وبهذا الاعتبار يستقيم تعليل الدعوة الملحة وربما الصاخبة التي جهر بها وتصدرها رافع في أواخر عهد معاوية إلى الإقلاع عن كراء الأرض مع سكوته طيلة عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وصدرًا من خلافة معاوية.
ذلك بأن الفتوحات كانت في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة قد استغرقت معظم جهود المسلمين، وكان إقبالهم على ابتغاء المال واستثماره محدودًا وكان عمر - رضي الله عنه - يكبح من جماح الطامحين إلى التمول بالزراعة حتى قيل: إنه أحرق زرع بعض من اشتغلوا بالزراعة من المسلمين بالشام بعد فتحها، وإن يكن لبعضهم كلام في صحة هذه القصة أشفق بعض المتفقهين والنقلة والنقدة من أن يكون عمر قد أحرق زراعة بعض الجند الذين كانوا في جيش أبي عبيدة عامر بن الجراح ومن قبله في جيش خالد الذي تولى غزو الروم وفتح الشام , فقالوا ما مفاده: إن عمر لا يقدم على إحراق ما للغير من المسلمين وحرمانهم منه , واعتمد البعض على مثل هذه المقولات وعلى غمز قيل في بعض رواة هذه القصة في إنكاره صحتها: ولسنا بسبيل تحقيق النصوص الواردة في تصرفات عمر والمسجلة لسيرته , وإنما نحن بسبيل النظر في جوانب مما يتصل بهذا البحث منها , لذلك لا ندخل مع هؤلاء وأولئك في جدل حول صحة القصة أو عدم صحتها سنده ما تواضعوا عليه من قواعد الجرح والتعديل , حسبنا أن نبرز حقيقة لا مناص لأي باحث من اعتبارها , وهي أن عمر - رضي الله عنه - كان يراجح بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة في جميع تصرفاته وأحكامه وإلى عماله وقواده، وما من أحد يماري في أن المصلحة العامة يومئذ كانت تقتضي أن يصرف الجند همهم وجهدهم لما هم بسبيله من الفتوح ونشر الأسلام وحماية ثغوره وملاحقة أعدائه أو الترصد لهم على الأقل، وبدهي أن الجند إذا صرفوا بعض جهدهم وهمهم إلى الزراعة وما شاكلها من الكسب , توزعت هممهم وبلبلت فكرهم بين واجبهم الحربي كجند ودواعيهم الدنيوية كمحترفين للفلاحة أو التجارة أو غيرهما وذلك من شأنه أن يحدث على الأقل عدم تركيز للقوى المادية والفكرية إلى الوجهة التي من أجلها نفروا أو استنفروا , فطبيعي إذن أن يحذر الخليفة هذه العاقبة وما ينتج عنها وأن يدرأها بما يحسمها ويمنع من أن تتكرر منعًا لا يقبل التأويل أو الاعتذار. فتأمل. فلما تقدم العهد بخلافة معاوية وتغيرت السياسات وسيطرت الاعتبارات الدنيوية عليها وكثر المسلمون، فلم تعد تستغرقهم الفتوحات، بل إن الفتوحات نفسها هدأ نشاطها نسبيا، واتجه الناس إلى استثمار الأرض بجهودهم وأموالهم , ولعل فيهم من لم تكن لديه خبرة في الفلاحة، فهو لا يشتري بماله جهود الآخرين فحسب , وإنما يشتري خبرتهم أيضًا , ولعل فيهم الخبير الذي أكسته النعمة , فأمسك عن العمل بنفسه , واعتمد على خبرة الآخرين وجهودهم العضلية، وبذلك أخذت تنشأ طبقة المترفين وطبقة العمال مما أفزع رافعًا، فقام بدعوته منكرًا لهذا الوضع الذي رآه قد أنشأ ظروفًا أين منها تلك الظروف التي أفرزت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض؟(4/1041)
ومن استكناه دلالات التوقيت الذي اختاره رافع ليعلن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض أو بالأحرى ليذكر الناس به , يتجلى بما لا مجال معه للمراء أن رافعا كان يرى للظروف تحكمًا في تعيين موجب تطبيق التشريع الخاص بالمعاملات أو المتصل بها اتصالًا وثيقًا.
ومع أننا لا نجد في حديث جابر ولا غيره من الصحابة الذين رووا النهي أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على الظرفية، فإن الملابسات التي أحاطت بإشاعة حديث رافع ومناقشته والجدل حوله تحمل على الاطمئنان إلى أن جابرًا وغيره من الصحابة أسهموا في تلك المناقشات وفي ذلك الجدل مظاهرين لرافع بما أعلنوه مما وعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأحسبهم كانوا على مثل إنكار رافع لما صار إليه الأمر في أواخر عهد معاوية من تهافت علاقات الأخوة بين المسلمين واندفاع المحظوظين منهم إلى الاستزادة لنصيبهم من الدنيا والاستفادة من حرمان المحرومين باستغلال جهودهم وربما خبراتهم , وذلك أمر لا مناص من أن يحدث تركيبات طبقية لا سبيل إلى أن تتعايش - بل لا سبيل إلا إلى أن تتنافى - مع طبيعة الوحدة التي تنهض على التكافل الأخوي بين طوائف المسلمين كافة أيا كانت أنصبتهم من الرزق ومراكزهم الاقتصادية ومواقعهم الاجتماعية.
وقد لا يحسن أن ننصرف إلى تبيان الطبيعة الفقهية والأصولية للعلاقة بين الظرف وبين التشريع قبل أن نقف هنا عند قصة خيبر , ثم عند ما كان من حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عمر - رضي الله عنه - لمساحات من الأرض استجابة لحاجة المسلمين الناشئة عن تطور أوضاعهم الاقتصادية نتيجة لعاملي استقرار هيكل الدولة وأخذ كيانها في الامتداد والاتساع بعامل انتشار الإسلام بدخول الناس فيه أفواجًا واتساع آماد سيادته بتعاظم هيبته واشتداد قوة المسلمين. اختلفت آراء الفقهاء في تأويل قصة خيبر , فرآها بعضهم نمطًا من المزارعة , واستدل بها على أنها ناسخة للنهي الوارد في حديث رافع وغيره عنها , إذ إن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر استمرت إلى عهد عمر وحين أبطلها عمر لم يبطلها لذاتها , وإنما أبطلها لتصرفات صدرت عن يهود خيبر أو اعتمادًا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم حين عاملهم: ((نقركم ما أقركم الله)) أو ((ما شئنا)) . ومن هذا الاعتبار حمل البعض من هؤلاء كلمة المخابرة على أنها مشتقة من معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، ومع ذلك اعتبروا النهي عن المخابرة منسوخًا بقصة خيبر اعتبارًا لاستمرارها، إلى عهد عمر.(4/1042)
ولم يفكروا في الجمع بين هذين المتناقضين أن يكون النهي صدر بعد قصة خيبر , واستعملت فيه كلمة مخابرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من بعض رواة الحديث، إذ رووه بالمعنى على أساس أن المخابرة مشتقة من خيبر، وأن تكون قصة خيبر - مع ذلك - ناسخة لهذا النهي الذي صدر بعدها واشتق منها بعض ألفاظه لمجرد أن قصة خيبر استمرت إلى ما بعد لحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فهي إذا ناسخة باستمرارها لحكم صدر بعد وقوعها، ومن عجب أنهم لم يفكروا في أن يكون الحكم مخصصًا لها , أو أن يكون استمرارها مخصصًا له , فضلًا عن أن يفكروا في أن يكون هنالك اختلاف بين أساس الحكم أو مناطه في كل من القضيتين؛ النهي عن المزارعة وقصة خيبر.
وآخرون يظهر أنهم انتبهوا إلى التغاير بين القضيتين , فاعتبروا قصة خيبر أساسًا لحكم يتصل بالمساقاة ويختص بالأرض المغروسة نخلًا , أو نخلًا وكرومًا , أو نخلًا وشجرًا على اختلاف بينهم، وقد يباح في ظله ما يكون من المزارعة لما بين الأشجار أو النخيل من أرض , الاعتبارات ذهبوا في تعيينها وتحديدها والاختلاف حولها ما شاءت لهم التصورات من مذاهب وآراء , وليس من شأننا أن نناقشها؛ لأنها قائمة على أساس لا نقره , ولأن شأننا في هذا البحث ليس هو بيان ما هو حلال وما هو حرام من التعامل على الأرض , إنما هو شيء غير ذلك.
بحسبنا أن نقف مع هؤلاء وأولئك عند حقيقة لم تتضح لهم الاتضاح الكافي , وإن كانت قد استبانت لهم معالمها بعض الشيء وأبصرهم لها شمس الدين السرخسي (1) إذ قال بعد أن أشار إلى حديث معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على الشطر:
وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل الجواز , وتأويل ذلك عند أبي حنيفة - رحمه الله - من وجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر استرقهم وتملك أراضيهم ونخيلهم وجعلها في أيديهم يعملون فيها للمسلمين بمنزلة العبيد في نخيل مواليهم , وكان في ذلك منفعة للمسلمين ليتفرغوا للجهاد بأنفسهم , ولأنهم كانوا أبصر بذلك العمل من المسلمين، وما جعل لهم من الشرط بطريق النفقة لهم , فإنهم مماليك للمسلمين , يعملون لهم في نخيلهم , فيستوجبون النفقة عليهم، فجعل نفقتهم فيما يحصل بعملهم , وجعل عليهم نصف ما يحصل بعملهم ليكون ذلك ضريبة عليهم بمنزلة المولى يشارط عبده الضريبة إذا كان مكتسبًا، وقد نقل بعض هذا عن الحسين بن علي رضي الله عنهما.
__________
(1) المبسوط. ج: 23. ص: 201.(4/1043)
والثاني: أنه مَنَّ عليهم برقابهم وأراضيهم ونخيلهم وجعل شطر الخارج عليهم بمنزلة خراج المقاسمة , وللإمام رأي في الأرض الممنون بها على أهلها , إن شاء جعل عليها خراج الوظيفة، وإن شاء جعل عليها خراج المقاسمة، وهذا أصح
التأويلين؛ لأنه لم ينقل عن أحد من الولاة أنه تصرف في رقابهم أو رقاب أولادهم كالتصرف في المماليك، وكذلك عمر - رضي الله عنه - أجلاهم , ولو كانوا عبيدًا للمسلمين , لما أجلاهم , فالمسلم إذا كان له مملوك في أرض العرب
تمكن من إمساكه واستدامة الملك فيه , فعرفنا أن الثاني أصح , ثم بين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما فعله من المن عليهم بنخيلهم وأراضيهم , ليس غير مؤيد بقوله عليه الصلاة والسلام: ((أقركم ما أقركم الله)) . وهذا منه شبه الاستثناء , وإشارة إلى أنه ليس لهم حق المقام في نخيلهم على التأبيد؛ لأنه علم من طريق الوحي أنه يؤمر بإجلائهم , فتحرز بهذه الكلمة عن نقض العهد؛ لأنه كان أبعد الناس عن نقض العهد والغدر , وفيه دليل على أن المن المؤقت صحيح سواء كان لمدة معلومة أو مجهولة.
قلت: كان الأولى أن أغفل الوجه الأول , لكن نسبة جانب من دلالاته إلى سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد الشهداء بعد حمزة الحسين بن علي - رضي الله عنهم جميعًا - يجعل لذلك الوجه وزنًا، فليس لرأي - مهما تعضده الحجج والبراهين العقلية أو النقلية – أن يقف إلا منحنيًا إجلالًا أمام رأي يصدر عن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحسب أن السرخسي في الوجه الثاني الذي صححه لتأويل أو توجيه معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ونظاهره في تصحيحه كان ينظر إلى قول أبي عبيد (1) وهو يسوق اختلاف الآثار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء من بعده في حكم الأراضي المفتتحة عنوة.
__________
(1) الأموال. ص: 77.(4/1044)
وقال بعضهم: بل حكمها والنظر فيها إلى الإمام إن رأى يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فذلك له , وإن رأى أن يجعلها فيئا , فلا يخمسها ولا يقسمها، ولكن تكون موقوفة على المسلمين عامة ما بقوا، كما فعل عمر بالسواد ذلك.
ثم قال بعد أن ذكر القائلين بهذه الأحكام وأدلة كل فريق: وكلا الحكمين - يعني القسمة والوقف - فيه قدوة ومتبع من الغنيمة والفيئ، إلا أن الذي اختاره من ذلك يكون النظر فيه إلى الإمام كما قال سفيان - يعني قول سفيان الثوري: الخيار في أرض العنوة إلى الإمام , إن شاء جعلها غنيمة , فخمس وقسم , وإن شاء جعلها عامة على المسلمين , ولم يخمس ولم يقسم - وذلك أن الوجهين جميعًا داخلان فيه , وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم بِرَادٍّ لفعل عمر - يعني من عدم قسمته أرض السواد وجعله إياها وقفًا على المسلمين عامة كما سيأتي مفصلًا - ولكنه صلى الله عليه وسلم اتبع آية من كتاب الله تعالى , فعمل بها , واتبع عمر آية أخرى , فعمل بها , وهما آيتان محكمتان فيما ينال المسلمون من أموال المشركين , فيصير غنيمة أو فيئًا. وسنورد الآيتين عندما نعرض لفعل عمر.
ونقل ابن زنجويه (1) كلام أبي عبيد كلام من يأخذ به , وما أحسب السرخسي إلا قد اطلع على ما نقلناه أو على ما نقله أحدهما.
ومع أن موضوع الاختلاف حول اعتبار الأرض المفتتحة عنوة غنيمة أو فيئًا ليست له علاقة مباشرة بالموضوع الذي نحن بصدده من تحديد طبيعة العلاقة مشاكلة أو مغايرة - بين المزارعة ومعاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، فإن كلا من الموضوعين يشبه الآخر في إقرار حقيقة أن تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر معاملة وقسمة كان متأثرًا بالظرفية التي لابست فتح خيبر. فالمسلمون يومئذ , وخاصة المهاجرين , لم يكونوا على سعة من الرزق يقوم معها الحذر من أن تخويلهم المزيد من الأرض قد ينقلهم من حالة الكفاف إلى حالة الترف على حساب أجيال مقبلة. والفتوحات ما فتئت في أول عهدها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بالوحي والمكاشفة كيف ستتسع وستتمادى، لذلك أخذ بقسمة الأرض ولم يأخذ بمبدأ وقفها اعتبارًا للظرف الذي كان يحيط بالمسلمين آنئذ، وهو الذي تكيفه الحاجة إلى مزيد من موارد المال ومصادر الكسب لتحقيق الكفاف وللحصول على موارد ضرورية للاستعداد لما يستقبلون من فتوحات تستوجب المزيد من السلاح والعتاد.
__________
(1) الأموال. ج: ا. ص: 187. فقرة: 217.(4/1045)
على حين أنهم لم يكونوا يملكون الخبرة الكافية في رعاية حقول النخل والمزيد من غراستها والعمل من أجل توفير ثمارها ولم يكونوا يملكون أيضًا وفرة من اليد العاملة حتى ولو كان منهم من يملك الخبرة لذلك , وذلك ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الأرض إلى أهل خيبر بعد أن أجلاهم عنها بطلب منهم أو بدعوة منهم على اختلاف الروايات ويقرهم فيها على حين على الشرط الذي اشترطه، وهو أن قرارهم فيها ليس مؤبدًا بل هو معلق بمشيئة المسلمين في بعض الروايات أو بمشيئة الله في روايات أخرى، ولا تنافي بين هذه وتلك، وقد سبق أن أوردنا مختلف هذه الروايات فيما نقلنا من الأحاديث والروايات المختلفة والمتصلة بمعاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر , وننقل هنا جزءًا من أثر طويل رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري تذكرة بمجمل ما ورد في الآثار التي نقلناها سابقًا، وترجيحًا منا لهذا الذي رواه الزهري عن غيره من تلك الآثار قال (1) ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمال يعملون خيبر ولا يزرعونها , قال الزهري: فأخبرني سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعى يهود خيبر , وكانوا خرجوا على أن يسيروا منها , فدفع إليهم خيبر على أن يعملوها على النصف , فيؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه. وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقركم على ذلك ما أقركم الله)) ... إلخ.
وإنما رجحنا هذا الأثر وما شاكله؛ لأن الحادثة كما نتصورها أن يهود خيبر عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد أن نزلوا على حكمه بالجلاء - أن يبقيهم في خيبر يعملونها بخبرتهم وأيديهم المتفرغة للعمل فيها وغير المنشغلة بشيء آخر انشغال المسلمين بالفتوح , وأن ينفقوا في عملها وصيانتها من أموالهم. فأظهر الإباء عليهم حتى إذا استكمل إخضاعهم بأن اتخذوا طريقهم منفذين للجلاء صاغرين أذلة، دعاهم ليعيدهم إلى الأرض التي أجلاهم عنها على شرطه ومنة منه ليظهر لهم أنه لم يكن بحاجة إلى عملهم ولا إلى خبرتهم ولا إلى أموالهم وإنما هو المن عليهم والرحمة بهم إبرازًا لما أراد أن يقر في أنفسهم من صورة المعاملة الإسلامية المتسمة بالرحمة والإكرام والإسماح.
مهما يكن، فإن خيبر الغنية قصتها بألوان من التشريع كانت من أبرز مصادر الاعتبار الشرعي لتأثير مقتضيات الظروف والملابسات في تكييف أحكامه تعليلًا وتطبيقًا ومناطًا.
__________
(1) المصنف. ج: 5. ص: 372 و373. ح: 9738.(4/1046)
وقد حاول البعض من الفقهاء والمتفقهة أن يجد في قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جانبًا من أرض خيبر مصدرًا للحديث عن ملكية المحارب لقسطه من الغنيمة متى تتحقق؟ أو بتعبيرأدق: متى يستحق المحارب قسطه من الغنيمة؟
ومضى هؤلاء وأولئك في جدل ملأوا به الصفحات حول تحديد وقت هذا الاستحقاق، أهو يتعين عند الحصول على الغنائم أم لا يتعين إلا عند قسمتها؟ وطبيعي أن هذا الجدل ليس من شأننا الآن، بيد أننا نعرض له؛ لأنه قائم على قاعدة لا نسلمها لهم , وهي أن الإمام أو ولي الأمر مجرد منفذ في شؤون الغنائم , ليس له إلا تطبيق نصوص أمامه تطبيقًا حرفيًا لا تتحكم فيه ظروف ولا أوضاع ولا اعتبارات غير ما ينطبق به النص الحرفي الواجب تطبيقه عليه، في حين أن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل عمر رضي الله عنه الذي سنعرض له من بعد في الأراضي المفتوحة ينهض- ولا أقول ينهضان , لأنهما في تقديري عمل واحد اختلفت مظاهره - على قاعدة أغفلوها أو غفلوا عنها في جدلهم هذا، وهي أن أمر الأراضي المفتوحة مرجعه إلى الإمام أو ولي الأمر أيا كان الاعتبار النظري للوقت الذي تتعين فيه ملكية المحارب لقسمه من الغنائم، فحتى لو ذهبنا مع القائلين بأن ملكية المحارب تتعين عند الحصول على الغنيمة فإن هذا لا يعني أن الإمام أو ولي الأمر لا يملك أن يتصرف في هذه الملكية إذا أبان له اجتهاده أسبابًا وملابسات يترجح اعتبارها على اعتبار الحق الفردي للمحارب في قسطه من الغنيمة، وهذه الأسباب على تنوعها تشكل ما نسميه بالظرفية التي لا سبيل إلى إغفالها؛ لأن إغفالها يحصر مهمة الإمام أو ولي الأمر مسؤوليته في مجرد التنفيذ التلقائي بدلًا من أن يدع له الاجتهاد بحثًا عن ما من شأنه أن يتجاوز المصلحة الفردية أو ما يظنه غير المسؤول مصلحة فردية إلى ما تقتضيه , وقد تضطر إليه المصلحة العامة لجماعة من المسلمين أو لجميع المسلمين، ومثل هذا التقييد لتصرف الإمام أو ولي الأمر من شأنه أن يجعل اعتبار المصلحة الفردية متحكما في سياسة الجماعة الإسلامية , وهو ما يتنافى مع أبسط مقتضيات النصوص التشريعية من قرآنية وسنية , كما سيتضح لنا بعد حين.(4/1047)
11 - أطوار حماية الحمى ودلالاتها
قال عبد الرزاق (1) أخبرنا معمر , عن الزهري , عن عبيد الله بن عباس , عن الصعب بن جثامة قال ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 2. ص: 184. ترجمة: 4065) : الصعب بن جثامة بن قيس بن ربيعة بن عبد الله بن يعمر الليثي حليف قريش أمه أخت أبي سفيان بن حرب , واسمها فاختة , وقيل: زينب , ويقال: هو أخو محلم بن جثامة , وكان السعد ينزل ودان - بالفتح كأنه فعلان من الود كالمحبة - كما قال ياقوت في (معجم البلدان. ج: 5. ص: 365) : قرية بين مكة والمدينة بينهما وبين هرشى وبينها وبين الأبواء نحو ثمانية أميال قريبة من الجحفة ويقال: ما بينها وبين الجحفة مرحلة , وبينها وبين الأبواء على طريق الحاج في غربيتها ستة أميال. وينسب إليها الصعب هذا قبل أن يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم - ويقال: مات في خلافة أبي بكر ويقال: في آخر خلافة عمر , قاله ابن حبان , ويقال: مات في خلافة عثمان , وشهد فتح اصطخر , فقد روى ابن السكن عن طريق صفوان بن عمر. حدثني راشد بن سعد , قال: لما فتحت اصطخر نادى مناد: ألا إن الدجال قد خرج , فليقيهم الصعب بن جثامة فقال: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يخرج دجال حتى يذهل الناس عن ذكره. الحديث. قال ابن السكن: إسناده صالح. قلت - القائل ابن حجر -: فيه إرسال , وهو يرد على من قال: إنه مات في خلافة أبي بكر. وقال ابن منده: كان الصعب ممن شهد فتح فارس. وقال يعقوب بن سفيان: أخطأ من قال: الصعب بن جثامة مات في خلافة أبي بكر. خطأ بينًا , فقد روى ابن إسحاق عن عمر بن عبد الله , أنه حدثه عن عروة قال: لما ركب أهل العراق في الوليد بن عقبة , كانوا خمسة , منهم الصعب بن جثامة , وللصعب أحاديث في الصحيح من رواية ابن عباس عنه , وذكر ابن الكلبي في الجمهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم حنين: لولا الصعب بن جثامة لفضحت الخيل. وأخرج أبو بكر بن لال في كتاب المصابين من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عوف بن مالك والصعب بن جثامة , فقال كل منهما للآخر: إن مت قبلي فتراءى لي , فمات الصعب قبل عوف فتراءى , فذكر قصة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) ، قال الزهري: وقد كان لعمر بن الخطاب حمى , بلغني أنه كان يحميه لإبل الصدقة.
__________
(1) المصنف. ج: 11. ص: 8. ح: 19750 و19751.(4/1048)
عن معمر , عن الزهري , عن عمر قال لهانئ بن هني (1) مولى له كان يبعثه على الحمى: أدخل صاحب الغنيمة (2) والصريمة (3) وإياي , ونعم بن عوف ونعم بن عفان فإنهما إن تهلك نعمهما يرجعان إلى أهل ومال، وأن تهلك نعم هؤلاء يقولون: يا أمير المؤمنين، الماء والكلأ أيسر علي من الدينار والدرهم.
__________
(1) لعل في هذه الرواية وهما , صوابه: (قال لهني) , فالمعروف أن عمر استعمل مولى له اسمه هني على الحمى , قال ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 11. ص: 73. ترجمة: 114) : هني مولى عمر , وعامله على الحمى , روى عن أبي بكر وعمر ومعاوية وعمرو بن العاص , وعنه ابنه عمير وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين. قلت: سيأتي هذا الحديث مسندًا بأسانيد أخرى إلى (هني) , لا إلى (هانئ بن هني) , وذلك ما يثبت تصويبنا لهذا الإسناد.
(2) قال ابن الأثير: (النهاية. ج: 3. ص: 27) : الصريمة تصغير الصرمة وهي القطيع من الإبل والغنم , قيل: من العشرين إلى الثلاثين والأربعين , كأنها إذا بلعت هذا القدر تستقل بنفسها , فيقطعها صاحبها من معظم إبله وغنمه , والمراد بها في الحديث من مائة وإحدى وعشرين شاة إلى المائتين , إذا اجتمعت ففيهما شاتان , وإن كانت لرجلين وفرق بينهما , فعلى كل واحد منهما شاة. قلت: يريد بالحديث ما ذكره قبل هذا من كتاب عمر إلى عمرو ابن مرة: في الغنيمة والصريمة شاتان إن اجتمعتا , وإن تفرقتا فشاة شاة. ثم قال ابن الأثير: وفي حديث عمر قال لمولاه: أدخل رب الصريمة والغنيمة في الحمى والمرعى , يريد صاحب الإبل القليلة والغنم القليلة.
(3) قال ابن الأثير: (النهاية. ج: 3. ص: 27) : الصريمة تصغير الصرمة وهي القطيع من الإبل والغنم , قيل: من العشرين إلى الثلاثين والأربعين , كأنها إذا بلعت هذا القدر تستقل بنفسها , فيقطعها صاحبها من معظم إبله وغنمه , والمراد بها في الحديث من مائة وإحدى وعشرين شاة إلى المائتين , إذا اجتمعت ففيهما شاتان , وإن كانت لرجلين وفرق بينهما , فعلى كل واحد منهما شاة. قلت: يريد بالحديث ما ذكره قبل هذا من كتاب عمر إلى عمرو ابن مرة: في الغنيمة والصريمة شاتان إن اجتمعتا , وإن تفرقتا فشاة شاة. ثم قال ابن الأثير: وفي حديث عمر قال لمولاه: أدخل رب الصريمة والغنيمة في الحمى والمرعى , يريد صاحب الإبل القليلة والغنم القليلة.(4/1049)
وقال البخاري (1) حدثنا يحيى بن بكير. حدثنا الليث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي , قال عنه ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 8. ص: 459 ترجمة: 132) : أبو الحارث الإمام البصرى يقال: إنه مولى قريش , ولكن أسرته انقرضت في فهم , فنسب إليهم. وأسرته تنسب إلى الفرس وأصبهان , ولكن أنكر عليهما البعض هذا الانتساب، ولد بقرشندة على نحو أربعة فراسخ من فسطاط , وروى عن الكثير من شيوخه وأقرانه ومن هم أصغر منه , ومن أبرزهم نافع وابن أبي مليكة ويحيى بن سعيد والزهري وهشام بن عروة وعطاء بن أبي رباح وبكير الأشج وسعيد المقبري وأبو الزناد وقتادة وأبو الزبير المكي وعبد الله بن أبي جعفر وعبد العزيز الماجشون , وروى عنه خلق منهم شيوخ له مثل محمد بن عجلان وهشام بن سعد. وأقران مثل ابن لهيعة وهشام بن بشير وقيس بن الربيع وعطاف بن خالد , وكانت بينه وبين مالك بن أنس الإمام مودة ومراسلات , بل إن الشافعي كان فيما روي عنه يراه أفقه من مالك وأجمعوا على توثيقه , وإن تكلم بعضهم في رواياته عن بعض شيوخه , فقالوا: إنها مناولة وليست سماعًا ونفى ذلك آخرون والروايات متوافرة عن أحمد في توثيقه والثناء عليه , وكذلك عن يحيى بن معين وإن كان أقل إشادة به من أحمد , وكان غنيًا سخيا كريمًا على أقرانه وتلامذته وضيوفه , ويقال: إن دخله كان كل سنة ثمانين ألف دينار , ومع ذلك لم تجب عليه الزكاة قط.
ويروى عن عبد الله بن صالح أنه قال: صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، روي عنه أنه كان يقول: أنا أكبر من ابن لهيعة بثلاث سنين ومع ذلك عاش بعده نحوًا من ثلاث سنين وكانت وفاة ابن لهيعة سنة أربع وسبعين ومائة. وروي أن الليث ولد سنة أربع وتسعين ومات يوم الجمعة نصف شعبان سنة سبع وخمسين ومائة، رحمه الله رحمة واسعة. , عن يونس , عن ابن شهاب , عن عبيد الله بن عبد الله بن عنبسة , عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الصعب بن جثامة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله))
__________
(1) صحيح البخاري. ج: 3. ص: 78.(4/1050)
وقال - يعني الزهري -: بلغنا ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع)) قال ياقوت (معجم البلدان. ج: 5. ص: 310) : في (نقيع) بعد أن ذكر اشتقاقه , وهو نقيع الخضمات , موضع حماه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لخيل المسلمين , وهو من أودية الحجاز , يدفع سيله إلى المدينة , يسلكه العرب إلى مكة منه , وحمى نقيع على عشرين فرسخًا أو نحو ذلك من المدينة , وفي كتاب: نصر النقيع: موضع قرب المدينة , كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حماه لخيله , وله هنالك مسجد , يقال له: مقمل , وهو من ديار مزينة , وبين النقيع والمدينة عشرون فرسخًا , وهو غير نقيع الخضمات , وكلاهما بالنون والباء فيهما خطأ.
وعن الخطابي وغيره , قال القاضي عياض: النقيع الذي حماه النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمر , هو الذي يضاف إليه في الحديث: غرز النقيع , وفي حديث آخر: يقدح لهن من النقيع. وحمى النقيع على عشرين فرسخًا , كذا في كتاب عياض , ومساحته ميل في بريد , وفيه شجر يستجم حتى يغيب الراكب فيه. واختلف الرواة في ضبطه , فمنهم من قيده بالنون , منهم النسفي وأبو ذر القابسي , وكذا قيد في مسلم عن الصدفي وغيره , وكذلك لابن ماهان , وكذا ذكره الهاوي الخطابي. قال الخطابي: وقد صحفه بعض أصحاب الحديث بالباء , وأما الذي بالباء مدفن أهل المدينة , قال: ووقع في كتاب الأصيلي بالقاف مع النون , وهو تصحيف , وإنما هو بالنون والقاف , وقال أبو عبيد البكري: هو بالباء والقاف , مثل بقيع الغرقد , قال المؤلف ياقوت - يعنى نفسه -: وحكى السهيلي , عن أبي عبيد البكري خلاف ما حكاه عنه عياض. قال السهيلي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه حمى غرز النقيع))
. قال الخطابي: النقيع: القاع، والغرز: نبت شبه التمام , وفي رواية أبي إسحاق مرفوعًا إلى أبي أمامة , أن أول جماعة جمعت بالمدينة في هزم بني بياضة في بقيع يقال له: بقيع الخضمات. قال المؤلف: هكذا المشهور في جميع الروايات , وقد ذكر ابن هشام: هزم بني التبيت , وسأذكره في هزم إن شاء الله مستوفى، قال السهيلي: وجدته في نسخة أبي بحر بالباء , وكذلك وجدته في رواية يونس عن أبي إسحاق , وذكر أبو عبيد البكري في كتاب معجم ما استعجم من أسماء البقيع أنه نقيع بالنون , وذكر ذلك بالنون والقاف , وأما النفيع بالفاء , فهو أقرب إلى المدينة منه بكثير , وقد ذكرته أنا في موضعه. هكذا نقل هذان الإمامان عن أبي عبيد البكري , إلا أن يكون أبو عبيد جعل الموضع الذي حماه النبي صلى الله عليه وسلم وهو حمى غرز البقيع بالباء فقط والله أعلم به , على أن القاضي عياضًا والسهيلي لم أرهما فرقا بينهما ولا جعلاهما موضعين , وهما موضعان لا شك فيهما إن شاء الله. وروي عن أبي مراوح: ((نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالنقيع على مقمل , فصلى فصليت , وقال: حمى النقيع نعم مرتع الأفراس , يُحمى لهن , ويجاهد بهن في سبيل الله)) . ثم استشهد بأبيات وكلام لبعض العرب.(4/1051)
وأن عمر حمى السرف قال ياقوت (معجم البلدان. ج: 4. ص: 212 وما بعدها) : بعد أن ذكر اشتقاق كلمة سرف , وهو موضع على ستة أميال من مكة وقيل: سبعة وتسعة واثني عشر , تزوج به رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث , وهناك بنى بها , وهناك توفيت. ثم قال القاضي عياض: وأما الذي حمى فيه عمر - رضي الله عنه - فجاء فيه أنه حمى السرف والربذة كما عند البخاري بالسين المهملة , وفي موطأ ابن وهب: الشرف , بالشين المعجمة وفتح الراء , وكذا رواه بعض رواة البخاري , وأصلحه , وهذا الصواب. وأما سرف , فلا يدخله الألف واللام. ثم قال (معجم البلدان. ص: 336) : في كلمة (شرف) بالتحريك , هو المكان العالي. قال الأصمعي: الشرف كبد نجد , وكانت منازل بنى آكل المرار من كندة الملوك , وفيها اليوم حمى ضربة , وفي الشرف الربذة , وهي الحمى الأيمن , والشريف إلى جنبها , يفصل بينهما التسرير , فما كان شرقًا فهو الشريف , وما كان غربا فهو الشرف. ثم قال: وقال غيره: الشرف الحمى الذي حماه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والربذة (1) وقال (2) حدثنا إسماعيل , قال: حدثني مالك , عن زيد بن أسلم , عن أبيه , أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استعمل مولى له يدعى هنيًّا على الحمى , فقال: يا هني، اضمم جناحك عن المسلمين , واتق دعوة المظلوم , فإن دعوة المظلوم مستجابة , وأدخل رب الصريمة، ورب الغنيمة، وإياي ونعم بن عوف ونعم بن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه , فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين , أفتاركم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق , وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم , فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده , لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله , ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا.
__________
(1) وقال ياقوت (معجم البلدان. ص: 23) : الربذة بفتح الراء وثالثه ذال معجمة مفتوحة أيضًا. قال أبو عمر: وسألت ثعلبًا عن الربذة اسم القرية , قال ثعلب: سألت عنها ابن الأعرابي , فقال: الربذة الشدة , يقال: كنا في ربذة , فانجلت عنا. ثم قال: والربذة من قرى المدينة على ثلاثة أيام , قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة , وبهذا الموضع قبر أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - ثم قال: وكانت من أحسن منزل في طريق مكة. وقال الأصمعي يذكر نجدا: والشرف كبد نجد , وفي الشرف الربذة , وهي الحمى الأيمن , وفي كتاب نصر: الربذة من منازل الحاج بين السليلة والعمق.
(2) البخارى. ج: 4. ص: 33.(4/1052)
وقال أبو عبيد (1) حدثنا عبد الله بن صالح عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم , قال عنه الذهبي في (سيرأعلام النبلاء. ج: 10. ص: 405 وما بعدها. ترجمة: 115) : الإمام المحدث شيخ المصريين أبو صالح الجهني مولاهم المصري كاتب الليث ابن سعد , قد شرحت حاله في ميزان الاعتدال (ج: 2. ص: 440) وما بعدها. ترجمة: 4383) , وليناه , وبكل حال فكان صدوقًا في نفسه من أوعية العلم , أصابه داء شيخه ابن لهيعة , وتهاون بنفسه حتى ضعف حديثه , ولم يترك بحمد الله. والأحاديث التي نقموها عليه معدودة في سعة ما روى. ثم أفاض في سرد شيوخه وتلامذته , وذكر أن مولده سنة سبع وثلاثين ومائة , وكانت وفاته كما ذكر هو وغيره سنة اثنتين وعشرين ومائتين , فيكون قد عُمِّر خمسا وثمانين سنة. قلت: وقد وثقه عدد من النقدة , منهم يحيى بن معين على شدته على الرجال , بل إنه طلب إلى سعيد بن منصور وكان شديدًا عليه أن يمسك عنه , فأبى , وضعفه أحمد وطائفة غيره من النقدة , لكن روى عنه البخاري حديثًا في صحيحه , وعلق له في أكثر من موضع , وروى عنه أبو داود والترمذي وابن ماجه , ودافع ابن حجر (مقدمة فتح الباري. ص: 411 وما بعدها) عن رواية البخاري عنه , وساق جل ما أنكروا من حديثه , وترجم له البخاري في (التاريخ الكبير. ج: 5. ص: 121. ترجمة: 357) , ولم يقل فيه شيئًا مما قاله غيره من النقدة , كما ترجم له الرازي في الجرح والتعديل (ج: 5. ص: 121. ترجمة: 357) , ولم يقل فيه شيئا مما قاله غيره من النقدة , كما ترجم له الرازي في الجرح والتعديل (ج: 5. ص: 85 وما بعدها. ترجمة: 397) , وساق طائفة من أقوالهم فيه , ولكنه كان أميل إلى توثيقه , ومن عجب أن الذهبي ذكره بعبارة تكاد تكون واحدة في كل من الكاشف (ص: 84. ترجمة: 2811) , وهو خاص بمن يوثقهم , والمغني (ج: ا. ص: 342. ترجمة: 3213) , وترجم له الخطيب في تاريخ بغداد. (ج: 9. ص: 478. ترجمة: 5110) , وساق طائفة تكاد تكون وافية مما قال فيه النقدة ونقلوا عنه وفقدوا من حديثه. وذكره ابن حبان في المجروحين (ج: 2. ص: 40) , وكان شديدًا عليه جدا , إذ قال بصفة الجزم: منكر الحديث جدا , يروي عن الأثبات ما لا يشبه حديث الثقات , وعنده المناكير الكثيرة عن أقوام مشاهير أئمة. ثم عاد فخفف من لهجته , فقال: (وكان في نفسه صدوقًا يكتب لليث بن سعد الحساب , وكان كاتبه على الفلات , وإنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له رجل سوء. سمعت ابن خزيمة يقول: كان له جار بينه وبينه عداوة , فكان يضع الحديث على شيخ عبد الله بن صالح , ويكتب في قرطاس بخط يشبه خط عبد الله بن صالح , ويطرح في داره في وسط كتبه , فيجده عبد الله , فيحدث به , فيتوهم أنه خطه وسمعه. فمن ناحيته وقعت المناكير في أخباره.
__________
(1) الأموال ص: 413. ج: 727.(4/1053)
ثم ساق ما ساقه غيره مما أنكروا عنه أو نقدوه من حديثه , وأشده نكرًا عندهم حديث رواه عن الليث بن سعد , عن خالد بن يزيد , عن سعيد بن أبي هلال , عن ربيعة بن سيف قال: كنا عند شقتي الأصبحي , فقال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكون خلفي اثنا عشر خليفة)) الحديث. وترجم له ابن عدي في الكامل (ج: 4. ص: 1522) وبعد أن ساق ما ساقه غيره من كلام النقدة فيه ومناكيرهم عنه , قال: ولعبد الله بن صالح روايات كثيرة عن صاحبه الليث بن سعد , وعنده عن معاوية بن صالح نسخة كبيرة. ويروى عن يحيى بن أيوب صدرًا صالحًا , ويروى عن ابن لهيعة أخبارًا كثيرة , ومن نزول رجاله عبد الله بن وهب , وهو عندي مستقيم الحديث , إلا أنه يقع في حديثه في أسانيده ومتونه غلط , ولا يتعمد الكذب , وقد روى عنه يحيى بن معين , كما ذكرت , وذكره في الضعفاء كل من النسائي (ص:149. ترجمة: 351) والعقيلي (ج: 2. ص: 267. ترجمة: 826) وترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب (ج: 5. ص: 256. الترجمة: 448) وساق ما تحدث به عنه وأنكروه. عن الليث بن سعد , عن يونس بن يزيد , عن ابن شهاب , عن عبيد الله بن عبد الله بن عنبسة , عن ابن عباس , عن الصعب بن جثامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) .
ثم قال (1) حدثنا ابن أبي مريم , عن عبد الله بن عمر العمري عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عبد الرحمن العمري , روى عن عدد من صدور الحديث , منهم نافع وزيد بن أسلم وسعيد المقبري وسهيل بن أبي صالح وحامد الطويل , وروى عنه عدد منهم , وفيهم عبد الرحمن بن مهدي والليث بن سعد بن وهب وعبد الرزاق وأبو قتيبة وآخرون , وثقه بعضهم , منهم يحيى بن معين , واختلفت الرواية فيه عن أحمد , واتفقت بتضعيفه عن يحيى بن سعيد , وأجمعوا على فضله , وأحسب أن ممن تكلم فيه من تحرج منه , لأنه خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن فحبسه المنصور , ثم خلاه , ولعلهم رأوا فيه لوثة شيعية على أن هذا مجرد ظن مني. توفي - رحمه الله - ما بين سنة إحدى وسبعين وثلاث وسبعين ومائة على اختلافهم في ذلك , وقد روى عنه مسلم والأربعة انظر ترجمته (ابن حجر، تهذيب التهذيب. ج: 5. ص: 326. ترجمة: 564) وسائر مصادر الجرح والتعديل. عن نافع , عن ابن عمر قال: ((حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقيع وهو موضع معروف بالمدينة لخيل المسلمين)) .
__________
(1) البخاري ص: 417 إلى 420 وما بعدها. ح: 739 إلى 744.(4/1054)
وحدثنا عبد الله بن صالح , عن الليث , عن هشام بن سعد , عن زيد بن أسلم , عن أبيه أنه قال: سمعت عمر وهو يقول لهني حين استعمل على حمى الربذة: يا هني , اضمم جناحك عن الناس , واتق دعوة المظلوم , فإنها مجابة , وأدخل رب الصريمة والغنيمة , ودعني من نعم بن عفان ونعم بن عوف , فإنهما إن هلكت ماشيتهما رجعا إلى نخل وزرع , وإن هذا المسكين إن هلكت ماشيته جاء يصرخ: يا أمير
المؤمنين، أفالكلاء أهون علي أم غرم الذهب والورق؟ وإنها لأرضهم , قاتلوا عليها في الجاهلية , وأسلموا عليها في الإسلام، إنهم ليرون أنا نظلمهم , ولولا النعم التي يحمل عليها في سبيل الله ما حميت على الناس شيئًا من بلادهم أبدًا. قال أسلم: فسمعت رجلًا من بني ثعلبة يقول له: يا أمير المؤمنين , حميت بلادنا , قاتلنا عليها في الجاهلية , وأسلمنا عليها في الإسلام. يرددها عليه مرارًا , وعمر واضع رأسه إليه , ثم إنه رفع رأسه إليه , ثم قال: البلاد بلاد الله , ويحمي النعم مال الله , يحمل عليها في سبيل الله.
حدثنا إسحاق بن عيسى , عن مالك بن أنس , عن زياد بن أسلم , عن عامر بن عبد الله بن الزبير - قال أبو عبيد: أحسبه عن أبيه – قال: أتى أعرابي عمر فقال: يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية , وأسلمنا عليها في الإسلام على ما تحميها، قال: فأطرق عمر , وجعل ينفخ ويفتل شاربه - وكان إذا كربه أمر فتل شاربه ونفخ - فلما رأى الأعرابي ما به , جعل يردد ذلك عليه , فقال عمر: المال مال الله , والعباد عباد الله , والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبرًا في شبر.
قال مالك: بلغني أنه كان يحمل في كل عام على أربعين ألفًا من الظهر.
وكان مالك بن أنس يأخذ بالحديث المرفوع الذي في النقيع قال: السنة أن يحمى النقيع لخيل المسلمين إذا احتاجوا إلى ذلك , ولا يحمى إلى غيرها. قيل له: فلإبل الصدقة؟ قال: لا، ولو جاز ذلك لحجرت الأحماء.(4/1055)
وأما سفيان بن سعيد فيروى عنه أنه قال: قد أبيحت الأحماء. وقال ابن زنجويه (1) : أخبرنا عبد الله بن صالح , حدثني الليث , حدثني يونس , عن ابن شهاب قال: ((بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع , وأن عمر حمى الشرف والربذة)) .
أخبر ابن أبي أويس إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أبي أويس الأصبحي بن أبي أويس ابن أخت مالك ونسيبه , كما يقول ابن حجر (تهذيب التهذيب ج: 1. ص: 310. ترجمة: 562) , روى عن عدد , منهم خاله مالك , وأكثر عنه , ومنهم سلمة بن وردان وابن أبي الزناد وعبد العزيز الماجشون وسليمان بن بلال , وأخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه , وتكلم فيه النسائي فاشتد عليه , وزعم البعض أنه قرأ من كتابه اعترافًا له بأنه ربما وضع الحديث لبعض أهل المدينة فيما اختلفوا فيه , لكن ذكرت بعض الروايات عن أحمد أنه قال: لا بأس به. وكذلك عن ابن معين , ووصفه بعضهم بأنه مغفل ضعيف العقل , وزعم آخرون أنه ارتشى من تاجر عشرين دينارًا حتى باع على الأمير ثوبًا يساوي خمسين بمائة , وإن صح هذا , فلعله تأوله جعلا , وليس ارتشاء , وقد أبدوا وأعادوا بالقول فيه , بيد أن روايتي الشيخين والترمذي وأبي داود وابن ماجه عنه وتوثيق أبي حاتم له وبعض ما روى عن أحمد وابن معين فيه , كل ذلك يدعو إلى الارتياب في أقاويلهم وما أكثر ما تقول بعضهم في بعض , يغفر الله لهم. حدثني مالك , عن عمه أبي سهل بن مالك (2) عن أبيه , (3)
__________
(1) سقط الهامش من الأصل (المجلة)
(2) نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو سهل التميمي المدني حليف بني تميم , كما يقول ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:10. ص: 409. ترجمة: 737) روى عن أبيه وابن عمر وسهل بن سعد وأنس وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وغيرهم , روى عنه الزهري , وهو من أقرانه , وابن أخيه مالك بن أنس وغيرهما , وأخرج له الجماعة ووثقوه , وذكر الواقدي أنه كان يأخذ عنه القراءة بالمدينة توفي -رحمه الله - في إمارة بني العباس.
(3) مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو أنس , ويقال: أبو محمد , جد مالك بن أنس الفقيه , هكذا ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب (ج: 10. ص. 19. ترجمة: 25) , روى عن عمر وطلحة وعقيل بن أبي طالب وأبي هريرة وعائشة وربيعة بن محرز كاتب عمر وكعب الأحبار , وروى عنه أنس والربعي ونافع , وكذلك سليمان بن يسار وسالم بن أبي النضر ومحمد بن إبراهيم التيمي , أخرج له الجماعة , ولم يتكلم فيه أحد , وتوفي حين اجتمع الناس على عبد الملك سنة أربع وسبعين , واضطربوا في تحديد تاريخ مولده , لكن ابن حجر يقول: قد صح سماعه عن عمر , فإنه قال: شهدت عمر عند الجمرة. قلت: وهذا يعني أنه على الأرجح ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم , رحمه الله رحمة واسعة.(4/1056)
أن عمر بن الخطاب قال ليرفأ (1) كم تعلفون هذا الفرس؟ قال: ثلاثة أمداد أو صاعًا، شك أيُّ ذلك أو يقول، فقال له عمر: إن هذا لكاف أهل بيت من العرب , فقال يرفأ: يا أمير المؤمنين , أما ترد عليه إبل الصدقة؟ فقال عمر: أنت تقول ذلك , والذي نفسي بيده لتعالجن من ذا النقيع.
أخبرنا ابن أبي أويس , حدثني مالك , عن زيد بن أسلم , عن أبيه , أن عمر استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى , فقال له: يا هني , اضمم جناحك عن المسلمين , واتق دعوة المظلوم , فإن دعوة المظلوم مستجابة , وأدخل رب الصريمة والغنيمة، وإياي ونعم بن عفان ونعم بن عوف , فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى زرع ونخل , وأن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه , فيقول: يا أمير المؤمنين , فتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب , وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم , إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية , وأسلموا عليها في الإسلام , والذي نفسي بيده , لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا.
أخبرنا عبد الله بن صالح , عن الليث بن سعد , عن زيد بن أسلم , عن أبيه قال: سمعت عمر وهو يقول لهني حين استعمله على حمى الربذة ... فذكر نحوه , وزاد فيه قال: قال أسلم: فسمعت رجلًا من بني ثعلبة يقول له: يا أمير المؤمنين , حميت بلادنا، قاتلنا عليها في الجاهلية , وأسلمنا عليها في الإسلام. يرددها عليه مرارًا , وعمر رافع رأسه , ثم إنه رفع إليه رأسه , فقال: البلاد لله , ونحمي النعم مال الله يحمل عليه في سبيل الله.
قال أبو داود (2) حدثنا بن سرح. أخبرنا وهب. أخبرني يونس , عن ابن شهاب , عن عبيد الله بن عبد الله , عن ابن عباس , عن الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) . قال ابن شهاب: ((وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع.)) .
__________
(1) ترجم له ابن حجر في الإصابة (ج: 3. ص: 672. ترجمة: 9387) فيمن ترجم لهم في القسم الثالث , فقال: حاجب عمر , أدرك الجاهلية وحج مع عمر في خلافة أبي بكر.
(2) ساقطة من الأصل.(4/1057)
حدثنا سعيد بن منصور. حدثنا عبد العزيز بن محمد وعبد الرحمن بن الحرث , عن ابن شهاب , عن عبيد الله بن عبد الله , عن عبد الله بن عباس , عن الصعب بن جثامة , أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع , وقال: ((لا حمى إلا لله عز وجل)) .
وقال ابن حبان (1) : أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى , قال: حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي , قال: حدثنا عبد الله بن نافع , قال: حدثنا عاصم بن عمر , عن عبد الله بن دينار , عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين)) .
أخبرنا حامد بن محمد بن شعيب , قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم , قال: حدثنا يحيى بن حمزة , عن الزبيدي , عن الزهري , عن عبيد الله بن عبد الله , عن ابن عباس , عن الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) .
أخبرنا الحسن بن عبد الجبار. حدثنا يحيى بن معين , حدثنا علي بن عياش. حدثنا شعيب بن أبي حمزة , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حمى إلا لله عز وجل)) .
وقال البيهقي (2) أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان. أنبأ أحمد بن عبيد الصفار. حدثنا ابن ملحان وعبيد بن شريك , قالا: حدثنا يحيى , حدثنا الليث , عن يونس , عن ابن شهاب , عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة , عن ابن عباس , عن الصعب بن جثامة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) . قال: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع , وأن عمر بن الخطاب حمى الشرف والربذة.
أخبرنا أبو الحسن بن بشران العدل ببغداد. أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار. أنبأ أحمد بن منصور الرمادي. حدثنا عبد الرزاق. أنبأ معمر , عن الزهري , عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة , عن ابن عباس , أن الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) . قال الزهري رحمه الله: فكان لعمر بن الخطاب حمى , بلغني أنه كان يحميه لإبل الصدقة.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.(4/1058)
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ. حدثنا أبو عوانة محمد بن أحمد بن مهان الحراني بمكة. حدثنا محمد بن علي بن زيد. حدثنا سعيد بن منصور. حدثنا عبد العزيز بن محمد. حدثنا عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة , عن الزهري , عن عبيد الله بن عبد الله , عن ابن عباس , عن الصعب بن جثامة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع , وقال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) .
أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو. أنبأ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار. حدثنا محمد البرتي. حدثنا القعنبي , حدثنا عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب , عن نافع , عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين ترعى فيه)) .
أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن الحسن العدل. أنبأ أبو بكر محمد بن جعفر المزكي. حدثنا محمد بن إبراهيم العبدي , حدثنا ابن بكير , حدثنا مالك , عن زيد بن أسلم , عن أبيه , أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى , وقال له: يا هني , اضمم جناحك عن المسلمين , واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإيإي ونعم بن عفان ونعم بن عوف , فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع , وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه , فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر عليك (1) من الذهب والورق، وايم الله، إنهم ليروني أني قد ظلمتهم أنها لبلادهم , قاتلوا عليها
في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده , لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله , ما حميت على الناس في بلادهم شبرًا.
__________
(1) لعل فيه تصحيفًا صوابه: (أيسر علي) كما في الحديث الذي نقلناه آنفًا عن البخاري بسنده من طريق إسماعيل بن أسلم إلى عمر بن الخطاب.(4/1059)
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ. حدثنا علي بن عيسى الحيري. حدثنا محمد بن عمرو الحرشي. حدثنا يحيى بن يحيى , أنبأ المعتمر بن سليمان التيمي. حدثنا أبي. حدثنا أبو نضرة , عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري , قال: سمع عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن وفد أهل مصر قد أقبلوا , فاستقبلهم , , فلما سمعوا به , أقبلوا نحوه , قال: وكره أن يقدموا عليه المدينة , فأتوه , فقالوا له: ادع بالمصحف , وافتح السابعة , وكانوا يسمون سورة يونس السابعة , فقرأها , حتى أتى على هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (1) قالوا له: قف , أرأيت ما حميت من الحمى , الله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال: امضه , نزلت في كذا وكذا , فأما الحمى فإن عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة , فلما رأيت زادت إبل الصدقة , فزدت في الحمى لما زاد في الصدقة.
أخبرنا أبو الحسين بن بشران. أنبأ أبو محمد الدعلج بن أحمد بن دعلج. حدثنا محمد بن علي بن زياد. حدثنا سعيد بن منصور. حدثنا يونس بن أبي يعفور , عن أبيه قال: قال عبد الله بن عمر: اشتريت إبلًا , وأنجعتها إلى الحمى , فلما سمنت , قدمت بها، قال: فدخل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - السوق , فرأى إبلًا سمانًا , فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل: لعبد الله بن عمر، قال: فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ بخ ابن أمير المؤمنين، قال: فجئته أسعى , فقلت: مالك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل؟ قال: قلت: إبل إنضاء اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى , أبتغي ما يبتغي المسلمون. قال: فقال: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر اغد على رأس مالك , واجعل باقيه في بيت مال المسلمين.
__________
(1) الآية رقم: (59) من سورة يونس.(4/1060)
وقال الحاكم (1) حدثنا علي بن عيسى. حدثنا محمد بن عمرو الحرشي. حدثنا يحيى بن يحيى. أنبأنا المعتمر بن سليمان التيمي. حدثنا أبي. حدثنا أبو نضرة , عن أبي سعد مولى أبي أسيد الأنصاري , قال: سمع عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن وفد أهل مصر قد أقبلوا نحوه , قال: وكره أن يقدموا عليه المدينة , قال: فأتوه , فقالوا له: ادع بالمصحف , وافتتح السابعة، وكانوا يسمون سورة يونس السابعة , فقرأها , حتى أتى على هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} فقالوا له: قف أرأيت ما حميت من الحمى , الله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال: امضه , نزلت في كذا وكذا، فأما الحمى فإن عمر قد حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت وزادت إبل الصدقة , فزدت في الحمى لما زاد في الصدقة.
وقال الطبري (2) في مساق الحديث عن المتحزبين على عثمان - رضي الله عنه - وقد اجتمع منهم نفر وأحاطوا بالمنبر , وأحاط بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكان عثمان على المنبر يناظرهم، فكان مما جرى بين الفريقين:
قالوا: وحميت الحمى , وإني والله ما حميت، حُمي قبلي , والله ما حموا شيئًا لأحد , ما حموا إلا غلب عليه أهل المدينة , ثم لم يمنعوا من رعيه أحدًا، واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها , لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا ولا نحو منها أحدًا إلا من ساق درهمًا وما لي من بعير غير راحلتين , وما لي ثاغية ولا راغية , وإني قد وليت، وإني أكثر العرب بعيرًا وشاء , فما لي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجي، أكذلك؟ قالوا: اللهم نعم.
ثم قال (3) في رواية أخرى وكلتاهما عن سيف سيف بن عمر التيمي البرجمي - بضم الباء والجيم نسبة إلى البراجم قبيلة من تميم - ويقال: السعدي , ويقال: الضبعي , ويقال:
الأسدي , هكذا قال ابن حجر في تهذيب التهذيب (ج: 4. ص: 295. ترجمة: 5:6) , وقال غيره: الأسيدي الكوفي صاحب كتاب الردة والفتوح , روى عن عبد الله بن عبد الله العمري وأبي الزبير وابن جريج وإسماعيل بن أبي خالد وهشام بن عروة ويحيى بن سعيد ومحمد بن إسحاق والكلبي وآخرين , وعنه النضر بن حماد العتكي ويعقوب بن إبراهيم , ويظهر أنه هو أيضًا روى عن يعقوب كما في هذه الرواية المنقولة عن الطبري , وسعد أخيه - ويظهر أنه هو وشعيب الذي ورد في النسخة المطبوعة بدار المعارف من تاريخ الطبري خطأ - والمحاربي وجماعة.
__________
(1) المستدرك. ج: 2. ص: 339. تاريخ الرسل والملوك. ج: 4. ص: 347.
(2) تاريخ الرسل والملوك ج 4 ص 347.
(3) تاريخ الرسل والملوك. ص: 354.(4/1061)
قال ابن معين (التاريخ. ج: 2. ص: 245. ترجمة: 2262) : سيف بن عمر يحدث عنه المحاربي , وهو ضعيف. ونقل عنه ابن حجر – ولم نجد في التاريخ – قوله: فليس خير منه. وقال الرازي في (الجرح والتعديل. ج: 4. ص: 278.
ترجمة: 1198) : سئل أبي عن سيف بن عمر الضبي , فقال: متروك الحديث لشبه حديثه حديث الواقدي , ونقل ابن حجر عن أبي داود قوله: ليس بشيء , وعن النسائي والدارقطنى ضعيف متروك. قلت: الذي في الضعفاء للنسائي كلمة
ضعيف وحدها , كما أنها ليست عند الدارقطنى , والذي في كتابه (الضعفاء والمتركين. ص: 104. ترجمة: 283) سيف بن عمر الأسيدي كوفي عن العالم الكوفيين والبصريين والحجازيين، ومع غموض العبارة لا نجد فيها كلمة الترك وإن كان اسم الكتاب الضعفاء والمتروكين. ونقل ابن عدي في (الكامل. جـ 3. ص: 1271) عن يحيى بن معين ما نقله ابن حجر - ولعله نقله عنه - قوله في سيف: فليس خير منه. وأسند إليه حديثًا عن المعلمين , وتعقبه بقوله: هذا حديث منكر الموضوع , وقد اتفق في هذا البحث ثلاثة من الضعفاء , فرووه: عبيد بن إسحاق الكوفي العطار , يلقب عطار المطلقات , ضعيف , وسيف بن عمر الضبي كوفي - لاحظ جيدا قوله: كوفي - وسعد الإسكاف كوفي ضعيف , وهو أضعف الجماعة , فأرى والله أعلم أن البلاء من جهته , ثم أسند إليه أربع أحاديث , ثم قال: ولسيف بن عمر أحاديث غيرها ذكرت , وبعض أحاديثه مشهورة , وعامتها منكرة , لم يتابع عليها , وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق. قلت: مما أنكر عليه ابن عدي أو ضعفه حديث يبرئه من تهمة التشيع - فقد قال ابن عدي: حدثنا صدقة , حدثنا عبد الله. حدثنا عمي. حدثنا سيف بن عمر , عن عطية بن الحارث , عن أبي أيوب. وعن علي وعن الضحاك , عن ابن عباس. وعمرو بن محمد , عن الشعبي وسعيد بن جبير , عن أبي عباس قالوا: والله إن إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} - الآية رقم: (3) من سورة التحريم – وقال أبو نعيم الأصبهاني في كتابه (الضعفاء. ص: 91. ترجمة: 95) : سيف بن عمر الضبي - الكوفي متهم في دينه مرمي بالزندقة ساقط الحديث , لا شيء. قلت: يظهر أنه تأثر بابن حبان الذي قال في كتابه (المجروحين. ج: 1. ص: 245 و246) : من أهل البصرة - لاحظ قوله من
أهل البصرة واتفاق غيره على أنه كوفي - واتهم بالزندقة , يروي عن عبد الله بن عمر - يعني العمري - روى عنه المحاربي والبصريون , كان أصله من الكوفة يروي الموضوعات عن الأثبات.(4/1062)
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد السلام ببيروت. سمعت الجعفر بن أبان , يقول: سمعت ابن نمير , يقول: سيف الضبي تميمي , كان جمع يقول: حدثني رجل من بني تميم , وكان سيف يضع الحديث , وكان قد اتهم بالزندقة. ونقل ابن حجر عن الحاكم قوله: اتهم بالزندقة , وهو في الرواية ساقط , وذكره الذهبي في (الكشاف. ج: 1. ص: 333. ترجمة: 2245) , ضعفه ابن معين وغيره , ولكنه قال في المغني (ج: 1. ص: 292. ترجمة: 276) : متروك باتفاق , ونقل عن ابن حبان اتهامه بالزندقة وبرواية الموضوعات , ثم قال: أدرك التابعين , وقد اتهم. قلت: لا أدري من أين جاءه زعم الاتفاق على تركه، فإن صح الاتفاق فعلى ضعفه , وليس على تركه , وقد ذكروا جميعًا أن الترمذي روى عنه. وقال في الميزان (ج: 2. ص: 255. ترجمة: 3637) : هو كالواقدي يروي عن هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر وجابر الجعفي وخلق كثير من المجهولين , كان إخباريًا عارفًا , روى عنه جبارة بن المغلس وأبو معمر القطيعي والنضر بن حماد العتكي وجماعة. ثم ساق روايات من ضعفوه أو اتهموه أو تركوه , ونقل أحاديث مما أسند إليه ابن عدي , ثم قال: مات زمن الرشيد. قلت: هذه محصلة كلامهم عنه , وما نعرف من اشتد عليه مثل أبي حاتم وابن حبان , وهذا أشد , لكن روى عنه الترمذي , وإن أنكر حديثًا من مروياته وأسند إليه الطبري في تاريخه نحوا من 269 مرة ومثل الطبري في علمه وتقواه وتحريه وبصره بالحديث وتوقيره له وتثبته فيه , لا يعقل أن يسند مثل هذا العدد من الروايات المتصلة بتاريخ الإسلام وجانب منها متصل بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين إلى راو ممن يصح أن يقال فيه: متروك، أو يتهم بالزندقة أو الوضع. ويتراءى لنا أنه أصيب به الواقدي وابن الكلبي وغيرهما من الإخباريين , فبالاستقراء نكاد نجزم أن نقدة الحديث كان رأيهم سيئا في الإخباريين غالبًا , وقد تكون نزعة الجمع والحشد تهيمن على الإخباريين , فتمنعهم من شدة التحري والتثبت فيما ينقلون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , بيد أننا نشعر بالحرج الشديد من التهم التي يلصقونها بهم لمجرد أنهم إخباريون , وإذا اتهمنا سيفًا بالوضع أو وصفنا حديثه بالترك , فإن نتيجة ذلك ستجعلنا نشك في جانب كبير , ولعله الأكبر من روايات الطبري في تاريخه , وإذن فستضطرب معارفنا من تاريخ الإسلام في عهوده الأول , وهي عهود التشريع وقد تنهار , والذي يتراءى لنا أن سيفًا كانت له نزعة سياسية , ولعله كان عباسي النزعة , ولعله أسهم في الدعوة العباسية , فكان خصوم نزعته يحاربونه - كما هو الشأن في الصراعات السياسية - غالبًا – بمختلف وسائل الحرب وأيسرها وأفعلها الاتهام في الدين والأمانة , لذلك فنحن نستقبل كلامهم في سيف أمثاله من الإخباريين بكثير من التحفظ والتحرج.
قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم , قال: حدثنا معتمر بن سليمان التيمي , قال: حدثنا أبي , قال: حدثنا أبو نضرة , عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري قال: سمع عثمان , أن وفد أهل مصر قد أقبلوا , قال: فاستقبلهم , وكان في قرية له خارجة عن المدينة - أو كما قال - فلما سمعوا به , أقبلوا نحوه إلى المكان الذي هو فيه , قال: وكره أن يقدموا عليه بالمدينة أو نحو من ذلك , قال: فأتوه , فقالوا له: ادع بالمصحف , قال: فدعى بالمصحف , فقالوا له: افتح التاسعة (1) قال: وكانوا يسمون سورة يونس التاسعة - قال: فقرأها حتى أتى على هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} قال: قالوا له: قف , فقالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى , الله أذن لك أم على الله تفتري؟ قال: فقال: امضه , نزلت في كذا وكذا , قال: وأما الحمى فإن عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة , فلما وليت زادت إبل الصدقة , فزدت في الحمى لما زاد في إبل الصدقة، إلى آخر القصة.
وذكر ابن كثير (2) ما يشبه هذه القصة، لكن نسب القول إلى علي لا إلى عثمان، فكان مما جاء في سياق قوله: فانطلق علي بن أبي طالب إليهم – يعني إلى المتحزبين من الأنصار على عثمان - وهم بالجحفة , وكانوا يعظمونه ويبالغون في أمره، فردهم وأنبهم وشتمهم , فرجعوا على أنفسهم بالملامة , وقالوا: هذا الذي تحاربون الأمر بسببه - ويظهر أن أصحاب هذه المقولة من المصريين إذ كان هوى المصريين مع علي أيام الفتنة على عثمان - وتحتجون عليه به، ويقال: إنه ناظرهم على عثمان , وسألهم ماذا ينقمون عليه، فذكروا أشياء منها أنه حمى الحمى. إلى آخر ما نقل من مقولاتهم.
ثم قال: فأجاب علي عن ذلك، أما الحمى فإنما حماه لإبل الصدقة لتسمن , ولم يحمه لإبله ولا لنفسه , وقد حماه عمر من قبله. إلى آخر القصة.
__________
(1) التاسعة هذه الرواية أدق عدد من روايتي البيهقي والحاكم الآنفتين , فسورة يونس هي التاسعة إذا اعتبرنا سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة , كما كان البعض يعتبرونها في ذلك العهد , وليست السابعة، على أي اعتبار , لأنهم اعتمدوا في ترقيمها على ترتيب المصحف العثماني , فقالوا له: افتح التاسعة , ويظهر أن الوهم كان من أحد الرواة الذين اشترك في الإسناد إليهم الحاكم والبيهقي فليتأمل.
(2) البداية والنهاية. ج: 7 ح: 171.(4/1063)
وأشار ابن أعثم الكوفي (1) وهو مؤرخ الفتوح إلى هذه القصة , ولكن بشكل مختلف , ولعلها تعددت عندئذ لتعدد محاولات عثمان إقناع خصومه , فقال: ثم دخل - أي عثمان - منزله وأغلق بابه وصعد إليهم وكلمهم من السطح قائلًا: أيها الناس , ماذا تريدون مني؟ وأي عمل من أعمالي لا توافقون عليه حتى أبدله؟ وما هدفكم حتى أحققه لكم وأحصل على رضاكم؟ فأجابوا: لقد حجزت عنا ماء المطر ومنعت مواشينا من ورود ذلك الماء، فقال عثمان: لقد حجزت الماء من إبل الصدقة، والآن إذا كان هذا لا يرضيكم , فهو لكم , فافعلوا به ما تشاؤون , فقالوا: لقد حجزت ذلك الماء أكثر مما حجزه عمر - رضي الله عنه - وقال: لقد كثرت إبل الصدقة في هذه الأيام , فلذلك اشتدت الحاجة إلى الماء، ولهذا كنت قد حجزت الماء. إلى آخر القصة.
وانفراد مؤرخ الشيعة لتخصيص الماء بالحماية أو بأنه علة الحماية , يحمل على التساؤل عن الحافز إلى هذا التخصيص , إلا أن يكون أطلق الماء على الكلأ باعتباره سببًا لنياته. ثم لماذا اجتنب كلمة الحمى أو أية كلمة مشتقة منها؟ لعله ممن ينكر الحماية أصلًا , وهو شذوذ.
وقال مالك (2) عن زيد بن أسلم عن أبيه , أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى , فقال: يا هني , اضمم جناحك على الناس , واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مستجابة , وأدخل رب الصريمة والغنيمة , وإياي ونعم بن عفان وابن عوف , فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى المدينة إلى زرع ونخل، وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيته فيأتي ببنيه , ويقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين , أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق , وايم الله أنهم ليرون أن قد ظلمتهم , إنها لبلادهم ومياههم , قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام , والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حبست عليهم من بلادهم شبرًا.
وقال الشافعي (3) أخبرنا سفيان ابن عيينة , عن الزهري , عن عبد الله بن عبد الله , عن ابن عباس , عن الصعب بن جثامة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) .
__________
(1) الفتوح. المجلد: 1. ص: 450 وما بعدها.
(2) الموطأ. ص: 849 , الأثر: 221.
(3) تهذيب مسند الشافعي. ج: 2. ص: 131 و132. ح: 433، 434.(4/1064)
أخبرنا عبد العزيز بن محمد , عن زيد بن أسلم , عن أبيه , أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له , يقال له: هني , على الحمى , فقال له: يا هني , ضم جناحيك للناس , واتق دعوة المظلوم , فإن دعوة المظلوم مجابة , وأدخل رب الصريمة، والغنيمة، وإياك ونعم بن عفان ونعم بن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع , وإن رب الغنيمة والصريمة يأتي بعياله , فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين , أفتاركهم أنا لا أبا لك؟ فالماء أهون علي من الدراهم والدنانير , وايم الله لعلى ذلك أنهم ليروني أني ظلمتهم , إنها لبلادهم , قاتلوا عليها في الجاهلية , وأسلموا عليها في الإسلام , ولولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين من بلادهم شبرًا.
وقال أحمد (1) حدثنا قراد قراد بضم القاف , عرف به عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي , ويقال: الضبي أبو نوح. قال ابن حجر (تهذيب التهذيب ج: 6. ص: 247. ترجمة: 495) : سكن بغداد , وروى عن جرير بن حازم وشعبة وعكرمة بن عمار والليث بن سعد ومالك وآخرين , وعنه ابناه محمد وغزوان وأبو معاوية ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وخلق غيرهم , ونقل عن عبد الله بن أحمد عن أبيه قوله: كان عاقلًا من الرجال. وعن ابن معين قوله: صالح ليس به بأس. وعن أبي حاتم: صالح. وعن المدينى بن نمير ويعقوب بن شيبة وابن سعد: ثقة. قال: وذكره ابن حبان في الثقات , وقال - يعني ابن حبان -: كان يخطئ , يتخالج في القلب منه لروايته , عن الليث , عن مالك , عن الزهري , عن عروة , عن عائشة قصة المماليك. وهذه القصة هي ما روي عن مالك , عن عائشة , أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلس بين يديه , فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يكذبوننى ويخونونني ويعصونني , وأضربهم وأسبهم , فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم. ونقل ابن حجر عن الدارقطني قوله: قال لنا أبو بكر - يعنى النيسابوري -: ليس هذا من حديث مالك , وأخطأ فيه قراد. ثم ذكر له سند آخر. قال أحمد: هذا باطل مما وضع الناس , وليس كل الناس يضبط هذه الأشياء، وقال أحمد عن عبد الرحمن هذا: لم يكن يعرف حديث الليث , وإن كان له فضل وعلم , على أن الدارقطني وثق قرادا في الجرح والتعديل , كما يقول ابن حجر: وروى الرازي عن أبيه أنه صدوق , وقد أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. أنبأنا عبد الله بن عمر , عن نافع , عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيله)) .
__________
(1) المسند. ج:2. ص:91.(4/1065)
حدثنا حماد بن خالد , عن عبد الله , عن نافع , عن ابن عمر , أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع للخيل قال حماد: فقلت له: (وفي لفظ: فقلت له: يا أبا عبد الرحمن) - يعني العمري - لخيله؟ قال: لا , لخيل المسلمين.
حدثنا مصعب , هو الزبيري , قال: حدثني عبد العزيز بن محمد , عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش المخزومي , عن ابن شهاب , عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود , عن عبد الله بن عباس , عن الصعب بن جثامة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وقال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) .
ومن مجموع هذه الأحاديث والآثار يتجلى:
أ - أن الحمى لم يحدث في الإسلام إلا حوالي السنة الثامنة من الهجرة أو بعدها بقليل، ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول مسلم اقتنى فرسًا حتى قيل: إن الفرسين الوحيدين اللذين كانا مع المسلمين في غزوة أحد كانا ملكًا له، وقيل غير ذلك (1) وغيرهما من كتب السيرة ومدونات الحديث.
وواضح أن حماية النقيع ومساحته ميل في بريد , وهو مكان كثيف الأشجار وافر المياه , لا يتصور أن يحدث لمجرد اتخاذ مرعى خاص لخيل المسلمين، ولكن لأن الحاجة اشتدت إلى تخصيص ذلك المرعى بعد أن تكاثرت النعم والخيل في أيدي المسلمين , فكان لزامًا أن تخص الحيوانات العمومية - إن صح هذا التعبير بمرعى لا تزاحم فيه ولا يضيق عليها , ولا تكون عرضة فيها لأن تستهلك ما بها من ماء وكلأ دواب الخاصة من المسلمين، وهذا يعني أنه لم تكن قد تكاثرت الدواب التابعة للملك العام فحسب , وإنما كانت قد تكاثرت أيضًا وبشكل مواز - اعتبارًا كما يقتضيه مدلول تكاثر الملك العام من الدواب والحاجة إلى تخصيص مرعى له - الدواب الخاضعة لملكية الأفراد ونتيجة لما أسفرت عنه الغزوات والسرايا من غنائم تزداد وفرتها مع تكاثرها، ونتيجة أيضًا لليسر الذي أصبح عليه المسلمون من الاستقرار الاقتصادي الأخذ في النماء والرسوخ للمدينة المنورة والمناطق الخاضعة لنفوذها ثم للحجاز كافة بعد فتح مكة مما أتاح للمسلمين الأموال اللازمة لاقتناء الخيل استجابة لضرورات الحرب ولترغيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الخيل ووصفه الخيل بأن في نواصيها الخير. في أحاديث مشهورة.
__________
(1) انظر ابن سيد الناس عيون الأثر. ج: 2. ص: 5 وما بعدها وحماد بن إسحاق (تركة النبي) . ص: 90 وما بعدها.(4/1066)
ب - فلما كان عهد عمر نشأت حاجة أخرى ليس للاحتفاظ بحمى النقيع فحسب، بل بحماية مناطق أخرى، ذلك بأن إبل الصدقة تكاثرت على حين اتسع نطاق الغزو , وترامت ثغوره , وتعددت مواقع الفتوحات , وكثر المسلمون , وكانت الرغبة لديهم في الجهاد شديدة ملحة، وكان على عمر أن يستجيب لمقتضيات كل هذه العوامل، وأول ما تقتضيه الاستجابة أن يجد أماكن خاصة لرعي ما يخضع للملك العام من الدواب , وخاصة الإبل التي كانت تجلب من الصدقة , ولم يكن من الحكمة توزيعها كلها , ولا كان ذلك من المشروع أيضًا , ففي المسلمين عامة كفاية لمعاشهم بما قدر لهم جميعًا من أعطيات , وبما يقسم على الفقراء والمساكين وغير هؤلاء من المستحقين في الصدقات من أنصبتهم تبعًا لاستحقاقهم، ثم إن للصدقات مصارف أخرى , من بينها ما هو {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) وكل ذلك اضطر عمر إلى أن يحمي مناطق تتوفر فيها الحاجات الضرورية لصيانة دواب المسلمين وإنمائها , ومنها الربذة وما حولها.
ج - وقد يقال: إن النقيع لم يكن ملكًا لأحد , وأن القبائل التي كانت ترتاده أو يعرف بها لم تكن علاقتها به إلا الانتجاع , وهو قول لا يمكن التسليم به، بيد أننا لا نريد أن نناقشه في هذا المجال، لكن ماذا يمكن أن يقال في الربذة وما حولها؟ فهي بنص حديث عمر على اختلاف رواياته ملك لمن حاجوه في شأنها , قاتلوا عليها في الجاهلية , وأسلموا عليها في الإسلام , وهذا يعني أنها كانت مستقرًا لهم , لا يريمون عنه أو كانت خاصة بهم، يختلفون إليها لا تعتدي عليهم فيها قبيلة أخرى , فإن اعتدت قاتلوها فأجلوها. وهذا ما لم ينكره عمر , بل اعترف به , حسب ما تنقل عليه جميع الروايات , ولكنه علل تصرفه بأنه اضطراري لتلبية حاجة إبل الصدقة التي يحمل عليها في سبيل الله، فعمله يمكن أن نطلق عليه التجنيد المالي أو الاستنفار المالي، وأنه في - بعض الروايات - اعتبر أن حاجة ما هو من مال الله تعلو على اعتبار حقوق الأفراد فيما يملكون، فإبل الصدقة التي حمى من أجلها هي من مال الله، والأرض التي حماها أرض الله , والعباد الذين حمى منهم والآخرون الذين حمى لهم عباد الله، وهذا يعني أنه كان يعتبر أن كل حق يزول إذا تعين حق الله , وأن حق الله مقدم على حق العبد إذا كان حق الله متصلًا بالمصلحة العامة أو بما نسميه اليوم بالحق العام , وحق العبد منحصرًا فيما هو من حقوق الأفراد أو الملكية الخاصة، وعلى هذا الاعتبار وطبقًا لهذه الروايات فإن عمر - رضي الله عنه - قد يكون في الإسلام أول من رسم معالم تشريع نزع الملكية الخاصة للمصلحة العامة، وسيتعزز هذا الاعتبار بما سنراه من تصرفه في بعض الأموال المنقولة تصرفًا يتسق معه كل الاتساق.
__________
(1) الآية رقم: (60) من سورة التوبة.(4/1067)
د - ولم ينقل أحد من الرواة مهما يكن موثقًا أو متروكًا أو بينهما مجرد ملاحظة استفهامية , فضلًا عن أن يكون إنكارًا لتصرف عمر في حمية الربذة وما حولها من أي كان من الصحابة غير من حاجه من أهلها في شأنها إن كان فيهم من يعد من الصحابة، وحتى هؤلاء لم ينقل عنهم لجاج في الحِجَاج لما شرح لهم عمر مسوغات تصرفه. ولسنا ندري كيف يكون إجماع الصحابة إن لم يكن هذا من إجماعهم، أنه ليس سكوتيا فحسب , وإنما هو إقرار، وآية ذلك أن عثمان اقتدى به حين وسع المناطق المحمية وحمى غيرها , واحتج به على من ناوؤه واتخذوا حماية الأرض والماء لنعم بيت المال وخيله من مسوغات مناوأتهم له، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة أنه على حق فيما فعل. فإن زعم زاعم أن الصحابة لم يستطيعوا أن يجابهوا عمر بالإنكار وهو المعروف بقوته وصلابته , فهل يستطيع أن يزعم أن من أدرك منهم فتنة الدار لم يستطيعوا أن يجبهوا عثمان , وهو الضعيف بطبيعته، وكان عندئذ في حالة ضعف سياسي جلبت عليه الناقمين المتوعدين من مصر والعراق فضلًا عن الحجاز وبينهم بعض صغار الصحابة. وكان من شهود ذلك اليوم الذي حاج فيه عثمان مناوئيه ممن لم يحتشد عليه وإن كان مناوئًا له , أمثال عمار بن ياسر وربما رافع بن خديج , ومع ذلك لم ينبس أحد منهم بكلمة منكرًا عليه ما صنع وأخذه عليه الغوغاء من حماية بعض المناطق للملك العام. أفليس هذا إجماع إقرار , وليس مجرد إجماع سكوت؟
مهما يكن فإنا نرى الأطوار الثلاثة لحماية الحمى أدلة تثبت من بين ما تثبت من قواعد التشريع قاعدة الظرفية وقاعدة تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وقاعدة تكييف ملكية الأفراد للأرض باعتبارها ليست ملكية رقبة، وإنما هي ملكية منفعة , وما دامت ملكية الرقبة ليست لهم، فإن ملكية المنفعة تزول تلقائيًا عندما تتعين الحاجة إلى تحقيق أمر يتصل بصاحب ملكية الرقبة , وهو الله فيما يتعلق بالأرض , وذلك ما سنعود إليه في مكانه من هذا البحث بمزيد من التفصيل.(4/1068)
12 - الإسلام والمال
وردت كلمة (مال) مفردة معرفة ومنكرة ومضافة وجمعًا مضافًا إلى مخاطب أو إلى غائب ثلاثًا وثمانين مرة , أغلبها تثبت مسؤولية أو تقرر تبعة , أو تذكر بواجب أو تندب إلى معروف , أو تنعي تقصيرًا أو تفريطًا , أو أشرًا وبطرًا , أو تنهى عن تصرف منكر , أو تصف موقفًا سياسيًا , أو تصرفًا جشعًا، وفي جميع هذه المواضيع تضاف الأموال إلى البشر جماعة أو أفرادًا إضافة لفظية أو معنوية تقديرية إن صح هذا التعبير، ذلك بأن الجانب التوجيهي والتهذيبي من القرآن الكريم أكد على إبراز محاسن التصرفات البشرية فيما خولهم الله من مال والحث عليه وإبراز مساوئ تلك التصرفات والتنديد بها وبيان معقباتها الدنيوية والأخروية. فالتشريع القرآني ليس نصوصًا تكليفية مجردة , وإنما هو توجيه تربوي وتكييف أخلاقي أساسًا. والتكليف فيه مجرد تبيان لدرجة ذلك التوجيه والتكييف من الإلزام وما إذا كان فيه مجال للتخيير وطبيعة ذلك المجال إن وجد من ندب وإباحة وكراهة وتحديد مناط هذا المجال صراحة أحيانًا وإيحاء أحيانًا أخرى. ومرد ذلك إلى أن التشريع الإلهي مقصده تربية الفرد والمجتمع المسلم تربية قوامها تحديد المسؤولية وتبيين التبعة وتوضيح العاقبة ورسم معالم السلوك.
وفي هذا الإطار التربوي نفسه وردت كلمة (مال) مضافة إلى الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} (1)
وردت معرفة بـ: (أل) أربع مرات، أولاها في تحديد مصارف الحقوق على المتمول لأصناف من المحرومين وممن تتعين عليه وما بينهم أو تجب على المجامع كافة مساعدتهم. فقال جل جلاله في سياق تحديد معنى البر: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (2) الآية. والثانية في معرض ذكر موقف سياسي لبني إسرائيل , ولكن يلاحظ فيه أن المال لم يأت ذكره باعتباره ملكًا لفرد أو جماعة , وإنما جاء باعتباره - بصورة ضمنية - ملكًا لله، فقال جل جلاله: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} الآية (3) والثالثة جاءت في معرض وصف الحياة الدنيا وما تزدان به وتختلف عن الآخرة وما يؤدي إليها، قال جل جلاله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية (4) والرابعة وردت في سياق تبيان بعض الأسباب لما ينزل على الإنسان من بلاء في الدنيا أو يناله من عقاب في الآخرة.
__________
(1) الآية رقم (33) سورة النور.
(2) الآية رقم (177) سورة البقرة.
(3) الآية رقم: (247) من سورة البقرة.
(4) الآية رقم: (46) من سورة الكهف.(4/1069)
قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} الآية (1)
ووردت ست مرات بصيغة الجمع المضاف , وكلها تحدد طبيعة علاقة المال بالناس أو علاقة الناس بالمال من حيث إنها مجرد وظيفة اجتماعية تترتب معقبات وتبعات على ممارستها , أولاها وثانيها قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية (2) ففي هذه الآية الكريمة أضيفت الأموال مرة إلى ضمير المخاطبين , ومرة إلى الظاهر غير الموجه إليه الخطاب مباشرة , وإن كان موجهًا إليه ضمنًا. الثالثة وردت كلمة (أموال) مضافة إلى ظاهر الغائب غير المخاطب مباشرة لكن في معرض التنديد بتصرفاتهم المخالفة لشريعة الله والتي استوجبوا بها العقاب , وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (3)
وكذلك الشأن في الرابعة حيث وردت مضافة إلى ظاهر الغائب المخاطب مباشرة , وذلك في معرض التنديد بتصرفات الرهبان التي لا تختلف عن تصرفات اليهود الوارد التنديد بها في الآية السابقة. قال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (4)
وواضح أن من هذه الآيات أن القرآن الكريم يبين بما لا مجال فيه لافتعال أي تأويل أن علاقة الإنسان بالمال منقولًا كان أو ثابتًا، إنما هي وظيفة اجتماعية تترتب على حسن أدائها أو سوئه نتائج دنيوية وأخروية، وقبل أن نمضي في استجلاء ما يتصل من هذا التبيان القرآني بهذا البحث نقف عند ما أثر عن أئمة التفسير من سلف ومعاصرين في معنى هذه الآيات.
__________
(1) الآية رقم: (20) من سورة الفجر.
(2) الآية رقم: (188) من سورة البقرة.
(3) الآية رقم: (160 و161) من سورة النساء.
(4) الآيتان رقم: (34 و35) من سورة التوبة.(4/1070)
ففي قوله تعالى: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الآية (1)
يقول ابن جرير الطبري (2) حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم , قالا: حدثنا هشيم , قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم , عن الشعبي , سمعته سأل: هل على الرجل حق في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ} .
حدثنا أبو كريب , قال: حدثنا سويد بن عمرو الكلبي , قال: حدثنا حماد بن سلمة , قال: أخبرنا أبو حمزة , قال: قلت للشعبي: إذا زكى الرجل ماله أيطيب له ماله؟ فقرأ هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إلى {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} إلى آخرها.
ثم قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله , إن لي سبعين مثقالًا من ذهب. فقال: ((اجعليها في قرابتك)) .
حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يحيى بن آدم , عن شريك قال: حدثنا أبو حمزة فيما أعلم , عن عامر , عن فاطمة بنت قيس , أنها سمعته يقول: ((إن في المال لحقًا سوى الزكاة)) .
حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال: حدثنا ابن علية , عن أبي حيان , قال: حدثني مزاحم بن زفر , قال: كنت جالسًا عند عطاء , فأتاه أعرابي , فقال: إن لي إبلًا , فهل علي فيها حق بعد الصدقة؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ قال: عارية الذلول وطروق الفحل والحلب.
ثم قال: وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء واجب في المال، حق على صاحب المال أن يفعله سوى الذي عليه من الزكاة.
__________
(1) الآية رقم: (177) سورة البقرة.
(2) جامع البيان. ج: 2. ص: 56 و57.(4/1071)
حدثنا الربيع بن سليمان , قال: حدثنا أسد , قال: حدثنا سويد بن عبد الله , عن أبي حمزة , عن عامر , عن فاطمة بنت قيس , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((في المال حق سوى الزكاة , وتلا هذه الآية {لَيْسَ الْبِرَّ} إلى آخر الآية)) .
وقال السيوطي (1) وأخرج الترمذي (2) وابن ماجه (3) وابن جرير (4) وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي (5) والدارقطني (6) وابن مردويه عن فاطمة بنت قيس , قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في المال حق سوى الزكاة)) ، ثم قرأ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية.
__________
(1) الدر المنثور. ص: 171 و172.
(2) رواه التزمذي (ج: 3. ص: 48. ح: 659 و660) من طريقين , فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن مدويه. حدثنا الأسود بن عامر , عن شريك , عن أبي حمزة , عن الشعبي , عن فاطمة بنت قيس قالت: سألت أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة , فقال: إن في المال لحقا سوى الزكاة , ثم تلا هذه الآية التي في البقرة {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية.
(3) الذي في ابن ماجه (السنن. ج: ا. ص: 570. ح: 1789) : حدثنا علي بن محمد. حدثنا يحيى بن آدم , عن شريك , عن أبي حمزة , عن الشعبي , عن فاطمة بنت قيس , أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليس في المال حق سوى الزكاة. ووهم محققه محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله في تحقيقه للجزء الثالث من الجامع الصحيح للترمذي حين علق على الحديث ورقم: (659) انظر التعليق رقم: (489) , إذ قال: أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب: ما أدى زكاته فليس بكنز , ورقم الحديث: بـ 1799 وهو خطأ، فالحديث المرقوم بهذا الرقم يتصل بصدقة الإبل , وحديث فاطمة بنت قيس في ابن ماجه يختلف عن حديثها في الترمذي وغيره. فتأمل.
(4) جامع البيان. ص: 57.
(5) لم يخرج ابن عدي في الكامل حديث فاطمة بنت قيس من طريق أبي حمزة على أنه تكلم في أبي حمزة ونقل كلام الآخرين وأسند إليه بعض الأحاديث , ثم قال: (ولميمون الأعور غير ما ذكرت , وأحاديثه التي يرويها خاصة عن إبراهيم مما لا يتابع عليها, وقلت: وهذا يعني أن غير أحاديثه عن إبراهيم قد يتابع عليها ولست أدري من أين كان للسيوطي أن ينسب إلى ابن عدي رواية حديث فاطمة بنت قيس عن طريق أبي حمزة إلا أن يكون وجده في كتاب غير الكامل
(6) لم نقف عليه في مظانه , ولعل هذا من أوهام السيوطي.(4/1072)
وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ((في المال حق بعد الزكاة؟ قال: نعم يحمل على النجيبة)) .
وأخرج عبد بن حميد , عن الشعبي , أنه سئل: هل على الرجل في ماله حق سوى الزكاة؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} إلى آخر الآية.
وأخرج عبد بن حميد , عن ربيعة بن كلثوم , قال: حدثني أبي , قال لمسلم بن يسار: إن الصلاة صلاتان , وإن الزكاة زكاتان , والله إنه لفي كتاب الله , أقرأ عليك به قرآنًا. قلت له: اقرأ , قال: فإن الله يقول في كتابه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} , فهذا وما دونه تطوع كله , وأقام الصلاة على الفريضة , وآتى الزكاة , فهاتان فريضتان.
ونقل ابن كثير (1) , عن ابن أبي حاتم أنه قال: حدثنا أبي. حدثنا يحيى بن عبد الحميد. حدثنا شريك , عن أبي حمزة , عن الشعبي. حدثتني فاطمة بنت قيس ((أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفللمال حق سوى الزكاة؟ فقالت: وتلا: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} )) . قال ابن كثير: ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن إلياس ويحيى بن عبد الحميد , كلاهما عن شريك , عن أبي حمزة , عن الشعبي , عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في المال حق سوى الزكاة، ثم قرأ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إلى قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} )) .
وأخرجه ابن ماجه والترمذي وضعف أبا حمزة ميمون الأعور (2) وقد رواه السيار وإسماعيل بن سالم عن الشعبي.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم. ج: 1. ص: 208.
(2) ميمون الأعور تأتي ترجمته في الأصل. انظر ص 1402.(4/1073)
وقال ابن العربي (1) عند استنباطه الأحكام من الآية الكريمة {وَآتَى الْمَالَ} : وقد كان الشعبي فيما يؤثر عنه يقول: في المال حق سوى الزكاة، ويحتج بحديث يروى عن فاطمة بنت قيس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في المال حق سوى الزكاة)) ، وهذا ضعيف لا يثبت عن الشعبي , ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة , فإنه يجب صرف المال إليه باتفاق العلماء، وقد قال مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم , وإن استغرق ذلك أموالهم , وكذا إذا منع الوالي الزكاة , فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ مسألة فيها نظر , أصحها عندي وجوب ذلك عليهم.
قلت: وهذا من عجائب ابن العربي , فهو من ناحية يزعم أنه ليس في المال حق سوى الزكاة، ويحكم بضعف ما أثر عن الشعبي , ويضعف حديث فاطمة بنت قيس الذي يحتج به الشعبي، ويزعم أن هذا لا يثبت عن الشعبي , ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم - وسنناقش أسانيد أثر الشعبي وحديث فاطمة بعد حين , وهو من ناحية أخرى يقرر أنه إذا عرضت حاجة بعد أداء الزكاة يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء، ويصحح - عنده - أنه يجب على الأغنياء إغناء الفقراء.
وكان من قبل في استنباطه الأحكام من قوله سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (2) قد أورد بين الأقوال المأثورة في تفسيرها أنه وفاء الحقوق الواجبة العارضة في المال باختلاف الأحوال ما عدا الزكاة (3) اللهم إن لم يكن هذا تناقضًا , فوفقني إلى فهم التناقض.
وقد أشار ابن العربي أيضًا إلى موقفه من هذا الحديث في العارضة , إذ رواه الترمذي (4) فقال: مشيرًا إلى تضعيف الترمذي لرواية أبي حمزة.
__________
(1) أحكام القرآن. ج: 1. ص: 59.
(2) الآية رقم: (3) .
(3) أحكام القرآن. ج: 1. ص: 1.
(4) عارضة الآحوذي. ج: 3. ص: 162 و163.(4/1074)
وإذا كان الحديث ضعيفًا , فلا يشتغل به وتفسير الآية في الأحكام - يعني كتابه أحكام القرآن الذي نقلنا منه آنفًا - فلتنظر هنالك فيها وفي غيره - لعل الصواب: فيه وفي غيره - وقد تكرر وتقرر ووقع الشفاء منه بأبدع بيان.
ولكي يتبين تعنت ابن العربي في موقفه هذا , ولا نجد كلمة ألطف من كلمة التعنت في وصفه، ننقل كل ما أخرجه الترمذي في هذا الشأن.
قال (1) باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة.
حدثنا محمد بن أحمد بن مدويه. حدثنا الأسود بن عامر , عن شريك , عن أبي حمزة , عن الشعبي , عن فاطمة بنت قيس قالت: سألت أو سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة , فقال: ((إن في المال لحقًا سوى الزكاة)) ، ثم تلا هذه الآية التي في سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية.
حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن. أخبرنا محمد بن الطفيل , عن شريك , عن أبي حمزة , عن عامر الشعبي , عن فاطمة بنت قيس , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في المال لحقًا سوى الزكاة)) .
قال أبو عيسى: هذا حديث إسناده ليس بذاك , وأبو حمزة وميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث , قوله (2) وهو أصح.
قلت: ومن عجائب ابن العربي أنه لم يعرض لروايتي إسماعيل بن سالم وبيان اللتين أشار إليهما الترمذي ولم يوردهما وصححهما , وكان عليه أن يعرض لهما وإن لم يخرجهما الترمذي , إما لتفنيدهما وبيان العلة فيهما , وإما لاعتمادهما والتخلي عن رأيه الذي حاول بعدم التعرض لهما الاستمرار في التعنت في الدفاع عنه وتأكيده , ونحسب أنه لم يستطع أن يجد مغمزًا في إسماعيل بن سالم الأسدي الذي روى عنه البخاري في الأدب المفرد , ومسلم وأبو داود والنسائي، وقال عنه
ابن سعد: ثقة ثبت، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه فراس قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 8. ص: 259. ترجمة: 482) : فراس بن يحيى الهمذاني الخارفي أبو يحيى الكوفي , روى عن الشعبي وعطية العوفي وأبي صالح السمان وفديك ابن عمارة , روى عنه منصور بن المعتمر , وهو من أقرانه , وزكرياء بن أبي زائدة وشعبة وشيبان وسفيان الثوري والحسن بن عمارة وأبو عوانة وشريك وغيرهم وثقه أحمد وابن معين والنسائي. وقال أبو حاتم: شيخ ما , بحديثه بأس. وقال ابن المدني عن يحيى بن سعيد: ما بلغني عنه شيء وما أنكرت من حديثه إلا حديث الاستبراء , وذكره ابن حبان في الثقات , وقال: مات سنة تسع وعشرين ومائة , وكان متقنا.
قلت - القائل ابن حجر -: وقال العجلي: كوفي ثقة من أصحاب الشعبي في عداد الشيوخ , ليس بكثير الحديث. وقال ابن شاهين في الثقات: قال ابن عمار: ثقة. وقال عثمان - يعني ابن أبي شيبة -: صدوق. قيل له: ثبت؟ قال: لا.
__________
(1) عارضة الآحوذي. ج: 3. ص: 162 و163.
(2) يظهر أن كلمة (قوله) منصوبة على البدلية من (هذا البحث) ومع ذلك فلا نفهم له معنى مفيدًا، فليتأمل.(4/1075)
أقدم موتًا من إسماعيل، وإسماعيل أوثق منه , وفراس فيه شيء من ضعف , وإسماعيل أحسن منه استقامة , وأقدم سماعًا، سمع عن سعيد بن جبير , وكذا قال مسلم عن أحمد , وقال عبد الله , عن أبيه أيضًا: ثقة ثقة، وقال المروزي عن أحمد: ليس به بأس , وهو أكبر من مطرف (1) ثم إنه قال: قد كانت عنده أحاديث الشيعة , وقد نظر له شعبة في كتبه. وقال أبو داود: سألت أحمد عنه , فقال: بخ، قال: وسمعته يقول: صالح الحديث.
قلت - القائل ابن حجر (2) -: قد حكي عن ابن عوانة عن إسماعيل بن سالم أنه سمع زيدًا لا نعرف شيئًا عن هذه القصة , ونظن أن زيدًا هذا هو زيد بن أسلم؛ لأن عدم ذكر نسبه أو كنيته يدل على شهرته عندهم , وما نعلم في ذلك العهد من اسمه زيد يضاهي في شهرته شهرة زيد بن أسلم. رمز ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 3. ص: 395. ترجمة: 728) له بأنه روى عنه الجماعة. قلت: أو مالك أو غيره. قال ابن حجر: زيد بن أسلم العدوي أبو أسامة , ويقال: أبو عبد الله المدني الفقيه مولى عمر
__________
(1) الظاهر أن مطرف هذا هو ابن طريف الحارثي ويقال: الجارفي , كما ذكر ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 10. ص: 172 ترجمة: 323) أبو بكر , ويقال: أبو عبد الرحمن الكوفي , روى عن الشعبي والسبيعي وابن أبي ليلى وعدة غيرهم , وعنه أبو عوانة وهشيم وأبو جعفر الرازي والسفيانان ومحمد بن فضيل وشعبة وآخرون. وثقه أحمد وأبو حاتم وأبو داود وسفيان بن عيينة وابن علية وابن حبان توفي سنة ثلاث وثلاثين أو إحدى أو اثنتين أو ثلاث وأربعين ومائة.
(2) تهذيب التهذيب. ج: 1. ص: 301 و302.(4/1076)
روى عن أبيه وابن عمر وأبى هريرة وعائشة وجابر وآخرين من الصحابة وكبار التابعين , وعنه أولاده الثلاثة , وعبد الله وعبد الرحمن ومالك وابن عجلان وابن جريج وكثير غيرهم من الصدور. قال مالك عن ابن عجلان: ما هبت أحدًا قط هيبة زيد بن أسلم , وقال العطاف عن خالد: حدث زيد بن أسلم بحديث , فقال له رجل: يا أبا أسامة عمن هذا؟ فقال: يابن أخي ما كنا نجالس السفهاء. قلت: هذا جواب صاعق دامغ لمن يتعلقون بحكاية التدليس والإرسال إذا كان السند من أمثال زيد. وقد أخذ عليه بعضهم أنه يفسر برأيه القرآن ويكثر منه , وهو مأخذ من الأفضل أن يعود على أصحابه، فلو وقفنا في تفسير القرآن على المأثور وحده لتعطل الجانب الأكبر من فهم الإسلام وإدراك الشريعة. توفي قبل خروج محمد بن عبد الله بن الحسن، وهكذا قال ابن حجر. يقول: فذكر قصة من معاوية فقال أحمد: ومن سمع هذا من أبي عوانة. وقال ابن أبي خيثمة , عن ابن معين: ثقة أوثق من أساطين مسجد الجامع سمع من هشيم. وقال ابن أبي مريم وغيره: ثقة، زاد ابن أبي مريم: حجة. وقال الدوري عنه: سمع إسماعيل بن أبي صالح ذكوان وقد سمع من أبي صالح باذام، وقال أبو زرعة وأبو حاتم وابن خراش والدارقطني: ثقة، وقال أبو حاتم أيضًا: مستقيم الحديث، وقال ابن عدي: له أحاديث يحدث عنه قوم ثقات , وأرجو أنه لا بأس به.
ثم قال ابن حجر: وقرأت بخط الذهبي في الميزان: لم أسق ذكره إلا تبعًا لابن عدي , ولم يقل فيه إلا: أرجو أنه لا بأس به.
ثم قال ابن حجر: ولعله أراد أن ينقل ما تقدم أنه قيل لأحمد عنه مما يشير به إلى التشيع, لكنه لم يفصح به. وقال يعقوب الفسوي: لا بأس به , كوفي ثقة. وقال أبو علي الحافظ: ثقة عسر في الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات (1)
__________
(1) انظر ترجمته في (التهذيب. ج: 3. ص: 98. ترجمة: 447. والتاريخ الكببر للبخارى. ج: 1. ص: 356. ترجمة: 1125. وتاريخ بغداد للخطيب ج: 6. ص: 212 وما بعدها. ترجمة: 3271. والمعرفة والتاريخ الفسوي. ج: 3. ص: 96. والجرح والتعديل للرازي: (ج: 2. ص: 172. ترجمة: 580) . وتاريخ العلماء الثقات لابن شاهين، ص: 54. ترجمة: 20. والثقات لابن حبان: ج: 6. ص: 29. والتاريخ لابن معين. ج: 2 ص:25.(4/1077)
جميع هؤلاء وثقوه لذلك كان عجبًا أن يذكره ابن عدي في الكامل (1) ويقول - بعد أن يروي حديثًا بسنده إليه -: ولإسماعيل بن سالم أحاديث يحدث عنه قوم ثقات وأرجو أنه لا بأس به.
وينقل عنه الذهبي هذا الموقف في الميزان (2) وكأنه شعر بالحرج من ذلك، فهو يقول: وثقه جماعة ولم أسق ذكره إلا تبعًا لابن عدي) ... إلخ. ومعلوم أن كلا من الذهبي في الميزان وابن عدي في الكامل إنما يترجمان للضعفاء، لكن الذهبي يعود فيذكره في الكاشف (3) ويرمز إلى أن كلا من مسلم وأبي داود والنسائي رووا عنه ويقول عنه: ثقة. والكاشف هو كتابه الخاص بالثقات وقد ترجم له غيرهؤلاء من نقدة الرجال ولا نعرف من أراب فيه غير ابن عدي والذهبي في الميزان تبعًا له ويظهر أن كليهما - أو بالأحرى ابن عدي خاصة - اعتمدا على تلميح أحمد إلى تشيعه لمجرد أنه روى عن زيد، وهب أنه ذو نزعة شيعية , ولم يكن من الدعاة إلى نزعته , فلماذا يُراب؟! غفر الله لأحمد ومن تبعه في التشكيك في هذا المحدث الذي لم يكن مكثرًا , بل هو مقل، فقد اختلفوا في تعداد أحاديثه , منهم من قال: عشرة , ومنهم من أبلغها إلى عشرين.
وقد نقلنا آنفًا من تفسير الطبري حديث إسماعيل بن سالم هذا , وقد رواه من طريق كل من أبي كريب ويعقوب بن إبراهيم، وأبو كريب روى عنه الجماعة وما من أحد يمكن أن يغمز فيه , وقد ترجم له ابن سعد والبخاري والرازي والذهبي وابن حجر (4) وغيرهم من أرباب التراجم ونقدة الرجال الموثقين.
ويعقوب بن إبراهيم الذي أسند إليه الطبري هذا الحديث أيضًا هو الدورقي , روى عنه الجماعة (5)
__________
(1) ج: 1. ص: 282.
(2) ج: 1. ص: 228. ترجمة: 887.
(3) ج: 1. ص: 73. ترجمة: 380.
(4) الطبقات. ج: 6. ص: 289. والتاريخ الكبير. ج: 1. ص: 205. والجرح والتعديل. ج: 8. ص: 52. وتذكرة الحفاظ ج: 2. ص: 497 و498. سير أعلام النبلاء. ج: 11. ص: 394 وما بعدها. وتهذيب التهذيب. ج: 9. ص: 385 و386.
(5) انظر ابن سعد في الطبقات. ج: 7. ص: 360 والرازي الجرح والتعديل. ج: 9. ص: 202 والخطيب تاريخ بغداد. ج: 14. ص: 277 و280 والذهبي سير أعلام النبلاء. ج: 12. ص: 141 وابن حجر تهذيب التهذيب. ج: 11. ص: 381 وغيرهم من نقدة الرجال المعتمدين.(4/1078)
وهشيم الذي روى عنه البخاري ما نظن أحدًا يستطيع أن يغمز فيه ولا في الروايتين عنه، ترجم له البخاري والطبري والرازي والخطيب والذهبي وابن حجر وغيرهم من أئمة الجرح والتعديل (1) وقد روي حديث إسماعيل بن سالم هذا عن هشيم أبو عبيد القاسم بن سلام (2) قال بعد أن أورد حديث حماد بن سلمة عن أبي حمزة الذي سنعود إليه بعد قليل: حدثنا هشيم , قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم , عن الشعبي بمثل ذلك. ورواه ابن عبد البر (3) بعد أن ذكر حديث بيان , فقال نقلًا عن إسماعيل القاضي: وحدثنا أبو بكر وعلي , قالا: حدثنا ابن فضيل , عن بيان , عن عامر قال: في المال حق سوى الزكاة. وزاد فيه إسماعيل بن سالم , عن الشعبي قال: تصل القرابة وتعطي المساكين.
وروى ابن زنجويه (4) هذا الحديث بإسناد آخر , فقال: حدثنا محمد بن يوسف - يعني الفريابي أحد شيوخ البخاري - أخبرنا يونس بن أبي إسحاق - يعني السبيعي , روى عنه مسلم والأربعة - قال: سمعت عامرًا الشعبي وأبا إسحاق يقولان: على صاحب المال حق في الزكاة.
وبيان هو ابن بشر البجلي , روى عنه الجماعة , وهو غير مكثر , ولم يغمز فيه أحد (5)
__________
(1) التاريخ الكبير. ج: 8. ص: 242 وتاريخ الأمم والملوك ج: ا. ص: 186 و187 وج: 3. ص: 216 والجرح والتعديل. ج: 9. ص: 115 وتاريخ بغداد ج: 14. ص: 85 وتذكرة الحفاظ. ج: ا. ص: 148 و149 وسير أعلام النبلاء ج: 8. ص: 287 وما بعدها وتهذيب التهذيب. ج: 11. ص: 59 وما بعدها.
(2) الأموال. ص: 499. ح: 929.
(3) التمهيد. ج: 4. ص: 212.
(4) الأموال ج: 2. ص: 792. ح: 1370.
(5) انظر في ترجمته مثلًا: ابن حجر تهذبب التهذيب. ج: 1. ص: 506. ترجمة: 941.(4/1079)
أما حديث أبي حمزة الذي نناقشه ومن أجله عرضنا إلى حديث إسماعيل بن سالم الأسدي وبيان البجلي - فقد رواه غير الترمذي وابن كثير - أبو عبيد عن طريق حماد بن سلمة (1) , فقال: حدثنا حجاج , عن حماد بن سلمة , عن أبي حمزة قال: قلت للشعبي: إذا أديت زكاة مالي , أيطيب لي مال؟ قال: فقرأ علي هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .
ورواه ابن زنجويه (2) بنفس السند واللفظ.
ورواه ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف (3) فقال: حدثنا ابن فضيل , عن بيان بن عامر قال: في المال حق سوى الزكاة.
قد يقول ابن العربي أو من يظاهره: إن ما روي عن بيان وإسماعيل بن سالم ليس حديثًا مرفوعًا ولا موقوفًا ولا مرسلًا , وإنما هو أثر لعامر الشعبي , أو رأي لتابعي مهما يبلغ وقارًا وجلالة , فهو ليس أكبر من تابعي، ورأي التابعي وتأويله ليس مما يلزم , إنما هو اجتهاد رجل كغيره من الرجال، ألم يختلفوا في رأي الصحابي وتأويله , فما ظنك بالتابعي؟ وهذا اعتراض وجيه , لولا أنه مدفوع بما رواه أبو حمزة عن الشعبي مرفوعًا، فشهادة بيان وإسماعيل بن سالم أو خبرهما على الأقل دليل على أن حديث أبي حمزة لا مغمز فيه، قد يكون لهم رأي في أبي حمزة , ولكنا لا نعرف لهم رأيًا يعتد به في عامر الشعبي، ثم إن أبا حمزة لم يغمزوا فيه بشيء ذي بال , ولم يصفوه بقاسمة، فهو ليس من ذوي الأهواء الدعاة , ولا هو ممن عرف بالكذب والوضع، وأغلبهم تكلموا فيه , لم يزيدوا على أن ضعفوه إلا ما كان من ابن حبان في كتاب المجروحين (4) , إذ قال: ميمون التمار أبو حمزة القصاب الأعور من أهل الكوفة يروي عن إبراهيم النخعي والحسن , وروى عنه منصور بن المعتمر والثوري وحماد بن سلمة , كان فاحش الخطأ , كثير الوهم , يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات، تركه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين , سمعت الحنبلي يقول: سمعت أحمد بن زهير يقول: سألته عن أبي حمزة الذي روى عن إبراهيم , فقال: كوفي لا يكتب حديثه.
لكن البخاري اقتصر في (التاريخ الكبير) (5) وفي (الضعفاء الصغير) (6) على القول: ميمون أبو حمزة القصاب الأعور التمار الكوفي، عن إبراهيم والحسن , روى عنه الثوري , ليس بذاك.
واقتصر النسائي في كتاب الضعفاء والمتروكين (7) على القول: (ليس بثقة) . وذكره ابن عدي في (الكامل) (8) , فأسند عن عبد الله , عن أحمد القول: أبو حمزة صاحب إبراهيم متروك الحديث.
كما أسند إلى يحيى بن معين قوله: (أبو حمزة القصاب الأعور ميمون صاحب إبراهيم وأبو حمزة ثابت، وحين سأله عباس عن الذين قال عنهم هذا القول: أيهما أحب إليك؟ قال: لا ذا , ولا ذاك.
وأسند إلى البخاري قولًا يختلف شيئًا عما ورد في التاريخ الكبير، والضعفاء الصغير، فنقل عن الجنيدي أن البخاري قال: ميمون أبو حمزة القصاب الأعور -ويقال: التمار الكوفي - عن إبراهيم والحسن , روى عن الثوري , ليس بالقوي عندهم.
قلت: هكذا ورد في النسخة المطبوعة التي بين أيدينا والصواب: روى عنه الثوري كما تقدم، ونلاحظ أن البخاري في هذه الرواية عبر بكلمة (ليس بالقوي عندهم) , وهي عبارة تؤذن بأنه لم يرد أن يتحمل تبعة تضعيفه.
ثم أسند ابن عدي إلى حمزة أحاديث كعادته في تراجمه , ثم قال: ولميمون الأعور غير ما ذكرت , وأحاديثه التي يرويها بخاصة عن إبراهيم مما لا يتابع عليها، ونلاحظ أن ابن عدي حصر الاشتباه في مرويات أبي حمزة فيما يرويه عن النخعي.
__________
(1) الأموال. ص: 594. ح: 928.
(2) الأموال. ج: 2. ص: 790. ح: 1368.
(3) ج: 3. ص: 191.
(4) ج:3. ص: 5.
(5) ج: 7. ص: 243. ترجمة: 1477.
(6) ص: 244. ترجمة: 352.
(7) ص: 231. ترجمة: 609.
(8) ج: 6. ص: 2407.(4/1080)
وذكره الدارقطني في الضعفاء والمتروكين (1) واقتصر على القول: كوفي عن النخعي والحسن , ولم يزد على ذلك شيئا. وقال العقيلي في كتاب الضعفاء الكبير (2) حدثنا محمد بن زكريا , قال: حدثنا محمد بن المثنى , قال: ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - حدثا عن سفيان , عن أبي حمزة الأعور شيئًا قط.
قلت: هذا يعني أن غيرهما من المحدثين عن سفيان لم يكونوا يمسكون عن التحديث بما يسنده إلى أبي حمزة.
ثم قال العقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد , قال: سمعت أبي يقول: أبو حمزة ميمون صاحب إبراهيم متروك الحديث. وقال في موضع آخر: أبو حمزة ميمون الأعور روى عن إبراهيم , وهو ضعيف الحديث.
قلت: كان أحمد رحمه الله - وهو الذي ينكر القول بالرأي - يستند بتضعيف أبي حمزة بتركه على أنه يروي عن إبراهيم، وإبراهيم بحق هو واضع المعالم الأولى لمنهج الرأي الذي اتسم به الفقه الحنفي، لكنا لو مضينا مع أحمد في نهجه في تجريح الرجال لاشتبهنا في عدد من الثقات ممن أمسك أحمد عن الرواية عنهم، أو أراب في الرواية عنهم , لأنهم ضعفوا في محنة خلق القرآن , ولم يضعف أحمد، بيد أننا نسأل أحمد نفسه كم في المسلمين مثل أحمد؟ ولو مضينا معه في هذا النهج لأسقطنا أغلب الرواة والمحدثين , وحجبنا عنهم التوثيق على أن أحمد مع ذلك روى عن عدد ممن تكلم فيهم غيره، وفي مسنده الكثير مما فيه مقال , وإن حاول ابن حجر رفع الشبه عمن تكلموا فيهم ممن أسند إليهم.
ثم قال العقيلي: حدثنا محمد بن عفان , قال: سمعت يحيى وسئل عن أبي حمزة صاحب إبراهيم , فقال: كان اسمه ميمونا وليس بشيء.
حدثنا محمد بن عيسى , قال: حدثنا عباس , قال: سمعت يحيى يقول: أبو حمزة صاحب إبراهيم اسمه ميمون، وأبو حمزة التمالي ثابت، قلت: أيهما أحب إليك؟ قال: لا ذا , ولا ذا.
ثم أورد كلام البخاري في تاريخه , ولكن مسندًا سماعًا.
ثم أسند إليه حديثًا، ثم قال: حدثنا هارون بن علي , قال: حدثنا علي بن مسلم الطوسي , قال: حدثنا أبو داود , عن أبي عوانة , قال: قلت للمغيرة - يعني ابن مقسم ويروي عنه الجماعة -: تروي عن أبي حمزة؟ قال: لم يكن يجترئ علي أن
يحدثني إلا بحق.
__________
(1) ص: 164. ترجمة: 129.
(2) ج: 4. ص: 187. ترجمة: 1764.(4/1081)
قلت: وهذا الذي روي عن المغيرة بن مقسم يشير إلى التشكيك في أن علة تضعيف أبي حمزة هي الوهم والخطأ، ويومئ إلى أنها الاتهام بالقول بالرأي وتدعيمه , فهو من تلامذة إبراهيم.
وقال الرازي في الجرح والتعديل (1) : ميمون أبو حمزة القصاب الكوفي وهو الراعي الأعور , روى عن إبراهيم النخعي والشعبي , وروى عنه مسعر والثوري والحسن بن صالح وزهير بن معاوية وشريك وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد الوارث ونصير بن أبي الأشعث القرادي وحسان بن إبراهيم وحاتم بن وردان.
ثم أسند ما ذكره محمد بن المثنى عن يحيى.
وروي عن عبد الله بن أحمد مكاتبة قول أحمد: ميمون صاحب إبراهيم ضعيف الحديث.
قلت: تأمل جيدًا جملة: صاحب إبراهيم.
ثم أسند إلى يحيى قوله في أبي حمزة: كوفي ليس بشيء , وهو الذي حدث عن إبراهيم وسعيد بن المسيب , لا يكتب حديثه.
ثم قال: سألت أبي عن ميمون أبي حمزة القصاب , فقال: ليس بقوي يكتب حديثه.
قلت: هذا يعني أن أبا حاتم لا يبالغ في تضعيفه , وأحسبه أدرك حوافز تضعيفه عند من سبقوه من النقدة , فتحرج من مسايرتهم.
ونقل الذهبي في المغني (2) قول أبي حاتم هذا , واستهل به , ثم أتبعه بقول أحمد: متروك الحديث.
وروي في الميزان (3) كلام أحمد ثم كلام الدارقطني ثم كلام أبي حاتم ثم كلام البخاري ثم كلام النسائي، ثم أسند إليه أحاديث على عادته فيمن ترجم لهم.
__________
(1) ج: 8. ص: 235. ترجمة: 1061.
(2) ج: 2. ص: 690. ترجمة: 6562.
(3) ج: 4. ص: 234. ترجمة: 8969.(4/1082)
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب (1) - بعد أن ذكر ما قاله النقدة الأولون ونقلناه سابقًا -:
قال الترمذي: قد تكلم فيه قبل حفظه. وقال في موضع آخر: ضعفه بعض أهل العلم.
قلت: تأمل جيدا قوله: ضعفه بعض أهل العلم.
ثم نقل عن الحاكم أبي أحمد قوله: حديثه ليس بالقائم , وعن الخطيب قوله: لا تقوم به حجة.
قلت: هذا غير مستغرب من الخطيب - رحمه الله - فموقفه من أهل الرأي معروف.
ثم قال: وقال يعقوب بن سفيان: ليس بمتروك الحديث , ولا هو حجة , وقال الساجي: ليس بذاك.
هذه جملة صالحة , وأعتقد أنها شاملة لما قالوه عن أبي حمزة , وليس في أشدها ما يمكن أن يعتبر إيماء بتكذيبه. وأوضحها يفهم منه انقباضهم عنه لعلاقته بإبراهيم وانقباض بعضهم لما وصفوه به من الوهم والخطأ. لكن ما رواه بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي وإن لم يرق عن مستوى الأثر لتابعي جليل , يدل اتفاقه في الحكم واللفظ مع حديث أبي حمزة عن طريق الشعبي عن فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنهما من نبع واحد، وقد لا تنطبق عليه شروط المتابعة كما أرادها المحدثون , لكن تصحيح الترمذي له واستظهار ابن عبد البر به مساندة أو استشهادًا لحديث أبي حمزة المرفوع , يوحي بأن الإمامين الجليلين يعتبران ما رواه إسماعيل بن سالم وبيان بن بشر البجلي يرقى إلى مستوى حديثٍ , وليس مجرد أثر، وبذلك يصبح مع حديث أبي حمزة المرفوع صراحة حجة يعتمد عليها , ويرتكن إليها في الحكم بأن في المال حقًا غير الزكاة.
على أن هذا الذي نقل عن الشعبي لم يكن مذهبًا للشعبي وحده , وإنما كان مذهبًا لعدد من معاصريه.
قال ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف (2) حدثنا حفص , عن الأعمش , عن إبراهيم قال: كانوا يرون في أموالهم حقًا سوى الزكاة.
حدثنا وكيع , عن سفيان , عن منصور وابن أبي نجيح , عن مجاهد {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (3) قال: سوى الزكاة.
__________
(1) ج: 10. ص: 396. ترجمة: 711.
(2) ج: 3. ص: 190.
(3) المعارج: الآية رقم 24.(4/1083)
حدثنا معاذ قال: حدثنا حاتم بن أبي صغيرة أبو يونس , قال: حدثنا رباح , عن عبيدة , عن قزعة قال: قلت لابن عمر: إن لي مالًا فما تأمرني؟ إلى من أدفع زكاته؟ قال: ادفعها إلى ولي القوم - يعني الأمراء - ولكن في مالك حق سوى ذاك يا قزعة.
حدثنا ابن علية , عن ابن أبي حيان قال: حدثني مزاحم بن زفر , قال: كنت جالسًا عند عطاء , فأتاه أعرابي , فسأله: إن لي إبلًا , فهل عليَّ فيها حق بعد الصدقة؟ قال: نعم.
ثم قال: حدثنا عبد الأعلى , عن هشام , عن الحسن قال: في المال حق سوى الزكاة.
ونقل ابن عبد البر في التمهيد (1) ثم قال: حدثنا خلف بن القاسم , قال: حدثنا الحسن بن رشيق , قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن زفر القاضي بمصر , قال: حدثنا محمد بن روح بن يزيد , قال: حدثنا عبد الملك قريب الأصمعي , قال: حدثنا المبارك بن فضالة , وقال: سمعت الحسن يحدث , عن قيس بن عاصم المنقري - وكان ممن عزل عن البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني في وفد بني تميم سنة تسع فأسلم - قال: ((هذا سيد أهل الوبر)) , قال: قلت: يا رسول الله , ما خير المال؟ - يعني الإبل وكان ينصرف إليه المال عند العرب البدو - قال: ((نعم المال الأربعون , والأكثر الستون , وويل لأصحاب المئين , إلا من أدى حق الله في رسلها ونجدتها - يعني في الشدة والرخاء - وأفقر ظهرها , وأطرق فحلها , ومنح غزيرها , ونحر سمينها , فأطعم القانع والمعتر)) - وترك تمام الحديث.
ثم قال ابن عبد البر: فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الماشية حقا سوى الزكاة , وهذا بيّن في حديث جابر أيضًا.
حدثنا سعيد بن نصر. حدثنا قاسم بن أصبغ. حدثنا ابن وضاح. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , قال: حدثنا يعلى بن عبيد , عن عبد الملك بن أبي سليمان , عن أبي الزبير , عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها , إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر - أي: بمستوى واسع أملس من الأرض - تطؤه ذات الظلف بظلفها , وتنطحه ذات القرن بقرنها , ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن. قالوا: يا
رسول الله، وما حقها؟ قال: إطراق فحلها , وإعارة دلوها , ومنحها وحلبها على الماء وحملٌ عليها في سبيل الله)) .
__________
(1) ج: 4. ص: 212 وما بعدها.(4/1084)
وقبل أن نستأنف متابعة آراء أئمة التفسير من السلف والمحدثين في تفسير قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الآية. وبعض آيات على شاكلتها، ننقل عن ابن حزم (1) كلامًا شريفًا أوجز فيه - إيجازًا محيطًا - آراء ومواقف الصحابة والتابعين من الحقوق الواجبة في المال غير الزكاة ومحاجة أنكروها , قال رحمه الله: وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم , ويجبرهم السلطان على ذلك - تأمل جيدًا قوله: ويجبرهم السلطان على ذلك - إن لم تقم الزكوات بضم ولا في سائر أموال المسلمين بهم - هذه العبارة غير واضحة - فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك , وبه سكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة.
برهان ذلك قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} (2) وقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (3)
فأوجب تعالى حق المساكين وابن السبيل وما ملكت اليمين مع حق ذي القربى، وافترض الإحسان إلى الأبوين وذي القربى والمساكين والجار وما ملكت اليمين , والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا , ومنعه إساءة ولا شك.
وقال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (4) فقارن الله تعالى إطعام المسكين بوجوب الصلاة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة في غاية الصحة أنه قال: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) قال عبد الرزاق (المصنف ج: 11. ص 298. ح: 20589) : أخبرنا معمر , عن الزهري قال: حدثني أبو سلمة , عن أبي هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي والأقرع بن حابس التميمي جالس , فقال الأقرع: يا رسول الله , إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم إنسانًا قط. قال: فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: ((إن من لا يرحم لا يرحم)) . وقال أحمد (ج: 2. ص: 228) : أخبرنا هشيم عن الزهري , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة قال: دخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فرآه يقبل حسنًا أو حسينًا , فقال له: لا تقبله يا رسول الله , لقد ولد لي عشرة ما قبلت أحدًا منهم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من لا يرحم لا يرحم)) .
__________
(1) المحلى. ج: 6. ص: 156 وما بعدها المسألة: 527.
(2) الآية رقم: (26) من سورة الإسراء، والآية رقم: (38) من سورة الروم (فآتي) .
(3) الآية رقم: (36) من سورة النساء.
(4) الآية رقم: (43) و (44) من سورة المدثر.(4/1085)
وقال (المصنف ج: 8 ص: 241) : حدثنا سفيان , عن الزهري , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة أبصر النبي صلى الله عليه وسلم الأقرع يقبل حسنًا , فقال: لي عشرة من الولد , ما قبلت أحدًا منهم. فقال له: ((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (المصنف. ص: 269) : حدثنا عبد الرزاق. أخبرنا معمر , عن الزهري. حدثني أبو سلمة , عن أبي هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - والأقرع ابن حابس التميمي جالس , وقال الأقرع: يا رسول الله , إن لي عشرة من الولد ما قبلت إنسانًا منهم قط , قال: فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: ((إن من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (المصنف ص: 514) : حدثنا محمد بن أبي حفصة , عن ابن شهاب , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الحسن بن علي - رضي الله عنهما - فقال الأقرع ابن حابس: إن لي عشرة من الولد , ما قبلت أحدًا منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (المصنف. ج: 4. ص: 358) : حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة , عن سماك بن حرب , عن عبيد الله بن جرير قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقلت: أبايعك على الإسلام , فقبض يده , فقال: ((النصح لكل مسلم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) . وقال (المصنف. ص: 360) : حدثنا يزيد. حدثنا إسماعيل بن أبي خالد , عن قيس بن أبي حازم قال: قال جرير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) . وقال (المصنف. ص: 361) : حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة قال: سمعت أبا إسحاق قال: كان جرير بن عبد لله في بعث بأرمينيا قال: فأصابتهم مخمصة ومجاعة , قال: فكتب جرير إلى معاوية: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لم يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) قال: فأرسل إليه فأتاه , فقال: أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. فأقفلهم ومتعهم. قال أبو إسحاق: وكان أبي في ذلك الجيش , فجاء بقطيفة مما متعه معاوية. وقال (المصنف. ص: 362) : حدثنا أبو معاوية وهو الضرير. حدثنا الأعمش , عن زيد بن وهب , عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) .(4/1086)
وقال (المصنف 8 ص: 365) : حدثنا أبو أحمد , حدثنا إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن أبيه جرير , قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) . وقال (المصنف ص 366) : حدثنا روح. حدثنا شعبة قال: سمعت سماك بن حرب قال: سمعت عبد الله بن عمير قال: وكان قائد الأعشى في الجاهلية يحدث , عن جرير قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم , فقلت: أبايعك على الإسلام , قال: فقبض يده , وقال: ((النصح لكل مسلم)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) . حدثنا يحيى بن آدم , حدثنا إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن عبد الله بن جرير , عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) . وقال البخاري (الجامع الصحيح. ج: 7. ص: 78) : حدثنا عمرو بن حفص , حدثنا أبي. حدثنا الأعمش قال: حدثني زيد بن وهب , قال: سمعت جرير بن عبد الله , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (الجامع الصحيح. ج: 8 ص: 165) : حدثنا محمد. أخبرنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن زيد ابن وهب وأبي ظبيان , عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) . وقال مسلم (الصحيح على هامش شرح النووي. ج: 15. ص: 76 و77) : حدثني عمرو الناقد وابن أبي عمر جميعًا , عن سفيان , قال عمرو: حدثنا سفيان بن عيينة , عن الزهري , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة , أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن , فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدًا منهم , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه من لا يرحم لا يرحم)) . حدثنا عبد بن حميد. أخبرنا عبد الرزاق , أخبرنا معمر , عن الزهري، حدثني أبو سلمة , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم ... مثله. وحدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم , كلاهما عن جرير. وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم , قالا: أخبرنا عيسى بن يونس.
وحدثنا أبو كريب محمد بن العلاء. حدثنا أبو معاوية. وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص – يعني ابن غياث - كلهم عن زيد ابن وهب وأبي ظبيان , عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) . وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا وكيع وعبد الله بن نمير , عن إسماعيل , عن قيس , عن جرير , عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر وأحمد بن عبيدة , قالوا: حدثنا سفيان , عن عمرو , عن نافع بن جبير , عن جرير , عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الأعمش.(4/1087)
وقال الترمذي (ج: 4. ص 318. ح: 1911) : حدثنا ابن أبي عمر وسعيد بن أبي عبد الرحمن , قالا: حدثنا سفيان , عن الزهري , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة قال: أبصر الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل الحسن , قال ابن أبي عمر: الحسين والحسن , فقال: إن لي من الولد عشرة ما قبلت أحدًا منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه لا يرحم من لا يرحم)) . وتعقبه بقوله: وفي الباب عن أنس وعائشة. ثم قال: وهذا حديث حسن صحيح. وقال الترمذي (ص: 323. ح: 1923) : حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد , عن إسماعيل بن أبي خالد , حدثنا قيس. حدثنا جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) . وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن صحيح , وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف وأبى سعيد وابن عمير وأبي هريرة وعبد الله بن عمر. وقال أبو داود (السنن. ج. ص: 355. ح 5318) : حدثنا مسدد , حدثنا سفيان , عن الزهري , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة , أن الأقرع بن حابس أبصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل حسينا , فقال: إن لي عشرة من الولد ما فعلت هذا بواحد منهم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 1. ص: 341 ح: 458) : أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي , قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم , قال: أنبأنا سفيان , عن الزهري , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة قال: أبصر حابس بن الأقرع التميمي النبي صلى الله
عليه وسلم يقبل الحسن بن علي , فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدًا منهم , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم لا يرحم)) . وقال (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 445. ح:
5567) : أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة , قال: حدثنا بن أبي السري , قال: حدثنا عبد الرزاق , قال: حدثنا معمر , عن أبي هريرة , وأورد الحديث الذي نقلنا آنفًا عن عبد الرزاق. وقال (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: ج: ا. ص: 343. ح: 464) : أخبرنا أبو عروبة , قال: أخبرنا أحمد ابن المقدم العجلي , قال: حدثنا خالد بن الحارث , قال: حدثنا شعبة , قال: حدثنا سليمان , قال: سمعت أبا ظبيان قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) . وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 8. ص: 161) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو , قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب. حدثنا أحمد بن عبد الجبار. حدثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن أبي ظبيان وزيد بن وهب , عن جرير بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم فال: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) .
ومن كان على فضلة ورأى المسلم أخاه جائعًا عريانًا ضائعًا فلم يغثه فما رحمه بلا شك.(4/1088)
وهذا خبر رواه نافع بن جبير بن مطعم وقيس بن أبي حازم وأبي ظبيان وزيد بن وهب نافع بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل النوفلي أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله المدني، ذكر ابن حجر (تهذيب التهذيب ج: 10. ص: 404 ترجمة: 727) أنه روى , عن أبيه والعباس بن عبد المطلب والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب ورافع بن خديج وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعاثشة وأم سلمة وجملة غيرهم من الصحابة , وعنه عروة بن الزبير والزهري وحبيب بن أبي ثابت وأبو الزبير وعمرو بن دينار وآخرون. وثقه كل من العجلي وأبي زرعة وابن خراش وابن حبان , وقال: إنه كان من خيار الناس , وكان يحج ماشيا وناقته تقاد , وذكروه أصحاب زيد بن ثابت الذين كانوا يأخذون عنه ويفتون بفتواه. توفي رحمه الله قيل: في خلافة سليمان بن عبد الملك، وعن ابن أبي الزناد: سنة تسع وتسعين.
قيس بن أبي حازم: قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 8. ص: 386 ترجمة: 689) واسمه - يعني أبا حازم - حصين بن عوف , ويقال: عوف بن عبد الحارث بن عوف البجلي الأخمس أبو عبد الله الكوفي , أدرك الجاهلية , ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه , فقبض وهو في الطريق , وأبوه له صحبة , ويقال: إن لقيس رؤية لم يثبت. وروى عن أبيه وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف. وقيل: لم يسمع منه , وأبي عبيدة وبلال مولى أبي بكر ومعاذ وخالد بن الوليد وابن مسعود وطائفة غيرهم من الصحابة , وأرسل عن ابن رواحة , روى عنه طائفة من التابعين , منهم الأعمش. قال ابن عيينة: ما كان بالكوفة أحد أروى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قيس. وقال الآجري عن أبي داود: أجود التابعين إسنادا قيس بن أبي حازم , روى عنه تسعة من العشرة , ولم يرو عن عبد الرحمن بن عوف، ويقال: إنه ليس أحد من التابعين جمع أن روى عن العشرة مثله إلا عبد الرحمن بن عوف , فإنا لا نعلمه روى عنه شيئًا. ثم قد روى بعد العشرة عن جماعة من الصحابة وكبرائهم , وهو متقن الرواية , ومع ذلك تكلم فيه بعضهم , فمنهم من اشتد عليه , وزعم أن له مناكير , ومنهم من كان أخف حدة , فوصف بعض أحاديثه بالغرائب , ويظهر أن مرد ذلك إلى نفر من الكوفين , فقد قالوا: إنه كان يحمل على علي , والمشهور أنه كان يقدم عثمان , ولذلك تجنب كثير من قدماء الكوفيين الرواية عنه , ولكن ابن خراش وهو كوفي جليل قال: ليس في التابعين أحد روى عن العشرة إلا قيس بن حازم وفضله ابن معين عن الزهري , ويقال: إنه عاش حتى تجاوز المائة بسنين كثيرة , ويقال: إنه اختلط بآخرة , واختلفوا في تاريخ وفاته ما بين سنتي أربع وثمانين وأربع وتسعين.(4/1089)
أبو ظبيان حصين بن جندب بن الحارث الجنبي (بفتح الميم وسكون النون ثم موحدة) الكوفي، قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 2. ص: 379 وما بعدها. ترجمة: 645) , روى عن عمر وعلي وابن مسعود وسلمان وأسامة بن زيد وعمار وحذيفة وأبي موسى وابن عباس وابن عمر وعائشة وغيرهم من الصحابة ومن التابعين عن علقمة وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ومحمد بن سعد بن أبي وقاص وغيرهم , وعنه ابنه قابوس وأبو إسحاق السبيعي وسلمة بن كهيل والأعثر وآخرون , وثقه كل من أبي معين والعجلي وأبي زرعة والنسائي والدارقطنى. توفي حوالى سنة تسع وثمانين أو تسعين.
زيد بن وهب الجهني أبو سليمان الكوفي , قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 3. ص: 427. ترجمة: 781) : رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فقبض وهو في الطريق. وروى عن عمر وعثمان وعلي وأبي ذر وابن مسعود وحذيفة وأبي الدرداء وأبي موسى وغيرهم , وعنه أبو إسحاق السبيعي وإسماعيل بن أبي خالد والحكم بن عتيبة والأعمش ومنصور وجماعة آخرون. قال الأعمش لزهير: إذا حدثك زيد بن وهب عن أحد , فكأنك سمعته من الذي حدثك عنه، ووثقه ابن معين وابن خراش، وذكر ابن سعد أنه توفي بولاية الحجاج بعد الجماجم.
وقال أبو بكر بن منجويه: سنة ست وتسعين , وكذلك ابن حبان في الثقات، رحمه الله رحمة واسعة.
وجرير بن عبد الله بن جابر البجلي القسرى أبو عمرو، وقيل: أبو عبد الله اليماني , قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 2. ص: 73. ترجمة: 115) روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر ومعاوية , وعنه أولاده المنذر وعبيد الله وأيوب وإبراهيم وابن ابنه أبو زرعة بن عمرو , وأنس وأبو وائل وزيد بن وهب وابن علاقة والشعبي وأبو ظبيان وغيرهم، أسلم في السنة التي لحق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى , ونزل الكوفة، ثم انتقل منها إلى قرقيسيا فنزلها , وقال: لا أقيم ببلدة يشتم فيها عثمان.
وقال جرير: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت , ولا رآني إلا تبسم. رواه الشيخان وغيرهم , وكان جميلًا. وقال له عمر بن الخطاب: نعم السيد كنت في الجاهلية , ونعم السيد أنت في الإسلام، وقيل: مات سنة إحدى وخمسين وقيل غير ذلك، رضي الله عنه وأرضاه. , عن جرير بن عبد الله , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4/1090)
وروى أيضًا معناه الزهري عن أبي سلمة , عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد. حدثنا إبراهيم بن أحمد. حدثنا الفربري. حدثنا البخاري. حدثنا موسى بن إسماعيل - هو التبوذكي - حدثنا المعتمر - هو ابن سليمان - عن أبيه. حدثنا أبو عثمان النهدي , أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حدثه ((أن أصحاب الصفة كانوا ناسًا فقراء , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كان عنده طعام اثنين فيذهب بثالث , ومن عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس)) قال مالك (الموطأ. ص: 802. ح: 81) عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) . وقال أحمد (ج: 2. ص: 244 و407) : حدثنا سفيان , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة , وطعام الثلاثة يكفي الأربعة , إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا , فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش والدواب تتقحم فيها , فأنا آخذ بحجزكم , وأنتم تواقعون فيها , ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنيانا , فأحسنه وأكمله وأجمله , فجعل الناس يطيفون به يقولون: ما رأينا بنيانًا أحسن من هذا , إلا هذه الثلمة فأنا تلك الثلمة)) . وقيل لسفيان: من يذكر هذا؟ فقال: أبو الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة. حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة , عن علي بن زيد , عمن سمع أبا هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((طعام واحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) . وقال أحمد (ج: 3. ص: 301 و315 و382) : حدثنا سفيان وعبد الرحمن , عن سفيان , عن أبي الزبير , عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) .(4/1091)
وحدثنا أبو معاوية. حدثنا الأعمش , عن أبي سفيان , عن جابر قال: قال رسول الله: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) . وحدثنا روح , حدثنا ابن جريج. أخبرني أبو الزبير , أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) . وقال ابن حبان (الثقات. ج: 7. ص: 311 ح: 5214) : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى , قال: حدثنا عمرو بن علي بن بحر , قال: حدثنا أبو عاصم , عن ابن جريج , قال: أخبرني أبو الزبير , قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((طعام الواحد يكفى الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) . وقال البخاري (الجامع الصحيح. ج: 6. ص: 200) : حدثنا عبد الله بن يوسف. أخبرنا مالك. وحدثنا إسماعيل. حدثنى مالك , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة , وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) . وقال مسلم (على هامش شرحه للنووي. ج: 14. ص: 22 و23) : حدثنا يحيى بن يحيى , قال: قرأت على مالك , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة , وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) . حدثنا إسحاق بن إبراهيم. أخبرنا روح بن عبادة. وحدثني يحيى بن حبيب. حدثنا روح. حدثنا ابن جريج , أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) . وفي رواية إسحاق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يذكر سمعت. حدثنى ابن نمير. حدثنا أبي. حدثنا سفيان. وحدثنى محمد بن المثنى. حدثنا عبد الرحمن بن سفيان , عن جابر , عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن جريج. وحدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة أبو كريب , وإسحاق بن إبراهيم. قال أبو بكر وأبو كريب: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن أبي سفيان , عن جابر قال: قال رسول الله: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) .
حدثنا قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة , قالا: حدثنا جرير , عن الأعمش , عن أبي سفيان , عن جابر , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((طعام الرجل يكفي الرجلين , وطعام الرجلين يكفي أربعة , وطعام أربعة يكفي ثمانية)) .(4/1092)
وقال الترمذي (الجامع الصحيح. ج: 4. ص: 267. ح: 1820) : حدثنا الأنصاري. حدثنا معن. حدثنا مالك. وحدثنا قتيبة , عن مالك , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة , وطعام الثلاثة كافي الأربعة)) . وتعقبه بقوله: وفي الباب عن جابر وابن عمر. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح , روى جابر وابن عمر , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((طعام الواحد يكفى الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) .
وحدثنا محمد بن بشار. حدثنا محمد بن مهدي , عن سفيان , عن الأعمش , عن أبي سفيان , عن جابر , عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا. وقال ابن ماجه (السنن. ج: 2. ص: 1084. ح: 3254 و3255) : حدثنا محمد بن عبد الله الرقي. حدثنا يحيى بن زياد الأسدي. أنبأنا ابن جريج. أنبأنا أبو الزبير , عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) .
حدثنا الحسن بن علي الخلال. حدثنا الحسن بن موسي , حدثنا سعيد بن زيد. حدثنا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير , قال: سمعت سالم بن عبد الله بن عمر , عن أبيه , عن جده عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن طعام الواحد يكفي الاثنين , وإن طعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة , وإن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة)) . وقال الدارمي (السنن. ج: 2. ص: 100) : أخبرنا أبو عاصم , عن ابن جريج , عن أبي الزبير , عن جابر , عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة , وطعام الأربعة بكفي الثمانية)) . وقال الطبراني (المعجم الكبير ج: 7. ص: 229. ح: 6958 و6963) : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري. حدثنا إبراهيم بن الوليد , عن محمد الأبلي. حدثنا أبي , حدثنا مبارك بن فضالة , عن الحسن , عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين , وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) .
حدثنا عبد الله بن أحمد. حدثنا أيوب بن محمد الوزان , حدثنا فهير يحيى بن زياد – نظن أنه سقطت بين كلمة (فهير) وكلمة (يحيى بن زياد) كلمة هي (حدثنا) أو (أخبرنا) أو ما شاكلها – حدثنا ابن جريج. حدثنا أبو بكر , عن الحسن , عن سمرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((طعام الاثنين كافي الأربعة , وطعام الأربعة كافي الثمانية)) . وقال (المعجم الكبير. ج: 10. ص 126. ح 10092) :
حدثنا جعفر بن أحمد السامي الكوفي، حدثنا أبو كريب، حدثنا مختار بن غسان، عن قيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة)) .(4/1093)
وقال (المعجم الكبير. ج 12. ص:320. ح: 13236) : حدثنا الحسن بن علي الفسوي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا أبو الربيع السمان، عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية، اجتمعوا ولا تتفرقوا عنه)) . قلت: لقد رأيت أن أتتبع هذا الحديث بما يشبه الاستقراء لأسانيده وألفاظه دون اعتبار لتضعيفهم بعض المسندين، إذ إن الأسانيد والألفاظ على اختلافها وتباين رتبها يشهد بعضها لعبض، فلا مجال لمتابعتهم في تضعيف من ضعفوه، أو للتوقف عند كلامهم فيمن تكلموا فيه، فالحديث ثابت، وأكاد أجزم بأنه متواتر، وبعض من ضعفوه من مسنديه قد لا نتابعهم على تضعيفهم ولكن ليس هذا مجال مناقشة ذلك. أو كما قال، فهذا هو نفس قولنا.
ومن طريق الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره، أن عبد الله بن عمر أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)) قال البخاري (الجامع الصحيح. ج: 3. ص: 98) : حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أن سالمًا أخبره، أن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) . وقال (الجامع الصحيح ج: 8. ص: 59) : حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أن سالمًا أخبره، أن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)) . وقال مسلم (الصحيح على هامش شرحه للنووي. ج: 9 ص: 199) : حدثني أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن الليث وغيره، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر)) . وقال مسلم (الصحيح على هامش شرحه للنووي. ج: 16. ص 120 و121) : حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا داود – يعني ابن قيس – عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) .(4/1094)
وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن أسامة - وهو ابن زيد - أنه سمع أبا سعيد مولى عبد الله بن عامر ابن كريز يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث داود. زاد ونقص، ومما زاد فيه: ((إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأشار بأصابعه إلى صدره)) . وقال الترمذي (الجامع الصحيح. ج: 4. ص: 34 و35. ح: 426) : حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة.)) وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال أحمد (المسند. ج: 4. ص: 79) : حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا يزيد بن هارون، قال: أنبأنا إسرئيل بن يونس بن أبي إسحاق، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج الناس أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، فخلى عنه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: ((أنت كنت أبرهم وأصدقهم، صدقت المسلم أخو المسلم)) ، حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا الوليد بن القاسم وأسود بن عامر، قالا: حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره. وقال أبو داود (السنن. ج: 3. ص: 224. ح: 3256) : حدثنا عمرو بن محمد الناقد، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، قال: ((صدقت المسلم أخو المسلم)) . وقال (السنن. ج: 4. ص: 273. ح: 4893) : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه، فإن الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة)) . وقال ابن ماجه (السنن. ج:1. ص: 685. ح: 2119) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل. وحدثنا يحيى بن حكيم، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج الناس، أن يحلفوا، فحلفت أنا أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا، وحلفت أنا أنه أخي، فقال: ((صدقت المسلم أخو المسلم)) .(4/1095)
وقال (السنن. ج: 2. ص: 755. ح: 2246) : حدثنا محمد بن بشار، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي: سمعت يحيى بن أيوب يحدث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا فيه عيب إلا بيّنه له)) . وقال الطبراني (المعجم الكبير. ج: 7. ص: 89. ح: 6464 و6465) : حدثنا حفص بن عمر الرقي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنا أنه أخي، فقال: ((صدقت المسلم أخو المسلم)) ، حدثنا فضيل بن محمد الملطي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن جدته، عن أبيها سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، فحلفت أنه أخي، فخلوا سبيله، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ((صدقت المسلم أخو المسلم)) . وقال (المعجم الكبير. ج: 17. ص: 316 و317. الأحاديث: 873 و876 و877) : حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن أخو المؤمن، لا يحل لمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه حتى يذر، ولا يخطب على خطبته حتى يذر)) .
حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم)) .
حدثنا أحمد بن زهير التستري، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا وهب بن جرير، حدثني أبي. عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم إن باع من أخيه شيئًا فيه عيب إلا يبينه له)) .(4/1096)
وقال الشهاب القضاعي (مسند شهاب. ج: 1. ص: 132 و133. ح: 168 و169) : أخبرنا عبد الرحمن بن عمر النجيبي، حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا إبراهيم الحربي، حدثنا الوليد بن صالح، حدثنا الليث بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه)) ، أنبأنا أبو الحسن علي بن موسى السمسار بدمشق، حدثنا أبو زيد محمد بن أحمد المروزي، أنبأنا محمد بن يوسف الفربري، أنبأنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا يحيى بن بكير.، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أن سالمًا أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة)) .
من تركه يجوع ويعرى - وهو قادر على إطعامه وكسوته - فقد أسلمه.
حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا أحمد بن فتح، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى، حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا أحمد بن علي، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد، فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل))
قال مسلم (الصحيح على هامش شرح النووي. ج: 12. ص: 23) : حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) .(4/1097)
وقال أبو داود (السنن. ج: ص: 125 و126. ح: 1663) : حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي وموسى بن إسماعيل، قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، إذ جاء رجل على ناقة له، فجعل يصرفها يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان عنده فضل ظهر، فليعد به عل من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له. حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 392. ح: 5395) : أخبرنا أبو يعلى، حدثنا شيبان بن أبي شيبة، حدثنا أبو الأشهب، حدثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على راحلته، قال: فجعل يضرب يمينًا وشمالًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد، فليعد به على من لا زاد. ذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أن لا حق لأحد منا في فضل)) .
وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 4. ص: 182) : أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضر الفقيه، حدثنا أبو عبد الله محمد بن نصر الإمام وأحمد بن النضر بن عبد الوهاب أبو الفضل. قالا: حدثنا شيبان بن أبي شيبة الأيلي، حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يضرب يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه فضل من ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له. قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) .
وهذا إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - يخبر بذلك أبو سعيد، وبكل ما في هذا الخبر نقول: ومن طريق أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أطعموا الجائع وفكوا العاني)) . والنصوص من القرآن والأحاديث الصحاح في هذا تكثر جدا.(4/1098)
وروينا عن طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن ثابت، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين.
قال ابن زنجويه (الأموال. ج: 2. ص: 789. الأثر: 1364) : حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، قال عمر بن الخطاب: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول الأغنياء، فقسمتها في فقراء المهاجرين. قلت: يقتضي المنهاج الذي التزمناه في هذه التعاليق أن نقف عند تخريج الأثر، بيد أننا نجد أنفسنا في موقف يضطرنا إلى أن نخرج قليلًا عن هذا المنهاج، ذلك بأن محقق كتاب الأموال لابن زنجويه (شاكر ذيب فياض) حاول - كدأبه في كثير من مرويات ابن زنجويه - أن يبرز نفسه من نقده الحديث والآثار، فقال بعد أن أورد كلام ابن حزم في المحلى الذي أثبتناه في الأصل: (لكن حبيب بن أبي ثابت مدلس، يروي بالعنعنة، وهو من مدلسي الرتبة الثالثة، كما في طبقة المدلسين 13، وهي مرتبة من لم يحتج الأئمة بحديثهم، إلا إذا صرحوا بالسماع) . انتهى كلامه. ويظهر أن الرجل يحب أن ينطلق من ظواهر بعض أبجديات قواعد النقدة إلى مقعد الحكم على الأئمة، وهو منطلق عسير (مرتقى صعب) ، كان حريا أن يتحرج منه على الأقل توقيرًا لأئمة مكنهم علمهم المحيط المستوعب الواعي بقواعد الجرح والتعديل وضوابطه وطرائق استعمال تلك القواعد وموجباته وبالرجال وطبقاتهم ومقاماتهم من أمثال الذهبي والمزي إلى أن كان يحسب نفسه في طبقتهم، وذلك احتساب نشفق عليه من عواقبه. قال الذهبي - رحمه الله - وهو يترجم لحبيب (سير أعلام النبلاء. ج: 5. ص: 288. ترجمة: 137) ماملخصه: الإمام الحافظ فقيه الكوفة أبو يحيى القرشي الأسدي مولاهم، حدث عن ابن عمر وابن عباس وأم سلمة، وقيل: لم يسمع منهما، وحكيم بن حزام، وقيل: لم يسمع منه، وأنس بن مالك وزيد بن أرقم وأبي وائل وزيد بن وهب وعاصم بن ضمرة وأبي الطفيل وأبي عبد الرحمن السلمي وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص وذر الهمداني وأبي صالح ذكوان والسائب بن فروخ وطاوس وأبي المنهال عبد الرحمن بن مطعم ونافع بن جبير وكريب وعروة في المستحاضة، وقيل: بل هو عروة المزني، وكان من أئمة العلم، روى عنه عطاء بن أبي رباح وحصين ومنصور والأعمش وأبو حصين وأبو الزبير وطائفة من الكبار وابن جريج وحاتم بن أبي صغيرة ومسعر وعبد العزيز بن سياه وشعبة والثوري والمسعودي وقيس بن الربيع وحمزة الزيات وخلق.(4/1099)
قال ابن المدينى: له نحو مائتي حديث، وقال أحمد بن يونس، عن أبي بكر بن عياش: كان بالكوفة ثلاثة، ليس لهم رابع: حبيب بن أبي ثابت، والحكم، وحماد، كانوا من أصحاب الفتيا، ولم يكن أحد بالكوفة إلا يذل لحبيب، وقال أحمد العجلي: كوفي تابعي ثقة، كان مفتي الكوفة قبل حماد بن أبي سليمان، وقال ابن المبارك، عن سفيان: حدثنا حبيب، عن أبي يحيى القتات، قال: قدمت الطائف مع حبيب بن أبي ثابت، فكأنما قدم عليهم نبي، وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم، عن يحيى: ثقة حجة، فقيل ليحيى: حبيب ثبت؟ قال: نعم، إنما روى حديثين، ثم قال: أظن يحيى يريد منكرين، حديث ((تصلي المستحاضة وإن قطر الدم على الحصير)) وحديث ((القبلة
للصائم)) . قلت: الحديث الأول أخرجه الدارقطنى والبيهقي والطحاوي وغيرهم. أما الحديث الثاني وصوابه: ((ترك الوضوء من القبلة)) - فقد رواه أبو داود والنسائي والترمذي والبيهقي والدارقطني. ثم قال الذهبي: وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، لم يسمع من أم سلمة. ثم ذكر كلامهم حول سماعه من بعض الصحابة. ثم نقل عن أبي بكر بن عياش ومحمد بن عبد الله بن نمير والبخاري أنه مات سنة تسع عشرة ومائة، وروى عن ابن سعد، عن الهيثم، عن يحيى بن سلمة، عن كهيل، مات سنة اثنتين وعشرين ومائة في ولاية يوسف بن عمر، ثم قال: كان من أبناء الثمانين، وهو ثقة بلا تردد، وقد تناكد الدولابي، فذكره في الضعفاء له، لمجرد قول ابن عون فيه: (كان أعور) ، وإنما هذا نعت لبصره، لا جرح له. ثم قال: قال زافر بن سليمان، عن أبي سنان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: من وضع جبينه لله، فقد برئ من الكبر. وقال أبو بكر بن عياش: رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجدًا، فلو رأيته قلت: ميت. يعني من طول السجود، قلت: وإني لأستحيي أن أستشهد بهذا الحشد الكبير من أقوال المترجمين ورجال الطبقات ونقدة الرجال في إمام مثل حبيب بن أبي ثابت، بيد أني أنقل قول المزي رحمه الله (تهذب الكمال. ج: 5 ص: 358 وما بعدها. ترجمة: 1079) بعد أن ترجم له بما يشبه ترجمة الذهبي مؤكدًا ما رمز به في صدر الترجمة: روى له الجماعة. وقول ابن عدي رحمه الله (ج: 2 ص: 813 وما بعدها) بعد أن ترجم له، وأسند إليه أحاديث: (وحبيب بن أبي ثابت هو أشهر وأكثر حديثًا من أن أحتاج إلى أن أذكر من حديثه شيئًا، وإنما ذكرت هذا المقدار من رواية الثوري وشعبة عنه، وهو بشهرته مستغنى عن أن أذكر من أخباره أكثر من هذا، وقد حدث عنه الأئمة مثل الأعمش والثوري وشعبة وغيرهم، وهو ثقة حجة، كما قاله ابن معين، ولعل ليس في الكوفيين كبير أحد مثله لشهرته وصحة حديثه، وهو في أئمتهم يجمع حديثه) .(4/1100)
قلت: فهل بقي لمتحذلق أن يحاول التعريف بنفسه أو الظهور بظهور الناقد المجرح بالغمز فيما يرويه حبيب بعد مثل هذا القول من أئمة نقد الحديث والجرح والتعديل أمثال ابن عدي وابن معين والمزي والذهبي الذين أكدوا أنه حجة، ومعنى أنه حجة أنه مصدق فيما يرويه محتج بما يسنده، أيا كانت صيغة الإسناد، ومع ذلك يقول حضرة المعلق المحترم: (لكن حبيب بن أبي ثابت مدلس يروي بالعنعنة، وهو من مدلسي المرتبة الثالثة كما في طبقة المدلسين 13 وهي مرتبة من لم يحتج الأئمة بحديثهم إلا إذا صرحوا بالسماع) . ولو نشاء لوقفنا معه عند مقولاتهم في صيغة العنعنة وفي التدليس وطبقة المدلسين، نوضح له طبيعة تلك المقولات، وكيف ينبغي تطبيقها حتى ولو سلمت لهم. بيد أننا نشفق عليه من هذا الموقف، إلا أن يلهمه الله التوفيق، فيزداد من العلم الواعي المدرك لحقائق المقولات غير الواقف عند ظواهرها، ويومئذ إذا مد الله في العمر والتقينا على عمل، قد يكون لنا معه موقف. ولمن شاء الاستزادة من الاطلاع على ما ترجموا به لحبيب بن أبي ثابت أن يرجع إلى تعليق أخينا العلامة الدكتور بشار عواد معروف على ترجمته التي أشرنا إليها آنفًا في تهذيب المزي، فقد استقصى أو أوشك أن يستقصي مصادر ترجمته ومراجعها زاده الله توفيقًا. وهذا إسناد في غاية الصحة والجلالة.
ومن طريق سعيد بن منصور، عن ابن شهاب، عن أبي عبد الله الثقفي، عن محمد بن علي بن الحسين، عن محمد بن علي بن أبي طالب، أنه سمع عليّ بن أبي طالب يقول: إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا أو جهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه. (1)
وعن ابن عمر أنه قال: في مالك حق سوى الزكاة.
اختلفت الروايات عن ابن عمر، وأشهرها أنه يرى أن المال الذي أديت زكاته ليس بكنز، لكن روي عنه ما يشبه في ظاهره أن يكون مغايرًا لهذا الرأي مثل أثر ابن حزم موضوع التعليق، والحديث الذي رواه ابن أبي شيبة، وهو يشبهه قال: (الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 191) : حدثنا معاذ، قال: حدثنا حاتم بن أبي صغيرة أبو يونس، قال: حدثنا رباح، عن عبيدة، عن قزعة قال: قلت لابن عمر: إن لي مالًا، فما تأمرني إلى من أدفع زكاته؟ قال: ادفعها إلى ولي القوم - يعني الأمراء - ولكن في مالك حق سوى الزكاة يا قزعة.
__________
(1) لم أقف على من أخرجه.(4/1101)
بيد أن التأمل في الروايتين عنه بوعي واستجلاء لمناطهما يهدي إلى أن ابن عمر - رضي الله عنه - يفرق بين اعتبار المال كنزًا وما أديت زكاته، ليس بكنز عنده، وبين القول بوجوب حقوق في المال ليست ثابتة في زمان أو محددة بمقدار، وإنما توجبها ظروف وأحداث وتعينها وتضع حدودها في نطاق اعتبار طاقة كل أحد من المسلمين، فالفارق بين الأمرين أن الزكاة تجب عند توفر نصاب معين وحلول وقت معين، كوقت الحصاد، أو دوران الحول. أما الحقوق الطارئة التي توجبها ظروف وتعين مقادرها مع اعتبار طاقة الفرد، فوجوبها لا يتوقف على توفر نصاب معين أو حلول وقت معين ثابت، ومقدارها لا يتحدد بحد معين ثابت، وإنما يتغير ويتفاوت طبقًا للظرف الموجب لها ولحال من وجبت عليه، وبهذا يتضح أنه فيما نسب إلى ابن عمر تغاير في جوهره، وإن تراءى كذلك في ظاهره. فتأمل.
وعن عائشة أم المؤمنين والحسن بن علي وابن عمر أنهم قالوا كلهم لمن سألهم: إن كنت تسأل في دم موجع أو غرم مفظع أو فقر مدقع، فقد وجب حقك وقال ابن زنجويه (الأموال. ج: 3. ص: 1133. الأثر: 2104
و2105) : أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: جاء رجل إلى الحسن بن علي - عليه السلام - يسأله، فقال: إن كنت تسأل في فقر مدقع أو غرم موجع أو دم مفظع، فقد وجب حقك. قال: ما أسألك في شيء من هؤلاء. قال: فلا حق لك. فأتى ابن عمر فسأله، فقال له مثل ذلك. وحدثنا علي بن الحسن، عن ابن المبارك، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن حبال بن رفيدة التميمي، أن الحسن بن علي - عليه السلام - أتاه سائل، فقال: إن كنت تسأل عن غرم مفظع أو فقر مدقع أو دم موجع، فقد وجب حقك. قلت: تكلم بعضهم في أسانيد هذا الأثر، فغمزوا واحدًا منها بالانقطاع، وآخر بضعف بعض رواته، ولست أريد أن أقف عند مغامزهم، إن أريد إلا أن أوضح وهمًا وقع للذهبي - رحمه الله - في الميزان (ج: 1. ص: 448. ترجمة: 1680) في ترجمة حبال بن رفيدة، إذ قال: لا يعرف. قال البستي: فيه نظر. انتهى كلام الذهبي، رحمه الله. على حين أن حبال ترجم له ابن حبان في الثقات (ج: 4. ص: 193) ، فقال: حبال بن رفيدة التميمي يروي عن الحسن، هو الحبال بن أبي الحبال، روى عنه أبو إسحاق السبيعي، وترجم له الرازي في الجرح والتعديل (ج: 3. ص: 315. ترجمة: 1405) فقال: حبال بن رفيدة كوفي، روى عن الحسن بن علي ومسروق، روى عنه أبو إسحاق ويونس بن أبي إسحاق ويحيى بن عبد الله الجابر سمعت أبي يقول ذلك.(4/1102)
ثم قال: ذكر أبي، عن أبي إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: حبال بن رفيدة ثقة. انتهى كلام الرازي. قلت: لكن لم أجد له ذكرًا في تاريخ ابن معين. فليحرر. وقال ابن زنجويه (الأموال. ج: 3. ص: 1133. الأثر: 2106) : أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا ابن ثوبان، حدثني من سمع الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس يسأله، فقال له ابن عباس: إن كنت تسأل في دم مفظع أو غرم مثقل أو فقر مجهد، حلت لك المسألة. ثم أتى ابن عمر فسأله، فقال له مثل ذلك. قلت: ولم نقف على ذكر لعائشة - رضي الله عنها - في مثل هذا الأثر، إلا ما جاء في كلام ابن حزم، وأحسبه وقف عليه، حيث لم أهتد إليه. وصح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلاث مائة من الصحابة - رضي الله عنهم - أن زادهم فني، فأمرهم أبو عبيدة، فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم أيامًا على السواء.
وروى مالك في الموطأ (ص: 803) عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا قبل الساحل، فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة، قال: وأنا فيهم، قال: فخرجنا، حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله، فكان مزودين من تمر، قال: فكان يقوتناه كل يوم قليلًا، حتى فني، ولم تصبنا منه إلا تمرة تمرة، فقلت: وما تفي تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حيث فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبتا، ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مرت تحتهما، ولم تصبهما. وقد روى هذا الحديث كل من البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبي داود في مواضع مختلفة من كتبهم، لا نرى ما يدعو إلى نقل أسانيدهم كلها؛ لأن ذلك يطيل التعليق في غير طائل، حسبنا أن نشير إليها نقلًا عن المزي في (تحفة الأشراف. ج: 2. ص: 385) ، ففي ذلك إرشاد لمن يريد استقراءها، قال رحمه الله: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثًا قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة، وهم ثلاثماثة ... الحديث. (خ) في الشركة (1: 1) ، عن عبد الله بن يوسف. وفي المغازي (66: 1) عن إسماعيل بن أويس، كلاهما عن مالك. وفي الجهاد (123) عن صدقة بن الفضل، عن عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، كلاهما عنه به. و (4: 5) عن محمد بن حاتم، عن ابن مهدي، عن مالك به. و (4: 6) عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير عنه به. في الزهد (99: 5) ، عن هناد بن السري، عن عبدة به. وقال: حسن صحيح. س في الصيد (35: 2) وفي السير (في الكبرى) ، عن محمد بن آدم، عن عبدة به.(4/1103)
و (في الكبرى) عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك به. ق في الزهد (12: 5) ، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبدة به. وبعضهم يزيد على بعض الحديث. ووقع في بعض النسخ المتأخرة من ت: عن هشام بن عروة عن (أبيه) ، عن وهب بن كيسان. وهو وهم.
وفي عدة من الأصول العتيقة: عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، ليس فيه (عن أبيه) ، وهو الصواب، كما في رواية الباقين. وقد رواه أيضًا جميع مدوني السير، مثل ابن هشام، وأورده الذهبي مختصرًا في (سير أعلام النبلاء. ج: 1. ص: 20. ترجمة: 1) . وأحال المعلق على سيرة ابن هشام (ج: 2. ص: 632، 633) .
فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة - رضي الله عنهم - لا مخالف لهم منهم. وصح أن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم كلهم يقولون: في المال حق سوى الزكاة. وما نعلم من أحد منهم خلافا في هذا إلا عن الضحاك بن مزاحم، فإنه قال: نسخت الزكاة كل حق في المال. وما رواية الضحاك حجة
قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 186) : حدثنا وكيع، عن سلمة، عن الضحاك قال: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن. وقال أبو عبيد (الأموال. ص: 499. الأثر: 930) : حدثنا مروان بن معاوية، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قال: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن. وقال ابن زنجويه (الأموال. ج: 2. ص: 792) : أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك قال: نسخت الزكاة كل شيء في القرآن من الصدقة. أما قول ابن حزم يغفر الله له: (وما رواية الضحاك حجة فكيف رأيه؟) ، فإنما هو من بعض نزواته، وما أكثرها، يغفر الله له، ولئن كان بعضها مقبولًا، فإن منها ما كنا نود أن لو تحرج منه، فهو لا يتسق مع مثله من صدور العلماء والأئمة في التحقيق والاجتهاد، ولكن (جل من لعب فيه) ، ذلك بأن الضحاك بن مزاحم الهلالي - رحمه الله - أحد الصدور الأجلاء تكلموا في روايته، عن ابن عباس، واضطربت الرواية عنه في أنه رآه أو لم يره، وإنما يروي حديثه تدليسًا إذا أخذه عن سعيد بن جبير، ولكن ذلك لا يغمز في علمه وورعه، ولا ينزل به على أن يكون حجة. قال الذهبي - رحمه الله - (سير أعلام النبلاء. ج: 4. ص: 598. ترجمة: 238) : الضحاك بن مزاحم الهلالي أبو محمد، وقيل: أبو القاسم صاحب التفسير، كان من أوعية العلم، وليس بالمجود لحديثه، وهو صدوق في نفسه. ثم قال: حدث عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري وابن عمر وأنس بن مالك وعن الأسود وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس وطائفة، وبعضهم يقول: لم يلق ابن عباس، والله أعلم.(4/1104)
حدث عنه عمارة بن أبي حفصة وأبو سعد البقال وجويبر بن سعيد ومقاتل وعلي بن الحكم وأبو روق عطية وأبو جنب الكلبي يحيى بن أبي حية ونهشل بن سعيد وعمرو بن الرماح وعبد العزيز بن أبي الرواد وقرة بن خالد وآخرون.
وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما، وحديثه في السنن، لا في الصحيحين. وقد ضعفه يحيى بن سعيد، وقيل: كان يدلس، وقيل: كان فقيه مكتب كبير إلى الغاية، فيه ثلاثة آلاف صبي، فكان يركب حمارًا، ويدور على الصبيان، وله باع كبير في التفسير والقصص. قال سفيان الثوري: كان الضحاك يعلم ولا يأخذ أجرًا. ثم ذكر الروايات المختلفة عنه حول رؤيته لابن عباس. ونقل قول القطان: الضحاك عندنا ضعيف. وذكر ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 4. ص: 453. ترجمة: 784) أن البخاري علق عنه في كتاب اللعان عند تفسير قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} . وفي تفسير سورة الرحمن. ونقل عن أبي نعيم قوله: مات سنة خمس ومائة، كما نقل توثيق العجلي والدارقطني له. قلت: ورجل من هذا الطراز من كبار التابعين لا ينبغي لامرئ أيا كان ومهما يبلغ من العلم والاجتهاد والرأي أن يتقول فيه إلا خيرًا، فما الذي يبقى لطالب العلم وطالب الحق من أسباب إلى ما يطلب إذا سمحنا لأنفسنا بالغمز في هؤلاء الأقطاب، ومرة أخرى يغفر الله لابن حزم.
فكيف رأيه؟!.
والعجب أن المحتج بهذا أول مخالف له، فيرى في المال حقوقًا سوى الزكاة، منها النفقات على الأبوين المحتاجين، وعلى الزوجة وعلى الرقيق، وعلى الحيوان والديون، فظهر تناقضهم.
فإن قيل: فقد رويتم عن ابن أبي شيبة: حدثنا أبو الأحوص، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من أدى زكاة ماله، فليس عليه جناح أن لا يتصدق (1)
__________
(1) قال ابن شيبة (الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 191) : حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من أدى زكاة ماله، فليس عليه جناح أن يتصدق. وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 4. ص: 133) : أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنبأنا أبو منصور النضروي، حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من أدى زكاة ماله، فلا جناح عليه أن لا يتصدق.(4/1105)
ومن طريق الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} نسختها العشر ونصف العشر قال ابن أبي شيبة: (الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 186) : حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} نسختها العشر ونصف العشر. وقال ابن زنجويه (الأموال. ج: 2. ص: 494 الأثر: 1375) : حدثنا يحيى، أخبرنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} - سورة الأنعام الآية رقم (141) - قال: العشر ونصف العشر. وقال أبو يوسف (الخراج. ص: 56) : حدثنا الحجاج بن أرطاة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن عبد الله بن عباس في قول الله عز وجل: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: العشر ونصف العشر. وقال يحيى بن آدم (الخراج. ص: 123. الأثر: 398) : حدثنا معاوية، عن حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: العشر ونصف العشر. وقال الطبري (جامع البيان. ج: 8. ص: 43) : حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: نسخها العشر ونصف العشر. وقال البيهقي (ج: 4. ص: 132) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر بن الحسن وأبو سعيد بن أبي عمرو، وقالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: العشر ونصف العشر. كان ابن حزم يغفر الله له، له أن يتخير كلمة أدنى إلى اللياقة من كلمة (ساقطة) في وصف رواية مقسم، لأن مقسم روى عنه البخاري والأربعة، وإن تكلم فيه البعض على أن كلامهم لم يبلغ درجة (الإسقاط) ، وغاية أمره ما نقله ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 10. ص: 188 وما بعدها. ترجمة: 507) عن الساجي من قوله: (تكلم الناس في بعض رواياته، ومن ارتياب البعض أو إنكارهم في سماعه عن بعض الصحابة مثل أمهات المؤمنين أم سلمة وميمونة وعائشة، وقد ضعفه بعضهم؛ لأنه كان يقرأ من كتاب، أو على حد تعبيرهم في (مصحف) ، وكان ذلك يومئذ عندهم مغمزًا. وكان الأولى لابن حزم أن يقف عند سماع الحكم عن مقسم، فقد شككوا في معظم سماعه منه، حتى قال أحمد: لم يسمع الحكم من مقسم إلا أربعة أحاديث، وأما غير ذلك فأخذها من كتاب.(4/1106)
وشكك شعبة أيضًا في بعض سماعات الحكم من مقسم. على أن الحكم روى عنه الجماعة، وكان من أوعية العلم، فلا ضير عليه أن يكون أخذ شيئًا من حديث مقسم من كتاب ثبت لديه أن ما ورد فيه عن مقسم صحيح، وقد يكون ناوله مقسم نفسه ذلك الكتاب، ويغفر الله لابن حزم، فلو ذهبنا مع تشكيكه وتشنجاته في بعض ما يروى وما ينقد، لفاتنا علم كثير. ثم إن مقسمًا لم ينفرد برواية هذا الأثر عن ابن عباس، بل رواه عنه أيضًا الحكم مباشرة من غير وساطة مقسم. قال يحيى بن آدم (الخراج. ص: 124. الأثر: 397) : حدثنا حفص بن غياث، عن الحجاج، عن الحكم، عن ابن عباس في قوله: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: نسختها العشر ونصف العشر. قلت لحفص في ما يختلف فيه المعنى، فسكت، قلت له: فسمعته يذكر فيه مقسم؟ قال: لا. ومع أننا لا نذهب في تأويل هذه الآية مذهب ابن عباس مما رواه الحكم مباشرة أو بواسطة مقسم، فإننا نتحرج أشد التحرج من أن نغمز في رواية الحكم أو مقسم لمجرد أن نعضد رأينا بالتشكيك فيما روى من غير رأينا، وإن كان ابن عباس، فابن عباس حبر الأمة ومن أكابر علماء الصحابة وعلى أقصى درجات الجلال والوقار، بيد أن رأيه مهما يبلغ إجلالنا وتوقيرنا له رأي بشر ما لم يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسبنا ذلك لنقول له: لك رأيك، بيد أننا لسنا ملزمين به، أما كان هذا الموقف أولى بابن حزم؟ يغفر الله لنا وله.
فإن رواية مقسم ساقطة لضعفه
وليس فيها - لو صحت - خلاف لقولنا.(4/1107)
وأما رواية عكرمة، فإنما هي أن لا يتصدق تطوعًا، وهذا صحيح. وأما القيام بالمجهود، ففرض ودين، وليس صدقة تطوع.
ويقولون: من عطش فخاف الموت، ففرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده، وأن يقاتل عليه. فأي فرق بين ما أباحوا له من القتال على ما يدفع به عن نفسه الموت من العطش وبين ما منعوه منه من القتال عن نفسه فيما يدفع به عنها الموت من الجوع أو العري؟! وهذا خلاف الإجماع والقرآن والسنن والقياس.
ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة أو لحم خنزير وهو يجد طعامًا فيه فضل عن صاحبه أو لذمي، لأن فرضًا على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك كذلك، فليس بمضطر إلى الميتة، ولا إلى لحم الخنزير، وبالله تعالى التوفيق.
وله أن يقاتل على ذلك، فإن قتل، فعلى قاتله القود، وإن قتل المانع، فإلى لعنة الله؛ لأنه منع حقا، وهو طائفة باغية، قال تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ} (1) وما يمنع الحق باغ على أخيه الذي له الحق، وبهذا قاتل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مانع الزكاة، وبالله تعالى التوفيق.
قلت: لم أقف في هذا الشأن على تحقيق جامع شامل مثل هذا الذي دَبَّجه ابن حزم - رحمه الله - لذلك نقلته بكامله، وإن يكن على بعض الطول، وأحسبه يغني عن أي تحقيق آخر لأي فقيه غير ابن حزم، كذلك ننطلق منه إلى استئناف ما كنا بصدده من اقتباس آراء وروايات أئمة التفسير.
وقال ابن عطية (2) وقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الآية، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل: هي الزكاة. ثم قال بعد أن ذكر قوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} . وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس الزكاة المفروضة.
وقال القرطبي (3) قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} . استدل به من قال: إن في المال حقا سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل: المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح، لما أخرجه الدارقطني (4) عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في المال حقا غير الزكاة)) .
__________
(1) الآية رقم: (9) من سورة الحجرات.
(2) المحرر الوجيز. ج: 2. ص: 56 وما بعدها.
(3) الجامع لأحكام القرآن. ج: 2. ص: 241 وما بعدها.
(4) لم نقف عليه في مظانه ولعل هذا من أوهام السيوطي.(4/1108)
ثم تلا هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} إلى آخر الآية. وأخرجه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه، وقال: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله: وهو أصح. قلت - القائل القرطبي -: والحديث وإن كان فيه مقال، فقد دل على صحته معنى ما في هذه الآية نفسها من قوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} ، فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كاد يكون تكرارًا، والله أعلم، واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها، قال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم (1) وهذا إجماع أيضًا، وهو يقوي ما اخترناه، والموفق الإله.
وقال ابن حيان الأندلسي (2) بعد أن ذكر أقوال بعض المفسرين في تأويل هذه الآية وضعفها: وقيل: هو حق واجب غير الزكاة. قال الشعبي: (إن في المال حقا سوى الزكاة) وتلا هذه الآية، وقيل: رفع الحاجات الضرورية مثل إطعام الطعام للمضطر. فأما ما روي على أن الزكاة نسخت كل حق، فيحمل على الحقوق المقدرة، أما ما لا يكون مقدرًا، فغير منسوخ، فدليل وجوب التصدق عند الضروري ووجوب النفقة على الأقارب وعلى المملوك، وذلك كله غير مقدر.
وقال الرازي (3) في معرض تفسير هذه الآية: (المسألة الثانية: اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء، فقال قوم: إنها الزكاة. وهذا ضعيف؛ وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} . ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا، فثبت أن المراد به غير الزكاة، ثم إنه لا يخلو إما أن يكون من التطوعات أو من الواجبات، لا جائز أن يكون من التطوعات؛ لأنه تعالى قال في آخر الآية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وقف التقوى عليه، ولو كان ذلك ندبًا، لما وقف التقوى عليه.
__________
(1) لم أقف على هذا الأثر عن مالك في مظانه من الموطأ (رواية يحيى بن يحيى) ولا من المدونة.
(2) البحر المحيط. ج: 2. ص: 5.
(3) التفسير الكبير. ج: 3. ص: 43 وما بعدها.(4/1109)
فثبت أن هذا الإيتاء وإن كان غير الزكاة، إلا أنه من الواجبات، ثم فيه قولان: القول الأول: أنه عبارة عن دفع الحاجات الضرورية، مثل إطعام المضطر، ومما يدل على تحقق هذا الوجوب النص والمعقول. أما النص فقوله عليه الصلاة
والسلام: ((لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره طاو إلى جنبه)) (1)
وروي عن فاطمة بنت قيس: أن في المال حقًا سوى الزكاة، ثم تلت: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} . وحكي عن الشعبي أنه سئل عمن له مال فأدى زكاته، فهل عليه شيء سواه؟ فقال: نعم، يصل القرابة، ويعطي السائل، ثم تلا هذه الآية.
وأما العقل فإنه لا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة، ولم تكن الزكاة واجبة عليهم، ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهرًا، فهذا يدل على أن هذا الإيتاء واجب.
واحتج من طعن في هذا القول بما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: إن الزكاة نسخت كل حق (2) والجواب من وجوه:
الأول: أنه معارض بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((في المال حقوق سوى الزكاة)) (3) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من قول علي.
والثاني: أجمعت على أنه إذا حضر المضطر، فإنه يجب أن يدفع إليه ما يدفع الضرر، وإن كان قد أدى الزكاة بالكمال.
الثالث: المراد أن الزكاة نسخت الحقوق المقدرة، أما الذي لا يكون مقدرًا، فإنه غير منسوخ، بدليل أنه يلزم التصدق عن الضرورة، ويلزم النفقة على الأقارب وعلى المملوك، وذلك غير مقدر، فإن قيل: هب أنه صح هذا التأويل، ولكن ما الحكمة في هذا الترتيب؟ قلنا: فيه وجوه:
أحدها: أنه تعالى قدم الأولى فالأولى؛ لأن الفقير إذا كان قريبًا، فهو أولى بالصدقة من غيره، من حيث إنه يكون ذلك جامعًا بين الصلة والصدقة، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه، وذلك يستحق به الإرث ويحجر بسببه على المالك في الوصية حتى لا يتمكن من الوصية إلا في الثلث، ولذلك كانت الوصية للأقارب من الواجبات على ما قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (4) الآية.
__________
(1) لم نقف على تخريج لهذا الحديث في مدونات السنة المعتمدة ولا في غيرها.
(2) لم أفف على هذا الأثر في مظانه.
(3) انظر مثلًا حديث فاطمة بنت قيس الذي نقلناه آنفًا وما شاكله.
(4) البقرة الآية رقم: (180) .(4/1110)
وإن كانت تلك الوصية قد صدرت منسوخة عند بعضهم، فلهذه الوجوه قدم ذا القربى، ثم أتبعه تعالى باليتامى؛ لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا كاسب، فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه، ثم أتبعهم تعالى بذكر المساكين؛ لأن الحاجة قد تشتد بهم، ثم ذكر ابن السبيل، إذ قد تشتد حاجته عند اشتداد رغبته إلى أهله، ثم ذكر السائلين وفي الرقاب؛ لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره.
ثانيها: أن معرفة المرء بشدة حاجة هذه الفُرق تقوى وتضعف، فرتب تعالى ذكر هذه الفُرُق على هذا الوجه؛ لأن علمه بشدة حاجة من يقرب إليه أقرب، ثم بحاجة الأيتام، ثم بحاجة المساكين، ثم على هذا النسق.
وثالثها: أن ذا القربى مسكين وله صفة زائدة تخصه؛ لأن شدة الحاجة فيه تغمه وتؤذي قلبه، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير، فلذلك بدأ الله تعالى بذي القربى ثم باليتامى، وأخر المساكين؛ لأن الغمّ الحاصل بسبب عجز الصغار عن الطعام والشراب من الغم الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلها، فأما ابن السبيل فقد يكون غنيا وقد تشتد حاجته في الوقت، والسائل قد يكون غنيا ويظهر شدة الحاجة، وأخر المكاتب؛ لأن إزالة الرق ليست في محل الحاجة الشديدة.
والقول الثاني: لأن المراد بإيتاء المال ما روي عنه عليه الصلاة والسلام عند ذكره الإبل، قال: ((إن فيها حقا هو إطراق فحلها وإعارة دلوها)) (1) وهذا بعيد؛ لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختص به ابن السبيل والمكاتب.
القول الثالث: أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجبًا، ثم إنه صار منسوخًا بالزكاة، وهذا أيضًا ضعيف؛ لأنه تعالى جمع في هذه الآية بين هذا الإيتاء وبين الزكاة.
وقال ابن تيمية (2) في معرض بيان قاعدة (أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وأن جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه، وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوباتهم على ترك المحرمات، وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوباتهم على فعل المحرمات) .
__________
(1) تقدم آنفًا من إخراج ابن عبد البر.
(2) مجموع الفتاوى. ج: 20. ص: 132 وما بعدها.(4/1111)
وذكر لبيان ذلك وجوهًا، وعند شرح الوجه الحادي والعشرين منها قال: وقد قال الله تعالى في أكبر سورة في القرآن: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) إلى آخرها، فوصف المتقين بفعل المأمور به من الإيمإن والعمل الصالح من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وقال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .
وهذه الآية عظيمة وجليلة القدر من أعظم آي القرآن وأجمعه لأمر الدين، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن خصال الإيمان فنزلت. وفي الترمذي عن فاطمة بنت قيس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن في المال حقا سوى الزكاة)) وقرأ هذه الآية، وقد دلت على أمور:
أحدها: أنه أخبر أن الفاعلين لهذه الأمور هم المتقون، وعامة فعل هذه الأمور مأمور به.
الثاني: أنه أخبر أن هذه الأمور هي البر وأهله هم الصادقون، يعني في قوله: (آمنا) ، وعامتها أمور وجودية هي أفعال مأمور بها، فعلم أن المأمور به أدخلوا في البر والتقوى والإيمان من عدم المنهي عنه وبهذه الأسماء الثلاثة استحقت الجنة، كما قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (2) , وقال: {أم نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (3) {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} (4) وقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (5) ، وهذه الخصال المذكورة في الآية قد دلت على وجوبها؛ لأنه أخبر بأن أهلها هم الذين سبقوا في قولهم وهم المتقون، والصدق واجب، والإيمان واجب بإيجاب حقوق سوى الزكاة، وقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (6)
__________
(1) الآيتان رقم: (1) و (2) من سورة البقرة.
(2) الآيتان رقم: (13) و (14) من سورة الانفطار.
(3) الآية رقم: (28) من سورة ص.
(4) الآيتان رقم: (54) من سورة القمر.
(5) الآية رقم: (18) من سورة السجدة.
(6) الآية رقم: (20) من سورة المزمل.(4/1112)
وقوله لبني إسرائيل: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} . (1)
وقوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (2) وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقوله: {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} (3) في (سبحان) و (الروم) ، فإتيان ذي القربى حقه: صلة الرحم، والمسكين: إطعام الجائع، وابن السبيل: قرى الضيف، وفي الرقاب: فكاك العاني، واليتيم نوع من إطعام الفقير.
وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((عودوا المريض، وأطعمو االجائع، وفكوا العاني)) قال البخاري (ج: 6. ص: 143) : حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن سفيان، قال: حدثني منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكوا العاني، وأجيبوا الداعي، وعودوا المريض. وقال: (ج: 6. ص: 195) : حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني. وقال (ج:7. ص:3 و4) : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني. لكن البخاري لم ينفرد بهذا الحديث، فقد ذكره المزي في (تحفة الأشراف. ج: 6. ص: 418) أن الحديث رواه أيضًا أبو داود والنسائي، وهذا تخريجه بنصه: حديث: (فكوا العاني وأطعموا الجائع وعودوا المريض) . خ الأطعمة (1: 1) عن محمد بن كثير. وفي النكاح (72: 2) وفي الأحكام (23) عن مسدد، عن يحيى، كلاهما عن سفيان. وفي الجهاد (170: 2) عن قتيبة، عن جرير. وفي الطب (بل في المرضى 4: 1) عن قتيبة، عن أبي عوانة، ثلاثتهم عن منصورعنه به، ك. د في الجنائز (11: 2) عن محمد بن كثير به. س. في السير (الكبرى 63) وفي الطب ك (الكبرى 8: 1) عن قتيبة، عن أبي عوانة به.
وفي الطب (8: 1) عن محمود بن غيلان بن وكيع وبشر بن السري جميعًا عن سفيان به. ك حديث في رواية ابن العبد وابن داسة، وحديث محمود بن غيلان ليس في الرواية ولم يذكرهما أبو القاسم.
وفي الحديث الذي أفتى به أحمد: لو صدق السائل ما أفلح من رده (4)
وقال محمد عبده (5) عند شرحه للآية: ومشروعية البدل لهذه الأصناف من غير مال الزكاة لا تتقيد بزمن ولا بامتلاك نصاب محدود، ولا يكون المبذول مقدارًا معينًا بالنسبة إلى ما يملك، ككونه عشرًا أو ربع العشر أو عشر العشر، وإنما هو أمر مطلق بالإحسان موكول إلى أريحية المعطي وحالة المعطى، ووقاية الإنسان المحترم من الهلاك والتلف واجبة على من قدر عليها، وما زاد على ذلك فلا تقدير له، وقد أغفل أكثر الناس هذه الحقوق العامة التي حث عليها الكتاب العزيز، لما فيها من الحياة الاشتراكية المعتدلة الشريفة، فلا يكادون يبذلون شيئًا لهؤلاء المحتاجين إلا القليل النادر لبعض السائلين وهم في هذا الزمان أقل الناس استحقاقًا؛ لأنهم اتخذوا السؤال حرفة، وأكثرهم واجدون، ولو أقاموها لكان حال المسلمين في معايشهم خيرًا من سائر الأمم، ولكان هذا من أسباب دخول الناس في الإسلام، وتفضيله على جميع ما يتصور الباحثون من مذاهب الاشتراكيين والماليين.
وقال محمد الطاهر بن عاشور (6) بعد أن أفاض في إيضاح الجوانب اللغوية والنحوية والبيانية من نظم الآية الكريمة كعادته: الإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية؛ لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها، والمواساة تقوى (عنها) (7) الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة، وببذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحرارًا، والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية، وهي عنوان كمال النفس، وفضيلة اجتماعية، وهي ثقة الناس بعضهم ببعض، والصبر في جماع الفضائل وشجاعة الأمة، ولذلك قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فحصر فيهم الصدق والتقوى حصرًا ادعائيا للمبالغة (8)
__________
(1) الآية رقم: (12) من سورة المائدة.
(2) الآية رقم: (92) من سورة آل عمران.
(3) الآية رقم: (26) من سورة الإسراء.
(4) لم نقف على حديث بهذا اللفظ. في مظانه.
(5) تفسير المنار. ج 2. ص: 117.
(6) التحرير والتنوير. ج: 2. ص 132.
(7) لعل في العبارة خطأ مطبعيًا صوابه: تقوى منها.
(8) يغفر الله لأستاذنا، فلسنا نتفق معه في أن الحصر كان (ادعائيا للمبالغة) ، بل هو حصر تشريعي لبيان الحكم وضبط معالمه وشروطه التي لا يتأتى إلا بها، وهذا ما تدل عليه الآية الكريمة وآيات غيرها أورد بعضها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فيما نقلنا عنه آنفًا.(4/1113)
ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم؛ لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيين، ولأنهم حرموا كثيرًا من الناس حقوقهم، ولم يفوا بالعهد، ولم يصبروا، وفيها أيضا تعريض بالمشركين، إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر والنبيين والكتب، وسلبوا اليتامى أموالهم ولم يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
وفي قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (2)
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (3)
تواضع جمهور المفسرين على تأويل هذه الآيات في إطار من المفهوم الفردي لدلالاتها وحتى أولئك الذين عرضوا لاحتمال أن يكون المقصود من المخاطبين الذين أضيفت الأموال إليهم جمعًا مجموع المسلمين أو الأمة الإسلامية كافة، كان تصورهم بهذا الاحتمال منطلقًا من اعتبار الجماعة أو الأمة الإسلامية مجرد مجموعة أفراد دون أن يلحظوا أن المجتمع الإسلامي كثيرًا ما يعتبره الشرع كيانًا متميزًا أو - حسب التعبير الحديث - شخصية معنوية ويوجه إليه الخطاب بناء على هذا الاعتبار، وإن كان من الممكن أن نلمح عند التأمل ظلالًا غير واضحة لهذا التصور عند بعضهم، وكلما تقدم الزمن وتطورت المؤثرات المعاشية والحضارية ازداد هذا التصور وضوحًا لدى من يعايشون أطوار ذلك التقدم ومراحله.
وقد آثرنا أن ندرج صفايا أقوالهم وإن ابتعد معظمها عن وجهتنا وما نراه متسقًا مع ما نسميه (مناط التشريع الإسلامي في المجال المالي باعتباره مجالًا اجتماعيًا أولًا ثم فرديًا بالتبعية) صدقًا مع المنهج العلمي القاضي بعرض جميع جوانب الموضوع الذي يتناوله البحث وجميع الآراء والتصورات المحيطة به ليتسنى تقييم ما يصير إليه الباحث من نتائج على هدي من استكمال العناصر ووضوح المسار واجتلاء مرجحات الاختيار وتيسيرًا للقارئ أن يوازن ويصدر حكمه إن كان مؤهلًا للحكم دون الحاجة إلى مراجعة المصادر التي اعتمدناها إلا أن يريد التثبت أو يتوخى المزيد من الإحاطة لما قد يكون اقتصرنا في نقله على ما اعتبرناه - بتقدير علمي مجرد - الخلاصة والصفوة لرأي أو اتجاه، فاقتصرنا على نقله، وأحلنا إلى مصدره من يريد المزيد من الاستقراء.
__________
(1) الآية رقم: (188) من سورة البقرة.
(2) الآية رقم: (5) من سورة النساء.
(3) الآية رقم: (29) من سورة النساء.(4/1114)
ففي آية سورة البقرة: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} الآية، يقول ابن عطية (1) الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض. فأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي، لما كان كل واحد منهيًا عنه، وكما قال: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} (2)
وقال القرطبي (3) : الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض. ثم قال: وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيًا ومنهيًا عنه، كما قال: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} .
وقال ابن حيان (4) : وهذا الخطاب والنهي للمؤمنين وإضافة الأموال إلى المخاطبين، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض، كقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، فالضمير الذي للخطاب يصح لكل واحد ممن حقه أن يكون منهيًا ومنهيًا عنه وآكلًا ومأكولًا منه، فخلط الضمير بهذه الصلاحية، وكما يحرم بأن يأكل، يحرم بأن يؤكل غيره. فليست الإضافة إذ ذاك للمالكين حقيقة، بل هي من باب الإضافة بالملابسة، وأجاز قوم الإضافة للمالكين.
وقال ابن العربي (5) معنى: لا يأكل بعضكم مال بعض، كما قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، وكقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (6)
__________
(1) المحرر الوجيز. ج: 2. ص: 96.
(2) الآية رقم: (85) .
(3) الجامع لأحكام القرآن. ج: 2. ص: 397.
(4) البحر المحيط. ج: 2. ص: 55.
(5) أحكام القرآن. ج: 1. ص: 97.
(6) الآية رقم: (61) من سورة النور.(4/1115)
المعنى: لا يقتل بعضكم بعضا، وليسلم بعضكم على بعض، ووجه هذا الامتزاج أن أخا المسلم كنفسه في الحرمة، والدليل عليه الأثر والنظر، أما الأثر فقوله عليه السلام: ((مثل المسلمين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو منه، تداعى سائره بالحمى والسهر)) الحديث رواه الشعبي عن النعمان بن بشير. وأخرجه كل من البخاري ومسلم. وقال المزي (تحفة الأشراف. ج: 9. ص: 24. ح: 11627) : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ... )) الحديث. خ في الأدب (27: 4) عن أبي نعيم، عن زكرياء، عن الشعبي به. م في (الأدب 17: 2) عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن زكرياء به. و (17: 5) عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي سعيد الأشج، كلاهما عن وكيع، و (17: 5) عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، كلاهما عن الأعمش. و (17: 3) عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن مطرف، كلاهما عن الشعبي، رواه الأعمش عن خيثمة أيضًا، عن النعمان بن بشير، وقد مضى (11618) . ورواه أحمد (المسند. ج: 4. ص: 270) : حدثنا يحيى بن سعيد، عن زكرياء قال: حدثنا عامر، قال: سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) . الحديث، حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكرياء، قال: سمعت عامر يقول: سمعت النعمان بن بشير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمنين ... فذكر الحديث. وقال (المسند. ص: 274) : حدثنا يونس وسريج، قالا: حدثنا حماد، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير، أن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال سريج في حديثه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل المؤمنين كمثل الجسد إذا تألم بعضه تداعى سائره)) . وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 1. ص: 228. 233) : أخبرنا ابن قحطبة، حدثنا محمد بن
الصباح، حدثنا عبيدة بن حميد، عن الحسن بن عبيد الله النخعي، عن الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل المؤمنين كمثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد)) .(4/1116)
وقال الشهاب القضاعي (مسند شهاب. ص: 283 و284. ح: 1366 و1367 و1368) : أخبرنا عبد الرحمن بن عمر البزار، أنبأنا أبو يوسف أحمد بن محمد بن الأعرابي، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا بنجاب، حدثنا أبو عامر الأسعدي، حدثنا موسى بن عبد الملك بن عمير، عن أبيه قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى بعضه، تداعى سائره بالسهر والحمى)) ، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الأدفوي، أخبرنا أبو الطيب أحمد بن سليمان الجريري إجازة، حدثنا أبو جعفر الطبري، حدثنا ابن حميد وأبو وكيع، قالا: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد، إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) .
أخبرنا محمد بن الحسين النيسابوري، أخبرنا القاضي أبو طاهر، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا جعفر بن حميد، حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن عبد الملك بن عمير، عن النعمان بن بشير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل المسلمين في تواصلهم وتراحمهم والذي جعل الله بينهم مثل الجسد إذا وجع بعضه وجع كله بالسهر والحمى)) . وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 3. ص: 353) : أخبرنا الحسن بن بشران العدل ببغداد، أنبأنا جعفر بن محمد بن عمرو الرزاز , حدثنا محمد بن عبيد الله، حدثنا إسحاق الأزرق، حدثنا زكرياء بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن المنهال، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى)) . وقد رأينا نقل ألفاظ وأسانيد غير البخاري ومسلم لما في بعضها من التغاير عن بعض صيغة وزيادة ونقصًا.
وأما النظر فإن رقية الجنسية تقتضيه وشفقة الآدمية تستدعيه.
وقال محمد عبده (1) : الخطاب لعامة المكلفين، والمراد أن لا يأكل بعضكم مال بعض، واختار لفظ أموالكم، وهو يصدق بأكل الإنسان مال نفسه للإشعار بوحدة الأمة وتكافئها، وللتنبيه على أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك؛ لأن استحلال التعدي وأخذ بغير حق يعرض كل مال للضياع والذهاب ففي هذه الإضافة اللطيفة تعليل للنهي وبيان لحكمة الحكم كأنه قال: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل؛ لأن ذلك جناية على نفس الآكل من حيث هو جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها، لا بد أن يصيبه معهم من كل جناية تقع عليهم، فهو باستحلاله مال غيره يجرئ غيره على استحلال أكل ماله عند الاستطاعة.
وقال محمد الطاهر بن عاشور (2) : الضمائر في مثل: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} إلى آخر الآية، عامة بجميع المسلمين، وفعل (ولا تأكلوا) واقع في حيز النهي، فهو عام، فأفاد ذلك نهيًا لجميع المسلمين من كل أكل وفي جميع الأموال. قلنا: هنا جمعان، جمع الآكلين، وجمع الأموال المأكولة، واذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل أن يكون من مقابلة كل فرد من أفراد الجمع بكل فرد من أفراد الجمع الآخر على التوزيع نحو: ركب القوم دوابهم. وقوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (3) {قُوا أَنْفُسَكُمْ} (4) واحتمل أن يكون كذلك، لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} (5) قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ، واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} (6) ، والتعويل في ذلك على القرائن، وقد علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني، أي: لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل بقرينة قوله: {بينكم} ، لأن (بين) تقتضي توسطًا خلال طرفين، فعلم أن الطرفين آكل ومأكول منه، والمال بينهما، فلزم أن يكون الآكل غير المأكول، وإلا لما كانت فائدة لقوله: {بينكم} .
قلت: وماذا يقول أستاذنا - رحمه الله - في مثل قول القائل: (أجلسوا فلانًا بينكم) أو: (اقسموا هذا بينكم) ، فليس في المثالين ما يشبه آكل ومأكول منه، بل إن كلا منهما يخاطب طرفين في وضع متساو، وهذا هو المعنى الذي نرتئيه ونرتضيه في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، فبينكم ليست قرينة التغاير الذي يعني فاعلًا ومفعولًا، وإنما هي قرينة التغاير الذي يعني التمايز والتعدد، وشتان بين التغاير في الأمرين، فليتأمل.
أما في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} ففي ذلك قال القرطبي (7) : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي مالك: أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا، التي هي قوامك بعد الله.
__________
(1) الهامش ساقط من الأصل (المجلة) .
(2) التحرير والتنوير. ج: 2. ص: 189.
(3) الآية رقم: (102) من سورة النساء.
(4) الآية: (6) سورة التحريم.
(5) الآية: (11) سورة الحجرات.
(6) الآية: 7 سورة المؤمنون.
(7) جامع البيان: ج: 4. ص: 167.(4/1117)
حدثنا أحمد بن الفضل، حدثنا أسباط، عن السدي: أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا، فإن المال هو قيام الناس وقوام معايشهم، يقول: كنت أنت قيم أهلك، فلا تعطي امرأتك مالك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك.
حدثني المثني، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} ، يقول الله سبحانه: لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله للمعيشة فتعطيه امرأتك وبنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم وكسوتهم ورزقهم ومؤونتهم. قال: وقوله: قيامًا، يعني قوامك في معايشك. وعلى هذه الوتيرة مضى ابن جرير في نقله.
وقال الزمخشري (1) : والخطاب للأولياء وأضاف الأموال إليهم؛ لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم، كما قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2) {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (3) والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى وقوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} .
وقال القرطبي (4) بعد أن أورد أقوالًا في تأويل الآية: ويقال: لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة.
وروي عن عمر أنه قال: من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا، فذلك قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} يعني الجهالة بالأحكام، ويقال: لا تدفع إلى الكفار، ولهذا كره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالشراء والبيع أو يدفع إليه مضاربة، وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: السفهاء هنا كل من يستحق الحجر.
ثم قال: واختلفوا في وجه إضافة المال إلى المخاطبين على هذا، وهم السفهاء، فقيل: أضافها إليهم؛ لأنها بأيديهم، وهم الناظرون فيها، فنسبت إليهم اتساعًا، كقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (5) {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (6) وقيل: أضافها إليهم؛ لأنها من جنس أموالهم، فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد ومن ملك إلى ملك، أو هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم وبها قوام أمركم.
__________
(1) الكشاف. ج: 1. ص: 500.
(2) الآية (29) سورة النساء.
(3) الآية: (25) سورة النساء.
(4) الجامع لأحكام القرآن. ج: 5. ص: 28 و29.
(5) الآية (61) سورة النور.
(6) الآية: (54) سورة البقرة.(4/1118)
وقول ثان قاله أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة: إن المراد أموال المخاطبين حقيقة. قال ابن عباس: لا تدفع مالك الذي هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرًا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم، بل كن أنت الذي تنفق عليهم، فالسفهاء على هذا، هم النساء والصبيان، صغار ولد الرجل وامرأته، وهذا يخرج مع قول مجاهد وابن مالك في السفهاء.
وقال الرازي (1) في الآية قولان: الأول: أنها خطاب الأولياء، فكأنه تعالى قال: يا أيها الأولياء لا تؤتوا الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم، والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} وأيضًا فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها، كما قررناه، فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم، فلِمَ قال: أموالكم؟ قلنا: في الجواب وجهان: الأول أنه تعالى أضاف المال إليهم، لا لأنهم ملكوه، ولكن من حيث ملكوا التصرف فيه، ويكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، وإنما حسنت هذه الإضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص، ونظيره قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (2)
وقوله {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وكذلك: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} .
ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه، ولكن كان بعضهم يقتل بعضًا، وكان الكل من نوع واحد، فكذا ههنا المال شيء ينتفع به نوع الإنسان، ويحتاج إليه، فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم.
قلت: هذا كلام أساسه صحيح، لكن النتيجة التي انتهى إليها الرازي لا سبيل إلى اعتبارها صحيحة، ولا سليمة، فاعتبار إضافة الأموال إلى المخاطبين جاءت على أساس أن المال شيء ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه. وأن من ملاحظ الإضافة أنها جاءت على أساس أنها أضيفت إليهم، لا لأنهم ملكوه، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه، وإنما حسنت هذه الإضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص. هذا الاعتبار اعتبار صحيح لا سبيل إلى المماراة فيه، لكن الخلوص منها إلى أن هذه الاعتبارات حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم، وأن الخطاب في الآية خطاب الأولياء خلوص لا يستقيم مع المنطق السليم إلا على أساس اعتبار الجماعة الإسلامية مجرد مجموعة أفراد وليست مجتمعًا ذا كيان معنوي متميز صالح لأن يتجه إليه الخطاب، وواضح أن هذا الأساس يناقض مبدأ الوحدة النوعية التي قام عليها توجيه الرازي لذلك التأويل.
__________
(1) التفسير الكبير. المجلد: 5. ج: 9. ص: 190 و191.
(2) الآية: (128) سورة التوبة.(4/1119)
أما الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى في الآية: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} فهو استدلال غير مستقيم، ذلك بأن الشراكة الاجتماعية في ملكية المال ملكية منفعة وانتفاع، وهي المناط من توجيه الخطاب إلى جمع المخاطبين، تترتب عنها تلقائيًا شراكة وظيفية، تحمل القادر تبعة التصرف طبقًا لما تقتضيه المصلحة العامة، وتخول غير القادر حق الاستفادة والانتفاع بحصته من المال الذي هو موضع الشراكة باعتباره عضوًا من المجتمع المشترك في ملكية المنفعة والانتفاع بذلك المال.
ولا يتسع لنا المجال لمناقشة الرازي في استدلاله ببعض الآيات الكريمة تدعيمًا لتوجيهه ذاك، فشتان ما بين دلالة جمع المخاطبين في قوله سبحانه وتعالى في سورة التوبة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} مثلًا، وقوله في سورة البقرة: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ثم {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} .
ذلك بأن أمر بني إسرائيل بأن يقتلوا أنفسهم توبة مما اقترفوه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} الآية.
والتنديد بهم أنهم يقتلون أنفسهم بما يسفكون من دماء بعضهم بعضًا {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} (1) لا سبيل إلى مشاكلتهما أو تشبيههما بوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه من أنفس المسلمين - على القراءة - بضم الفاء وهي الأظهر؛ لأنه وصف قائم على اعتبار وحدة المسلمين في أنفسهم وحدة خلق - بضم اللام - وشعور وإدراك ومتجه وإبراز مدى الوحدة النوعية بين ما فطر عليه صلى الله عليه وسلم من خلق عظيم من خصائصه الحرص على المسلمين والإشفاق من أن يصيبهم عنت والرأفة والرحمة بهم باعتبارهم كيانًا جامعًا متميزًا، وباعتباره الخلاصة والصفوة لهم، منه يستمدون ما فطروا عليه وما تطبعوا به من الأخلاق والمواجد والمدارك وإبراز مدى أصالة هذه الوحدة بينه وبينهم، فهو ليس غريبًا عنهم، وهم ليسوا غرباء عنه. ولذلك جاء التعبير في الآية الكريمة بعد توجيه الخطاب إلى جمع المخاطبين بكلمة (المؤمنين) في قوله سبحانه وتعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} تمييزًا لهم عن غيرهم ممن لم تبلغ نفسه من السمو والصفاء مرتبة تؤهله للانتساب إلى المجتمع الذي يتميز بالوحدة النوعية نفسيا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) البقرة: 84، 85.(4/1120)
فأين هذا من أمر الآثمين من بني إسرائيل بأن يقتلوا أنفسهم تكفيرًا عما اقترفوه والتنديد بالظالمين منهم بأنهم يقتلون أنفسهم بما يسفكون من دماء بعضهم بعضًا، فيقتل البريء ظلما، ويقتل أو يستحق القتل الجاني ثأرًا أو قصاصًا؟!
أما الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى في سورة النساء فاستدلال عجب، وأعجب منه أن يصدر من الرازي ذي العلاقة الوثقى بالفلسفة والشغف، أي أوشك أن يكون مسرفًا بها وبما تنهض عليه في عهده من طرائق المنطق الأرسطي، ذلك بأن الآية الكريمة وردت في معرض إباحة الزواج بالإماء {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) وجلي أن أي زواج لا ينعقد بحرة أو أمة إلا أن يأذن به ولي أمرها، وولي أمر الأمة مالكها، ولا سبيل إلى تصور أن أي إنسان يستطيع أن يعقد لرجل على أمة وإن كان لا يملكها بناء على أن الخطاب موجه على أساس نوع الوحدة الإنسانية، ثم إن كلمة {مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وردت كثيرًا في القرآن الكريم في تشريع حقوق ملك اليمين وواجبات المالك لهم وكيف ينبغي أن يعاملوا فيما يتجاوز الواجب، ولا سبيل حتى إلى مجرد التصور أن هذا التشريع يتجه إلى المجتمع الإنساني باعتباره كيانًا متميزًا على أساس من الوحدة النوعية، ليس متجهًا إليه باعتباره مجموعة أفراد يتحمل كل فرد تبعة عمله ومسؤولية تصرفاته، إذ لو كان متجهًا إلى المجتمع ككيان متميز مأذون له بالصرف الجماعي، فكان لكل أحد مثلًا أن يعتق عبدًا أو أمة في ملك غيره نيابة عن المجتمع المأذون له بالتصرف الجماعي ككيان متميز.
على حين أن توجيه الخطاب إلى المخاطبين جمعًا على أساس الوحدة النوعية للإنسان في مجتمع له كيان متميز في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} يتسق اتساقًا كاملًا مع اعتبار شراكة الإنسان عامة والمجتمع الإسلامي خاصة في ملكية المنفعة والانتفاع بالمال وفي تحمل جميع التبعات والمسؤوليات المترتبة على التصرف فيه، فكان طبيعيًا أن يتجه الخطاب إلى المخاطبين جمعًا، إيذانًا بأن أي اختلال في التصرف يحدث من فرد منهم لا يبرئ ساحة غيره من أفراد المجتمع إن كان تصرفًا غير سليم ما قدروا على منعه أو تقويمه. فالنهي موجه إلى المجتمع الإسلامي أفرادًا ومجتمعًا توجيهًا متساويًا لا سبيل إلى ترجيح الاعتبار الفردي على الاعتبار الاجتماعي، ولا إلى ترجيح الاعتبار الاجتماعي على الاعتبار الفردي، وهذا غاية ما يسمح به المجال في هذا الشأن.
__________
(1) الآية (25) سورة النساء.(4/1121)
ثم قال الرازي غفر الله له: القول الثاني: أن هذه الآية خطاب الآباء، فنهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم، لما كان في ذلك من الإفساد، فعلى هذا الوجه يكون إضافة الأموال إليهم حقيقة، وعلى هذا القول يكون الغرض من الآية الحث على حفظ المال والسعي في أن لا يضيع ولا يهلك، وذلك يدل على أنه ليس له أن يأكل جميع أمواله ويهلكها، وإذا قرب أجله فإنه يجب عليه أن يوصي بماله إلى أمين يحفظ ذلك المال على ورثته.
ثم مضى يفند هذا القول بوجوه من التفنيد، أحسبه كان في غنى عنها لو لم يلتفت إليه ولم يقم إليه وزنًا، ذلك بأنه لم يمض ذكر للآباء أو تلميح إليهم فيما سبق هذه الآية الكريمة من آيات سورة النساء، على حين أن الضمير يوجه إلى المخاطبين جمعًا من أول جملة منها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (1)
وقد تواتر التوجيه إلى المخاطبين جمعًا في الأوامر والنواهي إلى هذه الآية موضوع النقاش وما بعدها إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وهي الآية السادسة والثلاثون من سورة النساء واتسق الخطاب على هذا النسق اتساقًا بديعًا يدل على وحدة الاتجاه والمقصد، ولا يدع المجال للانحراف به إلى وجهات ليست منه وليس منها في شيء مهما حاول المتفقهة المتمحلون.
وقال ابن كثير (2) : ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قيامًا، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها.
ومن هنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام، فتارة يكون الحجر للصغر، فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجر للجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة للفلس، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه.
ثم مضى يورد الأقوال المأثورة عن التابعين ومن بعدهم في تعيين السفهاء، ولا يخرج تعيينهم في مجموعة من هذه الأصناف التي ذكرها.
__________
(1) الآية: (1) سورة النساء.
(2) تفسير القرآن العظيم. ج: 1. ص: 452.(4/1122)
وقال محمد الطاهر بن عاشور (1) : والخطاب في قوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} كمثل الخطاب في {وَآَتُوا الْيَتَامَى} (2) {وَآَتُوا النِّسَاءَ} (3) هو لعموم الناس المخاطبين بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} .
ثم قال: والمراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم، ألا ترى إلى قوله {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين بـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إشارة بديعة إلى أن المال الرائج بين الناس هو حق لمالكيه المختصين به في ظاهر الأمر، ولكنه عند التأمل تلوح فيه حقوق الأمة جمعًا، لأن في حصوله منفعة للأمة كلها، لأن ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالمصلحة، فمن تلك الأموال ينفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدقون، ثم تورث عنهم إذا ماتوا، فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها، فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير والكفاف، ومتى قلت الأموال من أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة، فأصبحوا في ضنك وبؤس واحتاجوا إلى قبيلة أو أمة أخرى، وذلك من ابتزاز عزهم وامتلاك بلادهم وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم. فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جمع المخاطبين ليكون لهم الحق في إقامة الأحكام التي تحفظ الثروة العامة، وهذه إشارة، لا أحسب أن حكيما من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها، وقد أبعد جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة؛ لأن الأموال في يد الأولياء وجعلوا الخطاب للأولياء خاصة، وجماعة جعلوا الإضافة للمخاطبين؛ لأن الأموال وإن لم تكن أموالهم حقيقة، وإليه مال الزمخشري، وجماعة جعلوا الإضافة؛ لأن السفهاء من نوع المخاطبين، فكأن أموالهم أموالهم، وإليه مال فخر الدين، وقارب ابن العربي إذ قال: لأن الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد، وتخرج من ملك إلى ملك وما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن، وأجد فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقة أي لا تؤتوا - بأصحاب الأموال - أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم وهذا أبعد الوجوه، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلا الحيرة في وجه الجمع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين، وإنما وصفته بالبعد؛ لأن قائله جعله هو المقصود من الآية، ولو جعله وجهًا جائزًا يقوم من لفظ الآية لكان له وجه وجيه.
__________
(1) التحرير والتنوير. ج: 4. ص: 234 و236.
(2) النساء: الآية رقم 2.
(3) النساء: الآية رقم 4.(4/1123)
ثم قال: وأجرى على الأموال صفة تزيد إضافتها إلى المخاطبين وضوحًا، وهي قوله: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} ، فجاء في الصفة بموصول، إيماء إلى تعليل النهي وإيضاحًا لمعنى الإضافة.
ثم قال: وقرأه الجمهور: قيامًا، والقيام ما به يقوم المعاش، وهو واوي أيضًا، وعلى القراءتين، فالإخبار بالأموال إخبار بالمصدر للمبالغة على قول الخنساء:
فإنما هي إقبال وإدبار
هذا عجز بيت من قصيدة طويلة للخنساء تماضر بنت عمرو بن الحرث بن الشريد، ترثي بها أخاها صخرا، ولتوضيح معنى البيت نورد أبياتًا قبلها وبعدها من القصيدة كما وردت في ديوانها ص: 42 وما بعدها، وكما وردت أبيات منها في العقد الفريد. ج: 3. ص: 267 و268. ولا نلتزم بإحدى الروايتين، وإنما نقيم الواحدة بالأخرى حسب ما يرشدنا الذوق السليم ومطلع القصيدة:
قذى بعينيك أم بالعين عوار أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار
ومنها:
وما عجول على بوٍّ تطيف به لها حنينان إعلان وإسرار
ترعى إذا نسيت حتى إذا ذكرت فإنما هي إقبال وإدبار
لا تسمن الدهر في أرض وإن ركعت فإنما هي تحنان وتسجار
يوما بأوجد مني يوم فارقني صخر وللدهر إحلاء وإمرار
وهي من أروع ما عرفه الشعر العربي القديم من صادق الرثاء.
والمعنى أنها تقويم عظيم لأحوال الناس وقيل: قيمًا (1) جمع قيمة، أي: التي جعلها الله قيمًا، أي: أثمانًا للأشياء، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدم.
قلت: من الغريب أن المعنى الذي قرره في تفسير هذه الآية من دلالاتها على الشراكة العامة في الأموال للناس باعتبار المجتمع الإسلامي كيانًا معنويًا متميزًا على أن الأموال بهذا المعنى تمثل ثروة قومية وما إلى ذلك مما فصله تفصيلًا جيدًا وإن لم يكن شاملًا لم يتسن له فيما نقلناه عنه آنفًا من تفسيره لقوله سبحانه وتعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، فشتان بتفسيره لهذه الآية وتفسيره لتلك، مع أن دلالتهما في الحقيقة واحدة، والمناط فيهما واحد، يتبينه كل من أحسن التأمل.
__________
(1) على قراءة ورش بياء مشددة بدون ألف.(4/1124)
وقد قلت: إن تأويله هذا ليس بشامل؛ لأن تبيانه للاعتبارات التي تجعل الأموال وإن كانت تحت تصرف الأفراد من مجموع الثروة القومية، لم يشمل جميع الاعتبارات والعوامل التي كنا نود لو أحاط بها، وأهمها أن وحدة الكيان الاجتماعي للمجتمع الإسلامي باعتباره كيانًا معنويًا متميزًا تقتضي وحدة الملكية جوهريا، لما يملكه أفراده من حيث إن ما يملكونه أجزاء أو عناصر لكيان ملكي واحد، كما أن المالكين لها أجزاء أو وحدات لكيان واحد، فتعدد المتصرفين وتعدد الأنصبة التي يتصرفون فيها لا يعنيان تعددًا في حقيقة الأمر لأولئك الأفراد ولا لتلك الأنصبة، وإنما يعنيان فحسب توزيعًا لمسؤولية التصرف وتبعته في شيء واحد بين أفراد يكونون وحدة، ولذلك فإساءة التصرف من فرد من الأفراد في النصيب الذي وكل إليه التصرف فيه تترتب عنها عواقب سيئة على مجموع الأنصبة التي تتكون منها الثروة القومية أو المال العام، وبرهان ذلك الأمر بالتحجير على السفيه، وإن كان قد جاوز سن الرشد ونهي غير السفيه عن التبذير وتحديد وجوه الإنفاق بحيث لا تكون إلا في ما هو مصلحة ذات مآل عام، وإن كانت في ظاهرها مصلحة فردية وتحديد طرائق الكسب والإنفاق بحيث لا يكون منها ما يضر وإن عن غير قصد بالمصلحة العامة مباشرة أو بها عن طريق الإضرار بمصلحة فرد أو أكثر؛ لأن الإضرار بمصلحة فرد أو أفراد يترتب عنه تلقائيًا الإضرار بالمصلحة العامة، وقد يتضح ذلك في بعض ما سنعرض له أثناء هذا البحث.
وبرهان آخر انتبهوا له بعض الانتباه، ولكن غفلوا عن دلالته في توجيه الآية، وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} إذ التعبير بـ: (في) يؤكد وحدة المرزوق فيه، ويبعد كل ادعاء بتفرقه أو تعدده، ويوضح أن الأموال التي أمروا بأن يرزقوا السفهاء فيها ويكسوهم لها كيان واحد، وإن يكن ضمنها أموال من حصة أولئك السفهاء ونصيبهم في التوزيع الوظيفي بين أفراد المجتمع الإسلامي مجموع أمواله. فالآية تؤذن بأن وظيفة السفهاء في نصيبهم من تلك الأموال قد نقص منها جانب التصرف، وبقي جانب الاستهلاك نتيجة للاستحقاق المشروع المتوقف عليه ضمان بقائهم وكرامتهم، وكان التعبير بـ: (في) بدلًا من (من) برهانًا على استحقاق السفهاء رزقهم في المال العام، سواء كانت لهم فيها حصة نتيجة إرث أو غيره مما يجعل لهم استحقاقًا وظيفيًا فيه أو لم تكن، فالمال العام حسب تعبير الآية الكريمة كله مصدر لرزق السفهاء، كما هو مصدر لرزق غيرهم، والفارق الوحيد هو أن وظيفة غيرهم تتكون من التصرف للإنماء والاستهلاك، أما وظيفة السفهاء فتنحصر في الاستهلاك لعجزهم بالسفه عن القيام بالإنماء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} .(4/1125)
وقد نبه الحس اللغوي والبياني بعض المفسرين مثل الزمخشري والرازي إلى بعض هذا المعنى، ولكن سرعان ما قلصوا منه بتأويلاتهم القائمة على تبعيض المجتمع وتبعيض المال تبعًا له، وكان محمد الطاهر بن عاشور أقربهم إلى سداد الفهم، لولا أنه نسي في حديثه عن (في) موقعها من هذه الآية ما سبق أن قرره منذ قليل من معنى وحدة المجتمع ووحدة المال باعتباره ثروة قومية. ونقتصر على نقل كلامه، ففيه صفة ما قاله كل من الزمخشري والرازي.
قال رحمه الله (1) : ومعنى قوله: {وارزقوهم فيها واكسوهم} واقع موقع الاحتراس، أي: لا تؤتوهم الأموال إيتاء تصرف مطلق ولكن آتاهم إياها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة، ولذلك قال فقهاؤنا: تسلم للمحجور نفقته وكسوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله، وعدل عن تعدية (ارزقوهم) و (اكسوهم) بـ: (من) إلى تعديتها بـ: (في) للدلالة على الظرفية المجازية على طريقة الاستعمال في أمثاله حين لا يقصد التبعيض الموهم للانتفاض من ذات الشيء بل يراد أن جملة الشيء ما يحصل به الفعل تارة من عينه وتارة من ثمنه وتارة من نتاجه وأن ذلك يحصل مكررًا مستمرًا.
ثم قال: وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسرون هنا، فأهمل بعضهم التنبيه على وجه العدول إلى (في) ، واهتدى إليه صاحب الكشاف - قلت: والرازي بأوضح - بعض الاهتداء فقال: اجعلوها مكانًا لرزقكم بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال، فقوله: لا من صلب المال. مستدرك، ولو كان كما قال لاقتضى نهيًا عن الإنفاق من صلب المال.
__________
(1) التحرير والتنوير. ص: 236.(4/1126)
قلت: وقولهم بأن تتجروا ... إلخ مستدرك أيضًا، ولو كان كذلك لسقط الأمر بالرزق للسفهاء من دلالة هذه الآية إذا لم يكن لهم مال حصلوا عليه من إرث أو غيره، بل كان ذووهم من الفقراء، فلم يتركوا لهم شيئًا ولا وهبهم غيرهم شيئًا تطوعًا هبة تمليك أو وقف، وإذا لاحتيج إلى دليل آخر من غير هذه الآية على وجوب القيام بهم وإنقاذهم من الخصاصة والمسغبة، ونتيجة لذلك يصبح قوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} خاصًا بمن لديهم من طريق الإرث أو الاكتساب أو غيرهما من الطرق المشروعة أنصبة من المال، ويبقى الأمر برزق السفهاء معطلًا يبحث عن علة له تنيط الإلزام بالمأمورين به، وهذا اختلال في التعبير يأباه البيان المعجز لكتاب الله العزيز.
ونصير في مسارنا هذا إلى الآية الرابعة التي سبق أن ألمعنا إليها، وهي قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، ولا تختلف هذه الآية في ضميريها عن آية سورة البقرة {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} . ولعل ذلك هو الذي صرف جمهرة المفسرين عن الوقوف في توجيه الضمير في (أموالكم) إلى المخاطبين جمعًا اكتفاء بما سبق أن قالوه في آية سورة البقرة إلا ما كان من وقفة لمحمد الطاهر بن عاشور (1) الذي قال: والضمير المرفوع بـ: (تأكل) والضمير المضاف إليه (أموال) راجعان إلى (الذين آمنوا) وظاهر أن المرء لا يُنهى عن أكل مال نفسه ولا يسمى انتفاعه بماله أكلًا، فالمعنى لا يأكل بعضهم مال بعض) .... إلخ.
قلت: سبحان الله، وكيف أن المرء لا يأكل مال نفسه، ولماذا كان الكسب والسعي وراءه إن لم يكن للأكل بمعناه العام الذي اتفقوا عليه وهو الإنفاق، ثم لعل أستاذنا - رحمه الله - نسي ما قاله في تفسير الآية الخامسة من هذه السورة نفسها ونقلناه عنه من وحدة مال الآمة تبعًا لوحدة مجتمعها باعتباره ثروة قومية بعد أن مضى به التفسير أشواطًا في أربع وعشرين آية فراح يقول:
(فالمعنى لا يأكل بعضهم مال بعض) هو أحسبه نسي أيضًا أنه حتى على أساس تبعيض المال والغفلة عن وحدة مال الأمة أو تجاهلها لا يصح تأويله هذا لأن المرء منهي عن التبذير والإسراف في إنفاق ماله نهيًا صريحًا في آيات شتى من القرآن الكريم، بل إن النهي وجه إلى المسلمين بواسطة توجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبعد الناس على التبذير والإسراف لمجرد تأكيد النهي تأكيدًا لا مزيد عنه، إذ قال الله سبحانه وتعالى: {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (2)
__________
(1) التحرير والتنوير. ج: 5. ص: 23.
(2) الآية: (26) سورة الإسراء.(4/1127)
ولا مجال للقول إن النهي هنا كان عن التبذير في الإنفاق على الآخرين، لأن الموصوفين بأنهم إخوان الشياطين هم المبذرون كافة، سواء كان تبذيرهم على أنفسهم أو على غيرهم بدليل مدحه سبحانه وتعالى للمؤمنين بأنهم {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1) وآيات غيرها. ومن عجب أن أستاذنا - رحمه الله - أتبع قوله الذي نقلناه آنفًا بأن شرح (الباطل) في قوله سبحانه وتعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} بأنه ضد الحق وهو ما لم يشرعه الله ولا كان من إذن ربه، والباء فيه للملابسة، أفلا يرى - رحمه الله - أن التبذير والإسراف من الباطل؟ أو ليس الإدلاء بالمال إلى الحكام لأكل فريق من أموال الناس بالإثم كما ورد في الآية من سورة البقرة من أكل الأموال بالباطل؟ وهو يدلي الإنسان بالمال إلى الحكام لغرض باطل إذا لم يكن له في نفع توهمه، وهذا النفع لا يكون إلا ماليًا أو ما هو في معنى المال؟ وحتى لو فعل ذلك من أجل غيره أفلا يكون له من ورائه أي نفع وإن كان مجرد مصارحة أو قريبة أو ليس ذلك كله داخلًا في النهي عن أكل المال بالباطل وإذا كان الباطل جنسًا لما يقترف من الظلم أو الجور أو الخداع أو التبذير أو غير ذلك مما لم يأذن به الله؟ أفلا يكون النهى عنه دليلًا على أن الأموال المنهي أن تأكل به واحدة وحدته أي أنها من جنس واحد لانصباب النهي عنه عليها انصبابًا يشمل عمومها لا يخص منها جانبًا دون آخر.
لقد أفضنا شيئًا في هذا الشأن وظاهر ليس من صميم بحثنا لأن تحريره وتحقيقه يؤديان إلى إبراز حقيقة أن الإسلام يعتبر المال مهما تعدد المتصرفون فيه والمنتفعون به مالًا عامًا في حقيقته وجوهره يشمله حكم شرعي واحد في حقيقته وجوهره ومناطه كما يعتبر المسلمين على تعدد أفرادهم وألوانهم وشعوبهم مجتمعًا واحدًا يشملهم حكم شرعي واحد في حقيقته وجوهره ومناطه، وكل إخلال بوحدة المجتمع أو بوحدة المال العام يستوجب مواجهته بما يكفل إزالته وإعادة السلامة إلى الوحدة التي جاء الإسلام لإقامتها وتدعيمها وتأكيدها وصيانتها.
__________
(1) الآية: (26) سورة الفرقان.(4/1128)
13 - المجتمع هو المالك الحق للمنفعة والانتفاع
يتضح مما سبق أن المجتمع باعتباره وحدة من عناصر متكاملة متكافلة هو المالك الحق لما خول الله المسلمين والإنسان عامة من منفعة وانتفاع في هذا الكون ما كان منه طبيعيًا وما كان مكتسبًا.
وتتضح من البندين التاسع والعاشر العلاقة التي أرادها الله للإنسان بما خوله الانتفاع به والاستفادة منه.
ويصير بنا المسار إلى ضرورة تبيان المعالم التي حددها الشارع الحكيم الخبير لتصرف الإنسان فيما خوله من حقوق المنفعة ووسائل الانتفاع.
وأول هذه المعالم تصريف المنافع المخولة له تصريفًا يفيده في خاصة نفسه وفيمن يعوله ويهتم بشأنه مباشرة، ويفيد المجتمع الذي هو جزء منه وعنصر من عناصره وأداة من أدواته.
وقد أطلق الشارع على هذا التصريف كلمة (الإنفاق) فوردت في القرآن الكريم بمشتقاتها المختلفة وصيغها المتعددة من مضافة وغير مضافة ومن مضافة إلى فرد ومن مضافة إلى جماعة أربعًا وسبعين مرة منها في صيغة الأمر المضافة إلى الجمع ستة مواضع وهي صريحة في الأمر بالإنفاق وفي أن الأمر موجه إلى جماعة المسلمين. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (3) {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (4) {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (5) {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6)
__________
(1) الآية: (195) سورة البقرة.
(2) الآية: (254) سورة البقرة.
(3) الآية: (267) سورة البقرة.
(4) الحديد: الآية رقم (7) .
(5) الآية: (10) سورة المنافقون.
(6) الآية: (16) سورة التغابن.(4/1129)
ووردت في معرض وصف المؤمنين باعتبار الإنفاق جزءًا لا يتجزأ من خصال الإيمان في سبعة مواضع من القرآن الكريم.
قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (3) {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (4) {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (5) {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (6) {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (7)
ووردت في بقية المواضع (61 مرة) إما ترغيبًا في الإنفاق في سبيل الله، وإما تنديدًا بالذين يمسكون ولا ينفقون، وإما زجرًا وتوعدًا لهم، وفي كل ذلك بيان للمعلم الأساسي الذي شرعه الله لتصرف الإنسان فيما خوله من حقوق المنفعة ووسائل الانتفاع بما يسر له من خيرات الأرض وغيرها مما تصل إليه يده من مختلف جوانب الكون وعناصره.
__________
(1) الآية: (2) سورة البقرة.
(2) الآية: (133) و (134) سورة آل عمران.
(3) الآية: (2) و (3) و (4) سورة الأنفال.
(4) الآية: (34) و (35) سورة الحج.
(5) الآية: (53) سورة القصص.
(6) الآية: (16) سورة السجدة.
(7) الآية: (36) و (37) و (38) سورة الشورى.(4/1130)
وتصرف الإنسان وتصريفه فيما خول من حقوق المنفعة ووسائل الانتفاع طبقًا لهذا المعلم الواضح ينضبط في إطار لا يكاد يباح له تجاوزه من اعتبار المصلحة العامة للمجتمع الإسلامي حتى فيما يتصل بمصلحته الذاتية الخاصة أو بمصلحة من يعوله وترجع إليه حمايته ورعايته، فقد جاء في القرآن الكريم في وصف عباد الرحمن {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1) في آيات غيرها أشرنا إلى بعضها في البند السابق، ويتضح من هذا أن من يخرج في تصرفه أو تصريفه عن هذا الإطار يفقد
حقه فيما خول له من حقوق المنفعة ووسائل الانتفاع.
أما المعلم الثاني الذي شرعه الله للإنسان وتصريفه، وقد يكون الوجه للمعلم الأول، فهو خلافة الله في عمارة الأرض، فالعمل الذي يتجه به الإنسان إلى الكسب والاستغلال والاستثمار يجب أن يتم في نطاق إعمار الأرض بأن يكون عملًا مستمر الجدوى موصلًا بعمل الآخرين تتكون منه ومن غيره الأسباب المحققة لاستمرار عمارة الأرض ونمائها. يقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام مخاطبًا قومه ثمود: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (2) كما سبق أن أوضحنا في البند الثاني ومناط اعتبار إعمار الأرض مَعلَمًا لتصرف الإنسان وتصريفه كما أراده الله وشرعه هو حفظ أسباب الطمأنينة والانتفاع والحياة الكريمة العادلة للأجيال الإنسانية المتعاقبة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وهذا يعني أن وحدة المجتمع الإسلامي خاصة ووحدة الإنسان عامة، ووحدة المنفعة والانتفاع المخولين للإنسان لا سيما المسلم لا تتعددان بتعدد الأجيال بل تستمران ما كتب الله لهذه الدنيا أن تستمر وأن حقوق الأجيال المتتالية مرتبط بعضها ببعض، فليس لأي جيل أن يزحف بحقوق الجيل الذي بعده بأن يُصرّ في صيانة وإنماء الإرث الذي صار إليه من الجيل الذي قبله أو أن يعمد إلى الاستئثار بما ورث من منافع وخيرات مبذرًا مسرفًا أو متكاسلًا قانعًا بما أنتج الأولون غير مكترث بما عليه من تبعة لمن يأتي بعد من الأبناء والأحفاد.
__________
(1) الفرقان: الآية رقم 67.
(2) هود: الآية رقم 61.(4/1131)
من أجل ذلك كان الإنفاق في سبيل الله شرعًا أساسيًا، وضابطًا حاسمًا وجوهريًا لتصرف الإنسان وتصريفه فيما يسرَّ الله له من مال، وكان كل من التبذير والاكتناز جريمتين يترتب عليهما عقاب الله بمن يقترفهما أو اقترف إحداهما من الناس أفرادًا أو جماعات، بيد أن الاكتناز أشد عقوبة؛ لأنه أشد جناية على المتعايشين من أبناء المجتمع، فهو لا يحرمهم فحسب من المال المكتنز وفوائده بأن يسلبهم حق الانتفاع به، وإنما يحرمهم أيضًا وسيلة تعينهم على المزيد من العمل الإعماري الذي تمتد جدواه إلى الأجيال المقبلة. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (1)
ولكي يتجلى المعنى الشرعي لكل من (الإنفاق) و (الاكتناز) نورد ما ورد بشأن كل منهما في مصادر اللغة ومصادر التفسير.
فمادة نفق وهي ثلاثي (أنفق) مدارها (الرواج) ولا يكاد يخرج استعمال (النفاق) عما يتصل (بالرواج) كما أن (الإنفاق) ومشتقاته لا يكاد يخرج عن معنى (الترويج) وما يتصل به.
يقول ابن منظور (2) ونفق البيع نفاقًا: راج، ونفقت السلعة تنفق نفاقًا، بالفتح: غلت ورغب فيها، وأنفقها هو ونفَّقها.
وفي الحديث: ((المنفِّق سلعته بالحلف الكاذب)) ، المنفق بالتشديد: من النفاق وهو ضد الكساد، ومنه الحديث: ((اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للبركة)) ، أي هي مَظِنَّةٌ لنفاقها وموضع له.
وفي الحديث عن ابن عباس: ((لا ينفق بعضكم بعضًا)) أي لا يقصد أن ينفق سلعته على جهة النجش، فإنه بزيادته فيها يرغب السامع فيكون قوله سببًا لابتياعها ومنفقًا لها.
وقول ابن الأثير (3) وفيه - أي الحديث -: ((المنفق سلعته بالحلف الكاذب)) المنفق بالتشديد من النفاق، وهو ضد الكساد. ويقال: نفقت السلعة فهي نافقة، وأنفقتها ونفقتها، إذا جعلتها نافقة.
وفي الحديث: ((اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للبركة)) ، أي هي مظنَّة لنفاقها وموضع له.
__________
(1) التوبة: الآيتان 34، 35.
(2) لسان العرب. ج: 10. ص: 257.
(3) النهاية. ج: ص: 99.(4/1132)
ويقول الراغب (1) نفق الشيء مضى ونفد. ينفق إما بالبيع نحو: نفق البيع نفاقًا، ومنه: نفق الأيم ونفق القوم إذا أنفق سوقهم، وإما بالموت نحو نفقت الدابة نفوقًا، وإما بالفناء نحو: نفقت الدراهم تنفق وأنفقتها، والإنفاق قد يكون في المال وفي غيره وقد يكون واجبًا وتطوعًا. قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) وقال: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (3) وقال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (4) وقال {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (5) وقال: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} (6) إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} (7) أي: الإقتار يقال: نفق فلان إذا نفق ماله فأقتر، والإنفاق هنا كالإملاق في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (8) والنفقة اسم لما ينفق قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} (9) وقال: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً} (10) والنفق: الطريق النافذ والسرب في الأرض النافذ فيه قال تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} (11) ، ومنه نافق اليربوع ونفق، ومنه النفاق: وهو الدخول إلى الشرع من باب والخروج من باب، وعلى ذلك نبه من قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (12) أي الخارجون من الشرع.
ويخرج المفسرون عامة عن هذه المعاني التي تناقلها اللغويون وإن اختلفوا - منذ عهد الصحابة والتابعين - في تأويل آيات وردت فيها كلما (أنفق) أو إحدى مشتقاتها لذلك نقتصر على ما ارتأينا فيه تلخيصًا دقيقًا وشاملًا لأقوالهم تلك ومزيدًا من الإيضاح أو جديدًا من الفقه.
يقول الرازي (13) في تفسيره قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (14) أصل الإنفاق إخراج المال من اليد، ومنه: نفق البيع نفاقًا إذا كثر المشترون له، ونفقت الدابة إذ ماتت أي: خرجت روحها، ونافقا الفأرة لأنها تخرج منها ومنه النفق في قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} (15)
__________
(1) المفردات في غريب القرآن. ص: 765 و766.
(2) الآية (195) سورة االبقرة.
(3) الآية: (10) سورة المنافقون.
(4) الآية (92) سورة آل عمران.
(5) الآية: (39) سورة سبأ.
(6) الآية: (10) سورة الحديد.
(7) الآية: (100) سورة الإسراء.
(8) الآية: (31) سورة الإسراء.
(9) الآية: (270) سورة البقرة.
(10) الآية: (21) سورة التوبة.
(11) الأنعام الآية رقم (35) .
(12) الآية: (67) سورة التوبة.
(13) التفسير الكبير. ج: 2. ص: 34 و35.
(14) الآية: (3) سورة البقرة.
(15) الأنعام الآية رقم (35) .(4/1133)
ثم قال في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) فوائد أحدها: أدخل (من) التبعيضية صيانة لهم وكفى - لعل فيه خطأ مطبعيا صوابه: وكف - عن الإسراف والتبذير المنهي عنه، وثانيها: قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أعلم كأنه قال: ويخصون بعض المال بالتصدق به، وثالثها: يدخل في الإنفاق المذكور في الآية الإنفاق الواجب والإنفاق المندوب. والإنفاق الواجب أقسام: أحدها: الزكاة , وهي قوله في آية الكنز {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2)
قلت: في هذا التأويل نظر وسيأتي بعد قليل مزيد من البيان في شأنه.
ثم قال: وثانيها: الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليه نفقته. وثالثها: الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب فهو أيضًا إنفاق لقوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (3)
قلت: لا يسلم له هذا التأويل، بل الأمر في هذه الآية للوجوب؛ لأنه جاء في مواجهة قول المنافقين الذي ذكره الله سبحانه وتعالى قبل هذه الآية: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} (4) ، والذين كانوا عند رسول الله يومئذ هم المهاجرون {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (5) والإنفاق عليهم كان يومئذ واجبًا متعينًا على كل من له فضل من وسائل العيش، ولم يكن مندوبًا إليه فحسب وقد نعرض لشيء من ذلك في مكانه من هذا البحث إن شاء الله.
ثم قال: فكل هذه الإنفاقات داخلة تحت الآية؛ لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح.
قلت: يغفر الله للرازي، فليس ما في الآية مجرد مدح، وإنما هي تبيان للشروط والأوصاف التي لا يكمل الإيمان، ولا يكون مدعيه مؤمنًا حقا إلا بها وذلك ما يدل عليه وليس فيه دلالة على غيره دلالة لفظية غير قابلة للتأويل سياق الآية بما قبلها وما بعدها، فليتأمل.
__________
(1) البقرة: الآية 3.
(2) التوبة: الآية 34.
(3) المنافقون: الآية رقم 10.
(4) المنافقون: الآية 7.
(5) الحشر: الآية رقم 7.(4/1134)
وأورد ابن العربي في أحكام القرآن (1) عندما عرض لهذه الآية خمسة أوجه لتأويل الإنفاق، أهمها الوجه الرابع أن الإنفاق: وفاء الحقوق الواجبة العارضة في المال باختلاف الأحوال ما عدا الزكاة. ونقول: أهمها لأن الأوجه الأخرى التي أوردها وإن نقل بعضها عن بعض الصحابة أو التابعين لا تثبت عند التأمل والتمحيص وليس نقلها عمن أوثرت عنهم كافيًا لجعلها وجيهة وقد ذكرها غيره من المفسرين ومنهم الرازي فيما سبق وأشار إليها محمد الطاهر بن عاشور في عرضه البديع لوجوه تأويل الآية (2)
قال رحمه الله: مسألة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بدل عزيز على النفس في مرضاة الله لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجا إلى دلائل صدق صاحبه وهي عظائم الأعمال من ذلك التزام آثاره في الغيبية الدالة عليه {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (3) ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات، لأنها دليل عن تذكر المؤمن من آمن به. ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالًا لأمر الله بذلك.
قلت: تأمل جيدًا قوله: امتثالًا لأمر الله بذلك.
ثم قال: والإنفاق إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يرغب في صلته أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة، فلا شك أنه هنا خصلة من خصلة الإيمان الكامل، وما هو إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة، إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعوا إليه الجبلة فلا يعتني الدين بالتحريض عليه، فمن الإنفاق ما هو واجب وهو حق على صاحب الرزق للقرابة والمحاويج من الأمة ونوائب الأمة كتجهيز الجيوش كالزكاة وبعضه محدد وبعضه تفوضه المصلحة الشرعية الضرورية أو الحاجية ... إلخ.
__________
(1) ج: 1. ص: 10.
(2) التحرير والتنوير. ج: 1. ص: 234 و235.
(3) الآية رقم 3 البقرة.(4/1135)
وقبل أن نمضي فيما نحن بسبيله من تبيان مدى شمول وتحكم معلم الإنفاق في المجال العام من مجموع المال العام أو الثروة القومية سواء ما خول الأفراد حق المنفعة والانتفاع فيه وما كان هذا الحق خاصا بالسلطة العامة نقف مليًا عند كلمة متصلة بالإنفاق اتصالًا وثيقًا؛ لأنها ضده أو عكسه، وهي كلمة (كنز) ومشتقاتها.
وقد وردت في القرآن الكريم تسع مرات (1) والآية التي تعنينا في هذا المجال من الآيات التسع هي قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (2) ، لكن قبل أن نقف عندها والتزامًا بالسنن الذي رسمناه لهذا البحث نتبين حدود اللغويين وآثار المفسرين في معنى كلمة (كنز) .
يقول ابن منظور (3) كنز: الكنز اسم للمال إذا أحرز في وعاء ولم يحرز فيه، وقيل: الكنز المال المدفون، وجمعه كنوز، كنزه يكنزه كنزًا واكتنزه، ويقال: كنزت البر في الجراب فاكتنز.
قال - يعني شمر -: وتسمي العرب كل كثير مجموع يتنافس فيه كنزًا.
وفي الحديث: ((ألا أعلمك كنزًا من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله)) ، وفي رواية: ((لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة)) أي: أجرها مدخر لقائلها والمتصف بها كما يدخر الكنز، وفي التنزيل العزيز: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (4)
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يذهب كسرى فلا كسرى بعده، ويذهب قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده، لتنفقن كنوزهما في سبيل الله)) .
الليث: يقال: كنز الإنسان مالا يكنزه، وكنزت السقاء إذا ملأته.
ابن عباس في قوله تعالى في الكهف: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} (5)
__________
(1) الآية: (34) سورة التوبة، والآية: (35) نفس السورة. الآية: (12) سورة هود. الآية: (82) سورة الكهف. الآية: (8) سورة الفرقان. الآية (58) سورة الشعراء. الآية: (76) سورة القصص.
(2) التوبة: الآية رقم 34.
(3) لسان العرب. ج: 5. ص: 401.
(4) التوبة: الآية رقم 34.
(5) الآية: (82) سورة الكهف(4/1136)
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: أربعة آلاف وما دونها نفقة، وما فوقها كنز (1)
وفي الحديث: ((: كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز)) ، الكنز في الأصل المال المدفون تحت الأرض، فإذا أخرج منه الواجب عليه، لم يبق كنزًا وإن كان مكنوزًا، وهو حكم شرعي تجوز فيه عن الأصل.
وفي حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: ((بشر الكنازين برضف من جنهم)) (2) فهم جمع كناز، وهو المبالغ في كنز الذهب والفضة وادخارهما وترك إنفاقهما في أبواب البر.
واكتنز الشيء: اجتمع وامتلأ.
ويقول ابن الأثير (3) : الكنز في الأصل المال المدفون تحت الأرض فإذا خرج منه الواجب عليه، لم يبق كنزًا وإن كان مكنوزًا، وهو حكم شرعي تجوز فيه من الأصل، ومنه حديث أبي ذر: ((بشر الكنازين برضف من جنهم)) (4) وهم جمع كناز، وهم المبالغ في جمع الذهب والفضة وادخارهما وترك إنفاقهما في أبواب البر.
الكناز: المجتمع اللحم القويه وكل مجتمع مكتنز.
ويقول الراغب (5) الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه وأصله من كنزت التمر في الوعاء وزمن الكناز وقت ما يكنز فيه التمر وناقة كناز مكتنزة اللحم، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ، أي: يدخرونها، وقوله تعالى: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} وقوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} (6) أي مال عظيم. وقوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قيل: كان صحيفة علم.
__________
(1) روى عبد الرزاق المصنف. ج: 4. ص: 109 أثر: 7150) عن الثوري، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي بن أبي طالب قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوقها كنز.
(2) سيأتي تخريجه قريبًا ضمن أحاديث أبي ذر المختلفة.
(3) النهاية. ج: 4. ص: 203.
(4) سيأتي تخريجه قريبًا ضمن أحاديث أبي ذر المختلفة.
(5) المفردات في غريب القرآن. ص: 664 و665.
(6) هود الآية رقم 12.(4/1137)
هذه صفوة ما قاله اللغويون ومن التزم نهجهم واقتصر عليه من المفسرين والفقهاء. أما أهل التأويل فإليك صفوة آرائهم.
قال الطبري في تأويل الآية (1) يقول تعالى ذكره: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . يقول: بشر الكثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بعذاب أليم يوم القيامة موجع من الله، واختلف أهل العلم في معنى الكنز، فقال بعضهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته، قالوا: وعنى بقول: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا يؤدون زكاتها، ذكر من قال ذلك.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن ابن عمر قال: كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا، وكل ما لم تؤد زكاته فهو الكنز الذي ذكر في القرآن، يكوى به صاحبه وإن لم يكن مدفونًا.
حدثنا الحسين بن جنيد، قال: حدثنا سعيد بن مسلمة، قال: حدثنا إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: كل ما أديت منه الزكاة فليس بكنز، وإن كان مدفونًا، وكل ما لم تؤد منه الزكاة وإن لم يكن مدفونًا، فهو كنز (2)
حدثني أبو السائب، قال: حدثنا يحيى بن فضيل، عن يحيى بن سعيد عن نافع، عن ابن عمر قال: أيما مال أديت زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونًا في الأرض وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه (3)
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي وجرير، عن الأعمش، عن عطية، عن ابن عمر قال: ما أديت زكاته فليس بكنز (4)
قال: حدثنا أبي عن العمري عن نافع عن ابن عمر قال: ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرًا (5)
قال: حدثنا جرير عن الشيباني عن عكرمة قال: ما أديت زكاته فليس بكنز.
__________
(1) جامع البيان: 10. ص: 83 وما بعدها.
(2) ستأتي له أسانيد أخرى.
(3) ستأتي له أسانيد أخرى.
(4) ستأتي له أسانيد أخرى.
(5) ستأتي له أسانيد أخرى.(4/1138)
حدثنا محمد بن حسين قال: حدثنا أحمد بن الفضل قال: حدثنا أسباط عن السدي قال: أما الذين يكنزون الذهب والفضة فهؤلاء أهل القبلة والكنز ما لم تؤد زكاته وإن كان على ظهر الأرض وإن قل وإن كان كثيرًا وأديت زكاته فليس بكنز.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر قال: قلت لعامر: مال على رف بين السماء والأرض لا تؤدى زكاته أهو كنز؟ قال: يكوى به يوم القيامة.
وقال آخرون: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز أديت منه الزكاة أم لم تؤد. ذكر من قال ذلك.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رحمة الله عليه قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة فما كان أكثر من ذلك فهو كنز.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الشعبي قال: أخبرني أبو حصين عن جعدة بن هبيرة عن علي رحمة الله عليه في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما فوقها كنز.
وقال آخرون: الكنز كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه، ذكر من قال ذلك.
حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الله بن معاذ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن أنس عن عبد الواحد أنه سمع أبا مجيب (1) قال: كان نعل سيف أبي هريرة من فضة، فنهاه عنها أبو ذر، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها)) (2)
__________
(1) لم نقف على راو بهذا الاسم، والذي وقفنا عليه أبو مجيبة الباهلي أو الباهلية وفي ضبط اسمه أو اسمها خلاف، وقد روى عنه أو عنها النسائي كما روى ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 10. ص: 49. ترجمة 71) ولعل في الاسم خطأ مطبعيا.
(2) لم نقف عليه عند غير الطبري.(4/1139)
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا سفيان عن منصور عن الأعمش وعمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزلت {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تبًا للذهب والفضة)) ، يقولها ثلاثا. قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فأي مال نتخذ؟ فقال عمر: أنا أعلم لكم ذلك فقال: يا رسول الله، أصحابك قد شق عليهم وقالوا: فأي مال نتخذ؟ فقال: ((لسانا ذاكرًا وقلبًا شاكرًا وزوجة تعين أحدكم على دينه)) (1)
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا إسرائيل عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان بمثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن عمرو بن مرة، عن منصور بن أبي الجعد قال: لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال المهاجرون: أي المال نتخذ؟ قال: اسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأدركته على بعير، فقلت: يا رسول الله، إن المهاجرين قالوا: أي المال نتخذ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لسانًا ذاكرًا وقلبًا شاكرًا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه)) (2)
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أسامة قال: توفي رجل من أهل الصفة، فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كية)) ، ثم توفي آخر، فوجد في مئزره ديناران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيتان)) (3)
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن صدي بن عجلان أبي أمامة قال: مات رجل من أهل الصفة، فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كية)) ثم توفي آخر، فوجد في مئزره ديناران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيتان)) (4)
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن ثوبان قال: كنا في سفر ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المهاجرون: لو وددنا أن علمنا أي المال خير فنتخذه، إذ نزل في الذهب والفضة ما نزل، فقال عمر: إن شئتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا: أجل، فانطلق فتبعته أوضع على بعيري، فقال: يا رسول الله، إن المهاجرين لما أنزل الله في الذهب والفضة ما أنزل قالوا: لو وددنا أنا علمنا أي المال خير فنتخذه، قال: ((نعم ليتخذ أحدكم لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وزوجة تعين أحدكم على إيمانه)) (5)
__________
(1) ستأتي له أسانيد أخرى.
(2) ستأتي له أسانيد أخرى.
(3) ستأتي له أسانيد أخرى.
(4) ستأتي له أسانيد أخرى.
(5) ستأتي له أسانيد أخرف.(4/1140)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة القول الذي ذكر عن ابن عمر، أن كل مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب مستحق وعد الله، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قل إذا كان مما يجب فيه الزكاة، وذلك أن الله أوجب في خمس أواق من الورق على لسان رسوله ربع عشرها، وفي عشرين مثقالًا من الذهب مثل ذلك ربع عشرها، فإذا كان ذلك فرض الله في الذهب والفضة على لسان رسوله، فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوف الألوف لو كان وإن أديت زكاته من الكنوز التي أوعد الله عليها العقاب، لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من ربع العشر؛ لأن ما كان فرضا إخراج جميعه من المال وحرام اتخاذه، فزكاته الخروج من جميعه إلى أهله لا ربع عشره، وذلك مثل المال المغصوب الذي هو حرام على الغاصب إمساكه، وفرض عليه إخراجه من يده إلى يده، فالتطهر منه رده إلى صاحبه، فلو كان ما زاد من المال على أربعة آلاف درهم أو ما فضل عن حاجة ربه التي لا بد منها مما يستحق صاحبه باقتنائه إذا أدى إلى أهل السهمان حقوقهم منها من الصدقة وعد الله لم يكن اللازم فيه ربع عشره، بل كان اللازم الخروج من جميعه إلى أهله وصرفه فيما يجب عليه صرفه كالذي ذكرنا من أن الواجب على غاصب مال رده إلى ربه.
وبعد فإن فيما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، قال: قال معمر: أخبرني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس، ثم يرى سبيله بين الناس وإن كانت إبلا إلا بُطح لها بقاع قرقر، تطؤه بأخفافها، حسبته قال: وتعضه بأفواهها، يرد أولاها على أخراها حتى يقضى بين الناس، ثم يرى سبيله، وإن كانت غنمًا مثل ذلك، إلا أنها تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها (1) وفي نظائر ذلك من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها، فالدلالة الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تؤد الوظائف المفروضة فيها لأهلها من الصدقة، لا على اقتنائها واكتنازها، وفيما بينا من ذلك البيان الواضح على أن الآية لخاص، لما قال ابن عباس. وذلك ما حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} يقول: هم أهل الكتاب، وقال: هي خاصة وعامة (2)
__________
(1) ستأتي له أسانيد أخرى.
(2) ستأتي له أسانيد أخرى.(4/1141)
يعني بقوله: خاصة وعامة، هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤد زكاة ماله منهم، وعامة في أهل الكتاب؛ لأنهم كفار، لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا، يدل على صحة ما قلنا قول ابن عباس ما حدثني المثنى، قال: حدثني عبد الله قال: حدثني معاوية عن عبد الله ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} إلى قوله {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} قال: هم الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، قال: وكل مال لا تؤدى زكاته على ظهر الأرض أو في بطنها، فهو كنز، وكل مال تؤدى زكاته، فليس بكنز، كان على ظهر الأرض أو في بطنها (1)
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد: في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} . قال: الكنز ما كنز عن طاعة الله وفريضته وذلك الكنز وقال: إنما فرضت الزكاة والصلاة جميعًا لم يفرق بينهما.
ثم قال: وقد كان بعض الصحابة يقول: هي عامة في كل كنز غير أنها خاصة في أهل الكتاب وإياهم عنى الله بها ذكر من قال ذلك.
حدثني أبو حصين، حدثنا عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فلقيت أبا ذر، فقلت: يا أبا ذر، ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشام، فقرأت بهذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية، فقال معاوية: ليست هذه الآية فينا، إنما هذه الآية في أهل الكتاب قال: قلت: إنها فينا وفيهم، قال: فارتفع في ذلك بيني وبينه القول، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ: أن أقبل إليَّ. قال: فأقبلت، فلما قدمت المدينة ركبني الناس، كأنهم لم يروني قبل يومئذ، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لي: تنح قريبًا، قلت: والله لن أدع ما كنت أقول (2)
حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع، قالوا: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررنا بالربذة ثم ذكر عن أبي ذر نحوه (3)
حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أشعث وهشام، عن أبي بشر قال: قال أبو ذر: خرجت إلى الشام فقرأت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فقال معاوية: إنها لأهل الكتاب، فقال: إنها لفينا وفيهم.
__________
(1) ستأتي له أسانيد أخرى.
(2) ستأتي له أسانيد أخرى.
(3) ستأتي له أسانيد أخرى.(4/1142)
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر قال: قلت له: ما أنزل منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: فقال: فنزلت في أهل الكتاب فقلت: نزلت فينا وفيهم.
ثم ذكر حديث هشيم عن حصين (1) وقال الشافعي (2) قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، فأبان أن في الفضة زكاة، وقول الله عز وجل {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني والله أعلم في سبيله التي فرض من الزكاة وغيرها، فأما دفن المال فضرب من إحرازه، وإذا حل إحرازه بشيء حل بالدفن وغيره.
وقال الجصاص (3) بعد أن روى طرفًا مما رواه الطبري ونقلناه عنه من آثار الصحابة والتابعين في تأويل الآية: روي عنه صلى الله عليه وسلم: ((من سأل عن ظهر غنى، فإنما يستكثر من جمر جهنم)) فقلنا: وما غناه يا رسول الله؟ قال: أن يكون عند أهله ما يغذيهم ويعشيهم هذا الحديث متواتر روي من طرق متعددة عن عدد من الصحابة ولئن تكلموا في بعض مسنديه، فإن كلامهم لا ينزل بالحديث عن درجة المتواتر، بل إن من تكلموا فيهم وثقهم البعض وغمز فيهم آخرون غمزًا لا نرى الاعتداد به. وهذه طرقه وأسانيده متوالية حسب ترتيب مخرجيها عندنا. قال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 180) : حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه كان خدوشًا أو كدوحًا في وجهه)) قيل: يا رسول الله، وما غناؤه؟ قال: ((خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب)) .
__________
(1) ستأتي له أسانيد أخرى.
(2) أحكام القرآن. ج:1. ص: 101.
(3) أحكام القرآن. ج: 3. ص: 13.(4/1143)
وقال (الكتاب المصنف. ص: 208 و209) : حدثنا ابن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس تكثرًا، فإنما يسأل جمرة، فليستقل منه أو ليستكثر)) .
حدثنا ابن نمير، عن مجالد، عن الشعبي، عن حبشي السلولي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل الناس ليثري به ماله، فإنه خموش في وجهه ورضف من جهنم، يأكله يوم القيامة)) وذلك في حجة الوداع. وقال أحمد (الساعاتي الفتح الرباني: ج 9. ص: 90 ح:131) حدثنا وكيع حدثنا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خدوشًا أو كدوشًا في وجهه. قالوا يا رسول الله، ما غناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب)) .
وقال (الفتح الرباني. ج 9. ص: 93. ح: 137) : حدثني محمد بن يحيى بن أبي سمينة، حدثنا عبد الصمد، حدثني أبي، حدثنا حسن بن ذكوان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عصام بن أبي ضمرة، عن علي – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضف جهنم. قالوا: ما ظهر غنى قال: عشاء ليلة)) .
وقال (الفتح الرباني ج9 ص: 94 ح: 138) حدثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قالا: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأله من غير فقر، فكأنما يأكل الجمر)) .
قال: (الفتح الرباني. ج 9. ص: 94. ح: 139) : حدثنا علي بن عبد الله، حدثني الوليد بن مسلم، حدثني عبد الله بن يزيد بن جابر، قال: حدثني ربيعة بن يزيد، حدثني أبو كبشة السلولي، أنه سمع سهل بن الحنظلية الأنصاري - رضي الله عنه – صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((أن عيينة والأقرع سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فأمر معاوية أن يكتب به لهما، ففعل، وختمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بدفعه إليهما، فأما عيينة فقال: ما فيه؟ قال: فيه الذي أمرت به. فقبله وعقده في عمامته، وكان أحكم الرجلين، وأما الأقرع فقال: أحمل صحيفة لا أدري ما فيها صحيفة المتلمس، فأخبر معاوية رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهما، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فمر ببعير مناخ في باب المسجد من أول النهار، ثم مر به آخر النهار وهو على حاله، فقال: أين هو صاحب هذا البعير؟ فابتغي، فلم يوجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله في هذه البهائم، ثم اركبوها صحاحًا واركبوها سمانًا - كالمتسخط آنفًا - إنه من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من نار جهنم. قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: ما يغذيه أو يعشيه))(4/1144)
وقال (الفتح الرباني. ج 9.ص: 96. ح: 140) : حدثنا علي بن عبد الله بن جعفر، حدثنا عبد الله بن عبد الملك بن عثمان، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سأل مسألة وهو عنها غني، كانت شيئًا في وجهه يوم القيامة)) .
وقال (الفتح الرباني. ح: 141 و143) : حدثنا وكيع، حدثنا أبو الأشهب، عن الحسن بن عمران، عن حصين – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مسألة الغني شين في وجهه يوم القيامة.
حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا عمارة بن أبي زرعة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقل منه أو ليستكثر)) .
وقال ابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج:5. ص:166. ح: 3382) : أخبرنا أبو عروبة، قال: حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن الحراني، قال: حدثنا يحيى بن السكن، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق قال: قال عمر بن الخطاب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس ليثري ماله، فإنما هو رضف من النار يتلهبه، من شاء فليقل، ومن شاء فليكثر)) . وقال (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج5.ص: 166 و167.ح: 3384 و3385) : أخبرنا أبو يعلى، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس من أموالهم، فإنما سأل جمرًا، فليستقل منه أو ليستكثر)) .(4/1145)
أخبرنا محمد بن مكرم البرتي ببغداد، قال: حدثنا علي بن المديني، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد، عن جابر قال: حدثني ربيعة بن يزيد، قال: حدثني أبو كبشة السلولي، أنه سمع سهل بن الحنظلية صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((أن الأقرع وعيينة سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر معاوية أن يكتب به لهما، وختمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بدفعه إليهما، فأما عيينة فقال: ما فيه؟ فقال: فيه الذي أمرت به، فقبله وعقده في عمامته، وكان أحلم الرجلين، وأما الأقرع فقال: أحمل صحيفة لا أدري مافيها كصحيفة المتلمس، فأخبر معاوية رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجته، فمر ببعير مناخ على باب المسجد في أول النهار، ثم مر به في آخر النهار وهو في مكانه، فقال: أين صاحب هذا البعير؟ فابتغي فلم يوجد، فقال: اتقوا الله في هذه البهائم، اركبوها صحاحًا، أو كلوها سمانًا. كالمتسخط آنفًا إنه من سأل شيئًا وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: ما يغذيه أو يعشيه.))
وقال مسلم (الصحيح على هامش شرح النووي ج: 7.ص: 130) : حدثنا أبو كريب وواصل بن عبد الأعلى، قالا: حدثنا ابن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر)) .
وقال الترمذي (الجامع الصحيح. ج: 3.ص: 40 و41. ح: 650 و651) : حدثنا قتيبة وعلي بن حجر - قال قتيبة: حدثنا شريك، وقال علي: أخبرنا شريك، والمعنى واحد - عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس وله ما يغنيه، جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح. قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب)) . وتعقبه بقوله: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، ثم قال: حديث ابن مسعود حديث حسن، وقد تكلم حميد في شعبة بن جبير من أجل هذا الحديث.(4/1146)
حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا سفيان، عن حكيم بن جبير بهذا الحديث، فقال له عبد الله بن عثمان صاحب شعبة: أو غير حكيم حدث بهذا الحديث؟ فقال له سفيان: وما لحكيم لا يحدث عن شعبة؟ قال: نعم، قال سفيان: سمعت زيدًا يحدث بهذا، عن محمد، عن عبد الرحمن بن يزيد. وقال أبو داود (السنن. ج: ص: 116. ح: 1636) : حدثنا الحسن بن علي، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خدوش أو حموش أو كدوح في وجهه. فقيل: يا رسول الله، وما الغنى؟ قال: خمسون درهمًا وما قيمتها من الذهب)) . قال يحيى: فقال عبد الله بن عثمان لسفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير. فقال سفيان: فقد حدثناه زيد، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد.
وقال أبو داود (السنن. ح: 1629 و1630) : حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا مسكين، حدثنا محمد بن المهاجر، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي كبشة السلولي، حدثنا سهيل بن الحنظلية، قال: ((أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فأمر لهما بما سألا، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق، وأما عيينة فأخذ كتابه وأتى النبي صلى الله عليه وسلم مكانه، فقال: يا محمد، أتراني حاملًا إلى قومي كتابًا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس، فأخبر معاوية بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من النار. وقال النفيلي في موضع آخر: " من جمر جهنم ". فقالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ وقال النفيلي في موضع آخر: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يغذيه ويعشيه. وقال النفيلي في موضع آخر: " أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم ")) .
وكان حدثنا به مختصرًا على هذه الألفاظ التي ذكرت، حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد الله – يعني ابن عمر بن غانم – عن عبد الرحمن بن زياد، أنه سمع زياد بن نعيم الحضرمي، أنه سمع زياد بن الحرث الصدائي، قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعته ... فذكر حديثًا طويلًا، قال: فأتاه رجل، فقال: أعطني من الصدقة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك)) .
وقال النسائي (السنن. ج: 5.ص: 97) : أخبرنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن حيكم بن جبير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل وله ما يغنيه، جاءت خدوشًا أو كدوحًا في وجهه يوم القيامة. قيل: يا رسول الله، ماذا يغنيه، أو ماذا أغناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب)) . قال سفيان: وسمعت زيدًا يحدث، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. وقال ابن ماجه (السنن. ج: 1. ص589. ح: 1838) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمر جهنم، فليستقل أو ليكثر)) .(4/1147)
وقال (السنن. ح: 1840) : حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خموشًا أو خدوشًا أو كدوحًا في وجهه، قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب)) . قال رجل لسفيان: إن شعبة لا يحدث عن حكيم بن جبير، فقال سفيان: قد حدثناه زيد، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد.
وقال الدارمي (السنن. ج: 1.ص: 387) : أخبرنا محمد بن عبد الله الرقاشي، حدثنا يزيد - هو ابن زريع - حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سأل الناس مسألة وهو عنها غني، كانت شيئًا في وجهه)) .
وقال الدراقطني (السنن: ج:2. ص: 121. ح: 1 و2 و4 و5 و6) : حدثنا القاسم بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثني الحسين بن عمرو بن خالد، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سأل مسألة عن ظهر غني استكثر بها من رضف جهنم. قالوا: يا رسول الله، وما ظهر الغني؟ قال: عشاء ليلة)) . وتعقبه بقوله: عمرو بن خالد متروك.
حدثنا عثمان بن جعفر بن اللبان، حدثنا محمد بن إبراهيم النبيرة، حدثنا محمد بن إسماعيل الجعفري، حدثنا عبد الله بن سلمة بن أسلم عن عبد الرحمن المسور بن مخرمة، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سأل الناس عن ظهر غنى جاء يوم القيامة في وجهه خموش أو خدوش قيل: يا رسول الله، ما الغنى؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب)) . وتعقبه بقوله: ابن أسلم ضعيف.
حدثنا أبو هريرة الأنطاكي، حدثنا أبو زيد أحمد بن عبد الرحيم بن بكر بن فضيل، حدثنا محمد بن مصعد، حدثنا حماد بن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من سأل الناس وهو غني، جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح وخدوش. فقيل: يا رسول الله، ما غناه؟ قال: أربعون درهمًا أو قيمتها ذهبًا)) .
حدثنا الحسن بن إسماعيل، حدثنا أبو هشام. وحدثنا محمد بن القاسم، حدثنا أبو كريب، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وقال: " خمسون درهمًا". وتعقبه بقوله: الأول وهم، قوله: عن أبي إسحاق. وإنما هو حكيم بن حبير، وهو ضعيف، تركه شعبة وغيره.(4/1148)
قرئ عن أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز - وأنا أسمع - حدثكم إسحاق بن إسرائيل أبو يعقوب المروزي، حدثني شريك بن عبد الله بن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما سأل وله غنى، جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح أو خدوش أو خموش. قيل: وما غناه يا رسول الله؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب)) . وتعقبه بقوله: حكيم بن جبير متروك.
وقال الطحاوي (شرح معاني الآثار. ج: 2.ص: 49و20) : حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا مخول بن إبراهيم، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل من غير فقر، فإنه يأكل الجمر)) .
حدثنا فهد، قال: حدثنا أبو غسان، قال: حدثنا إسرائيل فذكر مثله. ثم قال: حدثنا الحسين بن نصر، قال: حدثنا الفريابي. وحدثنا نصر بن مرزوق، قال: حدثنا أبو عاصم. قالا جميعًا: عن سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمد بن عبد الرحمن بن زيد النخعي، عن أبيه، عن ابن مسعود – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شينا أو كدوحًا أو خدوشًا في وجهه يوم القيامة. قيل: يا رسول الله، وماذا غناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب)) .
حدثنا أحمد بن خالد البغدادي، قال: حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: حدثنا يحيى بن آدم. قال: حدثنا سفيان فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: (كدوحًا في جهه) ، ولم يشك، وزاد: (فقيل لسفيان: لو كان غير حكيم. قال: حدثناه زيد، عن محمد بن عبد الرحمن، عن يزيد مثله.)(4/1149)
حدثنا أبو بشر الرقي، قال: حدثنا ابن سويد، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: حدثنا ربيعة بن يزيد، عن كبشة السلولي، قال: حدثنا أبو حنظلة السلولي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل الناس عن ظهر غنى، فإنما يستكثر من جمر جهنم. قلت: يا رسول الله، وما ظهر غنى؟ قال: أن يعلم أن عند أهله ما يغذيهم أو يعشيهم)) .
حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا أبو عمرو الحوطي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن مردويه، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه، جاءت شينا في وجهه يوم القيامة)) .
ثم قال: حدثنا أحمد بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: حدثنا محمد بن الفضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس تكثرًا، فإنما هو جمر، فليستقل أو ليستكثر)) .
وقال الطبراني (المعجم الكبير. ج: 4. ص: 14 و15. ح: 3505) : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا أبي، حدثنا أبو حمزة، عن الشعبي، عن حبشي بن جنادة السلولي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل الناس في غير مصيبة حاجته، فكأنما يلتقم الرضفة)) .
وقال (المعجم الكبير: ح: 3506 و3507 و3508) : حدثنا محمد بن النضر الأزدي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سأل من غير فقر، فكأنما يأكل الجمرة)) ، حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب. وحدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدثنا إبراهيم بن عمرو البجلي. وحدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا يحيى الحماني. قالوا: حدثنا قيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل من غير فقر، فإنما يأكل من جمرة)) .
حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا موسى بن الحسين أبو الحسين السلولي، حدثنا غصن بن حماد، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل من غير فقر، فكأنما يأكل جمرًا)) .
وقال (المعجم الكبير. ج: 10. ص: 159. ح: 10199) : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا نصر بن ناب، عن الحجاج، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل مسألة وهو عنها غني، جاءت يوم القيامة كدوحًا في وجهه، لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهمًا أو عرضها ذهبًا)) .
وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 4. ص: 174) : أخبرني أبو الحسن بن بشران العدل ببغداد، أنبأ أبو الحسن أحمد بن إسحاق الطيبي، حدثنا أبو علي بشر بن موسى الأسدي المقري، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، حدثني زياد بن نعيم الحضرمي قال: سمعت زياد بن الحارث الصدائي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكر الحديث، إلى أن قال: ثم أتاه آخر، فقال: يا نبي الله، أعطني. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الناس عن ظهر غنى، فصداع في الرأس، وداء في البطن. فقال السائل: أعطني من الصدقة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز جل لم يرض فيها بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك، أو أعطيناك حقك)) .
وكان ذلك في وقت شدة الحاجة ووجوب المواساة من بعضها (1) لبعض".
ثم دافع عن القول بأن الآية لا تعني وجوب الخروج من كل ما يملكه المسلم من الذهب والفضة مستدلا بوجوب الزكاة فيهما.
ثم قال: " إلا أن تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء نحو الجائع المضطر، والعاري المضطر، أو ميت ليس له من يكفنه أو يواريه".
واستدل على هذا بحديث فاطمة بنت قيس الذي نقلناه ووقفنا عنده منذ حين.
ثم قال:
" وقوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يحتمل أن يريد به ولا ينفقون منها فحذف " من " وهو يريدها، وقد بينها بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (2) فأمر بأخذ بعض المال لا جميعه، وليس في ذلك ما يوجب نسخ الأول (3) إذ جائز أن يكون مراده: لا ينفقون منها.
__________
(1) لعل في العبارة خطأ صوابه: من بعضهم.
(2) الآية رقم: (105) سورة التوبة.
(3) لعل الصواب: نسخ الأولى.(4/1150)
قلت: يفند بهذا القول ما روي عن عمر بن عبد العزيز، أن آية الكنز منسوخة بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وكان من بين نقله من التأويلات.
وقال ابن العربي (1)
" وقد اختلف فيه - يعني في الكنز- على سبعة أقوال:
الأول: أنه المجموع من المال على كل حال.
الثاني: أنه المجموع من النقدين، يعني الذهب والفضة.
الثالث: أنه المجموع منهما ما لم يكن حليًا.
الرابع: أنه المجموع منهما دفينًا.
الخامس: أنه المجموع منهما لم تؤد زكاته.
السادس: أنه المجموع منهما لم تؤد منه الحقوق.
السابع: أنه المجموع ما لم ينفق ويهلك في ذات الله ".
ثم قال:
" وقد قال بعض الناس: إن ما زاد على أربعة آلاف كنز، وعزوه إلى علي، وليس بشيء يذكر لبطلانه (2) ، أما أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال: هكذا وهكذا. وأشار بيده يفرقها)) (3) قال أبو ذر: الأكثرون أصحاب عشرة آلاف، يريد أن الأكثرين مالًا هم الأقلون يوم القيامة ثوابًا، إلا من فرقه في سبيل الله.
قلت – ابن العربي هو القائل -: وهذا بيان لضمان الرتبة بقلة الصدقة، لا لوجوب التفرقة بجميع المال ما عدا الصدقة الواجبة".
ثم استظهر بحديث ثوبان (4) الذي نقلناه آنفًا.
ثم قال:
" فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا جوابًا لمن علم رغبته في المال، فرده إلى منفعة المال لما فيه من الفراغ وعدم الاشتغال ".
__________
(1) أحكام القرآن. ج: 2.ص: 298 و931.
(2) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر
(3) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر
(4) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر(4/1151)
قلت: جرى ابن العربي في هذا على مذهبه الخاص به، من أنه ليس في المال حق سوى الزكاة، وأن كل نفقة أخرى لا تعدو أن تكون مندوبًا إليها، وله تأويله، بيد أن استدلاله من التهافت والضعف، بحيث نعجب منه أن ركن إليه، ذلك بأن حديث ثوبان فيه وعيد، وليس مجرد ترتيب لأصناف من يثابون أو تبيان لرتبهم، يظاهرنا في هذا الفهم ما سبق أن نقلناه وما سننقله بعد من أحاديث وآثار تثبت أن حديث ثوبان أبعد شيء من أن يكون دليلًا على عدم وجوب الإنفاق على من أدى زكاة ماله إذا تعين أمر أو ظرف يقتضي من القادر الإنفاق.
وقال القرطبي (1) عند شرحه لهذه الآية: " واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته، هل يسمى كنزا أم لا؟ فقال قوم: نعم، رواه أبو الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي – رضي الله عنه – قال علي: أربعة آلاف فما فوقها نفقة، وما كثر فهو كنز، وإن أديت زكاته. (2) ولا يصح. وقال قوم: ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه، فليس بكنز، قال ابن عمر:ما أدي زكاته، فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم تؤد زكاته، فهو كنز، وإن كان فوق الأرض. (3) ومثله عن جابر وهو الصحيح، وروى البخاري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه – يعني بشدقيه – ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} )) (4) وفيه أيضًا عن أبي ذر قال: انتهيت إليه- يعني النبي صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده - أو الذي لا إله غيره، أو كما حلف - ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه، تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها، حتى يقضي الله بين الناس)) (5) فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا ".
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن. ج: 8. ص: 125 وما بعدها
(2) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر
(3) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر.
(4) الآية رقم: (180) سورة آل عمران.
(5) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر.(4/1152)
قلت: لا دليل فيهما؛ لأن الوعيد في آية الكنز يختلف عن الوعيد في الحديثين، أما استشهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} (1) فهو دليل على عمومها للزكاة وغيره، وليس دليلًا على معنى آية الكنز، ونوع العذاب الذي أوعد به الكانزون، وشتان بين الشجاع الأقرع وتطويقه وأخذه بهلزمتي مانع الزكاة وبين ما أوعد به الكانز {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} .
ثم قال: " وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا لمعنى، قال له أعرابي: أخبرني عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاته، فويل له، فإنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها الله طهرًا للأموال ".
قلت: سنبين من بعد أن هذا وهم من ابن عمر إن صح عنه حين نحدد الزمن الذي نزلت فيه سورة التوبة والزمن الذي فرضت فيه الزكاة، وبَيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصبتها.
ثم قال:
" وقيل: الكنز ما فضل عن الحاجة، روي عن أبي ذر، وهو ما نقل من مذهبه، وهو من شدائده وممن تفرد به رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون مجمل ما روي عن أبي ذر في هذا ما روي أن الآية نزلت في وقت شدة وضعف المهاجرين وقصر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون الحوائج هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء من المال إلا على قدر الحاجة، ولا يجوز إدخار الذهب والفضة في مثل هذا الوقت، فلما فتح الله على المسلمين ووسع عليهم، أوجب صلى الله عليه وسلم في مائتي درهم خمسة دراهم، وفي عشرين دينارًا نصف دينار، ولم يوجب الكل، واعتبر مدة الاستنماء، وكان ذلك منه بيانًا صلى الله عليه وسلم".
__________
(1) الآية رقم: (180) سورة آل عمران.(4/1153)
قلت: هذا يتجه لو لم تكن سورة التوبة نزلت سنة تسع، وكان جلها متصلًا بغزوة تبوك، وظروفها وبعضها ممهدًا لها، وسنة تسع كانت بعد فتح مكة بعام كامل، وفتح مكة تتويج للفتوحات الإسلامية في العهد النبوي ولم يكن المسلمون يومئذٍ – ومنهم المهاجرون – في مثل الخصاصة التي يحاول أن يدعيها صاحب هذا القول، إلا أن يكون قد التبس عليه التاريخ.
ثم قال:
" وقيل: الكنز ما لم تؤد منه الحقوق العارضة، كفك الأسير، وإطعام الجائع".
وقال الرازي (1) بعد أن استعرض التأويلات المأثورة: " القول الأول، وانتهى إلى قول ابن عباس في قوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يريد الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، قال القاضي: تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه، بل الواجب أن يقال: الكنز: هو المال الذي ما أخرج " عنه". (2) ما وجب إخراجه " عنه " (3) ، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات وما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة (4) وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على الأهل أو العيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات، فيجب في كل هذه الأقسام أن يكون داخلًا في الوعيد.
القول الثاني: المال الكثير إذا جمع فهو المذموم، سواء أديت زكاته أو لم تؤد، ثم ذكر أن أصحاب هذا القول احتجوا أولًا بعموم هذا الآية، وقال: ولا شك أن ظاهرها دليل على المنع من جمع المال، فالمصير إلى أن الجمع مباح بعد إخراج الزكاة ترك لظاهر هذه الآية، فلا يصار إليه بدليل منفصل.
والثاني: ما روى سالم بن الجعد أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبًا للذهب والفضة. قالها ثلاثًا، فقالوا له: أي مال نتخذ؟ قال: لسانًا ذاكرًا وقلبًا خاشعًا وزوجة تعين أحدكم على دينه)) (5) وقال عليه السلام: ((من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها)) (6) .
وتوفي رجل، فوجد في مئزره دينار، فقال عليه السلام: كية. وتوفي آخر، فوجد في مئزرة ديناران، فقال عليه الصلاة والسلام: كيتان.
والثالث ما روي عن الصحابة في هذا الباب، فقال علي: كل ما زاد عن أربعة آلاف فهو كنز، أديت منه الزكاة أم لم تؤد (7) .
وعن أبي هريرة: كل صفراء أو بيضاء أوكى عليها صاحبها فهي كنز.
__________
(1) التفسير الكبير. المجلد: 8. ج: 16. ص: 45 وما بعدها.
(2) لعل الصواب: " منه ".
(3) لعل الصواب: " منه ".
(4) لم يتضح لنا ما يقصد بالجمعة.
(5) تقدم إسناده ضمن أحاديث أبي ذر.
(6) لم نقف عليه عند غير الطبري.
(7) راجع الهامش رقم (1) ص 1502.(4/1154)
وعن أبي الدرداء أنه كان إذا رأى أن التعسير قال ابن منظور (لسان العرب ج: 4. ص: 565 و566) : والعسير: الناقة التي لن تحمل سنتها، والعسيرة: الناقة التي اعتاطت فلم تحمل عامها، وفي التهذيب بغيرها، وقال الليث: العسير: الناقة التي اعتاطت فلم تحمل سنتها، وقد أعسرت وعسرت. ثم قال: والعسير من الإبل عند العرب التي اعتسرت فلم تركب، ولم تكن ذللت قبل ذلك ولا رضت، وكذا فسره الأصمعي، وكذلك قال ابن السكيت: العسير: الناقة التي ركبت قبل تذليلها، وعسرت الناقة تعسر عسرًا وعسرانًا وهي عاسر وعسير رفعت ذنبها في عدوها. قلت: يظهر لي أن في عبارة الرازي تصحيفًا مطبعيا صوابه: " العير " إذ لا يوجد في السياق ما يرجح كلمة " العسير" وإن استعملت في بعض حالات الإبل والنوق. فتأمل.
ولم نقف على تخريج لهذا الأثر، لكنه يشبه كلام أبي ذر، وقد تقدم، وكانا صديقين على سن متشابه في التفكير والسلوك، وإن كان أبو الدرداء أحصف عقلًا وأهدأ نفسًا وألطف معاملة رضي الله عنهما وأرضاهما. تقدم بالمال صعد على موضع مرتفع، ويقول: جاء القطار يحمل النار، وبشر الكنازين بكي في الجباه والجنوب والظهور والبطون
والرابع: أنه تعالى إنما خلق الأموال ليتوسل بها إلى دفع الحاجات، فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته ثم جمع الأموال الزائدة عليه، فهو لا ينتفع بها لكونها زائدة على قدر حاجته، ومنعها من الغير الذي يمكنه أن يدفع حاجته بها، فكان هذا الإنسان بهذا المنع مانعًا من ظهور حكمته ومانعًا من وصول إحسان الله إلى عباده.
واعلم أن الطريق الحق أن يقال: الأولى لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع، فالأول محمول على التقوى، والثاني على ظاهر التقوى، أما بيان أن الأولى الاحتراز من طلب المال الكثير فبوجوه:(4/1155)
الوجه الأول: أن الإنسان إذا أحب شيئًا فكلما كان وصوله إليه أكثر والتذاذه بوجدانه أكثر، كان حبه له أشد وميله أقوى، فالإنسان إذا كان فقيرًا، فكأنه لم يذق لذة الانتفاع بالمال، وكأنه غافل عن تلك اللذة، فإذا ملك القليل من المال وجد بقدره اللذة، فصار ميله أشد، فكلما صارت أمواله أزيد، كان التذاذه به أكثر، وكان حرصه في طلبه وميله إلى تحصيله أشد، فثبت أن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب، فالحرص متعب للروح والنفس والقلب، وضرره شديد، فوجب على العاقل أن يحترز عن الإضرار بالنفس، وأيضًا قد بينا أنه كلما كان المال أكثر، كان الحرص أشد، فلو قدرنا أنه كان ينتهي طلب المال إلى حد ينقطع عنه الطلب ويزول الحرص.
لقد كان الإنسان يسعى في الوصول إلى ذلك الحد، أما كما ثبت بالدليل أنه كلما كان تملك الأموال أكثر، كان الضرر الناشئ من الحرص أكبر، وأنه لا نهاية لهذا الضرر ولهذا الطلب، فوجب على الإنسان أن يتركه في أول الأمر كما قال:
رأى الأمر يفضي إلى آخر فصير آخره أولًا
والوجه الثاني: أن كسب المال شاق شديد، وحفظه بعد حصوله أشد وأشقى وأصعب، فيبقى الإنسان طيلة عمره تارة في طلب التحصيل، وأخرى في تعب الحفظ، ثم إنه لا ينتفع بها إلا بالقليل، وبالآخر يتركها مع الحسرات والزفرات، وذلك هو الخسران المبين.
الوجه الثالث: أن كثرة المال والجاه تورث الطغيان كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى} (1) والطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ويوقعه في الخسران والخذلان.
وقال محمد الطاهر بن عاشور (2) عند شرحه لهذه الآية: " فالموصول - يعني في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} الآية - مراد به قوم معهودون يعرفون أنهم المراد من الوعيد ويعرفهم المسلمون، ولذلك لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنب قومًا بأعيانهم.
ومعنى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} انتفاء الإنفاق الواجب وهو الصدقات الواجبة والنفقات الواجبة إما وجوبًا مستمرًا كالزكاة، وإما وجوبًا عارضًا كالنفقة في الحج الواجب والنفقة في نوائب المسلمين مما يدعو الناس إليه ولاة العدل. والضمير المؤنث في قوله: {يُنْفِقُونَهَا} عائد إلى الذهب والفضة، والوعيد منوط بالكنز وعدم الإنفاق، فليس الكنز وحده بمتوعد، وليست الآية في معرض أحكام ادخار المال وفي معرض إيجاب الإنفاق، ولا هي في تعيين سبيل البر المعروف التي يجب الإخراج لأجلها من المال، ولا داعي إلى تأويل الكنز بالمال الذي لم تؤد زكاته حين وجوبها، ولا إلى تأويل الإنفاق بأداء الزكاة الواجبة، ولا إلى تأويل سبيل الله بالصدقات الواجبة؛ لأنه ليس المراد باسم الموصول العموم، بل أريد به العهد، فلا حاجة إلى ادعاء أنها نسختها آية وجوب
الزكاة، فإن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه الآية ".
__________
(1) الآية رقم: (6) و (7) سورة العلق.
(2) التحرير والتنوير. ج: 10. ص: 176 و177.(4/1156)
ثم نقل من الموطأ قول ابن عمر: إن الكنز هو ما لم تؤد زكاته. وحديث أبي هريرة عن المال الذي لم تؤد زكاته وأخذه بلهزمتي صاحبه يوم القيامة، وهو يقول: أنا مالك أنا كنزك.
وقد ذكرناهما آنفًا.
ثم قال:
" فتأويله أن ذلك بعض ماله وبعض كنزه، فهو بعض الكنز المذموم في الكتاب والسنة، وليس كل كنز مذمومًا، وشذ أبو ذر فحمل الآية على عموم الكانزين في جميع أحوال الكنز وعلى عموم الإنفاق، وحمل {سَبِيلِ اللَّهِ} على وجوه البر، فقال بتحريم كنز المال، وكأنه تأول {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} على معنى ما يسمى عطف التفسير أي: على معنى العطف لمجرد القرن بين اللفظين، فكان أبو ذر بالشام ينهى الناس عن الكنز، ويقول: وبشر الكناز بمكاوٍ من النار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. فقال له معاوية وهو أمير الشام في خلافة عثمان: إنما نزلت الآية في أهل الكتاب، فقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا. واشتد قول أبي ذر على الناس ورأوه قولًا لم يقله أحد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فشكاه معاوية إلى عثمان، فاستجلبه من الشام وخشي أبو ذر الفتنة في المدينة، فاعتزلها وسكن الربذة، وثبت على قوله".
قلت: أبدأ الناس وأعادوا وخبوا وأوضعوا حول أبي ذر- رحمه الله – وحديثه أو أحاديثه، وليس شأننا في هذا المجال استقراء ما روي عن أبي ذر في شأن الكنز، إنما شأننا استجلاء المقاصد من مجموع حديث أبي ذر مع معاوية وعثمان وروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول ما ينبغي الوقوف عنده وهو أساسي في تقديرنا، هو أن أبا ذر - رضي الله عنه - كان ممن يفتي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أوعية العلم، فقد ذكره ابن سعد في طبقاته (فيمن ذكر من أهل العلم والفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1) ، وروى في شأنه أثرًا لعلي - رضي الله عنه - فضلًا عن أثرين آخرين.
__________
(1) طبقات ابن سعد. ج: 2. ص: 350 و354.(4/1157)
فقال: أخبرنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، أخبرني أبو حرب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود قال: قال ابن جريج ورجل من زاذان، قالا: سئل علي - رضي الله عنه - عن أبي ذر فقال: وعى علما عجز فيه، وكان شحيحًا حريصًا، شحيحًا على دينه حريصًا على العلم، وكان يكثر السؤال، فيعطي ويمنع، أما إنه ملئ له في وعاء حتى امتلأ، فلم يدروا ما يريد بقوله: (وعى علما عجز فيه) أعَجَزَ عن كشف ما عنده من العلم، أم عن طلب ما طلب من العلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟
أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، أخبرنا الوليد بن مسلم، أخبرنا أبو عمرو - يعني الأوزاعي -، حدثني مرثد - أو ابن مرثد - عن أبيه قال: جلست إلى أبي ذر الغفاري، إذ وقف عليه رجل، فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا - يظهر أنه يقصد بأمير المؤمنين عثمان - فقال أبو ذر: والله لو وضعتم الصمصامة على هذه، وأشار إلى حلقه، على أن أترك كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنفذتها قبل أن يكون ذلك.
وأخبرنا وكيع بن الجراح، عن فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن أبي ذر قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحه في السماء إلا ذكرنا منه علمًا. ".
وما نريد أن نستقرأ ما أثر عن علم أبي ذر وفضله، حسبنا هذا الذي رواه ابن سعد موصولًا بأسانيد ما فيها من يمكن الغمز فيه لنتبين المركز العلمي لأبي ذر، هذا الذي تناولته الألسن إجلالًا من بعض وتشهيرًا من آخر.
وحديثه عن الكنز أو تأويله لآية الكنز تعبيرًا عن موقف تجاهله البعض وجهده، أو غفل عنه آخرون من وضع حدث في ظل معاوية، وأخذ يستشري ويستفحل منذ عهد عثمان، وما من أحد يزعم أو يستطيع أن يزعم أن أبا ذر كظم حديثه في صدره أو جمجمه ولم يبينه منذ عهد أبي بكر وطوال عهد عمر وصدرًا من عهد عثمان رضي الله عنهم أجمعين خوفًا من أحد أو مجاملة له، وكان ينبغي للذين تناولوه بالإجلال أو بالتشهير أن يتدبروا الظرف الذي أخذ فيه أبو ذر يجهر بدعوته ويشتد على معاوية، اضطر معاوية أن يشكوه إلى عثمان واضطر عثمان إلى أن يستجلبه إليه، ثم يأمره أو يأذن له على اختلاف الروايات بالخروج من المدينة وسكنى الربذة على أن يختلف إلى المدينة أحيانًا، لئلا يرجع أعرابيا، والإسلام ينهى من تحضر أن يرجع بدويًا.(4/1158)
وقد سبق أن ذكرنا أثناء حديثنا عن رافع بن خديج، أن صلة ما كانت بين الصحابيين الجليلين رافع وأبي ذر على تفاوت بينهما في السن وتباين في المحتد والمنشأ، تمثلت في موقف كان لهما من عثمان لبث فيه أبو ذر شديدًا صامدًا صلبًا مجابهًا، وقمع فيه رافع بالجهر الهادئ المسالم بما يريانه معًا أو يقترب أحدهما من الآخر في شأنه رؤية ورأيًا، وكلاهما أحدث موقفه لحاجة وصخبًا بين معاصريه من أهل الفتيا وغيرهم، اقتصر رافع في موقفه على ما يتصل بالأرض وإيجارها، واختص أبو ذر في موقفه على ما يتصل بالأموال المنقولة مباشرة وكنزها في أغلب أحواله وإن تناول العقار أيضًا في بعضها، وكان منطلق رافع عما حدث به هو وجابر وأبو هريرة وغيرهم من نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيجار الأرض على حين كان منطلق أبي ذر آية الكنز، وكلا الرجلين كان يقاوم - كل على طريقته - ظاهرة برزت منذرة بشر مستطير منذ أواخر عهد عثمان والذي لفت منها رافعًا ومن على شاكلته هو استحواذ القادرين ماليا على الأرض واستغلالها استحواذًا لم يحرم الفقراء فحسب، وإنما استغل ما فيهم من طاقة وخبرة استغلالًا يبقي على ضعف الفقير وينهك جهده فيما يكدس في خزائن القادر ثمرة ذلك الجهد وما صحبه من خبرة ودربة تكديسًا قوامه عرق الفقير الضعيف.
أما الذي لفت أبا ذر وخاصة حين ذهب إلى الشام، فهو ما أخذ يتكدس ويكتنز في أيدي المحظوظين عامة سواء منهم الفلاحون والتجار وأرباب الحرف وغيرهم ممن يستثمرون أموالهم، وطبيعي أن هؤلاء لم يكونوا جمهرة المسلمين، وإنما كانوا طائفة منهم، إن تكن وفيرة فليست الغالبة عددًا على كل حال.
وكان قد صحب هذا التكدس والاكتناز بذخ وترف أخذا يتطوران إلى نوع من البطر تجلى في تداول آنية الذهب والفضة، وطبعًا كان تداولها للاستعمال وحتى وإن يكن للزينة فهو نمط من الأشر والبطر نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيًا صريحًا حاسما لا مجال فيه لأي تأويل، وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد ناقش معاوية وبالأحرى جادله جدالًا لا يخلو من حدة في نمط من التعامل أباحه معاوية وأنكره عليه صفوة الصحابة، وهو البيع والشراء في آنية الذهب والفضة بالنقد، أي بالدينار والدرهم، وليس هذا مجال تفصيل القول في هذا الشأن، حسبنا أن نشير إليه كمظهر من المظاهر التي اضطرت أبي ذر رضي الله عنه أن يشتد في الإنكار على معاوية بالذات وهو يتأول الوعيد الذي نزل في الكانزين بأنه غير موجه إلى المسلمين، وإنما هو موجه إلى أهل الكتاب تأولًا على غرابته ليس بغريب عن المقولة العجب الأخرى التي تقولها البعض، يغفر الله لهم، من أن آية الكنز نسختها آية الزكاة.(4/1159)
وكان أبو ذر وهو الذي صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلب سنوات الهجرة إذ أسلم من قبلها، فأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام خليقًا بأن ينكر أشد الإنكار على معاوية مواقفه المريبة تلك والتي نشأ عنها نمط من التكيف الطبقي في المجتمع الإسلامي عامة وفي الشام خاصة، إذ إن تصرف معاوية في الشام كان نمطًا أخذ يقتدي به بعض عمال عثمان من بني أمية وشيعتهم وذيولهم على أقطار أخرى مما شملته الفتوحات الإسلامية، ذلك بأن أبا ذر أخذ يدرك بعمق إيمانه وغزارة علمه وصلابته في دينه وشدة تمسكه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتهدد المجتمع الإسلامي من التخلي عن قاعدة المؤاخاة التي شرعها القرآن أساسًا لبناء المجتمع الإسلامي، وطبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة، إذ آخى بين المهاجرين والأنصار، والتحول إلى سلوك لا يؤدي ولا يمكن أن يؤدي إلا إلى صراع طبقي يهدم الكيان الإسلامي من داخله ويهيئه للمتربصين به لقمة سائغة فضلًا عن أن طبيعة الترف والبزخ حين تهيمن على الناس تصرفهم صرفًا كاملًا حاسما عن الخلق الإسلامي الرضي المستلهم لطبيعة الأخوة الإسلامية والمساواة بين المسلمين والتضحية في سبيل المصلحة العامة لهم إلى خلق الجشع والأثرة واللهف وراء المال من طرق شرعية بادئ الأمر، ثم من غيرها بالتأويل المنحرف لنصوص الشريعة، ثم بالاستهتار وعدم المبالاة، ثم بالاستحلال، وهي مراحل من الانحراف لا محيص من أن تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى، فكان أبو ذر بما جهر وإصراره على ما أصر ثم إيثاره العزلة نمطًا من النضال، بل من الجهاد، اختاره أبو ذر، ووقف له حياته حتى لحق بربه راضيًا مرضيًا، ولم يكن شذوذًا كما يطيب للبعض أن يقول، وإنما هو صمود على الحق وثبات في الدعوة إليه، وصيانة معالمه وقواعده.
وآية ذلك أن النتيجة التي نتجت عن تأويلات المتأولين لآية الكنز ومنهم بعض التابعين - يغفر الله لهم - كانت استمرار المجتمع الإسلامي انطلاقًا من سنن معاوية في الابتعاد السريع المريع عن السنن الذي كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده وأراد علي - رحمه الله - أن يعيده إليه، فعاقه المنشقون، ثم عاجله قدر الله، وأراد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أن يعيده إليه، فعاجله قدره أيضًا، ولا أحسبه بمستطيع لو طال عمره، فقد فات الأوان.(4/1160)
والذي يعنينا من كل هذا هو أن تأويل أبي ذر لآية الكنز كان هو التأويل الصحيح الوحيد الذي تشهد له ظروف سورة التوبة كلها، كما تشهد له الوقائع التي حفلت بها تلك الظروف.
وقبل أن نعرض تلك الظروف نرى - تيسيرًا لاستكمال الصورة لدى القارئ - أن ندرج صفوة مما روي عن أبي ذر في تأويل آية الكنز ولم يورده الطبري أو أورده بسند مختلف، ذلك بأن أبا ذر لم يكن متأولًا بالمعنى اللغوي لكلمة التأويل، وإنما كان مفسرًا تفسيرًا يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيغ إن لم تكن جميعًا متصلة بالآية اتصال تفسير، فإنها متصلة بحكمها اتصال بيان، وما من أحد يماري في أن السنة مبينة للقرآن، وقد آثرنا إدراج ما اصطفيناه من حديث أبي ذر حول الكنز بمختلف أسانيده وألفاظه على تماثل بعضها وتشاكل معانيها ودلالاتها ودون أن نعرض لما عرض له نقدة الحديث من تجريح بعض النقلة لإتاحة الفرصة لمن قد يطلع على هذا البحث أن يحيط بمختلف ما أثر عن أبي ذر في هذا الشأن وأن يتدبر دلالات ألفاظه ويتبين أن اختلافها لا يعني تغايرًا بين معانيها ودلالاتها، وإنما يعني أحيانًا اختلافًا بين بعض الرواة بالمعنى واختلافًا بين ظروف تحدث أبي ذر بما يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، ذلك بأنه كان شغل أبي ذر في الشام وفي المدينة وفي مكة وفي الربذة وأينما حل وارتحل منذ نذر نفسه لمناهضة الكنازين في أواسط عهد عثمان عندما ارتحل إلى الشام ثم أعيد منه واعتزل اختيارًا أو طاعة لأمر عثمان في الربذة على ما ذكرته الروايات التي سندرجها بعد قليل.
ولأن كلام النقدة في بعض النقلة لا نراه ذا أثر جدير بالاعتبار في تقييم الحديث نفسه، فما من سند تكلموا في بعض رجاله إلا وشهدت لحديثه أسانيد وأحاديث أخرى، لا سبيل إلى الغمز فيها، وهذا يجعل كلامه في بعض النقلة غير مؤثر في دلالة الحديث أو الحكم المستفاد منه، لا سيما أن من تكلموا فيهم لم يصمهم أحد بوصمة الوضع أو ما يشاكله، وإنما اقتصروا في نقدهم على التضعيف اعتمادًا على أن بعضهم اختلط بآخرة، وأن غيره سيئ الحفظ وأوصاف على هذه الشاكلة.
وحول آية الكنز ووعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للكانزين والمدخرين، روى كل من أحمد وابن أبي شيبة وابن حبان وابن سعد والبخاري ومسلم والذهبي بأسانيد مختلفة ما ندرجه على التوالي:(4/1161)
قال أحمد في مسنده (1) : حدثنا عبد الرزاق، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، حدثنا عبد الله بن يزيد بن الأقنع الباهلي، حدثنا الأحنف بن قيس قال: كنت بالمدينة، فإذا أنا برجل يفر الناس منه حين يرونه، قال: قلت: من أنت؟ قال: أنا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: لم يفر الناس؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز بالذي كان ينهاهم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثنا عفان، حدثنا أبو الأشهب، حدثنا خليد العصري قال أبو جري: أين لقيت خليدا؟ قال: لا أدري، عن الأحنف بن قيس، قال: كنت قاعدًا مع أناس من قريش، إذ جاء أبو ذر حتى كان قريبًا منهم حتى قال: (ليبشر الكنازون بكي من قبل ظهورهم يخرج من قبل بطونهم، وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم. قال: ثم تنحى فقعد، قال: قلت: من هذا؟ قال: أبو ذر. فقمت إليه، فقلت: ما شيء سمعتك تنادي به؟ قال: ما قلت لهم شيئًا إلا شيئا سمعوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، قال: قلت له: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه، فإن فيه اليوم معونة، فإذا كان ثمنًا لدينك فدعه.
وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن عبد الله ابن يزيد بن خال الأقنع، عن الأحنف بن قيس قال: بينما أنا في حلقة، إذ جاء أبو ذر، فجعلوا يفرون منه، فقلت: لم يفر منك الناس؟ قال: إني أنهاهم عن الكنز الذي ينهاهم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وقال ابن أبي شيبة (2) : حدثنا محمد بن بشر، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن عبد الله بن الأقنع الباهلي، عن الأحنف بن قيس قال: كنت جالسًا بمجلس في المدينة، فأقبل رجل لا ترى حلقة إلا فروا منه، حتى انتهى إلى الحلقة التي كنت فيها، فثبت وفروا، فقلت: من أنت؟ قال: أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلت: ما يفر الناس منك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز. قال: قلت: إن أعطياتنا قد بلغت وارتفعت، فنخاف علينا منها. قال: أما اليوم فلا، ولكنها يوشك أن تكون أثمان دينكم، فدعوهم وإياها.
وحدثنا ابن إدريس، عن حصين بن زيد بن وهب، قال: مررنا على أبي ذر بالربذة، فسألنا عن منزله، قال: كنت بالشام فقرأت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
فقال معاوية: إنها في أهل الكتاب. فقلنا: إنها لفينا وفيهم.
__________
(1) ج: 5. ص:164 و167 و176.
(2) الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 112 و213.(4/1162)
وحدثنا زيد بن حباب، قال: حدثني موسى بن عبيدة، قال: حدثني عمران بن أبي أنس، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حبيبي يقول: ((في الإبل صدقتها، من جمع دينارًا أو درهمًا أو تبرًا أو فضة، ولا يعده لغريم، ولا ينفقه في سبيل الله، فهو كي يكوى به يوم القيامة)) . ".
وقال ابن حبان (1) :
"أخبرنا عمران بن محمد الهمداني، قال: حدثنا مؤمل بن هشام، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن الأحنف بن قيس، قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة وفيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه، فقام عليهم، فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليهم في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه. فوضعوا رؤوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا، قال: وأدبر، فأتبعته حتى جلس إلى سارية، فقال: ما رأيت هؤلاء لا يعقلون، إن خليلي أبا القاسم دعاني، فقال: يا أبا ذر. أجبته، قال: أترى أحدا؟ قال: فنظرت ما علي من الشمس وأنا أظنه يبعثني لحاجة له، فقلت: أراه. فقال: ما يسرني أن لي مثله ذهبًا أنفقه كله غير ثلاثة دنانير. ثم هؤلاء يجمعون الدنيا لا يعقلون شيئًا، قال: قلت: مالك ولإخوانك قريش، قال: لا وربك لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم في ديني حتى ألحق بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ".
وقال ابن سعد (2) :
"أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر، قال: فقلت: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، قال: وقلت: نزلت فينا وفيهم، قال: فكان بيني وبينه في ذلك كلام فكتب يشكوني إلى عثمان أن أقدم المدينة، فقدمت المدينة، وكثر الناس علي كأنهم لم يروني قبل ذلك، قال: فذكر ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت أنحيت فكنت قريبًا، فذلك أنزلني هذا المنزل، ولو أمر علي حبشي لسمعت وأطعت.
وأخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو كعب صاحب الجريري، قال: حدثنا أبو الأصفر، عن الأحنف بن قيس قال: أتيت المدينة، ثم أتيت الشام فجمعت، فإذا رجل لا ينتهي إلى سارية إلا فر أهلها يصلي ويخفف صلاته قال: فجلست إليه، فقلت له: يا أبا عبد الله من أنت؟ قال لي: أنا أبو ذر. فقلت: وأنت من أنت؟ فقال لي: أنا الأحنف بن قيس، قال: قم عني لا أعدك بشر. فقلت له: كيف تعدني بشر؟ قال: إن هذا - يعني معاوية - نادى مناديه ألا يجالسني أحد ".
وقال البخاري (3)
(حدثني إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، قال: حدثنا أبي، حدثنا الجريري، حدثنا أبو العلاء بن الشخير، أن الأحنف بن قيس حدثهم، قال: جلست إلى ملأ من قريش، فجلس رجل خشن الثياب والشعر والهيأة، حتى قام عليهم وسلم، فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع في حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمتي ثديه، يتزلزل، ثم ولى، فجلس إلى سارية، وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو، فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي. قلت: قال: إنهم لا يعقلون شيئًا، قال لي خليلي: قال: قلت: من خليلك؟ قال: النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر أتبصر أحدا؟)) قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسلني في حاجة له، قال: قلت: نعم. قال: ((ما أحب أن لي مثل أحد ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، لا والله لا أسألهم ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عز وجل)) .
__________
(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 5. ص: 107. ح: 3248.
(2) ابن سعد الطبقات. ج: 4. ص: 226 و229.
(3) صحيح البخاري. ج: 2. ص: 111 و112.(4/1163)
وحدثنا علي، سمع هشيمًا، أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر - رضي الله عنه - فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك، وكتب إلى عثمان - رضي الله عنه - يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريبًا. فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمَّروا علي حبشيًا لسمعت وأطعت. ".
وقال مسلم في صحيحه: (1) حدثني زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه، فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه في جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض - بضم النون وإسكان الغين المعجمة وبعده ضاد معجمة وهو العظم الرقيق الذي على طرف الكتف ويقال له: الناغض - كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل، قال: فوضع القوم رؤوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا، قال: فأدبر وأتبعته، حتى جلس إلى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. قال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا، ((إن خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم دعاني فأجبته، فقال: أترى أحدا؟ فنظرت ما علي من الشمس وأنا أظن أنه يبعثني في حاجة له. فقلت: أراه. فقال: ما يسرني أن لي مثله ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير)) . ثم هؤلاء يجمعون الدنيا لا يعقلون شيئًا، قال: قلت: مالك ولإخوتك من قريش لا تعتريهم ولا تصيب منهم، قال: لا وربكم، لا أسألهم عن دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله.
__________
(1) صحيح مسلم ج: 7 ص: 77(4/1164)
وحدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا أبو الأشهب، قال: حدثنا خليد العصري، عن الأحنف بن قيس قال: كنت في نفر من قريش، فمر أبو ذر وهو يقول: بشر الكنازين بكي ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكي من قبل أقفائهم يخرج من جباههم. قال: ثم تنحى فقعد، ثم قلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر. قال: فقمت إليه، فقلت: ما شيء سمعتك تقول قبيل؟ قال: ما قلت إلا شيئًا قد سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم قال: قلت: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه، فإن فيه اليوم معونة، فإذا كان ثمنًا لدينك فدعه".
وقال الذهبي (1) : "موسى بن عبيدة، حدثنا عمران بن أبي أنس، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قدم أبو ذر من الشام، فدخل المسجد وأنا جالس، فسلم علينا، وأتى سارية، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم قرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، واجتمع الناس عليه، فقالوا: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البر صدقته، من جمع دينارًا أو تبرًا أو فضة لا يعده لغريم، ولا ينفقه في سبيل الله كوي به)) قلت: يا أبا ذر، انظر ما تخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الأموال قد فشت، قال: من أنت يا بن أخي؟ فانتسبت له، فقال: قد عرفت نسبك الأكبر، ما تقرأ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
وتعقبه الذهبي بقوله: ضعف، وروى عنه الثقات."
ولم يكن موقف أبي ذر من "الكنز " هذا الذي تصوره الأحاديث السالفة موقف متأول وإنما كان موقفًا يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في تفسير آية الكنز وحدها، ولكن في تشريع عام حاسم، عبر عنه أحيانًا بـ:"العهد " من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما توضحه الأحاديث التي ننقلها على التوالي عن كل من أحمد وابن سعد ومسلم والطبراني والذهبي.
قال أحمد في مسنده (2) : (حدثنا شعبة، أخبرني عمرو بن مرة، عن سعيد بن الحرث، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يسرني أن لي أحدًا ذهبًا أموت يوم أموت وعندي منه دينار أو نصف دينار إلا أن أرصده لغريم)) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء. ج:3. ص: 66.
(2) ج: 5. ص: 148و 149و152و156و 160و165و175و176.(4/1165)
حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا سالم - يعني ابن أبي حفصة - عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي ذر. وأبي منصور، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر أي جبل هذا؟ قال: قلت: أحد يا رسول الله. قال: والذي نفسي بيده، ما يسرني أنه لي ذهبًا قطعًا أنفقه في سبيل الله، أدع منه قيراطًا. قال: قلت: قنطارًا يا رسول الله. قال: قيراطًا. قالها ثلاث مرات ثم قال: يا أبا ذر، إنما أقول الذي أقل، ولا أقول الذي هو أكثر)) .
وحدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: ((كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة ونحن ننظر إلى أحد، فقال: يا أبا ذر. قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ما أحب أن أحدًا ذاك عندي ذهبًا أمسي ثالثة وعندي منه دينار، إلا دينارًا أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا. وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره، قال: ثم مشينا، فقال: يا أبا ذر، إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا. وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره، قال. ثم مشينا، وقال: يا أبا ذر، كما أنت حتى آتيك، قال: فانطلق حتى توارى عني، قال: فسمعت لغطًا وصوتًا، قال: فقلت: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له. قال: فهممت أن أتبعه ثم ذكرت قوله: لا تبرح حتى آتيك. فانتظرته حتى جاء، فذكرت له الذي سمعت، فقال: ذاك جبريل عليه السلام أتاني، فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة. قال: قلت: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن زنى وإن سرق)) .
وحدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن سعد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه، ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه قال: ففضل معها سبع، قال: فأمرها أن تشتري به فلوسًا، قال: فقلت: لو ادخرته لحاجة تنوبك أو لضيف ينزل بك، قال: إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل.
وحدثنا إسماعيل، عن الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل، فذكر الحديث، فاتبعته حتى جلس إلى سارية، فقال: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. فقال: ((إن خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم دعاني، فقال: يا أبا ذر. فأجبته، فقال: هل ترى أحدا؟ فنظرت ما علا من الشمس، وأنا أظنه يبعثني في حاجة، فقلت: أراه. قال: ما يسرني أن لي مثله ذهبًا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير)) .
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت سويد بن الحرث قال: سمعت أبا ذر قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا - قال شعبة: أو قال: ما أحب أن لي أحدًا ذهبًا - أدع منه يوم أموت دينارًا أو نصف دينار إلا لغريم)) .(4/1166)
حدثنا يزيد، أنبأنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت، سمع أبا ذر قال: إن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي: ((أيما ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو كي على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله إفراغًا)) .
حدثنا يزيد، أنبأنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسين، عن عبد الله بن الصامت قال: كنت مع أبي ذر، وقد خرج عطاؤه ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه - وقال مرة: نقضيى - قال: ففضل معه فضل، قال: أحسبه سبع، قال: فأمرها أن تشتري بها فلوسًا، قلت: يا أبا ذر لو ادخرته للحاجة تنوبك وللضيف يأتيك. فقال: إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه يوم القيامة حتى يفرغه إفراغًا في سبيل الله.
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت سويد بن الحرث قال: سمعت أبا ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحب أن لي مثل أحد ذهبًا - قال شعبة أو قال: ما أحب
أن لي أحدًا ذهبًا - أدع منه يوم أموت دينارًا أو نصف دينار إلا لغريم.)) .
وقال ابن سعد: (1)
(أخبرنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا همام، قال: أخبرنا قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه، ومعه جارية له قال: فجعلت تقضي حوائجه، قال: ففضل معها سبع، قال: فأمرها أن تشتري به فلوسًا، قال: لو ادخرته للحاجة تنوبك أو للضيف ينزل بك. قال: إن خليلي عهد إلي أن أي مال ذهب أو فضة أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه حتى يفرقه في سبيل الله.
أخبرنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، أن أبا ذر كان عطاؤه أربعة آلاف، فكان إذا أخذ عطاءه، دعا خادمه فسأله عما يكفيه لسنة فاشتراه له، ثم اشترى فلوسًا بما بقي، وقال: إنه ليس من وعاء ذهبًا أو فضة يوكى عليه، إلا وهو يتلظى على صاحبه. ".
__________
(1) الطبقات ج: 4 ص: 229(4/1167)
وقال مسلم في صحيحه (1) :
"حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وأبو كريب كلهم عن أبي معاوية، قال يحيى: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ونحن ننظر إلى أحد، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر. قال: قلت: لبيك يا رسول الله. قال: ما أحب أن أحدا ذاك ذهب أمسي ثالثة عندي منه دينار، إلا دينارا أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا. حثًا بين يديه، وهكذا عن يمينه، وهكذا عن شماله، ثم مشينا فقال: يا أبا ذر. قال: قلت: لبيك يا رسول الله. قال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا. مثل ما صنع في المرة الأولى، قال: ثم مشينا، قال: يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك. قال: فانطلق حتى توارى عني، قال: سمعت لغطًا، وسمعت صوتًا، قال: فقلت: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ... قال: فهممت أن أتبعه، فقال: فذكرت قوله: لا تبرح حتى آتيك. قال: فانتظرته، فلما جاء ذكرت له الذي سمعت، قال: فقال: ذاك جبريل أتاني، فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا، دخل الجنة. قال: قلت: وإن زني وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق.
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن عبد العزيز - وهو ابن رفيع - عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال: ((خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت، فرآني فقال: من هذا؟ فقلت: أبو ذر جعلني الله فداك. قال: يا أبا ذر، تَعَالَهْ. قال: فمشيت معه ساعة، فقال: إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرًا فنفع به يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيرًا. قال: فمشيت معه ساعة، فقال: اجلس ههنا. قال: فأجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي: اجلس ههنا حتى أرجع إليك. قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه، فلبث عني، فأطال اللبث، ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول: وإن سرق وإن زنى. فلما جاء لم أصبر، فقلت: يا نبي الله، جعلني الله فداك، من تكلم في جانب الحرة، ما سمعت أحدًا يرجع إليك شيئًا. قال: ذلك جبريل عرض في جانب من الحرة قال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله دخل الجنة. فقلت: يا جبريل، وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم وإن شرب الخمر)) .
__________
(1) على هامش شرح النووي. ج: 7. ص: 74 و75و 76.(4/1168)
وقال الطبراني (1) : حدثنا عبد الله بن الحسن الحراني، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: ((إن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي أنه أيما ذهب أوكي عليه، فهو جمر على صاحبه حتى ينفقه في سبيل الله)) .
حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثني أبي، قال: وجدت في كتاب أبي بخطه، حدثنا مستلم بن سعيد، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، عن عبد الله بن الصامت، أن أبا ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أوكى على ذهب أو فضة ولم ينفقه في سبيل الله كان جمرًا يوم القيامة يكوى به)) .
وقال الذهبي (2) : وروى همام، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: ((إن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي أيما ذهب أو فضة أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى ينفقه في سبيل الله عز وجل)) .
على أن في قصة أبي ذر - رضي الله عنه - جانبًا لم نقف على من أعاره الاهتمام الذي يستحقه، مع أن اعتباره أساسي في تحديد مدى دلالتها وتعيين دلالاتها، وما نحسب تفسير آية الكنز خاصة وتبيان موقف أبي ذر من الأغنياء عامة يستقيم نهج الاهتداء إليهما دون اعتباره.
ذلك بأن رسول الله كان قد أنبأ أبا ذر بما سيحدث له، ورسم له النهج الذي عليه أن يسلكه عندما يحدث ما أنبأه به، ولو قد كان أبو ذر سيتخذ موقفًا غير مسلم يحدث له بسببه ما أنبأه به رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذره منه ونهاه عنه كما نهاه عن سبيل كان سيسلكها لولا أنه صارحه بها فحذره منها ورسم له غيرها وذلك ما توضحه الأحاديث التي رواها كل من أحمد وابن سعد وندرجها فيما يلي: قال أحمد في مسنده (3) :
__________
(1) المعجم الكبير. ج: 2. ص: 151. ح: 1634 و1641.
(2) تذكرة الحفاظ. ج: 1. ص: 18.
(3) ج: 4. ص: 156. وج: 5. ص: 178 و444. وج: 7. ص: 497(4/1169)
"حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن الأسود الدؤلي، عن عمه، عن أبي ذر قال: أتاني نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم في مسجد المدينة، فضربني برجله، فقال: ألا أراك نائما فيه؟ قال: قلت: يا نبي الله غلبتني عيني. قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: آتي الشام الأرض المقدسة المباركة. قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: ما أصنع يا نبي الله، أضرب بسيفي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك وأقرب رشدًا تسمع وتطيع وتنساق لهم حيث ساقوك.
حدثنا يزيد، حدثنا كهمس بن الحسن، حدثنا أبو السليل، عن أبي ذر قال: ((جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو علي هذه الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} حتى فرغ من الآية، ثم قال: يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم. قال: فجعل يتلو بها ويرددها علي حتى نعست، ثم قال: يا أبا ذر، كيف تصنع إذا خرجت من المدينة؟ قال: قلت: إلى السعة والدعة أنطلق حتى أكون حمامة من حمام مكة. قال: كيف تصنع إن أخرجت من مكة؟ قال: قلت إلى السعة والدعة إلى الشام والأرض المقدسة. قال: وكيف تصنع إن أخرجت من الشام؟ قال: قلت: إذا والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي. قال: أو خير من ذلك. قال: أو خير من ذلك. قال: تسمع وتطيع وإن كان عبدًا حبشيا)) .
قال عبد الله بن أحمد في زوائده:
حدثنا الحكم بن نافع أبو اليمان، أخبرنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن أبي حصين، عن شهر بن حوشب قال الذهبي في ترجمته (سير أعلام النبلاء. ج: 4. ص: 372. وما بعدها ترجمة: 151) : - ورمز بأنه أخرج له الأربعة ومسلم مقرونًا - أبو سعيد الأشعري الشامي مولى الصحابية أسماء بنت يزيد الأنصارية كان من كبار علماء التابعين حدث عن مولاته أسماء وعن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو وأم سلمة وأبي سعيد الخدري وعدة، وقرأ القرآن على ابن عباس، ويرسل عن بلال وأبي ذر وسلمان وطائفة، حدث عنه قتادة ومعاوية بن قرة والحكم بن عتيبة وآخرون - ذكر بعضهم الذهبي -.وذكر أن مسلما والنسائي كنياه أبا سعيد، ونقل عن حنظلة أنه روى عن شهر قوله: عرضت القرآن على ابن عباس سبع مرات. وروي عن أحمد بن حنبل قوله: شهر ثقة ما أحسن حديثه. وقوله في رواية أخرى: ليس به بأس. وعن الترمذي قوله: قال محمد - يعني البخاري -: شهر حسن الحديث وقوي أمره، وقال: إنما تكلم فيه ابن عون، ثم إنه روى عن رجل عنه.(4/1170)
وعن العجلي ثقة، وعن يحيى بن معين ثبت، وعن أبي زرعة وغيره لا بأس به، وعن النسائي لا بأس به، وعن النسائي ليس بالقوي، وعن ابن عدي لا يحتج به، وعن ابن معين في رواية أخرى ثقة، وعن ابن عون قال: إن شهرًا تركوه. وعن
صالح بن محمد جزرة قدم شهر على الحجاج، فحدث بالعراق، ولم يوقف منه على كذب، وكان رجلًا ينسك، وعن الفلاس كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عن شهر، وكان عبد الرحمن يحدث عنه. ثم قال: وروى يحيى بن أبي بكير الكرماني، عن أبيه قال: كان شهر بن حوشب على بيت المال، فأخذ خريطة فيها دراهم فقيل له:
لقد باع شهر دينه بخريطة فمن يأمن القراء بعدك يا أشهر
أخذت بها شيئًا طفيفًا وبعته من ابن جرير إن هذا هو الغدر
وتعقب الذهبي هذه الرواية بقوله: إسنادها منقطع، ولعلها وقعت وتاب منها، أو أخذها متأولًا أن له في بيت مال المسلمين حقا. نسأل الله الصفح. فأما رواية يحيى القطان عن عباد بن منصور، قال: حججت مع شهر بن حوشب فسرق عيبتي، فما أدري ما أقول. قلت: هذا كلام الذهبي.
ثم ساق له أثرًا يتناقض مع هاتين التهمتين، فقال: ومن مليح قول شهر من ركب مشهورًا من الدواب وليس مشهورًا من الثياب، أعرض الله عنه وإن كان كريمًا.
وروي عن أبي بشير الدولابي وأبي إسحاق السعدي قوله: شهر لا يشبه حديثه حديث الناس كأنه مولع بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أخبارًا عن شعبة على أنه تركه.
وروى الذهبي آثارًا وأحاديث استنكروها عن شهر، فقال: فهذا ما استنكر عن شهر في ساعة روايته، وما ذلك بالمنكر جدا.
قلت: إلا أثرًا مما رواه الذهبي لا نستطيع أن نتقبله إلا أن يكون قد رواه "حكاية وليس رواية يوثقها، وهو ما نقل الذهبي وغيره عن سيار بن حاتم من قوله: حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب قال: لما قتل ابن آدم أخاه، مكث آدم مائة سنة لا يضحك. قلت: إلى هنا لا غرابة. ثم أنشد يقول:
تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح
قلت: ما من شك في أن هذا الشعر مفتعل منحول، وفيه إقواء، ولا مسوغ لما تمحلوه لتقويم إعرابه بحيث يبرأ من الإقواء.(4/1171)
ثم إن آدم وإن يكن يعرف الأسماء كلها، لم يكن يعرف هذه العربية عربية الحجازيين ومن على شاكلتهم، فلو كان يعرفها لتوارثها عنه أبناؤه والأجيال التي تعاقبت بعده، فبرأت لغتهم مما نجده في الحفريات من كلام يشبه الأعجمية، وما صلته بالعربية إلا من نطق الأحرف. فتأمل.
وقد ترجم لشهر عدد من مدوني تاريخ العصر الأول والثاني للهجرة وتراجم الرجال ونقدة الحديث. رحمه الله رحمة واسعة.
عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم آتي المسجد إذا أنا فرغت من عملي، فأضطجع فيه، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يومًا وأنا مضطجع، فغمزني برجله، فاستويت جالسًا، فقال لي: يا أبا ذر، كيف تصنع إذا أخرجت منها؟ فقلت: أرجع إلى مسجد رسول الله وإلى بيتي. قال: فكيف تصنع إذا أخرجت؟ فقلت: إذا آخذ بسيفي فأضرب به من يخرجني. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يده على منكبي، فقال: غفرًا يا أبا ذر - ثلاثًا - بل تنقاد معهم حين قادوك، وتنساق معهم حين ساقوك، ولو عبدًا أسود. قال أبو ذر: فلما نفيت إلى الربذة، أقيمت الصلاة، فتقدم رجل أسود كان فيها على نعم الصدقة، فلما رآني أخذ يرجع ليقدمني، فقلت: كما أنت بل أنقاد إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا هاشم، قال: حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا شهر، قال: حدثتني أسماء بنت يزيد، ((أن أبا ذر الغفاري كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من خدمته آوى إلى المسجد، فكان هو بيته يضطجع فيه، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فوجد أبا ذر نائما منجدلًا في المسجد، فنكته النبي صلى الله عليه وسلم برجله حتى استوى جالسًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أراك نائما؟ قال أبو ذر: يا رسول الله، فأين أنام؟ هل لي من بيت غيره؟ فجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أنت إذا أخرجوك منه؟ قال: إذن ألحق بالشام، فإن الشام أرض الهجرة وأرض المحشر وأرض الأنبياء، فأكون رجلًا من أهلها. قال له: كيف أنت إذا أخرجوك من الشام؟ قال: إذن أرجع إليه فيكون هو بيتي ومنزلي. قال له: كيف أنت إذا أخرجوك منه الثانية؟ قال: إذن آخذ سيفي، فأقاتل عني حتى أموت. قال: فكشر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثبته بيده، قال: أدلك على خير من ذلك؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنقاد لهم حيث قادوك، وتنساق لهم حيث ساقوك، حتى تلقاني وأنت على ذلك)) .
قال ابن سعد (1) : أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: ((إذا بلغ البناء سلعًا فاخرج منها - ونحا بيده نحو الشام، ولا أرى أمراءك يدعونك - قال: يا رسول الله، أفلا أقاتل من يحول بيني وبين أمرك؟ قال: لا. قال: فما تأمرني؟ قال: اسمع وأطع ولو لعبد حبشي. قال: فلما كان ذلك، خرج إلى الشام فكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر قد أفسد الناس بالشام، فبعث إليه عثمان، فقدم عليه، ثم بعثوا أهله من بعده، فوجدوا كيسًا أو شيئًا، فظنوا أنها دراهم، فقالوا: ما شاء الله، فإذا هي فلوس، فلما قدم المدينة قال له عثمان: كن تغدو عليك وتروح اللقاح. قال: لا حاجة لي في دنياكم، ثم قال: ائذن لي حتى أخرج إلى الربذة. فأذن له، فخرج إلى الربذة، وقد أقيمت الصلاة وعليها عبد لعثمان حبشي، فتأخر، فقال أبو ذر: تقدم فصل، فإني أمرت أن أسمع وأطيع ولو لعبد حبشي، فأنت عبد حبشي ")) .
وقد التزم أبو ذر التزامًا دقيقًا بسلوك النهج الذي رسمه له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريم أيا كانت الأطوار التي توالت عليه حتى لقي الله، كما تصوره تصويرًا بديعًا الأحاديث التي رواها كل من أحمد وابن سعد والطيالسي وابن زنجويه والذهبي وندرجها على التوالي: قال أحمد في مسنده (2) : حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا عبد الله بن لهيعة، حدثنا أبو قبيل، قال: سمعت عبد الله بن مالك الزيادي يحدث، عن أبي ذر أنه جاء يستأذن على عثمان بن عفان - رضي
الله عنه - فأذن له وبيده عصاه، فقال عثمان رضي الله عنه: يا كعب، إن عبد الرحمن بن عوف ترك مالًا، فما ترى فيه؟ فقال: إن كان يصل فيه حق الله، فلا بأس عليه.
__________
(1) الطبقات. ج: 4. ص: 226 و227.
(2) ج: 1. ص: 63.(4/1172)
فرفع أبو ذر عصاه، فضرب كعبا، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهبًا أنفقه ويتقبل مني أذر خلفي منه ست أواق، أنشدك الله يا عثمان أسمعته؟ ثلاث مرات قال: نعم.
وقال ابن سعد (1) : أخبرنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا جعفر أبو البرقان، عن ثابت بن الحجاج، عن عبد الله بن سيدان السلمي، قال: تناجى أبو ذر وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما، ثم انصرف أبو ذر مبتسما، فقال له الناس: ما لك ولأمير المؤمنين؟ قال: سامع مطيع ولو أمرني أن آتي صنعاء أو عدن ثم استطعت أن أفعل لفعلت. وأمره عثمان أن يخرج إلى الربذة.
وأخبرنا عفان بن مسلم وعمرو بن عاصم الكيلابي، قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، قال: حدثنا عبد الله بن الصامت، قال: دخلت مع أبي ذر في رهط من غفار على عثمان بن عفان من الباب الذي لا يدخل عليه منه أحد، قال: وتخوفنا عثمان عليه، قال: فانتهى إليه، فسلم عليه، قال: ثم بدأه بشيء إلا قال: أحسبتني منهم يا أمير المؤمنين؟ والله ما أنا منهم ولا أدركتهم، لو أمرتني أن آخذ بعرقوتي قتب لأخذت بهما حتى أموت، قال: ثم استأذنه إلى الربذة، فقال: نعم، نأذن لك، ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة، فتصيب من رسلها، فقال: فنادى أبو ذر دونكم معاشر قريش دنياكم فاعدموها، لا حاجة لنا فيها، قال: فما نراه بشيء، قال: فانطلق وانطلقت معه حتى قدمنا الربذة، قال: فصادفنا مولى لعثمان غلاما حبشيًا يؤمهم، فنودي بالصلاة، فقال: فلما رأى أبا ذر نكص، فأومأ إليه أبو ذر تقدم فصل، فصلى خلفه أبو ذر.
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده (2)
حدثنا شعبة، قال: أخبرني أبو عمران، سمع عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: لما قدم أبو ذر على عثمان من الشام، قال: يا أمير المؤمنين، أتحسب أني من قوم - والله ما أنا منهم ولا أدركتهم - يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم إلى فوقه (3) سيماهم التحليق، والله لو أمرتني أن أقوم ما قعدت ما ملكتني رجلاي، ولو وثقتني بعرجون في قدمي ما حللته حتى تكون أنت الذي تحلني.
__________
(1) الطبقات. ج: 4. ص: 227 و232.
(2) مسند الطيالسي. ص:61. ح: 451.
(3) يعني بسهم الخوارج والحديث مشهور في الخوارج من طرق عدة، وليس مما يعنينا هنا تخريجه.(4/1173)
وقال ابن زنجويه (1) : "أخبرنا النضر بن شميل، أخبرنا شعبة، عن أبي عمران الجوني، قال: سمعت عبد الله بن الصامت قال: قدم أبو ذر على عثمان بن عفان من الشام، فقال: افتح الباب حتى يدخل الناس، أتحسبني من قوم، أحسبه قال: يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه هم شر الخلق والخليقة (2) ، والله لو أمرتني أن أقعد لما قمت أبدًا، ولو أمرتني أن أقوم لقمت ما ملكتني رجلاي، ولو ربطتني على البعير لم أطلق نفسي حتى تكون أنت الذي أطلقتني. قال: ثم استأذنه أن يأتي الربذة، فأتاها، فإذا عبد يؤمهم، فقالوا: أبو ذر أبو ذر. فنكص العبد، فقيل له: تقدم. فقال: إن خليلي أوصاني بثلاث: أن أسمع وأطيع ولو لعبد حبشي مجدع الأطراف، وإذا صنعت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل بيت من جيرتك فأصبهم منها بمعروف، وأن تصلي الصلاة لوقتها، فإن أدركت الإمام وقد صلى، كنت قد أحرزت صلاتك، وإن لا، فهي لك نافلة.
وقال الذهبي (3) : "حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، قال: دخلت مع أبي ذر على عثمان، فلما دخل حسر على رأسه، وقال: والله ما أنا منهم يا أمير المؤمنين - يريد الخوارج، قال ابن شوذب: سيماهم الحلق - قال له عثمان: صدقت يا أبا ذر، إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة، قال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي إلى الربذة، قال: نعم، ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة تغدو عليك وتروح. قال: لا حاجة لي في ذلك، يكفي أبا ذر صريمته (4) فلما خرج، قال: دونكم معاشر قريش، دنياكم فاعلموها (5) قال: ودخل عليه وهو يقسم وعبد الرحمن بن عوف بين يديه وعنده كعب، فأقبل عثمان على كعب، فقال: يا أبا إسحاق، ما تقول فيمن جمع هذا المال فكان يتصدق منه ويصل الرحم؟ قال كعب: إني لأرجو له، فغضب ورفع عليه العصا، وقال: ما تدري يابن اليهودية، ليودن صاحب هذا المال لو كان عقارب في الدنيا تلسع السوداء من قلبه.
__________
(1) الأموال. ج: 1. ص: 74 فقرة: 27.
(2) الخلق والخليقة بمعنى واحد، ولعل عطف إحدى الكلمتين على الأخرى إنما هو من الرواة.
(3) سير أعلام النبلاء. ج: 2. ص: من 67 إلى 70.
(4) صريمته: القطيع الصغير من الغنم.
(5) فاعلموها: خذوها - العلم - بسكون اللام العض والأكل بجفاء من باب ضرب.(4/1174)
السري بن يحيى، حدثنا غزوان أبو حاتم، قال: بينما أبو ذر عند باب عثمان ليؤذن له، إذ مر به رجل من قريش، فقال: يا أبا ذر، ما مجلسك ههنا؟ قال: يأبى هؤلاء أن يأذنوا لنا، فدخل الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين، ما بال أبي ذر على الباب، فأذن له، فجاء حتى جلس ناحية، وميراث عبد الرحمن يقسم، فقال عبد الرحمن لكعب: أرأيت المال إذا أدي زكاته، هل يخشى على صاحبه فيه تبعة؟
قال: لا. فقام أبو ذر فضربه بعصا بين أذنيه، ثم قال: يابن اليهودية، تزعم أن ليس عليه حق في ماله إذا آتى زكاته، والله يقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (1) ويقول: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} (2) ، فجعل يذكر نحو هذا من القرآن، فقال عثمان للقرشي: إنما نكره أن نأذن لأبي ذر من أجل ما ترى.
وروي عن ابن عباس قال: كان أبو ذر يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابية (3) فكان يحب الوحدة، فدخل على عثمان وعنده كعب. الحديث. وفيه: فشج كعبًا، فاستوهبه عثمان، فوهبه له، وقال: يا أبا ذر، اتق الله واكفف يدك ولسانك.
موسى بن عبيدة رمز له ابن حجر في (تهذيب التهذيب: ج: 10. ص: 256. ترجمة: 636) بأنه أخرج له الترمذي وابن ماجه، وقال في ترجمته: ابن النشيط بن عمرو بن الحارث الربذي أبو عبد العزيز المدني، روى عن أخويه عبد الله ومحمد وعبد الله بن دينار وإياس بن سلمة بن الأكوع، وذكر آخرين غيرهم، وعنه ابن أخيه بكار بن عبد الله والثوري وعبد الله بن المبارك والدراوردي ووكيع وآخرون، ذكر بعضًا منهم، ونقل عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد، كنا نتقي حديث موسى بن عبيدة تلك الأيام، ثم كان بمكة، فلم نأته. وقال يحيى: أحدث عن شريك أحسن إلي منه، وقال عمرو بن علي: ذكرت ليحيى حديث موسى عن عمر بن الحكم سمع سعدًا في الصلاة في مسجد المدينة، فأنكر يحيى بأن يكون عمر سمع سعدًا، ولم يرض موسى بن عبيدة، وقال الجوزجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحل الرواية عندي عنه، قلت - القائل الجوزجاني -: فإن شعبة روى عنه، فقال: لو بان شعبة ما بان لغيره ما روى عنه، وقال محمد بن إسحاق الصائغ عن أحمد: لا تحل الرواية عنه، وقال أحمد بن الحسن الترمذي عن أحمد: لا يكتب حديث أربعة: موسى بن عبيدة وإسحاق بن أبي قرة وجويبر وعبد الرحمن بن زياد. وقال البخاري: قال أحمد: ليس حديثه عندي بشيء، وحمل عليه. ثم ساق ابن حجر روايات أخرى، عن أحمد في موسى على هذه الشاكلة، لكن يروي بعد ذلك عن الدروي قوله: قلت لأحمد: ما تقول في ابن إسحاق ومولى بن عبيدة؟ فقال: أما ابن إسحاق فهو رجل يكتب عنه هذه الأحاديث، كأنه يعني المغازي. وأما موسى فلم يكن به بأس، ولكنه حدث بأحاديث منكرة، وأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قومًا هكذا، وضم عباس علي يديه، وقال أحمد، عن ابن معين: موسى بن عبيدة ليس بالكذوب، ولكنه روى عن عبد الله بن دينار أحاديث مناكير. وروي عن ابن معين تضعيفه وعن أبي زرعة ليس بقوي الأحاديث، وعن أبي حاتم منكر الحديث، وعن البخاري قوله: لم أخرج عن موسى بن عبيدة ولا أحدث عنه، وعن أبي داود أحاديثه مستوية إلا عن عبد الله بن دينار، وعن الترمذي يضعف، وعن النسائي ضعيف وليس بثقة، وعن ابن سعد كان ثقة كثير الحديث وليس بحجة، وعن يعقوب بن شيبة صدوق ضعيف الحديث جدا ومن الناس من لا يكتب حديثه لدهائه وضعفه وكثرة اختلاطه، وكان من أهل الصدق، وقال ابن عدي: الضعف على رواياته بين، وعن زيد بن الحباب: شممنا من قبره رائحة المسك لما مات، ولم يكن بالربذة مسك ولا عنبر. قال زيد: وكان بيته ليس فيه إلا الخصاف، وفي البيت رمل وحصى. توفي سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين ومائة.
وقال أبو بكر البزار: موسى بن عبيدة رجل مقيد وليس بالحافظ، وأحسب أن ما قصر به عن حفظ الحديث شغله بالعبادة، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم، وقال الساجي: منكر الحديث، وكان رجلًا صالحًا عندهم، وكان القطان لا يحدث عنه، وقد حدث عنه وكيع، وقال: ثقة، وقد حدث عن عبد الله بن دينار أحاديث لم يتابع عليها، قال: وقيل ليحيى بن معين: إن موسى يحدث عن الزهري أحاديث، قال: إنها مناولة، قيل: إنه يحدث عن أبي حازم عن أبي هريرة، ولم يسمع من أبي حازم هي من كتاب صار إليه، وضعفه ابن قانع وابن حبان. انتهى كلام الحافظ ملخصًا.
قلت: من تمحيص كلامهم هذا يتضح أنهم أخذوا عنه سوء الحفظ والاعتماد على الكتابة والتحديث عن مناولة أو كتاب، ولعله لم يكن يصرح بذلك، والرواية عن عبد الله بن دينار، ولكن أحدا - على ما نعلم - لم يغمزه في دينه ولا في عقيدته، اتبعناهم في منهجهم هذا، فضعفنا الحديث، ولو كانت له شواهد لضاع علينا علم كثير، ونحسب أن هذا المنهج هو الذي هيأ للقياسيين المناخ للترويج لأقيستهم والعدول عن السنة إلى الرأي، يغفر الله لنا ولهم.:
__________
(1) الآية رقم: (9) سورة الحشر.
(2) الآية رقم: (8) سورة الدهر.
(3) أي: يرجع بدويًا.(4/1175)
أخبرنا ابن نفيع (1) , عن ابن عباس قال: استأذن أبو ذر على عثمان فتغافلوا عنه ساعة، فقلت: يا أمير المؤمنين هذا أبو ذر بالباب، قال: ائذن له إن شئت أن تؤذينا وتبرح بنا، فأذنت له، فجلس على سرير مرمول (2) فرجف به السرير وكان عظيما طويلًا، فقال عثمان: أما إنك لزاعم أنك خير من أبي بكر وعمر. قال: ما قلت؟ قال: إني أنزع عليك بالبينة، قال: والله ما أدري ما بينتك وما تأتي به؟! وقد علمت ما قلت قال: فكيف إذا ما قلت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أحبكم إلي وأقربكم مني الذي يلحق بي على العهد الذي عهدته عليه)) وكلكم أصاب من الدنيا، وأنا على ما عهدته عليه، وعلى الله تمام النعمة، وسأله عن أشياء، فأخبره بالذي يعلمه، فأمر أن يرتحل إلى الشام فيلحق بمعاوية، فكان يحدث بالشام، فاستهوى قلوب الرجال، فكان معاوية ينكر بعض شأن رعيته، وكان يقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم، ولا تبر ولا فضة، إلا شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم، وأن معاوية بعث إليه بألف دينار في جنح الليل، فأنفقها، فلما صلى معاوية الصبح، دعا رسوله فقال: اذهب إلى أبي ذر، فقل له: أنقذ جسدي من عذاب معاوية، فإني أخطأت. قال: يا بني، قل له: يقول لك أبو ذر: والله ما أصبح عندنا منه دينار، ولكن أنظرنا ثلاثًا حتى نجمع لك دنانيرك، فلما رأى معاوية أن قوله صدق فعله، كتب إلى عثمان: أما بعد، فإن كان لك بالشام حاجة أو بأهله، فابعث إلى أبي ذر بأنه قد وغل صدور الناس، فكتب إليه عثمان: أقدم علي. فقدم.
عاصم بن كليب، عن أبي الجويرية، عن زيد بن خالد الجهني قال: كنت عند عثمان، إذ جاء أبو ذر، فلما رآه عثمان قال: مرحبا وأهلا بأخي، فقال أبو ذر: أهلا ومرحبًا بأخي، لقد أغلظت علينا في العزيمة، والله إن عزمت علي لحبوت ما استطعت، إني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو حائط بني فلان، فقال لي: ((ويحك بعدي. فبكيت، فقلت: يا رسول الله، وإني لباق بعدك؟ قال: نعم، فإذا رأيت البناء على سلع فالحق بالمغرب أرض قضاعة)) قال عثمان: أحببت أن أجعلك مع أصحابك وخفت عنك جهال الناس.
__________
(1) لعله ابن نويفع محمد بن الوليد فلا نعلم ناقلًا اسمه ابن نفيع وابن نويفع يروي عن كريب، عن ابن عباس، ففي الحديث انقطاع.
(2) أي منسوج بالسعف والحبال.(4/1176)
وكانت قناعة أبي ذر بأنه دقيق الالتزام بما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد تبلورت عنده، فأصبحت موقفًا سياسيا واجتماعيا ذا صبغة دينية، صمد عليه بقية حياته، ويتمثل هذا الموقف في التزامه بطاعة الأمير حتى وإن يكن مجرد إمام في الصلاة، فالإمارة عنده هي الاطلاع بمسؤولية جماعية أيا كانت هذه المسؤولية.
كما يتمثل في تكييف علاقاته ومعاملاته مع رفاقه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقيم ويحدد طبيعة علاقته بكل واحد منهم وتعامله معه بنوع العلاقة التي بين ذلك الواحد والقائمين على الحكم في ذلك العهد، ومع أنه كان يخاطب عثمان بأخيه كما مر آنفًا في حديث زيد بن خالد الجهني، ربما اعتبارًا لأن عثمان من المبشرين بالجنة، وأنه زوج اثنتين من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه خليفة بويع بيعة شرعية، فقد رفض أن يكون أخًا لأبي موسى الأشعري لمجرد أنه قبل ولاية لعثمان.
فقد روى ابن سعد (1) : "أخبرنا عبد الله بن عمرو أبو معمر المنقري، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن الحسين المعلم، عن أبي بريدة قال: لما قدم أبو موسى الأشعري لقي أبا ذر، فجعل أبو موسى يلزمه، وكان الأشعري خفيف اللحم قصيرًا، وكان أبو ذر رجلًا أسود كث الشعر، فجعل الأشعري يلزمه، ويقول أبو ذر: إليك عني، ويقول الأشعري: مرحبا بأخي، ويدفعه أبو ذر، ويقول: لست بأخيك، إنما كنت أخاك قبل أن تستعمل، قال: ثم لقي أبا هريرة، فالتزمه وقال: مرحبا بأخي، فقال أبو ذر: إليك عني، هل كنت عملت لهؤلاء؟ قال: نعم. قال: هل تطاولت في البناء أو اتخذت زرعًا أو ماشية قال: لا. أنت أخي، أنت أخي.
على حين أخذ على أبي الدرداء أنه بنى بيتًا، إذ رأى في مجرد بناء بيت إقبالًا على الدنيا لا ينبغي لمثل أبي الدرداء.
قال الذهبي (2) : " قال ثابت البناني: بنى أبو الدرداء مسكنًا، فمر عليه أبو ذر، وقال: ما هذا، أتعمر دارًا أذن الله بخرابها؛ لأن تكون رأيتك تتمرغ في عذرة أحب إلي من أن أكون رأيتك فيما رأيتك فيه.
__________
(1) الطبقات: ج: 4. ص: 230.
(2) سير أعلام النبلاء. ج: 2. ص: 74.(4/1177)
وما من أحد يستطيع أن يغمز في شيء مما نقل من مواقف أبي ذر، ولم يكن أحد يستطيع ذلك في عهده، ما أكثر من كانوا يترصدونه ويرتقبون أن يجدوا له مغمزًا، لولا أنه في عاصم من كل متربص ومرتقب بما شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدق الذي ليس بعده صدق شهادات تناقلها الصحابة ونقلها عنه معاصروه ثم من جاؤوا بعده من النقلة يثبتها إثباتًا لا سبيل إلى الغمز فيه، وإن تقول بعض النقدة في بعض الأسانيد لما يشهد لها من أسانيد أخرى لا سبيل إلى تجريحها ما وراه كل من أحمد وابن سعد وابن حبان والترمذي وابن ماجه والحاكم والذهبي.
قال أحمد (1) : " حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، حدثنا شهر بن حوشب، حدثنا عبد الرحمن بن غنم، أنه زار أبا الدرداء بحمص، فمكث عنده ليالي، فأمر بحماره فأوكف، فقال أبو الدرداء: لا أراني إلا متعبك، فأمر بحماره فاسرج، فسارا على حماريهما، فلقيا رجلا شهد الجمعة بالأمس عند معاوية بالجابية، فعرفهما الرجل ولم يعرفاه، فأخبرهما خبر الناس، ثم إن الرجل قال: وخبر آخر كرهت أن أخبركماه أراكما تكرهانه، فقال أبو الدرداء: فلعل أبا ذر نفي. قال: نعم والله. فاسترجع أبو الدرداء وصاحبه قريبًا من عشر مرات، ثم قال أبو الدرداء {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} (2) - كما قيل لأصحاب الناقة - اللهم إن كذبوا أبا ذر فإني لا أكذبه، اللهم إن اتهموه فإني لا أتهمه، اللهم إن استغشوه فإني لا استغشه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتمنه حين لا يأتمن أحدًا، ويسر إليه حين لا يسر لأحد، أما والذي نفس أبي الدرداء بيده، لو أن أبا ذر قطع يميني ما أبغضته بعد الذي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أظلت
الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) .
وقال ابن سعد (3) : "أخبرنا عبد الله بن نمير، قال: أخبرنا الأعمش، عن عثمان بن نمير، عن أبي حرب بن الأسود الدؤلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر)) .
__________
(1) الفتح الرباني ج: 22. ص: 373.
(2) الآية رقم: (27) من سورة القمر.
(3) الطبقات. ج: 4. ص: 228 و229.(4/1178)
أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا أبو أمية بن يعلى، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذر)) أخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا سلام بن مسكين، قال: حدثنا مالك بن دينار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها؟ فقال أبو ذر: أنا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت. ثم قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، من سره أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر)) .
أخبرني سليمان بن حرب والحسن بن موسى، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) .
أخبرنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، قال: حدثنا أبو حرة، عن محمد بن سيرين قال: قال رسول الله: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) .
أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، قال: سمعت عراك بن مالك يقول: قال أبو ذر: إني أقربكم مجلسًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وذلك أني سمعته يقول صلى الله عليه وسلم: ((أقربكم مجلسًا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيأة ما تركته فيها، وإنه والله ما منكم من أحد إلا وقد تشبث منها بشيء غيري)) .
وقال ابن حبان (1) : "أخبرنا الحسين بن أحمد بن بسطام بالأبلة، حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري، حدثنا النضر بن محمد اليمامي، حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق منك يا أبا ذر)) .
__________
(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 9. ص: 132و135. ح: 7088و7091(4/1179)
وأخبرنا محمد بن نصر بن نوفل بمرو، حدثنا أبو داود السنجي سليمان بن معبد، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا أبو زميل عن مالك بن مرثد قال: قال أبو ذر: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تقل الغبراء ولا تظل الخضراء على ذي لهجة أصدق وأوفى من أبي ذر شبيه عيسى ابن مريم. على نبينا وعليه السلام، قال: فقام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا نبي الله أفتعرف ذلك له؟ قال: نعم، فاعرفوه له)) .
وقال الترمذي (1) : "حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن عثمان بن نمير - هو أبو اليقظان - عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر)) .
قال: وفي الباب عن أبي الدرداء وأبي ذر.
قال: وهذا حديث حسن.
وحدثنا العباس العنبري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة عن عمار، حدثنا أبو زميل - هو سماك بن الوليد الحنفي - عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبه عيسى ابن مريم عليه السلام، فقال عمر بن الخطاب كالحاسد: يا رسول الله، أفتعرف ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه له)) .
قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وقد روى بعضهم هذا الحديث، فقال: ((أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى ابن مريم عليه السلام)) .
وقال ابن ماجه (2) :
__________
(1) الجامع الصحيح. ج: 5. ص: 669. ح: 3801و3802.
(2) السنن. ج: 1. ص: 55. ح:156.(4/1180)
"حدثنا علي بن محمد، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا الأعمش، عن عثمان بن نمير، عن أبي حرب بن الأسود الدؤلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر)) .
وقال الحاكم (1) : أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم المزني، حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا أبو زميل، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تقل الغبراء ولا تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبيه عيسى ابن مريم، فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، فتعرف ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه له)) هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وقد روي عن عبد الله بن عمرو وأبي الدرداء. أما حديث عبد الله بن عمرو فحدثناه أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا أبو يحيى الحماني، عن الأعمش، وأخبرني أبو بكر بن محمد الصيرفي، حدثنا أبو قلابة، حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن سليمان الأعمش، عن عثمان بن قيس البجلي، عن أبي حرب الدؤلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على رجل أصدق لهجة من أبي ذر)) .
وأما حديث أبي الدرداء فحدثناه الشيخ أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) . وقال الذهبي (2) : "الأعمش عن عثمان بن عمير، عن أبي حرب، عن أبي الأسود، سمعت عبد الله بن عمرو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر)) .
سلام بن مسكين، أخبرنا مالك بن دينار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليه؟ قال أبو ذر: أنا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، ومن سره أن ينظر إلى زهد عيسى فلينظر إلى أبي ذر)) .
__________
(1) المستدرك. ج: 3. ص: 302.
(2) سير أعلام النبلاء. ج: 2. ص: 59.(4/1181)
ولم يكن أبو ذر مجرد سامع ينقل ما سمع، فيقال فيه: إنه قد لا يكون واعيًا بما ينقل أو فقيهًا لما قال أو بصيرًا بما سمع، وإنما كان عالمًا جليلًا أفتى في عهد أبي بكر وعمر وأصر على الفتيا في عهد عثمان وإن منعه عثمان أو بعض ولاته أو تقول على عثمان بعض أنصاره بمنعه، وذلك ما تشهد به الآثار التي رواها كل من ابن سعد والذهبي مما ندرجه فيما يلي:
قال ابن سعد (1) : "أخبرنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو حرب بن الأسود، عن أبي الأسود، قال ابن جريج: ورجل من زاذان قالا: سئل علي عن أبي ذر وقال: وعى علما عجز فيه، وكان شحيحًا حريصًا، شحيحًا على دينه، حريصًا على العلم، وكان يكثر السؤال فيعطي ويمنع، أما إنه قد ملئ له في وعائه حتى امتلأ. فلم يدروا ما يريد بقوله: (وعى علما عجز فيه) . أعجز عن كشف ما عنده من العلم، أم عن طلب ما طلب من العلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الذهبي (2) :
" البابلي، أخبرنا الأوزاعي، حدثني مرثد أبو كثير، عن أبيه، عن أبي ذر، أن رجلًا أتاه، فقال: إن مصدقي عثمان رضي الله عنه ازدادوا علينا أنغيب عليهم بقدر ما ازدادوا علينا؟ فقال: لا، وقف مالك، وقل: ما كان لكم من حق فخذوه، وما كان باطلًا فردوه، فما تعدوا عليك جعل في ميزانك يوم القيامة. قال: وعلى رأسي فتى من قريش، فقال: أما نهاك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ قال: أرقيب أنت علي، فوالذي نفسي بيده لو وضعتم الصمصامة في هذه - وأشار إلى قفاه، ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها.
الأوزاعي، حدثني أبو كثير، عن أبيه قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل، فوقف عليه، فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه، فقال: أرقيب أنت علي، لو وضعتم
الصمصامة على هذه - وأشار بيده إلى قفاه - ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها.
__________
(1) الطبقات. ج: 4. ص: 232.
(2) تذكرة الحفاظ ج: 1. ص: 18. وسير أعلام النبلاء. ج: 4. ص: 64.(4/1182)
عن ثعلبة بن الحكم، عن علي قال: لم يبق أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر ولا نفسي ثم ضرب بيده على صدره.
وهذه المياسم التي لفتنا إليها باعتبارها العناصر المكونة لقصة أبي ذر موقفه، يكملها ما رواه ابن سعد (1) فقال: "أخبرنا مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي، قال: حدثنا مسعود بن سعد الجعفي، عن الحسن بن عبيد الله، عن رياح بن الحارث، عن ثعلبة بن الحكم، عن علي قال: لم يبق أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر ولا نفسي، ثم ضرب بيده إلى صدره.
وما من شك في أن صلابة أبي ذر وصراحته وشدة التزامه بكل ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فهمه من كتاب الله عز وجل وبالنضال المستميت في سبيل صيانة التراث النبوي العملي والتشريعي من التحريف والانحراف يكون الركن الركين الذي يعصم تفسيره لآية "الكنز " وفهمه لما في المال حق سوى الزكاة من كل محاولة لتوهيمه أو اعتبار موقفه متطرفًا على حد التعبير الحديث، فليس في شريعة الله تطرف واعتدال، إنما هو الالتزام أو الانحراف، وقد تجيئ الرخصة، ولكن الظروف الخاصة هي التي تسوغها وتحيط بها، فإذا انتفت الظروف ارتفعت الرخصة وأبو ذر لم يكن يجهل ذلك، بدليل أنه لم يجهر بقوله ولم يبرز بنضاله طيلة أيام عمر وعلي، بل وحتى من أيام أبي بكر، وكانت الأموال قد أخذت تستكثر في أيدي المسلمين، ذلك بأن المسلمين يومئذ كانت الدنيا تقبل عليهم، وكانوا يتقبلونها، ولكن مقبلين على الآخرة يتعاملون بها ومعها في نطاق شرع الله وخلق القرآن، فلما صار الأمر إلى بني أمية وشيعتهم، استغلوا ضعف عثمان وإسماحه - رحمه الله - فجردوا العمل السياسي من الالتزام الديني، ونتج عن ذلك انحراف عامة الناس وأكثرهم من مسلمة الفتوح الذين لم يعايشوا أنوار النبوة عن الخلق الإسلامي الذي هو النبع الأصيل لمناط التشريع انحرافًا أخذ في بادئ أمره يعمد إلى التأويل يعتمده، وما أكثر ما كان التأويل تحريفًا للمعنى أو للمناط، ثم تطور أمره حتى أصبح نمطًا من عدم الاكتراث بالنص، قد يتقنع بأنماط من الترخيص، لا سيما حين أخذ يعم التقليد، ويفشو الوضع ويضؤل الاعتصام بالنص الثابت والأثر الصحيح والفهم الصريح، وتلك ظاهرة تصحب دائما طول الأمد بعهد النبوة ثم من بعده بعهود اليقظة والانبعاث وصيحات التلبية والتحذير.
__________
(1) الطبقات. ج: 4. ص: 231 و232.(4/1183)
على أن التزام أبي ذر بما وعاه عن رسول الله صلى الله عليه وسل في تأثل المال واكتنازه وما ينجر عنه من تبعات كان سلوكًا قبل أن يكون دعوة، ومن أروع صوره ما رواه ابن سعد والذهبي.
قال ابن سعد (1) : "أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا سعيد بن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن أبي ذر، أنه رآه في نمرة مؤتزرًا بها قائما يصلي، فقلت: يا أبا ذر، أما لك ثوب غير هذه النمرة؟ قال: لو كان لي لرأيته علي. قلت: فقد رأيت عليك منذ أيام ثوبين. قال: يابن أخي أعطيتهما لمن هو أحوج مني. قلت: والله إنك لمحتاج إليهما. قال: اللهم غفرًا، إنك لمعظم للدنيا، أليس ترى علي هذه البردة ولي أخرى للمسجد ولي أعنز نحلبها، ولي أحمرة نحمل عليها ميرتنا، وعندنا من يخدمنا ويكفينا مهنة طعامنا، فأي نعمة أفضل مما نحن فيه؟
أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن عمار الذهبي، عن أبي شعبة قال: جاء رجل من قومنا أبا ذر يعرض عليه، فأبى أبو ذر أن يأخذ، وقال: لنا أحمرة نحتمل عليها، وأعنز نحلبها، ومحررة تخدمنا، وفضل عباءة من كسوتنا، وإني لأخاف أن أحاسب بالفضل.
أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا علي بن يزيد الأسلمي، قال: حدثني عيسى بن عميلة الفزاري، قال: أخبرني من رأى أبا ذر يحلب غنيمة له، فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه، وقد رأيته ليلة حلب حتى ما بقي في ضروع غنمه شيء إلا مصره وقرب إليهم تمرًا وهو يسير، ثم تعذر إليهم، وقال: لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به. قال: وما رأيته ذاق تلك الليلة شيئًا.
أخبرنا محمد بن عمر، عن موسى بن عبيدة، قال: حدثني عبد الله بن خراش الكعبي، قال: وجدت أبا ذر في مظلة شعر بالربذة تحته امرأة سحماء، فقلت: يا أبا ذر تتزوج سحماء؟ قال: أتزوج من تضعني، أحب إلي ممن ترفعني، ما زال لي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ما ترك لي الحق صديقًا.
__________
(1) الطبقات. ج: 4. ص: 235.(4/1184)
أخبرنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا همام بن يحيى، قال: حدثنا قتادة، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، أنه دخل على أبي ذر وهو بالربذة وعنده امرأة سوداء مشنفة، ليس عليها أثر المجاسد ولا الخلق. قال: فقال: ألا ترون ما تأمرني هذه السويداء؟ تأمرني أن آتي العراق، فإذا أتيت العراق مالوا علي بدنياهم، ألا وإن خليلي عهد إلي أن دون جسر جهنم طريقًا ذا دحض ومزلة، وإنا إن نأت عليه وفي أحمالنا اقتدار أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير.
أخبرنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا قرة بن خالد، حدثنا عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال: كسي أبو ذر بردين، فاتزر بأحدهما، وارتدى بشملة، وكسى أحدهما غلامه، ثم خرج على القوم، فقالوا: لو كنت لبستهما جميعًا كان أجمل. قال: أجل، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تكسون.
وقال الذهبي (1) : "وعن أم طلق قالت: دخلت على أبي ذر، فرأيته شاعثًا شاحبًا، بيده صوف، قد جعل عودين وهو يغزل بهما، فلم أر في بيته شيئًا، فناولته شيئًا من دقيق وسويق، فقال لي: أما ثوابك، فعلى الله.
وقد يقال: ما بال أبي ذر آثر النفي أو الاعتزال إلى الربذة عن الاستمرار في النضال من أجل دعوته ومواجهة ما قد يجره عليه نضاله من متاعب أو من تضحيات إن كان ملتزمًا فواثقًا بما يدعو إليه ويرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أوكد خصائص الالتزام والوثوق الاستهانة بالمتاعب والتضحيات في سبيل ما كان به الالتزام والوثوق.
والجواب عن هذا من أبي ذر نفسه، فقد تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا لم يكن ليتجاوزه، ليس بأدنى وجوبا أو تأكدًا من الأمر الذي التزم به ووثق فيما يتصل بالمال، وهو يتصل هذه المرة بالسياسة أو بعلاقة الرعية بالراعي والمسلمين بمن يؤمر عليهم، فقد كان أبو ذر ينزع إلى أن يستل سيفه ويقاتل به كل من يقف في وجهه إلى أن ينتصر أو يستشهد، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بغير ذلك حين أفضى إليه بنزعته تلك، ولنستمع إليه فيما روى عنه كل من أحمد وابن سعد وابن ماجه.
__________
(1) سير أعلام النبلاء. ج: 2. ص: 74.(4/1185)
قال أحمد في مسنده (1) : (حدثنا محمد بن جعفر وحجاج، قالا: حدثنا شعبة، عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: ((أوصاني خليلي عليه السلام بثلاث: اسمع وأطع ولو لعبد مجدع الأطراف، وإذا صنعت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف، وصل الصلاة لوقتها، وإذا وجدت الإمام قد صلى فقد أحرزت صلاتك، وإلا فهي نافلة)) .
حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثنا قتادة، حدثنا أبو عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، قال: لما قدم أبو ذر على عثمان من الشام، فقال: ((أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: اسمع وأطع وإن كان عبدًا مجدع الأطراف، وإذا صنعت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرتك فأصبهم منها بمعروف، وصل الصلاة لوقتها، فإن وجدت الإمام قد صلى فقد أحرزت صلاتك، وإلا فهي نافلة)) .
وقال ابن سعد (2) : "أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، قال: حدثنا رجل من أصحاب الأجر، عن شيخين من بني ثعلبة - رجل وامرأته - قالا: نزلنا الربذة، فمر بنا شيخ أشعث أبيض الرأس واللحية، فقالوا: هذا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذناه أن نغسل رأسه، فأذن لنا، واستأنس بنا، فبينا نحن كذلك، إذ أتاه نفر من أهل العراق - حسبته قال: من أهل الكوفة - فقالوا: يا أبا ذر، فعزل بك هذا الرجل وفعل، فهل أنت ناصب لنا راية؟ فلنكمل برجال ما شئت. فقال: يا أهل الإسلام، لا تعرضوا علي ذاكم، ولا تذلوا السلطان، فإنه من أذل السلطان فلا توبة له، والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة أو أطول جبل لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي ولو سيرني ما بين الأفق إلى الأفق - أو قال: ما بين المشرق والمغرب - لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي، ولو ردني إلى منزلي لسمعت وأطعت وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي. ".
__________
(1) ج: 5. ص: 161 و171.
(2) الطبقات. ج: 4. ص: 227.(4/1186)
وقال ابن ماجه في سننه (1) :
"حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، أنه انتهى إلى الربذة وقد أقيمت الصلاة، فإذا عبد يؤمهم، فقيل: هذا أبو ذر، فذهب يتأخر، فقال أبو ذر: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدًا حبشيا مجدع الأطراف.
وقد روي عن أبي ذر ما قد يوهم أنه يتعارض مع تفسيره للكنز لما جاء فيه من لفظ " الزكاة" الذي قد ينصرف إلى الزكاة المفروضة، وقد يكون تبيانًا أو تأويلًا للروايات الأخرى الناهية عن الكنز والاستكثار عامة، وتلك التي وردت فيها كلمة "حق" بدلًا من كلمة "الزكاة ".
فقد روى كل من أحمد وابن زنجويه ومسلم والنسائي والبيهقي وجميعهم عن طريق المعرور بن سويد ما ننقله على التوالي:
قال أحمد (2) :
"حدثنا محمد بن عبيد وابن نمير المعني، قالا: حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل الكعبة، قال: هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون، فأخذني غم، وجعلت أتنفس، قال: قلت: هذا شر حدث في. قال: قلت: من هم، فداك أبي وأمي؟ قال: الأكثرون إلا من قال في عباد الله هكذا وهكذا، وقليل ما هم، ما من رجل يموت ويترك غنما أو إبلًا أو بقرًا لم يؤد زكاته، إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمن حتى تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها حتى يقضى بين الناس، ثم تعود أولاها على أخراها)) وقال ابن نمير: كلما نفذت أخراها عادت إليه أولاها.
__________
(1) ج: 2. ص: 955. ح: 2862.
(2) المسند. ج: 5. ص: 148و 149و 169.(4/1187)
حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني مقبلًا قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. فقلت: ما لي، لعلي أنزل في شيء، من هم فداك أبي وأمي؟ قال: الأكثرون أموالًا، إلا من قال هكذا، فحثا بين يديه وعن يمينه وعن شماله، قال: ثم قال: والذي نفسي بيده، لا بموت أحد منكم فيدع إبلًا وبقرًا وغنما لم يؤد زكاتها، إلا جاءته يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما نفدت أخراها عليه، أعيدت أولاها حتى يقضى بين الناس.
وقال ابن زنجويه (1) :
"أخبرنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل الكعبة، فلما رآني قد أقبلت، قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. مرتين، وقال: فأخذني غم، وجعلت أتنفس، وقلت: هذا شيء حدث في. قلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: الأكثرون، إلا من قال في عباد الله هكذا وهكذا - عن يمينه وعن يساره وعن خلفه - وقليل ما هم، ما من رجل يموت فيترك غنما أو إبلًا أو بقرًا لم يؤد زكاتها إلا جاءته يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمن حتى تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها حتى يقضى بين الناس، ثم تعود أولاها على أخراها)) .
وقال مسلم (2) :
"حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: ((أتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت، فقلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالًا إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا - من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله - وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس)) .
حدثني أبو كريب، حدثني محمد بن العلاء، حدثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن المعرور، عن أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة ... فذكر نحو حديث وكيع، غير أنه قال: والذي نفسي بيده، ما على الأرض رجل يموت فيدع إبلًا أو بقرًا أو غنما لن يؤدي زكاتها.
__________
(1) الأموال ج: 2. ص: 783.ح: 1355.
(2) على هامش شرح النووي. ج: 7. ص: 73 و74.(4/1188)
قال النسائي (1) :
" وأخبرنا هناد بن السري في حديثه، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: ((جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني مقبلًا قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. قلت: ما لي، لعلي أنزل في شيء. قلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: الأكثرون أموالًا، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا. حثا بين يديه وعن يمينه وعن شماله، ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يموت رجل فيدع أبلا أو بقرًا لم يؤد زكاتها، إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها، كلما نفدت أخراها أعيدت أولاها حتى يقضى بين الناس)) .
وقال البيهقي (2) :
أخبرنا أبو الحسين محمد بن الحسين بن الفضل القطان ببغداد، أنبأنا أبو عمرو عثمان بن أحمد السماك، حدثنا محمد بن عبيد الله بن يزيد المنادي، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، حدثنا الأعمش. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، حدثنا أحمد بن حازم بن أبي عزرة، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: ((انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة. قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت، فقلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: هم الأكثرون، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا - أربع مرات - وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها وتطؤه بأخفافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس)) . لفظ حديث وكيع رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أيى شيبة، وأخرجه البخاري من وجه آخر عن الأعمش.
ومثل هذا الذي روي عن أبي ذر مما يتراءى للنظرة الساذجة متناقضًا روي عن أبي هريرة، فقد جاء عنه الوعيد لمن لم يؤد حق الله في ماله والتنديد به، كما جاء عنه الوعيد لمن لم يؤد زكاة ماله والتنديد به، والكلمتان كلتاهما وردتا في أحاديث متشابهة الأسانيد متشابهة الألفاظ، والبعض منها لا يختلف الواحد عن الآخر إلا بورود كلمة (الزكاة) في أحدهم، وكلمة (الحق) أو (حق الله) في الآخر تمامًا، كما رأينا فيما روي عن أبي ذر مما قد يبدو متناقضًا، وقبل أن نأخذ في تجلية الحقيقة التي تزيح وهم التناقض بين هذه الأحاديث، ندرج ما روي عن أبي هريرة.
__________
(1) السنن. ج: 5. ص:10.
(2) السنن ج: 4. ص: 97.(4/1189)
فالأحاديث التي ورد فيها ذكر الزكاة رواها كل من مالك وأحمد وأبي عبيد وابن زنجويه والبخاري والبيهقي وجميعها عن طريق أبي صالح السمان.
قال مالك (1) :
"عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة أنه كان يقول: من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطلبه حتى يمكنه، يقول له: أنا كنزك.
وتعقبه ابن عبد البر (2) :
هذا الحديث أيضًا موقوف في الموطأ غير مرفوع، وقد أسنده عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار أيضًا، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والإسناد الأول رواه عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عندي خطأ منه في الإسناد. والله أعلم.
وقال أحمد (3) : حدثنا حصن، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته، مثل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يأخذ بلهزمتيه يوم القيامة، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إلى آخر الآية)) .
حدثنا قتيبة، حدثنا بشر بن سعد، عن ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يكون كنز أحدهم يوم القيامة شجاعًا أقرع ذا زبيبتين، يتبع صاحبه وهو يتعوذ منه، ولا يزال يتبعه حتى يلقمه أصبعه)) .
__________
(1) الموطأ. ص:207.
(2) التمهيد. ج:17. ص:145.
(3) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 8. ص: 193 و200.(4/1190)
حدثنا عفان، حدثنا وهيب، عن خالد البصري، قال: حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته، إلا جيئ به يوم القيامة وبكنزه، فيحمى عليه صفائح في نار جهنم، فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها، إلا جيئ به يوم القيامة وبإبله كأوفر ما
كانت عليه، فيبطح لها بقاع قرقر، كلما مضى أخراها، رد عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وأما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها، إلا جيئ به
يوم القيامة كأوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار)) . الحديث.
وقال أبو عبيد (1) :
"وحدثنا سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير، قال: حدثني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته، إلا يؤتى به وبكنزه يوم القيامة أوفر ما كان، فيضرب صفائح، ثم يحمى عليها في نار جهنم، ثم يكوى بها جبينه وجنبه وظهره، كلما بردت صفيحة أحميت، حتى يقضي الله بين خلقه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله من الجنة أو من النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها، إلا يؤتى به وبإبله يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، ثم تستن عليه وتخبطه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما انقضى آخرها عطف عليه أولها، حتى يقضي الله تبارك وتعالى بين خلقه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله من الجنة أو النار)) . ثم ذكر في الغنم والبقر مثل ذلك.
وقال ابن زنجويه (2) :
__________
(1) الأموال. ص: 494. ح: 923.
(2) الأموال ج: 2. ص: 780 و781. ح: 1353.(4/1191)
" حدثني ابن أبي أويس، حدثني عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا أتي به وبماله، فأحمي عليه صفائح من نار جهنم، فيكوى بها جبينه، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون (1) ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، ولا عبد لا يؤدي صدقة إبله إلا أتي به يوم القيامة وبإبله على أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتستن عليه، كلما مضى عليه آخرها، رد عليه أولها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره ألف سنة، ولا عبد لا يؤدي صدقة غنمه إلا أتي به وبغنمه على أوفر ما كانت، فينبطح لها بقاع قرقر، فتستن عليه، كلما مر عليه آخرها رد عليه أولها، تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره مائة ألف سنة (2) مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى جنة، وإما إلى نار)) .
وقال البخاري في صحيحه (3) :
(حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالًا، فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزميه - يعني بشدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} )) .
وحدثنا عبد الله بن منير، سمع أبا النضر، حدثنا عبد الرحمن - هو ابن عبد الله بن دينار - عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من آتاه الله مالًا، فلم يؤد زكاته، مثل له ماله شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزميه - يعني بشدقيه - يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إلى آخر الآية)) .
وقال البيهقي (4) :
"أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأ أبو عبد الله محمد بن موسى الرازي ببخارى، أنبأ محمد بن أيوب، أنبأ علي بن المديني، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: من آتاه الله مالًا، فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعنى شدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية)) .
وتعقبه البيهقي بقوله:
رواه البخاري في الصحيح عن علي بن المديني، ورواه مالك عن عبد الله بن دينار موقوفًا.
__________
(1) لعل في العبارة خطأ، صوابه: خمسين ألف سنة كما ورد في الأسانيد الأخرى أو لعلها رواية اختص بها ابن زنجويه، وهذا الاحتمال بعيد، لكن يرجح هذا الاحتمال ورود جملة "مما تعدون" بعد جملة "ألف سنة"، والجملتان جزء من الآية: (4) سورة السجدة ونصه: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} ، ووردت جملة (خمسين ألف سنة) في سورة المعارج في قوله سبحانه وتعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كان مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} الآية: (4) .
(2) هذا يؤكد ما أثبتناه في التعليق السابق من أن في الرواية خطأ، وربما كان من الناسخ.
(3) ج: 2. ص: 110 و111. وج: 5. ص: 172.
(4) السنن. ج:4. ص:81.(4/1192)
أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا محمد بن يعقوب بن يوسف، حدثني أبي ويحيى بن منصور الهروي، قالا: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب الأموي، حدثنا عبد العزيز بن المختار، حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته، إلا أحمي عليه في نار جهنم، فجعل صفائح، فيكوى بها جنباه وجبينه، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها، إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت، تسير عليه، كلما مضى أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها، إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت، فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله على عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار. قال سهيل: فلا أدري أذكر البقر أم لا. قالوا: فالخيل يا رسول الله؟ قال: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. أو قال: الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة. قال سهيل: أنا أشك. الحديث)) .
أما تلك التي وردت فيها كلمة "حق"، بدلًا من كلمة " الزكاة"، فقد رواها كل من أحمد وابن زنجويه والبخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي من طرق مختلفة، اثنتان عن السمان، وواحدة عن عطاء، وأخرى عن الأعرج، وأخرى عن زيد بن أسلم، وأخرى عن العلاء بن عبد الرحمن، وأربعة عن أبي عمرو (أو أبي عمر) الغداني، وأخرى عن كل من شعيب العقيلي ويحيى بن أبي كثير، وهي على التوالي:
قال أحمد (1) :
__________
(1) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 8. ص: 196.(4/1193)
"حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي عمر الغداني، قال: كنت عند أبي هريرة جالسًا، فمر رجل من بني عامر بن صعصعة، فقيل له: هذا أكثر عامري مالًا، فقال أبو هريرة: ردوه إلي. فردوه عليه، فقال: نبئت أنك ذو مال كثير. قال العامري: إي والله، إن لي مائة حمرًا ومائة أدمًا. حتى عد من ألوان الإبل وأفنان الرقيق ورباط الخيل. فقال أبو هريرة: إياك وأخفاف الإبل وأظلاف النعم. يردد ذلك عليه، حتى جعل لون العامري يتغير أو يتلون، فقال: ما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كانت له إبل لا يعطي حقها - فذكر مثل الحديث المتقدم - ثم قال: واذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكبره وأسمنه وأشره، ثم يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه فيه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، إذا جاوزته أخراها، أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس حتى يرى سبيله، وإذا كان له غنم - فذكر نحو الحديث المتقدم - ثم قال: قال العامري: وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال: أن تعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتسقي اللبن، وتطرق الفحل.
ثم أسند حديث أبي هريرة هذا بلفظ مختلف، فقال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا أبو داود، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه، إلا جعله الله يوم القيامة يحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره، حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي حقها، إلا جاءت يوم القيامة أوفى ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مضت أخراها، ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه بأخفافها، كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار)) .
وقال ابن زنجوبه (1) :
أخبرنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها، إلا جعلت له يوم القيامة صفائح، ثم أحمي عليها في نار جهنم، ثم كوي بها جبهته وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها، ومن حقها حلبها يوم ورودها، إلا أتي به يوم القيامة لا يفقد منها فصيلًا واحدًا، ثم بطح لها بقاع قرقر، ووطأته بأخفافها، وعضته بأفواهها، كلما مر عليه آخرها كر عليه أولها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة، ثم بطح لها بقاع قرقر، ليس فيها عضباء ولا عقصاء ولا جلحاء، تطؤه بأظلفها، وتنطحه بقرونها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، كلما مر عليه أولها كر عليه آخرها حتى يقضي الله بين الناس، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار)) .
__________
(1) الأموال. ج: 2. ص: 788.(4/1194)
وقال البخاري في صحيحه (1) :
"حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه، أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يعط فيها حقها، تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها، تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، قال: ومن حقها أن تحلب على الماء، قال: ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلغت، ولا يأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلغت)) .
وقال أبو داود (2) :
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعله الله يوم القيامة يحمى عليه في نار جهنم، فيكوى بها جبهته وجبينه وظهره، حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، إما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها في قرقر، فتنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها، إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، تطؤه بأخفافها، كلما مضت عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله تعالى بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار)) .
وحدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. قال في قصة الإبل بعد قوله: لا يؤدي حقها، قال: ومن حقها حلبها يوم ورودها.
حدثنا الحسن بن علي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أبي عمر الغداني، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذه القصة، فقال له - يعني لأبي هريرة -: فما حق الإبل؟ قال: تعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتطرق الفحل، وتسقي اللبن.
__________
(1) ج:2. ص:110.
(2) السنن. ج: 2. ص: 124 و125. ح: 1658 إلى 1660.(4/1195)
وقال النسائي (1) :
"أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، قال: حدثنا قتادة، عن أبي عمرو الغداني، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أيما رجل كانت له إبل، لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، قالوا: يا رسول الله، ما نجدتها ورسلها؟ قال: في عسرها ويسرها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وأشره، يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه بأخفافها، إذا جاءت أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله، وأيما رجل كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة أغذ ما كانت وأسمنه وأشره، يبطح لها بقاع قرقر، فتنطحه كل ذات قرن بقرنها، وتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله، وأيما رجل كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وأشره، ثم يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله)) .
قال ابن ماجه (2) : حدثنا أبو مروان محمد بن عثمان العثماني، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تأتي الإبل التي لم تعط الحق منها، فتطأ صاحبها بأخفافها، وتأتي البقر والغنم تطأ صاحبها بأظلافها وتنطحه بقرونها، ويأتي الكنز شجاعًا أقرع، فيلقى صاحبه يوم القيامة، فيفر منه صاحبه مرتين، ثم يستقبله، فيفر، فيقول: ما لي ولك. فيقول: أنا كنزك، أنا كنزك، فيتقيه بيده، فيلقمها)) .
__________
(1) السنن. ج: 5. ص:12.
(2) السنن. ج:1. ص: 569. ح: 1786.(4/1196)
وقال الحاكم (1) :
"حدثنا علي بن حماد العدل، حدثنا أبو المثنى العنبري، حدثنا علي بن عبد الله المديني، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، حدثني عامر بن شعيب العقيلي (2) ، أن أباه أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة: فالشهيد، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده، وعفيف متعفف ذو عيال، وأما أول ثلاثة يدخلون النار: فأمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله في ماله، وفقير فجور)) .
وتعقبه بقوله: عامر بن شعيب العقيلي شيخ من أهل المدينة مستقيم الحديث، وهذا أصل في هذا الباب، تفرد به يحيى بن أبي كثير، ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي في التلخيص.
وقال البيهقي (3) :
"أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، أنبأ عبد الله بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عامر العقيلي، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار؛ فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة: فالشهيد، وعبد أدى حق الله ونصح لسيده، وفقير متعفف ذو عيال. وأما أول ثلاثة يدخلون النار: فسلطان متسلط، وذو ثروة من المال لم يعط حق ماله، وفقير فجور)) .
ويشهد لكلمة "حق" فيما روي عن كل من أبي ذر وأبي هريرة ما رواه كل من أحمد وأبي عبيد والدارمي عن جابر من طريق كل من أبي الزبير وطاوس.
__________
(1) المستدرك ج: 1. ص: 387.
(2) قال الذهبي في (الميزان. ج: 2. ص: 359) : عامر بن شعيب، عن سفيان بن عيينة، قال أبو عبد الله الحاكم: له موضوعات.
(3) السنن. ج: 4. ص: 82.(4/1197)
قال أحمد (1) :
"حدثنا محمد بن بكر وعبد الرزاق، قالا: حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها - ثم ذكر نحو حديث أبي هريرة في الابل والبقر والغنم - ثم قال: ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع يتبعه، فاغرًا فاه، فإذا رآه فر منه، فيناديه ربه: خذ كنزك الذي خبأته، فأنا عنه أغنى منك، فإذا رأى أنه لا بد له منه، سلك يده في فيه فقضمها قضم الفحل))
قال أبو الزبير: وسمعت عبيد بن عمير، قال: يارسول الله. قال عبد الرزاق في حديثه: قال رجل: يا رسول الله ما حق الإبل؟ قال: حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها ومنيحتها، وحمل عليها في سبيل الله. قال عبد الرزاق فيها كلها: وقعد لها. وقال عبد الرزاق فيه: قال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول هذا القول. ثم سأل جابر الأنصاري عن ذلك، فقال مثل قول عبيد بن عمير.
وقال أبو عبيد (2) :
"حدثنا الحجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها، إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت قط، وقعد لها بقاع قرقر، تستن عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها، ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقها، إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، ليس فيها جماء ولا منكسر جناحها، ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه، إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع، يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فر منه، فيناديه ربه: خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه أغنى منك، فإذا رأى أنه لا بد منه، سلك يده في فيه، فيقضمه قضم الفحل)) .
وحدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه ذكر هذا الحديث أو نحوه، قال: فقيل له: ما حقها؟ قال: فذكر أربعًا، قال ابن طاوس: لا أعرف بأيهن بدأ، قال: تحلب على العطن، وتحمل على راحلتها، وتنحر سمينها، وتمنح
لقوحها.
وحدثنا عمر بن طارق، عن عبد الله بن لهيعة، عن خالد بن يزيد قال: سئل عطاء بن أبي رباح عن مثل ذلك، فحدث عن أبي هريرة أنه قال: نعم المال ثلاثون، تمنح منيحتها، وتنحر سمينها، ويحمل على نجيبتها.
وقال الدارمي (3) : "أخبرنا سهل بن عبيد، حدثنا عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها، إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات ظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن، قالوا: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحتها وحلبها على الماء، ويحمل عليها في سبيل الله.))
__________
(1) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 8. ص: 198.
(2) الأموال. ص: 493. ص: 922.
(3) السنن. ج: 1. ص: 379 و380.(4/1198)
حدثنا بشر بن الحكم، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها، إلا جاء يوم القيامة أكثر ما كانت قط، وأقعد لها بقاع قرقر، استنوا عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها، إلا جاء يوم القيامة أكثر ما كانت، وأقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها، وتطؤه بقوائمها، ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقها، إلا جاء يوم القيامة أكثر ما كانت، أقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، ليس فيه جماء ولا مكسور قرنها، ولا صاحب كنز ولا يفعل فيه حقه، إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع، يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فر منه، فيناديه: خذ كنزك الذي خبأته. قال: فأنا عنه غني، فإذا رأى أنه لا بد منه، سلك يده في فمه، فيقضمها قضم الفحل)) .
قال: وقال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول هذا القول، ثم سألنا جابر بن عبد الله فقال مثل قول عبيد بن عمير، قال: قال رجل: يا رسول الله، ما حق الإبل؟ قال: حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها
ومنحتها، وحمل عليها في سبيل الله.
وكذلك اختلفت روايتهم عن ابن مسعود.
فروي النسائي (1) :
"أخبرنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا ابن عيينة، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من رجل له مال، لا يؤدي حق ماله إلا جعل له طوقا في عنقه شجاع أقرع، وهو يفر منه، وهو يتبعه، ثم قرأ مصداقه من كتاب الله عز وجل {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ))
وقال ابن ماجه (2) : حدثنا محمد بن أبي عمر المدني، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن أعين وجامع بن أبي راشد، سمعنا شقيق بن سلمة يخبر، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله، إلا مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع حتى يطوق عنقه، ثم يقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله تعالى {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية ")) .
__________
(1) السنن. ج: 5. ص: 11.
(2) ج: 1. ص: 568 و569. ح: 1784(4/1199)
وقال البيهقي (1) : "أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن وأبو زكريا بن أبي إسحاق وغيرهما، قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أنبأ سفيان بن عيينة، سمع جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين، سمعا أبا وائل يخبر، عن عبد الله بن مسعود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله، إلا مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، يفر منه، وهو يتبعه حتى يطوقه في عنقه، ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} )) (2) .
كما يشهد لروايات (حق) بدلًا من (زكاة) - ولكن بالدلالة لا باللفظ - ما رواه كل من أحمد، عن بهز بن حكيم، وأبي عبيد، عن عطاء وأبي داود، عن واسع بن حبان، وعن عبيد بن عمير.
قال أحمد (3) :
"حدثنا يزيد، أخبرنا بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يأتي رجل مولاه، فيسأله من فضل هو عنده فيمنعه، إلا دعي له يوم القيامة شجاعًا يتلمظ فضله الذي منعه)) .
وفي رواية: ((ما من مولى يأتي مولى له، فيسأله من فضل عنده فيمنعه، إلا جعله الله تعالى عليه شجاعًا ينهسه قبل القضاء)) .
وقال أبو عبيد (4) :
"حدثنا عمرو بن طارق، عن عبد الله بن لهيعة، عن خالد بن يزيد، قال: سئل عطاء بن أبي رباح عن مثل ذلك - أي: عن حق الله في الإبل - فحدث عن أبي هريرة أنه قال: نعم المال الثلاثون، تمنح منيحتها، وتنحر سمينتها، ويحمل على نجيبتها".
وقال أبو داود (5) :
"حدثنا يحيى بن خلف، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: قال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير قال: قال رجل: يارسول الله، ما حق الابل؟ فذكر نحوه - أي: نحو ما ورد في حديث تقدم لأبي داود من طريق أبي صالح السمان - زاد: وإعارة دلوها.
__________
(1) السنن. ج:4. ص: 81.
(2) الآية رقم: (180) سورة آل عمران.
(3) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 8. ص: 201.
(4) الأموال. ص: 495.
(5) السنن. ج: 2. ص: 125. ح: 1661و 1662 و1663.(4/1200)
وحدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني، حدثني محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جاد عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين.
وحدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي وموسى بن إسماعيل، قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: ((بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، إذ جاء رجل على ناقة له، فجعل يصرفها يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد، فليعد به على من لا زاد له. حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في الفضل)) .
قلت: من الصعب المراجحة بشكل يطمئن إليه القلب بين أسانيد هذه الأحاديث المختلفة، فحديث المعرور بن سويد أخرجه كل من مسلم وابن زنجويه وأحمد والنسائي والبيهقي عن طريق الأعمش عن أبي الزبير، وفيه كلمة (زكاة) بدل كلمة (حق) . ونظرا لتعدد الأسانيد، فلا نجد مدعاة لاعتباره ما تكلم به في بعض من الرواة عن الأعمش أو من بعدهم، كذلك حديث أبي هريرة الذي وردت فيه كلمة (زكاة) بدلًا من كلمة (حق) ، رواه مالك، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح السمان موقوفا، ووصله ابن عبد البر، كما وصله أحمد عن طريق عبد الرحمن ابنه، وفيه بعض الكلام قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 6. ص: 206 وما بعدها ترجمة: 419) بعد أن ترجم له وذكر بعضًا ممن روى عنهم وممن رووا عنه، قال الدوري عن ابن معين: في حديثه عندي ضعف، وقد حدث عنه يحيى القطان، وحسبه أن يحدث عنه يحيى، وقال عمرو بن علي: لم أسمع عبد الرحمن يحدث عنه بشيء قط، وقال أبو حاتم: فيه لين، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال ابن عدي: وبعض ما يرويه منك لا يتابع عليه، وهو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء. ثم قال ابن حجر: وقال السلامي عن الدارقطني: خالف فيه البخاري الناس، وليس بمتروك. وقال الحاكم عن الدار قطنى: إنما حدث بأحاديث يسيرة. وقال أبو القاسم البغوي: هو صالح الحديث. وقال الحربى: غيره أوثق منه. وقال ابن خلفون: سئل عنه ابن المديني، فقال: صدوق. قلت: لكن رغم ذلك رمز له ابن حجر بأنه روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي، وطبعًا نقل ذلك ابن حجر عن أستاذه المزي، فإن يكن هؤلاء يروون جميعًا عن الضعفاء فإلى من نسند التوثيق؟!(4/1201)
ورواه كل من أحمد وأبي عبيد وابن زنجويه والبيهقي عن أبي صالح من طريق ابنه سهيل، وفيه كلام قال ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 4. ص: 263. ترجمة: 453) ورمز بأنه روى عنه الجماعة: سهيل بن أبي صالح، واسمه ذكوان السمان أبو يزيد المدني، روى عن أبيه وسعيد بن المسيب والحارث بن مخلد الأنصاري وأبي الحباب وسعيد بن يسار وعبد الله بن دينار وعطاء بن يزيد الليثي والنعمان بن عياش والأعمش وربيعة وآخرين ذكرهم عنه، وربيعة والأعمش ويحيى بن سعيد الأنصاري ومالك وشعبة والفزاري وابن جريج والسفيانين وجماعة ذكر منهم طائفة.
ثم قال ابن عيينة: كنا نعد سهيلًا لينا في الحديث، وقال حرب عن أحمد: ما يصلح حديثه. وقال أبو طالب عن أحمد: قال يحيى بن سعيد ومحمد - يعنى ابن عمرو -: أحب إلينا، وما صنع شيئًا، سهيل أثبت عندهم. وقال الدوري عن ابن معين: سهيل ابن أبي صالح والعلاء بن عبد الرحمن حديثهما قريب من السواء، وليس حديثهما بحجة. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: سهيل أشبه وأشهر - يعني من العلاء - وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وهو أحب إلي من العلاء. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لسهيل نسخ، وقد روى عنه الأئمة وحدث عن أبيه وعن جماعة عن أبيه، وهذا يدل عل تمييزه كونه ميز ما سمع من أبيه وما سمع من غير أبيه، وهو عندي ثبت لا بأس به مقبول الأخبار، وروى له البخاري مقرونًا بغيره. قال ابن حجر: وعاب ذلك عليه النسائي، فقال السلمي: سألت الدارقطنى: لم ترك البخاري حديث سهيل في كتاب الصحيح؟ فقال: لا أعرف له فيه عذر، فقد كان النسائي إذا مر بحديث سهيل قال: سهيل والله خير من أبي اليمان ويحيى بن بكير وغيرهما، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ، مات في ولاية أبي جعفر، وكذا أرخه ابن سعد، وقال: كان سهيل ثقة كثير الحديث، وأرخه ابن قانع سنة ثمان وثلاثين - أي: بعد المائة - وذكر البخاري في تاريخه، قال: كان لسهيل أخ، فمات، فوجد عليه، فنسي كثيرًا من الحديث، وذكر ابن أبي خيثمة في حديثه عن يحيى قال: لم يزل أهل الحديث يتقون حديثه، وذكر العقيلي عن يحيى أنه قال: هو صويلح، وفيه لين. وقال الحاكم في باب من عيب على مسلم إخراج حديثه: سهيل أحد أركان الحديث، وقد أكثر مسلم الرواية عنه في الأصول والشواهد، إلا أن غالبها في الشواهد، وقد روى عنه مالك، وهو الحكم في شيوخ أهل المدينة الناقد لهم، ثم قيل في حديثه بالعراق: إنه نسي الكثير منه، وساء حفظه في آخر عمره، فذهب بعض حديثه. انتهى مع بعض التلخيص. .(4/1202)
أما حديث أبي هريرة الذي وردت فيه كلمة (زكاة) ، فقد رواه كل من أحمد وأبي داود عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه. على حين رواه كل من أحمد والنسائي عن طريق أبي عمر الغداني.
ورواه أبو داود أيضًا عن طريق زيد بن أسلم، عن أبي صالح. ورواه البخاري عن طريق الأعرج. ورواه ابن ماجه عن طريق العلاء بن عبد الرحمن قال ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 8. ص: 186. ترجمة: 335) ورمز بأنه روى عنه مسلم والأربعة: العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أبو شبل المدني مولى الحرقة - بضم المهملة وفتح الراء - من جهينة يروي عن أبيه وابن عمر وأنس وأبي السائب مولى بن هشام بن زهرة وآخرين، ذكر بعضًا منهم، وعنه ابن شبيل وابن جريج ومالك وشعبة والسفيانان وآخرون ذكر بعضًا منهم. ثم قال: قال أبو عبد الله، عن أحمد، عن أبيه: ثقة، لم أسمع أحدًا ذكره بسوء، وفضله عن سهيل وعن محمد بن عمرو، وقال الدوري عن ابن معين: وليس حديثه بحجة، وهو وسهيل قريب من السواء. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس بذاك، لم يزل الناس يتوقون حديثه، وقال أبو زرعة: ليس هو بالقوي، وقال أبو حاتم: صالح، روى عنه الثقات، ولكنه أنكر من حديثه أشياء. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: وللعلاء نسخ يرويها عنه الثقات، وما أرى به بأسًا. وذكره ابن حبان في الثقات، وتوفي في أول خلافة أبي جعفر، ونقل ابن حجر عن أبي داود قوله: سهيل أعلى عندنا من العلاء، أنكروا على العلاء صيام شعبان، يعنى حديث: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا. وقال عثمان الدارمي: سألت ابن معين عن العلاء وابنه كيف حديثهما؟ قال: ليس به بأس. قلت: هو أحب إليك أو سعيد المقبري؟ قال: سعيد أوثق، والعلاء ضعيف، يعني بالنسبة إليه. يعنى لما قال: أوثق. خشي أنه يظن أنه يشاركه في هذه الصفة، وقال: إنه ضعيف. وقال البخاري: قال علي: أراه مات سنة ثلاث وثلاثين، وقال ابن الأثير: مات سنة تسع وثلاثين، وقال الخليلي: مدني مختلف فيه؛ لأنه ينفرد بالحديث. وقال الترمذي: هو ثقة عند أهل الحديث. الرقي، ورواه الحاكم والبيهقي عن طريق عامر بن شعيب العقيلي، عن أبيه.(4/1203)
وروى حديث جابر، ووردت فيه كلمة (حق) بدلًا من كلمة (زكاة) كل من أحمد وأبي عبيد وابن عبد البر عن طريق أبي الزبير، ورواه أبو عبيد أيضًا عن ابن طاوس عنه، وعن عبد الملك بن سليمان عنه، كذلك رواه الدارمي عنه من طريق عبد الملك. وروى النسائي حديث ابن مسعود وفيه كلمة (حق) بدلًا من كلمة (زكاة) عن طريق أبي وائل، على حين رواه كل من ابن ماجه والبيهقي عن طريق وائل أيضًا
, ولكن جاءت فيه كلمة (زكاة) بدلًا من كلمة (حق) ، فالمعنى: هذا الاختلاف في رواياتهم، لاجتلاء ذلك نقرر أولًا حقيقة لا مناص من الانطلاق من تقريرها، وهي أن بعض هذه الروايات كانت بالمعنى، وبعضها باللفظ، ولا سبيل إلى الجزم أيها كانت باللفظ، إنما السبيل الوحيدة التي يمكن الاطمئنان إليها هي الجمع بين الروايتين باعتبار أننا لا نستطيع ترجيح الواحدة عن الأخرى، وإن يكن مجموع أسانيد الروايات بكلمة (حق) - لا سيما إذا أضيفت الروايات عن أبي ذر - ترجح تلك التي وردت فيها كلمة (زكاة) بدلًا من كلمة (حق) رجحانًا لا يمكن اعتماده علميًا لاعتبار أنها أصح، وأنها الأولى، بأن تكون الرواية اللفظية.
والجمع بينهما إنما يتأتى من التأكد من المعنى المقصود من كلمة (زكاة) عند من وردت في روايته، ويظهر أن أغلب من أثر عنهم تفسير قوله تعالى: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (1) وقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (2) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (3) اعتمدوا اعتبار كلمة " زكاة" مرادفة لكلمة " الزكاة، بـ (أل) التعريفية والتي استعملها الشارع للحق المعين زمانه ونصابه ومصادره والمطلق عليه. هذا اللفظ المعرف بأل والمقرون بالصلاة في معظم ما ورد ذكره في القرآن الكريم والذي هو الركن الثالث من أركان الاسلام الخمس. ولذلك جاء ما أثر عنهم من التأويل والتفسير والاستنباط متأرجحًا بين دعوى نسخ بعض هذه الآيات بآيات الزكاة، وبين القول بأنها جميعًا تؤكد آيات الزكاة وتنذر مانعي الزكاة بما أعد لهم يوم القيامة من نكال، وقل في المفسرين وشراح الحديث من فرق بين هذه الآيات وآيات الزكاة دون أن يعتبر هذه الآيات منسوخة بآيات الزكاة.
__________
(1) الآية رقم (177) سورة البقرة.
(2) الآية رقم (180) سورة آل عمران.
(3) الآية رقم (34) سورة التوبة.(4/1204)
ولم أقف على من فكر منهم في أن يفصل بين دلالة لفظ (زكاة) غير معرف بأل ودلالته معرفًا بها، على حين أن التفرقة بين الدلالتين هي مكمن السر والمناط، لذلك لم نجد مناصًا من العودة إلى أصل كلمة (زكا) .
قال ابن الأثير (1) :"زكا " قد تكرر في الحديث ذكر الزكاة والتزكية، وأصل الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة والمدح، وكل ذلك قد استعمل في القرآن والحديث، وزنها فعلة، كالصدقة، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا وهي من الأسماء المشتركة بين المخرج والفعل، وتطلق على العين، وهي الطائفة من المال المزكى بها، وعلى المعنى وهو التزكية. ومن جانب هذا البيان أتى من ظلم نفسه بالطعن على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (2) ذاهبًا إلى العين، وإنما المراد المعنى الذي هو التزكية، فالزكاة طهرة للأموال، وزكاة الفطر طهرة للأبدان، وفي حديث زينب: "كان اسمها برة، فغيره وقال: تزكي نفسها ". زكى الرجل نفسه إذا وصفها وأثنى عليها، وفي حديث الباقر أنه قال: "زكاة الأرض يبسها ". يعني طهارتها من النجاسة، كالبول وأشباهه بأن يجف ويذهب أثره. وفي حديث معاوية أنه قدم المدينة بمال، فسأل عن الحسن بن علي، فقيل: إنه بمكة، فأزكى المال ومضى، فلحق الحسن، فقال: قدمت بمال، فلما بلغني شخوصك أزكيته، وها هو ذا، كأنه يريد أوعيته مما تقدم، هكذا فسره أبو موسى ".
وقال ابن منظور (3) :
" (زكا) الزكاء ممدود النماء والربح، زكا يزكو زكاة وزكوا. وفي حديث علي كرم الله وجهه قال: المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، فاستعار له الزكاء، وإن لم يك ذا جرم، وقد زكاه الله وأزكاه والزكاء: ما أخرجه الله من الثمر، وأرض زكية: طيبة سمينة، حكاه أبو حنيفة - يعني الدينوري في زكا، والزرع يزكو زكاء ممدود؛ أي: نما، وأزكاه الله، وكل شيء يزداد وينمى فهو يزكو زكاء، وتقول: هذ الأمر لا يزكو بفلان زكاء، أي: لا يليق به وأنشد:
والمال يزكو بك مستكثرًا يختال قد أشرق للناظر
__________
(1) النهاية. ج: 2. ص: 307 وما بعدها.
(2) الآية رقم: (4) سورة المؤمنون.
(3) لسان العرب. ج: 14. ص: 358.(4/1205)
ابن الأنباري: في قوله تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} (1) ومعناه: وفعلنا ذلك رحمة لأبويه وتزكية له، قال الأزهري: أقام الاسم مقام المصدر الحقيقي، والزكاة: الصلاح. ورجل نقي زكي؛ أي: زاك من قوم أتقياء أزكياء، وقد زكا زكاء وزكوا وزَكِي وتزكى، وزكاه الله، وزكى نفسه تزكية: مدحها.
ثم قال: والزكاة زكاة المال معروفة، وهو تطهيره، والفعل زكى يزكي تزكية، إذا أذى عن ماله زكاته.
غيره - أي: غير ابن الأنباري -: الزكاة ما أخرجته من مالك لتطهره به، وقد زكى المال، وقوله تعالى {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) قالوا: تطهرهم بها. قال أبو علي: الزكاة صفوة الشيء، وزكاه إذا أخذ زكاته، وتزكى، أي: تصدق. وفي التنزيل العزيز: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (3) قال بعضهم: الذين هم للزكاة مؤدون. وقال آخرون: الذين هم للعمل الصالح فاعلون. وقال تعالى: {خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} (4) أي: خيرًا منه عملًا صالحًا. وقال الفراء: زكاة صلاحا، وكذلك قوله عز وجل: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} (5) قال: صلاحا، أبو زيد النحوي في قوله عز وجل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (6) .
وقوله: {مَا زَكَا مِنْكُمْ} فمن قرأ ما زكا فمعناه: ما صلح منكم، ومن قرأ: ما زكى، فمعناه: ما أصلح، ولكن الله يزكي من يشاء، أي: يصلح، وقيل لما يخرج من المال للمساكين من حقوقهم: زكاة؛ لأنه تطهير للمال وتثمير وإصلاح ونماء كل ذلك قيل ".
إذا وضح في الأذهان المعنى اللغوي لكلمة (زكاة) بل والمعنى الذي فهم من المعنى الحديثي لها في أكثر من مساق، يحسن أن نتدبر أن كلمة "الزكاة" وردت في القرآن الكريم معرفة بـ (أل) التعريف تسعًا وعشرين مرة، منها سبع مرات في آيات تعرض إما لبني إسرائيل، وإما لبعض الأنبياء، واثنتان وعشرون مرة خاصة بالمسلمين، وأغلبها مدنية، ويبلغ مجموع ما ورد في القرآن من كلمة (زكا) ومشتقاتها تسعًا وخمسين مرة، منها ثلاثون مرة لا تختص بالزكاة المفروضة (الركن الثالث من أركان الدين) وإن شملها بعضها مع غيرها، مما تدل عليه كلمة (زكا) بمعنى النماء أو الطهر أو البركة أو غيرها مما سبق أن نقلناه عن اللغويين.
__________
(1) الآية رقم: (13) سورة مريم.
(2) الآية رقم: (103) سورة التوبة.
(3) الآية رقم (9) سورة المؤمنون.
(4) الآية رقم: (81) سورة الكهف.
(5) الآية رقم (13) سورة مريم.
(6) الآية رقم: (21) سورة النور.(4/1206)
وينبغي أن يلاحظ أن كلمة (زكاة) بدون (أل) أي: نكرة، وردت في القرآن الكريم ثلاث مرات، مرة واحدة تتعلق بالمسلمين، وهي قوله تعالى: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}
(1) ومرتين تتصلان بغير المسلمين: إحداهما في قصة ذي القرنين، وهي قوله تعالى على لسانه: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} (2) . والثانية تتصل بنبي الله يحيى عليه السلام، وهي قوله سبحانه وتعالى في وصفه: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا} (3) ، وفي جميعها لا مجال لدعوى أن كلمة (زكاة) تشتمل دلالتها على (الزكاة) بمعنى الركن الثالث من أركان الدين. وإنما دلالتها تتراوح بين البركة والطهر والنماء، وهذا ينفي نفيًا حاسما أن تكون كلمة (زكاة) بدون أداة التعريف (أل) قد استعملها الشارع حقيقة شرعية في الركن الثالث من أركان الدين. أما إذا كانت معرفة بأل، فيمكن الدعوى بأن الشارع استعملها حقيقة شرعية فيه، وهذا يعني أنها إذا وردت غير معرفة بأل، سواء كانت (نكرة) أو (معرفة) عرفتها الإضافة، كما هو الشأن في الروايات التي ذكرت (زكاة ماله) بدلا من (حقه) ، أو ما شاكل ذلك في الأحاديث المروية عن أبي ذر وأبي هريرة وغيرهما، والتي سبق أن نقلناها، فلا سبيل إلى القول بأنها تعني الزكاة المفروضة إلا بدليل، وهذا الدليل الذي يعينها بأنها الزكاة المفروضة لا وجود له في تلك الروايات لفظا أو مفهوما أو سياقا، وعلى من زعم وجوده البرهان، بل إن كلمة الزكاة - معرفة بأل - نفسها، يرى بعض المفسرين أنها ليست "حقيقة شرعية " أطلقها الشارع الحكيم جل جلاله على الركن الثالث من أركان الدين، فقد وردت في القرآن الكريم في رأيهم معبرة عن غير هذا الركن أو بالأحرى معبرة عن أحد معانيها اللغوية التي تشرك في التعبير عنها، ومن مجموعها جاء إطلاقها على الركن الثالث من أركان الدين ومن هؤلاء المفسرين الراغب الأصبهاني، ويحسن أن ننقل مجموع ما قاله في كلمة (زكا) ومشتقاتها، فذلك أجلى لرأيه ومنطلقه في تأويله قال (4) : (زكا) أصل الزكاة النمو الحاصل من تزكية الله تعالى، ويعتبر ذلك بالأمور الدنيوية والأخروية. يقال: زكا الزرع يزكو إذا حصل منه نمو وبركة، وقوله تعالى: {أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} (5) إشارة إلى ما يكون حلالًا لا يستوخم عقباه، ومنه الزكاة لما يخرج الإنسان من حق الله تعالى إلى الفقراء وتسميته بذلك لما يكون فيها من رجاء البركة أو تزكية النفس، أي: تنميتها بالخيرات والبركات أو هما جميعًا، فإن الخيرين موجودان فيها. وقرن الله تعالى الزكاة بالصلاة في القرآن الكريم لقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (6)
__________
(1) الآية: (39) سورة الروم.
(2) الآية: (81) سورة الكهف.
(3) الآية رقم (13) سورة مريم.
(4) المفردات في غريب القرآن. ص: 312 و313.
(5) الآية: (19) سورة الكهف.
(6) الآيات: (43) و (83) و (110) سورة البقرة والآية: (56) سورة النور.(4/1207)
وبزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره، وذلك ينسب تارة إلى العبد لكونه مكتسبًا لذلك نحو قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (1) ، وتارة ينسب إلى الله تعالى لكونه فاعلًا لذلك في الحقيقة نحو قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (2) ، وتارة إلى النبي لكونه واسطة في وصول ذلك إليهم، نحو قوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (3) ، وقوله: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} (4) , وتارة إلى العبادات التي هي آلة في ذلك، نحو قوله: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} (5) , وقوله: {لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} (6) أي: مزكى بالخلقة، وذلك عن طريق ما ذكرنا من الاجتباء، وهو أن يجعل بعض عباده عالمًا وطاهر الخلق، لا بالتعلم والممارسة، بل بتوفيق إلهي كما يكون لجل الأنبياء والمرسلين، ويجوز أن يكون تسميته بالزكي لما يكون عليه في الاستقبال، لا في الحال، والمعنى: سيتزكى. {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}
(7) أي: يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله، أو ليزكوا أنفسهم، والمعنيان واحد، وليس قوله: "للزكاة" مفعولًا لقوله: "فاعلون "، بل اللام فيه للعلة والقصد. وتزكية الإنسان نفسه ضربان؛ أحدهما بالفعل، وهو محمود، وإليه قصد بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (8) ، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (9) .
والثاني بالقول: كتزكية العدل غيره، وذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، وقد نهى الله تعالى عنه فقال: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (10) ، ونهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلًا وشرعًا، ولهذا قيل لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقًا؟ قال: مدح الرجل نفسه ".
__________
(1) الآية: (9) سورة الشمس.
(2) الآية: (49) سورة النساء.
(3) الآية رقم. (103) سورة التوبة.
(4) الآية: (151) سورة البقرة.
(5) الآية رقم (13) سورة مريم.
(6) الآية: (19) سورة مريم.
(7) الآية رقم (9) سورة المؤمنون.
(8) الآية رقم (9) سورة الشمس.
(9) الآية: (17) سورة الأعلى
(10) الآية: (32) سورة النجم.(4/1208)
ونحسب أن الراغب بقوله هذا، جمع فأوعى، وشرح فأغنى، إذ أوضح طبيعة العلاقة بين إطلاق الزكاة على الركن الثالث من أركان الدين واستعمال هذا اللفظ نفسه معرفًا أو غير معرف أو ما اشتق منه في غير ما يتصل مباشرة بذلك الركن، إذ أنه في جميع استعمالاته يدور حول معانيه المختلفة التي يدل عنها بطريق الاشتراك، وهي النماء والطهر المعنويان والحسيان، ثم المدح المذموم منه والمحمود، وما يتفرع عنها من التنمية والمباركة والتطهير، فوضح من كل ذلك ومما تقدم من كلام اللغويين أن استعمال عبارة: " زكاة ماله " في بعض الروايات و: " حقه " وما شاكل ذلك في روايات أخرى للأحاديث المتصلة بالمال وما يجب على العبد في التصرف فيه، ليس منحصر الدلالة على ما له علاقة بالركن الثالث من أركان الدين، بل يشمله ويتجاوزه إلى غيره من التصرفات المندوب إليها، مثل الإحسان إلى ذوي الأرحام والصدقة على الفقراء والمساكين والواجبة لطارئ ظرفي، مثل نفقات الجهاد ونفقات الاستعداد له وغير ذلك مما سنوضحه في موضعه من هذا البحث.
ولعل ما أوضحناه ينهض برهانًا حاسمًا على بطلان دعوى نسخ بعض الآيات المتصلة بالكنز أو الصدقة بآيات الزكاة، وهو ما تعلق به بعض المفسرين كعادتهم، إذ يأرزون إلى دعوى النسخ، كلما تراءى لهم ما يحسبونه تعارضًا بين بعض الآيات أو بعض الأحاديث أو بين آيات وأحاديث.
كما أنه برهان حاسم على أن كلمة (زكاة) معرفة وغير معرفة ومشتقاتها، لا تنصرف في مواردها من القرآن الكريم إلى الركن الثالث من أركان الدين إلا أن تصرفها قرينة من لفظ أوسياق، وهو ما يبطل ما ذهب بعضهم إلى زعمه من أن قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) يراد فيها بلكمة {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وبكلمة (صدقة) ما له علاقة بالزكاة الركن الثالث من أركان الدين، وهو تأويل عجب من قائله، وأعجب منه أنهم جمهرة، وفيهم صدور في التفسير، ذلك بأن الآية من آيات سورة التوبة، وهي كما يقول محمد الطاهر بن عاشور (2) :
" آخر السور نزولًا عند الجميع نزلت بعد سورة الفتح في قول جابر بن زيد في السورة الرابعة عشرة بعد المائة في عداد نزول سور القرآن ".
ثم قال:
" والجمهور أنها نزلت دفعة واحدة، فتكون مثل سورة الأنعام من السور الطوال، وفسر كثير من المفسرين بعض آيات هذه السورة لما يقتضي أنها نزلت أوزاعًا في أوقات متباعدة ".
__________
(1) الآية رقم (3) سورة التوبة
(2) التحرير والتنوير، ج: 10، ص: 97 و101(4/1209)
ثم قال:
" والذي يغلب على الظن أنه ثلاث عشرة آية من أولها إلى قوله تعالى: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) نزلت متتابعة ".
ثم قال:
" وهذا ما اتفقت عليه الروايات، وقد قيل: إن ثلاث آيات منها أولها إلى قوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (2) أذن بها يوم الموسم، وقيل: أربعين آية من أولها إلى قوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) أذن بها في الموسم ". ثم قال:
" فالجمع بينهما يغلب الظن بأن أربعين آية نزلت متتابعة على نزول جميع السورة دفعة واحدة، ليس ببعيد عن الصحة ".
قلت: وهذا ما نرجحه لما تدل عليه الآيات الأربعون من معان وأحكام مما يتعين إعلانه في ذلك الموسم، ومنها آية الكنز، وهي الرابعة والثلاثون، ولأن الآية الأخيرة من الأربعين تتصل بقصة الهجرة، وفيها أكبر إعجاز وتحد لمشركي مكة وتعجيز لكل أحد يمكن أنه ما يزال يفكر في مواصلة تحدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثته.
ثم قال الشيخ ابن عاشور:
" اتفقت الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك في رمضان سنة تسع، عقد العزم على أن يحج في شهر ذي الحجة من عامه، ولكنه كره " عن اجتهاد أو بوحي من الله " مخالطة المشركين في الحج معه وسماع تلبيتهم التي تتضمن الاشتراك؛ أي: قولهم في التلبية: " لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك ". وطوافهم عراة، وكان بينه وبين المشركين عهد، لم يزل عاملًا لم ينقض. والمعنى أن مقام الرسالة يربأ من أن يسمع منكرًا من الكفر ولا يغيره بيده؛ لأن ذلك أقوى الإيمان، فأمسك عن الحج تلك السنة، وأمر أبا بكر على أن يحج بالمسلمين، وأمره أن يخبر المشركين بأن لا يحج بعد عامه ذلك مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
__________
(1) الآية: (13) سورة التوبة.
(2) الآية (31) سورة التوبة.
(3) الآية رقم (40) سورة التوبة(4/1210)
ثم قال:
" فافتتحت السورة بتحديد مدة العهود التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وما يتبع ذلك من حالة حرب وأمن، وفي خلال مدة الحرب مدة تمكينهم من تلقي دعوة الدين وسماع القرآن، وأتبع بأحكام الوفاء والنكث وموالاتهم ومنع المشركين من دخول المسجد الحرام وحضور مناسك الحج وإبطال مناصب الجاهلية التي كانوا يعتزون بأنهم أهلها وإعلان حالة الحرب بين المسلمين وبينهم، وإعلان الحرب على أهل الكتاب من العرب حتى يعطوا الجزية، وأنهم ليسوا بعيدًا من أهل الشرك، وأن الجميع لا تنفعهم قوتهم ولا أموالهم وحرمة الأشهر الحرم وضبط السنة الشرعية وإبطال النسيئ الذي كان عند الجاهلية وتحريض المسلمين على المبادرة بالإجابة إلى النفير للقتال في سبيل الله ونصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله ناصر نبيه وناصر الذين ينصرونه وتذكيرهم بنصر الله ورسوله يوم حنين وبنصره إذ أنجاه الله من كيد المشركين بما هيأ له من الهجرة إلى المدينة والإشارة بالتجهيز إلى غزوة تبوك وذم المنافقين والمعتذرين والمستأذنين في التخلف بلا عذر وصفات أهل النفاق من جبن وبخل وحرص على أخذ الصدقات مع أنهم ليسوا يستحقونها، وذكر أذاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول وأيمانهم الكاذبة وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف وكذبهم في وعودهم وسخريتهم بضعفاء المؤمنين وأمرهم بضرب الجزية على أهل الكتاب ومذمة ما أدخله الأحبار والرهبان في دينهم من العقائد الباطلة ومن التكالب على الأموال، وأمر الله بجهاد الكفار والمنافقين، ونهى المؤمنين عن الاستعانة بهم في جهادهم والاستغفار لهم، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم من الصلاة على موتاهم، وضرب المثل بالأمم الماضية، وذكر الذين اتخذوا مسجد الضرار عن سوء نية وفضل مسجد قباء ومسجد الرسول بالمدينة، وانتقل إلى وصف حالة الأعراب من محسنهم ومسيئهم ومهاجرهم ومتخلفهم، وقوبلت صفات أهل الكفر والنفاق بأضدادها صفات المسلمين، وذكر ما أعد لهم من الخير، وذكر في خلال ذلك فضل أبي بكر وفضل المهاجرين والأنصال والتحريض على الصدقة والتوبة والعمل الصالح والجهاد، وأنهم فرض على الكفاية، والتذكير بنصر الله على المؤمنين يوم حنين على بأسهم والتنويه لغزوة تبوك وجيشها والذين تاب الله عليهم من المتخلفين عنها والامتنان على المسلمين بأن أرسل فيهم رسولًا منهم جعله على صفات فيها كل خير لهم، وشرع الزكاة ومصارفها والأمر بالتفقه في الدين ونشر دعوة الدين ".(4/1211)
وقد نقلنا هذا الكلام على طوله – وإن حذفنا منه جملًا – ارتأينا أنها لا تتصل بموضوعنا؛ لأنه يرسم صورة دقيقة للأفق النفسي والمجال التشريعي والمدى الظرفي لهذه السورة الجليلة التي زعم البعض يغفر الله لهم أن آية أو أكثر منها نسخت بآيات نزلت قبلها. فهل هنالك أعجب من هذا الزعم؟ ! ذلك بأن الزكاة شرعت في القرآن المكي وأكد شرعها في القرآن المدني، وغاية ما ورد في شأنها وليس خاصًا بها في رأينا كما سنبينه من بعد تعيين مصارفها وبيان المستحقين لها، فلا يعقل أن يكون تشريع الزكاة ناسخًا لما جاء في آخر سورة نزلت من القرآن قبيل لحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وتكاد أغراضها كلها تنحصر في تعيين وتبيان طبيعة العلاقة بين المسلمين بعضهم ببعض باعتبارهم كيانًا دوليًا ومجتمعًا متكاملًا متكافلًا وبينهم وبين غيرهم من الأمم على اختلاف مللها ونحلها ومواقعها بناء على ذلك الاعتبار.
ومن هذا المنطلق كان الشيخ ابن عاشور – رحمه الله – أكثر توفيقًا من غيره وأعمق فهمًا وأوضح بيانًا وهو يشرح قوله تعالى في هذه السورة الجليلة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) الآية، فقال: " لما كان من شرط التوبة – قلت: إذ نزلت في من وصفتهم آية قبلها بأنهم {مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} (2) - تدارك ما يمكن تداركه مما فات، وكان التخلف عن الغزو مشتملًا على أمرين، هما عدم المشاركة في الجهاد، وعدم إنفاق المال في الجهاد، جاء في هذه الآية إرشاد لطريق تداركهم ما يمكن تداركه مما فات، وهو نفع المسلمين بالمال والإنفاق العظيم على غزوة تبوك استنفد المال المعد لنوائب المسلمين، فإذا أخذ من المتخلفين شيء من المال انجبر به بعض الثلم الذي حل بمال المسلمين. والتاء في (تطهرهم) تحتمل أن تكون تاء الخطاب، نظرًا لقوله: (خذ) ، وأن تكون تاء الغائبة عائدة إلى الصدقة، وأيا ما كان فالآية دالة على أن الصدقة تطهر وتزكي، والتزكية جعل الشيء زكيًا، أي: كثير الخيرات، فقوله: (تطهرهم) إشارة إلى مقام التخلية من السيئات، وقوله: (وتزكيهم) إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات، ولا جرم أن التخلية مقدمة على التحلية، فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب العظيم.
__________
(1) الآية رقم (103) سورة التوبة
(2) الآية رقم (106) سورة التوبة(4/1212)
قلت: وأضيف إلى هذا أن الآية قاعدة تشريعية جليلة لأمر لست أدري كيف أغفله المفسرون والفقهاء أو غفلوا عنه؟! هي أمر ولي الأمر لمعاقبة من يقترف عملًا يترتب عنه ضرر يصيب المسلمين عامة أو بعضهم، لا سيما إذا كان متصلًا بالمال العام أو بمال لجماعة منهم بعقوبة مالية تعوض، إما تعويضًا كاملًا أو رمزيًا، ما يترتب من الضرر على الإثم الذي اقترفه، فليت شعري إن لم يكن مما تدل عليه الآية هذا التشريع، فما هو المناط منها إذن؟ قد يقال: إن الأمر بأخذ الصدقة من أموالهم لا يبلغ درجة الإيجاب، وإنما هو ندب، إذ جاء بعده {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (1) بيد أن مثل هذا القول على درجة من السذاجة كان يمكن أن تحفز إلى إغفاله، لولا أنه قد يوهم بعض المتفقهة، ذلك بأن (تعليل الأخذ من الأموال) بأنه سبب للتطهر والتزكية ينهض دليلًا على وجوبه لوجوب أن يتطهر المسلم ويتزكى، ولأن وجوب ذلك آكد لمن اقترف إثمًا تجاوز أثره، خاصة نفسه، وأصاب غيره من المؤمنين جماعة أو مجتمعًا ذا كيان. أما الصلاة التي أمر بها ولي الأمر أو هي خاصة بالرسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك المسلم التائب، فالغرض منها أن تحدث سكينة في قلبه، ولذلك جاء ذكر النتيجة المرجوة منها مسبوقًا بأن التأكيدية والفاصلة بينها وبين جملة الأمر بالصلاة، بخلاف بيان مناط الأمر بأخذ الأموال الذي جاء غير مفصول بينه وبين ذلك الأمر بأي فاصل، حتى لكأنه يشكل جملة واحدة، وإن لم يعتبره النحاة كذلك، تبيانًا لكون التطهير والتزكية هي كفاء ما يؤخذ من أموال التائب. على حين أن الصلاة هي شيء يشبه (الجائزة) فهي تنتج سكينة نفسية من شأنها أن تعيد الطمأنينة إلى قلب المؤمن، وهذه الصلاة – وهي مجرد دعاء – عمل معنوي بحت ونتيجته أيضًا معنوية بحتة على حين أن أخذ الأموال عمل مادي، وكفاؤه (الزكاة) ، شيء مشترك بين النماء والبكرة والطهارة والمدح، فهو أمشاج من ماديات ومعنويات.
ومن عجب أن يزعم عدد من المفسرين والمتفقهة أن الصدقة المأمور بأخذها في هذه الآية هي الزكاة التي هي الركن الثالث من أركان الدين، ولسنا ندري ما شأن الزكاة في هذا المجال؟!.
__________
(1) الآية رقم (103) سورة التوبة(4/1213)
فالذين جاء الأمر بأخذ الصدقة منهم أثموا بالتخلف عن غزوة تبوك وعدم الإنفاق عليها، ولم يأثموا بمنع الزكاة، فلماذا يكون قبول توبتهم متعلقًا بأمر لم يفعلوه ولم يأثموا فيه، ولو مضينا مع هؤلاء في قولهم، لوجب تلقائيًا أن نذهب إلى أن هؤلاء المتخلفين كأنهم أثموا أيضًا في صلاتهم، أو كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يجعلهم أمامه، وأن يصلي عليهم صلاة لعلها تشبه صلاة الجنازة أو قريبًا منها، وهذا ما لم يقل به أحد، ولا يمكن أن يقول به عاقل، ولو قال به أحد لرد عليه بما ورد في الحديث الشريف من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول أحيانًا عندما يتلقى صدقة – وليس زكاة – من أحد من المسلمين: ((اللهم صل على فلان))
قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 4. ص: 58. ح 6957) : عن عبد الله بن كثير، عن شعبة قال: أخبرني عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة، قال: اللهم صل عليهم. قال: فأتاه أبي بصدقة، فقال: اللهم صلى على أبي أوفى)) .
وذكر المزي (تحفة الأشراف. ج: 4. ص 287) أن كلا من البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه أخرجوا حديثًا بهذا المعنى، فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: اللهم صلى على آل فلان ... الحديث. ومنهم من زاد فيه: وكان أبي من أصحاب الشجرة خ في الزكاة (64) ، عن حفص بن عمر. وفي المغازي (36: 18) عن آدم. وفي الدعوات (19: 2) عن مسلم بن إبراهيم. و (33: 1) سليمان بن حرب. فرقهما م في الزكاة (55: 1) عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم، أربعتهم عن وكيع. و (55: 1) عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه. و (50: 2) عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن عبد الله بن إدريس. د فيه (الزكاة 7) عن حفص بن عمرو وأبي الوليد. س فيه (الزكاة 13) عن عمر بن يزيد، عن بهز بن أسد. ق فيه (الزكاة 8: 1) عن علي بن محمد، عن وكيع، تسعتهم عن شعبة عنه. ومن أن بعض الرواية ذكر كلمة زكاة بدل كلمة صدقة، فإن ذلك لا يحملنا على الجزم بأن كلمة زكاة هي لفظ عبد الله بن أوفى، فاختلافهم في اللفظ برهان على أنهم أو بعضًا منهم رووه بالمعنى، وليس ما يرجح أن تكون إحدى الروايتين هي اللفظ، ثم إن كلمة زكاة ما لم تدخل عليها (أل) لا سبيل إلى الدعوى بأنها بالضرورة الزكاة المفروضة، كما أوضحنا ذلك في الأصل، وقد أخرجه هذا الحديث فضلًا عمن ذكرنا المفسرون بالمأثور مثل الطبري وأبي حاتم والسيوطي في تفسير الآية موضوع البحث فلتراجع.(4/1214)
على أن كلمة (الصدقة) لم يقل أحد: إنها تختص بـ: (الزكاة) الركن الثالث من أركان الدين، وقد تكرر ورودها في سورة التوبة، وهي كما ذكرنا آنفًا سورة تتضمن التشريع لما يتصل بالجهاد ممارسته والاستعداد له، وهذا برهان ما بعده من برهان على أن الصدقة في هذه الآية الكريمة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ليست هي الزكاة.
على أن المفسرين الذين وقفنا على آثارهم – ولا نستثني أحدًا – تواضعوا على اعتبار كلمة (الصدقة) و (الصدقات) أغلب ما يكون سريانها على الزكاة، لا سيما في سورة التوبة، وقد سبق أن أوضحنا ظروفها وملابساتها التي لا سبيل إلى تجاهلها عند تفسير آياتها واجتلاء ما تتضمنه من الأحكام، ومن العجب المذهل أنهم لم يعنوا بالالتفات إلى أمر نحسبه أساسيا في صرف كلمة (الصدقة) و (الصدقات) إلى المعنى المراد منها، ذلك أنها وردت في ثلاث آيات كريمة، منها سورة التوبة جمعًا، ووردت إفرادًا في غيرها في نفس السورة وفي سور أخرى، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (1) ثم يقول: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (2) ويقول: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) والذي نجزم به ولا نحسبه قابلًا لأي جدل أو مراء أن استعمال صيغة الجمع لا يمكن أن يكون مرادفًا لاستعمال صيغة الإفراد، وأن كل حرف في القرآن بل وكل نقطة وشكلة له ولها حظ أساسي من تبيان وتكييف الحكم أو الدلالة على ما أريد من الكلمة أو الآية الدالة عليها.
ولا سبيل إلى دعوى أن كلمة الصدقات جاءت جمعًا للدلالة على تنوع موارد الزكاة (الإبل والغنم والثمار والورق والذهب) وما إلى ذلك، إذ إن هذه الدعوى إن أمكن الالتفات إليها في تأويله تعالى لتعيين مصارف الزكاة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (4) فما الذي يسوغ الالتفات إليها في تأويل قوله جل جلاله في التنديد على المنافقين وتبيان ألوان من تصرفاتهم الظاهرة والباطنة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} (5) إذ إن الجمع في هذا المقام لا معنى له، ضرورة أن اللمز كان في توزيع الصدقة أيا كان نوعها، ولم يكن مصروفًا إلى الصدقات باختلاف أنواعها في ذاتها ومهما اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، وإن كان في ذي الخويصرة التميمي (حرقوص بن زهير أول إمام للخورج) أو في أبي الجواظ، وكلاهما من المنافقين (6) فإنهم لن يستطيعوا أن يجزموا بأن المال الذي كان يقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لمزوا في قسمته، ففضحهم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، كان مال الزكاة، وآية ذلك أنه ما من أحد منهم زعم أن الصدقات في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} (7) هي أيضًا الزكاة، وأن اللمز الذي قارفه المفضوحون كان في الأنصبة التي أداها من وجبت عليهم الزكاة، ذلك أولًا: لأن بقية الآية تدمغ بالبطلان مثل هذا الزعم لو حدث، إذ كان وصفًا للمتطوعين الملموزين بأنهم (لا يجدون إلا جهدهم) ، وثانيًا: لأن سبب النزول الذي ذكره المفسرون لهذه الآية يدحض دحضًا حاسمًا كل ادعاء بأن الصدقات فيها يراد بها الزكاة.
__________
(1) الآية: (58) سورة التوبة.
(2) الآية: رقم (60) سورة التوبة.
(3) الآية: (79) سورة التوبة.
(4) الآية رقم (60) سورة التوبة.
(5) الآية رقم (58) سورة التوبة
(6) انظر مثلًا: الرازي التفسير الكبير المجلد: 8. ج: 16. ص: 99 وما بعدها. ومحمد الطاهر بن عاشور التحرير والتنوير ج: 10. ص: 231 وما بعدها.
(7) الآية رقم (79) سورة التوبة(4/1215)
يقول الطبري (1) :
" وذكر أن المعنى بقوله: {الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي الأنصاري وأن المعنى بقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} أبو عقيل الأراشي أخو بني أنيف.
ذكر من قال ذلك
حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من بذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء. وقالوا: إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع.
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس يومًا، فنادى فيهم أن اجمعوا صدقاتكم، فجمع الناس صدقاتهم، ثم جاء رجل من أحوجهم بمن من تمر، فقال: يا رسول الله، هذا صاع من تمر، بت ليلتي أجر بالجرير الماء، حتى نلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما، وأتيتك بالآخر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات، فسخر منه رجال، وقالوا: والله إن الله ورسوله لغنيان عن هذا وما يصنعان بصاعك من شيء، ثم إن عبد الرحمن بن عوف رجل من قريش من بني زهرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بقي من أحد من أهل هذه الصدقات؟ فقال: لا. فقال عبد الرحمن بن عوف: إن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات. فقال له عمر بن الخطاب: أمجنون أنت؟ فقال: ليس بي جنون. فقال: أتعلم ما قلت؟ قال: نعم مالي ثمانية آلاف، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي، وأما أربعة آلاف فلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت. وكره المنافقون، فقالوا: والله ما أعطى عبد الرحمن بن عوف عطيته إلا رياء. وهم كاذبون، إنما كان به متطوعًا. فأنزل الله عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بصاع من التمر فقال الله في كتابه: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية (2) .
__________
(1) جامع البيان المجلد 6. ج: 10. ص: 134 إلى 137
(2) الآية رقم (79) سورة التوبة.(4/1216)
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شبل بن أبي نجيح، عن مجاهد {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بصدقة ماله أربعة آلاف، فلمزه المنافقون، وقالوا: راءى {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} قال رجل من الأنصار: آجر نفسه بصاع من تمر، لم يكن له غيره، فجاء به، فلمزوه، وقالوا: كان الله غنيًا عن هذا.
حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية (1) . قال: أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله، فتقرب به إلى الله، فلمزه المنافقون، فقالوا: ما أعطى ذلك إلا رياء وسمعة، فأقبل رجل من المسلمين يقال له: حبحاب أبو عقيل، فقال: يا نبي الله، بت أجر الجرير على صاعين من تمر، أما صاع فأمسكه لأهلي، وأما صاع فها هو ذا. فقال المنافقون: والله، إن الله ورسوله لغنيان عن هذا، فأنزل الله في ذلك القرآن {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} الآية.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله، وكان ماله ثمانية ألف دينار، فتصدق بأربعة آلاف دينار، فقال ناس من المنافقين: إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء، فقال الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} (2) ، وكان لرجل صاعان من تمر، فجاء بأحدهما، فقال ناس من المنافقين: إن كان الله عن صاع هذا لغنيا، فكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون منهم، فقال الله: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .
__________
(1) الآية رقم (79) سورة التوبة.
(2) الآية رقم (79) سورة التوبة
(3) الآية رقم (79) سورة التوبة(4/1217)
حدثني المثنى، قال: حدثنى الحجاج بن المنهال الأنماطي، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي سلمة، عن أبيه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تصدقوا، فإني أريد أن أبعث بعثًا، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، إن عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما إلى الله، وألفين لعيالي، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت، فقال لرجل من الأنصار: وإن عندي صاعين من تمر؛ صاعًا لربي، وصاعًا لعيالي. قال: فلمز المنافقون، وقالوا: ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياء. وقالوا: أو لم يكن الله غنيًا عن صاع هذا؟ فأنزل الله {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} )) الآية (1)
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} قال: أصاب الناس جهد شديد، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدقوا، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعمائة أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك له فيما أمسك. فقال المنافقون: ما فعل عبد الرحمن هذا إلا رياء وسمعة، قال: وجاء رجل بصاع من تمر، فقال: يا رسول الله، آجرت نفسي بصاعين، انطلقت بصاع منهما إلى أهلي، وجئت بصاع من تمر. فقال المنافقون: إن الله غني عن صاع هذا، فأنزل الله هذه الآية {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2)
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن إسحاق {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية (3) , وكان من المطوعين من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف، تصدق بأربعة آلاف دينار، وعاصم بن عدي أخو بني عجلان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقة، وحض عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف، فتصدق بأربعة آلاف درهم (4) ، وقام عاصم بن عدي فتصدق بمائة وسق من تمر، فلمزوهما، وقالوا: ما هذا إلا رياء، وكان الذي تصدق بجهده أبو عقيل أخو أبي أنيف الأراشي حليف بني عمرو بن عوف، أتى بصاع من تمر، فأفرغه في الصدقة، فتضاحكوا به، وقالوا: إن الله لغني عن صاع أبي عقيل.
__________
(1) الآية رقم (79) سورة التوبة
(2) الآية رقم (79) سورة التوبة
(3) الآية رقم (79) سورة التوبة
(4) لعل في هذا خطأ صوابه: بأربعة آلاف دينار(4/1218)
حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله، قال: حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل، قال أبو النعمان: كنا نعمل، قال: فجاء رجل، فتصدق بشيء كثير، قال: وجاء رجل فتصدق بصاع تمر، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا، فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (1) .
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، قال: حدثنا خالد بن يسار، عن ابن أبي عقيل، عن أبيه قال: بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به، وجئت بالآخر أتقرب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: انثره في الصدقة، فسخر المنافقون منه، وقالوا: لقد كان الله غنيًا عن صدقة هذا المسكين، فأنزل الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآيتين. (2) .
حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا الجريري، عن أبي السليل، قال: وقف على الحي رجل، فقال: حدثني أبي أو عمي، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من يتصدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة؟ قال: وعلي عمامة لي، قال: فنزعت لونًا أو لونين لأتصدق بهما، قال: ثم أدركني ما يدرك ابن آدم، فعصبت بها رأسي، قال: فجاء رجل لا أرى بالبقيع رجلًا أقصر قامة ولا أشد سوادًا ولا أذم لعيني منه، يقود ناقة، لا أرى بالبقيع أحسن منها ولا أجمل منها، قال: صدقة هي يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فدونكها، فألقى بخطامها أو بزمامها. قال: فلمزه رجل جالس، فقال: والله إنه ليتصدق بها ولهي خير منه، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بل هو خير منك ومنها. يقول ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.
حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، يقول: الذي تصدق بصاع التمر، فلمزه المنافقون أبو خيثمة الأنصاري
__________
(1) الآية رقم (79) سورة التوبة
(2) الآيتان (79، 80) سورة التوبة(4/1219)
حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن رجاء أبو سهل العباداني، قال: حدثني عامر بن يساف اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف، جئتك بأربعة آلاف، فاجعلها في سبيل الله، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. فقال ناس من المنافقين: والله ما أعطى عبد الرحمن إلا رياء وسمعة، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع فلان، فأنزل الله {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} (1) يعني عبد الرحمن بن عوف {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (2) يعني صاحب الصاع {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن مجاهد قال: قال ابن عباس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يجمعوا صدقاتهم، وإذا عبد الرحمن قد جاء بأربعة آلاف، فقال: هذا مالي أقرضه الله، وقد بقي لي مثله. فقال له: بورك لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. فقال المنافقون: ما أعطى إلا رياء، وما أعطى صاحب الصاع إلا رياء، إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا، وما يصنع الله بصاع من شيء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . (4) قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتصدقوا، فقام عمر بن الخطاب فألقى مالًا وافرًا، فأخذ نصفه، قال: فجئت أحمل مالًا كثيرًا، فقال له رجل من المنافقين: ترائي يا عمر؟ فقال عمر: أرائي الله ورسوله، وأما غيرهما فلا. قال: ورجل من الأنصار لم يكن عنده شيء، فأجر نفسه ليجر الجرير على رقبته بصاعين ليلته، فترك صاعًا لعياله، وجاء بصاع يحمله، فقال له بعض المنافقين: إن الله ورسوله عن صاعك لغنيان، فذلك قول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} . هذا الأنصاري {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5)
__________
(1) الآية رقم (79) سورة التوبة.
(2) الآية رقم (79) سورة التوبة.
(3) الآية رقم (79) سورة التوبة.
(4) الآية رقم (79) سورة التوبة.
(5) الآية رقم (79) سورة التوبة.(4/1220)
وقال البخاري (1) : " حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله البصري، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود – رضي الله عنه – قال: لما نزلت آية الصدقة، كنا نحامل، فجاء رجل، فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مراء، وجاء رجل، فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا. فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (2) .
وقال (3) : " حدثني بشر بن خالد أبو محمد، أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: لما أمرنا بالصدقة، كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء. فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الآية " (4) .
وقال مسلم: " حدثني يحيى بن معين، حدثنا غندر، حدثنا شعبة.
وحدثنيه بشر بن خالد واللفظ له، أخبرنا محمد - يعني ابن جعفر - عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: أمرنا بالصدقة، قال: نحامل، قال: فتصدق أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بشيء أكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقته، وما فعل هذا الآخر إلا رياء. فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} ، ولم يلفظ بشر بالمطوعين.
وحدثنا محمد بن بشار، حدثني سعيد بن الربيع.
وحدثنيه إسحاق بن منصور، أخبرنا أبو داود، كلاهما عن شعبة بهذا الإسناد. وفي حديث سعيد بن الربيع قال: كنا نحامل على ظهورنا ".
__________
(1) ج: 2. ص: 114
(2) الآية رقم (79) سورة التوبة
(3) ج: 5. ص: 205
(4) الآية رقم (79) سورة التوبة(4/1221)
قلت: ارتأيت أن أسوق كل هذه الأسانيد من مصادر مختلفة دون أن أتقصى جميع مواردها لغناء ما اكتفيت به منها إثارًا لاطلاع من قد ينظر في هذا البحث على مجموعة صالحة من ألفاظ هذا الحديث وأسانيده، قد نجعله يطمئن إلى ما انتهى إليه رأينا من تحديد دلالة لفظ " الصدقات " و" الصدقة " في مختلف مواقعه من القرآن الكريم، ذلك بأن هذه الروايات المتعددة والمختلفة الألفاظ والأسانيد اتفقت على شيء واحد على الأقل، هو أن " الصدقات " في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية (1) لا يمكن حصر دلالتها على الركن الثالث من أركان الدين، إذ إن الظرف الذي وقعت فيه حادثة المطوعين والذين لا يجدون إلا جهدهم ليس هو ظرف جباية الزكاة وإن اختلفوا في تعيينه. فقال البعض: إنه ظرف تجهيز لغزو، وقال الأكثرون: إنه ظرف جهد أصاب الناس، فأشفق منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أجهدهم، وحرض الناس على الصدقة، وأيا كان فهو ليس ظرف جباية الزكاة، وإن وهم بعض الرواة، فحسبه ظرف جباية الزكاة، وهو وهم ظاهر البطلان، فالمتطوع بأربعة آلاف درهم أو بمائة أوقية ذهبًا أيا كان، سواء كان عبد الرحمن بن عوف أو غيره أو كانوا أكثر من واحد تعدد منهم هذا النوع من التطوع، لا يمكن اعتبار ما جاء به متطوعًا زكاة ما يملك من ورق أو ذهب؛ لأنه لو كان كذلك، لكان مجموع ما يملك ستين ومائة ألف دينارًا أو درهمًا أو أربعة آلاف أوقية ذهبًا، وهذا ما لم يقل به أحد، ولا يمكن أن يتصور في ذلك العهد رأس مال يملكه فرد واحد، كذلك الصاع ونصف الصاع الذي جاء به أبو عقيل أو غيره من {لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} (2) ، لا يمكن أن يكون زكاة؛ لأن الروايات مجمعة على أن صاحب الصاع ونصف الصاع كان يحامل أو آجر نفسه؛ ليحصل على صاعين من تمر، ترك لأهله صاعًا يتبلغون به، وتصدق بالصاع، وإذا اعتبرنا أنه نصاب الزكاة في التمر خمسة أوسق، فإن مقدار ما يصرف منه زكاة، ويجب على صاحبه أن يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين صاعًا إن كان نخله لا يعتمد على السقي، أو خمسة عشر صاعًا إن كان يعتمد عليه، ومن هذا يتضح أن من زعم أن الحادث الذي نزلت بسببه الآية كانت له صلة بالزكاة كان واهمًا، أو كان من رووا عنه واهمين.
نخلص من هذا كله إلى أن كلمة الصدقة مفردة أو جمعًا في مختلف مواقعها من سورة التوبة لا سبيل إلا حصر دلالتها في الزكاة، ومعنى ذلك أن رسول الله صل حين أمر بأن يأخذ الصدقة من {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا} (3) وبأن يصلي عليهم، إنما كان ذلك الأمر تشريعًا مستقلًا عن تشريع الزكاة، أنه نمط من العقاب لمن أمسك عن الإنفاق في سبيل الله ساعة حاجة المسلمين إلى الإنفاق، أما عند الخروج للجهاد، وإما قبل ذلك، ولمجرد الاستعداد له يعاقبه ولي الأمر بأن يأخذ صدقة من ماله، ولم يُر في الآية الكريمة تحديد للمبلغ الذي يأخذه ولي الأمر، وإنما ترك لاجتهاده الذي تأثر بالوضع المالي للمعاقب وبمدى حاجة المسلمين في الظرف الذي أمسك فيه صاحب المال ذلك عن الإنفاق، وهذا تشريع يثبت أن في المال حقا غير الزكاة تمامًا، كما يثبت ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية (4) . وقوله جل جلاله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ} الآية (5) .
__________
(1) الآية رقم (79) سورة التوبة.
(2) الآية رقم (79) سورة التوبة.
(3) الآية رقم (102) سورة التوبة
(4) الآية رقم (34) سورة التوبة
(5) الآية رقم (180) سورة آل عمران(4/1222)
ونتيجة أخرى نستخلصها من وقفتنا هذه عند كلمة " الصدقة " مفردة وجمعًا ومواقعها من سورة التوبة، وهي أن قوله سبحانه وتعالى في تعيين مصارف الصدقات الثمانية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية (1) . ليس خاصا بمصارف الزكاة الركن الثالث من أركان الدين، وإنما هو شامل لجميع الصدقات ومصارفها، مانع لصرفها في غير تلك المصارف الثمانية.
ويتراءى لنا أن بعض المناط في قوله سبحانه وتعالى في آخر هذه الآية: {وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (2) يشير إلى ذلك، فما كانت الزكاة وحدها مصدرًا يكفل حاجات الأصناف الثمانية، وخاصة ما هو من حاجات الجهاد استعدادًا له وإنفاقًا فيه، ثم إن قوله سبحانه وتعالى في آخر هذه الآية: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} نص صريح – في رأينا – على أن في المال حقا غير الزكاة، بدليل أن هذه الجملة لا يمكن أن تكون إلا بيانا للحكم الشرعي الذي نزلت الآية الكريمة لإقراره وتبيانه، وكان استهلالها قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} الآية (3) . ولأمر ما جاءت كلمة " الصدقات" جمعًا لم تأت مفردة، وذلك ما ألمعنا إليه آنفًا من أن الحرف الواحد بل الشكلة والنقطة لا يمكن أن ترد في الكلمة القرآنية إلا لمزيد من المعنى أو لتكييف له أو تحديد، وما من أحد يستطيع أن يزعم ذلك.
ونحسب أننا قد أتينا على الكفاية والغناء من الأدلة الحاسمة على أن الزكاة ليست هي كل حق الله في المال، ففيه حقوق غيرها، وعلى أن كلمة " الزكاة " وكلمة " الصدقة " معرفتين أو منكرتين أو جاءت إحداهما مفردة أو جمعًا، لا يمكن حصر دلالتها على الركن الثالث من أركان الدين إلا بقرينة لفظية أو حالية أو محلية أو غيرها من القرائن المعتمدة في الاستدلال، فإذا تقدمت القرينة كانت الكلمة شاملة للحقوق المختلفة في المال، ومنها الركن الثالث من أركان الدين.
وقد نعرض إلى أدلة أخرى فيما يستقبلنا من بنود هذا البحث.
__________
(1) الآية رقم (60) سورة التوبة
(2) الآية رقم (60) سورة التوبة
(3) الآية رقم (60) سورة التوبة(4/1223)
14- في المال حق سوى الزكاة
نخلص إلى القول مما تقدم أن في المال حقًا سوى الزكاة، وأن هذا الحق يختلف عن الزكاة في أن مقداره غير محدد، وإنما تحدده ظروف وطاقات الناس وأوضاعهم المالية، وأن زمانه غير معين، وإنما تعينه الأحداث والتطورات وما قد يختلف على المجتمع الإسلامي أو جماعة محدودة من المسلمين مشتركة في أوضاعها الحياتية من ملابسات وتطورات وظروف تتصل بالتطور الحضاري أو بمقتضيات الأمن الداخلي أو الخارجي سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا، وأن أداء هذا الحق أو القيام به يعني " الإنفاق "، وسنتبين فيما بعد وجوه الإنفاق المطلوب وطرائقه، فليس هو بالضرورة وفي جميع الأوقات والظروف التخلي عن المال المنفق بصورة نهائية، إذ قد يكون شيئًا آخر غير ذلك وقد يعود على المنفق نفسه بالخير الآجل في دنياه فضلًا عن أخراه مما سيأتي بيانه في غير هذا الموضع.
حسبنا الآن أن نتبين حقيقة أبرزتها الأدلة القرآنية والسنية التي سقناها فيما سبق على أن الإنفاق الواجب على المكلف ليس منحصرًا في الزكاة، وهذه الحقيقة – وقد سبق أن لفتنا إليها أكثر من مرة – أن ما خوله الله للإنسان من حق الانتفاع بالأرض وما يخرج منها وما يدب عليها من دابة وما يمكن أن تصل إليه يده من جوانب الكون الأخرى مما علت أو سفلت محكوم بالوظيفة التي خلقه الله للقيام بها، وهي خلافته في الأرض خلافة من وظائفها عمله في عمارة الأرض.
وبدهي أن خلافة الله تعني التزام العدل في جميع التصرفات، وأن التزام العدل يعني اعتبار مصلحة الجميع قبل مصلحة الفرد إذا تغايرت المصلحتان وقبل أن تتغاير في حقيقة الأمر، إذ هما متكاملتان عند التقدير السليم والنظر العميق البعيد.
كما أن عمارة الأرض تقتضى تضافر الجميع على إنجازها واستمرارها وتطويرها وصيانتها كل بحسب ما آتاه الله وفطره عليه من كفاية وفهم واستعداد وعلم، تضافرًا يلتزم باعتبار مصلحة الجميع.
وليس مصلحة الجميع، وليس مصلحة الفرد منطلقًا وهدفًا في آن واحد، إذ إن اعتبارها منطلقًا يترتب عليه التوزيع العادل المتساوي لما تطلبه العمارة من الجهد وما تقتضيه من التعاون الصادق الخالص من شوائب الأنانية والمخاتلة والخداع والتغيير.(4/1224)
في حين أن اعتبارها هدفًا يترتب عنها تلقائيا تجانس المشاعر والتقديرات تجانسًا ينعكس على تكافل الجهود وتكاملها؛ لأن شعور العامل بأن عمله يشمله ويشمل غيره كما أنه مشمول بعدم غيره ينأى به عن كل ما من شأنه أن يحفزه إلى التقصير وإلى المداورة والتهرب، بل ومحاولة الموازنة بين عمله وعمل غيره، فالجميع مدرك مستيقن وهو يبذل ما يبذل من جهد، بأنه إنما يعمل لمصلحته باعتبارها جزءًا من مصلحة غيره.
لذلك كان هدف الشارع من الشريعة تحقيق المصلحة العامة وكفالتها وصيانتها من كل ما قد يضر بها أو ينال منها، بل إن الفقهاء الموفقين - وأقول الموفقين عمدًا - أثبتوا بما لا مجال فيه للمراء، أن الشارع اعتبر المصلحة العامة حتى فيما يختص بالعبادات، وإن كانت غير معقولة المعنى، كما يقول جمهور.
ولعل من أكثرهم توفيقًا في بيان موقع رعاية المصلحة العامة من الشرع الإسلامي أبا إسحاق الشاطبي - رحمه الله - لذلك نسوق فقرات من أقواله في هذا الشأن قبل أن نمضي فيما نحن بسبيله من تبيان طبيعة المصلحة العامة التي تتعلق بها حقوق في المال غير الزكاة.
قال - رحمه الله - (1) : " ... إن وضع الشرائع، إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا. وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين، وكما اضطر - أي: الرازي - في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية، أثبت على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام الخاصة".
ثم قال:
" والمعتمد إنما هو أنَّا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل وهو الأصل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (2)
__________
(1) الموافقات ج: 2. ص: 6، 7
(2) الآية (95) سورة النساء.(4/1225)
وبعد أن ساق أمثلة أخرى من القرآن الكريم والحديث الشريف قال: "وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدًا للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة، ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد.
ثم قال (1) :
"تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية. فأما الضرورية، فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت، لم تجر مصالح الدين على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والخسران المبين ".
قلت: تأمل جيدًا قوله: " (إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت وحياة ".
ثم قال (2) : ومجموع الضروريات خمسة وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل. وقد قالوا: إنها مراعاة في كل علية، وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع، دخل على المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة ".
ثم قال (3) : وأما التحسينات فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تألفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق ".
وسنعود إلى الشاطبي، لكنا قبل ذلك ننقل أقوالًا لغيره، منها ما يتسق مع أقواله، ومنها ما لا يتغاير معها، وإن لم يلتزم نفس منهجه في التفكير والاستنباط على أنه يقرر القاعدة نفسها التي قررها هو.
__________
(1) الموافقات ج: 2 ص 8.
(2) الموافقات ج2. ص: 10.
(3) الموفقات ج2: ص: 11.(4/1226)
قال ابن قيم الجوزية (1) : وقع بسبب الجهل غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصورن وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم، رفع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
وقال الآمدي (2) : "المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد لتعالي الرب تعالى عن الضرر والانتفاع ".
ثم قال:
"وإذا عرف أن المقصود من شرع الحكم إنما هو تحصيل المصلحة أو دفع المضرة، فذلك إما أن يكون في الدنيا وإما أن يكون في الآخرة، فإن كان في الدنيا، فشرع الحكم إما أن يكون مفضيًا إلى تحصيل أصل المقصود ابتداء أو دوامًا أو تكميلًا.
__________
(1) أعلام الموقعين. ج: 4. ص: 14.
(2) الإحكام في أصول الأحكام. ج: 3. ص: 389 و390.(4/1227)
وقال الآمدي (1) : "وهو بصدد إقامة الدلالة على أن المناسبة والاعتبار دليل كون الوصف علة".
وذلك لأن الأحكام إنما شرعت لمقاصد العباد، أما أنها مشروعة لمقاصد وحكم فيدل عليه الإجماع والمعقول. أما الإجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو من حكمة ومقصود، وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجود، كما قالت المعتزلة، أو بحكم الاتفاق والواقع من غير وجوب، كقول أصحابنا: وأما المعقول فهو أن الله تعالى حكيم في صنعه، فرعاية الغرض في صنعه إما أن يكون واجبًا أو لا يكون واجبًا. فإن كان واجبًا فلم يخل من المقصود، وإن لم يكن واجبًا ففعله للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود، فكان المقصود لازمًا من فعله ظنا. فإذا كان المقصود لازمًا في صنعه، فالأحكام من صنعه، فكانت لغرض ومقصود. والغرض إما أن يكون عائدًا إلى الله تعالى أو إلى العباد، ولا سبيل إلى الأول لتعاليه عن الضرر والانتفاع، ولأنه على خلاف الإجماع، فلم يبق سوى الثاني. وأيضًا فإن الأحكام مما جاء به الرسول، فكانت رحمة للعالمين، لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) فلو دخلت الأحكام من حكمة عائدة إلى العالمين ما كانت رحمة، بل نقمة، لكون التكليف بها محض تعب ونصب، وأيضًا قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (3) فلو كان شرع الأحكام في حق العباد لا لحكمة، لكانت نقمة لا رحمة، لما سبق، وأيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) (4) ، فلو كان التكليف بالأحكام لا حكمة عائدة إلى العباد، لكان شرعها ضررًا محضًا، وكان ذلك بسبب الإسلام وهو خلاف النص.
وإذا أثبت أن الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد، فإذا رأينا حكما مشروعًا مستلتزمًا لأمر مصلحي، فلا يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم أو ما لم يظهر لنا، لا يمكن أن يكون الغرض، ما لم يظهر لنا، وإلا كان شرع الحكم تعبدًا، وهو خلاف الأصل، لما سبق تقريره، فلم يبق إلا أن يكون مشروعًا لما ظهر، فإذا كان ذلك مظنونًا، فيجب العمل به؛ لأن الظن واجب الاتباع في الشرع ويدل على ذلك إجماع الصحابة على العمل بالظن ووجوب اتباعه في الأحكام الشرعية.
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام. ج: 3. ص: 411 و413.
(2) الآية: (107) سورة الأنبياء.
(3) الآية: (156) سورة الأعراف.
(4) انظر تخريجه في الفصل: (19) .(4/1228)
وقال الرازي (1) :
في معرض شرحه (بيان علية الوصف بالمناسبة) : "الناس ذكروا في تعريف مناسب شيئين:
الأول: أنه الذي يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلًا وإبقاء، وقد يعبر عن "التحصيل بجلب المنفعة، وعن الإبقاء بدفع المضرة؛ لأن ما قصد إبقاؤه، فإزالته مضرة، وإبقاؤه دفع للمضرة. ثم هذا التحصيل والإبقاء قد يكون مطردًا، وقد يكون مظنونًا، وعلى التقديرين، فإما أن يكون دينيا أو دنيويا، والمنفعة عبارة عن اللذة أو ما يكون طريقًا إليه، والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون طريقًا إليه، واللذة قيل في حدها: إنها إدراك الملائم، والألم: إدراك المنافي، والصواب عندي أنه لا يجوز تحديدهما؛ لأنهما من أظهر ما يجده الحي من نفسه ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما أو بينهما وبين غيرهما، وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه.
الثاني: أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات، فإنه يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة. أي: الجمع بينهما في سلك متلائم، وهذه الجبة تناسب هذه العمامة، أي: الجمع بينهما متلائم.
والتعريف الأول قول من يعلل أحكام الله تعالى بالحكم والمصالح، والتعريف الثاني قول من يأباه.
ثم قال (2) : كون المناسب مناسبًا إما أن يكون لمصلحة تتعلق بالدنيا أو لمصلحة تتعلق بالآخرة. أما القسم الأول فهو على ثلاثة أقسام؛ لأن رعاية تلك المصلحة إما أن تكون في محل الضرورة، أو في محل الحاجة، أما التي في محل الضرورة فهي التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الحسنة، وهي حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل.
__________
(1) المحصول. القسم: 2. ج: 2. ص: 217 و219.
(2) المحصول. القسم: 2. ج: 2 ص: 220.(4/1229)
ثم قال (1) : "المسألة الثالثة في أن المناسبة لا تبطل بالمعارضة، والدليل عليه أن كون الوصف مناسبًا، إنما يكون لكونه مشتملًا على جلب منفعة أو دفع مضرة، وذلك لا يبطل بالمعارضة. أما الأول فظاهر، وأما الثاني فيدل عليه وجوب الأول، أن المناسبتين المتعارضتين إما أن تكونا متساويتين، أو إحداهما أرجح من الأخرى، فإن كان الأول، لم يكن بطلان إحداهما بالأخرى أولى من العكس، فإما أن تبطل كل واحدة منهما بالأخرى، وهو محال؛ لأن المقتضي لعدم كل واحدة وجود الأخرى والعلة، ولا بد وأن تكون حاصلة مع المعلوم. فلو كان كل واحدة منهما مؤثرة في عدم الأخرى، لزم أن تكونا موجودتين حال كونهما معدومتين، وذلك محال. وإما أن لا تبطل إحداهما بالأخرى عند التعارض وذلك هو المطلوب، وأما إن كانت إحدى المناسبتين أقوى فههنا لا يلزم التفاسد أيضًا؛ لأنه لو لزم التفاسد لكان لما بينهما من المنافاة، لكنا تبينا في القسم الأول أنه لا منافاة بينهما؛ لأنهما اجتمعا وإذا زالت المنافاة لم يلزم من وجود أحدهما عدم الآخر.
الثاني: أن المفسدة الراجحة إذا كانت معارضة بمصلحة مرجوحة، فإما أن ينتفي شيء من الراجح لأجل المرجوح، أو لا ينتفي، والأول باطل، والثاني أيضًا باطل؛ لأن القدر الذي يندفع من المفسدة بالمصلحة يكون مساويًا لتلك المصلحة، فيعود التقسيم الأول في ذينك التقديرين المتساويين في أنه ليس اندفاع أحدهما بالآخر أولى من العكس. فإما أن يندفع كل واحد منهما بالآخر، وهو محال، أو لا يندفع واحد منها بالآخر، وهو المطلوب.
وأيضًا ليس اندفاع بعض أجزاء الطرف الراجح بالطرف المرجوح وبقاء بعضه أولى من اندفاع ما فرض باقيًا وبقاء ما فرض زائلًا؛ لأن تلك الأجزاء متساوية في الحقيقة ".
ثم قال:
(وعن ذلك نقول: المصلحة والمفسدة إما أن يتساويا، أو تكون إحداهما راجحة على الأخرى، فعلى تقدير التساوي يندفع كل واحد منهما بالآخر، فلا تبقى لا مصلحة ولا مفسدة، فوجب أن لا يترتب عليها لا مدح ولا ذم، وقد فرضنا ترتبهما عليها. هذا خلف.
__________
(1) المحصول القسم: 2. ج: 2 ص: 232 و241.(4/1230)
وإن كانت إحدى الجهتين راجحة كانت المرجوحة معدومة، فيكون الحاصل إما المدح وحده أو الذم وحده، وقد فرضنا حصولهما معًا. هذا خلف.
ثم قال:
"العقلاء يقولون في فعل معين الإتيان به في مصلحة في حقي لولا ما فيه من المفسدة الفلانية ولولا صحة اجتماع وجهي المفسدة والمصلحة وإلا لما صح هذا الكلام ".
ثم قال "في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على العلية:
"المناسبة تفيد ظن العلية، والظن واجب العمل به، بيان الأول من وجهين: الأول: أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد، وهذه مصلحة، فيحصل ظن أن الله تعالى إنما شرعه لهذه المصلحة، فهذه مقدمات ثلاث لا بد من إثباتها بالدليل.
أما المقدمة الأولى فالدليل عليها وجوه:
أحدها: أن الله تعالى خصص الواقعة المعينة بالحكم المعين لمرجح أو لا لمرجح، والقسم الثاني باطل، وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر، لا لمرجح، فثبت القسم الأول، وذلك المرجح إما أن يكون عائدًا إلى الله تعالى، أو إلى العبد، والأول باطل بإجماع المسلمين، فتعين الثاني، وهو أنه تعالى إنما شرع الأحكام لأمر عائد إلى العبد. والعائد إلى العبد إما أن يكون مصلحة للعبد أو مفسدته، أو ما لا يكون لا مصلحته ولا مفسدته، والقسم الثاني والثالث باطل باتفاق العقلاء، فتعين الأول فتعين الأول، فثبت أنه تعالى إنما شرع الأحكام لمصالح العباد.
وثانيها: أنه تعالى حكيم بإجماع المسلمين، والحكيم لا يفعل إلا لمصلحة، فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثًا، والعبث على الله محال للنص والإجماع والمعقول. أما النص فقوله تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (1) {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطلًا} (2) {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (3) وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث، وأما المعقول فهو أن العبث سفه، والسفه صفة نقص، والنقص على الله تعالى محال.
__________
(1) الآية: (115) سورة المؤمنون.
(2) الآية: (191) سورة آل عمران.
(3) الآية: (39) سورة الدخان.(4/1231)
فثبت أنه لا بد من مصلحة، وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى كما بينا، فلا بد من عودها إلى العبد، فثبت أنه تعالى شرع الأحكام لمصالح العباد.
وثالثها: أن الله تعالى خلق الآدمي مشرفًا مكرمًا، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} (1) ومن كرم أحدًا ثم سعى في تحصيل مطلوبه كان ذلك السعي ملائمًا لأفعال العقلاء مستحسنًا فيما بينهم، فإذا ظن كون المكلف مكرمًا يقتضى أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له.
ورابعها: أن الله تعالى خلق الآدميين للعبادة لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) والحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلابد وأن يزيح عذره وعلته، ويسعى في تحصيل منافعه ودفع المضار عنه، فيصير فارغ البال، ليتمكن من الاشتغال بأداء ما أمره به، والاجتناب عما نهاه عنه، فكونه مكلفًا يقتضي ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له.
وخامسها: النصوص الدالة على أن مصالح الخلق ودفع المضار عنهم مطلوب الشرع. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) وقال: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (4) وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (5) وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (6) {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمُ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (7) ، وقال عليه السلام: ((بعثت بالحنيفية السهلة السمحة)) قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 11. ص: 292. ح: 20574) أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عمر بن عبد العزيز، قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الدين أفضل؟ قال: ((الحنيفية السمحة)) . وقال أحمد (المسند. ج: 1. ص: 226) : حدثنى يزيد، قال: أنبأنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: ((الحنيفية السمحة)) .
__________
(1) الآية: (70) سورة الإسراء.
(2) الآية: (56) سورة الذاريات
(3) الآية: (107) سورة الأنبياء.
(4) الآية رقم (29) سورة البقرة.
(5) الآية رقم (13) سورة الجاثية.
(6) الآية: (185) سورة البقرة.
(7) الآية: (178) من سورة الحج.(4/1232)
وقال (المسند. ج: 5. ص: 266) : حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، حدثني علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه، قال: فمر رجل بغار فيه شيء من ماء، قال: فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى من الدنيا، ثم قال: وإني أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك، فإن أذن لي فعلت، وإلا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبي الله، مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتنى نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده، لغدوة وروحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة)) .
وقال (المسند. ج: 6. ص: 177 و233) : حدثنا سليمان بن داود , قال: حدثنا عبد الرحمن , عن أبيه قال: قال لي عروة: إن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ((لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة.))
وحدثنا سليمان بن داود، أنبأنا ابن أبي الزناد , عن أبي الزناد قال: قيل لي: إن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ((لتعلم يهود أن في ديننا فسحة , إني أرسلت بحنيفية سمحة)) وأورده البخاري تعليقا في باب "الدين يسر " من (كتاب الإيمان. ج: 1. ص: 15) وقال ابن حجر: (في تعليق التعليق. ج: 2. ص: 40 وما بعدها) : أخبرنا عبد الله بن عمر الحلاوي , أنبأنا أحمد بن محمد حنفجلة , أنبأنا عبد اللطيف الحراني , أنبأنا أبو محمد بن صاعد , أنبأنا أبو القاسم الكاتب , أنبأنا الحسن بن علي المذهب , أنبأنا أبو بكر بن مالك , حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد , حدثني أبي , حدثنا يزيد بن هارون , أنبأنا محمد بن إسحاق , عن داود بن الحصين , عن عكرمة , عن ابن عباس قال: ((قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة)) . ورواه البخاري في كتابه الأدب المفرد عن صدقة بن الفضل , عن يزيد بن هارون. وهكذا رواه عبد الأعلى وعبد الرحمن بن مغراء وعلي بن مجاهد وغيرهم , عن محمد بن إسحاق , ولم أره من حديثه إلا معنعنا , وله شاهد من مرسل صحيح الإسناد , قال ابن سعد في الطبقات: أنبأ عارم بن الفضل , حدثنا حماد بن زيد , حدثنا معاوية بن عياش الجرمي , عن أبي قلابة. فذكره في قصة. وله شاهد آخر صحيح مرسل أيضا , رواه أبو اليمان في نسخته , عن شعيب , عن الزهري , عن عمر بن عبد العزيز , عن أبيه , ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الدين , أيه أفضل؟ فقال: الحنيفية السمحة)) .
أنبئته عن غير واحد , منهم أبو الربيع بن قدامة , عن إبراهيم بن محمود الأزجي , أنبأنا عبد الحق بن عبد الخالق اليوسفي , أنبأنا هبة الله بن أحمد , أنبأنا أبو القاسم بن بشران , أنبأنا أبو سهل بن زياد القطان , حدثنا عبد الكريم بن الهيثم حدثنا أبو اليمان به.(4/1233)
ورواه البزار في مسنده من حديث عمر بن عبد العزيز , عن أبيه , عن جده , وفي إسناده عبد العزيز بن أبان , وهو متروك , ولم يخرج الحديث عن كونه مرسلا؛ لأن مروان جد عمر بن عبد العزيز لا يصح له صحبة ولا سماع , وله شاهد آخر مرسل , قال عبد الرزاق في مصنفه: أخبرنا ابن أبي رواد , عن محمد بن واسع , عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: إن ابن حجر لديه نسخة من مصنف عبد الرزاق تختلف عن التي بين أيدينا , فقد سبق أن نقلنا الحديث عن عبد الرزاق في هذا التعليق بسند مختلف. فتأمل.
وكذلك سبق أن نقلنا عن أحمد الحديث الذي نقله ابن حجر بعد حديث عبد الرزاق ضمن ما نقلناه من مسند أحمد. ثم قال: وفي الباب عن أبي بن كعب وجابر وابن عمر وأبي إمامة وأبي هريرة وأحمد بن عبد الله الخزاعي وغيرهم.
وقال الطبراني (المعجم الكبير. ج: 11 ص: 227. ح: 11571) : حدثنا أحمد بن داود المكي , حدثنا أحمد بن عمر الرازي , حدثنا عبد الرحمن بن مغراء , عن محمد بن إسحاق , عن داود بن الحصين , عن عكرمة , عن ابن عباس قال: ((قيل: يا رسول الله , أي الإسلام أفضل؟ قال: "حنيفية سمحة.))
وقال: ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) (1) .
وسادسها: أنه وصف نفسه بكونه رؤوفًا رحيما بعباده , وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (2) , فلو شرع ما لا يكون للعبد فيه مصلحة , لم يكن ذلك رأفة ورحمة.
وقال ابن قدامة المقدسي (3)
"متى لزم من الوصف المتضمن للمصلحة مفسدة مساوية للمصلحة أو راجحة عليها , فقيل: إن المناسبة تنتفي، فإن تحصيل المصلحة على وجه يتضمن فوات مثلها أو أكبر منها , ليس من شأن العقلاء , لعدم الفائدة على تقدير التساوي وكثرة الضرر على تقدير الرجحان , فلا يكون مناسبًا , إذ المناسب إذا عرض على العقول السليمة تلقته بالقبول , فيعلم أن الشارع لم يرد بالحكم تحصيلًا للمصلحة في ضمن الوصف المعين , وهذا غير صحيح , فإن المناسب المتضمن للمصلحة , والمصلحة أمر حقيقي لا ينعدم بمعارض , إذ ينتظم من العاقل أن يقول: لي مصلحة في كذا , يصدني عنه ما فيه من الضرر من وجه آخر , وقد أخبر الله تعالى أن في الخمر والميسر منافع للناس , وأن إثمهما أكبر من نفعهما.
__________
(1) انظر تخريجه في الفصل 19.
(2) الآية: (56) سورة الأعراف.
(3) روضة الناظر. ص 276، 278.(4/1234)
فلم ينف منافعهما مع رجحان إثمهما , والمصلحة جلب المنفعة أو دفع المضرة , ولو أفردنا النظر إليها غلب على الظن ثبوت الحكم من أجلها , وإنما يختل ذلك الظن مع النظر إلى المفسدة اللازمة من اعتبار الوصف الآخر , فيكون هذا معارضًا , إذ هذا حال كل دليل له معارض , ثم ثبوت الحكم مع وجود المعارض لا يعد بعيدًا , ونظيره ما لو ظفر الملك بجاسوس لعدوه , فإنه يتعارض في النظر اقتضاءان؛ أحدهما: قتله دفعًا لضرره , والثاني: الاحسان إليه استمالة له لتكشيف حال عدوه , فسلوكه إحدى الطريقين لا يعد عبثًا , بل يعد جريًا على موجب العقل , ولذلك ورد الشرع بالأحكام المختلفة في الفعل الواحد نظرًا إلى الجهات المختلفة , كالصلاة في الدار المغصوبة , فإنها سبب للثواب من حيث إنها صلاة , وللعقاب من حيث إنها غصب , نظرًا إلى المصلحة والمفسدة , مع أنه لا يخلو إما أن يتساويا , أو يرجح أحدهما , فعلى تقدير التساوي لا تبقى المصلحة مصلحة , ولا المفسدة مفسدة , فيلزم انتفاء الصحة والحرمة , وعلى تقدير رجحان المصلحة يلزم انتفاء الحرمة , وعلى تقدير رجحان المفسدة يلزم انتفاء الصحة , فلا يجتمع الحكمان معًا , ومع ذلك اجتمعا , فدلا على بطلان ما ذكروا.
ثم قدرنا توقف المناسبة على رجحان المصلحة , فدليل الرجحان أنا لم نجد في محل الوفاق مناسبًا سوى ما ذكرناه , فلو قدرنا الرجحان , يكون الحكم ثابتًا معقولًا , وعلى تقدير عدمه يكون تعبدًا , واحتمال التعبد أبعد وأندر , فيكون احتمال الرجحان أظهر. ومثال ذلك تعليلنا وجوب القصاص على المشتركين في القتل بحكمة الردع والزجر , كي لا يفضي إسقاطه إلى فتح باب الدماء , فيعارض الخصم بضرر إيجاب القتل الكامل على من لا يصدر منه ذلك , فيكون جوابه ما ذكرناه , والله أعلم ".
وبعد هذا الكلام الشريف الذي أوضح به كل من الرازي وابن قدامة - على اختلاف طريقتيهما في التبيان والإيضاح - ما قد يعترض من شبهات يلتبس تمييز الحكم منها على أغلب المتفقهة - لا سيما المقلدة - حين يتراءى شكل من شبهة التعارض بين المصلحة والمفسدة وعسر المراجحة بينهما , وانتهيا معًا إلى تقرير مبدأ استفاض بين الأصوليين وإن لم يوفق أغلبهم إلى مثل ما وفقا إليه من تبيان وتحليل وتعليل , وهو أن جلب المصلحة مقدم على درء المفسدة.(4/1235)
نعود إلى الشاطبي رحمه الله وهو يتميز عنهما - أو بالأحرى عن الرازي , فابن قدامة ليس ببعيد عنه في المنهاج - بأنه لا يوغل في منطقة الحجاج والبرهنة , وإنما يريدها ميسرة بينة , تتجاوب معها العقول والمدارك دون الحاجة إلى جهد يوغلها فيه افتعال المقدمات وابتغاء النتائج , أو بعبارة أدق وأوجز "فلسفة التعقيد التي كثيرًا ما تؤدي بأمثال الرازي يغفر الله له إلى مفازات من التعقيد إن لم تستعسر على العقول غير المهيأة , فلا أقل من أن تثقل عليها ونسوق كلام الشاطبي متتاليًا دون تعقيب , إذ سوف نقف عقب هذا الاستدلال بكلام السلف وقواعدهم موقفًا مستطيلًا لتبيان مدى علاقة تكييف تصرف الإنسان فيما خوله الله من مال بمقتضيات هذه القواعد التي بسطها أئمة أصول الفقه ومهدنا لها - قبل أن نسوق نصوصهم - بما سقناه من نصوص الكتاب والسنة , وفي وقفتنا تلك سنتوجها أيضًا بنصوص أخرى.
قال الشاطبي رحمه الله (1) : في معرض بيان (أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها , فلا يصح اشتراطها عند ذلك) .
"وكذلك الجهاد مع ولاة الجور , قال العلماء بجوازه، قال مالك: لو ترك ذلك لكان ضارا على المسلمين , فالجهاد ضروري , والوالي فيه ضروري , والعدالة فيه مكملة للضرورة , والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر , لذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 5. ص: 278 إلى 280 ح: 9607 إلى 9619) : عن معمر , عن الزهري , عن محمود بن الربيع , أن أبا أيوب الأنصاري غزا مع يزيد بن معاوية الغزوة التي مات فيها. وعن معمر , عن أيوب عن ابن سيرين قال: كان أبو أيوب الأنصاري يغزو مع يزيد بن معاوية , فمرض وهو معه , فدخل عليه يزيد يعوده , فقال له: حاجتك؟ قال: إذا أنا مت فسر بي في أرض العدو ما استطعت , ثم ادفني. قال: فلما مات , سار به حتى أوغل في أرض الروم يوما أو بعض يوم , ثم نزل فدفنه.
__________
(1) الموافقات. ج: 2. ص: 15.(4/1236)
وعن معمر , عن أيوب , عن أبي حمزة الضبعي , قال: قلت لابن عباس: إنا نغزو مع هؤلاء الأمراء , فإنهم يقاتلون على طلب الدنيا , قال: فقاتل أنت على نصيبك من الآخرة.
وعن الثوري , عن جابر قال: سألت الشعبي عن الغزو عن أصحاب الديوان أفضل أو التطوع؟ قال: بل أصحاب الديوان، المتطوع متى شاء رجع.
وعن ابن التيمي , عن كهمس , قال: قلت للحسن: نغزو مع الأمراء فما يطلعون على أمرهم، غير أنا نسالم إذا سالموا , ونحارب إذا حاربوا. قال: قاتل مع المسلمين عدوهم.
وقال ابن أبي شيبة (الكتاب المصنف. ج: 12. ص: 449 إلى 451 , الأثر: 15221 إلى 15231) : حدثنا حفص بن غياث , عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يغزون زمان الحجاج: عبد الرحمن بن يزيد , وأبو سنان وأبو جحيفة، حدثنا عبدة , عن الأعمش , قال: سمعتهم يذكرون أن عبد الرحمن بن يزيد كان يغزو الخوارج في زمان الحجاج يقاتلهم.
حدثنا عبدة بن سليمان , عن الأعمش , عن إبراهيم , أنه غزا في زمان الحجاج، حدثنا وكيع , قال: حدثنا مثنى بن سعيد , عن أبي حمزة قال: سألت ابن عباس عن الغزو مع الأمراء وقد أحدثوا. فقال: تقاتل على نصيبك من الآخرة , ويقاتلون عل نصيبهم من الدنيا.
حدثنا وكيع , قال: حدثنا حماد بن زيد , عن الجعد أبي عثمان , عن سليمان اليشكري , عن جابر قال: قلت له: أغزو أهل الضلالة مع السلطان؟ قال: اغز , فإنما عليك ما حملت , وعليهم ما حملوا.
حدثنا غندر، عن الفزاري، عن هشام، عن الحسن وابن سيرين سُئلا عن الغزو مع أئمة السوء، فقالا: لك شرفه وأجره وفضله، وعليهم إثمهم.
حدثنا وكيع، قال: حدثنا مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، قال: قلت لأبي: يا أبة، في إمارة الحجاج أتغزو؟ قال: يا بنى، لقد أدركت أقوامًا أشد بُغضًا منكم للحجاج، وكانوا لا يدعون الجهاد على حال، ولو كان رأي الناس في الجهاد مثل رأيك ما أرى الإتاوة، يعنى الخراج.
حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: ذكر له أن أقوامًا يقولون: لا جهاد، فقال: هذا شيء عرض به الشيطان.
حدثنا وكيع، قال: حدثنا الربيع بن الصبيح، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، قال: سألت ابن عمر عن الغزو مع أئمة الجور وقد أحدثوا، فقال: اغزوا.
حدثنا أحمد بن عبد الله، عن زائدة، عن ليث، قال: كان مجاهد يغزو مع بني مروان، وكان عطاء لا يرى بأسًا.
حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: خرج على الناس بعث زمن الحجاج , فخرج فيه عبد الرحمن بن يزيد.
وترجم البخاري في صحيحه (ج: 3. ص: 215) بحديث لم يسنده , فقال: باب الجهاد ماض مع البر والفاجر. وأسند بعض الترجمة حديث: الخيول معقود في نواصيها الخير.
لكن روى الحديث أبو داود (السنن. ج: 3. ص: 18. ح: 2532) , فقال: حدثنا سعيد بن منصور , حدثنا أبو معاوية , حدثنا جعفر بن برقان , عن يزيد بن أبي نشبة , عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله , ولا تكفره بذنب , ولا تخرجه من الإسلام بعمل , والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل , والإيمان بالأقدار)) .(4/1237)
وقال في نفس المعنى ولكن بعبارة أخرى (ح: 2533) : حدثنا أحمد بن صالح , حدثنا ابن وهب , حدثني معاوية بن صالح , عن العلاء بن الحرث , عن مكحول , عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير , برا كان أو فاجرًا , والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم , برا كان أو فاجرًا , وإن عمل الكبائر)) . وقال ابن ماجه (السنن. ج: 2. ص: 488. ح: 1525) : حدثنا أحمد بن يوسف السلمي , حدثنا مسلم بن إبراهيم , حدثنا الحارث بن نبهان , حدثنا عتبة بن يقظان , عن أبي سعيد , عن مكحول , عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا على كل ميت , وجاهدوا مع كل أمير)) .
وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 3. ص: 121) : أخبرنا أبو علي الروذباري، أنبأ أبو بكر بن داسة , حدثنا أبو داود، حدثنا أحمد بن صالح , حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح , عن العلاء بن الحارث , عن مكحول , عن أبن هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير , برا كان أو فاجرًا , والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم , برا كان أو فاجرًا , وإن عمل الكبائر , والصلاة واجبة على كل مسلم , برا كان أو فاجرًا , وإن عمل الكبائر)) .
ثم قال (1) :
" المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية , فلو اختل الضروري بإطلاق , لاختل باختلاله بإطلاق , ولا يلزم من اختلالهما اختلال الضروري بإطلاق , نعم قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما، وقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما، فلذلك إذا حوفظ على الضروري , فينبغي المحافظة على الحاجي , وإذا حوفظ على الحاجي , فينبغي أن يحافظ على التحسيني , فثبت أن التحسيني يخدم الحاجي , وأن الحاجي يخدم الضروري , وأن الضروري هو المطلوب ".
ثم قال:
"وبيان الأول أن مصالح الدين والدنيا مبنية على الأمور الخمسة المذكورة فيما تقدم، فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيا عليها , بمعنى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود - أعني ما هو خاص بالمكلفين والتكليف - وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك، فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى , ولو عدم المكلف لعدم من يتبين , ولو عدم العقل لارتفع التدين , ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء , ولو عدم المال لم يبق عيش - وأعني بالمال ما يقع عليه ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها وما يؤدي إليها من جميع المتمولات - فلو ارتفع في ذلك لم يكن بقاء , وهذا كله معلوم , ولا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا وأنها زاد للآخرة.
ثم قال (2) :
"المصالح المبثوثة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين؛ من جهة مواقع الوجود , ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها، فأما النظر الأول فإن المصالح الدنيوية - من حيث هي موجودة هنا - لا يتخلص كونها مصالح محضة".
ثم قال:
"كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود , إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات، ويدلك على هذا ما هو الأصل , وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين , فمن رام استخلاص جملة فيها , لم يقدر على ذلك".
ثم قال:
"فإذا كان كذلك , فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب , فإذا كان الغالب جهة المصلحة , فهي المصلحة المفهومة عرفًا , وإذا غلبت الجهة الأخرى , فهي المفسدة المفهومة عرفًا، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبًا إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة فمطلوب , ويقال فيه: إنه مصلحة , وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب منه , ويقال: إنه مفسدة على ما جرت به العادة في مثله".
__________
(1) الموافقات. ص: 16 و17
(2) الموا فقات. ص: 25 و26 و27(4/1238)
ثم قال:
"هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية، وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعا , فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد , فهي المقصودة شرعًا , ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل , وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا، فإن تبعها مفسدة أو مشقة فليست مقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه , وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد , فرفعها هو المقصود شرعًا , ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها حسب ما يشهد له كل عقل سليم، فإن تبعتها مصلحة أو لذة , فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل , بل المقصود ما غلب في المحل , وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي , كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر.
فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعًا أو المفاسد المعتبرة شرعًا , هي خالصة غير منسوبة بشيء من المفاسد لا قليلًا ولا كثيرًا , وإن توهم أنها مشوبة , فليست في الحقيقة الشرعية كذلك؛ لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة , وهذا المقدار هو الذي قيل: إنه غير مقصود للشارع في شرعية الأحكام ".
ثم قال (1) .
"وأما إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة عن حكم الاعتياد بحيث لو انفردت لكانت مقصودة لاعتبار الشارع , ففي ذلك نظر ".
ثم قال:
"فلا يخلو إما أن تتساوى الجهتان , أو تترجح إحداهما على الأخرى، فإن تساوتا فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الآخر إذا ظهر التساوي بمقتضى الأدلة , ولعل هذا غير واقع في الشريعة ".
__________
(1) الموافقات. ص: 30 و31(4/1239)
ثم قال:
"وأما إن ترجحت إحدى الجهتين، على الأخرى فيمكن أن يقال: إن قصد الشارع "غير " (1) متعلق بالجهة الأخرى , إذ لو كان متعلقًا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح ولا كان الحكم , كما إذا تساوت الجهتان فيجب الوقف , وذلك غير صحيح مع وجود الترجيح".
وقال الشاطبي أيضًا (2) :
"مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة لا تختص بباب دون باب , ولا بمحل دون محل , ولا بمحل وفاق دون محل خلاف , وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقًا في كليات الشريعة وجزئياتها".
ومن الدليل على ذلك ما تقدم في الاستدلال على مطلق المصالح , وأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد , ولو اختصت لم تكن موضوعة للمصالح على الإطلاق , لكن البرهان قام على ذلك , فدل على أن المصالح فيها غير مختصة ".
ثم قال (3) :
"جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونًا فيه على ضربين: أحدها: أن لا يلزم منه إضرار للغير , والثاني: أن يلزم منه ذلك، وهذا الثاني ضربان؛ أحدهما: أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار , كالمرخص في سلعته قصدًا لطلب معاشه وصَحِبه قصد الإضرار بالغير , والثاني: أن لا يقصد إضرارًا بأحد، وهو قسمان؛ أحدهما: أن يكون الأضرار عاما , كتلقي السلع وبيع الحاضر للبادي , والامتناع من بيع داره أو فدانه , وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو غيره.
والثاني: أن يكون خاصا , وهو نوعان؛ أحدهما: أن يلحق الجالب أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر , فهو محتاج إلى فعله , كالدافع عن نفسه مظلمة , يعلم أنها تقع بغيره أو يسبق إلى شراء طعام أو ما يحتاج إليه أو إلى صيد أو إلى حطب أو ماء أو غيره عالمًا إذا جازه استضر غيره بعدمه , ولو أخذ من يده استضر.
والثاني: أن لا يلحقه بذلك ضرر , وهو على ثلاثة أنواع:
أحدها: ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا , أعني القطع العادي , كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد، وشبه ذلك.
والثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرًا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيه , وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدًا , وما أشبه ذلك.
__________
(1) بدون زيادة لا يستقيم التعبير.
(2) الموافقات. ج: 2. ص: 54.
(3) الموافقات. ص: 348.(4/1240)
والثالث: ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لا نادرًا , وهو على وجهين؛ أحدهما: أن يكون غالبًا , كبيع السلاح من أهل الحرب , والعنب من الخمار , وما يغش به ممن شأنه الغش ونحو ذلك.
والثاني: أن يكون كثيرًا لا غالبًا , كمسائل بيوع الآجال , فهذه ثمانية أقسام.
فأما الأول فباق على أصله من الإذن , ولا إشكال فيه , ولا حاجة إلى الاستدلال عليه؛ لثبوت الدليل على الإذن ابتداء. وأما الثاني فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا إضرار في الإسلام , لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس وقصد إضرار الغير , هل يمنع منه فيصير غير مأذون به , أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن , ويكون عليه إثم ما أفسد؟
هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة , وهو جار على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة , ومع ذلك فيحتمل في الاجتهاد تفصيلًا , وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة أو درء تلك المفسدة , حصل له ما أراد أولا , فإن كان كذلك , فلا إشكال في منعه منه؛ لأنه لا يقصد ذلك الوجه لأجل الإضرار , فلينتقل عنه , ولا ضرر عليه , كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار , وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي ينظر منها الغير , فحق الجالب أو الدافع مقدم , وهو ممنوع من قصد الإضرار , ولا يقال: إن هذا تكليف بما لا يطاق , فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار , وهو داخل تحت الكسب , لا بنفي الإضرار بعينه.
وأما الثالث - ويعني به أن يكون الإضرار عامًا - فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به , بحيث لا ينجبر أولا، فإن لزم , قدم حقه على الإطلاق على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي فرضها الأصوليون , إذا تترس الكفار بمسلم , وعلم أن الترس إذا لم يقتل استوصل أهل الإسلام , وإن أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملة , فاعتبار الضرر العام أولى , فيمنع الجالب أولًا الدافع مما هم به؛ لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع وعن بيع الحاضر للبادي واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة , وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما ومتى رضي أهله وما لا، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص , ولكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة.(4/1241)
وقال الشاطبي (1) :
"لما أثبتت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينات , وكانت هذه الوجوه مثبوثة في أبواب الشريعة وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل , ولا باب دون باب , ولا قاعدة دون قاعدة , كان النظر الشرعي فيها أيضًا عامًا لا يختص بجزئية دون أخرى , لأنها كليات تقضي على كل جزئي تحتها , وسواء علينا أكان جزئيًا إضافيا أم حقيقيا , إذ ليس فوق هذه الكليات كل تنتهي إليه , بل هي أصول الشريعة , وقد تمت , فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى قياسها بإثبات أو غيره , فهي الكافية في مصالح الخلق عمومًا وخصوصًا؛ لأن الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (3)
وفي الحديث: ((تركتكم على الجادة)) (4) وقوله: ((لا يهلك على الله إلا هالك)) قال أحمد في (المسند. ج:1. ص: 279) : حدثنا عفان، حدثنا جعفر بن سليمان , حدثنا الجعد أبو عثمان , عن أبي رجاء العطاردي , عن ابن عباس , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربك تبارك وتعالى رحيم , من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة , فإن عملها كتبت له عشرة إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة , ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة , فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله تعالى , ولا يهلك على الله إلا هالك)) .
وقال مسلم (على هاش شرح النووي. ج: 2. ص: 149 و150) : حدثنا شيبان بن
فروخ، حدثنا عبد الوارث , عن الجعد أبي عثمان، حدثنا أبو رجاء العطاردي , عن ابن عباس , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات , ثم بين ذلك , فمن هم بحسنة فلم
يعملها , كتبها الله عنده حسنة كاملة , وإن هم بها فعملها , كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة , وإن هم بسيئة فلم يعملها , كتبها الله عنده حسنة كاملة , وإن هم بها فعملها , كتبها الله سيئة واحدة)) .
__________
(1) الموافقات ج: 3. ص: 5.
(2) الآية: (3) سورة المائدة.
(3) الآية: (28) سورة الأنعام.
(4) لم أقف عليه , ولعله طرف من حديث.(4/1242)
وقال الدارمي (السنن. ج: 2. ص: 321) : حدثنا عفان , حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا الجعد أبو عثمان , قال: سمعت أبا رجاء العطاردي , قال: سمعت ابن عباس , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربكم رحيم , من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة , فإن عملها كتبت عشرًا إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة , ومن هم بسيئة فلم يعملها , كتبت له حسنة , فإن عملها كتبت واحدة أو يمحوها , ولا يهلك على الله إلا هالك)) .
ونحو ذلك من الأدلة على تمام الأمر وإيضاح السبيل.
وإذا كان كذلك , وكانت الجزئيات وهي أصول الشريعة فما تحتها مستمدة من تلك الأصول الكلية - شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات - فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس , إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كليتها، فمن أخذ بنص مثلًا في جزئي معرضًا على كليه , فقد أخطأ , وكما أن من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليه , فهو مخطئ , كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه.
وقد آثرنا أن نسوق كل هذه النصوص وفي بعضها طول , وبعضها يتضمن في ثناياه ما لا يتصل بموضوعنا مباشرة , لنضع بين يدي من قد يتفضل بالاطلاع على هذا البحث وتمحيصه ما نحسبه من النصوص يغنيه عن الاضطرار إلى مراجعة مصادر مما رجعنا إليه أو على شاكلتها استبانة أو تأكدًا من سلامة النقل أو استقامة الاحتجاج أو شمول الاعتبار لمختلف الاتجاهات والمدارس الأصولية والفقهية فيما نقلناه واعتمدناه , ونحن نتلمس في مسيرتنا ما يتراءى لنا صراطا مستقيما إلى استبانة الحق وتجليته من أهواء وأوهام تداولته بطرائق شتى , فجللته بألوان من الارتياء والتأويل والتوجيه نحسبها - إن لم نكن مخطئين - جنحت عن القصد , وأوغلت في الجنوح.
ذلك بأن موضوع "انتزاع الملك للمصلحة العامة"على ضوء التشريع الإسلامي اضطربت فيه آراء من تناولوه بالدراسة والبحث , فأنكره البعض , ورأوه ضربًا من الاعتداء على حرمة أموال الناس التي ثبت في السنة والكتاب عظمتها من الاعتداء والتنديد على من تجاوز فيها حدود الله والوعيد له بأشد العقاب، ونحن والمسلمون كافة مع هؤلاء فيما حاولوا الاستناد إليه من النصوص والأحكام التي هي من بدهيات التشريع الإسلامي , ولكنا نختلف معهم , وننكر عليهم فيما خلصوا إليه من الرأي وركنوا إليه من الحكم واعتمدوا عليه من طرائق التشريع.(4/1243)
على حين أقره الآخرون على اختلاف بينهم في مدى وطرائق الإقرار , بيد أنهم - حسب ما انتهى إليه علمنا - اتففوا على اعتبار إقراره منطلقًا من قاعدة " المصلحة المرسلة " ومضى كل فريق يتسقط الحجج , ويلتقط النصوص تأكيدًا لما ذهب إليه من اعتبار "المصلحة المرسلة " هي القاعدة الوحيدة المحكمة في هذا الشأن.
ونحن نتفق مع هؤلاء في أن (المصلحة) هي منطلق الحكم في هذا المجال , بيد أننا نختلف معهم في طبيعة هذه المصلحة , فهي عندنا ليست " المصلحة المرسلة " وإنما هي " المصلحة العامة " التي هي مناط التشريع الإسلامي ومن أبرز أنواع
المناط في جميع مجالاته وخاصة المعاملات.
وشتان بين اعتبار "المصلحة المرسلة " واعتبار "المصلحة العامة " قاعدة في الحكم , إذ إن اعتبار "المصلحة المرسلة" يعني أن الحكم مجرد اجتهاد , والحكم الاجتهادي هو عندنا أضعف الأحكام , حتى وإن اعتمد على القياس الصحيح السليم , فكيف إذا اعتمد على مجرد اعتبار "المصلحة المرسلة ".
أما اعتبار المصلحة العامة هي القاعدة , بصفتها مناط التشريع , فمرده ليس إلى "الاجتهاد المجرد" , وإنما إلى الفهم القائم على الاستقراء والاستقصاء للنصوص والآثار , ثم اجتلائها وتقييمها في نطاق ظروفها وملابساتها ودون إغفال ما قد يتراءى للبعض بين بعض النصوص والآثار من تغاير أو تناقض أو اضطراب أو ضعف , ودون إغفال أيضًا لتمحيص هذا الذي يتراءى لهؤلاء تمحيصًا ينأى عن التقليد , ولا يعتمد إلا على اعتبار الدلالات الدقيقة والأسباب المجردة عند تقدير كل عنصر من تلك العناصر (التعارض , والتغاير , والتناقض , والاضطراب والضعف) .
وواضح وضوحًا لا مجال للمراء فيه أن الحكم الذي يثبت بنص من الكتاب أو السنة - فكيف إذا كان بنص منهما معًا - باعتباره من مشمولات دلالته أو مناطه أو هما معًا , أقوى وأرسخ وألزم بمراحل بعيدة من ذلك الذي يثبت أو يراد إثباته بمجرد اجتهاد منطلق من تقدير شخصي مهما استفرغ فيه من جهد لقاعدة " المصالح المرسلة " ومدى التطابق بينها وبين الأمر الذي يراد الحكم فيه اعتمادًا عليها.(4/1244)
15 - حق التصرف بمقتضى المصلحة العامة
على أن المصير إلى تحرير الحكم الشرعي في "انتزاع الملك للمصلحة العامة " يستلزم تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان وما تحت يده من ثابت ومتنقل.
وقد ألمعنا إلى رأينا في هذا الشأن إلماما عارضًا حين وقفنا عند دلالة اللام في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) وأوضحنا اعتمادنا القول بأنها للاختصاص ليست للملك , كما رأى الجمهور , واستظهرنا هنالك بآثار بعض المفسرين , ونريد أن نعود إلى الوقوف عند معنى اللام؛ لأن تحديده بدقة هو المنطلق الأساسي - في تقديرنا - إلى تحديد الحكم الذي نحن بسبيل البحث فيه , ووقفتنا هذه ترتكز على ثلاث ركائز؛ الأولى: قوله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (2) , وقوله في سورة الأنبياء: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (3) والثانية: حديث زيد بن أسلم , عن أبيه , وقد سبق أن نقلناه عن أبي عبيدة وجاء فيه قول عمر رضي الله عنهم جميعًا , " قال أسلم: فسمعت رجلًا من بني ثعلبة يقول له: يا أمير المؤمنين , حميت بلادنا , قاتلنا عليها في الجاهلية , وأسلمنا عليها في الإسلام. يرددها عليه مرارًا , وعمر واضع رأسه إليه , ثم إنه رفع رأسه إليه , ثم قال: البلاد بلاد الله , ويحمي النعم مال الله , يحمل عليها في سبيل الله.
والثالث: معنى ذكره الأصوليون للام الإضافة , وهو "التصرف" , وننقله عن أبي الوليد الباجي - رحمه الله - فقد أحسن التعبير عنه والتمثيل له قال (4) :
"فأما لام الإضافة فلها خمسة مواضع: الملك , والسبب , والفعل , والاختصاص , واليد والتصرف".
ثم قال: وأما اليد والتصرف فنحو قولك: المال للوصي , بمعنى أن له فيه اليد والتصرف. قال الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (5) فأضاف المال إلى الأوصياء لما كان لهم من القيام عليها والتصرف للأيتام فيها".
__________
(1) الآية رقم (9) سورة البقرة.
(2) الآية رقم (128) سورة الأعراف.
(3) الآية رقم (105) سورة الأنبياء.
(4) إحكام الفصول. ص: 180. فقرة: 25.
(5) الآية: (5) سورة النساء.(4/1245)
قلت: ومن هذا القبيل دلالة اللام في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) فهي عندي لـ"اختصاص" التصرف تمامًا كما هي في الآية السالفة التي استدل بها الباجي لإبراز معنى التصرف فيها، يعضد ذلك جواب عمر لأخي بني ثعلبة حين حاجه بقوله: بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام , إذ إن عمر لم يجبه بصيغة تحتفظ بإضافة البلاد والأرض إلى بني ثعلبة الذين قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام , إنما حاجهم بقوله: البلاد بلاد الله , ويحمي النعم مال الله. الحديث.
وما من شك في أن عمر - رضي الله عنه - عدل عن إضافة الأرض إلى بني ثعلبة , فصرف إضافتها إلى الله عن عمد ولهدف قاصد , بل ولحكم ثابت عنده دل عليه قوله: البلاد بلاد الله , , ويحمي النعم مال الله. ولست أجد نصًا أوثق من هذا يفرق بين "الملكية" و" التصرف" , ذلك بأن المالك هو الأحق , بل صاحب الحق الوحيد فيما يملك إذا تعينت الحاجة إلى "تخصصه " أو "تخصص" ما يتصل به مباشرة بحق المنفعة و"الانتفاع" , وأن من قد يكون خول لها "التصرف" أو جعل له "الاختصاص " في ذلك الملك كله أو بعضه , إنما يكون ذلك الذي خول له
أو جعل حين لا تتعين الحاجة إلى أن يستقل المالك أو غيره ممن هو أوثق منه صلة وأولى بالتخويل والتخصيص. فإذا تعينت كان تعينها ناسخًا لأي تخويل أو "تخصيص" أيا كان المخول له "المخصص" , ولسنا نرى لعدول عمر عن إضافة البلاد إلى بني ثعلبة وصرف إضافتها إلى الله وتعليل ذلك الصرف بأن النعم الذي يحمل عليه مال الله , دلالة غير الإصداع بهذا الحكم الحازم الحاسم الذي لا يقبل أي مراء أو تأويل.
ولا سبيل إلى القول بأن هشام بن سعد المدني راوي هذا الأثر عن زيد بن أسلم وصفه البعض بأنه "قد يهم" , فأطراف من الحديث وردت بطرق أخرى , وهشام بن سعد روى عنه مسلم والأربعة , ولم يغمز في دينه , والحديث من الشهرة بحيث كان حريا بأن يثير جدلًا بين التابعين من طبقة هشام ومن دونها ومن فوقها لو كان فيه ما رآه المحدثون جديرًا بالجرح أو الريب.
__________
(1) الآية رقم (29) سورة البقرة.(4/1246)
ثم إن قول عمر هذا ليس بدعًا من عمر , وإنما هو تطبيق لاستمرار حكم كان من عهد موسى عليه السلام وحكاه القرآن الكريم عنه في قول الله جل جلاله على لسانه: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} (1) , فهي ليست لأحد , وهو يورثها من يشاء من عباده , وهؤلاء الذين يشاء - أو اقتضت حكمته وجرى سننه - أن يورثها لهم من عباده , هم الذين أشار إليهم موسى عليه السلام نفسه في قوله في الآية التالية لهذه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (2) , فهو يعدهم بالاستخلاف وينبههم إلى أن الاستخلاف ليس وضعًا مكتسبًا اكتسابًا أبديًا لهم , وإنما هو ابتلاء أو امتحان يظهر الله تعالى به صلاحهم أو عدم صلاحهم له إذ: {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} . ونظيره قوله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) , فهي إذن سنة الله في خلقه , يستخلف على الأرض من يشاء من عباده ما أحسنوا خلافته عليها , لا فرق بين مسلم وغير مسلم , وينتزعها منهم إذا أفسدوا , فلم يحسنوا خلافته عليها , لا فرق أيضًا بين مسلم وغير مسلم , وهو لا ينذرهم بانتزاعها فحسب , وإنما ينذرهم بالعقاب على الإفساد , ويبشرهم بالرحمة لمن أناب إليه , وتاب بعد أن أفسد، فالعلاقة بين الإنسان وما خول له من ثابت ومتنقل هي خلافة الله في تصريفه والتصرف فيه , وهي مستمرة ما أحسن القيام بواجبات الخلافة , فزائلة عمن أساء إلى غيره ممن لم يسئ , وقد يكون أصلح , وذلك عندي - ولا شيء غيره , وإن تجمهر المفسرون على غيره - تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (4) , ذلك بأن هذه الآية الكريمة وردت بعد مجموعة من أخبار الأولين أمم وأنبياء ورسل , امتحنوا بألوان من الابتلاء من سراء وضراء , وكان لهم تأثير في تطور الحياة في الأرض , وفيهم داود وسليمان اللذين كانا ملكين , وفيهم زكريا الذي كانت ضراعته إلى الله أن يهبه وريثًا , وبعد حكاية أخبار هذه الأمم وهؤلاء الأنبياء والرسل جاء قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (5)
__________
(1) الآية رقم (128) سورة الأعراف.
(2) الآية رقم (129) سورة الأعراف.
(3) الآية رقم (165) سورة الأنعام.
(4) الآية رقم (105) سورة الأنبياء.
(5) الآيتان (94، 95) سورة الأنبياء.(4/1247)
وواضح أن قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} , يعني: التمييز بين الإيمان والعمل من الصالحات , وهو نفس التمييز الوارد في قوله سبحانه وتعالى في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (1)
ويعني أيضًا من هم "الصالحون " في قوله: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (2) , ومن عجب أن يذهب المفسرون في تأويل هذه الآية كل مذهب إلا التأويل الصحيح , فإنهم أهملوه أو غفلوا عنه، ذلك بأن كلمة "الصلاح" وما اشتق منها وقر في أذهانهم وأفهامهم أنها لا تعني في القرآن والحديث إلا الصلاح المؤدي إلى نعيم الآخرة حتى حين ترد في معرض ضبط وتنظيم شؤون الدنيا , وهذا الذي وقر في أذهانهم جعلهم يتكلفون التأويلات لما يكون تأويله ظاهرًا , بل ثابتًا من القرآن الكريم نفسه ومن نسبة الله في كونه، فليس الصلاح الذي معناه التقوى مؤهلًا لصاحبه وحده لأن يكون خليفة الله في الأرض يوكل إليه أمر أعمارها وتطويرها لصالح الناس كافة , إنما الصلاح المؤهل لهذه المهمة هو الكفاية للقيام بها بما تقتضيه مسؤولية خلافة الله ومهمتها , وقد لفت الله سبحانه وتعالى الانتباه إلى الحكمة من هذه السنة التي استنها للكون بتعقيبه على الآية الآنفة الذكر بقوله جل جلاله: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} (3) , فجاءت العبارة مسوقة على التذكير في المضاف إليه وصفته، فلم يقل جل جلاله: للقوم العابدين. بالتعريف , ومع ذلك اضطرب المفسرون في تأويل هذه الآية واحتاروا اضطرابهم واحتيارهم في تأويل سابقتها , وذهبوا في كل مذهب إلا المذهب الصحيح القويم , وهو أن الصالحين الذين كتب الله في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثونها , هم قوم عابدون , وعبد في هذه الآية ليس من العبادة في دلالتها الشرعية , وإنما هو من أصل دلالتها اللغوية , وهي الذلة والألم الذي يتشكل في بعض حالاته غضبًا , وقد عرفت العرب استعمال كلمة التعبيد بمعنى التذليل , كما عرفت استعمال كلمة عبد - بكسر الباء الموحدة - بمعنى غضب , وقد شاع في ألسنة الناس وصف الطريق السوية بأنها معبدة (4) .
__________
(1) الآية رقم (55) سورة النور.
(2) الآية: (105) سورة الأنبياء.
(3) الآية: (106) سورة الأنبياء.
(4) انظر ابن منظور لسان العرب. ج: 3. ص: 274 و275.(4/1248)
ومن عجب أن المفسرين لم يلتفتوا إلى تجرد قوم عابدين من أداة التعريف , فلو أريد بهم القوم العابدون الذين هم الصالحون في رأيهم لما كان لتجريد قوم عابدين من أداة التعريف معنى واضح , ومعاذ الله أن يكون في القرآن تعبير ليس مقصودًا لذاته , وليست صيغته مرادة في دلالته , والمعنى - والله أعلم - أن البشارة بأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون وجهت بلاغًا لقوم يعانون من الذل معاناة تفعم نفوسهم ألمًا حتى لا يتحول الألم فيها إلى نمط من الغضب على الحياة لما يعانون من الذلة والهوان , فهي بشارة وجهت إليهم "بلاغًا " لتعيد إليهم الأمل وتدعوهم إلى الاستعداد بابتغاء المؤهلات التي تجعلهم صالحين لخلافة الله في الأرض بأعمارها مؤهلين لإرثها بصلاحهم له.
ونعتقد أن مما يشهد لرأينا هذا , ما وصف به إبراهيم وبنوه من أنهم كانوا عابدين في قوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} , فهم موصوفون في هذه الآية الكريمة بالتذلل والخضوع لله وبأنهم أوحي إليهم فعل الخيرات , أي: أنهم يفعلون الخيرات بإلهام من الله وتوفيق , وهذه الخيرات ليست هي العبادات غير المعقولة المعنى والتي تضبط العلاقة بين العبد وربه , وإنما هي شيء يتجاوز مجرد التعبد , كانوا يفعلونه بوحي من الله متقربين إلى الله بالاستذلال له , فهم له عابدون , على أن كلمة عابدين في هذه الآية ليست وصفًا لنكرة , وإنما هي وصف لمعرفة , فهي تختلف صيغة عن كلمة عابدين في الآية السابقة , ومع ذلك فلا تبعد عنها في جوهر معناها , وإن اختلفتا وجهة دلال باختلاف المساق , وهذه من روائع الإعجاز القرآني.
وقد وردت كلمة (صلح) ومشتقاتها في القرآن الكريم دالة على غير العبادة والالتزام بها , وإن كان مدلولها داخلًا بالنية عند استحضارها في مضمون العبادة. قال الله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أو إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} (1)
{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ} (2) {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (3) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (4) {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (5) {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (6) {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (7) {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (8) {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (9) {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (10) . {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (11)
__________
(1) الآية رقم (182) سورة البقرة.
(2) الآية: (39) سورة المائدة.
(3) الآية: (16) سورة النساء.
(4) الآية: (160) سورة البقرة.
(5) الآية (51) و (52) سورة الشعراء.
(6) الآية: (48) سورة النمل.
(7) الآية: (42) سورة الأعراف.
(8) الآية: (46) سورة هود.
(9) الآية: (33) سورة النور.
(10) الآية: (27) سورة القصص.
(11) الآية: (17) سورة هود(4/1249)
وما نحسب مفسرًا أو متأولًا مستقيم النظر في دلالة الآي مستحضرًا لمواقعها ومساقها ومناسباتها يسيغ لنفسه أن يزعم أن واحدة من هذه الآيات إنما تعني بكلمة " صلح " ومشتقاتها ما يتصل بالتعبد غير المعقول المعنى لله سبحانه وتعالى.
فالموعودون بالمغفرة والرحمة ممن استزلهم الشيطان بالقذف إن هم تابوا وأصلحوا , ليس إصلاحهم بالضرورة شاملًا للقيام بجميع العبادات المأمور بها؛ لأن إفسادهم الذي استوجبوا من أجله العقاب في الدنيا والحرمان من قبول شهادتهم
والوصف بالفسق , إنما هو رمي المحصنات , وبدهي أن الإصلاح المطلوب منهم ليتأهلوا للمغفرة والرحمة هو أن يكذبوا أنفسهم ويشيعوا تبرئة المحصنات مما قذفوهن به إشاعة تشمل مدى ما أشاعوه من قذف , واللذان أُمِر المسلمون بالإعراض عنهما والكف عن إيذائهما لما أتياه من الفاحشة إن تابا وأصلحا , يراد بإصلاحهما الإقلاع عن إتيان الفاحشة , إذ هي الفساد الذي من أجله أمر المسلمون بإيذائها.
هذان مثلان من دلالة كلمة "صلح " ومشتقاتها في الآيات التي سقناها براهين على أن القرآن الكريم استعمل هذه الكلمة في مواضع شتى ليس بمعنى التقوى , كما توهم المفسرون في كثير من الآيات , ولكن بمعنى إزالة الفساد المتصل بإحداث الخلل في المجتمع , سواء كان الخلل في المال أو في الأنساب أو في غيرهما مما يتصل بالحياة الاجتماعية أو بمعنى الإسهام في عمارة الأرض وتطوير الحياة البشرية عليها أو ما نسميه اليوم بالإنماء الاقتصادي وتطوير الحضارة , وهذان الأمران؛ الإقلاع عن الفساد , والإسهام في التطوير الحضاري، هما الصلاح المؤهل لخلافة الله في الأرض وإرثها الذي هو إرث التصرف فيها وتصريف نتاجها.
ولعلنا قد أوضحنا بما فيه الغناء كل الغناء ما نذهب إليه من أن علاقة الإنسان بما خول له في الأرض وفي الكون من " الثابت " و" المتنقل " هي الاختصاص في التصرف , وهي ما سماه الله سبحانه وتعالى بالخلافة حين جعل الإنسان خليفة له في الأرض , وأهلية الإنسان لهذه الخلافة هي التي لم يتبينها الملائكة حين توجسوا من استخلاف الله له , فقالوا إذ قال لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1) {: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} } (2)
__________
(1) الآية رقم (30) سورة البقرة.
(2) الآية رقم (30) سورة البقرة.(4/1250)
وهذا الاختصاص والتصرف أو هذه الكيفية لفهم علاقة الإنسان بالأرض وخلافته عليها هي التي عبر عنها عمر بقوله: البلاد بلاد الله. الحديث.
ومع أن ما سقناه من الأدلة على ما ذهبنا إليه من معنى اللام المضافة في قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} (1) الآية , أنه لاختصاص التصرف ومن أن هذا الاختصاص والتصرف لا يناط بالإنسان المسلم وحده , وإن كان يؤثر عن غيره إذا تساوى مع غيره أو فضل عنه , وإنما يناط بكل من كان أصلح لممارسته , فإنا نرى للمزيد من التأكيد والإيضاح أن نسوق آيات أخرى من كتاب الله العزيز , لا سبيل أن يزعم أحد عند تأويلها أن اللام فيها للملك , ولا سبيل إلى اعتبار اللام فيها لغير الاختصاص والتصرف. قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (2) .
وقد يتيسر للمفسرين الذين يحبون أن يحصروا دلالة اللام المضافة في الملك أن يزعموا أنها كذلك في إضافة الرزق والفلك , بل وقد يزعمون أنها كذلك أيضًا في الأنهار , ولكن هل يستطيعون أنها كذلك في الشمس والقمر وفي الليل والنهار حتى مع استحضار ما وصل إليه العلم التجريبي الحديث من قدرة الإنسان على استعمال أشعة الشمس كوسيلة من وسائل استنباط الطاقة المتجددة.
وعلى هذه الوتيرة جاء قوله سبحانه وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (3)
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (4) وقوله جل جلاله {: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} } (5)
__________
(1) الآية رقم (29) سورة البقرة.
(2) الآية: (32) و (33) سورة إبراهيم.
(3) الآية: (12) سورة النحل.
(4) الآية: (20) سورة لقمان.
(5) الآية: (12) و (13) سورة الجاثية.(4/1251)
وما نحسب أحدًا يستطيع أن يزعم للإنسان أي نوع من أنواع الملكية للشمس والقمر والنجوم والبحر وجميع ما في السماوات وما في الأرض وإن طاب لبعض أن يتبجحوا بالقول: "إن الإنسان سيد هذا الكون " , وأغلب هؤلاء إن لم يكونوا جميعًا من الملاحدة أو ممن في إيمانهم دخل.
ولا جرم أن علاقة الإنسان بما تصل إليه يده من هذا الكون تنحصر في خلافة الله في التصرف والتصريف وتنضبط باعتبار المصلحة العامة حتى فيما يتراءى له كما لو كان منحصرًا في المصلحة الخاصة في جميع ممارساته , ذلك بأن الفرد لا يملك استقلالا كاملا بمعنى انفصالا مطلقا عن إخوانه كأفراد في المجتمع , ولا عن كيان المجتمع كهيكل متميز فيما قد يتراءى له أنه ذاتي صرف , إذ إن أدنى إغفال - فضلًا عن تجاوز متعمد - لاعتبار مقتضيات المصلحة العامة لا مناص من أن يحدث خللًا فيها بما ينطلق منه من الاعتماد على متطلبات الأنانية الصرفة , وهو خلل كثيرًا ما يتحول إلى فساد هادم , آية ذلك أن الغني حين يتجاهل حقوق الآخرين فيما بين يديه من مال فينفقه مبذرًا مسرفًا , لا محيص من أن ينعكس تصرفه المنحرف على مصالح غيره انعكاسًا ماديا واجتماعيًا وخلقيًا , وذلك بعض ما يمكن استلهامه من قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (1) .
ومن التنديد المتكرر في آيات شتى من القرآن الكريم بالترف والمترفين , بل إن القرآن الكريم أوضح عاقبة التبذير بجلاء في نص لا يقبل التأويل , وهو قول الله الحكيم الخبير: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (2) وأخرى ما جاء به الشرع من وجوب الحجر على السفيه إذا صار إليه مال بإرث أو هبة من مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (3) , بل إن الشرع الإسلامي جاء بحرمان المعتدي على حقوق غيره حرمانًا كاملًا مما كان مخولًا له اختصاص التصرف فيه , وذلك عقابًا له على الاعتداء ودرءًا لانتشار الطبيعة العدوانية والتصرفات التي لا تراعي حقوق الآخرين.
ولعل أبرز مثل وأصرحه لهذا الإجراء ما وقع لسمرة بن جندب.
__________
(1) الآية (27) سورة الإسراء.
(2) الآية: (16) سورة الإسراء.
(3) الآية رقم (5) سورة النساء.(4/1252)
قال أبو داود (1) :
"حدثنا سليمان بن داود العتكي، حدثنا حماد، حدثنا واصل مولى أبي عيينة , قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي - يعني الباقر عليه السلام - يحدث , عن سمرة بن جندب رضي الله عنه ((أنه كانت له عضد (2) من نخل في حائط رجل من الأنصار , قال: ومع الرجل أهله , قال: فكان سمرة يدخل إلى نخله , فيتأذى به , ويشق عليه , فطلب إليه أن يبيعه , فأبى , فطلب إليه أن يناقله , فأبى , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم , فذكر ذلك له , فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه , فأبى , فطلب إليه أن يناقله , فأبى , قال: فهبه له , ولك كذا وكذا. أمرًا رغبه فيه , فأبى , فقال: أنت مضار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: اذهب فاقلع نخله)) .
وقال البيهقي (3) :
" أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا أبو الربيع , حدثنا حماد بن زيد , عن واصل مولى ابن عيينة , قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يحدث , عن سمرة بن جندب ((أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار , قال: ومع الرجل أهله , وكان سمرة بن جندب يدخل إلى نخله , فيتأذى به ويشق عليه , فطلب إليه أن يبيعه , فأبى , فطلب إليه أن يناقله , فأبى , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم , فذكر ذلك , فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه , فأبى , فطلب إليه أن يناقله , فأبى , قال: قال: فهبه لي , ولك كذا وكذا. أمرا رغبه فيه , فأبى , فقال: أنت مضار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: اذهب فاقلع نخله)) .
__________
(1) سقط هذا الهامش من الأصل (المجلة) .
(2) عضد قال محقق السنن محمد محيي الدين عبد الحميد رحمه الله: عضد من نخل , بفتح العين وضم الضاد , قال الخطابي: هو هكذا في رواية أبي داود , وصوابه: عضيد , يريد نخلا لم تسبق ولم تطل , قال الأصمعي: إذا صار للنخلة جذع يتناول منه المتناول , فتلك النخلة العضيدة , وجمعه عضيدات.
(3) السنن الكبرى. ج: 6. ص: 157 و158.(4/1253)
وتعقبه البيهقي بقوله: وقد روي في معارضته ما دل على أنه لا يجبر عليه.
ثم قال:
"أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ أبو بكر محمد بن الحسين القطان، حدثنا إبراهيم بن الحارث، حدثنا يحيى بن أبي بكر، حدثنا زهير بن محمد , عن عبد الله بن محمد بن عقيل , عن جابر بن عبد الله ((أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال: إن لفلان في حائطي عذقًا , وقد آذاني وشق علي مكان عذقه. فأرسل إليه نبي الله صلى الله عليه وسلم , وقال: بعني عذقك الذي في حائط فلان. قال: لا. قال: فهبه لي. قال: لا. قال: فبعنيه بعذق في الجنة قال: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت أبخل منك إلا الذي يبخل بالسلام)) .
قلت: ويظهر أن قضية هذا العذق ليست نفس قضية نخلة سمرة , يدل على ذلك ما أعقب به البيهقي روايته لقصة هذا العذق مما يعين صاحبه قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو محمد المزني، حدثنا علي بن محمد بن عيسى، حدثنا أبو اليمان، أخبرني شعيب , عن الزهري قال: حدثني سعيد بن المسيب ((أن أول شيء عاتب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي لبابة بن عبد المنذر أنه خاصم يتيما له في عذق نخلة , فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة بالعذق , فضج اليتيم واشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة: هب لي هذا العذف يا أبي لبابة لكي نرده إلى اليتميم. فأبى أبو لبابة أن يهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا لبابة , أعطه هذا اليتيم ولك مثله في الجنة. فأبى أبو لبابة أن يعطيه , فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله , إن ابتعت هذا العذق فأعطيت اليتيم ألي مثله في الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فانطلق الأنصاري وهو ابن الدحداحة حتى أتى أبا لبابة فقال: يا أبا لبابة , أبتاع منك هذا العذق بحديقتي , وكانت له حديقة نخل , فقال أبو لبابة: نعم. فابتاعه منه بحديقة , فلم يلبث ابن الدحداحة إلا يسيرًا حتى جاء كفار قريش يوم أحد , فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقاتلهم , فقتل شهيدًا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة)) .(4/1254)
قلت: ولا تنافي بين القصتين , فقد كان تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية سمرة تصرفًا بحق الإمامة , وسيأتي بعد قليل بيان بالظروف التي يكون فيها للإمام التصرف بحق الإمامة , وكان تصرفه صلى الله عليه وسلم في قضية أبي لبابة تصرفًا بمقتضى النبوة , فقد قضى بحق الإمامة لأبي لبابة بالعذق , فلما تأذى منه اليتيم , لم ير أن يقضي له بحق الإمامة ما يدفع عنه الأذى ليس إصرارًا على حكمه الأول , ولكن - حسب ما يدل مصير القضية ومن كان الحل على يديه - لوحي أو مكاشفة من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بما سيصير إليه أمر القضية , أو لأنه صلى الله عليه وسلم ما زال يأمل في أبي لبابة أن يرجع عن إصراره , لذلك أمهله مليا , ولعله رآه في حالة نفسية متشنجة , فاستأنى به لعله يراجع أمره بعد أن يهدأ. ويشهد لهذا الاحتمال ما جاء في أول القصة في الرواية الثانية للبيهقي: من أن أبا لبابة خاصم يتيما له , ولعل اليتيم كان في حجره أو من قرابته , وأبو لبابة ليس من عامة الصحابة , بل من صفوتهم , فلا يبعد أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرج أو أشفق من أن يصدمه بما يكره , فاستأنى به على أمل أن يفيء إلى الخير , ومهما يكن فإن قصة "العذق " لا تعارض قصة "العضد " كما حاول البيهقي أن يوهم، وقد قالوا في قصة "العضد": إن أبا جعفر بن محمد عليه السلام لم يسمع من سمرة , وهذا قريب الاحتمال، فقد توفي سمرة - رضي الله عنه - وما يزال أبو جعفر طفلًا أو في بداية اليفاعة من سنيه , وقريب جدًا أن لا يكون سمع منه , فيكون الحديث مرسلًا , ولكن بأي مرسل إذا لم نعمل بمراسيل أبي جعفر وأمثاله من أئمة التابعين وأفاضلهم , لا سيما أهل البيت؟!
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحكام ما يشبه قضية سمرة أو يقرب منها , من ذلك ما رواه البخاري وغيره من قصة الزبير مع رجل من الأنصار , ولفظه من البخاري (1) :
__________
(1) ج: 3. ص: 76 , وانظر أبو داود السنن. ج: 3. ص: 315. ح: 3637.(4/1255)
"حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثني ابن شهاب , عن عروة , عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - أنه حدثه , أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج (1) الحرة التي يسقون بها النخل , فقال الأنصاري: سرح الماء يمر. فأبى عليه , فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: اسق يا زبير , ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري , فقال: أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم , ثم قال: اسق يا زبير , ثم احبس الماء حتى ترجع إلى الجدر. فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (2) .
وعلى هذا النسق - وربما استلهامًا لقصة الزبير أو استنادا إليها - جرى عمر رضي الله عنه في حكم مماثل , روى البيهقي وغيره واللفظ للبيهقي , قال (3) :
"أخبرنا أبو زكرياء، حدثنا أبو العباس، أنبأ الربيع، أنبأ الشافعي، أنبأ مالك , عن عمرو بن يحيى المازني , عن أبيه , أن الضحاك بن خليفة ساق خليجا له من العريض (4) فأراد أن يمره في أرض لمحمد بن مسلمة محمد بن مسلمة رمز له ابن حجر في (تهذب التهذيب. ج: 9. ص: 454 و455. ترجمة: 737) بأنه روى عنه الجماعة , وترجم له بأنه محمد بن مسلمة بن سلمة بن حريش الخزرجي الأنصاري الحارثي أبو عبد الله , ويقال: أبو عبد الرحمن وأبو سعيد المدني , روى عن النبي صلى الله عليه وسلم , وعنه ابنه محمود والمسور بن مخرمة وسهل بن أبي سلمة وأبو بردة بن أبي موسى وقبيصة بن ذؤيب والأعرج وضبيعة بن حصين وعروة بن الزبير وغيرهم.
__________
(1) الشراج بكسر الشين جمع شرجة , وهي مسيل الماء
(2) الآية: (65) سورة النساء.
(3) السنن الكبرى. ج: 6. ص: 157.
(4) عريض بتصغير عرض بفتح العين أو ضمها واد بالمدينة , ذكر في المغازي: "خرج أبو سفيان من مكة حتى بلغ العريض , ثم انطلق هو وأصحابه هاربين إلى مكة , وقد ورد ذكره في الشعر الجاهلي أيضًا , انظر ياقوت: معجم البلدان: 4. ص: 114.(4/1256)
ونقل عن ابن عبد البر قوله: كان من أفضل الصحابة وهو أحد الثلاثة الذين قتلوا كعب بن الأشرف , استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته على المدينة , ولم يشهد الجمل ولا صفين , ونقل عن ابن سعد قوله: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح , وعن البرقي قوله: توفي سنة اثنتين وأربعين , وعن المدائني وجماعة مات سنة ثلاث وهو ابن سبع وسبعين سنة , وقيل: سنة ست , وقيل: سنة سبع وأربعين.
قال ابن حجر: وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه أن شاميًا من أهل الأردن دخل عليه داره فقتله , وقال ابن شاهين عن ابن أبي داود: قتله أهل الشام , ولم يعين السنة , لكونه اعتزل عن معاوية في حروبه رضي الله عنه وأرضاه. فأبى محمد , فكلم فيه الضحاك (1) عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فدعا محمد بن مسلمة , فأمره أن يخلي سبيله , فقال محمد بن مسلمة: لا. فقال عمر رضي الله عنه: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافعًا , تشرب به أولًا وآخرًا , ولا يضرك؟ فقال محمد: لا. فقال عمر رضي الله عنه: لم تمنع؟ والله ليمرن به ولو على بطنك.
وتعقبه البيهقي بقوله: هذا حديث مرسل , وبمعناه رواه أيضًا يحيى بن سعيد الأنصاري , وهو أيضًا مرسل , وقد روي في معناه حديث مرفوع.
قلت: لا يضيره الإرسال , فكل من يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المدني "من الثالثة "، وابنه عمرو من السادسة , ويحيى بن سعيد , سواء كان الأشدق "من الثالثة " أو القطان من كبار التاسعة , ثقات , روى عنهم الستة , فلا يغمز عندنا الإرسال فيما يرسل هؤلاء وأئمتهم الكبار.
وسنسوق مزيدًا من الأمثلة المتسقة مع هذه حين نعرض لما خوله الله الإنسان من اختصاص التصرف في المتنقل من المال.
__________
(1) رمز له ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 4. ص: 444. ترجمة: 773) : بأنه روى عنه الأربعة , وقال عنه: الضحاك بن سفيان الكلابي أبو سعيد له صحبة , كان ينزل نجدا , ويقال: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة بعثه على بني كلاب لجمع صدقاتهم , وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إليه أن يورث أشيم الضبابي من دية زوجها , وروى عنه سعيد بن المسيب , وليس له في الكتب غيره , وروى الحسن البصري عنهم حديثا آخر. ثم قال ابن حجر: نسبه ابن السكن وغيره: الضحاك بن سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب رضي الله عنه وأرضاه.(4/1257)
ونعتقد أنه قد وضح بما يزيل كل اشتباه والتباس ما توخيناه من إثبات الطبيعة الحقيقية لعلاقة الإنسان بما خوله الله من اختصاص التصرف فيما صار إليه بالطرق المشروعة من المال الثابت والمتنقل وطبيعة العلاقة بين تخويله "اختصاص التصرف" وبين استخلافه بذلك التخويل في تصريف ما خول إليه تصريفًا يلتزم بأمرين؛ العمل على زيادة إعمار الأرض أو - بالتعبير الحديث - التطور الحضاري , ورعاية المصلحة العامة باعتبارها المهيمنة وحدها على كل تصرف وتصريف فيما استخلف فيه , وباعتبار المصالح الخاصة لاغية وباطلة إذا تعارضت مع المصلحة العامة؛ لأنها تستحيل عندئذ مفاسد لا ينحصر ضررها وفسادها في المجال العام وحده , وإنما يصيب أول ما يصيب من يتوهم أنها مصالح خاصة له بتأثير النظرة المحدودة واللبس الحاصل من تصورها بمنظور الأنانية الضيقة.
ولا مراء في أن الشريعة الإسلامية اعترفت بالمصالح الفردية وشرعت لها ما يعصمها عند كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي أو الإنساني من عدوان وتجاوز الآخرين , بيد أنها حددت هذه الشرعية وما يترتب عنها من عصمة وصيانة بأن لا تكون هي أيضًا أداة تجاوز وعدوان منه على غيره من أفراد المجتمع أو على كيان المجتمع نفسه , فإذا تجاوزت هذه الحدود انتفت الشرعية؛ لأن المصالح العامة هي معيار كل اعتبار , والمهيمنة على كل تصرف وتصريف وتشريع. إنها بذاتها قاعدة تشريع ومعيار تشريع؛ لأنها المناط الضابط والمتحكم لمقاصد وغايات كل تشريع.
ونرى أن من أبرز ما يعكس تصرفات السلف طبقًا لهذه القاعدة ما فعله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين عمد إلى توسيع كل من المسجد الحرام والمسجد النبوي.(4/1258)
قال الأزرقي (1) : أخبرني جدي - يعني أحمد بن محمد بن الوليد - قال: أخبرنا مسلم بن خالد , عن ابن جريج , قال: كان المسجد الحرام ليس عليه جدارات محاطة , إنما كانت الدور محدقة به من كل جانب , غير أن بين الدور أبوابًا , يدخل منها الناس من كل نواحيه , فضاق على الناس , فاشترى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دورًا , فهدمها وهدم على من قرب من المسجد , وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن , وتمنع من البيع , فوضعت أثمانها في خزانة الكعبة , حتى أخذوها بعد، ثم أحاط عليه جدارًا قصيرًا , وقال عمر: إنما نزلتم على الكعبة , فهو فناؤها , ولم تنزل الكعبة عليكم. ثم كثر الناس في زمن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فوسع المسجد , واشترى من قوم , وأبى آخرون أن يبيعوا , فهدم عليهم , فصيحوا به , فدعاهم , فقال: إنما جرأكم علي حلمي عنكم , فقد فعل بكم عمر هذا فلم يصح به أحد , فاحتديت على مثله فصيحتم بي , ثم أمر بهم إلى الحبس , كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فتركهم.
وقال الطبري (2) :
"وفي هذه السنة - أعنى سنة سبع عشرة - اعتمر عمر , وبنى المسجد الحرام فيما زعم الواقدي , ووسع فيه , وأقام بمكة عشرين ليلة , وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا , ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها ".
وقال (3) : "وقال الواقدي: فيها زاد عثمان في المسجد ووسعه , وابتاع من قوم وأبى آخرون , فهدم عليهم , ووضع الأثمان في بيت المال , فصيحوا بعثمان , فأمر بهم بالحبس , وقال: أتدرون ما جرأكم علي , ما جرأكم علي إلا حلمي , قد فعل هذا بكم عمر , فلم تصيحوا به , ثم كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأخرجوا ".
__________
(1) أخبار مكة. ج: 2. ص: 65 و66.
(2) تاريخ الطبري. ج: 4. ص: 68 و69.
(3) تاريخ الطبري. ج: 4. ص: 251.(4/1259)
وقال الحاكم (1) : "أخبرنا أبو جعفر بن محمد بن عبد الله البغدادي , حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن سليمان بن إبراهيم الإسكندراني بمصر، حدثنا أبو يحيى الضرير زيد بن الحسن البصري , حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم , عن أبيه , عن جده , عن عمر بن الخطاب أنه قال للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((زد في المسجد)) ودارك قريبة من المسجد , فأعطيناها , نزدها في المسجد , وأقطع لك أوسع منها , قال: لا أفعل. قال: إذن أغلبك عليها. قال: ليس ذاك لك , فاجعل بيني وبينك من يقضي بالحق. قال: ومن هو؟ قال: حذيفة بن اليمان. قال: فجاؤوا إلى حذيفة , فقصوا عليه , قال حذيفة: عندي في هذا خبر , قال: وما ذاك؟ قال: إن داود النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يزيد في بيت المقدس , وقد كان بيت قريب من المسجد ليتيم , فطلب إليه فأبى , فأراد داود أن يأخذها منه , فأوحى الله عز وجل إليه أن نزه البيوت عن الظلم لبيتي. قال: فتركه , فقال العباس: فبقي شيء؟ قال: لا. قال: فدخل المسجد , فإذا بميزاب للعباس شارع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسيل ماء المطر منه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال عمر بيده , فقلع الميزاب , فقال: هذا الميزاب لا يسيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال العباس: والذي بعث محمدًا بالحق , إنه هو الذي وضع الميزاب في هذا المكان , ونزعته أنت يا عمر؟ فقال عمر: ضع رجليك على عاتقي لترده إلى ما كان هذا. ففعل ذلك العباس , ثم قال العباس: قد أعطيتك الدار تزيدها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فزادها عمر في المسجد , ثم قطع العباس دارًا أوسع منها بالزوراء. وتعقبه بقوله: هذا حديث كتبناه عن أبي جعفر وأبي علي الحافظ عليه , ولم يكتبه إلا بهذا الإسناد , والشيخان - رضي الله عنهما - لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ".
قلت: وأغفله الذهبي , فلم يدرجه في التلخيص.
__________
(1) المستدرك. ج: 3. ص: 331.(4/1260)
وقال ابن سعد (1) : "أخبرنا يزيد بن هارون , قال: أخبرنا أبو أمية بن يعلى , عن سالم أبي النضر , قال: لما كثر المسلمون في عهد عمر , ضاق بهم المسجد , فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور , إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين , فقال عمر للعباس: يا أبا الفضل , إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم , وقد ابتعت ما حوله من المنازل توسع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين , أما حجر أمهات المؤمنين , فلا سبيل إليها , وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسع بها في مسجدهم. فقال العباس: ما كنت لأفعل. فقال عمر: اختر إحدى ثلاث؛ إما أن تبيعها بما شئت من بيت مال المسلمين , وإما أن أخططك (2) حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين , وإما أن تتصدق بها على المسلمين , فتوسع بها في مسجدهم. فقال: لا , ولا واحدة منها. فقال عمر: اجعل بيني وبينك من شئت فقال: أبي بن كعب. فانطلقا إلى أبي , فقصا عليه القصة , فقال أبي: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالا: حدثنا. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله أوحى إلى داود أن ابْنِ لي بيتًا أذكر فيه. فخط له هذه الخطة , خطة بيت المقدس , فإذا تربيعها بيت رجل من بني إسرائيل , فسأله داود أن يبيعه إياه , فأبي , فحدث داود بنفسه أن يأخذ منه , فأوحى الله إليه أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتًا أذكر فيه , فأردت أن تدخل في بيتي الغصب , وليس من شأني الغصب , وإن عقوبتك أن لا تبنيه. قال: يا رب , فمن ولدي. قال: من ولدك)) . قال: فأخذ عمر بمجامع ثياب أبي بن كعب , وقال: جئتك بشيء , فجئت بما هو أشد منه لتخرجن مما قلت فجاء يقوده حتى أدخله المسجد , فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فيهم أبو ذر , فقال: إني نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث بيت المقدس حيث أمر الله داود أن يبنيه إلا ذكره. فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخر: أنا سمعته. وقال آخر: أنا سمعته - يعنى من رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: فأرسل عمر أبيا , قال: وأقبل أبي على عمر , فقال: يا عمر , أتتهمني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: يا أبا المنذر , لا والله ما اتهمتك عليه , ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا. قال: وقال عمر للعباس: اذهب فلا أعرض لك في ذلك. فقال العباس: أما إن فعلت هذا , فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع عليهم بها في مسجدهم , فأما وأنت تخاصمني , فلا. قال: فخط عمر لهم دارهم التي هي لهم اليوم , وبناها من بيت مال المسلمين.
__________
(1) الطبقات ج:4 ص: 21 وما بعدها
(2) لعل الصواب: أن أخطط لك(4/1261)
قال: أخبرنا سليمان بن حرب وعارم بن الفضل , قالا: حدثنا حماد بن سلمة , عن علي بن زيد , عن يوسف بن مهران , عن ابن عباس قال: كانت للعباس بن عبد المطلب دار إلى جنب المسجد بالمدينة , فقال عمر: هبها لي أو بعنيها , حتى أدخلها في المسجد , فأبى. قال: فاجعل بينى وبينك رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , فجعلا أبي بن كعب بينهما , قال: فقضى أبي على عمر. قال: فقال عمر: ما في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أجرأ علي من أبي , قال: أو أنصح لك يا أمير المؤمنين؟ أما علمت قصة المرأة , أن داود لما بنى بيت المقدس , أدخل فيه بيت امرأة بغير إذنها , فلما بلغ حجر الرجال منع بناءه , فقال: أي رب , إذ منعتني ففي عقبي من بعدي. فلما كان بعد , قال له العباس: أليس قد قضيت لي؟ قال: بلى. قال: فهي لك قد جعلتها لله.
وقال السيوطي في الدر المنثور الدر المنثور. ج: 4. ص: 160. قال البخاري (الصحيح. ج: 2. ص: 15 و16) : حدثنا عمرو بن علي , قال: حدثنا أبو قتيبة , قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار , عن أبيه قال: سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وقال عمر بن حمزة: حدثنا سالم , عن أبيه , ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي , فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب.(4/1262)
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب.
حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري , قال: حدثني أبي عبد الله بن المثنى , عن ثمامة بن عبد الله بن أنس , عن أنس , أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب , فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا , وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون.
وقال (الصحيح. ج: 4. ص: 209) : حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثني أبي عبد الله بن المثنى , عن ثمامة بن عبد الله بن أنس , عن أنس رضي الله عنه , أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب , فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا , وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون.
وقال ابن سعد (الطبقات. ج: 4. ص: 28 و29) : أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري , قال: حدثني أبي , عن ثمامة بن عبد الله , عن أنس بن مالك , أنهم كانوا إذا قحطوا على عهد عمر خرج بالعباس فاستسقى به , وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا عليه السلام إذا قحطنا , فتسقينا , وإنما نتوسل إليك بعم نبينا عليه السلام , فاسقنا.
أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء , قال: حدثنا عمرو بن أبي المقدام , عن يحيى بن مقلة , عن أبيه , عن موسى بن عمر , قال: أصاب الناس قحط , فخرج عمر بن الخطاب يستسقي , فأخذ بيد العباس , فاستقبل به القبلة , فقال: هذا عم نبيك عليه السلام جئنا نتوسل به إليك , فاسقنا. قال: فما رجعوا حتى سقوا.
أخبرنا محمد بن عمر , قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن حاطب , عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب , عن أبيه قال: رأيت عمر آخذًا بيد العباس , فقام به , فقال: إنا نستشفع بعم رسولك صلى الله عليه وسلم إليك. .- بعد أن نقل عن ابن سعد الروايتين السابقتين لحديث عمر مع العباس -:(4/1263)
وأخرج عبد الرزاق في المصنف , عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يأخذ دار العباس بن عبد المطلب , يزيد بها في المسجد , فأبى العباس رضي الله عنه أن يعطيها إياه , فقال عمر رضي الله عنه: لآخذنها. قال: اجعل بيني وبينك أبي بن كعب , قال: نعم , فأتيا أبيا , فذكرا له، فقال أبي رضي الله عنه: أوحى الله إلى سليمان بن داود عليه السلام أن يبني بيت المقدس , وكانت أرضًا لرجل , فاشترى منه الأرض , فلما أعطاه الثمن , قال: الذي أعطيتني خير أم الذي أخذت مني؟ قال: بل الذي أخذت منك , قال: فإني لا أجيز. ثم اشتراها منه بشيء أكثر من ذلك , فصنع الرجل مثل ذلك مرتين أو ثلاثًا , فاشترط عليه سليمان عليه السلام أني أبتاعها منك على حكمك , , ولا تسألني أيهما خير. قال: نعم. فاشتراها بحكمه , فاحتكم اثني عشر ألف قنطار ذهبًا , فتعاظم ذلك سليمان أن يعطيه , فأوحى الله إليه إن كنت تعطيه من شيء هو لك , فأنت أعلم , وإن كنت تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى. قال: ففعل. قال: وإني أرى أن عباسًا رضي الله عنه أحق بداره حتى يرضيه. قال العباس رضي الله عنه: فإن قضيت , فإني أجعلها صدقة على المسلمين.
وأخرج عبد الرزاق , عن زيد بن أسلم , قال: كان للعباس بن عبد المطلب دار إلى جنب مسجد المدينة , فقال عمر رضي الله عنه: بعنيها , وأراد عمر أن يدخلها في المسجد , فأبى العباس أن يبيعها إياه , فقال عمر رضي الله عنه: فهبها لي. فأبى , فقال عمر: فوسعها أنت في المسجد. فأبى , فقال عمر: لا بد لك من إحداهن , فأبى عليه , قال: فخذ بيني وبينك رجلًا. فأخذا أبي بن كعب , واختصما إليه , فقال أبي لعمر: ما أرى أن تخرجه من داره حتى ترضيه. فقال عمر: أرأيت قضاءك هذا في كتاب الله أم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبي: بل سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: وما ذاك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس , جعل كلما بنى حائطًا أصبح منهدما , فأوحى الله إليه أن في حق رجل حتى ترضيه. فتركه عمر رضي الله عنه , فوسعها العباس رضي الله عنه بعد ذلك في المسجد")) .(4/1264)
قلت: حاول البعض أن يستظهر بحديث عمر والعباس هذا , لما ذهب إليه من عدم جواز الملك للمصلحة العامة , وأنه ولا بد من استرضاء المالك , فإن لم يرض , فلا سبيل إلى أحد أيا كان إلى ما يملك , وإن تعينت المصلحة العامة واستحال إنجازها بغير الحصول على ملك ذلك المتعنت , وهو استدلال خاطئ من وجوه: أحدها: أن عمر قال للعباس في رواية الحاكم حين أبى أن يبيعها أو يتصدق بها أو يعارض عليها: إذن أغلبك عليها. وقال له في إحدى الروايات التي نقلها السيوطي عن عبد الرزاق: لآخذنها. قال: فاجعل بيني وبينك أبي بن كعب. الحديث.
وفي رواية أخرى نقلها السيوطي عن عبد الرزاق لم ترد كلمة "لآخذنها"، أو "إذن أغلبك عليها"، أو ما في معناهما , وإنما وردت كلمة لا بد لك من إحداهن أي: البيع أو المعارضة أو الصدقة , ووردت على لسان العباس كلمة "خذ بيني وبينك رجلًا ". وفي هذه الرواية أن عمر هو الذي أخذ أبي بن كعب , وسنعود بعد قليل إلى هذا الاضطراب، أما الذي يعنينا الآن , فهو أن "التحكيم " جاء حسب ثلاث من هذه الروايات بعد إنذار أو ما يشبهه من عمر للعباس رضي الله عنهما بانتزاع ملكية الدار استجابة للمصلحة العامة التي تعينت بالضرورة لحاجة المسلمين , وقد كثروا إلى توسيع المسجد النبوي , وأن التحكيم كان نتيجة للتراضي بينهما , وهذا يعنى أن عمر لم يتزحزح عن مبدأ حق الإمام في انتزاع الملك للمصلحة العامة أو للضرورة , وإن رضي قبل تطبيقه بالتحكيم ما زال عند حكم الحكم احترامًا للحكم أو للعباس أو لهما معًا وللصحابة الذين شهدوا بصحة رواية أبي , أو على أمل أن يتراجع العباس عن تصلبه إذ أدرك عمر - من قبوله أو اقتراحه التحكيم أن تصلبه ذاك إنما كان مصدره إباء العباس من أن يفرض عليه أمر , وإصراره على أن لا يتأمر عليه أحد وعلى أن تكون له الكلمة العليا فيما يتصل بشؤونه الخاصة أو ما يراه متصلًا بشؤونه الخاصة، ولكي ندرك وجاهة هذا الاحتمال ينبغي أن نستحضر ما رواه أصحاب السنن من توسل عمر بالعباس في "الاستسقاء " (1) بعد لحاق الرسول صلى الله
عليه وسلم بالرفيق الأعلى باعتباره عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيط به العباس من إجلال وتبجيل حتى لقد احتمل زكاته وجعلها في ذمته (2) عندما أخبروه بامتناع العباس من إخراجها مما هو مبسوط في كتب السنة والمناقب بطرق لا سبيل إلى الغمز فيها , وما كان مثل هذا التبجيل ليخفى على عمر , وما كان ليغفل عنه , وهو يواجه الخلاف بينه وبين العباس على إضافة دار العباس إلى المسجد النبوي، ثم إن العباس كان رجلًا مهيبًا (3) قوي الاعتداد بنفسه , لا يكاد يقبل أن ترد له كلمة , ولا يكاد أحد يجرؤ على أن يردها له , وذلك مستفيض في أبواب المناقب من مدونات السنن وفضلًا عن ذلك كله , فقد درج أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على ملاطفة بني هاشم ملاطفة استثنائية - والعباس عميدهم لسنه - راعيا لما هجس في خواطر بعضهم - ربما في خواطرهم جميعًا - من خروج الخلافة منهم , وكانوا يأملون فيها؛ لأنهم أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طالبوه به غفلة منهم عن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)) قال البخاري (ج: 4. ص: 209 و210) : حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب , عن الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير , عن عاثشة رضي الله عنها , أن فاطمة عليها السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم التي بالمدينة وفدك , وما بقي من خمس خيبر , فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نورث ما تركنا فهو صدقة)) إنما يأكل آل محمد من هذا المال - يعنى مال الله - ليس لهم أن يزيدوا على المأكل , وإني والله لا أغير شيئًا من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم , ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشهد علي , ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك , وذكر قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم , فتكلم فقال: والذي نفسي بيده , لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي.
أخبرني عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا خالد , حدثنا شعبة , عن واقد قال: سمعت أبي يحدث , عن ابن عمر , عن أبي بكر رضي الله عنهم قال: ارقبوا محمدا في أهل بيته.
ورواه من هذه الطريق , ومن أخرى غيره من أصحاب السنن والمؤرخين , والحديث أشهر من أن نفيض في تخريجه
__________
(1) سيأتي بيانه بعد قليل.
(2) سيأتي بيانه بعد قليل
(3) قال الذهبي (سير أعلام النبلاء ج: 2. ص: 79. ترجمة: 11) : قال الكلبي: كان العباس شريفًا مهيبًا عاقلًا جميلًا أبيض بضًا , له ضفيرتان معتدل القامة.(4/1265)
ثم إن عمر ما كان ليخفى عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقالة عثرات ذوي الهيئات قال أبو داود (السنن. ج: 4. ص: 133. ح: 4375) : حدثنا جعفر بن مسافر ومحمد بن سليمان الأنباري , قالا: أخبرنا ابن أبي فديك , عن عبد الملك بن زيد - نسبه جعفر إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - عن محمد بن أبي بكر , عن عمرة , عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم , إلا الحدود)) .
وذكر المزي (تحفة الأشراف. ج: 12. ص: 413. ح: 17912) أن النسائي أخرجه في السنن الكبرى: حديث: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)) .
زاد ابن أبي فديك: ((إلا الحدود)) . (في الحدود 3:4) عن جعفر بن مسافر والأنباري , كلاهما عن ابن أبي فديك , عن عبد الملك بن زيد - نسبه جعفر إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - عن محمد بن أبي بكر به. س في الرجم (الكبرى 22: 1) عن إبراهيم بن يعقوب , عن سعيد بن أبي مريم , عن عطاف بن خالد , قال: أخبرني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر , عن أبيه به.
روي عن محمد بن أبي بكر , عن أبيه , عن عمرة. وسيأتي.
وقال (تحفة الأشراف. ج: 12 ص: 431. ح: 17956) فقال على التوالي: حديث: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)) . س في الرجم (الكبرى 32: 5) عن إبراهيم بن يعقوب , عن عبد الله بن يوسف , عن عبد الرحمن بن أبي الرجال , عن ابن أبي ذئب , عن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب , عن ابن حزم به.
عن عبد الملك بن زيد المدني , عن محمد بن أبي بكر بن حزم , عن أبيه , وزاد: ((إلا الحدود))
و (23: 6) عن يونس بن عبد الأعلى , عن معن بن عيسى , عن ابن أبي ذئب , عن عبد العزيز بن عبد الله , عن أبي بكر بن حزم به. ولم يذكر عائشة.
و (32: 4) عن هلال بن العلاء , عن عبد الله بن قعنب , عن ابن أبي ذئب , عن
عبد العزيز بن عبد الملك , عن محمد بن أبي بكر , عن أبيه به. مرسل.
و (3:32) عن محمد بن حاتم , عن سويد بن نصر , عن عبد الله بن المبارك , عن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر , عن محمد بن أبي بكر , عن أبيه , عن عمرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((تجاوزوا عن زلة ذي الهيئة)) . وهو عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب , روى عن محمد بن أبي بكر بن حزم , عن عمرة , عن عائشة. وقد مضى - ح (17912) , ورواه أبو عروبة الحراني , عن إبراهيم بن أبي الوزير , عن أبي بكر بن نافع المدني , عن محمد بن عمارة , عن عمرة , عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم(4/1266)
وأخرجه البيهقي (السنن. ج: 8. ص: 267) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو طاهر الفقيه وأبو العباس أحمد بن محمد الشاذياخي في آخرين , قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، أنبأنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، حدثني عبد الملك بن زيد , عن محمد بن أبي بكر بن حزم , عن أبيه , عن عمرة بنت عبد الرحمن , عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم , إلا حدا من حدود الله)) .
وقال (السنن. ص: 334) على التوالي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن بالويه المزكي , قالا: حدثنا الإمام أبو الوليد حسان بن محمد القرشي , حدثنا جعفر بن محمد بن الحسين، حدثنا يحيى بن أبي يحيى , أنبأ أبو بكر بن نافع المديني , عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم , قال: قالت عمرة: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم)) .
أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن إبراهيم المهراني المزكي وأبو العباس أحمد بن محمد الشاذياخي وغيرهما , قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا محمد بن إسماعيل , عن ابن أبي فديك , حدثنا عبد الملك بن زيد , عن محمد بن أبي بكر بن حزم , عن أبيه , عن عمرة بنت عبد الرحمن , عن عاثشة أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم , إلا حدًا من حدود الله))
وكذلك رواه دحيم وأبو الطاهر بن السرح , عن ابن أبي فديك. ورواه جماعة عن ابن أبي فديك دون ذكر أبيه فيه , فالله أعلم.
والعباس في الصدارة من ذوي الهيئات بلا مراء.
من أجل ذلك كله نرى أن عدول عمر عن المصادرة إلى التحكيم ثم قبوله بالحكم إنما ينهض دليلًا لنا وليس علينا.(4/1267)
فالمصادرة كانت هي الأساس لرأي عمر وموقفه والعدول عنها كان استثناء، ونعتقد أن العباس رضي الله عنه - إذا صحت الروايات التي نقلناها آنفًا - كان مدركًا لذلك , وكان عازمًا من أول الأمر على النتيجة التي انتهى إليها آخره , وهي أن يتصدق بداره على المسلمين، بيد أنه أراد أن يثبت لعمر أنه وإن يكن خليفة للمسلمين لا سبيل له إليه , وربما ولا إلى غيره من بنى هاشم ما دام حيًا , ثم إن عمر أثار في نفس العباس ما حمله على التصلب لما ذكر له أن حجر أمهات المؤمنين - وهي مثل دار العباس ملاصقة للمسجد - لا سبيل إليها , وما كان العباس في أنفته ومكانه المتميز عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرضى بأن يكون أدنى منزلة من أمهات المؤمنين في تقدير عمر ورعايته.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث مضطرب اضطرابًا شديدًا لفظًا وسندًا , فقد وصله الحاكم عن طريق زياد بن أسلم , لكن ما نقله السيوطي عن عبد الرزاق كان مرسلًا , سواء كان عن زيد بن أسلم نفسه , أو عن سعيد بن المسيب , وقد جهدت أن أعثر في مصنف عبد الرزاق على ما نقله عنه السيوطي , فلم أهتد إليه في مظانه من المصنف , وأخشى أن يكون السيوطي قد أغفل بعض رجال سند عبد الرزاق , وذلك اعتمادًا على بعض التصرف الذي يظهر أنه من السيوطي فيما نقله عن ابن سعد.
ومهما يكن ففي الروايات المختلفة لهذا الأثر تغاير , يعسر تدارك بعضه , فبعضها ينص على أن عمر ترك إلى العباس أن يختار حكما , فاختار أبيا على حين ينص غيره على أن عمر اختار أبيا فقبله العباس , وتأتي رواية الحاكم الموصولة , فتذكر أن الحكم كان حذيفة بن اليمان , وليس أبيا , وإن احتفظت بما نقل على لسان أبي من حديث بناء بيت المقدس. ثم إن ما ذكرته هذه الروايات وغيرها مما نقل السيوطي عن الواسطي وابن مردويه بعد حديث عمر عن قصة بناء بيت المقدس شديد الاضطراب، فبعضها يتحدث عن بيت امرأة أراد داود أن يأخذها غصبًا , وبعضها الآخر يتحدث عن أرض أغلى صاحبها ثمنها , فأراد داود أن يأخذها غصبًا. وأخرى تتحدث عن أن سبب عدم بناء داود بيت المقدس وأرجائه إلى سليمان هو أن داود بنى لنفسه بيتًا قبل أن يأخذ في بناء بيت المقدس , فعاقبه الله بالحرمان من البناء، ثم إن بعضها يذكر أن داود أو سليمان شرع في البناء , وكلما بنى حائطًا وجده قد انهدم صباح اليوم الثاني؛ لأنه كان يبني في أرض يملكها مالك لم يستأمره في شأنها , فضلًا عن أن يتم الاتفاق معه على ثمنها. فليت شعري ما هو الاضطراب إن لم يكن هذا الذي أشرنا إلى بعض منه في هذا الحديث.(4/1268)
والثالث: أنه حتى لو لم يضطرب هذا الحديث على هذه الشاكلة , فإن في بعض من وصلوه عند الحاكم ينزل بسنده عن درجة الصحة على أيسر اعتبار , وفي روايتي ابن سعد وأستاذه الواقدي , وكفى به سببًا للنزول بالحديث عن مستوى درجة الصحة , فضلًا عن كلام في بعض رجاله أيضًا.
وقد يقال: وإذن فما فائدة إيراده في هذا البحث , وجوابنا أن الفائدة من إيراده هي أولا تبيان عدم حجيته وخطأ الذين احتجوا به، وثانيًا: تبيان أنه حتى على فرض صحة الاحتجاج به يدل بفحواه على ما نذهب إليه من تحكيم المصلحة العامة فيما قد يتراءى مصلحة خاصة , وأن اعتبارها يعلو فوق كل اعتبار غيرها , وثالثًا: تبيان الجهة التي يكون لها الاختصاص بالأصالة في تقدير المصلحة العامة وتعيينها وتحديد ظروفها ومقتضياتها , وهي ما أطلق عليه الفقهاء والأصوليون (حق الإمامة) أو (حق الإمام) , وكان لهم فيه كلام طويل , وأحيانًا متغاير , بيد أنه لم يختلفوا في جوهره , وإنما انحصر اختلافهم في تطبيقه عامة , وفيما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يعتبره بعضهم تطبيقًا لهذا الحق , بينما يعتبره آخرون من الفتوى أو من التشريع , وليس هذا مجال مناقشتهم في اعتباراتهم التطبيقية هذه , إنما عرضنا لها لبيان أن (حق الإمامة) في جوهره ليس محل خلاف معتبر ولا التفاتة شذوذ بعض المتفقهة والأثر المروي عن قصة عمر مع العباس وتوسيع الحرم النبوي , نرجح أن له أساسًا , وأن ما ألمعنا إليه آنفًا من اضطراب أسانيده وبعض ألفاظه لا ينفي أن يكون له أساس , فلا مراء في أن عمر وسع المسجد النبوي , وأدخل فيه بيوتًا كانت حوله لما كثر المسلمون في المدينة كما فعل في الحرم المكي، ولا مراء في أن عثمان فعل ذلك في الحرمين معًا , وحاج بعض الناقمين عليه فيما آخذوه به من إجباره أرباب البيوت المجاورة للمسجدين على قبول التعويض عن بيوتهم وتركها بأنه لم يخرج عن سنة سنها عمر , وأنهم استضعفوه فنقموا عليه , وكانوا يرهبون عمر , فلم يستطيعوا أن ينقموا عليه.(4/1269)
وتصرف عمر مع العباس وعدوله عن إكراهه إلى التحكيم بينهما لا يختلف في جوهره حكما عن تصرفه مع غيره في مكة أو في المدينة مما اضطرهم اضطرارًا إلى التخلي عن بيوتهم لما تعينت المصلحة العامة في توسيع الحرمين الشريفين، ففي الموقفين تصرف بمقتضى (حق الإمامة) أو (حق الإمام) , ولا يوجد ما يلزم الإمام شرعًا بأن يكون تصرفه مع الناس على اختلاف مراتبهم ومواقعهم متماثلًا شكلًا. إنما الذي يلزم الإمام شرعًا أن يزن تصرفه معهم جميعًا متماثلًا في جوهره. أما أسلوب التصرف فموكول إلى اجتهاده ما من عاقل أو فقيه واع يستطيع أن يماري في ذلك.
ونحسب أن تصرف عمر مع العباس تصرفًا قائما على اعتبار موقعه في المجتمع الإسلامي واحترامه لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس غريبًا عن حالة نفسية سابقة كانت بينه وبين العباس لا نعرف أول منشئها , ولكنا نعرف أنه كانت من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عهد إلى عمر بجباية الصدقة.
قال أبو عبيد (1) :
"حدثنا يزيد , عن حجاج بن أرطاة , عن الحكم بن عتبة , قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة , فأتى العباس يسأله صدقة ماله , فقال: قد عجلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة سنتين، فرفعه عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: صدق عمي , قد تعجلنا منه صدقة سنتين)) .
قال أبو عبيد: كان هشيم يزيد في إسناد هذا الحديث عن منصور , عن الحكم , عن الحسن بن مسلم: حدثت بذلك عنه ولا أحفظه منه.
وحدثونا عن إسماعيل بن زكريا , عن الحجاج بن دينار , عن الحكم بن حجية بن عدي , عن علي , عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك , أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين.
وقال ابن زنجويه (2) :
__________
(1) الأموال. ص: 776 و777. ح: 1884 و1885.
(2) الأموال. ج: 3. ص: 78. ج: 2207 و2208.(4/1270)
حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الحجاج , عن الحكم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر على الصدقة، فأتى العباس يسأله صدقة ماله , فقال: قد عجلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة سنتين. فتجهم له عمر , وأغلظ عليه , فرافعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: صدق يا عمر , قد تعجلنا منه صدقة سنتين)) .
وأنبأ يحيى بن يحيى، أخبرنا هشيم , عن منصور , عن الحكم , عن الحسن بن مسلم قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة , فأتى على العباس يأخذ صدقة ماله، فتجهمه العباس , فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عمر، أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه؟ إنا تعجلنا صدقة العباس العام عام الأول)) .
على أن هذا الحديث الذي رواه غيرهما أيضًا لم تخل أسانيده وألفاظه من كلام نؤثر - لتبيان رتبة الاحتجاج به وللمقارنة بينه وبين حديث آخر سندرجه بعد قليل - أن ننقل كلامًا جامعًا دقيقًا لابن حجر في تحقيقه قال (1) : "حديث علي: أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل , فرخص له.
أحمد وأصحاب السنن والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث الحجاج بن دينار عن الحكم , عن حجية بن عدي , عن علي.
ورواه الترمذي من رواية إسرائيل , عن الحكم , عن حجر العدوي , عن علي , وذكر الدارقطني الاختلاف فيه على الحكم , ورجح رواية منصور عن الحكم , عن الحسن بن مسلم بن يناق , عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا , وكذا رجحه أبو داود , قال الشافعي: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تسلف صدقة مال العباس قبل أن تحل , ولا أدري أثبت أم لا. قال البيهقي: وعنى بذلك هذا الحديث , ويعضده حديث أبي البختري , عن علي , أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: ((إنا كنا احتجنا فاستسلفنا العباس صدقة عامين)) رجاله ثقات , إلا أن فيه انقطاعًا , وفي بعض ألفاظه أن النبي قال لعمر: ((إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام أول)) رواه أبو داود الطيالسي.
__________
(1) تلخيص الحبير. ج: 2. ص: 160. ح: 832 و833.(4/1271)
ثم قال:
"روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تسلف من العباس صدقة عامين، الطبراني والبزار من حديث ابن مسعود به , وزاد: في عام. وفي إسناده محمد بن ذكوان , وهو ضعيف , ورواه البزار وابن عدي والدارقطني من حديث الحسن بن عمارة , عن الحكم , عن موسى بن طلحة , عن أبيه نحوه. والحسن متروك , وقد خالف الناس عن الحكم فيه , كما تقدم في الحديث الماضي، ورواه الدارقطني أيضًا من حديث العرزمي ومندل بن علي , عن الحكم بن مقسم , عن ابن عباس في هذه القصة , وهما ضعيفان أيضًا , والصواب: عن الحكم , عن الحسن بن مسلم بن يناق مرسلًا , كما مضى.
قلت: ورواه ابن أبي شيبة (1) وفيه انقطاع , قال: "حدثنا حفص بن غياث , عن حجاج , عن الحكم , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ساعيًا على الصدقة , فأتى العباس يتسلفه , فقال له العباس: إني أسلفت صدقة مالي سنتين. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال: صدق عمي.
لكن ابن زنجويه في روايته السابقة وصله عن علي , ووصله الدارقطني في بعض رواياته عن ابن عباس , ولم نسق هذا الحديث لتحقيقه سندًا ومتنا , وكنا سنصرف عنه النظر لولا أنهم اعتمدوه في الاحتجاج على جواز تعجيل الزكاة قبل
أوانها إذا وجد سبب وجودها , ولولا أنه لبس على البعض أمره مع حديث أهم منه , سندرجه بعد قليل.
والذي يعنينا منه الجانب النفسي الذي عبرت عنه رواية ابن زنجويه عن حجاج عن الحكم إذ جاء فيها: "فتجهم له عمر , وأغلظ عليه. وروايته الأخرى من طريق منصور , عن الحكم , عن الحسن بن مسلم , وفيها: "فتجهمه العباس " وهذه تماثل أو تقرب من رواية للدارقطني (2) ولفظها:
__________
(1) الكتاب المصنف. ج: 3. ص: 148.
(2) السنن. ج: 2. ص: 114.(4/1272)
"حدثنا محمد بن أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، حدثنا إبراهيم بن محمد بن نائلة الأصبهاني، حدثنا محمد بن المغيرة، حدثنا النعمان بن عبد السلام , عن محمد بن عبيد الله , عن الحكم , عن مقسم , عن ابن عباس قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ساعيًا , قال: فأتى العباس يطلب صدقة ماله , قال: فأغلظ له العباس , فخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره , قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله العام والعام المقبل)) .
حدثنا محمد بن مخلد ومحمد بن جعفر المطيري , قالا: أخبرنا أبو خراسان محمد بن أحمد بن السكن، حدثنا موسى بن داود، حدثنا مندل بن علي , عن عبيد الله , عن الحكم , وقال المطيري: عن عبيد الله بن عمر , عن الحكم , عن مقسم , عن
ابن عباس , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر على الصدقة , فرجع وهو يشكو العباس , فقال: إنه منعني صدقته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عمر أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه , إن العباس أسلفنا صدقة عامين في عام)) كذا قال: عن عبيد الله بن عمر , وإنما أراد: محمد بن عبيد الله. والله أعلم.
حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا عبد الله بن محمد بن أبان، حدثنا أبو داود , عن شريك , عن إسماعيل , عن سليمان الأحول , عن أبي رافع , أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعيًا , فكان بينه وبين العباس شيء , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه، إن العباس أسلفنا صدقة العام عام أول)) .
فجميع هذه الروايات تثبت أن جوا من التوتر حدث بين عمر والعباس , وأغلبها تثبت أن التجهم والإغلاظ كان من العباس , وبعضها - وفيه تحريف فيما نرجح - يثبت أنه ما كان من عمر , والمهم أنهما كانا بين الرجلين , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر العباس إن يكن هو المتجهم المغلظ , واعتذر لعمر أو عاتب عمر برفق إن يكن منه التجهم والإغلاظ , وبين له كيف ينبغي أن يعامل العباس , فهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم , والعم صنو الأب.(4/1273)
سيقول من يغلو في توقير الصحابة فيرفعهم نفسيا عن طبيعة البشر: إنه لا ينبغي اعتبار مثل هذه الحادثة مؤثرًا نفسيا. وجوابنا أن الصحابة رضوان الله عليهم صفوة البشر بعد الأنبياء , بيد أنهم من البشر على كل حال , ولا يبعد أن يعلق في أنفسهم بعض ما يعلق في أنفس عامة البشر من المواجد , وقد ألمعنا آنفًا إلى طبيعة العباس المتميزة بشدة الإباء والنخوة.
وقد أثرنا من قبل إلى لبس وقع فيه بعض الفقهاء وشراح الحديث فيما يحققون هذه القصة ويستنبطون منها الحكم في تعجيل الصدقة , ومرده إلى ما نحسبه قصة أخرى - إذا ثبتت القصة الأولى - وهي أصح سندًا ومتنا , رواها كل من عبد الرزاق وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والدارقطني والبيهقي , وهذه رواياتهم على التوالي:
قال عبد الرزاق (1) :
"عن ابن جريج , قال: حدثت حديثًا رفع إلى عبد الرحمن الأعرج , عن أبي هريرة , أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس في الصدقة , فأتي فقيل: يا رسول الله , هذا أبو جهم وخالد بن الوليد وعباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منعوا الصدقة , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما ينقم منا أبو جهم إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ورسوله , وأما خالد بن الوليد , فقد حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله , وأما عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه ومثلها معها)) .
وقال أحمد (2) :
"حدثنا علي بن حفص، أخبرنا ورقاء , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة , فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم النبي صلى الله عليه
وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما نقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله , وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا , فقد احتبس أدراعه في سبيل الله , وأما العباس فهو علي ومثلها. ثم قال: أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه)) .
__________
(1) المصنف. ج: 4. ص: 44. ح: 6918.
(2) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 9. ص: 29. ح: 71.(4/1274)
وقال البخاري (1) :
"حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب , قال: حدثنا أبو الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة , فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ورسوله , وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله , وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها)) تابعه ابن أبي الزناد عن أبيه , وقال ابن إسحاق , عن أبي الزناد: هي عليه ومثلها معها. وقال ابن جريج: حدثت عن الأعرج بمثله".
وقال مسلم (2) : "حدثني زهير بن حرب، حدثنا علي بن حفص، حدثنا ورقاء , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة , فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله , وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا , قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله , وأما العباس فهي علي ومثلها معها. ثم قال: يا عمر , أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه)) .
وقال أبو داود (3) :
"حدثنا الحسن بن الصباح، حدثنا شبابة , عن ورقاء , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة قال: ((بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على الصدقة , فمنع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله , وأما خالد بن الوليد فإنكم تظلمون خالدًا , فقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي علي ومثلها. ثم قال: أما شعرت
أن عم الرجل صنو الأب أو صنو أبيه)) .
__________
(1) الصحيح ج: 2. ص: 128.
(2) على هامش شرح النووي. ج: 7 ص: 56.
(3) السنن. ج: 2. ص: 115. ح: 1623 و1624.(4/1275)
حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن زكريا , عن الحجاج بن دينار , عن الحكم , عن حجية , عن علي , أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل , فرخص له في ذلك. قال مرة: فأذن له في ذلك.
قال أبو داود: روى هذا الحديث هشيم , عن منصور بن زاذان , عن الحكم , عن الحسن بن مسلم , عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث هشيم أصح.
وقال النسائي (1) : "أخبرني عمران بن بكار , قال: حدثنا علي بن عياش , قال: حدثني شعيب , قال: حدثني أبو الزناد مما حدثه عبد الرحمن الأعرج مما ذكر أنه سمع أبا هريرة يحدث قال: وقال عمر: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة , فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله , وأما خالد بن الوليد فإنكم تظلمون خالدًا , قد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله , وأما العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة , ومثلها معها)) .
أخبرنا أحمد بن حفص , قال: حدثني أبي , قال: حدثني إبراهيم بن طهمان , عن موسى , قال: حدثنى أبو الزناد , عن عبد الرحمن , عن أبي هريرة قال: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة ... )) مثله سواء.
وقال الدارقطنى (2) : "حدثنا أحمد بن محمد بن زياد , قال: حدثنا عبد الكريم بن هيثم، حدثنا عبيد بن يعيش، حدثنا يوسف بن بكير , حدثنا ابن إسحاق , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة قال: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة , فقيل له: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله , وأما خالد , فإنكم تظلمون خالدًا , وقد احتبس أدرعه وأعتده , وأما العباس فهي علي ومثلها معها هي له)) .
وقال البيهقي (3) :
"أخبرنا عبد الله الحافظ، حدثنا أحمد بن جعفر القطيعي , حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا علي بن حفص، حدثنا ورقاء , عن أبي الزناد , عن الأعرج , عن أبي هريرة قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه على الصدقة , فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله , وأما خالد , فإنكم تظلمون خالدًا , قد احتبس أعتده وأدرعه في سبيل الله , وأما العباس فهي علي ومثلها معها. ثم قال: يا عمر , أما علمت أن عم الرجل صنو أبيها)) .
ذلك بأن شراح الحديث وبعض الفقهاء اعتبروا القصتين قصة واحدة , ولهذا الاعتبار وجاهة، فبينهما تماثل في معظم الوقائع , وإن اختلفتا اختلافًا بينا في بعض وقائعهما , جعلنا نرجح أنهما قصتان إذا ثبتت القصة الأولى وبرئت من التحريف أو أنهما قصة واحدة وقع فيها تحريف عند بعض الرواة لاعتبارات سياسية , فبين رواة القصة الأولى من عرف بالتشيع وأغلبهم فيهم كلام.
__________
(1) السنن. ج: 5. ص: 833.
(2) السنن. ج: 2. ص: 123
(3) السنن الكبرى. ج: 4. ص: 111.(4/1276)
وهذه القصة أو هذه الصيغة الثانية لقصة العباس مع عمر هي التي تعنينا بالأساس ليس لإثبات ما إذا كانت الواقعة تتصل بجباية , وهو الراجح عندنا , أو بجباية صدقة غير الزكاة , وهو ما يميل إليه البعض ممن ألمعنا إليهم آنفًا توقيرًا
للصحابة , وخاصة من كان في مقام عمر والعباس وارتفاعًا بهم عن مستوى البشرية الصرفة وما يلابسها من مكامن وجدانية , وإنما لتبيان ما تدل عليه من تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى "حق الإمامة " أو "حق الإمام" تصرفًا دأب عمر على الاقتداء به في كثير من أحكامه وتعامله مع الأحداث دأبا حسبه بعض المتفقهة مجرد اجتهاد حتى زعم البعض أن عمر كان ربما عطل نصا قرآنيًا أو حديثًا باجتهاده , وهو زعم باطل , كان ينبغي أن يتنزه عنه من ينتسب إلى الدراسات الشرعية أو إلى دراسة آثار الخلفاء الراشدين ومن على شاكلتهم من أئمة الصحابة واستنباط الأحكام الشرعية منها استنباطًا مقصودًا لذاته أو مستهدفًا به نمط من التمييز لتطور الفكر التشريعي أو التوجيه الاجتماعي في العهد الأول من تاريخ الإسلام.
وقبل أن نأخذ في تبيان قاعدة (حق الإمامة) أو (حق الإمام) انطلاقًا من هذه الواقعة ووقائع تشاكلها , نؤثر أن ننهي إيضاحنا لما في تصرف عمر من اعتبار المصلحة العامة بتأكيد أن قبوله التحكيم بينه وبين العباس واعتماده على حكمه هو باعتباره المرجع الأعلى للقضاء , إذ هو خليفة المسلمين في تصرفه مع غير العباس في قضايا مماثلة , كان كلاهما عملًا توخى فيه المصلحة العامة , بل حفزته إليه المصلحة العامة التي رآها تعلو على كل اعتبار وإن كان احترام حقوق
وحرمة مال عم رسول الله صلى الله عليه وسلم , بل إن تصدق العباس بداره بعد التحكيم , فيه اعتراف ضمني باعتبار المصلحة العامة , وأنها تعلو عن كل اعتبار غيرها , فقد كان أيسر للعباس لما حكم الحكم - أبي أو حذيفة - لصالحه أن يحتفظ بجواره للمسجد النبوي , وأن لا يقبل عنه بديلًا , أما إذ رضي بأن ينتقل من منزل يجاور فيه ابن أخيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستطيع أن يسمع منه أذان المؤذن ثم يتوضأ ويلحق صلاة الجماعة إلى منزل يحرمه من هاتين المزيتين وغيرهما فما من شك في أن رضاه هذا كان استجابة لما أدركه من تعين المصلحة العامة , وأن امتناعه من قبل كان لمجرد إرضاء إبائه ونخوته وإقناع عمر بأن ليس له - خلقيا - سلطان على بني هاشم عامة وما فتئت في أنفسهم موجدة من خروج الخلافة من أيديهم , وعلى عم رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة , وإن يكن خليفة للمسلمين وخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وله حق السمع والطاعة على الجميع.(4/1277)
16 - معالم قاعدة التصرف بحق الإمامة
والتصرف بحق الإمامة قاعدة بعيدة الخطر بالغة الأثر متمادية التطور والتفرع مع تمادي الحضارة في التطور والتنوع وتباين المؤثرات الاجتماعية والسياسية في طبيعة مستجدات الأحداث مع كل طور من أطوارها وكل نوع من أنواعها , ومع ذلك فلم نقف فيما بين أيدينا من مصادر السلف ومراجع المتأخرين على بحث قائم بذاته يرسم بدقة وشمول معالم هذه القاعدة ومسارها والضوابط التي يجب أن تحكمها إلا ما كان من إلماعات وإلمامات عابرة عارضة في ثنايا أبحاث الأصوليين والفقهاء وروايات المحدثين وآثار النقلة مما لو جمع ونسق جمعًا وتنسيقًا منهجيين لأمكن أن يؤلف مرجعًا يصير إليه الباحث في اجتلاء ضوابط هذه القاعدة وما تفرع أو يمكن أن يتفرع عنها من أحكام.
ولعل من أقرب ما قاله الأصوليون حول هذه القاعدة إلى تجلية بعض معالمها قول القرافي رحمه الله (1) :
"اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم , فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته , وهو أعظم من كل من تولى منصبًا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة. فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة غير أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم تبليغ؛ لأن وصف الرسالة غالب عليه.
قلت: كان الأولى أن يقول: (غير أن كل تصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ) بدلًا من قوله: (غير أن غالب ... إلخ) ؛ لأن التصرفات الأخرى التي ذكرها غير التبليغ الصرف تتضمن معنى التبليغ على اعتبار أن التبليغ لا ينحصر معناه في الإلزام , وإنما يشمل كل جوانب بيان شرع الله , بما فيه الإباحة نفسها. فتأمل.
__________
(1) الفروق ج: 1. ص: 205 وما بعدها.(4/1278)
ثم قال:
"ثم تقع تصرفاته صلى الله عليه وسلم منها ما يكون من التبليغ والفتوى إجماعًا , ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء , ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة , ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدًا , فمنهم من يغلب عليه رتبة , ومنهم من يغلب عليه أخرى، ثم تصرفاته صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة , فكل ما قاله أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة. فإن كان مأمورًا به أقدم عليه كل أحد بنفسه , وكذلك المباح وإن كان منهيًا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه , وكل ما تصرف فيه عليه بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه السلام؛ ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك".
قلت: أليس تصرفه بوصف الإمامة "تبليغًا " بوجوب أو إباحة ذلك التصرف وما شاكله مقيدًا بأن لا يصدر إلا من الإمام أو مخصصًا الحكم فيه للإمام , ولولا أنه تبليغ على هذه الصورة لكان من خصائصه صلى الله عليه وسلم وحده , ولا يجوز لأحد أن يقتدي به فيه وهو ما لم يقل به أحد , وما هو التبليغ إن لم يكن بيان شرع الله في تصرف ما , أو في أمر ما؟ بصرف النظر عما إذا كان عاما أو خاصًا أو مطلقًا أو مقيدًا أو مشروعًا لكل الظروف أو لظرف خاص.
ثم قال:
"وهذه هي الفروق بين القواعد الثلاث , ويتحقق ذلك بأربع مسائل: المسألة الأولى: بعث الجيوش لقتال الكفار والخوارج ومن تعين قتاله وصرف أموال بيت المال في جهاتها وجمعها من محالها وتولية القضاة والولاة العامة وقسمة الغنائم وعقد العهود للكفار ذمة وصلحًا، هذا هو شأن الخليفة والإمام الأعظم , فمتى فعل صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك , علمنا أنه تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بطريق الإمامة دون غيرها , ومتى فصل صلى الله عليه وسلم بين اثنين في دعاوى الأموال أو أحكام الأبدان أو نحوها بالبينات أو الأيمان والنكولات ونحوها , فنعلم أنه صلى الله عليه وسلم إنما تصرف في ذلك بالقضاء دون الإمامة العامة وغيرها؛ لأن هذا شأن القضاء والقضاة.(4/1279)
قلت: وهل كان الإمام إلا قاضيا؟ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (1)
ويقول الله سبحانه وتعالى مخاطبًا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إليك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (2) ، ويقول جل جلاله مخاطبًا له أيضًا ومبينًا الحد الفاصل بين المسلم وغيره في الموقف من أحكامه صلى الله عليه وسلم: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) ، ويقول جل من قائل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4)
وهل كانت الإمامة في جوهرها بجميع مهامها إلا نمطًا من القضاء , وهل كان القضاء إلا مهمة تتعلق بالإمام نفسه , وله أن يكلها إلى غيره , ولكن ذمته لا تبرأ إن لم يستفرغ الجهد في اختيار من يكلها إليه , طبقًا لضوابط الأهلية للقضاء في الشريعة الإسلامية.
ثم قال:
"وكل ما تصرف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات بقوله أو بفعله أو أجاب به سؤال سائل عن أمر ديني , فأجابه فيه , فهذا تصرف بالفتوى والتبليغ , فهذه المواطن لا خفاء فيها , وأما مواضع الخفاء والتردد ففي بقية المسائل.
__________
(1) الآية: (26) سورة ص.
(2) الآية: (48) سورة المائدة.
(3) الآية: (65) سورة النساء.
(4) الآية: (51) سورة النور.(4/1280)
المسألة الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له))
الحديث بهذا اللفظ مرسل , رواه مالك في الموطأ , فقال (636. ح. 32) : حدثني يحيى , عن مالك , عن هشام بن عروة , عن أبيه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له , وليس لعرق ظالم حق)) . قال مالك: والعرق الظالم كل ما احتفر أو أخذ أو غرس بغير حق. ورواه أبو عبيد بإسنادين , فقال (الأموال. ص: 403. ح: 701 و702) : حدثنى يحيى بن بكير , عن الليث بن سعد , عن عبيد الله بن أبي جعفر , عن أبي الأسود , عن عروة , عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضًا ليست لأحد , فهو أحق بها)) قال: قال عروة: وقضى بذلك عمر بن الخطاب في خلافته.
وحدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي وأبو معاوية , كلاهما عن هشام بن عروة , عن أبيه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) .
ورواه ابن زنجويه (الأموال. ج: 2. ص: 639. ح: 1053) : حدثنا محمد بن يوسف , أنبأنا سفيان , عن هشام بن عروة , عن عروة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) .
وقال أبو داود (السنن. ج: 178. ح: 3073و 74 30) : حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن سعيد بن زيد , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) .
حدثنا ابن السري، حدثنا عبدة , عن محمد - يعنى ابن إسحاق - عن يحيى بن عروة , عن أبيه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له)) . وذكر مثله قال: فقد خبرني الذي حدثني هذا الحديث , أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , غرس أحدهما نخلًا في أرض الآخر , فقضى لصاحب الأرض بأرضه , وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها. قال: فقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس , وإنها لنخل عم , حتى أخرجت منها.
وقال الترمذي (الجامع الصحيح. ج: 3: 662 وما بعدها. ح: 1378) : حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، أخبرنا أيوب , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن سعيد بن زيد , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق)) . ثم قال: وفي الباب عن جابر وعمرو بن عوف المزني جد كثير وسمرة.
ثم قال (الجامع الصحيح. ح: 1379) : حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب , عن هشام بن عروة , عن وهب بن كيسان , عن جابر بن عبد الله , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له)) ، وتعقبه بقوله: هذا حديث حسن صحيح.(4/1281)
وقال البيهقي (السنن. ج: 6. ص: 143) : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو العباس الأصم، أنبأنا الحسن بن علي بن عفان , حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا محمد بن فضيل , عن ليث , عن طاوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عادي الأرض لله ولرسوله , ثم لكم من بعد، فمن أحيا شيئًا من موتان الأرض , فله رقبتها)) . وبه قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن إدريس , عن ليث , عن طاوس , عن ابن عباس قال: إن عادي الأرض لله ولرسوله ولكم من بعد , فمن أحيا شيئًا من موتان الأرض , فهو أحق به. وقد روي الحديث بألفاظ أخرى وطرق أخرى ولكنها جميعًا تدل على نفس الحكم.
اختلف العلماء - رضي الله عنهم - في هذا القول: هل تصرف بالفتوى , فيجوز لأحد أن يحيي أذن الإمام في ذلك الإحياء أم لا , وهو مذهب مالك والشافعي رضي الله عنهما , وهو تصرف منه عليه السلام بالإمامة , فلا يجوز لأحد أن يحيي إلا بإذن الإمام , وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله , وأما تفرقة مالك بين ما قرب من العمارة , فلا يحيى إلا بإذن الإمام , وبين ما بعد فيجوز بغير إذنه , فليس من هذا الذي نحن فيه , بل هو من قاعدة أخرى , وهي أن ما قرب من العمران يؤدي إلى التشاجر والفتن وإدخال الضرر , فلا بد فيه من نظر الأئمة دفعًا لذلك المتوقع , كما تقدم , وما بعد من ذلك لا يتوقع فيه شيء من ذلك , فيجوز، ومذهب مالك والشافعي في الإحياء أرجح؛ لأن الغالب في تصرفه صلى الله عليه وسلم الفتيا والتبليغ , والقاعدة: أن الدائرة بين الغالب والنادر إضافته إلى الغالب أولى.
قلت: وقد أظهر التطور الحضاري أن ليس ثمة خلاف بين مالك والشافعي من جانب وأبي حنيفة من جانب آخر في جوهر الأمر، ولكن في شكله , ذلك بأن إلغاء المسافة أو انتقاءها وهيمنة التخطيط والتحفظ وحاجة الدولة إلى ضبط جميع أعمال الإعمار والتمييز بين ما يخصص للبناء وما يخصص للفلاحة وما يترك للرعي وما ينتظر به إلى أن تصل إليه أعمال الإعمار , كل ذلك يوضح أن فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بالأحرى حكمه كان بمقتضى الإمامة , وأن تفرقة مالك والشافعي بين ما قرب من العمارة وما بعد، كانت نمطًا من الإلهام الإلهي , فكأنما كشف الله لهما عما سيصير إليه أمر الإنسان وحضارته في المستقبل على حين أن حكم أبي حنيفة كان دليلًا على بعد نظره في تصور الآماد التي ينبغي اعتبارها فيما يتصل بفهم النصوص الشرعية المتعلقة بالمعاملات.(4/1282)
ثم قال:
"المسألة الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح , لا يعطني وولدي ما يكفيني. فقال لها عليه السلام: خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف (1) اختلف العلماء في هذه المسألة وهذا التصرف منه صلى الله عليه وسلم , هل هو بطريق الفتوى , فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به , ومشهور مذهب مالك خلافه , بل هو مذهب الشافعي , أو هو تصرف بالقضاء , فلا يجوز لأحد أن يأخذ جنس حقه أو حقه إذا تعذر أخذه من الغريم إلا بقضاء قاض , حكى الخطابي القولين عن العلماء في هذا الحديث حجة من قال: إنه بالقضاء أنها دعوى في مال على معين , فلا يدخله إلا القضاء؛ لأن الفتاوى شأنها العموم وحجة القول بأنها فتوى ما روي أن أبا سفيان كان بالمدينة , والقضاء على الحاضرين من غير إعلام ولا سماع حجة , فتعين أنه فتوى , وهذا هو ظاهر الحديث.
المسألة الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل قتيلًا فله سلبه)) (2) اختلف العلماء في هذا الحديث هل تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بالإمامة , فلا يستحق أحد سلب المقتول إلا أن يقول الإمام ذلك , وهو مذهب مالك خلاف أصله فيما قاله في الإحياء , وهو أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم بالفتوى , فينبغي أن يحمل على الفتيا عملا بالغالب , وسبب مخالفته لأصله أمور , منها: أن الغنيمة أصلها أن تكون للغانمين , لقوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (3) وإخراج السلب من خلاف هذا الظاهر , ومنها أن ذلك ربما أفسد الإخلاص عند المجاهدين , فيقاتلون بهذا السلب دون نصر كلمة الإسلام.
قلت: هذا تعليل عجيب , وإلا فلماذا شرعت المغانم إن لم يكن لإذكاء الوازع الشخصي الدنيوي إلى جانب الوازع الإيماني الأخروي , وهل السلب إلا نمطًا متميزًا من الغنيمة؟
ثم قال: ومن ذلك أنه يؤدي إلى أن يقبل على من له سلب دون غيره , فيقع التخاذل في الجيش , وربما كان قليل السلب أشد نكاية على المسلمين , فلأجل هذه الأسباب ترك هذا الأصل , وعلى هذا القانون وهذه الفروق يتخرج ما يرد عليك من هذا الباب من تصرفاته صلى الله عليه وسلم. فتأمل ذلك فهو من الأصول الشرعية.
__________
(1) سيأتي تخريجهما بعد قليل.
(2) سيأتي تخريجهما بعد قليل.
(3) الآية: (41) سورة الأنفال(4/1283)
وقال ابن الشاط في تعليقه على هذا الفرق: لم يجود التعريف بهذه المسائل ولا أوضحها كل الإيضاح , والقول الذي يوضحها هو أن التصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه , وإما أن يكون بتنفيذه، فإن كان تصرفه فيه بتعريفه , فذلك هو الرسول إن كان هو المبلغ عن الله تعالى , وتصرفه هو الرسالة , وإلا فهو المفتي , وتصرفه هو الفتوى , وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه , فإما أن يكون تنفيذه ذلك بفصل وقضاء وإبرام وإمضاء , وإما أن لا يكون كذلك , فإن لم يكن كذلك , فذلك هو الإمام , وتصرفه هو الإمامة , وإن كان كذلك , فذلك هو القاضي , وتصرفه هو القضاء.
قلت: ولم يحسن ابن الشاط أيضًا التحديد الدقيق لما أراد تحديده ذلك بأن تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اعتبروه فتوى وفيما اعتبروه قضاء , لا فيما اعتبروه إمامة هو تبليغ أساسًا , والفرق هو إما أن يكون التصرف قوليا صرفًا أو فعليا يراد به مجرد بيان نص , وأغلب ما يكون هذا في العبادات , وهذا النوع من التصرف هو التبليغ المجرد , وإما أن يكون فصلًا بين متخاصمين , فهذا التصرف ذو صبغة قضائية , وإن يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم به وفيه مبلغًا وإمامًا ثم قاضيًا بصفته الرسول المبلغ الإمام , وإما أن يكون تصرفًا مما يقتضيه تنظيم أمر الناس في شأن مما يصل بالفرد أو الجماعة أو المجتمع تنظيما لا يتأتى إلا بهيبة السلطة أو قوتها , وهذا التصرف هو ما يطلق عليه التصرف بمقتضى الإمامة أو بحق الإمام , والرسول صلى الله عليه وسلم وهو يمارسه يتصرف بصفته الرسول الإمام , ذلك بأننا إذا جردنا تصرفًا من تصرفاته عليه الصلاة والسلام من اعتبار الرسالة مصدرًا ملحوظًا فيه , أمكن الالتباس في شأنه بالاختصاص كما ألمعنا آنفًا. فتأمل.
على أن تصرفاته في العبادة نفسها إذا لم تكن تطبيقًا لنص قرآني محكم ليس بحاجةإلى بيان - وهذا النوع قليل - ليست مجرد تبليغ , وإن تكن بطبيعتها بيانًا لمجمل النص القرآني في عبادة ما أو تشريعا ابتدائيًا مستمدة عناصره من سنن التشريع القرآني كما هو الشأن في الصلوات النوافل والسنن المؤكدة وغيرها من العبادات المسنونة للتقرب مما لم ترد فيه نصوص قرآنية خاصة , وإنما هي تصرفات تتضمن أيضًا معنى الإمامة , إذ أنه صلى الله عليه وسلم حين يسن سنة أو يبين مجملًا أو يطبق نصًا قرآنيًا إنما يفعل ذلك بصفته الإمام الرسول الموكول إليه أمر التطبيق والبيان والاستنان.(4/1284)
ولا يختلف موقعه في هذا المجال عن موقعه فيما يفعله أو يقضي به في مجال المعاملات أو ما يسمى اليوم بالحقوق المدنية عامة أو في مجال الأحوال الشخصية , ولا نجد مدعاة إلى أن نسوق نماذج شتى من تصرفاته صلى الله عليه وسلم بمقتضى الإمامة , ونؤثر هذا التعبير على عبارة حق الإمامة " , أو "حق الإمام" , فقد مضى بعض منها خلال البندين السابقين , إذ نسوق الروايات المختلفة عن رافع بن خديج في المزارعة والمساقاة وخاصة أمره صلى الله عليه وسلم لرافع أو لغيره , إذ وجده يزارع غيره في أرضه , فأمره أن يأخذ بدوره ونفقته , وأن يزرع الزرع لصاحب الأرض , وإذ نسوق نماذج من القضية المأثورة الدالة على اعتماد المصلحة العامة وإن نتج عن اعتمادها بعض الإضرار بأحد الطرفين المتقاضيين اعتبارًا لأخف الضررين وتشريعًا لقاعدة حكمية وخلقية تتمادى آثارها فتشمل المصلحة العامة في الحال والمآل , وذلك حين عرضنا لقضية سمرة بن جندب وعضيده في حائط الأنصاري , وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع عضيد سمرة حين امتنع عن البيع والمعاوضة وابتغاء الثواب في الآخرة، ثم لقضية الزبير وصاحبه الذي خاصمه على الماء يمر بأرض للزبير قبل أن يصل إليه , وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يحبس الماء حتى يبلغ الجدر ثم يرسل ما فضل لخصمه بعد أن تجرأ خصمه فاتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاباة ابن عمته.
وإذ عرضنا لحديث عمر مع العباس وخالد بن الوليد ولئن اختلفوا في أمر العباس إن كان امتناعه عن تسليم صدقته لعمر؛ لأنه أسلفها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لعامين بالتماس منه عليه الصلاة والسلام لحاجة ألمت بالمسلمين أو لأنه رفض أن يسلمها لعمر لسبب آخر , وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحملها عنه أو أخبر بأنه استلفها منه , وذلك ما سبق أن عرضنا له ببعض التفصيل , فإنهم في أمر خالد بن الوليد لم يجدوا مجالًا واسعًا للاختلاف , إذ لم تتغاير الروايات فيما يتصل به , فانحصر اختلافهم في تعليل موقفه وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وفي تأويل بعض ألفاظه ابتغاء المطابقة بين قاعدة فقهية قعدوها وجمدوا عليها وبين قضية ثابتة من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد صحابته الأجلاء خلخلت لهم تلك القاعدة.(4/1285)
فقد وقر عندهم واستقر أن الصدقة تجب في كل مال يملكه مسلم من الأموال المزكاة , إذ توفر فيه النصاب , وحال عليه الحول , إن يكن مما يشترط فيه الحول , وعز عليهم أن يضيفوا إلى هذه القاعدة استثناء يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الإمامة واضح العلة واضح الصيغة واضح البيان، وهو أنه لما كانت الزكاة إنما شرعت لضمان مورد لبيت مال المسلمين يواجه به حاجات الأصناف الثمانية المذكورة في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (1) فإن المال الذي يكون في يد شخص خول له , فوقفه كله في سبيل الله وإن احتفظ بالتصرف فيه ولم يسلمه لبيت مال المسلمين لا يشمله شرع الزكاة , إذ إنه كله وليس جزء منه أصبح وقفًا في سبيل الله , {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} أحد الأصناف الثمانية التي عينتها الآية الكريمة مصارف للزكاة , وما أروع قوله صلى الله عليه وسلم في أمر خالد: ((إنكم تظلمون خالدًا)) . الحديث. فليت شعري لما لم يستوقف انتباه الفقهاء وهم يبدؤون ويعيدون في محاولة التوفيق بين قاعدتهم التي قعدوها فجمدوا عليها , وبين هذا التشريع النبوي الرائع الحكيم.
ومع أن في هذه النماذج الغناء كل الغناء في التمثيل لتصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الإمامة , فإنا نؤثر لمزيد من البيان أن نسوق تصرفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قضيتين مختلفتين وإن كان تصرفه فيهما يتوخى إقرار نفس السنة , سنة التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة؛ لأنهما يمثلان تشريعًا في مجال بعيد الخطر ومختلف عن مجالات التصرفات السابقة، فكلاهما يتصل بالمغانم وهي حق لجميع المجاهدين بصرف النظر عن اختلاف الفقهاء أيضًا في ما إذا كان استحقاقهم يتعين بمجرد أن يغنمها الجيش الإسلامي أو لا يتعين إلا حين يقسمها الإمام , فحث على القول بأن استحقاق المجاهد في الغنيمة لا يتعين إلا عند قسمتها، فلا جدال في أن مجرد غنمها يثبت فيها حقا جماعيا لجميع المجاهدين يمكن أن نسميه حقا مشتركًا أو مشاعًا ومع ذلك فقد أحدث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريعًا في قضيتين مختلفتين يثبت بما لا مجال فيه للجدل ما للإمام من حق التصرف في المغانم بمقتضى الإمامة حين تتعين المصلحة العامة في تصرف لا يلتزم إلزامًا دقيقًا بالحق المشترك أو المشاع في المغانم.
__________
(1) التوبة آية رقم 106.(4/1286)
القضية الأولى قضية سلب المقتول وحق القاتل فيه , وهي قضية تناقلها جميع أصحاب السنن ونقلة الأخبار ونعتمد فيها ما أخرجه البخاري في صحيحه.
قال (1) : حدثنا مسدد، حدثنا يوسف بن الماجشون , عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف , عن أبيه , عن جده قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر , فنظرت عن يميني وشمالي , فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما , ما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما , فغمزني أحدهما , فقال: يا عم , هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم , ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم , والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. فتعجبت لذلك , فغمزني الآخر , فقال لي مثلها , فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس , فقلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني. فابتدراه بسيفيهما , فضرباه حتى قتلاه , ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه , فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر في السيفين، فقال: كلاكما قتله. سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح , وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح , قال محمد: سمع يوسف صالحًا وسمع إبراهيم أباه عبد الرحمن بن عوف.
وقال (2) :
حدثنا عبد الله بن مسلمة , عن مالك , عن يحيى , عن ابن أفلح , عن أبي محمد مولى أبي قتادة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين , فلما التقينا , كانت للمسلمين جولة , فرأيت رجلًا من المشركين علا رجلًا من المسلمين , فاستدبرت حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه , فأقبل علي , فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت.
__________
(1) البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 57.
(2) البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 57.(4/1287)
ثم أدركه الموت , فأرسلني , فلحقت عمر بن الخطاب , فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله. ثم إن الناس رجعوا وجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه)) . فقمت , فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. ثم قال: ((من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه)) . فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست , ثم قال الثالثة مثله , فقمت , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لك يا أبا قتادة؟)) فاقتصصت عليه القصة , فقال رجل: صدق يا رسول الله , وسلبه عندي , فأرضه عني. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لا ها الله , إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يعطيك سلبه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق)) فأعطاه , فبعت الدرع , فابتعت به مخرفًا في بني سلمة , فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام.
وقال (1) :
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك , عن يحيى بن سعيد , عن عمر بن كثير بن أفلح , عن أبي محمد مولى أبي قتادة رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا , كان للمسلمين جولة , فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من المسلمين , فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف , فقطعت الدرع , وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت , ثم أدركه الموت , فأرسلني , فلحقت عمر , فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله عز وجل , ثم رجعوا , وجلس النبي صلى الله عليه وسلم , فقال: ((من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه)) فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثله)) قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مثله , فقمت , فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم مثله , فقمت , فقال: ((مالك يا أبا قتادة؟)) فأخبرته , فقال رجل: صدق , وسلبه عندي , فأرضه عني. فقال أبو بكر: لاها الله إذا , لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيعطيك سلبه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق، فأعطه)) فأعطانيه , فابتعت به مخرفًا في بني سلمة , فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام.
__________
(1) البخاري (الصحيح) . ج: 5. ص: 100 و101(4/1288)
وقال (1) :
قال الليث: حدثني يحيى بن سعيد , عن عمر بن كثير بن أفلح , عن أبي محمد مولى أبي قتادة , أن أبا قتادة قال: لما كان يوم حنين , نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلًا من المشركين , وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله , فأسرعت إلى الذي يختله , فرفع يده ليضربني , وأضرب يده فقطعتها , ثم أخذني فضمني ضمًا شديدًا حتى تخوفت , ثم برك فتحلل , ودفعته ثم قتلته , وانهزم المسلمون , وانهزمت معهم , فإذا بعمر بن الخطاب في الناس , فقلت له ما شأن الناس؟ قال: أمر الله. ثم تراجع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه)) ، فقمت لألتمس بينة على قتيلي , فلم أر أحدًا يشهد لي , فجلست , ثم بدا لي , فذكرت أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي , فأرضه منه. فقال أبو بكر: كلا , لا يعطيه أصيبغ من قريش ويدع أسدًا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأداه إلي , فاشتريت منه خرافًا , فكان أول ما تأثلته في الإسلام.
والقضية الثانية قضية إيثار بعض المقاتلة على بعض في قسمة الغنيمة وإعادة بعض الغنيمة إلى من غلبوا من الأعداء إذا هم أفاؤوا إلى الإسلام , وهي أيضًا قضية مشهورة لدى أصحاب السنن ونقلة الأخبار، لذلك نقتصر فيها على ما أخرجه البخاري.
قال (2) :
"حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جرير بن حازم، حدثنا الحسن , قال: حدثني عمرو بن تغلب رضي الله عنه , قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا ومنع آخرين , فكأنهم عتبوا عليه , فقال: إني أعطي قومًا أخاف ظلعهم وجزعهم , وأكل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغناء , منهم عمرو بن تغلب. فقال عمرو بن تغلب: ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم. زاد أبو عاصم عن جرير , قال: سمعت الحسن يقول: حدثنا عمرو بن تغلب , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بمال أو بسبي فقسمه بهذا.
__________
(1) البخاري (الصحيح) . ج: 5. ص: 100 و101
(2) البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 59 و60(4/1289)
وقال (1) :
"حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة , عن قتادة , عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني أعطي قريشًا أتألفهم؛ لأنهم حديث عهد بجاهلية)) .
وقال (2) :
"حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا الزهري , قال: أخبرني أنس بن مالك , أن ناسًا من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء , فطفق يعطي رجالًا من قريش المائة من الإبل , فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم , يعطي قريشًا , ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم , فأرسل إلى الأنصار , فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع أحدًا معهم غيرهم، فلما اجتمعوا , جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: ما كان حديث بلغني عنكم؟ قال له فقهاؤهم: أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئًا , وأما أناس منا حديثة أسنانهم , فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشًا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعطي رجالًا حديث عهدهم بكفر , أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم , فوالله ما تنقلبون به , قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا. فقال لهم: إنكم سترون بعدى أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الحوض. قال أنس: فلم نصبر.
وقال: (3)
حدثنا سعيد بن عفير، حدثني ليث، حدثني عقيل , عن ابن شهاب , حدثني إسحاق، حدثنا يعقوب بن إبراهيم , قال: حدثنا ابن أخي ابن شهاب , وزعم عروة بن الزبير أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين , فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم , فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه. فاختاروا إحدى الطائفتين , إما السبي , وإما المال.
__________
(1) البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 59 و60
(2) البخاري (الصحيح) . ج: 4. ص: 59 و60
(3) البخاري ج: 5. ص: 99.(4/1290)
وقد كنت استأنيت بكم وكان أنظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف , فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين , قالوا: فإنا نختار سبينا , فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين , فأثنى على الله بما هو أهله , ثم قال: أما بعد , فإن إخوانكم قد جاؤونا تائبين , وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم , فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل , ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل. فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن , فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم. فرجع الناس , فكلمهم عرفاؤهم , ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا. هذا الذي بلغني عن سبي هوازن.
وجلي أن القضيتين تتفقان في إحداث حكم شرعي يكون استثناء لقاعدة حق المجاهدين أفرادًا أو بالاشتراك في المغانم عند غنمها , وهذا الحكم هو أن للإمام إذا تعينت عنده مصلحة عامة في إيثار فرد أو أكثر من المجاهدين أو من غيرهم من المسلمين بشيء من الغنائم , فله أن يفعل ذلك بمقتضى حق الإمامة ولا يعتبر جائرًا على ذوي الحق الأصليين في المغانم؛ لأنه تصرف اعتبارًا لمصلحة عامة تشملهم جميعًا , وتشمل معهم غيرهم , ويتمادى أثرها إلى المجتمع الإسلامي قاطبة أو إلى جانب كبير منه , وذلك ما يرجح بهذه المصلحة العامة عن بعض ما قد يتراءى "مفسدة" محدودة الأثر لما ينقص بعض النقص من حقوق الأفراد المستحقين أصلًا للمغانم.
قد يجادل بعض المشغوفين بالجدل في أن قضية هوازن وإعادة السبي إليهم إنما تمت بتصرف ناتج عن "الإقناع " وليس ناتجا عن "التحكم" , فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله وفد هوازن أن يعيد إليهم ما أصاب من سبي وغنيمة في انتصاره عليهم وعلى ثقيف , لم يأمر المسلمين أمرًا صريحًا بأن يعيدوا إليهم ما أعادوا , وإنما جعل لهوازن أن يختاروا بين السبي والمال , فلما اختاروا السبي حث المسلمين على أن يعيدوا إليهم سبيهم , فاستجابوا له وأعادوا إليهم ما بين أيديهم , وهذا النوع من الجدل إنما يعتمد على فهم ساذج لتصرفات رسول الله يكتمو على تقصير في استحضار جميع الملابسات التشريعية السابقة أو المواكبة للتصرفات النبوية , ذلك بأن المسلمين كانوا يدركون من الخلق العظيم الذي أصفى به نبيه صلى الله عليه وسلم ومن منهاجه في معاملتهم وتكييف سلوكهم أفرادًا وجماعة تكييفًا خلقيا أنه دأب صلى الله عليه وسلم على اعتماد أسلوب "الإقناع" وإيثاره على أسلوب "التحكم " إلا أن يضطر اضطرارًا إلى الالتجاء إلى أسلوب "التحكم" مجابهة لعناد بعض من لا يفقهون وقلما فعل ذلك , وأنه صلى الله عليه وسلم إذ يحث على عمل من هذا القبيل له آماده السياسية المتجاوزة للاعتبارات الفردية والمتجاوبة مع اعتبارات المصلحة العامة إنما يأمر أمرًا صاغه بأسلوب الترغيب ليتيح للمسلمين الشعور بالمشاركة في اتخاذ القرار وبالإسراع إلى الاستجابة له والمبادرة لما يريد ابتغاء الأجر من الله سبحانه وتعالى بطاعة الله والرسول على حين أنهم يدركون أعمق الإدراك أنهم إن لم يستجيبوا لما رغبهم فيه وحثهم عليه قد يرتكبون إثما بمخالفته وعدم الاستجابة له فهم يحفظون - أو كثير منهم يحفظون - قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) وقوله جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (2) .
__________
(1) الآية: (59) سورة النساء.
(2) الآية: (24) سورة الأنفال.(4/1291)
وتدبر جيدًا قوله تعالى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} . ولعل قصة سعيد بن المعلى حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فلم يستجب لدعوته حتى أتم صلاته فعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الحديث رواه البخاري في تفسير سورة الفاتحة (ج: 5. ص: 46) , فقال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى , عن شعبة قال: حدثني خبيب بن عبد الرحمن , عن حفص بن عاصم , عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد , فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلم أجبه , فقلت: يا رسول الله , إني كنت أصلي. فقال: ألم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم؟ ثم قال لي: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد , ثم أخذ بيمينى , فلما أراد أن يخرج , قلت: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: {الحمد لله رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. ورواه في تفسير سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا} الآي. فقال (البخاري. ص: 199) : حدثني إسحاق , قال: أخبرنا روح، حدثنا شعبة , عن خبيب، وذكر الحديث.(4/1292)
وقال ابن حجر (فتح الباري. ج: 8. ص: 119 و120) في شرحه للحديث الأول وبعد أن ذكر اختلافهم في اسم أبي سعيد: هنا (تنبيهان) ويتعلقان بإسناد هذا الحديث؛ أحدهما نسب إلى الغزالي والفخر الرازي وتبعه البيضاوي , هذه القصة لأبي سعيد الخدري , وهو وهم , وإنما هو أبو سعيد بن المعلى.
ثانيهما: روى الواقدي هذا الحديث عن محمد بن معاذ , عن خبيب بن عبد الرحمن بهذا الإسناد , فزاد في إسناده: عن أبي سعيد بن المعلى , عن أبي بن كعب. والذي في الصحيح أصح , والواقدي شديد الضعف إذا انفرد , فكيف إذا خالف , وشيخه مجهول , وأظن الواقدي دخل عليه حديث في حديث , فإن مالكًا أخرج نحو الحديث المذكور من وجه آخر , فيه ذكر أبي بن كعب , فقال: عن العلاء بن عبد الرحمن , عن أبي سعيد مولى عامر , أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب. ومن الرواة عن مالك قال: عن أبي سعيد , عن أبي بن كعب , أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه. وكذا أخرجه الحاكم , ووهم ابن الأثير حيث ظن أن أبا سعيد شيخ العلاء هو أبو سعيد بن المعلى , فإن ابن المعلى صحابي أنصاري من أنفاسهم مدني , وذلك تابعي مكي من موالي قريش , وقد اختلف فيه على العلاء , أخرجه الترمذي عن طريق الدراوردي , والنسائي عن طريق روح بن القاسم , وأحمد عن طريق عبد الرحمن بن إبراهيم , وابن خزيمة عن طريق حفص بن ميسرة , كلهم عن العلاء , عن أبيه , عن أبي سعيد , عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب ... فذكر الحديث.
وأخرجه الترمذي وابن خزيمة من طريق عبد الحميد بن جعفر , والحاكم من طريق شعبة , كلاهما عن العلاء مثله. لكنه قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورجح الترمذي كونه من مسند أبي هريرة , وقد أخرجه الحاكم أيضًا عن طريق الأعرج , عن أبي هريرة , أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب. وهو مما يقوي ما رجحه الترمذي , وجمع البيهقي بأن القصة وقعت لأبي بن كعب ولأبي سعيد بن المعلى , ويتعين المصير إلى ذلك , لاختلاف مخرج الحديثين واختلاف سياقهما كما بينه. كانت وقعت قبل غزوة حنين وأنها تنوقلت بين المسلمين , فوعوها واتعظوا بها , مهما يكن فما من شك في أنهم لو لم يعيدوا فيما بين أيديهم من سبي طوعًا لاستعاده منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "بالتحكم"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وعد هوازن بأحد أمرين؛ إما السبي , وإما المال , وما كان ليخلف وعده , وهو حين وعدهم كان يتصرف بمقتضى الإمامة، وحين أصدر أمره إلى المسلمين في صيغة ترغيب كان يتصرف بمقتضى الإمامة أيضًا وإن تلطف في الصيغة.(4/1293)
وقد يجادل البعض بأن تصرفه صلى الله عليه وسلم في هذه القضية وفي قضية إيثار بعض المجاهدين على بعض عند توزيع الغنائم في غزوة حنين إنما كان تطبيقًا لمبدأ تأليف , {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} , وهذا فهم له وجاهته , ولكن حق {الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} إنما جاء به النص فيما يتعلق بالصدقات , لا فيما يتعلق بالغنائم , ثم إن الذين آثرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصص أوفر من الغنائم ليسوا جميعًا ممن تنطبق عليهم صفة {الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} , بل قد لا يكون من تنطبق عليهم هذه الصفة , عدا بعض الأفراد , ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ترضى الأنصار وقد ساء بعضهم أن يؤثر عليهم بعضهم في الغنائم لم يتعلل في استرضائهم بتأليف القلوب ممن آثرهم صراحة وإن أمكن فهم ذلك احتمالًا مما قاله
في استرضائهم , وإنما تعلل في استرضائهم صراحة بالموازنة بين خلاقين؛ خلاق من يعود إلى رحله بالمغانم من الشاة والجمال , وخلاق من يعود برحله إلى رسول الله , وشتان بين الخلاقين.
على أن هذه الشبهة وما شاكلها مما قد يثيره المجادلون لا مجال لها في قضية كل من أبي قتادة ومعاذ بن عمرو بن الجموح , فما من أحد يستطيع أن يزعم بأن هذين الصحابيين الجليلين يمكن الغمز فيهما بأنهما من {المؤلفة قلوبهم} , ولا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أعطى سلب أبي جهل لمعاذ بن عمرو بن الجموح وحين أعطى أبا قتادة سلب قتيله , كان يتألف أحدهما أو يتألفهما معًا , وإن يكن الاحتمال وجيهًا أنه صلى الله عليه وسلم كان بعمله ذاك يحفز أبطال المسلمين , لا سيما الشباب إلى المزيد من الاستبسال في مواجهة الأعداء , على أن لهاتين القضيتين دلالة بالغة الأثر , وهي أن قضية معاذ بن عمرو بن الجموح كانت في غزوة بدر أولى غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقضية أبي قتادة كانت في حنين أخرى غزواته عليه الصلاة والسلام , وفي كلتا القضيتين تصرف بمقتضى الإمامة، وهذا يعني أن قاعدة التصرف بمقتضى الإمامة قاعدة مكينة استمرت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة عهده النير الميمون , فليس لأحد أن يجادل فيها.(4/1294)
وتصرفه صلى الله عليه وسلم طبقًا لهذه القاعدة أو بالأحرى تشريعه لهذه القاعدة شمل قضايا فردية صرفة , وإن تكن ذات أثر في تكييف التشريع العام، كما شمل قضايا ظاهرة الصبغة الاجتماعية وإن كان تطبيقها متصلًا بأفراد , وقد سبق أن وقفنا مرتين عند قضية عضيد سمرة بن جندب وقضية الزبير وصاحبه الذي خاصمه على الماء , ونؤثر أن نورد قصتين أخريين تشبهان هاتين , ولكن لهما تأثيرهما في مجالين مختلفين:
الأولى: ما رواه البخاري وغيره من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهل ترك لنا عقيل من رباع)) .
والثانية: ما رواه البخاري وغيره أيضًا من إذنه صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان أن تأخذ من ماله كفايتها وكفاية ولدها.
قال البخاري (1) :
"حدثنا أصبغ , قال: أخبرني ابن وهب , عن يونس , عن ابن شهاب , عن علي بن الحسين , عن عمرو بن عثمان , عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله , أين تنزل بدارك بمكة؟ فقال: ((وهل ترك عقيل من رباع أو دور)) ؟ وكان عقيل ورث أبا طالب , هو وطالب , ولم يرث جعفر ولا علي رضي الله عنهما شيئًا؛ لأنهما كانا مسلمين , وكان عقيل وطالب كافرين , فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لا يرث المؤمن الكافر. قال ابن شهاب: وكانوا يتأولون قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2) .
__________
(1) البخاري ج: 2. ص: 57.
(2) الآية: (72) سورة الأنفال.(4/1295)
وقال (1) : حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان , عن هشام , عن أبيه , عن عائشة , أن هندًا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح , وأحتاج أن آخذ من ماله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) .
وسواء كان قوله صلى الله عليه وسلم: ((وهل ترك لنا عقيل من رباع)) عند فتح مكة أو في حجة الوداع أو فيهما معًا , فالقصة متعددة على اختلاف بين الرواة والنقلة , بسطه ابن حجر في الفتح , فإن الذي يعنينا هو أنه صلى الله عليه وسلم قعد شرعه , لولا تقعيده لها لكان موضوعها مجال خلاف واسع بين المسلمين , وهي أن الكافر حين يسلم، يسلم على ما في يده ما أصاب في حال الكفر , وإن كان من مال استحقه المسلمون، وبيان ذلك أن إرث رسول الله صلى الله عليه وسلم جده عبد المطلب وإرث علي وجعفر رضي الله عنهما من أبيهما أبي طالب استحوذ عليه عقيل أخوهما رضي الله عنه قبل أن يسلم , ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم رده بعد أن أسلم , وإنما أقره عليه , واعتل بإقراره عليه أنه لم يعد يملك رباعا في مكة ينزل فيها , فقد استحوذ عقيل على رباعه , وجلي أنه لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق في تركة جده عبد المطلب؛ لأن أباه توفي وعبد المطلب حي , وأن أعمامه الأحياء هم وحدهم لهم الحق في إرثه , وكان لعلي أو لجعفر حق في تركة أبيهما أبي طالب في إرثه لعبد المطلب يشمله حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحق عقيل فيما استحوذ عليه لنزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أنه صلى الله عليه وسلم حصر الاستحواذ على رباعه في عقيل والعباس وغيره من ورثة عبد المطلب قد أصابوا أنصبتهم من إرثه ما في ذلك شك , فوضح أن عقيلًا استحوذ هو وحده على رباع رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومع أن شراح الحديث ورواته لم يذكروا شيئا عن طبيعة هذه الرباع , فإنا نشعر بأنها قد لا تكون مجرد حصته من إرث جده عبد المطلب , بل يمكن أن يكون منها إرثه من خديجة - رضي الله عنها - وأن عقيلًا لم يستحوذ استنادًا إلى حق الإرث فحسب , وإنما كان استحواذه جريًا على سنن المصادرة التي استنتها قريش في أموال المهاجرين من المسلمين , فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهل ترك لنا عقيل من رباع)) تشريعًا بمقتضى الإمامة لقاعدة أن الكافر إذا أسلم يظل له ما أسلم عليه من مال , وليس للمسلم الذي كان صاحب ذلك المال أن يطالبه به , ولذلك اعتبرنا هذا الحديث الشريف قاعدة تشريعية متميزة من القواعد الناتجة عن التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة , فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرعها لانفتح باب يعسر إغلاقه , وقد يكون مستحيلًا من الجدل والخصام بين المسلمين السابقين وبين أولئك اللاحقين قد يعوق عملية الإسماح للمسلمين اللاحقين في مجتمع المسلمين السابقين , وواضح أن هذه المصلحة تعلو على اعتبار المصلحة الفردية لأولئك الذين صودرت أموالهم نتيجة لهجرتهم. وهي فضلًا عن ذلك تشريع يمنع بمقتضاه من تخلى للمسلمين عن شيء من ماله في سبيل الله أن يستعيده وإن أمكنته استعادته , ومن هذا القبيل الكراهة للمصدق أن يشتري صدقته إن وجدها تباع , ولمن وهب عتادًا لمجاهد ليجاهد به في سبيل الله أن يشتريه إذا وجده في السوق يباع.
أما قضية هند وأبي سفيان فلها مجال آخر من التشريع وإن تكن انطلقت من قاعدة التصرف بمقتضى الإمامة , فالإذن لزوجة البخيل المقتر على زوجه وولده أن تأخذ من ماله كفايتها وكفاية ولدها بالمعروف دون استئذان زوجها وحتى بالرغم من امتناعه يثبت أولًا: الحق في العيش الكفاف للزوجة والولد في مال القادر البخيل.
وثانيًا: أولوية هذا الحق وأسبقيته لواجب المحافظة على مال الزوج باعتباره أمانة لا يحل للزوجة أن تتصرف فيه إلا بإذنه.
وثالثًا: إثبات الحق لصاحب الحق المغتصب أو الممنوع منه أن يأخذه إذا وجده أو أمكنه الحصول عليه بأية وسيلة.
ورابعًا: إقرار مبدأ دقيق خطير , هو أن ما خوله الله من تصرف فيما بين يديه من ما ليس مخولا له تخويلًا مطلقًا غير مقيد , وإنما هو مخول له تخويلًا محدودا بأن ينتفع به وينفع غيره , فإذا تجاوز هذا الحد بأن اختص به نفسه وحرم غيره أو حرم نفسه وحرم غيره بخلًا وأمكن لغيره الشريك فيه بحكم الشرع أن ينال منه نصيبه بمعروف , فله ذلك غير آثم , إنما الإثم على ذلك الذي حاول أن يمنعه حقه أنانية أو بخلًا.
__________
(1) البخاري ج: 8. ص: 115 و116.(4/1296)
هذه بعض الأحكام التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضية هند وأبي سفيان , وهي من الفيوض الكريمة للتصرف بمقتضى الإمامة اعتبارا للمصلحة العامة , وما أكثر ما أصاب المسلمون من فيوض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خير عميم.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم - لا سما أهل الفتيا - وأولو الأمر منهم يدركون ذلك أعمق الإدراك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوعيهم لمناط ما يشرع قولًا وفعلًا , ولو قد مضينا في استقصاء مداركهم هذه بأسانيدها لملأنا مجلدات.
حسبنا أن نقف عند نماذج منها مما انتهجه عمر خلال سني خلافته، فما نعلم في تاريخ التشريع الإسلامي في العهد الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمر وعيًا بحقائق التشريع وتجلية لخباياه وسرائره على حرص شديد منه أن لا ينحرف عن صاحبيه قيد أنملة، ولسنا نغفل الصديق - رضي الله عنه - ونحسبه لو مد الله في عمره سيكون مثل عمر وإن بأسلوب مختلف في التطبيق والتنفيذ لاختلاف طبيعة الرجلين الجليلين في التعامل مع الناس والأشياء والأحداث , وآية ذلك موقفه - رضي الله عنه - من مانعي الزكاة والعمل على حفظ القرآن من التلاشي والاندثار بالأمر بجمعه بعد محنة القراء في اليمامة , وكلا الأمرين مشهوران , لسنا بحاجة فيهما إلى بيان أو إسناد.
أما الفاروق - رضي الله عنه - فقد شاء الله أن تطول خلافته هونا , فاستطاع أن يكمل بيان التشريع الإسلامي وتجلية مناطه ومغازيه وإيضاح معالم النهج الذي يتعين سلوكه في تطبيقه حتى لا يعسر على الفقيه الواعي أن يجد حدثًا مما يستجد في حياة الناس على اختلاف أطوار حضارتهم وأنماط بيئاتهم ليس للحكم فيه أو لتكييف مواجهته أساس من عمل عمر أو قوله إن لم يكن له أساس من فعل رسول الله أو قوله , وليس في القرآن الكريم نص صريح يتصل به.(4/1297)
ونحسب أن حياة عمر العامة هي المرجع الغني الأصيل بعد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لالتماس حكم الشريعة الإسلامية فيما لم يأت فيه نص في القرآن الكريم.
ولو مضينا في استقصاء النماذج - أقول: النماذج , وليس الكل - لما يصل بموضوعنا (الحكم بمقتضى الإمامة) من حياة عمر العملية والقولية العامة , لكان علينا أن نضع مجلدًا خاصا بنصوصها وأسانيدها ومقاصدها وما يستنبط منها , وكم نود أن يمد الله لنا في العمر ويمنحنا من الجهد ويهبنا من التوفيق ما يتيح لنا التفرغ لهذا العمل بعد أن نفرغ من عمل نرسم له الآن معالمه , وهو المنهاج النبوي في السياسة الداخلية والخارجية للدولة الإسلامية.
لذلك نحاول أن ندرج كما اتفق وتيسر لنا - ولا نقول: أن نصطفي , فحياة عمر كلها صفوة الصفايا - بعض النماذج لتصرفاته التشريعية بمقتضى الإمامة رضي الله عنه وأرضاه.
روى عبد الرزاق (1) :
عن الثوري وابن جريج , عن يحيى بن سعيد , عن مسلم بن جندب.
وروى ابن حزم (2) نقلًا عن عبد الرزاق حديث مسلم بن جندب هذا , وننقله عنه؛ لأن النسخة المطبوعة من مصنف عبد الرزاق سقطت منها كلمة أو كلمتان , بينما رواية ابن حزم وافية.
قال مسلم بن جندب: قدم المدينة طعام , فخرج أهل السوق إليه , فابتاعوه , فقال لهم عمر: أفي سوقنا هذا تتجرون؟ أشركوا الناس , أو اخرجوا فاشتروا , ثم ائتوا فبيعوا.
وقال مالك (3) : إنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: لا حكرة في سوقنا , لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا , فيحتكرون علينا , ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف , فذلك ضيف عمر , فليبع كيف شاء الله , وليمسك كيف شاء الله.
__________
(1) المصنف. ج: 8. ص: 206. ح:14900
(2) المحلى. ج:9. ص:41.
(3) الموطأ ص: 544.(4/1298)
ووصله البيهقي فقال (1) :
أخبرنا عبد الله الحافظ أبو سعيد بن أبي عمرو , قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الربيع بن سليمان , حدثنا عبد الله بن وهب , عن سليمان بن بلال , عن إسماعيل بن إبراهيم , عن عبد الرحمن بن أبي ربيعة , عن أبيه , أن عمر بن الخطاب خرج إلى السوق , فرأى ناسًا يحتكرون بفضل أذهابهم , فقال عمر: لا , ولا نعمة عين , يأتينا الله عز وجل بالرزق حتى إذا نزل بسوقنا قام أقوام , فاحتكروا بفضل أذهابهم عن الأرملة والمسكين , إذا خرج الجلاب باعوا على نحو ما يريدون من التحكم , ولكن أيما جالب جلب يحمله على عمود كبده في الشتاء والصيف حتى ينزل سوقنا , فذلك ضيف لعمر , فليبع كيف شاء الله , وليمسك كيف شاء الله.
وقال عبد الرزاق (2) :
أخبرنا ابن جريج ومحمد بن مسلم , عن عمرو بن دينار , قال: قال عمر بن الخطاب: من باع في سوقنا , فنحن له ضامنون , ولا يبيع في سوقنا محتكر.
أخبرنا معمر أنه بلغه , أن عمر برجل يبيع طعامًا قد نقص سعره , فقال: اخرج من سوقنا , وبع كيف شئت ".
ووصله البيهقي فقال (3) :
أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن , قالا: حدثنا أبو العباس الأصم، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم , أنبأ ابن وهب، أخبرني مالك , عن يونس بن يوسف , عن سعيد بن المسيب قال: مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له بالسوق , فقال له عمر رضي الله عنه: إما أن تزيد في السعر , وإما أن ترفع من سوقنا.
__________
(1) السنن. ج:6. ص:30.
(2) المصنف. ص: 206 و207. ح: 14903/14906.
(3) السنن. ص: 29.(4/1299)
وتعقبه البيقهي بقوله:
فهذا مختصر، وتمامه فيما روى الشافعي عن الدراوردي , عن داود بن صالح التمار , عن القاسم بن محمد , عن عمر رضي الله عنه , أنه مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب , فسأله عن سعرهما , فسعر له مدين لكل درهم , فقال له عمر رضي الله عنه: لقد حدثت ببعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبًا وهم يعتبرون بسعرك , فإما أن ترفع في السعر , وإما إن تدخل زبيبك للبيت تبيعه كيف شئت , فلما رجع عمر حسب نفسه , ثم أتى حاطبًا في داره فقال له: إن الذي قلت ليس بعزمة مني , ولا قضاء , إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد , فحيث شئت فبع , وكيف شئت فبع.
وقال عبد الرزاق:
أخبرنا مالك , عن يونس , عن يوسف , عن ابن المسيب , أن عمر بن الخطاب مر على حاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له في السوق , فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر , وإما أن ترفع عن سوقنا.
أخبر ابن جريج , عن عمرو بن شعيب , قال: وجد عمر بن الخطاب ابن أبي بلتعة يبيع الزبيب بالمدينة , فقال: كيف تبيع يا حاطب؟ فقال: مدين. فقال: تبتاعون بأبوابنا وأفنيتنا وأسواقنا , تقطعون في رقابنا , ثم تبيعون كيف شئتم، بع صاعًا , وإلا فلا تبع في سوقنا , وإلا فسيروا في الأرض واجلبوا , ثم بيعوا كيف شئتم.
وروى مالك في الموطأ (1) :
عن يونس بن يوسف , عن سعيد بن المسيب , أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له في السوق , فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر , وإما أن ترفع عن سوقنا.
قلت: انفرد الشافعي إذا ثبت ما نقل عنه البيهقي بما زاده في روايته لقصة حاطب , من أن عمر راجع نفسه , فعاد إليه وأذن له في البيع كيف شاء , وعلى فرض صحة هذه الزيادة - والزيادة من الثقة مقبولة , فكيف إذا كانت من إمام
كالشافعي رحمه الله - فإن عمر فعل ذلك في رأينا والله أعلم إكرامًا لحاطب؛ لأنه بدري , وللبدريين مقام متميز بين الصحابة , فضلًا عن سائر المسلمين.
__________
(1) الموطأ. ص: 544.(4/1300)
قال أبو عبيد (1) :
"وأما ما جاء في ترك القسم , فإن هشيم بن بشير حدثنا , قال: أخبرنا العوام بن حوشب , عن إبراهيم التميمي , قال: لما افتتح المسلمون السواد , قال عمر: اقسمه بيننا , فإنا افتتحناه عنوة. قال: فأبى , وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا بينكم في المياه , قال: فأقر أهل السواد في أرضيهم , وضرب على رؤوسهم الجزية وعلى أرضيهم الطسق (2) ولم يقسم بينهم.
وحدثني سعيد بن أبي سليمان , عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، حدثنا الماجشون , قال: قال بلال لعمر بن الخطاب في القرى التي افتتحها عنوة: اقسمها بيننا , وخذ خمسها. فقال عمر: لا , هذا عين المال , ولكن أحبسه فيما يجري عليهم وعلى المسلمين. فقال بلال وأصحابه: أقسمها بيننا. فقال عمر: اللهم اكفني بلالا وذويه. قال: فما حال الحول ومنهم حي يطرف.
قال عبد العزيز بن سلمة: وأخبرني زيد بن أسلم , قال: قال عمر: تريدون أن يأتي آخر الناس وليس لهم شيء.
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي , عن مالك بن أنس , عن زيد بن أسلم , عن أبيه قال: سمعت عمر قال: لولا آخر الناس ما افتتحت قرية إلا قسمتها.
حدثنا ابن أبي مريم , عن ابن لهيعة قال: أخبرني يزيد بن أبي حبيب عمن سمع عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة يقول: سمعت سفيان بن وهب الخولاني يقول: لما افتتحت مصر بغير عهد , قام الزبير فقال: يا عمرو بن العاص اقسمنها. فقال عمرو: لا أقسمها. فقال الزبير: لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر. فقال عمرو: لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إلى عمر , فكتب إليه: أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة.
حدثنا أبو الأسود عن ابن لهيعة , عن زيد بن أبي حبيب , أن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص يوم فتح العراق , أما بعد فقد بلغني كتابك أن الناس قد سألوا أن تقسم بينهم غنائمهم وما أفاء الله عليهم، فانظر ما أجلبوا به عليك في العسكر من كراع أو مال فاقسمه بين من حضر من المسلمين , واترك الأرضين والأنهار لعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين , فإنا لو قسمناها بين من حضر لم يكن لمن بعده شيء.
__________
(1) الأموال. ص: 181 و184 الأثر: 146 إلى 152.
(2) الخراج ولعلها ليست عربية.(4/1301)
حدثنا إسماعيل بن جعفر , عن إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن حارثة بن مضرب , عن عمر أنه أراد أن يقسم السواد بين المسلمين , فأمر أن يحصر , فوجد الرجل يصيبه ثلاثة من الفلاحين , فشاور في ذلك , فقال له علي بن أبي طالب: دعهم يكونوا مادة للمسلمين. فتركهم وبعث إليهم عثمان بن حنيف , فوضع عليهم ثمانية وأربعين , وأربعة وعشرين , واثني عشر (1)
حدثنا هشام بن عمار الدمشقي , عن يحيى بن حمزة , قال: حدثني تميم بن عطية المعلي , قال: أخبرني عبد الله بن أبي قيس أو عبد الله بن قيس الهمداني - شك أبو عبيد (2) قال: قدم عمر الجابية , فأراد قسم الأرض بين المسلمين , فقال له معاذ: والله إذن ليكون ما تكره , إنك إن قسمتها صار الربع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون , فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة , ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا وهم لا يجدون شيئًا , فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم.
قال هشام: وحدثني الوليد بن مسلم , عن تميم بن عطية , عن عبد الله بن أبي قيس - أو ابن قيس - (3) أنه سمع عمر يكلم الناس في قسم الأرض , ثم ذكر كلام معاذ إياه , قال: فصار عمر إلى قول معاذ.
وقال ابن زنجوية (4) :
__________
(1) على أساس اعتبار رقم استدلالي لها - حسب التعبير الحديث - يزيد وينقص اعتبار الأقوال لمن تضرب عليهم , وفي ذلك روى ابن زنجويه (الأموال. ج: 1. ص: 159 الأثر: 157) وغيره واللفظ لابن زنجويه , قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مندل , عن الشيباني , عن أبي عون , عن المغيرة , عن شعبة , أن عمر بعث إلى رهط من أهل السواد , فسألهم عن أعمالهم وعن عيالهم وعن بطالتهم , ثم وضع عليهم ثمانية وأربعين درهمًا , وأربعة وعشرين , واثني عشر. وأعقبه بحديث أبي عبيد الذي أدرجناه في الأصل على حين وردت أحاديث بما يزيد عن هذا القدر وينقص طبقًا لأحوال من تضرب عليهم.
(2) قال ابن حجر (التقريب. ج: 1. ص: 442. ترجمة: 557) : عبد الله بن أبي قيس , ويقال: ابن أبي موسى أبو الأسود النصري بالنون الحمصي , ثقة مخضرم , من الثانية , ورمز إلى أنه روى عنه البخاري في الأدب المفرد ومسلم والأربعة.
(3) قال ابن حجر (التقريب. ج: 1. ص: 442. ترجمة: 557) : عبد الله بن أبي قيس , ويقال: ابن أبي موسى أبو الأسود النصري بالنون الحمصي , ثقة مخضرم , من الثانية , ورمز إلى أنه روى عنه البخاري في الأدب المفرد ومسلم والأربعة.
(4) الأموال. ج: 1. ص: 190. الأثر: 222.(4/1302)
حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأ محمد بن جعفر، أخبرني زيد بن أسلم , عن أبيه , أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: أنا والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببانا (1) ليس لهم شيء ما فتحت في قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ولم أتركها خزانة لهم يقسمونها.
قال البخاري (2) : حدثنا صدقة، أخبرنا عبد الرحمن , عن مالك , عن زيد بن أسلم , عن أبيه قال: قال عمر رضي الله عنه: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.
وقال البخاري (3) : حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر , قال: أخبرني زيد , عن أبيه , أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يقول: أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببانا ليس لهم شيء ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر , ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها.
حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن مهدي , عن مالك بن أنس , عن زيد بن أسلم , عن أبيه , عن عمر رضي الله عنه قال: لولا آخر المسلمين ما فتحت عليهم قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.
ونقل الحافظ في الفتح (4) : عن الدارقطني عن غرائب مالك من طريق معن بن عيسى عن مالك بسند الحديث السابق , عن عمر قال: لئن بقيت إلى الحول لألحقن أسفل الناس بأعلاهما. لكن روى أحمد في مسنده (5) :
__________
(1) بموحدتين مفتوحتين , الثانية ثقيلة , يعنى شيئًا واحدًا أو معدمين لا شيء لهم , وقيل: صوابه "بيانًا " بموحدة ثم تحتانية بدل الموحدة الثانية , والمعنى واحد , انظر ابن حجر فتح الباري. ج: 7. ص: 375 و376.
(2) ج: 5. ص:81.
(3) ج: 5. ص:81.
(4) الصحيح. ج: 4. ص: 51.
(5) ج: 1. ص:31.(4/1303)
"عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو , قال: حدثنا هشام - يعني ابن سعد - عن زيد بن أسلم , عن أبيه قال: سمعت عمر يقول: لئن عشت إلى هذا العام المقبل لا يفتح للناس قرية إلا قسمتها بينهم كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.
وواضح أن بين هذا الأثر والآثار السابقة له عن عمر ما يشبه أن يكون عمر قد رجع عن احتباس الأرض المفتوحة عنوة وقفا لبيت مال المسلمين , ترجع عوائده على الأجيال المتعاقبة إلى قسمتها بين الفاتحين , وقد اعتمد ابن حزم في المحلى (1) هذه الرواية , فاستظهر بها لما ذهب إليه في هذا الشأن، بيد أننا نرتاب في صحتها متنا لما بين بعض ألفاظها وألفاظ الروايات الأخرى من شبه يوحي بأن فيما اختلفت فيه عن الروايات الأخرى وهما، وقد عرف هشام بن سعد بأنه صدوق , ولكن له أوهام (2) . وسيأتي عن عمر من التصرفات ما يعضد ما ذهبنا إليه في هذا الشأن على أن احتباس الأرض المفتوحة عنوة أو الرجوع عن احتباسها لو ثبت كلاهما يعضد ما نستظهر به من أعمال عمر على اعتبار التصرف بمقتضى الإمامة طبقًا للمصلحة العامة قاعدة شرعية ثابتة تضبط تصرفات أولي الأمر , وتحكم ما قد تتغاير فيه المصلحتان العامة والخاصة.
قال يحيى بن آدم (3) :
"حدثنا قيس بن الربيع , عن رجل من بني أسد , عن أبيه قال: أصفى حذيفة أرض كسرى وأرض آل كسرى ومن كان كسرى أصفى أرضه , وأرض من قتل , ومن هرب , والآجام ومغيض الماء.
قلت: كان حذيفة عاملًا لعمر.
وقال:
"حدثنا عبد الله بن المبارك , عن عبد الله بن الوليد بن عبد الله بن معقل , قال: حدثني عبد الملك بن أبي حرة , عن أبيه قال: أصفى عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا السواد عشرة أصناف , أصفى أرض من قتل في الحرب , ومن هرب من المسلمين , وكل أرض لكسرى , وكل أرض كانت لأحد من أهله , وكل مغيض , وكل دبر بريد , قال: ونسيت أربعًا , قال: وكان خراج ما أصفى سبعة آلاف ألف , فلما كانت الجماجم أحرق الناس الديوان , فأخذ كل قوم ما يليهم.
__________
(1) ج: 7. ص: 343.
(2) انظر ابن حجر في تهذيب التهذيب.
(3) الخراج. ص: 63.الأثر: 197 و199. وانظر أيضًا السنن الكبرى ج: 9. ص: 134.(4/1304)
حدثنا عبد السلام بن حرب , عن عبد الله بن الوليد المزني , عن رجل من بني أسد , قال: لم أدرك بالكوفة أحدًا كان أعلم بالسواد منه , قال: بلغت غلة الصوافي على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أربعة آلاف ألف , وهي التي يقال لها: صوافي الأسنان اليوم , قلت: وما الصوافي؟ قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصفى كل أرض كانت لكسرى أو لآل كسرى أو رجل قتل في الحرب أو رجل لحق بأهل الحرب أو مغيض ماء أو دبر بريد , قال: وخصلتين ذكرهما ولم أحفظهما. وفي حديث قيس: والآجام , ومن كان كسرى أصفى أرضه.
وقال أبو عبيد (1) .
"حدثنا معاذ بن معاذ وأزهر السمان , كلاهما عن ابن عون , فأما أزهر فقال: عن عمر بن يحيى الزرقي , وأما معاذ فقال: عن الزرقي ولم يسمه , قال: أقطع أبو بكر طلحة بن عبيد الله أرضًا , وكتب له بها كتابًا , وأشهد له ناسًا فيهم عمر قال: فأتى عمر طلحة بالكتاب , فقال: اختم على هذا. قال: لا أختم , أهذا كله لك دون الناس؟ قال: فرجع طلحة مغضبًا إلى أبي بكر. فقال: والله ما أدري أنت الخليفة أم عمر؟ قال: لا بل عمر , ولكنه أبى.
وقال ابن زنجويه (2) :
حدثنا النضر، أخبرنا ابن عون، أنبأنا رجل من بني زريق , أن أبا بكر رضي الله عنه أقطع طلحة أرضًا , وكتب له بها كتابًا , وأشهد فيه ناسًا , وأشهد عمر فيمن أشهد , قال: فأتاه بالكتاب , وقال: اختم هذا. قال: لا , لم؟ أكل المسلمين أعطى مثل ما أعطاك؟ قال: فخرج وهو غضبان حتى دخل على أبي بكر , فقال: ما أدري أنت الخليفة أم عمر؟ قال: لا , بل عمر , لكنه أبى ذلك.
__________
(1) الأموال. ص: 191. أثر: 685.
(2) الأموال ج: 2. ص: 622 و623. أثر: 685.(4/1305)
قلت: تكلموا في عمر بن يحيى الزرقي , وقال عنه ابن معين: ليس بشيء (1) ثم إنهم قالوا: إن حديثه عن أبي بكر وعمر مرسل , ومع ذلك فهو يتسق مع تصرفات عمر التي سيأتي بعض منها , وقد روى ابن زنجويه هذا الحديث عن أبي عبيد بالسند السابق (2) .
وقال أبو عبيد (3) : حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي , عن محمد بن شعيب بن شابور , عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر , أن أبا بكر أقطع لعيينة بن حصن قطيعة , وكتب له بها كتابًا , فقال طلحة أو غيره: وإنا نرى هذا الرجل سيكون من هذا الأمر بسبيل - يعني عمر - فلو أقرأته كتابك فأتى عيينة عمر , فأقرأه كتابه , ثم ذكر مثل حديث ابن عون - يعني المتقدم في شأن طلحة - وزاد فيه: أنه بصق في الكتاب ومحاه , قال: فسأل عيينة أبا بكر أن يجدد له كتابًا , فقال: لا , والله لا أجدد شيئًا رده عمر.
ورواه البيهقي بأطول ولفظه (4) :
أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد، أنبأ عبد الله بن درستويه، حدثنا أبو يوسف يعقوب بن سفيان، حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا المحارب , عن حجاج بن دينار الواسطي , عن ابن سيرين , عن عبيدة قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقالا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم , إن عندنا أرضًا سبخة , ليس فيها كلأ ولا منفعة , فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نزرعها ونحرثها ... فذكر الحديث في الإقطاع وإشهاد عمر رضي الله عنه عليه ومحوه إياه , فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما , والإسلام يومئذ قليل , وإن الله أعز الإسلام , فاذهبا فاجهدا جهدكما , لا أرعى الله عليكما إن رعيتما.
__________
(1) قال البخاري (التاريخ الكبير. ج: 6. ص: 206. ترجمة: 2184) : عمر بن يحيى الزرقي الأنصاري , أن أبا بكر رضي الله عنهما , روى عنه ابن عون , مرسل. ونقل الرازي (الجرح والتعديل. ج: 6. ص: 142. ترجمة: 769) كلام البخاري بلفظه ونسبه إلى أبيه , ثم روى بسنده عن عثمان بن سعيد , قال: قلت ليحيى بن معين: عمر بن يحيى ما حاله؟ قال: ليس شيء. قلت: لم أعزله على ذكر في تاريخ ابن معين. وقال الذهبي (الميزان. ج: 3. ص: 230. ترجمة 6247) : عمر بن يحيى الزرقي شيخ تابعي , حدث عنه ابن عون , قال ابن معين: ليس بشيء.
(2) الأموال. الأثر: 1024.
(3) الأموال. الأثر: 686.
(4) السنن الكبرى. ج: 7. ص: 20.(4/1306)
ونقله السيوطي (1) عن ابن أبي حاتم بمثل لفظ البيهقي فقال: وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني , قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر , فقالا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم , إن عندنا أرضًا سبخة , ليس فيها كلأ ولا ماء ولا منفعة , فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها أو نزرعها , أو لعل الله أن ينفع بها. فأقطعهما إياها , وكتب لهما بذلك كتابًا وأشهد لهما , فانطلقا إلى عمر ليشهداه على ما فيه , فلما قرآ على عمر ما في الكتاب , تناوله من أيديهما , فتفل فيه فمحاه , فتذمرا وقالا له مقالة سيئة , فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفهما , والإسلام يومئذ قليل , وإن الله قد أعز الإسلام , فاذهبا فاجهدا جهدكما , لا أرعى الله عليكما إن رعيتما.
قلت: كان عيينة بن حصن ممن تألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني فزارة , وكان الأقرع بن حابس ممن تألفهم من بني نصر.
وقال الطبري (2) :
"حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال: حدثنا هشيم , قال: حدثنا عبد الرحمن بن يحيى , عن حبان بن أبي جبلة , قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأتاه عيينة بن حصن: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} , وتعقبه بقوله: أي ليس اليوم مؤلفة.
وقال عبد الرزاق (3) :
عن ابن جريج قال: حدثني هشام بن عروة , عن عروة , أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أخبره , عن أبيه قال: توفي حاطب وترك أعبدًا , منهم من يمنعه من ستة آلاف يعملون في مال لحاطب بشمران , فأرسل إلي عمر ذات يوم ظهرًا وهم عنده , فقال: هؤلاء أعبدك سرقوا , وقد وجب عليهم ما وجب على السارق , وانتحروا ناقة لرجل من مزينة واعترفوا بها ومعهم المزني , فأمر عمر أن تقطع أيديهم , ثم أرسل وراءه , فرده ثم قال لعبد الرحمن بن حاطب: أما والله لولا أن أظن أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم يجد ما حرم الله عليه يأكله لقطعت أيديهم , ولكن والله إذ تركتهم لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال للمتولي: كم ثمنها؟ قال: كنت أمنعها من أربعمائة. قال: أعطه ثمانمائة.
__________
(1) الدر المنثور. ج: 3. ص: 252.
(2) ج: 10. ص:113.
(3) المصنف. ج: 1. ص: 238 , الأثر 18977و 18978.(4/1307)
وعن معمر , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب , أن غلمة لأبيه عبد الرحمن بن حاطب سرقوا بعيرًا فانتحروه , فوجد عندهم جلده ورأسه , فرفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب , فأمر بقطعهم , فمكثوا ساعة وما نرى إلا أن قد فرض من قطعهم , ثم قال عمر: علي بهم , ثم قال لعبد الرحمن: والله لأني أراك تستعملهم وتسيء إليهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لا حل لهم , ثم قال لصاحب البعير: كم كنت تعطي لبعيرك؟ قال: أربعمائة. قال لعبد الرحمن: قم فاعزم لهم ثمانمائة درهم.
وقال البيهقي (1) : أخبرنا أبو زكرياء بن أبي إسحاق وأبو سعيد بن أبي عمرو , قالا: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب , أنبأ جعفر بن عون، حدثنا هشام بن عروة , عن أبيه , عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: أصاب غلمان لحاطب بن أبي بلتعة بالعالية ناقة لرجل من مزينة , فانتحروها واعترفوا بها , فأرسل إليه عمر , فذكر ذلك له , وقال: هؤلاء أعبدك قد سرقوا وانتحروا ناقة رجل من مزينة , واعترفوا بها. فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم , ثم أرسل بعدما ذهب فدعاه , وقال: لولا أني أظن أنكم تجيعونهم حتى إن أحدهم أتى ما حرم الله عز وجل , لقطعت أيديهم , ولكن والله لئن تركتهم لأغرمنك فيهم غرامة توجعك. فقال: كم ثمنها للمزني؟ قال: كنت أمنعها من أربعمائة. قال: فأعطه ثمانمائة.
وقال ابن حجر (2) : وقال البخاري في التاريخ الصغير: حدثنا محمد بن العلاء , وقال الحاملي في أماليه: حدثنا مروان بن عبد الله - واللفظ له – قالا: حدثنا عبد الرحمن بن حميد المحاربي، حدثنا حجاج بن دينار , عن أبي عثمان , عن محمد بن سيرين , عن عبيدة بن عمرو قال: جاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن إلى أبي بكر الصديق رضي
الله عنه فقال (3) : يا خليفة رسول الله , إن عندنا أرضًا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة , فإن رأيت أن تقطعناها. فأجابهما , وكتب لهما , وأشهد القوم , وعمر ليس فيهم , فانطلقا إلى عمر يشهداه فيه , فتناول الكتاب وتفل فيه ومحاه , فتذمرا له , وقالا له مقالة سيئة , فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما , والإسلام يومئذ قليل , وأن الله قد أعز الإسلام , اذهبا فاجهدا على جهدكما , لا رعى الله عليكما إن رعيتما. فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران , فقالا: ما ندري والله أنت الخليفة أو عمر؟ فقال: لا , بل هو لو كان شاء. فجاء عمر وهو مغضب , فوقف على أبي بكر , فقال: أخبرني عن هذا الذي أقطعتهما أرضا هي لك خاصة أو للمسلمين؟ قال: بل للمسلمين عامة. قال: فما حملك على أن تخص بها هذين؟ قال: استشرت الذين حولي فأشاروا علي بذلك , وقد قلت لك: إنك أقوى على هذا مني.
وقال ابن زنجويه (4) : حدثنا أبو الأسود، حدثنا ابن لهيعة , عن ابن أبي حبيب , عن ابن أخي عمرو بن الصعق أنه كتب إلى عمر بن الخطاب بأبيات من شعر لما كثر عمال عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عنه:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة فأنت أمين الله في المال والأمر
فلا تدعن أهل الرساتيق والجزى يشيعون مال الله في الأدم الوفر
فأرسل إلى النعمان فاعلم حسابه وأرسل إلى عمرو وأرسل إلى بسر
ولا تنسين النافعين كليهما وصهر بني غزوان عندك ذو وفر
ولا تدعوني للشهادة إنني أغيب ولكني أرى عجب الدهر
من الخيل كالغزلان والبيض كالدمى وما ليس ينسى من قدام ومن ستر
ومن غيظة مكنونة في صيانها ومن طي أستار معصفرة حمر
فقاسمهم أهلي فداؤك إنهم سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر
إذا التاجر الطائي جاء بفأرة من المسك راحت في مفارقهم تجري
تبيع إذا باعوا وتغزو إذا غزوا فأنى لهم مال ولسنا بذي وفير.
__________
(1) السنن الكبرى. ج: 8. ص: 278.
(2) الإصابة ج3. ص: 55 ترجمة: 6151.
(3) لعل فيه خطأ صوابه: فقالا
(4) كتاب الأموال. ج: 2. ص: 604و 605 , أثر: 995 و996.(4/1308)
وكان عمر بن الخطاب إذا استعمل عاملًا فاستكثر ماله , بعث إليه , فأخذ بشطر ماله.
قال أبو عبيد: وأخبرنا معاذ بن معاذ , عن ابن عون , عن ابن سيرين قال: لما قدم أبو هريرة من البحرين , قال له عمر: يا عدو الله وعدو كتابه , أسرقت مال الله؟ قال: لست عدو الله ولا عدو كتابه , ولكني عدو من عاداهما , ولم أسرق مال الله. قال: فقال: من أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قال: خيلي تناسلت , وعطائي تلاحق , وسهامي تلاحقت. فقبضها منه , قال أبو هريرة: فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين.
وروى عبد الرزاق هذا الأثر فقال (1) : عن معمر , عن أيوب , عن ابن سيرين , أن عمر بن الخطاب استعمل أبا هريرة على البحرين , فقدم بعشرة آلاف , فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه. قال أبو هريرة: لست عدو الله ولا عدو كتابه , ولكني عدو من عاداهما. قال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل لي تناتجت , وغلة رقيق لي , وأعطية تتابعت علي. فنظروه , فوجدوه كما قال. قال: فلما كان بعد ذلك , دعاه عمر يستعمله فأبى أن يعمل له , فقال: أتكره العمل وقد طلب العمل من كان خيرًا منك يوسف؟ قال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي , وأنا أبو هريرة ابن أميمة أخشى ثلاثًا واثنتين , قال له عمر: أفلا قلت خمسًا؟ قال: لا , أخشى أن أقول بغير علم , وأقضي بغير حلم , ويضرب ظهري , وينتزع مالي ويشتم عرضي.
__________
(1) المصنف. ج: 11. ص: 323. أثر: 20659(4/1309)
وقال ابن سعد (1) :
أخبرنا عمرو بن الهيثم , قال: حدثنا أبو هلال , عن محمد بن سيرين , عن أبي هريرة قال: كنت عاملًا بالبحرين , فقدمت على عمر بن الخطاب , فقال: عدوا لله وللإسلام - أو قال: عدوًا لله ولكتابه - سرقت مال الله. قلت: لا , ولكني عدو من عاداهما , خيل لي تناتجت , وسهام لي اجتمعت. وأخذ مني عشرة آلاف , قال: ثم أرسل إلي بعد آن: ألا تعمل؟ قلت: لا. قال: لم أليس قد عمل يوسف؟ قلت: يوسف نبي ابن نبي , وأخشى من عملكم ثلاثًا واثنتين , قال: أفلا تقول خمسًا؟ قال: لا، أخاف أن يشتم عرضي ويؤخذ مالي ويضرب ظهري , وأخاف أن أقول بغير علم , وأقضي بغير حلم.
أخبرنا هوذة بن خليفة وعبد الوهاب بن عطاء ويحيى بن خليف بن عقبة وبكار بن محمد , قالوا: حدثنا ابن عون , عن محمد بن سيرين , عن أبي هريرة قال لي عمر: يا عدو الله وعدو كتابه , أسرقت مال الله؟ قال: فقلت: ما أنا بعدو الله , ولا بعدو كتابه , ولكني عدو من عاداهما , ولا سرقت مال الله. قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قال: قلت يا أمير المؤمنين , خيلي تناسلت , وسهامي تلاحقت , وعطائي تلاحق. قال: فأمر بها أمير المؤمنين , فقبضت. قال: فكان أبو هريرة يقول: اللهم اغفر لأمير المؤمنين.
أخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا همام بن يحيى , قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله , أن عمر بن الخطاب قال لأبي هريرة: كيف وجدت الإمارة يا أبا هريرة؟ قال: بعثتني وأنا كاره , ونزعتني وقد أحببتها , وأتاه بأربعمائة ألف من البحرين , فقال: أظلمت أحدًا؟ قال: لا، قال: أخذت شيئًا بغير حقه؟ قال: لا، قال: فما جئت به لنفسك؟ قال: عشرين ألفًا. قال: من أين أصبتها؟ قال: كنت أتجر. قال: انظر رأس مالك ورزقك وخذه , واجعل الآخر في بيت المال.
وقال أبو عبيد (2) :
حدثنا عبد الله بن صالح , عن الليث بن سعد , عن يحيى بن سعيد , أن عمرو بن الصعق لما نظر إلى أموال العمال تكثر , استكثر ذلك , فكتب إلى عمر بن الخطاب بأبيات شعر قد ذكرها عبد الله بن صالح عن الليث في حديثه , قال: فبعث عمر إلى عماله وفيهم سعد وأبو هريرة , فشاطرهم أموالهم.
__________
(1) الطبقات الكبرى. ج: 4. ص: 335.
(2) الأموال. ص: 381 أثر: 664 إلى 666.(4/1310)
وحدثنا معاذ , عن ابن عون , عن ابن سيرين قال: لما قدم أبو هريرة من البحرين , قال له عمر: يا عدو الله وعدو كتابه , أسرقت مال الله؟ قال: لست بعدو الله ولا بعدو كتابه , ولكن عدو من عاداهما , ولم أسرق مال الله. قال: فمن أين اجتمعت إليك عشرة آلاف درهم؟ قال: خيلي تناسلت , وعطائي تلاحق , وسهامي تلاحقت. فقبضها منه، قال أبو هريرة: فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين.
وحدثنا يعقوب بن إسحاق , عن زيد بن إبراهيم التستري , عن ابن سيرين , عن أبي هريرة مثل ذلك , وزاد فيه قال: قال أبو هريرة: ثم قال لي عمر بعد ذلك: ألا تعمل؟ قلت: لا. قال: لم أليس قد عمل من هو خير منك يوسف؟ فقلت: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي , وأنا ابن أميمة , وأخشى ثلاثًا واثنتين , قال: فهلا قلت خمسًا؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم , وأحكم بغير حلم - وقال: أقول بغير حلم وأحكم بغير علم , قال: الشك من ابن سيرين - وأخشى أن يضرب ظهري , ويشتم عرضي , وينزع مالي.
وقال ابن زنجوية (1) :
"أنبأ بكر بن بكار، أنبأ أبو حرة، حدثنا محمد , قال: قال عمر لأبي هريرة: يا عدو الله وعدو كتابه , خنت مال الله؟ قال: ما خنت مال الله , وما أنا بعدو الله ولا عدو كتابه , ولكن عدو من عاداهما , سهامي اجتمعت , وخيلي تناسلت. قال: فغرمه اثني عشر ألف درهم , فلما دخل الصلاة , قال: اللهم اغفر لعمر.
حدثنا محاضر بن مجالد بن سعيد , عن عامر الشعبي قال: قال عمر لأناس من أصحاب محمد: يا معشر أصحاب محمد , إذا تخلفتم عن الأمر بمن أستعين أو من أبعث؟ قال أبو هريرة: فأمرني على البحرين , قال: فأتاه بثلاثمائة ألف درهم , فقال عمر: ما رأيت مالًا قط أكثر من هذا , ما في هذا إلا دعوة مظلوم أو مال يتيم؟ قال أبو هريرة: بئس المرء أنا إن كان المهنأ لك , وإن كانت لي المؤنة , ولكن والله ما ألوت أن أطيب. فقال عمر: لله الحمد. فقال أبو هريرة: والله لا أرجع. فقال له: لم يا أبا هريرة؟ قال: لأني أخاف اثنتين - أظنه قال: فيما بيني وبين الله - أخاف بيني وبين الله: أن أقول بغير حكم , وأقضي بغير حق , وأخاف ثلاثًا فيما بيني وبينك: أن أصيب شيئًا فلا تحله لي , وأتعقب من مال فلا تعقبه لي , وإن حدثتك فلا تصدقني.
__________
(1) الأموال. ج2. ص: 606 أثر: 997 و998.(4/1311)
وقال أبو يوسف (1) :
"حدثني المجالد بن سعيد , عن عامر , عن المحرر بن أبي هريرة , عن أبيه , أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إذا لم تعينوني فمن يعينني؟ قالوا: نحن نعينك. فقال: يا أبا هريرة أنت البحرين وهجر , ائت العام. قال: فذهبت فجئته في آخر السنة بغرارتين فيهما خمسمائة ألف , فقال له عمر رضي الله عنه: ما رأيت مالًا مجتمعًا قط أكثر من هذا , فيه دعوة مظلوم أو مال يتيم أو أرملة , قال: قلت: لا والله بئس والله الرجل أنا , إذًا إن ذهبت أنت بالمهنأ , وأنا أذهب بالمؤنة.
قال الطبري (2) : كتب إلي السري , عن شعيب , عن سيف , عن أبي المجالد وأبي عثمان والربيع وأبي حارثة , قالوا: ولما قفل خالد وبلغ الناس ما أصابت تلك الطائفة , انتزعه رجال , فانتجع خالدًا رجال من أهل الآفاق , فكان الأشعث بن قيس (3) ممن انتجع خالدًا بقنسرين , فأجازه خالد بعشرة آلاف , وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، كتب إليه من العراق بخروج من خرج , ومن الشام بجائزة من أجيز فيها , فدعا البريد , وكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيم خالدًا ويعقله بعمامته وينزع منه قلنسوته حتى يعلمهم من أين إجازة الأشعث , أمن ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنها من إصابة أصابها , فقد أقر بخيانة , وإن زعم أنها من ماله , فقد أسرف واعزله على كل حال , واضمم إليك عمله , فكتب أبو عبيدة إلى خالد , فقدم عليه , ثم جمع الناس , وجلس على المنبر , فقام البريد وقال: يا خالد , أمن مالك أوجزت بعشرة آلاف أو من إصابة؟
__________
(1) الخراج. ص: 114.
(2) تاريخ الرسل والملوك. ج: 4. ص: 67 وما بعدها.
(3) الأشعث بن قيس الكندي صحابي نزل الكوفة كما يقول ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 1. ص: 359. ترجمة 653) , وقيل: مات بها أيضًا بعد استشهاد علي رضي الله عنه بيسير حين صالح الحسن عليه السلام ومعاوية , وكان قد ارتد ثم عاد إلى الإسلام في خلافة أبي بكر وزوجه أخته أم فروة , وشهد القادسية والمدائن وصفين , وكان له دور في الفتنة يغفر الله لنا وله , ولولا أنه صحابي لكان لنا فيه مقال.(4/1312)
فلم يجبه حتى أكثر عليه وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئًا , فقام بلال إليه , فقال: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا. ثم تناول قلنسوته فعقله بعمامته , وقال: ما تقول؟ أمن مالك أم من إصابة؟ قال: لا , بل من مالي , فأطلقه وأعاد قلنسوته , ثم عممه بيده , ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا , ونفخم ونخدم موالينا , قال: وأقام خالد متحيرًا لا يدري أمعزول أم غير معزول , وجعل أبو عبيدة لا يخبره حتى إذا طال على عمر أن يقدم , ظن الذي كان , فكتب إليه بالإقبال , فأتى خالد أبا عبيدة , فقال: رحمك الله ما أردت إلى ما صنعت كتمتني أمرًا كنت أحب أن أعلمه قبل اليوم , فقال أبو عبيدة: إني ما كنت والله لأروعك ما وجدت لذلك بدا , وقد علمت أن ذلك يروعك , قال: فرجع خالد إلى قنسرين فخطب أهل عمله وودعهم وتحمل , ثم أقبل إلى حمص فخاطبهم وودعهم , ثم خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر فشكاه , وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين , والله إنك في أمري غير مجمل يا عمر. فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان، ما زاد على الستين ألفًا فلك , فقوم عمر عروضه , فخرجت إليه عشرون ألفًا , فأدخلها بيت المال , ثم قال: يا خالد , والله إنك علي لكريم , وإنك إلي لحبيب , ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء.
كتب إلي السري عن شعيب , عن سيف , عن عبد الله بن مستورد , عن أبيه , عن عدي بن سهيل قال: كتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدًا عن سخطة ولا خيانة , ولكن الناس فتنوا به , فخفت أن يتوكلوا عليه ويبتلوا به , فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع , وألا يكونوا بعرض فتنة.
كتب إلى السري عن شعيب , عن سيف , عن مبشر , عن سالم قال: لما قدم خالد على عمر قال عمر متمثلًا:
صنعت فلم يصنع كصنعك صانع وما يصنع الأقوام فالله صانع.
فأغرمه شيئًا , ثم عوضه , وكتب فيه إلى الناس بهذا الكتاب , ليعذره عندهم وليبصرهم.
وقال الذهبي (1) :
__________
(1) سير أعلام النبلاء. ج: 1. ص: 380. ترجمة: 78.(4/1313)
"الأصمعي , عن ابن عون , عن ابن سيرين , أن خالد بن الوليد دخل وعليه قميص حرير , فقال عمر: ما هذا؟ قال: وما بأسه , قد لبسه ابن عوف. قال: وأنت مثله (1) عزمت على من في البيت إلا أخذ كل واحد منه قطعة فمزقوه.
وقبل هذا روى الذهبي ما نقلناه عن الطبري في عزل عمر لخالد , ولم ينسبه إلى الطبري , وإنما قال (2) :
"ومن كتاب سيف عن رجاله قال: كان عمر لا يخفى عليه شيء من عمله , وإن خالدًا أجاز الأشعث بعشرة آلاف، فدعا البريد وكتب إلى أبي عبيدة أن تقيم خالدًا وتعقله بعمامته , وتنزع قلنسوته حتى يعلمك من أين أجاز الأشعث , أمن مال الله أم من ماله؟ فإن زعم أنه من إصابة أصابها , فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف، واعزله على كل حال، واضمم إليك عمله , ففعل ذلك , فقدم خالد على عمر فشكاه , وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين وبالله , يا عمر إنك في أمري غير مجمل. فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان، ما زاد على الستين ألفًا فلك , تقوم عروضه , قال: فخرجت عليه عشرون ألفًا , فأدخلها بيت المال. ثم قال: يا خالد , والله إنك لكريم علي , إنك لحبيب إلي، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء.
وقال عبد الرزاق (3) :
عن معمر , عن أيوب , عن ابن سيرين , أن رجلًا دخل على عمر بن الخطاب وعليه ثوب "ملالا " - لعله ملألأ منصوب على الحال مخففة فيه الهمزة على مذهب من لا ينطق بالهمزة , أي: صبغ صباغة أحدثت فيه لمعانًا - فأمر به عمر , فمزق عليه , فتطاير في أيدي الناس , فقال عمر: أحسبه حريرًا.
وقصة عمر مع قصر سعد بن أبي وقاص في الكوفة مما استفاض ذكره بين الناس , وصفوتها مما رواه الطبري (4) من حديث ابن إسحاق:
__________
(1) الظاهر أن عمر يشير إلى أن ابن عوف رخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم في لبس الحرير لمرض به يمنعه من لبس غيره.
(2) سير أعلام النبلاء. ج: 1. ص: 380. ترجمة: 78.
(3) المصنف. ج: 11. ص: 88 أثر: 19977.
(4) تاريخ الرسل والملوك. ج: 4. ص: 47.(4/1314)
"وكانت الأسواق تكون في موضعه بين يديه , فكانت غوغاؤهم تمنع سعدًا. الحديث. فلما بني - يعني قصر سعد - ادعى الناس عليه ما لم يقل , وقالوا: قال سعد: سكن عني الصويت. وبلغ عمر ذلك , وأن الناس يسمونه قصر سعد , فدعا محمد بن مسلمة فسرحه إلى الكوفة , وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه , ثم ارجع عودك على بدئك , فخرج حتى قدم الكوفة , فاشترى حطبًا , ثم أتى به القصر , فأحرق الباب , وأتي سعد , فأخبر الخبر , فقال: هذا رسول أرسل لهذا الشأن , وبعث لينظر من هو , فإذا هو محمد بن مسلمة , فأرسل إليه رسولًا بأن ادخل , فخرج إليه سعد , فأراده على الدخول والنزول , فأبى , وعرض عليه نفقة , فلم يأخذ ودفع كتاب عمر إلى سعد: بلغني أنك بنيت قصرًا اتخذته حصنًا ويسمى قصر سعد , وجعلت بينك وبين الناس بابًا , فليس بقصرك , ولكنه قصر الخبال , انزل منه منزلًا مما يلي بيوت الأموال , وأغلقه , ولا تجعل على القصر بابًا تمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت , فحلف له سعد ما قال الذي قالوا - يعني: سكن عني الصويت - ورجع محمد بن مسلمة من فوره حتى إذا دنا من المدينة فني زاده , فتبلغ بلحاء من لحاء الشجر , فقدم على عمر وقد سنق - أي: بشم - فأخبره خبره كله , فقال: فهلا قبلت من سعد. قال: لو أردت ذلك كتبت لي به أو أذنت لي فيه. فقال عمر: إن أكمل الرجال رأيًا من إذا لم يكن عهد من صاحبه , عمل بالحزم أو قال به ولم يتكل , وأخبره بيمين سعد وقوله , فصدق سعدًا , وقال: هو أصدق ممن روى عليه ومن أبلغني.
ونحسب أن هذه النماذج - وأمثالها كثير في تصرفات عمر - رضي الله عنه تدمغ كل من يحاول أن يرتاب أو يريب أو يلبس على الناس في شأن التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة.
فمنع عمر " الاحتكار " حتى في غير وقت حاجة الناس , بل لمجرد الاحتكار , سواء كان ضارا بالمستهلك بإغلاء السعر أو ضارا بالتاجر بإنقاص السعر عن المتواضع عليه في السوق تواضعًا غير احتكاري عمل من صميم التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة , سواء كانت المصلحة اقتضتها حماية التاجر أو المستهلك , فالمصلحة العامة ليست أداة حماية طبقة دون أخرى , أو صنف من الناس دون صنف , ولا هي قاعدة يتصرف الإمام اعتبارًا لها في حال دون حال , وإنما هي قاعدة ثابتة أصيلة يلتزمها الإمام في تصرفاته , وإن اضطره التزامها إلى تأويل نص أو وقف العمل به , كما فعل عمر ما هو مستفيض الشهرة عنه , ليس بحاجة إلى نقل مسند من وقفه العمل بقطع يد السارق في عام الرمادة اعتبارًا لحال الناس وما هم عليه يومئذ من الخصاصة التي تضطر البعض منهم إلى تصرفات لو طبق فيها الحكم المنصوص عليه في الكتاب أو في السنة لأوسعهم نكالًا , وإذا فقد يدفعهم إلى العصيان , وهو أشد وأسوأ عاقبة من مجرد التجاوز اضطرارًا لما حظرته النصوص وأوجبت عليه العقوبة في الأحوال العادية.(4/1315)
ومثل ما فعله في عام الرمادة إحجامه عن قطع أيدي أعبد لحاطب بن أبي بلتعة - وتقدم إسناد خبره - تقديرًا للظرف الذي دفعهم إلى الاعتداء على مال الغير على أن في هذه الحادثة حكما آخر رسخ قاعدة كنا عرضنا إذ وقفنا عند قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) وهي قاعدة تسليط العقوبة المالية في بعض الحالات التي تقتضى العقاب , ذلك بأن عمر غرم حاطبا قيمة الجمل الذي نحره أعبده مضاعفة , وهذا يعني أن للإمام أن يعاقب من ثبتت عليه جناية مالية أو لها علاقة بالمال , سواء اقترفها بنفسه أو كان السبب في اقترافها بأكثر مما أضاعت جنايته , وله تقدير هذا "الأكثر" حسب ما يراه اجتهاده رادعًا للجاني ومرضيا للمجني عليه وزاجرًا عن الجناية نفسها , ويتراءى لنا أن تغريم عمر حاطبا تلك الغرامة كان يريد به أن يشيع خبره في الناس , فيمتنعوا عن إجاعة من يعولونهم ويدركوا أن الغرامة على الجناية المالية لا تنحصر بالضرورة عن تعويض ما تلف بسببها , بل إن تقديرها يرجع إلى نظر الإمام وأدناه العوض المجرد. وبذلك يكون تغريم عمر لحاطب تطبيقًا لقاعدة المصلحة العامة وتصرف الإمام بمقتضاها لما توخاه من جعل حاطب عبرة لغيره من الناس، وربما من تشريع هذه القاعدة سنة يتبعها من قد يصير إليه بعده أمر الناس.
وموقف عمر من عيينة بن حصن وإقطاع أبي بكر له قد يراه البعض عجبًا , ومن يدري فقد يتخذه الرافض - أو لعلهم اتخذوه , فليس بين أيدينا ما نرجع إليه من مصادرهم - مغمزًا في عمر، إذ يرون فيه عصيانًا صريحًا وإهانة لا تحتمل لأبي بكر , وهو الخليفة يومئذ , فالنظرة الساذجة تعتبر تفل عمر على وثيقة إقطاع أبي بكر لعيينة ومحوه إياها بيده أكثر من مجرد استخفاف لولي الأمر الأعلى، على حين أنه في عمقه عمل جليل من عمر لا يقصد به مجرد إنكار أن يستمر العمل بمداراة (المؤلفة قلوبهم) , وقد أصبح الإسلام عزيزًا يتحدى كل من تسول له نفسه التمرد أو حتى مجرد الفتنة , وإنما يقصد به - وربما أساسًا - أن يضع قاعدة جليلة , هي أن تصرف الإمام نفسه إذا كان مخالفًا للمصلحة العامة يفقد جلاله ووقاره , ويصبح مجردًا من كل احترام؛ لأن المصلحة العامة فوق كل اعتبار.
__________
(1) الآية رقم (103) سورة التوبة(4/1316)
ونحسب أن أبا بكر قد فقه ذلك ووعاه , إذ رفض تجديد الوثيقة حين طلب إليه تجديدها , وآية ذلك أنه اتخذ نفس الموقف من طلحة كما اتخذ عمر منه نفس الموقف، وليس طلحة من المؤلفة قلوبهم , بل هو من صدور الصحابة , وكان أحد السبعة الذين جعل عمر الخلافة بينهم , وكان من أقرب المقربين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغم كل ذلك فعل عمر بوثيقة أبي بكر له بالإقطاع مثل ما فعل بوثيقة الإقطاع لعيينة من أبي بكر. ولا عبرة عندنا بمن حاول التشكيك في قضية طلحة , إذ كبر عليه أن يفعل عمر ما فعل بطلحة , فوهم وأوهم بأنها قضية عيينة مستندًا إلى رواية أن طلحة هو الذي نصح عيينة بأن يشهد عمر , وهو وهم عجب ساذج , إذ أن نصيحة طلحة كانت عن تجربة , فقد خبر بنفسه فعل عمر , فلما حضر إقطاع أبي بكر لعيينة نصحه أن يشهد عمر صدورًا عن تجربة سابقة له واختبارًا لموقف عمر إن كان سيختلف موقفه من عيينة عنه معه , ولكن مواقف عمر لا تختلف لسبب بسيط عميق , هو أنه – رضي الله عنه - كان في جميع تصرفاته يصدر عن قاعدة أصيلة في وعيه هي أن المصلحة العامة تعلو عن الأشخاص والمقامات وعن كل اعتبار غيرها.
يدل على ذلك موقفه من خالد بن الوليد وأبي هريرة، فما من أحد يستطيع أن يتوهم - مجرد الوهم - أن عمر صدر في تصرفه مع خالد ومع أبي هريرة عن اتهام لأحدهما أو حتى عن مجرد اشتباه , ولكنه قدر أن الناس قد يقولون – والمتربصون والمترصدون للقيل والقال كثير -: إن عمر يغض الطرف عن تصرفات عماله , وإن عمال عمر يتأثلون الأموال في عملهم , وآية ذلك أبيات عمر أو أخيه - على اختلاف الروايات - تشي بالعمل إلى عمر , وتستعديه عليهم بما يشبه التحدي أو الامتحان. وأخرى أن عمر عرض على أبي هريرة أن يعود إلى العمل , فرفض أبو هريرة , وأثنى على خالد بعد أن انتزع منه ما انتزع , فقال له: يا خالد , والله إنك لكريم علي , وإنك لحبيب إلي , ولن تعاتبنى بعد اليوم على شيء.(4/1317)
ومرة أخرى لا عبرة بمن حاول التشكيك في قصة عمر مع خالد بحجة أن نقدة الحديث ضعفوا سيفًا , وأن في رجال قصته كما نقلها الطبري عن سيف ونقلها الذهبي عنه أيضًا جهالة , فالقصة مستفيضة , ووصم نقدة الحديث نقلة الأخبار بالضعف ليس بمسلم لهم , إذ لو سلمنا لهم به لالتبس علينا معظم تاريخ القرن الأول وما بعده مما لم يكن يبلغنا لولا ابن إسحاق والواقدي وسيف ومن على شاكلتهم. ثم إن سيفًا لم يصموه بمثل ما وصموا به مالك بن إسحاق , وليس هذا مجال التحقيق والتحرير في موقف رجال الحديث من نقلة الأخبار.
وثالثة أن عمر حين نعي له خالد , صرح بما يؤكد ما ذهبنا إليه من تأويل قصته معه.
قال الذهبي (1)
" الواقدي: حدثنا عمر بن عبد الله بن رباح , عن خالد بن رباح، سمع ثعلبة بن أبي مالك يقول:. رأيت عمر بقباء , وإذا حجاج من الشام قال: من القوم؟ قالوا: من اليمن ممن نزل حمص ويوم رحلنا منها مات خالد بن الوليد , فاسترجع مرارًا , ونكس , وأكثر الترحم عليه وقال: كان والله سدادًا لنحر العدو وميمون النقيبة، فقال له علي: فلم عزلته؟ قال: عزلته لبذله المال لأهل الشرف وذوي اللسان. قال: فكنت عزلته عن المال وكنت تركته على الجند. قال: لم يكن ليرضى. قال: فهلا بلوته.
ومرة أخرى حاول البعض التشكيك في هذه الرواية بما وصم به بعض نقدة الحديث الواقدي , وقد سبق جوابنا لهم، ونريد أن نقف مليا عند شهادة عمر لخالد كما وردت في هذه الرواية بأنه إنما عزله لبذله المال لأهل الشرف وذوي اللسان، كان خالد عاملًا لعمر على حمص وما يليها , فكان يتصرف تصرف الإمام في منطقة عمله , والذين سكنوا الشام بعد فتحها أوشاب من الناس مختلفة طبائعهم وخلائقهم اختلافهم أصولًا وسابقة في الإسلام ووعيًا بشريعته وخلقه، وخالد يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ربما أعطى شاعرًا أو داعية ليقطع لسانه أي ليكف أذاه عن المسلمين , وربما أعطى شريفًا في قومه ليتألفه والذين عرفوا (بالمؤلفة قلوبهم) هم أنماط من هؤلاء والشام حديثة عهد بالفتح , ولا تزال ثغورها ميادين حرب , والمصلحة العامة تقتضى أن يتخذ المسؤول فيها كل وسيلة يراها تعصم "الدواخل" والثغور عن كل تأثير "لمواجد" أو "قالات" يمكن أن تنتج بلبالا في الدهماء , اعتبارًا لهذه المصلحة أعطى خالد ما أعطى للأشعث بن قيس , وربما أعطى غيره من ذوي المقامات في قومهم , وربما أعطى بعض الشعراء أو الدعاة.
__________
(1) سير أعلام النبلاء ج 1 ص 380 ترجمة 78(4/1318)
ونحسب أن عمر إنما وجد على خالد من قضية الأشعث بن قيس بالذات , فالرجل كان من "المؤلفة قلوبهم" ثم ارتد , ثم عاد وأسلم , وعمر يرى أن المسلمين في عهده لا ينبغي أن يقيموا وزنًا لمثل هذا الذي لا يمكن أن يستقر على حال , ورحم الله خالدًا أحسبه حين أعطى الأشعث , كان يحاول أن يحمله على الاستقرار على الإسلام , وأن يأمن اضطرابه , وأن يتألف به قومه. ورحم الله عمر لقد كان رأيه في الأشعث شديدًا , فليت خالد تركه فاضطرب فانكشف أمره للمسلمين قبل أن يكون ما كان في صفين يوم خب الأشعث وأوضع , وكان من أسباب الفتنة وعناصرها.
ومهما يكن فكلا الرجلين كان يتصرف "بمقتضى الإمامة " اعتبارًا للمصلحة العامة لا يرتاب في ذلك إلا من ينقصه الوعي والفقه والتوفيق.
ولم يكن عمر يلتزم اعتبار المصلحة العامة في تصرفاته بمقتضى الإمامة إذا كانت متصلة بشؤون المال العام أو بما يؤثر فيه فحسب , وإنما كان يلتزمه أيضًا فيما يتصل بشؤون السياسة والتوجيه الاجتماعي والفردي , من ذلك تمزيقه قميص خالد الحريري , وأمره بتمزيق قميص رجل دخل عليه , وكان "ملألأ " فظنه من حرير، والقميصان ملك لصاحبيهما , ولو وقف عمر عند ظواهر النصوص , لأقر بخلعهما , ولكنه نظر إلى أبعد من الظواهر , فخالد من صدور المسلمين , وكان قائد الجانب من الجند وعاملًا على ناحية من البلاد المفتوحة. أما الرجل الذي لم يسم فما أحسبه كان يجرؤ على أن يدخل على عمر في هيأته "اللامعة " تلك لو لم يكن من (ذوي الهيئات) ، لذلك رأى عمر أن يجعل من كليهما عبرة يتناقلها الناس ويتعظون بها، فزلة "ذوي الهيئات" والمقامات إذا لم تحسم بطريقة لها جهارة ودوي يصك آذان العامة , قد يتخذها البعض مسوغًا لسلوك يقدمون عليه , وقد يتخذها آخرون مادة للقيل والقال.(4/1319)
وحسما لهذا وذاك تجاوز عمر ظاهر النصوص واعتمدنا قاعدة التصرف بمقتضى المصلحة العامة , فرزأها في قميصيهما ابتغاء أن يشيع خبر ما فعل , وأن يتردد شيوعه بين الناس , فيزدجر المترصدون للاحتذاء , ويحرص المتربصون للغمز واللمز وترتكز قاعدة سياسية واجتماعية مفادها تأكيد حظر لبس الحرير إلا لضرورة مثل التي أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجلها لعبد الرحمن بن عوف أن يلبسه وتطبيق حكم الحظر على الناس جميعًا وإن اختلفت مواقعهم ومقاماتهم بأسلوب واحد لا يتأثر باختلاف المواقع والمقامات , فتتأكد بذلك سنة المساواة بين الناس في الحكم وتطبيق الحكم.
وتحريق باب قصر سعد عمل سياسي بعيد المدى عميق الأثر , فعمر أعلم الناس بأنه لو كتب إلى سعد مجرد كتاب يأمره أن يهدم القصر , لا أن يخلع بابه فحسب , لما وضع سعد الكتاب من يده قبل أن يكون قد شرع في هدم القصر.
ولكن "أقاويل " بلغت عمر , فخشي على دولة المسلمين أن تنتشر فيها "قالات " تخدش ثقة العامة في قادتها وصدور أئمتها , وما من شك في أن الناس جميعًا - أو جمهرة منهم على الأقل , لا سيما أهل الكوفة وكانوا جندًا لسعد في فارس - قد سمعوا أنه من المبشرين بالجنة , وعلموا مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقالة فيه تشيع الريبة فيمن لا يزالون من الإسلام على رخاوة، ومن يدري فالعهد بالنفاق غير بعيد وإن مضت أعوام على لحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى , والاحتمال قوي بأن لا يزال في الناس منافقون دخلوا الإسلام رهبة من السيف أو رغبة في الكيد والفسق. وإذا فقد يجدون من قصر سعد - وقد بني على نمط قصور الأكاسرة كما تقول الروايات - ومن إغلاق سعد بابه على الغوغاء الذين يصطخبون عند بابه بتجارتهم , إذ كانت السوق بجانب القصر , والمسجد مادة للارتياب في مدلول العدل والمساواة في الإسلام أو للدس والوقيعة بين عامة المسلمين وصدور أئمتهم , فكان لزامًا أن يقضى على مثل هذا الاحتمال بعمل حاسم صاخب تتناقله الألسنة , ويتخذ منه الناس حديث مجلسهم , ويعتبر به غير سعد من العمال , وقل فيهم أو استحال من يسامت سعدًا موقعًا ومقامًا وعمق دين. ولا ريب عندنا في أن عمر قد ارتأى ذلك , وأبعد منه مدى وأعمق أثرًا وأبلغ اعتبارًا حين أمر محمد بن مسلمة بإحراق باب قصر سعد دون أن يطرقه أو ينذره , ولم يكن يقصد سعدًا بأمره , وإنما كان يقصد غيره من العمال , ويقصد عامة الناس.(4/1320)
وآية ذلك أنه عتب على محمد بن مسلمة إن لم يقبل النفقة التي عرضها عليه سعد ليبرهن على أنه لم يكن غاضبًا على سعد حين أصدر أمره ذاك , وأنه جعل سعدًا أحد السبعة الذين رشحهم للخلافة , ونصح للخليفة بعده إن لم يكن سعدًا أن يستعين بسعد , وتبرأ من أن يكون عزله عن عمله بالكوفة اشتباهًا في خيانته أو كفاءته.
وقد نلتقي مع عمر وتصرفاته التشريعية البديعة فيما نستقبل من هذا البحث , فهو كاشف أسرار قاعدة (التصرف بمقتضى الإمامة) اعتبارًا للمصلحة العامة والمعلن بعمله أنها أهم مناطق للتشريع الإسلامي في المعاملات وغيرها مما يتصل بحياة البشر , بل وحتى في بعض شعائر العبادات.
17 - المصلحة العامة مناط للتشريع
قال ابن منظور (1) :
" المصلحة: الصلاح، والمصلحة واحدة المصالح. والاستصلاح: نقيض الاستفساد ".
وقال (2) :
" المفسدة خلاف المصلحة. والاستفساد خلاف الاستصلاح , وقالوا: هذا الأمر مفسدة لكذا، أي: فيه فساد، قال الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للعقل أي مفسده
وفي الخبر: أن عبد الملك بن مروان أشرف على أصحابه وهم يذكرون سيرة عمر , فغاظه ذلك، فقال: إيها عن ذكر عمر , فإنه إزراء على الولاة مفسدة للرعية.
وقد اشتبه على كثير من المتفقهة المقلدة من المحدثين ومن سبقهم بعد عصور الرواية والاجتهاد الأولى التمييز بين عموم لفظ " المصالح " وخصوص لفظ " المصالح المرسلة " , فخيل إليهم أنهما شيء واحد , وانطلقوا من هذا " الخيال " ينسبون أحكامًا مقررة أو يصدرون اجتهادات لبعض ما استجد من الأحداث والأحوال , وبذلك وقعوا في مزالق , أيسرها أن بعض الأحكام الثابتة بدلالة نص نقلي من فعل أو قول تخيلوها من " المصالح المرسلة ".
__________
(1) لسان العرب: ج 2. ص: 517
(2) لسان العرب. ج: 3. ص: 353.(4/1321)
ومن هذا الالتباس ما حسبه بعض المحدثين من أن التصرف بمقتضى الإمامة فيما خوله الله للإنسان من وظائف المنفعة والانتفاع بالأرض وما عليها وما تصل إليه يده من هذا الكون الفسيح , ينظر فيه على أساس " المصالح المرسلة " وأن ما فعله عمر – رضي الله عنه – أو غيره مما يتصل بهذا الشأن , إنما هو صادر من قاعدة " المصالح المرسلة ".
ومن قبل هؤلاء مضى بعد المبتدعة من دراويش الصوفية وأدعياء التصوف إلى اعتبار بدعمهم صادرة من المصالح المرسلة، أو مشاكلة لها (1) .
ولو قد تدبروا لاستبان لهم الفرق البعيد العميق بين عموم " المصلحة العامة " وخصوص "المصالح المرسلة". فهذه من تلك , ما في ذلك شك عند من اعتبرها سندًا يمكن للمجتهد أن يعتمده عند انعدام النص وعدم توافر مؤهلات القياس الجلي في بعض ما يستجد من الأحداث والأحوال , أو هي من القياس الخفي عند الذين لم يعتمدوها سندًا مستقلًا وضبطوها بضوابط نسلكها فيما هو من القياس الخفي , وليس هذا مجال مناقشة هؤلاء وأولئك , وإن كنا نميل إلى تمييزها عن مختلف أنواع القياس , وإن أشبهت بعضًا منها واعتبارها سندًا مستقلًا ليس تقليدًا لمالك – رحمه الله – ولكن اقتناعًا بما اعتمده عليه في هذا الشأن.
على أن "المصالح المرسلة" يتضمن اسمها ما يميزها من عموم "المصالح" , بل إن اعتبارها سندًا مصدره التسليم بأن "المصالح " مناط شرعي واجب الملاحظة والاعتبار عند فهم النصوص الشرعية وتعليلها واستكناه حكمتها.
وما وجد سبيل إلى تحكيم نص قولي أو فعلي من النصوص المسلم بتحكيمها عند أئمة السلف والأصوليين , فلا يسوغ لأي أحد أن يعدل عن تحكيم النص إلى ابتغاء سند غيره عند الحكم في حادث استجد أو في حال طرأت حتى وإن لم يكن لذلك الحادث أو لتلك الحال شبه بحادث أو حال صدر فيه أو فيها حكم بنص فعلي أو قولي أو بمقتضى نص فعلي أو قولي.
ذلك بأن المصالح باعتبارها مناطًا شرعيًا لا خلاف فيها بين الجمهور إلا ما كان من الرازي ومن على شاكلته من العقلانيين (2) على حين أن (المصلحة المرسلة) كانت وما تزال موضع خلاف يقول الشاطبي (3) :
__________
(1) انظر الشاطبي. الاعتصام. ج 2. ص 117 وما بعدها
(2) الموافقات ج 2. ص 6، 7.
(3) انظر الشاطبي. الاعتصام. ج 2. ص 117 وما بعدها(4/1322)
"وأيضًا فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقًا عليه , بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال , فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده , وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل , وذهب مالك إلى اعتبار ذلك , وبنى الأحكام عليه على الإطلاق , وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح , لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة , هذا ما حكى الإمام الجويني , وذهب الغزالي إلى أن المناسب إذا وقع في رتبة التحسين والتزيين , لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين , وإذا وقع في رتبة الضروري , فسبيله إلى قبوله , لكن بشرط قال: ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد , واختلف قوله في الرتبة المتوسطة , وهي رتبة الحاجي , فرده في المستصفى وهو آخر قوليه , وقبله في شفاء الغليل كما قبل ما قبله. وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله , فالأقوال خمسة.
وقال ابن قدامة (1) :
"الرابع من الأصول المختلفة فيها الاستصلاح وهي اتباع المصالح المرسلة , والمصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة , وهي على ثلاثة؛ أقسام قسم شهد الشرع باعتبارها , فهذا هو القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص , أو الإجماع.
القسم الثاني: ما شهد ببطلانه كإيجاب الصوم بالوقاع في رمضان على الملك , إذ العتق سهل عليه , فلا ينزجر والكفارة وضعت للزجر , فهذا لا خلاف في بطلانه , لمخالفته النص - قلت: بل في ذلك خلاف باعتبار المناط - وفتح هذا يؤدي إلى تغيير حدود الشرع - قلت: وماذا يمنع إذا أصبح ذلك ضروريًا , وكفل تحقيق المناط؟!
الثالث: ما لم يشهد له إبطال ولا اعتبار معين، وهذا على ثلاثة ضروب أحدها: ما يقع في مرتبة الحاجات كتسليط الولي على تزويج الصغيرة , فذلك لا ضرورة إليه , لكنه محتاج إليه لتحصيل الكفء خيفة من الفوات واستقبالًا للصلاح المنتظر في المآل.
__________
(1) سقط الهامش من الأصل (المجلة) .(4/1323)
الضرب الثاني: ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية حسن المناهج في العبادة والمعاملات كاعتبار الولي في النكاح صيانة للمرأة عن مباشرة العقد لكونه مشعرًا بتوقان نفسها إلى الرجال , فلا يليق ذلك بالمروءة , ففوض ذلك إلى الولي , حملًا للخلق على أحسن المناهج , ولو أمكن تعليل ذلك بقصور رأي المرأة في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظاهر , لكان من الضرب الأول , ولكن لا يصح ذلك في سلب عبادتها. قلت: هذه العبارة غير واضحة , فهذان الضربان لا نعلم خلافًا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل، فإنه لو جاز ذلك كان وضعًا للشرع بالرأي , ولما احتجنا إلى بعثة الرسل , ولكن العامي يساوي العالم في ذلك , فإن كل واحد يعرف مصلحة نفسه. الضرب الثالث: ما يقع في رتبة الضروريات , وهي ما عرف من الشارع الالتفات إليها , وهي خمس: أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسبهم ومالهم. ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى البدع صيانة لدينهم وقضاؤه بالقصاص , إذ به حفظ النفوس وإيجابه حد الشرب , إذ به حفظ العقول , وإيجابه حد الزنا حفظًا للنسل والأنساب , وإيجابه زجر السارق حفظًا للأموال , وتفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل , فذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن هذه المصلحة حجة , لأنا قد علمنا أن ذلك من مقاصد الشرع , وكون هذه المعالم مقصودة عرف بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات , فيسمى ذلك مصلحة مرسلة , ولا نسميه قياسًا؛ لأن القياس لا يرجع إلى أصل معين والصحيح أن ذلك ليس بحجة؛ لأنه ما عرف من الشارع المحافظة على الدماء بكل طريق , ولذلك لم يشرع المثلة وإن كانت أبلغ الردع والزجر. قلت: لكن شرع ما يشاكلها في المحارب لما استحق منه المبالغة في الردع والزجر , إذ أباح للإمام تقطيع يده ورجله من خلاف. فتأمل.
ولم يشرع القتل في السرقة وشرب الخمر. قلت: لكن حد السرقة من نص قرآني وقطع اليد شبيه بالمثلة، أما حد الخمر فبالنسبة لذلك ضوعف في عهد عمر وما بعده زجرًا لجرأة الناس واستخفافهم بالحد المسنون , فإذا أثبت حكما لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم كان وضعًا للشرع بالرأي وحكما بالعقل المجرد كما حكي أن مالكًا قال: يجوز قتل الثلث من الخلق لاستصلاح الثلثين. ولا نعلم أن الشرع حافظ على مصلحتهم بهذا الطريق فلا يشرع مثله ".(4/1324)
قلت: هذا كلام ابن قدامة , وهو حنبلي , وما نريد أن ندخل معه في جدل , لا سيما حول ما نقل عن مالك من قتل الثلث لإصلاح الثلثين. فمجال الجدل في ذلك بعيد متشعب , وليس من شأننا في هذا البحث أن نريد إلا أن نحاجه في صلب المسألة , مسألة المصلحة المرسلة , وموقف أحد منها بما ننقله من ابن القيم الحنبلي أيضًا. (1) وهو ينقل نبذًا من كلامه في السياسة الشرعية , قال في رواية المروزي وابن منصور:
والمخنث ينفى؛ لأنه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له , وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله , وإن خاف به عليهم حبسه , وقال في رواية حنبل فيمن شرب خمرًا في نهار رمضان أو أكل شيئًا نحو هذا: أقيم الحد عليه وغلظ عليه مثل الذي يقتل في الحرم دية وثلث.
ثم قال:
"ونص الإمام أحمد - رضي الله عنه - فيمن طاعن على الصحابة أنه قد وجب على السلطان عقوبته وليس على السلطان أن يعفو عنه , بل يعاقبه ويستتيبه , فإن تاب , وألا أعاد العقوبة.
ثم قال:
قالوا: وهذا كل من وجب عليه حق فامتنع , فإنه يضرب حتى يؤديه , وأما كلام مالك وأصحابه في ذلك فمشهور.
وبعد أن أورد فتاوى للشافعي تدل على أخذه بهذا النسق من الحكم , وإن تراءى أنه أبعد الناس عن الأخذ به (2) قال:
"وهل السياسة الشرعية إلا من هذا الباب , وهي الاعتماد على القرائن التي تفيد القطع تارة , والظن الذي هو أقوى من ظن الشهود بكثير تارة , وهذا باب واسع.
__________
(1) سقط أيضا هذا الهامش من الأصل (المجلة) .
(2) انظر مثلًا الرسالة. ص: 509 إلى 515.(4/1325)
وليس من شأننا في هذا المجال أن نوغل في استقصاء خلافاتهم وأقوالهم ومواقفهم حول (المصالح المرسلة) وهي في أغلبها أقوال وآراء ومواقف شكلية , إذ قلما نعثر وقد لا نعثر على قول أو رأي أو موقف موضوعي , إنما شأننا أن نثبت وجود خلاف وأن نبرز ملامحه تمييزًا لما بين الاستناد في الحكم في حدث أو حال على أساس المصالح المرسلة " والاستناد على أساس المصلحة باعتبارها مناطًا شرعيا , ولا جدال في أن الاستناد إلى سند ليس مثارًا للخلاف أو هو مما اطمأن إليه الجمهور أولى وأرجح بكثير من الاستناد إلى سند اختلفوا فيه اختلافًا عريضًا وإن يكن في جوهره مجرد اختلاف شكلي.
على أن اعتبار المصلحة أساسًا للحكم في موضوع هذا البحث لا يتعين إلا في بعض ما يطبق عليه من أحداث وأحوال أما في غيرها , فإن الحكم فيه يرتكز أساسًا على نص شرعي , منه ما هو من القرآن , ومنه ما هو من السنة , ومنه ما هو من عمل أئمة الصحابة وفي طليعتهم عمر - رضي الله عنه - ولئن اختلفوا في حجية عمل الصحابة , فإنا نشعر بأن عمل عمر لا يجوز الاختلاف في حجيته؛ لأن الصحابة كانوا يستقبلونه باعتباره تصرفًا بمقتضى الإمامة , وأغلبه لم ينكره أحد منهم والقليل الذي كان لبعضهم موقف منه مثل عدول عمر عن توزيع أراضي السواد على المسلمين إلى وقفها ليستمر ريعها إلى الأجيال المقبلة منهم وموقف أنس وبعض الصحابة من ذلك , سانده الجمهور مساندة استمرت في عهد عثمان وعلي دون أن تستمر المعارضة له , فصار بذلك كغيره مما لم يعارضه أحد من عمله غير مرتكز على اجتهاد عمر فحسب , وهو وحده حجة حاسمة عندنا , وإنما تحول إلى إجماع سكوتي من غير أولي الأمر وتطبيقي من أولي الأمر , إذ واصل العمل به عثمان وعلي , بل احتج ببعضه عثمان على خصومه , إذ نقموا عليه أشياء مما فعل عمر مثلها مثل التصرف لتوسيع المسجد النبوي في بيوت المجاورين له , ولم ينكر عليه أحد من الصحابة , وخاصة من أهل الفتيا صحة ما احتج به.
وعلى قاعدة اعتبار المصلحة مناطًا لتشريع واعتبار انطباقها على أي تصرف في حدث أو حال مستمر أو مستجد تطبيقًا للشرع الذي كان مناطه المصلحة في حكمه في القضية المشاكلة أو الراجحة المماثلة واعتبار الأخذ بهذا الأساس مقدمًا على الآخذ بمبدأ " المصالح المرسلة " في الحكم فيما يستجد من الأحداث والأحوال ثم على قاعدة اعتبار حق الإمام في التصرف بمقتضى المصلحة العامة، نأخذ في تقرير ما خلص إليه بحثنا في موضوع انتزاع الملك للمصلحة العامة.(4/1326)
18 - خلافة الإنسان وظيفة وليست ملكًا في الأرض
لا مراء في أن الإنسان إنما يحوز ما يستطيع حيازته من الأرض وما عليها وما في باطنها وفي غيرها مما استطاعت يده أن تطول إليه من عناصر الكون وأشيائه ابتغاء لمصلحة يراها قائمة أو ينشد تحقيقها، فلولا المصلحة لما أعنت نفسه بالحيازة وما يترتب عليها من الصيانة والرعاية والحماية بما يقتضيه كل ذلك من جهد العمل وخطير التعرض لألوان شتى من المتاعب والمشاق.
بيد أن الحيازة أيا كان مصدرها إرثًا أو هبة أو نمطًا من التعاقد أو استيلاء بالقوة أو استيلاء بالسبق (إحياء الموات) ليست وحدها "المؤهل " له للحصول شرعًا على حق المنفعة والانتفاع، فبصرف النظر عن الحيازة غير المشروعة أساسًا مثل التي تأتي بالغصب والسرقة والاحتيال وما إلى ذلك مما لا تبيحه الشرائع السماوية والوضعية , فإن الحيازة المشروعة قد تسوغ صاحبها - نظريًا - حق المنفعة والانتفاع في حين أنه علميًا قد يسلب هذا الحق لأسباب ترجح في اعتبار مصلحته الخاصة أو في اعتبار المصلحة العامة أو في اعتبار مصلحة خاصة لغيره ما يترتب عن مجرد الحيازة المشروعة من التسويغ النظري لحق المنفعة والانتفاع.
فمن المسلم به في الشرائع السماوية والوضعية الحجر على السفيه مثلا , ولا جدال في أن السفيه نظريا له حق المنفعة والانتفاع بما صارت إليه حيازته بطريقة مشروعة , بيد أنه - علميًا - غير مسوغ له أن يمارس هذا الحق لافتقاره إلى أهلية الممارسة , كذلك شأن القاصر الذي لم يبلغ الرشد والعاجز الذي فقد القدرة على الممارسة السليمة لحق المنفعة والانتفاع لمعوق كالشيخوخة البالغة حد الاختلاط والمرض والسجن والأسر وما شاكل ذلك.
فوضح أنه لا بد من التمييز بين الأهلية لاستحقاق المنفعة والانتفاع , وبين الأهلية لممارسة هذا الحق , وهو تمييز ضروري وأساسي لتكييف وتعيين الظروف والحالات والأسباب التي يصبح تدخل الغير بالتصرف أو التصريف فيما يحوزه إنسان ما بطريقة شرعية اعتبارًا لما تقتضيه مصلحته أو مصلحة لغيره ترجح مصلحته أو المصلحة العامة.(4/1327)
ويتجلى هذا التمييز باستحضار ما سبق أن قررناه بأدلة من الكتاب والسنة وأثار السلف من أن الطبيعة الحق للعلاقة بين الإنسان وما يسوغ له - أو يستطيع - أن يحوزه من الثابت والمنقول , إنما هي الخلافة عن الله تعالى في عمارة الأرض عمارة تهيئ له وللبشر كافة وللمسلمين خاصة أسباب الحياة الآمنة المطمئنة المتمتعة بكل ما أمكن تيسيره - في نطاق ما يبيحه الشرع - من الطيبات الموفرة لألوان السعادة والبهجة والحبور.
وبما أن الخلافة وظيفة اجتماعية في جوهرها وسياسية واقتصادية في منهجها , فإن أي إخلال بمقتضياتها يترتب عنه تلقائيا وبدهيا إما زوالها وإما تحديد مداها بحيث ينحصر فيما لا يتناوله الإخلال.
وضوابط الشريعة في الشؤون المدنية وخاصة المعاملات وفي الشؤون السياسية وهي تشمل كل ما يتصل بأمن الدولة الإسلامية داخليا وخارجيا وكفالة الرفاهية والاستقرار والتطور المستمر لها وفي الأحوال الشخصية وفي بعض أنواع الشعائر التعبدية , إذ تتكامل طقوس التعبد الصرف وأنواع من التصرفات المالية كالزكاة والحج حدود لا يكمل مؤهل الإنسان لحق التصرف والتصريف فيما يحوزه إلا بالاحترام المطلق وبالرعاية الكاملة لها وأي تجاوز لها يسلبه تلقائيًا الحق الكامل في التصرف والتصريف إما كليا أو جزئيا.
وليس تجاوز هذه الحدود أو بعضها منحصرًا في ممارسة تصرف مما يعتبره الشرع ظلما أو اعتداء على الغير بصورة مباشرة فحسب , بل قد يكون في عدم ممارسة التصرف الذي يعتبره الشرع واجبًا بالتعيين أو بالكفاية بدافع الرفض أو الامتناع.(4/1328)
وبيان ذلك:
أ- أن مانع الزكاة مثلًا معتد على ضابط من الضوابط التي ترسم له حدود التصرف والتصريف فيما تحوزه مما تجب فيه الزكاة , وبذلك يكون قد اقترف ما يبيح لغيره ممن له الحق شرعًا أن يتدخل ليمارس تصرفًا فيما يحوزه هو , يقيم به شريعة الله , ويؤدي للمستحقين في الزكاة الممنوعة , سواء كانوا أفرادًا أو بيت مال المسلمين ما لهم من حق فيما يحوزه ذلك المانع لها.
ب- والممارس للمعاملات الربوية معتد اقترف مما يخول لغير ممن له الحق في أن يردعه ويزجره وينتزع منه ما زاد عن رأس ماله ليرده إلى من أخذ منه بطريقة ربوية إن كان قد اضطر إلى ذلك اضطرارًا أو يعود به على الفقراء وعلى بيت مال المسلمين إن كان الطرفان قد أقدما باختيارهما على ممارسة المعاملة الربوية.
ج- والمحتكر الذي يجحف في السعر فيما يكون الناس مضطرين إليه من وسائل عيشهم ومرافقه مثل المواد الغذائية والمساكن المعدة للإيجار معتد سلب نفسه حق التصرف المطلق في النطاق المشروع فيما يحوزه وهي الأسباب لغيره ممن له الحق في منع الاحتكار وردع المحتكر وإقرار العدل بين الناس في تعاملهم وتعايشهم.
د- والمدين الممتنع عن الوفاء وهو قادر عليه أو العاجز عنه لإفلاسه معتد أوجد بتصرفه الأسباب والوسائل لمن له الحق في أن يجبره على الأداء إن كان قادرًا ممتنعًا أو يحجر عليه ويبيع ما يملك نيابة عنه للقيام بأداء دينه جزئيًا أو كليًا.
هـ- والممتنع عن الإنفاق المتعين لإنماء اقتصاد الدولة الإسلامية أو لتسليحها أو لكفاية أية حاجة من حاجاتها معتد باقترافها من شأنه العمل على إضعاف الدولة الإسلامية والإساءة نتيجة لذلك إلى المسلمين مجتمعًا وأفرادًا وللمسؤول عن شؤون الدولة الإسلامية أن يوقف عدوانه عند حده بأن يمارس نيابة عنه انتزاع حصته من الإنفاق المطلوب.(4/1329)
والإنفاق في المجال العام لا يعني بالضرورة "الإعطاء" , بل قد يعني "الترويج" وهو إخراج الأموال من خزائنها وتشغيلها إذا احتاج إليها اقتصاد الدولة , سواء لتنمية صناعتها أو لإيجاد فرص العمل وتحقيق السلم الاجتماعي لأفرادها أو لتجميع طاقة مالية تحتاج إليها للتمكين لهيبتها السياسية بتقوية عملتها أو بتوسيع نفوذها بواسطة سياسة القروض والمساعدات وغير ذلك من الممارسات المالية التي تتوخى منها الدول ضمان وتقوية مركزها السياسي وتأثيرها في المجتمع الدولي.
هذه الأمثلة وما شاكلها مسوغات وأحيانًا موجبات للسلب الكلي أو الجزئي لحق التصرف والتصريف ممن لم يحترم ضوابطها فيما يحوزه أيا كان سبيله إلى حيازته؛ لأن حماية الغير عن الظلم وإن برعاية ما يبدو كما لو كان مصلحة خاصة لذلك الغير , هو في حقيقته من المصلحة العامة؛ لأن حماية الأفراد أو الجماعات من الظلم , وصيانة حقوق الآخرين من الضياع من صميم إقامة العدل الذي هو جوهر المصلحة العامة , ولأن حفظ مصالح الدولة الإسلامية وإن كانت حاجية أو تحسينية من صميم المصلحة العامة , فالدولة إنما هي الكيان الذي انصهرت فيه وتبوتقت وتكافلت وتكاملت جميع المصالح الذاتية الحق للأفراد الذين تتألف منهم , ثم هي الجهاز الأمثل لضمان وتنظيم جميع الممارسات الهادفة إلى استمرار عمارة الأرض وتصوره كما وكيفًا وأمدا.
وصيانة حقوق الآخرين ورعاية مقتضيات العدل بين الناس والحرص على استمرار نمو الدولة الإسلامية وازدهارها وتطورها ماديًا وسياسيًا واجتماعيًا ضوابط لمدلول الخلافة عن الله في الأرض واختلال ضابط منها يرتب عنه تلقائيًا انعدام جانب من مدلولها , وتنتج عنه تبعة على من كان تصرفه سببًا في ذلك الاختلال وتبعة على من يملك شرعًا الحق في منع ذلك الاختلال.
وجلي من الأشواط التي قطعناها في هذا البحث أن استخلاف الله سبحانه وتعالى للإنسان على الثابت والمنقول مما تصل إليه يداه بالطرق المشروعة ليس "تمليكًا " وأن الإنسان ليس "مالكًا " لما في يده من ثابت أو منقول بالمعنى الذي عرفه التشريع الوضعي إلى ما قبل عصر الاشتراكية الملكية، وعرفه الفقهاء المسلمون لها حين قسمها هؤلاء وأولئك إلى قسمين: "ملكية الرقبة " , و"ملكية المنفعةأو الانتفاع ".(4/1330)
وقد سبق أن نقلنا عن القرافي (1) رأي المازري - رحمهما الله - من أن الملك الحق لله وحده , وأن الإنسان إنما يملك المنفعة والانتفاع , وورد هذا الرأي في بعض قولنا عن غيره أيضًا وهو مما نعتمده , ولا نعتمد غيره , ولا يتسق غيره مع وصف الله سبحانه وتعالى في القرآن بأنه (رب العالمين) و (مالك الملك) وما إلى ذلك من الأوصاف التي تؤكد أن الملك الحق لله وحده ومع وصف وظيفة الإنسان في القرآن الكريم بأن الله جعله خليفة في الأرض لينظر كيف يعمل , وأن الله يرث الأرض من يشاء من عباده الصالحين.
وبما أن الخلافة وظيفة في رأينا وفي رأي الموفقين من السلف وهو ما يدل عليه مناط التشريع في شؤون المعاملات وما يتصل بها من التشريعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وبما أن الوظيفة لا تعني الملكية , وإنما تعني التكليف بمهمة محددة تترتب عن التقصير في أدائها تبعات أيسرها انعدام الأهلية للبقاء في الوظيفة أو لممارسة بعض مهامها.
وبما أن الوظيفة يقصد بها أداء نفع عام أو لجماعة معينة أو لمنطقة معينة.
فإن الفشل أيا كان سببه في القيام بالوظيفة التي هي الهدف من الخلافة ليستوجب تلقائيًا إما فقد الوظيفة كلها وذلك يعني لفقد الخلافة وإما انحصارها في نطاق أضيق وإحالة جانب منها إلى الغير ممن له القدرة أو الاستحقاق على
القيام به وهذا يعني بلغة واضحة انتزاع "التخويل " المترتب عن "الخلافة" له كليًا أو جزئيًا وتحويله أو تحويل جانب منه إلى غيره ممن هو أقدر وأصلح لكفايته أو لرعايته بضوابط الشريعة أو لموقعه من المجتمع.
__________
(1) انظر القرافي في البند السابع.(4/1331)
19 - الشرعية هي المدار الوحيد لكل تصرف وتصريف في الأرض
إذا تبين أن الإنسان "موظف " بـ "الخلافة " في الأرض لتصريف إلى ما صار إليه من " الثابت والمنقول" بالطرق المشروعة والتصرف فيها طبقًا للطرق المشروعة أيضًا وليس "مالكًا" بالمعنى الذي عرف به "الملك " عند المتفقهة المقلدة
وعند واضعي التشريعات الوضعية وضح - بالضرورة – أن " الشرعية" هي المدار الوحيد لكل تصرف وتصريف في الأرض ما عليها يمارسه الإنسان حاكما أو محكومًا فإذا انتفت "الشرعية " من أي تصرف أو تصريف زالت عمن
يمارسه واستحال وضعه باعتباره موظفًا بالخلافة إلى وضع يتعين النظر في كيفية إعادته إلى "الشرعية" أو إعادة "الشرعية" إليه أو رفعها عنه نهائيا.
وبيان ذلك أن التصرف في "المال" وظيفة اجتماعية حظ الفرد منها يصلح حاله ويحفظ وجوده ويؤهله أن يكون عنصرًا مفيدًا صالحًا في مجتمعه فهو إذًا داخل في إطار المعنى الاجتماعي لوظيفته فإذا تجاوز حدود وظيفته بأن أغفل
المعنى الاجتماعي لها أو لم يغفله ولكن تعدى في ممارسته لها مقتضيات العدالة وهي أساس سلامة المجتمع فقد الأهلية، كليًا أو جزئيا للاستمرار فيها وتعين على ولي الأمر إما
تصحيح سيره وتقويم مساره وإما إقصاؤه إذا فقد المؤهل كليًا.
وطبقًا لهذه القاعدة يتحدد موقف ولي الأمر من حماية الدلالة الاجتماعية لوظيفة الإنسان بالخلافة في الأرض في رصد تصرفات من بأيديهم أموال من الثابت والمنقول ومراقبتها والحرص على أن تكون
بجميع أنماطها وفي جميع أحوالها وأطوارها ملتزمة بالمعنى الاجتماعي لوظيفة الإنسان الخليفة في الأرض وعليه اتخاذ جميع الوسائل الضرورية لمنع الانحراف بوظيفة الخلافة عن مقاصدها الاجتماعية، ونعني بالمقاصد الاجتماعية ما يشمل
رعاية مصالح الناس أفرادًا وكيانًا "دولة! عاجلًا في معاشهم وآجلًا في مواكبتهم لما يقتضيه التطور الحضاري من النماء الاقتصادي واستمرار القوة المانعة لكل مطمع أو مطمح عدائي وذلك بكيفية متصلة مطردة لا يعتريها أي شيء من
شأنه تعويق مسارها أو الإبطاء به إلا أن يكون مما هو من التصرفات القدرية خارجًا عن قدرة الإنسان واختياره.(4/1332)
ومن هذه القاعدة باعتبارها مناطًا لتشريع الزكاة انطلق - في ما نظن - أبو بكر - رضي الله عنه - في قتاله لمانعي الزكاة وإن منعوها عقالًا مما كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو المشهور
من قوله.
بل وإبرازا لهذه المناط ضاعف رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة عقابًا لمن منعها قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 4. ص: 18. ح: 6824) : عن معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل أربعين من الإبل السائمة ابنة لبون فمن أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن كتمها فإنا لآخذوها وشطر ماله عزمة، من عزائم ربك لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)) . وقال أحمد (المسند. ج: 5. ص: 2 و4) : حدثنا إسماعيل بن علية عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين بنت لبون لا تفرق إبل عن حسابها فمن أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها منه وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا جل وعز لا يحل لآل محمد منها شيء)) . وحدثنا يحي بن سعيد، حدثنا بهز، حدثني أبي عن جدي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى لا يحل لآل محمد منها شيء)) . وقال ابن زنجوية (الأموال. ج: 2. ص: 833. ح: 1443) حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، أنبأنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء)) .وقال (نفس المرجع. ص: 868. ح: 1534) : حدثنا عبد الله بن بكر، حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون ولا يفرق إبل عن حسابها من أعطى مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء)) . وقال أبو داود (السنن. ج: 2. ص: 101. ح: 1575) : حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا بهز بن حكيم. وحدثنا محمد بن العلاء، أخبرنا أبو أسامة عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون ولا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا - قال أبو العلاء (مؤتجرًا بها) - فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله
عزمة من عزمات ربنا عز وجل ليس لآل محمد منها شيء)) .(4/1333)
وقال النسائي (السنن. ج: 5. ص: 25) : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا معتمر قال: سمعت بهز بن حكيم يحدث عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة من كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا له أجرها ومن منعها فإنا آخذها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء)) . وقال (نفس المرجع. ص: 15) : أخبرنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى قال: حدثنا بهز بن حكيم قال: حدثني أبي عن جدي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن أباها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لأل محمد منها شيء)) . وقال الحاكم (المستدرك.: 1. ص: 377 و378) : حدثنا أبو بكر أحمد بن سلمان الفقيه، حدثنا الحسن بن مكرم، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا بهز بن حكيم وأخبرنا حمد بن سلمان، حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة في كل أربعين ابن لبون لا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا لا تحل لآل محمد منها بشيء)) . وتعقبه بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد على ما قدمنا ذكره في تصحيح هذه الصحيفة ولم يخرجاه. وأورده الذهبي في التلخيص ولم يعقب عليه بشيء. وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 4. ص: 105) : أخبرنا عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار، أنبأ أحمد بن إسماعيل الصفار، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق.، أنبأ معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل أربعين من الإبل السائمة ابنة لبون من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن كتمها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربك لا يحل لمحمد ولا لآل محمد)) .وتعقبه بقوله: كذلك رواه جماعة عن بهز بن حكيم وقال أكثرهم: عزمة من عزمات ربنا. ثم قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو.(4/1334)
حدثنا أبو العاص محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان قال: قال الشافعي: ولا يثبت أهل العلم بالحديث أن تؤخذ الصدقة وشطر الإبل الغالي لصدقته ولو ثبت قلنا به. وتعقب قول الشافعي هذا بقوله: هذا حديث قد أخرجه أبو داود في كتاب السنن فأما البخاري ومسلم - رحمهما الله - فإنهما لم يخرجاه جريًا على عادتهما في أن الصحابي أو التابعي إذا لم يكن إلا راو واحد لم يخرجا حديثه في الصحيحين ومعاوية بن حيدة القشيري لم يثبت عندهما رواية ثقة عنه غير ابنه فلم يخرجا حديثه في الصحيح وقد كان ضعيف الغرامة على من سرق في ابتداء الإسلام ثم صار منسوخًا واستدل الشافعي على نسخه بحديث ابن البراء بن عازب فيما أفسدت ناقته فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك القصة أنه أضعف الغرامة بل نقل فيها حكمه بالضمان فقط فيحتمل أن يكون هذا من ذاك. والله أعلم. وتعقب السيوطي - وهو شافعي كالبيهقي - حديث النسائي من طريق يحيى الذي أدرجناه آنفًا فقال: قال في النهاية: قال الحربي: غلط الراوي في لفظ الرواية إنما هو وشطر ماله أن يجعل ماله شطرين ويتخير عليه المصدق فيأخذ الصدقة من خير النصفين عقوبة لمنعه الزكاة فأما ما لا يلزمه فلا. وقال الخطابي في قول الحربي: لا أعرف ذا الوجه وقيل: معناه أن الحق مستوفى منه غير متروك وإن تلف شطر ماله كرجل كان له ألف شاة فتلفت حتى لم يبق له إلا عشرون فإنه يؤخذ منه عشر شياه لصدقة الألف وهو شطر ماله الباقي وهذا أيضًا بعيد لأنه قال: إنا آخذوه وشطر ماله وقيل: إنه كان في صدر الإسلام يقع بعض العقوبات في الأموال ثم نسخ كقوله في التمر المعلق من خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة وكقوله في ضالة الإبل المكتوبة غرامها ومثلها معها وكان عمر يحكم به فغرّم حاطبًا ضعف ثمن ناقة المزني لما سرقها رقيقها ونحروها وله في الحديث نظائر وقد أخذ أحمد بن حنبل بشيء من هذا وعمل به وقال الشافعي في القديم: من منع زكاة ماله أخذت وأخذ شطر ماله عقوبة على منعه واستدل بهذا
الحديث وقال في الجديد: لا يؤخذ إلا الزكاة لا غير. وجعل هذا الحديث منسوخًا وقال: كان ذلك حيث كانت العقوبة في المال ثم نسخت ومذهب عامة الفقهاء أن لا واجب على متلف شيء أكثر من مثله أو قيمته.(4/1335)
انتهى كلام السيوطي. قلت: إن تعجب فعجب رجوع الشافعي عن القول بتغريم كاتم الزكاة بعد أن قال به وقياس الفقهاء كتمان الزكاة بعموم إتلاف الغير دون تمييز بين إتلاف متعمد يقصد به النكاية بصاحب المال وبين إتلاف
غير متعمد أو متعمد ولكن بدون نية النكاية وإنما هو الاضطرار كقضية رقيق حاطب وناقة المزني وأعجب من هذا كله فرارهم كدأب كثير من المتفقهة المقلدة إلى دعوة النسخ مع أن الآية الكريمة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} من آخر ما نزل ومع أن عمر - رضي الله عنه - غرم حاطبًا ثمن ناقة المزني مضاعفًا لأنه أجاع رقيقه حتى ألجأه الجوع إلى العدوان على مال الغير فكيف تستقيم دعوى النسخ مع هذه الحقائق؟ ولماذا رجع الشافعي يغفر الله له عن القول بعقوبة كاتم الصدقة إلا أن يكون رأى رأي البخاري ومسلم في عدم اعتماد الحديث لا يعرف إلا من راو واحد وهو رأي قد تكون له وجاهته في ضبط شروط الإخراج لمدون أو مؤلف في السنة ولكنا لا نعرف له وجهًا وجيهًا لمن يقول بالعمل بحديث الآحاد وهو ما يأخذ به الجمهور ويكاد يعتبر عدم الأخذ به شذوذًا فتأمل. وشرعت العقوبات المالية على من لم يسهم في الإنفاق في الجهاد كما سبق أن ذكرنا غير مرة.
ونعتقد أن من تتبع أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده وخاصة عمر في الشؤون المالية يتضح له بما يرفع عنه كل لبس ما سبق تقريره من أن الضابط الشرعي الذي يحكم " المؤهل" للوظيفة بالخلافة في الأرض وما عليها من ثابت ومنقول هو دلالتها الاجتماعية أو ما يطلق عليه المصلحة العامة.
والمصير الذي لا مصير غيره من هذا المنطلق هو أن واجب ولي الأمر إذا تعينت المصلحة العامة أن يسلب كليًا أو جزئيًا وظيفة الخلافة في الثابت أو المنقول من كل من كان تصرفه غير ملتزم بها.(4/1336)
ولا سبيل إلى حصر الموجبات على ولي الأمر أن يتخذ هذا الإجراء بيد أننا سبق أن سقنا أمثلة من منع الزكاة والإمساك عن الإنفاق في الجهاد أو له بإمداد الدولة بالمال الذي تكون بحاجة إليه لتطوير قوتها أو صيانتها إرهابًا لأعداء الله وأعداء المسلمين والتعامل مع الآخرين بطريقة من شأنها الإخلال بالسلم الاجتماعي مثل إرهاق العمال أو اضطهادهم أو عدم إنصافهم في الأجور ومثل إجحاف العمال في مطالبهم بما يتجاوز حقوقهم العادلة أو ضرارهم لمن يعملون عندهم لاعتبارات لا علاقة لها بالعمل كالاعتبارات السياسية ومثل محاولة أرباب الصنائع والمصانع ومختلف وسائل الإنتاج استغلال ظروف خاصة حدثت للمجتمع أو للدولة من أجل الحصول على مكاسب إضافية ليست مما يقتضيه العدل، ومثل اندفاع التجار جشعًا إلى استغلال حاجة الناس إلى ما بين أيديهم من ثابت أو منقول برفع أسعارها ورفض تقديمها بالسعر العادل أن يخفض أسعارها عن مستواها العادل ضرارًا لغيرهم ممن يعود عليهم الخفض والخسارة وربما بالإفلاس لمجرد إقصائه من السوق أو لسبب آخر لا يمت إلى العدالة أو الرفق في حقيقته بصلة ومثل ادخار مالكي النقود نقودهم في الخزائن أو المصارف إما بغرض منع التعامل بها إلا بالطرق الربوية وإما بغرض اكتنازها فحسب لاسيما حين تكون الدولة أو المجتمع بحاجة إلى السيولة النقدية إما لتوفير العمل للعاطلين
وإما لتحقيق الموازنة بين الصادرات والواردات وإما لأداء ديون مترتبة على الدولة اضطرها إليه! سبب مشروع وإما لتدعيم عملة الدولة لتحتفظ بقيمتها أو لتزداد قوتها إذا كان في ازدياد قوتها مصلحة اقتصادية.
وفي جميع هذه الحالات وما شاكلها يتعين على ولي الأمر أن يتخذ طبقًا للتصرف بمقتضى الإمامة واعتبار المصلحة العامة جميع الإجراءات التشريعية على هدي القواعد العامة للشريعة الإسلامية لتحقيق ما تقتضيه المصلحة العامة أو يستوجبه الحفاظ على ضوابط الشريعة الإسلامية في المعاملات وغيرها مما يتصل بقواعد الإسلام أو بالمصالح العامة.
ومن هذه الإجراءات محاسبة مانعي الزكاة والذين لم يؤدوها! وإن لم يقصد بعدم أدائها إلى منعها عن كل ما تجمع في ذمتهم منها وأخذه بالقوة إن امتنعوا عن أدائه ولو اقتضى ذلك مصادرة جميع ما يملكون إذا استغرقتها ديون الزكاة.(4/1337)
ومنها محاسبة من يتعامل مع المصارف أو مباشرة بالطرق الربوبة على ما تجمع لديهم من الفوائد الربوية وأخذه منهم بجميع الوسائل ومنها مصادرة الأموال كلها إذا تبين أنها جميعًا فوائد ربوية ووضح أن رؤوس أموالهم استهلكوها في نفقاتهم الخاصة وأن كل مدخراتهم مجرد فوائد ربوية.
ومنها مصادرة كل ثابت أو منقول صار إلى من يتصرف فيه بطريقة غير مشروعة وحتى بطريقة "مشبوهة" وإن اتخذت صبغة المشروع مثل من يثبت لولي الأمر أنه حاز ما بيده من ثابت أو منقول نتيجة للتعاون مع حكم أو جهاز غير إسلامي عند احتلاله لبلد إسلامي إما في شكل أجور أو في شكل تسهيلات إدارية أو قانونية مكنته من حيازة ما تأثله من ثابت أو منقول لأن ذلك مال حرام ومصير المال الحرام إلى ولي الأمر ينفقه
في المصالح العامة.
ومنها تسخير الأموال المدخرة لتوظيفها في تحقيق مصلحة عامة مثل الزيادة في الإنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي وما شاكل ذلك إذا امتنع أصحابها عن ترويجها اختياريًا في السبيل التي يرى ولي الأمر أنها بحاجة إليها لأن ذلك في رأينا من
"الكنز " الذي أنذر الله صاحبه بالنكال في الدنيا والآخرة ولأن ترويج المدخرات المالية فيما يحقق المصلحة العامة هو عين الإنفاق في سبيل الله وليس هذا الإنفاق محصورًا في انتزاع المال المكتنز من صاحبه انتزاعا كاملًا بل قد يتحقق في انتزاع التصرف فيه من صاحبه وقيام الدولة بدلًا منه بالتصرف فيه على أن يبقى حق المنفعة والانتفاع به لصاحبه في إطار ما تقتضيه الوظيفة الاجتماعية بالخلافة وذلك بناء على القاعدة التي سبق أن أوضحناها من أن الحق الشرعي للإنسان فيما يحوزه من الثابت والمنقول ينحصر في حق المنفعة والانتفاع في نطاق المصلحة العامة.(4/1338)
ومنها إعادة توزيع الأموال الثابتة كالأرض والعقارات إذ تجمعت بعامل توفر النقد أو غيره في أيد محدودة حرم منها عامة أفراد المجتمع وكانوا بحاجة إليها أو كان المستحوذون عليها مستغلين لها بصورة تضر بجمهور أفراد المجتمع أو كانوا مقصرين في استغلالها بحيث لا يستغلونها استغلالًا كاملًا ولا يستفيد المجتمع اقتصاديًا وماليًا بما تستطيع تلك العقارات إنتاجه من عوائد يضر عدم توفرها بتلك المصالح.
ومنها إجبار من تكون لهم أموال خارج الدولة الإسلامية التي يقيمون فيها بعامل تهريب النقود أو تهريب الخبرات ابتغاء استغلالها خارج تلك الدولة وإن كان في دولة إسلامية أخرى- إذا قلنا بجواز تعدد الدول الإسلامية أو إذا سلمنا بالأمر الواقع وإن لم ندن لله بشرعيته وهذا هو موقفنا - لمجرد أن ما يعود عليهم من استغلالها خارجها لاسيما إذا كانت الدولة التي يقيمون فيها ويدينون لها بالولاء بحاجة إلى تلك الأموال أو الخبرات لتدعيم تطورها الاقتصادي أو قوتها العسكرية التي تتوخى من تدعيمها إرهاب أعداء الله وأعداء المسلمين أو لتحقيق أمنها الداخلي بتوفير الأسباب الكفيلة بإقرار السلم الاجتماعي على اختلافه.
ولا يلجأ إلى "الإجبار" إلا إذا امتنع أصحابها من إعادتها باختيارهم ويشمل "الإجبار" المدخرات من النقود والممتلكات من العقارات إذ تلجأ الدولة إلى بيعها عليهم كما يشمل إجبار الخبراء على العودة إلى بلادهم واتخاذ جميع الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك لاسيما إذا كانوا ممن تفتقر الدولة إلى خبرتهم لما لهم من الاختصاص في أنماط من التقنية المتطورة أو في فروع من العلم التجريبي أو النظري بحيث تضطر الدولة إلى جلب خبراء أجانب عنها لتوفير حاجتها من تلك
الاختصاصات إذا لم تجبرهم على العودة إلى بلادهم ذلك بأن "الخبرة " و" الاختصاص " مما يعتبر بمثابة "المال" لما ينتج عنه عند استغلاله فضلًا عن أنهما مما يتعلق به الواجب العيني على كل فرد من بذل الجهد في تدعيم الدولة الإسلامية التي ينتمي إليها ومن الإنفاق في سبيل تدعيمها ما كانت بحاجة من أبنائها إلى الجهد والإنفاق.(4/1339)
ومنها مصادرة كل مال أو خبرة أو اختصاص ليست الدولة بحاجة إليه ولكنه يستعمل خارجها أو من داخلها استعمالًا يفيد مباشرة أو بطريقة غير مباشرة أعداء الله وأعداء المسلمين أو دولة إسلامية انتسابًا ولكنها غير ملتزمة وإن زعمت الالتزام لاسيما إذا كانت حربًا على السنة النبوية ومناهجها انطلاقًا من بعض الأهواء والبدع التي كانت السبب فيما عرفته الدولة الإسلامية من الفتن وما أصابها من تفرق وشتات ويشمل هذا النوع كل طائفة أو نحلة تتخذ من النيل من الخلفاء الراشدين أو من بعضهم قاعدة لوجودها وجدليتها ذلك بأن أي مال يستعمل في تدعيم هذا النوع من الاتجاهات يندرج في مضمون حرب الله ورسوله والسعي في الأرض فسادًا وعلى الدولة الإسلامية الملتزمة بالسنة النبوية أن تصادره إذ أن صاحبه لم يعد يملكه أو بالأحرى فقد حق خلافة الله في التصرف فيه بالمنفعة والانتفاع لما استعمله فيما يحارب الله ويفسد في الأرض.
لكن إذا ثبت أنه لم يكن قاصدًا إلى حرب الله والإفساد في الأرض وإنما أساء الفهم وأساء التأويل يعاد إليه ما صودر منه على أن يستعمله داخل دولته المسلمة الملتزمة بالسنة النبوية البعيدة عن البدع والأهواء المنحرفة.
ومنها انتزاع حق التصرف والتصريف ممن لا يحسن إنفاق ماله بما يعيث فيه فسادًا بالتبذير والإسراف أشرًا وبطرا {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (1) لأن هذا التصرف من شأنه - أولًا -: أن يسرع بالفناء فيما بين يديه من مال فيصبح أو يصبح ورثته من بعده عالة على المجتمع و ثانيًا -: أن يكون سببًا في إشاعة نمط من التصرف الفاسد بين من يشهدونه من ذويه خاصة ومن غيره من الدهماء والعوام الذين تستخفهم المظاهر فلا يحسنون التمييز بين ما هو خير وما هو شر وقد يكون ذلك سببًا في إشاعة الحسد في قلوبهم وفي دفعهم إلى تصرفات غير صالحة وقد يكون سببًا في تزيين ذلك السلوك الفاسد لبعض من يملكون مثله أو قريبًا منه ما ييسر لهم مشاكلته أو مقاربته فيترتب عن ذلك شيوع الأخلاق الفاسدة في المترفين والفقراء على السواء.
وهذا النمط من الناس الأشرين البطرين يدخلون أساسًا في قوله سبحانه وتعالى:
{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (2) من واجب ولي الأمر المسلم التحجير عليهم واستعمال ما يملكون نظريًا فيه حق المنفعة والانتفاع استعمالًا صالحًا يكفل نماءه ويصونه من الضياع ويفيد صاحبه ومجتمعه الإفادة التي تقتضيها الوظيفة الاجتماعية المعنية بخلافة الإنسان في الأرض على أن ينفق عليه بالمعروف.
__________
(1) الآية: (27) سورة الإسراء.
(2) الآية رقم (5) سورة النساء(4/1340)
هذه بعض الوجوه التي تجعل من المتعين على ولي الأمر المسلم أن يتدخل بسلطان الشرع الإسلامي لتصحيح مسار المال كوسيلة لإسعاد المجتمع الإسلامي وإعزازه وإنماء مقوماته الاقتصادية وتدعيم ركائزه وأركانه السياسية وتحقيق سيادته على العالم وتأمينه داخلًا وخارجًا "من كل ما يحدث فيه اختلالًا أو اعتلالًا ولا أحسب أحدًا يستطيع أن يزعم أن هنالك مصلحة تعلو أو تسامت هذه المصلحة أو أن هنالك تكليفًا يسبق أو يواكب هذا التكليف لولي الأمر المسلم فيما ولي من أجل رعايته وتحقيقه من أمور المسلمين.
ولا نكران أن تدخل ولي الأمر في هذه الوجوه وما شاكلها من شأنه أن يحدث ألمًا لمن يكون هذا التدخل سلبًا أو تحديدًا لحقه في التصرف والتصريف فيما خوله الله نظريًا حق التصرف فيه وتصريفه من الثابت والمنقول باعتباره واحدًا من البشر الذين وكل الله إليهم خلافته في الأرض بيد أن ما يصيبه من الألم ويعتبره - وقد يعتبره مثله جمهرة من مقلدة المتفقهة - مفسدة لا يجوز إغفالها ليس بشيء في الاعتبار الشرعي عند موازنته بما توخاه وفي الأمر المسلم بتدخله من تحقيق المصلحة العامة فلا توجد مصلحة لا يحتمل أن تصاحبها مفسدة وإنما المعيار الذي لا معيار غيره هو التأكد من أيهما الراجح المصلحة أم المفسدة؟ وحتى لو تراءى - بادي الرأي - أنهما سواء في الموازنة فإن المرجح الحاسم الذي يعتبر إبرامًا لا ينقض هو النظر إلى المال والتأكد من مدى تطابقه وتجانسه مع مقتضيات الشرع الإسلامي نصوصًا أو مناطًا.
وفي هذا المجال يقول الشاطبي - رحمه الله - (1) :
" النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون ذلك الفعل مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب أو مفسدة تدرأ ولكن له مال على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع مفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذ أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المولد إلا أنه عذب المذاق محبوب الغب جار على مقاصد الشريعة.
__________
(1) الموافقات. ج: 4. ص: 194.(4/1341)
والدليل على صحته أمور أحدها: أن التكاليف - كما تقدم - مشروعة لمصالح العباد، ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم وأما الدنيوية فإن الأعمال - إذا تأملتها - مقدمات لنتائج المصالح فإنها أسباب لمسببات هي مقصودة للشارع والمسببات هي مآلات الأسباب فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب وهو معنى النظر في المآلات) .
ثم قال:
والثاني: إن مآلات الأعمال إما أن تكون معتبرة شرعًا أو غير معتبرة فإن اعتبرت فهو المطلوب وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود تلك الأعمال وذلك غير صحيح لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد ولا مصلحة تتوقع مطلقًا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد وأيضًا فإن ذلك يؤدي إلى أن لا تتطلب مصلحة بفعل مشروع ولا تتوقع مفسدة بفعل ممنوع وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق.
والثالث: الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) ، وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (3) وقوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (4) وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (5) وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (6) وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (7)
وأما في المسألة على الخصوص فكثير، فقد قال في الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه ((أخاف أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)) ورد هذا اللفظ في قضيتين: الأولى تتصل بعبد الله بن أبي بن سلول وحولها قال أحمد (المسند ج: 3. ص: 392 و393) : حدثنا حسين بن محمد، حدثنا سفيان يعني ابن عيينة عن عمرو قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قال: يرون أنها غزوة بنى المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ فقيل: رجل من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها فتنة قال جابر وكان المهاجرون حين قدموا المدينة أقل من الأنصار، ثم إن المهاجرين كثروا فبلغ ذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسمع ذلك عمر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أضرب هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.
__________
(1) الآية: (21) سورة البقرة
(2) الآية: (183) سورة البقرة.
(3) الآية رقم (188) سورة البقرة.
(4) الآية رقم (108) سورة الأنعام.
(5) الآية: (165) سورة النساء.
(6) الآية: (216) سورة البقرة.
(7) الآية: (179) سورة البقرة.(4/1342)
وقال البخاري (ج: 4. ص: 160) : حدثنا محمد، أخبرنا. مخلد بن يزبد، أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابرًا - رضي الله عنه - يقول: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجربن حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريًا فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تداعوا وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى أهل الجاهلية ثم قال: ما شأنهم فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها، فإنها خبيثة وقال عبد الله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر: ألا تقتل يا رسول الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه. ثم قال (نفس المرجع. ج: 6. ص: 65 و66) : حدثنا علي، حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كنا في غزاة قال سفيان مرة في جيش: فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد الله بن أبي، فقال: فعلوها، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه(4/1343)
وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة ثم إن المهاجرين كثروا بعد، قال سفيان فحفظته من عمرو فقال عمرو: سمعت جابرًا؛ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مسلم (على هامش شرح النووي. ج: 16. ص138) : حدثنا أبو بكر بن أي شيبة وزهير بن حرب وأحمد بن عبدة الضبي وابن أبي عمر "واللفظ لابن أبي شيبة " قال ابن عبدة: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: سمع عمرو جابر بن عبد الله يقول: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوى الجاهلية قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: دعوها، فإنها منتنة، فسمعها عبد الله بن أبي بن سلول فقال: لقد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال عمر: دعنى أضرب عنق هذا المنافق فقال: دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه. وقال التزمذي (الجامع الصحيح. ج: 5. ص: 417و8 1 4.ح: 5 1 33) : حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، سمع جابر بن عبد الله يقول: كنا في غزاة قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق، فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى الجاهلية، قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها؛ فإنها منتنة، فسمع ذلك عبد الله بن أبي بن سلول. فقال: أوقد فعلوها، والله (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، وقال غير عمر، فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز، ففعل. وقال البيهقي (السنن الكبرى. ج: 9.: ص: 32) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني محمد بن عبد الله الكعبي، حدثنا محمد بن أيوب، أنبأ علي بن المديني، حدثنا سفيان قال: قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول: كنا في غزاة وقال سفيان مرة أخرى: كنا في جيش
فكسع - أي ضربه من خلف - رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال - هنا سقطٌ، صوابه ما سبق(4/1344)
أن نقلناه عن البخاري وغيره؛ -: دعوها؛ فإنها منتنة، فسمع ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهنا سقط أيضًا كالسابق - فقال: قد فعلوها، أما والله (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهنا سقط أيضًا كسابقيه – دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه قال: وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد.
والقضية الثانية ما كان من بعض المنافقين في قسمة غنائم غزوة حنين وقد اختلفت الرواية في شأنها من الذي استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل المنافق الذي حاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فورد في بعضها أنه عمر وورد في أخرى أنه خالد ويبدو لي أن نسبها إلى خالد أقرب إلى المنطق بأن القضية الأولى كان بطلها عمر وما أراه إلا قد اعتبر بها أما الثانية فمعقول جدًا أن يكون بطلها خالدا وإنما التبس على بعض الرواة شأن القضيتين فنسبوا الثانية إلى عمر كما نسبوا الأولى وهذه طائفة من الروايات المختلفة في شأنها. قال أحمد (المسند. ج: 3. ص: 354 و355) : حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معاذ بن رفاعة، حدثنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن بين الناس بالجعرانة قام رجل من بني تميم فقال: اعدل يا محمد فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، لقد خبت وخسرت إن لم أعدل، قال: فقال عمر: يا رسول الله، ألا أقوم فأقتل هذا المنافق؟ قال: قال معاذ الله أن تتسامع الأمم أن محمدًا يقتل أصحابه ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا وأصحابًا له يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق المرماة من الرمية قال معاذ قال لي أبو الزبير فعرضت هذا الحديث على الزهري فما خالفني
إلا أنه قال: النضي قلت القدح فقال ألست برجل عربي.
وقال (نفس المرجع. ص: 56) : حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسمًا إذ جاء ابن ذي الخويصرة التميمي فقال: "اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل فقال عمر بن الخطاب: أتأذن لي فيه فأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه؛ فإن له أصحابًا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ينظر في نضيته فلا يوجد فيه شيء، ينظر في رصافة فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم منهم رجل أسود في إحدى يديه أو قال: إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر يخرجون إلى حين فترة من الناس فنزلت فيهم {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية.(4/1345)
قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن عليًا حين قتله وأنا معه جيئ بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال (نفس المرجع. ص: 65 و353) : حدثنا محمد بن مصعب حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة والضحاك المشرفي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يقسم مالًا إذ أتاه ذو الخويصرة رجل من بنى تميم فقال: يا محمد اعدل فوالله ما عدلت منذ اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله لا تجدون بعدي أعدل عليكم مني، ثلاث مرات، فقال عمر: يا رسول الله، أتأذن لي فأضرب عنقه؟ فقال: لا، إن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر صاحبه إلى فوقه فلا يرى شيئًا، آيتهم رجل إحدى يديه كالبضعة، أو كثدي المرأة، يخرجون على فرقتين من الناس يقتلهم أولى الطائفتين بالله، قال أبو سيد فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأني شهدت عليًا حين قتلهم فالتمس في القتلى فوجد على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدثنا حسن بن موسى، أنبأنا أبو شهاب عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله: قال جئت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الجعرانة وهو يقسم فضة في ثوب بلال للناس فقال رجل: يا رسول الله، اعدل فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل لقد خبت إن لم أكن أعدل، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أقتل هذا المنافق فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية.
وقال البخاري (الصحيح. ج: 4. ص: 78 1 و79 1) : حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بنى تميم فقال: يا رسول الله اعدل فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر: يا رسول الله أتأذن لي فأضرب عنقه؟ فقال: دعه، فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه، فلا يوجد فيه شيء، قد يسبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أومثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعت.
وقال مسلم (على هامش شرح النووي ج: 7. ص: 159 إلى 167) : حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر، أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس فقال: يا محمد اعدل قال: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال: معاذ الله؛ أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي،إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية.
وحدثنا محمد بن المثنى حدثتا عبد الوهاب الثقفي قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله. وحدثنا أبو بكير ابن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنى قرة بن خالد، حدثنى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم مغانم، وساق الحديث، حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي - رضي الله عنه - وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر الأقرع بن حابس الحنظلي وعيينة بن بدر الفزاري وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بنى كلاب وزيد الخير الطائي ثم أحد بني نبهان قال: فغضبت قريش فقالوا: أيعطي صناديد نجد ويدعنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما فعلت ذلك لأتألفهم)) فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين(4/1346)
محلوق الرأس فقال: اتق الله يا محمد قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فمن يطع الله إن عصيته أيأمنني على أهل الأرض ولا يأمنوني)) قال: ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله "يرون أنه خالد بن
الوليد " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من ضئضئ هذا قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) .
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الواحد عن عمارة بن القعقاع، حدثنا عبد الرحمن بن أبي نعم قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة في أديم مقروط لم تحصل من ترابها قال: فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل فقال رجل من أصحابه كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً قال: فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار فقال: يا رسول الله اتق الله فقال: ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله قال: ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا؛ لعله أن يكون يصلي، قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم قال: ثم نظر إليه وهو مقف فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فقال: أظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع بهذا الإسناد قال: وعلقمة بن علاثة ولم يذكر عامر بن الطفيل؛ وقال ناتئ الجبهة ولم يقل ناشز وزاد؛ فقام إليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، قال: ثم أدبر فقام إليه خالد سيف الله فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، فقال: إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله لينًا رطبًا وقال: قال عمارة: حسبته قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود.
حدثنا ابن نمير، حدثنا ابن فضيل عن عمارة بن القعقاع بهذا الإسناد وقال بين أربعة نفر زيد الخير والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة أو عامر بن الطفيل وقال: ناشز الجبهة كرواية عبد الواحد وقال: ((إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم)) ولم يقل لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود.
حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن عطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد الخدري فسألاه عن الحرورية هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها قال: لا أدري من الحرورية ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يخرج في هذه الأمة "ولم يقل: منها" قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرأون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء)) .
حدثني أبو الطاهر، أخبرنا أبو عبد الله ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري. وحدثني حرملة بن يحي وأحمد بن عبد الرحمن الفهري قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يوسف عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن والضحاك الهمداني أن أبا سعيد الخدري قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويلك ومن يعدل إن لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل)) . فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه، فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء "وهو القدح " ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد في شيء سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت.
وقال الطبراني (المعجم الكبير. ج: 2. ص: 175. ح: 1753) : حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج.(4/1347)
حدثنا يحيى بن بكير، حدثني ابن وهب عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر قال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وفي ثوب بلال فضة، رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقبضها للناس ويعطيهم، فقال له رجل: يا رسول الله اعدل قال: ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: دعني يا رسول الله فلأقتل هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية. وقال ابن ماجه (السنن. ج:1. ص:21. ح: 172) : حدثنا محمد بن الصباح، أنبأنا سفيان بن عيينة. عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله بالجعرانة وهو يقسم التبر والغنائم، وهو في حجر بلال، فقال رجل: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال: ويلك من يعدل بعدي إذا لم أعدل فقال عمر: دعني يا رسول الله حتى أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا في أصحاب أو أصحاب له يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
قلت: ورد ذكر ذي الخويصرة في عدة روايات لهذه القصة وذو الخويصرة هذا يقال إنه حرقص بن زهير أحد صدور الخوارج الذي قتل في النهروان ويظهر أن ابن حجر لم يتأكد لديه هذا القول فقد قال وهو ينقله عن ابن عبد البر (الإصابة. ج:1. ص: 320 ترجمة: 1661) "وزعم أبو عمر أنه ذو الخويصرة التميمي رأس الخوارج المقتول بالنهروان" ثم أورد أخبارًا تشكك في صحبة حرقص بن زهير ثم قال وهو يترجم لذي الخويصرة (نفس المرجع. ص: 485. ترجمة: 2450) : التميمي ذكره ابن الأثير في الصحابة مستدركًا على من قبله ولم يورد في ترجمته سوى ما أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ذات يوم قسمًا فقال ذو الخويصرة رجل من بني تميم: يا رسول الله اعدل فقال: من يعدل إذا لم أعدل. الحديث. وأخرجه من طريق تفسير الثعلبي ثم من طريق تفسير عبد الرزاق كذلك، لكن قال فيه: إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي وهو حرقص بن زهير فذكره.
ثم قال ابن حجر: ووقع في موضع آخر في البخاري قال عبد الله بن ذي الخويصرة وعندي في ذكره في الصحابة وقفة. انتهى كلام ابن حجر.
وهذا الشك في صحبة ذي الخويصرة وصحبة حرقص بن زهير وهل هما رجل واحد أم اثنان واختلاف الرواة في تعيين الرجل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اعدل. الحديث. نستخلص منه العبر الآتية:
الأولى: أن اختلافهم في التعيين إذا لم يترتب عنه حكم لا يعتبر اضطرابًا في الحديث.
الثانية: أن إطلاق الصحابي على كل من رأى الرسول! أو حتى على كل من شهد منه مشهدًا (ذا لم يثبت استمراره في العيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تردده عليه إذا كان يقطن بعيدًا عن المدينة إطلاق يجب التحري فيه إذ يترتب عن قبوله القول بعد التهم جميعًا ومن شأن هذا القول أن يحدث حرجًا في اعتبار أمثال ذي الخويصرة هذا - إن ثبت أنه صاحب المقولة - صحابيًا ولا سيما وقد ذكرت بعض الرواة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه سيدخل النار أو كما قال، فكيف يعتبر عدلًا وهو ما لا مناص منه إن عددناه في الصحابة. الثالثة: إن الخوارج في جميع مصادرهم لتترجم الرجال وتاريخ وقائعهم، ويذكرون حرقص بن زهير كأحد الإمامين الأولين لهم، وهذا يعني أنه يتحمل جانبًا من مسؤولية قيادة الفتنة بين المسلمين، وقد نجد عذرًا فيمن التبس عليهم الأمر فاشتركوا مع معاوية في وقعة صفين، أو مع من واجه عليًا - رضي الله
عنه - في وقعة الجمل، فالأمر في ذلك لا يعدو نطاق الاجتهاد والترجيح في موقع الحق بين المتخاصمين، وفي كلا معسكري الخصام الصحابة الأجلاء، ولكن الذين واجهوا عليًا في النهروان من الصعب اعتبارهم معذورين بالاجتهاد.
فالمعسكران غير متكافئين فيمن اشتركا فيهما ومعسكر النهروان أبعد شيء عن أن يقارب معسكر علي في نوعية المشتركين أو في عدد الصحابة الذين ضمهم فإذا كان حرقص بن زهير هو ذو الخويصرة وإن أثبت أن ذا الخويصرة هو صاحب المقولة وأنه هو الذي جاء فيه ما ورد من نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سيتجيش معه أفلا يكون ذلك رادعًا للقائلين بأن صفة صحابي تشمل كل من أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل من روى عنه، وإن حديثًا واحدًا؟ الواقع أن إطلاق لفظ صحابي بحاجة إلى كثير من التأمل والتحرير. وقوله: لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم يكاد لا يخلو مسند من مساند السنة أو مصدر من مصادر التاريخ الإسلامي من حديث من الأحاديث الواردة في هذا المعنى ولا يترتب عنه حكم متجدد إلا ما كان من اعتبار الحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم المعجمة - من الكعبة أو ليس منها وهو أمر طال فيه الخلاف وليس هذا مقام تحريره لذلك نقتصر في تخريج الحديث الذي أشار إليه الشاطبي - رحمه الله على ما رواه عبد الرزاق وهو أقدم من الشيخين رحمهما الله - إذ لا نجد حاجة إلى استقراء روايات غيره.(4/1348)
قال عبد الرزاق (المصنف. ج: 5. ص: 102 و104. ح: 9106) : في حديث طويل رواه عن معمر عن عبد الله - يعنى ابن عثمان بن خثيم - عن أبي الطفيل فذكر حريقها في زمان ابن الزبير فقال ابن الزبير: إن عائشة أخبرتني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة فإنهم تركوها سبعة أذرع في الحجر ضاقت بهم النفقة والخشب. وقال (نفس المرجع. ص: 27 1 و28 1.ح: 0 5 1 9 و1 5 1 9) : عن ابن جريج قال سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قال وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك في خلافته فقال عبد الملك: ما أظن أبا حبيب سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها قال: وكان الحارث مصدقا لا يكذب قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قومك استقصروا من بنيان البيت وإني لولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك أن يبنوه من بعدي فهلم لأريك ما تركوا منه فأراها قريبًا من سبعة أذرع. هذا حديث عبد الله بن عبيد وزاد عليه الوليد بن عطاء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: وجعلت له بابين موضوعين في الأرض شرقيًا وغربيًا وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: لا. قال:! تعززا لأن لا يدخلوها إلا من أرادوا فإن الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعونه حتى يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط قال عبد الملك للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال نعم فنكت بعصاه ساعة ثم قال: وددت أني تركته وما تحمل.
عن معمر عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ((الم تري أن قومك استقصروا عن قواعد إبراهيم؟)) قالت: أفلا ترده يا رسول الله على قواعد إبراهيم؟ قال: ((إن قومك حديثو عهد بكفر، أو أنهم حديثون بكفر)) . بمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم فقال له: لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله، هذا معنى الكلام دون لفظه قال القاضي عياض (ترتيب المدارك. ج: 2. ص: 105 و106) : قال بعضهم: لما قدم الرشيد المدينة وقال آخر: بعض الخلفاء أراد أن ينقض منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويزيد فيه فقال لمالك: ما ترى؟ فقال: ما أرى. فغضب وقال: قد زاد فيه معاوية. فقال مالك: إن المنبر إذ ذاك كان صلبًا فلست آمن إن نقضته إن تذهب البركة منه وفي رواية: أن يتهافت فيتشاءم الناس منك ويقولون: زال على يده أثر من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أحسن الله جزاءك فترك ما كان نواه. قال: وشاور المهدي مالكًا في ثلاثة أشياء في الكعبة في أن ينقضها ويردها على ما كانت عليه
فأشار عليه أن لا يفعل، وفي المنبر أن ينقضه ويرده على ما كان عليه؛ وذلك حين أراد أن يرد المنابر كلها صغارًا على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك: إنما هو من طرفاء وقد سمر إلى هذه العيدان يعني التي زادها معاوية
وأخشى إن نقضته أن يخرب وينكسر ولولا ذلك لرأيت أن ترده إلى حالته الأولى وشاوره في نافع بن أبي نعيم القارئ أن يقدمه للصلاة. فأشار عليه ألا يفعل وقال: هو إمام أخاف أن يكون منه شيء في الغفلة فيحكى عنه. وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه حتى يتم بوله وقال: لا تزرموه (1) وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفًا من الانقطاع وجميع ما مر في تحقيق المناط الخاص مما في هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعًا لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعًا لكن يترك النهى عنه لما في ذلك من المصلحة وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها فإن غالبها تذزع بفعل جائز إلى عمل غير جائز فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع ولا معنى للإطناب بذكرها وكثرتها واشتهارها قال ابن العربي: حين أخذ في تقرير هذه المسألة اختلف الناس بزعمهم فيها وهي متفق عليها بين العلماء فافهموها وادخروها".
__________
(1) قال المزي (تحفة الأشراف. ج: 1. ص: 110. ح: 290) : حديث أن أعرابيا بال في المسجد ... الحديث. خ في الأدب (35: 2) عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجي. م س جميعًا في الطهارة (م.3. س 45) عن قتيبة - ق فيه (الطهارة: 78) عن أحمد بن عبدة الضبي - ثلاثتهم عنه به. ورواه أحمد أيضًا وغيره ونقتصر على لفظ البخاري (ج: 7. ص: 80) حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب حدثنا حماد بن زيد عن أنس بن مالك أن أعرابيًا بال في المسجد فقاموا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه. وقد رواه البخاري وغيره بلفظ مختلف في أبواب الطهارة.(4/1349)
وواضح أن تقدير المآل لكل تصرف في هذا المجال يعتمد على كفاية ولي الأمر وأهليته للاجتهاد فليست الأحوال والأوضاع سواء وقد أشرنا من قبل إلى ما أطلقنا عليه اسم "الظرفية " وهو يشمل تغاير الأزمنة والبيئات وتغاير تأثيرها في الأحوال والأحداث وتكييفها لها تبعًا لتغايرها وجانب كبير من تقدير هذا الأمر يعتمد على كفاية ولي الأمر وأهليته للاجتهاد ولا سبيل إلى اعتبار ما قد يقوله بعض المقلدة المتفقهة ممن تجمدوا على ظواهر ألفاظ الأصوليين وقواعدهم من أن ولي الأمر الذي يكون إليه الحكم في تحديد أو تحويل ممارسة التصرف والتصريف في المال يجب أن يكون ضليعًا في العلوم الشرعية واللغوية مستوفيًا شروط الأهلية للاجتهاد لأن هذا النمط من الاجتهاد الذي نكله إلى ولي الأمر ولا مناص من أن يوكل إليه لأنه من صميم مهامه وتبعاته ليس هو استنباط الحكم الشرعي وإنما هو إدراك مناط الحكم الشرعي وتقدير الموجبات لتطبيقه اعتبارًا لمناطه من الأحوال والأحداث والظروف في هذا المجال يقول الشاطبي - رحمه الله - (1) :
" قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث قصدت المعرفة به فلا بد أن يكون المجتهد عارفًا ومجتهدًا من تلك الجهة التي ينظر فيها يتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى كالمحدث العارف بأصول الأسانيد وطرقها وصحيحها من سقيمها وما يحتج به من متونها مما لا يحتج. فهذا يعتبر اجتهاده فيما هو عارف به كان عالمًا بالعربية أم لا. وكذلك القارئ في تأدية وجوه القراءات والصانع في معرفة عيوب الصناعات والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب وعرفاء الأسواق في معرفة قيم السلع ومداخل العيوب فيها والعاد في صحة القسمة والماسح في تقدير الأراضين ونحوها، كل هذا وما أشبهه يعرف به مناط الحكم الشرعي غير مضطر إلى العلم بالعربية ولا العلم بمقاصد الشريعة وإن كان اجتماع ذلك كمالًا في المجتهد. والدليل على ذلك ما تقدم من أنه لو كان لازمًا - أي أن يكون مجتهدًا في كل علم يتعلق به الاجتهاد أي تعلق كان (المعلق الشيخ عبد الله دراز) - لم يوجد مجتهد إلا في الندرة بل هو محال عادة وإن وجد فعلى جهة خرق العادة) .
__________
(1) الموافقات. ج: 4. ص: 165.(4/1350)
ثم قال:" وأيضًا إن لزم في هذا الاجتهاد العلم بمقاصد الشارع لزم في كل علم وصناعة أن لا تعرف إلا بعد المعرفة بذلك إذ فرض من لزوم العلم بها العلم بمقاصد الشارع وذلك باطل فما أدى إليه مثله فقد حصلت العلوم ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية ومن الكفار المنكرين للشريعة. ووجه ثالث: أن العلماء لم يزالوا مقلدين في هذه الأمور من ليس من الفقهاء وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصة وهو التقليد في تحقيق المناط فالحاصل أنه إنما يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه كما أنه في الأوليين - وهما الاجتهاد من النصوص ومن المعاني (المعلق) - كذلك فالاجتهاد في الاستنباط من الألفاظ الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد تلك الألفاظ من الوجه الذي يتعلق به الحكم لا من وجه آخر وهو ظاهر".
ولا يعني اعتمادنا هذه القاعدة التي أحسن الشاطبي - رحمه الله - صياغتها وإيضاحها كما هو دأبه في جل ما يصوغ ويوضح - والكمال لله وحده - أننا نبيح لولي الأمر أن يتصرف دون الاعتماد على حكم الشريعة الإسلامية بل بمجرد رأيه الشخصي. فذلك إنما يعني أننا نبيح له أن يحكم بهواه ونعوذ بالله من أن نبيح الحكم بالهوى.
وإنما نعتمد هذه القاعدة على اعتبار أنه " المختص"، بتقدير الأوضاع والأحوال التي يواجهها بحكم ما عليه من مهام وتبعات واختصاصه هذا لا يعطيه حرية التصرف المطلقة كما أن عدم اختصاصه - إذا لم يكن مختصا في الشريعة الإسلامية- لا يجرده من حرية التصرف وإنما يؤهله اختصاصه لأن يكون تقديره محل اعتبار واستنادًا لمن يجب أن يكون بجانبه ومستشارًا له من المختصين في الشريعة الإسلامية وعدم اختصاصه في الشريعة أو عدم أهليته للاجتهاد فيها وإن كان بصيرًا بها بصرًا لا يؤهله للاجتهاد يوجب عليه قبل أن يقدم على تنفيذ ما يرى بتقديره أنه عادل أو ضروري أن يعود إلى مشورة ذوي الاختصاص في الشريعة الإسلامية. كما أن ذوي الاختصاص هؤلاء يجب عليهم أن يعتمدوا فيها يشيرون به عليه إلى جانب الحكم الشرعي المجرد نصا واستنباطًا ما يبسطه لهم من تقديره والعوامل التي صدر عنها فيه.(4/1351)
على أنه إذا اختلف من يرجع إليهم لابتغاء حكم الشريعة في مشورتهم له وكان قادرًا على استيعاب الأدلة التي أوضحها له كل فريق من المختلفين وعلى الوعي بالمقاصد التي يرمى إليها كل دليل وعلى التمييز والترجيح المجردين من الهوى ومن التأثر بكل نزعة أو جدلية خارجة عن نطاق الشريعة الإسلامية بين الأدلة المعروضة عليه من المختلفين وما يرمي إليه كل دليل من مناط وعلى اكتشاف الدليل والوجه والمناط والأنسب لما وقر في رأيه عند تقدير الحادث أو الحال موضوع الاجتهاد كان عليه أن يتحمل تبعته أمام الله وأن يعتمد على ما رجح لديه ووقر في نفسه أنه الحق والعدل تطبيقًا لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (1) .
فليس ولي الأمر عندنا - والله أعلم - ملزمًا بما يسمى اليوم "رأي الأغلبية" وإنما هو ملزم بما يترجح عنده - إذا لم يتأكد فكيف إذا تأكد - أنه الحق والعدل لأن الذي يمارس أمور الناس قد يعرف من خفاياها وقد يستطيع أن يكتنه من سرائرها ويدرك من ملابساتها ويستشرف من معقباتها ما لا يستطيعه غيره ممن يشهدون تلك الأمور من بعيد أو من قريب دون أن يمارسوها بأنفسهم مما يبلغ خبرة بها أو بالبعض منها. فالخبرة النظرية وحدها لا تكفي لاستكناه السرائر وإدراك الملابسات واستشراف المعقبات وهذا في ما نفهم - والله أعلم - بعض السر في أن الله سبحانه وتعالى لم يأمر نبيه عليه الصلاة والسلام وتبعًا منه ولي أمر المسلمين من بعده أن يلتزم باتباع مشورة من يستشيرهم وهو ما يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ} ومعناه - والله أعلم بأسرار كتابه العزيز - إذا تأكد لديك أو ترجح رأي أو حكم بعدما أشار عليك من استشرت وليس ضروريا أن يكون هو نفس ما أشار به عليك فتوكل على الله فالعزم هنا هو الشعور الذي ينتج عن التأكد والرجحان إذ أن المسؤول الأول والأخير هو ولي الأمر وهو إذا اجتهد بعد أن أحسن التقدير واستشار المؤهلين للمشورة من ذوي الاختصاص في الأمر المجتهد فيه شرعًا أو موضوعًا مأجور أجرًا مضاعفًا إن أصاب وأجرًا واحدًا إن أخطأ ما لم يكن للهوى أو لأي مؤثر غير الاعتبارات الشرعية ومقتضيات المصلحة العامة تأثير في اجتهاده.
__________
(1) الآية: (159) سورة آل عمران.(4/1352)
ذلك بأن نتائج أي اجتهاد لا يمكن أن تكون قطعية وغاية أمرها - مهما وضحت أدلتها وتضافرت على تركيزها وتركينها القرائن والشواهد والقواعد - أن تكون راجحة رجحًا قد يتراءى شبيهًا بالتأكد بيد أنه - رغم ذلك - ليس له أن يتجاوز درجة الرجحان إنها حصيلة جهد البشر غير المعصوم ومصدرها خبرة المجتهد بالأمر الذي يجتهد فيه طبيعة وظروفًا ومآلًا، وبصره بصرًا عميقًا شاملًا بمصادر الاعتبار الشرعي في الحكم في ذلك الأمر نصوصًا محكمة أو مفاهيم أو آثارًا أو أقيسة أو ما إليها كالاستصحاب والاستحسان والمصالح المرسلة.
ولا سبيل في الاجتهاد إلى الاكتفاء بأحد العنصرين، عنصر الخبرة وعنصر البصر الشرعي أو "الفقه"، إذ أن عنصر الخبرة وحده قد يجلو ويشخص المصادر والموارد والمنافع والمفاسد كما تتراءى للعقل البشري، والعقل البشري مهما حاول أن يتجرد للعدل الصرف ويتنزه عن الهوى ويأتي له الخلوص إلى الرشد الحق إلا أن يستهدي بأنوار الوحي لأن قدرته على التنزه محدودة وبصره بحقائق العدل والحق محدود أيضًا فلا مناص له من الاستعانة بهدي الوحي أي بالشرائع المتنزلة لفظًا أو إلهامًا (الكتاب والسنة) وبما سبق السلف إلى استنباطه منها موضوعًا أو منهجًا.
إذ إن استنباط السلف - عليهم رحمة الله - صحابة كانوا أو تابعين قد يكون غير قابل للتأثر "بالظرفية" لأنه متصل بما لا يؤثر فيه تغاير الأزمنة والبيئات وجل ما يكون هذا النوع في العبادات غير المعقولة المعنى وفيما يتصل بشعارها خاصة وقد يكون قابلًا للتأثر "بالظرفية" إذا كان يتصل بالعادات والمعاملات والجوانب الخاضعة لمؤثرات التطور والتغير البيئوي والزمني أو ما نسميه بالتطور الحضاري من حياة البشر. وهذا النوع من الاستنباط - فهمًا كان أو اجتهادًا - لا سبيل إلى الالتزام به موضوعًا إذا تغاير مع ظروف زمنية أو بيئوية كما أنه لا سبيل إلى إغفاله منهجًا وإن تعذر أو استحال الالتزام به موضوعًا.
فالحياة المادية البشرية في هذا العصر تكاد لا تتشابه في معظم عاداتها وأدواتها وممارساتها مع حياة السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن ظهرت الثورة البخارية في الصناعة ثم الثورات الأخرى المتفرعة عنها، والتي لا يزال
تفرعها مطردًا.(4/1353)
والالتزام باستنباطاتهم موضوعًا لا مناص من أن يعطل إما حياة المسلمين من مواكبة التطور وإن التزامهم بالإسلام وشرائعه وإن التزموا بعقائده إذا هم آثروا مواكبة التطور انسجامًا مع طبيعة الحياة ومقتضياتها ومن الحرب على الإسلام أن يحاول أحد أو تحاول طائفة اضطرار المسلمين إلى هذا الاختيار بحجة ضرورة الالتزام موضوعًا بسلوك السلف واجتهاداتهم ونمط حياتهم إذ إن هذه المحاولة ستقضي على الالتزام بالإسلام شريعة وربما عقيدة أيضًا فليس في طاقة فرد أو مجتمع أن يعاكس تطور الحياة.
على حين أن الكلمة القرآنية والجملة القرآنية - القرآن هو الأساس لكل تشريع إسلامي حتى ما كان منه سنيًا – يتجلى الإعجاز الإلهي فيها بتجانسها مع البصائر والأفهام في كل ظرف زمني أو بيئوي وفي كل طور حضاري حتى لا يكاد القارئ البصير ببعض التدبر - فكيف بالتدبر المتعمق المستأني - أن يظن أن الآية يقرأها إنما نزلت للحظته تلك وأن نزولها في زمن سابق لم يكن لهداية ذلك الزمن وإنما كان ليتعبد بتلاوتها من كانوا أحياء فيه ولتتداولها الأجيال إلى لحظته تلك. وما من شك في أن كل قارئ بصير موفق في جميع الأزمنة والظروف والبيئات منذ نزل القرآن الكريم كان يجد مثل هذا الشعور وهو يتلو آيات الله البينات وهذا - والله أعلم بسرائر كتابه ولطائف إعجازه - من أقوى الأدلة وأوثق البيانات على أن محمدًا عليه الصلاة والسلام كان خاتم الأنبياء وأن القرآن كان خاتم الكتب المنزلة ومهيمنًا عليها وكان ويظل ما بقيت الأرض والسماوات الوشيجة الواشجة بين السماء هداية وبين الأرض اهتداء.
وهذا الوعي بالطبيعة التطورية للتصور البشري للدلالة القرآنية المواكبة لطبيعة التطورية للتأثر البشري بالتطور الحضاري هو الذي جعلنا نقسم الاعتبار لاجتهاد السلف إلى موضوعي ومنهجي. ونتيجة لهذا الاعتبار أصبح اليوم من المتعين ضروريًا أن لا ينفرد الفقيه ولا الخبير بالاجتهاد أو بتعيين الحكم وإن بمجرد الفهم لنص من النصوص في أي حادث وفي أي حال وفي أية قضية مما يتصل بالحياة المادية للبشر ونعني بالحياة المادية ما ليس من الحياة الروحية الصرفة كالعبادات غير المعقولة المعنى ولا من الحياة الذاتية غير المتغيرة كمعظم ما يتصل بشؤون النكاح والطلاق وما شاكلهما من الأحوال الشخصية.(4/1354)
ذلك بأنه لا سبيل إلى تحكيم الفقيه وحده أو الخبير وحده في شأن من شؤون الاقتصاد مثلًا واعتبار حكم هذا أو ذاك مما يرتضيه الشرع أو لا يتناقض معه وإن تراءى أوثق بالشرع أو أوثق بالمصلحة.
فالظروف التي نشًأ فيها الفقه الإسلامي وتطور كانت طرائق المعاملات ذات الطابع الاقتصادي لا تكاد تتشابه مع ظروف معاملاتنا اليوم شكلًا ولا موضوعًا، كان الاقتصاد يومئذ فرديًا صرفًا وكان النقد عينيًا صرفًا ويكاد التعامل بالمقايضة لا يختلف عن التعامل بالنقد فكلا التعاملين يقوم على نمط من التقييم وكان مدار الكسب الجهد الفردي ومجال التجارة الجهد الفردي فإن اشترك اثنان أو ثلاثة أو أكثر فلفترة محدودة في بضاعة محدودة لزمن محدود. فالبنية الاقتصادية إذن كانت بنية فردية صرفة، كذلك كانت الصناعة فليست أكثر من عمل فرد في يعتمد على خبرة فردية مصدرها في أغلب شأنها ما يكتسب من التجربة
الفردية ومداها في كل شأنها ما تستطيع قوة الفرد أن تنتج فأين هذا من شأن اقتصادنا اليوم وقد أصبح كيانات جبارة ليس الفرد فيها إلا كلولب صغير من اللوالب التي تضبط بها أجزاء المصنع ولا وجود فيها لعينية النقد وإنما هو قطع اعتبارية من الورق أو المعدن ويكاد لا يكون لها أساس يمكن لمسه أو تشخيصه وإنما هو مجموعة اعتبارات (الطاقة الإنتاجية ومدخرات العملة الصعبة ومدخرات الذهب ومدخرات الأرض من المعادن المعتبرة) فكيف يحاول من يحاول أن يحكم طرائق الممارسة التي ضبط لها الفقهاء أحكامًا مما استنبطوه من النصوص القرآنية أو السنية لعهودهم تلك في أوضاعنا الراهنة هذه؟
إنه لا مناص من أن يشترك الخبير والفقيه في الاجتهاد بل وأن يتعاونا على إعادة قراءة النصوص وفهمها من جديد. فبدون ذلك لن يكون للإسلام بقاء ولن يتاح له أن يستعيد هيمنته هاديًا وموجهًا وضابطًا على الأمة الإسلامية فضلًا عن أن يجتذب إليه الأمم والنحل الأخرى.
واعتبارًا لكل هذا قررنا بأن الحكم في الظروف التي يتعين فيها تدخل ولي الأمر في ما خول للإنسان من حق الانتفاع والمنفعة والتصرف والتصريف إذا تعين التدخل فيه يجب أن يعتمد على اجتهاد مزدوج من كل من الفقيه والخبير لا ينفرد به أحدهما ولكن لولى الأمر - لاسيما إذا كان خبيرًا - حق الموازنة والترجيح واتخاذ القرار.(4/1355)
لكن الالتزام بمناهج السلف في الاجتهاد قل أن يمكن التخلي عنه لأصول مناهجهم المستمدة من استقراء الطرائق والأساليب القرآنية والسنية في التعبير والتعليل والدلالة والإيماء وهي ضوابط لسبل فهم الشريعة والاستنباط منها، لا تتخلف أو قل ما تتخلف فإن تخلفت فليس التخلف منها وإنما هو من مدى فهم وتميز من استنبطوها ورسموا قواعدها ومعالمها ولا تتأثر بمؤثر خارجي أو قل ما تتأثر فإن تأثرت فليست هي المتأثرة ولكن العقول التي استنبطتها ورسمت معالمها وقواعدها لم تستطع أن تبلغ مداها من الارتفاع عن المؤثرات فقصرت وهي تضبط قواعدها وترسم معالمها عن أن تجعل عملها الاجتهادي متجردًا عن طبيعتها الفانية متجانسًا مع الطبيعة الأبدية لطرائق الكتاب والسنة في التعبير والتعليل والدلالة والإيماء.
لذلك لا سبيل إلى التخلي عن المنهاج الاجتهادي للسلف إلا أن يتعين قصوره عن المدى الأبدي الشامل لينابيعه الأولى من الكتاب والسنة وذلك قليل، بل نادر يكاد لا يكون له وجود.
ونحسب أن هذا الاعتبار اعتبار ازدواجية الاجتهاد في الشؤون غير التعبدية وما على شاكلتها هو الحكم الفيصل في إخلاف الزمن الذي اضطرب فيه الفقهاء والمقلدة حول جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل.
فجمهرة المتخلفين - إن لم يكونوا جميعًا - اعتمدوا البصر بالشريعة بصرًا مؤهلًا للاجتهاد شرطًا من شروط الأهلية للإمامة على تفاوت بينهم في الالتزام بهذا الشرط لاعتبار صحتها أو في اعتباره شرطًا ترجيحًا.
بيد أن استقراء مواقف أئمة الاجتهاد الأول ممن اعتمدوا أئمة المذاهب السنية أو لم يعتمدوا ولكنهم وثقوا في مجال الدراية والرواية وفي طليعتهم نفر من التابعين يدمغ أسباب هذا الاختلاف وحججه ويثبت مما لا يدع مجالًا للارتياب والمراء أنهم كانوا يدينون بصحة الإمامة لمن عاصروهم من الخلفاء الأمويين والعباسيين من معاوية إلى هارون ثم المعتصم والواثق وما منهم من شكك في وجوب الطاعة لهم ما لم يأمروا بمنكرٍ.(4/1356)
فقد كان نفر من صغار الصحابة الذين تصدروا للفتيا من عهد الخليفتين الراشدين أو بعدهما وجمهرة من الطبقة الأولى والثانية من التابعين يدينون بالولاء لمعاوية وابنه يزيد ولمروان وابنه عبد الملك. ودرج التابعون على هذا المنوال بعدهم وكان مالك - رحمه الله - يدين بالولاء للمنصور والهادي والمهدي وهارون ويقبل جوائزهم ويخاطبهم بإمارة المؤمنين (1) وكان
الشافعي يدخل على الرشيد ويحضر مجلسه (2) ويصيب من جوائزه. كذلك كان أبو حنيفة وصاحباة (3) بل إن أبا يوسف كان قاضي قضاة الرشيد وله وضع كتاب الخراج. ومن أجل الحظوة عنده كان ما كان بينه وبين محمد بن الحسن (4) .
وكان أحمد يدين بالولاء للمعتصم حتى بعد أن امتحن بأمر منه ويدين به للواثق بعد المعتصم بل إنه لما علم بفتح عمورية غفر للمعتصم ما امتحن به بأمر منه (5) . ومن قبل هؤلاء كان بعض أئمة الحديث الكبار ومن أبرزهم سفيان بن عيينة (6) يدخل على العباسيين وينال جوائزهم وكان قبل هؤلاء أيضًا جمهور من التابعين ومن أبرزهم الحسن البصري (7) يقبلون جوائز الأمويين ويدينون لهم بالولاء.
__________
(1) عياض ترتيب المدارك. ج: 2. ص: 20 و95 وما بعدها وانظر أيضًا ما ذكره الذهبي في ثنايا ترجمته لمالك (سير أعلام النبلاء. ج: 8. ص: 48 إلى 135) . وفي ثنايا ترجمته للشافعي (نفس المرجع. ج: 10.: 15 إلى 99) وكذلك غير الذهبي ممن أفاضوا في ترجمة الإمامين الجليلين.
(2) عياض ترتيب المدارك. ج: 2. ص: 20 و95 وما بعدها وانظر أيضًا ما ذكره الذهبي في ثنايا ترجمته لمالك (سير أعلام النبلاء. ج: 8. ص: 48 إلى 135) . وفي ثنايا ترجمته للشافعي (نفس المرجع. ج: 10.: 15 إلى 99) وكذلك غير الذهبي ممن أفاضوا في ترجمة الإمامين الجليلين.
(3) انظر ما كتب عن أبي حنيفة وصاحبيه في تاريخ بغداد. ج: 2. ص: 172 إلى 182. ترجمة: 593. وج: 13. ص: 242 إلى 263. ترجمة: 7558.
(4) انظر ما كتب عن أبي حنيفة وصاحبيه في تاريخ بغداد. ج: 2. ص: 172 إلى 182. ترجمة: 593. وج: 13. ص: 242 إلى 263. ترجمة: 7558.
(5) انظر سير أعلام النبلاء. ج: 11. ص: 77 1 إلى 358. ترجمة: 58. والأحكام السلطانية. ص: 19 وما بعدها.
(6) سير أعلام النبلاء. ج: 8. ص: 454 - 475. ترجمة: 120.
(7) سير أعلام النبلاء. ج: 4. ص: 563 إلى 582. ترجمة: 223.(4/1357)
ولئن كان بعض كبار التابعين قد أثر عنهم ما يمكن اعتباره اشتباهًا أو جرحًا في شرعية الخلفاء بعد معاوية فإن موقفهم هذا لم يعتمده أئمة الاجتهاد من معاصريهم وممن بعدهم إلا ما كان مصدره الاعتبار السياسي كما هو الشأن في مواقف كل من الشيعة والخوارج على اختلاف بينها. فمصدر تجريح الشيعة لشرعية خلافة الأمويين هو أنهم ليسوا من سلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تفاوت بينهم في التزام هذا المصدر عمليًا على الأقل أما الخوارج فهم أشد تطرفًا في اعتبار أفضلية الإمام وأن ليس للمفضول أن يتولى الإمامة مع وجود الفاضل إلا في حالات خاصة شاذة وأن العلم بالشريعة الإسلامية المؤهلة للاجتهاد فيها شرط ضروري لصحة الإمامة وإن كان موقفهم هذا ظل نظريًا لم ينسجم معه تصرفهم في عقد الإمامة والولاء لها في جميع البيئات والعصور إلى أن انتهى وجود الإمامة عندهم عمليًا في أوائل هذا القرن.
على أن هذا ليس شأننا في هذا البحث وإنما اضطرنا إلى أن نعرض له ما يترتب من أحكام على وجود إمام ليس مؤهلًا للاجتهاد وفي الشريعة الإسلامية.
ذلك بأن ما أطلقنا عليه أنفًا " ولي الأمر " يشمل الإمام ومن يتولى نيابة عنه أمور المسلمين في قطر من الأقطار الخاضعة له ولاية تفويض أو ولاية تنفيذ. وبالتعبير الحديث من يكون وزيرًا له أو عاملًا أو واليًا ثم من يخولون سلطات أو صلاحيات من الوزراء والولاة والعمال في المدن والقرى والجماعات البدوية على تفاوت بين السلطات والصلاحيات التي تخول لهم تبعًا لمراتبهم في الجهاز الهرمي للدولة وهو تفاوت يترتب عنه تلقائيًا مدى ما يخول لهم شرعًا من حق التصرف الاجتهادي بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة وهذا (المدى) تضبطه وثائق التعيين والتخويل.
والإمام الذي نتحدث عنه جريًا على سنن الفقهاء المتأخرين هو خليفة المسلمين(4/1358)
عند وجوده أو الملك أو السلطان أو رئيس الجمهورية وبعبارة أشمل رئيس الدولة في التعبير الحديث. وقد ألمعنا آنفًا إلى موقفنا من وجوب وحدة الدولة الإسلامية وواقع تعدد الدول في العالم الإسلامي في الوقت الراهن وهو واقع لا سبيل إلى إغفاله أو تجاهله مهما يكن غير منسجم انسجامًا كاملًا مع مقتضيات الشرع الإسلامي لأن إغفاله وتجاهله من شأنه أن يحدث اضطرابًا خطيرًا في سير ومسار مصالح المسلمين وهذا الاضطراب أشذ خطرًا وأبعد أثرًا من أن يغفل شأنه في تقدير الأحكام الواجب تطبيقها على شؤون المجتمعات الإسلامية بحجة أن الواقع السياسي للمسلمين ليس منسجمًا مع الصيغة التي قررها الشرع الإسلامي.
على حين أن اعتبار هذا الواقع في ضبط الأحكام التي يجب تطبيقها على المسلمين مجتمعات وأفرادًا لا يعني الحكم بشرعيته وإنما يعني التسليم بوجوده تسليمًا ليس معناه القبول باستمراره ولكن معناه اعتباره منطلقًا إلى التحقيق السلمي لتطوير الكيان السياسي للأمة الإسلامية إلى الصبغة الوحدوية التي يقرها ولا يقر غيرها الشرع الإسلامي وعلى هدي هذا الذي بيناه بإيجاز نقرر:
1- أن من يتولون أمور المسلمين في مختلف أقطارهم يملكون حق الانتزاع بالمصادرة أو التحديد لما يتصرف فيه الأفراد من أموال ثابتة أو منقولة في الأحوال التي يبيح الشرع فيها أو بنسبها مصادرة تلك الأموال أو تحديدها كما أو كيفًا.
2 - أن هذا الحق غير مخول إلا لولي الأمر الملتزم - وإن نظريا - بمختلف صيغ الالتزام الدستورية باعتبار الإسلام الدين المهيمن على تشريعات الدولة والمتحكم في تقدير شرعية أو عدم شرعية كل تشريع منها سواء كان مجاله الأحوال الشخصية أو المدنية أو الجنائية.
- نقول الملتزم وإن نظريا بصرًا منا بأن الالتزام التطبيقي الكامل يكاد ينعدم في هذه الأيام ولا يمكن لهذه الحال المؤلمة أن تتخذ عائقًا لأي تدبير ألجأت إليه اعتبارات صادقة موافقة للمصلحة العامة في أية دولة من الدول الإسلامية لأن اعتبارها عائقًا يحول دون تحقيق الكثير مما من شأنه تطوير أوضاع المسلمين إلى ما هو أفضل اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا تطويرًا يعلو اعتباره على كل اعتبار.(4/1359)
إن هذا الحق لا تجوز ممارسته إلا حين تتوفر جميع البينات على توقف تحقيق المصلحة العامة للمسلمين على ممارسته وعند توفر هذه البينات يجب أن تنحصر ممارسته في الإطار الذي ترسمه وألا تتجاوزه بحال من الأحوال وأقل تجاوز لها ظلم تجب مقاومته بجميع الطرق السلمية المشروعة وإن كان لا يجوز الالتجاء في مقاومته إلى الطرق غير السلمية لأن جريمة العصيان من شأنها أن تحدث اختلالًا أو اضطرابًا في الدولة الإسلامية تنجر عنه مفسدة أشد من الظلم الذي قد يحدث من تجاوز مقتضى تلك البينات. فالمصلحة العامة توجب عدم الالتجاء إلى العصيان مهما يبلغ مدى ظلم الولاة إلا أن يصل حد منع المسلمين عن ممارسة الشعائر التعبدية كما نصت عليه السنة النبوية
لا يتسع المجال لإيراد العشرات من الأحاديث الثابتة في هذا الشأن لذلك نقتصر على ثلاث أحاديث أخرجها البخاري في كتاب الأحكام قال (ج: 9. ص: 105 و106) : حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن أبي التياح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) وقال المزي (تحفة الأشراف. ج:1. ص: 438 و439) : حديث: اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد. وفي حديث غندر: قال لأبي ذر: اسمع وأطع ... الحديث. خ في الصلاة (205: 2) عن بندار وفي الأحكام (4: 1) عن مسدد كلاهما عن يحيى - وفي الصلاة (207) عن محمد بن أبان عن غندر كلاهما عن شعبة عنة به. ق في الجهاد (39: 2) عن بندار وأبي بشر بكر بن خلف كلاهما عن يحيى به. حديث: لولا الهجرة لكنت أمرءًا من الأنصار ... الحديث. خ في التمني (9 تعليقًا) تابعه أبو التياح عن أنس.
وقال البخاري (نفس المرجع) : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن الجعد عن أبي رجاء عن ابن عباس ويرويه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت إلا مات ميتة جاهلية)) . وقال المزي (نفس المرجع. ج: هـ. ص: 192. ح: 6319) في تخريج الحديث: حديث: من كره من أميره شيئًا فليصبر فإنه من خرج من السلطان ... الحديث. خ في الأحكام (4: 2) عن سليمان بن حرب وفي الفتن (2: 3) عن أبي النعمان كلاهما عن حماد بن زيد وفيه الفتن (2: 2) عن مسدد عن عبد الوارث كلاهما عن الجعد أبي عثمان عنه به. م في المغازي (66: 7) عن حسن بن الربيع عن حماد بن زيد به. و (66: 8) عن شيبان عن عبد الوارث به(4/1360)
وقال البخاري (نفس المرجع) : حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) . وقال المزي (نفس المرجع. ج: 6. ص: 175. ح: 8150) في تخريجه لحديث السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة. خ في الأحكام (4: 2) وفي الجهاد (107: ا) عن مسدد - م في المغازي (61: 19) عن زهير بن حرب - ومحمد بن المثنى - ثلاثتهم عنه به. د في الجهاد (96: 3) عن مسدد به.
4- إن ممارسة هذا الحق حين تتوفر البينات الموجبة لممارسته يجب أن تنضبط بالمجال والكيفية اللذين تتوفر البينات لوجوب ممارسته في إطارهما وليس هذا تكرارًا للجزء الأخير من الفقرة السابقة وإنما هو نوع آخر. فالذي ألمعنا إليه في الفقرة السابقة هو تجاوز الإطار في نفس المجال والكيفية أما الذي نريد إيضاحه الآن فهو تطبيق الإطار العام للبينات في غير المجال والكيفية اللذين وضع لهما.
وبيان ذلك أنه حين تتوفر البينات بأن المصلحة العامة تقتضي تحديد مجال أو كيفية أو مدى تصرف إنسان فيما خول له التصرف فيه منفعة وانتفاعًا من الأموال الثابتة والمنقولة لا يجوز أن يتجاوز ولي الأمر نطاق " التحديد "، إلى " المصادرة ".
فحين يتبين أن المصلحة العامة للمسلمين تقتضي أن لا تتجمع مساحات من الأرض واسعة أو مجموعة من العمارات السكنية متعددة أو مجموعة من الحيوانات التي تجب فيها الزكاة وفيرة جدًا فإن على ولي الأمر أن يمارس إعادة توزيعها ولكن مع تعويض من كانت مجتمعة تحت يده عما انتزع منه تعويضًا ليس رمزيًا كما تفعله بعض الدول اليوم وإنما هو تعويض كامل أساسه القيمة الواقعية لما انتزع منه كما هي في الأسواق الداخلية للدولة يوم انتزاعه وأي نقص من القيمة الواقعية ظلم يجب العمل على رفعه بالطرق السلمية.
وهنا تبرز مسألة ذات خطر بالغ وهي المبالغ النقدية التي يمكن لولي الأمر أن ينتزعها من مدخريها إذا تبين أن المصلحة العامة للمسلمين تقتضي انتزاعها لصالح الدولة إلى السيولة النقدية أو لحاجتها إلى تدعيم قوتها العسكرية أو إلى دفع ديونها الخارجية وفي هذه الحال كيف يعوض صاحبها؟.(4/1361)
ذلك أن العملات مهما تبلغ قوة وأيًا كانت دعائمها تظل عرضة في قيمتها للارتفاع والانخفاض طبقًا لتغير الأوضاع الاقتصادية للدولة وطبقًا للتقلبات الاقتصادية العالمية أيضًا. وإذا لم يقع تعويض النقود المنتزعة تعويضًا عاجلًا بقيمتها من الأموال الثابتة أو المتنقلة بل أعطي صبغة دين في ذمة الدولة تدفع أقساطًا أو إلى أجل مسمى بقيمته الاسمية وليس أسهما وسندات خاضعة للتقلبات في سوق القيم المالية فإن من انتزعت منه قد يصيبه الضرر إذا انخفضت العملة عند دفع أقساط الدين أو عند حلول أجل الدفع الكامل وقد يصيب الدولة الضرر عند ارتفاعها إذا كانت العملة المنتزعة ليست عملة الدولة نفسها وإنما هي عملة أجنبية معتمدة عالميًا.
لذلك نعتقد أن الوضع السليم للتعويض في مثل هذه الحال يجب أن يرتبط بالعملة " المقياس " المعتبرة عالميًا فبذلك وحده يمتنع الإضرار بحق الدولة وبحق المنتزع منه. وقضية اضطراب سوق النقد وأسعار العملات ذات أبعاد خطيرة وآثار بالغة في جوانب من التشريع الإسلامي المتصل بمعاملات مثل تماثل النقد في المعاملات المؤجلة عند من يقول بأن لا ربا إلا في النسيئة والمعجلة أيضًا عند من يقول بربا الفضل ومثل سداد الديون وما شاكل ذلك بل إنها تؤثر حتى فيما تجتمع فيه الاعتبارات التعبدية الصرفة والاعتبارات المالية الصرفة أو بالأحرى ما يجتمع فيه حق الله وحق العباد
مثل الزكاة في موضوع تحديد النصاب المالي لها من مختلف العملات وتحديده في الذهب والفضة بعد أن أصبح النقد اعتباريًا وزال حكم انفرادهما بالتقييم النقدي إذ لم يعودا المرجع التقييمي الوحيد للنقد الاعتباري وليس هذا مجال بحث هذه القضية إنما ألممنا بها عرضًا لعلاقتها بما يجوز انتزاعه من النقود المدخرة بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة.
ثم إن اضطراب أسعار العملات لا يؤثر فيما نسميه اليوم العملات العالمية أو العملات الصعبة فحسب بل يؤثر أيضًا في العملات المحلية غير المتعامل بها في الأسواق العالمية للقيم أو تلك المتعامل بها فيها باعتبارها معترفًا بها ولكنها ليست مراجع للتقييم العالمي للعملات.(4/1362)
وهذان النوعان من العملات المحلية أو العملات الخاصة بدولها بتعبير أوضح ينجم إشكال جدير بالملاحظة والاعتبار من انتزاع المدخرات منها انتزاع تسخير لا انتزاع مصادرة - وسيأتي تفصيل الفرق بين الانتزاعين - إذا لم يكن تعويض من انتزعت منه عاجلًا بأموال ثابتة أو منقولة غير نقدية. ذلك بأن العملة المحلية شأنها شأن العملة العالمية عرضة للاضطراب القيمي فقد ترتفع قيمتها بالقياس إلى العملات العالمية أو إلى الطاقة الشرائية المحلية لها وقد تنخفض وفي كلا الحالتين ينتج ضرر فإن ارتفعت قيمتها لحق الدولة ضرر عند الأداء لأنها تؤدي مبلغًا من المال إن يكن مماثلًا لما انتزعته من قبل من حيث العدد فهو أكثر منه باعتبار القيمة التي أصبحت لذلك العدد وإن انخفضت قيمتها كان الدائن هو المتضرر لأنه عندما تقضيه الدولة ما تدين له به كامل العدد فهي فعلًا قد دفعت المبلغ المنتزع كاملًا باعتبار العدد بيد أنها دفعته ناقصًا باعتبار القيمة الشرائية وذلك ضار عمليا بمن انتزعه منه انتزاع تسخير ما يدخره من النقد.
ولا سبيل إلى تلافي هذا الضرر بأن يحتسب النقد أو الازدياد عددًا فيضاف أو يقتطع عند الأداء لأن ذلك فيه شبهة ربا وهي شبهة قوية يجب التحرج منها أيًا كان الرأي في علاقة التعامل بالنقد الاعتباري مع المعاملات الربوية.
وإنما السبيل في رأينا - هو أن تعتبر قيمة النقد المنتزع عند التزامه في العملة أو العملات العالمية التي يرتبط بها عالميًا تقييم العملات وأن يسدد دينه على أساس تلك القيمة المعتبرة عند انتزاعه وليس على أساس المبلغ العددي للنقود المنتزعة وبذلك لا يلحق الضرر بالدولة لو ارتفعت قيمة تلك العملة ولا بمن انتزعت منه لو انخفضت. ومع أن ما يلحق الأفراد من الأضرار عند التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة غير ملتفت إليه عامة إذ أن المصلحة العامة يعلو اعتبارها عن أي مفسدة تتعلق بفرد معين فإن اجتناب حدوث المفسدة أولى - وقد يكون واجبًا إذا أمكن - من عدم اجتنابه اعتبارًا لرجحان المصلحة العامة.(4/1363)
ثم إن هذه القاعدة التي قررناها تفيد المصلحة العامة كما تفيد المصلحة الفردية إذ أن احتمال خسارة الدولة تماثل احتمال خسارة الفرد في الاعتبار فلا سبيل - في أغلب الحالات - إلى التأكد من أن الخسارة ستكون على الفرد لا على الدولة من تقلبات الأسواق الدولية.
على أن انتزاع المدخرات النقدية قد يكون في بعض الحالات معتمدًا فيه على المصلحة المرسلة وليس على دليل شرعي قاطع أو راجح، وبذلك يكون أساسه أقل ثباتًا وأدعى إلى التحرج من أساس ما كان معتمدًا فيه على دليل شرعي قاطع أو راجح.
ويتجلى ذلك في حال لجوء الدولة إلى انتزاع الفائض من النقد في أيدي الأفراد أو مؤسسات القطاع الخاص ليس لأنها بحاجة إليه ولكن لمجرد الحد من التضخم المالي وارتفاع الأسعار الناتج عن وفرة السيولة النقدية وذلك اجتنابًا للوقوع في المحظور الذي تقع فيه الدول غير الإسلامية أو غير الملتزمة بتطبيق الشريعة الإسلامية من معالجة هذا الوضع برفع الفوائد الربوية من المعاملات.
وفي هذه الحال يكون الإضرار بالفرد لو نزلت قيمة العملة المنتزعة منه أشد إيلامًا وأبرز مفسدة إذ أنه في حال الانتزاع منه لحاجة الدولة اقتصاديًا أو عسكريًا يمكن أن يعتبر نفسه في حال انخفاض قيمة العملة المنتزعة منه مسهمًا بنصيب في تحقيق مصلحة عامة يناله منها حظ. أما في حال الانتزاع لمجرد الحد من السيولة النقدية ومنع التضخم المالي المؤدي إلى ارتفاع الأسعار فإن شعور الفرد بالإسهام في تحقيق مصلحة عامة إن نقصت قيمة العملة المنتزعة منه يكون أقل وأضأل من شعوره بذلك في الحال المشار إليها آنفًا وقد لا يتأتى مثل هذا الشعور للفرد العادي وقد ينتج عن عدمه ما يجب التحرج منه من شيوع النقمة بين العامة من تصرفات الدولة شيوعًا قد يتطور إلى ما لا تحمد عقباه.
واعتبار تباين سعر العملة وخاصة طاقتها الشرائية تجب ملاحظته - عندنا - في مجال جباية الزكاة ممن امتنع عن دفعها وتجمعت في ذمته مقادير منها بمرور الزمن.(4/1364)
لكن هل يلاحظ هذا الاعتبار في تحديد النصاب الواجب اعتماده عند محاسبته على الزكاة المتجمعة في ذمته أم في تحديد العقوبة التي يمكن للإمام أن يعاقبه بها نكالًا له إن امتنع من أدائها؟
واضح أن كلا الوجهين ممكن التنفيذ الذي نطمئن إليه هو أن يقدر نصًا كل سنة من السنوات التي لم يؤد الزكاة فيها على حدة وأن يحاسب في واجبه المترتب عنه بسعر العملة في ذلك العام سواء انخفضت أو ارتفعت حسب ما كان عليه في سوق القيم المالية ثم للإمام بعد ذلك أن ينزل عليه العقوبة التي يراها رادعة له ويراه مستوجبًا لها لامتناعه أو لغفلته عن أداء الزكاة.
ومثل هذا الاعتبار هو الصالح للاعتماد في محاسبة من يمارس المعاملات الربوية لمصادرة ما تأثله منها إذ إن عدم اعتماد هذا الاعتبار من شأنه أن يبقي له جانبًا من الفوائد الربوية التي تأثلها في حال انخفاض سعر العملة التي يحاسب بها عند محاسبته عما كانت عليه أثناء ممارسته للمعاملات الربوية أو في بعض فتراتها وعلى هذين المثالين تقاس أية حالات متشابهة لهما.
ونخلص من كل ما سبق إلى أن الانتزاع المخول لولي الأمر أن يمارسه بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة يتمثل في ثلاثة أشكال:
1- المصادرة: وهي انتزاع كل ما في يد فرد أو مؤسسة خاصة من مال ثابت أو منقول ثبت أنه حاصل من طرق غير مشروعة كالغصب والاحتيال والرشوة والأجرة المحرمة والمكافأة من حاكم غير مسلم أو من حاكم مسلم غير ملتزم، لاسيما إذا كانت المكافأة من مال ليس خاصا بالدولة وإنما هو مغتصب من أفراد أو مؤسسات أو جماعات بقوة السلطان وينطبق هذا حتى على ما بيع لمن يقع انتزاعه منه سعر رمزي كما حدث كثيرًا في عدد من الأقطار الإسلامية خلال الحكم الأجنبي لها مما مارسه الحاكمون عندئذ مع عملائهم من أبناء تلك الأقطار.
وكالمال الذي يتأكد أنه حصيلة ممارسات ربوية وإن كان. أساسها رأس مال حلال إذا تبين أن من يتصرف في ذلك المال قد استهلك رأس ماله في نفقاته الخاصة وأن ما يتصرف فيه الآن هو حصيلة الممارسات الربوية الصرفة كما ألمعنا منذ قريب.(4/1365)
2 - التسخير: وهو انتزاع حق التصرف في مال ثابت أو منقول تكون الدولة بحاجة إليه اقتصاديًا أو عسكريًا وتستحيل تحقيق تلك الحاجة بنوع من التعامل أو التعاون مع من يتصرف في ذلك المال وقد يكون هذا التسخير لوقت معين وذلك في بعض الأموال الثابتة أو المتنقلة مثل أن تكون الدولة بحاجة إلى مساكن لإيواء من أصابتهم كوارث طبيعية أو لإسكان فقراء بحاجة إلى السكن ولم يتيسر للدولة عندئذ إنشاء مساكن لهم ومثل تسخير وسائل النقل لحاجة الدولة عند الكوارث الطبيعية أو في حالة الحرب وقد يكون التسخير دائما وهذا يتمثل في تسخير المدخرات النقدية التي تكون الدولة في حاجة دائمة إليها اقتصاديًا أو عسكريًا مثل توظيف تلك المدخرات في صناعات أو مشاريع فلاحية وتجارية علمية لتيسير العمل للعاطلين أو لتنشيط صناعة الدولة أو لتطوير تقنيتها أو لتوفير صادراتها ابتغاء تحقيق الموازنة لميزان أداءاتها أو توفير الفائض في تجارتها ليتيح لها نفوذ أو هيمنة على أسواق دول غير إسلامية تمكينًا لهيبتها وتدعيما لسلطانها.
وقد يكون التسخير لحاجة لا تتصل بالدولة مباشرة وإنما تتصل بالمجتمع الذي ترعاه وتضطلع بحفظ مصالحه وإقرار العدل بين أفراده ويتمثل هذا النوع في منع الاحتكار وتسعير المواد التي تتوقف عليها الحياة الضرورية - وحتى الحاجية أحيانًا - لعامة أفراد المجتمع وقد يتعين هذا التصرف في حالات استثنائية كأحوال القحط اجتنابًا لاضطرار الدولة اضطرارًا تامًا أو جزئيًا إلى استيراد ما يكفل الاستجابة لضرورات أبنائها أو في حال حروب إقليمية أو عامة تجعل الاستيراد أمرًا متعذرًا لما يكتنفه من تعرض وسائل النقل للخطر فتكون الدولة مضطرة إلى ضمان التوزيع العادل لما في أيدي أفرادها أو لما يتاح لهم استيراده من المواد والوسائل المتصلة بضرورة الناس وحاجاتهم توزيعًا يكفل حظا عادلًا من الربح لمن لديهم تلك المواد مستوردة أو متزنة لقاء ما بذلوه من جهد ويمنعهم من المغالاة في السعر استغلالًا لظروف الحاجة الطارئة ولإقبال الناس على الشراء.وقد يتعين في حالات غير استثنائية وهذا يمكن تصوره في الدول التي تأخذ بمبدأ الاقتصاد الحر إذا تواطأ التجار فيها أو الفلاحون على الاتفاق على أسعار ثابتة مبالغ في تقديرها لمواد مما ينتجون أو يستوردون وتتوقف عليها ضرورات عامة الأفراد أو حاجاتهم إذ يتعين على ولي الأمر أن يكبح جشع المستغلين ورغبتهم في الربح الوفير بأن يوفر لهم ربحًا معقولًا فيما يكفل لعامة الناس الحصول على حاجاتهم وضروراتهم بسعر عادل دون أن يتحكم فيهم المحتكرون من منتجين أو تجار.(4/1366)
ثم إن التسخير لا ينحصر بالضرورة في المال العيني بل قد يشمل المال الاعتباري، ونعني بالمال الاعتباري الدراية التقنية والمهارة الصناعية والطاقة الإنتاجية لمختلف وسائل الإنتاج كالمصانع والأراضي الفلاحية والوسائل الإنتاجية مثل أدوات الصناعة جماعية كانت أم فردية والأيدي العاملة العادية والخبرة الفردية لأية حرفة أو مهنة يمارسها صاحبها بنفسه أو مع غيره من الفعلة كالحلاقة والحدادة والنجارة الصغيرة وحتى تنظيف الشوارع والأزقة وجمع القمامة وقيادة السيارات العامة والخاصة وشاحنات النقل والقطارات والبواخر والطائرات والمراقبة الجوية والإرشاد الملاحي في الأنهار الكبرى والمضايق وما إلى ذلك من الأعمال التي يمارسها الفرد أو الجمهور كل ذلك إذا احتاجت الدولة إليه حاجة دائمة أو عارضة وامتنع أصحابه من أدائه طمعًا منهم في أجور أعلى يعملون على تحقيقها باستغلال ظرف حاجة الدولة أو لأسباب سياسية أو غير سياسية امتناعًا من شأنه أن يلحق الضرر بسير الشؤون العامة والخاصة إذا كانت هذه الشؤون ذات علاقة بحالة الحرب أو ينتج عن تعويقها اعتلال في اقتصاد الدولة أو اختلال في مواجهة متطلبات الحياة العامة للمواطنين كتوزيع المؤونة أو جلبها أو تفريغها من البواخر والشاحنات وكضمان استمرار توزيع الماء والنور واستمرار السير العادي لوسائل النقل وما إلى ذلك مما يلحق المصلحة العامة بتعويقه ضرر يرجح ما قد يصيب الممتنعين عن الاضطلاع بواجبهم من مفاسد يمكن أن تبلغ حد الإساءة إلى مصالحهم الشخصية المادية ولكنها مهما بلغت لا توازي ما ينجر عن امتناعهم عن أداء واجبهم من الإضرار بالمصلحة العامة لاسيما إذا كانت تتصل مباشرة بسلامة الدولة عسكريًا أو باتصال نموها وتطورها اقتصاديًا اتصالًا ينتج عن الإخلال به أو تعويقه وإن لفترة قصيرة إضرار بنفوذ الدولة الخارجي أو بالتزاماتهم الدولية أو بمركزها الاقتصادي العالمي أو يحدث اضطرابًا ومصاعب في التزاماتها الداخلية. ففي جميع هذه الأحوال وما شاكلها تعلو المصلحة العامة على كل اعتبار لمصلحة أو مفسدة فردية أو متعلقة بجزء من المجتمع مثل طائفة بعينها أو أرباب مهنة أو صناعة.(4/1367)
ويتبين من هذا أن إجبار العمال على العمل وإجبار أرباب الصناعات والمصانع والفلاحين ومن شاكلهم على الإنتاج إذا تبين أن إضرابهم يلحق بالدولة ضررًا محققًا واجب على ولي الأمر أن يمارسه بمقتضى تصرف الإمامة وأن أوامر التسخير التي يصدرها ذات صبغة شرعية واجبة التنفيذ بشرط أن يكون في تقديره لمدى الاضطرار إلى هذا التصرف صادرًا عن موازنة دقيقة وموازاة للاعتبارات السياسية والإدارية بالاعتبارات الشرعية الدينية وهذا يعني أنه يجب قبل أن يتخذ قرار التسخير في هذا المجال أن يستشير المجتهدين من الفقهاء وأن يشرح لهم ظروفها ونتائجها شرحًا واضحًا دقيقًا نزيهًا فإن اتفقوا على موقف فعليه أن ينزل عند اتفاقهم وإن اختلفوا كان له حق الترجيح لما يميزه عنهم من الخبرة التي يملكها نتيجة للممارسة المبصرة له ما قد لا يبصره غيره من الملابسات والعقبات ويشمل هذا الحكم تسخير الكفايات التقنية لجميع وسائل التسخير فلولي الأمر أن يجبر ما وجد منها داخل الدولة على العمل في جهاز الدولة نفسها إذا توقفت حاجة الدولة إليه وأن يمنعه من العمل المستقل أو في القطاع الخاص وإن كان ذلك يمنعه من أجر أعلى مما تسمح له به القوانين التنظيمية للدولة كما أن لولي الأمر أن يتخذ جميع الوسائل والتشريعات الممكنة له لإرغام ذوي الكفايات من مواطنيه على العودة إلى بلادهم والعمل في إطار الدولة ابتغاء الأجر الوفير أو إذا كان عملهم خارج الدولة يضر بها أو بالإسلام والمسلمين أو ينشًا عنه ما من شأنه نفع أعداء الدولة وخاصة إذا كانوا من غير المسلمين أو من المسلمين اسمًا ذوي الأهواء والنحل المنحرفة وإن لم يكونوا مع الدولة في حالة حرب بل وحتى إن كانوا معها في حلف أو صداقة مما تقتضيه اعتبارات سياسية متواضع عليها بين الدول ولا يعني التضامن العملي الذي لا يستقيم إلا في حال تماثل المبادئ والمناهج والأهداف.
3 - تحديد الملكية وهو يشمل تحديد ما يمكن أن نسميه بـ" الملكية الاعتبارية" ونعني به ما شرحناه منذ قريب من تسخير الكفايات التقنية وطاقات الإنتاج على اختلافها كما يشمل تحديد الملكية المادية وهي ما دأبنا على تسميته بـ: "حق المنفعة والانتفاع".(4/1368)
وقد سبق أن ألمعنا إلى حق ولي الأمر " بمقتضى الإمامة " اعتبارًا للمصلحة العامة في أن يمنع في تجميع المساحات الكبيرة من الأرض الفلاحية أو المهيأة للعمارة أو وسائل الصناعة الكبرى أو الصغرى أو العمارات السكنية وما شاكل ذلك في يد واحدة أو في أيد قليلة تيسرت لها الأسباب المالية لتجميعها.
كما سبق أن أوضحنا أن من حق ولي الأمر بل من واجبه "بمقتضى الإمامة" اعتبارًا للمصلحة العامة، وهنا أيضًا نضيف قيامًا بتنفيذ الأحكام الشرعية الإسلامية أن يصادر كل مال ثابت أو منقول تأثله صاحبه أو أصحابه - وإن شكل مؤسسة ذات شخصية معنوية - من طرق مخالفة لما يبيحه الشرع الإسلامي.
وفضلًا عن هذين النمطين من الامتلاك الذي قد يوفر لصاحبه أو أصحابه أرباحًا طائلة يعود توفيرها لهم على عدد أكبر منهم من الناس - مثل عمال الأرض وعمال المصانع - بالإجحاف بما يحرمهم من توزيع عادل لعوائد ما يبذلون من جهد أو كفاية تقنية أو مهارة صناعية أو خبرة فلاحية. هناك نوع من الملكية قد يتعين تحديده على ولي الأمر بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة وهو الملكيات الصناعية والفلاحية والعقارية الواسعة التي يكون منشأها حلالًا طيبًا ويكون أصحابها يحسنون استثماره إحسانًا يجعله ينتج أقصى طاقته الإنتاجية بيد أنهم لا ينفقون عوائدهم منه طبقًا لما رسمته الشريعة الإسلامية من طرائق وحدود نتيجة لذلك تنشًأ عن تصرفاتهم طبقة من المترفين من شأنها أن تحدث انقسامًا في المواطنين متباعد الآماد متمادي التفاوت لدرجة لا يمكن معها الاعتماد على التكييف الأخلاقي وحده لتلافي نتائجها النفسية ثم ما يسمى اليوم بالتفاوت الاجتماعي والصراع الطبقي.
على حين أن ولي الأمر إذا تصرف بمقتضى الإمامة في تلك الملكيات الواسعة بإعادة التوزيع يتلافى تلك النتائج الخطرة على السلم الاجتماعي للدولة دون أن يضر بالمستوى الاقتصادي للإنتاج.
ففي مثل هذه الحال وإذا رجح لدى ولي الأمر أنه إذا لم يعد توزيع تلك الملكيات سيواجه اختلالًا داخليًا خطيرًا وإذا وافقه المجتهدون من الفقهاء في تقدير ما يتوقعه من الاختلال ومعقباته له - وقد يكون واجبًا عليه - أن يعيد توزيعها وأن يعوض مالكيها عن الأقساط التي ينتزعها منهم ليوزعها على الآخرين بسعرها الحقيقي يوم انتزاعها في السوق الداخلية تعويضًا عاجلًا أو مقسطًا في الإطار الذي رسمناه آنفًا من ربط القيمة المؤجلة بسعرها من العملة أو العملات المستدل بها في أسواق القيم المالية العالمية على قيم العملات الخاصة والمؤثرة في قيم الأسهم والسندات.(4/1369)
ذلك بأن صيانة جميع أنواع الأمن الداخلي والخارجي وحمايتها من أسباب الاعتلال والاختلال مصلحة عامة تعلو على كل اعتبار.
يتحصل من كل ما سبق أن انتزاع الملك أو بالأحرى انتزاع حق المنفعة والانتفاع انتزاعًا كاملًا أو جزئيًا اعتبارًا للمصلحة العامة قد يكون واجبًا على ولي الأمر وقد يكون مندوبًا إليه تبعًا لاختلاف الحوافز والدواعي إليه والنتائج المترتبة عنه.
وعمادنا في ذلك أمران:
أحدهما هو ما سبق أن ألمعنا إليه أكثر من مرة أن علاقة الإنسان بما تحت يده من الأموال الثابتة والمنقولة إنما هي علاقة الخليفة بوظيفة الخلافة ومناطها تحقيق المنفعة والانتفاع باعتباره جزءًا من المجتمع الإسلامي وتحقيقهما للمجتمع الإسلامي أفرادًا وجماعات ومجتمعًا وكيانًا سياسيًا، فإذا أخل بهذه الوظيفة عن قصور أو تقصير أو انحراف عن قواعد الشرع الإسلامي فقد حقه أو بعض حقه وكان لولي الأمر - وقد يكون واجبًا عليه - بمقتضى الإمامة أن يتصرف التصرف الذي يعينه ويحدد مداه اعتبارالمصلحة العامة مقدرة بمقادير الشرع الإسلامي ومحددة بحدوده ومعالمه غير معتمدة في ذلك على اجتهاده وحده بل مستعينًا باجتهاد كل من الخبراء المتخصصين والفقهاء المجتهدين فنازلًا على حكمهم عند اتفاقهم متصرفًا باجتهاده في ترجيح أحد الآراء عند اختلافهم على أن يخالف آراءهم جميعًا وعلى أن لا يكون متأثرًا في اجتهاده بأي مؤثر خارجي من جدليات وأهواء ليست في أساسها ومصدرها على شيء من العلاقة بالإسلام وإن تراءت بعض مظاهرها غير غريبة عنه، فإن تأثر بشيء من تلك الجدليات وإن تأثرًا لم يتجاوز مجرد الإعجاب أو الاستحسان كان ذلك جارحًا في أهليته للاجتهاد يحظر عليه أن يقيم لاجتهاده أي اعتبار ويحتم عليه أن لا يعتمد إلا اجتهاد الخبراء التقنيين والفقهاء المجتهدين، فإن اختلفوا تعين عليه اعتماد ما قال به الجانب الأغلب إلا أن يكون الجانب الأقل معتمدًا على نصوص صريحة من الكتاب والسنة لا تتعارض في جوهرها مع الخبرة التقنية بينما يعتمد الجانب الأغلب على مفاهيم واجتهادات وطرائق من الأقيسة(4/1370)
والاستحسان والاستصحاب أو تقدير المصالح المرسلة. ففي هذه الحال عليه أن يأخذ برأي الجانب المعتمد على صريح نصوص الكتاب والسنة أو نصوص أحدهما ما لم تتعارض مع مقتضيات الخبرة التقنية المجمع عليها من الخبراء التقنيين وإن تكن هذه المقتضيات مرجوحة بالقياس إلى مقتضيات أخرى تساند رأي الفقهاء المجتهدين المستندين إلى مفاهيم واجتهادات مرجحين لها على بعض النصوص.
وثانيهما حديث "لا ضرر ولا ضرار".
وقد روي بأسانيد مختلفة بعضها متصل وبعضها مرسل وراق لبعضهم أن يريب فيه كما راق لآخر أن ينحرف بدلالته انحرافًا عجيب الشذوذ ونؤثر أن نسوق طائفة من ألفاظه وأسانيده قبل أن نقف عند تمحيص بعض ما تقول فيه المتقولون.
قال مالك (1) :
"حدثني يحيى عن مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) .
وقال الشافعي (2) :
"روى الشافعي أن مالكًا أخبره عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) .
وقال أحمد (3) :
"حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره والطريق الميتاء سبعة أذرع)) .
__________
(1) الموطأ. ص: 638. ح: 36.
(2) ترتيب مسند الإمام الشافعي ج: 2. ص: 134 و. ح: 442.
(3) الفتح الرباني. ج 15. ص: 110. ح: 354.(4/1371)
وقال أبو داود (1) : ((عن واسع بن حيان قال: كانت لأبي لبابة عذق في حائط رجل فكلمه فقال: إنك تطأ حائطي إلى عذقك فأنا أعطيك مثله في حائطك وأخرجه عني. فأبى عليه فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيه فقال: يا أبا لبابة خذ مثل عذقك فحزها إلى مالك واكفف عن صاحبك ما يكره فقال: ما أنا بفاعل فقال: اذهب فاخرج له مثل عذقه إلى حائطه ثم اضرب فوق ذلك بجدار فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار)) .
وقال ابن ماجه (2) : "حدثنا عبد ربه بن خالد النميري أبو المغلس، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار)) .
وحدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) .
وقال الدارقطني (3)
حدثنا محمد بن عمرو البختري، حدثنا أحمد بن الخليل حدثنا الواقدي، حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) .
وحدثنا أحمد بن محمد بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((للجار أن يضع خشبته على جدار جاره وإن كره والطريق الميتاء سبع أذرع ولا ضرر ولا إضرار)) .
__________
(1) المراسيل. ص: 207.
(2) السنن. ج: 2. ص: 784. ح: 0 234 و1 234
(3) السنن. ج: 4. ص: 227. ح: من 83 إلى 86.(4/1372)
حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا عباس بن محمد حدثنا عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا إضرار)) .
وحدثنا أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر بن عياش قال: أراه قال: عن ابن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرورة ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة على حائطه)) .
وقال البيهقي (1)
"أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل بن سليمان عن موسى بن عتبة بن أبي عياش، حدثني إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: ((إن من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى أن لا ضرر ولا ضرار)) .
أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنبأنا أبو عمرو بن نجيد، حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا أبو بكير، حدثنا مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) - وتعقبه البيهقي بقوله: هذا مرسل (وقد رويناه) في كتاب الصلح موصولًا -.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن وأبو محمد بن أبي حامد المقري وأبو صادق بن أبي الفوارس قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ العباس بن محمد الدوري حدثنا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي، حدثنا عبد العزيز بن محمد الداروردي عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه)) .
__________
(1) السنن الكبرى. ج:10. ص: 133 وج: 6. ص: 69 و70 و56 1 و57 1.(4/1373)
وتعقبه بقوله: تفرد به عثمان بن محمد عن الدراوردي ورواه مالك بن أنس عن عمرو بن يحيى عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) مرسلًا ".
لكن علق عليه بن التركماني بقوله: لم يتفرد به - يعني عثمان بن محمد عن الداروردي بل تابعه عبد الملك بن معاذ النصيبي فرواه كذلك عن الدراوردي كذا أخرجه أبو عمر - يعني ابن عبد البر - في كتابيه التمهيد والاستذكار.
ولم يتيسر لنا الإطلاع على الجزء الخاص بالعين مع الميم من تمهيد ابن عبد البر لأنه لم يكن قد طبع عند تحريرنا لهذا البحث وبذلنا غاية الجهد للإطلاع على النسخة الخطية أو صورة منها فلم يسعفنا الحظ.
ثم قال (1)
"أخبرناه أبو أحمد المهرجاني، أنبأ أبو بكر بن جعفر حدثنا محمد بن إبراهيم، أنبأ ابن بكير، أنبأ مالك فذكره.
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي المقري، أنبأ الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة حدثني إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت قال: ((إن من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى أن لا ضرر ولا ضرار)) .
وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع ابن سليمان، أنبأ الشافعي أن مالكًا أخبره عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) .
ونقل الطبراني عن الهيثمي في الأوسط (2) :
"وحديثًا عن جابر بن عبد الله قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) وتعقبه بقوله: وفيه ابن إسحاق وهو ثقة ولكنه مدلس.
__________
(1) السنن الكبرى. ج:10. ص: 133 وج: 6. ص: 69 و70 و56 1 و57 1.
(2) مجمع الزوائد. ج: 4. ص: 110.(4/1374)
وحديثًا عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) وتعقبه بقوله: وسمر ابن أحمد بن رشدين وهو بن محمد وهو بن محمد بن الحجاج بن رشدين وقال ابن عدي: كذبوه ".
قلت: لم أقف على هذا الاسم في الكامل لابن عدي.
وذكر بعض المعلقين أن الحاكم أخرجه كما ذكر آخر أنه في سنن أبي داود ولم أقف عليه رغم شدة البحث في المستدرك ولا في السنن ولعل الحاكم رواه في غير المستدرك أو في غير مظانه من المستدرك وكذلك أبو داود أو لعله في بعض الروايات لسننه وقد يكون بعضهم التبست عليه "المراسيل" "بالسنن" أو أن في بعض روايات (السنن) إدراجًا لرواية " المراسيل ".
ونقله المزي (1) :
"عن النسائي عن محمد بن يحيى عن عبد الرزاق عن معمر عن عكرمة عن ابن عباس ".
وذكر أن النسائي أخرجه في الأحكام (الباب: 17. ح: 2) لكنا لم نجده في السنن ويظهر أنه نقله من "السنن الكبرى" إذ سبق أن نقل عنه حديثين قبل هذا ووضع المحقق أمام الحديث الأول كلمة الكبرى بين قوسين واللفظ الذي نقله المزي هو "لا ضرر ولا ضرر ".
ولقد أبدأ وأعاد كل من نقدة الحديث ومقلدة الفقهاء وشذاذ المبتدعة الذين يحكمون العقل البشري في التشريع ويرجحون الأحكام العقلية على النصوص الشرعية المقطوع بها وعلى غيرها من الأدلة المعتمدة شرعًا إذا تعارضت تلك الأحكام معها.
__________
(1) تحفة الأشراف. ج: 5. ص: 119. ح: 6016.(4/1375)
ومرد هذا الإبداء والإعادة وذلك الاضطراب والالتباس أو الانحراف إلى خطر القاعدة التي يقرها الحديث الشريف، إذ يظهر أن المتمسكين بحرفية قواعد "الجرح والتعديل " وشكلية مناهجه الذين لم تبلغهم بعض طرق الحديث حاولوا أن يغمزوا فيه بالإرسال والانقطاع دون أن يميزوا بين الطرق المرسلة أو المنقطعة والقرائن التي ترجحها أو تضعفها، ومن هؤلاء من يترجح من الاستدلال بالحديث المرسل أو يرفضه وهو موقف ليس هذا مجال مناقشته وإن كنا لا نقرة ومنهم من يؤرجح بين (المراسيل) فيأخذ بالبعض ويترك البعض حسب اجتهاده في توثيق بعض المرسلين والتحرج من غيرهم وذلك شأنه فله اجتهاده.
بيد أننا نعتمد الحديث المرسل إذا أرسله تابعي ثقة أيًا كان فكيف بمن هو بمنزلة رجال مالك أو في مقام الحسن بن أبي الحسن ومن على شاكلة هؤلاء؟ ذلك بأن توثيقهم يقتضي تلقائيًا اعتماد ما وثقوا به إذ أن أصحاب "الجرح والتعديل" أنفسهم كانوا يتشددون في التوثيق أو كذلك كان الجيل الأول منهم فلا يصفون أحدًا منهم بأنه ثقة لمجرد أنه مشهود له بالصدق بل لأنه فضلًا عن ذلك ممن يرتضون دينه بل إن بعضهم يشترط أيضًا أن لا يكون ممن يعتمد على الكتابة إذ كانوا يرون أن الذين يعتمدون على الكتابة يمكن أن لا يكون سماعهم مباشرة وإنما يحدثون عن طريق النقل وهذا جارح عند هؤلاء وما من أحد من أهل "الجرح والتعديل"، يستطيع أن يغمز وإن في سريرته في
أمثال الحسن بن أبي الحسن ومالك وأحمد رضوان الله عليهم جميعًا فكيف يجوز أن نتحرج من مراسيلهم لا سيما من التزم منهم بمثل ما التزم به مالك من التحرج الشديد فيما يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنقيحه مرة بعد مرة لكتابه الجليل "الموطأ" من مآثره التي تداولتها بإجماع ألسنة النقلة ومدونات السير وتراجم الرجال.
ويحيى بن عمارة المازني وابنه عمرو اللذان أسند اليهما مالك وغيره هذا الحديث روى عنهما الجماعة وممن أجمعوا على توثيقهم فلماذا يحاول البعض أن يريب في الحديث لمجرد أن يحيى لم يذكر عمن رواه من الصحابة مع أن ممن روى عنهم أبا سعيد الخدري (1) وقد رفع إليه غيره الحديث.
أما نحن فنعتمد رواية مالك "المرسلة" لما يشهد لها من رواية غيره "المرسلة" أكثر مما نعتمد الرواية الموصولة وإن كنا لا نرى فيها مغمزًا.
__________
(1) انظر ابن حجر تهذيب التهذيب. ج: 11. ص: 259. ح: 520.(4/1376)
ثم إننا لا نعجب من تضعيفهم لبعض الأسانيد التي أسند بها هذا الحديث لمجرد أن من رجالها من تكلموا فيه بما لا يبلغ حد الغمز في دينه أو في حفظه عامة مع أن هذه الأسانيد تدعمها الأسانيد التي لم يغمزوا فيها إلا بالإرسال أو الانقطاع دعما نعتبره وأمثاله شهادة دامغة على صحة الحديث صحة لا يغمز فيها أن وجد بين بعض من أسندوه من قال فيه النقدة كلامًا لم يبلغ درجة الاتهام بالوضع والكذب أو بالدعوة الجاهرة إلى بدعة أو نحلة ذلك بأن المبالغة في تقصي أحوال الرجال لو طبقناها في جميع المحدثين ومنهم بعض التابعين لكان لنا مقال في نفر من كبار من وثقوه من الطبقة الأولى والثانية والثالثة من التابعين ولكنا نبرأ إلى الله من أن نجرِّح أحدًا لشيء قد يثبت عنه وقد لا يثبت مما يتصل بحياته الخاصة وسلوكه الشخصي أو برأي شخصي له لم يتخذ الدعوة إليه دأبًا ومهمة مما لا يتصل بالصدق في النقل وبالدقة والضبط لما ينقل.
ومن عجب أنهم ربما لم يتحرجوا من بعض النقلة الذين عرفوا باللحن أو بعدم التدقيق في ضبط ما ينقلون واعتذروا لهم بأنهم أخطأوا في سماع بعض الألفاظ أو في قراءته من "الكتاب" أمام المؤلف أو بالإجازة أو المناولة منه واعتمادًا على هذا العذر يقبلون حديثه مع أن الخطأ في قراءة شكلة أو رواية نقطة فضلًا عن حرف قد تؤثر في المعنى وقد تغيره جوهريا وقد ينشأ عنه اختلاف في الدلالة أو قرينة المناط.
مهما يكن فليس هذا مجال بسط القول في رأينا وموقفنا من بعض "مقولات " نقدة الحديث ولعلنا سنبسطه في مجال آخر نفرده له، إنما عرضنا له الآن ونحن في أواخر مراحل هذا البحث لنوضح معالم منهجنا في الاستدلال ببعض الأحاديث التي قد يلتبس استدلالنا بها على بعض مقلدة النقدة وليس خطر هؤلاء على السنة وفهمها والاستدلال بها واستنباط الأحكام منها بأقل من خطر المتفقهة المقلدة ولأمر ما كان أحمد - رحمه الله - يفضل الأخذ بالحديث الضعيف على الأخذ بالرأي.(4/1377)
وآخرون اتخذوا من هذا الحديث أساسًا لأقيسة فيها حتى لأوشكوا أن يبلغوا إلى تعطيل الحدود وغيرها من الأحكام المنصوص عليها لأتفه الأسباب وخطر هؤلاء هو أن النهج الذي سلكوه يجعل من هذا الحديث أداة لتعطيل حدود وأحكام يؤدي تعطيلها إلى اعتبار جوانب من التشريع الإسلامي كما لو أنها تجاوزتها الأحداث فأصبحت مجرد نمط من تاريخ التشريع وجل هؤلاء من متأخري المتفقهة المقلدة إذا لم نقل "المتفيقهة" الذين استهوتهم نزعات تظاهرت على غزو الأمة الإسلامية من يمين ويسار منشأ فلسفات بعضها عقلي مجرد وبعضها ذرائعي انتهازي وصعب على بعضهم أن يندفع معها متجردًا صراحة من الإسلام وحسن لآخرين أن يحاولوا التوفيق بينها وبين الإسلام رغبة منهم في أن لا يظهر الإسلام كما لو أنه غير قابل للتطبيق في هذا العصر فاتخذ هؤلاء وأولئك معًا هذا الحديث قاعدة لمحاولات توفيق من هؤلاء وتسويغ من أولئك بين الإسلام وتلك النزعات والجدليات إذا لم نقل تلك النزوات والنزعات فضلوا وأضلوا ومرد ضلالهم إلى أنهم لم يعايشوا السنة النبوية فضلًا عن النصوص القرآنية معايشة خالصة ووعي واستيعاب ومنهم من يرجع إلى القرآن الكريم حين يضطر إلى الرجوع إليه مهتديًا بمعاجم ألفاظه أو ببعض مؤلفات وضعها المستشرقون لتصنيف آياته الشريفة طبقًا لموضوعاتها وفاتهم أن دلالة الآية لا تتم ولا تنجلي إلا في ارتباطها بما قبلها وبما بعدها في أغلب الأحيان.
ويرجع إلى السنة النبوية - إذا رجع إليها في غير كتب الفقهاء - معتمدًا على بعض المختصرات التي تعتمد في الاختصار على تجريد الحديث من السند ولم يدركوا أن الحديث المجرد من السند لا يصلح للاستدلال به لأن دلالته تعتمد على رتبة السند قوة وضعفًا كما تعتمد على المقارنة بين متونه التي يغفل أصحاب المختصرات إيرادها جميعًا مقتصرين على واحد منها وقد يكون طرفًا من حديث طويل لا يستقيم الاستدلال به إلا بفهمه في إطار الحديث كله وهذا أيضًا مجال من القول في طريقة الاستدلال بالحديث مما قعد الأصوليون بعضه وقعد المحدثون بعضه وأغفل المقلدة المتفقهة خفه ليس بسطه من شأن هذا البحث.(4/1378)
وأخطر من كل من سبقت الإشارة إليهم ممن اضطربوا في الاستدلال بهذا الحديث أو جنحوا به ضال مضل ما كنا لنعرض له أو نقيم له وزنًا لولا أن بعض المعاصرين - نرجح أن منهم من في موقفه من الإسلام دخل - أهمهم أمره فخبوا وأوضعوا في عرض وتحليل آرائه ومن أسف أن منهم من اعتمدها.
هذا الضال المضل هو سليمان بن عبد القوي الطوفي أحد الذين كتبوا في أصول الفقه وفروعه وفي التصوف في أوائل النصف الثاني من القرن السابع الهجري ومن عجب أن ينسب أو ينتسب إلى مذهب أحمد والله يشهد أن أحمد - رحمه الله - ومن اعتصم بمنهجه من الفقهاء والمحدثين براء منه وتدل القرائن والشواهد على أنه شيعي رافضي وهو بالشيعة الروافض أشبه.
وقد كان حريًا بهذا الدعي لأهل السنة وما هو منهم أن يطويه النسيان وما كتب لولا أن فتن به بعض المعاصرين وفي طليعتهم الدكتور مصطفى زيد الذي ابدأ وأعاد في الترجمة له وتحليل مزاعمه وأباطيله ونشر جانبًا منها في كتابه " المصلحة في الشريعة الإسلامية ونجم الدين الطوفي". ومعاذ الله أن يكون الطوفي نجمًا من نجوم الدين.
وكان من مزاعم هذا الضال ما تقوله حول حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) من أنه قاعدة ينطلق منها إلى ترجيح المصلحة المجردة على النص الصريح أو الإجماع إذا تعارضت معهما.
وجلي أنه ما من عالم واع يدرك سرائر الفروق بين ما مرجعه إلى هداية الله وإرشاده وما مرجعه إلى إدراك العقل واجتهاده يسيغ له وعيه أن يحكم نتاج العقل المجرد وهو بعض ما خلق الله على شريعة الله اللطيف الخبير بما خلق العليم الحكيم فيما شرع الذي لا تحده الحدود الزمنية ولا المكانية ولا البيئوية. فلو كان للعقل المجرد أن يتحكم في شرع الله لكان للإنسان أن يصبح في غنى عن شرائع الله إذا بلغ مرحلة معينة من التطور العقلي وهل يقول بهذا مسلم؟ بل هل يقول بهذا عالم واع وإن كان غير مسلم؟(4/1379)
ونحن إذ نعرض لكل هذا الذي عرضنا له في الفقرات السابقة إن نريد إلا أن نرسم المعالم الدقيقة للنهج الذي نعتمد في تقرير أن لولي الأمر بما له من حق التصرف بمقتضى الإمامة أن يتحكم كليًا أو جزئيًا اعتبارًا للمصلحة العامة فيما في أيدي الناس من الأموال الثابتة أو المنقولة في نطاق الضوابط والقيود التي أوضحناها فيما سبق بما نعتقد أن فيه كفاية التحديد والتبيان.
وللمزيد من رفع الألباس التي أوقعت في المحاذير الخطرة بعض المتفيقهين المعاصرين ومن قبلهم بعض المتفقهة المقلده حول الاعتماد على حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) في تقدير وضبط العلاقة بين المصلحة والنص نقتبس كلامًا شريفًا للعلامة المحقق المعاصر الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه البديع الجامع ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" (1) :
" ... على أن الباحث في أمر تخالف المصلحة مع النص أن ينتبه إلى حقيقتين مهمتين:
الأولى: أن المصلحة التي تخالف النص تنقسم إلى مصلحة مجردة لا شاهد لها في أصل المعتبر وهي "المرسلة" وإلى مصلحة لها شاهد معتبر وهي ما استند إلى دليل القياس.
الثانية: أن التخالف بينهما إما أن يكون تخالف معارضة بحيث لا يمكن الجمع بينهما وإما أن يكون تخالفًا جزئيًا بحيث يمكن الجمع بينهما بتخصيص ونحوه.
فأما المصلحة التي لا شاهد لها من أصل تقاس عليه فلا يجوز اعتبارها عند مخالفة النص لها سواء كانت مخالفة كلية أو جزئية أو غيره وسواء كان النص قطعيا أو غير قطعي أجمع على هذا كافة (2) الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب ومثلها المصلحة القائمة على أساس القياس إذا عارضت نصا قطعيا كأية صريحة من القرآن أو سنة متواترة فهو قياس فاسد لا يؤخذ به، أجمع على ذلك أيضًا عامة المسلمين ".
وعندي أن القياس يكون فاسدًا أيضًا إذا عارض نصًا راجحًا أحديًا لا سيما إذا كان مستفيض الشهرة.
__________
(1) ص:200 و201.
(2) التعبير السليم الذي يتفق مع تواضيع عليه أئمة البيان أن يقال: أجمع على هذه الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب كافة.(4/1380)
ثم قال:
"وأما المصلحة التي لها شاهد من أصل معتبر تقاس عليه وكان بينها وبين النص تخالف يمكن إزالته من طريق التخصيص أو كان بينهما وبين النص تعارض ولكنه نص غير قطعي كخبر الآحاد ".
قلت: وقد أوضحت منذ قليل رأييَّ فيه.
" فالأمر في هذا خاضع لاجتهاد العالم المتثبت لأنه في حقيقته اجتهاد في توفيق النصوص مع بعضها لا في ترجيح مصلحة مجردة على نص.
وكل ما استند إليه بعض الكاتبين لتجويز تقديم المصلحة المجردة على النص في بعض الحالات من اجتهادات وفتاوى الأئمة فإنما هو من هذا النوع وليس فيه أي شاهد على ما يريدون ".
قلت: وقد بينا فيما سبق أن الاجتهاد في مسائل المعاملات وما شاكلها مما لا يتصل بشؤون العبادة غير المعقولة المعنى يجب أن يكون اجتهادًا جماعيا يشترك فيه الخبراء في الموضوع الذي يتصل به الاجتهاد مع الفقهاء المؤهلين للاجتهاد لأن ظروف الحياة الإنسانية أو بالأحرى الطور الذي صارت إليه الحضارة الإنسانية جعلت حياة الإنسان المادية على حال من التشعب والتعقيد يتعذر معها وقد يستحيل على الفرد الواحد مهما بلغ علمه من السعة والشمول أن يحيط بكل الدقائق والملابسات والعواقب التي يجب اعتبارها عند الاجتهاد لإصدار حكم في شأن مما يتصل بها، وهذا مظهر آخر من مظاهر رأينا في تحكم الظرفية فيما يتعين من الاجتهاد في الشؤون الحضارية المعاصرة. وقد عرض عدد من الأصوليين والفقهاء إلى الجانب الزماني من موضوع "الظرفية " وقل منهم من عرض عرضًا بوضوح للجانب البيئوي وهو في رأينا أبعد خطرًا وأعمق أثرًا من الجانب الزماني. فقد يمتد الزمان بقطر أو جماعة أحقابًا وأعصرًا ولا يكون تطورها الحضاري مواكبًا لذلك الامتداد بل قد يكون متوقفًا أو شبه متوقف فينعدم تأثير الظرفية الزمنية في تكييف أي اجتهاد يتصل بشؤونها الحياتية أو يكاد. على حين قد يسرع التطور الحضاري بأقطار أو جماعات أخرى بما يشبه مسابقة الزمن حتى لا تشبه أطوارها "الانقلابات" أو ما يقرب منها وحتى تصبح حياتها في فترات قصار شبه مقطوعة الصلة بما كانت عليه كلما أعقبت فترة غيرها.(4/1381)
وفي مثل هذه الحال يكون للظرفية البيئوية أن تتحكم في تعيين طرق الاجتهاد وأساليبه كلما عرضت قضية أو استجد أمر يتعين معها أو معه الاجتهاد في حكمه أساسًا أو في طريقة تطبيقة الحكم عليه وفي كيفية التطبيق.
وقد أبدع ابن القيم - رحمه الله - فشفى وأعجز في بيان تأثير الظرفية - بيئوية وزمنية - في تحديد وتكييف طرائق استنباط الأحكام وتطبيقها فقال (1) وهو يشرح مسألة الطلاق الثلاث وما استحدثه عمر - رضي الله عنه - من موقف بشأنها وكيف أن هذا الموقف لا ينبغي اعتباره أساسًا لا محيد عنه حين يتبين أن الأسباب المؤدية أو المناطات المعتبرة له لم تعد قائمة:
"والذي ندين الله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان لا راويه ولا غيره إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو لا يحضره وقت الفتيا أولا يتفطن بدلالته على تلك المسألة أو يتأول تأويلًا مرجوحًا أو يقوم في ظنه عما يعارضه ولا يكون معارضًا في نفس الأمر أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه ولو قدر انتفاء ذلك كله ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه لم يكن الراوي معصومًا ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيأته حسناته وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك".
ثم قال:
" إذا عرفت هذا فهذه المسألة - يعنى إيقاع الطلاق الثلاث باللفظ به مرة واحدة - مما تغيرت الفتوى بها بحسب الأزمنة كما عرفت لما رأته الصحابة من المصلحة لأنهم رأوا مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تدفع إلا بإمضائها عليهم فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع ولم يكن باب التحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله مفتوحًا بوجه ما، بل كانوا أشد خلق الله في المنع منه وتوعد عمر فاعله بالرجم وكانوا عاملين بالطلاق المأذون فيه وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في عين الدين وشجى في حلوق المؤمنين من قبائح تشمت أعداء الدين به وتمنع كثيرًا ممن يريد الدخول به في سببه بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب ولا يحصرها كتاب يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح ويعدونها من أعظم الفضائح فقد قلبت من الدين رسمه وغيرت منه اسمه وضخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل وقد زعم أنه طيبها للحليل".
إلى أن قال (2) :
" ... فألزمهم عمر بالطلاق الثلاث إذا جمعوها ليكفوا عنه إذ أن المرأة تحرم به وأنه لا سبيل إلى عودها بالتحليل، فلما تغير الزمان وبعد العهد بالسنة وآثار القوم وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس فالواجب أن يرد الأمر إلى ما كان عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل أو يقللها ويخفف شرها، إذا عرض على من وفقه الله وبصره بالهدى وفقهه في دينه مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل ووازن بينهما تبين له التفاوت وعلم أي المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين".
__________
(1) أعلام الموقعين. ج: 3. ص: 52.
(2) أعلام الموقعين. ج: 3. ص: 52.(4/1382)
وواضح لكل ذي عقل بصير وإدراك سليم وذوق في شؤون الشريعة قادر على النفاذ إلى سرائرها ومكامن المناط منها أن ملاك الأمر في هذا الشأن وفي كل شأن من شؤون الاجتهاد هو اعتبار المصلحة في نطاق المعايير الشرعية سواء كانت عامة أو فردية وأن اعتبار المصلحة مرده إلى أولي الأمر ممن إليهم المرجع في تبيان الحكم إن كان مما يتصل بالفتوى أو ممن إليهم المرجع في تنفيذه وتحديد موجباته وتقدير ظروفه إن كان مما يتصل بالشؤون العامة وهذا النوع خاصة هو ما يعنينا في هذا البحث وقد أطلق عليه في العصور المتأخرة لفظ "سياسة"، أو " السياسة الشرعية " ولا نذكر أننا عثرنا على هذه العبارة في تعابير الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد الأول ولكنا نجدها آخذة في الشيوع من حوالي القرن الخامس الهجري حتى أصبحت بابًا جليلًا من أبواب الفقه، وقد عقد لها ابن القيم فصلًا جليلًا وقال فيه كلامًا شريفًا تدعو الحاجة إلى استكمال عناصر التبيان لموقفنا في هذا البحث إلى أن نقتطف منه ما يلي:
قال - رحمه الله - (1) :
" في معرض العمل بالسياسية".
__________
(1) أعلام الموقعين. ج: 4. ص: 373 و375.(4/1383)
" وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء بن عقيل وبين بعض الفقهاء فقال ابن عقيل: العمل بالسياسة هو الحزم ولا يخلو منه إمام وقال الآخر: لا سياسية إلا ما وافق الشرع فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي فإن أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغلط للصحابة- لعل الصواب وتغليط للصحابة- فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير ولو لم يكن إلا تحريق للمصاحف- لعل صوابه: إلا تحريق عثمان للمصاحف – كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة وكذلك تحريق علي كرم الله وجهه الزنادق في الأخاديد ونفي عمر نصر بن حجاج.
قلت – القائل ابن القيم -: هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام وهو مقام ضنك في معترك صعب فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وجرأوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد وسدوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يعرف بها الحق من الباطل وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر بل قد بين مما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها وإنما تراد غاياتها التي هي المقاصد ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها ولن تجد طريقًا من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك ولا نقول إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي وإلا فإذا كانت عدلًا فهي من الشرع ".(4/1384)
ثم ساق أمثلة من أحكام وأقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم تدعم هذا الذي قرره، ثم قال:
" وتقسيم بعضهم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة وتقسيم آخرين الدين إلى عقل ونقل وكل ذلك تقسيم باطل بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل، كل ذلك ينقسم إلى قسمين صحيح وفاسد، فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها والباطل ضدها ومنافيها وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها وهو مبني على حرف واحد وعموم رسالته صلى
الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معرافهم وعلومهم وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده وإنما حاجته من يبلغهم عنه ما جاء به فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه في أصول الدين وفروعه فرسالته كاملة شافية عامة لا تحوج إلى سواها ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به ".
وقد التبس على بعض المعاصرين من أساتذة وأصدقاء نجلهم ونقدر صدق إخلاصهم وسلامة إصدارهم وإيرادهم فيما يتخذون من مواقف التمييز بين اعتماد الشارع للمصلحة أساسًا ومناطًا ما ورد في جزئيات الشرع من النهي عن أشياء قد يبلغ البعض منها حد المنكرات مع أنه لا مناص من إغفال اعتبارها لتحقيق بعض ما يقره مبدأ اعتبار المصلحة الأساس المهيمن والقاعدة المحكمة في تطبيق مبدأ التصرف بمقتضى الإمامة اعتبارًا للمصلحة العامة.(4/1385)
وقد واجه الشاطبي - رحمه الله - - وربما من بعض معاصريه مثل هذا الالتباس فأوضح في رفعه - أبدع إيضاح وأروعه وذلك دأبه - حقيقة موقف الشرع منه وكيفية مواجهته له فقال وهو يشرح القواعد المتفرعة عن أصل أن "النظر في مآلات الأشياء معتبر مقصود شرعًا " إلى آخره مما سبق أن نقلناه عنه (1) :
" ومن هذا الأصل أيضًا تستمد قاعدة أخرى وهي أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية والتكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضي شرعًا فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات وكثيرًا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز ولكنه غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكير يسمعها ويراها وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور من أصولها لأنها أصول الدين وقواعد مصالح وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمها حق الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله والحاصل أنه مبني على اعتبارات مآل الأعمال فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق. والله أعلم".
ولابن القيم - رحمه الله - كلام شريف في هذا الشأن قال (2) :
__________
(1) الموافقات. ج: 4. ص: 210 و211.
(2) أعلام الموقعين. ج: 3. ص: 147 وما بعدها.(4/1386)
" لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن بها بحسب إفضائها إلى غاياتها فوسيلة المقصر تابعة للمقصود وكلاهما مقصود ولكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له ومنعًا أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم وإغراء للنفوس به وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد مناقضًا وحصل من رعيته وجنده ضد مقصودة وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه عن الطرق والذرائع الموصلة إليه وإلا فسد
عليهم ما يرومون إصلاحه فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها والذريعة ما كان وسيلة أو طريقًا إلى شيء".
ثم ذكر أن الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان: أحدهما، أن يكون وضعه الإفضاء إليها والثاني، أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه وساق أمثلة للقسمين ليس هذا مجالها.
ثم قال:
"ثمن هذا القسم - يعني الثاني - من الذرائع نوعان: أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته فها هنا أربعة أقسام. الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة.
الثاني: وسيلة موضوعة للمباح يقصد بها التوصل إلى المفسدة. الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوصل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها. الرابع: وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها.(4/1387)
ثم قال:
" فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم - يعني الرابع - أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة بقي النظر القسمين الوسط هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ ".
ثم ساق تسعة وتسعين وجهًا في بيان منع القسم الثاني والثالث وهما وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوصل إلى المفسدة ووسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوصل إلى المفسدة ولكنها مفضية إليه غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها.
ثم قال (1)
"وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف فإنه أمر ونهي. والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه والثاني وسيلة إلى المقصود. والنهى نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين ".
ولعل الأشواط التي قطعناها في هذا البحث قد رسمت بأبين ما يكون الرسم وأوضحه وأدقه تحديدًا لمعالم موقفنا من قضية " انتزاع الملكية للمصلحة العامة! من أنها قضية قد تكون ضرورية في هذا العصر وقد تكون حاجية وقد تكون تكميلية تعين اعتبارات المصلحة العامة صفة كل واقعة من وقائعها على هدى المعايير الشرعية وقد لا تدعو الحاجة إليها إذا كان الالتجاء إليها لمجرد مسايرة الغير ومشاكلته وقد تكون منكرًا ظلما إذا كان الداعي إليها تسليط تطبيق جدلية لا علاقة لها بالشرع الإسلامي على المسلمين وربما كانت قاعدتها مناهضة للشرائع السماوية وتسفيهها ومحاولة تدمير كياناتها وملاك التمييز بين كل واقعة وأخرى هو الصبغة المهيمنة على تصرف ولي الأمر وعلى طبيعة سياسته التشريعية والتطبيقية فإذا كان مسلما ملزمًا باعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا لفكره التشريعي ومعيارًا لسلوكه لا ينحرف عنها ولا يحيد كان تصرفه بمقتضى الإمامة إذا التزم فيه اجتهادًا جماعيًا من الخبراء التقنيين والفقهاء المجتهدين ومن بصره هو بملابسات الأمر ودواعيه وعواقبه تصرفًا مشروعًا تجب الاستجابة له ولا يجوز أن يخالف أو ينكر عليه من أي كان حتى وإن كان من بعض الفقهاء والمجتهدين الذين لم يتفق معهم في الرأي ووافق على غيرهم من أقرانهم لأن المخالفة والإنكار في هذه الحال على ولي الأمر قد تؤدي إلى الفتنة أو حتى إلى مجرد التشكيك في شرعية تصرفه مما ينجم عنه اختلال أو اعتلال في وحدة الرأي والسلوك الضروريين لرسوخ الأواصر بينه وبين الرعية.
ولعل من تمام الفائدة في إيجاز المجالات التي يتعين في أغلب الأحوال على ولي الأمر أن يتدخل بالتصرف كليًا أو جزئيًا فيما في أيدي الأفراد مما استخلفهم الله تعالى فيه للتصرف والتصريف ابتغاء المنفعة والانتفاع لهم وللمجتمع الإسلامي أن ننقل كلامًا
شريفًا لابن تيمية أوجز فيه أغلب الدواعي والموجبات لهذا النمط من تصرف ولي الأمر.
قال - رحمه الله - (2) :-
" بذل المنافع والأموال سواء كان بطريق التعوض أو بطريق التبرع ينقسم إلى واجب ومستحب وواجبها ينقسم إلى فرض على العين وفرض على الكفاية. فأما ما يجب من التبرعات - مالًا ومنفعة - فله موضع غير هذا وجماع الواجبات المالية بلا عوض أربعة أقسام مذكورة في الحديث المأثور ((أربع من فعلهن فقد برئ من البخل: من آتى الزكاة وقرى الضيف ووصل الحرم وأعطى في النائبة)) (3) . ولهذا كان حد البخيل من ترك هذه الأربعة في أصح القولين لأصحابنا اختاره أبو بكر وغيره ".
ثم قال:
" وأما الواجبات المنفعية بلا عوض فمثل تعليم العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصر المظلوم وهي كثيرة جدًا وعامة الواجب في منافع البدن".
__________
(1) أعلام الموقعين. ج: 3. ص: 147 وما بعدها.
(2) مجموع الفتاوى. ج: 29. ص: 185 إلى 196.
(3) لم أقف على حديث بهذا اللفظ.(4/1388)
ثم قال:
" وأما المنافع المالية وهي كمن اضطر إلى منفعة مال الغير كحبل ودلو يستقي به ماء يحتاج إليه وثوب يستدفئ به من البرد ونحو ذلك فيجب بذله لكن هل يجب بذله مجانًا أو بطريق العوض كالأعيان فيه وجهان. وحجة التبرعة متعددة كقوله تعالى {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (1) ففي سنن أبي داود عن ابن مسعود قال: كنا نعده عارية
القدر والدلو والفأس (2) وكذلك إيجاب بذل منفعة الحائط للجار إذا احتاج إليه على أصلنا المتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من المواضع، ففي الجملة ما يجب إيتاؤه من المال أو منفغة أو منفعة البدن بلا عوض له تفصيل آخر في موضع آخر ولو كان كثير من الفقهاء مقصرين في علمه بحيث ينفون وجوب ما صرحت الشريعة بوجوبه ويعتقد الغالط منهم أن لا حق في المال سوى الزكاة أن هذا عام ولم يعلم أن الحديث المروى في الترمذي عن فاطمة أن في المال حقا سوى الزكاة (3) ومن قال بالأول أراد الحق المالي الذي يجب بسبب المال فيكون راتبًا وإلا فنحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله قد أوجب إيتاء المال في غير الزكاة المفروضة في مواضع مثل الجهاد بالمال عند الحاجة والحج بالمال ونفقة الزوجة والأقارب والمماليك من الآدميين والبهائم ومثل ما يجب من الكفارات من عتق وصدقة وهدي، كفارات الحج وكفارات الأيمان والقتل وغيرها وما يجب من وفاء النذور المالية إلى غير ذلك بل المال مستوعب بالحقوق الراتبة أو العارضة بسبب من العبد أو بغير سبب منه وليس هذا موضع تفصيل هذه الجملة".
ثم قال:
"ونحن نعلم قطعًا أنه إذا كان إيتاء المال أو المنفعة بلا عوض واجبًا بالشريعة في مواضع كثيرة جدا لأسباب اقتضت الإيجاب الشرعي وليس ذلك من الظلم الذي هو أخذ حق الغير بغير حق فلأن يكون إيتاء المال والمنفعة بعوض واجبًا في مواضع أولى وأحرى بل إيجاب المعاوضات أكثر من إيجاب التبرعات وأكبر فهو أوسع منه قدرًا وصفة. ولعل من استقراء الشريعة تبين له أن المعاوضة إذا احتاج المسلمون إليها بلا ضرر يزيد على حاجة المسلمين وجبت، فأما عند عدم الحاجة ومع حاجة رب المال الكافية لحاجة المعتاض فرب المال أولى فإن الضرر لا يزول بالضرر والرجل أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين و"ابدأ بنفسك ثم بمن تعول "
__________
(1) الآية الأخيرة من سورة الماعون.
(2) لفظه عند أبي داود (السنن. ج: 2. ص: 124. ح: 1657) : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق عن عبد الله قال: كنا نعد – الماعون على عهد رسول الله عارية الدلو والقدر.
(3) انظر البند (12) .(4/1389)
هذا الحديث روي عن عده طرق حتى لقد بلغ رتبة المتواتر أو كاد.
وقد ارتأينا أن نقتصر على حديثين رواهما البخاري في كتاب الزكاة مع ذكر من أخرجهما غيره نقلًا عن المزي. قال البخاري (ج: 2. ص: 117) : حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله عن يونس عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول)) . وقال المزي (تحفة الإشراف. ج:.1. ص: 68. ح: 13340) : حديث: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول. خ في الزكاة (18: 1) عن عبدان عن عبد الله – س فيه (الزكاة 60: 3) عن عمرو بن بن سواد عن ابن وهب - كلاهما عنه به. وقال البخاري (نفس المرجع) : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب، حدثنا هشام عن أبيه عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة عن ظهر غنى ومن يستعف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله)) . وعن وهيب قال: أخبرنا هشام عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بهذا. وقال المزي (نفس المرجع. ج: 3. ص: 78. ح: 3433) : حديث: اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول ... الحديث. خ في الزكاة (18: 2) عن موسى بن إسماعيل عن وهيب عن هشام بن عروة عن أبيه. روى عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وسيأتي (ح 14131) . .
ثم قال:
"وبالجملة فوجوب المعاوضات من ضرورات الدنيا والدين أن الإنسان لا ينفرد بمصلحة نفسه بل لا بد له من الاستعانة ببني جنسه، فلو لم يجب على بني آدم أن يبذل هذا لهذا ما يحتاج إليه وهذا لهذا ما يحتاج إليه لفسد الناس
وفسد أمر دنياهم ودينهم فلا تتم مصالحهم إلا بالمعاوضة وصلاحها بالعدل الذي أنزل الله له الكتب وبعث به الرسل ".(4/1390)
ثم قال:
" وعلى هذا فإذا احتاج المسلمون إلى الصناعات كالفلاحة والنساجة والبناية فعلى أهلها بذلها لهم بقيمتها كما عليهم بذل الأموال التي يحتاج إليها بقيمتها إذ لا فرق بين بذل الأموال وبذل المنافع بل بذل المنافع التي لا يضر بذلها أولى بالوجوب معاوضة ويكون بذل هذه فرضًا على الكفاية وقد ذكر طائفة من العلماء ومن أصحابنا وغيرهم أن أصول الصناعات كالفلاحة والحياكة والبناية فرض على الكفاية والتحقيق أنها فرض عند الحاجة إليها وأما مع الإمكان عن الاستغناء عنها فلا تجب، وهذه حكينا بيعها فإن من يوجبها بالمعاوضة لا تبرعًا فهو إيجاب صناعة بعوض لأجل الحاجة إليها وقوله عند الحاجة فإن المسلمين قد يستغنون عن الصناعة بما يجلبونه أو
يجلب إليهم من طعام أو لباس والأصل أن إعانة الناس بعضهم لبعض على الطعام واللباس والسكنى أمر واجب وللإمام أن يلزم بذلك ويجبر عليه ولا يكون ذلك ظلما بل إيجاب الشارع للجهاد الذي فيه المخاطرة بالنفس والمال لأجل هداية الناس في دينهم أبلغ من هذا كله فإذا كانت الشجاعة التي يحتاج المسلمون إليها والكرم الذي يحتاج المسلمون إليه واجبًا فكيف بالمعاوضة التي يحتاج المسلمون إليها ولكن أكثر الناس يفعلون هذا بحكم العادات والطباع وطاعة السلطان غير مستشعرين ما في ذلك من طاعة الله ورسوله وطاعة أولي الأمر فيما أمر الله بطاعتهم فيه ".
ثم ختم هذا الكلام القيم بقوله:
" والإمام العدل تجب طاعته فيما لم يعلم أنه معصية وغير العدل تجب طاعته فيما علم أنه طاعة".
ونعتقد أنه ليس بعد كل ما أسلفناه من نقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وكبار أئمة الاجتهاد مجال للريب أو التردد في أن استحقاق الإنسان لخلافة الله فيما لديه من الثابت والمنقول رهن بقيامه بوظيفة الخلافة في تحقيق المنفعة والانتفاع للمجتمع الإسلامي بالتصرف فيه وتصريفه في نطاق ضوابط الشرع الإسلامي وطبقًا لمقتضياته.
وفي أن من صميم واجبات ولي الأمر رعاية ذلك وحسن توجيهه بالإرشاد وبالتدخل لتصحيح سيره وتقويم مساره عند الحاجة إلى مثل هذا التدخل ثم بالتدخل لتحويل التصرف والتصريف إذا تعين تحويلهما اعتبارًا للمصلحة العامة
لعجز من كان في يده أو لانحرافه عن مقتضيات الشرع الإسلامي إصراره على الانحراف.(4/1391)
وهذا النمط الأخير من التدخل، على ولي الأمر أن يلتزم فيه بمبدأ التعويض بالمثل أو بالسعر الحقيقي في السوق الداخلية إلا إذا كان موجب التدخل هو إقامة حدود الله في مال اكتسبه صاحبه بطريقة غير مشروعة أو امتنع فيه من أداء حقوقه المشروعة وقد سبق بيان ذلك من قبل.
وشهد الله لقد استفرغت الجهد في استقراء النصوص واستقصاء الاجتهادات وإعمال الفكر في الموازنة والتقدير والتمحيص وأرجو من الله الحكيم الخبير الغفور الرحيم أن لا أكون قد أخطأت الفهم أو أخطأت التقدير.
" {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (1) {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (2) {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) .
__________
(1) الآية رقم (88) سورة هود.
(2) الآية رقم (8) سورة آل عمران.
(3) الآية رقم (108) سورة يوسف.(4/1392)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الرئيس:
الحمد لله.. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد.
نفتتح مستعينين بالله تعالى هذه الجلسة الصباحية والتي سيعرض فيها موضوع انتزاع الملك للمصلحة العامة. وقد وزعت الأبحاث في هذا الموضوع ويكون العرض من فضيلة الأستاذ محمد قاسم والمقرر هو الشيخ عبد الله محمد عبد الله. الشيخ عبد الله موجود؟ تفضل بعرض الموضوع.
عرض الشيخ عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الواقع أنا فوجئت بهذا التكريم أو التشريف لأنه لم يكن اسمي واردًا في جدول الأعمال الذي وزع علينا بالأمس ولهذا سأحاول بقدر الإمكان إضافة إلى أن بعض البحوث وزعت علينا أخيرًا في آخر النهار فسأحاول بقدر الإمكان أن أعطي إلمامًا من واقع البحوث التي وصلتنا سابقًا. والظاهر على هذه البحوث أنها تتفق من حيث المبدأ على جملة أمور ولم أر بينها تباينًا في الرأي من حيث النتيجة وإن كانت تجمع على أن الانتزاع بدون وجه حق محظور شرعًا ولا ينزع عن أحد ملكه إلا لمصلحة عامة وحاجة عامة أيضًا. وهذه البحوث أخذت في بادئ الأمر تتكلم عن المصطلحات أو مفردات العنوان " الملك والمنفعة العامة " ثم أخذت تبحث عن الحالات التي يجوز فيها نزع الملك. وهذه الحالات بعضها يصدق عليه التعريف أي أنها للمنفعة العامة وبعضها ليست لهذا الغرض وإنما لمنفعة أفراد معروفين كبيع المال جبرًا عن صاحبه لسداد ديونه وكبيع الشفيع والشريك وهكذا.(4/1393)
فالمقصود إذن من العنوان الملك الذي ينزع لأجل منفعة عامة كإنشاء مسجد أو توسعة مسجد أو طريق أو نحو ذلك، في هذه الحالات اشتدت الحاجة واحتاج الطريق العام من تنظيمه إلى أملاك الأفراد فهنا أجاز الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم لنزع الملك ولكنهم يشددون على ضرورة ألا ينزع عن أحد ملكه إلا بعد تعويضه تعويضًا عادلًا هذا الاتفاق الفقهي القديم هو ما أخذت به القوانين والتشريعات الحديثة في مختلف البلاد لأن نزع الملك الآن أصبح له طابع خاص فإننا ننشيء مدنًا على أنقاض مدن وننشيء مدنًا كبيرة على أنقاض تلك المدن كما في بلاد الخليج. وفي المملكة التي شاهدت اتساع العمران واتساع النهضة العمرانية فيها هناك أيضًا أمر مهم يلفت النظر إليه وهو أن نزع الملك الأصلي يتم عن طريق الاتفاق بين أصحاب عقارات وبين الدولة أو السلطة في الدولة، فإذا تم هذا الاتفاق فإن الأصل أن نخضع القواعد في نزع الملك للأحكام والمعاملات من حيث الاتفاق على الثمن وطريقة الدفع للتعجيل أو التأجيل. أما إذا رفض هؤلاء البيع فهنا تقوم السلطة بما لها من قوة بانتزاع الملك وتدفع الثمن في هذه الحالة قبل الاستيلاء على العقار أو قبل طرد صاحبه أو أخذه من صاحبه. أما إذا تم الاتفاق بينهما فإنه تنطبق الاتفاقات التي تمت بينهم وهذا شيء اتفق عليه الذين كتبوا في هذا الموضوع، لم أر من خالف في ذلك.
ثم إن السند الذي اتجه إليه أو استدل إليه الباحثون فعل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وما اتخذه سيدنا عمر رضي الله عنه عندما وسع المسجد الحرام وكذلك عندما وسع مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فإن سيدنا عمر وسيدنا عثمان رضي الله عنهما قاما بنزع الأملاك ودُفع لأربابها الثمن الذي قدروه فتمثل تقريبًا القيمة الحقيقية. وأريد أن أشير إلى ناحية إلى أنه يجوز أن يكون التعويض أو المقابل أكثر من القيمة الحقيقية لأن فيه أيضًا نوعًا من التعويض عن هذا الحال كما تم في عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والتابعين. وأشير أيضًا إلى نقطة ربما انفردت بها في بحثي وهو أن المقابل لا يتعين أن يكون بالنقد بل يجوز أن يكون مقايضة بان يعطي عقارًا بدل عقار أو أن يعطي عقارًا ونقدًا بدل عقاره وقد تم ذلك في أيام السلف الصالح عند توسعة المسجد النبوي وحالات أخرى. وأرجو في هذه العجالة أو هذا الإيجاز الشديد أن أكون قد أعطيت صورة عن هذا الموضوع. وشكرًا.(4/1394)
الشيخ محمد على التسخيري:
شكرًا سيدي الرئيس.. أود قبل أن أتحدث أن أهنئكم على بدء هذه الدورة وأعتذر من تأخري لظروف قاهرة. أما الحديث حول هذا الموضوع أعتقد أن المسألة تبتنى على مقدمة يجب أن نتفق عليها أو ربما كانت هذه المقدمة بعد شرحها واضحة من حيث الاتفاق. المسألة مسألة دور ولي الأمر في المجتمع ولي الأمر حسب ما يمكن أن ينتهي إليه الاستقراء عليه أن يقوم أولا بتطبيق الأحكام الأولية الإسلامية وعليه أيضًا أن يوحد الموقف في بعض الأمور كمسألة الأهلة، وعليه أيضًا أن يقوم بتوجيه الأموال العامة للصالح العام، وعليه أيضًا أن يحقق المصلحة العامة التي يمكن أن يعبر عنها بالتعبيرات الحديثة بالسير المتوازن للمجتمع أو ما يمكن أن يقال عنه كل ما يحقق للمجتمع مسيرة طبيعية في مثل هذا الجو المعين. إذا لاحظنا هذه الوظائف ولاحظنا أن هناك أحكامًا أولية ثبتت للأشياء بعناوينها الأولية كالملكية والصوم والصلاة. هذه ثبتت للأشياء بعناوينها الأولية وأن هناك أحكاما ثانوية تفرضها الضرورة كمقتضى قاعدة لا ضرر ولا حرج وأمثال ذلك. وأن هناك أحكاما يصدرها الولي يمكن أن نطلق عليها أحكامًا حكومية أو أحكامًا ولائية وما إلى ذلك ليقوم الولي بتحقيق أهدافه وواجباته كولي أمر وقائد للمجتمع. بالنسبة إلى موردنا هذا، الملكية حق مضمون في الشريعة، والناس مسلطون على أموالهم وبالعنوان الأولى الملكية لا ينتزعها مطلقًا نحتاج إذن إلى عنوان ثانوي أو مصلحة يراها الولي فيصدر في مجالها حكمًا ولائيًا في هذا المعنى.
لا أرى سبيلًا إلا أن نطرح هنا قاعدة التزاحم بين الأحكام عندما تتزاحم الأحكام تارة يكون التزاحم فرديا فالفرد يعين أهمية التحكم عندما يجب عليه أن ينقذ غريقين، وأحدهما أهم من الآخر، أحدهما له أهمية كبرى ولا يستطيع إلا أن ينقذ أحدهما، ليس عليه إلا أن يقدم الأهم ويتأخر عن المهم. بالنسبة للأمور الاجتماعية الذي يحقق الأهمية أو الذي يحكم بأن الأهمية هنا موجودة وهو ولي الأمر على ضوء خبرته بالمجتمع عندما يتنافى حق الملكية مع مصلحة المجتمع المتوازن فتكون الأهمية هنا لصالح النظام وحفظ النظام وحفظ المجتمع المتوازن وولي الأمر هو الذي يحقق ذلك، هو الذي يكتشف ذلك، وهو الذي يحكم بذلك حينئذٍ يمكن تقديم الأهم على المهم وهي قاعدة وافق عليها الجميع وعرف الاستحسان أحيانًا بتقديم الأهم على المهم، وعلى هذا التعريف إذا كان هو على تعريف الاستحسان(4/1395)
لا أتصور أن هناك مسلمًا يخالف فيه أو عاقلًا حتى يخالف في تقديم الأهم على المهم عند التزاحم. ولي الأمر هو الذي يعين الأهمية في هذا المجال طبعًا هذا المعنى لا يتنافى مع مسألة التعويض. يجب أن يعوض لأن تقديم الأهم على المهم لا تنافي له مع مسألة تعويض هؤلاء وحتى التعويض بقيمة أعلى أو التعويض بثمن مالي أو غير مالي هذا أمر آخر ولا تنافي مع التوافق تحقيق توافق معين اللهم إن هناك ظروفا استثنائية للمجتمع يلجأ فيها ولي الأمر إلى عدم التعويض عندما يرى المصلحة العامة ذلك. لا أرى مانعًا في ذلك وأعتقد أننا لو طرحنا المسألة على أساس التزاحم بين حفظ النظام العام وبين الحكم الأول لكان الحكم فيها واضحًا. وشكرًا.
الرئيس:
شكرًا.. في الواقع يا أصحاب الفضيلة إن هذا الموضوع يظهر أنه ليس بحاجة إلى كثير من المداولات والمناقشات لأنه في حكم المسلمات في الشريعة سواء كان من حيث النص كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخليفة الراشد عمر رضي الله تعالى عنه والخليفة الراشد عثمان رضي الله تعالى عنه وعدد من الولاة، وتابع العلماء على ذلك في مصنفاتهم وفي مؤلفاتهم الفقهية والحديثية، أو كان من باب طرد قاعدة الشريعة التي تفضل بها الشيخ علي، وهي تزاحم المصالح وتقديم الأهم كي تتقدم المصلحة العامة والأبحاث التي قدمت لكم هي تتفق على هذه النتيجة وهي على وفق ما قرره أهل العلم في مسألة نزع الملك للمصلحة العامة ويمكن أن يصنف في عدة ضوابط:
الأول: أن الأصل حرية المالك في ملكه وأنه مسلط على ملكه لا سلطان لأحد عليه وأنه لا يسوغ انتزاع ملكه منه بغير حق.
الثاني: المبدأ الثاني هو جواز نزع الملك للمصلحة العامة وأن المصلحة العامة هي التي يقدرها ولي الأمر على ضوء ما هو مقرر في كتب الشريعة.
والثالث: أنه لا يجوز نزع الملك إلا بتعويض عادل مهما يلحق مع ذلك من ضوابط ثنائية.
فإذا رأيتم أن يقصر بحث الموضوع لنأخذ الموضوع الذي بعده ونؤلف له لجنة من الباحثين ومن بعض أصحاب الفضيلة وندخل في الموضوع الذي بعده فهو مناسب لأني لا أرى فيه مجالًا للخلاف والنزاع طالما أنه في حكم المسلمات واللجنة بين يديها الأبحاث وستستخلص مشروع قرار أرجو أن يكون وافيًا بالمطلوب.(4/1396)
الشيخ إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين.
في الواقع كما تفضل السيد رئيس المجمع أن الفقهاء قد أغنوا هذا البحث ووضعوا له الضوابط الكفيلة بحماية حق الفرد وحماية حق الدولة في هذا المجال إلا أنني أضيف إلى ما ذكره فضيلة الأستاذ أنه ينبغي أن لا تنزع الملكية من شخص وتملك لشخص آخر وإنما يقيد نزع الملكية للمصلحة العامة. فلا يجوز أن ينتزع ملك زيد ويعطى لعمرو. وشكرًا.
الشيخ محمد عطا السيد:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين. اللهم صل على محمد عبدك ورسولك.
السيد الرئيس في جلساتنا السابقة كنا إذا اتضح الأمر بمثل هذه الصورة التي أمامنا الآن كنا نتخذ قرارًا ونصوغه ونعرضه على الأعضاء ويوافقون عليه. وأرى عدم جدوى تكوين لجنة لهذه الحالة ويمكن للرئيس أن يصوغ كما فعل في الماضي قرارا ثم نتفق عليه وننتهي من هذه المسألة.
الرئيس:
ما فيه مانع إذا رأيتم هذا الشيء نعمله. موافقون.
مناقشة مشروع القرار
الشيخ عبد الستار أبوغدة:
قرار رقم 4 بشأن انتزاع الملكية للمصلحة العامة.. بعد الإطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع انتزاع الملك للمصلحة العامة. وفي ضوء ما هو مسلم في أصول الشريعة من احترام الملكية الفردية حتى أصبح ذلك من قواطع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وإن حفظ المال أحد الضروريات الخمس التي عرف من مقاصد الشريعة رعايتها، وتواردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على صونها، مع استحضار ما ثبت بدلالة السنة النبوية وعمل الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من نزع ملكية العقار للمصلحة العامة، تطبيقًا لقواعد الشريعة العامة في رعاية المصالح وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة وتحمل الضرر الخاص لتفادي الضرر العام.(4/1397)
قرر ما يلي:
أولا: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها، ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها، والمالك مسلط على ملكه وله في حدود المشروع التصرف فيه بجميع وجوهه وجميع الانتفاعات الشرعية.
ثانيًا: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية:
1-أن يكون نزع العقار بمقابل تعويض فوري عادل.
2-أن يكون نازعه ولي الأمر أو نائبه في ذلك المجال.
3-أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إليها ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها كالمساجد والطرق والجسور.
4-أن لا يؤول العقار المنزوع من مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام أو الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان.
فإن اختلت هذه الشروط أو بعضها كان نزع ملكية العقار من الظلم في الأرض والغصوب التي نهى الله عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم. على أنه إذا صرف النظر عن استخدام العقار المنزوعة في المصلحة المشار إليها تكون أولوية استرداده لمالكه الأصلي، أو لورثته بالتعويض نفسه.
الشيخ علي المغربي:
رقم واحد في ثانيًا: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية: أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل. هذا التعويض الفوري والعادل بالنسبة لمن؟(4/1398)
الرئيس:
هذه جيدة ولهذا قد ترون مناسبًا: بتعويض فوري عادل لا يقل عن ثمن المثل.
الشيخ علي المغربي:
هنا تختلف الجهات. فهناك من يرى كلمة العادل بالنسبة للواقع أو بالنسبة للدولة. فإذا جئنا لقطعة تراب، الدولة ترى أن قطعة التراب للمتر الواحد يساوي عشرة ريالات مثلا بالنسبة إليها ولكنه في السوق الواقعي الذي يباع به يساوي الألف. هل نعتبر ما تقدمه الدولة عدلًا أو نعتبر واقع الأمر هو العدل وهنا يكون الظلم على صاحب العقار.
الرئيس:
المهم هذه العبارة ألا تحل الإشكال إذا قلنا: مقابل تعويض فوري عادل لا يقل عن ثمن المثل بواسطة أهل الخبرة؟.
الشيخ على المغربي:
لأن أهل الخبرة في الواقع تخرجهم الدولة.
الرئيس:
هذا قرار شرعي يا شيخ ونريد أهل الخبرة على ضوء الشريعة.
الشيخ محمد المختار السلامي:
أعتقد أن تنزيل الحاجة منزلة الضرورة يعني هذا التنزيل مثلًا عندنا ضرورة. بعد الإطلاع وفي ضوء وعند الأولى بعد الإطلاع آخر الفقرة.
الرئيس:
تنزيل الحاجة منزلة الضرورة.(4/1399)
الشيخ محمد المختار السلامي:
أصوليا عندنا الحاجة حاجة والضرورة ضرورة. أما أن ينزل الحاجة منزلة الضرورة.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
قاعدة حنفية هذه والشيخ تقي يشرحها.
الشيخ محمد تقي العثماني:
الحاجة العامة.
الشيخ عبد الستار أو غدة:
أو حاجة عامة تنزل منزلة الضرورة.
الشيخ محمد المختار السلامي:
يا سيدي الحاجة العامة حاجة عامة، الضروري ضروري.
الرئيس:
قد ترون لا هذا ولا هذا:
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إليها ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها.
الرئيس:
هذه قاعدة يا شيخ تنزيل الحاجة منزلة الضرورة.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
نضيف العامة.
الشيخ محمد المختار السلامي:
لقد قرأت بين الدفتين أول من بسط بسطا علميا هذه القواعد وهي قاعدة الضروريات والحاجيات والتحسينات وأفضل من بسطها وهو الشاطبي ولم أر تنزيل الحاجة منزلة الضرورة.(4/1400)
الرئيس:
هل كلامكم في رقم 3.
الشيخ محمد المختار السلامي:
فقط في الأولى.
الرئيس:
وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة. قيدناها وقلنا تنزيل الحاجة العامة.
الشيخ محمد المختار السلامي:
شكرًا، الله يحفظك، الله يبارك فيك.
الشيخ محمد هشام البرهاني:
في آخر عبارة عندما يصرف النظر عن استخدام هذا العقار ويرد إلى مالكه قد تختلف الأسعار فإذا قلنا بنفس السعر قد يكون فيه ظلم إما للمالك وإما للجهة. فلا بد أن يكون السعر الذي يعود إليه السعر الحالي لأن الزمن قد يتباعد. في آخر العبارة بالتعويض نفسه.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بالتعويض العادل.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بالتعويض العادل. في آخر سطر رقم 1: أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل.
الشيخ خليل محي الدين الميس:
كلمة في الصياغة. إذا ممكن رقم 3 أن يكون رقم 1 لأنا وضعنا المشروط قبل الشرط لأن رقم 3 يكون نزع الملكية بالشروط التالية.(4/1401)
الرئيس:
الحقيقة يظهر أن الإخوان راعوا شيئًا واحدًا وهو أن أهم هذه الشروط هو الأول فاجعلوا الأول في الواجهة للاهتمام.
الشيخ إبراهيم بشير الغويل:
سيدي في هذا الموضوع انتزاع الملكية للمصلحة العامة كل الأمور ماشية تماما إلا أنه لا يراعى أي قيد على أن هذه الملكية تكون قد اكتسبت بطرق مشروعة كما هو شريعة الله. دائمًا رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء. نحن نصون ونمنع الاعتداء على ملكية اكتسبت بطرق مشروعة وفقًا لشريعة الله.
الرئيس:
يا شيخ إبراهيم. الديباجة فيها ما شاء الله ما يغطي هذا وزيادة، ارجع إليها.
الشيخ محمد علي التسخيري:
أنا أعتقد أننا تقريبًا أطلقنا اليد إلى حد ما في الملكية الفردية فحبذا لو حذفنا عبارة جميع الانتفاعات الشرعية وأضفنا في ذيل هذه الفقرة: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها والمالك مسلط على ملكه وله التصرف فيه بجميع وجوهه كل ذلك في الحدود الشرعية.
الرئيس:
والله – يا شيخ الشرعية ما تقررت في قرار مثل تكررها في هذا القرار.
الشيخ محمد علي التسخيري:
لا يجوز تضييق نطاقها. ما أكثر مجالات تضييق نطاق الملكية، على الأقل ولي الأمر يستطيع أن يمنع كثيرًا من المباحثات. فإذا حكمنا حكمًا شرعيًا في هذا المعنى اجعلوا هذا العنوان. احذفوا كل مكان حدود المشروع والانتفاعات الشرعية وأعطوا القيد لكل المقيدات. قولوا كل هذه الأمور في الأطر الشرعية.(4/1402)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم..
أمران. الأمر الأول هو أن المعدوم شرعًا كالمعدوم حسا. فإذا قلنا: شيء ملكية شرعية بمعنى أنها الملكية الحقيقية في الشرع مع أنها ملكية ونصف ملكية شرعًا.
الأمر الثاني: أنه كثيرا ما استمعت إلى قضية ولي الأمر هذا. عندنا أن ولي الأمر معزول عن غير المصلحة وأنه لا يستطيع بذاته أن يعلم كل شيء وعليه أن يستشير وإذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشاور، فإنما ذلك سُن لكل ولي أمر أن يشاور، فليس لنا في الإسلام أن ولي الأمر هو كل شيء وأنه هو المرجع وهذا لا أريد أن أعود إليه.
الرئيس:
هل عندكم اعتراض على قرار نزع الملكية.(4/1403)
قرار رقم (4) د 4/ 08 /88
بشأن
انتزاع الملكية للمصلحة العامة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18- 23 جمادى الآخر 1408هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988م، بعد الإطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع " انتزاع الملك للمصلحة العامة"
وفي ضوء ما هو مسلم في أصول الشريعة، من احترام الملكية الفردية، حتى أصبح ذلك من قواطع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وأن حفظ المال أحد الضروريات الخمس التي عرف من مقاصد الشريعة رعايتها، وتواردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على صونها، مع استحضار ما ثبت بدلالة السنة النبوية وعمل الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من نزع ملكية العقار للمصلحة العامة، تطبيقًا لقواعد الشريعة العامة في رعاية المصالح وتنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة وتحمل الضرر الخاص لتفادي الضرر العام.
قرر ما يلي:
أولا: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها، ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها، والمالك مسلط على ملكه، وله في حدود المشروع التصرف فيه بجميع وجوهه وجميع الانتفاعات الشرعية.
ثانيًا: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية:
1-أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل.
2-أن يكون نازعه ولي الأمر أو نائبه في ذلك المجال.
3-أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إلى ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها كالمساجد والطرق والجسور.
4-أن لا يؤول العقار المنزوع من مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام أو الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان.
فإن اختلت هذه الشروط أو بعضها كان نزع ملكية العقار من الظلم في الأرض والغصوب التي نهى الله تعالى عنها ورسوله صلى الله عليه وسلم.
على أنه إذا صرف النظر عن استخدام العقار المنزوعة ملكيته في المصلحة المشار إليها تكون أولوية استرداده لمالكه الأصلي، أو لورثته بالتعويض العادل.(4/1404)
سندات المقارضة
إعداد
الصديق محمد الأمين الضرير
أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية القانون
جامعة الخرطوم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين
معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ردا على خطابكم الذي تطلبون مني فيه الكتابة عن الموضوع التالي:
سندات المقارضة:
أ - هل يكون إطفاء سندات المقارضة بقيمة اسمية أم سوقية؟
وهل يتم ذلك باستبعاد عدد معين من الأسهم الكاملة، أم يكون ذلك باستبعاد جزء من كل سهم؟
ب- وعلى الوجه الأخير هل يعتبر ربح كل سهم متناقصا مع تناقص القيمة، أم يظل ربحه كاملا حتى نهاية الإطفاء؟
أبعث إلى معاليكم بالآتي:
كنت اعتذرت في خطابي بتاريخ 29 من ذي القعدة 1407- 25/ 7/ 1987 عن عدم تمكني من الكتابة في هذا الموضوع، لأني لم أجد المراجع الكافية، وقد تحصلت أخيرا على قانون سندات المقارضة لسنة 1981 (الأردني) .
والمذكرة التفصيلية الخاصة ببيان الوجوه الفقهية المؤيدة لإمكان قبول تعهد الحكومة بضمان سندات المقارضة المخصصة لإعمار أراضي الأوقاف التي أعدها الدكتور سامي حمود.
ومحاضرة الدكتور وليد خير الله عن سندات المقارضة مع حالة تطبيقية.
فأردت أن أشارك بهذه الورقات القليلة:(4/1405)
الحديث عن أحكام إطفاء سندات المقارضة يتطلب الحديث أولا عن حقيقة سندات المقارضة، والمقصود بإطفائها، وهل هذه المعاملة مقبولة شرعا أم لا؟ ولا بد لمعرفة ذلك من استعراض بعض مواد قانون سندات المقارضة لسنة 1981 (الأردني) .
2- تنص المادة الثانية من قانون سندات المقارضة على الآتي:
أ - تعني (سندات المقارضة) الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح.
ب - يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع، وتحدد هذه النسبة في نشرة إصدار السندات، ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد، كما لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة.
يفهم من هذه المادة - ومن التسمية – أن المعاملة التي تصدر السندات من أجلها هي عقد مضاربة مقيدة بمشروع معين، أرباب المال فيها هم مالكو السندات، والمضارب هو صاحب المشروع المعين الذي يطلب تقديم المال له، لاستغلاله والاشتراك في ربحه بنسبة تحدد في نشرة إصدار السندات.
3- وذكر في المادة الثالثة الهيئات التي يسمح لها بإصدار سندات المقارضة، وأولها وزارة الأوقاف، ولعلها هي التي أصدر القانون من أجلها، يقول الدكتور سامي حمود في مذكرته ص1:
(إن سندات المقارضة تمثل الطريق الملائم لتجميع الموارد المالية المتناثرة لدى جمهور الراغبين في الاستثمار الحلال، حيث يمكن عن طريق تجميع هذه الموارد إقامة المشاريع الكبيرة، وبخاصة مشاريع الإعمار العقاري للأراضي الموقوفة، ذات المواقع التجارية الصالحة لاستثمار على هذا الأساس) اهـ. ص1.
ويفهم من هذا أن المبالغ المتحصلة من سندات المقارضة– أموال المضاربة– تستثمرها وزارة الأوقاف – المضارب – في تعمير أراضي الأوقاف، ويؤيد هذا الحالة التطبيقية التي ذكرها الدكتور وليد خير الله (لتمويل بناء على أرض وقفية بأسلوب سندات المقارضة) .(4/1406)
4- وجاء في المادة الرابعة من القانون ذكر الشروط التي تشترط في المشروع الذي تصدر سندات المقارضة لتمويله ومنها:
جـ- أن يدار المشروع ماليا كوحدة مستقلة بحيث تتضح في نهاية السنة المالية أرباحه المعدة لإطفاء السندات وتوزيع الأرباح حسب النسبة المقررة في نشرة الإصدار. اهـ.
واشتراط اتضاح ربح المشروع في نهاية السنة المالية شرط جيد وضروري: لأن الربح هو الذي يوزع بين رب المال والمضارب فلا بد من معرفته، ولعل هذا هو الذي جعل جمهور الفقهاء يحصرون العمل الذي يقوم به المضارب في التجارة بالبيع والشراء. فهل هذا الشرط متحقق في مشروع وزارة الأوقاف؟
الذي ظهر لي من مذكرة الدكتور سامي حمود، ومن الحالة التطبيقية التي أوردها الدكتور وليد خير الله أنه غير متحقق، فالدكتور سامي يقول في ص2:
(وتعتمد فكرة سندات المقارضة المخصصة على التنظيم الحسابي لتمويل إنشاء الأبنية ذات المردود الاقتصادي المرتفع – نسبيا – حيث يتم تخصيص حصيلة السندات المباعة لتمويل إنشاء المبنى المعلن عنه في كل إصدار على حدة، وتكون الإيرادات الصافية (بعد تنزيل نفقات الصيانة والإدارة الخاصة بالمبني) معدة للتوزيع على النحو التالي:
30 % مثلا للتوزيع على المكتتبين في السندات وذلك بصفة أرباح.
70 % أيضا للتوزيع على المكتتبين في السندات ولكن بصفة مبالغ مسددة من أصل قيمة السند.
وليس هناك ما يمنع من أن يكون لوزارة الأوقاف نصيب من الربح نظير الإدارة. اهـ.
فالدكتور سامي يتحدث عن توزيه الإيرادات الصافية، ويسميها ربحا، فهل الإيراد السنوي للمشروع هو الربح الذي يوزع بين رب المال والمضارب في عقد المضاربة؟
وقول الدكتور سامي: (وليس هناك ما يمنع..إلخ) غير صحيح، فالمانع موجود، وهو أن الإيرادات قد خصمت منها نفقات الإدارة، فكيف تستحق وزارة الأوقاف نصيبا من الربح نظير الإدارة بعدما خصمت نفقاتها؟
وأما الحالة التطبيقية التي أوردها الدكتور وليد، فهي واضحة جدًا في أن الذي يوزع هو عائد الإيجارات للمشروع (انظر ص2- 4) .
وعائد الإيجار السنوي ليس هو الربح الذي يوزع بين رب المال والمضارب بالمفهوم الفقهي.
وسأفترض أن هذا خطأ في التطبيق، وأن الربح الحقيقي للمشروع يمكن معرفته وتوزيعه.(4/1407)
وأنتقل بعد هذا إلى طريقة توزيع الربح.
المعروف في عقد المضاربة أن الربح يوزع بين رب المال والمضارب، وفي موضوعنا هذا ينبغي أن يوزع ربح المشروع بين مالكي السندات (أرباب المال) ووزارة الأوقاف (المضارب) ولكن القانون ومذكرة الدكتور سامي، والحالة التطبيقية التي أوردها الدكتور وليد جاءت بتوزيع غريب على عقد المضاربة، فجعلت نسبة من الربح لمالكي السندات، وجعلت النسبة الباقية لإطفاء السندات، وهذه النسبة تعطى أيضا لمالكي السندات، ولكن بصفة مبالغ مسددة من أصل قيمة السند، كما يقول الدكتور سامي، وهذا هو المراد من كلمة إطفاء السندات الواردة في القانون، وهذا يعني أن صافي إيراد المشروع السنوي، الذي سمي ربحا، يعطى كله إلى مالكي السندات بعضه سمي ربحا والبعض الآخر جعل سدادا للمبلغ الذي دفعه المكتتب، وأعطى السند مقابلة، وهذا الإجراء يحول المعاملة من عقد مضاربة إلى عقد آخر، التزمت فيه وزارة الأوقاف بأن ترد لمالك السند المبلغ المبين في السند كاملا على أقساط سنوية، وتدفع له مع كل قسط مبلغا زائدا على القسط يسمى ربحا، وهذا الالتزام موثق بكفيل هو الحكومة كما جاء في المادة (12) من القانون (تكفل الحكومة تسديد قيمة سندات المقارضة الاسمية الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة) اهـ.
فماذا يسمى هذا العقد في الفقه الإسلامي؟
إنه عقد قرض اشترط فيه المقترض للمقرض زيادة على اقترضه منه، ووثق العقد بكفيل. وهذا وحده يكفي لإفساد هذا العقد، وإبعاده عن عقد المضاربة.(4/1408)
5- ومما يؤكد أن هذا العقد عقد قرض، وليس عقد مضاربة ما جاء في المادة (20) من أن (الهيئة المصدرة تحل محل مالكي الأسناد المطفأة في الحصول على الأرباح المتحققة لهم) اهـ.
فهذه المادة تفيد بأن كل عائد المشروع تأخذه وزارة الأوقاف بعد أن تدفع لمالكي السندات المبالغ التي أخذتها منهم مع أرباحها السنوية، ويفهم من هذا أن المباني التي أقيمت على أرض الوقف بأموال مالكي السندات تصبح مملوكة لوزارة الأوقاف، ويؤيد هذا الفهم الدكتور سامي بقوله:
(وعندما يسترد مالكو سندات المقارضة أصل قيمة السندات التي اكتتبوا فيها، وذلك بنتيجة المبالغ الموزعة عليهم سنويا بصفة مبالغ مسددة من أصل رأس المال، فإن الملك بكامله (أي البناء المقام فوق الأرض الموقوفة) يصبح مملوكا بالكامل للوقف الإسلامي) ص2.
إن وزارة الأوقاف لا تستطيع أن تتملك البناء المقام فوق الأرض الموقوفة إذا كانت الأموال التي صرفت فيه أموال مضاربة، لأنه يكون مملوكا لأرباب المال، ولا يمكن أن ينتقل إلى وزارة الأوقاف – المضارب – إلا بسبب ناقل الملكية.
أما إذا كانت الأموال التي صرفت في البناء قرضا مضمونا على وزارة الأوقاف فإن البناء يكون مملوكا لها من أول الأمر وليس بعد سداد القرض.
فالقول بأن البناء يصبح مملوكا للوقف بعد أن يسترد مالكو سندات المقارضة أصل قيمة السندات لا يستقيم سواء جعلنا المعاملة قرضا أو قراضا.
6- ومما تجدر الإشارة إليه أن الدكتور سامي اعتبر في مذكرته هذه المعاملة عقد مضاربة، وأجهد نفسه في تبرير ضمان الحكومة لرأس مال المضاربة مع اعترافه بأن اشتراط العامل رد أصل رأس المال يفسد عقد المضاربة في رأي بعض الفقهاء، ويبطل الشرط ويصح العقد في رأي بعضهم (انظر ص3 ولا يخلو كلام الدكتور سامي من اضطراب في هذه المسألة) .
وقد بنى الدكتور سامي رأيه في جواز ضمان الحكومة لأصل رأس المال على أن وزارة الأوقاف لا دخل لها في هذا الضمان (انظر ص3 و4) ، وهذا غير صحيح، فوزارة الأوقاف متعهدة برد رأس المال، والحكومة كفيلة بذلك، وقد نص على هذا التعهد من وزارة الأوقاف صراحة في وثيقة إصدار السندات، وهذا هو النص كما جاء في نموذج الوثيقة المرافقة لمحاضرة الدكتور وليد:(4/1409)
وتتعهد وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية أن تدفع لمالك هذه السندات كامل قيمتها الاسمية مع الأرباح حسب الشروط المبينة على ظهره، وقد كفلت حكومة ... الوفاء الكامل للقيمة الاسمية للسندات في الموعد المحدد.اهـ.
وجاء في نشرة الإصدار الأول من سندات المقارضة المخصصة لمشروع وزارة الأوقاف ما يلي:
أ- تدفع القيمة الاسمية لمالك السند في موعد إطفائه فور تقديمه في مكاتب وكيل الدفع والحافظ الأمين.
ب- تكفل حكومة المملكة الأردنية الهاشمية كفالة غير مشروطة دفع القيمة الاسمية للسندات الواجب إطفاؤها في الموعد المحدد لاستحقاق السند.
ج- تصبح كفالة حكومة المملكة الأردنية الهاشمية واجبة التنفيذ، إذا تخلفت وزارة الأوقاف عن دفع القيمة الاسمية في الموعد المحدد، ولم تتمكن من الدفع، بموجب إخطار يوجهه إليها الحافظ الأمين مدته ثلاثون يوما.اهـ.
إن هذا التعهد من وزارة الأوقاف برد رأس المال، وكفالة الحكومة لوزارة الأوقاف، يكون مقبولا إذا كانت السندات سندات قرض، ولا وجه لقبوله إذا كانت السندات سندات قراض، إلا في حالة التعدي أو التقصير من وزارة الأوقاف على مال القراض.
7- لا أراني بعد هذا في حاجة إلى الإجابة عن الأسئلة الموجهة إلي عن إطفاء سندات المقارضة: هل تكون بقيمة اسمية أم سوقية..؟ لأن القانون أجاب بوضوح عن هذا السؤال، وأن الإطفاء يكون بالقيمة الاسمية، فأفسد عقد المضاربة الذي بني عليه القانون، وحوله إلى عقد قرض غير مقبول شرعا.
8- ربما يسأل سائل: هل يتغير الحكم لو كان إطفاء سندات المقارضة هذه بالقيمة السوقية؟
والجواب: هو أننا لو اعتبرنا المبلغ المبين في السند قرضا فلا محل للحديث عن القيمة السوقية، لأن القرض يقضي بمثله، ولا يجوز اشتراط قضائه بأكثر منه.(4/1410)
وإذا اعتبرنا المبلغ المبين في السند مال مضاربة فإن هذا المال تحول إلى مبان، وهذه المباني كما قلنا مملوكة لصاحب السند، لأن أصلها مملوك له، ولا يمكن أن تنتقل ملكيتها إلى وزارة الأوقاف إلا بعقد من العقود الناقلة للملكية، والإطفاء ليس عقدا ولا سببا من أسباب نقل الملكية، فالحديث عن الإطفاء غير مفهوم، ولست أدري من أين أتى القانون بهذه الكلمة، التي لا أصل لها في الفقه الإسلامي، ولا في القانون الوضعي.
ثم إن الحديث عن القيمة الاسمية والقيمة السوقية تعبير في القانون التجاري يستعمل في الأسهم، ولا أعرف استعماله في السندات، لأن السند في القانون يمثل دينا دائما، بخلاف السهم فإنه يمثل حصة في موجودات الشركة، لها قيمة اسمية وقيمة سوقية، وقيمة حقيقية.
فالحديث عن إطفاء سندات المقارضة غير مقبول في جميع الحالات.
9- ما البديل الشرعي إذن لسندات القرض بفائدة، الذي يحقق لوزارة الأوقاف غرضها في الحصول على أموال تعمر بها أراضي الوقف؟ البديل هو:
أ- سندات القرض الحسن الذي ينتظر المقرض فائدته في الآخرة.
قد يقال: إن الذين يقبلوا على هذا النوع من السندات قليل، وهذا صحيح، ولكنه لا يمنع من الدعوة إليه، والحث عليه، مع توفير الضمانات الكافية التي تطمئن المكتتبين في هذه السندات على استرداد حقوقهم في مواعيدها.
ب- المشاركة المتناقصة، أو المشاركة المنتهية بالتمليك. وهذه الصيغة من المعاملات معمول بها في البنوك الإسلامية، وهي شركة يعد فيها أحد الشريكين شريكه بأن يبيع له نصيبه كله أو بعضه في أي وقت يشاء بعقد ينشآنه عند إرادة البيع.
وفي مسألتنا هذه فإن وزارة الأوقاف تكون شريكا بقيمة الأرض، والجمهور يكون شريكا بما يقدمه من مال، وكل واحد من الشركاء يكون مالكا لجزء من المشروع بقدر ما دفعه من مال.
ويمكن أن يضمن العقد بندا يعد فيه الشريك وزارة الأوقاف بأن يبيع لها نصيبه كله أو بعضه برأس ماله (تولية أو إشراكا) متى رغب في شرائه، ويكون هذا الوعد ملزما للشريك، وتكون الوزارة بالخيار إن شاءت اشترت وإن شاءت تركت، ولا يتم البيع إلا بعقد جديد بتراضي الطرفين.(4/1411)
وبهذه الطريقة تكون وزارة الأوقاف قد حققت غرضها في تعمير أرض الوقف، وإعادتها عامرة للوقف.
10- أما صيغة المضاربة فليست بديلا ملائما في مثل هذه الحالات، لأن تطبيق أحكام المضاربة في مشروع وزارة الأوقاف تعترضه بعض الصعوبات، منها أن الوزارة تخلط مال المضاربة بمال الوقف، ومال الوقف أرض، والأرض عرض لا يصلح مالا للمضاربة، إلا إذا بيع، وتحول إلى نقود، كما يقرر عامة الفقهاء.
ومن الصعوبات أيضا معرفة الربح الحقيقي بعد سلامة رأس مال المضاربة في آخر كل عام، ولا يصح أن يعتبر صافي الإيراد السنوي ربحا حقيقيا.
لهذا فإني أستبعد استعمال صيغة المضاربة في مشروع الوقف، وتبقى معنا: سندات القرض الحسن ويمكن أن تكون بهذا الاسم في مقابل سندات القرض بالفائدة.
والمشاركة المتناقصة أو المنتهية بالتمليك، وأستحسن أن تسمى صكوك المشاركة المتناقصة بدلا من سندات.
وفقنا الله جميعا وهدانا الصراط المستقيم.
الصديق محمد الأمين الضرير(4/1412)
سندات المقارضة
إعداد
الدكتور رفيق يونس المصري
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبد العزيز – جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
سندات
المقارضة
تعريف:
سندات المقارضة عبارة مؤلفة من مضاف ومضاف إليه، المضاف فيها لفظ (سندات) وهو مصطلح في القوانين والأعراف السائدة اليوم بمعنيين، الأول: سندات لأمر = سندات إذنية billets a ordre، وهي أحد أنواع الأوراق التجارية المعرفة في القوانين التجارة الوضعية (السفاتج والسندات والشيكات) ، وهذا المعنى غير مراد هنا. والمعنى الآخر هو سندات قرض = سندات مالية obligations، وهي أحد نوعي الأوراق المالية المعروفة في القوانين التجارية (الأسهم والسندات) ، وهو المعنى المراد هنا.
ويبدو أن لفظ (سندات) قد اختير بدل (الأسهم) لأن العملية تجمع بين القرض والشركة، والقرض دل عليه لفظ السندات، والشركة دل عليها لفظ المقارضة.
هذا عن المضاف في العبارة، وهو السندات، أما المضاف إليه وهو (المقارضة) فهو اصطلاح فقهي إسلامي يعني (القراض) وكلا اللفظين (القراض) و (المقارضة) فيه معنى الاشتراك، فصيغة (فعال) و (مفاعلة) مثل قتال ومقاتلة تفيد الاشتراك كما هو معلوم عند أهل اللغة. والمقارضة هي المضاربة وزنا ومعنى، وتعريفها الفقهي معروف لا حاجة لذكره هنا، وهي أحد ضروب الشركة المعروفة في الفقه الإسلامي، والتي لقيت من اهتمام الفقهاء، على اختلاف مذاهبهم، ما يزيد على ضروب الشركة الأخرى، حتى إن كتب الفقه أفردت لها كتابا أو فصلا خاصا.
وبهذا فإن لفظ (السندات) يشعر بالقرض، ولفظ (المضاربة) يشعر بالشركة، فالعملية إذن قرض مشارك في الأرباح كما سنزيده وضوحا فيما بعد.(4/1413)
وقرض المشاركة في الأرباح ليس من الأساليب التمويلية الجديدة كما توهم البعض، ربما لعدم إطلاعهم على صيغ التمويل المعروفة في الغرب، وربما لأن العملية قدمها بعض العارفين على أنها جديدة وأصيلة. ولا أعني بهذا أن العملية إذا كان مصدرها غربيا فيجب المسارعة إلى رفضها، بل أعني أن نظامها معروف، كله أو جله، ولا حاجة للإطالة بذكره، كما لا يصح أن ننسبها إلينا نحن المسلمين على أنها من ابتكارنا، فأول شيء علمنا الإسلام هو الصدق.
تاريخ ومقارنة:
سندات المقارضة هذه شبيهة في الغرب والقوانين الوضعية بأسلوبين:
1- الأول سندات المشاركة obligations participantes، حيث تتأثر فائدتها، وربما أصلها (= رأس مالها) برقم أعمال المشروع أو نتائج المشروع من ربح أو خسارة. وتتأثر الفائدة فقط إذا كانت السندات مشاركة في الأرباح فقط دون الخسائر، ويتأثر الأصل إذا كانت مشاركة في الخسائر أيضا.
2- الثاني قروض المشاركة prets participatifs التي أنشأها القانون الفرنسي المؤرخ في 13 تموز (يوليو) 1978م، والخاص بتوجيه المدخرات لتمويل المشاريع. وإذا كانت هذه القروض مشاركة في الخسائر بالإضافة إلى الأرباح فإن أولويتها في السداد تأتي بعد أولوية الدائنين الممتازين والعاديين، ويكون لها أهمية عندئذ بالنسبة لدائني المشروع، من حيث إنها تشكل لهم ضمانة كضمانة الأموال الخاصة للمشروع أو حقوق المساهمين في شركة المساهمة (رأس المال + الاحتياطيات + الأرباح غير الموزعة) . وفي مقابل إشراكها في الخسائر وتحملها مخاطر هذه الخسائر لها الحق في المشاركة بحصة من الأرباح أعلى، في التقدير، من معدل الفائدة، وربما منحت فائدة ثابتة بالإضافة إلى حصة من الأرباح تقتطع من الربح القابل للتوزيع، قبل أي توزيع على المساهمين أو أي اقتطاع آخر من هذا الربح.
والأشخاص المانحون لهذه القروض هم الدولة والمصارف والمؤسسات المالية ومؤسسات الإقراض ذوات النظام القانوني الخاص وشركات وتعاونيات التأمين والشركات التجارية. ويجب أن تظهر بوضوح في ميزانية كل من المقرض والمقترض.
وتخضع هذه القروض لقانون 28 كانون الأول (ديسمبر) 1966م، المتعلق بالربا، حيث لا يجوز أن يتجاوز عائدها الثابت والمتغير المعدل الذي يحكم عليه بأنه ربا حرام في نظر القانون.(4/1414)
وربما أطلق على هذه القروض اسم آخر، هو القروض التابعة prets subordonnes ولعل سبب هذه التسمية هو أن أصلها وفائدتها يتبعان نتائج المشروع من ربح أو خسارة. وقد لجأت البلدان الإنغلوسكسونية وهولندا، إلى هذا النوع من القروض، قبل فرنسا، للجمع بين وضعين:
1- وضع رأس المال الذي يخاطر به المساهمون في مقابل ربح متغير.
2- ووضع رأس المال الذي يقدمه المقرضون، ويكون مضمونا بموجودات (= أصول) المشروع، ومأجورا في صورة فائدة ثابتة.
ومن الناحية الحقوقية، لا ينظر إلى هذا المقرض على أنه مساهم، إذ لا يتمتع بحق التصويت في الشركة، ويستمر في الاستفادة من أولوية يتمتع بها على موجودات المشروع. كما لا ينظر إليه على أنه مقرض أو دائن عادي، إذ ليست له المرتبة الأولى في الاستيفاء عند تصفية المشروع المدين. بل هو في مركز وسط بين ما يتمتع به المقرض من الضمان لقرضه وما يتعرض له المساهم من المخاطرة برأس ماله.
وهذه القروض تعزز القدرة المالية للمشروع حيال دائنيه العاديين، لأنها شبيهة بأموال المشروع الخاصة من بعض الجوانب، ولعل هذه غاية من غايات استخدامها في الغرب، فالمعلوم أن المنشأة لا تستطيع أن تعقد من القروض إلا في حدود معينة تتأثر بالنسبة بين الأموال الخاصة (رأس المال + الاحتياطيات + الأرباح غير الموزعة) والديون في جانب المطاليب (= الخصوم) من ميزانية المنشأة طالبة القرض (1) . وقد تم اللجوء إلى تلك القروض لدعم قدرة المشروعات المتوسطة والصغيرة على الاقتراض.
__________
(1) راجع بيان السيد ريمون بار رئيس وزراء فرنسا، بتاريخ 19 نيسان (أبريل) 1978م، وما كتبه السيد غي نوبو Guy Nebit في صحيفة لوموند الفرنسية بتاريخ 11/ 3/ 1980م، وكتاب (العمليات المصرفية) لجاك فيرونيير وإيمانويل شيلازر، دللوز، باريس، ط6، 1980م، ص507 و547 و696(4/1415)
وفي كتاب (القانون التجاري السعودي) يقول مؤلفه الدكتور محمد حسن الجبر (1) : (قد يشترط المقرض على المقترض الذي يريد استثمار مبلغ القرض في مشروع اقتصادي أن يحصل على نسبة معينة من الأرباح بدلا من فائدة ثابتة. وقد يصعب في هذه الحالة التمييز بين الشركة، كتقديم الحصة والمشاركة في الأرباح، ومع ذلك فالثابت أن العقد لا يعتبر شركة في هذه الحالة، نظرا لأن المقرض لا يشارك في المشروع مشاركة إيجابية، فهو يظل بمعزل عن كيفية استثمار المشروع فضلا عن أنه لا يساهم في الخسائر، وهو ما يعني أن العقد لا يعتبر شركة في هذه الحالة، لتخلف نية المشاركة لدى المقرض الذي غالبا ما يلجأ إلى هذا النوع من العقود للتهرب من تحريم الفوائد الربوية) اهـ.
ومن الواضح أن الكلام ههنا يختص بقروض تشارك في الأرباح دون الخسائر، كسندات المقارضة الأردنية.
سندات المقارضة الأردنية:
لسندات المقارضة في الأردن تطبيقان:
1- تطبيق على مستوى المصرف الإسلامي الأردني (2) ، لجذب المدخرات واستثمارها في مشاريع مخصصة أو مشتركة.
__________
(1) محمد حسن الجبر: القانون التجاري السعودي، نشر عمادة شؤون المكتبات جامعة الملك سعود، الرياض، 1402هـ = 1982م، ص155 (الشركة وعقد القرض مع الاشتراك في الأرباح) . كما أحال الكاتب إلى (الوجيز في القانون التجاري) للدكتور مصطفى كمال طه، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1974م، ف182
(2) انظر قانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار رقم 62 لسنة 1985م، المادة 2 ص5، والمادة 14 ص10، وعقد التأسيس المادة 19؛ وقانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار رقم 13 لسنة 1978م، المادة 2 ص31، والمادة 14 ص36(4/1416)
2- وتطبيق آخر على مستوى البلدان والمؤسسات العامة ذوات الاستقلال المالي ووزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية (1) ، لاستغلال أراضي الأوقاف وإعمارها، صدر بقانون أطلق عليه (قانون سندات المقارضة) وسندات المقارضة في هذا القانون أسهم مشاركة مضمونة القيمة، أو سندات قرض مشاركة في الربح. فالأصل إذا كان مضمونا فهو قرض. وسندات المقارضة الأردنية من هذه الناحية قروض تضمن قيمتها الاسمية وزارة الأوقاف، بكفالة الدولة باعتبارها طرفا ثالثا وذلك على أساس الوعد الملزم حسب الفتوى الأردنية المتعلقة بالموضوع. وحقيقة القرض أنه مضمون، يضمن قيمته الاسمية المقترض، وهو الوزارة المذكورة، والدولة تضمن ما ضمنه المقترض.
خصائص سندات المقارضة الأردنية:
1- أنها قروض سندية (= سندات قرض) ، وليست شركة أو أسهما في شركة، من حيث اختيار تسميتها سندات لا أسهما، ومن حيث أن المادة الثانية من القانون نصت على أن (صاحب المشروع) هو الأوقاف وليس رب المال، فلو كانت هذه السندات عبارة عن (مقارضة) خالصة، لكان صاحب المشروع هو الأوقاف في حدود قيمة أرض الوقف، وأرباب المال في حدود اكتتاباتهم.
وهي أيضا قروض من حيث إنها مضمونة الأصل من قبل الوزارة، بكفالة الدولة (المادة 12) .
وهي قروض من حيث إنها تسدد بقيمتها الاسمية (المادة 7- ب، والمادة 11 و12) ، فلو كانت مشاركات لوجب تسديدها بقيمتها وقت السداد لأن الشركاء يملكون صافي موجودات المشروع، أي لهم حق عيني على الموجودات (2) وما يطرأ عليها من أرباح أو خسائر رأسمالية. والظاهر أن أصحاب سندات المقارضة ليس لهم إلا حق نقدي اسمي في ذمة الطرف الآخر، وهذا مركز الدائن لا مركز الشريك.
2- أنها قابلة للتداول في السوق المالية (المادة 18 و20 – ب) .
3- أنها مشاركة في الربح الصافي للمشروع، وليس في إيرادات المشروع (المادة 2 – ب والمادة 11) . ففيها إذن معنى الشركة بالإضافة إلى معنى القرض.
__________
(1) انظر القانون المؤقت رقم 10 لسنة 1981م (قانون سندات المقارضة) ، لا سيما المادة 3 منه
(2) انظر (الشركات الإسلامية لتوظيف الأموال) للأستاذ محمد فوزي حمزة، في مجلة الأمة القطرية، العدد 67 رجب 1406هـ آذار (مارس) 1986م، ص15(4/1417)
هذا ونشير إلى أن المقارضة فيها ليست مقارضة مجردة، بل هي مؤلفة من مقارضة ومشاركة، لأن الطرف الآخر (الأوقاف) يشترك مع أصحاب السندات في المال المتمثل في الأرض التي يجب تقويمها نقدا لمعرفة الحصة المالية لكل طرف، وهي كذلك مضاربة لأن هناك أرباب مال لا يعلمون. ولا يستطيع أن ينكر أحد أن المضاربة نوع شركة، لأنها شركة بين طرفين، أحدهما يقدم المال والآخر يقدم العمل، وهي شركة في الربح والصافي. وشركة الأموال فقها شركة بين طرفين كل منهما يقدم المال والعمل، فهي أعمق من المضاربة لأنها شركة في المال والعمل والربح والخسارة، في حين أن المضاربة شركة في الربح فقط، حيث العامل لا يشارك في المال ولا في الخسارة المالية.
نقد:
1- بما أن سندات المقارضة فيها معنى القروض، كما بينا في (الخصائص) فإن الربح المتوقع حتى ولو لم يكن ثابتا محددا مسبقا، فإنه يعتبر فائدة ربوية محرمة، لأن تعهد المقرض بدفع أي فائدة، سواء كانت معلومة مسبقا أو غير معلومة، يعد ربا محرما، وأن عقد القرض عقد إرفاق لا يقصد من ورائه فائدة ولا ربح دنيوي. والقرض في حالة سندات المقارضة قرض بفائدة، تمثل الفائدة فيه (نسبة معينة من الربح، وتكون الفائدة هنا أمرا احتماليا، قد يتحقق إذا تحقق ربح، وقد لا يتحقق إذا انعدم الربح) (1) .
ثم إذا قبلنا كفالة الدولة لرأس مال المكتتبين، فما الذي يمنع كذلك فيما بعد من كفالتها لمستوى معين من الربح؟ وعندئذ ماذا يبقى من فرق بين سندات المقارضة وسندات القروض الربوية؟
2- ثم إن تداول السندات قد يؤدي إلى بيعها بأكثر من قيمتها الاسمية، فهذا ربا آخر.
3- لا اعتراض على الخصيصة الثالثة، لأن القراض من شأنه الشركة في الربح الصافي، كما هو نص القانون. لكن لو تمت الشركة في أجور كراء المكاتب والمخازن التي ستقام على أرض الوقف، فإن هذه الشركة لا تجوز (2) .
__________
(1) الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور عبد الرزاق السنهوري، دار إحياء التراث العربي، بيروت د. ت، ج5، ص427
(2) راجع بحثي (مشاركة الأصول الثابتة في الناتج أو في الربح) الذي سينشر في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، العدد الأول، المجلد الثالث(4/1418)
الجمع بين القرض والقراض:
إن سندات المقارضة عملية ملفقة من القرض والقراض معا فهي قرض من حيث ضمان رأس المال، وقراض من حيث الشركة في الربح والصافي. ويخطئ من يظن أن الفرق بين الربا والقراض هو مجرد استبدال الشركة في الربح بالفائدة الثابتة، فإن الفرق أكبر من هذا بكثير، كما سنبين في الفقرة التالية مباشرة.
هل يأتلف القرض والقراض معا في عقد واحد؟
1- الأصل في القرض أنه عقد مقصده إحسان المقرض إلى المقترض، فهو كما سبق أن بينا، من عقود الإرفاق. والأصل في شركة المقارضة أنها عقد مقصده تحقيق منفعة لكل شريك (تبادل المنافع بين الشركاء) . واجتماع القرض مع المقارضة فيه شبهة الربا، لأن القرض قد يتوصل فيه إلى الربا عن طريق القراض، ذلك أن القرض وحده لا يسمح في الإسلام بأي فائدة، أما القراض (أو المقارضة) فيسمح بحصة من الربح.
2- الأصل في القرض أنه من عقود التبرعات. أما الشركة فقد أدخلها بعض الفقهاء في عقود المعاوضات، واعتبرها ابن تيمية وابن القيم وبعض الفقهاء الآخرين من عقود المشاركات، أي أصلا ثالثا مستقلا بنفسه. وهي على كل حال عقود دائرة بين النفع والضرر، فقد يتحقق ربح أو تقع خسارة.
3- المقرض ينقل ملكية القرض إلى المقترض، الذي يصبح ضامنا بمجرد القبض.
فالقرض من عقود التمليك. أما شريك المال (رب المال في شركة القراض) فيبقى مالكا لرأس المال وحده (أو على الشيوع بمقدار حصته في رأس المال، إذا تعدد أرباب المال) وضامنا له، والعامل لا يملك من مال القراض إلا بمقدار ما يتراكم له من حصة من الربح لم يسحبها.
ففي القرض المقترض (آخذ المال) ضامن، وفي القراض المضارب (آخذ المال) أمين، ورب المال ضامن.(4/1419)
4- المقترض يتصرف برأس المال تصرف الأصيل (الضامن) ، لأنه مالك لرأس مال القرض. أما المضارب فيتصرف برأس المال تصرف الوكيل (الأمين) .
5- المقترض ضامن لرأس المال، يرده بمثله لا بعينه، سواء وقع منه تعد أو تقصير أو لم يقع. أما المضارب فهو أمين على رأس المال، لا يضمن إلا في حالات التعدي والتقصير (أي حالات مخالفة شروط العقد) .
6- المقترض إذا دفع رأس المال إلى آخر جائز لأنه ضامن. أما المضارب إذا دفع المال إلى آخر (المضارب يضارب) فهو غير جائز، ويصبح ضامنا، ما لم يأذن له رب المال.
7- يستطيع المقرض أن يطلب رهنا أو كفالة أو ضمانا من المقترض، للاستيثاق من استرداد القرض. أما رب المال في القراض فليس له في الأصل ذلك، وإن كان يجوز له استثناء لضمان حالات التعدي والتقصير فقط. فالضمان يطلب ممن هو ضامن، ولا يطلب ممن هو أمين. هذا هو الأصل.
8- المقرض يملك مالا موصوفا مثليا مضمونا في ذمة المقترض. أما رب المال فيملك مالا معينا قيميا، لا في ذمة المضارب، فهو مالك للمال النقدي المقدم منه للمضاربة. ثم إذا ما اشترى العامل بهذا المال النقدي سلعا وعروضا يبقى رب المال هو المالك لهذه الأصناف المالية الجديدة، وتتحول ملكيته من النقود إلى العروض.
9- المقرض يملك مقدارا معلوما في النهاية (عند السداد) . أما رب المال فلا يملك مبلغا معلوما، لأن ماله قد يزيد بالربح، وينقص بالخسارة.(4/1420)
10- المقرض يتعرض إلى خطر الإعسار، ورب المال يتعرض إلى خطر أساسي مختلف هو خطر الخسار.
11- القرض عند جمهور الفقهاء حال، أي يستحق عند الطلب، ورأي بعضهم أنه مؤجل، أي يستحق في الأجل المضروب. أما رأس مال القراض فليس حالا ولا مؤجلا، فإذا تصرف به المضارب فلا يعود لرب المال إلا إذا نض المال (أي عاد نقودا بعد أن صار عروضا وديونا) . وقد أجاز بعضهم تأجيل (تأقيت) القراض، غير أن هذا لا يعني أكثر من توقف المضارب عن الشراء عند الأجل، والانصراف إلى تصفية الشركة، مع ما يحتاج ذلك من انتظار مبيع العروض إلى الزبائن بالأسعار المعقولة.
12- إذا كان القرض حالا فإن المقترض يعتبر مماطلا إذا قدر على الوفاء في أي لحظة ولم يفعل. أما في القراض فإن المضارب يمكنه التأخر في رد المال حتى ينض، ولا يعتبر هذا ظلما ولا مطلا.
13- المقرض لا يحق له على العموم التدخل في أعمال المقترض، حتى تلك التي تتصل بالقرض، ذلك أنه لا يستفيد من أي ربح إذا ربح العمل بالقرض، ولا يتحمل أي خسارة إذا عمل المقترض بالمال فخسر. وتتأكد رغبته في عدم التدخل بالعمل والإدارة إذا كان أيد قرضه بضمان أو رهن أو كفالة.
أما رب المال فله حق التدخل في الإدارة الداخلية (حق التصويت) ، في العلاقة بينه وبين شريكه المضارب. ولا يتدخل في الإدارة الخارجية، في علاقة الشركة بالغير. والخلاصة أن المقرض دائن لا يتدخل، ورب المال شريك يتدخل.
وبهذا فإن المساهم في شركة المساهمة عضو في الجمعية العمومية (= الهيئة العامة) وقد يكن عضوا في مجلس الإدارة. أما المقرض فليس له حق تمثيل في الإدارة.
14- أموال القرض بزيادتها تنقص قدرة المشروع على الاقتراض. أما حصص رأس المال فإنها تعزز القدرة المالية والمركز المالي للمشروع حيال دائنيه، فهي أموال خاصة بالمنشأة، وتشكل الضمان العام لدائنيها، بخلاف القروض فإنها أموال الغير، ومعلوم أن المشروع لا يستطيع الاقتراض إلا ضمن حدود معينة تتأثر بنسبة القروض إلى الأموال الخاصة.
15- القروض قابلة للاستهلاك، بخلاف حصص رأس المال. فاستهلاك القروض يعني تخلص الشركة أو المشروع من الديون المترتبة عليه، أما استهلاك الحصص فإنها تعني انخفاض رأس مال الشركة أو المشروع.(4/1421)
16- حق المقرض مقدم على حق الشريك، عند تصفية المشروع أو الشركة.
17- كل زيادة مشروطة في عقد القرض تعتبر ربا محرما. أما الربح المشروط في عقد القراض فهو جائز، بل واجب، لكن لا يصح إلا إذا كان جزءا شائعا لا معينا، لأن تحديد مبلغ معين من الربح يمكن أن يؤدي إلى قطع الشركة، كما أنه يخل بمبدأ العدالة بين الشريكين.
على أن الفائدة الثابتة تعد أكثر انسجاما مع القرض من الشركة في الربح، لأن القرض مقدار معلوم في الذمة، وكذلك الفائدة، هي مقدار معلوم في الذمة. أما الحصة في الربح فهي مقدار غير معلوم.
18- الشريك شريك في الخسائر والأرباح الصافية الإيرادية والرأسمالية بلغة علم المحاسبة. والمقرض في الشرع لا يشترك في الخسائر ولا في الأرباح، لا الإيرادية ولا الرأسمالية.
النتيجة:
لدى المتأمل في هذه الفروق، وبعضها فروع لأصل واحد، بين القرض والقراض، يبدو لي أن الجمع بينهما كالجمع بين السلف والبيع المنهي عنه في السنة النبوية، ذلك أن العملية تتلخص في النتيجة بأنها قرض بمنفعة مشروطة الأساس، وإن كانت احتمالية المقدار (غير محددة) ، فهناك شرط الاتفاق على الربح، فإن الشركة وإن بدت أنها من عقود غير عقود المعاوضات، إلا أن تصنيفها في عقود المشاركات لا يبعد عنها شوب المعاوضة، باعتبارها عقودا دائرة بين النفع والضرر، فإذا ما أعفي الشريك من الخسارة صارت الشركة دائرة بين النفع وعدمه، ولا يمكن اعتبار الربح من باب حسن القضاء، لأنه مشروط في العقد، ويتحدد حسب النتائج (الربح والخسارة) ، أي بضابط موضوعي، لا حسب رغبة المقترض وإرادته (ضابط شخصي) . وبهذا فإن سندات المقارضة الأردنية إنما هي سندات قروض ومشاركة في الأرباح.(4/1422)
وقد بدا لي بعد كتابة ما سبق أن الفقهاء بحثوا مسألة قريبة من مسألتنا، وهي القراض أو المضاربة بالدين الذي لرب المال على العامل (ضارب بما لي عليك من دين) ولم يجيزوها، ما لم يقبض رب المال الدين المستحق، فتتحول يد المضارب من يد ضمانة إلى يد أمانة، وتمتنع التهمة، لأن المدين قد يكون معسرا، أو راغبا في الاحتفاظ بمبلغ الدين، أي تأخير وفائه على أن يزيده فيه. هذا مع أن المسألة التي بحثها الفقهاء يتحول فيها الدين إلى شركة تحولا كاملا. أما مسألتنا فإن الدين يبقى فيها دينا، ويتحول إلى شركة جزئيا، بحيث يبقى دينا وشركة في آن معا. مما يجعل مسألتنا تجاريها وتباريها في الحرمة، بل عدم جوازها أولى والله أعلم. فإما قرض وإما شركة، أما قرض شركة فلا. هذا ولم تعترف بعض القوانين الوضعية بهذا القرض المشارك، بل اعتبرته شركة باطلة، هي شركة الأسد soviete leonine (1) .، لأنها شركة في الغنم دون الغرم، أي في الربح دون الخسارة. وذهبت تلك القوانين إلى أن الربح إذا تحقق (وزاد نصيب المقرض فيه على الفائدة المسموح بها قانونا، أنزل النصيب إلى الحد القانوني) (2) . وحتى لو شارك القرض في الخسارة بالإضافة إلى أن الربح لم يجز، لما في اجتماع القرض والقراض من تعارض وتنافر كما بينا.
ثم إن النظم الاجتماعية ذوات النزعة الإنسانية تميل دائما إلى توسيع قاعدة الملكية، ملكية وسائل الإنتاج التي تتصاعد أهميتها في العالم المعاصر، وملكية العقارات والثروات الأخرى. ومن شأن سندات المقارضة أنها تميل إلى حصر الملكية في أيدي حفنة قليلة من الأثرياء، سواء أصدرتها الدولة أو القطاع الخاص، وذلك بالقوانين وما يستتبعها من نظم ولوائح تنفيذية.
ولعل الحل البديل المقبول يكون في إنشاء أسهم مقارضة يتم تداولها في السوق المالية، واستردادها بالتدريج عن طريق تخفيض قيمة السهم في حدود القانون، وربما تم ذلك باعفاء المساهم من قسط لم يطلب بعد، أو عن طريق تخفيض عدد الأسهم بإلغاء بعضها، على أساس نسبة لكل مساهم، أو بإلغائها بعد شرائها من السوق. ويوزع على كل سهم ما يخصه من ربح، ولا شك أن الحصة الكلية لمجموع هذه الأسهم من الأرباح تنخفض بانخفاض قيمتها. ومن أفضل الطرق لمحاولة ضمان قيمتها ضمانا نسبيا غير مؤكد، ولضمان توزيع ربح عليها في كل دورة، هو إنشاء صندوق احتياطي لهذا الغرض، يغذي بتبرعات أصحاب الاستحقاق من مساهمين وغيرهم، في نهاية كل دورة مالية، وعند التصفية يصرف رصيد هذا الصندوق للجهات الخيرية.
د. رفيق يونس المصري
__________
(1) الوسيط للسنهوري، سبق ذكره، ج5 ص282 و427
(2) الوسيط للسنهوري، ج5 ص427(4/1423)
سندات المقارضة
وسندات الاستثمار
إعداد
الدكتور حسن عبد الله الأمين
رئيس وحدة الشريعة الإسلامية
بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
بالبنك الإسلامي للتنمية
بسم الله الرحمن الرحيم
سندات المقارضة وسندات الاستثمار
هذا الموضوع خطط لدراسته، أن يوزع على أربع نقاط أساسية يتولى بحث ودراسة كل نقطة منها بعض الفقهاء والخبراء حتى تأتي الدراسة الكلية مستوفية لجميع نواحي الموضوع تفصيليا توخيا للوصول إلى أفضل النتائج، وكانت العناصر التي وزع الموضوع على أساسها كالآتي:
1- تصوير سندات المقارضة كما يمثلها الطرح الأردني لها – دراسة وتشريعا.
2- تحديد طبيعة سندات المقارضة من الوجهة الشرعية في ضوء الطرح الأردني.
3- إطفاء سندات المقارضة – كيفياتها التي وردت في الدراسة والقانون الأردني، وتكييفها الشرعي.
4- ضمان رأس مال وأرباح سندات المقارضة.
كما ذكرت فقد أسندت دراسة كل عنصر أو نقطة من النقاط المذكورة إلى بعض المختصين من السادة العلماء والخبراء كما هي معروضة الآن بين يدي هذه الندوة، ولقد كانت لي متابعات سابقة في هذا الموضوع حينما عرض لأول مرة في ندوة عامة، هي الحلقة الدراسية لتثمير ممتلكات الأوقاف التي كانت باكورة نشاط قسم التدريب بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب هنا، وكان عرض هذا الموضوع حينذاك في شكل دراسة مصحوبة بحالة تطبيقية لسندات المقارضة في الأردن، قدمها الأستاذ وليد خير الله – المدير التنفيذي بالبنك المركزي الأردني – وقد كتبت تعليقا في ذلك الوقت على ما كتبه الأستاذ وليد خير الله. ثم تابعت هذا الموضوع حينما عرض مرة أخرى في الدورة الثالثة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة بعمان بدولة الأردن حينما قدم وشرحه بإفاضة الدكتور عبد السلام العبادي وكيل وزارة الأوقاف.
وها أنا أعود لمتابعة الموضوع للمرة الثالثة، والمشاركة فيه، ولكني لا أتقيد بمنهج التخصص بنقطة معينة الذي تسير عليه دراسة الموضوع في هذه الحلقة الدراسية مسايرة لحكم الألفة والاعتياد كما جرى في المرات السابقة ولعل في ذلك زيادة نفع بإذن الله تعالى.(4/1424)
نشأة فكرة (سندات المقارضة) وتطورها
1- نصت المادة (19) من عقد التأسيس والنظام الداخلي للبنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار سنة 1978م شركة مساهمة عامة محدودة نصت هذه المادة بالآتي (تصدر الشركة – بحسب الأحكام الواردة في القانون الذي تأسست بموجبه – سندات المقارضة المشتركة أو المخصصة، وذلك بالشروط والكيفية المعينة في القانون المشار إليه، وحسب ما يقرره في ذلك مجلس الإدارة) . وكانت هذه أول نشأة فكرة سندات المقارضة.
2- وجاء تعريفها في قانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار رقم 13 سنة 1978م، المادة الثانية منه كالآتي (سندات المقارضة الوثائق الموحدة القيمة والصادرة عن البنك بأسماء من يكتتبون فيها مقابل دفع القيمة المحررة على أساس المشاركة في نتائج الأرباح المحققة سنويا حسب الشروط الخاصة بكل إصدار على حدة.
ويجوز أن تكون هذه السندات صادرة لأغراض المقارضة المخصصة وفقا للأحكام المقررة لها في هذا القانون.
3- وقد أعيد نص هذه المادة برقمها كما هو في قانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار رقم 62 لسنة 1985م.
تطور جديد للفكرة في مرحلة التشريع
4- وحينما صدر قانون سندات المقارضة – المؤقت – لسنة 1981م جاء تعريفها به – أي سندات المقارضة – مختلفا بعض الشيء من حيث الصيغة والمحتوى عما جاء عنها بقانون البنك الإسلامي الأردني السابق واللاحق، فقد نصت المادة (2) – أ – من هذا القانون بالآتي: تعني (سندات المقارضة) الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح.(4/1425)
هذه هي (سندات المقارضة والاستثمار) كما صوروها – أو عرفها قانون البنك الأردني سابقا ثم قانون سندات المقارضة لاحقا، وهما الوثيقتان اللتان يلتمس منهما ومن مذكاتهما الإيضاحية فهم هذا الموضوع وإبداء الرأي حوله، مع الدراسات التي سبق وأن جرت حوله.
ونلاحظ من هذا أن فكرة (سندات المقارضة للاستثمار) قد جاءت مصاحبة لنشأة البنك الإسلامي الأردني حيث جاءت الإشارة إليها في المادة 19 من عقد التأسيس والنظام الداخلي له، ثم عرفت بوضوح في قانونية رقم 13 لسنة 1978م ورقم 62 لسنة 1985، وذكر في تعريفها أن الجهة المصدرة لها هي البنك الإسلامي الأردني، ولغرضين:
1- أحدهما: على أساس المشاركة في نتائج الأرباح المتحققة سنويًا – حسب الشروط الخاصة بكل إصدار.
2- الثاني: أن تكون هذه السندات صادرة لأغراض المقارضة المخصصة – وفقا للأحكام المقررة لها في القانون.
ولكن حينما نأتي إلى قانون (سندات المقارضة) المؤقت لسنة 1981م نجد اختلافًا واضحًا في التعريف يشمل الأغراض وجهات الإصدار، فقد اقتصر هذا القانون على غرض واحد هو المقارضة المخصصة في تعبير قانون البنك الإسلامي الأردني حيث قال: (سندات المقارضة) الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه، بقصد تنفيذ المشروع.. إلخ. وسكت عن الغرض الأول الذي ذكره قانون البنك الإسلامي الأردني والخاص، بالاستخدام العام والمطلق للأموال التي تمثل سندات المقارضة. وحدد هذا القانون الجهات التي يحق لها إصدار سندات المقارضة المخصصة بالمشروعات – في جهات ثلاثة، هي كما جاء بالمادة الثالثة منه:
أ - وزارة الأوقاف والشؤون والمقاصد الإسلامية.
ب - المؤسسات العامة ذات الاستقلال المالي.
ج- البلديات.
وبذلك صار الغرض الأول لسندات المقارضة الذي ذكره قانون البنك الإسلامي الأردني قاصرًا على هذا البنك، وليس داخلًا في أغراض قانون سندات المقارضة وعلى ذلك أصبح دور البنك الأردني الإسلامي بالنسبة لهذا الموضوع كدور سائر البنوك الإسلامية في الوقت الحاضر، التي تتلقى الأموال من أصحابها لاستخدامها في نشاطها العام وغير المخصص واقتسام عائد الربح معهم. ولا فرق حينئذ أن يكون ذلك مرتبا بطريق سندات مقارضة محددة القيمة أو غير محددة أو بطريق استلام عادي لتلك الأموال واستخدامها في الأغراض المذكورة مما يدخل في باب المضاربة الشرعية المطلقة، والتي استقر العمل بها في جميع البنوك الإسلامية دون إثارة غبار حولها.(4/1426)
(سندات المقارضة للاستثمار) كما طرحها القانون الأردني
ننتقل الآن للكلام عن سندات المقارضة للاستثمار التي طرحها القانون الأردني المؤقت رقم 10 لسنة 1981م وذلك من النواحي الثلاث الآتية:
1- تحديد طبيعة هذه السندات وبيان حقيقيتها.
ب - ضمان القيمة الاسمية لهذه السندات في نهاية مدة استحقاقها عن الحكومة الأردنية.
3- مسألة إطفاء السندات، كيفيتها وتخريجها الشرعي.
وفيهما يتعلق بالبند الأول – تحديد طبيعة سندات المقارضة ننقل النصوص القانونية التي توضح ذلك والتفسيرات الشارحة له، ممن تولوا شرح هذا القانون وتفسيره من المسؤولين الأردنيين، ونوضح رأينا على ضوء ذلك، وكما ذكرت سابقا فقد كانت أول محاولة في طرح هذا الموضوع محاضرة عن التعريف بقانون سندات المقارضة الأردني، وشرحه وبيان تطبيقاته، مرفق بها دراسة تطبيقية عملية، قدمها الأستاذ وليد خير الله، أحد كبار المسؤولين بالبنك المركزي الأردني في ندوة (إدارة وتثمير ممتلكات الأوقاف) التي نظمها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية في الفترة من 20/3 – 2/4/1404هـ الموافق 24/12/1983م – 4/1/1984م على أساس أن ينظر فيها على أنها أسلوب من أساليب تنمية واستثمار ممتلكات الأوقاف. ولم نطلع حينذاك على قانون سندات المقارضة الأردني، ولكن من عرض الأستاذ وليد خير الله لبعض نصوص هذا القانون في محاضرته المكتوبة والحالة التطبيقية المرفقة معها والنقاش والمداولات التي جرت حولها خرجت بحصيلة كتبتها كتعليق على تلك المحاضرة – مؤداها أن سندات المقارضة للاستثمار في القانون الأردني – كما عرضها وشرحها الأستاذ خير الله في محاضرته، ليست من نوع المضاربة أو القراض المعروف في الفقه الإسلامي، وإنما هي في حقيقتها قروض مؤجلة بفوائد مشروطة وأنها معاملة ربوية، من أجل ذلك لم تأخذ بها الحلقة الدراسية في توصياتها التي اقترحتها لأنواع أساليب تثمير ممتلكات الأوقاف.(4/1427)
والآن أعود للنظر في الموضوع مرة أخرى من خلال نصوص قانون سندات المقارضة مباشرة بعد الحصول على نسخة منه وفي ضوء عرض جديد له قدمه الأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي وكيل وزارة الأوقاف الأردنية، فهل في الأمر من جديد؟
لنرى فيما يلي:
تنص المادة (2) من قانون سندات المقارضة على الآتي:
أ - تعني (سندات المقارضة) الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها، مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح.
ب - يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع، وتحدد هذه النسبة في نشرة إصدار السندات، ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد، كما لا تعطي صاحبها المطالبة بفائدة سنوية محددة.
ولتحديد ماهية سندات المقارضة وبيان حقيقتها لا بد أن نقرن نص المادة (2) أعلاه بالفقرة (ب) من المادة (7) التي تقول (يعين في نشرة الإصدار، بنك مرخص أو مؤسسة مالية، وكيلا للدفع يتولى شؤون دفع القيمة الاسمية للسندات وأرباحها بالقيم المستحقة وفي المواعيد المقررة) .
فالفقرة – أ – من المادة الثانية توضح أن الوثائق المحددة القيمة التي تمثل سندات المقارضة، هي عبارة عن صكوك – أو إيصالات، بمبالغ قدمت لصاحب مشروع بعينه لتنفيذه واستغلاله وتحقيق الربح.(4/1428)
ونصت الفقرة (ب) من المادة المذكورة على استحقاق أصحاب تلك الأموال (نسبة من أرباح ذلك المشروع المعين، تحدد في نشرة إصدار السندات ولم توضح المادة المذكورة في فقرتها أساس استحقاق هذه الأموال الشيء من الأرباح، هل ذلك على أساس أن هذه الأموال تمثل رأسمال مشاركة في المشروع فتستحق نصيبا في الربح بهذه الصيغة؟ أم أنها أموال مضاربة، وكيف؟ فتستحق جزءا من الربح على هذا الوجه؟ أم أنها تمويل للمشروع عن طريق القرض لهذه الأموال؟. ولو أن القانون الأردني اقتصر على هذه المادة وحدها في التعريف وبيان حقيقة ماهية سندات المقارضة لكان لنا أن نبحث في كيفية ومدى انطباق مواصفات وشروط عقد القراض – المضاربة الشرعية، أو الشركة في الفقه الإسلامي عموما على سندات المقارضة التي طرحها هذا القانون، لنرى إلى أي حد يمكن أن تلتقي وتتفق هذه السندات مع أي من العقدين.
ولكن القانون في الفقرة (ب) من المادة السابعة حسم هذا الأمر بالنص على دفع القيمة الاسمية للسندات، في المواعيد المقررة، إضافة إلى أرباحها بالقيم المستحقة في تلك المواعيد المقررة.
فدفع القيمة الاسمية للسندات وفي مواعيدها المقررة يجعل منها قروضا محددة الأجل، ويجعل مما سمي بأرباحها بالقيم المستحقة، فوائد على قروض مؤجلة مشروطة عند التعاقد، وإن لم تحدد بمقادير معينة.
وينفي عنها أن تكون أموال قراض – مضاربة شرعية – أو شركة أخرى، الأمر الذي كان يتحتم معه أن تكون ممثلة لأسهم في أصل المشروع، لا قروضا تمويلية لتنفيذه.
وبناء على ما تقدم فإن النتيجة التي نصل إليها من هذا العرض والمناقشة لسندات المقارضة من خلال قانون سندات المقارضة الأردني، أن هذه السندات هي في حقيقتها نوع من التمويل عن طريق القرض المؤجل بفائدة مشروطة وإن لم تكن محددة، وتسميتها ربحا لا يغير من حقيقتها، فهي قروض بفوائد ربوية في صورتها الحالية.(4/1429)
ضمان سندات المقارضة
أنتقل بعد ذلك لمسألة ضمان هذه السندات، فقد نصت المادة (12) من قانون (سندات المقارضة) الأردني بالآتي: (تكفل الحكومة تسديد قيمة سندات المقارضة الاسمية الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة، وتصبح المبالغ المدفوعة لهذا السبب قرضا ممنوحا للمشروع بدون فائدة مستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات) .
إن هذا النصيب يساير الاتجاه القائل بأن سندات المقارضة – كما يفهم من تسميتها أنها عبارة عن أموال مضاربة شرعية، وتفاديا لحرج تضمن المضارب – عامل المضاربة – المتفق على منعه بين الفقهاء، فقد جاء النص المذكور لعلاج هذه المسألة، على أساس أن هذا الضمان لأموال المضاربة جاء من جهة خارجية وليست من أحد طرفي عقد المضاربة، ومن هنا كانت صحته وجوازه شرعا.
وعلى افتراض أن (سندات المقارضة) تمثل أموال مضاربة شرعية فإن نص المادة (12) المذكور، لا يحقق الغرض المطلوب لضمان سندات المقارضة وأرباحها، ذلك أنها لم تقدم سوى قرض مؤجل ومستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات تسترده من صاحب المشروع المقارض- عامل القراض. فالضمان الحقيقي يقع على كاهل عامل المضارب – الذي هو صاحب المشروع، والمضارب لا ضمان عليه، لأنه أمين فيما هو بيده من مال المضاربة عند جميع الفقهاء إلا إذا ظهر منه تعد أو تقصير فيما ائتمن عليه من مال المضاربة، ولذلك فإن الضمان الحكومي لسندات المقارضة المنصوص عليه في المادة (12) فقرة (ب) لا يمثل ضمان طرف ثالث لمال المضاربة ولا يرفع عبء الضمان الحقيقي عن كاهل عامل المضاربة أو يزيل الحرج الشرعي عن ضمانه لمال المضاربة في سندات المقارضة، على افتراض أنها أموال مضاربة شرعية.(4/1430)
إطفاء السندات
والآن نصل إلى النقطة الثالثة والخاصة بإطفاء سندات المقارضة كما وردت في قانون سندات المقارضة الأردني.
وبحث هذه النقطة أيضا هو مسايرة للاتجاه القائل بأن سندات المقارضة – كما يدل على ذلك اسمها – هي أموال قراض – مضاربة شرعية – وفي ضوء هذا الاقتراض نبحث هذه النقطة، فما هو إذن إطفاء السندات؟ يقول الأستاذ وليد خير الله في رده على ملحوظاتنا على محاضرته – المشار إليها في أول هذا البحث (صورته مرفقة) يقول: (إن المراد بالإطفاء هو دفع قيمة السندات الاسمية في التواريخ التي تحددها نشرة الإصدار، بالطريقة التي توضحها هذه النشرة.. وهناك طريقتان لعملية الإطفاء:
الأولى: عن طريق تكوين مخصص يدفع مرة واحدة لجميع حملة السندات في تاريخ الاستحقاق.
والأخرى: الدفع الدوري السنوي، وفق طريقة يتفق عليها، وتنزل لقيمة المطفأ من السند من أصل قيمته الاسمية.
وقد يقول قائل: إن مسألة إطفاء السندات هذه مسألة إجرائية لا تثير غبارا ولا ينتج عن السؤال عنها والإجابة عليها سوى إدراكها وفهمها. وهذا القول صحيح بالنسبة للطريقة الأولى من طريقتي الإطفاء لكنه ليس صحيحا بالنسبة للطريقة الأخرى، لقيام استشكال حول كيفية استحقاق العائد الربحي للأسناد المطفأة تدريجيا، هل يكون ذلك كاملا للسهم، وعلى مر الأعوام التي يندرج فيها انخفاض قيمته بالإطفاء الجزئي السنوي؟ أم أن العائد الربحي يتأثر بهذا الانخفاض المتدرج لقيمة السهم، وبالتالي ينخفض هذا الربح بما يعادل انخفاض قيمة أصله – السهم؟ وعلى القول الأول، فكيف يبرر استحقاق الربح – الكامل، من الناحية الشرعية؟(4/1431)
تداول سندات المقارضة
نصت المادة (18) من قانون سندات المقارضة بالآتي:
(يتم تداول سندات المقارضة في سوق عمان المالي حسب أحكام قانونه وأنظمته وتعليماته، كما يتم نقل ملكيتها حسب هذه الأحكام. لقد سبق أن أنهينا في بحث النقطة المتعلقة بتحديد طبيعة سندات المقارضة أن هذه السندات تمثل صكوكا بغرض مالي مؤجل وبفائدة هي عبارة عن نسبة من عائد المشروع الإيجاري بعد اكتماله، وتسميته هذا العائد ربحا لا يغير من هذه الحقيقة، ومعنى ذلك أن هذه السندات تمثل ديونا في ذمة صاحب المنشأة أو المشروع، ولا تمثل أسهم مشاركة، في شركة مضاربة أو غيرها وحينئذ فبيعها أو تداولها يكون بيعا لدين في الذمة ولغير من عليه الدين، بنقد حاضر وهذا لا يجوز كما هو مقرر لتخلف شرط التقابض ودخول الفضل فيه) .
البدائل الصالحة
لعل إدخال شيء من التعديل على الصورة المطروحة بها سندات المقارضة بشكلها الحالي، يؤدي قبولها وصحتها، ويحقق في الوقت نفسه الأهداف والأغراض المرجوة من إصدارها، وذلك بأن تعتبر هذه السندات أسهما في المنشأة أو المشروع، تمثل حصصا في أصل ملكيته لأصحابها سواء أكان المشروع في أرض وقفية أو غيرها، لأن الوقف يمكن إعماره ببيع جزء فيه عند اللزوم كما نص على ذلك الحنابلة والأحناف (1) وعند ذلك يمكن تداول هذه السندات ما دامت تمثل حصصا في أصل المشروع والمنشأة، ويمكن إجراء إطفائها على قاعدة الملكية المتناقصة بجزء من عائدات إيجار المشروع، أو استخداماته الاستثمارية الأخرى المشروعة.
أما مسألة ضمان هذه السندات – ضمان لأصلها – لا ريعها – أي عائداتها، فإن هذه يمكن تأمينها عن طريق شركات التأمين الإسلامية، أو إنشاء صندوق خاص لهذا الضمان، يدبر مكوسه بجزء من عائدات المشروع، شريطة ألا يكون ذلك كليا أو جزئيا من نصيب عامل المضاربة حتى لا نقع في إلزامه بالضمان من طريق آخر، أو يمكن أن يتم عن طريق طرف آخر متبرعا، ويمكن أن تفعل ذلك الحكومة على وجه التبرع لتشجيع أدوات الاستثمار.
__________
(1) المغني لابن قدامة، جـ6، ص225. وحاشية ابن عابدين، جـ 4، ص384(4/1432)
.
مشروع شهادات الاستثمار المخصصة بالبنك الإسلامي للتنمية
لعل بعض المقترحات والتدابير التي أشرنا إليها، هو ما فعله مشروع شهادات الاستثمار المخصصة بالبنك الإسلامي للتنمية حيث نصت المادة التاسعة من المشروع صراحة على أن يكون دور البنك في استخدامه لمتحصلات الأوراق التي يصدرها هو دور المضاربة وبذلك قطعت أن العلاقة تقوم على أساس القراض – المضاربة الشرعية، وأكدت ذلك في المادة (7) من المشروع التي نصت على أن للورقة المالية في حد ذاتها ممثلة لحصة مالية شائعة في مجموع صافي موجودات المشروع.
وفي المادة (14) اقترحت إنشاء صندوق للتأمين التعاوني، لتغطية مخاطر الاستثمار، وفي المادة (15) المخصصة لكيفية توزيع الربح في نهاية فترة الاستثمار أشارت في الفقرة (ج) للنسبة التي تخصص من الربح لصندوق تأمين مخاطر الاستثمار.
وهكذا جاء هذا المشروع منسجما مع أحكام فقه المضاربة الشرعية ومتجنبا لما يوقع في أي مخالفة أو محظور.
ويمكن لسندات المقارضة الأردنية أن تأخذ بهذا المسلك دون الوقوع فيما يعطل الأهداف والأغراض المتوخاة من هذا الموضوع.
والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الدكتور حسن عبد الله الأمين(4/1433)
حول محاضرة
سندات المقارضة
للأستاذ وليد خير الله
تعريف سندات المقارضة:
ليس من المعروف في اللغة اشتقاق اللفظ من غير مادته المأخوذ منها سواء أكان من لفظ لمادة أخرى، والشيء السليم أن يؤخذ من منطوق اللفظ المشتق منه – وهو القراض – هنا بمعنى القطع وليتسق ذلك مع هذا الاسترسال في شرح معناه.
كما أنه كان من الميسور تسميته بسندات (المضاربة) وبيان الاشتقاق وشرح معنى هذه التسمية بسهولة، دون أي لبس.
ومن الحالة التطبيقية صفحة (2) بدل الخلو من مالك العقار لا يجوز لعدم العوض المقابل، ولكن يجوز للمستأجر الذي يتخلى عن مصلحته في استعمال العقار للمستأجر الجديد، لأنه في هذه يمثل بدل المنفعة – وهي مال عند الجمهور.
صفحة (2) يلاحظ أنه لم يوضح المراد بالإطفاء للسندات هل هو شراء عدد منها بالكامل سنويا بحيث تتناقص سنويا إلى أن تنتهي ملكيتها كلها إلى الجهة المصدرة، أم أن المراد بالإطفاء نقص قيمة السندات تدريجيًا سنويًا إلى أن تنقضي قيمتها بالكلية لصالح الجهة المصدرة؟.
وعلى كلا الحالتين فكيف تظل أرباح جملة السندات ثابتة من السنة الثالثة إلى نهاية مدتها في السنة السادسة، مع تناقص عددها في الحالة الأولى، أو قيمتها في الحالة الثانية وبالتالي كيف يجوز شرعا؟
صفحة (3) السطر قبل الأخير من المحاضرة: المحاضر يقصر مشاركة سندات المقارضة على ريع المشروع الناتج من إيجار المشروع بعد اكتماله، ولا يجعل لها حق المشاركة في ذات المشروع ويسمى حامل هذا السند مقرضا صراحة.
وفي صفحة (4) حيث يقول وهو بصدد تعداد الأسباب الموجبة لاستقلال المشروع: (أن تكون للمقرض شخصية اعتبارية وذمة مالية مستقلة عن شخصية الصفة المصدرة ومذمتها) .(4/1434)
وفي صفحة (6) من المحاضرة أن من ضمن ما تحويه نشرة إصدار سندات المقارضة (تحديد فترة السماح اللازمة لتنفيذ المشروع) كأنما هناك قرض بفائدة يشتمل على فترة سماح. وهذا ما تفيده هذه النصوص، بل تفيده مجموع المحاضرة كلها، ويؤيده ما جاء في صفحة (4) من الحالة التطبيقية لتمويل بناء أرض وقفية المرفقة مع هذه المحاضرة حيث جعلت قيمة السهم الاسمية عند الإطفاء ثابتة كما هي عند طرح السندات للبيع بعد مضي عدة سنوات عليها وبعد قيام المشروع وإدارة عوائد تزيد قيمتها على القيمة الاسمية للأسهم ومع فعل التضخم الذي يقلل من القيمة الاسمية التي كانت محددة للسند عند الطرح.
كل ذلك يجعل هذه السندات بعيدة كل البعد عن اسم المشاركة ويحتم أنها قروض مؤجلة بفائدة هي عبارة عن نسبة مئوية من العائد الإيجاري للمشروع والسند ما هو إلا عبارة عن صك بتوثيق مبلغ القرض المؤجل، والخلاصة من هذا أن سندات المقارضة كما شرحها المحاضر وطبقها في الحالة التطبيقية ما هي إلا قروض مؤجلة بفائدة.
هذا ما خرجنا به من المحاضرة والنموذج التطبيقي لها، وليس بين أيدينا القانون الكامل لسندات المقارضة. لذلك فهذا حكم على المحاضرة ونموذجا وليس حكما على القانون الذي لم نطلع على نصوصه بعد. وحبذا لو أرفق المحاضر نسخة من نص ذلك القانون مع محاضرته، إذن لأبرأ ذمته وأنصف القانون.
د. حسن عبد الله الأمين
بسم الله الرحمن الرحيم(4/1435)
البنك المركزي الأردني
التاريخ: 4/6/1984م
الموافق 4رمضان 1404هـ الرقم:.......
سعادة الدكتور نفزت يالسنتاس المحترم - جدة
تحية طيبة وبعد:
تلقيت بمزيد الاحترام والتقدير رسالتكم التي تحمل الرقم (987) المؤرخة في 22/5/1984، والمتعلقة بالملاحظات التي أبداها المراجع حول محاضرة سندات المقارضة.
إنني أشكر لكم اهتمامكم واهتمام المعهد بنشر ما دار في ندوة تثمير الأوقاف، معربا عن تقديري لكل من يسهم بهذا الجهد الخير آملًا أن أكون قد وفقت في توضيح بعض الردود حول الملاحظات المثارة.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
المدير التنفيذي
في البنك المركزي الأردني
وليد خير الله(4/1436)
فيما يتعلق بتعريف سندات المقارضة، فأرجو أن أوضح أن قانون سندات المقارضة رقم 10 لسنة 1981 كان عنوان المحاضرة التي ألقيتها وقد صدر القانون وهو يحمل هذا الاسم. وكان مجال التعريف به في مقدمة المحاضرة للتدليل على التسمية ومرادفاتها مع الإشارة إلى معنى القراض أما فقه هذه التسمية وتفاصيل ماهيتها فقد تركته كما بينت إلى ذوي الاختصاص لأن الأمر فيه اجتهاد كبير.
إن جواز أو عدم جواز استحقاق المالك لبدل الخلو مسألة لم ترد في معرض الحديث عن إيرادات المشروع في الحالة التطبيقية وإنما الأمر الذي يعني هنا استحقاق المشاركين في تمويل المشروع وهم حملة الإسناد (إذ لا يوجد مالكين) لإيرادات بدل الخلو في المسألة المطروحة (إعمار الأرض الوقفية) فهذا أمر الأفضل تركه للمستشارين الشرعيين. أما ذكر (بدل الخلو) فكان لا بد منه إذ إنه أمر مالي تنظيمي ولا يجوز تجاهل وجوده.
إن المراد بالإطفاء هو دفع قيمة السندات الاسمية في التواريخ التي تحددها نشرة الإصدار وبالطريقة التي توضحها هذه النشرة. ولقد أوضحت نشرة الإصدار المرفقة وبالحالة التطبيقية صورة الأمر المبحوث عنه. ولقد بينت أن ريع المشروع يقسم عند تحققه إلى قسمين، قسم يوزع على حملة الإسناد على شكل أرباح وبالنسبة المعلنة، وقسم آخر يستعمل لدفع قيمة السندات الأصلية أو ما يسمى بالإطفاء. وهناك طريقتان لعملية الإطفاء الأولى عن طريق تكوين مخصص يدفع مرة واحدة لجميع حملة السندات في تاريخ الاستحقاق، والأخرى الدفع الدوري السنوي وفق طريقة يتفق عليها وتنزل القيمة المطفأة من السند من أصل قيمته الاسمية. ومن الطبيعي أن تكون نسبة الأرباح في المراحل الأخيرة لحملة السندات عالية إذ إن ريع المشروع في مراحله الأولى قليل جدا بل ربما تكون هناك خسارة في البداية لعدم وجود ريع – إلى أن يكتمل استثمار المشروع وتحقيق الريع. ولكن النسبة التراكمية في النهاية تبدو معقولة على سبيل المعدل.
إن الحالة المبحوث عنها في سندات المقارضة هي أرض وقفية وهي غير قابلة للتمليك من أية جهة ولكنها قابلة للاستثمار، وإن تقديم الأرض والمشروع المقام عليها مستقل تمام الاستقلال عن الهيئة المصدرة (وزارة الأوقاف) لهذه السندات والتي من حصيلتها سيمول المشروع.(4/1437)
فالممولون في هذه الحالة لهم حق في ريع المشروع وليس برقبته وإن هلك المشروع فيهلك على ذمة الممولين، أما الأرض الوقفية فهي باقية. ويختلف الحال بحسب طبيعة المشروع الصادرة لتمويله سندات المقارضة فما يقال عن الوقف لا يقال في مجال آخر.
إن (المشروع) في الحالة المبحوث عنها هو المقترض وليس لفظ (المقرض) كما جاء في الملاحظات وعليه فإن استعمال لفظ المقترض للدلالة على تلقي المال من طرف آخر وهم حملة السندات الممولين، وهذا لفظ فني معروف في مثل هذه الأمور حتى إنه يطلق على الوديعة المودعة من قبل شخص في أي بنك بأنها قرض حتى ولو كانت بدون فوائد إطلاقا وإن البنك هو المقترض مع أنه ليس كذلك.
أما التخريج الوارد في وجود فترة السماح وكأن الأمر يحتمل وجود قرض وفوائد، فأرجو الرجوع إلى نشرة الإصدار المرفقة مع الحالة التطبيقية والتي تعرف فترة السماح (صفحة 5) والتي تقول: (تعتبر الفترة الواقعة بين تاريخ إصدار السندات وبدء توزيع الأرباح فترة سماح لازمة لتنفيذ المشروع) وأظن أن هذا واضح وضروري لتنظيم التعامل وإعلام المشاركين متى تتحقق أرباحهم فلربما يمضي وقت ليس بالقصير حتى يبدأ المشروع بتحقيق أرباح بعد اكتماله بعدة سنوات.
وفي الختام أرجو أن أكون قد وفقت في توضيح ما أثير من تساؤلات حول محاضرة سندات المقارضة، كما أرجو المعذرة تثبيت حقيقة وهي أنني كنت قد أرسلت عدة نسخ من قانون سندات المقارضة مرفقة مع المحاضرة لتقوم سكرتارية المعهد بتصويرها وتوزيعها على المشاركين. مشيرا بهذه المناسبة إلى أن القانون كان محاولة تشريعية لتحقيق السير في مبدأ وليس ادعاء بالإحاطة والكمال، كما أنه خطوة نحو التحرك والتطور وقبول التجربة والخطأ مسترشدين بقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا} مستجبين دائما لاتباع ما أمر به الرحمن الرحيم.(4/1438)
سندات المقارضة
إعداد
القاضي محمد تقي عثماني
قاضي القسم الشرعي
بالمحكمة العليا بباكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
سندات المقارضة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فإن الموضوع المفوض إلي في هذه الندوة، وإن كان يختص بإطفاء سندات المقارضة فحسب، ولكنه يجب للدخول في هذا الموضوع أن نعرف حقيقة سندات المقارضة، وضرورتها، وتكييفها الفقهي، حتى يتضح لنا معنى إطفاء هذه السندات، وما يجب له من طريق مشروع وفق الشريعة الإسلامية.
وإن فكرة سندات المقارضة إنما ظهرت لإيجاد بديل شرعي لسندات القرض الربوية التي تصدرها البنوك أو الشركات التجارية في الاقتصاد المعاصر اليوم، فلنبدأ بمعرفة حقيقتها:
سندات القروض:
إن سندات القروض صكوك تمثل قروضا تحصل عليها الشركة من عامة الناس على أساس الفائدة الربوية المحددة، وتكون هذه الصكوك في التعامل المعاصر قابلة للتداول، وغير قابلة للتجزئة.
وإنما تضطر الشركات في بعض الأحيان إلى إصدار هذه السندات لأنها قد تحتاج في أثناء مزاولة أعمالها إلى مبالغ أكثر مما حصلت عليه من طريق إصدار الأسهم، لتزيد من قدراتها على إنجاز مشاريعها، والتوسع فيها، أو لتواجه أزمة مالية طرأت عليها. ولا ترغب الشركة في عرض اكتتاب بأسهم جديدة على الجمهور، لئلا تتضاءل أنصبة الشركاء، فتضطر إلى أن تقترض هذه المبالغ ممن يمكن الاقتراض منه.(4/1439)
وفي جانب آخر، تكون عند كثير من الناس مبالغ أفرزوها من حاجاتهم اليومية، ورصدوها لحاجاتهم المتوقعة في المستقبل. وأن هذه المبالغ تكون مودعة في بيوت أصحابها، أو في حسابهم الجاري في البنوك، فلا يمكن أن تستغل هذه المبالغ لصالح الإنتاج الوطني، إلا بأن تدفع إلى المنتجين أو التجار قرضا، فيستعملونها في أعمالهم الإنتاجية أو التجارية. ولكن أصحاب الأموال ينفرون من إقراضها خشية أن لا يجدوها عندما تعرض لهم الحاجات التي رصدوا هذه المبالغ من أجلها.
فجاءت فكرة إصدار سندات القروض تشجيعا لأصحاب الأموال في القرض، وإزالة لمخاوفهم، وذلك بطريقين:
الأول: بإطماع أصحاب الأموال بتحديد فائدة ربوية على هذه القروض.
والثاني: يجعل هذه السندات محلا للتداول، بأن حاملها كلما أراد أن يحصل على سيولة، جاز له أن يبيعها في السوق المفتوحة بقيمتها السوقية التي تزيد في الغالب عن قيمتها الاسمية.
وبهذا استطاع النظام الاقتصادي المعاصر أن يستخدم أموال الناس المودعة في بيوتهم لعملية الإنتاج والاستثمار.
ولكن هذا الطريق مبني على أساس القرض الربوي الذي لا تبيحه الشريعة الإسلامية في حال من الأحوال، وفيه من المفاسد الشرعية والاقتصادية ما ليس هذا محل لبسطها.
ومن هنا أراد بعض المسلمين في البلاد الإسلامية أن يأتوا ببديل لهذه السندات في شكل (سندات المقارضة) والمقارضة أو القراض عقد معروف في الفقه الإسلامي يسلم فيه رب المال أمواله إلى عامل يستثمرها بطريق التجارة، ويكون الربح الناتج من هذه التجارة بينهما بالنسبة المتفق عليها. وإن هذا العقد يسمى (مضاربة) أيضا.
فالفكرة الأساسية وراء سندات المقارضة أن يحدث عقد المضاربة بين حامل هذه السندات ومصدرها، فلا يستحق صاحب السند فائدة محددة، وإنما يستحق نسبة معينة من الربح إن أثمرت التجارة ربحا.
وقد أصدرت عدة بلاد إسلامية قوانين خاصة بالنسبة لهذه السندات، فنريد في هذا البحث أن ندرس هذه القوانين، وما شرعت لها من خطة عملية، ليمكن لنا البت في حكمها الشرعي. ثم نأتي باقتراح خطة عملية في ضوء الشريعة الإسلامية.
وبين يدينا في هذا الوقت مشروع للقانون – وهو قانون سندات المقارضة رقم 10 لسنة 1981م الذي أصدرته المملكة الأردنية الهاشمية.(4/1440)
القانون الأردني:
القانون الأردني، فعلى ما شرحه الدكتور عبد السلام العبادي في دراسته المعروضة على مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة بعمان، يتلخص في نقاط تالية:
1- إن (سندات المقارضة) هي الوثائق المحدودة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه، بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح.
2- يحصل مالكو السندات على نسبة محدودة من أرباح المشروع، وتحدد هذه النسبة في نشرة إصدار السندات، ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد، كما لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة.
3- المعهود في المضاربة المعهودة في الفقه الإسلامي، أن المضاربة إذا أردت أرباحا فإنها توزع عند نهاية كل فترة على كل من رب المال والعامل حسب النسبة المتفق عليها في العقد، ولكن القانون الأردني لسندات المقارضة يصرح بأن عند كل فترة لا توزع إلا النسبة المختصة بصاحب السند، فيجوز له ترك حصته من الربح محفوظة في المشروع، ليمكن لها الإطفاء التدريجي للسندات.
4- يجب على كل صاحب سند أن يتقدم في المواعيد المحدودة في العقد، فيطالب الجهة المصدرة بإطفائه على أساس قيمته الاسمية، ويسترد ما دفعه من المال مقابل السند الذي تقدم به. وإن الجهة المصدرة ترد عليه قيمة السند من حصتها المحفوظة من الربح، كما مر في النقطة الثالثة.
5- وهكذا يسترد أصحاب السندات مقدار ما دفعوه أولا بأول، عن طريق الإطفاء التدريجي، إلى أن يتم الإطفاء لجميع السندات. وحينئذ تمتلك الجهة المصدرة المشروع كله بما فيه من أبنية، وآلات، وعروض وما إليها. فيصير المشروع كله ربح الجهة المصدرة الناتج من هذه المقارضة.
6- أما إذا أصيب المشروع بخسارة، فالأصل أن يتحملها أصحاب السندات لأنهم أرباب الأموال، ولكن صرح القانون الأردني بأن الحكومة كطرف ثالث تضمن لأصحاب السندات مبلغ قيمتها الاسمية، فإن أصيب المشروع بخسارة استغرقت الأموال كلها، فإن الحكومة تتدارك لأصحاب الأموال هذه الخسارة.
7- ما تدفعه الحكومة لأصحاب السندات من المال جبرا لخسائرهم، يعتبر قرضا في ذمة الجهة المصدرة، يجب عليها أداؤه إلى الحكومة عندما يتم الإطفاء الكامل لهذه السندات.(4/1441)
هذه خلاصة الصيغة التي طرحها القانون الأردني لسندات المقارضة. ولو نظرنا فيها بإمعان. وجدنا أن فيها مؤاخذات من الناحية الشرعية.
1- إن طبيعة المضاربة أو المقارضة تقتضي أن لا يضمن لأحد من الفريقين برأس المال ولا بالربح، فإن ما يحصل لهما ليس فائدة ربوية، وإنما هو ربح تجاري، والربح التجاري إنما يستحق من جهة تحمل الأخطار، فإذا كان رأس المال مضمونا لرب المال، خرج العقد عن طبيعة المضاربة. وبما أن القيمة الاسمية للسندات في الصيغة الأردنية مضمونة لحامليها، فإن هذا الشرط لا يوافق المضاربة المعهودة في الشريعة الإسلامية.
وربما يقال: إن الذي ضمن هذه القيمة ليس مصدر السندات أو العامل، وإنما ضمنته الحكومة كطرف ثالث، والممنوع في الشريعة أن يضمن أحد طرفي العقد بالمال للطرف الآخر. فأما إذا جاء شخص ثالث، وضمن لأحدهما ما يخسره في العقد فلا مانع منه شرعا.
ولكن هذا العذر غير وارد في الصيغة الأردنية. لأن الحكومة لا تضمن ههنا بالقيمة الاسمية لحامل السند نيابة عن الجهة المصدرة، ولذلك يعتبر المال المدفوع قرضا للحكومة في ذمتها ويجب عليها أداؤه عندما يتم الإطفاء الكامل للسندات. وما دامت الجهة المصدرة تلتزم بأداء هذا المبلغ إلى الحكومة، أن الضامنة في الحقيقة هي الجهة المصدرة للسند، لا الحكومة.
2- ولئن تصورنا تعديل القانون بأن تكون الحكومة متبرعة محضة، ولا يعتبر المال المدفوع من قبلها قرضا في ذمة الجهة المصدرة، فحينئذ تدخل هذه الصيغة المعدلة في حكم (ضمان الطرف الثالث) وإن الضابط المعروف في الفقه الإسلامي أن الكفيل إنما تصح كفالته لما هو مضمون على الأصيل، كالقرض، وثمن البيع، وسائر الديون. أما ما لم يكن مضمونا على الأصيل، فلا تصح كفالته، مثل الوديعة ورأس مال الشركة والمضاربة، وما إلى ذلك، وهذا الضابط معروف في كتب الفقه ليس فيه خلاف لأحد من العلماء.
وإليكم بعض النصوص الفقهية في هذا المجال:(4/1442)
يقول المرغيناني الحنفي رحمه الله تعالى:
(والكفالة بالأعيان المضمونة وإن كانت تصح عندنا، خلافا للشافعي، لكن بالأعيان المضمونة بنفسها، كالبيع بيعا فاسدا، والمقبوض على سوم الشراء، والمغصوب، لا بما كان مضمونا بغيره، كالمبيع، والمرهون، ولا بما كان أمانة، كالوديعة والمستعار والمستأجر، ومال المضاربة، والشركة) (الهداية 3: 120) .
ويقول الشربيني الخطيب الشافعي رحمه الله تعالى:
يصح ضمان رد كل عين ممن هي في يده مضمونة عليه، كمغصوبة، ومستعارة، ومستامة، ومبيع لم يقبض (إلى قوله) وأما إذا لم تكن العين مضمونة على من هي بيده، كالوديعة، والمال في يد الشريك، والوكيل، والوصي، فلا يصح ضمانها، لأن الواجب فيها التخلية دون الرد. (مغني المحتاج 2: 202) .
ويقول ابن قدامة الحنبلي رحمه الله تعالى:
ويصح ضمان الأعيان المضمونة كالمغصوب، والعارية، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد القولين (إلى قوله) فأما الأمانات، كالوديعة، والعين المؤجرة، والشركة، والمضاربة، والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط، فهذه إن ضمنها من غير تعد فيها لم يصح ضمانها، لأنها غير مضمونة على من هي في يده، فكذلك على ضامنها؛ وإن ضمنها إن تعدى فيها فظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى يدل على صحة الضمان. الخ. (المغني لابن قدامة 4: 595) .
وجاء في (كشاف القناع عن متن الإقناع 3: 364) في فقه الحنبلي وتصح الكفالة بالأعيان المضمونة، كالمغصوب، والعواري، لأنه يصح ضمانها، ولا تصح الكفالة بالأمانات، كالوديعة والشركة والمضاربة، إلا إن كفله بشرط التعدي. إلخ.
ويقول ابن الهمام الحنفي رحمه الله تعالى:(4/1443)
(وضمان الخسران باطل لأن الضمان لا يكون إلا بمضمون، والخسران غير مضمون على أحد، حتى لو قال بائع في السوق على أن كل خسران يلحقك فعلي، أو قال لمشتري العبد إن أبق العبد هذا فعلي لا يصح) . (فتح القدير 6: 323) .
ولكن عند صحة الكفالة في هذه الأمور إنما يعني أن المبلغ المكفول به لا يلزم الكفيل قضاء، فلا يجوز للمكفول له أن يطالب به الكفيل في محكمة. ولكن التزام الطرف الثالث بأداء هذا المبلغ يمكن أن يعتبر كوعد محض يلزمه الوفاء به ديانة، لا قضاء. فلو وفَّى الطرف الثالث بوعده، وتبرع بالمبلغ، جاز لحامل السند أن يأخذه، ولكن لا ينفذ القاضي التزامه ككفالة.
وهل نستطيع أن نجعله وعدا ملزما في القضاء أخذا بقول المالكية رحمهم الله تعالى؟ لي فيه تردد. فإننا لو جعلناه وعدا ملزما ضمانا لازما، فلا يبقى هناك معنى عدم صحة الكفالة برأس مال الشركة والمضاربة.
3- مسألة إطفاء السندات:
والملاحظة الثالثة في الصيغة الأردنية: هي في إطفاء السندات بقيمتها الاسمية فإن إطفاءها بالقيمة الاسمية أخرجها عن طبيعة القراض، وجعلها قرضا.
ويجب لإيضاح هذه النقطة أن نعرف التكييف الفقهي لهذا الإطفاء. فالواقع أن إطفاء هذه السندات استرداد لمال المضاربة من قبل رب المال. وإن هذا الاسترداد بسيط إذا كان مال المضاربة ناضًّا. أما إذا تحول مال المضاربة إلى عروض. فإن هذا الاسترداد عبارة عن بيع تلك العروض من المضارب. فالبضائع كلها مملوكة لأصحاب الأموال، ولا يستحق المضارب من عينها شيئا، وإنما يستحق نسبة من الربح إن أدرت ربحا. فمن يتقدم بالسند إلى الجهة المصدرة لإطفائها في حين أن جميع مال المضاربة أو أكثره تحول إلى مشروع صناعي أو تجاري فإنه إنما يريد أن يبيع من الجهة المصدرة حصته الشائعة في المشروع. فهذه الإطفاءات يجري عليها أحكام البيع بأجمعها.
فههنا مسائل:
الأولى: هل يجوز لرب المال أن يسترد مال المضاربة في حين أنه غير ناض؟
والثانية: هل يجوز اشتراط هذا الاسترداد في عقد المضاربة؟
والثالثة: إذا كان الاسترداد جائزا، فهل يكون ذلك بقيمتها الاسمية أو بقيمتها السوقية؟(4/1444)
أما المسألة الأولى:
وهي استرداد مال المضاربة في حين أنه غير ناض، فهو بالتعبير الفقهي الدقيق فسخ للمضاربة، أو عزل للمضارب عنها (في حق ذلك السند بعينه) وقد ذكر الفقهاء أن المضارب في هذه الصورة يلزمه بيع العرض.
جاء في الدر المختار:
وينعزل (أي المضارب) بعزله (أي رب المال) ...
فإن علم بالعزل، والمال عروض باعها.
(رد المحتار: 5: 655، كتاب المضاربة، قبيل المتفرقات) .
وجاء في المغني لابن قدامة:
(والمضاربة من العقود الجائزة، تنفسخ بفسخ أحدهما ... وإن انفسخت والمال عرض فاتفقا على بيعه أو قسمه جاز، لأن الحق لهما لا يعدوهما.. وإن طلب رب المال البيع وأبى العامل، ففيه وجهان:
أحدهما: يجبر العامل على البيع وهو قول الشافعي لأن عليه رد المال ناضا كما أخذه، والثاني: إذا لم يكن في المال ربح أو أسقط حقه من الربح.
(المغني لابن قدامة 5: 180 فروع في أحكام فسخ المضاربة، طبع بيروت 1392هـ) .
فتبين بهذا أنه لا مانع شرعا من استرداد مال المضاربة. ويتحتم حينئذ بيع ما كان منه في شكل العروض. ومن الواضح جدا أن هذا البيع كما يمكن أن يعقد مع طرف ثالث، يجوز أن يعقد بين رب المال والمضارب، فيستطيع المضارب أن يشتري العروض لنفسه، ويؤدي قيمته المطلوبة إلى مال المضاربة، فيقبض منها رب المال رأس ماله مع حصته من الربح، والمضارب حصته من الربح فقط.(4/1445)
وأما المسألة الثانية:
وهي اشتراط هذا الاسترداد بطريق البيع في عقد المضاربة، فلا مانع منه أيضا، لكونه شرطا لا يخالف مقتضى عقد المضاربة، لأن رب المال يملك فسخ المضاربة متى شاء، وحينئذ يجب على المضارب أن يبيع العروض لينض لرب المال ماله، فشرط البيع في المضاربة شرط ملحوظ في طبيعة العقد، غير أن العروض لا تباع في المسألة المبحوث عنها إلا من المضارب، وهذا لا مانع منه شرعا، لأن رب المال والمضارب يجوز أن يجري بينهما البيع والشراء في مال المضاربة عند كثير من الفقهاء. يقول الكاساني رحمه الله تعالى:
ويجوز شراء رب المال من المضارب وشراء المضارب من رب المال وإن لم يكن في المضاربة ربح في قول أصحابنا الثلاثة، وقال زفر رحمه الله تعالى: لا يجوز الشراء بينهما في مال المضاربة. وجه قول زفر رحمه الله تعالى: لا يجوز الشراء بينهما في مال المضاربة. وجه قول زفر أن هذا بيع ماله بماله، وشراء ماله بماله، إذ المالان جميعا لرب المال، وهذا لا يجوز، كالوكيل مع الموكل ولنا أن لرب المال في مال المضاربة رقبة، لا ملك تصرف، وملكه في حق التصرف كملك الأجنبي، وللمضارب فيه ملك التصرف لا الرقبة، فكان في حق ملك الرقبة كملك أجنبي، حتى لا يملك رب المال منعه من التصرف، فكان مال المضاربة في حق كل واحد منهما كمال الأجنبي، لذلك جاز الشراء بينهما) .
(بدائع الصنائع 6: 101) .
فاشتراط البيع من المضارب شرط لا ينافي مقتضى العقد، فلا بأس بذلك شرعا.
المسألة الثالثة:
وهي: هل يقع إطفاء السندات على قيمتها الاسمية، أو على قيمتها السوقية؟ والجواب عندي أنه يجب أن يقع على قيمتها السوقية، ثم إن كانت قيمتها السوقية أكثر من قيمتها الاسمية، فإن الفرق بين القيمتين يعتبر ربحا لمال المضاربة، فيوزع هذا الربح بين رب المال والمضارب بقدر النسبة المتفق عليها في العقد.(4/1446)
ومثاله: لو فرضنا أن القيمة الاسمية للسند هي مائة ربية، صارت قيمته السوقية عند الإطفاء مائة وعشرين، فالواجب على المضارب إن أراد شراءه أن يدفع إلى مال المضاربة مائة وعشرين، ثم إن هذا العشرين زيادة ربحتها المضاربة، فإن كانت المضاربة على النصف مثلا، صارت العشرة منها حصة لرب المال، والعشرة الأخرى حصة للمضارب من الربح، فتوزع عليهما بهذا الطريق، وبهذا يقوم على المضارب ما اشتراه من الجزء المقابل لهذا السند من المشروع بمائة وعشرة.
والدليل على أن الإطفاء يجب أن يكون على القيمة السوقية: أن مال المضاربة كله مملوك لرب المال شرعا، وليس للمضارب منه إلا حصته من الربح، فلو ارتفعت قيمة السند في السوق، فليس ذلك إلا لأجل الزيادة في مال المضاربة. وإن مال المضاربة كله مملوك لرب المال بما فيه من الزيادة على رأس المال، سوى حصة المضارب من الربح، فلو شرطنا على رب المال أنه يجب عليه الإطفاء على قيمته الاسمية، فإن هذا الشرط لا يجوز شرعا، لكونه منافيا لمقتضى المضاربة.
وقد صرح الفقهاء بهذا، فيقول الكاساني رحمه الله تعالى:
(وإذا اشترى المضارب بمال المضاربة متاعا، وفيه فضل، أو لا فضل فيه فأراد رب المال بيع ذلك، فأبى المضارب وأراد إمساكه حتى يجد ربحا، فإن المضارب يجبر على بيعه، إلا أن يشاء أن يدفعه إلى رب المال، لأن منع المالك عن تنفيذ إرادته في ملكه لحق يحتمل الثبوت والعدم، وهو ربح لا سبيل إليه، ولكن يقال له: إن أردت الإمساك فرد عليه ماله، وإن كان فيه ربح، يقال له: ادفع إليه رأس المال وحصته من الربح، ويسلم المتاع إليك) . (بدائع الصنائع 6: 100) .
فتبين بهذا أن صاحب السند لا يستحق القيمة الاسمية (وهي رأس المال) فحسب، وإنما يستحق معها حصته من الربح، فلا سبيل إلى إطفاء السند بقيمته الاسمية. وإنما يجب أن يقع البيع بقيمته السوقية، ثم يوزع الربح بين الفريقين بحسب النسبة المتفق عليها.
وفي ضوء ما ذكرنا يجب أن يكون إطفاء السند على قيمة تنقص من قيمته السوقية بقدر النسبة المتفق عليها من ربح الجهة المصدرة للسند. فإن اتفقت الجهة المصدرة مع حاصل السند أن الربح يوزع بينهما أنصافا، وكان السند قيمته الاسمية مائة، فصارت قيمته السوقية عند الإطفاء يساوي مائة وعشرين، فإن الإطفاء يقع على مائة وعشرة، لأن العشرة ربح للجهة المصدرة.(4/1447)
السؤال الأخير:
والسؤال الأخير في هذه الندوة في هذا الصدد هو:
(هل يتم إطفاء السندات باستبعاد عدد معين من الأسهم الكاملة، أم يكون ذلك باستبعاد جزء من كل سهم؟) .
وعلى الوجه الأخير هل يعتبر ربح كل سهم متناقصا مع تناقص القيمة؟ أم يظل ربحه كاملا حتى نهاية الإطفاء؟
والجواب على هذا السؤال عندي هو أنه لا مانع شرعا من اختيار واحدة من الطريقتين المذكورتين للإطفاء، لأن الإطفاء كما أوضحنا فيما سبق بيع لمال المضاربة من المضارب، وإن هذا البيع كما يجوز في جميع مال المضاربة، يجوز في بعضه أيضا، غير أنه إذا باع رب المال نصف مال المضاربة من المضارب، وأبقى المضاربة في نصفه الآخر، وبقى هذا المجموع مصروفا في التجارة المشتركة مختلطا بعضه ببعض، فإن هذا البيع يتضمن إحداث شركة عنان في الحصة المبيعة بين المضارب ورب المال، فيكون المضارب شريكا في هذه التجارة بحصته التي اشتراها من رب المال، مع بقية مال المضاربة، فما حصل من الربح على مجموع هذا المال فإن المضارب يجوز له نصفه كشريك، ويقسم الثاني على رب المال والمضارب بالنسبة المتفق عليها بحكم المضاربة.(4/1448)
مثال: لو أعطى زيد مائة ألف ربية إلى خالد مضاربة بالنصف، فاشترى خالد منه بضائع يتجر فيها، فإن جميع هذه البضائع مملوكة لزيد، ثم اشترى خالد النصف المشاع من هذه البضائع ولم يعزلها عن التجارة، بل استمر في استرباحها برضا زيد، فإن ذلك يقتضي أن كلا منهما قد عقد الشركة بهذا النصف المشترى، فصار نصف هذه البضائع مملوكا لخالد وبقي نصفها الآخر مملوكا لزيد، تستمر فيه المضاربة كما كانت وإن خالدا شريك لزيد بنصفها الذي يملكه، ومضاربا له في النصف المملوك لزيد. فلو حصل على هذا المجموع ربح خمسين ألفا مثلا، فإن 25 ألفا منها حصة خالد بفضل كونه شريكا و25 ألفا ربح المضاربة، فيقسم بينهما أنصافا، فيكون لزيد -/12500 بحكم كونه رب المال، ولخالد -/12500 بحكم كونه مضاربا، فيكون توزيع الأرباح بينهما كالآتي:
حصة خالد بحكم الشركة -/25000
حصة خالد بحكم المضاربة -/ 12500
_________
مجموع حصتي خالد -/37500
حصة زيد كربِّ المال في النصف -/12500
_________
صافي الربح -/5000
واتضح بهذا أنه كلما يبيع رب المال جزءا من مال المضاربة إلى المضارب، فإن ربح ذلك الجزء ينتقل إلى المضارب بحكم كونه شريكا في التجارة بذلك الجزء، فيقل ربح رب المال، ويزداد المضارب في مجموع التجارة. وبما أن إطفاء جزء من السند بيع لما يقابله فإن ربح ذلك الجزء ينتقل إلى الجهة المصدرة، فيعتبر ربح ذلك الجزء متناقصا في حق صاحب السند فور إطفائه، ولا ينظر في ذلك إلى أن يتم إطفاء السند بكامله.
ومثاله: لو كان السند قيمته الاسمية مائة ربية، فتقدم صاحب السند لإطفاء نصفه، واتفقت الجهة المصدرة على ذلك، فإن حق صاحب السند في الربح ينقص خمسين في المائة فور هذا الإطفاء، ولا يصح شرعا أن يظل ربحه كاملا حتى نهاية الإطفاء.
هذا من الناحية الشرعية، ولكننا إذا نظرنا من الناحية العملية، فيبدو أن الاقتصار على الطريق الأول من الإطفاء أولى وأسهل. وذلك أن لا يقع الإطفاء إلا على عدد معين من الأسهم الكاملة، ليسهل حساب الربح عملا، ولعل ذلك يتطلب أن تكون القيمة الاسمية للسندات قصيرة لا تحتاج عند الإطفاء إلى التجزئ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
محمد تقي العثماني(4/1449)
ضمان رأس المال أو الربح
في صكوك المضاربة
أو سندات المقارضة
إعداد
الدكتور حسين حامد حسان
رئيس الجامعة الإسلامية – باكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
ضمان رأس المال أو الربح في صكوك المضاربة
أو سندات المقارضة
أولا: المقصود بالضمان:
تطلق عبارة الضمان في أقوال الفقهاء والباحثين ويراد بها عدة معان يحسن عرضها بإيجاز قبل بيان حكم الشرع في موضوع ضمان مخاطر الاستثمار في صكوك المضاربة.
1- الضمان بمعنى ضم ذمة إلى ذمة أخرى في الالتزام بدين ثابت وقت الضمان، أو يحتمل ثبوته في المستقبل. وهذا يقتضي أن يكون هناك طرفان أحدهما دائن والآخر مدين له، ثم يأتي طرف ثالث هو الضامن، فيضم ذمته إلى ذمة المدين ويلتزم بأداء ما ثبت أو ما سيثبت في ذمته من دين في المستقبل.
والضمان بهذا المعنى طريق من طرق التوثيق الشرعية، ففيه يشترط الدائن أو يتبرع المدين بتوثيق الدين الثابت في ذمته، أو الذي يحتمل ثبوته في ذمته في المستقبل، على رأي القائلين بجواز ضمان الدين الاحتمالي المستقبل غير محدد المقدار وقت منح الوثيقة. وقد ذكر المالكية لذلك صورا، منها أن يقول شخص لآخر: داين فلانا، أو بايعه، أو عامله، وأنا ضامن، فداينه أو بايعه أو عامله، فإن هذا القائل يلزمه ضمان ما سيثبت في ذمة فلان هذا من دين نتيجة هذه المعاملة. غير أن للضامن في هذه الحالة الرجوع عن الضمان قبل المعاملة (حاشية الدسوقي 3: 333) .
2- الضمان بمعنى وجوب المثل أو القيمة على من أتلف مال غيره بفعل ضار غير مشروع. وهنا لا يوجد عقد بين الضامن والمضمون له، بل أساس الضمان هو نص الشارع الذي يوجب على من أتلف مال غيره أو تسبب في إتلافه ضمان مثله أو قيمته. وقد تكلم الفقهاء عن ضمان الأعيان وضمان المنافع المفوتة على المالك في باب الغصب، وهو فعل ضار غير مشروع يوجب الضمان بذاته.(4/1450)
3- الضمان بمعنى تحمل تبعة الهلاك أو التلف أو الخسارة بناء على قواعد الملك أو العقد وهو نوعان:
(أ) نوع يؤسس على قواعد الملكية التي تقضي بأن المال يتلف أو يهلك على ملك صاحبه، بمعنى أن المالك هو الذي يتحمل تبعة هلاك ملكه، ما لم يوجد سبب شرعي يحمل هذه التبعة على غيره. فإذا كان المال بيد مالكه أو بيد غيره بعقد من عقود الأمانة – كالوديعة والإجارة والمضاربة – فإن تبعة هلاكه أو تلفه تقع على المالك، ما لم يكن هذا الهلاك أو التلف قد حدث بسبب فعل ضار غير مشروع وقع من غير المالك، ويدخل في ذلك تعدى الأمين في المال أو التقصير في حفظه أو استثماره أو مخالفة شرط من شروط عقد الأمانة، وضمان الأمين هنا ليس أساسه عقد الأمانة، بل التعدي أو التقصير أو مخالفة شروط العقد، أي الفعل الضار غير المشروع.
(ب) ونوع يؤسس على وضع اليد على المال بعقد من عقود الضمان، أي العقود التي تحمل وضع اليد بعقد معين تبعة هلاك هذا المال، ولو كان الهلاك بسبب لا مبرر له فيه، تطبيقا لقاعدة الخراج بالضمان أو الغنم بالغرم أو قاعدة الاستيفاء، كعقد الرهن فإن يد المرتهن على المال المرهون يد ضمان عند الأحناف، وكعقد العارية عند البعض، وكمن وضع يده على مال سوم الشراء، أو بناء على التعدي أو التقصير المفترض من واضع اليد كالآجير المشترك عند بعض الفقهاء الذين يحكمون بتضمينه ما تلف تحت يده من مال، ما لم يثبت هو أن التلف أو الهلاك كان بسبب أجنبي لا يد له فيه.
4- الضمان بمعنى الالتزام بالقول من جانب الملتزم، وهو ما يطلق عليه عبارة الوعد الملزم، أو التبرع الملزم، أو الالتزام من جانب واحد. وقد يكون هذا الالتزام في مقابل عمل يقوم به الملتزم له، كالتزام الجاعل الجعل، كمن يعلن عن جائزة لمن يقدم له تصميما هندسيا، أو اكتشافا علميا. وقد يكون في مقابل عمل نافع للمتلزم له دون الملتزم، كمن يقول لآخر: ادرس الطب وعليَّ مصاريف دراستك، أو تزوج ابنة عمك وعلي صداقها، أو ابدأ في هذا المشروع وعلي رأسماله.
وسوف نرى عند دراسة موضوع ضمان سندات المقارضة أو ما ينتج عنها من أرباح المقصود بالضمان في أقوال الباحثين.(4/1451)
ثانيا: الصفة الشرعية لصكوك المضاربة أو سندات المقارضة:
صكوك المضاربة أو سندات المقارضة تطبيق حديث لعقد المضاربة الشرعية، يقوم فيه المضارب – فردا أو شركة أو مؤسسة – بدراسة اقتصادية لنشاط معين، أو مشروع خاص، ثم يوجه إيجابا عاما للجمهور، أو لبعض المؤسسات المالية أو الأفراد لتمويل هذا النشاط، أو ذاك المشروع باعتبارهم رب المال في عقد المضاربة، ويأخذ هذا الإيجاب شكل نشرة إصدار تعرف بالمشروع أو النشاط ورأس المال المطلوب، وطريقة إدارته، وحصة أصحاب رأس المال في أرباحه وغير ذلك من البيانات اللازمة لصحة عقد المضاربة، وتشير هذه النشرة إلى أن دراسة الجدوى قد أعدت وفق الأصول العلمية المرعية، واعتمدت على بيانات صحيحة، ويقسم رأس المال المطلوب للمشروع إلى حصص أو وحدات نقدية، وتطرح شهادات أو صكوك تمثل وحدة أو عددا من هذه الوحدات المالية، وكل من يسهم في رأسمال المضاربة بمبلغ من النقود يحتفظ بصك أو أكثر من هذه الصكوك باعتباره يمثل حصة شائعة في المشروع بعد إنشائه. فالملكية لا تنصب على الصك نفسه بل على ما يمثله الصك من حصة مالية في المشروع، فهو دليل الحق ووثيقة إثباته، يقوم تسليمه مقام قبض الحصة الشائعة في المشروع عند التصرف فيها.
وتحتوي صكوك المضاربة خلاصة لنشرة الإصدار تتضمن أركان عقد المضاربة والشروط اللازمة لصحته، وتحيل في التفصيل لنشرة الإصدار ودراسة الجدوى، وهذه الوثائق كلها تكون عناصر الإيجاب اللازم لعقد المضاربة، ويفترض فيمن يكتتب في تمويل هذا المشروع بشراء هذه الصكوك أنه اطلع على هذا الإيجاب وأنه رضي به.
وتبقى مسؤولية المضاربة قائمة عن صحة ما ورد في نشرة الإصدار وصكوك المضاربة من بيانات، وعن سلامة دراسة الجدوى التي أعدت للمشروع، بحيث يلزمه الضمان إذا تبين عدم صحة البيانات المقدمة أو عدم الالتزام بالأسس العلمية في دراسة الجدوى. وقد يعهد المضارب إلى غيره بإعداد الدراسة المطلوبة وإدارة عملية الإصدار لحسابه في مقابل معين، ولكن هذا لا يعفيه من الضمان.(4/1452)
وواضح في هذا التطبيق الجديد لعقد المضاربة أن أطراف عقد المضاربة لا يجتمعون في مكان واحد أو في مجلس عقد واحد، بحيث يمارسون المساومة في شروط عقد المضاربة ونوع النشاط وطبيعة المشروع وسلطات المضارب، وحصته من الربح وغير ذلك مما يتضمن عقد المضاربة، بل وقد لا يعرف بعضهم بعضا، كما أن حملة صكوك المضاربة باعتبارهم أرباب المال قد يتغيرون من وقت لآخر نتيجة تداول هذه الصكوك في سوق الأوراق المالية. ويمكن تشبيه عقد المضاربة في صورته الحديثة التي تقوم على صدور الإيجاب بشروطه وحدوده من المضارب، بحيث لا يتاح لأرباب المال فرصة مناقشة بنود العقد وشروطه، عقود الإذعان في القانون؛ إذ إن رب المال في هذه الصورة لا يملك إلا القبول أو الرفض، وهو إن قبل فإنما يقبل بناء على معلومات وبيانات لا يتيسر له التحقق من صحتها في الكثير الغالب من الحالات، ولذلك قلنا إن المضارب مسؤول عن صحة هذه البيانات والمعلومات.
وحصيلة صكوك المضاربة بعد بيعها تمثل رأس مال المضاربة، وهو مملوك لحملة هذه الصكوك، ويد صاحب المشروع (المضارب) عليها يد أمانة، وعند بدء التشغيل وتحويل النقود إلى سلع ومعدات ومبان تنتقل ملكية حملة الصكوك إلى هذه السلع والمعدات باعتبارها مكونات المشروع.
ثالثا: ضمان المضارب لصكوك المضاربة:
عرفنا أن المضارب في هذه الحالة هو من تم الاكتتاب لصالحه، سواء قام به بنفسه أو قام به غيره نيابة عنه، فهو صاحب فكرة المشروع، وهو الذي يتلقى حصيلة الاكتتاب ويوجهها للاستثمار في المشروع، وفق دراسة الجدوى وشروط نشرة الاكتتاب وصكوك المضاربة، وذلك باعتباره مضاربا، فهو لا يملك المشروع إلا بقدر ما يكتتب فيه لنفسه، ولكنه يديره لحساب مالكيه، وهو يديره وفق أحكام المضاربة الشرعية، وعلى أساس الشروط التي تضمنها الوثائق التي قلنا إنها تمثل الإيجاب، أي نشرة الإصدار ودراسة الجدوى وصكوك المضاربة، والتي على أساسها تم القبول بشراء هذه الصكوك التي تمثل حصته في ملكية المشروع بعد إنشائه.
والمضارب في هذه الحالة قد يكون فردا وقد يكون شركة، وقد يكون مؤسسة مالية كالبنوك وشركات الاستثمار، وهو في جميع الأحوال صاحب قرار الاستثمار لا يشاركه فيه حملة الصكوك باعتبارهم أرباب المال، ولا يقيده في إصداره إلا أحكام المضاربة الشرعية والشروط التي تضمنتها نشرة الإصدار ودراسة الجدوى، وصكوك المضاربة، وهذا هو مقتضى عقد المضاربة وحكمها الأساسي الذي يفرق بين المضارب والأجير ولا يجوز الاتفاق على عكسه بأن يقيد المضارب في اتخاذ القرار الاستثماري باستشارة رب المال، أو العمل بتوجيهاته في هذا القرار.(4/1453)
وقد تكفلت قواعد الشريعة بحماية رب المال بصورة جمعت بين المصالح المتعارضة، فالمضارب أولا يلتزم في إدارة المشروع بأحكام الشريعة التي تمنعه من كل صور التعدي: أي تعمد الإضرار بمصالح رب المال، وهو مسؤول إذا ارتكب فعلا من أفعال التعدي باتفاق الفقهاء، كما أنه مكلف في إدارته للمشروع وفي إصدار القرارات الاستثمارية باتباع السلوك العادي، وتحري الحيطة والحذر المتوقع من أمثاله من أهل الخبرة في هذا المجال. وهو إن أخطأ أو قصر بدون قصد في هذه الإدارة أو في اتخاذ قرار استثماري معين ترتب عليه لحوق الضرر بالمشروع كان مسؤولا أي ضامنا لكل خسارة تلحق المشروع أو ربح يفوت عليه، ولو لم يكن قاصدا لوقوع هذا الضرر، وهذا هو الفرق بين التعدي والتقصير.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن للمضاربة أحكاما شرعية فصلتها كتب الفقه، وهي قيود والتزامات فرضها الشارع على المضارب في عقوده وتصرفاته وإدارته للمشروع، فهناك نشاط لا يملك المضارب الدخول فيه، وعقود لا يستطيع إبرامها، وتصرفات لا يحل له القيام بها، وهي في مجموعها حماية كافية لرب المال.
ولكن الشريعة الإسلامية لم تكتف بذلك، بل أجازت لرب المال أن يضع قيودا، وأن يفرض واجبات على المضارب في عمله، وأن يمنعه من أنشطة معينة، وأن يضمن عقد المضاربة توجيهات ملزمة للمضارب، كل ذلك بشرط واحد هو ألا تصل هذه القيود والشروط والتوجيهات إلى الحد الذي يضيق على المضارب ويكبله في اختيار القرار الاستثماري المناسب، ويمنع الاستفادة منه كخبير استثمار.
ومن الملاحظ في عقود المضاربة في البنوك الإسلامية أن هذه البنوك باعتبارها رب مال لا تولي هذا الأمر العناية اللازمة، مما سبب لها أضرارا بالغة، فبعض هذه البنوك ليس لديها خبراء استثمار على المستوى المطلوب لدراسة المشروعات المطلوب تمويلها، كما أنه ليس لديها خبراء في صياغة عقود المضاربة في كل نشاط أو مشروع على حدة، بحيث تتضمن هذه العقود الشروط التي توجه المضارب وتحمي مصالح البنك.(4/1454)
ولا خلاف بين الفقهاء في أن المضارب يضمن رأس مال المضاربة، والربح الناتج عنه في الحالات السابقة، أي في حالة الخروج على حكم من أحكام عقد المضاربة، التي فصلتها الشريعة، بأن أتي تصرفا أو أبرم عقد أو اتفاقا لا يجيزه الشرع، أو وقع منه تعد، بأن صدر عنه فعل متعمد ترتب عليه هلاك رأس المال أو تلفه أو نتجت عنه خسارة أو ضاع بسببه ربح، أو سلك في إدارته للمشروع سلوكا يتسم بالتقصير ويوصف بالخطأ الذي لا يتوقع من خبراء الاستثمار أمثاله، نتيجة إهمال وعدم اكتراث، ولو لم يقصد أو يتوقع ترتب الضرر عليه، أو خالف في إدارته للمشروع شرطا أو قيدا أو توجيها تضمنه عقد المضاربة، أي تضمنته دراسة الجدوى ونشرة الإصدار وصكوك المضاربة.
ويمكن لحملة الصكوك أن يختاروا من بينهم مجلسا لمراقبة المشروع ومتابعة إدارته والتأكد من التزام المضارب لأحكام الشريعة وشروط المضاربة، واتخاذ الإجراءت المناسبة لحماية حقوق حملة صكوك المضاربة، فهذا المجلس يمثل أرباب المال وينوب عنهم فيما لهم من حقوق، ومهمته هي التأكد من تنفيذ إدارة المشروع للعقد وليس إدارة المشروع أو المشاركة في إدارته، إذ إن ذلك ينافي مقتضى العقد كما سبق بيانه، كما أن لحملة صكوك المضاربة أن يعهدوا بهذه المهمة لجهة أو هيئة معينة تقوم بهذه المهمة في مقابل أجر كمكاتب المحاسبة، والمكاتب الاستشارية، وذلك كله زيادة على قيام أجهزة الدولة بالرقابة على جدية المشروع ونزاهة القائمين عليه، وجدواه الاقتصادية، وسلامة إجراءات الاكتتاب فيه، وحسن إدارته، حماية لمصالح الجمهور، وحفاظا على المصالح الاقتصادية للمجتمع.
وهناك قضية هامة ينبغي الإشارة إليها، وهي إثبات التعدي أو التقصير أو مخالفة شروط المضاربة – من جانب المضارب – وقد سلك فيها المالكية مسلكا خاصا يحمي مصالح أرباب المال، فدعوى الهلاك أو التلف لمال المضاربة لا تقبل من المضارب إذا كانت هناك قرائن تكذبها، ويحكم بضمانه لما ادعى هلاكه أو تلفه. أما في دعوى الخسارة فإنهم يتشددون مع المضارب حماية لرب المال؛ فدعواه الخسارة لا تقبل إلا بشرطين: أحدهما أن يحلف اليمين على أنه قد خسر، وثانيهما: ألا توجد قرائن تكذب هذه الدعوى، وهذا الحكم يطبق على المضارب ولو كان حسن السمعة، غير متهم.(4/1455)
ولا شك أن دراسة الجدوى المقدمة من المضارب، والبيانات التي بنيت عليها هذه الدراسة، وهي تتضمن الربح المتوقع من المشروع، والتي أشار إليها في نشرة الإصدار تعد قرينة قوية على بطلان دعوى الخسارة المجردة عن الدليل، وهنا يحكم عليه بضمان الربح المعلن في دراسة الجدوى حتى يقدم هو الدليل على الخسارة التي يدعيها، ويثبت أن ما ورد في الدراسة لم يتحقق لسبب لا يد له فيه، ولظروف طارئة لم يكن من الممكن توقعها أو قياس نتائجها. وقد مثل المالكية للقرينة بقولهم (بأن سأل رب المال تجار بلد تلك السلع هل خسرت في زمان كذا أولا، فأجابوا بعدم الخسارة) [الشرح الكبير للدردير 3: 536] .
جاء في الشرح الكبير للدردير: والقول للعامل في دعوى تلفه كله أو بعضه، لأن ربه رضيه أمينا، وإن لم يكن أمينا في الواقع، وهذا إذا لم تقم قرينة على كذبه وإلا ضمن، وفي دعوى خسره بيمين ولو غير متهم على المشهور إلا لقرينة تكذبه.. فيغرم بمجرد نكوله لأنها دعوى اتهام (الشرح الكبير للدردير 3: 536) .
هذه هي حدود مسؤولية المضارب أو القائم على إدارة المشروع الذي صدرت صكوك المضاربة لتمويله، وتلك هي أسباب ضمانه لهلاك رأسمال المشروع أو خسارته. وفي خارج هذه الحدود لا يحكم على المضارب بالضمان باتفاق الفقهاء، وهذا هو العدل الذي جاءت به الشريعة، فالمضارب قد دخل في شركة مع رب المال، وكانت حصته في هذه الشركة عمله وعلمه وخبرته، وكانت حصة رب المال هي رأسماله، وقد اتفقا على توزيع الربح الناتج عن المضاربة على أساس مساهمة كل حصة في إنتاج هذا الربح، أي العمل ورأس المال على نحو استقلا بتقديره دون قيود من الشارع ثم قررت الشريعة أن كلا من المضارب ورب المال مسؤول في حدود حصته دون زيادة، فرب المال يسأل في حدود حصته، فلا يخسر أزيد من رأسماله، والمضارب يسأل في حدود حصته، فلا يخسر إلا جهده وخبرته. فإذا حدث هلاك أو خسارة لا يد للمضارب فيها فليس من العدل أن يتحمل وحده تبعة هذا الهلاك، أو تلك الخسارة. أما إذا تعدى أو فرط أو خالف حكما من أحكام العقد أو شرطا من شروطه فإنه يسأل عن ذلك، ويضمن رأس المال والربح، باعتبار ذلك جزاء عمله غير المشروع الذي أدى إلى الهلاك أو الخسارة. وقد رأينا أن المالكية يقدمون القرائن على دعوى المضارب ويحكمون بتضمينه إذا قامت قرائن تكذب دعواه.(4/1456)
رابعا: احتياطي مواجهة مخاطر الاستثمار:
ليس هناك ما يمنع شرعا من أن تتضمن نشرة الإصدار وصكوك المضاربة أن حملة صكوك المضاربة يوافقون على اقتطاع جزء من أرباحهم كل سنة كاحتياطي خاص لمواجهة مخاطر الاستثمار، بحيث يعوض من هذا الجزء ما ينقص من رأس المال، أو ما يقلل من الأرباح عن حد معين – في سنة معينة – باعتبار ذلك تبرعا ممن يملك رأس المال وعائده، والتبرع يلزم بالقول عند المالكية. على أنه يجوز أن ينصب التبرع على ما يكفي لجبر الخسارة أو نقصان الربح عن الحد المعين من ذلك الاحتياطي، بحيث يبقى ما يفيض عن ذلك ملك حملة صكوك المضاربة؛ أي أنهم يتبرعون من هذا الاحتياطي بما يكفي فقط لجبر الخسارة أو نقصان الربح في إحدى السنوات، كما أنه يمكن أن يكون التبرع بكل ما يقتطع من الربح ويوضع في الاحتياطي الخاص وفي هذه الحالة فإن ما يزيد عن جبر الخسران، أو نقصان الربح يصرف في نهاية المشروع في وجوه الخير، وتتضمن نشرة الإصدار والصكوك ما يحدد محل التبرع ونسبته، وصفته الشرعية، وكيفية التصرف فيه.
وإذا تم تداول هذه الصكوك فإن المالك الجديد للصك بقبوله لشراء صك المضاربة يوافق على هذا التبرع؛ لأن الصك يحمل في ظهره ما يفيد اقتطاع نسبة من الأرباح لتكوين احتياطي لمواجهة مخاطر الاستثمار.
وهذا الترتيب يدخل تحت الضمان بمعنى الالتزام بالقول، أو الوعد الملزم، ولا صلة له بالضمان بمعانيه الأخرى التي سبقت الإشارة إليها في مقدمة هذه الورقة، وهذا النظام الذي يهدف إلى تأمين مخاطر الاستثمار في صكوك المضاربة يفضل غيره من الوسائل، ذلك أنه لا يعتمد على طرف ثالث خارجي، فحملة صكوك المضاربة وهم أصحاب المشروع يقومون بالتبرع لتكوين احتياطي يؤمن مشروعهم ضد مخاطر الاستثمار وذلك من أرباح المشروع نفسه، ثم إن الجزء الذي يفيض عن تغطية المخاطر الفعلية المطلوب تغطيتها يبقى حقا من حقوق الملكية، ولا يذهب سدى، كالشأن في التأمين ضد هذه المخاطر لدى إحدى شركات التأمين.(4/1457)
خامسا: تبرع طرف ثالث بضمان رأس المال أو الربح في صكوك المضاربة:
يقصد بالضمان هنا الالتزام على سبيل التطوع، وهو ما يطلق عليه المالكية الوعد الملزم، وذلك بأن تتضمن نشرة الإصدار وصكوك المضاربة موافقة طرف ثالث خارج عن أطراف عقد المضاربة على ضمان رأس المال أو نسبة معينة من الربح. وهذا الطرف الثالث قد يكون فردا أو شركة لها مصلحة في تشجيع نوع معين من النشاط، أو مؤسسة خاصة تهدف إلى تشجيع المدخرات على المساهمة في مشروع معين ضمن خطة التنمية، وتجمع لذلك بعض الأموال على سبيل التبرع لمواجهة هذا الضمان.
وليس في مقاصد الشريعة العامة وقواعدها الكلية، وأحكامها الجزئية ما يمنع من صحة تبرع شخص بمبلغ من المال، إذا كان تبرعه هذا معلقا على شرط معين، فغاية الأمر في هذه الحالة أن المتبرع يعلق التزامه على شرط هو تلف رأس المال أو بعضه، أو نقصان الربح عن حد معين، وقد قرر بعض المالكية أنه لو قال شخص لآخر: تزوج هذه المرأة وعلي صداقها، فإنه يلزمه الصداق إذا تزوجها، وأنه إذا قال لآخر: داين فلانا أو بايعه أو عامله أو خدمه عندك، أو قال لأهل السوق اجعلوا فلانا سمسارا عندكم وعلي ضمانه، أنه يلزمه مما يثبت في ذمته، نتيجة هذه المعاملة (الشرح الكبير للدردير 3: 333) بل سلم الحنابلة وغيرهم أنه لو قال لآخر: ألق متاعك في البحر وأنا ضامن، فإنه يلزمه الضمان (المغني لابن قدامة 4: 592) وكذلك ذكر بعض الحنفية أنه لو قال لغيره: اسلك هذا الطريق، فإنه آمن، فإن ضاع متاعك فأنا ضامن، إن الضمان يلزمه إذ المعنى: إن داينت فلانا أو بايعته وثبت في ذمته دين فأنا ضامن، وأن ألقيت مالك في البحر فهلك فأنا ضامن، وإن سلكت هذا الطريق فضاع المتاع فأنا ضامن، وأن ألقيت مالك في البحر فهلك فأنا ضامن، وإن سلكت هذا الطريق فضاع المتاع فأنا ضامن، وقياس ذلك في الحالة المعروضة: اشتر هذه الصكوك، أو استثمر مالك في هذا المشروع، فإن هلك رأسمالك أو نقص الربح عن حد معين، فأنا ضامن، أي ملتزم بأدائه، ولا خلاف عند المالكية في أن التعليق في المعنى في عقود التبرع لا يبطل العقد، فإذا قال شخص لآخر: وهبت لك ثمار هذا البستان العام القادم فإن الهبة تصح، وهي التزام معلق على شرط في المعنى، فكأنه قال: إن أثمر هذا البستان في العام القادم فثماره لك، لأن الجهالة والغرر الناتجين عن التعليق لا تؤثر في عقود التبرع، بل تؤثر في عقود المعاوضات؛ لأن المتبرع إليه لا يتضرر بعدم وقوع المعلق عليه، لأنه لم يغرم شيئا في مقابلة ما وعد به من عوض، في حين أن الطرف الذي علق العوض الذي يستحقه في عقود المعاوضة، يتضرر بعدم وقوع المعلق عليه؛ لأنه قد دفع عوضا مقابلا لما وعد به.(4/1458)
سادسا: تبرع الدولة بضمان رأس المال أو الربح في صكوك المضاربة:
إذا قامت الدولة بالإعلان عن التزامها بضمان رأس المال أو نسبة معينة من الربح لحملة صكوك المضاربة في مشروع معين، وتضمنت نشرة الإصدار هذا الالتزام كان هذا الإعلان ملزما لها باعتباره تبرعا يلزم بالقول على رأي المالكية وبعض الفقهاء.
والدولة في هذه الحالة لا تضمن المضارب، بمعنى ضم ذمتها إلى ذمته فيما يلزمه، لأن الغرض أنه لم يأت بسبب يلزمه به شيء، بل إنها تتبرع لحملة صكوك مشروع معين، إذا هلكت رؤوس أموالهم، أو نقصت أرباحهم الناتجة عن هذا المشروع عن حد معين، وكأنهم يقومون بالاستثمار بأنفسهم، وهذا لا يمنع من جواز ضمان الدولة للمضارب شرعا بمعنى ضم ذمة الدولة إلى ذمته فيما يلزمه من ضمان، نتيجة التعدي أو التقصير، أو مخالفة أحكام المضاربة أو الشروط التي اشترطها رب المال عليه، فهنا تقوم الدولة بتعويض حملة الصكوك عما يلحقهم من ضرر بسبب يترتب عليه الضمان على المضارب، ذلك أن الدولة تشرف على النشاط الاقتصادي، وتقوم المشروعات، ولديها من الوسائل ما تحافظ به على مصالح حملة الصكوك، ولها في سبيل ذلك أن تطمئن أرباب المال على استثمارهم في مشروع معين، يدخل ضمن خطة التنمية للدولة.
ويستحسن أن تخصص الدولة ميزانية خاصة، تقوم على أساس التبرع لضمان مخاطر الاستثمار في المشروعات الهامة، أو ذات النفع العام، أو أن تفرض وظيفة خاصة لهذا الغرض تحدد بنسبة معينة من أرباح المشروعات والشركات العامة في الدولة، ويمكن أن يحقق هذا الصندوق أهداف التوازن بين النشاطات المختلفة في داخل الدولة.(4/1459)
سابعا: تأمين مخاطر الاستثمار لدى شركة تأمين إسلامية:
إن شركة التأمين الإسلامية هي الشركة التي تقوم على إدارة عمليات التأمين واستثمار أمواله لحساب حملة وثائق التأمين الذين يمثلون المؤمن عليهم في نفس الوقت، فشركة التأمين لا تملك أموال التأمين الناتجة عن الأقساط وعائد استثمارها، لأن هذه الأموال ملك لحملة وثائق التأمين، وقد اتفقوا على التبرع منها بما يلزم لدفع التعويضات عن الأضرار الحادثة في عام معين، وفقا للنظام المتفق عليه بينهم في تحديد الأقساط ومبالغ التأمين عند وقوع الأخطار المؤمن منها، وشركة التأمين تقوم بعمليات التأمين وفق الأصول الفنية السائدة، كقانون الكثرة، ونظرية الاحتمالات وغيرهما مما تستخدمه شركات التأمين التجارية، غاية الأمر أن ما يجمع من أقساط يكون على ملك حملة وثائق التأمين أنفسهم، وعائد استثماره يكون حقا لهم، وهم يدفعون من هذه الأقساط وعائدها التعويضات اللازمة لجبر الأضرار نتيجة وقوع الأخطار المؤمن منها، وذلك على سبيل التبرع، وما يبقى من هذه الأقساط فهو ملك لهم. على عكس الحال بالنسبة لشركات التأمين التجارية، فإن الفرق بين ما يجمع من أقساط، وما يدفع من تعويضات في سنة معينة يذهب للشركة ويعد ربحا للمساهمين فيها، وشركة التأمين الإسلامية تأخذ أجرة على قيامها بإدارة عمليات التأمين تغطي مصاريفها، وتحقق هامشا مناسبا من ربح لأصحابها، ويمكن تحديد هذا الأجر بطريق من طريق تحديد الأجر الشرعية، كأن يكون مبلغا مقطوعا أو نسبة من الأقساط، ويمكن أن تعطي هذه الشركة نسبة من عوائد استثمار أموال التأمين باعتبارها مضاربا يقوم باستثمار هذه الأموال.
وليس هناك ما يمنع في نظري من التأمين لدى هذه الشركات ضد مخاطر الاستثمار، أي هلاك رأس المال أو الخسارة أو نقص الربح عن حد معين على أن يحدد قسط التأمين على هذا الأساس، فإذا ما حدثت خسارة أو نقص الربح عن حد معين جبرت هذه الخسارة أو النقص في الربح من أموال التأمين، على أنه يجب أن يراعي أن يكون حملة وثائق التأمين أي المؤمنين هم المؤمن لهم، وأن يكون دور شركة التأمين هو دور المدير لعمليات التأمين مقابل أجر، والمستثمر لأمواله مقابل حصة معينة من الربح.
د. حسين حامد حسان(4/1460)
سندات المقارضة
وسندات التنمية والاستثمار
إعداد
فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي
مفتي الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
سندات المقارضة
علمت بهذه الطريقة في النشاط الاقتصادي لأول مرة في المؤتمر السنوي الثالث لمجمع الفقه الإسلامي بعمان. إذ عرض عطوفة الدكتور عبد السلام العبادي بحثا انفرد به في الموضوع، ثم إني لم أعثر على شيء آخر يفيدني في تصور المقصود بسندات المقارضة ولذا فإني مرتبط بالتصور الذي حصل لي بعد متابعة دراسة الدكتور عبد السلام.
الفصل الأول
المقصود بسندات المقارضة
عرف سندات المقارضة قانون البنك الإسلامي الأدرني رقم 13 لسنة 1978 بأنها الوثائق الموحدة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح.. يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع. ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد كما لا تعطي مالكيها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محدودة وأما النسبة الأخرى من الأرباح فتخصص لإطفاء السندات كل سنة.
القسم الأول: سندات يستثمر البنك قيمتها المدفوعة في مشروع استثماري معين لمدة محدودة يستحق صاحب السند كل سنة قسطا من الأرباح على نسبة قيمة السند ثم يقبض في نهاية المدة قيمة سنده.(4/1461)
القسم الثاني: وهو الذي يهم وزارة الأوقاف تصويره عمليا: أن تكون وزارة الأوقاف مالكة لأرض أو لعقار تبرز الدراسة الاقتصادية له أنه لو أنفق فيه ما يقيم منه عمارة أو سوقا تجارية أو غير ذلك سيدر أرباحا وأنه مشروع ناجح حسب التقديرات. ولما كانت الوزارة لا تملك الأموال لتنفيذ المشروع. فهي تطرح في السوق سندات بقيم محددة يستحق كل صاحب سهم جزءا من دخل المشروع الذي هو الكراء دوما على حسب ما يقرر في نشرة الإصدار. يوضحه أن الربح السنوي يقسم بين وزارة الأوقاف وبين أصحاب السندات. وأن حظ وزارة الأوقاف من الربح تخصصه لشراء الأسهم ففي كل سنة تتوسع وزارة الأوقاف في نسبة الملكية للمشروع ويتقلص شيئا فشيئا عدد المساهمين إلى أن تستولي الوزارة على كامل المشروع.
ويؤكد أن الصناديق لمشاريع الوزارة هي صناديق مستقلة فكل مشروع يقوم حسابه على حدة.
الفصل الثاني
الأسباب الحاملة على اختيار هذه الطريقة
إيجاد تمويل للمشاريع التي تحرك الاقتصاد في دولة إسلامية.
إن هذا التمويل فيه تحويل المسلمين عن الاستهلاك والإسراف إلى الإسهام في بعث حركة اقتصادية.
فتح منهاج جديد في إيجاد السيولة المالية لبعث مشاريع على الأصول الإسلامية كما جاء في المذكرة الإيضاحية، والمقصود بهذه السندات هو إيجاد البديل الإسلامي لسندات القرض التي يمكن للشركات والبنوك إصدارها على أساس الفائدة.
أن يكون الإقبال على التمويل شاملا للجماعة التي بين يديها سيولة مالية وانعزلت عن الاشتراك في موكب تحريك عملية الاقتصاد فانكمشت لارتباط سندات القروض بالربا المحرم.(4/1462)
الفقرة 9 ص7 وقد بينت الأسباب الموحية لقانون سندات المقارضة أن الذي دفع إلى الأخذ بهذا النوع من السندات ملاحظة أن إصدار السندات المالية وسيلة ناجحة بين وسائل اجتذاب المدخرات وتجميع الأموال اللازمة لتمويل المشروعات في مختلف الوجوه النافعة خدمة للاقتصاد الوطني وأن السوق المالية الأردنية أخذت تشهد نشاطا متزايدا في مجال إصدار السندات المالية وتداولها سواء في ذلك السندات المالية الحكومية الصادرة بموجب أحكام قانون الدين العام أو السندات المالية التي تصدرها المؤسسات ذات الاستقلال المالي والإداري. ولكن ارتباط هذه الأشكال من السندات بنظام الفائدة المحددة أدى إلى عدم تداول هذه السندات أو التعامل بها بين فئات المواطنين التي لا تقبل على استثمار أموالها على أساس الفوائد المحددة باعتبارها من الربا المحرم.
فقد تبين أن الحاجة إلى توسيع قاعدة المتعاملين في مجال السندات يتطلب استحداث هذا النوع الجديد من السندات المنظمة على أساس المشاركة في الإيراد المتوقع للمشروع الممول من حصيلة الإصدار المعين. وذلك على أساس إجراء التصفية التدريجية لهذه السندات وانتقال المشروع بكامله عند تصفية السندات الخاصة به ليصبح مع إيراده ملكا للجهة الحكومية ذات العلاقة فالغاية أن تصب في المحفظة الممولة للمشاريع كل الروافد مؤمنة كانت أو غير مؤمنة ورغبة في تطبيق شرع الله. أو متحللة من ذلك.
الفصل الثالث
التكييف الشرعي
أولا – عرضت هذه الطريقة كأسلوب أنف وصورة من صور التعامل الجديد القائمة على مبادئ الاقتصاد الإسلامي ص5 فقرة 7 وأكد هذا المعنى صفحة 8 فقرة 12. واضح أن صيغة سندات المقارضة تطرح على أنها صورة من صور التعامل الجديد وفق قواعد الاقتصاد الإسلامي. والفقه الإسلامي قاعدة عامة ووفق أرجح المذاهب يرحب بكل صور التعامل الجديدة ما دام أنها لا تتضمن تحليلا لحرام أو تحريما لحلال وفق القاعدة الفقهية المقررة أن الأصل في الأشياء الإباحة أو الأصل التخلية عن الحكم.(4/1463)
وإذا لم يتعلق بالأمر دليل يحرم فيعود الأمر إلى الإباحة ثم استحوذ على القائمين على البديل لسندات القرض الربوي فكرة أساسية هي أن هذه الصورة هي صورة من النشاط الاقتصادي الحلال. ثم عملوا على وجود سند للتحليل وذلك بالاعتماد على أن الأصل في الأشياء الإباحة وهذا جديد لم يرد فيه نهي عن الشارع فهو مباح ثم أخذ الداعون إلى اعتماد هذه الصورة يبحثون عن طبيعتها فيقول صاحب البحث المقدم: إنهم ترددوا بين كونها مضاربة أو شركة.
الفريق الأول:
وارتضى الفريق الأول أن العقد عقد قراض بناء على أن أركان العقد قد توفرت وهي المقارِض وهو صاحب السهم، والمقارَض الوزارة ورأس المال ما دفع من مال ناضٍّ في السند ونسبة الربح محددة معلومة لطرفي العقد.
وإن الفرق بين الشركة والقراض أنه في عقد الشركة لا بد أن يكون قيمة السهم هي القيمة الحقيقية بينما في القراض تعتمد القيمة الاسمية عند الإطفاء إذ هو رأس المال المدفوع.
وحلوا تداول الأسهم بأن الاختلاف عن القيمة الاسمية في التداول تحكمه عوامل السوق التي من أهمها مقدار الأرباح المتوقعة من امتلاك السندات ومدى الثقة بالحصول عليها مستقبلا بالمقارنة مع صور الاستثمار الأخرى.
وأن القيمة السوقية للسند تتألف من القيمة الحالية لرأس المال مضافا إليها القيمة الحالية للأرباح وفي هذا تدخل جميع العوامل المؤثرة على ربحية المشروع.
وجعلوا مبدأ تداول السندات بَدْوُ صلاح المشروع قياسا على بدو صلاح الثمرة وكمكان معروض يعتبر الوجود القانوني للمشروع بدو صلاحية دون البداية الفعلية.
الفريق الثاني:
حسب البحث المقدم هي وجهة نظر ثانية يقول الدكتور عبد السلام – وأما الباحثون الذين أدخلوا في مفهوم علاقة المضاربة مفهوم الشركة باعتبار أن هناك مشاركة في المشروع بين المكتتبين والجهة المصدرة فإنا نستطيع أن نجد ذلك في الورقة التي أعدها مجموعة من الخبراء عن الأوراق الإسلامية بتكيلف من البنك الإسلامي للتنمية بجدة في اجتماعه المنعقد 5/ 6 ربيع الثاني 1406هـ - 17/ 18 ديسمبر 1985 وقد انتهت اللجنة إلى إقرار جواز جمع الأموال بطريقة إصدار ورقات مالية تتخذ الصورة النقدية في البداية ثم تتحول بعد ذلك إلى أعيان ومنافع داخل أي شكل من أشكال التنظيمات. وأنه يمكن أن تنتقل ملكية الورقة من شخص إلى آخر بالطرق الشرعية.(4/1464)
ثم بينت المحاذير التي ينبغي تجنبها:
1) أن تكون الورقة ممثلة لنقود فقط أو ديون فقط أو ديون ونقود.
2) أن يترتب على التداول مخالفة للنصوص الواضحة.
الفصل الرابع
ضمان رأس المال
اتفق الفقهاء الذين تولوا النظر في إمكانية صاحب المشروع لرد رأس المال كاملا في حالة حدوث خسارة اتفقوا على أنه لا يجوز شرعا أن تضمن الجهة المصدرة لسندات القراض الخسارة (أنه لا بد من أن يتحمل المكتب ما يتعرض له من خسارة وفق قواعد عقد المضاربة في الشريعة الإسلامية) .
وهذا دفع القائمين على الفكرة إلى البحث عن صيغة أخرى توفر الطمأنينة للمكتتب في الأسهم فوجدوا الحل في كفالة الحكومة أصل قيمة السند وقالوا إن هذه الكفالة تعرفها قواعد الفقه الإسلامية.
وقد عللوا ذلك بأن وزارة الأوقاف لها شخصية معنوية ومن صلاحيات الدولة تشجيع أي قائم على ما يعود بالخير على الجماعة ولذا فإن اللجنة ترى حذف نص تحمل المكتتبين للخسارة وأن الحكومة تتكفل بالخسارة على أساس الوعد الملزم وأن ما تدفعه الدولة من تعويضات للخسائر هو قرض للجهة المصدرة بدون فائض تسترده فور ملكية الجهة المصدرة لجميع أقساط المشروع (انظر الصفحة 16) .(4/1465)
سندات المقارضة في ميزان الشريعة
أولا: طبيعة هذه المعاملة:
إن طبيعة هذه المعاملة هي أنها عقد مضاربة وإن تردد الباحث في اعتبارها عقد مضاربة أو عقد شركة لا مبرر له ذلك أن الفريق الأول كما يقول الباحث يرى أن الأساس الذي يمكن اعتماده لتصوير العلاقة الحقوقية التي تقوم في هذا النوع من التعامل هو عقد المضاربة على أساس أن الجهة المصدرة تمثل العامل والمكتتبين يمثلون صاحب رأس المال.
وكذلك الفريق الثاني هو مصرح بأن العلاقة هي المقارضة كما جاء في نص القاعدة الأولى: أنه يمكن أن تجتمع أموال مملوكة لعدد كبير من الناس في يد شخص واحد طبيعيا كان أم اعتباريا يستثمرها كمضارب وتأخذ هذه الحصة شكل ورقة مالية، ص11.
وإذا تقرر أن هذا العقد هو عقد قراض فإنه ينبغي أن تحرر أحكامه على أساس عقد المقارضة كما جاء في التشريع الإسلامي. وما أضيف إلى هذا العقد من أمور جانبية لا تغير طبيعة العقد ينظر فيها بميزان الفقه الإسلامي أيضا.(4/1466)
أركان هذا العقد:
المقارِض: والمقارض هنا هو المكتتب في السند. الدافع للمقدار المالي الذي هو قيمة السند والذي بموجبه يكون له الحق في الربح أو في الخسارة التي قد تصيب النشاط الاقتصادي في المشروع. فهل كان المقارض ركنا مستوفيا لجميع الشروط التي بها يصح العقد؟ لا شك أن المقارض هو شخص رشيد يملك التوكيل يقول الرافعي (وفقه الفصل أن القراض توكيل وتوكل في شيء خاص وهو التجارة فيعتبر في العامل. والمالك ما يعتبر في الوكيل والموكل فكما يجوز لولي الطفل التوكيل في أجور الطفل كذلك يجوز لولي الطفل والمجنون أن يقارض على مالهما) (1) فمشتري السند لا بد أن يكون ممن يصح فيه التوكيل والتوكل.
2- المقارَض: وهو العامل هنا. والعامل ليس شخصا ماديا وإنما هو شخص اعتباري. ومعنى كونه شخصا اعتباريا أي أنه غير موجود في الخارج إلا أن الشارع يقدر وجوده ويرتب على وجوده أحكاما فهو بهذا من خطاب الوضع: التقادير الشرعية.
- الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين أساسيين:
أحكام تعود إلى خطاب الوضع: على معنى أن الشارع وضع الحكم دون اعتبار لإرادة المكلف أو غفلته ودون اعتبار لعلمه أو جهله فيكون مناطا للحكم بوضع الشارع. وهذه هي الأسباب والشروط والموانع والتقادير الشرعية.
أحكام تعود إلى خطاب التكليف أي لا بد من مراعاة إرادة المكلف واختياره وكونه عاقلا بالغا وهي الأحكام الخمسة الوجوب والحرمة والإباحة والكراهة والندب.
فزوال الشمس سبب لدخول وقت الظهر يتحقق للزوال هذا الحكم – دون اعتبار لإرادة المكلف أو علمه ويبقى السبب قائما وصلاة الظهر واجبة على البالغ العاقل بعد وجوب السبب الذي لا دخل له فيه. ووجود الحيض مانع يمنع كون المرأة مكلفة بأداء الصلاة معطل لتعلق السبب بالحائض أرادت المرأة أو لم ترد.
__________
(1) فتح العزيز ج12 ص25/ 26(4/1467)
والارتباط بين خطاب الوضع وخطاب التكليف ارتباط محكم إذ خطاب الوضع عبارة عن المعطيات الخارجية التي لا أثر للإرادة فيها وخطاب التكليف هو مناط الثواب والعقاب أو العفو مع الفرق بين النظر الكلي والنظر الجزئي فلا يستقل خطاب التكليف عن خطاب الوضع. ولا يستقل خطاب الوضع عن خطاب التكليف وقد يكون الأمر الواحد خطاب تكليف بالنظر إلى جهة وخطاب وضع بالنظر إلى جهة أخرى. فالقتل العمد العدوان حرام وهذا خطاب تكليف. وكون هذا القتل سببا للقصاص خطاب وضع وهذا السبب يتعلق بالحاكم فيكون تنفيذ حد الله واجبا في حقه.
والصبي قد يتعدى على مال غيره فيفسده. فالتعدي سبب لغرم الضرر الحاصل. والقائم على أمر الصبي مطالب بأن يجبر الضرر من مال الصبي. فإن لم يكن للصبي مال بقي السبب موجودا وتعطل السبب عن إبراز الحكم لانعدام المال في الحال فمتى وجد المال زال المانع وترتب الحكم التكليفي الذي هو وجوب غرم الضرر.
ففي حال الصبي غير الرشيد الذي يملك أموالا يديرها ناظروه وجد خطاب الوضع في فعل الصبي وتعلق الحكم التكليفي بالولي لينفذ ما ترتب على السبب من الغرم. وكل سبب لا يؤثر إلا عند اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، والبيع حكمه حلال في الأصل وقد تعرض له الأحكام الخمسة وإذا تحقق البيع فإنه تترتب عليه إثارة من انتقال الملك واستحقاق الثمن إلى آخر أحكام البيوع إلا أن البيع إذا تم بين شخصين ولم يكن على الطريقة الشرعية اعتبره الشارع معدوما ولا أثر للوجود الخارجي. فتقدير الواقع مرتفعا هو حكم من خطاب الوضع – فالصبي إذا ما باع ماله فالبيع قد وقع في الخارج إلا أن هذا البيع لا تترتب عليه آثاره أصلا وإلا بعد إجازة الولي. فجعل هذا الحدث كأن لم يكن موجودا تقدير شرعي.
والذمة هي من التقديرات الشرعية – ذلك أنه لا يوجد شيء في الخارج مشخص هو الذمة- ولا هي وصف حقيقي فهي إذن من خطاب الوضع.(4/1468)
عرفها ابن عبد السلام شيخ ابن عرفة بقوله: أمر تقديري يفرضه الذهن وليس ذاتا ولا صفة لها فيقدر المبيع وما في معناه من الأثمان ضمانه في وعاء عند من هو مطلوب به فالذمة هي ذلك الأمر التقديري الذي يحوي ذلك المبيع أو عوضه (1) إن أكمل تعريف في نظري هو تعريف ابن عبد السلام هذا إلا قوله أمر تقديري يفرضه الذهن.
إذ البحث ليس في الأمور التقديرية التي يفرضها الذهن وإنما البحث فقها عما يفرضه الشارع ويقدره. فالشارع الحكيم هو الذي فرض وجود هذه المحفظة أو الوعاء لينسجم بذلك الالتزام والإلزام. وهذه المحفظة يسأل عنها تكليفيا من وضعها الشارع فيه تكليفيا فالوقف على المصالح العامة مثلا فيه وعاء يقبل الإلزام والالتزام أي أن الوقف يضاف إليه من الأملاك بالشراء ما فيه المصلحة كالأخذ بالشفعة ويؤاجر من يقوم بمصالحه ويكري ويقبض الكراء لكن هذه المحفظة مودعة عن القائم على الوقف مسؤول عنها تتعلق به الأحكام التكليفية من كون العقد الذي يعقده حلالا أو حراما فإذا تقدم القائم على الوقف واستأجر أجيرا للوقف ليرممه فالذمة بمعنى الوعاء الملتزم والملزم هو الوقف. والمسؤول تكليفيا هو ناظر الوقف. وهذه المحفظة تنتقل من ناظر الوقف إن أعزل أثناء التنفيذ لتتحول إلى المقدم الجديد. إلا أن الفعل تكليفيا معلق بالمقدم الأول أو الثاني حسب المرحلة التي يتم فيها التنفيذ فإذا خدع المقدم العامل فقد فعل حراما وإذا امتنع من دفع أجرة أو عقد إجارة فاسدة فإن أحكام أفعاله تتعلق به ثوابا وعقابا بين يدي الله. أما الالتزام فهو معلق بالمحفظة فيطالب الوقف بما التزمه مقدمه ويطالب الوقف الآخرين بما له عليهم من حقوق. ويحكم الحاكم بالملكية أو الغرامة للوقف وعليه وكذلك مقدم الأيتام. وكذلك الشركات – فذمة الشركة أمر تقديري وفي سندات القراض فبرز جوانب ثلاثة:
1) المقارض بالفتح صاحب رأس المال المكتتب بالأسهم.
2) المقارض بالكسر. هو والباعث للمشروع القائم عليه تفكيرا ومراقبة ومتابعة.
3) جهاز التنفيذ من الموظفين. وهؤلاء ينسق بينهم ويتولى أمر إدارتهم ويسأل عنهم موظف كبير هو الرئيس المدير العام وهو الحامل لمحفظة ذمة القراض وهو في عمله وكيل المقارض. الوزارة أو البنك الإسلامي أو المؤسسة الباعثة للنشاط.. ويتصرف الوكيل في حدود المصلحة ويحاسبه الموكل. وبهذا صح أن يتقاضى أجرا معينا على عمله. ولولا أنه موظف موكل لما حل له أخذ الأجر إذ أجر المقارض هو حصته المتفق عليها من صافي الربح إن كان. ويستحق الموظفون أجورهم أيضا باعتبار أنهم أعوان لا بد منهم لتحريك أموال المكتتبين.
__________
(1) (حاشية المهدي الوزاني ج2 كراس 4(4/1469)
وكما قلنا في سندات المقارضة. فكذلك الحكم في أسهم الشركة إذا كان الباعث لشركة غير مسهم في الشركة وحتى إذا أسهمت المؤسسة في الشركة فإن الحكم لا يختلف لأنها إنما تسهم بذمتها الاعتبارية وليس لأي واحد من الشركاء المكتتبين أن يتصرف في أموال الشركة. والنشاط الذي يعزل فيه صاحب رأس المال ولا بد من جولان يده في استثمار أموال الشركة هو خاصية القراض وهذا ما رجح عندي أنه لا يصح اعتبار الشركات المكتتب بأسهم في رأس مالها شركة عنان كما ذهب إليه الدكتور وهبة الزحيلي (1) .
(3) رأس المال:
- رأس المال يتكون من:
أولا: من السندات التي يدفع قيمتها المكتتبون نقدا، إلا أنه جاء في البحث ص 13 (ويمكن أن يكون الدفع للأوراق المالية على دفعة واحدة أو أن يكون على دفعات متعددة وفي حالة عدم سداد الدفعة خلال فترة معينة فإن الحصة تباع لحساب المكتتب) أنه إذا تم تسليم ثمن الورقة دفعة واحدة فالأمر واضح وصحيح لا إشكال فيه من هذه الناحية، أما إذا تم الدفع مقسطا فمعنى ذلك أن المسهم قد أسهم بقسط حال مسلم وقسط في الذمة يدفعه عند حلول الأجل. قال في البحر: الثالث أن يكون رأس المال مسلما إلى المضارب (2) ويقول خليل: (مسلم) أي للعامل واحترز به مما إذا شرط بقاء يده معه أو أمينا عليه مما لو قارضه بدين في ذمته وقد زاد ابن الحاجب لإخراج ذلك قيدا آخر فقال: المال شرطه نقد معين معلوم مسلم (3) وإن اعتبرنا أن الأقساط التابعة هي قراض جديد فإن كان قبل شغل القسط الأول جاز وإن كان بعد العمل في القسط الأول فإنه لا يجوز إذا خلط المال الجديد بالمال القديم (4) وسندات المقارضة يبدأ النشاط فيها بمجرد قبضها. فلا يجوز أن يضاف إلى المال المسلم مالا جديدا على أساس خلطه بما سبق تسليمه.
__________
(1) الشركات في الفقه الإسلامي للشيخ علي الخفيف ص 76 – والفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي ج4 ص881
(2) ج7 ص 287
(3) مواهب الجليل ج5 ص 358
(4) الدسوقي ج3 ص526(4/1470)
ويمثل ذلك قول الشافعي: الشرط الرابع أن يكون رأس المال مسلما إلى العامل ويستقل باليد عليه (1) .
وكذلك عند الحنابلة: وإن كان أذنه رب المال في الخلط بعد تصرف العامل في الأول ولم ينض رأس المال حرم الخلط لأن حكم العقد الأول استقر فربحه وخسرانه يختص به (2) ويقول ابن قدامة: (وإذا دفع إليه ألفا مضاربة ثم دفع إليه ألفا آخر مضاربة وأذن له في ضم أحدهما للآخر قبل التصرف في الأول جاز وصار مضاربة واحدة كما لو دفعهما إليه مرة واحدة وإن كان بعد التصرف في الأول في شراء المتاع لم يجز. لأن حكم الأول استقر فكان ربحه وخسرانه مختصا به فضم الثاني إليه يوجب جبران خسران أحدهما بالربح الآخر فإذا شرط ذلك في الثاني فسد) (3) .
فالمذاهب الأربعة متفقة على أنه لا يحل إضافة قدر جديد من المال من المقارض إلى المقارض ليخلط الجميع ويعمل فيهما عملا واحدا إذا كان العامل قد شرع في العمل برأس المال الأول.
وهذا ما يوجب إعادة النظر في الفقرة – أ – من المادة (15) كما ورد ذلك في بحث عطوفة الدكتور عبد السلام ص22 – بحيث يجوز تقسيط قيمة سندات المقارضة الاسمية لأمرين هامين – أ – تشجيع المكتتبين على شراء السندات – ب – عدم تجميع مبالغ طائلة مرة واحدة لدى الجهة المصدرة لعدة سنوات لحين البدء في تنفيذ المشروع أو لحين إكماله وتحقق الربح.
فلا بد إذن من إلزام كل مكتتب بدفع قيمة السهم قبل الشروع في العمل ووجوب رد رأس ماله له إذا لم يكمل باقي القسط المتخلد بذمته لبيعه على حسابه.
ثانيا: من عقارات هي تحت رعاية وزارة الأوقاف. عليها تقام المشاريع التي من ربحها يتكون الأرباح التي ستوزع على المكتتبين. وعلى وزارة الأوقاف.
__________
(1) فتح العزيز ج12 ص9
(2) منتهى الإرادات ج2 ص336
(3) المغني ج5 ص61(4/1471)
ذكر فقهاء المالكية أن الدخول في عقد القراض على أن العامل يشارك في رأس المال هو مفسد للقراض ويستحق العامل أجرا مثله (1) وأما إذا كان الخلط قد جرى على الطوع بعد العقد فجائز بشرط أن يكون المال عينا أو مثليا (2) وإذا كان الصحيح في المذاهب الأخرى أن القراض لا يكون بالعروض فإن إدخال العقارات من طرف العامل موجب لفساد القراض.
على أن هذه العقارات التي سيقام عليها البناء لم يرد في البحث بيان حصتها ولا طريقة تقويمها. ولما كانت أوقافا فإدخالها في عقد القرض مخالف لطبيعتها. إذ الأصل في القراض أنه لا بد أن ينتهي إلى التنضيض. وهي مما لا يباع. فهذا إشكال لم يعوض الباحث حلا له. نعم قد يكون في طبيعة سندات المقارضة من أنها تنتهي برجوع الأراضي وما فوقها إلى الجهة القائمة عليها أعني وزارة الأوقاف قد يكون في ذلك ما يمكن الإجابة فيه عن الاستشكال الأخير أما الباقي فلا بد من حل له. وقد يكون الحل الأفضل في نظري أن يقوم كراء العقارات قبل أن تحدث عليها المباني: وتستحق وزارة الأوقاف كل سنة قيمة كراء أراضيها. وتخصص ذلك لإطفاء السندات التي تستوجبها.
ضمان رأس المال: ورد في البحث المقدم ص15 و16. أنه جرى بحث حول ضمان أصل السند للمكتتبين. أي عدم تعرضهم للخسارة. بحيث يستحق كل مكتتب القيمة التي دفعها في سنده عند حلول موعد الإطفاء وإن كان النشاط الاقتصادي أنتج خسارة وذهب بالجزء من رأس المال وقد وجدوا الحل في كفالة الحكومة وأصدرت لجنة الفتوى فتواها بجواز كفالة الحكومة وضمانها لرأس المال: وفصلت المادة 12 من قانون سندات المقارضة ذلك. (تكفل الحكومة تسديد قيمة المقارضة الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة. وتصبح المبالغ المدفوعة لهذا السبب قرضا ممنوحا للمشروع بدون فائدة مستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات) .
فالفتوى مع النص القانوني يفيدان ضمان رأس المال كاملا عند الإطفاء، فإذا كانت قيمة السهم لم تنخفض فلا إشكال وأما إذا انخفضت فالوزارة التي هي المقارض ملزمة بإرجاع كامل رأس المال لصاحبه إلا أنها لما كانت حالتها المالية لا تسمح لها بجبر الخسارة فقد تعهدت الدولة أن تقرضها المبالغ اللازمة لذلك لتسددها الوزارة إلى الدولة من ربح المشاريع عقب إطفاء السندات.
__________
(1) الزرقاني: ج6 ص217
(2) الزرقاني: ج6 ص220(4/1472)
يجمع الفقهاء على أن الخسارة يتحملها صاحب رأس المال ويضيع على العامل أجر عمله واشتراط تضمين العامل رأس المال يتبين حكمه فيما يلي: قال الزرقاني (إن شرط على العامل ضمان رأس المال إن هلك وإنه غير مصدق في تلفه فقراض فاسد لأن ذلك ليس من سنته وفيه قراض المثل إذا عمل والشرط باطل ولا ضمان عليه. وأما لو اشترط عليه أن يأتيه بضامن يضمنه فيما يتلف بتعديه فلا يفسد بذلك) (1) فقد ذكر الزرقاني أولا أنه إذا شرط صاحب رأس المال ضمان العامل فيما يتلف بغير سبب العامل فالشرط باطل. وللعامل قراض مثله – ثانيا أنه إذا طلبه بضامن يضمنه إذا تسبب في التلف فلرب رأس المال أن يتوثق بضامن.
ثم أضاف البناني صورة أخرى وهي ما إذا تطوع العامل بضمان التالف: وقد نقل فيها اختلاف الفقهاء فذهب ابن عتاب وشيخه أبو مطرف إلى أن القراض صحيح والضمان لازم وذهب غيرهما إلى المنع من هذا فهو كصورة الاشتراط (2) .
وقد بين الرهوني أصل هذا القول فقال: أصل هذا لابن زرب؛ ذلك أن ابن زرب قيد كلام الأئمة في عدم ضمان المكري لما اكتراه إذا كان ذلك في العقد فأما إذا تبرع المكري بالضمان وطاع به بعد تمام الكراء جاز ذلك. فألزمه مناظره أنه يجب على تقييده هذا أن يضمن المقارض أيضا إذا طاع بالتزام الضمان. فقال ابن زرب إذا التزم الضمان طائعا بعد أن شرع في العمل فما يبعد أن يلزمه ما التزم به.
وقد بحث المنجور كلام ابن زرب هذا فقال إنما التزم ابن زرب جواز الطوع بالضمان بعد الشروع لأن القراض لا يلزم بالقول على المشهور. والطوع بعد العقد وقبل الشروع في العمل كالشرط وختم الرهوني هذه الأنقال بأن التزم ابن زرب التسوية بين الكراء والقراض غير لازم ولا تناقض إذا قال بجواز الطوع بضمان الكري بعد العقد وعدم جواز الطوع في ضمان القراض بعد العقد وذلك لأن التزام الضمان في الكراء بعد العقد لا محذور فيه. أما القراض فطوعه بالضمان متهم فيه بأنه إنما طاع بالضمان لأجل أن يبقى المال بيده بعد نضوضه وهذه هي علة حرمة هديته بعد الشروع فتأمل (3) ، فتلخص من كل ما سبق: أن اشتراط الضمان على العامل في العقد غير جائز وإن طوع العامل بالضمان بعد الشروع في العمل الصحيح أنه غير جائز أيضا لاتهامه على أنه إنما طاع بالضمان قصد إبقاء المال بيده بعد نضوضه.
__________
(1) ج6 ص216
(2) ج6 ص216
(3) الرهوني ج6 ص23/ 324(4/1473)
وفي سندات المقارضة انعقد العقد على ضمان الحكومة. وضمان الحكومة ليس إلا قرضا لعامل الوزارة يتقاضاه منها بعد إطفاء جميع السندات. ولذا فإن هذا الحل الذي أقرته اللجنة على أساس الوعد الملزم لا يعطي حلا شرعيا مقبولا. وهو خروج عن أصل المشكلة إلى ناحية جانبية أخرى إذ إن الإشكال لا يتعلق بوفاء الدولة بالتزامها وإنما هو دخول صاحب رأس المال في عقد المضاربة على أن رأس ماله مضمون من العامل أو من ضامن آخر يأتي به والضمان هو ضم ذمة إلى ذمة أخرى وإذا امتنع أن يتكفل الأصيل بشيء فإن البديل أي الضامن لا يجوز له ذلك من باب أولى.
قسمة الأرباح:
حسب المشروع المقدم تقسم الأرباح كل سنة فتستقل وزارة الأوقاف بنسبة تخصصها لشراء سندات حل إطفاؤها، ويستقل المكتتبون بنسبة أخرى، وقد تخصص نسبة أيضا لضمان تعاوني ويكون كل صاحب سند مستحقا لنصيبه من ربح العقارات إلى تاريخ إطفاء سنده.
1- أنه إذا اعتبرنا أن هذا العقد عقد مقارضة فإنه لا يجوز قسمة الأرباح كل سنة، ففي نوازل البرزلي: قال شيخنا أبو القاسم الغبريني: ولا يصح أن يأخذ العامل من الربح قبل قبض رأس المال ماله ولو أذن له في ذلك ويرد ما قبض. ولا يفسد به القراض.
قلت: كذا وقع في الموطأ وغيره. وذكر ابن رشد عن ابن حبيب جواز ذلك قبل المفاصلة. وإذا كان عندها ووقعت وضيعة رد ما أخذ حتى يتم رأس المال. قال ويلغي النفقة للعامل لو لم يكن في المال ربح جهل ذلك رب المال أو علمه (1) .
فما أجازه ابن حبيب اعتبره موقوفا إلى تاريخ المفاصلة فإن تبين أن النشاط قد كانت نتيجته خسارة رد ما أخذ وإن تبين أنه أنتج ربحا حوسب على ما تسلمه من الربح يوم المفاصلة.
__________
(1) فتح العلي المالك ج2 ص218(4/1474)
3) إن قيمة السند ثابتة وهو ما اشترى به المكتتب سهمه يوم العرض (القيمة الاسمية) أما قيمة المنجزات التي حققها المقارض بجهازه الإداري وبرأس المال فهي غير المال المدفوع عند الاكتتاب. فقد تكون أرفع من قيمتها يوم التنفيذ وقد تكون أخفض فبناء رأس المال على قيمة واحدة في المنجزات مخاطرة إذ يثبت الواقع تأرجحها، ولذا فإنه لا بد من تقويم المنجزات عند الإطفاء وبحسب الربح أو الخسارة تبعا لذلك، وحظ رأس المال والعامل من الربح هو ما زاد على رأس المال كما أن حظ رأس المال من الخسارة هو أيضا تابع لقيمة المنجزات عند الإطفاء، وقد نص الفقهاء على أن القراض لما كان مستثنى فإنه يجب أن لا يخالف به سنته خاصة وأن المخالفة هنا قد تفضي إلى تحول المقارضة إلى قرض بربح ثابت غير معين المقدار. أما أنه قرض بربح فذلك أن صاحب السند يكون قد دفع للوزارة ألف دينار مثلا ليأخذ كل سنة بقي فيها الألف بذمة الوزارة نسبة من دخل المشاريع ثم يسترد في نهاية المدة أي وقت الإطفاء الألف دينار، وأما كون الربح ثابتا فلأن الربح هو مدخول الكراء من عمارات ودكاكين ونحو ذلك وهو أمر يقيني؛ لأن هذه المنجزات أقيمت في بلد عامر بأهله قد تنخفض قيمة الكراء وقد تعلو لكن توفر الدخل يقيني واستفادة المقرض من قرضه استفادة مادية مشترطة حرام ربا.
تداول السندات:
جعلوا مبدأ تداول السندات بَدْوَ صلاح المشروع قياسا على بدو صلاح الثمرة. ثم قالوا إنه يمكن أن يكون الوجود القانوني للمشروع دون البداية الفعلية.
إن أمر هذا القياس عجيب جدا؛ ذلك أن بدو صلاح الثمرة المجوزة لبيعها منفصلة عن أصولها معناه: أن الثمرة قد وجدت وأنها قد تجاوزت كل الأطوار التي يمكن أن تتعرض فيها للمخاطر. ولم تبق إلا فترة زمنية قليلة للنضج والقطاف. فهل أن الوجود القانوني كتابة على الورق مكتسبا قوة التنفيذ من السلطة يعتبر قطعا لمراحل إنجاز المشروع وبلوغه حدا يطمأن معه أنه تجاوز مراحل الخطر وأن الأرباح قد أخذت تقترب من البروز الواضح، مع أنه لم يشرع فيه بعد؟ لا يشك ناظر في الحكم على أن مرحلة الوجود القانوني يمكن تنظيرها بنور الأشجار ولعل الخلط وقع بين الإبار وبدو الصلاح فإنه يمتنع بيع الثمر قبل بدو الصلاح أبرأ أو لم يبرأ. وإنما الإبار يقضي بتبعية الثمرة للبائع.(4/1475)
ومن مجموع ما تقدم يتضح أن هذا العقد كما قدم من وزارة الأوقاف عقد مرفوض شرعا لا يقبل على أنه معاملة جارية على قواعد التشريع الإسلامي.
سندات المقارضة التي يصدرها البنك الإسلامي:
هذه السندات إذا كان المكتتبون فيها يملكون صفة الشريك في حضور الجلسات وتوجيه النشاط ومتابعة المشروع في مراحل التنفيذ فهم بذلك شركاء تنطبق عليهم قواعد الشركة. وإن كانوا لا يملكون من الأمر شيئا وإنما هو يكتتبون في الأسهم لتحقيق الربح فتنطبق عليهم قواعد القراض وأحكامه، ولما كنت لا أملك الوثائق التي اعتمدها البنك الإسلامي للتنمية في توجيه نشاطه فإنه يتعذر علي تبعا لذلك الحكم عليها والله أعلم وأحكم وهو ولي التوفيق – حسبي الله ونعم الوكيل.
خلاصة البحث
سندات المقارضة التي عرضتها وزارة الأوقاف بالأردن عبارة عن سندات تعرض في السوق بقيمة محددة تتولى وزارة الأوقاف جمع المداخيل من بيع السندات لتصرفها في إقامة مشروعات على أراضي الوقف. ويكون دخل الكراء موزعا بين وزارة الأوقاف التي تطفئ به أسهما محددة وبين المكتتبين وهكذا إلى أن يتم إطفاء جميع السندات، وتتكفل الدولة بقرض وزارة الأوقاف لتتمكن من إطفاء جميع الأسهم بالقيمة الاسمية لها.
ظاهر العقد أنه عقد مقارضة لا شركة:
إن قول الباحث: إن هذا نوع من التعامل جديد الأصل فيه الإباحة غير مقبول، بل كل عقد جديد لا بد أن يعرض معيار الشريعة الإسلامية، وقبل النظر يجب التوقف عن التحليل أو التحريم.
إذا أخذنا بأن العقد مضاربة فأركان المضاربة هي:(4/1476)
1- المقارِض، وهو المكتتب في السند وشرطه أن يكون من أهل التوكيل.
2- المقارَض وهو هنا ذمة مقدرة عند وزارة الأوقاف.
3- هيئة تنفيذي تقوم بإدارة المشروع والقيام على مراحل التنفيذ كلها، وهم موظفون تحت رئاسة المدير العام يستحقون أجورهم، وهذان الركنان الأول والثاني توفرت فيهما المقاييس الشرعية للصحة.
4- رأس المال: ولا بد أن يكون نقدا مسلما كله قبل الشروع في العمل = وهذا الركن قد اختل في الطريقة المعروضة من ناحيتين:
1) أنهم جوزوا تقسيط رأس المال حتى بعد الشروع في الأعمال وأن مشتري الجزء من السهم إذا لم يوف بباقي القسط فإنه يباع الجزء نيابة عنه ويتحمل الخسارة أو يستفيد من الربح. وهذا لا بد من تعديله بحيث يتم خلاص جملة الأقساط قبل الشروع في العمل من ناحية وإرجاع المال لصاحبه إذا لم يسدد باقي القسط ولا يباع على ذمته.
2) إدخال عقارات الأحباس إذ المشاريع هي عبارة عن إسهامات المكتتبين التي تنفق في البناء وأراضي الأوقاف التي يقام عليها البناء ولا يجوز لوزارة الأوقاف أن تتنازل عنها للمكتتبين. ولا أن تلغي قيمتها والحل أن يقدر كراء تلك الأراضي ويكون عائد الكراء مستحقا للوزارة تتمكن به من شراء الأسهم عند الإطفاء.
ضمان رأس المال: انبنى العقد على أن القيمة الاسمية للسهم مضمونة عند الإطفاء بواسطة قرض من الحكومة إلى وزارة الأوقاف. وبناء العقد على ضمان القيمة الاسمية من العامل لا يجوز إجماعا، وتبرير ذلك بأن الضامن طرف ثالث لا يحل المشكل أصلا لأمرين: أحدهما أن الضامن يتنزل منزلة المضمون، وما لا يجوز للمضمون أن يضمنه لا يجوز للضامن. وثانيهما: أن الضمان هنا عبارة عن ضمان الحكومة بقرض الوزارة إذا لم تكن لها القدرات المالية، وأن الدولة ملزمة بالوفاء بما وعدت به من القرض، وهذا لا نزاع فيه، ولكنه غير محل الفساد في العقد الذي هو ضمان الخسارة.(4/1477)
إن جعل قيمة السند هي القيمة الاسمية عند الإطفاء يتقاضاها المسهم غير صحيح، لأن مبنى عقد المقارضة على أن صاحب رأس المال يستحق عند انتهاء العقد رأس ماله كاملا مع حصته من الربح أو رأس المال ناقصا منه الخسارة. وقيام العقد على أن صاحب السند يستحق القيمة الاسمية على كل حال يفضي في النهاية إلى انقلاب المقارضة إلى قرض، يكون المقرض قد أخذ كل سنة فائدة، وإن لم تكن محددة المقدار، إلا أنها محددة النسبة من ريع المشروع المضمون الدخل قطعا، لأن الدخل كراء المحلات في بلد عامر بأهله، وللخروج من هذا لا بد من تقويم المشروع عند الإطفاء، ويستحق صاحب السند نسبة سنده من كامل المشروع كانت القيمة الاسمية أكثر أو أقل – أو مساوية.
والله أعلم – {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]
محمد المختار السلامي(4/1478)
سندات المقارنة وسندات الاستثمار
إعداد
فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
القاضي بمحكمة التمييز
بسم الله الرحمن الرحيم
سندات المقارضة وسندات الاستثمار
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فلقد اطلعت على نظام سندات المقارضة وعلى قرار الحكومة الأردنية بخصوص إقراره واعتباره مسلكا اقتصاديا تُمْلِهِ قواعد الشريعة ومبادئ الإسلام. كما اطلعت على الفتوى الصادرة من لجنة الإفتاء بالمملكة الأردنية الهاشمية بإقرار هذا النوع من الاستثمار وعدم وجود ما يمنع اعتباره مسلكا من المسالك الاقتصادية الإسلامية كما اطلعت على البحث المقدم من الدكتور عبد السلام العبادي في حكم سندات المقارضة انتهى منه إلى القول بجوازها واعتبارها مسلكا اقتصاديا إسلاميا يتفق مع وجود الاستثمار الإسلامي واستند في تبرير ذلك، والاحتجاج على صحة ما أنجر إليه على بحث الدكتور منذر قحف.
كما اطلعت على البحث القيم المقدم من الدكتور علي أحمد السالوس وما فيه من مناقشة لأصحاب هذا القول ومقارنة بين السندات المالية المبنية على الأخذ بالفوائد الربوية حتى يتم سدادها وبين ما يسمى بسندات المقارضة المبنية على تقديم أرباح سنوية غير مقدرة وبين شهادات الاستثمار الصادرة من البنك الإسلامي للتنمية وبعض البنوك والشركات الإسلامية.
وإسهاما مني في مناقشة موضوع سندات المقارضة وهل هي حقا سندات مقارضة أم أنها هي السندات المالية وإن اختلفت التسمية أقول ما يلي:
أولا: أشكر الأمانة العامة للمجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ممثلة في سماحة الشيخ الحبيب ابن الخوجة على دعوته الكريمة إياي بالمشاركة في هذه الحلقة الدراسية لهذا الموضوع الهام.(4/1479)
ثانيا: أضم صوتي إلى صوت فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس في استغرابه من لجنة الفتوى في الأردن الشقيق إقرار سندات المقارضة كمنهج اقتصادي تقره قواعد الشريعة ومبادئها، والحال أن أحكام المقارضة في الفقه الإسلامي تختلف عن أحكام سندات المقارضة الصادرة بها قانون أردني مؤيد من لجنة الفتوى.
ثالثا: أؤيد تأييدا مطلقا ما جاء في بحث فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس من نقد موضوعي لسندات المقارضة انتهى به إلى تأكيد أن سندات المقارضة هي السندات المالية التي دأبت بعض الحكومات والمؤسسات الاقتصادية على إصدارها للحصول على مال تستطيع به تمويل مشاريعها أو إنعاش اقتصادها. وإن تسميتها بسندات المقارضة تسمية ليست لها من مسماها غير اللفظ فقط لبعدها تمام البعد عن جوهر القراض أو المضاربة.
رابعا: أن البحثين المقدمين من الدكتور منذر قحف وعبد السلام العبادي هما محاولة يائسة في تبرير الأخذ بنظام سندات المقارضة بحجة أنها تطبيق عملي لشركة القراض أو المضاربة، وقد تخف وطأة استنكارنا ما صار إقراره في بحثيهما حينما نعلم أن لجنة الفتوى في الأردن الشقيق أقرت هذا المسلك – الأخذ بسندات المقارضة – واعتبرته تطبيقا عمليا لشركة القراض المعتبرة في الفقه الإسلامي وفي مذاهبه الفقهية المختلفة.
خامسا: أرجو وأكرر رجائي أن تعيد لجنة الفتوى في الأردن نظرها في حقيقة سندات المقارضة في ضوء ما نص عليه قانونها من أحكام جعلتها بكل وضوح وجلاء نوعا من أنواع السندات المالية وإن اتخذت لها اسما يعطي تضليلا للرأي العام المحجم عن الدخول في معاملات ربوية واضحة له.(4/1480)
سادسا: أرجو أن تنتهي هذه الحلقة الدارسية إلى التوصية المؤكدة بأن سندات المقارضة ليست من القراض في شيء مطلقا وأنها هي السندات المالية المعروفة وأن تسميتها بهذه التسمية لا تعطيها حق الجواز والاعتبار طالما أنها تختلف عن أحكام المضاربة – المقارضة – في كل أحكامها وتتفق مع السندات المالية في جوهرها ولبابها وأرجو أن تكون هذه التوصية مبررا لاستصدار قرار من مجمع الفقه الإسلامي يبين حقيقة هذه الأسناد ومنافاتها لأحكام القراض – المضاربة – وبالتالي منافاتها للمقتضيات الإسلامية واتفاقها تمام الاتفاق مع السندات المالية المبينة في التعامل بها على الربا الصريح.
سابعا: لا يخفى أن شركة المضاربة أو القراض على اختلاف في تسميتها بين أهل العلم ورجال الفقه في الإسلام واتفاق بينهم على أصول أحكامها تعتمد على ما يلي:
أ - وجود اشتراك في الجملة بين المال والعمل.
ب - استحقاق كل عنصر منهما نصيبه من ثمرة العمل بالمال على ما يجري الاتفاق عليه بينهما إذا كانت ثمرة العمل زائدة عن رأس المال المستثمر.
ج- قيام عقد بالاشتراك يكون المال من أحد طرفيه والعمل من الطرف الثاني، على أن يكون المال مؤهلا للاستثمار والعمل بحيث لا يكون دينا على العامل ولا مال غير قابل لتحويله للاستثمار، ومثل لذلك بعضهم بالأموال العينية من عقارات أو عروض أو نحو ذلك.
د- تمكين العامل من التصرف بالمال على سبيل الاستثمار وفقا لما يجري عليه التعاقد من نوعية العمل على ألا يكون ذلك مخالفا للقواعد الشرعية العامة.
هـ- اعتبار وعاء الاستثمار ملكا لصاحب المال على أن يأخذ العامل منه نصيبه من الربح إن كان ذلك بعد التنضيض – التصفية -.
و في حال عدم وجود ربح في المال المستثمر بعد تنضيضه فليس للعامل شيء منه بل هو لصاحب المال.
ز- في حال وجود خسارة في المال المستثمر بعد تنضيضه فليس على العامل شيء من حجم الخسارة بشرط ألا تكون الخسارة ناتجة عن تعد أو تفريط في التصرف أو الحفظ أو المخالفة.
ح- في حال ثبوت تفريط العامل في التصرف أو الحفظ أو تعديه فنتج عن ذلك خسارة في رأس المال فإن العامل – المقارض أو المضارب – يضمن ذلك النقص.(4/1481)
ط- لا يحق لأي من طرفي القراض أخذ شيء من مال المضاربة على سبيل تملكه كجزء من استحقاقه فيها حتى يجري تنضيض مال المضاربة – تصفيته – ليتضح ما إذا كانت رابحة أم لا وليتضح مقدار الربح في حال وجوده.
ى- عقد المضاربة أو القراض من العقود الجائزة يحق لكل واحد من طرفيها إنهاؤه وطلب التصفية إلا أن تكون محدودة بوقت معين فيتعين الوفاء بذلك.
هذه أهم قواعد وأحكام شركات القراض أو المضاربة كما يسميها بعضهم.
ثامنا: بتأمل ودراسة قانون سندات المقارضة تتضح منها الأحكام التالية:
أ - ليس هناك شراكة بين العامل ورب المال في وعاء الاستثمار. فموضوع الاستثمار ملك للعامل وحده وما يقدمه رب المال من مال لاستثماره هو دين في ذمة العامل يجري سداده في وقت القدرة على السداد وقد وصفه القانون الأردني بأنه قرض.
ب - ليس هناك عقد شركة بين العامل ورب المال مطلقا وإنما التكييف الفقهي لما بينهما أن رب المال أقرض العامل بما قدمه له من مال على أن يعطيه الغلة بعد ظهورها ما جرى الاتفاق عليه من النسبة المعينة له من حجم الغلة.
ج- ليس لرب المال من مشروع الاستثمار تملك مطلقا بل أصل الاستثمار وغلته للعامل ولرب المال ما اتفقا عليه من النسبة المعينة من الغلة.
د- ما يقدمه رب المال من مال مضمون سداده في وقته المعين كما أنه مضمون من النقص والخسارة وحتى لو هلك مشروع الاستثمار حيث إنه حق مالي انعقد الالتزام به في ذمة العامل. لا أنه منغمس في حجم المشروع.
هـ- لرب المال حقه من نسبة الربح بصفة دورية حسبما يتفقان عليه من زمن كل دورة بغض النظر عن تصفية المشروع أو تقييمه.
و متى وجد العامل على إطفاء الحقوق على مشروع الاستثمار فحرره بها انقضت الحقوق الإضافية عليه فأصبح المشروع ملكا مطلقا للعامل له كامل أصله وغلاله وبذلك تنقضي علاقة رب المال بمالك المشروع.
تاسعا: بالنظر والتأمل في قواعد أحكام وصيغ إصدار السندات المالية من الدولة أو من المؤسسات العامة أو الخاصة تتضح المشابهة الكاملة بينها وبين سندات المقارضة إلا في مقدار العائد الإضافي من السند حيث إن السند المالي يحتسب لصاحبه فائدة ربوية مقدرة بنسبة معينة من حجم السند في حين أن سند المقارضة يحتسب لصاحبه النسبة المتفق عليها فيها. ولا شك أن هذا الفرق لا يؤثر مطلقا في اعتبار ما يسمى بسندات القرض نوعا من السندات المالية المبينة على الفوائد الربوية فجميع قواعد وأحكام هذه السندات – سندات المقارضة – هي نفس أحكام وقواعد السندات المالية.
فالسند المالي وثيقة بحق مالي في ذمة آخذه وسند المقارضة وثيقة بحق مالي في ذمة آخذه كذلك. والعائد الإضافي للسندات المالية هي الفائدة الدورية لبقاء قيمة السندات في ذمة آخذها حتى يتم سدادها وهذه الفائدة الدورية للسندات المالية هي من نوع الفائدة الدورية لسندات المقارضة وإن اختلفتا في التعيين والمقدار.(4/1482)
وليس لمالك سند القراض أو السند المالي حق في وعاء الاستثمار مطلقا مهما ارتفعت قيمته إذ هو ملك قابض الأسناد كما أن مالك السند سواء كان سندا ماليا أو سند إقراض مضمون سنده ولن يتأثر بنقص مما خسر المشروع وبذلك يتضح أن ما يسمى بسند القراض إنما هو من أنواع السندات المالية الواضح فيها حرمة التعامل بها بيعا وشراء وإصدارًا حسبما تقتضيه من أحكام وقواعد وأن تسميتها بسندات المقارضة تسمية خالية من أحكام وقواعد مسماها القراض – المضاربة.
عاشرا: بتأمل ودراسة شهادات الاستثمار الصادرة من الشركات الاستثمارية للمضاربة أو من البنوك الإسلامية يتضح بها أن شهادة الاستثمار وثيقة على مال مبذول من مالكه إلى من التزم بتشغيله في مجال استثماري وتعني هذه الشهادة ما يلي:
أ - قيام شركة بين رب المال وبين العامل – المضارب – على أن يقوم العامل باستثمار هذا المال بحصة معينة من ربحه وبعد تنضيضه – تصفيته.
ب - اعتبار وعاء الاستثمار ملكا لرب المال ليس للعامل فيه إلا حصته المتفق عليها من الربح إن حصل.
ج- في حال عدم وجود ربح في المشروع المستثمر فليس للعامل شيء مطلقا وتعتبر جهوده في الاستثمار هدرا.
د- في حال خسارة المشروع المستثمر بدون تعد أو تفريط من العامل يستقل رب المال بتحمل كامل الخسارة وليس على العامل منها شيء.
هذه القواعد والأحكام وغيرها مما يعتبر ذكره تكرارا تتفق تمام الاتفاق مع أحكام شركات القراض – المضاربة – وبالتالي فإن شهادات الاستثمار الصادرة من البنك الإسلامي للتنمية ومن البنوك الإسلامية الأخرى يعتبر واقعها تطبيقا عمليا لمقتضيات شركات القراض – المضاربة – ولقد صدرت باعتبارها ملكا اقتصاديا خاليا من شوائب الربا فتاوى شرعية من هيئات معتبرة ومن ذلك قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية.
ومما تقدم يتضح أن أمامنا في هذه الحلقة الدارسة ثلاثة أنواع من السندات المالية:(4/1483)
أحدها: السندات المالية الصادرة من الحكومات أو البنوك المركزية أو المؤسسات العامة لغرض تمويل مشروع ما أو تنشيط الحركة الاقتصادية وهي موضع اتفاق بين فقهاء المسلمين على أنها ليست من قبيل شركات المضاربة – القراض – وأنها قروض تلتزم بها الذمة الاعتبارية التي قامت بإصدارها وأنها تنتج فوائد ربوية.
الثاني: شهادات الاستثمار ويمثل لها بالأوراق المالية الإسلامية الصادرة من بنك التنمية الإسلامي ومن شركات الاستثمار الخليجية الإسلامية ومن البنوك الإسلامية وقد وصفها بنك التنمية الإسلامي في البند 27 من مشروع شهادات الاستثمار المخصصة بقوله: الورقة المالية الإسلامية في حد ذاتها ممثلة لحصة مالية في مجموع موجودات المشروع.
وهذا النوع من السندات المالية المبني التعامل بها على أحكام وقواعد شركات المضاربة لا نعرف أحدا من أهل العلم اعترض على اعتبارها سندات مقارضة وأن العلاقة بين مالك السند وقابض محتواه هي علاقة رب المال مع المضارب – العامل – في شركات القراض – المضاربة.
الثالث: ما يسمى بسندات المقارضة والذي صدر باعتباره نوعا من القراض قوانين أردنية تأيدت بفتوى من لجنة الفتوى في الأردن وهذا النوع من السندات هو موضوع حلقتنا الدراسية وقد صدر باعتباره نوعا من شركات القراض – المضاربة – قانون أردني بتاريخ 25/ 2/ 1981م نذكر منه المواد التالية لمزيد التعرف على نوعية هذه الأسناد:
المادة – 2 – أ – تعني سندات المقارضة الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح.(4/1484)
ب- يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع وتحدد هذه النسبة في نشرة إصدار السندات إلى آخرها.
المادة – 12 – تكفل الحكومة بتسديد القيمة الاسمية لسندات المقارضة الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة وتصبح المبالغ المدفوعة لهذا السبب قرضا ممنوحا للمشروع بدون فائدة مستحقة الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات.
المادة – 18- يتم تداول سندات المقارضة في سوق عمان المالي حسب أحكام قانونه وأنظمته وتعليماته كما يتم نقل ملكيتها حسب هذه الأحكام.
إننا بتأملنا هذا النوع من السندات وما هي عليه من تقنين وتقعيد وأحكام يتضح لنا بكل وضوح أنها نوع من السندات المالية التي هي حقوق ثابتة في ذمم مصدريها لمن دفع قيمتها وإن قيل عنها بأنها سندات مقارضة فهي تسمية ليس لها من مسماها نصيب مطلقا ولكنها كما وصفها القانون الأردني في المادة الثانية عشرة منه بأنها قرض ممنوح للمشروع بدون فائدة وأن الدولة ضامنة لسداد قيمته الاسمية. فهي نوع من السندات الاسمية إن أي عائد مقابل بقائه في ذمة مستقرضه يعتبر نوعا من ضروب الربا لإجماع أهل العلم أن كل قرض جر نفعا فهو ربا كما أن بيعه وشراؤه يعتبر من بيوع الأثمان – المصارفة – فهو بيع ثمن غائب عن مجلس العقد بثمن حاضر ولا يخفى أن الحكم الشرعي في صحة المصارفة مشروط جوازه في التماثل والحلول عند اتحاد الجنس وبالتقابض في مجلس العقد في حال اختلاف الجنس.
هذه ملاحظات عابرة اقتضاها اشتراكي في هذه الحلقة المباركة أرجو أن أكون بما قدمته قد أسهمت في الحديث عن موضوع هذه الحلقات وأعتقد أن الحكم الشرعي في موضوعها من أوضح الأحكام وأظهرها وأنه من الوضوح بحال لا يحتاج إلى بحوث مطولة ولا إلى نقاش متشعب. والله المستعان وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
عبد الله بن سليمان بن منيع(4/1485)
تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينها وبين
سندات التنمية وشهادات الاستثمار والفرق بينها
وبين السندات الربوية
إعداد
الدكتور سامي حسن حمود
المدير العام
مركز البركة للبحوث والاستشارات المالية الإسلامية
عمان – الأردن
بيان المحتويات
تقديم البحث
الفصل الأول: - التعريف بسندات المقارضة وتصوير حقيقتها:
1- تحديد المقصود بعبارة (سندات المقارضة) .
2- سندات المقارضة في التشريع المعاصر.
3- تصوير حقيقة سندات المقارضة من واقع التطبيق العملي.
4- الإشكالات الفقهية المثارة في تطبيق سندات المقارضة:
أ - تقسيم رأس المال في المضاربة إلى حصص متساوية.
ب - بيع وشراء سندات المقارضة في المراحل المختلفة.
جـ- دخول الدولة بصفة طرف ثالث كمتعهد بضمان.
تسديد ما يتبقى من رأس المال في سندات المقارضة.
الفصل الثاني: - الفرق بين سندات المقارضة وكل من سندات التنمية وشهادات الاستثمار والسندات الربوية:
1- الفرق بين سندات المقارضة وسندات التنمية.
2- الفرق بين سندات المقارضة وشهادات الاستثمار.
3- الفرق بين سندات المقارضة والسندات الربوية.
- خلاصة البحث.
- المراجع(4/1486)
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم البحث
يعتبر موضوع سندات المقارضة من المواضيع المستجدة في إطار المحاولات الهادفة إلى إيجاد الأدوات الاستثمارية المناسبة للاستثمار المالي القائم على غير أساس الربا.
أما العبارة بحد ذاتها فهي اصطلاح مستحدث من ابتكار الباحث فيما وفقه الله إليه عند بدء العمل لوضع مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني خلال عام 1397هـ، وهو القانون الذي ناقشت مواده لجنة الفتوى الأردنية في الفترة الواقعة بين العشرين من رجب والثامن والعشرين من رمضان عام 1397هـ (الموافقة السادسة من تموز (يوليو) والحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 1977م (1) . وهو القانون الذي تم على أساسه بعد إصداره تأسيس البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار بصورة شركة مساهمة أردنية عامة (2) .
__________
(1) انظر – الأعمال التحضيرية لمشروع قانون البنك الإسلامي الأردني مع الأسباب الموجبة ومناقشات لجنة الفتوى والمذكرات المقدمة حول الموضوع إعداد الدكتور: سامي حمود مقرر اللجنة التحضرية. الصفحات 14، 15 من المذكرة الإيضاحية، القسم الأول
(2) صدر قانون البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار بصفة قانون مؤقت رقم (13) لسنة 1978م وتم نشره في الجريدة الرسمية للمملكة الأردنية الهاشمية في العدد رقم 2771 الصادر بتاريخ 24 ربيع الثاني عام 1398هـ، الموافق 1نيسان (أبريل) عام 1978(4/1487)
وكان المقصود من تقديم فكرة سندات المقارضة – كما وردت في المذكرة الإيضاحية المفسرة لمواد مشروع القانون المقترح لإنشاء البنك الإسلامي الأردني – (هو إيجاد البديل الإسلامي لسندات القرض التي يمكن للبنوك إصدارها على أساس الفائدة المحدودة أو على أساس الفائدة العائمة (1) .
وقد تطورت فكرة سندات المقارضة حين عرض الباحث على وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في عمان إمكانية تطبيق سندات المقارضة لتمويل الاحتياجات التمويلية لإعمار الممتلكات الوقفية حيث تشكلت لجنة متخصصة لبحث هذا الموضوع من جميع الجوانب الشرعية أولا ثم الجوانب الفقهية والتطبيقية ثانيا (2) ، حيث انتهت المناقشات المستفيضة حول هذا الموضوع إلى إصدار قانون خاص بسندات المفاوضة وهو القانون المؤقت رقم (10) لسنة 1981 المنشور في الجريدة الرسمية رقم (2992) تاريخ 11 جمادى الأولى 1401هـ الموافق 16 آذار (مارس) 1981م (3) .
وكان البنك الإسلامي للتنمية مهتما بفكرة سندات المقارضة منذ بداية طرح موضوعها حيث كان رئيس البنك يتابع شخصيا تطور مراحل العمل المختلفة في هذا المجال (4) .
__________
(1) انظر – الأعمال التحضيرية، لمشروع قانون البنك الإسلامي الأردني مع الأسباب الموجبة ومناقشات لجنة الفتوى والمذكرات المقدمة حول الموضوع إعداد الدكتور: سامي حمود مقرر اللجنة التحضرية، صفحة 14
(2) انظر المراسلات الجارية مع معالي الأستاذ كامل الشريف وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية حول موضوع سندات المقارضة عام 1978
(3) تألفت لجنة سندات المقارضة من كل من: - السيد وليد أسعد خير الله (من البنك المركزي) - الأستاذ يوسف المبيضين (محامي وزارة الأوقاف) - الدكتور سامي حمود (مقدم البحث)
(4) انظر – المراسلات الجارية مع سعادة الدكتور أحمد محمد علي – رئيس البنك الإسلامي للتنمية حول موضوع سندات المقارضة(4/1488)
وتقوم فكرة سندات المقارضة – كما يتضح من البحث بالتفصيل – على أساس المضاربة الشرعية مع إدخال عنصر تقسيم رأسمال المضاربة إلى وحدات أو حصص متساوية القيمة الاسمية وذلك بهدف تسهيل تداول هذه الحصص وانتقالها بالبيع والشراء من مالك إلى مالك آخر دون حاجة إلى تصفية المشروع الذي يستثمر فيه المال.
وإذا كانت البدايات العملية لعرض فكرة سندات المقارضة قد جاءت من واقع التطبيق المحلى في حدود ما يمكن عمله من خلال الإمكانيات المتاحة للبنك الإسلامي الأردني ومشاريع الأوقاف والبلديات وغيرها من المؤسسات العامة الأردنية ذات الاستقلال المالي فإن الإمكانيات المتاحة لتطوير استعمالات سندات المقارضة يمكن أن تسهم في بناء التنمية الحقيقية للعديد من دول العالم الإسلامية المختلفة.
ويستوي في تقدير الحاجة لوجود الأدوات المالية المتمثلة في سندات المقارضة، الدول الإسلامية الغنية (بفضل الله) والدول الإسلامية المحتاجة لتمويل مشاريعها على أساس المشاركة في الإيرادات والأرباح.
وقد تضمن هذا البحث المقدم النقاط المطلوبة من ناحية تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينها وبين سندات التنمية وشهادات الاستثمار من ناحية، كما تضمن البحث كذلك الصور التطبيقية المختلفة لسندات المقارضة لكي تتضح الأهمية الخاصة لوجود هذه الأدوات الاستثمارية القائمة على غير الأساس الربوي الحرام. ويعتبر اهتمام البنك الإسلامي للتنمية من خلال تعاون المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب مع مجمع الفقه الإسلامي لمناقشة فكرة سندات المقارضة من الوجهة الشرعية نقلة بعيدة الأثر حيث يضم هذا المجمع نخبة الفكر الإسلامي من مختلف البلاد الإسلامية المترامية الأطراف.
وإذا قدر الله لهذه الأفكار المستحدثة حول موضوع سندات المقارضة بأن توضع في القالب الموافق للمبادئ الشرعية فإن ظهور مثل هذه الأدوات المالية الخالية من التعامل الربوي الحرام يمكن أن يعتبر البداية المتواضعة لتأسيس سوق رأس المال الإسلامي الذي تحتاج إليه البنوك الإسلامية ويحتاج إليه القطاع الخاص من المستثمرين المسلمين، كما يحتاج إليه القطاع العام ومؤسسات النقد والبنوك المركزية في البلاد الإسلامية.
ومن هنا تتبدى أهمية هذا الموضوع المطروح للمناقشة في هذه الدورة المباركة.
وإن الباحث ليسعده ويشرفه أن تحظى فكرة هذه السندات باهتمام مجمع الفقه الإسلامي الذي يمثل رمز اللقاء الإسلامي الموحد في ظلال منظمة المؤتمر الإسلامي.(4/1489)
ويود الباحث – بهذه المناسبة – أن يقدم خالص الشكر والتقدير إلى جميع أصحاب الفضل الذين شاركوا في دعم وإظهار فكرة سندات المقارضة لتكون النبراس الذي سوف يفتح طريق الخلاص من الربا الحرام في المستوى المتقدم للعمل في الأموال العامة وتمويل المشروعات الكبيرة. ويخص الباحث بالشكر كلا من معالي الأستاذ كامل الشريف وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية – سابقا – ومعالي الدكتور أحمد محمد علي – رئيس البنك الإسلامي للتنمية- لما كان لكل منهما دور في دفع تقدم فكرة سندات المقارضة وإخراجها إلى الوجود. كما يشكر الباحث كذلك الأخ الفاضل الأستاذ وليد أسعد خير الله المدير التنفيذي في البنك المركزي على ما قدمه من جهود مستنيرة ولا سيما بالنسبة لخبرته في دائرة سندات الدين العام حيث كان لتعاونه في إعداد الصياغة الفنية أثر واضح في إخراج قانون سندات الدين العام حيث كان لتعاونه في إعداد الصياغة الفنية أثر واضح في إخراج قانون سندات المقارضة الأردني بهذه الصورة العلمية القابلة للتطبيق.
كما يشكر الباحث كلا من معالي الدكتور عبد العزيز الخياط وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية بالأردن، وكذلك سعادة الدكتور عبد السلام العبادي – وكيل الوزارة - على ما يقومان به من جهود لمتابعة تطبيق سندات المقارضة وما أدخلاه من تعديلات تحسينية على قانون سندات المقارضة الأردني رقم 10 لسنة 1981.
وأخيرا فإن الباحث يتوجه بالشكر إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة – الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي - على ما يقوم به من جهود ومتابعة للنظر في المسائل التي تهم المجتمعات الإسلامية المعاصرة بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية في قضايا التمويل والاستثمار.
ونسأل الله أن يجزي جميع العاملين في سبيل خدمة دينه وشريعته خير الجزاء أنه سميع مجيب.
وسلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور سامي حسن حمود(4/1490)
الفصل الأول
التعريف بسندات المقارضة وتصوير حقيقتها
1- تحديد المقصود بعبارة سندات المقارضة:
يقصد بالسند عموما الوثيقة المكتوبة لإثبات حق، فيقال: سند الدين أو سند الملكية للتدليل على وثيقة إثبات الدين أو امتلاك الشيء. لذلك يطلق على السند أحيانا لفظ الصك أو المحرر (بفتح الراء الوسطى مع تشديدها) أو غير ذلك من مصطلحات تختلف باختلاف البلدان والأزمان جاء في لسان العرب في تعريف السند أنه ما ارتفع من الأرض في قبل الجبل أو الوادي والجمع: أسناد لا يكسر على غير ذلك. والسند كذلك ضروب من البرود أي الثياب (انظر لسان العرب كلمة سند) .
أما المعجم الوجيز الصادر عن مجمع اللغة العربية فقد اختار لتعريف السند (في الاقتصاد) : أنه ورقة مالية مثبتة لقرض حاصل وله فائدة ثابتة، والسند الإذني مكتوب يتضمن التزاما بدفع مبلغ لإذن شخص أو لحامله في تاريخ معين والجمع: سندات. (انظر المعجم الوجيز، كلمة سند) .
التعليق:
يؤخذ على اختيار المعجم الوجيز لتعريف السند (في الاقتصاد) بأنه ورقة مالية مثبتة لفرض حاصل وله فائدة ثابتة أمران:(4/1491)
أما الأول فهو: نقصان الدقة في التعريف حين جعل الفائدة ملازمة للقرض مع أنه قد تكون هناك قروض موثقة بسندات وليست لها فوائد، وهذا هو الأصل في القروض إذا كان المقرض مسلما ملتزما بشريعة الإسلام، وكان حريا بنخبة علماء اللغة الذين أشرفوا على وضع هذا المعجم ومراجعته أن لا يقعوا في هذا الوهم المتأثر بالضعف، أما الفكر الغربي الذي يربط القروض بالفوائد إلزاما. ألم يسمع هؤلاء النخبة أبدا بالقرض الحسن بمفهومه الإسلامي؟ وهل سند القرض الحسن لا يسمى سندا لأنه ليس له فائدة ثابتة؟
أما الأمر الثاني فهو يتمثل في قصور العلم لدى واضعي المعجم حين وصفوا الفائدة بكونها ثابتة حيث إنها ليست الشكل الوحيد لسندات القروض المالية. لأنه يوجد هناك أيضا سندات القروض ذات الفوائد العائمة أي الفوائد التي تتغير حسب تغيرات الأسعار العالمية لفوائد العملات القابلة للتحويل.
والذي نراه أن تطويع اللغة العربية للمفهوم الاقتصادي الغربي يدل على مدى تغلغل الضعف والتأثر بالفكر الوافد وهو الأمر الذي كنا نتمنى أن لا تتأثر به النخبة المختارة من علماء اللغة العربية الذين يضعون لها المعاجم التي تصبح مع الأيام مرجعا معتمدا.
لذلك لا يستغرب أن يكون استعمال كلمة السند حافزا لنفور بعض رجال الفقه المعاصرين المدفوعين بالوهم الذي يوقعهم فيه التعريف المختار في المعجم الوجيز.
وإن المأمول أن يتنبه مجمع اللغة العربية لتصحيح هذا التعريف الموهم للسند في الطبعات القادمة بإذن الله.
وسندات المقارضة لا تخرج عن هذا المفهوم الاصطلاحي باعتبار أن السند بحد ذاته هو وثيقة إثبات حصة المشاركة في رأس مال القراض. فالمقارضة مأخوذة من لفظ القراض وهو العقد المعروف بلفظ المضاربة. وقد شاع استعمال لفظ المضاربة عند الحنفية والحنابلة والزيدية (1)
__________
(1) انظر في ذلك: - الميرغيناني، الهداية في شرح بداية المبتدى، الجزء الثالث، صفحة 162- كتاب القراض. - ابن هبيرة، عن معاني الصحاح، صفحة 205، باب المضاربة. - السياغي، الروض النضير، الجزء الثالث، باب المضاربة.(4/1492)
أما المالكية والشافعية فإنهم يطلقون على نفس العقد لفظ القراض (1) .
وقد ذكر الإمام الكاساني في مؤلفه القيم بدائع الصنائع أن لفظ المضاربة مأخوذ من الضرب في الأرض وهو السير فيها ابتغاء الرزق والفضل من الله، أما المقارضة فإنه وارد في عرف أهل المدينة لأنهم يسمون المضاربة مقارضة (2) .
والقراض أو المضاربة مبني على اشتراك رأس المال من جانب مع العمل الذي يقدمه الطرف الآخر على أساس اقتسام الربح بالنسبة الشائعة المتفق عليها بينهما كالثلث أو الربع أو غير ذلك بأكثر أو أقل. ويكون الربح هو ما يفضل أي يزيد عن رأس المال فإذا لم يكن هناك خسارة ربح فإن صاحب رأس المال يسترد ما دفع دون زيادة وإن كان هناك خسران فإن الخسارة تكون على رب المال إن لم يكن من العامل تقصير أو مخالفة (3) .
وقد فصلت المؤلفات الفقهية في المذاهب المختلفة شروط صحة المضاربة وحقيقتها والعمل الذي تشمله المضاربة مما لا يتسع المقام للدخول في هذه التفاصيل الفروعية. وإن ما يهمنا بيانه أن هذه الشروط هي شروط اجتهادية حيث يظهر للمتتبع أن عقد المضاربة لم يرد فيه نص قطعي الدلالة في الكتاب أو السنة لبيان أحكام هذا العقد أو تحديد شروطه، بل كان كل ما علم من أمره من المعاملات التي كان يتعامل بها الناس في جاهليتهم وأنهم استمروا بالتعامل به بعد إسلامهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد خرج قبل بعثته صلى الله عليه وسلم في مال للسيدة خديجة – رضي الله عنها – مضاربة إلى الشام وأنه أقر الشروط التي سئل عنها بعد النبوة مما كان يشترطه عمه العباس بن عبد المطلب – رضي الله عنه – على من كان يأخذ منه المال ليضارب له فيه (4) .
__________
(1) انظر في ذلك: - المدونة الكبرى، الجزء الثاني عشر، صفحة 86، كتاب القراض. - الإمام الشافعي، كتاب الأم، الجزء الرابع، صفحة 5، باب القراض.
(2) انظر: الكاساني، بدائع الصنائع، الجزء الثامن، صفحة 3588
(3) انظر – سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية الطبعة الثانية، الصفحات 356- 369 حول التعريف بالمضاربة وشروط صحتها.
(4) انظر: سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية الطبعة الثانية، الصفحات 356- 369(4/1493)
وقد بين صاحب نيل الأوطار حقيقة هذه المسألة بقوله: إنه ليس في المضاربة شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا ما أخرجه ابن ماجة من حديث صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع)) . حيث قال الشوكاني بعد ذلك: إن في إسناد هذا الحديث روايين مجهولين (1) .
كما نقل صاحب الروض النضير ما قاله ابن حزم في مراتب الإجماع من أن: كل أبواب الفقه لها أصل في الكتاب والسنة حاشا القراض، فما وجدنا له أصلا فيها البتة، ولكنه إجماع صحيح مجرد، والذي نقطع به أنه كان في عصره صلى الله عليه وسلم فعلم وأقره. (2) . كما نقل ابن قدامة الإجماع بقوله: (وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة – ذكره ابن المنذر) (3) .
ومن ذلك يتبين أن المقارضة أو المضاربة هما لفظان لمدلول واحد يحمل معنى المشاركة بين رأس المال من جانب والعمل أو الجهد الإنساني من جانب آخر.
ولما كان عقد المضاربة بحد ذاته هو اتفاق بين طرفين فإن هذا الاتفاق يمكن أن يكون بين طرفين يكون كل منهما فردا واحدا مثل اتفاق زيد مع عمرو كما يمكن أن يكون الفريق المالك لرأس المال أو الطرف العامل فيه أشخاصا متعددين.
__________
(1) انظر: الشوكاني، نيل الأوطار، الجزء الخامس، صفحة 21.
(2) انظر – السياغي، الروض النضير، الجزء الثالث، صفحة 643
(3) انظر – ابن قدامة، كتاب المغني، الجزء الخامس، صفحة 22.(4/1494)
يقول صاحب المغني في جواز تعدد أصحاب رأس المال: إنه إذا قارض اثنان واحدا بألف لهما جاز (1) . وإذا جاز مبدأ التعدد في اثنين فليس هناك ما يمنع تعدد مالكي رأس المال إلى ما هو أكثر من ذلك طالما كان العقد واحدا. وبذلك يصبح رأس المال في عقد المقارضة مقسما إلى حصص بحسب عدد الشركاء ومقدار حصة كل منهم في رأس المال، ويعتبر الشركاء جميعا هم رب المال في مواجهة العامل أو العاملين إذا تعددوا، وهذه الشركة بين مالكي رأس المال هي شركة مِلك (بكسر الميم) .
فإذا كانت هذه الحصص التي ينقسم إليها رأس المال في عقد المقارضة متساوية القيمة وموحدة الشروط فإن الوثيقة المثبتة لهذه الحصة ذات القيمة الاسمية الموحدة تسمى سند المقارضة.
ومن ذلك يتضح أن حقيقة سندات المقارضة لا تزيد عن كونها وثائق موحدة القيمة تعطي للراغب في دخول عقد تمويل مشترك لتقديم رأس المال اللازم للعمل فيه بالمضاربة وفق الشروط المعلنة لعموم المشاركين.
وأما التكييف الفقهي لما يمثله سند المقارضة فإنه يعتبر حصة مشاركة في رأس المال المدفوع من أطراف متعددين على أساس أنهم جميعا (وإن بلغوا المئات أو الألوف) رب المال وأنهم يتمتعون بهذه الصفة بما لهم من حقوق وما يقع عليهم من التزامات كما لو كانوا شخصا واحدا وأن حقوق رب المال والتزاماته تتقسم بينهم وعليهم بنسبة حصة كل واحد منهم بمقدار ما يملكه من هذه السندات.
__________
(1) انظر – ابن قدامة، المغني، الجزء الخامس، صفحة 32(4/1495)
2- سندات المقارضة في التشريع المعاصر:
كانت المملكة الأردنية الهاشمية أول من قدم مفهوم سندات المقارضة بناء على ما قدمه الباحث عن أفكار لدى تقديم مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني حيث عرف القانون المؤقت رقم (13) لسنة 1978 سندات المقارضة بأنها: الوثائق الموحدة القيمة والصادرة عن البنك بأسماء من يكتتبون فيها مقابل دفع القيمة المحررة بها على أساس المشاركة في نتائج الأرباح المتحققة حسب الشروط الخاصة بكل إصدار على حدة، ويجوز أن تكون هذه السندات صادرة لأغراض المقارضة المخصصة وفقا للأحكام المقررة لها في هذا القانون. (المادة رقم 2) .
كما بينت المادة 14 من قانون البنك الإسلامي الأردني المشار إليه أعلاه شروط إصدار سندات المقارضة بنوعيها المشترك والمخصص بما لا يخرج عن القواعد المقررة للمضاربة الشرعية المطلقة والمقيدة.
أما قانون سندات المقارضة الصادر بالقانون المؤقت رقم (10) لسنة 1981 فقد كان المقصود به إيجاد الوسائل المناسبة من الناحية الشرعية لتمويل إعمار وتجديد الممتلكات الوقفية حيث سمح القانون المشار إليه لوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية وكذلك البلديات وسائر المؤسسات العامة ذات الاستقلال المالي لإصدار سندات المقارضة لتمويل مشاريعها ذات الجدوى الاقتصادية القادرة على تحقيق أرباح مناسبة للراغبين في المشاركة بحصة أو أكثر من رأس المال اللازم لتنفيذ المشروع المعروض.
ومن ذلك يتبين أن هذا النوع من سندات المقارضة هو بحسب طبيعة ارتباطه بمشروع أو مشروعات معينة إنما يكون من نوع المضاربة المقيدة.
وقد عرفت المادة الثانية من القانون المشار إليه مدلول عبارة (سندات المقارضة) بأنها تعني: (الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح.(4/1496)
ويختلف هذا التعريف الذي كان الباحث قد ضمنه في دراسته المقدمة عن الأفكار العامة لسندات المقارضة الإسلامية التي قام بإعدادها بناء على طلب البنك الإسلامي للتنمية خلال فترة عرض مشروع القانون المقترح على وزارة الأوقاف الأردنية حيث أورد الباحث تعريفا أدق فقهيا (بحسب ما يرى) من النص الذي اعتمده القانون الصادر. فقد ورد في الدراسة المذكورة أن سندات المقارضة تعني (الوثائق الموحدة القيمة والصادرة بأسماء من يكتتبون فيها مقابل دفع القيمة المحررة بها وذلك على أساس المشاركة في نتائج الأرباح أو الإيرادات المتحققة من المشروع المستثمر فيه بحسب النسب المعلنة على الشيوع مع مراعاة التصفية التدريجية المنتظمة رأس المال المكتتب به عن طريق تخصيص الحصة المتبقية من الأرباح الصافية لإطفاء قيمة السندات جزئيا حتى السداد التام) (1) .
ومهما قيل في الموازنة بين التعريفين فإن المهم هو توضيح التصور التطبيقي لسندات المقارضة والتحقق من توافق هذا التصور مع القواعد الفقهية المعتبرة.
3- تصوير حقيقة سندات المقارضة من واقع التطبيق العملي:
لما كان سند المقارضة هو عبارة عن حصة معينة من رأسمال المضاربة المقيدة في مشروع أو مشاريع محددة ومعروفة بذاتها فإن الحكم الذي يجري على هذا السند هو الحكم العام الذي يجري على رأس المال حيث يعتبر مالكو سندات المقارضة بمجموعهم هم رب المال.
ولا يؤثر على طبيعة هذه المضاربة كون رب المال مقيدا ولا يستطيع الاشتراط خلافا لما هو معلن من الشروط التي تحددها جهة الإدارة (العامل) للمشروع المعين، لأن الشروط الجائزة في الشرع يمكن أن تحدد من جانب رب المال فيقبل بها العامل فيه أو العكس.
__________
(1) انظر – سامي حمود(4/1497)
أما تخصيص استعمال رأس المال في مشروع محدد بذاته فهو يدخل في باب حقيقة ما تشمله المضاربة حيث يجد المتتبع أن الفقه الإسلامي يسير في اتجاهين متوازيين: -
ففي الاتجاه الأول وهو رأي الأكثرين من فقهاء المذاهب الإسلامية فإنه ينظر إلى المضاربة على أنها من جنس المقارضة كالإجارة واعتبروا أن جهالة الأجر تجعل من هذا العقد أنه وارد على خلاف القياس مما ترتب عليه عدم التوسع عند هؤلاء الفقهاء في إجازة ما كان من نحو المضاربة من اتفاقات.
فقد ذكر الإمام الكاساني – رحمه الله-: (أن القياس في عقد المضاربة لا يجوز لأنه استئجار بأجر مجهول بل بأجر معدوم ولعمل مجهول، لكنا تركنا القياس بالكتاب العزيز والسنة والإجماع ... ) (1) .
وجاء في بداية المجتهد أن (القراض مستثنى من الإجارة المجهولة، وأن الرخصة في ذلك إنما هي لموضع الرفق بالناس) (2) .
وقال الرملي في نهاية المحتاج: إن (القراض رخصة لخروجه عن قياس الإجارات كما أنها كذلك لخروجها عن بيع ما لم يخلق) (3) .
وفي مقابل هذا الاتجاه المشتابه عموما فيما ذهب إليه فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية نجد أن فقهاء مذهب الإمام أحمد بن حنبل ينظرون للمسألة بمعيار آخر وهو المعيار المبني على اعتبار المضاربة أنها من جنس المشاركات وليست من جنس المعاوضات وإن هذا العقد لا يكون / تبعا لذلك/ واردا على خلاف القياس.
__________
(1) انظر الكاساني، بدائع الصنائع، الجزء الثامن، صفحة 3587
(2) انظر – ابن رشد (الحفيد) ، بداية المجتهد، الجزء الثاني، صفحة 236
(3) انظر – الرملي، نهاية المحتاج، الجزء الرابع، صفحة 161(4/1498)
وقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – هذه المسألة الخلافية مع بيان ما يختاره بقوله:
(من قال: هي (أي المضاربة) إجارة بالمعنى الأعم أو العام فقد صدق، ومن قال هي إجارة بالمعنى الخاص فقد أخطأ) (1) وبعد أن ناقش – رحمه الله – الأحاديث الواردة في المزارعة والمساقاة حيث انتهى إلى جواز كل منهما باعتبارهما من نوع الشركة، راح يكشف الغطاء عن المسألة كلها في ختام الكلام عن العموم والخصوص في لفظ الإجارة قائلا: ( ... ولهذا جوز أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة، مثل أن يدفع دابته أو سفينته أو غيرهما إلى من يعمل عليها والأجرة بينهما) (2) .
وقد أوضح ابن القيم المسألة من ناحية ما قال به شيخه ابن تيمية بعدم وجود أمر في الشريعة على خلاف القياس حيث قال (بأن من قالوا بأن المضاربة – وما شاكلها – واردة على خلاف القياس قد ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة؛ لأنها عمل بعوض، والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض، فلما رأوا العمل والربح في هذه العقود غير معلومين قالوا: هي على خلاف القياس، وهذا من غلطهم، فإن هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضة المحضة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض، والمشاركات جنس غير جنس المعاوضات وإن كان فيها شوب المعاوضة) (3) .
وفي ضوء هذه السعة والسماحة المميزة في مذهب الإمام أحمد بن حنبل في ميادين العقود والشروط، كان الفقهاء الحنابلة قادرين على تصحيح العديد من حالات التعاقد التي اعتبروها مشاركات جائزة بينما لم يتمكن غيرهم من مباراتهم بسبب ما هم مقيدون به من نظر متحفظ باعتبار أن المضاربة نفسها عندهم هي استثناء وارد على خلاف القياس وأن الأصل فيها هو القول بعدم الجواز.
لذلك نجد صاحب المغني قد أورد العديد من الاتفاقات التي لها صفة المشاركة الجائزة عند الحنابلة حيث يقول في ذلك بكل وضوح:
( ... وإن دفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما يرزق الله بينهما نصفين أو ثلاثا، أو كيفما شرطا صح.. وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها وله نصف ربحها بحق عمله جاز ... ) (4) .
__________
(1) انظر ابن تيمية، القواعد النورانية الفقهية صفحة 170
(2) انظر ابن تيمية، القواعد النورانية الفقهية، صفحة 184
(3) انظر ابن القيم، أعلام الموقعين، الجزء الأول، الصفحات 384 – 385
(4) انظر ابن قدامة، المغني، الجزء الخامس، الصفحات 7- 8(4/1499)
كما أورد صاحب منتهى الإرادات حالة دفع الدابة لمن يعمل عليها بجزء من الأجرة وأضاف إليها كذلك أيضا: ( ... خياطة ثوب ونسج غزل وحصاد زرع) (1) .
وقد تناول الأستاذ الشيخ محمد جواد مغنية – في مؤلفه الجامع عن فقه الإمام جعفر الصادق – مسألة الاتفاق في المشاركة على أخذ حصة نظير جزء مما يتحصل من العمل على العين فرأى جواز مثل هذا الاتفاق على خلاف ما سار عليه فقهاء المذهب الإمامي حيث ضرب لذلك مثالا من الواقع المعاصر فقال بأنه إذا كان عند شخص سيارة فقام المالك بتسليمها إلى سائق لنقل الركاب بالأجرة حيث يكون ما يرزق الله بينهما بالسوية أو التفاوت، فهل تصح هذه الشركة؟ فقال الأستاذ الشيخ محمد جواد مغنية في ذلك:
(اتفق الفقهاء - المقصود فقهاء المذهب الإمامي - كما جاء في مفتاح الكرامة على أنها - أي الشركة بالشكل الوارد في المثال المذكور - باطلة، لأنها إنما تصح بالمال من الشريكين لا من أحدهما فقط، وليس هذا الاتفاق مضاربة ولا إجارة أو جعالة لمكان الجهل بالأجر) (2) .
وقد عقب الأستاذ الشيخ على هذا الرأي المنقول قائلا:
( ... والحق أن هذا الاتفاق صحيح وجائز، وليس من الضروري أن ينطبق عليه أحد العقود المسماة كالشركة أو الإجارة أو الجعالة، بل يكفي مجرد التراضي مع عدم المانع من الشرع أو العقل، أما الجهل بأجرة السائق فغير مانع من الصحة ما دامت معينة في الواقع وينتهي الشريكان إلى العلم بها مقدارا وجنسا بعد العمل) (3) .
__________
(1) انظر – الفتوحي، منتهى الإرادات، القسم الأول، صفحة 466
(2) انظر – محمد جواد مغنية، فقه الإمام جعفر الصادق، الجزء الرابع، الصفحات 109 – 110
(3) انظر – محمد جواد مغنية، فقه الإمام جعفر الصادق، الجزء الرابع، صفحة 109 - 110(4/1500)
ومن ذلك يتبين أن النظرة المتسعة للمضاربة واعتبارها من جنس المشاركات تساعد على قبول تخصيص استعمال رأس المال المتجمع من حصيلة بيع سندات المقارضة لإقامة مشروع معين مثل إنشاء بناء تجاري على أرض مملوكة للوقف الإسلامي بهدف إعمار الممتلكات الوقفية في البلاد الإسلامية.
ولكن هل يعتبر مالكو سندات المقارضة في مثل هذا المشروع أنهم شركاء ملك؟
إن الجواب الواضح أن أرض الوقف لا يجري عليها الملك لأنها محبوسة عن التصرف في رقبتها ولكن من الممكن أن تكون هناك مشاركة بين الوقف (مالك الأرض) ومالكي سندات المقارضة باعتبارهم يملكون البناء. وتكون هذه المشاركة على أساس اتفاقي تأخذ بموجبه هيئة الأوقاف المتولية بالتصرف جزءا من الإيراد ليس بنسبة قيمة الأرض إلى قيمة البناء (لأنها ليست شركة ملك كما بينا بل هي شركة عقد) ، وإنما بالنسبة التي حددها عقد المضاربة المقيدة حيث يجوز أن تكون هذه النسبة الربع أو الخمس أو العشر أو أقل أو أكثر.
كما أن نصيب مالكي سندات المقارضة من الإيراد المعين لهم في المشروع المحدد يمكن أن تكون كلها ربحا صافيا، كما يمكن أن تكون مقسمة إلى جزء يمثل الربح وجزء آخر استهلاكا لموجودات المشروع لأن البناء يبلى مع مضي الأيام بينما تبقى الأرض إلى ما شاء الله. وما دام رأسمال المقارضة المقسم إلى سندات قد تحول إلى بناء مقام فوق الأرض الموقوفة فإن هذا البناء واقع تحت الاستهلاك. فإذا قلنا مثلا: إن إيجار المبنى الذي يكلف بناؤه خمسمائة ألف دينار (الكلفة للبناء فقط دون الأرض) هو مائة ألف دينار مثلا فإنه يمكن إعلان الاتفاق لمن يقبلون المشاركة في تمويل إنشاء هذا المبنى كما يلي:
20 % من الإيجار للجهة المتولية لإدارة الوقف.
80 % من الإيجار لرب المال المتمثل في مالكي سندات المقارضة.
فإن نسبة الثمانين بالمائة من الإيجار المتحصل ومقدارها ثمانون ألف دينار يمكن أن تقسم إلى ما يلي:
30 % توزع كأرباح لمالكي سندات المقارضة.
50 % توزع كتسديد لأصل رأس المال.(4/1501)
أي أن مالكي سندات المقارضة يستوفون سنويا مقدار خمسين ألف كتسديد لرأس المال المقدم منهم مجتمعين وهم يقتسمون ذلك بالتساوي فيما بينهم. وهذا يعني أنه بعد مرور عشر سنوات من بدء الإيجار يكون مالكو سندات المقارضة قد استردوا رأسمالهم ولا يعود لهم حق في المبنى الذي تصبح ملكيته للوقف الذي يملك الأرض.
ويكون مالكو سندات المقارضة قد استفادوا ربحا يتمثل في نسبة الـ 30 % من الإيجار الذي يأخذونه سنويا طالما كانوا شركاء في البناء.
فإذا لم يكن هناك نصيب لتأجير المبنى فلا إيراد لهم، وإذا تلف المبنى أو تعيب أو تقرر هدمه فإنه يتلف عليهم أي على مالكي سندات المقارضة.
وبذلك تكون حقيقة سندات المقارضة أنها شركة أملاك في علاقة مالكي السندات بعضهم ببعض لأنهم رب المال، وهي شركة مضاربة بين مالكي السندات بمجموعهم وبين الجهة المتولية لإدارة الوقف وذلك على أساس المضاربة المقيدة بمشروع معين مع الاتفاق المسبق على تصفية حقوق رب المال من واقع إيرادات المشروع إلى أن تعود ملكيته إلى جهة الوقف.
وما ينطبق على الوقف الإسلامي يمكن أن ينطبق على مشاريع البلديات والمؤسسات وهيئات النقل البري والبحري والجوي ضمن هذا الإطار العام الذي أجاز به فقهاء الإمام أحمد دفع الدابة أو السفينة لمن يعمل عليها بجزء من الدخل الناتج منهما.
4- الإشكالات الفقهية المثارة في تطبيق سندات المقارضة:
يثير التطبيق المستحدث لسندات المقارضة الصادرة لتمويل المشاريع الوقفية وما شابهها من المشروعات عددا من التساؤلات التي تحتاج إلى بيان الإطار الشرعي الذي يمكن من خلاله إصدار هذه السندات وتداولها بالبيع والشراء وكذلك تصفيتها وتسديدها. وتشمل هذه التساؤلات النقاط التالية:
أ - تقسيم رأس المال في المضاربة إلى حصص متساوية.
ب - بيع وشراء سندات المقارضة في المراحل المختلفة.
جـ- دخول طرف ثالث غير رب المال أو العامل فيه كمتعهد بالشراء.(4/1502)
وفيما يلي توضيح التساؤلات المشار إليها أعلاه وبيان ما يراه الباحث للمناقشة الفقهية.
أ - تقسيم رأس المال في المضاربة إلى حصص متساوية:
بما أن قواعد الفقه الإسلامي تسمح بتعدد المالكين لرأس مال المضاربة فإنه لا يوجد مانع شرعي من تخصيص هذا التعدد عن طريق تقسيم رأس المال في المضاربة إلى حصص متساوية لا سيما وأن هذه الحصص تكون اسمية أي أن كل سند يصدر باسم مالكه.
فليس سند المقارضة ورقة نقدية تنتقل من يد إلى يد بمجرد التسليم وإنما لا بد لنقل ملكية الوثيقة الاسمية من وجود السبب الموجب كالبيع أو الإرث حيث يتم تسجيل اسم المالك الجديد وإصدار الوثيقة باسمه.
وكما أنه لا يشترط في شركات الأموال مثل الشركات المساهمة أن يعرف جميع الشركاء بعضهم بعضا فإنه لا يشترط في سندات المقارضة أن يعرف جميع الشركاء في امتلاك حصص رأس المال بعضهم البعض خاصة وأن طبيعة المشروعات الممولة لا تعتمد على العامل الشخصي الذي يؤثر على سلامة إرادة المتعاقدين.
وعليه فإن الإيجاب المعلن للعموم الذي يصدر عن الجهة المعنية بتمويل المشروع المعروض يعتبر إيجابا صحيحا ويكون إقدام المكتتب الذي يشتري سندا واحدا أو أكثر من سندات المقارضة قبولا لهذا الإيجاب بحسب الشروط المعلنة في نشرة الاكتتاب.
ب - بيع وشراء سندات المقارضة في المراحل المختلفة:
يطرح موضوع بيع سندات المقارضة بطريق الاكتتاب العام والسماح بتداول هذه السندات قضية هامة تتعلق بالشروط الخاصة ببيع حصة رب المال في رأس مال المضاربة.(4/1503)
والقضية تكون واضحة قبل بدء العمل في المال حيث يكون رأس المال نقودا ولا مجال للقول ببيع النقود وإنما تمكن الحوالة بقيمتها حاضرا بحاضر ويدا بيد ومثلا بمثل بلا زيادة ولا نقصان.
أما بعد أن يبدأ العمل فإن رأس المال يصبح مالا مختلطا من النقود المتبقية والديون (إن وجدت) والأعيان المتمثلة في بضاعة المضاربة أو موجودات المشروع الذي جرى استثمار رأس المال فيه. وهنا يصبح سند المقارضة عبارة عن حصة شائعة في مجموع موجودات المشروع تماما كالسهم في الشركات المساهمة. ومعلوم أن السهم له قيمة اسمية معلنة دينار واحد مثلا أو عشرة ريالا إلا أنه يباع ويشتري بقيمة قد تزيد أو تقل عن القيمة الاسمية المعلنة تبعا لنجاح الشركة المساهمة أو فشلها.
فإذا أخذنا بهذه النظرة الواقعية من ناحية كون سند المقارضة بعد بدء العمل في المشروع المختص به يصبح ممثلا لحصة شائعة في موجودات ذلك المشروع. فإن القول بجواز تداول مثل هذا السند بالبيع والشراء وغير ذلك من الأسباب الموجبة لنقل الملكية لا يكون متعارضا مع القواعد الفقهية.
ويود الباحث أن يستزيد من علم السادة العلماء الأفاضل حول هذه النقطة مع الإشارة إلى أن هناك رأيا مماثلا أفادت فيه لجنة العلماء المشاركين في ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي المنعقدة في تونس ما بين 9 – 12 صفر عام 1405هـ الموافق 4 – 7 نوفمبر عام 1984 حيث أقرت جواز الاتفاق على بيع حصص أو أسهم في شركة ذات موجودات حقيقية ليست مقتصرة على الديون والنقود (1) .
__________
(1) انظر: جواب السؤال الخامس في مجموعة الفتاوى الصادرة من لجنة العلماء في ندوة البركة الثانية للاقتصاد الإسلامي. ملاحظة: ندوات البركة هي ندوات علمية للبحث في الصور التطبيقية للاقتصاد الإسلامي المعاصر قد سن هذه السنة الحسنة الشيخ صالح عبد الله كامل حيث يستضيف في كل عام بعض أهل العلم من رجال الفقه الإسلامي ورجال البنوك والاقتصاد الإسلامي لمناقشة متطلبات العصر وإعطاء الفتوى في المسائل المبحوثة(4/1504)
جـ- دخول الدولة (بصفة طرف ثالث غير رب المال أو العامل فيه) كمتعهد بضمان تسديد ما يتبقى من رأس المال في سندات المقارضة:
قدم الباحث هذه الفكرة أثناء مناقشات قانون سندات المقارضة رقم (10) لسنة 1981. حيث اجتمعت لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الأردنية للنظر في هذا الموضوع.
وقد قدم الباحث مذكرة تفصيلية في موضوع التكييف الفقهي لجواز قبول تعهد الحكومة بضمان تسديد ما يتبقى من أصل المال المدفوع في سندات المقارضة عند استحقاق أجلها المحدد.
وبعد المناقشة المستفيضة أقرت لجنة الفتوى بإجماع الآراء جواز كفالة الحكومة لسندات المقارضة المخصصة لإعمار أراضي الأوقاف باعتبار أن الحكومة طرف ثالث وذلك على أساس الوعد الملزم (1) .
وقد استند الباحث في التدليل لما يراه بهذا الخصوص إلى النقاط التالية:
1- إن الالتزام الممنوع في عقد المضاربة هو ضمان العامل للخسارة حتى لا تجتمع عليه خسارة الربح الذي كان يسعى لتحقيقه وخسارة رأس المال بسبب لا بد فيه حيث لم يكن مخالفا لشرط ولا مقصرا ولا متعديا.
وإن الدولة حين تدخل كطرف ثالث فإنها ليست رب المال ولا هي العامل فيه لأن أموال الوقف الإسلامي ليست من أملاك الدولة. وبالتالي فإن تبرع الطرف الثالث في عقد المضاربة بالضمان هو بذل مثل سائر التبرعات، وإذا كان التبرع بالمال جائزا، فإن التبرع بالضمان هو أحرى أن يجوز.
2- الاستناد إلى شرعية عقد الجعالة الوارد في القرآن الكريم في قوله تعالى:
{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] .
فالالتزام هنا التزام معلن مفتوح على نحو ليس محددا بشخص معين وهو التزام قائم على مجرد الإيجاب وأن الغاية منه هي غاية تشجيعية للقيام بعمل معين.
__________
(1) انظر: المذكرة التفصيلية المقدمة بالموضوع من الدكتور سامي حمود وقرار لجنة الفتوى الصادر بتاريخ 8/ 2/ 1398 هـ الموافق 17/ 1/ 1978(4/1505)
3- الاستدلال بضمان الرسول صلى الله عليه وسلم للدروع التي استعارها من صفوان بن أمية مع أن الأصل في الإعارة أنها تقوم على الأمانة حيث يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((ليس على المستعير غير المغل ضمان)) ومعنى الأغلال: هو الخيانة في الأموال.
غير أننا نجد أن الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم حين استعار السلاح والدروع من صفوان بن أمية قال له جوابا على تساؤله حين قال للنبي الكريم: أغصبا يا محمد، فقال له عليه الصلاة والسلام: ((بل عارية مضمونة مؤداة.))
4- الاستدلال بضمان دين الميت بإرادة منفردة حين تعهد أبو قتادة – رضي الله عنه – بوفاء الدينارين عن الميت الذي لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه حين علم أن الميت لم يترك وفاء لدينه.
5- الاستدلال بضمان خطر الطريق عند الحنفية حيث ذكر بعض فقهائهم – كما أورد ذلك فضيلة الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء- في بحثه عن التأمين بأنه إذا قال شخص لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، وإن هلك فيه مالك فأنا ضامن. فإن القائل يضمن بهذا القول.
وأن الدولة إذا قالت للمواطنين: اسلكوا هذا الطريق من طرق الاستثمار وساهموا في هذا المشروع المدروس وإذا خسرتم شيئا من أموالكم نضمن لكم، فإن تقرير هذا الضمان فيه مصلحة لجميع الأطراف.
6- ورغم ذلك فقد رأى الباحث أن يتم تكييف المسألة على أساس أن تحل الدولة محل مالك السند المباع باعتبارها لا ترد خسارة وإنما تشتري ما يتبقى من الموجودات التي تمثلها سندات المقارضة بسعر قابل للتجديد على أساس القيمة غير المسددة من أصل سند المقارضة.(4/1506)
الفصل الثاني
الفرق بين سندات المقارضة وكل من سندات
التنمية وشهادات الاستثمار والسندات الربوية
1- الفرق بين سندات المقارضة وسندات التنمية:
سندات المقارضة – كما بينا في الفصل الأول – هي حصص مشاركة في تمويل مشروع معين بذاته على أساس أن مجموع المالكين لسندات المقارضة وهم رب المال لهم حصة ربح من ريع المشروع وهم يستردون رؤوس أموالهم تدريجيا من الجزء المخصص للتسديد.
أما سندات التنمية فهي اصطلاح مستحدث يطلق على حالات اقتراض الدولة من السوق المحلي - غالبا – وهو ما يطلق عليه (الدين العام) حيث تكون إصدارات الدين العام إما بشكل سندات مسجلة (اسمية) وسندات لحامله أو بشكل أذونات الخزينة.
فلو نظرنا إلى قانون الدين العام الأردني رقم /1 لسنة 1971 فإننا نجد أن تعريف الدين العام – كما ورد في ذلك القانون – هو الالتزامات المترتب على الحكومة دفعها تسديدا للأموال التي تفترضها من الأشخاص بمقتضى أحكام هذا القانون.
وقد نظم المشرع الأردني شروط إصدار الدين العام بأشكاله المختلفة وأعطى للبنك المركزي سلطة الإصدار واعتبر أن قيمة الدين العام الصادر بموجب القانون وفوائده وجوازه المستحقة دينا ممتازا على موجودات الحكومة ويجب أن يسدد من إيراداتها العامة (المادة رقم 10) ، كما أعفى القانون كذلك الأرباح الناشئة عن الاستثمار في السندات الحكومية بما في ذلك فوائد السندات وجوائزها المستحقة من ضرائب أو رسوم أخرى (المادة 13/ أ) .
ولا تختلف قوانين البلاد الإسلامية التي توجد بها سندات حكومية عن الصيغة العامة التي سار عليها المشروع الأردني حيث يقوم أساس التنظيم المالي في الإدارات الحكومية على مبدأ الاقتراض مقابل الفوائد من الداخل أو الخارج.(4/1507)
ومن ذلك يتضح أن علاقة مالك سند التنمية مع الدولة هي علاقة دائن مقرض بالمدين المقترض وأن الدولة تدفع الفوائد لهؤلاء المقرضين من ميزانيتها السنوية التي تجبى في الحقيقة من المواطنين بشكل رسوم وضرائب وغيرها.
وليس هناك خلاف في أن وجود علاقة الدائنية والمديونية والزيادة المشروطة على المدين للدائن تجعل عناصر الربا متوفرة.
ولكن السؤال الذي قد يثار هنا هو النظر إلى كل من شخص المقرض والمقترض. فالدولة هي المقترض والمقرضون هم المواطنون، فهل يختلف حكم القول بالتحريم بسبب اختلاف أشخاص المتعاملين؟
تعتبر هذه المسألة من الشبهات المثارة حول الربا قديما وحديثا.
فقد ذهب الحنفية في الماضي إلى القول أنه لا يقع الربا بين السيد وعبده وذلك لأن من شرائط جريان الربا – كما قال صاحب البدائع – (أن لا يكون البدلان ملكا لأحد المتبايعين، فإن كان (أي البدلان ملكا لواحد) لا يجري الربا ... ) (1) .
وجاء في كتاب النيل وشفاء العليل في الفقه الإباضي في عبارة المتن ( ... حرم الربا لا بين عبده وسيده ... ) (2) وبين شارحه في كتاب شرح النيل بأن العلة في ذلك (ما بيد العبد ملك لسيده) فلم يتحقق بيع (ولكن الشارح عاد ليقول بأن من قال بأن العبد يملك ما وهب له أو أوصى له به أو التقطه أو نحو ذلك حرم الربا بين العبد وسيده) (3) .
وقد خالف الشافعي رأي الحنفية في هذه المسألة حيث ذكر النووي في المجموع أنه (يستوي تحريم الربا الرجل والمرأة والعبد والمكاتب بالإجماع) (4) .
وإذا كان نظام الرق لم يعد قائما في الواقع المعاصر فإن وجود هذه الآراء الفقهية المذهبية قد فتحت بابا لبعض المعاصرين للقول بأنه لا ربا بين الدولة ورعاياها ولا سيما في ضوء سيطرة الدولة في بعض الدول الإسلامية على البنوك المؤممة وتدخلها المباشر في إدارة القطاع المصرفي.
__________
(1) انظر الكاساني، بدائع الصنائع، الجزء السابع، ص 3129
(2) انظر الثميني، النيل وشفاء العليل، الجزء الثاني، الطبعة الثانية، (الجزائر، المطبعة العربية، 1968، صفحة 455
(3) انظر: محمد بن أطفيش شرح النيل، الجزء الرابع، طبعة الباروني، صفحة 18
(4) النووي، المجموع شرح المهذب، الجزء التاسع، صفحة 442(4/1508)
وقد ناقش الباحث هذه المسألة في أطروحته للدكتوراة عام 1976 حيث انتهى إلى أن ذمة المواطنين المالية منفصلة عن ذمة الدولة وأن الدولة ليست إلا ممثلة لمصالح الجماعة وراعية لها ولا تقاس علاقة الدولة بالمواطنين مثل علاقة السيد بالعبد إن صح الأخذ بعدم وقوع الربا معه على رأي من يقول: إنه لا يقع.
لذلك فإن سندات التنمية المبنية على أساس الاقتراض الحكومي مقابل دفع الفائدة للمقرضين تعتبر من السندات الربوية التي تتطلب النظر في تصحيحها وهو من الأمور الممكنة عمليا والأسلم ماليا.
الحل الذي نراه:
وإن الحل الذي يراه الباحث أن سندات التنمية الصادرة في أي بلد إسلامي يجب أن تكون مخصصة لمشروع أو مجموعة مشاريع محددة ومعينة بذاتها على نحو ما تقدم في سندات المقارضة.
فإذا قائل: إن هناك العديد من المشروعات التي ليس لها عائد أو إيراد مثل الطرق في بلادنا، فإن الرد على ذلك يكون النظر إلى العالم من حولنا حيث تُفرض الرسوم على المرور على الطرقات الدولية والجسور والإنفاق.
إن الأوضاع المالية لكثير من الدول الإسلامية وغيرها أصبحت تتطلب إعادة النظر في طريقة الإنفاق على الخدمات والمصالح العامة ولا بد من اشتراك المواطنين في تمويل المشروعات ذات النفع العام، وأن هذا التمويل لا يتم إلا إذا فتحت الأبواب الميسرة للاستثمار الحلال.
ويرى الباحث أن مرافق الخدمات العامة: كالمياه والكهرباء والهاتف والبرق والبريد والإذاعة والتلفزة وكذلك المشاريع الخاصة بالطرق والجسور والأنفاق والموانئ، والمطارات كل ذلك يمكن أن يترجم إلى مشاريع استثمارية ممولة على أساس مفهوم سندات المقارضة.(4/1509)
2- الفرق بين سندات المقارضة وشهادات الاستثمار:
تعتبر شهادات الاستثمار نوعا من سندات التنمية حيث عرفت لأول مرة في مصر مع صدور القانون رقم 8 لسنة 1965. وتنفيذا للقانون المشار إليه فقد أصدر وزير الاقتصاد المصري القرار رقم 392/ 65 والقرار رقم 680 لسنة 1965 القاضيان بإعطاء البنك الأهلي حق إصدار الأنواع الثلاثة التي حددها القانون المذكور من شهادات الاستثمار وهي شهادات القيمة المتزايدة (النوع أ) وشهادات الاستثمار ذات العائد الجاري (النوع ب) وشهادات الاستثمار ذات الجوائز (النوع جـ) .
وقد حاول الأستاذ الشيخ علي الخفيف – رحمه الله تعالى – في مشروع بحث كان أعده للعرض على مجمع البحوث الإسلامية (المؤتمر السابع) أن يثبت أن الاتفاق بين حملة شهادات الاستثمار والحكومة بما يدفعونه لها من أموال في سبيل الاستثمار والتنمية هو اتفاق يشبه عقد المضاربة.
وقد بدأ - رحمه الله – ببيان رأيه في شهادات الاستثمار ذات الجوائز (النوع جـ) فاعتبر أن الجوائز الموزعة هي الربح الناتج عن استثمار المال في الإعمار العام كما اعتبر أن ضمان البنك الأهلي لدفع الجوائز قائم على أساس التبرع.
أما بالنسبة لشهادات الاستثمار (أ) و (ب) فقد ذكر الأستاذ الشيخ علي الخفيف – رحمه الله تعالى – أنه يعتبر العقدين (لكل نوع من شهادات الاستثمار) بمثابة اتفاق بين المودع والدولة مدته عشر سنوات على إيداع ماله لدى الدولة ليكون تحت تصرفها في سبيل التنمية والاستثمار المدرجين في ميزانيتها على أن يكون ربح المال بين الدولة والمودع بنسبة 5 % للمودع من رأس المال عن كل عام وللدولة بقية الربح مع بقاء ملك المودع لماله. (1) .
وليس عندي علم ما إذا تم تقديم هذا البحث إلى مجمع البحوث الإسلامية في المؤتمر السابع أم لا، إلا أن الذي أعلمه أن الأستاذ الشيخ محمد فرج السنهوري – رحمه الله تعالى – والذي كان مقررا لمجمع البحوث الإسلامية أفادني (وقد كنت تلميذا لكلا الأستاذين) أنه لا يوافق الشيخ الخفيف على ما يراه بهذا الخصوص.
ومهما يكن من أمر فإن الواقع الذي غاب عن ذهن الأستاذ الشيخ علي الخفيف – رحمه الله وغفر له- أنه ليس هناك ربح محدد للأموال المتجمعة من بيع شهادات الاستثمار وأن هذا الربح يتم توزيعه جزافا للنوع الثالث (جـ) أو حسابا بمعدل 5 % من رأس المال للنوعين الأول والثاني (أ، ب) .
__________
(1) انظر: بحث الشيخ علي الخفيف في حكم الشريعة على شهادات الاستثمار بأنواعها الثلاث تطبيقا للقواعد الفقهية العامة والأصول الشرعية للمعاملات، مطبوع على الآلة الكاتبة – مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة(4/1510)
إن المسألة كما يعرفها موظفو البنك الأهلي المصري – هي حساب الفوائد هكذا وهكذا لقاء ما تقترضه الدولة من المواطنين وأن مجموع هذه الفوائد المدفوعة تقتطع من الميزانية العامة للدولة وتمول من الضرائب والرسوم المفروضة على عموم المواطنين.
وبذلك فإن الحكم على شهادات الاستثمار لا يختلف عن الحكم على سندات التنمية وأن الحل الشرعي لكلا المنهجين في الاقتراض العام ممكن عن طريق التخصيص الذي هو أسلم شرعا وتنظيما واقتصادا.
3- الفرق بين سندات المقارضة والسندات الربوية:
السندات الربوية هي السندات التي تصدر بالاقتراض الصريح دون تغليف باسم التنمية أو الاستثمار أو الإعمار لتمويل المشاريع العامة أو الشركات الكبيرة على أساس الالتزام بدفع فائدة محددة بسعر معين ثابت أو بسعر عائم حسب أسعار الأسواق العالمية.
وليس هناك من شبه بين سندات المقارضة الحلال وهذه السندات الحرام إلا في طريقة جمع الأموال، وليس أسهل على الهيئات العامة والشركات الكبرى من أن تخصص استعمال الأموال وتحدد استحقاق الربح الناتج عن المشاريع الممولة بهذه الحصيلة المتجمعة من الأموال.
فلا فرق بالنسبة لشركة كبرى – مثل شركة الأسمنت الأردنية مثلا – من إصدار سندات قرض بفائدة 6 % لبناء الفرن السادس أو إصدار سندات مقارضة لها خمس الأرباح الناتجة عن تشغيل الفرن أو استئجاره من قبل الشركة.
وما ينطبق على شركة الأسمنت يمكن أن يطبق على مؤسسة المواصلات والبلديات والأبنية بما يجعل البلدان الإسلامية قادرة على اجتذاب الأموال المعطلة عن المشاركة في تمويل المشروعات التي تحتاج إليها كل البلاد الغنية منها والفقيرة على حد سواء.(4/1511)
خلاصة البحث
يستنتج مما سبق بيانه حول تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينهما وبين سندات التنمية وشهادات الاستثمار والسندات الربوية ما يلي:
1- أن سندات المقارضة صورة حديثة من صور تقسيم رأس المال إلى حصص موحدة القيمة من أجل تسهيل عمليات التبادل والتداول وفتح المجال لأكبر عدد من المستثمرين للدخول في تمويل المشاريع الكبيرة ذات النفع العام – غالبا – على المجتمعات الإسلامية.
2- أن حكم مالكي سندات المقارضة هو حكم رب المال في عقد القراض وأن الربح الذي يتقاضاه مالكو هذه السندات يجب أن يتحصل أساسا من إيراد المشروع الذي جرى تمويله بهذا المال المتجمع من حصيلة بيع السندات.
3- أن التسديد التدريجي لقيمة سندات المقارضة يهدف إلى تصفية عمليات تمويل المشاريع لتوخي تدوير المال في مختلف وجوه النشاط.
4- أن سندات التنمية وشهادات الاستثمار وما شابهها من سندات حكومية يمكن أن تصبح سندات مقارضة شرعية إذا خصصت حصيلة الأموال المتجمعة منها لتمويل مشاريع محددة ومعروفة بذاتها، أما القول العام بحصول هذه السندات على ما يسمى بالفوائد أو الجوائز أو الأرباح مع بقاء قيمة السندات المدفوعة دينا على جهة الإصدار أو الوكيل فإن هذا الوضع يدخل هذه السندات تحت المحظور الشرعي من حيث الصفة الربوية لأن فيها علاقة الدائن بالمدين مع الزيادة المشروطة بنسبة مئوية من رأس المال يدفعها المدين للدائن.
5- أن المؤسسات العامة وكذلك الشركات الكبرى العاملة في البلاد الإسلامية وخارجها تستطيع أن تصدر سندات مقارضة تعتمد على توزيع نسبة شائعة ومعلنة مسبقا من ناتج الربح المتحقق بالفعل في المشروع أو الوحدة الإنتاجية الممولة من حصيلة بيع تلك السندات.
6- أن تعهد الدولة بشراء سندات المقارضة الصادرة عن مختلف المؤسسات ذات الاستقلال المالي مثل هيئات الأوقاف والبلديات والمؤسسات العامة وما شابهها هو تعهد صحيح شرعا باعتبار أن تدخل ولي الأمر كمتعهد للشراء يحقق مصلحة عامة للمجتمع الإسلامي ويحفز المستثمرين للمشاركة في تنمية الاقتصاد ورفع مستوى الإنتاج في البلد الإسلامي، وطالما أن الدولة تحل محل البائع بما له من حقوق وما عليه من التزامات فإن هذه المبايعة تعتبر مبايعة شرعية وليس هناك من مطعن شرعي في إعلان السعر الذي يصدر عن الدولة بصورة إيجاب معلن للعموم بالاستعداد لشراء السندات بأسعار تحدد لكل نوع منها حسب طبيعة القطاع الذي تموله هذه السندات.(4/1512)
7- وأخيرا ... فإنه ما دام طريق الحلال قد أصبح واضحا ومعروفا بما يسد احتياجات المشروعات العامة وتمويل خطط التنمية في البلاد الإسلامية فإنه يصبح واجبا شرعيا على ولاة أمور المسلمين لتوجيه الالتزام بإصدار سندات المقارضة وتشجيع تداولها حيث يتحقق من ذلك ما يلي:
أ- تشجيع حركة الاستثمار الداخلي وتقوية شعور المواطنين بالمشاركة في تمويل المشاريع التي تعود عليهم بالخير حيث يكون هذا النشاط التنموي هو منهم وإليهم.
ب - اجتذاب الأموال المعطلة عن الاستثمار والمخزونة بشكل أموال مكتنزة أو المتروكة في حسابات جارية لدى البنوك بما لا يفيد الاقتصاد الوطني للبلاد الإسلامية ويتسبب في زيادة نسبة عرض النقد بلا مبرر.
جـ- التمهيد لوجود أسواق محلية ودولية للسندات الشرعية التي تشكل نواة سوق رأس المال الإسلامي وما يؤدي إليه ذلك من تسهيل تداول انتقال رؤوس الأموال لغايات الاستثمار داخل التجمعات الإقليمية أولا مثل دول مجلس التعاون الخليجي والبلاد العربية الممثلة في مجلس الوحدة الاقتصادية والعالم الإسلامي الممثل في منظمة المؤتمر الإسلامي.
وإن البنك الإسلامي للتنمية بما وصل إليه نتيجة دعم الدول الإسلامية له واكتسابه احترام الجميع بفضل استقلالية إدارته وحكمة رئيسه معالي الدكتور أحمد محمد علي – حفظه الله – يمكن أن يكون الجهة القادرة على إصدار سندات المقارضة للدول الإسلامية الراغبة في ذلك وقد آن الأوان لكي يبسط البنك الإسلامي للتنمية أجنحته إلى شرق العالم الإسلامي وغربه بعد أن رسخت جذور إدارته في قلب العالم الإسلامي الذي تلتقي فيه الإرادة الإسلامية الواحدة.(4/1513)
هذا وقد بادر البنك الإسلامي إلى تأسيس صندوق مخصص لإصدار سندات تشبه سندات المقارضة إلى حد ما حيث جرت تغطية المطروح للاكتتاب الخاص بالكامل من قبل البنوك الإسلامية التي أقبلت على المشاركة.
كما وجد في العالم الإسلامي إلى جانب سندات المقارضة التي تبناها المشرع الأردني أدوات استثمارية أخرى مثل الأسهم المشاركة في الأرباح دون التصويت وهي الأسهم التي صدر بها القرار الوزاري رقم (17) لسنة 1986 في دولة البحرين حين طلب بنك البركة الإسلامي للاستثمار العامل في البحرين تأسيس شركة تابعة لإصدار هذه الأسهم المرتبطة بصناديق استثمارية معينة في المرابحة والإيجار والسلم والمشروعات.
وإذا تضافرت جهود البنك الإسلامي للتنمية مع جهود مجموعة البركة والبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية فإن النتائج ستعود بالخير بإذن الله على العالم الإسلامي والإنسانية جمعاء لأن رخاء العالم الإسلامي وسيادة السلام والاستقرار فيه هو جزء من رخاء العالم وهنائه.
سائلين الله أن يوفق جميع المخلصين العاملين لما فيه الخير أنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور سامي حسن حمود(4/1514)
المراجع
أولا: فقه المذاهب الإسلامية:
من المذهب الحنفي:
1- كاساني: علاء الدين بن مسعود الكاساني (587) هـ
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع.
القاهرة: زكريا علي يوسف، دون تاريخ.
2- ميرغيناني: برهان الدين علي بن أبي بكر الميرغيناني (593هـ) .
كتاب الهداية شرح بداية المبتدى، الطبعة الأولى.
مصر المطبعة الخيرية، 1326هـ.
من المذهب المالكي:
3- مالك (الإمام) : أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي (179هـ) .
المدونة الكبرى (رواية سحنون عن ابن القاسم عن الإمام مالك) طبعة أوفست عن أول طبعة.
بيروت: دار صادر، دون تاريخ.
4- ابن رشد (الحفيد) : محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (595هـ)
بداية المجتهد ونهاية المقتصد، الطبعة الثالثة.
مصر، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1960
5- ابن جزي: محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي (741هـ) .
قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية طبعة جديدة ومنقحة.
بيروت: دار العلم للملايين، 1968.(4/1515)
من المذهب الشافعي:
6- شافعي (الإمام) : محمد بن إدريس الشافعي (204هـ) .
الأم، الطبعة الأولى، تصحيح محمد زهري النجار.
القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، 1961.
7- نووي: محيى الدين بن شرف النووي (676هـ) .
المجموع شرح المهذب.
القاهرة: زكريا علي يوسف، دون تاريخ.
8- رملي: شمس الدين محمد بن أحمد الرملي (1004هـ) .
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج في الفقه.
على مذهب الإمام الشافعي. وبهامشه حاشية الشبرامسلي والرشيدي.
مصر: المطبعة البهية المصرية، 1304هـ.
9- ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم عبد السلام بن تيمية (728هـ) .
القواعد النورانية الفقهية، الطبعة الأولى تحقيق محمد حامد الفقي.
القاهرة: مطبعة السنة المحمدية، 1951.
10- ابن قدامة: عبد الله بن أحمد بن قدامة (620هـ) .
المغني، الطبعة الثالثة.(4/1516)
القاهرة، دار المنار، 1367هـ.
11- ابن القيم: شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية (751هـ) .
أعلام الموقعين عن رب العالمين، الطبعة الأولى، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد.
مصر: المكتبة التجارية الكبرى، 1955.
12- ابن هبيرة: يحي بن محمد بن هبيرة (560هـ) .
الإفصاح عن معاني الصحاح، الطبعة الأولى.
حلب: محمد راغب الحلبي، 1928.
13- من المذهب الظاهري:
ابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (456هـ) .
المحلى.
بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع دون تاريخ.(4/1517)
14- السياغي: شهاب الدين الحسين بن أحمد السياغي (1221هـ) .
الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير، الطبعة الثانية.
الطائف: مكتبة المؤيد، 1968.
15- مغنية: محمد جواد مغنية.
فقه الإمام جعفر الصادق، الطبعة الأولى.
بيروت: دار العلم للملايين، 1965.
16- ثميني: ضياء الدين عبد العزيز الثميني (1223هـ) .
النيل وشفاء العليل، الطبعة الثانية.
الجزائر: المطبعة العربية لدار الفكر الإسلامي 1968.
17- أطفيش: محمد بن يوسف أطفيش (1332هـ) .
شرح النيل.
طبعة الباروني.
من الفقه الإسلامي المعاصر:
18- خفيف: علي الخفيف.
حكم الشريعة الإسلامية على شهادات الاستثمار بأنواعها الثلاث تطبيقا للقواعد الفقهية العامة والأصول الشرعية للمعاملات.
بحث مطبوع على الآلة الكاتبة ومعد للتقديم إلى مجمع البحوث الإسلامية – المؤتمر السابع.
19- حمود: سامي حسن حمود.
تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية (رسالة دكتوراة نوقشت بقسم الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1976) .
الطبعة الثانية، 1982.
توزيع دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان، الأردن.(4/1518)
ثانيا: مراجع متنوعة
اللغة العربية:
20- ابن منظور: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري.
بيروت، دار صادر للطباعة والنشر، 1968.
21- مجمع اللغة العربية: المعجم الوجيز.
بيروت، المركز العربي للثقافة والعلوم، 1980.
بحوث ومقالات وندوات:
22- حمود: سامي حمود.
أ - المذكرة الإيضاحية ومناقشات لجنة الفتوى (بالأردن) حول مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني (1978) .
ب - مذكرة مقدمة للبنك الإسلامي للتنمية بتاريخ 17/ 1/ 1978 حول الأفكار العامة لسندات المقارضة.
جـ- مذكرة إيضاحية مقدمة إلى لجنة الفتوى (الأردن) ببيان الوجوه الفقهية المؤيدة لإمكان قبول تعهد الحكومة بضمان سندات المقارضة المخصصة لإعمار أراضي الأوقاف وقرار لجنة الفتوى الصادر بناء على هذه المذكرة بتاريخ 17/ 1/ 1978.
د- الأبحاث المقدمة لندوة البركة الثابتة للاقتصاد الإسلامي والمنعقدة في تونس بشهر نوفمبر 1984 حول الأدوات الاستثمارية الإسلامية والفتاوى الصادرة عن العلماء المشاركين في الندوة حول المواضيع المبحوثة والأسئلة المطروحة.
هـ- المراسلات الجارية بشأن شرح وتقديم أفكار سندات المقارضة مع كل من وزارة الأوقاف (بالأردن) والبنك الإسلامي للتنمية (جدة) .(4/1519)
سندات المقارضة والاستثمار
إعداد
فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس
أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة
جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
سندات المقارضة والاستثمار
الحمد لله تعالى حمدا طيبا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على رسله الكرام وعلى أولهم الخاتم، وعلى من اهتدى بهديه واتبع سننه إلى يوم الدين.
ونسأل الله عز وجل أن يهدينا سواء السبيل، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل.
أما بعد: فعندما عرض هذا الموضوع على المؤتمر الثالث لمجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي لم يقدم في الموضوع إلا بحث واحد هو بحث فضيلة الأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي، لهذا كتبت كلمة موجزة قدمتها للمؤتمر آنذاك، وكان الغرض منها إبداء بعض الملاحظات التي رأيت أنها هامة، وأرجئ النظر في الموضوع للمؤتمر الرابع إن شاء الله تعالى حتى يأخذ حقه من الدراسة المتأنية، وتلبية للدعوة الكريمة التي تلقيتها للكتابة في هذا الموضوع أستعين بالله جلت قدرته لتحقيق ما نهدف إليه من الرجوع إلى الحق الذي يرضيه سبحانه وتعالى.
والأستاذ الدكتور العبادي تحدث عن قانون سندات المقارضة الأردني، وعن شهادات الاستثمار المخصصة التي أعدها مجموعة من الخبراء بتكليف من البنك الإسلامي للتنمية.
غير أنه في حديثه عن القانون الأردني وبيان مشروعيته اعتمد في أكثر من موضوع على بحث للدكتور منذر قحف عنوانه (سندات القراض وضمان الفريق الثالث وتطبيقاتهما في تمويل التنمية في البلدان الإسلامية) .
وعندما دار حوار بيننا حول بعض النقاط التي أخالف سيادته فيها أشرك معنا السيد الدكتور منذر قحف.
لهذا سأبدأ الدارسة بالنظر في بحث الدكتور منذر قحف، يليه القانون الأردني، فشهادات الاستثمار المخصصة.(4/1520)
أولا: سندات القراض وضمان الفريق الثالث:
هذا هو بحث الدكتور منذر قحف الذي أقره واحتج به الأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي، ولننظر في هذا البحث.
يقول السيد الباحث:
إن عقد القراض يمنح رب المال الحقوق التالية:
(1- الحق باستعادة ماله الذي أعطاه مضاربة، مضافا إليه حصته من الربح (أو مطروحا منه الخسارة) عند انتهاء أو إنهاء العقد.
2- الحق بضمان الشريك العامل عند تفريط الأخير أو إساءته. وفي مقابل ذلك فإن الحقوق التي ينالها صاحب العمل في عقد القراض هي:
1- الحق في التصرف في المال بالشراء والبيع والتجارة وغير ذلك بقصد إنمائه.
2- الحق بالربح حسب النسبة المشاعة من الربح المتفق عليها في العقد) . ويقول بعد هذا:
(ولا شك أن مقابل هذه الحقوق واجبات أيضا. والمقارض إنما يحرم نفسه – بدخوله بعقد القراض- من حق التصرف بماله الذي وضعه في المضاربة. فالقراض لغة من القرض وهو القطع، أي أنه يقتطع جزءا من ماله ويسلمه للمقارض (العامل) . أما الأخير فواجبه أن يتصرف بأمانة وإخلاص في إنماء هذا المال، لذلك لا يلزم العامل بالضمان سواء نقص مال المضاربة أو فقد سبب النشاط التجاري كالخسارة، أو بسبب غير تجاري كالسرقة أو الضياع، إذا لم يفرط، أو يسيء في استعمال سلطته) .
نرى – مما سبق – أن أقوال السيد الباحث تتفق مع فقه المضاربة فالعامل يتصرف كوكيل عن صاحب رأس المال، وليس بضامن لرأس المال، ويده يد أمانة وليست يد ملك، وليس شريكا إلا بمقدار نسبته من الربح. والوكيل إذا اشترى باسمه فالملكية في الحقيقة للموكل لا للوكيل. وإذا كانت المشتريات لا تزيد قيمتها عن رأس المال فهي كلها ملك لرب المال وليس للعامل أي شيء، وإذا فسخت المضاربة واستحق العامل أجر المثل مثلا، انتقلت الأعيان والحقوق كلها لصاحب رأس المال وحده.(4/1521)
ولي ملحظ هنا يتصل بحق العامل في التصرف، وحرمان صاحب رأس المال من هذا الحق.
فتصرف العامل واجب استحق به المشاركة في الربح، فليس له وظيفة هنا إلا هذا العمل، وعمله أساسا لصالح صاحب رأس المال وإن عاد النفع عليه متى حقق ربحا، وقد يقيد بقيود وشروط يراها موكلة فيخضع تصرفه لهذه القيود. وتميكن العامل من التصرف لا بد منه حتى يستطيع القيام بعمله. فهذا العبء والتكليف يعبر عنه بأنه حق حرم منه صاحب رأس المال؟ ولو أراد التصرف في ماله فما حاجته إلى العامل؟.
قد يقال: إن العبارة لا تبرر مثل هذه الوقفة ما دام الكلام في جملته صحيحا، غير أني ذكرت هذا الملحظ هنا لأن السيد الباحث مهد بهذا الوصول إلى أن هذا الحق كالعقود الناقلة للملكية!! فبعد كل البعد عن فقه المضاربة، ووقع في تناقض بين يظهر قريبا.
يرى السيد الباحث أن بحثه يقوم على التمييز بين القراض والشركة وليس على تشابههما. وبعدما ذكره عن القراض مباشرة قال: (أما في عقد الشركة فإن الشريك لا يتنازل عن حق التصرف بالمال! دون أن يمنع ذلك من أن يفوض بعض الشركاء بعضا بهذا الحق) . وبالتالي فإن حق الشريك في الشركة هو حق ملكية كاملة ينصب على العين التي تملكها الشركة وعلى التصرف بها معا، بحيث يملك منها ما يتناسب مع حصته بين سائر الشركاء.
ويلاحظ أن عقود الودائع بالمضاربة التي تمارسها جميع المصارف الإسلامية اليوم إنما تقوم على المفهوم المفصل أعلاه من حيث الحقوق والواجبات المتعلقة بعقد القراض. في حين أن حملة الأسهم في المصرف الإسلامي يعتبرون هم الشركاء الذين يملكون أعيان واستثمارات المصرف، ويتصرفون بها. كما أن قانون سندات المقارضة الأردني ... إلخ.
ومن أقواله بعد ذلك:
(لو كان – أي القراض – شركة لكان ينبغي أن يشتركا في التصرف، ولكان ينبغي أيضا أن يشتركا في الربح والخسارة معا بحيث تتكافأ طريقة توزيع الخسارة مع طريقة توزيع الربح.
واستدل هنا بقول الحنفية: لو شرط خلوص اليد لأحدهما لم تنعقد الشركة) .(4/1522)
وقال أيضا:
(فكما أن المرابي ليس شريكا في مال مدينه فكذلك ليس المقارض شريكا في القراض ولا يتمتع بأي حق من حقوق التصرف والأدارة التي يتمتع بها الشريك) .
ثم قال:
(واعتبار القراض تمويلا ينسجم مع ما رتبه الفقهاء على القراض من نتائج، فهو يفسر اشتراط أن يكون رأس مال القراض مالا حاضرا، لا عرضا ولا دينا) .
هذه بعض أقوال السيد الباحث، وبالنظر فيها نجد ما يأتي:
1- ما ذكره من حق الشريك في الملكية والتصرف معا ليس شرطا في كل شركة في الإسلام، وما ذكره عن الحنفية لا ينطبق على كل الشركات، وكان يستطيع أن يرجع إلى أنواع الشركات عند الحنفية أنفسهم ليجد شركة المضاربة بين الشركات ومن اليسير أن يجد هذه الأنواع في مجلة الأحكام العدلية مثلا والقانون المدني الأردني ذكر المضاربة تحت أنواع الشركات وعندما تحدث عن المساقاة في المادة (736) قال: (المساقاة عقد شركة على استغلال الأشجار والكروم بين صاحبها وآخر يقوم على ترتيبها وإصلاحها بحصة معلومة من ثمرها ... ) .
ومن المعلوم أن المساقي لا يملك الأرض ولا الشجر، وإنما شركته في الثمر، وهو الذي يقوم بالعمل.
ومن ذهب إلى أن المضاربة ليست شركة نظر إلى أن العامل ليس شريكا في رأس المال. ولا في الأعيان والحقوق إلا بعد تحقق الربح فما لم يتحقق ربح لا تبدأ المشاركة، ويبقى الكل ملكا لرب المال.(4/1523)
2- المساهمون في المصرف الإسلامي لا يملكون من أعيان واستثمارات المصرف إلا بقدر رأس المال الذي يملكونه، وهو ما يقابل حق المساهمين. أما استثمارات الودائع فلا يملكون منها شيئا إلا بعد تحقق الربح، وتصرفهم تصرف الوكيل المضارب الذي يتصرف في مال غيره بإذنه. وما قال أي فقيه بأن المضارب يتصرف في مال أصبح ملكا له.
3- جعله حق التصرف يعني ملكية العين بعيدا كل البعد عن فقه المضاربة، ويتعارض مع ما ذكره في البداية من أن العامل غير ضامن، وواجبه أن يتصرف بأمانة وإخلاص ... إلخ.
4- قوله بأن رب المال كالمرابي ليس شريكا في المال قول عجيب غريب، يدرك خطأه كل من يفقه القراض والفرق بينه وبين القرض الربوي.
5- لو قرأ الشرائط المختصة بشركة الأموال لوجد على سبيل المثال في مجلة الأحكام العدلية:
(المادة 1338) يشترط أن يكون رأس المال من قبيل النقود، فالعروض والوكيل والموزون والعددي المتقارب لا تصلح رأس مال للشركة.
(المادة 1341) يشترط أن يكون رأس المال عينا، فلا يجوز أن يكون الدين، يعني ما يثبت في ذمم الناس، رأس مال للشركة.
(المادة 1342) لا يصح عقد الشركة على الأموال التي لا تعد من النقود كالعروض والعقار، أي لا يجوز أن تكون هذه رأس مال للشركة.
هذه بعض أقوال السيد الباحث وأخطائه، والبحث مليء بالأخطاء وعدم الفقه، وما كان لنا أن نقف أمامه هذه الوقفة لولا أن الأستاذ الدكتور العبادي ذكره مرجعا محتجا به في البحث الذي قدمه للمجمع.(4/1524)
ثانيا: قانون سندات المقارضة الأردني
بعض نصوص هذا القانون:
المادة 2- أ – تعني (سندات المقارضة) الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح.
ب - يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع، وتحدد هذه النسبة في نشرة إصدار السندات. ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد، كما لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة.
المادة 7- ب يعين في نشرة الإصدار بنك مرخص أو مؤسسة مالية وكيلا للدفع يتولى شؤون دفع القيمة الاسمية للسندات وأرباحها بالقيمة المستحقة وفي المواعيد المقررة.
المادة 12- تكفل الحكومة تسديد قيمة سندات المقارضة الاسمية الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة، وتصبح المبالغ المدفوعة لهذا السبب قرضا ممنوحا للمشروع بدون فائدة مستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات.
المادة 14 – يحق للشخص الطبيعي أو المعنوي من رعايا الدول العربية والإسلامية الاكتتاب في سندات المقارضة، كما يحق تحويل الأرباح المتأنية والقيمة الاسمية لاكتتابه عند البيع أو الإطفاء إلى الخارج بالعملة الأجنبية وفق أحكام القانون ونشرة الإصدار.
هذه بعض نصوص السندات، ومنها نرى ما يأتي:
1- أن هذه السندات تختلف تماما عن نظام المقارضة المشروع، ففي المضاربة – كما هو معلوم بغير خلاف – أن المال في يد المضارب أمانة، يستثمرها لصاحب رأس المال مقابل نسبة من صافي الربح، فإذا لم يتحقق ربح فلا شيء له، وإذا خسر بغير تفريط أو مخالفة للشروط فلا شيء عليه.
والمضارب إذا استثمر المال في أي مشروع فإنه لا يملك منه إلا بقدر نسبته من الربح، والملكية الحقيقية للمشروع كله – بعد معرفة المقدار الذي يستحقه المضارب إنما هي للموكل أي صاحب رأس المال، وليس للوكيل المضارب.(4/1525)
وإذا اشترك المضارب بمبلغ من المال فهو كأصحاب رأس المال، له ما لهم، وعليه ما عليهم، بالإضافة إلى ما يقابل عمله فإذا فرضنا مثلا أن مال المضاربة مائة ألف، اشترى به مصنع. فإن أرباح المصنع توزع بالنسبة المتفق عليها، أما المصنع نفسه فإذا لم يزد عن مائة ألف ولم ينقص فهو ملك لأصحاب رأس المال، وإذا زاد كان للمضارب نسبة من هذه الزيادة فقط. وإذا بطلت المضاربة، وأخذ العامل أجر المثل، فإن المصنع بالكامل يكون ملكا لصاحب رأس المال سواء ازدادت قيمته السوقية عن القيمة الدفترية أم قَلَّت. وإن قلت القيمة السوقية وبقيت المضاربة فلا شيء للمضارب ولا شيء عليه.
أما السندات الأردنية فلم تذكر قيمة الأرض التي ستشارك بها وزارة الأوقاف، ولا ينظر إلى قيمة المشروع الذي سينشأ بأموال أصحاب السندات.
وصاحب رأس المال له مثل ما أعطى من المال دون زيادة أو نقصان وهو القيمة الاسمية للسند، ومعنى ذلك أنه ليس شريكا في المشروع. فعند البيع أو الإطفاء ليس له إلا القيمة الاسمية وإذا زاد السعر عند البيع فليس له أن يحول للخارج إلا القيمة الاسمية مع الأرباح.
ومع أن المضاربة شركة من الشركات في الإسلام إلا أن قانون السندات يقوم على أساس التفرقة بين المضاربة والشركة ويجعل المقارضة نوعا من التمويل فقط دون الاشتراك فيما أنفق فيه هذا التمويل.
2- السندات الأردنية تتفق مع السندات ذات الفوائد الربوية في أن صاحب السند ليس له إلا القيمة الاسمية للسند دون المشاركة في المشروعات التي يستخدم فيها السند، ومصدر السند ضامن لرد المثل في جميع الحالات، ولصاحب السندات زيادة على رأس المال المدفوع.
والفرق بين النوعين أن الفوائد الربوية محددة معلومة من البداية، أما السندات الأردنية فالزيادة تعطى من أرباح المشروع الظاهرية، وهذا الفرق قد لا يخرجها من الحرام إلى الحلال، لأنها زيادة مشروطة في العقد وقد لا تكون هناك أرباح في الواقع، بل قد تتحقق خسائر.(4/1526)
مثال هذا: إذا استثمرت أموال السندات في البناء، وأجر المبني، فإن الربح الظاهري هو الإيجار، لكن هذا لا يمثل الربح الواقعي.
فالمبني إذا تكلف عشرة ملايين، وهبط سعره إلى خمسة، فقد هبط خسارة كبيرة، مع أن الظاهر أن الإيجار ربح، وفي الواقع لا يعوض شيئا يذكر من الخسارة الفعلية. ولو أن هذا المبنى الذي تكلف عشرة، أصبحت قيمته عشرين، فإن الإيجار لا يمثل الربح الحقيقي.
وفي الحالة الأولى يكون صاحب السندات ظالما إذا أخذ ما دفعه وهو القيمة الاسمية مع تحقق هذه الخسارة.
وفي الحالة الثانية يكون مظلوما إذا لم يأخذ إلا القيمة الاسمية الربح الظاهر.
3- كفالة الحكومة للقيمة الاسمية للسندات تخالف عقد الكفالة، فالكفيل لا يضمن ما ليس مضمونا على الأصيل. وجعل الكفالة هنا من باب الوعد الملزم الذي قال به بعض الفقهاء يحول الأمور إلى مسائل شكلية وكما يجوز ضمان أصل، يجوز ضمان نسبة زيادة على رأس المال، وبذلك يفتح باب الربا على مصراعيه في عصرنا، وتقبل كل الفوائد الربوية على أنها وعد ملزم، فيمكن لبنك رئيسي أن يضمن الأصل والفوائد للمودعين في البنوك الفرعية، وكل منها له ذمة مستقلة. والعلاقة بين البنك الرئيسي وفروعه لا تزيد عن العلاقة بين الدولة وإحدى وزارتها.
والمسلم عندما يستثمر أمواله يعلم أن الغنم بالغرم، والغرم بالغنم. فقد يربح وقد يخسر، وهذا فرق واضح بين المسلم المستثمر والمرابي.
ومع كل هذا لو سلمنا بجواز كفالة الحكومة لوزارة الأوقاف فإن الكفالة إنما هي لإقراض الوزارة حتى تتمكن من دفع القيمة الاسمية، وليست هبة، والوزارة كمقترض ضامن لرد المثل للحكومة، وهذا يعني أن وزارة الأوقاف هي نفسها الملتزمة بالأداء ولكن بعد الإطفاء الكامل للسندات إذا عجزت عن أداء التزاماتها قبل هذا.
إذا وزارة الأوقاف هي في واقع الأمر ضامنة لرد القيمة الاسمية للسند في جميع الحالات، مع جزء من الأرباح الظاهرة لا الحقيقية، ولكن إذا عجزت اقترضت لأداء ما عليها من ديون، والحكومة وعدت وعدا ملزما بأن تقرضها في مثل هذه الحالة. فكيف غاب هذا عمن أفتى بجواز هذه الكفالة؟!
4- هذه السندات إذن ليست من القراض بشروطه المجمع عليها كما نعرف في الفقه الإسلامي، ولهذا يقول الأستاذ الدكتور العبادي: (الواقع أن هذه السندات طرحها التقنين الأردني على أساس أنها من صور التعامل الجديد القائمة على مبادئ الاقتصاد الإسلامي) .(4/1527)
وهذا القول فيه نظر، لأن وزارة الأوقاف ضامنة لرأس المال، وفي الوقت نفسه يشاركها صاحب رأس المال في الربح، ومن المبادئ الأساسية في الاقتصاد الإسلامي أن (الخراج بالضمان) كما جاء في الحديث الشريف، وأنه لضمان على من شورك في الربح، وهذا فرق جوهري بين القرض والقراض: فالقرض ضمان بلا مشاركة للضامن في الربح، والقراض مشاركة بلا ضمان من المضارب.
5- عقد القرض ينطبق تماما على هذه السندات وهو من القروض الإنتاجية الاستثمارية.
والفرق بينها وبين السندات ذات الفوائد الربوية أنها لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة. ويتفق النوعان في أن مالك السند له رأس ماله، وهو القيمة الاسمية للسند، وليس شريكا في الأعيان والحقوق التي أسهمت فيها أموال هذه السندات.
وبدلا من الفوائد السنوية المحددة التي يأخذها مالك السندات الربوية فإن مالك سندات المقارضة له نسبة محددة من أرباح المشروع.
إذا اقترض أحد ألف دينار مثلا ليستثمره في أي مشروع، وتعهد برد المثل في موعد معين، واتفق الاثنان على أن المقرض ليس شريكا في المشروع ولا في خسارته، وإنما له نسبة محددة من الربح مدة بقاء القرض.
أيكون هذا الربح الزائد على القرض حلالا؟ فالقيمة الاسمية المضمونة تقابل القرض هنا، والتعهد برد هذه القيمة هو التعهد برد المثل، وموعد الإطفاء هو موعد رد القرض وأرباح السندات هي أرباح القرض، ومالك السند ليس شريكا في المشروع وإنما هو مقرض.
6- قال ابن قدامة في المغني: (4/ 360) :
(كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف) . قال ابن المنذر: (أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك إن أخذ الزيادة على ذلك ربا) . وذكرت هذا القول، وما يؤيده من كتب السنة في كتابي المعاملات المالية المعاصرة ص 61- 66.(4/1528)
فالنسبة المحددة من الربح مدة بقاء رأس مال السند قبل الإطفاء زيادة مشروطة، فهي من الربا المحرم.
7- تداول السندات في سوق عمان دون أن يكون لسند المقارضة نصيب في المشروعات كالأسهم، فليس صاحب السند شريكا كالمساهم، سيجعل البيع والشراء مرتبطا بالفوائد الربوية السائدة، وبما يعرف بسعر (الخصم) فمتى كانت الأرباح المتوقعة أعلى زادت القيمة السوقية للسند، ومتى كانت أقل انخفضت القيمة السوقية.
وإذا كان السند لا يمثل حصة شائعة في المشروع، وإنما يقابل القيمة الاسمية مع الأرباح التي يأخذها مالك السند، فكيف يجوز بيع مثل هذا السند؟
إنه بيع دين في الذمة بنقد حاضر من جنسه مع الزيادة أو النقص، فكيف أن التحريم هنا غير واضح؟!.
وذكر الدكتور العبادي (بأن القيمة السوقية للسند تتألف من القيمة الحالية لرأس المال مضافا إليها القيمة الحالية للأرباح المتوقعة، وفي هذا تدخل جميع العوامل المؤثرة على ربحية المشروع) .
وهذا القول لا يخرج عما ذكرته آنفا!
وللتوضيح أقول: إذا كانت القيمة الاسمية للسند مائة الدينار، وتسترد القيمة بعد خمس سنوات، والأرباح المتوقعة في كل عام عشرون دينارا، والفوائد الربوية السائدة 10 %، فإن القيمة السوقية للسند تكون أكثر من مائة، لأن المشتري وإن كان لا يأخذ في النهاية إلا القيمة الاسمية غير أنه خلال المدة يحصل على ما يزيد عن الفوائد الربوية السائدة، وعلى العكس من ذلك إذا كانت الأرباح المتوقعة أقل من الفوائد الربوية السائدة فإن القيمة السوقية تقل عن القيمة الاسمية، لأن المشتري الذي يحصل على أرباح أقل سيأخذ في النهاية أكثر مما دفع.
وعندما يصبح ريع المشروع معروفا محددا كالمباني عندما تؤجر تصبح الزيادة التي يأخذها مالك السند محددة، وبذلك لا نستطيع أن نفرق بين سندات المقارضة والسندات ذات الفوائد الربوية، فكلها يخضع للعوامل التي تخضع لها القروض الربوية.
وبغض النظر عن العوامل المؤثرة فما معنى (القيمة الحالية لرأس المال) ؟ أليس هذا بيع دين في الذمة بنقد حاضر؟(4/1529)
فالبيع هنا نقود بنقود، وهو تطبيق أحكام الصرف يعتبر من الربا المحرم لا محالة!!
فكيف أجاز هذا السادة الذين وقعوا على الفتوى المرافقة للقانون؟!.
8- البنوك الربوية التي تعطي فوائد محددة على الودائع لديها ما يسمى بالودائع ذات العائد المعوم، وفوائد هذه الوادئع ليست محددة وإنما كما قالوا (معومة وبالطبع فإن هذه الفوائد وإن لم تكن محددة فهي من الربا المحرم) .
9- بعد جلسات المؤتمر الثالث لمجمع الفقه بالأردن شرفني بزيارته الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقاء ودار الحديث حول سندات المقارضة، وما أبديت من ملاحظات فقال بأنه يشاركني الرأي فيما انتهيت إليه من التحريم وإنه سيعرض هذا الموضوع على لجنة الفتوى بالأردن لأن التحريم واضح.
نسأل الله تعالى الرشاد والهداية.
10- مما يؤسف له حقا ما جاء في بيان الأسباب الموجبة لقانون سندات المقارضة، وما دفع إلى الأخذ بها، وإلى جانب النصوص السابقة نري في البداية ما يلي:
(يعتبر إصدار السندات المالية وسيلة ناجحة من وسائل اجتذاب المدخرات وتجميع الأموال اللازمة لتمويل المشروعات في مختلف الوجوه النافعة لخدمة الاقتصاد الوطني بوجه عام.
وقد شهدت السوق المالية الأردنية نشاطا متزايدا في مجال إصدار السندات المالية وتداولها، وسواء في ذلك السندات المالية الحكومية الصادرة بموجب أحكام قانون الدين العام أو السندات المالية الصادرة عن مؤسسات ذات الاستقام المالي والإداري.
غير أن ارتباط هذه الأشكال المختلفة من السندات المالية بالعائد المبني على نظام الفائدة المحددة قد أدى إلى عدم إمكان تعميم التداول والتعامل في هذه السندات بين مختلف فئات المواطنين، وبخاصة ذلك القطاع الكبير ممن لا يقبلون على استثمار أموالهم على أساس الفائدة) . انتهى.
وللأسف الشديد المحزن أن هذا القول يحمل الرضا بل الإشادة بعمل ربوي، ويبين أن اللجوء لسندات المقارضة ليس الرعية في ترك الربا حتى لا نأذن بحرب من الله ورسوله، بل وجود من يرفض هذا التعامل، وهو (قطاع كبير) مما أدى إلى عدم تعميم التداول والتعامل في السندات ذات الفوائد الربوية!!.(4/1530)
ثالثا: شهادات الاستثمار المخصصة
بعض نصوص هذا المشروع:
9- يكون دور البنك في استخدامه لمتحصلات الأوراق التي يصدرها هو دور " المضارب المفيد "، ومعنى هذا أن العلاقة بين البنك وحملة الشهادات ليست علاقة دائن بمدين، بل هي علاقة " صاحب المال بالأمين عليه ".
12- أ- يتم تحديد سعر الشهادات خلال فترة الاكتتاب والفترة التي تسبق البدء في النشاط على أساس " القيمة الاسمية "
ب- بعد انتهاء الفترة المذكورة أعلاه، يقوم البنك على فترات دورية (لا تتجاوز ثلاثة أشهر) بإعلان أسعار تداول الشهادة بيعا وشراء، وذلك بناء على المركز المالي للمشروع، وظروف العرض والطلب.
14- وحيث إن قواعد الشريعة تسمح بفكرة " التأمين التعاوني " فإنه يمكن للبنك إنشاء صندوق للتأمين التعاوني لتغطية مخاطر الاستثمار.
15- طبقا لعقد المضاربة بين البنك وأصحاب رأس المال، يمكن توزيع الربح في نهاية الفترة المالية بالصورة التالية:
أ- نسبة من الأربح توزع على البنك الإسلامي بصفته مضاربا.
ب- نسبة من الأرباح توزع على مالكي الشهادات (ومنهم البنك الإسلامي عادة) .
ج- نسبة من الأرباح لصندوق تأمين مخاطر الاستثمار.
27- الورقة المالية الإسلامية في حد ذاتها ممثلة لحصة مالية شائعة في مجموع صافي موجودات المشروع.
66- تشكيل " لجنة شرعية " مهمتها المتابعة والرقابة على الإصادرات من جوانبها الشرعية المختلفة.
هذه بعض النصوص، وتركنا الكثير حتى لا نطيل، ولعل في هذا القدر ما يكفي ويغني لتوضيح الصورة ودلالتها على فقه عقد المضاربة والانتفاع به في التطوير دون إخلال بمقتضى العقد.
ومشروع البنك لاحق للمشروع الأردني، وهناك من اشتراك في إعداد المشروعين فلعل المشروع الأردني يعدل في ضوء هذا المشروع.
وأقترح لتعديله.
أن تقوم الأرض، ويمثل هذا نصيب وزارة الأوقاف، وباقي التكلفة تمثل حقوق أصحاب السندات، وتكون الشركة بينهم وبين الوزارة، والأرباح تقسم تبعا لنصيب كل مالك لهذه السندات، إلى جانب أن الوزارة تأخذ نصيبها كمضارب بالإضافة إلى نصيبها كصاحب رأس مال ويمكن أن يلجأ للتأمين التعاوني لمواجهة مخاطر الاستثمار.(4/1531)
وقد يعترض هنا بأن الوقف لا يباع، ولكن يجوز بيع جزء من الوقف لإعمار الجزء الآخر، وهذا أمر معلوم في الفقه الإسلامي وهذه الشركة يمكن أن تستمر، ويمكن أن تنتهي بالتمليك بالطريقة الشرعية المعروفة، والتي تزاولها المصارف الإسلامية.
ويمكن لوزارة الأوقاف - إذا لم ترغب في أسهم المشاركة المستمرة او المنتهية بالتمليك - أن تلجأ إلى عقد الاستصناع عن طريق المصارف الإسلامية.
إذن أمام الوزارة أكثر من حل إسلامي.
والأمر الذي يزعجني حقيقة هو أن نقدم للقطاع الكبير - الذي يرفض السندات ذات الفوائد الربوية - بديلا غير إسلامي ونرغبهم فيه باسم الإسلام.
طبيعة سندات المقارضة
أولا: السندات الأردنية:
من الدراسة السابقة نستطيع أن نحدد العلاقة الحقوقية بين المكتتبين والجهة المصدرة، وهي كما يلي:
1- الجهة المصدرة تأخذ أموال المكتتبين المدفوعة على سبيل التمليك لا الوكالة، وتتعهد برد المثل في الموعد وهو القيمة الإسلامية للسندات في موعد الإطفاء.
2- كما تتعهد بإعطاء جزء من ريع المشروع لمالكي السندات زيادة على القيمة الاسمية مدة بقاء السند قبل الإطفاء.
3- ويترتب على تملك مال السندات، مع التعهد برد المثل والزيادة أن يصبح المشروع ملكا للجهة المصدرة لا يشاركهم فيه مالكو السندات، ومهما ارتفعت قيمة المشروع أو انخفضت فلا يتأثر بهذا إلا الجهة المصدرة.
4- المكتتبون لهم مثل ما دفعوا، يستردون في الوقت المحدد ولهم أيضا الزيادة المتفق عليها مدة بقاء السند. والجهة المصدرة إذا عجزت عن أداء ما التزمت به من رد المثل اقترضت وأدت ما التزمت به، والدولة تعهدت بإقراضها في حالة العجز.
5- للمكتتبين أن يبيعوا حقهم في استرداد المثل مع الزيادة ومن يحل محلهم يكون له هذا الحق نفسه، حق استرداد القيمة الاسمية مع الزيادة، مع حق البيع أيضا.
من هنا نرى أن هذه السندات لا تجعل العلاقة بين المكتتبين والجهة المصدرة علاقة قراض، وهو ما أخذ منه اصطلاح التسمية، وإنما هي علاقة دائن ومدين، وليست شركة من أي أنواع الشركات التي يقرها الإسلام:
فمالك السند دائن للجهة المصدرة، دينه مضمون. والجهة المصدرة مدينة، ضامنة لهذا الدين تؤديه في الوقت المحدد. كما أنها ضامنة للأداء للمكتتب أو لمن يحل محله. وتلتزم كذلك بإعطاء زيادة على الدين للدائن مدة بقاء دينه.
وهذه الزيادة المشروطة من الواضح الجلي أنها من الربا المحرم، وإن كانت غير محددة، وهذا أشبه بالودائع الربوية ذات العائد المعوم التي أشرت إليها من قبل، وإن كان الشبه غير تام.(4/1532)
وهذه السندات تشبه القروض الربوية الإنتاجية التي كانت شائعة في الجاهلية والجديد فيها طريق تحديد الزيادة الربوية، وهذا لا يخرجها من الحرام إلى الحلال.
والجديد في عصرنا ولم يكن في الجاهلية، بل لم يخطر لهم على بال، هو أن تحولت القروض الربوية إلى حق يباع ويشترى، وتقام له الأسواق العالمية!!
ثانيا: شهادات الاستثمار المخصصة:
من النصوص التي نقلتها يتضح أن هذه الشهادات تقوم على أساس عقد المضاربة، مع إمكان الشركة في رأس المال. فالعلاقة الحقوقية بين المكتتبين وبنك التنمية علاقة صاحب رأس المال بالوكيل المضارب الأمين غير الضامن لرأس المال.
ومالك الشهادة يملك حصة شائعة في المشروع إن زادت عن رأس المال فالمضارب شريكه في الربح، وإن لم تزد أو قلت فهي ملكه، فليست من حق المضارب أن يطالب بما يقابل عمله، وليس من حق المكتتب أن يطالب بالتعويض عن الخسارة.
وعندما يشترك البنك في المشروع المخصص لجزء من رأس المال يصبح كالمكتتبين بالنسبة لهذا الجزء إلى جانب ما يخصه كمضارب.
والعلاقة الحقوقية هنا ينطبق عليها ما جاء في المادتين 627، 628 من القانون المدني الأردني، وهذا نص كلا منهما:
المادة 627 – 1 – يجب أن يشترك كل من المضارب ورب المال في الربح وذلك بالنسبة المتفق عليها في العقد، فإن لم تعين قسم الربح بينهما مناصفة.
- 2 – وإذا جاز للمضارب خلط ماله مع رأس مال المضارب قسم الربح بنسبة رأس المال، فيأخذ المضارب ربح رأس ماله، ويوزع ربح مال المضاربة بين المتعاقدين على الوجه المبين في الفقرة الأولى.(4/1533)
المادة 628 – 1- يتحمل رب المال الخسارة وحده، ولا يعتبر أي شرط مخالف.
-2- وإذا تلف شيء من مال المضاربة حسب الربح فإن جاوزه حسب الباقي من رأس المال ولا يضمنه مضارب.
ومن هذا نرى أن شهادات الاستثمار المخصصة التي قدمها بنك التنمية الإسلامي مقبولة شرعا، وأن سندات المقارضة الأردنية غير مقبولة، ولا ينطبق عليها عقد المقارضة، ولا أي نوع من أنواع الشركات في الإسلام كما جاء في القانون المدني الأردني نفسه وفي الفقه الإسلامي بصفة عامة، وإنما ينطبق عليها عقد القرض، وليس هذه وسيلة استثمار في الإسلام، فالزيادة من الربا المحرم والله عز وجل أعلم بالصواب.
والحمد لله تعالى في الأولى والآخرة والصلاة والسلام على رسوله المصطفى.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180، 181، 182] .
الدكتور علي أحمد السالوس(4/1534)
سندات المقارضة
إعداد
الدكتور عبد السلام داود العبادي
وكيل وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية
في المملكة الأردنية الهاشمية
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن التزم بشرعه إلى يوم الدين. وبعد:
فيهدف هذا البحث إلى التعريف بسندات المقارضة وبيان أهميتها وأثرها في تحقيق التنمية الاقتصادية في المجتمع الإسلامي المعاصر، واستعراض الأسس والقواعد الفقهية التي بنيت عليها مما يبين القدرات الفذة للشريعة الإسلامية على تقديم صيغ جديدة في التعامل مع الواقع الإنساني، بما ينسجم مع نموه وتقدمه، ويوضح أن قواعد الاقتصاد الإسلامي كفيلة بتقديم حلول مناسبة ومعالجات جديدة تحقق خير المجتمع الإنساني ومصلحته.
وسندات المقارضة أداة من أدوات التمويل الكبير ووفق قواعد الاقتصاد الإسلامي كان للمملكة الأردنية الهاشمية السبق والمبادرة في تأصيل قواعدها وإخراجها بصورة مبدعة متميزة على أساس من اجتهاد فقهي معاصر تبلور في قانون سندات المقارضة (10) لسنة 1981.. والذي أخذ حظه من الدراسة في اللجان العلمية المتخصصة التي شكلتها وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية لهذه الغاية.
وإننا لنأمل أن يكون في هذه السندات خدمة للتوجهات الواضحة في عالمنا المعاصر نحو تبني قواعد الاقتصاد الإسلامي.
وبحمد الله سبحانه تجد صيغة سندات المقارضة اهتماما واسعا في الأوساط الاقتصادية في البلاد العربية والاسلامية.. وقد كانت على جدول أعمال أكثر من مؤتمر مالي واقتصادي في العالم الإسلامي.(4/1535)
ويبدي البنك الإسلامي للتنمية – وهو إحدى المؤسسات الاقتصادية الكبرى الممثلة فيه جميع الدول الإسلامية، والذي ينص نظامه على التعامل وفق قواعد الشريعة الإسلامية – عناية خاصة بموضوع سندات المقارضة: وقد عقد عدة نداوت عملية متخصصة حضرها المهتمون بهذا النوع من التمويل الإسلامي تهدف إلى وضع الصيغ المناسبة لتبينها على مستوى العالم الإسلامي.. وقد كان للباحث شرف المشاركة في بعض هذه الندوات.
وتتعرض هذه الدراسة الموجزة لبيان ما يلي:
1- التعريف بسندات المقارضة والفرق بينها وبين أنواع السندات الأخرى.
2- أهمية سندات المقارضة ودورها في تحقيق التنمية الاقتصادية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
3- الأساس الفقهي الذي بنيت عليه سندات المقارضة.
4- قواعد إصدار هذه السندات وشروطه.
5- وزارة الأوقاف وسندات المقارضة: جهودها في إصدار قانونها، مدى استفادتها منها في تمويل مشاريعها الكبرى.
6- البنك الإسلامي للتنمية وسندات المقارضة.
وأخيرًا أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يجزي خير الجزاء كل من له دور في إبراز هذه الصيغة المهمة من صيغ التعامل الاقتصادية المتطور وفق قواعد الشريعة الإسلامية.
(أنه سميع مجيب الدعاء)(4/1536)
أولا: التعريف بسندات المقارضة
والفرق بينها وبين أنواع السندات الأخرى
1- نبتت فكرة سندات المقارضة أثناء وضع مشروع قانون البنك الإسلامي في المملكة الأردنية الهاشمية بهدف أن تكون من الأدوات التي يمكن اعتمادها من البنك للحصول على تمويل طويل الأجل لمشاريعه الكبرى (1) .
وقد عرَّف قانون البنك الإسلامي رقم (13) لسنة 1978 السندات هذه بأنها: الوثائق الموحدة القيمة والصادرة عن البنك بأسماء من يكتتبون فيها مقابل دفع القيمة المحررة بها على أساس المشاركة في نتائج الأرباح المتحققة سنويا حسب الشروط الخاصة بكل إصدار على حدة.
2- وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لقانون البنك الإسلامي أن هذه السندات تكون إما لآجال معينة طويلة نسبيا (من 5- 10 سنوات) أو لغايات محددة.
وبذا يمكن للبنك أن يصدر هذه السندات بكيفيتين (2) :
الأولى: أن تكون صادرة لأجل معين يهدف إلى الحصول على تمويل يدخل في جملة الأموال المستثمرة من البنك، وقد سمتها المذكرة الإيضاحية للقانون في هذه الحال بسندات المقارضة المشتركة وتدخل ضمن اصطلاح: حسابات الاستثمار المشترك المقرر في إطار أعمال البنك الإسلامي (3) .
__________
(1) انظر المذكرة الإيضاحية لقانون البنك الإسلامي (ص13)
(2) انظر المذكرة الإيضاحية لقانون البنك الإسلامي (ص12 – 13)
(3) بيَّن قانون البنك الإسلامي في مادته الثانية أن حسابات الاستثمار المشترك تشمل الوادئع النقدية التي يتسلمها البنك من الراغبين بمشاركته فيما يقوم به من تمويل واستثمار منظم بشكل متعدد ومستمر وذلك على أساس هذه الوادئع على نسبة معينة مما يتحقق سنويا من أرباح صافية حسب شروط الحساب الداخلة فيه(4/1537)
والثانية: أن تصدر السندات لغايات معينة مثل تمويل بناء سوق تجاري لوزارة الأوقاف مثلا، فحصيلة السندات في هذه الحالة تكون مخصصة للمشروع المعين، وحيث تسترد قيمة السندات من واقع الدخل المتحقق في المشروع المعين مع المشاركة في الربح بحسب الترتيب الخاص بذلك، والسندات إذا أصدرت بهذه الكيفية تكون داخلة ضمن حسابات الاستثمار الخاص بحيث يكون لكل مشروع حسابه الخاص.
3- وقد عرَّف قانون سندات المقارضة رقم (10) لسنة 1981: سندات المقارضة في المادة (2) فقرة (أ) بأنها: الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح.
وجاءت الفقرة (ب) من هذه المادة لتوضح فكرة السندات بقولها: يحصل مالكو السندات على نسبة محددة من أرباح المشروع، ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد كما لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة.
وواضح من نصوص هذا القانون أن فكرة سندات المقارضة قد تم ترسيخ قواعدها وتوضيح أبعادها وأصبحت وسيلة من وسائل التمويل الكبرى التي يمكن أن تلجأ إليها جهات متعددة فيما إذا رغبت في التعامل وفق قواعد الاقتصاد الإسلامي.
4- وقد أتى اصطلاح سندات المقارضة مستمدا من رحاب الفقه الإسلامي. فالمقارضة من القراض الذي يعني في اصطلاح الشافعية والمالكية المضاربة (بل إن هذا الاصطلاح ورد في بعض الأحاديث مثل ما أخرجه ابن ماجة وابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع)) (1) . وفي النهاية وفي غريب الحديث والأثر لابن الأثير: (القراض المضاربة في لغة أهل الحجاز يقال قارضه يقارضه قراضا ومقارضة. ومنه حديث الزهري (لا تصلح مقارضة من طعمته الحرام) قال الزمخشري: (أصلها من القرض في الأرض وهو قطعها بالسير فيها وكذلك هي المضاربة أيضا من الضرب في الأرض) (2) . وفي نهاية المحتاج للرملي وهو من كتب الشافعية المعتمدة: (القراض بكسر القاف لغة أهل الحجاز مشتق من القرض: وهو القطع لأن المالك يقطع للعامل قطعة من ماله يتصرف فيها، وقطعة من الربح، أو المقارضة هي المساواة لتساويهما في الربح، أو لأن المال من المالك والعمل من العامل ويسمى عند أهل العراق مضاربة لأن كل منهما يضرب بسهم في الربح، ولما فيه غالبا من السفر وهو يسمى ضربا (3) .
__________
(1) الفتح الكبير في ضم الزيادات إلى الجامع الصغير – النبهاني: جـ2، ص44. وانظر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: جـ هـ ص (363)
(2) النهاية في غريب الحديث- ابن الأثير: جـ 4 ص41
(3) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج – الرملي -: جـ5 ص 219(4/1538)
5- والناظر في نصوص قانون سندات المقارضة يلاحظ أن فكرة هذه السندات تقوم فيه على العناصر التالية:
أ - أنها وثائق تسجل مقدار الأموال التي قدمها المكتتبون بها لمشروع معين بقصد تنفيذه لتحقيق الربح.
ب - أن لكل وثيقة من هذه الوثائق قيمة محددة.
جـ- أن لكل شخص من المكتتبين بهذه الوثائق قد يحصل على وثيقة أو أكثر منها بقدر ما دفع من أموال مشاركة في تنفيذ هذا المشروع.
د- أن هذه الوثائق تصدر بأسماء من يملكونها.
هـ- أن لمالك هذه الوثائق نسبة من ربح المشروع تعلن في نشرة الإصدار خلال الفترة التي تصدر لها السندات، وأن ما يدفع لصاحب السند ليس بفائدة سنوية محددة إنما يرتبط مقدار ما يدفع له بقدر ما يتحقق من ربح المشروع.
و أن النسبة الأخرى من الربح مخصصة للإطفاء التدريجي لأصل قيمة السند الأصلية.
ز- وبذا يسترد صاحب السند مقدار ما دفعه أولا بأول، في مواعيد الإطفاء المحددة بنشرة الإصدار الخاصة بمشروع معين، وينال في خلال هذه الفترة ربحا معقولا تم تقرير نسبته من دخل المشروع على أساس حساب الدخل المتوقع.
ح- وفق هذا الأسلوب ينتهي صاحب المشروع إلى امتلاك المشروع ودخله كاملا وذلك بعد إطفاء القيمة الأصلية لجميع السندات.
6- وعلى ضوء ذلك نستطيع تعريف سندات المقارضة بأنها: وثائق محددة القيمة تسجل مقدار الأموال التي قدمها مالكوها للمشاركة في إقامة مشروع معين بقصد الحصول على نسبة من ربح المشروع وعلى أساس استرداد هذه الأموال تدريجيا من صافي أرباح المشروع وفق ترتيب معلن خاص بكل مشروع على حد ما وضمن الشروط التي يحددها القانون.(4/1539)
7- والواقع أن هذه السندات طرحها التقنين الأردني على أساس أنها من صور التعامل الجديدة القائمة على مبادئ الاقتصاد الإسلامي. وهي تعتبر بحق مقابلا لأنواع السندات التي تصدر مرتبطة بفائدة محددة، وتقول المذكرة الإيضاحية لقانون البنك الإسلامي في هذا المجال: والمقصود بهذه السندات هو إيجاد البديل الإسلامي لسندات القرض التي يمكن للبنوك والشركات إصدارها على أساس الفائدة المحددة، أو على أساس الفائدة العائمة (Floating rate of interst) التي أخذت تظهر في الأسواق العالمية (1) والفارق الأساسي بين سندات المقارضة والسندات المعروفة في ظل الاقتصاد الوضعي أن الأخيرة تصدر على أساس دفع فوائد محددة معلنة بنشرة الإصدار خلال مدة السندات وحتى يحين موعد إطفاءها وهي قائمة على أساس أن العلاقة بين الجهة المصدرة والمكتتب علاقة مديونية فذمة الجهة المصدرة مشغولة بالمبلغ المكتتب به طيلة مدة السند وإلى حين الإطفاء حيث يعادل المبلغ فهي قائمة على ضمان رأس المال المكتتب مع الزيادة بالنسبة المعلنة للفائدة.
بينما سندات المقارضة ليست العلاقة فيها بين المكتتب والجهة المصدرة علاقة مديونية تجر فوائد ربوية محددة إنما هي علاقة قراض فيه معنى للمشاركة كما سنرى قريبا وهي لا يجري تحديد مسبق لنسبة الفائدة إنما يترك لمقدار ما يتحقق من ربح فعلي للمشروع الذي اكتتب بالسندات من أجله.. ويعلن في نشرة الإصدار الأساس الذي يتم توزيع الربح عليه فليس هنالك ضمان لفترة محددة كما أنه ليس هنالك ضمان في الأصل حتى لرد رأس المال لاحتمال وقوع الخسارة.
وبذا نجحت فكرة هذه السندات من الوقوع في الربا المحرم وبنيت العلاقة فيها على عقد مشروع سواء أكان عقد المضاربة أو الشركة أو كليهما كما سنرى فيما بعد.
__________
(1) المذكرة الإيضاحية لقانون البنك الإسلامي صفحة 12(4/1540)
ثانيا: أهمية سندات المقارضة ودورها
في تحقيق التنمية الاقتصادية
في المجتمعات الإسلامية المعاصرة
8- تأتي أهمية هذا النوع من السندات من أنه يطرح في مجالات التمويل الكبير والطويل الأمد الذي تحتاجها المشاريع الاقتصادية الكبرى في هذه الأيام صيغة إسلامية متطورة خالية من التعامل الربوي.. ومن هنا اعتبرت هذه السندات البديل الإسلامي لما يسمى بسندات القرض الربوي.
وطرح هذه السندات البعيدة عن التعامل الربوي يستوعب القدرات الاقتصادية الكبيرة القائمة في مجتمعنا والمحجمة عن التعامل بالسندات الربوية.. وبذا تتجسم الصيغ الاقتصادية المطروحة مع عقيدة الأمة وتطلعاتها الدينية والخلقية.. عدا عن الفوائد الاقتصادية والاجتماعية والخلقية التي يقدمها التعامل الاقتصادي البعيد عن الربا لما يترتب على الربا من آثار سيئة على الأفراد والجماعات مما لسنا هنا بصدد تفصيله.
9- وقد بينت الأسباب الموجبة لقانون سندات المقارضة أن الذي دفع إلى الأخذ بهذا النوع من السندات ملاحظة أن إصدار السندات المالية بات وسيلة ناجحة من وسائل اجتذاب المدخرات وتجميع الأموال اللازمة لتمويل المشروعات في مختلف الوجوه النافعة خدمة للاقتصاد الوطني. وأن السوق المالية الأردنية أخذت تشهد نشاطا متزايدا في مجال إصدار السندات المالية وتداولها سواء في ذلك السندات المالية الحكومية الصادرة بموجب أحكام قانون الدين العام أو السندات المالية التي تصدرها المؤسسات ذات الاستقلال المالي والإداري.. ولكن ارتباط هذه الأشكال من السندات بنظام الفائدة المحددة أدى إلى عدم تداول هذه السندات أو التعامل بها بين فئات المواطنين التي لا تقبل على استثمار أموالها على أساس الفوائد المحددة باعتبارها من الربا المحرم.(4/1541)
ثم قلَّت الأسباب الموجبة (ولما كانت هنالك العديد من المشاريع الاقتصادية القادرة على أن تسترد أصل التمويل اللازم لإقامتها من واقع الدخل المتحقق منها خلال فترة زمنية ملائمة فقد تبين أن الحاجة إلى توسيع قاعدة المتعاملين في مجال السندات بطلب استخدام هذا النوع الجديد من السندات المنظمة على أساس المشاركة في الإيراد المتوقع للمشروع الممول من حصيلة الإصدار المعين، وذلك على أساس إجراء التصفية التدريجية لهذه السنوات، وانتقال المشروع بكامله عند تصفية السندات الخاصة به ليصبح مع إيراده ملكا للجهة الحكومية ذات العلاقة) (1) .
ويمكن لسندات المقارضة إذا تم إصدارها من مؤسسات مالية إسلامية دولية كالبنك الإسلامي للتنمية / جدة أن يحقق دورا بارزا في انتقال رؤوس الأموال بين الدول الإسلامية بهدف دعم مشاريع التنمية التي يمكن أن تقام هنا وهناك في رحاب العالم الإسلامي.
وهذه قضية يجب أن يوليها مخططو السياسات الاقتصادية والمالية في عالمنا الإسلامي كل عناية لتوافر حجوم من التمويل الكبير في بعض البلاد الإسلامية تبحث عن مشاريع مناسبة لأغراض الاستثمار، وتوافر مشاريع ذات جدوى اقتصادية عالية في بعض البلاد الإسلامية الأخرى التي تبحث عن تمويل كاف من مصادر غير مستغلة، فأسلوب سندات المقارضة يتيح ذلك، على أسس شرعية مقبولة.
10- وبذا يظهر الدور البارز لهذا النوع من السندات في تحقيق التنمية الاقتصادية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، فهي تمكن وفق قواعد الاقتصاد الإسلامي من اجتذاب المدخرات وتجميع الأموال المطلوبة لإقامة المشاريع الاقتصادية الكبرى بطريقة تنسجم مع الإمكانات المتاحة لمختلف الأفراد وذلك بالاكتتاب بالسندات وفق قدراتهم وإمكانياتهم المالية، يشجعهم على ذلك سهولة تداول هذه السندات وإمكانية الحصول على أرباح مناسبة منها في حالة المحافظة عليها أو بيعها مستقبلا.
والواقع أن انسجام هذه الصيغة المطروحة مع أحكام الشريعة الإسلامية يجعل منها أداة مرغوبة ومحبذة لدى قطاعات عريضة من مجتمعاتنا مما يمكنها من النجاح في أداء دورها الاقتصادي المنشود.
ولا بد من التنبيه هنا إلى أن أسلوب سندات المقارضة لا يقوم في جميع الأحوال على إجراء التصفية التدريجية لأصل السندات.. بل يمكن تصور نوع من هذه السندات لا يقوم على التصفية التدريجية، إنما يعتمد مبدأ المشاركة الدائمة في نتاج المشروع.
__________
(1) الأسباب الموجبة المنشورة في القانون ص7(4/1542)
ثالثا: الأساس الفقهي لسندات المقارضة
11- البحث في الأساس الفقهي لسندات المقارضة يتعلق بناحيتين:
الأولى: تصوير العلاقة الحقوقية التي تقوم في هذا النوع من التعامل بين المكتتبين والجهة المصدرة للسندات ومعرفة مدى انطباقها على القواعد المقررة في الفقه الإسلامي.
الثانية: دراسة الإمكانية الشرعية لضمان أصل هذه السندات بحيث يتم الإطفاء التدريجي لقيمتها الاسمية في المواعيد المقررة بصرف النظر عن ربح المشروع أو عدمه.
والحديث عن كل من هاتين الناحيتين فيما يلي:
أ - تصوير العلاقة الحقوقية بين المكتتبين والجهة المصدرة.
12- واضح أن صيغة سندات المقارضة تطرح على أنها صورة من صور التعامل الجديد وفق قواعد الاقتصاد الإسلامي.. والفقه الإسلامي قاعدة عامة ووفق أرجح المذاهب يرحب بكل صور التعامل الجديدة ما دام أنها لا تتضمن تحليلا لحرام أو تحريما لحلال وفق القاعدة الفقهية أن الأصل في الأشياء الإباحة، أو الأصل التخلية عن الحكم، وإذا لم يتعلق بالأمر دليل يحرم فيعود الأمر إلى الإباحة.
والواقع أن صيغة سندات المقارضة يتجاذبها عند الباحثين أساسان من أسس التعامل وهذان الأساسان هما: عقد المقارضة، وعقد الشركة.
الأسباب الموجبة المنشورة في مطلع القانون: ص7
13- وقد ركز بعض الباحثين على أن العلاقة في هذه السندات تقوم وفق عقد المضارب باعتبار أن الأمر فيها عبارة عن مضاربة عامة أو مشتركة (1) .
__________
(1) انظر في ذلك المذكرة الإيضاحية لقانون البنك الإسلامي عند الحديث عن سندات المقارضة. وبحث الدكتور منذر قحف بعنوان: القراض وضمان الفريق الثالث وتطبيقاها في تمويل التنمية في البلدان الإسلامية (مطبوع على الآلة الكاتبة)(4/1543)
وأدخل بعض الباحثين في مفهوم هذه العلاقة بالإضافة إلى عقد المضاربة عقد الشركة باعتبار أن هنالك مشاركة في المشروع بين المكتتبين، والجهة المصدرة تتناقص شيئا فشيئا وفق مواعيد الإطفاء لمصلحة الجهة المصدرة وأن هذه المشاركة لها أحكام خاصة.
فالفريق الأول يرى أن الأساس الذي يمكن اعتماده لتصوير العلاقة الحقوقية التي تقوم في هذا النوع من التعامل هو عقد المضاربة على أساس أن الجهة المصدرة تمثل العامل والمكتتبون يمثلون صاحب العمل.
ويُبنى هذا الفريق رأيه في عقد المضاربة يدفع المضارب ماله للعامل ليستثمره على أن يكون الربح بينهما بالنسبة التي يتم الاتفاق عليها بالإضافة إلى أنه عقد المضاربة للمضارب الحق باستعادة رأس ماله بزيادة الربح الذي يستحقه، أو بخصم الخسارة التي وقعت بينما يقوم حق العامل على التصرف في المال بأي صورة من صور الإنماء وفق ما يتم الاتفاق عليه، وله الحق بالربح وفق النسبة المتفق عليها.. وهو ما عليها الحال في هذه السندات، ويؤكد هذا الفريق رأيه بأن قانون سندات المقارضة الأردني في مادته الثانية نص على حق حملة سندات المقارضة بنسبة من الأرباح التي تحددها نشرة الإصدار، وفي مادته الحادية عشرة نص على أن حق حملة السندات في المشروع يقتصر على استرداد رؤوس أموالهم، وهو ما سماه القانون إطفاء السندات بالقيمة الاسمية (1) .
14- ويرى هؤلاء الباحثون أنه لا يمكن اعتماد مبدأ الشركة في تصوير العلاقة في هذا النوع من التعامل؛ لأنه لو كان شركة لاقتضى الأمر أن يتم الإطفاء على أساس القيمة الحقيقية للأشياء التي مولت بهذه السندات، مما يقتضى التنضيد أي تصفية موجودات المضاربة العينية وتحويلها إلى نقد ليتم توزيع حقوق طرفي عقد الشركة وإذا كان التنضيد غير ممكن فمن المقرر فقها أن يكتفي بالتقويم.
ولو كان الأمر مشاركة لما كان هنالك من داع للتنضيد عند التصفية، إذ ينصب حق الشركاء على الأعيان والحقوق المملوكة للشركة، والتي يمكن لهم أن يقتسموها حسب نسبة مساهماتهم.
__________
(1) انظر د. منذر قحف: ص4(4/1544)
كما ذهبوا إلى القول بأنه لا حاجة للقول بمبدأ المشاركة ليصح تداول السندات؛ لأنه يمكن اعتماد مبدأ المضاربة، ويصح التداول: ويكون الاختلاف عن القيمة الاسمية في التداول تحكمه عوامل السوق والتي من أهمها الأرباح المتوقعة من امتلاك السندات ومدى الثقة بالحصول عليها مستقبلا، بالمقارنة مع صور الاستثمار الأخرى. ولا يكون الأمر في هذه الصور عندها داخل تحت بيع الدين بالدين، فهم يقولون بأن القيمة السوقية للسند تتألف من القيمة الحالية لرأس المال مضافا إليها القيمة الحالية للأرباح المتوقعة وفي هذا تدخل جميع العوامل المؤثرة على ربحية المشروع.
وقد اهتم هؤلاء الباحثون بتحديد بداية جواز هذا التداول، واعتبروا أن ما أطلقوا عليه (بدو صلاح المشروع) بداية صالحة لجواز هذا التداول، وتركوا للفقهاء تحديد هذا البدو وقد استأنسوا لذلك بالأحاديث النبوية التي أجازت بيع الثمار عند بدو صلاحها، وقالوا بإمكانية اعتبار اتخاذ المشروع لوجوده القانوني هي البداية دون اشتراط للبداية الفعلية للمشروع.
15- وأما الباحثون الذين أدخلوا في مفهوم علاقة المضاربة مفهوم الشركة باعتبار أن هنالك مشاركة في المشروع بين المكتتبين والجهة المصدرة، فإننا نستطيع أن نجد ذلك في الورقة التي أعدها مجموعة من الخبراء (1) عن الأوراق المالية الإسلامية بتكليف من البنك الإسلامي للتنمية/ جدة، وقد كان للباحث شرف المشاركة في إعدادها.
وقد انتهت هذه المجموعة من الخبراء إلى ورقة بحث أعدوها في اجتماع نظمه البنك الإسلامي للتنمية بجدة بتاريخ 5/6 ربيع الثاني لسنة 1406هـ 17-18 ديسمبر 1985 إلى ما يلي:
(أن الشريعة الإسلامية تسمح من حيث المبدأ بإصدار أوراق مالية تمثل حصصا مالية لصاحب الورقة في مشروع معين كما تسمح بتداول هذه الحصص، وذلك في ظل القاعدتين التاليتين:
__________
(1) وهم الدكتور حسن عباس زكي- المصرف العربي الدولي الدكتور حسين حامد حسان- جامعة إسلام أباد الإسلامية الدكتور عبد السلام العبادي- وزارة الأوقاف الأردنية الدكتور سامي حسن حمود- بنك البركة الإسلامي الدكتور هشام الصباغ- سوق العمان المالي الأستاذ محمد وليد خير الله- البنك المركزي الأردني الأستاذ محمد جواد حديد- البنك العربي للاستثمار الأستاذ إسماعيل حسن محمد- المصرف الإسلامي الدولي والتنمية بمصر الدكتور محمد صالح الحناوي- البنك الإسلامي للتنمية(4/1545)
الأولى: أنه يمكن أن تجتمع أموال مملوكة لعدد كبير من الناس في يد شخص واحد – طبيعيا كان أم اعتباريا- يستثمرها كمضارب، وتأخذ هذه الحصة شكل ورقة مالية، وهي تتخذ الصورة النقدية في البداية ثم تتحول بعد ذلك إلى أعيان ومنافع داخل أي شكل من أشكال التنظيمات التي تسهل أداء العمل وتحقق أهداف الاستثمار المحدد سلفا، وهناك فائدة تعود على المجتمع وعلى المستثمرين من جراء جمع المدخرات في وعاء واحد يمكن من القيام بمشروعات استثمارية ضرورية لا يقدر على القيام بها مستثمر أو عدد محدود من المستثمرين.
ثانيا: أنه يمكن انتقال ملكية الورقة المالية من شخص لآخر وذلك بالطرق الشرعية كالبيع ونحوه) .
(ومن ناحية أخرى فلا بد من تجنب الآتي عند القيام بإصدار أو تداول الأوراق المالية:
1- أن تكون الورقة المصدرة ممثلة لنقود فقط أو ديون فقط أو ديون ونقود.
2- أن يترتب على هذا الانتقال أي مخالفة لنص من نصوص الشريعة - بصورة أو بأخرى – لتفادي النصوص المحددة الواضحة) .
ثم بينت الورقة أن الهدف من الأوراق المالية الإسلامية هو استخدام حصيلة الأموال المجتمعة نتيجة إصدارها في مشروع معين وبالتالي إيجاد سوق مالية إسلامية وتوفير مقومات تنشيطها. ويقصد بالمشروع هنا أي عمل اقتصادي له ذمة مالية مستقلة وله أنشطة استثمارية ذات أهداف محددة.
(15) وأوضحت الورقة بعد ذلك أنه يمكن تحديد المشروع بإحدى الصور التالية:
1- المشاركة الدائمة في رؤوس الأموال.
2- المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك (في حقوق الملكية) .
3- شراء أو استئجار معدات وآلات وغيرها لتأجيرها.
4- الشراء والبيع لمدد قصيرة أو متوسطة أو طويلة الأجل.(4/1546)
وبذلك تكون الورقة المالية الإسلامية بحد ذاتها تمثل حصة مالية شائعة في مجموع صافي موجودات الشيوع.
وهذا يعني أن ورقة البحث هذه تدخل في مفهوم المضاربة هي معنى الشركة بشكل أو بآخر. وقد نصت الورقة بوضوح (ص6 منها) على أن الأوراق المالية التي يقوم البنك الإسلامي بإصدارها تمثل حصصا في ملكية مشروع معين ولهم حقوق الملكية على الشيوع.
(16) وقد أكدت الورقة في ص9 على أن في حالة إصدار البنك الإسلامي للأوراق المالية يكون دوره فيها هو دور المضارب المقيد بنشاط معين، فهو ليس مضاربا مأذونا له بخلط ماله بمال الصندوق كما أن دائني البنك ليس لهم حق المساس بهذه الأموال في حالة الإفلاس – لا قدر الله - وبالإضافة إلى ذلك فهو ليس مالكا إلا بقدر حصته التي تتمثل في القدر الذي قد يملكه من الأوراق المصدرة وله نصيب عن هذه الملكية في الأرباح بنسبة هذا القدر بالإضافة إلى حصته المعلنة كمضارب.
وقررت الورقة أن العلاقة بين مالك الورقة المالية والمضارب (البنك) ليست علاقة دائن بمدين بأي حال من الأحوال بل هي علاقة صاحب المال بالأمين عليه والذي يستثمره لحساب صاحبه. وبالتالي فإن هذه الأموال لا تشكل جزءا من الحسابات الفعلية للبنك ولا تظهر في ميزانية البنك.
(17) وقد سجلت الورقة بكل وضوح أن الشريعة الإسلامية تسمح بتداول الأوراق المالية الإسلامية بالبيع والشراء وغيرهما، وتعامل هذه الأوراق معاملة الأموال كما تجري فيها العقود الشرعية من ضمان ورهن ووقف وهبة، والأصل أن يحتفظ مالك الورقة بها إلا أنه قد يحتاج إلى نقدية لظروف معينة ويتطلب الأمر تأمين عنصر السيولة والتداول للورقة المصدرة تشجيعا للمدخر لاستثمار أمواله في هذه الأوراق وحتى تتوفر موارد مالية كافية للبنوك الإسلامية.
ونظرا لعدم وجود سوق إسلامية للأوراق المالية – وإلى أن يتم تذليل عقبات استخدام الأسواق المالية الموجودة في الدول الإسلامية حاليا – فإنه يقترح تعميم نظام ذاتي لتحيق السيولة للأوراق المصدرة، ويقوم هذا النظام على أساس إعلان البنك الإسلامي المصدر للأوراق (منفردا أو على هيئة مجمع مصرفي من عدد من البنوك الإسلامية) إمكان قيامه بشراء ما يعرض عليه من أوراق أصدرها وبيع ما يملكه منها وذلك ابتداء من تاريخ محدد بعد انتهاء فترة الاكتتاب.
وفي حالة رغبة المكتتب وموافقة البنك على استرداد قيمة الورقة في فترة الاكتتاب لا يسترد إلا القيمة الاسمية، وللبنك إذا سمحت نشرة الإصدار أن يقبل حلول شخص آخر محل المكتتب الأصلي وذلك بالقيمة الاسمية أيضا تلافيا لبيع النقد بالنقد متفاضلا.(4/1547)
وبينت ورقة البحث أن تحديد سعر الورقة المالية يتم على أساس القيمة الاسمية لذلك خلال فترة الاكتتاب والفترة التي تسبق البدء في النشاط ويمكن أن يكون الدفع للأوراق المالية على أن يكون على دفعات متعددة، وفي حالة عدم سداد الدفعة خلال فترة معينة فإن الحصة تباع لحساب المكتتب بأي صورة يتفق عليها.
ومن ناحية أخرى، يقوم البنك الإسلامي المصدر للورقة المالية – بعد إقفال باب الاكتتاب والبدء في مراحل إنشاء المشروع – وفي فترات دورية لا تتجاوز ثلاثة أشهر بالإعلان عن أسعار تداول الورقة المالية بيعا وشراء وذلك بناء على المركز المالي للمشروع وظروف العرض والطلب.
وللبنك أن يتعهد بالشراء والبيع بهذه الأسعار المعلنة في خلال فترة محددة تباعا. وهذا الوضع مؤقت إلى أن يتم تسجيل وتداول مثل هذه الأوراق في سوق مالية منظمة.
(18) وقد تعرضت ورقة البحث لدراسة توزيعات الربح في هذا النوع من الأوراق المالية وقررت أنه من الناحية الشرعية فإن العائد قي الإسلام يستحق نتيجة:
- استثمار المال.
- الضمان.
- العمل.
ويتوافر في عقد المضاربة بين البنك (المضارب) وأصحاب رأس المال عنصر استثمار المال والعمل، وطبقا للشريعة فإن تحقق الربح يعتبر شرطا لتوزيعه، ويتم توزيع الربح في نهاية الفترة المالية بالصورة التالية: -
1- نسبة من الأرباح توزع على البنك الإسلامي بصفته مضاربا.
2- نسبة من الأرباح توزع على مالكي الأوراق المالية بصفتهم أرباب المال (بما فيهم البنك الإسلامي في حالة امتلاكه لبعضها) .
3- نسبة من الأرباح لصندوق تأمين مخاطر الاستثمار. (1) .
__________
(1) وهو ما سيرد بيانه في الفقرة 23 من هذا الحديث(4/1548)
في حالة المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك يتم إعداد شهادة استثمار خاصة يتضمن التوزيع فيها نسبة مئوية من الأرباح تخصص لإطفاء جزء من شهادات الاستثمار وذلك طبقا للقواعد التي تنظم كل حالة.
ويكون إطفاء الشهادات محل الإصدار بنسبة واحدة لجميع الشهادات ويكون ذلك فور تقديم الشهادات للبنك الإسلامي للتنمية أو من ينيبه في ذلك عند الإعلان عن الإطفاء وفق الإجراءات المعلنة في هذا الخصوص.
(19) وقد يسأل عن نصيب العامل في هذا النوع من التعامل على اعتبار أنه مضاربة في حالة عدم تخصيص أي جزء من الأرباح للجهة المصدرة والاكتفاء بتوزيع الأرباح على نسبة للمكتتبين والنسبة الأخرى لإطفاء أصل السندات، ويجاب عن ذلك بأن الربح سيتحقق في النهاية بامتلاك الجهة المصدرة لكل المشروع ودخله فكأن الربح يتحقق للجهة المصدرة وهي التي تمثل العامل في هذه الصورة شيئا فشيئا كلما تم الإطفاء التدريجي لأصل قيمة السندات.
20- ولابد من التنبيه هنا إلى أن المشاركة المتناقصة هي أحد الصيغ التي قدمها قانون البنك الإسلامي الذي أقرته لجنة الفتوى في المملكة الأردنية الهاشمية باجتماعاتها المتعددة في الفترة الواقعة بين العشرين من رجب عام 1397هـ إلى الثامن والعشرين من رمضان من العام نفسه الموافق 6/ 8/ 1977 إلى 11/ 9/ 1977 وقد كان للباحث شرف المشاركة فيها وقد عرف قانون البنك الإسلامي المشاركة المتناقصة بما يلي:
دخول البنك بصفة شريك ممول – كليا أو جزئيا - في مشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس الاتفاق مع الشريك الآخر بحصول البنك على حصة من صافي الدخل المستحق فعلا مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي أو أي قدر يتفق عليه – ليكون ذلك الجزء مخصصا لتحديد أصل ما قدمه البنك من تمويل.
وواضح أن الاحتفاظ هنا ليس شرطا في المشاركة المتناقصة فيمكن دفع هذا الجزء لصاحب السند أولا بأول.
ب- دراسة الإمكانية الشرعية لضمان أصل هذه السندات.(4/1549)
وهناك أمر أخذ قدرا من النقاش الفقهي أثناء فترة إعداد قانون سندات المقارضة.. فجرى بحث هل يمكن ضمان أصل قيمة السند للمكتتبين بمعنى أن لا يتعرض المكتتبون للخسارة وتتحملها الجهة المصدرة للسند؟ وبحيث يعاد في جميع الأحوال للمكتتب قيمة السند الأصلية في مواعيد الإطفاء المقررة دون نقص أو خسارة بصرف النظر عن ربح المشروع أو عدمه. وذلك تشجيعا للاكتتاب في هذا النوع من السندات وليمكنها منافسة الأنواع الأخرى من السندات وقد عرض هذا في حينه على لجنة علمية مكونة من الأستاذ الدكتور محمد صقر، رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة الأردنية في حينه ومن الباحث حيث كان يعمل رئيسا لقسم الفقه والتشريع في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية، وقد انتهيت في تقرير قدمته لوزارة الأوقاف في حينه، أنه لا بد من أن يتحمل المكتتب ما يتعرض له من خسارة وفق قواعد عقد المضاربة في الشريعة الإسلامية.. مما دفع إلى البحث عن صيغة أخرى، وقد اتجهت النية إلى أن تكفل الحكومة أصل قيمة السند على أساس أنها طرف ثالث غير الجهة المصدرة وغير المكتتبين وأن مثل هذه الكفالة تعرفها قواعد الفقه الإسلامي، وقد بحث هذا الأمر بإطالة في لجنة الفتوى، وقد كان للباحث أيضا شرف المشاركة في ذلك مع عدد من السادة العلماء وذوي العلاقة بصفته أحد أعضاء هذه اللجنة وبعدها أصدرت اللجنة فتوى وقَّع عليها كل من الشيخ عبد الحميد السائح والأستاذ كامل الشريف والشيخ عز الدين الخطيب والدكتور عبد السلام العبادي والشيخ محمد أبو سردانة والدكتور ياسين درادكه والشيخ أسعد بيوض التميمي والأستاذ الدكتور محمد صقر والدكتور سامي حمود والسيد علي الشمايلة.
وقد جاء في هذه الفتوى: وبما أن وزارة الأوقاف بمقتضى المادة الرابعة من قانون الأوقاف رقم (26) لسنة 1966 لها شخصية معنوية واستقلال مالي وإداري، وبما أن لها شرعا حكم المتولي على الوقف، وبما أنه يجوز شرعا للحكومة بما لها من ولاية عامة أن ترعى شؤون المواطنين، ولها أن تشجع أي فريق على القيام بما يعود على المجموع بالخير والمصلحة، فإن لجنة الفتوى والمشتركين معها في هذا الاجتماع يرون أنه بعد تحقق كفالة الحكومة فإن النص على تحمل المكتتبين للخسارة لم يعد واردا ولا لزوم له..
فإننا نقرر ما يلي:(4/1550)
1- جواز كفالة الحكومة لسندات المقارضة المخصصة لإعمار أراضي الأوقاف باعتبار أن الحكومة طرف ثالث وذلك على أساس الوعد الملزم.
2- عدم الحاجة حينئذ للنص في سندات المقارضة لهذه الغاية على أن يتحمل المكتتبون ما يصيبهم من الخسارة، وقد تم ذلك بتاريخ 28/ 2/ 1398هـ الموافق 17/ 1/ 1978م.
22- وقد جاء النص على كفالة الحكومة في المادة (12) من قانون سندات المقارضة والتي تنص على ما يلي: (تكفل الحكومة تسديد قيمة سندات المقارضة الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة، وتصبح المبالغ المدفوعة لهذا السبب قرضا ممنوحا للمشروع بدون فائدة مستحقة الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات) .
وهذا النص يقرر كفالة الحكومة لتسديد قيمة السندات في مواعيد الإطفاء المقررة لا يجعل الأمر على سبيل الهبة من الحكومة إنما على سبيل القرض للشروع ولا حرج في ذلك ما دام أنه بدون فائدة. وأن دفعه سيتم من دخل المشروع المتحقق فيما بعد.
23- ومن الصيغ التي يمكن أن تطرح على أساس فكر ضمان الشخص الثالث تأسيس صندوق خاص لضمان أصل قيمة السندات فتكون موارده من نسبة معلنة مسبقا من أرباح المشروع على أساس التبرع.
وهذه الفكرة تبناها قانون البنك الإسلامي لضمان مخاطر الاستثمار باقتطاع جزء من أرباح البنك لهذا الغرض من أجل تغطية الخسائر التي لا تعود لتعدي البنك أو تقصير على أن يكون هذا الصندوق مستقلا وطرفا ثالثا فتعود أمواله لجهة خيرية عند تصفية البنك. (1) .
__________
(1) وقد نص القانون على صندوق(4/1551)
وقد أقرت ورقة البحث التي أعدها مجموعة من الخبراء للبنك الإسلامي للتنمية في جدة والمشار إليها سابقا هذا المبدأ وقالت بكل وضوح (وتسمح قواعد الشريعة الإسلامية بإنشاء صندوق يقوم على أساس فكرة التأمين التعاوني وأنه طرف ثالث وفي حالة التصفية لابد أن تعود أمواله إلى جهة خيرية) (1) .
24- وقد لوحظ عند وضع مشروع قانون سندات المقارضة الأردني أنه يمكن إلحاق جهات خاصة بوزارة الأوقاف وهي كل الجهات التي لها استقلال مالي وتكون الحكومة بالنسبة لها على هذا الأساس طرفا آخر.
فجاء نص المادة الثالثة من القانون: يسمح بإصدار سندات المقارضة للهيئات التالية:
أ- وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية.
ب- المؤسسات العامة ذات الاستقلال المالي.
ج- البلديات.
25- وبعد الانتهاء من وضع مشروع قانون سندات المقارضة عرض على لجنة الفتوى وعقدت لذلك اللجنة عدة اجتماعات بحضور السادة: الشيخ محمد عبده هاشم والدكتور إبراهيم زيد الكيلاني، والشيخ عز الدين الخطيب، والدكتور عبد السلام العبادي من أعضائها، وشارك في هذه الاجتماعات كل من السادة الشيخ عبد الحميد السائح والأستاذ كامل الشريف والدكتور محمود أبو السعود والدكتور محمد صقر والأستاذ يوسف المبيضين والدكتور سامي حمود.
وقد جاء في قرار اللجنة بهذا الخصوص " وقد تم بحث مشروع قانون سندات المقارضة مادة مادة، لبيان حكم الشريعة الإسلامية فيه، وتم حذف بعض نصوصه وتعديل بعضها، وإضافة نصوص تضمن مطابقة المشروع لأحكام الشريعة الإسلامية، من أجل أن يتحقق الانسجام والتناسق الكامل بين نصوصه ومواده وبخاصة النص الوارد بشأن كفالة الحكومة تسديد قيمة سندات المقارضة الاسمية الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة.
__________
(1) انظر ص12 من ورقة البحث المشار إليها(4/1552)
رابعا: إصدار هذه السندات وشروطها
26- نظَّم قانون سندات المقارضة كيفية إصدار هذه السندات وبيَّن الشروط والأحكام الواجب توافرها لذلك والأسس لقواعد هذا القانون.
يلاحظ أن هذه الشروط والأحكام تتعلق بما يلي:
أ- المشروع الذي تصدر سندات المقارضة لتمويله.
27- ونصت المادة 4 من القانون على أنه يشترط في هذا المشروع:
1- أن يكون ذا جدوى اقتصادية مجزية.
2- أن يكون مستقلا كل الاستقلال عن المشروعات الأخرى الخاصة بالهيئة المصدرة.
3- أن يدار المشروع كوحدة مستقلة بحيث تتضح في نهاية السنة المالية أرباحه المعدة لإطفاء السندات، وتوزيع الأرباح حسب النسبة المقررة في نشرة الإصدار.
ب- اللجنة الخاصة بإصدار سندات المقارضة:
28- نصت المادة 8 من القانون على تأليف لجنة لإصدار سندات المقارضة تدرس نشرات الإصدار وتقرها بشكلها النهائي وتتكون هذه اللجنة من كل من:
1- نائب محافظ البنك المركزي الأردني رئيسا.
2- وكيل وزارة المالية.
3- وكيل وزارة الصناعة والتجارة.
4- وكيل وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية.
5- مدير عام سوق عمان المالي.
6- عضوين من القطاع الخاص يعينهما مجلس الوزراء لمدة سنتين غير قابلتين للتجديد.(4/1553)
29- ونصت المادة السادسة من القانون على إعداد نشرة لكل إصدار تشمل فيما يجب أن تشمل على عدة أمور ذكرتها بالتفصيل، وقد قامت لجنة الإصدار بإعداد هيكل عام لنشرة إصدار خاصة بمشاريع وزارة الأوقاف ضمنتها كل الأمور التي طلبها القانون، يمكن الرجوع إليها لمن أراد التفصيل.. ويلاحظ هنا أن الشكل النهائي لنشرة الإصدار الخاصة بمشروع معين يجب أن يعرض على مجلس الوزراء لتصديقها كما هو نص الفقرة (جـ) من المادة الثالثة.
30- والواقع أنه من الضروري أن تتضمن نشرة الإصدار كل البيانات والمعلومات اللازمة لمعرفة المشروع بدقة كافية. وفي ورقة البحث المقدمة للبنك الإسلامي للتنمية المشار إليها سابقا جرى التأكيد على هذا من منطلق أن كل التعامل وهو المشروع الممول بهذه السندات هنا يجب أن يكون معلومًا للمتعاقدين: المكتتب والجهة المصدرة.
31- ومن الأمور التي يجب أن تحويها نشرة الإصدار.
- وصف موجز للمشروع وأغراضه.
- حجم المال المستثمر.
- القيمة الاسمية للإصدار.
- الفترة المتوقعة للتنفيذ.
- إجمالي الربح المتوقع.
- حصة البنك من صافي الربح كمضارب.
- المخصص لصندوق التأمين التعاوني لمخاطر الاستثمار.
- تواريخ توزيع الأرباح المحققة.
- كيفية تداول الشهادات وإجراءاته.
- مواعيد الطرح للاكتتاب العام وإقفاله.
- اسم أمين الإصدار وأسماء مديري الإصدار ووكلاء الدفع ومتعهدي التغطية.
- الأحكام الشرعية التي استند عليها الإصدار.
- شرح لوسيلة تمويل المشروع (مساهمة في رأس المال – تأجير – تمويل تجارة.. إلخ..)
- شروط الإصدار الأخرى وأحكامه.(4/1554)
ولا يقتصر الأمر على هذا الملخص، بل لا بد أن يتاح للمكتتب المرتقب كتيب يتضمن جميع البيانات الأساسية في دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع والتي لم تشملها نشرة الإصدار.
32- وقد تم تعريف الجهات المتعلقة في إصدار سندات التنمية في ورقة العمل المقدمة للبنك الإسلامي للتنمية كما يلي:
1- المصدر:
هو الجهة التي تصدر الأوراق المالية لحسابها بغرض استخدام حصيلة الإصدار في تمويل نشاطها، ويجوز أن يقوم البنك الإسلامية نيابة عنها بالإصدار.
2- مدير الإصدار: وهو الجهة التي تنظم الإصدار من بدايته وتسوقه إلى أن يتم إغلاق باب الاكتتاب نهائيا وذلك نظير أجر معين ومعلن.
3- أمين الإصدار: وهو الجهة التي تتولى رعاية حقوق مالكي الأوراق المالية الإسلامية والرقابة على تنفيذ شروط الإصدار نظير أجر محدد ومعلن.
4- وكيل الدفع: وهو الجهة التي تقوم بالنيابة عن المصدر بدفع العوائد المستحقة في مواعيدها وكذلك أقساط إطفاء رأس المال كليا أو جزئيا نظير أجر محدد ومعلن.
5- متعهد التغطية: وهو الجهة التي تلتزم بالاكتتاب فيما لا يتم الاكتتاب به من الأوراق المالية ويكون هذا التزام دون أجر ممن قدمه.
ويمكن أن يقوم البنك الإسلامي بدور جهة أو أكثر من تلك الجهات المذكورة على ألا يجمع بين وظيفة أمين إصدار من ناحية وأي من وظيفتي المصدر ومتعهد التغطية من ناحية أخرى. (1) .
__________
(1) ورقة البحث المشار إليها ص5(4/1555)
أحكام الاكتتاب
33- عالج القانون موضوع الاكتتاب في سندات المقارضة في عدد من مواده وتشمل هذه الأحكام إجراءات الاكتتاب وأنواع المكتتبين، وكيفية دفع القيم المكتتب بها وضمان حقوق المكتتبين والدفاع عنه وكل ما يتعلق بإدارة إصدار السندات وتغطيتها فيما يعرف بالرجوع إلى مظانه من القانون.
المحاسبة المالية في هذه السندات وقواعد إطفائها:
34- حرص قانون سندات المقارضة على تنظيم أمور المحاسبة المالية الخاصة بالمشاريع التي تمول وفق سندات المقارضة من أجل ضمان الحقوق للمكتتبين فقد نصت المادة 21 على تشكيل لجنة مستقلة يعينها مجلس الوزراء بناء على تنسيب الجهة المصدرة لا يتجاوز عددها خمسة أعضاء للإشراف على تنفيذ المشروع وقد أنيط بهذه اللجنة مسك حسابات أصولية مستقلة للمشروع تبين بدقة المشروع واستغلاله ونتائجه المالية وترسل نسخة من هذا التقرير إلى كل من مالكي السندات. كما نظمت المواد 6 فقرة (هـ) و11 و12 أحكام إطفاء السندات ونصت المادة 20 فقرة (أ) على أن الجهة المصدرة تحل محل مالكي الإسناد المطفأة في الحصول على الأرباح المتحققة لهم، وهذا النص الوارد في القانون محل نقد كما سنرى قريبا.(4/1556)
خامسا: وزارة الأوقاف وسندات المقارضة
35- نبحث تحت هذا العنوان في أمرين:
الأول: جهود وزارة الأوقاف في إصدار قانون سندات المقارضة ومتابعة إصدارها بشكل سليم من الناحية الشرعية.
الثاني: مدى استفادة وزارة الأوقاف من قانون سندات المقارضة في تمويل مشاريعها الكبيرة.
أ- أما الأمر الأول فقد ظن من الوضع السابق جهود وزارة الأوقاف في إصدار قانون سندات المقارضة رقم 10 لسنة 1981.
وهي الآن تتابع إصدار هذا القانون الذي صدر في حينه قانونا مؤقتا ليصدر قانون دائما بعد إقراره من مجلس الأمة.
هذا وقد كانت لجنة الإصدار قد درست القانون من جديد دراسة تفصيلية لإدخال أي تعديلات ضرورية عليه قبل إقراره من مجلس الأمة الموقر.. وقد اتفقت اللجنة على ضرورة إجراء عدد من التعديلات على هذا القانون.. وقامت بتفويض بعرضها على اللجان المتخصصة في مجلس الأمة.. وقد قمت بكتابة مذكرة أوضحت فيها المبررات الخاصة بهذه التعديلات المقترحة وقدمتها للجهات المعنية في مجلس الأمة.. وقد أقرت هذه التعديلات بالإجماع في مجلس النواب وهي تنظر الإقرار من مجلس الأعيان في جلساته في الدورة القادمة إن شاء الله تعالى.
36- ولأهمية ما ورد في هذه المذكرة فإنني أرفق نصها فيما يلي:
كانت لجنة إصدارات سندات المقارضة قد عقدت اجتماعا في وزارة الأوقاف بتاريخ 12/ 1/ 85 برئاسة عطوفة نائب محافظ البنك المركزي الأردني، وحضور الأعضاء وكيل وزارة الأوقاف، وكيل وزارة الصناعة والتجارة، مدير سوق عمان المالي، الدكتور أسامة الدباغ، من كلية الاقتصاد في الجامعة الأردنية، بالإضافة إلى السيد وليد أسعد خير الله من البنك المركزي، والسيد عصام المحيسن من وزارة المالية.(4/1557)
وقد درس المجتمعون مواد قانون سندات المقارضة واقترحوا إجراء مجموعة من التعديلات على مواد القانون ليتم عرضها على مجلس الأمة عند دراسة القانون بهدف إقراره قانونا دائما بعد أن كان قانونا مؤقتا. والتعديلات مبينة بالمحضر المرفق لاجتماع اللجنة.
وقد فوض الدكتور عبد السلام العبادي، وكيل وزارة الأوقاف بالقيام بعرض هذه التعديلات المقترحة على اللجان المختصة في مجلس الأمة.
والأسباب الموجبة للتعديلات التي اقترحتها اللجنة كما بينها الدكتور عبد السلام العبادي، للجنة المالية في مجلس النواب والتي وافقت عليها بعد مناقشة طويلة بالإضافة إلى إدخال بعض التعديلات الأخرى التي رأتها ضرورية أثناء دراسة القانون ومناقشته هي:
1- شطب الفقرة (ز) من المادة السادسة والتي تنص على ماهية السندات فيما إذا كانت لحاملها أو مسجلة باسم مالكها لكي تنسجم مع نص الفقرة (أ) من المادة الثانية من القانون والتي تنص:
- تعني سندات المقارضة الوثائق المحددة القيمة التي تصدر بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع.
وعليه فإن السندات كما بين تعريفها في القانون تكون فقط باسم مالكها وليس باسم حاملها، إلا أنه يجوز نقل ملكيتها حسب أحكام هذا القانون ولا تعترف إلا بمالك واحد للسند الواحد.
2- الفقرة (أ) من المادة (الثامنة) طلبت تعيين عضوين من القطاع الخاص في لجنة إصدرات سندات المقارضة لمدة سنتين غير قابلتين للتجديد يعينها مجلس الوزراء، ولا بد من وجود جهة تنسب إلى مجلس الوزراء بتعيين هذين العضوين وإنه من الضروري أن يكون الشخصان المختاران من الأشخاص الوثيقي الصلة بالفكر الاقتصادي الإسلامي، لأن هذا القانون من القوانين التي تعتمد مبادئ الاقتصاد الإسلامي بالإضافة إلى أن وزارة الأوقاف من أهم الجهات التي تستفيد من هذا القانون، وقد اقترح بأن يكون التنسيب من وزير الأوقاف، وهو ما وافقت عليه.(4/1558)
وأضافت عبارة من ذوي الخبرة والاختصاص على نص المادة.
3- حذف المادة (11) من القانون: بما أن شروط الإصدار ستكون موضحة في نشرة إصدار سندات المقارضة بحيث تقوم الجهة المصدرة بتوزيع الأرباح الصافية الناتجة عن تنفيذ المشروع على مالكي السندات بنسب معينة تبين مقدار نسبة الربح ومقدار نسبة الإطفاء، وبما أن السندات التي سيجرى إطفاؤها بنسب محددة وفي مواعيد معينة وفق ما سيحدد في نشرة الإصدار، فإنه من المتوقع أن تزيد المبالغ المتحققة للإطفاء من ربح المشروع على القيمة الاسمية للسندات المقرر إطفاؤها.
ومن المسلم به أن الزيادة ستدور للسنة التالية وتبقى رصيدا للمشروع ولا يجوز استخدام هذه الزيادة في إطفاء مزيد من السندات.. فالحكم الوارد في هذه المادة من تحصيل الحاصل والموضوع مفروغ منه فلا ضرورة لهذه المادة وإن كان لا ضرر من وجودها.
4- تعديل الفقرة (أ) من المادة (15) بحيث يجوز تقسيط قيمة سندات المقارضة الاسمية عند الاكتتاب لأمرين هامين:
أ- تشجيع المواطنين على شراء السندات حيث إنهم لا يضطرون لدفع قيمتها كاملة من البداية فيما إذا تقرر في نشرة الإصدار تقسيطها.
ب- عدم تجميع مبالغ طائلة مرة واحدة لدى الجهة المصدرة لعدة سنوات لحين البدء في تنفيذ المشروع ولحين إكماله وتحقق الربح. وهذا أمر معتمد في تقسيط قيم الأسهم المكتتب بها في الشركات المساهمة، ومن الواضح أن هنالك فرقا بين سندات المقارضة وسندات التنمية لأن سندات التنمية تدفع فوائدها فورا لأنها محددة من البداية، أما سندات المقارضة فلا تدفع أرباح لها إلا بعد تحقق الربح وبنسب التوزيع المعلنة.(4/1559)
5- تعديل الفقرة (أ) من المادة (17) التي تنص على تسجيل اسم مالك السند على ظهر السند وليس على وجهه والأولى أن ينص على تسجيل اسم المالك على وجه السند وليس على ظهره، لأن هذا هو الأصل، والرهن هو الذي يدون على ظهر السند.
وكذلك الفقرة (ب) من نفس المادة حيث لا داعي لإصدار فئات متعددة وبقيم اسمية مختلفة وإنما الأفضل أن تكون للسندات قيمة اسمية واحدة وتصدر بفئات متعددة لسهولة ذلك في المحاسبة وتوزيع الأرباح والتداول. لذا عدلت المادة بحيث تصبح (تكون للسندات قيمة اسمية واحدة وتصدر وثائقها من فئات متعددة بحيث تكون الوثائق ذات الفئة العليا قابلة للتجزئة إلى الوثائق ذات الفئة الدنيا) .
6- وقد جرى اقتراح شطب الفقرة (أ) من المادة لأن الأرباح المتحققة عن سندات المقارضة هي في الواقع أرباح أموال أصحاب السندات، لهذا فهم أصحاب الحق في الاستمرار للحصول على الأرباح المتحققة من هذه الأموال ولا وجه لحلول الهيئة المصدرة محل مالكي السندات في الحصول على الأرباح.. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن استمرار حلول الهيئة المصدرة محل مالكي الأسناد سيجعل الأرباح التي يحصل عليها مالكو السندات تقل تدريجيا حتى تكاد تتلاشى في الفترات الأخيرة مما يقتل هذه السندات في أسواق التداول ويظل لصاحب السند الحق في الحصول على النسبة المقررة للتوزيع كأرباح حتى يتم إطفاء جميع سنده فيصبح بعد ذلك كامل المشروع للجهة المصدرة بكامل دخله. ولا بد من الإشارة هنا أن إدخال هذه التعديلات أمر ضروري ليؤدي هذا القانون الغاية المقصودة منه.
37- والواقع أن هذه النقطة ما زالت محل نظر من منطلق أن الجزء المخصص للإطفاء هو نصيب الجهة المصدرة (العامل) في هذه المعاملة والذي يتحول شيئا فشيئا إلى ملكية الجهة المصدرة.
وقد طالب بعض الباحثين بالتمسك بالنص الوارد في القانون وإنه لا حاجة لتعديله (1) ولا بد من الإشارة إلى أن إعادة المبالغ المطفئة من أصل قيمة السندات لمالك السند دفع إلى إثارة هذه المشكلة ولو كانت الجهة المصدرة تحتفظ بهذه المبالغ كما هو الحال في مفهوم المشاركة المتناقصة الواردة في قانون البنك الإسلامي الأردني لاختلفت الصورة ولما كان هنالك مشكلة في توزيع كامل النسب الأصلية طيلة مدة هذه السندات.
__________
(1) انظر بحث د. قحف ص: 30- 31(4/1560)
38- وأما الأمر الثاني عن مدى استفادة وزارة الأوقاف من قانون سندات المقارضة في تمويل مشاريعها الكبيرة.. فالواقع أن حاجة وزارة الأوقاف ورغبتها في إيجاد طريقة شرعية مناسبة لتمويل مشاريعها الكبيرة هو الذي كان وراء صدور قانون سندات المقارضة لأن وزارة الأوقاف تملك العديد من الأراضي الممتازة في مناطق هامة ولكنها لا تملك الأموال التي تمكنها من إقامة المشاريع المناسبة عليها. وهي لا تستطيع الحصول على تمويل مالي قائم على أسس ربوية. فكانت هذه الحاجة وراء إصدار قانون سندات المقارضة.
والوزارة قد اتخذت الإجراءات اللازمة لتمويل بعض مشاريعها الكبرى. وفق قانون سندات المقارضة ومن أهم هذه المشاريع المشروع التجاري الكبير الذي ستقيمه وزارة الأوقاف على أرض تملكها على شارع قريش في وسط مدينة عمان، المتوقع أن تصل تكلفته إلى عشرة ملايين دينار.. وهذا المشروع الآن في المراحل الأخيرة لإنجاز التصاميم والمخططات ومن المأمول أن تطرح سنداته للاكتتاب العام وفي وقت ليس بالبعيد.
سادسا: البنك الإسلامي للتنمية وسندات المقارضة
39- يبدي البنك الإسلامي للتنمية اهتماما كبيرا بموضوع سندات المقارضة ويشمل على التعريف بها في المحافل الاقتصادية والمالية في العالم الإسلامي ويتابع تمويل مشاريع وزارة الأوقاف بها وقد اتفقت وزارة الأوقاف معه على أن يقوم بتمويل دراسات مشروعها المشار إليه سابقا بقرض قيمته 500 ألف دينار إسلامي أي ما يعادل 500 ألف دولار وقد وعد بتغطية قسم كبير من السندات التي ستطرح لتمويل هذا المشروع. ويضع البنك خططا لإصدار سندات المقارضة لتمويل مشاريع معينة في بعض البلاد الإسلامية، وقد عقدت عدة ندوات علمية متخصصة لبحث موضوع سندات المقارضة والعمل السريع على طرحها على مستوى العالم الإسلامي كما ظهر فيما قدمته مجموعة الخبراء إليه في ورقة البحث المشار إليها سابقا.
40- ويهتم البنك الإسلامي للتنمية بالتعاون مع المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية باقتراح تقدم به صاحب السمو الملكي الأمير حسن ولي العهد في المملكة الأردنية الهاشمية حول قيام البنك للتنمية التوسط في انتقال رؤوس الأموال بين البلدان الإسلامية وتوجيهها نحو الاستثمارات التنموية في البلدان الإسلامية المحتاجة إليها وبخاصة في الظروف الراهنة التي تعيشها الأمة الإسلامية وقد تقدم سموه بهذا الاقتراح في الندوة التي عقدت في عمان بعنوان المشكلات التي تعترض سبل البحث في الاقتصاد الإسلامي في 15 شعبان 1406هـ الموافق 24/ 4/ 1986 في المؤتمر السنوي الخامس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت والذي عقد خلال المدة 14- 17 شعبان 1406هـ الموافق 23- 26 نيسان 1986.(4/1561)
ويرى الباحث أن صيغة سندات المقارضة المطروحة على مستوى العالم الإسلامي من خير الوسائل والأدوات القادرة على تنفيذ اقتراح سمو الأمير حسن وعلى أية حال فقد شكلت الندوة فريق عمل فني لدراسة جميع الأمور المتعلقة بالتطبيق العملي لهذا الاقتراح برئاسة الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية/ جدة وعضوية كلا من:
- الدكتور عبد الله عمر نصيف – أمين عام رابطة العالم الإسلامي/ مكة المكرمة.
- الدكتور عبد العزيز كامل - المستشار بالديوان الأميري بالكويت
- الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة – أمين عام مجمع الفقه الإسلامي/ جدة
- الدكتور عبد السلام العبادي – وكيل وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية/ الأردن
- الدكتور راضي البدور – مدير دائرة العلوم المالية المصرفية بجامعة اليرموك / الأردن.
ومن المنتظر أن تعقد هذه اللجنة اجتماعاتها في الفترة التي يعقد فيها مجمع الفقه الإسلامي اجتماعات في دورته الثالثة في عمان في الفترة 11- 16 أكتوبر 1986.
وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.(4/1562)
بسم الله الرحمن الرحيم
ملحق لبحث سندات المقارضة
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على رسوله الكريم وبعد:
1) فقد أوضحت في البحث الأصلي النقاش الذي دار حول التكييف الفقهي لسندات المقارضة والعلاقة الحقوقية التي تقوم بين الجهة المصدرة للسندات والمكتتبين بها.. وإضافة لما ورد هناك فإنه يمكن القول أمام النقاش، وما ثار حوله من تعليقات وملاحظات: إن القضية الأساسية التي نواجهها هنا هي:
هل نستطيع استحداث أداة تمويل إسلامية مقرة شرعا، تقوم فكرتها على أساس المشاركة في المشروع بشكل أو بآخر والتعرض لاحتمالات الربح والخسارة، وبحيث لا تقوم على مبدأ القرض الربوي المحرم شرعا، والذي يؤمن للممول دخلا معروفا أو مقدرا من النسبة الربوية؟ وإذا كانت هنالك إمكانية شرعية لهذا الاستحداث، فما الشروط والقيود التفصيلية التي تضمن عدم انقلاب هذه الأداة في التطبيق.. وبخاصة في الظروف الاقتصادية الربوية المعاصرة إلى ممارسات ممنوعة شرعا؟
2) وإجابة على هذا التساؤل انصرفت أنظار العلماء إلى عقد المضاربة من منطلق أنه شركة بين صاحب مال وعامل.. يقدم فيها صاحب المال ماله، ويقدم العامل جهده على أن يكون الربح بينهما وفق ما يتفقان عليه.. والخسارة على صاحب المال، ويكفي العامل خسارة جهده.
وعقد المضاربة هذا يقدم أساسا صالحا للتكييف الفقهي لعمليات التمويل بصفة عامة. وقد مارست البنوك الإسلامية ذلك كما هو معروف، ولكن تظل فكرة عقد المضاربة بالشكل المعروف تواجه بعض الصعوبات في مجال تكييف فكرة سندات التمويل وبخاصة عند الإطفاء.. فهل يتم الإطفاء على أساس القيمة الاسمية الأصلية للسند أم على أساس القيمة الفعلية للمشروع المقام؟ من منطلق أن المالك لرأس المال مالك لما يشتري أو يقام به، وليس للعامل فيه إلا النسبة المتفق عليها في العقد من الأرباح.(4/1563)
وقد اختار قانون سندات المقارضة الأردني الإطفاء بالقيمة الاسمية.. فهل يمكن قبول هذا إطار القول بأن الأساس الفقهي لفكرة هذه السندات هو عقد المضاربة؟
أجاز عدد من الفقهاء شراء رب المال من مال المضاربة لتعلق حق المضارب به (1) مما يعني أنه ليس مالكا خالصا له وإلا كيف يجوز له أن يشتريه وهو ملكه؟
ثم ألا يمكن القول بأن صاحب المال والعامل قد اتفقا في هذه الصورة المستحدثة من المضاربة على ذلك؟ وليس في ذلك محظور شرعي لأن هذه مبادلة رضائية قَبِلَ الطرفان فيها اعتماد القيمة الاسمية كأساس لتقدير قيمة الأعيان التي قامت في المشروع تشبه البيع بما ينقطع عليه السعر من حيث الإضافة إلى المستقبل ومن حيث المخاطرة في تقدير السعر، ذلك أن الاحتمال قائم في نزول قيمة هذه الأعيان أو ارتفاعها عن القيمة الاسمية فالمخاطرة التي يتعرض لها رب المال في هذه المبادلة الرضائية المضافة إلى المستقبل واضحة، يضاف إليها المخاطرة التي يتعرض لها في احتمال أن لا يتحقق ربح للمشروع والمخاطرة واحتمال التعرض للربح والخسارة هو أساس الاستثمار الجائز شرعا.. أما قضية ضمان على رأس المال فهي ليست من صلب العقد كما هو معلوم.. وتبحث من الناحية الفقهية على حدة.
3) ولا يغيب عن البال أن فكرة الإطفاء ضرورية في المشاريع الدائمة بطبيعتها ولا تسمح بالاشتراك في الملكية كما في عقارات الأوقاف.. ولكنها غير ضرورية في المشاريع غير الدائمة بطبيعتها وكذلك في المشاريع التي تسمح بقيام الاشتراك في الملكية.
وعلى هذا الأساس فإن فكرة الإطفاء ليست ملازمة لسندات المقارضة في جميع الأحوال.. ومن هنا رأينا قانون البنك الإسلامي الأردني لم يشر إلى موضوع الإطفاء وكذلك لم يبرز الحديث عنه في ورقة البنك الإسلامي للتنمية عن شهادات الاستثمار الإسلامية. وعلى كل فاختيار القيمة الاسمية أو الفعلية لاحق لتبني فكرة سندات المقارضة.
__________
(1) المغني لابن قدامة: ج5 ص42، 43(4/1564)
4) ونلاحظ أن هنالك صورة مشابهة يجزي العمل بها في البنوك الإسلامية وهي صورة المشاركة المتناقضة حيث يتفق البنك الإسلامي مع أحد الأشخاص المالكين لقطعة أرض على بناء عمارة مثلا في هذه الأرض ويتفق معه على تقسيم داخل هذه العمارة بنسبة معينة ربحا للبنك ونسبة أخرى لسداد المبالغ التي دفعها البنك في بناء العمارة كما يمكن أن يخصص قدر أيضا لصاحب الأرض فإذا بلغ ما يحصل من النسبة لسداد المبالغ التي دفعها البنك هذه المبالغ خلصت العمارة لصاحب الأرض وخرج البنك من المعاملة، فيكون قد استعاد رأس ماله بقيمته الاسمية وقدرا من الأرباح.
وتأتي الحاجة لهذه الصورة من منطلق تقديم بديل لصورة التمويل الربوي حيث لا يرضي مالك الأرض بالبنك شريكا دائما وحيث لا يمكن خروج البنك على أساس التقويم الفعلي للعمارة أولا بأول، ثم من أين سيأتي صاحب العمارة بالمبالغ التي تخرج البنك شراء على أساس التقويم الفعلي وبخاصة في حالة ارتفاع أسعار العمارة.
وقد عرف قانون البنك الإسلامي الأردني المشاركة المتناقضة في مادته الثانية بقوله: دخول البنك بصفة شريك ممول كليا أو جزئيا – في مشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس الاتفاق مع الشريك الآخر بحصول البنك على حصة نسبية من صافي الدخل المتحقق فعلا حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي أو أي قدر منه يتفق عليه ليكون ذلك الجزء مخصصا لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل.
5) ثم ألا يمكن القول: إننا أمام عقد جديد استفيد من بنائه الفقهي من العقود المعروفة سابقا ما دام أننا ما زلنا في إطار الامتناع عن تحريم الحلال وتحليل الحرام.. ومن المعلوم أنه لا ضير في هذا الإطار من إحداث صور عقود جديدة جملة وتفصيلا أخذا بما رجحه عدد من العلماء.
6) وأما ما يتعلق بموضوع ضمان أصل رأس المال.. فواضح أن هذا الأمر ليس جزءا أساسيا من طبيعة سندات المقارضة إنما جرى بحثه فقها لتوليد حوافز للمكتتبين في ضمان رأس المال أمام المنافسة في السندات الربوية التي تقدم ضمانا لنسب فوائد معلنة.
وهذا الأمر لا يتعلق بطبيعة سندات المقارضة نفسها ويمكن أن يتم الأمر بدونه. ووجهة النظر الفقهية في هذا أنه ما دام أننا نستطيع أن نؤمن هذا الضمان على أسس الفقه الإسلامي فما الضير في تأمينه؟(4/1565)
وقد لجأ لهذا التأمين في قانون سندات المقارضة الأردني على أساس كفالة الحكومة طرفا ثالثا.
وفي صيغة شهادات الاستثمار في البنك الإسلامي للتنمية تم الأمر على أساس تأسيس صندوق لتأمين مخاطر الاستثمار وهاتان الصورتان لا مشكلة منها من الناحية الفقهية من حيث الأصل عند كثير من العلماء على أساس فكرة الوعد الملزم كما أشير في الفتوى الأردنية.. إلا أن صيغة قانون سندات المقارضة الأردني تعرضت للنقد من حيث إن القانون عندما نوقش في ديوان التشريع أضيفت للمادة الخاصة بالكفالة زيادة، بيد أنه لا ضير فيها من الناحية الفقهية وهي تقرر أن ما تدفعه الحكومة في حالة عجز المشروع عن دفع القيمة الاسمية للسندات في مواعيد الإطفاء المقررة يعتبر قرضا للمشروع دون فائدة وقد لاحظت أن هذا القيد يثير إشكالا كبيرا ولما كان قانون سندات المقارضة الأردنية في مرحلة الإصدار كقانون دائم بعد أن كان قد أصدر قانونا مؤقتا سنة 1981 فقد عرضت الأمر على لجنة سندات المقارضة واقترحت أن يحال الموضوع من جديد لمجلس الإفتاء وقد كتبت الوزارة بذلك للمجلس، وقمت بعرض الأمر على المجلس بصفتي عضوا فيه. وقد أعاد المجلس دراسة الموضوع من جديد وأصدر الفتوى التالية:
قرار رقم 1/ 1987م
اطلع مجلس الإفتاء على كتاب سماحة وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية رقم 134/ تعميرات/ أ/ 14602 تاريخ 17/ 4/ 1407هـ الموافق 16/ 12/ 1986م بخصوص قانون سندات المقارضة المتضمن الطلب من مجلس الإفتاء بيان رأيه في نصوص القانون والتعديلات المقترحة وبخاصة المادة الثانية عشرة من القانون وذلك بالإشارة إلى ما وجه إليها من نقد واستنادا للفتوى الصادرة بتاريخ 17/ 1/ 1988م بخصوص القانون.
وبعد استعراض مواد القانون المؤقت رقم (10) لسنة (1981م) والتعديلات المقترحة التداول فيها قرر:
أ - تأكيد قرار لجنة الإفتاء الصادر بتاريخ 8/ 2/ 1398هـ الموافق 17/ 1/ 1978م بشأن مشروع قانون سندات المقارضة وانطباق نصوصه ومواده مع أحكام الشريعة الإسلامية.(4/1566)
ب- تأكيد قرار لجنة الإفتاء بتاريخ 8/ 2/ 1398هـ الموافق 7/ 1/ 1978م بخصوص جواز كفالة الحكومة تسديد القيمة الاسمية لسندات المقارضة الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة باعتبار أن الحكومة طرف ثالث. وأن للحكومة بما لها من ولاية عامة أن ترعى شؤون المواطنين ولها أن تشجع أي فريق على القيام بما يعود على المجموع بالخير والمصلحة.
جـ- وقد لاحظ المجلس أن المادة الثانية عشرة من القانون المؤقت رقم (10) سنة (1981م) قد أضافت بعد النص على أن الحكومة تكفل بتسديد قيمة سندات المقارضة الاسمية الواجب إطفاؤها بالكامل في المواعيد المقررة أن المبالغ التي تدفعها الحكومة في هذه الحالة تصبح قرضا للمشروع وبدون فائدة مستحق الوفاء فور الإطفاء الكامل للسندات، وهذا يعني أن الحكومة التي قبل مبدأ كفالتها لتسديد القيمة الاسمية للسندات على أساس أنها طرف ثالث لم تعد طرفا ثالثا وأن الذي تحمل التسديد هو المشروع نفسه. كل ما في الأمر أنه قام بالاقتراض من الحكومة لعدم توافر السيولة لديه لتغطية القيمة الاسمية المطلوب تسديدها، وهذا في الواقع كفالة لعدم الخسارة أعطيت لصاحب المال من المضارب في عقد المضاربة وهذا أمر يخالف القواعد المقررة لعقد المضاربة في الفقه الإسلامي.
لذا يرى مجلس الإفتاء ضرورة الإبقاء على كفالة الحكومة على أساس أنها طرف ثالث واستمرار وضعها في هذه الكفالة على هذا الأساس ليقبل من الناحية الشرعية عدم النص في سندات المقارضة على تحميل المكتتبين ما يصيبهم من خسارة، كما هو وارد في نص لجنة الإفتاء في القرار المشار إليه.
ومن هنا يرى المجلس ضرورة الوقوف بالمادة الثانية عشرة عند كلمة المواعيد المقررة وحذف الباقي والواقع أن المشاريع الوقفية والمشاريع التي تقوم بها البلديات والمؤسسات ذات الاستقلال المالي والإداري التي ستستفيد منه هذه الكفالة هي من المشاريع الحيوية التي تعود على الأمة بالخير والنفع والرفاهة مما تحرص الدولة على إقامته والتشجيع عليها تحقيقا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والأصل أن هذه المشاريع كما ينص القانون المؤقت لا يباشر بها إلا بعد دراسات وافية للجدوى الاقتصادية وبوجود ضمانات كافية تضمن حسن سيرها وسلامة الإشراف عليها.(4/1567)
فليس في كفالة الحكومة تسديد قيمة أصل هذه السندات في مواعيد الإطفاء المقررة أي ضرر أو إضاعة للمال العام إنما هو استخدام إيجابي له في حالات نادرة وفي ظروف استثنائية.
د- وقد اطلع المجلس على التعديلات المقترحة في المذكرة المرفقة بكتاب سماحة الوزير ورأي أن التعديلات المقترحة لا تعارض الأحكام الشرعية المقررة، ولا يمانع المجلس في إدخالها على القانون المؤقت.
عضو المفتي العام قاضي القضاة
عبد السلام العبادي نائب رئيس مجلس الإفتاء رئيس مجلس الإفتاء
عز الدين الخطيب التميمي محمد محيلان
عضو عضو عضو
مود السرطاوي ياسين درادكه نوح سلمان القضاة
عضو عضو
مصطفى الزرقاء عبد الفتاح عمرو
عضو مقرر عضو عضو
محمود الفواطلي الرفاعي عبد الحليم الرمحي إبراهيم زيد الكيلاني(4/1568)
الوثائق
البيان الختامي وتوصيات
لندوة
سندات المقارضة وسندات الاستثمار
التي أقامها
مجمع الفقه الإسلامي بجدة
بالاشتراك مع
المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
(بالبنك الإسلامي للتنمية)
بتاريخ 6- 9 محرم 1408هـ/ 30 /8- 2 /9 /1987م(4/1569)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
انعقدت في جدة ندوة مشتركة بين مجمع الفقه الإسلامي، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية في الفترة من 6- 9محرم 1408هـ الموافق 30 /8 – 2 /9 /1987م. حول (سندات المقارضة وسندات الاستثمار) . وقد سارت وقائع الندوة طيلة أيامها الأربعة وفقا للبرنامج المعد لها حيث ابتدأت بحفل الافتتاح صباح يوم الأحد 6 /1 /1408هـ - 30/ 8 /1987 بتلاوة من القرآن الكريم، ثم كلمة معالي الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية ألقاها نيابة عنه نائب الرئيس الأستاذ عثمان سيك، ثم كلمة معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي، ثم كلمة معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، ثم كلمة سعادة الدكتور كوكورت أوزال مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، ألقاها نيابة عنه نائب مدير المعهد الدكتور حشمت بشار.
وقد تضمنت الكلمات بيان أهمية هذه الندوة وأن الباعث الآن على عقدها هو مواصلة ما بدأه مجمع الفقه الإسلامي من دراسة (سندات المقارضة) في دورته الثالثة بعمان العام الماضي، والتمهيد لاستكمال البحث فيها في الدورة القادمة، وذلك للدور الفعال لها في زيادة القدرات على تنمية الموارد المالية بأساليب التمويل المختلفة في العالم الإسلامي ولاسيما ما يقوم على اجتماع المال والعمل، وتعاون الجهات المليئة والجهات الخبيرة، ولأن سندات المقارضة تعد من أدوات التمويل الجديدة المقترحة التي تحظى باهتمام مؤسسات التمويل الإسلامية.
وقد اشتملت كلمة معالي الأمين العام للمجمع على وصف التعاون القائم بين المجمع وبين البنك الإسلامي للتنمية في كل ما يعود بالخير على المسلمين عن طريق خدمة الشريعة ودعم الحركة الفقهية ونحو ذلك من أهداف المجمع ووسائله.(4/1570)
وقد شارك في هذه الندوة عدد من أعضاء مجمع الفقه الإسلامي وخبرائه، ومن باحثي المعهد والفنيين بالبنك، وبعض المختصين في الشريعة أو الاقتصاد الإسلامي في الجامعات والمراكز العلمية الأكاديمية وأسماؤهم مدرجة في (القائمة الأولى) الملحقة.
وقد اشتمل البرنامج على أربع جلسات طويلة، خلال يوميه الأول والثاني للأبحاث ومناقشتها وخصص اليوم الثالث للجنة الصياغة، واليوم الرابع لمناقشة التوصيات.
وقدمت أبحاث أدرجت في البرنامج لعرضها، مع أبحاث أخرى أتيح المجال للإضافة منها في الوقت المخصص للمناقشات نظرا لتأخر وصولها، وتنظر (القائمة الثانية) الملحقة.
وكانت هيئة إدارة الندوة مكونة من: معالي الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (رئيسا) ومعالي الشيخ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة (نائبا للرئيس) والدكتور عبد الستار أبو غدة (مقررا) .
ثم عهد بالصياغة إلى لجنة مكونة من:
الدكتور حسن عبد الله الأمين.
الدكتور حسين حامد حسان.
الدكتور سامي حسن حمود.
الدكتور عبد الستار أبو غدة (مقررا) .
الدكتور عبد السلام داود العبادي.
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع.
الدكتور علي أحمد السالوس.
وانتهت الندوة، بعد المناقشة، إلى اعتماد التوصيات التالية:(4/1571)
التوصيات
1- سندات المقارضة هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسلحة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصا شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه، بنسبة ملكية كل منهم فيه.
وبفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية (صكوك المضاربة) .
2- الصورة المقبولة شرعا لسندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيها العناصر التالية:
العنصر الأول:
أن يمثل الصك ملكية حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله، وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته.
وتترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعا للمالك في ملكه من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها.
العنصر الثاني:
يقوم العقد في صكوك المقارضة على أساس أن شروط التعاقد تحددها (نشرة الإصدار) وأن (الإيجاب) يعبر عنه (الاكتتاب) في هذه الصكوك، وأن (القبول) تعبر عنه موافقة الجهة.
ولا بد أن تشتمل نشرة الإصدار على جميع البيانات المطلوبة شرعا في عقد القراض (المضاربة) من حيث بيان معلومية رأس المال وتوزيع الربح مع بيان الشروط الخاصة بذلك الإصدار على أن تتفق هذه الشروط مع الأحكام الفقهية المعتبرة.(4/1572)
العنصر الثالث:
أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك تصرفا من المالك في ملكه مع مراعاة الضوابط التالية:
أ - إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقودا فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد وتطبق عليه أحكام الصرف.
ب- إذا أصبح مال القراض ديونا يطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول النقود بالنقود.
ج- إذا صار مال القراض موجودات مختلفة من النقود والديون والأعيان والمنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقا للسعر المتراضي عليه وطبقا للأحكام الشرعية، على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا ومنافع.
العنصر الرابع:
أن من يتلقى حصيلة الاكتتاب في الصكوك لاستثمارها وإقامة المشروع بها هو المضارب، أي عامل المضاربة ولا يملك من المشروع إلا بمقدار ما قد يسهم به بشراء بعض الصكوك فهو رب مال بما أسهم به بالإضافة إلى أن المضارب شريك في الربح بعد تحققه بنسبة الحصة المحددة له في نشرة الإصدار وتكون ملكيته في المشروع على هذا الأساس.
وأن يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك وعلى موجودات المشروع هي يد أمانة لا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية.(4/1573)
3- مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول:
يتم تداول صكوك المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت وذلك وفقا لظروف العرض والطلب ويخضع لإدارة العاقدين. كما يتم التداول بقيام الجهة المصدرة أو غيرها في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك بسعر معين. ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقا لظروف السوق والمركز المالي للمشروع.
5- لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو نسبة معينة من الربح بأن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا كان العقد قرضا لا قراضا وتطبق عليه أحكام القرض فلا يجوز دفع زيادة عليه ولو لم تكن محددة المقدار.
6- لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادرة بناء عليها على نص يلزم بالبيع ولو كان معلقا أو مضافا للمستقبل. وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدا ملزما بالبيع. وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء فإن ترتب على الإخلال بالوعد ضرر بالموعود لزم الواعد تعويضه وفقا لأحكام الضمان الشرعية.
8- لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا الصكوك المصدرة على أساسها نصا يؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح فإن وقع كان العقد باطلا.
ويترتب على ذلك:
أ - عدم جواز اشتراط مبلغ محدد لحملة الصكوك أو صاحب المشروع في نشرة الإصدار وصكوك المقارضة الصادرة بناء عليها.
ب - إن محل القسمة هو الربح بمعناه الشرعي، وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة، ويعرف مقدار الربح، إما بالتنضيض أو بالتقويم للمشروع بالنقد، وما زاد عن رأس المال فهو الربح الذي يوزع بين حملة الصكوك وعامل المضاربة، وفقا لشروط العقد.
ج - أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع وأن يكون معلنا وتحت تصرف حملة الصكوك.
7- يستحق الربح بالظهور، ويملك بالتنضيض أو التقويم ولا يلزم إلا بالقسمة. وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيرادا أو غلة فإنه يجوز أن توزع غلته، وما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض (التصفية) يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب.
8- ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة، إما من حصة حلمة الصكوك في الأرباح في حالة وجود تنضيض دوري، وإما من حصتهم في الإيراد أو الغلة الموزعة تحت الحساب ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال(4/1574)
9- ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث بمبلغ بالتبرع مخصص لجبر الخسران في مشروع معين. على أن يكون مستقلا عن عقد المضاربة بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطا في نفاذ العقد وترتب على أحكامه عليه بين أطرافه ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد.
10- نظرا لما لعقارات الأوقاف من طبيعة خاصة وأحكام متميزة، ورغبة في الحفاظ على هذه الأوقاف ودفع التعدي عنها ومساعدة لجهة الوقف على تحقيق الأهداف المقصودة من نظام الوقف الإسلامي واستنباط الصيغ الإسلامية لتعميره واستثمار أصوله، وتحقيق عائد مُجْدٍ للصرف على جهاته فقد درست اللجنة بعناية فائقة التجربة التي قامت بها وزارة الأوقاف الأردنية والتي ظهرت في (قانون سندات المقارضة المؤقت رقم 10 لسنة 1981م) . وهي بصدد استحداث أدوات استثمارية قائمة على قواعد الشريعة الإسلامية واستعرضت ما بنيت عليه تلك التجربة من اجتهادات واطلعت على ما يجري عليها من تعديلات وما أبدى عليها من ملاحظات في الأبحاث المقدمة إلى الندوة.
لذا عرض في الندوة بصدد ما يستفاد منه في إطار تعمير الوقف واستثماره الصيغ الآتية بالإضافة إلى الصيغة المقبولة لصكوك المقارضة وفق ما سبق بيانه:
1- أن تقوم شركة بين جهة الوقف وغيرها من أرباب المال وتكون حصة جهة الوقف بها هي قيمة أعيان الوقف، وحصة أصحاب المال فيها الأموال اللازمة لتعميره على أن توزع الأرباح بنسبة الحصص بعد استقطاع حصة لجهة الوقف نظير الإدارة على أن يتضمن عقد الشركة وعدا ملزما من جانب بقية الشركاء ببيع حصصهم لجهة الوقف بالشروط المشروعة التي يتضمنها ويبنى القول بالالتزام بالوعد على أساس أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة، وإعمالا لمقاصد الشارع من تأييد الوقف، وضرورة استثماره وصرف عائده على الوجوه الموقوف عليها وهذه الصيغ تطبيق للمشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك.(4/1575)
2- أن يتم تعمير الوقف على أساس دفع الأعيان باعتبارها أصلا ثابتا يُدِرُّ إيرادا بالعمل فيه والصرف عليه لمن يعمل على استثمار أعيان الوقف مدة المشروع في مقابل اقتسام الإيراد بنسبة محددة، والسند لهذا التخريج ما ثبت في السنة من أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع أرض خيبر لمن يعمل فيها بماله نظير حصة من الناتج، وتعود الأبنية على الوقف لجهة الوقف بناء على قاعدة الحنابلة فيمن يدفع سفينة لمن يعمل عليها بحصة من أجرتها، وتطبيق قواعد الالتصاق الشرعية في حال البناء على الأرض المأجورة أو المستعارة بناء على الإذن أو عدمه في هذا المجال ويصار إلى تملك البناء لجهة الوقف بطرق التمليك المقررة شرعا في هذه الحال.
3-أن تتفق الجهة المسؤولة عن الوقف مع طرف ملئ كالمصارف مثلا على إقامة مبان ومنشآت على أراضي الوقف لقاء بدل مقسط يدفع للصانع من ريع المباني وغيره، على أساس الاستصناع وفق المقرر في المذهب الحنفي، ويمكن ضمان ذلك من جهة الدولة ويمكن أن يكون التزام الدولة بذلك على سبيل الهبة أو القرض الحسن.
4-أن تتفق جهة الوقف مع طرف راغب بالانتفاع بأرض الوقف مدة طويلة بالبناء عليها، على أن يؤول هذا البناء إلى ملك الوقف بعد انقضاء المدة إما باعتبار البناء أجرة مؤجلة للأرض، وإما باعتباره الجزء الغالب من الأجرة. وذلك في حالة تحديد مبالغ قليلة تدفع طيلة المدة في مواعيد دورته للمحافظة على صلة جهة الوقف بتلك الأراضي الموقوفة المبني عليها.
وهذه الصيغ المطروحة هي محاولة اجتهادية تحتاج إلى مزيد من البحث والنظر.
وهناك صيغ أخرى للاستثمار يتسع لها الفقه الإسلامي وتحتاج كل صيغة منها إلى دراسة متأنية بنظر شرعي لوضع الضوابط اللازمة لاستخدامها.(4/1576)
ملحق رقم (1)
المشاركون في الندوة
عن إدارة المجمع
1- الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع ووكيل وزارة العدل
2- الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي
أصحاب الفضيلة العلماء وأصحاب السعادة الخبراء المشاركون في الندوة مع بيان وظائفهم وترتيب أسمائهم ترتيبا ألفبائيا
1- الدكتور ثروت أرمغان باحث بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
2- الدكتور حسن عبد الله الأمين باحث بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
3- الدكتور حسين حامد حسان رئيس الجامعة الإسلامية العالمية (إسلام آباد)
4- الدكتور حشمت بشار نائب مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
5- الدكتور رضا سد الله باحث بالبنك الإسلامي للتنمية
6- الدكتور رفيق المصري باحث بمركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
7- الدكتور سامي حمود مدير مركز البركة للبحوث والاستشارات المالية الإسلامية
8- الدكتور عبد الرحيم الساعاتي جامعة الملك عبد العزيز
9- الدكتور عبد الستار أبو غدة عضو المجمع، خبير ومقرر الموسوعة الفقهية بالكويت
10- الدكتور عبد السلام داود العبادي عضو المجمع، وكيل وزارة الأوقاف بالأردن
11- الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع القاضي بمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية
12- الشيخ عبد الله البسام عضو المجمع، والقاضي بمحكمة التمييز
13- الدكتور عبد اللطيف الصباغ أستاذ بكلية الآداب- جامعة الملك عبد العزيز
14- الدكتور عبد الملك الفادني البنك الإسلامي للتنمية
15- الدكتور علي أحمد السالوس أستاذ بكلية الشريعة جامعة قطر
16- القاضي محمد تقي العثماني عضو المجمع، والقاضي بالمحكمة العليا بباكستان
17- الدكتور محمد الحناوي كبير اقتصاديي البنك الإسلامي للتنمية
18- الدكتور محمد الصديق الأمين الضرير عضو المجمع، أستاذ بكلية الشريعة جامعة الخرطوم
19- الدكتور محمد الفاتح خان مدير الإدارة القانونية بالبنك الإسلامي للتنمية
20- الدكتور محمد علي القري بن عيد نائب مدير مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
21- الشيخ محمد المختار السلامي عضو المجمع، مفتي الجمهورية التونسية
22- الدكتور ناجي شفيق عجم الأستاذ بكلية الآداب جامعة الملك عبد العزيز(4/1577)
ملحق رقم (2)
محاور الدارسة، والأبحاث
المعروضة، أو المقدمة إلى الندوة
(أولا)
محاور الدارسة، والأبحاث المعروضة في الندوة
(المحور الأول) : تصوير حقيقة سندات المقارضة:
1-بحث (سندات المقارضة) .
للدكتور عبد السلام داود العبادي.
2-بحث (تصوير حقيقة سندات المقارضة والفرق بينها وبين سندات التنمية وشهادات الاستثمار والسندات الربوية) .
للدكتور سامي حسن حمود.
(المحور الثاني) : تحديد طبيعة سندات المقارضة:
3-بحث (سندات المقارضة والاستثمار)
للشيخ محمد المختار السلامي.
4- بحث (سندات المقارضة والاستثمار)
للدكتور علي أحمد السالوس.
(المحور الثالث) : ضمان رأس مال وأرباح سندات المضاربة:
5-بحث (ضمان رأس مال وأرباح صكوك المضاربة)
للدكتور حسين حامد حسان.
(المحور الرابع) إطفاء سندات المقارضة:
6-بحث (سندات المقارضة)
للقاضي محمد تقي العثماني.
7-بحث (سندات المقارضة) .
للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير(4/1578)
(ثانيا)
أبحاث أخرى قدمت إلى الندوة
8-بحث (حول سندات المقارضة وسندات الاستثمار) .
للشيخ عبد الله سليمان بن منيع.
9-بحث (سندات المقارضة وسندات الاستثمار) .
للدكتور حسن عبد الله الأمين.
10- بحث (سندات المقارضة) .
للدكتور وفيق يونس المصري.(4/1579)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
سندات المقارضة
وسندات الاستثمار
الرئيس:
ننتقل إلى الموضوع الذي هو سندات المقارضة وسندات الاستثمار وهو كذلك كغيره من سوابقه قد أعد فيه أبحاث لا المقرر والعارض غير موجودين لكن فارس الحلبة الأستاذ سامي حمود فنرجو أن يتفضل بالعرض عن سندات المقارضة.
الدكتور سامي حسن حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم، بالنسبة لسندات المقارضة هي مصطلح جديد بدأ التفكير فيها عند إنشاء البنك الإسلامي الأردني في الأردن من منطلق أن النظام المصرفي الإسلامي ليس مقصودا به أن يكون فقط على المستوى المحلي وإنما يجب أن تكون الصورة متكاملة في صورة رأس المال المبتدأ الذي تجمع به البنوك الإسلامية الأموال من الناس ثم في صورة رأس المال الثانوي أو الذي يسمونه رأس المال الكبير في السوق المالية الذي تستطيع به البنوك الإسلامية أن تستثمر فائض الأموال السائلة لديها وبدون وجود سوى رأس المال في المستوى المحلي والمستوى الدولي يكون عمل البنك الإسلامي قاصرا وكأنه طائر يطير بجناح واحد وهذا هو السر الذي يلاحظ في عمل البنوك الإسلامية المحلية القائمة حتى اليوم أنها في أرباحها تكاد تدور حول نسبة محددة ضعيفة بالمقارنة مع النسب المعروفة في استثمار المال. من هنا كان منشأ التفكير البعيد منذ عشرات سنوات إلى أن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى أدوات تتحكم في مسيرة رأس المال لتكون هي المتنفس الذي تتنفس فيه البنوك الإسلامية عندما يكون لديها فائض سيولة فتعطي وعندما يكون لديها حاجة للسيولة فتأخذ. وقد وضعت المواد الأولية الأساسية لسندات المقارضة في قانون البنك الإسلامي الأردني رقم 13 لعام 1978 من هذا المنطلق إلا أن هذه السندات لم تنفذ لأسباب عديدة منها أن السوق الكبير سوق الجملة يحتاج إلى تكاتف وتعاون ولا يمكن تطبيقه في المستوى المحلي المبتدأ ومن هنا كان التطلع لأن تنتشر الفكرة على مستوى العالم الإسلامي الكبير فتحقق الأمنية التي يوجد بها هذا النظام المتكامل حيث توجد البنوك الإسلامية المحلية ثم توجد سوق رأس المال الإسلامية ذات المستوى الدولي فتتكامل صورة البناء يضم الكبير والصغير ويعضد الصغير عمل الكبير وهكذا.(4/1580)
ثم انتقلنا إلى مرحلة ثانية في التصور بالنسبة للأوقاف الإسلامية ووجدنا أن الوقف الإسلامي كنموذج نظرنا في المملكة الأردنية الهاشمية هذه الأراضي التي أوقفها أصحابها للخير أصبحت بمرور الزمن مبان آيلة للسقوط لا يستفاد منها بالمفهوم الحديث للمكاتب التجارية الإدارية وللعمارات الكبيرة ونظرنا في أرض الوقف منها أرض تملك ولا تباع فجاءت فكرة إنشاء سندات مقارضة مخصصة لإعمار الأراضي الوقفية في الأردن. هذا المنطلق التاريخي للفكرة. فتصورنا أن سندات المقارضة ووجهنا بالاعتراض الأول استعمال كلمة السند وكأنه يعتبر تقريرا أو إقرارا بقبول الربا. السند أداة وسيلة بحد ذاته لا ينطبق على أي شيء إنما يتكرر وصفه بالإضافة فسند الدين حلال وسند الدين بفائدة حرام. الحرمة في الفائدة وليس في السند فلو قلنا سند الدين بلا فائدة أصبح حلالا وقد أمرنا الله بالكتابة في ديوننا فنثبت سند الملكية. الملكية تقرر شكل السند من هنا تداخل في الأذهان عندما استعمل سند المقارضة لأول مرة أن هذا هو السند الربوي وهو سند القرض لأن في تعريفات بعض الكتب أن السند بمعنى الترجمة الحرفية لكلمة (بون) الإنجليزية تعني سند القرض بفائدة ولكنني في الواقع لم أرد أن أخلي الساحة ليكون السند هو المفهوم الربوي الذي فرضه المفهوم الاقتصادي الغربي وإلا كان الحرم المكي عندما كان مملوءا بالأصنام أن نبعد عنه ونبني حرما آخر. لا، جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فطهر هذا الحرم من الأصنام التي تحيط به {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] . فزيد لكلمة السند أصلها اللغوي التي تطهر فيه عن هذا الوصف الدخيل عليها مما أدخله الاقتصاد الفكري الغربي في أن هذا السند هو الذي عرفوه بأنه سند الفائدة ولكننا نعرف أنواعا أخرى من السندات خالية من الفائدة، فاخترنا للتحدي أن يكون الاسم. وكان هذا الإصرار في جميع الجلسات سند المقارضة والمقارضة مشتق من الإقراض بمعنى المضاربة والمضاربة كما تكون مطلقة تكون مقيدة ورأس المال كما يمكن أن يكون مملوكا لشخص واحد يمكن أن يكون مجزأ بقيمة متساوية تمثل كل حصة منها هذا السند أو هذا السحب فهؤلاء الناس الذين يشترون السندات هم أصحاب رأس المال وهم رب المال في عقد المضاربة.(4/1581)
استعمال هذا المال المتجمع نتيجة بيع هذه السندات قد يكون بالمضاربة المطلقة وقد يكون بالمضاربة المقيدة والصورة التي طرحت في عملية الإعمار للوقف الإسلامي في الأردن هي أن هذا المال الذي يجمع لهذه الغاية سيكون متفقا عليه ابتداء بأنه سوف يستعمل في إقامة بناء أرض الوقف ثم يكون من شروط هذا الاتفاق أن الريع المتأتي نتيجة إقامة هذا المبنى حيث يصبح هناك إيجارا وخلوا وعائدا وقد تكون قيمة في ارتفاع الأرض والبناء كله هو بحسب شروط عقد المضاربة مقتسم بين جهتين: جهة المالكين لسندات المقارضة وجهة الوقف التي تمثلها وزارة الأوقاف الإسلامية باعتبارها مديرة لهذا الوقف فهي التي تتولى الإدارة وتقسيم الربح أو العائدة يبنهما ولكن لوحظ في ذلك أن هذه الشركة أو هذا النوع من المشاركة لا يقصد به الديمومة والمراد أن يعود الوقف وما ينشأ عليه من أملاك خالصة لجهة الوقف. إذن اتفق على أن يكون هناك نوع من التصفية لحقوق أرباب الأموال الذين يملكون هذه السندات تصفية تدريجية منظمة. فقلنا بأن حملة أو المالكون في هذه السندات يقبضون من الإيراد السنوي نسبة معينة ونتيجة الحساب تبين لنا أن إعطاءهم نسبة 25 % يكفي الـ 75 % المتبقية من حق الأوقاف نظريا أن تأخذها ولكن الأوقاف اختارت أن تبقى هذه النسبة في حساب مرصود لكي تسدد منها لا تنفق هذا المال ولكن ترصده لكي تشتري حصص هؤلاء المالكين لهذه السندات حتى يعود الملك خالصا للأوقاف الإسلامية.
هذه التصفية التدريجية التي اخترناها في أسلوب سندات المقارضة الإسلامية كانت منطلقا لتعميم فكرة سندات المقارضة في المشاريع الكبرى.(4/1582)
من هنا جاء البنك الإسلامي للتنمية واهتم بتطبيق هذه الفكرة ليس على الأوقاف فحسب ولكن على أي مشروع يمكن من خلال دخله أو الاتجار فيه أن يكون الربح المتحقق قادرا على تصفية التملك. ثارت هناك أسئلة عديدة بهذا النوع الجديد من المشاركات بالتسمية بالأسلوب الذي يتبع في التصفية وكان من أكثرها إثارة للجدل تدخل الطرف الثالث في الحلول محل هؤلاء الذين يملكون هذه السندات من الطبيعي أن الإنسان وهو يقدم شيئا جديدا أن يكون ابن عصره ولا يعيش خارج إطار العصر والحكومات الإسلامية مع الأسف اضطرت أن تصور سندات دين مضمونة من البنوك ومضمونة من الدول. هذه الحاجة التي اضطرت إليها الحكومات الإسلامية بسبب عدو وجود البديل وكان ضمان الحكومة غير مشجع للمستثمرين على الإقدام على هذا الاستثمار. فنظرنا هذا السند الذي هو حصة مشاركة بمفهومه الشرعي الذي يمتنع في عقد المضاربة مما اطلعنا عليه من آراء الفقهاء أن العامل لا يجوز أن يجتمع عليه شرط الخسارة الجهد وأن يتحمل ضمان رأس المال هذا أمر واضح ومتفق عليه ولا مجال للخلاف فيه ولكن ما هو القول إذا تدخل شخص ثالث على سبيل الحفز والتشجيع وجاء قال ادفع هذا المال أو استثمر هذا المال في هذا المجال الحيوي عن المجالات اللازمة لإعمار الأراضي الوقفية أو الأراضي الزراعية وكان مستعدا بعد مدة من الزمن أن يحل محل الشخص الذي استثمر ماله ولم يجن منه عائدا وأن يدفع له نصيبه ويحل محله.(4/1583)
هذه هي الصورة التي اتفقت عليها لجنة الفتوى الأردنية أمام مذكرة تضمنت عديدا من الحالات التي استند فيها إلى آراء فقهية منها ((أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما استعار دروعا وسلاحا من صفوان بن أمية وسأله وكان حديث عهد بالإسلام سأله في جفاء الرجل الذي ما يزال لا يعرف قدر النبوة أتأخذها غصبا يا محمد؟ قال: بل هي عارية مضمونة مؤداة)) والقصد في العارية أنها إذا استعملت بشروطها المعتادة فليس فيها ضمان بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((ليس على المستعير غير المغل ضمان)) وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فنقل العارية من شرط عدم الضمان إلى أنها عارية مضمونة مؤداة بالشرط. كذلك ما أورده أهل الفقه الأحناف الذين قالوا إذا قال رجل لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن وإذا هلك لك شيء منه فيه فأنا ضامن فسلك وهلك فإن القائل يضمن هنا. نظرنا إلى أن الذي يدفع أو يحفز الشخص إلى أن يستثمر ماله في هذا المشروع وخاصة إذا كان القائل بذلك ولي الأمر الذي تهمه المصلحة العامة وقال استثمروا أموالكم في إعمار الأراضي الوقفية وإذا مضى مدة من الزمن التي وضعت في القانون الأردني عشر سنوات ولم تحصلوا على رؤوس أموالكم فإنني أحل محلكم كحكومة وأدفع لكم رأس مالكم فقط وبلا ربح وليس هناك ضمان في الربح. أدفع لكن رأس المال لأحل محلكم في مطالبة الوقف بالمتحقق عليه فقد يتحقق العائد من المشروع بعد عشر سنين أخرى. هذا هو المنطلق الذي انطلقت منه أو بنيت عليه فكرة سندات المقارضة. ثم جاء هذا المجمع الكريم وكان تحت رعاية البنك الإسلامي للتنمية ووضعت الندوة موضع التدبر والتفكير وكان نتيجة النقاش أن وضعت هذه التوصيات التي هي بين أيديكم وهي خلاصة عمل من جلسات مستفيضة من الفكر والمناقشة وإذا كان هناك متسعا أذن لي سعادة الرئيس أن أقرأ خلاصتها.(4/1584)
الرئيس:
تفضل.
الدكتور سامي حسن حمود:
بعد الديباجة وبيان الجهد والمناقشة اختصارا للوقت أقرأ التوصيات مباشرة.
أولا: سندات المقارضة هي سندات استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصا شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه بنسبة ملكية كل منهم فيه. ويفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية صكوك المقارضة. وهذا من أثر الخوف والتخوف الذي ذكرته من كلمة السند وأفضل أسلوب التحدي لأن المؤمن قوي بحقه قوي في فهمه.
ثانيا: الصورة المقبولة شرعا بسندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيها العناصر التالية:
العنصر الأول: أن يمثل الصك ملكية حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله. وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته. وتترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعا للمالك في ملكه من بيع وهبة وإرث وغيرها.(4/1585)
العنصر الثاني: يقوم العقد في صكوك المقارضة على أساس أن شروط التعاقد تحددها نشرة الإصدار وأن الإيجاب يعبر عنه الاكتتاب في هذه الصكوك، وأن القبول تعبر عنه موافقة الجهة ولا بد أن تشتمل نشرة الإصدار على جميع البيانات المطلوبة شرعا في عقد القراض (المقارضة) من حيث بيان معلومية رأس المال وتوزيع الربح مع بيان الشروط الخاصة بذلك الإصدار على أن تتفق هذه الشروط مع الأحكام الفقهية المعتبرة.
العنصر الثالث: أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك تصرفا من المالك في ملكه مع مراعاة الضوابط التالية:
أ- إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقودا فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد وتطبق عليه أحكام الصرف.
ب- إذا أصبح مال القراض ديونا تطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول النقود بالنقود.
ج- إذا صار مال القراض موجودات مختلفة من النقود والديون والأعيان والمنافع فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقا للسعر المتراضى عليه وطبقا للأحكام الشرعية على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعيانا ومنافع. وهذه الحالة الأخيرة عليها اختلاف ومناقشة.
العنصر الرابع: أن من يتلقى حصيلة الاكتتاب في الصكوك لاستثمارها وإقامة المشروع بها هو المضارب أي عامل المضاربة ولا يملك من المشروع إلا بمقدار ما قد يسهم به بشراء بعض الصكوك فهو رب المال بما أسهم به بالإضافة إلى أن المضارب شريك في الربح بعد تحققه بنسبة الحصة المحددة له في نشرة الإصدار وتكون ملكيته في المشروع على هذا الأساس وأن يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك وعلى موجودات المشروع هي يد أمانة لا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية.(4/1586)
ثالثا: مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول: يتم تداول صكوك المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت وذلك وفقا لظروف العرض والطلب ويخضع لإرادة العاقدين. كما يتم التداول بقيام الجهة المصدرة أو غيرها في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك بسعر معين ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقا لظروف السوق والمركز المالي للمشروع.
رابعا: لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو نسبة معينة من الربح فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنا كان العقد قرضا لا قراضا وتطبق عليه أحكام القرض فلا يجوز زيادة عليه ولو لم تكن محددة المقدار.
خامسا: لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادر بناء عليها على نص يلزم بالبيع ولو كان معلقا ومضافا للمستقبل وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدا ملزما بالبيع وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء فإن ترتب على الإخلال بالوعد ضرر بالموعود لزم الواعد تعويضه وفقا لأحكام الضمان الشرعية.
سادسا: لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا صكوك المقارضة المصدرة على أساسها نصا يؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح فإن وقع كان العقد باطلا.
ويترتب على ذلك:
أ- عدم جواز اشتراط مبلغ محدد لحملة الصكوك أو صاحب المشروع في نشرة الإصدار وصكوك المقارضة الصادرة بناء عليها.
ب- أن محل القسمة وهو الربح بمعناه الشرعي وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة ويعرف مقدار الربح إما بالتنضيض أو التقويم للمشروع بالنقد وما زاد عن رأس المال فهو الربح الذي يوزع بين حملة الصكوك وعامل المضاربة وفقا لشروط العقد.
ج- أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع وأن يكون معلنا وتحت تصرف حملة الصكوك.(4/1587)
سابعا: يستحق الربح بالظهور، ويملك بالتنضيض أو التقويم ولا يلزم إلا بالقسمة. وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيرادا أو غلة فإنه يجوز أن توزع غلته، ما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض (التصفية) يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب.
ثامنا: ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة في نهاية كل دورة، إما من حصة حملة الصكوك في الأرباح في حالة وجود تنضيض دوري وإما من حصصهم في الإيراد أو الغلة الموزعة تحت الحساب ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر رأس المال.
تاسعا: ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث بمبلغ بالتبرع مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزامه مستقلا عن عقد المضاربة بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطا في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد.
عاشرا: نظرا لما لعقارات الأوقاف من طبيعة خاصة وأحكام متميزة، ورغبة في الحفاظ على هذه الأوقاف ودفع التعدي عنها ومساعدة لجهة الوقف على تحقيق الأهداف المقصودة من نظام الوقف الإسلامي واستنباط الصيغ الإسلامية لتعميره واستثمار أصوله، وتحقيق عائد مجز للصرف على جهاته فقد درست اللجنة بعناية فائقة التجربة التي قامت بها وزارة الأوقاف الأردنية والتي ظهرت في قانون سندات المقارضة المؤقت رقم 10 لسنة 1981 وهي بصدد استحداث أدوات استثمارية قائمة على قواعد الشريعة الإسلامية واستعرضت ما بنيت عليه تلك التجربة من اجتهادات واطلعت على ما يجري عليها من تعديلات وما أبدي عليها من ملاحظات في الأبحاث المقدمة إلى الندوة.
لذا عرض في الندوة بصدد ما يستفاد منه في إطار تعمير الوقف واستثماره الصيغ الآتية بالإضافة إلى الصيغة المقولة لصكوك المقارضة وفق ما سبق بيانه:
أولا: أن تقوم شركة بين جهة الوقف وغيرها من أرباب المال وتكون حصة جهة الوقف بها هي قيمة أعيان الوقف، وحصة أصحاب المال فيها الأموال اللازمة لتعميره على أن توزع الأرباح بنسبة الحصص بعد استقطاع حصة لجهة الوقف نظير الإدارة، على أن يتضمن عقد الشركة وعدا ملزما من جانب فيه الشركاء ببيع حصصهم لجهة الوقف بالشروط المشروعة التي يتضمنها ويبني القول بالالتزام بالوعد على أساس أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة، وإعمالا لمقاصد الشارع من تأييد الوقف، وضرورة استثمار وصرف عائده على الوجوه الموقوف عليها وهذه الصيغ تطبيق للمشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك(4/1588)
ثانيا: أن يتم تعمير الوقف على أساس دفع الأعيان باعتبارها أصلا ثابتا يدر إيرادا بالعمل فيه وصرف عليه لمن يعمل على استثمار أعيان الوقف مدة المشروع في مقابل اقتسام الإيراد بنسبة محددة، والسند لهذا التخريج ما ثبت في السنة من ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع أرض خيبر لمن يعمل فيها بماله نظير حصة من الناتج)) ، وتعود الأبنية على الوقف لجهة الوقف بناء على قاعدة الحنابلة فيمن يدفع سفينة لمن يعمل عليها بحصة من أجرتها، وتطبيق قواعد الالتصاق الشرعية في حال البناء على الأرض المأجورة أو المستعارة بناء على الإذن أو عدمه في هذا المجال ويصار إلى تملك البناء لجهة الوقف بطرق التمليك المقررة شرعا في هذه الحال.
ثالثا: أن تتفق الجهة المسؤولة عن الوقف مع طرف ملئ كالمصارف الإسلامية مثلا على إقامة مبان ومنشآت على أراضي الوقف لقاء بدل مقسط يدفع للصانع من ريع المباني وغيره، على أساس الاستصناع وفق المقرر في المذهب الحنفي، ويمكن ضمان ذلك من جهة الدولة ويمكن أن يكون التزام الدولة بذلك على سبيل الهبة أو القرض الحسن.
رابعا: أن تتفق جهة الوقف مع طرف راغب بالانتفاع بأرض الوقف مدة طويلة بالبناء عليها، على أن يؤول هذا البناء إلى المِلك الوقف بعد انقضاء المدة، إما باعتبار البناء أجرة مؤجرة للأرض، وإما باعتباره الجزء الغالب من الأجرة. وذلك في حالة تحديد مبالغ تدفع طيلة المدة في مواعيد دورته. للمحافظة على صلة جهة الوقف بتلك الأرض الموقوفة المبني عليها.
وهذه الصيغ المطروحة هي محاولات اجتهادية تحتاج إلى مزيد من البحث والنظر. وهناك صيغ أخرى للاستثمار يتسع لها الفقه الإسلامي وتحتاج كل صيغة منها إلى دراسة متأنية بنظر شرعي لوضع الضوابط اللازمة لاستخدامها.(4/1589)
هذه هي التوصيات التي صدرت في هذا الموضوع. والذي يهمني في ختام هذا العرض الذي فوجئت به في الواقع ولم أكن مستعدا له ولكن أمام حسن تفهمكم فإنني أخ بين إخوان. الذي أقوله: إن سندات المقارضة والسندات الاستثمارية في الواقع الحاجة لها ضرورية جدا لأن واقع العالم الذي نعيش فيه وهذه الدول الإسلامية التي نمثلها بوجودنا هنا مجتمعين لنعبر عن وحدة الأمة الإسلامية، من أقصاها إلى أقصاها دولها تصدر سندات القرض بالفائدة. جميع الدول الإسلامية مضطرة إلى ذلك. باستثناء هذه المملكة التي كرمها الله عن أن تذل لأن تصدر سندات بفائدة. استثناء فيما عدا هذه السنة التي كان فيها عجز في الموازنة، وهناك دراسة وتفكير لأن تكون المملكة العربية السعودية إن شاء الله الرائدة في إصدار سندات الخزانة المتفقة مع الشريعة الإسلامية على غير أساس الفائدة فيكون بذلك مفتاح الخير في عهد خادم الحرمين الشريفين الذي اختار لنفسه هذا اللقب، والذي أسأل الله أن يكرمه بالمقابل فيكون في عهده صدور هذه السندات الحكومية التي لا تقوم على أساس الربا وإنما على أساس العائد، والذي يشعر المواطن في بلده أن يقدم لبلده أكبر خدمة وهو يندفع لإعطاء البلد ما تحتاجه من تمويل فيرد لها بذلك الجميل الذي كانت قدمته إليه في أيام الرخاء فأعطاها عند الوفاء ما تحتاجه من أهل الوفاء.
أقول: إن دولنا الإسلامية تصدر السندات بالفائدة وهناك من يبرر لها هذا الإصدار للضرورة ولكن هذه الأداة التي تقدمها لتكون في متناول اليد هي أداة مبنية على أساس شرعي قد يعترض البعض على شكلها، على اسمها، على بعض الشروط المرافقة لها والتي لا تتعلق بالجوهر. هذه أمور يمكن الاتفاق عليها. إنما الذي أرجوه بأن يكون الإنسان في معالجته لهذه الأمور بمقدار ما تمثله من أهمية في غياب الأدوات الاستثمارية وذهاب رأس المال الإسلامي إلى أسواق خارجة عن خدمة العالم الإسلامي. والذي أقوله لمعلوماتكم فقط: إن إحصائية أجريتها قد قادتني إلى أن مجموع ديون العالم الإسلامي التي تبلغ البلايين من الدولارات هي تمثل 75 % من مجموع موجودات العالم الإسلامي من هذه الأموال في الخارج. فلو وجد السوق الإسلامي المنظم لرأس المال بأدواته المحكمة التي نتفق عليها جميعا إيمانا واحتسابا لله لكي نخدم هذه الأمة ونخدم العالم كله لأنه إذا استقر السلام في العالم فإن العالم يهنأ بهذه السعادة. لذلك أرجو أن ننظر إلى هذا الموضوع كما عودتمونا بفكركم وقلوبكم المؤمنة نظرة واعية. لا نهاجم من أجل كلمة ولا نتحرج من أجل شرط خارج عن الموضوع وإنما نصحح. فإن هدفنا أن نلتزم بالشريعة وأن يكون هوانا وإيماننا وطريقتنا خاضعة لشريعة الله وعيا وفهما وعلما وليس بصدود أو بُعْدٍ عن الواقع الذي نحياه والذي نحتاج فيه للتكافل في حياتنا وعلاقتنا بين الحاكم والمحكوم وبين المواطن والمواطن وبين المواطن والمؤسسة. وشكرا لكم وأرجو أن لا أكون استغليت هذه الفرصة لأعبر عما كنت سأقوله في التعليق. والسلام عليكم ورحمة الله.(4/1590)
الرئيس:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. في الواقع إن هذا الموضوع كما تفضل الأستاذ سامي أنه أقيمت له ندوة تحت مظلة البنك الإسلامي بإدارة أمانة المجمع وحضرها اثنان وعشرون شخصا من أصحاب الفضيلة الذين حضروا كل من: الشيخ عبد السلام والأستاذ سامي الشيخ المختار الشيخ الصديق الضرير الشيخ عبد الله بن منيع وعدد آخر، وذلك عند إثارة الموضوع في الدورة الثانية لمجمع الفقه التي انعقدت في عمان. وكان الاتجاه هو عدم إقرار سندات المقارضة بالصيغة التي طرحت. ولهذا وجدت وجهات النظر التي قرأها الأستاذ سامي وهي تمثل أربعا من وجهات النظر في هذا الموضوع، وعلى كل كما ذكر الأستاذ مطروح للمباحثة والمراد هو أن يصل المجمع - بإذن الله تعالى - إلى صيغة نهائية لهذه السندات تكون على وفق الشريعة الإسلامية من خلال مناقشاتكم وأبحاثاكم في هذا الموضوع. الشيخ إبراهيم.
الشيخ إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم.. بادئ ذي بدء أود أن أطمئن الأخ سامي بأن هَوَانَا سوف لا يكون إلا تبعا لما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم.
سيادة الرئيس وحضرات الإخوان الأفاضل. من المعلوم لدى حضراتكم أن المضاربة أو المقارضة هي عبارة عن مساهمة جهة من الجهات الرسمية برأس مال معين وقيام جهة أخرى بالعمل. وأن لكل من المتضاربين أي من صاحب رب المال أو من رب المال والعامل فسخ العقد. وقد اختلف الفقهاء - رحمهم الله تعالى - في القول باشتراط إنضاض المال أو عدم إنضاضه لفسخ العقد. وقد تبين لي من خلال الأبحاث المطروحة أن الصورة المعروضة ليست من هذه المعاملة للأسباب التالية:(4/1591)
أولا: أن العامل في المضاربة غير ضامن لما يحدث في المال من خسارة إلا إذا تعدى أو قصر في المحافظة عليه. فأخذ الكفيل من العامل بضمان ما يصيب المال من تلف دون تعدٍّ أو تفريط منه أمر يتنافى مع مقتضيات العقد.
ثانيا: أنه بعد فسخ العقد يسترد رب المال رأس ماله، فإذا اشترطنا في العقد أن من حق المضارب أي العامل أن يشتري سندات المضاربة أي رأس المال أمر يتنافى مع مقتضيات العقد فلا أرى في الصورة القائمة إلا أنها قرض وينبغي أن يطبق عليها أحكام القرض المعروفة في الفقه الإسلامي. وألا ننجر وننساق وراء العواطف لأن الحق أحق أن يتبع، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وشكرا.
الشيخ عبد الحليم الجندي:
أنا أسف لأني سأتقدم باقتراح. هذا مشروع كبير جدًّا جدًّا للأردن يجب ألا يجيء عن طريق البنك أو إلينا لأننا نحن المجمع الفقهي مجموع رجال يبدون رأيا في مبدأ في حكم شرعي. لماذا مشروع كبير جدا للأردن يجب أن يتحمل الأردن بذاته وبجهازه الفقهي أن يمر هذا المشروع دون حاجة لا إلى بنك التنمية ولا إلى المجمع الفقهي هنا لأن المجمع الفقهي أول من علا فيه من الأصوات أن هذا لا يدخل فيما درسناه أو فيما قرأناه. أنا أرى أن هذا يجب أن يبرر وأن يساعد إنما لا يساعد بعرضه على المجمع الفقهي هنا هو سوعد في أنه عرض في ندوة الأردن الجليل، وأنا لو نظرت هذا الموضوع شخصيا لأقررته أو لساعدت بإقراره إنما أرى أن التفاصيل التي سمعتها من زميلنا الفاضل الدكتور سامي ومن هذا البحث الطيب جدا الذي عرض به أيضا أنه أكبر من أن يدرس في ندوة سريعة أو في جلسات بما تنتهي أن يحال إلى لجنة ولا تنتهي لأن التأجيل نفسه يشوش على المشروع.(4/1592)
فَكِرُوا حضراتكم في هذا الذي أتكلم فيه هو مسألة خاصة باختصاص المجمع من ناحية إنما أرى أن البنك مستعد أن يساعد على وجه ما بنك التنمية. إنما المجمع لا يمر فيه كل هذا ولا تؤخذ فيه تزكية دون أن يكون في كل التفاصيل التي ذكرت دراسة كافية من ناحية اقتصادية ومن ناحية فقهية. هذا ما أردت أن أقوله في بادئ المناقشة. ففكروا حضراتكم في هذا. الدكتور عبد السلام أرجوك أن تعرض لنا هذا وصلته بالمجمع وأنا شخصيا موافق جدا على كل ما ينفع دولة إسلامية في تعمير الأوقاف، إذا ربطنا بتعمير الأوقاف لوحده نقول لك كفى أنك أخذت الفتوى من الأوقاف. يعني ما أردته من فتوى هنالك كانت كافية على الأوقاف وتقيم عليها مشروعك. إنما عرضها هنا سيكون بين يد رجال نظر. وأنا أرى فيه دراسة علمية واقتصادية جيدة جدا أو هذا ما ظهر لي من تلاوة زميلي. أنا لم أستطع للأسف أن أفحص هذا جيدا ورأيت أن المسألة في القراض لا جدال أن القراض يمشي إنما بتفصيلاته هذه إذا أقرها المجمع دون أن يدرس دراسة كافية أولا أن هذا ليس من اختصاص المجمع فيه قد يعوقه. فأنا أقول هذا فقط لبداية الدراسة. وشكرا.
الرئيس:
شكرا. في الواقع يا فضيلة الشيخ إن الموضوع لم يأت عن طريق البنك ويكفينا في هذا أنك تقول لم أتمكن من دراسة ما أعد. فطالما أن فضيلتكم لم تتمكنوا من دراسة ما أعد فكيف تجزمون بتسويغ هذا المشروع والمسألة مسألة شرعية وأنتم لم تدرسوها؟ هذه واحدة.
الأمر الثاني: لو درستموه لعرفتم يقينا أنه لم يأت عن طريق البنك وإنما درس في المجمع في الدورة الثالثة ثم إن أمانة المجمع رأت أن تهيئ الموضوع لهذه الدورة فعقدت ندوة تحت مظلة البنك الإسلامي بالتساعد مع الخبراء الموجودين والأطراف الذين لهم الخبرة والعناية في هذا الموضوع حضروا في هذه الندوة فرجائي أن يكون الموضوع واضحا الآن.
الشيخ محمد علي التسخيري:
أنا من خلال مطالعتي للموضوع وملاحظتي الدقيقة لم أر فيه إشكالا وأعتقد أنه يستجيب في مختلف ما يقدمه السهم. النقطة المهمة أن التوصية الرابعة التي انتهى إليها المجمعون نحدد هنا فرقا هنا واضحا بين القراض والقرض. فمن علم أن هذا قرض فتطبق عليه أحكام القرض. لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال بنسبة معينة من الربح. هذا المعنى يفرق تماما بين كون هذا العقد قرضا أو قراضا. ولا نستطيع أن نحمله ما لا يحمل.(4/1593)
النقطة الأخيرة التي أردت أن أشير إليها هي أن هناك لهذه الصيغة في كتاب........ نقطة أخرى أردت أن أعلق بها على كلام الأخ الأستاذ سامي أن الظاهر منه أن الدول الإسلامية قد أصدرت سندات القرض. في إيران للمعلومات فقط لم يكن هناك أي إصدار لسند القرض وليس لدينا قرضا لا من الداخل ولا من الخارج على الإطلاق.
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم.. لا أريد أن أعلق وإنما أريد أن أتحدث عما أثاره الدكتور العبادي وما اقترحه على هذا المجمع من أن ينظر في التوصيات التي أصدرتها اللجنة وأقره على هذا أي بالنظر في هذه التوصيات واحدة واحدة وإبداء الرأي فيها للوصول إلى قرار بالإجماع في هذه الموضوعات. وأحب أن أنبه إلى أمر ذكره الدكتور العبادي وهو أن التوصيات التسعة الأولى صدرت بالإجماع ولا أظن أن هذا قد حصل فهناك من اعترض في بعض التوصيات ولكن هو رأي الأكثرية ولذلك صدرت هذه التوصيات.
الشيخ عبد الحليم الجندي:
إن هذا المشروع فيه تفاصيل اقتصادية كثيرة فيحسن أن يتداول كل الأعضاء فيه على أساس أنهم ألموا بالتفاصيل فإذا لم يلم أحد بالتفاصيل يترك الأمر للذين ألموا بها والذين تكلموا فيها إنما المبدأ، المبدأ لا جدال فيه أنه مسلم وهو دفع للاقتصاد الإسلامي في طريقه الكبير الواسع. ولذلك أنا أحب أقول للأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي: إحنا بنساعد في هذا ونريد أن ندفع الأردن إلى الأمام بالعكس هذه فرصة طيبة وهو فيها رائد ولوزارة الأوقاف أيضا على عيننا ورأسنا بتاعة الدكتور عبد السلام.. وشكرا.(4/1594)
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدي رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
الحقيقة هذا مشروع لا يهم الأردن فقط وليس مشروعا خاصا إنما الموضوع الذي أمامنا هو سند المقارضة وهذا يهم الأمة الإسلامية كلها فلذلك الحقيقة إني أرى أن مثل ما رأى الصديق الضرير أن هذه التوصية يعني أننا لم نناقش الموضوع انتهى الموضوع وانتهوا الفقهاء، والفقهاء كلهم من المجمع ما انتهوا إليه من توصيات تقرأ وأن نقرها أو نعلق عليها ثم عندي ملاحظة في الحقيقة إن ما يقال في هذا المجمع الفقهي من كلمات أو مواضيع يعني لا يحجر علينا أحد بأن نقول رأينا فيه. نقول: نشكر الكلمة التي تستحق الشكر وننقد الكلمة التي تستحق الانتقاد ونعلق على الكلمة التي تريد التعليق عليها ونحن حضرنا لهذا الغرض ولا نريد أن يحد علينا أحد في هذا الموضوع. تكون لنا الحرية التامة وأن يكون لدينا المجال واسعا وأن تكون الصدور رحبة وخصوصا اجتماعنا للانتفاع لأن ننتفع من كل ما يقال. شكرا.
الشيخ حسن عبد الله الأمين:
شكري سيدي الرئيس.. بسم الله الرحمن الرحيم.. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لا تعليق لي على العرض القيم الذي قدمه الأخ حمود ولعل التوصيات التي خرجت بها الندوة المشتركة بين أمانة هذا المجمع والبنك الإسلامي للتنمية لأني اشتركت فيها وأوافق على التوصيات كلها حتى التاسعة كما ذكر الأخ جزاه الله خيرا الأستاذ العبادي أن ذلك كان باتفاق المجتمعين في ذلك الاجتماع. فقط أريد أن أشير إلى الفقرة (ب) من العنصر السادس في هذه التوصيات وهي: إذا أصبح مال القراض ديونا تطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول النقود بالنقود. أنا أفتكر التوصية كانت تداول أحكام الديون لأنها الفكرة التي قبلها (أ) كانت تتكلم عن النقود وذكرت رأي الندوة فيها هذه تتعلق بالديون فإذا كانت ديونا فإن الأحكام التي تتطبق عليها هي أحكام تداول الدين وليس النقد. يبدو من ذلك وفيما أذكر أن ذلك كان هو ما قرر في تلك الندوة. وشكرا.(4/1595)