث جاءت من غربيين وفي بلادهم يتخوفون من حبوب منع الحمل التي هي أمر بسيط تستطيع كل امرأة وكل فتاة أن تحصل عليها بسهولة، ففي الميدان الصحي ثبت ضرر كثير منها وهذا أمر للأطباء وقد تعرضوا له ولكن في الميدان الأخلاقي نجد استعمال حبوب منع الحمل تساعد على انتهاك حرمة الدين والأخلاق لدى الجماهير المنحرفة خصوصا ونحن نعيش كما يشعر الجميع ظروفا طغت فيها المادية وضعفت فيها التربية الدينية والأخلاقية.
ففي الكثير من بلاد المسلمين بسبب الغزو الفكري الأجنبي ضاعت كثير من الأخلاق فاستعمال وسائل منع الحمل بمختلف أشكالها وأنواعها خصوصا الحبوب الواسعة الانتشار , نظرا لسهولة الحصول عليها ويسر استعمالها من لدن الجميع، خصوصا الفتيات قبل الزواج في ميدان الطالبات والعاملات من غير اللجوء إلى طبيب ولا شك أن هذا يحطم الأخلاق في المجتمعات الإسلامية كما حطمها في جهات أخرى وهنا بعض الإحصائيات التي جاء بها غربيون يتحدثون عن بلادهم فحبوب منع الحمل تسببت في انتشار كثير من الأمراض، وتسببت في الإباحية التي طغت على المجتمعات، ضربت المدنية الغربية أعلى مثال في إنجاب الأطفال غير الشرعيين وانتشار الأمراض الخطيرة ففي بعض البلاد التي نقلدها لحضارتها وقوتها يقول أحد الأطباء فيها: إنه يولد أزيد من ثمانين ألفا بدون زواج شرعي في أحد البلاد الغربية، وفي سنة 46 كانت نسبة أولاد الزنا في بلد يقول هذا واحد من كل ثمانية ولدوا، والسبب هو حبوب منع الحمل التي تتستر من ورائها كثير من الفتيات وكثير ممن يختلطن في المجتمعات، هذه ناحية الأمر الخطير بالنسبة للإسلام وبالنسبة للمجتمع الإسلامي يجب أن نلاحظها في هذا المقام.
نحن لا نقول بأن التباعد بين حملين ممنوع أو إنه لا يجوز للإنسان أن يفعل ذلك شخصيا في أسرته، ولكن يجب أن ننظر إلى النتائج التي تعطيها هذه الحملة الشرسة التي جاءتنا من الغرب والتي المقصود منها في اعتقادي وقد أكون خاطئا المقصود منها هو تحطيم المجتمع الإسلامي؛ لأنهم يخشون من الصحوة الإسلامية بأن تتحد الأمة وأن تأخذ طريقها في المنهج الإسلامي وأن تكون الأمة التي وصفها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر والأمة التي قال فيها الله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، هذه النظرة فقط هي التي أريد الانتباه إليها وشكرا لكم والسلام عليكم.
الرئيس:
شكرا: في الواقع يا مشايخ لدي الآن اثنا عشر اسما من أصحاب الفضيلة المشايخ وما بقي من الوقت إلا ما يقرب من خمس عشرة دقيقة فهل ترون أن نختم الجلسة ويكون إعلان ما تم التوصل بالاتجاه العام إليه؟(5/518)
الدكتور / عبد السلام العبادي:
إذا سمحت سيدي الرئيس هذا التصدي من المجمع لهذه القضية إذا لم يكن له ميزة خاصة لا ضرورة لهذا التصدي خاصة وإنه أشار كثير من الإخوة أن هذا الموضوع درس في مجامع وفي مؤتمرات أنا أقترح إذا كان لا بد في الواقع ما دام تصدينا لهذا لا بد أن يتصف قرارنا بنوع من الميزات الخاصة؛ لأنه مجمع دولي يوجه الرأي العام الإسلامي في كثير من قطاعاته ومواصفات هذا يعني أقترح بشكل محدد إجرائيا أن تشكل لجنة من ثلاثة أو أربعة من إخواننا الذين بحثوا هذا الموضوع تفصيلا بحيث يلاحظون فيما سيصدر من قرار هذا المجمع أمورا أساسية لا بد من تحديد الاصطلاحات في هذه القضية؛ لأنه مما أدى إلى الاختلاط في هذا الموضوع واختلاف حتى الفتاوى التداخل بين منع النسل وتحديد النسل وتنظيم النسل، نحن أمام ثلاثة اصلاحات لا بد من أن تبلور في هذه الفتوى لا بد أيضا من أن يشار إلى اهتمام الإسلام بالنسل ويشار إلى المواجهة الديموغرافية التي تتم في كثير من قطاعات مجتمعاتنا الإسلامية، لا بد من أن يشار إلى قضية الاحتياط في وسائل منع الحمل ولا بد من أن توضع عليها رقابة و.... إلخ، كل القضايا التي أثيرت في هذا النقاش لا بد أن تتبلور في فتوى مستفيضة لخطورة القضية وحساسيتها بحيث يصدر قرار متميز عن المجمع في هذا المجال والواقع ما طرح وتسمح لي بدقيقة بسيطة في قضية المشكلة الاقتصادية يعني أرجو التنبيه للفرق بين النظرة التشاؤمية التي أتى بها مالتس في هذا المجال وبين موضوع المشكلة الاقتصادية موضوع المشكلة الاقتصادية هنالك ندرة نسبية للسلع والخدمات شئنا أم أبينا، ولكن الإسلام وجه هذه المشكلة وجهة خاصة فيما قدم حلولا لهذه المشكلة، ويمكن أن نتناقش مع إخواننا الذين طرحوا هذه الفكرة في لقاءات جانبية لنوضح وجهة نظر الإسلام في هذا المجال وشكرا.(5/519)
الأستاذ عبد الهادي بو طالب:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين.
سيدي الرئيس أعتقد أن هذا الموضوع الذي نتناقش فيه هو الموضوع الأساسي في هذا الاجتماع المبارك، وأنا أشكر أنه قدم ليتأتى للأساتذة المستعجلين أن يشاركوا فيه وأنا واحد منهم ذلك أنه كان مرتبا في آخر جدول الأعمال حسب ما رأيت، ثم ارتأيتم وحسنا فعلتم سيدي الرئيس.
هذا الموضوع سيدي الرئيس موضوع مهم جدا ولو أخذنا منا الوقت ما أخذ فالوقت الذي نقدمه بشأنه يستأهله هذا الموضوع ويستحقه، ومن المفيد أن تكون توصياتنا أو قرارتنا فيه متسمة بالحكمة بعد المزيد من الدراسة، والمزيد من التأني فيه وما يصدر عن المجمع الموقر قال ذلك قبلي إخوة سبقوني يرتقبه العالم الإسلامي ويتشوق إليه ويتطلع إلى نتائج أعمالكم، فأرجو أن نكون عند حسن الظن وأن لا نستعجل الأمور هذه نقطة أقدم بها حديثي.
فأما الحديث فإنني أود أن أقول لكم: إن الغرب له في هذا الموضوع منظور خاص به نعلمه ويجب ألا يكون منظورنا نحن على أساس رد الفعل ضد الغرب وما يحيك لنا.
ففي المعركة الحضارية التي نخوضها ضد الغرب أو على الأصح يخوضها الغرب ضدنا هذه المعركة التي يخوضها الغرب ضدنا يستعمل فيها وسائل شتى ويقاومنا فيها ويغزونا في مجالات عديدة، ومنها يمكن أن يكون مجال تحديد النسل بالنسبة له هل هو صالح له وغير صالح لنا، أو غير صالح له وغير صالح لنا؟
المهم أننا عندما يطلب منا أو نكون مداومين في اجتماع مثل هذا الاجتماع الحديث في هذا الموضوع الخطير علينا أن نستحضر أو نتشبث فقط بمنظورنا الخاص من واقع مجتمعاتنا الخاصة أيضا بحيث لا يهمنا أكان الغرب يريد منا أن يجرنا إلى ميدانه أو إلى حلبة السباق أو الصراع معه(5/520)
بقدر ما يهمنا أن نستعرض واقعنا، واقعنا سيدي الرئيس هو الآتي:
انطلاقا من إحصائيات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة التي قمنا بها منذ ست سنوات وانتهينا إليها في السنة الماضية أود أن أقول لهذا المجمع الموقر إن العالم الإسلامي اليوم قوامه مليار ومائتا مليون من البشر وهذا ما لم يقر الغرب به لحد الآن بل هو يقلل من عددنا باعتبار أنه لا يوصلنا حتى المليار نسمة في كثير من إحصائياته لكن الإحصائيات التي توصلنا إليها نحن في المنظمة الإسلامية تفيد أن العالم الإسلامي قد بلغ اليوم مليارًا ومائتي مليون إذن العالم الإسلامي مهم جدا إذا نظرنا إليه من حيث الكثرة ومن حيث العدد وهل هذه الكثرة في الحقيقة هي قوة لعالم كعالمنا؟ وبعبارة أخرى إن الإسلام يدعوا إلى أن يكون المسلم قويا عزيزا فهل القوة هي الكثرة؟ إن هناك حديثا سمعته ويردده بعض السادة العلماء: ((تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة)) هل يباهي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمة ضعيفة ولو أنها كثيرة؟ هذا السؤال يجب أن نضعه على أنفسنا أيفسره حديث آخر ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها)) قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم حينئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن)) قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) وما أعظم هذا الحديث فإنه يصور بكل أسف واقع العالم الإسلامي نحن كثرة أصابنا الوهن إذن يجب أن ننظر إلى واقعنا وما هي متطلباتنا لنكون أمة قوية لنحقق الآية القرآنية: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران 110](5/521)
في الواقع من خلال ما سمعناه يمكن أن نقول: إن هناك نقطا للاتفاق تصدر جميعا تقريبا على جميع أفواه المتحدثين من هؤلاء العلماء الأجلاء الموجودين هنا وهي أشياء يمكن أن تكون موضع اتفاق وهي:
أولا: إنه لا إجهاض بعد بلوغ الخلق مرحلة الحياة التي ينبغي أن يقول فيها علماء الأحياء كلمتهم بكل دقة والتي في نظري لا يمكن مطلقا أن تكون متناقضة مع ما ورد في الحديث الشريف عن هذا الموضوع بحيث لا يمكن أن نخضع الحديث الشريف إلى ما يذكره علماء الأحياء ولكن يجب أن نجد هناك ما يوفق بين الحديث وبين ما انتهى إليه العلم مع العلم بأن العلم لا ينتهي قط إلى شيء لأن العلم حقائق ليست دائما مسلما بها خلافا لما يقال بدليل أنها تنسخ عصرا بعد عصر وعهدا بعد عهد ولذلك لا يمكن أن نظمئن إلى أن العلم يحقق في الأمور بكيفية دقيقة ولا يدعي هذا حتى الأطباء أنفسهم فقد كانوا يقولون عن الحياة إن مصدرها الدم وغيروا فقالوا: إن مصدرها القلب ورجعوا الآن ليقولوا: إن مصدرها الدماغ وربما يقولون غدا شيئا آخر ولا ينبغي أن نسير في هذه المدرسة التي تبحث عن العلوم وتخضع الآيات القرآنية إلى العلوم الحديثة التي تتغير أيضا بتغيير المفاهيم وتغير الاكتشافات والحقائق فإذن نرى أن هناك أشياء وقع الاتفاق عليها منها هذا وأنه لا إجهاض بعد بلوغ الخلق مرحلة الحياة لا بد من موافقة الزوجين في كل عملية تنظم أو تحدد النسل هذا أيضا رأيت أنه مما يتفق عليه الجميع هناك أيضا فيما يتعلق بالعزل فإن هذا العزل قد يظهر أنه كان مباحا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حديثا وإقرارا. كلام الصحابة يقول: كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل. وكلام النبي الذي أقرهم على ذلك والسنة التي أقرتهم على ذلك فإذن هذا أيضا نقطة أخرى عليها الاتفاق.(5/522)
بقي أن هناك تخوفات عند بعض الناس أو أدلة وهي القول بأن {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود 6] هذه الآيات القرآنية لا بد أن نفهمها في سياقها الديني السياق الديني يقرن الرزق بالعمل ولا يمكن لأحد إلا أن يقول: الله يرزق لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا إن هناك غدوا ورواحا وليس هناك سكون في العش يرزقها وكذلك تحركوا ترزقوا وهذا معروف ومشروع وأن ليس للإنسان إلا ما سعى لا بد أن نترك هذه الآيات القرآنية وهذه الأحاديث في سياقها والنصوص يقيد بعضها بعضا كما نعلم في فقه الأصول فإذن هناك لا يمكن أن نقول أن نترك العالم الإسلامي يتكاثر ورزقه على الله لا لا بد أن ننظر إلى معطياتنا الداخلية وأن نحلل مجتمعاتنا فقد يصلح لمجتمع في العالم الإسلامي ما لا يصلح لمجتمع آخر مثلا على سبيل المثال إنهم يتخوفون الآن في روسيا من أن يتكاثر المسلمون ويصبحوا عددا هائلا ويتخوفون في الولايات المتحدة أن يصبح المسلمون أكثر من الإسرائيليين أو من اليهود ويتخوفون في إسرائيل من أن يقع في الأراضي العربية المحتلة تكاثر يؤدي إلى ضعف الأقلية اليهودية هذه أشياء تهم هذه الناحية من النواحي المختلفة قد يكون لها اعتبارها في موضوع تحديد النسل أو تنظيمه لا ينبغي أن نغفلها لأن هناك هذه العوامل السياسية الضروري أن نعمل بها وقاء لديننا وحرصا على امتداد جماعتنا الإسلامية هنا وهناك هنا لا يمكن مثلا أن نتصور وأن نقول: حددوا النسل ونحن نراعي هذه النقطة وهي أن هناك صراعا بين قوي وضعيف بين كثرة وقلة ولا بد أن يأخذ الإنسان المسلم مكانه فيها مكينا حصينا ولا يمكن أن يكون ذلك إذا كان قلة.(5/523)
لكن هناك دولا تشكوا المجاعة وهناك أيضا التزامات اليوم في التربية، التزامات التربية خطيرة اليوم، كلكم لكم أولاد وأنتم تعلمون ما يحتاج إليه الإنسان في تربية أولاده من نفقات وما عليه أن يقوم به في مواجهة تربية وقواعد تربوية جديدة مكلفة وهذا كلنا نحس به فأعتقد أنه لا يمكن بمجرد دراسة نفردها لمشكل له مظاهر وعواقب سياسية اجتماعية اقتصادية وأيضا خلفيات دينية لا بد أن نراعيها أولا نحن المسلمين ونحن علماء المسلمين لا بد أن نأخذ في هذا بالأحوط والأحوط في نظري المتواضع سيدي الرئيس أن يصدر عن هذا المجتمع ما وقع عليه الاتفاق بين العلماء بمعنى أننا نقول الحد الأدنى الذي وقع عليه الاتفاق في هذا الموضوع هو كذا وكذا وأنا قد عددت بعض هذه الجوانب ويمكن لعلمائنا الأفاضل أن يزيدوا عليها وما لم يقع عليه الاتفاق بمنع إما أننا لم نهتد بعد إلى اجتهاد نهائي فيه وإما أنه يحتاج إلى دراسة أكثر استيعابا وشمولا نرجئه إلى مزيد من البحث ولا يصدر عن هذا المجمع إلا ما لا يتناقض مع متطلبات المجتمعات الإسلامية إنكم هنا تقررون لعقيدة ولشعائر دينية موزعة على عالم قلت لكم: إن قوامه مليار ومائتا مليون ولكل مجتمع خصوصياته ومن فضل الله أن المجتمع الإسلامي قد اجتمع كله على العقيدة الواحدة ولكن هناك خصوصيات وهناك تنوعات لا بد أن نراعيها.
إذن أقترح عليكم التأني والاتفاق على ما وقع عليه اتفاق وإرجاء النقط الأخرى والجوانب الأخرى إلى مزيد من البحث ويمكن لهذه اللجنة أن تحصي على الأقل ما هي النقط التي وقع عليها الاتفاق والنقط التي وقع عليها الإجماع وتأتينا بمشاريع توصياتها لهذا الموضوع وشكرا سيدي الرئيس.(5/524)
الدكتور / محمد سليمان الأشقر:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
خرج في نظري كثير من البحث عن موضوع البحث لأن البحث في تحديد النسل وتنظيمه وخرجنا إلى وسائل معينة وذهب ربما ثلث أونصف الوقت في هذه الوسائل المعينة كان المفروض أن يتوقف البحث عند موضوع البحث فالوسائل إذا لم تصلح وسيلة يمكن اتخاذ وسيلة أخرى فليس نظرنا في الوسائل الوسائل هذه لها أبحاث سبقت وربما تلحق أبحاث أخرى في وسائل جديدة نحن هنا مجمع فقهي والمنتظر منا أن يخرج منا فتوى تجيز أو تحرم أو تستحب أو تكره على حسب الأحكام الشرعية المختلفة وكل الأحكام في هذا الموضوع فيها متنفس إلا حكم التحريم والتحريم أمر عظيم جدا والله عز وجل نبه إلى ذلك في كتابه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل 116] وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبينا عظم شأن التحريم الذي يقضي على إمكانيات العمل وإمكانيات التنظيم وإمكانيات التدبير قال عليه الصلاة والسلام: ((أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)) يعني حتى لو حرم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يستأنف الإنسان حكما بالتحريم وليس هناك أدلة صريحة في التحريم؟ فإذن الموضوع المطروح أمامنا ينبغي أن ينظر فيه بنظر اجتهادي ولا يخفى على حضراتكم أن النظر الاجتهادي أن تبدأ من الأساس الأساس بينه العلماء وأغلب كلام الأصوليين أن الأصل في الأشياء الإباحة وفي الأعمال وفي العقود وفي غير ذلك الأصل فيها الإباحة وإن كان في هذا الأصل اختلاف لكن أغلب العلماء على هذا.(5/525)
فمن هنا أرى أنه لا بد من أن نأخذ بهذا الأصل إن شاء الله وأن الأصل في الأشياء الإباحة ومن جملة ذلك تحديد النسل وتنظيمه وبعد أن نؤصل هذا الأصل ننظر هل هناك عندنا دليل صحيح يلزم ويكون حجة علينا بأن الله حرم هذا الشيء أو لا؟ فإن وجد من الأدلة الشرعية ما ينقلنا عن أصل الإباحة ننتقل إلى أصل التحريم وإن لم يوجد فلا يجوز لنا ولا يحل لنا أن نحرم ممكن أن نوجه،نوصي بالتوجه إلى ناحية معينة من استحباب أو استحسان أو تقديم مصلحة أو غير ذلك لكن إذا ما وجد دليل للتحريم فلا يحق لنا أن نلزم المسلمين على هذا المجال الواسع الذي بينه الإخوان فوق المليار أن نحرم عليهم شيئا لم يحرمه الله ولم يحرمه رسوله هل وجد من الأدلة الشرعية ما ينقلنا عن أصل الإباحة أو لا؟ فإن وجد ما ينقلنا عن أصل الإباحة انتقلنا إلى أصل التحريم.
نظرنا إلى الأدلة التي أوردها الإخوان الذين قدموا أبحاثهم غالبها قرأته ما وجدت في تقديري شيئا ينقلنا عن أصل الإباحة إلا في صور معينة جزئية وسيلة معينة محرمة كقتل الأولاد ووأد البنات غير ذلك هذه وسائل جزئية لكن كأصل من الأصول ما وجدت يقينا على أصل الجواز يؤيد الجواز أننا كلنا في الحقيقة مارسنا تنظيم النسل بمستويات مختلفة فمنا من ترك الزواج إلى أن بلغ عمره ثلاثين سنة ومنا من يترك الجماع أحيانا خشية أن تحمل المرأة وكثير منا يترك تعدد الزوجات وأنتم هنا موجودون والإخوة الذين يمنعون تنظيم النسل يستطيعون أن يذهبوا ليتزوجوا الليلة امرأة أخرى وثانية وثالثة ورابعة فما الذي يمنعهم من ذلك؟ هذا وسيلة لتكثير النسل أقدموا على ذلك إن كنتم تريدون هذا هذا الأصل لا بد أن نثبته وأن الأصل الإباحة كلنا قادر على تكثير النسل الجميع قادر ولا أستثني أحدا فما الذي يمنعكم من ذلك؟(5/526)
بقي ما هي الأمور التي يظن أنها تنقل عن أصل الإباحة الاحتجاج بالقدر والاحتجاج بأن الله هو الرزاق، الاحتجاج بالقدر هذه طريقة للأسف وأقولها ونفسي يحز فيها أن أقول هذا هذه طريقة المشركين أن يحتجوا بالقدر إن الله عز وجل ذكر عنهم عندما دعاهم إلى الإسلام: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل 35] فاحتجوا لما دعوا إلى عبادة الله وحده احتجوا بأن الله راض عنهم بدليل أنه قدر علينا هذا فالاحتجاج بالقدر ليس بحجة أصلا إلا فيما ما مضى ما صار ماضيا في الزمن الماضي نحتج ونقول قدر الله وما شاء فعل ولكن بالنسبة للمستقبل علينا أن نعد العدة وندبر ونرتب أمورنا بقدر الإمكان والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يترك ثغرة واحدة ينفذ إليها الخطر منه ولقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات وكان يلبس المغفر ويلبس على رأسه ويلبس الدروع ولا يترك موضعا يدخل منه السهم على بدنه وهذا معروف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته ولو نظرنا في تدبيراته من الكتمان والإخبار بالتوريات والتعريض وغير ذلك مما يستر به أفعاله وتدبيراته لوجدنا الشيء العجيب فترك الأمور للقدر هذه طريقة الجبرية وطريقة الجهمية وطريقة اتبعها بعض المنتسبين إلى الطوائف الإسلامية من النوع الذي يميل نحو الكسل والتراخي عن التدبير وترك كل شيء إلى الله عز وجل لا شك الله عز وجل جعل لنا أسبابا وضعها تحت أيدينا وأمرنا أن نسير بتلك الوسائل ونقتدي بنبينا صلى الله عليه وسلم في اتخاذ كل ما ينفعنا والنبي عليه الصلاة والسلام يشير إلى هذه النقطة بالذات يقول عليه الصلاة والسلام: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك ما تكره فلا تقل: إني فعلت كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)) بعدما يقع القدر لا حيلة لنا في رفع ما مضى لكن لنا حيلة في رفع ما يأتي وقد بين هذا الكلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم بيانا شافيا وإن شئتم أقرؤه عليكم ولكن ليس هناك وقت الآن لقراءة هذا الموضوع.
بعد ذلك الاحتجاج بأن الله هو الرزاق لا يخفى عليكم أن كثيرا من المجاعات يموت فيها أناس ويموت فيها حيوانات ويموت فيها كذا الله هو الرزاق الله عز وجل بيده الرزق كله فيعطي ما يشاء ويمنع عمن يشاء وغالبا تبنى على الأسباب وإن شاء تبارك وتعالى يرزق، يُنَزِِل من السماء ذهبا وفضة إن شاء وهو قادر على ذلك ولكن سنة الله جرت أن تسير الأمور على أسبابها وقد قال الله تعالى: {اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد 26] يقدر عليه حتى يموت أحيانا وكثير من المجاعات التي وقعت في سنين قريبة دعوني أتكلم إن شئتم بحرية وإن شئتم أنا أسكت فلا مانع عندي يقدر بمعنى يضيق المفسرون يقولون: يقدر يضيق وليس معناه القدر الذي هو التقدير {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر 49] ولكن الآية الأخرى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد 26] يعني يوسعه وإن شاء يضيقه والجميع بقدر الله ولكن الأسباب جعلت كثيرا منها بأيدينا.(5/527)
شيء آخر احتج به بعض الذين أرادوا أن ينقلونا عن أصل الإباحة وهو العزل الموءودة الصغرى والأحاديث الواردة في النهي تولي كثير من الإخوان بيان العزل وأن هذا الحديث الموءودة الصغرى وإن كان في صحيح مسلم إلا أن هناك أحاديث في الصحيحين كثيرة تدل على جواز العزل فهذا لا يصح أن يحتج به بعد الآن ما دام تبين بالبحث أنه مرجوح ومنع ذلك خشية الفقر وضيق ذات اليد الشافعي رضي الله عنه ورد على مثل هذا القول بقوله: قال الله تبارك وتعالى {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء 3] يعني حتى لا تكثر عيالكم قلة العيال أحد اليسارين فالإنسان كما قلت قادر على أن ينجب عشرين ولدا لكن سيتعب وسيعلم وسيربى وسيقول يا فلان اسكت ويا فلان تكلم ويا فلان ترب ويا فلان كذا فقد تحتاج إلى أن تغطي أولادك حين ينامون في البرد وقد لا يكون عندك القدرة على ذلك فتتعب لو سلمنا بأن آيات القدر يعني تعمل في هذا الباب عملها وآيات الرزق من الله تبارك وتعالى تعمل عملها لكن مع ذلك أحتاج أن أبذل جهدا وليس عندي قدرة أن أبذل جهدا لعشرين طفلا يمكن أن أبذل جهدا لعشرة أو لخمسة.
دليل آخر احتج به بعض الإخوان وهو سعة أمصار المسلمين وحاجاتهم والدول الأخرى تحاربنا هذه أقول أنا: لا تنقل على أصل التحريم قد تكون من ناحية مصلحية ننظر فيها بحسب هذه المصلحة أن نعالجها معالجات وقتية وليس معالجة حكم شرعي دائم ولا يجوز بناء على هذا أن نقول بالتحريم الآن توجه أكثر الإخوان إلى أن المسألة تقسم على النظر في معالجتها على النطاق الفردي وفي النظر على أساس المستوى الجماعي فعلى النطاق الفردي ذهب الأكثر إلى الجواز وهذا صحيح بناء على ما ورد من الأحاديث التي أجاز النبي صلى الله عليه وسلم فيها العزل وغير ذلك كما تبين هذا على النطاق العام كأن الإخوان يتوجهون إلى جواز المنع يعني إلى منع ذلك عدم جواز أن تتولى الدولة تحديد النسل على النطاق العام هذه الكلمة لو أطلقناها هكذا منع الدولة على النطاق العام على مستويات كثيرة منها أن تعمل دعاية مختصرة قليلة توجه توجيها فقط هذا نوع منع هذا لا ينبغي أن يقال على طريق عام أيضا إنما على معالجات جزئية وسيلة أخرى أن الدولة لا تلزم إلزاما ولكن تعمل إغراءات مادية على التقليل أو التكثير لأن التنظيم قد يقتضي التكثير أيضا وتشجيع النسل في بعض البلاد التي بحاجة إلى النسل فممكن للدولة أن تتخذ هذه الوسائل المادية مثلا للتقليل تؤخر التوظيف تزيد مثلا الأعباء على المتزوجين يعني تعمل بوسيلة ما لكنها لا توجب على الإنسان أن ينجب كذا من العدد أكثر أو أقل مما يريد.(5/528)
المستوى الثالث:
هو الإلزام والإيجاب بقوانين وبعد ذلك تضع عقوبات وقضايا تقام على الناس وتحتاج طبعا إلى أن يكون مجهود الدولة كبيرا في هذا المجال هذه المستويات الثلاثة: لو أطلقنا المنع فيكون فيه إحراج على المستويات البسيطة من ناحية التوجيه والتثقيف والدعاية وأيضا اتخاذ الوسائل المادية للإغراءات ونحوها فهذا لا ينبغي أن يقال بالمنع إنما يترك كما قال فضيلة الشيخ مفتي الديار المصرية إن الأمر هذا ينبغي أن يترك إلى سياسة كل دولة لأن ظروف المجتمعات تختلف من بلد إلى بلد أؤكد أن المطلوب من المجمع الفقهي إصدار فتوى والفتوى إذا كانت في مجال الإباحة أو مجال الاستحباب أو الاستحسان فالأمر فيها سهل لكن أرجو أن لا يصل الأمر إلى التحريم بوسيلة من الوسائل مطلقا إلا في الوسائل الممنوعة شرعا كالوأد وقتل الأجنة ونحو ذلك بارك الله فيكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
قبل أن أعطي الكلمة للشيخ عبد الله بن منيع ما تفضل به الشيخ محمد هو بناء على ما رآه هو من أن الأصل في ذلك هو الإباحة.(5/529)
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده وبعد:
لي في هذا تعليق أولًا هو تعليق قصير ولي فيه وقفات قصيرة كذلك.
أولا: الوقفة الأولى إن الموضوع المعروض على جدول العمل هو تنظيم النسل لا تحديد النسل ولا ما يتعلق بالإجهاض قبل نفخ الروح أو بعده.
الناحية الثانية أرى أن كثيرا من إخوتي الأعزاء بحث وتكلم بكلام يجمع بين تنظيم النسل وبين تحديد النسل وبين حكم الإجهاض وهذا في الواقع تشعيب للموضوع ومزاحمة للموضوع نفسه في الواقع على كل حال لا يستطيع الموضوع أو لا نستطيع أن نعطي الموضوع حقه من العناية والدراسة حينما نشعبه التشعيب الذي يخرج عن النطاق.
الأمر الثالث: وهو في الواقع أرجو أن ألتمس من رئاسة هذا المجمع أن تحكم أمر الاقتصار على الموضوع وأن لا يكون هناك تشعيب له لأن هذا في الواقع فيه تشتيت للجهود.
الأمر الرابع تنظيم النسل لا يجوز أن يكون الغرض منه الشك في القدرات الطبيعية لتلبية الحاجات الإنسانية فهذا في الواقع لا شك أنه ضعف في الإيمان وشرخ في تحقيق توحيد الربوبية الذي آمن به المشركون فضلا عن المسلمين الذي أرى أن الغرض أو أنه ينبغي أن يكون الغرض من تنظيم النسل هو في الواقع تلبية الحاجة الاضطرارية الموجبة لذلك أن تكون الزوجة ضعيفة أو مريضة أو أن تتابع الولادة سنويا أو نحو ذلك فهذا في الواقع يعتبر غرضا من أغرض تنظيم النسل والتنظيم أرى كذلك أن يقتصر في موضوعه على أن يكون التنظيم أي الأخذ بأسباب منع الحمل لفترة معينة حتى تكون الزوجة قادرة على الإنجاب أما أن يكون لقطع النسل مطلقا فهذا على كل حال خارج عن موضوعنا وفي نفس الأمر فيه ما فيه فأرى أن يقتصر الأمر على هذا وأن يصدر الحكم أو القرار على هذا الموضوع وهو تنظيم النسل بحيث يجوز تعاطي أسباب منع الحمل لفترة معينة حتى تكون هناك استجابة طبيعية للولادة وشكرا لإتاحة هذه الفرصة يا سماحة الرئيس.
الرئيس:
شكرا الآن انتهى الوقت: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قبل الإعلان عن اختتام الجلسة أود أن أذكركم أن المتبع هو إبداء التوجه العام الذي توصل إليه رجال المجمع وأعضاؤه ومن كان له رأي يريد أن يتحفظ به فعليه أن يتقدم به مكتوبا إلى الأمانة العامة للمجمع كما هو المتبع في الدورات السابقة.(5/530)
مناقشة القرار
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
قرار رقم (1)
بشأن تنظيم النسل
بعد الديباجة.
قرر: من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني ولا يسوغ إهدار هذا المقصد لأن ذلك يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها.
أولا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت الحاجة إليه بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض بشرط ...
الأمين العام:
يا دكتور من فضلك أنا يظهر لي أن من مقاصد الزواج هي التي يليها اللفظ (قرر) لأن القرار لا يتعلق ببيان مقاصد الزواج.
الشيخ مختار السلامي: نرجو سماع التدخل من فضلك.
الأمين العام: كلمة (قرر) أعتقد أنها في غير موضعها بعد اطلاعه.. هنا الديباجة , نقول: من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ.... إلخ.
قرر: أنه يجوز التحكم.
الدكتور/ عبد الستار أبو غدة: وبعد استحضاره أن من مقاصد الزواج كذا.
الشيخ محمد علي التسخيري: سيدي الرئيس بعد ملاحظة أن من مقاصد الزواج كذا وكذا قرر ثم تأتي الفقرات العاملة.
الدكتور / عبد الستار أبو غدة: وبعد مراعاتها.(5/531)
الشيخ محمد علي التسخيري: بعد ملاحظة أن من مقاصد الزواج كذا، وكذا، قرر أنه يجوز.
الرئيس: لو أنه يكون العبارة. بعد إطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تنظيم النسل واستماعه للمناقشات التي دارت حوله وما هو معلوم من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية من الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني.. إلخ، وما هو معلوم من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية من الإنجاب إلخ.
الأمين العام: بعد هذا قرر.
الشيخ محمد المختار السلامي: ولا يكون هنا قرر بناء على مقاصد، القرار مبني على قرار.
مناقش: سيادة الرئيس هي عبارة حسنة، لكن يمكن قرر أن ... لأنها داخلة في الموضوع.
الأمين العام: أي نعم، قرر أن ...
الرئيس: لا، هو قرر ويكون بناء على ما هو معلوم من مقاصد الشريعة.
مناقش: تقرر أن من مقاصد الزواج كذا، وكذا، وكذا.
الرئيس: المهم يا مشايخ (تقرر) تبقى في مكانها وبعدها يقال قرر ما يلي: بناء على ما هو معلوم من مقاصد الشريعة الخ.
الدكتور عبد الستار أبو غدة: نعم. صارت قرر بناء الخ.
أولاً: يجوز التحكم المؤقت.
الأمين العام: أعطنا الصيغة النهائية.
الرئيس: بناء على ما هو معلوم من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية.
أبو غدة: وبناء....
الرئيس: لا بناء. من الإنجاب.(5/532)
الدكتور أبو غدة: قرر فيما بعد..
الرئيس: نعم.
الدكتور أبو غدة: إذن صارت: بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تنظيم النسل واستماعه للمناقشات التي دارت حوله وبناء.
مناقش: لو جعلتها نمرة واحد جميل , لو جعلت ذه الفقرة رقم واحد يبقى أجمل وأكمل.
الرئيس: لا هذا ليس حكما.
الدكتور أبو غدة: وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية.... إلى آخر الفقرة.
قرر ما يلي:
مناقش: الإنجاب الآن شائع لا يؤدي المعنى هذا، الإنجاب معناه إخراج النسل الطيب.
الشيخ مختار السلامي: الرجاء نستمع للمناقشات.
مناقش: أقصد لفظة الإنجاب الآن شائعة عند الناس يقول: أنجب ومنجب وهي الآن يعني هذا تعبير خطأ أنتم تريدون استعماله على أنه خطأ شائع.
الرئيس: لا يقال النسل.
مناقش: وإلا يقال النسل لأن الإنجاب مع المنجبات يعني معناه: أصحاب الذرية الطيبة معروفات المنجبات من العرب.
الدكتور عبد الستار أبو غدة: أولا يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت الحاجة إليه بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض بشرط ألا يترتب على ذلك ضرر وأن يكون الوسيلة مشروعة وألا يكون فيها عدوان على حمل قائم.
مناقش: تفسير الضرر؟ ما هو الضرر؟ ضرر جسماني؟(5/533)
الدكتور أبو غدة: ضرر طبي.
مناقش: ضرر اجتماعي ما نوع الضرر؟
أبو غدة: كل أنواع الضرر.
مناقش: أي ضرر؟
مناقش: لو تسمح لي يا أستاذ , حتى يكون تعبيرنا سليما فقهيا خاصة المقدمة التي نؤسس عليها الحكم لا بد أن نقول: من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية أولا الحفاظ على النوع الإنساني ومن المعلوم أن الحفاظ على النوع الإنساني هو حكم عام وربما يتحقق بولد واحد أو ولدين فهذا أعم من الحكم الذي نريد أن نرتبه عليه.
الرئيس: يعني " تخصيص وتعميم "؟
مناقش: لا، اسمح لي: الحفاظ على النوع الإنساني هو أعم يعني لا نستنتج من هذا الدليل لا نستطيع أن نتوصل منه إلى الحكم الذي أردنا التوصل إليه وهو أن عدم الزواج يعني منع الحمل لأن الاحتمال أن المحافظة على النوع الإنساني وفي نفس الوقت يمنع إنجاب أكثر من ولد أو ولدين وهذا ما لا نريد أن نتوصل إليه أريد أن أقول: من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الحفاظ على النوع الإنساني وعدم قطع الإنجاب يعني والإنجاب المتواصل ولا يسوغ إهدار هذا المقصد لأنه وليس لأن ذلك يعني دائما نحن نكرر أسماء الإشارة ونستطيع أن نستبدلها بضمير فنقول: لأنه بدلا من ذلك يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها.
مناقش: إحدى , ينبغي إحدى ...
مناقش: جائز.(5/534)
مناقش: إحدى الكليات يعني كلية.
أبو غدة: ثانيا: يجوز التحكم في الإنجاب بعزم الزوجين على الاقتصار على عدد معين من الأولاد لحاجة تدعو إلى ذلك مع أن الأولى مراعاة مقصد الشارع في الحث على كثرة النسل.
مناقش: هو في حاجة تدعو إلى ذلك؟ قد تفسر الحاجة مثلا بعدم القدرة على الإنفاق أو نحو ذلك مما تحذرونه أنتم قد تفسر هكذا وأنا أقول: لازم توضيح هذا الموضوع قد يفسر هذا المعنى كان من الحاجة أنه لا يستطيع الإنفاق عليهم، لا يستطيع تربيتهم، لا يستطيع إصلاحهم قد يدعي أنها حاجة، أنتم بينوا هذا الأمر.
الرئيس:
هو في الواقع يا مشايخ ألا ترون أن الفقرة الثانية تدمج في الأولى فيكون يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه أو المباعدة بين، أو الاقتصار على عدد معين إذا دعت الحاجة إليه حتى نفس الحاجة في الفقرة الأولى لا بد من بيانها فهل نقول الحاجة أو نقول الضرورة؟
مناقشون: الضرورة , الضرورة , الضرورة.
مناقش: لكن الضرورة تنزل منزلة الحاجة في بعض الأحيان.
الرئيس: الحاجة تنزل منزلتها.
مناقش: الحاجة تنزل منزلة الضرورة.
الشيخ محمد علي التسخيري: سيدي الرئيس لا يتوقف التحكم على الضرورة.
الشيخ مختار السلامي: إنما تصح كلمة (حاجة) وضرورياتها خمس وعلى تيسير الدافع إلى الضرورة هو الذي يعبرعنه بحاجة، فكل تيسير دخل على ضروري هو يعتبر حاجيا حسب قواعد الشريعة فكلمة حاجة هي الأصل.(5/535)
الدكتور / محمد عبد اللطيف الفرفور:
سيدي الرئيس: هل ترون أن نزيد كلمة (مشروعة) لحاجة مشروعة؟
الرئيس: معتبرة شرعا إذا دعت الحاجة المعتبرة شرعا.
مناقش: كلمة مشروعة جيدة.
الرئيس: لا، المعتبرة شرعا هذه لا نفرة منها.
مناقش: أرى أن نضيف إلى الفقرتين مسألة هامة أثيرت أثناء بحث هذا الموضوع وهي مسألة إباحة بيع وسائل منع الحمل بحرية في الأسواق.
الرئيس: أنتم الآن دعونا في نفس الموضوع هذا فإذا كان شيء نصل إليه نحن الآن في نفس الفقرات........
مناقش: لو سمحتم سيدي الرئيس: التحكم لفظة التحكم هذه عبارة أظنها غير سليمة؛ لأن التحكم في الإنجاب لا يستطيع أحد من البشر أن يتحكم في الإنجاب فلو اخترنا عبارة منع الحمل واتخاذ وسيلة من وسائل منع الحمل كان أولى؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو المتحكم في الإنجاب وفي قطع النسل، فكيف هذه الكلمة التحكم في الإنجاب كأن الإنسان يتحكم؟
مناقش: نجعلها التنظيم؟
مناقش: التنظيم أو اتخاذ وسيلة من وسائل منع الحمل وإلا فالتحكم في الإنجاب هذه عبارة خطيرة يعني.
الدكتور / طه العلواني: ربما يجوز الاحتياط والتحوط في الحمل.
مناقش: فعندنا التحكم وينسب إلى الإنسان ظاهرا والحاكم يحكم ظاهرا والله هو الحاكم ... إلخ.
الرئيس: يا شيخ لو حصلت عبارة فقهية هو أولى وأليق لا شك.
الدكتور / طه العلواني: حفظك الله قد يعطي لفظ الاحتياط المعنى المطلوب يجوز التحوط في الحمل حتى ليس الإنجاب بعزم الزوجين على الاقتصار ... على ...(5/536)
الدكتور / محمد عبد اللطيف الفرفور: يا سيادة الرئيس هل ترون أن نستبدل بكلمة التحكم الضبط؟ يجوز الضبط.
الدكتور / عبد الستار أبو غدة: لجنة الصياغة الخاصة بهذا الموضوع وكان فيها بعض الأطباء الذين يعرفون هذه المصطلحات قالوا: إن هناك تداخلا كبيرا في مفهوم تنظيم النسل وتحديد النسل ومنع النسل؛ ولذلك تحاشينا هذه الألفاظ الثلاثة وجئنا بمفهومها من خلال البيانات التي تأتي ولذلك يعني كلمة تحكم بحسب ما يقصد من المعنى الذي وراءه فاستبعدنا كلمة (تحديد) و (منع) و (تنظيم) إلا في العنوان؛ لأنه عنوان.
الرئيس: على كل إذا رأيتم فهي ألطف قليلا يعني يجوز في الإنجاب التنظيم المؤقت والأمر سهل إن شاء الله لكن إذا رأيتم التنظيم فهو.
الدكتور / عبد الستار أبو غدة: ثانيا: التحكم في الإنجاب بعزم الزوجين على الاقتصار على عدد معين من الأولاد لحاجة معتبرة شرعا تدعو إلى ذلك ...
الرئيس: ما هي الحاجة المعتبرة شرعا في أنه لا ينجب إلا ولدا واحدا؟
الدكتور عبد الستار أبو غدة: حاجة صحية. حاجة..
الشيخ مختار السلامي: كل ما هو معتبر شرعا نقبله، وكل ما هو غير معتبر شرعا لا نقبله.
الرئيس: لا، أنا أقصد سلمك الله أنت تعرف أن القرار هذا أكثر من سيستغله عامة المسلمين.
الدكتور عبد الستار أبو غدة: طال عمرك حاجة صحية؛ لأن بعض الولادات قد تكون غير طبيعية ولها حد: أكثر من ثلاث مرات لا يمكن لأنها بشق البطن.
الرئيس: هل ستقولون هذا؟ أنتم حصرتموها الآن بحالة صحية إذا كانت لا تكون إلا لحالة صحية؛ لأنني أخشى أن يكون من وراء هذا قضية الرزق.
مناقش: يا فضيلة الرئيس، نحن قلنا الحاجة المعتبرة شرعا وكلناها للزوجين وقلنا: إن الزوجين هما أدرى بظروفهما وأحوالهما، وكل الأشياء التي تتعلق بهما.(5/537)
الدكتور طه العلواني: سيادة الرئيس أعتقد أن المادة الأولى كافية وتغني عن هذه الثانية كافية جدا يعني يجوز التحكم المؤقت في الحمل بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت لذلك حاجة معتبرة شرعا يقدرها الزوجان عن تراض بينهما وتشاور بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم.
الرئيس: إن رأيتم الاكتفاء بها فهو طيب.
الدكتور/ أبو غدة: الحقيقة الصورة الثانية تضيف جديدا.
الرئيس: لا تضيف جديدا يا شيخ.
مناقش: الصورة الثانية غير الأولى تماما.
الرئيس: الصورة الثانية يعني على عدد معين تقتصر على واحد على اثنين على ثلاثة.
الدكتور عبد الستار أبو غدة: من الأول أما الأولى سينجب مما يقسمه الله لكن يباعد بين فترات الحمل.
الشيخ مختار السلامي: سيدي الرئيس نقطة نظام: أرجو أو أقترح أن يقرأ كامل التوصية ثم بعد أن نقرأها كلها بدون أي توقف كل شخص يأخذ عنده ملاحظات ويبديها واحدة فواحدة فننتهي؛ لأنه قد يكون الإنسان يعترض ثم بعد ذلك يجد أنه لا مبرر لاعتراضه لما سينشأ فأصبحنا نقرأ سطرا ولا نكمل الجملة ونتدخل، أرجو أن يقع هذا إذا أقررتموه وشكرا.
الرئيس: تفضل يا شيخ طنطاوي.
الشيخ طنطاوي أؤيد فضيلة الشيخ المختار السلامي بأن نقرأ الأربعة قرارات ثم نعقب بعد ذلك.
الأمين العام: حضرات الإخوان أرجو أن يكون التداول واضحا وأن لا يقع تداخل في حديثنا بل كل يتحدث في الوقت الذي تعطى له فيه الكلمة حتى نتمكن من التسجيل ويكون المحضر واضحا.
الدكتور عبد الستار أبو غدة: ثالثا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية.(5/538)
رابعا: لا يسوغ إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب، وللدولة أن تمارس واجبها في الترغيب بكثرة النسل أو حقها في التوجيه إلى تنظيمه بما يحقق مصالح الأمة، وذلك بالإعلام وغيره من الوسائل والله أعلم.
الرئيس: تفضل يا شيخ تقي.
الشيخ تقي الدين العثماني: الحقيقة: أو حقها في التوجيه إلى تنظيمه بما يحقق مصالح الأمة.. إلخ، لو حذفناه وأبقينا الأول يكفي إن شاء الله.
الرئيس: يعني لا يسوغ إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب ويوقف هذا طيب، وللدولة أن تمارس واجبها في الترغيب بكثرة النسل.
الشيخ المختار السلامي: الحقيقة: أن الفضيلة المطروحة هو أن كثيرا من الدول اليوم تجابه مشكلة كثرة النسل وتريد أن تنظمها وهي تريد أن تأخذ فتوى أما أنه لا تتحرر الدولة ولا تتدخل هذا أمر معروف من الأصل فما تم الاجتماع ووقعت المناقشات لأجل مثل هذا.
الرئيس:
على كل إذا سمحتم لي فأنا من جهتي إبراء لديني فأنا أرى حذف آخر الفقرة هذه فالذين يرون حذفها يتفضلون برفع أيديهم على كل حال لا نطيل يا شيخ إذا رفعوا أيديهم فهو إقرار وانتهينا ما فيها شيء، الذين يرون حذف آخر الفقرة الرابعة وتكون العبارة كالآتي: (لا يسوغ إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب وللدولة أن تمارس واجبها في الترغيب بكثرة النسل) إلى هنا الذين يرون الوقوف في الفقرة إلى هنا يرفعون أيديهم.
الرئيس: يعد الأشخاص الذين رفعوا أيديهم (ثم يقول: أكثرية) ..إذن تحذف للأكثرية.
مناقش: لكن يا سماحة الرئيس وهنا من حرية الزوجين لماذا نقول الزوجين؟ لماذا لا نقول من حرية الأمة؟ أو من حرية الرعية؟
الرئيس: صبرا يا شيخ: لا يسوغ إصدار قانون عام يحد ... )(5/539)
مناقش: من حرية الرعية أو من حرية الأمة لماذا نقول الزوجين؟
الدكتور طه العلواني: عفوا لو سمحتم لي تعديل فقط على العبارة (إنها تكون: حرية الزوجين في الإنجاب حق من حقوقهما لا يجوز المساس به)
الرئيس:
لا يا شيخ العبارة جيدة نبقي عليها طالما أقرت، انتهت.
الشيخ طنطاوي: ما دمتم ترون ذلك فمن أجل غاية الزوجين في الإنجاب وفي هذه الحالة نكون جمعنا بين الأمرين.
الرئيس: هذا الأمر سهل، المهم أن يحذف الجزء الأخير إذا رأيتم هذا فلا مانع.
الشيخ الطنطاوي: يعني نكتفي (لا يمكن إصدار قانون يحد من حرية الزوجين في الإنجاب) ماشي ونكتفي بهذا.
مناقش: سيدي الرئيس: نقطة نظام يا سيدي الرئيس سيدي الرئيس: نوقش هذا الموضوع طرح وأخذت فيه أصواتا، فكيف ترجع تفتح النقاش مرة ثانية؟
الرئيس: إذن انتهينا. تحذف.(5/540)
الشيخ محمد المختار السلامي: سيدي الرئيس الخطأ يرفع ويرجع إلى الحق والصواب نفس العبارة غير صحيحة؛ لأنه للدولة بمعنى مختارة أن تمارس واجبها في الترغيب واجبها كيف يكون الاختيار موجودا؟ الكلام متناقض؛ لأنه لا يصح هذا إلا إذا عطفنا فالفقرة كلها متهافتة.
مناقش: وحذفت.
الدكتور أبو غدة: وعلى الدولة أن تمارس واجبها.
الرئيس: وعلى الدولة..
الشيخ المختار السلامي: أضم صوتي إلى صوت الشيخ المفتي، وأعتقد أنه من الخير أن يقع حذف الكل، وقد صوتنا وعلينا أن نعيد النظر فإن الرجوع إلى الحق رسالة عمر ... تهدينا ...
الرئيس: نحن لا نعتقده باطلا أقررناه ولا نعتقده باطلا.
الشيخ المختار: لا ... الشيخ المفتي أتى برأي جديد فإعادة النظر فيه لا يعتبر باطلا.
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: التصويب كان على حذف العبارة الأخيرة، وليس على إقرار ما قبلها كما هو ما قبلها خاضع للمناقشة؛ ولذلك أرى أننا نكتفي وحتى نحذف (وللدولة أن تمارس واجبها) يعني يكفي (لا يسوغ إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب) وهذا هو المقصود.
الرئيس: على كل يا مشايخ القصد هو الوصول إلى ما نعتقده إن شاء الله هو الحق فإذا رأيتم: أنا الذي يهمني هو ما اتفق عليه الإخوان من حذف عجز هذه المادة فإذا رأيتم أن يمتد الحذف إلى قوله: (وللدولة ... إلى آخره) فلا مانع، أما صدر المادة متعين أن يبقى.
الدكتور طه العلواني: نعم هو يكفي صدرها ولكن أنا أخشى أن ننسى المادة (3) التي كانت موضع مداولة للحذف.
الرئيس: لا سنعود إليها.
الدكتور طه العلواني: فإذن ستكون العبارة فقط: (لا يسوغ إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب) .
الرئيس: ترون هذا كافيا؟
مناقش: كاف.
الرئيس: يعني بالإجماع خَلَاص المُخْتَارُ رَفَعَ يَدَهُ.(5/541)
الشيخ محمد علي التسخيري: لكن هناك مناقشة في عبارة: يسوغ.
الرئيس: هو في الواقع إذا رأيتم: نكون فقهاء وعباراتنا فقهية والعبارات العامة هذه ليس لنا فيها لزوم.
مناقش: موضوع الزوجين قولنا الزوجين من حرية الزوجين يعني يمكن أن يفسر هذا بأن الدولة أو الحكومة تأتي للزوج والزوجة ... ؟
الرئيس: يا شيخ لماذا لا يقال: (لا يسوغ إصدار قانون عام يحد من حرية النسل في الإنجاب) النسل من حرية الإنجاب في الأمة أو في الرعية.
مناقش: كلام طيب.
الرئيس: لا يسوغ (لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الإنجاب في الرعية) .
مناقش: الزوجين معناه اثنين معناه أنه لا تدخل إلا باثنين.
الرئيس: اقرأ الثالثة يا شيخ.
الدكتور أبو غدة: ثالثا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية.
مناقش: الفقرة الثانية هل تركناها كما هي: (يجوز التحكم في الإنجاب بعزم الزوجين على الاقتصار على عدد معين من الأولاد لحاجة) ، هل أبقينا على هذا؟ أنا أرى أنه غير لائق.
مناقش: نثني على حذفها.
الرئيس: أي ... أي؟ الفقرة الثانية التي هي الاقتصار على عدد معين، أما أنا فلا أرى هذه والقرار للأكثرية، أما الذين لا يرون الفقرة الثانية يتفضلون يرفعون أيديهم.
الشيخ المختار السلامي: سيادة الرئيس أرجوكم قراءة الفقرة كما ترغبون في جعلها أنا لم أفهم: على ماذا أصوت؟
الدكتور عبد الستار أبو غدة: يجوز التحكم في الإنجاب بعزم الزوجين على الاقتصار على عدد معين من الأولاد لحاجة تدعو إلى ذلك مع أن الأولى مراعاة مقصد الشارع في الحث على كثرة النسل وزيادة عدد المسلمين الأقوياء الأسوياء، وما في ذلك من عمارة الأرض وتقوية جماعة المسلمين.(5/542)
الشيخ محمد علي التسخيري: وماذا في هذه العبارة؟ عبارة جيدة.
الرئيس: لا الذي فيها.
الشيخ المختار: لما.. فيما أظن هذه.. وأظن مكتوبة لما.. وخطأ مطبعي وأظنه لما.
الرئيس: ليس القصد هذا نحن لنا قصد آخر وهو قضية: (يجوز التحكم في الإنجاب بعزم الزوجين بالاقتصار على عدد معين من الأولاد) ، هذا هو الذي لدينا أما أنا فأرى أنه تحذف هذه الفقرة.
مناقش: أنا ما أوافق على هذه والله , أنا ما أستطيع أن أوافق على عدد معين.
الرئيس: المهم حتى لا نطيل النقاش في الشيء الذي فرغنا منه، الذين يرون حذفها يتفضلون ويرفعون أيديهم.
الدكتور طه العلواني: لو سمحت سيادة الرئيس هذه الفقرة حقيقة هي ذريعة لإدخال أية قوانين أو أنظمة التي منعناها في الفقرة رابعا ولذلك فالمفروض حذفها.
الدكتور عبد الستار أبو غدة: ليس هذا للتقنين.. هذا للتنظيم الشخصي.
الدكتور طه العلواني: لكن تتناقض مع ما أقررتموه من قبل.
الرئيس: يا شيخ عبد الستار , المسألة وجود المبدأ إذا وجد المبدأ الناس ينفذون منه، فنحن لا نتحمل في ذممنا على أن نوجد للناس مبدأ يكون تكأة لهم في أن يصلوا فيه إلى غاية من الغايات التي نحظرها، وطال الجدل حولها وتقريبا كلنا في وقت المداولة مجمعون أو متفقون على سبيل التحوط على حذفها.
الشيخ محمد علي التسخيري: ولكنا متفقون على جوازها يا مولانا.
الرئيس: المهم الذين يرون حذفها حتى نضبط الأصوات يقوم بالعد المجموع ستة عشر وتحصل مناقشة حول عدد الحاضرين.
الأمين العام: ستة عشر من ثمانية وثلاثين خمسة وثلاثون أعضاء وثلاثة معينون.
الرئيس: الحضور تسعة وعشرون.
الدكتور عبد الستار أبوغدة: لا اثنان وثلاثون.
الرئيس: أعطونا الحضور بالضبط يا شيخ لو سمحتم حتى يكون عملنا دقيقا وأبرأ للذمة.
الرئيس: يعد الحاضرين وينتهي إلى العدد 31
الدكتور أبوغدة: للرئيس: وحضرتك مولانا.. الرئيس 32
والشيخ صالح الآن جاء (33) ثلاثة وثلاثون.
الرئيس: حياك الله جزاك الله خيرا.(5/543)
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: أعتقد أن الحكم الموجود في هذا هو موجود في الفقرة التي بعدها؛ لأن هذا معناه أن الزوجين يريدان أن يوقفا النسل، هذا يدخل في الإعقام أو التعقيم فلا داعي إليها من هذه الناحية.
أبو غدة: لا لا
الرئيس: لا، نحن في الفقرة الثانية.
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: معروف هذا يجوز التحكم في الإنجاب على عدد معين من الأولاد لحاجة هذه هي التي نريد أن نحذفها.
الرئيس: هذه التي نريد أن نحذفها.
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير: هي تدخل أريد أن أعلل هذا تدخل فيما بعدها استئصال القدرة على الإنجاب، وهذه تحصل عادة عندما تكون الزوجة مثلا تلد بقيصرية ووصلت إلى الحد الذي قال الأطباء فيه: إذا ولدت بعد ذلك قد تسبب الوفاة فيحدث التعقيم للزوجة فهو داخل فيما بعدها.
الرئيس: يعني هو داخل ... يرى الشيخ أن الحالات الشرعية التي يمكن أن تكون ضرورة هي داخلة في الفقرة الثالثة فإن رأيتم الاكتفاء بها؟
الأمين العام: هي متصلة حتى الثانية.
حضرات الإخوان، أريد أن أشارك معكم بملاحظة كما قال الدكتور الضرير الفقرة الثالثة تتصل بنفس الموضوع، وأنا أرى أيضا أن الفقرة الأولى تتصل بنفس الموضوع؛ لأننا عندما نقول: (إذا دعت الحاجة إليه بحسب تقدير الزوجين) هذه الحاجة قد تكون عامة وقد تكون في الثلاثة أو في الأربعة، وقد تكون في أقل من هذا، وعندئذ فهي تغني عن حصر العدد الذي أثار هذا النقاش هو قضية ذكر العدد الذي يراد حصره فنحن في غنى عن هذا؛ لأن ما ورد في الفقرة الأولى، وما ورد في الفقرة الثالثة يغني عن ذلك.
الرئيس: المهم هل اتفقتم على حذفها؟ أو بالأكثرية تحذف تحذف يا شيخ الله يرضى عليك يا شيخ؛ لأننا نحن في قضية (القدرة على الإنجاب) أي نعم.(5/544)
الدكتور أبو غدة: إذن صارت الفقرات أولا وثانيا وثالثا.
الرئيس: ماذا تقول يا شيخ ... الشيخ مختار؟
الشيخ المختار: كلمة (وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم) هو هذا ما أدرجناه.
الرئيس: طيب.. القرار الذي بعده الشيخ عبد الله..
الأمين العام: يا سيدي إذن عندنا الفقرة الأولى تبقى والثانية حذفناها.
الرئيس: الفقرة الأولى تبقى وفيها: (وإذا دعت الحاجة المعتبرة شرعا) تضاف المعتبرة شرعا، الفقرة الثانية تحذف، الفقرة الثالثة تبقى، الفقرة الرابعة يبقى صدرها هكذا.
الرئيس: في شيء يا شيخ عبد الله؟
الجواب: مقبول.
الشيخ عبد الله: شكرا فضيلة الشيخ , إنني أريد أن أضيف إلى قراراتنا ما أثير فعلا في هذا الموضوع أثناء بحث هذا الموضوع وهو مسألة بيع وسائل منع الحمل في السوق بحرية، فحبذا لو نأتي بقرار يمنع بيع هذه الوسائل في المجتمعات الإسلامية ودولها، وتتولى الجهة الحكومية المختصة أو الجهة المصرح لها بصرفها إلى من ثبت بشهادة رسمية أنه متزوج فقط وتحارب السوق السوداء التي تقوم على....
الرئيس: يا شيخ عبد الله , مع تقديري لما تفضلتم به لكن هذه أمور - بدون مؤاخذة - لا تنضبط، ولو أنها تنضبط ما أظن أن الإخوان تخلون عنها.. تفضل يا شيخ.
الدكتور أبو غدة: القرار رقم (2) .
الشيخ عبد الله: لو تسمح لأعضاء الجماعة حتى ينظروا إلى ما اقترحته.
الدكتور أبو غدة: قرار رقم (3) بشأن الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء.
الشيخ المختار السلامي: أرجوكم بعد أن تقع كل التعديلات يقرأ القرار نهائيا كيف تم حتى يكون واضحا.
الدكتور عبد الستار أبو غدة:(5/545)
قرار رقم (2)
بشأن تنظيم النسل
مناقش: سيادة الرئيس:
الرئيس: تفضل الشيخ الشريف.
الشيخ الشريف: عفوا حتى تكون الفقرات منظمة ونحن في تنظيم النسل الحقيقة الفقرة الثالثة والرابعة: الفقرة الرابعة هي التي يجب أن تكون نطق الفقرة الأولى والثانية؛ لأن هذا هو الأنسب للمقدمة، نحن نبني على مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية، وإذا تسمح لي أيضا يجب أن نقول: نقرر الحكم العام بعد أن نقول: بناء أو تأسيسا على أن مقاصد الزواج ... إلخ، قرر مثلا الأصل في الشريعة الإسلامية تحريم منع الحمل.
ثانيا: لا يسوغ أو لا يجوز إصدار قرار عام يحد من حرية الزوجين.
ثالثا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب للرجل أو المرأة.
الرئيس: المهم انظر يا شيخ هذا أخذ به جزاك الله خيرا يعني الفقرة الأخيرة هي الأولى على سبيل التصاعد (ويحرم استئصال القدرة) هي الثانية (ويجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة) هي هي الثالثة تقرأ على الوضع هذا يا شيخ تفضل.
الدكتور عبد اللطيف الفرفور: يا سماحة الرئيس كلمة واحدة لو سمحت: الفقرة التي وضعتموها رقم (1) لا يسوغ إصدار قانون عام.
الرئيس: لا يجوز.
الدكتور عبد اللطيف الفرفور: (لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين) بدلا من ذلك أرى (لا يجوز إصدار قانون عام يحد من الإنجاب) أقصر وأفضل.
الأمين العام: من حرية الزوجين، لا لا.
مناقش: زيادة (في الأمة) لا يجوز إصدار قانون عام للأمة أو في الأمة.
الرئيس: اقرأ يا شيخ.
الدكتور عبد الستار أبو غدة: بعد الديباجة.
الأمين العام: اقرأ لنا الديباجة.(5/546)
الدكتور أبو غدة: إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي (هذه ديباجة مكررة) بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تنظيم النسل) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية وبناء على أن..
الرئيس: على ما هو معلوم أجزل يا شيخ (على ما هو معلوم من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية) من الإنجاب أضف من.
الدكتور أبو غدة: أي ما هو معلوم من الإنجاب بناء على ما هو معلوم من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني ولا يسوغ إهدار هذا المقصد.
الرئيس: ولا يجوز إهدار هذا المقصد.
الدكتور أبو غدة: ولا يجوز.
الأمين العام: وإنه لا يجوز.
الدكتور أبو غدة: وإنه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأن إهداره (بدل ذلك) .
الرئيس: لأن ذلك ... لأن إهداره.
الدكتور أبو غدة: لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها.
قرر ما يلي:
أولا: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب.
ثانيا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم.
الأمين العام: لماذا اللفظان , لتكن التعقيم والسلام.
الدكتور أبو غدة: الحقيقة الأطباء استخدموا التعقيم بمعنيين والذي هو القضاء على الميكروبات أما الإعقام على وزن الإنجاب تأتي بالتضعيف أو ...
الرئيس: المهم اقرأ.
الدكتور أبو غدة: ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية.
ثالثا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعا بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم والله أعلم.
الرئيس: جزاكم الله خيرا، هذا طيب إن شاء الله، وإن شاء الله إنه مبارك.(5/547)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (1)
بشأن تنظيم النسل
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 / 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تنظيم النسل) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأن إهداره يتنافى مع النصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها.
قرر ما يلي:
أولا: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب.
ثانيا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم , ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية.
ثالثا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعا بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض، بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم. والله أعلم.(5/548)
قوة الوعد الملزمة
في الشريعة والقانون
إعداد
الدكتور
محمد رضا عبد الجبار العاني
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
1- ليس غريبا أن يلزم الشخص نفسه بالتزامات يطلب منه الوفاء بها حالا أو مستقبلا؛ ذلك لأن الحياة العملية للأفراد بسبب كون هؤلاء الأفراد أعضاء في مجتمع تربط أعضاءه جملة روابط اجتماعية واقتصادية، فالعقود مثلا صورة شائعة معروفة بين الأفراد تتولد عنها التزامات يراد الوفاء بها.
ومن مظاهر التزامات الأشخاص قبل بعضهم " الوعد "، فقد شاع هذا الأمر بين الناس وتراهم يطلقون ألسنتهم لإعطاء الوعود سواء رافق ذلك عزم على الوفاء، أم لم يرافق ذلك نية الوفاء.
وحيث إن الوعد يحقق معروفا لشخص من قبل شخص آخر بأمر من الأمور النافعة فلا شك حينئذ أن يكون للوفاء بالوعد وإنجازه أثره البالغ في التأثير في العلاقات الاجتماعية إيجابيا حين يوفي الواعدون وعودهم، أو سلبيا حين يتخلفون عن ذلك.
وبناءً على ما تقدم فإني وجدت أن للبحث في هذه المسألة أهميته البالغة في إطلاع الأفراد على وعودهم من الأحكام الشرعية فضلا عن أن للبحث هذا أهميته في كشف صورة من صور تراثنا الفقهي اللامع، أسأل الله تعالى أن يجعل جهدنا هذا نافعا، وأن لا يفوتنا أجره إنه سميع مجيب.(5/549)
معنى الوعد:
2- قال ابن سيده: وَعَدَهُ الأمر، وبه عِدَةً وَوَعْدًا وَمَوْعُودًا وَمَوْعِدًا وَمَوْعِدَةً، وهو من المصادر التي جاءت على مفعول ومَفْعِلَة، وقد تواعد القوم واتعدوا، وواعده الوقت والموضع، وواعده فوعده، وقد أوعده وتوعده، وقال الفراء: يقال وعدته خيرا ووعدته شرًّا فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخبر: وعدته، وفي الشر: أوعدته وفي الخير: الوعد والعدة، وفي الشر: الإيعاد والوعيد، فإذا قالوا: أوعدته بالشر أثبتوا الألف مع الياء، وقال ابن الأعرابي: أوعدته خيرا وهو نادر، وفي الصحاح: تواعد القوم أي: وعد بعضهم بعضًا هذا في الخير، وأما في الشر: فيقال: اتعدوا، والإيعاد أيضا قبول الوعد، وناس يقولون: إيتعد يأتعد فهو مؤتعد بالهمزة. قال ابن البري: والصواب ترك الهمزة، وكذا ذكره سيبويه وجميع النحاة (1) هذا معنى الوعد في اللغة.
3- أما تعريف الوعد في الاصطلاح الفقهي فقد قال ابن عرفة المالكي: العدة إخبار عن إنشاء المخبر عروفًا في المستقبل. (2)
وعرفه الفقيه الحنفي العيني: الوعد هو الإخبار بإيصال الخير في المستقبل والإخلاف جعل الوعد خلافًا، وقيل عدم الوفاء به. (3)
وبعد النظر في التعريفين يتضح:
أ- أن التعريف الاصطلاحي للوعد اعتمد التعريف اللغوي، فقرر الوعد الذي هو للخير واستبعد الوعيد الذي هو للشر، فالوعد لا بد وأن يكون بمعروف، فحين يكون الوعد بشر فلا يجب الوفاء به. (4)
ب- إن زمن الوفاء بالوعد هو المستقبل وليس الآن (حين الوعد) .
4- وينبغي أن يفرق بين الوعد والنذر، لكون الوفاء بهما في المستقبل فيتشابهان من هذا الوجه، لكن هذا التشابه لا يمنع وجود الفرق بينهما فالنذر وإن كان فيه معنى الوعد، (5) إلا أن فيه معنى القربة إلى الله تعالى، وأن في عدم الوفاء به الكفارة وليس كذلك الوعد.
__________
(1) نقلناه عن عمدة القاري في شرح البخاري للعيني 1/220 وانظر فتح الباري في صحيح البخاري للعسقلاني 1/90 ومختار صحاح اللغة للرازي ص 728 ط 2.
(2) انظر: فتح العلي المالك للشيخ عليش 1/254
(3) انظر عمدة القاري 1/22
(4) قال العسقلاني: المراد بالوعد الوعد بالخير أما الوعد بالشر فيستحب إخلافه وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة انظر فتح الباري 1/90
(5) لذلك عرف الماوردي والروياني النذر بأنه: الوعد بخير خاصة. وعند غيرهما: التزام قربة لم تتعين (انظر مغني المحتاج 4/354)(5/550)
5- وهناك فرق بين الوعد والعهد. فإن العهد في اللغة: الأمان واليمين والموثق والذمة والحفاظ والوصية فتقول: عهد الله علي لأفعلن كذا، (1) أما معنى الوعد في اللغة فهو ما تقدم، لذلك فقد قيل للتفريق بين الوعد والعهد: العهد فيما تعبد الله به من أمور الدين، أو ما يكون بين العباد مما يكون بخلفه إتلاف مال أو نفس أو إدخال ضرر كثير.
وأما الوعد ففيما لا يتعلق ذلك به حق لمخلوق، وكان في خلفه كالساهي، أو ما لا يؤدي ذلك إلى كثير ضرر، فمن نقض عهده فذلك من كبائر الذنوب ويبلغ به الهلاك، ومن أخلف وعده كان آثمًا ولا يبلغ فاعلوه إلى الكفر والهلاك والله أعلم. (2)
ومع ما نقلناه فإن العسقلاني ذكر أنه قد يتحد معناهما، (3) ولعل ما يؤيد قول العسقلاني قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (4) إذ بدأ الذكر الحكيم بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} فلما أخلفوا رتب عليهم ما رتب ثم علله بقوله: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} .
6- ويفرق بين الوعد والجعالة بأن في الجعالة معنى المعاوضة فإن الجاعل يلتزم بفعل خير للمجعول له مقابل قيام الأخير بعمل يطلبه الجاعل مقابل الجعل، أما الوعد فهو التزام عمل معروف لآخر بدون مقابل.
__________
(1) مختار الصحاح ص460
(2) انظر كتاب المصنف المجلد الأول الجزء الثاني ص 200 تأليف أبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى الكندي (ت 557هـ) تحقيق عبد المنعم عامر والدكتور جاد الله أحمد / إصدار وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عمان مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. وهو من كتب الإباضية؛ لذلك فإن قولهم بإثم مخلف الوعد مخالف لرأي الجمهور من الفقهاء كما سيأتي.
(3) فتح الباري 1/90
(4) سورة التوبة الآية (75-77) ، وسبب نزول الآية هو عهد ثعلبة بن حاطب بالصدقة إذا أعطاه الله المال، فلما أعطاه أخلف وعده (انظر سبب نزول الآية في تفسير الجلالين) .(5/551)
صيغة الوعد
7- جاء في فتح العلي: وإنما الْعِدَةُ أن يقول الرجل: أنا أفعل، وأما إذا قال: قد فعلت فهي عملية، وقوله: لك كذا وكذا أشبه بقوله: قد فعلت منه بأنا أفعل (1)
ومنه يفهم أن الصيغة التي ينبغي استعمالها في الوعد هي صيغة الاستقبال المقترنة بسوف أو السين، أما اللفظ الماضي فإنه لا ينبئ عن الوعد وإنما هو يفيد التنجيز حالا.
على أنه لا يكون استعمال الفعل المضارع دائما يفيد الوعد، بل إن ذلك يعتمد القرائن الموجودة في سياق اللفظ، فإذا كان الفعل المضارع الذي يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال أنه يفيد الالتزام جزما فهو ليس وعدا، أما إذا وجد مع المضارع ما يفيد إرادة المستقبل فإنه الوعد. (2)
مشروعية الوعد
8- الوعد مباح (3) فلكل شخص أن يعد بالمعروف والخير من يشاء من الناس لكن الذي ينبغي الإشارة إليه هو أن يتحفظ الشخص في إطلاق الوعود للناس؛ لأن الوفاء بالوعد أمر مستقبل والشخص لا يملك معرفة أحواله المستقبلية {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (4) إذ قد يكون الواعد عاجزا عن الوفاء فيكون مخلفا للوعد فيوصم بخصلة من خصال النفاق، لذلك فإن الإمام الغزالي رحمه الله قد اعتبر وعد الكاذب آفة إذ يقول: إن اللسان سباق إلى الوعد ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا، وذلك من أمارات النفاق (5) .
هذا فضلا عما يثيره إخلاف الوعد من العداوة بين الوعد والموعود له، وهذا المحذور يؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) أورد الحديث ابن حزم وقال بأنه حديث مرسل (6) .
ومع أن الإباحة هي الأصل في الوعد لكنه قد يكون محرمًا إذا كان الموعود به محرمًا كالوعد بخمر أو زنا، فإن هذا وعد محرم يحرم الوفاء به.
التصرفات التي يدخلها الوعد
9- التصرفات التي يدخلها الوعد ويندب الوفاء بها أو يجب على الخلاف الذي سنبينه إنما هي التصرفات التي تنضوي تحت تصرفات التبرعات كالقرض والإعارة والهبة والصدقة وما شابهها.
__________
(1) فتح العلي المالك 1/269.
(2) فتح العلي المالك 1/257.
(3) أحكام القرآن للجصاص 3/442.
(4) سورة لقمان الآية 34.
(5) إحياء علوم الدين 3/132.
(6) انظر المحلى 8/29.(5/552)
أما التصرفات التي هي من المعاوضات المالية كالبيع والإجارة ويلحق بها النكاح فإن الوعد بها لا يَلْزَمُ ولا يُلْزِمُ الوفاء بها، يوضح ذلك ما قاله الفقيه المالكي الحطاب رحمه الله في كتابه تحرير الكلام في مسائل الالتزام (1) ، قال: (مدلول الالتزام لغة: إلزام الشخص نفسه ما لم يكن لازما له وهو بهذا المعنى شامل للبيع والإجارة والنكاح وسائر العقود، وأما في عرف الفقهاء: فهو إلزام الشخص نفسه شيئا من المعروف مطلقا أو معلقا على شيء فهو بمعنى العطية، وقد يطلق في العرف على ما هو أخص من ذلك وهو: إلزام المعروف بلفظ الالتزام وهو الغالب في عرف الناس اليوم) ، ولا شك أن الوعد عند المالكية كما أوضحه تعريف ابن عرفة في الفقرة الثالثة من هذا البحث التزام بمعروف. وحين يذكر المالكية المعروفَ إنما يقصدون به عقود التبرعات وقد قال مالك رحمه الله: من ألزم نفسه معروفا لزمه، لذلك فإن البيع والإجارة والنكاح لا تدخل في دائرة التبرعات وإنما الواعد بها يأخذ عوضًا عما يعد به فهي من المعاوضات.
كذلك نصت المادة (171) من مجلة الأحكام العدلية على ما يلي:
(صيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد مثل: سأبيع وأشتري، لا ينعقد بها البيع) وإنما لا ينعقد البيع؛ لأن الوعد المجرد هو في معنى مساومة في البيع (2) .
فالبيع وأمثاله من المعاوضات المالية تستدعي جزم الإرادتين في مجلس التعاقد، فلا بد أن تكون صيغة الإيجاب والقبول مفيدة للبت في العقد بصورة لا تردد معها ولا تسويف، وإلا كانت نية الارتباط منتفية؛ لأن التردد في حكم الرفض، ومن الواضح أنه إذا انتفت دلالة الصيغة على وقوع الارتباط والتعاقد فلا عقد ولا التزام وبناءً على هذا فقد قرر الفقهاء أن الوعد بالبيع ينعقد به البيع ولا يلزم صاحبه قضاء (3) .
أما عقد النكاح فإن عدم إلزام الواعد بوعده فيه فذلك مبني على أن الواعد إذا أراد الرجوع عن وعده وألزمناه بوعده فإن ذلك يعني أننا سنوقع عقد النكاح في ظل الإكراه، وعقد النكاح يتنافى مع الإكراه.
وبناء عليه فإن ما سنذكره من خلاف الفقهاء في وجوب الوفاء بالوعد إنما في الوعود الواردة على عقود التبرعات ولا إلزام في عقود المعاوضات المالية؛ لأن الفقهاء متفقون على أن طريق هذه التصرفات هو الجزم.
__________
(1) انظر فتح العلي المالك 1/254 حيث نقل الشيخ عليش فصلا طويلا من هذا الكتاب تحت عنوان مسائل الالتزام استغرق عشرات الصفحات
(2) انظر شرح مجلة الأحكام للمرحوم علي حيدر 1/120
(3) انظر كتاب الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء الجزء الأول ص346 ط3- وقد علق الدكتور الزرقاء على العقود المعلقة على الشرط أو المضافة إلى المستقبل فنفى أن تكون هذه الصور مشابهة للوعد؛ لأن العقد المعلق أو المضاف إلى المستقبل عقد مجزوم بانعقاده مع اقترانه بشرط الخيار(5/553)
مدى وجوب الوفاء بالوعد
10- حقيقة الوعد أن الشخص ألزم نفسه معروفًا أو خيرًا لشخص آخر وهذا المعروف قد يكون قرضًا أو صدقة أو إعارة أو وجها من أوجه المعروف الأخرى.
وهذا الالتزام المتولد عن الوعد ينبغي الوفاء به ديانة ومروءة وتمشيًا مع مكارم الأخلاق التي حثت عليها الشريعة الإسلامية، لكن قوة هذا الالتزام اختلف فيها العلماء، فقد قال الإمام النووي رحمه الله: أجمع العلماء على أن من وعد إنسانًا شيئًا ليس بمنهي عنه فينبغي أن يفيَ بوعده.
وهل ذلك واجب أم مستحب؟ فيه خلاف بينهم (1) .
وهذا الخلاف في قوة الوعد الملزمة سأتولى تحريره هنا، وقد وجدت للعلماء في وجوب الوفاء بالوعد ثلاثة مذاهب:
الأول- استحباب الوفاء بالوعد لا وجوبه.
الثاني – وجوب الوفاء بالوعد مطلقا.
الثالث- وجوب الوفاء بالوعد بتفصيل.
وسأتولى بيان كل من هذه المذاهب الثلاثة تِبَاعًا.
المذهب الأول – استحباب الوفاء بالوعد لا وجوبه.
11- ذهب جمهور العلماء بما فيهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد والظاهرية وبعض المالكية (2) إلى أن الوفاء بالوعد مستحب مندوب إليه وليس واجبا فلا يقضى به على الواعد، لكن الواعد إذا ترك الوفاء فقد فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة تنزيهية شديدة ولكن لا يأثم (3) .
لكن هذا كان مثارا لتساؤل بعض العلماء حيث قال العسقلاني:
وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي أن الواعد يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء الوعد؟
وهذا التساؤل له ما يبرره بسبب ما جاء من النصوص الظاهرة في الحث على الوفاء بالوعد ووصف مخلف الوعد بالكذب والنفاق كما سيتضح ذلك عند عرض أدلة من أوجب الوفاء بالوعد.
لذلك فقد استشكل والد ابن حجر العسقلاني صرف النصوص عن ظاهرها مستنكرا إذ يقول: والدلالة للموجوب منها – أي من النصوص- قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد (4) ؟
__________
(1) انظر كتاب الأذكار للنووي ص282
(2) انظر: الأذكار للنووي ص282 عمدة القاري 12/121، من مرقاة المفاتيح 4/653، تحفة الأحوذي 6/131، المحلى 8/28، فتح العلي المالك 1/254 وهو مذهب الإمامية كما يفهم من الطبرسي في جامع البيان 9/278 شركة المعارف الإسلامية
(3) الأذكار للنووي ص282 عمدة القاري 1/221
(4) انظر: فتح الباري 6/217 طبعة مصطفى البابي الحلبي لسنة 1378هـ1959م(5/554)
هذا وقد نقل العسقلاني عن المهلب أن إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء (1) . وادعاء الاتفاق هذا رده العسقلاني؛ لأن الخلاف فيه مشهور وإن كان القائل به قليل (2) . وسيتبين لك القائلون بوجوب الوفاء بالوعد عند بيان المذهب الثاني.
12- ولكي يخرج الواعد من ارتكاب المكروه في وعده فإن عليه استثناء مشيئة الله تعالى ويكون عازما على الوفاء بوعده قال الجصاص (3) : (وكذلك الوعد بفعل يفعله في المستقبل وهو مباح فإن الأولى الوفاء به مع الإمكان، فأما قول القائل: إني سأفعل كذا فإن ذلك مباح له على شريطة استثناء مشيئة الله تعالى، وأن يكون في عقد ضميره الوفاء به ولا جائز له أن يعد وفي ضميره أن لا يفيَ به لأن ذلك هو المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله عليه، وإن كان في عقد ضميره الوفاء به ولم يقرنه بالاستثناء فإن ذلك مكروه؛ لأنه لا يدري هل يقع منه الوفاء به أم لا فغير جائز له إطلاق القول في مثله مع خوف إخلاف الوعد فيه) ولقد تشدد ابن حزم مقررًا أن الوعد بدون استثناء مشيئة الله محرم (4) .
وقد ذكر العلماء أن النية الصالحة للوفاء يثاب عليها الواعد وإن لم يقترن معها المنوي وتخلف عنها (5) .
وإذا كان أصحاب هذا الرأي قد نفوا الإثم عن مخالف الوعد فإن ذلك لمجرد خلف الوعد، أما لو قصد الواعد في إخلافه إضرار الموعود له فإن ذلك موجب لتأثيمه. (6) .
ولا يلزم الوفاء بالوعد على رأي الجمهور كونه معينًا أو مقترنًا بيمين، فقد ذكر ابن حزم أن (من وعد آخر بأن يعطيه مالًا معينًا أو غير معين أو بأن يعينه في عمل ما، حلف له على ذلك أو لم يحلف لم يلزمه الوفاء به ويكره له ذلك وكان الأفضل لو وفى به، وسواء أدخله بذلك في نفقة أو لم يدخله وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان) (7) .
__________
(1) فتح الباري في الموضع السابق: عدم صحة المضاربة بالموعود به هنا بناء على عدم تأكد الوفاء بالوعد بناء على عدم وجوبه
(2) الموضع السابق
(3) أحكام القرآن 3/442
(4) المحلى 8/29
(5) مرقاة المفاتيح 4/647
(6) مرقاة المفاتيح 4/653
(7) المحلى 8/28(5/555)
أدلة هذا المذهب
13- يستدل لمذهب الجمهور بما يلي:
أـ أخرج الإمام مالك رحمه الله في الموطأ: ((أنه قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب لامرأتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا خير في الكذب. فقال: يا رسول الله: أفأعدها وأقول لها؟ فقال عليه السلام: لا جناح عليك)) (1) .
فهذا الحديث يدل على أن إخلاف الوعد ليس قسيم الكذب، وأنه لا جناح على من أخلف وعده.
وأجيب على هذا الاستدلال بالحديث بأنه يحمل على أن الواعد لم يف مضطرًا جمعًا بينه وبين أدلة الوفاء إذ أن حمله على هذا المعنى أولى من حمله على غيره (2) .
ب ـ أخرج أبو داود ((أنه عليه الصلاة والسلام قال: إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه)) (3) .
وأجيب عنه بمثل ما أجيب على الحديث الذي سبقه عن مالك (4) .
جـ- وبصدد الدفاع عن رأي الجمهور قال ابن حزم: إن وعد وحلف واستثنى – بأن قال: إن شاء الله- فقد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن، فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه وهو الوعد، ولا فرق بين وعد أقسم عليه وبين وعد لم يقسم عليه، وأيضًا فإن الله تعالى يقول {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (5) .
فصح تحريم الوعد بغير استثناء، فوجب أن من وعد ولم يستثن فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك، ولا يجوز أن يجبر أحد على معصية فإن استثنى فقال: إن شاء الله أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل فلا يكون مخلفا لوعده إن لم يفعل؛ لأنه إنما وعده أن يفعل إن شاء الله وقد علمنا أن الله لو شاء لأنفذه فإن لم ينفذه فإن الله لم يشأ كونه (6) .
د- ويمكن الاستدلال لرأي الجمهور بأن الوعد تبرع محض من الواعد ولا دليل على وجوب التبرع على أحد، وهب أننا كيفنا الوعد على أنه عقد محله الوعد بعمل فإن هذا العقد يكون من عقود التبرعات، وهي بطبيعتها عقود غير لازمة، يجوز فسخها قبل بالقبض، لذلك قال النووي: استدل من لم يوجب الوفاء بأنه في معنى الهبة، والهبة لا تلزم إلا القبض عند الجمهور، وعند المالكية تلزم قبل القبض (7) . وسيأتي أن المالكية يقولون بلزوم الوعد على تفصيل، على أن رأي الجمهور يرد عليه ظواهر نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية التي احتج بها من أوجب الوفاء بالوعد. وقد تأول الجمهور هذه النصوص وصرفوها عن ظاهرها بما يوافق مذهبهم، وسيأتي إيضاح ذلك عند عرض أدلة الموجبين للوفاء بالوعد فيما يلي.
__________
(1) الموطأ بهامش المنتقى للباجي 7/313
(2) حاشية ابن الشاط على الفروق 4/22
(3) ذكره القرافي في الفروق 4/21 وانظر عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي 13/339 طبعة المكتبة السلفية بالمدينة المنورة
(4) حاشية ابن الشاط على الفروق 4/22
(5) سورة الكهف آية 23/24
(6) المحلى 8/29
(7) الأذكار ص282(5/556)
المذهب الثاني – وجوب الوفاء بالوعد مطلقا
14- ذهب الفقيه المشهور ابن شبرمة رحمه الله إلى أن الوعد يلزم مطلقًا ويجب الوفاء به ويقضي القاضي به على الواعد إلا من عذر يمنع الوفاء (1) .
ومن أَجَلِّ من قال بهذا الرأي الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (2) .
وذكر البخاري في صحيحه أن هذا قول الحسن البصري، وأن القاضي سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قضى بوجوب إنجاز الوعد، وأن ابن الأشوع ذكر أن وجوب إنجاز الوعد مذهب الصحابي سمرة بن جندب رضي الله عنه، وأضاف البخاري بأنه رأي إسحاق بن راهويه وهو يحتج بحديث ابن الأشوع في القول بإنجاز الوعد (3) .
ووجوب الوفاء بالوعد مطلقا مذهب بعض المالكية وإن وصفوه بأنه مذهب ضعيف (4) وذهب إلى وجوب الوفاء بالوعد أبو بكر بن العربي المالكي (5) وكذلك صححه ابن الشاط في حاشيته على الفروق (6) .
وذكر ابن رجب الحنبلي أن عليه طائفة من أهل الظاهر (7) وقال الإمام الغزالي الشافعي: إذا فهم الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر (8) وقد يفهم الجزم في الوعد إذا اقترب به حلف أو إقامة شهود على الواعد أو قرائن أخرى.
أدلة هذا المذهب
15- استدل القائلون بهذا المذهب بأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية:
الدليل الأول – قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (9) .
__________
(1) المحلى 8/28
(2) الأذكار ص282 فتح الباري طبعة الحلبي 6/219 مرقاة المفاتيح 4/653
(3) انظر صحيح البخاري بهامش فتح الباري 6/218 طبعة الحلبي وعمدة القاري 13/258 وسعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قاضي الكوفة في زمن إمارة خالد القسري على العراق بعد المائة للهجرة، وقد مات في ولاية خالد وقد عده ابن حبان في الثقات، وعده يحيى بن معين في المشهورين.
(4) فتح العلي المالك 1/256 الفروق 4/24
(5) ذكر ذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 18/29
(6) انظر حاشية ابن الشاط على الفروق 4/24
(7) جامع العلوم والحكم ص404
(8) إحياء علوم الدين 3/133
(9) سورة الصف آية 2-3(5/557)
فقد ذكر المفسرون أنه يحتج بالآية على أن من ألزم نفسه عقدا لزمه الوفاء به، والوعد مما ألزم الشخص نفسه به مع وجود الخلاف في الوجوب أو الاستحباب (1) .
والذين أوجبوا الوفاء بالوعد وجه استدلالهم بالآية أن الواعد إذا وعد وأخلف فإنه يكون قد قال ولم يفعل، فيكون داخلا في استنكار الآية، فيلزم أن يكون وعده كذبا، والكذب محرم فيكون إخلاف الوعد محرمًا أيضا، فلزم الوفاء به خروجًا من صفة الكذب (2) .
16- وقد اعترض على كون إخلاف الوعد كذبا، بأن الكذب وإن كان تعريفه بأنه الخبر الذي لا يطابق إلا أن عدم المطابقة تعرف بالماضي والحاضر من الأخبار، أما ما يتعلق منها بالمستقبل كالوعد فإنه يحتمل المطابقة وعدمها، فلا يمكن الجزم بعدم المطابقة؛ لأن المستقبل بعدم مجيء وقته يكون مجهولًا، وهذا مدعوم بأمرين:
الأول- أننا إذا عرفنا الشيء بوصف بأن قلنا في الإنسان مثلا: الحيوان الناطق، إنما نريد الحياة والنطق بالفعل لا بالقوة، وإلا لكان الجماد والنبات كله إنسانا؛ لأنه قابل للحياة والنطق، وحيث أن كون الوعد كذبا بالفعل غير ممكن لتأخر زمنه فإنه لا يمكن التحكم بوصفه بالكذب.
الثاني – أن إخلاف الوعد لا حرج فيه كما صرح بذلك الحديث الذي أخرجه مالك في الموطأ وحديث أبي داود – وقد تقدم ذكرهما- حيث أفاد الحديثان أن إخلاف الوعد ليس قسيم الكذب ولا حرج فيه، فإن قيل: إن النصوص القرآنية كقوله تعالى {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} (3) . وقوله {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (4) . وقوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} (5) . وقوله {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} (6) وغير ذلك من النصوص تدل على الصدق في وعد الله، فقد تحقق بذلك وصف الصدق في المستقبل، إن قيل ذلك فالجواب عليه: أن الله تعالى يخبر عن معلوم وكل ما تعلق به العلم يجب مطابقته بخلاف واحد من البشر إنما ألزم نفسه أن يفعل مع تجويز أن يقع ذلك منه وأن لا يقع، فلا تكون المطابقة وعدمها معلومين ولا واقعين فانتفيا بالكلية وقت الإخبار (7) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3/442 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/79
(2) الفروق 4/20، 34 المحلى 8/28
(3) سورة إبراهيم آية 22
(4) سورة آل عمران آية 152
(5) سورة الزمر آية 74
(6) سورة الأعراف آية 44
(7) الفروق وحاشيته وتهذيبه 4/21 -44(5/558)
17- وقد رد هذا الاعتراض بوجوه:
أ- إن الكذب يدخل الماضي والحاضر والمستقبل وإنما سومح في الوعد من أجل تكثير الوعد بالمعروف (1) .
ب - إنه لا يسلم أن التعاريف – أي الحدود- تستلزم أن يكون الوصف فيها بالفعل، إذ لو استلزمت ذلك لخرج الطفل الرضيع عن تعريف الإنسان ضرورة؛ لأن النطق الذي هو الفعل مفقود فيه بالفعل مع أن الطفل عند أصحاب التعاريف وهم الفلاسفة إنسان، وما قيل من استلزام كون الجماد والنبات إنسانًا لأنه قابل للحياة والنطق إنما هو جهل بمذهب أصحاب الحدود أو التعاريف، أي الفلاسفة القائلين بأن الحقائق مختلفة بصفتها الذاتية فلا تقبل حقيقة منها صفة الحقيقة الأخرى، فالحيوان لا يقبل أن يكون جمادًا والجماد لا يقبل أن يكون حيوانا، وبهذا فقد بطل كل ما قيل من أن الوعد لا يدخله الكذب؛ لأنه مستقبل (2) .
جـ- إنه لا معنى لحديث الموطأ إلا أنه صلى الله عليه وسلم منع السائل له من أن يخبر زوجته بخبر يقتضي تغيظها به، كأن يخبرها عن فعله مع غيرها من النساء بما لم يفعله أو غير ذلك مما يكون فيه التغيظ لزوجته، وسوغ له صلى الله عليه وسلم الوعد؛ لأنه لا يتعين فيه الإخلاف لاحتمال الوفاء به سواء كان عازمًا عند الوعد على الوفاء أو على الإخلاف أو مضربا عنهما، وأن السائل له صلى الله عليه وسلم إنما قصد الوعد على الإطلاق، وسأل عنه؛ لأن الاحتمال في عدم الوفاء اضطرارًا أو اختيارًا قائم، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم الجناح لاحتمال الوفاء، ثم إنه إن وفى فلا جناح عليه، وإن لم يف مضطرا فكذلك، وإن لم يف مختارًا فالظواهر المتضافرة قاضية بالحرج، فتبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل الوعد قسيمًا للكذب من حيث هو كذب وإنما جعله قسيمًا للخبر عن غير المستقبل الذي هو كذب، فكان قسيمه من جهة كونه مستقبلا وذلك غير مستقبل، أو من جهة كونه قد تعين أنه كذب والوعد لا يتعين أنه كذب، وما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل، فمجرد دعوى لم تقم عليها حجة ولا تعين أن المراد ما قاله، كيف وإن ما قاله هو عين الوعد؟ فإنه لا بد أن يكون ما يخبر زوجته عن وقوعه في المستقبل متعلقا بها، وإلا فلا حاجة لها فيما يتعلق بغيرها، وما قيل من أن السائل لم يقصد الوعد الذي يفي فيه بل قصد الوعد الذي لا يفي فيه على التعيين، فإنه مجرد دعوى أيضا إذ من أين علم أنه لا يفعله وعلى أن يكون في حال الوعد غير متمكن مما وعد به؟ من أين يعلم عدم تمكنه منه في المستقبل؟ وإذا تعذر علمه بذلك تعين أن يكون سواء لاحتمال عدم الوفاء أو العزم على عدم الوفاء، فسوغ له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأن عدم الوفاء لا يتعين، أو لأن العزم على عدم الوفاء على تقدير أن عدم الوفاء معصية ليس بمعصية، وأما حديث أبي داود فإنه يحمل على أن الواعد لم يف مضطرا (3) .
__________
(1) الفروق 4/24
(2) تهذيب الفروق 4/45
(3) تهذيب الفروق 4/45،46(5/559)
18- وقد رد ابن حزم الظاهري على الذين استدلوا بالآية لوجوب الوفاء بالوعد: بأن المراد بها الذين يقولون ما لا يفعلون في الأمور الواجبة كالوعد بإنصاف من دين أو أداء حق، وهو من قبيل قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} (1) فقد استنكر الله إخلافهم؛ لأن الصدقة واجبة والكون من الصالحين واجب فالوعد والعهد بذلك فرضان ففرض إنجازهما، ثم إن هذا نظر من هذا الذي عاهد الله على ذلك، والنذر فرض (2) .
ويبدو لي أن هناك فرقا بين هذه الآية والآية المستدل بها ففي هذه الآية علق العهد على شرط وهو إيتاء الله لهم من فضله، فتحقق الشرط وما وفوا، أما الآية المستدل بها فليس فيها مثل هذا الشرط بل إن سياقها يفيد العموم فقد أنكر عليهم أن يقولوا ومنه الوعد ولم يفعلوا فكان مقتًا كبيرًا عليهم.
19- الدليل الثاني – أن الوعد أمر بالوفاء به في جميع الأديان وقد حافظ عليه الرسل المتقدمون قال تعالى {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (3) . ومدح إسماعيل لصدقه في وعده بقوله {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (4) وفي شريعتنا من النصوص ما يؤكده الوفاء بالوعد كقوله تعالى {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (5) وقوله {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} (6) وقوله {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} (7) وكل هذه النصوص وعشرات مثلها تؤكد أن الله قطع على نفسه الوفاء بما وعد فعلى العباد أن يوفوا بوعودهم.
وقد حمل الجمهور القائلون باستحباب الوفاء بالوعد كل ما تقدم من النصوص على الاستحباب لا على الوجوب، فقرروا كراهية الإخلاف فيه.
__________
(1) سورة التوبة آية 75- 77
(2) المحلى 8/30
(3) سورة النجم آية 37
(4) سورة مريم آية 54
(5) سورة الروم آية 6
(6) سورة الزمر آية 20
(7) سورة لقمان آية33(5/560)
20- الدليل الثالث- ما أخرجه البخاري ومسلم (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم ((: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذ وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)) وفي رواية (من علامات المنافق ثلاث ... إلخ) وفي رواية أخرى (آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) وورد في البخاري: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) ، وفي مسلم: (إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر) .
والدليل في هذه الأخبار أن إخلاف الوعد قد عده النبي صلى الله عليه وسلم في خصال المنافقين، والنفاق مذموم شرعًا وقد أعد الله للمنافقين الدرك الأسفل من النار حيث قال {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (2) وعلى هذا يكون إخلاف الوعد محرما فيجب الوفاء بالوعد (3) .
21- والجواب عن هذا الدليل: أن هذا الحديث وإن عده جماعة من العلماء مشكلا كما صرح بذلك النووي (4) من حيث إن هذه الخصال المعدودة في الحديث توجد في المسلم المصدق الذي ليس في إسلامه شك وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار إذ أن إخوة يوسف عليه السلام جمعوا هذه الخصال، وكذلك وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذه الخصال أو كلها.
لكن النووي بعد نقله هذا الإشكال نفى أن يكون في الحديث إشكال (5) .
__________
(1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي2/47، 48 صحيح البخاري مع فتح الباري 1/89
(2) سورة النساء آية 145
(3) انظر الفروق 4/20 /46
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 2/46
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 2/47(5/561)
22- ونفي الإشكال مبني على أن الحديث مصروف عن ظاهره، وقد ذهب العلماء في صرف الحديث عن ظاهره مذاهب شتى وهي:
أ - قال المحققون والأكثرون وصححه النووي واختاره أن معنى الحديث أن هذه الخصال المعدودة في الحديث خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام، فيظهره وهو يبطن الكفر، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم. ((كان منافقا خالصا)) أي شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال؛ لذلك قال بعض العلماء: وهذا المعنى فيمن كانت الخصال المذكورة غالبة عليه وله دَيْنًا، ويدل عليه التعبير- بإذا – فإنها تدل على تكرار الفعل فأما من يندر ذلك منه فليس داخلا فيه (1) .
ب - قال الترمذي: إن المراد بالنفاق في الحديث نفاق العمل لا نفاق الإيمان (2) . وقد ارتضى هذا المعنى القرطبي والعسقلاني (3) ؛ لذلك قال الكرماني شارح البخاري: مناسبة هذا الباب- علامات النفاق- لكتاب الإيمان: إن النفاق علامة عدم الإيمان أو ليعلم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض، والنفاق لغة: مخالفة الباطن للظاهر فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه (4) .
وقد استدل لهذا المعنى بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحذيفة: هل تعلم فيَّ شيئا من النفاق؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر وإنما أراد نفاق العمل؛ لما علم بأن عمر رضي الله عنه مقطوع بإسلامه وأنه من المبشرين بالجنة (5) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 2/47 فتح الباري 1/90
(2) مسلم بشرح النووي 2/47
(3) فتح الباري 1/90، 91
(4) فتح الباري 1/89
(5) فتح الباري 1/.9 عمدة القاري 1/222(5/562)
جـ- إن المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير للمسلم عن ارتكاب هذه الخصال أو اعتيادها، والتي يخاف عليه أن تفضي به إلى حقيقة النفاق، وهذا المعنى حكاه الخطابي وارتضاه، ودعم هذا التفسير بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((: التاجر فاجر وأكثر منافقي أمتي قراؤها)) فإن معناه التحذير من الكذب إذ هو في معنى الفجور فلا يوجب أن يكون التجار كلهم فجارا، والقراء قد يكون من بعضهم قلة إخلاص في العمل وبعض الرياء، وهو لا يوجب أن يكونوا كلهم منافقين، ثم إن النفاق ضربان: أحدهما- يظهر الإيمان ويبطن الكفر وهكذا كان المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني- ترك المحافظة على أمور الدين ومراعاتها علنًا وهذا أيضًا يسمى نفاقًا، كما جاء ((:سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر)) وإنما هو كفر دون كفر وفسق دون فسق، وكذلك فهو نفاق دون نفاق (1) .
د- إن الحديث ورد في رجل منافق بعينه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقول: يا فلان أنت منافق أو: فلان منافق، بل كان صلى الله عليه وسلم يشير إشارة كقوله عليه السلام: ((: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)) فههنا عبر بالآية- آية المنافق – حتى يعرف ذلك الشخص بها، وهذا المعنى حكاه الخطابي (2) .
وقال العسقلاني: إن أصحاب هذا التفسير قد استدلوا بأحاديث ضعيفة لو صحت لوجب المصير إليها (3) .
هـ- إن المراد بالحديث: المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وائتمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا وفجروا في خصوماتهم، وهذا قول سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن البصري أن كان على خلافه (4) .
إلا أن ابن رجب الحنبلي نفى أن يكون الحسن البصري قد رجع إلى قول عطاء (5) .
وقال القاضي عياض الفقيه المالكي بأن كثيرا من أئمتنا مالوا إلى هذا الرأي (6) .
__________
(1) فتح الباري 1/98 عمدة القاري 1/222 مسلم بشرح النووي 2/47
(2) مسلم بشرح النووي 2/47
(3) فتح الباري 1/.9.
(4) مسلم بشرح النووي 2/47 عمدة القاري 1/222، جامع العلوم والحكم ص403
(5) جامع العلوم والحكم ص 403 حيث ذكر أن خبر الحسن هذا ذكره الشيخ محمد محرم وهو شيخ كذاب معروف بالكذب
(6) عمدة القاري 1/222 مسلم بشرح النووي 2/47(5/563)
و قال حذيفة: ذهب النفاق وإنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه الكفر بعد الإيمان، فإن الإسلام شاع وتوالد الناس عليه فمن نافق بأن أظهر الإسلام وأبطن خلافه فهو مرتد (1) .
وعلى قول حذيفة فإن النفاق إظهار الإسلام وإبطان الكفر فلا يكون إخلاف الوعد من النفاق، إنما النفاق إما نفاق العمل أو التساهل في أمور الدين سرا والاهتمام بها علنا.
ز- قال ابن حزم: لا حجة في الحديث؛ لأنه ليس على ظاهره، لأن من وعد بما لا يحل له أو عاهد على معصية، فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك. كمن وعد بخمر أو زنى وما شابه ذلك فصح بعد ذلك أنه ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذموما ولا ملوما ولا عاصيا، بل قد يكون مطيعا مؤدي فرض، فإذا كان الأمر كذلك فلا يكون فرضا من إنجاز الوعد والعهد إلا من وعد بواجب عليه كإنصاف من دَيْنٍ أو أداء حق (2) .
من كل ما تقدم يتضح أن الجمهور القائلين بعدم وجوب الوفاء بالوعد، قد صرفوا ظاهر الحديث إلى المعاني التي تقدمت، ومن ثَمَّ فإنهم لا يرون في الحديث دليلا على وجوب الوفاء بالوعد.
__________
(1) عمدة القاري 1/222
(2) المحلى 8/29(5/564)
23- الدليل الرابع- قال المسور بن مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صهرا له فقال ((: ((وعدني فوفاني)) )) أخرجه البخاري وذكره في معرض الاحتجاج لوجوب إنجاز الوعد (1)
24- الدليل الخامس – عن جابر رضي الله عنه قال: ((لما مات النبي جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي، وكان في البحرين فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ أو كانت له قبله عِدَةٌ فليأتنا. قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة)) (2) .
وأخرجه البخاري بلفظ قريب في باب من تكفل عن ميت دَيْنًا (3) .
قال العيني: وقد استدل بعض الشافعية على وجوب الوفاء بالوعد في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم زعموا أنه من خصائصه ولا دلالة فيه أصلا لا على الوجوب ولا على الخصوصية (4) .
كذلك أورد البخاري جملة أحاديث بهذا المعنى في باب من أمر بإنجاز الوعد (5) ولكنها محمولة على الاستحباب عند الجمهور.
25- الدليل السادس – قال صلى الله عليه وسلم ((:وَأْيُ المؤمن واجب)) أي: وعده واجب الوفاء به (6) ، وأورده ابن حزم بلفظ ((وَأْيُ حق واجب)) وقال عنه: فيه هشام بن سعيد وهو ضعيف والحديث مرسل (7) .
وأورده الغزالي بلفظ ((الْوَأْيُ مثل الدَّيْنِ أو أفضل)) وقال العراقي: أخرجه ابن أبي الدنيا مرسلا، ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف (8) . والوأي بمعنى الوعد وهو صريح في وجوب الوفاء لكنه ضعيف كما عرفت.
__________
(1) صحيح البخاري بشرح فتح الباري 6/218عمدة القاري 13/258
(2) انظر البخاري مع فتح الباري 6/218 عمدة القاري 13/258
(3) عمدة القاري 12- 121
(4) عمدة القاري 12/121
(5) انظر البخاري مع فتح الباري 6/218 عمدة القاري 13/258
(6) الفروق للقرافي 4/.2.
(7) المحلى 8/29
(8) إحياء علوم الدين 3/132(5/565)
26- الدليل السابع- أورد ابن حزم جملة أحاديث استدل بها من أوجب الوفاء بالوعد ثم ضعفها، من ذلك (1) :
عن طريق الليث عن ابن عجلان: ((أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي حدثه عن عبد الله بن عامر قالت لي أمي: ها تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة)) (2) .
قال عنه ابن حزم: هذا الحديث ليس بشيء؛ لأنه عمن لم يسم. والآخر: من طريق ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) قال عنه ابن حزم: حديث مرسل وابن عياش ضعيف. وأضاف ابن حزم: كان على أبي حنيفة ومالك أن يقولا بوجوب الوفاء بالوعد مطلقا؛ لأنهما يحتجان بالمراسيل، أي أن كلام ابن حزم يعني: لو أن الوفاء واجب لتناقض أبو حنيفة ومالك في قولهما بعدم وجوب الوفاء مع أصلهم بالأخذ بالمراسيل.
27-الدليل الثامن – ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وعد وعدًا قال: عسى)) ، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لا يعد وعدًا إلا ويقول: إن شاء الله، وقد حمل الغزالي ذلك بعد ذكره أنه إذا جزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر فإن كان عند الوعد جازما على أن لا يفي فهذا هو النفاق (3) ، لكن صاحب مرقاة المفاتيح قال بعد نقل هذا عن الغزالي (4) .
وهذا كله يؤيد الوجوب إذا كان الوعد مطلقا غير مقيد بعسى أو المشيئة ونحوهما مما يدل على أنه جازم في وعده فقول الغزالي محل بحث.
__________
(1) المحلى 8/29 وانظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص404
(2) رواه أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان انظر مرقاة المفاتيح 4/648
(3) إحياء علوم الدين3/133
(4) مرقاة المفاتيح 4/653(5/566)
28- الدليل التاسع – روى الترمذي وقال عنه حسن غريب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه)) (1) .
فقد ذكر شراح الحديث أنه يحتمل أن يخلفه- بالرفع- فيكون المنهي عنه الوعد المستعقب للإخلاف، فالمعنى لا تعده موعدا فأنت تخلفه على أنه جملة خبرية معطوفة على إنشائية، ويحتمل النصب أي: فيكون- فتخلفه- جوابا للنهي على تقدير: فيكون مسببًا عما قبله فعلى هذا يكون التنكير في موعد النوع من الموعد وهو ما يرضاه الله تعالى بأن يعزم عليه قطعًا ولا يستثني فيجعل الله ذلك سببًا للإخلاف أو ينوي في الوعد كالمنافق فإن آية المنافق الخلف في الوعد (2) .
المذهب الثالث – التفصيل في وجوب الوفاء بالوعد:
29- ذهب فقهاء المذهب المالكي إلى التفصيل فيما يجب الوفاء به من الوعود وما لا يجب وكانوا في ذلك فريقين:
الفريق الأول – ويمثله مشهور مذهب مالك وابن القاسم وسحنون وعليه المدونة، ومفاد رأيهم: أن الوعد يكون لازما يجب الوفاء به ويقضي القاضي به على الواعد إذا كان الوعد قد تم على سبب، ودخل الموعود له بسبب الوعد في شيء (3) .
__________
(1) عارضة الأحوذي 8/161، تحفة الأحوذي 6/131
(2) تحفة الأحوذي 6/131 مرقاة المفاتيح 4/653
(3) الفروق 4/25، فتح العلي المالك 1/254(5/567)
وبمعنى أوضح أن الوعد لو تم وكان له سبب، ثم باشر الموعود ذلك السبب معتمدا على وعد الواعد، فإن على الواعد وجوب الوفاء ويقضي عليه به، مثال ذلك: أن يقول الرجل للرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، ثم باشر الموعود شيئا من هذه التصرفات لزم الواعد الوفاء (1) .
وحيث يتنازع الواعد والموعود له فيما يلزم الواعد بسبب وعده فقد قالوا (2) 0 إن زعم الموعود أنه أراد شيئًا سماه فله ما أراد اتفاقا، وإن لم يكن أراد شيئًا أرضاه الواعد بما شاء، وحلف بالله أنه ما أراد أكثر من ذلك، وهذا هو رأي أشهب، أما على رأي ابن وهب واستحسنه أصبغ فإن على الواعد إرضاء الموعود بما يشبه أي بالمثل، وهو ما يكون مرضيا عند الناس، أما لو حلف الواعد ليرضينه فإن عليه أن يوفيه بما يرضيه ويرضي الناس.
30- الفريق الثاني – ويمثله مذهب أصبغ، وقالوا عنه بأنه مذهب قوي (3) ومفاده أن الوعد يكون لازما يجب الوفاء به ويقضي به عليه إذا تم الوعد على سبب وإن لم يدخل الموعود له في مباشرة شيء، مثال ذلك: قولك: أريد أن أتزوج، أو: أريد أن أشتري كذا، أو: أن أقضي غرمائي فَأَسْلِفْنِي كذا، أو: أريد أن أسافر غدا إلى مكان كذا فَأَعِرْنِي دابَّتَك، أو: أن أحرث أرضي فأعرني بقرتك، فقال: نعم، ثم بدا للواعد الرجوع قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر فإن ذلك يلزمه ويقضي به عليه (4) . وهذه الصورة تمثل طلبا واستجابة، وكذلك لو لم تسأله بل هو قال لك من نفسه: أسلفك كذا أو أهب لك كذا لتقضي دينك أو لتتزوج أو نحو ذلك فإن ذلك يلزمه ويقضي به عليه (5) . وهذه الصورة تمثل التزاما من جانب واحد.
ويعلم من ذلك أن الوعد المجرد عن سبب كما لو قلت: أسلفني كذا أو أعرني بقرتك ولم تذكر سببًا ولا حاجة، ثم وعدك وبدا له أن يرجع فله الرجوع ولا شيء عليه عند الفريقين، ويلاحظ أن هذه الصيغ تكون لازمة على رأي من أوجب الوفاء بالوعد مطلقًا، وهم ابن شبرمة وموافقوه؛ لأنهم لم يشترطوا وجود سبب في الوعد بل إن مجرد الوعد يوجب الوفاء به.
__________
(1) فتح العلي المالك 1/254، الفروق 4/25
(2) فتح العلي المالك 1/254
(3) فتح العلي المالك 1/255، الفروق 4/.2.
(4) فتح العلي المالك 1/254
(5) المرجع نفسه(5/568)
31- ويظهر الفرق بين فريقي المالكية في مسائل منها:
الأولى – لو قال له: إن غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضهم، فقال الواعد: نعم، ثم بدا له الرجوع فإن على مذهب أصبغ يجب الوفاء؛ لأنه وعد على سبب، وعلى مذهب مالك ومن وافقه لا يجب؛ لأن الموعود له لم يدخل في شيء إلا إذا اعتقد منه الغرماء على موعد أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه (1) .
الثانية – لو سألك مدين أن تؤخره إلى أجل كذا وكذا فقلت: أنا أؤخرك لزمك تأخيره إلى الأجل؛ لأنه وعد على سبب وهذا مذهب أصبغ، أما على مذهب مالك وموافقيه فلا يلزمه ذلك إلا إذا ورطه بذلك أو تدل قرينة على أنه أراد التأخير لا الوعد، والتورط يكون بأن يدفع ما بيده إلى دائن آخر أو شراء حاجة له بسبب بنائه على وعد الواعد (2) .
32- وحجة المالكية في تفصيلهم هذا أن النصوص الشرعية بهذا الصدد قد تعارضت فمنها ما أوجب الوفاء بالوعد مطلقا، وهي الأدلة التي ساقها موجبو الوفاء بالوعد، ومنها ما لم يجعل إخلاف الوعد من الكذب كحديث الموطأ وأبي داود حيث إن الآية {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] نزلت في قوم كانوا يقولون: جَاهَدْنَا، وما جاهدوا، وفعلنا أنواع الخيرات وما فعلوا (3) . ولا شك أن هذا محرم لأنه كذب، وأما كون مخلف الوعد منافقا فهو محمول على حالة كون الإخلاف سجية له أو تعمدا كما تقدم، فكان لا بد من حمل هذه النصوص على خلاف ظاهرها وأن يجمع بين الأدلة، فوافق هذا الرأي من أوجب الوفاء بالوعد إذا كان الوعد على سبب وباشره، ووافق من لم يوجب الوفاء بالوعد فيما عداها من الوعود المجردة، هكذا ذكر القرافي (4) ، وقد رد ابن الشاط كلام القرافي هذا في حاشيته على الفروق: بأن جمع الأدلة ينبغي أن يكون بحمل حديث الموطأ وأبي داود بما يتسق مع الآية، وحديث خصال المنافق بأن تكون المسامحة في إخلاف الوعد اضطرارا (5) .
33- وقد انتقد ابن حزم تقسيم المالكية هذا وتفصيلهم وقال: بأنه لا وجه له ولا برهان يعضده لا من قرآن ولا سنة ولا قول صحابي ولا قياس، فإن قيل: قد أضر الواعد بالموعود إذ كلفه من أجل وعده عملا ونفقة، قلنا: فهب أنه كما تقولون فمن أين وجب على من أضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالا (6) ؟
__________
(1) فتح العلي المالك 1/256
(2) فتح العلي المالك 1/257
(3) الجامع لأحكام القرآن حيث ذكر أسباب النزول 18/77 –78.
(4) الفروق 4/25.
(5) حاشية ابن الشاط على الفروق 4/25
(6) المحلى لابن حزم 8/28 أقول: لعل الحل عند ابن حزم في هذه الحالة هو رفع الضرر والظلم عن الموعود له أي أنه لا يرى الوعد هنا سببا لإيجاب ضمان على الواعد بناء على أن الوفاء بالوعد ليس بلازم عنده(5/569)
المذهب الراجح
34- تبين لنا أن للعلماء في وجوب الوفاء بالوعد ثلاثة مذاهب: مذهب الجمهور الذي يرى استحباب الوفاء بالوعد، ومذهب ابن شبرمة وموافقيه في وجوب الوفاء بالوعد مطلقا إلا لعذر، ومذهب المالكية على التفصيل الذي ذكرناه.
والذي يظهر لي راجحا من المذاهب الثلاثة هو مذهب الجمهور، فالوفاء بالوعد مستحب ويكره للواعد الإخلاف في وعده كراهة شديدة فليس الوفاء بالوعد واجبًا يقضى به على الواعد؛ وذلك لأمرين:
الأول – أن الوعد كما عرفه الفقهاء: إخبار عن إنشاء خير في المستقبل فهو بهذا الاعتبار محض تبرع، والمتبرع ليس ملزما بالوفاء بتبرعه في المستقبل إذ له الرجوع عنه.
الثاني – لو أقمنا الوعد مقام العقد في حكمه فإن الوعد على رأي كل الفقهاء يرد على عقود التبرعات، وعقود التبرعات ذاتها غير لازمة قبل قبض محل العقد فيجوز فسخها، فجواز فسخ الوعد بها أولى فلا يمكن القول بلزوم الوعد فيها.
وإذا كان فقهاء المذهب المالكي بناء على ما ذكر عن إمامهم مالك رحمه الله يرون أن من ألزم نفسه معروفا لزمه ما لم يمت أو يفلس، إلا أنهم قالوا (1) :
واعلم أن الالتزام إذا لم يكن على وجه المعاوضة فلا يتم إلا بالحيازة ويبطل بالموت والفلس كما في سائر التبرعات.
فتحصل من كل ذلك أن القول بوجوب الوفاء بالوعد مطلقًا أو على التفصيل كما يرى المالكية يكون مذهبا مرجوحًا والله أعلم.
__________
(1) فتح العلي المالك 1/211(5/570)
رأي القانون في الوعد:
35- يذهب علماء القانون إلى أن الوعد عقد (عقد الوعد) ينعقد بإيجاب وقبول من الواعد والموعود له، ويجوز أن يكون أي عقد موضوعا للوعد سواء كان عقدًا رضائيا يتم بإيجاب وقبول، أم عينيا يتم بإيجاب وقبول مع قبض محل العقد؛ لذلك يجوز الوعد بالبيع والإيجار والقرض والرهن وغير ذلك من العقود (1) ، فعلى هذا إذا وعد شخصٌ آخرَ بأن يبيعه قطعة أرض في وقت معلوم فإن التزاما قد ترتب على الواعد فيجب عليه الوفاء بالتزامه، وكذلك إن وعد بقرض يجب عليه الوفاء، وقد خالف القانون مذهب فقهاء الشريعة الإسلامية قاطبة في إجازته الوعد بعقود المعاوضات، فنظر فقهاء الشريعة على أن عقود المعاوضات ليست من التبرعات فلا يدخلها الوعد، إضافة إلى أن عقود المعاوضات إنما هي عقود تمليك وطبيعة عقود التمليك أن يكون طريقها الجزم لا الوعد المستقبل، فلا ينفض مجلس العقد إلا وقد انعقدت وترتب عليها حكمها وإلا فلا أثر للوعد فيها، أما رجال القانون فقد أعطوا للوعد في البيع والشراء حكم العقد الموعود به من ترتيب حق شخصي للموعود له على الواعد، وقيدوه بقيود يلتزم من خلالها بالوفاء بوعده وحيث أخل بوعده فإن عليه التعويض، وأنت ترى أن هذا تحكم في ملكية الواعد وحريته في تصرفه في ملكه، مع أن العقد الناقل للملكية لم يتم بعد. وإنما يتم حين يبدي الموعود له رغبته والتي حدد لظهورها مدة معلومة.
وإذا كان رجال القانون قد خالفوا فقهاء الشريعة في جواز الوعد في عقود المعاوضات إلا أنهم وافقوهم في جواز الوعد في عقود التبرعات وفاقًا لمذهب ابن شبرمة وموافقيه في لزوم الوعد بها مطلقا.
__________
(1) راجع مسألة الوعد بالتعاقد: نظرية العقد للدكتور السنهوري ص262، الوسيط للسنهوري 1/265 أصول الالتزام للدكتور حسن على الذنون ص67 مطبعة المعارف، الوسيط في نظرية العقد للدكتور عبد المجيد الحكيم 1/193، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ الزرقاء 1/346(5/571)
36- وحين يعد شخص آخر بالبيع ويعده الآخر بالشراء فإنه وعد ملزم للجانبين، وقد أسماه رجال القانون بالاتفاق الابتدائي. والفرق بين الاتفاق الابتدائي والاتفاق النهائي، هو أن الاتفاق الابتدائي تم ليستكمل المتواعدان مستلزمات العقد النهائي، كاستشارة آخرين أو تهيئة ثمن، في حين أن الاتفاق النهائي يعتبر عقدًا ناقلا للملكية لا يتوقف على شيء (1) .
وليس لهذا شبه في الفقه الإسلامي؛ لأن الاتفاق على البيع يعتبر على رأي الفقه الإسلامي عقدا كاملا صحيحا؛ لأنه تم بإيجاب وقبول، نعم هناك عقود تتم وفيها خيار الشرط أو خيار الرؤية، ففي هذه العقود يتم العقد صحيحا لكن لزومه متوقف على أمر آخر هو الخيار، فإذا اختار صاحب الخيار الإمضاء مضى العقد وإن اختار الفسخ ألغى العقد.
37- على أن الدكتور حسن علي الذنون يرى تنافيا بين فكرة عينية العقود مع فكرة الوعد بالتعاقد، فلا عبرة عنده بالوعد بالتعاقد في القرض (2) وذلك بناء على أن العقود العينية لا تتم إلا بقبض محل العقد.
وبناء على رأي الدكتور الذنون فإن فكرة الوعد في القانون تختلف تمامًا مع فكرة الوعد في الفقه الإسلامي؛ وذلك لأن مجال الوعد في الفقه الإسلامي هو عقود التبرعات التي هي من العقود العينية باصطلاح رجال القانون، ولا مجال للوعد في عقود المعاوضات في حين أن رأي الدكتور الذنون: أن مجال الوعد هو عقود المعاوضات ويتنافى مع عقود التبرعات (العينية) ، ورأي الدكتور الذنون لا يتفق مع رأي الدكتور السنهوري الذي يرى جواز الوعد في كل العقود.
38- هذا وإن الوعد في النكاح لا ينشئ التزاما في ذمة الواعد على رأي القانون (3) ، وهو متفق مع الفقه الإسلامي؛ لأن إلزام الواعد يؤدي إلى قيام الزوجية في ظل الإكراه.
الدكتور محمد رضا عبد الجبار العاني
__________
(1) المراجع السابقة
(2) أصول الالتزام للدكتور الذنون ص68
(3) الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ الزرقا 1/346 هامش(5/572)
مراجع البحث
بعد القرآن الكريم
1- أحكام القرآن لأحمد بن علي الرازي الجصاص نشر دار الكتاب العربي، بيروت.
2- إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد الغزالي، المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة.
3- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
4- جامع البيان للطبرسي، شركة المعارف الإسلامية.
5- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، نشر دار الكتاب العربي بالقاهرة.
6- جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، نشر دار العلوم الحديثة بيروت ودار الشرق الجديد – بغداد.
7- الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأخيار النووي، الطبعة الرابعة.
8- صحيح مسلم بشرح النووي، دار الفكر – بيروت.
9- عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني، إدارة الطباعة المنيرية.
10- فتح الباري بشرح البخاري للعسقلاني: راجعت الجزء الأول في طبعة دار المعرفة- بيروت والجزء السادس في طبعة البابي الحلبي.
11- فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ محمد عليش، الطبعة الأخيرة 1378هـ 1958م.
12- الفروق لأبي العباس الصنهاجي القرافي مع حاشية قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط مع تهذيب الفروق لمحمد بن الشيخ حسين.
13- الفقه الإٍسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ مصطفى الزرقا، الطبعة الثالثة.
14- المحلى لعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم، المكتب التجاري، بيروت.
15- من مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: لعلي بن سلطان محمد القاري، نشر المكتبة الإسلامية.
16- الموطأ للإمام مالك بهامش كتاب المنتقى للباجي، الطبعة الأولى.
مراجع قانونية
17- أصول الالتزام للدكتور حسن علي الذنون، مطبعة المعارف.
18- الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للأستاذ مصطفى الزرقا، ط3.
19- نظرية العقد للدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري.
20- الوسيط للدكتور عبد الرزاق السنهوري.
21- الوسيط في نظرية العقد للدكتور عبد المجيد الحكيم.(5/573)
الوفاء بالوعد
إعداد
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
الأستاذ بكلية الشريعة / جامعة بغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
وبعد: قد يلزم الشخص نفسه بالتزامات يطلب منه الوفاء بها حالا أو مستقبلاً؛ ذلك لأن الحياة العملية للأفراد اقتضت ذلك، بسبب طبيعة الحياة الاجتماعية لهؤلاء الأفراد، حيث إنهم أعضاء في مجتمع تربط أعضاءه روابط منها اجتماعية ومنها اقتصادية. فالعقود مثلا صورة شائعة معروفة بين الأفراد تتولد عنها التزامات يراد الوفاء بها.
ومن مظاهر التزامات الأشخاص قبل بعضهم "الوعد" فقد شاع هذا الأمر بين الناس، فأخذ يعد بعضهم بعضا، سواء رافق ذلك عزم على الوفاء أم لم تصحبه نية الوفاء.
وحيث إن الوعد يحقق معروفا لشخص من قبل شخص آخر بأمر من الأمور النافعة فلا شك حينئذ أن يكون للوفاء بالوعد وإنجازه أثره البالغ في التأثير في العلاقات الاجتماعية إيجابيا حين يوفي الواعدون بوعدهم، أو سلبيا حين يخلفونه.
ومن المعلوم أن مثل هذه الوعود غالبا ما ينجم عنها التزامات مالية، فأصبح من المفيد جدا البحث في مدى قوة مثل هذه الوعود.
وها أنا في بحثي هذا أستقصي رأي فقهائنا رحمهم الله تعالى في هذه المسألة.
وأستمد منه العون والسداد، إنه سميع مجيب.
الباحث(5/574)
معنى الوعد لغة:
قال ابن سيده: وعده الأمر وبه عدة ووعدا وموعودا وموعدة، وهو من المصادر التي جاءت على مفعول ومفعولة، وقد تواعد القوم واتعدوا، وواعده الوقت والموضع، وواعده فوعده، وقد أوعده وتوعد.
قال الفراء: يقال، وعدته خيرا ووعدته شرا بإسقاط الألف، فإذا أسقطوا الخير والشر، قالوا في الخير وعدته، وفي الشر أوعدته، وقال ابن الأعرابي: أوعدته خيرا وهو نادر.
وفي الصحاح، تواعد القوم، أي وعد بعضهم بعضا، هذا في الخير، وأما في الشر فيقال: اتعدوا، والإيعاد أيضا قبول الوعد (1) .
أما تعريف الوعد في الاصطلاح الفقهي: فقد قال ابن عرفة المالكي (العدة إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل (2) .
وعرفه العيني بقوله: (الوعد، هو الإخبار بإيصال الخير في المستقبل، والإخلاف، جعل الوعد خلافا، وقيل: هو عدم الوفاء به (3) .
وعند النظر في التعريفين يتضح:
أ- أن التعريف الاصطلاحي للوعد اعتمد التعريف اللغوي، فقرر الوعد الذي هو للخير واستبعد الوعيد الذي هو للشر. فالوعد لا بد أن يكون بمعروف فحين يكون الوعد بشر، لا يجب الوفاء به (4) .
ب- إن زمن الوفاء بالوعد هو المستقبل، وليس الآن (حين الوعد) . وينبغي أن يفرق بين الوعد والنذر لكون الوفاء بهما في المستقبل فيتشابهان من هذا الوجه، لكن هذا التشابه لا يمنع وجود الفرق بينهما، فالنذر وإن كان فيه معنى الوعد، إلا أن فيه معنى القربة إلى الله تعالى، وأن في عدم الوفاء به الكفارة وليس كذلك الوعد.
__________
(1) انظر عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للعلامة بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني 220/1
(2) انظر فتح العلي المالك للشيخ عليش 254/1
(3) انظر عمدة القاري1/ 220
(4) قال العسقلاني: المراد بالوعد، الوعد بالخير، أما الوعد بالشر فيستحب إخلافه وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة، انظر فتح الباري90/1(5/575)
وهل هناك فرق بين الوعد والعهد؟
لا شك أن هناك فرقا بينهما في اللغة، إذ العهد، يراد به الأمان واليمين والموثق والذمة والحفاظ والوصية، فتقول: عهد الله علي لأفعلن كذا (1) أما معنى الوعد في اللغة فهو ما تقدم، لذلك قيل للتفريق بين الوعد والعهد: إن العهد يراد به ما تعبد الله به من أمور الدين، أو ما يكون بين العباد مما يكون بخلفه إتلاف مال أو نفس، أو إدخال ضرر كثير. أما الوعد ففيما لا يتعلق ذلك به حق لمخلوق. أو ما لا يؤدي إلى إخلافه كثير ضرر، فمن نقض عهده فذلك من كبائر الذنوب ويبلغ به الهلاك، ومن أخلف وعده كان إثما ولا يبلغ فاعلوه إلى الكفر والهلاك (2) . والله أعلم.
ومع ما نقلناه من خلاف بين العهد والوعد، فإن العسقلاني ذكر أنه قد يتحد معناهما (3) . ولعل ما يؤيد هذا الرأي قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (4) .
إذ بدأ الذكر الحكيم بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} فلما أخلفوا رتب عليهم ما رتب، ثم علله بقوله: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} .
__________
(1) انظر مختار الصحاح ص 460
(2) انظر كتاب المصنف المجلد الأول الجزء الثاني ص200 تأليف أبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى الكندري، تحقيق عبد المنعم عامر والدكتور رجاء الله أحمد.
(3) انظر فتح الباري1/ 90
(4) سورة التوبة آية 75 - 77(5/576)
صيغة الوعد:
جاء في فتح العلي المالك: " العدة أن يقول الرجل: أنا أفعل، وأما إذا قال: قد فعلت فهي عطية، وقوله: لك كذا وكذا أشبه بقوله: قد فعلت منه بأنا أفعل " (1) .
ومنه يفهم أن الصيغة التي ينبغي استعمالها في الوعد، هي صيغة الاستقبال المقترنة بسوف أو السين، أما اللفظ الماضي فإنه لا ينبئ عن الوعد وإنما هو يفيد التنجيز حالا (2) .
على أنه لا يكون استعمال الفعل المضارع دائما يفيد الوعد، بل إن ذلك يعتمد القرائن الموجودة في سياق اللفظ، فإذا كان الفعل المضارع الذي يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال أنه يفيد الالتزام جزما فهو ليس وعدا، أما إذا وجد مع المضارع ما يفيد إرادة المستقبل فإنه الوعد (3) .
مشروعية الوعد:
الوعد مباح (4) ، فلكل شخص أن يعد بالمعروف والخير من يشاء من الناس، لكن الذي ينبغي الإشارة إليه هو أن يتحفظ الشخص في إطلاق الوعود. للناس؛ لأن الوفاء بالوعد أمر مستقبل، والشخص لا يملك معرفة أحواله المستقبلية قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (5) .
إذ قد يكون الواعد عاجزًا عن الوفاء فيكون مخلفا للوعد فيوصم بخصلة من خصال النفاق؛ لذلك فإن الإمام الغزالي رحمه الله قد اعتبر وعد الكاذب آفة، إذ يقول: "إن اللسان سباق إلى الوعد، ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا، وذلك من أمارات النفاق" (6) .
هذا فضلا عما يثيره إخلاف الوعد من العداوة بين الواعد والموعود له، وهذا المحذور يؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) أورد الحديث ابن حزم، وقال بأنه حديث مرسل (7) .
ومع أن الإباحة هي الأصل في الوعد لكنه قد يكون محرما إذا كان الموعود به محرما، كالوعد بخمر أو زنا، فإن هذا الوعد محرم، يحرم الوفاء به.
__________
(1) انظر 269/1
(2) انظر قوة الوعد الملزمة في الشريعة والقانون، للأستاذ محمد رضا عبد الجبار، وقد نشر البحث في مجلة كلية الشريعة ببغداد العدد الثامن.
(3) انظر فتح العلي المالك 257/1
(4) أحكام القرآن للجصاص 442/3
(5) سورة لقمان الآية 34
(6) إحياء علوم الدين 132/3
(7) انظر المحلى 29/8(5/577)
مدى وجوب الوفاء بالوعد:
اختلف الفقهاء في الوعد، هل يلزم الواعد به شرعا أم لا؟ وذلك على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: ذهب فريق من العلماء إلى أن الوفاء بالوعد مستحب مندوب إليه وليس بفرض، فلا يقضى به على الواعد، لكن الإخلال بالوعد يفوت الواعد الفضل، ويرتكب بسبب خلفه هذا المكروه، هذا ما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي وأبو سليمان، وقد استدل أصحاب هذا الرأي بما يلي:
أولًا: أخرج الإمام مالك رحمه الله في الموطأ ((أنه قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب لامرأتي، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا خير في الكذب "، فقال: يا رسول الله: أفأعدها وأقول لها؟ فقال عليه السلام: لا جناح عليك)) (1) . وجه الاستدلال من الرواية كما يذكر القرافي (2) .
أ- أن الرسول عليه الصلاة والسلام منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل ونفى الجناح على الوعد.
ب- أن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد جعله قسيم الكذب، ولو كان منه لما جعله قسيما له.
ج- كما يستدل من الرواية على أن إخلاف الوعد لا حرج فيه.
د- " لو كان المقصود الوعد الذي يفي به لما احتاج للسؤال عنه ولما ذكره مقرونا بالكذب ". فتبين بأن قصد السائل إصلاح حال امرأته بما لا يفعله، فتخيل الحرج في ذلك فاستأذن عليه.
__________
(1) انظر شرح الزرقاني على الموطأ 408/4
(2) انظر الفروق لشهاب الدين أبي العباس الصنهاجي المشهور بالقرافي طبع دار المعرفة 21/4(5/578)
وقد أجاب ابن الشاط على استدلال القرافي هذا بما يلي (1) :
1- إن القول بأن الرسول عليه الصلاة والسلام منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل، غير سليم وهي دعوى لا حجة عليها، ولعل السائل كان قصده من الكذب على زوجته أن يخبرها عن فعله مع غيرها من النساء بما لم يفعله أو غير ذلك مما يقصد به إغاظة زوجته، فلم يتعين أن المراد ما ذكره. كيف وأن ما ذكره هو عين الوعد، وما معنى الحديث إلا أنه صلى الله عليه وسلم " منعه من أن يخبرها بخبر كاذب يقتضي تغييظها به، وسوغ له الوعد؛ لأنه لا يتعين فيه الإخلاف لاحتمال الوفاء به سواء كان عازما عند الوعد على الوفاء أو على الإخلاف أو مضربا عنهما، ويتخرج ذلك في قسم العزم على الإخلاف على الرأي الصحيح ... من أن العزم على المعصية لا مؤاخذة به، إذ معظم دلائل الشريعة يقتضي المنع في الإخلاف" (2) .
2- إن القول بأن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله قسيم الكذب، غير مسلم أيضًا؛ لأنه جعله قسيم الخبر عن غير المستقبل الذي هو كذب، فكان قسيمه من جهة كونه مستقبلا، وذلك غير مستقبل، أو من جهة كونه قد تعين أنه كذب، والوعد لا تعيين كونه كذبا.
3- أما دعوى إخلاف الوعد لا حرج فيه، فليس بصحيح، بل فيه الحرج بمقتضى ظواهر الشرع إلا حيث يتعذر الوفاء، كما سنرى ذلك من الأدلة.
4- إن القول بأنه لو كان قصد السائل الوعد الذي يفي به لما احتاج السؤال منه ... إلخ، فيجاب عليه، بأن السائل لم يقصد الوعد الذي يفي فيه على التعيين، وإنما قصد الوعد على الإطلاق وسأل عنه؛ لأن الاحتمال في عدم الوفاء اضطرارا أو اختيارا قائم، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم عنه الجناح لاحتمال الوفاء، ثم إن وفى فلا جناح، وإن لم يف مضطرا فكذلك، وإن لم يف مختارا فالظواهر المتظاهرة قاضية بالحرج.
5- إن القول: بأن قصد السائل إصلاح حال امرأته.... إلخ، إن هذا القول غير صحيح، إذ من أين يحصل العلم بأن الزوج لا يفعله وعلى أن يكون في حال الوعد غير متمكن مما وعد به؟ ومن أين يعلم عدم تمكنه منه في المستقبل؟ وإذا تعذر العلم بجميع ذلك، تعين أن يكون سؤال الزوج لاحتمال عدم الوفاء أو العزم على عدم الوفاء، فسوغ له عليه الصلاة والسلام ذلك؛ لأن عدم الوفاء لا يتعين أو لأن العزم على عدم الوفاء على تقدير أن عدم الوفاء معصية، ليس بمعصية (3) .
__________
(1) انظر أدرار الشروق على أنوار الفروق لابن الشاط والمطبوع بأسفل الفروق 21/4
(2) انظر أدرار الشروق على أنوار الفروق 21/4
(3) انظر ابن الشاط في المصدر السابق أيضًا 22/4(5/579)
ثانيا: ومما استدل به هذا الفريق على قولهم: بأن الوعد غير ملزم، ما أخرجه أبو داود أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه)) (1) .
وأجيب عن هذا الحديث بما أجيب به عن الحديث الذي سبقه.
ثالثا: ومما استدل به أصحاب هذا الرأي أيضا، أن الرجل إذا وعد وحلف واستثنى- بأن قال: إن شاء الله- فقد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن، فإذا سقط عنه الحنث، دل على أنه لم يلزمه فعل ما حلف عليه.
وبما أن الوعد لا يصح بدون استثناء لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (2) .
دل على أن من وعد ولم يستثن، فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك، ولا يجوز أن يجبر أحد على معصية، فإن استثنى فقال: إن شاء الله تعالى، أو: إلا أن يشاء الله تعالى، أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل، فلا يكون مخلفا لوعده إن لم يفعل (3)
ويجاب على هذا الاستدلال، بأن الاستثناء في الوعد سنة وليس بواجب، ولم ينقل عن أحد من العلماء بأنه يحرم الوعد بغير استثناء، حكى القرطبي عن ابن عطية قوله " وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الأيمان، وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين " (4) .
__________
(1) انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 339/3 وذكر ذلك صاحب الفروق أيضًا في 21/4
(2) سورة الكهف آية [23]
(3) انظر ابن حزم في المحلى 30/8
(4) انظر الجامع لأحكام القرآن385/ض(5/580)
المذهب الثاني: وهو رأي الفقيه المالكي ابن شبرمة.
ويقضي: بأن الوعد ملزم مطلقا ويجب الوفاء به ديانة وقضاء، حكى ذلك عنه ابن حزم حيث قال: " قال ابن شبرمة: الوعد كله لازم ويقضي به على الواعد ويجبر" (1) .
وهو مذهب كثير من فقهاء السلف، منهم الحسن البصري والخليفة عمر بن عبد العزيز، وقضى به سعيد بن عمر بن الأشوع (2) . ونقل ذلك عن الصحابي الجليل سمرة بن جندب رضي الله عنه، وذكر البخاري في صحيحه بأنه رأي إسحاق بن رَاهُوَيْهِ مستدلا بحديث ابن الأشوع في القول بإيجاز الوعد (3) .
ووجوب الوفاء بالوعد مطلقا مذهب بعض المالكية وإن وصفوه بأنه مذهب ضعيف (4) . وذهب إلى وجوب الوفاء بالوعد كذلك أبو بكر بن العربي المالكي (5) .
وهذه وجهة نظر ابن الشاط المالكي وقد دافع عن رأيه هذا من خلال رده على القرافي (6) . وحكى ابن رجب الحنبلي وجوب الوفاء بالوعد مطلقا عن طائفة من علماء أهل الظاهر وغيرهم (7) .
وقال الإمام الغزالي الشافعي: إذا فهم الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر وقد يفهم الجزم في الوعد إذا اقترن به حلف أو إقامة شهود على الوعد أو قرائن أخرى (8) .
__________
(1) انظر المحلى 28/8
(2) انظر العيني في عمدة القاري 258/13، وسعيد بن عمرو بن الأشوع بن عمرو الأشوع الهمداني قاضي الكوفة في زمن إمارة خالد القسري على العراق بعد المائة للهجرة وقد مات في ولاية خالد وقد عده ابن حبان في الثقات، وعده يحيى بن معين في المشهورين
(3) انظر العيني في المصدر السابق، وكذا صحيح البخاريي بهامش فتح الباري طبعة الحلبي 218/6
(4) انظر فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك 256/1، وكذا القرافي في الفروق 24/4
(5) انظر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 29/18
(6) انظر أدرار الشروق على أنوار الفروق 21/4
(7) انظر جامع العلوم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم ص404
(8) انظر إحياء علوم الدين 123/3(5/581)
أدلة أصحاب هذا الرأي:
استدل أصحاب هذا الرأي بنصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
1- فما استدلوا به من الآيات القرآنية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) .
وجه الاستدلال من الآية: أن العقود تعني المربوط، واحدها عقد، يقال: عقدت العهد والحبل، والعقد: هو كل ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة، وكل ما كان غير خارج عن الشريعة، وكذا ما عقده الإنسان على نفسه لله من الطاعات. قال الزجاج: " المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض (2) .
واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) .
فالوعد إذا أخلف، قول نكل الواعد عن فعله، فيلزم أن يكون كذبا محرما وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا (4) .
كما استدل هذا الفريق من العلماء بالآيات التي أثنى الله فيها على من بر بوعده وأوفى بعهده، منها قوله تعالى {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (5) .
وقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (6) . ومدح إسماعيل لصدقه في وعده بقوله عز شأنه: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (7) .
وقد حمل أصحاب المذهب الأول هذه الأدلة على الندب والاستحباب (8) .
__________
(1) سورة المائدة آية [1]
(2) انظر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 33/6
(3) سورة الصف آية 3
(4) انظر القرافي في الفروق 20/4
(5) البقرة آية 177
(6) النجم آية 337
(7) مريم آية 54
(8) انظر الأستاذ محمد رضا عبد الجبار في بحثه قوة الوعد الملزمة في الشريعة والقانون(5/582)
2- ومن السنة النبوية التي استدل بها القائلون: بوجوب الوفاء بالوعد ما أخرجه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) وفي رواية: " من علامات المنافق ثلاث ... إلخ " (1) .
الدليل في هذه الأخبار، أن إخلاف الوعد قد عده النبي صلى الله عليه وسلم في خصال المنافقين، والنفاق مذموم شرعا، وقد أعد الله للمنافقين الدرك الأسفل من النار، حيث قال جل ثناؤه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (2) .
وعلى هذا يكون إخلاف الوعد محرمًا فيجب الوفاء به.
وقد صرف بعض شراح الحديث معنى النفاق الوارد في الروايات المذكورة عن حقيقته، فقالوا: إن المراد بإطلاق النفاق، الإنذار والتحذير للمسلم عن ارتكاب هذه الخصال أو اعتيادها والتي يخاف عليه أن تفضي به إلى حقيقة النفاق، وهذا المعنى حكاه الخطابي وارتضاه (3) .
كما قال البعض منهم، بأن المراد بالحديث، المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوا بإيمانهم وكذبوا، وائتمنهم على سره فخانوه ووعدوه بالخروج معه للجهاد فأخلفوه. وقد روى محمد المحرم هذا التأويل عن عطاء، وأنه قال: حدثني به جابر، وذكر أن الحسن رجع إلى قول عطاء هذا عند بلوغه الخبر.
وقد رد ابن رجب الحنبلي على كلام محرم هذا بقوله: " هذا كذب والمحرم شيخ كذاب معروف بالكذب" (4) .
__________
(1) انظر العيني في عمدة القاري 258/13، وكذا صحيح البخاري مع فتح الباري 89/1، وكذا صحيح مسلم بشرح النووي 47/2
(2) سورة النساء آية: 145
(3) انظر فتح الباري 1/90، عمدة القاري 1/222
(4) انظر جامع العلوم والحكم ص 403(5/583)
فالحديث عام في كل إنسان يظهر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الأكبر، والنفاق الأصغر وهو نفاق العمل، وهو أن يظهر الإنسان علانية صَالِحَهُ ويبطن ما يخالف ذلك.
والنفاق هذا ترجع أصوله إلى الخصال المذكورة في هذا الحديث وغيره (1) .
واستدل أصحاب هذا الرأي أيضًا بقوله عليه الصلاة والسلام: ((والمسلمون على شروطهم)) (2) ولما كان الوعد مما ألزم به الإنسان نفسه فعلى هذا يلزمه الوفاء.
واستدلوا أيضا بما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ((لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي، فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ أو كانت له قبله عِدَةٌ فليأتنا، قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة)) (3) .
وأخرجه البخاري بلفظ قريب في باب من تكفل عن ميت دَيْنًا (4) . قال العيني: وقد استدل بعض الشافعية على وجوب الوفاء بالوعد في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم زعموا أنه من خصائصه ولا دلالة فيه أصلا لا على الوجوب ولا على الخصوصية (5) .
ومما استدل به أصحاب هذا الرأي ما أخرج البخاري وذكره في معرض الاحتجاج لوجوب الوفاء بالوعد عن المسور بن مخرمة أنه قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر صهرا له فقال: وعدني فوفاني (6) .
ومن ذلك أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: ((وَأْيُ المؤمن واجب)) (7) . بمعنى وعده واجب الوفاء به.
واستدلوا كذلك بما رواه الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه)) (8) .
وقد حمل أصحاب الرأي الأول الروايات التي استدل بها الفريق الثاني على الندب والاستحباب.
__________
(1) انظر ابن رجب في المصدر السابق
(2) ونص الحديث: " والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالًا أو أحل حرامًا " نيل الأوطار 287/6
(3) انظر عمدة القاري 258/13، وصحيح البخاري بشرح فتح الباري 218/6
(4) انظر العيني في عمدة القاري 121/12
(5) انظر العيني في عمدة القاري 121/12
(6) انظر عمدة القاري 258/13، وفتح الباري 218/6
(7) انظر الفروق للقرافي في 4/20
(8) أخرجه الترمذي وقال عنه: حسن غريب، انظر تحفة الأحوذي 131/6، وكذا عارضة الأحوذي 161/8(5/584)
المذهب الثالث: التفصيل في وجوب الوفاء بالوعد:
ذهب فقهاء المذهب المالكي إلى التفصيل فيما يجب الوفاء به من الوعود وما لا يجب، وكانوا في ذلك فريقين.
الفريق الأول: وهو المنقول عن مالك وابن القاسم وسحنون، ويقضي رأيهم: بأن الوعد يكون لازما يجب الوفاء به ويقضي القاضي به على الواعد إذا كان الوعد تم على سبب، ودخل الموعود له بسبب الوعد في شيء.
قال القرافي: " اختلف العلماء في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟ قال مالك: إذا سألك أن تهب له دينارا فقلت نعم ثم بدا لك، لا يلزمك، ولو كان افتراق الغرماء عن وعد وإشهاد لأجله، لزمك؛ لإبطالك مغرما بالتأخير. قال سحنون: الذي يلزم من الوعد قوله: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، أو: اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو: اشتر سلعة أو تزوج امرأة وأنا أسلفك؛ لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به بل الوفاء به من مكارم الأخلاق" (1) .
وإذا تنازع الواعد والموعود له فيما يلزم الواعد بسبب وعده، فقد قالوا: إذا اشترى رجل من آخر كَرْمًا فخاف الوضيعة، فأتى المشتري إلى البائع ليستوضعه، فقال له البائع: بع وأنا أرضيك، فإن باع المشتري الكَرْمَ برأس ماله أو بربح، فلا شيء على الواعد، وإن باع بالوضيعة، كان عليه أن يرضيه، " فإن زعم الموعود أنه أراد شيئًا سماه، فله ما أراد اتفاقا، وإن لم يكن أراد شيئا، أرضاه الواعد بما شاء، وحلف بالله أنه ما أراد أكثر من ذلك". وهذا هو رأي أشهب. أما على رأي ابن وهب واستحسنه أصبغ، فإن على الواعد، إرضاء الموعود بما يشبه، أي بالمثل، وهو ما يكون مرضيا عند الناس. أما لو حلف الواعد ليرضينه فإن عليه أن يوفيه بما يرضيه ويرضي الناس (2) .
__________
(1) انظر الفروق 24/4 وما بعدها، كذا ابن عليش في فتح العلي المالك 254/1
(2) انظر فتح العلي المالك 255/1(5/585)
الفريق الثاني: ويمثله مذهب أصبغ، وقالوا عنه بأنه مذهب قوي، ويقضي بلزوم الموعود له في مباشرة شيء. نقل ذلك ابن عليش المالكي حيث قال: والقول بأنه يقضي بها إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببها في شيء هو قول أصبغ في كتاب العِدَة (1) .
فعلى هذا الرأي، لو قال رجل لآخر: إن غرمائي يلزمونني بِدَيْنٍ فأسلفني أقضهم، فوعده المقابل، ثم بدا له الرجوع، فإن على مذهب أصبغ يجب الوفاء؛ لأنه وعد على سبب، وعلى مذهب مالك ومن وافقه، لا يجب؛ لأن الموعود له لم يدخل في شيء إلا إذا أعتقد منه الغرماء على موعد أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه (2) .
وحجة المالكية في تفصيلهم هذا، أن النصوص الشرعية بهذا الصدد قد تعارضت، فمنها ما أوجب الوفاء بالوعد مطلقا، وهي الأدلة التي ساقها موجبو الوفاء بالوعد، ومنها ما لم يجعل إخلاف الوعد من الكذب كحديث الموطأ وأبي داود.
وأما قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف: 3] فإنها نزلت في قوم كانوا يقولون: جَاهَدْنَا، وما جاهدوا، وفعلنا أنواع الخيرات وما فعلوا (3) . ولا شكل أن هذا محرم؛ لأنه كذب.
وأما كون مخلف الوعد منافقا فهو محمول على حالة كون الإخلاف سجية له أو تعمدا فكان لابد من حمل هذه النصوص على خلاف ظاهرها، وأن يجمع بين الأدلة. فوافق هذا الرأي من أوجب الوفاء بالوعد إذا كان الوعد على سبب وباشره، ووافق من لم يلزم الوفاء بالوعد فيما عداها من الوعود المجردة، هكذا ذكر القرافي (4) .
وقد رد ابن الشاط على كلام القرافي هذا، حيث قال: بأنه ينبغي الجمع بين الأدلة وتأويل ما يناقض ذلك، فيحمل حديث الموطأ وأبي داود بما يتسق مع الآية.
وحديث خصال المنافق، وذلك بأن تكون المسامحة في إخلاف الوعد اضطرارا (5) .
وقد انتقد ابن حزم تقسيم المالكية هذا وتفصيلهم، حيث قال: " بأنه لا وجه له ولا برهان يعضده لا من قرآن ولا سنة ولا قول صحابي ولا قياس، فإن قيل قد أضر الواعد بالموعود إذ كفله من أجل وعده عملا ونفقة، قلنا: فهب أنه كما تقولون، فمن أين وجب على من ضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالا (6) .
وقول ابن حزم هذا غير مسلم، فلقد ساق أصحاب الرأي الثاني من الأدلة ما فيه الكفاية، للقول بلزوم الوفاء بالوعد.
__________
(1) انظر فتح العلي المالك، وكذا القرافي في الفروق 25/4
(2) انظر ابن عليش في فتح العلي المالك أيضًا وكذا القرافي في الفروق أيضًا
(3) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 77/18
(4) انظر الفروق 25/4
(5) انظر حاشية ابن الشاط على الفروق 25/4
(6) انظر المحلى 48/8(5/586)
الرأي الراجح:
لقد تبين لنا من خلال ما نقلنا عن أئمة الفقه رحمهم الله تعالى، أنهم اتجهوا ثلاثة اتجاهات في القول بإلزام الواعد بالوفاء بوعده أو عدم إلزامه، ومن خلال ما استدل به كل فريق من أدلة، فقد تبين لنا وجاهة الرأي القائل: بوجوب الوفاء بالوعد مطلقا وكما يلزم الواعد بالوفاء بوعده ديانة، يلزم قضاء، وذلك لرجحان الأدلة التي ساقها أصحاب هذا الرأي (1) .
إلا أنه خروجا عن خلاف الفقهاء وجمعا بين الأدلة التي ذكرها القائلون بوجوب الوفاء بالوعد، والذاهبون إلى خلاف ذلك، فإني أؤيد وجهة نظر الإمام مالك ومن نحا منحاه في الرأي من فقهاء المذهب القائلة: بأن الوعد إن أدخل الموعود في سبب لزم صاحب الوعد الوفاء بوعده، وكذا لو وعده مقرونا بذكر السبب، كما قال أصبغ، وذلك لتأكد العزم على الدفع حينئذ. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
__________
(1) وهذا مذهب ابن شبرمة ومن نحا نحوه، وقد أخذ رجال القانون بهذا الرأي أيضا انظر في ذلك، مسألة الوعد بالتعاقد نظرية العقد للدكتور السنهوري ص262 وكذا الوسيط للمؤلف نفسه 265/1، وكذا أصول الالتزام للدكتور حسن علي الذنون - مطبعة المعارف - بغداد، وكذا الوسيط في نظرية العقد للدكتور عبد المجيد الحكيم 192/1. ترك إنقاذه مندة، انظر فتح الباري 90/1(5/587)
مراجع البحث
بعد القرآن الكريم
1- الجامع لأحكام القرآن- لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. الطبعة الثالثة – دار الكتاب العربي للطباعة والنشر 1387هـ – 1967م.
2- عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني إدارة الطباعة المنيرية.
3- فتح الباري بشرح صحيح البخاري- العسقلاني – مطبعة البابي الحلبي.
4- صحيح مسلم بشرح النووي- دار الفكر بيروت.
5- إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد الغزالي- المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
6- فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ محمد عليش- الطبعة الأخيرة 1378هـ- 1958م.
7- الفروق لأبي العباس الصنهاجي القرافي مع حاشية قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط مع تهذيب الفروق لمحمد بن الشيخ حسين. دار المعرفة للطباعة والنشر في بيروت.
8- المحلى- لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم- المكتب التجاري.
9- جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي. نشر دار العلوم الحديثة، بيروت ودار الشرق الجديد بغداد.
10- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري- نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
11- من مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لعلي بن سلطان محمد القارني – النشر مكتبة الإسلامية.
12- الموطأ- للإمام مالك بهامش كتاب المنتقى للباجي، الطبعة الأولى.
13- بحث في قوة الوعد الملزمة في الشريعة والقانون- للأستاذ محمد رضا عبد الجبار العاني، والمنشور في مجلة كلية الشريعة ببغداد، العدد الثامن.(5/588)
14- نظرية العقد للدكتور السنهوري.
15- أصول الالتزام. للدكتور حسن علي علي الذنون،. طبعة المعارف ببغداد.
16- الوسيط في نظرية العقد، للدكتور عبد المجيد الحكيم، ببغداد.
17- الوسيط. الدكتور السنهوري.
18- أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، الناشر دار المصحف، مطبعة عبد الرحمن محمد بالقاهرة.
19- شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، لسيدي محمد الزرقاني، الناشر المكتبة التجارية الكبرى، تاريخ الطبع 1355هـ – 1936 م.
20- عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، الناشر محمد عبد المحسن، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
21- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني. مطبعة مصطفى البابي الحلبي.(5/589)
الوفاء بالوعد
إعداد
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
التعريف:
قال في لسان العرب: وعده الأمر وبه عدة ووعدا وموعدا وموعدة وموعودا وموعودة – وهو من المصادر التي جاءت على مفعول ومفعولة كالمحلوف والمرجوع والمصدوقة والمكذوبة.
قال ابن جني: ومما جاء في المصادر مجموعا معملا قوله:
مواعيد عرقوب أخاه بيثرب.
والوعد من المصادر المجموعة، قالوا: الوعود، حكاه ابن جني. وقال ابن فارس في المقاييس: الوعد لا يجمع (1) .
وقرأ قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} البقرة (51) وعدنا بغير ألف.
وهي قراءة ابن عمرو، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: واعدنا – بالألف.
قال ابن إسحاق: اختار جماعة من أهل اللغة: (وإذ وعدنا) بغير ألف. وقالوا: إنما اخترنا هذا؛ لأن المواعدة إنما تكون من الآدميين فاختاروا وعدنا، وقالوا: دليلنا قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} . [إبراهيم: 22] . وما أشبهه.
قال: وهذا الذي ذكروه ليس مثل هذا، وأما واعدنا هذا فجيد؛ لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فهو من الله وعد، ومن موسى قبول واتباع، فجرى مجرى المواعدة.
قال الأزهري: من قرأ وعدنا، فالفعل لله تعالى، ومن قرأ واعدنا، فالفعل من الله تعالى ومن موسى.
وقال ثعلب: فواعدنا من اثنين، ووعدنا من واحد.
وقال أبو معاذ: واعدت زيدا إذا وعدك ووعدته، ووعدت زيدا إذا كان الوعد منك خاصة (2) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 6-125 مادة وعد
(2) لسان العرب 3-462 مادة وعد(5/590)
وفي الاصطلاح
هو قريب من التعريف اللغوي.
قال ابن عرفة: المواعدة، قال ابن رشد: أن يعد كل واحد منهما صاحبه؛ لأنها مفاعلة لا تكون إلا من اثنين (1) .
وذكر الخطاب تعريفًا آخر فقال: العِدَة إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل (2) .
حكمها:
عقد الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري - رحمه الله تعالى – في جامعه الصحيح في كتاب الشهادات بابًا قال فيه (باب من أمر بإنجاز الوعد) قال: وفعله الحسن البصري أي أمر به وذكر الآية الكريمة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] قال: وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة، وقال المسور ابن مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم – وذكر صهرًا له فقال: " وعدني فوفاني " قال أبو عبد الله: رأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن الأشوع.
حدثني إبراهيم بن حمزة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله: أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- أخبره وقال: أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي.
ثم عقد بابا آخر ذكر فيه حديث أبي هريرة في آية المنافق.
وحديث جابر في قصته مع أبي بكر فيما وعده به النبي – صلى الله عليه وسلم – من مال البحرين.
وحديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى.
قال الإمام ابن حجر في صنيع البخاري هذا: وجه تعليق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادة على نفسه: (3) وذلك نقلا عن الكرماني (4) ذكر نحوه عن الكرماني بدر الدين العيني (5) .
__________
(1) التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق على هامش مواهب الجليل للحطاب 3-412
(2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص153
(3) فتح الباري 6-217
(4) لم أجده في شرح الكرماني
(5) عمدة القاري 11-174(5/591)
مذاهب العلماء في حكم إنجاز الوعد
اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على مذاهب:
* المذهب الأول: وهو مذهب الجمهور وهو أنه لا يلزم الوفاء وأن الأفضل لو وفى به ويكره الخلف، وبه قال أبو حنيفة والشافعي والأوزاعي وسائر الفقهاء. (1) .
* المذهب الثاني: يلزم الوفاء به ويقضى به على الواعد ويجبر، وهو قول ابن شبرمة قال في المحلى (2) وعمر بن عبد العزيز حكاه عنه ابن عبد البر وابن العربي ذكره ابن حجر (3) .
وأصبغ قال: يلزمه في ذلك ما وعد.
ومالك قال: ولو كان في قضاء دَيْنٍ فسأله أن يقضي عنه، فقال: نعم، وثَمَّ رجال يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان.
وهو قول سحنون قال: الذي يلزمه في العدة في السلف والعاريَّة أن يقول لرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنيها به، أو: اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو: اشتر سلعة كذا، أو تزوج وأنا أسلفك، كل ذلك مما يدخله فيه ويتشبه به فهذا كله يلزمه: (4) .
__________
(1) تفسير القرطبي 11-116، عمدة القاري 11-60
(2) المحلى 5-33 مسألة رقم 1125
(3) فتح الباري 6-217
(4) عمدة القاري 11-.6(5/592)
وقال ابن حجر: وقرأت بخط أبي – رحمه الله – في إشكالات على الأذكار للنووي ولم يذكر جوابا عن الآية يعني قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] . وحديث " آية المنافق ".
قال: والدلالة للوجوب منها قوية، فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد؟
وينظر هل يمكن أن يقال: يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي: يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك (1) .
وذكر البخاري أن الحسن البصري فعل إنجاز الوعد، وأن ابن الأشوع (2) كان يقضي بإنجاز الوعد.
وكان إسحاق ابن إبراهيم بن راهويه يحتج بحديث سمرة في القول بوجوب إنجاز الوعد (3) .
وقال العيني في عمدة القاري: وفي (تاريخ المستملي) أن عبد الله بن شبرمة قضى على رجل بوعد وحبسه فيه وتلا: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} . [الصف:3] .
* المذهب الثالث:
قال ابن العربي: والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر (4) .
__________
(1) فتح الباري 6-217
(2) هو سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وذلك بعد المائة مات في ولاية خالد، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يحيى بن معين: مشهور يعرفه الناس (عمدة القاري 11-174
(3) فتح الباري 6-218، عمدة القاري 11- 174، 175
(4) أحكام القرآن لابن العربي 4- 1787، 1788. وتفسير القرطبي 18-79(5/593)
أدلة المذاهب
أدلة المذهب الأول:
إن الوفاء بالوعد وإن كان يستحق صاحبه الحمد والشكر، وعلى الخلف الذم، وإن الله تعالى قد أثنى على من صدق وعده، ووفى بنذره، وإن العرب وكذلك سائر الأمم تمتدح بالوفاء وتذم بالخلف والغدر.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((العِدَةُ دَيْنٌ)) إلا أن ذلك لا يخرجه عن كونه مندوبا إليه وليس بواجب، وقد اتفق العلماء على أن الموعود لا يضارب بما وعد به من الغرماء (1) .
وقالوا: إن العدة منافع لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها (2) .
واستندوا أيضا إلى الإجماع على أن إنجاز الوعد مندوب إليه وليس بفرض (3) .
أدلة من قال بالوجوب:
استدلوا أولا بقوله تعالى {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف آية: 3] .
وقالوا: إن سبب نزولها أنهم كانوا يقولون: لو نعلم أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال ابن العربي وهو حديث لا بأس به.
وروي عن مجاهد أن عبد الله بن رواحة لما سمعها قال: لا أزال حبيسًا في سبيل الله حتى أقتل (4) .
__________
(1) فتح الباري 6-217
(2) عمدة القاري 11-60
(3) فتح الباري 6-217
(4) أحكام القرآن لابن العربي 4-1788، تفسير القرطبي 18-79(5/594)
واستدلوا ثانيا بحديث الصحيحين، عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)) وحديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من علامة النفاق ثلاثة وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ". (1) .
وقد نوقشت أدلتهم من قبل الجمهور فقال ابن حزم: أما الحديثان اللذان صدر بهما فصحيحان إلا أنه لا حجة فيهما؛ لأنهما ليسا على ظاهرهما؛ لأن من وعد بما لا يحل، أو عاهد على معصية فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك، فصح أن ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذموما ولا ملوما ولا عاصيا بل قد يكون مطيعا، فإذا كان ذلك كذلك فلا يكون فرضا من إنجاز الوعد والعهد إلا على من وعد بواجب عليه كإنصاف من دَيْنٍ أو أداء حق فقط.
وأيضا فإن من وعد وحلف (واستثنى فقط سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن) فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه، ولا فرق بين وعدٍ أقسم عليه وبين وعدٍ لم يقسم عليه.
والآية محمولة على ما يلزمهم. (2) .
وناقش ابن حجر الجمهور في مستنده الإجماع فقال، نقل الإجماع في ذلك مردود فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل (3) .
__________
(1) المحلى 5-34
(2) المحلى 5-35
(3) فتح الباري 6-217(5/595)
المواعدة في المذهب المالكي
المذهب المالكي أحد المذاهب الإسلامية الكبرى الواسعة الانتشار، وخاصة في المغرب ومصر وغيرهما من أقطار العالم الإسلامي. نقل الشيخ محمد أبو زهرة عن المدارك للقاضي عياض: قوله: (غلب مذهب مالك على الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد إفريقية والأندلس وصقليه والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان إلى وقتنا هذا، وظهر ببغداد ظهورا كثيرا وضعف بها بعد أربعمائة سنة، وضعف بالبصرة بعد خمسمائة سنة وغلب في بلاد خراسان على قزوين أبهر، وظهر بنيسابور، وكان بها وبغيرها أئمة ومدرسون) (1) .
وقد تكلم الفقهاء المالكيون أكثر من غيرهم عن حكم العدة أو المواعدة بتفصيل لا نجده عند غيرهم، ولعل مرجع هذا إلى أن المصلحة في هذا المذهب أصل من الأصول التي قام عليها، خاصة في الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملات الجارية بين بني الإنسان بعضهم مع بعض، وهو ما يسمى في اصطلاح الفقهاء بالعادات، وأن الأصل في هذا القسم هو الالتفات إلى المعاني والبواعث التي شرعت من أجلها الأحكام.
قال الشاطبي: إنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد والأحكام العادية تدور معها حيث دارت، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز، كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة، ويجوز في القرض، وبيع الرطب باليابس وحيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كانت فيه مصحلة راجحة، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:179] .
وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وفي الحديث ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) و ((لا ضرر ولا ضرار)) وقال ((القاتل لا يرث)) ((ونهى عن بيع الغرر)) وقال ((كل مسكر حرام)) وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91] إلى غير ذلك مما لا يحصى من الأحكام والنصوص، وكلها تشير إلى الصريح باعتبار المصالح أساسًا للإذن والنهي، وأن الإذن دائر معها أينما دارت.
__________
(1) مالك تأليف محمد أبو زهرة ص459(5/596)
وإن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في بيان أحكام المعاملات بين الناس، والأمور العادية بينهم، وأكثر ما علل به الحكم المناسبة التي تتصل بالمصالح، والتي تتلقاها العقول بالقبول. ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني، لا الوقوف مع النصوص، بخلاف باب العبادات فإن المعلوم فيه خلاف ذلك، وقد توسع في هذا القسم مالك – رحمه الله- حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة وقال فيه بالاستحسان، ونقل عنه أنه قال: (إنه تسعة أعشار العلم) (1) .
وقد استوعب الإمامان: أبو العباس الونشريسي وأبو عبد الله محمد الحطاب، بتركيز شديد أحكام العدة أو المواعدة، في كتابيهما إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، للأول وتحرير الكلام في مسائل الالتزام، للأخير وسأقتصر في اقتناص أهم ما أورداه في الموضوع:
قال الحطاب: وأما العدة فليس في إلزام الشخص نفسه شيئا الآن، وإنما هي كما قال ابن عرفة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل، ولا خلاف في استحباب الوفاء بالوعد.
فالوفاء بالعدة مطلوب بلا خلاف، واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال، حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع وفي كتاب العارية وفي كتاب العدة، ونقلها عنه غير واحد.
القول الأول: - يقضى بها مطلقا.
القول الثاني: - لا يقضى بها مطلقا.
القول الثالث: - يقضى بها إن كانت على سبب، وإن لم يدخل الموعود لسبب العدة في شيء كقولك أريد أن أتزوج، أو أن أشتري كذا، أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا، أو أريد أن أركب غدا إلى مكان كذا فأعرني دابتك، أو أن أحرث أرضي فأعرني بقرتك، فقال نعم ثم بدا له قبل أن يتزوج، أو أن يشتري أو أن يسافر فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به ما لم تترك الأمر الذي وعدك عليه، وكذا لو لم تسأله، وقال لك هو من نفسه أنا أسلفك كذا أو أهب لك كذا لتتزوج أو لتقضي دينك أو نحو ذلك فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به. ولا يقضى بها إن كانت على غير سبب، كما إذا قلت أسلفني كذا ولم تذكر سببا، أو أعرني دابتك، أو بقرتك ولم تذكر سببا ولا سفرا ولا حاجة فقال نعم ثم بدا له أو قال هو من نفسه أنا أسلفك كذا أو أهب لك كذا ولم يذكر سببا ثم بدا له.
القول الرابع: - يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور في الأقوال (2) .
__________
(1) الموافقات 2/305،307
(2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص153- 155(5/597)
الأمثلة
المثال الأول: قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن رجل اشترى من رجل كرمًا فخاف الوضيعة فأتى ليستوضعه فقال له بع وأنا أرضيك، قال: فإن باع برأس ماله أو بربح فلا شيء عليه.
وإن باع بوضيعة كان عليه أن يرضيه، فإن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد، وإن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما أراد أكثر من ذلك، وإن لم يكن أراد شيئًا يوم قال ذلك.
قال أصبغ: وسألت عنها ابن وهب فقال: عليه رضاه بما يشبه ثمن تلك السلعة والوضيعة فيها.
قال أصبغ: وقول ابن وهب هو أحسن عندي، وهو أحب إلي إذا وضع فيها.
قال محمد بن رشد: قوله بعه وأنا أرضيك عدة، إلا أنها عدة على سبب وهو البيع، والعدة إذا كانت على سبب لزمت لحصول السبب في المشهور من الأقوال
وقد قيل: إنها لا تلزمه بحال.
وقيل: إنها تلزمه على كل حال.
وقيل: إنها تلزم إذا كانت على سبب، وإن لم يحصل السبب.
وقول أشهب إن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد يريد مع يمينه.
ومعناه: إذا لم يسم شيئا يسيرا لا يشبه أن يكون أرضاه، والدليل على أنه يحلف على مذهبه إذا قال: أردت كذا وكذا، لما يشبه قوله إنه إن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء، وحلف أنه ما أراد أكثر من ذلك، وجوابه هذا على أصله في كثير من مسائله إذ لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه واليمين في هذا يمين تهمة إذ لا يمكن المستوضع أن يدعي بينه فيحقق الدعوى عليه بخلاف ما ذكر أنه أراده فيدخل فيه من الخلاف ما يدخل في يمين التهمة.
وأما ابن وهب: فأخذه بمقتضى ظاهر لفظه وألزمه إرضاءه إلا أن لا يرضى بما يقول الناس فيه إنه أرضاه فلا يصدق أنه لم يرض، ويؤخذ بما يقول الناس فيه إنه أرضاه.
هذا معنى قوله: ولو حلف ليرضينه لم يبر إلا باجتماع الوجهين وهما أن يضعا عنه ما يرضى به، وما يقول الناس فيه إنه أرضاه.(5/598)
المثال الثاني: إذا قال: إن غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضينهم.
فقال: نعم، ثم بدا له.
فقال أصبغ في سماع عيسى من كتاب العدة يلزمه ذلك ويحكم به عليه وهو جار على قوله بلزوم العدة إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببها في شيء.
وقال ابن القاسم: إنما يلزمه إذا اعتقد الغرماء منه على وعد أو أشهر به على نفسه وذلك على أصله في أنه لا يقضى بالعدة إلا إذا دخل بسببها في شيء.
ولو قال: أشهدكم أني فاعل أو أفعل، فظاهر كلام مالك في سماع ابن القاسم من العارية أنه تردد في الحكم عليه بذلك، وأن الظاهر اللزوم.
وقال ابن رشد: ولو قال: أشهدكم أني قد فعلت لما وقف في إيجابه عليه ولزوم القضاء به (1) .
المثال الثالث: قال أصبغ في سماع عيسى من كتاب العدة: لو سألك مداينك أن تؤخره إلى أجل كذا وكذا فقلت: أنا أؤخرك لزمك تأخيره إلى الأجل، قلت: سواء قلت: أنا أؤخرك أو: قد أخرتك، قال: نعم، سواء في الحكم عليه غير أن قولك: أنا أؤخرك عدة تلزمك، وقولك: قد أخرتك، شيء واجب عليك كأنه في أصل حقك لم تبتدئه الساعة، وكلاهما يلزمك الحكم به غير أن قولك: قد أخرتك أوجبهما وأوكدهما (2) .
وقال الونشريسي في القاعدة الخامسة والستين: -
الأصل منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال حماية، ومن ثَمَّ منع مالك المواعدة في العدة وعلى بيع الطعام، ووقت نداء الجمعة وعلى ما ليس عندك.
وفي الصرف مشهورها المنع، وثالثها الكراهة، وشهرت أيضا لجوازه في الحال، وشبهت بعقد فيه تأخير، وفسرت به المدونة (3) .
__________
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص 157 - 158
(2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص 159
(3) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص 278(5/599)
المواعدة في مذهب الأحناف
المعروف عن الحنفية أنهم لا يقولون بوجوب إنجاز الوعد، قال بدر الدين العيني: أما الوعد فاختلف الفقهاء فيه، قال أبو حنيفة والشافعي والأوزاعي:
لا يلزم من العدة؛ لأنها منافع لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. (1)
وقال: وقد تنزل الهبة التي لم تقبض بمنزلة الوعد بها. وقال المهلب: إنجاز الوعد مندوب إليه وليس بواجب، والدليل على ذلك اتفاق الجميع على أن من وعد بشيء لم يضرب به مع الغرماء، ولا خلاف أنه مستحسن ومن مكارم الأخلاق. (2)
ونصت مجلة الأحكام العدلية في المادة 171 على أن صيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد مثل: سأبيع وأشتري لا ينعقد بها البيع، قال شراحها المرحوم علي حيدر: صيغة الاستقبال في اللغة العربية هي المضارع المقترن بالسين أو سوف كأن يقال: سأبيعك أو سوف أبيعك، وإنما لا ينعقد البيع بها؛ لأنها وعد مجرد وفي معنى المساومة في البيع. (3)
لكن ذهب فريق منهم إلى القول بلزوم المواعيد لحاجة الناس إليها، وأما الحاجة التي دعتهم إلى القول بلزومها فهي بمناسبة البيع الذي اعتاده أهل سمرقند ويسمونه بيع الوفاء.
وقد اختلفوا فيه على أقوال، وقد ذكر في البزازية تسعة أقوال في بيع الوفاء، والمعروف في كتبهم أن بعضهم يعتبره رهنًا، وهو القول المعتبر عند فقهائهم وبعضهم يراه بيعًا، قال قاضيخان: الصحيح أن العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا؛ لأن كلًّا منهما عقد مستقل شرعًا لكل منهما أحكام مستقلة بل يكون بيعًا. (4)
__________
(1) عمدة القاري 11 - 60
(2) عمدة القاري ص 61
(3) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1- 120
(4) درر الحكام شرح مجلة الأحكام(5/600)
ومبنى الخلاف على اعتباره رهنًا أو بيعًا، هو الخلاف في أن العبرة في العقود، هل هو للمقاصد والمعاني أم للألفاظ والمباني؟ فمن قال بالأول قال: إن بيع الوفاء هو في الحقيقة رهن، والمبيع في يد المشتري كالرهن في يد المرتهن لا يملكه، ولا يطلق له في الانتفاع إلا بإذن مالكه، وهو ضامن لما أكل من ثمره واستهلكه من شجره، والدَّيْن يسقط بهلاكه إذا كان به وفاء الدَّيْن، ولا ضمان عليه في الزيادة إذا هلك عن غير صنعه، وللبائع استرداده إذا قضي دَيْنه، لا فرق بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام؛ لأن المتعاقدين وإن سمياه بيعًا ولكن غرضهما الرهن والاستيثاق بالدَّيْن؛ لأنَّ البائع يقول لكل أحد بعد هذا العقد: رهنت ملكي فلانًا، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والعبرة في التصرفات للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. (1)
ومن قال: العبرة للألفاظ اعتبره بيعًا جاء في مجموع النوازل: اتفق مشايخنا في هذا الزمان على صحته بيعًا على ما كان عليه بعض السلف؛ لأنهما تلفظا بلفظ البيع من غير ذكر شرط فيه، والعبرة للملفوظ نصًّا دون المقصود، فإن من تزوج امرأة ومن نيته أن يطلقها بعدما جامعها صح العقد. (2)
وهؤلاء احتاجوا إلى القول بلزوم المواعدة؛ لأن المتعاقدين وفاء يشترطون الفسخ في العقد والبيع يفسد بالشروط عندهم.
قالوا: وكذا يفسد أيضًا إن لم يشترط الفسخ، ولكن تلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء؛ لأن هذا الشرط مفسد له.
أو تلفظا بالبيع الجائز وعندهما أي والحال أن في زعمها هو بيع غير لازم، فإنه أيضًا يفسد حينئذ بزعمهما.
__________
(1) جامع الفصولين 1-234، درر الحكام شرح غرر الأحكام لملا خسرو 2 - 207
(2) جامع الفصولين 1-234، درر الحكام شرح غرر الأحكام لملا خسرو 2 - 207(5/601)
قالوا: وإن ذكر العاقدان البيع من غير شرط، ثم ذكراه أي الشرط على وجه الميعاد جاز، أي البيع لخلوه عن المفسد ويلزم الوفاء به؛ لأن المواعيد قد تكون لازمة فيجعل هذا الميعاد لازمًا لحاجة الناس. (1)
وقال في الأشباه والنظائر في كتاب الحظر والإباحة: الخلف في الوعد حرام كذا في أضحية الذخيرة وفي القنية: وعده أن يأتيه فلم يأته لا يأثم ولا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقًا كما في كفالة البزازنة، وفي بيع الوفاء كما ذكره الزيلعي. (2)
ونصت مجلة الأحكام العدلية في المادة (84) على أن المواعيد بصور التعاليق تكون لازمة لأنه يظهر فيها حينئذ معنى الالتزام والتعهد.
قال الشيخ علي حيدر: يفهم من هذه المادة أنه إذا علق وعدًا على حصول شيء أو على عدم حصوله فثبوت المعلق عليه أي: الشرط كما جاء في المادة (82) يثبت المعلق أو الموعود.
مثال ذلك: لو قال رجل لآخر: بع هذا الشيء من فلان وإذا لم يعطك ثمنه فأنا أعطيك إياه. فلم يعطه المشتري الثمن لزم على الرجل أداء الثمن المذكور بناء على وعده. (3)
أما إذا كان الوعد وعدًا مجردًا أي: غير مقترن بصورة من صور التعليق فلا يكون لازمًا.
مثال ذلك: لو باع شخص مالًا من آخر بثمن المثل أو بغبن يسير، وبعد أن تم البيع وعد المشتري البائع بإقالته من البيع إذا رد له الثمن، فلو أراد البائع استرداد المبيع وطلب إلى المشتري أخذ الثمن وإقالته من البيع فلا يكون المشتري مجبرًا على إقالة البيع بناء على ذلك الوعد؛ لأنه وعد مجرد.
__________
(1) درر الحكام شرح غرر الأحكام 2 – 208، جامع الفصولين 1 - 236
(2) الأشباه والنظائر ص 288
(3) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 - 77(5/602)
كذلك: لو قال شخص لآخر: ادفع دَيْنِي من مالك والرجل وعده بذلك ثم امتنع عن الأداء فلا يلزم بوعده هذا على أداء الدَّيْن (1) ويستثنى من هذا الحكم مسألة واحدة في بيع الوفاء وقد سبق بيانها.
مسائل متفرقة في العدة ذكرها ابن حزم في المحلى:
قال في المسألة 1457: ولا يحل بيع سلعة لآخر بثمن يحده له صاحبها، فما استزاد على ذلك الثمن فلمتولي البيع.
ومن تفريعاتها: لو قال له: بعه بكذا أو كذا، فإن أخذت أكثر فهو لك. فليس شرطًا والبيع صحيح، وهو عدة لا تلزم ولا يقضى بها؛ لأنه لا يحل مال أحد بغير رضاه، والرضا لا يكون إلا بمعلوم، وقد يبيعه بزيادة كثيرة لا تطيب بها نفس صاحب السلعة إذا علم مقدارها. (2)
وقال في المسألة 1501 – القواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا؛ لأن القواعد ليس بيعًا، وكذلك المساومة أيضًا جائزة تبايعا أو لم يتبايعا؛ لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك، وكل ما حرم علينا قد فصل باسمه قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] .
فكل ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال بنص القرآن، وإذ ليس في الدين إلا فرض أو حرام أو حلال فالفرض مأمور به في القرآن والسنة، والحرام مفصل باسمه في القرآن والسنة، وما عدا هذين فليس فرضًا ولا حرامًا فهو بالضرورة حلال، إذ ليس هنالك قسم رابع (3) والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا ما يسر الله الكريم به، والحمد لله أولًا وآخرًا وصلى الله على خاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
__________
(1) درر الحكام شرح غرر الأحكام 1 - 77
(2) المحلى 5 - 497
(3) المحلى 5- 597(5/603)
الوفاء بالوعد
في الفقه الإسلامي
تحرير النقول ومراعاة الاصطلاح
إعداد
الدكتور نزيه كمال حماد
بسم الله الرحمن الرحيم
1- إن تحرير الأحكام الشرعية المتعلقة بالوعد من حيث وجوب الوفاء به ديانة أو استحبابه، أو من حيث القوة الملزمة له في القضاء والحكم تقتضينا تناول ألفاظه الاصطلاحية المتعددة التي يستعملها سائر الفقهاء أو بعضهم بالبيان والتفصيل وهي (العدة، المواعدة، الوعد) وذلك من أجل الوصول إلى فقه محكم في المسألة، بعيد عن الاختلاط والتداخل، قد تميز فيه محل الوفاق عن مواطن النزاع، وتبين فيه الموقف الأخلاقي والموجب الدياني من الحكم القضائي حيث يوجد التباين أو يقع الفرق، وبذلك يمكننا إبراز الأحكام الشرعية في القضية واضحة جلية، لا لبس فهيا ولا خلل يعتريها ...
2- وإن كون هذه الألفاظ الثلاثة مشتقة من مادة لغوية واحدة تدل في أصل الوضع " على ترجيةٍ بقول" كما قال ابن فارس (1) لا يسلتزم كون دلالتها الاصطلاحية واحدة؛ لأن تواضع الفقهاء أو بعضهم على مدلول شرعي متميز لكل كلمة قد نقل معناه اللغوي وحوله إلى معنى اصطلاحي جديد، ربما كان أخص أو أضيق شمولا واستيعابا.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 6/125(5/604)
(أ) العدة
3- العدة في لغة العرب معناها الوعد، يقال: وعدت فلانًا بكذا ... والاسم منه العدة، فالعدة اسم منقوص من الوعد يحمل معناه دون زيادة أو نقصان (1) .
4- أما في الاصطلاح الفقهي، فقد درج على استعمالها المالكية بدلالة خاصة وهي " الإعلان عن رغبة الواعد في إنشاء معروف في المستقبل يعود بالفائدة والنفع على الموعود".
قال الحطاب في كتابه " تحرير الكلام في مسائل الالتزام ": " وأما العدة فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئًا الآن، وإنما هي كما قال ابن عرفة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل " (2) .
فالعدة إذًا عند فقهاء المالكية هي عبارة:
أ- عن تصرف شرعي قولي يتم بالإرادة المنفردة.
ب- قوامه تعهد شخصٍ بلفظ الإخبار بأن يسدي لغيره معروفًا مجانًا دون مقابل.
جـ- في المستقبل لا في الحال.
5- أما حكم العدة من حيث وجوب الوفاء بها قضاء أو ديانة أو استحباب ذلك، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على خمسة أقوال:
(أحدها) يقضى بها مطلقًا. وهو مذهب القاضي سعيد ابن أشوع الكوفي الهمذاني (3) ،وقول عند المالكية (4) ، ورأي ابن شبرمة كما نقل ابن حزم في المحلى (5) .
(والثاني) يجب الوفاء بها ديانةً لا قضاءً وهو رأى الإمام تقي الدين السبكي الشافعي، قال: " ولا أقول يبقى دينا حتى يقضى من تركته، وإنما أقول يجب الوفاء تحقيقا للصدق وعدم الإخلاف" (6) .
__________
(1) المصباح المنير 2/831، مشارق الأنوار 2/291، مفردات الراغب ص526، بصائر ذوي التمييز 5/237، مقاييس اللغة 6/125
(2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص153
(3) أخرجه وكيع في أخبار القضاة (3/118) مسندًا، والبخاري في صحيحه (صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/289) معلقا
(4) البيان والتحصيل لابن رشد 8/18، تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص154
(5) المحلى لابن حزم 8/28
(6) الفتوحات الربانية لابن علان 6/258، 259(5/605)
وقد استشكل الحافظ ابن حجر هذه المقولة فقال: " وينظر: هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي يأثم بالإخلاف، وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك؟ " أي في القضاء (1) .
فأجاب الإمام السخاوي على ذلك في جزئه المسمى " التماس السعد في الوفاء بالوعد"، فقال: " قلت: ونظير ذلك نفقة القريب، فإنها إذا مضت مدة يأثم بعدم الدفع ولا يلزم به، ونحوه قولهم في فائدة القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة: تضعيف العذاب عليهم في الآخرة مع عدم إلزامهم بالإتيان بها" (2) .
(والثالث) أن الوفاء بها مستحب لا واجب، وهو مذهب جماهير العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وبعض المالكية وغيرهم (3) .
جاء في " العقود الدرية" لابن عابدين: " سئل فيما إذا وعد زيد عمرا أن يعطيه أرضه الفلانية، فاستغلها وامتنع من أن يعطيه من الغلة شيئا، فهل يلزم زيدًا شيء بمجرد الوعد المزبور؟ الجواب: لا يلزمه الوفاء بوعده شرعا، وإن وفى فبها ونعمت" (4) .
وفي " التمهيد" لابن عبد البر: " وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وعبيد الله بن الحسين وسائر الفقهاء: أما العدة فلا يلزمه فيها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية: أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض، ولصاحبها الرجوع فيها " (5) .
__________
(1) فتح الباري 5 /290
(2) الفتوحات الربانية على الأذكار النووية 6/259
(3) البيان والتحصيل لابن رشد 8/18، تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص154، شرح السنوسي على صحيح مسلم 6/118، المبدع في شرح المقنع 9/345، شرح المجلة للأتاسي 1/239
(4) العقود الدرية في تتنقيح الفتاوى الحامدية 2/321
(5) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 3/209(5/606)
وقال ابن عبد البر رحمه الله: " إن العدة واجب الوفاء بها وجوب سنة وكرامة، وذلك من أخلاق أهل الإيمان، وقد جاء في الأثر " وأي المؤمن واجب " (1) أي واجب في أخلاق المؤمنين، وإنما قلنا: إن ذلك ليس بواجب فرضا، لإجماع الجميع على أن من وعد بمال ما كان لم يضرب به مع الغرماء كذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن في المروءة، ولا يقضى به، ولا أعلم خلافا أن ذلك مستحسن، يستحق صاحبه الحمد والشكر على الوفاء به، ويستحق على الخلف في ذلك الذم، وقد أثنى الله عز وجل على من صدق وعده ووفى بنذره، وكفى بهذا مدحا وبما خالفه ذما (2) .
وقال ابن حزم: " ومن وعد آخر بأن يعطيه مالًا معينًا أو غير معين، أو بأن يعينه في عمل ما، حلف له على ذلك أو لم يحلف، لم يلزمه الوفاء به. ويكره له ذلك، وكان الأفضل لو وفى به، وسواء أدخله بذلك في نفقة أو لم يدخله، كمن قال: تزوج فلانة وأنا أعينك في صداقها بكذا وكذا أو نحو هذا، وهو قول أبي حنيفة والشافعي " (3) .
(والرابع) إن كانت العدة مرتبطة بسبب، ودخل الموعود في السبب، فإنه يجب الوفاء بها كما يجب الوفاء بالعقد، أما إذا لم يباشر الموعود السبب فلا شيء على الواعد، كما إذا وعده بأن يسلفه ثمن دار يريد شراءها، فاشتراها حقيقة، أو أن يقرضه مبلغ المهر في الزواج " فتزوج اعتمادًا على هذا الوعد " ففي هذه الحالات وأمثالها يلزم الواعد قضاء بالوفاء بما وعد به، أما إذا لم يباشر الموعود تلك الأسباب، فلا يلزم الواعد بشيء.
وهذا هو القول المشهور والراجح في مذهب مالك (4) . وعزاه القرافي إلى مالك وابن القاسم وسحنون (5) .
__________
(1) ذكره السيوطي في الجامع الصغير وأشار إلى أنه رواه أبو داود في المراسيل (الفتح الكبير 3/301) ، كما نبه على ضعفه ابن حزم في المحلى 8/29
(2) التمهيد 3/207
(3) المحلى 8/28
(4) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص155، البيان والتحصيل لابن رشد 8/18، المنتقى للباجي 3/227
(5) الفروق للقرافي 4/25، وانظر مجالس العرفان لجعيط 2/34، وقارن بما نقل ابن عبد البر عن مالك وابن القاسم وسحنون في التمهيد 3/208، 209(5/607)
وقد أشار العلامة محمد العزيز جعيط إلى أن هذا القول المشهور ليس مبنيا على أساس وجوب الوفاء بالوعد (أي أن في الوعد قوة ملزمة للواعد كما هو الشأن في العقد) بل هو مبني على عدم وجوب الوفاء به، وإنما قضي به في صورة ما إذا أدخله في شراء عقار أو تزوج امرأة أو غير ذلك، لأنه تسبب له في إنفاق مال قد لا يتحمله ولا يقدر عليه، رفعا للضرر عن الموعود المغرر به، وتقريرًا لمبدأ تحميل التبعة لمن ورطه في ذلك، إذ لا ضرر ولا ضرار (1) . (والخامس) إن كانت العدة مرتبطة بسبب، وجب الوفاء بها قضاء، سواء دخل الموعود في السبب أو لم يدخل فيه، وإلا فلا، فلو قال شخص لآخر: أعدك بأن أعيرك بقري ومحراثي لحراثة أرضك، أو أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، أو قال الطالب لغيره: أريد أن أسافر أو أن أقضي دَيني أو أن أتزوج، فأقرضني مبلغ كذا. فوعده بذلك. ثم بدا له فرجع عن وعده قبل أن يباشر الموعود السبب الذي ذكر من سفر أو زواج أو وفاء دَين أو حراثة أرض ... إلخ، فإن الواعد يكون ملزمًا بالوفاء، ويقضى عليه بالتنفيذ جبرا إن امتنع. أما إن كانت العدة على غير سبب، كما إذا قلت: أسلفني كذا، ولم تذكر سببًا، أو أعرني دابتك أو بقرتك ولم تذكر سفرًا ولا حاجة، فقال: نعم. أو قال الواعد من نفسه: أنا أسلفك كذا أو أهب لك كذا ولم يذكر سببا، ثم رجع عن ذلك، فلا يلزم بالوفاء بها.
__________
(1) مجالس العرفان ومواهب الرحمن لجعيط 2/34(5/608)
قال القرافي: " وبذلك قضى عمر بن عبد العزيز رحمه الله " (1) ، وهو قول في مذهب المالكية (2) .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ أصبغ الذي حكاه الباجي في " المنتقى" بقوله: " وأما إن كانت عدة لا تدخل من وعد به في شيء، فلا يخلو من أن تكون مفسرة أو مبهمة:
فإن كانت مفسرة: مثل أن يقول الرجل للرجل: أعرني دابتك إلى موضع كذا. فيقول: أنا أعيرك غدًا. أو يقول: علي دَيْن فأسلفني مائة دينار أقضيه. فيقول: أنا أسلفك، فهذا قال أصبغ - في العتيبة- يحكم بإنجاز ما وعد به، كالذي يدخل الإنسان في عقد، وظاهر المذهب على خلاف هذا؛ لأنه لم يدخله بوعده في شيء يضطره إلى ما وعده.
وأما إن كانت مبهمة: مثل أن يقول له: أسلفني مائة دينار، ولا يذكر حاجته إليها، أو يقول: أعرني دابتك أركبها، ولا يذكر له موضعًا ولا حاجة. فهذا قال أصبغ: لا يحكم عليه بها.
فإذا قلنا في المسألة الأولى: إنه يحكم عليه بالعدة إذا كان لأمر أدخله فيه، مثل أن يقول له: انكح وأنا أسلفك ما تصدقها، فإن رجع عن ذلك الوعد قبل أن ينكح من وُعِدَ، فهل يحكم عليه بذلك أم لا؟ قال أصبغ في العتبية: يلزمه ذلك ويحكم به عليه، ألزمه ذلك بالوعد (3) .
__________
(1) الفروق 4/25
(2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص154، الفروق 4/25 البيان والتحصيل 8/18، وانظر الأذكار للنووي مع شرحه الفتوحات الربانية 6/261، أحكام القرآن لابن العربي 4/1800
(3) المنتقى للباجي 3/227. وقارن بما نقله القرافي عن أصبغ في الفروق 4/25 وما حكاه جعيط في مجالس العرفان عن أصبغ 2/34(5/609)
(ب) المواعدة
6- المواعدة في اللغة: تعني نشوء وعدين متقابلين من شخصين، فهذا يعد فلانا، والآخر يعده بكذا في مقابلة ذلك.
7- أما في الاصطلاح الفقهي فهي عبارة عن " إعلان شخصين عن رغبتهما في إنشاء عقد في المستقبل تعود آثاره عليهما". وأكثر الفقهاء استعمالا لهذا المصطلح المالكية، وقد عبر عنها في النكاح الحطاب بقوله: " المواعدة أن يعد كل واحد منهما صاحبه بالتزويج فهي مفاعلة، لا تكون إلا من اثنين، فَإِنْ وعد أحدهما دون الآخر، فهذه العدةُ " (1) .
وبهذا افترقت " المواعدة " عن " العدة " من حيث كون الأولى لا تنشأ إلا باجتماع رغبة طرفين، بينما تتم " العدة" بإعلان الرغبة من طرف واحد.
وقد ذكر الفقهاء المواعدة في مسائل عديدة منها: المواعدة على النكاح في العدة، والمواعدة في الصرف، والمواعدة على بيع الطعام قبل قبضه، والمواعدة على البيع وقت نداء الجمعة، والمواعدة على بيع ما ليس عند الإنسان (2) .
ومع أن الفقهاء اتفقوا على عدم مشروعية بعضها، كالمواعدة على النكاح في العدة، واختلفوا في جواز بعضها الآخر كالمواعدة في الصرف ونحوها، فإنه لم ينقل عن أحد منهم- سواء أكان من المجيزين أو من المانعين – قول بأن في المواعدة قوة ملزمة لأحد المتواعدين أو لكليهما؛ لأن التواعد على إنشاء عقد في المستقبل ليس عقدًا، وفي ذلك يقول ابن حزم: " والقواعد والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا؛ لأن التواعد ليس بيعا " (3) .
على أن المتواعدين لو اتفقا على أن يكون العقد الذي تواعدا على إنشائه في المستقبل ملزمًا للطرفين من وقت المواعدة، فإنها تنقلب إلى عقد، وتسري عليها أحكام ذلك العقد، إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
__________
(1) مواهب الجليل 3/413
(2) انظر إيضاح المسالك للونشريسي ص278، شرح الخرشي 5/38، القوانين الفقهية ص255، المقدمات الممهدات ص 507، الأم 3: 27، إعداد المهج للاستفادة من المنهج لأحمد بن أحمد المختار الشنقيطي ص195، المنهج إلى المنهج لمحمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني ص 90، المواق على خليل 3/412
(3) المحلى لابن حزم 8/513(5/610)
(جـ) الوعد
8- الوعد في اللغة معناه: الإخبار عن فعل أمر في المستقبل، سواء أكان خيرًا أم شرًّا. بخلاف الوعيد، فإنه لا يكون إلا بشر. وقيل: الوعد والوعيد واحد (1) .
9- ويستعمل الفقهاء كلمة " الوعد " بنفس مدلولها اللغوي، بمعنى أن الوعد قد يكون بمعروف، كقرض أو تمليك عين أو منفعة مجانًا للموعود، وقد يكون بصلة أو برٍّ أو مؤانسة كعيادة مريض وزيارة صديق وصلة رحم ومرافقة في سفر ومجاورة في سكن، وقد يكون بنكاح، كما في خِطْبَةِ النساء، وقد يكون بمعصية كما إذا وعد شخصا بأن يقتل له خصمه أو غريمه أو يتلف ماله ظلما وعدوانا ونحو ذلك.
10- أما الحكم التكليفي للوعد من حيث الوفاء به: فهو محل خلاف بين الفقهاء، وإذا أردنا تحرير محل النزاع في المسألة فلابد من البيان والتفصيل الآتي:
* فإذا كان الوعد بمعروف (وهو ما يسمى عند المالكية بالعدة) أو كان من قبيل المواعدة، فقد سبق عرض آراء الفقهاء فيه على الخصوص.
* أما ما عدا ذلك من ضروب الوعد وصوره وحالاته، فإنه لا خلاف بين الفقهاء:
(أ) في أن من وعد بشيء منهي عنه، فلا يجوز له الوفاء بوعده، بل يجب عليه إخلافه (2) .
قال ابن حزم: " من وعد بما لا يحل أو عاهد على معصية، فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك، كمن وعد بزنا أو بخمر أو بما يشبه ذلك، فصح أن ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذمومًا ولا ملوما ولا عاصيًا، بل قد يكون مطيعًا مؤدي فرضٍ (3) .
(ب) وأن من وعد بشيء واجب شرعا، كأداء حق ثابتٍ أو فعل أمر لازم، فإنه يجب عليه إنجاز ذلك الوعد (4) .
(جـ) وأن من وعد بشيء مباح أو مندوب إليه فينبغي له أن يفي بوعده، حيث إن الوفاء بالوعد من مكارم الأخلاق وخصال الإيمان، وقد أثنى المولى جل وعلا على من صدق وعده وكفى به مدحا، وبما خالفه ذمًّا.
ولكن هل الوفاء بذلك واجب أم مستحب أم غير ذلك؟ اختلف الفقهاء في ذلك على خمسة أقوال:
(أحدها) أن الوفاء بالوعد واجب (5) . قال القاضي أبو بكر ابن العربي: " أجل من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز " (6) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 6/125، بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 5/237، مشارق الأنوار للقاضي عياض 2/291
(2) الأذكار للنووي مع شرحه الفتوحات الربانية 6/ 258، أحكام القرآن للجصاص 3/ 442
(3) المحلى 8 / 29
(4) المحلى 8/29
(5) انظر أحكام القرآن لابن العربي 1800/4، الأذكار للنووي مع شرحه لابن علان6/260
(6) الأذكار (مع شرحه الفتوحات الربانية) 6/260، المبدع في شرح المقنع 9/ 345 فتح الباري 5/290(5/611)
وقد حكي هذا القول عن ابن شبرمة (1) ، وإليه ذهب العلامة تقي الدين السبكي (2) ، وهو وجه في مذهب أحمد اختاره الإمام تقي الدين ابن تيمية (3) ، وقول في مذهب المالكية صححه ابن الشاط في حاشيته على الفروق (4) .
وحجتهم على هذا الرأي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: آية 2، 3] .
وما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) . (5)
(والثاني) أن الوفاء بالوعد واجب إلا لعذر، وهو رأي القاضي ابن العربي، فإنه قال: "والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر" (6) وقال أيضًا: "وإذا وعد وهو ينوي أن يفي، فلا يضره إن قطع به عن الوفاء قاطع، كان من غير كسب منه، أو من جهة فقر، أقضى ألا يفي للموعود بوعده، وعليه يدل حديث أبي عيسى –أي الترمذي - عن زيد بن أرقم: ((إذا وعد الرجل وهو ينوي أن يفي به، فلم يف فلا جناح عليه)) ، وهو غريب ضعيف". (7)
وإلى هذا الرأي مال الإمام الغزالي، حيث قال في الوعد: " فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر "، ثم نزل النفاق المذكور في الحديث ((وإذا وعد أخلف)) : على من ترك الوفاء بالوعد من غير عذر. (8)
__________
(1) حكاه ابن حزم في المحلى 8/28، وبرهان الدين ابن مفلح في المبدع 9/345
(2) ذكر ذلك ابنه التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 10/232
(3) الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية للبعلي ص 331، المبدع 9/ 345
(4) حاشية ابن الشاط على الفروق للقرافي 4/24
(5) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/289، صحيح مسلم 1/78
(6) أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي 4/1800
(7) عارضة الأحوذي لابن العربي 10/100
(8) الإحياء للغزالي 3/115(5/612)
(والثالث) أن الوفاء بالوعد مستحب، فلو تركه فاته الفضل، وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة، ولكن لا يأثم، وهو رأي جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم (1) .
قال ابن علان الشافعي: " قد تقرر في مذهبنا أن الوفاء بالوعد مندوب لا واجب " (2) . وجاء في " المبدع" لبرهان الدين ابن مفلح: "لا يلزم الوفاء بالوعد، نص عليه " أي الإمام أحمد – وقاله أكثر العلماء " (3) .
(والرابع) أن الوفاء بالوعد أفضل من عدمه إذا لم يكن هناك مانع، وهو رأي الإمام أبي بكر الجصاص القائل: " وكذلك الوعد بفعل يفعله في المستقبل، وهو مباح، فإن الأولى الوفاء به مع الإمكان " (4) .
(والخامس) أن الوفاء بالوعد المجرد غير واجب، أما الوعد المعلق على شرط، فإنه يكون لازمًا، وهو مذهب الحنفية. جاء في الأشباه والنظائر لابن نجيم: " وفي القنية: وعده أن يأتيه فلم يأته، لا يأثم. ولا يلزم الوعد إلَّا إذا كان معلقًا " (5) . وجاء في الفتاوى البزازية:
" إن المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة " (6) ونصت المادة " 84" من مجلة الأحكام العدلية المواعيد بصور التعاليق تكون لازمة.
مثال ذلك: لو قال شخص لآخر: ادفع ديني من مالك، فوعده الرجل بذلك، ثم امتنع عن الأداء، فإنه لا يلزم الواعد على أداء الدين، أما لو قال رجل لآخر بع هذا الشيء لفلان، وإن لم يعطك ثمنه فأنا أعطيه لك، فلم يعط المشتري الثمن، لزم الواعد أداء الثمن المذكور بناءً على وعده (7) .
__________
(1) الأذكار للنووي (مطبوع مع الفتوحات الربانية) 6/258، إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للغزالي 7/507، كشاف القناع 6/279، شرح منتهى الإرادات 3/456، المحلى لابن حزم 8/28
(2) الفتوحات الربانية 6/260
(3) المبدع 9/345
(4) أحكام القرآن للجصاص 3/442
(5) الأشباه والنظائر لابن نجيم. كتاب الحظر والاباحة ص344
(6) الفتاوى البزازية (مطبوع بهامش الفتاوى الهندية) 6/3
(7) شرح المجلة لعلي حيدر 1/77(5/613)
وأساس ذلك: أن الإنسان إذا أنبأ غيره بأنه سيفعل أمرًا فالمستقبل مرغوبًا له، فإذا كان ذلك الأمر غير واجب عليه، فإنه لا يلزمه بمجرد الوعد؛ لأن الوعد لا يغير الأمور الاختيارية إلى الوجوب واللزوم، أما إذا كانت المواعيد مفرغة في قالب التعليق، فإنها تلزم لقوة الارتباط بين الشرط والجزاء، من حيث إن حصول مضمون الجزاء موقوف على حصول شرطه، وذلك يكسب الوعد قوة، كقوة الارتباط بين العلية والمعلولية، فيكون لازما (1) .
وحكى العلامة الحموي أن الوعد إذا صدر معلقا على شرط، فإنه يخرج عن معنى الوعد المجرد، ويكتسي ثوب الالتزام والتعهد، فيصبح عندئذ ملزما لصاحبه، قال: " لأنه إذا كان معلقا يظهر منه معنى الالتزام، كما في قوله: إن شفيت أحج. فشفي، يلزمه، ولو قال: أحج. لم يلزمه بمجرده " (2) .
على أن الحنفية إنما اعتبروا الوعود بصور التعاليق لازمة إذا كان الوعد مما يجوز تعليقه بالشرط شرعًا حسب قواعد مذهبهم، حيث إنهم أجازوا تعليق الإطلاقات والولايات بالشرط الملائم دون غيره، وأجازوا تعليق الإسقاطات المحضة بالملائم وغيره من الشروط، أما التمليكات- كالبيع والإجارة والهبة ونحوها- وكذا التقييدات، فإنه لا يصح تعليقها شرعًا بالشرط عندهم. فليتأمل (3) .
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 1/238، 239
(2) حاشية الحموي على الأشباه والنظائر 2/110، وانظر الفتاوى البزارية 6/3، شرح المجلة لعلي حيدر 1/77
(3) شرح المجلة للأتاسي 1/233، 234، 239(5/614)
* وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن النافين لوجوب الوفاء بالوعد حيث نفوه:
أ- حملوا المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله عليه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] على من وعد وفي ضميره ألا يفي بما وعد. أو على الإنسان الذي يقول عن نفسه من الخير ما لا يفعله (1) .
ب- وأجابوا على استدلال الموجبين للوفاء بالوعد المجرد بحديث " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان": بأن ذم الإخلاف إنما هو من حيث تضمنه الكذب المذموم إن عزم على الإخلاف حال الوعد، لا إن طرأ له (2) . وقال الغزالي:
" وهذا ينزل على من وعد وهو على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما من عزم على الوفاء فعن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقا، وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق" (3) .
* وأن أكثر الفقهاء نصوا على أنه ينبغي للواعد أن يستثني في وعده بقوله: " إن شاء الله " غير أنهم اختلفوا في حكم هذا الاستثناء:
- فقال الإمام الغزالي: هو الأولى (4) .
- وقال العلامة الجصاص: إن لم يقرنه بالاستثناء فهو مكروه (5) .
- وقال الحنابلة والظاهرية: يحرم الوعد بغير استثناء (6) .
ودليل الاستثناء قوله تعالى {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف آية 23، 24] .
ولأن الواعد لا يدري هل يقع منه الوفاء أم لا؟ فإذا استثنى وعلق بالمشيئة الإلهية خرج. عن صورة الكذب في حال التعذر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الدكتور نزيه كمال حماد
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3/442
(2) مرقاة المفاتيح للملا علي القاري 1/ 106، الحموي على الأشباه والنظائر 2/110
(3) إحياء علوم الدين 3/115، وانظر الفتوحات الربانية لابن علان 6/259
(4) إحياء علوم الدين 3/115
(5) أحكام القرآن للجصاص 3/442
(6) كشاف القناع 6/279، شرح منتهى الإرادات 3/456، المبدع 9/345، المحلى 8/29(5/615)
الوفاء بالوعد
إعداد الأستاذ الدكتور يوسف قرضاوي
عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
بجامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد، فإن موضوع (الوعد) ووجوب الوفاء به ديانة، وجواز الإلزام به قضاء، من الموضوعات الهامة، التي تحتاج إلى تحريرها في عصرنا، لارتباطها بكثير من المعاملات المعاصرة، وبخاصة (بيع المرابحة للآمر بالشراء) كما تجريه المصارف الإسلامية، الذي أصبح المحور الأساسي لنشاط البنك الإسلامي الآن.
ولابد لمن يكتب عن بيع المرابحة أن يكتب عن الوعد ومدى لزومه والإلزام به، فإن كثيرا من البنوك الإسلامية تجري مرابحاتها على أساس الوعد الملزم، وهو ما أراه وأرجحه.
وهذه الصحائف تلقي شعاعا من ضوء على هذا الموضوع، أرجو أن يكون فيها بيان لما قصدت إليه.
وبالله التوفيق وعليه قصد السبيل
أ. د/ يوسف القرضاوي(5/616)
تحقيق القول في الإلزام بالوعد:
من الإخوة الذين شاركوا في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني بالكويت من وافقوا على المواعدة على بيع المرابحة المذكورة، ولكنهم خالفوا بشدة في قضية الإلزام بالوعد.
ومن هؤلاء الإخوة: الدكتور حسن عبد الله الأمين الأستاذ الباحث بالمركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز، والدكتور محمد سليمان الأشقر الأستاذ الباحث بموسوعة الفقه الإسلامي بالكويت، وكلاهما قدم بحثا حول موضوع المرابحة، والزميل: الدكتور علي السالوس الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بجامعة قطر، وقد شارك بالمناقشة في المؤتمر.
وحجتهم أن فتوى مؤتمر المصرف الإسلامي الأول اعتمدت على مذهب مالك في الإلزام بالوعد والقضاء به، مع أن مذهب مالك في هذه القضية بالذات يمنع ولا يجيز؛ لأنه يعتبرها من بيوع العينة الممنوعة، فكيف نأخذ بمذهب مالك في الإلزام بالوعد، في الوقت الذي نتركه في القضية الخاصة التي ننفذ فيها الإلزام بالوعد؟
ومن جهة أخرى يقول الدكتور الأمين: إن مسألة لزوم الوفاء بالوعد قضاء أو عدمه لزومه (عند المالكية) إنما تتعلق فقط بمسائل المعروف والإحسان دون عقود المعاوضات، ومنها البيع، وينقل عن فتاوى الشيخ عليش المسماة " فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك" الجزء الأول، نقلا عن كتاب " تحرير الكلام في مسائل الالتزام" للعلامة الحطاب ما نصه: (فصل) وأما العدة- (أي الوعد) فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئا الآن، وإنما هي كما قال ابن عرفة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل (1) . ومثلوا له بالوعد بقرض، أو عتق، أو هبة، أو صدقة، أو عارية، أي الأمور التي تدخل في باب المعروف والإحسان كما قال ابن عرفة، دون الأمور التي تتعلق بالمعاوضات، كالبيع مثلا.
__________
(1) فتح العلي المالك جـ1 ص (212) طبعة المطبعة التجارية الكبرى(5/617)
" والوفاء بالعدة (بالتخفيف) مطلوب لا خلاف، واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب: جامع البيوع، وفي كتاب العارية، وفي كتاب العدة، ونقلها عنه غير واحد"
(1) فقيل: يقضى بها مطلقا.
(2) وقيل: لا يقضى بها مطلقا.
(3) وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء، كقولك: أريد أن أتزوج أو: أن اشتري كذا، أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا، أو أريد أن أركب غدا إلى مكان كذا فأعرني دابتك ...
فقال: نعم، ثم بدا له قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر، فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به.
(4) وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور (1) وهو مذهب ابن القاسم، قال في المدونة: (لو أن رجلا اشترى عبدا من رجل على أن يعينه فلان بألف درهم، فقال له فلان: أنا أعينك بألف درهم فاشتر العبد، أن ذلك لازم لفلان) (2) . وهذا وعد بمعروف.
__________
(1) فتح العلي المالك جـ1 ص (212) طبعة المطبعة التجارية الكبرى، والفروق للقرافي جـ4 ص 24/25 طبعة دار إحياء الكتب العربية
(2) المدونة الكبرى جـ3 ص 264، دار الفكر بيروت، وانظر الشرح الكبير للدردير جـ3 ص 335(5/618)
وواضح من تعريف ابن عرفة للعدة – الوعد – ومن الأمثلة عليه، أن القول بلزوم الوفاء بها قضاء، إنما يتعلق بأمور المعروف والإحسان - أي التبرعات - ولا يتعلق بأمور ذات صلة بعقود المعاوضات كالبيع. اهـ كلام د. الأمين.
ويتفق الأستاذ الأشقر مع الأستاذ الأمين في أن الوعد الذي قال بعض المالكية بلزوم الوفاء به ديانة وقضاء إنما هو الوعد بإنشاء المعروف، أما الوعد التجاري فهو شيء آخر لم يدر بخلدهم.
ويناقش الشيخ الأشقر فتوى فضيلة الشيخ بدر متولي عبد الباسط مستشار بيت التمويل الكويتي التي مال فيها إلى الأخذ برأي ابن شبرمة، الذي يقول: إن كل وعد بالتزام لا يحل حراما، ولا يحرم حلالا، يكون وعدا ملزما قضاء وديانة، وإن هذا ما تشهد له ظواهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية.. وإن الأخذ بهذا أيسر على الناس ويضبط المعاملات.
وقال الأشقر: قول ابن شبرمة لا أدري ما مصدره، ولعله منقول بالمعنى لا بالنص. وهو غير محرر ولا مبين، إذ لم يكن له أتباع يحررون مذهبه.
كما ناقش القول بأن ظواهر الآيات والأحاديث تدل على وجوب الوفاء بالوعد، ومال إلى أن الوفاء بالوعد ليس بواجب قضاء، ولا ديانة، وإنما هو مستحب ومن مكارم الأخلاق، كما اختاره القرافي. وأن النصوص في كتب المذاهب على عدم لزوم الوفاء بالوعد ديانة.
وأرى من المهم هنا مناقشة قضية الوعد، ووجوب الوفاء به ديانة، والإلزام به قضاء، وما في ذلك من خلاف. لما يترتب على الموضوع من نتائج تتعلق بمعاملات المسلمين وما يحل وما يحرم منها.(5/619)
رد على بعض الجزئيات:
وقبل أن أُفَصِّلَ القول في الوفاء بالوعد، أحب أن أرد على بعض الجزئيات من كلام الأخ الأشقر فقد سأل عن مصدر قول ابن شبرمة، وأقول له:
أقرب مصدر له نعرفه هو " المحلى" لابن حزم، فقد قال:
وقال ابن شبرمة: الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد ويجبر (1) .
وأما الادعاء بأن قوله غير محرر ولا مبين، لأنه لم يكن له أتباع يحررون مذهبه، فهو ادعاء مرفوض، ويترتب عليه رفض أقوال جميع فقهاء الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن لا أتباع لهم يقلدونهم. ومعنى هذا رفض آراء جميع علماء الأمة إلا أربع أشخاص فقط، هم أصحاب المذاهب المتبوعة عن أهل السنة! فهل يلتزم الشيخ الأشقر هذه النتيجة ويقبلها؟ لا أحسب ذلك.
وأما الرد على قول الشيخ بدر بأن الأخذ بالإلزام بالوعد أيسر على الناس ويضبط المعاملات، بأن اختلاف العلماء لا يجيز لنا الأخذ بما هو أيسر من أقوالهم بل بما هو أرجح دليلا، ففي هذا الرد نظر؛ لأن المقصود أنه عند تكافؤ الأدلة أو تقاربها يكون الأخذ بالأيسر من دلائل الترجيح؛ لأن الشريعة مبناها على اليسر ورفع الحرج، وخصوصا في أمور المعاملات، وقد يأخذ الإنسان بالأحوط في خاصة نفسه، أما إذا أفتى للعموم فليراع التيسير، ولهذا أثر عن علمائنا في مثل هذه القضايا هذه العبارة: هذا أرفق بالناس. على أن فتوى الشيخ بدر حفظه الله قرنت بالتيسير معنى آخر لم يذكره المعقب، فقد قالت: هذا أيسر على الناس ويضبط المعاملات فلا ينبغي أن يفصل المعنى الأخير عن الأول.
__________
(1) المحلى جـ 8 المسألة رقم 1125(5/620)
أدلة الإلزام بالوعد:
وأكثر ما أثير من كلام كان حول عنصر الوعد والإلزام به، لهذا كان في حاجة إلى مزيد من التجلية والإيضاح لحقيقته، فأقول:
إن الذي أرجحه أن الوفاء بالوعد واجب ديانة، فهذا هو الظاهر من نصوص القرآن والسنة وإن خالف في ذلك المخالفون.
أ- ففي القرآن يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] .
والوعد إذ أخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذبًا محرمًا. وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا (1) .
بل إن عبارة الآية الكريمة {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} تدل على أنه كبيرة، وليس مجرد حرام.
ب- وقد ذم الله بعض المنافقين بقوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] .
والآية تفيد أن نفاقهم بسبب إخلافهم وعدهم مع الله، ومثل ذلك إخلاف الوعد مع الناس، إذ لا فرق في أصل الحرمة بين الأمرين، كما أن نكث العهد محرم سواء كان مع الله أم مع الناس.
جـ – وقد أنكر القرآن شدة استغفار المؤمنين للمشركين مهما تكن قرابتهم، فقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] .
وهنا تلوح للمؤمن قصة استغفار إبراهيم لأبيه {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 86] كيف يتفق هذا مع هذا الإنكار الشديد؟ هنا يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] .
فكان عذر إبراهيم وعده السابق لأبيه {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] .
فلو كان الوفاء بالوعد مجرد أمر مستحب ما ارتكب من أجله الاستغفار لمشرك ضال من أصحاب الجحيم.
ولا يقال: لعل الوفاء بالوعد كان واجبا في شرع إبراهيم، وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا، ونقول: الصحيح أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخه شرعنا، وبخاصة أن الله تعالى قال لرسوله {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] .
د- يؤكد هذا ما ذكره الله عن الشيطان حين يجمعه بمن اتبعه من الغاوين في النار حيث يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم: 22] .
وهذا ذكر في معرض الذم للشيطان وحزبه، فلو كان إخلاف الوعد لا يعدو أن يكون مكروها أو خلاف الأولى، لم يكن لذم الشيطان به معنى.
__________
(1) الفروق جـ4: 20(5/621)
هـ- وفي الحديث الصحيح المتفق عليه من رواية أبي هريرة: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب. وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) (1) .
وفي بعض روايات مسلم: ((آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) .
و وفي الحديث الصحيح الآخر من رواية عبد الله بن عمر: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ... إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (2) .
ز- وذكر البخاري في كتاب " الاستقراض " حديث عائشة ((: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في صلاته كثيرًا من المأثم " أي الإثم " والمغرم " أي الدَّيْن" فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟! فقال: " إن الرجل إذا غرم - أي استدان - حدث فكذب، ووعد فأخلف ")) (3) ، ومعنى هذا أن – الاستدانة تجره إلى المعصية بالكذب في الحديث، والخلف في الوعد.
ح- وهناك أدلة أخرى سنذكرها فيما ننقله عن الغزالي والبخاري وابن القيم، والظاهر من هذه الأدلة أن الوعد سواء كان بصلة وبر، أم بغير ذلك، واجب الوفاء به، إذ لم تفرق النصوص بين وعد ووعد، وهذا ما روي عن ابن شبرمة فيما نقله عنه ابن حزم حيث قال: الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد، ويجبر (4) .
وإذا كان كل هذا التحذير من إخلاف الوعد حتى عد من علامات النفاق، وإحدى خصاله الأساسية، فهذا من أظهر الأدلة على حرمته، ولهذا جعله الإمام الغزالي في " إحيائه" من آفات اللسان، وهي إحدى " المهلكات".
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان. باب علامة المنافق، ومسلم في كتاب الإيمان. باب خصال المنافق
(2) رواه مسلم في الباب المذكور: ورواه البخاري، أيضًا ولكن وضع مكان " وإذا وعد أخلف " جملة " وإذا اؤتمن خان "
(3) صحيح البخاري – كتاب الاستقراض – باب من استعاذ من الدَّيْن
(4) المحلى جـ8 مسألة 1125(5/622)
رأي الإمام الغزالي في إحيائه:
قال وهو يعدد آفات اللسان: الآفة الثالثة عشر: الوعد الكاذب " فإن اللسان سباق إلى الوعد، ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا، وذلك من أمارات النفاق ... قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] : " وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل عليه السلام في كتابه العزيز فقال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] .
" ولما حضرت عبد الله بن عمر الوفاةُ قال: إنه كان خطب إليَّ ابنتي رجل من قريش وكان إليه مني شبه الوعد، فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق. أشهدكم أني قد زوجته ابنتي.
وكان ابن مسعود لا يعد وعدا إلا ويقول: إن شاء الله، وهو الأولى.
ثم إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد، فلابد من الوفاء، إلا أن يتعذر، فإن كان عند الوعد عازما على أن لا يفي، فهذا هو النفاق. وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((ثلاث من كن فيه هو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ... )) الحديث. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أربع من كن فيه كان منافقًا ... )) .. الحديث (1) .. وهذا ينزل على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما من عزم على الوفاء فَعَنَّ له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقًا، وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق، ولكن ينبغي أن يحترز من صورة النفاق أيضًا، كما يحترز من حقيقته، ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذورًا من غير ضرورة حاجزة (2) . اهـ.
__________
(1) ذكر الإمام الغزالي هنا بعض أحاديث مثل: " العدة عطية " والوأي - أي الوعد - مثل الدين أو أفضل " وغيرهما.. تركناها لضعف أسانيدها، واكتفاء بصريح القرآن، وصحيح السنة
(2) إحياء علوم الدين جـ3: 132، 13 ط. دار المعرفة - بيروت(5/623)
رأي جماعة من السلف في وجوب الوفاء بالوعد:
وذكر الإمام البخاري في صحيحه رأي جملة من السلف ممن يرى وجوب إنجاز الوعد، فقد ترجم في كتاب " الشهادات" من الصحيح باب من أمر بإنجاز الوعد. قال: وفعله الحسن البصري أي أمر به، وذكر الآية الكريمة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]
قال: وقضى ابن الأشوع (وهو سعيد بن عمرو بن الأشوع، قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق وذلك بعد المائة بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب. قال أبو عبد الله البخاري: رأيت إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه يحتج بحديث ابن أشوع (أي الذي ذكره عن سمرة)) .
وذكر البخاري في الباب أربعة أحايث للدلالة على وجوب الإنجاز، منها: حديث آية المنافق ثلاث ... وحديث جابر: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي، فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة فليأتنا.
ونقل الحافظ في الفتح قول المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض، لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء. اهـ.
قال الحافظ: ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور، لكن القائل به قليل.
وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز، وعن بعض المالكية: إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به، وإلا فلا، ومن قال لآخر: تزوج، ولك كذا، فتزوج بذلك، وجب الوفاء به.
وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة: هل تملك بالقبض أو قبله؟
قال الحافظ: وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على الأذكار للنووي: ولم يذكر جوابا عن الآية: يعني قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وحديث " آية المنافق " قال: والدلالة للوجوب منها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد (1) اهـ.
__________
(1) انظر: صحيح البخاري – كتاب الشهادات – باب من أمر بإنجاز الوعد. وفتح الباري. جـ6:217 – 219 ط مصطفى الحلبى.(5/624)
وصنيع المحقق ابن القيم في كتابه " إعلام الموقعين " (1) يدل على أنه ممن يرى وجوب الوفاء بالوعد، فقد نظم العقود والعهود والشروط والوعود الواجب الوفاء بها كلها في سلك واحد، وسرد النصوص الدالة على لزوم الوفاء بالوعد، مع النصوص الدالة على وجوب الوفاء بالعقد وبالعهد وبالشرط، كلها سواء.
فذكر قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) .
وذكر صحاح الأحاديث في علامات المنافق وخصاله.. وأحاديث أخرى.
وزاد على ذلك أحاديث أخرى تتعلق بالوعد خاصة مثل ما في سنن أبي داود عن عبد الله بن عامر قال: ((دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها، فقالت: تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: "ما أردت أن تعطيه؟ " فقالت: أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة)) . وقال ابن وهب: ثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وَأْيُ المؤمن واجب)) (3) قال ابن وهب: وأخبرني إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((ولا تعد أخاك عدة وتخلفه، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) .
قال ابن وهب: وأخبرني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال لصبي: تعال هذا لك، ثم لم يعطه شيئا، فهي كذبة)) .
وفي السنن من حديث كثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده يرفعه: ((المؤمنون عند شروطهم)) وله شاهد من حديث محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر يرفعه: ((الناس على شروطهم ما وافق الحق)) وليست العمدة على هذين الحديثين بل على ما تقدم.
وأجاب ابن القيم عما في بعض هذه الأحاديث من جهة السند، فقال: أما ضعف بعضها من جهة السند، فلا يقدح في سائرها، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف إن لم يكن عمدة (4) .
__________
(1) جـ 1 ص386 - 388
(2) الصف [2]
(3) الوَأْي: الوعد، أو التعويض بالعدة من غير تصريح، وقيل: العدة المضمونة. والحديث مرسل
(4) إعلام الموقعين جـ1: 386 - 388(5/625)
نقل العلامة الزبيدي:
وقال العلامة " الزبيدي" في شرح القاموس في مادة " وعد ": " اختلف في حكم الوفاء بالوعد: هل هو واجب أو سنة؟ أقوال.
قال شيخنا: وأكثر العلماء على وجوب الوفاء بالوعد، وتحريم الخلف فيه، وكانت العرب تستعيبه وتستقبحه، وقالوا: إخلاف الوعد من أخلاق الوغد. وقيل: الوفاء سنة، والإخلاف مكروه، واستشكله بعض العلماء.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي بعد سرد كلام: وخلف الوعد كذب ونفاق وإن قل فهو معصية.
(وقد ألف الحافظ السخاوي في ذلك رسالة مستقلة سماها " التماس السعد في الوفاء بالوعد" جمع فيها فأوعى) (1) اهـ كلام الزبيدي.
وإذا كان وجوب الوعد والأمر بإنجازه، قال به مثل عبد الله بن عمر (الذي زوج ابنته لمن صدر منه شبه وعد له، حتى لا يلقى الله بثلث النفاق!) ومثل سمرة بن جندب من الصحابة، ومثل عمر بن عبد العزيز من التابعين، وهو معدود من الخلفاء الراشدين المهديين الذين يعض على سنتهم بالنواجذ، والحسن البصري الإمام المشهور، ومن بعدهم: ابن الأشوع الذي اعتد البخاري بذكره في صحيحه، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن معين: مشهور يعرفه الناس، كما في عمدة القاري (2) .. وابن شبرمة الفقيه الثقة العابد، وإسحاق بن راهويه شيخ البخاري، وأحد أئمة الحديث والفقه، وأمير المؤمنين في الحديث: محمد بن إسماعيل البخاري، كما يبدو من ترجمته للباب وعدم ذكره الرأي الآخر.... بالإضافة إلى ما نقلناه عن العلامة ابن القيم، وما هو معروف من مذهب الإمام مالك وبعض أصحابه، وخصوصا فيما كان له سبب ودخل الموعود من أجله في نفقة وكلفة.. فليس القائل به إذن قليلا، كما قال الحافظ رحمه الله، بل لعل الصحيح ما نقله الزبيدي عن شيخه: إن أكثر العلماء على وجوب الوفاء بالوعد، وتحريم الخلف فيه.
وبهذا نرى أن نسبة القول بالإلزام بالوعد إلى بعض المالكية أو إلى ابن شبرمة فقط، فيه تقصير كبير في الاستقصاء.
__________
(1) تاج العروس، شرح القاموس: مادة " وعد "
(2) عمدة القاري للعيني جـ13، ص 258(5/626)
وقفات ثلاث:
بعد البيان السابق ينبغي لنا أن نقف وقفات ثلاثا:
الأولى: في شبهات النافين للإلزام بالوعد، وما اعتمدوا عليه من نصوص مع وضوح الأدلة المصرحة بالوجوب والإلزام.
الثانية: فيما قيل من التفرقة بين العدة بالمعروف والصلة، والوعد في أمور المعاملات والمعاوضات، وأن الوعد في الأولى هو الذي قيل بوجوبه، أما في الثانية فلا.
الثالثة: في التفرقة بين ما هو واجب ديانة، أي بين المرء وربه، وما هو واجب قضاء، بمعنى أن من حق ولي الأمر أو القاضي أن يتدخل فيه ويلزم به.
فقد قال من قال: إنما نسلم أن الوفاء بالوعد والالتزام به واجب من الناحية الدينية والأخلاقية، ولكن لا حق للسلطة القضائية أو التقنينية أو التنفيذية في التدخل للإلزام به، أو المعاقبة على الإخلال به. وإن نشأ عن ذلك من الأضرار والخسائر ما لا يرضاه الله ولا رسوله ولا المؤمنون.
ولنناقش هذه النقاط الثلاث بغير تطويل.(5/627)
شبهات النافين لوجوب الوفاء بالوعد:
لم أجد دليلا مقنعا يقاوم الأدلة الكثيرة المؤيدة للقول بوجوب الوفاء بالوعد، ولكن هناك بعض شبهات ذكرها بعض الفقهاء، أكتفي منها بما ذكره العلامة " القرافي " من أحاديث عارض بها النصوص الدالة على تحريم خلف الوعد، وهي أحاديث لا تقوى على معارضة هذه النصوص، لا من ناحية ثبوتها، ولا من ناحية دلالتها.
فقد ذكر هنا حديثين:
أولهما: حديث الموطأ: ((قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب لامرأتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لا خير في الكذب ". فقال: يا رسول الله أفأعدها وأقول لها؟ فقال عليه السلام: " لا جناح عليك ".))
قال: فمنعه من الكذب المتعلق بالمستقبل، فإن رضا النساء إنما يحصل به ونفى الجناح على الوعد، وهو يدل على أمرين: أحدهما: أن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله قسيم الكذب. وثانيهما: أن إخلاف الوعد لا حرج فيه (1) . اهـ.
والحديث من ناحية سنده غير ثابت، قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من رواية صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار مرسلا.
وهو في " الموطأ" عن صفوان بن سليم معضلًا من غير ذكر عطاء (2) اهـ.
وأما من ناحية الدلالة، فقد ناقش العلامة ابن الشاط القرافي (في حاشيته على الفروق) . مناقشة جيدة في " الأمر الأول " يحسن الرجوع إليها. ولم أذكرها خشية الإطالة (3) .
__________
(1) الفروق جـ 4: 21
(2) انظر: تخريج العراقي في حاشية الإحياء، جـ3 ص 137، ط دار المعرفة، بيروت.
(3) انظر: الفروق وحواشيه، جـ 4، ص 21، 22(5/628)
أما الأمر الثاني، وهو أن إخلاف الوعد لا حرج فيه مطلقا، فهو غير مسلم؛ لأن الحديث جاء في علاقة الرجل بامرأته، ومن حرص الشارع على دوام المودة بين الزوجين أن رخص لهما ما لم يرخص لغيرهما، فأجاز شيئا من الكذب كما أجاز في الحرب والإصلاح بين الناس، وقد روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه عن أم كلثوم بنت عقبة: ((أنها لم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء مما يقول الناس: كذب، إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها)) (1)
قال النووي في شرح الحديث:
قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذا الصور.
واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها: ما هو؟
فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة.
وقال آخرون: ما جاء من الإباحة في هذا، المراد به: التورية واستعمال المعاريض، لا صريح الكذب، مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها ويكسوها كذا، وينوي: إن قدر الله ذلك، وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه (2) اهـ.
وبهذا نتبين أن العلاقة بين الزوجين هنا موسع فيها، ولا يقول القرافي وغيره هنا بأن الترخيص في بعض الكذب هنا يعني أن الكذب لا حرج فيه بإطلاق.
وثاني ما استدل به القرافي هنا هو حديث أبي داود ((إذا وعد أحدكم أخاه، ومن نيته أن يفي فلم يف، فلا شيء عليه)) (3) .
__________
(1) انظر: صحيح مسلم – كتاب البر والصلة: باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه، حديث 2605
(2) شرح النووي على مسلم جـ5، 464، 465، ط. الشعب
(3) الفروق ج 4 ص 22(5/629)
والحديث في سنن أبي داود بلفظ: ((إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه)) (1) .
والحديث سكت عليه أبو داود، ولكن ذكر المنذري في مختصره عن أبي حاتم الرازي أن في سنده راويين مجهولين (أبو النعمان وأبو وقاص) وكذا رواه الترمذي وقال: حديث غريب وليس إسناده بالقوي. قال: ولا يعرف أبو النعمان وأبو وقاص وهما مجهولان (2) .
وكذا ضعفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث " الإحياء " فالحديث متفق على ضعفه.
ومثل هذا لا يحتج به في مقابلة الأدلة الأخرى الدالة على تحريم الخُلْف.
ومع هذا يمكن حمل هذا الحديث – كما قال ابن الشاط المالكي - على أنه لم يف مضطرا، جمعا بين الأدلة، مع بعد تأويل تلك الأدلة وقرب تأويل هذا (3) .
والحق أن العلامة القرافي في هذا الموضوع لم يكن على العهد به من التحقيق والتدقيق، ولهذا نجد العلامة ابن الشاط في حاشيته على " الفروق" المسماة " أدرار الشروق" يعقب على ما ذكره القرافي من اختلاف الفقهاء في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟.. إلخ. بقوله: الصحيح عندي القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقا، فيتعين تأويل ما يناقض ذلك، ويجمع بين الأدلة. على خلاف الوجه الذي اختاره المؤلف، والله أعلم (4) . اهـ.
__________
(1) الحديث في السنن برقم 4995
(2) انظر الحديث رقم 2635 من الترمذي
(3) انظر: حاشية ابن الشاط على الفروق جـ4 ص 22
(4) حاشية الفروق جـ4 ص 24، 25(5/630)
الوعد بالمعروف والوعد في المعاوضات:
وأما النقطة الثانية، وهي ما قيل من التفرقة بين الوعد بالصلة والمعروف وأنه هو الذي قيل بوجوبه، وبين الوعد في شئون المعاملات والمبادلات المالية، وأن هذا لم يقولوا بوجوبه.
فيهمني أن أؤكد في هذا أمرين:
الأول: أن النصوص التي أوجبت الوفاء وحرمت الإخلاف، جاءت عامة مطلقة ولم تفرق بين وعد ووعد، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، ولا دليل عند المعارض يخصص عمومها، أو يقيد إطلاقها. ولهذا قال ابن شبرمة بصريح العبارة: الوعد كله لازم.
الثاني: أنه إن كان لا بد من تفرقة بين النوعين- فالأمر يبدو لي على خلاف ما قيل تماما.
والذي أراه أن الخلاف المنقول في الوعد ولزوم الوفاء به عند المالكية وغيرهم قد يقبل فيما كان من باب البر والمعروف والإرفاق، على معنى أن من وعد إنسانًا بصلة أو خدمة يقدمها له قد يجري فيه الخلاف السابق؛ لأن أصله تبرع محض، ويستقبح منه على كل حال إخلافه، وهذا ما تعارف الناس عليه وعبروا عنه في نثرهم بمثل قولهم: وعد الحر دين عليه، وفي شعرهم بمثل قول من قال:
إذا قلت في شيء: " نَعَمْ " فأتمه
فإن " نَعَمْ " دين على الحر واجب!
وإلا فقل: " لا " فتسترح وترح بها
لئلا يقول الناس: إنك كاذب!
وهذا ما لم يدخل بسبب الوعد في ارتباط مالي، فإنه يشبه أن يكون تعاقدا ضمنيا..
ومن هذا ما تَعِدُ به الحكومات موظفيها من علاوات وترقيات وإعانات اجتماعية في حالة الزواج والإنجاب وغيرها.
وما تعد به الوزارات والمؤسسات العاملين فيها من مكافآت وحوافز لمن يقوم بجهد معين كعمل إضافي أو خدمة معينة، أو تحسين لمستوى العمل، أو نحو ذلك فيجب أن توفي به.(5/631)
ومن ذلك عقد (الجعالة) فإنما هو وعد من (الجاعل) كأن يقول: من رد علي مالي المفقود، فله كذا.. فرده عليه، فيلزمه إعطاؤه ما وعد به.
ومن ذلك ما تعد به المؤسسات الثقافية من جوائز تمنحها لمن يستوفي شروط السبق في مسابقات علمية تعلن عنها، ومثلها المسابقات الرياضية ونحوها.
أما الذي ينبغي ألا يقبل الخلاف فيه، فهو: الوعد في شئون المعاوضات والمعاملات، التي يترتب عليها التزامات وتصرفات مالية واقتصادية، قد تبلغ الملايين، ويترتب على جواز الإخلاف فيها إضرار بمصالح الناس وتغرير به.
فالوفاء بالوعد هناك كالوفاء بالعهد. لهذا وضعت بعض الأحاديث: ((إذا عاهد غدر)) مكان ((إذا وعد أخلف)) فالمعنيان متلازمان أو متقاربان. وقد ذكر الغزالي في الاستدلال على وجوب الوفاء بالوعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . دلالة على أن الوعد داخل في " مسمى العقود ".
كما أدخل ابن القيم الوعود مع العقود والعهود والشروط جميعا في باب واحد، فكما أن المسلمين عند شروطهم، فهم كذلك عند وعودهم؛ لأنهم لا يقولون ما لا يفعلون.
ومن هنا أستغرب اتجاه د. الأمين، ود. الأشقر إلى عكس ذلك تماما، على حين رأينا المالكية الذين اعتمدا مذهبهم، يرجحون الإلزام بالوعد ديانة وقضاء إذا ترتب عليه شيء من الالتزام المالي، فكيف لا نتجه إلى القول بلزوم الوفاء إذا كانت المعاملة كلها قائمة من الأساس على التزام مالي متبادل؟
أما أن المالكية لا يقولون بالإلزام بالوعد في هذه الصورة بالذات، فلما عارضه- في نظرهم – من أدلة أخرى أوجبت منع هذه الصورة.
وقد بينا ضعف هذه الأدلة في موضع آخر، ولهذا لا يلزمنا تقليدهم هنا، ولا مانع أبدا من الأخذ برأيهم في الإلزام بالوعد، وعدم الأخذ برأيهم في بيوع الآجال، أو بيوع العينة.
على أننا قد وجدنا بحمد الله من غير المالكية من فقهاء الأمة من قال بالإلزام، فمن كان يرى أن رأي المالكية إما أن يؤخذ كله، وإما أن يترك كله، تركنا له رأيهم كله، ووسعنا أن نأخذ برأي الآخرين من القائلين بالإلزام، وهم عدد غير قليل.(5/632)
التفريق بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء:
وأما النقطة الثالثة وهي التفريق بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء، لاتخاذ ذلك ذريعة إلى أن وجوب الوفاء بالوعد من الناحية الدينية، لا يترتب عليه تدخل السلطات الشرعية للقضاء به، والإلزام بتنفيذه، فالواقع أن الأصل هو الإلزام بكل ما أوجبه الله ورسوله، وما مهمة السلطات إلا تنفيذ ما أمر الله به، ومعاقبة من خرج عليه بحكم مسئوليتهم الشاملة.
والذي يتضح لي أن الأعلام الذين نقلنا رأيهم في وجوب الوفاء بالوعد، لم يكونوا يفرقون بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء، بل الظاهر من سيرهم وأحوالهم وطريقة تفكيرهم أن كل ما يلزم المسلم دينا وشرعا، يقضى به عليه ويجبر على فعله في حالة الأمر والوجوب، وعلى تركه في حالة النهي والتحريم.
يؤكد هذا أن بعضهم كان بيده سلطة الإلزام والقضاء بالفعل مثل عمر بن العزيز وابن الأشوع وابن شبرمة، وإنما فرق الفقهاء بين الديانة والقضاء فيما له ظاهر وباطن، فيحكم القضاء بالظاهر، ويكل إلى الله السرائر، كما في حكم القاضي لمن هو ألحن بحجته، ومن شهدت له البينة ولو كاذبة، أو شهد له ظاهر الحال، وإن كان الواقع غير ذلك، فيجوز له أن يأخذ ما حكم له به قضاء لا ديانة.
وكذلك في بعض أحوال الطلاق ونحوه، قد يختلف القضاء عن الديانة، لاختلاف النية المكنونة عن الظاهر المشهود.. وهلم جرا.
وما قرره مؤتمر المصرف الإسلامي الأول المنعقد في " دبي " من " أن ما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه". يتفق مع اتجاه الشريعة الإسلامية في الإلزام بالواجبات الدينية المحضة وإشراك ولي الأمر في رعايتها، مثل الصلاة والصيام ونحوها مما شدد الشرع في فعله، وأوجب العقوبة على تركه، وإذا كان هذا في العبادات التي لها صفتها الدينية البارزة، فأولى من ذلك ما يتعلق بالعلاقات والمعاملات.
ومن المعروف أن عقوبة " التعزير " المفوضة إلى رأي الإمام، (ولي الأمر الشرعي) أو القاضي إنما محلها كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وهذا باب واسع يستطيع القانون أو القضاء أن يدخل منه ليحاكم أو يعاقب على كل إهمال متعمد لواجب ديني، ومن ذلك ترك من يتعرض للهلاك بالجوع أو العطش أو الغرق أو الحريق أو غير ذلك دون أن يسعفه، فإن المذهب المالكي وغيره يحمله مسئولية جنائية بتركه لواجبه الديني.
ومثل ذلك النفقة على البهيمة والرفق بها، مما هو واجب ديني في الأصل، ولكن عند إهماله يمكن أن يلزم القضاء، كما يدخل في سلطة المحتسب.
وقانون " الوصية الواجبة " الذي أخذت به بعض البلاد الإسلامية إنما أرادت به إلزام الأجداد قانونا، بما كان يجب أن يراعوه ديانة، نحو أحفادهم الذين ليس لهم نصيب من الميراث في تَرِكَتِهِم لموت آبائهم في حياتهم، فجمعوا بين اليتم والحرمان فألزموا بالوصية لهم وفقا للآية الكريمة في صورة البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] .(5/633)
عقد الاستصناع عند الحنفية:
والخلاف في موضوع الوعد ومدى إلزامه، يشبه الخلاف الذي جاء في الفقه الحنفي حول " الاستصناع" الذي اتفق أئمة المذهب على جوازه، واعتباره بيعا صحيحا، برغم أنه بيع لمعدوم وقت العقد، ولكنهم أجازوه استحسانا، لتعامل الناس به الراجع إلى الإجماع العملي الممتد من عهد النبوة إلى اليوم بلا نكير، والتعامل بهذه الصفة- كما قال ابن الهمام - أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) (1) اهـ.
ثم اختلف مشايخ المذهب في تكييفه: أهو مواعدة أم معاقدة؟
فالحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة، وصاحب المنثور اعتبروه مواعدة، وإنما ينعقد عند الفراغ بيعا بالتعاطي، ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولا يجبر عليه بخلاف السلم، وللمستصنع ألا يقبل ما يأتي به ويرجع عنه.
قال ابن الهمام: والصحيح من المذهب جوازه بيعا.. إلخ..
وإذا أتم صنع الشيء المطلوب فالمستصنع (بكسر النون) بالخيار إذا رآه: إن شاء أخذه وإن شاء تركه؛ لأنه اشترى ما لم يره ولا خيار للصانع؛ لأنه بائع باع ما لم يره، ومن هو كذلك فلا خيار له، وهو الأصح بناء على جعله بيعا لا عِدَة في رواية عن أبي حنيفة: أن له الخيار أيضا دفعا للضرر عنه؛ لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بضرر.
وعن أبي يوسف: أنه لا خيار لهما، أما الصانع فلما ذكرنا (أنه بائع باع ما لم يره) ، وأما المستصنع فلأن الصانع أتلف ماله (أي بتحويله من مادة خام إلى مصنوعات) ليصل إلى بدله، فلو ثبت له الخيار تضرر الصانع؛ لأن غيره لا يشتري بمثله. ألا ترى أن الواعظ إذا استصنع منبرا فالعامي لا يشتريه أصلًا (2) ؟
وهذا التعليل والتمثيل يرينا بوضوح كيف كان فقهنا يعيش في قلب الحياة العملية.
وقد عدلت " مجلة الأحكام العدلية" الشهيرة في مسألة " الاستصناع " عن قول أبي حنيفة ومحمد المفتى به في المذهب، والذي يجعل الخيار للمستصنع بعد إنجاز المصنوع، وإن جاء مستوفيا كل المواصفات المتفق عليها، وتبنت قول أبي يوسف في عدم الخيار وإلزامه بأخذ المستصنع. وهذا ما نصت عليه المادة 292 من المجلة. وقد جاء في التقرير الذي قدمت به ما يأتي: -
" وعند الإمام الأعظم (أبي حنيفة) أن المستصنع له الرجوع بعد عقد الاستصناع، وعند الإمام أبي يوسف رحمه الله أنه إذا وجد المصنوع موافقا للصفات التي بينت وقت العقد فليس له الرجوع، والحال أنه في هذا الزمان قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها المدافع والبواخر ونحوها بالمقاولة، وبذلك صار الاستصناع من الأمور الجارية العظيمة، فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة.. لزوم اختيار قول أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذا، مراعاة لمصلحة الوقت، كما حرر في المادة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة من هذه المجلة ".
هذا وبالله التوفيق
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور / يوسف القرضاوي
__________
(1) شرح فتح القدير على الهداية لابن الهمام جـ5 ص 355
(2) شرح العناية على الهداية للبابرتي جـ5 ص 256(5/634)
الوفاء بالوعد وحكم الإلزام به
إعداد
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فلقد رغبت إلي الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ممثلة في أمينها العام المحترم الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة، أن أكتب بحثًا في الوعد وحكم الإلزام به، وكم كنت حريصًا على إجابة رغبة شيخنا الجليل ولكن صار لدي من المشاغل- ومنها إعداد بحث للمجمع في حكم تغير قيمة العملة بعد استقرارها في الذمة – هذه المشاغل حالت دون ذلك، فاكتفيت بجمع ما تيسر جمعه من أقوال أهل العلم في الموضوع، وصار مني بعض التعليقات اليسيرة عليها، وختمتها بتوجيه القول بلزوم الوعد على الواعد، بما لم أر أحدًا من أهل العلم قال به على وجه التفصيل مع ظهور قوة الاحتجاج به، أرجو أن يكون فيما ذكرته من نصوص أهل العلم مزيد إنارة وتبصير.
لا شك أن الوعد التزام بما لا يلزم قبله، والوفاء به من مكارم الأخلاق، ومن صفات الأصالة البشرية وقد قالوا: " وعد الحر دين" وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن الوفاء بالوعد من آكد المستحبات، واختلفوا في وجوبه على الواعد ووجوب الوفاء به، فذهب جمهورهم إلى عدم وجوبه، وأن الوفاء مستحب ومن مكارم الأخلاق، وذهب آخرون إلى وجوب الوفاء به ديانة وعدم صحة الحكم به قضاء وذهب فريق ثالث إلى وجوب الوفاء به ديانة وقضاء مطلقًا من غير تفصيل، وفرقة تقول بوجوب الوفاء به ديانة وقضاء إن كان الوعد على سبب سواء دخل الموعود في ذلك السبب أم لم يدخل، كأن يقول لإنسان: تزوج وعلي صداق زوجتك. فيلزمه الوفاء بالوعد، والفريق الثالث يشترط للقول بوجوب الوفاء ديانة وقضاء، أن يترتب على الموعود التزام بسبب دخوله في سبب الوعد، كأن يقول لآخر: اشتر هذه السلعة وأقرضك ثمنها. فإن اشتراها تعين عليه إقراضه ثمنها، وفيما يلي أقوال لبعض أهل العلم في حكم الوفاء بالوعد تفصيلًا للإجمال المتقدم ذكره:
1- جاء في أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب ما يلي:
أ) " إذا وعد أحدكم فلا يخلف "، رواه أبو يعلى والحاكم.
ب) " إن حسن العهد من الإيمان "، حسنه الحاكم وقال على شرطهما وأقره الذهبي.
جـ) " العِدَةُ دَيْنٌ "، فيه حمزة بن داود ضعفه الدارقطني لكن له عدة طرق فهو حسن.(5/635)
2- في الجزء الخامس من فتح الباري على صحيح البخاري ص 289 -290 قال ابن حجر ما نصه: باب من أمر بإنجاز الوعد- وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات: إن وعد المرء كالشهادة على نفسه. قال الكرماني: قال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء اهـ. ونقل الإجماع في ذلك مردود فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز، وعن بعض المالكية: إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به وإلا فلا. فمن قال لآخر: تزوج ولك كذا. فتزوج لذلك وجب الوفاء به وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة: هل تملك بالقبض أو قبله؟ وقرأت بخط أبي رحمه في إشكالات على الأذكار للنووي ولم يذكر جوابا عن الآية يعني قوله تعالى {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) وحديث: آية المنافق قال: والدلالة للوجوب فيها قوية فكيف حملوه على كراهية التنزيه مع الوعيد الشديد؟ وينظر هل يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك.
ثم ذهب رحمه الله يشرح أحاديث الباب فقال: قوله وفعله الحسن أي الأمر بإنجاز الوعد. قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (2) .
وفي رواية النسفي وذكر إسماعيل أنه كان صادق الوعد وروى ابن أبي حاتم من طريق الثوري أنه بلغه أن إسماعيل عليه السلام دخل قرية هو ورجل فأرسله في حاجة، وقال له أن ينتظره، فأقام حولا في انتظاره، ومن طريق ابن شوذب أنه اتخذ ذلك الموضع مسكنا فسمي من يومئذ صادق الوعد.
__________
(1) الصف آية 3
(2) مريم آية 54(5/636)
قوله: وقضى ابن الأشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب- إلى قوله – قال أبو عبد الله هو المصنف، وأن إسحاق ابن إبراهيم يحتج بحديث ابن الأشوع أي هذا الذي ذكره عن سمرة بن جندب، والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد – ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث، أحدها حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل أورد منه طرفا وقد تقدم موصولا في بدء الوحي.
ثانيها: حديث أبى هريرة في آية المنافق وقد تقدم شرحه في كتاب الإيمان.
ثالثها: حديث جابر في قصته مع أبي بكر فيما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من مال في البحرين إلى آخره.
3- وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم آية 54] . قال: الثالثة من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: ((العِدَةُ دَيْنٌ)) ، وفي الأثر: وَأْيُ المؤمن واجب إلى أن قال في المسألة الرابعة – قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه، فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان – إلى أن قال – وفي البخاري واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد، وقضى ابن الأشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب قال البخاري ورأيت إسحاق ابن إبراهيم - يعني ابن راهويه – يحتج بحديث ابن الأشوع اهـ..
4- وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أضواء البيان على قوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} ما نصه:
مسألة
اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد، فقال بعضهم: يلزم الوفاء به مطلقا. وقال بعضهم: لا يلزم مطلقًا. وقال بعضهم: إن أدخله بالوعد في ورطة لزم الوفاء به، وإلا فلا. ومثاله – ما لو قال له: تزوج. فقال له: ليس عندي ما أصدق به الزوجة، فقال: تزوج والتزم لها الصداق وأنا أدفعه عنك؛ فتزوج على هذا الأساس، فإنه قد أدخله بوعده في ورطة التزام الصداق، واحتج من قال يلزمه: بأدلة منها آيات من كتاب الله دلت بظواهر عمومها على ذلك وبأحاديث، فالآيات كقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (1) ، وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) الآية، وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (3) الآية، وقوله هنا: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (4) الآية، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث؛ كحديث ((العِدَةُ دَيْنٌ)) .
__________
(1) الإسراء آية 34
(2) المائدة آية 1
(3) النحل: آية. 91
(4) مريم: آية (54)(5/637)
فجعلها دَينا دليل على لزومها: قال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: ((العدة دين)) رواه الطبراني في الأوسط، والقضاعي وغيرهما عن ابن مسعود، بلفظ قال: لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العدة دين)) . ورواه أبو نعيم عنه بلفظ: إذا وعد أحدكم صبيه فلينجز له؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وذكره بلفظ " عطية " ورواه البخاري في الأدب المفرد موقوفا، ورواه الطبراني، والديلمي عن علي مرفوعا بلفظ: " العدة دين، ويل لمن وعد ثم أخلف، ويل له ". ثلاثا، ورواه القضاعي بلفظ الترجمة فقط، والديلمي أيضا بلفظ: ((الواعد بالعدة مثل الدين أو أشد)) أي وعد الواعد، وفي لفظ له ((عدة المؤمن دين، وعدة المؤمن كالأخذ باليد)) ، وللطبراني في الأوسط عن قباش بن أشيم الليثي مرفوعا: ((العدة عطية)) ، وللخرائطي في المكارم عن الحسن البصري مرسلا: ((أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم تجده عنده، فقالت: عدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العدة عطية ")) وهو في مراسيل أبي داود، وكذا في الصمت لابن أبي الدنيا عن الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العدة عطية)) ، وفي رواية لهما عن الحسن أنه قال: ((سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فقال: " ما عندي ما أعطيك " قال: عدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العدة واجبة)) قال في المقاصد بعد ذكر الحديث وطرقه: وقد أفردته مع ما يلائمه بجزء – انتهى منه، وقد علم في الجامع الصغير على الحديث من رواية علي عند الديلمي في مسند الفردوس بالضعف.(5/638)
وقال شارحه المناوي: وفيه دارم بن قبيصة، قال الذهبي: لا يعرف اهـ. ولكن قد مر لك أن طرقه متعددة، وقد روى عن غير علي من الصحابة كما قدمنا روايته عن ابن مسعود، وقباش بن أشيم الكناني الليثي رضي الله عنهما.
وسيأتي في هذا المبحث إن شاء الله أحاديث صحيحة، دالة على الوفاء بالوعد.
واحتج من قال: بأن الوعد لا يلزم الوفاء به بالإجماع - على أن من وعد رجلا بمال إذا فلس الواعد لا يضرب الموعود بالوعد مع الغرماء، ولا يكون مثل ديونهم اللازمة بغير الوعد، حكى الإجماع على هذا ابن عبد البر، كما نقله عنه القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة، وفيه مناقشة وحجة من فرق بين إدخاله إياه في ورطة بالوعد فيلزم وبين عدم إدخاله إياه فيها فلا يلزم - أنه إذا أدخله في ورطة بالوعد ثم رجع في الوعد وتركه في الورطة التي أدخله فيها؛ فقد أضر به، وليس للمسلم أن يضر بأخيه؛ لحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) .
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال مالك: إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له: نعم، ثم يبدو له ألا يفعل، فما أرى يلزمه، قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه يلزمه إذا شهد عليه اثنان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزم منها شيء؛ لأنها منافع لم يقبضها في العارية؛ لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها، وفي البخاري: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (1) وقضى ابن أشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب، قال البخاري: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع اهـ كلام القرطبي، وكلام البخاري الذي ذكر القرطبي بعضه هو قوله في آخر كتاب " الشهادات ": باب من أمر بإنجاز الوعد وفعله الحسن {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (2) وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة، وقال المسور بن مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر صهرا له، قال وعدني فوفى لي، قال أبو عبد الله ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع: حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله: أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره.
__________
(1) مريم: آية (54)
(2) في البخاري ج/ 3 ص 180 طبع بولاق " وفعله الحسن، وذكر إسماعيل إنه كان صادق الوعد"(5/639)
قال: أخبرني أبو سفيان: أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم؛ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف)) . حدثنا إبراهيم ابن موسى، أخبرنا هشام عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: ((لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء ابن الحضرمي فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قبله عدة فليأتنا، قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا. فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة،.)) حدثنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير: قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس، قال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل – انتهى من صحيح البخاري – وقوله في ترجمة الباب المذكور " وفعله الحسن " يعني الأمر بإنجاز الوعد. ووجه احتجاجه بآية " إنه كان صادق الوعد " أن الثناء عليه بصدق الوعد يفهم منه أن إخلافه مذموم فاعله؛ فلا يجوز، وابن الأشوع المذكور هو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي، كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وقد وقع بيان روايته المذكورة عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه وهو إسحاق بن إبراهيم الذي ذكر البخاري أنه رآه يحتج بحديث ابن أشوع؛ كما قال ابن حجر في " الفتح "، والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد.(5/640)
وصهر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى عليه بوفائه له بالوعد هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسره المسلمون يوم بدر كافرا، وقد وعده برد ابنته زينب إليه وردها إليه، خلافا لمن زعم أن الصهر المذكور أبو بكر رضي الله عنه، وقد ذكر البخاري في الباب أربعة أحاديث في كل واحد منها دليل على الوفاء بإنجاز الوعد.
الأول – حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل وهو طرف من حديث صحيح مشهور، ووجه الدلالة منه في قوله: " فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة" فإن جميع المذكورات في هذا الحديث مع الوفاء بالعهد كلها واجبة، وهي الصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة، وقد ذكر بعد ذلك أن هذه الأمور صفة نبي والاقتداء بالأنبياء واجب.
الثاني- حديث أبي هريرة في آية المنافق. ومحل الدليل منه قوله ((وإذا وعد أخلف)) فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسم بسمات المنافقين.
الثالث – حديث جابر في قصته مع أبي بكر، ووجه الدلالة منه أن أبا بكر قال: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة.. الحديث.
فجعل العدة كالدين، وأنجز لجابر ما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من المال. فدل ذلك على الوجوب.
الرابع – حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى، ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل، فعلى المؤمنين الاقتداء بالرسل، وأن يفعلوا إذا قالوا، وفي الاستدلال بهذه الأحاديث مناقشات من المخالفين. ومن أقوى الأدلة في الوفاء بالعهد قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) ؛ لأن المقت الكبير من الله على عدم الوفاء بالقول يدل على التحريم الشديد في عدم الوفاء به، وقال ابن حجر في " الفتح" في الكلام على ترجمة الباب المذكور وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض؛ لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به من الغرماء اهـ.
ونقل الإجماع في ذلك مردود؛ فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر وابن العربي أجل من قال به عمر بن العزيز: انتهى محل الغرض من كلام الحافظ في الفتح. وقال أيضا: وخرج بعضهم الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في الهبة، هل تملك بالقبض أو قبله؟
فإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وما استدل به كل فريق منهم- فاعلم أن الذي يظهر لي في هذه المسألة - والله تعالى أعلم - أن إخلاف الوعد لا يجوز؛ لكونه من علامات المنافقين، ولأن الله يقول: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: آية (3) ] ، وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبرًا بل يؤمر به ولا يجبر عليه؛ لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به؛ لأنه وعد بمعروف محض، والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) الصف: آية (3)(5/641)
5- وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في فتاواه ص395 قال في الإقناع وشرحه عن الرعاية: ولو قال لزيد: طلق زوجتك وعلي ألف أو مهرها. فطلقها لزمه ذلك بالطلاق، ولو قال: بع عبدك من زيد بمائة وعلي مائة أخرى لم يلزمه شيء، والفرق أن ليس في الثاني إتلاف بخلاف الأول، اهـ.
أقول: وفي هذا الفرق نظر فإنه إنما اختار بيعه بمائة لضمان المائة الأخرى فكأنه لم يرض ببيعه إلا بمائتين، والذي تقتضيه القواعد استواء المسألتين في الضمان، اهـ.
6- وقال رحمه الله في فتاواه ص 375 ما نصه:
مرادهم بقولهم " الحال لا يتأجل " أنه إذا حل عليه دين فرضي بتأجيله بعد حلوله أنه وعد لا يجب عليه الوفاء به بل ليس له الوفاء به، ولو شرط على نفسه ذلك لم يلزمه وليس له مأخذ غير ما عللوه به، ومأخذ القائلين بتأجيله بعد حلوله إذا رضي صاحب الحق أولى فإن الشارع أمر بالوفاء بالوعود والعهود، وذم المخالفين للوعد وأخبر أنه من نعوت المنافقين، وهذا القول هو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد واختاره الشيخ وجملة من الأصحاب- إلى أن قال- والصواب أن القرض والعارية والديون الحالة تلزم بالتأجيل ولا يطالب صاحبها قبل حلول الأجل اهـ.
7- وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته على الروض المربع جـ5 ص 40 على قول الزاد: بل ثبت بدله بذمته أي ذمة المقترض حالا ولو أجله المقرض، ما نصه قضية تشبيهه بالصرف عدم جواز التأجيل في القرض وعنه صحة تأجيله ولزومه إلى أجله وهو مذهب مالك وصوبه في الإنصاف، وقال الشيخ تقي الدين: الحال يتأجل بتأجيله سواء كان الدين قرضا أو غيره لقوله: المسلمون على شروطهم. وقال ابن القيم: هو الصحيح لأدلة كثيرة اهـ.
وقال على قول الزاد: قال الإمام: القرض حال وينبغي أن يفي بوعده؛ لأن الوفاء بالوعد مستحب. واختار الشيخ لزومه إلى أَجَلٍ، وفي الإنصاف: اختار الشيخ صحة تأجيله ولزومه إلى أجله سواء كان قرضا أو غيره، وذكره وجها وهو الصواب ومذهب مالك والليث وذكره البخاري عن بعض السلف اهـ.(5/642)
8- وقال ابن القيم في إعلام الموقعين جـ 3 ص 445 ما نصه:
المثال الحادي والثلاثون: اختلف الناس في تأجيل القرض والعارية إذا أجلها، فقال الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وأبو حنيفة: لا يتأجل شيء من ذلك بالتأجيل وله المطالبة به متى شاء. وقال مالك: يتأجل بتأجيل، فإن أطلق ولم يؤجل ضرب له (أجل مثله) وهذا هو الصحيح لأدلة كثيرة مذكورة في موضعها اهـ.
9- قول الأستاذ الكبير مصطفى أحمد الزرقا في كتابه المدخل الجزء الثاني ص 1023 - 1024 تفريعا على قاعدة المعلق بالشرط يجب ثبوته عند ثبوت الشرط ما نصه: المواعيد بصورة التعاليق تكون لازمة:
الأصل في الوعد أنه لا يلزم صاحبه قضاء وإن كان الوفاء به مطلوبا ديانة ...
فلو وعد شخص آخر بقرض أو بيع أو بهبة أو بفسخ أو بإبراء أو بأي عمل حقوقي آخر لا ينشأ بذلك حق للموعود فليس له أن يجبره على تنفيذه بقوة القضاء، غير أن الفقهاء الحنفيين لحظوا أن الوعد إذا صدر معلقا على شرط فإنه يخرج عن معنى الوعد المجرد، ويكتسي ثوب الالتزام والتعهد فيصبح عندئذ ملزما لصاحبه (شرح العلامة علي حيدر على المجلة) ، وذلك فيما يظهر اجتنابا لتغرير الموعود بعدما خرج الوعد مخرج التعهد، وقد قال ابن نجيم في الحظر والإباحة من الأشباه جـ 2 ص 110 لا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقا. وعلى هذا قرر الفقهاء أنه لو قال شخص لآخر: بع هذا الشيء من فلان وإذا لم يعطك فأنا أعطيكه. فلم يعطه المشتري الثمن بعد المطالبة التزم القائلُ، وكذا لو باع شيئا بغبن فاحش فقال المشتري للبائع المغبون: إذا رددت إلي الثمن فسخت لك البيع. كان هذا الوعد ملزما ويصبح البيع كبيع الوفاء الذي هو في معنى الرهن - إلى أن قال – وفي الاجتهاد المالكي أربعة آراء فقهية حول لزوم الوعد وعدم لزومه قضاء، والمشهور من هذه الآراء أنه يعتبر الوعد بالعقد ملزما للواعد قضاء إذا ذكر فيه سبب ودخل الموعود تحت التزام مالي بمباشرة ذلك السبب بناء على الوعد، وذلك كما لو وعد شخصٌ آخرَ بأن يقرضه مبلغا من المال بسبب عزمه على الزواج ليدفعه مهرا أو ليشتري به بضاعة، فتزوج الموعود أو اشترى البضاعة ثم نكل الواعد عن القرض، فإنه يجبر قضاء على تنفيذ وعده (الفروق للقرافي جـ4 ص24 – 25 ورسالة الالتزام للحطاب وهي منشورة في الجزء الأول من فتاوى الشيخ عليش، بحث مسائل الالتزام) وهذا وجيه جدا فإنه بنى الالتزام على فكرة دفع الضرر الحاصل فعلا للموعود من تغرير الواعد، فهو أوجه من الاجتهاد الحنفي الذي بنى الالتزام على الصور اللفظية للوعد هل هي تعليقية أو غير تعليقية، فإن التعليق وعدمه لا يغير شيئا من حقيقة الوعد اهـ. وجاء في حاشية المدخل للزرقا قوله: وقال أصبغ من فقهاء المالكية: يكفي للإلزام بالوعد ذكر السبب من زواج أو بناء أو غيرهما ولو لم يباشره الموعود اهـ.(5/643)
10- ونظرا إلى أن جمهور القائلين بالإلزام بالوعد على تفصيل بينهم، هم فقهاء المذهب المالكي، ولقد كتب أبو عبد الله محمد عليش في الموضوع بحثا قيما مستفيضا تكلم فيه عن الوعد وأقسامه، وحكم كل قسم مستعرضا في ذلك نصوص فقهاء مذهبه - المذهب المالكي - وذلك في كتابه فتح العلي المالك المشهور فتاوى عليش وذلك في الجزء الأول ص 254- 258 رأيت أن هذا البحث مجز عن استعراض أقوال فقهاء المذهب المالكي وعليه فقد جرى مني نقله بكامله وجعله بعضا من هذه النقول في المسألة: قال أبو عبد الله محمد أحمد عليش المتوفى 1299 رحمه الله في كتابه فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك ما نصه:
(تنبيه) يجب الوفاء بنذر العتق وإن لم يكن في ملك الناذر حينئذ ما يعتقه، قال في كتاب النذور من المدونة فيمن نذر عتق رقبة فلم يستطعها: إن الصوم لا يجزئه فهذا يدل على أنه يلزم الوفاء به، وإن لم يكن في ملكه من يعتقه، وقال في رسم العبرة من سماع يحيى من كتاب العتق في رجل جعل على نفسه رقبة من ولد إسماعيل، قال مالك: ليعتق رقبة، قيل له: أيجزئه رقبة من الذبح؟ قال: ليعتق رقبة أقرب الرقاب إلى ولد إسماعيل، قال ابن رشد: وهذا كما قال؛ لأن للشريف في النسب حرمة توجب التنافس في العبيد من أجلها وكزيادة في ثمنها والأجر على قدر ذلك اهـ.
(فصل) وأما العدة فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئا الآن وإنما هي كما قال ابن عرفة: إخبار عن إنشاء المخبر معروفًا في المستقبل، ولا خلاف في استحباب الوفاء بالوعد. وقد قال مالك في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب الحج ومن كتاب العدة فيمن هلك وعليه مشي إلى بيت الله عز وجل فسأل ابنه أن يمشي عنه فوعده بذلك، فقال مالك: أما إذا وعد فإني أحب له أن لو فعل ذلك، ولكن ما ذلك رأي أو يمشي أحد عن أحد، ولكني أحب له إذا وعده أن يفعل ذلك. قال ابن رشد: المعنى في هذه المسألة أن مالكا استحب له أن يفي لأبيه بما وعده به من المشي عنه وإن كان ذلك عنده لا قربة فيه من ناحية استحباب الوفاء بالوعد في الجائزات التي لا قربة فيها. اهـ.(5/644)
فالوفاء بالعدة مطلوب بلا خلاف واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع، وفي كتاب العارية، وفي كتاب العدة ونقلها عنه غير واحد فقيل: يقضى بها مطلقا، وقيل: لا يقضى بها مطلقا، وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء كقولك: أريد أن أتزوج أو أن أشتري كذا أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا، أو أريد أن أركب غدا إلى مكان كذا فأعرني دابتك، أو أن أحرث أرضي فأعرني بقرك، فقال: نعم، ثم بدا له قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به فإن لم يترك الأمر الذي وعدك عليه وكذا لو لم تسأله، وقال لك هو من نفسه: أنا أسلفك كذا لتقضي دينك أو لتتزوج أو نحو ذلك، فإن ذلك يلزمه ويقضى به عليه، ولا يقضى بها إن كانت على غير سبب كما إذا قلت: أسلفني كذا ولم تذكر سببا أو: أعرني دابتك أو بقرك ولم تذكر سفرا ولا حاجة، فقال: نعم، ثم بدا له أو قال هو من نفسه: أنا أسلفك كذا أو: أهب لك كذا، ولم يذكر سببا ثم بدا له والراجح يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء، وهذا هو المشهور من الأقوال، قال في آخر الرسم الأول من سماع أصبغ من جامع البيوع قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن رجل اشترى من رجل كرما فخاف الوضيعة، فأتى ليستوضعه، فقال له: بع وأنا أرضيك، قال: إن باع برأس ماله أو بربح فلا شيء عليه، وإن باع بالوضيعة كان عليه أن يرضيه، فإن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد، وإن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف بالله ما أراد أكثر من ذلك إن لم يكن أراد شيئًا يوم قال ذلك: قال أصبغ.. وسألت عنها ابن وهب فقال: عليه رضاه بما يشبه ثمن تلك السلعة والوضيعة فيها قال أصبغ: قول ابن وهب هو أحسن عندي وهو أحب إلي إذا وضع فيها، قال محمد بن رشد: قوله بع وأنا أرضيك عدة إلا أنها عدة على سبب وهو البيع، والعدة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال، وقد قيل: إنها لا تلزم بحال، وقيل: إنها تلزم على كل حال، وقيل: إنها تلزم إذا كانت على سبب وإن لم يحصل السبب. وقول أشهب: إن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد يريد مع يمينه ومعناه إذا لم يسم شيئا يسيرا لا يشبه أن يكون أرضاه، والدليل على أنه يحلف على مذهبه إذا قال: أردت كذا وكذا لما يشبه قوله إنه إن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف أنه ما أراد أكثر من ذلك، وجوابه هذا على أصله في كثير من مسائله إذ لا يؤخذ بأكثر مما يقر به على نفسه، واليمين في هذا يمين تهمة؛ إذ لا يمكن المستوضع أن يدعي بينة فيحقق الدعوى عليه بخلاف ما ذكر أنه أراده فيدخل فيها من الخلاف ما يدخل في يمين التهمة، وأما ابن وهب فأخذه بمقتضى ظاهر لفظه وألزمه إرضاءه إلا أن لا يرضى بما يقول الناس فيه أنه أرضاه، فلا يصدق إن لم يرض ويؤخذ بما يقول الناس فيه أنه أرضاه، هذا معنى ولو حلف ليرضيه لم يبر إلا باجتماع الوجهين وهما أن يضع عنه ما يرضى به وما تقول الناس فيه أنه أرضاه وقد مضى ما يدل على هذا في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النذور في الحلف ليرضين غريمه من حقه اهـ.(5/645)
قلت: وهذا القول الذي شهره ابن رشد في القضاء بالعدة إذا دخل بسببها في شيء قال الشيخ أبو الحسن في أول كتاب الأول وفي كتاب الغرر: إنه مذهب المدونة لقولها في آخر كتاب الغرر: وإن قال: اشتر عبد فلان وأنا أعينك بألف درهم فاشتراه لزمه ذلك الوعد اهـ. وهو قول ابن القاسم في سماعه من كتاب العارية وقول سحنون في كتاب العدة ونصه في سماع عيسى: قلت لسحنون: ما الذي يلزم من العدة في السلف والعارية قال: ذلك أن يقول الرجل للرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، وعزاه له ابن رشد في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب العارية، وقال القرافي في الفروق الرابع عشر بعد المائتين قال سحنون: الذي يلزم من الوعد اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنى به أو: اخرج إلى الحج وأنا أسلفك أو اشتر سلعة أو تزوج امرأة وأنا أسلفك؛ لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به بل الوفاء به من مكارم الأخلاق اهـ.
وقال اللخمي في كتاب الشفعة لها ذكر حجة مقابل المشهور القائل بلزوم إسقاط الشفعة قبل الشراء ما نصه: ولو قال له: اشتر هذا الشقص والثمن علي، فاشتراه لزم أن يغرم الثمن الذي اشتراه به؛ لأنه أدخله في الشراء وهذا قول مالك وابن القاسم اهـ.
والقول بأنه يقضي بها إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببها في شيء هو قول أصبغ في كتاب العدة وقول مالك في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم وهو قوي أيضا، والقول بعدم القضاء بها مطلقا في سماع أشهب من كتاب العارية والقول بالقضاء بها مطلقا لم يعزه ابن رشد، وهذان القولان ضعيفان جدا والله أعلم.
(فرع) إذا قال له: إن غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضهم، فقال: نعم ثم بدا له فقال أصبغ من سماع عيسى من كتاب العدة: يلزمه ذلك، ويحكم عليه به وهو جار على قوله: بلزوم العدة إذا كانت على سبب ولم يدخل بسببها في شيء، وقال ابن القاسم: إنما يلزمه إذا اعتقد الغرماء منه على موعد أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه وذلك على أصله من أنه لا يقضي بالعدة إلا إذا دخل بسببها في شيء، ولو قال: أشهدكم أني فاعل أو أفعل فظاهر كلام مالك في سماع ابن القاسم من العارية أنه تردد في الحكم عليه بذلك، وأن الظاهر اللزوم. قال ابن رشد ولو قال: أشهدكم أني قد فعلت لما وقف في إيجابه عليه ولزوم القضاء به اهـ.
(فرع) قال في سماع أشهب من كتاب العارية فيمن حلف ليوفين غريمه إلى أجل، فلما خشى الحنث ذكر ذلك الرجل فقال: لا تخف ائتين هذه العشية أعطيكها، فلما كان العشي جاءه فأبى أن يعطيه فقال له: أغررتنى حتى خفت أن يدخل علي الطلاق أقراه له لازما، فقال له: لا والله ما أرى ذلك لازما له وما هو من مكارم الأخلاق ولا محاسنها قال ابن رشد قد قيل إنه يلزمه وهو الأظهر؛ لأنه غره ومنعه أن يحتال لنفسه بما يبر به من سلف أو غيره اهـ.
قلت فالقول الأول مبني على أن العدة لا يقضى بها ولو كانت على سبب ودخل في السبب وقد تقدم أنه في سماع أشهب من العارية، والثاني مبني على أنه يقضي بها إذا كانت على سبب وعلى المشهور أيضا؛ لأنه قد أدخله بسبب العدة في عدم الاحتيال لنفسه حتى خشي الحنث والله تعالى أعلم.(5/646)
(تنبيه) وأما الفرق بين ما يدل على الالتزام وما يدل على العدة فالمرجع فيه إنما هو إلى ما يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال بحيث دل الكلام على الالتزام ولهذا قال الشيخ خليل في مختصره في باب الخلع: ولزمت البينونة إن قال: إن أعطيتني ألف فارقتك أو أفارقك إن فهم الالتزام أو الوعد إن ورطها فالشرط في قوله إن ورطها راجع إلى الوعد قال في التوضيح كما لو باعت قماشا أو كسرت حليها والله تعالى أعلم، ولا يفرق بين العدة والالتزام بصيغة الماضي والمضارع كما قد يتبادر للفهم من كلام ابن رشد في رسم حلف من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق وسيأتي في الباب الثالث إن شاء الله تعالى ذكره بتمامه فإن الالتزام قد يكون بصيغة المضارع إذا دلت القرائن عليه كما يفهم من كلام الشيخ خليل الماضي في مسألة الخلع ومن كلام ابن رشد المتقدم قريبا من كلام أصبغ الآتي في الفرع بعد هذا نعم صيغة الماضي دالة على الالتزام وإنفاذ العطية والظاهر من صيغة المضارع الوعد إلا أن تدل قرينة على الالتزام كما يفهم من كلام ابن رشد فتأمله والله تعالى أعلم.
(فرع) قال أصبغ في سماع عيسى من كتاب العدة لو سألك مديان أن تؤخره إلى أجل كذا وكذا فقلت أؤخرك لزمك تأخيره إلى الأجل، قلت: سواء قلت أنا أؤخرك أو قد أخرتك قال: نعم سواء في الحكم عليك غير أن قولك أنا أؤخرك عدة تلزمك وقولك قد أخرتك شيء واجب عليك كأنه من أصل حقك لم تبتدئه الساعة وكلاهما يلزمك الحكم به غير أن قولك قد أخرتك أوجبهما وأوكدهما. اهـ. ونقل هذا في الذخيرة واقتصر عليه وهو جار على قول أصبغ في القضاء بالعدة إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببه في شيء وأما على المشهور فإنما يلزمه في قوله: أؤخرك إذا ورطه بذلك أو تدل قرينة على أنه أراد التأخير لا الوعد به فتأمله وهو يبين لك ما ذكرته من أن صيغة الماضي دالة على الالتزام، وصيغة المضارع إنما تدل عليه مع قرينة، ولم يتكلم ابن رشد على هذه المسألة بشيء بل قال: مضى تحصيل فيها سماع ابن القاسم من كتاب العارية ويشير إلى ما تقدم من الأقوال الأربعة في القضاء بالعدة.(5/647)
(فرع) قال في رسم حلف ليفعلن من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح: سئل مالك عن رجل كانت تحته امرأة فخطب أختها لابنه فقالت له عمتها: على صداق أختها فقال: لن أقصر بها إن شاء الله تعالى، فزوجوه، ثم إن الابن طلقها قال: أيقر هو بذلك؟ قال: نعم، قد قلت هذا القول ووعدتهم ولم أوجب على نفسي صداقا فرأيته يراه عليه وقال مرة فيصطلحوا وكأنه يراه عليه تشبيها، ويجاب ولم يبينه، قال ابن القاسم: أرى ذلك عليه إذا زوجوه على ذلك كأنه إنما تزوج على المكافأة، قال سحنون مثله، قال محمد بن رشد: أما إذا كان قولهم قد زوجناك جوابا لقوله لن أقصر عن صداق أختها فبين أن ذلك يلزمه كما قال ابن القاسم لأنه بمنزلة أن لو قالوا له نزوجك على أن لا تقصر عن صداق أختها وأما إن انقطع ما بين الكلامين فالأمر محتمل والأظهر إيجاب ذلك عليه كما ذهب إليه مالك وإن كان لم يبينه لأن ذلك أقوى من العدة الخارجة على سبب وفي التفسير ليحيى عن ابن القاسم أنه يحلف أنه ما أراد إيجاب ذلك على نفسه ولا يلزمه شيء فإن لكل غرم نصف الصداق ووجه ذلك أنه رأى قوله لن أقصر بها إن شاء الله عدة لا تلزم فلم يلزمه شيء إذا حلف أنه لم يرد إيجاب ذلك على نفسه وحلف بالتهمة دون تحقيق الدعوى ولذلك لم ترد اليمين وذلك فقوله على القول بلحوق يمين التهمة وأنها لا ترجع وقد اختلف في الوجهين. انتهى والله تعالى أعلم.
11- وفي الفروق للقرافي في الفرق الرابع عشر بعد المائتين بحث مستفيض في مسألة الوعد وحكم الإلزام به وحاشية الشاطر عليه وتعقبه بعض آرائه في المسألة ورده عليه وحيث إن البحث قد لا يخرج عما ذكره الشيخ عليش رحمه الله فقد رأيت الاكتفاء بلفت النظر إليه لمن يرغب الاستزادة من كلام أهل العلم دون نقله.(5/648)
12- ولقد سعدت بقراءة بحث قيم للدكتور يوسف القرضاوي عن المرابحة والرد على من يعترض على إجازتها وقد كان في رده بحث عن الوعد وحكم الإلزام به استعرض كثيرا من نصوص القائلين وظهر لي أنه من أجل البحوث في هذه المسألة فرأيت جعله جزءا من هذه النقول ونظرا لطوله فقد اعتبرته بحثا مستقلا وقدمت صورته لأمانة المجمع للتكرم بتصويره وتوزيعه على الإخوة المشاركين في هذه الدورة المباركة.
وهناك توجيه للقائلين بلزوم الوعد وهو أن من الوعد النذر والنذر عرفه بعض أهل العلم بأنه إيجاب طاعة غير واجبة وقد أجمع أهل العلم على وجوب الوفاء على الناذر إذا كان في طاعة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)) . فإذا كان النذر ضربا من الوعد وهو حق لله تعالى وحقوق الله تعالى على عباده مبنية على التسامح والاتساع ومع ذلك فقد أجمع أهل العلم على لزومه ووجوب الوفاء به بشرطه فإن القول بوجوب الوفاء بالوعد علي العبد من باب أولى فإن حقوق العباد مبناها على المشاحة والمضايقة لا سيما إذا ترتب على الوعد التزام من الموعود أثر الوعد فإن في إخلاف الوعد ضررا على الموعود وقد قال صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) .
ولا يخفى أن من حقوق الله الحدود وهي تدرأ بالشبهات ولا تدخلها الأيمان ويقبل من المقر بها الرجوع عن إقراره بخلاف حقوق العباد فإذا كان حق الله في النذر واجب الوفاء وهو في حقيقته وعد فحق العبد على أخيه الوفاء بوعده ولزوم وفائه متجه كاتجاه لزوم العبد وفاءه بنذره. وقد يرد علي هذا التوجيه بأن حق الله أولى فحق الله على عباده ليس كحقوق بعضهم على بعض لاسيما إذا كان من باب التبرع والالتزام بما لا يلزم. والله ولي التوفيق وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع(5/649)
الوفاء بالوعد في الفقه الإسلامي
بقلم
الشيخ هارون خليف جيلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الوفاء بالوعد
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين. وعلى آله الأطهار وأصحابه الأوفياء.
وبعد: فقد يلزم الإنسان نفسه بالتزامات تبرعية، ويطلب منه الوفاء مستقبلًا، لأن الحياة العملية للأفراد والجماعات اقتضت ذلك، لأن الفرد عضو من أعضاء مجتمعه، لابد له من رابط أو روابط بينه وبين المجتمع، فمنها روابط اجتماعية واقتصادية.
فالعقود المتنوعة صور معروفة وشائعة بين أفراد المجتمع، فيتولد عنها التزامات ينبغي الوفاء بها.
ومن مظاهر المجتمع المدني والريفي التزامات أفراده بالوعود والعهود المختلفة، فقديمًا أخذ الإنسان يعد لأخيه الآخر ما سيعود نفعه إليهما.
والوعد يحقق معروفا لإنسان من طرف إنسان آخر. فإذًا هو أمر مشروع لإصلاح المجتمع والفرد، فلا شك أن يكون لوفائه وإنجازه أثر بليغ في العلاقات الاجتماعية إيجابيًا أو سلبيا.
وهي غالبا ما تنشأ عنها التزامات مالية، فالبحث فيها مفيد جدًا.
فلذا أقلب صفحات كتب الفقهاء حسبما تسنح لي الفرصة عسى أن أجد شيئا يمكن تناوله في صفحات قليلة، وأستمد من المولى العلي القدير العون والهداية والتوفيق والسداد، إنه قريب مجيب.(5/650)
المبحث الأول: تعريف الوعد لغة واصطلاحًا:
أ- تعريفه في اللغة: إن كلمة الوعد مصدر وعد يعد – بالكسر – وعدا وعدة، وموعودًا وموعدًا وموعدةً، ولها صيغ أخرى: كأوعد إيعادًا، وواعد مواعدة. واتعد اتعادًا، وتوعد توعدا.. وهذا من حيث الاشتقاق، أما من حيث المعنى اللغوي: فلم أر – فيما اطلعت فيه من كتب اللغة – من تعرض إلى تحديد المعنى الأصلي للفظة الوعد- إن لم تخن الذاكرة -، لكنهم قالوا (وعد الفحل – أي هدر.. ووعدت الأرض – أي رجي خيرها) ، ولعل هذا المعنى هو المعنى الأصلي لكلمة الوعد. ولكنهم تكلموا عن المعاني المختلفة كثيرا.
قال ابن سيده: يقال: وعده الأمر، وبه عدة ووعدا وموعدا وموعودا وموعدة. وهو من المصادر التي جاءت على مفعول ومفعلة ومفعولة، وقد تواعد القوم واتعدوا، وواعدوا الوقت والموضع. وواعده فوعده، وأوعده وتوعد.
وقال الفراء: يقال: وعدته خيرا ووعدته شرًا بإسقاط الألف – أي سأنيله إياه- وقال: فإذا أسقطوا الخير والشر، وقالوا في الخير: وعدته، وفي الشر: أوعدته، ويقال في الخير الوعد والعدة، وفي الشرر: الإيعاد والوعيد.
وفي الصحاح: تواعد القوم: أي وعد بعضهم بعضا هذا في الخير وأما في الشر: فيقال: اتعدوا.
وخلاصة القول: إن الوعد يتعدى بنفسه إلى المفعول الثاني، وبالباء واللام أيضا. وأنه يستعمل في الخير والشر كما في مختار الصحاح وغيره. إذ هو شائع فيهما- كما هو الواضح وذكره البيضاوي في تفسيره وورد ذكرهما في القرآن الكريم بكثرة {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة 268] {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج 72] .
وأن الوعد يستعمل في الخير أكثر من الشر، كما في التفسير الوسيط وأن الوعد والعدة يستعملان في الخير، والإيعاد والوعيد في الشر فالمصدر هو الفارق لذا قال ابن النفيس في الياقوت " صرح أئمة اللغة: بأن الوعد يستعمل في الخير والشر مقيدا.. وأما عند الإطلاق: فيستعمل الوعد في الخير والإيعاد في الشر ".
وإن صيغ الوعد اللغوية أكثرها واردة في الكتاب والسنة.
فمنها: المواعدة التي في قوله تعالى {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51]
وقوله تعالى {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة 235] .
ومنها: التوعد الوارد في قوله تعالى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأعراف: 86] .(5/651)
ومنها: التواعد الوارد في قوله: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الانفال 42] منها الموعدة الواردة في قوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة 114] .
ومنها: العدة التي في الحديث المتفق عليه عن جابر بن عبد الله في ما شأن وعده النبي صلى الله عليه وسلم ووفى له أبو بكر بعد وفاة النبي حيث: " إن أبا بكر أمر مناديًا، فنادى من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتنا ... ".
ومنها: الإيعاد الوارد في الحديث الشريف: " إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ".
ولكن الأكثر في ألسنة الفقهاء لا سيما فقهاء المالكية " الوعد والعدة والمواعدة ". وفي كتب اللغة أن العدة معناها اللغوي هو الوعد بعينه فيقال وعد فلان فلانا كذا وكذا أو بكذا وكذا والاسم منه العدة فالعدة إذا هي اسم منقوص من الوعد فيحمل معناه بلا زيادة ولا نقصان، وأن معنى المواعدة في اللغة إنشاء وعدين متقابلين من شخصين أو أكثر، كأن يعد عمر لعلي بأنه سيفعل له كذا وكذا، فيعد علي لعمر عقب وعده بأنه سيؤدي له كذا وكذا في مقابلة ذلك.
وأن معنى الوعد اللغوي هو الإخبار عن فعل أمر في المستقبل خيرًا كان أو شرًا، بخلاف الوعيد فإنه لا يكون إلا بالشر، وقيل معناهما واحد.
ب- أما تعريف الوعد في الاصطلاح الفقهي: فقد قال ابن عرفة المالكي العدة إخبار عن إنشاء المخبر معروفًا في المستقبل.
وقد قيل: إن فقهاء المالكية اعتادوا في اصطلاحهم حول كلمة العدة خاصة: أنها "الإعلان عن رغبة الواعد في إنشاء معروف في المستقبل يعود بالفائدة على الموعود له".(5/652)
وقال الفقيه الحنفي العيني، كما في عمدة القاري: الوعد هو الإخبار بإيصال الخير في المستقبل، والإخلاف جعل الوعد خلافًا، وقيل عدم الوفاء به وفي مواهب الجليل ما معناه أن المواعدة في الاصطلاح الفقهي –أي المالكية وفقهائهم هم الذين يتكلمون في موضوع الوعد أكثر من غيرهم من الفقهاء- هي إعلان شخصين عن رغبتهما في إنشاء عقد في المستقبل تعود آثاره عليهما.
وقال الحطاب –وهو من فقهائهم المعتمدين- " المواعدة: أن يعد كل واحد منهما صاحبه بالتزويج- مثلًا- فهي مفاعلة لا تكون إلا من اثنين، وإن وعد أحدهما دون الآخر فهي العدة.
فالتعريف الاصطلاحي للوعد والعدة والمواعدة: قد اعتمد التعريف اللغوي السابق، فقرر الفقهاء الوعد والمواعدة والعدة التي هي للخير واستبعدوا الوعيد والإيعاد اللذين هما لشر فالوعد لابد أن يكون بمعروف فإذا كان الوعد بشر فلا يجب الوفاء به، إن يكن محرمًا. كما قاله العسقلاني في الفتح.
جـ- هناك عقود قد تشاكل الوعد من حيث الشكل والحكم والوفاء من أهمها: العهد، والنذر، والجعالة، والهبة.
فقالوا للفرق بين الوعد والنذر: أن زمن الوفاء بهما في المستقبل فيتشابهان من ذلك الوجه وكذلك الوفاء في بعض الحالات، لكن تلك المشابهة لا تمنع وجود الفرق بينهما فالنذر وإن كان فيه معنى الوعد فيه القربة إلى الله وحده، وفي عدم الوفاء به كفارة بخلاف الوعد. ولذا عرف كل من الروياني والماوردي الشافعيين النذر " بأنه: الوعد بخير خاصة، وعند غيرهما: التزام قربة لم تتعين.
وقالوا للفرق بين الوعد والعهد: إن العهد في اللغة الأمان واليمين والموثق والذمة والحفاظ والوصية فتقول: عهد الله على لأفعلن كذا وكذا. أما معنى الوعد في اللغة فهو ما أسلفناه. ولهذا قيل للتفريق بين الوعد والعهد: إن العهد يكون ويراد به ما تعبد الله به العبد من أمور الدين، أو ما يكون بين العباد مما يكون بخلفه إتلاف مال أو نفس أو إدخال ضرر كبير، أما الوعد: فهو فيما لا يتعلق به حق لمخلوق، وكان خلفه كالساهي، أو ما لا يؤدي إخلافه إلى ضرر كبير – فقالوا- فمن نقض عهده – من غير عذر شرعي فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب يستحق به الهلاك.. ومن أخلف وعده كان آثما ولكنه لا يبلغ فاعله إلى الكفر والهلاك.
هذا، وقد ذكر العسقلاني في الفتح: أنه قد يتحد معناهما ولعل دليل اتحادهما ما في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة 75- 77]
إذ بدأ الله بقوله {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} فلما أخلفوا رتب عليهم ما رتب عليهم من النفاق الأبدي ثم علله الله بقوله {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ}(5/653)
وقيل: (إن العهد هو الوصية والوعد الموثق) ففي " التفسير الوسيط" الذي اشترك في تأليفه نخبة من العلماء المعاصرين تحت قوله تعالى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة. 4] العهد هو الوصية والموعد الوثق.
وفي تفسير " غرائب القرآن ورغائب الفرقان " تحت قوله تعالى {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة 177] المراد بالعهد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده والعمل بطاعته، فقبل العباد ذلك حيث آمنوا بالأنبياء والكتب، ويندرج فيه ما يلتزمه المكلف ابتداء من تلقاء نفسه مما يكون بينه وبين الله كالنذور، والأيمان، أو بينه وبين رسول الله كالبيعة. أو بينه وبين الناس، سواء كان واجبا، كعقود المعاوضات أو مندوبا كالمواعيد، فلذا قال المفسرون ههنا: هم الذين إذا وعدوا أنجزوا وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا وإذا ائتمنوا أدوا وإذا قالوا صدقوا)
وفي صفوة التفاسير {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} " أي ومن يوفون بالعهد ولا يخلفون الوعود"
وقالوا في التفريق بين الوعد والجعالة: إن في الجعالة معنى المعاوضة لأن الجاعل يلتزم بفعل خير للمجعول له مقابل قيام الأخير بعمل يطلبه الجاعل مقابل الجعل، بخلاف الوعد، فإنه التزام عمل معروف لآخر بدون مقابل.
وقالوا في التفريق بين الوعد والهبة: إن الهبة في اللغة: إيصال النفع إلى الغير، وفي الشرع: تمليك العين للغير بلا عوض، وركناها: الإيجاب والقبول، لأنها عقد. فاعتبر القبول عند الشافعي ومالك وأبي حنيفة لصحتهما بخلاف الوعد فهو لا يحتاج إلى قبول أصالة، وليس عقدا عند الجمهور.(5/654)
د- صيغة الوعد لدى الفقهاء:
تكلم فقهاء المالكية عن صيغة الوعد فقد نقل عنهم ما معناه: أن العدة أن يقول الرجل مثلا: أنا أفعل كذا وكذا.. بصيغة الاستقبال. وأما إذا قال: قد فعلت كذا وكذا فهي عطية. وإن قال الواعد للموعود: لك كذا وكذا فقوله هذا أشبه بقوله قد فعلت منه بصيغة الاستقبال.
ومن هذا يفهم بأن الصيغة التي ينبغي أن يعمل بها في إنشاء الوعد هي صيغة الاستقبال المقرونة بأداة التنفيس، أما الصيغة الماضية: فهي لا تحمل إنشاء الوعد وإنما تفيد التنجيز في الحال. ومع ذلك لا يكون استعمال الفعل المضارع دائما يفيد الوعد، بل لابد لدلالته الوعد وجود القرائن في سياق اللفظ، فإذا كان الفعل المضارع والقرائن التي في سياق الكلام يفيد أن الالتزام جزما فليس بوعد، وأما إذا وجد مع المضارع ما يفيد إرادة المستقبل فإنه الوعد لا غير.
هـ- مشروعية الوعد: جاء في أحكام القرآن للجصاص: أن الوعد مباح فلكل شخص أن يعد بالمعروف والخير من يشاء من الناس، ولكن ينبغي أن يتحفظ الشخص في إطلاق الوعود للناس، لأن الوفاء بالوعد أمر مستقبل، والإنسان لا يملك معرفة أحواله المستقبلية. قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان 34] : فقد يعجز الواعد عن الوفاء، فيخلف الوعد، فيوصم بخصلة من خصال النفاق. وقال الغزالي – رحمه الله- في الإحياء " إن اللسان سباق إلى الوعد ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا. وذلك من أمارات النفاق) .
وفي " المحلى " ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة)) .
ومن هذا وغيره نعلم أن الوعد مباح إنشاؤه في أصل الشرع، وممدوح إفشاؤه بين الناس وأن الوفاء به مأمور به، وإخلافه منهي عنه ... كما سنوضحه إن شاء الله، ولكنه قد يكون محرمًا كالوعد بالخمر أو الزنا أو الربا فالوفاء بهذا ونحوه محرم.(5/655)
و من أهم التصرفات التي يدخلها الوعد ويسن الوفاء بها أو يجب على اختلاف الفقهاء فيها كما سيأتي: هي التصرفات التي تدخل تحت التبرعات كالهبة والعارية، والصدقة والقرض، وما شاكلها.
أما التصرفات التي تدخل تحت المعاوضات المالية: كالبيع والإجارة، وما شابهها، وقد ألحقوا فيها النكاح: فإن الوعد بها لا يلزم ولا يثبت، كما لا يلزم الوفاء بها.
فقد نقل عن الحطاب المالكي أنه قال: (مدلول الالتزام لغة، إلزام الشخص نفسه ما لم يكن لازما له. وهو بهذا المعنى شامل للبيع والإجارة والنكاح وسائر العقود، وأما في عرف الفقهاء: فهو إلزام الشخص نفسه شيء من المعروف مطلقا أو معلقا على شيء. فهو معنى العطية، وقد يطلق في العرف على ما هو أخص من ذلك، وهو إلزام المعروف بلفظ الالتزام. وهو الغالب ... ) .
ونقل عن الإمام مالك أنه قال: من ألزم نفسه بمعروف لزمه، فإن البيع والإجارة والنكاح لا تدخل في دائرة وإنما الواعد يأخذ عوضًا عما يعد به فهي من المعاوضات.
وإن استعمل الواعد بصيغة الاستقبال التي هي بمعنى الوعد المجرد، مثل أن يقول: - سأبيع منك هذا بمبلغ كذا، فلا ينعقد بها البيع، لأن الوعد المجرد هو في معنى المساومة في البيع، فالبيع وأمثاله من المعاوضات تعتمد جزم الإرادتين في مجلس العقد بإيجاب وقبول مفيد للبت فيه بصيغة لا تسويف فيها، فإذا انتفت دلالة الصيغة على وقوع الارتباط والتعاقد فلا عقد ولا التزام، ولذا قرر الفقهاء المعاصرون أن الوعد بالبيع ينعقد به البيع ولا يلزم صاحبه قضاءً.
وأما الوعد بعقد النكاح فلا ينعقد به النكاح قطعا، ولا يلزم الواعد الوفاء فيه بوعده لم له من الاحتياط في هذا المضمار، ولكنه قد يلزم عليه الغرامات التي لحقت الطرف الآخر بسبب ذلك الوعد. فلا إلزام في عقود المعاوضات المالية، ولا فيما ألحق بها، لأن الفقهاء قاطبة قد اتفقوا على أن طريقها الجزم.(5/656)
المبحث الثاني: في حكم الوفاء بالوعد بصفة عامة:
أ- لقد تعرفنا فيما سبق: أن معنى الوعد في اللغة هو الإخبار عن فعل أمر في المستقبل خيرا كان أو شرا.
وأن الفقهاء في اصطلاحهم يستعملون كلمة الوعد بعين مدلولها اللغوي. أو قريب منه، حيث قالوا: إن حقيقة الوعد إلزام الشخص على نفسه عملا معروفا لشخص آخر، ولو كان فيه شر له أو لثالث.
فقد يكون الوعد بمعروف: كقرض حسن، أو صدقة أو عطاء، أو إعارة شيء ذي منفعة، أو تمليك عين مجانا.
وقد يكون بمؤانسة: كزيارة صاحب، وعيادة مريض، ومرافقة في نحو سفر ومسكن.
وقد يكون الوعد وعدًا بعقد من العقود اللازمة: الوعد بعقد النكاح، كما في خطبة النساء، والبيع والشراء.. أو بعقد من العقود الجائزة، كالوكالة. والجعالة. وغير ذلك من الأمور المباحة في أصل الشرع.
وقد يكون الوعد بأداء واجب شرعي: كأداء دين، ورد أمانة، وإنفاق واجب، وإتقان عمل.. ونحو ذلك من أداء الحقوق الواجبة عليه.
وقد يكون الوعد وعدًا بمعصية: كما إذا وعد شخصا صديقا له بقتل خصمه أو غريمه، أو بإتلاف ماله ظلمًا وعدوانًا.. ونحو ذلك من الأعمال المحرمة شرعا.
ب- أما الحكم التكليفي للوعد من حيث الوفاء به أو الإخلاف، ففيه التفصيل كالآتي:
1- اتفق الفقهاء على أن من وعد بشيء منهي عنه شرعا فإنه لا يجوز الوفاء بوعده، بل يجب عليه إخلافه، كما ذكره النووي في " كتاب الأذكار" وأبو بكر الجصاص في " أحكام القرآن " وابن حزم في " المحلى".(5/657)
قال ابن حزم الظاهري: (من وعد بما لا يحل- فعله – أو عاهد على معصية، فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك، كمن وعد بزنا أو بخمر أو بما يشبه ذلك، فصح أنه ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذموما، ولا ملوما، ولا عاصيا. بل قد يكون مطيعا مؤديا بفرض ".
2- واتفقوا – أيضًا – " بأن من وعد بشيء واجب شرعا: كأداء حق ثابت، أو فعل أمر لازم فقد وجب عليه إنجاز ذلك الوعد".
3- واتفقوا – أيضا- أن من وعد بشيء مباح أو مندوب إليه.. فإنه ينبغي له الوفاء بوعده، لأن الوفاء بذلك من خصال الإيمان، ومكارم الأخلاق، ولأن الله تعالى أثنى على من صدق وعده ثناء جميلا، كما ذم من خالفه ذمًا قبيحا.. وإنه ينبغي الوفاء به، أعني بالمعروف: ديانة، ومروءة. وتخلقا بمكارم الأخلاق.
وقد قال الإمام يحيى بن شرف النووي الشافعي رحمه الله: " أجمع العلماء على أن من وعد إنسانا شيئا ليس بمنهي عنه فينبغي أن يفي بوعده".
وإذا أمعنا النظر في حكم هذا الوفاء بذلك النوع من الوعد وتتبعنا آراء الفقهاء فيه: يتضح لنا أنهم اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب:
وجوب الوفاء مطلقًا.
استحباب الوفاء لا وجوبه.
وجوب الوفاء به بتفصيل.
ويمكن تقسيم آرائهم إلى خمسة.
الوفاء بالوعد واجب.
الوفاء بالوعد واجب إلا لعذر.
الوفاء بالوعد مستحب.
الوفاء بالوعد أفضل من عدمه إذا لم يكن هناك مانع.
الوفاء بالوعد المجرد غير واجب، أما الوعد المعلق على شرط: فيكون لازما.
ولكنني سأتناول الطريقة الأولى التي تقول إن في المسألة ثلاثة مذاهب " الوجوب مطلقًا – والاستحباب مطلقًا- والتفصيل" في المبحث التالي بصفة أوسع مما سبق- إن شاء الله-.(5/658)
المبحث الثالث: أقوال الفقهاء المشهورين في الوعد:
أ- المذهب الأول: وجوب الوفاء بالوعد مطلقا.
وهو رأي الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، فقد قال القاضي أبو بكر ابن العربي الأندلسي: أجل من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز. ذكره الإمام النووي في الأذكار.
وهو قول الحسن البصري، ومذهب الصحابي الجليل سمرة بن جندب رضي الله عنه، ورأي الإمام إسحاق بن راهويه، ورأي الفقيه المالكي المشهور ابن شبرمة، وبه قضى القاضي سعيد بن عمر بن الأشوع الهمداني.. وغير هؤلاء من السلف والخلف كما في " فتح الباري " و" عمدة القاري" و" المحلي".
فكل هؤلاء يقولون ما معناه: إن الوعد ملزم مطلقًا ويجب الوفاء به ديانة وقضاء، وقد حكى ابن حزم في " المحلى" عن ابن شبرمة أنه قال: " الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد، ويجبر". وذكر البخاري في صحيحه بأنه قول الحسن البصري وأن القاضي سعيد بن الأشوع قضى بوجوب إنجاز الوعد، وأن وجوب إنجاز الوعد هو مذهب الصحابي سمرة بن جندب. وأنه رأي ابن راهويه.
ووجوب الوفاء بالوعد مطلقا مذهب بعض المالكية ووصفوه بأنه مذهب ضعيف ولكن الفقيه المالكي ابن الشاط صحح هذا المذهب في حاشيته على الفروق.
وإليه ذهب العلامة تقي الدين السبكي الشافعي كما ذكر ابنه تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى.
وقال الإمام الغزالي الشافعي – رحمه الله: " إذا فهم الجزم في الوعد فلابد من الوفاء به إلا إذا تعذر، وقد يفهم الجزم في الوعد إذا اقترن به حلف أو إقامة شهود على الوعد أو قرائن أخرى ... ".
وذهب إلى ذلك – أيضا- القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي كما ذكره القرطبي في كتابه " الجامع لأحكام القرآن ".
وحكى ابن رجب الحنبلي في كتابه " جامع العلوم والحكم" وجوب الوفاء بالوعد مطلقا عن طائفة من أهل الظاهر وغيرهم.
وهو وجه صحيح من مذهب العلامة تقي الدين ابن تيمية 0. كما في شرح المقنع.
ومن هذه الأقوال نعلم: أنه يوجد في كل مذهب من المذاهب الفقهية أكثر من فقيه مشهور يقول بلزوم الوعد ووجوب الوفاء به ديانة وقضاء إلا لعذر.(5/659)